وصحبه الذين ما منهم إلا من (يكاد يمسكه عرفان راحته)، وإلّا المؤثر طاعة الله ورسوله وأولي الأمر على راحته، صلاة دائمة الاتّصال، آمنة شمس خلودها من الغروب والزّوال، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من اخترناه لصحبتنا الشريفة على علم، وأعددناه لمهمّاتنا الكريمة لما فيه من تسرّع إدراك وتثبّت في حكم، وبسطنا له فيما عدقناه به من ذلك لسانا ويدا، وحفظنا به الأحوال من [وصول] (1) مسترق السّمع إليها {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهََاباً رَصَداً} (2) وادّخرنا أقلامه لمصالح كلّ إقليم يمر ركابنا الشريف عليه، وفوّضنا مناقشة مباشريه على ما أهملوه من حقوق الله تعالى وحقوق الرّعايا إليه، وأقمناه لتصفّح ذلك بنفسه، وتلمّح زيادة كلّ يوم على أمسه، وانتزاع الحقّ ممن مدّ يده إلى ظلم بكفّ كفّه عنه ورفع يده، وارتجاع الواجب ممّن أقدم عليه بالباطل في يومه واطّرح المؤاخذة به في غده، وغير ذلك مما أحصاه الله ونسوه، واعتمدوا فيه على المصلحة فاجتنوا ثمرة ما غرسوه من كان له في المناصحة قدم صدق عند ربّه، وفي خدمة الدولة القاهرة قدم هجرة تقتضي مزيد قربه فكان أبدا بمرأى من عنايتنا ومسمع، ومن إحساننا بالمكان الذي ليس لأحد من الأكفاء في بلوغ غايته أمل ولا مطمع، وتفرّد باجتماع الدّين والمنصب والأصالة والعلم والكرم وهذه خلال الشرف أجمع.
ولمّا كان فلان هو الذي اجتنى من إحسان الدولة القاهرة بالطاعة أفضل الجنى، وفاز من عوارفها العميمة بجميل المخالصة ما زاد على المنى، وانتمى من أدوات نفسه ونسبه إلى كمال المعرفة والعفّة وهما أفخر ما يدّخر للرّتب الجليلة وأنفس ما يقتنى، وعني من أسباب استحقاقه المناصب والرتب بما
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الجنّ / 9.(11/325)
اقتضى إحسان الدولة القاهرة أن يحتفل بتقديمه وأن يعتنى. فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يفوّض إليه نظر [الصحبة الشريفة] (1).
فليباشر ذلك محلّيا هذه الرتبة بعقود تصرّفه الجميل، ومجلّيا في هذه الحلبة بسبق معرفته التي لا تحتاج إلى دليل، ومبيّنا من نتائج قلمه ما يبرهن على أنه موضع الاختيار، ومن كوامن اطّلاعه ما لا يحتاج إلى برهان إلا إذا احتاج إليه النّهار فلا يزال فرع يراعه في روض المصالح مثمرا، وليل نقسه في ليل الأعمال مقمرا، وحسن نظره إلى ما قرب ونأى من المصالح محدقا، ولسان قلمه لما دقّ وجلّ من أمور الأقاليم محقّقا، ورسم خطّه لما يستقرّ في الدواوين المعمورة مثبتا، ووسم تحريره لما يجتنى من غروس المصالح منبتا، ولدرّ أخلاف الأعمال بحسن الاطلاع محتلبا، ولوجوه الأموال بإنفاق التوجّه إلى تثميرها إن أقبلت مجتليا وإن أعرضت مختلبا، فإنّ الأمور معادن يستثيرها التصرّف الجميل، ومنابت ينمّيها النظر الجليّ والاتقان الجليل وملاك كل أمر تقوى الله تعالى فليجعلها إمامه، ويتخّيلها في كل حال أمامه والله تعالى يسدّده ويوفّقه بمنّه وكرمه! إن شاء الله تعالى.
قلت: وربّما أضيف إلى نظر الصّحبة نظر الدواوين الشريفة، وحينئذ فيحتاج الكاتب أن يأتي في براعة الاستهلال بما يقتضي الجمع بينهما، ويورد من الوصايا ما يختصّ بكل منهما. والكاتب البليغ يتصرّف في ذلك على وفق ما يحدث له من المعاني ويسنح له من الألفاظ.
__________
(1) في الأصل: «نظر الدواوين المعمورة». والتصويب مما يقتضيه المقام. ولعل الخطأ سبق قلم من الناسخ.(11/326)
الدرجة الثانية (من تواقيع أرباب الوظائف الدّيوانية بالحضرة بالديار المصرية
ما يكتب في قطع الثلث: ب «المجلس الساميّ» بالياء، مفتتحا ب «الحمد لله» إن قصد تعظيم المكتوب له على ما هو الأكثر، أو ب «أمّا بعد حمد لله» جريا على الأصل لما يكتب في قطع الثلث، على ما تقف عليه في النّسخ) وتشتمل على وظائف:
الوظيفة الأولى (كتابة الدّست)
والمراد دست السلطنة. وقد تقدّم الكلام عليها في مقدّمة الكتاب في الكلام على ديوان الإنشاء، وتقدّم في الكلام على ترتيب وظائف الديار المصرية أنّ موضوعها أن يجلس أصحابها بدار العدل أيّام المواكب خلف كاتب السرّ، ويقرأون القصص على السلطان بعد قراءة كاتب السرّ، ويكتبون عليها بما تقتضيه الحال، بعد إشارة السلطان بالكتابة ثم يحمل ما يكتبون عليه من القصص إلى كاتب السرّ فيعيّنها. وأنّ هذه الوظيفة كانت من أجلّ الوظائف وأرفعها قدرا، منحصرة في عدد قليل نحو الثلاثة (1) فما حولها، ثم وقع التساهل في أمرنا، ودخل فيها العدد الكثير حتّى جاوز عددهم العشرين، وبقيت الرياسة فيهم لعدد مخصوص منهم، وقنع الباقون بالاسم. وقد تقدّم ذكر طرّة توقيعه في الكلام على التواقيع.
وهذه نسخة توقيع بكتابة الدّست، وهي:
الحمد لله الذي فضّل الكرام الكاتبين، وأحيا بفضائل الآخرين الأوّلين
__________
(1) كانوا ثلاثة في أيام الظاهر بيبرس، وذلك قبل أن يلقب صاحب ديوان الإنشاء بكاتب السر، ثم صاروا في آخر الدولة الأشرفية شعبان بن حسين عشرة أو نحوها، ثم تزايدوا شيئا فشيئا خصوصا في سلطنة الظهر برقوق وابنه الناصر فرج حتى جاوزوا العشرين (راجع الجزء الأول من الصبح:
ص 13713).(11/327)
الذاهبين، وأنزل في القصص {لََا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظََّالِمِينَ} (1)
نحمده وهو المحمود المعين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة قوم مخلصين، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله خاتم النبيين، ورسول ربّ العالمين، والشافع في المذنبين من المؤمنين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة باقية إلى يوم الدّين، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ العدل الشريف دار جدرانها الأمر المطاع، وأبوابها الخير الذي لا يضاع، وسقفها الرحمة والاتّضاع، وصدرها الإحسان المديد الباع، وصحنها الأمن والسّرور فلا يخاف أحد فيه ولا يراع، وجلساؤها الكاتبون عارضو الرّقاع وهم معدن الصّدارة، وموطن الكتابة والكناية والإشارة، وأقلامهم تأتي بحسن التشبيه والاستعارة، وتطرّز حواشي الرّقاع بوشي بادي الإنارة ما اختير أحدهم للجلوس في دسته إلا وقد أرضى من اختاره، وتميّز بحسن السّمت والوفاء والوقار والشّارة.
ولما كان فلان هو الذي له في السّؤدد أصل عريق، وفي الفضائل له قلم مطيق، وفي البلاغة له لسان منطيق، وإذا دبّج قرطاسه فهو للروض شقيق، ونباته الجوهر لا الآس والشّقيق، وأصبح للجلوس في الدّست الشريف أهلا على التحقيق.
فلذلك رسم أن يستقر [في كتابة الدست الخ] (2) فليحلّ هذا الدّست الشريف مبهجا ببيانه، مثلجا للصّدور بعرفانه، متبلّجا بنور يده ولسانه، قارئا من قصص الناس وظلاماتهم في إيوانه كلّ شيء في أوانه، لا يكتم ظلامة مكتوبة في رقعة، بل يعرّف ملكه بها ويبلّغها سمعه، فإنه في هذا المحلّ أمين والأمين محلّ النّصح والخير والرّفعة وإذا وقّع فهو مأمور، فليأت بما يبهج الصّدور،
__________
(1) القصص / 25.
(2) بيض له بالأصل باعتباره أصبح معروفا وطلبا للاختصار.(11/328)
ويشفي غليل الشاكي، بلفظه الزاكي، والوصايا كثيرة لكن [سنلمّ ببعضها الحاكي وهو تقوى] (1) الله فهي تاجها المجوهر، وبدرها المنوّر، وكوكبها الأزهر، والله تعالى يمتّعه بالفضل الذي لا يحوّل ولا يتغيّر بمنّه وكرمه! إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع من ذلك أيضا، وهي:
الحمد لله الذي أفاض على الأولياء من فضله، وأهمى عليهم من مواهبه ما يقصر عنه الغمام في وبله وطلّه، ومنح دست الملك الشريف من الألفاظ المجيدة، والفضائل المفيدة.
نحمده على نعمه التي أجزلت إحسانها، وأجملت امتنانها، وبزغت مزهرة فقدّمت من الدولة أعيانها، ونشكره على عوارفه التي ألقي لأهل الثناء عنانها، ورحب لذوي البيوت صدرها وفضّ عنوانها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تشهد القلوب إيمانها ويدّخر القائل لها ليوم المخاف أمانها، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أظهر الله به الشريعة المطهّرة وأبانها، وشرّف به هذه الأمّة ورفع على جميع الأمم شانها، وبعثه رحمة إلى كافة الخلق فأقام بمعجزاته دليل الهداية وبرهانها، وأطفأ بنور إرشاده شرر الضّلالة ونيرانها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ما منهم إلا من نزّه نفسه النفيسة وصانها، وسلك في خدمته وصحبته الطريقة المثلى فأحسن إسرار أموره وإعلانها، صلاة دائمة باقية تجمّل بالأجور اقترانها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنه لمّا كانت وظيفة توقيع الدّست الشريف من أجلّ الوظائف وأسناها، وأنفسها وأعلاها، وأجملها وأبهاها القائم بها سفير الرعيّة إلى الملك
__________
(1) في الأصل «لكن السليم لبعضها الحاكي، وتقوى الله» والتصحيح من هامش الطبعة الأميرية.(11/329)
في حاجتهم، وترجمان معرب عن شكايتهم، وكاشف أحسن ناشر عن ظلامتهم، جالس على بساط الأنس بقرب الحضرة، منفّذ نهي مليكه وأمره، مبلّغ ذا الحاجة من إنعامه جوده وبرّه تعين أن يندب رئيس وابن رئيس، وجوهر بحر نفيس، ذو أصل في السّؤدد عريق، ولسان في الفضائل طليق، وقلم حلّى الطّروس بما يفوق زهر الرياض وهو لها شقيق، وفاضل لا يقاس بغيره لأنه الفاضل على التحقيق وكان المقرّ العالي الفلانيّ هو المشار إليه بهذه الأولويّه، والمراد من سطور هذه المحامد اللّؤلؤيّة فلذلك رسم بالأمر العالي أن يستقرّ المشار إليه في وظيفة توقيع الدّست الشريف عوضا عن فلان بحكم وفاته.
فليباشر ذلك مباشرة تشكر مدى الزمان، وتحمد في كلّ وقت وأوان، وليدبّج المهارق بوشي يفوق قلائد العقيان (1)، وليملأ بالأجور لنا صحفا بما يوحيه عنا من خيرات حسان، ونحن فلا نطيل له الوصايا، ولا نحلّيه بها فهي له سجايا مع ما أدّبه به علمه الجمّ، وعمله الذي ما انصرف إلى شيء إلا تمّ، ويجمعها تقوى الله تعالى وهي عقد ضميره، وملاك أموره وما برح هو وبيته الكريم مصابيح أفقها ومفاتيح مغلقها، ولهم جدد ملابسها وللناس فواضل مخلقها والله تعالى يزيده من إحسانه الجزيل، ونعمه التي يرتدي منها كلّ رداء جميل، ويمتّعه بإمارته التي ما شكر بها إلا قال أدبا: حسبنا الله ونعم الوكيل والاعتماد في مسعاه، على الخط الكريم أعلاه.
الوظيفة الثانية (نظر الخزانة الكبرى)
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب وظائف الديار المصريّة أنّ هذه الوظيفة كانت كبيرة الموضع من حيث إنها مستودع أموال المملكة، إلى أن حدثت عليها خزانة الخاصّ فانحطّت رتبتها حينئذ، وسمّيت الخزانة الكبرى باسم هو أعلى
__________
(1) العقيان: ذهب متكائف في مناجمه، خالص مما يختلط به من الرمال والحجارة.(11/330)
منها، وأنه لم يبق فيها سوى خلع تخلع وتصرف أوّلا فأوّلا. وقد تقدّم ما يكتب في طرة توقيع ناظرها.
وهذه نسخة توقيع بنظر الخزانة:
الحمد لله الذي جعل الخزائن لذخائرنا كهوفا، وملابس إقبالنا شنوفا (1)
ومواهبنا تجزل عطاء ومعروفا، وإقبالنا على محسن التدبير ومجمل التأثير عطوفا، وأيادينا في إسكان جنّتها قطوفا.
نحمده حمدا مألوفا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أوضحت معروفا، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أزال مخوفا، وأقام الصلاة والجهاد صفوفا، وشهر على العدا عند تأييد الهدى سيوفا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ما سدل الليل سجوفا، وسلّم تسليما.
وبعد، فإن الملك الشريف له تحف مصونة، وذخائر مكنونة، وأصناف حسان في خزائننا مخزونة، وجواهر عالية القيمة ثمينة [لا يقوم عليها إلا من] (2)
لا يمدّ عين عفافه إلى المال وإن كثرت آلافه، وولج لجّة هذه الذخائر ولم تلمّ بالبلل أطرافه وهو فلان: العريق في انتسابه، الوثيق انتماؤه إلى فضل الله وجنابه النقيّ ثوب عرضه، التّقيّ بتمسّكه بسنّته وفرضه، الوفيّ نظره بغضّه، المستمسك بجميع الخير دون بعضه، من بيت السيادة ومن هو من بيت السّيادة فالسّؤدد نجم سمائه وطود أرضه. فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يستقرّ
فليباشر هذه الوظيفة بعمل ونيّة، متسلّما ذخائر هذا الخزانة العليّة، وأمورها وأحوالها، وتفصيلها وإجمالها، وحمولها وأحمالها وحللها المرقومة، وذخائرها المعلومة، وجواهرها المنظومة، وأكياسها المختومة،
__________
(1) الشّنوف والأشناف: جمع شنف وهو القرط لزينة المرأة.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/331)
وصناديقها المركومة، ما عن علمه فيها شيء خاف، وصونه لها كاف، وأمر الله بين النّون والكاف (1).
وليعلم أن خزائننا تصبّ فيها سحائب التّحف والأموال والأصناف، من سائر الممالك والمدن والثّغور والأطراف، ومنها يخرج بجهاز مواهبنا وإنعامنا للأولياء الأشراف، وإنما هي لمصالح المسلمين في الجمع والائتلاف، وتقوية أهل الطاعة على أهل الاختلاف فليضبط ما تطلقه وإن كانت الأقلام لا تستطيع ذلك لكثرة الإسعاف، ولتكن التشاريف (2) المثمنة الكاملة، حاصلة بمناطقها (3) المجوهرة الهائلة، وطرزها الطائلة، وتعابيها الفاضلة، حتّى إذا أنعمنا منها على أحد بشيء يأتي بحموله وقد حمد فاعله. والوصايا كثيرة وتقوى الله نظام عقدها، وغمام رفدها، وزمام مجدها، وتمام سعدها فليكن متلفّعا ببردها، متضوّعا بندّها (4)، وهو غنيّ عن الوصايا ومدّها، والله تعالى يؤيّد حركاته في قصدها والخطّ الشريف أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه وصية لناظر الخزانة، أوردها في «التعريف».
وليملأ بنظره صدور الخزائن، وليجمع فيها أشتات المحاسن، وليعدّ فيها كلّ ما يدّخر للإنفاق، ويحتفظ به للإطلاق، ويحصّل ما يضاهي البحر بالتفريع والتأصيل، والجمل والتّفاصيل، وما لا يوزن إلا بالقناطير، ولا يحصي منّه ملء
__________
(1) إشارة إلى قوله تعالى: {وَإِذََا قَضى ََ أَمْراً فَإِنَّمََا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، البقرة / 117واللفظ في 11آية.
(2) التشاريف: ملابس خاصة ينعم بها السلطان. وحول أنواع ومواصفات التشاريف انظر الصبح:
4/ 5452.
(3) ومفردها منطقة وهي حزام يشدّ على الوسط ويعبر عنها «بالحياصة» ويلبسها الملك للأمراء عند إلباسهم الخلع.
(4) النّدّ: ضرب من النبات يتبخّر بعوده.(11/332)
الأساطير، وما يهيّأ من التشاريف الشريفة التي تباهي أشعّة الشّموس بلمعها، وتحاسن وشائع (1) الروض بخلعها، وما فيها من مخلّقات ألوان لا تماثل بتصوير، ولا يظنّها الأولياء إلا الجنة ولباسهم فيها حرير، وما تحتوي عليه من عتّابيّ وأطلس، ومشربش ومقندس (2) وكلّ طراز مذهب وباهي، وما هو من ذهب أو له يضاهي، وكلّ ما يتشرّف به صاحب سيف وقلم، ويعطى إنعاما أو عند أوّل استخدام في خدم، وما هو مع هذا من أنواع المستعملات، والنواقص والمكمّلات، وما يحمل من دار الطّراز (3)، ويحمد مما يأتي من المبتاع من بزّ وبزاز، وما هو مرصد للخزانة العالية من الجهات، التي يحمل إليها متحصّلها لينفق في أثمان المبيعات، وما يستعمل، وما يعلّم منه بالطّرز ويعمل، وبقية ما يدّخر في حواصلها من مال بيت المال الذي يحمل وذلك كلّه فهو الناظر عليه، والمناظر عنه مما خرج من عنده ووصل إليه، والمحاجج عنه بالمراسيم التي تشك للحفظ وتنزل لديه فليراع ذلك جميعه حقّ المراعاة، وليحرّر قدر ما ينفق من الأثمان وقيمة المبيعات، وليحترز فيما يزكّي بعضه بعضا من شهادة الرسائل المكتتبة إليه بالحمول وما يكتب بها من الرّجعات، وليعر المعاملين من نظره ما لا يجدون معه سبيلا، ولا يقدرون معه على أن يأخذوا فوق قدر استحقاقهم كثيرا ولا قليلا، وليقدّم تحصيل كل شيء قبل الاحتياج إليه ويدعه لوقته، ولا يمثل لديه إلا سرعة الطلب الذي متى تأخرّ أخّر لوقته والأمانة الأمانة والعفاف العفاف فما كان منهما واحد رداء امريء إلّا زانه، ولولا هما لما قال
__________
(1) وشائع الروض: أزهاره المتفتحة.
(2) العتّابي: صنف من قماش خشن مخطط بحمرة وصفرة. والأطلس: نسيج من حرير.
والمقندس: ما كان من فراء القندس وهو حيوان قارض كثّ الفراء له ذنب قويّ مفلطح. ولعل المشربش هو اللباس المصنوع من «الشرب». والشرب نوع من القماش الشفاف تدخله خيوط حريرية أو مذهبة. «والشربوش» قلنسوة أعجمية طويلة، تلبس بدل العمامة، وكانت شارة للأمراء (مصطلحات صبح الأعشى: 197والمقريزي: 2/ 99).
(3) كان ينسج بها جميع أنواع الأقمشة. ومن أشهر دور الطراز، تلك التي كانت موجودة في «تنيس» و «دمياط» والاسكندرية. (مصطلحات صبح الأعشى: 129).(11/333)
له الملك إنّك اليوم لدينا مكين أمين وسلّم إليه الخزانة.
الوظيفة الثالثة (نظر خزانة الخاصّ)
وهي الخزانة التي استحدثت في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» عند استحداث وظيفة «نظر الخاصّ» وقد انتقل ما كان يحمل إلى الخزانة الكبرى ويصرف منها إلى هذه الخزانة، سوى الخلع، كما تقدّمت الإشارة إليه في الكلام على توقيع ناظر الخزانة الكبرى.
وهذه نسخة توقيع بنظر خزانة الخاص، كتب به للقاضي شرف الدين محمد بن علاء الدين الجوجريّ (1)، في مستهلّ شهر رجب الفرد، سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، وهي:
الحمد لله الذي زاد بنظرنا الشريف شرف من لمحه من أوليائنا ولحظه، وأفاد المستأنف من برّنا من عهدنا له الفطرة السليمة وتيقّنّا منه الفكرة واليقظة، وأعاد للخلف الكريم، من المشايخ ما كان للسّلف القديم الصالح من التقديم، الذي شملهم بالتكريم، وجعلهم على خزائن جودنا العميم: لأنهم العلماء الحفظة، وجاد بالطّرف من خاصّ إنعامنا العامّ لمن لقلمه عند الإدناء من سرير الملك إنجاز عدة وللسانه عند ارتقاء منبر النّسك إبراز عظة.
نحمده على أن أجزل لمن عوّل على شامل كرمنا جزاءه وعوضه، ونشكره على أن تطوّل بنوافل نعمنا لمن قام بعد أبيه بلوازم خدمتنا المفترضة، وعكف أعمالنا على بيت مبارك ما منهم إلا من شمل من إحساننا بالمنح لما بذل لسلطاننا من النّصح ومحضه.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يودع مصونها في الأرائك
__________
(1) نسبة إلى «جوجر»، وهي بلدة بالقرب من دمياط في كورة السّمنودية (معجم البلدان: 2/ 178).(11/334)
المتعلّية ويقطع يقينها الشكوك المعترضة، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي عظمت عطايا بذله، فالبحار المرتفعة عنها منخفضة، وكرمت سجايا فضله، فليست بمنتقلة وأبرمت قضايا عدله، فليست بمنتقضة، وعمّت البرايا يده البيضاء التي هي بالأرزاق في الآفاق منبسطة وليست عن الإنفاق خشية الإملاق منقبضة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ما منهم إلا من أقرض الله قرضا حسنا فضاعف له ما أقرضه، صلاة تدني لقائلها في الأولى من النّعمة والأمان أمله وتؤتيه في الأخرى من الرحمة والرضوان غرضه، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى من رفع بإكرامنا إلى رتبة علائه، وانتفع من مقامنا الشريف باختصاص خدمته وإخلاص ولائه من شفع مزاياه بجمع أشتات العلوم في أبكاره وآنائه، واستودع ذخائر ملكنا المصونة فكان حفيظا عليما عند اقترابه منّا وإدنائه، وصدع القلوب بإيداع وعظه وإبدائه، واتّبع سبيل والده القويم، في الشّدّة في الحق والتّصميم، وسلك طريقته التي هداه الله إليها بتوفيقه فأدرك غايته في ابتدائه، وقنع بما آتاه الله تعالى فآثرت مكارمنا رفعة محلّه وتوسعة حبائه، وبرع في إتقان الفضائل التي آذنت بإصطفائه واجتبائه، ووقع عليه اختيارنا الذي نستخير الله تعالى له في إبرام كلّ أمر وإمضائه، وأجمع عليه رأينا الذي كم أصاب الصواب في تعيين العلماء الأنجاب فنصّ عليه الاستحقاق بإيجاب الترجيح واقتضائه.
وكان المجلس السامي الشّرفيّ هو الذي قدّمناه بعد أبيه لشهادة خزائننا الشريفة فشاهدنا من حسن سيره ما أبهج، ونظمناه في سلك أولياء الملك فسلك من الخير أقوم منهج، ثم أردنا الآن أنّ هلاله ينتقل إلى رتبة الكمال لمّا تدرّب وتدرّج، وأعدنا له تامّ الإقبال حيث شرف دولتنا الأعلى زاد الله تعالى تأييده بذكره لدينا وبشكره عندنا يلهج فاقتضى حسن الرأي الشريف أنّ هذا النظر
الجميل عنه لا يخرج، وهذا الوقر (1) الجليل لا يعدل به عن فرع منجب لأصل طيّب أثمر الولاء والدّعاء لأيّامنا الشريفة وأنتج.(11/335)
وكان المجلس السامي الشّرفيّ هو الذي قدّمناه بعد أبيه لشهادة خزائننا الشريفة فشاهدنا من حسن سيره ما أبهج، ونظمناه في سلك أولياء الملك فسلك من الخير أقوم منهج، ثم أردنا الآن أنّ هلاله ينتقل إلى رتبة الكمال لمّا تدرّب وتدرّج، وأعدنا له تامّ الإقبال حيث شرف دولتنا الأعلى زاد الله تعالى تأييده بذكره لدينا وبشكره عندنا يلهج فاقتضى حسن الرأي الشريف أنّ هذا النظر
الجميل عنه لا يخرج، وهذا الوقر (1) الجليل لا يعدل به عن فرع منجب لأصل طيّب أثمر الولاء والدّعاء لأيّامنا الشريفة وأنتج.
فلذلك رسم [بالأمر الشريف الخ] (2) لا زالت الصدور بصدور أحكامه تثلج، والأمور بمرور إنعامه تفضل على الحقّ الأبلج أن يستقرّ [في نظر خزانة خاصّنا الخ] (3) فلينطق لسان كلمه بالإخلاص في حمد الخاصّ والعامّ من هذا الإكرام الذي بمطارفه تسربل وبعوارفه تتوّج، وليطلق سنان قلمه في تبييض المصاحف بذكر إنعام المقام الذي هو كالبحر ويفصح عن حمده فهو بحمد الله لا يتلجلج، وليحقّق ببيان حكمه ضبط الأصل والخصم والواصل والحاصل والمحضر والمخرج، ولينفق في أوليائنا من عوائد صلات نعمائنا التي تقبضها أيدي ملوك المدائن ببسط ومن بعضها صدور الخزائن تحرج، وليسلك سنن أبيه التي بها يستظهر ويفتخر ويستدلّ ويحتجّ، ويستمسك بسببه الأقوى من الدّيانة التي بابها من النجاة في الدارين غير مرتج ونترك له تفصيل الوصايا لأنه قرين كفيل ملكنا القويّ الأمين ذي الإرشاد والسّداد فمع مرافقته في الإصدار والإيراد والتّكرار والتّعداد لم يحتج، والله تعالى يجعل الطّروس بذكر تقديمه تحبّر وتدبّج، والدروس تنشر وعلومه تعطّر وتتأرّج، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الرابعة (نظر البيوت (4) والحاشية)
وقد تقدّم أنّ موضوعها التحدّث في كل ما يتحدّث فيه أستاد الدار (5)، وتقدّم الكلام على ما يكتب في طرّة تقليد ناظرها.
__________
(1) الوقر: الحمل الثقيل. الجمع: أوقار.
(2) بياض بالأصل للاختصار. والزيادة مما تقدّم في مثل هذا المقام.
(3) بياض بالأصل للاختصار. والزيادة مما تقدّم في مثل هذا المقام.
(4) المراد البيوت السلطانية الخاصة بالسلطان.
(5) الصواب «الاستادار». وكان في القصر أربعة من الاستادارية أكبرهم أمير مائة، والثلاثة الباقون من أمراء الطبلخانات. (تأصيل الدخيل: 1514).(11/336)
وهذه نسخة توقيع بنظر البيوت والحاشية:
الحمد لله الذي عمّر البيوت بنواله، وكثّر فيها أصناف النّعم بإفضاله، وجعل فيها الخير يتضاعف مع كلّ يوم بتجدّده ومع كلّ شهر بإقباله.
نحمده على مديد ظلاله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبد صادق في مقاله، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي رحم الله العالمين بإرساله، وسقى الجيش من كفّه بنبع زلاله، وأوى إلى المدينة دار هجرته وانتقاله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الناصرين لهذا الدين في كل حاله، وسلّم تسليما.
وبعد، فإنّ طراز الملك الشريف البيوت الكريمة: فمنها يتفجّر ينبوع الرّزق الجاري، ومنها يضيء سقط الزّند (1) الواري ومنها تبسط الخوانات (2)، وتمدّ الأسمطة في المهمّات ومنها يقوم للسعد نصبات (3) وأيّ نصبات، ومنها تقسّم ألوان الطيّبات على مقترح الشهوات، وعماد أمرها على ناظر يقوم بتأصيلها وتفريعها، وتجنسيها وتنويعها، وتكثير حاصلها، واستدعاء واصلها، وجمع كلّ ما فيه مرغوب، وادّخار كلّ ما هو محبوب، وتأليف القلوب على شكره وجلّ ما فيها عمل القلوب.
ولمّا كان فلان هو الرشيد في فعله، المأمون في فضله، الأمين في عقده وحلّه، المسدّد في الحال كلّه، المعطي المباشرة حقّها على ما ينبغي في الشهر من مستهلّه، فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يستقرّ [في نظر البيوت الخ].
فليباشر هذه الوظيفة الكريمة مستجلبا المنافع، مشنّفا بحسن سيرته المسامع، طالعا من العفاف في أبهى المطالع، مستدعيا ما جرت العادة باستدعائه من
__________
(1) السّقط: أول ما يخرج من النار من الزّند. والواري: المشتعل. (انظر مقدمة التبريزي «لسقط الزند» لأبي العلاء المعرّي).
(2) الخوان: لفظ معرّب، ويعني الذي يؤكل عليه.
(3) النّصبة: السّارية.(11/337)
أصناف (1) المتجر السعيد من أصناف متعدّدة، وأنواع منضّدة، وليزح أعذار المصالح السعيدة من كلّ صنف على حدة، وليستجلب خواطر المعاملين بوفائهم وإنجازهم كلّ عدة والرواتب اليوميّة ليصرفها لمستحقّها، والبيوتات فليسدّ خللها حتّى لا يظهر نقص فيها، ومرتّبات الآدر (2) الشريفة فلتكن نصب عينيه على ما يرضيها وما اخترناه لهذه الوظيفة إلا لأنّه أنسب من يليها.
والوصايا كثيرة وتقوى الله فلتكن أطيب ثمرات يجتنيها، وأحسن منحات يجتليها، وأزين زينة يحتليها، وهو غنيّ عما تشافهه به الأقلام من فيها والله تعالى يصون هممه ويعليها، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بنظر البيوت:
الحمد لله الذي جدّد لأوليائنا ملابس السّعود، وشيّد لهم مباني العزّ وضاعف لقدرهم الترقّي والصّعود، ووالى [إليهم] (3) سحائب الفضل المستهلّة بالكرم والجود.
نحمده على نعمه الضافية البرود، ومننه الصافية الورود، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرغم بها أنف الجحود، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله صاحب الحوض المورود واللّواء المعقود، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين جاد كلّ منهم بماله ونفسه في رضاه والجود بالنّفيسين أقصى غاية الجود، صلاة دائمة الإقامة في التهائم والنّجود، مستمرّة الإدامة ما تعاقب السّحاب روضا بجود، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى من غدت البيوت آهلة بوفود نظره، عامرة بسداده وجميل
__________
(1) لعلّ هذا اللفظ زائد من قلم الناسخ.
(2) الآدرّ: جمع دار على القلب.
(3) بالأصل «إلى أوليائهم».(11/338)
فكره، مشيّدة بما يبديه من أوضاح التقرير وغرره من سما همّة وحسن سمتا، وسلك في الأمانة طريقا لا عوج فيها ولا أمتا (1)، وحلّ في الرّتب فحلّاها، وتنقّل فيها فما قالت له إيه إلا وقال الذي فارقها آها وكان فلان هو الذي استحقّ بكفايته حسن التنقّل، واستوجب الصّلة والعائد لما فيه من جميل التأتّي والتوصّل اقتضى حسن الرأي الشريف أن ننقله إلى رتب السعادة، وأن نخصّه كلّ حين من نعمنا بالحسنى وزيادة، فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يستقرّ
فليضبط أصولها وفروعها، ومفردها ومجموعها، وليؤنس بحياطة اجتهاده ربوعها، وليكفلها بأمانة تضمّ أطرافها، ونزاهة تحلّي أعطافها، وكتابة تحصر جليلها ودقيقها، ونباهة توفّي شروطها وحقوقها، وليحرّر واردها ومصروفها، ليغدو مشكور الهمم موصوفها، وليلاحظ جرائد حسابها، ويحفظ من الزيغ قلم كتّابها، حتّى ينمي تصرّفه فيها على الأوائل، ويشكر تعرّفه وتعطّفه على كل عامل ومعامل والله تعالى يبلّغه من الخير ما هو آمل، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الخامسة (نظر خزائن السّلاح)
وقد تقدّم أنّ موضوعها التحدّث فيما يستعمل ويبتاع من أنواع السّلاح الذي يحمل للزّردخاناه (2) السلطانية. وقد جرت العادة أن يحمل ما يتحصّل من
__________
(1) الأمت: الاختلاف في المكان ارتفاعا وانخفاضا، ورقة وصلابة. وهو العوج أيضا.
(2) الزردخاناه هي دار السلاح. وتعني أيضا السجن المخصص للمجرمين من الأمراء وأصحاب الرتب. واللفظ من الفارسية «زره» بكسر الزاي والراء وظهور الهاء الساكنة. وهي من الفهلوية ودخلت الآرامية في صيغة وهذه الكلمة الأخيرة هي أصل الكلمة العربية «زرد» بفتح الزاي والراء. وخاناه معناها الدار. (مصطلحات صبح الأعشى: 169وتأصيل الدخيل:
121).(11/339)
ذلك في كل سنة إلى الزّردخاناه مرّة واحدة. وقد تقدّم ما يكتب في طرة توقيع ناظرها.
وهذه نسخة توقيع بنظر خزائن السلاح من إنشاء المولى «شمس الدين بن القيسرانيّ» (1) كتب به «لفخر الدين» أخي جمال الدين ناظر الخاصّ، وهي:
أما بعد حمد الله تعالى الذي ضاعف فخر المناصب، بمتولّيها، ورفع قدر المراتب، بمن يكبّرها بقدره العليّ ويعليها، وأمدّ المقانب (2)، بنظر ذي المناقب الذي يزيّن بمرهف حزمه أسلحتهم ويحلّيها، ويمضي بماضي عزمه كلّ فرند فريد ليسعّر نار صليله بنظره السعيد ويجلّيها، جاعل أيّامنا الشريفة تقدّم لخدمها كلّ سريّ تسري به هممه إلى العلياء، وتنتخب لحسن نظرها من يعلو بكرم الذات وجمال الإخاء، وتولّي من الأولياء من يعدّ للأعداء خزائن سلاح تبيدهم بها جيوشنا المؤيّدة في فيافي البيداء، إذا دارت رحى الحرب الزّبون وثارت وغى الغارة الشّعواء، والشهادة له بالوحدانيّة التي اتّسق بدرها، في سماء الإخلاص، وأشرق فجرها، بضياء القرب والاختصاص، وسما فخرها، بجلال الجمال فأصبح بحمد الله آخذا في المزيد آمنا من الانتقاص، وعلا ذكرها، بما درّعنا به من دروع التوحيد وأسبغ علينا منه كلّ سابغة دلاص (3)، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي خصّه الله بالتكريم والتعظيم، وختم به الرسل الكرام بما منحه من الاصطفاء والتقديم، وأوحى إليه في الكتاب الحكيم: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرََاهِيمَ} (4) وعلى آله وصحبه الذين هم {أَشِدََّاءُ عَلَى الْكُفََّارِ رُحَمََاءُ بَيْنَهُمْ} (5)، وقرّب قربهم لديه صلّى الله عليه وأذهب بينهم فإنّ من شيم أيّامنا
__________
(1) في الجزء العاشر من هذا الكتاب ص 59ورد باسم «القاضي شمس الدين إبراهيم بن القيسراني». وفي مآثر الإنافة: 3/ 60 «المولى شمس الدين إبراهيم بن القيسري».
(2) جمع «مقنب» كمنبر وهم جماعة الخيل والفرسان.
(3) السّابغة الدلاص: الدرع الليّنة.
(4) النساء / 125.
(5) الفتح / 29.(11/340)
الشريفة أن تبلّغ أولياءها مراما، وترعى لأصفيائها ذماما، وتصطفي لولاية الرّتب من أضحى ثغر ولائه بسّاما، وتجرّد لحسن النظر من يجرّد بهممه حساما حسّاما، لا سيّما من اقتفى سنن أخيه أجلّه الله فيما يأتي ويذر، واهتدى بهديه في كلّ ورد وصدر، وحذا حذوه السديد الأثر، السعيد النظر، واتّبع رشده الساطع البلج اللامع الغرر، وسار سيره الذي تتأرّج به أرجاء الممالك فحيث سار سرّ إذ هو جمال الجود، جلال الوجود، مقيل عثار الملهوف والمجهود، موئل التّهائم والنّجود، مستجلب الدعاء لنا من الطائفين والعاكفين والرّكّع السّجود، ذو المآثر التي ذكرها أعطر من الروض المجود الموجود، والمناقب التي يساوي فيها الكواكب ويسامتها في السّعود والصّعود.
ولما كان المجلس العاليّ الفخريّ قد أصبح فخره بأخوّته ناميا، وقدره بأبوّته ساميا، وأصبحت مفاخره به خالدة، وجمع مزايا وسجايا جمعت له طارف السّعد وتالده اقتضى رأينا الشريف أن [أن نشدّد به] (1) أزرا، ونجدّد له في إصلاح السلاح نظرا، ليكون لأخيه أعزه الله تعالى النظر على الخاصّ والعام، وبيده مقاليد خزانتنا التي يشمل منها البرايا بصنوف الإنعام، وتدبير خواصّنا الشريفة وجيوشنا المؤيّدة، وله النظر على أعمال لبوس، تقي من الجيوش البوس:
البيض [ذات] القوانس (2)، واليلب (3) المدار والسّمر المداعس (4)، والبيض المهنّدة (5)
فلذلك رسم لا زال يجمع لأوليائه على آلائه شملا، ويرفع أقدار أهل الكرم باستقرار النّعم إذ كانوا لها أهلا وبها أولى أن يستقرّ فلان في
__________
(1) بالأصل «أن نشدّد له بأخيه».
(2) البيض: جمع بيضة، وهي الخودة. والقوانس جمع قونس وهي أعلى بيضة الحديد. والمراد:
الخوذ الحديدية ذات الرؤوس المدبّبة.
(3) اليلب: جلود يخرز بعضها إلى بعض، تلبس على الرؤوس خاصة. الواحدة «يلبة».
(4) السّمر: الرماح. والمداعس: جمع مدعاس، وهو الغليظ من الرماح، الشديد الذي لا ينثني.
(5) السيوف المطبوعة من حديد الهند.(11/341)
نظر خزائن السّلاح المنصورة على عادة من تقدّمه وقاعدته، وبمعلومه الشاهد به الدّيوان المعمور لهذه المآثر التي بثّها القلم، والمفاخر التي اشتهرت كالنار على العلم فليكشف ما بهذه الخزائن من عدّة الحرب، والآلات المعدّة في الهيجاء للطّعن والضّرب، ويشمّر في تكثيرها عن ساعد اجتهاده، ويعزّز موادّ الإمداد بها بحسن نظره ويمن اعتماده، ويستعمل برسم جهاد الأعداء كلّ نصل صقيل، وصمصام له في الهام صليل، وصفيحة بيضاء تبيضّ بها بين أيدينا الصّحيفة، ولبوس ترهب عدوّ الله وتضاعف تخويفه، وزاعبيّ (1) يرعب، وسمهريّ (2)
يزهق بلسان سنانه النّفوس ويذهب وخرصان (3) تكلّم الأبطال بأسل ألسنتها في الحروب، وقواصل (4) لها في سماء العجاج شروق وفي تحليء (5) الكفّار غروب، وبدن (6) يقدّ الأبدان، ولأمة (7) لم تبار في تحصينها وتخييرها ولم تدان، وفضفاضة على جنود الإسلام تفاض، وسابغة تسبغ على كل راجل من أهل الإيمان ليقضي من أهل الشرك ما هو قاض.
وليحفظ ما ينفق على هذا العدد من الضّياع، ويأت بما تأتي به الضّياع على أحسن الوجوه وأجمل الأوضاع، وليضبط ما يصرف عليها من الأموال، ويعتمد في نظرها ما تحمد عاقبة أمره في سائر الأحوال، ويتيمّن في سائر أفعاله
__________
(1) الزاعبيّ: نوع من الرماح منسوبة إلى «زاعب»، رجل أو بلد. قال المبرّد: تنسب إلى رجل من الخزرج يقال له: زاعب، كان يعمل الأسنّة، والزاعبيّ من الرماح: الذي إذا هزّ تدافع كله كأن آخره يجري في مقدّمه (لسان العرب: 1/ 449).
(2) السمهريّ: الرمح الصليب العود. ينسب إلى «سمهر» رجل كان يقوّم الرماح. وامرأته «ردينة» وإليها تنسب الرماح الردينيّة.
(3) الخرصان: مفردها خرص وخراص وهي الرماح.
(4) المقصل من السيوف: القاطع.
(5) التّحليء: الشّعر أو سواده.
(6) البدن: الدّرع. أو القصيرة من الدروع. والبدن يقدّ ولا يقدّ. ولعل في الاستعمال هنا سبق قلم من الكاتب.
(7) اللأمة: أداة الحرب كلها من سيف ودرع وغيرهما.(11/342)
بميامن كماله، ويسترشد بمراشده في أموره باليمن والرشد من خلال جماله، ويسلك بحسن نظره لهذه الخزائن ما ينتظر به أن يفوق أنظار الأنظار ويرتقب، ويعلم أنّ هذا أوّل إقبالنا عليه (وأوّل الغيث قطر ثم ينسكب) والله تعالى يجعل خزائن الإسلام بجمال فخره آهلة، ويوردها موارد العزّ الدائم ويصفّي من أكدار الأقذار لها مناهله والعلامة الشريفة أعلاه، حجة بمقتضاه.
الوظيفة السادسة (استيفاء الصّحبة)
وصاحبها يتحدّث في كل ما يتحدّث فيه ناظر الصّحبة المقدّم ذكره (1)
وهذه نسخة توقيع من ذلك، من إنشاء القاضي «ناصر الدّين بن النّشائي» وهي:
الحمد لله الذي زاد فخار أوليائنا رفعة المقدار، وأفاد الصّحبة الشريفة خير كاف استوجب منّا بجميل خدمته جزيل الإيثار، وجاد بالجود وابتدأ السعود لمن حسن فيه الاختيار وحمد الاختبار، وارتاد للمناصب العليّة كلّ «مستوف» للمحاسن له حقوق وفاء لا تضاع وقدم ولاء أجمل فيه الإيراد والإصدار.
نحمده على نعم أجزلت الآثار، ونشكره على منن أجملت المسارّ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص يترشّف ساحّ (2) ثوابها الدارّ في تلك الدار، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أيّد الله المؤمنين وأخمد نار الكفّار، وبعثه رحمة للعالمين فأقام بناء الإسلام بعد ما كاد ينهار (3)، وأسرى به إلى السّبع الطّباق فطبّق نبأ معجزاته الأرض وملأ الأقطار،
__________
(1) راجع ص 93من هذا الجزء.
(2) الساحّ: الكثير الانصباب.
(3) المراد بالإسلام هنا ملة إبراهيم المستمرة بالحنيفية والتي جاء النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم مصدقا لها ومتمما. وكل من أسلم لله ولم ينحرف عنه في شيء فهو حنيف. وفي التنزيل العزيز: «ملّة إبراهيم حنيفا» أي مخالفا لليهود والنصارى منصرفا عنهما. (الكلّيات لأبي البقاء: 2/ 185).(11/343)
صلاة باقية لا تزال أغصان أجورها دانية القطوف زاكية الثّمار، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أجلّ النّعم ما علت ملابسها، وأجمل المنن ما غلت نفائسها، وأكمل المنح ما زكت في رياض الإقبال غرائسها، وأجزل العطايا ما جلّيت في حلل الفخار عرائسها، وأولى الأولياء بتحويل ذلك لديه، وتخويل هذه المواهب إليه، وإسباغ أثواب الامتنان عليه، واجتبائه لرتب علت محلّا، واختياره لمنصب يصبح به جيده من عقود العناية محلّى من شكرت أوصافه، واشتهر عفافه، وحسن منّا إسعاده وإسعافه، وحمدت خلاله ومآثره، وجاز فخر نعته وفخر ذاته فلا غرو أن تعدّدت مفاخره، وأسلفنا من خدمته ما استوجب أن يجني به ثمار الإحسان، وقدّم بين أيدينا الشريفة من يمن تصرّفه ما أنتج له مضاعفة الآلاء الحسان.
ولما كان فلان هو الذي تحلّى من هذه الأوصاف بعقودها، وتجلّى في مطارف برودها، وأثنت على خصاله ألسنة الأقلام، وأثبتت جميل خلاله في صحف أوراقها وصحائف الأيّام، وحاز من الأمانة والنّزاهة كلّ ما يشكر به على الدّوام، وامتاز بحسن الكتابة التي تقرّ النواظر وتسرّ الخواطر وتزري بالروض البسّام، ما باشر رتبة إلا وفى بها، وحفظ أموالها وغلالها وضبط أمورها وكفى بها اقتضى رأينا الشريف أن ننقله إلى درجات السعادة، ونمنحه من إقبالنا الشريف زيادة الحسنى وحسن الزّيادة، ونخصّه بوظيفة تدنيه منّا قربا لنكون قد أجملنا له الابتداء والإعادة.
ولذلك رسم بالأمر الشريف لا زال فخر أوليائه بمزيد آلائه ساميا، وقدر أصفيائه بمديد عطائه ناميا أن يستقرّ في كذا.
فليتلقّ هذا الإحسان، بيد الاستحقاق، وليتقلّد عقود الامتنان، الذي طالما قلّد جوده الأعناق، وليباشر ذلك مباشرة يسرّ خبرها، ويسير خبرها، ويشنّف الأسماع تأثيرها وأثرها، وليسلك فيها من السّداد، ما يؤكّد حمده، ومن
حسن الاعتماد، ما يؤيّد سعده، وليعتمد فيها من الأمانة ما هو المشهور من اعتماده، ومن العفاف ما صحّ عنه نقل إسناده، وليدبّج المراسيم الشريفة بقلمه السعيد، وليوشّها بكتابته التي بها الحسن مبديء ومعيد، وليضبط جميع أموال الديوان المعمور وغلاله، وسائر أموره وأحواله، وليستوف بقلمه على مباشريه وعمّاله، وليحط علما بخراج بلاده وأعماله، وليسترفع الحساب شاما ومصرا، وليتصفّح الرّقاع بالممالك الشريفة المحروسة ليحوي بجميعها خبرا، وليتعيّن جملها وتفصيلها ليكون بمخرجها أدرب وبمردودها أدرى، وليحصر متحصّلها ومصروفها، ومعجّلها وموقوفها، حتّى لا يخرج شيء عن علمه، ولتكن جملة هذا الأمر محرّرة في ذهنه ليجيب عنها عند السؤال بتحقّق فهمه والوصايا كثيرة وهو بها خبير عليم، حائز منها أوفى وأوفر تقسيم، وملاكها تقوى الله تعالى فليجعلها عمدته، وليتّخذها في كل الأمور ذخيرته والله تعالى يضاعف له من لدنّا إحسانا، ويرفع له قدرا وشانا والاعتماد على الخطّ أعلاه.(11/344)
فليتلقّ هذا الإحسان، بيد الاستحقاق، وليتقلّد عقود الامتنان، الذي طالما قلّد جوده الأعناق، وليباشر ذلك مباشرة يسرّ خبرها، ويسير خبرها، ويشنّف الأسماع تأثيرها وأثرها، وليسلك فيها من السّداد، ما يؤكّد حمده، ومن
حسن الاعتماد، ما يؤيّد سعده، وليعتمد فيها من الأمانة ما هو المشهور من اعتماده، ومن العفاف ما صحّ عنه نقل إسناده، وليدبّج المراسيم الشريفة بقلمه السعيد، وليوشّها بكتابته التي بها الحسن مبديء ومعيد، وليضبط جميع أموال الديوان المعمور وغلاله، وسائر أموره وأحواله، وليستوف بقلمه على مباشريه وعمّاله، وليحط علما بخراج بلاده وأعماله، وليسترفع الحساب شاما ومصرا، وليتصفّح الرّقاع بالممالك الشريفة المحروسة ليحوي بجميعها خبرا، وليتعيّن جملها وتفصيلها ليكون بمخرجها أدرب وبمردودها أدرى، وليحصر متحصّلها ومصروفها، ومعجّلها وموقوفها، حتّى لا يخرج شيء عن علمه، ولتكن جملة هذا الأمر محرّرة في ذهنه ليجيب عنها عند السؤال بتحقّق فهمه والوصايا كثيرة وهو بها خبير عليم، حائز منها أوفى وأوفر تقسيم، وملاكها تقوى الله تعالى فليجعلها عمدته، وليتّخذها في كل الأمور ذخيرته والله تعالى يضاعف له من لدنّا إحسانا، ويرفع له قدرا وشانا والاعتماد على الخطّ أعلاه.
وهذه وصية لمستوفي الصحبة أوردها في «التعريف» وهي:
فهو المهيمن على الأقلام، والمؤمّن على مصر والشام، والمؤمّل لما يكتب بخطّه من كل ترتيب وإنعام، والملازم لصحبة سلطانه في كل سفر ومقام وهو مستوفي الصّحبة، والمستولي بالهمم على كل رتبة، والمعوّل على تحريره، والمعمول بتقريره، والمرجوع في كل الأمور إلى تقديره به يتحرّر كلّ كشف، ويكفّ كلّ كفّ، وبتنزيله وإلّا ما يكمل استخدام ولا صرف وهو المتصفّح عنّا لكلّ حساب، والمتطلّع لكلّ ما حضر وغاب، والمناقش لأقلام الكتّاب، والمحقّق الذي إذا قال قال الّذي عنده علم من الكتاب، والمظهر للخبايا، والمطلع للخفايا، والمتّفق على صحّة ما عنده إذا حصل الخلاف، ووصل الأمر فيه إلى التّلاف وليلزم الكتّاب بما يلزمهم من الأعمال، ويحررها
بمستقرّ إطلاقه وضرائب رؤوس المال، وعمل المكلفات (1) وأن يكلّفوا عملها، وتقدير المساحات وليتتبّع خللها وليلزمهم بتمييز قيمها بعض عن بعض، وتفاوت ما بين [تسجيل] (2) الفدن في كل بلد بحسب ما تصلح له زراعة كلّ أرض، وبمستجدّ الجرائد وما يقابل عليه ديوان الإقطاع والأحباس، وغير ذلك مما لا يحصل فيه التباس.(11/345)
فهو المهيمن على الأقلام، والمؤمّن على مصر والشام، والمؤمّل لما يكتب بخطّه من كل ترتيب وإنعام، والملازم لصحبة سلطانه في كل سفر ومقام وهو مستوفي الصّحبة، والمستولي بالهمم على كل رتبة، والمعوّل على تحريره، والمعمول بتقريره، والمرجوع في كل الأمور إلى تقديره به يتحرّر كلّ كشف، ويكفّ كلّ كفّ، وبتنزيله وإلّا ما يكمل استخدام ولا صرف وهو المتصفّح عنّا لكلّ حساب، والمتطلّع لكلّ ما حضر وغاب، والمناقش لأقلام الكتّاب، والمحقّق الذي إذا قال قال الّذي عنده علم من الكتاب، والمظهر للخبايا، والمطلع للخفايا، والمتّفق على صحّة ما عنده إذا حصل الخلاف، ووصل الأمر فيه إلى التّلاف وليلزم الكتّاب بما يلزمهم من الأعمال، ويحررها
بمستقرّ إطلاقه وضرائب رؤوس المال، وعمل المكلفات (1) وأن يكلّفوا عملها، وتقدير المساحات وليتتبّع خللها وليلزمهم بتمييز قيمها بعض عن بعض، وتفاوت ما بين [تسجيل] (2) الفدن في كل بلد بحسب ما تصلح له زراعة كلّ أرض، وبمستجدّ الجرائد وما يقابل عليه ديوان الإقطاع والأحباس، وغير ذلك مما لا يحصل فيه التباس.
ومثلك لا يزوّد بالتعليم، ولا ينازع فكلّ شيء يؤخذ منه بالتسليم وما ثمّ ما يوصى به ربّ وظيفة إلا وعنده ينزّل علمه، وفيه ينزّه فهمه وملاك الكل تقوى الله والأمانة فهما الجنّتان الواقيتان، والجنّتان الباقيتان وقد عرف منهما بما يفاض منه عليه أسبغ جلباب، وأسبل ستر يصان به هو ومن يتخذهم من معينين ونوّاب والله تعالى يبلّغه من الرتب أقصاها، ويجري قلمه الذي لا يدع في مال ممالكنا الشريفة صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
الدرجة الثالثة (من تواقيع أرباب الوظائف الديوانية بالديار المصرية
ما يكتب في قطع العادة: إما في المنصوريّ، مفتتحا ب «أما بعد حمد الله» أو على قدر المكتوب له في القطع الصغير، مفتتحا ب «رسم بالأمر الشريف» إن انحط قدره عن ذلك) وفيها وظائف:
منها: كتابة الدّرج بديوان الإنشاء بالأبواب الشريفة.
وهذه نسخة توقيع بكتابة الدّرج الشريف، كتب به للقاضي تاج الدين،
__________
(1) بعد نمو الزرع وإثباته في أوراق مربوطة، تضم جميع هذه الأوراق، وتجمع ثم تنظم وتكتب بها أوراق هامة تسمى «المكلفة» أو «المكلفات» تسلم لديوان المقطع نسخ منها. وهذا من عمل مستوفي الصحبة. (مصطلحات صبح الأعشى: 325).
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 115.(11/346)
عبد الرحيم بن الصاحب فخر الدين بن أبي شاكر (1)، وهي:
رسم [بالأمر الشريف] لا زالت صدقاته الشريفة تشمل نجباء الأبنا، ومبرّاته الجسيمة تجزل للولد البارّ حسن الزيادة وزيادة الحسنى، وهباته الكريمة تقبل بوجه الإحسان على فرع الأصل الأسمى وترصّع تاجه بجوهر فخره الأسنى، وسماته الوسيمة تجمّل شدّ أزر الوزارة الفخيمة بأكفإ نجل ثنى الزمان عنان الرياسة إليه وعليه أثنى أن يستقرّ فلان في كذا وكذا: لأنه ربّي في حجر الرياسة، واجتنى من الروض المجد الذي أعلى السعد غراسه، ونشأ من محلّ السّؤدد والفخار، وبزغ من بيت حقّت له رفعة الأقدار، وبسق غصن فرعه من أصل ثابت، وسما بدوح عزّ في مواطن المعالي نابت، وهمى ندى قلمه بانتسابه إلى سراة الكتّاب فناهيك من كاتب لأبي الخلل كابت تعترف الدولة لسلفه بسالف العهود، وتغترف من منهل تدبيرهم المورود، وتتحلّى من تاجهم بأسنى العقود، وتسمو من فخر وزارتهم ووزارة فخرهم بما يملأ الوجود بالجود، وتختال من تصريف أقلامهم وأقلام تصريفهم في روض التنفيذ المجود فإن ذكرت مآثر جدّه قصّرت عن إدراكها الجدود، وإن شكرت مناقب والده أجله الله ففجرها الباذخ مشهود وهو بلسان العامّ والخاصّ ممدوح محمود، وإلى معاني خطّه تنتهي درجات الصّعود والسّعود فلا غرو لهذا الفرع الناجب أن يتبع أصله، وأن يسلك فضائله وفضله، وأن يقفو منهجه، ويحذو في الكتابة طريقته المبهجة، ويأتي من البراعة بسننها القويم، ويبرز من اليراعة وشي خطّه الرقيم، وأن يحلّي أجياد المهارق بجوهر تاجه النّضيد النّظيم، وأن تحلو ألفاظه في الإنشاء حين تمرّ على الأسماع مرور النسيم سيّما وقد ظهرت عليه من مخايل الرئاسة دلائل، وشرعت له مناهل الأدب والفضائل، وحاز من حسن النشأة ما سار بشكره المثل، وحصل من الاشتغال على كنز المعرفة واشتمل، وغدا جديرا
__________
(1) كان أبوه الصاحب فخر الدين، ماجد بن موسى بن أبي شاكر، صاحب ديوان يلبغا العمري بمصر. وولي الوزارة في دولة الأشرف ثلاث مرات (الأعلام 5/ 251).(11/347)
بكل مرتبة سنيّة، وكل رفعة هي بأعدائها مبنيّة.
فليباشر ذلك مباشرة يجعلها لباب المعالي مفتتحا، وللزيادة من كلّ خير سببا كلّما أبدى الدهر مساء وضحى، ولينقل في اتباع مهيع (1) المجد عن والده وجدّه أبقاهما الله تعالى، وليدأب للتحلّي بأخلاقهما الحسنة أقوالا وأفعالا، وليبهج الطّروس بوشي قلمه، ولينمّق المكاتبات ببلاغة كلمه، وليتخذ الصّون شعاره، والعفاف دثاره، والأمانة معتمده، والنزاهة مستنده، وضبط القول مادّته، وحفظ اليد واللسان جادّته والوصايا كثيرة وملاكها التقوى وهي حليته الحقيقيّة وعقيدته العقليّة والمنطقيّة فليجعلها دأبه، وليرض في إعلانه لها ربّه والله تعالى يعلي قدره وجدّه ويحفظه وأباه وجدّه.
وهذه نسخة توقيع شريف بكتابة درج تجديدا، وهي:
رسم لا زال يمنح الأولياء، بتجديد النّعم إحسانا، ويولي البلغاء، فضلا يعلي لهم رتبة وشانا، ويبدي لهم في ديوان إنشائه الشريف فضائل جمّة وبيانا أن يجدّد هذا التوقيع الشريف باسم فلان تجديدا لأنوار الإحسان إليه، وتأكيدا لمزايا الامتنان لديه، وتسديدا لمستنده الذي ألقاه وجه الإقبال إليه، لما حازه من فضيلة تامّة، وبلاغة ملأت ببديع المعاني ومعاني البديع ألفاظه وكلامه، وكتابة أجرت في حواشي الطروس بمحقّق التوقيعات أقلامه، وأمانة بنت على الصّدق والعفاف أقسامه، ورياسة تأثّل مجدها، فبلغ مرامه، واتّصل سعدها، فلا يخشى انفصامه، وبعد شأوها فهي السامية إلى رفع المنازل من غير سآمة. قد اتّصف من البراعة بجميل الأوصاف وظهر استحقاقه فهو باد غير خاف، وتروّى من بحر البلاغة حيث ورد منهلها الصّاف، وسلك طرق الخير فتضاعف له الإسعاد والإسعاف، وامتاز بمزايا التجمّل في أموره
__________
(1) المهيع من الطرق: البيّن الواضح.(11/348)
والعفاف، واستحقّ بذلك أن نجدّد له فضل الألفة، ونؤكّد له بكرمنا نيلا اعتاده وعرفه.
فليستمرّ في ذلك استمرارا به أسباب الخير مؤتلفة، ووجوه الفضائل عن صنوف الكتابة غير منصرفة، وليبد من البلاغة بيانها البديع، ويجمّل منزل العلياء الرفيع، ويسلك مسلكه في الأمانة، ويتّق الله تعالى بملازمة المراقبة والدّيانة، والله تعالى يعلي مكانه، ويزيد في اقتناء الفضائل إمكانه، والاعتماد على العلامة الشريفة أعلاه، إن شاء الله تعالى.
قلت وربّما كتب التوقيع لكاتب الدّرج بزيادة معلوم، فيحتاج الكاتب إلى أن يأتي بعبارة تجمع إلى ما تقدّم من براعة الاستهلال ما يليها من موجب الاستحقاق، وسبب الزيادة وترادف الإحسان.
وهذه نسخة توقيع بشهادة (1) الخزانة، كتب به لابن عبادة، وهي:
أما بعد حمد الله الذي أفاض على الأولياء من خزائن فضله، وأفاء لهم أوفر نصيب من إحسانه المشكور فيه عدل قسمه وقسم عدله، وأهمى عليهم من سحب مواهبه ما يقصر عنه الغمام في وبله وطلّه، وأسبغ عليهم من جوده العميم ما يصفو لديهم المرح في وارف ظلّه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه ورسوله أشرف رسله، وخاتم من جاء من الأنبياء من قبله، والهادي ببعثته الشريفة إلى طرق الحق وسبله، وعلى آله وصحبه الذين تابعوه في قوله وفعله، وبايعوه على المظاهرة في نصرة الدين الحنيف وأهله، وجمعوا هممهم على التئام كلمة الإيمان وجمع شمله، وأرهف كلّ منهم في نصره ماضي عزمه ونصله فإنّ أولى من رعيت له حقوق ذمامه، ومنح أجزل العطاء الذي تقضي الأقدار
__________
(1) الشاهد هو الذي يشهد بمتعلقات الديوان المستخدم به نفيا وإثباتا. وهو أحد الموظفين الذين جمعهم القلقشندي تحت باب كتّاب الأموال. (راجع الصبح: 5/ 466).(11/349)
بدوامه، ولوحظ بعين الإقبال ما أسلفه من حسن الطاعة لله ولرسوله ولإمامه من جدّ في الخدمة فأضحى الجدّ له خادما، وداوم على المناصحة فغدا سعده دائما، وأخذ من كلّ فضل بزمامه، ومتّ بما له على الدولة الشريفة من حرمته وذمامه، وسلك في أداء الأمانة السّنن القويم، وجعل على خزائن الأرض بما تلا لسان فضله: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (1) وتمسّك من الإخلاص بأقوى الأسباب، وجعلت له التقوى محلّا يدخل عليه ملائكة القبول من كلّ باب، وزيّن سماء المعالي بكواكب مجده فما تشوّف إليها طرف متطاول إلا وأتبعه شهاب (2)
ولما كان فلان هو الذي غدا حسن مناقبه إلى شكره مرشدا، وإلى ذكره بالجميل مسعدا، وألهج لسان القلم في وصفه منشدا، واختصّ من هذه المحامد بأوفرها قسما، وطلع في أفق هذا الثناء الجميل نجما، فلذلك رسم
ومنها استيفاء الدولة.
وموضوعها التحدّث في كل ما يتحدّث الوزير وناظر الدولة، وضبط الأموال الديوانية، وكتابة الحسبانات، وكلّ ما يجري مجرى ذلك. وقد جرت العادة أن يكون فيها مستوفيان (3).
وهذه نسخة توقيع باستيفاء الدولة:
أما بعد حمد الله الذي صان الأموال بالأقلام المحرّرة، والدفاتر المسطّرة، والحسبانات المصدّرة، والجوامع المسيّرة، والتيقّظ الذي استخرج
__________
(1) يوسف / 55.
(2) إشارة إلى الآية: {«فَأَتْبَعَهُ شِهََابٌ ثََاقِبٌ»} الصافات / 10.
(3) في نظم دولة سلاطين المماليك: 1/ 67 «عمله ضبط كليات المال في كافة المملكة في الشام ومصر. وليس من السهل تمييزه عن مستوفي الصحبة. وكان يعاونه عدد من «المستوفين» منهم الكبار مثل «مستوفي اصل» «ومستوفي مباشرة» ولكل منهما أعمال مالية تخصّه. ويعين مستوفي الدولة بسجلّ مثل كبار موظفي الدولة».(11/350)
البواقي المنكسرة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أزال ظلام الظّلم ونوّره. ومحا الجور وغيّره، وأيّد الحق وأظهره، وعلى آله البررة، وصحبه خصوصا العشرة المبشّرة (1) فإنّ للدولة الشريفة من الأقلام ضابطا، ولها من الحساب نظاما أصبح عليها سياجا وحائطا، يصون الأموال أن تكون بأيدي الخائنين نهبى، ويحرز المطلقات بعدا وقربا، وقلم الاستيفاء هو الذي إذا طاشت أقلام الكتّاب كان في رأسها لجاما، وإذا خصم المباشرون بالمصروف قبل السائغ الصحيح وردّ ما كان سقيما وخرّج ما لم يكن تماما.
ولما كان فلان هو الذي في الرئاسة كبير معروف، وفي السعادة حميد موصوف، وفي قلمه تصحيح كلّ مصروف، وله في الدولة آثار مرضيّة تشكرها الأقلام والسّيوف، ما نظر في حساب، إلا أزال عنه ما به يعاب، ولا رأى فلذالك (2)، إلا وأوضح فيها المسالك، ولا عرض باقي، إلا استخرج ما يتعيّن استخراجه بقلمه الراقي، وفهمه الواقي فلذلك رسم أن يستقر
فليباشر هذه الوظيفة بتحريره وتحبيره، وتمييزه وتثميره، وتوفيره وتكثيره، وإيراده وتصديره، وتسهيله وتيسيره، وإزالة تعسيره وإذا أمسك دفاتره، أظهر مآثره، وإذا نسيت الجمل أبدى تذاكره، والعمدة على شطبه في الحسبانات الحاضرة، فلا يخرج من عنده شيء بغير ثبوت فإنّ التواقيع الشريفة والمراسيم الشريفة هي كالأمثال سائرة، ولا يتّخذ المعين، إلّا الأمين، ولا يستعين، إلا بمن هو مأمون اليمين، والوصايا كثيرة وهو غنيّ عن التبيين، فليتّق الله ربّ العالمين، وليستجلب لنا الأدعية من الفقراء الصالحين فإنّ صدقاتنا الشريفة تنعم عليهم بمرتّبات وأرزاق، ونعم وأطلاق، فليسهّل عليهم الصّعب في كلّ
__________
(1) العشرة من الصحابة الذين بشرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنة.
(2) جمع فذلكة. والفذلكة: مجمل ما فصّل وخلاصته، وهي كلمة منحوتة من قولك: «فذلك كذا وكذا».(11/351)
باب وإطلاق، والله تعالى يمدّه بالإرفاق، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
قلت: وقد يكتب لوظيفة استيفاء الدولة مفتتحا ب «رسم».
وهذه نسخة توقيع من ذلك باستيفاء الدولة، كتب به لعلم الدين بن ريشة (1)، وهي:
رسم بالأمر الشريف لا برحت أيّامه الشريفة ترفع لذوي الكفاءة من إحسانها علما، وترجع مصالح الدولة إلى من أحسن فيها خطابا وأعمل في مهمّاتها قلما، وتختار من دأب في تكميل أدواته حتّى صار على أنظاره متقدّما أن يرتّب فلان علما بكفايته التي وضحت، ودرايته التي فاقت مناظرها ورجحت، وأمانته التي حصّلت النماء وأربحت، وهمّته التي ميّزت الأموال بإحرازها فعلى السّداد ختمت وبالتحرّي افتتحت.
فليباشر هذه الوظيفة التي تحتاج إليه باحتراز مثله، والرّتبة التي يتعيّن على مباشرها إيصال كلّ حقّ إلى أهله فقد أرجعنا ضبطها وتحريرها إليه، واعتمدنا في تيسير أموالها وسدّ أحوالها عليه فهو جدير ببلوغ القصد فيما قرّرناه لديه وحرّرناه بقلمه ويديه.
فليبسط في مصالح الدّيوان المعمور وأمواله قلمه، وليعمل بما هو عالم من تبيين حقائق أحوال وظيفته ويخلص فيه قوله وكلمه، وليصن الأموال، ويتفقّد ما يلزم العمّال، ويحثّ على حمول بيت المال، وليسترفع الحسبانات من جهاتها على العادة، وليستودع دفاترها وجرائدها من يتحقّق تحرّزه وسداده، وليتخذ معينيه من أرباب الحذق والدّراية والاطّلاع على كل نقص وزيادة، وإبداء وإعادة، وله من نفسه ما لا يحتاج معه إلى زيادة الوصايا وتكثيرها، ومن ألمعيّته ما يدرك به الفصل في جليل الأمور وحقيرها فإنّه قد تخلّق بأخلاق أهل
__________
(1) توفي سنة 791هـ. وعيّن في «نظر الدولة» أو «استيفاء الدولة» مكانه فخر الدين، عبد الرحمن بن مكانس. (نزهة النفوس: 1/ 201).(11/352)
الأدب، وشارك في جليل الخطب وسدّ ما إليه عزمه انتدب والله تعالى يبلّغه من الجود غاية الأرب، ويعينه على صالح العمل وانتهاز القرب والاعتماد
الخ.
ومنها استيفاء الخاصّ. وصاحبها في الخاصّ كمستوفي الدولة في ديوان الوزارة.
وهذه نسخة توقيع باستيفاء الخاصّ لمن لقبه «أمين الدين» وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زالت أيامه الشريفة تقدم بمهمّاتها أمينا، وتقدّم في خدمتها من أضحى معلّى شمالا ويمينا، وتولّي الرتب السنيّة من جعل التحرّز لقلمه مصاحبا ولكلمه معينا أن يستقرّ فلان في كذا: لما عرف من رئاسته التي ميّزته، وأمانته التي جمعت الرّفع فأحرزته، وضبطه الذي ترقّى به في المراتب وتنقّل، وإدراكه الذي يصون به غوامض المصالح ويعقل، ولما سلف له من خدمة ملك فيها السّداد، ومباشرة علم بها ما هو متّصف به من حسن الاعتماد.
فليباشر هذه الوظيفة التي ولّيها، وليشهر من همّته فيها ما يرفع مكانته ويعليها، وليدم المراقبة لمصالح ديوان الخاصّ (1) الشريف في كلّ قول وعمل، وليسارع إلى ما يفيد المناجح ويبلغ من الضبط والتحرّز غاية الأمل، وليصن الأموال من ضياعها، ويحافظ على سلوك طرائق الحقّ واتّباعها، وليسترفع الحسبانات من أربابها، ويتفقّد محرّراتها التي هو أعلم وأدرى بها، ويتّخذ من معينيه من أضحت معرفته للدقائق جامعة، ويحتفل بمتحصّلات أموال الخاصّ بعزمته التي أضحت لمكانته رافعة، لا سيّما ثغر الإسكندرية (2) التي قد أصبحت جهاتها لطلب أقلامه متابعة طائعة، وليلزم كلّ عامل بتحرير ما يجب عليه وما
__________
(1) سبق التعريف به في هامش ص 88من هذا الجزء.
(2) كان أعظم بلاد السلطان وأغناها مدينة الاسكندرية، ثم يليها تروجة وفوّة، ونستروة، ومال جميعها يحمل الى ديوان الخاص. (مصطلحات الصبح: 145).(11/353)
تنبغي فيه المراجعة، فإنا قد أقمناه لذلك مستوفيا، وليتصفّح أموره الجليلة والحقيرة مستوضحا مستقصيا، وليتّق الله الذي يبلّغه من زيادة منحنا الأمل، ويعينه على صالح العمل، والله تعالى يمنحه من الخير ما ينجح مسعاه وينزّهه عن الزّيغ والزّلل، والاعتماد الخ.
وهذه نسخة توقيع في المعنى لمن لقبه «بدر الدين» وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زال يطلع لذوي الكفاية من إحسانه في سماء الإقبال بدرا، ويرفع لمن أمّ الأبواب [من أوليائه] (1) ذوي الرئاسة قدرا، ويشفع لمن شكرت معرفته بنجح القصد فانشرح له بالمنن الجمّة صدرا أن يستقرّ فلان في كذا: لكفايته التي خطب بسببها إلى مقرّه، ودرايته التي استوجب بها أن نطق لسان القلم بذكره، ونزاهته التي أجمعت بها أمثاله على شكره، وأمانته التي تستدعي الحقّ في حلو الأمر ومرّه، وديانته التي هي أصل في كل أمره وصيانته التي يعتمدها في سرّه وجهره، ومشارفته المصالح بعين يقظته التي يلوح لها وجه الصواب فيقف عند حدّه وقدره.
فليباشر هذه الوظيفة التي أسلفها حسن الاعتماد، وليوفّها من معهود يقظته يمن الاجتهاد، وليحقّق حسن ظنّ المباشرين [ورغبتهم فيه من الإنصاف] (2)
في الإرفاق والإرفاد، وليعمّر جهات الأموال بجميل الاقتصاد، وينجز الأحوال على سبيل السّداد، وليتّبع منهاج الخير في كل ما يأتيه من إصدار وإيراد، فقد رجع ضبط هذه الجهة إليه، واعتمد في تحريرها عليه فليصن الأموال، ويتفقّد ما تحسن به العقبى والمآل، وليتحرّ في جميع ما هو لازم له أن يكون على الحق الواضح، والسّنن القويم فإنه المتجر الرابح والمآب الناجح، وتقوى الله تعالى
__________
(1) في الأصل: «لأوليائه من ذوي.» والتصحيح من هامش الطبعة الأميرية.
(2) في الأصل «في رغبتهم فيه في الانصاف».(11/354)
فهي عمدة كل عبد صالح، والوصايا كثيرة مبيّنة تغني عن إفصاح الشارح والله تعالى يلهمه الطريق السديدة ويرشده، ويعينه بالتوفيق وينجده، إن شاء الله تعالى.
ومنها استيفاء البيوت والحاشية.
وهذه نسخة توقيع بذلك، كتب بها لعلم الدين «شاكر» عوضا عن تاج الدين بن الغزولي في الأيام الأشرفية «شعبان بن حسين» (1) وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زالت صدقاته الشريفة تمنح الأكفاء من إحسانها نعما، وتضاعف لهم من عطائها كرما، وأيّامه الشريفة تعمّ البيوت الكريمة بكاف قد نشرت له الأمانة في دولته الأشرفيّة علما، ومواهبه تقدّم للوظائف من أضحى شاكرا لله تعالى وتبسط له في دواوين أعزّ الأنصار قلما أن يستقرّ المجلس السامي القاضي، فلان الدين في كذا وكذا: لأمانته الموفورة، ومعرفته المشهورة، ومحاسنه المذكورة، وسيرته المشكورة، وكتابته التي أضحت في صفحات الحسبانات مسطورة، وديانته التي جدّدت بهجته وسروره، وخبرته بمنازل البيوت المعمورة، وقدم هجرته في الوظائف التي أوجبت نقلته إلى أجلّها، وصدارته التي رفعته إلى أرفع محلّها، كم له في دواوين أعزّ الأنصار من أقلام منفّذة، وآراء مسدّدة، ونظر أصلح به كلّ فاسد، وكبت به كلّ حاسد، وضبط لأصول الأموال، وتتبّع للمصالح في البكر والآصال.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة التي هو أخبر بمباشرتها، وأعلم بأحوال البيوت الكريمة وعمارتها، وليظهر في الحاشية السعيدة مآثره الحسنة، ونزاهته التي نطقت بشكرها الألسنة، وليبد في مباشرته من كل شيء أحسنه، وليسلك طرائق الأمانة، وليقف آثار ذوي العفاف والصّيانة، وليلازم مباشرة أعزّ وليّ في
__________
(1) هو السلطان الثاني والعشرون من سلاطين المماليك الترك. حكم من 764هـ إلى 778هـ. وهو شعبان بن حسين بن محمد بن المنصور قلاوون الصالحي.(11/355)
المساء والصّباح، ولا يشغله شاغل عن مصالح ممهّد الدول من هو لسلطاننا الأشرف أمير سلاح والله تعالى يفتح له من الخير أبواب النّجاح. والاعتماد على الخط الشريف أعلاه، إن شاء الله تعالى.
قلت: وممّا ينخرط في سلك تواقيع أرباب الوظائف السلطانية وظائف دواوين الأمراء الخاصكيّة (1)، فإنه ربما كتب عن السلطان التوقيع لبعض أرباب وظائف دواوينهم كما يكتب في الوظائف السلطانية.
وهذه نسخة توقيع كريم بنظر دواوين بعض الأمراء، وهي:
أمّا بعد حمد الله الذي هدى إلى الملّة المحمّدية من أسرّ الإيمان في قلبه ونواه، وضمّ إلى الأمّة [الإسلامية] (2) من أضمر الإخلاص فأظهره الله في متقلّبه ومثواه، وجمع لوليّ الدولة ومخلصها الفرج والفرح لأنه من توكّل عليه كفاه، والشهادة بالوحدانية التي تبلّغ قائلها من رضاه مناه، وتجعل جنّاته لمن أسرّها جنانه مستقرّه ومأواه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي قصم عداه، وفصم عرا من عاداه من أهل الشرك وعداه، وعلى آله وصحبه الذين اهتدوا بهداه، واستجدوا جداه (3)، ولبّوا نداه، وأمّوا نداه، صلاة تجزل لمصلّيها ثوابه، وتجمل مآبه، وتحمد عقباه فإنّ أولى من رفع له الكرم محلّا، وقلّدته النّعم عقدا محلّى، وأعيد إلى رتبة الاصطفاء، وفوّض إليه ديوان أعزّ الأخصّاء، وصرّف قلمه في مهامّه، وحصلت هممه على جميع أقسامه، وعدقت مصالحه بتدبيره، ومناجحه بتأثيله وتأثيره، ومتحصّلاته بتمييزه وتثميره،
__________
(1) الخاصكية من «الخاصة». وهم الذين يلازمون السلطان في خلواته، ويسوقون المحمل الشريف، ويجهزون في المهمات الشريفة. (تأصيل الدخيل: 81ومصطلحات الصبح: 43).
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الجدا: العطاء.(11/356)
وأحواله وأمواله: هذه بحسن تصرّفه وهذه بيمن تقريره من دخل في دين الله القويم، واجتباه وهداه إلى الصّراط المستقيم، وكساه الإسلام حلّة شرفه، وبوّأه الإيمان مباني غرفه، ونوى الاستقامة في إقامته ومنصرفه، والتحف بجلباب الإسلام وارتدى، وتلبّس بالإيمان فصدّ عنه الأذى وردّ الرّدى، وغدا من أصحاب الصّراط السّويّ ومن اهتدى، مع كفاية أوجبت له التقريب والتقديم، وجدّدت له ملابس التكبير والتكريم، وكتابة فاق بها أمثاله، وعلا مثاله، وبلّغته من العلياء مرامه ومناله، ومعرفة بفنون الحساب، وخبرة اعترف بها الكتّاب والحسّاب، وأوجبت له من الإقبال ما لم يكن في حساب.
ولما كان مجلس القاضي فلان: هو الذي أخذ القلم في مدحه والكرم في منحه، اقتضى رأينا الشريف أن نقبل على إقباله على الدين بوجه الإقبال، وأن نبلّغه في أيّامنا الشريفة ما كان يرجوه من الآمال، فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال يرفع من كان للدولة وليّا، ويضع الشيء محلّه بتقديم من أضحى عرفانه جليّا (1)
فليباشر ذلك مباشرة تبلّغه أملا من الاعتلاء، وتنوّله مراما من الاعتناء، وتؤمّنه من طوارق الزّمن وحوادث الاعتداء، عالما بأنّ دولتنا الفلانية المنصورة تجازي عن الحسنة بأمثالها، وأنّ أيّامنا الفلانية المشهورة المشكورة تبلّغ أولياءها غاية آمالها، وأنّنا أجزلنا برّه، وأجملنا ذكره، وأجرينا على لسان القلم حمده وشكره، فليعتمد في مباشرته الأمانة المبرّة والنزاهة التي رفعت ما ساءه ووضعت ما سرّه، وليشمّر في مصالح هذا الديوان السعيد عن ساعد اجتهاده، ويعتمد في أموره ما ألف من سداده، ويتحرّ من السعادة ما كان قبل القول من سعاده، وليتّق الله حقّ تقاته، ويجعل التقوى حلية لأوقاته، وحلّة على سائر تصرّفاته، ويسر
__________
(1) حذف ما يلي ذلك للاختصار وهو من نحو: «أن يستقر في ديوان كذا الخ».(11/357)
بتقواه سيرا خبرا (1) وخبرا، ويذر جورا وجبرا، {وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} (2)
قلت: وغالب ما يعتنى به في تواقيع أرباب الأقلام المفتتحة ب «رسم» الدعاء المصدّر به التواقيع واشتماله على براعة الاستهلال.
وهذه جملة أدعية (3) من ذلك ينسج على منوالها:
أثير الدّين لا زال فلك فضله أثيرا، وطالع سعده منيرا، وهبوب ريح مبرّاته للخيرات مثيرا.
أمين الدّين لا زال ينبغي للخدم الشريفة خير أمين، ويصطفي للقيام بالمصالح أنهض معين، ويجتبي لأهمّ المهمّات من هو غير متّهم في المناصحة وغير ظنين.
بدر الدين لا زال يولّي المناصب الدّينيّة من سلك في النزاهة مسلكا جميلا، ويولي الفضل الجزيل من أضحى إشراق بدره على آثار حظّه دليلا.
برهان الدين لا زالت أوامره الشريفة ترفع للعلماء شانا، وتقيم على استحقاقهم دليلا واضحا وبرهانا.
تاج الدين لا زالت صدقاته الشريفة ترفع تاج الفضائل على الرؤوس وبرّه الشامل يذكّي النفوس ويزكّي الغروس، وتوارد إفضاله يوشّي المهارق
__________
(1) السّير الخبر: من الخبار، وهو الغبار ولعل المراد السّير الحثيث.
(2) الطلاق / 4.
(3) وهي إلى ذوي الألقاب المكوّنة من الإضافة الى «الدين». وقد لاحظ القلقشندي أن هذا النوع من الألقاب كان يتناسب مع الاسم من ناحية ونوع الوظيفة من ناحية أخرى فبالنسبة إلى الترك من الأجناد في عصر القلقشندي جرى العرف أن يختص لقب بعينه باسم أو طائفة من الأسماء:
فاختص «علم الدين» بالاسم «سنجر» و «جمال الدين» بالاسم «آقوش» و «بهاء الدين» بالاسم «أرسلان» الخ. (انظر الألقاب الاسلامية لحسن الباشا: ص 105103).(11/358)
ويدبّج الطّروس.
تقيّ الدين لا زالت صدقاته الشريفة تقدّم كلّ تقيّ، وترجّح ميزان من هو بالفضائل أملى مليّ، وترفع قدر من إذا سئل عن محلّه في الرياسة قيل عليّ.
جمال الدين لا زال جمال جميله للنّفوس رائقا، وإفضاله المتوافر لكل إفضال سابقا.
جلال الدين لا زالت صدقاته الشريفة تزيد جلال ذوي الفضل جلالا، وإحسانه المتواتر يوسّع في البرّ لأولي الاستحقاق مجالا، وبرّه المتتابع تقصر عنه خطا كلّ برّ فينادى: هكذا هكذا وإلا فلا لا.
رضيّ الدين لا زال رضيّ السّجايا، ظاهر المزايا، مسترسل ديم العطايا.
زين الدين لا زال نواله الشريف زينا لنائله، وسؤاله المحقّق إجابته شرفا لسائله، وقاصد بابه الشريف يؤمّ بالخير في عاجل الأمر وآجله.
سراج الدين لا زالت عنايته الشريفة تخصّ أولياءها بجزيل المواهب، وتبلّغهم من صدقاتها العامّة غاية الآمال وأقصى المطالب، وتوقد لهم من أنوار سعادتها سراجا يغلب على نور الكواكب.
سريّ الدين لا زالت صدقاته الشريفة تصطفي من أرباب الكتابة من يجيد المعاني فلا يضع لفظا إلا جعل تحته معنى سريّا، وترتضي من فرسان البراعة في ميدان اليراعة من يرتقي ببلاغته مكانا عليّا، وتجتبي من أهل الإجادة من تميّز بالإفادة فلا يزال كلامه لأجياد الطّروس حليّا.
شرف الدين لا زالت صدقاته الشريفة تضع الشيء في محلّه، وترجع الفضل إلى مستحقّه وأهله، وتختار للمناصب من ظهر شرفه بين قوله وفعله.
شمس الدين لا زالت صدقاته الشريفة تطلع في سماء المعالي من ذوي الرياسة شمسا، ونعمه الجسيمة تنبت في روض الإحسان غرسا، ومراسمه
العالية تنقل إلى رتب الرياسة من شدّت كفّه على عدد الأمانيّ خمسا.(11/359)
شمس الدين لا زالت صدقاته الشريفة تطلع في سماء المعالي من ذوي الرياسة شمسا، ونعمه الجسيمة تنبت في روض الإحسان غرسا، ومراسمه
العالية تنقل إلى رتب الرياسة من شدّت كفّه على عدد الأمانيّ خمسا.
شهاب الدين لا زالت صدقاته الشريفة تطلع في أفقها شهابا، وتهمل من جزيل المواهب للأمانيّ سحابا، وتضع الشيء في محله وتزيد الأمور انتظاما والدعاء استجلابا.
صدر الدين لا زالت آراؤه الشريفة تستجيد من ذوي الفضائل من جاوز الجوزاء نظما وفاق النّثرة (1) نثرا، [وتستعيد للمناصب] (2) من الأماثل من تقصر عن مجده الكواكب رفعة وقدرا، وتستزيد [في] (3) المراتب من فاق سحبان وائل (4) وساد الأوائل فأضحى في مجالس العلياء صدرا.
صلاح الدين لا زال أمره الشريف يقدّم من يفيد ويجيد، فيكون لكلّ أمر صلاحا، وكرمه الطويل المديد، يشمل من ذوي الفضائل من فاق «سحبان» وائل فصاحة وفاق «حاتم» الأوائل سماحا، ورأيه الرشيد السديد، يختار من إذا انتضى اليراعة غلب رأيه سيوفا وطال قلمه رماحا.
ضياء الدين لا زالت آراؤه الجميلة، تختار من ذوي الفضائل الجليلة من تزداد به المناصب ضياء، ونعمه الجزيلة، تعمّ كلّ بارع إذا ادلهمّت الخطوب كان فوه لها جلاء، وعوارفه المستطيلة، تشمل كلّ فاضل بذل في الخدمة جهده وتكسوه هيبة وبهاء.
علم الدين لا زال جزيل إحسانه، أوضح من نار على علم، ومزيد
__________
(1) النّثرة: عنقود من النجوم في صورة السرطان، وهو الثامن من منازل القمر.
(2) في الأصل: «وتستفيد به المناصب».
(3) في الأصل «منه».
(4) خطيب يضرب به المثل في البيان. اشتهر في الجاهلية وعاش زمنا في الإسلام. أسلم في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يجتمع به. وأقام في دمشق أيام معاوية.(11/360)
امتنانه، يشمل أرباب السيف والقلم، وسحب بنانه تسحّ فلا تشحّ بجزيل الكرم.
علاء الدين لا زال علاء دولته يصطفي ذوي الفضائل، ويختار من الفصحاء من يفوت الأواخر كما أضحى يفوت الأوائل، ويقدّم من هو في تدبير اليراعة كعلّي بن هلال (1) وفي حسن البراعة كسحبان وائل.
عزّ الدين لا زالت صدقاته الشريفة تزيد ذوي الأقلام، من جزيل الإنعام، فتنيلهم عزّا، وتستجيد من كتّابها الأعلام، من خصّ بجواهر الكلام، فكلّ حسن إلى كلامه يعزى، وتستفيد من نجباء الأيّام، كلّ بارع كأنّ كلامه زهر الكمام، فلو خاطب سحبان لأورثه قصورا وعجزا.
عماد الدين لا زالت آراؤه الشريفة تتّخذ من نجباء الكتّاب عمادا، وتختار من ذوي الفضائل في الخطاب، من تجد لكلامه حسنا وسدادا، وتقدّم من أهل الفضل في السؤال والجواب، من لا تعدم في كلّ مقاصده رشادا.
عضد الدين لا زالت صدقاته الشريفة تجعل من إنعامها، لخدّامها، عضدا، وتلحظ بعين إكرامها، وحسن احترامها، من طال في الفضل مدى، وتزيّن مطالع أيامها، بشموس أعلامها، فلا ترى مثلهم أحدا.
غرس الدين لا زالت صدقاته الشريفة تنبت في روض الإحسان، من أرباب البيان، غرسا، وتجتني من كمام اللّسان، أزاهر النّكت (2) الحسان، وتزيّن بها طرسا، وتفيض من مواهب البنان، ما يشهد لها بجزيل الامتنان، فيطيب كلّ آمل نفسا.
غياث الدين لا زالت صدقاته الشريفة تبدي لكلّ آمل غياثها، وتضفي
__________
(1) المعروف بابن البّواب. خطاط مشهور من أهل بغداد. نسخ القرآن بخطه 64مرة. (انظر ترجمته في الأعلام: 5/ 30وابن خلكان: 3/ 342).
(2) النكتة: الفكرة اللطيفة المؤثرة في النفس.(11/361)
ظلّها على من استجار بها واستغاثها، وتنطق ألسن أقلامها، بمواهب إنعامها، فتبذل طريفها وتراثها.
فتح الدين لا زالت صدقاته الشريفة تتخيّر من ذوي الأقلام، من يفتح أبواب الكلام، فتحا، وتهب جزيل الإنعام، لمن يستحقه من الكتّاب الأعلام، فينال بذلك ثناء وربحا، وتقرّب بيد العناية والإكرام، من ذوي الرياسة والاحترام، من هزّ على البلغاء قدحا.
فخر الدين لا زالت آراؤه الشريفة تنصّب من المناصب، من يزيد بحسن مباشرته فخرها، وتمطي ظهور المراتب، من إذا أظلمت الأيام لعدم فاضل ظهر بفضيلته فجرها.
قطب الدين لا زالت صدقاته الشريفة تدير على قطب البلاغة من أرباب اليراعة نجوما، وتشير بعنايتها إلى من حاز من الفضل فنونا وأحيا من الآداب رسوما، وتنير بدور سعدها لمن لم يزل قلمه لأسرار الملك كتوما.
كريم الدين لا زالت صدقاته الشريفة تشمل من ذوي الفضائل من عدّ في فصله وأصله كريما، فتقدّم من لا له في البلاغة مماثل فلا يزال بكل فنّ عليما، وتنصّب في المناصب من فات قيس (1) الأوائل رأيا وفاق قسّا (2) بحديث بلاغته قديما.
كمال الدين لا زالت سعادته الباهرة، تطلع في سماء العلياء من فاق البدور كمالا، وأوامره القاهرة، تقدّم أسنى البلغاء جلالا، وأسمى صدقاته الوافية، تعمّ من ذوي الفضائل من زاد المناصب بحسن مباشرته مهابة وجمالا.
مجد الدين لا زالت صدقاته الشريفة تملّك أعنّة الأقلام، من تراه لها
__________
(1) هو قيس بن زهير بن جذيمة العبسيّ: أمير عبس وداهيتها، وأحد السادة القادة في عرب العراق.
كان يلقّب «بقيس الرأي» لجودة رأيه. توفي سنة 10هـ. (الأعلام: 5/ 206).
(2) المقصود: قسّ بن ساعدة الإياديّ. الخطيب الحكيم المشهور المتوفى سنة 23ق هـ.(11/362)
مجدا، وتودع بجيد الأيّام، من جواهر الفضلاء عقدا، وتشمل بأياديها الكرام، من إذا جمع البلغاء كان بينهم فردا.
محيي الدين لا زالت أوامره الشريفة تشمل من البلغاء من شهر بفصل الخطاب، وإذا ماتت الفضائل يحييها، وغيث جوده [الهامي] (1) يفيض فيض السّحاب، فيبادر العفاة ويحيّيها، وعنايته تعم ذوي الألباب، فتمهّد رتب العزّ وتهيّيها.
موفّق الدين لا زالت صدقاته الشريفة تطلع كلّ هلال من اهتدى به كان موفّقا، وتملّك من يزري بابن هلال أنّى كتب: رقاعا ومحقّقا، وتفيض لراجيها أفضل نوال من شبّهه بالغيث كان محقّقا.
ناصر الدين لا زال يقرّب من أضحى لأهل الكلام، بمرهفات الأقلام، ناصرا، ويهب طويل الإنعام، لمن باعه مديد في النّثر والنّظام، فما برح فضله وافرا، وينتخب من غدا شريعا لعادات الكرام، مضارعا لصفات الكتّاب الأعلام، وأصبح في البيان نادرا.
نجم الدين لا زالت أوامره الشريفة تطلع في أفق السعادة، من ذوي السيادة، نجما، وتعمّ بجزيل الإفادة، من عرف بالفضل وبالإجادة، وفاق أقرانه نثرا ونظما، وتسمح من عنايتها بالإرادة، لمن هو أهل الحسنى وزيادة، فتجزل له من كرمها قسما.
نور الدين لا زالت صدقاته الشريفة تعمّ بالنّوال، من هو في البراعة متّسع المجال، فيزيد الكلام نورا، وحسناته تشمل ذوي الآمال، بما يحمد في البدء والمآل، فتملأ القلوب سرورا، ومبرّاته تصل أولي الكمال، وتنتخب أخيار العمّال، فلا برح أنفذ الملوك أمورا.
__________
(1) في الأصل «الوهام» وهو تحريف.(11/363)
نظام الدين لا زال يتخيّر من كان في الناس مجيدا، وفي البيان مجيدا، فحسن لفظه نظاما، ويهب من برّه مزيدا، لمن كان في الخدمة مريدا، فلا ينقض للنصيحة ذماما، ويبذل كرما مفيدا، لمن يراه في الفضل مبدئا ومعيدا، فحاز فخارا وطاب كلاما.
همام الدين لا زال يرتضي من هو في فرسان اليراعة أنهض همام، ويقتضي وعد كرمه لمن نهض في الرياسة نهوض اهتمام، وينتضي عضد (1)
ذهنه فيصيب مفصل كلّ كلام.
وليّ الدين لا زال يحلّي أجياد المناصب من ذوي البلاغة، بمن يحسن في الكلام الصّياغة، فينظمه حليّا، ويجلّي كرب المراتب من فرسان اليراعة، بمن راح فضله ولفظه جليّا، ويولّي المناصب من غدا في البيان وافر البضاعة، فاتخذته الأقلام وليّا.
الضرب الرابع (من الوظائف التي يكتب فيها بالديار المصرية مشيخة الخوانق (2)، وكلّها يكتب بها تواقيع)
وهي على طبقات:
الطبقة الأولى (ما يكتب في قطع النصف ب «المجلس العالي» مفتتحا ب «الحمد لله» وهو مشيخة الشيوخ (3) خاصّة)
واعلم أنّ مشيخة الشّيوخ كانت فيما تقدّم تطلق على مشيخة الخانقاه
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية: «لعلّ الصواب: معضد، كمنبر».
(2) راجع هامش ص 90من هذا الجزء.
(3) شيخ الشيوخ: لقب كبير الصوفية. وكان الصوفية في عصر المماليك يكونون طائفة كبيرة ولهم احترام خاص.(11/364)
الصّلاحيّة، «سعيد السعداء» (1) فيكتب فيها بذلك. ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن بنى السلطان الملك الناصر «محمد بن قلاوون» الخانقاه الناصريّة بسرياقوس (2)، استقرّت مشيخة الشيوخ على من يكون شيخا بها، والأمر على ذلك إلى الآن.
وهذه نسخة توقيع بمشيخة الشّيوخ بالخانقاه الصّلاحية «سعيد السّعداء» بالقاهرة المحروسة باسم الشيخ شمس الدين بن النّخجوانيّ (3)، من إنشاء المقرّ الشهابيّ بن فضل الله العمريّ، وهي:
الحمد لله مرقّي أوليائه، وموقّي أصفيائه، وملقّي كلمة الإخلاص لمن تلقّى سرّها المصون عن أنبيائه.
نحمده على مصافاة أهل صفائه، وموافاة نعمنا لمن تمسّك بعهود وفائه، وتسلّك فأصبحت رجال كالجواهر لا تنتظم في سلكه ولا تعدّ من أكفائه، وطالع للدّين شمسا يباهي الشمس بضيائه، ويباهل البدر التّمام فيتغيّر تارة من خجله وتارة من حيائه.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نعدّها ذخرا للقائه، وفخرا باقيا ببقائه، راقيا في الدرجات العلى بارتقائه.
ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله مبلّغ أنبائه، ومسوّغ الزّلفى لأحبّائه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان من أهل ولائه،
__________
(1) في الدولة الفاطمية كانت تعرف بدار سعيد السعداء، وهو الاستاذ «قنبر» أحد الاستاذين المحنكين خدام القصر أيام الخليفة المستنصر. وقد جعلها صلاح الدين برسم الفقراء الصوفية الواردين من البلاد الشاسعة. (خطط المقريزي: 2/ 415).
(2) هذه الخانقاه خارج القاهرة من شماليها على نحو بريد منها بأول تيه بني إسرائيل بسماسم سرياقوس والبريد: مسافة عدة أميال اختلف في عددها (خطط المقريزي: 2/ 422).
(3) نسبة إلى نخجوان من بلاد القفقاس. وقال ياقوت: النسبة إليها «نشوي» على غير أصلها.
(الأعلام: 8/ 39ومعجم البلدان: 5/ 276).(11/365)
ومن عرف به الله لمّا تفكّر في آلائه، صلاة يؤمّل دوامها من نعمائه، ويؤمّن عليها سكّان أرضه وسمائه، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى ما استقام به [الشخص على] (1) الطريقة (2)، واستدام به الرجوع إلى الحقيقة، واستام به يطمئن إلى خالقه لا إلى الخليقة، وحفظ أفقه بنيّر تستضيء به النيّرات، ونوء تتقسّم به الغمائم الممطرات طائفة أهل الصّلاح، ومن معهم من إخوان أهل الصفاء الصّوفيّة داعي الفلاح، ومن تضمّهم من الواردين إليهم إلى جناح، والصادرين عنهم بنجاح، ومن تفتح له فيهم أبواب السماء، وتمنح بنفسهم عامة الخلق ملابس النعماء، ومن يكشف بتهجّدهم جنح كلّ ظلام، ويكسف بتوجّههم عارضة كلّ بدر تمام، ويستشفى ببركاتهم من داء كل سقام، ويستسقى بدعائهم إذا قصّر النّيل وقصّ جناحه الغمام. وهم أولياء الله وأحبّاؤه، وبهم يتعلّل كل لبيب هم سقامه وهم أطبّاؤه أنحلهم الحبّ حتّى عادوا كالأرواح، وأشغلهم الحبّ (3) بصوت كلّ حمام شجاهم لمّا غنّى وبرّح بهم لمّا ناح، وأطربهم كلّ سمع فوجدوا بكل شيء شجنا، وعذّبهم الهوى فاستعذبوا أن لا يلائموا وسنا، ومثّل فرط الكلف لهم الأحباب (4) فما رأوا لهم حالا إلا حسنا، وأثقل تكرار الذّكرى قلوبهم فما عدّوا غربة غربة ولا وطنا وطنا قرّبت المحبة (5) لهم في ذات الله كلّ متباعد، وألّفت أشتاتهم فاختلفت الأسماء والمعنى واحد.
والخانقاه الصلاحيّة بالقاهرة المحروسة المعروفة ب «سعيد السعداء»
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الطريقة هي السّير بالسّير المختصة بالسالكين الى الله، من قطع المنازل والترقّي في المقامات.
(اصطلاحات الصوفية للقاشاني: ص 65).
(3) الحب (بكسر الحاء المهملة) هو المحبّ.
(4) المحبة عند الصوفيين هي محبة الذات عينها لذاتها، لا باعتبار أمر زائد. وكل محبة بين اثنين هي إما لمناسبته في ذاتيهما، أو لاتحاد في وصف أو مرتبة أو حال أو فعل. (إصطلاحات الصوفية: ص 78).
(5) المحبة عند الصوفيين هي محبة الذات عينها لذاتها، لا باعتبار أمر زائد. وكل محبة بين اثنين هي إما لمناسبته في ذاتيهما، أو لاتحاد في وصف أو مرتبة أو حال أو فعل. (إصطلاحات الصوفية: ص 78).(11/366)
قدّس الله روح واقفها هي قطب نجومهم السائرة، ومراكز أفلاكهم الدّائرة، وإليها تنحطّ رحّال سفّارهم، وعليها تحطّ رحال أسفارهم تضطرب فرقهم في البلاد وإليها مرجعهم، وعليها مجتمعهم، وفيها مواضع خلواتهم، ومطالع جلواتهم (1)، ومكان صلاتهم، وإمكان صلاتهم، ومشرق شموسهم، ومؤنق غروسهم، ومنهاج طريقتهم، ومعراج حقيقتهم (2)، مأوى هذه الطائفة الطائفة في شرق البلاد وغربها، وبعدها وقربها، وعجمها وعربها، ومن رفع سجوفها أو هو محجوب بحجبها، والمؤهّلة والعراب، وأهل الاغتراب هي فسيحهم الرّحيب، وصفيحهم القريب، ومثالهم إذا اجتمعوا في الملإ الأعلى زمرا، واخترقوا المهامه وما جازوا بيداء ولا جابوا مقفرا، وبلغوا الغاية وما أزعج ركابهم حاد في ليل سرى، ووصلوا وما فارقوا فرشهم الممهّدة إلى ما وراء الورى شرط كلّ خانقاه أن لا تغلق في وجه من ينزل فيها بابا، ولا تطيل جهاتها الممنّعة له حجابا، ولا تعجل مقاماتها المرفعة له قبل (3)
وهذه نسخة توقيع بمشيخة الشيوخ، وهي مشيخة الخانقاه الناصريّة بسرياقوس، مما كتب بذلك للشيخ نظام الدين الأصفهاني، من إنشاء السيد الشريف شمس الدين:
الطرّة توقيع شريف بأن يفوّض إلى المجلس العاليّ، الشيخيّ، النّظاميّ،
__________
(1) من الجلاء. والجلاء عند الصوفية هو ظهور الذات المقدسة لذاتها في ذاتها. والاستجلاء ظهورها لذاتها في تعيناتها. (إصطلاحات الصوفية: ص 39).
(2) حقيقة الحقائق عند الصوفية هي الذات الأحدية الجامعة لجميع الحقائق، وتسمى حضرة الجمع، وحضرة الوجود. والحقائق هي جواهر الوجود التي لا تتأتى معرفتها إلا بالكشف.
(المصدر السابق: ص 59).
(3) بياض في الأصل.(11/367)
إسحق ابن الشيخ المرحوم جلال الدين عاصم، ابن الشيخ المرحوم سعد الدين محمد الأصفهانيّ القرشيّ الشافعيّ أدام الله النفع ببركته مشيخة الخانقاه السعيدة الناصريّة بسرياقوس قدّس الله روح واقفها ومشيخة الشيوخ بالديار المصرية والبلاد الشاميّة والحلبيّة، والفتوحات الساحلية، وسائر الممالك الإسلاميّة المحروسة، على عادته في ذلك وقاعدته ومعلومه، وأن يكون ما يخصّ بيت المال من ميراث كلّ من يتوفّى من الصوفيّة بالخانقاه بسرياقوس للشيخ نظام الدين المشار إليه، بحيث لا يكون لأمين الحكم ولا لديوان المواريث معه في ذلك حديث، وتكون أمور الخانقاه المذكورة فيما يتعلّق بالمشيخة وأحوال الصوفيّة راجعة للشيخ نظام الدين المشار إليه، ولا يكون لأحد من الحكّام ولا من جهة الحسبة ولا القضاة في ذلك حديث معه، ولا يشهد أحد من الصوفية ولا ينتسب إلا بإذنه، على جاري عادته في ذلك على ما شرح فيه، وأوّله:
الحمد لله على نعمه التي ألّفت للصالحين من عباده نظاما، واستأنفت للصّائحين إلى مراده إحراما، وصرّفت أوامرنا بالعدل والإحسان لمن فوّض أموره إلى ربّه فأنجح له من مزيد التأييد مرادا ومراما، وعطفت بأوجه إقبالها الحسان على من هو متنزّه عن دنياه، متوجّه إلى أخراه، يمضي نهاره صياما وليله قياما.
نحمده على أن جعلنا نرعى للأولياء ذماما، ونسعى بالنّعماء إليهم ابتداء وإتماما، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ترفع للمخلصين في علّيّين مقاما، وتدفع بأعمال الصّدق عن المتوكّلين عليه بأسا وأسقاما، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي جعله للمتّقين إماما، وفضّله على النبيّين إجلالا وإعظاما، وكمله بالسّمات المكرّمات، والصّفات المشرّفات، مما لا يضاهى ولا يسامى، صلى الله عليه وعلى آله الذين شرفوا إضافة إلى نسبه الشريف وانضماما، ورضي الله عن أصحابه الذين عرفوا الحقّ فبذلوا في إقامته اجتهادا واهتماما، صلاة تجمّل افتتاحا واختتاما، وتجزل إرباحا وإنعاما، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فشيمنا العدل والإنصاف، لمن له بيمن الأعراق اتصال وبحسن الأخلاق اتّصاف، ومن كرمنا الفضل والإسعاف، لمن لا خفاء في تعيّنه لتصدير التقديم وتكرير التكريم ولا خلاف، ومن سجايانا الجميلة أن لا تضاع حقوق من هو في الزّهادة والعبوديّة إمام، لألسنة الأيّام، بحلاه الحسنة إقرار واعتراف، ولمزايانا جميل المحافظة، وجليل الملاحظة، لمن توكّل على الله حقّ التوكّل فله انتصار بالله تعالى وانتصاف: لأنه العريق الأسلاف، الرّفيق بالضّعاف، الحقيق بتوفير التوفيق الذي له بحركاته المباركة اكتناف، المطيق النّهوض بأعباء الرّياسة: لأنّ للقلوب على محبّته ائتلاف، السّبوق إلى غايات الغلوات الذي تحفّ به في بلوغ آماد الإسعاد من الله تعالى ألطاف، والصّدوق النيّة مع الله تعالى فكم والى لنعمائه الزيادة والاستئناف.(11/368)
نحمده على أن جعلنا نرعى للأولياء ذماما، ونسعى بالنّعماء إليهم ابتداء وإتماما، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ترفع للمخلصين في علّيّين مقاما، وتدفع بأعمال الصّدق عن المتوكّلين عليه بأسا وأسقاما، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي جعله للمتّقين إماما، وفضّله على النبيّين إجلالا وإعظاما، وكمله بالسّمات المكرّمات، والصّفات المشرّفات، مما لا يضاهى ولا يسامى، صلى الله عليه وعلى آله الذين شرفوا إضافة إلى نسبه الشريف وانضماما، ورضي الله عن أصحابه الذين عرفوا الحقّ فبذلوا في إقامته اجتهادا واهتماما، صلاة تجمّل افتتاحا واختتاما، وتجزل إرباحا وإنعاما، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فشيمنا العدل والإنصاف، لمن له بيمن الأعراق اتصال وبحسن الأخلاق اتّصاف، ومن كرمنا الفضل والإسعاف، لمن لا خفاء في تعيّنه لتصدير التقديم وتكرير التكريم ولا خلاف، ومن سجايانا الجميلة أن لا تضاع حقوق من هو في الزّهادة والعبوديّة إمام، لألسنة الأيّام، بحلاه الحسنة إقرار واعتراف، ولمزايانا جميل المحافظة، وجليل الملاحظة، لمن توكّل على الله حقّ التوكّل فله انتصار بالله تعالى وانتصاف: لأنه العريق الأسلاف، الرّفيق بالضّعاف، الحقيق بتوفير التوفيق الذي له بحركاته المباركة اكتناف، المطيق النّهوض بأعباء الرّياسة: لأنّ للقلوب على محبّته ائتلاف، السّبوق إلى غايات الغلوات الذي تحفّ به في بلوغ آماد الإسعاد من الله تعالى ألطاف، والصّدوق النيّة مع الله تعالى فكم والى لنعمائه الزيادة والاستئناف.
وكان المجلس العاليّ الشيخيّ، الإماميّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، الأوحديّ، القدويّ، الورعيّ، الزاهديّ، الناسكيّ، الخاشعيّ، السالكيّ، الأصيليّ، العريقيّ، القواميّ، العلّاميّ، النّظاميّ: جمال الإسلام والمسلمين، شرف العلماء في العالمين، أوحد الفضلاء، قدوة المشايخ، مربّي السالكين، كنز الطالبين، موضّح الطريقة، مبيّن الحقيقة، شيخ شيوخ العارفين، بركة الملوك والسّلاطين، وليّ أمير المؤمنين، إسحق ابن الشيخ المرحوم فلان أدام الله النفع ببركاته هو المفوّض أموره إلى ربّه، المعرض عن الدنيا بباطنه وقلبه، المتعوّض بما عند الله من فضله فما زال الإيثار من شأنه ودأبه، إلى إخوانه وصحبه، فهو من الذين يطعمون الطعام على حبّه، ويلهمون من العمل المبرور إلى أقربه من الله وأحبّه، ويقومون الظّلام مع أولياء الله المخلصين وحزبه، ويستديمون الإنعام من الله تعالى بالإحسان إلى عباده ففرعهم لأصلهم في صنعهم مشبه، ويستسلمون لأحكام الله تعالى وكلّهم شاكر لربّه، على حلو القضاء ومرّه صابر على سهل الأمر وصعبه، سائر بالصّدق في شرق الوجود وغربه، مثابر على الحق في عجم الخلق وعربه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال يوصّل الحقوق إلى مستحقّيها،
ويجمل الوثوق بمن تتجمّل المراتب الدينية منه بترقّيها أن يفوّض إلى المشار إليه مشيخة الخانقاه السعيدة الناصرية بسرياقوس قدّس الله روح واقفها ومشيخة الشيوخ بالديار المصرية، والبلاد الشاميّة والحلبية، والفتوحات الساحليّة، وسائر الممالك الإسلاميّة المحروسة، على عادته في ذلك وقاعدته ومعلومه، وأن يكون ما يخصّ بيت المال المعمور من ميراث كلّ من يتوفّى من الصّوفية بالخانقاه المذكورة للمشار إليه، بحيث لا يكون لأمين الحكم ولا لديوان المواريث معه في ذلك حديث، وتكون أمور الخانقاه المذكورة فيما يتعلّق بالمشيخة وأحوال الصوفيّة راجعة إليه، ولا يكون لأحد من الحكّام ولا من جهة الحسبة ولا القضاة في ذلك حديث معه، ولا يشهد أحد من الصّوفية ولا ينتسب إلا بإذنه على العادة في ذلك، ويكون ذلك معدوقا بنظره.(11/369)
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال يوصّل الحقوق إلى مستحقّيها،
ويجمل الوثوق بمن تتجمّل المراتب الدينية منه بترقّيها أن يفوّض إلى المشار إليه مشيخة الخانقاه السعيدة الناصرية بسرياقوس قدّس الله روح واقفها ومشيخة الشيوخ بالديار المصرية، والبلاد الشاميّة والحلبية، والفتوحات الساحليّة، وسائر الممالك الإسلاميّة المحروسة، على عادته في ذلك وقاعدته ومعلومه، وأن يكون ما يخصّ بيت المال المعمور من ميراث كلّ من يتوفّى من الصّوفية بالخانقاه المذكورة للمشار إليه، بحيث لا يكون لأمين الحكم ولا لديوان المواريث معه في ذلك حديث، وتكون أمور الخانقاه المذكورة فيما يتعلّق بالمشيخة وأحوال الصوفيّة راجعة إليه، ولا يكون لأحد من الحكّام ولا من جهة الحسبة ولا القضاة في ذلك حديث معه، ولا يشهد أحد من الصّوفية ولا ينتسب إلا بإذنه على العادة في ذلك، ويكون ذلك معدوقا بنظره.
فليعد إليها عودا حميدا، وليفد من الإصلاح ما لم يزل مفيدا، وليعتصم بالله تعالى مولاه فيما تولّاه وقد آتاه الله تثبيتا وتسديدا، وليشهد بها من القوم المباركين من كان عوده قبل الصوم عيدا وهو أعزّه الله تعالى المسعود المباشرة، المحمود المعاشرة، المشهود منه اعتماد الاجتهاد في الدنيا والآخرة، المعهود منه النّفع التامّ، في فقراء مصر والشام، فكم أثّر الخير وآثره، وكثّر البرّ وواتره، ويسّر السير الحسن الذي لم يبرح لسان الإجماع شاكره.
ونحن نوصيه عملا بما أمر الله تعالى به رسوله صلّى الله عليه وسلّم في كتابه المبين، بقوله وهو أصدق القائلين: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى ََ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) وإن كنا نتحقّق ما هو عليه من العلم والدّين، والحكم الرّصين، والزّهد والورع اللذين نحن منهما على بيّنة ويقين، باتّباع شروط الواقفين، والإمتاع بالعوارف أولياء الله العارفين:
فإنّه ما زال حيث حلّ في جميع الآفاق، واصلا للأرزاق، مواصلا بالأشواق، شاملا بالإرفاق، عاملا بالحقّ في إيصال الحقوق لذوي الاستحقاق. ونأمرهم
__________
(1) الذاريات / 55.(11/370)
أن يكون لهم على تكريمه اتّفاق، وفي متابعته اجتماع واتّساق فإنّه شيخ الطّوائف، وإمام تقتبس منه اللّطائف، وتلتمس منه الهداية في المواطن والمواقف والله تعالى يمتّع ببركاته الأمّة، ويسمع منه في الخلوات لنا الدّعوات التي تكون لأوراده المقبولة مفتتحة ومتمّة، ويصله بعنايته التي تقيّد الهمّ وتؤيّد الهمّة، ويجعله حيث كان للفقراء نعمة وبين الناس رحمة والعلامة الشريفة أعلاه، حجة بمقتضاه.
الضرب الخامس (من أرباب الوظائف بالدّيار المصريّة بالحضرة أرباب الوظائف العاديّة، وكلّها تواقيع)
وهي على طبقات:
الطبقة الأولى (من يكتب له في قطع النصف بالمجلس العالي، وهو رئيس الأطبّاء المتحدّث عليهم في الإذن في التطّبب والعلاج والمنع من ذلك وما يجري هذا المجرى)
وهذه نسخة توقيع برياسة الطّبّ، وهي:
الحمد لله مؤتي الحكمة من يشاء من عباده، ومعطي أمانة الأرواح من ترقّى في حفظها إلى رتبة اجتهاده، وجاعل علم الأبدان أحد قسمي العلم المطلق في حالي اجتماعه وانفراده، وموفّق من جعل نصح خلق الله فيه سببا لسعادة دنياه وذخيرة صالحة ليوم معاده، [ومبلّغ من كان دائبا في إعانة البريّة على طاعة ربّها بدوام] (1) الصّحّة غاية مرامه وأقصى مراده، ورافع رتبة من دلّ
__________
(1) في الأصل «ومقلّب من كان في إعانة البريّة على طاعة ربّها يداوم» والتصحيح من الطبعة الأميرية.(11/371)
اختياره واختباره على وفور علمه ونجح علاجه وإصابة رأيه وسداده.
نحمده على نعمه التي خصّت بنعمنا من كمل في نوعه وفصله وحسن في علمه وعمله قوله وفعله، وجمع من أمانة وظيفته ومعرفتها ما إذا جلس في أسنى مناصبها قيل: هذا أهله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تشرق البصائر، بأضوائها وتفرق (1) الضمائر، باخلاصها من أدوائها، وتغدق بيمنها أنواء التوفيق فتتأرّج رياض الإيمان بين روائها وإروائها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أنارت ملّته، فلم تخف على ذي نظر، وعلت أدلّته، فلم ينلها من في باع رويّته قصر، وبهرت معجزاته فلو حاولت الأنفاس حصرها أفناها العيّ والحصر، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كانوا لأدواء القلوب علاجا، ولسلسبيل الإيمان مزاجا، وللبصائر السائرة في دجى الشّبهات سراجا، صلاة دائمة الإقامة، متصلة الدّوام إلى يوم القيامة، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد: فإنّ صناعة الطّبّ علم موضوعها حفظ الأبدان النّفيسة، ومقصودها إعانة الطبيعة على حماية الأعضاء الرّئيسة، ومدارها الأعمّ، على معرفة العوارض وأسبابها، ومدركها الأتمّ، الوقوع على الصواب في معرفة الجسوم وأوصابها وحينئذ تتفاوت رتب أهلها عند تشعّب مداركها، واختلاف مسالكها، وتشابه عللها، والتباس صوابها بخللها إذ لا يميّز ذلك حقّ تمييزه إلا من طال في العلم تبحّره، وحسن في رتب هذا الفن تصدّره، وطابق بين نقله وعلاجه، وعرف حقيقة كل مركّب من الأدوية ومفرد بعينه واسمه وصفته ومزاجه، وتكرّرت عليه الوقائع فعرفها دربة وأحكمها نقلا، ولقّب بشرعة التقوى إذ كان الإقدام على النفوس قبل تحقّق الداء والدّواء مذموما شرعا وعقلا ولذلك تحتاج إلى رئيس ينعم في مصالحها نظره، ويجمل في منافعها ورده وصدره، ويعتبر أحوال أهلها بمعيار فضله، ويلزم الداخل فيها ببلوغ الحدّ الذي لا بدّ منه
__________
(1) أفرق المريض: برأ.(11/372)
بين أرباب هذا الشأن وأهله، ويعرف لأكابر هذا الفنّ قدر ما منحهم الله من علم وعمل، ويبسط رجاء المبتديء إذا كمّل نفسه حتّى لا يكون له فيها بغير كمال الاستحقاق طمع ولا أمل.
ولما كان المجلس السامي، القاضي، الأجلّ، الحكيم، فلان الدين: هو الذي بلغ من العلم غاية مراده، واحتوى من هذا الشان على ما جمع به رتب الفاضلين فيه على انفراده فلو عاصره «الرئيس» (1) لاعتمد عليه في كلّيّات قانونه، أو «الرازيّ» (2) لعلم أن. «حاويه» من بعض فنونه، قد حلب هذا العلم أشطره، وأكمل قراءة هذا الفنّ رموزه وأسطره، وحلّ أسراره الغامضة، وارتوى من سحب رموزه بأنواء لم يشم غير فكره بروقها الوامضة، وأسلف من خدمة أبوابنا العالية سفرا وحضرا ما اقتضى له مزيّة شكره، وتقاضى له مزيد التنبيه على قدره والتنويه بذكره، وحمد فيه الفريدان: صحة نقله وإصابة فكره، وعلم أنه جامع علوم هذه الصّناعة فلا يشذّ منها شيء عن خاطره ولا يغيب منها نقل عن ذكره.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال شهاب فضله لامعا، وسحاب برّه هامعا أن يكون فلان متولّي رياسة الأطباء بالديار المصرية على عادة من تقدّمه.
فليباشر هذه الرياسة ناظرا في مصالحها، مطلعا من شهاب فضله ما يزين أفقها زينة السماء بمصابيحها، متفقّدا أحوال مباشريها، متلمّحا أحوال المستقلّ بأعبائها والداخل فيها، سالكا في ذلك سبيل من تقدّمه من رؤسائها، حاكما في أمورها بما جرت به العادة المستقرّة بين أكابرها وعلمائها، مطارحا من قدمت هجرته فيها بما يقتضي له مراجعة أصوله، ملزما من ظهر قصوره فيها بالتدرّب
__________
(1) هو الشيخ الرئيس ابن سينا. وكتابه في الطب «القانون» (كشف الظنون: 1311).
(2) هو أبو بكر الرازي. وكتابه في الطب «الحاوي» (كشف الظنون: 628).(11/373)
إلى حدّ لا يقنع منه بدون حصوله، مجيبا في الإذن لمن أظهر الاستحقاق صدق ما ادّعاه، قابلا في الثّبوت من مشايخ هذه الصّناعة من لا يشهد إلا بما علمه ولا يخبر من التدرّب إلا بما رآه ووعاه، متحرّيا في الثّبوت لدينه، آذنا بعد ذلك في التصرّف إن ترقّى علمه باستحقاقه إلى رتبة تعيينه وليعط هذه الوظيفة حقّها من تقديم المبرّزين في علمها، وتكريم من منحه الله درجتي نقلها وفهمها، وتعليم من ليس عليه من أدواتها المعتبرة غير وسمها واسمها، ومنع من يتطرّق من الطّرقية (1) إلى معالجة وهو عار من ردائها، وكفّ يد من يتهجّم على النفوس فيما غمض من أدوائها قبل تحقّق دوائها، واعتبار التقوى فيمن يتصدّى لهذه الوظيفة فإنّها أحد أركانها، واختيار الأمانة فيمن يصلح للاطلاع على الأعضاء التي لولا الضرورة المبيحة حرم الوقوف على مكانها وليكن في ذلك جميعه مجانبا للهوى، ناويا نفع الناس فإنما لامريء ما نوى والله تعالى يحقّق له الأمل، ويسدّده في القول والعمل، بمنّه وكرمه.
قلت: وربّما افتتح توقيعها ب «أما بعد حمد الله».
وهذه نسخة توقيع برياسة الطّب، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ، كتب بها ل «شهاب الدين الحكيم» في المحرّم سنة تسع وسبعمائة، وهي:
أمّا بعد حمد الله حاسم أدواء القلوب بلطائف حكمته، وقاسم أنواع العلوم بين من كمل استعدادهم لقبول ما اقتضته حكمة قسمته، وجاعل لباس العافية من نعمه التي هي بعد الإيمان أفضل ما أفاض على العبد من برّه وأسبغ عليه من نعمته، والمنزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته، ومقرّب ما نأى من الفضائل على من أسرى إليها على مطايا عزمه وسرى لتحصيلها على جياد همّته، وملهم آرائنا بتفويض أمانة الأرواح إلى من
__________
(1) هم أهل النجامة الذين يعالجون المرض بالتعاويذ والرقى وما شابهها. وكانوا يمارسون أعمالهم في الطريق، فلذلك سموا الطرقية.(11/374)
أنفق في خدمة الطبيعة أيّام عمره فكان بلوغ الغاية في علمها نتيجة خدمته، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي شرح الله بالهدى صدور أمّته، وخصّه منهم بأعلام كلّ علم وأئمته، وجلا بيقين ملّته عن كلّ قلب ما ران عليه من الشّك وغمّته، وعلى آله وصحبه الذين حماهم من الزّيغ والزّلل ما فجّر الهدى لهم من جوامع الكلم وأفاض التّقى عليهم من أنوار عصمته فإنّ أولى الأمور أن يعتمد فيها على طبيبها الخبير، ويصان جوهرها عن عرض العرض على غير ناقدها البصير، وتحمى مواردها عمن لم يعرف كيف يجتنب مواقع التكدير، وترفع كواكبها عمّن لم تدرك أفكاره دقائق الحوادث وحقائق التأثير أمر صناعة الطّب التي موضوعها الأبدان القائمة بالعبادة، والأجسام القائمة بما يتعاقب عليها من الحوادث والزّيادة، والنّفوس التي ما عنها إن حصل فيها التفريط بدل ولا عوض، والأرواح التي إن عرض الفناء لجوهرها فلا بقاء بعده للعرض، والطبيعة التي إن خدمت على ما يحبّ نهضت على ما يجب بالصّحّة حقّ النّهوض، والأمزجة التي إن نفرت لعدم التأتّي في سياستها أعجزت من يروض.
ولذلك تفتقر على كثرة أربابها، وتحتاج مع غزارة المتمسّكين بأسبابها، وتضطرّ وإن اندفعت الضرورات بكثرة متقنيها، وتتشوّف وإن وجد الجمّ الغفير من المتلبّسين بأدواتها والمتبحّرين فيها إلى رئيس ينعم في اعتبار أكفائها النّظر، ويدفع عن رتبتها بتطرّق غير أهلها الغير، ويعرف من أحوال مباشريها ما لا يكفي في خبرها الخبر فلا يقبل إلا من علم مقدار علمه، ووثق مع الحفظ بصحّة فهمه، ورضي عن خبره في الطّبّ واجتهاده، واعتبر منه كل نوع تحت أجناسه المتعدّدة على حدته وانفراده، وجاراه في كلّيّات الفنّ فرآه في كلّ حلبة راكضا، وطارحه في فصول العلم فوجده بحمل أعباء ما تفرّع منها ناهضا، واختبر دربته فوجدها موافقة لتحصيله، مطابقة لما حواه من إجمال كلّ فنّ وتفصيله، وتتبّع مواقع دينه فوجدها متينة، ومواضع أمانته فألفاها مكينة، وأسباب شفقته ونصحه فعرف أنها على ما جمع من الأدوات الكاملة معينة ويتعيّن أن يكون هذا «الرئيس» في أوانه، و «الرازيّ» في زمانه، و «الفارابيّ» في كونه
أصلا تتفرّع فنون الحكم من أفنانه علاجه شفاء حاضر، [وكلاءته] (1) نجاة من كل خطر مخامر، وتدبيره للصحّة تقويم، وتصفّحه تثقيف لعلماء الصّناعة وتسليم، ودروسه ذخائر ينفق من جواهر حكمها كلّ حكيم.(11/375)
ولذلك تفتقر على كثرة أربابها، وتحتاج مع غزارة المتمسّكين بأسبابها، وتضطرّ وإن اندفعت الضرورات بكثرة متقنيها، وتتشوّف وإن وجد الجمّ الغفير من المتلبّسين بأدواتها والمتبحّرين فيها إلى رئيس ينعم في اعتبار أكفائها النّظر، ويدفع عن رتبتها بتطرّق غير أهلها الغير، ويعرف من أحوال مباشريها ما لا يكفي في خبرها الخبر فلا يقبل إلا من علم مقدار علمه، ووثق مع الحفظ بصحّة فهمه، ورضي عن خبره في الطّبّ واجتهاده، واعتبر منه كل نوع تحت أجناسه المتعدّدة على حدته وانفراده، وجاراه في كلّيّات الفنّ فرآه في كلّ حلبة راكضا، وطارحه في فصول العلم فوجده بحمل أعباء ما تفرّع منها ناهضا، واختبر دربته فوجدها موافقة لتحصيله، مطابقة لما حواه من إجمال كلّ فنّ وتفصيله، وتتبّع مواقع دينه فوجدها متينة، ومواضع أمانته فألفاها مكينة، وأسباب شفقته ونصحه فعرف أنها على ما جمع من الأدوات الكاملة معينة ويتعيّن أن يكون هذا «الرئيس» في أوانه، و «الرازيّ» في زمانه، و «الفارابيّ» في كونه
أصلا تتفرّع فنون الحكم من أفنانه علاجه شفاء حاضر، [وكلاءته] (1) نجاة من كل خطر مخامر، وتدبيره للصحّة تقويم، وتصفّحه تثقيف لعلماء الصّناعة وتسليم، ودروسه ذخائر ينفق من جواهر حكمها كلّ حكيم.
ولما كان المجلس العاليّ الصّدريّ، الشّهابيّ، هو المراد بالتعيّن لهذه الوظيفة، والمقصود بما أشير إليه في استحقاق هذه الرتبة من عبارة صريحة أو كناية لطيفة، وأنّه جمع من أدوات هذا الفن ما افترق، واحتوى على أصوله وفروعه فاجتمعت على أولويّته الطوائف واتّفقت على تفضيله الفرق فلو عاصره «أبقراط» لقضى له في شرح فصوله بالتّقدمة، ولو أدرك «جالينوس» لاقتدى في العلاج بما علّمه مع مباشرة ألّفت بين الصحّة والنّفوس، وملاطفة أشرقت مواقع البرء بها في الأجساد إشراق الشّموس، واطّلاع يعرف به مبلغ ما عند كلّ متصدّ لهذه الصناعة من العلم، وتبحّر في الفنون لا يسلّم به لأحد دعوى الأهلية إلا بعد حرب جدال هو في الحقيقة عين السّلم فرسم بالأمر العاليّ أن يستقرّ فلان في رياسة الأطبّاء الطبائعيّة بالديار المصرية والشام المحروس، على عادته وعادة من تقدّمه في ذلك، ويكون مستقلّا فيها بمفرده.
فلينظر في أمر هذه الطائفة نظرا تبرأ به الذّمّة، ويحصل به على رضا الله تعالى ورضا رسوله صلّى الله عليه وسلّم في الشّفقة على الأمّة، ويعطي به الصناعة حقّها، ويطلق من يد من تطاول إليها بغير أهليّة رقّها، ويصون النفوس من إقدام من تقدّم بغير خبرة كاملة عليها، ويذبّ عن الأرواح تطرّق من يتطرّق بغير معرفة وافرة إليها، فإنّ فارط التفريط في النفوس قلّ أن يستدرك، ومن لم تجتمع فيه أدوات المعرفة التامة والدّين فما ينبغي له أن يدخل في المعالجة قبل الكمال وإن دخل فلا يترك فإنّ من لازم صلاح الأرواح صلاح الأجساد، وإنّ الداء الذي لا دواء له أن تكون العلّة في واد والمعالجة في واد، فلا يقبل في التزكية إلا من يثق بدينه كوثوقه بعلمه، ولا يصرّف أحدا في هذه الصناعة إلا الذين زكت أعمالهم قبل
__________
(1) في الأصل «وكلامه».(11/376)
التزكية وليشفعها بالامتحانات التي [تسفر عن وجوه الوثوق بالأهلية لثام] (1)
دقائقها المنكية، فإنّ العيان شاهد لنفسه، ومن لم تنفعه شهادة فعله في يومه لم ينفعه غيره في أمسه، ولا يمض فيها حكما قبل استكمال نصاب الشّهادة، وقبل التثبّت بعد كمالها: فإنّ المعالجة محاربة للدعاء والموت بجهالة المحارب له شهادة، وليأمر من ألجيء إلى معالجة مرض لا يعرفه بمتابعة من هو أوفق منه بالتقديم، ومراجعة من هو أعلم منه به: فإنّ الحوادث قد تختلف {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (2) وملاك الأمور تقوى الله فليجعلها حجّته فيما بين الله وبينه، والافتقار إلى توفيقه فليصرف إلى ذلك قلبه وعينه والخير يكون إن شاء الله تعالى.
وهذه وصية متطبّب طبائعيّ، أوردها في «التعريف» قال:
وليتعرّف أوّلا حقيقة المرض بأسبابه وعلاماته، ويستقص أعراض المريض قبل مداواته، ثم ينظر إلى السّنّ والفصل والبلد ثم إذا عرف حقيقة المرض، وقدر ما يحتمله المزاج من الدواء لما عرض، يشرع في تخفيف الحاصل، وقطع الواصل، مع حفظ القوى. ولا يهاجم الداء، ولا يستغرب الدّواء، ولا يقدم على الأبدان إلا بما يلائمها، ولا يبعد الشبه، ولا يخرج عن جادّة الأطبّاء ولو ظنّ الإصابة حتّى يقوى لديه الظنّ ويتبصّر فيه برأي أمثاله، وليتجنّب الدّواء، ما أمكنه المعالجة بالغذاء، والمركّب، ما أمكنه المعالجة بالمفرد وإيّاه والقياس إلّا ما صحّ بتجريب غيره في مثل مزاج من أخذ في علاجه، وما عرض له، وسنّه، وفصله، وبلده، ودرجة الدّواء. وليحذر من التجربة، فقد قال أبقراط وهو رأس القوم: إنها خطر. ثم إذا اضطرّ إلى وصف دواء صالح للعلّة نظر إلى ما فيه من المنافاة وإن قلّت، وتحيّل لإصلاحه بوصف
__________
(1) في الأصل «تسفر وجوه الوثوق بالأهلية عن ألم» والتصحيح من الطبعة الأميرية.
(2) يوسف / 76.(11/377)
يصلح معه، مع الاحتراز في وصف المقادير والكمّيات والكيفيّات، في الاستعمال والأوقات، وما يتقدّم ذلك الدواء أو يتأخّر عنه. ولا يأمر باستعمال دواء، ولا ما يستغرب من غذاء، حتّى يحقّق حقيقته، ويعرف جديده من عتيقه: ليعرف مقدار قوّته في الفعل. وليعلم أنّ الإنسان هو بنية الله وملعون من هدمها، وأن الطبيعة مكافية وبؤسى لمن ظلمها، وقد سلّم الأرواح وهي وديعة الله في هذه الأجسام، [فليحفظها وليتق الله ففي ذلك جميع الأقسام] (1) وإيّاه ثم إيّاه أن يصف دواء ثم [يكون هو الذي] (2) يأتي به، أو يكون هو الذي يدلّ عليه، أو المتولّي لمناولته للمريض ليستعمله بين يديه، وفي هذا كلّه لله المنّة ولنا إذ هديناه له وأرشدناه إليه.
وهذه نسخة توقيع برياسة الكحّالين (3)
الضرب السادس (من أرباب الوظائف بالديار المصرية) زعماء أهل الذمة
ويكتب لجميعهم تواقيع في قطع الثلث بألقابهم السابقة مفتتحة ب «أما بعد حمد الله».
ويشتمل هذا الضرب على ثلاث وظائف:
الوظيفة الأولى (رآسة اليهود)
وموضوعها التحدّث على جماعة اليهود والحكم عليهم، والقضاء بينهم
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 139.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 139.
(3) الكحالون: أطباء العيون. والبياض في الأصل.(11/378)
على مقتضى دينهم وغير ذلك.
وقد تقدّم في الكلام على النّحل والملل أنّ الموجودين من اليهود ثلاث طوائف: وهم الرّبّانيّون، والقرّاؤون، والسامرة (1) وقد جرت العادة أن يكون الرئيس من طائفة الرّبّانيّين دون غيرهم، وهو يحكم على الطوائف الثلاث.
وهذه نسخة توقيع (2) برآسة اليهود، من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وهي:
أما بعد حمد الله الذي جعل ألطاف هذه الدولة القاهرة تصطفي لذمّتها من اليهود رئيسا فرئيسا، وتختار لقومها كما اختار من قومه موسى، وتبهج لهم نفوسا كلّما قدّمت عليهم نفيسا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبيّ الأميّ، والرسول الذي أجمل الوصيّة بالملّيّ والذّمّيّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما هطل وبليّ (3)، وما نزل وسميّ (4) فإنّ معدلة هذه الدولة تكتنف (5) الملل والنّحل بالاحتياط، وتعمّهم من إنصافها وإسعافها بأوفر الأنصباء وأوفى الأقساط، وتلمّهم من حادث الزمن إذا اشتطّ ومن صرفه إذا شاط، وتضمّهم كما
__________
(1) الربانيون: كانوا أكثرهم عددا ولهم الرآسة. واللفظ من «الربّاني» وهو العارف بالله. وكان يطلق على الصوفية وأهل الصلاح وعلى أهل العلم من المسيحيين. والقراؤون: فرقة يهودية كانت تناقض التلمود وتحبذ حرية الأفراد في تفسير الكتاب المقدس. ظهرت في القرن السادس في فارس وبدأت تضعف بعد القرن الثاني عشر. لا تزال بقية منهم إلى اليوم خاصة في بلاد القرم.
والسامرة: أتباع السامريّ الذي أضلّ قومه في غياب موسى، أمرهم أن يقذفوا بحليهم في النار وأخرج لهم عجلا جسدا من ذهب عبدوه برغم تحذير هارون لهم. (الموسوعة العربية الميسّرة:
1374984).
(2) تاريخه ربيع الآخر سنة 684هـ. (تشريف الأيام والعصور: 218216).
(3) نسبة إلى الوبل، وهو المطر الشديد الضخم القطر.
(4) الوسميّ: مطر أول الربيع. وسميّ بذلك لأنه يسم الأرض بالنبات فيصير فيها أثرا في أول السنة.
(لسان العرب: 12/ 636).
(5) في «تشريف الأيام والعصور» عن «ابن الفرات»: هذه المملكة التي تكتنف. وهي أوضح لأن خبر «إنّ» هو جملة «لا تزال» وجملة «التي تكتنف» هي في محل نعت «للدولة» أو المملكة.(11/379)
ضمّت البنوّة إلى جناح النّبوّة الأسباط، لا تزال ترقب الإلّ (1) والذّمة، في المسلمين وأهل الذّمّة، وتقضي لهم بحسن الخيرة ورعاية الحرمة، وتبيحهم من أمر دينهم ما عليه عوهدوا، وتمنحهم من ذلك ما عليه عوقدوا، وتحفظ نواميسهم بأحبار تحمد موادّهم إذا شوفهوا وتحسن مرآهم إذا شوهدوا: من كل إسرائيليّ أجمل للتوراة الدّراسة، وأحسن لأسفار أنبيائه اقتباسه وأجمل التماسه، ومن نبّهته نباهته للتقدمة فما طعم اجتهاده يوما حتّى صار وجه الوجاهة في قومه ورأس الرّأسة، فأصبح [فيهم] معدوم النظير، معدودا منهم بكثير، وموصوفا بأنه في شرح أسفار عبرانية (2) حسن التفسير، واستحقّ من بين شيعته أن يكون رأس الكهنة، وأن تصبح القلوب في مجامعهم بحسن منطقه مرتهنة، وبأن للجهالة بتثقيفه لشيعته تحجّب (3) عقائدهم عن أن تغدو ممتهنة.
ولما كان فلان (4) هو لمحاسن هذا التقريظ بهجة، ولجسد هذا التفويض مهجة، ولممادح هذا الثناء العريض لهجة، ولعين هذا التعيين غمضها، وليد هذه الأيادي بسطها وقبضها، ولأبكار أفكار هذه الأوصاف متقاضيها ومقتضّها، ومن أدنيت قطاف النعماء ليد تقدمته «على غيظ من غصّ منها» واجتنى غضّها اقتضى حسن الرأي الشريف أن يميّز على أبناء جنسه حقّ التمييز، وأن يجاز له من التنويه والتنويل أجلّ ما جيز.
ورسم بالأمر الشريف لا زال يختار فيجمل الاختيار، ويغدو كالغيث الذي يعمّ بنفعه الرّبا والوهاد والأثمار والأشجار أن تفوّض إليه رآسة اليهود على اختلافهم: من الرّبّانيين، والقرّائين، والسامرة بالديار المصريّة حماها الله
__________
(1) الإلّ: العهد. وفي التنزيل العزيز: «لا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمّة».
(2) في تشريف الأيام والعصور: «في شرح أسفار عبرانيته».
(3) بمعنى: تصوّن. وفي «تشريف الأيام» عن ابن الفرات: «وبأن الجهالة بتثقيفه لشيعته تحجب عقائدهم» وجملة القلقشندي أوضح.
(4) في تشريف الأيام: «الرئيس فلان».(11/380)
وكلأها. فليجعل أسبابهم بالتّقوى تقوى، وغروسهم بالتدبير لا تذوى، ومقاصدهم لا يمازجها شكّ ولا شكوى، ولينزل عليهم منّا منّا يسليهم صنعا حتّى لا يفارقوا المنّ والسّلوى وليتق الله فيما يذره ويأتيه، ويحسن في اجتلاب القلوب واختلابها تأتّيه وإيّاه والتّيه حتّى لا يقال: كأنّه بعد لم يخرج من التّيه (1)
وجماعة الرّبانيّين فهم الشّعب الأكبر، والحزب الأكثر فعاملهم بالرّفق الأجدى والسّرّ الأجدر، ولكونك منهم لا تمل معهم على غيرهم فيما به من النفس الأمّارة تؤمر.
وجماعة القرّائين فهم المعروفون في هذه الملّة، بملازمة الأدلّة، والاحتراز في أمر الأهلّة (2)، فانصب لأمرهم من لم يتولّه حين يتولّه ومن كان منهم له معتقد فلا يخرج عن ذلك ولا يحرج، ولا يلجم منهم بلجام من نار إنكار من في ليلة سبته [بيته] (3) عليه لا يسرج.
والسامرة فهم الشّعب الذين آذن التنظيف أهله بحروبه، ولم يك أحدهم لمطعم لكم ولا مشرب بأكوله ولا شروبه فمن قدرت على ردّه بدليل من مذهبك في شروق كل بحث وغروبه، فاردده من منهج تحيّده عن ذلك وهروبه، وإلا فقل له: يا سامريّ بصرت بما لم تبصروا به. [وليكن حكمك فيهم بالبتّ] (4)، وارفق بهم فإن «المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» (5) فإيّاك أن
__________
(1) إشارة إلى تيه بني إسرائيل.
(2) كان اليهود القرّاؤون يحددون رأس سنتهم وشهورهم برؤية الأهلّة كما هو عند المسلمين. أما اليهود الربانيون فكانوا يحددونها بالحساب. ويقع بين الطائفتين في رؤوس السنين والشهور خلاف كبير. (نزهة النفوس والأبدان: 3/ 248).
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(4) في الأصل: «ولتكن تستكمل فيهم بالبتّ» وما اثبتناه من «تشريف الأيام والعصور» عن ابن الفرات.
(5) يقال للرجل إذا انقطع في سفره وعطبت راحلته: صار منبتّا. ومنه قول مطرّف: إن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. وعن الكسائي: انبتّ الرجل انبتاتا إذا انقطع ماء ظهره. (لسان العرب: 2/ 87).(11/381)
تكون ذلك المنبتّ، ومرهم بملازمة قوانينهم كيلا يعدو أحد منهم في السّبت، واجعل أمور عقودهم مستتبّة، وأحسن التحرّي والتحرير لهم في إتقان كل كتبة ولا تختر إلا الأعيان، من كل خزّان وديّان ومن كان له من داود عليه السّلام لحمة نسب، وله به حرمة نسب، فارع له حقّه، وأصحبه من الرّفق أكرم رفقة.
والجزية فهي لدمائكم وأولادكم عصمة، وعلى دفاعها لا دافعها وصمة، ولأجلها ورد: «من آذى ذمّيّا كنت خصمه»، وهي ألمّ من السيف إجارة، وهي أجرة سكنى دار الإسلام كما هي لاستحقاق المنفعة بها إجارة فأدّوها، وبها نفوسكم فادوها، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللََّهِ لََا تُحْصُوهََا} (1)، فعدّوا ألطاف الله بها ولا تعدوها وداوم على مه (2)، زجرا لتارك علامة (3) ومن قصد منها خلاصه، فقل له في الملإ: ماذا خلا؟ صه ومن ركن في أمرها إلى الإخلاد والإخلال، وسكن إلى الإهمال، ولم يرض بأنّ راية الذّلّة الصفراء على رأسه تشال، فأوسعه إنكارا، وألزمه منها شعارا وإن قام بنصره منهم معشر خشن فأرهم بعد العلامة خشكارا (4) وخذهم بتجنّب الغشّ الذي هو للعهد مغيّر ومغيّب، واكفف من هو بما ينافيه معيّر ومعيّب وأما من هو مجيب لذلك فهو لقصده محبّب، وانقل
__________
(1) النحل / 18.
(2) اسم فعل أمر بمعنى: اكفف.
(3) أي علامة اليهود التي تميزهم عن غيرهم. وكانت علامتهم العمائم الصفراء. وللسامرة منهم العمائم الحمراء.
(4) ويقال أيضا: الكشكار: من الفارسية «خشك» بمعنى جاف وخشن و «آرد» بمعنى الدقيق، وقد سقطت دال كلمة «آرد» في الفارسية نفسها. فالخشكار في الفارسية هو الدقيق الخشن لم تفصل نخالته.
والعلامة: اسم للدقيق الناعم النقي المنخول مرات، وهو ضد الخشكار. وفي تاريخ الجبرتي:
«والعيش العلامة خمسة أواق بجديدين والكشكار ستة أواق بجديدين». (تأصيل الدخيل لأحمد السعيد سليمان: 179178).(11/382)
طباعهم عن ذلك وإن أبت عن التناقل [فانتقامنا يتلو] (1): {قُلْ لََا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} (2) وقد علم أن الذي تتعاطونه من نفخ في البوق إنما هو كما قلتم للتّذكار، فاجتهدوا أن لا يكون لتذكار العجل الحنيذ (3) الذي له خوار هذه وصايانا لك ولهم فقل لهم: هذه موهبة الدولة وإحسانها إليكم، ولطفها بكم وعاطفتها عليكم، وبصّرهم بذلك كلّما تلا إحساننا إليهم: {يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} * (4)
وهذه نسخة توقيع برآسة اليهود أيضا:
أمّا بعد حمد الله على أن جعل ملاحظة هذه الدولة القاهرة لجميع الملل ناظرة، وإحسانها لا يغفل مصلحة لأولي الأديان غائبة ولا حاضرة، والصلاة على سيدنا محمد الذي جعل ذمّته وعهده وفيّين لكل نسمة مؤمنة وكافرة فإنّ الله تعالى لما مدّ رواق عدل هذه الأيام الشريفة على كل معاهد: من متقرّب ومتباعد، وساوى بينهم في النظر الذي صدق الرأي وصدّق الرائد اقتضى جميلها أن يسهم لكلّ من أهل الذمة أوفر نصيب، وأن لا يقال لأحد منهم من الإجحاف ما يريب، وأن لا تكون أمورهم مضاعة، ولا تعبّداتهم مراعة، ولا شرائعهم غير مصونة، ولا أحكامهم عارية [عن] (5) حسن معونة وكانت جماعة اليهود وإن كانوا أولي غيّ، وصدق النصارى فيهم وصدقوا في النصارى من أنّهم ليسوا على شيّ، لا بدّ لهم من مباشر يأخذهم بالأمر الأحوط، والناموس
__________
(1) في الأصل «فأنت ما تتلو» والتصحيح من تشريف الأيام والعصور لابن عبد الظاهر ص 220.
(2) المائدة / 100.
(3) الحنيذ، بالذال المعجمة، المشويّ، وفي التنزيل العزيز: «قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ»: هود / 69.
(4) البقرة / 40.
(5) الزيادة يقتضيها السياق.(11/383)
الأضبط، والمراسيم التي عليهم تشرط وكان الذي يختار لذلك ينبغي أن لا يكون إلا من أكبر الكهنة وأعلم الأحبار، وممن عرف من دينهم ما لأجله يصطفى ولمثله يختار، وممّن فيه سياسة تحجزه عن المضارّ، وتحجبه عن الاستنفار، وكان فلان الرئيس هو المتميّز بهذه الأوصاف على أبناء جنسه، وله وازع من نفسه، ورادع من حسن حدسه، وخدمة في مهمّات الدولة يستحقّ بها الزيادة في أنسه، وهو من بين جماعته مشهور بالوجاهة، موصوف بالنّباهة، ذو عبرانيّة حسنة التعبير، ودراسة لكتب أهل ملّته على ما فيها من التغيير اقتضى جميل الاختصاص المنيف، أن يرسم بالأمر الشريف لا برح يرقب الإلّ والذّمّة، ويرعى للمعاهدين الحرمة أن تفوّض إليه رآسة اليهود الرّبّانيين والقرّائين والسامرة، على عادة من تقدّمه.
فليباشر ذلك مستوعبا أمورهم كلّها، مستودعا دقّها وجلّها، مباشرا من أحوالهم ما جرت عادة مثله من الرّؤساء أن يباشر مثلها، غير مفرّط في ضبط ناموس من نواميس المملكة، ولا مغفل الإنكار على من (1) يتجاوز ذلك إلى موارد الهلكة ومن فعل ما يقضي بنقض عهده، فعليه وعلى مستحسنه له من المقاتلة ما يتّعظ به كلّ من يفعل ذلك من بعده بحيث لا يخرج أحد منهم في كنيسته ولا في يهوديّته ولا في منع جزيته عن واجب معهود، ومن خالف فوراء ذلك من الأدب ما تقشعرّ منه الجلود وما جعلهم الله ذمّة للمسلمين إلا حقنا لدمائهم، فلا يبحها أحد منهم فتجتمع له شماته أهل الأديان من أعدائهم بأعدائهم والوصايا كثيرة وإنما هذه نخبتها الملخّصة، وفيها من حساب الإحسان إليهم ما تغدو به أيّام الإمهال لهم ممحّصة، والله يوفّقه في كل تصرّف مرغوب، وتأفف من مثله مطلوب، بمنه وكرمه!.
__________
(1) في الأصل «ممن» والتصحيح من الطبعة الأميرية.(11/384)
وهذه وصية لرئيس اليهود أوردها في «التعريف» وهي:
وعليه بضمّ جماعته، ولمّ شملهم باستطاعته، والحكم فيهم على قواعد ملّته، وعوائد أئمته، في الحكم إذا وضح له بأدلّته، وعقود الأنكحة وخواصّ ما يعتبر عندهم فيها على الإطلاق، وما يفتقر فيها إلى الرضا من الجانبين في العقد والطّلاق، وفيمن أوجب عنده حكم دينه عليه التّحريم، وأوجب عليه الانقياد إلى التحكيم، وما أدّعوا فيه التواتر من الأخبار، والتظافر على العمل به مما لم يوجد فيه نصّ وأجمعت عليه الأحبار، والتوجّه تلقاء بيت المقدس إلى جهة قبلتهم، ومكان تعبّد أهل ملّتهم، والعمل في هذا جميعه [بما شرعه موسى الكليم، والوقوف معه] (1) إذا ثبت أنه فعل ذلك النبيّ الكريم، وإقامة حدود التّوراة على ما أنزل الله من غير تحريف ولا تبديل كلمة بتأويل ولا تصريف، واتباع ما أعطوا عليه العهد، وشدّوا عليه العقد، وأبقوا فيه ذماءهم (2)، ووقوا به دماءهم وما كانت تحكم به الأنبياء والربّانيّون، ويسلّم إليه الإسلاميّون منهم ويعبّر عنه العبرانيّون كلّ هذا مع إلزامه لهم بما يلزمهم من حكم أمثالهم أهل الذمّة الذين أقرّوا في هذه الدّيار، ووقاية أنفسهم بالخضوع والصّغار، ومدّ رؤوسهم بالإذعان لأهل ملّة الإسلام، وعدم مضايقتهم في الطّرق وحيث يحصل الالتباس بهم في الحمّام، وحمل شعار الذمّة الذي جعل لهم حلية العمائم، وعقد على رؤوسهم لحفظهم عقد التّمائم وليعلم أنّ شعارهم الأصفر، موجب لئلا يراق دمهم الأحمر، وأنّهم تحت علم علامته آمنون، وفي دعة أصائله ساكنون وليأخذهم بتجديد صبغه في كلّ حين وليأمرهم بملازمته ملازمة لا تزال علائمها على رؤوسهم تبين، وعدم التظاهر لما يقتضي المناقضة، أو يفهم منه المعارضة، أو يدع فيه غير السّيف وهو إذا كلّم شديد العارضة وله ترتيب طبقات أهل ملّته من الأحبار فمن دونهم على قدر استحقاقهم، وعلى ما لا
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 143.
(2) الذماء: بقية الحياة. (معجم عبد النور المفصّل: 1/ 895).(11/385)
تخرج عنه كلمة اتّفاقهم وكذلك له الحديث في جميع كنائس اليهود المستمرّة إلى الآن، المستقرّة بأيديهم من حين عقد عهد الذمة ثم ما تأكّد بعده لطول الزمان، من غير تجديد متجدّد، ولا إحداث قدر متزيّد ولا فعل شيء مما لم تعقد عليه الذّمّة، ويقرّ عليهم سلفهم الأوّل سلف هذه الأمّة، وفي هذا كفاية وتقوى الله وخوف بأسنا رأس هذه الأمور المهمّة.
[وصية رئيس السامرة] (1):
ولا يعجز عن لمّ شعث طائفته مع قلّتهم، وتأمين سربهم الذي لو لم يؤمّنوا فيه لأكلهم الذئب لذلّتهم وليصن بحسن السّلوك دماءهم التي كأنما صبغت عمائمهم الحمر منها بما طلّ، وأوقد لهم منها النار الحمراء فلم يتّقوها إلا بالذّلّ، وليعلم أنهم شعبة من اليهود لا يخالفونهم في أصل المعتقد، ولا في شيء يخرج عن قواعد دينهم لمن انتقد ولولا هذا لما عدّوا في أهل الكتاب، ولا قنع منهم إلا بالإسلام أو ضرب الرّقاب فليبن على هذا الأساس، [ولينبيء قومه أنّهم منهم وإنما الناس أجناس] (2)، وليلتزم من فروع دينه ما لا يخالف فيه إلا بأن يقول لا مساس وإذا كان كما يقول: إنه كهارون عليه السّلام فليلتزم الجدد، وليقم من شرط الذمّة بما يقيم به طول المدد، وليتمسّك بالموسويّة من غير تبديل، ولا تحريف في كلم ولا تأويل، وليحص عمله فإنه عليه مسطور، وليقف عند حدّه ولا يتعدّ طوره في الطّور، وليحكم في طائفته وفي أنكحتهم ومواريثهم وكنائسهم القديمة المعقود عليها بما هو في عقد دينه، وسبب لتوطيد قواعده في هذه الرتبة التي بلغها وتوطينه.
__________
(1) لم يعنون في الأصل. والزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 144.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن التعريف ص 144.(11/386)
الوظيفة الثانية (بطركيّة النّصارى الملكيّة (1)، وهم أقدم من اليعاقبة)
وقد تقدّم في الكلام على النّحل والملل أنهم أتباع ملكا (2) الذي ظهر قديما ببلاد الرّوم، وأنّ الروم والفرنج كلّهم اتباعه، وبالديار المصريّة منهم النّزر اليسير، ولهم بطرك يخصّهم.
وهذه نسخة توقيع لبطرك الملكيّة:
أمّا بعد حمد الله منوّع الإحسان، لأولي الأديان، ومؤصّله ومفرّعه لكلّ طائفة ولكل إنسان، والصلاة على سيدنا محمد الذي أباد الله به من أباد وأبان من عهده وذمّته من أبان فإنّ الطائفة الملكيّة من النصارى لمّا كانت لهم السابقة في دينهم، ولهم أصل الرآسة والنّفاسة في تعيينهم، وما برحت لهم في الكلاءة والحفظ قدم السابقة، ورتبة بملوكهم الرّومانيّة سامقة، وما زالت لهم خدم الدول إلى أغراضها متساوقة ومتسابقة، ولهم جوار مشكور، وتبتّل مشهور، وعليهم وصايا من الملوك في كل ورود وصدور، ولهم من نفوسهم مزايا تستوجب احترامهم، وتستدعي إكرامهم، وكان لا بدّ لهم من بطريرك يلاحظ أحوالهم أتمّ الملاحظة، ويستدعي لهم من الدّولة أعظم محافظة، ويحفظ نواميس قبيلهم، ويحسن دراسة أناجيلهم، ويعرّفهم قواعد معتقداتهم، ويأخذهم بالدّعاء لهذه الدولة القاهرة في جميع صلواتهم، ويجمعهم على سداد، ويفرّقهم على مراد، وكان البطريرك فلان هو المتّفق بين طائفته على تعيينه، والمجمع على إظهار استحقاقه وتبيينه، والذي له مزايا لو كان فيه واحدة
__________
(1) الملكيون أو الملكانيون: طائفة مسيحية من الطقس البيزنطي. سمّوا بالملكيين لأنهم أيدوا قرار خلقيدونية سنة 451م ضد بدعة أوطيخا المونوفيزية. ومنهم الروم الكاثوليك الذين يعترفون برياسة بابا روما، والأرثوذوكس الذين لا يعترفون بهذه الرياسة. (الموسوعة العربية الميسرة: 1742).
(2) المقصود: الملك مرقيانوس (المصدر السابق).(11/387)
منها لكفته في التأهيل، ولرفعته إلى منصبه الجليل. فلذلك رسم الخ لا برح يعطي كلّ أحد قسطه، ويدخل كلّ لأبوابه ساجدا وقائلا حطّة (1) أن يباشر بطركيّة النصارى الملكية على عادة من تقدّمه من البطاركة السالفة بهذه الدولة.
فليحط أمورها الجزئيّة والكليّة، والظاهرة والخفيّة، وليأخذهم بما يلزمهم من قوانين شرعتهم، وكلّ ما يريدون من حسن سمعتهم وأما الدّيرة والبيع والكنائس التي للملكية فمرجعها إلى صونه، وأمرها مردود إلى جميل إعانته وعونه والأساقفة والرّهبان فهم سواد عين معتقده، وخلاصة منتقده، فلا يخلهم من تبجيل، وحسن تأهيل، وتتقدّم إلى من بالثغور من جماعتك بأن لا يدخل أحد منهم في أمر موبق، ولا في مشكل موثق، ولا يميلون كلّ الميل إلى غريب من جنسهم، وليكن الحذر لغدهم من يومهم وليومهم من أمسهم، ولا يشاكلون رسولا يرد، ولا قاصدا يفد وطريق السلامة أولى ما سلك، ومن ترك الدخول فيما لا يعنيه ترك هذه جملة من الوصية لامعة أفلح واهتدى من بها استنار، ورشد من لها استشار والله يوفّقك في كل مقصد تروم، ويجعلك بهذه الوصايا تقول وتقوم.
وهذه وصية لبطرك الملكية أوردها في «التعريف» وهي:
وهو كبير أهل ملّته والحاكم عليهم ما امتدّ في مدّته، وإليه مرجعهم في التحريم والتحليل، وفي الحكم بينهم بما أنزل في التوراة ولم ينسخ في الإنجيل وشريعته مبنيّة على المسامحة والاحتمال، والصبر على الأذى وعدم الاكتراث به والاحتفال، فخذ نفسك في الأوّل بهذه الآداب، واعلم بأنك في المدخل
__________
(1) الحطّة: طلب المغفرة. وفي التنزيل العزيز: {وَادْخُلُوا الْبََابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطََايََاكُمْ}: البقرة / 58.(11/388)
إلى شريعتك طريق إلى الباب فتخلّق من الأخلاق بكلّ جميل، ولا تستكثر من متاع الدنيا فإنّه قليل وليقدّم المصالحة بين المتحاكمين إليه قبل الفصل البتّ فإنّ الصلح كما يقال سيّد الأحكام، وهو قاعدة دينه المسيحيّ ولم تخالف فيه المحمّديّة الغراء دين الإسلام، ولينظّف صدور إخوانه من الغلّ ولا يقنع بما ينظّفه ماء المعموديّة من الأجسام وإليه أمر الكنائس والبيع، وهو رأس جماعته والكلّ له تبع فإيّاه أن يتخذها له تجارة مربحة، أو يقتطع بها مال نصرانيّ يقرّبه فإنه ما يكون قد قرّبه إلى المذبح وإنما ذبحه وكذلك الدّيارات وكل عمر (1)، والقلاليّ (2) فيتعيّن عليه أن يتفقّد فيها كلّ أمر وليجتهد في إجراء أمورها على ما فيه رفع الشّبهات، وليعلم أنهم إنما اعتزلوا فيها للتعبّد فلا يدعها تتّخذ متنزّهات فهم إنما أحدثوا هذه الرّهبانيّة للتقلّل في هذه الدنيا والتعفّف عن الفروج، وحبسوا فيها أنفسهم حتّى إنّ أكثرهم إذا دخل فيها ما يعود يبقى له خروج فليحذّرهم من عملها مصيدة للمال، أو خلوة له ولكن بالنساء حراما ويكون إنما تنزّه عن الحلال وإيّاه ثم إيّاه أن يؤوي إليها من الغرباء القادمين عليه من يريب، أو يكتم عن الإنهاء إلينا مشكل أمر ورد عليه من بعيد أو قريب، [ثم الحذر الحذر من إخفاء كتاب يرد عليه من أحد من الملوك،] (3) ثم الحذر الحذر من الكتابة إليهم أو المشي على مثل هذا السّلوك، وليتجنّب البحر وإيّاه من اقتحامه فإنه يغرق، أو تلقّي ما يلقيه جناح غراب منه فإنه بالبين ينعق والتقوى مأمور بها أهل كلّ ملّة، وكلّ موافق ومخالف في القبلة فليكن عمله بها وفي الكناية ما يغني عن التّصريح، وفيها رضا الله تعالى وبها أمر المسيح.
__________
(1) العمر: المسجد أو البيعة.
(2) القلّية: شبه الصومعة.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 145.(11/389)
الوظيفة الثالثة (بطركيّة اليعاقبة)
(1)
وقد تقدّم في الكلام على النّحل والملل الخلف في نسبتهم: فقيل إنهم أتباع ديسقرس، وإنه كان اسمه في الغلمانيّة يعقوب، وقيل أتباع يعقوب البردعاني، وقيل غير ذلك، والأصحّ عند المؤرّخين الأوّل. وبطركهم يحكم على طائفة اليعاقبة، وجميع نصارى الحبشة أتباعه، وفي طاعته ملك الحبشة الأكبر، وعنه تصدر ولايته.
وهذه نسخة توقيع لبطرك النصارى اليعاقبة:
أما بعد حمد الله الذي أظهر دين الإسلام على الدّين كلّه، وأصدر أمور الشرائع عن عقد شرعه وحلّه، وصيّر حكم كلّ ملة راجعا إلى حكم عدله، والشهادة له بالوحدانيّة التي تدلّ على أنه الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد وليس شيء كمثله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أعظم أنبيائه وأكرم رسله، وأشرف ولد آدم ونسله، المصطفى في علم الله من قبله، ووسيلته في التوراة من غرور الشيطان وخذله، والذي أطفأ الله ببركته نار نمروذ (2) عن إبراهيم وجعلها بردا وسلاما وأجلّه من أجله، وبشّر به عيسى بن مريم عبد الله (3)
وابن أمته وأقرّ موسى بن عمران كليم الله بفضله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين من فروع أصله، وأصحابه سامعي قوله، وتابعي سبله فإنّ الله تعالى لما ارتضى
__________
(1) يدور مذهبهم على القول بأن المسيح هو الله والانسان اتّحدا في طبيعة واحدة هي المسيح.
وأكثرهم يذهب إلى أن المسيح جوهر واحد وأقنوم واحد. (الموسوعة الميسرة: 1982).
(2) وبالدال المهملة أيضا. وهو نمرود بن كنعان بن قوش. ورد ذكره في سفر التكوين. وهو أول جبّار في الأرض. أشار إليه القرآن الكريم في قصة إبراهيم (ع) دون ذكر اسمه.
(3) في مثل هذه الأحوال التي تتعلق بأهل الذمّة، كان على كاتب التوقيع أو التقليد أو الوصيّة أن يشير غالبا إلى بطلان ما يخالف الإسلام في معتقدات النصارى واليهود. وهنا يشير إلى تأكيد الإسلام على أن عيسى (ع) هو عبد من عبيد الله، ورسول من رسله، وواحد من بني البشر وابن امرأة منهم.(11/390)
الإسلام دينا، وأفضى بالملك إلينا وقضى لنا في البسيطة بسطة وتمكينا، وأمضى أوامرنا المطاعة بشمول اليمن شمالا ويمينا لم نزل نولي رعايانا الإحسان رعاية وتوطينا، ونديم لأهل الذمّة منّا ذمّة وتأمينا وكانت طائفة النّصارى اليعاقبة بالديار المصرية لهم من حين الفتح عهد وذمام، ووصيّة سابقة من سيدنا رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام ولا بدّ من بطريرك يرجعون إليه في الأحكام، ويجتمعون عليه في كلّ نقض وإبرام.
ولما كانت الحضرة السامية الشيخ الرئيس، المبجّل، المكرّم، الكافي، المعزّز المفخّر، القدّيس، شمس الرّآسة، عماد بني المعمودية، كنز الطائفة الصّليبيّة، اختيار الملوك والسلاطين، فلان: وفّقه الله، هو الذي تجرّد وترهّب، وأجهد روحه وأتعب، وصام عن المأكل والمشرب، وساح فأبعد، ومنع جفنه لذيذ المرقد، ونهض في خدمة طائفته وجدّ، وخفض لهم الجناح وبسط الخدّ، وكفّ عنهم اليد، واستحقّ فيهم التبجيل لما تميّز به عليهم من معرفة أحكام الإنجيل وتفرّد اقتضى حسن الرأي الشريف أن نلقي إليه أمر هذه الفرقة ونفوّض، ونبدّلهم عن بطريكهم المتوفّى ونعوّض.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا برحت مراسمه مطاعة، ومراحمه لإنزال أهل كرمها بيعتها مرعيّة غير مراعة (1) أن يقدّم الشيخ شمس الرآسة المذكور على الملّة النّصرانيّة اليعقوبيّة، ويكون بطريركا عليها، على عادة من تقدّمه وقاعدته بالديار المصرية، والثّغور المحروسة، والجهات التي عادته بها إلى آخر وقت.
فليسلك سبيل السّوا، ولا يملّك نفسه الهوى، وليتمسّك بخوف الله تعالى إن فعل أو نوى، أو أخبر عن الحواريّين أو روى فالعليم مراقب، والعظيم
__________
(1) أي غير مفزعة. والفعل: راعه وروّعه. وليس في معاجم اللغة التي بين أيدينا «أراعه» بمعنى أفزعه.(11/391)
معاقب، والحكيم أمر أولي العقول بالفكرة في العواقب، والحاكم غدا بحقوق الخلق غدا يطالب والظّلم في كلّ ملّة حرام والعدل واجب، فليستوف الإنصاف بين القويّ والضعيف والحاضر والغائب، وليقصد مصلحتهم وليعتمد نصيحتهم، وليمض على ما يدينون به بيوعهم وفسوخهم ومواريثهم وأنكحتهم، وليقمع غاويهم، وليسمع دعاويهم، وليلزمهم من دينهم بما وجدوه، فظنّوه واعتقدوه، وليتّبع سبيل المعدلة فلا يعدوها عائدة إليه أمور القسّيسين والرّهبان، في جميع الدّيرة والكنائس بسائر البلدان، ولا يعترض عليه فيما هو راجع إليه من هذا الشان. ولا يقدّم منهم إلى رتبة إلا من استصلحه، ولا يرجح إلى منزلة إلا من رشّحه إليها ورجّحه، متّبعا في ذلك ما بيّنه له العدل وأوضحه، مرتجع الرتبة ممن لم تكن الصدور لتقدمته منشرحة، مجمعا لغيره في الإيراد والإصدار على اعتماد المصلحة وقد أوضحنا له ولهم سبيل النجاة فليقتفوه، وعرّفناهم بالصواب والخيرة لهم إن عرفوه، وليسأل الله ربّه السلامة فيما له يفعل وبه يفوه والعلامة الشريفة أعلاه.
وهذه نسخة توقيع لبطرك النصارى اليعاقبة، كتب به للشيخ المؤتمن، في شهور سنة أربع وستين وسبعمائة، وهي:
أما بعد حمد الله على نعمه التي نشرت لواء دولتنا في الآفاق، فأوى كلّ أحد إلى ظلّه، وبسطت معدلتنا في البلاد على الإطلاق، فمنحت الخاصّ والعامّ من برّنا بوابله وطلّه، واصطنعت بذمامها ملوك الملل وحكّام الطوائف فنطقوا عن أمرنا في عقد كلّ أمر وحلّه، والشهادة بوحدانيّة التي تنجح أمل المخلص في قوله وفعله، وتفتح لمن تمسّك بعروتها أبواب النجاة فيصبح في أمان في شأنه كلّه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله أشرف الأنبياء قدرا في محكم الذكر ونقله، المبعوث رحمة للعالمين زيادة في رفعة مقامه وتقريرا لفضله، المنعوت بالرأفة والرحمة في محكم كتابه الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولم يستطع أحد أن يأتي بسورة من مثله، وعلى آله وصحبه الذين اتّبعوا طريقته المثلى وسلكوا مناهج سبله، وعقدوا الذّمم لأهل الملل واستوصوا بهم خيرا لما عرفوه من سعة حلمه وبذله فإنّه لما كانت الطائفة المسيحيّه، والفرقة اليعقوبيّة، ممن أوت تحت ظلّنا الذي عمّ الوجود، وسكنت في حرم ذمامنا الذي سار نبؤه في التّهائم والنّجود، وتمسّكت من طاعتنا واتّباع أوامرنا بما سلف لها من الهدن والعهود، وكانت أحكامهم مما يحتاج إلى من يدور عليه أمرها في كلّ حال، وتنتظم به مصالح شملها ليبلغوا بها الآمال، ويأمنوا في معتقدهم فيها من الإخلال، وأنه إذا مات بطريرك لهم لا بدّ أن نرسم لهم بغيره، ليعتمدوا في ذلك ما يتقدّم به إليهم في نهيه وأمره، ويسلك بهم في أحكامهم ما يجب، ويعرّف كلّا منهم ما يأتي ويذر ويفعل ويجتنب، ويفصل بينهم بمقتضى ما يعتقدونه في إنجيلهم، ويمشّي أحوالهم على موجبه في تحريمهم وتحليلهم ويزجر من خرج عن طريقه، ليرجع إلى ما يجب عليه أسوة رفيقه، ويقضي بينهم بما يعتقدونه من الأحكام، ويبيّن لهم قواعد دينهم في كل نقض وإبرام، فلما هلك الآن بطريكهم مع من هلك، رسمنا لهم أن ينتخبوا لهم من يكون لطريقته قد سلك، وأن يختاروا لهم من يسوس أمورهم على أكمل الوجوه، لنرسم بتقديمه عليهم [فيقوم] (1) بما يؤمّلونه منه ويرتجوه (2).(11/392)
أما بعد حمد الله على نعمه التي نشرت لواء دولتنا في الآفاق، فأوى كلّ أحد إلى ظلّه، وبسطت معدلتنا في البلاد على الإطلاق، فمنحت الخاصّ والعامّ من برّنا بوابله وطلّه، واصطنعت بذمامها ملوك الملل وحكّام الطوائف فنطقوا عن أمرنا في عقد كلّ أمر وحلّه، والشهادة بوحدانيّة التي تنجح أمل المخلص في قوله وفعله، وتفتح لمن تمسّك بعروتها أبواب النجاة فيصبح في أمان في شأنه كلّه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله أشرف الأنبياء قدرا في محكم الذكر ونقله، المبعوث رحمة للعالمين زيادة في رفعة مقامه وتقريرا لفضله، المنعوت بالرأفة والرحمة في محكم كتابه الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولم يستطع أحد أن يأتي بسورة من مثله، وعلى آله وصحبه الذين اتّبعوا طريقته المثلى وسلكوا مناهج سبله، وعقدوا الذّمم لأهل الملل واستوصوا بهم خيرا لما عرفوه من سعة حلمه وبذله فإنّه لما كانت الطائفة المسيحيّه، والفرقة اليعقوبيّة، ممن أوت تحت ظلّنا الذي عمّ الوجود، وسكنت في حرم ذمامنا الذي سار نبؤه في التّهائم والنّجود، وتمسّكت من طاعتنا واتّباع أوامرنا بما سلف لها من الهدن والعهود، وكانت أحكامهم مما يحتاج إلى من يدور عليه أمرها في كلّ حال، وتنتظم به مصالح شملها ليبلغوا بها الآمال، ويأمنوا في معتقدهم فيها من الإخلال، وأنه إذا مات بطريرك لهم لا بدّ أن نرسم لهم بغيره، ليعتمدوا في ذلك ما يتقدّم به إليهم في نهيه وأمره، ويسلك بهم في أحكامهم ما يجب، ويعرّف كلّا منهم ما يأتي ويذر ويفعل ويجتنب، ويفصل بينهم بمقتضى ما يعتقدونه في إنجيلهم، ويمشّي أحوالهم على موجبه في تحريمهم وتحليلهم ويزجر من خرج عن طريقه، ليرجع إلى ما يجب عليه أسوة رفيقه، ويقضي بينهم بما يعتقدونه من الأحكام، ويبيّن لهم قواعد دينهم في كل نقض وإبرام، فلما هلك الآن بطريكهم مع من هلك، رسمنا لهم أن ينتخبوا لهم من يكون لطريقته قد سلك، وأن يختاروا لهم من يسوس أمورهم على أكمل الوجوه، لنرسم بتقديمه عليهم [فيقوم] (1) بما يؤمّلونه منه ويرتجوه (2).
وكان الحضرة السامية، القدّيس، المبجّل، الجليل، المكرّم، الموقّر، الكبير، الدّيّان، الرئيس، الرّوحانيّ، الفاضل، الكافي، المؤتمن، جرجس بن القسّ مفضّل اليعقوبي، عماد بني المعموديّة، كنز الأمّة المسيحيّة، منتخب الملة الصليبيّة، ركن الطائفة النصرانية، اختيار الملوك والسلاطين أطال الله تعالى بهجته، وأعلى على أهل طائفته درجته قد حاز من فضائل ملّته أسماها،
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) الصواب «ويرتجونه» وقد حذف نون الرفع للسجع.(11/393)
وصعد من درجات الترقّي على أبناء جنسه أعلاها، فنزّه نفسه عن مشاركة الناس، وتقشّف بين أهله في المأكل واللّباس، وترك الزواج والنّكاح، واشتغل بعبادته التي لازم عليها في المساء والصّباح، وألقى نفسه إلى الغاية في الاطّراح، وساح بخاطره في الفكرة وإن لم يكن بجسده قد ساح، وارتاض بترك الشّهوات مدّة زمانه، واطّرح الملاذّ لتعلو درجته بين أهله برفعة مكانه، واشتمل من علوم طائفته على الجانب الوافر، وعرف من أوامرهم ونواهيهم ما تقرّ به منهم العين والناظر، وطلب من الربّ الرؤوف الرحيم القوّة على أعماله، وسأل الإله أن يزيّن لأهل ملّته ما يأتي به من أقواله وأفعاله، فوقع اختيارهم عليه، وسألوا صدقاتنا الشريفة إلقاء أمرهم إليه.
فرسم بالأمر الشريف لا زال إحسانه إلى سائر العالم واصلا، وجوده لكل طائفة بارتياد أكفائها شاملا أن يقدّم حضرة القدّيس المؤتمن جرجس المشار إليه على الطائفة اليعقوبية، من الملة النصرانية، بالديار المحروسة والجهات الجاري بها العادة، ويكون بطريركا عليهم على عادة من تقدّم في ذلك ومستقر قاعدته إلى آخر وقت، قائما بما يجب عليه من أمور هذه الملّة، باذلا جهده في سلوك ما ينبغي مما ينظم عليه أمره كلّه، فاصلا بينهم بما يعتقدونه من الأحكام، متصرفا على كل أسقفّ وقسّ ومطران في كل نقض وإبرام، مالكا من أمور القسّيسين والرّهبان والشّمامسة الزّمام، مانعا من يروم أمرا لا يسوّغه وضع ولا تقرير، جاعلا نظره عليه منتقدا بالتحرّز في التخيير، زاجرا من يخرج منهم عن اتباع طريق الشريعة المطهّرة التي يصح بها عقد الذّمّة، ملزما بسلوكها في كل ملمة فإن ذلك من الأمور المهمّة، آمرا من في الدّيرة من الرّهبان بمعاملة المارّين بهم والنازلين عليهم بمزيد الإحسان ومديد الإكرام، والقيام بالضّيافة المشروطة من الشّراب والطّعام.
وليتحدّث في قسمة مواريثهم إذا ترافعوا إليه، وليجعل فصل أمور أهل طائفته من المهمّات لديه، وليشفق على الكبير والصغير، وليتنزّه عن قليل متاع الدنيا والكثير، وليزهد في الجليل قبل الحقير. وفي اطّلاعه على أحكام
دينه ما يكفيه في الوصيّة، وما يرفعه بين أبناء جنسه في الحياة الدنيويّة، والاعتماد على الخط الشريف أعلاه الله أعلاه.(11/394)
وليتحدّث في قسمة مواريثهم إذا ترافعوا إليه، وليجعل فصل أمور أهل طائفته من المهمّات لديه، وليشفق على الكبير والصغير، وليتنزّه عن قليل متاع الدنيا والكثير، وليزهد في الجليل قبل الحقير. وفي اطّلاعه على أحكام
دينه ما يكفيه في الوصيّة، وما يرفعه بين أبناء جنسه في الحياة الدنيويّة، والاعتماد على الخط الشريف أعلاه الله أعلاه.
وهذه نسخة توقيع لبطرك اليعاقبة، وهي:
أما بعد حمد الله على أن جعل من إحسان هذه الدولة لكلّ ملّيّ وذمّيّ نصيبا، وفوّق إلى أهداف الرّعاية سهما فسهما ما منها إلا ما شوهد مصيبا، والصلاة على سيدنا محمد الذي أحمد الله له سرى في صلاح الخلائق وتأويبا فإنه لمّا كان من سجايا الدولة القاهرة النظر في الجزئيّات والكلّيّات من أمور الأمّة، وتجاوز ذلك إلى رعاية أهل الذمّة لا سيّما من سبقت وصية سيد المرسلين عليهم من القبط الذين شرّفهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوصلته منهم بأمّ (1) إبراهيم ولده عليه السّلام، وقبول هديّتهم التي أبقت لهم مزيّة على ممرّ الأيّام وكانوا لا بدّ لهم من بطريك يحفظ سوامهم، ويضبط خواصّهم وعوامّهم، ويجمع شمل رهبانهم، ويراعي مصالح أديانهم، ويحرّر أمور أعيادهم ومواسمهم في كل كنيس، ويدعو للدولة القاهرة في كل تقديس، وتجعل له الخيرة في ضبط أمور البيع والدّيرة واختيار الأساقفة والكهّان، وحفظ النواميس المسيحيّة في كل قربان ولا يصلح لذلك إلا من هو بتول، وكلّ خاشع عامل ناصب يستحقّ بذلك أنّ هذا الأمر إليه يؤول.
ولما كان البطريرك فلان هو المجمع على صلاحيته للبطركية على شعبه، والتقدمة على أبناء المعموديّة من شيعته وصحبه، لما له من علم في دينه، ومعرفة بقوانينه، وضبط لأفانينه، وعقل يمنعه عن التظاهر بما ينافي العهود، ويلافي الأمر المعهود اقتضى جميل الاختيار أنه رسم بالأمر الشريف لا برح يضع كلّ شيء في موضعه من الاستحقاق، ويبالغ في الإرفاد لأهل الملل والإرفاق أن يباشر بطركيّة جماعة اليعاقبة بالديار المصريّة، على عادة من تقدّمه في هذه الرتبة، ومن ارتقى قبله إلى هذه الهضبة.
__________
(1) هي «ماريا» القبطية التي أهداها إليه المقوقس.(11/395)
فليباشر أمر هذه الطائفة، وليجعل معونته بهم طائفة، وليضبط أمورهم أحسن ضبط وأجمله، وأتمّه وأكمله، وليأخذهم بما يلزمهم من القيام بالوظائف المعروفة، والعهود المألوفة، وليلزمهم بما يلزمهم شرعا من كفّ عن تظاهر ممنوع، أو تعاطي محذور منكور الشرور والشروع، أو تنكّب عن طريق الاستقامة، وكما أنّهم عدلوا عن الإسلام لا يعدلون عن السّلامة.
وأمّا أمور الدّيرة والكنائس فأمرها إليك مردود، فاجر فيها على المعهود، وأقم فيها عنك من يحسن النّيابة، ومن يجمل الإنابة، ومن يستجلب الدعاء لهذه الدولة القاهرة في كل قدّاس، ويعدّد التقدّس والأنفاس وعلى رهبان الأديرة للمساجد والجوامع وظائف لا تمنع ولا تؤخّر، ولا تحوج أحدا منهم أنّه بها يذكّر وليشرط على أهلها أنهم لا يأوون طليعة الكفّار، ولا من يحصل منه إلا خير وإلا يحصل الإضرار، وليأمرهم بحسن الجوار، والقيام بما هو موظّف عليهم للمسلمين السّفار وغير السّفّار هذه نبذة من الوصايا مقنعة، ولو وسّع القول لكان ذا سعة وفي البطريرك من النّباهة ما يلهمه الصّواب، والله يجعل حسن الظنّ به لا ارتياء فيه ولا ارتياب، بمنّه وكرمه!، والاعتماد الخ.
وهذه نسخة توقيع لبطرك اليعاقبة، وهي:
أما بعد حمد الله الذي خصّ كلّ ملّة منّا بمنّة، وأقام بأوامرنا على كلّ طائفة من نرضاه فنحقّق بإحساننا ظّنّه، وجعل من شيمنا الشريفة الوصية بأهل الكتاب عملا بالسّنّة، والشهادة بوحدانيّة التي نتّخذ بينها وبين الشّكّ والشّرك من قوّة الإيمان جنّة، وندّخر أجورها فنسمو بها يوم العرض (1) إلى أعلى غرف الجنّة، والصلاة والسلام على نبيّه محمد أكرم من أرسله إلى الأمم فأنال كلّا من البرايا يمنه، وأعظم من بعثه فشرع الدين الحنيف وسنّه، وعلى آله وأصحابه الذين لم
__________
(1) يوم النشور والحساب.(11/396)
تزل قلوب المؤمنين بهم مطمئنة فإنّ لدولتنا القاهرة العوارف الحسان، والشّيم الكريمة والعطايا والإحسان، والفواضل التي للآمال منها ما يربي عليها ويزيد، والمآثر التي بحر برّها الوافر المديد، ولكل ملّة من نعمها نوال جزيل، ولكلّ فرقة من مواهبها جانب يقتضي التخويل ولا يقضي بالتحويل، ولكلّ طائفة من يمنها ومنّها منائح طائفة بمزيد التنويل، ولكل أناس من معدلتها نصيب يشمل الملل، وعادة معروف تواترت مع أنها خالصة من السّامة والملل، سجيّة سخية بنا شرفت، ومزيّة مرويّة منّا ألفت وإنّ من أهل الكتاب لطائفة كثرت بأبوابنا الشريفة عددا، واستصفت من مناهل جودنا موردا، وانتظمت في سلك رعايانا فأضحى سبب فضلنا لها مؤكّدا، وكانت الملّة المسيحية، والفرقة اليعقوبيّة، لا بدّ لها بعد موت بطريكها من إقامة غيره، وتقديم من يرتضى بفعله وقوله وسيره، لتقتدي به في عقد أمورها وحلّها، وتحريمها وتحليلها ووصلها وفصلها، وتهتدي به في معتقدها، وتركن إلى ما يذكره من مجموع أحكام الإنجيل ومفردها، وينتصب للفصل بين خصومها بما يقتضيه عرفانه، ويظهر لأهل ملّته بيانه، حتّى لا تجد في أمر دينها إلا ما تريده، وبما نديمه لها من استمرار الهدنة تبدي دعاءها وتعيده، فإنّ سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم أمرنا أن نستوصي بأهل الكتاب خيرا، ونحن نسلك من اتّباع شريعته المطهّرة ما نحسن فيه إن شاء الله سيرة يسيرة وسيرا.
ولما كانت الحضرة السامية، الشيخ، الرئيس المبجّل، المكرّم، الفاضل، الكافي، الثّقة، عماد بني المعموديّة، كنز الطائفة الصليبيّه، اختيار الملوك والسلاطين، فلان أطال الله بقاءه، وأدام على أهل طائفته ارتقاءه، ممن اتفق على شكره أبناء جنسه، واستوجب أن يرقى إلى هذه الرّتبة بنفسه، واشتهر بمعرفة أحوال فرقه، وهجر الأهل والوطن في تهذيب خلقه، وحرّم في مدّة عمره النكاح، وسار في المهامه والقفار وساح، وأضحى خميص (1) البطن
__________
(1) الخميص: الخالي الضامر.(11/397)
خاوي الوفاض، قد ترك الطيّبات وهجر التّنعّم وارتاض واعتمد في قوله على الإله، وسأل الرّبّ أن يبلّغه في أهل ملّته ما تمنّاه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال يجمع الفرق على الدعاء لأيّامه الشريفة، ويديم للأقربين موادّ مواهبه المألوفة أن يقدّم الشيخ فلان على الملّة النصرانية اليعقوبيّة، ويكون بطريركا عليها على عادة من تقدّمه، ومستقرّ قاعدته، بالديار المصريّة والثّغور المحروسة، والجهات التي عادته بها، إلى آخر وقت، [فليتولّ ذلك] (1) سالكا من طرق النزاهة ما يجب، فاصلا بين النصارى بأحكام دينه التي لا تخفى عنه ولا تحتجب، مالكا أزمّة كل أسقفّ [وقومس] (2)
ومطران، مرجّحا بين القدّيس والقسّيس والشّمّاس والرّهبان، لتصبح أحكام كبيرهم وصغيرهم به منوطة، ومواريثهم مقسومة بشرعته التي هي لديهم مبسوطة، ويقف كلّ منهم عند تحريمه وتحليله، ولا يخرج في شرعتهم عن فعله وقوله ولا يقدّم منهم إلا من رضي بتأهيله وليأمر كلّ قاص منهم ودان، ومن يتعبّد بالدّيرة والصّوامع من الرجال والنّسوان، برفع الأدعية بدوام دولتنا القاهرة التي أسدت لهم هذا الإحسان، ويلزم كلّا منهم بأن لا يحدث حادثا، ويكرم نزل من قدم عليه راحلا أو لابثا فإن هذه الولاية قد آلت إليه، وهو أدرب بما تنطوي شروطها عليه، والله تعالى يجعل البهجة [لديه] (3) مقيمة [والنعمة عليه مستديمة] (4) والخطّ الشريف أعلاه، حجة بموجبه وبمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق في مثل هذه التواقيع.
(2) في الأصل «قمص». والقومس والجمع قمامسة تعريب حرفيّ للفظ اللاتيني وبالفرنسية، أما «القومص» فاسم ملك طرابلس من الفرنج وقد قتل في الحروب الصليبية. (التعريف بمصطلحات الصبح: 278).
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/398)
وهذه وصية لبطرك اليعاقبة أوردها في «التعريف» قال:
ويقال في وصيّة بطرك اليعاقبة مثل ما في وصيّة بطرك الملكيّه، إلا فيما ينبّه عليه. ويسقط منه قولنا: «واعلم بأنّك في المدخل إلى شريعتك طريق إلى الباب» إذ كان لا يدين بطاعة الباب (1) الذي هو رأس الملكانيّين، وإنما هو رأس اليعاقبة نظيره للملكانيّين، ويقال مكان هذه الكلمة «واعلم بأنك في المدخل إلى شريعتك قسيم الباب وأنتما سواء في الأتباع، ومتساويان فإنّه لا يزداد مصراع على مصراع». ويسقط منه قولنا: «وليتجنّب البحر (2) وإيّاه من اقتحامه فإنّه يغرق» وثانية هذه الكلمة إذا كان ملك اليعاقبة مغلغلا [في الجنوب] (3) ولا بحر، ويبدل بقولنا: «وليتجنّب ما لعلّه ينوب، وليتوقّ ما يأتيه سرّا (4) من تلقاء الحبشة حتّى إذا قدر فلا يشمّ أنفاس الجنوب وليعلم أنّ تلك المادّة وإن كثرت مقصّرة، ولا يحفل بسؤدد السّودان فإنّ الله جعل آلة الليل مظلمة وآية النهار مبصرة» ثم يختم بالوصية بالتقوى كما تقدّم، ونحو هذا والله أعلم.
النوع الثاني (ما هو خارج عن حاضرتي مصر والقاهرة: من وظائف الديار المصريّة مما يكتب لأربابها. وهي ثلاث جهات)
الجهة الأولى (ثغر الإسكندريّة، والوظائف فيها على ثلاثة أصناف)
الصنف الأوّل (وظائف أرباب السّيوف وبها وظيفة واحدة وهي النّيابة)
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب وظائف الديار المصرية أنّها كانت أوّلا
__________
(1) أي بابا روما.
(2) هذه العبارة وشبيهاتها سابقا يراد بها تحذيره من الاتصال بملوك النصارى خارج الديار الاسلامية منعا للتآمر على المسلمين ومصالحهم.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» 146.
(4) هذه العبارة وشبيهاتها سابقا يراد بها تحذيره من الاتصال بملوك النصارى خارج الديار الاسلامية منعا للتآمر على المسلمين ومصالحهم.(11/399)
ولاية، إلى أن طرقها الفرنج في سنة سبع وستّين وسبعمائة، فاستقرّت من حينئذ نيابة، يكتب لنائبها تقليد في قطع الثلثين ب «الجناب العالي» مع الدّعاء بمضاعفة النّعمة.
وهذه نسخة تقليد بنيابة ثغر الإسكندريّة:
الحمد لله على نعم باسمة الثّغر، مسفرة الفجر، رافعة القدر.
نحمده حمدا يشرح الصّدر، ويطلع طلوع البدر، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تحالف من يحالفها، وتخالف من يخالفها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أفضل نبيّ رابط في سبيل الله وجاهد، وكابد في الجهاد أعداء الدّين وكايد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين خاضوا في غمرات الدّجى كلّ غمر وندبوا لحماية الدّين [فكانوا ليوم] (1) كريهة وسداد ثغر.
أمّا بعد، فإنّ الاهتمام بالثّغور هو أولى ما إليه حمد، وعلى مصالحها اعتمد وكان ثغر الإسكندريّة المحروس هو المفترّ عن أحسن الثّنايا، والمخصوص من الحياطة بأتمّ المزايا، والذي كم شفت (2) شفاهه من سقم عند ارتشاف، والذي المثاغر به والمرابط كم له بالحسنات من ائتلاف، وكانت المصلحة تقتضي أن لا يختار له إلا كلّ كامل الأوصاف، كافل بما تستدعيه مصلحة أهله من إنصاف، ذو عزم يمضي والسّهام مستودعة في الكنائن، ويقضي بالعدل المزيل للشّوائب والشّوائن، ومن له حزم يسدّ ثغر المعايب دون كلّ ملاحظ ومعاين، وله سياسة تحفظ بمثلها الثّغور، وتصان الأمور، وله بشاشة تستجلب النّفور، وتوفّق ما بين الألسنة من أولي الودّ والصّدور، وله حياطة بينما يقال: هذا جانبه دمث إذ يقال: هذا جانبه صعب ممتنع، وبينما يقال ليقظته للمصلحة: هذا سحاب [جهام] (3) إذ يقال هذا سيل مندفع.
__________
(1) بياض بالأصل.
(2) في الأصل «كتفت». والتصحيح من الطبعة الأميرية.
(3) في الأصل «يتجهم». والسحاب الجهام: الذي لا ماء فيه.(11/400)
ولما كان فلان هو مستوعب هذه الصّفات، ومستودع هذه الأسماء والسّمات، وإليه بهذه المناقب يشار، وهو ساحب أذيال هذا الفخار اقتضى حسن الرأي الشريف أن تفوّض إليه السلطنة الشريفة بثغر الإسكندرية المحروس، تفويضا يمضي في مصالحه لسانه وقلمه، ويصرّف بين الأوامر والنّواهي إشاراته وكلمه، ويزيّن مواكبه بطلعته، ويزيد مهابته ببعد صيته واشتهار سمعته.
فليباشر هذه الوظيفة مجمّلا مواكبها، مكمّلا مراتبها، موثّلا (1) بقواعد الأمن أرجاءها وجوانبها، ناشرا لواء العدل على عوالمها، قابضا بالإنصاف لمظلوم رعيّتها على يد ظالمها، معليا منار الشرع الشريف بمعاضدة حكّامه والانقياد إلى أحكامه، والوقوف في كل أمر مع نقضه وإبرامه، وليحرس جوانب هذا الثغر ويحميها، وليصن عوارضه وما فيها ومن فيها، وليكلأه برّا وبحرا، وليرخ عليه من ذبّه (2) سترا فسترا، ولينجح لسافرته (3) طلبا، وليبلّغهم من العدل والإحسان أربا، ويجمل معاملة من وجد منهم في سفره نصبا، واتخذ سبيله في البحر عجبا. والرعيّة فهم طراز الممالك، وعنوان العمارة الذي من شاهده في هذا الثغر علم ما وراء ذلك وأحسن إليهم وارأف بهم، وبلّغهم من عدل هذه الدولة غاية أربهم وأمور الخمس والديوان فلها قواعد مستقرّة، وقوانين مستمرّة فاسلك منها جددا واضحا وابتغ لها علما لائحا وغير ذلك فلا يكاد على فهمك يخفى، من تقوى الله التي بها تكفّ عين المضارّ وتكفى والله تعالى يلهمك صوابا، ولا يجعل بين حجاك وبين المصالح حجابا، بمنّه وكرمه!.
__________
(1) من وثّل الشيء: أصله ومكّنه.
(2) ذبّ عنه: دافع عنه.
(3) السافرة: المسافرون.(11/401)
الصنف الثاني (من الوظائف التي يكتب بها بثغر الإسكندرية الوظائف الدينية، وكلها تواقيع، وفيها مرتبتان)
المرتبة الأولى (1)
(ما يكتب منها في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء، وفيها وظائف)
الوظيفة الأولى (القضاء)
وهو الآن مختصّ بالمالكيّة، وقاضيها يتحدّث في نفس المدينة وظاهرها، ليس له ولاية فيما هو خارج عنها.
وهذه نسخة توقيع بقضاء ثغر الإسكندريّة المالكيّ، كتب به للشيخ «وجيه الدين محمد بن عبد المعطي الإسكندريّ المالكيّ» وهي:
الحمد لله رافع قدر من نوّه العلم بذكره، ونوّر التّقى مواقع فكره، ونبّه الورع على رفعة قدره، وأشرق به منصب الحكم العزيز إشراق الأفق بطلوع بدره، وأضاءت بنور أحكامه غوامض القضايا الشرعيّة إضاءة الدّجى بغرّة فجره، وقضى له دوام الإصابة في الاجتهاد بإحراز أجريه إذا كان أحد قسمي الاجتهاد مقتضيا لأجره، ومليء صدره بأنواع العلوم الدينية فوسّع له الشرع الشريف صدر مجلسه وأعدّ له مجلس صدره، وزخر من خاطره بحر العلم فارتوت رياض الخواطر بأنوار فرائد درّه وأسفر وجه الدين بنور علمه وعمله: فقام هذا مقام السّرور في أساريره وناب هذا مناب الشّنب (2) في ثغره.
نحمده حمدا يزيد قدر النّعم تنويها، ويسوّغ في المحامد تعظيما لمسدي
__________
(1) لم يذكر الثانية فيما سيأتي فتنبه.
(2) الشّنب: جمال الثغر وصفاء الأسنان.(11/402)
المنّة وتنزيها، وينهض بشكر التوفيق في اختصاص منصب الحكم بمن كان عند الله وجيها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تفترّ ثغور الإسلام بإدامتها، وتبنى قواعد الإيمان على إقامتها، وتشيم بوارق النصر على جاحدها من أثناء غمامتها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أنارت الآفاق بملّته، ودارت أداة التشبيه بين أنبياء بني إسرائيل وعلماء أمّته، وضاهى شرعه شمس الظهيرة في وضوح أحكامه وظهور أدلّته، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين عملوا بما علموا، وجاهدوا أعداء الله فما ضعفوا لذلك ولا ألموا، وقضوا بالحق بين أمّته فلا المقضيّ لهم أثموا ولا المقضيّ عليهم ظلموا، صلاة لا تزال لها الأرض مسجدا، ولا يبرح ذكرها متهما في الآفاق ومنجدا، وسلم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من قلّد الحكم وإن نأى به الورع عن توقّعه، وخطب للقضاء وإن أعرض به الزّهد عن طلابه وتتبّعه، ودعي إليه إذ الإجابة عليه متعيّنة، ووضعت مقاليده بحكم الاستحقاق [في يديه] (1) إذ أولويّته البيّنة لا تحتاج إلى بيّنة من عقدت على تعيّنه لهذا المنصب الجليل الخناصر، ودعت إلى استدعائه إليه فضائله الثابتة القواعد وزهادته الزاكية الأواصر، ودلّت عليه علومه دلالة الأضواء، على لوامع الشّهب، ونبّهت عليه فنونه تنبيه الأنواء، على مواقع السّحب، وشهد بورعه المتين، تفقّهه واعتزاله، وأنبأ عن نهوضه بنصرة الدين، قوّة جداله الذي هو جلاد مثله ونزاله، وتبحّر في أنواع العلوم حتّى جاوز البحر بمثله ولكنّه العذب الزّلال، وشغل نفسه بالتنوّع في الفنون فكان التحلّي بعبادة الله ثمرة ذلك الاشتغال، ومشى على قدم الأئمة العلماء من أسلافه فلم يشقّ في ذلك المضمار غباره، ونشأ على طريقة العلم والعمل: فنهاره بالانقطاع إليه ليله وليله بالاشتغال بهما نهاره.
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/403)
ولما كان فلان هو الذي خطبته هذه الرتبة السنيّة لنفسها، وتشوّقت إلى الإضاءة بطلوعه في أفقها تشوّق المطالع إلى الإضاءة بطلوع شمسها، وأثنى لسان القلم على فضائله وهو يعتذر من الاختصار، واقتصرت البلاغة على اليسير من التعريض بوصفه وطالب ما لا يحصر معذور في الاقتصاد والاقتصار، وعيّن لما تعيّن عليه من مصالح الأمة وذلك يقضي لمثله من أهل الورع أن يجيب، وطلب لعموم مصالح الإسلام التي ما ينبغي لمثله من أنصار السّنّة أن يتأخّر عن مثلها أو يغيب، وكان ثغر الإسكندرية المحروس من المعاقل التي يفترّ عن شنب النصر ثغرها، ومن أركان الدين التي يغصّ بأبطالها بحرها، وهي مأوى صلحاء (1) الجهاد الذين سهام ليلهم (2) أسبق إلى العدا من سهامهم، وموطن العلماء من أهل الاجتهاد الذين يعدل دم الشهداء مداد أقلامهم وهي داره التي تزهى به نواحيها، وموطن رباطه الذي يوم وليلة منه في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها اقتضت آراؤنا الشريفة أن نخصّ منصب حكمها بعالم أفقها المنير، وزاهد ثغرها الذي ما شام برقه بصر عدوّ إلا وانقلب اليه خاسئا وهو حسير، وأن نفوّض إليه منصب القضاء والحكم العزيز بثغر الإسكندريّة المحروس، على قاعدة من تقدّمه فيه، نظرا في عموم ذلك الثغر [المحروس به] (3) إلى من انعقد إجماع أئمة عصره ومصره على سعة علمه ووفور ورعه وكمال فضله.
فليباشر هذا المنصب الذي ملاك أمره العلم والتّقى، ونظام حكمه العدل والورع وهما أكمل ما به يرتقى، وليحكم بما أراه الله من قواعد مذهبه المحكمة، وأحكام إمامه التي هي بمصالح الدّين والدنيا محكّمة، وليقض بأقوال إمام دار الهجرة التي منها صدرت السنّة إلى الآفاق، وعنها أخذت ذخائر العلم التي تزكو على كثرة الإنفاق، وبها حمى الأحكام الدينية موطّأ الأكناف، وفيها
__________
(1) أي صلحاء المتعبّدين.
(2) أي دعواتهم.
(3) كذا بالأصل. وفي الطبعة الأميرية مع علامة توقف.(11/404)
استقام عمود الملّة ممدود الطّرف على سائر الأطراف، فليل من ذلك وغيره جميع ما كان يليه من تقدّمه، وتقتضيه قواعد ولايته التي أمضينا فيه لسانه وقلمه.
فأمّا ما يدخل تحت هذا الإجمال من آداب القضاء وقواعده، وأدواته وعوائده: من تخصيص الحكم بأوقاته، ومساواته بين الخصمين في إنصافه وإنصاته، واجتناب الحكم في الأوقات المقتضية لتركه، وتوقّي نقض الأحكام التي نظمها عدم مخالفة النص والإجماع في سلكه، فإنه مكتف بالإجمال عن تفصيلها، مكتف عن ذكر كثيرها بالإيماء إلى قليلها، إذ هو أدرى بأوضاعها شرعا وعرفا، وأدرب بما قد يشذّ منها عن ألمعيّته أو يخفى، وملاك الوصايا تقوى الله تعالى وهي من خصائص نفسه، وفواتح ما ابتدأ الورع بإتقان درسه، والله تعالى يؤيد حكمه، ويعلي علمه، بمنّه وكرمه! والاعتماد [على الخطّ الشريف أعلاه] إن شاء الله تعالى.
واعلم أنه كان فيما تقدّم قد وليها قاض شافعيّ.
وهذه نسخة توقيع بقضائها، كتب به للقاضي «علم الدين الإخنائي» الشافعي، في ثامن شعبان سنة ثلاثين وسبعمائة، وهي:
الحمد لله الذي رفع لنا في كل ثغر علما، وأجرى لنا في جوار كلّ بحر ما يضاهيه كرما، وجعل من حكّام دولتنا الشريفة من يعرف بنسبه الإسنائي (1) بل السّنائي أنه يمحو من الظّلم ظلما.
نحمده على أن زادنا نعما، ووفّر للأحكام الشرعيّة بنا قسما، وأغلى قيما، فأضحت تنافس الدّرّ الثمين قيما، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نجرّد لإقامتها سيفا وقلما، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي جعل
__________
(1) نسبة إلى «إسنا» بالصعيد المصري.(11/405)
الله له شريعة ماذيّة (1) ودينا قيما، ونصب من أئمة أتباعه كلّ علم يهدي أمما، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة باقية ما بقيت الأرض والسّما، وسلّم تسليما.
وبعد، فإنّ أولى الثّغور بأن لا يزال به علم مرفوع، وعلم مصون حجابه الممنوع، وعمل يمشي به أئمة الأمة على طريقه المشروع، ثغر الإسكندرية حماها الله تعالى فإنها من دار الملك في أعزّ مقام، ومن مجاورة البحر في موطن جهاد تخفق به الأعلام، وغالب من فيها إما فقيه يتمسّك بالشريعة الشريفة في علوّ علومه، أو ربّ مال له وقوف بمجلس الحكم العزيز ينتصف من خصام خصومه ولم تزل وظيفة القضاء بها آهلة الصدور، كاملة البدور، متهلّلة بما لا يفوت الشّنب كبارق الجزع (2) إذا حكى إيماض الثّغور وكان لها مدّة قد خلت ونحن نفكّر فيمن يكون سدادا لثغرها، وكافيا فيما يهمّ في الأحكام الشرعية من أمرها، وكافلا من الحق الذي أمر الله به بما يقي النفوس، وقائما في مدارسها بما يزيد معالمها إشادة في الدروس، حتّى أجمعت آراؤنا الشريفة على من يحسن عليه الإجماع وتحسم به دواعي النّزاع، ويحسد علمه علم الشمس لما علا عنها من كرة الارتفاع، ومن يتضوّع بنشر العدل في يمنى كفّه القلم، وإذا وقفت به الركائب قالت: يا ساري القصد هذا البان والعلم وكان المجلس الساميّ القضائيّ العلميّ الإسنائي الشافعي، أدام الله علوّه هو العلم المنشور، والعلم المشهور، والمراد بما تقدّم من وصف مشكور، فاقتضت مراسمنا المطاعة أن تناط به من الأحكام الشرعية القضايا، وأن يبسم هذا الثغر بحكمه عن واضح الثّنايا.
فلذلك رسم بالأمر الشريف، العاليّ المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ،
__________
(1) الماذيّة: السهلة السمحاء البيضاء.
(2) الجزع: ضرب من العقيق يعرف بخطوط متوازية مستديرة مختلفة الألوان. والحجر بجملته بلون الظفر.(11/406)
الناصريّ: زاده الله شرفا، وضاعف له تصرّفا أن يفوّض إليه القضاء بمدينة إسكندرية حماها الله تعالى على عادة من تقدّمه وقاعدته المستقرّة إلى آخر وقت، على أنه يستنيب عنه في تحمّله وفيما شاء منه من هو موصوف بصفته، موثوق بدينه وعلمه ومعرفته ولينتصب في مجلس الحكم العزيز لمن ينتصف، وليعمل بما يرضينا من مراضي الله تعالى فإنّ للعيون أن تنظر وللألسنة أن تصف، ولينظر في أمر الشهود فإنّ الأحكام الشرعية على شهادتهم تبنى، وليحترز من الوكلاء فإنّ منهم من يجعل الظنّ يقينا واليقين ظنّا، ولينظر في أمور الأيتام ويتصرّف في أموالهم بالحسنى، وليقم الحدود، على مقتضى مذهبه، وليعوّل في العقود، على من لا يخاف معه امرؤ على إلحاق في نسبه، وغير هذا مما إليه مرجعه، وإليه ينتهي مفترقه ومجتمعه وبحكمه يفصل أمره أجمعه، وليتخذ الله تعالى عليه رقيبا، ويعلم أنه سيرى كلّ ما يعمله عند الله قريبا وتقوى الله هي التي نتخذ معه عليها عهدا مسؤولا ورجاء مأمولا، وقولا عند الله وملائكته وأنبيائه مقبولا، ونقلّده منها على كل مخالف سيفا مسلولا، ونحن نرغب إلى الله أن يوفّقه في حكمه، ويعينه على كل ما يملى من الوصايا بما هو مليّ به من عمله وعلمه، والخط الشريف أعلاه، حجة فيه.
قلت: وكان قد استحدث بالإسكندرية قاض حنفيّ في الدولة الأشرفية «شعبان بن حسين» يولّى من الأبواب السلطانية رفيقا للقاضي المالكيّ بها، يتحدّث في الأحكام في القضايا بمذهبه خاصّة، وأمر مودع الأيتام ونظر الأوقاف، وغير ذلك من متعلّقات قضاء القضاة مختصّ بالمالكي، ثم صارت بعد ذلك تارة يولّى بها حنفيّ كذلك، وتارة تشغر منه. فإن وليها حنفيّ، كتب له في قطع الثّلث كما يكتب للقاضي المالكيّ، وليس بها الآن شافعيّ إلا نائبا عن المالكيّ، ولا حنبليّ بها أصلا.(11/407)
الوظيفة الثانية (الحسبة بثغر الإسكندرية)
ومحتسبها يمضي تحدّثه فيما يختص به قاضيها، وليس له نوّاب فيما هو خارج عن ذلك من البلاد.
وهذه نسخة توقيع بالحسبة بثغر الإسكندرية.
الحمد لله الذي جعل المناصب في أيّامنا الزاهرة محفوظة في أكفائها، مضمونة لمن تقاضت [له] (1) من الإقبال ر [دّ] (2) جفائها، معدوقة في مالها إلى من زانها بمعرفته الحسنة [وحسن بهائها، مخصوصة] (3) بمن دلّت كفاءته وكفايته على أنه أولى بتقرّبها وأحقّ باصطفائها.
أحمده على نعمه التي لم تخيّب في إحساننا أملا، ولم تضيّع سعي من أحسن [العمل] (4) في مصالح دولتنا إنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة هي أشرف ما فاه به اللّسان، وأفضل ما تعبّد به الإنسان، وأرفع ما ملكت به في الدنيا والآخرة عظام الرّتب الحسان، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أحلّ الطيّبات وأباحها، وأزال الشّبهات وأزاحها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين تمسّكوا بأحكامه، ووقفوا مع ما شرع لهم من حلال دينه وحرامه، وحافظوا على العمل بسنّته بعده محافظتهم عليها في أيّامه، صلاة يتوقّد سراجها، ويتأكّد بها انتساق السنّة وانتساجها، وسلم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من رجع فيه حقّ منصبه إلى نصابه، وردّ به واجب رتبته إلى من جعلته سوابق سيرته أولى به، وتقاضت له سيرته عواطف كرمنا، ونهضت نزاهته باستطلاع ما غاب عنه من عوارفنا ونعمنا، وأغنته أوصافه عن تجديد ثناء يستعاد به برّنا القديم، ويستدام له به فضلنا العميم، وتستدرّ به
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/408)
أخلاف كرمنا الذي تساوى في عمومه الظاعن والمقيم من زان التقى أوصافه، وكمّلت العفّة معرفته وإنصافه، وتولّت الديانة نظره فيما عدق به من مصالح الرعايا خصوصا وعموما، وتكفلت الخبرة من اعتباره لأمور الأقوات بأن جعل لكل منها في الجودة حدّا معلوما، وباشر ما فوّض إليه فجمع بين رضا الله تعالى ورضا خلقه، وعوّل عليه في حسبة أعزّ الثغور لدينا فتصبح الرعايا فيما بسط لهم من رزقه.
ولما كان فلان هو الذي أضاءت أوصافه وهل تنكر الإضاءة للسّراج، وتشوّفت إليه رتبته فلم يكن لها إلّا إليه ملاذ وإلا عليه معاج، فسلك من السّير أرضاها لربّه، ومن الأحوال أجمعها لأمن عاقبته وسلامة غبّه (1)، ومن الاجتهاد في مصالح الرعايا ما يضاعف شكره على احتسابه، ومن الخيرة ما يعرّف كلّا (2)
فليستمرّ في ذلك على عادته التي ناضلت عنه فأصابت، وقاعدته التي دعت له عواطف نعمنا فأجابت، وليزد في التحذير والتحقيق ما استطاع، ويناقش حتى يستقرّ على الصحة فيما يباع أو يبتاع، ويقابل على الغشّ بما يردع متعاطيه، ويزجر صانع الأعمال الفاسدة عن استدامتها ومن يوافقه على ذلك ويواطيه، ويثمّر أموال الأحباس بملاحظة أصولها، والمحافظة على ريعها ومحصولها، وإمضاء مصارفها على شروط واقفيها إن علمت ومزية (3) ما قدّم من شكره والثناء عليه وملاك ذلك جميعه تقوى الله تعالى وهي أخصّ ما قدّم من أوصافه، والرّفق بالرّعايا وإنّه من أحسن حلى معرفته وإنصافه، والخير يكون إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الغبّ من كل شيء: عاقبته وآخرته.
(2) بياض بالأصل. وحذفه اختصارا. وهو معلوم مما تقدّم.
(3) كذا بالأصل. وفي الطبعة الأميرية مع علامة توقف.(11/409)
الوظيفة الثالثة (نظر الصادر)
وموضوعها التحدّث في قدر مقرّر يؤخذ من تجّار الفرنج الواردين إلى الإسكندرية، وعليه مرتّبات لناس مخصوصين من أهل العلم والصلاح، ينفق عليهم بمقادير معلومة من متحصّل هذه الجهة.
وهذه نسخة توقيع بنظر الصادر والوارد، أنشأته عن السلطان الملك الناصر «فرج بن الظاهر برقوق» للقاضي ناصر الدين «محمد الطّناحي» إمام المقام الشريف السلطانيّ، في منتصف شهر صفر سنة أربع وثمانمائة (1)، وهي:
الحمد لله الذي جعل من سلطاننا الناصر لأخصّ وليّ أعزّ ناصر، وخصّه من فائض كرمنا المتتابع ومنّنا المترادف بأكرم وارد وأبرّ صادر، وبوّأه من فضلنا المنيف أفضل مبوّأ: فتارة تأتمّ به الملوك وتارة يخطب الكافّة على رؤوس المنابر.
نحمده على أن جعلنا نتّبع في الولايات نهج الصّواب ونقتفيه، وآثرنا من أثرة الأبوة بأعلى مواقع الاجتباء والولد سرّ أبيه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي أذلّ طغاة الكفر بقمع آناف كبرائهم، وألزمهم الصّغار بمال يؤخذ من أقوياء أغنيائهم فيفرّق في ضعفاء المسلمين وفقرائهم، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي ندب إلى مبرّة أهل الفضل وذويه، ورغّب في رعاية المودّة للآباء بقوله: «إنّ من أبرّ البرّ برّ الرجل أهل ودّ أبيه» صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين عدقت بهم مهمّات فقاموا بحقّها، ووكلت إليهم جلائل الولايات، فأحرزوا بجميل التأثير قصب سبقها، صلاة يبقى على مدى الأيام
__________
(1) وجاء في نزهة النفوس: 2/ 145أنه في يوم الاثنين 24من ذي القعدة سنة 804هـ خلع على ناصر الدين الطناحي واستقر ناظر الاحباس عوضا عن القاضي بدر الدين العينتابي الحنفي بحكم عزله.(11/410)
حكمها، ولا يتغيّر على مرّ الزمان رسمها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن من كريم سجايانا التي جبلنا عليها، وشريف شيمنا التي يجذبنا طيب العنصر إليها، أن نخصّ أخصّ الأولياء بأسنى الولايات، ونتحف أصفى الأصفياء بنهاية غيره في البدايات، ونرفع قدر من لم يزل ظهره للملوك محرابا، وننوّه بذكر من رغبت فيه الوظائف فعدلت إليه عن سواه إضرابا.
وكان المجلس الساميّ، القاضويّ، العالميّ، العامليّ، الفاضليّ، الكامليّ، البارعيّ، البليغيّ، الماجديّ، الأوحديّ، الأثيريّ، الأثيليّ، العريقيّ، الأصيليّ، الخطيبيّ، الناصريّ، مجد الإسلام، بهاء الأنام، شرف الرؤساء، أوحد الكبراء، صدر الأعيان، جمال الخطباء، جلال النّظّار، صفوة الملوك والسلاطين، أبو عبد الله محمد، ابن المجلس الساميّ، الجماليّ، المرحوم عبد الله الطّناحي، إمام المقام الشريف: أدام الله تعالى رفعته قد طالت في المخالصة قدمته، ووفرت من صدق الموالاة قسمته، فرفع على الابتداء خبره، ونصب على [المدح] (1) تقدّمه فحمد في الاختيار أثره وكانت وظيفتا نظر الصادر وخطابة الجامع الغربيّ بثغر الإسكندرية المحروس حرسه الله تعالى وحماه وصان من طروق العدوّ المخذول حماه من أرفع الوظائف قدرا، وأميزها رتبة وأعلاها ذكرا اقتضى حسن الرأي الشريف أن نسند ولايتهما إليه، ونعتمد في القيام بمصالحهما عليه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زالت آراؤه مسدّدة، ونعمه على الأولياء في كلّ حين مجدّدة أن يستقرّ المشار إليه في الوظيفتين المذكورتين عوضا عمن كانتا بيده، بما لهما من المعلوم، ويفسح له في الاستنابة على عادة من تقدّمه في ذلك: استنادا إلى أمانته التي بلغت به من العفّة منتهاها، وكفايته التي عجز المتكلّفون عن الوصول إلى مداها، وفصاحته التي أعجزت ببراعتها
__________
(1) بياض بالأصل. والزيادة من هامش الطبعة الأميرية.(11/411)
الخطباء الأماثل، وبلاغته التي قضت بالعيّ على قسّ إياد وحكمت بالفهاهة (1)
على سحبان وائل.
فليتلقّ ما أسند إليه بيده الطّولى وباعه المديد، وليقابل هذه النعمة الحفيلة بالشّكر فإنّ الشكر مستلزم للمزيد، عالما أنّ نظر الصادر يقدّمه أهل الثغر على عامّة الوظائف ما دقّ منها وما جلّ، ويتبرّك المرتّبون عليه بما يأخذونه من راتبه وإن قلّ فليحسن النظر فيه وردا وصدرا، ويميّز ريعه بحسن النظر فيه حتّى يقول المعاند: ما أحسن هذا نظرا! والجامع الغربيّ فهو أجلّ جوامع الثغر الإسكندريّ قدرا، وأعظمها في الأقطار صيتا وأسيرها في الآفاق ذكرا، يحضر الجمعة فيه أهل الشّرق والغرب، ويلمّ بخطبته سكّان الوهاد والهضب فليرق منبره رقيّ من خطبه المنبر لخطبته، وعلم علوّ مقامه فقابله بعلوّ رتبته ويشنّف الأسماع بوعظه، ويشج القلوب بلفظه، ويحيي العقول بتذكيره، ويبك العيون بتحذيره، وليعد للجامع ما تعوّده من الإسعاد، ويجدّد ما درس من معالم خطابته حتّى يقال: هذا ابن المنيّر (2) قد عاد وعماد الوصايا تقوى الله فهي ملاك الأمور كلّها، وعليها مدار أحوال الدّنيا والآخرة في عقدها وحلّها وهاتان مقدّمتا خير فليكن لنتيجتهما يرتقب، ولا يقطع بالوقوف معهما رجاءه «فأوّل الغيث قطر ثم ينسكب» والاعتماد على الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه، حجة فيه بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الفهاهة: العيّ.
(2) هو ابن المنيّر السكندريّ، أحمد بن محمد بن منصور: من علماء الاسكندرية وأدبائها. ولي قضاءها وخطابتها مرتين. توفي سنة 683هـ. (الأعلام: 1/ 220وفوات الوفيات: 1/ 149).(11/412)
الصنف الثالث (من الوظائف التي يكتب بها بثغر الإسكندريّة المحروس، الوظائف الدّيوانية، وهي على طبقتين)
الطبقة الأولى (من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء
وهو ناظر المباشرة بها، وعنه يعبّر بناظر الإسكندرية، دون ناظر الأصل (1)
المقدّم ذكره في جملة الوظائف الديوانية بالحضرة) وموضوع هذه الوظيفة التحدّث في الأموال السلطانية بالإسكندريّة مما يتحصّل من المأخوذ من تجار الفرنج، وسائر المتاجر الواصلة برّا وبحرا بالقبض والصّرف والحمل إلى الأبواب السلطانية.
وهذه نسخة توقيع بنظر ثغر الإسكندرية، كتب به للقاضي «جمال الدين ابن بصّاصة» وهي (2):
الحمد لله الذي أضحك الثّغور بعد عبوسها، وردّ إليها جمالها وأنار أفقها بطلوع شموسها، وأحيا معالم الخير فيها وقد كادت أن تشرف على دروسها، وأقام لمصالح الأمّة من يشرق وجه الحق ببياض آرائه، وتلتذّ الأسماع بتلاوة أوصافه الجميلة وأنبائه.
نحمده حمد من أسبغت عليه النّعماء، وتهادت إليه الآلاء، وخطبته لنفسها العلياء، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ترفع قدر قائلها وتعليه، وتعزّ جانب منتحلها وتدنيه، وأن محمدا عبده ورسوله أفضل نبيّ رابط وجاهد، وأكرم رسول جنح للسّلم بأمر ربّه فهادن وعاهد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وأشياعه وحزبه.
__________
(1) وهو ناظر الخاص المتحدث في خاص الأموال السلطانية.
(2) تقدّمت في الصفحة 39و 40من هذا الجزء ببعض زيادة وتغيير واختصار.(11/413)
وبعد، فأحقّ من ماس في أردية الرياسة عطفا، واستجلى وجوه السعادة من حجب عزّها فأبدت له جمالا ولطفا واصطفته الدولة القاهرة لمهمّاتها لمّا رأته خير كافل، وتنقّل في مراتبها السنيّة تنقّل النيّرين في المنازل (1).
ولما كان فلان أدام الله رفعته ممن أشارت إليه هذه المناقب الجليلة، وصارت له إلى كل سؤال نعم الوسيلة، رسم بالأمر الشريف لا زال
أن يستقرّ في نظر ثغر الإسكندرية المحروس ويباشر هذا المنصب المبارك بعزماته الماضية، وهممه العالية، برأي لا يساهم فيه ولا يشارك: ليصبح هذا الثغر بمباشرته باسما حاليا، وتعود بهجته له بجميل نظره ثانيا، وينتصب لتدبير أحواله على عادته، ويقرّر قواعده بعالي همّته، ويجتهد في تحصيل أمواله وتحصين ذخائره، واستخراج زكاته وتنمية متاجره، ومعاملة التّجار الواردين إليه بالعدل الذي كانوا ألفوه منه، والرّفق الذي نقلوا أخباره السارّة عنه فإنهم هدايا البحور، ودوالبة الثغور، ومن ألسنتهم يطّلع على ما تجنّه الصدور، وإذا بذر لهم حبّ الإحسان نشروا له أجنحة مراكبهم كالطّيور وليعتمد معهم ما تضمّنته المراسيم الشريفة المستمرّة الحكم إلى آخر وقت، ولا يسلك معهم حالة توجب لهم القلق والتّظلّم والمقت، وليواصل بالحمول إلى بيت المال المعمور، وليملأ الخزائن السلطانية من مستعملات الثغر وأمتعته وأصنافه بكل ما تستغني به عن الواصل في البرور والبحور، وليصرف همّته العالية إلى تدبير أحوال [المتاجر بهذا الثغر بحيث ترتفع رؤوس أموالها وتنمي، وتجود سحائب فوائدها وتهمي، وليراع أحوال] (2) المستخدمين في مباشراتهم، ويكشف عن باطن سيرهم في جهاتهم، ليتحقّقوا أنه مهيمن عليهم، وناظر بعين الرأفة إليهم فتنكفّ يد الخائن منهم عن الخيانة، وتتحلّى أنامل الأمين بمحاسن الصّيانة وليطالع بالمتجدّدات في الثغر المحروس، ليرد الجواب عليه منا بما يشرح
__________
(1) لم يذكر خبر المبتدأ. راجع ص 39من هذا الجزء هامش 2.
(2) الزيادة مما تقدم في الصفحة 40من هذا الجزء.(11/414)
الصّدور [ويطيّب النفوس] وليتناول من المعلوم على ذلك في غرّة كل شهر ما يشهد به الديوان المعمور والله تعالى يتولّاه ويعضّده، ويؤيده ويسدّده، بمنّه وكرمه!.
قلت: وربما كتب لناظرها توقيع مفتتح ب «أما بعد حمد الله» في قطع الثلث.
وهذه نسخة توقيع بنظر ثغر الإسكندرية، وهي:
أما بعد حمد الله مفيض حلل إنعامنا على من أخلص في طاعتنا الشريفة قلبه ولسانه، ومولي فضل آلائنا العميمة على من أرهف في مصالحنا عزمه وبنانه، ومحلّي رتب عليائنا الشريفة بمن أشرق في سماء المعالي بدره وإنسانه، وأينعت في غصون الأمانيّ قطوفه وأفنانه، ومبلّغ أقصى غاية المجد في أيامنا الزاهرة بمن تبتسم بجميل نظره الثغور، وتعتصم بحميد خبره وخبرته الأمور، وتشرق من جميل تدبيره البدور، وتعتمد على هممه الأيام والدهور، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، والناشر لواء العدل بسننه الواضح وشرعه القويم، والمنجز لمن اقتفى سبله أوفى تكريم، وأوفر حظّ عظيم، وعلى آله وأصحابه ما اهتدى بهديهم ذوو البصائر والأبصار، وارتدى بأرديتهم المعلمة مقتفي الآثار فإنّ أولى من أسندنا إلى نظره الجميل رتبة عزّ ما زالت طيور الآمال عليها تحوم، وعدقنا بتدبيره الجليل منصب سيادة ما برحت الأمانيّ له تروم، واعتمدنا على همّته العلية فصدّق الخبر الخبر، وركنّا إلى حميد رأيه فشهد السمع وأدّى النظر (1).
ولما كان فلان هو الذي اتّسق في ذروة هذه المعالي، وانتظم به عقد هذه
__________
(1) لم يذكر خبر «فإن أولى» باعتباره معلوما من نظائره السابقة، أي «من كانت صفته كذا وكذا
الخ».(11/415)
اللّآلي، وحوى بفضيلة اللسان والبيان ما لم تدركه المرهفات والعوالي فما حل ذروة عزّ إلا وحلّاها بنظره الجليل، ولا رقي رتبة سيادة إلا وأسفر في ذروتها وجه صبحه الجميل، ولا عدق بنظره كفاية رتبة إلا وكان لها خير كفيل.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال ينتصي (1) للرتب العلية خير منجد وممير (2)، ويمتطي للمناصب السنيّة نعم المولى ونعم النصير أن يستقرّ
فإنه القويّ الأمين، والمتمسّك من تقوى الله تعالى ومراقبته بالسبب المتين، والمستند بجميل كفايته، وحميد ديانته، إلى حصن حصين، والمستذري (3) بأصالته وإصابته إلى الجنّة الواقية والحرم الأمين فليقدّم خيرة الله تعالى في مباشرة الوظيفة المذكورة بعزم لا ينبو، وهمّة لا تخبو، وتدبير يتضاعف على ممرّ الأيام ويربو، ونظر لا يعزب عن مباشرته فيه مثقال ذرّة إلا وهي من خاطره في قرار مكين، وضبط لا تمتدّ معه يد لامس [إليها] (4) إلا ويجد من مرهفه ما يكفّ كفّها عن الخيانة بالحقّ المبين، وليضاعف همّته في مصالح هذه الجهة التي عدقناها بنظره السعيد، وليوفّر عزمته فإن الحازم من ألقى السمع وهو شهيد والوصايا كثيرة ومثله لا يدلّ عليها، والتنبيهات واضحة وهو وفقه الله أهدى أن يرشد إليها والله تعالى يوفّقه في القول والعمل، ويصلح بجميل تدبيره وحميد تأتّيه كلّ خلل، بمنّه وكرمه!.
__________
(1) انتصى الشيء: اختاره.
(2) مار أهله: أعدّ لهم الميرة (وهي الطعام يجمع للسفر). وامتار لأهله أو لنفسه: جمع الميرة.
(3) تذرّى واستذرى بالشيء: استتر به واكتنّ. واستذرى الذروة: علاها.
(4) في الأصل «يد ملتمس الا ويجد الخ» والتصحيح من الطبعة الأميرية.(11/416)
الطبقة الثانية (من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس السامي» بغير ياء أو «مجلس القاضي» وفيها وظيفتان)
الوظيفة الأولى ((كتابة الدّرج)
وصاحبها هو الذي يقوم بالإسكندرية مقام كاتب السرّ بالأبواب السلطانية في قراءة المكاتبة على النائب، وكتابة الأجوبة وما يجري مجرى ذلك.
وهذه نسخة توقيع من ذلك:
رسم بالأمر الشريف لا زال شاملا فضله، كاملا عدله، هاملا بالإحسان وبله، متّصلا بالجميل حبله، ملاحظا بعين العناية للبيت الزاكي فرعه الطيّب أصله، معليا نجمه إلى أسنى المراتب التي لا ينبغي أن يكون محلّها إلا محلّه أن يستقرّ فلان في كتابة الدّرج بثغر الإسكندرية المحروس على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته، بالمعلوم الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت: لأصالته المعرقة، وغصون نسبه المورقة، وآدابه الجمّة، وفضيلته التي أبدى بها علمه، وكتابته التي حلّت المهارق، وأبدت من الجواهر ما تتمنّى لمسه المفارق، وتذوي لنضارته أزاهر الروض النّضير، وتتفرّد في الحسن فلا تجد لها من نظير، وتبرز كالعقود في أجياد الترائب، وتنشيء كتبا تغني عن الكتائب مع ماله من رآسة أثبتت معاليه، ونفاسة أضحت بجواهرها الأوصاف حالية، وصدارة توالت منه فاستوجب بها مزيد الحسنى المتوالية قد خوّل في كرم الأصل فلا غرو أن أمسى نجيبا، ودعا بديع اللفظ ولطيف المعنى فغدا كلّ منهما لأمره طائعا وبالإذعان مجيبا، وعلا كوكبه فأضحى في الرّفعة بعيدا وإن كان في مرأى العين قريبا، وزكا من أكابره إلى كل فريد في سؤدده، واحد في علاه يفوق الجمع في عدده فهو إنسان عين زمانه، ومالك زمام الإنشاء ومصرّف عنان بنانه، ومبرز الحسنات بسفارته المقبولة وإطلاق بيانه، فلا غرو أن استوجب منّا ما يقضي له
بالمزيد، واستحقّ باتّباع أصله العالم التقيّ إدراك ما يريد، وتحلّى بمناقبه ومآثره، ونقل عن عفافه ومفاخره.(11/417)
رسم بالأمر الشريف لا زال شاملا فضله، كاملا عدله، هاملا بالإحسان وبله، متّصلا بالجميل حبله، ملاحظا بعين العناية للبيت الزاكي فرعه الطيّب أصله، معليا نجمه إلى أسنى المراتب التي لا ينبغي أن يكون محلّها إلا محلّه أن يستقرّ فلان في كتابة الدّرج بثغر الإسكندرية المحروس على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته، بالمعلوم الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت: لأصالته المعرقة، وغصون نسبه المورقة، وآدابه الجمّة، وفضيلته التي أبدى بها علمه، وكتابته التي حلّت المهارق، وأبدت من الجواهر ما تتمنّى لمسه المفارق، وتذوي لنضارته أزاهر الروض النّضير، وتتفرّد في الحسن فلا تجد لها من نظير، وتبرز كالعقود في أجياد الترائب، وتنشيء كتبا تغني عن الكتائب مع ماله من رآسة أثبتت معاليه، ونفاسة أضحت بجواهرها الأوصاف حالية، وصدارة توالت منه فاستوجب بها مزيد الحسنى المتوالية قد خوّل في كرم الأصل فلا غرو أن أمسى نجيبا، ودعا بديع اللفظ ولطيف المعنى فغدا كلّ منهما لأمره طائعا وبالإذعان مجيبا، وعلا كوكبه فأضحى في الرّفعة بعيدا وإن كان في مرأى العين قريبا، وزكا من أكابره إلى كل فريد في سؤدده، واحد في علاه يفوق الجمع في عدده فهو إنسان عين زمانه، ومالك زمام الإنشاء ومصرّف عنان بنانه، ومبرز الحسنات بسفارته المقبولة وإطلاق بيانه، فلا غرو أن استوجب منّا ما يقضي له
بالمزيد، واستحقّ باتّباع أصله العالم التقيّ إدراك ما يريد، وتحلّى بمناقبه ومآثره، ونقل عن عفافه ومفاخره.
فليستمرّ في ذلك على أجمل عوائده، وأجزل فوائده، سالكا في ذلك طرائقه الحميدة، ومناهجه ومناهج أسلافه السّديدة، مبرزا من خطّه ما يخجل به الطّروس، ويسرّ بمزاياه النفوس، وينظم كالعقود، ويلوح للأبصار حسن رونقه [المشهود] (1) والله تعالى يجعل إحساننا لدى بيته الكريم مستمرّا، وامتناننا العميم عنده مستقرّا، وثغر العناية به مفترّا، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الثانية (نظر دار الطّراز بثغر الإسكندريّة)
وهذه نسخة توقيع بذلك، كتب بها لصلاح الدين بن علاء الدّين عليّ بن البرهان، سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، من إنشاء الشريف شهاب الدين كاتب الإنشاء، وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زال إيثاره، يكرم من غدا صلاحه لحلّة العلى طرازا، واختياره، يقدّم للمناصب الجليلة من ورث من أبيه نهضة واحترازا أن يستقر فلان في كذا: لكفايته المعروفة المحقّقة، ودرايته المألوفة بركاتها الموفّرة وحركاتها الموفّقة، وديانته التي منها الأكابر على ثقة، وأمانته التي تعتمد الحقّ مستدعية ومنفقة، وصيانته التي هي للواصل حافظة وعلى الحاصل مشفقة.
فليباشر هذه الوظيفة التي كانت في سالف الزمان إلى الحكّام تضاف، وللعلماء الأعلام عليها نظر وإشراف، ومنها يسدل على أوليائنا لباس الإنعام وترسل أجناس الإتحاف، وتسربل الكعبة البيت الحرام في كلّ عام بجلبابها المحكم النّسج المعلم الأطراف، وليصن ذهبها عند صرفه وقبضه، وليزن
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/418)
خزّها (1) بتقريب مشوبه وتحرير محضه، وليبن عن حسن التدبير في إبرام حريرها ونقضه، وليستجلب رجالها وصنّاعها، وليجنّب أحوالها ضياعها، وليستجد أصنافها وأنواعها، وليتفقّد أكنافها وبقاعها، حتّى يظهر في أعمالها آثار الصلاح، وتشكر مباشرته التي هي محمودة الانتهاء مسعودة الافتتاح والله يقرن رجاءه بالإرباح، ويؤذن له حيث سلك بإصابة الصواب والفلاح، بمنه وكرمه!.
قلت: ودار الطّراز هذه هي التي تعمل فيها المستعملات السلطانية: مما يحمل إلى خزانة الخاصّ الشريف من الأقمشة المختلفة الصّفات: من الحرير والمقترح المخوّص بالذهب، والتّفاصيل المنقوشة بضروب النقوش المختلفة، وغير ذلك من رقيق الكتّان وغيره مما لا يوجد مثله في قطر من أقطار الأرض ومنه (2) تتّخذ الأقمشة التي يلبسها السلطان وأهل دوره، ومنه تعمل الخلع والتشاريف التي يلبسها أكابر الأمراء وأعيان الدولة وسائر أهل المملكة، ومنه تبعث الهدايا والتّحف إلى ملوك الأقطار. وقد كان يكتب لناظر هذه الدار توقيع عن الأبواب السلطانية خارج عن توقيع ناظر الإسكندرية على ما تقدّم ذكره. أما الآن فقد صار ذلك تحت نظر ناظر الإسكندرية يتحدّث فيه كما يتحدّث في سائر أمورها، ومرجع الكلّ إلى ناظر الخاصّ بالأبواب السلطانية.
الجهة الثانية (مما هو خارج عن حاضرتي مصر والقاهرة بالديار المصرية بلاد الرّيف)
والمراد بالرّيف في أصل اللغة موضع المياه والزّرع.
وقد تقدّم أنّ ريف الديار المصريّة وجهان:
__________
(1) الخزّ من الثياب: ما ينسج من صوف وإبريسم والابريسم هو أحسن الحرير.
(2) الضمير عائد على ما تقدّم من الحرير والكتّان.(11/419)
الوجه الأوّل (الوجه القبلي، وهو المعبّر عنه بالصّعيد)
وقد تقدّم في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك أنّه ينقسم إلى صعيد أعلى، وصعيد أسفل. وقد كانت ولايته العامّة في الزمن المتقدّم يعبّر عن صاحبها ب «والي الولاة بالوجه القبليّ» ثم استقرّت نيابة سلطنة على حدّ تقدمة العسكر بغزّة في رتبة المكاتبة، في الأيّام الظاهرية «برقوق» وهي على ذلك إلى الآن، ونائبها يكتب له تقليد بنيابة السلطنة بها في قطع النصف.
وهذه نسخة تقليد شريف من ذلك، من إنشاء الشريف «شهاب الدين» كاتب الإنشاء، وهي:
الحمد لله الذي رحم بتعاهد نظرنا البلاد والعباد، وحسم بموارد زواجرنا موادّ الفساد، وأحمد في هذا الوجه لنا الآثار ووطّأ بنا المهاد، وأفرد آراءنا بجميع المصالح على الجمع والإفراد، وأولى بنا الرعية الخير في استرعاء من يبذل في صيانتهم الاجتهاد، وأعلى بنا كلمة العدل فهي تنشر وتذاع وأوهى بنا كلمة الظّلم فهي تقهر وتذاد، وأجلى بانتقامنا فئة الضلال فلها عن ملكنا الشريف اندفاع وانطراد (1).
نحمده على أن قرن بآرائنا السّداد، ونشكره على أن ضمّن اصطفاءنا حسن الارتياد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تقوم حجّتها، يوم يقوم الأشهاد، وتدوم بهجتها، علما للإرشاد، ونشهد أنّ سيد البشر محمدا عبده ورسوله الذي فضل العالم وساد، وأجزل المكارم وجاد، وهدى بشرعه من حاد، وأردى بردعه من حادّ، وأجرى بجوده النفع حيث كان وأبدى ببأسه القمع لمن كاد، وأخمد بأسيافه الباطل فباد، وجعل لأنف مخالفه الإرغام ولجيش مجانفه (2) الإرعاد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأنجاب الأنجاد، صلاة
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية: «دعته مراعاة السجع إلى استعمال صيغة الانفعال من طرد. وقد نصّ أهل اللغة على أنها لغة رديئة».
(2) جنف جنوفا: مال وجار.(11/420)
لها تضاعف وتعداد، وبفتكاتهم للنوائب إخماد، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد فإنّ الله تعالى لما أعلى هممنا وأصعدها، ووفّى عزائمنا من النصر موعدها، وأسعف بملكنا الرعية وأسعدها، وضاعف بنا لديهم النّعمة وجدّدها، وأوضح بنا سبل المعدلة وجدّدها، وأنجح بسلطاننا آمال الخليقة وأنجدها لم نخل من ملاحظتنا أدنى الأقطار ولا أبعدها، ولم نغفل من ممالكنا ناحية إلا نحاها فضلنا وقصدها فأقرّ بها الصالحات وخلّدها، وأثرّ بها المسامحات (1)
وأبّدها، ونصر الشريعة وأيّدها، وسدّ الذّريعة بأفعال حزم سدّدها، ووطّن أهلها ووطّدها، وأورد من بها موارد الأمن لما وردها.
ولما واجه إقبالنا في هذه الأيّام الوجه القبليّ، وصعد إلى الصعيد الأعلى ركابنا العليّ، لمحنا بلاده وتعدّدها، وتعيّن ملاحظته وتأكّدها، وكثرة السّلّاك لسبله، والملّاك لخوله (2)، والورّاد لنهله، والوفّاد من قبله وهو منهج التّجار في التوجه من أبوابنا الشريفة والجواز، وباب اليمن والحجاز وفي الحقيقة هذا المجاز يتعين له الحفظ وفيه الاحتراز، وبه كراسيّ منها السّيارة تمتار وعلى سواها من البلاد تمتاز، وبه مراكز ولاة ينفرد كلّ منها عن الآخر وينحاز، وهي:
إطفيح، والبهنسى، والأشمونين، ومنفلوط، وسيوط، وإخميم، وقوص. وهذه الأقاليم مجتمعة متفرّقة، وحدود بعضها ببعض متعلّقة، وبها إقطاعات مقدّمي الألوف والطّبلخاناه والمماليك والحلقة، وإليها تردّد الرّكّاضة (3) والمرتزقة، وربّما أخاف المفسدون من بعضها سبله وقطع طرقه، فاتّهم البريّ، وسلم الجريّ، ولبّس على من هو عن الخيانة عريّ فرأينا أن ننصب بهذه الأقاليم
__________
(1) جمع مسامحة، وهي الجود والموافقة على ما أريد منه وقد جرت العادة أن السلطان إذا سمح بترك شيء كتب به مرسوم شريف وشملته العلامة الشريفة. (انظر الجزء 13من هذا الكتاب ص 23، 39).
(2) الخول: عطيّة الله من النّعم والعبيد والاماء وغيرهم من الاتباع والحشم.
(3) الركّاضة أو المركضة هي الفرس التي تركض (تضرب) الأرض بحوافرها.(11/421)
والي ولاة يجوس بنفسه خلالها، ويدوس بخيله سهلها وجبالها، ويفجأ [مفسديها، ويبغت معتديها] (1)، ويخمد نفاقها، ويحمد وفاقها، وينصف ضعافها، ويذهب خلافها، ويزيل شكواها، ويكفّ عدواها، ويصلح فسادها، ويوضّح سدادها، ويوصّل حقوقها، ويستأصل عقوقها، ويواصل طروقها، ويقابل بالعقاب فسوقها، ويمنع باهتمامه أهواءها، ويشفي بحسامه أدواءها.
ولما كان المجلس الساميّ، الأميريّ، الحساميّ هو الذي عرف أحوالها وخبرها، وولي من أقاليمها ما علم به مصالحها واعتبرها، وعهدت منه الأمانة والكفاية، وتحقّقت نهضته في كل عمل ويقظته في كل ولاية اقتضى حسن الرأي الشريف أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بهذه الأعمال المذكورة والأقاليم كلّها، وأن ينتضي فيها حسامه الذي ينبغي أن يرتضى وينتضى لمثلها، وأن يحلّ محلّه إذ اخترناه لأعلى رتب الولاة وأجلّها، وأن نصل أسباب النعمة لديه بهذه النعم التي كلّ ولاية فرع لأصلها.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زالت أيامه الشريفة تخصّ الرتب العلية بأهلها، وتشمل ذوي الاهتمام بإحسانها وفضلها أن يفوّض إلى المشار إليه ولاية الولاة بالوجه القبليّ. فليباشر ذلك بهمّة تمضي في البلاد عزائمها، ونهضة تسير إلى دانيها وقاصيها صوارمها، وشهامة يدهش المتمردين قادمها، ويفقد موادّ الفساد من حسامها حاسمها.
ونحن نرسم له بأمور يلازمها، ونوصيه بوصايا يداومها أن يكون بتقوى الله تعالى عاملا، وللنّصح باذلا، وللشريعة معظّما، ولمراقبة الله تعالى مقدّما، وللحقّ متّبعا، وإلى الخير مسرعا، وللمؤمنين مؤمّنا، وللمنافقين موهّنا، وللرّعايا موطّنا، وللنزّاهة مظهرا ومبطنا، وعن الأبرياء كافّا، وعن الأتقياء عافّا، وعن
__________
(1) في الأصل «ويفجأ مفسدها، ويبعث بعثه بها» والتصحيح من هامش الطبعة الأميرية. قال: فيه تصحيف.(11/422)
الأموال منزّها، وإلى ما يصلح الأعمال من صالح الأعمال (1) موجّها، وليغد في الأمور متثبّتا، ولذوي الفجور مشتّتا، ولسماع حجج الخصوم منصتا، ولا يجعل لحلوله الأقاليم حينا مؤقّتا، بل يدخل المدينة على حين غفلة من أهلها، وليبغت بحلوله هذه النواحي ليعلم ما هم عليه من ترك الفواحش أو فعلها، وليقم بكل جهة من يعلمه بما يحتاج إلى علمه، ويبكّر له بما يفتقر أهل البلاد إلى السّتر عنه وكتمه، وليلحظ المحارس والأدراك (2)، وليجعل لكل شارد من بطشه أسرع إدراك وقد رسمنا لولاة الأعمال المذكورة ومن فيها من نوّاب الأمراء والمشايخ بهذه الصورة وأن لا يجيروا مفسدا ولا يؤوه، ولا ينزلوا خائنا ولا يحووه، ولا يستروا مختفيا ولا يخبوه، ولا يحلّوا نازحا ولا يوطّنوه، بل يحضروه ولا يؤخّروه، ويمسكوه ولا يتركوه، ويسلموه ولا يحموه ومن خالف هذا المرسوم، أو اعتمد غير هذه الرّسوم، فهو لنفسه ظلوم، وقد برئت منه الذّمة، وزالت عنه الحرمة، وزلّت قدمه، وذهب ماله ودمه وقرئت مراسيمنا بذلك هنالك على منابر الجوامع، وسمعها كلّ سامع، وهم لك على امتثال أوامرنا مساعدون، وعلى اجتناب نواهينا معاضدون، وللإصلاح ما استطاعوا مريدون وقاصدون فلا تمكّن أحدا من العربان ولا من الفلّاحين أن يركب فرسا، فإنما يعدّها للخيانة مختلسا، ولا يكون لها مرتبطا ولا محتسبا وكن لهم ملاقيا مراقبا، فمن فعل ذلك فانتقم منه بما رسمنا معاقبا ولا تمكّنهم من حمل السلاح ولا ابتياعه، ولا استعارته ولا استيداعه، وتفقّد من بالأقاليم من تجّاره وصنّاعه فخذ بالقيمة ما عند التجّار، واقمع بذلك نفس الفجّار، وأضرم نار العذاب على من أضرم لعمل ذلك النار وأمر كلّ فئتين متعاديتين بالمصالحة، وأكفف بذلك يد المكافحة، وحلّف بعضهم لبعض بعد تحليف أكابرهم لنا
__________
(1) الأعمال الأولى بمعنى الجهات، والثانية: الأفعال.
(2) الدّرك: هو المكان الذي تحدّد عليه الحراسة المستمرة، ويكون صاحب الدّرك الى وقت معلوم، ثم يتلوه آخر. ولا يزال هذا اللفظ معروفا عند رجال الشرطة الى الآن. (مصطلحات صبح الأعشى: ص 135).(11/423)
على السّيرة الحميدة والنّيّة الصالحة، وخذهم في الجنايات بالعدل والمشاححة (1)، وفي المطالبات بالرّفق إن لم تكن مسامحة، واحملهم على محجّة الحق الأبلج والشريعة الواضحة. وإذا رفعت إليك شكوى فأزلها، أو سئلت إقالة عثرة لذي هيئة فأقلها، أو وجب حدّ فأقمه لحينه، أو ارتبت في أمر فتروّ حتّى تهتدي ليقينه، ولا تعتقل إلا من أجرم جرما يوجب الاعتقال والحبس، ولا تسرع إلى ما تخشى فيه اللّبس، واعمل على براءة الذّمّة، واجهد أن لا يكون أمرك عليك غمّة، ولا ترجّح للهوى على خصم خصمه، ولا تظلمه فإنّ الظّلم ظلمة، وخف نقمة الله فهي أعظم نقمة، ولا تأخذك على البريء غلظة ولا قسوة كما لا ينبغي أن تأخذك في الجريء رأفة ولا رحمة والله تعالى يرفع لك بالطاعة رتبا، وينجح لك بالخدمة طلبا، ويبلّغ بك في الإصلاح أربا، ويردّ بك أمر كل مفسد مخيّبا، ويوضح لك من الهداية مغيّبا، وينزل بك من الخيرات صيّبا والخطّ الشريف أعلاه حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بنيابة السلطنة بالوجه القبليّ أيضا، من إنشاء الشريف شهاب الدين، كتب به «لعلاء الدين المرادي» وهي:
الحمد لله الذي جعل إقبالنا مسفر الوجوه، ونوالنا مبلّغا كلّا من الأولياء ما يؤمّله من القرب من أبوابنا الشريفة ويرجوه، وإفضالنا يوفّر أقسام النّعم لمن وفّر دواعيه على طاعتنا فلا يزال استحقاقه يعيّنه ويدعوه، وإجمالنا ينجز وعود التقديم لمن تعدّدت خدمه فلا يتجاوزه التكريم ولا يعدوه.
نحمده على أن جعل إنعامنا يهب الجزيل ويحبوه، ونشكره على أن أقامنا نحقّ الحق فنرفعه فيدمغ الباطل ويعلوه.
__________
(1) شاحّ فلانا: خاصمه وماحكه. وتشاحّوا في الأمر وعليه: تسابقوا إليه متنافسين فيه. وتشاحّ الخصمان: بدا حرصهما على الغلبة.(11/424)
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة هي خير ما ينطق به الإنسان ويفوه، لا يبرح اللسان يكرّر إخلاصها ويتلوه، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي رفع الله ببعثته عن هذه الأمة كلّ مكروه، وحمى بشرعته الدين الحنيف فلا يلمّ به التبديل ولا يعروه، وأفاض ببركاته في كل وجه ما يوسع الخير ويدرّه ويمنع الشّر ويذروه، صلى الله عليه وعلى آله الذين هم عترته وأقربوه، وصحبه الذين استمعوا قوله واتّبعوه، صلاة لا يزال وافدها يتبع سبيل الإجابة ويقفوه، ويصل إلى محل القبول ولا يجفوه، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإنّ الله تعالى لما قرن آراءنا بالسّداد، وأحسن بنا النظر في صلاح البلاد ومصالح العباد، لم نزل نرفع أقدار المخلصين بمزيّة الاختيار والارتياد، ونجمعهم في صعيد الإحسان ونحلّهم رتب الإصعاد، وندني منهم من له تامّ اهتمام وشادّ اجتهاد، ونميز منهم من حسن حالا بالجمع والإفراد.
والولاية على الولاة بالوجه القبليّ من أهم ما يلمح، وأعمّ ما يختار له من للحق ينصر وللخلق ينصح إذ بهذا الوجه عيون البلدان، ووجوه العربان، وكراسيّ الأقاليم الحسان، ومراكز الولايات التي تحلّ دائرة السّوء بأهل العدوان، وإقطاعات الجند والأمراء، والخواصّ الشريفة التي على عمارتها إجماع الآراء، وعليه تتردّد التّجّار، وإليه بالميزة يشار، ومنه تتعدّد المنافع فيتعيّن أن ندفع عنه المضارّ، ونلقي أموره لمن ينتقى حزمه وعزمه ويختار.
ولمّا كان فلان هو الذي له ولايات اقتضت تقديمه، وسبقت منه سوابق خدم أجزلت تكريمه، وما زال في الشام عليّ الهمّة حسن الشّيمة، وطهّر البرّ من كل فاجر، ورأى أن التّقوى أربح المتاجر، وأعذب للرعية من المعدلة الموارد فصدر من أبوابنا إلى أحمد المصادر اقتضى حسن الرأي الشريف أن نجعل له من إقبالنا النصيب الوافر، فلذلك رسم بالأمر الشريف لا برح يزيد الأقدار علاء ويظهرها من تكريمه في أحسن المظاهر أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالوجه القبلّي وجميع نواحيه، على عادة من تقدّمه في ذلك
ومستقرّ قاعدته إلى آخر وقت.(11/425)
ولمّا كان فلان هو الذي له ولايات اقتضت تقديمه، وسبقت منه سوابق خدم أجزلت تكريمه، وما زال في الشام عليّ الهمّة حسن الشّيمة، وطهّر البرّ من كل فاجر، ورأى أن التّقوى أربح المتاجر، وأعذب للرعية من المعدلة الموارد فصدر من أبوابنا إلى أحمد المصادر اقتضى حسن الرأي الشريف أن نجعل له من إقبالنا النصيب الوافر، فلذلك رسم بالأمر الشريف لا برح يزيد الأقدار علاء ويظهرها من تكريمه في أحسن المظاهر أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالوجه القبلّي وجميع نواحيه، على عادة من تقدّمه في ذلك
ومستقرّ قاعدته إلى آخر وقت.
فليتلقّ هذه الولاية المباركة بقبول حسن، وليوقظ جفن سيفه الذي لم يعرف الوسن، وليتّق الله ربّه في السّرّ والعلن، وليحكم بما شرع الله وسنّ، وليجتهد في إحماد العواقب وإخماد الفتن، ليسكن من تردّد إليها أو سكن.
وليلاحظ هذه الأقاليم بعزائمه السّيّارة، وليحافظ على سلوك سيرته السارة، وليستطلع من كل بلد أخباره، ويتتبّع من كل وال آثاره وإن رأى منكرا أزاله، أو وجد مبطلا أذاله أو حقّا أداله وليعظّم أحكام الشرع وحكامه، وليجعله إمامه ليسعى نوره أمامه، وليطالعنا بما تتعيّن فيه المطالعة، ويراجع أوامرنا فيما تجب فيه المراجعة، وليستجلب لأيامنا الأدعية النافعة، وليباشر بنفسه الأمور التي هي له راجعة، وليراع في القضايا المصلحة الجامعة، ولتكن حمايته للمؤمنين واقية وفتكته بالمجرمين واقعة، وليسع الرعايا بالمعدلة الواسعة، ويمنع المجترئين بالأخذة الرابية والهيبة الرادعة، ولا يمكّن أحدا من العربان بجميع الوجه القبليّ أن يركب فرسا ولا يقتنيه، ويكف بذلك الأيدي المعتدية فإنّ المصلحة لمنعهم من ركوبها مقتضية، وليقم الحرمة والمهابة، وليدم قيامه في الخدمة وانتصابه، وليرهف حدّ عزمه ويمضيه، ويجرّد سيف الانتقام على المفسدين وينتضيه ومن وجده من العربان خالف المرسوم الشريف من منعه من ركوب الخيل كائنا من كان ضرب عنقه، وأرهقه من البطش بما أرهقه: ليرتدع به أمثاله، ولا يتّسع لأحد في الشرّ مجاله.
وقد كتبنا إلى سائر ولاة الأقاليم بمساعدته، وأمرناهم بمعاونته ومعاضدته، وأكّدنا عليهم في المبادرة إلى ما يراه من جميع الأمور من غير تهاون ولا تقصير ولا فتور، حتّى لا تفوت مصلحة عن وقتها، ولا تزال جموع المعتدين معاجلة بكبتها وقد حذّرنا العربان من مخالفة ما رسمنا بالتعرّض لما يوجب هلاك نفوسهم، وقطع رؤوسهم.
وليقرأ هذا المرسوم الشريف على المنابر بجميع نواحي الوجه القبلي لتمتثل مراسمه، ويتلقّى بالقبول قادمه، وليقفوا عنده، ويقفوا رشده، ويرهبوا من
الشرّ وعيده ويستنجزوا من الخير وعده وهو بحمد الله ما برح مهذّبا، وبأكمل الآداب مؤدّبا، وبما يفعله إلى رضا الله تعالى ورضانا مقرّبا والله تعالى يجعله مختارا مجتبى، ويوزعه شكر منحنا الذي أجزل له الحبا، وخصّ به هذا العمل الجليل فضاعف خصبه واهتزّ وربا، ويطلعه مباركا ميمونا حيث حلّ قيل له: مرحبا، ويصعد به هذه الرتبة ويهبه توفيقا مستصحبا، ويمهّد به الطرق للسالكين حتّى يتلو عليه لسان التأمين: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} * (1) والخطّ الشريف أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.(11/426)
وليقرأ هذا المرسوم الشريف على المنابر بجميع نواحي الوجه القبلي لتمتثل مراسمه، ويتلقّى بالقبول قادمه، وليقفوا عنده، ويقفوا رشده، ويرهبوا من
الشرّ وعيده ويستنجزوا من الخير وعده وهو بحمد الله ما برح مهذّبا، وبأكمل الآداب مؤدّبا، وبما يفعله إلى رضا الله تعالى ورضانا مقرّبا والله تعالى يجعله مختارا مجتبى، ويوزعه شكر منحنا الذي أجزل له الحبا، وخصّ به هذا العمل الجليل فضاعف خصبه واهتزّ وربا، ويطلعه مباركا ميمونا حيث حلّ قيل له: مرحبا، ويصعد به هذه الرتبة ويهبه توفيقا مستصحبا، ويمهّد به الطرق للسالكين حتّى يتلو عليه لسان التأمين: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} * (1) والخطّ الشريف أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد شريف بنيابته أيضا، من إنشاء المقرّ الشهابيّ بن فضل الله، وهي:
الحمد لله مطلق التصرّف فيما كان ممنوعا، ومنطق المتصرّف ليكون قوله الصواب مسموعا، وموسّع نطاق المصرف في جميع ما تعيّن أن يكون له مجموعا.
نحمده حمدا يعذب ينبوعا، وينبت بمزيد الشكر زروعا، ويدرّ ضروعا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تتفرّع فروعا، وتسكّن جموعا وتسكّت جموعا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أقوى لأهل الطّغيان ربوعا، وأجرى لعيون الزّرد عليهم دموعا، وأغرى القسيّ بالحنين إليهم وروعا، وأسقط على لبّاتهم (2) طيور السّهام وقوعا، ومهّد البلاد بقتلاهم فآمن من خاف وأطعم من تشكّى جوعا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تعمّ درع الفجر بشفقها المخلّق صدوعا، وسلم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّه لا يستقيم نجاح الأمور، ويستدام صلاح الجمهور، إلا بتفقّد
__________
(1) النساء / 43.
(2) اللّبّة: موضع القلادة من العنق.(11/427)
أحوال ولاتهم، وتعهّد سلوك الرعايا مع رعاتهم، وردّ مجموع كلّ عمل إلى من لا يبيت طرفه في مصالحهم مملوءا من الوسن، ولا يقرّ له في التنقّل في مهماتهم جواد في رسن، ولا تهدأ سيوفه في الأغماد ما برقت بارقة فتن، ولا يشرب الماء إلا ممزوجا بدم ولا يبيت [إلا] (1) على دمن وكانت الديار المصرية المحروسة أحوج شيء إلى هذا الموصوف، وأكثر اضطرارا إلى ما تشام له في صلاح رعاياها لوامع سيوف والوجه القبليّ بها هو الجامع ما يزيد على السّبعة الأقاليم، الحائز من أهل الحضر والبادية لكلّ ظاعن ومقيم قد امتدّ حتّى كاد لا ينتهي إلى آخر، ولا يلتهي بما يكنفه من برّ مقفر وبحر زاخر، قد جاور بالأودية العميقة الحوت في الماء وجاوره في السماء برفعة الجبال، وتطاول حتّى اتصل طرفاه الجنوبيّ بالجنوب والشّماليّ بالشّمال، وحوت مجاريه من النيل المبارك ما مدّ الرّزق الممتدّ، وأمدّ المدّ المبيضّ على عنبرة ثراها المسودّ وهو الوجه الذي تعرف في كوثر نيله نضرة النّعيم، ويبهر حسنا من أوّل قطرة تقع من مرآه الجميل على وسيم، قد حال فيه الماء محمرّا كأنما يشرب ندى ورد الخدود، وحلا كأنما ضرب الضّرب (2) في لمى ريقه المورود، وكان لا ينهض بأعبائه، ويردّ بالغيظ متقرّحة عيون رقبائه، ويمنع كلّ منسر منسر يحذر أن ينتهب وذيل (3)
خبائه، إلا من تقدّمت له درب يتعلّم في جليل الخطوب من مضائها السّيف المذرّب، ويقتدي في دقيق التلطّف بسياستها القلم المجرّب وكان فلان هو الذي تتهادى كفايته الأعمال، ويتعادى نفعه والسّحب فلا يدرى لمن منهما التروّي ولمن الارتجال وقد ولي الأعمال البهنساويّة وهي في هذا الوجه الجميل أبهج صورة، وأبهى فيما تكثر منافعه المشهورة، فأضحى المغلّ في
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الضّرب: العسل الأبيض الغليظ.
(3) في الأصل «أن ينته وديل». والتصحيح من الطبعة الأميرية. والوذيلة: المرأة النشيطة الرشيقة، والجمع: وذيل، ووذائل.(11/428)
بيادره يتبادر، والإقبال يتكاثر إقباله والمحل يتنازر، ومزدرعاتها تعرف سيماها في وجوهها من أثر سجود الليل كزرع أخرج شطأه (1) فاستازر، فاقتضى حسن رأينا الشريف أن نطلق تصرّفه فيما جاوره من الأعمال، وأن نشغل له يمينا باليمين وشمالا بالشّمال.
فخرج الأمر الشريف العالي لا زال يؤيّد عزّ الدين ظهورا، ويتمّ له في أعماله نورا أن يكون فلان كاشفا (2) ووالي الولاة بالوجه القبليّ بأجمعه: معطّله ومزدرعه، وبرّه وبحره، وعامره وقفره، وأهل حضره وباديته، وأصحاب زرعه وماشيته، على عادة من تقدّمه وقاعدته في ذلك، ليأمن المقيم والسالك، ويجمع على الطاعة من قبله هنالك، وينتظم عقد عقائدهم المتهالك، ويقوي الله أجره، والشرع الشريف يكون نهيه وأمره، والحكّام والأحكام هما ما هما فليحفظ زمامهما، ولينفّذ إلى الأغراض سهامهما، وليوصّل الحقوق إلى أربابها، ويسهّل المطالب على طلّابها، ولينصف إنصافا لا يشتكى معه حيف، وليقم المهابة حتّى لا يقدر على التعدّي طارق طيف، وليجرّد عزائمه فإنّ من العزائم ما هو أمضى من السّيف، وليحسن قرى النّيل القادم في كل قرية فإنّه ضيف.
فعليك بما نأمرك به من تعبئة صفوف الجسور لأمداده، والاستعداد لمجرّ عوالي صواريه ومجرى جياده وتفقّد قبل قدومه طريقه، واترك عن ريّ البلاد تعويقه، وأقم الجسور، فهي قيام الجسور، واحفر التّراع (3) فإنها تراعى، وأسفر له عن عرائس قراها المجلوّة وجوها كلّما قسن له إصبعا يقيس ذراعا،
__________
(1) الشّطء، فرخ الشجر، وورقه أول ما يبدو.
(2) الكاشف هو الذي يشرف على أحوال الأراضي والجسور، ولذلك سمّي «كاشف الجسور» أو «كاشف التراب» وكان بالوجه القبلي ثلاثة مقرهم الفيّوم والصعيد الأدنى والصعيد الأعلى.
وبالوجه البحري اثنان مقرهما الشرقية والغربية. وكان الكاشف من أمراء الطبلخاناه (أمراء أربعين). (مصطلحات صبح الأعشى: 283).
(3) لعلّ الصواب: التّرع.(11/429)
واقطع بإيصال حقّ كلّ ناحية إليها من الماء منازعة الخصوم، ونبّئهم أنّ الماء قسمة بينهم لكلّ منهم شرب يوم معلوم، ولا تدع [به أحدا] (1) من أهل المفاسد، ومن جرت لهم بسوابق الفتن عوائد، ومن يتعزّز بربّ جاه، ومن لا (2)
يكون له إلى حماية اتّجاه، ومن خرج بوجهه للشرّ مصرّحا، أو لباب عقاب مستفتحا، أو وقف على درب أو قطع طريق، أو توعّد أهل رفاق أو أهل فريق، أو أقدم على ضرر أحد في نفس أو مال، أو خشيت له عاقبة في بداية أو مال، أو نزل في بلد أمير ليتغطّى بجناحه، أو ترامى إلى عصبة يحمل منهم حدّ سلاحه فسلّ عليهم سيفك الماضي، وأحسن إلى الناس إذا خشيت أن تسيء إليهم التقاضي ومن أمسكته منهم فأمض حكم الله فيهم، وأقم الحدود على متعدّيهم، وطهّر الأرض بماء السّيوف من أنجاسهم، وعلّق منهم أناسا بحبل الوريد إلى مدارج أنفاسهم، واصلب منهم على الجذوع من تناوح الرياح بسعفهم، وأوثق منهم بالسّلاسل والأغلال من لا تقتضي جرائمهم إيصالهم في المقابلة إلى حدّ تلفهم، وأكرم قدوم من يرد عليك من الكارم (3)، وقرّر بحسن تلقّيك أنك أوّل ما قدّمناه لهم من المكارم، فهم سمّار كلّ نادي، ورفاق كلّ ملّاح وحادي ولا بدّ أن يتحدّث السّمّار، وتتداول بينهم الأسمار فاجعل شكرنا دأب ألسنتهم، ومننا حلية أعناقهم، ومنحنا سببا لاستجلاب رفاقهم فهم من موادّ الإرفاق، وجوادّ ما يحمل من طرف الآفاق وقد بقي من بقايا أهل العقائد الفاسدة، والمعاقد البائدة، من يتعيّن إقعاد قائمهم، والتيقّظ لمتيقّظهم والنوم عن نائمهم.
ونحن ننبّهك على هذه الدّقائق، ونوقفك على أطرافها ولك رأيك إذا حقّت الحقائق وطالع أبوابنا العالية بما أشكل عليك، تتنزّل أنوار هدانا أقرب من رجع نفسك إليك، وأقدر حقّ هذه النّعمة فإنّنا أوليناك منها ما لا يضاهى، وولّيناك من بلادنا قبلة
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) في هامش الطبعة الأميرية: «لعل حرف النفي زائد من قلم الناسخ».
(3) وهم تجار البهار، يجلب من الهند عن طريق اليمن.(11/430)
ترضاها، وتولّيناك حيث وجّهت وجهك شطر المسجد الحرام، ونوّعت لك أرواح الحجاز وأنت في مصر وريفها العامّ والله تعالى يديم منك سيفا يروع مهزّه، ويؤيّد بك الدّين فإنه بك يقوم جاهه ويدوم عزّه والاعتماد على الخط الشريف أعلاه، إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني (من وجهي الديار المصرية البحريّ، وهو الشّماليّ)
وكانوا في الزمن القديم يخصّونه باسم الرّيف، مثل اختصاص الوجه القبليّ بالصعيد.
وأرباب الولايات فيه على ضربين (1):
الضرب الأوّل (أرباب السيوف)
وتختصّ الكتابة منهم الآن عن الأبواب السّلطانية بنائب السلطنة بالوجه البحريّ، ومقرّه مدينة دمنهور من البحيرة. وكان في الزمن المتقدّم يكتفى في البحيرة بواليها، وكذلك في كلّ من سائر الأعمال بالوجه البحريّ، وفوق الكلّ ولاية عامّة، يعبّر عن صاحبها بوالي الولاة، وربما [زيد] (2) بالوجه البحريّ، وربّما عبّر عنه بالكاشف. ثم استقرّت نيابة في رتبة تقدمة العسكر بغزّة في أيام الظاهر برقوق، على ما تقدّم ذكره في المسالك والممالك في المقالة الثانية.
وهذه نسخة تقليد تصلح لنائب الوجه البحريّ، مما كان كتب به المقرّ الشهابيّ بن فضل الله لوالي الولاة بها، وهي:
الحمد لله الذي أقام بنا كاشفا لكلّ شكوى، كاسفا بال كلّ عدوى، عارفا
__________
(1) لم يذكر الضرب الثاني.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/431)
بنهاية كلّ دعوى، عاطفا بعدلنا إلى إزاحة كل لأوى (1)، وإزالة كلّ بلوى.
نحمده وهو أهل الحمد والتّقوى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نأمن بها الدانية والقصوى، ونؤمن بها على السّرّ والنّجوى، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أشرف من مهّد له جنّة المأوى، وأشرف به على شرف المثوى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين فطم بشريعته نفوسهم عمّا تهوى، وفطر فطنهم عليها حتّى لا تضلّ ولا تغوى، صلاة ترتوي بفائضها السّحب ما تروى، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد فإن من سجايا أيّامنا أن نكشف كلّ كرب، ونحسن إلى رعايا بلادنا إحسانا ينوّع في كلّ ضرب، ونديم الأمن حتّى لا ندع سوى النّيل قاطع طريق أو خارجا على درب، ونجرّد من المهابة سيفا يخشى من قربه، وطيفا يبيت به طير الكرا متململا على جنبه، وخوفا لبابه من الخصائص المحمّدية أنه يتقدّم إلى قلوب الأعداء مسيرة شهر [جيش] (2) رعبه وكانت الديار المصرية المحروسة هي التي لا يحمد سواها ذو وجهين، ولا يوجد لها في جانبيها مماثل في شيئين والوجه البحريّ أوسعهما عرضا، وأقربهما من الرّيّ أرضا، وأصدقهما للبارق المحمرّ ومضا، وأجمعهما للذّهب مذاهب وللفضّة إفضا، وأثبتهما وطأة لمجرى النيل إذا أقبل في تيّاره يتدافع واشتدّت خيله ركضا وهو الوجه المتهلّل بشرا، المتضوّع بطيب رياحه نشرا، المتزيّن بمدائنه أكثر مما زيّنه في مقاصيره قيصر وفي مدائنه كسرى، المتثنّي بعروس كلّ قرية زفّ بها النّيل في مسرى، وبه الثغور التي لا تشام لها بروق، والمحارس التي ما لعادية إليها طروق، وله من البحرين حاجزان، ومن الجانبين برّ مقفر وريف مقمر متبارزان، وفيه من الشّعوب والقبائل في الحضر والبادية من لا يؤمن منه باتره، ولا يخمد بغير ما يراق من دم مفسديهم ثائره. وكان لا يقوم بها (3) كلّ القيام، ويجمع فرائدها
__________
(1) اللأواء: ضيق المعيشة.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) لم يتقدم ما يعود إليه الضمير وإن كان الغرض واضحا.(11/432)
المشذّرة في أكمل نظام، إلا من تقلّبت الأمور بقلبه كلّ التقليب، وجرّدت النّوب عزمه في النوائب فجرّدت سيفا يحمد في التجريب، ولم يزل منذ بلغ الحلم أميرا مطاعا، ومندوبا لا يفرق في المهمّات إذا طارت نفوس الأنظار شعاعا، وأوقدت الأسنّة سواعا، وهماما لو أومض البرق ساعة بؤسه لارتعدت فرائصه زمعا (1) لا إزماعا، أو قابله الرّيح المعتدل عند أحكامه لأطبقت الأمم على أنه لا يماثله في العدل قطعا وأجمعت على تفرّده إجماعا.
وكان فلان هو العليّ همما، الجزل مداومة الجزيل ديما، المليّ بما لا يقدر على مثل دفعه البحر متدفّقا وهمي الغمام منسجما وقد حمدنا له في كلّ ما باشره أثرا، وأخمدنا بجميل ملاحظته كلّ برّ ضرا، فباشر الوجه القبليّ فملأ عين الناظر المتوسّم، وعمّ سروره حتّى غامزه جاره الوجه البحريّ ببنانه المخضّب وضاحكه بثغره المتبسّم، فلما تنقّل فيهما استقرار (؟) الوجهين وما والاهما، وعرف في وجهه نضرة النعيم بما أولاهما، وأخصب جانباهما، وجدّ بهذا كلّه ثم جدّ بهذا فطاب الواديان كلاهما، فاقتضى حسن الرأي الشريف أن لا يخلو الوجهان معا من نظره الجليّ الجميل، وأن يجلو عليه محاسنهما الكاملة ليفارق على وجه جميل ويواصل على وجه جميل.
فخرج الأمر الشريف لا زال يختار عليّا، ويختال كلّ غمام يرتضي له وليّا أن يكون والي الولاة بالوجه البحريّ جميعه، متفرّدا بأفراده ومجموعه، ومحكّما في قبائله وجموعه، وبعيده وقريبه، وبديعه وغريبه وكلّ ما هو داخل فيه، عائد إلى أعماله وراجع إلى متوليه، على عادة من تقدّم وقاعدته فيما يليه، وهي ما يذكر من الأعمال: الغربيّة، الشّرقية، البحيرة، المنوفيّة، إبيار، أشمون، قليوب. ولا أمر ولا نهي إلّا إليه راجع، وله في متجدّدات الأمور مراجع، ولا أرباب تصريف إلا وله عليهم تصرّف، ولا صاحب جدّ ولا حدّ إلّا
__________
(1) الزّمع: الخوف والدهشة. والإزماع: الإسراع.(11/433)
فيه يمضي ويتوقّف وتقوى الله تعالى أول ما نوصيه بسببها، ونوصّله إلى رتبها، وإقامة الشرع الشريف وإدامة مبارّه وإعلاء مناره، ومعاضدة حكمه وحكّامه وأعوانه وأنصاره، والوقوف معه في إيراده وإصداره، وإعلانه وإسراره، والعمل به فإنه ما يضلّ من مشى في ضوء نهاره، وعمارة البلاد، بإدامة العدل وتكميل الرّيّ وتوطين السّكان وقمع الفساد، واعتماد حكم التذاكر الشريفة لأمر الجراريف (1)
التي تعمل، والتّرع التي تراعى والجسور التي لا يقدم جسور على أنها تهمل فهما قانون الرّيّ الكامل، والضامن لخصب البرّ السابل وإذا أجرى الله النيل على عاداته الجميلة لا يدع للمحل عينا حتّى يواري بالرّيّ سوءته، ويخفّف بتيسر وصول حقّ كل مكان إليه وطأته، ولا يدع عاليا إلا مستفلا، ولا معطّلا إلا معتملا، ولا طوق بحر إلا تمتدّ يد النيل إلى زرّجيوبه، ولا طائف رمل إلا يطوف طائف شرب (2) على جرعائه وكثيبه، حتّى يعمّ الجميع، ويعمر ربوعها بما ينسجه لها من ملابس حلل الربيع. وعليه بالإنصاف بين المساكين، والإنصات إلى الباكين منهم والمتباكين، ووصل أمورهم على الحق الذي نشر الله في أيّامنا الزاهرة علمه، ومقتضى الشرع الشريف فإنه ما خاب من أدام عليه حكمه وأدار إليه عمله. وأما أهل الفساد والاشتباه، ومن يحتمي بصاحب شوكة أو يتمسّك بربّ جاه، أو ينزل بلد أمير كبير مستظلّا بذراه، أو ملتجئا من خوف أو مستطعما من قرى قراه، فجميع هؤلاء تتبّع فرقهم ورفاقهم، وطهّر الأرض منهم وامسح بالسّيوف أعناقهم [وأثخن] (3) في قتلاهم، وأثقل بالقيود أسراهم، وشدّد وثاقهم وكذلك من حماهم ووالاهم، أو استحسن أو منّ عليهم أو مانع عنهم، أو قال ما هو منهم وهو منهم، وكلّ أجرهم في الحكم مجراهم، وأطل تحت أطباق الثّرى ثواهم، ونبّه منهم أناسا على رؤوس الجذوع وأنم آخرين
__________
(1) المراد تطهير القنوات وتنظيفها عن طريق السخرة. والتذاكر هي المقررات السلطانية أو المذكرات ويستعمل أيضا لفظ «التذاكير».
(2) في الأصل «شربيب» والتصحيح من الطبعة الأميرية. والجرعاء: الأرض ذات الحزونة تشاكل الرمل ويقال أيضا: الأجرع. والكثيب: الرمل المستطيل المحدودب.
(3) في الأصل: «وأسجم» والتصحيح من الطبعة الأميرية.(11/434)
نومة لا ينتبهون بها من كراهم، حتّى يتأدّب بهم كلّ من أغرض، ويتداوى بمداواته كلّ من في قلبه مرض. وما أشكل عليك فاسترشد فيه بمطالعة أبوابنا الشريفة: لتجد هدى واضحا، وحقّا لائحا والله تعالى يجعلك من الممهدين لأرضه، القائمين في أنواع الجهاد بفرضه والاعتماد على الخط الشريف أعلاه.
الجهة الثالثة (درب الحجاز الشريف)
وقد تقدّم أنه كان في الزمن المتقدّم يكتب عن السلطان تقليد لأمير الرّكب (1) في الدولة الفاطمية وما تلاها. أما الآن فقد ترك ذلك ورفض كما رفض غيره من الكتابة لأرباب السّيوف بالحضرة السلطانية، ولم يبق الآن من يكتب له من ديوان الإنشاء شيء سوى قاضي الرّكب. وقد جرت العادة أن يكتب له توقيع في قطع العادة مفتتحا ب «رسم».
وهذه نسخة توقيع من ذلك، كتب به للشيخ «تقيّ الدين السبكيّ» (2)
رحمه الله في مبدإ أمره، وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زال يعين على البرّ والتّقوى، ويرتاد لوفد الله من يتمسّك في نشر الأحكام الشرعية بينهم بالسبيل الأقوم والسبب الأقوى أن يستقرّ فلان في كذا: لما اختصّ به من غزارة علومه، وإفاضة فضائله المتنوعة إلى قوّته في الحق وتصميمه فإنّ مثله من يختار لهذه الوظيفة الجارية بين وفد الله الذين هم أحقّ ببراءة الذّمم، وأولى بمعرفة حكم الله تعالى فيما يجب على المتلبّس بالإحرام والداخل إلى الحرم، وأحوج إلى الاطلاع على جزاء الصيد
__________
(1) هو أمير الحاج.
(2) هو علي بن عبد الكافي، أبو الحسن: شيخ الإسلام في عصره، وأحد الحفاظ المفسرين المناظرين. وهو والد التاج السبكي صاحب الطبقات. نسبته إلى «سبك» من أعمال المنوفية بمصر. توفي سنة 756هـ. (الأعلام: 4/ 302).(11/435)
فيما جزاء المتعرّض إليه مثل ما قتل من النّعم، إلى غير ذلك من ثبوت الأهلّة التي تترتّب أحكام الحجّ عليها، والحكم في محظورات الإحرام وما يجب على المتعرّض إليها فليباشر هذه الوظيفة في الوقت المشار إليه على عادة من تقدّمه فيها، مجتهدا في قواعدها التي هو أولى من نهض بها وأحقّ من يوفّيها.
قلت: أمّا شهود السبيل المعبّر عنهم بشهود المحمل، فإنما تكتب لهم مربّعات شريفة من ديوان الوزارة.
تم الجزء الحادي عشر. يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني عشر وأوّله القسم الثاني (مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية أرباب الوظائف بالممالك الشامية) والحمد لله ربّ العالمين. وصلاته على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه والتابعين، وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل(11/436)
مراجع الهوامش للجزء الحادي عشر من صبح الأعشى
11 - إصطلاحات الصوفية تأليف كمال الدين عبد الرزاق القاشاني تحقيق محمد كمال إبراهيم جعفر الهيئة المصرية للكتاب.
2 - الأعلام تأليف خير الدين الزركلي دار العلم للملايين بيروت.
3 - الألقاب الإسلامية في التاريخ والوثائق والآثار تأليف حسن الباشا مكتبة النهضة المصرية.
4 - أمل الآمل تأليف الحرّ العاملي تحقيق السيد أحمد الحسيني مكتبة الأندلس بغداد.
5 - الانتصار لواسطة عقد الأمصار تأليف ابن دقماق دار الآفاق الجديدة بيروت.
6 - بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب تأليف محمود شكري الآلوسي دار الكتب العلمية بيروت.
7 - تاريخ اسبانيا الإسلامية 2تأليف لسان الدين ابن الخطيب تحقيق ليفي بروفنسال دار المكشوف بيروت.
8 - تاريخ الإسلام تأليف حسن إبراهيم حسن مكتبة النهضة المصرية القاهرة.
9 - تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل تأليف أحمد السعيد سليمان دار المعارف مصر.
10 - تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور تأليف القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر تحقيق مراد كامل ومحمد علي النجار وزارة الثقافة والإرشاد القومي بالجمهورية العربية المتحدة.
11 - التعريفات تأليف علي بن محمد الجرجاني دار الكتب العلمية بيروت.
12 - التعريف بمصطلحات صبح الأعشى تأليف محمد قنديل البقلي الهيئة المصرية للكتاب.
13 - تفسير الطبري
1 (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) تحقيق محمود وأحمد شاكر دار المعارف مصر.(11/437)
13 - تفسير الطبري
1 (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) تحقيق محمود وأحمد شاكر دار المعارف مصر.
14 - جمهرة الأمثال تأليف أبي هلال العسكري تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش المؤسسة العربية الحديثة 15الحلة السيراء تأليف ابن الأبّار تحقيق حسين مؤنس الشركة العربية للطباعة والنشر.
16 - الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة تأليف علي مبارك الهيئة المصرية للكتاب 17الخطط المقريزية تأليف المقريزي دار صادر بيروت.
18 - دائرة المعارف الإسلامية تأليف مجموعة من المستشرقين الطبعة العربية دار الشعب القاهرة 19الروض المعطار في خبر الأقطار تأليف محمد بن عبد المنعم الحميري تحقيق إحسان عباس مكتبة لبنان بيروت.
20 - سقط الزند (شروح) لأبي العلاء المعري الدار القومية للطباعة والنشر القاهرة 21الشعر والشعراء أو طبقات الشعراء تأليف ابن قتيبة الدينوري تحقيق مفيد قميحة دار الكتب العلمية.
22 - صبح الأعشى في صناعة الإنشا 2تأليف أبي العباس القلقشندي الطبعة الأميرية.
23 - صفة جزيرة الأندلس للحميري تحقيق بروفنسال لجنة التأليف والترجمة والنشر القاهرة 24طبقات الشافعية تأليف هداية الله الحسيني تحقيق عادل نويهض دار الآفاق الجديدة بيروت 25طبقات القراء (غاية النهاية في طبقات القراء).
تأليف ابن الجزري القاهرة.
26 - الفهرست تأليف ابن النديم دار المعرفة بيروت.
27 - فوات الوفيات تأليف محمد شاكر الكتبي تحقيق إحسان عباس دار صادر بيروت.
28 - في التراث العربي تأليف مصطفى جواد تحقيق محمد جميل شلش وعبد الحميد العلوجي وزارة الأعلام العراق.
29 - القاموس المحيط تأليف الفيروز أبادي المؤسسة العربية للطباعة والنشر بيروت.
30 - قضايا لغوية في ضوء القراءات القرآنية صبحي الصالح الجامعة اللبنانية كلية الآداب.
31 - القلقشندي وكتابه صبح الأعشى تأليف مجموعة من الباحثين
1 - الهيئة المصرية للكتاب.(11/438)
31 - القلقشندي وكتابه صبح الأعشى تأليف مجموعة من الباحثين
1 - الهيئة المصرية للكتاب.
32 - قوانين الدواوين تأليف ابن مماتي تحقيق عزيز سوريال عطية مطبعة مصر.
33 - القرآن الكريم 34كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون تأليف حاجي خليفة دار الفكر بيروت.
35 - الكليات تأليف أبي البقاء الكفوي تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري وزارة الثقافة دمشق.
36 - لسان العرب تأليف ابن منظور دار صادر بيروت.
37 - المستقصى في أمثال العرب تأليف جار الله الزمخشري دار الكتب العلمية بيروت 38معجم البلدان تأليف ياقوت الحموي دار إحياء التراث العربي.
39 - معجم الألفاظ والأعلام القرآنية محمد إسماعيل إبراهيم دار الفكر العربي.
40 - معجم عبد النور تأليف جبّور عبد النور دار العلم للملايين.
41 - المعجم الوسيط مجمع اللغة العربية القاهرة.
42 - مسالك الأبصار في ممالك الأمصار (قبائل العرب في القرنين السابع والثامن 2الهجريين) تأليف ابن فضل الله العمري تحقيق دوروتيا كرافولسكي المركز الإسلامي للبحوث.
43 - مجمع الأمثال للميداني تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد مطبعة السنة المحمدية 44منطلق تاريخ لبنان تأليف كمال سليمان الصليبي منشورات كارافان نيويورك.
45 - الموسوعة العربية الميسرة بإشراف محمد شفيق غربال دار الشعب القاهرة.
46 - نزهة النفوس والأبدان في تواريخ الزمان تأليف الخطيب الصيرفي تحقيق حسن حبشي مطبعة دار الكتب القاهرة 47نظم دولة سلاطين المماليك عبد المنعم ماجد مكتبة الانجلو المصرية.
48 - نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب تأليف أبي العباس القلقشندي دار الكتب العلمية بيروت 49الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة تأليف محمد حميد الله دار النفائس بيروت.
50 - وفيات الأعيان تأليف ابن خلكان تحقيق إحسان عباس دار الثقافة بيروت.
الفصل الثاني من الباب الرابع من المقالة الخامسة فيما يكتب من الولايات عن الملوك، وفيه ثلاثة أطراف 3 الطرف الأوّل في مصطلح كتاب الشرق 3 الطرف الثاني في مصطلح كتاب الغرب والأندلس فيما يكتب من الولايات عن الملوك، وفيه ثلاثة أضرب 3 الضرب الأوّل ما يكتب لأرباب الوظائف من أصحاب السيوف 4 الضرب الثاني ما يكتب لأرباب الوظائف الدينية من أصحاب الأقلام 19 الضرب الثالث ما يكتب لأرباب الوظائف الديوانية 24 الطرف الثالث في مصطلح كتاب الديار المصرية فيما قبل الخلفاء الفاطميين وفيما بعدهم، وفيه أربع حالات 26 الحالة الأولى ما كان عليه أمر نوّاب الخلفاء بهذه المملكة إلى ابتداء الدولة الطولونية 26 الحالة الثانية ما كان عليه أمر الدولة الطولونية من حين قيام دولتهم إلى انقراض الدولة الأخشيدية 27 الحالة الثالثة ما كان عليه الأمر في زمن بني أيوب 30 الحالة الرابعة مما يكتب عن ملوك الديار المصرية من الولايات ما عليه مصطلح كتاب الزمان بديوان الإنشاء بالديار المصرية مما يكتب عن السلطان لأرباب السيوف والأقلام وغيرهم: من التقاليد والمراسيم،
والتفاويض، والتواقيع، وفيه ثلاثة مقاصد 71 المقصد الأوّل في مقدّمات هذه الولايات، وفيه مهيعان 71 المهيع الأوّل في بيان رجوع هذه الولايات إلى الطريق الشرعي 71 المهيع الثاني فيما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة هذه الولايات 73 المقصد الثاني في بيان مقاصد ما يكتب في الولايات، وفيه جملتان 101 الجملة الأولى في بيان الرسوم في ذلك [ولم يذكر في الأصل غيرها]، وهي على أربعة أنواع 101 النوع الأوّل التقاليد 101 النوع الثاني المراسيم، وفيه ضربان 107 الضرب الأوّل المراسيم المكبّرة 107 الضرب الثاني المراسيم المصغرة 110 النوع الثالث التفاويض 112 النوع الرابع التواقيع، وهي على أربع طبقات 113 المقصد الثالث في بيان كيفية وضع ما يكتب في هذه الولايات في الورق 126 المهيع الثاني في ذكر نسخ مما يكتب في متن الولايات من التقاليد والمراسيم المكبرة والتفاويض والتواقيع، وهي على ثلاثة أقسام 132 القسم الأوّل ولايات وظائف الديار المصرية، وهي على نوعين 133 النوع الأوّل الولايات بالحضرة، وهي على ستة أضرب 133 الضرب الأوّل ولايات أرباب السيوف، وهي على طبقتين 133 الطبقة الأولى ذوات التقاليد، وهي ثلاث وظائف 133 الوظيفة الأولى الكفالة، وهي نيابة السلطنة بالحضرة 133 الوظيفة الثانية الوزارة لصاحب سيف 147 الوظيفة الثالثة الإشارة، وهي وظيفة قد حدثت كتابتها ولم يعهد بها كتابة في الزمن القديم 151 الطبقة الثانية ممن يكتب له من أرباب السيوف ذوات التواقيع، وفيها وظائف 155 الوظيفة الأولى نظر البيمارستان لصاحب سيف 155
الوظيفة الثانية نظر الجامع الطولوني 157 الوظيفة الثالثة نقابة الأشراف 161 الضرب الثاني ممن يكتب له بالولايات بالديار المصرية أرباب الوظائف الدينية، وهو على طبقتين 173 الطبقة الأولى أصحاب التقاليد ممن يكتب له بالجناب العالي 173 الطبقة الثانية من أرباب الوظائف الدينية أصحاب التواقيع، وتشتمل على مراتب 202 المرتبة الأولى ما كان يكتب في النصف 202 المرتبة الثانية ما يكتب في قطع الثلث، وتشتمل على وظائف 202 المرتبة الثالثة من الوظائف الدينية ما يكتب في قطع العادة الصغير مفتتحا برسم بالأمر الشريف 263 الضرب الثالث من الولايات بالحضرة السلطانية بالديار المصرية الوظائف الديوانية، وهي على طبقتين 265 الطبقة الأولى أرباب التقاليد ممن يكتب له الجناب العالي، وفيها وظيفتان 265 الطبقة الثانية من أرباب الوظائف الديوانية بالحضرة السلطانية أصحاب التواقيع، وهم على ثلاث درجات 310 الدرجة الأولى ما يكتب في قطع النصف، وتشتمل على ثلاث وظائف 310 الدرجة الثانية ما يكتب في قطع الثلث، وتشتمل على وظائف 327 الدرجة الثالثة ما يكتب في قطع العادة، وفيها وظائف 346 الضرب الرابع من الوظائف التي يكتب فيها بالديار المصرية مشيخة الخوانق، وكلها يكتب بها تواقيع 364 الضرب الخامس من أرباب الوظائف بالديار المصرية بالحضرة أرباب الوظائف العادية، وكلها تواقيع 371 الضرب السادس من أرباب الوظائف بالديار المصرية زعماء أهل الذمة 378 النوع الثاني ما هو خارج عن حاضرتي مصر والقاهرة من وظائف الديار المصرية مما يكتب لأربابها، وهي ثلاث جهات 399 الجهة الأولى ثغر الإسكندرية، والوظائف فيها على ثلاثة أصناف 399
الصنف الأول وظائف أرباب السيوف 399 الصنف الثاني الوظائف الدينية 402 الصنف الثالث الوظائف الديوانية، وهي على طبقتين 413 الطبقة الأولى من يكتب له في قطع الثلث بالمجلس الساميّ بالياء 413 الطبقة الثانية من يكتب له في قطع الثلث بالمجلس السامي بغير ياء أو مجلس القاضي 417 الجهة الثانية مما هو خارج عن حاضرتي مصر والقاهرة بالديار المصرية بلاد الريف، وهي وجهان 419 الوجه الأوّل الوجه القبلي، وهو المعبر عنه بالصعيد 420 الوجه الثاني من وجهي الديار المصرية البحري، وهو الشمالي 431 الجهة الثالثة درب الحجاز الشريف 435 (تم فهرس الجزء الحادي عشر(11/439)
50 - وفيات الأعيان تأليف ابن خلكان تحقيق إحسان عباس دار الثقافة بيروت.
الفصل الثاني من الباب الرابع من المقالة الخامسة فيما يكتب من الولايات عن الملوك، وفيه ثلاثة أطراف 3 الطرف الأوّل في مصطلح كتاب الشرق 3 الطرف الثاني في مصطلح كتاب الغرب والأندلس فيما يكتب من الولايات عن الملوك، وفيه ثلاثة أضرب 3 الضرب الأوّل ما يكتب لأرباب الوظائف من أصحاب السيوف 4 الضرب الثاني ما يكتب لأرباب الوظائف الدينية من أصحاب الأقلام 19 الضرب الثالث ما يكتب لأرباب الوظائف الديوانية 24 الطرف الثالث في مصطلح كتاب الديار المصرية فيما قبل الخلفاء الفاطميين وفيما بعدهم، وفيه أربع حالات 26 الحالة الأولى ما كان عليه أمر نوّاب الخلفاء بهذه المملكة إلى ابتداء الدولة الطولونية 26 الحالة الثانية ما كان عليه أمر الدولة الطولونية من حين قيام دولتهم إلى انقراض الدولة الأخشيدية 27 الحالة الثالثة ما كان عليه الأمر في زمن بني أيوب 30 الحالة الرابعة مما يكتب عن ملوك الديار المصرية من الولايات ما عليه مصطلح كتاب الزمان بديوان الإنشاء بالديار المصرية مما يكتب عن السلطان لأرباب السيوف والأقلام وغيرهم: من التقاليد والمراسيم،
والتفاويض، والتواقيع، وفيه ثلاثة مقاصد 71 المقصد الأوّل في مقدّمات هذه الولايات، وفيه مهيعان 71 المهيع الأوّل في بيان رجوع هذه الولايات إلى الطريق الشرعي 71 المهيع الثاني فيما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة هذه الولايات 73 المقصد الثاني في بيان مقاصد ما يكتب في الولايات، وفيه جملتان 101 الجملة الأولى في بيان الرسوم في ذلك [ولم يذكر في الأصل غيرها]، وهي على أربعة أنواع 101 النوع الأوّل التقاليد 101 النوع الثاني المراسيم، وفيه ضربان 107 الضرب الأوّل المراسيم المكبّرة 107 الضرب الثاني المراسيم المصغرة 110 النوع الثالث التفاويض 112 النوع الرابع التواقيع، وهي على أربع طبقات 113 المقصد الثالث في بيان كيفية وضع ما يكتب في هذه الولايات في الورق 126 المهيع الثاني في ذكر نسخ مما يكتب في متن الولايات من التقاليد والمراسيم المكبرة والتفاويض والتواقيع، وهي على ثلاثة أقسام 132 القسم الأوّل ولايات وظائف الديار المصرية، وهي على نوعين 133 النوع الأوّل الولايات بالحضرة، وهي على ستة أضرب 133 الضرب الأوّل ولايات أرباب السيوف، وهي على طبقتين 133 الطبقة الأولى ذوات التقاليد، وهي ثلاث وظائف 133 الوظيفة الأولى الكفالة، وهي نيابة السلطنة بالحضرة 133 الوظيفة الثانية الوزارة لصاحب سيف 147 الوظيفة الثالثة الإشارة، وهي وظيفة قد حدثت كتابتها ولم يعهد بها كتابة في الزمن القديم 151 الطبقة الثانية ممن يكتب له من أرباب السيوف ذوات التواقيع، وفيها وظائف 155 الوظيفة الأولى نظر البيمارستان لصاحب سيف 155
الوظيفة الثانية نظر الجامع الطولوني 157 الوظيفة الثالثة نقابة الأشراف 161 الضرب الثاني ممن يكتب له بالولايات بالديار المصرية أرباب الوظائف الدينية، وهو على طبقتين 173 الطبقة الأولى أصحاب التقاليد ممن يكتب له بالجناب العالي 173 الطبقة الثانية من أرباب الوظائف الدينية أصحاب التواقيع، وتشتمل على مراتب 202 المرتبة الأولى ما كان يكتب في النصف 202 المرتبة الثانية ما يكتب في قطع الثلث، وتشتمل على وظائف 202 المرتبة الثالثة من الوظائف الدينية ما يكتب في قطع العادة الصغير مفتتحا برسم بالأمر الشريف 263 الضرب الثالث من الولايات بالحضرة السلطانية بالديار المصرية الوظائف الديوانية، وهي على طبقتين 265 الطبقة الأولى أرباب التقاليد ممن يكتب له الجناب العالي، وفيها وظيفتان 265 الطبقة الثانية من أرباب الوظائف الديوانية بالحضرة السلطانية أصحاب التواقيع، وهم على ثلاث درجات 310 الدرجة الأولى ما يكتب في قطع النصف، وتشتمل على ثلاث وظائف 310 الدرجة الثانية ما يكتب في قطع الثلث، وتشتمل على وظائف 327 الدرجة الثالثة ما يكتب في قطع العادة، وفيها وظائف 346 الضرب الرابع من الوظائف التي يكتب فيها بالديار المصرية مشيخة الخوانق، وكلها يكتب بها تواقيع 364 الضرب الخامس من أرباب الوظائف بالديار المصرية بالحضرة أرباب الوظائف العادية، وكلها تواقيع 371 الضرب السادس من أرباب الوظائف بالديار المصرية زعماء أهل الذمة 378 النوع الثاني ما هو خارج عن حاضرتي مصر والقاهرة من وظائف الديار المصرية مما يكتب لأربابها، وهي ثلاث جهات 399 الجهة الأولى ثغر الإسكندرية، والوظائف فيها على ثلاثة أصناف 399
الصنف الأول وظائف أرباب السيوف 399 الصنف الثاني الوظائف الدينية 402 الصنف الثالث الوظائف الديوانية، وهي على طبقتين 413 الطبقة الأولى من يكتب له في قطع الثلث بالمجلس الساميّ بالياء 413 الطبقة الثانية من يكتب له في قطع الثلث بالمجلس السامي بغير ياء أو مجلس القاضي 417 الجهة الثانية مما هو خارج عن حاضرتي مصر والقاهرة بالديار المصرية بلاد الريف، وهي وجهان 419 الوجه الأوّل الوجه القبلي، وهو المعبر عنه بالصعيد 420 الوجه الثاني من وجهي الديار المصرية البحري، وهو الشمالي 431 الجهة الثالثة درب الحجاز الشريف 435 (تم فهرس الجزء الحادي عشر(11/441)
50 - وفيات الأعيان تأليف ابن خلكان تحقيق إحسان عباس دار الثقافة بيروت.
الفصل الثاني من الباب الرابع من المقالة الخامسة فيما يكتب من الولايات عن الملوك، وفيه ثلاثة أطراف 3 الطرف الأوّل في مصطلح كتاب الشرق 3 الطرف الثاني في مصطلح كتاب الغرب والأندلس فيما يكتب من الولايات عن الملوك، وفيه ثلاثة أضرب 3 الضرب الأوّل ما يكتب لأرباب الوظائف من أصحاب السيوف 4 الضرب الثاني ما يكتب لأرباب الوظائف الدينية من أصحاب الأقلام 19 الضرب الثالث ما يكتب لأرباب الوظائف الديوانية 24 الطرف الثالث في مصطلح كتاب الديار المصرية فيما قبل الخلفاء الفاطميين وفيما بعدهم، وفيه أربع حالات 26 الحالة الأولى ما كان عليه أمر نوّاب الخلفاء بهذه المملكة إلى ابتداء الدولة الطولونية 26 الحالة الثانية ما كان عليه أمر الدولة الطولونية من حين قيام دولتهم إلى انقراض الدولة الأخشيدية 27 الحالة الثالثة ما كان عليه الأمر في زمن بني أيوب 30 الحالة الرابعة مما يكتب عن ملوك الديار المصرية من الولايات ما عليه مصطلح كتاب الزمان بديوان الإنشاء بالديار المصرية مما يكتب عن السلطان لأرباب السيوف والأقلام وغيرهم: من التقاليد والمراسيم،
والتفاويض، والتواقيع، وفيه ثلاثة مقاصد 71 المقصد الأوّل في مقدّمات هذه الولايات، وفيه مهيعان 71 المهيع الأوّل في بيان رجوع هذه الولايات إلى الطريق الشرعي 71 المهيع الثاني فيما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة هذه الولايات 73 المقصد الثاني في بيان مقاصد ما يكتب في الولايات، وفيه جملتان 101 الجملة الأولى في بيان الرسوم في ذلك [ولم يذكر في الأصل غيرها]، وهي على أربعة أنواع 101 النوع الأوّل التقاليد 101 النوع الثاني المراسيم، وفيه ضربان 107 الضرب الأوّل المراسيم المكبّرة 107 الضرب الثاني المراسيم المصغرة 110 النوع الثالث التفاويض 112 النوع الرابع التواقيع، وهي على أربع طبقات 113 المقصد الثالث في بيان كيفية وضع ما يكتب في هذه الولايات في الورق 126 المهيع الثاني في ذكر نسخ مما يكتب في متن الولايات من التقاليد والمراسيم المكبرة والتفاويض والتواقيع، وهي على ثلاثة أقسام 132 القسم الأوّل ولايات وظائف الديار المصرية، وهي على نوعين 133 النوع الأوّل الولايات بالحضرة، وهي على ستة أضرب 133 الضرب الأوّل ولايات أرباب السيوف، وهي على طبقتين 133 الطبقة الأولى ذوات التقاليد، وهي ثلاث وظائف 133 الوظيفة الأولى الكفالة، وهي نيابة السلطنة بالحضرة 133 الوظيفة الثانية الوزارة لصاحب سيف 147 الوظيفة الثالثة الإشارة، وهي وظيفة قد حدثت كتابتها ولم يعهد بها كتابة في الزمن القديم 151 الطبقة الثانية ممن يكتب له من أرباب السيوف ذوات التواقيع، وفيها وظائف 155 الوظيفة الأولى نظر البيمارستان لصاحب سيف 155
الوظيفة الثانية نظر الجامع الطولوني 157 الوظيفة الثالثة نقابة الأشراف 161 الضرب الثاني ممن يكتب له بالولايات بالديار المصرية أرباب الوظائف الدينية، وهو على طبقتين 173 الطبقة الأولى أصحاب التقاليد ممن يكتب له بالجناب العالي 173 الطبقة الثانية من أرباب الوظائف الدينية أصحاب التواقيع، وتشتمل على مراتب 202 المرتبة الأولى ما كان يكتب في النصف 202 المرتبة الثانية ما يكتب في قطع الثلث، وتشتمل على وظائف 202 المرتبة الثالثة من الوظائف الدينية ما يكتب في قطع العادة الصغير مفتتحا برسم بالأمر الشريف 263 الضرب الثالث من الولايات بالحضرة السلطانية بالديار المصرية الوظائف الديوانية، وهي على طبقتين 265 الطبقة الأولى أرباب التقاليد ممن يكتب له الجناب العالي، وفيها وظيفتان 265 الطبقة الثانية من أرباب الوظائف الديوانية بالحضرة السلطانية أصحاب التواقيع، وهم على ثلاث درجات 310 الدرجة الأولى ما يكتب في قطع النصف، وتشتمل على ثلاث وظائف 310 الدرجة الثانية ما يكتب في قطع الثلث، وتشتمل على وظائف 327 الدرجة الثالثة ما يكتب في قطع العادة، وفيها وظائف 346 الضرب الرابع من الوظائف التي يكتب فيها بالديار المصرية مشيخة الخوانق، وكلها يكتب بها تواقيع 364 الضرب الخامس من أرباب الوظائف بالديار المصرية بالحضرة أرباب الوظائف العادية، وكلها تواقيع 371 الضرب السادس من أرباب الوظائف بالديار المصرية زعماء أهل الذمة 378 النوع الثاني ما هو خارج عن حاضرتي مصر والقاهرة من وظائف الديار المصرية مما يكتب لأربابها، وهي ثلاث جهات 399 الجهة الأولى ثغر الإسكندرية، والوظائف فيها على ثلاثة أصناف 399
الصنف الأول وظائف أرباب السيوف 399 الصنف الثاني الوظائف الدينية 402 الصنف الثالث الوظائف الديوانية، وهي على طبقتين 413 الطبقة الأولى من يكتب له في قطع الثلث بالمجلس الساميّ بالياء 413 الطبقة الثانية من يكتب له في قطع الثلث بالمجلس السامي بغير ياء أو مجلس القاضي 417 الجهة الثانية مما هو خارج عن حاضرتي مصر والقاهرة بالديار المصرية بلاد الريف، وهي وجهان 419 الوجه الأوّل الوجه القبلي، وهو المعبر عنه بالصعيد 420 الوجه الثاني من وجهي الديار المصرية البحري، وهو الشمالي 431 الجهة الثالثة درب الحجاز الشريف 435 (تم فهرس الجزء الحادي عشر(11/442)
50 - وفيات الأعيان تأليف ابن خلكان تحقيق إحسان عباس دار الثقافة بيروت.
الفصل الثاني من الباب الرابع من المقالة الخامسة فيما يكتب من الولايات عن الملوك، وفيه ثلاثة أطراف 3 الطرف الأوّل في مصطلح كتاب الشرق 3 الطرف الثاني في مصطلح كتاب الغرب والأندلس فيما يكتب من الولايات عن الملوك، وفيه ثلاثة أضرب 3 الضرب الأوّل ما يكتب لأرباب الوظائف من أصحاب السيوف 4 الضرب الثاني ما يكتب لأرباب الوظائف الدينية من أصحاب الأقلام 19 الضرب الثالث ما يكتب لأرباب الوظائف الديوانية 24 الطرف الثالث في مصطلح كتاب الديار المصرية فيما قبل الخلفاء الفاطميين وفيما بعدهم، وفيه أربع حالات 26 الحالة الأولى ما كان عليه أمر نوّاب الخلفاء بهذه المملكة إلى ابتداء الدولة الطولونية 26 الحالة الثانية ما كان عليه أمر الدولة الطولونية من حين قيام دولتهم إلى انقراض الدولة الأخشيدية 27 الحالة الثالثة ما كان عليه الأمر في زمن بني أيوب 30 الحالة الرابعة مما يكتب عن ملوك الديار المصرية من الولايات ما عليه مصطلح كتاب الزمان بديوان الإنشاء بالديار المصرية مما يكتب عن السلطان لأرباب السيوف والأقلام وغيرهم: من التقاليد والمراسيم،
والتفاويض، والتواقيع، وفيه ثلاثة مقاصد 71 المقصد الأوّل في مقدّمات هذه الولايات، وفيه مهيعان 71 المهيع الأوّل في بيان رجوع هذه الولايات إلى الطريق الشرعي 71 المهيع الثاني فيما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة هذه الولايات 73 المقصد الثاني في بيان مقاصد ما يكتب في الولايات، وفيه جملتان 101 الجملة الأولى في بيان الرسوم في ذلك [ولم يذكر في الأصل غيرها]، وهي على أربعة أنواع 101 النوع الأوّل التقاليد 101 النوع الثاني المراسيم، وفيه ضربان 107 الضرب الأوّل المراسيم المكبّرة 107 الضرب الثاني المراسيم المصغرة 110 النوع الثالث التفاويض 112 النوع الرابع التواقيع، وهي على أربع طبقات 113 المقصد الثالث في بيان كيفية وضع ما يكتب في هذه الولايات في الورق 126 المهيع الثاني في ذكر نسخ مما يكتب في متن الولايات من التقاليد والمراسيم المكبرة والتفاويض والتواقيع، وهي على ثلاثة أقسام 132 القسم الأوّل ولايات وظائف الديار المصرية، وهي على نوعين 133 النوع الأوّل الولايات بالحضرة، وهي على ستة أضرب 133 الضرب الأوّل ولايات أرباب السيوف، وهي على طبقتين 133 الطبقة الأولى ذوات التقاليد، وهي ثلاث وظائف 133 الوظيفة الأولى الكفالة، وهي نيابة السلطنة بالحضرة 133 الوظيفة الثانية الوزارة لصاحب سيف 147 الوظيفة الثالثة الإشارة، وهي وظيفة قد حدثت كتابتها ولم يعهد بها كتابة في الزمن القديم 151 الطبقة الثانية ممن يكتب له من أرباب السيوف ذوات التواقيع، وفيها وظائف 155 الوظيفة الأولى نظر البيمارستان لصاحب سيف 155
الوظيفة الثانية نظر الجامع الطولوني 157 الوظيفة الثالثة نقابة الأشراف 161 الضرب الثاني ممن يكتب له بالولايات بالديار المصرية أرباب الوظائف الدينية، وهو على طبقتين 173 الطبقة الأولى أصحاب التقاليد ممن يكتب له بالجناب العالي 173 الطبقة الثانية من أرباب الوظائف الدينية أصحاب التواقيع، وتشتمل على مراتب 202 المرتبة الأولى ما كان يكتب في النصف 202 المرتبة الثانية ما يكتب في قطع الثلث، وتشتمل على وظائف 202 المرتبة الثالثة من الوظائف الدينية ما يكتب في قطع العادة الصغير مفتتحا برسم بالأمر الشريف 263 الضرب الثالث من الولايات بالحضرة السلطانية بالديار المصرية الوظائف الديوانية، وهي على طبقتين 265 الطبقة الأولى أرباب التقاليد ممن يكتب له الجناب العالي، وفيها وظيفتان 265 الطبقة الثانية من أرباب الوظائف الديوانية بالحضرة السلطانية أصحاب التواقيع، وهم على ثلاث درجات 310 الدرجة الأولى ما يكتب في قطع النصف، وتشتمل على ثلاث وظائف 310 الدرجة الثانية ما يكتب في قطع الثلث، وتشتمل على وظائف 327 الدرجة الثالثة ما يكتب في قطع العادة، وفيها وظائف 346 الضرب الرابع من الوظائف التي يكتب فيها بالديار المصرية مشيخة الخوانق، وكلها يكتب بها تواقيع 364 الضرب الخامس من أرباب الوظائف بالديار المصرية بالحضرة أرباب الوظائف العادية، وكلها تواقيع 371 الضرب السادس من أرباب الوظائف بالديار المصرية زعماء أهل الذمة 378 النوع الثاني ما هو خارج عن حاضرتي مصر والقاهرة من وظائف الديار المصرية مما يكتب لأربابها، وهي ثلاث جهات 399 الجهة الأولى ثغر الإسكندرية، والوظائف فيها على ثلاثة أصناف 399
الصنف الأول وظائف أرباب السيوف 399 الصنف الثاني الوظائف الدينية 402 الصنف الثالث الوظائف الديوانية، وهي على طبقتين 413 الطبقة الأولى من يكتب له في قطع الثلث بالمجلس الساميّ بالياء 413 الطبقة الثانية من يكتب له في قطع الثلث بالمجلس السامي بغير ياء أو مجلس القاضي 417 الجهة الثانية مما هو خارج عن حاضرتي مصر والقاهرة بالديار المصرية بلاد الريف، وهي وجهان 419 الوجه الأوّل الوجه القبلي، وهو المعبر عنه بالصعيد 420 الوجه الثاني من وجهي الديار المصرية البحري، وهو الشمالي 431 الجهة الثالثة درب الحجاز الشريف 435 (تم فهرس الجزء الحادي عشر(11/443)
50 - وفيات الأعيان تأليف ابن خلكان تحقيق إحسان عباس دار الثقافة بيروت.
الفصل الثاني من الباب الرابع من المقالة الخامسة فيما يكتب من الولايات عن الملوك، وفيه ثلاثة أطراف 3 الطرف الأوّل في مصطلح كتاب الشرق 3 الطرف الثاني في مصطلح كتاب الغرب والأندلس فيما يكتب من الولايات عن الملوك، وفيه ثلاثة أضرب 3 الضرب الأوّل ما يكتب لأرباب الوظائف من أصحاب السيوف 4 الضرب الثاني ما يكتب لأرباب الوظائف الدينية من أصحاب الأقلام 19 الضرب الثالث ما يكتب لأرباب الوظائف الديوانية 24 الطرف الثالث في مصطلح كتاب الديار المصرية فيما قبل الخلفاء الفاطميين وفيما بعدهم، وفيه أربع حالات 26 الحالة الأولى ما كان عليه أمر نوّاب الخلفاء بهذه المملكة إلى ابتداء الدولة الطولونية 26 الحالة الثانية ما كان عليه أمر الدولة الطولونية من حين قيام دولتهم إلى انقراض الدولة الأخشيدية 27 الحالة الثالثة ما كان عليه الأمر في زمن بني أيوب 30 الحالة الرابعة مما يكتب عن ملوك الديار المصرية من الولايات ما عليه مصطلح كتاب الزمان بديوان الإنشاء بالديار المصرية مما يكتب عن السلطان لأرباب السيوف والأقلام وغيرهم: من التقاليد والمراسيم،
والتفاويض، والتواقيع، وفيه ثلاثة مقاصد 71 المقصد الأوّل في مقدّمات هذه الولايات، وفيه مهيعان 71 المهيع الأوّل في بيان رجوع هذه الولايات إلى الطريق الشرعي 71 المهيع الثاني فيما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة هذه الولايات 73 المقصد الثاني في بيان مقاصد ما يكتب في الولايات، وفيه جملتان 101 الجملة الأولى في بيان الرسوم في ذلك [ولم يذكر في الأصل غيرها]، وهي على أربعة أنواع 101 النوع الأوّل التقاليد 101 النوع الثاني المراسيم، وفيه ضربان 107 الضرب الأوّل المراسيم المكبّرة 107 الضرب الثاني المراسيم المصغرة 110 النوع الثالث التفاويض 112 النوع الرابع التواقيع، وهي على أربع طبقات 113 المقصد الثالث في بيان كيفية وضع ما يكتب في هذه الولايات في الورق 126 المهيع الثاني في ذكر نسخ مما يكتب في متن الولايات من التقاليد والمراسيم المكبرة والتفاويض والتواقيع، وهي على ثلاثة أقسام 132 القسم الأوّل ولايات وظائف الديار المصرية، وهي على نوعين 133 النوع الأوّل الولايات بالحضرة، وهي على ستة أضرب 133 الضرب الأوّل ولايات أرباب السيوف، وهي على طبقتين 133 الطبقة الأولى ذوات التقاليد، وهي ثلاث وظائف 133 الوظيفة الأولى الكفالة، وهي نيابة السلطنة بالحضرة 133 الوظيفة الثانية الوزارة لصاحب سيف 147 الوظيفة الثالثة الإشارة، وهي وظيفة قد حدثت كتابتها ولم يعهد بها كتابة في الزمن القديم 151 الطبقة الثانية ممن يكتب له من أرباب السيوف ذوات التواقيع، وفيها وظائف 155 الوظيفة الأولى نظر البيمارستان لصاحب سيف 155
الوظيفة الثانية نظر الجامع الطولوني 157 الوظيفة الثالثة نقابة الأشراف 161 الضرب الثاني ممن يكتب له بالولايات بالديار المصرية أرباب الوظائف الدينية، وهو على طبقتين 173 الطبقة الأولى أصحاب التقاليد ممن يكتب له بالجناب العالي 173 الطبقة الثانية من أرباب الوظائف الدينية أصحاب التواقيع، وتشتمل على مراتب 202 المرتبة الأولى ما كان يكتب في النصف 202 المرتبة الثانية ما يكتب في قطع الثلث، وتشتمل على وظائف 202 المرتبة الثالثة من الوظائف الدينية ما يكتب في قطع العادة الصغير مفتتحا برسم بالأمر الشريف 263 الضرب الثالث من الولايات بالحضرة السلطانية بالديار المصرية الوظائف الديوانية، وهي على طبقتين 265 الطبقة الأولى أرباب التقاليد ممن يكتب له الجناب العالي، وفيها وظيفتان 265 الطبقة الثانية من أرباب الوظائف الديوانية بالحضرة السلطانية أصحاب التواقيع، وهم على ثلاث درجات 310 الدرجة الأولى ما يكتب في قطع النصف، وتشتمل على ثلاث وظائف 310 الدرجة الثانية ما يكتب في قطع الثلث، وتشتمل على وظائف 327 الدرجة الثالثة ما يكتب في قطع العادة، وفيها وظائف 346 الضرب الرابع من الوظائف التي يكتب فيها بالديار المصرية مشيخة الخوانق، وكلها يكتب بها تواقيع 364 الضرب الخامس من أرباب الوظائف بالديار المصرية بالحضرة أرباب الوظائف العادية، وكلها تواقيع 371 الضرب السادس من أرباب الوظائف بالديار المصرية زعماء أهل الذمة 378 النوع الثاني ما هو خارج عن حاضرتي مصر والقاهرة من وظائف الديار المصرية مما يكتب لأربابها، وهي ثلاث جهات 399 الجهة الأولى ثغر الإسكندرية، والوظائف فيها على ثلاثة أصناف 399
الصنف الأول وظائف أرباب السيوف 399 الصنف الثاني الوظائف الدينية 402 الصنف الثالث الوظائف الديوانية، وهي على طبقتين 413 الطبقة الأولى من يكتب له في قطع الثلث بالمجلس الساميّ بالياء 413 الطبقة الثانية من يكتب له في قطع الثلث بالمجلس السامي بغير ياء أو مجلس القاضي 417 الجهة الثانية مما هو خارج عن حاضرتي مصر والقاهرة بالديار المصرية بلاد الريف، وهي وجهان 419 الوجه الأوّل الوجه القبلي، وهو المعبر عنه بالصعيد 420 الوجه الثاني من وجهي الديار المصرية البحري، وهو الشمالي 431 الجهة الثالثة درب الحجاز الشريف 435 (تم فهرس الجزء الحادي عشر
من كتاب صبح الأعشى)(11/444)
الجزء الثاني عشر
تتمة الباب الثاني
تتمة الفصل الثاني
تتمة الطرف الثالث
تتمة الحالة
تتمة المقصد الثالث
تتمة المهيع الثاني
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} *
وصلّى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله وصحبه
القسم الثاني (مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية [ما يكتب لأ] (1) رباب الوظائف بالممالك الشامية)
واعلم أنّ نوّاب السلطنة في التولية على ضربين:
الضرب الأوّل (من لا تصدر عنه منهم تولية في عمل نيابته)
وهم نوّاب الديار المصرية: من النائب الكافل، ونائب الإسكندرية، ونائب الوجه البحريّ، ونائب الوجه القبليّ، فليس لأحد منهم تصرّف في ولاية ولا عزل لنائب، ولا كاشف، ولا والي حرب. إنما النائب الكافل يكتب في بعض الأمور على القصص، والسلطان هو الّذي يباشر الكتابة على الولايات بنفسه، والنائب الكافل يكتب بالاعتماد على ما يكتب عليه السلطان، كما تقدّمت الإشارة إليه في موضعه.
الضرب الثاني (من تصدر عنه التولية والعزل في عمل نيابته)
وهم نوّاب السلطنة (2) بالممالك الشامية السبع (3) المقدّم ذكرها: من
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) قال السّبكي في «معيد النعم»: نواب السلطنة يقومون مقام السلطان في الممالك الّتي يتولونها، ومن حقهم مراجعة السلطان إذا أمر بما يخالف المصلحة. وعليهم تفقد حال الرعية والنظر في القرى وغلاتها، وتولية المناصب لأهلها، وعليهم تنفيذ الأحكام وفق ما يقتضيه الشرع.
(مصطلحات صبح الأعشى: 353).
(3) في الطبعة الأميرية «السبعة». ويبدو أن الممالك الشامية العاديّة كانت ست ممالك هي:
دمشق، وحلب، وطرابلس، وحماة، وصفد، والكرك. وكان يضاف إليها عند ما تدعو الحاجة بعض النيابات المستقلة كغزة وحمص وملطية. (انظر منطلق تاريخ لبنان: 131129).(12/3)
النّيابات الصّغار، والوظائف الدّيوانية، والوظائف الدّينيّة، ووظائف مشايخ التصوّف، والوظائف العاديّة: كرياسة الطّبّ ونحوها، ووظائف زعماء أهل الذّمّة: من رياسة اليهود، وبطركيّة النصارى، وغير ذلك.
فأمّا النّيابات الصّغار الّتي في أعمال النّيابات العظام: فما كانت نيابته إمرة عشرة فأكثر يولّي فيه النوّاب، وربما ولّى فيه السلطان. وما كانت نيابته إمرة طبلخاناه (1) فأكثر: يولّي فيه السلطان، وربّما ولّى فيه النوّاب. وما كانت نيابته تقدمة ألف، فولايته مختصّة بالسلطان دون النوّاب.
وأما الوظائف الديوانيّة، فما كان منها صغيرا ككتابة الدّرج وما في معناها، فأكثر ما يوليها النّوّاب. وما كان منها جليلا: ككتابة السّرّ وما في معناها، ونظر الجيش، ونظر المال، فتوليته مختصّة بالسلطان. وما كان منها متوسّطا بين الطّرفين: ككتابة الدّست ونحوها: ففي دمشق تارة يولّي فيها السلطان، وتارة يولّي فيها النائب. وفيما دونها من النيابات غالب من يولّي فيها النّوّاب، وقد يولّي فيها السلطان.
وأما الوظائف الدينيّة، فما كان منها صغيرا: كالتداريس الصّغار، والخطابات بالجوامع الصّغار، وأنظار المدارس والجوامع الصّغار، ونحو ذلك، فإنه يولّي فيها النوّاب ولا يولّي فيها السلطان إلا نادرا. وما كان منها جليلا:
كقضاء القضاة، فإنّ توليته مختصة بالسلطان. وما كان منها متوسّطا بين الرتبتين:
كقضاء العسكر، وإفتاء دار العدل، والحسبة، ووكالة بيت المال، ومشيخة
__________
(1) أي إمرة أربعين.(12/4)
الشيوخ، ونحو ذلك: فتارة يولّي فيها السلطان، وتارة يولّي فيها النّوّاب. إلا أنّ تولية السلطان فيها في النيابات الكبار كالشام أكثر، وتولية النوّاب فيها فيما دون ذلك أكثر.
وأما مشيخة الخوانق فقد يولّي فيها السلطان، وقد يولّي فيها النوّاب: إلا أن تولية السلطان في مشيخة الشيوخ بالشام أكثر، وتولية النوّاب في غير مشيخة الشيوخ بدمشق وفي غيرها من وظائف الصّوفية في غير دمشق أكثر.
وأما الوظائف العاديّة كرياسة الطب ونحوها، ففي جميع النيابات توليتها من النوّاب أكثر، وربّما ولّى فيها السلطان.
وأما وظائف زعماء أهل الذمّة: كرياسة اليهود، وبطركيّة النصارى، فيستبدّ بها النوّاب دون السلطان: لزيادة حقارتها في الوظيفة والبعد عن حضرة السلطان.
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب الممالك بالبلاد الشامية أنه كان بها سبع (1) ممالك عظام استقرّت سبع نيابات:
النيابة الأولى (نيابة دمشق ويعبر عنها بكفالة السلطنة بالشام)
ووظائفها على نوعين:
__________
(1) اعتبر القلقشندي أن مملكة غزة من الممالك الثابتة في التقسيم الإداري المملوكي لبلاد الشام هذا بالإضافة إلى الممالك الست الّتي ذكرناها. ويذكر كمال الصليبي أن غزة في كثير من الأحيان كانت تتبع مملكة دمشق، وكانت قاعدة «للصفقة» الساحلية والجبلية الّتي تشمل المرتفعات والساحل من بلاد فلسطين إلى الغرب من نهر الأردن. وكان المماليك قد قسموا مملكة دمشق إلى أربع مناطق إدارية عرفت «بالصفقات». (منطلق تاريخ لبنان: 131).(12/5)
النوع الأوّل (ما هو بحاضرة دمشق، ويشتمل ما يكتب به من وظائفها عن الأبواب السلطانية على أربعة أصناف)
الصنف الأوّل (أرباب السيوف، وهم على طبقات)
الطبقة الأولى (من يكتب له تقليد في قطع الثلثين ب «المقرّ العالي» مع الدعاء ب «عزّ الأنصار»: وهو نائب السلطنة بها)
وهذه نسخة تقليد بكفالة السلطنة بالشام، كتب به عن السلطان الملك العادل «كتبغا» (1) للأمير «سيف الدّين غرلو العادلي» من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ (2)، وهو:
الحمد لله الّذي جعل لسيف دولتنا على عاتق الملك الأعزّ نجادا، وادّخر لكفالة مملكتنا من الأولياء من تناسب وصفاه اجتهادا في مصالح الإسلام وجهادا، وعدق أمور رعايانا بمن أيقظ لها سيفه وجفنه فامتلأت عيونهم بما وهب وسلب من نومه ونوم العدا رقادا، ورفع ألوية إحساننا على من زاد برفعها ظلّ عدله انبساطا على الرعية وامتدادا، ووطّد قواعد ممالكنا بمن أجلنا الفكر في حسن اختياره انتقاء لمصالح الإسلام وانتقادا، وأدّى لشكر نعم الله الّتي لا يؤدّى شكر بعضها ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام أو كان البحر مدادا.
نحمده على نعمه الّتي جعلت عزائمنا على الأبد منصورة، ومقاصدنا على
__________
(1) هو كتبغا بن عبد الله المنصوري، من ملوك المماليك البحرية بمصر والشام. تسلطن سنة 694هـ وتلقب بالملك العادل. خلع نفسه بأمر من الأمير لاجين سنة 696هـ. ولما عاد السلطان محمد ابن قلاوون إلى السلطنة أنعم على كتبغا بمملكة حماة وأعمالها سنة 699هـ واستمر إلى أن توفي بها سنة 702هـ. (الأعلام: 5/ 219وفوات الوفيات: 1/ 218والجوهر الثمين: 2/ 118).
(2) المتوفى سنة 725هـ. (ترجمته في فوات الوفيات: 4/ 82).(12/6)
مصالح المسلمين مقصورة، وآراءنا تفوّض [زعامة] (1) الجيوش إلى من تصبح فرق الأعداء بفرقه مغزوّة وممالكهم بمهابته محصورة.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا نزال ننشر دعوتها في الآفاق، ونرهف لإقامتها في ممالكنا سيفا يصل [إلّا] ما أمر الله بقطعه ويقطع إلّا الأرزاق، ونرهب من ألحد فيها بكل وليّ لرعبه في القلوب ركض ولرايته في الجوانح خفق ولأسنّته في الصّدور إشراق، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أشرف من فوّض حكما في أيّامه إلى من اعتمد عليه، وأرأف من استخلف على من بعد عنه من أمّته من يعلم أنّ صلاحهم في يديه، وألطف من عدق شيئا من أمور أهل ملّته بمن أعانه الله وسدّده في دفع عدوّهم وصلاح ما يرفع من أحوالهم إليه صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ولّوا على الأمّة فعدلوا، وأمروا بما جبله الله عليه من الرأفة والنّعمة والرحمة فامتثلوا، وعلموا أنّ الحق فيما نهج لهم من طرق طريقته المثلى فما مالوا عن ذلك ولا عدلوا، صلاة لا تغرب شمسها،، ولا يعزب أنسها، ولا تعتبر أوقات إقامتها إلا ويقصّر عن يومها في الكثرة أمسها، وسلم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى ما أعملنا إليه ركائب الآراء المؤيّدة، وصرّفنا إليه أزمّة نجائب الأفكار المسدّدة، وأجلنا فيه طرف النظر الّذي لا يشقّ في بلوغ الغاية غباره ولا يدرك، وأحلنا الأمر فيه على التأييد الّذي هو عمدتنا فيما يؤخذ من ثواقب الآراء وما يترك، وقدّمنا فيه مهمّ الاستخارة الّذي يتلوه التوفيق، وعلمنا أنّ ألذّ أسباب الاهتداء إليه سلوك طريق النّصح لله ولرسوله وللإسلام فسلكنا إليه من ذلك الطريق وقصرنا النيّة فيه على مصالح الأمة الّتي هي فرض العين (2) بل عين الفرض، وأطلنا الارتياد فيه لتعيّن من نرجو له ممّن عناهم الله بقوله:
__________
(1) في الأصل «بفرض عامة» وهو تصحيف. والتصحيح من الطبعة الأميرية.
(2) فرض العين هو ما يجب على كل مكلّف مسلم القيام به، ولا يسقط عنه بقيام غيره به، بعكس الفرض الكفائي أو فرض الكفاية.(12/7)
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنََّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} (1)، وندبنا له سيفا لم يزل في صدور الأعداء صدره وفي يد جبّار السموات قائمه، وأردنا لتقدمة الجيوش فيه زعيما طالما ملّ ضوء الصبح مما يغيّره ومل سواد الليل مما يزاحمه، وقدّمنا له من نشأ في حجر ولائنا، وغذّي بلبان برّنا وآلائنا، وشهد الوقائع بين يدينا، وخبرنا من سيرته النّهوض في الرعايا بما كتب الله لهم من الرأفة والرحمة علينا أمر نيابة سلطنتنا الشريفة بالممالك الشاميّة الّتي نابت فيها مهابتنا، عن الإقامة فيها، وجعلتها عنايتنا، من أشرف ممالكنا التي نخصّها على البعد بدوام الملاحظة ونصفيها وهي واسطة عقد ممالكنا، ومحطّ رحال طرقنا إلى جهاد الأعداء ومسالكنا، وهالة أهلّة سرّى القصد إلى لحظها في أديم الأرض مواقع سنابكنا، ومواطن القربات الّتي نصّت الآثار الصحيحة عليها، ومظانّ العبادات الّتي طالما نصّت ركائب العباد العبّاد إليها، ومقام الأبدال (2) الذين هم أهل دار المقامة، ومستقرّ طائفة الدّين الذين لا يزالون ظاهرين على أعدائهم لا يضرّهم من خذلهم إلى يوم القيامة، وفلك الثغور الّذي تشرق منه كواكب سعودها، وتتصرّف من نوئه إلى من جاورها من العدا خاطفات بروقها وقاصفات رعودها فكم ذي جنود أمّها فهلك وما ملك، وسلك إليها بجيوشه فزلّت وتزلزلت قدمه حيث سلك ولجيشها البأس الّذي وجود الأعداء به عدم، والحدّ الّذي يعرفه أهل السّياق و [إن] (3) أنكرته أعناقهم «فما بالعهد من قدم».
وأن نفوّض [أمرها] (4) إلى من ينشر بها على الأمة لواء عدلنا، ويبسط فيها
__________
(1) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنََّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقََامُوا الصَّلََاةَ}: الحج / 41.
(2) الواحد بديل: قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم، لا يموت أحدهم إلا قام بدله آخر من سائر الناس، وقيل هم سبعة لا يزيدون ولا ينقصون، يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة، لكل واحد إقليم في ولايته، منهم واحد على قدم الخيل، والثاني على قدم الكليم، والثالث على قدم هارون، والرابع على قدم إدريس، والخامس على قدم يوسف، والسادس على قدم عيسى، والسابع على قدم آدم. وهم عارفون بما أودع الله الكواكب السيارة من الأسرار والحركات والمنازل (انظر التعريف بمصطلحات الصبح: 12).
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/8)
بالرأفة والرحمة رداء فضلنا، ويحيي بها سنن الإحسان الّتي مبدأ أيامها غاية من سلف من قبلنا، ويقيم منار الملك من بأسه على أرفع عماد، وينيم الرعايا من عدله في أوطإ مهاد، ويكفّ أكفّ الظّلم [حتى لا يتجاسر] (1) إلى إعادة يده إليها عاد ومن عاد، ويجرّد إلى العدا من خياله وخيله سرايا تطرد عن موارد جفونهم بقوائمها الرّقاد، وتستعيد عواري أرواحهم من مستودعات أجسادهم فهي بحكم العاريّة (2) غير مستقرّة في الأجساد، ويصون الرّتب عن تطرّق من يفسد أحوالها لعدم أهليته: فإنّه ما سلك أحد في أيامنا طرق الفساد فساد، ويعلم به أنّا جرّدنا على العدا سيفا يسبق إليهم العذل (3)، ويزاحم على قبض نفوسهم الأجل، وتتحلّى بتقليده الدّول، ويتحقّق بفتكه أنّه لا حاكم بيننا وبينهم إلّا السّيف الّذي إن جار فيهم فقد عدل.
ولذلك لما كان المجلس العالي الفلانيّ: هو الّذي اخترناه لذلك على علم، وقلّدناه أمور الممالك: لما فيه من حدّة بأس وآية حلم، وعجمنا عوده (4)
فكان ليّنا على الأولياء فظّا على العدا، وبلونا أوصافه فعلمنا منه السّداد الّذي لا يضع به النّدى في موضع السّيف ولا السّيف في موضع النّدى، وعرضنا سداده على حسن اعتبارنا للأكفاء فكان سميرنا وحمل فزيّن معروضا وراع مسدّدا، وهززناه فكان سيفا ينصل (5) حدّه الخطب إذ أعضل، وأعطيناه أمر الجيوش فلم يختلف أحد في أنّه أفضل من الأفضل.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال يصطفي من الأولياء كلّ كفء كريم أن تفوّض إليه نيابة السّلطنة الشريفة بالممالك الشامية: تفويضا يعلي قدره، ويبسط في مصالح الملك والممالك أمره، ويطلق في مصالح الدولة القاهرة
__________
(1) في الأصل «إلى ما يتجاسر».
(2) العاريّة والعارة: ما تعطيه غيرك على أن يعيده إليك. ويقال: كل عارة مستردّة.
(3) في المثل: «سبق السيف العذل» يضرب لما قد فات ولا يستدرك.
(4) عجم العود: عضّه ليعلم صلابته. وعجم عود فلان: اختبره.
(5) أنصل الشيء: أخرجه وأزاله.(12/9)
سيفه وكلمه، ويدرّ على الأولياء إحساننا الّذي إذا جارى الغيث أخجل دوامه ديمه، ويرفع بالعدل منار دوام ملكنا الّذي قرنه الله للأمّة بجودنا، ويضيف باسترفاع الأدعية الصالحة لدولتنا من كل لسان جنود اللّيل (1) إلى جنودنا، وينظر في أمور الممالك الشامية نظرا عامّا، ويعمل في سداد ثغورها وسداد أمورها رأيا ثاقبا وفكرا تامّا، ويأمر النّوّاب من سدّ خللها بما كفايته أدرى به منهم، وينبّههم من مصالحها على ما ظهر لفكره المصيب وخفي عنهم، ويلاحظ أموال ما بعد من البلاد كملاحظته أموال ما دنا، وينظر في تفاصيل أمورها: فإنّها وإن كانت على السّداد فليس بها عن حسن نظره غنى، ويسلك بالرعايا سنن إنصافه الّتي وكلته معرفتنا به إليها، ويجريهم على عوائد الإحسان الّتي كانت من خلقه سجيّة وزدناه تحريضا عليها.
وهو يعلم أن الله تعالى قد أقامنا من الجهاد في أعدائه بسنّته وفرضه، ومكّن لنا في الأرض: لإقامة دعوته وإعلاء كلمته وتطهير أرضه، وعضّدنا بتأييده لنصرة الإسلام، وأمدّنا من عدد نصره بكلّ سيف تروّع الأعداء به اليقظة وتسلّه عليهم الأحلام، وبثّ سرايا جيوشنا برّا وبحرا: فهي إمّا سوار في البرّ تمرّ مرّ السّحاب أو جوار منشآت في البحر كالأعلام، ويتعاهد أحوال الجيوش الشاميّة كلّ يوم بنفسه، ويعدهم في غده بإعادة ما اعتبره من عرضهم في أمسه، ويرتّب أمر كلّ إقليم وحاله، ويتفقّد من يباشر بالتقدمة تقدّمه إلى الأطراف وارتحاله، ويأمرهم كل يوم بالتأهّب للعرض الّذي يباشره غدا بين يدينا، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بكفالة السلطنة بالشام، كتب به للأمير «جمال الدين أقوش الأشرفيّ» (2) في جمادى الأولى، سنة إحدى عشرة وسبعمائة، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ رحمه الله تعالى، وهي:
__________
(1) جنود الليل هي دعوات الصالحين.
(2) هو أقوش (أو أقش) بن عبد الله الأشرفي، جمال الدين، المتوفى سنة 736هـ. ترجمته في الوافي بالوفيات: 336/ 9والدرر الكامنة: 395/ 1والنجوم الزاهرة: 310/ 9 (انظر الجوهر الثمين: 2/ 123).(12/10)
الحمد لله الّذي جعل الدّين في أيامنا الزّاهرة زاهيا بجماله، ساميا بتقديم من إذا أرهف في الذّبّ عنه بسيف عزمه غدت الجنّة تحت ظلاله، حاليا بتفويض زعامة جيوشه إلى من لو فاخر به البدور تعجّبت من نقصانها وكماله، عاليا بإيالة من تتولّد معاني النصر والظفر بين الكاملين: من رويّة رأيه وارتجاله، راقيا على هام الكفر بعزائم من لا يزال تصبّح مهابته العدا بطلائع خيله وتبيّتهم بطوارق خياله، ناميا بإسناد الحكم فيه إلى من يقطع إنصافه بين المبطل ورجائه ويصل العدل [منه] (1) بين المحقّ وبين آماله.
نحمده على نعمه الّتي أنامت الرّعايا من معدلتنا في أوطإ مهاد، وأدامت الدّعاء الصالح لأيامنا بإعلاء كلمتي العدل والجهاد، وأقامت الإيالة في أسنى ممالكنا بمن هو أجرى من الغيوث، وأجرأ من اللّيوث، في مصالح البلاد والعباد.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا تزال الألسن لإقامتها مديمة، والضمائر على إدامتها مقيمة، والقلوب تعقد من كلمة إخلاصها وإخلاص كلمتها في جيد الإيمان تميمة، والتوحيد يظهر أنوارها في الوجوه الوسيمة، بمأمن مطالع القلوب السليمة.
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الّذي جبله على خلق عظيم، وجعله وإن تأخّر عصره من مقام النبوّة في أعلى رتب التقديم، ومنّ على الأمّة بإرساله إليهم من أنفسهم وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين دعوا إلى طاعته وأجابوا، وحكموا بسنّته وأصابوا، وجاهدوا المعرضين عن
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/11)
ملّته حتّى رجعوا إلى الهدى وأنابوا، صلاة لا تغيب أنواؤها، ولا يفارق وجوه أهلها وقلوبهم رواؤها وإرواؤها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنه لما أجرانا الله عليه من عوائد نصره، وأغرانا به من حصد الشّرك وحصره، ومنحنا من بسطة ملك زيّنت بها أسارير البسيطة وأسرّتها، ووهبنا من فواتح فتوح علت على وجوه الكفر مساءتها وبدت على وجه الإسلام مسرّتها لم نزل نؤدّي شكر نعم الله بالإحسان إلى عباده، ونستزيد منها بتفويض أمورهم إلى من يقوم في الذّبّ عنهم مقام الجيش على انفراده، فلا نقدّم على الرأفة بخلق الله أمرا، ولا نحابي في بسط المعدلة عليهم زيدا ولا عمرا، ولا نعدل بهم عمّن إذا ركب في موكب نيابتنا زانه وجمّله، وإذا جلس على بساط عدلنا زاده وكمّله، وإذا رسم أمرنا أصغت السّيوف إلى مراسمه، وإذا نظر بعين عنايتنا ثغرا أهدى الشّنب (1) إلى مباسمه، وإذا رام في مصالح الإسلام أمرا قرب على رأيه بعيده، وإذا جرّد جيشا إلى أعداء الإسلام جرّت قبل اللّقاء ذيول هزائمها، ورأت الفرار أمنع لها من صوارمها، ونثلت ما في كنائنها من سهام ضعفت عن الطّيران قوى قوادمها.
ولما كان الجناب العالي الفلانيّ هو معنى هذه الفرائد، وسرّ هذه الأوصاف الّتي للشّرك منها مصائب هي عند الإسلام فوائد، وفارس هذه الحلبة، التي أحرز [قصب] (2) سبقها، وكفء هذه الرّتبة، التي أخذها دون الأكفاء بحقّها لا تأخذه في الحقّ لومة لائم، ولا يأخذ أمر الجهاد إلا بجدّه «وما ليل المجدّ بنائم» يسري إلى قلوب الأعداء رعبه وهو في مكانه، وتؤدّي مهابته في نكاية الكفر فرض الجهاد قبل إمكانه، ويشفع (3) العدل في الرعايا بالإحسان
__________
(1) الشّنب: جمال الثغر وصفاء الأسنان. والمحدثون استعاروا الشنب للشارب واستعملوه فيه حتى تناسوا الأصل.
(2) الزيادة يقتضيها السياق.
(3) شفع الشيء: ضمّ مثله إليه.(12/12)
إليهم ويجمع بين إرهاب المعتدين وشدّة الوطأة عليهم، ويقف في أحكامه مع الشريعة الّتي أعلى الله تعالى منارها، ويستضيء بأحكامها الّتي هي لأبصار النّظّار تعير أنوارها.
وكانت المملكة الشامية المحروسة من الممالك الإسلامية بمنزلة القوّة في اليمين، والواسطة في العقد الثّمين، والإدراك في الصّدور، والإشراق في البدور، وبها الأرض المقدّسة، والحصون التي هي على نكاية الأعداء مؤسّسة، ولها الجيوش الّتي ألفت في الجهاد السّرى (1) وأنفت لسيوفها في الجفون الكرى، ومرّت على مقاتل العدا أسنّتها، وصرّفت في مسالك الحرب أعنّتها، وراعت ملوك أهل الكفر سمعة أمرائها، وحاطتها أمداد النّصر في حروبها من بين يديها ومن ورائها وفيها من الأئمة العلماء الأعيان من يعدل دم الشهداء مداد أقلامهم، ومن الأتقياء الصّلحاء من لا تطيش دون مقاتل أهل الكفر مواقع سهامهم اقتضت آراؤنا الشريفة أن نمتّع هذه الرتبة السنيّة بجمالها، وأن نبلّغ هذه الدرجة السريّة بمن حوى هذه الأوصاف الفاخرة غاية آمالها، ليصبح بها لواء عدلنا، مرفوع الذوائب، ومنهل فضلنا، مدفوع الشوائب، وكلمة جهادنا، نافذة في المشارق والمغارب، وقبضة بأسنا، آخذة من أعداء الدين بالذّرا والغوارب (2)، وطليعة كتائبنا مؤتمّة بمن توقن الطّير أنّ فريقه إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زالت صوارمه للشّرك قامعة، ومراسمه لمصالح الدين والدنيا جامعة أن تفوّض إليه تفويضا يرفع علمه، ويمضي في مصالح الإسلام سيفه وقلمه، وينشر في آفاق الممالك الشامية عدله، ويبسط على رعايا تلك الأقاليم المحروسة فضله وظلّه، فيطلع في أفق المواكب هالة أهلّتها، وطراز حلّتها، وطلعة لوائها، وواسطة عقود مقدّمها وآرائها، وزينة
__________
(1) السّرى: سير الليل.
(2) الذرا: جمع ذروة، وهي أعلا كل شيء. والغوارب: جمع غارب، وهو الكاهل.(12/13)
تسييرها ووقوفها، وحلية طلائعها وصفوفها، ويجلس في مواطن الجلوس صادعا بالحق في حكمه، آمرا بإدامة التأنيب للعدوّ في أيام سلمه، معطيا منصب النيابة الشريفة حقّه من الجلالة، موفيا رتبتها المنيفة ما يجب لها من أبّهة المهابة وكفاءة الكفالة، ولا يزال لمصالح الجيوش المنصورة ملاحظا، وعلى إزاحة أعذارهم محافظا، وإلى حركات عدوّ الإسلام وسكناته متطلّعا، وإلى ما يتعين من إبطال مكايده متسرّعا، ولبواطن أحوالهم بحسن الاطلاع محقّقا، ولجموعهم بيمن الاجتماع للقائهم مفرّقا، فلا يضمرون مكيدة إلّا وعلمها عنده قبل ظهورها لديهم، ولا يسرّون غارة إلا ورايتا خيله المغيرة أسبق منها إليهم.
وليكن لمنار الشّرع الشريف معليا، ولأقدار أربابه مغليا، ولرتب العلماء رافعا، ولأقوالهم في الأحكام الشرعية سامعا، ولذوي البيوت القديمة مكرما، ولأهل الورع والصّلاح معظّما، وعلى يد الظالم ضاربا، وفي اقتناء الأدعية الصاّلحة لدولتنا القاهرة راغبا، ولجميل النّظر في عمارة البلاد مديما، وبحسن الفكر في أمور الأموال معملا رأيا بمصالحها عليما، ولجهات البرّ بجليل العناية والإعانة عامرا، وعن كل ما لا يجب اعتماده ناهيا وبكل ما يتعين فعله آمرا. وفي كمال خلاله، وأدوات جماله، ما يغني عن الوصايا إلّا على سبيل الذّكرى الّتي تنفع المؤمنين، وترفع المتقين وملاكها تقوى الله تعالى وهي من خصائص نفسه الكريمة، وعوائد سيرته الحديثة والقديمة والله تعالى يسدّده في القول والعمل، ويؤيّده وقد فعل، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بكفالة السلطنة بالشام، كتب بها للأمير «سيف الدين تنكز الناصريّ» (1) في ربيع الأوّل سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، من إنشاء الشيخ
__________
(1) هو تنكز بن عبد الله الحسامي الناصري المتوفى سنة 740هـ. وكان دخوله إلى دمشق نائبا عليها يوم الخمسين في العشرين من ربيع الأول من سنة 712هـ. في سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة. (انظر فوات الوفيات: 1/ 251والجوهر الثمين: 2/ 152).(12/14)
شهاب الدين محمود الحلبيّ، وهي:
الحمد لله مفوض أسنى الممالك في أيامنا الزاهرة إلى من تزهو بتقليده، ومشيّد قواعد أسمى الأقاليم في دولتنا القاهرة بمن يعلو بإيالته ما يلقى إليه معاقد مقاليده، ومسدّد الآراء في تصريف أعنّة جيوشنا المنصورة بتقديم من تغدو سيوفه من عنق كلّ متوّج من العدا قلادة جيده، وناشر لواء العدل في رعايانا وإن بعدوا بمن تنيم كلّا منهم في مهد الأمن والدّعة يد مهابته وتمهيده، ومعلي منار الجهاد في سبيله بمن إذا جرّد سيفه في وغى تهلّلت نواجذ أفواه المنايا الضواحك بين تجريبه وتجريده.
نحمده على نعمه الّتي أيّدت آراءنا بوضع كلّ شيء في مستحقّه، وقلّدت سيف النّصر من أوليائنا من يأخذه في مصالح الإسلام بحقّه، وجدّدت آلاءنا لمن إذا جارت الحتوف سيوفه إلى مقاتل العدا فاتها وفاقها بمزيّتي كفايته وسبقه.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا تزال ألسنتنا ترفع منارها، وسيوفنا تصلي من جحدها قبل نارها، وآراؤنا تفوّض مصالح جملتها إلى من إذا رجته لنصرة أنالها وإذا أسدى معدلة أنارها.
ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أيّده الله بنصره، وجعله سابق من تقدّم من الرّسل على عصره، وآتاه من الفضائل ما يضيق النّطق عن إحصائه ومن المعجزات ما يحول الحصر دون حصره صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين تمسّكوا بهداه، وهجروا في طاعته من عاداه، ونهضوا في رضا الله تعالى ورضاه إلى مظانّ الجهاد وإن بعد مداه، صلاة يشفعها التسليم، ونبتغي إقامتها عند الله والله عنده أجر عظيم، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإنّ أولى ما أعملنا في مصالحه الفكر، وتدبّرنا أحواله بكل رأي يسدّده الحزم المروّى ويؤيده الإلهام المبتكر، وقدّمنا فيه الاستخارة على ما جزم اليقين بأنّ الخيرة للإسلام والمسلمين في اعتماده، وتمسّكنا فيه بحبل التوفيق الذّي ما زال تتكفّل لنا في كلّ أمر بسداده وفي كلّ ثغر بسداده أمر الممالك
الشامية الّتي هي واسطة عقد الممالك، ومجتمع ما يفضي إلى مواطن النّصر من المسالك، ومركز فلك الأقاليم الّذي تنتظم عليه بروج ثغورها، ونقطة دائرة الحصون الّتي منها مادّتها وعليها مدار أمورها، وغيل (1) ليوث الحرب الّتي كم أنشبت أظفار أسنتها في طرّة ظفر، ومواطن فرسان الوغى الّتي كم أسفر عن إطلاق أعنّتها إلى غايات النّصر وجه سفر، وأن نرتاد لكفالة أمورها، وكفاية جمهورها، وحماية معاقلها المصونة وثغورها، وزعامة جيوشها، وإرغام طارقي أطرافها من أعداء الدين وثلّ عروشها، من جرّده الدّين فكان سيفا على أعدائه، وانتقاه حسن نظرنا للمسلمين فكان التوفيق الإلهيّ متولّي جميل انتقاده وانتقائه، وعجمنا عود أوصافه فوجدناه قويّا في دينه، متمكّنا في طاعته بإخلاص تقواه وصحّة يقينه، متيقّظا لمصالح الإسلام والمسلمين في حالتي حركته وسكونه، آخذا عنان الحزم بيسر يسراه وسنان العزم بيمن يمينه، واقفا مع الحق لذاته، مقدّما مشاقّ الجهاد على سائر مآربه ولذّاته ماضيا كسيفه إلّا أنه [لا] (2) يألف كالسيف الجفون (3)، راضيا في راحة الآخرة بمتاعب الدّنيا ومصاعبها فلا يرعى في مواطن الجهاد إذا حلّها أكناف الهوينا ولا روض الهدون (4)، مانعا حمى الإسلام لا «حمى الوقبى بضرب» يفرّق بين أسباب الحياة و «يؤلّف بين أشتات المنون» (5)(12/15)
أما بعد، فإنّ أولى ما أعملنا في مصالحه الفكر، وتدبّرنا أحواله بكل رأي يسدّده الحزم المروّى ويؤيده الإلهام المبتكر، وقدّمنا فيه الاستخارة على ما جزم اليقين بأنّ الخيرة للإسلام والمسلمين في اعتماده، وتمسّكنا فيه بحبل التوفيق الذّي ما زال تتكفّل لنا في كلّ أمر بسداده وفي كلّ ثغر بسداده أمر الممالك
الشامية الّتي هي واسطة عقد الممالك، ومجتمع ما يفضي إلى مواطن النّصر من المسالك، ومركز فلك الأقاليم الّذي تنتظم عليه بروج ثغورها، ونقطة دائرة الحصون الّتي منها مادّتها وعليها مدار أمورها، وغيل (1) ليوث الحرب الّتي كم أنشبت أظفار أسنتها في طرّة ظفر، ومواطن فرسان الوغى الّتي كم أسفر عن إطلاق أعنّتها إلى غايات النّصر وجه سفر، وأن نرتاد لكفالة أمورها، وكفاية جمهورها، وحماية معاقلها المصونة وثغورها، وزعامة جيوشها، وإرغام طارقي أطرافها من أعداء الدين وثلّ عروشها، من جرّده الدّين فكان سيفا على أعدائه، وانتقاه حسن نظرنا للمسلمين فكان التوفيق الإلهيّ متولّي جميل انتقاده وانتقائه، وعجمنا عود أوصافه فوجدناه قويّا في دينه، متمكّنا في طاعته بإخلاص تقواه وصحّة يقينه، متيقّظا لمصالح الإسلام والمسلمين في حالتي حركته وسكونه، آخذا عنان الحزم بيسر يسراه وسنان العزم بيمن يمينه، واقفا مع الحق لذاته، مقدّما مشاقّ الجهاد على سائر مآربه ولذّاته ماضيا كسيفه إلّا أنه [لا] (2) يألف كالسيف الجفون (3)، راضيا في راحة الآخرة بمتاعب الدّنيا ومصاعبها فلا يرعى في مواطن الجهاد إذا حلّها أكناف الهوينا ولا روض الهدون (4)، مانعا حمى الإسلام لا «حمى الوقبى بضرب» يفرّق بين أسباب الحياة و «يؤلّف بين أشتات المنون» (5)
__________
(1) الغيل: موضع الأسد، والجمع: غيول وأغيال.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية وهي لازمة.
(3) الجفن للعين معروف. والجفن: غمد السيف.
(4) هدن هدونا: سكن. والهدان: النوّام الّذي لا يصلّي ولا يبكّر في أعماله والجمع: هدون.
(5) من شعر منسوب لأبي الغول الطّهويّ:
هم منعوا حمى الوقبى بضرب ... يؤلّف بين أشتات المنون
والوقبى (وفي بعض الروايات بفتح القاف والباء) ماء لبني مازن (وفي رواية أخرى لبني مالك بن مازن). وقوله: يؤلف بين أشتات المنون، أراد أن هذا الضرب جمع بين منايا قوم متفرقي الأمكنة. (انظر لسان العرب: 1/ 802ومعجم البلدان: 5/ 380).(12/16)
ولما كان فلان هو الّذي تشوّفت هذه الرتبة إلى أن تتجمّل به مواكبها، وتتكمل به مراتبها، وتنتظم على دسته هالة أمرائها كما تنتظم على هالة بدر السماء كواكبها فإذا طلع في أفق موكب أعشت الأعداء جلالته، وأعدت الأولياء بسالته، وسرى إلى قلوب أهل الكفر رعبه، وفعل فيهم سلمه ما يفعل من غيره حربه، وإذا جلس على بساط عدل خرس الباطل، وأنجز ما في ذمّته الماطل، وتكلّم الحقّ بملء فيه، وتبرّأ الباطل حتّى ممن يسرّه ويخفيه، وإن نظر في مصالح البلاد أعان الغيث على ريّها برفقه، وأعاد رونق عمارتها بكفّ أكفّ الظلم ووصول كلّ ذي حقّ إلى حقّه اقتضت آراؤنا الشريفة أن نجعل فنون أفنانه بيمن إيالته دانية القطوف، وأن نصير جنّتها تحت ظلال سيفه: فإن «الجنة تحت ظلال السّيوف».
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال زمن عصره، موّرّخا بالفتوح، وسيف نصره، على من كفر دعوة نوح أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالشام المحروس: تفويضا يحسن به المناب في تلك الممالك عنّا، وينشر فيها من العدل والإحسان ما يلقّاه منّا، ويلبسها من حلل المهابة ما يضاعف به أمن سربها، وتصبح به السّيوف المجرّدة أحفظ لها من قربها، ويطلع في أفق مواكبها الجليلة طلوع الشّمس الّتي يعمّ نفعها، ويعشي النّواظر لمعها، ويجلس في دست نيابتنا حاكما فيها بأمرنا، جازما بحكم الشرع الشريف الّذي قد علم أنه حلية سرّنا وجهرنا، ناشرا من مهابة الملك ما ترجف له القلوب من العدا، وتصبّحهم به سرايا رعبه على بعد المدى، ملزما من قبله من الجيوش المنصورة بمضاعفة إعداد القوّة، وإدامة التّأهّب الّذي لا تبرح بسمعته بلاد أهل الكفر مغزوّة، مطّلعا على أحوال العدا بلطف مقاصده، ونكاية مكايده، وحسن مصادره في التدبير وموارده فلا يبرمون أمرا إلا وقد سبقهم إلى نقض مبرمه، ولا يقدّمون رجلا إلا وقد أخّرها بوثبات إقدامه وثبات قدمه. وليعظّم منار الشرع الشريف بتكريم حكّامه، والوقوف مع أحكامه، ويرفع أقدار حملة العلم بترفيه أسرارهم، وتسهيل مآربهم وأوطارهم، وليعمّ الرعايا بعدله وإنصافه، ويسترفع
لنا أدعية الأولياء والصّلحاء بإسعاده وإسعافه. وفي خصائص أوصافه الكريمة، وسجاياه الّتي هي لمصالح الإسلام مستديمة، ما يغني عن تشّدد في القول والعمل، والله تعالى يؤيده وقد فعل، ويجعله من أوليائه المتقين وقد جعل، إن شاء الله تعالى.(12/17)
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال زمن عصره، موّرّخا بالفتوح، وسيف نصره، على من كفر دعوة نوح أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالشام المحروس: تفويضا يحسن به المناب في تلك الممالك عنّا، وينشر فيها من العدل والإحسان ما يلقّاه منّا، ويلبسها من حلل المهابة ما يضاعف به أمن سربها، وتصبح به السّيوف المجرّدة أحفظ لها من قربها، ويطلع في أفق مواكبها الجليلة طلوع الشّمس الّتي يعمّ نفعها، ويعشي النّواظر لمعها، ويجلس في دست نيابتنا حاكما فيها بأمرنا، جازما بحكم الشرع الشريف الّذي قد علم أنه حلية سرّنا وجهرنا، ناشرا من مهابة الملك ما ترجف له القلوب من العدا، وتصبّحهم به سرايا رعبه على بعد المدى، ملزما من قبله من الجيوش المنصورة بمضاعفة إعداد القوّة، وإدامة التّأهّب الّذي لا تبرح بسمعته بلاد أهل الكفر مغزوّة، مطّلعا على أحوال العدا بلطف مقاصده، ونكاية مكايده، وحسن مصادره في التدبير وموارده فلا يبرمون أمرا إلا وقد سبقهم إلى نقض مبرمه، ولا يقدّمون رجلا إلا وقد أخّرها بوثبات إقدامه وثبات قدمه. وليعظّم منار الشرع الشريف بتكريم حكّامه، والوقوف مع أحكامه، ويرفع أقدار حملة العلم بترفيه أسرارهم، وتسهيل مآربهم وأوطارهم، وليعمّ الرعايا بعدله وإنصافه، ويسترفع
لنا أدعية الأولياء والصّلحاء بإسعاده وإسعافه. وفي خصائص أوصافه الكريمة، وسجاياه الّتي هي لمصالح الإسلام مستديمة، ما يغني عن تشّدد في القول والعمل، والله تعالى يؤيده وقد فعل، ويجعله من أوليائه المتقين وقد جعل، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بكفالة السلطنة بالشام، كتب به للأمير «يلبغا الكامليّ» (1) بعد نيابته بحلب وحماة، من إنشاء المقرّ الشّهابيّ (2) بن فضل الله، وهي:
الحمد لله مجري الأقدار، برفعة الأقدار، ومثري آمال من حسنت له في خدمتنا الآثار، بمواهب العطايا والإيثار، وممري غروس نعم أوليائنا الّتي رعى عهدها عهاد سحب جودنا الغزار، جاعل أصفياء مملكتنا الشريفة كلّ حين في ازدياد، ومانح المخلصين في خدمتنا مزيد الإسعاف والإسعاد، وفاتح أبواب التأييد بسيوف أنصارنا الّتي لا تهجع في الأغماد.
نحمده على مواهب نصره، ونشكره على إدراك المآرب من جوده الّذي يعجز لسان القلم عن حصره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تؤيد قائلها في مواقفه، وتجمع له من خير الدّنيا بين تالده وطارفه، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الّذي هدى الله به هذه الأمة من الضّلال، وفضّل به المجاهدين حيث جعل الجنّة تحت ما لسيوفهم من ظلال، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا انفصام لعروتها ولا انفصال، ولا انقضاء لأسبابها ولا زوال، وسلّم تسليما كثيرا.
__________
(1) هو يلبغا بن عبد الله اليحياوي الناصري، سيف الدين المتوفى سنة 748هـ. ترجمته في السلوك:
2/ 755والدرر الكامنة: 4/ 436والنجوم الزاهرة: 10/ 185. (انظر الجوهر الثمين:
2/ 175).
(2) هو أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري المتوفى سنة 749هـ.(12/18)
أما بعد، فإن أولى من انتدب لحفظ ممالك الإسلام، وأتمن على صونها بعزمه الّذي لا يسامى ولا يسام، وأسند إليه من أمور الرعايا بأجلّ الممالك ما يقضي بمزيد التكريم، واعتمد على صيانته وديانته لمّا شهد الاختبار بأنه أهل للتقديم، وجرّبت الدول مخالصته، وتحقّق اهتمامه الّذي بلّغه من العزّ غايته، وأثنت على حسن سيرته وسريرته سوابق خدمه، وشكر اهتمامه في المخالصة التي أعربت عن عزمه، ففاق أشباها وأنظارا، وكفل الممالك الشريفة الحلبيّة والحمويّة فأيّدها أعوانا وأنصارا، وبسط فيها من العدل والإنصاف ما أعلى له شأنا ورفع له مقدارا، وسلك فيها مسلكا شنّف أسماعا وشرّف أبصارا.
ولما كان المقرّ الكريم (إلى آخره) هو صاحب هذه المناقب، وفارس هذه المقانب (1)، ونيّر هذه الكواكب، كم أبهج النفوس بما له من عزم مشكور، وحزم مأثور، ووصف بالجميل موفور.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال لسيف أوليائه مرهفا، ولا برح لأخصائه مسعدا ومسعفا أن تفوّض إلى المشار إليه نيابة السّلطنة الشريفة بالشام المحروس، على أجمل عوائد من تقدّمه في ذلك وأكمل قواعده. فليتناول هذا التقليد الشريف بيد لم يزل لها في الولاء الباع المديد الطويل، ويتلقّ هذا الإحسان بالشّكر الّذي هو بدوام النعمة خير كفيل، ويضاعف ما هو عليه من اهتمام لم يزل منه مألوفا، واعتزام إذا لاقى غيره مهمّا واحدا لاقى هو ألوفا، ويمعن النظر في مصالح هذه المملكة الشامية المحروسة، ويعتمد من حسن تدبيره ما تغدو ربوعها بحسن ملاحظته عامرة مأنوسة. وهو يعلم أن العدل من شيم دولتنا الشريفة، وسجيّة أيامنا الّتي هي على هام الجوزاء منيفة فليسلك سننه، ويتبع فرضه وسننه، ويعلم أنّ عدل سنة خير من عبادة ستين سنة، ولينشر على الرعايا ملابسه الحسنة، ويعظم الشّرع الشريف وحكّامه، ويعيّن الإقطاعات لمن يستحقها من الأيتام أو يوجب الاستحقاق إكرامه والله تعالى
__________
(1) المقنب: جماعة من الفرسان والخيل. الجمع: مقانب.(12/19)
يجعل السّعد خلفه وأمامه، ويؤيّده تأييدا يبلّغه مراده من النّصر ومرامه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بكفالة السلطنة بالشام:
الحمد لله الّذي طهّر الشّام وقدّسه، وصانه وحرسه، وجعل لسلطاننا فيه قواعد بالنّصر مؤسّسة، وأنوارا للهدى مقتبسة، وكفله بمن إذا صفّ له العدوّ افترسه، وأذلّه وأركسه (1)، وأرغم معطسه، وقطف بسيفه أرؤسه، ومن يعطى النّصر إذا امتطى فرسه، ومن كرّم الله نفسه، وكثّر أنسه، وعطّر نفسه، ومن ينصف المظلوم من ظالمه ويبلّغ السائل ملتمسه، ومن لبس ثوب العفاف والتّقى فكان خير ثوب لبسه.
نحمده على أصل جود غرسه، وعارض سوء حبسه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أزالت الشّرك ومحت نجسه، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الّذي أنبع الله من أصابعه عينا منبجسة، واخضرّ العود اليابس لمّا لمسه، وأضعف الوساوس المختلسة، وانتزع الحقّ ممن بخسه، وحماه الله من الشيطان لما ولد فما نخسه، ونوّر القلب الّذي خيم عليه الضلال وطمسه، وكان الشّرك قد انبثّ في الأرض فطواه دينه وكبسه، ومحاه ودرسه، وجاء بالقرآن فطوبى لمن تلاه ودرسه، وأنزل عليه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمََا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلََّهِ خُمُسَهُ} (2) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما أولج الله اللّيل في النهار وغمسه، وميّز بنصف العدد من الثلث سدسه، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإن الشّام هو عقد النّظام، وأجل ممالك الإسلام، ومعدن النّصر الذي بروقه تشام، ومستقرّ البركات الوسام، وعسكره أفضل عسكر في حسن
__________
(1) ركسه وأركسه: ردّه وقلبه.
(2) الأنفال / 41.(12/20)
الاعتزاء والاعتزام، لا يرهبون الحمام، ويخوضون لجج المنون بالحسام، ونيابة السلطنة الشريفة به من أجلّ النيابات مقدارا، وأكرمها آثارا، وأعزّها أنصارا إذ هو تلقاء أوامرنا الشريفة المنطوية عليها أسرار البريد، ومن عنده تتفرّع المهمات للقريب والبعيد، وعنه يصدر البريد، وإليه يرد بكل ثناء جديد، ومنه يأتي إلى مسامعنا الشريفة بما نريد، فلا يحلّ دار سعادتها إلا من هو منصور سعيد، وذو رأي سديد، وحزم حديد، وقد اخترنا لها بحمد الله كفأها المعيد.
ولما كان فلان هو الضّاري على العدا، والغيث المتوالي النّدى، والهمام الذي جرّد سيف عزمه أبدا فلا يرى مغمدا، واتّصف بحسن الصفات فما ساد سدى، قد تجملت الممالك بآرائه وراياته، وثباته ووثباته، وروض تدبيره وطيب نباته، وحسن اعتماده في خدمة ملكنا الشريف ومهمّاته إن ذكرت الموالاة الصادقة كان راوي مسندها، وحاوي جيدها، والآوي إلى ظلّها المديد وطيب موردها وإن ذكرت الشجاعة كان زعيم كتائبها، ومظهر عجائبها، وليث مضاربها، ومجرّد قواضبها، وفارس جنائبها (1)، ومطلب أطلابها ومنجح مطالبها، ومجلّي غياهبها اقتضى حسن الرأي الشريف أن يعقد عليه لواء الاحتشام، في الشام، وأن يخصّ بالبركات، المخلّصة من الدّركات.
فلذلك رسم بالأمر الشريف أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالشام المحروس، على عادة من تقدّمه وقاعدته، وأن يكون داخلا في نيابته الشريفة ما هو مضاف إلى الشام المحروس: من ممالك وقلاع، ومدن وضياع، وثغور ومواني، وسواحل في أقاص وأداني، تفويضا اتّسقت درره، وأشرقت غرره، وتليت آياته وسوره.
فليمهّد بالعدل أكناف البلاد، ولينظر بعين الرعاية والسّداد، ولينشر لواء
__________
(1) الجنائب: جمع جنيبة، وهي الدابة تقاد والناقة يعطيها الرجل غيره ليمتار عليها. ويقال: فلان تقاد الجنائب بين يديه: إذا كان عظيما.(12/21)
الإنصاف، لتكون الأمّة تحت ظلّه الضّافي وإليه الحقّ مضاف، وليدرّ الأرزاق من الأخلاف، وليأمر بإقامة الحدود على شارب السّلاف، وعلى السارقين بالقطع من خلاف، وليسترهف عزائم العساكر المنصورة في القتال والجهاد، وليأخذهم بحسن الاستعداد، وليعرف للأمراء منازلهم: فإنهم أركان وأعضاد، وأنصار وأمجاد، وأولياء دولتنا الشريفة الماحون للفساد، وممّن تتجمل بهم المواكب وتتفطّر بهم للعدا الأكباد والله الله في الشّرع الشريف وإقامة مناره، وتنفيذ كلمة أحكامه وإزالة أعذاره، والتّقوى فهي أفضل شعاره، وقرّة أبصاره، والوصايا فمنه يشرق هلالها إلى أن يتمّ في إبداره، ويتكمل بأنواره، وهو غنيّ عن إكثاره. فخذ تقليدنا هذا باليمين، والبس من هذا التفويض الملبس الأسنى الثمين وأخبار البريد المنصور فلا تقطعها عنا، فمنه إلينا ترد أخبار البريد وإليه ترد المهمات منّا، والله تعالى يخوّله كلّ يوم من إحساننا في الزيادة والحسنى والخط الشريف أعلاه.
الطبقة الثانية (من يكتب له تقليد شريف في قطع النصف ب «المجلس العالي» وهو الوزير من أرباب السيوف، وهو بالمملكة الشامية على حدّ الوزير بالديار المصرية)
وهذه نسخة مرسوم من ذلك:
الحمد لله مسدّد سهام الاختيار، ومسيّر الأولياء إلى منازل العلياء مسير الأهلّة إلى منازل الإبدار، الذي جدّد نعما، وعدّد كرما، وعلم مواقع الاضطرار، إلى مواقع الأوزار، فأرسل إليها من تستهلّ آراؤه ديما.
نحمده حمدا كثيرا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لم يتّخذ صاحبا ولا وزيرا، ونصلّي على سيدنا محمد الّذي عمّر الله به البلاد تعميرا، وأحسن بالعدل تقريرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين ظاهره بالسيوف والأقلام كاتبا وأميرا، صلاة لا ينقطع تواليها، ولا تزال الآفاق تتناقلها وتستهديها.
وبعد، فإنّ أولى من عظم شانه، وكرم مكانه، وثبت إمكانه، وأنبت في منابت الرماح قلمه الّذي هو ترجمانه، وبسطت في تشييد الممالك يده وأطلق لسانه من كان علامة العلم، وغدا بالنشاط في كبره فتيّ السّنّ كهل الحلم، الذي فاق جلالة ونسبا، واستعلى همّة وأدبا، وعرف بالديانة الّتي طار صيتها في الآفاق شرقا ومغربا، والهمّة الّتي سواء عليها أحملت قلما أم انتضت قضبا.(12/22)
نحمده حمدا كثيرا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لم يتّخذ صاحبا ولا وزيرا، ونصلّي على سيدنا محمد الّذي عمّر الله به البلاد تعميرا، وأحسن بالعدل تقريرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين ظاهره بالسيوف والأقلام كاتبا وأميرا، صلاة لا ينقطع تواليها، ولا تزال الآفاق تتناقلها وتستهديها.
وبعد، فإنّ أولى من عظم شانه، وكرم مكانه، وثبت إمكانه، وأنبت في منابت الرماح قلمه الّذي هو ترجمانه، وبسطت في تشييد الممالك يده وأطلق لسانه من كان علامة العلم، وغدا بالنشاط في كبره فتيّ السّنّ كهل الحلم، الذي فاق جلالة ونسبا، واستعلى همّة وأدبا، وعرف بالديانة الّتي طار صيتها في الآفاق شرقا ومغربا، والهمّة الّتي سواء عليها أحملت قلما أم انتضت قضبا.
ولما كنت أيّها المجلس الفلاني أدام الله تأييدك، وتسديدك وتمهيدك، وكبت حسودك، وضاعف صعودك أنت المعنيّ بهذه المآثر، المنضّدة عليك هذه الجواهر، الدالة على مناقبك هذه المفاخر، الذي وجدناك على الانتقاد تزيد استخلاصا، وتعدو على السّبك خلاصا، فلذلك خرج الأمر الشريف أن توزّر، وتحمى موارد آرائك لتستغزر، ويكون لك الحكم في المملكة الشامية عموما، وتتصرّف في معاملاتها مجهولا ومعلوما، على أكمل قواعد الوزراء وأتمها، وأجملها وأعمّها، متصرّفا في الكثير والقليل، والحقير والجليل، تعزل وتولّي من شيت، وتكفي وتستكفي من ارتضيت. ونحن نوصيك بالرّفق الّذي هو أخلق، والعدل الّذي تستدرّ به سحب الأموال وتستغدق، والحقّ فإن كل القضايا به تتعلّق، ويمن السياسة فإن الرياسة بها تكمل وتعدق وإيّاك والغرض الذي هو يهوي بصاحبه، ويرديه في عواقبه واتّق الله الّذي لا تتم الصالحات إلا بتقواه، واحذر أن تكون مع من ضلّ سبيله واتبع هواه والله تعالى ينجح رجاءك ويوضّح منهجك، ويعلي درجك، ويلقّنك إذا خاصمت واختصمت حججك، إن شاء الله تعالى.
الطبقة الثالثة (من يكتب له مرسوم شريف، وهي على مرتبتين)
المرتبة الأولى (من يكتب له في قطع النصف وهو نائب قلعة دمشق)
إن كان مقدّم ألف كما كان أوّلا، كتب له ب «المجلس العالي». أو
طبلخاناه كما هو الآن، كتب له ب «السامي» بغير ياء (1) وبالجملة فإنه يكتب له مفتتحا ب «الحمد لله».(12/23)
إن كان مقدّم ألف كما كان أوّلا، كتب له ب «المجلس العالي». أو
طبلخاناه كما هو الآن، كتب له ب «السامي» بغير ياء (1) وبالجملة فإنه يكتب له مفتتحا ب «الحمد لله».
وهذه نسخة مرسوم شريف بنيابة قلعة دمشق المحروسة، من إنشاء المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله رحمه الله، وهي:
الحمد لله مشرّف القلاع، ومصرّف رجالها في الامتناع، ومعرّف من جادلها أنّ الشّمس عالية الارتفاع.
نحمده حمدا يشنّف الأسماع، ويشرّف الإجماع، وتحلّق في صعوده الملائكة أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها لما بقي من قلاع الكفر الاقتلاع، واستعادة ما قرّ معهم من قرى وضاع من ضياع، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي حمى به درّة الإسلام من الارتضاع، وصان به حوزة الحق أن تضاع، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة دائمة ما أسبل للّيل ذيل وامتدّ للشّمس شعاع، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن للحصون حواضر كما للبلاد، وحواضن تضمّ بقاياها ضمّ الأمّهات للأولاد، ومعاقل يرجع إليها إذا نابت النّوب الشّداد، ومعاقد يعتصم من منعتها بجبال ويتمسك بأطواد وقلعة دمشق المحروسة هي الّتي تفتخر بقايا البقاع (2) بالاتصال بسببها، والتّمسّك في الشدائد بذيل حسبها لا يهتدى في السلّم والحرب إلا بمنارها، ولا يقتدى في التسليم والامتناع إلا بآثارها، ولا يستقى إلا بما يفيض على السّحب من فيض أمطارها قد ترجّلت لتبارز، وتقدّمت لتناهز، ودلّت بقواها فما احتجبت من سجوف الجبل بحجاب ولا احتجزت من الغمام بحاجز، بل ألقت إلى قرار الماء حجلها (3)، وأثبتت في
__________
(1) المراد: بغير ياء مشددة، أي بدون ياء النسب.
(2) في هامش الطبعة الأميرية: «لعله: القلاع».
(3) الحجل: الخلخال، والقيد.(12/24)
مستنقع الموت رجلها، وكشفت للحرب العوان قناعها، وأشعلت أبنيتها من الذهب شعاعها، وأشغلت أفنيتها البروق أن تطاول باعها، أو تحاول ارتفاعها قد جاورت قبّتها الزّرقاء أختها السّماء، وجاوزت بروجها منطقة البروج اعتلاء، وهي معقل الإسلام يوم فزعهم، وأمن قلوبهم أعاذها الله من جزعهم وقد نزل العدوّ عليها ونازلها زمانا بجموعه وأعانه عليه قوم آخرون، وأقدموا وتقدّموا وهم متأخّرون، وطاولوها فكانت حسرة عليهم، ونكالا لما خلفهم وما بين يديهم، وثبّت الله بها أقدام بقيّة القلاع، وقوّى بعزائمها إقدام من فيها على الامتناع وقلعة الجبل (1) المحروسة وإيّاها كالاختين، وهي لها ثانية اثنين، وكلتاهما لكرسيّ ملكنا الشريف منزل سعيد، ومتنزّه يودّ صفيح الأفلاك لو ترامى إليه من مكان بعيد.
فلمّا رسمنا بنقل من كان في النيابة الشريفة بها في منازلها من مكان إلى مكان، وقدّمناه أمامها كما يهتزّ في قادمة الرمح السّنان، واتّخذنا من بروق عزائمه لبعض ثغورها الضاحكة شنبا، ومن هممه المتّصلة المدد بها ما نمدّ منها إلى سمائها سببا اقتضى رأينا الشريف أن نعوّل في أمرها المهم، وبرّها الذي به مصالح كثير من ممالكنا الشريفة تتم، ونحلّي مشارفها بمن تضاحك البروق سيوفه في ليل كلّ نقع مدلهم، ونحمي حماها برجل تمنع مهابته حتّى عن نقل الأسنة (؟) طارق الطّيف أن يلم وهو الّذي لا تزعزع له ذرا، ولا يناخ لبادرة سيله في ذرا، ولا يقدر معه الأسد أن يبيت حول غابه مصحرا، ولا الطّير أن يحلّق إليه إلا ماسحا بجناحه على الثّرى، ولا أدلجت إليه زمر الكواكب إلا تقاعست فلا تستطيع السّرى.
وكان فلان هو حامي هذا الحمى، ومانع ما يحلو في الثّغور من موارد اللّمى، وغيور الحيّ فلا تبرز له إلا من عقائل المعاقل قاصرات الطّرف كالدّمى، وحافظ ما استودع من مصون، واستجمع من حصون، واستجهر من
__________
(1) قلعة الجبل بالقاهرة.(12/25)
موارد تردها من زرد الدروع عيون، ويفرّق منها المجانيق سحائب ممطرة بالمنون، فصمّم رأينا الشريف على اختياره ليوقّل (1) صهوة هذا الجواد، ويوفّي ما يجب لهذه العقيلة من مرتمق لحظ ومرتمى فؤاد، ويبحث من الشغف بها عن أمل آمل أو مراد مراد، ويعجب من عقيلتها المصونة أن أبراجها تتبرّج وما لنعماها إنعام ولا لسعادها إسعاد.
فرسم بالأمر الشريف العالي المولويّ، السّلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ أعلاه الله وشرفه، وأدام في الأرض ومن عليها تصرّفه أن تفوّض إليه النيابة بقلعة دمشق المحروسة: على عادة من تقدّمه وقاعدته، ومقاربته ومباعدته، وتخلّيه ومساعدته، وكل ما جرت به العوائد في رجائها ورجالها، ومالها ومآلها وهذه نيابة شريفة، وسحابة مطيفة، ونعمة تقابل برعايتها، وتكتم نوافجها (2) بإذاعتها وتقوى الله حلية عنقها، وحلّة أفقها، ومجرى المجرّة إجلالا في طرقها.
فعليك بحفظها ليلا ونهارا، وتفقّد أحوال من فيها سرّا وجهارا، وفتح بابها وغلقها مع الشمس، وتصفّح ما بها من لبس، وتتبّع أسبابها كما في النفس، والتّصدّي لملازمة الخدمة الشريفة في أبوابنا العالية ببابها، والأخذ في أدوات حفظها بمجامع أطرافها دون التمسك بأهدابها، والتّجسّس على من يلمّ فيها جفنه بكرى وما أثقله مناما، وإلزام كلّ واحد بما يلزمه من الوظائف في ليله ونهاره، وإدلاجه وابتكاره، ومن عليه في هذا المعقل إشراف من شرفاته أو تسوّر على أسواره، وإظهار الرّهج (3) والصّيت والسمعة بالاهتمام في كلّ ليلة بزفاف عروسها، وضرب الحرس لنواقيسها، والإعلان لصباح الخير لنا في صبحاتها والدعاء الصّالح في تغليسها (4)، وصيانة ما فيها من حواصل، أو يصل إليها من
__________
(1) أي ليصعد. وتوقّل في الجبل: صعّد فيه.
(2) النافجة: الريح الشديدة الهبوب ووعاء المسك في جسم الظبي. الجمع: نوافج.
(3) الرّهج لغة في الهرج وهو الشغب. والمراد: الصوت المرتفع.
(4) أي في ليلها.(12/26)
واصل، وما فيها من دخائر، وما في خزائنها العالية من مدد البحر الزّاخر، وما تشتمل عليه دار الضّرب من أموال تضرب للهبات برسمنا، وأموال الناس الّتي حملت إليها لتشرّف نقودها باسمنا، وخزائن السلاح المنصورة وما يستكثر فيها من عدد، وما يستغزر من مدد، والمجانيق الّتي تخطر منها كلّ خطّارة كالفنيق (1)، وتصعد ومرماها إلى السماء كأنّما تخطفه الطّير أو تهوي به الرّيح في مكان سحيق، شائلة عقاربها، آفلة بالأعمار كواكبها، والحدوج (2) والقسيّ والرايات وغير ذلك من سلاح، أو دروع تردّ السّهام على أعقابها وتحني قامات العوالي وتضيّق صدور الصّفاح. والبحريّة (3) وغيرهم من رجال هذه القلعة المحروسة من نجوم آفاقها، وغيوم إرعادها وإبراقها، وديمها إذا أسبلت المسالمة ذيولها وأعوانها إذا شمّرت الحرب عن ساقها. وبقيّة المستخدمين وأرباب الصنائع الذين هم عمارة أوطانها، وأمارة العناية بها من سلطانها، فكل ذلك مذخور لمنافع الإسلام، وما ريش السّهم لأنّه في كل ساعة يرمى ولا طبع السيف لأنه في كل بارقة يشام فاحفظ لأوقاتها تلك الموادّ المذخورة، والحظ هؤلاء الرجال فإنهم ظهر العساكر المنصورة، وخذ بقلوبهم وأوصل إليهم حقوقهم، واجمع على طاعتنا الشريفة متفرّقهم وأكرم فريقهم ومنهم المماليك السلطانية وهم إخوانك في ولائنا، والذين تشركهم في آلائنا، وبالغ في حفظ المعتقلين في سجونها، ولفظ المعتقدين خلافا في مكنونها ونحن نعيذها بالله أن نقول: تفقّدها بالترميم والإصلاح، ولكنّا نامرك أن تتعهّدها بما تتعهّده من الزّين الملاح ولك من معاضدة من في ذلك الإقليم، من لك برأيه طريق مستقيم،
__________
(1) الخطّارة: المقلاع، والمنجنيق. والفنيق من الإبل: الفحل. والمراد بالخطّارة هنا القذيفة القوية باندفاعها كفحل الإبل.
(2) في المعاجم الّتي بين أيدينا وجدنا الحدج بمعنى المركب كالهودج والمحفّة. وحدجه: رماه بالحدج، وهو الحنظل. ولعل المراد بالحدوج نوع من السلاح يرمي قذائف صغيرة كالحبات.
(3) البحرية: طائفة من الأجناد السلطانية كان عملهم المبيت بالقلعة وحول دهاليز السلطان في السفر كالحرس. وأول من رتب هذه الطائفة وسماها بهذا الإسم هو السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب. (راجع الصبح: 4/ 16).(12/27)
ومن تراجعه فيما أشكل عليك من الأمور، وتجد به في طاعتنا الشريفة نورا على نور، واتبع مراسمنا المطاعة فهي شفاء لما في الصّدور والوصايا كثيرة، والله تعالى يجعلك على بصيرة، ويتولّاك بما فيه حسن السّيرة، وصلاح السريرة والاعتماد (1).
وهذه نسخة مرسوم شريف بنيابة قلعة دمشق المحروسة، كتب بها لحسام الدين «لاجين الإبراهيميّ» (2) من إنشاء الشريف شهاب الدين، رحمه الله، وهي:
الحمد لله الّذي صان الحصون بانتضاء الحسام، وزان الملك بارتضاء ذوي اليقظة من الأولياء والاهتمام، وأبان سبيل السّعادة لمن أحسن بفروض الطاعة وأجمل القيام.
نحمده على أن جعل نعمنا لأصفيائنا وافرة الأقسام، ونشكره على أن أقبل عليهم بأوجه إقبالنا الوسام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لعقود إخلاصها انتظام، ولسعود اختصاصها التئام، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي منحه الإجلال والإعظام، ومدحه بالإفضال والإكرام، ورجّحه بمزايا الفضل على جميع الأنام، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه بدور التمام، ورضي عن أصحابه الذين لهم صدق الاعتزام، صلاة ورضوانا لهما تجديد ومزيد وتأييد ودوام، وسلم تسليما كثيرا.
وبعد: فإن آلاءنا لا تزال تختار الأكفاء، وآراءنا لا تبرح تمنح ذوي
__________
(1) لم يكمل طلبا للاختصار. وهو معلوم مما تقدّم في الجزء السابق.
(2) هو حسام الدين، لاجين بن عبد الله المنصوري. تولى نيابة قلعة دمشق أيام المنصور قلاوون. ثم تسلطن على مصر والشام سنة 695هـ وتوفي سنة 698هـ. (الأعلام: 5/ 238وتشريف الأيام والعصور: ص 292).(12/28)
المناصحة الإصفاء، ونعماءنا تديم لملابس إجلالها على أولى الخدم الإفاضة والإضفاء، وتفي بوعود جودها لمن أدام لمناهج المخالصة الاقتفاء.
ولما كان فلان هو الّذي عرفت له في مهمّاتنا خدم سالفة، وألفت منه همّة عليه خصّته بكلّ عارفة، وخوّلناه نعمنا الواكفة، وأهلناه لاستحفاظ الحصون فساعده توفّر التوفيق وساعفه، ونقّلناه في الممالك فسار سيرة حميدة اقتضت لمواهبنا لديه المضاعفة اقتضى حسن الرأي الشريف أن نرفع محلّه بأعزّ القلاع، ونطلعه بأفق سعدها أيمن إطلاع، ونندبه لضبطها فيحسن له فيها الاستقرار ويحمد منها له الاستيداع.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زالت صدقاته تحقّق الأطماع، وهباته تفيض ملابسها الّتي ليس لها انتزاع أن يستقرّ في نيابة قلعة دمشق
فليباشر النيابة بالقلعة المذكورة باذلا الاجتهاد، مواصلا للعزم والسّداد، عاملا بالحزم في كّل إصدار وإيراد، كافلا منها بحسن الاعتماد، حافظا حواصلها من الضّياع، مقرّرا أحوالها على أجمل الأوضاع، وليأخذ رجالها بالائتلاف على الخدمة والاجتماع، وليحرّضهم على المبادرة إلى المراسيم والإسراع وليطالع من أمورها بما يتعين عليه لأبوابنا العالية في المطالعة ويجب لعلومنا الشريفة عليه الاطّلاع، وليراجع كافل الممالك الشامية بما جعلنا لآرائه فيه الإرجاع، وليكن له إلى إشارته إصغاء واستماع، وإلى سبيل هديه اقتفاء واتّباع، وليقف عند ما يتقدّم به إليه فبذلك يحصل له الرّشد والانتفاع، والله تعالى يجددّ عليه سوابغ نعمنا الّتي جادت بأجناس وأنواع، ويجرّد في نصرتنا حسامه الّذي من بأسه الأعداء ترهب وترتاع، ويديم له ولجميع الأولياء من صدقات دولتنا الشريفة الإمتاع والخط الشريف أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه وصية نائب قلعة أوردها في «التعريف»:
وعليه بحفظ هذه القلعة الّتي زفّت إليه عقيلتها الممنّعة، وجليت عليه سافرة ودونها السماء بالسّحب مقنّعة، وسلّمت إليه مفاتيحها، وخواتيم الثّريّا أقفال، وأوقدت له مصابيحها، وفتائل (1) البروق لا تشبّ لقفّال. فليبدأ بعمارة ما دعت الحاجة إليه من تجديد أبنيتها، وتشييد أقبيتها، وشدّ عقودها، وعدّ ما لا يحصى [في الذخائر] (2) من نقودها، [وتنبيه أعين رجالها والكواكب قد همّت برقودها] (3)، والأخذ بقلوب من فيها، وتدارك بقية ذمائهم وتلافيها، وجمعهم على الطاعة، وبذر الإحسان فيهم إذا عرف أرضا تزكو فيها الزراعة، والتّمادي لهم: فربّ رجال تجزى عن عدّة سنين في ساعة، وتحصين هذا الحصن المنيع بما يدّخر في حواصله، ويستمد بعمارة البلاد المختصة به من واصله، وما يكون به من المجانيق الّتي لا ترقى عقاربها (4)، ولا توقى منها أقاربها، ولا تردّ لها مضارب، ولا يكفّ من زبانى (5) زبانيتها كلّ ضارب، ولا يخطيء سهمها، ولا يخفى بين النجوم نجمها، ولا يعرف ما في صندوقها [المقفل] (6)، من البلاء المرسل، ولا ما في فخذها المشمّر السّاق من النشاط الّذي لا يكسل وغيرها من الرايات الّتي في غيرها لا تشدّ، ولسوى خيرها لا تعقد، وما يرمى فيها من السهام الّتي تشقّ قلب الصّخر، وتبكي خنساء كلّ فاقدة على صخر (7)
وكذلك قسيّ اليد الّتي لا يد بها ولا قبل، وكنائن السّهام الّتي كم أصبح رجل وبه منها مثل الجبل وما يصان من اللّبوس (8)، ويعدّ للنعيم والبوس، وما يمدّ(12/29)
وهذه وصية نائب قلعة أوردها في «التعريف»:
وعليه بحفظ هذه القلعة الّتي زفّت إليه عقيلتها الممنّعة، وجليت عليه سافرة ودونها السماء بالسّحب مقنّعة، وسلّمت إليه مفاتيحها، وخواتيم الثّريّا أقفال، وأوقدت له مصابيحها، وفتائل (1) البروق لا تشبّ لقفّال. فليبدأ بعمارة ما دعت الحاجة إليه من تجديد أبنيتها، وتشييد أقبيتها، وشدّ عقودها، وعدّ ما لا يحصى [في الذخائر] (2) من نقودها، [وتنبيه أعين رجالها والكواكب قد همّت برقودها] (3)، والأخذ بقلوب من فيها، وتدارك بقية ذمائهم وتلافيها، وجمعهم على الطاعة، وبذر الإحسان فيهم إذا عرف أرضا تزكو فيها الزراعة، والتّمادي لهم: فربّ رجال تجزى عن عدّة سنين في ساعة، وتحصين هذا الحصن المنيع بما يدّخر في حواصله، ويستمد بعمارة البلاد المختصة به من واصله، وما يكون به من المجانيق الّتي لا ترقى عقاربها (4)، ولا توقى منها أقاربها، ولا تردّ لها مضارب، ولا يكفّ من زبانى (5) زبانيتها كلّ ضارب، ولا يخطيء سهمها، ولا يخفى بين النجوم نجمها، ولا يعرف ما في صندوقها [المقفل] (6)، من البلاء المرسل، ولا ما في فخذها المشمّر السّاق من النشاط الّذي لا يكسل وغيرها من الرايات الّتي في غيرها لا تشدّ، ولسوى خيرها لا تعقد، وما يرمى فيها من السهام الّتي تشقّ قلب الصّخر، وتبكي خنساء كلّ فاقدة على صخر (7)
وكذلك قسيّ اليد الّتي لا يد بها ولا قبل، وكنائن السّهام الّتي كم أصبح رجل وبه منها مثل الجبل وما يصان من اللّبوس (8)، ويعدّ للنعيم والبوس، وما يمدّ
__________
(1) الفتيلة: ذبالة السراج. وفي هامش الطبعة الأميرية أن الّذي في «التعريف»: وقناديل.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص: 95.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص: 95.
(4) أي لا يمكن الهرب منها وتجنبها، كما تتجنب العقارب بالرّقى والتعاويذ.
(5) زبانى العقرب: قرنها. والزّبانية: أصلها الشّرط، وسمي بها بعض الملائكة لدفعهم أهل النار إليها. والزّبانيان: نجمان في الميزان.
(6) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص: 95.
(7) إشارة إلى الشاعرة الخنساء، تماضر بنت عمرو بن الحارث، وأخيها صخر الّذي قتل في الجاهلية فبكته كثيرا وقالت فيه الشعر الكثير. توفيت سنة 24هـ. (الأعلام: 2/ 86ومعجم الشعراء: 110).
(8) في «التعريف»: «من العدد والعدد واللبوس».(12/30)
من الستائر الّتي هي أسوار الأسوار، ولمعاصم عقائل المعاقل منها حلّى سوى كلّ سوار وهي الّتي تلاث لثمها على مباسم الشّرفات، وتضرب حجبها على أعالي الغرفات، وسوى هذا مما تعتصم به شوامخ القلال، ويتبوّأ به مقاعد للقتال فكلّ هذا حصّله وحصّنه، وآحسبه وحسّنه، وأعدّ منه في الأمن لأوقات الشدائد، واجر فيه على شأو من تقدّم وزد في العوائد وهكذا ما يدّخر من عدد أرباب الصنائع، ومدد التحصين المعروف بكثرة التّجارب في الوقائع، والأزواد والأقوات، وما لا يزال يفكّر في تحصيله لأجل بعض الأوقات وكن من هذا مستكثرا، وله على ما سواه مؤثرا، حتى لا تزال رجالك مطمئنّة الخواطر، طيّبة القلوب ما عليها إلا السّحب المواطر واعمل بعادة القلاع في غلق أبواب هذه القلعة وفتحها، وتفقّد متجدّدات أحوالها في مساء كلّ ليلة وصبحها، وإقامة الحرس، وإدامة العسس، والحذار ممّن لعلّه يكون قد تسوّر أو اختلس، وتعرّف أخبار من جاورك من الأعداء حتى لا تزال على بصيرة، ولا تبرح تعدّ لكلّ أمر مصيره، وأقم نوب الحمام الّتي قد لا تجد في بعض الأوقات سواه رسولا، ولا تجد غيره مخبرا ولا سواه مسؤولا، وطالع أبوابنا العالية بالأخبار، وسارع إلى ما يرد عليك منها من ابتداء وجواب، وصبّ فكرك كلّه إليها وإلى ما تتضمّنه من الصواب.
المرتبة الثانية (من المراسيم الّتي تكتب بحاضرة دمشق لأرباب السيوف ما يكتب في قطع الثلث، وفيها وظيفتان)
الوظيفة
الأولى شدّ الدواوين بدمشق
. وصاحبها يتحدّث فيما يتحدّث فيه شادّ (1)
الدواوين بالديار المصرية، وقد تقدّم.
__________
(1) كانت مهمة شادّ الدواوين مرافقة الوزير والتفتيش على مالية الدواوين وعلى موظفيها. وعادته إمرة عشرة. (مصطلحات صبح الأعشى: 191).(12/31)
وهذه نسخة مرسوم شريف بشدّ الدّواوين بدمشق:
الحمد لله الّذي أرهف لمصالح دولتنا القاهرة من الأولياء، سيفا ماضيا، وجرّد لمهمّات خدمتنا الشريفة من الأصفياء، عضبا يغدو الملك عن تصرّفه الجميل راضيا، وجدّد السّعود في أيامنا الزاهرة لمن لا تحتاج هممه في عمارة البلاد المحروسة متقاضيا.
نحمده على نعمه الّتي تستغرق المحامد، وتستوجب الشّكر المستأنف على الحامد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مجاهد لأعدائها، مجاهر لإعلائها، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أشرف الأنبياء قدرا، وأوّلهم في الرتبة مكانة وإن كان آخرهم عصرا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين نهضوا بما أمروا، وعمروا الدّين قبل الدنيا فلم تتمكن الأياّم من [نقض] (1) ما عمروا، صلاة يتأرّج نشرها، ويتبلّج بشرها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى من عدق (2) به من مهماتنا الشريفة أعمّها نفعا، وأحسنها في عمارة البلاد وقعا، وأكثرها لخزائن الأموال تحصيلا وجمعا، وأجمعها لمصالح الأعمال، وأضبطها لحواصل الممالك الّتي إذا أعدّ منها جبالا تلا عليها لسان الإنفاق: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبََالِ} (3)، من زانت عزمه نزاهته، وكمّلت قوّته في الحقّ خبرته ونباهته، وكان من أولياء دولتنا المعدّين لشدّ أركانها، وإشادة بنيانها، والنّهوض بمصالحها المتنوّعة، ونشر كلمة عدلها الّتي تغدو بالأدعية الصالحة مبسوطة وبالأثنية العاطرة متضوّعة.
ولما كان فلان هو الّذي أشير إلى محاسنه، ونبّه على إبريز فضله المظهر من معادنه، مع صرامة تخيف اللّيوث، ونزاهة تعين على عمارة البلاد الغيوث،
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) المراد نيط به، ووكل إليه.
(3) طه / 105.(12/32)
وخبرة بإظهار المصالح الخفية وفيّة، وبإبراز معادن الأموال من وجوهها الجليّة مليّة، ومعرفة تعمّ البلاد بين الرغبة والرهبة، وتجعل مثل ما يودع فيها بالبركة والنماء مثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة اقتضت آراؤنا الشريفة أن ننبّه على حسن اعتنائنا بأمره، واعتمادنا بما قدّمه من أسباب إسناء رتبته ورفعة قدره فلذلك رسم زاد الله في علائه أن يفوّض إليه
فليباشر ذلك مظهرا من مصالح الدولة القاهرة ما كان في ضمير كفايته مكنونا، مبرزا من تثمير الأموال وتعمير الأعمال ما يحقّق به من خصب البلاد بمشيئة الله تعالى ما كان مظنونا، مواليا إلى الخزائن المعمورة من حمول تدبيره ما يمسي به طائر تصرّفه ميمونا، وسبب توقفه مأمونا. وليكن النّظر في عمارة البلاد هو المهمّ المقدّم لديه، والأمر الّذي يتعين توفّر اهتمامه عليه، فليجتهد في ذلك اجتهادا يظهر أثره، ويجتنى ثمره، ويحمد ورده وصدره، وتتفرّع عنه أنواع المصالح، وتترتّب عليه أسباب المناجح وملاك ذلك بسط المعدلة الّتي هي خير للبلاد من أن تمطر أربعين يوما، واعتماد الرّفق الّذي لا يضرّ معه البأس قوما، ولا يجلب على فاعله مع الحزم لوما، ولا يطرد عمن أنامه العدل في مهاد الدّعة نوما وليصرف إلى استجلاب الأموال وموالاة حملها همّة ناهضة، وعزمة إلى ما قرب ونأى من المصالح راكضة، وقوّة بأسباب الحزم آخذة وعلى أعنّة التدبير قابضة، وفيما خبرناه من عزائمه المشكورة، وسيرته الّتي ما برحت بين أولياء دولتنا القاهرة مشهورة، ما يكتفى به عن الوصايا المؤكّدة، ويوثق به فيما عدق به من الأمور المسدّدة لكن تقوى الله تعالى أولى الوصايا وأوّلها، وأحقّ ما تليت عليه تفاصيلها وجملها فليقدّم تقوى الله بين يديه، ويجعلها العمدة فيما اعتمد فيه عليه، بعد الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه.
الوظيفة الثانية شدّ المهمّات
. وصاحبها يتحدّث فيما يطلب للأبواب السلطانية من المستعملات وغيرها. وقد ذكر في «التثقيف» أنّ عادته أن يكون
مقدّم ألف (1)
وهذه نسخة توقيع بشدّ المهمات بدمشق، وهي:(12/33)
وصاحبها يتحدّث فيما يطلب للأبواب السلطانية من المستعملات وغيرها. وقد ذكر في «التثقيف» أنّ عادته أن يكون
مقدّم ألف (1)
وهذه نسخة توقيع بشدّ المهمات بدمشق، وهي:
الحمد لله الّذي شدّ عرى المصالح من الأولياء بكل ذي أيد (2)، وكلّ من هو في المهمات أبطش بعمرو من زيد، ومن له تدبير كم أغنى باقتناصه لشوارد الأمور عن حبالة صيد.
[وبعد] (3) فإن أحق من استخلص لاستخلاص الأموال، واختير لصونها من الاختزال وحفظها من الاختلال، وأهّل قلمه وكلمه: هذا للتمثيل وهذا للامتثال، وفوّض إليه التّصرّف في الترغيب والترهيب، والاجتهاد في التّمييز والتّحرير والتّوفير إذ كلّ مجتهد مصيب من اشتهر بأنه ذو حزم لا يني، وعزم عن المصالح لا ينثني، واحتفال بالأحوال الّتي منها نكر لمن يجني وشكر لمن يجتني، وله نباهة يدرك بها كلّ إيهام وكلّ إبهام، ويطلع [بها] (4) على فلتات ألسنة الأقلام، ويفهم بها مقاصد كلّ من هو من الجنّة في كلّ واد يهيم، ولا يخفى عليه جرائر الجرائد ولا مخازي المخازيم (5) وفيه رحمة كم أصبح بها وهو الأتقى، ولم يأت قساوة يكون بها هو المنبتّ (6) الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى وكم ساس الأمور ودبّرها فأحسن فيها السياسة وأجمل التدبير، واستخرج [الشّيء الكثير] (7) بالتخويف اليسير، حتّى جمع حسن تدبير واسترعا، وصنع حسنا وأحسن صنعا.
__________
(1) قال في الجزء الرابع من هذا الكتاب: «وتكون تارة لنائب السلطنة بدمشق، وتارة لحاجب الحجاب، وتارة لبعض الأمراء من المقدمين والطبلخانناه، بحسب ما يقتضيه رأي السلطان».
(2) الأيد: القوّة.
(3) الزيادة يقتضيها السياق.
(4) من الجناية.
(5) خزم البعير: ثقب أنفه.
(6) المنبتّ: الذي انقطع في سفره وعطبت دابته. ومنه قول مطرّف: «إن المنبتّ لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى». (انظر اللسان: 2/ 7).
(7) الزيادة يقتضيها السياق.(12/34)
ولما كان فلان هو لهذا الأمر الجليل المسترعى، واسمه في أوّل مدارج التّنويه والتّنويل خير مستدعى، وفيه من جميل الأوصاف ما يرضي حسن الاقتراح وقد خبر أمور الكتبه، وقد علم من أحوالهم ما هو أحرى لهم بالتّجربة، وعرف خفايا المعاملات معرفة تامّة، وأحاط بجزئيات الجهات وكلّيّاتها إحاطة خاصّة وعامّة اقتضى حسن الرّأي المنيف، أن رسم بالأمر الشريف لا برح يشدّ عضد كلّ مهتمّ من الأولياء بأخي كل عزم، ويجعل له سلطانا لا يكل مصلحة إلى حزم ذي حزم أن يفو ض إليه شدّ المهمات بالشام المحروس.
فليضبط الأمور ضبطا مستوعبا، ولينتصب لذلك انتصابا مترتّبا، وليحترز منفّذا ومصرّفا، ومسرعا ومستوقفا، ومتى ظهر حقّ يتمسك به تمسّك الغريم (1)، ولا يحاب فيه ذا بأس قويّ ولا ذا منهج إلى المنع والدّفع غير قويم وما من جهة إلا ولها شروط صوب الصّواب، ولا يعتمد على غير الحقّ منكّبا عن ترويج الكتاب، ولتكن الحمول مسيّرة، والمتخرّجات متوفّرة، وجهات الخاصّ مقرّرة، إذ الضّمّان لا ينتظر لهم نظرة إلى ميسرة (2)، فإنهم سوس المعاملات، وكواسر الجهات، ومنهم يحفظ أو يضاع، وبهم يترقّى أو ينحطّ الارتفاع، وجهات المقطعين الواجب له أن يجعل عليها واقية باقية، ولتحم لهم حتّى لا يتطاول إلى ذروتها امتداد الأيدي المختزلة ولا خطا العدوان الرّاقية، وليصرف وجهه بحفظه إلى مراقبة من في باب الشّدّ (3) من مقدّمين ومن رسل يأكلون أموال الناس بالباطل، ويبيعون الآجل بالعاجل، ويخيفون العامّ والخاص، وكل منهم يروم الغناء وهو رقّاص.
هذه زبدة من الوصايا مقنعة، وعزمات غنيّة عن تكثير في القول أو توسعة والله تعالى يكون له ويعينه، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الغريم: الدائن.
(2) من قوله تعالى: {«وَإِنْ كََانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى ََ مَيْسَرَةٍ»}: سورة البقرة / 280.
(3) الشدّ: التفتيش.(12/35)
الصنف الثاني (من الوظائف بدمشق الوظائف الدينية، وجميع ما يكتب فيها تواقيع، وهي على مرتبتين)
المرتبة الأولى (ما يكتب في قطع النصف ب «المجلس العاليّ بالياء» مفتتحا ب «الحمد لله»
وبذلك يكتب للقضاة الأربعة بحاضرة دمشق.
وهذه نسخة توقيع بقضاء الشافعية بدمشق المحروسة، كتب به لقاضي القضاة «بهاء الدين أبي البقاء السّبكي» (1) وهي:
الحمد لله الّذي أقرّ أحكام الشّرع الشريف، في أيامنا الزاهرة على أكمل القواعد، وأمرّ مدار الحكم المنيف، في دولتنا القاهرة على أجمل العوائد، وأمضى فصل القضاء في ممالكنا الشامية بيد إمام غنيت فضائله عن الشواهد، وأمته الأئمّة لاقتباس الفوائد، وعدقت أحكام الملّة منه بمجاهر في الحق مجاهد، مسدّد في الدّين سهم اجتهتاد رمى به شاكلة (2) الصّواب عن أثبت يد وأشدّ ساعد.
نحمده على نعمه الّتي حلّت مناصب الدين في ممالكنا الشريفة بأكفائها، وعلّت رتب العلم في دولتنا القاهرة باستقرار من جعلته فضائله غاية اختيارها ونهاية اصطفائها، ودلّت على اعتنائنا بتنفيذ أحكام من أتعبت سيرته الجميلة من سهد في اتّباعها وجهد في اقتفائها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا تزال أعلامنا بها تنتصر، وأيّامنا على الجهاد لتكون كلمتها
__________
(1) هو محمد بن عبد البرّ بن يحيى بن علي بن تمام، أبو البقاء السبكي المتوفى سنة 777هـ.
ويعرف أيضا بابن عبد البرّ. ولي قضاء دمشق ثم طرابلس، وعاد إلى القاهرة فولي قضاء العسكر ووكالة بيت المال والقضاء الكبير. (الأعلام: 6/ 184، وكشف الظنون: 625، والجوهر الثمين: 2/ 234).
(2) الشاكلة: الخاصرة، والجمع: شواكل.(12/36)
هي العليا تقتصر، وأقلامنا لنشر دعوتها في الآفاق تسهب ولا توجز وتطنب ولا تختصر، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أشرف من قضت أمّته بالحقّ فعدلت، وتلقّت عنه أحكام ملّته ففاقت بذلك الأمم وفضلت، وحكمت بما أراها الله من شرعته فما مالت عن سننه القويم ولا عدلت، صلّى الله عليه وعليه آله وصحبه الذين أسلموا لله فسلموا، وعملوا في دين الله بما علموا، وبذلوا النفوس في طاعته فما استكانوا لما أصابهم في سبيل الله ولا ألموا، صلاة نؤدّي بها من أمر الله المفترض، ونرغم بإقامتها الذين في قلوبهم مرض، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى من تنقّل في رتبه السّنيّة، ووطّدت له بمصر والشّام قواعد سيرته السّريّة، وأطلقت جياد اليراعة في إمضاء حكمه في المملكتين مثاني أعنتها وأنطقت صعاد البراعة في أعلاء بهائه فيهما [السنة] (1) أسنتها وأردنا أن نردّه إلى أعزّ الممالك علينا لنقرّ عينها، وقصدنا أن نعيده إلى رتبته بها لنوفّي باستعادته دينها، واخترنا أن نجدّد لهذه الوظيفة سالف عهده، وأن نريه اعتتناءنا بأمر منصبه الّذي لم يله مثله من الأئمّة من بعده، وعلمنا أنّ الديار المصرية قد اختصت بفضائله زمنا طويلا، وأن البلاد الشّاميّة قد ألفت من أحكامه ما لم ترد به بديلا من ظهرت فضائله ظهور نعته، وتهادت فوائده رفاق الآفاق: من علماء زمانه وأئمة وقته، وعلمت أوصاف الصّدور الأول من علمه وورعه وسمته (2)، ونشرت الأيام من علومه ما لم يطوبل تطوى إليه المراحل، ونقلت الأقلام من فنونه ما روى فيروى به السّمع الظّامي ويخصب به الفكر الماحل، وألفت الأقاليم من حكمه ما غدت به بين مسرور بإشراقه، ومروّع بفراقه، فمن أقضية مسدّدة، وأحكام مؤيّدة، وأقوال منزّهة عن الهوى، وأحوال صادرة عن زهادة محكمة القواعد ونزاهة مجتمعة القوى، وإصابة دالّة على ما وراءها من علم وورع، وإجابة في الحقّ تحيا بها السّنن وتموت البدع، وشدّة في الدّين تصدع
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) السّمت: السكينة والوقار.(12/37)
في كل حكم بالحقّ وإن صدع، وعدل لا يستلان جانبه، وحزم لا يستزّل صاحبه، ولا يستنزل راكبه، وقوة في الحقّ تمنع المبطل من الإقدام عليه، ولين في الله يفسح للحقّ مجال القول بين يديه، ومجالس غدت بالعلم طيّبة الأرج، وفضائل يحدّث فيها عن موادّ فكره عن البحر ولا حرج وبدائع تضرب إلى استماعها أكباد الإبل، وبدائه تهرم الأيام وعمر شبابها مقتبل.
ولما كان المجلس العاليّ أدام الله نعمته هو الّذي ورد على أبوابنا العالية ونور ولائه يسعى بين يديه، وصدر الان عنها وحلل آلائنا تضفو عليه، وأقام في خدمتنا الشريفة معدودا في أكرم من بها قطن، وعاد إلى الشّام مجموعا له بين مضاعفة النّعم والعود إلى الوطن، وهو الّذي تختال به المناقب، وتختار فضله العواقب، ويشرق قلمه بالفتاوى إشراق النّهار، وتغدق منافعه إغداق السّحب بالأمطار، وتحدق الطّلبة به إحداق الكمامة بالثّمر والهالات بالأقمار وهو شافي عيّ كلّ شافعيّ، ودواء ألم كل ألمعيّ طالما جانب جنبه المضاجع سهادا، وقطع اللّيل ثم استمدّه لمدد فتاويه مدادا، وجمع بين المذهبين نظرا وتقليدا، والمذهبين من القولين قديما وجديدا، وسلك جميع الطّرق إلى مذهب إمامه، وملك حسانها فأسفر له كلّ وجه تغطّى من أوراق الكتب بلثامه، وانفتحت بفهمه للتصانيف أبواب شغلت «القفّال» (1) أقفالها، ونفحت نفحات ما (للماورديّ» مثالها، ومنحت حللا يفخر «الغزاليّ» إذا نسج على منواله سربالها فلو أدركه «الرّافعيّ» لشرح «الوجيز» (2) من لفظه، وأملى
__________
(1) ثلاثة من علماء الشافعية يعرف كل منهم بالقفّال وهم: محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي، أبو بكر، المتوفى سنة 563هـ. والثاني عبد الله بن أحمد المروزي، أبو بكر، المتوفى سنة 417 هـ، ويعرف بالقفّال الصغير للتمييز بينه وبين القفال الأول. والثالث هو محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر، أبو بكر الشاشي الفارقي الملقب فخر الإسلام، رئيس الشافعية بالعراق في عصره، والمتوفى سنة 507هـ. (الأعلام: 6/ 274و 4/ 66و 5/ 316وطبقات الشافعية:
117 - و 197، 88).
(2) وهو كتاب «الوجيز» في الفروع للإمام أبي حامد الغزالي. من أهم شروحه الشرح الكبير الّذي وضعه الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن محمد القزويني الرافعي الشافعي المتوفى سنة 623هـ والّذي سماه «فتح العزيز على كتاب الوجيز» (كشف الطنون: 2002).(12/38)
أحكام المذاهب من حفظه، وصدّر المسائل بأقواله، وأعدّ لكلّ سؤال وارد حجّة من بحثه وبرهانا من جداله فله في العلم المرتقى الّذي لا يدرك، والمنتهى الّذي لا ينازع في تفرّده ولا يشرك، والغاية الّتي أحرزها دون غيره فلولا المشقة لم تترك، وهو الّذي ما زال بهذه الرتبة مليّا، وبما عدق بذمّته من أحكامها وفيّا، وبكلّ ما يرضي الخليقة عنه من أحوالها قائما وكان عند ربّه مرضيّا، وبأعبائها مستقلّا من حين منحه الله العلم ناشئا وآتاه الحكم صبيّا. وما برح تدعوه التّقوى فيجيبها، ويترك ما لا يريب نفسه تنزيها عمّا يريبها فكم فجّر بالبلاد الشّاميّة من علمه عيونا، وغرس بها من أفنان فضله فنونا، وكان لها خير جار ترك لها ما سواها، وأكرم نزيل نوى بالوصول إليها مصلحة دينه فلم يضيّع الله له نيّته الّتي نواها، وألف قواعد أهلها وعوائدهم، وعرف بحسن اطلاعه ما جبل الله عليه غائبهم وشاهدهم، وعدوه من النّعم المقبلة عليهم، واقتدوا في محبّته بالذين تبوّأوا الدّار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ثم قدم إلى الدّيار المصرية وما كان قدومه إلا علينا، ووفد إليها بحسن مودّته ومحبته اللّتين ما وفد بهما إلا إلينا، فرأينا منه إماما لا يحكم في توليته الحكم بالهوى، ولا ينوى في تقليده القضاء غير مصلحة المسلمين «ولكلّ امري ما نوى» وهو بحمد الله لم يزل بقواعد هذا المنصب خبيرا، وبعوائد هذه الرتبة بصيرا، وبإجرائها على أكمل السّنن وأوضح السّنن جديرا، وبإمضاء حكم الله الّذي يحقّق إيجاد الحقّ فيه للأمة أنّه من عند الله {وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً} (1)، مع ما تكمّلت به فضائله من الوقوف مع الحقّ المبين، والتّحلّي بالورع المتين، والتّخلّي للعبادة الّتي أصبح من اتصف بها مع النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين.
فلذلك رسم بالأمر الشريف الأشرفيّ النّاصريّ لا زال علم العلم في
__________
(1) النساء / 82.(12/39)
أيامه مرفوعا، وألم الجهل بما خص الله به دولته من الائمة الأعلام مدفوعا أنّ يفوّض إلى المشار إليه قضاء القضاة الشافعيّة، ونظر الأوقاف بدمشق المحروسة وأعمالها بالبلاد الشامية، وما هو مضاف إلى ذلك من الصدقات والتّداريس والتصدير وغير ذلك، على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته ومعلومه.
فليقابل هذا التقليد السعيد بيد زيد في الحقّ تمكّنها، وعلى الخير تمرّنها، وفي العدل انبساطها، وفي أحكام الله تعالى بحسن المعاضدة على الحقّ قوّتها واحتياطها، وليمض على ما ألف من سيرته الّتي زان العلم أوصافها، وزان الورع اتّصافها، وحلّى العدل مفاخرها، وأحيا التّقى مآثرها، وتناقلت رفاق الآفاق أحكامها، واستصحبت من هدايا هداها ما تتحف به حكّامها وفيما نعت من محاسنه ما يغني عن الوصايا المجدّدة، والإشارات المردّدة لكن الذكرى بتقوى الله تنفع المؤمنين، وترفع المتّقين، وتجمع مصالح الدنيا والدين فلجعلها خلقه ما استطاع، ولير حكمها هو الحكم المتبع وأمرها هو الأمر المطاع والاعتماد (1). رابع عشر المحرم سنة خمس وسبعين وسبعمائة.
قلت: ولم أقف على تفويض لقاض من كتابة من تقدّم سوى تفويض واحد، من إنشاء المقر الشّهابيّ (2) بن فضل الله، كتبه لقاضي القضاة «شهاب الدين ابن المجد عبد الله» بالشام المحروس، على مذهب الإمام الشافعيّ. وهذه نسخته:
الحمد لله على التّمسّك بشرائعه، والتّنسّك بذرائعه، والتّوسّل إلى الله بتأييد أحكام شارعه، والتوصل به إلى دين يقطع به من الباطل أعناق مطامعه.
نحمده حمدا يأخذ من الخير بمجامعه، ويضاهي الغمام في عموم
__________
(1) بيض لها بالأصل اختصارا.
(2) شهاب الدين، أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري، صاحب «التعريف».(12/40)
منافعه، ويباهي السيف بقلم الشرع في قهر عاصيه وحماية طائعه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تؤدّي للإيمان أمانة ودائعه، وتهدي إلى صيانة مشارعه، وتقيم من العلماء كلّ شهاب تقسم الأنوار بلوامعه، وتقسم الأبصار ببدائعه، وتجول الفتاوى في صدره الفسيح وتتجوّل في شوارعه، وترهف منهم للحكم العزيز كل قلم يدلّ السهم على مواقعه، وينبّه الرمح من مقاتل الأعداء على مواضعه، ويسري غمامه إلى الأعداء بصواعقه وإلى الأولياء بهوامعه، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أسعد الأمة بطالعه، وأصعد الأئمة في مطالعه، وأسعف الملّة بما أبقى الله فيها من حسن صنائعه ويمن طلائعه، ومن شريعته الّتي أمن حبلها الممدود من جذب قاطعهع، وكفي شر قاطعه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة [تتوالى إليه توالي] (1) العذب إلى منابعه وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن الله لما أقامنا لحماية شرعه الشريف أن يستباح حماه، أو يباح لأحد من حكّامه أن يركب هواه، أو يتعدّى حدوده في سخطه أو رضاه، أو يحدث في أمره ما ليس منه إلا أن يكون ردّا على سواه [جعلنا] (2) نجدّ على إقامة مناره أن يطمس، وإدامة مبارّه أن يقلع منارها أو يبخس، استدامة لتأبيس (3)
حكّامه، وتأييد أحكامه، لأنّه سحائب أنواء يعمّ الربيع ربوعها، ومشكاة أنوار يكاثر الصّباح لموعها، وأفاويق وفاق تنيم به الأمّة ضروعها، وشجرة مباركة إسلامية زكت أصولها ونمت فروعها، شكرا لله على ما خصّنا به: من تحصين ممالك الإسلام، وتحسين مسالك دار السلام، لنمنع المحن أن تسام، وبروق الفتن أن تشام، ووجوه الفتوى أن تتزين إلّا بشامة الشّام، غبطة بأن الله جعل للإسلام منها ما هو خير وأبقى، وأشرف وأتقى، وأعظم بلد تتشعّب بالمذاهب طرقا، وتودّ المجرّة لو وقفت بها على الشريعة نسقا، تتزاحم في مركزها
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) التأبيس: التصغير والتحقير والإذلال. ولعل في اللفظ تحريفا عن «التأبيد» فتأمّل.(12/41)
الأعلام، وتتضافر على الجهاد في الله بالجلاد والجدال تارة بالسيوف وتارة بالأقلام. ودمشق حرسها الله هي أمّ ذلك الإقليم، ومدده الّذي يحنو على مشارعها حنّو الوالدة على الفطيم، وتنبت بها فوائد لا تأمن معها الغواني حتّى تلمس «جانب العقد النّظيم» وهي دار العلم، ومدار الحكم، وموطن علماء تتعاقب فيها كواكبهم، وتتناوب سحائبهم، وتتناهى إلى حكمها العزيز الشكوى وتنفصل بحكم حاكمها الدعوى، ويمتدّ جنناح طيلسانه على رضوى (1) ويحلق البرق وراء فهمه ولا يبلغ غايته القصوى، ويطول قلمه على السيف المشهّر (2)، ويرفرف سجلّه على الشرع المطهّر كم حلّت في صدوره صدور، وكم طلعت منهم شموس وبدور، وكم حمدت منهم أمور عاقبة ولله عاقبة الأمور، كم أداء درس بهم ذكر، وكم أدب نفس شكر، كم بهم مجد رسخ، وجدّ لملّة ممالاة نسخ، كم أقضية لهم بالحق وصلت، وقضيّة للحقّ فصلت، ومهنة من غلبهم اللاحق حصلت، كم سجلّ صاحب هذا المنصب حامل علمه المنشور، ومصباح ديمه الحافلة على ممرّ الدّهور، بشرف مدرّس علم يطلع من محرابه، ونسّاك حلم يبدو بدره التّمام خلف سحابه، ومجلس إفادة، انعقد عليه فيه الإجماع ومحفل ساد ة، كان فيهم واسطة عقد الاجتماع.
[ولما] (3) تزلزلت قدم منابره، وانتهك حجاب ضمائره، واستزلّه الشيطان بكيده المتين، وأضلّه على علمه المبين، وسبق القلم الشّرعيّ، بما هو كائن، ومضى الحكم القطعيّ، بما هو من تصرّفه بائن تردّد الاختيار الشريف فيمن نحلّي جيده بتقليدها، ونؤهّل يراعه لتسليم مقاليدها، وصوّبنا صواب النّظر فيها مصرا وشاما، واستشرفنا أعلاما، وتيقنّا لأقوى ما يكون [لها] (4) قواما، وابتكرنا أنه لا يصلح إلا من كان لحلّة المجد طرازا، ويزيد العمل إليه اعتزاء والعلم به
__________
(1) جبل بالمدينة المنورة.
(2) شهّره: مبالغة في شهره.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/42)
اعتزازا، إلى أن أجمع رأينا العالي على من لا ينكر ذو قدم ولا قدم ولا قلم، أنه السابق، ولا يجحد ربّ علم ولا عمل ولا علم، أنه الباسق، ولا يشكّ أنّ من فوائده يستمدّ المطر ومن توقّد ذهنه يقدح زناد البارق، ولا يرتاب البحر أن فرائده ما يطوّق العنق ويشنّف الأذن ويتوّج المفارق، ولا يمارى في فضله الّذي لو طلب له مثيل لم يصب، ولو ادّعى الكوكب السّاري أنّه له شبيه لمسّه النّصب، أو تلفّتت أعناق القنا إلى قلمه لأيقنت أنها كلّ على القضب وهو الّذي أفنى عمره في تحصيل العلم اشتغالا، وجدّ في الطّلب لصالح العمل وإن تغالى، وبقي فقيه قوم ما جدّ منهم مثله ماجد، ولا جادت يد كريم منهم تمتدّ بما هو جائد، ودرج أقرانه إلى الله وخلّي دونهم شرعا لا يردّ واردا، وخلّف بعدهم سهما في الكنانة واحدا.
وكان المجلس العاليّ أدام الله تأييده هو الّذي تختال به المناقب، وتختار فضائله العواقب، وتشرق بقلمه الفتاوى إشراق النّهار، وتغدق منافعه إعداق السّحب بالأمطار، وتحدق به الطّلبة إحداق الكمامة بالثّمر والهالات بالأقمار، وهو شافي عيّ كلّ شافعيّ، ودواء ألم كل المعيّ، طالما جانب جنبه المضاجع سهادا، وقطع الليل ثم استمدّه لمدد فتاويه مدادا، وجمع بين المذهبين نظرا وتقليدا، والمذهبين من القولين قديما وجديدا، وسلك جميع الطرق إلى مذهب إمامه، وملك حسانها فأسفر له كل وجه تغطّى من أوراق الكتب بلثامه، وانتفتحت [بفهمه] (1) للتصانيف أبواب شغلت «القفّال» أقفالها، ونفحت له نفحات ما «للماورديّ» مثالها، وسفحت ديم غزار يسقي «المزنيّ» سجالها، ومنحت حللا يفخر «الغزالي» إذا نسج على منواله سربالها.
فرسم بالأمر الشريف لا زال يجدّد ملابس فضله، ويقلّد كلّ عمل لصالح أهله أن يفوّض إليه قضاء قضاة الشافعية بدمشق المحروسة وأعمالها وجندها وضواحيها، وسائر الممالك الشامية المضافة إليها والمنسوبة لها
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/43)
والمحسوبة فيها، يولّى ذلك ولاية صحيحة شرعية، على عادة من تقدّمه وقاعدته المرعيّة، مع ما هو مضاف إلى من كان قبله من تدريس المدارس، تفويضا لا ينافسه فيه منافس، ولا يجالسه في درسه إلا من ارتضى من النجوم أن يجالس وأذنّا له أن يستنيب عنه من لا يخجل عند الله ولا عندنا باستنابته، ولا يداخله ظنّ في خلاص ذمته بإنابته إلى الله في نيابته على أنّه يتفقد أعمالهم، ويتصفّح أحوالهم: فمن نقل إليه ثقاته أنه على طريق مستقيم أقرّه، وإلا صرفه ثم لا يكون له إلى عمله كرّة وهو القائم بحجّة الشرع الشريف وحجة الله عليه قائمة، وعليه إن قصّر والعياذ بالله في أموره تعود اللائمة وأنت تعلم أنّا ما كنّا نعرفك عيانا، وإنّما وصفت لنا حتى كأنّا نراك وسمعت بما نحن عليه حتى كأنّك ترانا فشيّد لمن شيّد لك شكرهم أركانا، وأعلى ذكرهم لمجدك بنيانا، وجعل لك قدرهم الجميل منّا سلطانا، وأقم بحسن سلوكك على ما قالوا فيك برهانا، واعرف لهم حقّ معروفهم وجازهم عن حسن ظنّهم بالحسنات إحسانا.
ونحن نوصيك بوصايا تشهد لنا يوم القيامة عليك ببلاغها، ويعترض منها في الحلوق شجا: فأيّ الرجال يقدر على مساغها، فإن قمت بها كان لنا ولك في الأجر اشتراك، وإن أضعت حقوقها فالله يعلم أننا أخرجنا هذه الأمانة من عنقنا وقلّدناك والله وملائكته بيننا وبينك شهود على ما أوليناك وما ولّيناك فعليك بتقوى الله في السّرّ والإعلان، والعمل بما تعلمه سواء رضي فلان أو سخط فلان، والانتهاء إلى ما يقتضيه عموم المصالح، وإمضاء كل أمر على ما أمر الله به رسوله صلّى الله عليه وسلّم وكان عليه السّلف الصّالح، وإقامة حدود الله ولا تتعدّ حدوده، وقمع البدع لإظهار الحق لا لإثارة فتنة مقصودة فقد علمت ما أنكرته أنت وأمثالك من الأئمة العلماء على من تقدّمك من تسرعه في مثل ذلك، وتطلّعه إلى مطالب سقط دونها في مهاوي المهالك فإيّاك إيّاك أن تتّبع في هذا النّحو سبله، أو «تنه عن خلق وتأتي مثله» والصدقات الحكمية على مادّة المساكين، وجادّة الشّاكين، ففرّقها على
أهلها، واجمع لك الحسنات عند الله بتبديد شملها، ولا تبق منها بقية تبقى معرّضة لأكلها، فلو أراد واقفوها رحمهم الله أنها تبقى مخزونة، لما سمحوا ببذلها وبقيّة الأوقاف شارف في أمورها، وشارك الواقفين رحمهم الله في أجورها، وخص الأسارى أحسن الله خلاصهم بما يصل به إحسانك إليهم، ويضع عنهم إصرهم والأغلال الّتي كانت عليهم.(12/44)
ونحن نوصيك بوصايا تشهد لنا يوم القيامة عليك ببلاغها، ويعترض منها في الحلوق شجا: فأيّ الرجال يقدر على مساغها، فإن قمت بها كان لنا ولك في الأجر اشتراك، وإن أضعت حقوقها فالله يعلم أننا أخرجنا هذه الأمانة من عنقنا وقلّدناك والله وملائكته بيننا وبينك شهود على ما أوليناك وما ولّيناك فعليك بتقوى الله في السّرّ والإعلان، والعمل بما تعلمه سواء رضي فلان أو سخط فلان، والانتهاء إلى ما يقتضيه عموم المصالح، وإمضاء كل أمر على ما أمر الله به رسوله صلّى الله عليه وسلّم وكان عليه السّلف الصّالح، وإقامة حدود الله ولا تتعدّ حدوده، وقمع البدع لإظهار الحق لا لإثارة فتنة مقصودة فقد علمت ما أنكرته أنت وأمثالك من الأئمة العلماء على من تقدّمك من تسرعه في مثل ذلك، وتطلّعه إلى مطالب سقط دونها في مهاوي المهالك فإيّاك إيّاك أن تتّبع في هذا النّحو سبله، أو «تنه عن خلق وتأتي مثله» والصدقات الحكمية على مادّة المساكين، وجادّة الشّاكين، ففرّقها على
أهلها، واجمع لك الحسنات عند الله بتبديد شملها، ولا تبق منها بقية تبقى معرّضة لأكلها، فلو أراد واقفوها رحمهم الله أنها تبقى مخزونة، لما سمحوا ببذلها وبقيّة الأوقاف شارف في أمورها، وشارك الواقفين رحمهم الله في أجورها، وخص الأسارى أحسن الله خلاصهم بما يصل به إحسانك إليهم، ويضع عنهم إصرهم والأغلال الّتي كانت عليهم.
والأيتام جبرهم الله: منهم الطّفل والمميّز والمراهق ومن لم يملك رشده، أو من يحتاج أن يبلغ في جواز التصرّف أشدّه وكلّ هؤلاء فيهم من لا يعلم من يضرّه ممن ينفعه، ولكن الله يعرّفه وفي أعماله يرفعه فاجتهد أن تكون فيهم أبا برّا، وأن تتّخذ فيهم عند الله أجرا، وأن تعامل في بينك بمثل ما عاملتهم إذا انقلبت إلى الدّار الأخرى، واحفظ أموالهم أن تنتهكها أجرة العمّال، وترجع في قراضها إلى ما يجحف برؤوس الأموال ومثّل أعمالك [المعروضة] (1) على الله في صحائفها المعروضة، واحذر من المعاملة لهم إلا بفائدة ظاهرة ورهن مقبوضة.
والجهات الدّينيّة هي بضاعة حفظك، ووداعة لحظك، فلا تولّ كلّ جهة إلا من هو جامع لشرطها قائم بموازين قسطها.
والشهود هم شهداء الحقّ، وأمناء الخلق، وعلى شهاداتهم تبنى الأحكام فإيّاك والبناء على غير أساس ثابت فإنّه سريع الانهدام ومنهم من يشهد في قيمة المثل ويتعين أن يكون م ن أهل البلد الأمثل، لأنه لا يعرف القيمة إلّا من هو ذو سعة مموّل ومنهم من أذن له في العقود فامنع منهم من للتسهل بسبب من الأسباب، وما تمهّل إشفاقا لاختلاط الأنسال والأنساب، يقبل بالتعريف ما يخلو من الموانع الشرعية من كان، ولا يحسن في تزويجه يمسك إمساكا بمعروف ولا يسرح تسريحا بإحسان وهؤلاء مفاسدهم أكثر من أن
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/45)
تحصى، والبلاء بهم أكبر من أن يستقصر أو يستقصى فاعتبر أحوالهم اعتبارا جليّا، وفكّر في استدراك فارطهم فكرا مليّا ومن لم يكن له من العلم والدّين ما يوضّح له المشتبهات، فإيّاك وتركه فربّ معتقد (1) أنه يطأ وطأ حلالا وقد أوقعه هذا ومثله في وطء الشّبهات ومنهم من يعمد إلى التّحليل، ويرتكب منه محذورا غير قليل، وهو بعينه نكاح المتعة (2) الذي كان آخر الأمرين من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّهي عنه، وقام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه محذّرا منه فاحسم هذه المادّة الرّديّة الّتي تؤلم عضوا فيسري إلى سائر الأعضاء ألمها، ويبقى في كثير من الذّراريّ المولودة من هذه الأنكحة الفاسدة ثلمها.
والرّسل والوكلاء بمجلس الحكم العزيز ومن يلمزك (3) في الصّدقات، وما نزل في أمور ما يريدون بها تقليد حكمك بل ما يقضون به الأوقات فلا تدع ممن تريد منهم إلا كلّ مشكور الطريق، مشهور القصة بين الخصوم بطلب التوفيق.
والمكاتيب هي سهاخمك النّافذة، وأحكامك المؤاخذة فسدّد مراميها، ولا تردفها ما عرض عليك من الأحكام حتى لا يسرع الدخول فيها والمحاضر هي محل التّقويّ، فاجتهد فيها اجتهادا لا تذر معه ولا تبقي.
وأما قضايا المتحاكمين إليك في شكاويهم، والمحاكمين في دعاويهم، فأنت بهم خبير، ولهم ناقد بصير فإذا أتوك لتكشف بحكمك لأواءهم (4)،
__________
(1) في الأصل «منفعة» والتصحيح من الطبعة الأميرية.
(2) زواج المتعة عند الشيعة الإمامية هو أن تزوج المرأة الحرّة الكاملة المسلمة أو الكتابية نفسها لرجل مسلم بمهر سمعي إلى أجل مسمى، بعقد نكاح جامع لشرائط الصحة الشرعية، فتقول له:
زوجتك أو أنكحتك أو متعتك نفسي بمهر قدره كذا، يوما أو يومين، أو تذكر مدة أخرى بعينها على الضبط، فيقول لها: قبلت. ويكونا زوجين إلى منتهى الأجل المسمى في العقد. وبمجرد انتهائه تبين من غير طلاق. وقد نهى عمر بن الخطاب عن متعتي النساء والحج. وعلى ذلك سار المسلمون من المذاهب الأربعة ما عدا الشيعة الإمامية الذين لا يعترفون بنسخ آية المتعة.
(3) لمزه: أشار طليه بعينه ونحوها، وعابه، ودفعه.
(4) اللأواء: ضيق المعيشة، وشدّة المرض.(12/46)
فاحكم بينهم بما أراك الله ولا تتّبع أهواءهم وقد فقّهك الله في دينه، وأوردك من موارد يقينه، ما جعله لك نورا، وجلاه لك سفورا، وأقامه عليك سورا، وعلّمك ما لم تكن تعلم منه أمورا فإن أشكل عليك أمر فردّه إلى كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وإجماع أصحابه فإن لم تجد فعندك من العلماء من تجعل الأمر بينهم شورى، ولأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتاب (1) كتبه إلى بعض القضاة، فاعمل بمقتضاه، واعلم بأنّ الله تعالى قد ارتضاك لخلقه فاعمل على رضاه.
والأئمة العلماء هم إخوانك في الدّين، وأعوانك على ردع المبتدعين، ولسانك في المحفل وجناحك إذا جلسوا ذات الشمال وذات اليمين فنزّلهم منازلهم الّتي أحلّهم الله في شرفاتها، وبوّأهم رفيع غرفاتها، وتألّف خواطرهم فإنّك تنظر إلى كثير من الأمور في صفاء مصافاتها.
ومن نسب إلى خرقة الفقر (2) وأهل الصلاح هم أولياء الله المقرّبون، وأحبّاؤه الأقربون، فعظّم حياتهم، وجانب محاباتهم، فما منهم وإن اختلفت أحوالهم إلا من هو على هدى مبين، واحرص أن تكون لهم حبّا يملا (3) قلوبهم فإنّ الله ينظر إلى قوم من قلوب قوم آخرين.
وانتصب للدروس الّتي تقدّمت بها على وافد الطلبة فإنّ الكرم لا يمحقه الالتماس، والمصباح لا يفني مقله كثرة الاقتباس، والغمام لا ينقصه توالي المطر ولا يزيده طول الاحتباس، والبحر لا يتغيّر عن حاله وهو لا يخلو عن الورّاد في عدد الأنفاس.
__________
(1) كتبه إلى أبي موسى الأشعري وهو الكتاب المشهور بكتاب سياسة القضاء وتدبير الحكم. وقد أورد القلقشندي نص الكتاب في الجزء العاشر من الصبح. (انظر نص الكتاب مقارنا على جميع المصادر الّتي أوردته في كتاب الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة: 436425).
(2) المراد أهل التصوّف.
(3) في الأصل «حبلا يملا في قلوبهم». وما أثبتناه من الطبعة الأميرية.(12/47)
والوصايا كثيرة وإنّما هذه نبذة جامعة، وبارقة لامعة، ومنك يستفاد بساط القول، وانبساط الطّول ولهذا يكتفى بما فيك، والله تعالى يكفيك، ويحصي حساب أعمالك الصّالحة ليوفيك، حتّى تجد فلا يتخلّف بك السير، وتستعدّ ليختم لك بخاتمة الخير، والاعتماد على الخط الشريف.
قلت: وهذه نسخة توقيع بقضاء، أنشأته بدمشق للقاضي «شرف الدّين مسعود» (1) وهي:
الحمد لله الّذي شيّد أحكام الشّرع الشريف وزاد حكّامه في أيّامنا شرفا، ورفع منار العلم على كلّ منار وبوّأ أهله من جنّات إحساننا غرفا، وأباح دم من ألحد فيه عنادا أو وجّه إليه طعنا، وأوجب الانقياد إليه بقوله تعالى: {إِنَّمََا كََانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذََا دُعُوا إِلَى اللََّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنََا وَأَطَعْنََا} (2)، وألهم الصواب في اختيار من لم يزل لهذه الرتبة معدّا ومن رجالها معدودا، وصرف وجه إقبالنا إلى من ارتضيناه للمسلمين حاكما فأصبح بنظرنا مسعودا.
نحمده حمد من اعتنى بالقيام بشرائع الإسلام وتعظيم شعائره، ونصح للرّعيّة فيمن ولّاه عليهم وأعطى منصب الشرع حقّه بتقديم أكابره. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يقضى لصاحبها بالنّجاة من النّار، ويسجّل لقائلها بالثبوت في ديوان الأبرار، وأن محمدا عبده ورسوله الّذي شرط الإيمان بالرضا بحكمه وأوجب طاعته أمرا ونهيا واستجابة وتحكيما، فقال تعالى: {فَلََا وَرَبِّكَ لََا يُؤْمِنُونَ حَتََّى يُحَكِّمُوكَ فِيمََا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لََا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً}
__________
(1) هو مسعود بن شعبان بن اسماعيل، شرف الدين، أبو عبد الله الحسّاني الطائي الحلبي الشافعي.
ولي قضاء حلب ثم حمص ثم دمشق وتوفي بطرابلس سنة 809هـ. (الضوء اللامع: 10/ 156 ونزهة النفوس: 2/ 115).
(2) النور / 51.(12/48)
{مِمََّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (1)، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين نحن بسيرهم مهتدون، وبآثارهم مقتدون، وعلى آله وصحبه الغرّ الكرام الذين قضوا بالحقّ وبه كانوا يعدلون، صلاة لا يختلف في فضلها اثنان، ولا يتنازع في قبولها خصمان، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فلما كانت مرتبة الشرع الشريف هي أعلى المراتب، ومنصب حكّامه في الورى أرفع المناصب، إليه تنتهي المخاصمات فيفصلها ثم لا تعدوه، ويحكم فيه على الخصم فيذعن لحكمه ثم لا يشنوه (2)، بل يتفرّق الخصمان وكلّ منهما بما قضي له وعليه راض، ويقول المتمرّد الجائر لحاكمه: قد رضيت بحكمك فاقض فيّ ما أنت قاض وناهيك برتبة كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو المتصدّي للقيام بواجبها، والخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم محافظين على أداء رواتبها ثم اختصّ بها العلماء الذين هم ورثة الأنبياء من الخليقة، واستأثروا بها دون غيرهم من سائر الناس فهم أهلها على الحقيقة إذ لا يؤهّل لهذه الرتبة إلا من ارتقى إلى درجات الكمال، واتّصف بأحسن الأوصاف واحتوى على أنفس الخصال، وتضلّع من العلم الشريف بما يرويه، وفاق في العقل والنقل بما يبحثه ويرويه.
ولما كان المجلس الفلانيّ هو عين هذه القلادة وواسطة عقدها، وقطب دائرتها وملاك حلّها وعقدها إذ هو «شريح» الزمان ذكرا، و «أبو حامد» سيرة و «أبو الطّيّب» (3) نشرا لا جرم ألبسته أيّامنا الزاهرة من الحكم ثوبا جديدا، وأفاض عليه إنعامنا نحلة نعقبها إن شاء الله تعالى مزيدا.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زالت الشريعة المطهّرة بمناصرته في أعزّ
__________
(1) النساء / 65.
(2) شنأه: أبغضه.
(3) الإشارة إلى أبي الطيب المتنبي الشاعر، وأبي حامد الغزالي الفيلسوف شيخ الإسلام، وشريح القاضي.(12/49)
صوان، وحكّامها بمعاضدته في أعلى درجة وأرفع مكان أن يفوض إليه
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة مثله لمثلها، وليعمل بما يعلمه من أحكامها فهو ابن بجدتها (1) والخبير بمسالك وعرها وسهلها فهو الحاكم الّذي لا يساوى، والإمام الّذي يقتدى به في الأحكام والفتاوى فعليه بالتأنّي في الأحكام، والتّثبّت فيما يصدر عنه من النّقض والإبرام ولينظر في الأمر قبل الحكم المرّة ثم الأخرى، ويكرّر النّظر في ذلك ولو أقام شهرا، ويراجع أهل العلم فيما وقف عليه ويشاورهم فما ندم من استشار، ويقدّم استخارة الله تعالى في سائر أموره فما خاب من استخار، وليدر مع الحق كيف دار، ويتّبع الصّواب أنّى توجّه ويقتفي أثره حيث سار وإذا ظهر له الحقّ قضى به ولو على ابنه وأبيه، وأعزّ أصدقائه وأخصّ ذويه، غير مفرّق في فصل القضاء بين القويّ والضّعيف، والوضيع والشّريف، ولا مميّز في تنفيذ الحكم بين الغنيّ والفقير، والسّوقة والأمير، وليسوّبين الخصوم حتّى في تقسيم النظر إليهم، كما في موقف الحكم وسماع الدّعوى وردّ الأجوبة فيما لهم وعليهم، وليستخلف من النوّاب من حسنت لديه سيرته، وحمدت عنده طريقته، ويوص كلّا منهم بما نوصيه به ويبالغ في تأكيد وصيته، ويستحضر السر في قوله صلّى الله عليه وسلم: «ألا كلّكم راع وكلكم مسؤول عن رعيّته». وليمعن النّظر في أمر الشهود الذين تترتب على شهادتهم أمور الدنيا والفروج والأموال، ويتفقّد أمرهم في كل وقت ولا يغفل عنهم في حال من الأحوال، ويحملهم من الطرائق على أحسن وجهها وأحقّهم بإمعان النظر شهود القيمة والعمائر، الذين يقطع بقولهم في أملاك الأيتام والأوقاف مما تنفر عنه القلوب وتنبو عنه الضمائر.
والوكلاء (2) والمتصرّفون فهم قوم فضل عنهم الشرّ فباعوه، واستحفظوا
__________
(1) البجدة: حقيقة الشيء وباطنه. وابن بجدتها: أي العالم بها على حقيقتها.
(2) الوكلاء هم أشبه بالمحامين في عصرنا الحديث، فكانوا يحضرون إلى مجلس الحكم مع المتخاصمين. وقد وصفهم ابن الأخوة في «معالم القربة في أخبار الحسبة» بأنهم لا خير فيهم لأنهم يأخذون من الخصمين. ووصفه قريب من وصف القلقشندي لهم. (التعريف بمصطلحات الصبح: 361).(12/50)
الودّ فلم يرعوا حقه وأضاعوه فهم آفة أبواب القضاة بلا نزاع، كيف وهم الضّباع الضّارية والذّئاب الجياع. وما تحت نظره من أوقاف المدارس والأسرى والصّدقات، وغيرها مما يقصد به واقفوه وجه البر وسبيل القربات، يحسن النظر في وجوه مصارفها، مع حفظ أحوالها الّذي هو أغيا مراد واقفها.
وأهل العلم أبناء جنسه الذين فيهم نشأ ومنهم نجم، وجنده الذين يقصدونه بالفتاوى فيما قضى وحكم، فليوفّر لهم الإحسان، ويصنع معهم من المعروف ما يبقى ذكره على ممرّ الأزمان ومثله لا يحتاج إلى كثرة الوصايا، وثوقا بما عنده من العلم بالأحكام والمعرفة بالقضايا لكن عليه بتقوى الله ومراقبته يكن له مما يتبوّءه ظهيرا، ويسترشده في سائر أموره يجعل له من لدنه هاديا ونصيرا والله تعالى يبلّغ واثق أمله من كرمنا مراما، ويوطّيء له المهاد ببلد حسنت مستقرّا ومقاما، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بقضاء قضاة المالكية بالشام، من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ تغمّده الله برحمته، وهي:
الحمد لله جاعل المذاهب الشّرعيّة في أيامنا الشريفة زاهية بأركانها الأربعة (1)، مستقرّة على النّظام الّذي غدت به قواعد الحجّة محكمة ومواقع الرحمة متّسعة، فإذا خلا ركن من مباشرة أقمنا من تكون القلوب على أولويّته مجتمعة، وانتقينا له من الأتقياء من تغدو به الأمّة حيث كانت منتفعة، واستدعينا إليه من تغدو الأدعية الصالحة لنا بتفويض الحكم إليه مرتفعة، الّذي خصّ مذهب «إمام دار الهجرة» (2) بكل إمام هجر في التّبحّر فيه دواعي السّكون
__________
(1) المراد المذاهب الأربعة: المالكي والشافعي والحنفي والحنبلي.
(2) هو الإمام مالك بن أنس المتوفى سنة 179هـ.(12/51)
وبواعث الدّعة، وجمّل منصب حكمه بمن كمل بعلوم الدين فخره فإذا حكم غدت الأقضية لحكمه منفّذة وإذا قضى أضحت الأحكام لأقضيته متّبعة.
نحمده على نعمه التي جعلت مهمّ الشّرع الشريف لدينا كالاستفهام الّذي له صدر الكلام، وبمثابة النّيّة المقدّمة حتّى على تكبيرة الإحرام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أثبت الإخلاص حكمها، وأحكم الإيمان علمها، وأبقى اليقين على صفحات الوجوه والوجود وسمها المشرق واسمها، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الّذي أخذ الله ميثاق النّبيين في الإقرار بفضله، وأرسله {بِالْهُدى ََ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} * (1)، وخصّه بالكتاب الذي أخرس الأمم عن مجاراته فلو {اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى ََ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هََذَا الْقُرْآنِ لََا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} (2)، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين تمسكوا بسننه وسنّته، وأوضحوا شرعه الشريف لمن تلقّاه بعدهم من أئمة أمته، صلاة لا تزال بقاع الإيمان لأحكامها منبتة، وأنواء الإيقان لأوامها مقلتة (3) وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنه لما كانت الأحكام الشرعية تتوقف على ملاحظة قضاء قضاتها في غالب الأمور، وتستند إلى مراجعة أصول حكّامها في أكثر مصالح الجمهور، لم يكن بد من مراعاة أصولها الّتي إنّما تنوب الفروع عنها، وتدبّر أحوال أحكام حكّامها الّتي تنشأ أقضية النوّاب منها ولذلك لمّا أصبح منصب قضاء القضاة على مذهب الإمام «مالك بن أنس» رضي الله عنه بالشّام المحروس لضعف مباشره الممتدّ، في حكم الخالي، وتعطل بعجزه المشتدّ، مما ألف به قديما حال حكمه الحالي، وتمادى ذلك إلى أن ترقّى الناس منه إلى درجة اليقين، وتناهى الحكم فيه إلى أن يعين أن يرتاد من يتعين لمثله من الأئمّة المتّقين، لئلا يخلو
__________
(1) الفتح / 28.
(2) الإسراء / 88: «قل لئن اجتمعت».
(3) أي مذهبة لعطشها. الأوام: العطش ومقلتة: مهلكة.(12/52)
هذا المذهب من قاضي قضاة يقيم مناره، ويديم أنواره، ويرفع شعاره، ويحيي مآثر إمامه وآثاره، ويؤمن كمال أفقه أن يعاود سراره (1) وكان المجلس الساميّ، القاضويّ، الفخريّ، هو الّذي لا يعدوه الارتياد، ولا يقف دونه الانتقاء والانقياد، ولا تتجاوزه الإصابة في الاجتهاد: لما عليه من علم جعله مخطوبا للمناصب، وعمل تركه مطلوبا للمراتب الّتي لا تذعن لكلّ طالب، وتقّى أعاده مرتقيا لكلّ أفق لا يصلح له كلّ شارق (2)، وورع فتح له أبواب التّلقّي بالاستدعاء وإن لم تفتح لكلّ طارق وهو هجر الكرافي تحصيل مذهب «إمام دار الهجرة» إلى أن وصل إلى ما وصل، وأنفق مدّة عمره في اقتناء فوائده إلى أن حصل من الثّروة بها على ما حصل، فسارت فتاويه في الآفاق، ونمت بركات فوائده الّتي أنفقها على الطّلبة فزكت على الإنفاق اقتضت آراؤنا الشريفة أن نبّقي فخر هذا المنصب الجليل بفخره، وأن نخصّ هذا المذهب النبيل بذخره، وأن نحلّي جيده بمن نقلنا إلى وشام (3) الوسام ما كان من حسن شنب العلم مختصّا بثغره.
فرسم بالأمر الشريف لا زال لأحكام الشرع مقيما، وللنظر الشريف في عموم مصالح الإسلام وخصوصها مديما، أن يفوّض إليه لما تقدّم من تعيّنه لذلك، وتبيّن من أنه لحكم الأولوية بهذه الرتبة من مذهب الإمام مالك مالك.
فليل هذه الوظيفة حاكما بما أراه الله من مذهبه، مراعيا في مباشرتها حقّ الله في الحكم بين عباده وحقّ منصبه، مجتهدا فيما تبرأ به الذمة من الوقوف مع حكم الله في حالتي رضاه وغضبه، واقفا في صفة القضاء على ما نصّ فيه من شروطه وأوضح من قواعده وشرح من أدبه، ممضيا حقوق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما
__________
(1) سرار الشهر: آخر ليلة فيه.
(2) الشارق: الشمس، والجانب الشرقي.
(3) جمع وشم.(12/53)
يقتضيه رأي إمامه، متوّجا الحكم بنصوصه المجمع عليها من أئمة مذهبه في نقض كلّ أمر وإبرامه، جاريا في ذلك على قواعد أحكام هذا المذهب الّذي كان مشرقا في ذلك الأفق بجماله وزينه، واقفا في ذلك جميعه مع رضا الله تعالى فإنّه في كلّ ما يأتي ويذر بعينه، والله تعالى يسدّده في قوله وعمله، ويبلّغه من رضاه نهاية سوله وغاية أمله، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بقضاء قضاة الحنابلة، كتب بها للقاضي علاء الدّين «منجّى التنوخي» وهي:
الحمد لله الّذي رفع بعلاء الدّين قضاء قضاته، وأوضح الهدى في القيام في توليتهم بمفترضاته، وأعلى منار الشّرع بما أوقفهم عليه من أحكامه ووفّقهم له من مرضاته.
نحمده حمدا نستعيد من بركاته، ونستعيذ به أن نضلّ في ضوء مشكاته، ونستعين عليه بربّ كل حكم يمدّنا قلبه بسكونه وقلمه بحركاته، ويثبت من جميل محضره لدينا ما يرفع مسّ شكاته، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يستودع إخلاصها في قلوب تقاته، وتفوّض أحكامها إلى ثقاته، ويحمى سرحها من أبطال الجلاد والجدال بكل مشتاق إلى ملاقاته، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أفضل من حكم بما أنزل الله من آياته، وجاهد في الله برأيه وراياته، وشرع من الدّين ما ينّجي المتمسك به من غواياته، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين أقام شرعه منهم بكماته، وجعل حكمهم دائم النّفوذ أبدا بأقلام علمائه وسيوف حماته، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فمنصب الحكم الّذي به تفصل الأمور، وتنفرج له الصدور، وتتسدّد أقلام حكّامه سهاما، وتفيض غماما، وتتعلّم منه الأسود زئيرا، ويطول السيف صليلا والرمح صريرا، وتنتصب بين يدي حكّامه الأقدام، وتنتصف على
أحكامه الخصام (1)، وتنكّس الرؤوس لهيبته إطراقا، وتغضّ المقل فما تدير جفونا ولا تقلّب أحداقا، ويجري بتصريفه قلم القضاء، ويجاري مرهفه البروق فتقرّ له بالمضاء وقد شيّد الله مبانيه في ممالكنا الشريفة مصرا وشاما على أربعة أركان، وجمع في قضائه الأئمّة الأربعة لتكمل بهم فصول الزمان ومذهب الإمام أبي عبد الله «أحمد بن حنبل» رضي الله عنه هو بالسّنّة النبوية الّطراز المذهب، وطريقة السلف الصالح في كلّ مذهب وقد تجنّب من سلف من علمائه التّأويل في كثير، ووقف مع الكتاب والسّنّة وكلّ منهما هو المصباح المنير.(12/54)
وبعد، فمنصب الحكم الّذي به تفصل الأمور، وتنفرج له الصدور، وتتسدّد أقلام حكّامه سهاما، وتفيض غماما، وتتعلّم منه الأسود زئيرا، ويطول السيف صليلا والرمح صريرا، وتنتصب بين يدي حكّامه الأقدام، وتنتصف على
أحكامه الخصام (1)، وتنكّس الرؤوس لهيبته إطراقا، وتغضّ المقل فما تدير جفونا ولا تقلّب أحداقا، ويجري بتصريفه قلم القضاء، ويجاري مرهفه البروق فتقرّ له بالمضاء وقد شيّد الله مبانيه في ممالكنا الشريفة مصرا وشاما على أربعة أركان، وجمع في قضائه الأئمّة الأربعة لتكمل بهم فصول الزمان ومذهب الإمام أبي عبد الله «أحمد بن حنبل» رضي الله عنه هو بالسّنّة النبوية الّطراز المذهب، وطريقة السلف الصالح في كلّ مذهب وقد تجنّب من سلف من علمائه التّأويل في كثير، ووقف مع الكتاب والسّنّة وكلّ منهما هو المصباح المنير.
وكانت دمشق المحروسة هي مدار قطبهم، ومطلع شموسهم ونجومهم وشهبهم، وأهلها كثيرا ما يحتاجون إلى حاكم هذا المذهب في غالب عقد كل بيع وإيجار، ومزارعة في غلال ومساقاة في ثمار، ومصالحة في جوائح (2)
سماويّة لا ضرر فيها ولا ضرار (3)، وتزويج كلّ مملوك أذن له سيّده بحرّة كريمة، واشتراط في عقد بأن تكون الامرأة في بلدها مقيمة، وفسخ إن غاب زوجها ولم يترك لها نفقة ولا أطلق سراحها، وبيع أوقاف داثرة لا يجد أرباب الوقف نفعا بها ولا يستطيعون إصلاحها.
فلما استأثر الله بمن كان قد تكمّل هذا المنصب الشريف بشرفه، وتجمّل منه ببقيّة سلفه، حصل الفكر الشريف فيمن نقلده هذه الأمانة في عنقه، ونهنّيء هذا المنصب بطلوع هلاله في أفقه، إلى أن ترجح في آرائنا العالية المرجّح
__________
(1) الخصام: جمع خصم، كبحر وبحار (هامش الطبعة الأميرية عن المصباح).
(2) الجائحة: المصيبة تحلّ بالرجل في ماله فتجتاحه كله. وفي اصطلاح الفقهاء: ما أذهب الثمر أو بعضه من آفة سماوية. ويقال: سنة جائحة أي جدبة. الجمع: جوائح.
(3) روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: لا ضرر ولا ضرار في الإسلام. ولكل واحد من اللفظين معنى غير الآخر: فمعنى لا ضرر أي لا يضرّ الرجل أخاه، وقوله: لا ضرار أي لا يضارّ كل واحد منهما صاحبه فالضرار منهما معا، والضرر فعل واحد. وقيل: الضرر ابتداء الفعل، والضرار الجزاء عليه وقيل: هما بمعنى واحد، وتكرارهما للتأكيد. (انظر لسان العرب: 4/ 482).(12/55)
المرجّى، وتعيّن واحدا لمّا ابتلي الناس بالقضاء كان المنجّى ابن المنجّى طالما تطرّزت له الفتاوى بالأقلام، والتفّت به حلقة إمام، وخاف في طلب العلم من مضايقة اللّيالي فما نام اقتضى حسن الرأي الشريف أن يفوّض إليه قضاء القضاة بالشام المحروسة على مذهب الإمام الربانيّ «أحمد بن حنبل» الشيبانيّ، رضي الله عنه.
فليحكم في ذلك بما أراه الله من علمه، وآتاه من حكمه، وبينه له من سبل الهدى، وعيّنه لبصيرته من سنن نبيّه صلّى الله عليه وسلّم التي من حاد عنها فقد جار واعتدى، ولينظر في أمور مذهبه ويعمل بكل ما صحّ نقله عن إمامه، وأصحابه من كان منهم في زمانه ومن تخلّف عن أيّامه وقد كان رحمه الله إمام حقّ نهض وقد قعد الناس تلك المدّة، وقام نوبة المحنة وقام «سيّد تيم» (1) رضي الله عنه نوبة الرّدّة، ولم تهبّ به زعازع «المرّيسيّ» (2) وقد هبّت مريسا (3)، ولا «ابن أبي دواد» (4) وقد جمع كلّ ذود وساق له من كلّ قطر عيسا ولا نكث عهد ما قدّم إليه «المأمون» في وصيّة أخيه من المواثق، ولا روّعه صوت «المعتصم» وقد صبّ عليه عذابه ولا سيف «الواثق» فليقفّ على أثره، وليقف بمسنده على
__________
(1) هو أبو بكر الصديق.
(2) في لسان الميزان «المشهور: المريسي بتخفيف الراءو ضبطها الصغاني بتثقيلها» وفي معجم البلدان والقاموس نسبته إلى «مرّيسة» بتشديد الراء. وضبطه ابن خلكان بفتح الميم وكسر الراء المخففة. وهو بشر بن غياث بن أبي كريمة: فقيه معتزلي عارف بالفلسفة وهو رأس الطائفة المريسية القائلة بالإرجاء، وقد رمي بالزندقة. توفي سنة 218هـ. (وفيات الأعيان: 1/ 277 والأعلام: 2/ 55).
(3) أي هبّت شديدة قويّة.
(4) ابن أبي دواد: أحد القضاة المشهورين من المعتزلة، ورأس فتنة القول بخلق القرآن. كان مقدما لدى الخلفاء العباسيين أيام المأمون والمعتصم والواثق. وتوفي في خلافة المتوكل سنة 240 هـ. وبعد ذلك بسنة توفي الإمام أحمد بن حنبل الّذي تعرّض للسجن والضرب بسبب عدم استجابته للقول بخلق القرآن أيام المعتصم. ثم جاء الواثق فمنعه من الخروج من داره إلى أن أخرجه المتوكل وخلع عليه وأكرمه ورفع المحنة في خلق القرآن. (انظر وفيات الأعيان: 1/ 63 و 81والأعلام: 1/ 124و 203).(12/56)
مذهبه كله أو أكثره، وليقض بمفرداته وما اختاره أصحابه الأخيار، وليقلّدهم إذا لم تختلف عليه الأخبار، وليحترز لدينه في بيع ما دثر من الأوقاف وصرف ثمنه في مثله، والاستبدال بما فيه المصلحة لأهله، والفسخ على من غاب مدّة يسوغ في مثلها الفسخ وترك زوجة لم يترك لها نفقة، وخلّاها وهي مع بقائها في زوجيّته كالمعلّقة، وإطلاق سراحها لتتزوّج بعد ثبوت الفسخ بشروطه الّتي يبقى حكمها به حكم المطلّقة، وفيما يمنع مضارّة الجار، وما تفرّع على قوله صلّى الله عليه وسلم:
«لا ضرر ولا ضرار»، وأمر وقف الإنسان على نفسه وإن رآه سوى أهل مذهبه، وطلعت به أهلّة علماء لولاهم لما جلا الزمان جنح غيهبه. وكذلك الجوائح الّتي يخفّف بها عن الضعفاء وإن كان لا يرى بها الإلزام، ولا تجري إلا مجرى المصالحة دليل الالتزام. وكذلك المعاملة الّتي لولا الرّخصة عندهم فيها لما أكل أكثر الناس إلا الحرام المحض، ولا أخذ قسم الغلال والمعامل هو الّذي يزرع البذر ويحرث الأرض، وغير ذلك مما هو [محيط] (1) بمفرداته الّتي هي للرفق جامعة، وللرعايا في أكثر معايشهم وأسبابهم نافعة، وإذا استقرّت الأصول كانت الفروع لها تابعة والخط الشريف أعلاه، إن شاء الله تعالى.
المرتبة الثانية (2)
(من تواقيع الوظائف الدينية بدمشق
، ما يكتب في قطع الثلث مفتتحا ب «الحمد لله» إن علت رتبة المتولّي أو ب «أمّا بعد حمد الله» إن انحطت رتبته عن ذلك ب «المجلس السامي» وفيها وظائف)
الوظيفة الأولى قضاء العسكر
. وبها أربعة قضاة من المذاهب الأربعة، كما بالديار المصرية.
الوظيفة الثانية إفتاء دار العدل بدمشق
. وبها أربعة: من كل مذهب
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) في الأصل «الطبقة الثانية».(12/57)
واحد، كما بالديار المصرية.
الوظيفة الثالثة الحسبة (1)
وهذه نسخة توقيع بالحسبة الشريفة:
الحمد لله مجدّد النّعم في دولتنا الشريفة لمن ضفت عليه ملابسها، ومضاعف المنن في أيامنا الزاهرة لمن سمت به نفائسها، ومولي الآلاء لمن بسق غرسها لديه فزهت بجماله ثمراتها وزكت مغارسها.
نحمده على نعمه الّتي تؤنس بالشكر أوانسها، وتؤسّس على التّقوى مجالسها ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة استضاء بنور الإيمان قابسها، واجتنى ثمر الهدى غارسها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أشرف من أشرقت به معالم التوحيد فعمر دارسها، وأشرق دامسها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين قلوبهم مشاهد الذّكر وألسنتهم مدارسها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى من أمضي له ما كان به أمر ورسم، وجدّد له من المناصب الدّينية ما عرف به من قبل ووسم، وأثبت لترقّيه ما حتم له به من المراتب السنية بمقتضى الاستحقاق وحكم من رقمت أوامرنا له حلّة منصب يجدّدها الإحسان، وأمرت له مراسمنا بوظيفة تؤكّد عوارفنا الحسان، وأثّلت [له] (2) نعمنا منصبا أعدّ له من كمال الأهليّة أكمل ما يعدّه لذلك الإنسان.
ولما كان فلان هو الذي تحلّى من إحساننا بما يأمن [معه] (3) سعيد رتبته [من] (4) العطل (5)، واتّسم من برّنا وامتناننا بما هو في حكم المستقر له وإن ألوى به الدّهر ومطل اقتضى إحساننا أن نجدّد له مواقع النّعم، ونشيّد من رجائه مواضع ما شمله من البرّ والكرم، ونري من عدق بنا رجاء أمله أنّنا نتعاهد سقيا
__________
(1) عمل متولّيها يدخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خاصة في موضوع الأسعار والمكاييل والموازين.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(5) العطل للمرأة هو خلوّ جيدها من القلائد وعدم تزيينها.(12/58)
آمال الأولياء والخدم.
فلذلك رسم لا زال برّه شاملا، وبدره في أفق الإحسان كاملا أن يفوّض إليه نظر الحسبة ويستمرّ في ذلك على حكم التوقيع الشريف الّذي بيده:
لما سبق من اختياره لذلك واصطفائه، وادّخاره لهذا المنصب من كفاة أعيانه وأعيان أكفائه، ولما تحلّى [به] من رياسة زانته عقودها، وتكمّل له من أصالة ضفت عليه حبرها وسمت به برودها (1)، وتجمّل به من نزاهة أشرقت في أفق صعودها إلى الرتبة الجليلة سعودها، واتّصف به من كمال معرفة نجّزت له به من مطالب المناصب وعودها.
فليباشر ذلك معطيا هذه الوظيفة من حسن النّظر حقّها، محقّقا بجميل تصرّفه تقدّم أولويّته وسبقها، وليكن لأمر الأقوات ملاحظا، وعلى منع ذوي الغدر من الاحتكار المضيّق على الضّعفاء محافظا، وعلى الغشّ في الأقوات مؤدّبا، ولإجراء الموازين على حكم القسط مرتّبا، ولمن يرفع الأسعار لغير سبب رادعا، ولمن لا يزعه الكلام من المطفّفين (2) بالتّأديب وازعا، ولقيم الأشياء محرّرا، ولقانون الجودة في المزروع والموزون مقرّرا، ولذوي الهيئات بلزوم شرائط المروءة آخذا، وعلى ترك الجمع والجماعات لعامة الناس مؤاخذا، ولتقوى الله تعالى في كلّ أمر مقدّما، وبما يخلّصه من الله تعالى لكل ما تقع به المعاملات بين الناس مقوّما وفي خصائص نفسه ما يغنيه عن تأكيد الوصايا، وتكرار الحثّ على تقوى الله تعالى الّتي هي أشرف المزايا فليجعلها شعار نفسه، ونجيّ أنسه، ومسدّد أحواله الّتي تظهر بها مزيّة يومه على أمسه والخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه، حجّة بمقتضاه.
__________
(1) البرود: جمع برد، وهو كساء مخطط يلتحف به. والحبر: جمع حبرة، وهي ثوب من قطن أو كتان مخطط. والحبرة أيضا: ملاءة من حرير ترتديها النساء.
(2) طفف الكيل أو الميزان: أنقصه وبخسه. والمطفّفون: جمع مطفّف، وهو الّذي يأخذ الشيء الطفيف التافه بغير حق.(12/59)
وهذه نسخة توقيع بنظر الحسبة الشريفة، من إنشاء المقرّ الشّهابي بن فضل الله، مضافا إلى نظر أوقاف الملوك، وهي:
الحمد لله مثيب من احتسب، ومجيب المنيب فيما اكتسب.
نحمده حمدا رسب الأدب صرب الطرب (1)، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة ظاهرة الحسب، طاهرة النسب، ونشهد أن سيّدنا محمدا عبده ورسوله أفضل من انتدى وانتدب، وأدّب أمّته فأحسن الأدب، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة يكتتم أجرها فيكتتب، ويستتم بها كل صلاح [ويغتنم بها كلا فلاح] (2)، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ الحسبة الشريفة هي قانون جوادّ (3) الأوضاع، ومضمون موادّ الإجماع، تجمع إلى الشريعة الشريفة سياسة يرهب جدّها، ويرهف حدّها، وتخشى الرعايا سطوات مباشرها، وتتنحّى عما تصبّه سيول بوادرها وأصحابها الآلة الّتي هي أخت السّيف في التّأثير، ولكلّ منهما سطوة تخاف لا فرق بينهما إلّا ما بين التّأنيث والتّذكير (4)، وله التّصرّف المطلق، والتّعرّف الّذي يفتح من الحوانيت على أربابها كلّ باب مغلق، ولركوبه في المدينة زينة يحشر لها النّاس ضحى، ورهبة يغدو بها كلّ أمين لشأنه مصلحا وإليه الرجوع في كلّ تقويم، وهو المرجوّ في كلّ أمر عظيم وهي بدمشق حرسها الله تعالى من أجلّ المناصب الّتي تتعلّق [عو] (5) اليها بيد متولّيها وتؤمل منازل البدور، وإنّ ربّها ترجع إلى تصريفه أزمّة الأمور، وينتجع سحابه الهطل غمامة الجمهور، وتحيا به سنّة عمريّة (6) لولاها لضاقت رحاب المعاملات، وضاعت بالغشّ المعايش
__________
(1) كذا في غير نسخة بالإهمال. ولم نهتد إلى تثقيفه.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الجوادّ: جمع جادّة، وهي الطريق الأعظم الّذي يجمع الطرق. وهي وسط الطريق أيضا.
(4) المراد أن السيف مذكّر والحسبة مؤنثة.
(5) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(6) يعتبر البعض أن عمر بن الخطاب كان أول محتسب في الإسلام، إذا رأى جمّالا يقسو على جمله فقال له حمّلت جملك ما لا يطيق. (انظر النظم الإسلامية: 328).(12/60)
المتداخلات، وظهر الغبن في غالب ما يشرى ويباع، وانتشر التطفيف [الذي] يزيل راجحة الميزان ونوّ (1) الزّرّاع ولكم ناب بحسن تدبيره عن الغمام، ونظر في الدّقيق والجليل للخاصّ والعام، طالما انحطّ به سعر غلا أن يقوّم، ووجد من الأقوات صنف لا يوجد ولو بذل من الشمس دينار والبدر درهم.
وكان المجلس السّاميّ، والقضائيّ الأجلّيّ، والكبيريّ، الصّدريّ، الرّئيسيّ، العالميّ، الكافليّ، الفاضليّ، الأوحديّ، الأثيريّ، الماجديّ، الأصيليّ، العماديّ، مجد الإسلام، شرف الرؤساء، بهاء الأنام، جمال الصّدور، فخر الأعيان، خالصة الدّولة، صفوة الملوك السّلاطين: أدام الله علوّه، هو الّذي ربّته السّيادة على وسادها، ولبّته السّعادة إلى مرادها، وبنت العلياء قواعدها على عماده، وثنت المراتب أعناقها متشوّفة إلى حسن اعتماده، وباشر الجامع المعمور خصوصا والأوقاف الشّاميّة عموما فعمرها، وكثّر أعدادها وأنمى من بركات نظره متحصلاتها وثمرها، وشيد في كلّ منها مواطن عبادة، وملتقى حلقة ومدار سبحة ومفرش سجّادة، وأبى الله أن يقاس به أحد والجامع الفاروق وللّذين أحسنوا الحسنى وزيادة فأوجب له جميل نظرنا أن نضاعف له الأجر في كلّ عمل إليه ينتسب، ونزيده في رزقه سعة: من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب فرأينا أنّه أحقّ أن يقلّد من أمور الحسبة الشريفة حكمها المصرّف، وحكمها المعرّف، ويقام فيها بهدي من تقدّمه في تقرير أمورها على أثبت القواعد، وتقدير مصالحها على أجمل ما جرت به العوائد، ويطهّر أقواتها من الدّنس فيما يحضر على الموائد، وإخافة الأعناق من مضاربه الّتي تقطع ما غفا السيف عنه من مناط القلائد.
فرسم بالأمر الشّريف العالي لا زالت بمراسيمه تتلقّى كلّ رتبة، وتتوقّى
__________
(1) أي النوء، وهو العطاء.(12/61)
الدنايا بمن يقوم بالحسبة أن يفوّض إليه النّظر على الحسبة الشّريفة بدمشق وما معها من الممالك الشامية المضافة إليها، بالمعلوم المستقر، الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت: مضافا إلى ما هو بيده: من نظر الأوقاف المبرورة بالشّام، وأوقاف الملوك، خلا نظر الجامع المعمور إلى آخر وقت بحكم إفراده لمن عين له، تفويضا يضمّه إلى ربائب كنفه، ويعمّه بمواهب شرفه، ويحلّه في أعلى غرفه، ويحلّيه بما يحسد الدّرّ ما رمى من صدفه.
فاتّق الله في أحوالك، وانتق من يجمع عليه من النوّاب في أعمالك، وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر، فمنك المنكر لا يعرف والمعروف منك لا ينكر، واعتبر أحوال أرباب المعايش اعتبارا يصلح للناس أقواتهم، ويرغد أوقاتهم، ولا تدع صاحب سلعة يتعدّى إلى غير ما أحلّه الله له من المكاسب، ولا صاحب معيشة يقدم على تخلّل خلل في المآكل والمشارب، واقصد التّسوية بالحقّ فإنه سواء فيه البائع والمشتري، ولا فرق بين الرّخيص والثمين، وأقم الموازين بالقسط حتّى لا تتمكن كفّاتها أن تتحامل ولا تتحمل، ولا يستطيع قلبها أن يميل مع من يتموّل، ولا يقدر لسانها أن يكتم الشهادة بالحقّ وإن كان مثقال حبّة من خردل، واجعل لك على أهل المبايعات حفظة لتظلّ أعمالهم لك تنسخ، وتفقّد الأسواق مما يتولّد فيها من المفاسد فإنّ الشّيطان ربّما باض في الأسواق وفرّخ. وأرباب الصنائع فيهم من يدلّس، وفقهاء المكاتب (1) منهم من لعرضه يدنّس، والقصّاص غالبهم يتعمّد الكذب في قصصه، وأهل النّجامة (2) كم منهم من لعب مرّة بعقل امرأة وأمات رجلا بغصصه، وآخرون ممن تضلّ بهم العقول، وتظلّ حائرة فيهم النّقول، وكثير ممن سوى هؤلاء يدك مبسوطة عليهم، وأحكامك محيطة بهم من خلفهم وبين يديهم فقوّم منهم من مال، وقلّد مالكا رضي الله عنه فيما رآه من المعاقبة تارة بإنهاك الجسد وتارة بإفساد المال فربّما
__________
(1) هم الذين يعلمون الأولاد الصغار، ويقومون بتحفيظهم القرآن الكريم.
(2) المنجمون الذين يدعون معرفة الغيب بمقتضى النظر في النجوم.(12/62)
أطغى الغنى والمصباح فربما قطّب (1) وثمّ من لا يستقيم حتّى يؤدّب، ومن لا يلمّ على شعث وأيّ الرّجال المهذّب (2) وفيك من الألمعية نور باهر، وكوكب زاهر فلا حاجة إلى أن تلقي الوصايا أقلامها أيّها يكفلك، ولا تنبّهك على زينة العفاف فيها وهو حللك والله تعالى يوفّق اعتمادك، ويوفّر من التّقوى زادك والاعتماد على الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الرابعة وكالة بيت المال المعمور.
وهذه نسخة توقيع بوكالة بيت المال، من إنشاء القاضي تاج الدين البارنباريّ (3)، للقاضي نجم الدين أبي الطّيّب (4).
الحمد لله الّذي جعل الطّيّبات للطّيّبين، وهدى بالنّجم المنير السّبيل المبين، وعدق بأئمة الدّين مصالح المسلمين، وآتانا بتفويضنا إليه، وتوكّلنا عليه، شرفا في الشّأن وقوّة في اليقين.
نحمده على أن أعان بخيره وهو خير معين، ونشكره على أن بصّرنا في الإرادات، بالملائكة المقرّبين، ونصرنا في الولايات، بالقويّ الأمين، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة أنوارها في القلب مشرقة على
__________
(1) بياض بالأصل.
(2) قولهم: «أيّ الرجال المهذّب» يضرب مثلا للرجل يعرف بالإصابة في الأمور، وتكون منه السقطة. وأصله من قول النابغة:
ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أيّ الرجال المهذّب
(جمهرة الأمثال: 1/ 188والمستقصى: 1/ 449).
(3) نسبته إلى «بارنبار» قرية بالمزاحمتين بمصر. ولعله محمد بن عبد الوهاب بن محمد البارنباري الشافعي المتوفى سنة 832هـ، وقد أناف على التسعين. (الضوء اللامع: 8/ 138ونزهة النفوس: 3/ 171).
(4) لم نهتد إليه.(12/63)
الصّفحات والجبين، وأذكارها على اللّسان جعلت الإنسان من صالح المؤمنين، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله هادي المهتدين، وموّضح شرعة الإحسان للمحسنين، و «أبو الطّيّب» (1) و «أبو القاسم» كنّي بأولاده المطهّرين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من كان من السّابقين الأوّلين، ومنهم من كان مهيبا للكفر يهين، ومنهم من تزوّج بابنتي (2) الرسول ولم يتّفق ذلك لغيره من سالف السنين، ومنهم من كان الخير ملء يديه: فشمول البركة بشماله وذو الفقار في اليمين، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فأكرم التفويض ما صادف محلّا، وأبرك الولايات ما وجد قدرا معلّى، وأحسن الإحسان ما أصبح به الحال محلّى، وأسنى الأنجم ما أشرق في مطلعه وتجلّى، وأحقّ [الولاة] (3) بإعلاء منصبه من أقبلت عليه وجوه الإقبال حين تولّى، وأولى [الولايات] (4) بإجمال النّظر وإمعانه، في تشييد شانه، وتمكين مكانته ومكانه، وحفظ حوزته من سائر أركانه وكالة بيت المال المعمور الّتي بها تصان الأرض المقيسة، ومنها تستبصر الآراء الرئيسة، وبها يؤمن الاستيلاء على المحالّ والأبنية من كلّ جائر، وبها تزاد قيم المبيعات مما هو لبيت المال ما بين عامر وداثر، وإلى متولّيها تأتي الرغبات ممن يبتاع أرضا، وبه تمضى المصالح وتقضى، وبه يظهر التمييز في الثّمن الأرضى وهي في الشّام فخيمة المقدار، كريمة الآثار، مرضيّة بالربح في كل أرض بيّنة المصالح في كلّ بناء دائرة بالنجح في كل دار فلا يشيم برقها، ويتوّج فرقها، ويوفّيها حقّها، إلّا من له علم وتبصرة، وعرفان أوضح الطريق وأظهره، وحسن رأي فيما
__________
(1) كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة بنين وهم: القاسم الّذي توفي عن سنتين، وعبد الله الّذي سمي الطيب والطاهر لأنه ولد بعد النبوة، والثالث إبراهيم الّذي توفي عن سبعة عشر شهرا. (تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 26).
(2) المقصود هو عثمان بن عفان الّذي تزوّج ابنتي الرسول: رقيّة ثم أم كلثوم، ولذلك لقب بذي النورين.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/64)
آثره وأثّره، وصدارة ورد بها منهل الكرام البررة.
وكان فلان هو ذو السّؤدد العريق، والباسق في الدّوح الوريق، والمنتسب إلى أعزّ فريق، والطّيّب أصلا وفرعا على التّحقيق، والإمام في علومه الّتي أصّلت التّفريع ووصلت التّفريق، والموفّق فيما يأتي ويذر والله وليّ التّوفيق، قد أشرق بدمشق نجمه نورا، وابتسم البرق الشّاميّ به سرورا، وتصدّر بمحافلها فشرح صدورا، وابتنى له سؤددا وجعل مكارم الأخلاق عليه سورا، تلقى بمحضره المسائل فتلقى منه وليّا مرشدا، وتذكر لديه المباحث فتجد على ذهنه المتوقدّ هدى، وإذا اضطرب قول مشكل سكن بإبانته وهدا إن تأوّل أصاب في تأويله، وإن نظر في مصلحة كان رأيه في السّداد موافقا لقيله، وقد استخرنا الله تعالى وهو نعم الوكيل في توكيله.
فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يفوّض إليه
فليأت هذا المنصب المنصبّ وبل بركته من بابه، وليخيّم في فسيح رحابه، ولينعم بجنّاته في جنابه، وليحرّر ما يباع من أملاك بيت المال بشروطه ولوازمه المسطورة في كتابه، وليردع من استولى على أرض باغتصابه، فليس لعرق ظالم حقّ: وهو إما بناء بإنشائه وإمّا غراس بإنشابه، وما يرتجع إلى بيت المال المعمور من أرض وعقار، وروضات ذات غراس وأنهار، وقرّى وما يضاف إلى ذلك من آثار فليحرّر مجموعه، وليسلك في ذلك الطريقة المشروعة، وليشفق إشفاق المتّقين الماهدين لمآلهم، ولينصح لنا وللمسلمين فهو وكيل بيت مالهم. ومن مات ولا وارث له من عصبة أو كلالة (1)، فإنّ لبيت المال أرضه وداره وماله.
__________
(1) الكلالة: أن يموت المرء وليس له والد أو ولد يرثه. والعصبة: كل من ليست له فريضة مسماة في الميراث، وإنما يأخذ ما يبقى بعد أرباب الفرائض، والجمع عصبات، وهم لغة: ذكور يتصلون بأب، وشرعا: أربعة أصناف، وعند البعض ثلاثة. (انظر الكلّيات للكفوي: 3/ 183و 4/ 121 والتعريفات للجرجاني: 150).(12/65)
وقد وكلنا إليك هذا التقليد وقلّدناك هذه الوكالة، ووالدك رحمه الله كانت مفوّضة إليه قديما فلذلك أحيينا بك تلك الأصالة.
واعلم أعزك الله أنّ الوصايا إن طالت فقد طاب سبحها، وإن أوجزت فقد كفى لمعها ولمحها وعلى الأمرين فقد أنارها هنا بالتوفيق صبحها، وحسن بالتصديق شرحها، وأطرب من حمام أقلامها صدحها، والتّقوى فهي أوّلها وآخرها وختمها وفتحها، والله تعالى يسقي بك كلّ قضبة [ذوى] صيحها (1)، والخير يكون إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع شريف بوكالة بيت المال بالشّام أيضا:
الحمد لله كافي من توكّل عليه، ومحسن مآل من فوّض أمره إليه، ومجمّل مآب من قدّم رجاءنا عند الهجرة إلى أبوابنا بين يديه، ومقرّ عين من أسهر في استمطار عوارفنا بكمال الأدوات ناظريه.
نحمده على نعمه الّتي جعلت سعي من أمّ كرمنا، مشكورا، وسعد من قصد حرمنا، مشهورا، وإقبال من أقبل إلى أبوابنا العالية محقّقا يتقلّب في نعمنا محبورا، وينقلب إلى أهله مسرورا، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة نعتضد فيها بالإخلاص ونعتصم، ونتمسّك في الدّنيا والآخرة بعروتها، التي لا تنفصم، ونوكّل في إقامة دعوتها، سيوفنا الّتي لا تزال هي وأعناق جاحديها تختصم، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أضاءت شريعته، فلم تخف على ذي نظر، وأنارت ملّته، فأبصرها القلب قبل البصر، وعمّت دعوته، فاستوى في وجوب إجابتها البشر، واختصت أمّته، بعلماء يبصرون من في طرفه عمى ويظهرون حقّ من في باعه قصر، صلّى الله عليه وعلى آله الذين عملوا بما
__________
(1) القضبة من النبات: الرطبة. والصّيح: خروج العنقود من كمامه، والمراد: ثمرها. وزيادة لفظ «ذوى» من الطبعة الأميرية.(12/66)
علموا، وعدلوا فيما حكموا، وحفظوا بالحقّ بيوت أموال الأمّة فاشترك أهل الملّة فيما غنموا، صلاة توكّل الإخلاص بإقامتها، وتكفّل الإيمان بإدامتها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد: فإن أهمّ ما صرفت إليه الهمم، وأعمّ ما نوجب في اختيار الأكفاء له براءة الذّمم، وأخصّ ما اتّخذنا الاستخارة فيه دليلا، وأحقّ ما أقمنا عنّا فيه من أعيان الأمّة وكيلا، لا يدع حقّا للأمّة ما وجد إليه سبيلا أمر بيت مال المسلمين الذي هو مادّة جهادهم، وجادّة جلادهم، وسبب استطاعتهم، وطريق إخلاصهم في طاعتهم، وسداد ثغورهم، وصلاح جمهورهم، وجماع ما فيه إتقان أحوالهم واستقرار أمورهم ومن آكد مصالحه وأهمّها، وأخصّ قواعده وأعمّها، وأكمل أسباب وفوره وأتمّها، الوكالة الّتي تصون حقوقه أن تضاع، وتمنع خواصّه أن تشاع، وتحسن عن الأمّة في حفظ أموالها المناب، وتتولّى لكلّ من المسلمين فيما فرض الله لهم الدعوى والجواب ولذلك لم نزل نتخيّر لها من ذخائر العلماء من زان الورع سجاياه، وكمّل العلم مزاياه، وانعقد الإجماع على كماله، وقصرت الأطماع عن التّحلّي بجمال علمه: وهل يبارى من كان علمه من جماله.
ولما كان المجلس الساميّ، الشّيخيّ، الفلانيّ، هو الّذي ظهرت فضائله وعلومه، ودلّ على بلوغ الغاية منطوق نعته ومفهومه، وحلّى علمه بالورع الّذي هو كمال الدين على الحقيقة، وسلك طريقة أبيه في التّفرّد بالفضائل فكان بحكم الإرث من غير خلاف صاحب تلك الطّريقة، مع نسب لنسيب ما مرّ حلاله، وتقّى ما ورثه من أبيه عن كلالة، وثبات في ثبوت الحقّ لا تستفزّه الأغراض، وأناة في قبول الحكم لا تحيل جواهره الأعراض، ووقوف مع الحقّ لا يبعده إلى ما [لا] (1) يجب، وبسطة في العلم بها يقبل ما يقبل ويجتنب ما
__________
(1) الزيادة يقتضيها المعنى.(12/67)
يجتنب، وتحقيق تجري الدّعاوى الشرعيّة على محجّته، وإنصاف لا يضرّ خصمه معه كونه ألحن (1) منه بحجّته، مع وفادة إلى أبوابنا العالية تقاضت له كرمنا الجمّ، وفضلنا الّذي خصّ وعمّ اقتضت آراؤنا الشريفة أن يرجع إلى وطنه مشمولا بالنّعم، مخصوصا من هذه الرتبة بالغاية الّتي يكبو دونها جواد الهمم، منصوصا على رفعة قدره الّتي جاءت هذه الوظيفة على قدر، مداوما [لشكر أبوابنا] (2) على اختياره لها بعد إمعان الاختبار وإنعام النّظر.
فرسم بالأمر الشريف أن تفوّض إليه وكالة بيت المال المعمور بالشّام المحروس.
فليرق هذه الرتبة الّتي هي من أجلّ ما يرتقى، ويتلقّ هذه الوكالة الّتي مدار أمرها على التّقى وهو خير ما ينتقى، ويباشر هذه الوظيفة التي مناط حكمها في الورى الّذي لا تستخفّ صاحبه الأهواء ولا تستفزّه الرّقى، ولينهض بأعبائها مستقلّا بمصالحها، متصدّيا لمجالس حكمها العزيز لتحرير حقوق بيت المال وتحقيقها، متلقّيا ما يرد من أمر الدّعاوى الشرّعية الّتي يبتّ مثلها في وجهه بطريقها، منقّبا عن دوافع ما يثبت له وعليه، محسنا عن بيت المال الوكالة فيما جرّه الإرث الشرعيّ إليه، مستظهرا في المعاقدة بما جرت به العادة من وجوه الاحتراز، مجانبا جانب الحيف في الأخذ والعطاء بأبواب الرّخص وأسباب الجواز، منكّبا في تشدّده عن طريق الظّلم الّذي من تحلّى به كان عاطلا، سالكا في أموره جادّة العدل فإنّه سيّان من ترك حقّه وأخذ باطلا، مجتهدا في تحقيق ما وضح من الحقوق الشرعية وكمن، متتبّعا ما غالت الأيام في إخفائه فإنّ الحقّ لا يضيع بقدم العهد ولا يبطل بطول الزّمن.
وفي أوصافه الحسنة، وسجاياه الّتي غدت بها أقلام أيّامنا لسنة، وعلومه التي أسرت إليها أفكاره والعيون وسنة، ما يغني عن وصايا يطلق عنان اليراعة
__________
(1) أي أقدر منه على إظهار حجته. وفي الحديث: «لعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض».
(2) في الأصل «مداوما لها على الخ» والتصحيح من الطبعة الأميرية.(12/68)
في تحديدها، أو قضايا ينطق لسان البراعة في توكيدها ملاكها تقوى الله وهي سجيّة نفسه، ونجيّة أنسه، وحلية خلاله المعروفة في يومه وأمسه فليقدّمها في كلّ أمر، ويقف عند رضا الله فيها لا رضا زيد ولا عمرو والله الموفق بمنّه وكرمه.
[الوظيفة الخامسة الخطابة] (1)
وهذه نسخة توقيع بالخطابة بالجامع الأموي، كتب بها لزين الدّين الفارقيّ (2)، من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ:
الحمد لله رافع الّذين أوتوا العلم درجات، وجاعل أرجاء المنابر بفضائل أئمّة الأمّة أرجات، وشارح الصّدور بذكره بعد أن كانت من قبل المواعظ حرجات، الّذي زان الدّين من العلماء بمن سلّمت له فيه الإمامة، وصان العلم من الأئمة المتقين بمن أصحب (3) له جامح الفضل يصرّف كيف شاء زمامه، ووطّد ذروة المنبر الكريم لمن يحفظ في هداية الأمّة حقّه ويرعى في البداية بنفسه ذمامه، ووطّأ صدر المحراب المنير لمن إذا أمّ الأمّة أرته خشية الله أنّ وجه الله الكريم أمامه.
نحمده على ما منحنا من صون صهوات المنابر إلا عن فرسانها، وحفظ درجات العلم إلا عمّن ينظر بإنسان السّنّة وينطق بلسانها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة لا تزال أفواه المحابر، تثبت طروسها، وأنواء المنابر، تنبت غروسها، وألسنة الإخلاص تلقي على المسامع من صحف الضّمائر دروسها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي شرّفت المنابر أوّلا برقيّه إليها، وآخرا بذكر اسمه الكريم عليها فهي الرّتبة الّتي يزيد تبصرة على ممرّ الدّهور
__________
(1) هذه الإضافة يقتضيها الكلام بعدها.
(2) هو زين الدين، أبو محمد، عبد الله بن مروان بن عبد الله، الفارقي الشافعي: خطيب دمشق وشيخ دار الحديث ومدرّس الشامية البرّانية. توفي سنة 703هـ. (شذرات الذهب: 6/ 8).
(3) أصحب له: انقاد له واتبعه.(12/69)
بقاؤها، والدّرجة الّتي يطول إلا على ورثة علمه ارتقاؤها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الّذين ذكّرهم بأيام الله فذكروها، وبصّرهم بآلاء الله فشكروها، وعرّفهم بمواقع وحدانيّته فجادلوا بسنّته وأسنّته الذين أنكروها، صلاة لا تبرح لها الأرض مسجدا، ولا يزال ذكرها مغيرا في الآفاق ومنجدا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّه لمّا كانت الخطابة من أشهر شعائر الإسلام، واظهر شعار ملّة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، شرعها الله تعالى لإذكار خلقه بنعمه، وتحذير عباده من نقمه، وإعلام بريّته بما أعدّ لمن أطاعه في دار كرامته من أنواع كرمه، وجعلها من وظائف الأمة العامّة، ومن قواعد وراثة النّبوّة التامة يقف المتلبّس بها موقف الإبلاغ عن الله لعباده، ويقوم النّاهض بفرضها مقام المؤدّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمّته عن مراد الله ورسوله دون مراده، ويقيمها في فروض الكفايات على سنن [سبله] (1)، ويستنزل بها موادّ الرحمة إذا ضنّ الغيث على الأرض بوبله وكان المسجد الجامع بدمشق المحروسة هو الّذي سارت بذكره الأمثال، وقيل هذا من أفراد الدّهر الّتي وضعت على غير مثال، قد تعيّن أن نرتاد له بحكم خلوّه من الأئمة من هو مثله فرد الآفاق، وواحد العصر عند الإطلاق، وإمام علماء زمانه غير مدافع عن ذلك، وعلّامة أئمّة أوانه الّذي يضيء بنور فتاويه ليل الشّكّ الحالك، وناصر السّنّة الّذي تذبّ علومه عنها، وحاوي ذخائر الفضائل الّتي تنمي على كثرة إنفاقه على الطّلبة منها، وشيخ الدّنيا الّذي يعقد على فضله بالخناصر، ورحلة (2) الأقطار الّذي غدت نسبته إلى أنواع العلوم زاكية الأحساب طاهرة الأواصر، وزاهد الوقت الذي زان العلم بالعمل، وناسك الدّهر الّذي صان الورع بامتداد الفضائل وقصر الأمل، والعابد الّذي أصبح حجّة العارف وقدوة السّالك، والصّادع بالحقّ الّذي لا يبالي من أغضب
__________
(1) في الأصل «نبيّه» والتصحيح من الطبعة الأميرية.
(2) الرّحلة: ما يرتحل إليه. وعالم رحلة: يرتحل إليه من الآفاق.(12/70)
إذا رضي الله ورسوله بذلك.
ولما كان فلان هو الّذي خطبته لهذه الخطابة علومه الّتي لا تسامى ولا تسام، وعيّنته لهذه الإمامة فضائله الّتي حسنت بها وجوه العلم الوسام، حتّى كأنّها في فم الزمن ابتسام، وألقى إليه مقاليدها كماله الّذي صدّ عنها الخطّاب، وسدّ دونها أبواب الخطاب، وقيل: هذا الإمام الشافعيّ أولى بهذا المنبر وأحرى بهذا المحراب اقتضت آراؤنا الشريفة أن نحلّي أعطاف هذا المنبر بفضله الذي يعيد عوده رطيبا، ويضمّخ طيبا منه ما ضمّ خطيبا، وأن نصدّر بهذا المحراب من نعلم أنّه لدى الأمّة مناج لربّه، واقف بين يدي من يحول بين المرء وقلبه.
فلذلك رسم لا زال يولّي الرّتب الحسان، ويجري بما أمر الله به من العدل والإحسان أن تفوّض إليه الخطابة والإمامة بجامع دمشق المحروس على عادة من تقدّمه.
فليرق هذه الرّتبة الّتي أمطاه الله ذروتها، وأعطاه الفضل صهوتها، وعيّنه تفرّده بالفضائل لإذكار الأمّة عليها، ورجّحه لها انعقاد الإجماع على فضله حتّى كادت للشوق أن تسعى إليه لو لم يسع إليها، حتّى تختال منه بإمام لا تعدو مواعظه حبّات القلوب، لأنها تخرج من مثلها، ولا تدع خطبه أثرا للذّنوب، لأنّها توكّل ماء العيون بغسلها، ولا تبقي نصائحه للدّنيا عند المغترّ بها قدرا، لأنّها تبصّره بخداعها، ولا تترك بلاغته للمقصّر عن التّوبة عذرا: فإنّها تحذّره من سرعة زوال الحياة وانقطاعها، ولا تجعل فوائده لذوي النّجدة والبأس التفاتا إلى أهل ولا ولد لأنّها تبشّره بما أعدّ الله لمن خرج في سبيله، ولا تمكّن زواجره من نشر الظلم أن يمدّ إليه يدا لأنّها تخبره بما في الإقدام على ذلك من إغضاب الله ورسوله.
فليطل مع قصر الخطبة للظّالم مجال زجره، وليطب قلب العالم العامل بوصف ما أعدّ الله له من أجره، وليجعل خطبه كلّ وقت مقصورة على
حكمه، مقصودة في وضوح المقاصد بين من ينهض بسرعة إدراكه أو يقعد به بطء فهمه فخير الكلام ما دلّ ببلاغته، وإن قلّ، وإذا كان قصر خطبة الرجل وطول صلاته مئنّة (1) من فقهه فما قصّر من حافظ على حكم السّنة فيهما ولا أخلّ.(12/71)
فليطل مع قصر الخطبة للظّالم مجال زجره، وليطب قلب العالم العامل بوصف ما أعدّ الله له من أجره، وليجعل خطبه كلّ وقت مقصورة على
حكمه، مقصودة في وضوح المقاصد بين من ينهض بسرعة إدراكه أو يقعد به بطء فهمه فخير الكلام ما دلّ ببلاغته، وإن قلّ، وإذا كان قصر خطبة الرجل وطول صلاته مئنّة (1) من فقهه فما قصّر من حافظ على حكم السّنة فيهما ولا أخلّ.
[وهذه] نسخة توقيع بالخطابة بالجامع الأمويّ، كتب به للقاضي «تقيّ الدّين السبكي» (2).
الحمد لله الّذي جعل درجات العلماء آخذة في مزيد الرّقيّ، وخصّ برفيع الدرجات من الأئمة الأعلام كلّ تقيّ، وألقى مقاليد الإمامة لمن يصون نفسه النّفيسة بالورع ويقي، وأعاد إلى معارج الجلال، من لم يزل يختار حميد الخلال، وينتقي، وأسدل جلباب السّؤدد على من أعدّ للصّلاة والصّلات من قلبه وثوبه كلّ طاهر نقيّ.
نحمده على أن أعلى علم الشّرع الشّريف وأقامه، وجعل كلمة التّقوى باقية في أهل العلم إلى يوم القيامة، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة عدل (3) قيّد الفضل بالشكر وأدامه، وأيّد النّعمة بمزيد الحمد فلا غرو أن جمع بين الإمامة والزّعامة، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أعلى الله به عقيرة مرتّل الأذان ومدرج الإقامة، وأغلى ببركته قيمة من تمسّك بسبيل الهدى ولازم طريق الاستقامة، صلّى الله عليه وعلى آله الذين عقدوا عهود هذا الدّين وحفظوا نظامه، وعلى أصحابه الذين ما منهم إلا من اقتدى بطريقه فاهتدى إلى
__________
(1) المئنّة: علامة الشيء الدّالة عليه.
(2) هو علي بن عبد الكافي المتوفى سنة 756هـ. ولي قضاء الشام سنة 739هـ. (الأعلام:
4/ 302).
(3) في الأصل «شهادة عدل فيها قيّد الخ» وما أثبتناه من الطبعة الأميرية.(12/72)
طرق الكرامة، صلاة لا تزال بركاتها تؤيّد عقد اليقين وتديم ذمامه، وسلّم تسليما كثيرا.
أمّا بعد، فإن من شيم دولتنا الشريفة أن ترفع كلّ عالي المقدار مكانا عليّا، وتجعل له من اسمه وصفته قولا مسموعا وفعلا مرضيّا، وتوطّد له رتب المعالي وتزيد قدره فيها رقيّا، وتكسوهم من جلباب السّؤدد مطرفا (1) مباركا وطيّا، وتطلق لسان إمامه بالمواعظ الّتي إذا تعقّلها أولو الألباب خرّوا لطاعة ربّهم سجّدا وبكيّا.
ولما كان المجلس العالي هو الّذي أعزّ أحكام الشريعة الشّريفة وشادها، وأبدى من ألفاظه المباركة المواعظ الرّبّانيّة وأعادها، وأذاع فيها أسرار اليقين وزادها، وأصلح فسادها، وقوّم منادها (2) وكيف لا وقد جمع من العلوم أشتاتا، وأحيا من معالم التّقى رفاتا، وأوضح من صفات العلماء العاملين بهديه وسمته هديا وسماتا، فلذلك خرج الأمر الشريف الصالحيّ العماديّ
قلت: وهذه نسخة توقيع بخطابته أيضا، أنشأته للشّيخ «شهاب الدين بن حاجّي».
الحمد لله الّذي أطلع شهاب الفضائل في سماء معاليها، وزيّن صهوات المنابر بمن قرّت عيونها من ولايته المباركة بتواليها، وجمّل أعوادها بأجلّ حبر لو تستطيع فرق قدرتها لسعت إليه وفارقت خرقا للعادة مبانيها، وشرّف درجها بأكمل عالم ما وضع بأسافلها قدما إلا وحسدتها على السّبق إلى مسّ قدمه أعاليها.
__________
(1) المطرف (بضم الميم وكسرها): رداء أو ثوب من خزّ مربع.
(2) من انآد: اعوجّ. والأود: الاعوجاج.(12/73)
نحمده على أن خصّ مصاقع (1) الخطباء من فضل اللّسن بالباع المديد، وقصر الجامع الأمويّ على أبلغ خطيب يشيب في تطلّب مثله الوليد، وأفرد فريد الدّهر باعتبار الاستحقاق برقيّ درج منبره السّعيد، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تخفق على مواكب الصّفوف أعلامها، وتتوفّر من تذكير آلاء الله تعالى أقسامها، ولا تقصّر عن تبليغ المواعظ حبّات القلوب أفهامها، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل نبيّ نبه القلوب الغافلة من سناتها، وأيقظ الخواطر النّائمة من سباتها، وأحيا رميم الأفئدة بقوارع المواعظ بعد مماتها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين علا مقامهم، ففاتت أعقابهم الرّؤوس، ورفعت في المجامع رتبهم، فكانت منزلتهم منزلة الرّئيس من المرؤوس، صلاة لا تزال الأرض لها مسجدا، ولا يبرح مفترق المنابر باختراق الآفاق لاجتماعها موردا.
وبعد، فإنّ أولى ما صرفت العناية إليه، ووقع الاقتصار من أهمّ المهمّات عليه أمر المساجد الّتي أقيم بها للدّين الحنيف رسمه، وبيوت العبادات الّتي أمر الله تعالى أن ترفع ويذكر فيها اسمه لا سيّما الجوامع الّتي هي منها بمنزلة الملوك من الرّعيّة، وأماثل الأعيان من بين سائر البريّة ومن أعظمها خطرا، وأبينها في المحاسن أثرا، وأسيرها في الآفاق النّائية خبرا، بعد المساجد الثلاثة التي تشدّ الرّحال إليها، ويعوّل في قصد الزيارة عليها جامع دمشق الّذي رست في الفخر قواعده، وقامت على ممرّ الأيام شواهده، وقاوم الجمّ الغفير من الجوامع واحده، ولم تزل الملوك تصرف العناية إلى إقامة شعائر وظائفه، وتقتصر من أهل كلّ فنّ على رئيس ذلك الفنّ وعارفه فما شغرت به وظيفة إلا اختاروا لها الأعلى والأرفع، ولا وقع التّردّد فيها بين اثنين إلّا تقيّلوا (2) منهما الأعلم والأروع خصوصا وظيفة الخطابة الّتي كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم للقيام بها
__________
(1) المصقع: البليغ المتفنن في مذاهب القول.
(2) تقيّل من كان قبله: نزع إليه في الشّبه والعمل.(12/74)
متصدّيا، وعلم الخلفاء مقام شرفها بعد فباشروها بأنفسهم تأسّيا.
ولما كان المجلس العاليّ، القاضويّ، الشّيخيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، الأوحديّ، الأكمليّ، الرّئيسيّ، المفوّهيّ، البليغيّ، الفريديّ، المفيديّ، النّجيديّ، القدويّ، الحجّيّ، المحقّقيّ، الورعيّ، الخاشعيّ، النّاسكيّ، الإماميّ، العلّاميّ، الأثيليّ، العريقيّ، الأصيليّ، الحاكميّ، الخطيبيّ، الشّهابيّ، جمال الإسلام والمسلمين، شرف العلماء العاملين، أوحد الفضلاء المفيدين، قدوة البلغاء المجتهدين، حجّة الأمّة، عمدة المحدّثين، فخر المدرّسين، مفتي المسلمين، معزّ السنة، قامع البدعة، مؤيّد الملّة، شمس الشّريعة، حجّة المتكلّمين، لسان المناظرين، بركة الدّولة، خطيب الخطباء، مذكّر القلوب، منبّه الخواطر، قدوة الملوك والسّلاطين، وليّ أمير المؤمنين «أبو العبّاس أحمد» أدام الله تعالى نعمته: هو الّذي خطبته هذه الخطابة لنفسها، وعلمت أنّه الكفء الكامل فنسيت به في يومها ما كان من مصاقع الخطباء في أمسها إذ هو الإمام، الذي لا تسامى علومه ولا تسام، والعلّامة الّذي لا تدرك مداركه ولا ترام، والحبر الّذي تعقد على فضله الخناصر، والعالم الّذي يعترف بالقصور عن مجاراة جياده المناظر، والحافظ الذي قاوم علماء زمانه بلا منازع، وعلّامة أئمّة أوانه من غير مدافع، وناصر السّنّة الذي يذبّ بعلومه عنها، وجامع أشتات الفنون الّتي يقتبس أماثل العلماء منها، وزاهد الوقت الّذي زان العلم بالعمل، وناسك الدّهر الّذي قصّر عن مبلغ مداه الأمل، ورحلة الأقطار الّذي تشّد إليه الرّحال، وعالم الآفاق الّذي لم يسمح الدّهر له بمثال اقتضى حسن الرأي الشريف أن نرفعه من المنابر على عليّ درجها، ونقطع ببراهينه من دلائل الإلباس الملبّسة داحض حججها، ونقدّمه على غيره ممن رام إبرام الباطل فنقض، وحاول رفع نفسه بغير أداة الرّفع فخفض.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، المنصوريّ، المعزّيّ لا زال يرفع لأهل العلم راسا، ويحقّق لذوي الجهل من بلوغ المراتب السّنيّة ياسا أن يفوّض إلى المجلس العالي المشار إليه خطابة
الجامع المذكور بانفراده، على أتمّ القواعد وأكملها، وأحسن العوائد وأجملها.(12/75)
فلذلك رسم بالأمر الشّريف العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، المنصوريّ، المعزّيّ لا زال يرفع لأهل العلم راسا، ويحقّق لذوي الجهل من بلوغ المراتب السّنيّة ياسا أن يفوّض إلى المجلس العالي المشار إليه خطابة
الجامع المذكور بانفراده، على أتمّ القواعد وأكملها، وأحسن العوائد وأجملها.
فليرق منبره الّذي عاقب فيه رامحه الطّالع أعزل غيره الغارب، وليتبوّأ ذروة سنامه الأرفع من غير شريك له ولا حاجب، وليقصد بمواعظه حبّات القلوب، ويرشق شهاب قراطيسها المانعة فإنّها الغرض المطلوب، وليأت من زواجر وعظه بما يذهب مذهب الأمثال السائرة، ويرسلها من صميم قلبه العامر فإنّ الوعظ لا يظهر أثره إلّا من القلوب العامرة، ويقابل كلّ قوم من التذكير بما يناسب أحوالهم على أكمل سنن، ويخصّ كلّا من أزمان السّنة بما يوافق ذلك الزّمن والوصايا كثيرة وإنّما تهذيب العلم يغني عنها، وتأديب الشريعة يكفي مع القدر اليسير منها وتقوى الله تعالى ملاك الأمور وعنده منها القدر الكافي، والحاصل الوافي والله تعالى يرقّيه إلى أرفع الذّرى، ويرفع على الجوزاء مجلسه العالي: «وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا».
الوظيفة السادسة التّداريس الكبار بدمشق المحروسة.
وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة الرّيحانية، كتب به لقاضي القضاة «عماد الدين الطّرسوسيّ» (1) الحنفيّ، عوضا عن جلال الدّين الرّازيّ. كتب بسؤال بعض كتّاب الإنشاء، وهي:
الحمد لله الّذي جعل عماد الدّين عليّا، وأحكم مباني من حكم فلم يدع عصيّا، وقضى في سابق قضائه لإمضاء قضائه أن لا يبقي عتيّا.
نحمده على ما وهب به من أوقات الذّكر بكرة وعشيّا، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تنبّه بالعلم بوحدانيّته من كان غبيّا، وتكبت لمقاتل سيوف العلماء من كان غويّا، ونشهد أنّ سيّدنا محمدا عبده ورسوله الّذي كان
__________
(1) علي بن أحمد بن عبد الواحد الطرسوسي المتوفى حوالي 746هـ. (الأعلام: 1/ 51وشذرات الذهب: 6/ 261).(12/76)
عند ربّه رضيّا، وعلى ذبّه عمّا شرع من الدين مرضيّا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا يزال فضل قديمها مثل حديثها مرويّا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فلّما كانت رتب العلم هي الّتي يتنافس عليها، ويتطاول إلى التّنقّل إليها، ويختار منها ما كسي بمباشرة المتقدّم ملابس الجلال، وآن له أن ينتقل إليه البدر بعد الهلال، وكانت المدرسة الرّيحانيّة بمحروسة دمشق هي ريحانة المجالس، وروضة العلم الزّاكية المغارس، وبحر الفوائد الّذي يخرج الفرائد، ومسرح العلماء الّذي قد آن أن يظفر به منهم من الألف زائد.
ولمّا توفّي من آلت إليه، وعالت مسألتها إلّا عليه، وكان ممّن قد ولي الأحكام استقلالا، وكان لبصر الدّنيا جلاء وللدّين جلالا، لم تكن إلّا لمن ينسى به ذلك الذّاهب، وينسب إليه علم مذهبه كلّه وإن كان لا يقتصر به على بعض المذاهب، ويعرف من هو وإن لم يصرّح باسمه، ويعرف من (1) هو وإن لم يذكر بعلاء قدره العليّ وعلمه، ولا يمترى (2) أنّه خلف «أبا حنيفة» فيمن خلف، وحصل على مثل ما حصل عليه القاضي «أبو يوسف» (3) وذهب ذلك في السّلف الأوّل مع من سلف، وأعلم بجداله أنّ «محمد بن الحسن» ليس من أقران أبي الحسن، وأنّ «زفر» (4) لم يرزق طيب أنفاسه في براعة اللّسن، وأنّ «الطّحاويّ» (5) ما طحا به «قلب إلى الحسان طروب» و «القاضي
__________
(1) كذا بالأصل مكررة.
(2) امترى في الشيء: شك فيه.
(3) هو يعقوب بن ابراهيم بن حبيب الأنصاري، صاحب الإمام أبي حنيفة وتلميذه وأول من نشر مذهبه. وهو أول من دعي قاضي القضاة، وكان يقال له: قاضي قضاة الدنيا. من أهم كتبه:
«الخراج» «والآثار». وهو مسند أبي حنيفة. توفي سنة 182هـ. (وفيات الأعيان: 6/ 378 والأعلام: 8/ 193).
(4) المقصود: زفر بن الهذيل بن قيس العنبري: فقيه كبير من أصحاب أبي حنيفة. توفي سنة 158 هـ. (الأعلام: 3/ 45).
(5) هو أحمد بن محمد بن سلامة المتوفى سنة 321هـ. انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر. (وفيات الأعيان: 1/ 71والأعلام: 1/ 206).(12/77)
خان» (1) لديه منه الأنبوب، وتلقّب «شمس الأئمة» لما طلع علم أنّه قد حان من شمس النّهار غروب، و «الرّازيّ» لما جاء تيقّن أنّه يروزه (2) عن علم الجيوب، و «المرغينانيّ» مسّ ولم يرغن (3) له في مطلوب، و «الثّلجيّ» (4) ما برّد لطالب غلّه، و «الخبّازيّ» (5) لم يوجد عنده لطعام فضلة، و «الهندوانيّ» (6) ما أجدى في جلاد الجدال ولا هزّ نصله ولم يزل يشار إليه والتّقليد الشريف له بالحكم المطلق بما تضمّنه من محاسن أوصافه شاهد، ودست الحكم على على كيوان شائد، ومدارس العلم تسرّ من حبّه، ما حنيت عليه من محاريبها الأضالع، ومجالس القضاء تظهر بقربه، ما لم يكن تدانى إليه المواضع.
وكان الجناب الكريم، العاليّ، القضائيّ، الأجلّيّ، الإماميّ، الصّدريّ، العالميّ، العامليّ، العلّاميّ، الكامليّ، الفاضليّ، الأوحديّ، المفيديّ، الورعيّ، الحاكميّ، العماديّ، ضياء الإسلام، شرف الأنام، صدر الشّام، أثير الإمام، سيد العلماء والحكّام، رئيس الأصحاب، معزّ السّنة، مؤيّد الملّة،
__________
(1) هو حسن بن منصور بن محمود بن عبد العزيز، المعروف بقاضي خان الأوزجندي الفرغاني.
نسبته إلي «أوزجند» بنواحي أصبهان قرب فرغانة. فقيه حنفي، توفي سنة 592هـ. (هدية العارفين: 280والأعلام: 2/ 224).
(2) يروزه: يسأله. والمراد بعلم الجيوب: علم الجيوب الفلكية.
(3) أرغن له في كذا: أطاعه فيه. والمرغيناني: نسبة إلى «مرغينان» من بلاد ما وراء النهر. وهناك اثنان من أكابر فقهاء الحنفية بهذا الإسم: الأول علي بن أبي بكر بن عبد الجليل، المتوفى سنة 593هـ. والثاني محمود بن أحمد بن عبد العزيز، المتوفى سنة 616هـ. (الأعلام: 4/ 266 و 7/ 161).
(4) لعل المراد: ابن الثلجي وهو محمد بن شجاع البغدادي: فقيه العراق في وقته ومن أصحاب أبي حنيفة. توفي سنة 266هـ. (الأعلام: 6/ 157).
(5) هو عمر بن محمد بن عمر الخبّازي الخجندي: فقيه حنفي من أهل دمشق. توفي سنة 691 هـ. (الأعلام: 5/ 63).
(6) لم نهتد إليه. ولعله منسوب إلى «هندوان»: نهر بين خوزستان وأرجان. (معجم البلدان:
5/ 418).(12/78)
جلال الأئمّة، حكم الملوك والسلاطين، خالصة أمير المؤمنين، أبو الحسن عليّ بن الطّرسوسيّ الحنفيّ، قاضي القضاة بالشّام نشر ملاءة مذهبه، وحلّى بجلوسه للحكم طرفي النّهار إضاءة مفضّضه وتوشيع مذهبه، طالما ساس الرّعيّة بحكمه، وساد نظراءه في معرفة العلوم الشّرعيّة بعلمه وحكمه، وسار مثل فضله في الأقطار وضوء الشّمس مرد شعاعه، فطال إلى السّماء وقصر الأفق الممتدّ على طول باعه، وفاض فيض الغمام وما اكتال البحر بكيله ولا صار مثل صاعه، وعرضت عليه هذه المدرسة الّتي لم يكن لغيره أن يحبى ريحانتها، ولا أن تؤدّى إلى يد سواه فيودع أمانتها، فآثرها على أنّه ترك المدرسة المقدّميّة المتقدّم له درسها، المعظّم به في كلّ حين غرسها، ليوسّع بها على الطالب مذهبه، ويفرغ لها ساعة من أوقاته المنتهبة، ويهب [لها] (1) من حقّه الّذي هو في يده ما لو شاء ما وهبه.
فرسم بالأمر الشريف لا زال يقرّب الآماد، ويرضي القوم وأقضاهم عليّ وأثبتهم طودا العماد أن يفوّض إليه تدريس المدرسة الرّيحانية المعيّنة أعلاه، على عادة من تقدّمه وقاعدته إلى آخر وقت، بحكم تركه للمقدّمية ليهبّ عليه روحها وتهب له السّعادة ريحها ولها من البشرى بعلمه ما تميس به ريحانة ريحها سرورا، وتميد وقد أكنّت جبلا من العلم وقورا، وتمتدّ وقد نافحت في مسكة اللّيل عبيرا، وفي أقحوانة الصّباح كافورا وما نوصي مثله أجلّ الله قدره بوصية إلا وهو يعلمها، ويلقّنها من حفظه ويعلّمها ومن فصل قضائه تؤخذ الآداب، وتنفذ سهام الآراء والآراب. وتقوى الله بها باطنه معمور، وكلّ أحد بها مأمور وما نذكّره بها إلّا على سبيل التّبرّك بذكرها، والتّمسّك بأمرها.
والفقهاء والمتفقّهة هم جنده وبهم يجدّ جدّه، [فليجعلهم له في المشكلات عدّة، وليصرف في] (2) الإحسان إليهم جهده والله تعالى يعينه على ما ولي،
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/79)
ويعيّنه لكلّ علياء لا يصلح أن يحلّها إلّا عليّ. وسبيل كلّ واقف عليه العمل به بعد الخطّ الشريف أعلاه.
الوظيفة السابعة التصادير بدمشق المحروسة.
وهذه نسخة توقيع أنشأته لقاضي القضاة «بدر الدّين محمد» ابن قاضي القضاة بهاء الدّين أبي البقاء (1)، وولده جلال الدّين محمد، بإعادة تصديرين كانا باسمهما، بالجامع الأمويّ بدمشق: أحدهما انتقل إليهما عن سلفهما، والثاني بنزول، وخرج عنهما عند استيلاء «تنم» (2) نائب الشّام على الشّام في سنة اثنتين وثمانمائة، ثم أعيد إليهما في شوّال من السنة المذكورة، في قطع الثّلث، وهي:
الحمد لله الّذي جعل بدر الدّين في أيّامنا الزاهرة متواصل رتب الكمال، متردّدا في فلك المعالي بأكرم مساغ بين بهاء وجلال، منزّها عن شوائب النّقص.
في جميع حالاته: فإما مرتقب الظهور في سراره، أو متّسم بالتمام في إبداره، أو آخذ في الازدياد وهو هلال.
نحمده على أن أقرّ الحقوق في أهلها، وانتزع من الأيدي الغاصبة ما اقتطعته الأيام الجائرة بجهلها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تحمي قائلها من شوائب التّكدير، وتصون منتحلها من عوارض الإصدار إذا ورد أصفى
__________
(1) في الأعلام عن الدرر الكامنة أنّ بهاء الدين السبكي هو «أبو حامد». وفي نزهة النفوس والأبدان في وفيات سنة 811هـ أن «بدر الدين محمد» هو «أبو البقاء». (الأعلام: 1/ 176ونزهة النفوس: 2/ 249).
(2) هو تنم (بفتح التاء المثناة والنون)، سيف الدين الحسني الظاهري برقوق. ولاه استاذه نيابة دمشق سنة 797هـ ثم لما توفي برقوق خرج على طاعة المصريين سنة 802هـ، وتوفي مقتولا في تلك السنة. وفي معجم الأنساب «لزامباور» أنه ولي دمشق سنة 801هـ. (الضوء اللامع:
3/ 44ونزهة النفوس: 2/ 668ومعجم زامباور: 48).(12/80)
مناهل التصدير، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أفضل نبيّ اقتفت أمّته آثاره واتّبعت سننه، وأكرم رسول دعا إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أئمّة الحقّ وأعلام الهدى، وحماة الدّين وكفاة الرّدى، صلاة يبقى على مدى الأيّام حكمها، ولا يندرس على ممرّ اللّيالي رسمها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من رعيت له الحقوق القديمة، وحفظت له مساعيه الكريمة، وخلّدت عليه النّعم الّتي حقّ لها أن تكون بأهلها مقيمة، من كرم أصلا وطاب فرعا، وزكا منبعا وعذب نبعا، ووقع الإجماع على فضله المتواتر فأعدق الحكم بتفضيله قطعا، ومن إذا تكلّم فاق بفضله نثر اللّالي، وإذا قدر قدره انحطّت عن بلوغ غايته المعالي، وإذا طلع بدره المضيء من أفق مجلسه الموروث عن أبيه وأعمامه قال: ليت أشياخي (1) شهدوا هذا المجلس العالي، ومن إذا جلس بحلقته البهيّة غشيته من الهيبة جلالة، وإذا أطافت به هالة الطّلبة والمستفيدين قيل: ما أحسن هذا البدر في هذه الهالة!، ومن تتيه طلبته على أكابر العلماء بالانتماء إليه، وتشمخ نفوس تلامذته على غيره من المتصدّرين بالجلوس بين يديه، ومن إذا أقام بمصر طلع بالشّام بدره، ولو أقام بالشّام بقي بمصر على الّدوام ذكره.
وكان المجلس العاليّ، القاضويّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، الأفضليّ، الأكمليّ، الأوحديّ، البليغيّ، الفريديّ، المفيديّ، النّجيديّ، القدويّ، الحجّيّ، المحقّقيّ، الإماميّ، الأصيليّ، البدريّ، جمال الإسلام والمسلمين، شرف العلماء العاملين، أوحد الفضلاء المفيدين، قدوة البلغاء،
__________
(1) استعارة من البيت المشهور لابن الزبعري يوم أحد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
(انظر العقد الفريد: 5/ 139).(12/81)
حجة الأدب، عمدة المحدّثين، فخر المدرّسين، مفتي الفرق، أوحد الأئمّة، زين الأمّة، خالصة الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين، أبو عبد الله، محمد ابن المجلس العاليّ، القاضويّ، الكبيريّ، المرحوميّ، البهائيّ، أبي البقاء الشّافعيّ، السّبكيّ، ضاعف الله تعالى نعمته: هو عين أعيان الزّمان، والمحدّث بفضله على ممرّ اللّيالي وليس الخبر كالعيان، ما ولي منصبا من المناصب الدّينيّة إلّا كان له أهلا، ولا أراد الانصراف من مجلس علم إلّا قال له مهلا، ولا استبدل به في وظيفة إلّا نسب مستبدله إلى الحيف، ولا صرف عن ولاية إلّا قال استحقاقه: كيف ساغ ذلك لمتعاطيه فكيف وكيف.
وكان ولده المجلس السّاميّ، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، الكامليّ، البارعيّ، الأصيليّ، العريقيّ، الجلاليّ، ضياء الإسلام، فخر الأنام، زين الصدور، جمال الأعيان، نجل الأفاضل، سليل العلماء، صفوة الملوك والسلاطين، خالصة أمير المؤمنين، أبو (1) محمد بلّغ الله تعالى فيه [عارفيه] (2) غاية الأمل، وأقرّ به عين الزّمان كما أقرّبه (3) عين أبيه وقد فعل، قد أرضع لبان العلم وربّي في حجره، ونشأ في بيته ودرج من وكره، وكمل له سؤدد الطّرفين: أبا وأمّا، وحصل على شرف المحتدين: خالا وعمّا لم يقع عليه بصر متبصّر إلّا قال: نعم الولد، ولا تأمّله صحيح النّظر إلّا قال: هذا الشّبل من ذاك الأسد، ولا رمى والده إلى غاية إلّا أدركها، ولا أحاط به منطقة طلبة إلا هزّها للبحث وحرّكها، ولا اقتفى أثر أبيه وجدّه في مهيع فضل إلّا قال قائله:
أكرم بها من ذرّيّة ما أبركها! واتّفق أن خرج عنهما ما كان باسمهما من وظيفتي التّصدير بالجامع
__________
(1) بياض بالأصل. ولم نعثر على كنيته.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) في «الدرر الكامنة» و «نزهة النفوس» ذكرا أنه لم يكن محمود السّيرة. قال الصيرفي: «كان جميل الصورة ولكن غير جميل السّيرة».(12/82)
الامويّ المعمور بذكر الله تعالى بدمشق المحروسة: المنتقلة إحداهما إليهما عن سلفهما الصّالح قدما، والصّائرة الأخرى بطريق شرعيّ معتبر وضعا وثابت حكما اقتضى حسن الرّأي الشريف أن يحفظ لهما سالف الخدمة، ويرعى لهما قديم الولاء فالعبرة في التّقديم عند الملوك بالقدمة.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال لذوي البيوت حافظا، وعلى الإحسان لأهل العلم الشّريف على ممرّ الزمان محافظا أن يعاد ذلك إليهما، ويوالى مزيد الإحسان عليهما فليتلقّيا ذلك بالقبول، ويبسطا بالقول ألسنتهما فمن شمله إنعامنا الشريف حقّ له أن يقول ويطول وملاك أمرهما التّقوى فهي خير زاد، والوصايا وإن كثرت فعنهما تؤخذ ومنهما تستفاد والله تعالى يقرّ لهما بهذا الاستقرار عينا، ويبهج خواطرهما بهذه الولاية إبهاج من وجد ضالّته فقال:
{هََذِهِ بِضََاعَتُنََا رُدَّتْ إِلَيْنََا} (1) والاعتماد في ذلك على الخطّ الشّريف أعلاه الله تعالى أعلاه، حجّة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الثامنة النّظر.
وهذه نسخة توقيع بنظر البيمارستان النّوريّ (2)، كتب بها لمن لقبه «شهاب الدّين» وهي:
رسم لا زال يطلع في سماء المناصب السّنيّة من ذوي الأصالة والكفاية شهابا، ويوزع المستحقّين بجهات البرّ شكره إذ اختار لهم من أهل النّهضة من ارتدى العفاف جلبابا، ويودع صحائف الأيّام ذكره الجميل حين أحيا قربات الملوك السّالفين بانتخاب من يجدّد لهم بحسن المباشرة ثوابا أن يحمل «مجلس الأمير» فلان: أعزّه الله تعالى فيما هو بيده من نظر البيمارستان النّوريّ بدمشق المحروسة، على حكم التّوقيع الكريم والولاية الشّرعية اللّذين
__________
(1) يوسف / 65.
(2) نسبة إلى الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي المتوفى سنة 569هـ.(12/83)
بيده، واستقراره في ذلك بمقتضاهما استقرارا يبسط في هذا المنصب يده ولسانه، ويظهر شهاب عدله الّذي يحرق من الجور شيطانه، ويبرز من مباشرته ما عرف جوهره بحسن الانتقاء وإبريزه بحسن الانتقاد، ومن تأثيره ما تبلغ به الأنفس المراد بأوسع مراد، ويبدي من تدبيره، ما ينتج تمييز الوقف وتثميره.
فليباشر ذلك على عادة مباشرته الحسنة، وليسلك فيها ما عهد من طريقته المستحسنة، محصّلا من المفردات ما يصرفها لمستحقّها وقت الحاجة إليها، مثابرا على حسن معالجة المضرور الّذي لا تقدر يده من العجز عليها، مواصلا فعل الخير باستمرار صدقات الواقف ليشاركه في الأجر والثّواب، مستجلبا له من الدعاء ولنا بمشاركته في الأمر بالعمل بسنّته إلى يوم المآب، ضابطا أموال هذه الجهة بتحرير الأصول والمطلق والحساب والحسّاب، متقدّما إلى الخدّام والقومة بحسن الخدمة للعاجز والضّعيف، مؤكدا عليهم في أخذهم بالقول اللّيّن دون الكلام العنيف، ملزما لهم بجودة الخدمة ليلا ونهارا، مؤاخذا لهم بما يخلّون به من ذلك إهمالا وإقصارا، متقدّما إلى أرباب وظائف المعالجة ببذل النّصيحة، واستدراك الأدواء المسقمة بإتقان الأدوية الصّحيحة وليتفقّد الأحوال بنفسه: ليعلم أهل المكان أنّ وراءهم من يقابلهم على التّقصير، وليبذل في ذلك جهده فإنّ الاجتهاد القليل يؤثر الخير الكثير. والوصايا كثيرة وعنده من التّأدّب بالعلم وحسن المباشرة ما فيه كفاية، وفي أخلاقه من جميل المآثر وما حازه في البداية ما ينفعه في النّهاية ولكن تقوى الله عزّ وجلّ هي السّبب الأقوى، والمنهل الّذي من ورده يروى فليجعلها له ذخيرة ليوم المعاد، ومعقلا عند الخطوب الشّداد والله تعالى يبلّغه من التوفيق الأمل والمراد، بمنّه وكرمه!، والاعتماد إن شاء الله تعالى.(12/84)
الصنف الثالث (من تواقيع أرباب الوظائف بحاضرة دمشق تواقيع أرباب الوظائف الدّيوانيّة، وفيها مرتبتان)
المرتبة الأولى (ما يكتب في قطع النصف ب «المجلس العالي» وهي على ضربين)
الضرب الأوّل (1)
(تواقيع الوزارة بالمملكة الشّاميّة على ما استقرّ عليه الحال)
فقد ذكر في «التعريف» أنّه يكتب بالشام للصاحب [عز] (2) الدين أبي يعلى «حمزة بن القلانسيّ» (3) رحمه الله ب «الجناب العالي» لجلالة قدره، وسابقة خدمه، وعناية من كتب له بذلك. لكنّه لم يبيّن مقدار قطع الورق لذلك. ولا يخفى أنه كتب به في قطع الثّلثين، على القاعدة في أنّه يكتب للجناب في قطع الثّلثين. وقد ذكر بعد ذلك أنّ الّذي استقرّ عليه الحال أنّه يكتب للوزير بالشّام «المجلس العالي» بالدعاء، كما كتب للصّاحب أمين الدّين أمين الملك.
[وفيه وظائف:
الوظيفة الأولى ولاية تدبير الممالك الشامية] (4).
وهذه نسخة توقيع للصاحب «أمين الملك» المذكور بتدبير الممالك الشّاميّة والخواصّ (5) الشريفة والأوقاف المبرورة، من إنشاء الصّلاح
__________
(1) لم يذكر الثاني، فتنبّه.
(2) بياض بالأصل، والتصحيح من التعريف ص 75والأعلام: 2/ 277.
(3) وهو حمزة بن أسعد بن مظفّر. توفي سنة 729هـ. وقد أنشأ دار الحديث القلانسية. (الأعلام:
2/ 277).
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية لاقتضاء المقام وتتميم الكلام.
(5) المراد: الممتلكات الخاصة بالسلطان.(12/85)
الصّفديّ (1)، وهي:
الحمد لله الّذي جعل وليّ أيّامنا الزّاهرة، أمينا، وأحلّه من ضمائرنا الطاهرة، مكانا أينما توجّه وجده مكينا، وخصّه بالإخلاص لدولتنا القاهرة، فهو يقينا يقينا، وعضّد بتدبيره ممالكنا الشّريفة فكان على نيل الأمل الّذي لا يمين يمينا، وزيّن به آفاق المعالي فما دجا أمر إلّا كان فكره فيه صحيحا مبينا، وجمّل به الرّتب الفاخرة فكم قلّد جيدها عقدا نفيسا ورصّع تاجها درّا ثمينا، وأعانه على ما يتولّاه فهو الأسد الأسدّ الّذي اتخذ الأقلام عرينا.
نحمده على نعمه الّتي خصّتنا بوليّ تتجمّل به الدّول، وتغنى الممالك بتدبيره عن الأنصار والخول (2)، وتحسد أيّامنا الشّريفة [عليه] (3) أيّام من مضى من الدّول الأول، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة نستمطر بها صوب الصّواب، ونرفل منها في ثوب الثّواب، ونعتدّ برّها واصلا ليوم الفصل والمآب، ونشهد أنّ محمدا عبده الصّادق الأمين، ورسوله الّذي لم يكن عن الغيب بضنين، وحبيبه الّذي فضل الملائكة المقرّبين، ونجيّه الّذي أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى حجّة على الملحدين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين صحبوا ووزروا، وأيّدوا حزبه ونصروا، وعدلوا فيما نهوا وأمروا، صلاة تكون لهم هدى إذا حشروا، وتضوّع لهم عرفهم في العرف وتطيّب نشرهم إذا نشروا، وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدّين.
وبعد، فإنّ أشرف الكواكب أبعدها دارا، وأجلّها سرى وأقلّها سرارا، وأعلاها منارا، وأطيب الجنّات جنابا ما طاب أرجا وثمارا، وفجّر خلاله كلّ نهر «يروع حصاه حالية العذارى»، ورنّحت معاطف غصونه سلاف النّسيم فتراها
__________
(1) هو خليل بن أبيك بن عبد الله الصفدي، صاحب «الوافي بالوفيات». تولى ديوان الإنشاء في صفد ومصر وحلب. توفي سنة 764هـ. (الأعلام: 2/ 315وهدية العارفين: 351).
(2) الخول: عطية الله من النعم والعبيد والإماء وغيرهم من الأتباع والحشم.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/86)
سكارى، ومدّت ظلال الغصون فتخال أنّها على وجنات الأنهار تدبّ عذارا.
وكانت دمشق المحروسة لها هذه الصّفات، وعلى صفاها تهبّ نسمات هذه السّمات، لم يتّصف غيرها بهذه الصّفة، ولا اتّفق أولوا الألباب إلّا على محاسنها المختلفة فهي البقعة الّتي يطرب لأوصاف جمالها الجماد، والبلد الذي ذهب بعض المفسّرين إلى أنّها إرم ذات العماد، وهي في الدّنيا أنموذج الجنّة الّتي وعد المتّقون، ومثال النّعيم للّذين عند ربّهم يرزقون، وهي زهرة ملكنا، ودرّة سلكنا وقد خلت هذه المدّة ممّن يراعي تدبيرها ويحمي حوزتها ويحاشيها من التّدمير ويملأ خزائنها خيرا يجلى، إذا ملأنا ساحتها خيلا ورجلا تعيّن أن ننتدب لها من جرّبناه بعدا وقربا، وهززناه مثقّفا وسللناه عضبا، وخبأناه في خزائن فكرنا فكان أشرف ما يدّخر وأعزّ ما يخبى كم نهى في الأيّام وأمر، وكم شدّ أزرا لمّا وزر، وكم غنيت به أيّامنا عن الشّمس وليالينا عن القمر، وكم رفعنا راية مجد تلقّاها عرابة (1) فضله بيمين الظّفر، وكم علا ذرا رتب تعزّ على الكواكب الثّابتة فضلا عمن يتنقّل في المباشرات من البشر، وكم كانت الأموال جمادى وأعادها ربيعا غرّد به طائر الإقبال وصفر.
و [لما] (2) كان [الصاحب أمين الملك] (3) هو معنى هذه الإشارة، وشمس هذه الهالة وبدر هذه الدّارة، نزل من العلياء في الصّميم، وفخرنا بأقلامه الّتي هي سمر الرّماح كما فخرت بقوسها تميم، وحفظت الأموال في دفاتره الّتي
__________
(1) هو عرابة بن أوس الحارثي الأنصاري: من سادات المدينة الأجواد المشهورين. توفي نحو 60 هـ. وفيه يقول الشمّاخ المريّ:
رأيت عرابة الأوسيّ يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
(بلوغ الأرب للآلوسي: 2/ 188187والأعلام: 4/ 222).
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/87)
يوشّيها فأوت إلى الكهف والرّقيم (1)، وقال لسان قلمه: {اجْعَلْنِي عَلى ََ خَزََائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (2)، وعقيم الزّمان أن يجيء بمثله «إنّ الزمان بمثله لعقيم»، وتشبّه به أقوام فبانوا وبادوا، وقام منهم عبّاد العباد فلمّا قام عبد الله كادوا أردنا أن تنال الشّام فضله كما نالته مصر فما تساهم فيه سواهما، ولا يقول لسان الملك لغيره:
حللت بهذا حلّة ثم حلّة ... بهذا فطاب الواديان كلاهما
فلذلك رسم بالأمر الشّريف أن يفوّض إليه تدبير الممالك الشّريفة، ونظر الخواصّ الشريفة والأوقاف المبرورة على عادة من تقدّمه في ذلك.
فليتلقّ هذه الولاية بالعزم الّذي نعهده، والحزم الّذي شاهدناه ونشهده، والتّدبير الّذي يعترف الصواب له ولا يجحده، حتى يثمّر الأموال في أوراق الحسّاب، وتزيد نموّا وسموّا فتفوق الأمواج في البحار وتفوت القطر من السّحاب، مع رفق يكون في شدّته، ولين يزيد مضاء حدّته، وعدل يصون مهلة مدّته والعدل يعمّر، والغدر يدمّر، ولا يثمّر، بحيث إنّ الحقوق تصل إلى أربابها، والمعاليم تطلع بدور بدرها كاملة كلّ هلال على أصحابها، والرّسوم لا تزداد على الطّاقة في بابها، والرّعايا يجنون ثمر العدل في أيّامه متشابها وإذا أنعمنا على بعض أوليائنا بنحل (3) فلا يكدّر وردها بأنّ تؤخّر، وإذا استدعينا لأبوابنا بمهمّ فليكن الإسراع إليه يخجل البرق المتألّق في السّحاب المسخّر فما أردناك إلّا لأنّك سهم خرج من كنانة، وشهم لا ينهي إلى الباطل عيانه وعنانه فاشكر هذه النعمة على منائحها، وشنّف الأسماع بمدائحها، متحقّقا أنّ في
__________
(1) الرقيم: الكتاب المرقوم (المكتوب). وقوله تعالى: {أَنَّ أَصْحََابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ}: المراد الفتية الذين لجأوا إلى الكهف. والرقيم هو اللوح الّذي رقمت عليه أسماؤهم وقصتهم وما تمسكوا به من شرع عيسى عليه السّلام، وقيل: هو اسم الوادي الّذي كانوا فيه. (معجم الألفاظ والأعلام القرآنية: 1/ 229).
(2) يوسف / 55.
(3) جمع نحلة، وهي العطاء.(12/88)
النّقل، بلوغ العزّ والأمل، وأنّه لو كان في شرف المأوى بلوغ منى «لم تبرح الشّمس يوما دارة الحمل» فاستصحب الفرح والجذل، بدل الفكر والجدل.
الوظيفة الثانية كتابة السّرّ بالشّام.
ويعبّر عنها بصحابة ديوان الإنشاء الشّريف بدمشق. وشأنه هناك شأن كاتب السّرّ بالأبواب السّلطانيّة.
وهذه نسخة توقيع بصحابة ديوان الإنشاء بالشّام، كتب بها لفتح الدّين ابن الشّهيد (1)، من إنشاء القاضي ناصر الدّين بن النّشائيّ، في مستهلّ ذي القعدة سنة أربع وستّين وسبعمائة، وهي:
الحمد لله مجزل المنّ والمنح، ومرسل سحائب العطاء السّمح، ومعمل فكرنا الشّريف في انتخاب من أورى زند الخير بالقدح، ومنقّل السّرّ بين الأفاضل من صدر إلى صدر بحمّى يصون له السّرح، ويغني مشهور ألفاظه عن الشّرح، ومجمّل بناء الدّين، بما سكن به من صميم الفضل المبين، وما اقترن بأبوابه من حركة الفتح.
نحمده على نعم عاطرة النّفح، ونشكره على منن عالية السّفح، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تنجّي قائلها من حرّ الجحيم وتقيه شرّ شرر ذلك اللّفخ، وتخطب بها ألسنة الأقلام على منابر الأنامل فتنشيء عندها من مطربات الورق على غصون الأوراق هديل الصّدح، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي بلّغ الرّسالة وأدى الأمانة وعامل الأمّة بالنّصح، وأزال عنهم التّرح وأمنه الله على أسرار وحيه فكان أشرف أمين خصّه الله في محكم آياته بالمدح، وجعله أعظم من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فلم تأخذه في الله لومة لائم
__________
(1) هو محمد بن إبراهيم بن محمد. تولى كتابة السرّ بالشام مع مشيخة الشيوخ. توفي سنة 793هـ.
وهو في نزهة النفوس والأبدان: محمد بن محمد بن أبي بكر بن إبراهيم. (الأعلام: 5/ 299).(12/89)
ممّن لحا (1) وممّن لم يلح، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الوفاء والصّفاء والصّفاح والصّفح، والّذين جاهدوا في الله حقّ جهاده بالنّفس والمال والكدّ والكدح، ورفعوا أعلامهم المظلّلة، ونصبوا أقلامهم المعدّلة فكم لهم في المشركين من جراح لا تعرف الجرح، وذادوا عن حوزة الدّين، بإراقة دم الكفّار المتمرّدين، فحسن منهم الذّبّ والذّبح، وكانوا فرسان الكلام، وأسود الإقدام، الّذين طالما خسأت بهم كلاب الشّرك فلم تطق النّبح، صلاة دائمة باقية الصّرح، ما اقترن النّظر باللّمح، وما هطل السّحاب بالسّح (2)، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من خطبت المناصب العليّة، محاسنه الجليلة الجلية، ورغبت المراتب الّتي هي بالخير حريّة، في جميل حالته الّتي هي بعقود المفاخر حليّة، وسحبت سحائب الإقبال الوابليّة، ذيول فضائله الفاضليّة، واكتسب العلوم الفرعيّة والأصليّة، من مجاميع فنونه الّتي تعرب عن أنواع الفوائد الجمليّة والتّفصيليّة من شهدت المفاخر بأنّه لم يزل الشّهيد لها وابن الشّهيد، وحمدت المآثر الّتي هو الشّهير بها فما عليها في جميل الأدوات من مزيد، وتشيّدت مباني معاليه الّتي اقترن باب خيرها منه بالفتح المبين، وتمهّدت معاني أماليه بالتّخيّل اللّطيف واللّفظ المتين، وتعدّدت أوصاف شيمه فهي لمحاسن الدّهر تزيد وتزين، وغدا من الكاتبين الكرام والكرام الكاتبين، الذين تضح باطّلاعهم مراصد المقاصد وتبين. طالما اتّسق عقد نظمه المتين، وبسق غصن قلمه المثمر بالدّين، وأضاف إلى أدب الكتاب حلية العلماء المتقنين، وارتقب أفعال الجميل الّتي استوجب بها حسن التّرقّي إلى أعلى درجات المتّقين، وقلّد أجياد الّطروس جواهر ألفاظه الّتي تفوق الجوهر عن يقين فهي بنضار خطّه مصوغة أبهج صياغة، وفي طريق الإنشاء سالكة نهج
__________
(1) لحاه: لامه وعذله.
(2) السّح: الانصباب الكثير المتتابع.(12/90)
البلاغة، وكذا بحار الفضائل واردة مناهلها المساغة كم أعرب كلمه الطّيّب، عن سحّ سحاب الصّواب الصّيّب، وكم أغنى في المهمّات بكتبه، عن جيش الكتائب وقضبه (1)، وكم هزأت صحائفه بالصّفائح وكم أغنت راشقات فكره الثابتة العلم عن سهو السّهم الرّائح، وكم تشاجرت أقلامه البيض الفعال هي وسمر الرّماح فكان نصرها اللّائح، وكم تعارض نشر وصفه وشذا الطّيب فألفى الزّمان ثناءه هو الفائح، وكم اشتمل على أنواع من النّفاسة فاستوجب منّا منّا يقضي له بأجزل المنى والمنائح.
ولما كان المجلس العاليّ، القاضويّ، الأجلّيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، الكامليّ، الأوحديّ، الأثيريّ، الرّئيسيّ، البليغيّ، المفيديّ، المجيديّ، الأصيليّ، العريقيّ، العابديّ، الزّاهديّ، المؤتمنيّ، الفتحيّ، جمال الملوك والسّلاطين، وليّ أمير المؤمنين، محمد بن الشّهيد، أدام الله نعمته، هو الّذي أعرب القلم عن صفاته، وأطرب المسامع ما أدّاه اليراع عن أدواته، ورام البنان أن يستوعب بيان شكره فلم يدرك شأو غاياته، وتسارعت بدائع البدائه من أفكاره فسابقت جريان يراعه في أبياته، وراقت أماليه، لناقلي ألفاظه ومعانيه، فشكر السّمع والفهم بها هبّات هباته فآدابه مشهورة، وعلومه مذكورة، وتحلّيه بمذاهب الصّوفية ارتاضت به نفسه الخيّرة الخبيرة، وإخلاصه في عبادة الله تعالى حسنت به منه السّيرة والسّريرة، وصيانته للأسرار الشّريفة استحق بها إسناد أمرها إليه، وإيداع غوامضها لديه، والتّعويل في حفظها وفي لفظه للفظها عليه اقتضى حسن الرّأي الشّريف أن نجتبيه لما تحقّقنا منه من ذلك، ونخصّه بصحابة ديوان الإنشاء الشّريف في أجلّ الممالك، ونجعل قدمه ثابتة الرّسوخ، والصّعود في مشيخة الشّيوخ، ليسلك فيها أحسن المسالك.
فلذلك رسم بالأمر الشريف [العاليّ] (2) الأشرفيّ، النّاصريّ لا زال
__________
(1) القضب: السيوف القاطعة.
(2) بياض بالأصل. والتصحيح مما تقدّم.(12/91)
لأبوابه الشريفة فتح في الخير يقدمه النّصر، ولسحابه منح ما يعرف مدد أمداده القصر أن تفوّض إليه صحابة ديوان الإنشاء الشّريف، ومشيخة الشيوخ بالشام المحروس، على عادة من تقدّمه وقاعدته ومعلومه الشاهد به الدّيوان المعمور إلى آخر وقت.
فليباشر ذلك بوافر عفافه، ووافي إنصافه، ومشهور أمانته، ومشكور صيانته، كاتما للأسرار، كاتبا للمبارّ، ليكون من الأبرار، عالقا مصالح الأنام بإرشاد رأيه وصوابه ضابطا أحوال ديوانه، متحرّيا في كثير الأمور وقليلها: فإن الكتاب يظهر من عنوانه، محرّرا لما يملي معتبرا لما يكتب، مجمّلا للمطالعات الكريمة بفكره المتسرّع وتصوّره الأرتب، حافظا أزمّة ما يصدر من مثال وما يرد في المهمّات الشّريفة فهو أدرى وأدرب بما على ذلك يترتّب، محافظا كعادته على دينه، لازما لصدق يقينه، خافضا لأهل الخير جناحه، مانحا لهم نجاحه، معاملا للفقراء بكرم نفس بالله غنيّة، ملاحظا لأحوالهم بالقول والفعل والعمل والنّيّة، محترما لكبيرهم، حانيا على صغيرهم، مفكّرا فيما يعود نفعه عليهم، راكنا في الباطن والظّاهر إليهم، معنيا لهم بالاشتغال بالعبادة، مسلّكا لهم الطّريق إلى الله فإنّها الطريق الجادّة، مستجلبا لدعواتهم الصّالحة، مستفيدا من متاجر بركاتهم الرّابحة. والوصايا كثيرة ومن نور إفادته تقتبس، ومن مشهور مادّته تلتمس، وملاكها التّقوى وهي أول كلّ أمر وآخره، وبملازمتها تتمّ له مفاخره والله تعالى يحرسه في السّرّ والنّجوى، ويظهر بارشاده للمعاني والبيان كلّ نجوى، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بكتابة السّرّ بالشّام، كتب به للقاضي «شرف الدّين عبد الوهّاب» (1) بن فضل الله، عند ما رسم بنقله من القاهرة إلى دمشق، في ذي
__________
(1) هو عبد الوهاب بن فضل الله العمري. خدم الملك الأشرف، والملك الناصر، وسيف الدين تنكز. نقله الملك الناصر إلى كتابة السرّ بدمشق فتوفي بها سنة 717هـ. (فوات الوفيات:
2/ 421والأعلام: 4/ 185).(12/92)
الحجّة سنة إحدى عشرة وسبعمائة، من إنشاء الشّيخ شهاب الدّين «محمود الحلبيّ» وهي:
الحمد لله الّذي خصّ دولتنا الشّريفة برعاية الذّمم، وحفظ ما أسلف الأولياء من الطّاعات والخدم، وإدامة ما أسدته إلى خدم أيّامنا الزّاهرة من الآلاء والنّعم، وإفاضة حلل اعتنائها، التي هي أحبّ إلى من شرف بولائها، من حمر النّعم، وأبقى عوارفها على من لم يزل معروفا في صون أسرارها بسعة الصّدر وفي تدبير مصالحها بصحّة الرّأي وفي تنفيذ مراسمها بطاعة اللّسان والقلم.
نحمده على نعمه الّتي ما استهلّت على وليّ فأقلع عنه غمامها، ولا استقرّت بيد صفيّ فانتزع من يده حيث تصرّف زمامها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة لا نزال نعتصم بحبلها المتين، ويتلقّى عرابة (1)
إخلاصنا راية فضلها باليمين، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أكرم مبعوث إلى الأمم، بالإحسان والكرم، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الّذين كرمت أنسابهم، وأضاءت لهم وجوههم وأحسابهم، فرفلوا في حلل ما اكتسوه من سننه، واكتسبوه من سننه، فحسن منها اكتساؤهم واكتسابهم، صلاة لا تزال لها الأرض مسجدا، ولا يبرح ذكرها مغيرا في الآفاق ومنجدا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من خوّلته مكارمنا الإقامة حيث يهوى من وطنه، وبوّأته نعمنا الجمع بين ذمام برّنا وبين ما فارقه من سكنه، وملّكته عواطفنا، زمام التّصرّف حيثما أمكن من خدمتنا الشريفة، وعرّفته عوارفنا، أنّ مكانته عندنا على حالها حيث أدّى ما عدق به من وظيفة من لم يزل قلمه لسان مراسمنا، وعنان ما نجريه في الآفاق من سوابق مكارمنا، وترجمان أوامرنا، وخطيب آلائنا التي غدت بها أعطاف التّقاليد من جملة منابرنا.
__________
(1) راجع صفحة 87من هذا الجزء، هامش: 1.(12/93)
ولمّا كان المجلس العالي: هو الّذي لم يبرح صدره خزانة أسرارنا، وفكره كنانة إعلاننا في المصالح وإسرارنا، وخاطره مرآة آرائنا، ويراعه مشكاة ما يشرق: من أنوار تدبيرنا، أو يبرق: من أنواء آلائنا ينطق قلمه في الأقاليم عن ألسنة أوامرنا المطاعة، وينفذ كلمه عن مراسمنا في ديوان الإنشاء بما تقابله أقلام الجماعة بالسّمع والطّاعة وكانت سنّه قد علت في خدمتنا إلى أن رأينا توفير خاطره على البركات، عن كثير ممّا يتبع ركابنا الشريف من لوازم الحركات، وأن نعفيه مما يلزم الإقامة بأبوابنا الشريفة من كثرة المثول بين يدينا، وأن نقتصر به على أخفّ الوظيفتين إذ لا فرق في رتبة السّرّ بين ما يصدر عنّا أو ما يرد إلينا.
فرسم بالأمر الشّريف، العاليّ، المولويّ، السّلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ، أن يكون فلان صاحب ديوان الإنشاء الشّريف بالشام المحروس، بمعلومه الشّاهد له به الديوان المعمور بالأبواب العالية، عوضا عن أخيه المجلس الساميّ، القضائيّ، المحيويّ «يحيى (1) بن فضل الله» ويستمرّ أخوه القاضي «محيي الدّين» المذكور مع جملة الكتّاب بديوان الإنشاء الشّريف بالشّام المحروس، بالمعلوم الشّاهد به الدّيوان المعمور.
فليباشر هذه الرّتبة الّتي تأثلت به قواعدها وعن تقريره وتحريره أخذ كلّ من كان بأنواعها وأوضاعها عليما فإنّه لم يخرج عن أخيه شيء وصل إليه، ولا فوّض له إلّا ما هو بحكم عموم الأولويّة والأوّليّة في يديه وأمّا ما يتعلّق بذلك من وصايا تبسط، وقواعد تشرط، فإنّها منه استفادها من رقّمها، وعنه ارتوى بها ورواها من تعلّمها ونحن نعلم من ذلك ما لا يحتاج إلى أن يزداد فيه يقينا، ولا أن نزيده بذكره معرفة وتمكينا والاعتماد
قلت: ومن غريب ما وقع: أنّه كتب للمقرّ الشّهابيّ بن فضل الله بكتابة السّر بالشّام، حين وليها بعد انفصاله من الديار المصرية توقيع مفتتح ب «أمّا بعد
__________
(1) وهو والد شهاب الدين أحمد صاحب «مسالك الأبصار» و «التعريف».(12/94)
حمد الله» من إنشاء المولى «تاج الدّين بن البارنباري» وكأنّه إنّما كتب بذلك عند تغيّر السلطان الملك النّاصر «محمد بن قلاوون» عليه (1)، على ما هو مذكور في الكلام على كتّاب السّر في مقدّمة الكتاب.
وهذه نسخة توقيع بكتابة السّر بالشّام المحروس:
أمّا بعد حمد الله منقّل الشّهب في أحبّ مطالعها، ومعلي الأقدار بتصريف الأقدار ورافعها، ومبهج النّفوس بمعادها إلى أوطانها ومواضعها، وممضي مشيئته في خليقته بالخيرة فيما يشاء لطالعها، والشّهادة له بالوحدانيّة الآخذة من القلوب بمجامعها، والصّلاة على سيدنا محمد الّذي بصّر الأمّة بهديها ومنافعها، وصان شرعته الشريفة تلو الملل بنسخ شرائعها، وعلى آله وصحبه الّذين استودعوا أسرار الملّة فحفظوا نفيس ودائعها فإنّ ممالكنا الشريفة هي سواء لدينا في التّعظيم، وأولياء دولتنا الشريفة يتنقّلون فيها في منازل التّكريم وعندنا من «فضل الله» رعاية للعهد القديم، وتأكيد لأسباب التّقديم، فلا غضاضة لمن نقلناه من أبوابنا إليها، ولا وهن يطرأ على علوّ المراتب ويعتريها، حيث صدقاتنا دائمة، وثغور إقبالنا باسمة، ومراسمنا لمساعدة الأقدار في الأيّام حاكمة و «الشّهاب» لو لم يسر في سمائه، لما اهتدى الناظرون بضيائه، والدّرّة لو مكثت في صدفها، لما حظيت في العقود بشرفها.
وكان المجلس العاليّ، القضائيّ، الشّهابيّ، قد أقام في خدمتنا الشريفة بالأبواب العالية حافظا للأسرار، قائما بما نحبّ ونختار ثم لمّا أخذ حظّه من القرب من أيدينا الشّريفة: رأينا أنّ عوده إلى أوطانه، وأهله من تمام إيمانه، وأنّ مرجعه إلى
__________
(1) يشير ابن فضل الله العمري في مقدمة كتابه «التعريف» إلى ما يفهم منه أن الّذي تغيّر عليه هو السلطان المنصور ابن الناصر محمد بن قلاوون: بقوله «هذا وقد خلعت ذلك الرداء المعار، ومات سلطاننا رحمه الله وزال ذلك الستار، وقد أهملت ذلك الفن حتى نسيته». (انظر الألقاب الإسلامية: ص 45).(12/95)
محلّه، من نعيم الله عليه وفضله وما سار إلّا والإقبال يزوّده، والاستقبال به وأهل بيته يسعده ويصعده.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف أن ينقل إلى كتابة الإنشاء الشّريف بدمشق المحروسة، وأن يكون متحدّثا عن والده، على ما كان عليه بالديار المصرية وليقرّر له من المعلوم كذا وكذا.
فليسر إلى دار كرامته، وليستقرّ في موطن إقامته، قرير العين، مملوء اليدين، مسرورا برفع المحلّ في المملكتين وليكن لوالده أعزّه الله تعالى عضدا، وليصبح له في مهماتنا الشريفة ساعدا ويدا، وليضح به اليوم برّا ليجد رضا الله غدا فإنّ والده بركة الممالك، وله قديم هجرة، وسالف خدمة، وحسن طويّة، فنحن نرعاه لذلك، والمهمّات الشريفة يتلقّاها بنفسه، وليصدر فصول المطالعة مدبّجة على عادته في تدبيج طرسه، وليستعن بالله فهو وليّ الإعانة، وليعتمد على الرّفق في أمره فما كان الرّفق في شيء إلّا زانه وما بعد عنّا، من كان بعيدا بالصورة قريبا بالمعنى، والله تعالى يزيده منّا منّا، والخطّ الشريف أعلاه حجّة فيه، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الثالثة نظر الجيوش بالشّام.
وشأن صاحبها كتابة المربّعات (1) التي تنشأ من الشّام، وتنزيل المناشير الشريفة الّتي تصدر إليه.
وهذه نسخة توقيع شريف من ذلك، كتب به «لموسى بن عبد الوهاب» من إنشاء السيّد الشريف شهاب الدّين، وهي:
الحمد لله الّذي جعل إحساننا عائدا بصلاته، وفضلنا يجمع شمل الإسعاد بعد شتاته، وعواطفنا تنبّه جفن الإقبال من إغفائه وسناته.
__________
(1) وهي مراسيم مربعة بإقطاعات، تكتب في ورق شاميّ من ديوان الخاص. (راجع الصبح:
6/ 202201).(12/96)
نحمده على أن نصر بنا جيش الإسلام في أرجاء ملكنا الشّريف وجهاته، وجعل البركة واليمن بأمرنا في حالتي محوه وإثباته، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة زادت في جزاء المخلص وحسناته، وأضحت نورا يسعى بين يديه إلى رحمة ربّه وإلى جنّاته، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أظهر الله به واضح آياته، وأصبح النّشر عابقا من نشر راياته، ومحا الفترة (1) بهديه وسرّ سرائر أوليائه وأكمد قلوب عداته، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ما تأرّج النّسيم في هبّاته، وأبهج العطاء بجزيل هباته، وسلّم تسليما.
وبعد، فإنّ من النّعم ما إذا عادت أقرّت العيون، وحققت الآمال والظّنون، ورفعت الأقدار وإن لم يزل رفيعا محلّها، وجمعت المسارّ الممتدّ على الأفئدة ظلّها، وعمرت ربوع الإحسان، وغمرت بمنائحها الحسان، كهذه النّعمة الّتي تلقّت الإقبال من حافل غمامه، وجمعت شمل التّقديم مشفوعا بإكرامه، وأعادت سماء التّكريم هادية بقطبها، مشرقة الأرجاء بنور ربّها، وسفرت بدورها بمن هو أولى باجتلائها، وتهيّأت رتبها لمن هو جدير باعتلائها وحقيق بأن تعود المواهب بعد فترتها، وأن تقبل عليه وجوه المنائح بعد لفتتها، لتصبح كواكب الإسعاد كأنّها ما أفلت، وعطايا التّخويل كأنّها ما انتقلت، ويعود عليه اليوم كأمسه، ويرجع أفق العوارف الجسام مشرقا ببدر الاجتباء وشمسه.
ولمّا كان فلان هو الّذي حسنت في الخدم الشّريفة آثاره، وحمد إيراده في المهمّات الشريفة وإصداره، وشكره شامه ومصره، وسما في كلّ جهة حلّها محلّه وقدره، وتحقّقت منه رآسة قضت له بإبداء النّعم وإعادتها، وأن تجري له الدّولة من الإكرام على أجمل عادتها، وأن ترعى له حقوق ألفها حديثا وقديما، وتنشر عليه ظلال الفضل حتّى لا يفقد منها على طول المدى تكريما.
__________
(1) الفترة: الضعف. والفترة أيضا: المدة تقع بين نبيين ولعله هو المقصود. وفي التنزيل العزيز:
{يََا أَهْلَ الْكِتََابِ قَدْ جََاءَكُمْ رَسُولُنََا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى ََ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ»}. وبما أن النبي محمدا صلّى الله عليه وسلّم كان آخر النبيين فقد محا الفترة، بالمعنى المشار إليه.(12/97)
فلذلك رسم بالأمر الشّريف (1) لا زال (2) أن يستقرّ (3) تجديدا لملابس سعده، وتأكيدا لقواعد مجده، وترديدا للفضل الّذي حلا منهل ورده، ورعاية لخدمه الّتي أكبّت عليها السيوف والأقلام، وشكرت تأثيرها جنودنا نصرها الله تعالى بمصر والشّام ولما له من حسن سمت زاده وقاره، وأصل صالح طابت منه ثماره.
فليستقرّ في هذه الوظيفة المباركة: عالما أنّ لسان القلم أمسك عن الوصايا لأنه خبر هذه الوظيفة فرعا وأصلا، وألفت منه ناظرا علا قدرا وكرم محتدا وفصلا، وهو بحمد الله أدرى بسلوك منهاجها القويم، وأدرب باقتفاء سننها المستقيم والخير يكون، والاعتماد في ذلك على الخطّ الشّريف إن شاء الله تعالى أعلاه، حجّة بمقتضاه.
المرتبة الثانية (من مراتب أرباب التّواقيع الديوانية بدمشق
من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء مفتتحا ب «الحمد لله» إن علت رتبته وإلا ب «أما بعد»، وتشتمل على وظائف) منها نظر الخزانة العالية (4)، وشأنها هناك نظير الخزانة الكبرى بالديار المصرية في القديم، ونظير خزانة الخاصّ الآن.
وهذه نسخة توقيع بنظر الخزانة العالية:
أمّا بعد حمد الله على نعمه الّتي خصّت المناصب السنية في أيّامنا الزّاهرة بكلّ كفء كريم، وجعلت على خزائن الأرض من أولياء دولتنا القاهرة كلّ حفيظ عليم، وأفاضت ظلّ إنعامنا على من إذا أنعم النّظر في حقّ ذوي البيوت القديمة كان أحقّ بالتّقديم، والصّلاة على سيدنا محمد أفضل من حباه بفضله العميم،
__________
(1) بياض بالأصل، اختصارا وهو معروف مما تقدّم في مثل مقامه.
(2) بياض بالأصل، اختصارا وهو معروف مما تقدّم في مثل مقامه.
(3) بياض بالأصل، اختصارا وهو معروف مما تقدّم في مثل مقامه.
(4) ويكون متولّيها متحدثا في أمر التشاريف والخلع وما معها.(12/98)
واجتباه لهداية خلقه إلى السّنن القويم، وجعل سلامة الصّلاة المقبولة من النقص مقرونة بالصلاة عليه والتّسليم فإنّ أولى من رجّحه لخدمتنا الاختيار، وقدّمه في دولتنا الاختبار، وأخلصه حسن نظرنا الشّريف رتبة أبيه من قبل، وأغدق له سحاب برّنا صوب إحسان فلم يصبه طلّ بل وبل ومن حمد سيره وسيره، وشكر في طاعتنا ورده وصدره، وزان الأصالة بالنباهة، والرّاسة بالوجاهة، والمعرفة بالنّزاهة، وجمع بين [الظّلف] (1) والاطّلاع، والتّضلّع من العفّة والاضطلاع، والصّفات الّتي لو تخّيرها لنفسه لم يزدها على ما فيه من كرم الطّباع.
ولما كان نظر الخزانة العالية بدمشق المحروسة رتبة لا يرقى إليها من الأكفاء إلا من ومن، ولا يقدّم لها من الأولياء إلا من تعيّن من رؤساء العصر وفضلاء الزّمن، وكان فلان هو الّذي عيّنه لها ارتياد الأكفاء، واصطفي هو من أهل الصّفاء، وتقدّم من وصف محاسنه ما لا يروّع تمام بدره وظهوره بالنّقص والاختفاء.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف أن يفوّض إليه نظر الخزانة المذكورة.
فليباشر ذلك مباشرة من يحقّق في كفايته وفضيلته التّأميل، ويظهر حسن نظره الّذي هو كالنهار لا يحتاج إلى دليل، وليجر على جميل عادته في النهوض في خدمتنا بالسّنّة والفرض، ويضاعف اجتهاده الّذي بمثله جعل من اختير على خزائن الأرض وهو يعلم أنّ هذه الرتبة مآل الأموال، وذخائر الإسلام الّتي هي مادة الجيوش وموارد الإفضال فليعمل في مصالحها فكره ودأبه، وإذا كان حسن نظرنا الشريف قد جعله المؤتمن عليها: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمََانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللََّهَ رَبَّهُ} (2) وفي سيرته الّتي عرفت، وصفاته الّتي إن وصفت فما
__________
(1) في الطبعة الأميرية «الصّلف» بالصاد المهملة. وليس في معاني الصّلف ما هو مناسب هنا.
والظّلف: الشّدّة والغلظ في المعيشة. ورجل ظلف النفس: أي يمنعها عن هواها. قال الشاعر:
لقد أظلف النفس عن مطعم ... إذا ما تهافت ذبانه
(انظر اللسان: مادة صلف وظلف).
(2) البقرة / 383.(12/99)
أنصفت، ما يغني عن تفاصيل الوصايا وجملها، وإعادة مزايا التأكيد: قولها وعملها لكن ملاكها الصّيانة الّتي هو بها موصوف، والتّقوى التي هو بها معروف والاعتماد على الخط الشّريف أعلاه.
ومنها صحابة ديوان النّظر، وصحابة ديوان الجيش ونحو ذلك من الوظائف الديوانية بدمشق.
قلت: هذا إن كتب من الأبواب الشّريفة السّلطانية، وإلّا فالغالب كتابة ذلك عن نائب السّلطنة بدمشق.
الصنف الرابع (من الوظائف بدمشق وظائف المتصوّفة ومشايخ الخوانق، وفيها مرتبتان)
المرتبة الأولى (ما يكتب في قطع الثّلث ب «المجلس السّاميّ» بالياء، مفتتحا ب «الحمد لله» وبذلك يكتب لشيخ الشّيوخ بالشّام، وهو شيخ الخانقاه الصّلاحية، المسماة بالشميصاتية) (1)
وهذه نسخة توقيع بذلك، وهي:
الحمد لله الّذي اختار لعمارة بيوته أولياء يحبّونه ويحبّهم، وأصفياء حفّهم برحمته فاجتهدوا في طاعته فازداد قربهم، وأتقياء زهدوا في الدّنيا وأبدلوا الفاني بالباقي وطاب في مورد الصّفاء شربهم.
نحمده حمد من جعل حبّ الله دثاره، وملابس التّقوى شعاره، ونشكره والشّكر لمزيد النّعم أمارة، وللقلوب الدّاثرة عمارة، ونشهد أن لا إله إلّا الله
__________
(1) وتعرف أيضا «السميساطية» و «الشميساتية». عمرها أبو القاسم، علي بن محمد بن يحيى السّلميّ السميساطي المتوفى سنة 453هـ. (انظر معجم البلدان: 3/ 258والأعلام: 4/ 328 وابن خلكان: 4/ 390).(12/100)
وحده لا شريك له شهادة مخلص في التّوحيد، يتبوّأ بها جنان الخلد ويخلص من سماع قول جهنّم: هل من مزيد (1)، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أسرى به إلى حضرة أنسه، وحظيرة قدسه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من سبق الأمّة بشيء وقر (2) في صدره، ومنهم من دلّت واقعة سارية على علوّ شأنه ورفعة قدره، صلاة لا تزال الأرض لها مسجدا، ولا يبرح ذكرها مغيرا في الآفاق ومنجدا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أحقّ من عومل بالتّقديم، وأجدر من يخصّ بالتّكريم، من كان قدره في الأولياء عظيما، وذكره في الآفاق بين أهل المعرفة قديما، وتجريده عن الدنيا مشهورا، وسعيه على قدم الطاعة مشكورا، وشهوده لمقام الكمال مستجليا، واستجلاؤه لموادّ الأنس مستمليا فهو في هذه الطائفة الجليلة سريّ المقدار، معروف الصفة في حلية الأولياء ومناقب الأبرار، والمتقدّم من الإمامة في مجمع الأخيار.
ولما كان المجلس الساميّ، الشّيخيّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، الأوحديّ، الزّاهديّ، الورعيّ، الأصيليّ، الفلانيّ، جلال الإسلام والمسلمين، وشرف الصّلحاء في العالمين، شيخ الشّيوخ، قدوة السّالكين، معتقد الملوك والسّلاطين، أعاد الله تعالى من بركاته: هو المقصود من هذه العبارة، والملحوظ بهذه الإشارة اقتضى حسن الرّأي الشريف أن يخصّ في الدنيا بالتّعظيم، ويميّز في هذه الأمّة بالتّكريم.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف لا زال له من جنود اللّيل (3) جيش لا تطيش
__________
(1) إشارة إلى قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} سورة ق / 30.
(2) إشارة إلى الحديث الشريف «لم يسبقكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في القلب» وفي بعض الروايات «لسرّ وقر في صدره» أي سكن فيه وثبت وهو من الوقار والحلم والرزانة. (انظر لسان العرب: 5/ 290).
(3) جنود الليل: الأدعية. وفرسان المحاريب هم خطباء المساجد.(12/101)
سهامه، ومن فرسان المحاريب مدد لا تزلّ في ملاقاة الرّجال أقدامه أن يستقرّ في كذا.
فليقابل هذه النعمة بالسّرور، وليتأثّل هذه الفضيلة بحمد الله الشّكور، وليواظب على وظيفة الدعاء بدوام أيّامنا الزّاهرة، وليستمطر جزيل الفضل من سحائب جودنا الماطرة، وليبسط يده في عمل المصالح، وليستمرّ على السّعي الحسن والعمل الصّالح فإنّ هذه البقعة مأوى القادم والقاطن، وتسمو على أمثالها من المواطن وليكن لأسرارهم موقّرا، ولأقواتهم المعينة على الطّاعة ميسّرا والله تعالى يجعل خلواته معمورة، وأفعاله مبرورة والاعتماد في ذلك على الخطّ الشّريف.
قلت: هذا إن وليها شيخ من مشايخ الصّوفية، على عادة الخوانق. وقد يليها كاتب السّرّ بالشّام، فيكتب تقليده بكتابة السّرّ في قطع النّصف «بالمجلس العالي» على عادة كتّاب السّرّ، ويشار في تقليده إلى بعض الألفاظ الجامعة بين المقامين، ويضاف إلى ألقاب كتابة السّرّ بعض ألقاب الصّوفية المناسبة لهذا المقام. على أنّه ربّما كتب بولايتها عن نائب السّلطنة بالشّام لكاتب السّرّ أو غيره.
المرتبة الثانية (من يكتب له في قطع العادة مفتتحا ب «رسم»)
وهذه نسخة توقيع من ذلك، وهي:
رسم بالأمر الشّريف لا زالت أوامره تحلّ القربات محلّها، ومراسمه تسند الرّتب الدّينية لمن إذا خصّوا بمواقعها كانوا أحقّ بها وأهلها أن يرتب فلان في كذا: إذ هو أولى من خصّ بمواطن العبادة، ونصّ بترفيه الأسرار على التّحلّي بإفاضة الإفادة، ووفّر كدّه على اجتلاء وجوه المعارف من أفق المراقبة، وجمع خاطره لاجتناء ثمرة الأنس من أفنان الطّاعات النّابتة في رياض
المحاسبة، مع تمسّكه بعلوم الشريعة الّذي [خلص] (1) معرفته من الشّوائب، وأحيا الدّجى من اقتبال شبيبة ظلامه إلى أن تشيب منه الذّوائب، ونفع متعدّ إلى كلّ طالب فضل وملتمس، ودين باهر من مصباح مشكاة العلم والعمل لكلّ باغي نور ومقتبس.(12/102)
رسم بالأمر الشّريف لا زالت أوامره تحلّ القربات محلّها، ومراسمه تسند الرّتب الدّينية لمن إذا خصّوا بمواقعها كانوا أحقّ بها وأهلها أن يرتب فلان في كذا: إذ هو أولى من خصّ بمواطن العبادة، ونصّ بترفيه الأسرار على التّحلّي بإفاضة الإفادة، ووفّر كدّه على اجتلاء وجوه المعارف من أفق المراقبة، وجمع خاطره لاجتناء ثمرة الأنس من أفنان الطّاعات النّابتة في رياض
المحاسبة، مع تمسّكه بعلوم الشريعة الّذي [خلص] (1) معرفته من الشّوائب، وأحيا الدّجى من اقتبال شبيبة ظلامه إلى أن تشيب منه الذّوائب، ونفع متعدّ إلى كلّ طالب فضل وملتمس، ودين باهر من مصباح مشكاة العلم والعمل لكلّ باغي نور ومقتبس.
فليستقرّ شيخا بالمكان الفلانيّ: لتعمر أرجاؤه بتهجّده، وتشرق خلواته بتعبّده، وتعذب موارده بأوراده، وتطلع مجالسه نجوم معرفته البازغة من أفق إيراده ولتغدو هذه البقعة روضة أفكار، وقبلة أذكار، ومراقي دعوات، ومرافيء بركات، تستنزل بين صلوات مقبولة وخلوات، وليتناول المعلوم المستقرّ له ترفيها لسره، وتنزيها لفكره، وإعانة على الانقطاع بهذه البقعة الّتي تتصل به أسباب السّعادة في أرجائها، وتخصيصا لها منه بإمام تقى لو كان لبقعة أن تجتني بركته لكان منتهى رجائها، وليرفع من الأدعية الصالحة لأيّامنا المباركة ما لا تزال مواطن القبول لنفحاته المترقّبة متلقّية، وما لا تبرح النفوس لخشيته المانعة متوقّية والاعتماد على الخطّ الشّريف أعلاه، حجة بمقتضاه.
قلت: هذا إن كتب عن الأبواب السّلطانية وإلّا فالغالب كتابة ذلك عن نائب السلطنة بالشّام.
النوع الثاني (من وظائف دمشق ما هو خارج عن حاضرتها)
وقد تقدّم في المقالة الثانية: أنّ لدمشق أربع صفقات، وهي: الغربية، والشّرقية، والقبلية، والشّمالية.
فأما الصّفقة الغربية
(2): وهي المعبّر عنها بالسّاحليّة والجبليّة، على ما
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) وكانت تشمل المرتفعات والساحل من بلاد فلسطين إلى الغرب من نهر الأردن. (منطلق تاريخ لبنان: 131).(12/103)
تقدّم فيها، ففيها من وظائف أرباب السيوف عدّة وظائف، وتولّي فيها الأبواب السّلطانية.
منها نيابة القدس
. وقد تقدّم أنّها كانت في الزّمن المتقدّم ولاية صغيرة يليها جنديّ، ثم استقرّت نيابة طبلخاناه، في سنة سبع وسبعين وسبعمائة، وأنّ العادة جرت أن يضاف إليها نظر الحرمين: حرم الخليل عليه السّلام، وحرم القدس، والّذي يكتب له مرسوم في قطع الثّلث ب «السّاميّ» بالياء.
ومنها نيابة قلعة الصّبيبة
. وقد تقدّم أنّها من أجلّ القلاع وأمنعها، وأنّه كان يليها نائب مفرد من أجناد الحلقة (1) أو مقدّميها عن نائب دمشق، ثم أضيفت إلى والي بانياس، ثم استقرّت في سنة أربع عشرة وثمانمائة في الدولة الناصرية «فرج» نيابة.
ومنها نيابة قلعة عجلون
. وقد تقدّم أنّها على صغرها حصن حصين، مبنيّة على جبل عوف (2)، بناها أسامة بن منقذ، أحد أمراء السّلطان صلاح الدّين «يوسف بن أيّوب» في سلطنة العادل أبي بكر، وأنّه كان مكانها راهب اسمه عجلون، فسمّيت به. ثم استقرّت في الدولة الناصرية «فرج» في سنة أربع عشرة وثمانمائة إمرة طبلخاناه.
وقد تقدّم أوّل هذا القسم ما يكتب للمقدّمين، وما يكتب للطّبلخاناه، وما يكتب للعشرات.
أمّا أرباب الوظائف الدّينيّة.
فمنها مشيخة الخانقاه الصّلاحية بالقدس
. وتوقيعها يكتب في قطع
__________
(1) أجناد الحلقة هم رديف من الفرسان الأحرار تنتقيهم الدولة من بين العناصر المحلية في مختلف المناطق للمساعدة في الحفاظ عليها.
(2) في هامش الطبعة الأميرية عن تقويم البلدان ص 228أن جبل عوف كان أهله عصاة فبنى عليهم أسامة حصن عجلون، وهو معقل حصين مشرف على الغور.(12/104)
الثلث مفتتحا ب «الحمد لله».
ومنها خطابة القدس
، وتوقيعها كذلك.
ومنها مشيخة حرم الخليل
، وتوقيعها في العادة يكتب مفتتحا ب «رسم».
وأمّا الصّفقة القبليّة
(1)، فالّتي يولّى بها من الأبواب السّلطانية نيابة صرخد. وقد تقدّم في الكلام على ترتيب المملكة الشّامية أنّه قد يجعل فيها من يقرب من رتب السّلطنة، وحينئذ: فإن وليها مقدّم ألف، كان مرسومه في قطع النّصف ب «المجلس العالي»، وإن وليها أمير طبلخاناه، كان مرسومه في قطع النّصف أيضا، ب «السّاميّ» بالياء.
وأما الصّفقة الشّرقية (2) فالنّيابات بها على طبقتين:
الطبقة الأولى (ما يكتب به مرسوم شريف في قطع النّصف، وهو ما يليه مقدّم ألف أو طبلخاناه، وفيها نيابات)
النيابة الأولى نيابة حمص.
وقد تقدّم أنّها كانت نيابة جليلة، كان يليها في الدّولة النّاصرية «محمد بن قلاوون» مقدّم ألف، وأنه ذكر في «التّثقيف» أنّها صارت الآن طبلخاناه.
وحينئذ: فإن كان بها مقدّم ألف، كان مرسومه في قطع النّصف ب «المجلس العالي»، وإن كان طبلخاناه، كان مرسومه في قطع الثّلث ب «المجلس الساميّ» بالياء.
__________
(1) وكانت تشمل حوران ومرتفعات الجولان وعجلون والبلقاء بالإضافة إلى غور الأردن. (منطلق تاريخ لبنان: 131).
(2) وتشمل المنطقة الممتدة من جبل القلمون إلى الشمال من دمشق حتى حماة وسليمة. وقاعدتها حمص. (المصدر السابق).(12/105)
وهذه نسخة مرسوم شريف بنيابة السلطنة بحمص:
الحمد لله مقدّر كلّ أجل إلى حين، ومقرّر أمور الممالك في عباده الصّالحين، الذي جعل بنا أولياءنا من الرّابحين، وحفظ ما استرعانا من أمور عباده بولاية النّاصحين.
نحمده على اختيار لا يصل إليه قدح القادحين، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة نكون بها في غمرات الحروب على السّوابح (1)
سابحين، ونشهد أنّ سيّدنا محمدا عبده ورسوله أكرم المانحين، وأعظم الفاتحين، وأشرف من ولّى الأعمال الكفاة الوفاة المكافحين، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة لا تزال فيها الحفظة على أعمالنا مماسين ومصابحين، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ مراسيمنا الشّريفة وإن تأخّر وقتها إلى أجل معدود، وأمد ممدود، ومضت أيّام وليال ولها باب مسدود، وعمل سببه غير مشدود فإنّا كالسّيف يتلاهى إذا صمّم لا يرجع، وكالغمام تتمادى مدد مدّه ثم يجود فلا يقلع، ولم نزل منذ فوّض الله أمور بلاده إلينا، وصرّف أمور جمهور عباده بيدينا، نرى أن نحمي غاباتها بأشدّ الأسود، ونرمي غاياتها بمن هو لأمر ما يسود، ونحوط جنباتها بمن لا يستبيح حرمه إلا الوفود، ونحطّ ركائب رعاياها منه على من هو المقصود، وننيب إلى ما يترجّح من مصالحهم لدينا، ونستنيب لمن يترجّى الحسنى إذا عرضت متجدّدات أمورهم علينا، وإذا انفرد بحكم لا يظنّ إلّا أنّه بمسمع من أذنينا، ومرأى من عينينا، لأنّ نوّاب الممالك الشريفة فروع عدلنا الشّريف ونحن أصلها، وأسباب إحسان بأوامرنا المطاعة قطعها ووصلها.
وكانت حمص المحروسة من أكبر الممالك القديمة، والمدن العظيمة تغرق الأقاليم في مدّها، وتمتدّ عساكرها فتعدّ حماة حماة من جندها وهي من
__________
(1) السّوابح: الخيل.(12/106)
الشّام المحروس في ملتقى مواكبه، ومجرّ عواليه ومجرى سوابقه ومجمع كتائبه طالما كان بها الحرب سجالا، وطالما سابقت بها الرّجال آجالا وكان لنا بها في الحرب يومان عوّضنا الله أدناهما بما حفظت المعارك، وضاقت الأرض بدماء القتلى ففاض إلى السّماء ما التقى بالشفق من [تلك المسالك] (1)، واتّصلت بالبرّ والبحر من جانبيها، واتّصفت بأنّها مهبّ الرّياح، ومركز الرّماح، لما يهبّ لنا من بشرى النصر ويخفق من عصائبنا المنصورة عليها.
فلمّا تطاول الأمد على خلوّها ممّن ينوب عن السّلطنة الشّريفة في أحكامها، ويؤوب إلى تسديد مرامي سهامها، لم تزل آراؤنا العالية تجول فيمن يصلح أن يقّدم قدمه إلى رتبتها العليّة، ويجرّد منها عزائمه المشرفيّة، ويجمع بها على طاعتنا الشّريفة من فيها من العساكر المنصورة، والقبائل المشهورة، والطّوائف المذكورة، ويبسط بساط العدل في كافّة جنودها ورعاياها فإنّها بهؤلاء محروسة وبهؤلاء معمورة فرأينا أنّ أولى من حكم في عاصيها والمطيع، واتّخذ لسوريا السّور المنيع، من هو الموثوق بما أمضت السيوف من هممه، وأرضت التّجارب من سوابق خدمه، وطارت سمعة شكره في الآفاق، وطابت أثنيته فجاءت بما يعرف من الطّرب لإسحاق (2) وكان قد تقدّمت له في عينتاب (3)، نيابة كم أصابه فيها رجل بالعين ثم إنّه من العين تاب، وقام بين أيدي كفلاء ممالكنا الشريفة حاجبا، وفهم من أحكامهم الّتي تلقّوها منّا ما أصبح لها صاحبا، فما للنّيابة إحكام أحكام إلّا وهو به عالم، ولا تولية حكم إلا وقد استحقّها لقرب ما بين الحاجب والحاكم.
__________
(1) بياض بالأصل. والزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الإشارة إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي المغنّي المشهور أيام الرشيد والمأمون والواثق. توفي سنة 235هـ.
(3) مدينة في الجنوب من تركيا، وهي إلى الشمال من مدينة حلب السورية. قال في معجم البلدان:
كانت قلعة حصينة، وكانت تعرف بدلوك. (معجم البلدان: 4/ 176).(12/107)
وكان فلان هو المرتضى للبس هذه المفاخر، والمنتظر الّذي كم ترك الأوّل فيه للآخر فاقتضت مراسيمنا المطاعة أن يزان جيده بهذا التقليد، وتلقى إليه المقاليد، وتمدّ يد هذه الرتبة لتلقّيه، وتخضع عنق هذه المرتبة لترقيّه، وتحوّل إليه هذه النّعمة الّتي ألحقت قدره بالأكفاء، وأهّلت هممه للاكتفاء، وشرّفت مكانه، بما أجمعت عليه آراؤنا الشريفة له من الاصطفاء، وأحسنت به الظّنّ لمّا رأت نيّته الجميلة ممثّلة من خاطره في مرآة الصّفاء.
فرسم بالأمر الشّريف لا زال مرفوعا به كلّ علم، ممنوعا به حمى كلّ حرم أن تفوّض إليه نيابة السّلطنة الشّريفة بحمص المحروسة وأعمالها، وجندها وعمّالها، وعساكرها وعشائرها، وعامرها وغامرها، وأوّلها وآخرها، ودانيها وقاصيها، وكلّ ما في حدودها الأربعة، وداخل في جهاتها الممنّعة، على أكمل ما جرت به عوائد من تقدّمه، واستقرّت عليه القواعد المتقدّمة.
فاتّق الله في أمورك، واجعل الشّرع الشّريف مشكاة نورك، وعظّم حكّامه، ونفّذ أحكامه، فهم أمنع سورك، واعدل فهو قرار خواطر جمهورك، وتيقّظ لسداد سداد ثغورك، وارفق لتطلق به نطق نطاق شكورك وأقم الحدود فإنّها زيادة في أجورك. وأمّا العساكر المنصورة، فجمّل بهم في خدمتنا الشريفة مواكبك، وكمّل بعزائمهم مضاربك، ولا تستخدم منهم إلا من يسرّك أن تراه في يوم العرض، وتعقد هوادي جياده السماء بالأرض، واحم أطراف بلادك من عادية الرّجال، واحفظ جانبيها من تخطّف الغارات فسر قيامها [لا يدفعه] (1) غير احتيال، واهتمّ بالجهاد تحت صناجقنا (2) المنصورة لأعداء الله متى أجمعوا، وضرّسهم بأنياب أسنّتك فأنت صاحب العصا وهي تتلقّف ما صنعوا، وعمّر
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) جمع صنجق أو سنجق. والسنجق لفظ تركي كان يطلق أصلّا على الرمح، ثم أطلق على الراية التي تربط به. وكانت السناجق تحمل بين يدي السلطان في مواكبه وحروبه. (مصطلحات صبح الأعشى: 186والأعلاق الخطيرة: 3/ 916).(12/108)
بلادها بملاحظتك الجميلة، ونمّ أمورها فهي قوام الجنود وهم إلى الثقة في النّصر الوسيلة، وسارع إلى ما ترد به مراسمنا الشّريفة عليك لنهديك إلى صراط مستقيم، وعجّل البريد فإنّك تعلم به ما لست بعليم وبقيّة الوصايا لا حاجة إليها لما تعرفه من قديم، والله تعالى يمتّعك بكلّ خلق كريم والخطّ الشريف أعلاه
النيابة الثانية نيابة الرّحبة (1)
وهذه نسخة بنيابتها:
الحمد لله الّذي أمدّنا بنصره، وشمل بجود سلطاننا أهل عصره، وأيّده بجنود أوّلها متّصل بأوّل عراقه وآخرها بآخر مصره، وفرّق بسهامه الأعداء في حواصل الطير بين حضنه وخصره.
نحمده حمدا يقوم بشكره، ويحافظ على حسن ذكره، ويستعاذ به إلّا ممّا يدمّر على العدا من عواقب مكره، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة ترغم من جادله بكفره، وتمزّقه بين كل ناب سيف وظفره، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أرسله مقيما لأمره، ومديما في الجهاد لإعمال بيضه وسمره، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه حملة سرّه، ونقلة هديه بأسره، صلاة باقية في الوجود بقاء دهره، راقية ارتقاء زهره.
وبعد، فإنّ الثغور بسدادها، والبحور بأمدادها، والنّحور لا تحلّى بأحسن من حلية نجادها، والممالك المحروسة لا تحرس إلا بشهب خرصانها (2)، ولا تسقى بأنقع مما تطلّه من الدّماء سحب فرسانها، والفرات لا تحمى مواردها إلا
__________
(1) الرحبة هي رحبة مالك بن طوق، تقع على الفرات بين الرقّة وعانة. أحدثها مالك بن طوق في خلافة المأمون ولا تزال آثار قلعتها الخربة بادية للعيان حتى يومنا على مسافة بضعة كيلومترات من مدينة الميادين السورية. (الأعلاق الخطيرة: 3/ 797ملحق).
(2) أي: رماحها.(12/109)
بأمثال سيوفها القواضب، ولا تمنع مخاوضها (1) إلّا بدم خاضب، والحصون لا يرضى بها كلّ منجنيق غضبان إلا بوصال مغاضب، والقلاع لا تتطلّع عيون ديادبها (2) إلا لمن ماء الكرى في جفونه ناضب، والمعاقل لا تسمح بعقائلها إلّا لمن هو على خطبتها مواظب وكانت الرّحبة حرسها الله تعالى هي أوسع مكان رحابا، وأدنى إلى مطر سحابا، وأوثق ما أغلق على البلاد بابا، وأقرب ما سمع حرّاسها في السماء دعاء مجابا، قد ملئت سماؤها حرسا شديدا وشهبا، ومدّت كواكب الدلو واستقت من الغمام قلبا (3)، وعدّت ما وراء المجرّة فعمّيت دونها المسالك، وحسبت لملك ونسبت إلى مالك ومالك لا أعني إلّا ابن طوق (4) خازنها، ومنزل أمن وفي غاب الأسد مساكنها وقد وقفت لبغداد في فم المضيق، وهمّت بلاد العدا أن تخوض الفرات إليها فقالت: ما لك إليّ طريق قد افترّ في وجه العساكر المنصورة ثغرها الضّاحك، وردّ قرن الشمس فرعها المتماسك.
فلما أغمد حسامها المسلول، وأقلع غمامها وكلّ هدب بالبكاء عليه مبلول اقتضى رأينا الشريف أن نجدّد لعروسها زفافا، ولبيوتها أفوافا، ولسيوفها جلاء، ولسقوفها إعلاء، ونولّيها لمن تكون همّته فيها جديدة الشّباب، أكيدة الأسباب، ليكون أدعى لمصالحها، وأرعى لمناجحها، وأوعى لما يجمعه سمعه من مصالحها، وأسعى في حماية مماسيها ومصابحها وكان فلان هو أصلب من في كنائننا الشريفة عودا، وأنجز وعودا، وأصدق رعودا، وأيمن إذا طلع نجمه
__________
(1) في الأصل «مخالصها». والتصحيح من الطبعة الأميرية.
والمخاوض: جمع مخاضة: وهي من النهر الموضع القليل الماء الّذي يعبر فيه الناس مشاة وركبانا.
(2) الديادب: جمع ديدبان وهو الذي يقوم برصد العدو ورؤيته. وهو من الإصطلاحات العسكرية، ولا يزال جاريا حتى اليوم. (مصطلحات صبح الأعشى: 140).
(3) القلب: جمع قليب وهو البئر.
(4) راجع الصفحة السابقة: الحاشية الأولى.(12/110)
في أفق سعودا.
فرسم بالأمر الشريف أن تفوّض إليه نيابة الرّحبة المحروسة، على عادة من تقدّمه وقاعدته [فليتول ذلك] (1) مقدّما تقوى الله والعمل بما شرع، واتّباع مراسمنا الشريفة فمثله من اتّبع، وحماية أطرافها، من كل طارق إلا طارقا يطرق بخير، وصيانة أكنافها، من كل عصابة محلّقة إلى جوّها كالطّير، وحفظها من عادية كلّ أفّاك وسفّاك، وبادية أعراب وأتراك، وكلّ فارس فرس وراكب بعير، وكلّ وقفة محاصر وحقطة (2) مغير، وجانبي برّ وبحر: في أحدهما المسالك تعمى والآخر لا يعام، وصاحبي سرّ وجهر: هذا تخشى له عاقبة كلام وهذا معاقبة كلام.
وليتخطّف من الأخبار ما تلمع لدينا بوارقه، ويتقطّف من الأقوال ثمراتها ولا يدع كلّ ما تجمعه حدائقه، وليجعل له من المناصحين طلائع ما منهم إلّا من هو في انتهاب الأخبار أبو الغارات، ومن إذا ألجمه الخوف كان له في لمع البروق إشارات، وليتّخذ من الكشّافة من يسبق قبل أن يرتدّ إليه طرفه، ومن الخيّالة من لا يرتدّ عن وقذ (3) الرّماح طرفه، ومن القصّاد من لا يطوي عنه خبرا، ومن الدّيادب من يعيره وقلّ أن تعار العيون نظرا، وليحفظ التّجار في مذاهبهم غدوّا ورواحا، ومساء وصباحا، وليستوص بهم خيرا فإنّهم طالما ازدانت بهم صدور الخزائن على امتلائها انشراحا، وليأخذ منهم ما لبيت المال فكم وجدوا بعطائه أرباحا، وليوصّل إلى أرباب القرارات (4) ما لهم من مقرّر معلوم، وليعطهم ما تصدّقنا به عليهم وهو مشكور وإلّا أعطاهم وهو مذموم،
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق وهي مما تقدّم.
(2) الحقط (بالتحريك): خفة الجسم وكثرة الحركة. ولعل المراد بالحقطة: الوثبة والإغارة السريعة.
(انظر اللسان: 7/ 276).
(3) وقذ فلانا، يقذه وقذا: ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت. ووقذه: صرعه.
(4) المراد: الموظفين وجميع الذين يقرر لهم راتب معلوم.(12/111)
وليعمّر البلاد بتوطين أهل القرى، وإنامتها بالعدل ملآنة الجفون من الكرى، وليكن للفرات متيقّظا لئلا يطغى بها التّيّار، ويغلب بمدّها المخمر على سكرها من السّكر الخمار، ويقوى على سدّها قبل أن لا يقدر على مقاواة البحار، ويتفقّد مبانيها فإنّها من أسنى ما تتفقّده الأبصار، وليغلق زروعها لتكون:
{كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى ََ عَلى ََ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرََّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفََّارَ} (1)، وليعفّ فإنّ العفاف هو الغنى، وليؤمّن من يليه فإنّ الأمان هو المنى، وليقرّ ما استقرّ بيننا وبين القوم من صلح أكّدت أواخيه، وأصبح كلّ من أهل الجانبين لا يفرّ من أخيه، ولا يرخّص لأحد فيما ينقضه لا في عاجل أمر ولا في تراخيه، حتّى إذا كشفت الحرب عن ساقها، وشدّت عقد نطاقها، فليكن بحسب مراسمنا الشريفة اعتماده في شنّ كلّ غارة، وسنّ كلّ ماض مرهفا غراره (2)، وجوس خلال ديار العدا واختطاف كلّ قمر من دارة والمحرقات (3) التي لا تحرق نباتا حتى تشبّ في ضلوعهم، والعيّارة (4) فهي الزّلازل الّتي تتساقط منها مباني ربوعهم، وموالاة البعوث: فإنّ كلّ بعث يتكفّل بشتات جموعهم والعمل بكلّ ما ترد به مراسمنا العالية، والمواصلة بكتبه الّتي
__________
(1) الفتح / 29.
(2) الغرار: حدّ السيف.
(3) المحرقات: فرقة من الرجال تجهز لحريق زراعة ونبات أرض مخصبة، وذلك بقصد إضعاف العدو. (مصطلحات صبح الأعشى: 303).
(4) العيّار من الرجال هو الكثير التجوال والطواف والّذي يتردد بلا عمل. وهو الّذي يخلي نفسه وهواها لا يردعها ولا يزجرها. وقد ورد اللفظ في ابن خلدون: «حتى لا يبقى إلا الباعة والهمل من أهل الفلح والعيّارة وسواد العامة». هذا وقد وجد في بغداد في العصر العباسي جماعة من مختلف الأوساط الشعبية أطلق عليهم اسم «العيارين»، وكانوا عادة من الفقراء اللصوص وقطاع الطرق، إلا أنهم يحملون مباديء إنسانية مثالية لا توجد عند اللصوص العاديين. فالعيارون لا يعتدون على النساء ولا يسرقون الفقراء، وإنما يسرقون أموال الأغنياء الذين امتنعوا عن أداء الزكاة. ولهم مواقف مشهودة في الدفاع عن بغداد. (المعجم الوسيط:
مادة «عير». ومقدمة ابن خلدون: 669والأعلاق الخطيرة عن نفاضة الجراب 3/ 930 ملحق).(12/112)
نرفض ما سوى أخبارها المتوالية، وإرسال كل بريد وحمام تحلّق بهما: إمّا ريح ظاهرة وإمّا ريح عادية والله تعالى يقرب له الغايات المنادية، بمنّه وكرمه!.
النيابة الثالثة نيابة مصياف (1)
وهذه نسخة مرسوم بنيابتها:
الحمد لله الّذي صرّف ممالكنا الشّريفة في الممالك، وشرّف بنا كلّ حصن لا تعرض له المجرة في المسالك، وعرّف بالتّربية في خدمة أبوابنا العالية إلى أين ينتهي السّالك.
نحمده على نعمه الّتي نعتدّ بها الحمد من ذلك، ونرغب أن نلقى الله على أداء الأمانة فيها كذلك، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فيما هو مالك، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أضاء به كلّ حال حالك، وأنجى به من مهاوي المهالك، وجمع به من الأمّة ما وهى وهي كالعقد المتهالك، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة يجد بها قائلها في الدار الآخرة كلّ هناء هنالك، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ النظر في أمور الممالك هو أوّل ما يقدّمه الملك، وأولى ما يتقدّم إليه من سلك ومملكة بيت الدّعوة هي من أجلّ ما تفرّدت به ممالكنا الشّريفة، وامتدّت به في الأماكن المخيفة، وأرسلت من قلاعها من يقتلع العدا بوثوبه، ويسابق السّهم إلى مطلوبه، ويتعبّد بموالاتنا الّتي ورثها عن سلفه في طاعة أئمّتهم، وعلموا بها أن الدّولة العلوية ما انقضت حتّى انتقلت إلينا الولاية على شيعتهم، وأن الملك الإسماعيليّ فينا قد انحصر ميراثه، وأن كلّ من مات من الخلفاء الفاطميّين رحمهم الله نحن ورّاثه فهم بهذا يبذلون نفوسهم في الطاعة الشّريفة الّتي يرونها فرضا عليهم، ويبلغون بنا أعلى مراتب الإيمان:
__________
(1) في ياقوت «مصياب». قال: هي حصن حصين مشهور للإسماعيلية بالساحل الشامي قرب طرابلس. وبعضهم يقول: مصياف. (معجم البلدان: 5/ 144).(12/113)
لأنهم إذا رأوا منكرا أزالوه بيديهم كم هجموا على عدوّ من أعداء الله هجمة طيف!، وكم استطالوا بسكّين لا يتطاول إلى مباراتها سيف!، وكم أوقدوا لهم بارقة عزم فقيل: هذه سحابة صيف!، وكم ورّدوا بالدّماء خدّا غدا ينادي: يا كرام الورد ضيف!. وكانت مصياف حرسها الله تعالى هي كرسيّ هذه المملكة، وقلعتها هي الّتي بذوائب الجوزاء متمسّكة واقتضت مراسمنا المطاعة نقل النائب بها إلى ما رسمنا به الآن، فخلت ممّن يترقّى فيها إلى أعزّ مكان، واحتاجت إلى من تغنى به عما يقال: من اعتقال رمح وتجريد سنان.
فحصل الفكر الشريف فيمن نقلّده هذه النّيابة، ويتقلد أمر هذه العصابة، ويتصرّف في أمورها بمقتضى ما ترد به مراسمنا المطاعة، ويعلم أنّه من شيعتنا:
لأنّه داعينا في هذه الجماعة فرأينا أنّ أحقّ [الناس بها] (1) من قدّمه ولاؤه، وعظّمه انتماؤه، ونبّه عليه اهتمام هممه الّتي لا تشابهها الكواكب في سيرها، وعزائمه الّتي طالما كان بها في خدمتنا الشريفة «يظلّ بموماة (2) ويمسي بغيرها» ولم تزل به مساعيه حتّى وصل إلى المزيد، وأسرع له الشّيب في طاعتنا الشّريفة: لأنّه في كلّ وقت [كان] (3) يسمع قعقعة لجام البريد وكان فلان هو الّذي أشار إليه القول بوصفه، ودلّ عليه ثناؤه بعرفه.
فرسم أن تفوّض إليه النيابة بمصياف وأعمالها، على عادة من تقدّمه وقاعدته. فليقدّم تقوى الله تعالى فيما ولّيه، ولينشر جناح عدلنا الشريف على من يليه، وليعمل بالأحكام الشّرعية في كل ما يقضيه، وليسلك في أهلها أوضّح المراشد، وليبيّن لهم أنّه يدعوهم إلى سبيل الرشاد إلا ما ادعاه راشد، وليوصّل إلى المجاهدين أرزاقهم الّتي هي أثمان نفوسهم، وثمار ما دنّى القطاف من رؤوسهم. وأهل من مات أو يموت منهم على طاعتنا الشّريفة فكن عليهم
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الموماة: المفازة الواسعة. وقيل: هي الفلاة الّتي لا ماء بها ولا أنيس وهي جماع أسماء الفلوات. (انظر اللسان: 12/ 566).
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/114)
متعطّفا، ومن طلب منك الإنصاف فكن له منصفا، وافعل معهم أحسن الأسوة، وقل لهم عنا: إنّ الصّدقات الشّريفة قد استجابت لكم يا أهل الدّعوة، وخذ بقلوبهم، لتزداد من حبّهم، وقل للمجاهدين: {وَلََا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ أَمْوََاتاً بَلْ أَحْيََاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (1)، والأموال فصنها من الضّياع، وعمارة البلاد عليك بها فإنّ القلعة لا تكون إلا بالمدينة والمدينة لا تكون إلا بالضّياع، وامتثال مراسمنا الشّريفة وكلّ ما يرسم به سارع إلى اعتماده، وطائفة المجاهدين لا تدع منهم إلا من هو معتدّ لجهاده والكتمان الكتمان! فبه تنال المطالب، وتدرك المآرب وعليك بقمع المفسدين، وردع المعتدين، وإقامة الحدود: فإنّ بها أقام الله هذا الدّين ونحن نغتني بما فيك من المعرفة، وبما أنت عليه بحمد الله تعالى من كمال كلّ صفة، عن استيعاب الوصايا الّتي لم تبرح سجاياك بها متّصفة، والله تعالى يزيدك من كلّ نوع أشرفه والخط الشريف أعلاه
وأما الصّفقة الشّمالية
(2)، فالذي يولّى بهذه الصّفقة عن الأبواب السلطانية، نيابة بعلبك فقط. وقد تقدّم في الكلام على ترتيب المملكة الشّامية أنّها كانت أوّلا إمرة عشرة، ثم صارت طبلخاناه، وأن نائب الشّام يولّي بها، وربما ولّيت من الأبواب الشّريفة السّلطانية، وحينئذ فيكون مرسوم نائبها في قطع الثّلث ب «المجلس الساميّ» بالياء.
وهذه نسخة مرسوم بنيابة بعلبكّ:
أما بعد حمد الله على أمل حقّق مناه، وصدّق غناه، وفرّق عليه سحب
__________
(1) آل عمران / 169.
(2) وكانت قاعدتها بعلبك وتشمل البقاع البعلبكي والبقاع العزيزي وولايتي صيدا وبيروت. (منطلق تاريخ لبنان).(12/115)
اعتناء أورق به عوده وطاب جناه، والصلاة والسلام على نبيّه سيدنا محمد الّذي كمّل بناه، وعلى آله وصحبه ما شيّد معقل فخار مبناه فإنّ من أعظم مدن الشّام القديمة، ودور الملك الّتي ذهب من يحلّها من الملوك وبقيت آثاره مقيمة، مدينة بعلبكّ وهي الّتي تحصّن الإسلام بقلعتها، وتحصّل الرعب في قلوب الأعداء [بمنعتها] (1)، بنيت على عهد سليمان (2) بن داود عليهما السلام وأتقن بنّاؤها، وهالت أسوارها حتّى نسب إلى صنعة الجنّ بناؤها، ودعمت السّماء عمدها، فطالت شرفها حتّى كادت تخضخض في سجل السحاب يدها، وجمعت محاسن في سواها لا توجد، وتقرّر بملكها من الملوك: تارة سعيدا وتارة أمجد، وما خلت من علماء عظيمي الشان، وصلحاء يلمّهم الجبلان:
سيس (3) ولبنان وهي باب دمشق المفتوح، وسحاب الأنواء المسفوح بالسّفوح، وباب البروق الّتي آلت أنّها بأسرارها لا تبوح، ومآب السّفارة الّتي تغدو محمّلة أوقار (4) ركائبها وتروح ولها العين المسبّلة الرّواتب، والجبال الرّاسية الوقار لمفرقها الشّائب، العالية الذّرى [كأنها متلفّعة] (5) من قطع السّحائب و [لما] (6) كان من فيها الآن ممّن لا تستغني الدولة القاهرة عن قربه، ولا تستثني أحدا معه في تجريده سيفه المشهور من قربه، أجلنا الرّأي في كفء لعروسها، ومماثل لمركز تأوّد غروسها، فلم نجد أدرى بأحوالها، وأدرب بما يؤلّف على الطّاعة قلوب رجالها، كمن استقرّ به فيها مع أبيه الماضي رحمه الله الوطن [ونالا منه الوطر] (7)، ومرت [عليهم فيه] (8) سنون وأيامّ هتف
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الثابت تاريخيا أنها من بناء الرومان.
(3) سيس: بين أنطاكية وطرسوس، من الثغور الشامية. ذكرها ياقوت باسم «سيسية» وقال: وعامة أهلها يقولون «سيس». وسيس هي أرمينية الصغرى. (معجم البلدان: 3/ 297وتشريف الأيام والعصور: ص 1حاشية: 5).
(4) جمع وقر، وهو الحمل الثقيل.
(5) بياض بالأصل والزيادة من هامش الطبعة الأميرية.
(6) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(7) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(8) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/116)
بها داعي قصر ولا غني [عنه] (1) مع ماله من ولايات صحب فيها الناس وفارقهم على وجه جميل، ورافقهم ثم انصرف وانصرفوا عنه وما ذمّه في النّازلين نزيل وكان فلان هو المتوقّد الشّهاب، المتوفّل في تلك الهضاب، المشكور قولا ودينا، المشهور بوضع كلّ شيء في موضعه شدّة ولينا.
فلذلك رسم لا زال إحسانه أحمد واختياره مقدّما أن يرتّب في نيابة بعلبكّ على عادة من تقدّمه وقاعدته، مبتدئا حسن النظر في الأمور العامة، لا يدع ظلامة، ولا يدعّ (2) سالك طريق إلى سلامة، ولا يعدّ سمعا إلا لسماع شكر لا ملامة، ولينظر في المظالم نظرا ينجلي به سدفها (3)، وليشكر العشير توطيا يوطأ به هدفها، وليلاحظ الأمور الديوانية، بما ينمّي به أموالها، ويندّي بسحابه المتدفّق أحوالها. والأوقاف فليشارك واقفيها في إحسانهم، وليجر حسناتها على ما كانت عليه في زمانهم، وليكن لها نعم الكفيل في دوام المحافظة وليتفقّد ما فيها من الحواصل والزّردخاناه (4) مما يذخر لوقته، ويؤخّر لفرط الشّغف به لا لمقته. ومن أهمّ ما يحتفظ به قلوب الرجال، وعمارة الأسوار فإنها للفرسان المقاتلة مجال، وعليها تنصب المجانيق وتتخطّف الآجال. وأمّا الشّريعة المطهّرة: فإنّ من تعدّى غرق أو أوشك أن يغرق، واتّباع أوامرها: وإلّا ففيم يعذّب من يعذّب ويحرق من يحرق وتقوى الله تعالى هي الوصيّة الجامعة، والتّذكرة الّتي ترتدّ بها الأبصار خاشعة وليفهم هذه الوصايا ولا يخرج شيئا منها من قلبه، وليتبيّن معانيها ليكون بها على بيّنة من ربّه والله تعالى يكشف عنه غطاء حجّته، ويزعه عما يأخذه ويؤاخذه من نيّته، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) دعّه دعّا: دفعه دفعا عنيفا بجفوة. وفي التنزيل العزيز: {فَذََلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}.
(3) السّدف: الظلمة.
(4) أي بيت الزرد. والزرد: مجموع أنواع السلاح. واللفظ فارسي مركب، والمراد به «دار السلاح».
(مصطلحات صبح الأعشى: 169وتأصيل الدخيل: 121).(12/117)
الصنف الثاني (1)
(ممّن [هم] (2) خارج دمشق: ممّن يولّى عن الأبواب السلطانية أمراء العربان، وهم على طبقتين:)
الطبقة الأولى (من يكتب له منهم تقليد في قطع النّصف ب «المجلس العالي» وهو أمير آل فضل (3) خاصّة: سواء كان مستقلا بالإمارة أو شريكا لغيره فيها)
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب المملكة الشامية نقلا عن «مسالك الأبصار» أنّ ديارهم من حمص، إلى قلعة جعبر، إلى الرّحبة، آخذين على شقّي الفرات وأطراف العراق (4)
وهذه نسخة تقليد بإمره آل فضل: كتب به للأمير شجاع الدين «فضل بن عيسى» عوضا عن أخيه مهنّا، عندما خرج أخوه المذكور مع قرا سنقر الأفرم ومن معهما من المتسحبين (5)، وأقام [هو] (6) بأطراف البلاد ولم يفارق الخدمة،
__________
(1) لم يتقدم تقسيمه إلى أصناف. ولعل مراده أن ما تقدم من التولية من الصفقات صنف أول وهذا صنف ثان.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) آل فضل من ربيعة من طيّيء.
(4) أضاف في مسالك الأبصار «حتى ينتهي حدّهم قبلة بشرق إلى الوشم آخذين يسارا إلى البصرة» (مسالك الأبصار: 116).
(5) كان ذلك في سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة (741709هـ / 13411309م).
وسبب سوء العلاقة بين مهنا والناصر أن مهنا ألجأ عنده الأمير قراسنقر المنصوريّ نائب حلب وزميلين له هاربين من وجه السلطان ثم سهّل لهم العبور إلى مملكة المغول الإيلخانيين. وقد انتزع الناصر بن قلاوون رتبة «أمير العرب» من مهنا وأعطاها لأخيه فضل بن عيسى الّذي كان قد نصح بعدم إجارة قراسنقر وتسليمه للسلطان. (مسالك الأبصار مقدمة: ص 3534).
(6) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/118)
في شهور سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ، وهو:
الحمد لله الّذي منح آل فضل في أيّامنا الزاهرة بحسن الطاعة فضلا، وقدّم عليهم بقديم الإخلاص في الولاء من أنفسهم شجاعا يجمع لهم على الخدمة ألفة وينظّم لهم على المخالصة شملا، وحفظ عليهم من إعزاز مكان بيتهم لدينا مكانة لا تنقض لها الأيام حكما ولا تنقص لها الحوادث ظلّا.
نحمده على نعمه الّتي شملت ببرّنا، الحضر والبدو، وألجهت بشكرنا، ألسنة العجم في الشّدو والعرب في الحدو، وأعملت في الجهاد بين يدينا من اليعملات (1) ما يباري بالنّصّ والعنق (2) الصّافنات في الخبب والعدو، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة ندرأ بها الأمور العظام، ونقلّد بيمنها ما أهمّ من مصالح الإسلام لمن يجري بتدبيره على أحسن نظام، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث من أعلى ذوائب العرب وأشرفها، المرجوّ الشّفاعة العظمى يوم طول عرض الأمم وهول موقفها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كرمت بالوفاء أنسابهم، وأضاءت بتقوى الله وجوههم وأحسابهم، صلاة لا تزال الألسن تقيم نداءها، والأقلام ترقم رداءها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من أجنته الطاعة ثمرة إخلاصه، ورفعته المخالصة إلى أسنى رتب تقريبه واختصاصه، وألّف بمبادرته إلى الخدمة الشريفة قلوب القبائل وجمع شملها، وقلّده حسن الوفاء من أمر قومه وإمرتهم ما يستشهد فيه بقول الله تعالى: {وَكََانُوا أَحَقَّ بِهََا وَأَهْلَهََا} (3) من ارتقى إلى أسنى رتب دنياه
__________
(1) اليعملة: الناقة الفارهة. ويوم اليعملة: من أيام العرب. (معجم البلدان: 5/ 438).
(2) العنق: ضرب من السير فسيح سريع، للإبل والخيل. والنصّ والنصيص: السير الشديد والحثّ.
وأصل النصّ أقصى الشيء وغايته، ثم سمّي به ضرب من السير سريع. وفي الحديث أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين دفع من عرفات سار العنق، فإذا وجد فجوة نصّ، أي رفع ناقته في السير.
والصافنات: الخيول. (انظر لسان العرب: 7/ 98).
(3) الفتح / 26.(12/119)
بحفظ دينه، ودلّ تمسّكه بأيمانه على صحّة إيمانه وقوّة يقينه، ولا حظته عيون السّعادة فكان في حزب الله الغالب وهو حزبنا، وقابلته وجوه الإقبال فأرته أنّ المغبون من فاته تقريبنا وقربنا، ورأى إحساننا إليه بعين لم يطرفها الجحود، ولم يطرقها إعراض السّعود، فسلك جادّة الوفاء وهي من أيمن الطّرق طريقا، واقتدى في الطاعة والولاء بمن قال فيهم بمثل قوله: {وَحَسُنَ أُولََئِكَ رَفِيقاً} (1)
ولمّا كان المجلس العالي هو الّذي حاز من سعادة الدّنيا والآخرة بحسن الطّاعة ما حاز، وفاز من برّنا وشكرنا بجميل المبادرة إلى الخدمة بما فاز، وعلم مواقع إحساننا إليه فعمل على استدامة وبلها، واستزادة فضلها، والارتواء من معروفها الّذي باء بالحرمان [منه] (2) من خرج عن ظلّها، مع ما أضاف إلى ذلك: من شجاعة تبيت منها أعداء الدّين على وجل، ومهابة تسري إلى قلوب من بعد من أهل الكفر سرى ما قرب من الأجل اقتضت آراؤنا الشريفة أن نمدّ على أطراف الممالك المحروسة منه سورا مصفّحا بصفاحه، مشرّفا بأسنة رماحه.
فرسم بالأمر الشريف العالي لا زال يقلد وليّه فضلا، ويملأ ممالكه إحسانا وعدلا أن يفوّض إليه كيت وكيت: لما تقدّم من أسباب تقديمه، وأوميء إليه من عنايتنا بهذا البيت الّذي هو سرّ حديثه وقديمه، ولعلمنا بأولويّته التي قطبها الشّجاعة، وفلكها الطّاعة، ومادّتها الدّيانة والتّقى، وجادّتها الأمانة التي لا تستزلّها الأهواء ولا تستفزّها الرّقى.
وليكن لأخبار العدوّ مطالعا، ولنجوى حركاتهم وسكناتهم على البعد سامعا، ولديارهم كلّ وقت مصبّحا حتّى يظنوه من كل ثنيّة عليهم طالعا، وليدم التّأهّب حتّى لا تفوته من العدوّ غارة ولا غرّة، ويلزم أصحابه بالتيقّظ لإدامة الجهاد الّذي جرّب الأعداء [منه] (3) مواقع سيوفهم غير مرّة وقد خبرنا من
__________
(1) النساء / 63.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/120)
شجاعته وإقدامه، وسياسته في نقض كلّ أمر وإبرامه، ما يغني عن الوصايا التي ملاكها تقوى الله تعالى وهي من سجاياه الّتي وصفت، وخصائصه الّتي ألفت وعرفت فليجعلها مرآة ذكره، وفاتحة فكره والله تعالى يؤيّده في سرّه وجهره، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة مرسوم شريف بإمرة آل فضل، كتب بها للأمير حسام الدين «مهنّا بن عيسى» (1) من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ، وهي:
الحمد لله الّذي أرهف حسام الدّين في طاعتنا بيد من يمضي مضاربه بيديه، وأعاد أمر القبائل وإمرتهم إلى من لا يصلح أمر العرب إلّا عليه، وحفظ رتبة آل عيسى باستقرارها لمن لا يزال الوفاء والشّجاعة والطّاعة في سائر الأحوال منسوبات إليه، وجعل حسن العقبى بعنايتنا لمن لم يتطرّق العدوّ إلى أطراف البلاد المحروسة إلّا وردّه الله تعالى بنصرنا وشجاعته على عقبيه.
نحمده على نعمه الّتي ما زالت مستحقّة لمن لم يزل المقدّم في ضميرنا، المعوّل عليه في أمور الإسلام وأمورنا، المعيّن فيما تنطوي عليه أثناء سرائرنا ومطاوي صدورنا، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة توجب على قائلها حسن التمسّك بأسبابها، وتقتضي للمخلص فيها بذل النّفوس والنّفائس في المحافظة على مصالح أربابها، وتكون للمحافظ عليها ذخيرة يوم تتقدّم النّفوس بطاعتها وإيمانها وأنسابها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث من أشرف ذوائب العرب أصلا وفرعا، المفروضة طاعته على سائر الأمم دينا وشرعا، المخصوص بالأئمّة الذين بثّوا دعوته في الآفاق على سعتها ولم يضيقوا لجهاد أعداء الله وأعدائه ذرعا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حازوا
__________
(1) خلف والده عيسى بن مهنا في إمرة آل فضل، وتوفي سنة 735هـ وقد بلغ الثمانين من العمر.
(شذرات الذهب: 6/ 112).(12/121)
بصحبته الرّتب الفاخرة، وحصلوا بطاعة الله وطاعته على سعادة الدنيا والآخرة، وعلموا أنّ الجنة تحت ظلال السّيوف فلم يزحزحهم عن ظلّها الرّكون إلى الدّنيا السّاخرة، صلاة تقطع الفلوات ركائبها، وتسري بسالكي طرق النّجاة نجائبها، وتنتصر بإقامتها كتائب الإسلام ومواكبها، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإن أولى من تلقّته رتبته، التي توهّم إعراضها بأيمن وجه الرّضا، واستقبلته مكانته، التي تخيّل صدودها بأحسن مواقع القبول الّتي تضمّنت الاعتداد من الحسنات بكل ما سلف والإغضاء من الهفوات عمّا مضى، وآلت إليه إمرته التي خافت العطل منه وهي به حالية، وعادت منزلته إلى ما ألفته لدينا:
من مكانة مكينة وعرفته عندنا: من رتبة عالية من أمنت شمس سعادته في أيّامنا من الغروب والزوال، ووثقت أسباب نعمه بأن لا يروّع مريرها في دولتنا بالانتقاض ولا ظلالها بالانتقال، وأغنته سوابق طاعته المحفوظة لدينا عن توسّط الوسائل، واحتجّت له مواقع خدمه الّتي لا تجحد مواقفها في نكاية الأعداء ولا تنكر شهرتها في القبائل، وكفل له حسن رأينا فيه بما حقّق مطالبه، وأحمد عواقبه، وحفظ له وعليه مكانته ومراتبه فما توهّم الأعداء أنّ برقه، خبا حتّى لمع، ولا ظنّوا أنّ ودقه (1)، أقلع حتّى همى وهمع، ولا تخيّلوا أنّ حسامه نبا، حتّى أرهفته عنايتنا فحيثما حلّ من أوصالهم قطع وكيف يضاع مثله؟ وهو من أركان الإسلام الّتي لا تنزل الأهواء ولا ترتقي الأطماع متونها، ولا [تستقلّ] (2)
الأعداء عند جهادها واجتهادها في مصالح الإسلام حسبها ودينها.
ولما كان المجلس العالي هو الّذي لا يحول اعتقادنا في ولائه، ولا يزول اعتمادنا على نفاذه في مصالحنا ومضائه، ولا يتغيّر وثوقنا به عمّا في خواطرنا من كمال دينه وصحّة يقينه، وأنّه ما رفعت بين يدينا راية جهاد إلّا تلقّاها عرابة عزمه بيمينه فهو الوليّ الّذي حسنت عليه آثار نعمنا، والصّفيّ الّذي نشأ
__________
(1) الودق: المطر.
(2) بالأصل «تستقرّ» والتصحيح من الطبعة الأميرية.(12/122)
في خدمة أسلافنا ونشأ بنوه في خدمنا، والتّقيّ الّذي يأبى دينه إلا حفظ جانب الله في الجهاد بين يدي عزيمتنا وأمام هممنا اقتضت آراؤنا الشريفة أن نصرّح له من الإحسان بما هو في مكنون سرائرنا، ومضمون ضمائرنا، ونعلن بأنّ رتبته عندنا بمكان لا تتطاول إليه يد الحوادث، ونبيّن أن أعظم أسباب التقدّم ما كان عليه من عنايتنا وامتناننا أكرم بواعث.
فلذلك رسم أن يعاد (1) إلى الإمرة على أمراء آل فضل، ومشايخهم ومقدّميهم، وسائر عربانهم، ومن هو مضاف لهم ومنسوب إليهم، على عادته وقاعدته.
فليجر في ذلك على عادته الّتي لا مزيد على كمالها، ولا محيد عن مبدئها في مصالح الإسلام ومآلها، آخذا للجهاد أهبته من جمع الكلمة واتّحادها، واتّخاذ القوّة وإعدادها، وتضافر الهمم الّتي ما زال الظّفر من موادّها والنّصر من أمدادها، وإلزام أمراء العربان بتكميل أصحابهم، وحفظ مراكزهم الّتي لا تسدّ أبوابها إلّا بهم، والتّيقّظ لمكايد عدوّهم، والتّنبّه لكشف أحوالهم في رواحهم وغدوّهم، وحفظ الأطراف الّتي هم سورها من أن تسوّرها مكايد العدا، وتخطّف من يتطرّق إلى الثغور من قبل أن يرفع إلى أفقها طرفا أو يمدّ على البعد إلى جهتها المصونة يدا، وليبثّ في الأعداء من مكايد مهابته ما يمنعهم القرار، ويحسّن لهم الفرار، ويحول بينهم وبين الكرى لاشتراك اسم النّوم وحدّ سيفه في مسمّى الغرار.
وأما ما يتعلق بهذه الرتبة من وصايا قد ألفت من خلاله، وعرفت من
__________
(1) أعيد إلى إمارته سنة 717هـ ولكن السلطان ما لبث أن سخط عليه لصلته بالتتر كما مرّ معنا فطرد آل فضل من البلاد سنة 720هـ، فابتعد بهم مهنا عن الحواضر. ثم توسّل بالملك الأفضل صاحب حماة فصفح الناصر عنه وردّ إليه إقطاعه، فعاد وأخلص الولاء لأصحاب مصر. (أنظر الأعلام: 7/ 317).(12/123)
كماله، فهو ابن بجدتها، وفارس نجدتها، وجهينة (1) أخبارها، وحلبة غايتها ومضمارها، فيفعل في ذلك كلّه ما شكر من سيرته، وحمد من إعلانه وسريرته وقد جعلنا في ذلك وغيره من مصالح إمرته أمره من أمرنا: فيعتمد فيه ما يرضى الله تعالى ورسوله، ويبلغ به من جهاد الأعداء أمله ورسوله والله الموفق بمنه وكرمه! والاعتماد
الطبقة الثانية (من عرب الشام من يكتب له مرسوم شريف)
وهم على مرتبتين:
المرتبة الأولى من يكتب له في قطع النّصف، وهم ثلاثة:
الأوّل أمير آل عليّ
(2)، ورتبته «الساميّ» بالياء. وقد تقدّم أن منازلهم مرج دمشق وغوطتها، بين إخوانهم آل فضل وبني عمّهم آل مراء (3) ومنتهاهم إلى [الجوف والحيّانيّة إلى الشبكة إلى تيماء إلى البراذع] (4) وأنه ذكر في «التعريف»: أنهم إنما نزلوا غوطة دمشق حيث صارت الإمرة إلى مهنا بن عيسى.
وهذه نسخة مرسوم شريف بإمرة آل عليّ، كتب به للأمير عزّ الدّين «جماز» (5) بعد وفاة والده محمد بن أبي بكر، من إنشاء المقرّ الشّهابيّ بن
__________
(1) من أمثال العرب. ويقال: «وعند جهينة الخبر اليقين».
(2) آل عليّ هم من آل فضل. قال في مسالك الأبصار «إلا أنهم انفردوا منهم واعتزلوا عنهم حتى صاروا طائفة أخرى» (مسالك الأبصار: 114).
(3) ترد عادة «مرا».
(4) في الطبعة الأميرية «إلى الحوف والجبابنة إلى السكّة الى تيماء إلى البرادع»: والتصحيح من مسالك الأبصار بتحقيق كراقولسكي ص 137. وجاء في الهامش: «الجوف والحيّانية وتيماء معروفة. والشبكة قرب سميراء حسب ياقوت ويقرؤها «سكاكة»، وهذا بعيد لأن موقعها شمالي الجوف لا يناسب وصف العمري. ولا خلاف في قراءة البراذع (بالذال المعجمة) مع أنها غير معروفة عند الجغرافيين.
(5) هو جمّاز بن محمد بن أبي بكر بن علي بن حديثة بن عصيّة بن فضل بن ربيعة. (مسالك 136).(12/124)
فضل الله، وهي:
الحمد لله الّذي أنجح بنا كلّ وسيلة، وأحسن بنا الخلف عمّن قضى في طاعتنا الشريفة سبيله، ومضى وخلّى ولده وسيلة، وأمسك به دمعة السّيوف في خدودها الأسيلة، وأمضى به كلّ سيف لا يردّ مضاء مضاربه بخيلة، وأرضى بتقليده كلّ عنق وجمّل كلّ جميلة.
نحمده على كلّ نعمة جزيلة، وموهبة جميلة، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة ترشد من اتخذ فيها نجوم الأسنّة دليله، وتجعل أعداء الله بعزّ الدّين ذليلة، وأنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أكرم قبيله، وشرّف به كلّ قبيلة، وأظهر به العرب على العجم وأخمد من نارهم كلّ فتيلة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة بكلّ خير كفيلة، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ دولتنا الشريفة لمّا خفق على المشرق والمغرب جناحها، وشمل البدو والحضر سماحها، ودخل في طاعتها الشريفة كلّ راحل ومقيم في الأقطار، وكلّ ساكن خيمة وجدار ترعى النّعم بإبقائها في أهلها، وإلقائها في محلّها، مع ما تقدّم من رعاية توجب التّقديم، وتودع بها الصّنائع في بيت قديم، وتزيّن بها المواكب إذا تعارضت جحافلها، وتعارفت شعوبها وقبائلها، واستولت جيادها على الأمد وقد سبقت أصائلها، وتداعت فرسانها وقد اشتبهت مناسبها ومناصبها ومناصلها وكانت قبائل العربان ممّن تعمّهم دعوتنا الشّريفة، وتضمّهم طاعتنا الّتي هي لهم أكمل وظيفة، ولهم النّجدة في كلّ بادية وحضر، وإقامة وسفر، وشام وحجاز، وإنجاد وإنجاز، ولم يزل (لآل عليّ) فيهم أعلى مكانة، وما منهم إلا من توسّد سيفه وافترش حصانه، وهم من دمشق المحروسة رديف أسوارها، وفريد سوارها، والنّازلون من أرضها في أقرب مكان، والنّازحون ولهم إلى الدار بها أقطار وأوطان قد أحسنوا حول البلاد الشامية مقامهم، واستغنوا عن المقارعة على الضّيفان لما نصبوا بقارعة الطريق
خيامهم، وباهوا كلّ قبيلة بقوم كاثر النّجوم عديدهم، وأوقدوا لهم في اليفاع (1)
نارا إذا همى القطر شبّتها عبيدهم وهم من آل فضل حيث كان عليّها، وحديثه في المسامع حليّها فلما انتهت الإمرة إلى الأمير المرحوم الشمس الدين، محمد ابن أبي بكر رحمه الله جمعهم على دولتنا القاهرة، وأقام فيهم يبتغي بطاعتنا الشريفة رضا الله والدّار الآخرة ثم أمدّه الله من ولده بمن ألقى إليه همّه، وأمضى به عزمه، ونفّذ به حكمه، ونفّل قسمه.(12/125)
وبعد، فإنّ دولتنا الشريفة لمّا خفق على المشرق والمغرب جناحها، وشمل البدو والحضر سماحها، ودخل في طاعتها الشريفة كلّ راحل ومقيم في الأقطار، وكلّ ساكن خيمة وجدار ترعى النّعم بإبقائها في أهلها، وإلقائها في محلّها، مع ما تقدّم من رعاية توجب التّقديم، وتودع بها الصّنائع في بيت قديم، وتزيّن بها المواكب إذا تعارضت جحافلها، وتعارفت شعوبها وقبائلها، واستولت جيادها على الأمد وقد سبقت أصائلها، وتداعت فرسانها وقد اشتبهت مناسبها ومناصبها ومناصلها وكانت قبائل العربان ممّن تعمّهم دعوتنا الشّريفة، وتضمّهم طاعتنا الّتي هي لهم أكمل وظيفة، ولهم النّجدة في كلّ بادية وحضر، وإقامة وسفر، وشام وحجاز، وإنجاد وإنجاز، ولم يزل (لآل عليّ) فيهم أعلى مكانة، وما منهم إلا من توسّد سيفه وافترش حصانه، وهم من دمشق المحروسة رديف أسوارها، وفريد سوارها، والنّازلون من أرضها في أقرب مكان، والنّازحون ولهم إلى الدار بها أقطار وأوطان قد أحسنوا حول البلاد الشامية مقامهم، واستغنوا عن المقارعة على الضّيفان لما نصبوا بقارعة الطريق
خيامهم، وباهوا كلّ قبيلة بقوم كاثر النّجوم عديدهم، وأوقدوا لهم في اليفاع (1)
نارا إذا همى القطر شبّتها عبيدهم وهم من آل فضل حيث كان عليّها، وحديثه في المسامع حليّها فلما انتهت الإمرة إلى الأمير المرحوم الشمس الدين، محمد ابن أبي بكر رحمه الله جمعهم على دولتنا القاهرة، وأقام فيهم يبتغي بطاعتنا الشريفة رضا الله والدّار الآخرة ثم أمدّه الله من ولده بمن ألقى إليه همّه، وأمضى به عزمه، ونفّذ به حكمه، ونفّل قسمه.
وكان الّذي يتحمل دونه مشتقّات أمورهم، ويتلقّى شكاوى آمرهم ومأمورهم ويرد إلى أبوابنا العالية مستمطرا لهم سحائب نعمنا الّتي أخصب بها مرادهم، وساروا في الآفاق ومن جدواها راحلتهم وزادهم، وتفرّد بما جمعه من أبوّته وإبائه، وركز في كلّ أرض مناخ مطيّه ومرسى خبائه، وضاهى في المهاجرة إلى أبوابنا الشريفة النّجوم في السّرى، وحافظ على مراضينا الشّريفة فما انفكّ من نار الحرب إلا إلى نار القرى، وورد عليه مرسومنا الشريف فكان أسرع من السّهم في مضائه. كم له من مناقب لا يغطّي عليها ذهب الأصيل تمويها!، وكم تنقلّ من كور (2) إلى سرج ومن سرج إلى كور فتمنّى الهلال أن يكون لهما شبيها! كم أجمل في قومه سيرة!، وكم جمّل سريرة! كم أثمر لها أملا!، وكم أحسن عملا! كم صفوف به تقدّمت، وسيوف أقدمت، وحتوف حمائم الحمام بها على الأعداء ترنّمت!!.
وكان المجلس الساميّ الأميريّ، الأجلّيّ، الكبيريّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، العضديّ، النصيريّ، الأوحديّ، المقدّميّ، الذّخريّ، الظّهيريّ، الأصيليّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء في العالمين، همام الدّولة، حسام الملّة، ركن القبائل، ذخر العشائر، نصرة الأمراء والمجاهدين، عضد
__________
(1) اليفاع: المرتفع من كل شيء.
(2) في المعجم الوسط: الكور هو الرّحل، أو هو الرحل بأداته.(12/126)
الملوك والسلاطين «جماز بن محمد» أدام الله نعمته: هو المراد بما تقدّم، والأحقّ بأن يتقدّم، والّذي لو أن الصباح صوارم والظّلام جحافل لتقدّم فلمّا مات والده رحمه الله نحا إلى أبوابنا العالية، ونور ولائه يسعى بين يديه، ووقف بها: وصدقاتنا الشريفة ترفرف عليه، فرأينا أنّه بقية قومه الذين سلفوا، وخلف آبائه الذين عن زجر الخيل ما عزفوا، وكبيرهم الّذي يعترف له والدهم ووليدهم، وأميرهم الّذي به ترعى عهودهم، وشجرتهم الّتي تلتفّ عليه من أنسابهم فروعها، وفريدهم الّذي تجتمع عليه من جحافلهم جموعها.
فرسم بالأمر الشّريف أن تفوّض إليه إمرة آل عليّ: تامّة عامّة، كاملة شاملة، يتصرّف في أمورهم، وآمرهم ومأمورهم، قربا وبعدا، وغورا ونجدا، وظعنا وإقامة، وعراقا وتهامة، وفي كلّ حقير وجليل، وفي كلّ صاحب رغاء وثغاء وصرير وصليل، على أكمل عوائد أمراء كلّ قبيلة، وفي كلّ أمورهم الكثيرة والقليلة.
ونحن نأمرك بتقوى الله فبها صلاح كلّ فريق، وإصلاح كلّ رفيق، ونجاح كلّ سالك في طريق. والحكم: فليكن بما يوافق الشّرع الشّريف، والحقوق:
فخلّصها على وجه الحق من القويّ والضّعيف، والرفق بمن وليته من هذا الجمّ الغفير، والجمع الكبير، وإلزام قومك بما يلزمهم من طاعتنا الشّريفة الّتي هي من الفروض اللازمة عليهم، والقيام في مهمّاتنا الشريفة الّتي تبرز بها مراسمنا المطاعة إليك وإليهم، وحفظ أطراف البلاد والذّبّ عن الرّعايا من كلّ طارق يطرقهم إلا بخير، والمسارعة إلى ما يرسم لهم به ما دامت الأسفار في عصاها سير، والإفراج لعربك لا تسمح به إلا لمن له حقيقة وجود، وله في الخدمة الشريفة أثر موجود، ومنعهم: فلا يكون إلا إذا توجّه منعهم، أو توانت عزائمهم وقلّ نفعهم، والمهابة: فانشرها كسمعتك في الآفاق، ودع بوارق سيوفها تشام بالشّام وديمها تراق بالعراق، وخيول التّقادم: فارتد منها كلّ سابق وسابقة تقف دونهما الرّياح، ويحسدهما الطّير إذا طارا بغير جناح ولا تتّخذ دوننا لك بطانة ولا
وليجة (1) ولا تقطع عنا أخبارك البهيجة، وليعرف قومه له حقّه، ويوفوه من التعظيم مستحقّه، فإنه أميرهم وأمره من أمرنا المطاع، فمن نازع فقد خالف النّص والإجماع والله تعالى يوفّقه ما استطاع، بمنه وكرمه! والخط الشريف(12/127)
فخلّصها على وجه الحق من القويّ والضّعيف، والرفق بمن وليته من هذا الجمّ الغفير، والجمع الكبير، وإلزام قومك بما يلزمهم من طاعتنا الشّريفة الّتي هي من الفروض اللازمة عليهم، والقيام في مهمّاتنا الشريفة الّتي تبرز بها مراسمنا المطاعة إليك وإليهم، وحفظ أطراف البلاد والذّبّ عن الرّعايا من كلّ طارق يطرقهم إلا بخير، والمسارعة إلى ما يرسم لهم به ما دامت الأسفار في عصاها سير، والإفراج لعربك لا تسمح به إلا لمن له حقيقة وجود، وله في الخدمة الشريفة أثر موجود، ومنعهم: فلا يكون إلا إذا توجّه منعهم، أو توانت عزائمهم وقلّ نفعهم، والمهابة: فانشرها كسمعتك في الآفاق، ودع بوارق سيوفها تشام بالشّام وديمها تراق بالعراق، وخيول التّقادم: فارتد منها كلّ سابق وسابقة تقف دونهما الرّياح، ويحسدهما الطّير إذا طارا بغير جناح ولا تتّخذ دوننا لك بطانة ولا
وليجة (1) ولا تقطع عنا أخبارك البهيجة، وليعرف قومه له حقّه، ويوفوه من التعظيم مستحقّه، فإنه أميرهم وأمره من أمرنا المطاع، فمن نازع فقد خالف النّص والإجماع والله تعالى يوفّقه ما استطاع، بمنه وكرمه! والخط الشريف
[الثاني أمير آل فضل] (2)
وهذه نسخة مرسوم شريف بالتّقدمة على عربي آل فضل وآل عليّ، كتب به للأمير فخر الدين «عثمان بن [مانع] (3) بن هبة وهو:
الحمد لله الّذي خصّ من والى هذه الدّولة بالتّقدمة والفخر، ورمى من عاداها بالمذلّة والقهر، ومدّ في عمر أيّامها حتّى يستنفد الدّهر، وحتّى توصف أيّامها وإن قصرت بالمسارّ: كلّ شهر يمرّ منها كالعام واليوم كالشّهر.
نحمده على ما منحنا من تأييد وظفر، وطوى دعوة من عاندنا بعد النّشر، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة إن دخلت شواهدها تحت الإحصاء فلا تدخل فوائدها تحت الحصر، وأنّ محمدا عبده ورسوله الّذي جعل الله به الهداية في المبدإ والشّفاعة في المعاد يوم الحشر، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تسعد بعد الشّقاء وتجبر بعد الكسر.
وبعد، فإنّ الله سبحانه وتعالى لما مكّن لنا في الأرض، وجعل بيدنا البسط والقبض، وأرانا كيف نصنع الجميل ونجمّل الصّنع، وكيف نجبر قلب من جعل في أيامنا جبره بعد الصّدع، وكيف تصبح أنجم ذوي الأقدار في سماء مملكتنا نيّرة المطالع، وكيف نلقّي الخير في عراصها من رامه إذا كان على
__________
(1) الوليجة: بطانة الرجل. ومن تتخذه معتمدا عليه من غير أهلك.
(2) الزيادة من المقام.
(3) الزيادة مما سيأتي.(12/128)
الخير في غير أيّامنا مانع، وكيف نحل التقدمة فيمن إذا عقل في حللها قيل: هذا هو أحقّ بها ممّن كان، وهذا الّذي ما برحت التقدمة في بيته في صدر الزّمان، وهذا الذي إذا ذكر آل فضل وآل عليّ كانت له مرتبة الشّرف ولا غرو أن تكون مرتبة الشّرف لعثمان، وأنّنا لا نمطي صهوة العزّ إلّا لأهلها، ولا ننسخ الآية لمن تقدّم في التّقدمة إلا بخير منها أو مثلها، ولا نسلّم رايتها، إلا لمن تعقد عليه الخناصر، ولا يتسنّم ذروتها، إلا من هو أحقّ بها وأهلها في الأوّل والآخر.
ولما كان المجلس السّاميّ، الأميريّ، فخر الدين، عثمان بن مانع بن هبة: هو المراد بهذا القول الحسن، والممدوح بحشد هذا المدح الّذي يسرّ السّرّ والعلن، والحقيق من الإحسان بكلّما والخير بأن، والخصيص من سوالف الخدم بما والمفضّل على سائر النّظراء ولو قيس بمن اقتضى حسن الرّأي الشّريف، أن رسم بالأمر الشريف لا زال ذو القدر في أيّامه يرتفع، وذو الفضل في دولته لا يعزّ عليه مطلب ولا يمتنع، وذو الأصالة الّتي يجتمع له فيها من النّعماء ما لا يلتئم له في غيرها ولا يجتمع أن تفوّض إليه التقدمة على العربان بالشّام المحروس، وهم من يأتي ذكره، على ما استقرّ عليه الحال في ترتيبهم، وأنّ منازله الدّاروم (1): بعدا وقربا، حضرا وبدوا، عامرا وغامرا، رائحا وغاديا، من الرّستن إلى الملّوحة (2) والعرب: آل فضل وآل عليّ حيث ساروا نزلوا منزلة المذكور، أو بمنزلة الأمير شمس الدين محمد بن أبي بكر، والخدمة واحدة، والكلمة على اتّفاق المصالح متعاضدة.
فليكن للقوى جسد روحها لا بل روح جسدها، ومجموع القبائل أوحد عددها إذا صح الأوّل من عددها، وقطب فلكها الّذي على تدبيره مدارها، وعلى
__________
(1) الداروم: بين غزة ومصر. (انظر معجم البلدان: 2/ 424).
(2) الملّوحة: قرية كبيرة من قرى حلب. والرّستن: بليدة قديمة بين حماة وحمص. (معجم البلدان: 3/ 543/ 195).(12/129)
تقريره اقتصارها، وعلى تقدمته تعويلها، وإلى نسبة إمارته جملتها وتفصيلها وليجمعهم على الطّاعة فإن الطّاعة ملاك الأمر للآمر، وأسّ الخير للبادي والحاضر، وليعلم أن لكلّ منهم نقابة تعرف، وعلميّة أصالة بها يعرّف، ومنزلة يرثها الولد عن الوالد، ومشيخة ترجع من ذلك البيت إلى ذلك الواحد، فليحفظ لهم الأنساب، وليرع لهم الأسباب، وإذا أمروا بأمر من مهامّ الدّولة يتلو عليهم:
{ادْخُلُوا الْبََابَ} * (1). والألزام له ولهم مخاوض (2) تحفظ، ومفاوز تلحظ، ومطارح لا تلفظ، ومشات ومصايف، ونفائض ومصارف، ومرابع، ومراتع، ودنوّ واقتراب، وتوطّن واغتراب، وإغارة ونهيض، وبرق ووميض.
فليرتّب ذلك أجمل ترتيب، وليسلك فيه خير مذهب وتهذيب، وليدع العادي، ويلاحظ الرّائح والغادي، وليؤمّن ذلك الجانب فأمننا تطرب أبياته المحدوّ والحادي وعليهم عداد مقرّر، وقانون محرّر وليكن على يد شادّه شادّا ولسبب تأييدهم مادّا، ويعلم أنّه وإن كان قد أغمض من جفونه فيما مضى، وأعرض عنه في الزّمن الأوّل الّذي انقضى، وقدّم عليه من كان دونه، فقد ردّ الله له أبكار الأمر وعونه فلا يجعل لقائل عليه طريقا، ولا يدخل في أمر يقال عنه فيه: كان غيره به حقيقا، بل يفوق من تقدّم في الخدمة والهمّة، والصّرامة والعزمة والله يوزعه شكر هذه النّعمة والخط الشريف
الثالث أمير آل مراء
(3)، ورتبته «الساميّ» بالياء.
__________
(1) النساء / 154.
(2) جمع مخاضة. والمخاضة من النهر الكبير: الموضع القليل الماء الّذي يعبر فيه الناس النهر مشاة وركبانا.
(3) قال في مسالك الأبصار: «وأما آل مرا فبيت الإمرة فيهم آل أحمد بن حجّي. وبقيتهم آل منيخر، وأميرهم سعد بن محمد، وآل نميّ وأميرهم برجس بن سكال، وآل بقرة وأميرهم علوان بن أبي غرّاء، وآل شمّاء وأميرهم عمرو بن واصل. ثم صارت الإمرة في بيتين في آل أحمد: فمن بيت نجّاد بن أحمد، قناة بن نجّاد، ومن بيت سليمان بن أحمد، شطيّ بن عمرو بن توبة بن سليمان.
وأحمد هذا هو ابن حجّي بن يزيد بن نبل بن مرا بن ربيعة. والإمرة مقسومة بين هذين الأميرين نصفين. (مسالك الأبصار: 137).(12/130)
وقد تقدّم أنّ منازلهم حوران. وعن «مسالك الأبصار» أنّ ديارهم بين بلاد الجيدور والجولان، إلى الزرقاء [والضليل] (1) إلى آخر بصرى. ومشرقا إلى حرّة [كشب] (2)، على القرب من مكّة المشرّفة، زادها الله شرفا.
وهذه نسخة مرسوم شريف بإمرة آل مراء، كتب بها للأمير بدر الدين «شطيّ بن عمر» (3) وهي:
الحمد لله الّذي زيّن آفاق المعالي بالبدر، ورفع بأيّامنا الشريفة خير وليّ أضحى بين القبائل جليل القدر، ومنح من أخلص في خدم دولتنا الشريفة مزيد الكرم فأصبح بإخلاصه شديد الأزر، وأجزل برّه لأصائل العرب العرباء فوفّر لهم الأقسام، وأسبغ ظلال كرمه على من يرعى الجار ويحفظ الذّمام.
نحمده على نعم هطل سحابها، ومنن تفتّحت بالمسارّ أبوابها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تقرّب صاحبها يوم الفزع الأكبر، من المحلّ الآمن، وتورده نهر الكوثر، الذي ماؤه غير آسن، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي بعثه الله من أشرف القبائل، وأوضح بنور رسالته الدّلائل، فأنقذ الله به هذه الأمّة من ضلالها، وبوّأها من قصور الجنان أعلى غرفها وأشرف ظلالها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين أوضحوا مناهج الإيمان، وشيّدوا قواعد الدّين إلى أن علت كلمته في كلّ مكان، [فكان] (4) عصرهم أجمل عصر وقرنهم خير أوان، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من أدنينا من بساط الاصطفاء محلّه، وارتشف من
__________
(1) الزيادة من مسالك الأبصار: 138.
(2) في الطبعة الأميرية «كشت» والتصحيح من مسالك الأبصار.
(3) في مسالك الأبصار «بن عمرو».
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/131)
سحاب معروفنا طلّه فوبله، ونال من عواطفنا منزلة القرب على بعد الدار، وحكم له حسن نظرنا الشريف بتوالي غزير كرمنا المدرار (1)
ولما كان المجلس الفلانيّ: هو المشار إليه بهذا النّعت الحسن، والموصوف بالشّجاعة في السّرّ والعلن رسم بالأمر الشريف لا زال بدره، ساطع الأنوار، وبرّه، هامع القطار، وخيره يشمل الأولياء بجزيل الإيثار وجميل الآثار أن يستقرّ المشار إليه في كيت وكيت: لأنّه البطل الشّديد، والفارس الصّنديد، وليث الحرب المذكور، ومن هو عندنا بعين العناية منظور.
وليثق من صدقاتنا الشريفة بما يؤمّل ويعهد، وليتحقّق قربه من مقامنا الشريف والعود أحمد، وليتلقّ هذا الإحسان بقلب منشرح، وأمل منفسح، وليجتهد في أمر عربانه الذين في البلاد، فإنّا جعلنا عليه في أمورهم الاعتماد، وقد أقمناه أميرا على عرب آل مراء فليشمّر عن ساعد الاجتهاد في مصالح دولتنا الشّريفة بغير زور ولا مراء، وليقمع المفسد من عربانه ويقابله بالنّكال، والصّالح الخيّر منهم يجزل له النّوال، والوصايا كثيرة ولمثله لا تقال والخط الشريف أعلاه حجة فيه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة مرسوم شريف بنصف إمرة آل مراء، كتب به لقناة بن نجّاد (2)
في العشر الأخر من شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، من إنشاء المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله، وهي:
الحمد لله الّذي استخدم لنصرنا كلّ سيف وقناة، وكلّ سرعة وأناة، وكلّ مثقّف تسلى (3) جناياته ويعذب جناه، وكلّ ماض لا يعوقه عن مقاصده الصالحة
__________
(1) لم يذكر خبر «إنّ» ولعله سقط من قلم الناسخ. وهو نحو «من كرم أصلا ومحتدا، وسلّ سيف عزيمته حتى خضعت له رقاب العدا».
(2) راجع ص 130، هامش رقم (3).
(3) المراد أنها تترك فلا يقتصّ منه.(12/132)
يعوق وهو عبد مناة (1)
نحمده حمد من أغناه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يستمدّ من قبلها فلق الصّباح سناه، ويفكّ منها من قبضة السّيوف عناه (2)، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي [بوّأه منازل الشرف] (3) وبناه، وأحلّه من العرب في مكان يخضع له رأس كلّ جبّار ويخشع بصره وتستمع لما يوحى أذناه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تخصّهم من كل شرف بأسماه وأسناه، وسلّم تسليما.
وبعد، فإنّ لكلّ ثاكلة قرارا، ولكلّ هاجرة مزارا، ولكلّ معصم سوارا لا يليق إلا بزنده، ولكلّ عنق درّا لا يصلح إلا لعقده، ولكلّ سيف طال هجوعه في غمده انسلالا، ولكلّ قناة لم تعتقل مدّة اعتقالا، وكانت إمرة آل مراء قد ثبتت من البيت الأحمديّ (4) بأوثق أوتادها، ووصلت منه في الرّفعة إلى نجادها، ولم تزل تنتقل في آفاقها بدورهم الطّالعة، وتضيء عليها من صفاحهم بروقهم اللّامعة، وتجول فيها من سوابقهم السّحب الهامعة، وتغني في حروبها عزائمهم إذا وقعت الواقعة وتقدّمت للمجلس الساميّ، الأميريّ، الفلانيّ، بركابنا الشّريف صحبة حمد فيها السّرى، وخدمة أوقدت له نار القرى، وهاجر إلينا في وقت دلّ على وفائه، وسهر إلى قصدنا اللّيل وله النجم محيط المقل بإغفائه، وانقطع إلينا بأمله، ولازم من عهدنا الشريف صالح عمله، واستحق تعجيل نعمنا الشريفة وإن تأخرت لأجل موقوت، وأمل نجاحه لا يفوت.
فلما آن أن تفاض عليه ثيابها، ويضاف إليه ثوابها، ويصرّف في قومه
__________
(1) لعلّ المقصود به: عبد مناة بن هبل، من كنانة عذرة، من كلب من القحطانية. وهو جدّ جاهليّ.
(انظر الأعلام: 4/ 167).
(2) لعلها من: عني عنا وعناء أي تعب. أو هي بكسر العين المهملة ومعناها: الناحية والجانب. وفي الطبعة الأميرية «عناه» بضم العين المهملة، ولم نعثر على معنى لها.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(4) نسبة إلى أحمد بن حجّي. راجع ص 130هامش (3).(12/133)
أمره، ويشرّف بينهم قدره، ويعرف من لم يعرف المسك أنّه عندنا ذكره، ومن جهل البرّ: أنه على ما يحمد عليه شكره، ومن أنكر أنّ شيئا أصعب من الموت:
أنّه في مجال الموت صبره، ومن خالف فيما هو أمضى من القضاء: أنّه في البيعة صدره، ومن ادعى أنّه لا تصيبه البيض والسّمر: أنّها مثقّفته وبتره، وزال من هذا البيت العريق الطّود وهو ثابت، ونزع منه السّنان لولا أنّه في قناته نابت و [لولاه] (1) لهاجت هذه القبيلة إلى من يقبل على نباتها، ويقيل بها: تارة ينجد في نجدها وأخرى يحول في جولاتها رسم بالأمر الشريف أن يقلّد من إمرة آل مراء ما كان الأمير «ثابت بن عسّاف» رحمه الله يتقلده إلى آخر وقت، ويرفع فيها إلى كلّ مسامتة وسمت، ليكمّل ما نقص من التّمام وصفه، ويعلم أنه حلّق إليه حتّى أتى دون نصف البدر فاختطف النّصف وذلك النّصف هو نصفه ليكون لهم إحدى اليدين، وأخرى تقع لسيف بحدّين.
وتقوى الله أبرك ما اشتملت عليه عودها، وانتخبت له زبيدها فليتّخذها له ذروة يهتدي بها أنّى سلك من الفجاج، واقتحم من حلك العجاج. وعليه بحسن الصّحبة لرفيقه (2)، ويمن القبول على فريقه، وإقامة الحدود على ما شرع الله من دينه القويم، وإدامة التّيقّظ [للثّأر] (3) المنيم، وإنزال عربه ومن ينزل عليه أو ينزل عليهم في منازلهم.
وليجمع قومه على طاعتنا الشّريفة كلّ الجمع، ويقابل ما ترد به مراسمنا المطاعة عليه بما أوجب الله لها من الطّاعة والسّمع، وليأخذ للجهاد أهبته، ويعجّل إليه هبّته، وليقف من وراء البلاد الشامية المحروسة دريئة لأسوارها المنيعة، ونطاقا على معاقلها الرفيعة، وسدّا من بين أيديها وخلفها لباب كلّ ذريعة، وخندقا يحوط بلادها الوسيعة، وحجابا يمنع فيها من تعدّى الحقّ وخاض الشّريعة، ولا يفارق البلاد حتّى يعبّس في وجوهها السّحاب، ولا يعود
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) أي زعيم البيت الثاني من آل مرا.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/134)
حتّى تؤذن زروعها المخيّمة بذهاب والكرم هو فيه سجايا، والعزم ما برح لوشان (1) أسنّته بكلّ قناة لحايا (2)، والحزم بيده المراويّة من آل مراء يظهر له الخفايا، والشجاعة هو في رباها المنيرة «ابن جلا وطلّاع الثّنايا» وما رضع المرمل كأفاويق الوفاق (3)، ولا وضع شيئا (4) في موضعه كمداراة الرّفاق فليكن لرفيقه أكثر مساعدة من الأخ لأخيه، وأكبر معاضدة من المصراع لقسيمه والجفن لجفنه والشّيء لما يؤاخيه. هذا يجب ويتعيّن وليس يجمعهما فرد طاعة، ولا يلزمهما لشيء واحد استطاعة فكيف وهو [و] (5) رفيقه إلينا اعتزاؤهما ومنّا إعزازهما، وهما فرعان معتنقان: لدينا إجناؤهما وبيدنا إهزازهما.
وليحصّل من الخيل كل سابقة تليق أن تقدّم إلينا، وسابحة في كل مهمه حين يقدم علينا. والشّرع الشريف يكون إليه مآبك، وعليه عفوك وعقابك، وبمقتضاه عقد كلّ نكاح لا يصح إلا على وجهه المرضيّ وإلّا فهو سفاح، والميراث على حكمه لمن جرّه إليه وإلا فهو ظلم صراح، وبقية ما نوصيه به إذا انتهى منه إلى هذه النّبذة فما عليه في سواها جناح. وسبيل كلّ واقف على تقليدنا هذا أن ينيب إلى نصوصه، ويؤوب إلى عمومه وخصوصه، والحذر من الخروج عنه بقول أو عمل، فالسّيف أسبق من العذل والله تعالى يمتّعه بما وهبه من العزّ في النّقل (6)، والمحاسن الّتي هي يد المسامع والأفواه والمقل
__________
(1) كذا بالأصل، ولم نهتد إلى تثقيفها.
(2) في هامش الطبعة الأميرية: «يريد لحاء بالهمز فاضطر للقلب مراعاة للسجع».
(3) المرمل: الذي نفد زاده وافتقر. من أرمل يرمل. والأفاويق: ما اجتمع من الماء في السحاب فهو يمطر ساعة بعد ساعة. والأفاويق أيضا: جمع فيقة، وهو اللبن الّذي يجتمع بين حلبتين. (انظر اللسان: 10/ 318317والمعجم الوسيط: 374).
(4) كذا في الطبعة الأميرية. ولعلّ الصواب: «ولا وضع شيء» أو «وضع الشيء».
(5) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(6) جمع نقل وهو ما يتنقل به على الشراب من فواكه وكوامخ وغيرها، وما يتفكّه به من جوز ولوز ونحوها.(12/135)
والخط الشريف أعلاه
المرتبة الثانية (من أرباب المراسيم من العرب من يكتب له في قطع الثّلث ب «السّامي» بغير ياء، مفتتحا ب «أمّا بعد» وهم ثلاثة أيضا)
الأول أمراء بني مهديّ
، وهي مقسومة بين أربعة. ورتبة كلّ منهم «مجلس الأمير».
وقد تقدّم أنّ منازلهم البلقاء، إلى مائر (1)، إلى الصوان، إلى علم أعفر.
وهذه نسخة مرسوم شريف بربع إمرة بني مهديّ، وهي:
أمّا بعد حمد الله على نعمه الّتي حقّقت في كرمنا المآرب، وأجزلت من آلائنا المواهب، وقرّبت لمن رجانا بإخلاص الطاعة ما يأبى عليه من المطالب، والصّلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث من أشرف ذوائب لؤيّ بن غالب، المخصوص باللّواء الّذي لا يضحى من أوى إلى ظلّه والحوض الّذي لا ظمأ بعد وروده لشارب، وعلى آله وصحبه الذين فازوا من صحبته وطاعته بأسمى المراتب وأسنى المناقب فإنّ أولى من رفعت رعايتنا قدره، وأطلعت عنايتنا في أفق السعادة بدره، وحقّقت آلاؤنا سوله، وبلّغته صدقاتنا مرامه ومأموله من أحكم في طاعتنا أسباب ولائه، وأتقن في خدمتنا انتساب بعيده وانتمائه، وتقرّب إلينا بإخلاصه في اجتهاده، ومتّ بما يرضينا من احتفاله بأمور جهاده، مع ما تميّز به من أسباب تتقاضى كرمنا في تقديمه، وتقتضي إجراءه على ما ألف أولياء الطاعة من حديث إحساننا وقديمه.
ولما كان فلان هو الّذي اختصّ بهذه المقاصد، وعني بما ذكر من المصادر والموارد رسم أن يرتّب في ربع إمرة بني مهديّ.
فليرتّب فيما رسم له به من ذلك قائما من وظائفها بما يجب، عالما من
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية. وفي مسالك الأبصار «باير».(12/136)
مصالحها بما يأتي وما يجتنب، واقفا لاعتماد ما يرد عليه من المراسم وقوف المنتظر المرتقب، ملزما عربه من الخدم بما يؤكّد طاعتهم، ومن إعداد الأهبة بما يضاعف استطاعتهم، ومن المحافظة على أسباب الجهاد بما يجعل في رضا الله تعالى ورضانا قوّتهم وشجاعتهم، وليقدّم تقوى الله تعالى بين يديه، ويجعل توفيقه العمدة فيما اعتمد فيه عليه والخير يكون، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة مرسوم شريف بربع إمرة بني مهديّ أيضا:
أما بعد حمد الله على نعمه الّتي جدّدت لمن أخلص في الطّاعة رتب السّعود، ورفعت من نهض في الخدم الشريفة حقّ النّهوض إلى مناصب الجدود، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد المخصوص بلواء الحمد المعقود، وظلّ الشّفاعة الممدود، والحوض الّذي لا ينضب على كثرة الورود، وعلى آله وصحبه الذين وفّوا بالعهود، وبدت سيماهم في وجوههم من أثر السّجود فإنّ أولى من اجتلى وجوه النّعم، واجتنى ثمرة ما غرس من الخدم، وارتقى إلى ما أنعم به عليه من التّقدّم الّذي أقامه السّعد لاستحقاقه على أثبت قدم من نشأ في طاعتنا الشّريفة يدين بولائها، ويتقلّب في خير نعمها وآلائها، ويتعبّد بما يؤهّل له من خدمها، ويبادر إلى ما يندب له من المهامّ الشّريفة بين يدي مراسمنا أو تحت علمها.
ولمّا كان فلان هو الّذي ذكرت طاعته، وشكرت خدمه وشجاعته رسم أن يرتّب في ربع إمرة بني مهديّ، على عادة من تقدمه وقاعدته.
فليرتّب في ذلك، قائما بما يجب عليه من وظائفها المعروفة المألوفة، وخدمها الّتي هي على ما تبرز به أوامرنا الجارية موقوفة، وليكن هو وعربه بصدد ما يؤمرون به من خدمة يبادرون إليه، وطاعة يثابرون عليها، وتأهّب للجهاد، حيث سرت الجيوش المنصورة لم يبق لهم عائق عن التوجّه بين يديها، وسياسة
تأخذهم من الطرائق الحميدة بسلوك ما يجب، ويعرف بها سلوك ما يسلك واجتناب ما يجتنب والخير يكون، إن شاء الله تعالى.(12/137)
فليرتّب في ذلك، قائما بما يجب عليه من وظائفها المعروفة المألوفة، وخدمها الّتي هي على ما تبرز به أوامرنا الجارية موقوفة، وليكن هو وعربه بصدد ما يؤمرون به من خدمة يبادرون إليه، وطاعة يثابرون عليها، وتأهّب للجهاد، حيث سرت الجيوش المنصورة لم يبق لهم عائق عن التوجّه بين يديها، وسياسة
تأخذهم من الطرائق الحميدة بسلوك ما يجب، ويعرف بها سلوك ما يسلك واجتناب ما يجتنب والخير يكون، إن شاء الله تعالى.
الثاني مقدّم زبيد
(1) ومنازل بعضهم بالمرج وغوطة دمشق، وبعضهم بصرخد، وحوران.
وهذه نسخة مرسوم شريف بتقدمة عرب زبيد، وهي:
أمّا بعد حمد الله الّذي أبقى بنا للنّعم تأبيدا، وأحسن العاقبة لأحسن عاقبة أدام لهم فيها تخليدا، وأحيا به منهم حيّا نكتب لأميرهم وإمرتهم في كلّ حين تقليدا، ونفّل منهم نوفلا (2) فلا نزال نجدّد فيهم ملابس الفخار بذكر اسمه تجديدا، ورعى بنا أبناء بيت تناسقوا أبناء وجدودا، وتباشروا بولد لمّا خلف والده ابن سعيد لا يكون إلّا سعيدا، والصّلاة والسّلام على نبيه محمد الّذي أهلك بسيفه كلّ غاشم، وأخجل بسيبه (3) كلّ غمام لوجنة الرّياض واشم، وأسعد بسببه نوفلا (4) وعبد شمس بأخوّتهما لهاشم، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه خلاصة العرب، صلاة لا يعدّ ضريبا لها الضّرب (5)، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ العساكر المنصورة الإسلامية: منهم حاضرة أهل جدار، وبادية في قفار، وقوم هم المدن الممدّنة وقوم عليها أسوار وهم صنفان: صنف
__________
(1) هم بنو زبيد بن سعد العشيرة من مذحج. قال الحازمي (عجالة المتبدي 68): وأكثرهم بالشام.
(انظر مسالك الأبصار: 111حاشية).
(2) الإشارة إلى نوفل الزبيدي.
(3) السّيب: العطاء والمعروف ونحوهما.
(4) المقصود: نوفل بن عبد مناف. وكان لعبد مناف أربعة أبناء: والرابع غير المذكور هنا هو المطّلب.
والسّيب هنا بمعنى القرابة.
(5) الضّرب بالتحريك هو العسل الأبيض. والضريب: الشبيه.(12/138)
لا تملّ السيوف عواتقهم، وصنف سيوفهم تحبس بها مناطقهم والعرب أكرم [أهل] (1) البوادي، وأعظم قبائلهم تضرّما كالبرق مباراة للسّحب الغوادي، قد نصبوا بقارعة الطريق خيامهم، وسرّحوا مع أسراب الظّباء سوامهم، ووقفوا دون الممالك المحروسة كتائب مصفوقة، ومواكب بما تعرف به العرب من الشّجاعة موصوفة وزبيد من أفخرها قبيلة، وأكثرها فوارس: [فأمّا أحسابها] (2) فكريمة وأمّا وجوهها فجميلة شاميّة أعرقت أنسابا في يمنها، وأتهمت بشطء (3) أسنّتها ما تفتّح في المجرّة من سوسنها فما يبيت بطل منهم على دمن، ولا يعرف فارس إلا إذا تملّى في الخليطين (4) من شام ومن يمن كم فيهم بمواقع الطّعان فطن ذو كيس، وكم صبغ منهم بالدّماء راية حمراء يمنيّ لا ينسب إلى قيس كم كرب على معديكرب منهم فارس، ونسب إلى زبيد وهو خشن الملابس منهم صاحب الصّمصامة (5) بقي مثلها السّيف فردا، وكم قتل من أقرانه الشّجعان من أخ صالح وبوّأه في العجاج بيديه لحدا ومن نجومهم الزواهر السّراة، وغيومهم الأكابر السّراة، من لم يزل حول دمشق وما يليها من حوران، منارة منازل وأوطان حاموا عن جنابها المصون، وحاموا حول غوطتها تشبّها بحمائمها على الغصون، وماثلوا بسيوفهم أنهارها، ورماحهم حول دوحات الأيك أشجارها، واستلأموا (6) بمثل غدرانها دروعا، وحكوا بما أطلّوا من دماء الأعداء شقائق روضها، وبما جرّوا من حللهم المسهّمة (7) سيلا ولم يزل لهم من البيت
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الشّطء: فرخ الشجر، وورقه أول ما يبدو. وفي التنزيل العزيز {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ}.
(4) الخليط يقال للجار والقريب والصاحب.
(5) هو عمرو بن معديكرب الزبيدي. وما يلي ذلك إشارة إلى أبياته المشهورة:
ليس الجمال بمئزر ... فاعلم وإن ردّيت بردا
كم من أخ لي صالح ... بوّاته بيديّ لحدا
ذهب الذين أحبهم ... وبقيت مثل السيف فردا
(شرح ديوان الحماسة: ص 90).
(6) أي اتخذوا الأمة، وهي عدة الحرب من رمح وسيف ودرع وغيرها.
(7) سهّم الثوب: صور فيه سهاما، فهو مسهّم.(12/139)
النّوفليّ من يجمع جماعتهم، ويضم تحت راية الدولة الشريفة طاعتهم يخلف ابن منهم لأبيه أو أخ لأخيه، وينتظم كلّ فرقد مع من يناسبه وينضاف كلّ كوكب إلى من يؤاخيه.
وكان مجلس الأمير الأجلّ، فلان بن فلان الزّبيدي أدام الله عزه هو بقيّة من سلف من آبائه، وعرف مثل الأسد القسورة بإبائه، وانحصر فيه من استحقاق هذه الرتبة ميراث أبيه، واستغرق جميع ما كان من أمر قومه وإمرتهم يليه.
فرسم بالأمر الشريف زاده الله تعالى شرفا، وذخر به لكلّ سالف خلفا أن يرتب في إمرة قومه من زبيد النازلين بظاهر دمشق وبلاد حوران المحروس، على عادة أبيه المستقرّة، وقاعدته المستمرّة، إلى آخر وقت، من غير تنقيص له عن نجم سعده في سمة ولا سمت، تقدمة تشمل جميعهم ممّن أعرق وأشأم، وأنجد وأتهم، لا يخرج أحد منهم عن حكمه، ولا ينفرد عن قسمه، لا ممّن هو في جدار (1)، ولا ممّن هو مصحر في قفار، يمشي على ما كان عليه أبوه، ويقوم فيهم مقامه الّذي كان عليه هو وأولوه.
ونحن نوصيك بتقوى الله تعالى، وباتّباع حكم الشّريعة الشريفة ما أقمت على بلد أو أزمعت ارتحالا، وبجمع قومك على الطاعة فرسانا وركبانا ورجالا، واتّباع أوامرها الشّريفة وأمر نوّابنا الذين هم بإزائهم، وما اعتزاز من قبلك إلا لما مالوا إليه في اعتزائهم، والتّأهّب أنت وقومك لما رسم به في ليل أو نهار، وحماية حمى أنتم حوله في صحراء مصحرة أو من وراء جدار، والمطالعة بمن ينتقل من أصحابك بالوفاة، والوصايا كثيرة ومثلك أيسر ما قال له امرء كفاه والله تعالى يوفقك لما يرضاه، ويؤثرك في كلّ أمر للعمل بمقتضاه وسبيل كلّ واقف عليه العمل به بعد الخط الشريف شرّفه الله تعالى وأعلاه أعلاه، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) أي يبيت في بيت من طين. والمراد أهل المدر.(12/140)
النيابة الثانية (من نيابات البلاد الشامية نيابة حلب. ووظائفها الّتي يكتب بها من الأبواب السلطانية على نوعين)
النوع الأوّل (من بحاضرة حلب، وهم على أصناف)
الصنف الأوّل (منهم أرباب السّيوف، وهم على طبقتين)
الطّبقة الأولى (من يكتب له تقليد، وهو نائب السّلطنة بها وتقليده في قطع الثّلثين ب «الجناب الكريم»)
وهذه نسخة تقليد شريف بنيابة السلطنة بحلب، كتب به للأمير أستدمر (1)
من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ، وهي:
الحمد لله حافظ ثغور الإسلام في أيّامنا الزاهرة، بمن يفترّ عن شنب النّصر سيفه، وناظم نطاق الحصون في دولتنا القاهرة، على همم من لم يزل يغزو عدوّ الدّين قبل طلوع طلائعه طيفه، وناشر لواء العدل في أسنى ممالكنا بيد من لا يؤمن في الحق فوته ولا يرهب في الحكم حيفه، ومدّخر [أجر] (2)
الرّباط في سبيله لمن لم يبت ليلة إلا والتأييد نزيله والنّصر سميره والظّفر ضيفه، الذي جعل الجهاد في أطراف الممالك المحروسة سورا لعواصمها،
__________
(1) هو الأمير سيف الدين، أستدمر الكرجي. ولّاه الملك الناصر محمد بن قلاوون نيابة السلطنة بحلب بعد موت نائبها قبجق. توفي سنة 711هـ. (انظر شذرات الذهب: 6/ 25وفوات الوفيات: 1/ 183).
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/141)
والصّعاد (1) في مقاتل أعداء الدّين شجنا في صدورها وشجى في غلاصمها، والسّيوف الحداد تزهى بمشاركتها لاسم من بليت منه أجساد أهل الكفر بقاسمها، ورميت منه أعمارهم بقاصمها، وأرهف لهذا الأمر من أوليائنا سيفا تتحلّى الشّهباء (2) بجواهر فرنده، وتتوقّع الأعداء مواقع فتكاته قبل تألق برقه من سحب غمده، ويعرف أهل الكفر مضاربه الّتي لا تطيق مقاتلهم جحدها، وتتفرّق عصب الضلال فرقا من مهابته الّتي طالما أغارت على جيوشهم المتعدّدة وحدها.
نحمده على نعمه الّتي جعلت النّصر لأجياد ممالكنا عقودا، والكفر للهب صوارمنا وقودا، والتّأييد من نتائج سيوفنا الّتي تأنف أن ترى في مضاجع الغمود رقودا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تعلي منار الهدى، وتطفيء أنوار العدا، وتخلي أجساد أهل الكفر من قوى أرواحهم فتغدو كديارهم الّتي لا يجيب فيها إلا الصّدى، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أعلى الله بناء الإيمان بتأذينه، وأيّدنا في الذّب عن ملّته، بكل وليّ يتلقّى راية النّصر بيمينه، وأعاننا على مصالح أمّته، بكلّ سيف تتألّق نار الأجل من زنده ويترقرق ماء الحياة من معينه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين وسمت أسنّتهم من وجوه الكفر أغفالا، وكانت سيوفهم لمعاقل أهل الشّرك مفاتح فلمّا فتحت غدت لها أقفالا فمنهم من فاز بمزيّة السّبق إلى تصديقه، ومنهم من كان الشيطان ينكّب عن طريقه، ومنهم من أمر بإغماد سيف الانتصار لدمه عن مريقه، ومنهم من حاز رتبة أختانه وصهره دون أسرته الكرام وفريقه، صلاة دائمة الخلود، مستمرّة الإقامة في التّهائم والنّجود، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من حلّيت التقاليد بلآليء أوصافه، وملئت الأقاليم
__________
(1) الصّعدة، وتجمع على صعاد، هي القناة تنبت مستوية فلا تحتاج إلى تثقيف. وهي هنا كناية عن الرماح.
(2) الشهباء: لقب مدينة حلب لبياض حجارتها.(12/142)
بمواقع مهابته وإنصافه، وريعت قلوب العدا بطروق خياله قبل خيله، وخاف الكفر كلّ شيء أشبه ظباه من توقّد شموس نهاره أو حكى أسنّته من تألّق نجوم ليله، ومدّ على الممالك من عزماته سور مصفّح بصفاحه، مشرّف بأسنّة رماحه، سامية على منطقة الجوزاء منطقة بروجه، نائية على أمانيّ العدا مسافة رفعته فلا يقدر أمل باغ على ارتقائه ولا رجاء طاغ على ولوجه من تمهّدت بسداد تدبيره الدّول، وشهدت بسير محاسنه السّير الأول، وتوطّدت الممالك على أسنّته فحقّقت أنّ أعلى الممالك ما يبنى على الأسل، وسارت في الآفاق سمعته فكانت أسرى من الأحلام وأسبق من الأوهام وأسير من المثل، وصانت الثّغور صوارمه فلم يشم برقها إلا أسير أو كسير، أو من إذا رجع إليها بصره انقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير، وزانت الأقاليم معدلته فلا ظلم يغشى ظلامه، ولا جور يخشى إلمامه، ولا حقّ تدحض حجّته ولا باطل يعلو كلامه فالبلاد حيث حلّ بعدله معمورة، وبإيالته مغمورة، وسيوف ذوي الأقلام وأقلامهم بأوامره في مصالح البلاد والعباد منهيّة ومأمورة.
ولما كان الجناب العالي هو الّذي عانق الملك الأعزّ نجاده، واللّيث الّذي لم يزل في سبيل الله إغارته وإنجاده، والكميّ الّذي كم له في جهاد أعداء الله من موقف صدق يضلّ فيه الوهم وتزلّ فيه القدم، والهمام الّذي إن أنكرت أعناق العدا مواقع سيوفه «فما بالعهد من قدم»، والمقدام الّذي لا ننكر مشاهده في إرغام الكفر ولا تكفر، والزعيم الّذي حمت مهابته السّواحل فخاف البحر:
وهو العدوّ الأزرق، من بأسه الأحمر، على بني الأصفر، والمقدّم الّذي كم ضاقت بسرايا شيعته الفجاج،! وكم أشرقت نجوم أسنّته من أفق النّصر في ظلم العجاج،! وكم حمى العذب الفرات على البعد بسيوفه وهي مجاورة للملح الأجاج!!، مع سطوة أنامت الرّعايا في مهاد أمنها، ورأفة عمرت البرايا بعاطفة إقبالها ويمنها، ورفق تكفّل لسهل البلاد وحزنها بإعانة مزنها، وشجاعة أعدّت الجيوش الّتي قبله فغدت آحادها ألوفا، وفتكات عوّدت الطّير الشّبع من وقائعه فباتت على راياته عكوفا، ومعدلة عمّت من في إيالته فأضحى الضّعيف في
الحقّ قويّا عنده والقويّ في الباطل ضعيفا.(12/143)
وهو العدوّ الأزرق، من بأسه الأحمر، على بني الأصفر، والمقدّم الّذي كم ضاقت بسرايا شيعته الفجاج،! وكم أشرقت نجوم أسنّته من أفق النّصر في ظلم العجاج،! وكم حمى العذب الفرات على البعد بسيوفه وهي مجاورة للملح الأجاج!!، مع سطوة أنامت الرّعايا في مهاد أمنها، ورأفة عمرت البرايا بعاطفة إقبالها ويمنها، ورفق تكفّل لسهل البلاد وحزنها بإعانة مزنها، وشجاعة أعدّت الجيوش الّتي قبله فغدت آحادها ألوفا، وفتكات عوّدت الطّير الشّبع من وقائعه فباتت على راياته عكوفا، ومعدلة عمّت من في إيالته فأضحى الضّعيف في
الحقّ قويّا عنده والقويّ في الباطل ضعيفا.
وكانت البلاد الحلبيّة المحروسة هي المملكة الّتي لا تجارى شهباؤها في حلبة فخار، والرّتبة الّتي لا يؤهّل لها من خواصّ الأولياء الأعزّة إلّا من استخرنا الله تعالى في تقليد جيد مفاخره بلآليء كفالتها فخار فهي سور الممالك الّذي لا تتسوّره الخطوب، وأمّ الثّغور الّتي ما برح يسفر بابتسامها عن شنب النّصر وجه الزمن القطوب، وموطن الرّباط الّذي كلّ يوم وليلة [فيه] (1) خير من الدّنيا وما فيها، وعقيلة الأقاليم الّتي كم أشجى قلوب الملوك الأكابر صدودها وأسهر عيون العظماء الأكاسرة تجافيها بل هي عقد درّه حصونه، وروض سيوف الكماة جداوله ورماح الحماة غصونه، وحمّى لم تزل عيون عنايتنا بعون الله تحفّه وأيدي تأييدنا بقوّة الله تصونه اقتضت آراؤنا الشريفة أن نرهف بحمايتها هذا السّيف الّذي تسابق الأجل مضاربه، وتبطل الحيل تجاربه، ويتقدّم خبر عزائمه خبرها فلا يدرى: هل ريح الجنوب أسرى وأسرع أم جنائبه (2)، وتبثّ مهابته أمام سراياه إلى العدا سرايا رعب تفلّ جمعهم، وتسبق إلى التّحرز من بأسه بصرهم وسمعهم، وتسفر بكل أفق عن [شيعة] (3) مغيرة، أو كتيبة تجعلها لمعالي النصر الكامنة مثيرة.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف العالي لا زالت أوامره مبسوطة في البسيطة، وممالكه محوطة بمهابته الشّاملة ومعدلته المحيطة أن تفوّض إليه نيابة السّلطنة الشّريفة بالمملكة الحلبيّة: تفويضا يعوّذها من عيون العدا بآيات عزائمه، ويعوّدها اجتناء ثمر المنى والأمن من ودق صوارمه، وينظم دراريّ الأسنّة من أجياد حصونها في مكان القلائد، ويجعل كماة أعدائها لخوفه أضعف من الولدان وأجبن من الولائد، ويجرّد إلى مجاوريها من همّته طلائع تحصرهم في
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الجنائب: النوق.
(3) بالأصل «تبعثها». والتصحيح من هامش الطبعة الأميرية.(12/144)
الفضاء المتّسع، وتسدّ عليهم مجال الأرض الفسيحة فيغدو لهم حزنها (1) الحزن الشّامل وسهلها السّهل الممتنع.
فليتقلّد هذه الرتبة الّتي بمثلها تزهى الأجياد، وبتقلّدها يظهر حسن الانتقاء لجواهر الأولياء والانتقاد، وبتفويضها إلى مثله يعلم حسن الارتياد لمصالح البلاد والعباد، وليزد جيوشها المنصورة إرهابا لعدوّهم، وإرهافا لصوارم الجهاد في رواحهم وغدوّهم، وإدامة للنّفير (2) الذي حبّبه الله إليهم، وقوّة على مجاوريهم من أهل النّفاق الذين يحسبون كلّ صيحة عليهم (3)، فإنّهم فرسان الجلاد الذين ألفوا الوقائع، وأسوار الفرات الذين عرفوا في الذّبّ عن ملّتهم بحفظ الشّرائع، وكشّافة الكرب الذين لا يزال لهم في سائر بلاد العدا سرايا وعلى جميع مطالع ديار الكفر طلائع وهم بتقدمته تتضاعف شجاعتهم، وتزيد استطاعتهم وطاعتهم وليأخذهم بمضاعفة الأهب وإدامة السّعي في حفظ البلاد والذّب، والتشبّه بأسود الغابات الّتي همّها في المسلوب لا السّلب وليهتمّ بكشف أحوال عدوّ الإسلام ليبرح (4) آمنا على الأطراف من حيفهم، متيقّظا لمكايدهم في رحلتي شتائهم وصيفهم، مفاجئا في كلّ منزل بسير يروّع سربهم، ويكدّر شربهم، ويجعل روح كلّ منهم من خوف قدومه نافرة عن الجسد، ويسلبهم بتوقّع مفاجأته القرار «ولا قرار على زأر من الأسد»، ولا تزال قصّاده بأسرار قلوب الأعداء مناجية [ولا تبرح له من أعيان عيونه بين العدا فرقة ناجية] (5) وليحتفل بتدريج الحمام الّتي هي رسل أعنّته، وإقامة الدّيادب الذين إذا دعوا همهمة بألسنة النّيران لبّتهم ألسنة أسنّته وليمت قلوب أعدائه بوجل
__________
(1) الحزن من الأرض: ما غلظ.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفََافاً وَثِقََالًا}. سورة التوبة / 41.
(3) إشارة إلى قوله تعالى في سورة «المنافقون» آية: 4 {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}.
(4) كذا بالأصل، وهي لا تؤدي المعنى المراد. ولعلّ الصواب «ليبقى».
(5) الزيادة مما يأتي قريبا ليستقيم الكلام.(12/145)
لقائه قبل الأجل، وليزد في الحزم على ابن مزيد الّذي لم ير في الأمن إلا في درع مضاعفة «لا يأمن الدّهر أن يدعى على عجل» (1)، وليجعل أحوال القلاع المحروسة دائما بمرأى منه ومسمع، ويشيّدها من ملاحظته باحتفال لا يدع لشائم برقها وحمول أموالها [مطمعا] (2) فقد استكمل حسن النّظر في مصالحها أجمع، وليقم منار الشّرع الشّريف بمعاضدة حكّامه، والانقياد إلى أحكامه، والوقوف مع نقضه وإبرامه:
فليجعل حكم الشريعة المطهّرة أمامه وإمامه، وليقم أمر الله فيمن اقتاده الشرع إلى حكمه فجاذب زمامه، وليعظّم حملة العلم الّذي أعلى الله مناره، وأفاض على الأمّة أنواره، وحفظ بهم على الملّة سنّة نبيهم صلّى الله عليه وسلم وآثاره، وليكن لأقدارهم رافعا، ولمضارّهم دافعا، ولأوقافهم بجميل الاحتفال عامرا، وفي مصالحهم بتحلية الأحوال آمرا، ولينشر لواء العدل الّذي أمر الله بنشره، ويشفعه بالإحسان الّذي هو مألوف من سجاياه ومعروف من طلاقة بشره، ويمدّ على الرّعايا ظلّ رأفته الّذي يضفي في النّعم لباسهم، ويديم إلفهم بالرّفاهية واستئناسهم، ويقم حكم سياسته على من لم يستقم، ويقف مع رضا الله تعالى في كلّ أمر: فإذا رحم فلله فليرحم وإذا انتقم فلغير الله لا ينتقم، وليعتن بعمارة البلاد ببسط العدل الّذي ما احتمى به ملك إلّا صانه، والرّفق الّذي لم يكن في شيء إلّا زانه، وتوخّي الحقّ الّذي من جعله نصب عينيه وفّقه الله له وأعانه. وكذلك أمر الأموال: فإنّها ذخيرة الملك وعتاده، ومادّة الجيش الّذي إذا صرفت إلى مصالحهم هممه لم يخش عليه انقطاعه ولا نفاده وجميع الوصايا قد ألفنا من سيرته فيها فوق ما نقترح، وخبرنا من مقاصده فيها ما يقول للسان قلمها: قد عرفت ما أومأت إليه من مقاصدك فاسترح وملاكها تقوى الله تعالى
__________
(1) الإشارة إلى قول مسلم بن الوليد في مدح يزيد بن مزيد الشيبانيّ:
تراه في الأمن في درع مضاعفة ... لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل
(أنظر العقد الفريد: 6/ 191).
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/146)
ورضانا، وهو المألوف من عدله وإنصافه والله تعالى يديمها بتأييده وقد فعل، ويجعله من أركان الإسلام وأعلام المسلمين وقد جعل، بمنّه وكرمه والاعتماد (1). إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد شريف بنيابة حلب أيضا، كتب بها عن السلطان الملك النّاصر «محمد بن قلاوون» للأمير شمس الدّين «قراسنقر» (2) باعادته إليها، من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ، وهي:
الحمد لله الّذي جعل العواصم بإقامة فرض الجهاد في أيّامنا الشريفة معتصمة، والثّغور بما تفترّ عنه من شنب النّصر في دولتنا القاهرة مبتسمة، والصّوارم المرهفة في أطراف الممالك بأيدي أوليائنا لأرواح من قرب أو بعد عنها من الأعداء مقتسمة، والحصون المصفّحة بصفاحنا بأعلام النّصر معلمة وبسيما الظّفر متّسمة، معلي قدر من أحسن في مصالح الإسلام عملا، ورافع ذكر من يبسط إلى عزّ طاعة الله ورسوله وطاعتنا أملا، ومجدّد سعد من تلبس الأقلام من أوصافه أفخر الحلل إذا خلعت من المحامد على أوصافه حللا، ومفوّض زعامة الجيوش بمواطن الرّباط في سبيله إلى من إذا فلّلت مقاتل العدا سيوف الجلاد كانت عزائمه من السيوف المرهفة بدلا.
نحمده على نعمه الّتي جعلت طاعتنا من آكد أسباب العلوّ، وخدمتنا من أنجح أبواب الرّفعة بحسب المبالغة في الخدمة والغلوّ، ونعمنا شاملة للأولياء بما يربي على طوامح الآمال في البعد والدّنوّ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تستنزل بها موادّ النّصر والظّفر، وتستجزل بها ذخائر التأييد الّتي كم أسفر عنها وجه سفر، وترهف بها سيوف الجهاد الّتي كم آلفت من آمن
__________
(1) بيّض له بالأصل اختصارا.
(2) راجع ص 118من هذا الجزء، حاشية رقم: 5.(12/147)
وكفت من كفر، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أنزل سكينته عليه، وزويت (1) له الأرض فرأى منها ما يبلغ ملك أمّته إليه، وعرضت عليه كنوز الدّنيا فأعرض عمّا وضع من مقاليدها بيديه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين رضي الله عنهم، ونهضوا بما أمروا به من طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر منهم، صلاة دائمة الظّلال، آمنة شمس دوامها من الزّوال، وسلّم تسليما كثيرا.
أمّا بعد، فإن أولى من طوّقت أجياد الممالك بفرائد أوصافه، وفوّقت إلى مقاتل العدا سهام مهابته الّتي تحول منهم بين كلّ قلب وشغافه، وخصّت به أمّ الثّغور الّتي درّ لها حلبها، ومدّت عليها أفياء النّصر الممدودة ذوابلها وقضبها، وأهدى أرج التّبلّج افترارها وشنبها من تقوم مهابته مقام الألوف، وتجتني سمعته من ذوابل العزائم ثمر النّصر المألوف، ويسبق خياله سرايا خيله الّتي هي أسرى من هوج الرّياح إلى هزم الجموع وتفريق الصّفوف، وتنظم أسنّة رماحه في الوغى قلوب العدا نظم السّطور وتنثر صفاحه رؤوسهم نثر الحروف، وتحيط بنطاق الممالك المتطرّفة صوارمه إحاطة الأسوار بالحصون، والخمائل بالغصون، والهالات بالأقمار، والجوانح بالأسرار، ولا تبيت ملوك العدا منه إلّا على وجل، ولا يرى في الأمن إلا في درع مضاعفة «لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل» (2)، ولا يخفى عن ألمعيّته ما يضمر الأعداء من الحركات قبل إظهارها، ولا ببعد على عزماته ما هي مليّة به من بدارها أعداء الدّين بدارها، وإذا جلس لنشر المعدلة تبرّأ الظلم من فكر [جواز] (3) البغي والجور على إنسان، وشفع ما تصدّى من ذلك بما أمر الله به من العدل والإحسان.
ولما كان الجناب العالي الفلانيّ هو الّذي ملئت قلوب العدا برعبه،
__________
(1) أي طويت، وجمعت، وقبضت.
(2) راجع ص 146من هذا الجزء حاشية رقم: 1.
(3) بياض بالأصل.(12/148)
وانطوت قلوب الرعايا على حبّه، وتهلّلت وجوه المنى في سلمه واستهلّت سحب المنايا في حربه، وجمع بين حدّة البأس ولطف التّقى فكان هو الكميّ الذي شفع الشّجاعة بالخضوع لربّه، وحاط ما وليه من الأقاليم بسوري بأسه وعدله فبات كل أحد وادعا في مهاده آمنا في سربه، وأغارت سرايا مهابته قبل طلوع طلائعه فأصبح كلّ من العدا أسير الذّعر قبل إمساكه، قتيل الخوف قبل ضربه مع احتفال بعمارة البلاد، أعان السّحب على ريّها، واشتمال على مصالح العباد، قام في تيسير أرزاقهم مقام وسميّ الغمائم (1) ووليها، وتيقّظ لمصالح الثّغور أنام عنها عيون الخطوب، وإشراق في أفق المواكب كسا وجه الدّين نور البشر ووجه الكفر ظلام القطوب.
وكانت المملكة الحلبية عقيلة المعاقل، وعصمة العواصم، وواسطة عقود [الممالك] (2) وسلك فرائد النّصر الّتي كم أضاءت بها إلى الكفر وجوه المسالك، لا تدرك في مضمار الفخار شهباؤها، ولا ترى إلا كما ترى النجوم في عيون العدا حصباؤها ولها من الحصون المصونة كلّ قلعة يتهيّب الطّيف سلوك عقابها (3)، ويتقاصر لوح الجوّ عن منال عقابها فهي عزيزة المنال، إلّا على كريم كفاءته، بعيدة مجال الآمال، إلا على ما ألفت من إيالة كفايته، سامية الأفق إلا على شمسه، نابية الطّرف إلا على ما عرفت من سلوكه في أمسه، ظامية الغروس الّتي أنشأها في مصالحها إلى ما اعتادته من سقيا غرسه اقتضت آراؤنا الشريفة أن نزيدها إشراقا بشمس جلاله، واعتلاء بسيفه الّذي رياض الجنّة تحت ظلاله، وأن نعيد أمرها إلى من طالما حسّن عدله بقعتها، وحصّن بأسه قلعتها، وأطارت مهابته سمعتها، وأطالت سيرته سكون رعاياها في مهاد الأمن وهجعتها، وأعاد وجوده أحوال مجاوريها من العدا إلى العدم، وأباد سيفه أرواح معانديها: فلو أنكرته أعناقهم لم يكن بالعهد من قدم.
__________
(1) الوسميّ: مطر الربيع الأول.
(2) بياض بالأصل.
(3) جمع عقبة.(12/149)
فلذلك رسم بالأمر الشّريف لا زالت شمس عدله، مشرقة في الوجود، وغيث فضله، مستهلّ الجود في التّهائم والنّجود أن تفوّض إليه
تفويضا يحدّد ارتفاعها، ويعمّر وهادها وبقاعها، ويؤيّد اندفاع مضارّها وانتفاعها، ويعيد الإشراق إلى مطالعها، والأمور إلى مواقعها من سداد التدبير ومواضعها، والإقدام إلى جيوشها وأبطالها [والشجاعة إلى حماتها ورجالها] (1)
فليطلع في أفق مواكبها طلوع نعته الكريم، ويجر في جوانبها ما ألفته من موارد عدله الّذي فارقها غمامه وأثر سيله مقيم، ويعاود مصالح تلك المملكة التي لا تصلح أمورها إلّا عليه، ويراجع عصمة تلك العقيلة الّتي لا تطمع أبصار عواصمها إلّا إليه، ويلق في قلوب مجاوريها ذلك الرّعب الّذي نعى إلى كلّ منهم نفسه وأسلاه عمّاه في يديه، ويثبّت تلك المهابة الّتي جعلت منايا العدا براحته يأمرها فيهم وينهاها، وينشر في الرعايا تلك المعدلة التي هي كالشمس:
لا تبتغي بما صنعت منزلة عندهم ولا جاها، ولتكن أحوال عدوّ الإسلام بمرأى منه على عادته ومسمع، ويكفّ أطماع الكفّار على قاعدته فلا يحدث لهم إلى شيم برق الثّغور مطمح ولا في العلم بشنبها مطمع، وليكن من أرصاده، نهار عدوّ الدّين وليله، ومن أمداده، مجاز الجهاد وحقيقته فلا يبرح يبيّتهم خياله إذا لم تصبّحهم خيله، ولا يبرح له من أعيان عيونه بين العدا فرقة ناجية، وطائفة بأسرار قلوب القوم مناجية، لتكون له مقاتلهم على طول الأبد بادية، وتغدو منازلهم خاوية بين سراياه الرائحة والغادية. وليتعاهد أحوال الجيوش بإدامة عرضها، وإقامة واجبات القوّة وفرضها، وإطالة صيت السّمعة المشهورة لكماتها في طول بلاد العدا وعرضها، وإزاحة أعذارها للرّكوب، وإزالة عوائق ارتيادها للوثوب، وإعداد العدد الّتي لها من أيديهم طلوع و [في] (2) مقاتل أعدائهم غروب، وليتفقد أحوال الحصون المصونة بسداد ثغورها، وسداد أمورها، وإزاحة أعذار
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة يقتضيها السياق.(12/150)
رجالها، وإرهاف همم حماتها الّتي تضيق على آمال العدا سعة مجالها، وتوفير ذخائرها، وتعمير بواطنها وظواهرها، وتحصين مسالكها الّتي يرهب الخيال المتولي إلى العيون سلوك محاجرها.
وليعل منار الشّرع الشريف بتشييد مناره وإحكامه، وتنفيذه لقضايا قضاته وأحكام حكّامه، والوقوف في كلّ أمر مع نقضه في ذلك وإبرامه، ورفع أقدار حملة العلم على ما ألفوه من الرّفعة والسّموّ في أيّامه. ولتكن وطأة بأسه على أهل الفساد مشتدّة، وأوامره متقدّمة بوضع الأشياء في مواضعها: فلا توضع الحدّة موضع الأناة ولا الأناة موضع الحدّة. وليراع عهود الموادعين مهما استقاموا، ويجمع عليهم أن يكفّوا أنامل بأسه الّتي هم في قبضتها رحلوا أو أقاموا، ولتخبر ألسنة النيران بشبّها على اليفاع [والآكام] (1) من قدم لمكيدة أو طعن بمطار الحمام وجميع ما يتعلّق بهذه المرتبة السنية من قواعد فإلى سالف تدبيره ينسب، ومن سوابق تقريره وتحريره يحسب فهو ابن بجدتها، وفارس نجدتها، ومؤثّل قواعدها، وموثّر ما حمد من امتداد عضدها إلى مصالح الإسلام وساعدها فليفعل في ذلك ما يشكره الله والإسلام عليه، ويثبّت الحجّة عند الله تعالى في إلقاء المقاليد إليه وملاك الوصايا تقوى الله وهي سجيّة نفسه، وثمرة ما اجتنى في أيّام الحياة من غرسه، ونشر العدل والإحسان فبهما تظهر مزيّة يومه الجميل على أمسه والله تعالى يجعل نعمه دائمة الاستقبال، وشمسه آمنة من الغروب والزّوال، والاعتماد
الطبقة الثانية (من يكتب له في قطع الثّلث ب «المجلس السامي» وفيها وظائف)
الوظيفة الأولى (نيابة القلعة بها)
وهذه نسخة مرسوم شريف بنيابة قلعة حلب:
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/151)
الحمد لله معلي قدر من تحلّى بالأمانة والصّون، ورافع مكانة من كان فيما عرض من العوارض نعم العون، ومؤهّل من أرشدنا إليه للاجتباء حسن الاختبار، ومبلّغ الإيثار من شكرت عنه محامد الآثار.
نحمده حمد الشّاكرين، ونشكره شكر الحامدين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص في اعتقاده، مبرّإ من افتراء كلّ جاحد وإلحاده، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أرسله بالحقّ بشيرا ونذيرا، وأيّده بسلطان منه وطهّر [به] (1) الأرض من دنس الضّلال تطهيرا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا يزال علم العلم بها منشورا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ العناية بالحصون توجب أن لا يختار لها إلا من هو مليّ بحفظها، موفّر [لها] (2) من حسن الذّبّ غاية حظّها، حسن المرابطة، مبرّأ من دنس الأفعال السّاقطة ذو قلب [قويّ] (3) وقالب، وعزم ما زال لمهمات الأمور أشجع مغالب إذ هو للمرابطين بها أوثق حرز حريز، وأصون حجاب لمبارزة ذوي التّبريز، [فتصبح به] (4) مستورا عوارها، كاتمة لأسرارها أسوارها، تخاطب منازليها من مجانيقها بأبلغ لسان، وتشافه ملاجيها (5) من أنفة أنفها إلا أنه بأعلى مكان.
ولما كانت القلعة الفلانية بهذه المنزلة الرّفيعة، والمكانة الّتي كلّ مكانة بالنّسبة والإضافة إلى علوّ مكانها المكانة الوضيعة اخترنا لها وابتغينا، واستوعبنا بالتّأهيل لنيابتها ولم نترك في استيعابنا ولا أبقينا، فلم نجد لولايتها كفأ إلا من نظمت عقود هذا التّقليد لتقليده، ورتّلت سور هذه المحامد بمبديء لسان تقريظه ومعيده إذ هو أوثق من يلقى إليه إقليدها (6)، وأكفأ من ينجز به موعودها إذ كان المكين، والثّقة المتحلّي إذ كان التحلّي مما يزين العاطل
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة يقتضيها السياق.
(4) الزيادة يقتضيها السياق.
(5) من لاجّ خصمه: تمادى معه في الخصومة.
(6) الإقليد: المفتاح.(12/152)
المشين إن ذكر الرّأي فهو المتّصف بسديده، أو العزم فهو الموسوم بشديده، أو التّثبّت فهو من صفة شجاعته، أو حسن المظافرة فهو الباذل فيها جهد استطاعته.
ولما كانت هذه المناقب مناقبه، وهذه المذاهب مذاهبه، رسم بالأمر الشّريف العالي زاده الله مضاء ونفاذا، واستحواء واستحواذا أن تفوّض نيابة السّلطنة بالقلعة الفلانيّة وما هو منسوب إليها من ربض ونواح، وقرى وضواح، للمجلس السّامي فلان.
فليرق إلى رتبتها المنيف قدرها، المهمّ سرّها وجهرها، وليكن من أمر مصالحها على بصيرة، ومن تفقّد أحوالها على فطنة ما زالت منه مخبورة، وليأخذ محرزها من الجند وغيرهم بالملازمة لما عدق به من الوظائف، ويتقدّم إلى واليها مع طوّافها (1) أوّل طائف، وليتفقّد حواصلها من الذّخائر، وواصلها من التبذير بمن يرتّبه على حفظها من الأخاير ومهما عرض يسرع بالمطالعة بأمره، والإعلام بنفعه وضرّه.
هذه نبذة كافية للوثوق بكفايته، والعلم بسديد كفالته والله تعالى يحسن له الإعانة، ويجزل له الصّيانة والخط الشّريف أعلاه
الوظيفة الثانية (شدّ (2) الدّواوين بحلب)
وهذه نسخة توقيع بشدّ الدّواوين بحلب:
الحمد لله الّذي أرهف في خدمة دولتنا كلّ سيف يزهى النّصر بتقليده،
__________
(1) الطوّاف هم الشرطة غير الرسمية أي الذين يطوفون على الأماكن والمزارع وغيرها لتفقد الأمن بها وهم مدنيون ويحملون العصيّ في أيديهم. ولا يزال اللفظ يجري على ألسنة العامة حتى الآن. وقد ذكره القلقشندي في أماكن أخرى بما يفيد هذا المعنى: «يرتب جماعة من الجند مع الطوّاف في المدينة لكشف الأزقة وغلق الدروب وتفقد أصحاب الأرباع». (مصطلحات صبح الأعشى: 234).
(2) الشدّ: التفتيش. ومتولّي الوظيفة يسمّى الشادّ.(12/153)
ويروى نبأ الفتح عن تجربته في مصالح الإسلام وتجريده، ويروى حدّه إذا قابله عدوّ الدّين من قلب (1) قلبه وموارد وريده.
نحمده على نعمه السابغة حمد متعرّض لمزيده، ونشكره على مننه السّائغة شكر مستنزل موادّ تأييده، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة مقرّ بتوحيده، مسرّ مثل ما يظهر من الخضوع لكبرياء تقديسه وتمجيده، مصرّ على جهاد من ألحد في آياته بنفسه وجنوده، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أشرف من دعت دعوته الأمم إلى الاعتراف بخالقها بعد جحوده، وأنجز لأمّته من الاستيلاء على الكفر سابق وعوده، وأمال به عمود الشّرك فأهوى إلى الصّعيد بعد صعوده، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ما منهم إلا من بذل في طاعة الله وطاعته نهاية مجهوده، وأطفأ نار الكفر بعد وقودها بإيقاد لهب الجهاد بعد خموده، صلاة تقترن بركوع الفرض وسجوده، وتقام أركانها في أغوار الوجود ونجوده، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى ما أجملنا في مصالحه النّظر، وأعملنا في ارتياد الأكفاء له بوادر الفكر، واخترنا له من الأولياء من كان معدودا من خواصّنا، محبوّا بمزيد تقريبنا ومزيّة اختصاصنا، أمر الأموال الدّيوانيّة بالمملكة الحلبيّة وتفويض شدّ دواوينها المعمورة إلى من تضاعفها رتبته المكينة، ونزاهته المتينة، ويده الّتي هي بكمال العفّة مبسوطة، وخبرته الّتي بمثلها يحسن أن تكون مصالح الدولة القاهرة منوطة، ومنزلته الّتي تكفّ عن الأموال الأطماع العادية، ومهابته الّتي تكفي الأولياء من ضبط الأعمال بما يروي الآمال الصّادية، لأنّها موادّ الثّغور الّتي ما برحت عن شنب النّصر مفترّة، وأمداد الجيوش الّتي جعل الله لها أبدا على أعدائه الكرّة، ورياض الجهاد الّتي تجتنى منها ثمرات الظّفر الغضّة، وكنوز الملك الّتي ينفق منها في سبيل الله القناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة.
__________
(1) جمع قليب وهو البئر. والاستعمال على الاستعارة.(12/154)
ولما كان فلان هو الّذي اخترناه لذلك على علم، ورجّحناه لما اجتمع فيه من سرعة يقظة وأناة حلم، وندبناه في مهمّاتنا الشريفة فكان في كلّ موطن منها سيفا مرهفا، واخترناه فكان في كلّ ما عدقناه به بين القويّ والضّعيف منصفا، وعلمنا من معرفته ما يستثير الأموال من مكامنها، ومن نزاهته ما يظهر أشتات المصالح من معادنها، ومن معدلته ما يمتّع الرعايا باجتناء ثمر المنى من إحسان دولتنا القاهرة واجتلاء محاسنها اقتضت آراؤنا الشريفة أن نحلّي جيد تلك الرتبة بعقود صفاته الحسنة، وأن ننبّه على حسن هممه التي ما برحت تسري إلى مصالح الدولة القاهرة والعيون وسنة.
فلذلك رسم أن يفوّض إليه ذلك تفويضا يبسط في مصالح الأموال لسانه ويده، ويقصر على مضاعفة ارتفاع الأعمال يومه الحاضر وغده، ويحسّن بسدّ الخلل وتتبّع الإهمال مصدره الجميل ومورده ويجعل [له] (1) في مصالحها العقد والحلّ، والتّصرف النافذ في كلّ ما دقّ من الأموال الدّيوانية وجلّ.
فليباشر ذلك بهمّة علمنا في الحق مواقع سيفها، وأمنّا على الرعايا بما اتّصفت به من العدل والمعرفة من مواقع حتفها، وأيقظت العيون الطّامحة لسلوك ما [لا] (2) يجب بما لم تزل تتخيّله من روائع طيفها، وليثمّر الأموال بالجمع في تحصيلها بين الرّغبة والرّهبة، ويجعل ما يستخرج منها ببركة العفّة والرّفق: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنََابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} (3) وليعفّ أثر الحمايات ورسمها، ويزل بالكلّية عن تلك الممالك الحسنة وسمها القبيح واسمها، وليكن مهمّ الثغور هو المهمّ المقدّم لديه، والنّظر في كلف القلاع المحروسة هو الفرض المتعيّن أداؤه عليه، فيحمل إليها من الأموال والغلال ما يعمّ حواصلها المصونة، ويكفي رجالها الفكر في المؤونة، ويضاعف ذخائرها التي تعدّ من أسباب تحصينها، ويصبح به حمل عامها الواحد كفاية ما يستقبله
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) البقرة / 261.(12/155)
مع موالاة الحمول من سنينها وما عدا ذلك من الوصايا فقد ألقينا إلى سمعه ما [عليه] يعتمد، وعرّفناه أنّ تقوى الله أوفى ما به يستبدّ وإليه يستند بعد الخط الشّريف.
الصنف الثاني (من أرباب الوظائف بحلب أرباب الوظائف الدّينية)
وهم على طبقتين أيضا:
الطبقة الأولى (من يكتب له في قطع الثلث ب «السّاميّ» بالياء، ويشتمل على وظائف)
منها: قضاء القضاة. وبها أربعة قضاة: من كل مذهب قاض، كما في الديار المصرية والشّام. والشافعيّ منهم هو الّذي يولّي بالبلاد كما في مصر والشّام.
وهذه نسخة توقيع بقضاء قضاة الشّافعية:
الحمد لله الّذي رفع منار الشّرع الشريف وأقامه، ونور به كلّ ظلام وأزال به كلّ ظلامة، وجعله صراطا سويّا للإسلام والسّلامة، الذي جعل القضاة أعلاما، بهم يهتدى، ونصبهم حكّاما، بمراشدهم يقتاد ويقتدى، وأخذ بهم الحقّ من الباطل حتّى لا يعتل في قضيّة ولا يعتدى، والصّلاة على سيدنا محمد الذي أوضح الله به الطّريق، وأبدى به بين الحلال والحرام التّفريق، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تتكفل لرغبات قائلها بالتّحقيق.
وبعد، فإنّ أحقّ ما [وجّهت] (1) الهمم إلى تصريفه وجها مسفرا، وقرّبت إلى يد الاقتطاف من شجرته المباركة غصنا مثمرا، وسهّدت في الاختيار له والاصطفاء لحظا ما زال للفكر في مصالح الأمّة مسهرا الشرع الشريف الّذي
__________
(1) في الأصل «وصلت» والتصحيح من الطبعة الأميرية.(12/156)
حرس الله به حومة الدّين وحمى جانبه، وحفظ به أقوال الهدى عن المجادلة من المبتدعين وأطرافه من المجاذبة وكانت حراسته معدوقة باختيار الأئمة الأعلام، وموقوفة على كلّ من يطاعن البدع عند الاستفتاء برماح الخطّ وليست رماح الخطّ غير الأقلام، ومصرفة إلى كلّ منصف في قضاياه حتّى لو ترافعت إليه اللّيالي لأنصفها من الأيّام.
ولما كان فلان هو مدلول هذه العبارة، ومرتمى هذه المشارة، ومرتمق هذه الإشارة، وقد حلّ من الممادح في محل صعب المرتقى على متوقّله، وطلع من منازل سعودها في بروج بعيدة الأوج إلا على سير بدره وتنقّله وطالما حكم فأحكم، وفصل ففصّل، وروجع فما رجع وعدل فعدّل، وشهدت مراتبه الشريفة بأنّه خير من تنوّلها ميراثا واستحقاقا، وأجلّ من كادت تزهو به مطالع النجوم إشرافا وإشراقا وكانت حلب المحروسة مركز دائرة لأيّامه، وسلك جوهر تصريفه الّذي طالما تقلدت أحسن العقود بنظامه وقد افتخرت به افتخار السماء بشمسها، والرّوضة بغرسها، والأفهام بإدراك حسّها، والأيّام بما عملته من خير في يومها وأسلفته في أمسها، وقد اشتاقت إلى قربه شوق النّفس إلى تردّد النّفس، واللّيلة إلى طلوع النّجم أولا فإلى إضاءة القبس.
فلذلك خرج الأمر الشّريف بأن يجدّد له هذا التوقيع بالحكم والقضاء، بالمملكة الحلبيّة وأعمالها وبلادها، على عادته.
فليستخر الله تعالى وليستصحب من الأحكام ما همّته مليّة باستصحابه، ويستوعب من أمورها ما تتوضح المصالح باستيعابه، ويقم بها منار العدل والإحسان، وينهض بتدبير ما أقعده منها زمانة الزّمان. وعنده من الوصايا المباركة، ما يستغني به عن المساهمة فيها والمشاركة لكن الذّكرى النافعة عند مثله نافقة فإن لم يكن شعاع هلال فبارقة، وليتّق الله ما استطاع، ويحسن عن أموال اليتامى الدّفاع، ويحرس موجود من غاب غيبة يجب حفظ ماله فيها شرعا، ويقطع سبب من رام لأسباب الحقّ قطعا، ولا يراع لحائف حرمة فإنّ حرمات
الحائفين لا ترعى، وينظر في الأوقاف نظرا يحرسها ويصونها، ويبحث عنها بحثا يظهر به كمينها والله تعالى يسدّده في أحكامه بمنه وكرمه! قلت: وعلى ذلك تكتب تواقيع بقية القضاة بها من المذاهب الثلاثة الباقية.(12/157)
فليستخر الله تعالى وليستصحب من الأحكام ما همّته مليّة باستصحابه، ويستوعب من أمورها ما تتوضح المصالح باستيعابه، ويقم بها منار العدل والإحسان، وينهض بتدبير ما أقعده منها زمانة الزّمان. وعنده من الوصايا المباركة، ما يستغني به عن المساهمة فيها والمشاركة لكن الذّكرى النافعة عند مثله نافقة فإن لم يكن شعاع هلال فبارقة، وليتّق الله ما استطاع، ويحسن عن أموال اليتامى الدّفاع، ويحرس موجود من غاب غيبة يجب حفظ ماله فيها شرعا، ويقطع سبب من رام لأسباب الحقّ قطعا، ولا يراع لحائف حرمة فإنّ حرمات
الحائفين لا ترعى، وينظر في الأوقاف نظرا يحرسها ويصونها، ويبحث عنها بحثا يظهر به كمينها والله تعالى يسدّده في أحكامه بمنه وكرمه! قلت: وعلى ذلك تكتب تواقيع بقية القضاة بها من المذاهب الثلاثة الباقية.
ومنها: وكالة (1) بيت المال المعمور.
وهذه نسخة توقيع من ذلك، كتب بها لمن لقبه «كمال الدّين» وهي:
الحمد لله الّذي جعل كمال الدّين موجودا، في اقتران العلم بالعمل، وصلاح بيت المال معهودا، في استناده إلى من ليس له غير رضا الله تعالى وبراءة الذّمة أمل، وارتقاء رتب المتّقين مقصورا على من بارتقاء مثله من أئمة الأمّة تزهى مناصب الدّول، والاكتفاء بالعلماء محصورا في الآراء المعصومة بتوفيق الله من الخلل.
نحمده على نعمه الّتي جعلت مهمّ مصالح الإسلام، مقدّما لدينا، واختصاص المراتب الدّينية بالأئمة الأعلام، محبّبا إلينا، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة رفع الجهاد علمها، وأمضى الاجتهاد كلمها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أشرقت سماء ملّته، من علماء أمّته، بأضوإ الأهلّة، ونطقت أحكام شرعته، على ألسنة حملة سنّته، بأوضح الأدلّة، وبزغت شمس هدايته في تهائم الوجود ونجوده فانطوت بها ظلم الأهواء المضلّة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين نصحوا لله ولرسوله، وآثروا رضاه على نفوسهم فلم يكن لهم مراد سوى مراده ولا سول غير سوله، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من تلقّاه كرمنا بوجه إقباله، واختارت له آلاؤنا من الرّتب ما صدّه الإجمال في الطّلب عن تعلّقه بباله، ورأى إحساننا مكانه من
__________
(1) كان لمتولّي هذه الوظيفة التحدّث فيما يتعلق بميعات بيت المال ومشترياته من أراض ودور وغير ذلك. (مصطلحات صبح الأعشى: 361).(12/158)
العلم والعمل فعدق به من مصالح المسلمين ما لم يتركه أوّلا إلّا موافقة له لا رغبة عن خياله، ورعى برّنا وفادته فاقتضى إعادته من مناصبه إلى ما لم يزل مشرق الأفق بكمال طلعته وطلعة كماله من ظهرت لوامع فوائده، وبهرت بدائع فرائده، وتدفّقت بحار فضائله، وتألّقت أشعة دلائله، وتنوّعت فنونه: فهو في كلّ علم ابن بجدته، وفارس نجدته، وحامل رايته، وجواد مضماره الّذي تقف جياد الأفكار دون غايته.
ولما كان فلان هو هذا البحر الّذي أشير إلى تدفّقه، والبدر الّذي أوميء إلى كمال ما تألّق به من أفقه، وكانت وكالة بيت المال المعمور بحلب المحروسة من المناصب الّتي لا يتعيّن لها إلا من تعقد الخناصر عليه، ويشار ببنان الاختصاص إليه، ويقطع بجميل نهوضه فيما يوضع من المصالح الإسلامية بيديه وله في مباشرتها سوابق، وآثار [إن] (1) لم تصفها ألسنة الأقلام أوحت بها تلك الأحوال الخالية وهي نواطق اقتضت آراؤنا الشريفة إنعام النّظر في الإنعام عليه بمكان ألفه، ومنصب رفع ما أسلفه فيه من جميل السّيرة قدره عندنا وأزلفه.
فرسم بالأمر الشريف لا زال بابه ثمال الآمال، وأفق السّعد الّذي لو أمّه البدر لما فارق رتب الكمال أن يفوّض إليه كذا: لما ذكر من أسباب عيّنته، وفضائل تزيّنت به كما زيّنته، ووفادة تقاضت له نزل الكرامة، واقتضت له موادّ الإحسان وموارده في السّرى والإقامة.
فليل هذه الرتبة الّتي على مثله من الأئمة مدار أمرها، وبمثل قوّته في مصالحها يتضاعف درّ احتلابها ويترادف احتلاب درّها، مراعيا حقوق الأمّة فيما جرّه الإرث الشرعيّ إليهم، مناقشا عن المسلمين فيما قصره مذهبه المذهب من الحقوق الماليّة عليهم، واقفا بالحقّ فيما يثبت بطريقة المعتبر، تابعا لحكم الله فيما يختلف سبيله [و] (2) فيما يحرّر بالعيان أو يحقّق بالخبر، محافظا على ما
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) الزيادة يقتضيها السياق.(12/159)
يؤول إلى بيت المال بلطف تدقيقه، وحسن تحقيقه، وقبول الدّافع بوجهه ودفعه بطريقه ولا يمنع الحقّ إذا ثبت بشروطه الّتي أعذر فيها، ولا يدفع الواجب إذا تعيّن بأسبابه الّتي يتقاضاها الشّرع الشّريف ويقتضيها وهو الوكيل عن الأمّة فيما لهم وعليهم، ومتولّي المدافعة عنهم فيما يقرّه الشرع في يديهم فليؤدّ عنهم أمانة دينه، ويجتهد لهم فيما وضعناه من أمر هذه الوكالة الشريفة بيمينه وملاك هذا الأمر الوقوف مع الحقّ الجليّ، والتّمسّك بالتّقوى الّتي تظهر بها قوّة الأمين وأمانة القويّ والله تعالى يوفّقه ويسدّده.
قلت: وفي معنى ما تقدّم من قطع الورق والألقاب الحسبة، ونظر الأوقاف الكبار، وخطابة الجوامع الجليلة، وكبار التّداريس، وما يجري مجرى ذلك: إذا كتب به من الأبواب السّلطانية، وإلّا فالغالب كتابة ذلك جميعه عن نائب السّلطنة بها.
الطبقة الثانية (من يكتب له في قطع العادة «بالسامي» بغير ياء، أو «بمجلس القاضي»)
قال في «التثقيف» (1): وهم من عدا القضاة الأربعة من [أرباب] (2)
الوظائف الدينية، فيدخل في ذلك قضاء العسكر، وإفتاء دار العدل، وما يجري مجرى ذلك، حيث كتب من الأبواب السلطانية.
الصنف الثالث (من أرباب الوظائف بحلب أرباب الوظائف الديوانية، وهم على طبقتين)
الطبقة الأولى (من يكتب له في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء وتشتمل على وظائف)
منها: كتابة السرّ ويعبّر عنها في ديوان الإنشاء بالأبواب
__________
(1) «تثقيف التعريف» لابن ناظر الجيش.
(2) الزيادة يقتضيها السياق.(12/160)
السلطانية بصاحب ديوان المكاتبات، وربّما قيل: صاحب ديوان الرسائل. قال في «التثقيف»: وربّما كتب له في قطع النّصف.
وهذه نسخة توقيع شريف من ذلك، وهي:
الحمد لله الّذي زان الدّولة القاهرة، بمن تغدو أسرارها من أمانته في قرار مكين، وحلّى أيّامنا الزاهرة، بمن تبدو مراسمها من بلاغته في عقد ثمين، ومجمّل الكتب السائرة، بمن إذا وشّتها براعته ويراعته قيل: هذا هو السّحر البيانيّ إن لم يكن سحر مبين.
نحمده على نعمه الّتي خصّت الأسرار الشريفة بمن لم يرثها عن كلالة، ونصّت في ترقّي مناصب التّنفيذ على من يستحقّها بأصالة الرّأي وقدم الأصالة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة رقم الإخلاص طروسها، وسقى الإيمان غروسها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي آتاه جوامع الكلم، ولوامع الهدى والحكم، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كتب في قلوبهم الإيمان، وكبت بهم أهل الطّغيان، صلاة يشفعها التّسليم، ويتبعها التّعظيم، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى الرّتب بإرتياد من تعقد على أولويّته الخناصر، ويعتمد على أصالته الّتي ما برحت في الاتصال والاتّصاف بها ثابتة الأواصر، ويعتقد في أمانته الّتي تأوي بها الأسرار إلى «صخرة أعيا الرّجال انصداعها»، ويعتضد بفضائله الّتي يقلّ في كثير من الأكفاء اجتماعها، ويعول فيها على بلاغته، التي أعطت كلّ مقام حقّه من الإطناب والإيجاز، ويرجع فيها إلى بديهته، التي جرت بها سوابق المعالي إلى غاية الحقيقة في مضمار المجاز رتبة هي خزانة سرّنا، وكنانة نهينا وأمرنا فلا يتعين لبلوغها إلّا من ومن، ولا يعين لتلقّيها وترقّيها إلّا أفراد قلّ أن يكثر مثلهم في زمن، ولا يحسن أن تكون إلّا في بيت عريق في أنسابها، وثيق في تمكّن عرا أسبابها، عليم بقواعدها الّتي إذا اشتبهت طرق آدابها كان أدرى بها.
ولما كان فلان هو الّذي ذكرت أسباب تعيّنه لهذه الرّتبة وتعيينه، وفتحت أبواب أولويّته بتلقّي راية هذا المنصب بيمينه، مع أدوات كمّلت مفاخره، وصفات جمّلت مآثره، وكتابة، إذا جادت أنواؤها أرض طرس أخذت زخرفها، وإذا حاذت أنوارها وجه سماء ودّت الدّراريّ لو حكت أحرفها، وبلاغة، إن أطرت بوصف أغارت الفرائد، وأعارت دررها القلائد، وأتت من رقّة المعاني بما هو أحسن من دموع التّصابي في خدود الخرائد (1)، وإن أغرت بعدوّ أعانت على مقاتله السّيوف، ودلّت على مكامنه الحتوف، وديانة، رفعته عند الله وعندنا إلى المكان الأسنى، وصيانة، جمعت له من آلائنا واعتنائنا بين الزّيادة والحسنى، وأمانة، أغنته بجوهر وصفها الأعلى عن التّعرّض إلى العرض الأدنى، وبراعة، اعتضد بها يراعه في بلوغ المقاصد اعتضاد الرّقص بالمغنى.(12/161)
وبعد، فإنّ أولى الرّتب بإرتياد من تعقد على أولويّته الخناصر، ويعتمد على أصالته الّتي ما برحت في الاتصال والاتّصاف بها ثابتة الأواصر، ويعتقد في أمانته الّتي تأوي بها الأسرار إلى «صخرة أعيا الرّجال انصداعها»، ويعتضد بفضائله الّتي يقلّ في كثير من الأكفاء اجتماعها، ويعول فيها على بلاغته، التي أعطت كلّ مقام حقّه من الإطناب والإيجاز، ويرجع فيها إلى بديهته، التي جرت بها سوابق المعالي إلى غاية الحقيقة في مضمار المجاز رتبة هي خزانة سرّنا، وكنانة نهينا وأمرنا فلا يتعين لبلوغها إلّا من ومن، ولا يعين لتلقّيها وترقّيها إلّا أفراد قلّ أن يكثر مثلهم في زمن، ولا يحسن أن تكون إلّا في بيت عريق في أنسابها، وثيق في تمكّن عرا أسبابها، عليم بقواعدها الّتي إذا اشتبهت طرق آدابها كان أدرى بها.
ولما كان فلان هو الّذي ذكرت أسباب تعيّنه لهذه الرّتبة وتعيينه، وفتحت أبواب أولويّته بتلقّي راية هذا المنصب بيمينه، مع أدوات كمّلت مفاخره، وصفات جمّلت مآثره، وكتابة، إذا جادت أنواؤها أرض طرس أخذت زخرفها، وإذا حاذت أنوارها وجه سماء ودّت الدّراريّ لو حكت أحرفها، وبلاغة، إن أطرت بوصف أغارت الفرائد، وأعارت دررها القلائد، وأتت من رقّة المعاني بما هو أحسن من دموع التّصابي في خدود الخرائد (1)، وإن أغرت بعدوّ أعانت على مقاتله السّيوف، ودلّت على مكامنه الحتوف، وديانة، رفعته عند الله وعندنا إلى المكان الأسنى، وصيانة، جمعت له من آلائنا واعتنائنا بين الزّيادة والحسنى، وأمانة، أغنته بجوهر وصفها الأعلى عن التّعرّض إلى العرض الأدنى، وبراعة، اعتضد بها يراعه في بلوغ المقاصد اعتضاد الرّقص بالمغنى.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف أن يفوّض إليه كذا فليبشر بتلقيّ هذا الإحسان، بيد الاستحقاق، وليتلقّ عقود هذا الامتنان، الذي طالما قلّده فخره الأعناق، وليباشر ذلك مباشرة يسرّ خبرها ويسري خبرها، ويشنّف الأسماع تأثيرها وأثرها، وليسلك فيها من السّداد، ما يؤكّد حمده، ومن حسن الاعتماد، ما يؤيّد سعده والوصايا كثيرة وهو بها خبير عليم، حائز منها أوفر الأجزاء وأوفى التّقسيم (2)، وملاكها تقوى الله فليجعلها عمدته، وليتّخذها في كلّ الأمور ذخيرته والله تعالى يضاعف له من لدنّا إحسانا، ويرفع له قدرا وشانا والاعتماد في ذلك على الخطّ الشّريف أعلاه الله تعالى أعلاه.
ومنها: نظر المملكة الحلبيّة القائم مقام الوزير.
__________
(1) خردت الفتاة خردا فهي خريدة: أي ظلّت عذراء وقد جاوزت الإعصار. والإعصار في الجارية كالمراهقة في الغلام. (انظر اللسان: 4/ 576والمعجم الوسيط: 225).
(2) في الأصل «وأوفى التقصير» ولا معنى له. والتصحيح من هامش الطبعة الأميرية.(12/162)
وهذه نسخة توقيع من ذلك: كتب به لعماد الدّين «سعيد بن ريان» (1)
بالعود إليها، وهي:
الحمد لله رافع قدر من جعل عليه اعتمادا، ومجدّد سعد من غدا في كلّ ما يعدق به من قواعد النّظر الحسن عمادا، ومسنّي حمد من تكفّل له جميل التّصرّف أن لا تبعد الأيام عليه مرادا، ومجزل موادّ النّعم لمن إذا استمطر قلمه في المصالح همى فافتنّ أفنانا وأينع تثميرا وأثمر سدادا، وإذا أيقظ نظره في ملاحظة الأعمال استجلى وجوه المصالح انتقاء لما خفي منها وانتقادا.
نحمده على نعمه الّتي لا تزال النّعم بها مجدّدة، والقواعد موطّدة، والكرم معادا، وآلائه الّتي جعل لها الشّكر ازديانا على الأبد وازديادا، ومننه الّتي لا يقوم بها ولا بأداء فرضها الحمد ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام أو كان البحر مدادا (2)، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة لا تألو هممنا اجتهادا في إعلاء منارها وجهادا، ولا تكبو جياد عزائمنا، دون أن تسكنها من الجاحدين قلوبا وتجري بها من المنكرين ألسنة وتقلّدها من المشركين أجيادا، ولا تنبو صوارمنا، حتّى تتّخذ لها من وريد كلّ معاند موردا ومن قمم كلّ ناكث أغمادا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أسرى الله به إليه فبلغ في الارتقاء سبعا شدادا، وأنزل عليه أشرف كتبه بيانا وأعجزها آية وأوضحها إرشادا، وبعثه إلى الأحمر والأسود فسعد من سعد به إيمانا وشقي من شقي به عنادا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين لم يألفوا في طاعة الله وطاعته مهادا، صلاة لا تستطيع لها الدّهور نفادا، ولا تملّها الأسماع تعدادا وتردادا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى من سما به منصبه الّذي عرف به قديما، وزهيت به رتبته، التي لم يزل فيها لاقتناء الشّكر مستديما، وتحلّت به وظيفته، التي لم يبرح
__________
(1) لم أقف على ترجمة له.
(2) اقتباس من الآية الكريمة: {قُلْ لَوْ كََانَ الْبَحْرُ مِدََاداً لِكَلِمََاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ}
الكهف / 109.(12/163)
يلبس بها ثوب الثناء قشيبا ويجرّ بها رداء السّعد رقيما، وتقاضت له عوارفنا معارفه الّتي لم يزل عقدها في جيد المراتب السّنيّة نظيما، وتطلّع إليه مكانه فكأنّه بقدم هجرته لم يبرح فيه وإن بعد عنه مقيما من لم يزل قلمه بصرفه في أسنى ممالكنا الشّريفة كاسمه سعيدا، وطرف نظره فيما يليه من المناصب السّنيّة يريه من المصالح ما كان غائبا ويدني إليه من أسباب التّدبير ما كان بعيدا فما أعمل في مصالح الدولة القاهرة قلما إلا وأقبلت نحوه وجوه الأموال سافرة، ولا لحظ في مهمّات وظائفها أمرا إلّا وعاودته أسباب التّثمير النافرة، ولا اعترض (1)
قلمه بنطقه وفكره إلّا وغدت الثلاثة على كل ما فيه عمارة ما يفوّض إليه من الأعمال متضافرة وذلك لما اجتمع فيه من عفّة نفسه وكمال معرفته وطهارة يراعه، واتّصف به من حسن اضطلاعه وجميل اطّلاعه، وجبلت عليه طباعه من نزاهة زانت خبرته ومنّ ينقل مشكورا عن طباعه.
ولما كان فلان هو الّذي حنّت إليه رتبته وتلفّت إليه منصبه ودعته وظيفته النّفيسة إلى نفسها، واعتذرت بإقبالها إليه في يومها عن نشوزها عنه في أمسها، واشتاقت إلى التّحلّي بفضائله الّتي لم تزل تزهى بما ألفته منها على نظرائها من جنسها اقتضت آراؤنا الشريفة أن نجمّل لها عادتها ونجدّد له من الإحسان بمباشرتها السّعيدة إعادته، ونعيد إليه بمباشرة نظره الجميل مسرّته الّتي ألفها وسعادته.
فلذلك رسم لا زال برّه لعماد الدّين رافعا، وأمره بالإحسان شافعا أن يفوّض إليه نظر المملكة الحلبيّة على عادة من تقدّمه.
فليباشر هذه المملكة الّتي هي من أشهر ممالكنا سمعة، وأيمنها بقعة، وأحسنها بلادا، وأخصبها ربا ووهادا، وأكثرها حصونا شواهق، وقلاعا [سوامي] (2) سوامق، وثغورا لا تشيم ما افترّ منها البروق الخوافق، مباشرة تزيد
__________
(1) كذا. وفي هامش الطبعة الأميرية «لعله: اعتضد».
(2) الزيادة مما سيأتي بعد حوالي عشر صفحات.(12/164)
مصالحها على ما عرفته، وتريها من خبرته فوق ما ألفته، وتدلّ على ما فيه من كفاءة هذّبتها التّجارب، وهدتها الأنوار الثّواقب، وصرفتها الأفكار المطّلعة على الطوالع من المغارب، وسدّدها إلى الأغراض الجميلة الخلوّ من الأغراض، ووقّفها على جواهر الصّواب عدم اعتراض النّظر إلى الأعراض، وأراها التّوفيق ما تأتي من وجوه التدبير وما تذر، وعرّفتها المعرفة الاحتراس من مخالفة الصّواب فما تزال من ذلك على حذر، وفتحت لها الدّربة أبواب التّثمير فما لحظت أمرا من الأمور الديوانية إلا وبدت البدر ولتكن النعم المصونة المقدّم لديه، والنظر في مصالح القلاع المحروسة هو الغرض المنصوص عليه، فليضاعف ذخائرها، ويتفقّد موارد أمورها ومصادرها وفي معرفته بقواعد هذه الوظيفة ما يغني عن الوصايا، لكن ملاكها تقوى الله، فليجعلها نجيّ نفسه، وسمير أنسه والخط الشريف
ومنها نظر الجيش بها.
وهذه نسخة توقيع بنظر الجيش بالمملكة الحلبيّة، وهي:
الحمد لله الّذي جعل أفق السعادة بطلوع شمسه منيرا، وأقرّ في رتب العلياء من يغدو ناظرها بحسن نظره قريرا، وحلّى مفارق المناصب السّنيّة بصدر إذا تغالى اللسان في وصفه كان بنان البيان إليه مشيرا، واختار لأمصار ممالكنا الشريفة من إذا فوّض إليه نظرها كان بنسبته إلى الإبصار حقيقا به وجديرا.
نحمده وهو المحمود، ونشكره شكرا مشرق السّعود، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة عذبة الورود، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أضحت به شيوخ من الإسلام منشورة البنود، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ما أورق عود، وأولج نهار السيوف في ليل الغمود، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن الله تعالى لما خصّ كلّ مملكة من ممالكنا الشريفة بكثرة الجيوش والأنصار، وجعل جيوشنا وعساكرنا تكاثر عدد النّجوم في كلّ مصر من
الأمصار، وكانت المملكة الشريفة الحلبيّة هي ركن من أركان الإسلام شديد، وذخر ما دعاهم داع إلّا ولبّاه منهم عدد عديد وجب ان يختار للنّظر عليها من الأكفاء من سما في الرآسة أصله وزكا فرعه، فاستحقّ بما فيه من المعرفة تمييز قدره ورفعه، وفاق في فضل السّيادة أبناء جنسه، وأشرقت أفلاك المعالي بطلوع شمسه، وأقرّ [بنظره] (1) نظر الجيوش المنصورة، وسارت الأمثلة بما اتفّق عليه [فيه] (2) من حسن خبرة وخيرة، وكان فلان هو الّذي طلع في أفق هذا الثّناء شمسا منيرة، واختبر بالكفاية والدّراية واختير لهذا المنصب على بصيرة، وهو الذي له من جميل المباشرة في المناصب السّنية ما هو كالشّمس لا يخفى، والّذي أحسن النّظر في الأوقاف المبرورة حتّى تمنّى كلّ منصب جليل أن يكون عليه وقفا، وهو الّذي حوى من الفضائل ما لا يوجد له نظير ولا شبيه، والّذي سما إلى رتبة من المعالي رفيعة وكان ذا الجدّ النّبيه والأب [لبنيه] (3)
فلذلك رسم لا زال يقرّ الناظر بجوده، ويحسن النظر في أمر جيوشه وجنوده أن يفوّض إليه كذا: علما بأنه أحقّ بذلك وأولى، وأنّ كفايته لا يستثنى فيها بإلّا ولا بلو لا، وأنّ السّداد مقترن بحسن تصريفه، وعلمه قد أغنى عن تعليمه بمواقع التّسديد وتوقيفه.(12/165)
وبعد، فإن الله تعالى لما خصّ كلّ مملكة من ممالكنا الشريفة بكثرة الجيوش والأنصار، وجعل جيوشنا وعساكرنا تكاثر عدد النّجوم في كلّ مصر من
الأمصار، وكانت المملكة الشريفة الحلبيّة هي ركن من أركان الإسلام شديد، وذخر ما دعاهم داع إلّا ولبّاه منهم عدد عديد وجب ان يختار للنّظر عليها من الأكفاء من سما في الرآسة أصله وزكا فرعه، فاستحقّ بما فيه من المعرفة تمييز قدره ورفعه، وفاق في فضل السّيادة أبناء جنسه، وأشرقت أفلاك المعالي بطلوع شمسه، وأقرّ [بنظره] (1) نظر الجيوش المنصورة، وسارت الأمثلة بما اتفّق عليه [فيه] (2) من حسن خبرة وخيرة، وكان فلان هو الّذي طلع في أفق هذا الثّناء شمسا منيرة، واختبر بالكفاية والدّراية واختير لهذا المنصب على بصيرة، وهو الذي له من جميل المباشرة في المناصب السّنية ما هو كالشّمس لا يخفى، والّذي أحسن النّظر في الأوقاف المبرورة حتّى تمنّى كلّ منصب جليل أن يكون عليه وقفا، وهو الّذي حوى من الفضائل ما لا يوجد له نظير ولا شبيه، والّذي سما إلى رتبة من المعالي رفيعة وكان ذا الجدّ النّبيه والأب [لبنيه] (3)
فلذلك رسم لا زال يقرّ الناظر بجوده، ويحسن النظر في أمر جيوشه وجنوده أن يفوّض إليه كذا: علما بأنه أحقّ بذلك وأولى، وأنّ كفايته لا يستثنى فيها بإلّا ولا بلو لا، وأنّ السّداد مقترن بحسن تصريفه، وعلمه قد أغنى عن تعليمه بمواقع التّسديد وتوقيفه.
فليباشر ذلك بصدر منشرح، وأمل منفسح، عاملا بالسّنة من تقوى الله تعالى والفرض، عالما بأنّا عند وصولنا إلى البلاد نأمر بعرض الجيوش:
فليعمل على ما يبيّض وجهه يوم العرض، وليلزم عدّة من المباشرين بعمل ما يلزمهم من التّفريع والتّأصيل، والتّجريد والتّنزيل، وتحرير الأمثلة والمقابلة عليها، وسلوك الطّريق المستقيم الّتي لا يتطرق الذّم إليها، والملاحظة لأمور الجيوش المنصورة في قليل الإقطاعات وكثيرها، وجليلها وحقيرها، بحيث يكون علمه محيطا بذلك إحاطة اللّيل، ويشترط على من يتعيّن تنزيله ما استطاع
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) في الطبعة الأميرية «والأب النبيه» مع عدم التحريك.(12/166)
من قوّة ومن رباط الخيل، ويقابل الأمور المضطربة بالإضراب، ويسلك أحسن المسالك في سيره وسيرته: فإنّنا فوّضنا إليه الجيوش المنصورة من جند المملكة الحلبيّة ومن أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب. والوصايا كثيرة وإن كثرت فعلمها عنده، وقد ضرب له منها مثل فليكن على سياقته فيما لم يذكر في العدّة وأهمّ الأمور أن يتمسك من خشية الله بالسّبب الأقوى، ويجعل تقوى الله عماده في كلّ الأمور: فإنّ خير الزّاد التّقوى والخطّ الشريف أعلاه حجة فيه.
الطبقة الثانية
من يكتب له من أهل المملكة الحلبيّة في قطع العادة مفتتحا ب «رسم» إمّا مع «مجلس القاضي» أو مع «القاضي الأجلّ» ككتّاب الدّرج ومن في رتبتهم، إن كتب لأحد منهم من الأبواب السلطانية، وإلّا فالغالب استبداد نائب السّلطنة بها بالكتابة في ذلك. فإن كتب شيء منها من الأبواب السلطانية، فليمش فيه على نحو ما تقدّم في الديار المصرية والمملكة الشامية الّتي قاعدتها دمشق.
النوع الثاني (من أرباب الوظائف بالمملكة الحلبية من هو خارج عن حاضرتها، وهم على أصناف)
الصنف الأوّل (أرباب السيوف، وهم غالب من يكتب لهم عن الأبواب السّلطانية)
وقد تقدّم أنّ العادة جارية بتسمية ما يكتب لمن دون أرباب النيابات العظام: من دمشق، وحلب، وطرابلس، وحماة، وصفد، وغزّة، والكرك مراسيم، وأنّ التقاليد مختصة بالنّواب العظام المقدّم ذكرهم. ولا يخفى أنّ النيابات الدّاخلة في المملكة الحلبيّة، مما هو تحت أمر نائب السّلطنة بحلب، أكثر من كل سائر الممالك الشامية.
وبالجملة فأمرهم لا يخرج عن ثلاثة أضرب: إما مقدّم ألف، كنائب البيرة (1)، ونائب قلعة الرّوم المعبر عنها في ديوان الإنشاء بقلعة المسلمين (2)، ونائب ملطية (3)، ونائب طرسوس (4)، ونائب البلستين (5)، ونائب البهسنى (6)، ونائب آياس (7) المعبر عنها بالفتوحات الجاهانية. وإمّا طبلخاناه، كنائب جعبر (8)، ونائب درندة (9) ونحوهما. وإما أمير عشرة، كنائب عين تاب (10)، ونائب الرّاوندان (11)، ونائب كركر (12)، ونائب بغراس (13)، ونائب الشّغر(12/167)
وقد تقدّم أنّ العادة جارية بتسمية ما يكتب لمن دون أرباب النيابات العظام: من دمشق، وحلب، وطرابلس، وحماة، وصفد، وغزّة، والكرك مراسيم، وأنّ التقاليد مختصة بالنّواب العظام المقدّم ذكرهم. ولا يخفى أنّ النيابات الدّاخلة في المملكة الحلبيّة، مما هو تحت أمر نائب السّلطنة بحلب، أكثر من كل سائر الممالك الشامية.
وبالجملة فأمرهم لا يخرج عن ثلاثة أضرب: إما مقدّم ألف، كنائب البيرة (1)، ونائب قلعة الرّوم المعبر عنها في ديوان الإنشاء بقلعة المسلمين (2)، ونائب ملطية (3)، ونائب طرسوس (4)، ونائب البلستين (5)، ونائب البهسنى (6)، ونائب آياس (7) المعبر عنها بالفتوحات الجاهانية. وإمّا طبلخاناه، كنائب جعبر (8)، ونائب درندة (9) ونحوهما. وإما أمير عشرة، كنائب عين تاب (10)، ونائب الرّاوندان (11)، ونائب كركر (12)، ونائب بغراس (13)، ونائب الشّغر
__________
(1) بلدة في تركيا في الجنوب منها، تقع على الفرات، قرب سميساط من ثغور الروم. يطلق عليها في الحاضر اسم «بيرة جك» أي البيرة الصغيرة. (دائرة المعارف الإسلامية: 8/ 554والأعلاق الخطيرة: 3/ 769ملحق).
(2) قلعة حصينة غربي الفرات، مقابل البيرة. (معجم البلدان: 4/ 390).
(3) مدينة في تركيا. سماها الروم «ميليتين». وكانت في الأزمنة الخالية من أجل الثغور الإسلامية أمام الروم. وهي في الجنوب من سيواس. (الأعلاق الخطيرة: 3/ 836ملحق عن تقويم البلدان وبلدان الخلافة الشرقية).
(4) طرسوس: مدينة بثغور الشام بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم. (انظر معجم البلدان: 4/ 28).
(5) الصواب «الأبلستين» لأن الألف من أصل اللفظ في جميع الصيغ الّتي وردت بها هذه الكلمة.
موقعها في الشرق من قيصرية. (انظر معجم البلدان: 1/ 75ودائرة المعارف الإسلامية:
1/ 182والأعلاق الخطيرة: 3/ 752).
(6) في معجم البلدان: 1/ 516 «قلعة حصينة عجيبة بقرب مرعش وسميساط. وهي اليوم من أعمال حلب».
(7) على ساحل قيليقية وعلى الشاطيء الغربي لخليج إسكندرونة إلى الشرق من نهر جيحان. (دائرة المعارف الإسلامية: 1/ 115).
(8) قلعة على الفرات في سورية، مقابل صفين. واسمها «دوسر». (معجم البلدان: 4/ 390).
(9) ويقال أيضا «دارندة»: بالقرب من أبلستين. ولم يذكرها في معجم البلدان. (انظر نزهة النفوس والأبدان: 3/ 353).
(10) وترسم أيضا «عينتاب» و «عنتاب». وكانت تعرف بدلوك. وهي إلى الشمال من مدينة حلب السورية. (معجم البلدان: 4/ 176).
(11) في ياقوت: 3/ 19: «قلعة حصينة وكورة طيبة معشبة مشجرة من نواحي حلب».
(12) إحدى قلاع ديار بكر في تركية. وهي على جانب الفرات الغربي. وتلفظ «كركر» و «جرجر».
(الأعلاق الخطيرة: 3/ 825عن تقويم البلدان).
(13) مدينة في لحف جبل اللكام بينها وبين أنطاكية أربعة فراسخ. (معجم البلدان: 1/ 467).(12/168)
وبكاس (1)، ونائب الدّربساك، ونائب سرفندكار (2)، ومن في معناهم.
وقد تقدّم في الكلام على المكاتبات نقلا عن «التثقيف». أنّ هؤلاء النوّاب تختلف أحوالهم في الارتفاع والانحطاط: فتارة تكون عادة تلك النيابة أمير طبلخاناه، ثم يولّى فيها عشرة وبالعكس. وقد تكون عادتها طبلخاناه فيستقرّ بها مقدّم ألف وبالعكس. والضابط في ذلك أنّ من يكتب له المرسوم: إن كان مقدّم ألف، كتب مرسومه في قطع النصف ب «المجلس العالي»، وإن كان طبلخاناه، كتب له مرسومه في قطع النصف أيضا ب «الساميّ» بالياء، وإن كان أمير عشرة كتب مرسومه في قطع الثّلث. فأمّا ما يكتب في قطع النّصف، فإنّه يفتتح ب «الحمد لله» سواء كان صاحبه مقدّم ألف أو أمير طبلخاناه.
وهذه نسخة مرسوم شريف بنيابة آياس، وهي المعبّر عنها بالفتوحات الجاهانيّة، يستضاء بها في ذلك، وهي:
الحمد لله الّذي جعل من أولياء دولتنا الشّريفة كلّ سيف لا تنبو مضاربه، واصطفى لبوادر الفتوحات من أنصارنا من تحمد آراؤه وتجاربه، وألهمنا حسن الاختيار لمن تؤمن في المحافظة مآربه، وتعذب في المخالطة مشاربه، وحقّق آمالنا في مضاعفة الفتح التي أغنى الرّعب فيها عما تدافعه سيوف الإسلام وتحاربه.
نحمده حمدا يضاعف لنا في التّأييد تمكينا، ونشكره شكرا يستدعي أن يزيدنا من فضله نصرا عزيزا وفتحا مبينا، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة نخلص فيها يقينا من المخاوف يقينا، ونرد من نهلها معينا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أيده الله بالملائكة والرّوح، وزوى له
__________
(1) الشّغر وبكاس: قلعتان متقابلتان على رأس جبلين بينهما واد كالخندق وهما قرب أنطاكية.
(معجم البلدان: 3/ 352).
(2) لم أعثر على تحديدهما بالضبط.(12/169)
الأرض فرأى مشارقها ومغاربها ونرجو أن يكون ما زواه له مدّخرا لنا من الفتوح، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين هم خير أمّة أخرجت للإسلام، والذين ما زال الإيمان بهم مرفوع الألوية والأعلام، والذين لم يبرح داعي الضّلالة تحت قهر سيوفهم: فإذا أغفى «جرت عليه سيوفها الأحلام»، صلاة يطيب اللّسان منها فيطرب، ويعرب عن صدق الإخلاص في تكرارها فيغرب، وسلّم تسليما.
أمّا بعد، فإنّ أولى من تستند أمور الممالك لعزمته، ويلقى أمر بوادر الفتوحات السّعيدة لهمّته، ويعتمد في تدبير أحوال البلاد والعباد على يمن تصرّفه وممتدّ نهضته من لم يزل معروفا سداد رأيه، مشكورا في الخدمة الشريفة حسن سعيه، مؤيّدا [في] (1) عزمه، مظفرا في حزمه، مأمون التّأثير، ميمون التدبير، كافيا في المهمات، كافلا بعلوّ الهمّات، إذا همّ ألقى بين عينيه [صادق] (2) عزمه، وإذا اعتمد عليه في مهمّ تلقّاه بهمّته وحزمه، وإذا جرّد كان هو السّيف اسما وفعلا، وإذا دارت رحى الحرب الزّبون (3) فهو الشهم الّذي لا يخاف سهما ولا يرهب نصلا.
ولما كان (4) هو بدر هذا الأفق، ومقلّد هذا العقد ولا يصلح هذا الطّوق إلا لهذا العنق، وهو الّذي فاق الأولياء اهتماما، وراق العيون تقدّما وإقداما، وأرضى القلوب نصحا ووفاء، وأنضى الهمم احتفالا للمصالح واحتفاء طالما جرّب فحمد عند التجارب، وجرّد فأغنى عن القواضب، واختبر فاختير، ونظر في خصائصه فلم يوجد له نظير اقتضى حسن الرّأي الشريف أن نقلّده فتوحات أنقذها الله تعالى من شرك الشّرك، وأخرجها إلى النّور بعد ظلام الإفك، وبشّرها أنّ هذه سحابة نصر يأتي وابله إن شاء الله تعالى بعد رذاذه،
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الحرب تزبن الناس: أي تصدمهم، فهي زبون.
(4) بياض بالأصل. والمراد «المولى باسمه ولقبه». على غرار ما سبق.(12/170)
وأنّها مقدمة سعد تتلو قوله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللََّهُ مَغََانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهََا فَعَجَّلَ لَكُمْ هََذِهِ} (1)
فلذلك رسم لا زال الفتح في دولته يزهو بانتظام سلكه وأيامه الشريفة تستردّ مغتصب البلاد من يد الكفر إلى بسطة ملكه وقبضة ملكه، وإحسانه يحمي الحصون بسيف يروّع العدا ببأسه وفتكه أن يفوّض
اعتمادا على مضائه الّذي لا ينكر مثله للسّيف، وركونا إلى همّته الّتي تسرى برعبها إلى قلوب الأعداء سرى الّطيف.
فليباشر النيابة المذكورة: معملا رأيه في تمهيد أحوالها، وتقرير أمورها التي راق الأولياء وراع الأعداء ما كان من مالها، مجتهدا في حفظ ما بها من القلاع والحصون، مبادرا [إلى] (2) كلّ ما يحمي حماها ويصون، قائما حقّ القيام في مصالح تقريرها، وأحوال تحريرها، وأمور تمهّدها، ومنافع تشيّدها، وحواصل تكفيها، وأسباب مصلحة توافيها بمزيد الاهتمام وتوفّيها، وليكن بأحكام الشّرع الشريف مقتديا، وبنور العدل والاحسان مهتديا، وبتقوى الله عزّ وجلّ متمسّكا، وبخشية الله متنسّكا وهو يعلم أنّ هذه الفتوحات [قذى] (3) في حدقة العدوّ المخذول وشجا في حلوقهم، وعلّة في صدورهم وحسرة في قلوبهم.
فليكن دأبه الاجتهاد الّذي ليس معه قرار، والتّحرّز الّذي يحلّيها أو يحميها فيكون عليها بمنزلة سور أو سوار، ويصفّحها من عزمه بالصّفاح، ويجعل عليها من شرفات حزمه ما يكون أحدّ من أسنّة الرّماح، ثم لا يزال احتياطه محيطا بها من كلّ جانب، وتيقّظه لأحوالها بمنزلة عين مراقب، واحتفاله الاحتفال الّذي بمثله يصان رداؤها من كلّ جاذب ثم لا تزال قصّاده وكشّافه وطلائعه لا يقرّ بهم السّرى، ولا يعرفون طعم الكرى، يطّلعون من أخبار العدا
__________
(1) الفتح / 20.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/171)
على حقائقها، وتتحيّل كلّ فرقة منهم على معرفة الأحوال بينهم بمكر من تعدّد طرقها واتساع طرائقها، لتكون المتجدّدات عنده بمنزلة ما يراه في مرآة نظره، وسرّ أمور العدا لديه قبل أن يشيع بينهم ذكر خبره والوصايا كثيرة وهو بحمد الله لا يحتاج مع معرفته إلى تبصرة، ولا يفتقر مع حسن بصيرته إلى تذكرة، والله تعالى يتولّاه، ويعينه على ما ولّاه بعد الخط الشريف أعلاه.
وأما من يكتب له في قطع الثلث ب «مجلس الأمير» وهم العشرات [فقد ذكر في «التعريف»: أنّه يكتب لهم من الأبواب السلطانية على ذلك.
قلت: وقد تقدّم في الطبقة السابعة أنّ الكختا، وكركر، والدّربساك، قد تكون عشرة أيضا. وفي معنى ذلك نيابة عين تاب، والراوندان، والقصير، والشغر وبكاس، إذا كانت عشرة. ونيابة دبركي إذا كانت عشرة] (1) فيفتتح فيها ب «أما بعد حمد الله» على عادة ما يكتب للعشرات.
وهذه نسخة مرسوم شريف من هذه الرتبة، كتب به لنائب حجر شغلان من معاملة حلب، وهي:
أما بعد حمد الله الّذي شيّد المعاقل الإسلامية بأكفائها، وصان الحصون المحروسة بمن شكرت همّته في إعادتها وإبدائها، وحمى سرحها بمن أيقظ في الخدمة الشّريفة عيون عزمه فما ألمت بعد إيقاظه بإغفائها، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الّذي انتضى سيوف التّأييد فأعزّت الهدى وأذلّت العدا حين انتضائها، وعلى آله وصحبه ما بدت النجوم في ظلمائها، وسرت الغيوم في فضائها فإنّ من شكرت هممه، وثبتت في الطاعة الشريفة قدمه، وأشبه عزمه في مضائه صارمه، وأضحت ثغور تقديمه باسمة أولى بأن ترفع هذه الدولة
__________
(1) ما بين قوسين مربعين زيادة من الطبعة الأميرية نقلا عما وجد في هامش بعض النسخ من الصبح.(12/172)
الشريفة من محلّه، وتنشر عليه [من] (1) تكريمها وارف ظلّه، وترتضيه لقلاع الإسلام وتشييدها، وتجتبيه لصونها وتأييدها، وتجعله قرّة عينها وحلية جيدها، وتمضي كلمته في مصالحها، وتعدق به أسباب مناجحها، فيصبح ولقدره منّا إعلاء وإعلان، ويمسي وله شغل بطاعتنا العالية الشّان، وشغل بالمعقل الّذي يحرز بعزمه ويصان، فلأجل ذلك غدا وله من هذه النيابة على الحقيقة شغلان.
وكان [فلان] (2) هو الّذي جادت عليه دولتنا الزاهرة بسحائبها، وأشرقت على حظوظه سعود كواكبها، وأسمت له قدرا، وجعلت له إمرة وأمرا، وصرفته إلى نيابة معقل معدود من قلاع الممالك الإسلامية وحصونها، ومعاقلها الّتي علت محلّا فالجبال الشّمّ من دونها، قد أصبح شاهقا في مبناه، ممنّعا في مغناه، محصّنا برجاله، مصونا من ماضيين: السّيف في مضائه والعزم في احتفاله اقتضى حسن الرأي الشريف أن نوقّله رتبة هذه النيابة، وننشر عليه من إحساننا سحابه.
فذلك رسم بالأمر الشريف لا زال أن يستقرّ
فليحلّ هذه النيابة المباركة مظهرا من عزمه ما تحمد عواقبه، وتعلو مراقبه، وتسمو مراتبه، وتتوضّح سبله ومذاهبه، محصّنا لسرحه، معزّزا موادّ نجحه، مراعيا أحوال رجاله، المعدّين من حماته وأبطاله، حتّى يغدوا يقظين فيما يندبهم إليه ويستنهضهم فيه، مبادرين إلى كل ما يحفظ هذا الحصن ويحميه ومن بهذا المعقل من الرّعية فليرفق بضعفائهم، وليعاملهم بما يستجلب لنا به صالح دعائهم والوصايا كثيرة وملاكها التّقوى، فليتمسّك بها في السّرّ والنّجوى، وليغرسها في كل قول يبديه، وفعل يرتضيه، فإنّ غروسها لا تذوى. والله يوفّقه لصالح القول والعمل، ويصونه من الخطإ والخطل والخطّ
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) الزيادة يقتضيها السياق.(12/173)
الشريف أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى، والحمد لله وحده.
قلت: وقد تقدّم أنّه لا يكتب عن السلطان مرسوم بنيابة في قطع العادة، لأنّ ذلك لا يكون إلا لجنديّ وهو دون، ومثل ذلك إنّما يكتب عن نوّاب الممالك.
الصنف الثاني (ممّا هو خارج عن حاضرة حلب الوظائف الدّينية بمعاملتها: من القلاع وغيرها)
وهي في الغالب إنّما تصدر الكتابة فيها عن نائب حلب أيضا أو قاضيها، إن كان مرجع ذلك إليه. فإن صدر شيء منها عن الأبواب السّلطانية، كان في قطع العادة مفتتحا ب «رسم».
وهذه نسخة توقيع من هذا النّمط ينسج على منواله، كتب به لقاضي قلعة المسلمين، وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زال عدله مؤيّدا للحكّام، ورأيه مسدّدا في النّقض والإبرام، وسلطانه يختار للمناصب الدّينية من نطقت بشكره ألسنة الأنام أن يستقرّ في كذا: لما اشتهر عنه من علم ودين، وظهر من حسن سيرة اقتضت له التّعيين.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة بالحقّ حاكما، وللرّفق ملازما، وللتّقوى مداوما وهو غنيّ عن الإسهاب في الوصايا، مليّ بسلوك تقوى الله في القضايا والله تعالى يزيده تأييدا، ويضاعف له بموادّ السعادة تجديدا والعلامة الشريفة أعلاه، حجة بمقتضاه.
الصنف الثالث (مما هو خارج عن حاضرة حلب الوظائف الدّيوانية)
وهي إنّما تصدر في الغالب أيضا عن نائب حلب. فإن كتب شيء منها عن الأبواب السلطانية، كان في قطع العادة مفتتحا ب «رسم بالأمر».
وهذه نسخة توقيع من ذلك، يستضاء به فيما يكتب من هذا النوع، كتب بها بنظر جعبر، من معاملة حلب، وهي:(12/174)
وهي إنّما تصدر في الغالب أيضا عن نائب حلب. فإن كتب شيء منها عن الأبواب السلطانية، كان في قطع العادة مفتتحا ب «رسم بالأمر».
وهذه نسخة توقيع من ذلك، يستضاء به فيما يكتب من هذا النوع، كتب بها بنظر جعبر، من معاملة حلب، وهي:
رسم بالأمر الشّريف لا زال منهلّ النّدى، مستهلّ الجدى (1)، معيدا للإحسان كما بدا أن يعاد فلان إلى وظيفته: لما ألفت من سيرة له لم تزل تحمد، وسيما خير منه على مثل الشّمس تشهد، ولأمانته الّتي لم تزل تفترّ بها الثّغور، وتخضرّ بها المعاهد: تارة في طوق النّحر وتارة في نحور البحور، وأصالة امتدّ ظلّها الظّليل، وعرف منها في العصر حسن الأصيل، وأينعت أكرم فرع زكا منبته (2) في الأرض المقدّسة وجوار الخليل، ولما أسلف في هذه المباشرة من عمل صالح، وسداد اعتماد لم يخرج عن تحرير تقرير وتقرير مصالح، وكتابة رآها الرّائي ونقلها النّاقل، وكفاية حفّت عيه مثل العروس المجلوّة من عقائل المعاقل.
فليباشر هذه العروس فقد أنقدها (3) سالف الخدم وأمهرها، وليثابر سقيا الغروس الّتي أنشأها في هذه الجهة وثمّرها، وليسلك مسلكه الّذي لم يزل مخيّما على رؤوس القنن، ومهوّما به طرف الأمن لليقظة الذي لا يلمّ به الوسن، مخوّلا في وظيفته المبرّات، مستقبلا للمسرّات، مفتخرا بمباشراته الّتي تجري مجاري البحار: تارة الملح الأجاج وتارة العذب الفرات وهو أعرف بما يقدّمه من أمانة بها يتقدّم، وديانة يرجّب (4) بها استكفاؤه ويحكّم وتقوى الله جماعها فليكن بها متمسّكا، وبمشاغلها متنسّكا والله تعالى يجعل عطاءه موفّرا، وعمله متدفّقا ليردّ جعبرا جعفرا (5)
__________
(1) الجدا: العطاء، والمطر العامّ. وفي الحديث: «اللهمّ أسقنا غيثا غدقا، وجدا طبقا».
(2) في الأصل «منبتها» بالتأنيث.
(3) لعل الهمز من زيادة الناسخ. والصواب «نقدها» من الثلاثي. أما أنقد فهي غير مناسبة. يقال:
أنقد الشجر: أي أورق.
(4) أي يعظّم.
(5) من معاني الجعبر: القصير الدميم، والقدح الغليظ القصير الذي لم يحكم نحته. والجعفر:
النهر، والناقة الغزيرة اللبن.(12/175)
النيابة الثالثة (نيابة طرابلس، ووظائفها الّتي جرت العادة بالكتابة فيها من الأبواب السّلطانية على نوعين)
النوع الأوّل (ما هو بحاضرة طرابلس، وهو على ثلاثة أصناف)
الصّنف الأوّل (أرباب السيوف، وهم على طبقتين)
الطبقة الأولى (من يكتب له تقليد)
وهو نائب السلطنة بها. ومرسومه في قطع الثّلثين، ولقبه «الجناب العالي» مع الدعاء بمضاعفة النعمة.
وهذه نسخة تقليد شريف بنيابتها:
الحمد لله الّذي جعل لنا التّأييد مددا، والنّصر عتادا لا نفقد مع وجوده من الأولياء أحدا، والعزّ وزرا تصمّ شهبه مسامع العدا: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهََاباً رَصَداً} (1)، والفتح ذخرا فحيث ما نشاء مددنا إليه بقوّة الله يدا، وشددنا عليه بمعونته عضدا.
نحمده على نعمه الّتي جعلت مراتب دولتنا فلكا تشرق فيه رتب الأولياء إشراق البدور، وثغور ممالكنا أفقا حيثما شامته العدا ضرب بينهم وبينه من سيوف مهابتنا بسور، وفواتح الفتوح النّائية دانية من همم أصفيائنا فإذا يمّموا غرضا طارت إليه سهامهم بأجنحة النّسور، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا
__________
(1) الجنّ / 9.(12/176)
شريك له شهادة يرفع الجهاد علمها، وينصر الإيمان كلمها، ويزجي الإيقان إلى رياض التّأييد ديمها، ويستنطق التوحيد بإعلائها وإعلانها سيف أيّامنا الزاهرة وقلمها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الهادي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم، ونبيّه المخصوص بالآيات والذّكر الحكيم، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين نصروا الله فنصرهم، وأظهروا دينه فأعزّهم وأظهرهم، ويسّروا لأمّته سبل الهدى فهداهم وللسّبيل يسّرهم، صلاة لا يزال اليقين يقيم دعوتها، والتّوحيد يعصم من الانفصام عروتها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من تفترّ الثّغور بإيالته، عن شنب النّصر، وترمي الحصون بكفالته، من شام من العدا برقها بشرر كالقصر، وتقسّم السّواحل بمهابته، من جاور من أهل الكفر بحرها بين الحصد والحصر، وتمنع عزماته شواني (1) العدا أن تدّب عقاربها، أو تركب اللّجج بغير [أمانه] (2) مراكبها، أو ينتقل عن ظهر البحر إلى غير سيوفه أو قيوده محاربها من لم يزل في نصرة الدّين لامعا كالبرق شهابه، زاخرا كالبحر عبابه، واصبا (3) على الشّرك عذابه، ظاميا إلى موارد الوريد سيفه، ساريا إلى قلوب أهل الكفر قبل جفونهم طيفه، قائمة مقام شرف الحصون أسنّة رماحه، غنّية بروج الثّغور عن تصفيحها بالجلمد بصفا صفاحه، مع خبرة بتقدمة الجيوش تضاعف إقدامها، وتثّبت في مواطن اللّقاء أقدامها، وتسدّد إلى مقاتل أهل الكفر سهامها، وتقرّب عليها في البرّ والبحر منالها وتبعد مراميها على من رامها، ومعدلة للرعايا السّكون في مهاد أمنها، والرّكون إلى ربا إقبالها ووهاد يمنها فسرب الرعايا مصون بعدله، والعدل مكنون بين قوله وفعله.
ولما كان فلان هو اللّيث الّذي يحمى به غابه، والنّيّر الّذي يزهى أفق تألّق
__________
(1) الشواني: السفن الحربية الكبيرة. الواحدة: شينيّة. (خطط المقريزي: 2/ 194).
(2) في الأصل «بغير أيّامه». والتصويب من الطبعة الأميرية.
(3) العذاب الواصب: الدائم الثابت.(12/177)
فيه شهابه، والهمام الّذي تعدي هممه فرسان الوغى فتعدّ آحادها بالألوف، والشّجاع الّذي إذا استعانت سواعد الشّجعان بسيوفها استعانت بقوّة سواعده السّيوف اقتضت آراؤنا الشريفة أن نحلّي به جيد مملكة انتظمت على وشام البحر، وأحاطت بما في ضميره من بلاد العدا إحاطة القلائد بالنّحر.
فرسم بالأمر الشريف لا زال أن يفوض إليه كيت وكيت:
لما أشير إليه من أسباب تعيّنه لهذه الرّتبة المكينة، وتحلّيه بما وصف من المحاسن الّتي تزهى بها عقائل الحصون المصونة.
فليل هذه النيابة الجليلة بعزمة تجمّل مواكبها، وهمّة تكمّل مراتبها، ومهابة تحوط ممالكها، وصرامة تؤمّن مسالكها، ومعدلة تعمّر ربوعها ورباعها، ويقظة تصون حصونها وقلاعها، وشجاعة تسري إلى العدا سرايا رعبها، وسطوة تعدي السّيوف فلا تستطيع الكماة الدّنوّ من قربها، وسمعة ترهب مجاوريه حتى يتخيّل البحر [أنه] (1) من أعوانه على حربها.
وليؤت تقدمة الجيوش الإسلامية حقّها من تدبير يجمع على الطاعة أمرها وأمراءها، ويرفع في مراتب الخدمة الشّريفة على ما يجب أعيانها وكبراءها، ويرهب بإدامة الاستعداد قلوب أعدائها، ويربط بأيزاكها (2) شوانيّ البحر حتّى تعتدّ الرباط في ذلك من الفروض الّتي يتعبد بأدائها فلا يلوح قلع (3) في البحر للعدا إلا وهو يرهب الوقوع في حبالها، ولا تلحظ عين عدوّ سنا البرّ إلا وهي تتوقّع أن تكحل بنصالها وليقم منار العدل بنشر لوائه، ويعضّد حكم الشّرع الشريف برجوعه إلى أوامره وانتهائه، وليكفّ يد الظّلم [عنها] (4) فلا تمتدّ إليها بنان، وليشفع العدل بالإحسان إلى الرعيّة فإن الله يأمر بالعدل والإحسان وفي
__________
(1) الزيادة لانتظام السياق.
(2) مفردها اليزك. ومعناها الطلائع. (مصطلحات صبح الأعشى: 364).
(3) القلع: شراع السفينة.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/178)
سيرته الّتي جعلته صفوة الاختيار، ونخبة ما أوضحته الحقيقة من الاختبار، ما يغني عن الوصيّة إلا على سبيل الذكرى الّتي تنفع المؤمنين، وترفع قدر الموقنين وملاكها تقوى الله تعالى: فليجعلها أمام اعتماده، وإمام إصداره وإيراده والله تعالى يديم موادّ تأييده وإسعاده، إن شاء الله تعالى.
الطبقة الثانية (من يكتب له مرسوم شريف في قطع الثّلث ب «المجلس السّامي» بغير ياء، وتشتمل على وظائف)
منها شدّ الدّواوين بطرابلس.
وهذه نسخة توقيع بها:
الحمد لله مجدّد الرّتب لمن نهض فيها إخلاصه بما يجب، ومولي المنن لمن إذا اعتمد عليه من مهمّات الدّولة القاهرة في أمر عرف ما يأتي فيه وما يجتنب، ومؤكّد النّعم لمن إذا ارتيدت الأكفاء في الخدمة الشّريفة كان خيرة من يختار ونخبة من ينتخب.
نحمده على نعمه الّتي سرت إلى الأولياء عوارفها، واشتمل على الأصفياء وافر ظلالها ووارفها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تزلف لديه، وتكون لقائلها ذخيرة يوم العرض عليه، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أشرف مبعوث إلى الأمم، وأكرم منعوت بالفضل والكرم، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ولّوا أمر الأمّة فعدلوا، وسلكوا سنن سنّته فما مالوا عنها ولا عدلوا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى ما اختير له من الأولياء كلّ ذي همّة عليه، وعزمة بمصالح ما يعدق به من مهمّات الدّولة القاهرة مليّة، وخبرة بكلّ ما يراد منها وفيّة، ويقظة تلحظ في كلّ ما قرب ونأى من المصالح الأمور الباطنة والأحوال الخفيّة، وصرامة تؤيس من استلانة جانبه، ونزاهة تؤمّن من إمالة رأيه في كلّ أمر عن سلوك واجبه، ومعرفة مطّلعة، ونهضة بكلّ ما إن حمّله من أعباء المهمّات
الشّريفة مضطلعة أمر الأموال الديوانية: فإنّها معادن الأرزاق، وموادّ مصالح الإسلام على الإطلاق، وخزائن الدّولة الّتي لو ملكتها الغمائم لأمسكت خشية الإنفاق، وذخائر الثّغور الّتي مواقعها من أعداء الدّين مواقع الشّجا في القلوب والقذى في الأحداق.(12/179)
وبعد، فإنّ أولى ما اختير له من الأولياء كلّ ذي همّة عليه، وعزمة بمصالح ما يعدق به من مهمّات الدّولة القاهرة مليّة، وخبرة بكلّ ما يراد منها وفيّة، ويقظة تلحظ في كلّ ما قرب ونأى من المصالح الأمور الباطنة والأحوال الخفيّة، وصرامة تؤيس من استلانة جانبه، ونزاهة تؤمّن من إمالة رأيه في كلّ أمر عن سلوك واجبه، ومعرفة مطّلعة، ونهضة بكلّ ما إن حمّله من أعباء المهمّات
الشّريفة مضطلعة أمر الأموال الديوانية: فإنّها معادن الأرزاق، وموادّ مصالح الإسلام على الإطلاق، وخزائن الدّولة الّتي لو ملكتها الغمائم لأمسكت خشية الإنفاق، وذخائر الثّغور الّتي مواقعها من أعداء الدّين مواقع الشّجا في القلوب والقذى في الأحداق.
ولما كان المجلس السامي هو الّذي سمت به هممه، ورسخت في خدم الدّولة القاهرة قدمه، وتبارى في مصالح ما يعدق به من المهمّات الشّريفة سيفه وقلمه، وكانت المملكة الطّرابلسية من أشهر ممالكنا سمعة، وأيمنها بقعة، وأعمرها بلادا، وأخصبها ربا ووهادا، وأكثرها حصونا شواهق، وقلاعا سوامي سوامق، وثغورا لا تشيم ما افترّ من ثغورها البروق الخوافق، ولها الخواصّ الكثيرة، والجهات الغزيرة، والأموال الوافرة، والغلّات المتكاثفة المتكاثرة اقتضت آراؤنا الشريفة أن نرتاد لها من يسدّ خلل عطلها، ويشدّ عضد ميدها وميلها، وينهض من مصالحها بما يراد من مثله، ويعيد لها بحسن المباشرة بهجة من فقدته (1) من الأكفاء من قبله.
فلذلك رسم أن يفوّض إليه شدّ الدواوين المعمورة بالمملكة الطّرابلسيّة والحصون المحروسة، على عادة من تقدّمه في ذلك.
فليباشر ذلك بمعرفة تستخرج الأموال من معادنها، وتستثير كوامن المصالح من مكامنها، وتثمّر أموال كلّ معاملة بحسن الاطلاع عليها، وصرف وجه الاعتناء إليها، وتفقّد أحوال مباشريها، ومباشرة ما يتجدّد من وجوه الأموال فيها، وضبط ارتفاعها بعمل تقديره، وحفظ متحصّل ضياعها من ضياعه وصون بذارها عن تبذيره، وليجتهد في عمارة البلاد بالرّفق الّذي ما كان في شيء إلا زانه، والعدل الّذي ما اتّصف به ملك إلا صانه، والعفّة الّتي ما كانت في امريء إلّا وفقه الله تعالى في مقاصده وأعانه، وليقدّم تقوى الله بين يديه،
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية: «لعله: ما فقدته من عمل الأكفاء».(12/180)
ويعتمد على توفيقه فيما اعتمد فيه عليه، إن شاء الله تعالى.
قلت: وعلى ذلك يكتب شدّ مراكز البريد ونحوها.
الصنف الثاني (من الوظائف بطرابلس الّتي يكتب لأربابها من الأبواب السلطانية الوظائف الدّينيّة، وهي على مرتبتين)
المرتبة الأولى (من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء، وتشتمل على وظائف)
منها: القضاء. وبها أربعة قضاة من المذاهب الأربعة: من كلّ مذهب قاض.
وهذه نسخة توقيع بقضاء قضاة الشّافعيّة بها، ينسج على منواله، وهي:
الحمد لله الّذي أعزّ الدّين بعلمائه، وعضّد الحكم بالمتّقين من أوليائه، وأوضح الرّشد للمقتدين بمن جعلهم في الهداية كنجوم سمائه، وجعل لكلّ من الأئمّة من مطالع الظهور أفقا يهتدى فيه بأنواره ويقتدى بأنوائه.
نحمده على أن جعل سهم اجتهادنا في الارتياد للأحكام مصيبا، وقسم لكلّ من أفقي ممالكنا من بركة علماء قسيمه الآخر نصيبا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تعصم من الهوى في الحكم لعباده، وتفصم العرا ممن جاهر فيها بعناده، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أضاءت أنوار ملّته، فاستشفّ العلماء لوامعها، ووضحت آثار سنّته، فأحرز أئمّة الأمّة جوامعها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين دعوا إلى الله فأجابوا، ودعوا إلى الحكم بسنّته فأصابوا، صلاة لا تزال الألسن تقيمها، والإخلاص يديمها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى ما أدّى فيه الاجتهاد جهده، وبلغ فيه الارتياد حدّه
واستضيء فيه بنور التّوفيق، واستصحب فيه من استخارة الله خير رفيق أمر الحكم العزيز وتفويضه إلى من وسّع الله تعالى مجال علمه، وسدّد مناط حكمه، وطهّر مرام قلبه، ونوّر بصره في الحكم وبصيرته فأصبح فيهما على بيّنة من ربّه، فأجرى الحق في البحث والفتيا على لسانه ويمينه، ونزّهه عن إرادة العلم لغير وجهه الكريم، ونبّهه على ابتغاء ما عند الله بذلك والله عنده أجر عظيم.(12/181)
وبعد، فإنّ أولى ما أدّى فيه الاجتهاد جهده، وبلغ فيه الارتياد حدّه
واستضيء فيه بنور التّوفيق، واستصحب فيه من استخارة الله خير رفيق أمر الحكم العزيز وتفويضه إلى من وسّع الله تعالى مجال علمه، وسدّد مناط حكمه، وطهّر مرام قلبه، ونوّر بصره في الحكم وبصيرته فأصبح فيهما على بيّنة من ربّه، فأجرى الحق في البحث والفتيا على لسانه ويمينه، ونزّهه عن إرادة العلم لغير وجهه الكريم، ونبّهه على ابتغاء ما عند الله بذلك والله عنده أجر عظيم.
ولما خلا منصب قضاء القضاة بطرابلس المحروسة على مذهب الإمام الشافعيّ رضي الله عنه: وهو المنصب الّذي يضيء بالأئمة الأعلام أفقه، وتلتقي بالفضلاء الكرام طرقه، وتحتوي على أرباب الفنون المتعدّدة مجالسه، وتزكو بالفوائد المختلفة مغارسه، وكان فلان هو الّذي أشير إلى خصائص فضله، ونبّه على أنّ الاجتهاد للأمّة أفضى إلى إسناد الحكم منه إلى أهله، وأنّه واحد زمانه، وعلّامة أوانه، وجامع الفضائل على اختلافها، وقامع البدع على افتراق شبهها منه وأتلافها، وحاوي الفروع الّتي لا تتناهى، والمربي على ربّ كلّ فضيلة لا يعرف غيرها ولا يألف سواها اقتضت آراؤنا الشريفة أن نجزم من ارتياده لهذه الرتبة بهذا الرّأي [السديد] (1)، وأن نقرّب سراه إلى هذا المنصب الذي ناداه بلسان الرّغبة من مكان بعيد.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف لا زال إحسانه كالبدر، يملأ المشارق والمغارب، وبرّه كالبحر، يقذف للقريب الجواهر ويبعث للبعيد السّحائب أن يفوّض إليه كذا.
فليطلع بذلك الأفق الّذي يترقّب طلوعه رقبة أهلّة المواسم، ويسرع إلى تلك الرّتبة الّتي تكاد تستطلع أنباءه من الرياح النّواسم، وينشر بها فرائده الّتي هي أحقّ أن تطوى إليها المراحل (2)، ويقدم بها على الأسماع الظّامية لعذب
__________
(1) الزيادة لما يتناسب مع عادته في التسجيع.
(2) المرحلة: المسافة الّتي يقطعها المسافر في يومه.(12/182)
فوائده قدوم الغمام على الرّوض الماحل، ويل هذا المنصب الّذي هو فيه بين عدل ينشره، وحقّ يظهره، وباطل يزهقه، وغالب يرهقه، ومظلوم ينصره.
وليكن أمر أموال الأيتام المهمّ المقدّم لديه، وحديث أوقاف البرّ من أوّل وأولى ما يصرف فكره الجميل إليه، ويتعاهد كشف ذلك بنفسه، ولا يكتفي في علمه فعل اليوم باطّلاعه [على أمره] (1) في أمسه وهو يعلم أنّ الله يجعله بذلك مشاركا للواقفين في الأجر المختصّ بهم والشّكر المنسوب إليهم، خارجا من العهدة في أمر اليتامى باستعمال الذين يخشون لو تركوا من خلفهم ذرّيّة ضعافا خافوا عليهم وليقم منار الحق على ما يجب وإن سرّ قوما وساء قوما، ويقم بالعدل على ما شرع: فإنّ «عدل يوم خير للأرض من أن تمطر أربعين يوما».
وأمّا ما عدا ذلك من أحوال الحكم وعوائده، وآداب القضاء وقواعده، فكلّ ذلك من خصائصه يستفاد، ومن معارفه يستزاد وملاك ذلك كلّه تقوى الله وهي من أطهر حلاه الحسنة، وأشرف صفاته الّتي تتداولها الألسنة فليجعلها وسيلة تسديده في القول والعمل، وذخيرة آخرته التي ليس له في غيرها أمل، ويقلد العلى فيما حدّثته من أسباب نقلته فإن كمال العزّ في النقل والله تعالى يمدّه بموادّ تأييده وقد فعل، ويجعله من أوليائه المتّقين وقد جعل، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
قلت: وعلى ذلك تكتب تواقيع القضاة الثلاثة الباقين.
ومنها: وكالة بيت المال.
وهذه نسخة توقيع من ذلك، وهي:
الحمد لله الّذي عمر بيت مال المسلمين بسداد وكيله، ونموّ تحصيله
__________
(1) في الأصل «عليه بأمره» والتصحيح من هامش الطبعة الأميرية.(12/183)
ومزيد تمويله، وتمسّكه بالصّدق من قيله، وسلوكه ما تبيّن [من] (1) سبيله، واعتماده الحق في دليله ودفعه المضارّ وجلبه المسارّ بتخويله.
نحمده على برّه وتفضيله، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له إله تنزّه عن ندّه ومثيله، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي بعثه الله لتمام هذا الدّين وتكميله، وأنزل عليه المعجزات في تنزيله، وحفظ به الذّكر الحكيم من تبديله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وقبيله، وسلّم تسليما.
وبعد، فإن بيت المال المعمور هو نظام الإسلام، وذخر الأنام، وفيه محصول المسلمين تحت نظر الإمام، وفيه مادّة المجاهدين في سبيل الله على تطاول الأيّام، وإليه تجبى القناطير المقنطرة من الأموال، وعنه تصدر المبيعات من الأملاك ما بين أراض وأبنية ومحال. والوكيل على ذلك عنّا بالمملكة الطّرابلسيّة المحروسة هو الذّابّ عن حوزته، القائم بتأمين روعته، المجتهد في تمييز رجعته وينبغي أن يكون من العلماء الأعلام الأئمّة، المعوّل عليهم في الأمور المهمّة، البصير بما يترجح به جانب بيت المال المعمور ويكشف كلّ غمّه، العريق في السّيادة الّتي انقادت إليها السجايا الجميلة بالأزمّة.
ولما كان فلان هو الرّاقي هضبة [هذه] (2) المآثر، الطّالع كوكب مجده السّافر، المستحقّ لكلّ ارتقاء على المنابر، ويعدّ سلفا كريما نصيرا في المفاخر، ويمّتّ ببيت بحره زاخر وله في مذهب الإمام الشافعيّ رضي الله عنه بحث فاق به الأشباه والنظائر، وعنده علم بالمسائل المضروب مثلها السّائر فلذلك رسم
فليباشر هذه الوظيفة محترزا في كلّ ما يأتيه ويذره، ويقصده ويحرّره، ويورده ويصدره، ويبيّنه ويقدّره، ويخفيه ويظهره، ويبديه ويستره، ويدنيه ويحضره، ويقرّر جانب بيت المال المعمور، بما فيه الحظّ الموفور، والغبطة في
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) الزيادة مما سبق له في مثل هذا السياق.(12/184)
كلّ الأمور وهو عالم بما فيه صلاح الجمهور ومن رغب في ابتياع أراض وقراح (1)، وأبنية وأملاك ورحاب فساح مما هو جار في ملك بيت المال فليوفّر جانب القيمة على ما فيه الصّلاح، وهو بحمد الله من بيت الدّين والصّلاح والإصلاح، وهو يقوي بإسناده الأحاديث الصّحاح ومن له حقّ في بيت المال فليسمع دعوى مدّعيه، ولا يصرف درهما ولا شيئا إلا بحقّ واضح فيما يثبته فيه، وهو وكيل مأمون في تأتّيه، ومعنى الوكيل الّذي يوكل إليه الأمر الذي يليه.
والوصايا كثيرة وأجلّها تقوى الله بالسّمع والبصر واللسان فمن تمسّك بها من إنسان فإنّه يفوز بالإحسان وهو غنيّ عن الوصايا بما فيه من البيان والله يجعله في كلاءة الرّحمن، بمنّه وكرمه!. والخطّ الشريف أعلاه، إن شاء الله تعالى.
قلت: وقد يكتب لوكالة بيت المال ونحوها بالافتتاح ب «أمّا بعد» على قاعدة أصل الكتابة في قطع الثلث. والكاتب في ذلك على ما يراه بحسب ما يقتضيه الحال.
المرتبة الثانية (من تواقيع أرباب الوظائف الدينية بطرابلس من يكتب له في قطع العادة، مفتتحا ب «رسم»)
وهذه نسخة توقيع من هذه الرتبة بوظيفة قراءة الحديث النّبويّ، على قائله أفضل الصلاة والسلام، لمن اسمه «يحيى» يستضاء به في ذلك، وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زال رميم الفضل بأرواح عنايته يحيا، وأحاديث مننه الحسان تعيها أذن واعية من طيب السّماع لا تعيا، ولا برحت أولياء خدمه تثني على صدقاته بألسنة الأقلام، وتدير (2) على الأسماع من رحيقها كؤوسا
__________
(1) القراح من الأرض: المخلّاة للزرع وليس عليها بناء.
(2) في الأصل «وقد مرّ» وهو تحريف. والتصحيح من الطبعة الأميرية.(12/185)
مسكيّة الختام أن يستقرّ في كذا استقرارا ترشف الأسماع، كؤوس روايتها فلا تروى، ورتب كماله يقصر عن طلوعها كلّ باع، فمناواته لا تنوى، وربوع معروفه لا تبيد، وآيات صلاته ينطق بتلاوتها كلّ بليغ فيبديء ويعيد، لأنّه العالم الذي أحيا من مدارس العلوم ما درس، والفاضل الّذي أضاء ببصر علومه ليل الجهل ولا غرو: «فطرّة الصّبح تمحي آية الغلس»، والكامل الّذي لا يشوب كماله نقيصة، والأمثل الّذي أتته المعالي رخيصة، والإمام الّذي تأتمّ وراءه الأفاضل، وتأخّر عصره ففاق الأوائل ما درّس إلا وجمع من فوائد «أبي حنيفة» و «ابن إدريس»، ولا عرّس بليل الطّلب إلّا حمد عند إدراك طلبه ذلك التّعريس، ولا أعاد الدّروس للطّلبة إلا وترشّحت منه بالفوائد، ولا جمع ما فصّله العلماء إلا وأتى بالجمع الّذي لا نظير له في الفرائد.
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة أنوار هداها لا تخمد، وليلازمها ملازمة تشكره عليها الألسنة وتحمد وأنت أدام الله تعالى فوائدك لا تحتاج إلى الوصايا إذ أنت بها عالم، وبأسبابها متمسّك وبالقيام بها يقظ غير نائم لكن التقوى [أولى] (1) بمن عرف الأمور، ولباس سوابغها يبعد كلّ محذور والاعتماد على الخطّ الشريف أعلاه.
الصنف الثالث (من الوظائف بطرابلس الّتي يكتب لأربابها من الأبواب السلطانية الوظائف الدّيوانية، وهي على مرتبتين)
المرتبة الأولى (ما يكتب في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء، وتشتمل على وظائف)
منها: كتابة السّرّ، ويعبّر عنه في ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية
__________
(1) الزيادة لازمة في المقام.(12/186)
ب «صاحب ديوان المكاتبات» (1)
وهذه نسخة توقيع من ذلك، وهي:
الحمد لله الّذي جعل الأسرار عند الأحرار، وطوى الصّحف على حسنات الأبرار، وأجرى الأقلام ترجمانا للأفكار، وجعل الحفظة يكتبون الأعمال مع تطاول الأعمار، آناء اللّيل وأطراف النّهار، وبسط المعاني أرواحا، والألفاظ لها أشباحا، مع التّكرار، وأبهج الصدور بصدور الكتب والإيراد والإصدار.
نحمده على فضله المدرار، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة إقرار، وعمل بالجوارح بلا إنكار، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله المصطفى من مضر بن نزار، المخصوص بالمهاجرين والأنصار، الثّاوي بأشرف بقعة تزار، المشرّف كتّاب الوحي: فهم يكتبون بما يمليه عليهم المختار، وجبريل يلقي على قلبه الآيات والأذكار، عن ربّ العزة المسبل الأستار، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ما نفح روض معطار، وسحّ صوب أمطار، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ ملاك الملك الشّريف حفظ سرّه، والاحتفال بكتبه الشّريفة ولفظها ودرّه، وخطابها ونثره، وخطها ونشره، وختمها وعطره، وتجهيزها مع
__________
(1) لم يكن ثمة لقب واحد متفق عليه في بداية الدولة المملوكية يطلق على كاتب ديوان الإنشاء، فكان يعبر عنه بكاتب الدّست حينا، وكاتب الدرج حينا آخر. ثم أطلق لقب كاتب السرّ لأول مرة زمن المنصور قلاوون على القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر. وإذ كانت القاهرة مركز سلطان الديار المصرية والشامية، فقد أطلق على متوليه في مصر لقب «صاحب دواوين الإنشاء» بالجمع في بعض الأحيان تعظيما له لمجاورته السلطان والخليفة، أما كاتب ديوان الإنشاء بدمشق فيسمى «متولي ديوان الإنشاء بالشام»، وأما متوليه في حمص وحلب وحماه وطرابلس وصفد فيسمى «صاحب ديوان المكاتبات» مضافا إلى النيابة الموجودة بها. أما النيابات الصغار كغزة والكرك والإسكندرية فيقال لمتولي ديوان كل منها «كاتب الدرج». (انظر: ديوان الإنشاء: نشأته وتطوره لحسن حبشي: القلقشندي وكتابه صبح الأعشى: ص 83وما بعدها).(12/187)
الأمناء الثّقات الذين تؤمن غائلة أحدهم في كلّ أمره وما ألقي السّرّ الشريف إلّا لأكمل الأعيان، وصدر الزّمان، وبليغ كسحبان، وفصيح كقسّ في هذا الزمان، وأصيل في الأنساب، وعريق في كرم الأحساب، وفاضل يعنو له فاضل بيسان (1)، وينشي لفظه الدّر والمرجان، وكاتب السّرّ فلا يفوه بلسان.
ولمّا كان فلان هو واسطة عقد الأفاضل، ورأس الرّؤساء الأماثل، وحافظ السّرّ في السّويداء من قلبه، وناظم الدّرّ في سطور كتبه، والمورد على مسامعنا الشريفة من عبارته ألفاظا عذابا، القائل صوابا، والمجيد خطابا، وإذا جهّز مهمّا شريفا راعاه بعينه عودا وذهابا، وإذا استعطف القلوب النافرة عادت الأعداء أحبابا، وإذا أرعد وأبرق على مأزق أغنى عن الجيوش وأبدى عجبا عجابا، وإذا كتب أنبت في القرطاس رياضا خصابا.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف أن يفوّض إليه كذا. فليحلّ هذا المنصب الشّريف حلول القمر هالته، وليعد إليه أيّام سرّه وسروره الفائتة، وليعرب عن أصول ثابتة، وفروع في منابت الخير نابتة، ولينفّذ المهمات الشّريفة أوّلا فأوّلا من غير أن يعدق مهمّا بغيره أو يبيّته إلى غده، وليحرّر البريد المنصور بيديه غير معتمد فيه على غير رشده، ولا يغب عن وظيفته طرفة عين بل يكون كالنّجم في رصده لمرتصده، وليوص كتّاب الإنشاء لديه، والمتصرّفين بين يديه، بكتم السّرّ فإن ذلك إليه فإذا أفشى أحد من السّرّ كلمة، فليزجره وليأمره أن يحفظ لسانه وقلمه، وليعط كلّ قضيّة ما تستحقها من تنفيذ كلمة والابتداءات والأجوبة فلتكن ثغورها بألفاظه متشنّبة (2) وعقودها بإملائه منتظمة فأمّا الابتداء فهو على اقتراحه، وأمّا الجواب فهو على ما يقتضيه الكتاب الوارد باصطلاحه ولا يملي إلا إلى ثقاته ونصّاحه والكتب الملوكية فليوفّها مقاصدها، وليراع عوائدها
__________
(1) الإشارات الواردة هي على التوالي إلى: سحبان وائل، وقسّ بن ساعدة الإياديّ، والقاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني.
(2) الشّنب: جمال الثغر. والمراد: متجملّة.(12/188)
والتّقوى فهي الهامّ [من] (1) أمره، وختام عطره، وتمام بدره والوصايا فهي كثيرة لديه وفي صدره والله تعالى يكمّل به أوقات عصره، بمنّه وكرمه! والخطّ الشّريف أعلاه
ومنها: نظر المملكة، القائمة بها مقام الوزارة.
وهذه نسخة توقيع من ذلك، وهي:
الحمد لله مفيض حلل إنعامنا على من أخلص في طاعتنا الشّريفة قلبه ولسانه، ومولي فضل آلائنا العميمة على من أرهف في مصالحها آلة عزمه وبنانه، ومحلّي رتب عليائنا الشّريفة بمن أشرق في سماء المعالي بدره وإنسانه، وأينعت في غصون الأمان قطوفه وأفنانه.
نحمده حمدا يبلغ [به] (2) أقصى غاية المجد من تبتسم بجميل نظره الثّغور، وتعتصم بحميد خبره وخبرته الأمور، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تشرق بها البدور، ويعتمد عليها في الأيّام والدّهور، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الهادي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم، والنّاشر لواء العدل بسننه الواضح وشرعه القويم، وعلى آله وصحبه الذين اهتدى بهديهم ذوو البصائر والأبصار، وارتدى بأرديتهم المعلمة مقتفي الآثار من النّظار، وسلّم تسليما.
وبعد، فإنّ أولى من أسندنا إلى نظره الجميل رتبة عزّ ما زالت بنو الآمال عليها تحوم، وعدقنا بتدبيره الجميل منصب سيادة ما برحت الأمانيّ له تروم، واعتمدنا على هممه العليّة فصدّق الخبر الخبر، وركنّا إلى حميد رأيه فشهد السّمع له وأدّى النّظر.
ولما كان فلان هو الّذي رقى في ذروة هذه المعالي، وانتظم به عقد هذه اللّآلي، وحوى بفضيلة البيان واللّسان ما لم تدركه المرهفات والعوالي فما حلّ
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) الزيادة يقتضيها السياق.(12/189)
ذروة عزّ إلّا حلّاها بنظره الجميل، ولا رقى رتبة سيادة إلا وأسفر في ذروتها وجه صبحه الجميل، ولا عدق بنظره كفالة رتبة إلا وكان لها خير كفيل.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف لا زال ينتصي (1) للرّتب العليّة خير منجد ومغير، ويختار للمناصب السّنيّة نعم المولى ونعم النّصير أن يفوّض إليه كذا فإنّه القويّ الأمين، والمتمسك من تقوى الله تعالى وكفايته بالسّبب المتين، والمستند بجميل كفالته وحميد ديانته إلى حصن حصين، والمستذري بأصالته الطّاهرة وإصابته إلى الجنّة الواقية والحرم الأمين.
فليقدّم خيرة الله تعالى ويباشر الجهة المذكورة بعزم لا ينبو، وهمّة لا تخبو، وتدبير يتضاعف على ممرّ الأيّام ويربو، ونظر لا يعزب عن مباشرته مثقال ذرّة إلا وهي من خاطره في قرار مكين، وضبط لا تمتدّ إليه يد ملتمس إلا ويجد من مرهفه ما يكفّ كفّها بالحدّ المتين، وليضاعف همّته، في مصالح هذه الجهة التي عدقناها بنظره السعيد، وليوفّر عزمته، فإنّ الحازم من ألقى السّمع وهو شهيد والوصايا كثيرة ومثله لا يدلّ عليها، والتّنبيهات واضحة وهو وفقه الله تعالى أهدى من أن يرشد إليها والله يوفّقه في القول والعمل، ويصلح بجميل تدبيره وحميد تأثيله كلّ خلل والاعتماد على الخطّ الشريف، إن شاء الله تعالى.
ومنها نظر الجيش بها:
وهذه نسخة توقيع بها لمن لقبه «شمس الدّين» وهي:
الحمد لله الّذي أطلع في سماء المعالي شمسا منيرة، وأينع غروس أولي الصدارة بعهاد سحب عوارفه الغزيرة، وأبدع الاحسان إلى من قدّمه الاختبار والاختيار على بصيرة.
__________
(1) انتصى (بالصاد المهملة): اختار.(12/190)
نحمده على نعمه الّتي عم فضلها، ومدّ على أولياء الدولة القاهرة ظلّها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تزلف لديه، وتسلف ما يجده المتمسّك بها يوم العرض عليه، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أشرف من بعث إلى الأمم كافّة، وأكرم من غدت أملاك النّصر آيته حافّة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حازوا بصحبته الشّرف، وفازوا بطاعة الله وطاعته من الجنان بغرف من فوقها غرف.
وبعد، فإنّ أولى ما عدق بالأكفاء، وأحقّ ما صرف إليه وجه الاعتناء، وأجدر ما أوقظ له طرف كاف لا يلمّ بالإغفاء أمر الجيوش المنصورة بطرابلس المحروسة الّتي لا ينهض بأعباء مصالحها إلا من عرف بالسّداد في قلمه وكلمه، وألف منه حسن التصرّف فيما يبديه من نزاهته ويظهره من هممه، بخبرة مؤكّدة، وآراء مسدّدة، ومعرفة أوضاع ترتيبها وأحوالها، وقواعد مقدّميها وأبطالها، وكفاية تفتح رحاب حالها.
ولما كان فلان هو الصّدر المليّ بوافي الضّبط ووافر الاهتمام، والكافي الذي نطقت بكفايته ألسنة الخرصان (1) وأفواه الأقلام، والضّابط الّذي لا يعجز فهمه عن إحاطة العلم بذوي الآلام.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف لا زال يقدم للمراتب، كافيا مشكورا، ويرشّح للمناصب، صدرا أضحى بالأمانة مشهورا أن يفوّض إليه كذا: لأنّه الصّدر الّذي تزاحمت ألسنة الثّناء عليه، وترادفت بين أيدينا محامده فقرّرنا العوارف لديه، وشكرت عندنا هممه في سداد كلّ ما يباشره، وذكرت لدينا بالخير سيرته وسرائره.
فليباشر هذه الوظيفة الجليلة متحلّيا بين الأنام بعقودها، مطلعا شمس نزاهته في فلك سعودها، ناهضا بأعباء منصبه السعيد، ضابطا قواعده بكلّ
__________
(1) الخرصان: الرماح.(12/191)
تحرير تليد، متقنا ديوان الجيوش المنصورة، معملا في ملاحظتها نافذ البصر وحسنى البصيرة، محرّرا أوراق العدّة والعدّة، باذلا في ضبط الحلّى اهتمامه وجهده والله تعالى يسعد جدّه، ويجدّد سعده والخطّ الشريف أعلاه
إن شاء الله تعالى.
قلت: وربّما كتب مفتتحا في هذه الرتبة ب «أمّا بعد» فإنها أصل ما يكتب في قطع الثلث.
المرتبة الثانية (من مراتب أرباب الوظائف الديوانية بطرابلس من يكتب له في قطع العادة ب «مجلس القاضي»)
وهو قليل الوقوع. والغالب في ذلك أن يكتب عن نائب السلطنة بها.
وهذه نسخة توقيع من هذه الرتبة بكتابة الدّست بطرابلس، يقاس عليه ما عداه من ذلك، وهي:
رسم بالأمر الشّريف لا زال أمره الشريف، يزيد من يصطفيه شرفا، وبرّه المنيف، يفيد من يجتبيه تحفا، وخيره المطيف، يجيد لمن يختاره جودا، ويسرّ قلب من رفعه إلى صدر الدّست صعودا، فيبوّئه من جنّات العلياء غرفا أن يستقرّ في كذا: استقرارا تجتنى منه ثمار الخيرات، وتجلى عليه عروس المسرّات، لأنّه الرئيس الّذي تفتخر هذه الوظيفة بانتسابها إليه، وتتجمّل حللها وألويتها إذا نشرت عليه، والفاضل الّذي ألقت إليه البلاغة زمامها، والكامل الذي ملك بيانها ونظامها، والأديب الّذي لا يدرك في الآداب، واللّبيب الّذي يقصر عنه طول عامّة الطّلّاب كم له من كتابة حسنة الاتّساق، وبلاغة حصل على فضلها الاتّفاق، وديانة أطلق فيها لسانه ويده فشكرها الناس على الإطلاق فهو مستند الرآسة، وابن من حاز كلّ فخار وراسه، والعلم المشهور علمه، وصاحب القلم المشكور رقمه فالمناصب بارتفاعه إليها مفتخرة، والمراتب بعلائه مستبشرة، والأسماع بفضائله مشنّفة، والأسجاع بكلمه مشرّفة.
فليباشر هذه الوظيفة، وليسلك فيها طريق نفسه العفيفة، وليدبّج القصص بأقلامه، وليبهج التّواقيع بما يوقّع مبرم فصيح كلامه، وليزيّن الطّروس، بكتابته، ولينعش النّفوس، ببلاغته، وليجمّل من المباشرة ما تصبح منه مطالع شرفه منيرة، وتمسي به عين محبّه قريرة والوصايا فهو خطيب منبرها، ولبيب موردها ومصدرها، والتّقوى فليلازم فيها شعاره، وليداوم بها على ما يبلغ به أوطاره والله تعالى يجعل سعوده كلّ يوم في ازدياد، ويسهل له ما يرفع ذكره بين العباد، بمّنه وكرمه!. والاعتماد في ذلك على الخطّ الشريف أعلاه، إن شاء الله تعالى.(12/192)
رسم بالأمر الشّريف لا زال أمره الشريف، يزيد من يصطفيه شرفا، وبرّه المنيف، يفيد من يجتبيه تحفا، وخيره المطيف، يجيد لمن يختاره جودا، ويسرّ قلب من رفعه إلى صدر الدّست صعودا، فيبوّئه من جنّات العلياء غرفا أن يستقرّ في كذا: استقرارا تجتنى منه ثمار الخيرات، وتجلى عليه عروس المسرّات، لأنّه الرئيس الّذي تفتخر هذه الوظيفة بانتسابها إليه، وتتجمّل حللها وألويتها إذا نشرت عليه، والفاضل الّذي ألقت إليه البلاغة زمامها، والكامل الذي ملك بيانها ونظامها، والأديب الّذي لا يدرك في الآداب، واللّبيب الّذي يقصر عنه طول عامّة الطّلّاب كم له من كتابة حسنة الاتّساق، وبلاغة حصل على فضلها الاتّفاق، وديانة أطلق فيها لسانه ويده فشكرها الناس على الإطلاق فهو مستند الرآسة، وابن من حاز كلّ فخار وراسه، والعلم المشهور علمه، وصاحب القلم المشكور رقمه فالمناصب بارتفاعه إليها مفتخرة، والمراتب بعلائه مستبشرة، والأسماع بفضائله مشنّفة، والأسجاع بكلمه مشرّفة.
فليباشر هذه الوظيفة، وليسلك فيها طريق نفسه العفيفة، وليدبّج القصص بأقلامه، وليبهج التّواقيع بما يوقّع مبرم فصيح كلامه، وليزيّن الطّروس، بكتابته، ولينعش النّفوس، ببلاغته، وليجمّل من المباشرة ما تصبح منه مطالع شرفه منيرة، وتمسي به عين محبّه قريرة والوصايا فهو خطيب منبرها، ولبيب موردها ومصدرها، والتّقوى فليلازم فيها شعاره، وليداوم بها على ما يبلغ به أوطاره والله تعالى يجعل سعوده كلّ يوم في ازدياد، ويسهل له ما يرفع ذكره بين العباد، بمّنه وكرمه!. والاعتماد في ذلك على الخطّ الشريف أعلاه، إن شاء الله تعالى.
النوع الثاني (من الوظائف بطرابلس ما هو خارج عن حاضرتها، وهم على ثلاثة أصناف أيضا)
الصّنف الأوّل (أرباب السيوف)
وقد تقدّم أنّه ليس بها مقدّم ألف سوى نائب السّلطنة بها، وحينئذ فالنيابات بمعاملتها على طبقتين:
الطبقة الأولى (الطّبلخاناه)
ومراسيمهم تكتب في قطع الثلث ب «السّاميّ» بالياء، مفتتحة ب «الحمد لله».
وهذه نسخة مرسوم شريف من ذلك بنيابة قلعة، تصلح لنائب اللّاذقيّة، ينسج على منوالها، وهي:
الحمد لله الّذي جعل الحصون الإسلاميّة في أيّامنا الزّاهرة، مصفّحة بالصّفاح، والثّغور المصونة في دولتنا القاهرة، مشرّفة بأسنّة الرّماح، والمعاقل
المحروسة مخصوصة من أوليائنا بمن يعدّ بأسه لها أوقى الجنن وذبّه عنها أقوى السّلاح.(12/193)
الحمد لله الّذي جعل الحصون الإسلاميّة في أيّامنا الزّاهرة، مصفّحة بالصّفاح، والثّغور المصونة في دولتنا القاهرة، مشرّفة بأسنّة الرّماح، والمعاقل
المحروسة مخصوصة من أوليائنا بمن يعدّ بأسه لها أوقى الجنن وذبّه عنها أقوى السّلاح.
نحمده على نعمه الّتي عوارفها عميمة، وطوارفها كالتّالدة للمزيد مستديمة، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تنطق الضمائر قبل الألسنة بإخلاصها، وتشرق القلوب بعموم إحاطتها بها واختصاصها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أشرقت بنور ملّته الظّلم، وارتوت بفور شريعته الأمم، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين امتطوا إلى جهاد أعداء الله وأعدائه غارب الهمم، صلاة سارية كالرّياح هامية كالدّيم، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى ما عقد عليه في صيانة الحصون الخناصر، واعتمد على مثله في كفاية المعاقل إذا لم يكن غير تأييد الله وحدّ السّيف ناصر من هو في حفظ ما يليه كالصّدور الّتي تصون الأسرار، والكمائم التي تحوط الثّمار، مع اليقظة الّتي تذود الطّيف أن يلمّ بحماة حماه، والفطنة الّتي تصدّ الفكر أن يتخيّل فيه ما اشتمل عليه وحواه، والأمانة الّتي ينوي فيها طاعة الله وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وطاعتنا الشريفة ولكلّ امريء ما نواه.
ولما كان فلان هو السيف الّذي تروق تجربته ويروع تجريده، وإذا ورد في الوغى منهل حرب فمشرعه من كلّ كميّ وريده اقتضت آراؤنا الشريفة أن نرهف حدّه بحفظ أسنى الحصون عندنا مكانا ومكانة، وأسمى المعاقل رفعة وعزة وصيانة.
فرسم بالأمر الشّريف أن تفوّض إليه النيابة بقلعة كذا.
فليباشر هذه النّيابة السّامي قدرها، الكامل في أفق الرّتب بدرها، مباشرة تصدّ الأفكار، عن توهّمها، والأبصار، عن توسّمها، والخواطر، عن تخيّل مغناها، والسّرائر، عن تمثّل صورتها ومعناها.
وليكن لمصالحها متلمّحا، ولنجوى رجالها متصفّحا، ولأعذار حماتها مزيحا، وللخواطر من أسباب كفايتها مريحا، ولمواطنها عامرا، وبما قلّ وجلّ
من مصالحها آمرا، ولوظائفها مقيما، وللنّظر في الكبير والصغير من أمورها مديما، ولخدمتها مضاعفا، ولكلّ ما يتعين الاحتفال به من مهمّاتها واقفا، وملاك الوصايا تقوى الله: وهي أوّل ما يقدّمه بين يديه، وأولى ما ينبغي أن يصرف نظره إليه فليجعل ذلك خلق نفسه، ومزيّة يومه على أمسه، والخير يكون، والخط الشريف أعلاه، إن شاء الله تعالى.(12/194)
وليكن لمصالحها متلمّحا، ولنجوى رجالها متصفّحا، ولأعذار حماتها مزيحا، وللخواطر من أسباب كفايتها مريحا، ولمواطنها عامرا، وبما قلّ وجلّ
من مصالحها آمرا، ولوظائفها مقيما، وللنّظر في الكبير والصغير من أمورها مديما، ولخدمتها مضاعفا، ولكلّ ما يتعين الاحتفال به من مهمّاتها واقفا، وملاك الوصايا تقوى الله: وهي أوّل ما يقدّمه بين يديه، وأولى ما ينبغي أن يصرف نظره إليه فليجعل ذلك خلق نفسه، ومزيّة يومه على أمسه، والخير يكون، والخط الشريف أعلاه، إن شاء الله تعالى.
الطبقة الثانية (العشرات)
ومراسيمهم إن كتبت من الأبواب السّلطانية ففي قطع الثلث ب «السامي» بغير ياء، مفتتحة ب «أمّا بعد» إلا أنّ الغالب كتابتها عن نائب السّلطنة.
وهذه نسخة مرسوم شريف بنيابة قلعة بلاطنس (1)، من معاملتها وهي:
أمّا بعد حمد الله على نعم توالى رفدها، ووجب شكرها وحمدها، وعذب لذوي الآمال وردها، والصّلاة والسلام على سيدنا محمد الّذي رفع به لقريش مجدها، فعلا جدّها (2)، وعلى آله وصحبه صلاة لا يحصى عددها ولا يحصر حدّها فإنّه لمّا كان فلان من قدمت تقادم خدمه، وتعالى به إلى العلياء سامي هممه، وترفّع به حسن ولائه حتّى أعلت الدولة من شأنه ورفعت من علمه، واستكفته لمصون الحصون، وجادت عليه بصوب إحسان روّى الأمانيّ فأضحت نضرة الغصون وكانت قلعة فلانة هي القلعة الّتي شمخت بأنفها على القلاع علوّا، وسامت الجوزاء سموّا، فوجب أن لا يستحفظ عليها وفيها، إلّا من عرف بحسن المحافظة وتوفّيها وكان المشار إليه هو عين هذه الأوصاف، والوارد من حسن الطاعة المورد الصّاف اقتضى حسن الرأي الشّريف أن ننوّه بذكره، ونرفع من قدره.
__________
(1) مقابل اللاذقية من أعمال حلب. (معجم البلدان: 1/ 478).
(2) الجدّ: المكانة والمنزلة عند الناس.(12/195)
ولذلك رسم لا زال أن تفوّض إليه النيابة بهذه القلعة المحروسة، وأن تكون بأوانس صفاته مأنوسة.
فليكن فيما استحفظ كفوا، وليورد الرّعيّة من حسن السّيرة صفوا، وإذا تعارض حكم الانتقام وكان الذنب دون الحدّ فليقدّم عفوا. وعليه بالعدل، فإنّه زمام الفصل، والقلعة ورجالها، وذخائرها وأموالها، فليمعن النظر في ذلك بكرة وأصيلا، وإجمالا وتفصيلا، وتحصينا وتحصيلا. وعليه بالتّمسّك بالشّريعة المطهّرة، وأحكامها المحرّرة وليردع أهل الفساد، ويقابل من ظهر منه العناد، بما يؤمّن المناهج، ويجدّد المباهج، والوصايا كثيرة، فليكن ممّا ذكر على بصيرة أعانه الله على ما أولاه، ورعاه فيما استرعاه والخطّ الشريف أعلاه، حجّة بمقتضاه، والخير يكون إن شاء الله تعالى.
الصنف الثاني (ممّا هو خارج عن حاضرة طرابلس الوظائف الدّينية)
والغالب كتابتها عن نائب السلطنة بطرابلس. فإن كتب شيء منها عن الأبواب السلطانية، كان في قطع العادة «بمجلس القاضي» مفتتحا ب «رسم».
وهذه نسخة توقيع من ذلك بنظر وقف على جامع بمعاملة طرابلس، كتب به لمن لقبه «زين الدّين» وهي:
رسم بالأمر الشّريف لا زال كريم نظره يستنيب عنه بمصالح بيوت الله تعالى من تزداد بنظره شرفا وزينا، ويعيّن لها من الأعيان من تسرّ به خاطرا وتقرّ به عينا، ويمنحها من إذا باراه مبار وجد بينهما بونا وبينا، ويقرّر لها كلّ كاف إذا فاه راء بوصف آرائه الملموحة عيّن صوابها ولا يجد عليها عينا أن يستقرّ بالنّظر على كذا: استقرارا يرى الوقف بنظره على ربعه طلاوة، ويجد بمباشرته في صحنه حلاوة، ويعرب عن استمراره على حسن الثّناء، ويجد من نيل ريعه أكمل وفاء، لأنّه الناظر الّذي لا يملّ إنسانه، من حسن النّظر، ولا يكلّ لسانه، عن الأمر بالمصالح ولفظه عن إلقاء الدّرر، والشّريف الّذي وجدت مخايل شرفه
من فضل خلاله، والجواد الحائز بجوده قصب السّبق على أمثاله، والكامل الّذي لا توجد في صفاته نقيصة، والفاضل الّذي أتته الفضائل على رغمها رخيصة.(12/196)
رسم بالأمر الشّريف لا زال كريم نظره يستنيب عنه بمصالح بيوت الله تعالى من تزداد بنظره شرفا وزينا، ويعيّن لها من الأعيان من تسرّ به خاطرا وتقرّ به عينا، ويمنحها من إذا باراه مبار وجد بينهما بونا وبينا، ويقرّر لها كلّ كاف إذا فاه راء بوصف آرائه الملموحة عيّن صوابها ولا يجد عليها عينا أن يستقرّ بالنّظر على كذا: استقرارا يرى الوقف بنظره على ربعه طلاوة، ويجد بمباشرته في صحنه حلاوة، ويعرب عن استمراره على حسن الثّناء، ويجد من نيل ريعه أكمل وفاء، لأنّه الناظر الّذي لا يملّ إنسانه، من حسن النّظر، ولا يكلّ لسانه، عن الأمر بالمصالح ولفظه عن إلقاء الدّرر، والشّريف الّذي وجدت مخايل شرفه
من فضل خلاله، والجواد الحائز بجوده قصب السّبق على أمثاله، والكامل الّذي لا توجد في صفاته نقيصة، والفاضل الّذي أتته الفضائل على رغمها رخيصة.
فليباشر هذا النّظر مباشرة تكحل ناظره فيها بالوسن، وليقابلها من جميل سلوكه بكل وجه حسن، وليبدأ أوقاف الجامع المذكور بالعمارة، وليقطع بمدية أمانته يد من يشنّ على ماله الغارة، وليأمر أرباب وظائفه باللّزوم، وليخصّ كلّا منهم من فضله بالعموم، وليتّق الله تعالى في القول والعمل، وليجتهد على أن لا يتخلّل مباشرته الخلل والاعتماد على الخطّ الشّريف أعلاه
الصنف الثالث (مما هو خارج عن حاضرة طرابلس أرباب الوظائف الدّيوانية)
وقل أن يكتب فيها شيء عن الأبواب الشّريفة السّلطانية، وأنّ الغالب كتابة ما يكتب فيها من نائب السّلطنة بطرابلس. فإن اتّفق كتابة شيء من ذلك عن الأبواب السلطانية، مشى الكاتب فيه على نهج ما تقدّم في الوظائف الدّينية: من كتابته في قطع العادة ب «مجلس القاضي» مفتتحا ب «رسم» لا يختلف الحال منه في ذلك إلّا في الفرق بين التّعلّقات الدّينية والدّيوانيّة. والكاتب الماهر يصرّف قلمه في ذلك وفي كلّ ما يحدث من غيره على وفق ما تقتضيه الحال، وبالله المستعان.
النيابة الرابعة (نيابة حماة. ووظائفها الّتي تكتب بها من الأبواب السلطانية، ما بحاضرتها خاصّة وهي على ثلاثة (1) أصناف)
الصنف الأوّل (أرباب السيوف)
وليس بها منهم إلّا نائب السلطنة خاصّة. ويكتب له تقليد في قطع الثلثين
__________
(1) لم يذكر إلّا صنفين.(12/197)
ب «الجناب العالي» مع الدعاء بمضاعفة النّعمة.
وهذه نسخة تقليد بنيابة حماة:
الحمد لله ذي التّدبير اللّطيف، والعون المطيف، والحياطة الّتي تستوعب كلّ تصريف وكلّ تكليف.
نحمده بمحامد جميلة التّفويف، حسنة التّأليف، مكمّلة التّكييف، بريّة من التّطفيف، حرية بكل شكر منيف، وذكر شريف، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة خلص تحريرها عن كلّ تحريف، وتنزّه مقالها عن تسويد تفنيد أو تسويف، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله صاحب الدّين الحنيف، والمبعوث بالرّحمة والتّخفيف، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة متناوبة تناوب الصّرير والصّريف (1)، والشّتاء والمصيف، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ من شيم الدّولة وسجاياها، وأحكامها وقضاياها، تقديم الأهمّ فالأهمّ، وتحتيم الاتمّ من الرّأي وتحكيم التّدبير الأعمّ، وفعل كلّ ما يحوط الممالك ويحفظها، ويذكي العيون لملاحظتها ويوقظها: لما أوجبه الله من حقوقها، وحظره من عقوقها ولا يكون ذلك إلا باختيار الأولياء لضبطها، والتّعويل على الأملياء بالقيام بشرطها، والاستناد من الزّعماء إلى من يوفّي من الخرّاجة (2) والعيون وافي قسطها.
ولما كانت المملكة الحمويّة جديرة بالالتفات، حقيقة بالحياطة من جميع الجهات، مستدعية من جميل النّظر كلّ ما يحرس ربعها، ويديم نفعها، ويحفّل ضرعها، ويلمّ شعثها ويشعب صدعها، ويسرّ سمعها، ويفعم شرعها، ويعظّم شرعها، ويكتنفها اكتناف السّور والسّوار، والهالة للبدر والأكمام للثّمار وكان فلان هو المتقشّع سحاب هذا الوصف عن بدره المنير، والمتقلّع ضباب هذا التّفويض عن نور شمسه المنعشة قوى كلّ نبت نضير، والّذي بأهليته لرتبة هذا
__________
(1) لعل المراد الليل والنهار.
(2) في هامش الطبعة الأميرية: «رجل خرّاج ولّاج: كثير الظرف والاحتيال. ولعله المراد هنا».(12/198)
التفويض ما خاب المستخير، ولا ندم المستشير، والّذي يفرده استحقاقه بهذه الرتبة فلا يقول أحد من كبير ولا صغير امتثالا للمراسيم الشّريفة في حقّه: «منّا أمير ومنكم أمير» اقتضى جميل الرأي المنيف، أن خرج الأمر الشريف لا برح يحسن التّعويل، ويهدي إلى سواء السبيل، ويمضي مضاء القضاء المنزّل والسيف الصّقيل أن تفوّض إليه نيابة السلطنة المعظمة في مملكة كذا وكذا.
فليقدّم خيرة الله قائلا وفاعلا، ومقيما وراحلا، وموجّها ومواجها ومسجّلا وساجلا، وعالما وعاملا، ومعتمدا على الله في أمره كلّه. وليكن من هذه المعرفة قريبا، وعلى كلّ شيء حتّى على نفسه رقيبا وإذا اتّقى الله كفاه الله الناس، وإن اتقى الناس لم يغنوا عنه من الله شيئا فليقس على هذا القياس، ويقتبس هذا الاقتباس.
وأما الوصايا فالعساكر المنصورة هم مخلب الظّفر وظفره، وبهم يكشف من كل عدوّ سرّه، ويخلّى وطنه ووكره، ويضرب زيده وعمره، ويبدّد جمعه، ويساء صنعه، ويعمى بصره ويصمّ سمعه، وهم أسوار تجاه الأسوار، وأمواج تندفع وتندفق أعظم من اندفاق البحار، وما منهم إلا من هو عندنا لمن المصطفين الأخيار فأحسن استجلاب خواطرهم، واستخلاب بواطنهم وسرائرهم، واستحلاب الشائع (1) من طاعاتهم في مواردهم ومصادرهم وكن عليهم شفوقا، وبهم في غير الطاعة والاستعباد رفوقا، وأوجب لهم بالجهاد والاجتهاد حقوقا، واصرف لهم حملا لأعباء المهمّات والملمّات مطيقا، واستشر منهم ذوي الرأي المصيب، ومن أحسن التّجريب، ومن تتحقّق منه النّصح من الكهول والشيب، ممن كلل بغيرة منه ما شبّ فإنّ المرء كثير بأخيه، وإذا اجتمعت غصون في يد أيّد عست (2) على قصفه وقصف كلّ واحدة فواحدة لا يعييه.
__________
(1) في الأصل «السامع مع من» وهو تحريف. والتصحيح من الطبعة الأميرية.
(2) عسى القضيب: يبس. والأيّد: القويّ.(12/199)
والجهاد (1) فهو ملاك كلّ استحواء واستحواذ، وبه تتميز أفعال الكفّار بالنّفاد وأفعال الدّين الحنيف بالنّفاذ وما جعل الله للمدافعين عن دين الله سواه، ولا مزجي صوب صواب إلا إيّاه وعلى ذلك جعل الله أرزاقهم، وهيّأ لهم به إرفاقهم فليكرمهم بأخذ الأهبة، في الاعتلاء والانصباب في كلّ هضبة، والاستعداد برباط الخيل وكلّ قوّة.
ومن الوصايا الّتي ينبغي أنها ترسم في جبهات الفكر [دون توان] (2) أو ركون أن لا يستحقر عدوّا، ولا يستهزيء بقلّته لا رواحا ولا غدوّا، وليكن للاستظهار مستوعبا، ولإعمال المكايد مستوثبا، وللكشف بعد الكشف مستصحبا وغير ذلك من الأمور، التي بها صلاح الجمهور.
والشّرع الشريف وتنفيذ أحكامه، وتقوية أيدي حكّامه فهو ميزان الإسلام والسّلامة، وقوام الصّلاح والاستقامة، وأخوه المرتضع من ثدي الحقّ، العدل الذي كم شاق وكثيرا ما على أهل الباطل شقّ، وعمّ القريب والبعيد، والسائق والشهيد، والمريب والمريد، وكلّ ذي ضعف مبيد، وكلّ ذي بأس شديد، وكلّ مستشير ومستزيد، فإنّ ذلك إذا شمل حاط، وتم به الارتياد والارتباط، وهدى إلى أقوم صراط.
والحدود فهي حياة النفوس، وبها تزال البؤوس، فأقمها ما لم تدرأ بالشّبهات الشرعية، والأمور المرعيّة.
والأموال فهي مجلبة الرّجال، ومخلبة الآمال، وبها يشدّ الأزر، ويقوى الاستظهار [و] (3) الظّهر، فيشدّ من الذين أمرها بهم معدوق، ويقويّ أيديهم بكلّ طريق في كلّ طروق، بحيث لا يؤخذ إلا الحق ولا يترك شيء من الحقوق.
__________
(1) في الأصل «والاجتهاد» والتصحيح من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/200)
والرعية فهم عند والي الأمر ودائع: ينبغي أنّها تكون محفوظة، وبعين الاعتناء ملحوظة فأحسن جوارهم، وأزل نفارهم، واكفف عنهم مضارّهم، ولا تعاملهم إلا بما لا تسأل عنه غدا بين يدي ربّك فإنه يراك حين تقوم، وأعدد جوابا لذلك فكلّ راع مسؤول.
وأمّا غير ذلك فلا بدّ أن تطلعك المباشرة على خفايا تغنيك عن المؤامرة، وستتوالى إليك الأجوبة عند المسافرة في المكاتبات الواردة والصّادرة والله يوفقك في كلّ منهج تسلكه وتقتفيه، ويسدّدك فيما من ذلك تنتحيه.
قلت: أمّا سائر أرباب الوظائف بها: كشدّ الدواوين، وشدّ مراكز البريد وغيرهما، فقد جرت العادة أنّ النائب يستقلّ بتوليتها. فإن قدّر كتابة شيء من ذلك لأحد بها، كتب لمن يكون طبلخاناه في قطع النصف ب «السامي» بغير ياء، ولمن يكون عشرة في قطع الثلث ب «مجلس الأمير» كما في غيرها.
الصنف الثاني (أرباب الوظائف الدينية، وهم على مرتبتين)
المرتبة الأولى من يكتب له في قطع الثلث ب «الساميّ بالياء»
. وهم قضاة القضاة الأربعة.
المرتبة الثانية من يكتب له في قطع العادة
: إمّا في المنصوريّ، مفتتحا ب «أما بعد» وإما في الصّغير مفتتحا ب «رسم». وعلى ذلك تكتب تواقيع قضاة العسكر بها، ومفتي دار العدل، والمحتسب، ووكيل بيت المال، ووظائف التّداريس والتصادير، ونظر [الأحباس] (1) إن كتب شيء من ذلك عن الأبواب السلطانية، وإلّا فالغالب كتابة ذلك عن النائب بها (2)
__________
(1) بياض بالأصل. والزيادة من هامش الطبعة الأميرية.
(2) لم يكمل الكلام على الصنف الثالث. ولعله أرباب الوظائف الديوانية، كما يؤخذ مما سبق.(12/201)
النيابة الخامسة (نيابة صفد)
وقد تقدّم في الكلام على المكاتبات أنّها في رتبة نيابة طرابلس وحماة في المكاتبة، وأنّها تذكر بعد حماة في المطلقات.
ووظائفها الّتي تولّى من الأبواب السّلطانية على ثلاثة أصناف:
الصنف الأوّل (أرباب السيوف، وفيه وظيفتان)
الوظيفة الأولى (نيابة السلطنة بها، ويكتب تقليده في قطع الثلثين)
وهذه نسخة تقليد بنيابة السّلطنة بصفد، كتب به لسيف الدين «قطلقتمس» (1) السلحدار الناصريّ، في سابع رمضان سنة عشر وسبعمائة، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ، وهي:
الحمد لله الّذي صان الثّغور المحروسة من أوليائنا بسيف لا تنبو مضاربه، وخصّ أسنى الممالك المصونة من أصفيائنا بعضب لا يفلّ غربه محاربه، وقدّم على زعامة الجيوش من خواصّنا ليثا يسكن إليه كلّ أسد من أسد ذائلة (2) تغالبه، حافظ نطاق البحر من أبطال دولتنا بكلّ كميّ تصدّ البحر مهابته أن يستقل براكبه أو تستقرّ على ظهره مراكبه، وناشر لواء عدلنا في أقاليمنا بما يغني كلّ قطر أن تتدفّق جداوله أو تستهلّ به سحائبه.
نحمده على نعمه الّتي جعلت سيف الجهاد رائد أوامرنا، وقائد جيوشنا إلى مواقف النّصر وعساكرنا، وذائد أعداء الملة عن أطراف ممالكنا الّتي أسبق إليها من رجع النّفس في الدّجى تألّق نجوم ذوابلنا، وفي الضّحى تبلّج غرر
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية ولم نهتد إلى ضبطه والتعريف به.
(2) الذائلة: طويلة الذيل.(12/202)
صوارمنا، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة يستظل الإيمان، تحت لوائها، وتعبق الأكوان، بما تنطق به الألسنة من أروائها، ويشرق الوجود بما يبدو على الوجوه من روائها، وتجادل أعداءها في الآفاق لرفع كلمة ملّتها على الملل وإعلائها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله خاتم الأنبياء، وأشرف حملة الأنباء، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه المخصوصين بأسنى مراتب الاجتباء، صلاة دائمة بدوام الأرض والسماء، وسلّم تسليما كثيرا.
أمّا بعد، فإنّ أولى من فوّضت إليه زعامة الجيوش بأسنى الممالك، وعدق به من تقدّم العساكر ما يرجف بمهابته هناك أرض العدوّ هنالك، وعقد به للرعايا لواء عدل تجلّى بإشراق ليل الظّلم الحالك، وعوّل عليه من جميل السّيرة فيما تعمر به البلاد وتأمن به الرعايا وتطمئنّ به المسالك من لم يزل في خدمة الدّولة القاهرة سيفا ترهب العدا حدّه، ويخاف أهل الكفر فتكاته تحقّقا أنّ آجالهم عنده، ويتوقّع على كلّ كميّ من عظماء الشّرك أن رأسه سيكون غمده، مع سياسة تشتمل على الرعايا ظلالها الممتدّة، وسيرة تضع الأشياء مواضعها فلا تضع الحدّة موضع اللّين ولا اللّين موضع الحدّة، وتوفّر على عمارة البلاد يعين على ريّها طلّ الأنواء والوابل، وبراءة تجعل ما يودع فيها بالبركة والنّماء: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنََابِلَ} (1)
ولمّا كان الجناب العالي هو السّيف الّذي على عاتق الدّولة نجاده، واللّيث الّذي لم يزل في سبيل الله إغارته وإنجاده، والغيث الّذي يخصب بمعدلته البلد الماحل، والأسد الّذي تصدّ ساكني البحر مهابته فيتحقّقون أنّ العطب لا السلامة في الساحل، اقتضت آراؤنا الشريفة أن نزيد حدّ عزمه إرهافا، وأن نرهب العدا ببأسه الّذي يردّ آحاد ما تقدّم عليه من الجيوش آلافا، وأن نفوّض إليه من أمور رعايانا ما إذا أسند إليه يوسعهم عدلا وإنصافا.
__________
(1) البقرة / 261.(12/203)
فلذلك رسم بالأمر الشريف: أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بصفد المحروسة: تفويضا يعلي قدره، ويمضي في عموم مصالحها وخصوصها نهيه وأمره، ويرهف في حفظ سواحلها وموانيها بيضه وسمره، ويصلي مجاورها من ساكني الماء من بأسه المتوقّد جمره.
فليتلقّ هذه النعمة بباع شكره المديد، ويترقّ هذه المرتبة بمزيّة اعتزامه التي ليس عليها فيما يعدق به من مصالح الإسلام مزيد، وينشر بها من عموم معدلته ما لا يخصّ دون قوم قوما، ويعمّر بلادها بالعدل: فإنّ «عدل يوم واحد خير للأرض من أن تمطر أربعين يوما»، ويبسط فيها من مهابته ما يكفّ أكفّ البغاة أن تمتدّ، ويمنع رخاء (1) أهوية أهلها أن تشتدّ، ويؤمّن المسالك أن تخاف، والرعايا أن يجار عليهم أو يحاف، وليكن من في تقدمته من الجيوش المنصورة مكمّلي العدد والعدد، ظاهري اللأمة (2) التي هي مادّة المجالدة وعون الجلد، مزاحي الأعذار فيما يرسم لهم به من الرّكوب، مزالي العوائق في التّأهّب لما هم بصدده من الوثوب، حافظي مراكزهم حفظ العيون بأهدابها، آخذي أخبار ما يشغل البحر من قطع العدا في حال بعدها كحال اقترابها، بحيث لا يشرف على البرّ من قطع المخذولين إلا أسير أو كسير، أو من إذا رجع بصره إلى السّواحل ينقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير وليكن أهل الجبال بمهابته كأهل السّهل (3) في حسن انقيادهم وطاعتهم، ويصدّ عنهم بسطوته مجال الأوهام المتّصلة فلا تنصرف إلى غير مجاوريهم من الأعداء مواقع بأسهم وشجاعتهم وملاك الوصايا تقوى الله: وهي من أخصّ أوصافه، والجمع بين العدل والإحسان وهما من نتائج إنصافه فليجعلهما عمدتي حكمه في القول
__________
(1) الرّخاء: الريح اللّينة. وفي التنزيل العزيز: {فَسَخَّرْنََا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخََاءً حَيْثُ أَصََابَ}.
(2) اللأمة: أداة الحرب كلها.
(3) في الأصل «كألسهل» وفيها سقط واضح.(12/204)
والعمل والله تعالى يجعله من أوليائه المتّقين وقد فعل والاعتماد إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الثانية (نيابة قلعة صفد)
وهذه نسخة مرسوم شريف بنيابة قلعة صفد المحروسة، من إنشاء المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله، كتب به للأمير سيف الدين «أزاق الناصري» خامس المحرّم سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، وهي:
الحمد لله الّذي خصّ الحصون برفعة ذراها، وسمعة من فيها من رجال تحمي حماها، وتخطف أبصار السيوف بسناها، وتصيب برميها حتى قوس قزح إذا راماها.
نحمده حمدا تبرز به المعاقل في حلاها، وتفخر به عقائل القلاع على سواها، وتشرف به شرفاتها حتّى تجري المجرّة في رباها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة يطيب جناها، ويطنب في السماء مرتقاها، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي كتب به للأمّة هداها، وكبت عداها، وبوّأها مقاعد للقتال تقصر دونها النجوم في سراها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا ينقطع عنهم قراها، وسلّم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين.
وبعد، فإنّ صفد صفت، ووفّت ووفت، وكفّت وكفت، وجاورت البحر فما غمضت عنه لديادبها (1) عيون، ولا خيطت لسيوفها بالكرى جفون، ولا ونت لرماحها عزائم شابت لممها، ولا انتشت من السّهام نبال تفيض ديمها، ولا أطالت مجانيقها السّكوت إلا لتهدر شقاشقها، وتهدّ بها من الجبال شواهقها، وتهول العدا بما تريهم من التّهويل، وترمي به من كفّاتها الحجارة من سجّيل.
__________
(1) الديادب: جمع ديدبان وهم الذين يقومون برصد العدو ورؤيته. (انظر صبح الأعشى:
14/ 398).(12/205)
وهي القلعة الّتي يضرب المثل بحصانتها، ويطمئنّ [أهل] (1) الإسلام في إيداع أموالهم وأهلهم إلى أمانتها، قد أطلّت على الكواكب نزولا، وجرّدت على منطقة بروجها من البروق نصولا، وأتعبت الرياح لمّا حلّقت إليها، وأخافت الهلال حتّى وقف رقيبا عليها وفيها من جنودنا المؤيّدة من نزيدهم بها مددا، وتطيب قلوبهم إذا خرجوا لجهاد أعداء الله وخلّوا لهم فيها مالا وولدا. وكانت النيابة بهذه القلعة المحروسة قد كادت تنطق بشكواها، وتتظلّم ممّن أساء صحبتها لمّا تولّاها، واقتضت آراؤنا العالية أن نزحزح ظلامه، عن صباحها، ونقوّض خيامه، عما فرش على الفلك الشاهقة من بطاحها وفكّرنا فيمن له بالقلاع المحروسة دربة لا يخفى عليه بها سلوك، ولا يخاف معه على هذه الدّرّة الثمينة في سلوك، ممّن حمد في دولتنا الشريفة مساء صباح، ومن كان في أبوابنا العالية هو الفتّاح، ومن له همّة تناط بالثّريّا مطالبها، وعزمة ما القضاء إلا قواضبها، ومعرفة ما الرّمح المثقّف إلّا تجاربها، وكفاية ما الغرّ الزواهر إذا عدّدت إلّا مناقبها.
وكان المجلس الساميّ أدام الله عزّه هو المحلّق إلى هذه المرتبة، والمخلّق بالأصيل أرديتها المذهبة، والمحقّق في صفاته الورع، والمنزّه عن تدنيس طباعه بالطّمع، وله في الأمانة اليد المشكورة، وفي الصّيانة ما يمتع به ذيول السّحاب المجرورة، ومن التّقوى ما قرّب عليه المطالب البطيّة، ومن الفروسيّة ما اتخذ كلّ ذروة صهوة وكلّ جبل مطيّة، ومن الاستحقاق ما يسهّل له من صدقاتنا الشريفة صفد: وفي اللّغة أنّ الصّفد هو العطيّة.
فرسم بالأمر الشريف شرّفه الله وعظمه، وأحكمه وحكّمه أن يرتّب في النيابة بقلعة صفد المحروسة: على عادة من تقدّم وقاعدته في التقرير، وأمّا كيف يكون اعتماده، فسنرشده منه بصبح منير.
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.(12/206)
فقدّم تقوى الله في سرّك ونجواك، واقصر على القناعة رجواك (1)، واحفظ هذه القلعة من طوارق اللّيل والنّهار، وأعدّ من قبلك للقتال في قرى محصّنة أو من وراء جدار، واملأ سماءك حرسا شديدا، وشهبا وكثّر رجالها لتباري بهم النّجوم في أمثالها من بروج السماء عديدا، وخذ إلى طاعتنا الشريفة بقلوبهم وهم على ذلك ولكنّا نريد أن نزيدهم توكيدا، وتألّفهم على موالاتنا حتّى لا تجد أنت ولا هم إلى المزيد مزيدا، وتفقّد الذخائر والآلات، وتيقّظ لما تلجيء إليه الضائقة في أوسع الأوقات، وحصّن مبانيها، وحصّل فيها من الذخائر فوق ما يكفيها، ومن السّلاح ما هو أمنع من أسوارها، وأنفع في أوقات الحاجة مما تكنزه الخزائن من درهمها ودينارها: من مجانيق كالعقارب شائلة أذنابها، دافعة في صدر الخطب إذا نابها، ترمي بشرر كالقصر، وتنزل من السماء بآيات النّصر ومن قسيّ: منها ما تدافع بالأرجل مرامي سهامه، ومنها ما تدوّر بالأيدي كأس حمامه، ومنها ما يسكت إذا أطلق حتّى لا يسمع كلام كلامه، ومنها ما يترنّم إذا غنّى بالحمام صوت حمامه و [من] (2) ستائر يستر بها وجهها المصون، ومنائر يشاهد منها أقرب من يكون أبعد ما يكون، ورهجية تجلى بها في كلّ ليلة عروسها الممنّعة، ودرّاجة تحاط بها من جهاتها السّتّ وحدودها الأربعة وأقرّ نوب الحمام الرّسائليّ فبها تسقط علينا وعليك الأخبار، ويطوى المدى البعيد في أوّل ساعة من نهار، وافتح الباب وأغلقه بشمس، واحترز على ما اشتملت عليه من مال ونفس وبقية الوصايا أنت بها أمسّ، والله تعالى يزيل عنك اللّبس والاعتماد
__________
(1) مراده رجاءك. وفي معاجم اللغة: رجاه رجوا ورجوّا ورجاء ورجاة ورجاءة ورجاوة ومرجاة. ولم نعثر على الرجوى كمصدر. ولعله استعمل هذه الصيغة لضرورة السجع.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/207)
الصنف الثاني (أرباب الوظائف الديوانية)
والذين يكتب لهم من الأبواب السلطانية صاحب ديوان الرسائل، وناظر المال، وناظر الجيش، ووكيل بيت المال. وما عدا ذلك فإنّه يكتب عن نائبها، وربما كتب عن الأبواب السلطانية.
الصنف الثالث ([أرباب] (1) الوظائف الدينية، وهي على مرتبتين)
المرتبة الأولى: ما يكتب في قطع الثلث ب «السّاميّ» بالياء، وهم القضاة الأربعة.
المرتبة الثانية: من يكتب له في قطع العادة، وتشتمل على قضاء العسكر، وإفتاء دار العدل، والحسبة، ووكالة بيت المال.
الصنف الرابع (2)
(أرباب الوظائف الديوانية)
والّذي يكتب به من الوظائف الديوانية بها ثلاث وظائف، يكتب لكلّ منهم في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء وهم: صحابة ديوان المكاتبات، ونظر المال، ونظر الجيش. فإن كتب لأحد غير هؤلاء، كتب له في قطع العادة.
النيابة السادسة (نيابة غزّة)
وقد تقدّم أنّها تارة تكون نيابة، وتارة تكون تقدمة عسكر (3)، ومقدّم
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) تقدم له التقسيم إلى ثلاثة أصناف. وهذا الصنف هو بمعنى الصنف الثاني. وقد زاد فيه اللقب وقطع الورق.
(3) أي يتولاها أحد المقدمين العسكريين وكانوا عدة مراتب منهم: مقدمو الألوف، ومقدموا المئين، ومقدمو الطبلخاناه (أربعين) ومقدموا العشرات.(12/208)
العسكر بها يراجع نائب الشّام في أموره. وبكلّ حال فالوظائف الّتي تولّى بها من الأبواب السلطانية على صنفين:
الصّنف الأوّل (أرباب السّيوف)
وليس بها منهم إلّا نائب السّلطنة إن كانت نيابة، أو مقدّم العسكر إن كانت تقدمة عسكر. فكيفما كان فإنّه يكتب له تقليد في قطع الثلثين ب «الجناب العالي» مع الدعاء بدوام النّعمة.
وهذه نسخة تقليد بنيابتها: كتب به للأمير «علم الدّين الجاولي» (1) من إنشاء الشّيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ (2)، وهو:
الحمد لله رافع علم الدّين في أيّامنا الزّاهرة، بإقامة فرض الجهاد وإدامته، وجامع رتب التّقديم في دولتنا القاهرة، لمن تفترّ الثّغور بين ترقرق عدله وتألّق صرامته، وقاطع أطماع المعتدين بمن يتوقّد بأسه في ظلال رفقه توقّد البرق في ظلل غمامته، وقامع أعدائه الكافرين بتفويض تقدمة الجيوش بأوامرنا إلى كلّ وليّ يجتنى النّصر ويجتلى من أفنان عزماته ووجاهة زعامته.
نحمده على نعمه الّتي سدّدت ما يصدر من الأوامر عنّا، وقلّدت الرّتب السّنيّة بتقليدها أعزّ الأولياء منّا منّا، ورجّحت مهمّات الثّغور لدينا على ما سواها فلا نعدق أمورها إلا بمن تعقد عليه الخناصر نفاسة به وضنّا، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة لا تزال القلوب بإخلاصها متديّنة، والألسنة
__________
(1) هو سنجر بن عبد الله الجاولي. نسبته إلى «جاول» أحد أمراء الظاهر بيبرس. تولى عدة ولايات بمصر والبلاد الشامية. وإليه نسبة جامع الجاولية بغزة. كان فقيها فاضلا شافعيا. توفي سنة 745 هـ. (انظر شذرات الذهب: 6/ 142والأعلام: 3/ 141).
(2) هو محمود بن سلمان بن فهد الحلبي المتوفى سنة 725هـ. استمر في دواوين الإنشاء بمصر والشام نحو خمسين عاما. له شعر كثير ونثر كثير. (انظر الأعلام: 7/ 172وفوات الوفيات:
4/ 82).(12/209)
بإعلانها متزيّنة، والأسنّة والأعنّة متباريين في إقامة دعوتها الّتي لا تحتاج أنوارها البيّنة إلى البيّنة، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أشرف مبعوث إلى الأمم، وأكرم منعوت بالفضل والكرم، وأعزّ منصور بالرّعب الّذي أغمدت سيوفه قبل تجريدها في القمم، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين نهضوا بجهاد أعداء الله وأعدائه على أثبت قدم، وسروا لفتح ما زوي له من الأرض على جياد العزائم ونجائب الهمم، وبذلوا نفائسهم ونفوسهم للذّبّ عن دينه فلم تستزل أقدامهم حمر النّعم، ولم يثن إقدامهم بيض النّعم، صلاة لا يملّ السامع نداءها، ولا تسأم الألسن إعادتها وإبداءها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّا من حين مكّن الله لنا في أرضه، وأنهضنا بمسنون الجهاد وفرضه، وقلّدنا سيف نصره الّذي انتضاه، وأقامنا لنصرة دينه الّذي ارتضاه، لم يزل مهمّ كلّ ثغر مقدّما لدينا، وحفظ كلّ جانب جاور العدوّ برّا وبحرا متعيّنا على اعتنائنا ومحبّبا إلينا فلا نرهف لإيالة الممالك إلّا من إذا جرّد سيفه أغمده الرّعب في قلوب العدا، ومن إن لم تسلك البحر خيله بثّ في قلوب ساكنيه سرايا مهابة لا ترهب موجا ولا تستبعد مدى، ومن إذا تقدّم على الجيوش أعاد آحادها إلى رتب الألوف، وجعل طلائعهم رسل الحتوف، وأعداهم بأسه فاستقلّوا أعداءهم وإن كثروا، وأغراهم بمعنى النّكاية في كتائب العدا: فكم من قلب بالرّماح قد نظموا وكم من هام بالصّفاح قد نثروا.
ولذلك لمّا كان فلان هو الّذي ما زال الدّين يرفع علمه، والإقدام والرّأي يبثّان في مقاتل العدا كلومه وكلمه، والعدل والبأس يتولّيان أحكامه فلا يمضيان إلّا بالحقّ سيفه وقلمه فكم نكّس راية عدوّ كانت مرتفعة، وأباح عزمه وحزمه معاقل شرك كانت ممتنعة، وكم زلزل ثباته قدم كفر فازالها، وهزم إقدامه جيوش باطل ترهب الآساد نزالها فهو العلم الفرد، والبطل الّذي لأوليائه الإقبال والثّبات ولأعدائه العكس والطّرد، والوليّ الّذي لولا احتفالنا بنكاية العدا لم
نسمح بمثله، والهمام الّذي ما عدقنا (1) به أمرا إلا وقع في أحسن مواقعه وأسند إلى أكمل أهله.(12/210)
ولذلك لمّا كان فلان هو الّذي ما زال الدّين يرفع علمه، والإقدام والرّأي يبثّان في مقاتل العدا كلومه وكلمه، والعدل والبأس يتولّيان أحكامه فلا يمضيان إلّا بالحقّ سيفه وقلمه فكم نكّس راية عدوّ كانت مرتفعة، وأباح عزمه وحزمه معاقل شرك كانت ممتنعة، وكم زلزل ثباته قدم كفر فازالها، وهزم إقدامه جيوش باطل ترهب الآساد نزالها فهو العلم الفرد، والبطل الّذي لأوليائه الإقبال والثّبات ولأعدائه العكس والطّرد، والوليّ الّذي لولا احتفالنا بنكاية العدا لم
نسمح بمثله، والهمام الّذي ما عدقنا (1) به أمرا إلا وقع في أحسن مواقعه وأسند إلى أكمل أهله.
وكانت البلاد الغزّاويّة والسّاحليّة والجبليّة على ساحل البحر بمنزلة السّور المشرّف بالرّماح، المصفّح بالصّفاح، مروجه الحماة، وقلله الكماة، لا يشيم برقه من ساكني البحر إلا أسير أو كسير، أو من إذا رجع إليه طرفه ينقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير، وبها الجيش الّذي كم لسيوفه في رقاب العدا من مواقع، ولسمعته في قلوب أهل الكفر من إغارة تركتها من الأمن بلاقع، وبها الأرض المقدسة، والمواطن الّتي هي على التّقوى مؤسّسة، والمعابد الّتي لا تعدق أمورها إلا بمثله من أهل الدّين والورع، والأعمال الّتي هو أدرى بما يأتي من مصالحها وأدرب بما يدع اقتضت آراؤنا الشريفة أن نعدق به نيابة ملكها، ونزيّن بلآليء مفاخره عقود سلكها، وأن نفوّض إليه زعامة أبطالها، وتقدمة عساكرها التي تلقى البحر بأزخر من عبابه والأرض بأثبت من جبالها، وأن نرمي بحرها من مهابته بأهول من أمواجه، وأمرّ في لهوات ساكنيه من أجاحه، لتغدو عقائل آهله، أرقّاء سيفه الأبيض وذابله، ويتبّر العدوّ الأزرق من بني الأصفر، خوف بأسه الأحمر.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف أن يفوّض إليه كيت وكيت: تفويضا يحقّق في مثله رجاءها، ويزيّن بعدله أرجاءها، ويصون ببأسه قاطنها وظاعنها، ويعمّر ويغمر برفقه وإنصافه مساكنها وساكنها.
فليباشر هذه الرّتبة الّتي يكمّل به سعودها، وتجمّل به عقودها، مباشرة يخيف بأسها اللّيوث في أجماتها، ويعين عدلها الغيوث على دفع أزماتها،
__________
(1) هذه العبارة كثيرا ما تتردد في الرسائل والتقاليد الّتي ضمنها القلقشندي كتابه. والمعنى المراد بها واضح وهو: ولّيناه: أو أنطنا به أمر كذا. ولم نعثر في معاجم اللغة على «عدق به» بهذا المعنى.
ولعلّ الأوضح «عذق به» بالذال المعجمة أو «عزق به» بالزاي المعجمة. (انظر اللسان وأساس البلاغة: الموادّ: عدق عزق).(12/211)
ويغدو بها الحقّ مرفوع العلم، مسموع الكلم، ماضي السّيف والقلم، ممدود الظّلّ على من بها من أنواع الأمم، وليأخذ الجيوش الّتي بها من إعداد الأهبة بما يزيل أعذارهم عن الركوب، ويزيح عوائقهم عن الوثوب، ويجعلهم أوّل ملبّ لداعي الجهاد، وأسرع مجيب لنداء ألسنة السّيوف الحداد، وينظّم أيزاكهم (1)
على البحر انتظام النّجوم في أفلاكها، والشّذور في أسلاكها، فلا تلوح للأعداء طريدة إلا طردت، ولا قطعة إلا قطعت، ولا غراب إلا حصّت قوادمه (2)، ولا شامخ عمارة إلا وأتيح له من اللهاذم (3) هادمه، وليعل منار الشّرع الشّريف بإمضاء أحكامه، ومعاضدة حكّامه، والانقياد إلى أوامره، والوقوف مع موارد نهيهه ومصادره، ولتكن وطأته على أهل العناد مشتدّة، معرفته تضع الأشياء مواضعها: فلا تضع الحدّة موضع اللّين ولا اللّين موضع الحدّة، وليعلم أنّه وإن بعد عن أبوابنا العالية مخصوص منّا بمزيّة قربه، مختصّ بمنزلة إخلاصه الّتي أصبح فيها على بيّنة من ربّه وجميع ما يذكر من الوصايا فهو مما يحكى من صفاته الحسنة، وأدواته الّتي ما برحت الأقلام في وصف كمالها فصيحة الألسنة وملاكها تقوى الله وهي في خصائصه كلمة إجماع، وحلية أبصار وأسماع والله تعالى يعلي قدره وقد فعل، ويؤيّده في القول والعمل والاعتماد
وهذه نسخة تقليد بتقدمة العسكر بغزّة المحروسة:
الحمد لله مبديء النّعم ومعيدها، ومؤكّد أسبابها بتجديدها، ومعلي أقدارها بمزايا مزيدها، الذي زيّن أعناق الممالك من السّيوف بتقليدها، وبيّن من ميامنه ما ردّت إليه بمقاليدها.
__________
(1) الأيزاك هي الطلائع. مفردها: يزك. (انظر التعريف بمصطلحات صبح الأعشى: 364).
(2) حصّ الشعر والريش: حلقه ونتفه. والقوادم للطير هي الريشات الكبار في الجناح.
(3) اللهذم: كل شيء قاطع من سنان أو سيف أو ناب.(12/212)
نحمده بمحامده الّتي تفوت الدّراريّ في تنضيدها، وتفوق الدّرّ فيتمنّى منه عقد فريدها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة نافعة لشهيدها، جامعة لتوحيدها، ناقعة لأهل الجحود ممّا يورّد الأرض بالدّماء من وريدها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي كاثر الأمم بأمّته في عديدها، وظاهر على أعداء الله بمن يفلّ بأس حديدها، فيرسل من أسنته نجوما رجوما لمريدها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة نتظافر بتأييدها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ من عوائد دولتنا القاهرة أن تعود بإحسانها، وتجود بثبوت كلّ قدم في مكانها وإذا ولّت عرف سحابها عن جهة عادت إليها، أو سلبت لها رونقا أعادت بهجته عليها وكانت البلاد الغزّاويّة وما معها قد تمتّعت من قدماء ملوك (1) بيتنا الشّريف بسيف مشهور، وبطل تشام بوارق عزمه في الثّغور وهو الذي عمّ بصيّبه بلادها سهلا وجبلا، وعمّر روضها بعدل أغناها أن يسقي طلّ طللا، وجمع أعمالها برّا وبحرا، ومنع جانبيها شاما ومصرا، وألف أهلها منه سيرة لولا ما استأثرنا الله به من سرّه لما أفقدناهم في هذه المدّة حلاوة مذاقها، وسريرة لا نرضى معها بكفّ الثّريّا إذا بسطت لأخذ ميثاقها، ولم نرفع يده إلا لأمر قضى الله به لأجل موقوت، ومضى منه ما يعلم أنه بمرجوعه القريب لا يفوت، لأنّ الشمس تغيب لتطلع بضوء جديد، والسّيف يغمد ثم ينتضى فيقدّ القدّ والجيد، والعيون تسهّد ثم يعاودها الرّقاد، والماء لو لم يفقد في وقت لما وجد لموقعه برد على الأكباد.
فلّما بلغ الكتاب أجله، وأخذ حقّه من المسألة، وانتقل من كان قد استقرّ فيها إلى جوار ربّه الكريم، وفارق الدّنيا وهو على طاعتنا مقيم اقتضت آراؤنا الشريفة أن يراجع هذه العقيلة كفؤها القديم، وترجع هذه الأرض المقدّسة إلى من فارقها وما عهده بذميم. من لم تزل به عقائل المعاقل تصان، وخصور
__________
(1) في الأصل «ممالك». والتصحيح من هامش الطبعة الأميرية.(12/213)
الحصون بحمائل سيوفه تزان، ومباسم الثّغور تحمى في كلّ ناحية من أسنّته بلسان، وحمى الثّغرين وما بينهما من الفجاج، وجاور البحرين فمنع جانبيهما:
فهذا عذب فرات وهذا ملح أجاج، وله في العدا وقائع زلزلت لمواقعها الألوف، ومواقف لولا ما نعقت فيها من غربان البين لطال على الدّيار الوقوف وهو الّذي مدحت له في بيتنا المنصور المنصوريّ من الخدمة سوابق، وحمدت طرائق، وكثرت محاسن، وكبرت ميامن، ولمعت كواكب، وهمعت سحائب، وصدحت حمائم، وفتّحت كمائم، وعزّت جيوشنا المؤيّدة له بمضارب، وهزت سيوفا حدادا وهو بالسّيف ضارب.
وكان المجلس العالي أدام الله تعالى نعمته هو الّذي حمدت له آثار، وحسنت أخبار، وعمّت مدح، وتمّت منح فرسمنا [بإقراره في] (1) هذا المنصب الشّريف في محلّه، وإعادته إلى صيّب وبله، وإنامة أهلها مطمئنّين في عدله، وإقرار عيون من أدرك زمانه بعوده ومن لم يدرك زمانه بما سيرونه من فضله.
فرسم بالأمر الشريف لا زالت ملابس نعمه، تخلع وتلبس برودها، وعرائس كرمه، تفارق ثم تراجع غيدها أن تفوّض إليه أمور غزّة المحروسة وأعمالها وبلادها، والتّقدمة على عساكرها وأجنادها، والحكم في جميع ما هو مضاف إليها من سهل ووعر، وبرّ وبحر، وسواحل ومواني، ومجرى خيول وشواني (2)، ومن فيها من أهل عمد، ورعايا وتجّار وأعيان في بلد، ومن يتعلق فيها بأسباب، ويعدّ في صف كتيبة وكتاب. على عادة من تقدّم في ذلك، وعلى ما كان عليه من المسالك.
وسنختصر له الوصايا لأنّه بها بصير، وقد تقدّم لها على مسامعه تكرير،
__________
(1) في الأصل «من إقراره في» وفي الطبعة الأميرية صحّحت بصيغة «بإقراره من».
(2) الشواني: السفن الحربية الكبيرة.(12/214)
ورأس الأمور التّقوى وهو بها جدير، وتأييد الشّرع الشريف فإنّه على هدى وكتاب منير، والاطلاع على الأحوال ولا ينبئك مثل خبير.
والعدل فهو العروة الوثقى، والإنصاف حتّى لا يجد مستحقّا، والعفاف فإنّ التّطلع لما في أيدي الناس لا يزيد رزقا، والاتّصاف بالذّكر الجميل هو الذي يبقى، وعرض العسكر المنصور ومن ينضمّ إليه من عربه وتركمانه وأكراده، وكلّ مكبّر في جحافله ومكثّر لسواده وأخذهم بالتأهّب في كلّ حركة وسكون، والتّيقّظ بهم لكلّ سيف مشحوذ وفلك مشحون، والاحتراز من قبل البرّ والبحر، وإقامة كلّ يزك في موضعه كالقلادة في النّحر، ولا يعيّن إقطاعا إلا لمن يقطع باستحقاقه، ويقمع العدا بما يعرف في صفحات الصّفاح من أخلاقه، ولا يخل المباشرين من عناية تمدّ إليهم ساعد المساعدة، فلا يخلّوا في البلاد بعمارة تغدو في حللها مائدة وليحفظ الطّرقات حفظا تكون به ممنوعة، ويمسك المسالك فإنّه في مفرّق طرقاتها المجموعة، وليقدّم مهمّات البريد وما ينطق على جناح الحمام، وليتّخذهما نصب عينيه في اليقظة والمنام فربّ غفلة لا يستدرك فائتها ركض، ورسالة لا يبلّغها إلّا رسول ينزل من السماء وآخر يسيح في الأرض، ويرصد ما ترد به مراسمنا العالية ليسارع إليه ممتثلا، ويطالعنا بما يتجدّد عنده حتّى يكون لدينا ممثّلا وهو يعلم أنّه واقف من بابنا الشريف بالمجاز، وقدّام عينينا حقيقة وإن قيل على طريق المجاز فليؤاخذ نفسه مؤاخذة من هو بين يدينا، ويعمل بما يسرّه أن يقدّم فيما يعرض من أعماله علينا والله تعالى يزيده حظوة لدينا، ويؤيّد به الإسلام حتّى لا يدع على أعداء الله للدّين دينا، والاعتماد
الصنف الثاني (الوظائف الديوانية بغزّة)
وبها ثلاث وظائف: يكتب لكلّ منها في قطع العادة ب «السامي» بغير ياء
وهي: كتابة الدّرج القائمة مقام كتابة السّرّ (1)، ونظر المال ونظر الجيش. قال في «التثقيف»: أمّا قاضيها ومحتسبها ووكيل بيت المال بها، فإنّهم نوّاب عن أرباب هذه الوظائف بالشّام، فلا يكتب لأحد منهم شيء عن المواقف الشريفة.(12/215)
وبها ثلاث وظائف: يكتب لكلّ منها في قطع العادة ب «السامي» بغير ياء
وهي: كتابة الدّرج القائمة مقام كتابة السّرّ (1)، ونظر المال ونظر الجيش. قال في «التثقيف»: أمّا قاضيها ومحتسبها ووكيل بيت المال بها، فإنّهم نوّاب عن أرباب هذه الوظائف بالشّام، فلا يكتب لأحد منهم شيء عن المواقف الشريفة.
قلت: وما ذكره بناء على أنّها تقدمه عسكر. أمّا إذا كانت نيابة فإنّ هذه الوظائف يكتب بها عن الأبواب السّلطانية. وقد يكتب حينئذ بوكالة بيت المال والحسبة عن النّائب، ويكون ذلك جميعه في قطع العادة، مفتتحا ب «أمّا بعد» في المنصوريّ (2)، أو ب «رسم» في الصّغير، على حسب ما يقتضيه الحال.
على أنّه قد حدث بها في الدولة الظاهرية قاض حنفيّ يكتب له من الأبواب السّلطانية.
النيابة السابعة (نيابة الكرك وأرباب الولايات بها من الأبواب السلطانية على أصناف)
الصنف الأوّل (أرباب السيوف)
وليس بها منهم غير نائب السّلطنة، ويكتب له تقليد في قطع الثلثين ب «المجلس العالي».
وهذه نسخة تقليد بنيابة السّلطنة بالكرك، كتب به للأمير «سيف الدين أيتمش» (3) من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ، وهو:
__________
(1) كتاب الدرج هم الذين يكتبون ما يوقع به كاتب السرّ أو كتاب الدست، أو إشارة النائب أو الوزير أو رسالة الدوادار. وسموا كتاب الدرج لكتابتهم هذه المكتوبات ونحوها في دروج الورق. ويقوم كاتب الدرج هنا مقام كاتب السرّ لاختصاص كاتب السرّ بمركز الإمارة أو السلطنة. (راجع الصبح: 5/ 465464).
(2) المنصوري والصغير والفرخة وغيرها: من أنواع قطع الورق المستعملة. راجع في ذلك الجزء الثالث من هذا الكتاب.
(3) لعله أيتمش (أو تامش) الأشرفي المغلي المحمدي المتوفى سنة 736هـ. تولى أيضا نيابة صفد.
(انظر الجوهر الثمين: 2/ 157. وترجمته في الدرر الكامنة).(12/216)
الحمد لله الّذي خصّ بعزائمنا معاقل الإسلام وحصونه، وبصّرنا باختيار من نرتّبه في كلّ معقل منها من أمجاد الأمراء ليحفظه ويصونه، وجعلها بعنايتنا روضا تجتلي أبصار الأولياء من بيض صفاحنا نوره وتجتني من سمر رماحنا غصونه، وعوّذها من آيات الحرس بما لا تزال حماتها وكماتها يروون خبره عن سيفنا المنتضى لحفظها ويقصّونه.
نحمده على نعمه الّتي أعلت بنا بناء الممالك، وحاطتها من نبل مهابتنا، بما لو تسلّلت بينه الأوهام ضاقت بها المسالك، وصفّحتها من صفاح عنايتنا، بما يحول برقه بينها وبين ما يستر طيف العدا من الظّلام الحالك، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تعصم من أوى إلى حرم إخلاصها، وتنجي غدا من غدا من أهل تقريبها واختصاصها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أضاءت ملّته، فلم تخف على ذي بصر، وعلت شرعته، فغدا باع كلّ ذي باع عن معارضتها ذا قصر، وسمت أمّته، فلو جالدها معاد أوبقه الحصر أو جادلها مناو أوثقه الحصر، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كانت معاقلهم صهوات جيادهم، وحصونهم عرصات جلادهم، وخيامهم ظلال سيوفهم، وظلالهم أفياء صعادهم، صلاة لا يزال الإخلاص لها مقيما، والإيمان لها مديما، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى الحصون الإسلامية بأن تحوط عنايتنا أركانه، وتتعاهد رعايتنا مكانه، وتلاحظ مهابتنا أحواله فتحلّيها، وتشاهد أوامرنا قواعده فتشيّدها بجميل النّظر وتعليها، وتحول سطواتنا بين آمال الأعداء وتوهّمه، وتحجب مخافة بأسنا أفكار أهل العناد عن تأمّل ما في الضّمير وتوسّمه حصن انعقد الإجماع على انقطاع قرينه، وامتناع نظيره فيما خصّه الله به من تحصينه فهو فرد الدّهر العزيز مثاله، البعيد مناله، المستكنّة في ضمائر الأودية الغوامض بقعته، المستجنّة بقلل الجبال الشواهق نقعته، السّائر في أقطار الأرض صيته وسمعته.
ولما كانت قلعة الكرك المحروسة هي هذه العقيلة الّتي كم ردّت آمال الملوك راغمة، ومنعت أهواء النّفوس أن تمثّلها في الكرى الأجفان الحالمة، وكان فلان ممّن ينهض مثله بحفظ مثلها، ويعلم أنّ أمانتها الّتي لا تحملها الجبال قد أودعت منه إلى كفئها ووضعت كفايتها في أهلها فهو سيفنا الّذي يحوطها ذبابه، ووليّنا الّذي من طمح بصره إلى أفق حلّه أحرقه شهابه، ونشو أيّامنا الّتي تنشّيء كلّ ليث يقنص الظّفر ظفره وينبو بالسيوف نابه، وغذيّ دولتنا الذي ما اعتمدنا فيه على أمر إلّا كرم به نهوضه وحسن فيه منابه اقتضت آراؤنا الشريفة أن نخصّها بمهابة سيفه، ونحصّنها بما فيه من قوّة في الحقّ تكفّ كلّ باغ عن حيفه.(12/217)
وبعد، فإنّ أولى الحصون الإسلامية بأن تحوط عنايتنا أركانه، وتتعاهد رعايتنا مكانه، وتلاحظ مهابتنا أحواله فتحلّيها، وتشاهد أوامرنا قواعده فتشيّدها بجميل النّظر وتعليها، وتحول سطواتنا بين آمال الأعداء وتوهّمه، وتحجب مخافة بأسنا أفكار أهل العناد عن تأمّل ما في الضّمير وتوسّمه حصن انعقد الإجماع على انقطاع قرينه، وامتناع نظيره فيما خصّه الله به من تحصينه فهو فرد الدّهر العزيز مثاله، البعيد مناله، المستكنّة في ضمائر الأودية الغوامض بقعته، المستجنّة بقلل الجبال الشواهق نقعته، السّائر في أقطار الأرض صيته وسمعته.
ولما كانت قلعة الكرك المحروسة هي هذه العقيلة الّتي كم ردّت آمال الملوك راغمة، ومنعت أهواء النّفوس أن تمثّلها في الكرى الأجفان الحالمة، وكان فلان ممّن ينهض مثله بحفظ مثلها، ويعلم أنّ أمانتها الّتي لا تحملها الجبال قد أودعت منه إلى كفئها ووضعت كفايتها في أهلها فهو سيفنا الّذي يحوطها ذبابه، ووليّنا الّذي من طمح بصره إلى أفق حلّه أحرقه شهابه، ونشو أيّامنا الّتي تنشّيء كلّ ليث يقنص الظّفر ظفره وينبو بالسيوف نابه، وغذيّ دولتنا الذي ما اعتمدنا فيه على أمر إلّا كرم به نهوضه وحسن فيه منابه اقتضت آراؤنا الشريفة أن نخصّها بمهابة سيفه، ونحصّنها بما فيه من قوّة في الحقّ تكفّ كلّ باغ عن حيفه.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف لا زالت الحصون المصونة تختال من ملكه في أبهى الحلل، وتعلو معاقل الكفر بسلطانه علوّ ملّة الإسلام على الملل أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالكرك المحروس تفويضا يعلي قدره، ويطلع في أفقها بدره، ويطلق في مصالحها سيفه بالحقّ وقلمه، ويمضي في حمايتها أفعاله وكلمه، ويسدّد في أمورها آراءه المقرونة بالصّواب وهممه.
فليباشر هذه الرّتبة العليّة صورة ومعنى، المليّة إذا طاولت الكواكب بأن لا يعلم [منها] (1) أسمى وأسنى، وليجتهد في مصالحها اجتهادا يوالي له من شكرنا المنح، ويأتي فيه من مواضينا بالغرض المقترح، ويزيدها إلى حصانتها حصانة وقوّة، ويزينها بسياسته الّتي تغدو قلوب أهل العناد بمخافتها مغزوّة، ولينظر في مصالح رجالها فيكون لحماتهم مقدّما، ولمقدّميهم مكرما، ولأعذارهم مزيحا، ولخواطرهم بتيسير مقرّراتهم مريحا، وليكن لمنار الشّرع الشريف معظّما، ولأحكامه في كل عقد محكّما، ولما قرب وبعد من بلاد نيابته عامرا، ولأكفّ الجور عن الرعية كافّا: فلا يبرح عن الظّلم ناهيا وبالعدل آمرا وملاك الوصايا
__________
(1) في الأصل «لها».(12/218)
تقوى الله فليجعلها حلية نفسه، ونجيّ أنسه، ووظيفة اجتهاده الّتي تظهر بها مزيّة يومه على أمسه والله تعالى يسدّده في أحواله، ويعضّده في أفعاله وأقواله، بمنّه وكرمه!.
وهذه نسخة تقليد السّلطنة بالكرك، كتب به للأمير «تلكتمر الناصريّ» عندما كان المقرّ الشّهابيّ أحمد (1) ولد السلطان الملك النّاصر بالكرك، وهو:
الحمد لله الّذي جعل بنا الممالك محصّنة الحصون، محميّة بكلّ سيف يقطر من حدّه المنون، ممنّعة لا تتخطّى إليها الظّنون، محجّبة لا تراها من النجوم عيون، رافلة من الكواكب في عقد ثمين، منيعة أشبهت السّماء واشتبهت بها فأصبحت هذه البروج من هذه لا تبين.
نحمده على نعمه الّتي رفعت الأقدار، وشرّفت المقدار، وحلّت في ممالكنا الشّريفة كلّ عقيلة ما كان معصمها الممتدّ إلى الهلال ليترك بغير سوار، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة رفعت للحصون العالية رتبا، وملئت بها سماؤها حرسا وشهبا، وأعلت مكانها فاقتبست من البرق نارا ووردت من السّحاب قلبا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أشرف من بعث ولاة على الأمصار، وكفاة على الأقطار، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ما صدحت الحمائم، وسفحت الغمائم، وسلّم تسليما كثيرا.
أمّا بعد، فإنّ خير من حميت به الممالك، وحمدت ولله المنّة منه
__________
(1) هو الملك الناصر شهاب الدين أحمد بن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون. وقد أقام في الكرك أيام سلطنة والده الّذي أرسله إليها ليتعلم الفروسية، ثم بعد أن تولى السلطنة سنة 742هـ انتقل إلى القاهرة ولكنه لم يلبث أن فرّ من مصر عائدا إلى الكرك بعد أن قتل جماعة من أمراء الجيش وجمع أموالا من الخزائن السلطانية. خلعه قوّاد مصر وقتله الأمير منجك اليوسفي سنة 745هـ. وتلكتمر الناصري هو نفسه طقتمر بن عبد الله الصلاحي الناصري المتوفى سنة 747 هـ. (انظر الجوهر الثمين: 2/ 181179والأعلام: 1/ 223).(12/219)
المسالك، وارتقت هممه إلى الشّمس والقمر والنّجوم وما أشبه ذلك، من حصل الوثوق به في أشرف مملكة لدينا، وأفضل ما يعرض في دولتنا الشريفة من أعمالها الصالحة علينا: وهي الّتي قعدت من الجبال على مفارقها، واتّصلت من النّجوم بعلائقها، وتحدّرت الغمائم من ذيولها، وطفت على السماء وطافت على الكواكب فجرت المجرّة من سيولها، وكان الكرك المحروس هو المراد، ومدينته التي لم يخلق مثلها في البلاد، وقلعته تتشكّى الرّياح لها طلوع واد ونزول واد وهي أرض تمتّ بأنّها لنا سكن، ونمّت مناقبها بما في قلوبنا من حبّ الوطن، واستقرّت للمقامات العالية أولادنا أعزّهم الله بنصره فانتقلت من يمين إلى يسار، وتقابلت بين شموس وأقمار، وجاد بها البحر على الأنهار.
فلمّا خلت نيابة السلطنة المعظمة بها عرضنا على آرائنا الشّريفة من تطمئنّ به القلوب، ويحصل المطلوب، وتجري الأمور به على الحسنى فيما ينوب، وتباري عزائمه الرياح بمرمى كل مقلة وهزّة جيد، ولا يشكّ في أنّه كفوّ هذه العقيلة، وكافي هذه الكفالة الّتي ما هي عند الله ولا عندنا قليلة، وكافل هذه المملكة الّتي كم بها بنيّة أحسن من بنيّة وخميلة أحسن من خميلة، من كان من أبوابنا العالية مطلعه، وبين أيدينا الشّريفة لا يجهل موضعه طالما تكمّلت به الصفوف، وتجمّلت به الوقوف، وحسن كلّ موصوف، ولم تخف محاسنه الّتي هو بها معروف كم له شيمة عليّة، وهمّة جليّة، وتقدمات إقدام بكلّ نهاية غاية مليّة، وعزائم لها بنعته مضاء السّيف وباسمه قوّة الحديد وهي بالنسبة إليه ملكيّة وكان المجلس العالي أدام الله نعمته هو لابس هذه البرود الّتي رقمت، والعقود الّتي نظمت، وجامع هذه الدّرر الّتي قسمت، والدّراريّ الّتي سمت إلى السماء لما وسمت، وهو من الملائك في الوقار، وله حكم كالماس وبأس يقطع الأحجار، وهو ملك نصفه الآخر من حديد كما أنّ لله ملائكة نصفهم من الثّلج ونصفهم من نار، وهو الّذي اقتضت آراؤنا الشريفة أن نجعله في خدمة ولدنا أمتعه الله ببقائنا نائبا بها، وقائما بحسن منابها، والمتصرّف فيها بين أيديه الكريمة، والمتلقّي دونه لأمورها الّتي قلّدنا بها عنقه أمانة عظيمة.
فلذلك خرج الأمر الشريف لا زال به سيف الدّين ماضيا، ولا برح كلّ واحد بحكم سيفه في كلّ تجريد وقلمه في كلّ تقليد راضيا أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالكرك المحروس وما معه على عادة من تقدّمه فيها، وقاعدته التي يتكفل لها بالإحسان وبكفّ العدوان ويكفيها وكلّ ما فيها من أمر فهو به منوط، وكلّ عمل لها به محوط، وحكمه في مصالحنا الشريفة في جميع بلادها مبسوط، وله تطالع الأمور، ومنه تصدر المطالعة، وبه تزال كلّ ظلامة، وتزاح كلّ ملامة، ويؤيّد الشرع الشريف ويؤبد حكمه، وينثر علمه وينشر علمه، وتقام الحدود بحدّه، والمهابة بجدّه. ورجال هذه القلعة به تتألّف على طاعتنا الشريفة قلوبهم، والرعايا يعمهم بالعدل والإحسان وأيسر ما عندنا مطلوبهم وهؤلاء هم شيعتنا قبلك، ورعيّتنا الذين هم لنا ولك فرفرف عليهم بجناحك، وخذهم بسماحك والمسارعة إلى امتثال مراسمنا الشريفة هي أوّل ما نوصيك باعتماده، وأولى ما يقبس من نوره ويستمدّ من أمداده فلا تقدّم شيئا على الانتهاء إلى أمره المطاع والعمل في السّمع والطاعة باكر له ما يمكن أن يستطاع وخدمة أولادنا فلا تدع فيها ممكنا، واعلم بأنّ خدمتهم وخدمتنا الشريفة سواء لأنّه لا فرق بينهم وبيننا وهذه القلعة هي الّتي أودعناها في يمين أمانتك، وحميناها بسيفك وصنّاها بصيانتك فالله الله في هذه الوديعة، وأدّ الأمانة فإنّها نعمت الذّريعة، واحفظها بقوّة الله وتحفّظ بأسوارها المنيعة، وعليك بالتّقوى لتّقوى والوقوف عند الشّريعة والله تعالى يزيدك علوّا، ويبلّغك مرجوّا والاعتماد(12/220)
فلمّا خلت نيابة السلطنة المعظمة بها عرضنا على آرائنا الشّريفة من تطمئنّ به القلوب، ويحصل المطلوب، وتجري الأمور به على الحسنى فيما ينوب، وتباري عزائمه الرياح بمرمى كل مقلة وهزّة جيد، ولا يشكّ في أنّه كفوّ هذه العقيلة، وكافي هذه الكفالة الّتي ما هي عند الله ولا عندنا قليلة، وكافل هذه المملكة الّتي كم بها بنيّة أحسن من بنيّة وخميلة أحسن من خميلة، من كان من أبوابنا العالية مطلعه، وبين أيدينا الشّريفة لا يجهل موضعه طالما تكمّلت به الصفوف، وتجمّلت به الوقوف، وحسن كلّ موصوف، ولم تخف محاسنه الّتي هو بها معروف كم له شيمة عليّة، وهمّة جليّة، وتقدمات إقدام بكلّ نهاية غاية مليّة، وعزائم لها بنعته مضاء السّيف وباسمه قوّة الحديد وهي بالنسبة إليه ملكيّة وكان المجلس العالي أدام الله نعمته هو لابس هذه البرود الّتي رقمت، والعقود الّتي نظمت، وجامع هذه الدّرر الّتي قسمت، والدّراريّ الّتي سمت إلى السماء لما وسمت، وهو من الملائك في الوقار، وله حكم كالماس وبأس يقطع الأحجار، وهو ملك نصفه الآخر من حديد كما أنّ لله ملائكة نصفهم من الثّلج ونصفهم من نار، وهو الّذي اقتضت آراؤنا الشريفة أن نجعله في خدمة ولدنا أمتعه الله ببقائنا نائبا بها، وقائما بحسن منابها، والمتصرّف فيها بين أيديه الكريمة، والمتلقّي دونه لأمورها الّتي قلّدنا بها عنقه أمانة عظيمة.
فلذلك خرج الأمر الشريف لا زال به سيف الدّين ماضيا، ولا برح كلّ واحد بحكم سيفه في كلّ تجريد وقلمه في كلّ تقليد راضيا أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالكرك المحروس وما معه على عادة من تقدّمه فيها، وقاعدته التي يتكفل لها بالإحسان وبكفّ العدوان ويكفيها وكلّ ما فيها من أمر فهو به منوط، وكلّ عمل لها به محوط، وحكمه في مصالحنا الشريفة في جميع بلادها مبسوط، وله تطالع الأمور، ومنه تصدر المطالعة، وبه تزال كلّ ظلامة، وتزاح كلّ ملامة، ويؤيّد الشرع الشريف ويؤبد حكمه، وينثر علمه وينشر علمه، وتقام الحدود بحدّه، والمهابة بجدّه. ورجال هذه القلعة به تتألّف على طاعتنا الشريفة قلوبهم، والرعايا يعمهم بالعدل والإحسان وأيسر ما عندنا مطلوبهم وهؤلاء هم شيعتنا قبلك، ورعيّتنا الذين هم لنا ولك فرفرف عليهم بجناحك، وخذهم بسماحك والمسارعة إلى امتثال مراسمنا الشريفة هي أوّل ما نوصيك باعتماده، وأولى ما يقبس من نوره ويستمدّ من أمداده فلا تقدّم شيئا على الانتهاء إلى أمره المطاع والعمل في السّمع والطاعة باكر له ما يمكن أن يستطاع وخدمة أولادنا فلا تدع فيها ممكنا، واعلم بأنّ خدمتهم وخدمتنا الشريفة سواء لأنّه لا فرق بينهم وبيننا وهذه القلعة هي الّتي أودعناها في يمين أمانتك، وحميناها بسيفك وصنّاها بصيانتك فالله الله في هذه الوديعة، وأدّ الأمانة فإنّها نعمت الذّريعة، واحفظها بقوّة الله وتحفّظ بأسوارها المنيعة، وعليك بالتّقوى لتّقوى والوقوف عند الشّريعة والله تعالى يزيدك علوّا، ويبلّغك مرجوّا والاعتماد
قلت: وربّما ولي نيابة الكرك من هو جليل الرتبة رفيع القدر، من أولاد السلطان أو غيرهم، فتعظم النيابة بعظمه، ويرفع قدرها بارتفاع قدره، وتكون مكاتبته وتقليده فوق ما تقدّم، بحسب ما يقتضيه الحال من «الجناب» أو غيره.
وهذه نسخة تقليد بنيابة السلطنة بالكرك، كتب بها عن السلطان الملك الناصر «محمد بن قلاوون» لولده الملك الناصر «أحمد» قبل سلطنته، وكتب له فيه ب «الجناب العاليّ» من إنشاء الشريف شهاب الدّين، وهي:
الحمد لله الّذي أسعدنا بوراثة الملك والممالك، وأرشدنا للرّأي المصيب في أن نستنيب من نشاء من ذلك، وأيّدنا بالعون والصّون في حفظ ما هنا ولحظ ما هنالك، وعوّدنا الإمداد بيمنه المتداول والإنجاد بمنّه المتدارك، وسدّدنا بالفضل والإسعاف إلى أن نتّبع من العدل والإنصاف أنجح السّبل وأوضح المسالك، وعضّدنا من ذريّتنا بكلّ نجل معرق، ونجم مشرق، يرشق شهابه، في الكرب الحالّ ويأتلق صوابه، في الخطب الحالك، وأفردنا بالنّظر الجميل، والفكر الجليل، إلى أسعد تخويل تنير بمرآته في الآفاق الشّهب الطوالع وتسير ببشراه في الأقطار النّجب الرّواتك (1)
نحمده! وكيف لا يحمد العبد المالك!، ونشكره على أن أهّلنا لإقامة الشّعائر وإدامة المناسك، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جل في جبروته، عن مشابه وتعالى في ملكوته، عن مشارك، ونشهد أنّ سيّدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أنجد جنوده من الملأ الأعلى بالملائك، وأمدّ بعوثه بالنّصر والظّفر في جميع المواقف والمعارك، وأيّد أمّته بولاية ملوك يجلسون في النّعيم على الأرائك، ويحرسون حمى الدّين بجهادهم واجتهادهم من كلّ فاتن وفاتك، صلّى الله عليه وعلى آله سفن النّجاة المؤمّنين من المخاوف والمنقذين من المهالك، ورضي الله عن أصحابه الذين نظموا شمل الإيمان، وهزموا جمع البهتان، بكلّ باتر وفاتك، صلاة ورضوانا يضحي لقائلهما في اليوم العبوس الوجه الطّلق والثّغر الضّاحك، وينشر فيحشر مع النّبيّين والصدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك، ما ابتهل بصالح الدّعاء، وناجح الاستدعاء، لأيّامنا كلّ عابد وناسك، وعوّل حسن آرائنا على تقديم من هو لجميل آثارنا سالك، وأقبل بالإقبال سنا شهابه المنير يجلو ما تثير من ليل نقعها السّنابك، فحصل للكرك والشّوبك بهذا القدوم فخار مسيرك بينهما وبين النجوم الشّوابك.(12/221)
وهذه نسخة تقليد بنيابة السلطنة بالكرك، كتب بها عن السلطان الملك الناصر «محمد بن قلاوون» لولده الملك الناصر «أحمد» قبل سلطنته، وكتب له فيه ب «الجناب العاليّ» من إنشاء الشريف شهاب الدّين، وهي:
الحمد لله الّذي أسعدنا بوراثة الملك والممالك، وأرشدنا للرّأي المصيب في أن نستنيب من نشاء من ذلك، وأيّدنا بالعون والصّون في حفظ ما هنا ولحظ ما هنالك، وعوّدنا الإمداد بيمنه المتداول والإنجاد بمنّه المتدارك، وسدّدنا بالفضل والإسعاف إلى أن نتّبع من العدل والإنصاف أنجح السّبل وأوضح المسالك، وعضّدنا من ذريّتنا بكلّ نجل معرق، ونجم مشرق، يرشق شهابه، في الكرب الحالّ ويأتلق صوابه، في الخطب الحالك، وأفردنا بالنّظر الجميل، والفكر الجليل، إلى أسعد تخويل تنير بمرآته في الآفاق الشّهب الطوالع وتسير ببشراه في الأقطار النّجب الرّواتك (1)
نحمده! وكيف لا يحمد العبد المالك!، ونشكره على أن أهّلنا لإقامة الشّعائر وإدامة المناسك، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جل في جبروته، عن مشابه وتعالى في ملكوته، عن مشارك، ونشهد أنّ سيّدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أنجد جنوده من الملأ الأعلى بالملائك، وأمدّ بعوثه بالنّصر والظّفر في جميع المواقف والمعارك، وأيّد أمّته بولاية ملوك يجلسون في النّعيم على الأرائك، ويحرسون حمى الدّين بجهادهم واجتهادهم من كلّ فاتن وفاتك، صلّى الله عليه وعلى آله سفن النّجاة المؤمّنين من المخاوف والمنقذين من المهالك، ورضي الله عن أصحابه الذين نظموا شمل الإيمان، وهزموا جمع البهتان، بكلّ باتر وفاتك، صلاة ورضوانا يضحي لقائلهما في اليوم العبوس الوجه الطّلق والثّغر الضّاحك، وينشر فيحشر مع النّبيّين والصدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك، ما ابتهل بصالح الدّعاء، وناجح الاستدعاء، لأيّامنا كلّ عابد وناسك، وعوّل حسن آرائنا على تقديم من هو لجميل آثارنا سالك، وأقبل بالإقبال سنا شهابه المنير يجلو ما تثير من ليل نقعها السّنابك، فحصل للكرك والشّوبك بهذا القدوم فخار مسيرك بينهما وبين النجوم الشّوابك.
أمّا بعد، فإن الله تعالى آثرنا بتوفير التوفيق، ويسّرنا من الهدى إلى أقوم
__________
(1) رتك البعير رتكا ورتكانا: عدا في مقاربة الخطو.(12/222)
طريق، ووهبنا في الملك النّسب العليّ العريق، والحسب الّذي هو بالتّقديم والتّحكيم حقيق، وقلّدنا من عهد بيعة السّلطنة ما لحمده في الآفاق تطريق، ولعقده في الأعناق تطويق، ففيّأنا من شجرة هذا البيت الشريف النّاصريّ المنصوريّ كلّ غصن وريق، وهيّأ للبريّة تكريما عميما بتقديم من له المجد يتعيّن وبه السّؤدد يليق، وأطلع في أفق أعزّ الممالك علينا من بيتنا شهاب علا هو للبدر في الكمال والجمال شبيه وشقيق، وأطعنا أمر الله تعالى في معاملة الولد البارّ معاملة الوالد الشّفيق، وأودعنا لديه ما أودعه الله تعالى لدينا: مملكة مرتفعة متسعة ليرتفع محلّه ويتّسع أمله ولا يضيق، وجمعنا له أطرافها لتكون لكلمته العليا بها الاجتماع من غير تفريق.
ولما كان الجناب العاليّ، الولديّ، الشهابيّ، سليل الملوك والسلاطين، خليل أمير المؤمنين، هو الّذي تشير رتب الكفالة بترقّيه، وتقرّ عيون الأولياء بتعيّنه لإلقاء أمرنا المطاع وتلقّيه، وتلهج الألسنة ضارعة إلى الله تعالى أن يخلّد ملك بيته الشريف ويبقيه، وتعرج إلى السّموات دعوات الأتقياء أن يوقّيه الله مما يتقيّه ونمسك في هذا المقام لسان المقال عن مدحه أدبا، ونترك الافتخار بالمال والعديد إيثارا لثواب الله وطلبا، وندرك موعظة الله سبحانه في كتابه قصدا وأربا والباقيات الصّالحات خير عند ربّك ثوابا وخير عقبا (1) وببركة هذا القصد يتمّ لنا فيه المراد، ويعمّ هذه المملكة النفع بهذا الإفراد، فإنها معهد النصر والفتح، ومشهد الوفر والمنح، ومصعد العزّ الّذي لما وطئنا صرحه تدكدك للعدا كلّ صرح، وتملّك للهدى كلّ سرح، ونشقنا بها لقرب المزار من طيب طيبة (2) أعظم نفح، وقد بقينا بجاه الحالّ بها في تيسير التّأييد فكان كاللّمح، وجرى خلفنا السّمح بعد ذلك على عادته في الحكم والصّفح، وسرى ذكرنا في
__________
(1) لضرورة التسجيع خلط بين الآيتين 44و 46من سورة الكهف وهما: {هُنََالِكَ الْوَلََايَةُ لِلََّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوََاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} {الْمََالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَالْبََاقِيََاتُ الصََّالِحََاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوََاباً وَخَيْرٌ أَمَلًا}.
(2) طيبة، بالفتح ثم السكون، هو اسم لمدينة الرسول صلّى الله عليه وسلم (انظر معجم البلدان: 4/ 53).(12/223)
الشّرق والغرب وللحداة به أطرب صدح، وآتى الله من فضله ملكنا نعما تجلّ عن العدّ والشّرح، فيها منشأ دولة الدّول ومنها فتح الفتوح، وبإضافته إلينا تفاؤل خير مشهور ملموح، كما قيل قبلها كرك نوح (1) فبتطهير الأرض من الكفّار، عزائمنا تغدو وتروح، وبالاستناد بأطول الأعمار، أمارة بادية الوضوح، وآثار بركة الاسم الشّريف المحمّديّ تظهر علينا في الحركات والسّكنات وتلوح، وفخار هذه المملكة المباركة: لاختصاصها بالحرمين الشّريفين عليها طلاوة وسعادة وفيها روح وكنّا قد سلكنا بهذا الولد النّبيل، سنّة أبي الأنبياء إبراهيم الخليل، في ولده إسماعيل، عليهما السّلام التامّ في كلّ بكرة وأصيل، حيث فارقه وأفرده، وتفقّده في كلّ حين وتعهّده، حتّى شدّ الله تعالى به عضده ورفع هو وأبوه قواعد البيت وأعانه لمّا شيّده، فأجمل الله لنا هذا القصد وأحمده، وكمّل هذا الشّروع وأسعده وأجزل له من فوائده أوفر هبة وأنجز له من عوائده أصدق عدة، فأحللناه في هذه المدّة بمملكة الكرك فسلك من حسن السجايا أحسن مسلك، وملك قلوب الرّعايا وبما وهب من المنح تملك، وبسنتنا في التواضع للحق مع الخلق تمسك وبشيمنا وخلقنا في الجود تخلّق فبذل وما أمسك.
ولما بلغ أشدّه واستوى، وبزغ شهاب علاه الّذي هو وبدر السماء سوا، وحاز مكارم الأخلاق وحوى، وفاز سلطاننا في نجابته بحسن النية: «وإنّما لكل امريء ما نوى» حكّمناه في هذه النيابة الّتي ألفها ودرّبها، وعرف أمورها وجرّبها، واستعمال خواطر أهلها واستجلبها، وأدنى لهم لمّا دنا منهم الميامن ولمّا قرّبها منهم قرّبها، واستحقّ كفالتها واستوجبها، وأظهر الله تعالى فيه من الشّمائل أنجبها، ومن الخلائق أرحبها، ومن الأعراق أطيبها، ومن العوارف أنسبها، ومن العواطف أقربها، ومن البسالة أرهفها وأرهبها، ومن الجلالة أحبّها
__________
(1) الكرك: قلعة حصينة في طرف الشام من نواحي البلقاء. أما كرك نوح فقرية من قرى بعلبك في البقاع اللبناني، يزعم أهل تلك النواحي أنّ نوحا عليه السّلام دفن فيها. (معجم البلدان:
4/ 453).(12/224)
إلى القلوب وأعجبها، ومن السيادة ما أخذت نفسه لها أهبها، ومن الزيادة ما يتعيّن له شكر الله الواهب الّذي وهبها، ومن السّعادة ما رفعت الأقدار على مناكب الكواكب رتبها، وأطلعت لحماته سماء العلياء شهبها، ورقّت على هامة الجوزاء منصبها، واستصحبت من العناية لهذا البيت مزيّة فرض الله بها له الطاعة وكتبها فاستخرنا الله تعالى الّذي يختار لنا ويخير، وسألناه التّأييد والتّيسير وفوّضنا إليه وهو الكفيل لنا بالتدبير، في كلّ مبدإ ومصير، واستعنّا به وهو نعم النّصير، واقتضى حسن الرّأي الشريف أن نسرج شهابه المنير، وننتج للأولياء يمن التّأثيل بحسن هذا التّأثير، وننهج في برّه سبلّا تقدّمنا إليها كلّ ذي منبر وسرير، ونثلج الصّدور ونقرّ العيون بسعيد هذا الإصدار وحميد هذا التّقرير.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا برح أمره يصيب السّداد فيما إليه يصير، وخبره يحمل الموافاة فللألسنة عن مكافأة برّه تقصير أن تفوّض نيابة السّلطنة الشريفة بالكرك المحروس والشّوبك للجناب العاليّ، الولديّ، الشهابيّ، وما ينضم إلى ذلك وينضاف، من جميع الأقطار والأكناف وجمعنا له من هذه المملكة الأطراف، وجعلنا له على سهلها وجبلها إشراف، وصرّفناه منها فيما هو عن علمه الكريم غير خاف، نيابة كاملة، كافلة شاملة، عامّة، تامّة، وافرة، سافرة، يستلزم طاعته فيها الافتراض، وتنحسم عنه فيها موادّ الاعتراض، وتنفذ مراسمه من غير توقّف ولا انتقاض، وتبسط يده البيضاء من غير انقباض، ويرتفع رأيه من غير انخفاض.
فلتقدر رعيّة هذه البلاد نعمة هذا التفويض قدرها، وليسألوا الله أن يوزعهم لحسن هذا التفويض شكرها فقد أنشأ لهم يسرها، وأفاء لهم برّها، وألقى إليهم جودها وخيرها، وأبقى عندهم عزّها ونصرها، وليتّبعوا السّبيل القويم، وليجمعوا على الطاعة الّتي تبقي عليهم نعمة العافية وتديم، وليسمعوا ويطيعوا لما يرد إليهم من المراسيم فمن لم يستقم كما أمر لا يستمرّ بهذه البلاد ولا يقيم والعاقل لنفسه خصيم، والجاهل من عدم النّعمة وحرم النّعيم
وفراستنا تلمح نتائج الخير من هذا التّقديم، وسياستنا تصلح ما قرب منّا وما بعد بتعريف أحكام التّحكيم وكيف لا؟ وهو الكريم بن الكريم بن الكريم، المؤمّل لتمام السّؤدد قبل أن يعقد عليه التّميم، المشتمل على الخلال الموجبة له الفضل العميم، المتوصّل بيمن حركاته إلى أن يكون لمثل هذا الملك العظيم، وإلى أمانته استيداع وإلى صيانته تسليم، المقبل وجهدنا الإقبال فتتلو الرّجال: {مََا هََذََا بَشَراً إِنْ هََذََا إِلََّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} (1)
ونحن نأمرك من التّقوى بما به من الله أمرنا، ونبصّرك من الهدى بما له هدينا وبصّرنا، ونبقي لديك من بدائعها ما به خصصنا وأوثرنا، ونوصيك اتّباعا للكتاب والسّنّة، ونؤتيك من الهداية ما لله في الإرشاد إليه المنّة: فقد وعظ ووصّى لقمان عليه السّلام ابنه، وأوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاذ بن جبل لمّا بعثه إلى اليمن فحقّق الله تعالى في نجاحه رجاءه وفي فلاحه ظنّه، ونذكّر جنابك، ونرجو أن تكون ممن تنفعه الذّكرى، ونسيّر شهابك، إلى أفق السّعد، ونأمل أن تيسّر لليسرى، ونؤمّرك فنزيد علم عزّك رفعا ولواء مجدك نشرا، ونأمرك ثقة بحسن أخلاقك، فيتلو لسان وفاقك: {سَتَجِدُنِي إِنْ شََاءَ اللََّهُ صََابِراً وَلََا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} (2) فمثلك من أيّدته العصم، وأصعدته الهمم، وحمدته الأمم، وأرشدته إلى الحكم ما عهدته فكرته من الحكم، وسدّدته أعراقه وأخلاقه فلا يزاد على ما فيه من كرم فلا نذكّر منك ناسيا، ولا نفكّر لاهيا، ولا نأمر وننهى إلّا من لم يزل بالمعروف آمرا وعن المنكر ناهيا.(12/225)
فلتقدر رعيّة هذه البلاد نعمة هذا التفويض قدرها، وليسألوا الله أن يوزعهم لحسن هذا التفويض شكرها فقد أنشأ لهم يسرها، وأفاء لهم برّها، وألقى إليهم جودها وخيرها، وأبقى عندهم عزّها ونصرها، وليتّبعوا السّبيل القويم، وليجمعوا على الطاعة الّتي تبقي عليهم نعمة العافية وتديم، وليسمعوا ويطيعوا لما يرد إليهم من المراسيم فمن لم يستقم كما أمر لا يستمرّ بهذه البلاد ولا يقيم والعاقل لنفسه خصيم، والجاهل من عدم النّعمة وحرم النّعيم
وفراستنا تلمح نتائج الخير من هذا التّقديم، وسياستنا تصلح ما قرب منّا وما بعد بتعريف أحكام التّحكيم وكيف لا؟ وهو الكريم بن الكريم بن الكريم، المؤمّل لتمام السّؤدد قبل أن يعقد عليه التّميم، المشتمل على الخلال الموجبة له الفضل العميم، المتوصّل بيمن حركاته إلى أن يكون لمثل هذا الملك العظيم، وإلى أمانته استيداع وإلى صيانته تسليم، المقبل وجهدنا الإقبال فتتلو الرّجال: {مََا هََذََا بَشَراً إِنْ هََذََا إِلََّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} (1)
ونحن نأمرك من التّقوى بما به من الله أمرنا، ونبصّرك من الهدى بما له هدينا وبصّرنا، ونبقي لديك من بدائعها ما به خصصنا وأوثرنا، ونوصيك اتّباعا للكتاب والسّنّة، ونؤتيك من الهداية ما لله في الإرشاد إليه المنّة: فقد وعظ ووصّى لقمان عليه السّلام ابنه، وأوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاذ بن جبل لمّا بعثه إلى اليمن فحقّق الله تعالى في نجاحه رجاءه وفي فلاحه ظنّه، ونذكّر جنابك، ونرجو أن تكون ممن تنفعه الذّكرى، ونسيّر شهابك، إلى أفق السّعد، ونأمل أن تيسّر لليسرى، ونؤمّرك فنزيد علم عزّك رفعا ولواء مجدك نشرا، ونأمرك ثقة بحسن أخلاقك، فيتلو لسان وفاقك: {سَتَجِدُنِي إِنْ شََاءَ اللََّهُ صََابِراً وَلََا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} (2) فمثلك من أيّدته العصم، وأصعدته الهمم، وحمدته الأمم، وأرشدته إلى الحكم ما عهدته فكرته من الحكم، وسدّدته أعراقه وأخلاقه فلا يزاد على ما فيه من كرم فلا نذكّر منك ناسيا، ولا نفكّر لاهيا، ولا نأمر وننهى إلّا من لم يزل بالمعروف آمرا وعن المنكر ناهيا.
فاتّق الله تعالى: فعلى التّقوى مرباك، وراقب الله تعالى: فالمراقبة للملوك من بيتك ملاك، وجدّ في نصرة الحقّ ولا تأب: فقد أنجد الله تعالى بذلك جدّك وأباك، واعدل فبالعدل تعمر الدّول وأقم منار الشّرع، فهو الأصل الذي يرّد إليه من القضايا كلّ فرع، ومجاله الرّحب إذا ضاق الذّرع فأيّد حاكمه، وشيّد معالمه، وأكّد الإلزام بأحكامه اللّازمة.
__________
(1) يوسف / 31.
(2) الكهف / 69.(12/226)
والأمراء والجند فهم جناح النّجاح، وصفاح الصّفاح فاعتمد أحوالهم بالصّلاح، وأرد فيهم ما استطعت الإصلاح، والخيّالة والرجّالة الذين يحمى بهم مصون الحصون أن يستباح فالحظ أمورهم بعين فكرك في كلّ مساء وصباح، فمن نهض في الخدمة تعيّن من النّعمة أن يزاد ومن قصر في العزم قضى الحزم أن يزاح والرعايا فهم للإحسان ودائع، وللامتنان صنائع فأعذب لهم من المعدلة المشارع، وانصب لهم من إقامة الحرمة الزواجر والرّوادع، وأخصب لهم من النّعمة مربعا يرغّب الجامح ويقرّب الطائع وأهل الذّمة فآوهم إلى كنف العدل الواسع، واحمهم أن تمتدّ إلى أنفسهم يد جان وإلى أموالهم يد طامع، وأقم عليهم بأسا يحلّ بهم إذا اعتدوا القواصم والقوارع، وأدم لهم مهابة تسدّ من فساد الذّرائع، وعاود آراءنا الشّريفة وراجع، وواصل بأنبائك السّارّة وأفعالك البارّة وتابع، وبما تتطلّع إليه خواطرنا العاطفة من متجدّداتك المباركة أتحف وطالع والله تعالى يشنّف بحسن سيرتك المسامع، ويشرّف بحلول عدلك المحافل والمجامع، ويوزعك شكر نعمته ويجعل لك من عصمته أعظم وازع، ويمتّعك بأيّامنا الّتي فيها الخير الشّامل والبرّ الجامع، ويصون بخلالك الحسنى [ما استحفظت] (1) من أسنى الودائع، ويزيّن سماء العلياء بجلالك فمنها لك قمراها والنجوم الطوالع، ويوفّق بجميل قصدك إلى أن تأخذ من القلوب بالمجامع، ويحقّق في إسعاد جنابك المطالب ويشرق بإصعاد شهابك المطالع والعلامة [الشريفة أعلاه حجّة بمقتضاه] (2)
الصنف الثاني أرباب الوظائف الدّينية
. وبها قاض واحد شافعيّ وتوقيعه في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء.
الصنف الثالث الوظائف الدّيوانية
وهي ثلاث وظائف، يكتب لكلّ منها توقيع في قطع العادة: الأولى كتابة الدّرج، الثانية نظر المال، الثالثة نظر الجيش.
__________
(1) في الأصل «ما استطعت». والتصحيح من هامش الطبعة الأميرية.
(2) بيّض لها بالأصل اختصارا على عادته.(12/227)
القسم الثالث (مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية ما يكتب لأرباب الوظائف بالمملكة الحجازية)
وقد تقدّم أنّها تشتمل على ثلاث قواعد:
القاعدة الأولى (مكة المشرّفة، وبها وظيفتان)
الوظيفة الأولى (الإمارة)
وقد تقدّم أنّ إمارتها في بني الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأنّها كانت تولّى من أبواب الخلافة ببغداد إلى حين انقراضها، إلّا ما تغلّب عليه الفاطميّون أصحاب مصر في خلال ذلك. ثم استقرّت آخرا من جهة ملوك مصر إلى الآن. ويكتب له تقليد في قطع النّصف ب «المجلس العالي» بزيادة ألقاب تخصّه، وقد تقدّمت ألقابه في أوّل هذا الطّرف.
وهذه نسخة تقليد بإمرة مكّة المشرّفة: كتب بها عن الملك الناصر «محمد بن قلاوون» لأسد الدّين «رميثة» (1) بن أبي نميّ بإمرة مكّة المشرّفة، عوضا عن أخيه «عطيفة» عند قتل الأمير الدمرجان دار وولده خليل، من إنشاء المولى تاج الدين بن البارنباري رحمه الله، في المحرّم سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، وهي:
الحمد لله الحكيم: فالشّريف من اتبع أوامره، العظيم: فالسّعيد من اتّقى غضبه بأعماله الزاكية ونيّاته الطاهرة، الكريم: فالفائز من سلك مراضيه
__________
(1) هو رميثة بن أبي نميّ محمد بن الحسن بن عليّ الحسني، أبو عرادة. تولى إمارة مكة أكثر من مرّة وعلى فترات متقطعة منذ سنة 701هـ إلى سنة 746هـ حين وفاته. (انظر شذرات الذهب:
6/ 149ومعجم الأنساب لزمباور: 31والأعلام: 3/ 33).(12/228)
في الدنيا ليأمن في الآخرة ومن أخاف عاكف حرم الله وباديه فقد باء بالأفعال الخاسرة، ومن عظم شعائر الله فقد رفل في حلل الإقبال الفاخرة.
نحمده على ألطافه الباطنة والظّاهرة، ونشكره ونرجوه وما زال ينجح راجيه ويزيد شاكره، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة من اتخذ الحق ناصره وأودع إخلاصها ضمائره، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي بعثه الله من الحرم فألّف القلوب النّافرة، وفتح مكّة فطهّرها من الزّمرة الكافرة، وقال في ذلك اليوم: «من أغلق عليه بابه فقد أمن» فأمسى أهلها ونفوسهم بالأمن ظافرة، صلّى الله عليه وعلى آله بني الزهراء العترة الزاهرة وعلى صحبه النّجوم السافرة، وسلّم تسليما كثيرا.
أمّا بعد، فإنّ الحكم [بالعدل] (1) شعارنا، وبالله اقتداؤنا واقتدارنا، وفي الإحسان رغبتنا، وفي كلّ عنق منّتنا، نصفح ونمنح، ونرعى من أمسى قديم الهجرة في ولايتنا وأصبح، ونقيم من أهل البيت لحفظ ذلك البيت الأصلح فالأصلح، ونقدّم من لم يزل مقدّما وإلى صوب الصواب يجنح فينجح، وننجي من الهلكة من لاح له منهج الخير فسلكه فأفلح.
وكانت مكّة المعظمة هي أمّ القرى، والبلد الأمين المجزل فيه القرى نشأ الإسلام في بطحائها، وحرّمها الله فلا ينفّر صيدها، ولا يعضد (2) شجرها، ولا تحلّ لقطتها (3) إلّا لمنشد تأكيدا لتشريفها وإعلائها، وطلعت شمس النّبوّة من شعابها، وغسلت الذّنوب بوبل سحابها فيها زمزم وكزة جبريل (4)، وفيها
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) عضد الشجرة: قطعها بالمعضاد، وهو حديدة تجذب بها فروع الشجر وتمال فتقطع أو تكسر.
(3) اللّقطة: الشيء الّذي تجده ملقى فتأخذه. والمنشد هو المعرّف الّذي يعرّف الدابة الضالّة إلى صاحبها. (انظر اللسان: 3/ 422).
(4) ومن أسماء زمزم: ركضة جبرائيل، وهزمة جبرائيل. والغمزة بالعقب في الأرض يقال لها هزمة ووكزة. ولبئر زمزم اسماء أخرى. (انظر معجم البلدان: 3/ 147).(12/229)
بدأ الوحي والتّنزيل، وإليها أعنقت (1) الرّكاب ففي كلّ أبطح للمطيّ مسير ومسيل فكم أتى إليها من سائر الناس سائر، وكم أتى إليها الناس رجالا وعلى كلّ ضامر فالرّحمة مستقرّة بين نواحيها والعيون تتملّى بأنوار تلك الأستار حتّى تجتليها، والشّفاه تتشرّف بتقبيل ذلك الحجر الّذي يشهد لها في غد ويقيها، فطوبى لمتّقيها، وسحقا لمن أخاف وفد الله فيها ونحن قد بصّرنا الله بخدمة بيتها المحرّم، وحرمها المعظّم، وكرّر إليها حجّنا وكرّمه، فلله الحمد أن كرّر حجّنا وكرّم وما برحنا نقيم في إمارتها من العترة النّبويّة كلّ شريف النّسب، وكلّ من يكتسب فيها رضا الله تعالى: وكلّ آمريء وما اكتسب فمن أصلح منهم أقمناه، ومن حاد عن الطاعة وجحد النّعمة أزلناه، ومن أخاف فيه السبيل لم نجعل له إلى الخير سبيلا، ومن استقام على الطريقة توكّلنا على الله وولّيناه، وكفى بالله وكيلا.
وكان فلان هو الّذي ما زالت خواطرنا الشريفة تقدّمه على بني أبيه، وتختاره أميرا وتجتبيه وربّما سلفت من بيته هنات صفحنا عنها الصّفح الجميل، وما قابلناهم إلا بما يليق لمجدهم الحسنيّ الحسن الأصيل والإمرة وإن كانت بيد غيره هذه المدّة فما كان في الحقيقة أمير عندنا سواه، لأنّه كبير بيته المشكور من سائر الأفواه.
والآن قد اقتضت آراؤنا الشريفة أن نقيمه في بلده أميرا مفردا إليه يشار، وأن نصطفيه وإنّه عندنا لمن المصطفين الأخيار وأن نجعل الكلمة واحدة ليأمن النّزيل والجار ومتى تجاذب الأمر كلمتان فسد نظامه، ومتى أفرد الحكم حسنت أحكامه، ومتى توحّد الأمر زال الاختلاف، وزاد الائتلاف، وأقبلت أيّامه.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف أن تفوّض إليه إمرة مكّة المشرّفة، على عادة
__________
(1) أعنقت الركاب: أسرعت.(12/230)
والده. فليتقلّد ما فوّضناه إليه من الإمرة والنيابة بمكة المعظّمة، شاكرا ما أنعم الله به عليه من مراضينا التي لا نجاة لمن لم ينل منها نصيبا موفورا، ولا فوز لمن لم يدرك منها حظّا كبيرا، وليشرع في تمهيد البلاد من إزالة المظلمة، وليطهّرها من كلّ مجتريء على الله تعالى في البقعة المحرّمة، ولا يقرّب من في قلبه مرض فيعديه، ولا يرجع لمن فيه شقاق ظاهر في صفحات وجهه وفلتات فيه، وليعلم أن هذا بلد حرام حرّمه الله يوم خلق السّموات والأرض، وصيّر حجّ بيته على مستطيعه من الفرض، وجعله للنّاس معادا ومعاذا، وقال صلّى الله عليه وسلّم يوم عرفة: «إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا».
فليمنع الدّماء من أن تراق، والأموال من أن تؤخذ بغير استحقاق والظّلم في البلد الحرام حرام، وبنو حسن أحقّ باتباع سنّة الإسلام واتّق الله لتلقاه بالوجه الأبيض والعمل الأغرّ، واتّبع سنّة جدّك: فعلى اتّباعها حثّ وأمر، والق وفد الله في البرّ والبحر بالحسنى فهم أضيافه، وأمّن الحجّ ليتمّ نسكه وطوافه.
هذا تقليدنا لك أيّها الشّريف: فطب نفسا بمراضينا، وصفحنا عما مضى ومنحنا الرّضا حقّا يقينا، لأنّا نتحقّق أنّ الإحسان يحرسنا ويقينا، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد شريف لأمير مكّة المشرّفة:
الحمد لله الّذي جعل البيت مثابة (1) للناس وأمنا، ونصب فيه للقانتين ركنا، وجعل أرض الحرم لا تبيد بركاتها ولا تفنى، وجعل لشجرة النّسب الهاشميّ فيها أصلا شريفا كم أخرج غصنا، وآتى بني الحسن فيها إحسانا من لدنه وحسنا،، وأقام منهم أميرا في ذلك المحل الأسنى.
__________
(1) المثاب والمثابة: البيت، والملجأ. واللّفظ في سورة البقرة الآية 125.(12/231)
نحمده فرادى ومثنى، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة كاملة اللّفظ والمعنى، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي شيّد الله به للدّين خير مبنى، وأضحت الضّلوع على محبّته تحنى، وثمار الخير مما بين روضته ومنبره تجنى، وخصّه الله بالشّرع المستقيم والدّين الأهنى، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة في الصدور لها سكنى، وسلّم تسليما.
وبعد، فإنّ أمّ القرى، خير البلاد بلا مرا، قد جعل الله للناس إليها رحلة وسرى، وهجروا في قصدهم إليها لذيذ الكرى، ونصب فيها بيتا متين العرى، وأنبع فيها بئرا مأوها يشفي السّقيم ويبريء الورى (1)، وجعل فيها للشّرف بيتا عالي الذّرى، فأميرها المطاع، من أهل بيت النّبوّة لا يخيّب ولا يضاع، ذو همّة تخافها السّباع، ويرهبها البطل الشّجاع، يعدّ من الآباء أسلافا كراما، كمصابيح السماء تجلو ظلاما، وقد طيّب الله مقامهم وأعلى مقامهم حين جاوروا مقاما.
ولما كان هو شريف العرب، المعرق في النّسب، الطّيّب الحسب، المحيي من آثار آبائه ما ذهب، الشّريف النّفس: فلا يلتفت إلى العرض الأدنى من الرّقّة وأكّد شكره الحرم وأهله، وأثنى على صفاء سيرته الصّفا وعلى مروءته المروة إذ طاب أصله قد اقتفى في الكرم أباه وجدّه، وأمّن سبيل الحاجّ من جهة البرّ ومن جهة البحر من جدّة.
فلذلك رسم أن يفوّض إليه فليحلّ البلد الحرام حاكما وآمرا، وليستجلب له من العاكف والباد شاكرا، وليحسن للطّائفين والعاكفين والرّكّع السّجود، وليتّبع آثار آبائه أهل الكرم والجود، وليؤمّن الخائف في تلك التهائم والنّجود، وليردع الحائف عن حيفه فلا يعود، وليعلم أنّه بواد غير ذي زرع ولكن فيه للبركات ظلّ ممدود، وخير مشهود وبمكة مولد أشرف مولود، وجدّه الحسن رضي الله عنه فليكن حسن الفعال فكما ساد يسود،
__________
(1) من معاني الورى: القيح يكون في الجوف.(12/232)
وليعرب عن الثّناء الأبيض عند ما يتمسك بتلك السّتور السّود، وليتلقّ المحمل الشريف في كلّ عام، بالاحتفال والإكرام، والطاعة الّتي يبلغ بها المرام، وليقف مع أمراء الحاج مقيما لحرمتهم بجميل الاحترام، وليكفّ الأشرار من العبيد والموالي، عن النّهب والتّخطّف لوفد الله الّذي قطع السّرى بالأيام والليالي، وليلازم خدمة المحمل الشريف على ما يناسب شرفه، حتّى يقف بعرفة، ثم يدفع إلى المزدلفة، إلى أن يقضي الحجّ ويرحل من مكّة المشرّفة، وليكن سياجا على الحجّاج، في تلك الفجاج، حتّى لا يفقد أحدهم عقالا، ولا يجد اختزالا، ويرحلون عن مكّة المعظمة من الذّنوب خفافا وبمننه ثقالا. والوصايا كثيرة وهو غنيّ عن أن نطيل له فيها مقالا، وتقوى الله فمن تمسّك بها حسن حالا، وأنتم أهلها كرّمكم الله أهلا وآلا والله الله في حفظ جانب الصّحابة رضي الله عنهم فليردع عن الخوض فيهم جهّالا، والله يجعله مغمورا مسرورا بنعم الله تعالى، بمنّه وكرمه!.
وهذه وصيّة لأمير مكّة، أوردها في «التعريف»:
وليعلم أنّه قد ولّي حيث ولد بمكّة في سرّة (1) بطحائها، وأمّر عليها ما بين بطن نعمانها إلى فجوة روحائها (2) وأنّه قد جعلت له ولاية هذا البيت الّذي به تمّ شرفه، وعلت غرفه، وعرف حقّه له أبطحه ومعرّفه (3) إذ كان أولى ولاة هذا
__________
(1) في الأصل «نمرة» والتصحيح من الطبعة الأميرية عن «التعريف».
(2) نعمان وروحان: موضعان. وقد قلب نون «روحان» همزة للسجع. (انظر معجم البلدان: 3/ 76 و 5/ 293).
(3) المعرّف: موضع الوقوف بعرفة. قال عمر بن أبي ربيعة:
يا ليتني قد أجزت الخيل دونكم
خيل المعرّف أو جاوزت ذا عشر
والأبطح: مكان يضاف إلى مكة وإلى منى، لأن المسافة بينه وبينهما واحدة. (انظر معجم البلدان: 1/ 74و 5/ 155).(12/233)
الحرم بتعظيم حرماته، وسرور جوانبه بما يلوح من البشر على قيماته، ولأنّه أحقّ بني الزّهراء بما أبقته له آباؤه، وألقته إليه من حديث قصيّ جدّه الأقصى أنباؤه وهو أجدر من طهّر هذا المسجد من أشياء ينزه أن يلحق به فحش عابها (1)، وشنعاء هو يعرف كيف يتتبّعها «وأهل مكّة أعرف بشعابها».
فليتلقّ راية هذه الولاية باليمين، وليتوقّ ما يتخوّف به ذلك البلد الأمين وليعلم أنّه قد أعطى الله عهده وهو بين ركن ومقام، وأنّه قد بايع الله: والله عزيز ذو انتقام وليعمر تلك المواطن، ويغمر ببرّه المارّ والقاطن، وليعمل في ذلك بما ينجّث عنه نجاره (2)، ويأمن به سكّان ذلك الحرم الّذي لا يروّع حمامه فكيف جاره، ولينصت إلى اسمه [عز وجلّ] حيث يعلن به الدّاعي على قبّة زمزم في كلّ مساء وليعرف حقّ هذه النّعمة، وليعامل من ولّي عليهم بما يليق أن يعامل به من وقف تحت ميزاب الرّحمة وقد أكد موثقه والله الله في نقضه، ومدّ يده على الحجر الأسود يمين الله في أرضه وليتبصّر أين هو فإنّ الله قد استأمنه على بيته الّذي بناه، وسلّمه إليه بمشعره الحرام ومسجد خيفه ومناه وإنّه البيت المقصود: وكلّ من تشوّق حمى ليلى فإنّما قصده أو لعلع بلعلع (3)
فإنّما عناه وفي جمعه يجتمع كلّ شتيت، وفي ليالي مناه يطيب المبيت، وبمحصّبه (4) تقام المواسم، وتفترّ الثّغور البواسم، وتهبّ من قبل نعمان الرّياح النّواسم، وفي عقوة (5) داره محطّ الرّحال في كلّ عام، ومعرّ كل
__________
(1) العاب: الوصمة. والجمع: أعياب وعيوب.
(2) نجّث: استخرج. والنجار: الأصل.
(3) لعلع السراب: برق ولمع. والرعد: صوّت. ولعلع فلان من كل شيء: ضجر. واللعلع:
السراب. ولعلع: جبل، وقيل ماء في البادية، وقيل: منزل بين البصرة والكوفة. (انظر معجم البلدان: 5/ 18ولسان العرب: مادة «لعلع»).
(4) المحصّب: موضع بين مكة ومنى. والمحصّب أيضا: موضع رمي الجمار بمنى، وهو من رمي الحصباء. (معجم البلدان: 5/ 62).
(5) العقوة: الموضع المتّسع أمام الدار.(12/234)
ذات عود تجذب بقلع وعوذ (1) تقاد بزمام، وإليه تضرب التّجار البراريّ والبحار، وتأتيه الوفود على كلّ قطار يحدى من الأقطار وكلّ هؤلاء إنّما يأتون في ذمام الله بيته الّذي من دخله كان آمنا، وإلى محلّ ابن بنت نبيّه الّذي يلزمه من طريق برّ الضيف ما أخذ لهم وإن لم يكن ضامنا.
فليأخذ بمن أطاع من عصى، وليردع كلّ مفسد ولا سيما العبيد فإنّ العبد المفسد لا يزجره إلا العصا، وليتلقّ الحجّاج بالرّحب والسّعة، فهم زواره وقد دعاهم إلى بيته وإنّما دعاهم إلى دعة، وليتلقّ المحمل الشريف والعصائب المنصورة، وليخدم على العادة الّتي هي من الأدب مع الله تعالى معنى ومعنا صورة، وليأخذ بخواطر التّجار فإنّهم سبب الرّفق لأهل هذا البلد وتوسعة ما لديهم، والمستجاب فيهم دعوة خليله إبراهيم صلوات الله عليه إذ قال:
{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النََّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} (2) ولا تتحيّف أموالهم بغرامة يقلّ بها الغنم، ولا بظلامة فإنّه بإزاء هذا البيت الّذي يردّ دونه من أراد فيه إلحادا بظلم ولينظر كيف حبس دونه الفيل، وليكفّ عادية من جاوره من الأعراب حتّى لا يخاف ابن سبيل، وليقم شعائر الشّرع المطّهر، وأوامر أحكامه الّتي قامت بأبويه: بحكم جدّه سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وسيف أبيه حيدر، وليأمر طوائف الأشراف وأشياعهم وسائر أهل موالاتهم وأتباعهم بلزوم ما كان عليه صالح السّلف وما عليه الإجماع، وتجنّب ما كانت الزّيديّة زادت فيه وكفّ الأطماع، وليتّق الله فإنّه مسؤول لديه عما استرعاه وقد أصبح وهو له راع وإيّاه أن يتّكل على شرف بلده، فإن الأرض لا تقدّس أحدا، أو شرف محتده، فإن في يوم القيامة لا ينفع ولد والدا ولا والد ولدا.
الوظيفة الثانية (قضاء مكّة، ويكتب به توقيع في قطع الثلث ب الساميّ» بالياء)
وهذه نسخة توقيع بقضاء مكّة المشرّفة:
__________
(1) العوذ: النوق إذا كانت حديثة عهد بالنّتاج.
(2) إبراهيم / 37.(12/235)
الحمد لله الّذي أنفذ الأحكام، بالبلد الحرام، وأيد كلمة الشّرع في بلده ومنشئه بين الرّكن والمقام، وجعل الإنصاف الجزيل، حول حجر إسماعيل، متّسق النّظام.
نحمده حمدا حسن الدّوام، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة عبد قائم بحقّها أحسن القيام، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله السامي من ولد سام، والّذي قام لله حتّى ورمت منه الأقدام، وأسري به من مكّة إلى السماء مرّتين: في اليقظة والمنام، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أئمّة الصّلاة والصّيام، وسلّم تسليما.
وبعد، فإنّ وظيفة القضاء بمكّة المعظمة هي أجلّ منصب بتلك الأباطح، ونورها في الجبين لائح، فإنّ الشّرع نشأ منها والوحي أنزل فيها فزهيت البطائح، وظهرت النّصائح، وأطربت الصّوادح، وأسكتت النّوائح، وغمرت المنائح، وانتشرت المصالح فمن ولي الحكم بها وعدل فذلك هو العدل الصالح وكيف لا؟ وماء زمزم شرابه، وأستار البيت تمسّها أثوابه، وعلى الله أجره وثوابه، وفي ذلك الجناب الشريف كرم جنابه، وإذا دعا الله عند الملتزم (1) جاءه من القبول جوابه.
ولمّا كان فلان هو فرع (2) الدّوحة المثمرة، ومحصّل من العلوم الشّرعية المادّة الموفّرة، وله البحوث الّتي [هي] (3) عن أحسن الفوائد وغرر الفرائد
__________
(1) ويقال له المدعى والمتعوّذ. سمّي بذلك لالتزامه الدعاء والتعوّذ. وهو ما بين الحجر الأسود والباب. (معجم البلدان: 5/ 190).
(2) يكثر في مثل هذه التقاليد استعمال تعبير «ولما كان فلان هو كذا» أي يأتي بضمير الفصل «هو» بين اسم وخبر كان. وقد درجنا على نصب الاسم الواقع بعد «هو» باعتباره خبرا لكان وباعتبار ضمير الفصل لا محل له من الإعراب. ويرى بعض النحويين أن ضمير الفصل والإسم الّذي بعده يشكلان جملة إسمية من مبتدأ وخبر في محل نصب خبر كان. ولهذا رفعنا «فرع» في الجملة أعلاه لبيان وجهي الإعراب.
(3) الزيادة لانتظام السياق.(12/236)
مسفرة، ورضيّ أهل الحرم، لما جبل عليه من خير وكرم، [تمسك] (1) بالعروة الوثقى والقويّ الأتقى فلا جرم.
فلذلك رسم لا زال
فليكن في أمّ القرى، كالوالد المشفق على الورى، وليتمسّك من التّقوى بأوثق العرا، وليخش ربّ هذا البيت إنّه سميع يسمع ويرى، ووفد الله قطعوا إليه المراحل في السّرى، ليصافحوا كفّه المضمّخ عنبرا، وليقض بين الخصوم بالحقّ فمثله من درأ الباطل: قد جعله الله جار بيت عالي الذّرا، وفي أرض شرّف الله جبالها وقدّس غيرانها فمنها غار ثور وغار حرا (2)، لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يتعبد في غار حرا، وأوى إلى غار ثور لما هاجر مؤيّدا مظفرا والوصايا كثيرة وملاكها تقوى الله فليتمسّك بها من أمام وورا، والله تعالى يجعل نهاره منوّرا، وليله مقمرا، بمنه وكرمه!
القاعدة الثانية (المدينة النبوية، وبها ثلاث وظائف)
الوظيفة الأولى (الإمارة)
والأمر فيها على ما مرّ في إمارة مكّة المشرّفة.
وقد تقدّم أن إمارتها في بني الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، ويكتب لها تقليد في قطع النّصف ب «المجلس العالي» أيضا بألقاب مخصوصة، وقد تقدّم ذكر ألقابه.
وهذه نسخة تقليد شريف بإمارة المدينة النبوية، كتب به للأمير بدر الدين «وديّ بن جمّاز» (3) من إنشاء المقرّ الشهابيّ بن فضل الله، سقى الله عهده:
__________
(1) الزيادة لانتظام السياق.
(2) هناك أيضا غار الكنز في جبل أبي قبيس المشرف على مكة. (انظر معجم البلدان: 4/ 182).
(3) وديّ بن جمّاز بن شيحة، أبو مزروع. ولّاه الناصر محمد بن قلاوون إمارة المدينة سنة 736هـ.
توفي سنة 743هـ. (الأعلام: 8/ 112).(12/237)
الحمد لله الّذي صرّف أمرنا في أشرف البقاع، وشرّف قدرنا بملك ما انعقد على فضله الإجماع، وعرّف أهل طيبة الطّيبة كيف طلع البدر عليهم من ثنيّات الوداع، وأمدّها بوديّ صغّر للتّحبّب وإلّا فهو واد متدفّق الأجراع.
نحمده على نعمه الّتي أغنت مهابط الوحي عن ارتقاب البرد اللّمّاع، وارتقاء النظر مع بدره المنير إلى كلّ شمس سافرة القناع، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تخمد من الضلال ما شاع، ومن البدع ما استطار له في كلّ أفق شعاع، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أشرف من أنفت به حميّة الامتناع، وألفت بنا سنّته أن ترعى لأهلها ولا تراع، وعصفت ريحها بمن يمالي دينه فمال إلى الابتداع، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ليس في فضل أحد منهم نزاع، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن الاهتمام بكلّ جهة على قدر شرفها، وعلى حسب الدّرّة الثمينة كرامة صدفها، والكمامة بثمرها، والغمامة بمطرها، والهالة بما يجلو الدّجى من قمرها والمدينة الشريفة النبويّة لولا ساكنها ما عاجت إليها الركائب، ولا ناجت حدائقها غرّ السّحائب، ولا وقفت بتأرّج شذا الرّوضة الغنّاء بها الجنائب، ولا بكى متيّم دمن العقيق بمثله من دم ذائب، ولا هاج إليها البرق متألّقا، ولا هام صبّ فيها بظبيات سلع والنّقا (1)، ولكنّها مثوى النّبوّة ترابها، ومهوى الرّسل جنابها، ومأوى كتاب الله الفسيح رحابها دار الهجرة الّتي تعالت شمس الشريعة بأفقها، وتوالت سحب الهدى من بين أبيرقها (2)، وهي ثانية مكّة المعظمة في فضلها إلّا ما ذهب إليه في تفضيلها على مكّة مالك بن أنس، ومنها انبعثت للهدى نوّارة كلّ نور وشعاع كلّ قبس، وكانت لنبيّ هذه الأمّة صلّى الله
__________
(1) سلع: جبل بسوق المدينة. ولم نعثر على مكان باسم «النقا» وفي معجم البلدان: النقاب، بلفظ نقاب المرأة، موضع في أعمال المدينة. والنقا لغة هو القطعة من الرمل محدودبة.
(2) الأبيرق: تصغير الأبرق، وهو مكان غليظ فيه حجارة ورمل وطين مختلطة.(12/238)
عليه وسلّم أبقى داريه، وأعلى سماء حوت ثلاثة أقمار منه ومن جارية.
ولما كان بها لبعض الولاة من الشّيعة مقام، ولهم فيها تحامل لا يجوز معه من الانتقاد إلّا الانتقال أو الانتقام، حتّى إنّه فيما مضى لمّا كثر منهم على بغض الصاحبين رضي الله عنهما الإصرار، واشرأبّوا في التّظاهر بسبّهما إلى هتك الأستار، دبّ من النار في هذا الحرم الشريف ما تعلّق بكلّ جدار، وأبت لها حميّة الغضب إلّا أن يطهّر ما سنّته أيدي الرّوافض بالنّار فلما اتّصل بنا الآن أنّ منهم بقايا وجدوا آباءهم على أمّة، واقتدوا بهم في مذهب الإماميّة بما لا أراده الله تعالى ولا رسوله صلّى الله عليه وسلّم ولا أولئك الأئمة، وحضر المجلس العالي الأميريّ الأصيليّ، الكبيريّ العادليّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، الزّعيميّ، المقدّميّ، الذخريّ، الكافليّ، الشّريفي، الحسيبيّ، النّسيبيّ، الأوحديّ، البدريّ، عزّ الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، جمال العترة الطاهرة، جلال الأسرة الزّاهرة، طراز العصابة العلويّة، كوكب الذّرّيّة الدّرّيّة، خلاصة البقية النّبويّة، ظهير الملوك والسلاطين، نسيب أمير المؤمنين، وديّ بن جمّاز الحسيني أدام الله تعالى نعمته بين أيدينا الشريفة بمحضر قضاة القضاة الأربعة الحكّام، وتذمّم (1) بأنّ مع طلوع بدره المنير لا تبقى ظلامة ولا ظلّام، وتكفّل لأهل السّنة بما أشهدنا الله به عليه ومن حضر، وتلقّى بإظهار فضل الترتيب كما هم عليه: النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثم أبو بكر ثم عمر فما اختصّهما الله بجواره إلا ليثبت لهما على غيرهما إفضالا، وليجعل قبورهما في معرفة أقربهم منه درجة مثالا، لما تواترت به الأحاديث الشريفة في فضائلهما ممّا هو شفاء الصّدور، ووفاء بعهده إذ يقول: «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي عضّوا عليها بالنّواجذ وإيّاكم ومحدثات الأمور» فلم يسعنا إلا أن نجعل له منّا تقليدا يمحو بحدّه ما حدث من أحداث البدع، ويجدّد من عهد جدّه نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم في معرفة حقّ أصحابه رضي الله
__________
(1) أي أخذ على نفسه عهدا.(12/239)
عنهم ما شرع، وثوقا بأنّه من بيت كان أوّل هذا الدّين الحنيف من دلّه (1)، ومبدأ هذا الحقّ الظاهر ما أثّلته ومثّلته في سلفه الشريف بأقارب متّصله وأنّه هو المورث من الفخار ما ورثه عن آبائه الكرام، المحدّث عن كرم الجدود بما لا يحقر له جوار أو يخفر ذمام، المشرق من الأسرة العلويّة بدرا تماما، المحدق به من الكواكب العلويّة ما يظن به أبا تسمّى وابنا تسامى، المنتخب من آباء صدق أحسن في ديارهم الصنيع، وحفظ من حسبهم الكريم ما أوشك أن يضيع، واستضاء بلامعة من هدى سلفه السابق، وهامعة من ندى ما يرويه السّحاب عن الجود والبرق عن المهارق، تهتزّ بمقدمه المدينة سرورا، وتفترّ رباها منه بنسب كأنّ على نسبه من شمس الضّحى نورا، ويتباشر ما بين لابتيها (2) بمن يحمي حماها، ويحيّي محيّاها، وتتشوّف منه ربا كلّ ثنيّة إلى ابن جلادها، وطلّاع ثناياها، مع ما لا يجحد من أنّ له فيها من أبيه حقّ الوراثة، وأنّه لما كان هذا ثاني المسجدين احتاج إلى ثاني اثنين تعظيما للواحد وفرارا من الثّلاثة، ليكون هو ومن فيها الآن بمنزلة يدين كلتاهما تقبل الأخرى، وأذنين كلتاهما توعي درّا، وعينين ما منهما إلا ما يدرك أمرا بعيدا، وفرقدين لا يصلح أن يكون أحدهما فريدا، وقمرين لا يغلّب أحدهما على الآخر في التّسمية بالقمرين، وعمرين وكفى شرفا أن لا يوجد في الفضل ثالث للعمرين.
فرسم بالأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ زاد الله به المواطن شرفا، وزاد به البواطن الشريفة حبّا وشغفا أن يفوّض إليه نصف الإمرة بالمدينة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، شريكا
__________
(1) أي من هديه.
(2) اللابتان هما حرّتان للمدينة المنورة تكتنفانها. وفي الحديث أنه حرّم ما بين لابتي المدينة. قال أبو عبيدة: لوبة ونوبة للحرة الّتي ألبستها حجارة سود، ومنه قيل للأسود لوبيّ ونوبيّ. وجمع لابة لابات، فإذا كثرت فهي اللّاب واللّوب. وفي حديث عائشة وصفت أباها بأنه بعيد ما بين اللابتين، أرادت أنه واسع الصدر. (انظر: جنى الجنّتين للمحبّي: ص 98ولسان العرب: مادة «لوب»).(12/240)
للأمير سيف الدين ابن أخيه (1)، ورسيلا معه فيما يليه، ولكلّ منهما حقّ لا يكاد الآخر يخفيه، هذا له برّ الولد وهذا له حرمة الوالد لأنّ ابن الأخ ولد وعمّ الرّجل صنو أبيه فتقسم الإمرة بينهما نصفين، وتوسم جباه الكتب الصادرة عنهما لهما باسمين.
والوصايا تمدّ من عنانها، وتعدّ من أعيانها فأوّلها تقوى الله فإنّها من شعائر القلوب، وبشائر الغيوب، وأمائر نجاح كلّ مطلوب، والاعتصام بالشّريعة الشريفة: فإنّها الحبل الممدود، والجبل الّذي كم دونه من عقبة كؤود، والانتهاء إلى ما نصّ عليه الكتاب والسنة والإجماع، وقصّ جناح من مال به الهوى إلى مجاذبة الأطماع، وتلقّي وفد الله الزائر بما ألفه نزيل هذا الحمى من كرامة الملتقى، وتوقّي المذمّة فإنّها دنس لا يحمد مثله نقاء هذا النقا ونعني بالمذمّة ما نسب إلى الرّوافض من البدع الّتي لا تطهّرها غرّ السحاب، ولا يستبيح معها لدخول المسجد الطّاهر من قنع بمقامه حوله التّيمّم بالتراب ولا يدع أحدا من هذه الفرقة الضّالّة بعلي ولا يعيّره بما يكون به مثلة، ولا يشبّه قلبه في محبّة أهل البيت سلام الله عليهم بإناء امتلأ ماء ولم تبق فيه فضلة.
ولا يظنّ جاهل منهم أنّ عليه كرّم الله وجهه كان على أحد من الصاحبين معاتبا أو عاتب، أو أنّه تأوّل في خلافتهما معتقدا أنّ أحدا منهما غاصب فما تأخّر عن البيعة الأولى قليلا إلّا لاشتغاله بما دهمه بموت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المصائب، وإلّا فقد اتخذ أمّ ولد من سبي أبي بكر رضي الله عنه لاكما يدّعيه كلّ كاذب، وقد تزوّج عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ابنته أمّ كلثوم وأقام بأمره الحدود وناب عنه وهو غائب فيكفّ من عادية هؤلاء الروافض الأشرار ما سيصلون في المواقفة بناره، وسيصلون إلى الموافقة على ما طار من شراره، ولا يدع للإماميّة إماما يقتدي به منهم قوم شرار، ولا قاضيا يقضي
__________
(1) لعلّ المقصود هو طفيل بن منصور بن جمّاز المتوفى سنة 752هـ. (الأعلام: 8/ 112وحاشية نفس الصفحة).(12/241)
بينهم: فإنّه إنّما يقطع لمن قضى له أو عليه قطعة من نار، ولا عالما يرفع له علم، ولا يفتح لهم بفتوى على مذاهبهم فم، حتّى ولا ما يتحرّك به في فم الدواة القلم.
وليطهّر هذا المسجد الشريف من دنسهم، وليمط ما يحمله أديم مجلدات التّصانيف من نجسهم وسكّان هذا الحرم الشريف ومن أقام عندهم من المجاورين، أو خالطهم من زمر المقيمين والسائرين، يحسن لأمورهم الكفالة، ولا يتعرض لأحد منهم بما يؤذي نفسه ولا يناله فهم في جوار نبينا صلّى الله عليه وسلّم وفي شفاعته، وكلّ منهم نزيل حرمه ومكثّر سواد جماعته، وحقّهم واجب على كل مسلم فكيف على حامي ذلك الحمى، بل من له إلى نسبه الشّريف منتمى.
واصحب رفيقك بالمعروف فإنّكما مفترقان والسعيد من لا يذمّ بعد فراقه، ومستبقان إلى كلّ مورد لا يدرى أيّكما المجدّ في سباقه، ومتّفقان على فرد أمر وأفضلكما من دوام صاحبه على إرفاقه، وصحبه على وفاقه.
وأمّا ما للمدينة الشريفة من تهائم ونجود مضافة إليها، ومستظلّة بجدرها أو متقدّمة في الصّحراء عليها، فهي ومن فيها: إما أن توجد بقلوبهم فهم أعوان، وإما أن تنفر فهم أشبه شيء بالإبل إذا نفرت تعلّق بذنب كلّ بعير شيطان فأقربهما إلى المصلحة تقريبهم، وتأليفهم بما يقرب به بعيدهم ويزداد قربى قريبهم والرّكبان الّتي تتّقد بهم جمرات الأصباح (1) والعشايا، ويعتقد كلّ منهم في معاجه إلى المدينة الشريفة أنّ تمام الحجّ أن تقف عليها المطايا فهم هجود سرى، ووفود قرى، وركود في أفق الرّحال خلعت مقلهم على النجوم الكرى، ومعهم المحامل الشريفة الّتي هي ملتفّ شعابهم، ومحتفّ ركابهم، وهي من أسرّتنا المرفوعة، ومبرّتنا المشروعة فعظّم شعائر حرماتها، وقبّل أمام منابرها الممثلة مراكز راياتها، وأكرم من جاء في خفارتها، ومن جال في دجى اللّيل لا
__________
(1) في الأصل «الأجناح». والتصحيح من الطبعة الأميرية.(12/242)
يستضيء إلّا بما يبدو من إشارتها، وقد أشهدنا عليك من هو لك يوم القيامة خصيم، وأنت وشأنك فيما أنت به عليم.
وباقي الوصايا أنت لها متفطّن، وعليها متوطّن، وما ينتفع الشريف بحسبه، إن لم يكن عمله بحسبه، ولا يرتفع بنسبه، إن لم يتجنّب مكان نشبه (1)، والله تعالى يمتّع بدوام شرفه، ولا يضيّع له أجر حالّ عمله الصالح وسلفه والاعتماد
وهذه نسخة تقليد شريف بإمرة المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام:
الحمد لله الفرد بلا شريك، الواحد لا من أعداد تقتضي التّشويك، المليك الّذي يتناهى إليه تقليد كلّ مليك.
نحمده حمدا يكمّل مواهب التّمليك، ويحمد عواقب التّسليك، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تصدع التّشكيك، وتصدّ كلّ أفيك (2)، وتسدّ خلل التّدريك، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله خير من حمي به عريك (3)، وحمى عليه تريك، وحمل حتّى تأتّى له التحرير في التّحريك، وتأنّى وما فاته على أعدائه النّصر الوشيك، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تخلص كالذّهب السّبيك، وترفع ما شيّد وتمنع ما شيك، وسلّم تسليما كثيرا.
أمّا بعد، فلما كانت المدينة الشريفة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام حرما لا يستباح، وحمى ليس إلّا لمن انتهكه دم مباح، وجنابا ما على من حلّه جناح، ومهبط وحي لا يمسّح بأركانه لغير الملائكة جناح، ولا يمسّك
__________
(1) النّشب: المال والعقار.
(2) الآفك والأفيك: الكاذب.
(3) يقال: رمل عريك أي متداخل. ولعل المراد: الحمى. (أنظر اللسان: مادة «عرك»).(12/243)
بعصمة من أغضى فيه على قذى، وسكت لساكنيه على أذى.
ولمّا اتصل بنا عن الرّوافض ما لا صبر لمسلم يرجو الله واليوم الآخر عليه، ولا وجه لمن قنع فيها بإخراج يديه، ولا عذر لمن لقي الله مغضبا لما ينهى إليه، لا مغضبا لما ينال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من التعرّض إلى صاحبيه، مما تقاضى منّا ما يمحو ظلامه الممتدّ، وظلمه المشتدّ، وبدعهم فسواء من ابتدعها ومن ارتدّ فمكّنّا بتقليدنا الشريف من أعطى الله وأعطانا على قوله موثقا، وجرّد عزائم لا تردّها من خدعهم الرّقى، وأشهد الله عليه ومن حضر أنّه لا يدع هذه الفرقة الضالّة حتى يدعّ يتيمها، ويعدّ لمقاتل السّيوف حطيمها: مما تضمنه نصّ ماضي ذلك التّقليد، وما ضم ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد، ونبّهنا على أنّه بدر لم يبق مع طلوعه ظلمة ولا ظلامة، ولا إضاعة ولا إضامة (1)، ولا ما تتجنّب به الرّكائب تمام الحجّ في مواقفها، ولا تنكر ما جهلت في قباب قباء من معارفها، وترد أعطانها ولا يسوقها إلى الأبرق بارق على أطلاله، ولا يعجبها إن خيل لها في النخيل مقيل في ظلاله.
وكان المجلس العالي أدام الله تعالى نعمته هو المتكفّل بتطهير ذلك الحرم الشريف من ألم كلّ قول يفترى، ولمّ كلّ باطل يلمّ يقظة أو طيف كرى، وإزالة كلّ شحّ فيها على من أمّل قرى أمّ القرى، وإماتة كلّ بدعة تسكب على مثلها العبرات، وإماطة كلّ أذى من طريق منى والجمرات، ومنع شقاشق شيعة تغلي مراجلها من الزّفرات، وقطع كلّ نجوى ينادون بها من وراء الحجرات، وقلع طائفة لولا إقامة حدود الله لكفاهم ما يقطّع أكبادهم من الحسرات وكان بها من أولاد أخيه، بل بعضه منه وبعضه من بني أبيه، من التهى عمّا تتحلّى به شيم الشريف الشريفة، وانتهى إلى ما لا يعنيه ولا يغنيه في
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية: «مراده إضاعة الحق كله أو نقص شيء منه. قال: إلا أننا لم نجد فيما بأيدينا من كتب اللغة من هذه المادة فعلا رباعيا ليكون هذا مصدرا له. ولعله استعمل اللغة العامية ترويجا للسجع».(12/244)
تأخير خليفة وتقديم خليفة، وأهمل حقوقا عواقبها مع الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم مخيفة، وأوهم عقوقا لأصحابه بل له لقوله: «دعوا لي أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مدي أحدهم ولا نصيفه». وبقي يتّصل بنا في هذا المعنى ما لا يقال ممّا يقال عنهم، ويصل أذاهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صاحبيه وقد قال: «إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما يرون النّجم الطالع في أفق السماء، وإنّ أبا بكر وعمر منهم» يطلبون في التقديم على من قدّمه الله ردّ فائت ما جرى به القدر (1)، ويضربون صفحا عما لا أراده الله ولا رسوله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «لا أدري ما قد بقي لي فيكم فاقتدوا باللّذين من بعدي:
أبي بكر وعمر». مع ما أضيف إلى هذا من قوادح نواب، وفواتح أبواب، وحوادث تزعج مقرّ النبوّة أنباؤها، وتمتدّ على مشارق الأنواء ظلماؤها، وتغيّر عوائد الوفود في كرامة زائرهم، وإدامة بشاشة الملتقى لسائرهم، وأمن سربهم أن يراع، وشربهم أن يتمثّل به لغير برق شعاع، وضمّهم إلى ذلك الحمى الّذي لا يضام نزيله، ولا يرام في طريق المجرّة سبيله، ولا يضلّ سار إليه ووجوه سكّان الحمى دليله، ولا يضيع وقد تلقّاه من النّسيم بليله بليله، ولا يقف وقفة المريب وضوء الصباح من أيمن النّقا قنديله، ولا يخشى وشعب ذلك الحيّ شعبه وقبيله قبيله، وإراحة ركابهم الّتي أزعجها حادي السرى، وإمتاعهم بقرب الجوار عوضا من دموعهم عمّا جرى.
فلمّا لم يبق لمن أشرنا إليه ممّن أعطانا عهد موثقه، وسار لا يريد إلا نقاء نقاه وبراءة أبرقه إلّا أن يحطّ بالمدينة الشريفة ركابه، ويبعد الشّكوى مما لا عهد من معاهدها اقترابه أصرّ من فيها من ذوي قرابته (2) على منعه أن
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية: «مراده يطلبون في تقديم عليّ ردّ فائت ما أراده الله من تأخيره عنهما، ويتركون أيضا ما ورد في الحديث من الأمر بالاقتداء بعده بأبي بكر وعمر. إلا أن العبارة سطت عليها يد الناسخ فزادت فيها ما غيّر مبناها وشوّش معناها».
(2) الإشارة إلى ابن أخي وديّ وهو طفيل بن منصور بن جمّاز.(12/245)
يدخلها إلّا بقتال يخلّ مقاعد الحرم، ويحلّ معاقد (1) الحرم، ويشعل نارا يصلى بها من لم تمتدّ له يد إليها إلى وقود، ويروع من الآلف فيها من يمتدّ له في غير مراتع غزلان النّقا سجاف قيام معقود، وقدم إلى أبوابنا العالية من كان فيها مقيما، وأنعمنا عليه بإبقاء النّصف ففاته الكلّ لمّا لم يقنع أن يكون قسيما فأبت حميّتنا لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم ولتلك المواطن المعظمة إلّا أن نطهّرها مما أسبلت على سريره أذيالها، وما أطاقت على مضضه الأليم احتمالها.
فرسم بالأمر الشريف لا زال قدره عاليا، وبرّه لا يخلّ بوديّ ولا يخلي مواليا أن تفوّض إليه إمرة المدينة الشّريفة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام: مستقلّا بأعبائها، مستهلّا سحابه على أرجائها، إمرة تستوعب جميعها، وتستوعي لمراسمه رباها وربوعها وعاصيها ومطيعها، وتهائمها ونجودها، وقريبها وبعيدها، وكلّ ما يدخل لها في حدّ، وينتظم لها في عدّ، وأهل حاضرتها وباديتها، وما تقف عليه من السّحب ركائب رواعيها وغاديتها، ومن تتبسّم بهم ثناياها، وتتنسّم لهم أرواح بكرها وعشاياها، ومن يضمّهم جناحها المفضّل، ويلمّهم وشاحها المفصّل، ويجمعهم جيشها السائر، ويلفّهم في شملة الدّجى قمرها الزّاهر تفويضا يدخل فيه كلّ شريف ومشروف، ومجهول ومعروف، ومستوطن من أهلها، وغريب انتهت [به] إليها مطارح سبلها، ما فيه تأويل، ولا تعليل، ولا استثناء، ولا انثناء، ولا تخرج منه الأرض المغبّرة ولا الرّوضة الغنّاء، لا شبهة فيه لداحض، ولا حجّة لمعارض يستقلّ بها جميعها بدره التمام، وبرّه الغمام، وبحره الّذي يأبى فريده أن يؤاخى في نظام، وأمره الّذي يتلقّى به عن الثقة من سادات بيته مقاليد الأحكام، وتقاليد ما يجري به القلم ويمضي السيف الحسام، إفرادا في التحكيم، وأنفة لمثله من ضرر التّقسيم، وفرارا من الشّركة (2) المشتقة من الشّرك:
__________
(1) في الأصل «مقاعد» وهو تصحيف. والتصحيح من الطبعة الأميرية.
(2) مرّ معنا أن إمرة المدينة كانت نصفين، كما أن إمرة أعراب بلاد الشام كانت أحيانا مناصفة ومثالثة ومرابعة وفي ذلك كانت تصدر من الأبواب السلطانية تقاليد شريفة. أما أن يرى كاتب التقليد هنا في الشركة معنى مكروها مشتقا من الشرك فهو من قبيل تبرير الأوامر السلطانية وأن يجري قلمه بمقتضى الحال.(12/246)
{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (1)، ولاية تامة، عامة، كاملة، شاملة، لا يبقى من أهل نجد من لا يدخل في حكمها، وينضاف إلى قسمها، تقابل السّوابق في غاياتها، وتقاتل الجحافل تحت راياتها، ويعدّ مع أهل بدر فيها، ويعدّ من حقوقها ما يوفّيها.
وقد سبق من الوصايا ما فيه غنى، إلّا ما لا تخل العوائد به مما يذكر هنا وقد حويت بحمد الله في جميع طباعك، وجميل انطباعك، من حقّ اعتزامك وصدق التزامك، ما هو كالسّنا للشّمس، والمنى للنّفس، مما تحسد على شرفه النّجوم، وتنافس العلياء ما تعلق به الغيوم.
فكمّل بتقوى الله شرفك، واتّبع في الشريعة الشّريفة سلفك وكتاب الله المنزّل، أنتم أهل بيت فيكم تنزّل، وسنة جدّكم سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تهمل، وهي مجدكم المؤثل، ومعرفة حقّ من مضى عنكم، وإلا فعمّن تنقل، ومنكم، وإلا فممّن تؤمّل، وإزالة البدع وإلّا فلأيّ شيء سيوفكم تصقل، و [لماذا] (2) رماحكم تعدّل والرافضة وغلاة الشّيعة هم دنس من انتمى إلى هذا البيت الشريف بولائه، وسبب وقوف من يقصد الدّخول تحت لوائه فهم وإن حسبوا من أمداده، ليسوا وحاشى نوره الساطع إلّا من المكثّرين لسواده أرادوا حفظ المودّة في القربى فأخلّوا، وقصدوا تكثير عددهم فقلّوا، وأنف من هو بريء من سوء مذهبهم، أن يتظاهر بالولاء فيعدّ من أهل البدع بسببهم مع أنّهم طمعوا في رضا الله فأخطأتهم المطامع، وصحيح أنّهم زادوهم عددا إلّا أنّها كزيادة الشّغياء (3) أو كزيادة الأصابع.
__________
(1) لقمان / 13.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف».
(3) الشغياء: السّن المخالفة الخارجة عن نبتة الأسنان. وشغيت سنّه، شغّى: زادت على سائر الأسنان، أو خالف منبتها منبت غيرها. والمراد هنا الزيادة الضارّة.(12/247)
فصمّم عزمك على ما عاهدت الله عليه من رفع أيدي قضاتهم، ومنعهم هم ومن اتّبع خطوات الشّيطان في سبيل مرضاتهم، وحذّرهم ممّا لا يعود معه على أحد منهم ستر يسبل، ولا يبقى بعده لغير السّيف حكم يقبل فمن خاض للسّلف الصالح يمّ ذمّ أغرق في تياره، أو قدح فيهم زناد عناد أحرق بناره وألزم أهل المدينة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم بكلمة السنة فإنّها أوّل ما رفعت بتلك المواطن المعظّمة أعلامها، وسمعت في تلك الحجرة المكرّمة أحكامها، مع تعفية آثار ما ينشأ على هذه البدعة من الفتن حتّى لا ينعقد لها نقع مثار، وتوطئة أكناف الحمى لئلا يبقى به لمبطل في مدارج نطقه عثار والوصية بسكّان هذا الحرم الشريف ومن ينزل به من نزيل، ويجاور به مستقرّا في مهاد إقامة أو مستوفزا على جناح رحيل، ومن يهوي إليهم من ركائب، ويأوي إليهم من رفقة مالت من نشوات الكرى بهم راقصات النّجائب، ومن يصل من ركبان الآفاق، وإخوان نوّى يتشاكون إليهم مرّ الفراق، ومن يتلاقى بهم من طوائف كلّهم في بيوت هذا الحيّ عشّاق، وأمم شتّى جموعهم: من مصر وشام ويمن وعراق، وما يصل معهم في مسيل وفودنا، وسبيل جودنا، ومحاملنا الشريفة الّتي ينصب لنا بها في كلّ أرض سرير، وأعلامنا الّتي ما سمّيت بالعقبان إلّا وهي إليها من الأشواق تطير فمتى شعرت بمقدم ركابهم، أو برقت لك عوارض الأقمار من سماء قبابهم، فبادر إلى تلقّيهم، وقبّل لنا الأرض في آثار مواطيهم، وقم بما يجب في طاعة الله وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وطاعتنا [وأخرج عنهم كلّ يد ولا تخرجهم عن جماعتنا] (1).
وأهل البادية هم حزبك الجيش اللهام، وحربك إذا كان وقودها جثث وهام، وهم قوم لم يؤدّبهم الحضر، ولا يبيت أحد منهم لأنفته على حذر، فاستجلب بمداراتك قلوبهم الأشتات، وبادر حبال إبلهم النّافرة قبل البتات، وترقّب مراسمنا المطاعة إذا ذرّت لك مشارقها، وتأهّب لجهاد أعداء الله متى
__________
(1) الزيادة من الوصية الآتية بعد هذه.(12/248)
لمعت لك من الحروب بوارقها، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولولا أنّ السيف لا يحتاج إلى حلية لأطلنا حمائل ما نمليه عليك فما شهد للشّريف بصحّة نسبه، أزكى من عمله بحسبه والله تعالى يقوّي أسبابك المتينة، ويمتع العيون بلوامعك المبينة، ويمسك بك ما طال به إرجاف أهل المدينة، والاعتماد
وهذه نسخة تقليد بإمرة المدينة النبوية، وهي:
الحمد لله الّذي خصّ بالنّصرة، دار الهجرة، وأطلع للإيمان فجره، بتلك الحجرة، وطيّب طيبة وأودع فيها سليل الأسرة.
نحمده حمدا نأمن به مكره (1)، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة عبد تمسّك بالحجّ وتنسّك بالعمرة، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي شرّف الله قدره، وأنفذ أمره، وأيّده في ساعة العسرة، وكان أكرم الناس في العشرة، وأسخى العالمين إذ يبسط بالجود راحتيه فما أسمح عشره، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة ثبتت شجرتها من الأرض فاتّصلت فروعها بالسّدرة (2)، وسلّم تسليما.
وبعد، فإنّ المدينة النبوية معدن الهدى والوقار، ومسكن الرّضوان والأنوار، ومهبط الملائكة الأبرار، ومنزل الوحي في اللّيل والنهار، ودار الهجرة
__________
(1) المكر من الله تعالى جزاء سمّي باسم مكر المجازى، كما قال تعالى: {وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا}. فالثانية ليست بسيئة في الحقيقة ولكنها سمّيت سيئة لازدواج الكلام. وكذلك قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} فالأول ظلم والثاني ليس بظلم. قال ابن الأثير:
مكر الله إيقاع بلائه بأعدائه دون أوليائه. قال الكفوي: كل مكر في القرآن فهو عمل. (انظر لسان العرب: 5/ 183والكليات للكفوي: 4/ 182).
(2) سدرة المنتهى، وهي شجرة في الجنة. وفي سورة النجم / 14: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ََ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ََ}.(12/249)
للنبيّ المختار، وتربة مدفنه الزّاكي المعطار تشدّ الرّحال إليها من أقاصي الأقطار، ويأتي إليها الظّالمون لأنفسهم بالاستغفار، فيرجعون وقد محيت عنهم الأوزار فقلوب أهل الاشتياق مقيمة في فناء تلك الدّار، وإن كانت أجسامهم بعيدة من وراء البحار، وبها من آل البيت سادة أطهار، وأمراء كبار، يتقرّب إلى الله بحبّهم في الإعلان والإضمار، ويتوسّل بولائهم في دعوة الأسحار، قد ضمّوا إلى كرم الراحة، وسماحة الأنفس المرتاحة، شجاعة وبسالة، وعلويّة فعّالة، وتمسّكا بالمروءة المعروفة بشرف الأصالة وهم يتوارثون إمرتها عن آباء سادات، وكرام لهم في الفضل عادات.
ولما كان فلان هو بقية الأسرة المتضوّعة، وثمرة الشّجرة المتفرّعة، والمخصوص بالوصف الّذي رفعه، والقول الّذي اتّبعه حين سمعه ما زال في المدينة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام مشكور الطّريقة، محفوظ الوثيقة، معروف الحقيقة، موصوف الآثار الحسنة بين الخليقة، يجتني لكلّ صالحة من تلك الرّوضة الشريفة المثمرة الوريقة، ويحمي السّرح أن ينتهب، ويطفيء نار الفتن فما تلتهب، ويعظّم المجاورين والواردين والقادمين على حمى سيّد العجم والعرب.
فلذلك رسم أن يستقرّ
فليحلّ هذا الرّبع المعمور بالتّقى، وليباشر هذه الإمرة الشّريفة زادها الله علوّا وارتقا، وليستعمل السكينة فإنّها جميلة اللّقا، وليسلك الأدب مع ساكن النّقا، وليعتمد على حسن اليقين فإنّه له وقا، وقد جاور العقيق فأصبح بقلائده الفاخرة مطوّقا، وليحكم بالعدل في بلد نشأ منه العدل والإنصاف فمنذ اجتمعا فيه ما افترقا، وليصن شرفه من الولوج في فتنة، وليغمد سيفه ولا يشهره في وقت محنة، ويحقن الدّماء أن تراق، ويتلقّ الزّوّار بالإرفاق، فإنّهم جاءوا من أقاصي الآفاق، رجالا وعلى النّياق، تحثّهم الصّبابة والأشواق.
وكلمة الشّرع وشعار السّنّة فليكن معظّما لها باتفاق بغير شقاق، وشيخ
الحرم الشّريف وخدّامه ومجاوريه فليكرم محسنهم ويعامله بحسن الأخلاق، ويتجاوز عن مسيئهم بطيب أخلاق، وحواصل الحرم الشّريف المخزونة فيه فلتكن محميّة من التبذير في وقت الإنفاق، وتلك دار هم سكانها الطيّبو الأعراق والتّقوى فمن بيتهم الشّريف آثارها الإشراق، وعليهم نزل الفرقان والتّحريم والطّلاق، فماذا عسى أن يوصيه وهو أهل الفضل على الإطلاق والله تعالى يجعل نجاره في الفخر مجلّيه في السّباق، بمنّه وكرمه!.(12/250)
وكلمة الشّرع وشعار السّنّة فليكن معظّما لها باتفاق بغير شقاق، وشيخ
الحرم الشّريف وخدّامه ومجاوريه فليكرم محسنهم ويعامله بحسن الأخلاق، ويتجاوز عن مسيئهم بطيب أخلاق، وحواصل الحرم الشّريف المخزونة فيه فلتكن محميّة من التبذير في وقت الإنفاق، وتلك دار هم سكانها الطيّبو الأعراق والتّقوى فمن بيتهم الشّريف آثارها الإشراق، وعليهم نزل الفرقان والتّحريم والطّلاق، فماذا عسى أن يوصيه وهو أهل الفضل على الإطلاق والله تعالى يجعل نجاره في الفخر مجلّيه في السّباق، بمنّه وكرمه!.
وهذه وصية لأمير المدينة أوردها في «التعريف»، وهي: (1)
فكمّل بتقوى الله شرفك، واتّبع في الشريعة الشريفة سلفك وكتاب الله المنزّل، أنتم أهل بيت فيكم تنزّل، وسنة جدّك سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تهمل، وهي مجدكم المؤثّل، ومعرفة حقّ من مضى، عنكم، وإلا فعمّن تنقل، ومنكم، وإلّا فممّن تؤمّل، وإزالة البدع وإلّا فلأيّ شيء سيوفكم تصقل، ولماذا رماحكم تعدّل، والرافضة وغلاة الشّيعة هم دنس من انتمى إلى هذا البيت الشريف بولائه، وسبب وقوف من يقصد الدّخول تحت لوائه فهم وإن حسبوا من أمداده، ليسوا وحاشى نوره الساطع إلا من المكثّرين لسواده أرادوا حفظ المودّة في القربى فأخلّوا، وقصدوا تكثير عددهم فقلّوا، وأنف من هو بريء من سوء مذهبهم، أن يتظاهر بالولاء فيعدّ في أهل البدع بسببهم مع أنّهم طمعوا في رضا الله فأخطأتهم المطامع، وصحيح أنّهم زادوهم عددا إلّا أنّها كزيادة [الشّغياء أو كزيادة] (2) الأصابع.
فصمّم عزمك على ما عاهدت الله عليه من رفع أيدي قضاتهم، ومنعهم من اتّباع خطوات الشيطان في سبيل مرضاتهم، وحذّرهم مما لا يعود معه على أحد منهم ستر يسبل، ولا يبقى معه لغير السّيف حكم يقبل فمن خاض
__________
(1) سبق له أن أورد هذه الوصيّة حرفيا في نهاية التقليد الأسبق. انظر ص 248247246.
(2) الزيادة من التقليد الأسبق.(12/251)
للسّلف الصالح يمّ ذمّ أغرق في تيّاره، أو قدح فيهم زناد عناد أحرق بناره وألزم أهل المدينة الشريفة النبويّة بكلمة السّنّة فإنّها أوّل ما رفعت بتلك المواطن المعظمة أعلامها، وسمعت في تلك الحجرة المكرّمة أحكامها، مع تعفية [آثار] (1) ما ينشأ على هذه البدعة من الفتن حتّى لا ينعقد لها نقع مثار، وتوطئة أكناف [ذلك] (2) الحمى لئلا يبقى به لمبطل في مدارج نطقه عثار والوصيّة بسكّان هذا الحرم الشريف على الحالّ به أفضل الصلاة والسلام ومن ينزل به من نزيل، ويجاور به مستقرّا في مهاد إقامة أو مستوفزا على جناح رحيل، ومن يهوي إليهم من ركائب، ويأوي إليهم من رفقة مالت من نشوات الكرى بهم راقصات النّجائب، ومن يصل من ركبان الآفاق، وإخوان نوى يتشاكون إليهم مرّ الفراق، ومن يتلاقى بها من طوائف كلّهم في بيوت هذا الحيّ عشّاق، وأمم شتّى جموعهم من مصر وشام [ويمن] (3) وعراق، وما يصل معهم في مسيل وفودنا، وسبيل جودنا، ومحاملنا الشريفة الّتي ينصب لنا بها في كلّ أرض سرير، وأعلامنا الّتي ما سمّيت بالعقبان إلّا وهي إليها من الأشواق تطير.
فمتى شعرت بمقدم ركابهم، أو برقت [لك] (4) عوارض الأقمار من سماء قبابهم، فبادر إلى تلقّيهم، وقبّل لنا الأرض في آثار مواطيهم، وقم بما يجب في طاعة الله وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وطاعتنا، وأخرج عنهم كلّ يد ولا تخرجهم عن جماعتنا.
وأهل البادية هم حزبك الجيش اللهام، وحربك إذا كان وقودها جثث وهام، وهم قوم لم يؤدّبهم الحضر، ولا يبيت أحد منهم لأنفته على حذر، فاستجلب بمداراتك قلوبهم الأشتات، وبادر حبال إبلهم النّافرة قبل الانبتات، وترقّب مراسمنا المطاعة إذا ذرّت لك مشارقها، وتأهّب لجهاد أعداء الله متى لمعت لك من الحروب بوارقها، وأحسن كما أحسن الله إليك ولولا أنّ السّيف لا يحتاج إلى حلية لأطلنا حمائل ما نمليه عليك فما شهد للشّريف
__________
(1) الزيادات من التقليد الأسبق.
(2) الزيادات من التقليد الأسبق.
(3) الزيادات من التقليد الأسبق.
(4) الزيادات من التقليد الأسبق.(12/252)
بصحّة نسبه، أزكى من عمله بحسبه، والله تعالى يقوّي أسبابك المتينة، ويمتع العيون بلوامعك المبينة، ويمسك بك ما طال به إرجاف أهل المدينة.
الوظيفة الثانية (القضاء)
وكان في الزّمن القديم بها قاض واحد شافعيّ، ثم استقرّ بها قاضيان آخران: حنفيّ ومالكيّ، يكتب لكلّ منهم توقيع في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء.
وهذه نسخة تقليد بقضاء الشافعية بالمدينة النبوية:
الحمد لله الّذي جعل الشرع الشريف دافق السّيول، وفي طيبة له الأصول، ومنها نشأ وتفرّع فله في البسيطة عموم وشمول، وكلّ قطر به مشمول، وكل ربع به مأهول، وتأكّد به المعلوم وتبدّد به المجهول، وزالت الشرائع كلّها وهو إلى آخر الدّهور لا يزول.
نحمده وحمده يطول، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة عمرت [بها] (1) طلول، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أشرف رسول، وأكرم مأمول، وأفضل مسؤول، ومهنّد من سيوف الله مسلول، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبي الفروع والأصول، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ الشرع الشريف معدنه في أرض ثوى خير الرّسل فيها، ومنشؤه في بلد ملائكة الله تحميها فلا يلي أقضية الناس إلّا من طالت ذوائب علمه، وأشرقت ثواقب فهمه، وبنيت على الأصول قواعد حكمه، وتحلّى بالورع فتجلّى في سماء النجاة كنجمه.
ولما كان فلان هو الّذي جذبته السعادة إلى مقرّها، وخطبته المغفرة إلى
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.(12/253)
موطن برّها، وأهّلته الأقدار إلى جوار نبيّ هو خاتم الأنبياء وفاتح أمرها، وأصبح للحكم في المدينة، مستحقّا لما فيه من سكينة، وتحصيل للعلم ومن حصّل العلم كان الله معينه.
فلذلك رسم أن يستقرّ
فليباشر منصبا جليلا في محلّ جليل، وليعلم أنّ سائر الأمصار تغبطه وتحسده وما لمنصبه من مثيل أين يوجد سواه في كل سبيل؟ من قاض هو بسيّد المرسلين نزيل، ومن يصبح ويمسي جارا للمستجير في المحشر الطّويل.
فاحكم بين ناس طيبة بورع وتأصيل، وتحرير في تحريم وتحليل، واتّق الله في كلّ فعل وقيل، واستقم على الحقّ حذار أن تميل فصاحب الشّرع أنت منه قريب والنبيّ من الله قريب وحبيب وخليل، وماذا عسى أن نوصيه وهو بحمد الله تعالى كالنّهار لا يحتاج إلى دليل.
وأما الخطابة: فارق درج منبرها، وشنّف الأسماع من ألفاظك بدرّها وحرّر ما تقوله من المواعظ فإن صاحب العظات يسمعك، وتواضع لله فإنّ الله يرفعك وهذا المرقى فقد قام فيه النبيّ الأميّ سيد الثّقلين، ومن بعده الخليفتان قرّتا العين، ومن بعدهما عثمان ذو النّورين، وعليّ رضي الله عنه أبو الحسنين فاخشع، عند المطلع، واصدع، بما ينفع، وانظر لما تقوله فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم هناك يسمع، وقاضي المدينة وخطيبها يرجو أن ليس للشيطان فيه مطمع والله تعالى يحوز له الخير ويجمع، بمنّه وكرمه!.
الوظيفة الثالثة (مشيخة الحرم الشريف)
وقد جرت العادة أن يكون له خادم من الخصيان المعبّر عنهم بالطّواشيّة، يعيّن لذلك من الأبواب السلطانية، ويكتب له توقيع في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء مفتتحا ب «الحمد لله».
وهذه نسخة توقيع شريف من ذلك:(12/254)
وقد جرت العادة أن يكون له خادم من الخصيان المعبّر عنهم بالطّواشيّة، يعيّن لذلك من الأبواب السلطانية، ويكتب له توقيع في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء مفتتحا ب «الحمد لله».
وهذه نسخة توقيع شريف من ذلك:
الحمد لله الّذي شرف بخدمة سيدّ الرّسل الأقدار، وفضل بالتأهّل للدّخول في عداد كرمه بخدمته من اختاره لذلك من المهاجرين والأنصار، وجعل الاختصاص بمجاورة حرمه أفضل غاية تهجر لبلوغها الأوطان والأوطار، وعجّل لمن حلّ بمسجده الشريف تبوّأ أشرف روضة تردها البصائر وترودها الأبصار.
نحمده على نعمه الّتي أكملها خدمة نبيّه الكريم، وأفضلها التّوفّر على مصالح مجاوري قبر رسوله الهادي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم، وأجملها الانتظام في سلك خدمة حرمه [لأنها] بمنزلة واسطة العقد الكريم النّظيم، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة مزلفة لديه، مقرّبة إليه، مدّخرة ليوم العرض عليه، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أشرف نبيّ بعث إلى الأسود والأحمر، وأكرم من أنار ليل الشّرك بالشّرع الأقمر، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين فخرت الحبشة بهجرتهم الأولى، ونجا النّجاشيّ بما اتّخذ عندهم من السّابقة الحسنة واليد الطّولى، وأولي بلالهم من السّبق إلى خدمة أشرف الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام أفضل ما يولى، صلاة لا يزال شهابها مرشدا، وذكرها في الآفاق مغيرا ومنجدا وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى [من] (1) اعتمد عليه من أفاء الله عليه من نعمه، وأفاض عليه من ملابس كرمه، وشرّف قدره بأن أهّله لخدمة سيد الرّسل بل لمشيخة حرمه، وخصّه برتبة هي أسنى الرّتب الفاخرة، وأجمع الوظائف لشرف الدّنيا والآخرة من رجّحه لذلك دينه المتين، وورعه المكين، وزهده الّذي بلغ به إلى هذه الرتبة الّتي سيكون بها إن شاء الله تعالى وجيها في الدّنيا والآخرة ومن المقرّبين.
ولمّا كان فلان هو الّذي أدرك من خدمة سيّد الرسل غاية سوله، وزكت
__________
(1) في الأصل «ما اعتمد عليه».(12/255)
عند الله هجرته الّتي كانت على الحقيقة إلى الله ورسوله، وسلك في طريق خدمته الشّريفة أحسن السّلوك، وانتهت به (1) السّعادة إلى خدمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليعرض بجوهرها الأعلى عن عرض خدمة الملوك، وفاز من مجاورة الحجرة الشريفة بما عظمت عليه [به] (2) المنّة، وحلّ به مما بين القبر والمنبر في روضة من رياض الجنّة، وأقام في مقام جبريل، ومهبط الوحي والتنزيل، يتفيّأ ظلال الرّحمة الوارفة، ويتهيّأ من تلك النّعمة بالعارفة بعد العارفة تعيّن أن يكون هو المحلّى بعقود مشيخة ذلك الحرم، والمتولّي لمصالح هذه الطائفة الّتي له في التّقدّم عليهم أثبت قدم.
فرسم بالأمر الشريف لا زال أن تفوّض إليه المشيخة على خدّام الحرم الشريف النّبويّ: للعلم بأنّه العامل الورع، والكافل الّذي يعرف أدب تلك الوظيفة: من خدمة الرسول صلّى الله عليه وسلم على ما شرع، والزّاهد الّذي آثر جوار نبيّه على سواه، والخاشع الّذي نوى بخدمته الدّخول في زمرة من خدمه في حياته: «ولكلّ امريء ما نواه».
فليستقرّ في هذه الوظيفة الكريمة قائما بآدابها، مشرّفا بها نفسه الّتي تشبّثت من خدمته الشريفة بأهدابها، سالكا في ذلك ما يجب، محافظا على قواعد الورع في كلّ ما يأتي وما يجتنب، قاصدا بذلك وجه الله الّذي لا يخيّب لرابح أملا، ولا يضيّع أجر من أحسن عملا، ملزما كلّا من طائفة الخدّام بما يقرّبه عند الله زلفى، ويضاعف الحسنة الواحدة سبعين ضعفا، هاديا من ضلّ في قوانين الخدمة إلى سواء السبيل، مبديا لهم من آداب سلوكه ما يغدو لهم منه أوضح هاد وأنور دليل، وفيه من آداب دينه ما يغني عن تكرار الوصايا، وتجديد القضايا والله تعالى يسدّده في القول والعمل، ويوفّقه لخدمة سيّد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم وقد فعل بمنّه وكرمه.
__________
(1) في الأصل «إليه».
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/256)
القاعدة الثالثة الينبع (1)
(وبها وظيفة واحدة، وهي النيابة)
وقد تقدّم أنّ نيابتها في بني الحسن، من بني قتادة أيضا. وعدل بها عن لفظ الإمارة إلى لفظ النيابة تصغيرا لشأنها عن مكّة والمدينة. ويكتب لنائبها مرسوم شريف في قطع الثلث «بالمجلس السامي» بغير ياء.
وهذه نسخة مرسوم شريف بنيابة الينبع، كتب به «لمخذم بن عقيل» في عاشر رجب الفرد سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، من إنشاء المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله، وهو:
الحمد لله الّذي أتمّ لدولتنا الشريفة أنعما، وأحسن في تقديم شريف كلّ قوم تقدّما، وأمضى في كفّ كفّ الأعداء رمحا سمهريّا وسيفا مخذما (2)
نحمده حمدا يكاثر عدد القطر إذا همى، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تؤمّن بالإدمان عليها منجدا ومتهما، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي شرّف من إليه انتمى، وعلى نسبه الشريف ارتمى، وبجواره المنيع احتمى، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين طلعوا في صباح كلّ نهار شموسا وفي عشيّة كلّ ليل أنجما، وسلّم تسليما.
وبعد، فإنّ أولى من أعدنا له سعادة جدّه، وعدنا إلى عوائده الحسنى لأبيه وجدّه، ورعت صدقاتنا الشريفة قصده الجميل، وشرفه الّذي سما به من أصله إلى النّجم فرع لا ينال طويل، وأقرّت عينه بسكنه، واستقرّت به مراسمنا العالية في مسكنه، وأغنته عنايتنا الشريفة عن انتظار كلّ نجم سعادة يطلع، وبعثت إليه كلّ خير إلى وطنه وهو «ينبع»، منزلة نسبه الصّميم، والحسب الّذي يتمسّك به
__________
(1) وهي عن يمين رضوى لمن كان منحدرا من المدينة إلى البحر. سمّيت باسمها لكثرة ينابيعها.
(معجم البلدان: 5/ 450).
(2) المخذم (بكسر الميم): السيف القاطع.(12/257)
في قومه كلّ كريم، والشّرف الّذي أنارت كواكبه، والوصف الّذي ينظم الدّرّ ثاقبه (1)
ولمّا كان المجلس السّامي، الأمير الأجلّ، الكبير، الشريف، الحسيب، النّسيب، الأوحد، العضد، النصير، الأصيل، فلان الدين، مجد الإسلام، زين الأنام، شرف الأمراء الأشراف، فخر العترة الطّاهرة، جمال الأسرة الزاهرة، نسيب الخلافة، عضد الملوك والسلاطين «مخذم بن عقيل» أيّده الله تعالى هو الّذي تقدّمت إليه كلّ إشارة، وحسنت به كلّ شارة، وتعجّلت له بمراضينا الشريفة من مخلّق الشّفق كلّ بشارة، وحصل في الينبع ما حصل من الاعتداء، وامتدّت الأيدي به إلى ما كان لحجّاج بيت الله من وديعة، وظنّ أنّه لا يشيع خبره في البيداء، فخالف (2) الواجب وتعدّى الشّريعة، فاقتضت آراؤنا الشريفة تفويضها إلى العارف منها بما يجب، العالم من طريق سلفه الصّالح بما يأتي فيها ويجتنب، العامل في طاعتنا الشريفة بما هو به وبمثله من أهل الشّرف يليق، الماشي في خدمتنا الشريفة وفي خدمة الوفود إلى بيت الله الحرام على الطّريق.
فرسم بالأمر الشريف أعلاه الله تعالى وشرفه، وأنفذه وصرّفه أن تفوّض إليه النيابة بالينبع على عادة من تقدّمه وقاعدته إلى آخر وقت.
فليقدّم تقوى الله في كلّ ما تقدّم، ويقف مع حكم الشرع الشريف فإنّه المهمّ المقدّم، وليستوص بالحجّاج خيرا فإنّهم وفد الله وهو عليه سيقدم، وليؤمّن الطّريق فإنّه بين حرمين: بيت الله ومسجد رسوله صلّى الله عليه وسلم، وليحفظ أمانة الله فيما يخلّي ويخلّف عنده الحجاج كتب الله سلامتهم من وداعة (3)،
__________
(1) لم يذكر خبرا لإنّ وتقديره «من كان كذا وكذا» وكثيرا ما يحذف ذلك اختصارا.
(2) لم يتقدم فاعل لأفعال «ظن وخالف وتعدّى» ولعل في السياق سقطا، وهو ما تشير إليه عبارة «وحصل في الينبع ما حصل من الاعتداء». فتأمل.
(3) صوابه «وديعة». وقد استعمل صيغة العامة مراعاة للسجع.(12/258)
وليأخذ بقلوب الجلّابة فإنّهم في توسيعهم على أهل الحرمين كالمتصدّقين وإن كانوا تجارا ببضاعة، وليوصّل من تأخّر من أبناء السبيل إلى مأمنهم، وليخصّ بالعدل أهل بلده ليستقرّوا آمنين في موطنهم والرّفق فهو الّذي بحلله يزيّن، وبحليه يستحسن، والّتأنّي في معرفة الحقّ من الباطل فإنّ به الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الباطل يبيّن، ولزوم الطاعة، التي أوجبها الله لنا على عباده وندب إليها، وملازمة الجماعة، التي يكفيه من بركاتها أنّ يد الله عليها، وإقامة الخدمة فيما قبله من البلاد، وكلّ حاضر وباد، وكلّ من كاد أو كاد، أو تعرّض لعناد العباد فمن أقدم على محذور، أو تقدّم إلى محظور، أو ارتكب في الخلاف أمرا من الأمور، فجرّه بالبغي إلى مصرعه، وحرّك السيف لمضجعه، ودع الرّمح الّذي اعتقله للشّقاق يبكي للإشفاق عليه بأدمعه وقد رأيت كيف طريقتنا المثلى، وسيرتنا الّتي لا تجد لها مثلا فاسلك هذه المحجّة، وحسبك أن تتّخذ بينك وبين الله حجّة وفي هذا عن بقية الوصايا غنى، والله يزيل عنك الخوف في الخيف ويبلّغك المنى في منى والاعتماد
القسم الرابع (1)
(مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية ما يقع على سبيل النّدور
، وهو الّذي يقع في حين من الأحيان من غير أن يسبق له نظير) قال الشّيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ في «حسن التوسل»: ويحتاج الكاتب فيه إلى حسن التّصّرف على ما يقتضيه الحال.
[فمن ذلك] ما يكتب به للنيابة الخارجة عن المملكة إذا رغب فيها متوليها.
وهذه نسخة تقليد شريف من ذلك، كتب به المولى الفاضل شهاب الدين
__________
(1) تقدم له تقسيمه إلى ثلاثة أقسام فقط كما ورد في الصفحة 134من الجزء الحادي عشر.(12/259)
محمود الحلبيّ لمتملّك سيس، بإقراره على ما هو قاطع النّهر من بلاده، وهي (1):
الحمد لله الّذي خصّ أيّامنا الزاهرة، باصطناع ملوك الملل، وفضّل دولتنا القاهرة، بإجابة من سأل بعض ما أحرزته لها البيض والأسل، وجعل من خصائص ملكنا إطلاق الممالك وإعطاء الدّول، والمنّ بالنّفوس الّتي جعلها النّصر لنا من جملة الخول، وأغرى عواطفنا بتحقيق رجاء من مدّ إلى عوارفنا كفّ الأمل، وأفاض بمواهب نعمائنا، على من أناب إلى الطاعة حلل الأمن بعد الوجل، وانتزع بآلائنا، لمن تمسّك بولائنا، أرواح رعاياه من قبضة الأجل، وجعل برد العفو عنه وعنهم بالطاعة نتيجة ما أذاقهم العصيان من حرارة الغضب:
إذ ربّما صحّت الأجسام بالعلل.
نحمده على نعمه الّتي جعلت عفونا ممّن رجاه قريبا، وكرمنا لمن دعاه بإخلاص الطاعة مجيبا، وبرّنا لمن أقبل إليه مثيبا بوجه الأمل منيبا، وبأسنا مصيبا لمن لم يجعل الله له في التّمسك بمراحمنا نصيبا، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تعصم دم من تمسّك بذمامها، وتحسم موادّ من عاندها بانتقام حسامها، وتفصم عرى الأعناق ممّن أطمعه الغرور في انفصال أحكامها وانفصامها، وتقصم من قصد إطفاء ما أظهره الله من نورها واقتطاع ما قضاه من دوامها، وتجعل كلمة حملتها هي العليا ولا (2) تزال أعناق جاحديها في قبضة أوليائها وتحت أقدامها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث بالهدى ودين الحقّ إلى كلّ أمّة، المنعوت في الكتب المنزّلة بالرأفة والرّحمة، المخصوص مع عموم المعجزات بخمس: منها (3) الرّعب الّذي كان يتقدّمه إلى من قصده ويسبقه مسيرة شهر إلى من أمّه، المنصوص في الكتب (4) المحكمة
__________
(1) نصّ التقليد في «حسن التوسّل» ص: 369.
(2) في حسن التوسّل «فلا».
(3) في حسن التوسّل «منهنّ».
(4) في حسن التوسّل «الصحف».(12/260)
على جهاد أمّته الذين لا حياة لمن لم يتمسّك من طاعتهم بذمّة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فتحوا بدعوته الممالك، وأوضحوا بشرعته إلى الله المسالك، وجلوا بنور سنّته عن وجه الزّمن كلّ حال حالك، وأوردوا من كفر بربّه (1) ورسله موارد المهالك، ووثقوا بما وعد الله نبيّه حين [زوى له مشارق الأرض ومغاربها من أنّ ملكهم سيبلغ إلى ما زوى الله له من ذلك] (2) صلاة لا تزال الأرض لها مسجدا، ولا يبرح ذكرها مغيرا في الآفاق ومنجدا، ما استفتحت ألسنة الأسنّة النّصر بإقامتها، وأبادت أعداءها باستدامتها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّه لما آتانا الله ملك البسيطة، وجعل دعوتنا بأعنّة ممالك الأقطار محيطة، ومكّن لنا في الأرض، وأنهضنا من الجهاد في سبيله بالسّنّة والفرض، وجعل كلّ يوم تعرض فيه جيوشنا من أمثلة يوم العرض، وأظلّتنا بوادر الفتوح، وأظلّت على الأعداء سيوفنا الّتي هي على من كفر بالله وكفر النّعمة (3) دعوة نوح، وأيّدنا بالملائكة والرّوح، على من جعل الواحد سبحانه ثلاثة: فانتصر بالأب والابن والرّوح، وألقت إلينا ملوك الأقطار السّلام، وبذلت كرائم بلادها وتلادها رغبة في الالتجاء [من عفونا] (4) إلى ظلّ أعلى من الأعلام، وتوسّل من كان منهم يظهر الغلظة بالذّلّة والخضوع، وتوصّل من كان منهم يبدي القوّة بالإخلاص الّذي رأوه لهم أقوى الجنن وأوقى الدّروع عاهدنا الله تعالى أن لا نردّ منهم آملا، ولا نصدّ عن مشارع كرمنا ناهلا، ولا نخيّب من إحساننا راجيا، ولا نحلّيء (5) عن ظلّ برّنا لاجيا علما أنّ ذلك شكر للقدرة الّتي جعلها الله لنا على ذلك الآمل، ووثوقا بأنّه حيث كان في قبضتنا متى نشاء نجمع عليه الأنامل اللهمّ إلّا أن يكون ذلك اللّاجيء للغلّ مسرّا، وعلى عداوة الإسلام مصرّا، فيكون هو
__________
(1) في حسن التوسّل «بربهم».
(2) الزيادة من حسن التوسّل.
(3) ساقطة من نسخة حسن التوسل الّتي بأيدينا. والسياق هنا أوضح.
(4) الزيادة من حسن التوسّل.
(5) في حسن التوسل «ولا نجلي». وحلّأه عن الشيء تحليئا وتحلئة: منعه.(12/261)
الجاني على نفسه، والحاني (1) على موضع رمسه، والمفرّط في مصلحة يومه وغده بتذكير (2) عداوة أمسه.
ولمّا كان من تقدّم بالمملكة الفلانية قد زيّن له الشيطان أعماله، وعقد بحبال الغرور آماله، وحسّن له التّمسّك بالتّتار الذين هم بمهابتنا محصورون في ديارهم، مأسورون في حبائل إدبارهم، عاجزون عن حفظ ما لديهم، قاصرون عن ضبط ما استلبته السّرايا (3) المنصورة من يديهم، ليس منهم إلّا من له عند سيوفنا ثار، ولها في عنقه آثار، ومن يعلم أنّه لا بدّ له عندنا من خطّتي خسف:
إمّا القتل أو الإسار.
وحين تمادى المذكور في غيّه، وحمله الغرور على ركوب جواد بغيه، أمرنا جيوشنا المنصورة فجاست خلال تلك الممالك، وداست حوافر خيلها ما هنالك، وساوت في عموم القتل والأسر بين العبد والحرّ والمملوك والمالك، وألحقت رواسي جبالهم بالصّعيد، وجعلت حماتهم كزروع فلاتهم منها قائم وحصيد فأسلمهم الشيطان ومرّ، وتركهم وفرّ، وماكرهم وماكر، وأعلمهم أنّ موعدهم الساعة والساعة أدهى وأمرّ، وأخلفهم ما ضمن لهم من العون، وقال لهم: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ََ مََا لََا تَرَوْنَ} (4)
وكان الملك فلان ممّن تدبّر طرق النّجاة فلم ير إليها سوى الطّاعة سبيلا، وتأمّل أسباب النّجاح فلم يجد عليها غير صدق الانتماء دليلا فأبصر بالخدمة موضع رشده، وأدرك بسعيه نافر سعده، وأراه الإقبال كيف ثبتت قدمه في الملك الذي زلت عنه قدم من سلف، وأظهر له الإشفاق على رعاياه مصارع من أورده سوء تدبير أخيه موارد التّلف، وعرّفه التمسّك بإحساننا كيف احتوت يده على
__________
(1) في حسن التوسّل «والجاثي».
(2) في حسن التوسّل «بتذكر».
(3) في حسن التوسّل «سرايانا» وهي أوضح.
(4) الأنفال / 48.(12/262)
ما لم يبق غضبنا في يد أخيه منه إلّا الأسى والأسف، وحسّنت له الثّقة بكرمنا كيف يجمل الطّلب، وعلّمته الطاعة كيف يستنزل عوارفنا عن بعض ما غلبت عليه سيوفنا: وإنّما الدنيا لمن غلب، وانتمى إلينا فصار من خدم أيّامنا، وصنائع إنعامنا، وقطع علائقه من غيرنا، فلجأ منّا إلى ركن شديد، وظلّ مديد، ونصر عتيد، وحرم [يأوي أمله] (1) إليه، وكرم تقرّ نضارته ناظريه، وإحسان يمتّعه بما أقرّه عطاؤنا في يديه، وامتنان يضع عنه إصره والأغلال الّتي كانت عليه اقتضى إحساننا أن نغضي له عن بعض ما حلّت جيوشنا ذراه، وحلّت سطوات عساكرنا عراه، وأضعفت عزمات سرايانا قواه، ونشرت طلائع جنودنا ما كان ستره صفحنا عنهم من عورات بلادهم وطواه، وأن نخوّله بعض ما وردت خيولنا مناهله، ووطئت جيادنا غاربه وكاهله، وسلكت كماتنا فملكت دارسه وآهله، وأن [نبقي مملكة] (2) هذا البيت الّذي مضى سلفه في الطاعة عليه، ويستمرّ ملك الأرمن (3) الذي أجمل السّعي في مصالحه بيديه، لتتيمّن رعاياه به، ويعلموا أنّهم أمنوا على أرواحهم وأولادهم بسببه، [ويتحقّقوا أن أثقالهم بحسن توصّله إلى طاعتنا قد خفّت، وأنّ بوادر الأمن بلطف توسّله إلى مراضينا قد أطافت بهم وحفّت، وأنّ سيوفنا التي كانت مجرّدة على مقاتلهم بجميل استعطافه قد كفتهم بأسها وكفّت، وأن سطوتنا الحاكمة على أرواحهم قد عفت عنهم بملاطفته وعفّت فرسم أن يقلّد كيت وكيت ويستقرّ بهذه المملكة الفاسدة استقرارا لا ينازع في استحقاقه، ولا يعارض فيما سبق من إعطائه له وإطلاقه، ولا يطالب عنه بقطيعة، ولا يطلب منه بسببه غير] (4) طوية مخلصة ونفس مطيعة، ولا تخشى عليه يد جائرة، ولا سريّة في طلب الغرّة سائرة، ولا تطرق كناسه أسد جيوش مفترسة، ولا سباع نهاب مختلسة بل تستمرّ بلاده المذكورة في ذمام
__________
(1) في الطبعة الأميرية «وحرم تأوي الملّة». والتصحيح من حسن التوسّل.
(2) في الطبعة الأميرية «وأن يبقى ملك». والتصحيح من حسن التوسّل.
(3) في حسن التوسل «الأرض» وهو تحريف. وما أثبتناه من الطبعة الأميرية.
(4) الزيادة من حسن التوسّل.(12/263)
رعايتنا، وحضانة عنايتنا، وكنف إحساننا، ووديعة برّنا وامتناننا لا تطمح إليها عين معاند، ولا يمتدّ إليها إلّا ساعد مساعد وعضد معاضد.
فليقابل هذه النّعمة بشكر الله الّذي هداه إلى الطاعة، وصان بإخلاص ولائه نفسه ونفائس بلاده من الإضاعة، وليقرن ذلك بإصفاء موارد المودّة، وإضفاء ملابس الطاعة الّتي لا تزداد بحسن الوفاء إلا جدّة، واستمرار المناصحة في السّرّ والعلن، واجتناب المخادعة ما ظهر منها وما بطن، وأداء الأمانة فيما استقرّ معه الحلف عليه، ومباينة ما يخشى أن يتوجّه بسببه وجه عتب إليه، واستدامة هذه النّعمة بحفظ أسبابها، واستقامة أحوال هذه المنّة برفض موجبات الكدر واجتنابها، وإخلاص النّيّة الّتي لا تعتبر ظواهر الأحوال الصالحة إلّا بها.
ومن ذلك ما يكتب به لحكم رماة البندق (1).
قد جرت العادة أنه إذا كان للسلطان عناية برمي البندق، أقام لرماته حاكما من الأمراء الذين لهم عناية برمي البندق.
وهذه نسخة توقيع من ذلك:
الحمد لله الّذي خصّ أيّامنا الزاهرة، باستكمال المحاسن في كلّ مرام، وجعل [من] أولياء دولتنا القاهرة، من أصاب من كلّ مرمى بعيد شاكلة الصّواب حتّى أصبح حاكما فيه بين كلّ رام، وجمع لخواصّنا من أشتات المفاخر ما إذا برزوا فيه للرياضة ليلا [أغنت] (2) قسيّهم عن الأهلّة ورجومها عن رجوم الظّلام،
__________
(1) البندق: كرات تصنع من الطين أو الحجارة أو الرصاص أو غيرها وهي فارسية بلفظها واستعمالها، ويسمونها أيضا «الجلاهقات، جمع جلاهق» فكان الفرس يرمون هذا البندق عن الأقواس كما يرمون النبال، واقتبس العرب هذه اللعبة في أواخر أيام عثمان بن عفان وعدّوا ظهورها في المدينة منكرا، ثم ألفوها حتى شكلوا فرقا من الجند ترمي بها. (تاريخ التمدّن الإسلامي: 5/ 180ومصطلحات صبح الأعشى: 68).
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/264)
وسدّد مقاصد أصفيائنا في كلّ أمر فما شغلوا بمسرّة سرّ إلا وكانت من أقوى أسباب التّمرّن على خوض الغمرات العظام، واقتحام الحرب اللهام، واشتمال جلابيب الدّجى في مصالح الإسلام.
نحمده على نعمه الوسام، وأياديه الجسام، وآلائه الّتي ما برحت بها ثغور المسارّ دائمة الابتسام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تعصم من الزّلل، وتؤمّن من الزّيغ والخلل، وتلبس المتمسّك بها من أنوار الجلالة أبهى الحلل، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المنزّه عن الهوى، المخصوص بالوحي الّذي علّمه شديد القوى، الدّالّ على اعتبار الأعمال بصّحة القصد بقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنّما الأعمال بالنّيات وإنّما لكلّ امريء ما نوى»، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين وفّق الإخلاص مساعيهم، ووفّر الإيمان دواعيهم، صلاة دائمة الاتّصال، مستمرّة الإقامة بالغدوّ والآصال، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّه لمّا كان رمي البندق من أحسن ما لهت به الكماة، في حال سلمها، ومن أبهج ما حفظت به الرّماة، حياة نفوسها وعزّة عزمها، على ما فيه من اطّراح الراحة واجتنابها، واستدعاء الرّياضة واجتنائها، وخوض الظّلمات في الظّلام، وتوخّي الإصابة في غمرات الدّجى الّتي تخفى فيها المقاتل على حدق السّهام، وارتقاب ظفر، يسفر عنه وجه سفر، ومهاجمة خطر، تفضي إلى بلوغ وطر وله شرائط تقتضي التقدّم بين أربابه، وقواعد لا يخالفها (1) من كان مبرّزا في أصحابه، وأدوات كمال، لا بدّ للمتحلّي بهذه الرّتبة منها، وحسن خلال، تهدر أعمال من بعد عليه مرامها وقصرت مساعيه عنها، وعوائد معلومة، بين أرباب هذا الشّأن وكبرائه، ومقاصد مفهومة، فيما يتميز به المصيب الحاذق على نظرائه.
ولمّا كان الجناب العالي الفلانيّ ممّن يشار إليه في هذه الرتبة ببنان
__________
(1) في الأصل «في مخالفها». والتصحيح من الطبعة الأميرية.(12/265)
التّرجيح، ويرجع إلى أقواله فيما اقتضى التّعديل فيما بين أربابها والتّجريح، ويعمل فيها بإشارته الخالصة من الهوى والأغراض، ويعوّل فيها على قدم معرفته المميزة بين أقدار الرّماة مع تساوي إصابة الأغراض، لاحتوائه على غايات الكمال فيها، وسبقه منها إلى مقامات حسان لا يعطيها حقّها [إلا] (1) مثله ولا يوفّيها اقتضى رأينا الشريف أن نعدق به أحكامها، ونرّد إلى أمره ونهيه كبراءها وحكّامها.
فرسم بالأمر الشريف أن يكون حاكما في البندق لما يتعين من اختصاصها بجنابه، ويتبين من أولويّته بالحكم في هذا الفنّ على سائر أربابه.
فليل ذلك حاكما بشروطه اللّازمة بين أهله، المعتبرة بها خلال الكمال في قول كلّ أحد منهم وفعله، المميّزة بين تفاوت الرّماة بحسب كيفية الرّمي وإتقانه، المرجحة في كثرة الطّير بإمكانه له في وقت البروز ومكانه، المهدرة ما يجب بين أهل هذا الفنّ إهداره، المثبتة ما يتعيّن في كمال الأدوات إثباته في قدم الكبراء وإقراره وليعمل في ذلك جميعه بما تقتضيه معرفته المجمع في فنّه عليها، ويتقدّم فيها بما تدله عليه خبرته الّتي ما برح وجه الاختيار مصروفا إليها والله تعالى يسدّده في القول والعمل، ويبلّغه مراتب الرّفعة في خلاله الجميلة وقد فعل والخير يكون، إن شاء الله تعالى.
قلت: وربّما كان المرسوم المكتتب لمن هو دون من تقدّم من أمير عشرة أو من في معناه، فيفتتح ب «أما بعد» ويكمل على نحو ما تقدّم.
وهذه نسخة ثانية لحاكم البندق، مفتتحة ب «أما بعد» وهي:
أمّا بعد حمد الله الّذي لا معقّب لحكمه، ولا يعزب شيء عن علمه، ولا قنوط من رحمته وسعة حلمه، ملهم أهل محاربة أعداء دينه بالرّياضة لها في أيّام سلمه، ومنجز وعود السّعود لمن كان النّجم مبدأ همّته، والصّدق حلّة
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.(12/266)
سجيّته، والعزّ حلية اسمه، والصّلاة والسلام على سيدنا محمد الّذي هدى الله بنور ملّته العادلة من تردّى في ظلمات ظلمه، ورفع منار النّبوّة بما خصه به من افتتاح التقدّم في رتبتها وختمه، وعلى آله وصحبه الّذي سرى كلّ منهم إلى غاية الكمال على نجائب همّته وجياد عزمه فإنّ أولى من رعيت له أسباب قدمه وتقدّمه، وفتحت له أبواب حكمه في رتبته وتحكّمه، وأعيد إلى مكانته الّتي رقاها باستحقاقه قديما، ورفع إلى منزلته الّتي لم يزل بقواعدها خبيرا وبأوضاعها عليما من ارتقى في رتبته إلى نجم أفقها، واقتدى في مناهجه بدليل مسالكها وطرقها، فأتى في مصالحها بيوت الإصابة من أبوابها، ونقل فيها أوضاع الإجادة عمّن كان أدرى بها، وتقدّم فيها تقدّم هجرته وسبق قدمه، وبلغ في مقاماتها الغاية بين وثبات ساعده وثبات قدمه، وجمع من أشتات الطّير ما افترق في غيره، وحوى من السّبق إلى أنواعها ما حكم بسعد نجمه ويمن طيره فكم ليلة أسفر فيما أبرزوه عن صباح نجاحه، وكم طائر زاحم النّسرين بقوادمه أصبح لديه محمولا بجناحه، وكم أنزلت أهلّة قسيّة الطير على حكمها، وكم حكت بنادقه في رجوم الطّير المحلّقة إلى السماء انقضاض نجمها، وكم أبصر مقاتل الطّير وهي من اللّيل في ظلمات بعضها فوق بعض، وكم اشتغل من الطير الواجب (1)
بندب رمي لم يشغله من إعداد الأهبة للجهاد عن الفرض، حتّى كاد النّسر الطائر إذا توهّم أنّ الهلال قوسه يغدو كأخيه واقعا، والمرزم (2) المحلّق في الأفق يمسي لإشارة بنادقه الصّمّ متتبّعا، حتى أصبح وهو الكبير في فنّه بآداب التعريف، وأضحى وهو الخبير بنوعه بطريق النّقل والتّوقيف.
ولمّا كان فلان هو كبير هذا الفنّ وخبيره، ومقدّم هذا النّوع الّذي لم يزل بنجلائه عظيم كلّ عصر وأميره، وقديم هذا المرمى الّذي جلّ المراد به الجدّ لا
__________
(1) الطير الواجب، وحمام الهدي هي الحمام الرسائلي الّذي كان يستعمل لنقل الرسائل (البريد السريع).
(2) المرزم: اسم لعدد من النجوم أشهرها مرزمان: هما الشعريان: العبور والغميصاء.(12/267)
اللّعب، وأليف هذا المرام الّذي ينشط إليه اللّاعب ويستروح إليه التّعب اقتضى الرأي الشريف أن نجعله حاكما في هذه الرتبة الجليلة بما علم أو علّم منها، فاصلا بين أهلها بمعرفته الّتي ما برحت يؤخذ بها في قواعدها وينقل عنها فرسم بالأمر الشريف أن يكون حاكما في البندق.
فليستقرّ في هذه الرتبة الّتي تلقّاها، بيمين كفايته ويمنه، وارتقاها، بتفرّده في نوعه وتقدّمه في فنّه، وليعتمد الإنصاف في أحكام قواعدها، وإجراء أمر أربابها على أحوالها المعروفة وعوائدها، وينافس المعروفين بها على التّحلّي بآدابها، والتّمسك من المروءة والأخوّة بأفضل أهدابها، وينصف بينهم فيما يعتدّ به من واجبها، ويلزم الداخل فيها بالمشي على المألوف من طرقها والمعروف من مراتبها، ولا يحكم في التقديم والتأخير بهوى نفسه، ولا يقبل من لم يتحرّ الصّدق في يومه أنّه قبل منه في أمسه فإنّ استدامة شروطها أمان من السّقوط عن درجها، وإذا حكّمت نفوس أهلها الصّدق في أقوالها وأفعالها فقد خرجت من خطّ حرجها وليرع لذوي التقدّم فيها قدم هجرتهم، واشتهار سيرتهم الحسنة بين أسرتهم وقد خبر من أوصافه الحسنة، وسابق رتبته الّتي لم تكن عين العناية عنها وسنة، ما اقتضى استقرار رتبته على مكانتها ومكانها، واكتفي له من مبسوط الوصايا بعنوانها فليتّق الله في قوله وعمله، ويجعل الاعتماد على توفيقه غاية أمله والخير يكون، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك ما يكتب به في إلباس الفتوّة.
اعلم أنّ طائفة من الناس يذهبون إلى إلباس لباس الفتوّة، ويقيمون لذلك شروطا وآدابا جارية بينهم. ينسبون ذلك في الأصل إلى أنّه مأخوذ عن الإمام عليّ كرّم الله وجهه.
والطريق الجاري عليه أمرهم الآن أنّه إذا أراد أحدهم أخذ الطّريق عن كبير من كبراء هذه الطائفة، اجتمع من أهلها من تيسّر جمعه، وتقدّم ذلك الكبير
فيلبس ذلك [المريد] (1) ثيابا، ثم يجعل في كوز أو نحوه ماء ويخلط به بعض ملح، ويقوم كلّ منهم فيشرب من ذلك الماء وينسبه إلى كبيره. وربّما اعتنا «ابن بذلك بعض الملوك. وقد جرت العادة في ذلك أنه إذا ألبس السلطان واحدا من الأمراء أن يكتب له بذلك توقيعا.(12/268)
والطريق الجاري عليه أمرهم الآن أنّه إذا أراد أحدهم أخذ الطّريق عن كبير من كبراء هذه الطائفة، اجتمع من أهلها من تيسّر جمعه، وتقدّم ذلك الكبير
فيلبس ذلك [المريد] (1) ثيابا، ثم يجعل في كوز أو نحوه ماء ويخلط به بعض ملح، ويقوم كلّ منهم فيشرب من ذلك الماء وينسبه إلى كبيره. وربّما اعتنا «ابن بذلك بعض الملوك. وقد جرت العادة في ذلك أنه إذا ألبس السلطان واحدا من الأمراء أن يكتب له بذلك توقيعا.
وهذه نسخة توقيع بفتوّة، من إنشاء القاضي محيي الدّين بن عبد الظاهر، وهو:
الحمد لله الّذي جعل أنساب الفتوّة، متصلة بأشرف أسباب النّبوّة، وأفضل من أمدّه منه بكلّ حيل وقوّة، وأسعد من سما فكان عليّا على كلّ من سام علوّه.
نحمده حمدا تغدو الأفواه به مملوّة، ونشكره على مواهبه بآيات الشّكر المتلوّة، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة من جعل إلى منهج التوحيد رواحه وغدوّه، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي شدّ الله أزره بخير من أفتى وفتّى فنال كلّ فتويّ من الفتيان به شرف الأبوّة والبنوّة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين نصروا وليّه وخذلوا عدوّه، صلاة موصّلة إلى نيل الأمانيّ المرجوّة.
وبعد، فإنّ خير من اتّصل به رجاء الرجال الأجواد، وطوى البعيد إلى تحصيل مرامه كلّ طود من الأطواد، وأماط به عن مكارم الأخلاق لثام كلّ جود وامتطى ظهر خير جواد، واستمسك من ملابس الشّرف بما يؤمّن ويؤمّل وما يشد به من كلّ خير لباس التّقوى، وما تؤيّد به عزيمته فتقوى، وما يتقيد به على رؤوس الأحزاب، وما يتنزل به عليه أحسن آية من هذا الكتاب من اشتهر بالشّجاعة الّتي تقدّم بها على قومه، وحمد أمسها في يومه، وبالشّهامة الّتي لها ما للسّهام من تفويق، ولزرق الأسنّة من تحذيق، ولبيض الصّفاح من حدّة متون، وللسّمهريّة من ازدحام إذا ازدحمت المنون، ومن صدق العزيمة، ما يشهد به كرم الشّيمة، ومن شدّة الباس، ما يجتمع به على طاعته كثير من الناس، ومن صدق اللهجة واللّسان، ما اتّصف عفافه منهما بأشرف ما يتّصف به
__________
(1) بياض بالأصل. والزيادة من المقام.(12/269)
الإنسان، ومن طهارة النّفس ما يتنافس على مثله المتنافسون، ويستضيء بأنواره القابسون، ويرفل في حلل نعمائه اللّابسون و [كان] (1) من الذين أبانوا عن حسن الطاعة وأنابوا، وإذا دعوا إلى استنفار جهاد واجتهاد لبّوا وأجابوا، والذين لا يلوون ألسنتهم عن الصّدق، ولا يولّون وجوههم عن الحقّ، والذين لا يقعدهم عن بلوغ الأوطار مع إيمانهم حبّ الأوطان، وإذا نفذوا في حرب الأعداء لا ينفذون إلا بسلطان.
ولما كان فلان ذو المفاخر، والمآثر، أمير الفتيان، مميّز الإخوان والأعيان، هو صاحب هذا المحفل المعقود، والممدوح بهذا المقال المحمود، والممنوح بهذا المقام المشهود، والثّناء الّذي سرّ باله بما سربله أثواب العزّة والفخار، والاعتناء الّذي استخير الله في اصطفائه واختباره في ذلك فخار اقتضى حسن الرأي الشريف كرّم الله أنصاره، وأعلى مناره أن نجيب وسائل من وقف في هذا القصد وقفة سائل، لينال بذلك كلّ إحسان وإحسان كلّ نائل، ودعا إلى الكريم العامّ بالإنعام، والدعاء لسلطان يدعى له ويدعو كلّ الأنام، فقال: أسأل الله وأسأل سلطان الأرض، ملك البسيطة إمام العصر، رافع لواء النّصر، ناصر الملّة المحمديّة، محيي الدّولة العبّاسيّة، فاتح البلاد والقلاع والأمصار، قاهر الكفّار مبيد الفرنج والأرمن والتّتار، سلطان الزّمان، خسروان إيران، شاهنشاه القان، سلطان العالم وارث الملك، سلطان العرب والعجم والتّرك، الذي انتهى إليه عن أمير المؤمنين الإمام الأوّاب، المغوار، عليّ بن أبي طالب ذي الفخار، شرف الفتوّة واتّصال الأنساب.
قلت: هذا ما وقفت عليه من نسخة هذا التّوقيع. وقد ذكر الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ في كتابه «حسن التوسل» نسخة تقليد أنشأه في الفتوّة، أسقط منه أوّل الخطبة وهو: وابتدأ منه بقوله (2):
نحمده على ما منحنا من نعم شتّى، ووهبنا من علم وحلم غدونا بهما
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) حسن التوسّل: ص 379.(12/270)
أشرف من أفتى [في الكرم وفتّى] (1) وآتانا ملك خلال الشّرف الّذي لا ينبغي لغير ما اختصّنا به من الكمال ولا يتأتّى، وخصّنا به من رفع أهل الطاعة إلى سماء النّعم يتبوّأون من جنان الكرم حيث شاءوا: وغيرهم لا تفتّح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجّنة حتّى، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة من انتمى في فخار أبوّة التّقى إلى حسب عليّ، وانتهى [من بنوّة المروءة] (2) إلى سبب قويّ ونسب زكيّ، وارتدى حلل الوقار بواسطة الفتوّة عن خير وصيّ عن أشرف نبيّ، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي نور شريعته جليّ، وجاه شفاعته مليّ، وبسيفه وبه حاز النّصر من انتمى إليه: فلا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ.
وبعد، فإنّ أولى من لبّى إحساننا نداء ودّه، وربّى امتناننا نتاج ولائه الموروث عن أبيه وجدّه، ورقّاه كرمنا إلى رتبة علاء (3) يقف جواد الأمل عن بلوغها عند حدّه، وتلقّت كرائمنا (4) وفد قصده بالتّرحيب، وأنزلت جار رجائه (5)
من مصر نصرها بالحرم الآمن والرّبع الخصيب، وأذنت لأمله ما نأى من الأغراض حتى بلغه بفضلها سهم اجتهاده المصيب، وأعدّت له من حلل الجلالة ما هو أبهى من رداء السّماء الّذي تزداد على الأبد جدّة برده القشيب، وخصّته لابتناء المجد بأجلّ بنوّة جعلت له في إرث خلال الشّرف أوفر (6) حظّ وأوفى (7) نصيب من سمت منابر المجد بذكره، وابتسمت أسرّة الحمد بشكر أوصافه ووصف شكره، واختالت موادّ (8) الثناء بحسن خلاله، واختارت كواكب السّناء إقبال طوالعه بطوالع إقباله، وتمّسك من طاعتنا بأمثل (9) أسباب الهدى،
__________
(1) الزيادة من حسن التوسّل.
(2) في الطبعة الأميرية «في بأوة البنوّة». وما أثبتناه من حسن التوسّل.
(3) في حسن التوسّل «إلى رتبة عليا».
(4) في حسن التوسّل «كرامتنا».
(5) في حسن التوسّل «رحابه».
(6) في حسن التوسّل «أوفى وأجزل».
(7) في حسن التوسّل «أوفى وأجزل».
(8) في حسن التوسّل «مواكب» وهي أوضح.
(9) في حسن التوسّل «بأمتن». وهي أوضح.(12/271)
واعتصم بعروة بنوّة الأبناء (1) فأوطأه التّوثّق بها رقاب العدا، واتّصف بمحاسن الشّيم في مودّتنا فأضحى فتيّ السّنّ كهل الحلم يهتزّ للنّدى، وانتمى إلينا فأصبح لدينا ملكا مقرّبا، وأوجب من حقوق الطاعة علينا ما أمسى به لدينا مع جلالة الأبناء ابنا وغدونا له مع شرف الآباء في نسب الفخر العريق أبا، ونشأ في مهاد الملك فسما به للعلم والعلم، بالسّيف والقلم (2)، والبأس والكرم، واعتزى إلى أبوّة حنوّنا ببنوّة رجائه فتشبّه بعدل أيامنا: «ومن يشبه (3)
أباه فما ظلم»، وتحلّى بصدق الولاء وهو أوّل ما يطلب في سرّ هذا النّسب ويعتبر، وتحلّى لنكاية عدوّ الإسلام بلطف [مكايده إذ] (4) السيوف تجزّ الرّقاب «وتعجز عما تنال الإبر».
ولمّا كان فلان هو الّذي زان بموالاتنا عقود مجده، وزاد في طاعتنا على ما ورث من مكارم أبيه وجدّه، [وساد الملوك في اقتبال] (5)
شبابه، وصان ملك أبيه عن عوارض أوصابه باتّباع ما أوصى به، وأنفت صوارمه أن تكون لغير جهاد أعداء الله معدّة، وعزائمه أن تتّخذ عدوّ الله وعدوّه أولياء تلقي إليهم بالمودّة، وسهامه أن تسدّد [إلّا] (6)
إلى مقاتل العدا، وأسنّته أن يبلّ لها من غير مناهل صدور الكفر صدى، مع اجتماع خلال الشّرف لشرف خلاله، وافتراق أسباب السّرار عن هالة كماله، وسؤاله ما ليس لغيره أن يمدّ إليه يدا، والتماسه من كرمنا العميم أجلّ ما نحل والد ولدا وأنّه وقف على قدم الرّجاء الثّابت، ومتّ بقدم غروس الولاء الّتي أصلها في روض المودّة نابت، وقال: أسأل الله وأسأل سلطان
__________
(1) في حسن التوسّل «موالاتنا».
(2) في حسن التوسّل «العلم والعلم، والسيف والقلم».
(3) في حسن التوسّل «أشبه». وهي الرواية الشائعة للمثل.
(4) في الطبعة الأميرية «بلطف مكايدة: السيوف» والتصحيح من حسن التوسّل.
(5) في الطبعة الأميرية «وزان الملوك في إقبال شبابه». والتصحيح من حسن التوسل.
(6) الزيادة من حسن التوسّل.(12/272)
الأرض، القائم لجهاد أعداء الله بالسّنة والفرض، فاتح الأمصار، الذي لم تزل سيوفه تهاجر في سبيل الله عن غمودها إلى أن صار له من الملائكة الكرام أنصار، الذي كرّم الله شرف الفتوّة بانتمائها إليه، وأعلى قدر بنوّة المروءة باتّصالها به عن الخلفاء الراشدين عن أب [فأب] (1) عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، وأورثه من خلقه الكرم والبأس فتحلّيا منه بأجلّ مواف [وأكمل] (2)
موافق، ومنحه بحفظ العهد من خصائصه ما عهد به إليه النّبيّ الأمّيّ من أنّه ما يحبّه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق، أعزّ الله سلطانه، وأوطأ جياده معاقل الكفر وأوطانه، أن يتقبل قصدي بقبول حسن، ويقبل بوجه كرمه على أملي الّذي لم يقعد به عن فروض الطاعات وسننها وسن، وينظمني في سلك عقود الفتوّة ملتزما بأسبابها، مقتديا (3) بطاعته الّتي هي أكمل أنسابها، متّصفا بموالاته الّتي لا يثبت لها حكم إلّا بها، آتيا بشروط خدمته الّتي من لم يأت بها على ما يجب فما أتى البيوت من أبوابها.
فاستخرنا الله تعالى في عقد لواء هذا الفخار لمجده فخار، ونظمناه لعقد هذا المقام الكريم واسطة لمثله كان يزينها الادّخار.
فرسم (4) بالأمر الشريف لا زال جوده يعلي الجدود، ويوطّد لأبناء ملوك الزّمن من رتب الشرف فوق ما وطّدت الآباء والجدود أن نصل سببه بهذا السّبب الكريم، ونعقد حسبه في الفتوّة بأواخي هذا الحسب الصّميم، ونعذق (5)
نسبه بأصالة هذه الأبوّة الّتي هي إلا عن مثله عقيم، ويفاض عليه شعار هذا
__________
(1) في الطبعة الأميرية «عن أب أوّاب» والتصحيح من حسن التوسّل.
(2) الزيادة من حسن التوسّل.
(3) في حسن التوسّل «متّسما».
(4) في حسن التوسّل «ولذلك رسم».
(5) في الطبعة الأميرية بالدال المهملة. وعذقه بكذا: وسمه به.(12/273)
الخلق المتّصل عن أكرم وصيّ بمن قال الله تعالى في حقّه: {إِنَّكَ لَعَلى ََ خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1)
فليحلّ هذه الهضبة الّتي أخذت من [أفق العزّ بالمعاقد] (2) ويحلّ هذه الرتبة الّتي دون بلوغها من نوع الفراقد ألف راقد، ويجرّ رداء الفخر على أهداب الكواكب، ويزاحم بمواكب مجده النجوم على ورود نهر المجرّة بالمناكب، وليصل شرف (3) هذه النسبة من جهته بمن (4) رآه أهلا لذلك، وليفت في الفتوّة بما علم من مذهبنا الّذي انتهى (5) فيه منّا إلى مالك، وليطل على ملوك الأقطار، بهذه الرتبة الّتي تفانى الرّجال على حبّها، ويصل على صروف الأقدار، بهذه العناية الّتي جعلته وهي حلية حزب الله من حزبها، وليصل سرّ هذا الفضل العميم بإيداعه إلى أهله، وانتزاعه ممن لم يره أهلا لحمله.
قلت: وما تقدّم مما يكتب عن الأبواب الشريفة السلطانية بالديار المصرية والممالك الشامية، لأرباب السيوف، وأرباب الأقلام وغيرهم: من التّقاليد، والتّفاويض، والتّواقيع، والمراسيم: المكبّرة والمصغّرة، ليس هو على سبيل الاستيعاب، بل على سبيل التمثيل والتّذكير، لينسج على منواله، وينهج على نهجه. فإنّ استيفاء ما يكتب في ذلك مما يشقّ، ويقف القصد دونه. بل لا بدّ من حوادث تحدث لم يسبق لها مثال يقتفى أثره. فيحتاج الكاتب إلى حسن التّصرّف في إيراد ما يلائم ذلك ويناسبه. وكلّ كاتب ينفق من كسبه، على قدر سعته، والله تعالى هو الموفق إلى نهج الصواب، والهادي إلى طريق الحقّ في الأمور كلّها، بمنّه وكرمه.
__________
(1) القلم / 4.
(2) في الطبعة الأميرية «من مرافق العزّ بالمعاقل». والتصحيح من حسن التوسل.
(3) في حسن التوسّل «وليصل بشرف من».
(4) في حسن التوسّل «وليصل بشرف من».
(5) في حسن التوسّل «انتمى».(12/274)
الفصل الثالث من الباب الرابع من المقالة الخامسة (فيما يكتب من الولايات عن نوّاب السلطنة وفيه طرفان)
الطرف الأوّل (في مقدّمات هذه الولايات، ويتعلق بها مقاصد)
المقصد الأوّل (في بيان من تصدر عنه الولايات: من نوّاب السلطنة)
اعلم أنّ نوّاب السلطنة بالديار المصرية لا تصدر عنهم ولاية في جليل ولا حقير، بل التولية والعزل منوطان بالسّلطان، والكتابة في ذلك معدوقة به، سواء في ذلك النائب الكافل، ونائب الإسكندرية، ونائبا الوجهين: القبليّ والبحريّ، إلا ما يكتب عليه النائب الكافل من القصص في صغائر الولايات:
من نظر الأوقاف وغيرها، ثم تعيّن ويكتب بها تواقيع سلطانية.
أما نوّاب السلطنة بالممالك الشامية: وهم نائب السلطنة بالشام، ونائب السّلطنة بحلب، ونائب السلطنة بطرابلس، ونائب السلطنة بحماة، ونائب السّلطنة بصفد، ونائب السلطنة بغزّة، إذا كانت نيابة لا تقدمة عسكر (1)
__________
(1) لم تكتمل فكرته. والظاهر أن هنا سقطا ولعله: «فتصدر عنهم الولاية» بناء على ما تقدّم.(12/275)
المقصد الثاني (في بيان الولايات الّتي تصدر عن نوّاب السلطنة بالممالك الشامية)
قد تقدّم في الكلام على الولايات الصادرة عن الأبواب السلطانية بالممالك الشامية، أنّ نوّاب هذه الممالك يستبدّون بتولية ولاة الأعمال، وقد يستبدّون أيضا بتولية صغار النّواب، كالقلاع والبلدان الّتي تكون نيابتها إمرة عشرة. وربّما استبدّوا بتولية بعض النيابات التي تكون نيابتها إمرة طبلخاناه إلّا أنّ تولية العشرات عن النّواب أكثر وتولية الطبلخاناه عن السّلطان أكثر. أمّا النيابات الّتي تكون نيابتها تقدمة ألف، فإنّها مختصة بالسلطان.
والنيابات الّتي يكون متولّيها جنديّا أو مقدّم حلقة فإنّها مختصة بالنوّاب. وأنّ تولية أكابر أرباب الأقلام: ككاتب السّرّ، والوزير بالشّام، حيث جعلت وزارة، وناظر النّظار، حيث جعلت نظرا، وأصحاب دواوين المكاتبات، ونظّار المال بسائر الممالك، ونظّار الجيش، وقضاة القضاة بها فإنّ التولية في ذلك تختص بالسلطان دون النوّاب. وما عدا ذلك يولّي فيه السلطان تارة، والنّوّاب أخرى.
وربّما حصلت الولاية في بعض ذلك من بعض النّوّاب ثم يكتب من الأبواب السلطانية بالحمل عليها، على ما تقدم بسط القول فيه هناك، فليراجع منه.
المقصد الثالث (في افتتاحات التواقيع والمراسيم بتلك الولايات
تقدّم في الكلام على الولايات الصادرة عن الأبواب السلطانية أنّه يراعى فيها براعة الاستهلال في الافتتاح وأنّ الافتتاح فيها ب «الحمد لله» أعلى من الافتتاح ب «أما بعد»، والافتتاح ب «أمّا بعد» أعلى من الافتتاح ب «رسم بالأمر الشريف»، وأنّ لفظ «أما بعد» أعلى من لفظ «وبعد»، وأنه يراعى في الولايات وصف المتولّي والولاية، ويؤتى لكلّ أحد من ذلك بما يناسبه من صفات المدح، ثم يقال: «ولما كان فلان هو المشار إليه بالصفات المتقدّمة، اقتضى حسن الرّأي أن يستقرّ في كذا ونحو ذلك». ثم يؤتى من الوصايا بما يناسب مقام الولاية والمتولّي لها، ثم يؤتى بالاختتام: من المشيئة والتّاريخ،
والحمدلة، والتّصيلة، والحسبلة.(12/276)
تقدّم في الكلام على الولايات الصادرة عن الأبواب السلطانية أنّه يراعى فيها براعة الاستهلال في الافتتاح وأنّ الافتتاح فيها ب «الحمد لله» أعلى من الافتتاح ب «أما بعد»، والافتتاح ب «أمّا بعد» أعلى من الافتتاح ب «رسم بالأمر الشريف»، وأنّ لفظ «أما بعد» أعلى من لفظ «وبعد»، وأنه يراعى في الولايات وصف المتولّي والولاية، ويؤتى لكلّ أحد من ذلك بما يناسبه من صفات المدح، ثم يقال: «ولما كان فلان هو المشار إليه بالصفات المتقدّمة، اقتضى حسن الرّأي أن يستقرّ في كذا ونحو ذلك». ثم يؤتى من الوصايا بما يناسب مقام الولاية والمتولّي لها، ثم يؤتى بالاختتام: من المشيئة والتّاريخ،
والحمدلة، والتّصيلة، والحسبلة.
والأمر فيما يكتب عن النوّاب جار على هذا المنهج إلّا في أمور قليلة:
منها: أنّ جميع ما يكتب عن النوّاب بالشّأم يقال فيه «توقيع» ولا يقال فيه «تقليد» ولا «تفويض» وربما قيل «مرسوم» في أمور خاصّة.
ومنها: أن التوقيع يوصف ب «الكريم» لا ب «الشّريف» فيقال: «توقيع كريم أن يستقرّ فلان في كذا» أو «مرسوم كريم لفلان بكذا» بخلاف ما يكتب عن الأبواب السلطانية، فإنّه يوصف بكونه «شريفا» فيقال: «تقليد شريف» و «تفويض شريف» و «مرسوم شريف» و «توقيع شريف» على ما تقدّم ذكره.
ومنها: أنّ (1) الكاتب يأتي بنون الجمع [جاريا (2) في ذلك على من تصدر عنه الولاية، كما أنّ الولايات عن الأبواب السلطانية [يجري فيها على] (3) العادة في الكتابة عن الملوك، وكأنّهم راعوا في ذلك أنّ المكتوب عنه هو السلطان في الحقيقة، وفعل النائب كأنّه فعله نفسه، كما يقال: هزم الأمير الجيش، وفتح السلطان المدينة، والّذي هزم وفتح إنّما هو جنده لا هو في نفس الأمر.
ومنها: أنّه إذا افتتح التوقيع ب «رسم بالأمر» لا يوصف ب «الشّريف» بل ب «العاليّ» على ما تقدّم. فيقال: «رسم بالأمر العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلاني الفلانيّ». وكذلك إذا أتي بذكر «رسم» بعد الافتتاح ب «الحمد لله وأما بعد» فإنّه يقال فيه: «العالي» دون «الشريف».
قلت: هذا ما كان الأمر عليه في الزّمن المتقدّم كما أشار إليه المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله في «التعريف». ثم استقرّ الحال على وصف الأمر
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية: «ذكر هذا في المخالف سهو فإنه موافق لما يكتب عن السلطان أو الملك كما لا يخفى».
(2) بياض بالأصل. والزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) بياض بالأصل. والزيادة من الطبعة الأميرية.(12/277)
ب «الشريف» فيقال: «رسم بالأمر الشريف العالي» إلى آخره، كما يكتب عن السلطان.
ومنها: أنّه يقال في آخر التوقيع: «والاعتماد على الخط الكريم أعلاه» ولا يقال: «على الخط الشريف»، كما في السلطان.
ومنها: أنّه لا يذكر في تواقيع النوّاب مستند كتابتها، كما يكتب فيما يكتب عن السلطان.
المقصد الرابع (في بيان الألقاب)
قد تقدّم في المقالة الثالثة، في الكلام على الولايات الصادرة عن الأبواب السلطانية أنّ أعلى ما يكتب لأرباب السيوف «المقرّ الكريم» ثم «الجناب الكريم» ثم «الجناب العالي» ثم «المجلس العالي» ثم «المجلس الساميّ» بالياء ثم «المجلس السامي» بغير ياء، ثم «مجلس الأمير» ثم «الأمير».
وأن أعلى ما يكتب لأرباب الوظائف الديوانية: «الجناب العالي» ثم «المجلس العالي» ثم «المجلس الساميّ» بالياء، ثم «المجلس السامي» بغير ياء، ثم «مجلس القاضي» ثم «القاضي».
وأن أعلى ما يكتب لأرباب الوظائف الدينيّة: «المجلس العالي». ثم استقرّ أعلى ما يكتب لهم: «الجناب العالي» و «المجلس العالي» بعده، ثم «الساميّ» بالياء، ثم «السامي» بغير ياء، ثم «مجلس القاضي» ثم «القاضي» على ما تقدّم في أرباب الوظائف الديوانية، إلّا فيما يقع الاختلاف فيه من الألقاب والنّعوت الخاصّة بكلّ منهما.
وأنّ أعلى ما يكتب لأرباب الوظائف الصّوفيّة: «المجلس العالي» ثم «المجلس الساميّ» بالياء ثم «المجلس السامي» بغير ياء، ثم «مجلس الشيخ» ثم «الشيخ».
وأنّه يكتب لأرباب الوظائف العادية: «المجلس السامي، الصدر الأجل» أو «مجلس الصدر» أو «الصدر».(12/278)
وأنّ أعلى ما يكتب لأرباب الوظائف الصّوفيّة: «المجلس العالي» ثم «المجلس الساميّ» بالياء ثم «المجلس السامي» بغير ياء، ثم «مجلس الشيخ» ثم «الشيخ».
وأنّه يكتب لأرباب الوظائف العادية: «المجلس السامي، الصدر الأجل» أو «مجلس الصدر» أو «الصدر».
وأنه يكتب لزعماء أهل الذّمة ألقابهم المتعارفة. فيكتب لرئيس اليهود:
«الرئيس» ولبطاركة النّصارى: «البطرك» ونحو ذلك.
فأمّا ما يكتب عن نوّاب الشام، فعلى أصناف، كما تقدّم في الألقاب الّتي تكتب عن الأبواب السلطانية، مع اختلاف في بعض الألقاب بزيادة ونقص، وعلوّ وهبوط.
الصنف الأوّل (أرباب السيوف، ولألقابهم مراتب)
المرتبة الأولى المقرّ الشريف
(1) وبذلك يكتب للطبقة الأولى من مقدّمي الألوف بالشّام، وحلب، وطرابلس، إذا ولّي أحد منهم نظر وقف، أو نحو ذلك. أمّا غير هذه الممالك الثلاث، فقد تقدّم أنّه ليس في شيء منها تقدمة ألف، ويقال فيه عندهم: «المقرّ الشريف، العالي، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، العونيّ، الغياثيّ، الزّعيميّ، الظّهيريّ، المخدوميّ، الفلانيّ، عزّ الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، ناصر الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين، عون الأمّة، كهف الملّة، ظهير
__________
(1) المقرّ من الألقاب الأصول في عهد المماليك، وكان يلي في المرتبة تنازليا لقب المقام. وأقدم الإشارات المعروفة لهذا اللفظ كلقب جاءت في كتاب «معالم الكتابة ومغانم الإصابة» لابن شيث. وقد ظل اللقب من اختصاص السلطان حتى أواخر القرن السابع: فقد أطلق لقب «المقر العالي» على المنصور قلاوون في العهد إليه بالسلطنة سنة 678هـ، وكان ذلك من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر. على أن اللقب لم يحتفظ مدة طويلة بمكانته الرفيعة، إذ سرعان ما انخفض مركزه، ومن ثم ظل لقب «المقام» وحده للسلاطين. أما «المقرّ الشريف» فلم يرد في النقوش غير مرة واحدة وذلك في سنة 761هـ في نقش بمدرسة الأميرة تتر. ومما تجدر ملاحظته أن «الشريف» كان مختصا في الغالب بلقب «المقام». (انظر حول تاريخ هذا اللقب وفروعه المختلفة: الألقاب الإسلامية: ص 489وتشريف الأيام والعصور: ص 238).(12/279)
الملوك والسلاطين، فلان الفلانيّ: أعزّ الله تعالى أنصاره».
المرتبة الثانية المقرّ الكريم
وبذلك يكتب للطبقة الثانية من مقدّمي الألوف، ويقال فيه: «المقرّ الكريم، العالي، المولويّ». بنحو الألقاب المتقدّمة.
المرتبة الثالثة المقرّ العالي
وبه يكتب للطبقة الثالثة من مقدّمي الألوف، ويقال فيه: «المقرّ العالي، المولويّ» بنحو الألقاب المتقدّمة أيضا [كما] (1)
يكتب لنقيب الأشراف بحلب، وهي: «المقرّ العالي، الأميريّ، الكبيريّ، النقيبيّ، الحسيبيّ، النّسيبيّ، العريقيّ، الأصيليّ، الفاضليّ، العلّاميّ، العارفيّ، الحجيّ، القدويّ، النّاسكيّ، الزّاهديّ، العابديّ، الفلانيّ، جلال الإسلام والمسلمين، جمال الفضلاء البارعين، فخر الأمراء الحاكمين، زين العترة الطاهرة، شرف الأسرة الفاخرة، حجّة العصابة الهاشمية، قدوة الطائفة العلويّة، نخبة الفرقة الناجية الحسنيّة، شرف أولي المراتب، نقيب ذوي المناقب، ملاذ الطّلّاب الدّاعين، بركة الملوك والسلاطين، فلان: أسبغ الله عليه ظلاله».
المرتبة الرابعة الجناب (2) الكريم
. وبه يكتب للأمراء الطّبلخاناه، ويقال
__________
(1) بياض بالأصل. والزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) حتى أواخر العصر الأيوبي لم يكن يفرّق بين هذا اللقب ولقب «المجلس» في الرتبة. وفي أواخر العصر الأيوبي أخذت درجة لقب الجناب تعلو على درجة «المجلس». وقد خصص ابن شيث في كتابه «معالم الكتابة» «الجناب العالي» للوزراء، بينما جعل «المجلس» لمن دونهم. هذا في المكاتبات. أما في النقوش الأثرية فلم يظهر لقب «الجناب» إلا متأخرا. وأول مثل له على الآثار هو وروده في نص جنائزيّ بتاريخ سنة 650هـ على أحد القبور في الصالحية بدمشق حيث أطلق اللقب «جناب الأمير» على زين الدين بن عضد الدين خالد أبي سعد قراجا. ومنذ أواخر القرن السابع الهجري شاع استعمال هذا اللقب في النقوش فضلا عن المكاتبات. والسر في ذلك أنه منذ ذلك الوقت استقر في المصطلح المصري الشامي أن تبدأ سلسلة الألقاب بأحد الألقاب الأصول، ثم تتفرع منه ألقاب فرعية مضافة إلى ياء النسبة. (انظر في ذلك: الألقاب الإسلامية:
ص 241).(12/280)
فيه: «الجناب الكريم، العالي، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، العضديّ، النّصيريّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، الذّخريّ، الظّهيريّ، الفلانيّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، ظهير الملوك والسلاطين، فلان: أعزّ الله تعالى نصرته».
المرتبة الخامسة الجناب العالي
. وبه يكتب لأمراء العشرينات، ويقال فيه: «الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، الذّخريّ، النّصيريّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، الأوحديّ، الأكمليّ، الظّهيريّ، الفلانيّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، ظهير الملوك والسلاطين، فلان أدام الله تعالى نعمته».
المرتبة السادسة المجلس (1) العالي
. وبه يكتب لأمراء العشرات، ويقال فيه: «المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، الأجلّيّ، المجاهديّ، العضديّ، النّصيريّ، الهماميّ، الأوحديّ، الذّخريّ، الفلانيّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، عضد الملوك والسلاطين، فلان: أدام الله تعالى رفعته».
المرتبة السابعة المجلس الساميّ بالياء
. وبه يكتب لمقدّمي الحلقة وأعيان جند الحلقة، ويقال فيه: «المجلس الساميّ، الأميريّ، الأجلّيّ، الكبيريّ، المجاهديّ، الأعزّيّ، الأخصّيّ، الأكمليّ، الأوحديّ، الفلانيّ، مجد الأمراء، زين الأكابر، ذخر المجاهدين، فلان: أدام الله توفيقه».
المرتبة الثامنة المجلس السامي بغير ياء
. وبه يكتب للطّبقة الثانية من جند الحلقة، ويقال فيه: «المجلس السامي، الأمير، الأجلّ، الكبير، الغازي، المجاهد، المرتضى، المختار، فلان الدّين، مجد الإسلام، بهاء الأنام، زين الأمراء، فخر المجاهدين، عمدة الملوك والسلاطين، فلان: أعزّه الله تعالى».
__________
(1) راجع الملاحظة السابقة.(12/281)
المرتبة التاسعة مجلس الأمير
. وبه يكتب للطّبقة الثالثة من جند الحلقة، ويقال فيه: «مجلس الأمير، الكبير». بنحو ألقاب السامي بغير ياء.
المرتبة العاشرة الأمير
. وبه يكتب لجند الأمراء ونحوهم، ويقال فيه:
«الأمير الأجلّ».
الصنف الثاني (من أرباب الولايات بالممالك الشامية أرباب الوظائف الديوانية، وفيهم مراتب)
المرتبة الأولى المقرّ الشريف
وبه يكتب لكاتب السّرّ بالشّام، وصاحب ديوان الرسائل بحلب، ومن في معناهما.
وهذه ألقاب كتب بها لكاتب السّرّ بدمشق بولاية مشيخة الشّيوخ، وبولغ فيها جدّ المبالغة، إلّا أنّها ليست حسنة التّأليف، ولا رائقة التّرتيب، وهي:
«المقرّ الشّريف، العالي، المولويّ، القاضويّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، العلّاميّ، الإماميّ، الفريديّ، المفيديّ، القدويّ، الحجّيّ، الأجلّيّ، الحبريّ، المحقّقيّ، المدقّقيّ، الزّاهديّ، العارفيّ، الخاشعيّ، الناسكيّ، المسلّكيّ، العابديّ، المرشديّ، الرّبّانيّ، الورعيّ، الممهّديّ، المشيّديّ، المشيريّ، السّفيريّ، اليمينيّ، الملاذيّ، الشّيخيّ، الفلانيّ، جلال الإسلام والمسلمين، سيّد الأكابر والرّؤساء في العالمين، عون الأمّة، صلاح الملّة، جمال المملكة، نظام الدّولة، عزّ الملك، لسان الممالك، زين الأولياء، مظهر أنباء الشّريعة وناصرها، مؤيّد الحقّ والمعين على إظهاره، قامع البدع ومخفي أهلها، رحلة الحفّاظ، علم المفسّرين، حجّة الطالبين، سيف المناظرين، قدوة العبّاد والزّهاد، ملجأ الصّلحاء والعارفين، حسنة الأيّام، فرد الزّمان، غرّة وجه الأوان،
شيخ المشايخ، مفيد كلّ غاد ورائح، موصّل السّالكين، مربّي الأتقياء والمريدين، كنز السّالكين والمرشدين، ممهّد الدّول، مشيّد الممالك، مجمّل الأمصار، مدبّر أمور سلطانه في اللّيل والنّهار، مجهد نفسه في رضا مولاه، معين الخلائق على حقوقهم، مذلّ حزب الشّيطان، ملك البلغاء والمتكلّمين، خلاصة سلف القوم المباركين، بركة الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين، فلان الفلانيّ: أسبغ الله تعالى ظلاله».(12/282)
«المقرّ الشّريف، العالي، المولويّ، القاضويّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، العلّاميّ، الإماميّ، الفريديّ، المفيديّ، القدويّ، الحجّيّ، الأجلّيّ، الحبريّ، المحقّقيّ، المدقّقيّ، الزّاهديّ، العارفيّ، الخاشعيّ، الناسكيّ، المسلّكيّ، العابديّ، المرشديّ، الرّبّانيّ، الورعيّ، الممهّديّ، المشيّديّ، المشيريّ، السّفيريّ، اليمينيّ، الملاذيّ، الشّيخيّ، الفلانيّ، جلال الإسلام والمسلمين، سيّد الأكابر والرّؤساء في العالمين، عون الأمّة، صلاح الملّة، جمال المملكة، نظام الدّولة، عزّ الملك، لسان الممالك، زين الأولياء، مظهر أنباء الشّريعة وناصرها، مؤيّد الحقّ والمعين على إظهاره، قامع البدع ومخفي أهلها، رحلة الحفّاظ، علم المفسّرين، حجّة الطالبين، سيف المناظرين، قدوة العبّاد والزّهاد، ملجأ الصّلحاء والعارفين، حسنة الأيّام، فرد الزّمان، غرّة وجه الأوان،
شيخ المشايخ، مفيد كلّ غاد ورائح، موصّل السّالكين، مربّي الأتقياء والمريدين، كنز السّالكين والمرشدين، ممهّد الدّول، مشيّد الممالك، مجمّل الأمصار، مدبّر أمور سلطانه في اللّيل والنّهار، مجهد نفسه في رضا مولاه، معين الخلائق على حقوقهم، مذلّ حزب الشّيطان، ملك البلغاء والمتكلّمين، خلاصة سلف القوم المباركين، بركة الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين، فلان الفلانيّ: أسبغ الله تعالى ظلاله».
المرتبة الثانية المقرّ الكريم
وبه يكتب للطبقة الثانية من أرباب الوظائف الديوانية. ويقال فيه: «المقرّ الكريم، العالي، المولويّ، القاضويّ». بنحو الألقاب السابقة مع «المقرّ الشريف».
المرتبة الثالثة الجناب الكريم
وبه يكتب للطبقة الثالثة من أرباب الوظائف الديوانية. وهذه ألقاب كتب بها لبعض الكتّاب بكتابة الإنشاء والجيش بحلب، وهي: «الجناب الكريم، العالي، المولويّ، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، البارعيّ، الكامليّ، الماجديّ، الأوحديّ، الأثيريّ، الأثيليّ، الأصيليّ، القواميّ، النّظاميّ، الفلانيّ، ضياء الإسلام والمسلمين، أوحد الفضلاء في العالمين، خالصة الملوك والسلاطين، فلان، ضاعف الله تعالى نعمته».
المرتبة الرابعة الجناب العالي
وبه يكتب لكتّاب الدّست ونحوهم.
وهذه ألقاب كتب بها لبعض كتّاب الدّست بالشّأم، وهي: «الجناب العالي، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، الأكمليّ، البارعيّ، الأوحديّ، القواميّ، النّظاميّ، المفوّهيّ، الرّئيسيّ، الماجديّ، الفلانيّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الرّؤساء في العالمين، أوحد الفضلاء الماجدين، قدوة البلغاء، جمال الكّتّاب، زين المنتشئين، خالصة الملوك والسلاطين، فلان، أدام الله تعالى نعمته».(12/283)
المرتبة الخامسة المجلس العالي
وهذه ألقاب كتب بها لكاتب درج بالشام جليل القدر، وهي: «المجلس العالي، القضائيّ، الأجلّيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، البارعيّ، الكامليّ، الرّئيسيّ، الأوحديّ، الأثيريّ، الأصيليّ، العريقيّ، الفلانيّ، مجد الإسلام، شرف الرّؤساء في الأنام، حجّة البلغاء، قدوة الفضلاء، أوحد الأمناء، زين الكتّاب، رضيّ الدّولة، صفوة الملوك والسلاطين، فلان، أدام الله علوّه».
المرتبة السادسة المجلس الساميّ بالياء
وهذه ألقاب كتب بها لبعض كتّاب دمشق بنظر الرّباع (1) وهي: «المجلس الساميّ، القضائيّ، الأجليّ، الكبيريّ، الرّئيسيّ، الأوحديّ، الأكمليّ، الماجديّ، الأثيريّ، الأثيليّ، الأصيليّ، الفلانيّ، مجد الإسلام، شرف الرّؤساء، أوحد الفضلاء، صفوة الملوك والسلاطين، أدام الله تعالى علوّه».
المرتبة السابعة المجلس السامي بغير ياء
وهذه ألقاب كتب بها لكتّاب درج بالشام، وهي: «المجلس السامي، القاضي، الأجلّ، الكبير، الفاضل، الأوحد، الأثير، الرئيس، البليغ، الأصيل، فلان الدّين، مجد الإسلام، بهاء الأنام، شرف الرّؤساء، أوحد الفضلاء، زين الأعيان، فخر الصدور، نجل الأكابر، سليل العلماء، صفوة الملوك والسلاطين، فلان، أدام الله تعالى رفعته».
المرتبة الثامنة مجلس القاضي
وهي: «مجلس القاضي، الأجلّ،
__________
(1) الرباع: جمع ربع. وكانت متحصلات الرباع بندا من بنود ميزانية الدولة. ويعني بالرباع العقارات عامة. والربع في اللغة هو المنزل والمحلة والدار نفسها. والربع من مصطلحات العمارة ويقصد به دار كبيرة تشتمل على عدة مساكن وتشبه الفندق أو الوكالة، وهذه تخصص لنزول التجار والغرباء الوافدين. وتقام هذه الرباع أو الربوع عادة للاستغلال والإنفاق منها على بعض المنشآت الخيرية. ولا تزال هذه التسمية باقية حتى الآن بالقاهرة فمن أحيائها منطقة «تحت الربع».
(انظر قوانين الدواوين: ص 342341ومصطلحات صبح الأعشى: 156والأعلاق الخطيرة:
3/ 907ملحق).(12/284)
الكبير» والباقي من نسبة ألقاب السامي بغير ياء.
المرتبة التاسعة القاضي
ويقال فيها: «القاضي، الأجلّ». وربّما زيد على ذلك قليلا، كما تقدّم في السلطانيات.
الصنف الثالث (من أرباب الولايات بالممالك الشامية أرباب الوظائف الدّينية، وفيه مراتب)
المرتبة الأولى المقرّ الشريف
. وبذلك يكتب لقضاة القضاد ومن في معناهم.
وهذه ألقاب كتب بها لقاضي القضاة المالكيّ بدمشق بتصدير، وهي:
«المقرّ الشريف، العالي، المولويّ، القضائيّ، الكبيريّ، الإماميّ، العالميّ، العلّاميّ، الفريديّ، المفيديّ، الخاشعيّ، النّاسكيّ، الرّحليّ، القدويّ، الملاذيّ، العابديّ، المحقّقيّ، المدقّقيّ، المحسنيّ، الحاكميّ، الفلانيّ، جلال الإسلام والمسلمين، سيّد العلماء في العالمين، قدوة البارعين، سيّد المناظرين، لسان المتكلّمين، ملاذ الطالبين، كنز المتفقّهين، إمام الأئمّة، حجة الأمّة، ناصر الشريعة، فرد الزمان، أوحد الوقت والأوان، رحلة القاصدين، حكم الملوك والسلاطين، فلان، أسبغ الله ظلاله» (1)
المرتبة الثانية المقرّ الكريم
. وبه يكتب لمن دونه من هذه الرتبة.
وهذه ألقاب كتب بها لقاضي القضاة بحلب بوظيفة دينيّة، وهي: «المقرّ الكريم، العالي، المولويّ، القاضويّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ،
__________
(1) جرى العرف في العصر المملوكي على أن تفتتح سلسلة الألقاب «باللقب الأصل» وهو في أساسه أحد ألقاب الكناية المكانية: كالمقام والمقر والمجلس والجناب ثم يليه الألقاب المفردة، ثم الألقاب المركبة، ثم الإسم، ثم ألقاب النسبة بأنواعها، وألقاب الوظائف الّتي يشغلها صاحب الألقاب، ثم يلي ذلك كله الدعاء. ولهذا الإجمال تفصيل أيضا. (أنظر الألقاب الإسلامية: ص 108).(12/285)
الأصيليّ، العريقيّ، القواميّ، النّظاميّ، الإماميّ، العلّاميّ، القدويّ، المفيديّ، الشّيخيّ، الرّكنيّ، الصاحبيّ، الحاكميّ، المحسنيّ، الفلانيّ، فلان الإسلام والمسلمين، شرف الفضلاء في العالمين، قدوة العلماء العاملين، لسان المتكلمين، برهان المناظرين، صدر المدرّسين، رحلة الطالبين، بقيّة السلف الكرام الدارجين، بركة الملوك والسلاطين، خالصة أمير المؤمنين، فلان، أعزّ الله تعالى أحكامه».
المرتبة الثالثة الجناب الكريم
وهذه ألقاب كتب بها لبعض المشايخ بتدريس بالشّام، وهي: «الجناب الكريم، العالي، المولويّ، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، المفيديّ، الفريديّ، المحقّقيّ، المدقّقيّ، الأوحديّ، الأكمليّ، الفلانيّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف العلماء في العالمين، جمال الفضلاء المدرّسين، خالصة الملوك والسلاطين، فلان، أسبغ الله تعالى ظلّه».
المرتبة الرابعة الجناب العالي
وهذه ألقاب من ذلك كتب بها لقاض من قضاة العسكر (1) بالشام، وهي: «الجناب العالي، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، الرئيسيّ، الأكمليّ، الإماميّ، العلّاميّ، المفيديّ، المحقّقيّ، الفريديّ، البارعيّ، المدقّقيّ، الأوحديّ، القدويّ، الحبريّ، الحافظيّ، الأصيليّ، الأثيريّ، النّاسكيّ، الورعيّ، العلّاميّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف العلماء العاملين، زين الحكّام في العالمين، حجّة المذهب، إمام البلغاء، مفتي المسلمين، مفيد الطالبين، قطب الزّهّاد، ملاذ
__________
(1) وجدت هذه الوظيفة منذ أيام الفاطميين، ولكنها لم تكن منفصلة عن وظيفة قاضي القضاة. ولما كانت دولة المماليك دولة عسكرية، فكان من يشغل هذه الوظيفة جنديا وعمله يشمل شؤون العسكر ومن يختص بهم والذين تقبل شهادتهم. وكان له منزل معروف يقصد فيه إذا نصبت الخيام، وأحسن ما يكون ذلك عن يمين الأعلام السلطانية. وكان قضاة العسكر في مصر يمثلون المذاهب: الحنفي والشافعي والمالكي. وفي الشام يمثلون المالكي والحنبلي. (مصطلحات صبح الأعشى: 265).(12/286)
العبّاد، خالصة الملوك والسلاطين، فلان، أدام الله تعالى نعمته».
المرتبة الخامسة المجلس العاليّ
(1) وهي: «المجلس العاليّ، القضائيّ، الأجليّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، الكامليّ، الرّئيسيّ، الأوحديّ، الأثيريّ، الأثيليّ، الأصيليّ، العريقيّ، الفلانيّ، مجد الإسلام، شرف الرّؤساء في الأنام، حجّة الفضلاء، صدر المدرّسين، مرتضى الملوك والسلاطين، فلان، أدام الله تعالى علوّه».
المرتبة السادسة المجلس الساميّ بالياء
وهي: «المجلس الساميّ، القضائيّ، العالميّ، الفاضليّ، الكامليّ، الأوحديّ، الأصيليّ، العريقيّ، المحقّقيّ، الفلانيّ، مجد الإسلام والمسلمين، أوحد الفضلاء في العالمين، صدر المدرّسين، أوحد المفيدين، مرتضى الملوك والسلاطين، فلان، أدام الله سعادته».
المرتبة السابعة المجلس السامي بغير ياء
وهي: «المجلس السامي، القاضي، الأجلّ، الكبير، الأوحد المرتضى، الأكمل، فلان الدين، مجد الإسلام، بهاء الأنام، زين الفضلاء، أوحد العلماء، رضيّ الملوك والسلاطين، فلان، أدام الله عزه».
المرتبة الثامنة مجلس القاضي
وهي: «مجلس القاضي، الأجلّ» بنحو الألقاب المذكورة في «السامي» بغير ياء.
المرتبة التاسعة القاضي
وهي: «القاضي الأجلّ» على ما تقدّم.
__________
(1) عند ما تكون الألقاب المفردة اللاحقة مضافة إلى ياء النسب يكون لقب العاليّ بياء مشددة، أي مضافا أيضا إلى ياء النسب. (الألقاب الإسلامية: 391).(12/287)
الصنف الرابع (من أرباب الولايات بالممالك الشامية مشايخ الصوفيّة)
ولم أقف على شيء من ألقاب ما كتب من هذا الباب، سوى [ما كتب] (1)
في مشيخة الشيوخ بالشام لكاتب السّرّ، وقد تقدّم ذكره في أوّل الألقاب الديوانية هناك، وألقاب الجناب العالي فيما كتب به في مشيخة الزاوية الأمينيّة بدمشق، وهي: «الجناب العالي، الشيخيّ، العالميّ، العامليّ، العلّاميّ، الأوحديّ، القدويّ، العابديّ، الزاهديّ، الورعيّ، الناسكيّ، الخاشعيّ، المسلّكيّ، المرقّيّ، الربانيّ، الأصيليّ، الفلانيّ، مجد الإسلام، حسنة الأيام، قدوة الزّهّاد، ملاذ العبّاد، جمال الورعين، مربيّ المريدين، أوحد السالكين، خلف الأولياء، بركة السلاطين، فلان، أعاد الله تعالى من بركته».
ومن هذا يؤخذ ما حدث كتابته مما هو فوق ذلك أو دونه.
الصنف الخامس (من أرباب الولايات بالممالك الشامية أمراء العربان)
ولم أقف على شيء مما كتب به من ألقابهم، سوى ألقاب «السّامي» بغير ياء لبعض أمراء بني مهديّ، وهي: «المجلس السامي، الأمير، الأجلّ، الكبير، المجاهد، الأصيل، العريق، الأوحد، فلان الدين، مجد الإسلام، بهاء الأنام، شرف العربان، زين القبائل، عمدة الملوك والسلاطين، فلان، أعزّه الله تعالى» وعليه يقاس ما عساه يكتب من هذا النّمط.
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/288)
الصنف السادس (من أرباب الولايات بالممالك الشامية أرباب الوظائف العادية، كرآسة الطّبّ ونحوها)
وألقاب رئيس الطّبّ (1): «المجلس العالي، القضائيّ» على نحو ما تقدّم في الدّيوانيات.
الصنف السابع (من أرباب الولايات بالنيابات الشامية زعماء أهل الذّمة)
وهي رآسة اليهود، وبطركيّة النّصارى.
أما رئيس اليهود
، فالذي رأيته لهم من ألقابه في عهد قديم، كتبه ابن الزكيّ (2) في الدولة الأيوبية، قال في ألقابه: «الرئيس، الأوحد، الأجلّ، الأعزّ، الأخصّ، الكبير، شرف الداووديين، فلان».
وأما بطرك النّصارى، فرأيت لهم فيه طريقتين:
الطريقة الأولى
: «البطرك المحتشم، المبجّل، فلان، العالم بأمور دينه، المعلّم أهل ملّته، ذخر الملّة المسيحيّة، كبير الطائفة العيسويّة، المشكور بعقله عند الملوك والسلاطين، وفقه الله تعالى».
الطريقة الثانية
: «مجلس القسّيس، الجليل، الرّوحانيّ، الخطير، المتبتّل، ابن المطران، النّاصب، الخاشع، المبجّل، قدوة دين النّصرانيّة، فخر الملة العيسويّة، عماد بني المعموديّة، جمال الطائفة الفلانية، صفوة الملوك والسلاطين، فلان، أدام الله تعالى بهجته».
__________
(1) كان يرأس طائفة الأطباء ويأذن لهم في مزاولة الطب. ويشترط فيه معرفته بالعقاقير والأمراض المختلفة وطرق العلاج. (راجع الجزء الرابع من الصبح: ص 194، 222والجزء 11 ص 9990).
(2) هو محمد بن علي بن محمد، المعروف بابن زكيّ الدين الدمشقي: فقيه خطيب حسن الإنشاء. كان له عند صلاح الدين منزلة رفيعة. توفي سنة 598هـ. (الأعلام: 6/ 280).(12/289)
المقصد الخامس (في بيان مقادير قطع الورق المستعمل فيما يكتب عن نوّاب الممالك الشامية)
قد تقدّم في المقالة الثالثة، في الكلام على مقادير قطع الورق، أنّ الورق المستعمل في دواوين الممالك الشامية على ثلاثة مقادير: قطع الطلحية الشامية الكاملة، وهو في عرض الطّليحة المعبر عنها بالفرخة وطولها، وقطع نصف الحمويّ، وهو في نصف عرض الطّلحية الّتي في قطع الحمويّ وطولها، وربّما نقصت في الطول، وقطع العادة، وهو على نحو من قطع العادة البلدي وقد تقدّم ذكره.
فما كان منها في طول الشاميّ الكامل كتب بقلم (1) الثلث، وما كان في قطع نصف الحمويّ كتب بقلم التوقيعات، وما كان في قطع العادة كتب بقلم الرّقاع ثم ما كان في قطع الطلحية، افتتح ما يكتب فيه ب «الحمد لله»، وما كان في قطع نصف الحمويّ، افتتح ما يكتب فيه ب «أمّا بعد حمد الله»، وما كان في قطع العادة، افتتح ما يكتب فيه ب «رسم بالأمر الشريف» سواء في ذلك علت الألقاب أو انحطّت، حتّى إنه ربّما كتب ب «المقرّ» في قطع العادة، اعتبارا بحال الوظيفة.
المقصد السادس (في بيان ما يكتب في طرّة (2) التواقيع)
اعلم أنّ النوّاب بالممالك الشاميّة عادتهم في العلامة كتابة اسم النائب، كما أنّ السلطان فيما يكتب عنه من الولاية يكتب في العلامة اسمه، وحينئذ
__________
(1) حول الأقلام المستعملة، راجع أيضا المقالة الثالثة من الصبح.
(2) الطرّة هي الهامش الّذي يترك في أعلى الكتاب ولها قواعد، فتطول إذا كان الكتاب من الأعلى إلى الأدنى. وفي المكاتبات الصادرة عن السلطان تكون الطرّة فيها ما بين ثلاثة أوصال إلى وصلين، وعن النواب ومن في معناهم تكون وصلا واحدا. (راجع الصبح: 6/ 313).(12/290)
فيحتاج الكاتب إلى أن يكتب في أعلى الدّرج في الوسط ما صورته: «الاسم الكريم» ثم يكتب من أوّل عرض الدّرج ما صورته: «توقيع كريم باستقرار المقرّ الشريف أو الكريم، أو الجناب الكريم أو العالي، أو المجلس العالي أو السامي، أو مجلس الأمير أو القاضي، أو الشيخ، ونحو ذلك، في كذا وكذا إلى آخره». فإن كان فيه معلوم كتب آخرا: «بالمعلوم الشاهد به الديوان المعمور، أو الشاهد به كتاب الوقف» ونحو ذلك ثم يكتب: «حسب ما رسم به على ما شرح فيه». ولفظ: «حسب ما رسم به» مما جرت به عادة كتّابهم، بخلاف ما يكتب به من الأبواب السلطانية على ما تقدّم ذكره.
وهذه طرّة توقيع بنقابة الأشراف بحلب المحروسة، كتب به للشريف «غياث الدين أحمد» بن محمد بن إبراهيم المعروف بابن الممدوح، وهي:
توقيع كريم باستقرار المقرّ العاليّ، الأميريّ، الكبيريّ، الشّريفيّ، النّقيبيّ، الحسيبيّ، الأصيليّ، العزّيّ، بركة الملوك والسلاطين، أحمد ابن المقرّ العاليّ، الشّريفيّ، النّقيبيّ، الشّهابيّ، أحمد (1) الحسيني، أسبغ الله ظلالهما، في وظيفة نقابة السّادة الأشراف، ونظر أوقافها، والحكم في طوائفهم على اختلافهم أجمعين، عوضا عن والده المشار إليه برضاه، على عادته في ذلك ومستقرّ قاعدته، وتعاليمه المستمرة إلى آخر وقت، حسب ما رسم به بمقتضى الخطّ الكريم، على ما شرح فيه.
وهذه نسخة طرة توقيع بكشف الصفقة القبلية بالشام، مما كتب به ل «غرس الدين خليل الناصريّ» وهي:
توقيع كريم بأن يستقرّ الجناب الكريم، العاليّ، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، الغرسيّ، ظهير الملوك والسلاطين، خليل الناصريّ، أدام الله تعالى
__________
(1) ورد أعلاه أن غياث الدين هو أحمد بن محمد وهنا هو أحمد بن أحمد فتأمّل.(12/291)
نعمته، في كشف البلاد القبليّة المحروسة بالشام المحروس، على عادة من تقدّمه في ذلك ومستقرّ قاعدته، حسب ما رسم به، على ما شرح فيه.
وهذه نسخة طرّة توقيع بالمهمنداريّة (1) بالشام المحروس، كتب به ل «غرس الدين خليل الطناحيّ» وهي:
توقيع كريم باستقرار الجناب العاليّ، الأميريّ، الكبيريّ، الغرسيّ، عضد الملوك والسلاطين، خليل الطناحيّ، أدام الله تعالى نعمته، في وظيفة المهمنداريّة الثانية بالشام المحروس، عوضا عن حسام الدّين حسن بن صاروجا، بحكم شغورها عنه، لما اتفق من الغضب الشّريف عليه، واعتقاله بالقلعة المنصورة بحلب المحروسة، على أجمل عادة، وأكمل قاعدة، حسب ما رسم به، على ما شرح فيه.
وهذه نسخة طرّة توقيع بتصدير الجامع الأمويّ بالشام، كتب به للقاضي «ناصر الدين» بن أبي الطّيّب كاتب السّر بالشام، وهي:
توقيع كريم بأن يستقرّ المقرّ الشريف، الناصريّ، محمد بن أبي الطيب العمريّ، العثمانيّ، الشافعيّ، صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالمملكة الشريفة الشاميّة المحروسة، عظّم الله تعالى شأنه، في وظيفة التّصدير بالجامع الأمويّ المعمور بذكر الله تعالى، عوضا عن القاضي صدر الدّين عبد الرحمن الكفريّ الشافعيّ، بحكم وفاته إلى رحمة الله تعالى، بما له من المعلوم الّذي
__________
(1) المهمندارية: وظيفة المهمندار. وصاحب هذه الوظيفة يقوم بلقاء الرسل والعربان الوافدين على السلطان وينزلهم دار الضيافة ويتحدث في القيام بأمرهم. وهو مركب من لفظين فارسيين:
مهمن، بفتح الميمين، ومعناه الضيف، والثاني دار، ومعناه الممسك أو المتولي. (مصطلحات صبح الأعشى: 334ونزهة النفوس: 2/ 118).(12/292)
يشهد به ديوان الوقف المبرور، حسب ما رسم به، على ما شرح فيه.
وهذه نسخة طرّة توقيع بإعادة مشيخة الشّيوخ بالشام إلى القاضي «ناصر الدين بن أبي الطّيّب» المذكور أعلاه، وهي:
توقيع كريم بأن تفوّض إلى المقرّ الشريف العاليّ، المولويّ، القاضويّ، النّاصريّ، محمد بن أبي الطيب العمريّ، العثمانيّ، الشافعيّ، صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالمملكة الشريفة الشامية المحروسة، أعاد الله تعالى من بركاته، وأسبغ ظلاله، مشيخة الشّيوخ بالشام المحروس، وظيفته الّتي خرجت عنه، المرسوم الآن إعادتها إليه، عوضا عمن هي بيده، بمعلومه في النظر والمشيخة، الشاهد بهما ديوان الوقف المبرور، إلى آخر وقت، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، حسب ما رسم به، على ما شرح فيه.
وهذه طرّة توقيع بالحمل على النزول والتقرير الشّرعيّ، بالزاوية الأمينيّة، بالقدس، كتب به للشيخ «برهان الدين الموصليّ» وهي:
توقيع كريم بأن يحمل الجناب العاليّ، الشيخيّ، البرهانيّ، إبراهيم ابن سيدنا المرحوم الشيخ القطب، تقيّ الدّين أبي بكر الموصليّ، رضي الله عنه وأعاد من بركاتهما، في وظيفتي النظر والمشيخة، بالزاوية الأمينية بالقدس الشريف، على حكم النزول الشّرعيّ، واستمرار ذلك بمقتضاهما، ومنع المنازع بغير حكم الشّرع الشّريف، حسب ما رسم به، على ما شرح فيه.
وهذه طرّة مرسوم بربع تقدمة إمرة بني مهديّ كتب به ل «عيسى بن حناس» وهي:
مرسوم كريم بأن يستقرّ المجلس السامي، الأمير، شرف الدّين،
عيسى بن حناس (1)، أعزّه الله تعالى، في ربع تقدمة بني مهديّ، على عادة من تقدّمه، حملا على ما بيده من التّوقيع الكريم، على ما شرح فيه.(12/293)
مرسوم كريم بأن يستقرّ المجلس السامي، الأمير، شرف الدّين،
عيسى بن حناس (1)، أعزّه الله تعالى، في ربع تقدمة بني مهديّ، على عادة من تقدّمه، حملا على ما بيده من التّوقيع الكريم، على ما شرح فيه.
وهذه طرّة توقيع ببطركية النصارى الملكيّة (2) بالشام، كتب به ل «داود الخوري» وهي:
توقيع كريم بأن يستقرّ البطريرك، المحتشم، المبجّل، داود الخوري، المشكور بعقله لدى الملوك والسلاطين، وفّقه الله تعالى، بطريرك الملكيّة بالمملكة الشريفة الشامية المحروسة، حسب ما اختاره أهل ملّته المقيمون بالشام المحروس، ورغبوا فيه، وكتبوا خطوطهم به، وسألونا تقريره دون غيره، حسب ما رسم به، على ما شرح فيه.
المقصد السابع (في بيان كيفية ترتيب هذه التواقيع)
قد جرت عادة كتّاب هذه النيابات أن تكتب الطّرّة بأعلى الدّرج كما تقدّم.
ثم يترك وصلان بياضا بما في ذلك من وصل الطّرّة ثم تكتب البسملة في أوّل الوصل الثالث، ثم يكتب تحت البسملة على سمت الجلالة: «الملكيّ الفلانيّ» ثم يخلّى بيت العلامة نحو ستة أصابع معترضة، ثم يكتب السطر الثاني ويوافي كتابة السّطر، ويكون ما بينهما بقدر أصبعين، والباقي على نحو ما تقدّم في السلطانيات.
__________
(1) في الطبعة الأميرية مع علامة توقف. ولم نهتد إلى تثقيفه.
(2) النصارى الملكيون أو الملكانيون: طائفة من الطقس البيزنطي، منتشرة في سوريا ومصر وفلسطين. سموا الملكيين لأنهم أيدوا القرار الّذي اتخذه مجمع خلقيدونية سنة 451ضد بدعة أوطيخا المونوفيزية (القائلة بطبيعة واحدة للمسيح). انظر الموسوعة العربية الميسرة:
ص 1743.(12/294)
الطرف الثاني (في نسخ التواقيع المكتتبة عن نوّاب السلطنة بالممالك الشامية)
قد تقدّم في المقالة الثانية أنّ بالبلاد الشامية سبع نيابات: دمشق، وحلب، وطرابلس، وحماة، وصفد، وغزّة إن كانت نيابة، والكرك. وأنّ أعلاها دمشق، ثم حلب، ثم طرابلس. وفي معنى طرابلس حماة وصفد.
وقد اقتصرت في نسخ التواقيع على ما يكتب في ثلاث نيابات [تقديما لها] (1) على ما عداها.
النيابة الأولى الشام (والتواقيع الّتي تكتب بها على خمسة أصناف)
الصنف الأوّل (ما يكتب بوظائف أرباب السيوف، وهو على ضربين)
الضرب الأوّل (ما هو بحاضرة دمشق وهو على مراتب)
المرتبة الأولى (ما يفتتح ب «الحمد لله» وفيها وظائف)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع بولاية دمشق:
الحمد لله الّذي جعل هذه الأيّام الزاهرة تنقل أولياء آلائه الشريفة إلى أعلى المراتب، وتجزل لهم من مننه الجمّة المواهب، وتضاعف لهم النّعمة بكرمها الّذي إذا أنهمل كان كالغيث السّاكب.
نحمده على أن جعل نظرنا يلمح أهل الهمم ويراقب، ونشهد أن لا إله إلا
__________
(1) بياض بالأصل. والزيادة من الطبعة الأميرية.(12/295)
الله وحده لا شريك له شهادة يبلغ قائلها ببركتها المنى والمآرب، وتهون عليه كلّ المصاعب، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أظهر الله ببعثته الحقّ في المشارق والمغارب، وأنار به ظلم الغياهب، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين شيّدوا منار الإسلام وأقاموه بالسيوف القواضب، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ المناصب بمتولّيها، والمعالي بمعلّيها، والعقود ليست بمن تحلّيه بل بمن يحلّيها، وأطيب البقاع جنابا ما طاب أرجا وثمارا، وفجّر خلاله كلّ نهر «يروع حصاه حالية العذارى»، ورنّحت معاطف غصونه سلاف النّسيم فتراها سكارى، وتمتدّ ظلال الغصون فيخال أنّها على وجنات الأنهار عذارا.
ولمّا كانت دمشق المحروسة لها هذه الصفات، وعلى ضفّاتها تهبّ نسمات هذه السّمات، لم يتّصف غيرها بهذه الصفة، [ولا اتفق أولو الألباب إلا على محاسنها المختلفة] (1) وكان الجناب الكريم هو من أعيان الدّولة وأماثلهم، ووجوه رؤسائهم وأفاضلهم، وله في طاعتنا استرسال الأمن من سوء مواطن المخاوف، ووصل في ولائها القديم بالحديث والتّالد بالطّارف، وتولّى مهمّات الخدم فأبان في جميعها عن مضاء عزمه، وكان من حسن آثاره فيها ما شهر غفلها بوسمه فمن ناواه من أقرانه أربى عليه وزاد، ومن باراه من أنظاره أنسى ذكره أو كاد.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف أن يستقرّ في ولاية مدينة دمشق المحروسة.
فليباشر هذه الولاية، عاملا بتقوى الله تعالى التي أمر بها في محكم الكتاب، حيث يقول: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزََّادِ التَّقْوى ََ وَاتَّقُونِ يََا أُولِي الْأَلْبََابِ} (2)، وليشمل كافّة الرّعايا بالحفظ والرّعاية، ويجزل حظّهم من
__________
(1) الزيادة مما تقدم في الصنف الثالث في تواقيع أرباب الوظائف في حاضرة دمشق.
(2) البقرة / 197.(12/296)
الملاحظة والعناية، وليساو في الحقّ بين ضعيفهم وقويّهم، وفقيرهم وغنيّهم، وليلزم أتباعه بحفظ الشوارع والحارات، وحراستها في جميع الأزمنة والأوقات، مع مواصلة التّطواف كلّ ليلة بنفسه في أوفى عدّة، وأظهر عدّة، منتهيا في ذلك وفيما يجاريه إلى ما يشهد باجتهاده، ويعرب عن سداده، ويعلم منه صواب قصده واعتماده، وبذل مناصحته في إصداره وإيراده والله تعالى يعينه على ما ولّاه، ويحفظ عليه ما نوّله وأولاه، بمنّه وكرمه.
وهذه نسخة توقيع بنظر الجامع الأمويّ، لصاحب سيف: كتب به في الدّولة الظّاهرية «برقوق» لناصر الدين «محمد» ابن الأمير جمال الدين، عبد الله ابن الحاجب، عند مصاهرته الأمير بطا الدوادار (1)، وهي:
الحمد لله الّذي قدّم أعظم الأمراء ليعمّ مواطن الذّكر بنظره السّعيد، وأقام لتعظيم بيوت أذن الله أن ترفع، [أميرا] (2) في الاكتساب للأجور أسرع من البريد، وأطرب المسامع بسيرته في أحسن معبد جلّيت فيه عروس مهرها كتاب الله تعالى والنّور من زيتونة لا شرقيّة ولا غربيّة ومرئيّ (3) عليه من مكان بعيد.
نحمده على أن أحلّ ناصر الدين بجماله الأسنى أشرف المراتب، وبوّأه المحلّ الرّفيع الّذي بلّغ به الأمّة المحمديّة المآرب، وسار خبر سيرته في المشارق والمغارب، وبلّغ بمشارفة نظره السعيد الشّاهد والغائب، حمدا نرفعه على النّسر الطائر، ونتمثل بقول القائل: كم ترك الأوّل للآخر، ونشهد أن لا إله
__________
(1) خلع على الأمير بطا الدوادار في شهر ذي الحجة سنة 793هـ واستقر في نيابة الشام. أما صهره محمد بن عبد الله بن بكتمر الحاجب فقد قبض عليه الظاهر برقوق في ثامن ربيع الأول من سنة 794هـ. والظاهر أنه كان متعاطفا مع فتنة منطاش. (انظر نزهة النفوس والأبدان: 1/ 338 343).
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) في الأصل «ومزيّة». والتصحيح من الطبعة الأميرية.(12/297)
إلا الله وحده لا شريك له الّذي خلق العباد لعبادته، وفضّل بعض المساجد على بعض لما سبق في علمه من إرادته، ونشهد أنّ سيدنا محمدا خير الخلائق عبده ورسوله الّذي سنّ الجمعة والجماعة، وعمر المساجد بالرّكوع والسّجود إلى قيام السّاعة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين اتّبعوه في قيام الليل إلّا قليلا، ولازموا المساجد بكرة وأصيلا، وحضّوا على الجماعة إلى يوم تكون الجبال فيه كثيبا مهيلا (1)، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فلمّا كان جامع دمشق المحروسة رابع المساجد، وموطن كلّ راكع وساجد، وتقصده الأمم من الأقطار، ولم يخل من العبادة في اللّيل والنهار، ورواتب حكّام الشريعة عليه، والعلماء الأعلام تبثّ فيه العلوم وتأوي إليه، وغالب المساجد إلى سماط وقفه مضافة، وخطابته تضاهي مرتبة الخلافة وهو أجلّ عجائب الدّنيا التي وضعت على غير مثال، وبه يفتخر أهل الهدى على أهل الضّلال تعيّن أن يكون الناظر في أمره من عظم قدرا، وطاب ذكرا، وفتح لوقفه باب الزّيادة على مضيّ الساعات، وجمع أمواله بعد الشّتات، ووصل الحقوق لأربابها الذين كأنّهم جراد منتشر، ولم يضع من ماله مثقال حبّة ومن قال: إنّه صدقة فيومه يوم عسر، وعمّ جميع المساجد المضافة إليه بالفرش والتّنوير، وبدّأ الأئمّة والمؤذّنين والخدمة بعد العمارة على الكبير والصّغير.
وكان الجناب الكريم ضاعف الله تعالى نعمته هو الّذي يقوم في هذا الأمر أحسن مقام، ويصلح له في مصلحته الكلام.
رسم بالأمر العاليّ، المولويّ، السّلطانيّ، الملكيّ، الظّاهريّ، السّيفيّ لا زال هذا الدّين القيّم قائما بمحمّده، والمساجد المعمورة [معمورة] (2) بإكرام مسجده أن يستقرّ الجناب الناصريّ المشار إليه في النّظر
__________
(1) إشارة إلى قوله تعالى في سورة المزمل / 14: {وَكََانَتِ الْجِبََالُ كَثِيباً مَهِيلًا}.
(2) الزيادة يقتضيها السياق.(12/298)
السعيد على الجامع الأمويّ المعمور بذكر الله تعالى، وأوقافه المبرورة، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، بالمعلوم الشاهد به ديوان الوقف المبرور، إلى آخر وقت.
فليباشر ذلك: لما يعرف من فعاله الحسنة، وخبرته الّتي نطقت بها من المحابر الأفواه ومن الأقلام الألسنة ولما حازه من فضيلتي السّيف والقلم، وأعماله الّتي بدت للمهتدي بها كنور لا نار على علم، وليعمّر ما دثر من الأوقاف وليوصل الحقوق إلى أربابها، وليدفع الأموال إلى من هو أولى بها، ويكفّ كفّ الظّلم وليبلّغ المستحقّ المآرب، وليحجب الخونة عن التّوصّل إلى مثقال ذرّة بجدّه فهو كجدّه حاجب، وليبدأ بالعمارة والفرش والتّنوير في جميع الأوقات، وأرباب الصّلاة والصّلات. والوصايا كثيرة وهو بها أدرى وتقوى الله عزّ وجلّ ملاكها ولا زال يفيدها كما يعلّم الشّجاعة زيدا وعمرا والله تعالى يجعله أبدا للدّين ناصرا، ويصلح عمله أوّلا وآخرا والاعتماد في معناه، على الخطّ الكريم أعلاه.
المرتبة الثانية (ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» وفيها وظائف)
وهذه نسخة توقيع [بتولية] (1) الزكاة، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة (2)، وهي:
أمّا بعد حمد الله مسعد من زكّاه عمله، ووفّاه وعد الخير أمله، ومصعد من وفت في تدبير الوظائف تفاصيل أمره ووفرت في تثمير الأموال جمله، والصّلاة
__________
(1) بياض بالأصل. والزيادة مما يناسب المقام.
(2) هو محمد بن محمد بن محمد بن الحسن الجذامي الفارقي المصري، أبو بكر، جمال الدين المتوفى سنة 768هـ. شاعر عصره وأحد الكتاب المترسلين العلماء بالأدب. شغل منصب كاتب السر للسلطان الناصر حسن سنة 761هـ. (الأعلام: 7/ 38وشذرات الذهب: 6/ 212ودائرة المعارف الإسلامية: 1/ 402).(12/299)
والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله الّذي أمرنا بالصّلاة والزّكاة، وشفى جانب الدّين القيّم من الشّكاة، وعلى آله وصحبه الذين سار على نهجه القويم سائرهم، وتزكّى وإنّما يتزكّى لنفسه منجدهم وغائرهم فإنّ أحقّ الوظائف أنّ يندب لحمايتها الحسام، ويترتّب لكفايتها من تحلّت بالمحامد شيمه الجسام وظيفة الزّكاة الّتي وصلت سبب مكانها بإمكانها، وبنيت شريعة الإسلام على أحد أركانها، ومدحت المملكة بمعالي البرّ والإحسان المنظّمة من ديوانها.
ولما كان فلان ممّن زكت صفاته، وسمت بالجميل سماته، ووضحت كفاءته ودرايته، وصلحت حمايته الحساميّة ووقايته، وكان اليمن في قبضة مضائه، وتجريده وانتضائه، وكان نفوذ أمره واقفا عند حدّه واقعا على وفق ارتضائه تعيّن أن يوصل سبب الشّدّ بأسبابه، ويرجع إليه في الزكاة المستحقّ نصابها حتّى يقال: رجع الحقّ بالحسام إلى نصابه.
فلذلك رسم أن يرتب (1) علما بأنّه الكافي الّذي إذا شدّ سدّ، وإذا قصر رأيه على الصّنع الجميل مدّ، والخبير الّذي إذا جمع مالا وعدّده كان مشكورا، وإذا فرقه في مستحقّيه كان خلاف الغير بالخير مذكورا، والنّاهض الذي ما تبرّم بمضايق المهمّات ولا شكاها، والمهيب الّذي قد أمّن من سار بالبضاعة إليه وقد أفلح من زكّاها.
فليستقرّ في هذه الجهة استقرارا يزيد مكانه وإمكانه، ويثمّر عمله وديوانه، وليوصّل كلّ ذي حقّ إلى حقّه فإنّما بسطت أيدي ولاة الأمور ليبسط عدله متولّيها وإحسانه. وتقوى الله تعالى هي العمدة فليحقّق باعتمادها فيه ظنون الرّاجين، وليستعن بها على رضا المستنهضين له وعلى رضا المحتاجين والله تعالى يلهمه الخير في ذوي الصادر والوارد حتّى يكونوا إلى خير
__________
(1) بيض له اختصارا.(12/300)
«لاچين» (1) خير لاجين.
وهذه نسخة توقيع بشدّ الحوطات (2) بدمشق. كتب به لشرف الدين يحيى بن العفيف، [بإجرائه] (3) على عادته، وحمله على ما بيده من التّوقيع الشّريف، وهي:
أمّا بعد حمد الله الّذي سهّل الخيرات بأسبابها، وأقرّ في الوظائف السّنية كفاة أربابها، وكمّل أدوات من حنّكته التّجارب في المباشرات حتّى دخل المناصب العليّة من أبوابها، والصلاة والسلام الأتمّين الأكملين على سيدنا محمد الّذي جاء برشد الشريعة وصوابها، وعرّف بحسن الصّنيعة وثوابها، وعلى آله وصحبه وعترته الطاهرين فإنّ أولى من لفتنا إليه جيد الإحسان، وألقينا إليه طرف التّكريم فبلغ الأمانيّ والأمان، ولحظناه بعين عنايتنا فنال من فضلنا ما أخجل الغيث الهتّان، ومنحناه من برّنا ما شرح له صدرا، واستصحبنا له ما ألفه من كرمنا وجعلنا له بعد عسر يسرا، وأيقظنا حظّه وقد كاد أن يغفى، وأطلعنا كوكب سعده بعد أن كاد يخفى من ألفت مهمّاتنا منه الهمم العليّة، وسلك بين أيدينا المسالك المرضيّة، وأتمن على أموال الحوطات الدّيوانية، فنمت بحسن أمانته، وشكرت الدولة جميل تدبيره ودرايته.
وكان المجلس العالي فلان أدام الله عزّه هو الّذي أخبر عنه الوصف بما أثبته العيان، وأظهر الاختبار منه حسن السّيرة والسّريرة والسّجايا الحسان.
__________
(1) الإشارة إلى المنصور حسام الدين لاجين بن عبد الله المنصوري المتوفى سنة 698هـ. تسلطن بعد أن خلع العادل كتبغا أواخر سنة 695هـ. وكانت مدة حكمه حوالي السنتين. وفي ذلك ما يحدد على وجه التقريب تاريخ التّوقيع أعلاه.
(2) الشدّ: مرادف لكلمة التفتيش في أيامنا. والحوطات هي ما يقع عليه الحجز من مال أو عقار أو محصول. (الأعلاق الخطيرة: 3/ 898ملحق والصبح: 13/ 379).
(3) الزيادة لانتظام السياق.(12/301)
فلذلك رسم بالأمر العالي أعلاه الله تعالى، وضاعف إحسانه على أهل الهمم ووالى أن يستمرّ المشار إليه في شدّ الحوطات الديوانية بدمشق المحروسة، على عادته، ومستقرّ قاعدته، وحمله على ما بيده من التّوقيع الشريف المستمرّ حكمه.
فليباشر هذه الوظيفة على أجمل عوائده، وليعد إليها على أكمل قواعده إلّا أنّ التّذكرة بتقوى الله تعالى لا بدّ من اقتباس ضياها، والتّنبيه على سلوك سبيل هداها فلتكن قاعدة أمله، وخاتمة عمله. والاعتماد في معناه، على الخطّ الكريم أعلاه، إن شاء الله تعالى.
المرتبة الثالثة (من تواقيع وظائف أرباب السّيوف بدمشق ما يفتتح ب «رسم بالأمر العالي» وفيه وظائف)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع بشدّ مراكز البريد، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، كتب بها لمن لقبه «بدر الدين» في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، وهي:
رسم بالأمر العالي لا زالت البرد سائرة بأوامر عدله المديد، وهوامر جوده المجيد، وسوائر الأخبار عن بأسه ونداه المرويّ سندهما عن ثابت ويزيد، ولا برحت جوامع عطاياه وقضاياه: هذه فاتحة لمصالح الآمال باب الزّيادة وهذه فاتحة لمصالح الإسلام باب البريد أن يستقرّ المجلس على عادته الأولى، وقاعدته الّتي ما برحت قدم مساعيه فيها المقدّمة ويد أمانته الطّولى، علما بكفاءته التي شهدت بها حتّى الخيل الماثلات خرسا فأفصحت، المواصلات سعيا فأنجحت، الموريات قدحا (1) إلا أنّ ألسنة الأحوال في شهادتها ما
__________
(1) الموريات قدحا: الخيول الّتي توري النار (تشعلها) بحوافرها عندما تضرب بها حجارة الأرض.
والإيراء هو إخراج النار من أورى النار: أوقدها.(12/302)
قدحت، المغيرات على السّرى صبحا ما دار عليها شفق العشيّ فاغتبقت (1)، حتّى دار عليها شفق الفجر فاصطبحت. ومراكز الطّرق الّتي حمتها مهابته فكأنّها مراكز الأسل، ومراكض السّبل، كلّ واد منها وما حمل وكل حدب وما نسل واعتمادا على سداد عزمه الّذي وافق خبره الخبر، ورشاد سعيه الّذي كلّ أوقاته من وجوه الإجادة ووجوه الجياد غرر، وركونا إلى أنّه الكافي فيما يعتمده ويراه، السّاري في المهمّات لا يملّ وهيهات أن يمل البدر من سراه كم أعان الإسلام على ما اتّخذه من قوّة ومن رباط الخيل، وكم جاد على الجياد على الغيث (2)
حتّى سارت بين يديه كالسّيل، وكم حفظ عليها قوتها وقوّتها فبعد ما كانت تموت بالعدد صارت تعيش بالكيل.
فليباشر ما عوّل فيه عليه، وأعيد من حقّه وإن كان خرج عنه إليه، وليطلق يد أمره ونهيه بما يسرّه أن يقدّمه بين يديه، حريصا على أن تنطق هذه الدّوابّ الخرس غدا بثنائه، مجريا لقوائمها وللإقامة بها على عادة إجرائه، متخيرا لها كلّ حسن الإمرة والسّياسة عند رحيلها وقدومها، ومن إذا عرضت عليه بالعشيّ الصّافنات الجياد طفق مسحا ولكن بإماطة الأذى عن جسومها، موسّعا عليها من المباني والأحوال كلّ مضيق، آمرا بما يحتاج إليه نوعها البديع من صناعتي ترشيح وتطبيق، مستأمنا من الأيدي من يردّ عنها الأيادي الضّائمة، ومن يساوي بينها في الأقوات حتّى لا تكون كما قال الأوّل: «خيل صيام وخيل غير صائمة»، متحرّيا في تكفيتها أجمل الطّرق والطّرائق، مستجلبا صنوف العليق فلا تنقطع من برّه العلائق والله تعالى يمدّه بعونه ورشده، ويجعل عزمه سابقا إلى التوفيق «سبق الجواد إذا استولى على أمده»، بمنّه وكرمه.
__________
(1) اغتبقت: شربت بالعشيّ. وغبق الماشية: سقاها أو حلبها بالعشيّ. والاصطباح: شرب الصباح.
(2) في هامش الطبعة الأميرية: «لعلّ هذا اللفظ زائد من قلم الناسخ».(12/303)
وهذه نسخة توقيع بنقابة النّقباء (1)، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة أيضا، كتب بها لشهاب الدين «بولاقي» عوضا عن أبيه، في سنة أربع وثمانمائة، وهي:
رسم بالأمر العالي لا زال بإنعامه يسفر عن وجه الأمل نقابه، ويحفظ لكافي الخدمة أعقابه، ويلوي باستمرار النّعم أدوار الزّمان وأحقابه، ويطلع في آفاق دولته شهاب كلّ عزم تحمد عساكره المنصورة ارتقاءه وارتقابه أن يرتّب المجلس السّامي، الأمير: علما بأوصافه الحسنة، وأوضاعه الّتي لا يحتاج الحكم بفضلها إلى إقامة بيّنة، وكفاءته الّتي تنطق بها ألسنة الأحوال المؤمّنة وقلوب العساكر المؤمنة، وهمّته الّتي إذا وقّفت المواقف على الأعداء عرّفته أصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة، وتصديقا لدلالة عزمه الواعد، وتحقيقا لحماية شهابه الواقد، وركونا إلى قيامه مقام أبيه رحمه الله في الخدمة حتّى كأن لم يفقده من الجيش فاقد وأنّه لدرجات الاستحقاق راقي، وأنّه العوض عن أب لاقى منيّته وكلّ آمريء لاقي المنيّة وابن لاقي، وأنّه كفء هذه المنزلة كما حكم الرأي واقتضى، وكما شهد (2) لغرّته بغرر الفوائد وكيف لا وهو ابن النّقيب المرتضى!.
فليتلقّ بشهابه المضيء هذا المطلع الأسنى، وليقم في هذه الوظيفة على قدم الخدمة صورة ومعنى، مقدّما على النّقباء تقديم إمامهم، معلّما لجند الإسلام معلوم مقامهم، مالئا بإتقان معرفة الحلى سمع من استملاه، محظيا
__________
(1) ورد في الجزء الرابع من صبح الأعشى أن عمل النقيب عند السلطان أو الأمير هو القيام بتأدية الخدمات الصغيرة لسيّده، وأن نقابة النقباء من الوظائف بدمشق وطرابلس: وهما نقيبان، واحد للميمنة وآخر للميسرة. ونقيب الجيش هو الّذي يتكفّل بإحضار من يطلبه السلطان من الأمراء وأجناد الحلقة ونحوهم، ومعه يمشي النقباء، وهو كأحد الحجاب الصغار ومنه تطلب الحراسة في المواكب وفي السفر. أنظر أيضا نزهة النفوس والأبدان: 1/ 204.
(2) كذا بالأصل. وفي الطبعة الأميرية مع علامة توقف. ولعل في العبارة سقطا أبهم المعنى المراد منها.(12/304)
للجنديّ معينا له على حصول الخير حتّى يشكره شكر من أطعمه وحلّاه، ناظما للمواكب عقد مجتمعها الثّمين، مصاحبا لها صحبة يثنى بها عليه وحسبه أن يكون من أصحاب اليمين، مرتّبا لها أحسن ترتيب، منقّبا عن محاسن تجمّلها:
فإنّ اسم النّقيب مشتقّ من التّنقيب. وليكاثر حملة السّيوف فإنّه حامل سيف وعصا، وإنّه بهذه مخلّص حقوق من أطاع وبهذا موبق نفس من عصى وليحرص على أن يقوم بوعد الاجتهاد المنجز، وعلى أن يكون سيف تحريض على جرحى الأعداء مجهز، وعلى أن يحصل في مواطن الجهاد على الأجرين:
أجر المقاتل وأجر المجهّز والله تعالى يحمد في الخير طرائقه، ويؤيّد عزمه الجيشيّ حتّى تلهج بشكره ألسنة الأعلام الخافقة، والاعتماد
وهذه نسخة توقيع بشدّ خزائن السلاح، من إنشاء ابن نباتة أيضا، وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زالت أسنّة نجوم السّعد من سلاحه، وصواعقها من أعوان صفاحه، وسماكها الرّامح من أنصار رماحه، ولا برح يعمل معادن الأرض حتّى يفنى ذهبها وحديدها على يدي بأسه وسماحه أن يرتّب
لأنّه الناهض الّذي تتزيّن الوظائف بسمته وباسمه، وتتعيّن المصالح والمناجح بعزمه وحزمه، والمسدّد من آرائه سهاما، والمجرّد من اهتمامه كلّ ماضي الحدّ إذا كان بعض الاهتمام كهاما (1)، والوفيّ في شدّ الجهات قولا وعملا، والمليّ بحمل السلاح واستعماله على رغم القائل: «أصبحت لا أحمل السّلاح ولا»، والخبير بمحاسن الاقتراح، والكافي ولا عجب إذا سلّمت له ذوو الوظائف وألقت عليه السلاح، ذو العزم الأشدّ، والرّأي الأسدّ، والذّكيّ الّذي إذا تناول بعض الأسلحة وانتسبت شجاعته رأيت القوس في يد عطارد في بيت الأسد.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة بعزم أقطع من حسام، وأمانة أقوم من ألف
__________
(1) كهم الرجل كهامة: بطؤ عن النصرة والحرب، فهو كهام. وكهم السيف: كلّ.(12/305)
وصيانة أحصن من لام (1) معتبرا لأحوالها، مقرّرا لمطالب مآلها من مالها، موفّرا من أسلحتها الّتي تتوفّر بها من الخير سهامه، منصفا لصناعها الذين يحمد عند استعمالهم صنيعه واهتمامه، مكثرا لخزائنها من ذخائر العدد، مجهّزا لجيوش الإسلام من مادّة عملها بأنفع مدد: من قسيّ تقضي أهلها بقطع أعمار العدا، وسيوف صقيلة إذا نادت ديار النّاكثين أجابت الندا، ودروع تموّجت غدرانها إلا أنّها في مهالك الحرب لا تغوّر، ورماح أطّردت كعوبها فكلّها على عدوّ الإسلام كعب مدوّر إلى غير ذلك مما يدلّ على عزمه الحميد، ويقضي للنّعمة عليه بالمزيد والله تعالى يثقّف عزمه، ويوفّر من السّلاح والنّجاح سهمه.
وهذه نسخة توقيع بشدّ الجوالي (2)، من إنشاء ابن نباتة أيضا، وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زالت سعود أوامره واضحة الأدلّة، نافذة الحكم على كلّ ملّة، قائمة لخصب البلاد بالعدل، مقام السّحب المستهلّة أن يرتّب فلان في شدّ الجوالي بدمشق المحروسة: لما ظهر من نجابته، واشتهر من حزمه ومهابته، وبدا من هممه العوالي، وعزائمه الّتي تجلو صدأ الهمّ بالجوالي، وإذا قيل لحاسده: له ولأبيه إمرة الخيل قال: والجوى لي، وأنّه الكافي الّذي إذا استنهض كانت عزائمه شابة، ونفحات ذكره الجميل هابّة، ونجل الهمام الّذي أشهد على كفاءته النّهار وعلى تعبّده اللّيل، وأعدّ لمصالح الإسلام ما استطاع من قوّة ومن رباط الخيل، وأنّ مرباه جميل، ومنشاه في منازل الخير دليل.
__________
(1) أي لأم. واللأم الاجتماع. واللأمة مجموع عدة الحرب. وكلا المعنيين مناسب هنا.
(2) الجوالي: هي ما يؤخذ من أهل الذمة من الجزية المقرره على رقابهم في كل سنة والجوالي، جمع جالية وتطلق على أهل الذمة لأن عمر بن الخطاب أجلاهم عن جزيرة العرب. ثم لزم هذا الإسم كل من لزمته الجزية من أهل الذمة، وإن لم يجلوا عن أوطانهم. وشدّ الجوالي هي وظيفة من يقوم بتحصيل تلك الرسوم. (مصطلحات صبح الأعشى: 94، 193).(12/306)
فليباشر هذه الوظيفة المباركة بعزم يثمّر مالها، ويقرّر على السّداد أحوالها، ويستخلص الحقّ من أهل الاعتقاد الباطل، ويستخرج الوفر من أهل الجلد الماطل فلا نصرانيّ إلّا وهو يتضرّع تحت الزّرقاء من باسه، ولا يهوديّ إلا وهو يشكو الصّفراء (1) في راسه، ولا سامريّ إلّا والنار الحمراء مطلّة على أنفاسه، حتّى تكون أوصاف شدّه متلوّة، وعزائمه في الجوالي مجلوّة، وهممه جارية على إيلافها ومألوفها، مجزّئة لأقلام الحساب والدّراهم على حروفها، صحيحة الوزن غير منهوك، آخذة الدّينار من وازنه، وهو كالمأخوذ منه مصكوك، شدّا تنعقد على اختياره الخناصر، وكما أنّ للإسلام منه قوّة فليكن للوظائف الدينية منه ناصر.
الضرب الثاني (ممن يكتب له عن نائب السلطنة بالشام من أرباب السيوف من هو بأعمال دمشق ومواضعهم على ثلاث مراتب أيضا)
المرتبة الأولى (ما يفتتح ب «الحمد لله» وفيها وظائف)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع بنيابة بعلبكّ كتب بها لركن الدين «عمر بن الطحان» وهي:
الحمد لله الّذي جمّل بمحاسن زينه من استحقّ الصّعود إلى أعلى المنازل، وجعل نجم سعده بارتقائه إلى سماء المناصب طالعا غير آفل، وصان بعقله الراجح أحصن المعاقل.
نحمده على إحسانه الواصل، وغيث جوده الّذي هو على الدّوام هاطل، حمدا ينطق بمدح معدلته كلّ لسان قائل، ويزيد خيره على كلّ عام قابل، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له الّذي ألحق جياد الأواخر بالأوائل،
__________
(1) الزرقاء والصفراء أي العمائم الزرقاء والصفراء، وكانت من علامات أهل الذمّة.(12/307)
وجعل أجمل الأمراء يفوق البدور الكوامل، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي جعله لديه أعظم الوسائل، وتلازم هو وجبريل في علوّ المنازل، والتّقدّم في المحافل، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه سادات العشائر والقبائل، والمجاهدين في سبيل الله بالبيض البواتر والسّمر الذّوابل، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فلمّا كانت بعلبكّ المحروسة من أعزّ بلاد الإسلام، وأبهج مدن الشّام تعيّن أن نعيّن لها حاكما ديّنا خبيرا، أمينا أميرا شجاعا مهتابا (1)، بطلا برمحه وسيفه في صدور الأعداء ورقابهم طعّانا ضرّابا، وكان الجناب الكريم فلان ضاعف الله تعالى نعمته، وحرس من الغير مهجته من بيت كان على التّقوى أساسه، وعدّت لدفع المعضلات أناسه، واشتهرت همّتهم فلا يردّ لهم سهم ولا يطاق باسه طالما نفوا عن الدّين الحنيفيّ خبث الكفر بعدما تمكنت أدناسه، وشمّروا عن ساعد الاجتهاد فمحي بسيوفهم ضلال الشّرك وأرجاسه وهو أعزّه الله تعالى ممّن شجى بشجاعته، حلوق الكتائب، ووفّى بعدله وحسن سياسته، حقوق المناصب، وقام في خدمة الدّولة الشريفة أحسن قيام، وهذّبته بمرورها اللّيالي والأيام، وتأهل لحلول الرتب العليّة، وتعيّن لارتقاء المراتب السّنيّة فأردنا أن نختبره فيما نولّيه، ونخبر عزمه فيما نوليه.
فلذلك رسم بالأمر العالي لا زال أمره مستمرّ الإحسان، مجزلا لذوي الاستحقاق عوارف النّعم الحسان أن يستقرّ الجناب الكريم المشار إليه ضاعف الله تعالى نعمته في نيابة السّلطنة الشريفة ببعلبكّ المحروسة والبقاعين (2)
المعمورين، على عادة من تقدّمه في ذلك، ومستقرّ قاعدته، بالمعلوم الّذي يشهد به الديوان المعمور، إلى آخر وقت.
__________
(1) في الأصل «مهابا». والصواب ما أثبتناه من الطبعة الأميرية، إذ أن اسم المفعول من الثلاثي «هاب» هو مهوب ومهيب.
(2) هما البقاع البعلبكي والبقاع العزيزي. (انظر: منطلق تاريخ لبنان: 131).(12/308)
فليباشر هذه النيابة الشريفة بخاطر منفسح حاضر، وقلب منشرح على الخيرات مثابر، وليتّخذ الشرع الشريف إماما، وليتوخّ أوامره ونواهيه نقضا وإبراما، وليقف عند حدوده المشروعة، ولا يتعدّها ومن يتعدّ حدود الله فيده من الإيمان منزوعة، وليلن جانبه للرّعية، وليحملهم من العدل والإنصاف على المحجّة الواضحة الجليّة فإنّهم الرعية الضعفاء (1) الصالحون الذين أنعم الله عليهم بتفويض أمورهم إليه، وليعرّفهم قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «اللهمّ من ولي من [أمور] (2) أمّتي شيئا فرفق بهم فارفق به ومن شقّ عليهم فاشقق عليه»، وليعمّر البلاد، وليقمع أهل الفساد، وليمهّد البقاع، وليحيي موات الضّياع، وليقم على القلعة المنصورة الحرس، ولا يغفل عن حفظها بمعرفته الّتي أكدت له من السّعادة سببا والله تعالى يبلّغه من إحساننا أربا، وينجح له من فضلنا طلبا، ويحرسه بسورتي فاطر وسبا والاعتماد في معناه، على الخط الكريم أعلاه.
وهذه نسخة توقيع بكشف البلاد القبلية، كتب به لغرس الدين خليل الناصريّ في الدولة الظاهرية «برقوق» وهي:
الحمد لله الّذي جرد من أولياء هذه الدّولة الشّريفة سيوفا تحسم موادّ الفساد، وتبيد أهل الزّيغ والعناد، وتعمّ ببأسها وبعدلها البلاد، حمدا مستمرّا على الآباد، مزوّدا غرسها النافع ونعم الزّاد، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ربّ العباد، القائم على كلّ نفس بما كسبت والمجازي لها بما عملت يوم يقوم الأشهاد، ونشهد أنّ سيدنا محمدا خير الخلائق عبده ورسوله الّذي بلّغه في الدنيا والآخرة أقصى المراد، وفضّله على الخلائق: الآلاف والمئين والعشرات والآحاد، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فتحوا البلاد،
__________
(1) في الأصل «العلماء». والتصحيح من الرسالة الآتية بعد.
(2) الزيادة من الرسالة الآتية بعد.(12/309)
بسيوفهم الحداد، ومزّقت رماحهم من مخالفي دينهم القويم القلوب والأكباد، وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم التّناد.
وبعد، فلمّا كانت المملكة القبليّة جلّ البلاد الشامية، وبها أرزاق العساكر الإسلامية، وطريق الحاجّ إلى بيت الله الحرام، وزيارة نبيّه عليه أفضل الصّلاة والسلام، وإلى الأرض المقدّسة، التي هي على الخيرات مؤسّسة، وإلى الأبواب الشريفة السلطانية، وممر التّجار قاصدين الدّيار المصريّة، ومنازل العربان، ومواطن العشران (1) وجب أن يفوّض حكمها إلى من عرف بالشّهامة والشجاعة، واليقظة الّتي لا يغفل بها عن مصلحة المسلمين ساعة من أثمر غرسه وما يفوّه، وأينع بالمروءة والفتوّة، وتقدّم في الكمال على زيد وعمرو، وأضرم في قلوب الأعداء نارا أحرّ من الجمر.
وكان الجناب الكريم أدام الله نعمته هو المشهور بهذه الصّفات، والمنعوت بالشّجاعة والإقدام وحسن الأدوات.
فلذلك رسم بالأمر العالي لا زال إحسانه يثّمر غرسا، وجوده يسرّ نفسا أن يستقرّ الجناب المشار إليه في كشف البلاد القبلية المحروسة على منوال من تقدّمه وعادته، وحدوده في ذلك ومستقرّ قاعدته.
فليباشر ذلك بهمّته العليّة، وشجاعته الأحزميّة، ونفسه الأبيّة، وليبيّض وجهه في هذه النّوبة حتّى يطرب الناس بالنّوبة الخليليّة، وليعدل في الكبير والصغير، وليقمع رؤوس عشير اتخذوا رأسهم مولى: فلبئس المولى ولبئس العشير، وليدفع أذى العرب، وليحذّرهم شرّا اقترب، وليكثر الركوب إلى المعاملات، ولا يخش من كثرة الحركات، وليعلم أنّ كلّ ما هو آت آت، وليتخذ الشّرع الشريف إماما، وليتوخّ أوامره ونواهيه نقضا وإبراما، وليقف عند
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية: «لم يرد هذا الجمع في كتب اللغة. ولعله ارتكب القياس في اللغة فجعله كرغيف ورغفان وقطيع وقطعان».(12/310)
حدوده المشروعة، ولا يتعدّها: ومن يتعدّ حدود الله فيده من الإيمان منزوعة، وليلن جانبه للرّعية، وليحملهم من العدل والإنصاف على المحجّة الواضحة الجليّة فإنهم الرعية الضّعفاء الذين أنعم الله عليهم بتفويض أمورهم إليه، وليعتمد قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «اللهمّ من ولي من أمور أمّتي شيئا فرفق بهم فارفق به ومن شقّ عليهم فاشقق عليه» والوصايا كثيرة وتقوى الله عزّ وجلّ نظامها وقوامها، واتّباع سنّة نبيّه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم قيادها وزمامها، والاعتماد في معناه، على الخطّ الكريم أعلاه.
وهذه نسخة توقيع بكشف الرّملة، كتب به لأبي بكر «أمير علم» (1)، في الدولة الظاهرية «برقوق» وهي:
الحمد لله الّذي قلّد أجياد المجاهدين، سيف نصره، وأكّد بعزائم أهل اليقين، حماية حوزة الإسلام وصيانة ثغره، وجعل ألسنة أسنّة المرابطين في فم الثّغر زينا إذا ازدان بغرّة بدره، وأنزل بأعداء الدّين قوادح نقمه وقوارع قهره.
أحمده أن حمى بأولي النّجدة والبأس للمسلمين حمى، وأشكره على ما همع من صيّب نعمائه وهمى، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة أتّخذها عند الله ذخرا، وأرجو بها في العقبى أجرا، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي آيد يده بالسّيف وأمدّه أيدا، وعلى آله الذين حلّى بهم للإسلام جيدا، وصحبه الذين جلا ببوارق صفاحهم، وخوارق رماحهم، غمم المجال، وغمم القتال، فلم يهمل الأعداء ولم يمهلهم رويدا.
وبعد، فإنّ أولى من جعل في نحر البحر هماما صارم (2)، وأشدّ من قاطع
__________
(1) أمير علم: هو الّذي يتولى أمر الأعلام السلطانية والطبلخاناه ويكون عادة من طبقة أمير عشرة.
(مصطلحات صبح الأعشى: 49).
(2) في هامش الطبعة الأميرية: «وقف عليه بلغة ربيعة».(12/311)
أعداء الدين وصارم، من تضرب بشجاعته الأمثال، ويورد في صدور الأبطال صمّ الأسل النّهال، ويحمي حمى الثّغر فلا يدع عدوّا ولا يرهب نهبا، ويرقى رقاب الكفر فيؤمنون وإن كان وراءهم ملك يأخذ كلّ سفينة غصبا (1)
ولما كان الجناب الكريم فلان أدام الله تعالى نعمته هو الّذي أخلص في الطّاعة، ونصح سلطانه حسب الطاقة والاستطاعة رسم بالأمر الشريف العالي لا زال سيف عدله ماضيا، وكلّ بحكمه راضيا أن يستقرّ الجناب المشار إليه كاشفا بالرّملة المعمورة، على عادة من تقدّمه في ذلك.
فليباشر ذلك معمّرا تلك البلاد بعدله، مجتهدا على إيصال الحقّ إلى أهله، وليتخذ الشّرع الشريف إماما، وليتوخّ أوامره ونواهيه نقضا وإبراما، وليقف عند حدوده المشروعة، ولا يتعدّها: ومن يتعدّ حدود الله فيده من برّ الإيمان منزوعة، وليلن جانبه للرّعية، وليحملهم من العدل والإنصاف على المحجّة الواضحة الجليّة، [فإنّهم الرعية الضّعفاء الذين أنعم الله عليهم بتفويض أمورهم إليه] (2)، وليعتمد فيهم قول النّبي صلّى الله عليه وسلم: «اللهمّ من ولي من أمور أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به ومن شقّ عليهم فاشقق عليه». والوصايا كثيرة وأهمّها التّقوى فليلازم عليها فإنّها تحفظه، وبالسيادة والسعادة تلحظه والله تعالى يكمّل توفيقه، ويسهّل إلى نجح المقاصد طريقه والاعتماد في معناه، على الخط الكريم أعلاه.
قلت: ومن تأمّل وصايا هذه التواقيع الثلاثة المتقدّمة الذكر، علم ما كان عليه كتّاب الزمان، من انتزاع الفقرات من توقيع، وترصيعها في توقيع آخر، من غير تغيير لفظ في أكثرها.
__________
(1) من الآية الكريمة: {وَكََانَ وَرََاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} الكهف / 79.
(2) الزيادة مأخوذة مما تقدم.(12/312)
المرتبة الثانية (من تواقيع أرباب السيوف ممّن بأعمال دمشق ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» وفيها وظائف)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك.
نسخة توقيع بنيابة بعلبكّ لمن دون من تقدّم في المرتبة الأولى، من إنشاء الشيخ جمال الدّين بن نباتة، كتب به لمن لقبه «ناصر الدين» وهي:
أمّا بعد حمد الله الّذي لم يخل مملكة إسلامية من قوّة ولا ناصر، ولم يحل أمرها على ذي عزم قاصر، ولم يحلّ وجهها إلا بمن نسي به القديم وشهد له المعاصر، ولم يلق مقاليدها إلا لمن وضح برأيه الإبهام وثبتت بفضله الشهادة وعقدت على ذكره الخناصر، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الّذي شيّد معالم الدّين وأركانه، وجدّد مكان الحقّ وإمكانه، وعلى آله وصحبه الذين تابعوا في الخلق عدله وإحسانه، وشايعوا في النّصر نصله وسنانه، ما استناب الودق (1)
في سقيا الرياض غدرانه، وخلع على الغصون خلعا خطر فيها الزّهر بأكمامه وعقد من الثّمر تيجانه فإنّ شرف الأماكن بساكنيها، وجسوم الديار بنفوس قاطينها، والمنازل بكواكبها، والمناصب بنصيبها من الكفاءة ونائبها، وإنّ مدينة بعلبكّ علم في المدائن مرفوع الخطّة، وجسم من جسوم الديار قد آتاه الله بسطة، بنية سليمان عليه السّلام فهي بالملك قديمة الاختصاص، ومبتنى الجانّ المنسوبة عقودها العلية والدّرية إلى كلّ بناء وغوّاص، وشام الشّام المعجبة، وروضة نداه المعشبة، وثنيّة ثغره الباسم، وعرف أعراق حياه النّاسم، ومأوى صلحائه أحياء بين أوطانها، وأمواتا بين صفيح لبنانها لو عرضت البلاد سحبا لقيل لسحابها: يا كثير المنن، ولو صوّرت أناسيّ لقيل لإنسانها: يا طيّب النّجر واللّبن لا يمنع ماعونها، ولا ينقطع عونها عن البلاد وما أدراك ما عونها، ولا
__________
(1) الودق: المطر.(12/313)
تليق من النوّاب إلّا بكلّ سرّي العزم والهمّة، عليّ الآراء في الملمّة المدلهمّة، ناجح القول والعمل، صالح لأن يثني على نيابته البعلبكّية صالحو المدينة والجبل، مكمّل لسلوك الحقّ الأنجى والعزم الأنجد، مؤهّل لارتقاء الرّتب التي [إن خلت من ماجد تناولها] (1) الأمجد.
وكان فلان هو جملة هذا التّفصيل، وجمال هذا التّفضيل، وكفء هذه العقيلة، وسعد هذه المنزلة الّتي مدّت بالسّيف والقلم ذراعه ونظّمت من البناء إكليله.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زالت الممالك بمحاسن أيّامه إرم ذات العماد، والبلاد ذات الخصب السّنيّ لا ذات السّنة الجماد أن يرتّب في نيابة بعلبكّ المحروسة: مجدّدا بهمّته العالية علوّ صرحها، وحماية سرحها، ورعاية جبلها وسفحها، موريا في مصالحها زناد فكره الّتي لا تتمكّن أقوال العداة من قدحها، مصرّفا أوامره كيف شاءت، منصفا للأحوال المنوطة برعايته إن دنت أو تناءت، باسطا لعدل قلمه على المجيدين، وسطوات سيفه على المعتدين، وازعا بمهابته من جاور جبال العمل من الضّالّين، {فَعَسى ََ أُولََئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (2) وليتبوّأ منها معقلا يحمده المناصر والمهاجر، وليحط منها ثغرا مساويكه الأسل والمسعى إليه على المحاجر، وليجر أمور الديوان على سنن التّمييز والتّثمير، وليدبّر الأوقاف المبرورة بمحاسن التّدبير، وليشارك أهلها في الأجر الأوّل بالأجر الأخير والأسوار هي وقلوب الرّجال من أهمّ ما يعمّره، ووفور الحواصل والسّلاح ممّا للوليّ ولقاء العدوّ يدّخره، وتقوى الله عزّ وجلّ ممّا لا يزال لسانه يستحلي القول فيه فيكرّره والله تعالى يمدّه بإعانته ولطفه، ويكفيه ما أهمّ من الأمور فما كفي من لم يكفه.
__________
(1) في الأصل «التي تماحدنا ولها» وهي غير مفهومة. والتصحيح من هامش الطبعة الأميرية.
(2) التوبة / 18.(12/314)
وهذه نسخة توقيع بولاية الولاة بالشّام المحروس لمن لقبه «عزّ الدّين» من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة أيضا وهي:
أمّا بعد حمد الله الذي جعل للولاة في هذه الدّولة عزّا يتجدّد، وعزما يتشدّد، [وفعلا إذا حكم لا يتعدّى ورأيا لا يتعدّد] (1)، وكافي ولاة يتلذّذ الواصف بذكر اهتمامه الّذي إذا اهتمّ لا يتلدّد، وإذا اعتبر عزمه وحزمه فهذا فضل يتجدّد، وهذا وصف لا يتحدّد، والصلاة والسلام على سيد الخلق محمد، وعلى آله وصحبه ذوي العزّ المؤبّد، والعزم المؤيّد، ما كتب قلم الغيث الجائد على طرس الرّوض فجوّد فإنّه لما كانت الولاة في خدمة البلاد جيشا يحمون سرحها، ويعمرون صرحها، ويخصبون بالعدل قبل العمارة سفحها، ويحكمون في رعاياها، ويتمكّثون في قضاياها، ويقرعون ثغورها ويفرعون ثناياها تعيّن أن نقدّم على هذا الجيش المذكور أميرا يقرّر أمرها، وينسّق من ميمنته وميسرته يمنها ويسرها، ويجرّد من الرّأي سلاحه، ويسرّ قلبه بالتّدبير ويريش جناحه.
وكان المجلس السامي هو الأمير الدّالّ عليه هذه الإمارة، المعنيّ بهذه الشّارة والإشارة، المستحقّ بشريف نفسه مدارج الارتقاء، ومباهج الانتقاد والانتقاء، المسبل أذيال مفاخره أيّ إسبال، المرقوم باسمه ورسمه على أرجاء الولايات: «عزّ يدوم وإقبال»، المقيم من أمانته ومهابته بين حرزين، الشّهم الذي لا يذلّ وهو من نعته ومنتسبه بين عزّين، الصّمصام الّذي تسرّ [به] يد من ارتضاه وانتضاه، والماشي على الحقّ الظّاهر حتّى يقال: أهذا والي الولاة أم قاضي القضاة؟.
فلذلك رسم بالأمر الشريف شرّفه الله وعظّمه أن
__________
(1) في الأصل «وبعلا لا يتعدّى إذا حكم وزيدا لا يتعدد». والتصحيح من هامش الطبعة الأميرية.(12/315)
يستقرّ اعتمادا على شهامته الّتي بمثلها تمهّد البلاد، وكفاءته التي تفصح بالخيرات السّنيّة ألسنة الجماد، وصرامته الّتي تشدّ على أيدي الولاة فيردون الحقوق من أيدي الاغتصاب، ودرايته الّتي ينتسبون إليها فينشدون:
وكنّا كالسّهام إذا أصابت ... مراميها فراميها أصاب (1)
فليباشر هذه الرّتبة بكفئها: من العزم العالي، والقدر الغالي، والمعدلة التي تتمسّك منها الأحوال بأوثق العرا، وتتلو سيّارتها المرفقة: {وَمََا كُنََّا مُهْلِكِي الْقُرى ََ} (2)، مراعيا لجميع الأحوال، مثمّرا لمربع الأموال، واليا على ولاة إن شكّوا في صنع الله فما لهم من الله من وال، ماشيا من تقوى الله تعالى في كلّ أمر على أقوى وأقوم منوال والله تعالى يخصب البلاد بغمام رأيه الصّيّب، ويطيّب الأماكن المنبتة بمثله: «وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب».
وهذه نسخة توقيع بولاية البلقاء والصّلت (3)، من إنشاء ابن نباتة، وهي:
أمّا بعد حمد الله مضاعف النّعمة، ومرادف رتب الإحسان لمن أخلص في الخدمة، ومجدّد منازل العزّ لمن طلعت كواكب اهتمامه في آفاق الأمور المهمّة، ومؤكّد سهام الخير المقتسمة، لمن سدّد في شرف الأغراض رأيه بل سهمه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبيّ الأميّ هادي الأمّة، وعلى آله وصحبه حماة الدّين من العوارض الملمّة، صلاة تكون بين أرواحهم الزّكية مودّة ورحمة فإنّ أحقّ الأولياء بمزيد الآلاء المتّصلة، وتجديد النّعم المقبلة وتقديم المساعي الّتي لا تلبس حلل الفخار إلا مكتملة من وضحت في صفات الفضل آياته، وتقابلت في حالتي التّدبير سطاه وأناته، وروّى غلّة البلد الخائف
__________
(1) الرواية: أصابا، بألف الإطلاق. وحذفها هنا لمراعاة الفاصلة.
(2) القصص / 59.
(3) من أعمال الأردن.(12/316)
ففاض على المعتدين جدول سيفه وجرت بالدّم قناته، وقام على قدم الاجتهاد، وقسم بين جفنه وجفن سيفه السّهاد.
ولما كان المجلس هو المقصود بهذه الكناية، والمشهود له في طلق هذه الغاية، والعالي بهممه على ذوي الارتقاء، والوالي الّذي إذا ركب الولاة لاشتهار ذكر كان من بينهم فارس البلقاء، والنّاهض بتثمير الأموال غمام رأيه الصّيّب، والطّيّب بسياسته محلّ الولاية: «وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب» تعين أن نتزيّد منصبه إذا تزيّدت المناصب، وأن تستمرّ مرتبته إذا مرّت لذهابها المراتب، وأن يشتمل في استمرارها عليه، وأن يكون في إعراب الدّولة القاهرة مضافا ومضافا إليه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف أعلى الله تعالى أبدا عماده، وجعل لولاة أيّامه الحسنى وزيادة أن يستمرّ على ولاية البلقاء على عادته، وأن تضاف إليه ولاية الصّلت: جمعا له بين الأختين حلالا، والذّروتين منالا، والرّايتين نهوضا بهما واستقلالا، وعلما بوفاء عزمه الّذي أمر أمره، ورفعا لقدره الّذي حسن أن يقول لمنصب البلقاء: «لنا الأبلق الفرد الّذي سار ذكره»، وتيمّنا بغرّة الصّلت فإنّ الصّلت هو الجبين الواضح بشره وكيف لا؟ وهو الكافي الّذي جمع مال الجهات فاوعى، وقسم فنون المصالح جنسا ونوعا، وحسم أدواءها بحسام رفقه كرها وطوعا.
فليباشر بالعزّ واليمن جهتيه، وليأخذهما بكلتا يديه، وليفض وجه عزمه في أرض الدّولة حتّى يكون شبه البلقاء اللازم لإحدى ولايتيه، محصّنا بسماكي سيفه وقلمه فنعم البلدتان، مثمّرا بسداد قوله وفعله ومن دونهما جنّتان، موفيا للحقوق، معفيا لاعتراف النّعمة من العقوق، راقيا بهمته إن شاء الله تعالى إلى رتب لو رامها نجم الأفق لعاقه العيّوق (1)، عاملا بتقوى الله عزّ وجلّ فإنّ
__________
(1) العيّوق: نجم أحمر مضيء في طرف المجرّة الأيمن، يتلو الثريا لا يتقدّمها، ويطلع قبل الجوزاء.(12/317)
خير الدنيا والآخرة بتقوى الله معدوق والله تعالى يوضّح لرأيه أجمل الطرائق، وينجح على البلقاء وغيرها سعيه السّائق، وفكره السابق، بمنه وكرمه!.
وهذه نسخة توقيع بولاية نابلس، من إنشاء ابن نباتة أيضا وهي:
أمّا بعد حمد الله على ماهنّأ من المواهب، وهيّأ من عليّ المراتب، وأنجز من وعود السّعود بعد مطال المطالب، وزيّن من سماء الوظائف عند إزهائها بزينة الكواكب، وعمرّ من صدور الولاة والولاية بعليّ تثني عليه الرعيّة «ولو سكتوا أثنت عليه الحقائب»، والصلاة على سيدنا محمد عبده ورسوله الذي جرّد لنصر الإيمان حدّه القاضب، وحزبه الغالب، وندب لإحياء الحقّ عليه بعدما همّت به النّوادب، وعلى آله وصحبه الذين هم في الممات جمال الكتب كما كانوا في الحياة جمال الكتائب، صلاة تتعطر بنفحاتها الصّبا وتتقطّر من خلف سراها الجنائب فإنّ عقائل الولايات أولى بخطبة أكفائها، ورغبة السّراة من ذوي اصطفائها، ونسبة من يقوم للأمور المعلّلة بقانونها وشفائها (1).
ولما كانت بلد نابلس المحروسة من أعلى عقائل البلاد قدرا، وأمرا الجهات أمرا، وأسرى الولايات محلّا وذكرا، وأوفى النّواحي من زمان بني أيّوب على تكاليف الملك صبرا، وأنزه البقاع الّتي لو رآها الملك المصريّ لما استغلى غوطة الشّام بشبرين من شبرا (2) بلد أعارته الحمامة طوقها وحمّلت الثّناء فوق طوقه، ونجم نبات واديها الزّهر حتّى تساوى النّجمان من تحته ومن فوقه تعيّن أن يختار لولايتها من تعيّن ولاؤه، وتمكن في الرّتب علاؤه، وتبيّن في مصالح الولايات احتفاله واحتفاؤه، وشهر وفاؤه بالخدمة فلا شرف بسعي إلّا له منه شينه وراؤه وفاؤه، من شهدت السّواحل الشاميّة في مباشرته أنّه أجرى منها
__________
(1) القانون، في الطبّ، والشفاء في الحكمة، للشيخ الرئيس ابن سينا.
(2) هناك عدة أماكن في مصر تعرف باسم «شبرا»، في الأعمال الغربية. ويلفظها المصريون بضم الشين المعجمة. (انظر الانتصار لواسطة عقد الأمصار: 5/ 9392).(12/318)
المال بحرا، وأفاض الوصف درّا، وشهدت الزّكاة وديوانها المادح أنّه أفلح من زكّاها خبرا وخبرا.
فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يرتّب فلان علما بأنّه الأوحد الذي جمع الأوصاف المتقدّمة، وأسمع من المحامد نتيجة لها من كلا قوله وفعله مقدّمة، وأطلع في آفاق الوظائف كنجوم الجوزاء الثّلاثة رأيه وسيفه وقلمه، واطّلع على محاسن التّدبير فكان في رعايا بلده ممّن تواصوا بالصّبر وتواصوا بالمرحمة، وأنّه الكافي الّذي إذا ولي ثمّر، وإذا صال على المفسدين دمّر، وإذا شامت المهمّات بارق عزم، أسبل وإذا سامت قواه شمّر، وأنّه الأمين إذا تصرّف، والمأمون إذا تعرّف، والشّجاع إذا تحصّنت البلاد بنسبه الحصنيّ:
فسواء في شمول الأمن ما توسّط منها وما تطرّف.
فليباشر هذه الولاية المباركة بعزم يوضّح بشرها، وينجح أمرها، ويقيم في خطبة علاه عذرها، وحزم يثمر مالها وغلالها، وينقع غلّتها ويضع أغلالها، وبأس يدع المفسد من سيفه أو قيده في طوق أو حجل (1)، ويذر السّارق والمارق يشير بلا كفّ ويسعى بلا رجل، مشيّدا لنواحيها بالتّرغيب والتّرهيب على أوثق المباني، مصلحا بين أهل الأهواء حتّى لا يضرّ قول القائل: «رفيقك قيسيّ وأنت يماني»، متفقّدا من الأحوال كلّ جليل وحقير، ناهضا في تلقّي المهمات على قدم التقدم بالعزم الأثير، جاعلا من لدى محجّة عمله لصلاح العشيرة نعم العشير، عاملا بتقوى الله تعالى في كلّ أمر وإليها بالحديث يشير.
وهذه نسخة توقيع بشد الدّواوين بغزّة، من إنشاء ابن نباتة، كتب به ل «علاء الدّين بن الحصنيّ» المقدّم ذكره في التّوقيع قبله، وهي:
أمّا بعد حمد الله على كلّ نعمة جلّت، ونعمة في أهلها حلت وحلّت، ورتبة بانتساب كافيها وباسمه تحصّنت على الحقيقة وتعلّت، والصلاة والسلام على سيدنا
__________
(1) الحجل هو القيد، والخلخال.(12/319)
محمد خير من سلّمت عليه الألسنة وصلّت، وسلّت به سيوف النصر وصلّت، صلاة دائمة ما أمليت على الأسماع فملّت، ولا قابلتها وجوه الملائكة إلا تهلّلت ولا سحب الرّضوان إلّا انهلّت فإنّ منزلة يستقى [من] مهمّات الدّولة خبرها، ويستدعى من جانبي مصر والشّام سبرها، ويحمد إليها من ناحيتي الساحل والجبل سراها وسيرها وتلك وظيفة شدّ الدّواوين المعمورة بغزّة المحروسة التي تلتقط من ساحل بحرها درر الخير المقتبل، وتقول المهمّات الشريفة لسراة استنهاضها: يا سارية الجبل حقيقة أن يتخيّر لها من الشاكرين من يحمد اجتهاده وجدّه، ومن السّابقين إلى المقاصد من يحسن كما يقال تقريبه وشدّه، ومن شكرت في الولايات آلاؤه، ومن إذا علا نظر رأيه في المصالح قيل: دام علاؤه، ومن إذا دبّر جهة قالت بلسان الحال: لقد زاد في المصالح حسنا، ولقد تحصّنت بانتساب ذكره فلا عدمت منه حصنا.
ولذلك رسم بالأمر الشريف أن يستقرّ لما عرف من حزمه وعزمه، ولما جدّد في مقدّمات القدر من رفعه وفي إعلاء المهمّات من جزمه، ولما عهد من هممه في جهات دبّرها، وفي ولايات ثمّرها، وفي وظائف شدّها: أمّا على العتاة فشدّدها وأمّا على المستحقّين فيسّرها، ولما اشتهر من ذكره الّذي لا برح عليّا، ولما ظهر من درايته الّتي جعلت كوكب سعده وسعيه درّيّا، ولما بهر من تميّزه الّذي إذا هزّ عصاه بيد تساقط على المقاصد رطبا جنيّا.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة مباشرة تبيّض لها وجها وعرضا، وإذا أثنى عليه المثني تبرعا كافأه حتّى يكون قرضا، مجتهدا في تثمير الأموال والغلال، ضابطا لأمور الدّيوان حتّى لا يشكو الخلّة ولا الاختلال، قائما بحقوق الخدمة، مستزيدا بشكر الأقوال والأفعال لما يرسخ له من أقسام النّعمة، عليّا على كلّ حال إذا وفّت الفكر قدره وإذا ذكر اللّسان اسمه.
المرتبة الثالثة (من تواقيع أرباب السيوف بأعمال دمشق ما يفتتح ب «رسم» وفيها وظائف)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع بنيابة قلعة القدس، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، كتب بها لشرف الدين «موسى الردّادي» وهي:(12/320)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع بنيابة قلعة القدس، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، كتب بها لشرف الدين «موسى الردّادي» وهي:
رسم لا زالت ولاة أيّامه عالية الشّرف، سامية المستشرف آوية من جنّات خير الدّنيا والآخرة إلى غرف من فوقها غرف أن يستقرّ المجلس السامي علما باهتمامه الوفي، واعتزامه المتيقّظ إذا نام حدّ المشرفي، واستنادا إلى رأيه الّذي يقول نجمه الطّالع: «ما أبعد العيب والنّقصان من شرفي»!!، وإرشاد سعيه إلى أن اتّخذ من الأرض المقدّسة دارا، ومن حرمه الشّريف جارا، واتّقاد ذهنه وشجاعته اللّذين آنس بهما من جانب الطّور نارا، وكيف لا؟ وقد قالت همّته: يا موسى أقبل ولا تخف، وأخرج يدك البيضاء في النيابة تكن أحقّ من اغترف بها الإحسان واعترف.
فليباشر ما فوّض إليه مباشرة يعلو بها شرف اسمه ومسمّاه، ويبدو للاختيار والاختبار فضل التقدّم الّذي إذا بدا له كفاه، وليجر بهذه الرتبة رأيا حسن الإحكام، وليواظب على حفظ هذه القلعة الّتي فتح بها عليه فإنّها من أعظم فتوح الإسلام، وليمدّ عليها من كفايته سورا حول سورها، وليتفقّد رجالها وعددها تفقّد الشّهب في ديجورها، وليردّ عنها بعزمه الرّدّادي عيون الأعادي الزّرق حتّى لا يراع في أرض الحرم ولا حمامات طيورها، وليشكر نعمة أوته إلى هذه المنازل الطّاهرة، وليقرّب ليد آمله طلب خير الدّنيا والاخرة، وليقدّم من الوصايا تقوى الله الّتي عن أصلها تتفرّع نعمه الباطنة والظّاهرة، حتّى يجعل له في الوادي المقدّس ربعا مأنوسا، وجمعا محروسا، وأحاديث حسنة تقول لمستمع مثلها في الآفاق: {هَلْ أَتََاكَ حَدِيثُ مُوسى ََ} * (1) والله تعالى يمدّه بإعانته، ويلهمه شكر ما رزق من فضل مكانه ومكانته، بمنّه وكرمه!
__________
(1) طه / 9.(12/321)
وهذه نسخة توقيع بنيابة قلعة صرخد (1) لمن لقبه «جمال الدين» وهي:
رسم بالأمر لا زال يتخيّر لقلاعه النّائب ويتحيّز (2) من النّائبة، ويمدّها بسحائب برّه وفكره الصّائبة، ويندب لخدمتها كلّ سيف يرضي النّادب (3) ويقيم على غيرها النّادبة أن يرتّب مجلس الأمير لأنّه الكافي الّذي تسرّ الحصون بأمثاله، وتبتسم شرفات القلاع لإقباله، وتنشرح منازلها بتنقّل نجوم الهداية من أفعاله وأقواله، والمليّ بأداء الخدمة، والمرشّح لما هو أوفى وأوفر من الأمور المهمّة.
فليباشر نيابة هذه القلعة القديم أثرها، والشّهير خيرها وخبرها، بعزمة سيف قاطعة، وحدّة بأس ذائعة، ومهابة ذكر لشياطين النّفاق عنها رادعة فإنّها من بناء المردة (4): فليردّ عنها آفة جنسها، وليحط برقى عزائمه حول نفاستها
__________
(1) صرخد: بلدة صغيرة في بلاد الشام ذات بساتين وكروم وهي محدثة البناء، بدئت في عهد نور الدين الشهيد، ولما وصلت عساكر هولاكو ملك التتار إلى الشام هدموا شرفاتها وبعض جدرانها فجددها الظاهر بيبرس. (راجع الصبح: 4/ 105ومعجم البلدان: 3/ 401).
(2) تحيّز من الشيء: تنحّى عنه وتجنّبه انظر اللسان: 5/ 343وأساس البلاغة: 147.
(3) النادب هو المرسل، والمندوب الرسول، (بلغة أهل مكة). والنادبة على الميت معروفة. أنظر أساس البلاغة: 625.
(4) المردة: قوم من النصارى عرفهم العرب باسم «الجراجمة» نسبة إلى قاعدتهم في بلدة جرجومة وعرفهم الروم باسم. ويبدو أن هؤلاء الجراجمة أو المردة كانوا في الأصل عشائر من برّ الأناضول أو ما يليه شرقا من بلاد آسيا الصغرى، جاء بهم الروم إلى جبل اللّكام في زمن متأخر ووطنوهم هناك كرديف عسكري للاستعانة بهم في حروبهم ضد الفرس أول الأمر، ثم ضد المسلمين. وقد استمروا مقيمين في تلك المنطقة بعد الفتح الإسلامي للشام، وبقوا في الوقت ذاته على صلة عسكرية بالروم بعد جلائهم عن البلاد. وتفيد المصادر الإسلامية (البلاذري) وتواريخ الروم بأن الجراجمة أو المردة كانوا يخرجون من جبل اللكام إلى الشام فينضم إليهم الكثيرون من أبناء البلاد من الأنباط والأسرى واللصوص ويغيرون معهم على بلاد المسلمين. وفي عام 708م تمكن الوليد بن عبد الملك منهم وخرّب مدينتهم جرجومة ووزعهم على مناطق مختلفة من شمال الشام ولم يعد لهم بعد ذلك شأن يذكر. ويعلّق الدكتور كمال الصليبي في كتابه «منطلق تاريخ لبنان» على تسمية «المردة» بقوله إن هذا التعريب للفظة لم يرد في المصادر العربية القديمة، ويرجّح أن البطريرك الماروني اللبناني أسطفان:
الدويهي هو أول من أخذ هذا الإسم عن المصادر اليونانية فضبطه بالعربية على هذا الشكل.
واسطفان الدويهي هذا عاش ما بين 1630و 1704م. وفي التسمية الّتي يوردها القلقشندي هنا في هذا التوقيع ما يشير إلى أن المسلمين قد عرفوا هذا الضبط للإسم. وإذا كنا لا نعرف تاريخ هذا التوقيع، فإنه بالتأكيد قبل وفاة القلقشندي سنة 821هـ 1418م، ولا بدّ أن يكون قد مضى وقت طويل على معرفة المسلمين لهذا الإسم حتى يستقرّ مصطلحا مستعملا في الرسائل والتواقيع الرسمية. (انظر منطلق تاريخ لبنان: 41ومعجم البلدان: 2/ 123في كلامه على اسم «جرجومة»).(12/322)
ونفسها، وليجر أمرها على السّدد (1)، وليبنها بلزومه المهديّ أوثق ممّا بناها أولئك بالصّفّاح والعمد، وليرض الآثار السّليمانيّة بسلمان بيت الملازمة على طول الأبد، وليجتهد فيما هو بصدده حتى تدمّر بتدمر (2) جوانح الحسدة بالكمد، مكثّرا بذكرى مهابته لعددها، موفّرا لعددها، مستوجبا لاستجلاب الإنعام عليه باستجلاب مددها.
وهذه نسخة توقيع بنيابة قلعة الصّبيبة (3)، وهي:
رسم بالأمر العالي لا زال إحسانه يعيد إلى الحصون ناصرها وزينها، ويفيد أصحاب الهمم صونها، ويحرسها بمن إذا نظر فيها وحماها كان عونها وعينها أن يستقرّ المجلس الساميّ الأميريّ لما ألفته هذه القلعة المنصورة من تحصينه وتحسينه، وعرفته من ترتيبه في عمارتها وتزيينه، ولأنّه الأدرى بالمصالح العائد نفعها، والأدرب بمناجحها الحميد وقعها، الذي
__________
(1) السّدد: لغة في السّداد.
(2) تدمر: بين حمص والفرات. والإسم من الجذر السامي «دمر» بمعنى «صخر» واسمها الروماني إشارة إلى نخيلها. اشتهرت كمملكة قوية في أواخر القرن الميلادي الثالث في عهد ملوكها من النبط وأشهرهم ملكتها الزبّاء أو زنوبيا. (منطلق تاريخ لبنان: 33ودائرة المعارف الإسلامية: 9/ 253).
(3) قلعة الصبيبة بجوار بانياس. خرّبها المغول ثم أعاد بناءها بيبرس عند فتحه مدينة بانياس عام 1260م. (انظر دائرة المعارف الإسلامية: 6/ 152151).(12/323)
باشرها من قبل فأحسن السّلوك، ونصح هذه الدولة القاهرة فأثنى على سيرته ملوك الحصون وحصون الملوك.
فليعد إلى هذا المعقل المنيع عود الماء إلى مشاربه، وليسر في أرجاء أبراجها مسير القمر بين كواكبه، وليتفقّد أمور رجالها المستخدمين، وليستجلب قلوب حفظتها الأقدمين، متحاشيا من رأي القاصر الغبيّ، قائما بالمهمّات الّتي تزاحم منه بشيخ لا تزاحم بصبيّ، مقيما على رفع الأدعية لهذه الدولة القاهرة، مستزيدا بالشّكر لنعم الله الباطنة والظّاهرة، مجتهدا معتمدا على تقوى الله تعالى الّتي جعلت له مكانا مكينا في الدّنيا وطريقا سهلا إلى الآخرة، والله تعالى ينجح قصده، ويتقبل جهاده وجهده، بمنّه وكرمه.
قلت: هذا كان شأنها حين كان يولّى بها مقدّم حلقة أو جنديّ من الشّام.
لكن قد تقدم في الكلام على ترتيب الممالك الشّامية في المقالة الثالثة أنّها استقرّت في الدولة الناصرية «فرج» في سنة أربع عشرة وثمانمائة [ولاية] (1)
وحينئذ فتكون ولايتها من الأبواب السلطانية. فإن عادت إلى ما كانت عليه أوّلا، عاد الحكم كذلك.
وهذه نسخة توقيع بنيابة قلعة حمص، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، وهي:
رسم بالأمر لا زال يندب لخدمة قلاعه كلّ سيف مختبر، ومجرّب عبرت عليه العبر، ومؤدّ لفرائض الخدمة: إمّا بقيام عند الصّبا وإمّا بقعود عند الكبر أن يرتّب فلان في نيابة قلعة حمص المنصورة إجابة لسؤاله فيما سأله: من التّوفر على مواصلة الصّلوات، ورفع الدّعوات، وجمع ثوابي الجهاد
__________
(1) بياض بالأصل. والزيادة مما يأتي.(12/324)
والخلوات، وتقضّي باقي العمر وادعا، متنسّكا طائعا، إذا بكى بجواره حتّى النّهر العاصي (1) رقّ عليه فما يعدم منه بكا.
فليباشر نيابة هذه القلعة العليّ خبرها ومخبرها، المليّ سماعها ومنظرها، المطلّة على مراكز الرّماح المشهورة، ومهاب الرياح: إمّا بغيث السّهام ممطرة وإمّا بسهام الغيث ممطورة، المجاورة (2) لسيف الله «خالد» فهي بإعراب المجاورة منصورة غير مكسورة، معتبرا لأحوالها، مستدعيا لما تحتاج إليه من عددها وعدد رجالها، محصّنا باستدعاء السّلاح وسلاح الأدعية الجديرين بأمثالها.
وهذه نسخة توقيع بنيابة قلعة جعبر (3)، قبل أن تنقل إلى حلب، وهي:
رسم بالأمر الشريف أعلى الله تعالى في سماء الملك كواكبه، ونصر في أقطار الأرض كتبه وكتائبه، وصرّف بأوامره العالية كلّ نائب وفرّق بها كلّ نائبة أن يرتّب علما بأنّه الكافي الّذي تعقد على همّته الخناصر، ويثني على تقديم عزائمه القديم والمعاصر، وتقوى الجهات وتنصر باسمه بعد أن كانت بغير قوّة ولا ناصر، واعتمادا على كفاءته النافعة، وشهامته
__________
(1) نهر طوله 450كلم. يخرج من نبعين في لبنان هما: نبع اللّبوة ونبع مغارة الراهب. يؤلف هذان النبعان أيضا بحيرة حمص. ويتعرج مجرى النهر بعد ذلك حتى يصل إلى حماة ثم قلعة شيزر، ويمر بمضيق عميق صخري الجوانب وينفذ إلى سهل الغاب. وقد سمي بالعاصي لأنه يسير بعكس اتجاه جميع الأنهار اللبنانية فهي تتجه من الشمال إلى الجنوب. (الموسوعة العربية الميسرة: 1173).
(2) قال ياقوت: «وبحمص دار خالد بن الوليد وقبره فيما يقال. وبعضهم يقول إنه مات في المدينة ودفن بها، وهو الأصحّ» قال: إن هذا الّذي يزار في حمص إنما هو قبر خالد بن يزيد بن معاوية، وهو الّذي بنى القصر بحمص. (معجم البلدان: 2/ 302. والأعلام: 2/ 300).
(3) هي قلعة على الفرات في سوريا، مقابل صفين واسمها دوسر وتغلب عليها رجل يعرف بجعبر بن مالك فسميت به. بينها وبين الفرات مقدار ميل. (مراصد الإطلاع: 3/ 1118).(12/325)
الرّائقة الرّائعة، ودرايته الّتي تضيء بها القلعة وتسمو حتّى يقول الاستيقان: ما هذه شميس (1) هذه شمس طالعة.
فليباشر هذه القلعة القديم أثرها، الحميد خبرها وخبرها، المصغّر (2)
تصغير التّحبيب والتّحسين اسمها ومنظرها، المنفرد سهلها بذيل الآفاق فتمسك (3) بسحبها، المنشدة لارتقاب نهضة حال من علم ابن منصور بها، راقيا صرحها، راعيا بالمصالح سرحها، مجتهدا فيما يقضي لقدره بالرّفعة، ولرائد أمله بخصب النّجعة، جاعلا هذه المنزلة أوّل درجاته: وحسبه بمنزلة يكون أوّل درجاتها قبّة قلعة والله تعالى يسدّد عزمه وحزمه ويحمد في الكفاة خبره كما أحمد فيهم اسمه، بمنّه وكرمه.
وهذه نسخة توقيع بنيابة مغارة زلّايا من إنشاء ابن نباتة، وهي:
رسم بالأمر لا زال يزيد قلاع الإسلام علاء في السّمة والاسم، وفي القوّة والجسم، وفي اعتناء يجمع لعقيلتها بين الحسن والقسم (4) أن يرتّب مجلس الأمير لقيامه بواجب الخدمة، وملازمة فرائضها المهمّة، وعزمته الوفيّة في النفس، الزّائد وصفها على الأمس، العليّ نسبها وحسبها: فتارة إلى العلى وتارة إلى الشّمس.
فليباشر هذه القلعة الّتي علت بنفسها محلّا وسكنا، وقال ساكن مغارها لثاني اثنين من حزمه وعزمه: {لََا تَحْزَنْ إِنَّ اللََّهَ مَعَنََا} (5)، واستعلى ثنيّتها فأنشد: «أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا» (6)، ونادى بقعتها: هذا عزمي وحزمي لا يقال
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية: «كذا بالأصل. وصوابه شميسة».
(2) ليس ثمة تصغير في تسمية «جعبر» وهذا الوصف يناسب قلعة «الصّبيبة» فإنها هي المصغرة.
(3) في الأصل «متمسكا». وما أثبتناه من الطبعة الأميرية.
(4) القسم: النصيب والحظ.
(5) التوبة / 40.
(6) اشتهر هذا الشعر على لسان الحجاج بن يوسف الثقفي، وهو للشاعر المخضوم سحيم بن وثيل الرياحي. (انظر فيما يأتي صفحة: 343حاشية (2)).(12/326)
ولا يازلّايا، مجتهدا في سداد أمورها، وتحصينها بالمهابة القائمة مقام سورها، مستجلبا ما يحتاج إليه وما يرتّب من عدّة، ملازما لزوم الخمس لأوقات مباشرتها لا يوصف بالزّوال بل بطول المدّة.
وهذه نسخة توقيع بولاية القدس، من إنشاء ابن نباتة، وهي:
رسم بالأمر لا زال يشمل بظلّه وفضله، ويجمّل بإحسانه وعدله، وينقّل شمس الولاة من البرج الظّاهر إلى مثله أن ينقل فلان من كذا إلى ولاية القدس الشريف: علما بكفايته الّتي تقدّمت، وشهامته الّتي تحكّمت، وإمامته الّتي سلمت فيما سلّمت، وهمّته الّتي وضحت شمسا فلا تنفس، وقالت لقيامه في المصالح: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوََادِ الْمُقَدَّسِ} (1).
فليباشر هذه الولاية مباشرة تمحو بضياء شمسه ظلما وظلاما، وتقول لنار الحوادث في المشاهد الجليلة: {يََا نََارُ كُونِي بَرْداً وَسَلََاماً} (2) مجتهدا فيما هو بصدده، عارفا بوجوه المصالح حتّى يكون السّكن (3) أعرف بشمس بلده، ناهضا بأمور الدّيوان جليّها وخفيّها، وعبء المهمات حافلها وحفيّها، مستزيدا بالشكر لمباديء النّعم، قائلا في محلّ البلدين المباركين: ما سرت من حرم إلّا إلى حرم.
وهذه نسخة توقيع بولاية غزّة، وهي:
__________
(1) طه / 12. واللفظ: فاخلع نعليك الخ.
(2) الأنبياء / 69.
(3) السّكن: أهل الدار وسكانها.(12/327)
رسم بالأمر لا زال ينشيء في رياض الإحسان غرسا، ويحقّق في استحقاق الكفاة حدسا، ويقدّم من لا تزال الولايات تحمد له يوما وتذكر لقومه أمسا أن يرتّب لما عرف من عزمه الّذي جرّد منه الاختيار والاختبار جميلا، وكمال شخصه الّذي اتّخذه التوفيق فلم يقل: {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلََاناً خَلِيلًا} (1)، واعتماد الّذي يصبح في المحامد ويمسي، وينافس مرباه فهذا يقول: ثمري وهذا يقول: غرسي.
فليباشر هذه الولاية بعزم مقتبل الشّبيبة، وحزم لا يقعد الرأي المحيل تجريده في المصالح وتجريبه، ونفع في المهمّات وردع للمفسدين تحمد موارده ومصادره، وذكر له حسن تلتقط من ساحل الشام جواهره، مستزيدا لما رسخ له من درجات الأمور المهمّة، منزّه العرض عن كلّ لائمة مرجّحا تقوى الله تعالى في كلّ ملمّة والله تعالى يحمد في الخدمة آثاره ويعزّ في ولاية حربه الساقة (2)
إذا هانت الحرب على النّظّارة.
وهذه نسخة توقيع بولاية لدّ (3)، لمن اسمه «نجم الدين أيّوب» وهي:
رسم بالأمر لا زالت نجوم أوامره سعيدة، وظلال عوارفه مديدة، ومنازل الولايات حامدة لمن يقدّمه وطوالع أفقها حميدة أن يرتّب
اعتمادا على كفاءته الّتي تشيّد له مجدا، وتعقب مسعاه حمدا، وتكفي من هذه الجهة وأهلها بلدا وقوما لدّا (4): لما احتوى عليه من موجبات الاصطناع ودواعيه، وفات باستقلاله أمد مساجله ومناويه، واشتمل على الخلال الّتي
__________
(1) الفرقان / 28. واللفظ: يا ويلتي ليتني لم الخ.
(2) السّاقة من الجيش: مؤخّره.
(3) اللّد: قرية قرب بيت المقدس من نواحي فلسطين. والشائع اليوم اسمها بكسر اللام المشددة، وتقرن عادة بالرملة القريبة منها. (معجم البلدان: 5/ 15والموسوعة الفلسطينية: 4/ 37).
(4) لدّ لددا: اشتدت خصومته فهو ألدّ وهي لدّاء. والجمع: لدّ.(12/328)
قضت بتقديمه، والأفعال الّتي استدعت المبالغة في تفخيمه وتكريمه، وسلك من المخالصة ما يوجب الاستحقاق والاستيجاب، ويوصّل حميد مسعاه إلى بلوغ الآمال وإدراك المحابّ.
فليباشر هذه الولاية: عاملا بتقوى الله تعالى فيما يسرّه ويعلنه، معتمدا فيها غاية ما يستطيعه المكلّف ونهاية ما يمكنه وليسوّ بين القويّ من أهل هذه الولاية والضّعيف، ولا يجعل في الحقّ فرقا بين المشروف والشّريف، ويمدّ على كافتّهم رواق السّكون والأمنة، وليجرهم في المعدلة على العادة الجميلة الحسنة، وليأخذ في الأمور الدّيوانيّة بالاجتهاد مراعيا في ذلك حال العمارة، آتيا من الإحسان إلى الرّعية ما يكون للعدل شارة، وافيا في ذلك كلّه بالمطلوب، صابرا على تكاليف المهمّات ولا ينكر الصّبر لايّوب.
وهذه نسخة توقيع بولاية بيسان (1)، لمن لقبه «شهاب الدين» من إنشاء ابن نباتة وهي:
رسم بالأمر لا زالت شهب أوقاته سعيدة، وسحب هباته ساحبة الجود مديدة، وبحور نعمائه الحقيقيّة كبحور الأعاريض المجازيّة: كاملة منسرحة مديدة أن يستقرّ اعتمادا على عزمه المنير شهابه، الكثير توقّده في أوقات المهمات والتهابه، واستنادا إلى كفاءته الّتي يشهد بها ولاؤه في الخدمة وولايته، وشهامته الّتي يجزم بها في الأمر رأيه وترفع في الخدمة ولايته ومهابته، وعلما بسياسته الّتي يقمع بها أهل الفساد، وتكاد تفخر بيسان بفضلها كما فخرت ب «فاضلها» (2) على البلاد.
__________
(1) مدينة عربية من أقدم مدن فلسطين. تقع في سهل بيسان الّذي يعدّ حلقة وصل بين وادي الأردن شرقا وسهل مرج ابن عامر غربا. إسمها القديم بالعبرية: بيت شان. (الموسوعة الفلسطينية:
1/ 484ومعجم البلدان: 1/ 527).
(2) أي القاضي الفاضل: عبد الرحيم بن علي البيساني المتوفى سنة 596هـ. صاحب مدرسة في الإنشاء والترسّل. وكان القلقشندي من المعجبين به المقتفين لأثره في هذه الصناعة.(12/329)
فليقم في وظيفته على قدم اجتهاده، وكرم ارتياده واعتياده، شافيا لأحوال أهل ناحيته من الوصب (1)، مثمّرا الغلال والأموال بعزم قد ارتفع وانتصب، ظاهرا في الخدمة مجهوده، مليّنا لحديد من عصى عليه في عمله كما أورثه داوده والله تعالى يوفّقه.
وهذه نسخة توقيع بولاية صيدا، لمن لقبه «شجاع الدين» ب «المجلس العالي» وهي:
رسم بالأمر العالي أنفذه الله في الأقطار، ونجّم بولاته أيّام الأوطان والأوطار، وأجرى بشكره سفن الركائب وركائب السّفن إذا سفّ وإذا طار أن يستقرّ فلان ركونا إلى عزمه وحزمه، وسكونا إلى اهتمامه الّذي حكم فيه الاختبار بعلمه، وعلما أنّ للولايات به الانتفاع، ولحصونها الامتناع والارتفاع، وأنّه إذا ولي رعى وإذا أقوى (2) كان أعصم راع، وإذا فكّر في الرأي ووقب (3) في المهمّ كان نعم الشّجاع.
فليباشر ولاية عمله ناهضا بأعبائه، رافعا بالعدل لأرجائه ورجائه، حريصا على طيب الأخبار المنتشرة من كافور صبحه ومسك مسائه، وليتفقّد أحوال برّه وبحره، ويتيقّظ لذلك البرّ وجهره، وذلك البحر وسرّه، حتّى يتحدّث البحر عن عزمه ولا حرج، ويسير ذكره كنسيم الرّوض لا ضائع الصّنع ولكن ضائع الأرج، ويعتمد مصالح النواحي وسكّانها، والأموال وديوانها، والجهات وضمّانها، ونجوم التقسيطات في البلدة وتحرير ميزانها، ويجمع بين اللّين والشّدّة بسياسة لا يخرج بها الرّأي عن إبانها، وتقوى الله تعالى هي العمدة فعليها يعتمد،
__________
(1) الوصب: الوجع والمرض والتعب. الجمع: أوصاب.
(2) أقوى: نزل بالقفر.
(3) وقب: دخل.(12/330)
وعلى ركنها يستند، حتّى تجعل له على المصالح أيدا، وحتّى تثني نحو الثناء عليه عمرا وزيدا، وحتّى تجعل له بأسا في الأعداء يكيد كيدا، وحسن ذكر في البلد يصيد «صيدا» (1).
وهذه نسخة توقيع بولاية قاقون (2)، من إنشاء ابن نباتة وهي:
رسم بالأمر لا زال يندب لمصالح الولايات سيوفا، ويقدّم ظنّا في الكفاة يعلم أنّه سيوفى، ويدني من ثمرات الإنعام والإرغام لأيدي المجتنين قطوفا أن يستقرّ اعتمادا على همّته الشّائدة، ودرايته السّائدة، وأمانته الشّاهدة، وصفات عزمه الّتي هي في الولايات «معن» وهي «زائدة» (3) مجتهدا على أن يثمر عمل ولايته فتزكو أعماله، وترد عليه المهمّات فتتلقّاها بالكفاءة أفعاله المعروفة وأقواله، وتشهد منه الأحوال معنى بل معاني يثبت بها في الأذهان قبوله وإقباله.
وهذه نسخة توقيع بولاية صرخد (4)، من إنشائه، لمن لقبه «جمال الدين» وهي:
رسم بالأمر أعلاه الله تعالى، وبلّغ بأيّامه الرتب وأهلها آمالا، وزان الولايات بما ينتج من مقدّمة فعله وقوله جمالا أن يرتّب مجلس الأمير لأنّه الكافي الّذي عرفت في المهمّات همّته،
__________
(1) صيدا: مدينة على الساحل اللبناني بين بيروت وصور.
(2) قاقون: حصن بفلسطين قرب الرملة. قال ياقوت: وقيل هو من عمل قيسارية من ساحل الشام.
(معجم البلدان: 4/ 299).
(3) الإشارة إلى معن بن زائدة الشيباني: من أشهر أجواد العرب، وأحد الشجعان الفصحاء. توفي سنة 151هـ.
(4) راجع ص 322من هذا الجزء. هامش (1).(12/331)
وألفت عزمته، وأديرت أوصافه عقارا صرخديّة (1) ولا عجب أن سرت بالنّواحي خدمته، والنّاهض الّذي وفّى الولاية حقّها، وأدّى الأمانة وسلك طرقها، وأطلع في سماء الولايات شهب رأيه فحمى وزان أفقها.
فليباشر هذه الولاية بعزم سنيّ، وحزم سريّ، ومهابة تأخذ للضّعيف من القويّ، وديانة تمشي من الكفاءة والأمانة على صراط سويّ، مثمرا للمال والغلال، راقما لحلل الذّكر بحسن الخلال، محسّنا لذكر ولايته حتّى يجمع لها بالوصف والنّعت بين الحسن والجمال وإيّاه والجبن عن المهمّات فما كل جبن صرخديّ محمود العاقبة والمآل.
وهذه نسخة توقيع بولاية سلميّة (2)، من إنشائه، كتب به ل «شهاب الدين الحجازيّ» وهي:
رسم لا زال يطلع شهب الولاة مشرقة، وينشيء سحب الإحسان مغدقة، ولا برحت أقلام علائمه كالغصون بأحسن ثمرات الدّوح مثمرة مورقة أن يرتّب علما أنّه الناهض الّذي إذا ولي كفى، وإذا طبّ الولاية المعتلّة بتقديم المعرفة شفى، وركونا إلى عزمه الّذي أبى لشهابه أن يخمد، وكفاءته الّتي قضت لاسمه بالعود: فإنّ العود أحمد، واعتمادا على سيرته الحسنة السّمعة، الحقيقة بالرّفعة، وعلى سطوته
__________
(1) كانت مشهورة بالخمر الصرخديّ. وفي ذلك يقول الشاعر:
ولذّ كطعم الصرخديّ تركته ... بأرض العدا من خشية الحدثان
(معجم البلدان: 3/ 401).
(2) ضبطها ياقوت بتسكين الميم وياء مثناة من تحت خفيفة. قال: ولا يعرفها أهل الشام إلا بسلميّة بالتشديد وهي بليدة في ناحية البرية من أعمال حماة بينهما مسيرة يومين. وكانت تعدّ من أعمال حمص. (معجم البلدان: 3/ 240).(12/332)
بالمفسدين الّتي حسّنت أن يقال فيه: «لقد أوقع الجحّاف بالبشر وقعة» (1)
فليباشر هذه الولاية بعزمه المتوالي، واجتهاد رأيه الّذي يطرب بارقه المتعالي، جاريا على عادة سدده، مجتهدا فيما هو بصدده، مسدّدا إن شاء الله في القول والعمل، مانعا لناحيته الأعرابيّة من تطرّق الخلل وتطرّف الجلل، مصلحا بالتّدبير عمل ما يشهد بعزائمه الوفيّة، وهممه الجليّة، وإذا سأل عن شدّ الولاة واحد قيل: سل ميّة عن سلميّة.
وهذه نسخة توقيع بشدّ متحصّل قمامة (2)، من إنشاء ابن نباتة وهي:
رسم بالأمر بسط الله تعالى على الأمم مهابته وظلّه، وبأسه وفضله، ووجّه إليه آمال الخلق من كلّ قبلة، وأعلى آراءه الّتي يقال لعدلها: «لقد جدت حتّى جزت في كلّ ملّة» أن يرتّب مضافا لما بيده، واستنادا إلى صحيح خبره في الكفاءة وعلوّ سنده، وارتيادا لهممه الّتي إن رواها مسلم عن طوعه رواها نصرانيّ عن تجلّده، وسكونا إلى حركته الّتي تحصّل مالا، وتصل إلى مالا، وتستخرج الوفر من مكمنه، وتأخذ الحقّ [من] قدّام يدي الماثل ومن خلف أذنه، وعلما أنّ ما لمتحصل قمامة مثل عزمه المختار، ورفقه الذي يستنزل درّ القصد المدرار، واجتهاده الّذي زرعه المستنهضون فاستوى على سوقه يعجب الزّرّاع ليغيظ بهم الكفّار.
فليباشر هذه الوظيفة بشدّة ولين يجعل كلّ واحد منهما في موضعه ومقامه، وحقّ منير يجعل سبت نور كلّ لياليه وأيامه، وأمانة مدلّة، وكفاءة مظلّة،
__________
(1) صدر بيت للأخطل قاله في حضرة عبد الملك بن مروان:
لقد أوقع الجحّاف بالبشر وقعة ... إلى الله منها المشتكى والمعوّل
والجحّاف اسم رجل، والبشر اسم جبل. (معجم البلدان: 1/ 427).
(2) هي كنيسة القيامة في بيت المقدس. قال ياقوت: والصحيح أن اسمها «قمامة» لأنها كانت مزبلة أهل البلد فلما صلب المسيح في هذا الموضع عظموه. (معجم البلدان: 4/ 396).(12/333)
وصيانة توجب مزيد الخير إذا له، ومهابة إذا أدخلت مستخرج قمامة أصلحته وجعلت أعزّة أهلها أذلّة لا يثني هممه النّفيسة، ولا يلتفت كما يقال لتبخير الكنيسة، بل يستعمل فراسة تروع من حمل عن أداء الحقّ بهتانا، ومناقشة تكشف عن جبال التّجلّد أكنانا، ورأفة مع ذلك بالظّاهري العجز: ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانا، ومتابعة للضّرائب القديمة لا يصرف عنها، واستخلاص ما على الرّأس حتّى يقال: «ليس تحت الزّرقاء أخضع منها»، عاملا بتقوى الله تعالى فإنّ أهل معاملته أهل ذمّة، مجتهدا في استحقاق ما يترشح له من ولايات الأمور المهمّة.
الصنف الثاني (ممّا يكتب لأرباب الوظائف بدمشق تواقيع أرباب الوظائف الدّينية وهي على ضربين)
الضرب الأوّل (ما يكتب لمن هو بحاضرة دمشق، وهو على ثلاث مراتب)
المرتبة الأولى (ما يفتتح ب «الحمد لله»)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
توقيع بنظر الحسبة (1) بالشّام، كتب به للقاضي «نور الدين عليّ بن أبي الفرج» ب «الجناب الكريم» وهو:
الحمد لله الّذي جعل مقام الأولياء عليّا، ورقى بهم إلى طور العناية
__________
(1) كان المحتسب أكثر الموظفين نفوذا من بين أولئك الذين كان لهم اتصال مباشر مستمر بالجمهور فقد اتسعت سلطاته بحيث لم يبق كثير من مجالات الحياة الّتي لم يكن له عليها بعض الإشراف، ومن ثم فقد أصبحت الصفات الّتي تطلب فيه كثيرة. فكان يجب أن تكون له معرفة بالشريعة والدين، وأن يكون تقيا عف اللسان نقيّ القلب صبورا شديدا في الحق، عارفا بشؤون الصنّاع وطرق تدليسهم. (انظر: الحسبة والمحتسب في الإسلام: ص 34).(12/334)
فاحمدوا الله على ما ألهم خليفتكم، من إثابة أهل السوابق منكم بأوفى سعيهم، والتطوّل على عامّة جنده بما شملهم برفقه وحسنت عليهم عائدته، وما تعطّف به على أهل التفريط: من إقالة هفواتهم وعثراتهم، حتى صرتم بنعمة الله إخوانا مترافدين، قد أذهب الله أضغانكم ونزع حسائك (1) صدوركم، وردّ ألفتكم إلى أحسن ما يكون، وصرتم بين متقدّم بغناء، ومقمع بإحسان فحافظوا على ما يرتبط به راهن النّعمة، ويستدعى به حسن المزيد، إن شاء الله تعالى.
النوع الثاني (من الأمانات التي تكتب لأهل الإسلام، ما يكتب به عن الملوك وهو على ضربين)
الضرب الأوّل (ما كان يكتب من هذا النّمط في الزمن السابق
، مما كان يصدر عن وزراء الخلفاء والملوك المتغلّبين على الأمر معهم ولهم فيه أسلوبان)
الأسلوب الأوّل (أن يصدّر بالتماس المستأمن الأمان)
وهذه نسخة أمان من هذا الأسلوب، كتب بها أبو [إسحاق بن] (2) هلال الصابي، عن صمصام الدّولة، بن عضد الدّولة، بن ركن الدّولة، بن بويه الدّيلميّ لبعض من كان متخوّفا منه وهو:
هذا كتاب من صمصام الدّولة وشمس الملّة أبي كاليجار، بن عضد الدّولة
__________
(1) جمع حساكة، وهي الحقد، والعداوة.
(2) ساقطة من الأصل. وأبو إسحاق الصابيء هو إبراهيم بن هلال المتوفى سنة 384هـ. كان نابغة كتاب جيله. قبض عليه عضد الدولة وسجنه. ولما ولي صمصام الدولة أطلقه سنة 371هـ. (وفيات الأعيان: 1/ 52ويتيمة الدهر: 2/ 241).(12/335)
المحروس، على عادة من تقدّمه في ذلك، والقاعدة المستمرة، بالمعلوم المستمرّ للوظيفة المذكورة، إلى آخر وقت: وضعا للشّيء في محلّه، وتفويضا لجميل النّظر إلى أهله.
فليباشر ذلك آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، سالكا من حسن الطريقة ما يحمد به ويشكر، ويسرّه حين تتلى سور محاسنه وتذكر، متفّقدا أحوال العامّة ومعايشها في كلّ آن، ملتفتا في أمر ما يكال أو يوزن إلى قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلََا تُخْسِرُوا الْمِيزََانَ} (1)، مشمّرا عن ساعده في الإجراء على العوائد المستحبّة، محترزا فيما يأمر به: فإنّ الله تعالى لا يخفى عليه مثقال حبّة ولينظر في الدّقيق والجليل، والكثير والقليل، وليستكثر الأخبار، وليستعلم الأسعار، ولا يغفل عن تعاهد السّوقة آناء الليل وأطراف النّهار، وليلاحظ أمر السّكّة السلطانية بإصلاح العيار، وضبط أحوال النّقود بمقدار، وليقم من خدمته رقيبا على من اتّهم في صنعته أو استراب، وليبالغ في النّظر في أمر المآكل والمشارب فإنّ أكثر الدّاء من الطعام والشّراب، وليزجر بتأديبه من افترى، أو تلقّى الرّكبان أو غدا في الأقوات محتكرا وليعلم أنّه قلّد أمر هذه الوظيفة المباركة: فليختر من يستنيب، وليبصر كيف يسلك برعايته من حكم عليه فما يلفظ من قول إلّا لديه رقيب والوصايا كثيرة وأصلها التقوى الّتي هي أجلّ ما يقتني المؤمن ويكتسب، وأجدر بالزّيادة: {وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لََا يَحْتَسِبُ} (2). والله تعالى يديم علاه، ويتولاه فيما تولّاه.
وهذه نسخة توقيع بنظر الجامع الأمويّ، من إنشاء الشيخ جمال الدّين بن
__________
(1) الرحمن / 9.
(2) الطلاق / 2.(12/336)
نباتة، كتب به للقاضي «عماد الدين بن الشيرازي» في الدولة الصالحية (1)
«صالح بن الناصر محمد» ب «الجناب الكريم» وهي:
الحمد لله الّذي أذن لبيوته أن ترفع فرفع عمادها، وأعاد أحسنها إلى نظر من صرّف أمورها بما حسن وصرفها عمّا دهى، وأحيا الآثار الأمويّة حتّى غدت كالهاشمية تدعو أجوادها وسجّادها، وأنجز وعد أهلها بمن أشارت إلى مباشرته أعلام أعلام المنابر بالأصابع ونصّت المآذن أجيادها.
نحمده على ماهيّأ من الفوائد، وهنّأ من العوائد، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة يقوم بها الخطاب شاهدا ويقوم بها الخطباء في المشاهد، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أوتي الجوامع من الكلم وجعلت له الأرض من المساجد، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين عمروا بيوت العبادات بهدايته، وظهروا في مجال الجمع وسجال الجموع تحت رايته، صلاة متصلة السّير كالسّيل، مسبلة الغمام كالذّيل، واضحة كردع الخلوق لدلوك الشّمس (2) فائحة كفتيت المسك إلى غسق اللّيل.
وبعد، فإنّ أولى الأمور الدّينية بتقديم الاهتمام، وتقرير الاعتزاء إلى الاعتزام، وتشمير ساعد الرّأي وزهراته على الأكمام أمر تكون إقامة الصّلوات أحد أركانه، وتدبير المصالح مشيرا إلى علوّ شانه، وأرزاق العلماء والصّلحاء تستدرّ من هطّاله وهتّانه.
وكان الجامع الأمويّ بدمشق المحروسة لهذه الأركان بمنزلة الأسّ الرّاسخ تمكينه، والفرع الشّامخ في وجه السّحاب عرنينه، وبنية زمان بني أميّة
__________
(1) دولة الملك الصالح، عماد الدين اسماعيل أبو الفدا من أول سنة 743هـ إلى سنة 746هـ.
(الخطط التوفيقية: 1/ 100).
(2) ردع الخلوق: أثره والخلوق نوع من الطيب، أعظم أجزائه الزعفران. ودلوك الشمس: زوالها عن كبد السماء. وفي التنزيل العزيز: {أَقِمِ الصَّلََاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}.(12/337)
الذين عفا شرف مفاخرهم وما عفا شرفه وفخره، ووكر الإسلام الّذي مضى لبد (1) أمثاله وما بقي إلّا نسر السماء ونسره ذو المرأى الشارح والفضل المشروح، والحسن الّذي إن تغالى في وصف الجوامع قوم قيل: باب الزيادة مفتوح تفخر به دمشق وحقّ لها على كلّ مصر أن تفخر، وتبعث نظرات حسنه الفخر من حملة فصوص الترخيم إلى الأسود والأحمر يحمد المجاور به مغناه وغناه، ويسع أرباب العلم والمقاصد ناديه ونداه، ويطالع المسك سطور مياهه المتجعّدة فأوّل ما يقرأ من تنبيه عزمه باب المياه وقد عهد أن يتولّى نظره كلّ سنيّ المفاخر، سريّ المآثر، كريم الفرع والأصل، ماضي العزم كالنّصل، حائز من أقلامه أمد العلياء وقصب الخصل (2)
ولذلك رسم بالأمر الشّريف لا زال وجه الفضل بدولته الشريفة واضحا، وميزان العدل والإحسان راجحا، ولا زال في كنف من منّ به على الدّين والدنيا وآتاهما صالحا أن يفوّض إلى فلان نظر الجامع الأمويّ المذكور: لما عرف من أنه الرئيس الّذي ما ساد سدى، والكامل الّذي إذا آنس [سار] (3) نار فكرته وجد على النار هدى، وأنّه باشر نظر هذا الجامع قديما فجمّله، ورصد سناه فكمّله، واستشهد في محضر ديوانه على النّزاهة أقلامه المعدّلة، وتدبيره المعدّ له، وكثرّ أوقافه وكانت قد اضمحلّت، وشيّد عمائره وكانت قد استقلّت، وملأ حواصله وكانت أقلام المكتسبة تنشد: «أسائلها أيّ المواطن حلّت»، ولما ألف هذا الجامع المعمور من عواطفه، وعرف من عوارفه، وشهد من جلوسه لمصالح وقفه أحسن الله مكافأة جالسه وواقفه، فأثبت في صدر المحافل أنّ الله
__________
(1) لبد: اسم آخر نسور لقمان بن عاد سمّاه بذلك لأنه لبد فبقي لا يذهب ولا يموت كاللّبد من الرجال اللازم لرحله لا يفارقه. قال النابغة:
أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد
(اللسان: 3/ 386).
(2) الخصل في النضال: الخطر الّذي يراهن عليه.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/338)
تعالى قد رزقه من الفضل جسيما، وكتب له من شرف الاكتساب والانتساب حديثا وقديما، وألقى إلى يده قلم كفاءة وأمانة كان كرمها للآملين حصينا وكان قلمها للخائنين خصيما كم وفّر به المصالح فوفّى، وكم جمع بهمّته المحاولة مالا فجهّز به من جند الدّعاء صفّا، كم سرّ بمناقبه سراة سلف ما منهم إلّا جواد لا يرضى في سبق المكارم بحاتمه، وكاتب يكبر عن قول الواصف: إنّ ياقوتا في فصّ خاتمه، ورئيس هو أجلّ ما أهدت شيراز إلى دمشق من عالي طراز الفضل وعالمه.
فليباشر ما فوّض إليه بعزم لا تفلّ مضاربه، ورأي لا تأفل كواكبه، ومعدن وفاء بالمنصب لا تبرح لجناة الخيانة مهالكه ولجناة الجنان مطالبه، ناظرا في حسن وظيفتها باجتهاد لا يملّ من النّظر، مثمرا لأوقافها بغصن قلمه الّذي لا ينكر لأصله الصّائب أطايب الثّمر، ملاحظا لمباني هذا الجامع بسعادته: وإنّ السّعادة لتلحظ الحجر، صارفا لذوي الاستحقاق مستحقّهم كما عهدوا من إمام براعته المنتظر، مجتهدا على أن يرضي الوظيفة والقوم، معينا عدوى أنامله الخمس على عددها من فريضة اللّيلة واليوم، عالما أنّ الله تعالى قد أحيا هذا الدّيوان فإنّه كما علم أصل في بابه، آمرا بما يقترح لنظام هذا الدّيوان وكتّابه، منتقدا حال من إذا عمّر دواة في وقف كانت سببا لعمرانه أو سببا والعياذ بالله تعالى لخرابه، مطالبا من ظنّ أنّ حسابه يهمل في دهر هذه المباشرة «فكان حساب الدّهر غير حسابه»، متخيرا من الكفاة كلّ مأثور الفضيلة، ومن الأمناء كلّ مأمون الرّذيلة، ومن القوّام كلّ من لا يقعد عن الواجب، ومن الوقّادين كلّ من لا يعاب بطول الفتيلة، جاعلا تقوى الله تعالى، في كلّ ما يأتي ويذر سائقه إلى الفوز ودليله والله تعالى يمدّه بالسداد، ويصل مفاخره بالسّند ويحرس شرف بيته من السّناد، ويجعل كلّ منصب كريم باسمه وقلمه كما قال الأوّل:
«رفيع العماد طويل النّجاد».
وهذه نسخة توقيع بنظر مدرسة الشيخ أبي عمر، من إنشاء ابن نباتة، كتب
به للقاضي «تقيّ الدين» بالجناب العالي وهي:(12/339)
وهذه نسخة توقيع بنظر مدرسة الشيخ أبي عمر، من إنشاء ابن نباتة، كتب
به للقاضي «تقيّ الدين» بالجناب العالي وهي:
الحمد لله الّذي عمر عهد التّقى بتقيّه، وأقرّ نظره بمشاهدة أبيض العرض نقيّه، وأخصب منازل الأولياء بمن ينوب تثميره وتدبيره عن الغيث مناب وليّه، ومن إذا شهد مقام الزّهّاد بمعروفه شهد سداد العزم بسريّه.
نحمده على جليّ اللّطف وخفيّه، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة وافي الحقّ وفيّه، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده أكرم بعبده ونبيه، ورسوله وصفيّه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة يمزج أرجها كافور صباح النهار بمسك عشيّه.
وبعد، فخير النظر ما كان به الثّواب مأمولا، والعمل مقبولا، والآخرة للناهض فيه خيرا من الأولى، وتخيّر الأكفاء لمناصبه الدّينية سببا لخير الدّارين موصولا.
ولمّا كانت المدرسة الصالحية بجبل الصالحية المعروفة بالشيخ العارف أبي عمر: رضي الله عنه وأرضاه، وسقى سبل الغيث آثاره الطاهرة وثراه، مما يتعيّن في مصالحها حسن النّظر، ويتبين في القيام بأمرها فضل الآراء والفكر إذ هي زاوية الخير النافعة، ومدرسة الذكر الجامعة، وعشّ القرآن المترنّمة أطياره بخفقان القلوب الخاشعة، وصفّة (1) الفقراء الذين لا يسألون النّاس إلحافا، والأصفياء من الطّمع الذين لا يتقاضون الدهر إنصافا وإن صافى، ومرتكض سوابق الأعمال والأقوال، ومقرّ القرّاء والقراءة على ممّر الليالي الطوال، ومعدن التّلاوة المأثور غناؤها في ذلك الجبل وما كلّ المعادن ولا كلّ الجبال، والبنية لله وتحتاج من ينظر بنور الله في وقفها، ويحفظ مسالك جمعها وصرفها، وينمّي حال درهمها بتدبيره الوافي: فربّما أبقتها الأحوال منه على نصفها.
__________
(1) الصّفة في اللغة: الظلّة، والبهو الواسع العالي السقف. والصّفّة مكان مظلّل في مسجد المدينة كان يأوي إليه فقراء المهاجرين ويرعاهم الرسول، وهم أصحاب الصّفّة.(12/340)
وكان فلان ممّن لحظ أمورها على بعد فشغف الملحوظ باللّاحظ، وحفظها على نأي فكأنّما روت بالإجازة عن الحافظ، وأدار عليها من رشفات قلمه نغبة السّاقي، وأنهلها شربة مضى بها ما مضى من تعدّد المال: وفي الجرائد باق يطلب الباقي وسأل أهلها بعد ذلك ملازمته للنّظر فلزموا، ورفعوا قصصهم في طلبه لهذه الوظيفة فجزموا وكيف لا؟ وهو نعم الناظر والإنسان، وفي مصالح القول والعمل ذو اليدين واللّسان، وذو العزائم الّتي تقيّدت في حبّه الرّتب: «ومن وجد الإحسان»، والمتقدّم فعله ورأيه في العاجل والآجل، والمأمون الّذي يعزى إلى عقيلة نسبة الرشيد ولا عجب أن يعزى المأمون إلى مراجل (1) كم جرت ألسنة الأوقاف بأوصافه، وكم روى الجامع الصحيح خبرا عن مسلّم عفافه، وكم جدّد لبنائه زخرفا بعد ما كاد نادب الرّسوم يقف على أحقافه كم وفّر على الأيتام ميراث وفرها، وكم قال اختبار الملوك الباقية:
«لأشكرنّك ما حييت» فقال ماضي الملوك ذوي الأوقاف: «ولتشكرنّك أعظمي في قبرها» فاقتضى الرأي أن يجاب في طلبه المهمّ سؤال القوم، وأن يتّصل أمس الإقبال باليوم، وأن تبلغ هذه الوظيفة أملها فيه بعد ما مضت عليها من الدّهر ملاوة، وهذه المدرسة الّتي لولا تداركه لكانت كما قال الخزاعيّ:
«مدارس آيات خلت من تلاوة».
ولذلك رسم بالأمر الشريف لا زال يراعي مصالح المؤمنين أن يفوّض إليه النّظر على هذه المدرسة المعمورة، وأوقافها المبرورة، إجابة لسؤال من فيها من جماعة الفقراء ورغبتهم فيه، وارتقابهم لعزمه الّذي إذا نظر حالها الأوّل تلا فيه تلافيه على أن يتّبع في أمرها شرط الواقف برأى غير قاعد، وإن كان لا
__________
(1) يشير إلى المأمون من هارون الرشيد وأمه مراجل، وهي فارسية. قال في فوات الوفيات: «وأمه أم ولد تسمى مراجل». وفي هامش ص 142من الجزء الرابع من الأعلام عن كتاب البدء والتاريخ: وأمه باذغيسية (بالذال المعجمة) تسمى مراجل. وقد أورد صاحب وفيات الأعيان «بادغيس» بالدال المهملة.(12/341)
يزيد فيها على أربعمائة نفر إلّا أن يزيد ريع الوقف وهو إن شاء الله ببركته وهمّته زائد.
فليباشر ما فوّض إليه مباشرة من إذا بدأ أعاد، وإذا دعي لمثل هذا الحال الضّعيف طبّ وعاد، ومثمرا لمالها على عادة غصن قلمه الأخضر أثمارا، مستخلصا للبواقي من أربابها الّتي تنهب العين وتدّعي لفتراتها انكسارا، قائلا في حال هذه المدرسة بالعطف، مساويا في المواساة بين فقرائها عند الميزان والصّرف، نازلا بنور بشره وودّه بينهم منازل القلب والطّرف، مجهّزا لجيش عسرتهم فإنّهم جمع للتّلاوة والصلوات، متطلّعا لخبرهم فإنّهم أجناد صفوف الأسحار وسلاحهم الدّعوات، وتقوى الله تعالى مشتقّ منها اسمه فلتكن شقيقة نفسه في الخلوات والله تعالى يحفظ عليه حظّا نفيسا، وقدرا للنجوم جليسا، ويحيي به ميّت الوظائف حتّى يقال: أسليمان أنت أم عيسى؟.
وهذه نسخة توقيع بخطابة الجامع الأمويّ، من إنشاء ابن نباتة، كتب به باستمرار القاضي تاج الدين ب «الجناب العالي» وهي:
الحمد لله الّذي رفع للمنابر رأسا باستقرار تاجها، وجمع لصدور المحاريب شملا بعوائد ابتهاجها، وزيّن مواقع النّعم بالتّكرار كما تزان لآليء النّظام بازدواجها، وبيّن مطالع الفرج بعد الغمّ: وما الدّهر إلّا ليل غمّة ثم صبح انفراجها.
نحمده على معاد الآمال ومعاجها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تمشي البصائر إلى الحقّ بسراجها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله القائم على المنابر لمداواة الفهوم وعلاجها، ومداراة الخصوم وحجاجها، القائل له تأديب ربّه: {وَاصْبِرْ وَمََا صَبْرُكَ إِلََّا بِاللََّهِ} (1) آية يسري
__________
(1) النحل / 127.(12/342)
الفطن على منهاجها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه بحور النّعم والنّقم عذبها وأجاجها، وبدور مساجد التّقى ومشاهد الوغى عند عجاج ليلها وليل عجاجها، صلاة كصلاتهم آمنة من خداجها (1)، ما مدّت نفحات الروض إلى مخالطة سيرهم يد احتجاجها، ومازجت معاليهم النّجوم فحسن بكأس الثّريّا شرف امتزاجها.
وبعد، فإنّ أولى الناس باستقرار مناصب الدين العريقة، واستمرار علوّ الدّرجات: إمّا من المراتب مجازا وإمّا من المنابر حقيقة، واستمطار الوظائف بعيادة فضله ولا سيّما أعواد الخطابة، واستبصارها بلفظه ولا سيّما إذا سلّمت الرّاية العباسيّة من نطقه لعرابة من درج من عشّ فروعها خافقا عليه جناحا علميه، وصعد إلى عرشها مقبّلة بنظرات الجفون المتسامية آثار قدميه، وأعرق نسبه في موطن مكانها المكين، وبلغ مقامه مقام سلفه أربعين سنة في الطّلوع بأفقها المبين، وقال استحقاق ميراثه: «وماذا تدّري الخطباء (2) منّي» «وقد جاوزت» بمقام السّلف «حدّ الأربعين»، ومن إذا سمعت خطابته قال الحفل:
لا فضّ فوه، ولا عدم البيت ولا بنوه، ومن إذا طلع درج المنبر قال المستجلون لسناه: أهلّ البدر؟ قيل لهم: أخوه، ومن إذا قام فريدا عدّ بألف من فرائد الرجال تنظّم، وإذا أقبل في سواد طيلسانه واحدا قيل: جاء السّواد الأعظم.
__________
(1) أخدج الصلاة وخدجها: لم يحكمها.
(2) نثر بيت لسحيم بن وثيل الرياحي المتوفى سنة 60هـ. وهو شاعر مخضرم عاش في الجاهلية والإسلام، وجاوز عمره المئة. والرواية «الشعراء» بدلا من الخطباء. وحلّ البيت:
وماذا تدّري الشعراء مني ... وقد جاوزت حدّ الأربعين
وقبله:
أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
صليب العود من سلفي رياح ... كنصل السيف وضاح الجبين
وفي بعض الروايات «وماذ يبتغي الشعراء مني». (العقد الفريد: 4/ 208وشرح أبيات مغني اللبيب: 4/ 10والأعلام: 3/ 79).(12/343)
ولما كان فلان هو معنى هذه الإشارة، وفحوى هذه العبارة، وصدر هذا التّصدير: ومن سواه أحقّ بصفات الصّدارة؟، ومن إذا ضرب المثل بالخطابة النّباتيّة (1) في حلب قال لخطابته بدمشق: «إيّاك أعني فاسمعي يا جارة» ومن نشأ في محلّ فخار طيب المعاقد، ومن وضع رجله على المنابر ومدّ عزمه إلى الفراقد، ومن شمّر في أوائل عمره إلى العلياء وحيدا وخلّف دونها من أنداده ألف راقد، ومن إذا صعد للخطابة أنشد الحفدة:
ولمّا رأيت الناس دون محلّه ... تيقّنت أنّ الدّهر للنّاس ناقد
[وكان] (2) الجامع الأمويّ المعمور بذكر الله تعالى بدمشق المحروسة هو الذي كلّ بنان إلى حسنه يشير وكلّ ذي مذهب إذا عاين تصنيف وضعه قال هذا لفقه المحاسن هو الجامع الكبير، [تعيّن أنه المسلّم ليده] (3) المعلم بطرازي نسبه ورشده، المقدّم ليد نصرته سيف خطابة لا يخرج بيد الاستحقاق عن حدّه، تكاد المنابر تعود للنّشأة الأولى طربا لسجع بيانه، يسهب ويقول الناس ليته لا اختصر، ويودّون لو لبس كلّ يوم سواد أهبته وزيد فيه منهم سواد القلب والبصر، وعارضه من العظماء الكفاة من نوى بدلا فأبى حنوّ الدّولة إلا عطفا، ونازله وارد من القضاء ولكن أنزل الله عليه مع القضاء لطفا.
ولذلك رسم بالأمر الشريف أن يستقرّ على عادته في خطابة الجامع المذكور، وما يتعلق بذلك: من تدريس وتصدير، وتقرير وتقدير، وتأثيل وتأثير، ومحكوم بالتفويض إليه ومحكّم، ومرسوم لا يغيّر عليه ما رسم به وما يرسم، وأن يمنع دليل الاعتراض ويدفع، ويكفّ حتّى تتصل العناية بهذا البيت الذي هو من بيوت أذن الله أن ترفع، وحتّى يعلم أنّ قوما أحسنوا صحبة الدّول
__________
(1) نسبة إلى ابن نباتة، عبد الرحيم بن محمد بن اسماعيل الفارقي: صاحب الخطب المنبرية.
سكن حلب واجتمع بالمتنبي في ديوان سيف الدولة. توفي سنة 374هـ. (الأعلام: 3/ 347 وابن خلكان: 3/ 190).
(2) الكلام في الأصل غير مستقيم، وهو: «وكانت خطابة ميزابه المسلم لرشده».
(3) الكلام في الأصل غير مستقيم، وهو: «وكانت خطابة ميزابه المسلم لرشده».(12/344)
فسعدوا، ونبّهوا عهود الخدمة لأعقابهم وهجدوا، وحتّى يقول هذا النّجل الظافر بعد آبائه وأخيه: ليت أشياخي ببدر شهدوا.
فليعد حديث منصبه القديم، وليقم إلى تشّنيف الأسماع من نثير لفظه بأبهى من العقد النظيم، وليفكّ أسرى القلوب برواتب إشارته: فإنّه «الفاضل عبد الرحيم» وليبك العيون بوعظه وإن أقرّها بمشاهدته وليحرص على فخر الدولة الشريفة به كما فخر سيف الدّولة بابن نباتته (1)
ووصايا هذه الرّتبة متشعّبة وهو على كلّ حال أدرب وأدرى بها، وما استقرّت على قبض سيوفها يده إلّا ورجعت الحقوق إلى نصابها وكذلك ما هو معدوق بوظائفه: من مدارس علوم، ومجالس نظر طالما نظر في كتبها وهو الصحيح نظرة في النّجوم لا يحتاج فيها إلى مطالعة الوصايا فإنّه من كلّ أبوابها دخل، ولا يمرّ بها على أذنه فم المبلّغ فإنّها من فمه أحلى ومن تسويغ فمه أحلّ ولكنّ التّذكار بتقوى الله تعالى فيما يأتي ويذر أسّ جليل، ووجه تتفاضل وجوه الألفاظ من ذكره على لفظ جميل، وألفاظ الخطيب المتّقي إذا وصلت من القلب إلى القلب وفت بريّ الغليل والله تعالى يمدّه بألطافه، ويجريه على عوائد إسعاده وإسعافه، ويروي بصواب كلمه الأسماع وبصوب الغمام عهود أسلافه.
وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة المسرورية بدمشق، من إنشاء الشّيخ صلاح الدين الصّفديّ (2)، كتب به للشيخ «تقيّ الدين السّبكي» (3)
__________
(1) راجع الصفحة السابقة. هامش (1).
(2) هو خليل بن أبيك بن عبد الله الصفدي: تولى ديوان الإنشاء في صفد ومصر وحلب، ثم وكالة بيت المال في دمشق فتوفي فيها سنة 764هـ. له زهاء مئتي مصنّف، منها: الوافي بالوفيات.
(الأعلام: 2/ 315).
(3) هو علي بن عبد الكافي السّبكي الأنصاري الخزرجي: شيخ الإسلام في عصره، وأحد الحفاظ المفسرين المناظرين. وهو والد تاج الدين السبكي صاحب الطبقات. ولي قضاء الشام سنة 739 هـ، توفي سنة 756هـ. (الأعلام: 4/ 302وشذرات الذهب: 6/ 180).(12/345)
ب «المقرّ الكريم» وهي:
الحمد لله الّذي جعل تقيّ الدّين عليّا، وأوجده فردا في هذا الملإ فكان بكلّ علم مليّا، وأظهر فضله الجليل فكان كالصّباح جليّا.
نحمده على نعمه الّتي تكاثرت فأخجلت الغمائم، وتوفّرت الألسنة على حمده فتعلّمت أسجاعها الحمائم، وتأثّرت بموافقها الأحوال فأخملت زهر الخمائل في الكمائم، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة لا شبهة تعكّر ما صفا من لجّتها، ولا ريبة توعّر ما تسهل من محجّتها، ولا ظلمة باطل تكدّر ما أنار من حجتها. ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي جمعت فيه مكارم الأخلاق، وتفرّد بمزايا منها أنّه حبيب الخلّاق، وشارك الأنبياء في معجزاتهم وزاد عليهم بما أتيح له من خمس لم يعطهنّ غيره منهم على الإطلاق، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الّذي تفقّهوا في الدّين، وحازوا الأجور لمّا جروا إلى جزّ الغلاصم من الملحدين، وأنزلوا لمّا نازلوا أبطال الباطل والمعتلين من المعتدين، صلاة يفوح نسيم ريّاها المتأرّج، ويلوح وسيم محيّاها المتضرّج، ما فرّج العلماء مضايق الجدال في الدّروس، وقبلت ثغور الأقلام وجنات الطّروس، وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدّين.
وبعد، فإنّ المدارس عمرها الله تعالى بالعلماء لواقفيها شروط، ولأهلها همم أنزلها بالنجوم منوط يغوصون بحور البحوث في طلب اللّآلي، ويقطعون ظلل الظّلام بالسّهر في حبّ المعالي سيّما المدرسة المسروريّة:
فإنّ واقفها أثابه الله تعالى شرط في المدرّس بها شروطا قلّ من يقلّها، أو يتحلّى بعقودها أو يحلّها وكان مفرقها قد تحلّى بتاج تجوهر، ومغلقها قد ضمّ منه فاضلا تمهّدت به قواعد المذهب لمّا تمهّر، فأعرض عنها، ونفض يده منها،
رغبة في الإقبال على شانه، وانقطاعا إلى مالك الأمر وديّانه، فخلا ربعها من أنسه، وكادت تكون طللّا بعد درسه.(12/346)
فإنّ واقفها أثابه الله تعالى شرط في المدرّس بها شروطا قلّ من يقلّها، أو يتحلّى بعقودها أو يحلّها وكان مفرقها قد تحلّى بتاج تجوهر، ومغلقها قد ضمّ منه فاضلا تمهّدت به قواعد المذهب لمّا تمهّر، فأعرض عنها، ونفض يده منها،
رغبة في الإقبال على شانه، وانقطاعا إلى مالك الأمر وديّانه، فخلا ربعها من أنسه، وكادت تكون طللّا بعد درسه.
وكان فلان أسبغ الله ظلّه قد وافق بعض ما فيه شرط الواقف، وشهد بنشر علومه البادي والعاكف، وطاف بكعبة فوائده كلّ طائف، ينصرف عنه باللّطائف أمّا «التّفسير» فإنّه فيه آية، وأمّا «الحديث» فإنّه الرّحلة في الرّواية والدّراية، وأما «الأصول» فإنّه زأر ب «الرازيّ» حتّى اختفى، وأمّا «الفقه» فلو شاء أملى في كلّ مسألة منه مصنّفا، وأمّا «الخلاف» فقد وقع الاتّفاق على أنّه شيخ المذاهب، وأمّا «العربية» ف «الفارسيّ» (1) يعترف له فيها بالغرائب إلى غير ذلك من العلوم الّتي هو لها حامل الرّاية، وله بالتّدقيق فيها أتمّ عناية، وإذا كان أهل كلّ علم في المبادي كان هو في الغاية.
فلذلك رسم بالأمر العالي أعلاه الله تعالى أن يفوّض إليه كذا وكذا:
وضعا للشّيء في محلّه، ومنعا لتاريخ ولاية غيره أن يفجأ في غير مستهلّه فالآن أمسى الواقف مسرورا على الحقيقة، والآن جرى الخلاف فيها على أحسن طريقة وهو أسبغ الله تعالى ظلّه أجلّ خطرا من أن يذكّر بشيء من الوصايا، وأعظم قدرا من أن تدلّ ألمعيّته على نكتها الخفايا، لأنّه بركة الإسلام، وعلّامة الأعلام، وأوحد المجتهدين والسّلام والله تعالى يمتّع المسلمين ببقائه، ويعلي درجات ارتقائه والخطّ الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه، حجة في ثبوت العمل بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة الناصرية الجوّانية، من إنشاء الصّلاح الصّفدي أيضا، كتب به للقاضي ناصر الدين «محمد بن يعقوب» كاتب السّرّ
__________
(1) الفارسيّ هو أبو علي الفارسيّ، الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، المتوفى سنة 377هـ: أحد الأئمة في علم العربية. (الأعلام: 2/ 179).(12/347)
يومئذ بالشام، حين عاد إلى تدريسها بعد انفصاله عنها، ب «المقرّ الكريم» وهي:
الحمد لله الّذي بدأ النّعم وأعادها، وأفاء المنن وأفادها، وزان المناصب السّنيّة بمن يليها وزادها، وشاد عماد المعالي بأربابها وصانها عمّا دهى.
نحمده على نعمه الّتي بدأت بالمعروف وتمّمت، وخصّصت بالإحسان وعمّمت، وبرّأت من النّقائص وسلمّت، وفلّت بالألطاف الخفية صوارم الحوادث وثلّمت، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تضيء بها الحنادس (1)، وتزكو بأنوائها منابت الإيمان والمغارس، وتسمو باقتنائها إلى علّيين النفوس النّفائس، ويرغم المؤمنون بإعلائها من الكفار المعاطس، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي تمّم للناس مكارم الأخلاق، وأخجل بجود كفّه الفيّاض صوب الغيث الدّفاق، وفضح البدر اللّياح في الدّجى بنور جبينه البرّاق، وتقدّم النّبيين والمرسلين في حلبة الشّرف على جواد فضله السّبّاق، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أعلى من نصبوا للهدى أعلاما، وأرقى من أصبح العلم لفضلهم الباهر رقّاما، وأحلى من كان الزمان بوجودهم وجودهم للعفاة أحلاما، وأقوى من كان الإيمان بهم إذا استنجد على الكفر أقواما، صلاة لا ينفد لها أمد، ولا يفنى لها مدد، ما شبّ بارق وخمد، وشفى الغمام طرف زهر من الرّمد، وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدّين.
وبعد، فإنّ مدارس العلم الشريف لها الذكر الخالد، والشّرف الطّارف والتّالد، بها تتبيّن فوارس الجلاد في مضايق الجدال، وتتجلّى بدور الكلام في مطالع الكمال، وتبدو شموس الجمال فيما لها من فسيح المجال والمدرسة الناصرية أثاب الله تعالى واقفها هي الواسطة في عقودها، والدّرّة الثمينة بلا كفء لها بين قيم نقودها، قد تدبّج فيها البناء، وتأرجّ عليها الثّناء، وتخرّج عنها الحسن فإنّ له بها مزيد اعتناء.
__________
(1) الحنادس: الظلمات.(12/348)
وكان المقرّ الفلانيّ قد نفض يده من عنانها، ورفض عن اختيار بهاء جنانها، وثنى طلبته عن محاورتها، ورمى أمنيّته من مجاورتها، فساء من بها من أهل العلم فراقه، وأوحشهم وجهه الّذي أخجل البدور رونقه والبحر اندفاقه، وفقدوا مكارمه الّتي ما سمع «السّمعانيّ» بمثلها ولا وصلت إلى «الصّوليّ» ولا ضمّتها أوراقه (1)
فلذلك رسم بالأمر العالي أن يعاد إلى تدريسها: لأنّ العود أمدح وأحمد، والرّجوع إلى الحقّ أسعف وأسعد.
فليباشر ما فوّض إليه مباشرة ألفت من كمال أدواته، وعرفت من جمال ذاته، ناشرا أعلام علومه المتنوّعة، وفضائله الّتي تقصر عن الثّناء عليها أنفاس الرّياض المتضوّعة فلو عاصره «ابن عطيّة» أمسك عنه في (2) تفسيره، أو «صاحب الكشّاف» (3) لغطّى رأسه من تقصيره، أو «الرّافعيّ» (4) لأصبحت راية رأيه في الفقه خافضة رافعة، أو «النّوويّ» (5) رحمه الله لاستعار منه زهرات روضته اليانعة، أو «الآمديّ» (6) لما امتدّت له معه في أصوله خطوة، أو «ابن
__________
(1) الإشارة إلى كتاب «الأوراق» في أخبار بني العباس وأشعارهم، لمحمد بن يحيى الصولي المتوفى سنة 335هـ. والسمعاني هو عبد الكريم بن محمد، صاحب الأنساب المتوفى سنة 562هـ.
(كشف الظنون: 1/ 201179).
(2) كذا بالأصل. وفي هامش الطبعة الأميرية لعله: أمسك عن تفسيره» وابن عطية المفسّر هو عبد الحق بن غالب المتوفى سنة 542هـ.
(3) الكشّاف عن حقائق التنزيل لجار الله الزمخشري المتوفى سنة 538هـ. (كشف الظنون:
2/ 1475).
(4) هو عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم: فقيه من كبار الشافعية. توفي سنة 623هـ. (الأعلام:
4/ 55).
(5) هو الإمام يحيى بن شرف الشافعي المتوفى سنة 676هـ. نسبته إلى «نوا» من قرى حوران بسوريا. والإشارة إلى كتابه «روضة الطالبين» في الفقه. (الأعلام: 8/ 149).
(6) هو سيف الدين الآمدي، علي بن محمد المتوفى سنة 631هـ. والإشارة إلى كتابه «الإحكام في أصول الأحكام». (وفيات الأعيان: 3/ 432والأعلام: 4/ 332).(12/349)
الحاجب» (1) لما كان له مع ابن الحاجب حظوة، أو «ابن يعيش» (2) لمات ذكره في النحو فكان فقيدا، أو «ابن مالك» (3) لأمسى «تسهيله» تعقيدا، أو «الشّبليّ» (4) لعلم أنّه ما شبّ له في التّصرّف مثل شبله، أو «ابن عربيّ» (5)
لأعرب عن عجمة وما تمسّك صوفيّ بحبله إلى غير ذلك من إنشاء إنشاء ساد في العبدين (6): «عبد الحميد» و «عبد الرّحيم»، ونظم كلّما نظمأ إلى رشفه طافت علينا قوافيه بكأس مزاجها من تسنيم (7) وعلى الجملة فتفصيل معارفه يضيق عن فضّها فضاء هذا التّوقيع الكريم، وسرد محاسنه لا تتّسع له حواشيّ هذا البرد الرّقيم ولكن أشارت أنملة القلم منها إلى نبذة، وعلمنا أنّ القلوب تشتاق إلى أوصافه ففلذنا لها من ذلك فلذة.
وأما الوصايا فمثله لا يذكّر بشيء منها، ولا يقال له: دع هذه الودعة وهذه الدّرّة صنها لأنّ الأمر والنّهي له في ذلك، وإذا أطلع بدور وصيّة ضوّأ أحوال الدّياجي الحوالك ولكن تقوى الله عزّ وجلّ ذكرها في كلّ توقيع طرازه
__________
(1) ابن الحاجب هذا هو عمر بن محمد بن منصور: عالم بالحديث والبلدان. توفي سنة 630هـ.
والثاني هو عثمان بن عمر المتوفى سنة 646هـ وصاحب «الشافية» والكافية.
(2) هو ابن يعيش النحوي، يعيش بن علي، المتوفى سنة 643هـ، ويعرف أيضا بابن الصانع.
(الأعلام: 8/ 206).
(3) هو محمد بن عبد الله، ابن مالك الطائي الجيّاني المتوفى سنة 672هـ. أحد الأئمة في علوم العربية. أشهر كتبه: «الألفية» في النحو. والكتاب المشار إليه هو «تسهيل الفوائد» في النحو.
(الأعلام: 6/ 233).
(4) هو محمد بن عبد الله الشبليّ الدمشقي المتوفى سنة 769هـ. (الأعلام: 6/ 234).
(5) هو محمد بن علي بن محمد، المعروف بمحيي الدين بن عربي المتوفى سنة 638هـ.
فيلسوف من أئمة المتكلمين في كل علم. (الأعلام: 6/ 281).
(6) هما عبد الحميد بن يحيى الكاتب وعبد الرحيم بن علي المعروف بالقاضي الفاضل.
(7) تسنيم: عين يشرب منها المقربون في الجنة. وليس لهذه الكلمة أصل في الشعر الجاهلي ولا في اللغات السامية القديمة، ولذا يعدّها بعض الباحثين من الكلمات الّتي نطق بها القرآن. وقد وردت في سورة المطففين / 27: {وَمِزََاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (انظر معجم الألفاظ والأعلام القرآنية: ص 281).(12/350)
المعلم، ونكتته الّتي طودها لا يثلّ وحدّها لا يثلم، فليكن مستصحب حالها الحالي، مستصعب فراقها الّذي يهوّنه البال البالي والله تعالى لا يخلي ربوع العلم من أنسه، ويجعل سعده في غد زائدا كما زاد في يومه على أمسه والخط الكريم أعلاه، حجّة في ثبوت العمل بمقتضاه.
وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة النّوريّة (1)، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، كتب به لقاضي القضاة «نجم الدين الحنفيّ» بنزول والده عنها ب «الجناب الكريم» وهي:
الحمد لله الّذي أنمى أهلّة العلم فأبدرت، وفروعه فأثمرت، ونجومه فاستقلّت مطالعها النّوريّة وتنّورت، ولالئه في بحار اللّفظ والفضل فتجوهرت، وأنهاره الّتي أخذت في المدّ ماخذ تلك البحار فاسترحبت واستبحرت.
نحمده على نعمه الّتي قرّت وقرت، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة إذا خصّلها اليقين وفرت، وإذا نصّلها (2) الإخلاص مضت في أوداج الباطل وفرت (3)، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الحاكم في فصل الأقضية لمّا شجرت (4)، والنّاظم درر الإيمان حتّى زهت في أعناق العقائد وزهرت، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه فئة الحقّ الّتي ظهرت وطهرت، وعصابة الإسلام الّتي سرت خلفها سرايا الدّين فهاجرت في الله ونصرت،
__________
(1) المدرسة النورية الكبرى: أنشأها الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي سنة 563هـ وقيل أنشأها ولده الصالح اسماعيل. زارها ابن جبير وقال فيها «هي من أحسن مدارس الدنيا، وهي قصر من القصور الأنيقة». ولا تزال المدرسة عامرة إلى اليوم، كما ذكر كرد علي في خطط الشام ج 6ص 97. (انظر الحياة العقلية بمصر والشام: ص 61).
(2) مستعار من نصّل الرمح: ركب فيه نصلا.
(3) فرى الشيء فريا: شقّه.
(4) إشارة إلى قوله تعالى: {فَلََا وَرَبِّكَ لََا يُؤْمِنُونَ حَتََّى يُحَكِّمُوكَ فِيمََا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} النساء / 65.(12/351)
صلاة طيبة تحلو إذا تكرّرت، وتحيّة باقية تشرق شمسها إذا الشّمس كورت، وتعبق نفحات نشرها إذا الصّحف نشرت.
أما بعد، فإنّ منازل العلم من خير ما أبقى الآباء للأعقاب، وأكمل ما ذخر لنجباء الأبناء على مدى الأحقاب، وأعدل ما شهد بلسان حاله المتمثّل أنّ وكر العقاب لابن العقاب وكانت المدرسة النّوريّة الكبرى بدمشق المحروسة هي الواسطة والمدارس درر، والصّبح وأوطان العلم غرر، ومنزلة الحكم الأمنع، وبيت القضاء الّذي أذن الله لقدره أن يرفع، ومكان ذي اليد الماضي سيف حكمه إذا قرعت العصا لذي الإصبع، وذات العماد الّتي ادّخرها لنجله، وأعدّ فضلها في العباد والبلاد لفضله وكان ذلك (1) قد نزل لولده فلان عن الحكم على هذا الحكم، ونطق بمزيّة الاستحقاق وقلوب بعض الأعداء صمّ بكم، ورغب أجلّه الله فيما يرغب فيه من الانقطاع ذو السّن (2) العالي، والقدر الغالي، وانتظم تقليده الشريف فكان أجود حلية على أحسن جيد حالي، ثم التوقيع بتدريس هذه المدرسة الّتي زكيّ في أهل الفضل شهيدها (3)، ونظرها الذي خلف في حكمه وليّ عهده عن أبيه: فلله أمين هذه الخلافة ورشيدها.
ولذلك رسم بالأمر الشريف أن يفوّض إلى فلان تدريس المدرسة النّوريّة ونظرها: لاستحقاقه لها بشفعة منصب الحكم العزيز، ومنشإ الفضل الحريز، ووجيز النزول المكتتب، وقبول هبة والده الّذي يعتاد أن يهب الجليل لمن يهب، وتشريفه بإنعامها النّفيس، وإجلاسه بها على مرتبة حكم وبساط نظر وسجادة تدريس، وعلما بأنّ نجم ذلك النّيّر أولى بهذه المنازل، وشبل ذلك الأسد أحقّ بهذا الغاب الماثل، وأنّه كوكب هذا المذهب المنير، وإمام جامعيه المعروفين: كبير وصغير، وصاحب شبيبة العزم المقتبل، والرّأي الموفي على
__________
(1) أي والد نجم الدين الحنفي.
(2) في هامش الطبعة الأميرية: «نصّ أهل اللغة على أن السنّ بمعنى العمر مؤنثة».
(3) أي نور الدين محمود الشهيد.(12/352)
قياس الأمل، وتجنيس الجود والإجادة، وتكميل بحري العلم والبرّ واجتهاد الزّيادة وأنّه ممّن آتاه الله رفعة في القدر والاسم، وزاده بسطة في العلم والجسم، وأحكم بديهة علمه فما تستوقف الاسماع رويّته، وأعلاه وعظّمه فما هو النّجم الّذي تستصغر الأبصار رؤيته.
فليباشر تدريس هذه المدرسة ونظرها بعزمه الباهر وصفا، التّالي بلسان الحمد: {وَإِبْرََاهِيمَ الَّذِي وَفََّى} (1) جاريا على أعراق نسبه المشهور، فائض اللّفظ والفضل فإنّه بحر من البحور، مظهرا من مباحثه الّتي تقلّد العقول بأبهى مما تقلّد النّحور، مهتديا من رأيه ومن بركة الواقف رضي الله عنه بنور على نور والله تعالى يزين بنجمه أفق السّيادة، ويزيد فيما وهبه من الفضل إن كان التّمام يقبل زيادة.
توقيع بتدريس المدرسة الرّيحانية الحنفيّة، من إنشاء ابن نباتة، كتب به للقاضي «عماد الدين الحنفي» ب «الجناب الكريم» وهو:
الحمد لله الّذي جمّل مدارس العلم بذات عمادها، وصاحب نفلها واجتهادها، ومنشر عهدها ومنشيء عهادها، وواصل مناسبها الّتي لو ادّعاها دونه زيد لكانت دعوى زيادها، ومفصح فتاويها على منبر قلم اهتز عوده ونفح وأطرب: فناهيك بثلاثة أعوادها!.
نحمده على نعمه الّتي قضى الحمد بازديادها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تعدّها النفس لمعادها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله هادي الأمّة إلى سبيل رشادها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه بحار العلم وأطوادها، ما قامت الطّروس والسّطور لعيون الألفاظ مقام بياضها وسوادها.
أمّا بعد، فإنّ لمذاهب العلم رجالا يوضّحون طرقها، ويمدّون في
__________
(1) النجم / 37.(12/353)
المباحث طلقها، ويعمّرون مدارسها: فيا لها من ذات دروس يكون العمران معتلقها ومعتنقها!.
ولمّا كانت المدرسة الرّيحانية بدمشق في أيدي العلماء نخبة ريحانيّة، وشقيقة نفس نعمانيّة، مأهولة المنازه والمنازل بكّل ذي فضل جليّ، وعلم مليّ، ووصف كريم، ونفس نفيس يتلّقاه منها روح وريحان وجنّة نعيم وخلت الآن من إمام كرمت خلاله، وعظمت خصاله، ومضى وتمضّى وما يبقى إلّا الله جلّ عن الحوادث جلاله فتعيّن أن نختار لتدريس مكانها من يفتخر به المكان والزّمان، ويتشيد بزيادة علمه لصاحب مذهبها أضعاف ما شاده زياد للنّعمان، من شيّد الشريعة الشريفة مقاله ومقامه، وعلا عماده إلى عقود الشّهب فلله مراده ومرامه، من لو عاصره «ابن الحسين» (1) لحسن أن يعترف بقدره الجليل، وقال عند محاضرة بحثه كما قال «أبو يوسف» (2): فصبر جميل، واستزاد «شمس الشريعة» فكيف «السراج» من لمعه البريقة، وقال «ابن الساعاتي» (3): ما رأيت أرفع من هذا القدر درجة ولا أبدع من هذا الذّهن دقيقه.
ولذلك رسم بالأمر الشريف لا زال عاليا بأمره كلّ عماد، زاهيا بمحامد ملكه كلّ ناطق وجماد، أن يفوّض لفلان لأنّه المعنيّ بما تقدّم من الأوصاف الحلوة إذا تكرّرت، والمقصود بألفاظها إذا تعنونت الأفهام وتيسّرت، والمعوّذة فرائد مباحثه المفرّقة ب {إِذَا الْكَوََاكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحََارُ فُجِّرَتْ} (4)، وإمام المذهب الحنفيّ والحكم الأحنفيّ، وحصاة القلب الّتي
__________
(1) لعل المشار إليه هو محمد بن الحسين، المعروف بابن أبي الحسين، المتوفى سنة 626هـ:
وزير من العلماء باللغة. (الأعلام: 6/ 102).
(2) هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري المتوفى سنة 182هـ: صاحب الإمام أبي حنيفة وتلميذه، وصاحب كتاب «الخراج». (الأعلام: 8/ 193).
(3) هو ابن الساعاتي الفقيه، أحمد بن علي المتوفى سنة 694هـ.
(4) الانفطار / 32. واللفظ: {وَإِذَا الْكَوََاكِبُ} الخ.(12/354)
تنسف بإشارتها جبال «النّسفيّ» (1)، ولسان النّظر الّذي أشرف على بعده فاختفى في قربه المشرفيّ، وصاحب الفنون وما وسقت، وأفنان الحكم والحكم وما بسقت، ونعوت الفضل والفضائل وما عطفت من البيان ونسقت.
فليتولّ تدريس هذه المدرسة المعمورة مؤيّد الولاية، مجدّد البداية لحنيفيّتها والنهاية، ساجدا قلم الفتاوى والفتوّة كلّما تلا كرمه وكلمه آية بعد آية، منفقا من ألفاظه حتّى يستغني عن «الكنز» (2) وصاحبه، ويردّ فرع المقال على الأصل وطالبه، ويعرض عن أعاريض «البسيط»، ويغرق في أفكار وارده «المحيط»، ويمدّ سماط العلم الّذي وفى بعد «القدوريّ» (3) وما خان، وتفخر بقاضيها أعظم مدينة فما يضرّها فقد «قاضي خان» (4)، وتتذكرّ المقدّمية في طلبته فوائد الحلقة، وينتقل الجناب الكريم من تقدمتها إلى ما هو أوفى في الغرض وأوفر في النّفقة والله تعالى يزيد رتب العلم به سرورا، ويجعل له باستطلاعها كتاب حكم وحكم يلقاه منشورا.
وهذه نسخة توقيع بتصدير بالجامع الأمويّ، كتب به لقاضي القضاة «علم
__________
(1) كثيرون من فقهاء الحنيفة يعرفون بالنّسفي، ويمكن أن تتجه الإشارة هنا إلى أحدهم، نذكر منهم:
الحسين بن خضر القاضي المتوفى سنة 424هـ وميمون بن محمد المتوفى سنة 508هـ وعمر بن محمد صاحب العقائد المتوفى سنة 537هـ وعبد العزيز بن عثمان المتوفى سنة 563 هـ ومحمد بن محمد صاحب الواضح المتوفى سنة 687هـ وعبد الله بن أحمد المفسّر المتوفى سنة 710هـ. (انظر تراجمهم في الأعلام).
(2) «كنز الدقائق» في فروع الحنيفة، للشيخ الإمام أبي البركات عبد الله بن أحمد المعروف بحافظ الدين النّسفيّ المتوفى سنة 710هـ. (كشف الظنون: 1515).
(3) هو أحمد بن محمد، أبو الحسين القدوري: فقيه حنفي، انتهت إليه رئاسة الحنفية في العراق، وصنّف المختصر المعروف باسمه «القدوري». توفي سنة 428هـ. (الأعلام: 1/ 212وهدية العارفين: ص 74).
(4) هو حسن بن منصور، فخر الدين، المعروف بقاضي خان الأوزجندي الفرغاني المتوفى سنة 592هـ: من كبار فقهاء الحنفية. (الأعلام: 2/ 224).(12/355)
الدين ابن (1) القفصي» قاضي قضاة دمشق ب «المقرّ الشريف» وهي من تلفيق كتّاب الزمان. على أنها بالمدرس أليق منها بالمصدّر وهي:
الحمد لله الّذي أعلى علم أئمّة الدّين إلى أعلى الغرف، وميّزهم بالعلم الشّريف الّذي يسمو شرفه على كلّ شرف، وأوضح بهم منهج الحقّ القويم فعلا بإرشادهم سبيل الهدى وانكشف.
نحمده على ما أفاض من نعمه المتواترة كلّ حين، ونشكره على إحياء معاهد المعابد بمن حذا حذو الأولياء المتّقين، حمدا يظهر الآيات المحمّديّة والبراهين، ويبسط ظلّ من هو عن الحقّ لا يمين. ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ربّ العالمين، الذي علّم الإنسان ما لم يعلم وهو العالم بما تخفي الصّدور ويعلم عباده المؤمنين، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أوتي علم الأولين والآخرين، وكان من دعائه لشيبة (2): «اللهمّ فقّهه في الدّين»! صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الّذي عملوا بما علموا فكانوا أئمّة المسلمين، والعمدة على أقوالهم الّتي نقلوها عن خاتم النبيين، على توالي الأيّام والجمع والأشهر والسّنين، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فلمّا كانت أعلام العلماء في الآفاق منشورة، وربوع الفوائد بطريقتهم المثلى معمورة، وصدور المعابد الشّريفة محتاجة إلى صلتها بكفئها الفرد مسرورة، وكان فلان أسبغ الله تعالى ظلاله، وضاعف جلاله هو الّذي ملأت مباشرته العيون والأسماع، وانعقدت على تفرّده في عصره كلمة الإجماع، واشتهر ذكره الجميل بأنواع المكرمات وأطاعه من مشكل المذهب ما هو على غيره شديد الامتناع، وأضحت فضائله «المدوّنة» (3) ولفظه الجلّاب،
__________
(1) لعلّ الصواب «علم الدين القفصيّ» أنظر نزهة النفوس والأبدان: 1/ 101.
(2) هو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة القرشي. أسلم يوم الفتح، وكان حاجب الكعبة في الجاهلية وأقرّه النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك. توفي سنة 59هـ. (الأعلام: 3/ 181).
(3) إشارة إلى كتاب «المدوّنة» في فروع المالكية لعبد الرحمن بن القاسم المالكي المتوفى سنة 191هـ. (كشف الظنون: 2/ 1644).(12/356)
وكنفه «الموطّأ» (1) للطلبة يغنيهم عن معاهد «عبد الوهاب» وعزيمته لا يلحق غبارها في المعارك، ولا يظنّ خدّام العلوم الشرعية والأدبية إلا أمّ مالك وابن مالك.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال يجمع لمن برع في العلوم من ألوان المناصب المختلفة، ويرفع قدر القوم الذين قلوبهم على التقوى مؤتلفة أن يستقرّ المشار إليه في وظيفة التّصدير بالجامع الأمويّ بدمشق المحروسة عمره الله تعالى بذكره عوضا عن فلان بحكم نزوله عن برضاه، حملا على ما بيده من النّزول الشّرعيّ، بالمعلوم الّذي يشهد به ديوان الوقف المبرور، على أجمل عادة، وصرفه إليه مهنّأ ميسّرا أسوة أمثاله.
فليباشر هذه الوظيفة على عادة مباشراته الّتي حفّت بالعلوم، وافتخرت بحسن المنطوق الدّالّ على المعنى المفهوم، ويمدّ موائد علمه المحتوية على أنواع الفضائل، وليبيّن ما يخفى على الطلبة بأوضح الدلائل، وليؤدّ الفوائد الواصلة إلى الأذهان على أحسن أسلوب، وليقرّر الأصول الّتي امتدّت فروعها بقواعد السّنة المحمّدية وفي ثمرها الجنيّ تقوية القلوب، وليكرم منهم من يضح فضله لديه ويبين، وليبسط هممهم بقوله صلّى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدّين»، وليوضّح طريق إرشاده ليسهل سلوكها عليهم، وليجعل وفود فوائده في كلّ وقت واصلة إليهم، وليتّبع «إمام دار الهجرة» في مذهبه المذهب، وليخلّد من صفاته الجميلة ما يذهب الزّمان ولا يذهب، وليسمح للفقهاء بمواصلة فضله الأعم، فإنّه أن يهدى به واحد خير من حمر النّعم.
والوصيا كثيرة ومنه يطلب بيانها، وبه تقوى أسبابها ويعلو بنيانها ولكن الذّكرى تنفع المؤمنين، ويظهر [بها] سرّ خبرهم ويستبين وتقوى الله تعالى هي
__________
(1) كتاب «الموطّأ» للإمام مالك بن أنس المتوفى سنة 179هـ: إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة عند أهل السنّة.(12/357)
العروة الوثقى، والخصلة الّتي بها يعظم كلّ واحد ويرقى فليواظب عليها، وليصرف وجه العناية إليها والله تعالى المسؤول أن يجعل علم علمه دائما في الآفاق منشورا، وذكره الطّيّب على ألسنة الخلائق كلّ أوان مذكورا.
المرتبة الثانية (من تواقيع أرباب الوظائف الدّينية بحاضرة دمشق ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» وفيها عدّة وظائف)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك.
توقيع بقضاء العسكر بدمشق، كتب به للقاضي شمس الدّين «محمد الإخنائي» (1) الشافعيّ، ب «الجناب العالي» وهو:
أما بعد حمد الله تعالى مضاعف النّعمة، ومرادف رتب الإحسان لمن أخلص في الخدمة، ومجدّد منازل السّعد لمن أطلعت كواكب اهتمامه في آفاق الأمور المهمّة، والصلاة والسلام الأتمّين الأكملين على سيدنا محمد وآله الّذي بشّر بنصر هذه الأمة، ووعد بأن سيكشف به غمام كلّ غمّة، وأنّه يتجاوز عن أهلها بشفاعته وكيف لا؟ وقد أرسل للعالمين رحمة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تجزل لقائلها نصيبه من الأجر وتوفّر قسمه فإنّ أحقّ الأولياء من تأكّدت له أسباب السعادة، وكافأناه بالحسنى وزيادة، وبلّغناه من إقبالنا غاية مآربه ومطالبه، وعرفت منه العلوم الّتي لا يشكّ فيها، والنّباهة الّتي لا يقدر أحد من أقرانه يوفّيها، والخبرة الوافية الوافرة، والدّيانة الباطنة والظّاهرة، وسار بعلومه المثل، وسلك مسلك الأولياء في العلم والعمل، واعتبرت أحواله الّتي توجب
__________
(1) شغل الإخنائي منصب القضاء الشافعي في كل من مصر والشام عدة مرات، وكانت وفاته سنة 816هـ ودفن بتربته المعروفة بالإخنائية. وجاء في نزهة النفوس أنه بتاريخ الحادي والعشرين من شوال سنة 803هـ رسم بكتابة توقيع باستقرار قاضي القضاة شمس الدين الإخنائي في القضاء بدمشق ولعل التوقيع أعلاه يعود إلى هذا التاريخ. (أنظر نزهة النفوس والأبدان: 2/ 114 والذيل على رفع الإصر: 355).(12/358)
التقديم، واختبرت فعاله الّتي ضاعفت له مزيد التكريم.
وكان فلان أدام الله تعالى نعمته هو الّذي أتقن العلوم بحثا وتهذيبا، وبرهن عن المسائل الشّرعية بأفهام تزيدها إلى الطالبين تقريبا، وأوضح عويص مشكلاتها، وصحّح من ألسن العرب لغاتها.
فلذلك رسم بالأمر العالي لا زالت شمسه بالعناية مشرقة، وأنواء فضائل أوليائه مغدقة أن يستقرّ فلان في وظيفة قضاء العساكر المنصورة الشاميّة: حملا على ما بيده من النّزول الشّرعيّ، على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته، ومعلومه الذي يشهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت فهو الحاكم الّذي لم يزل للعساكر المنصورة نعم الصّاحب، والمورد على سمعهم من الأحكام الشّرعية ما يفتدي به الحاضر والغائب، والقائم بأعباء العساكر المنصورة، والحافظ لنظام الملك الشريف على أحسن صورة.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة وليحلّ في قضاء العساكر المنصورة بطلعته السّنيّة، وليفصل بينهم في الأسفار كلّ قضيّة، وليعرّفهم طرق القواعد الشّرعيّة، وليحترز في كلّ ما يأتيه ويذره، ويقصده ويحذره، ويورده ويصدره.
والوصايا كثيرة ومنه تستفاد، وإليه يرجع أمرها ويعاد ولكن لا بدّ للقلم من المرح في ميدان التّذكار، والتّنبيه على منهاج التّقوى الّتي هي أجمل شعار والله تعالى يمنحه من إحساننا جزيل العطاء والإيثار، ويسمعه من أنباء كرمنا كلّ آونة أطيب الأخبار، بمنّه وكرمه!.
توقيع بنظر جامع يلبغا اليحياويّ (1)، كتب به للأمير جمال الدين «يوسف شاه» العمريّ الظاهريّ ب «الجناب الكريم» وهو:
__________
(1) موقع هذا الجامع تحت القلعة بدمشق، ونسبته إلى يلبغا بن عبد الله اليحياوي الناصري، سيف الدين، المتوفى سنة 748هـ. (نزهة النفوس: 2/ 380والجوهر الثمين: 2/ 175).(12/359)
أمّا بعد حمد الله الّذي أظهر جمال الأتقياء في كلّ مشهد وجامع، وقدمه بما أولاه على كلّ ساجد وراكع، وخصّه من فضله بما قصرت عنه الآمال والمطامع، والصلاة والسلام الأتمّين الأكملين على سيدنا محمد عبده ورسوله مولي الخير الواسع، والإحسان المتتابع، ومن أحيا جود جوده النّفوس وسرّ القلوب وأطرب ذكر عظاته المسامع، وعلى آله وصحبه النّجوم الطّوالع، والذين أودعهم العلم الّذي آتاه لإقامة دينه من لا تخيب لديه الودائع والتّشريف و [الإكرام] (1)، والتّبجيل والإعظام فإنّ أولى من رعينا له حقّ الخدم، ووقوفه في الطاعة الشريفة على أثبت قدم، من قام بما لم يقم به غيره، وحسنت سيرته وسيره.
وكان فلان أدام الله تعالى نعمته، وحرس من الغير مهجته، ممّن جمّل الممالك ودبّرها، وضبط أموال الأوقاف وحرّرها، وارتفع على الرؤوس، وحصّل أموال الأوقاف الّتي فطر تحصيلها أكباد الخونة وسرّ من مستحقّيها النّفوس تعيّن أن نعرف له مقداره الّذي لا يخفى، ونوفّيه بعض حقّه فإنّه الّذي بالإحسان قد أوفى.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال يقبل على فضل وليّه، ويضاعف له البرّ المستمطر من غيث جوده ووليّه أن يستقرّ فلان في كذا، على عادة من تقدّمه في ذلك ومستقرّ قاعدته، بالمعلوم الشاهد به ديوان الوقف المبرور إلى آخر وقت.
فليباشر هذه الأوقاف، وليسلك فيها طرق العدل والإنصاف، وليتّبع شرط واقفها رحمه الله تعالى المجمع على صحّته من غير خلاف، وليحي ما تشعّث وتخرّب في الجامع المشار إليه وأوقافه بعين بصيرته، وليقم بالمعروف من معرفته وهو أعزّه الله تعالى أولى من باشره، وعمر داثره، وأحرى من تحرّى
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/360)
مبارّه ومآثره، وميّز أوقافه، وتدارك بتلافيه تلافه. وهو غنيّ عن شرح الوصايا فإنّها من آدابه تعرف، ومن بحر أدواته تغرف وملاكها تقوى الله تعالى الرّؤوف، فليكن على مستحقّي هذا الوقف عطوف والله تعالى يجزل له أجرا، ويجعل له ما يفعله من الخير ذخرا.
توقيع بنظر تربة أرغون شاه، كتب به «لقجا السيفي بوطا»، ب «الجناب العالي» وهو:
أمّا بعد حمد الله الّذي بلّغ الأولياء من مبرّاته الأمل والإرادة، وألقى مقاليد الأمور إلى من استحقّ بحسن مباشرته الزّيادة، والصّلاة والسلام الأتمّين الأكملين على سيدنا محمد عبده ورسوله صاحب لواء الحمد والنّصر، ومن جاءت آيات تفضيله كفلق الصّبح وجمّلت محاسنه كلّ عصر، وعلى آله وصحبه الذين نصروه فنصرهم الله، وحجبوه بأنفسهم عن البأس ولم يحجبوه عن النّاس لخفض جناحه لمولاه، والتّشريف والتّكريم، والتّبجيل والتّعظيم.
ولمّا كان فلان أدام الله تعالى نعمته هو المعروف بالأوصاف الجميلة، والمنعوت بالنّعوت الّتي أتت في وصفه بكلّ فضيلة، فلذلك رسم بالأمر العالي لا زال إحسانه عميما، وفضله لذوي الاستحقاق أبدا مقيما أن يستقرّ فلان في كذا، على عادة من تقدّمه في ذلك ومستقر قاعدته، بالمعلوم الّذي يشهد به ديوان الوقف المبرور إلى آخر وقت.
فليباشر ذلك بهمّته العليّة، ونفسه الأبيّة والوصايا كثيرة وأهمّها التّقوى فليلازم عليها فإنّها تحفظه، وبالسّيادة تلحظه والله تعالى يكمّل توفيقه، ويسهّل إلى نجح المقاصد طريقه، بمحمّد وآله!.
توقيع بتدريس الجامع الأمويّ عودا إليه، من إنشاء جمال الدين بن نباتة،
كتب به للقاضي «فخر الدين المصريّ» وهو:(12/361)
توقيع بتدريس الجامع الأمويّ عودا إليه، من إنشاء جمال الدين بن نباتة،
كتب به للقاضي «فخر الدين المصريّ» وهو:
أمّا بعد حمد الله معيد الحقّ إلى نصابه، والغيث إلى مصابّه، واللّيث وإن غاب إلى مستقرّ غابه، وشرف المكان إلى من هو أحقّ وأولى به، وبحر العلوم إلى دوائر محافله في الدّروس وإلى قويّ أسبابه، والصّلاة والسلام على سيدنا محمد الّذي هاجر فرجع بغنيمته وإيابه، وطلع من ثنيّات الوداع طلوع البدر المشرق في أثناء سحابه، وعلى آله وصحبه الشّائمين سبل صوبه السّالكين سبيل صوابه، ما قطف من غصون أقلام العلماء ثمر «البيان والتّبيين» متشابها وغير متشابه فإنّ شرف الكواكب في سيرها ورجوعها، ونموّ تشعّلها ما بين فترة مغيبها وطلوعها لا سيّما العلماء الذين يهتدى بأنوارهم، ويقتدى بآثارهم، ومصابيح الحقّ التي تقدح ولا يقدح في أزندة أفكارهم.
وكان من قصد بهذا التّلويح ذكره، وعرف من هذا المعنى المفهوم فخره، قد حمد بمجالس التّصدير بالجامع الأمويّ ما ذكره من سلف أعيانه، وقام بوجود الدّليل على وجود ماضي برهانه، وجادل لسانه وقلم يده عن الشّريعة: وغيره من العيّ لا من يده ولا من لسانه، ثم هجر مكانه هجرة على العذر محمولة، وهاجر إلى حرم الله تعالى وحرم رسوله صلّى الله عليه وسلّم هجرة مقبولة، ورام بعض الصّبيان التقدّم إلى رتبة الشيخ فقالت: إليك عنّي، فأنا من مخطوبات الأكابر فما أنا منك ولا أنت منّي ثم حضر إلى محلّه الكريم من غاب، ورجع إلى مستقرّه الأمثل به: وما كلّ حمزة أسد الله فليسكن في ذلك الغاب.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زالت صلات مراسمه جميلة العوائد، جليلة الفوائد، وأقلامها أغصانها ممدود بها الرّزق فهي على الوصفين موائد أن يستمرّ على عادته في كذا وكذا، وإبطال ما كتب به لغيره: عملا باختبار الحاضر، واختيار نظر الناظر، وعلما بأنّ هذه المرتبة لمن له إتقان عقلها
ونقلها، وتلاوة في موضع الوقف: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمََانََاتِ إِلى ََ أَهْلِهََا} (1)
فقولا للممنوع: ما كلّ عزّ بدائم، ولا كلّ ذي طلب بكمال الوجوب قائم، ومن أين لهذه الرتبة مثل هذا الكفء الّذي اشتهر فخره، وزهت به على الأمصار شامه ومصره؟ وهذا الإمام، وكلّ مضاه مأموم، وهذا المقدام، تحت علم العلم وكلّ مباه مهزوم، وهذا الثّابت وكلّ ندّ مشرّد، وهذا الكامل وكل ضدّ مبرّد.(12/362)
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زالت صلات مراسمه جميلة العوائد، جليلة الفوائد، وأقلامها أغصانها ممدود بها الرّزق فهي على الوصفين موائد أن يستمرّ على عادته في كذا وكذا، وإبطال ما كتب به لغيره: عملا باختبار الحاضر، واختيار نظر الناظر، وعلما بأنّ هذه المرتبة لمن له إتقان عقلها
ونقلها، وتلاوة في موضع الوقف: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمََانََاتِ إِلى ََ أَهْلِهََا} (1)
فقولا للممنوع: ما كلّ عزّ بدائم، ولا كلّ ذي طلب بكمال الوجوب قائم، ومن أين لهذه الرتبة مثل هذا الكفء الّذي اشتهر فخره، وزهت به على الأمصار شامه ومصره؟ وهذا الإمام، وكلّ مضاه مأموم، وهذا المقدام، تحت علم العلم وكلّ مباه مهزوم، وهذا الثّابت وكلّ ندّ مشرّد، وهذا الكامل وكل ضدّ مبرّد.
فليستمرّ على عادته الجميلة مجمّلا لزمانه ومكانه، مكمّلا في وشائع العلم ما يشي «ابن الصّباغ» (2) من ألوانه مالكا لما حررّه «الشافعيّ»، جازما بفعل ما نصبه «الرّافعيّ»، ساميا عن وفاء الواصف: فسواء في ذكره إسراف بيان أو إسراف عيّ، شاملا للطلبة المعتادين بعطفه، مقابلا للمستفتين بلطائفه ولطفه، باحثا عن درر الجدال بفكره إذا بحث قلم بعض المجادلين عن حتفه بظلفه، داعيا لهذا الملك الصالحيّ فإنّ دعاء العالم الصالح سور من بين يديه ومن خلفه والله تعالى يجريه على خير العوائد، ويمدّه بإقبال النعم الزوائد، بمنّه وكرمه!.
توقيع بتدريس المدرسة الدماغية (3) بدمشق، من إنشاء ابن نباتة. كتب به للقاضي جمال الدين، أبي الطّيب، الحسن بن علي، الشافعيّ وهو:
أمّا بعد حمد الله رافع منادى العلم بمفرده، وبيت التّقى بقافية سؤدده،
__________
(1) النساء / 58.
(2) هو عبد السيّد بن محمد المتوفى سنة 477هـ: فقيه شافعي من أهل بغداد. كانت الرحلة إليه في عصره، وتولى التدريس بالمدرسة النظامية أول ما فتحت. (الأعلام: 4/ 10).
(3) نسبتها إلى منشئتها: زوجة شجاع الدين، ابن الدماغ، مضحك العادل. كانت للشافعية والحنفية بحضرة باب الفرج. (فوات الوفيات: 2/ 417حاشية).(12/363)
ونظم المفاخر بمن إذا قيل: «أبو الطّيب» أصغى الحفل لمنشده، ومشهد الفضل بإمامه: وحسبك من يكون «الحسن بن علي» إمام مشهده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله سيد الخلق وسنده، وعلى آله وصحبه السائرين في العلم والحلم على جدده، ما سحب نسيم الرّوض برده وافترّ لعس (1) السحاب عن ثغر برده فإنّ للعلم أبناء ينشأون في ظلاله، ويسكنون في حلاله، ويفرّقون للخلق بين حرام المشتبه وحلاله، ويجمّلون وجه الزمان:
فلا عدم الزمان منهم جمال وجهه ولا وجه جماله ترتشف شفاه المدارس من كلمهم كلّ عذب المساغ، وتشافه منهم كلّ ذي فضل ما هو عند البلاغ ببلاغ، وتشاهد ما خصّوا به من الشّرف والرّآسة فلا عجب أنّ محلّهم منهما محلّ الدماغ!.
وكانت المدرسة الشافعية الدماغية بدمشق المحروسة رأسا في مدارس العلم، وهامة في أعضاء منازل ذوي الحكم والحلم لا تسمو همّتها إلا بكلّ سامي العمامة، هامي الفضل كالغمامة، ساجع اللّفظ إلّا أنّه أبهى وأزهى من طوق الحمامة، كائد للملحد مكرم للطالب ولا كيد لابن الخطيب ولا كرامة واسطة بين العادلية والأشرفيّة تليق بمن يكون عقد كلامه المثمن، ونظامه الأمكن، وبيانه المنشد «أجارة بيتينا» يعني بيت النسب وبيت المسكن.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال يجدّد لوجوه العلم جمالا، ولوجوب الحمد نوالا، ولوجود الفضل كرما ما قال قط ولا نوى: لا أن يفوّض إلى فلان أيّد الله مجده، وحرس للمسلمين أباه وأعلى بالسعادة جدّه تدريس المدرسة الدّماغية المذكورة: لأنّه جمال العلم المعقودة على خطبته الآمال، المعدوقة بمقدّمات فضله وفصله نتائج الأقوال الصالحة والأعمال، المحبوبة إلى الله والخلق سيماه وشيمه ولا نكر: فإنّ الله جميل يحبّ الجمال ولأنّه العالم
__________
(1) اللّعس: سواد مستحسن في باطن الشّفة.(12/364)
الذي إذا قال لم يترك مقالا لقائل، وإذا شرح على قياسه أتى بما لم تستطعه الأوائل، وإذا جارى العلماء كاد «إمام الحرمين» يقول: أنا المصلّي وأنت السابق، «والغزاليّ»: من لي أن أنسج على منوال هذا اللفظ الرّائق؟ «وابن دقيق العيد» (1): ليت لي من هذه الدّقائق بلغة؟، و «ابن الصّباغ»: هذا الّذي صبغه الله من المهد عالما! ومن أحسن من الله صبغة؟ ولأنه العالم الّذي أحيا ذكر «ابن نقطة» (2) بعد ما دارت عليه الدوائر، وأغنى وحده دمشق عمن أتى في النسب «بعساكر»، ولأنّه في البيان ذو الانتقاد والانتقاء، والعربيّ الّذي إن كان لرقاب الفضلاء «ابن مالك» فإن قرينه «أبو البقاء»، والكامل حسبا، ومثل جيّده المنقود لا يبهرج، والواصل نسبا، ومثل فرعه بعد أصله: «ولله أوس آخرون وخزرج».
فليباشر هذا التّدريس بعزائم سريّة، ومباحث تستنار منها معارف القول التّبريّة، وطرائف لا تحبس بدمشق على نقداتها المصرية، ولينصر مذهب الإمام الشافعيّ رضي الله عنه فإنّ قومه الأنصار، وليخفض جناحه للطّلبة فطالما خفضت الملائكة أجنحتها ليصير فلا عجب أن صار! وليفد وافديه وهو قاعد أضعاف ما أفادهم صاحب المكان وهو واقف وتقوى الله عزّ وجلّ أولى ما طالعه في سرّه وجهره من «عوارف المعارف» (3) والله تعالى يمدّه بإسعاده
__________
(1) ثلاثة من علماء الشافعية يعرفون «بابن دقيق العيد»، وهم إخوة: محمد بن علي بن وهب بن مطيع المتوفى سنة 702هـ وموسى بن علي بن وهب المتوفى سنة 685هـ وأحمد بن علي بن وهب. وأشهرهم الأول. (الأعلام: 6/ 283و 7/ 325).
(2) لعلّه عبد اللطيف بن يوسف بن محمد البغدادي ويعرف بابن اللّباد وبابن نقطة المتوفى سنة 629هـ: من فلاسفة الإسلام، ومن العلماء المكثرين من التصنيف في الحكمة وعلم النفس والتاريخ والأدب. أو لعله محمد بن عبد الغني، المعروف بابن نقطة والمتوفى سنة 629هـ في بغداد وفي نفس سنة وفاة ابن نقطة الآخر، وهو عالم بالأنساب حافظ للحديث. (أنظر الأعلام:
4/ 61و 6/ 211).
(3) الإشارة إلى كتاب «عوارف المعارف» في التصوف للشيخ شهاب الدين السهروردي المتوفى سنة 632هـ. (كشف الظنون: 2/ 1177).(12/365)
ولطفه، ويحوطه بمعقّبات من بين يديه ومن خلفه، ويضيء بارق كلمه الصّيّب، ويطرب أسماع الطّلبة بالطّيّب من معاني «أبي الطّيّب».
توقيع بتدريس المدرسة الرّكنية الحنفيّة بظاهر دمشق، كتب به للقاضي بدر الدين «محمد بن أبي المنصور» الحنفيّ ب «المقرّ العالي» وهو:
أمّا بعد حمد الله الّذي أطلع بدر الدّين مشرقا في منازل السّعود، وحرس سماء مجده فلا يطيق من رام جنابها الاستطراق إليها ولا الصّعود، وجعل ركنه الشديد في أيّامنا الزاهرة المشيد وظلّه الممدود، والصلاة والسلام الأتمّين الأكملين على سيدنا محمد ذي الحوض المورود، والكرم والجود، وعلى آله وصحبه نجوم الهدى وأعيان الوجود، ما أورق عود، وحمدت عقبى الصّدور والورود، صلاة دائمة إلى اليوم الموعود فإنّ أعلام الهدى لم تزل منشورة بمعالم العلماء، وأقطار الأرض ما برحت مشرقة بمن تستغفر لهم الحيتان في البحر والملائكة في السماء، وطول الأرض إلى فضائلهم أشدّ اضطرارا وأحوج إلى القرب إليهم والانتماء وكان فلان أدام الله تعالى تأييده من بيت شهدت الأيام مفاخره، وحمد الأنام أوائله وأواخره، وأضحت عيون الزمان إلى مآثره ناظرة، وغصون الفنون بفرائده ناضرة، وأوصافه الجليلة للأبصار والبصائر باهرة، وأصناف الفضائل من إملائه واردة صادرة.
فلذلك رسم بالأمر العالي زاده الله تعالى على العلماء إقبالا، وضاعف إحسانه إليهم ووالى أن يستمرّ المشار إليه فيما هو مستمرّ فيه: من تدريس المدرسة الرّكنية الحنفيّة، بظاهر دمشق المحروسة، حملا على ما بيده من الولاية الشّرعية والتوقيع الشريف: رعاية لجانبه وتوقيرا، وإجابة لقصده الجميل وتوفيرا، واستمرارا بالأحقّ وتقريرا.
فليباشر ذلك مباشرة ألفت منه، واشتهر وصفها الزّكيّ عنه، وليوضّح للطّلبة سبل الهداية، وليوصّلهم من مقاصدهم الجميلة إلى الغاية، وليسلك
طريقه والده، فإنّها الطريقة المثلى، وليتحلّ من جواهر فرائده، فإنّها أعلى قيمة وأغلى، وليمل على الأسماع فضائله التي لا تملّ حين تملى.(12/366)
فليباشر ذلك مباشرة ألفت منه، واشتهر وصفها الزّكيّ عنه، وليوضّح للطّلبة سبل الهداية، وليوصّلهم من مقاصدهم الجميلة إلى الغاية، وليسلك
طريقه والده، فإنّها الطريقة المثلى، وليتحلّ من جواهر فرائده، فإنّها أعلى قيمة وأغلى، وليمل على الأسماع فضائله التي لا تملّ حين تملى.
وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة الخاتونية البرّانية (1) الحنفيّة بدمشق، كتب بها للشيخ صدر الدين «عليّ بن الآدميّ» الحنفيّ ب «الجناب الكريم».
وكأنّه في الأصل لمن لقبه: «بدر الدين» لأنّ البدر هو المناسب لهذا الافتتاح، فنقله بعض جهلة الكتّاب إلى «صدر الدين» كما تراه وهذه نسخته:
أمّا بعد حمد الله الّذي زان أهل العلم الشريف بصدر أخفى نوره الشّموس، وأعلاه لما حازه من الشّرف الأعلى على الرؤوس، وجعل كلّ قلب يأوي إلى تبيان بيانه يوم الدّروس، والصلاة والسلام الأتمّين الأكملين على سيدنا محمد الّذي أذهب الله ببركته عن هذه الأمّة كلّ مكر وبوس، وخصّهم في الدّنيا بطيب الحياة وفي الآخرة بسرور النفوس، وعلى آله وصحبه صلاة مثمرة الغروس فإنّ أولى من تنصرف إليه الهمم، من تبدو دلائل علمه كنور لا نار على علم، وتسير فضائله في الآفاق سير الشّموس والأقمار، وتبرز إذا يبديها صدره من حجب وأستار.
وكان فلان ضاعف الله تعالى نعمته، وحرس من الغير مهجته هو الّذي أشير إلى ما حواه صدره الكريم من الفضائل، واشتهر في دروسه بإقامة الحجج وإيضاح الدّلائل، وبرع في العلوم الدّينية، وفاق أبناء عصره في الصّناعة الأدبيّة، وأنفق كنزه على الطّلاب، فأصبح «عمدة المحدّثين» وأمسى «مختار الأصحاب»، «أبو يعلى» ينزل ببابه، و «ابن عقيل» يرتدّ على أعقابه، و «ابن
__________
(1) هي المدرسة الّتي بنتها ربيعة خاتون بنت أيوب، أخت صلاح الدين، في جبل الصالحية بدمشق سنة 616هـ وتعرف هذه المدرسة بالحسامية نسبة إلى ابنها حسام الدين بن لاجين الّذي دفن فيها. وشرطت واقفتها ألا يجمع المدرّس بينها وبين غيرها. (وفيات الأعيان: 4/ 121والحياة العقلية بمصر والشام: ص: 65).(12/367)
الحاجب» يرفعه على عينه، و «الرّازيّ» يدّخر كسبه لوفاء دينه، و «ابن بطّة» يطير من مواقع سهامه، و «مقاتل» مجروح بحدّ كلامه، و «ابن قدامة» متأخّر عن مجاراته، و «الأثرم» يخرس عند سماع عباراته.
فلذلك رسم بالأمر العالي لا زال يجمع لمن برع في العلوم من ألوان المناصب المختلفة، ويرفع قدر القوم الذين قلوبهم على التّقوى مؤتلفة أن يستمرّ الجناب الكريم المشار إليه بالمدرسة الخاتونية البرّانية الحنفيّة، حملا على ما بيده من النّزول الشّرعيّ والولاية الشرعية: لأنّه الخلاصة الّتي صفت من الأقذار، والعدّة ليوم الجدال إذا ولّى غيره الأدبار، والمختار الّذي جنحت المناصب السّنيّة إلى اختياره دون من سواه، رغبة فيما ادّخره من الفضائل وحواه «بدايته» «نهاية الطلاب»، وعلومه «تحفة الأصحاب» إن حدّث «فابن معن» بصحّة نقله يحيا، أو فسّر «فمجاهد» عن مجاراته يعيا، و «الزّمخشريّ» يبعد عن الجوار، و «البغويّ» يبتغي الوقوف على الآثار، و «سيبويه» عندما ينحو يقصد «التسهيل» من لفظه المغرب المعرب، و «ابن عصفور» يكاد يطير طربا لما يبديه من «المرقص المطرب»، و «أبو يوسف» أصبح بصحبته منصورا، و «محمد بن الحسن» أضحى برفعته مسرورا هو في القدر «عليّ» وفي الطريقة «محمود» وفي العلوم «محمد»، وفي النطق الحركة «سعيد» وفي النظر «أسعد»، وفي النّضارة «النعمان» و «طاووس» يتحلّى جزءا من كمال خصاله، و «الحسن» يقتدي بحسن فعاله نشأ في العفّة والصّيانة، وكفله التوفيق وزانته الأمانة فهو بحر العلوم، ومستخلص درّها المكنون ومظهر سرّها المكتوم لو رآه «الإمام» لقاس علاه بالشّمس المنيرة، ولو عاصر الأصحاب لغدت أعينهم به قريرة.
فليباشر هاتين الوظيفتين اللّتين اكتستا به بعد نور الشّمس جلالا، وليلق علومه الّتي يقول القائل عند سماعها: هكذا هكذا وإلّا فلا لا، وليعلّم الطّلبة إذا أدهشتهم كثرة علومه أنّ فوق كلّ ذي علم عليم، وليتكرّم عليهم بكثرة الإفادة فإنّ عليّا هو الكريم، وليفق في مباشرة النّظر كلّ مثيل ونظير، ولا ينّبئك مثل
خبير، وليجتهد على عمارة معاهدها بذكر الله تعالى، وأداء الوظائف بحسن ملاحظته: ليزداد عند الخليقة جلالا وفيه بحمد الله ما يغني عن تأكيد الوصايا، ويعين على السّداد وفصل القضايا وكيف لا؟ وهو الخبير بما يأتي ويذر، والصّدر الّذي لا يعدو الصّواب في ورد ولا صدر والله تعالى يسرّ القلوب بعلوّ مراتبه، ويقرّ العيون ببلوغ مقاصده ومآربه، بمنّه وكرمه!.(12/368)
فليباشر هاتين الوظيفتين اللّتين اكتستا به بعد نور الشّمس جلالا، وليلق علومه الّتي يقول القائل عند سماعها: هكذا هكذا وإلّا فلا لا، وليعلّم الطّلبة إذا أدهشتهم كثرة علومه أنّ فوق كلّ ذي علم عليم، وليتكرّم عليهم بكثرة الإفادة فإنّ عليّا هو الكريم، وليفق في مباشرة النّظر كلّ مثيل ونظير، ولا ينّبئك مثل
خبير، وليجتهد على عمارة معاهدها بذكر الله تعالى، وأداء الوظائف بحسن ملاحظته: ليزداد عند الخليقة جلالا وفيه بحمد الله ما يغني عن تأكيد الوصايا، ويعين على السّداد وفصل القضايا وكيف لا؟ وهو الخبير بما يأتي ويذر، والصّدر الّذي لا يعدو الصّواب في ورد ولا صدر والله تعالى يسرّ القلوب بعلوّ مراتبه، ويقرّ العيون ببلوغ مقاصده ومآربه، بمنّه وكرمه!.
توقيع بخطابة جامع جرّاح، من إنشاء ابن نباته، كتب به ل «شرف الدين ابن عمرون» ب «المجلس العالي» وهو:
أمّا بعد حمد الله الّذي قسم للمنابر شرفا يتجدّد، وعطفا من الفصحاء يتأكّد، وعلما مرفوعا لا يتعدّى وعلما منصوبا لا يتعدّد، والصلاة والسلام على سيد الثّقلين وصاحب القبلتين محمد، وعلى آله وصحبه القانتين القائمين الرّكع السّجّد، ما عظّم خطيب ومجّد، وبدا في حلية سيادة وأهبة خطابة وهو على الحالين مسوّد فإنّ لصهوات المنابر فرسانا، ولصدور المحاريب أعيانا، ولعيون المشاهد أناسيّ يراعي منها الاستحقاق لكلّ عين إنسانا.
ولمّا كان جامع جراح المعمور بذكر الله تعالى ممّا أسّس على التّقوى، ووسم بأهل الزّهد سمة إذا ضعفت السّمات تقوى، مجمع الصّلحاء من كلّ ناحية، ومنتجع الفقراء: فنعم الجامع لهم ونعمت الزّاوية!، ومفزع العظماء عند استدفاع حرب وكرب، ومطلع لنور الهداة الّذي أغرب فأطلع نجومهم من الغرب تعيّن أن نختار له الخطباء والأئمّة، وننتخب لمنصبه من أفاضل الأمّة، وتتناسب حضّار منبره بصاحب علومهم وأعلامهم وإمامهم، المسرورين به يوم يأتي كلّ أناس بإمامهم.
فرسم بالأمر لا زالت أعواد المنابر بذكره أرجة، وأعلامها كالألسنة بحمده لهجة أن يفوّض لفلان علما باستحقاق شرفه لهذه
الرّتبة، وصعود هذه الذّروة الهضبة، ولأنّه الأولى بدرجات الرّتب النّفائس، والأجدر بجنى فروعها الموائس، والإمام على الحالين إذا قامت صفوف المساجد وإذا قعدت صفوف المدارس، والعربيّ الّذي إذا رقى ذروة منبر أطلقت عليه لفظة فارس، والورع الّذي آثر في مناصبه الباقية على الفانية، ومنابر الحكم المضيئة على مراتب الحكم الماضية، وعلى مجالس الدّعاوى مجالس الدّعوات، وعلى مقام الصّلات مقام الصلوات، وعلى القضاء الفرض، وعلى [الرّحبة المحلّ الأرقى] (1) ولو كمفحص (2) القطاة من الأرض، وعلى عرض الدّنيا القليل جوهر الفضل الكثير، وعلى كتاب «أدب القاضي» كتاب «الجامع الصغير» (3)
فليباشر هذه الوظيفة المباركة: خطيبا تدرأ مواعظه الخطوب، واعظا من قلب تقيّ تصل هدايا تقاه إلى القلوب، فصيحا تكاد المنابر تهتزّ طربا ببيانه، نجيحا تكاد أجنحة أعلامها تطير فرحا بمكانه، شاملا بنفحات فضله النّواسم، كاملا لو تقدّم زمانه لم يقل: «فلا الكرج الدّنيا ولا النّاس قاسم» والله تعالى يسدّد أقواله وأفعاله، ويرفع على المنابر والرّتب والمراتب مقامه ومقاله، ويمتّعه بهذه الرّتبة الّتي أشبهت معنى في الخلافة: «فلم يكن يصلح إلّا لها ولم تكن تصلح إلا له».(12/369)
فرسم بالأمر لا زالت أعواد المنابر بذكره أرجة، وأعلامها كالألسنة بحمده لهجة أن يفوّض لفلان علما باستحقاق شرفه لهذه
الرّتبة، وصعود هذه الذّروة الهضبة، ولأنّه الأولى بدرجات الرّتب النّفائس، والأجدر بجنى فروعها الموائس، والإمام على الحالين إذا قامت صفوف المساجد وإذا قعدت صفوف المدارس، والعربيّ الّذي إذا رقى ذروة منبر أطلقت عليه لفظة فارس، والورع الّذي آثر في مناصبه الباقية على الفانية، ومنابر الحكم المضيئة على مراتب الحكم الماضية، وعلى مجالس الدّعاوى مجالس الدّعوات، وعلى مقام الصّلات مقام الصلوات، وعلى القضاء الفرض، وعلى [الرّحبة المحلّ الأرقى] (1) ولو كمفحص (2) القطاة من الأرض، وعلى عرض الدّنيا القليل جوهر الفضل الكثير، وعلى كتاب «أدب القاضي» كتاب «الجامع الصغير» (3)
فليباشر هذه الوظيفة المباركة: خطيبا تدرأ مواعظه الخطوب، واعظا من قلب تقيّ تصل هدايا تقاه إلى القلوب، فصيحا تكاد المنابر تهتزّ طربا ببيانه، نجيحا تكاد أجنحة أعلامها تطير فرحا بمكانه، شاملا بنفحات فضله النّواسم، كاملا لو تقدّم زمانه لم يقل: «فلا الكرج الدّنيا ولا النّاس قاسم» والله تعالى يسدّد أقواله وأفعاله، ويرفع على المنابر والرّتب والمراتب مقامه ومقاله، ويمتّعه بهذه الرّتبة الّتي أشبهت معنى في الخلافة: «فلم يكن يصلح إلّا لها ولم تكن تصلح إلا له».
المرتبة الثالثة (من تواقيع أرباب الوظائف الدينية بحاضرة دمشق ما يفتتح ب «رسم بالأمر» وفيها وظائف)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
__________
(1) الزيادة من هامش الطبعة الأميرية.
(2) المفحص والأفحوص: حفرة تحفرها القطاة أو الدجاجة في الأرض لتبيض وترقد فيها.
(3) «الجامع الصغير» في الفروع، لمحمد بن الحسن الشيباني الحنفي المتوفى سنة 187هـ.
«وأدب القاضي» على مذهب أبي حنيفة للإمام أبي يوسف يعقوب المتوفى سنة 182هـ.
(كشف الظنون: 1/ 56146).(12/370)
نسخة توقيع بالتّدريس بالجامع الأمويّ والإفتاء به، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، كتب بها للشيخ «فخر الدين المصريّ» استمرارا ب «المجلس العالي» وهي:
رسم بالأمر الشّريف لا زال لدولته الفخر على الإطلاق، والمنّ على الأعناق، والكرم لطالبي الإرفاد والإرفاق، والتّكريم والتّقديم لذوي التّأهيل والاستحقاق، ولا برحت النّعم الثابتة للسّاجعين بمدحه المطرب قائمة مقام الأطواق أن يستقرّ فلان نفع الله ببقائه، ورفع عيون الأنجم لدرجات ارتقائه، لفوائده الّتي شملت الورى، وعلت الذّرا، وحمدت الأفهام عند صباحها السّرى، وقعد بها مسبل ذيل الحياء وسار بذكره من لا يسير مشمّرا، ومنزلته الّتي نصبت للهدى علما، وألفاظه الّتي أعربت عن بدائع بهرت فما فتح بمثلها العلماء فما، واستنباطه الّذي يقول للأول: قال وقلتم، وأقام وزلتم، واحتياطه الّذي يقول للسائلين: اهبطوا من انتساب حلقته مصرا فإنّ لكم ما سألتم وأنّه الفاضل الّذي ما استنار بعلمه فتّى فتاه، والنّافع الّذي ما استطبّ بكلماته سقيم ذهن فلمّا تحرّكت شفتاه شفتاه كم جلس للأشغال فثنى أنفس المارّة عن أشغالها!، ونصر العلم في حلقته المجنّدة فكان من أمرائها المنصور ولم يكن للأنداد من رجالها!، كم سلّم لبيان بحثه الحقيقيّ والمجازيّ!، وكم سطّرت لمناظرته المحمدية مع أهل الزّيغ سير ومغازي!، وكم خلص دينار فهمه المصريّ على النّقد فهيهات أن يروز مثله «الرّازي»! كم فخرت مصر بانتسابه ودمشق بسقيا سحابه!، وكم قال الرازي: ليت لي هذا الفخر فأروي في الأوّل بفتى خطيبه وفي الآخر بفتيّ خطابه.
فليستمرّ نفع الله به على وظيفته المأثورة، وحلقته الّتي نصبت على مصايد كلماته المشهورة، ومائدة علمه المنصوبة وذيول منافعها في الآفاق مجرورة، وليواظب على جلوسه بالجامع المنشرح المشروح، ودرسه المتضمّن
فتح أبواب العلوم وغيره كما يقال: على المفتوح، سالكا من نهج الإفادة مسالكه، مكاثرا بأجنحة فتاويه الطّيّارة ما يبسط لديه من أجنحة الملائكة، متصرّفا على عادة عبادته في مواطن العلم والعمل، مستندا في جلسته إلى سارية يقول لها وقاره وحلمه: يا سارية الجبل الجبل، داعيا لهذه الدّولة الشريفة: فإنّ دعاء العالم مثله طائر لآفاق القبول من أوكار القبل والله تعالى يمدّه بعونه ولطفه، ويحوط مجالس علمه بالملائكة المقرّبين من بين يديه ومن خلفه، بمنّه وكرمه!.(12/371)
فليستمرّ نفع الله به على وظيفته المأثورة، وحلقته الّتي نصبت على مصايد كلماته المشهورة، ومائدة علمه المنصوبة وذيول منافعها في الآفاق مجرورة، وليواظب على جلوسه بالجامع المنشرح المشروح، ودرسه المتضمّن
فتح أبواب العلوم وغيره كما يقال: على المفتوح، سالكا من نهج الإفادة مسالكه، مكاثرا بأجنحة فتاويه الطّيّارة ما يبسط لديه من أجنحة الملائكة، متصرّفا على عادة عبادته في مواطن العلم والعمل، مستندا في جلسته إلى سارية يقول لها وقاره وحلمه: يا سارية الجبل الجبل، داعيا لهذه الدّولة الشريفة: فإنّ دعاء العالم مثله طائر لآفاق القبول من أوكار القبل والله تعالى يمدّه بعونه ولطفه، ويحوط مجالس علمه بالملائكة المقرّبين من بين يديه ومن خلفه، بمنّه وكرمه!.
وهذه نسخة توقيع بتدريس مدرسة القصّاعين، من إنشاء ابن نباتة، كتب به لفخر الدين «أحمد بن الفصيح» (1) الحنفيّ المقريّ ب «المجلس السامي»، وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زال يقدّم من العلماء أفخرهم ذكرا، وأحمدهم أمرا، وأفصحهم نسب فضائل وفضائل نسب يقول الاستحقاق: كلاهما وتمرا أن يرتّب فلان: لما شهر من علومه السّنيّة، وفوائده السّريّة، ووجوه فضائله الحسنة، وعيون كلماته المتيقّظة إذا كانت بعض العيون مستوسنة، ولأنّه غريب في الوصف والمكان، وصاحب علم لا يكاد يوجد له شقيق وإن كان منسوبا إلى «النّعمان»، وإمام قراءات ثبتت له فيها على «أبي عليّ» الحجّة، وتوضّحت ببيانه المحجّة، وتعيّن محلّه الأثير، وروى الطالب من علمه عن «نافع» ومن ذهنه في الفوائد عن «ابن كثير»، وأنّه فخر الحنفيّة القائم في السّمعة مقام «رازيها»، المطلّ بمنسر قلمه على المعاني إطلال بازيها، «الأكمل» الذي له من علوم صدره خزانة، «الصّدر» الذي كلّ صدر يشهد له بعلوّ المكانة.
__________
(1) هو أحمد بن علي بن أحمد الكوفي البغدادي، فخر الدين: من فقهاء الحنفية. تصدى للإفتاء والتدريس بدمشق، وتوفي بها سنة 755هـ. (الأعلام: 1/ 175).(12/372)
فليباشر تدريس هذه المدرسة المباركة: حقيقا بجلوس صدرها، خليقا بتجديد شرفها وذكرها، مظهرا للخبايا النّكت في زواياها، جديرا بأن يكون في خفايا المسائل ابن جلاها وطلّاع ثناياها، يملأ ببيان بحوثه فكر الواعي وسمعه، ويشير ببنان قلم فتياه ما يتجدّد له من رفعة، ويبسط إدلال الطّلبة حتّى يأكلوا في القصّاعية معه في القصعة والله تعالى يسرّه من مدارس الحنفيّة بهذه البداية، ويقرّه بما يتجدّد من وظائفها التالية: {وَمََا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ} (1) بمنّه وكرمه!.
وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة الطّرخانية، من إنشاء ابن نباتة، كتب به للقاضي جمال الدين «يوسف الحنفيّ» بنزول من والده وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زالت مواطن العلم مكمّلة بذكره، مبجّلة بأمره، مؤهّلة لكلّ يوسفيّ الجمال يذكّر عزيز شامه عزيز مصره أن يستقرّ فلان في كذا، بحكم ما قرّره مجلس الحكم العزيز الشافعيّ، ونعم المالك لمذهب شافع، واتبّاعا لما حرّره الجناب الشريف التّقويّ ذو النّسب الصّحابيّ الّذي كلّ أمر لأمره تابع، وعملا بما رآه رأيه الكريم الّذي إذا كان الجمال شافعا كان هو للجمال شافع، وإذا أنشأ من أبناء العلماء فروعا [لا] (2) تميل عليهم الأيام ميلة، وإذا وقفت في طريقهم الأنداد قال اقتصار نسبه الأنصاريّ: يأبى الله ذاك وبنو قيلة (3)، وقبولا لنزول هذا الوالد الّذي أعرقت في آفاق العلم مطالعه، وإقبالا على هذا الولد الّذي نجحت في استحقاق التّقديم مطامعه، وعلما بنجابة هذا الفاضل الّذي طاب أصلا وفرعا، وقدّم نفسه ووالده وترا وشفعا، وهذا البادي الشّبيبة الّذي يأمر بفضائله على الشّيب وينهى، وهذا الواضح الدّلالة على مفاخر قومه: فحبّذا الدّعوى وبيّنتها منها، وهذا النّجيب الّذي قدمه أبوه منجبا، وذكاؤه
__________
(1) جزء من الآية الكريمة: «وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها» الزخرف / 48.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) بنو قيلة هم الأوس والخزرج ونسبتهم إلى قيلة بنت كاهل، أمهم.(12/373)
معجبا، وقلمه في الأوراق معشبا، واشتغاله: إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت من محفوظات كتبي ما يقارب أحد عشر كوكبا، وإذا درّس كان لطلبته ملاذا، وإذا عانده معاند قال برفيع همّته: يوسف أعرض عن هذا، وإذا قرأ كتب فصاحته أذهل ذوي الألباب، وإذا فتح لتفسير كتاب الله فاتحة، عوّذ بفضل: {الم ذََلِكَ الْكِتََابُ} (1)، وإذا روى الأحاديث أطربت حقيقته السماع، وإذا أخذ في دقائق النّقل والعقل علم وعقل أنّ الفكرة صناع (2)
فليباشر هذه المدرسة المباركة ببيان عربيّ وإن كان نسبها طرخانيّا، وعلم روضي لا يعرف العلماء شقيقه وإن كان مذهبه نعمانيّا، ومباحث تذكي نار قريحته: فكم طبخ لأنداده من أصحاب «القدوريّ» قدرا، ولزوم درس يسرّ أباه بمذهبه: فإنّه القاضي «أبو يوسف» خبرا في الحقيقة وخبرا والله تعالى يصون شبيبته المقبلة من طوارق الحدثان، وينفع بعلوم بيته الّتي من شكّ منها في الحقّ فكأنه من الحدثان.
وهذه نسخة توقيع بتصدير بالجامع الأمويّ، من إنشاء ابن نباتة، كتب به ل «شمس الدين بن الخطيب» وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زالت نعمه ظاهرة الفضل كالشّمس، طاهرة الوضوح من دنس اللّبس، وافرة النّموّ فيومها قاصر عن الغد زائد على الأمس أن يرتّب فلان في كذا ويرتّب له كذا على المصالح فكم للمسلمين في جامع علمه مصالح، وفي منافع قصده مناجح، وفي فوائده نصيب، وفي طرق هداه معالم: ولا تنكر «المعالم» لابن الخطيب، ليتناول هذا الرّاتب المستقرّ من أحلّ الجهات وأجلّها، وتكون شمسه المباركة خير شمس تجري لمستقرّ لها،
__________
(1) {الم ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}: البقرة / 21.
(2) الصّناع: الماهر في الصناعة.(12/374)
عوضا عما نزل عنه من تدريس الحلقة المعدوقة بصاحب حمص وتصديرا بالجامع الأمويّ يبسط به أنواره الشّمسيّة، وينقل اسمه إلى إمرة العلم بدمشق عوضا عن الحلقة الحمصيّة فليعتمد ما رسم به، ولا يتحوّل عما قضى العدل والإحسان بموجبه.
الضرب الثاني (من تواقيع أرباب الوظائف الدّينية بالشام ما يكتب به لمن هو بأعمال دمشق وهو على مرتبتين)
المرتبة الأولى (ما يفتتح ب «أمّا بعد حمد الله» وفيها وظائف)
توقيع بتدريس المدرسة النّوريّة [بحمص] (1) من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، كتب به للقاضي زين الدين «عمر البلفياني» ب «المجلس العالي» وهو:
أمّا بعد حمد الله الّذي جعل لوجوه العلم زينا وأيّ زين، وأقرّ لأماكنها عينا بمن يكون التّنبيه على فضل مكانته فرض عين، ونشر أحاديثها بمن إذا حدّث عن يد تمكّنه في العقل والنّقل قيل: صدق «ذو اليدين»، وأحيا مذاهبها بمن إذا عقدت الخناصر على أمثاله العلماء كان أوّل العقد وثاني الغيث وثالث «العمرين»، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله الّذي أوضح تبيين الهدى وسنّه، وأرهف شبا الحقّ وسنّه، وعلى آله وصحبه الذين منهم «عليّ» مفتاح مدينة العلم و «عمر» سراج أهل الجنّة، ما جرت أقلام العلم والجود في هذه الأيّام الصّالحيّة طلقة العنان مطلقة الأعنّة فإنّ أولى العلماء بمدارس علم لا خلت، ومجالس فهم عزّت بأهلها فلا تعزّلت، ومشاهد عقل
__________
(1) في الأصل «بدمشق». والتصحيح بناء على ما سيأتي في هذا التوقيع وهي غير المدرسة النورية الكبرى بدمشق.(12/375)
ونقل لا عقلت ألسنتها بعد مستحقّيها ولا انتقلت من أضاءت مشكاتها النّوريّة بمصابيح كلمه، وفتّحت كمائمها النّوريّة عن زهرات الهدى بقطرات قلمه، وتذكرت بأوقاته الأخيرة عهود أهلها من هداة الاسلام وأوقات ذي سلمه.
ولمّا كان فلان هو المقصود بخلاصة هذا المعنى، والممدود إليه نظر هذا الوصف الأسنى، والعالم الّذي تشبث بأسباب محاسنه بلد «الهرمين»، والسابق وإن خلا وقته الطاهر خلف وقت «إمام الحرمين» كم اجتنى ثمر الفوائد من أصل وفرع!، وكم بات قلمه من ورق فتاويه وإسكات مناويه بين وصل وقطع! كم صدق برق بديهته الأفكار حين شامت!، وكم نبّهت عند ليالي المشكلات «عمر» (1) ثم نامت!، وكم تهادت نظره كتب العلم حتّى قال «كتاب الأمّ» (2): نعم الولد النّجيب، وقال «كتاب الروضة»: نعم أخو الغائث الصّائب على رياض القول المصيب، وقال «الشامل» من فضله: هذا لطلبته «نهاية المطلب»، وقال «التنبيه» على محاسنه: ليت «النّابغة» رآه فدرى أيّ الرّجال «المهذّب» (3)، وكانت المدرسة الشّهيدية النّوريّة بحمص المحروسة قد شهدت مع من شهد بفضله، وسعدت بنبله، ووسمت بعلم علمه، وسمت سموّ الشهباء: هذه بمقرّ تدريسه وهذه بمجلس حكمه ثم زار دمشق زورة
__________
(1) الإشارة إلى شعر لبشّار يمدح فيه عمر بن العلاء، أحد عمال المهدي، وكان على طبرستان:
إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبّه لها عمرا ثم نم
فتى لا ينام على غرة ... ولا يشرب الماء إلا بدم
(الأعلام: 5/ 55).
(2) «كتاب الأم» للإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204هـ «وكتاب الروضة» في الأصول للشيخ موفّق الدين الحنبلي المتوفى سنة 620هـ و «الشامل» في أصول الدين و «نهاية المطلب في دراية المذهب» لإمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني المتوفى سنة 478هـ «والتنبيه» في فروع الشافعية للشيرازي المتوفى سنة 476هـ أنظر كشف الظنون.
(3) من قول النابغة:
ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أيّ الرجال المهذّب
(جمهرة الأمثال: 1/ 188والميداني: 1/ 23).(12/376)
تشوّقت [إليه] (1) بعدها تلك المشاهد، وتشوّفت إلى العود هاتيك المعاهد، وقضى الوفاء أن يعاد إليها أحسن إعادة، وأن يرجع إلى الأماكن الشهيدية الشاهدة ببرّه فتكون منه عادة ومنها شهادة، واقتضى الاستحقاق أن يردها بالمعلوم المستقرّ وزيادة وأحسن ما ورد البحر في الزيادة.
فلذلك رسم بالأمر الشريف أعلاه الله وشرّفه، وحلّى بسيره الصالحة سمع الدّهر وشنّفه أن يستقرّ فلان في تدريس المدرسة النّورية بحمص المحروسة على عادته، وعلى نهج إفاءته وإفادته، بالمعلوم المقرّر له بمجلس الحكم العزيز الشافعيّ بدمشق المحروسة: رعاية لتلك المعاهد النّوريّة الّتي تتأرّج بها الآصال والبكر، وأنوار القبول القائلة لوفدها الطارق: «عليك سلام الله يا عمر».
فليعد إلى هذه الوظيفة عود الحليّ إلى العاطل، وليقبل على رتبته المرتقبة إقبال الغيث على الماحل، وليقل بلسان تقدّمه لمعانديه: إن كان أعجبكم عامكم فعودوا إلى حمص في قابل، ولينصر بقاعها الحمصيّة بجلاد جداله فإنّها من أوّل جند الإسلام، وليقم الآن في هذه الأوقات الشّاميّة فإنّه بركة الوقت والبركة في الشّام، مثمرا من أقلام علومه أزكى الغروس، مظهرا من مباحثه النّفائس مبهجا من طلبته النّفوس، عامرا لمعاهدها بدروسه: ويا عجبا لمعاهد تعمر بالدّروس (2)!، ذاكرا للوصايا الحسنة الّتي لا تقصّ عليه فهو أخبر بها، والّتي من أوّلها وأولاها تقوى الله تعالى وهي بأفعاله أمسك من تفاعيل العروض بسببها، والله تعالى يعضّده في رحلته ومقامه، ويمتع الرّتب تارة بمجالس دروسه وتارة بمجالس أحكامه، ويروي صدى مصر والشّام من موارد علمه، هذه بأوفى من نيلها وهذا بأوفر من غمامه.
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) يقال: درس درسا ودروسا. ودرس الكتاب، معروف. ودرس الشيء: عفا وذهب أثره.(12/377)
المرتبة الثانية (من تواقيع أرباب الوظائف الدينية بأعمال دمشق ما يفتتح ب «رسم بالأمر» وفيها وظائف)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع بحسبة بعلبكّ: من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، كتب بها ل «شهاب الدين بن أبي النور» وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زالت شهب أوامره عالية السّنا والسّناء، وفيّة لذوي الاستحقاق بمزيد الاعتناء والاغتناء، جليّة البرّ بمن شهد بحسن حسبته حتّى لسان الميزان وفم الكيل وشفة الإناء أن يستمرّ فلان لما ذكر من أوصافه الّتي ضاعفت فيه الرّغبة، وحالفت به سموّ الرّتبة، وشهدت بها حسبته تلو الشّهود: وحسبك من اجتمعت على فضله شهادة الفرض وشهادة الحسبة، ولما صحّ من كفاءته وتجربيه، ووضح في هذه الوظيفة من تدريبه الّتي تدري به، ولما تعيّن من استمرار شهابه في المنزلة الّتي تكتسي من أضوائه وتكتسب، وهذه الرتبة الّتي تعلو بمعرفته: وكفاه أنّه يرزق من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب! وأنّه فيها ذو الرّأي الزّائد، والنّفع الوارد، والشّهاب الّذي نور هداه في وجه المريد وأثركيّ حسبته في وجه المارد، وأنّه وليها ولاية لا تزال تذكر وتشكر، وعرف بوفائها وكان أوفى من أمر بمعروف أو نهى عن منكر، وأنّه قام حقّ القيام حتّى قال البلد: رعى الله زمانك، واجتهد حتّى قال الاعتبار للميزان: لا تذكر الزّيغ ولا تحرّك به لسانك.
فليستمرّ في حسبته المباركة استمرارا يستحلى ذكره، ويستجلى في الاسم شهابه وفي السّمة بدره، وليحتسب في نفع المسلمين حسبة يحتسب بها عند المملكة ثناءه وعند الملائكة أجره، سالكا على نهج العزم الجميل، جاعلا أوّل نظره من أقوات الرّعيّة في الدّقيق والجليل، مستبينا لما التبس من غشّ المطاعم والمشارب فلم يستبن، حاكما ولا سيّما في قاعات بعلبك برأي
يفرّق بين الماء واللّبن، حاثّا على بيع المآكل بخبرة من ملإ بصره، حريصا على أن لا ينشد لسان الدّاخل فيه «ومن لم يمت بالسّيف مات بغيره»، دافعا ضرر المجتري البائع عن المشتري المسكين: ذكيّا فيما يذكّي فيذبح بسكّين ويذبح متناوله بغير سكّين، قاضيا بالحقّ في كلّ ما يشترى ويباع، متكلّما في أنواع الملابس وغيرها بالباع والذّراع، وازنا بالعدل في كلّ موزون ومكيول، رادعا لكلّ عمّال مداهن في كلّ مدهون ومعمول، حاملا على الحال المستقيم كلّ حيّ لديه وكلّ من هو على آلة حدباء محمول ومن زاد في الإضرار فليمنع زائده، ومن زاد في الاشتطاط وتجبير الشراء فليقطع بالنّكال زائده، ومن دنّس في الأشربة فلا يلبث أن يغلّظ التّأديب وأن يريقه، ومن سقى الضّعفاء منها كما يقال: سقية فليسقه من السّوط ما يكاد ينثر جسمه على الحقيقة، ومن عانى صناعة ليس له فيها يد فليلزمه بما بسط في إفساده اليدين، ومن حكم في صناعة الطّبّ بما لم يسغ في المسائل فليصرفه منها بخفيّ حنين، ومن تمرّد في معاملته فليردّه بالقهر إلى صالح مردّه، ومن عدا وعتا فليعامله بما يخرجه من التّرح لا من الفرح من جلده، مقداما في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ولا جزع، مستعينا بالديوان فيما أهمّ: فإنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع، مجتهدا فيما يزيد تقدّم سعيه المشكور، وصنعه المبرور، منيرا لآفاق منصبه وكيف لا وهو الشّهاب بن أبي النّور؟ وتقوى الله تعالى هي السبيل الأقوم فليكن لها منهاجا، وليواظب على طريقة الحقّ: فكم شرّ عنها حاد وكم خير منها جا (1)!.(12/378)
فليستمرّ في حسبته المباركة استمرارا يستحلى ذكره، ويستجلى في الاسم شهابه وفي السّمة بدره، وليحتسب في نفع المسلمين حسبة يحتسب بها عند المملكة ثناءه وعند الملائكة أجره، سالكا على نهج العزم الجميل، جاعلا أوّل نظره من أقوات الرّعيّة في الدّقيق والجليل، مستبينا لما التبس من غشّ المطاعم والمشارب فلم يستبن، حاكما ولا سيّما في قاعات بعلبك برأي
يفرّق بين الماء واللّبن، حاثّا على بيع المآكل بخبرة من ملإ بصره، حريصا على أن لا ينشد لسان الدّاخل فيه «ومن لم يمت بالسّيف مات بغيره»، دافعا ضرر المجتري البائع عن المشتري المسكين: ذكيّا فيما يذكّي فيذبح بسكّين ويذبح متناوله بغير سكّين، قاضيا بالحقّ في كلّ ما يشترى ويباع، متكلّما في أنواع الملابس وغيرها بالباع والذّراع، وازنا بالعدل في كلّ موزون ومكيول، رادعا لكلّ عمّال مداهن في كلّ مدهون ومعمول، حاملا على الحال المستقيم كلّ حيّ لديه وكلّ من هو على آلة حدباء محمول ومن زاد في الإضرار فليمنع زائده، ومن زاد في الاشتطاط وتجبير الشراء فليقطع بالنّكال زائده، ومن دنّس في الأشربة فلا يلبث أن يغلّظ التّأديب وأن يريقه، ومن سقى الضّعفاء منها كما يقال: سقية فليسقه من السّوط ما يكاد ينثر جسمه على الحقيقة، ومن عانى صناعة ليس له فيها يد فليلزمه بما بسط في إفساده اليدين، ومن حكم في صناعة الطّبّ بما لم يسغ في المسائل فليصرفه منها بخفيّ حنين، ومن تمرّد في معاملته فليردّه بالقهر إلى صالح مردّه، ومن عدا وعتا فليعامله بما يخرجه من التّرح لا من الفرح من جلده، مقداما في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ولا جزع، مستعينا بالديوان فيما أهمّ: فإنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع، مجتهدا فيما يزيد تقدّم سعيه المشكور، وصنعه المبرور، منيرا لآفاق منصبه وكيف لا وهو الشّهاب بن أبي النّور؟ وتقوى الله تعالى هي السبيل الأقوم فليكن لها منهاجا، وليواظب على طريقة الحقّ: فكم شرّ عنها حاد وكم خير منها جا (1)!.
توقيع بنظر السبيل بدرب الحجاز، بالركب الشاميّ، من إنشاء ابن نباتة، كتب به للقاضي «قطب الدين السبكي» وهو:
رسم بالأمر لا زال يقرّ بالوظائف الدّينية من يحبّها وتحبّه، ومن يتوارد
__________
(1) أي جاء.(12/379)
على ذكره بادي الشّكر وركبه، ومن إذا بدت مطالع الخير فهو نيّره وإذا دار فلك الثناء فهو قطبه أن يستقرّ: لما ذكر من وصفه الجميل، واستحقاقه الذي دلّ [عليه] البرهان في محفله وبرهن في موكبه الدليل، وديانته الّتي هي لمباني الأوصاف الرّفيعة أساس، وكفاءته الّتي لها من نفسه نصّ ومن نفس قومه قياس، ومرباه في بيت تقيّ صحّت تجارب معدنه على السّبك، و [دلت] (1)
مناقبه على استحقاق الرّتب الّتي يقول بشيرها: قفا نبتسم! ويقول حاسدها: قفا نبك، ولما تقدّم من تشوّفه لهذه العزمة الناجحة، وتشوّقه من هذه المبرّة الشريفة الصالحيّة بسلوك تلك الفجاج الصّالحة، ولأنّ الضّعف عاقه عن الماضي فأطلقته الآن هذه القوّة، وجعلت له بأوفى القادرين على الحسنات والإحسان أسوة، ومكّنته في هذه الشّقّة الطويلة على سحب أذيال المعروف من منزل الكسوة إلى منازل ذات الكسوة (2)
فليباشر هذه الوظيفة المبرورة بعزم يبير من الوجد ماكنه (3)، وحزم يثير من المدح المشكور كامنه، وسمعة على ألسنة التذكار يمضي وتبقى حتّى تكاد تكون للكواكب السبعة ثامنة، متصرّفا في الإرفاد والإرفاق، بآراء يؤيد الله [بها] الذين هم رفاق وأيّ رفاق، منفقا في سبيل الله على يده أعدل إنفاق، حاميا عدله من لفظة نفاق، مخصبا بإنعام الدّولة الشريفة في القفر الماحل، حاملا للمنقطع على أنهض وأبرك الرواحل، مواصلا لنقل الأزواد إقامته ومسيره، وبالماء والشّراب الطّيبين الطّهورين ضعيفه وفقيره، وبأنواع الأدوية والعقاقير الّتي تعمّ متتابع الرّكب [و] عقيره، وتجبر على الحالين كسيره، وبوفاء جميع المستحقّين تاليا عن لسان الدولة الشريفة: {قُلْ هََذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللََّهِ عَلى ََ بَصِيرَةٍ} (4)
داعيا بخلود ملكها في تلك المشاهد الّتي هي بقبول مصاعد الدّعوات ونزول
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) كناية عن الكعبة، فهي بناء ذو كسوة.
(3) في هامش الطبعة الأميرية: «يريد مكينه ولكنه اضطره السجع إلى موافقة العامة».
(4) يوسف / 108وتتمة الآية {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحََانَ اللََّهِ وَمََا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.(12/380)
مواعد البركات جديرة والله تعالى يتقبّل دعاءه وسعيه، ويحسن كلاءته ورعيه، بمنه وكرمه!.
الصنف الثالث (من التواقيع الّتي تكتب لأرباب الوظائف بدمشق ما يكتب لأرباب الوظائف الدّيوانية وهي على ضربين)
الضرب الأوّل (ما يكتب لمن بحاضرة دمشق منهم وهو على ثلاث مراتب)
المرتبة الأولى (ما يفتتح ب «الحمد لله» وفيها وظائف)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع بكتابة الدّست بدمشق، كتب به لتاج الدين «عبد الوهاب» ابن المنجا التنوخيّ، عوضا عن شمس الدين «محمد بن حميد» بالوفاة وهي:
الحمد لله الّذي جعل تاج الأولياء أينما حلّ حلّى المراتب وزانها، وغدا على التّحقيق كفأها ووزانها، وألبسها من براعته ويراعته عقودا تزرّ دررها (1)
وجمانها، ومنح دستها العليّ من ألفاظها المجيدة بيانها، وزادها بأصالته فخارا يستصحب وقتها وزمانها، وارتقى ذروتها الّتي طالما زاد بالمعالي أركانها، فتبوّأ بمزيد المجد مكانها.
نحمده على نعمه الّتي أجزلت إحسانها، وأجملت امتنانها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تشهد القلوب إيمانها، ويدّخر القائل إلى يوم المخاف أمانها، ويتبوّأ بها في الدّار الآخرة من يخلص فيها جنانه جنانها،
__________
(1) تزرّ دررها: أي تحتوي عليها.(12/381)
ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أظهر الله تعالى به الشريعة المطهرة وأبانها، وشرّف هذه الأمّة ورفع على جميع الأمم شانها، وبعثه رحمة إلى كافّة الخلق فأقام بمعجزاته دليل الهداية وبرهانها، وأطفأ بنور إرشاده شرر الضّلالة ونيرانها، وأحمد بدينه القويم وصراطه المستقيم معتقدات [طوائف] (1) الشّرك وأديانها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ما منهم إلا من نزّه نفسه النّفيسة وصانها، وسلك في خدمته وصحبته الطريقة المثلى فأحسن إسرار أموره وإعلانها، صلاة دائمة باقية تحمد بالأجور اقترانها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من جدّدنا رفعة تاجه، وسدّدنا قوله في مجلس عدل ينشر فيه بكلمة الحقّ ما انطوى من أدراجه، وحدّدنا له محلّ سفارة يلحظ فيه حوائج السائل فيغنيه عن إلحاحه ولجاجه من هو في السّؤدد عريق، ولسانه في الفضائل طليق، وقلمه حلّى الطروس بما يفوق زهر الرّياض وهو لها شقيق وكان فلان هو الّذي علا تاجه مفرق الرّآسة، وجلا وصفه صور المحاسن والنّفاسة.
فرسم بالأمر العاليّ لا زال يولي جميلا، ويولّي المناصب الجليلة جليلا أن يستقرّ المشار إليه في وظيفة توقيع الدّست الشريف بالشام المحروس، عوضا عن فلان بحكم وفاته إلى رحمة الله تعالى، بالمعلوم الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت.
فليباشر ذلك مباشرة تشكر مدى الزمان، وتحمد كلّ وقت وأوان، وليملأ بالأجور لنا صحفا بما يؤدّيه عنّا من خير وإحسان والوصايا كثيرة وأهمّها التقوى فليلازم عليها في السّرّ والنّجوى والله تعالى يحرسه ويرعاه، ويتولّاه فيمن تولاه والاعتماد
__________
(1) الزيادة مما جرت عليه عادته في هذا المقام.(12/382)
[وهذه نسخة] توقيع بنظر الخاصّ، من إنشاء ابن نباتة، كتب به للقاضي «بهاء الدين بن ريّان» وهي:
الحمد لله معلي رتب الأعيان، ومبقي أحبّاء السّيادة على ممرّ الأحيان، ومبدي «بهاء» المناصب، بمن فضله الواضح والصّبح سيّان، ومنشي ثمرات المناقب، في منابت أهلها حيث الفرع باسق والأصل «ريّان».
نحمده على أن يسّر البيت المعلّى بحسنه، وأيقظ جفن الآمال من وسنه، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تجمع لنا من خيري الدّنيا والآخرة كرم المطلبين، وشرف المنصبين، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المشرق فضله على أهل المشرقين والمغربين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين أصبح الثناء عليهم وقفا، واشتمال الذّكر عليهم عطفا، صلاة تضيء آفاق القبول بشمعة صبح لا تقطّ ولا تطفى، وسلّم.
أما بعد، فإنّ للمناصب الدينية نسبة ببيوت أهل الدّيانة، ولخاصّ الرّتب تعلقا بالخاصّ من ذوي الكفاءة والأمانة والمنازل بكواكبها المتألّقة، والحدائق بمغارسها المتأنّقة، ونفوس الدّيار بسكّان معاهدها المتشوّفة المتشوّقة.
ولمّا كان الخاصّ الشريف والوقف المنصوريّ لوجه المناصب الشامية بمنزلة حسن الشامتين، ولرائد الخصب من جهتي الدنيا والآخرة بمحلّ نفع الغمامتين هذا على صنع البرّ الممدود مقصور، وهذا لسحاب الخير سفّاح لأنهر جهة ل «لمنصور» يعلو هذا بالنّاظر في دقائقه إلى أعلى الدرّج، ويتلو هذا بلسان ميزانه المنفق على المارستان: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفََاءِ وَلََا عَلَى الْمَرْضى ََ وَلََا عَلَى الَّذِينَ لََا يَجِدُونَ مََا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} (1) لا يليق الجمع بين رتبتيهما إلّا لمن يجمع بسعيه فضل الدّارين، ومن يجيد بنان قلمه الحلبيّ حلب ضرعيهما الدّارّين، ومن نشأ في بيت سعادة أذن الله لقدره أن يرفع، وأقلام بيته
__________
(1) التوبة / 91.(12/383)
أن تنفع، ولمحاسن ذويه أن تشفع بجمالها إلى قلوب الأولياء فتشفّع، ومن يسرّ برواية فضله وبرؤيته السّمع والعين، ومن يفترض شرفه وشرف إخائه حبّ «الحسن» و «الحسين»، ومن تبتهج جوانح المحاريب بتعبّده، وتلهج ألسنة مصابيح المساجد بالثّناء على تردّده وتودّده، وتستبق جياد عزمه: فبينما الكميت (1) في الشّهباء تابع أدبه إذا بابن أدهم (2) رسيل تزهّده، ومن تقول مناصب حلب: «لله درّ بهائه المقتبل!، ومن ينشد ثبات وقاره مع لطافة خلقه:
«يا حبّذا جبل الرّيّان من جبل» (3)!، ومن تنفح أخباره منافح الأزهار، ومن يشهد بفضله جيش المحراب في اللّيل وبمباشرته جيش الحرب في النهار، ومن تأسى بلدة فارقها فراق العين للوسن، ومن يروي صامت دمشق وغيرها من تدبيره عن «عامر» وعن «حسن».
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال من ألقابه الشريفة صالح المؤمنين، وعماد الدّاعين لدولته القاهرة والمؤمّنين أن يفوّض للجناب العالي
فإنّه المعنيّ بهذه الأوصاف المتقدّمة، والمقصود بإفاضة حللها المعلمة، والموصوف الّذي يحلو وصفه إذ كرّر، ويستعبد الأوصاف والأسماع إذا حرّر، والأحقّ برتبة عزّ في النّظار مضى وأبقى ثناءه، ومكان نظر إن لم يقل الدعاء اليوم: أدام الله عزّه! قال: أدام الله بهاءه، واللّائق بتقرير منصب تقصر دونه
__________
(1) ثلاثة من الشعراء يعرفون بالكميت وهم: الكميت الأكبر ابن ثعلبة بن نوفل: عاش في الجاهلية والإسلام والكميت الأسدي، وهو الكميت بن زيد شاعر الهاشميين، وكان عالما بآداب العرب ولغاتها وأخبارها وأنسابها (والأرجح أن الإشارة هنا تتجه إليه) ثم الكميت الأوسط ابن معروف ابن الكميت: شاعر مخضوم عاش أكثر حياته في الإسلام. (أنظر الأعلام: 5/ 233وطبقات الشعراء: 291).
(2) هو إبراهيم بن أدهم بن منصور. المتوفى سنة 161هـ.: زاهد مشهور. كان إذا حضر مجلس سفيان الثوري وهو يعظ أوجز سفيان في كلامه مخافة أن يزلّ. (الأعلام: 1/ 31ودائرة المعارف الإسلامية: 1/ 153).
(3) صدر بيت لجرير:
يا حبذا جبل الرّيان من جبل ... وحبذا ساكن الريّان من كانا(12/384)
المطامع، وتصدير ديوان إن انقطعت روايته عن «حمزة» فقد اتّصلت روايته عن «نافع».
فليباشر هذين المنصبين المنجبين، مجتهدا في مصالح الخاصّ الشريف، والوقف الّذي لا تحتاج همّته فيه إلى توقيف، حتّى يكون خير الخاصّ عامّا، وأمر الوقف تامّا، وريعهما بالبركات خير محفوف، والمنصوريّ من جهة المعاضدة قد أضحى وهو بالعضدين موصوف.
والوصايا متعدّدة وهو أدرى وأدرب بها، وتقوى الله تعالى أولى وصيّة تمسّك المرء بسببها، وشكر النعمة أدلّ على نبيه همم الرجال وعلى فضل مهذّبها والله تعالى يسدّد قلمه، ويثبّت في مطالع العزّ قدمه، بمنّه وكرمه!.
توقيع بنظر الخزانة العالية (1)، من إنشاء ابن نباتة، كتب به للقاضي «تقيّ الدين بن أبي الطّيّب» ب «الجناب العالي» وهو:
الحمد لله الّذي له خزائن السموات والأرض، وبحكمته يهب منها ما يشاء لمن يشاء رضي المعاند أم لم يرض، وبمنّته فضّلت مراتب أهل التّقى على الرّتب كما فضّل على النافلة الفرض، وبعنايته بنيت بيوت أهل السّيادة على الطّول وبقي صالح عملهم إلى العرض، وبهدايته سما إلى أعلى الخزائن من تقرضها أوصاف قلمه وقلم أبيه أحسن القرض.
نحمده على ما منح من خزائن فضله، ونشكره والشّكر ضامن المزيد لأهله، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة يدّخرها الإنسان لنيّته وقوله وفعله، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي جمع بفيئه وفرّق
__________
(1) يعبّر عن الخزانة بدمشق بالخزانة العالية ومتوليها يكون رفيقا للخازندارية من الطواشية، ويكون متحدثا في أمر التشاريف والخلع وما معها. وهي وظيفة جليلة يوليها النائب بتوقيع كريم.
(مصطلحات صبح الأعشى: ص 118).(12/385)
ببذله، وأعطى ما لم تنطو ضمائر الأكياس في صدور الخزائن على مثله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه السّالكين سنن فضيلته وفضله، التابعين في الكرم والبأس قياس بيانه ونصّ نصله، ما أطلعت خزانة الوسميّ آثار نقط الغيث كالدّراهم، وخلعت على الدنيا خلع الروض متقلنسة بمستدير الظّلال مزرورة بمعقود الكمائم، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ الرّتب ذخائر قوم في خزائن الاختيار، وأخاير أهل تزكو نقود شيمهم على محكّ الاعتناء والاعتبار، وفروع خلف تظهر مظاهر نصولها الزكيّة سابغة الظّلّ رائقة الزّهر فائقة الثّمار إذا احتيج منهم إلى ذخيرة نفعت، وإلى أخير وقت أربى على عزائم الأول وما صنعت، وإلى فروع شجرة سرت محامدها الضّائعة: لا ممّا ضاعت بل ممّا تضوّعت.
ولما كانت رتبة نظر الخزانة العالية بدمشق المحروسة أحقّ بمن هذا وصفه، وهذا نعته في مقدمّة الذّكر الجميل وهذا إليه عطفه إذ هي مرتبة العلياء ومكانها، وزهرة سماء المملكة وميزانها، ومنشأ غيوث صلاتها الهامرة، ومنبت رياض خلعها الزاهرة، وأفق السعادة ومطلع نجمها المنير، وجنّة أولياء الدّولة ولباسهم فيها حرير، ومعنى شرف الاكتساء والاكتساب، ومأوى الفاضل والحمد لله الذي يحفظها التحصيل بحساب ويعطيها الجود بغير حساب.
وكان الجناب (1) ممن تضم أعطافه أنوار السّعادة، وتحفّ أطرافه و (2). السّيادة، وتنتقل جلسته: إمّا من تنفيذ الديوان لمرتبة وإمّا من تدريس العلم لسجّادة، ذو الفضل والفضائل حسن التّجنيس والتّطبيق، والكتابة: من حساب وإنشاء زاكية النّثر على التّعليق، ونفحات البرّ من نفحات العيش أجود، والشبيبة فيها النهى فمكانه كما قال البحتريّ: نسب أسود، والهمم الّتي حاولت منال الشّهب الممتنعة ولات حين مناص، والكلمة الّتي لو
__________
(1) بياض في الأصل.
(2) بياض في الأصل.(12/386)
عاين «البصريّ» فرائد نحرها لقال: كلّ هذه درّة الغوّاص، والعزائم الّتي رامت المناصب فما قبلت من خزانتها سوى الرّفيع وما رضيت من ديوانها سوى الخاص كم نبّهت منه المقاصد «عمر» (1) ثم نامت!، وكم أجلسته كواكب اليمن في صدر محفل ثم قامت!، كم حوى من الحمد سنيّا!، وملأ الرّباع خيرا وفيّا!، وقيض الله للفقراء والأيتام حنانا من لدنه وزكاة وكان تقيّا.
فلذلك رسم بالأمر الشرّيف لا برح صالح الدّهر كالزّهر، مالك نفوس الأولياء والأعداء: هاتيك بالإنعام وهاتيك بالقهر أن يفوّض إليه نظر الخزانة العالية مضافا إلى ما بيده من نظر الخاصّ الشريف: لأنّ مثله لا يصرف عن وظيفة بسناه تعترف، ومن نداه تغترف، وأنّ اجتماع العدل والمعرفة قاض بأنّ «عمر» لا ينصرف، وأنّ الخاصّ لخاصّ الأولياء أمسّ مكانة، وأنّ الخزانة أنسب بمن عرف بالصّيانة، وأنّ خزائن الأرض، وهي مصر لو نطق نظيرها لقال: ليس لي مثل هذه الخزانة، وأنّ عين الأعيان أولى بالنّظر، وأنّ الأنظار لا بل الصّحابة أحقّ ب «عمر» لما علم من سيرته النّقيّة، وسريرته التقيّة، وصفاته الّتي يمتدّ فيها نفس القول حتّى ينقطع وفي الأوصاف بعد بقيّة وبقيّة.
فليباشر ما فوّض إليه من أعلى المراتب المنجبات، والوظائف المعجبات المعشبات، والجهات الّتي ما لها كبيته الطّيّبي: والطّيّبون للطّيّبات، مستجدّا من نظر هذه الخزانة ثوب سعده الجديد، معملا في مصارف الذّهب والفضّة بصر آرائه الحديد، منبّها لها عزمه العمريّ ونعم من ينبّه، مشبها في الكفاءة أباه المرحوم وما ظلم من أشبه، مقرّرا من أحوالها أحسن مقرّر، محرّرا من أمورها أولى ما اعتمد والخزانة أولى بالمحرّر، حافظا لمالها بقلم التّحصيل حتّى ينفّذ قلم الإطلاق، صائنا لوفرها حتّى ينفقه الكرم خشية الإمساك بعدما أمسكه الصّون خشية الإنفاق، مستدعيا من أصنافها كلّ ما تنوّع وتصنّف، وتوشّع
__________
(1) انظر ص 376، هامش (1).(12/387)
وتفوّف، مثبتا كلّ ما خلع من ديوانها العزيز وتخلّف، مؤلّفا للكساوى (1) في رحلة كلّ صيف وشتوة، مواصلا للأحمال من دمشق على كلّ حال من جهة الكسوة، منهيا لإنعامها بقلم الإطلاق التّام، متلقّفا بعصا قلمه في يده البيضاء ما تأفك عصا الأقلام، حريصا على أن يكون بابها في الكرم كما يقال: «سهل الحجاب مؤدّب الخدّام»، عاملا بتقوى الله تعالى الّتي بها يبدأ الذّكر الجميل ويختم، ويلبس بها في الدّنيا والآخرة رداء الخير المعلم، غنيّا عن تبيين بقايا الوصايا الّتي هو فيها بحر، وابن بحر بكتاب «البيان والتبيين» أعلم والله تعالى يمدّه بفضله، ويحفظ عليه الفضل الّذي هو من أهله، ويملأ آماله بغمام الخير الصّيّب، ويديم سعادة بيته الّذي لا يرفع الشّكر لطيبه إلا الكلم الطّيّب.
المرتبة الثانية (من تواقيع أرباب الوظائف الديوانية بحاضرة دمشق ما يفتتح ب «أمّا بعد حمد الله»)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
[نسخة] توقيع بنظر الأسرى ونظر الأسوار، كتب بها لدوادار الأمير «سودون الطرنطاي» (2) كافل الشّام، وإن كانت هي في الأصل ديوانية أو دينية وهي:
أمّا بعد حمد الله الّذي خصّ أولياءه بفضله الوافر، وعمّهم بحسن نظره فأشرق صبح صباحهم السّافر، وانتضى من عزائمهم لنصرة الدّين سيفا يسرّ المؤمن ويغيظ الكافر، واجتبى من الكفاة من يشيّد معاقل الإسلام بفضله
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية أنه جارى العامة في هذا الاستعمال.
(2) قال في نزهة النفوس والأبدان: «وفي الخامس عشر من محرم سنة 794هـ خلع للأمير سودون الطرنطاي بنيابة دمشق» وفي يوم الإثنين من شهر رمضان خلع على الأمير كمشبغا الخاسكي الأشرفي واستقر في نيابة الشام بحكم وفاة سودون الطرنطاي في شهر شعبان. (انظر نزهة النفوس والأبدان: 1/ 352342).(12/388)
المتظافر، والصلاة والسلام الأتمّين الأكملين على سيدنا محمد الّذي أضاء برسالته الوجود، وخصّه الله تعالى بالصّفات الفائقة والمآثر الحسنة والجود، وعلى آله وصحبه الذين حرسوا الملّة الحنيفيّة من جهادهم بأمنع سور، وأوهنوا جانب الكفر وأنقذوا الأسير وجبروا المكسور، صلاة دائمة مدى الأيّام والشّهور، معلية للأولياء علم النّصر المنشور فإنّ أولى من عدقنا به المناصب السّنيّة، وفوّضنا إليه جليل الوظائف الدّينيّة، ونطنا به فكّ رقبة المسلم من أسره، وخلاصه من عدوّه الّذي لا يرثي لمسكنته ولا يرقّ لكسره، وأجرينا قلمه ببذل الفداء، وجعلنا مداده درياقا (1) لمرض الأسر الّذي يعدل ألف داء، وأقمناه للعاني من شرك الشّرك منقذا، وللدافع في بيداء العدا بحسن إعانته منجدا، وللأسوار الممنّعة بجميل نظره متفقّدا من أضحى فضله ظاهرا، وجلاله باهرا، وخلاله موصوفة بالمحاسن أوّلا وآخرا.
وكان فلان هو الّذي بهرت مآثره الأبصار وملأت الأسماع، وانعقدت على تفرّده في عصره بالمفاخر كلمة الإجماع، وسارت الرّكبان بذكره الّذي طاب وجوده الّذي شاع، وصفت سريرته، فأضحى جميل الإعلان، وحمدت سفارته، فكانت عاقبة كلّ صعب ببركتها أن لان.
فلذلك رسم بالأمر العاليّ لا زال يولي جميلا، ويولّي في الوظائف جليلا أن يستقرّ المشار إليه في وظيفتي نظر الأسرى والأسوار بدمشق المحروسة، على أجمل عادة، وأكمل قاعدة، بالمعلوم الشاهد به ديوان الوقف المبرور إلى آخر وقت: وضعا للشيء في محله، وتفويضا لجميل النّظر إلى أهله.
فليباشر ذلك مباشرة تسرّ النفوس، وتزيد بها الغلال وتزكو بها الغروس، وليجر أحوال الوقف المبرور على مقتضى شرط الواقف والشّرع الشريف،
__________
(1) الدرياق والترياق: ما يمنع امتصاص السمّ من المعدة أو الأمعاء.(12/389)
وليتصرّف في تحصيل المال وإنفاقه أحسن تصريف، وليجتهد على تخليص المأسور، وإغاثة من ضرب بينه وبينه بسور، ويسارع إلى تشييد الأسوار الممنّعة، وإتقان تحصينها ليتضاعف لمن حوته منّا الأمن والدّعة والوصايا كثيرة وملاكها تقوى الله تعالى وسلوك صراط الحقّ المستقيم: فليواظب عليها، وليصرف وجه عنايته إليها والله تعالى يديم علاه، ويتولّاه فيما تولاه، بمنه وكرمه.
توقيع بصحابة ديوان الأسرى (1)، من إنشاء ابن نباتة، كتب به للقاضي شرف الدين «سالم بن القلاقسيّ» وهو:
أمّا بعد حمد الله الّذي جدّد بطالع الشّرف قواعد بيت السّيادة، ومشاهد حوك السّعادة، ومصاعد ذرا الأقلام الّتي قسمت مجاني قصبها للإفاءة والإفادة، ومعاهد القوم الذين سلكوا مسالك سلفهم الحسنى: ولو كان التمام يقبل هنا مزيدا قيل: وزيادة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الّذي شدّ الله برسالته أزر الحقّ وشاده، وعلى آله وصحبه ذوي الأقدار المستزادة المستجادة، ما اتّصل بحديث الفضل سنده وأمن بيت التقوى سناده فإنّ البيوت المنتظم فخارها، المأمون من عروض الأيّام زحافها وانكسارها، أولى بأن تنتخب لهم المناصب كما تنتخب للبيوت المعاني، وتستقرى الوظائف العليّة كما تستقرى لمواضع كلمها المباني، وتختار لنجل الأصحاب (2) بينهم كلّ جهة مأمونة الصّحابة، موقورة السّحابة، مجرورة ذيل الخيرات السّحابة، مصونة عن غير الأكفاء كما يصان للجهات حجبا، لائقة بالأفاضل لأنّ لأوقاف الأسرى بالفاضل نسبا.
فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يرتّب في كذا: علما بأنّه الرئيس الّذي إذا
__________
(1) صاحب ديوان الأسرى: عمله التحدّث في أموال الأوقاف الّتي تفدى بها الأسرى.
(2) كذا بالأصل. وفي الطبعة الأميرية مع علامة توقف. ولعل الصواب «لجلّة الأصحاب».(12/390)
ولي وظيفة كفاها، وإذا وعدها بصلاح التّدبير وفاه وفاها، وإذا وصل نسبها بنسبه كان من إخوان صفائها لا من إخوان صفاها، والخبير الّذي استوضح بيمن الرّأي مذاهبه ومسالكه، والعالم الّذي إذا مشّى الأمور بسط جناح الرّفق وإذا مشى بسطت له أجنحتها الملائكة، والجليل الّذي إذا نظر ذهنه في المشكلات دقّق، والكاتب الّذي تعينت أقلام علمه وكفاءته إلّا أنّ كلّها في الفصل محقّق هذا وخطّ عذاره ما كتب في الخدّ حواشيه، وليل صباه ما اكتمل، فكيف إذا أطلعت كواكب المشيب دياجيه وكيف لا؟ وأبوه أعلى الله تعالى جدّه صاحب المجد الأثيل، والفضل الأصيل، ووكيل السلطنة الّذي إذا تأمّلت محاسنه قالت: حسبنا الله ونعم الوكيل.
فليباشر هذه الوظيفة برأي يسهّل بمشيئة الله عسيرها، ويفكّ بعون الله أسيرها، واجتهاد سنيّ يحسن قلمه في الأمور مسرى، واعتماد سريّ لا يرى ديوان أسرى منه أسرى، مشبها أباه في عدله ومن أشبه أباه فما ظلم، وتوقّد رأيه لدى طود حلم وعلم «فيالك من نار على علم!»، حتّى يأمن ديوان مباشرته من ظلم الظالم، ويشعل ذكاءه حتّى يقال: عجبا للمشعل نارا وهو سالم!، ويثمّر مال الجهة بتدبيره، ويشرك لفظ إطلاق الديوان في ماله وأسيره، وتنتقل الأسرى من ركوب الأداهم إلى ركوب الشّهب والحمر من دراهمه ودنانيره، ويحمد على الإطلاق، وينفق خشية الإمساك إذا أمسك [غيره] (1)
خشية الإنفاق، ويمشي بتقوى الله عزّ وجلّ في الطّريق اللّاحب (2)، وينسب إلى ديوانه وقومه فيقال: صاحب طالما انتسب من سلفه لصاحب والله تعالى ينجح لكواكب رأيه مسيرا، ويجبر به من ضعف الحال كسيرا، ويكافيء سادات بيته الذين {يُطْعِمُونَ الطَّعََامَ عَلى ََ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} (3)
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) أي الطريق الواضح.
(3) الإنسان / 8. ولفظ الآية: «ويطعمون الخ».(12/391)
المرتبة الثالثة (من تواقيع أرباب الوظائف الديوانية بحاضرة دمشق ما يفتتح ب «رسم بالأمر الشريف»)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع (1) من إنشاء ابن نباتة، كتب به للقاضي «علاء الدين بن شرف الدين بن الشهاب محمود» عند موت أبيه وهو صغير وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زال يجبر ببرّه مصاب الأبناء بآبائهم، ويسرّهم بما يتجدّد في كواكب الشّرف من علائهم، ويعتق قلوبهم من إسار الحزن حتّى ينشأوا من الصّغر على أنساب عفّتهم وولائهم أن يستقرّ اعتمادا على نجابته الشاهده، ومخايل همّته السائدة، واستنادا إلى أصالته الّتي لا يبدي فرعها إلّا زكيّ الثّمر، ولا يهدي بحرها إلّا أنفس الدّرر، ولا يخلّف أفقها إلّا كبيرا تستصغر الأبصار رؤيته: والذّنب للطّرف لا للكوكب في الصّغر، وعلما أنّه من أسرة شهابيّة لا يهتدى في الإنشاء إلّا بنورهم، ولا يتحدّث بالعجائب إلّا عن بحورهم، ولا ينبت أقلام البلاغة إلّا عشبهم، ولا تعشب روضات الصحائف إلا سحبهم، ولا تثبت أفلاك الكتابة إلا كتبهم، صغيرهم في صدور الإنشاء كبير، وملقّن آيات فضلهم يروي أعداد الفوائد عن «ابن كثير»، وعليّهم بعد «أبي بكر» تقول المحامد لسلفه وخلفه: منّا أمير ومنكم أمير وأنّه اليوم لا سيف إلّا «ذو الفقار» من أذهانهم، ولا فتّى إلّا «عليّ» من ولدانهم، وأنّ فرخ البطّ سابح، وسعد القوم للأنداد ذابح (2)، وخواتم صحف الجمع الظاهر أشبه
__________
(1) بياض في الأصل. ولعله «بكتابة السرّ» على ما يؤخذ من فحوى التوقيع.
(2) لعلّ الإشارة هنا إلى سعد بن عبادة، سيّد الخزرج فقد كان لسعد وآبائه في الجاهلية أطم (حصن) ينادى عليه: من أحب الشحم واللحم فليأت أطم دليم بن حارثة. ودليم بن حارثة هو جدّ سعد. (انظر الأعلام: 7/ 85).(12/392)
بالفواتح، والبلاغة في الدنيا كنوز والأقلام في أيديهم مفاتح، وأنّ [الكلام حليته] (1) وسمته، وأنّه إذا خدم دولة بعد مخلّفه قيل للذاهب: لقد أوحشنا وجهه وللقادم: لقد آنستنا خدمته.
فليأخذ في هذه الوظيفة بقوّة كتابه، وليتناول باليمن واليمين قلم جدّه كما تناول راية مجده عرابة (2)، وليتقلّد بقلائد هذه النّعم عقيب ما نزع التمائم، وليجهد في إمرار كلمه الحلو الّذي أوّل سمائه قطر ثم صوب الغمائم، مجوّدا خطّه ولفظه حتّى تتناسب عقده، ناشئا على كتم السّرّ حتّى كأنّ الفؤاد قبره والجنب لحده، مهتديا بالعلم الشّهابيّ في برّ أخيه الأكبر فإنّه من بوارق المزن، مبتديا مع أخيه الآخر السّرور إذ ينزع عنهما لباسهما من الحزن والله تعالى يزيد في فضله، ويتمّ عليه النعمة كما أتمهّا على أبيه من قبله، ويفقّهه في السيادة حتّى يحسن في الفخار ردّ الفرع إلى أصله.
توقيع بنظر مطابخ السّكّر، من إنشاء ابن نباتة، كتب به للقاضي «شرف الدّين بن عمرون» وهو:
رسم لا زالت سمة المناصب في دولته الشّريفة مشرّفة، وأقلام الكفاة مصرّفة، وألفاظ الشّكر ثابتة عند ذوي الاستحقاق ومصنّفة، والنّعماء المنصفة لأمثالهم حلوة المذاقين من نوع ومن صفة أن يستقرّ لما عرف من شيمه المستجادة، وهممه المستزادة، وكفاءته اللّائق بها حسن النّظر الثّابت بفضلها رقم الشّهادة، وأصالته الّتي نهض أوّلها بمهمّات الدّول فلو رآه معاوية رضي الله عنه لقال: يا عمرون أنت عمرو وزيادة، ولما ألف من مباشرته المنيفة خبرا وخبرا، وأنظاره السّامية إلى معالي
__________
(1) في الأصل: «وأن الكلا بحلهم» وهي غير مفهومة. والتصحيح من الطبعة الأميرية.
(2) أنظر ص 87من هذا الجزء، هامش (1).(12/393)
الأمور نظرا، ووظائفه الّتي لا يكاد يبلغ العشر منها ذوو الهمم العليّة، وجهاته التي عرف بها سلفه وخلفه فلا غرو أن لبس عمامة مفاخره بيضاء وسكّريّة.
فليباشر هذه الوظيفة الحلوة معنى ومذاقا، الحليّة عقدا ونطاقا، المحسوبة على مطالع الشّرف وفقا وآفاقا، جاعلا شكر النّعمة من أوفى وأوفر مزاياه، وصلف الهمّة من أولى وأوّل وصاياه، حافظا للمطابخ وإن كان عادة آبائه بذلها، مدّخرا للجفان وإن كانت سمة قراهم إزالتها ونقلها، حريصا على أن لا يجعل لأيدي الأقلام الخائنة مطمحا، وعلى أن ينشد كلّ يوم للتّدبير لا للتّبذير:
[لنا] الجفنات الغرّ يلمعن في الضّحى
محرّرا لحساب درهمها ومحمولها، ومصروفها ومحصولها، محترزا على مباشرته من الخلل في هذين المكانين، حذرا من كفّتها وقبّانها فإنّها تتكلّم في الحمد أو في الذّم بلسانين، بل تعلن إن شاء الله بحمده المقرّر، وتكرّر الأحاديث الحلوة عنه فمن عندها خرج حديث الحلو المكرّر والله تعالى يمدّ مساعيه بالنّجح الوفي، ويلهم همّته أن تنشد: «ما أبعد العيب والنّقصان من شرفي!».
توقيع بنظر دار الطّراز (1)، من إنشاء ابن نباتة وهو:
رسم بالأمر لا زالت سيره بمرقوم المحامد مطرّزة، ودولته بمحاسن التأييد والتّأبيد معزّزة، ونعمه ونقمه: هذه على الأعداء مجهزة وهذه إلى الأولياء مجهّزة أن يرتّب فلان: لكتابته الّتي رقمت الطّروس، وطرّزت بالظّلماء أردية الشّموس، وأثمرت أقلامه بمحاسن التّدبير فكانت في جهات الدّول نعم الغروس، وحسابه الّذي ناقش ونقش، ورقم الأوراق ورقش، واعتزامه الّذي
__________
(1) كان ينسج بها أنواع الأقمشة المختلفة. وكان في الإسكندرية دار طراز مخصصة للقماش المستعمل في الكسوة السلطانية.(12/394)
علّم رشدا، وسلك طريقا في الخدمة جددا، وقوي اسمه وتكاثرت أوصافه فما كان من أنداده أضعف ناصرا وأقلّ عددا وأنّه الكافي الّذي إذا قدّم نهض، وإذا سدّد سهم قلمه أصاب الغرض، والسّامي إلى سماء رتبه بالقلب والطّرف، والمنزّه لقلمه الحرّ من أن يستعبد على حرف.
فليباشر هذه الوظيفة بكفاءة عليها المعوّل، وأقلام إذا تمشّت في دار الطّراز على الورق قيل: «شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل»، مستدعيا لأصنافها ومالها، عادلا في قسمة رجائها ورجالها، معملا راحته بالقلم فإنّ كتابتها متعبة، مهتديا في طرق حسابها فإنّها متشعّبة، ماشيا على نهج الاحتراز، ساعيا إلى الرّتب بإرهاف عزم كالسّيف الجراز (1)، سعيد السّعي إن شاء الله تعالى حتّى يقول سناء الملك المستنهض له: هذا القاضي السّعيد وهذه دار الطّراز والله تعالى يوفّقه في جميع أحواله، ويؤيّد مساعي قلمه الّذي تنسج أقلام الكفاة على منواله.
توقيع بنظر الرّباع (2)، من إنشاء الشيخ صلاح الدّين الصّفديّ، باسم القاضي نجم الدين «أحمد بن نجم الدين محمد بن أبي الطّيّب» وهو:
رسم بالأمر العالي لا زال نجم [آلائه] (3) يتّقد نورا، وخاطر أوليائه يتّحد بالآمال سرورا أن يرتّب المجلس الساميّ القضائيّ أدام الله تعالى علوّه في نظر الرّباع الدّيوانية، ومباشرة الأيتام حرسهم الله تعالى على عادة من تقدّمه وقاعدته، بالمعلوم الّذي يشهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت: لأنّه النّجم الّذي بزغ في أفق الرّآسة، وجمّل ما آثره قبيله وأناسه (4)، والأصيل الّذي
__________
(1) الجراز من السيوف: القاطع.
(2) راجع ص 284من هذا الجزء هامش (1).
(3) في الأصل «أوليائه».
(4) أناس الشيء: حرّكه وهزّه.(12/395)
شاد الفضل مجده، وأحكم الفخر عقده، والرّئيس الّذي يصدق التّفرس في شمائله، ويحكم الظن الصائب في أثناء مخايله.
فليباشر ذلك مباشرة هي معروفة من هذا البيت، مألوفة من كبيرهم وصغيرهم: فإنّهم لا لوّ فيهم ولا ليت (1)، معتمدا على سلوك طريقة أخيه وأبيه، مجتهدا على اتباع اعتمادها في توخيّه الصّواب أو تأبّيه، حتّى يقال: هذا صنو ذلك الغصن الناضر، وهذا شبل ذلك اللّيث الخادر، وتصبح الرّباع بحسن نظره آهلة بالأهلّة، كاملة بالمحاسن الّتي تمسي الأقمار منها مستهلّة، وتعود الأيتام بمشارفته كأنهم لم يفقدوا برّ والدهم، ولم يحتاجوا مع تدبيره إلى مساعدهم.
والوصايا كثيرة وأهمها تقوى الله عزّوجلّ فإنّها الحصن الأوقى، والمعقل المنيع المرقى فليتّخذها لعينيه نصبا، وليشغل بها ضميره حتّى يكون بها صبّا والله تعالى ينمّي غصنه الناضر، ويقرّ بكماله القلب والنّاظر والخطّ الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه، حجّة في ثبوت العمل بما اقتضاه والله الموفّق بمنه وكرمه!.
توقيع باستيفاء المقابلة واستيفاء الجيش (2) وهو:
رسم بالأمر لا زالت المناقب في دولته الشريفة شمسيّة الأنوار، قرشيّة الفخار، مشتقّة المحامد من الأسماء والآثار، محصّلة بأقلام اليمين ما يبذله الكرم من أقسام اليسار أن يستقرّ حسب الاستحقاق المقتضى،
__________
(1) لاته ليتا: أخبره بالشيء على غير وجهه. واللوّ: الكلام الخفيّ، والباطل.
(2) المستوفي: من كتاب الأموال في الدواوين وعمله ضبط الديوان التابع له والتنبيه على ما فيه مصلحته من استخراج أمواله ونحو ذلك. ومستوفي الجيش: عمله ضبط تحركات الجيش وتسجيلها والإشادة بها وبانتصار الجيش ويكون مستوفي الجيش من الكتاب، ويكون أيضا من القضاة العدول كما يختص مستوفي الجيش بالإشراف على مصادر الإنفاق على الجيش. ولعل المراد باستيفاء المقابلة الإشراف على نوع من الامتحان (مقابلة) يجرى على الذين يدخلون الجيش. ولم يرد هذا المصطلح في «الصبح» سوى في هذا المكان (التعريف بمصطلحات الصبح: 31030وقوانين الدواوين: 301).(12/396)
والاختيار المرتضى، وعين الرّأي الّذي ما بينه وبين الرّائي حاجب، وتقدّم السّنّة القديمة فإنّ التقديم لقريش واجب، ولأنّ الصفات الشّمسيّة أولى بشرف آفاقها، ومنازل إشرافها وإشراقها، ومطالع سعدها المنزّهة عن اللّبس، وجلائل قلمها العطارديّ في يد الشّمس، ولأنّ المشار إليه أحقّ بمصاعد المرتقين، ولأنّه تربّى في بيت التّقى فكان الله معه إنّ الله مع المتّقين.
فليباشر هاتين الوظيفتين على العادة المعروفة بعزمه السديد، ومدّات قلمه التي بحرها في السبع بسيط وظلّها في النّفع مديد، وليتمثّل بديوان مقابلة فريدا لا يرهب مماثلة، وليجبر أحوالها بضبطه حتّى يجمع بين الجبر والمقابلة، وليمدّ الجيوش المنصورة من أوراقه بأعلامه، ومن قصبات السّبق برماح تعرف بأقلامه، وليسترفع من الحسبانات ما يمحو بإيضاحه وتكميله من مقدّمات ظلم وإظلام، وليجمع بين ضرّتي الدنيا والآخرة في شريعة الإسلام والله تعالى يمدّ قرشيّته بأنصار من العزم، وتابعين بإحسان من نوافذ نوافل الحزم.
توقيع بصحابة ديوان الأسواق (1)، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، وهو:
رسم بالأمر لا زالت أسواق نعمه قائمة، وأجلاب كرمه دائمة، ولا برحت المناصب مكمّلة بكفاة أيّامه الذين يحقّقون ظنونها السامية ويرعون أحوالها السّائمة أن يرتّب فلان: علما بكتابته الّتي وسمت الدّفاتر أحسن سمة، واستبقت إلى صنع الخير المسوّمة، وكفاءته الّتي لا تزال تنمو لديه وتنتمي، ويراعته الّتي إذا سئل عنها السّوق قال: هي عصاي أتوكّأ عليها وأهشّ بها على غنمي، ودرايته الّتي تعين المملكة على المير (2)، ويشهد
__________
(1) لصاحبها النظر والإشراف على البيع والشراء في الأسواق. والظاهر أن عمله يقتصر على الملاحظة والتسجيل، إذ أن التقرير بشأن هذه الأمور يعود إلى المحتسب والمعلوم أن مراقبة الأسواق وما يجري فيها من بيع وشراء كانت من أولى اهتمامات عمل المحتسب.
(2) مار أهله ميرا: أعدّ لهم الميرة، وهي الطعام يجمع للسفر ونحوه.(12/397)
تيمّنها أنّ الخيل في نواصيها الخير، وتحقّق فيه الظّنّ والأمل، وتحوط السّوق عن الخائن حتّى يقول: لا ناقة لي في هذا ولا جمل، وأنّه الكافي الّذي إن قال أو فعل كان مسدّدا، وإن ضبط ديوان الشّدّ (1) السعيد كان على الزّائغين من الكتبة حرفا مشدّدا.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة متمكّن الأسباب، مالك الحزم والرفقّ حتّى تكثر لديه الجلّاب، معينا لبيت المال على الإنفاق، قائما بحقوق ذوي الاستحقاق، عالما أنّه [متولّي] (2) أكثر جهات الخير المطلق فليكن بها مشكورا على الإطلاق، مجتهدا في رضا المطالبين حتّى يتّبعوا سنن المرسلين في هذه [الصفة] (3) يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، مواظبا على الديوان الّذي هو بصحابته معدوق، سالكا سبل الصّيانة والكفاءة فكلاهما نعم السّبيل المطروق، محترزا من ذي خيانة إن غفل عنه طفق مسحا بالسّوق والله تعالى يوفّق عزائمه التي هي أشهر من علم، وهمّته الّتي قاسمت «أبا الطّيّب»: والخيل تشهد والقرطاس والقلم».
نسخة توقيع بشهادة الخزانة العالية (4)، من إنشاء ابن نباتة، كتب به لجمال الدين «عبد الله بن العماد الشيرازيّ» وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زالت سمة المناصب في دولته بأسماء الكفاة مجمّلة، وخلع المفاخر على بيوت السيادة مكمّلة، وخزائن الملك بين نقيضين من جنس واحد: فبينما هي بأقلام الكفاة محتفظة إذا هي بأقلام الكفاة مبذّلة أن يستقرّ المجلس الساميّ: علما بمحاسنه التي وضح
__________
(1) الشدّ هو التفتيش والمراقبة.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(4) عمل متولّيها التحدّث في المتحصل والمنصرف، أي بلغة عصرنا الصادر والوارد.(12/398)
جمالها، وتفسّح في العلياء مجالها، ونجح في منابت الفضل أصلها، وشرف بكواكب اليمن اتّصالها، ومعاليه التي تهلّل بها وجه الأصالة، وكمل بيت الرّآسة والجلالة، ومساعيه الّتي استوفى بها أجناس الفضل وتوريثه فما أخذها عن كلال ولا ورثها عن كلالة، وسيرته الّتي تطوي فخار الأقران حين تنشر، وهمّته التي أنشدت السّعادة فرعها الكريم: «مباديك في العلياء غاية معشر»، ومكانته من بيت السيادة الرّفيع عماده، البديع سنده المنيع سناده، المديد من تلقاء المجرّة طنبه الثّابتة من حيّز النّجوم أوتاده، وأنّه نجل السّراة الذين أخذوا من الفضل في كلّ واد، واستشهدوا على مناقبهم كلّ عدوّ وكلّ وادّ (1)، وحملوا من صناعاتهم رايات عبّاسيّة سارت بها رماح أقلامهم تحت أبدع سواد، وملأوا قديم الأوطان بشرف الأخير: فسواء على شيراز محاسن «ابن العميد» ومحاسن «ابن العماد»، وتبيّنت مناقبهم بهذا النّجل السّعيد طرق المراتب كيف تسلك، وإحراز المناصب كيف يكون لها يد أرباب البيوت أملك، ودرجات الوظائف كيف تسرّ الوالد بالولد حتّى يقول: لا أبالي هي اليوم لي أم لك! كم استنهض والده لجليل فكفى، وجميل قصد فوفى، وأوقات علت حتى أضحت إلى علاه تنتسب، ومناصب رزق بتقواه فيها من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب وجاء هذا الولد ذخيرة والده فحسنت للخزانة الذّخيرة، وعضّدت الأوّلة من السيادة بالأخيرة.
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة هي أعلى منها وأشرف سيرة، مجتهدا فيما يبيّض وجه علمه ونسبه، عارفا قدر هذه الرّتبة من أوائل رتبه، متيقّظ الأفكار والطّرف، متأرّج المعرفة إذا ذكروا العرف، زاكيا تبر شهادته على التّعليق فلا ينتقد عليه في متحصّل ولا صرف، حتّى تقول الخزانة: نعم العزم الشاهد! وحتّى يشهد بوفاء فضله المضمون، وحتّى يعلم بأمانته أنّ عبد الله هو «المأمون» وتقوى الله تعالى في الوصايا أوّل وأولى ما تمسّك به، واستقام على
__________
(1) أي كل محبّ وهي اسم فاعل من «ودّ» يودّ.(12/399)
شرف مذهبه والله تعالى يسرّ الإسلام بتنبيه قدره ويقرّ الأوصاف بمهذّبه!.
توقيع بشهادة الأسوار وهو:
رسم بالأمر لا زال يمدّ على الإسلام من عنايته سورا، ويجدّد للأولياء برّا ميسورا، ويسعدهم بكلّ توقيع يكون بالحساب يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا أن يرتّب المجلس: علما بعزمه الساهد (1)، وحزمه الشاهد، وكفاءته وأمانته الّتي ما كان وصفهما حديثا يفترى، ونظرا لحاله وحال الأسوار: فيالها شهادة كان أصلها نظرا.
فليباشر هذه الرتبة المباركة كما عهد منه مباشرة حسنة الآثار، مشرقة الأنوار، جاعلة تلك العمائر حلية لدمشق: فبينما هي سور إذا هي سوار، ضابطا لمتحصّلها ومصروفها، محرّرا لوقفها محترزا من وقوفها، جاريا على جميل عادته، زاكيا بكرم الله تعالى على التّوفيق تبر شهادته، حتّى تشهد هذه الوظيفة بهمّته المتمكّنة الأسباب، ويضرب بين المدينة وبين من كادها بسور باطنه فيه الرّحمة وظاهره من قبله العذاب والله تعالى يسدّده في كلّ أمر، ويحفظ همّته وبركته «ليوم كريهة وسداد ثغر».
توقيع بمشارفة (2) خزائن السّلاح، لمن لقبه «جمال الدين إبراهيم» وهو:
رسم بالأمر العاليّ أعلى الله تعالى أعلام حمده، وجعل أحكام المقادير
__________
(1) المراد: عزمه المتيقّظ.
(2) عمل المشارف طلب التفاصيل الكاملة عن أية جهة من الجهات الضريبية التي تقع في دائرة عمله كما يدخل في عهدته جمع المتحصلات المالية بعد ضبطها وختمها. (قوانين الدواوين:
302).(12/400)
من جنده، ولا زالت أفلاك الشّهب من خزائن سلاح سعده أن يرتّب: حملا على حكم النّزول الشّرعيّ، والطّلوع إلى رتب الاستحقاق المرعيّ، وعلما بكفايته الّتي بلّغته آمالا، وجعلت للوظائف بذكره جمالا، وثمّرت بقلمه للجهات مالا، وأوصلته على رغم الأنداد لما لا، واعتمادا على أمانته الّتي أعدّها ملاذا، واكتفى بها سلاح عزمه نفاذا، وصيانته التي طالما اعترض [لها] (1) عرض الدّنيا فقالت: يا إبراهيم أعرض عن هذا، واستنادا إلى نشأته في بيت علت في المناصب أعلامه، وصدقت في المراتب حلومه وأحلامه، وتناسبت الآن تصرّفاته السعيدة: فإمّا في تدبير الجيوش وإمّا في تثمير السلاح أقلامه.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة بعزم بادي النّجا والنّجاح، وقلم على حالتي وظيفته وهمّته ماضي عزم السّلاح، مقرّرا لعملها ومعمولها، ضابطا لواصلها ومحمولها، حتّى يذهب لسان سيفها بشكره، وتطلع أهلّه قسيّها بميامين ذكره، وتكون كعوب رماحها كلّها كعب مبارك بمباشرته وبشره والله تعالى يسدّد قلمه في وظيفته تسديد سهامها، ويوفّر له من أنصباء المراشد وسهامها.
قلت: وهذا توقيع بوظيفة بكتابة ديوانيّة لسامريّ، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة وهو:
رسم بالأمر لا زال قلم أوامره الفضّيّ يظهر ثمره، مسمعا حديث الإنعام الشامل حتّى سمره أن يرتّب فلان في كذا: علما بكفايته الّتي يعذر بها في قومه على سلوك التّيه، وحذق حسابه الّذي هو ألذّ من السّلوى لمجتنيه ومجتبيه، وقريحته الّتي إذا اختارها اختيار قوم موسى فاز من العمل بمطلوبه، وإذا قيل: يا سامريّ ما قدّمك على القرناء في الحساب؟ قال: بصرت بما لم يبصروا به، وأمانته الّتي حاطت حياطة الصّعدة (2) السّمراء، ورفعت رايته على الأنداد قائلة:
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) الصّعدة: القناة تنبت مستوية فلا تحتاج إلى تثقيف والقصبة.(12/401)
ما حاط البيضاء والصّفراء كصاحب الحمراء (1)!، واعتمادا على كتابته الّتي شهدت بها من حسباناته الأسفار المبيّنة، وإقراء لصناعاته الّتي سحرت الفكر حتّى قيل: هذا من شعب القرّايين (2) والكهنة.
فليباشر هذا الاستيفاء لأوفى منه مترقّيا، ولكلمات الاختيار متلقّيا، ناهضا بالخدمه، مجدّدا باعتزامه الإسرائيليّ ذكر النّعمة، عارفا قدر الإنعام الّذي رعى وشمل كلّ ذمّة، سالكا من الاجتهاد في خدمة حسابه كلّ طريقة، غائظا للحساد من أهل ملّته: فيعبدون العجل مجازا وحقيقة، مجتهدا في استنزال المنّ لا المنع، معوّذا آلاف الحواصل بعشر كلمات راتبة منه في السّمع، معلّقا على جميعها هيكلا من أمانته فهو أدرى في الهيكل بشرط الجمع، صائنا لنفسه من عدوان الخيانة حتّى لا يعدو في سبت ولا في أحد، متنزها عن أكل المال مع الخونة حتّى يقال: نعم السّامريّ الّذي لا يأكل مع أحد.
الضرب الثاني (من الوظائف الديوانية بالشام ما هو خارج عن حاضرة دمشق. وغالب ما يكتب فيها من التواقيع مفتتح ب «رسم»)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع بنظر غزّة وهي:
رسم بالأمر لا زال النّصر المكرّر، يحلو بذكره، والسّعد المقرّر، يجلو وجوه الآمال بدهره، ولا برح سراج الخدم مضيئا عند ليالي نهيه الحالك وأمره أن يستقرّ فلان: لما عرف في المناصب من نهوضه الّذي راق وراج، وفي المهمّات من رأيه الّذي يمشّي أحوال الجهات المستقيمة بسراج، ولما شهر
__________
(1) المراد العمائم وهذه الألوان وغيرها كانت من علامات أهل الذمة.
(2) القرّاؤون: طائفة من اليهود. ويقسم يهود البلاد العربية من حيث فرقهم الدينية إلى فئتين: الأولى فئة اليهود الحاخاميين (الربّانيون)، والثانية هي الفئة التي تضم جماعة القرّائين والسامريين (أنظر الموسوعة الفلسطينية: 4/ 638).(12/402)
له في الأنظار المتعدّدة من علوّ الهمم، وفي الوظائف المتردّدة من العزمات الّتي يقول السّداد: نبّه [لها] عمرا (1) ثم نم، ولما وصف من أمانته ودرايته وهما المراد (2) من مثله، ورآسة خلقه وخلقه المشيدين عن حسن الثناء وسهله، وآثاره الحميدة المنتقلات وكيف لا؟ وهو المنتسب إلى سلف يحمد لسان الإسلام أثر عقله ونقله.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة على العادة مباشرة يحمد أثرها، ويسند عن صحيح عزمه خبرها وخبرها، ويورق بغصون الأقلام ورق حسابها ويروق ثمرها، مجتهدا فهو من نسل المجتهدين في عوائد التّحصين والتّحصيل، والتّأثير والتّأثيل، مليّا بما يجبر كسر هذه البلاد بالصّحّة ويأسو جرجها بعد التّعديل، حريصا على أن يحيي بمشيئة الله تعالى وتدبيره عملها الّذي لم يبق الموت من ذمائه غير القليل، سالكا من النّزاهة والصّيانة طريقته المثلى، ومن الكفاءة والأمانة عادته الّتي ترفع درجته إن شاء الله إلى ما هو أعلى وأغلى، مسترفعا للحساب ولقدره في الخدمة، شاكرا: فإنّ الشّكر ضمين لازدياد النّعمة بعد النّعمة، سراجا وهّاج الذّكاء على المنار ولا ظلم مع وجوده ولا ظلمة والله تعالى يعلي قدره، ولا يطفيء ذكره.
توقيع بصحابة ديوان الحرمين، من إنشاء ابن نباتة، لمن لقبه «شمس الدّين» وهو:
رسم بالأمر لا زالت أوامره نافذة في الآفاق، عاطفة عطف النّسق على ذوي الاستحقاق، مطلعة شمس التّقى والعلم في منازل الإشراق أن يستقرّ المجلس: علما باستحقاقه لما هو أكثر وأكبر، وأوفى وأوفر، وإطلاعا
__________
(1) أنظر ص 376من هذا الجزء، حاشية رقم (1).
(2) في الطبعة الأميرية زاد المحقق علامة التثنية للمؤنث.(12/403)
لشمسه وإن اعترضها غمّ غيم في مطالع شرفها الأنور، وإعلاما بأنّه غيم يزور ويزول، ونقص لا يقيم إلا كما يذهب عارض من أفول، واعتمادا على ما عرف من وفاء صحابته، وألف من سناء درايته ودرابته، ووصف من أيّام ديونته (1) بعد أيّام حكمه بعد أيّام خطابته!، واستنادا إلى نشأته في بيت العلم المستفاد، والحكم المستجاد، والفضل المستزاد، وتربية الوالد الّذي كان الاختيار يحلف بالفخر أنه ما يرى أظهر من ذات العماد.
فليباشر صحابة ديوان هذين الحرمين الشّريفين بأمل مبسوط، وحال بينما هو منحوس حظّ إذا هو إن شاء الله مغبوط، واجتهاد مضمون لجدواه فضل الزيادة، وسير لا يزال بشمسه حتّى تجري لمستقرّ لها من منازل السّعادة، ومباشرة لأوقافها تعان وتعاد أجمل إعانة وأكمل إعادة، وصحابة يتنوّع في نفعها ويتعين حتّى تكون منه عادة ومنها شهادة.
توقيع بنظر الشّعرا (2) وبانياس، من إنشاء ابن نباتة، لمن لقبه «صدر الدّين» واسمه «أحمد» بالعود وهو:
رسم بالأمر لا زالت صدور الكفاة منشرحة في أيّامه، منسرحة الآمال في إنعامه، ولا برح عوده أحمد إلى المناصب في ظلال سيوفه وأقلامه.
ومنه: فليباشر هذه الوظيفة الشاكرة له أوّلا وآخرا، وليجتهد فيما يزيده من الاعتناء والاغتناء باطنا وظاهرا، وليستزد بشكره من النّعمة فما أخلف وعد المزيد
__________
(1) المراد: أيام كان بديوانه. وعلّق محقق الطبعة الأميرية على هذا الاستعمال بقوله: «وهو لفظ سخيف ليس بعربيّ».
(2) الشّعرا أو الشّعراء. قال القلقشندي إنها تقع على طريق البريد من دمشق إلى طرابلس. قال:
«أما طريق طرابلس فمن الغسولة إلى قدس إلى أقمار، ثم منها إلى الشعراء فإلى عرقا ثم إلى طرابلس». وبانياس اليوم بلدة صغيرة على الساحل الشامي على مسيرة خمسين كيلومترا جنوبي اللاذقية. (صبح الأعشى: 14/ 382ودائرة المعارف الإسلامية: 6/ 152).(12/404)
شاكرا، وليحرص على أن يرى أبدا في المراتب صدرا ولا يرى عن ورود الإحسان صادرا.
توقيع بنظر حمص، من إنشاء ابن نباتة، كتب به لابن البدر ناظر حمص بالنّزول من أبيه عند ما أسنّ وهو:
رسم بالأمر لا زال حسن النّظر من مواهبه، ويمن الظّفر من مراكبه وسقي البلاد صوب العدل من سحائبه، ولا برح سنا البدر من خدمه فإذا أحسّ بالسّرار ألقى الخدمة إلى أزهر كواكبه أن يستقرّ المجلس: لما علم من رأيه الأسدّ، وعزمه الأشدّ، ومربى والده حتّى يبين عظم الهناء بالشّبل عندما وهن عظم الأسدّ، وركونا إلى نجابته الّتي سمت أصلا وفرعا، وقدمت غناء ونفعا، وتبسّمت كمائم أصلها المستأنفة حيث كاد الزمان ينعى منه ينعا، واستنادا إلى أنّ الصّناعة شابّة، ونسمات التّمكين هابّة، وإلى أنّ أغصان العزائم نضرة، وإلى أنّ مع القدرة قدرة، وإلى أنّ كوكب العزّ في المنزلة قد خلف بدره، واعتمادا على سهام تنفيذه الصائبة، وأحكام هممه الواجبة، وأقلام يده الّتي تحسن إخراج الأمل فيه وكيف لا؟ وهي الحاسبة الكاتبة.
فليباشر هذا النّظر المفوّض إليه ساميا نظره، زاكيا في الخدمة خبره وخبره، شاكرا هذا الإنعام الّذي برّ أباه وأسعد جدّه ومزيد الإنعام مضمون المزيد (1) لمن شكره، عالما أنّ هذه المملكة الحمصيّة من أقدم ذخائر الأيام، وأكرم ما أفاء الله من غنيمتها وظلّها على جند الإسلام، وأنّها من مراكز الرّماح كما شهر فليمدّها من تدبيره برماح الأقلام، وليواظب بحسن نظره على تقرير أحوالها، وتقريب آمالها، وتأثير المصالح في أعمالها، ولا يحمّص (2) أمرها في التّضييق فكفى ما حمّصتها الأيام على تعاقب أحوالها، بل يجتهد في إزاحة
__________
(1) كذا بالأصل. ولعل هذا اللفظ زائد من قلم الناسخ.
(2) تحمّصت أي تقبّضت واجتمعت. والمراد: لا يضيّق في أمرها. (أنظر اللسان: 7/ 17).(12/405)
أعذارها بسداد الرّأي الرابح، وإشاعة الذّكر الحسن مع كلّ غاد ورائح، ورفع الأيدي بالأدعية الصالحة في تلك المشاهد للملك «الظاهر» في هذا الوقت والملك «الصالح»، حتّى يشهد سيف الله «خالد» بمضاء سيف حزمه وعزمه، وحتّى يتوفّر من غرض الخير والحمد نصيب سهمه وتقوى الله تعالى أوّل الوصايا وآخرها فلتكن أبدا في همّة فهمه.
توقيع بنظر الرّحبة (1) من إنشاء ابن نباتة لمن لقبه «تاج الدين» وهو:
رسم بالأمر لا زال مليء السّحاب، بسقيا الآمال الواردة، مملوء الرّحاب بكفاة الأعمال السّائدة، مخدوم الممالك والأيّام بأقلام الدواوين الحاسبة وأقلام الدواوين الحامدة أن يستقرّ: لكفاءته الّتي وافق خبرها الخبر، ونشر ذكرها نشر الحبر، وصناعة حسابه الّتي لو عاش «أبو القاسم المعرّي» (2) لم يكن له فيها قسيما، ولو عاصرها «ابن الجرّاح» بقدمه وإقدامه لا نقلب عنها جريح الفكر هزيما بل لو ناو أه الشّديد الماعز لذبح بغير سكين، والتّاج الطويل لرجع عن هذا التّاج الطائل رجوع المسكين.
فليباشر ما فوّض من هذه الوظيفة إليه، ونبّه الاختبار فيها نظره الجميل وناظريه، جاريا على عوائد هممه الوثيقة، ماشيا على أنجح طريق من آرائه وأوضح طريقة، نازلا منزلة العين من هذه الجهة الّتي لو صوّرت بشرا لكان ناظرها على الحقيقة مفرّجا لمضايقها حتّى تكون كما يقال رحبة، مقتحما من حزون أحوالها العقبة وما أدراك ما العقبة؟، فكّ من رقاب السّفّار المعوّقين
__________
(1) هي رحبة مالك بن طوق، تقع على الفرات بين الرقّة وعانة. أحدثها مالك بن طوق في خلافة المأمون ولا تزال آثار قلعتها الخربة بادية للعيان حتى يومنا على قرب بضعة كيلومترات في الجنوب الغربي من مدينة الميادين السورية. (مراصد الإطلاع: 2/ 608).
(2) لعلّه محمد بن عبد الله بن محمد المعرّي المتوفى سنة 523هـ: قاض من الشعراء. وهو حفيد أخ لأبي العلاء المعرّي. (الأعلام: 6/ 228).(12/406)
رقبة، وأطعم أرباب الاستحقاقات في يوم ذي مسغبة، وساعف بتيسير المعلوم كلّ كاتب ذي متربة (1)، حريصا على أن يغني الديوان بوفره، وتغنّي حداة التّجار بشكره، وعلى أن يقوم رجال الاستخدام في المهمّات بنصره، وعلى أن تساق بفضّيّ قلمه الأموال أحسن سوق، وعلى أنّ يكون لأهل الرّحبة من إحسانه «مالك» ومن جدوى تدبيره «طوق» والله تعالى يوضّح في المصالح منهاجه، ويعلي على رؤوس الأوصاف تاجه.
توقيع بنظر جعبر (2) قبل أن تنقل إلى عمل حلب، من إنشاء ابن نباتة، كتب به «لهبة الله بن النفيس» وهو:
رسم بالأمر لا زالت المناصب في دولته الشريفة تستقبل هبة الله بشكرها، ونتائج الذّكر النّفيس بمقدّمات نشرها وبشرها أن يرتّب: لكفاءته التي اشتهرت، وأمانته التي طهرت فظهرت، ومباشرته الّتي ضاهت نجوم السماء إذا زهرت، ونجوم الأرض إذا أزهرت، وأنّه الّذي جرّب عزمه فزكا على التّجريب، ورقي في مطالع التّدريج والتّدريب، ونصّ حديث اجتهاده المقرّب فكان سابقا على النّصّ والتّقريب، وأنّ هذه البقعة المباركة ممّن أطاب التّاريخ خبرها، وقصّ سيرها، وحمد صاحبها العقيليّ من قديم أثرها، وعرف بركتها لمّا استسقى بها من السّماء على لسان بعض الحيوان مطرها.
فليباشر هذا الثّغر المحروس بكفاءة باسمة، وعزمة كالحسام لأدواء الأمور حاسمة، ورأي للنّجاح حسن الاستصحاب، وتثمير كما ملأ الرّحبة
__________
(1) المتربة: الفاقة والمسكنة، يلصق صاحبها بالتراب. والاقتباس في هذه الجملة وسابقاتها من الآيات: 11، 12، 13، 14، 15، 16من سورة البلد.
(2) جعبر: على الفرات في سوريا، قرب صفين. وتسمى أيضا: دوسر. (مراصد الإطلاع:
3/ 1118).(12/407)
فليملأ بمضاعفته الرّحاب، موفّرا العدد للحواصل وحواصل العداد، فاتحا لأفواه القفول بذكره الجميل في التّهائم والنّجاد، ماشيا فيما يأتي ويذر على سداد الطّرق وطرّق السّداد.
توقيع بنظر البقاع (1)، من إنشاء ابن نباتة وهو:
رسم بالأمر لا زال يهنّيء للكفاة رزقا، ويهيّء لتجديد المناصب مستحقّا، ولا برحت البقاع بأيّامه الكريمة تسعد كما تسعد الرّجال ولا تشقى أن يرتّب حسب ما تضمنته مكاتبة الجناب الفلانيّ: منبّها على قدر هذا الناظر المهذّب وصفه، المرتّب على نحو الثناء نعته وعطفه، المشهور بمباشرته انتفاع الوظائف وارتفاعها، الشاهد بكفاءته وأمانته مسالك الأعمال وبقاعها، واعتمادا على مباشرته الزكية، وكتابته الّتي لا يداهنها المداهنون وهي نعم البعلبكيّة.
فليباشر هذه الوظيفة المتيمّنة بمطالع رشده، ومطالب سدّده، عالما أنّ البقاع كالرّجال تسعد وتشقى: فليكن سعدها على قلمه ويده، مجتهدا فيما يبيّض وجه شاكره، حريصا على ازدياد الصفات الّتي كانت في عقد حساب العمل محلّ بنانه فجعلته الآن محلّ ناظره، مثمّرا لأموال النواحي وغلالها، واضعا عن أرباب الاسحقاقات ما عليها من سوء التدبير: من إصرها وأغلالها، محتاطا لنفسه في الحوطات حتّى لا يذكر إلا بخير، ولا يعرف قلمه إلا بمير، ناثرا حبّ حبّه حتّى تهوي إليه ألفاظ الثّناء هويّ الطّير، جاعلا تقوى الله مقصده: فإنّها السبيل إلى فوز الدارين لا غير.
__________
(1) المقصود البقاع البعلبكيّ، في القسم الشمالي من وادي البقاع في لبنان اليوم.(12/408)
الصنف الرابع (مما يكتب لأرباب الوظائف بالشام تواقيع مشايخ الخوانق، وهي على ضربين)
الضرب الأوّل (ما هو بحاضرة دمشق، وهو على ثلاث مراتب)
المرتبة الأولى (ما يفتتح ب «الحمد لله»)
وهو توقيع شيخ الشيوخ بدمشق: وهي مشيخة الخانقاه الصلاحية المعروفة بالشّميصاتية (1)، وقد تقدّم أنها يكتب بها أيضا من الأبواب السلطانية.
ثم هي تفرد تارة عن كتابة السّر بالشام، وتارة تضاف إليها.
توقيع بمشيخة الشّيوخ بالشام، من إنشاء الشّيخ جمال الدين بن نباتة، كتب به للشيخ «علاء الدين عليّ» مفردة عن كتابة السّرّ وهو:
الحمد لله الّذي جعل شرف أوليائه عليّا، وفضله الجليل جليّا، واتّصال علائهم كاتصال كوكب الشّرف بإيلاء الخيرات مليّا، وحاضر أفقهم كغائبه إذا سطّرت دعواته واستمطرت هباته كان على كلا الحالين وليّا.
نحمده على توالي النّعم الأنيقة، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تستمرّ بأصلها فروع الحقيقة، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أجدر الخلق بكرم الخليقة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين سلكوا بهداه أحسن طريق وسلكوا في أحسن طريقة، صلاة دائمة لا تزال بها عقائد الإخلاص موثقة وألسنة الذّكر طليقة، وتحيّة إذا بدت في حضرة الادّكار كانت للأعين من النّور نهاره وكانت للأنجم من القدر شقيقه.
__________
(1) أنظر ص: 100من هذا الجزء حاشية (1).(12/409)
أما بعد، فإنّ أولى المراتب الدينية بتقديم العناية، وتفخيم الرعاية، وتكريم التولية ولا سيما إذا كانت منتسبة إلى أهل الولاية مرتبة مشيخة الشيوخ التي يجمع عباد الله الصالحين نطاقها، ويضمّهم رواقها، وتطلعهم مطالع كواكب الهدى آفاقها المنيرة وأوفاقها.
ولما خلت الآن هذه الرّتبة بالشام المحروس من شيخ تدور هذه الطائفة على قطبه، وتجتمع على مائدة قرباته وقربه، وتمشي على قدمه وتناجي صلاح أحوالها عن قلبه تعيّن أن نختار لها من كملت بالله أداته، وصفت في مشاهد الحقّ ذاته، وزكت في علمي الإبانة والأمانة شهادته المفصحة ومشاهداته، وأجمع الناس على فوائد تسليكه واسلاك قلمه حيث بدت في وجوه الحسن حسناته، ووجوه الشام شاماته، لما شهر من معرفته وعرفانه، ولما دعي له ببقاء نوح لما فاض في العلم من طوفانه، ولما قام في الأذهان من طبقة قدره الموصوف، ولما سار من رسالة أخباره فإذا قالت الآثار: «هذا السّريّ» قال الإيثار: «وفضله معروف».
فليباشر هذه المشيخة المباركة بصدر للسّالكين (1) رحيب، وبرّ للسائلين مجيب، وفضل يقول الرائد والمريد بدار إقامته: قفا نبك من ذكرى منزل وحبيب، وبشر وبشرى يملآن عين المجتلي ويد المجتدي، وعطف ولطف إذا قال الذّاكر لمن مضى: راح مالكي! قال المعاين: وجاء سيّدي وليراع أمور الخوانق الشاميّة ما غاب منها وما حضر، وما سمع منها وما نظر، وليهذب قلوب ساكنيها حتّى يعود كإخوان الصّفاء من المودّة قوم كانوا إخوان الصّفا من الحجر، قائما بحقوق الرّتبة قيام مثله من أئمّة العلم والعمل، داعيا لهذه الدّولة العادلة فإنّه أقصى دواعي الأمل، معربا لأنّ العربيّة من علومه عن الإيضاح غنيّا عن تفصيل الجمل وهو المسلّك (2) فما يحتاج لتسليك درر الوصايا، المخبوء لمثل
__________
(1) السالكون هم المتصوّفة.
(2) اسم فاعل من تسليك الطريق، وهو تعريفها والمراد تعريف المريدين الطريق إلى الله تعالى وإدخالهم فيها. والمسلّك من ألقاب الصوفية وكان يستعمل أحيانا مضافا إلى ياء النسب.
(الألقاب الإسلامية: 470).(12/410)
هذه الزّوايا المبرورة: فنعم الزّوايا المحبوّة بنعم الخبايا والله تعالى يعيد على الأمّة بركاته، ويمتّعهم باستسقاء الغيوث: إمّا ببسطها عند برّه، وإمّا ببسطها عند دعواته.
وهذه نسخة توقيع بمشيخة الشيوخ بالشام أيضا، مضافة إلى كتابة السّرّ به، كتب بها للقاضي ناصر الدين «محمد بن أبي الطّيّب» كاتب السّرّ بالشام ب «المقرّ الشريف» وهي:
الحمد لله الّذي شرح صدور أوليائه بمعرفة الحقّ واتّباعه، وجعلهم خواصّه الذين غدوا من أتباع الحبيب وأشياعه، ورفع ذكرهم على رؤوس الأشهاد وآواهم إلى مقام الأنس في محلّ القرب بالتّسليك المحمّديّ الّذي أوصل إليه مزيده بانقطاعه، وخصّهم ببركات من حضّهم على الأعمال الصالحة بقصده الجميل وعلمه الغزير واتّضاعه، ومنحهم بمن أوضح لهم الطّريق المستقيم بإبدائه الحقّ وإبدار إبداعه، وغذاهم بالحكمة فنشأوا بالمعرفة وصار لهم العقل السّليم بالتّحفّظ من الأهوية الرّديّة فسلمت لهم الطّيبة على قانون الصّحّة بحسن تركيبه وأوضاعه، وأفاض عليهم من بحر علمه ما نالوا به الرّشد فصاروا أولياء بملازمة أوراده ومتابعة أوزاعه.
نحمده على ما ألهمنا من وضع الشّيء في محلّه، وإيصال الحقّ إلى أهله، وإجابة سؤال الفقراء وإعانتهم بمن أغناهم عن السّؤال بفضائله وفضله، حمدا يعيد كشّاف الكرب على مريديه وطلبته، ويرفع مقام من قام بشعار الدّين بتعظيم قدره وعلوّ درجته، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له الّذي من تقرّب منه ذراعا، تقرّب منه باعا، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة وإذا تقرّب إليه عبده
بالنوافل أحبّه، {وَعِنْدَهُ مَفََاتِحُ الْغَيْبِ لََا يَعْلَمُهََا إِلََّا هُوَ وَيَعْلَمُ مََا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمََا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلََّا يَعْلَمُهََا وَلََا حَبَّةٍ} (1)، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أضاءت الأكوان من نور هديه فاهتدت به أصحاب المعارف المسلّمون لموجدهم الأمر والإرادة، ومن هو روح الوجود الّذي أحيا كلّ موجود وسلّك طريق سنّته الموصّلة إلى عالم الغيب والشّهادة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين صفت قلوبهم من الأكدار وإلى التّقوى سبقوا، وصدقوا في المحبّة فاستحقوا ثناء مولاهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجََالٌ صَدَقُوا} (2) فمنهم من شمّت من فيه رائحة كبد مشويّة من خشية الله، ومنهم من حدّث بما شاهده ببصره وبصيرته على البعد ورآه، ومنهم من أحيا ليله واستحيت منه ملائكة السماء، ومنهم من اتّخذه أخا إذ هو باب مدينة العلم وركن العلماء، صلاة دائمة تطيّب أوقات المحبّين، وتطرب بسماعها قلوب المتّقين أهل اليقين وسلّم تسليما.(12/411)
نحمده على ما ألهمنا من وضع الشّيء في محلّه، وإيصال الحقّ إلى أهله، وإجابة سؤال الفقراء وإعانتهم بمن أغناهم عن السّؤال بفضائله وفضله، حمدا يعيد كشّاف الكرب على مريديه وطلبته، ويرفع مقام من قام بشعار الدّين بتعظيم قدره وعلوّ درجته، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له الّذي من تقرّب منه ذراعا، تقرّب منه باعا، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة وإذا تقرّب إليه عبده
بالنوافل أحبّه، {وَعِنْدَهُ مَفََاتِحُ الْغَيْبِ لََا يَعْلَمُهََا إِلََّا هُوَ وَيَعْلَمُ مََا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمََا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلََّا يَعْلَمُهََا وَلََا حَبَّةٍ} (1)، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أضاءت الأكوان من نور هديه فاهتدت به أصحاب المعارف المسلّمون لموجدهم الأمر والإرادة، ومن هو روح الوجود الّذي أحيا كلّ موجود وسلّك طريق سنّته الموصّلة إلى عالم الغيب والشّهادة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين صفت قلوبهم من الأكدار وإلى التّقوى سبقوا، وصدقوا في المحبّة فاستحقوا ثناء مولاهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجََالٌ صَدَقُوا} (2) فمنهم من شمّت من فيه رائحة كبد مشويّة من خشية الله، ومنهم من حدّث بما شاهده ببصره وبصيرته على البعد ورآه، ومنهم من أحيا ليله واستحيت منه ملائكة السماء، ومنهم من اتّخذه أخا إذ هو باب مدينة العلم وركن العلماء، صلاة دائمة تطيّب أوقات المحبّين، وتطرب بسماعها قلوب المتّقين أهل اليقين وسلّم تسليما.
أمّا بعد، فإنّ أولى من قدّمناه إلى أهل الصلاح، ورفعناه إلى محلّ القرب وروح الأرواح، وحكّمناه على أهل الخير، ومكّنّاه في حزب الله الّذي غلب لمّا اجتهدوا على إخراج حزب الشّيطان من قلوبهم وزحفوا على قراره بجيش التّقوى وسمتهم الزّهد وحسن السّير، وولّيناه أجلّ المناصب الّذي تجتمع فيه قلوب الأولياء على الطّاعة، وأحللناه أرفع المراتب الّذي خطبه منهم خيار الجمع لجلوة عروس الجمال في الخلوة بعقد ميثاق سنّة المحبّة وشهادة قلوب الجماعة من جمّله صورة ومعنى، وافتخر به أحاد ومثنى، وباشره على أحسن الوجوه، وبلّغ كلّا من مريديه وطلبته من فضائله وفضله ما يؤمّله ويرجوه، ومدّ موائد علومه المحتوية على أنواع الفضائل المغذّية للقلوب، وجلس في حلل الرّضا فكسا القوم الذين لا يشقى بهم الجليس ملابس التّقوى المطهرة من العيوب،
__________
(1) الأنعام / 59.
(2) الأحزاب / 23.(12/412)
وظهر في محفلهم للهداية كالبدر وهم حوله هالة، وكان دليلهم إلى الحقّ فغدوا بتسليكه من مشايخ الرّسالة، وجاهد في بيان معاني القرآن العظيم حتّى قيل لمّا فسّره: هذا «مجاهد»، واستدلّ على تنزيه من تكلم به سبحانه عن التشبيه والتعليل «وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد»، ونقل الحديث المحمّديّ الذي هو «موطّأ» لتفهيم «الغريب» منه وميز «صحيحه» لكّل «مسلم» فأطرب بسماعه الوفود، وأفاد العباد «تنبيه الغافلين» فقاموا في الخدمة فأصبحوا تعرفهم بسيماهم: {سِيمََاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (1)، وخفض جناحه الّذي عبر به الشّعرى العبور والنّسر الطائر (2)، وسار إحسانه إلى طوائف الفقراء فصار مثلا فحبّذا «المثل السّائر».
وكان فلان أعاد الله تعالى من بركاته وأسبغ ظلاله هو الّذي أقامه الله تعالى لهذه الطائفة المباركة مرّة بعد مرّة، وذكرت صفاته الجميلة فكان مثله للعيون قرّة، واتّصف بهذه الصّفات الّتي ملأت الأفواه والمسامع كما ملأت مرءآته المقل، وحصل البشر بمعروفه الذي تتبعه السريّ «أبو يزيد» (3) فجرى على عادة القوم الكرام ووصل، ونبعت عناصر فضائله فكانت شراب الذين صفت قلوبهم من كدرها، وأمطرت سحائب علومه الإلهيّة الدارّة من سماء الحقيقة فسالت أودية بقدرها، وظهرت لمعة أنوار شمس معارفه عند التّجلّي على المريد، وساق نفوس القائمين لمّا عزّ مطلبهم بأصله الّذي شرح طلاسم قلب الفاني بذكر الباقي فغرقوا في بحار المحبّة {وَجََاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهََا سََائِقٌ وَشَهِيدٌ} (4).
__________
(1) الفتح / 29.
(2) النسر الطائر: مجموعة من النجوم معروفة بمشابهتها للنسر. والنجم ذو القدر الأول منها يسمى «الطائر». و «النجم الواقع» هو النجم ذو القدر الأول من مجموعة النجوم الّتي تسمى «الشلياق»، وكلا النسرين في النصف الشمالي من القبة السماوية. «والشّعرى العبور»: «أحد نجمين بجوار الجوزاء والأخرى «الشّعرى الغميصاء». (المعجم الوسيط: 580، 917).
(3) لعل الإشارة إلى أبي يزيد البسطاميّ، طيفور بن عيسى، المتوفى سنة 261هـ وكان من كبار الزهّاد. (وفيات الأعيان: 2/ 531والأعلام: 3/ 235).
(4) ق / 21.(12/413)
فلذلك رسم بالأمر العالي لا زال يرفع أهل العلم والعمل إلى أعلى مقام، ويبني لهم في جنّات القرب قصور الرّضا: {لَهُمْ مََا يَشََاؤُنَ فِيهََا} (1)
ومزيدهم الإكرام أن تفوّض إليه مشيخة الشيوخ بالشام المحروس: وظيفته التي خرجت عنه، المرسوم الآن إعادتها عليه، عوضا عمّن كانت بيده، بمعلومي النّظر والمشيخة الشاهد بهما ديوان الوقف المبرور إلى آخر وقت، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، تفويضا نظمت بالقبول عقوده، ودامت في دار السعادة سعوده، وفي درج المعالي صعوده.
فليتلقّ ذلك بالقبول، وليبلّغ الفقراء من إقباله الجمّ الّذي ألجم عدوّه المنى والسّول، وليعامل المريدين بالشّفقة المعروفة من رحمة دينه وإفضاله، وليشمل كلّا منهم بعنايته ولطفه فإنّ الخلق عيال الله وأحبّهم إليه أشفقهم على عياله، وليأمرهم بملازمة إقامة الصّلاة طرفي النهار وزلفا (2) من اللّيل، وإذا مالوا والعياذ بالله تعالى يوما إلى منافسة بينهم فليقل: اتّقوا الله ما استطعتم وكونوا عباد الله إخوانا ولا تميلوا كلّ الميل، وليفسح لهم حرم الخير الّذي وقفوا فيه تجاه قصر تعبّده الّذي علا بالجوهر الفرد وقوّة الإخلاص، وليدخلهم منه جنّة إقبال فوائده التي فيها من أبكار معانيه حور مقصورات في خيام أداته لم يطمثهنّ إنس قبلهم ولا جانّ وأعجز قصره العالي وجوهره الغالي كلّ بنّاء وغوّاص، وليجعلهم له على جبل اعتماده ومروة مروءته إخوان الصّفا، وليقمهم في ركن مقام المناجاة إذا زمزم مطرب حيّهم تلقاء أهل الوفا، وليقدّم السابقين بمعرفة حقّهم ونجدتهم بالورع الّذي يغلبون به الشيطان فإنّ حزب الله هم الغالبون، وليداو قلوبهم المرضى بشراب المحبّة وتركيب أدوية الامتلاء من الدنيا ليغتذوا وقت السّحر [بحديث] (3) (هل من تائب)، ولا يسقهم كاسات تضعف عنها قوّتهم
__________
(1) ق / 35والآية بتمامها: {لَهُمْ مََا يَشََاؤُنَ فِيهََا وَلَدَيْنََا مَزِيدٌ}.
(2) مفردها زلفة وهي المدة من الليل مطلقا من وسطه أو آخره.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/414)
حتّى ينقّوا من بردة الهوى المضرّة ويغتسلوا بحارّ مجاري دموع الخشوع ويلبسوا جديد ملابس التّقى ويغدوا من الحبائب. ومنه تعرف الوصايا، وعنه تنقل المزايا، وكرم الأخلاق والسّجايا وليأمر السالكين بمداومة الأعمال الّتي قامت بحسن العقائد واستقلّت، وليحضّ المريدين أوائل التّسليك على ذلك فإن أحبّ الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قلّت، وليعرّفهم المحبة بذكر الله لئلّا يقوموا على قدم الهيام، وليبيّن لهم المعنى إذا لم يعرفوا المعنى ليقطعوا الهواجر في طلب الصّيام، وليفرّق بين الواردات بملازمة الأوراد لئلّا يقعوا من الاشتباه في حيرة، وليأمرهم بادّخار العمل الصالح لتكون التقوى لقلوبهم قوتا والزّهد ميرة، وليقمع أهل البدع، وليرفع من اتّضع، وليتفقد أحوال أوقافهم بجميع الخوانق والرّبّط والزوايا بالجميل من النّظر، وليزد في الأجور بما يؤثّر فيها نظره الذي ما زال لهم منه أوفر نصيب فحبّذا العين والأثر والوصايا وإن كثرت فهو مفيدها وعنده منبعها، وتقوى الله الّذي هو شيخها ومريدها في بيته المبارك حلاوة ذوقها ومجمعها والله تعالى يكلؤه في اللّيل والنهار بآياته البّينات، ويرفعه بها ويرقّيه إلى أعلى الدّرجات.
المرتبة الثانية (من تواقيع مشايخ الأمكنة بحاضرة دمشق ما يفتتح ب «أمّا بعد حمد الله» وفيها وظائف)
نسخة توقيع بمشيخة إقراء القرآن، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، كتب به للشيخ شهاب الدين «أحمد بن النقيب» ب «المجلس العالي» وهي:
أمّا بعد حمد الله رافع شهب الهدى أعلاما، وجاعل رتب أفضلها أعلى ما، ومحلّ أحمدها من مدارس الآيات منازل بدر إذا محا المحاق من هذا اسما أثبت من سموّ هذا قمرا تماما، ومسكنه من مواطن الذكر جنّات قوم بارتقائهم وبقاء ذكرهم خالدين فيها حسنت مستقرّا ومقاما، والصلاة والسلام على سيدنا
محمد أرفع من اتّخذ القرآن إماما، وأنفع من عقد استحقاق النّبوّة على حمده خنصرا وجلا الحقّ بهداه إبهاما، وعلى آله وصحبه أمنع من لبس بسرد الآيات درعا واقتسم من بركتها سهاما فإنّ وظيفة يكون القرآن الكريم، ربيع فصلها وفضلها، ورتبة يكون الذّكر الحكيم، مداوي قلوب جفلها، ومشيخة يكون مريد الآيات البيّنات وارد زوايا أهلها لأحقّ أن تتخيّر لها الأكفاء من ذوي الفضل الأثير، والأدلّاء على أشرف نتاج الهداية من ذوي الحلم الساكن والعزم المثير.(12/415)
أمّا بعد حمد الله رافع شهب الهدى أعلاما، وجاعل رتب أفضلها أعلى ما، ومحلّ أحمدها من مدارس الآيات منازل بدر إذا محا المحاق من هذا اسما أثبت من سموّ هذا قمرا تماما، ومسكنه من مواطن الذكر جنّات قوم بارتقائهم وبقاء ذكرهم خالدين فيها حسنت مستقرّا ومقاما، والصلاة والسلام على سيدنا
محمد أرفع من اتّخذ القرآن إماما، وأنفع من عقد استحقاق النّبوّة على حمده خنصرا وجلا الحقّ بهداه إبهاما، وعلى آله وصحبه أمنع من لبس بسرد الآيات درعا واقتسم من بركتها سهاما فإنّ وظيفة يكون القرآن الكريم، ربيع فصلها وفضلها، ورتبة يكون الذّكر الحكيم، مداوي قلوب جفلها، ومشيخة يكون مريد الآيات البيّنات وارد زوايا أهلها لأحقّ أن تتخيّر لها الأكفاء من ذوي الفضل الأثير، والأدلّاء على أشرف نتاج الهداية من ذوي الحلم الساكن والعزم المثير.
ولما كانت مشيخة إقراء القرآن بالتّربة المعروفة بأم الصالح بدمشق المحروسة، هي كما يقال: أمّ العلم وأبوه، وأخوه وحموه، وصاحبته وأهل الكتاب والسّنة بنوه، وخلت الآن من شيخ [كان] (1) يحمي حماها، وتقسم الخلوات والآيات من بركته وتلاوته ب «الشّمس وضحاها والقمر إذا تلاها»، وكان فلان هو الذخيرة المخبوءة لهذا الأمر، وذو السّيرة المحبوّة بهذا الشّرف الغمر، وصاحب القراءة والبيان الّذي لا يعوز زمان طلبته [أبو] (2) عمر ولا أبو عمرو، والجامع لعلوم كتاب الله تعالى جمع سلامة في فنّه، وصحّة في شرف ذهنه، وجواز أمر يشهد أنّ البحر يخرج [لدى] (3) المشكلات من صدره ويدخل عند عقد الحبا في ردنه، والقاريء الّذي إذا قال مبيّنا قال الّذي عنده علم الكتاب، والتّالي الّذي إذا قصر أو مدّ، مدّ إلى سموات العلى بأسباب، والمشير إلى علمه المرسوم بمصحفه فلا عدم إشارته ومرسومه أولو الألباب، والمجلّي وإن سمّاه العرف تاليا، والمنقّب عن غوامض التّفسير: و «ابن النقيب» أولى بسند التّفسير عاليا، والإمام السّنّي وإن سمّاه الشرع الإمام الحاكم دهرا وأقام له في أفق كلّ فضل داعيا، والسّامي الّذي يسلك بفخره على «العراقيّ» أوضح محجّة، والعربيّ الّذي ما «للفارسيّ» دخول في باب تيقّنه وإن جاء بحجّة، وذو
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية. والمقصود بأبي عمر هو حفص بن عمر الدّوري. وحفص هو إمام القراءة في عصره. كان ثقة ثبتا ضابطا. توفي سنة 246هـ. وأبو عمرو القاريء هو زبان بن عمار المتوفى سنة 154هـ، المعروف بأبي عمرو بن العلاء.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/416)
الرّوايات المروية سحائبه، وخلف العلماء الأبيض فما «خلف الأحمر» ممّا يقاربه، ولا «ثعلب» مما تضجّ لديه ثعالبه، ولا «ابن خروف» مما يدانيه وهو «اللّيث» ومن الأقلام مخالبه، وبقية السادة القرّاء المنشد قول الحماسيّ:
وإنّي من القوم الذّين هم هم ... إذا مات منهم سيّد قام صاحبه!
بدور سماء، كلّما غاب كوكب، ... بدا كوكب، تأوي إليه كواكبه! (1)
تعيّن أن يخطب لهذه المشيخة خطبة الفتى لاقتبال مجده والشّيخ لتوقيره، ويطلب لهذه الرتبة طلبا يقضي الأمل فيه بعنوان تيسيره.
فرسم بالأمر الشريف أن يستقرّ: وضعا للأشياء في محلّها، ورفعا لأقدار الأفاضل إلى أعلى رتب الفضل وأجلّها، وعلما بمقدار هذا العالم السابق في أفق الهدى شهابا، المدفّق على رياض العلم سحابا، النّاقل إلى مجالس الاشتغال خطا يقول لها المؤمن بالإكرام والكافر بالإرغام: {يََا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرََاباً} (2)
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة مثله من ذوي الأناة والإفادة، وكفاة المناصب الذين على سعيهم الحسنى وعلى الدّولة تصل الزّيادة، وليسلك في الأشغال عادة نطقه الأحسن، وليعامل طلبته في المباحث بغير ما ألفوا من الخلق الأخشن، وليعلم أنّه قد جمع بين برّه وتربة الأمّ كي تقرّ عينها ولا تحزن فليسرّها بنبله، وليبرّها بفضله، وليوفرّ السّعي إليها كلّ وقت في المسير، وليفسّر أحلام أملها فيه فمن مفردات علومه التّفسير، وليحسن لتلامذته الجمع، وليحم حمى رواياتهم من الخطإ ولا عجب أن يحمى حمى السّبع! تاليا كلام ربّه كما أنزل وحسبه، داعيا بنسب قراءته إلى ابن كعب (3) فحبذا نسبه المبارك وكعبه، ناصبا بمنظر شخصه
__________
(1) هذا الشعر منسوب إلى الشاعر الجاهلي: أبي الطّمحان القيني. وقد أورد ابن خلكان بيتا بعد هذين:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وروى البيت الثاني ب: «نجوم سماء» بدلا من «بدور سماء». (أنظر وفيات الأعيان: 1/ 60).
(2) النبأ / 40.
(3) هو أبيّ بن كعب الصحابي الأنصاري المتوفى سنة 21هـ وفي الحديث: «أقرأ أمتي أبي بن كعب» (الأعلام: 1/ 82).(12/417)
أشخاص أمثاله الأول بعد ما ضمهم صفيح اللّحد وتربه، حتّى يميس «الكسائيّ» في برد مسرّته الفاخر، ويفتح عيون «حمزة» على زهرات روض عبق المباخر، ويترنّم ورشان «ورش» (1) في الأوراق على بحره الزّاخر، ويظهر بفضله ذكر «الشّاطبيّ» فيكون «القاضي الفاضل» رحمه الله قد أظهره في الزمن الأوّل و «القاضي الفاضل» أجلّه الله قد أظهره في الزمن الآخر وتقوى الله تعالى كما علم ختام الوصايا البيض فليتناول مسكها الذي هو بشذا المسك ساخر، والله تعالى ينفع بعلوم صدره الّذي ما ضاق عن السّؤال فملّه، ويمتع بعلوّ قدره الّذي إن لم يكن هو لفضل الثناء فمن له.
المرتبة الثالثة (من تواقيع مشايخ الأماكن بحاضرة دمشق ما يفتتح ب «رسم بالأمر»)
توقيع بمشيخة الجواليقية، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة وهو:
رسم بالأمر لا زال حسن اعتقاده يستنزل النّصر فينصر، ويستبصر مطالع الفوز فيبصّر، ويستجلب الأدعية الصالحة من كلّ زاهد إذا حام في أفق العبادة حلّق وما قصّر أن يستقرّ: حملا على الوصية التامّة الحكم والأساس وعلما بأنّه ممّن حلّ في مشيخته لباس بلاس (2)، ونزع في الزّهد عما عدّ زينة في النّاس، وسرّح شعره حقيقة التّسريح فأطلقه، ومحارقّ سواده وبياضه فأعتقه، ولازم طريق مشايخه فما، وشكر الحال فجعل في منبت كلّ شعرة لسانا للشّكر وفما، وسرّ طائفة وردوا على آثاره مناهل الوفا، وصفت
__________
(1) «ورش» هو عثمان بن سعيد بن عديّ المصري: من كبار القرّاء. غلب عليه لقب «ورش» لشدّة بياضه. توفي سنة 197هـ. وفي المعجم الوسيط: الورش شيء يصنع من اللبن. والورشان:
طائر من الفصيلة الحمامية، أكبر قليلا من الحمامة المعروفة. (الأعلام: 4/ 205والمعجم الوسيط: 2/ 1025).
(2) في المعجم الوسيط «البلاس: ثوب من الشعر غليظ»، وفي هامش الطبعة الأميرية: «البلاس كسحاب هو المسح، فارسيّ معرّب».(12/418)
قلوبهم ووجوههم فدارت عليهم كؤوس إخوان الصّفا، حتّى مشوا إلى مطالب الخير مشي الرّخاخ (1)، وفاخروا أقواما دنّسوا عزّة رتبتهم فلولا أدبهم لا نشدوهم: «عقول مرد ولحى أشياخ».
فليقم في مشيخة قياما يحيي القوم بأنفاسه، ويبهجهم بكرامة الكشف من قلبه وتكريم الكشف من راسه، سالكا بهم في طرائق الخير مستبشرين، آمرا بتقصير الملابس ورعا حتّى يدخل بهم إلى النّسك محلّقين ومقصّرين والله تعالى ينفع به، ويغني حاله بمذهب مذهبه.
الضرب الثاني (من تواقيع مشيخة الأماكن ما هو بأعمال دمشق وفيه مرتبة واحدة، وهي الافتتاح ب «رسم»)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع بمشيخة الحرم الخليليّ، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، كتب به للشيخ «شمس الدين بن البرهان» الجعبريّ ب «المجلس» وهي:
رسم بالأمر الشريف أعلاه الله تعالى، وبسط عدله الّذي لا يبلغه الواصف ولو تغالى، وسرى لأولياء بني الأولياء ببرّه الّذي تسنّن بسنّة الغيث ثم توالى أن يستقرّ أدام الله تعالى ببركته الانتفاع، وباقتداء سلفه الارتفاع، وأعاد من بركات بيته الّذي قام البرهان بفضله وقال بوضوح شمسه الإجماع في مشيخة حرم سيدنا الخليل صلوات الله عليه وسلامه، على عادته القديمة المقدّمة، ومستقرّ قاعدته المعلومة المعلمة، بعد إبطال ما كتب به لغيره فإنّ هذا الوليّ أولى، ولأنّ الحقّ معه وباع الحقّ أطول على المعنيين إطالة (2)
وطولا، وضعا للشّيء في محلّه الفاخر، وحملا على ما بيده من تواقيع شريفة
__________
(1) الرّخاخ: جمع رخّ، وهو طائر خرافي.
(2) في هامش الطبعة الأميرية: «الأنسب طولا وطولا».(12/419)
توارث بركتها ملوك البسيطة في الأوّل والآخر، وعلما أنّه بقيّة العلم المشيد، والزّهد العتيد، وخليفة السّلف الصالح وما منهم إلّا من هو «أمين» العزم «رشيد»، وأنّه الشيخ وكلّ من عرفه في بقائه ولقائه مريد، والقائم بالمقام الخليليّ صلوات الله تعالى على ساكنه مقاما مجتبى، والمنتسب إلى خدمة الحرم الإبراهيميّ مخدوما صلّى الله عليه ونسبا، والقديم الهجرة فلا تتركه الأوطان ولا تهجره، والمقيم بالبلد الخليليّ على إقامة الخير: فما ضرّه أنّ العدوّ يشكوه إذا كان «الخليل» يشكره وقد سبقت له مباشرات في هذا الحرم الشريف فكان عزمها تماما، وشكرها لزاما، وكانت على الصّادرين كتلك النّار النبويّة بردا وسلاما.
فليعد إلى مباشرة وظائفه المذكورة في التواقيع الشريفة الّتي بيده، وليكن يومه في الفضل زائدا على أمسه مقصّرا عن غده، بثناء يتلقّى أضياف أبي الأضياف، بأليف أحوال الداخلين إليه شتاء وصيفا وإن لم تكن رحلة إيلاف، جاريا في بركة التّدبير والتثمير على عادته وعادة سلفه فنعم الخلف ونعم الأسلاف، مواظبا على عادة تقواه ورفع الأدعية لهذه الدّولة الشريفة، جاعلا ذلك منه أوّل وآخر كلّ وظيفة والله تعالى ينفع ببركات سلفه وبه، ويكافيء عن الأضياف بسط راحته بالخيرات وفضل تعبه.
توقيع بمشيخة الزاوية الأمينية بالقدس ونظرها، كتب به للقاضي «برهان الدين» بن الموصلي ب «الجناب العالي» وهو:
رسم لا زال يجري الأولياء في مقاصدهم على أجمل عادة، ويختار منهم لمواطن الخير من يرعاها بنظر يثمّر لها السّعادة أن يحمل فلان في وظيفتي النظر والمشيخة بالزاوية الأمينيّة بالقدس الشريف، على حكم النّزول والتقرير الشّرعيّين المستمرّ حكمهما إلى آخر وقت، واستمراره في الوظيفتين المذكورتين بمقتضاهما، ومنع المنازع بغير حكم الشرع الشريف.
فليباشر ذلك بما يقتدى به من تسليكه وتأديبه، وتسرّع رغبته في هذا المقام ومن عناية تهذيبه والوصايا كثيرة ولكن لا تقال لمثله إذ هو معلّمها، وتقوى الله سبحانه أهمّها وأعظمها والله تعالى المسؤول أن يرشدنا إليها، وأن يجعل في كلّ الأمور اعتمادنا عليها، بمنّه وكرمه!.(12/420)
رسم لا زال يجري الأولياء في مقاصدهم على أجمل عادة، ويختار منهم لمواطن الخير من يرعاها بنظر يثمّر لها السّعادة أن يحمل فلان في وظيفتي النظر والمشيخة بالزاوية الأمينيّة بالقدس الشريف، على حكم النّزول والتقرير الشّرعيّين المستمرّ حكمهما إلى آخر وقت، واستمراره في الوظيفتين المذكورتين بمقتضاهما، ومنع المنازع بغير حكم الشرع الشريف.
فليباشر ذلك بما يقتدى به من تسليكه وتأديبه، وتسرّع رغبته في هذا المقام ومن عناية تهذيبه والوصايا كثيرة ولكن لا تقال لمثله إذ هو معلّمها، وتقوى الله سبحانه أهمّها وأعظمها والله تعالى المسؤول أن يرشدنا إليها، وأن يجعل في كلّ الأمور اعتمادنا عليها، بمنّه وكرمه!.
الصنف الخامس (ممّا يكتب لأرباب الوظائف بالشام تواقيع العربان)
والّذي وقفت عليه من ذلك مرسوم مكتتب بربع تقدمة بني مهديّ ب «المجلس السامي» بغير ياء، كتب به ل «موسى بن حناس» مفتتحا ب «أما بعد» وهو:
أما بعد حمد الله تعالى الّذي جمع على الطاعة الشريفة كلّ قبيلة، وبسط على ذوي الإخلاص [ظلال نعمه] (1) الظّليلة، والشهادة بأنّه الّذي لا إله إلّا هو وحده لا شريك له شهادة أتخذها للتوحيد دليله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ورسوله الّذي اتخذه الله تعالى حبيبه وخليله، وآتاه الدّرجة الرفيعة والوسيلة، وعلى آله وصحبه صلاة مباركة أصيلة فإن الأولى لتزكية القوم ترعى (2)، وذا الإخلاص ينجح له كلّ مسعى، والجدير بالنّعم من يجيب بالطّاعة حين يدعى، من سلك في الخدمة الشريفة مسلك الأسلاف، وتجنّب ما يفضي إلى الشّقاق والخلاف فعند ذلك رفعنا مراتبه، وضاعفنا مواهبه، وأنرنا بالإقبال الشّريف كواكبه، وأجملنا مكاسبه، وبسطنا في ربع تقدمة بني مهديّ كلامه، ونفّذنا أمره على طائفته: قوله وإبرامه، من أضحى مشكورا من كلّ جانب، مجتهدا في المصالح وبلوغ المآرب، من عرف بالأمانة فسلكها، واشتهر بالصّيانة فملكها، وحاز أوصافا حسنة، وسيرة نطقت بها الألسنة، وكان فلان هو الذي أضحى على عربانه مقدّما، ومن أكابرهم معظّما.
__________
(1) بياض بالأصل والزّيادة من هامش الطبعة الأميرية.
(2) كذا بالأصل وهو كلام غير مستقيم. وقد نبّه القلقشندي بعد هذا إلى أنه من التواقيع الملفّقة غير الرائقة.(12/421)
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زالت مراسمه الشريفة عالية نافذة، وأوامره بصلة الأرزاق عائدة أن يستقرّ على عادته وقاعدته: حملا على ما بيده من التوقيع الكريم.
فليباشر هذه الإمرة مع شركائه مباشرة حسنة، وليسر فيها سيرا تشكره عليه الألسنة، وليظهر السّداد، وليبذل الطّاعة والاجتهاد، وليسلك المسالك الحسنة والله تعالى يجعله من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، والوصايا كثيرة وملاكها تقوى الله تعالى والله تعالى يجعل إحساننا إليه يتوالى.
قلت: وقد تقدّم أنّه يكتب بإمرة بني مهديّ من الأبواب السلطانية أيضا.
على أنّ هذا التوقيع من التواقيع الملفقة، ليس فيه مطابقة للتواقيع، وليس برائق اللفظ، ولا مؤنق المعنى.
الصنف السادس (مما يكتب لأرباب الوظائف بالشام تواقيع زعماء أهل الذّمة: من اليهود والنصارى)
وهذه نسخة توقيع لبطرك النصارى مفتتحا ب «أما بعد» كتب به للبطرك «ميخائيل» وهي:
أمّا بعد حمد الله الّذي جعلنا نشمل كلّ طائفة بمزيد الإحسان، ونفيض من دولتنا الشريفة على كلّ بلد اطمئنانا لكلّ ملّة وأمان، ونقرّ عليهم من اختاروه ونراعيهم بمزايا الفضل والامتنان، والشّهادة بأنّه الله الّذي لا إله إلّا هو الواحد الذي ليس في وحدانيته قولان، والفرد المنزّه عن الجوهر والأقنوم والوالد والولد والحلول والحدثان، [شهادة] (1) أظهر إقرارها اللّسان، وعملت بها الجوارح والأركان، والصّلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله المبعوث إلى كافّة الملل والإنس والجان، الذي بشّر به عيسى وآمن به موسى وأنزل عموم رسالته
__________
(1) الزيادة مما درج عليه في هذا المقام.(12/422)
في التّوراة والإنجيل والزّبور والفرقان، فصحّ النّقل بنبوّته وآدم في الماء والطّين وأوضح ذلك البرهان، وعلى آله وصحبه الذين سادوا بإخلاص الوحدانيّة، وشادوا أركان الملة المحمّديّة، وأعزّوا الإيمان وأذلّوا الطّغيان، صلاة ينفح طيبها، ويفصح خطيبها، ويفرح بها الرحمن فإنّ أولى من أقمناه بطريكا على طائفة النصارى الملكيّة، على ما يقتضيه دين النصرانية والملّة العيسويّة، حاكما لهم في أمورهم، مفصحا عما كمن في صدورهم من هو أهل لهذه البطريكية (1)، وعارف بالملّة المسيحيّة، أخذه لها (2) أهل طائفته، لما يعلمون من خبرته ومعرفته، وكفايته ودربته، وندب إلى ولاية يستحقّها على أبناء جنسه، ورغب في سلوكه لها مع إطابة نفسه، مع ما له من معرفة سرت أخبارها، وظهرت بين النّصارى آثارها، وكان فلان أدام الله تعالى بهجته هو من النصارى الملكيّة بالمعرفة مذكور، وسيره بينهم مشكور، القائم فيهم بالسّيرة الحسنة، والسّالك في مذاهبهم سيرا تشكره عليها الألسنة.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال إحسانه العميم لكلّ طائفة شاملا، وبرّه الجسيم لسائر الملك بالفضل متواصلا أن يستقرّ بطركا على النصارى الملكيّة بالشام وأعماله، على عادة من تقدّمه في ذلك، وتقوية يده على أهل ملّته، من تقادم السنين بحكم رضاهم، ومنع من يعارضه في ذلك: حملا على ما بيده من التوقيع الكريم المستمرّ حكمه إلى آخر وقت.
فليباشر هذه البطركية مباشرة محمودة العواقب، مشكورة لما تحلّت به من جميل المناقب، وليحكم بينهم بمقتضى مذهبه، وليسر فيهم سيرا جميلا ليحصل لهم غاية قصده ومأربه، ولينظر في أحوالهم بالرّحمة، وليعمل في تعلّقاتهم بصدق القصد والهمّة، وليسلك الطريق الواضحة الجليّة، وليتخلّق بالأخلاق المرضيّة، وليفصل بينهم بحكم مذهبه في موارثهم وأنكحتهم،
__________
(1) يقال: بطركية وبطريكية وبطريركية، نسبة إلى بطرك وبطريك وبطريرك.
(2) أي: اختاره لها.(12/423)
وليعتمد الزّهد في أموالهم وأمتعتهم، حتّى يكون كلّ كبير وصغير ممتثلا لأمره، واقفا عندما يقدّم به إليه في سرّه وجهره، منتصبين لإقامة حرمته، وتنفيذ أمره وكلمته وليحسن النظر فيمن عنده من الرّهبان، وليرفق بذوي الحاجات والضّعفاء: من النّساء والصّبيان، والأساقفة والمطارنة والقسّيسين زيادة للإحسان، إحسانا جاريا في المساء والصّباح، والغدوّ والرّواح.
فليمتثلوا أمره بالطّاعة والإذعان، وليجيبوا نهيه من غير خلاف ولا توان ولا يمكّن النّصارى في الكنائس من دقّ الناقوس، ورفع أصواتهم بالضّجيج ولا سيما عند أوقات الأذان لإقامة النّاموس، وليتقدّم إلى جميع النصارى بأنّ كلّا منهم يلزم زيّه، وما جاءت به الشروط العمريّة (1) لتكون أحوالهم في جميع البلاد مرعيّة، وليخش عالم الخفيّات، وليستعمل الأناة والصّبر في جميع الحالات والوصايا كثيرة وهو بها عارف، والله تعالى يلهمه الرّشد والمعارف.
قلت: وهذا التوقيع فيه ألفاظ ومعان غير مستحسنة، وألفاظ ومعان منكرة، أفحشها قوله: مفصحا عما كمن في صدورهم. فإنّه لا يعلم ما تخفي الصدور وتكنّه إلّا الله تعالى.
واعلم أنّه ربما افتتح توقيع البطريرك عندهم ب «رسم بالأمر».
توقيع لبطرك النصارى بالشام أيضا، كتب به للبطريرك «داود الخوري» ب «البطرك المحتشم» وهو:
رسم بالأمر لا زال يعزّ بالالتجاء إلى حرمه من يأوي إليه، ويقصد عدله
__________
(1) وهي الشروط الّتي اشترطها عمر بن الخطاب على نصارى الشام وهي عبارة عن وثيقة كتبها عبد الرحمن بن غنم الأشعري، على لسان نصارى الشام، فأقرّها عمر بعد أن زاد فيها عبارة «ولا نضرب أحدا من المسلمين». أنظر نص الشروط والوثيقة في تفسير ابن كثير: 2/ 348347 ومجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة: جمع وتحقيق محمد حميد الله، ص 756.(12/424)
من أهل الملل ويعتمد عليه أن يستقرّ فلان وفّقه الله تعالى بطريرك الملكية، بالمملكة الشريفة الشاميّة المحروسة، حسب ما اختاره أهل ملّته المقيمون بالشام المحروس ورغبوا فيه، وكتبوا خطوطهم به، وسألوا تقريره في ذلك دون غيره إذ هو كبير أهل ملّته، والحاكم عليهم ما امتد في مدّته، وإليه مرجعهم في التّحريم والتّحليل، وفي الحكم بينهم بما أنزل الله تعالى في التّوراة ولم ينسخ في الإنجيل وشرعته مبنيّة على المسامحة والاحتمال، والصّبر على الأذى وعدم الاكتراث [به] (1) والاحتفال.
فخذ نفسك في الأوّل بهذه الآداب، واعلم بأنّ لك في المدخل إلى شريعتك طريقا إلى الباب (2) فتخلّق من الأخلاق بكلّ جميل، ولا تستكثر من متاع الدنيا فإنه قليل، وقدّم المصالحة بين المتحاكمين إليك قبل الفصل البتّ فإنّ الصّلح كما قيل: سيّد الأحكام، وهو قاعدة دينك المسيحيّ ولم تخالف فيه المحمديّة الغرّاء دين الإسلام، ونظّف صدور إخوانك من الغلّ ولا تقنع بما ينظّفه ماء المعمودية من الأجسام (3) وإليك الأمر في البيع، وأنت رأس جماعتك والكلّ لك تبع فإيّاك أن تتخذها لك تجارة مربحة، أو تقتطع بها مال نصرانيّ تقرّبه فإنّه ما يكون قد قرّبه إلى المذبح وإنّما ذبحه وكذلك الديارات والقلالي (4)، [يتعين عليه أن يتفقّد فيها كل أمر في] (5) الأيام والليالي،
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) أي البابا، وهو رأس الكنيسة.
(3) العبارة ضعيفة إذ ليس المقصود من المعمودية عند النصارى هو تنظيف الأجسام. وهذه إحدى آفات التسجيع الّذي يدفع بالكاتب أحيانا من حيث لا يدري إلى السعي وراء الشكل على حساب المعنى.
(4) القلاليّ: جمع قلّيّة، وهي شبه الصومعة. ولعلّ صواب العبارة هو «الأديرة والقلالي»، فإن الديارات هي صيغة جمع الجمع لدار. قال في المعجم الوسيط: دار، وتجمع على أدؤر، وديار، وديارة، ودور وجمع ديارة: ديارات.
(5) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف بالمصطلح الشريف: ص 145».(12/425)
وليجتهد في إجراء أمورها على ما فيه رفع الشبهات، وليعلم أنّهم إنّما اعتزلوا فيها للتّعبد فلا يدعها تتّخذ متنزّهات فهم إنّما أحدثوا هذه الرّهبانية للتّقّلل في هذه الدنيا والتّعفّف عن الفروج، وحبسوا فيها أنفسهم حتّى إنّ أكثرهم إذا دخل إليها ما يعود يبقى له خروج فليحذّرهم من عملها مصيدة للمال، أو خلوة له ولكن (1) بالنّساء حراما ويكون إنّما تنزّه عن الحلال وإيّاه ثم إيّاه أن يؤوي إليه من الغرباء القادمين عليه من يريب، أو يكتم عن الإنهاء إلينا مشكل أمر ورد عليه من بعيد أو قريب ثم الحذر الحذر من إخفاء كتاب يرد [إليه] (2) من أحد من الملوك، ثم الحذر الحذر من الكتابة إليهم أو المشي على مثل هذا السّلوك وليجنّب البحر وإيّاه من اقتحامه فإنّه يغرق، أو تلّقي ما يلقيه إليه جناح غراب منه فإنّه بالبين ينعق والتّقوى مأمور بها أهل كلّ ملّة، وكلّ موافق ومخالف في القبلة فليكن عمله بها وفي الكتابة ما يغني عن التصريح، وفيها رضا الله تعالى وبها أمر المسيح.
توقيع برآسة اليهود بالشام، [جاء] مفتتحا «برسم» من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، وهو:
رسم بالأمر لا زال جوده في كلّ ملّة، وغمام كرمه على الخلق كأنه ظلّة، وذمام نعمه يبلّغ المسلم والذّمّيّ من الاستحقاق محلّه، أن يستقر الحكيم [فلان] (3)
ومنه: وأن يعاملهم على ما ألفوه من الأحكام، وينصف صاحب حقّهم
__________
(1) لعلّ هذا اللفظ زائد.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) بياض بالأصل.(12/426)
من متطلّبهم: حتّى لا يعدو أحد في سبت ولا في سائر الأيّام، ويهذّب وحشيّ جاهلهم بإيناسه، ويعالج سقم كاهلهم حتّى تطلع الصّفراء من راسه.
فليقم مقاما في هذه الطائفة القديمة، وليعبّر من أسفار عبرانيّة عن عوائد قضاياهم النظيمة، مفرّحا بمعرفته كلّ حرّان، جامعا كلّ شعث على عدل عنده وإحسان، شاكرا لظلل النّعمة، عارفا بالعوارف الّتي ترعى يمينها كلّ ذمّة.
النيابة الثانية (من النيابات الّتي يكتب عن نوابها بالولايات نيابة حلب)
وهي على نحو من نمط دمشق فيما يكتب عن نائبها فيكتب عن نائبها أيضا بالتواقيع لأرباب الوظائف بحاضرة حلب وأعمالها: من أرباب السّيوف، وأرباب الأقلام الدّينية، وأرباب الأقلام الديوانية، ومشايخ الأماكن وغيرهم، مرتّبة على المراتب الثلاث: من الافتتاح ب «الحمد لله»، والافتتاح ب «أمّا بعد حمد الله»، والافتتاح ب «رسم بالأمر».
وهذه نسخ تواقيع مما كتب به لأرباب السيوف بحاضرة حلب وأعمالها، يستضاء بها في ذلك:
توقيع بنقابة الأشراف (1)، كتب به للشريف عزّ الدّين «أحمد بن أحمد الحسيني» ب «المقرّ العالي» وهو:
أمّا بعد حمد الله الّذي خلّد السيادة في بيوت الشّريف أحمد تخليد، وقلّد تقاليد السّعادة، لأهل الإفادة، أسعد تقليد، وجدّد الوفادة، لحرم العبادة، بعزّ العصابة المحمدية آكد تجديد، والصلاة والسلام على سيد الخلق الّذي عقد العهدين لأمّته، بالثّقلين: من كتاب الله وعترته، وسرّ النفوس المؤمنة هداه بكلّ أبيّ من أسرته، وأقرّ العيون المراقبة بكلّ سريّ من أهل بيته تبرق أنوار
__________
(1) أي نقابة الأشراف الطالبيين.(12/427)
النبوّة من أسرّته، وعلى آله حبل النّجاة للمتمسّك، وسبل الهداة للمتنسّك، وصحبه نجوم الهدى، ورجوم العدا، وأئمّة الخير لمن بهم اقتدى، صلاة وسلاما، يتعاقبان دواما، ويتلازمان على الألسنة مدى المدى لزاما، ما حلا بعين وطف (1)، وما علا علويّ ذرا شرف فإنّ أهمّ ما اعتنى به ولاة أمور الإسلام، وأعمّ ما اقتنى منه رعاة أجور الحكّام رعاية مصالح أهل البيت، وانتهاز الفرصة في موالاتهم حتّى لا يقال لفواتها: ليت، وتعظيم ما عظّم الله تعالى من حقوقهم، وتكريم ما كرّم رسوله من برّهم واجتناب عقوقهم، وتقديم أحقّهم بالتقديم لا حقّ سبّاقهم إلى غايات الغلوات وسبوقهم، والتّعبد بالتّعب والاجتهاد في نفعهم، ونصب النفوس للنّصب لتجر ذيول الفخر بموالاتهم، وإعلائهم على الرؤوس ورفعهم، اختيارا لرأي من زاد في العناية بالعترة الطاهرة وأربى، وأتمارا بقوله تعالى: {قُلْ لََا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ََ} (2)
خصوصا نقابة الأشراف، والنّظر فيما لهم من الأوقاف فهي شاملة جمعهم، وجامعة شملهم، وواصلة نفعهم، ونافعة كلّهم، وبفضل مباشرها تسبغ عليهم النّعمة، وتستدرّ ببركة إجماعهم عليه سحب الرّحمة، وبكفالته تجمع المنّة لمراتبهم وأحسابهم، وبإيالته تدفع الظّنّة عن مناقبهم وأنسابهم وهو القائم عن ولاة الأمور من خدمهم بفروض الكفاية، والدّائم الدّأب لمرآة أدبهم لتحسن لهم الرّعاية، فوجب الاحتفال باختيار من يحلّي هذا المنصب الشريف، وتعيّن الابتهال في امتياز من يسبغ عليه هذا الظّلّ الوريف، ممّن قدم في هذه السيادة بيته، وارتفع بخفض العيش لقرابته بعفافه وديانته صيته، وتنزّه عن كلّ ما يشين وتبرّا، واكتسى حلل الفخار العلية ومن أعراض الدنيا الدّنيّة تعرّى.
وكان فلان بن فلان أسبغ الله تعالى ظلالهم، وضاعف بمعالي الشّرف
__________
(1) الوطف: كثرة شعر الحاجبين والعينين مع استرخاء وطول. وعين وطفاء: فاضلة الشّفر مسترخية النظر. وفي حديث أم معبد في صفة سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنه كان في أشفاره وطف، أي كان في هدب أشفار عينيه طول. (أنظر اللسان: 9/ 357).
(2) الشورى / 23.(12/428)
جلالهم ممّن حاز في هذه الخلال المنازع (1)، وجاز نهاية هذه الخصال بلا منازع، وورد من حياض المناقب الجميلة أعذب المشارع، ودرى المراقي إلى المجد ودرب، وبلغت نفوس محبّيه من مخايل سعوده الأرب، وقرّت عيون أقاربه بما حصل له من القرب، ونشأ في حجر السّعادة، وارتضع لبان الإفادة، ولحق بالسابقين الأوّلين من أهل بيته في الزّهادة، وتبتّل بالإخلاص فظهرت على وجهه أنوار العبادة، وانقطع على العمل، وبلغ من العلوم الأمل: قؤوم تشبّث بالمجرّة وهو شامة في شامه المنسوب:
ورث السّيادة كابرا عن كابر ... كالرّمح أنبوب على أنبوب
أصل فخار سما، وفرع نجار نما، وغيث فضل همى، أثبت في أعلى المعالي قدما، وناسب قدره سعيه كرما، وجلّت صفات محاسنه اللّائقة، وحلّت الأفواه مدائح سجاياه الرّائقة، وتملّت الألسن وما ملّت ما تملي عنه بالخير كلّ ناطقة.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زالت أوامره ببرّ آل موالاته ماضية، ونواهيه بقهر أهل معاداته قاضية أن يستقرّ استقرارا يقرّ عين العلا، ويسرّ نفوس أهل الولا، ويضع الأشياء في محلّها، ويسند الأمور إلى أهلها، ويستجلب الأدعية، ويحمل بالولاء الجميل ألوية، ويشرح خواطر الأشراف ويطيّب نفوسهم، ويرفع بعد سجود الشّكر بالدعاء رؤوسهم.
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة يقفو بها آثار بيته الطاهر، بعزم كريم: لكلّ مصلح بالخير غامر، ولكلّ مفسد بالضّير قاهر، وحزم حليم: لكلّ حقّ ناصر، ولكلّ كسر جابر، وليصل بالبرّ رحمه، وليلن للضعيف كلمه، وليقم بأعباء هذه الوظيفة قيام عمّه الشّريف وأبيه، وليصم عن أموال الأوقاف صياما يقرّبه الله تعالى به ويجتبيه، ليحمد، هذا المنصب الجليل، في بيته الأصيل، عوده على
__________
(1) المنزع: السهم البعيد المرمى.(12/429)
أحمد ولينفع قرابته بتثمير أموالهم، وليشفع النهضة بالمعرفة في تثمير غلالهم، لتدرّ بركته أخلاف أرزاقهم، وتقرّ خواطرهم بمضاعفة أرزاقهم وإطلاقهم، ويخصب في جنابه مرعاهم، ويقرّب في بابه مسعاهم، وتنطق بشكره ألسنتهم الشريفة، وتنطبق على صحبته ظلال بيوتهم الوريفة، وليعتبر ويختبر أشغالهم وليمنع شبّانهم من الاحتراف بحرف الأدنياء، وليأمر الآباء بتعهّد تربية الأبتاء، وليأمرهم من العمل بما يناسب معاليهم، وليجبرهم بتدبيره السّديد جبرا يميّزهم بحسن السّمت من أوليائهم: وكلّنا من مواليهم.
والوصايا كثيرة، وعين علومه بتعدادها بصيرة وتقوى الله تعالى لا يهمل النّصّ عليها، والإشارة بحسن البيان وحسن البنان إليها فلتكن ركن استناده، ورأس مال اعتماده والله تعالى يديمه في صعود درج السّعود مدّة حياته، ويجمع له خيري الدنيا والآخرة برفع درجاته.
وهذه نسخة توقيع بنقابة الجيوش بحلب، كتب به ل «ناصر الدين بن أيتبك» ب «السّامي» بغير ياء وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زال أمره الشريف يعضّد الجيوش بأعضد ناصر، ويرشد أولياء الخدمة إلى ارتقاء رتب المعالي فكلّ إنسان عن إدراك محلّها قاصر أن يستقرّ فلان أدام الله توفيقه، وجعل اليمن والسّعد قرينه ورفيقه استقرارا يظهر ما لم يخف من نهضته وكفايته، ويشهر معلن سرّ يقظته ودرايته لأنّه الفارس الّذي أعزّ كلّ راجل بشجاعته، والممارس الّذي خبر الوقائع بحسن دربته ودراية صناعته، والعارف الّذي اتّصف بالخبرة وحسن الصّفة، وعرف في أموره بالعدل والمعرفة، والهمام الّذي علت همّته فوق كلّ همّة، وكشف بجزيل مروءته من الكربات كلّ غمّة، وسار في الجيوش سيرة والده، فشهد كلّ بما حواه من طارف الفضل وتالده.
فليباشر ذلك: سائرا في الجنود أحسن سيرة، مراقبا الله تعالى فيما يبديه
من القول والفعل والعلانية والسّريرة، ملازما ما يلزمه من حقوق هذه الوظيفة، قائما بما يجب من أداء الخدمة الشّريفة، ولينفّذ ما يؤمر به من الأوامر، عالما بما يتعيّن من حقوق المأمور والآمر، [وليجتهد] (1) في جمع العساكر وإعلامهم بالمهمّات، وليتفقّد أحوال الجند في سائر الأوقات، وليسفر النّقاب عن الوجوه بالحلية يوم العرض، وليسبل حجاب السّتر على من أدركه العجز عن أداء الفرض والوصايا كثيرة لا تحتاج إلى التّعداد، وتقوى الله تعالى هي العمدة في كلّ الأمور وعليها الاعتماد.(12/430)
فليباشر ذلك: سائرا في الجنود أحسن سيرة، مراقبا الله تعالى فيما يبديه
من القول والفعل والعلانية والسّريرة، ملازما ما يلزمه من حقوق هذه الوظيفة، قائما بما يجب من أداء الخدمة الشّريفة، ولينفّذ ما يؤمر به من الأوامر، عالما بما يتعيّن من حقوق المأمور والآمر، [وليجتهد] (1) في جمع العساكر وإعلامهم بالمهمّات، وليتفقّد أحوال الجند في سائر الأوقات، وليسفر النّقاب عن الوجوه بالحلية يوم العرض، وليسبل حجاب السّتر على من أدركه العجز عن أداء الفرض والوصايا كثيرة لا تحتاج إلى التّعداد، وتقوى الله تعالى هي العمدة في كلّ الأمور وعليها الاعتماد.
توقيع بالمهمنداريّة (2) بحلب، كتب به ل «غرس الدين الطناحي» ب «الجناب العالي» وهو:
رسم بالأمر الشريف لا زالت عزائمه تندب للمهمّات من غرست برياض وليّه أدواح الهمم فزكا غرسا، وتقرّر لها من شاب فوده في إفادة الوفود فأجاب قصدا وأطاب نفسا، ولا برحت عنايته تشمل من أولياء خدمها كلّ شهم إذا سلّ عضبا أزال نفسا وأسال نفسا، وتعيّن من أعيانهم كلّ جميل يودّ المنافس لو شاهده ولا تبخس يد الرّقيّ منه نفسا أن يستقرّ لأنّه ذو الهمم الّتي لا تلحق جيادها، ولا تسبق جودة جيادها (3)، لا منتهى لصغار هممه فأنّى تدرك كبارها، ولا تدرك سوابقه فأنّى تقتفى آثارها له قدم إقدام في الثّرى لا يزال (4) راسخا، وهامة همّة لم يزل شرفها على الثّريّا باذخا، ولأنّه الفارس
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) المهمندارية هي وظيفة المهمندار، وهو الّذي يقوم بلقاء الرسل والعربان الواردين على السلطان وينزلهم دار الضيافة ويتحدث في القيام بأمرهم. واللفظ فارسيّ مركب. (مصطلحات صبح الأعشى: 334).
(3) جياد الأولى جمع جيّد، والثانية جمع جواد والعكس يصح أيضا.
(4) القدم مؤنثة. وفي هامش الطبعة الأميرية: ذكّرها مجاراة للعامة.(12/431)
الذي تفرّست في مخايله الشّجاعة، وتبضّع الشّهامة في الحروب فكانت أربح بضاعة كم أزرت سمر رماحه بهيف القدود، وأخجلت بيض صفاحه كلّ خود أملود (1)، وكم جرّدت من مطربات قسيّه الأوتار فتراقصت الرؤوس، وشربت الرّماح خمر الدّماء فعربدت على النّفوس:
له همم تعلو السّحائب رفعة، ... وكم جاد منها بالنّفائس والنّفس!
وتجنى ثمار الفضل من دوح غرسه! ... ولا غرو أن تجنى الثّمار من الغرس!
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة تحمده فيها الورّاد، وتشكره بالقصد ألسنة القصّاد، وتذكره البريديّة (2) بالخير في كلّ واد، وليهيّء لهم [من القرى ما يهيّئه] (3) المضيف، وليحصّل لهم التّالد منه والطّريف، وليتلقّهم بوجه الإقبال، وليبدأهم بالخير ليحسن له المآل، وليجعل التّقوى إمامه في كلّ أمر ذي بال، وليتّصف بالإنصاف فهو أحمد الأوصاف في جميع الأحوال.
توقيع بتقدمة البريديّة بحلب، كتب به لعماد الدين «إسماعيل» ب «المجلس العالي» وهو:
رسم بالأمر الشريق لا زالت عنايته الكريمة تقدّم إلى الرّتب العليّة من بنى أسّ إقدامه من المروءة على أشرف عماد، وتعيّن للمهمّات الشّريفة من امتطى من جياد العزم أسبق جواد، وتندب لها من أولياء خدمه كلّ ندب لم يزل ساعد سعده مبنيّا على السّداد، وتصعد إلى أفقها من ذوي الشّهامة من فاقت بيمينه الصّعاد أن يستقرّ: لأنّه ذو الهمم الّتي سامى بها الفراقد، والكفء الّذي نشط إلى القيام بالعزائم إذا قعد عنها من ذوي الهمم ألف راقد،
__________
(1) الخود: الشابة الناعمة الحسنة الخلق. والأملود: الناعم اللّين.
(2) الذين يحملون البريد.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/432)
والمقدّم الّذي قدّمه الإقدام على قضاء الأمور المعضلات، وحلّى أجياد ذوي المآرب إذ حلّ لهم منها بيمن عزمه المشكلات ما علا جواد بريد إلّا وسابق الطّرف (1) بل الطّرف إلى المراد، ولا ندب إلى مهمّ للحكم فيه نيلا لأمل إلّا قدح من رأيه في فضائه أورى زناد، والفارس الّذي تمايلت بكفّه العوامل (2)
عجبا فأخجلت الأغصان، وحلت إذ حلّت بقلوب الأعداء وإن كانت من المرّان (3)، والشّهم الّذي سبق السّهم إلى الغرض، والشّجاع الّذي ما أعرض عن محاربة الأقران: فصفّى جوهر شجاعته من العرض، واليقظ الّذي لم يكن يناظره إنسان، ولا انطبق على أسيافه المسهّدة بيمينه أجفان.
فليباشر هذه التّقدمة مباشرة يشهد الحاسد له فيها بالتقديم، ويقرّ الجاحد أنّه أهدي لما أسدي إليه إلى صراط عزم مستقيم، وليطر إلى قضاء المهمّات الشريفه بأجنحة السّداد، وليمتط من جواد الجوادّ (4) أسبق جواد، وليسوّ بين البريدية في الأشغال، وليقبل عليهم فيما يرومونه من حسن السّفارة بوجه الإقبال، وليسلك سنن الصّدق والتّقوى وليجعلهما له أحسن سنّة، وليلبس سوابغ الإنصاف فإنّها من سهام الخلل جنّة.
نسخة توقيع بنيابة عينتاب (5)، كتب به لناصر الدين «محمد بن شعبان» ب «المجلس العالي» عوضا عمن كان بها وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زال إحسانه العميم، يرفع لناصر الدين قدرا، وامتنانه الجسيم، ينفّذ له في حفظ الممالك المنصورة أمرا، ويولّي أمر الرّعية
__________
(1) الطّرف (بالكسر): الكريم من الخيل.
(2) أي الرماح.
(3) المرّان: الرماح الصلبة اللدنة واحدته مرّانة.
(4) جمع جادّة، وهي وسط الطريق، والطريق الأعظم الّذي يجمع الطرق.
(5) مدينة إلى الشمال من حلب وكانت تعرف بدلوك. (معجم البلدان: 4/ 176).(12/433)
من حسنت سيرته سرّا وجهرا أن يستقرّ: لأنه شهم سهم عرفانه مصيب، وفارس ربع خبره وخبره خصيب، له مناقب جليلة، وسيرة محمودة جميلة، تنقّل في المراتب تنقّل البدر في سعوده، وارتقى ذروة السيادة ارتقاء الكوكب في منازل صعوده ما باشر مباشرة إلّا ونشرت له بها أعلام شكره، ولا علا منزلة إلّا تليت بها سور حمده وذكره لم يزل متّبعا للحقّ في أحكامه، سالكا سبل الصّواب في نقضه وإبرامه فتح له إقبالنا الكريم بابه، فلذلك قدّم على غيره في هذه النّيابة.
فليباشرها مقتفيا آثار العفاف، مرتديا أردية العدل والإنصاف، مقيما منار الشرع الشريف، منصفا من القويّ الضّعيف والله تعالى يوفّقه للصواب فيما تولّاه والخطّ الكريم شاهد أعلاه.
قلت: وعلى نيابة عينتاب هذه يقاس ما في معناها من نيابات العشرات (1)، فيجري الحكم في تواقيعها كذلك. أمّا الطبلخانات (2) فقد تقدّم أنّ الأصل أنّه لا يولّى فيها إلّا من الأبواب السلطانية.
وهذه نسخة مرسوم بإمارة الرّكب الحلبيّ المتوجّه إلى الحجاز الشريف، كتب به لشهاب الدين «أحمد بن الطنبغا» ب «الجناب الكريم».
والبياض (3) فيه وصل واحد وهي:
رسم بالأمر العاليّ لا زال يمنح وفد الله تعالى بمن لم يزل شهاب هممه في أفق الصيانة منيرا، ويسند أمرهم إلى كلّ ندب لا يزال على الحقّ ظاهرا وعلى ذوي الباطل ظهيرا أن يستقرّ فلان من أعيان الموالي الأمراء الطبلخانات
__________
(1) أي الّتي يتولّاها أمراء عشرات من العسكريين.
(2) يتولّاها أمراء أربعين.
(3) أي بياض الطرّة في أعلا الكتاب.(12/434)
بحلب المحروسة أعزّ الله تعالى نصرته أميرا على ركب الحاجّ الحلبيّ في هذا العام المقبل، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، حسب ما رسم به، استقرارا يحمد به الوفد عند صباح هممه السّرى، ويبلغ بهم قرى الغفران بأمّ القرى، وينال به طيب العيش بطيبة وطابة (1)، ويدرك بجياد فضله آرابه، ويمنح به زيارة سيّد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام، ويفوّق به سهم إصابته من البشر إلى مرامي المرام، ويشهد به بين قبره ومنبره روضة من رياض الجنّة، ويلبس به سوابغ القبول لتكون له من سهام الذّنوب أوقى جنّة، ويتردّى [به] برود التّقى حين ينزع محرّمات الإحرام، ويقبل به على ذكر الله تعالى في الوهاد والبقاع والآكام، ويستقبل به حرم بيت الله الحرام، ويشبّ له الهنا حين دخوله المسجد من باب بني شيبة، ويتعاطى به أسباب التّوبة، لينال من العفو من الله الكريم سيبه، ولا يقتصر به عن التّطاول إلى الدعاء إلى الله تعالى لتعمّه الرحمة بفضله وطوله، ويدخل به حرما آمنا يتخطّف الناس من حوله، ويفتح به إلى المقام بابا من الأمن إلى يوم القيامة مقيم، ويذكر بوقوفه بعرفات وقوفه {يَوْمَ لََا يَنْفَعُ مََالٌ وَلََا بَنُونَ إِلََّا مَنْ أَتَى اللََّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (2)
فليباشر هذه الإمرة المباركة مباشرة يتيقظ منها لهجر المنام، وليصرف وجه سهامه إليها في المسير والمقام، ولينفق على الحاجّ من كنوز معدلته، وليجعل القيام بمصالحهم من أكبر همّته، وليسع بالصّفا في حراستهم من أهل الفساد، وليعتمد صونهم من ذوي العناد، وليعاملهم بالإرفاد والإرفاق، وليقطع من بينهم شقّة الشّقاق، وليجعل تقوى الله إمامه في القول والعمل.
وهذه نسخ تواقيع لأرباب الوظائف الدينية بحلب:
توقيع بقضاء القضاة، كتب به لقاضي القضاة جمال الدّين «إبراهيم (3) بن
__________
(1) طيبة وطابة: اسم لمدينة الرسول. والطاب والطيب لغتان. (معجم البلدان: 4/ 53).
(2) الشعراء / 88.
(3) في فوات الوفيات: 3/ 26والأعلام: 7/ 130: «محمد بن أبي جرادة» وهو محمد بن هبة الله ابن محمد بن هبة الله بن أبي جرادة الحلبي، جمال الدين أبو غانم، المتوفى سنة 628هـ.(12/435)
أبي جرادة» قاضي قضاة حلب المحروسة الشهير ب «ابن العديم» من إنشاء (1) الحنفي ب «المقرّ الكريم» وهو:
الحمد لله الّذي رفع مراتب المناصب العليّة وكساها من ملابس أهلها حلل الجمال، وجمع شملها فاقترنت بإلفها اقتران النّيّرين: شمس الضّحى وبيت الكمال، ورفع عنها يد المتطاول والمتناول فأصبح رقم طرازها الموشّى منتسجا على أحسن منوال، وقطع الأطماع عن إدراك شأوها فلا يصل إليها إلّا كلّ فحل من الرجال.
نحمده على نعمه الّتي اعترف من اغترف من بحرها الوافر بالخير الكامل والفضل المديد، واقترف من اقتطف ثمار جودها جميل النّوال المفيد، وجزيل الإحسان العديد، حمدا يوافي نعمه ويكافي مزيده، ويعمّ بالإنعام الشّامل نائله ومريده، ونشكره على مننه الّتي يقصر لسان الإطناب عن حصرها وتعدادها، وتعجز بنات الفكر عن إدراك وصفها وتردادها، شكرا ينال به العبد رضا المعبود، ويبلغ به من مقاصد الكرم والجود غاية المقصود، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ولا ضدّ، ولا والد له ولا ولد ولا ندّ، شهادة تبيّض وجه قائلها عند العرض، وينطق بها لسان التوحيد يوم تبدّل الأرض غير الأرض، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أظهر الله به الحقّ وأعلنه، وبهر بحقائق معجزاته العقول فاعترف كلّ بصحّة ما عرّفه وبيّنه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين نصر الله بهم الإسلام وأبّد أحكامه، وأحكم بهم مباني الإيمان المنيرة وأيد إحكامه، صلاة تتعطّر بنفحات عرفها أرجاء المدارس، وينادي لسان فضلها لرائد فرائد المعالي على طول المدا: رس (2)، وسلّم ومجدّ وكرّم، وشرّف وبجّل وعظّم.
__________
(1) بياض بالأصل.
(2) أي: إرس. من رسا، يرسو.(12/436)
وبعد: فإنّ أولى من لحظته عين العناية والقبول، وأجدر من بلغ من مقاصد المناصب العلية غاية القصد والسّول، وأعزّ من رقي ذرا المعالي وارتقى، وأجلّ من وصف بالأوصاف الجميلة ونعت بالدّيانة والتّقى من سارت سيرة فضله في الآفاق، ودلّ على صفاء السريرة منه حسن الأخلاق، واشتهر بالعلوم الجزيلة، والمناقب الجليلة، وعرف في الإنصاف بالأوصاف المحمودة والخصال الجميلة، وأظهر من العلوم الشريفة، ما حيّر العقول، وحقّق من المسائل اللّطيفة، ما جمع فيه بين المنقول والمعقول، ودقّق المباحث حتّى اعترف بفضله الخاصّ والعام، وفرّق بين الحقيقة والمجاز فلا يحتاج إلى استعارة إذا تشبّه الأخصام، وحكم بما أراه الله فأحكامه مرضيّة، وقضاياه في الجملة قد أنتجت فهي مقدّمة في كلّ قضيّة، وثابر على إلقاء الدّروس في وقتها وأوانها، وقرّر كلّ مسألة في محلّها ومكانها، وأفاد طلّاب العلم الشريف من فوائده الجمّة، وكشف لهم عن غوامض المباحث فجلا عن القلوب كلّ غمّة، وجال في ميادين الدّروس فحيّر الأبطال، وحاز قصب السّبق في حلبة اللّقاء فردّ متأسّفا كلّ بطال، ونظر في أمور الأوقاف بما أراه الله فأتقن بحسن النظر وجه ضبطها، وأجرى أمور الواقفين على القواعد المرضيّة فوافق المشروط في شرطها، وجمع ما تفرّق من شملها فأجمل وفصّل، وحفظ أموالها فحصّل وأصّل فهو الحاكم المشهور بالعدل والمعرفة، والناظر الّذي حمدت الأمور تصرّفه، والإمام الّذي ائتم الأنام بأقواله وأفعاله، والعالم الّذي يحمد الطالب إليه شدّ رحاله، والمدّرس الّذي أفاد بفقهه المفيد النافع، وترفّع في البداية والنّهاية فهو المختار في المنافع، وسلك منهاج الهداية، فنال من العلوم الغاية فبدائع ألفاظه لعقائد الدّين منظومة، وكنز عرفانه عزيز المطلب ومحاسنه المشتملة على الكمال معلومة.
ولما كان فلان أعزّ الله تعالى أحكامه، وقرن بالتوفيق والسّداد نقضه وإبرامه، هو المشار إليه بالأوصاف والنّعوت، والمعوّل عليه إذا نطق بالفضائل والحاضرون سكوت، والمشكور أثر بيته المشهور، والمنشور علم علمه من
السّنة والشّهور يا له من بيت لم يزل معمورا بالتّقوى والصّلاح، محميّا بأسلحة أهله: فمن أحكامهم السّيوف ومن أقلامهم الرّماح فهو العديم المثل وبيته العديم، وحرم فضل يحجّ إليه الرّاحل والمقيم فاستحقّ أن تقابل مقاصده بالإقبال، ويقابل بما يؤمّله مقابلة مثله ولا كسائر الأمثال.(12/437)
ولما كان فلان أعزّ الله تعالى أحكامه، وقرن بالتوفيق والسّداد نقضه وإبرامه، هو المشار إليه بالأوصاف والنّعوت، والمعوّل عليه إذا نطق بالفضائل والحاضرون سكوت، والمشكور أثر بيته المشهور، والمنشور علم علمه من
السّنة والشّهور يا له من بيت لم يزل معمورا بالتّقوى والصّلاح، محميّا بأسلحة أهله: فمن أحكامهم السّيوف ومن أقلامهم الرّماح فهو العديم المثل وبيته العديم، وحرم فضل يحجّ إليه الرّاحل والمقيم فاستحقّ أن تقابل مقاصده بالإقبال، ويقابل بما يؤمّله مقابلة مثله ولا كسائر الأمثال.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زالت مراسمه المطاعة تقرّ الحقّ في يد مستحقّه، وتردّ الأمر إلى وليّه ومالك رقّه، وتسوق هدي الإحسان إلى محلّه، وتضع الاستحقاق في يد مستحقّه والحقّ وضع الشّيء في محلّه أن يستقرّ بحكم ظهور الحقّ بيده المباركة، وخفاء الباطل الّذي ليس له في الحقّ مشاركة، استقرارا مباركا ميمونا، بالخير والسّعد مقرونا لأنّه الأحقّ بأمر وظائفه، والطائف حول حرمها الممنوع طائفه، وأولى من عقلت عليه عقيلته، وردّت إليه فريدته، وباشر بنفسه الكريمة ما عهد إليه سلفه، وانفرد به فلا يناله إن شاء الله إلّا خلفه طالما ألفت منه الأوقاف منّ الشّفقة والخير، وحفظ جهاتها المحميّة عن تطاول يد الغير، ونعم بحسن نظره من المدارس كلّ دارس، وفازت منه الدّروس بالعالم العارف والبطل الممارس.
فليباشر ذلك على ما تقدّم له من حسن المباشرة، وليجتهد على عوائده في تحصيل ريعه مثابرا على الأجور أشدّ مثابرة، وليصرف أموال الأوقاف في مصارفها، بعد العمارة والتّثمير المبدّأين في شرط واقفها، وليسوّ على مقتضى معدلته بين القويّ والضعيف، والشابّ الصّغير والشّيخ النّحيف، على قدر تفاوتهم في العلم الشريف، وليطلق لسانه في إلقاء الدّروس على عادته، وليمهّد للمشتغلين طريق الفهم لينالوا من إفادته وهو بحمد الله تعالى أولى من أدّى الأمور على الوجه المستقيم، ووفّى المناصب حقّها فإنّ الوفاء جدير ب «إبراهيم» (1)
__________
(1) إشارة إلى قوله تعالى: {«وَإِبْرََاهِيمَ الَّذِي وَفََّى»} النجم / 37.(12/438)
والوصايا كثيرة وإليه مرجوعها، ومن بحار علمه ودينه المتين ينبوعها والله تعالى يؤيّد به المناصب، ويرفع بعلوّ رتبته المراتب.
نسخة توقيع بخطابة جامع، كتب به لقاضي القضاة «كمال الدين عمر» ابن قاضي القضاة جمال الدين إبراهيم (1) بن أبي جرادة الحنفيّ، الشهير بابن العديم ب «المقرّ الشريف» وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زالت عنايته ترقّي في منازل المجد من تتأثّل بفضله بهجة وكمالا، وتذلّل جيادها لفرسان الفضائل فتجيد لهم في ميدان البلاغة مجالا، وتسلّم رايتها [إلى من صدق بارق سعده، ووهب من العلم] (2)
ملكا لا ينبغي لأحد من بعده أن يستقرّ لأنّه الإمام الّذي [لو] (3)
تقدّم عصره لكان أحد أئمة الاجتهاد، والعارف الّذي بلغ بولايته مريد الفضل غاية المراد، والعالم الّذي وجدت أخبار علومه نسبة يطابقها في الخارج صالح العمل، واتبع سنن الكتاب والسّنّة فلم يتخلّل طريقته المثلى خلل، والمحقّق الذي وجد إلى كنه الحقيقة أكمل مجاز، والمفوّه الّذي بلغ من البلاغة في كلام البشر حدّ الإعجاز إن خطب شنّف بدرر مواعظه الأسماع، وشرّف بغرر فرائده الأسجاع، واهتزّت أعواد المنابر طربا لكلمه الطّيّب، وروّى أوام (4) القلوب سحّ فضله الصّيّب، وإن قرأ في محرابه أقرّ بفضله الجمع الجامع، واستقلّ «ابن كثير» حين وجد «الكسائيّ» عاريا مما لديه وفضله الجمّ أكمل «نافع»:
خطيب إذا الصّادي تصدّى لفضله: ... ليروى، فأنواء العلوم تغيثه!
وإن يرو للجلّاس أخبار أحمد، ... فخير جليس لا يملّ حديثه!
__________
(1) أنظر ص: 435حاشية (3).
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(4) أي العطش.(12/439)
وهو الكامل الّذي أدرك درجات الكمال في البداية فأمن في النّهاية وهو قاض من النقص، وسارت عيس الطّلّاب إلى حضرته الكريمة واحدة ولكن بالنّص، والصّاحب الّذي استصحب يسار العفاة باليمين، وأزال ظنّ قاصده في برّه الشامل باليقين كم أطلق بأقلامه المفيدة مكرمة بصلة الأرزاق، ونسخ بمحقّق فضله رقاع (1) الأول بالعطاء على الإطلاق، ولو نظر الملكان: هاروت وماروت ما ملكه من كتابته السّاحرة لأقرّا أنّه السّحر الحلال، ولو قابله «ابن هلال» لا نخسف بدر فضله عند الكمال:
ففي كفّه الأقلام تهزأ بالقنا، ... وتخشى سطاها الأسد في غاب غابها!
يروع سيوف الهند وري (2) يراعه، ... وقد طار من خوف حديد ذبابها!
فليباشر هذه الخطابة مباشرة ترشف منها كؤوس كلمه الأسماع، وليكشف لها عن وجوه فضائله القناع، ولينثر عليهم من درر بلاغته ما تلتقطه أفواه المسامع، ولينشر من طيّ لسانه علم علمه الّذي لا يقاس عليه غيره أبى الله والفارق الجامع، وليطرب بمواصيل أسجاعه القاطعة بفضائله المكمّلة، وليظهر ما جمعه من محاسنه الّتي هي الجمع الّذي لا نظير له، ولينفق على الجمع يوم الجمعة مما آتاه الله تعالى من كنوز الفضائل، وليبلّغهم من بلاغته التي أخملت ذكر «قسّ» و «سحبان وائل» وأنت أسبغ الله تعالى ظلالك معدن الفضائل فأنّى تهدى إليك الوصايا؟، والمتصف بصفات الكمال فكيف تعرض عليك المزايا؟ ولكنّ الوصية بتقوى الله تعالى من شعائر الإسلام، والله تعالى يديمك غرّة في جبهة الأيّام.
وهذه نسخة توقيع بتدريس بالجامع المذكور، كتب به للقاضي علاء
__________
(1) والنسخ والرقاع أيضا من أنواع الخطوط.
(2) في الأصل «دويّ». والتصحيح من الطبعة الأميرية.(12/440)
الدين «عليّ الصّرخديّ» الشافعيّ، نائب الحكم العزيز بحلب ب «المقرّ العالي» وهي:
رسم بالأمر لا زالت صدقاته تمنح دروس العلم الشريف بعلّي العلوم، وتندب لها من ذوي الاجتهاد من ساير بهممه البرق وسائر النّجوم، وتقرّر للطّلبة من أولى العناية من حقّق الفضائل واطّلع على سرّها المكتوم، وتدير عليهم من مشرب فوائده ما يخال أنّه الرّحيق المختوم أن يستقرّ فلان استقرارا تقرّ به أعين الطّلّاب، وتلمح من صوب فضله عين الصّواب، ويشيّد به دارس الدروس، ويطلع به في سماء الفضائل أنور شموس، وتنشر به أعلام العلوم من طيّ الألسنة، ويذهب من كلّ الطّلبة في تحصيل العلم الشريف وسنه، لأنّه الحبر الّذي شهدت بفضله الأسفار، ورحلت إلى فوائده الجمّة السّفّار، والبحر الّذي جرت سفن الأذهان به فلم تدرك غاية قراره، وعجزت الأمثال عن خوض تيّاره، والعالم الّذي أقرّ بعلمه الأعلام، وشهدت بإحكام أحكامه الأحكام ما برز في موطن بحث إلّا وبرّز على الأقران، ولا جاراه مجتهد إلّا وكانا كفرسي رهان، ولا نطق بمنطق إلّا وأنتجت مقدّمات هممه العليّة واجتهاده على فضله أكمل برهان، ولا أجرى جياد علومه إلى غاية إلّا مطلقة العنان، ولا رآه من أخبر عن فضله إلّا تمثل له: ليس الخبر كالعيان إن تصدّر للفوائد التقطت الأسماع درّ علمه النفيس، وإن درّس تخال الطّلبة أنّه «ابن إدريس» فهو طود فضل لا يسامى علّوا ورفعة، ولا ينوي مناو أته مناويء ولو كان «ابن رفعة»:
إمام غدا للسّالكين مسلّكا، ... عليم، وكم أولى الفضائل من ولي!
علا فأسال البحر من فيض علمه! ... وذلك سيل جاء بالفضل من علي!
فليباشر هذا التّدريس المبارك مباشرة يثبت بها فوائده، وينثر بها فرائده، ويطرب الطّلّاب بطريف العلم وتالده، ويجمع لهم من صلة الفضل وعائده،
وليلازم المباشرة ملازمة لا ينفكّ عنها أيّام الدّروس، ولينر القلوب بمصابيح الكتاب والسّنة ويسرّ النفوس.(12/441)
إمام غدا للسّالكين مسلّكا، ... عليم، وكم أولى الفضائل من ولي!
علا فأسال البحر من فيض علمه! ... وذلك سيل جاء بالفضل من علي!
فليباشر هذا التّدريس المبارك مباشرة يثبت بها فوائده، وينثر بها فرائده، ويطرب الطّلّاب بطريف العلم وتالده، ويجمع لهم من صلة الفضل وعائده،
وليلازم المباشرة ملازمة لا ينفكّ عنها أيّام الدّروس، ولينر القلوب بمصابيح الكتاب والسّنة ويسرّ النفوس.
وأنت أمتع الله بفوائدك من نورك الوصايا تقتبس، وكم آنس الطّالب نار فضلك فأتى منها بأنور قبس والله تعالى يبقيك للعلوم كنزا لا تفنى مواهبه، ويديمك للطّلّاب بحرا لا تنقضي عجائبه.
وهذه نسخة توقيع بتدريس بالجامع المذكور لحنفيّ، كتب به للشّيخ شمس الدين «محمد القرميّ» (1) الحنفيّ، ب «الجناب العالي» وهي:
رسم بالأمر لا زالت عنايته الكريمة تطلع شمس الدّين للهداية في أفق المدارس، وتشيّد بالعلماء الأعلام من ربوعها كلّ دارس، وتمنح الفقهاء بمن إذا تصدّى للإفادة جادت نفسه بالدّرر النّفائس، وتندب لها من أولي البلاغة من إذا ألّف فصلا وجدت غصون أقلامه في روضات الطّروس أحسن موائس أن يستقرّ فلان: استقرارا تجمّل به الدّروس بالفوائد، وتمنح الطّلبة منها بالصّلة والعائد، ويمدّ لهم من موادّ العلوم أشرف موائد، ويوردهم من مناهلها أعذب موارد، لأنّه شمس العلوم ومصباحها، وقمر ليل المشكلات وصباحها، وساعد الفتاوى الطائرة بفضائله في الآفاق وجناحها، وروح كؤوس العلوم وراحها، وطليعة الحقائق وعنوانها، وعين الدقائق وإنسانها، والإمام الّذي أئتمّ به الطلّاب فاستحقّ الإمامة، والعالم الّذي اجتهد على فضل العلوم فاستوجب أن ينعت بالعلّامة، والفاضل الّذي ضبطت أقواله للاطّلاع على سرّها المكتوم، فاختصّ فعل علمه المتعدّي باللّزوم لاتّصافه بالعموم كم التقطت من دروسه الجواهر، وتمثل لأبكار فوائده: كم ترك الأوّل للاخر قابلته الأسفار عن وجوه فوائدها
__________
(1) محمد بن أحمد بن عثمان المتوفى سنة 788هـ (شذرات الذهب: 6/ 303).(12/442)
بالإسفار، وأظهرت لذكاء ذكائه ما ضمّته أحشاؤها من الإضمار فهو المختار لهذا التّدريس: إذ درر فوائده منظومة، والمجتبى للإفادة بسلوكه طرق الهداية إلى دقائقها المكتومة، وكم استنارت الطّلبة من سمر فضله حتّى كاد أن يكون ثالث القمرين، وجمع في صدره بحري المنقول والمعقول حتّى قيل: هذا «مجمع البحرين»:
هو البحر، إلّا أنّ فيه عجائبا ... ووافر فضل ليس يوجد في البحر!
بلاغته السّحر الحلال، وإنّما ... بديع معانيها يجلّ عن السّحر!
فليباشر هذا التّدريس ناثرا درر فرائده، ناشرا غرر فوائده، جائدا بجياد فضائله السّابقة إلى الغايات، عائدا بصلات حقائقه لتكمل للطّلبة به المسرّات، وليلازم أيّام الدّروس ما أسدي إليه من هذه الوظيفة، وليرتق من درج التّقوى لغرف المعارف الشّريفة.
وهذه نسخة توقيع بإمامة وتصدير بجامع منكلي بغا الشّمسي (1) بحلب، كتب به للشيخ شمس الدين «محمد الإمام»، ب «الجناب العالي» وهي:
رسم بالأمر لا زالت صدقاته العميمة تطلع شمس الدّين في أفق المعالي، وترفع من أوليائه خدمة من جيده بالفضل حالي، وتمنح برّها من أعربت عن لحنه الطّيّب وتشنّفت من فيه باللّآلي، وتسفح غيث جودها على من أجمع على طيب مسامرته ورفع أدعيته الأسماع واللّيالي أن يستقرّ
__________
(1) هو منكلي بغا بن عبد الله الشمسي المتوفى سنة 774هـ. كان نائبا على دمشق أيام الأشرف شعبان ابن حسين بن الناصر بن المنصور قلاوون. قال في شذرات الذهب: «وقد بنى بحلب جامعا من أحسن الجوامع وعمر الخان عند جسر المجامع والخان بقرية سعسع». (الجوهر الثمين:
2/ 220وشذرات الذهب: 6/ 237).(12/443)
فلان أدام الله تعالى ضياء شمسه، وبنى له ربع السّعد من جوده على أسّه لأنّه الإمام الذي شهدت بحسن قراءته المحاريب، والآتي من فضل فضائله بالأغاريب، والفاضل الّذي سلك طرق الفضائل أحسن سلوك، وشهد بسبق جياد جوده في حلبة الاختبار كلّ حتّى الملوك، والكامل الّذي كملت أوصافه المحمودة فأمن النّقائص، واختصّ بجميل الشّيم وحسن الخصائص ما أمّ إلّا وشهد بفضله كلّ مأموم، وأقرّوا أنّ أسماعهم ارتشفت رحيق فضائله من كأسها المختوم، وما سامر الخواصّ إلّا وشهد العوامّ بحسن صفاته، ولا حدّث إلّا وكانت الملوك من رواته.
فليباشر هذه الوظائف المباركة مباشرة تقرّ بها النّواظر، وتجتمع الألسنة على أنّه أكرم إنسان وخير ناظر، وليتصدّر لإلقاء الفوائد، وليكسب الأسماع من علمه بالطّريف والتّالد، وليتناول معلومه أوان الوجود والاستحقاق، هنيّا ميسّرا من غير تقييد على الإطلاق، وليتّق الله فيما أسدي إليه من ذلك، وليسلك من سنن التّقوى بقدم الصّدق أحسن المسالك.
وهذه نسخ تواقيع لأرباب الأقلام الديوانية بحلب وما معها:
توقيع بكتابة الدّست بحلب، كتب به ل «بهاء الدين بن الفرفور» ونظر بيت المال بحلب، ب «الجناب العالي» وهو:
رسم بالأمر لا زال ينظم عقود الإحسان في أجياد أوليائه، ويجزل لهم بوافر نظره وافي عطائه، ويجري بهاء الدّين على أحسن نظام فينجز له عدة وفائه أن يستقرّ استقرارا يبلغ به وجوه الآمال، ويكسو الدّواوين ملابس البهاء والكمال، ويزيدها رفعة بما يفضله من ذلك الجمال لأنّه الفاضل الّذي إذا قصد المعانيّ أصاب، وإذا سئل عن كلّ معنى لطيف أجاد وأجاب، والفصيح الّذي إذا تكلّم أجزل وأوجز، وأسكت كلّ ذي لسن بفصاحته وأعجز، والبليغ الّذي أبدع في مكاتباته بمنثوره ومنظومه، واللّبيب الّذي أطلع من أزهار كلمه المسموعة في رياض الطّروس ما يخجل الرّوض إذا افتخرت
بمشمومه، والكاتب الّذي قطعت بمعرفته الأقلام، والحاسب الّذي عقدت على خبرته خناصر الأنام، والأديب الّذي جمع بين (1) قلم الإنشاء الشّريف، وحاز ما في ذلك من تالد وطريف فلله درّه من كاتب زيّن الطّروس بحسن كتابته، وجمّل الألفاظ والمعاني بجميل درايته وفصاحته.(12/444)
رسم بالأمر لا زال ينظم عقود الإحسان في أجياد أوليائه، ويجزل لهم بوافر نظره وافي عطائه، ويجري بهاء الدّين على أحسن نظام فينجز له عدة وفائه أن يستقرّ استقرارا يبلغ به وجوه الآمال، ويكسو الدّواوين ملابس البهاء والكمال، ويزيدها رفعة بما يفضله من ذلك الجمال لأنّه الفاضل الّذي إذا قصد المعانيّ أصاب، وإذا سئل عن كلّ معنى لطيف أجاد وأجاب، والفصيح الّذي إذا تكلّم أجزل وأوجز، وأسكت كلّ ذي لسن بفصاحته وأعجز، والبليغ الّذي أبدع في مكاتباته بمنثوره ومنظومه، واللّبيب الّذي أطلع من أزهار كلمه المسموعة في رياض الطّروس ما يخجل الرّوض إذا افتخرت
بمشمومه، والكاتب الّذي قطعت بمعرفته الأقلام، والحاسب الّذي عقدت على خبرته خناصر الأنام، والأديب الّذي جمع بين (1) قلم الإنشاء الشّريف، وحاز ما في ذلك من تالد وطريف فلله درّه من كاتب زيّن الطّروس بحسن كتابته، وجمّل الألفاظ والمعاني بجميل درايته وفصاحته.
فليباشر ما عدق به من ذلك مباشرة مقرونة بالسّداد، مشكورة المساعي والاعتماد، مظهرا براعة يراعه، باسطا يد إيداعه الجميل وإبداعه، مفوّفا حواشي القصص بتوقيعاته، موشّيا برود الطّروس بترصيعاته وتوشيعاته، ناظرا على اعتماد مصالح بيت المال المعمور، وتحصيل حواصله على الوجه المشهور والطّريق المشكور، عاملا بتقوى الله عزّ وجلّ في ضبط مصالح ديوان الجيوش المنصورة، سالكا من حسن الاعتماد طرقا على السّداد والتّوفيق مقصورة والوصايا كثيرة وتقوى الله تعالى عمادها، فليجعلها عمدته فيما يتمّ به للنفس المطمئنة مرادها وليتناول معلومه المستقرّ لذلك أوان وجوبه والله تعالى يبلّغه غاية قصده ومطلوبه.
توقيع بصحابة ديوان الأموال بحلب، من إنشاء ابن الشّهاب محمود، كتب به للقاضي شمس الدّين «محمد بن محمد»، أحد كتّاب الدّست بحلب، ب «المجلس العالي» وهو:
رسم بالأمر لا زالت صدقاته العميمة تسرّ نفوسا، وتطلع في هالات الوظائف السّنيّة عوض الشّمس شموسا، وتسقي غرس نعمائها الهبات الهنيّة فتزهي أغصانا يانعة وغروسا أن يستقرّ: لأنّه الأوحد الكامل، والرئيس الفاضل، ولأنّه حاز قصب السّبق في المباشرات، والمناصب الجليلة والمراتب السّنيّات طالما بذل جهده في خدمة الدّول، وسلك بجميل مباشرته طريق السّلف وسبيل الأول، فأدرك بحسن سيرته ويمن طريقته نهاية السّؤل
__________
(1) لم يذكر الطرف الثاني من المجموعين.(12/445)
وغاية الأمل، وأتى الأمور على قدر ولا يقال: على عجل، ولأنّه الأمين في صنعة الإنشاء، والتابع في فنه فنون الأدباء إن رقم الطّروس طرّز، وإن بارز الأقران في مواطن الافتخار برّز، وإن بسط الجرائد، تغار من حسنهنّ الخرائد طالما نطق بالحكم، واشتهر بين أصحابه مثل اشتهار النّار على علم نظم المحاسن في نثره البديع، وجمع بين الأضداد فيما يبديه من الإنشاء ويحلّيه من التّصريع قدمت هجرته في الخدمة الشريفة، واقتطف من زهر الصّدقات الشريفة أحسن منصب وأجمل وظيفة، وتحلّى جيده بالقلائد، وحصّل بسعيه مجموع الفرائد، فعادت عليه الصّدقات الشريفة بأجمل العوائد قد استحقّ التقديم، واستوجب من الصّدقات العميمة نهاية التّكريم.
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة حسنة الآثار، جميلة الإيراد والإصدار، ناظما بقلمه الحساب على أنواعه، محكما له على سداد أوضاعه، وليطلع شمسه في سماء هذه الوظيفة، وليجن من روضها الأريض كلّ يانعة لطيفة، وليعلم أنّ هذه بوادر خير سرت إليه، وسوابغ نعم خلعت عليه، وأنّ الصدقات العميمة لا بدّ أن توليه بعد ذلك برّا، وتترادف عليه تترى، وتعلي له بين رفاقه المرفقين قدرا ومثله لا ينبّه على وصيّة، لا دانية ولا قصيّة لكن التقوى لا بدّ منها، ولا يجوز أن يغفل عنها فليجعلها اعتماده في كلّ الأمور، وليتناول معلومه المقرّر له على الوظيفة المذكورة في غرر الشهور والله تعالى يضاعف له بمضاعفة الصدقات عليه أوقات السّرور، ويقيه بلطفه كلّ محذور.
توقيع بنظر بهسنى (1)، من عمل حلب، كتب به لفتح الدين «صدقة بن زين الدين، عبد الرحيم المصريّ»، ب «المجلس السامي» وهو:
__________
(1) مأخوذة من السريانية «بيت حسنا»: قضاء ومدينة في سنجق ملطية. كانت في عصر المماليك من أهم القلاع التي تصد غارات «بلاد الدروب» عبر طوروس. (دائرة المعارف الإسلامية:
8/ 278).(12/446)
رسم بالأمر لا زالت صدقاته العميمة تفتح لأولياء خدمته أبواب الخيرات، ولا برحت تهدي إليهم أنواع المسرّات أن يستقرّ
في وظيفة النظر بمدينة بهسنى المحروسة عوضا عمّن بها، بالمعلوم الّذي يشهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت، على العادة في ذلك والقاعدة، استقرارا يسرّ خاطره، ويقرّ ناظره لأنّه الماهر في صناعته، والرّابح في متاجر بضاعته.
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة حسنة، لتصبح الألسنة بشكرها معلنة، وليصرّف قلمه فيما يعود نفعه عليه، وليجتهد فيما يستجلب الأثنية (1) إليه، وليقبض معلومه أوان وجوبه هنيّا، وليتناوله بيد استحقاقه مريّا والوصايا كثيرة وهو بحمد الله تعالى غير محتاج إليها، لأنّه الفاعل لها والدّالّ عليها وتقوى الله تعالى عمادها، وبه قوامها وسنادها فليتمسّك بسببها في الحركات والسّكنات، والله تعالى يهيّء له أسباب المسرّات.
توقيع بكتابة الإنشاء ونظر الجيش بدبركي (2)، كتب به للقاضي شهاب الدين «أحمد بن أبي الطيب العمريّ العثماني»، ب «الجناب الكريم»، وهو:
رسم بالأمر لا زال يجمّل الثغور بمن تزهو برحيق كلمه الطيب [المناصب] (3)، ويكمّل محاسنها بمن لم تزل الصّحف تقود من جياد فضله أجمل جنائب، وحباها بشهاب يهتدى إلى المقاصد بنجم رأيه الثّاقب، وسرّها بكلّ ندب لم تزل كتبه تردّ من الدّعّار الكتائب أن يستقرّ في وظيفتي كتابة الإنشاء الشريف والجيش المنصور بدوركي المحروسة، عوضا عن فلان،
__________
(1) جمع ثناء، وهو المدح.
(2) «دبركي» أو «دوركي»: كانت معاملة مجاورة لمعاملة ملطية. (أنظر نزهة النفوس والأبدان:
3/ 265، 311).
(3) الزيادة يقتضيها السياق.(12/447)
بالمعلوم الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت، لأنه من بيت رفع علم قدره على السحائب، وانتصبت راية آرائهم بالتمييز في مواكب العزة عن المواكب، وأضيف إلى مجدهم شرف الكمال فانجرّ بالإضافة ذيل مجدهم على الكواكب، وجزم أولو الفضل بنسبتهم إلى المعالي فحازوا قصبها استحقاقا وما زاحموا عليها بالمناكب، وأسّس أصله على عماد شرف «الفاروق» و «ذي النّورين» فتفرّع على أكمل تناسل بتناسب.
النيابة الثالثة (مما يكتب من التواقيع بالولايات عن نوّاب السلطنة بها نيابة طرابلس)
وهي على ما تقدّم في دمشق: من تقسيمها إلى تواقيع أرباب السيوف، وتواقيع وظائف أرباب الأقلام الدينية، وتواقيع أرباب الوظائف الديوانية، وأرباب الوظائف بمشيخة الأماكن وغيرهم، وتقسيم ذلك إلى ما يفتتح ب «الحمد لله»، وما يفتتح ب «أما بعد حمد الله»، وما يفتتح ب «رسم بالأمر».
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع بشدّ الدواوين بطرابلس، كتب به لصلاح الدّين «صلاح الحافظي»، ب «الجناب الكريم» وهي:
الحمد لله الّذي أيّد هذه الدولة وسدّدها بأنواع الصّلاح، وعمر العالم بعدل سلطانها وجعل أيّامه مقرونة بالنّجاح، وأقام لتدبير المملكة [كل] (1) كفء كاف مشهور باليمن والفلاح.
نحمده على نعمه الغامرة في المساء والصّباح، ونشكره على آلائه في كلّ غدوّ ورواح، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة خالصة ضوئية كالمصباح، وأنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أشرف من اصطفاه وأرسله بالدين
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.(12/448)
الحنيفيّ فبشر وأنذر وحلّل وحرّم [وحظر] (1) وأباح، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة دائمة مستمرّة ما حيعل (2) الدّاعي إلى الفلاح.
وبعد، فإنّ أولى الأولياء بمضاعفة الأحسان، وأن يعلى له في المكان والإمكان من عرف بأجلّ المباشرات في الفتوحات، واشتهر فيها بالكفاية والصّيانة وجميل التّدبير وحسن الصّفات.
ولمّا كان فلان هو المنفرد بهذه الصّفات الحسنة، واتّفقت على نعوته الجميلة الألسنة، والوحيد بهذه السّجايا، الفريد بشرف المزايا، عقدت الخناصر عليه، واقتضت الآراء أن يسند تدبير المملكة إليه: فإنّها لم تجد لها كفأ غيره، ولا من يجمع شمل شتات أقوالها ولم يفرّط مثقال ذرّة.
فلذلك رسم بالأمر لا زال يندب لتدبير الممالك كلّ كفء كاف، ويورد أولياءه من موارد إحسانه موردا عذبا صاف أن يفوّض إلى الجناب الكريم أدام الله علوّ قدره، وأيده بالمعونة في أمره شدّ الدّواوين المعمورة الطّرابلسيّة، بالمعلوم المستقرّ، الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت، على عادة من تقدّمه.
وهذه نسخة توقيع بالاستمرار في شدّ الدّواوين:
الحمد لله الّذي قرن الشّدّة بالفرج وجبر بعد الانكسار، وامتحن عباده بأنواع من المحن ليعلم الصادقين في الاصطبار، وأطلع في أفق العلا سعد السّعود ساطعا بالنّور بعدما غار، وجمع لمن انقطع به حبل الرّجاء من الخلق فتوكّل عليه بين نيل المطلوب وتمحيص الأوزار.
نحمده وفي محامده تطيب الآثار، ونشكره على ما أسبل من النّعم الغزار،
__________
(1) بياض بالأصل. والزيادة من المقام.
(2) أي قال: حيّ على الفلاح في رفعه الأذان.(12/449)
ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له إله كشف الغمّ بعدما غم القلوب وغطّى على الأبصار، وفرّج الهمّ، وقد كان ادلهمّ، وأظلمت منه النّواحي والأقطار، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المصطفى المختار، سيّد ولد آدم في الدّنيا وسيدهم في دار القرار، صلّى الله عليه وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار، ما أظلم ليل وأضاء نهار.
وبعد، فإن الله تعالى لطف بهذه الدّولة المعظّمة في المقام والسّير، فما مضى لأحد معها يوم سرور إلا والّذي من بعده خير، ونصب خيام عدلها على الخلق وشرع أطنابها، ورغب العباد في فضلها العميم وفتح لهم بابها، وجعلها كاشفة للكروب الموجبة للحزن والضّيق، راشفة من خزائن ملكه ومعادن نصره كأس رحيق، تصل بقوّته وتقطع، وتفرّق بإرادته وتجمع ثم جعل المال نظام ملكها القويم، وقوام سلكها النّظيم به تمضي أوامره ونواهيه، وتجري على السّداد بما يحبّه ويرضيه فتعيّن إعداد من يقيم بعزمه عمده، ويقعد من أخذ منه بغير استحقاق ممن أقعد الدّين زنده وقدّر الله تعالى في هذا الوقت ما قضاه، ونفّذ حكمه فيمن خرج عن طاعته وأمضاه، فلم تبق مملكة إلّا ومسّها وأهلها الإضرار، ولا بقعة إلّا ولحق أهلها بأس أولئك الفجّار، فأدرك اللّطف الإلهيّ ممالك الإسلام، وحل الرّكاب الشريف بأرض الشام، فكان بردا وسلام (1)، ونجا المخلص وهلك الناكث النّاكل بقدوم سلطان الإسلام، خلّد الله ملكه [ليقذف] (2) بالحقّ على الباطل، وأيد الله دولته الشريفة بعونه المتواصل.
وكان فلان له مباشرات عديدة، وتأثيرات حميدة، وآخر ما كان في وظيفة شدّ الدواوين بطرابلس: فباشرها مباشرة جميلة الأثر، مشكورة السّير عند من ورد وصدر، ودبّر مهمات يعجز عن حصرها أولو العقول والفكر، وحصّل للديوان المعمور أموالا كالطّوفان ولكن بلا غرق، واستعجب منها كيف حصرتها
__________
(1) لم ينصب بسبب التسجيع.
(2) الزيادة يقتضيها السياق.(12/450)
الأقلام أو وسعها الورق!؟ والّذي كان بوظيفة الشّدّ الآن زاهد عنها، ليس له رغبة فيها ولا في شيء منها.
فتعين إعادة الجناب الفلانيّ إليها، ورسم بالأمر لا زالت أيام دولته الشريفة تصلح الشان، وتعيد الخير إلى ما كان أن يستقرّ
فليعد إليها عود الحسام إلى غمده، والماء إلى منهل ورده، وليباشرها بمباشرته المعروفة، وعزائمه المألوفة، وهممه الموصوفة، مسترفعا المتحصل ومصروفه، وليتحقّق أنّ الله تعالى سيصل رزقه فلا يوجس في نفسه خيفة، وليجعل تقوى الله تعالى دأبه في كلّ قضيّة ثقيلة كانت أو خفيفة، والله تعالى يمدّه بألطافه المطيفة، بمنه وكرمه.
وهذه نسخة توقيع بنقابة العساكر بطرابلس:
الحمد لله الأوّل بلا آخر، الغنيّ في ملكه عن النّاصر، المنزّه في سلطانه عن المؤازر، المتوحّد بعدم الأشباه والنّظائر، المبيد لكلّ مظاهر بالعناد مجاهر، العليم بما تكنّه الأفكار وتجنّه الضّمائر، الرّقيب على كلّ ما تردّد من الأحوال بين سوادي القلب والناظر.
وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة خالصة يرغم بها كلّ جاحد وكافر، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث والشّرك مدلهمّ الدّياجر، والرّشد قد خيّم عليه الضّلال فما له من قوّة ولا ناصر، فأقام به الدّين الحنيفيّ النّيّر الزّاهر، ورفع ذكره في سائر الأقطار والأمصار على رؤوس المنابر، صلّى الله عليه وعلى آله أهل المكارم والمآثر، ما حمد السّرى عند الصّباح سائر، وخمد شرر الشّرّ بكلّ مناضل ومناظر، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من سيقت إليه وفود النّعم، ومنح من الخيرات أجزل القسم، وعدقت الأمور بعزائمه، واعتمد على همته الّتي هي في المضاء كأسنّته
وصوارمه، ورعيت عهود ولائه الّتي لا تنكر، ووصفت مساعيه الّتي استحقّ أن يحمد بها ويشكر من إذا عوّل عليه في المهمّات كفاها، وإذا استطبّت المعضلات به شفاها، وسارت أنباء مهابته غورا ونجدا، واتّصف بحسن التدبير الذي عليه من الإقبال أكمل إجدا (1)
ولمّا كان فلان هو الّذي تناقلت تباشير أخباره الرّكبان، وأثنى على شهامته السّيف والسّنان، وشرفت بمحاسنه الأقلام، وارتفع ذكره بالشجاعة على رؤوس الأعلام.(12/451)
وبعد، فإنّ أولى من سيقت إليه وفود النّعم، ومنح من الخيرات أجزل القسم، وعدقت الأمور بعزائمه، واعتمد على همته الّتي هي في المضاء كأسنّته
وصوارمه، ورعيت عهود ولائه الّتي لا تنكر، ووصفت مساعيه الّتي استحقّ أن يحمد بها ويشكر من إذا عوّل عليه في المهمّات كفاها، وإذا استطبّت المعضلات به شفاها، وسارت أنباء مهابته غورا ونجدا، واتّصف بحسن التدبير الذي عليه من الإقبال أكمل إجدا (1)
ولمّا كان فلان هو الّذي تناقلت تباشير أخباره الرّكبان، وأثنى على شهامته السّيف والسّنان، وشرفت بمحاسنه الأقلام، وارتفع ذكره بالشجاعة على رؤوس الأعلام.
فلذلك رسم لا زال للدّين الحنيفيّ ناصرا، وللأعداء قامعا قاهرا، وللحقّ مؤيّدا باطنا وظاهرا أن يستقرّ الجناب العالي المشار إليه أمير نقباء العساكر المنصورة الطّرابلسيّة، عوضا عمّن كان بها، على عادته وقاعدته:
لأنّه الحبر الّذي عقدت على خبرته الخناصر، وورث الشّهامة كابرا عن كابر، وأضحى بتدبيره واضح الغرر، شاهدا له به العين والبصر إن جال بين صفوف العساكر كان أسدا، وإن رتّب جيوشها أحصاها حليّة وعددا.
فليباشر هذه الوظيفة محرّرا أحوال العساكر المنصورة، مقرّرا لهم في منازلهم على أكمل عادة وأجمل صورة، بمناصحة ضمّخ بمسكها، ومخالصة قام مقام واسطة جوهر سلكها، وملازمة خدمة تأزّرت بها أعطافه، وصفاء طويّة شرفت بها أوصافه، ومحبّة عدل جمع فيها بين قوله وفعله، وإخلاص يحسن بالمرء أن يكون ملتحفا بظلّه: لكي يتمّ الله النّعم عليه كما أتمّها على أبيه من قبله وليقصد رضا الله تعالى في هذا الأمر، لا رضا زيد ولا عمرو والله تعالى يتولّاه فيما تولّاه، والاعتماد في ذلك على الخط الكريم أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) من أجدى يجدي إجداء، أي: نفع.(12/452)
وهذه نسخة توقيع بنقابة الأشراف بطرابلس ب «المجلس الساميّ» بالياء وكتب فيه «القضائي» على خلاف الأصل، وهي:
رسم بالأمر لا زال يرفع لذوي الأصالة الشّريفة قدرا، وينقلهم إلى الرّتب السّنيّة ويعلي لهم ذكرا، ويشملهم من إحسانه بما يسرّ لهم قلبا ويشرح صدرا، ويبلّغهم من المآرب أوفاها، ومن ملابس القبول أجملها وأسناها أن يستقرّ فلان أدام الله نعمته في نقابة السّادة الأشراف بالمملكة الطرابلسيّة، على ما تقدّم من عادته في ذلك: استقرارا جاريا فيه على أجمل العادات، واعتمادا على ما عهد من سلفه الشّريف الذّات، ورعاية له في تجديد المسارّ، وترجيحا لما اشتمل عليه من حسن الكفاية في كلّ إيراد وإصدار، ورفعة ليده الباسطة على أبناء جنسه، وتقوية يجد أثرها في معناه وحسّه، رسما يستوجب به النّعم الجزيلة، وولاية توليه من الكرم سوله، وعناية تصبح بها ربوع أنسه مأهولة، لأنّه أولى أن يقرّ في هذه الوظيفة ويزاد، وأحقّ أن يرعى لما سبق له من السّداد، وأجدر أن لا يضاع حقّه حيث له إلى ركن الشّرف المنيف استناد.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة مبسوطا أمله في المزيد، منوطا رجاؤه في نعمنا باستئناف وتجديد، محوطا ما بيده من كرمنا العديد وهو غنيّ أن نثّني له الوصايا ونعيد، مليّ بحسن السجايا الّتي جبلت على التّحقيق والتّوفيق والتّسديد والله تعالى يطوّق بمنن جودنا منه الجيد، ويغدق له سحائب رفدنا التي تجريه على ما ألف من فضلها العديد والعلامة الشريفة أعلاها الله تعالى أعلاه، حجة بمقتضاه.
وهذه نسخة توقيع بشدّ الشواني (1) بطرابلس، كتب به لعلاء الدين «أيدغمش»، وهي:
__________
(1) من يتولى أمر السفن الحربية بالبحر. والشواني: جمع شينية، وهي السفينة الحربية الكبيرة.(12/453)
رسم لا زالت أيامه، قائمة بالجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ، وأعلامه، حائمة على التقاط مهج العدا في البرّ والبحر بما يقرّب لهم الأجل أن يستقرّ فلان في شدّ الشّواني المعمورة المنصورة على العادة في ذلك، بهمّته العلية، وعزمته الّتي هي ببلوغ المقاصد مليّة، وشهامته الّتي ترهب العدا، وشجاعته الّتي تلبسهم أردية الرّدى، وبسالته الّتي تبسلهم (1) في البحر فتصيّرهم كالأسماك لا يسام لهم صدى.
فليجتهد في ذلك جدّ الاجتهاد، وليعمد فيه السّداد والسّداد، وليوقظ أجفان سيوفه من الغمض، وليرهب العدا بشدّة وطأته الّتي لها الثّبات في الأرض، وليلازم مواظبة الشواني ليلا ونهارا، وليكن هو ومن حوله لمن بها أنصارا والله تعالى يجزل له مبارّا، ويرفع له مقدارا، بمنّه وكرمه.
وهذه نسخة توقيع بشدّ دار الضّرب (2)، كتب به ل «علاء الدين الدّوادار» وهي:
رسم لا زال إحسانه يجود غماما، وفضله الشامل على الأولياء المتقين إماما، وسحائب برّ كرمه هامية على أوليائه، هاملة على أصفيائه، فتراهم يخرّون للأذقان سجّدا وينتصبون قياما أن يستقرّ المشار إليه في شدّ دار الضّرب: إعانة له على الخدمة الشّريفة، وإرفادا له بمعلومها إذ هي ليست له بوظيفة، لأنه أكبر من ذلك قدرا، وأحقّ بكلّ منزلة عليّة وأحرى ولكن هذه الجهة هي قانون المعاملة، وسكّتها بشعار الملك متّصلة وبين الحقّ والباطل فاصلة، ومنها النّقوش الّتي هي رستاق الأرزاق، وصدر كلّ إطلاق وفنداق (3)
__________
(1) أبسل الشيء: رهنه، وفلانا للهلكة: أسلمه. وأبسله لكذا: عرّضه.
(2) من يتولى أمور السّكة والنقوش. وعليه أن يكون عالما بقوانين المعاملة والحسبة والعيار.
(مصطلحات صبح الأعشى: 194).
(3) الفنداق: أوراق تكتب فيها مساحات الأراضي حال قياسها. وقد أورد القلقشندي هذا اللفظ في الجز الثالث من هذا الكتاب ص: 454بقوله: «فإذا طلع الزرع خرج من باب صاحب الإقطاع مباشرون فيمسحون أرض تلك البلد باسماء المزارعين ويكتب أصل ذلك في أوراق تسمى الفنداق».(12/454)
حكيم ما أرسل في حاجة إلّا وأذن لها بالنّجاح، ولا استؤمن عليه امرؤ باذن الإمام إلا وحقّ له [الاتصاف] (1) بالصلاح والفلاح هذا وهو في الأصل مذموم، وطالبه محروم: لأنه مقسوم، والأجل محتوم، ولكن تطهيره من الدنس واجب، والحسبة في عياره حتى يغدو وبودق (2) صفائه من الغشّ ناضب.
فليعتمد المشار إليه في شدّ هذه الجهة حسن التقوى ويلاحظ بعزمه أمورها لتكون على السّداد، ويعتمد على السّيد النّاظر فإنّه نعم العماد، ويفوّض إليه كشف الرّوباص (3) وحكّ العيار فهو به أدرى وأحرى وأدرب بإدحاض غشّ الفساد، وليتناول معلومه المقرّر له عند الوجوب والاستحقاق، هنيّا ميسّرا خالصا من التّنازع والشّقاق، ومثله فلا يدلّ على [صواب] (4): إذ تقوى الله تعالى كلمة الفصل وفصل الخطاب، والله تعالى يجعلها لنا وله زادا وحرزا، وذخرا يوم المعاد وركزا (5)
وهذه نسخة توقيع بشدّ البحر (6) بمينا طرابلس وهي:
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) البودق والبوتق، والبودقة والبوتقة: الإناء الّذي يذاب فيه المعدن.
(3) أي كشف نسبة الفضة في النقود. ويقال: فضة مروبصة.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(5) الرّكز: الصوت الخفيّ. والصواب «وركزة» تجمع على ركاز، وهي المال المدفون، أو ما وجد من المعادن مدفونا بصورة طبيعية في الأرض. وقد اضطر إلى استعمال اللفظ أعلاه مراعاة للسجع.
(6) لمتوليها الإشراف على الميناء ومراقبة ما يتحصل من الرسوم. وهو ما يعادل في أيامنا عمل الجمارك. (مصطلحات صبح الأعشى: 193).(12/455)
رسم بالأمر لا زال سيفه قاطعا من الأعداء نحرا، وأمره نافذا برّا وبحرا، وفعله صالحا دنيا وأخرى أن يستقرّ الجناب المشار إليه في شدّ مينا البحر بطرابلس.
فليباشر هذه الوظيفة شارحا لها صدرا، فاتحا لها بحسن مباشرته الجميلة بصرا وفكرا، باعثا لها في الآفاق بمباشرته ذكرا جميلا، باحثا عمّا يتعلق بمتحصل المينا المعمورة بكرة وأصيلا، مسوّيا بين الناس فيما رزق الله وفتح، وبعث من فضله ومنح، بحيث لا يقدّم عزيزا ولا يؤخّر ذليلا، ولا يراعي في ذلك صديقا ولا خليلا.
وليقدّم خوف الله تعالى على خوف خلقه، وليسّو بين الضّعيف والقويّ فيما بسط الله من رزقه وآكد ما نوصيه به تقوى الله تعالى فيما هو بصدده فليجعلها في أموره الباطنة والظاهرة من عدده والله تعالى يقدّمه في مباشرته لاقتناء محاسن المعروف وزبده، ويرزقه من الأجر على ما يعمله من الخير مع تجّار هذا البحر بما هو أكثر من زبده.
توقيع كريم بنيابة اللّاذقيّة، من إنشاء القاضي تاج الدين بن البارنباري، كتب به ل «شمس الدين» ابن القاضي، ب «الجناب العالي» وهو:
الحمد لله الّذي زاد «شمس» الأولياء إشراقا، ومنحه في هذه الدّولة الشريفة إرفادا وإرفاقا، وصان الثّغور المحروسة بعزماته الّتي سرّت قلوبا وأقرّت أحداقا، وجدّدت لأوليائها من مواهبها عطاء وفاقا.
نحمده على حكمه وفعله، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تمنح قائلها مزيد فضله، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أيّده الله بملائكته المقرّبين، وشد أزره من أصحابه بالآباء والبنين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أئمّة الدّين، صلاة تمنح قائلها غرف الجنان {وَالْعََاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ} * (1) وسلّم تسليما كثيرا.(12/456)
نحمده على حكمه وفعله، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تمنح قائلها مزيد فضله، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أيّده الله بملائكته المقرّبين، وشد أزره من أصحابه بالآباء والبنين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أئمّة الدّين، صلاة تمنح قائلها غرف الجنان {وَالْعََاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ} * (1) وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ من شيم هذه الدّولة إذا بدأت تعود، وإذا نظرت تجود، وإذا قدّمت وليّا لحظته بأعين السّعود.
وكان الجناب العالي أدام الله نعمته عين القلادة، وبيت السّيادة، ومعدن السّعادة، وأهلا أن يدبّر الأمور، ويسّد الثّغور، ونيابة اللّاذقيّة مجاورة البحور، وجزيرة العدوّ بينها وبينها نهار فهي في أمرها له قاعدة في النّحور، وقد رأيناه أهلا أن يصون نحرها، ويتقلّد أمرها، ويحفظ برّها، ويدفع شرّها.
فلذلك رسم بالأمر أعلى الله تعالى شرفه أن تفوّض إليه نيابة اللّاذقية المحروسة، على عادة من تقدّمه.
فليسر إليها سير الشّمس في أبراج شرفها، وليقبل عليها إقبال الدّرّة على التّرائب بعد مفارقة صدفها وأوّل ما نأمره [به]: إرهاب العدوّ بالعدّة والعديد، وإظهار المهابة في القريب والبعيد، وتفقّد الأيزاك (2) بنفسه من غير اتّكال على سواه كما يفعل البطل الصّنديد، وليخلع عنه ملابس الوشي ويلبس الحديد، وليهجر المضاجع ويتّخذ ظهر جواده مستقرّه العتيد، حتّى ينتشر له صيت بين أهل التّثليث كما انتشر صيته بين أهل التوحيد.
وابسط بساط العدل ليطأه الموالي والعبيد، واحكم بالحقّ فالحقّ مفيد والباطل مبيد، ومتى تسامع التّجّار بعدلك جاءوا بالأصناف والمتجر الجديد، واركن إلى حكم الشّرع الشريف فإنّه يأوي إلى ركن شديد، واتّق الله تجده أمامك فيما تروم وتريد، وتمسّك بالسّيرة الحسنة يزدك الله رفعة وأنت أحقّ بالمزيد، وعقبها نستنجز لك تشريفا شريفا مقرونا بتقليد أعظم من هذا التقليد والخطّ الكريم أعلاه حجة به، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الأعراف / 128.
(2) الأيزاك: طلائع الجيش. مفردها: يزك. (مصطلحات صبح الأعشى: 364).(12/457)
توقيع بنيابة قلعة حصن الأكراد (1)، كتب به لشهاب الدين «أحمد الناصري» وهو:
الحمد لله الّذي أطلع في سماء الدّين شهابا، وفتح لمن خافه واتّقاه إلى الخيرات أبوابا، وحباه من إفضاله وألبسه من حلل إنعامه ونعمائه أثوابا.
نحمده على نعمه الّتي أجزل لنا بمزيد حمدها أنعما وثوابا، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة نتّخذها من النار حجابا، ونعتدّ بها في الآخرة مفازا حدائق وأعنابا، وكواعب أترابا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي شرّفه على الأنبياء منصبا ونصابا، وسبى بطلعته وطليعته قلوبا وأحزابا، وقرّبه إلى أن كان قاب قوسين وأسمعه من لذيذ كلامه خطابا، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه: أكرم به وبهم آلا وأصحابا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من انتدب، لحفظ المعاقل الإسلاميّة وانتخب، وأحرى من لحظته عين عنايتنا فكان إليها من العين أقرب، وأحقّ من اعتمد على بسالته وإيالته بما سبر من الأنام والأيام وجرّب من عرف بشجاعة أين منها عمرو بن معدي (2)، وأمانة كفت حين كفّت كفّ التّعدّي، وعفّة جعلها في أحواله كلّها نصب العين، وسياسة ما زال يصلح بها بين ذوي المشاققة ذات البين وكان فلان هو الموصول المقدّم، الموصوف بهذه الصفات الّتي سرّ السّاحل بها فتبسّم.
فلذلك رسم بالأمر لا زال يطلع في آفاق الحصون المصونة شهابا، ويرفع الأولياء بإحسانه الّذي يؤكّد لهم في جوده أسبابا أن يستقرّ [المجلس العالي] (3) نائبا بقلعة حصن الأكراد المحروس وأعمالها، على عادة من تقدّمه ومستقرّ قاعدته.
__________
(1) قلعة حصينة مقابل حمص من غريبها على الجبل المتصل بجبل لبنان. (معجم البلدان:
2/ 264).
(2) عمرو بن معدي كرب الزبيدي.
(3) بياض بالأصل. والزيادة من المقام.(12/458)
فليباشر ما ولّيناه وأوليناه، مباشرة تسفر عن حسن فطنته وذكائه، وتضيء الآفاق بنور شهابها وسنائه، وتظهر معروفها المعروف بعدم غيبته وخفائه، معتمدا على الله تعالى في إبدائه وإنهائه، شارحا لكلّ قلب ألانه إحسانه بعد غلظته وجفائه، مانحا من بحر جوده وعدله بالدّرّ لا بجفائه، مكرما لمن بهذا المعقل:
من أمرائه وأجناده وأغنيائه وفقرائه، مقيما لمنار الشّرع الشريف الّذي لا تستقيم الأمور إلّا بمتابعته وإبدائه، وليظهر من شجاعته وبسالته ما لا فائدة في خفائه، وليشهر سيفه، في وجه من أظهر حيفه، وعدم خوفه، من سطوة ربّه وكرمائه.
وأعظم ما نوصيه به التّقوى، فإنّه بملازمتها يقوى، على دفع الشّرّ وفعل الخير وإسدائه، والوصايا كثيرة وهو المجرّب بالعمل بها لمن يرغب في استيلائه والله تعالى يحرق بشهاب عدله كلّ متمرّد
واعلم أنّه ربّما كتب توقيع نائب حصن الأكراد مفتتحا ب «أمّا بعد حمد الله».
وهذه نسخة توقيع بنيابة حصن الأكراد، كتب به باسم «شهاب الدين الجاكي» ب «الجناب العالي» وهي:
أمّا بعد حمد الله الّذي جعل شهاب الدّين يتنقّل في مطالع سعده، وجدّد أثواب النّعماء لمن قدمت هجرته وظهر خيره فأنجز له الإقبال صادق وعده، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تبلّغ قائلها إنالة قصده، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أيّده الله بنصر من عنده، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كانوا من أنصاره وجنده، صلاة دائمة يبلغ المؤمن بها غاية رشده، وسلّم تسليما كثيرا فإنّ أولى من شمله إحسان هذه الدّولة الشريفة ونوّله مراده، وأجزل عليه النّعم فكان أحقّ بها لحسن طويّته فأجراه الله على أحسن عادة، وبلّغه غاية القصد ومعدن السعادة من سلك مسالك الأمناء الثّقات، واشتهرت عنه العفّة وحسن الصّفات، فتعيّن تقديمه وتقريبه إلى أجلّ ولايات الفتوحات.
ولمّا كان فلان أدام الله عزّه، وأنجح قصده هو المنعوت بصفات السّداد، المشهور بالنّهضة والشّجاعة في هذه البلاد، الذي حوى المكارم والإفضال، ووافق خبره خبره في سائر الأحوال.(12/459)
أمّا بعد حمد الله الّذي جعل شهاب الدّين يتنقّل في مطالع سعده، وجدّد أثواب النّعماء لمن قدمت هجرته وظهر خيره فأنجز له الإقبال صادق وعده، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تبلّغ قائلها إنالة قصده، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أيّده الله بنصر من عنده، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كانوا من أنصاره وجنده، صلاة دائمة يبلغ المؤمن بها غاية رشده، وسلّم تسليما كثيرا فإنّ أولى من شمله إحسان هذه الدّولة الشريفة ونوّله مراده، وأجزل عليه النّعم فكان أحقّ بها لحسن طويّته فأجراه الله على أحسن عادة، وبلّغه غاية القصد ومعدن السعادة من سلك مسالك الأمناء الثّقات، واشتهرت عنه العفّة وحسن الصّفات، فتعيّن تقديمه وتقريبه إلى أجلّ ولايات الفتوحات.
ولمّا كان فلان أدام الله عزّه، وأنجح قصده هو المنعوت بصفات السّداد، المشهور بالنّهضة والشّجاعة في هذه البلاد، الذي حوى المكارم والإفضال، ووافق خبره خبره في سائر الأحوال.
فلذلك رسم بالأمر لا زال شهاب فضله ساطعا، ونور إحسانه لامعا أن يستقرّ المجلس العالي الشّهابيّ المشار إليه في ولاية الأعمال الحصنيّة والمناصف (1) عوضا عمّن بها، على عادته وقاعدته: لأنّا وجدناه شمس أعيان الأماثل، وألفيناه قليل النّظير والمضاهي والمماثل، وعليه عقدت الخناصر، واتّفقت الآراء الثاقبة في الباطن والظاهر، ولما جمع من كرم الشّيم وجميل الخلال، وحاز من النّباهة الرفيعة الذّرا المديدة الظّلال.
فليتوجّه إلى محلّ ولايته، وليظهر ما أكمنه من العدل والإنصاف في ضمائره بحسن سياسته، ولينصف المظلوم ممّن جار عليه واعتدى، ويتّبع في ذلك ما يوضّح له من طريق منار الهدى، وليبسط المعدلة ويمدّ باعه، وليبد الظّلم ويقصم ذراعه، وليصرف همّته في عمارة البلاد، وتأمين العباد، وسلوك سبل الرّشاد، وليجتهد في سدّ الخلال، وإصلاح ما فسد بغيره من الأحوال، وليجعل تقوى الله محجّته، واتّباع العدل حجّته، وسلوك الحقّ عدّته، فقد جاءت التّقوى في التنزيل مؤكّدة، ووردت في كثير من السّور مردّدة والله تعالى يعينه على ما ولّاه، ويحرسه ويتولّاه، بعد الخط الكريم أعلاه.
وهذه نسخة توقيع بنيابة قلعة المرقب (2) والولاية بها، كتب به لصلاح الدين «خليل»، ب «الجناب العالي» وهي:
__________
(1) قال في معجم البلدان: المناصف هو واد أو أودية صغار ولم يزد على ذلك.
(2) أو حصن المرقب: من الحصون المشهورة بالمنعة وهو كبير جدّا، يشرف على ساحل بحر الشام وعلى مدينة بلنياس. عمره المسلمون سنة 454هـ (معجم البلدان: 5/ 108وتشريف الأيام والعصور: 77حاشية).(12/460)
الحمد لله الّذي جعل هذه الدولة الشريفة مقرونة بالتأييد والنّجاح، ووفّق أولياءها إلى سلوك سبل السعادة وشيّدها بالصّلاح، وخوّلهم في أيّامها المراتب العلية ليبتهلوا بأدعيتهم وبدوامها في المساء والصّباح.
نحمده على نعمه الّتي لا يبرح مخلصها في ازدياد وارتياح، ونشكره على آلائه شكرا نستحقّ به المزيد كما أوضح في القرآن أكمل إيضاح، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة معلنة بالفلاح، وأنّ محمدا عبده ورسوله الذي أنزل عليه في محكم كتابه العزيز: {اللََّهُ نُورُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكََاةٍ فِيهََا مِصْبََاحٌ} (1) صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الغرّ الكرام الأشباح (2)، ما ترنّم طائر على غصن وحيعل الدّاعي إلى الفلاح، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى من عدقت به نيابة أجلّ المعاقل والثّغور وفوّضت إليه، وعوّل في حفظها ومباشرتها الحسنة الجميلة عليه من عقدت على حزمه الخناصر، وورث الشّجاعة والشّهامة كابرا عن كابر، وهو الّذي نما فرعا وزكا [أصلا] (3)، وفاق في المكارم على نظرائه قولا وفعلا، فأضحى وافر الثّناء واضح الغرر، شاهدا له به العين والبصر.
ولما كان فلان هو المنعوت بهذه الصّفات، والموصوف في مواقف الحروب بما لديه من الثّبات والوثبات، المشكورة خدمته، شاما ومصرا، المشهورة بين الهمم همّته، برّا وبحرا.
فلذلك رسم لا زالت مراسيمه الشريفة مبثوثة بالعدل والإحسان، ومعدلته تستدعي بدوام دولته الشريفة لسان كلّ إنسان أن تفوّض إليه نيابة قلعة
__________
(1) النور / 35.
(2) يقال: شبح الداعي: أي مدّ يديه في الدعاء ورفعهما. ورجل شبح الذراعين ومشبوحهما: طويل الذراعين.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(12/461)
المرقب المحروس، والولاية بالأعمال الشرقيّة، وما هو منسوب إليها، على العادة في ذلك ومستقرّ القاعدة: إذ هو أحقّ بها وأهلها، وأكمل [من] (1) يجمع شتات شملها.
فليباشر ما ندب إليه من هذه الجهات مباشرة تقصر الأفكار عن توهّمها، والأبصار عن توسّمها، والخواطر عن تخيّل مبناها، و [الأذهان] (2) عن تمثّل صورتها ومعناها، وليكن لمصالحها متلمّحا، ولأحوال رجالها متصفّحا، ولأقدار جهاتها مربحا، وللخواطر بأداء أحوالها على السّداد مريحا، ولوظائفها مقيما، وللنظر في الكبير والصّغير من مصالحها مديما، ولحرمتها مضاعفا، وعلى كلّ ما يتعيّن الاحتفال به من مهمّاتها واقفا، ويعدّ للعدوّ المخذول عند تحرّكه العزم الشديد، ويهجر لبس الوشي ويتألّف لبس الحديد، ويتّخذ ظهر جواده مستقرّه العتيد، ويشمّر للجهاد ذيلا، ومعاذ الله أن يميل عنه ميلا، ويبسط العدل للرّعيّة، ويعاملهم المعاملة المرضيّة، ويحسن إلى الأمراء البحريّة (3)، ويلاحظ مصالحهم في كلّ قضيّة، ويتفقّد الرّجال، وأرباب الأدراك (4) والشّواني ويحذّرهم من الإهمال، ويأمرهم باليقظة والاحتراز في اللّيل والنهار وسائر الأحوال، وليعمل ما يحتاج إليه من آلات الجهاد وليكن على حذر مما يتجدّد كلّ يوم، وليوقع الرّهبة في قلوب الأعداء بخيله في اليقظة وخياله في النّوم، ويتفقّد المواني في سائر الأوقات في اللّيل والنهار، وليحذّر أمراء الأيزاك من الغفلة فإن
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الأمراء البحرية هم قواد الأسطول الحربي فقد اهتم حكام مصر منذ قيام الدولة الفاطمية بالأسطول، وكذلك أهتم الأيوبيون والمماليك من بعدهم بالأسطول واستخدموه في حرب الصليبيين، فامتدّت سيطرة أسطول المماليك إلى جزيرة قبرص. (مصطلحات صبح الأعشى:
43).
(4) أرباب الأدراك: هم الجند أو الخفراء الذين يكلفون بحراسة الدرك. والدرك هو المكان المعين الذي تحدد عليه الحراسة المستمرة بالتناوب. ولا يزال هذا اللفظ معروفا عند رجال الشرطة إلى الآن (مصطلحات صبح الأعشى: 13520).(12/462)
الغافل لا يزال على شفا جرف هار (1)
وليتّق الله في أقواله وأفعاله. والوصايا كثيرة وهو أدرب بها وأدرى، وأبواب الخيرات واسعة وهو إليها أسرع وأجرى، وليشكر الله تعالى على ما ولّاه، والاعتماد على الخط الكريم أعلاه.
وهذه نسخة توقيع بنيابة حصن عكّار (2) كتب به ل «ناصر الدين الكرديّ»، ب «الجناب العالي» وهي:
الحمد لله الّذي نصر هذا الدّين الحنيفيّ بسيّد البشر، وخصّ هذه الدولة الشريفة بالتأييد والظّفر، ووافى الأولياء بجودها الّذي لم يزل من ذمة الوفاء ينتظر.
نحمده على منّه الّذي طالما بدا في جبهات الأولياء بشره وظهر، ونشكره على جوده الّذي أغنى عن التّحجيل والغرر (3)، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي قائلها يوم الفزع الأكبر، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أقام الله بسيفه الإيمان فاشتهر، وكفّ به يد الطّغيان وزجر، صلّى الله عليه وعلى آله ما اتصلت عين بنظر وأذن بخبر، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى [الأولياء بالمناصب] (4) من رعيت له خدم عديدة، وعرفت له في أجلّ الثّغور مباشرات سعيدة، واشتهرت شهامته وكفايته في الآفاق،
__________
(1) هار البناء: انصدع وتهدّم ولم يسقط. والجرف: الجانب من الشيء أكله الماء. وجرف هار: أي هائر متساقط.
(2) حصن عكار في أقصى الشمال من جبل لبنان.
(3) التحجيل: بياض في قوائم الفرس أو بعضها. والغرّة: بياض في جبهتها. وأمر أغرّ محجّل: أي مشهور.
(4) الزيادة ليستقيم الكلام.(12/463)
وظهرت أمانته ظهور الشّمس في الإشراق، وتقدّم بذلك على نظرائه وفاق.
ولمّا كان الجناب العالي هو المنعوت بهذه الصفات الجميلة، والمحتوي على هذه المزايا الجليلة، الذي شاعت شجاعته مع طهارة يد ولا عجب فإنّ هذا الشّبل من ذاك الأسد وسارت الرّكبان في الممالك بنهضتهما في المباشرات، وسدّ الخلل في المهمّات المعضلات.
فلذلك رسم لا زالت أيّامه مبثوثة بالعوارف والإحسان، ومعدلته تستدعي بدوام دولته الشريفة لسان كلّ إنسان أن تفوّض إليه نيابة قلعة حصن عكّار المحروس، على عادة من تقدّمه وقاعدته، بالمرتّب الشاهد به الديوان المعمور.
فليقدّم خيرة الله تعالى ويتوجّه إليها، ويصرف وجه الإقبال عليها، وينظر في عمارتها ومصالحها، ويستدرك ما استهدم من بيوت حواصلها، ليصبح وجه هذا الثّغر بحلوله به باسما، وينشر له من حسن تدبيره وجميل تأثيره علما، وليحسن إلى الأمراء البحريّة، وينزلهم منازلهم على العادات المرضيّة، وليعدل في الرّعيّة، وينصف المظلوم من الظالم في كلّ قضيّة، ويلزم أرباب الوظائف من المقدّمين والرّجّالة بالخدمة بالنّوبة على العادة، ويوصّل إليهم معلومهم من جهاتهم المعتادة، ويتّبع الحقّ المحض في كلّ أمر، لا يقتدي برأي زيد ولا عمرو، وليعلم أنّه مطالب بالعدل في وظيفته، فإنّ كلّ راع مسؤول عن رعيّته والوصايا كثيرة ومعظمها تقوى الله في سائر الأمور: فليتمسّك بها يقوى فإنّها السّبب الأقوى والله تعالى يتولاه في السّر والنّجوى بعد الخطّ الكريم أعلاه.
وهذه نسخة توقيع بنيابة بلاطنس (1) ب «الجناب العالي» وهي:
__________
(1) حصن منيع بسواحل الشام مقابل اللاذقية، من أعمال حلب. (معجم البلدان: 1/ 478).(12/464)
الحمد لله الّذي أسبغ نعمه على أوليائه، وأجزل كرمه على أصفيائه، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي قائلها من وبيل العذاب، وتجدّد له أسباب السعادة في الدنيا ويوم الحساب، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث بالنّور المبين، المخصوص بالدّين المتين، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وأهله وأصفيائه وأترابه.
وبعد، فأنّ القلاع المنصورة ممّا يتعيّن الاحتفال بأمرها، والاهتمام بحفظ رجالها في سرّها وجهرها ومن أجلّ قلاع الساحل المحروس، وأجمل مساكن البحر المأنوس، قلعة بلاطنس.
فلذلك رسم لا زالت صدقاته تشمل كلّ أوحد، وتجبر كلّ وليّ أمجد أن يستقرّ إذ هو الخبير، الذي ليس لمعرفته نظير، والضّابط الّذي يحاقق على الجليل والحقير، والنّقير والقطمير (1)، والشّجاع الذي هو في يوم النّضال على أخذ العدوّ لقدير، والضّرغام الّذي أعطاه الله القوّة والمعرفة التامّة فهو بهما جدير.
فليسر إلى الثّغر المحروس، ويعتمد في أموره ما هو فيه من الخبرة مغروس.
وهذه نسخة توقيع بتقدمة العسكر بجبلة (2)، كتب به ل «صلاح الدّين الحافظي»، ب «الجناب العالي» وهي:
الحمد لله الّذي جعل هذه الدّولة الشريفة تنقل كلّ وليّ إلى درجات
__________
(1) النقير: النقرة في ظهر نواة التمرة. والمراد الصغير الضئيل. والقطمير: القشرة الرقيقة على النواة، وهي بمعنى الهيّن الحقير.
(2) قلعة مشهورة بساحل الشام من أعمال اللاذقية قرب حلب. (تشريف الأيام والعصور:
39 - حاشية).(12/465)
سعده، وتؤكّد أسباب الارتقاء لمن حمدت مآثره وحسنت سيرته في اليوم والّذي من بعده، وتجدّد أثواب النّعماء لمن ظهر خيره وخبرته فأنجز له الإقبال صادق وعده.
نحمده على نعمه الّتي أجزلت لمستحقّها مواهب رفده، ونشكره على مننه التي خصّت كلّ كاف بتأثيل مجده، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة يبلغ بها قائلها غاية قصده، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أيّده الله تعالى بنصر من عنده، وآمنه على وحي الرّسالة فنصح الأمّة غاية جهده، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الّذي كانوا من أنصاره وجنده، صلاة دائمة باقية يبلغ بها المؤمن غاية رشده، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ الجناب العالي لمّا تقدمت له مباشرات، في أجلّ الولايات وأحسن النيابات، وهو يسير في كلّ منها أجمل سير، ويحسن إلى رعيّتها فلا غرو أن يذكروه بكلّ خير كم قام بمهمّات من غير عسف أهل البلاد، وكم أعان الدّيوان المعمور من غير ضرر للعباد، وكم ميّز أموالا فكانت أيّام مباشراته أعياد، وكم له من خدم سار بها الرّكاب وبلغ بها المراد، وكم أثنى عليه لسان القلم حتّى نفد المداد، وكم وصفت هممه وحسن تأتّيه في كلّ توقيع وتقليد على أنّ الكاتب ما زاغ عن الحقّ ولا مال عن الصّدق فيها ولا حاد.
فاقتضى محمود رأينا الّذي ما برح بعون الله يصيب، وجميل فكرنا الّذي ما دعوناه لأمر إلّا وبالإصابة بحمد الله يجيب، أن نعيّن له وظيفة نريحه فيها من التّعب، ونوفّره من تبعات الطّلب وكان من تقدمة العسكر بجبلة يعتريه ألم يعوقه عن الرّكوب في الخدم الشريفة والنزول، سيّما في هذا الوقت الّذي فيه يتحرّك العدوّ المخذول.
فلذلك رسم لا زالت أيّامه الشريفة تيسّر أسباب النّجاح، وعوارفه تطوى لها أرض البعد عن أوليائها كما تطوى لذي الصّلاح أن يستقرّ
الجناب في تقدمة العسكر المنصور بجبلة، على عادة من تقدّمه وقاعدته.(12/466)
فلذلك رسم لا زالت أيّامه الشريفة تيسّر أسباب النّجاح، وعوارفه تطوى لها أرض البعد عن أوليائها كما تطوى لذي الصّلاح أن يستقرّ
الجناب في تقدمة العسكر المنصور بجبلة، على عادة من تقدّمه وقاعدته.
فليباشرها مباشرة تليق بشجاعته، وتعهد من حسن سياسته، وليكرم الشّرع الشريف، وليردع من يحيد عن الحقّ أو يحيف، وليجمع الأمراء المقدّمين والحلقة المنصورة على الركوب في الخدمة الشّريفة، وليشكر نعمة الله تعالى المطيفة، وليتيقّظ لردع العدوّ المخذول، وليعلم أنّنا استرعيناه أمر ذلك وكلّ راع مسؤول، وليتحقّق أنّ العدوّ المخذول طالب للهالكين منهم بالثار، وهم قاصدون جبلة فلتكن عنده يقظة واستبصار، وليرتّب الأيزاك وليعمّر المواني بالرجال، ويتفقّدهم في الليل أكثر من النهار، وليهجر النّوم في طلب الظّفر والمنى فمن سهر لذلك ما خاب، ولا يأمن مكيدتهم ويغترّ بهم فيقول: قد ضرب بينهم وبينها بسور له باب وباقي الوصايا فهو بها أعلم، ولم يبرح متلفّعا بثوبها المعلّم وملاكها تقوى الله تعالى فمن لم يعمل بها يأثم، ومن تركها يندم، ومن لزمها فهو في الدارين مقدم والله تعالى يتولاه، والاعتماد على الخطّ الكريم أعلاه، إن شاء الله تعالى.
واعلم أنّه ربّما افتتح توقيع مقدّم العسكر بجبلة ب «أمّا بعد حمد الله».
توقيع بتقدمة العسكر بجبلة، ممّا كتب به لحسام الدين العلائيّ ب «الجناب العالي» وهو:
أمّا بعد حمد الله على نعمه الّتي تجزل لكلّ وليّ من موادّ فضلها إنعاما، وتمنح من عوارفها أقساما، وتبلّغ من النّجح لذوي الاستحقاق آمالا وتجعل في نحور الباغين حساما، والشّهادة له بالوحدانية الّتي لم تزل للأولياء المتقين لزاما، وترفع لهم في الجنّات مقاما، والصّلاة على سيّدنا محمد الّذي محا الله بنبوّته عن الأمة المحمديّة آثاما، وشرّفه على سائر خلقه وجعله للأنبياء ختاما، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ظافروه وبايعوه دهورا وأعواما، صلاة
دائمة تزيد مردّدها عزّا وإكراما فإنّ الاهتمام بكلّ جهة هو على قدرها، والعناية بقطرها.(12/467)
أمّا بعد حمد الله على نعمه الّتي تجزل لكلّ وليّ من موادّ فضلها إنعاما، وتمنح من عوارفها أقساما، وتبلّغ من النّجح لذوي الاستحقاق آمالا وتجعل في نحور الباغين حساما، والشّهادة له بالوحدانية الّتي لم تزل للأولياء المتقين لزاما، وترفع لهم في الجنّات مقاما، والصّلاة على سيّدنا محمد الّذي محا الله بنبوّته عن الأمة المحمديّة آثاما، وشرّفه على سائر خلقه وجعله للأنبياء ختاما، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ظافروه وبايعوه دهورا وأعواما، صلاة
دائمة تزيد مردّدها عزّا وإكراما فإنّ الاهتمام بكلّ جهة هو على قدرها، والعناية بقطرها.
ولما كانت مدينة جبلة المحروسة مخصوصة بمقام بر [كات السيد السّند] (1) الزّاهد الّذي ترك الدّنيا والأهل والولد، والوليّ المبرّز في عبادة الخالق، والمتوكّل الّذي لم يدّخر قوت ساعة لساعة اعتمادا على الرّزاق تعيّن النظر في أمرها وحفظها من العدوّ المخذول، وإن كان بهذا السّيّد السّند قد تبين حفظها، وكان فلان ممّن باشرها فأحسن فيها المباشرة، وكلأ حفظها بيقظته وعينه السّاهرة اقتضى رأينا أن نعيده إليها، ونسبغ ظلّه عليها.
فلذلك رسم بالأمر لا زال حسامه قاطعا من الأعداء نحرا، وفعله صالحا دنيا وأخرى أن يعاد المشار إليه إلى تقدمه العسكر المنصور بجبلة المحروسة، عوضا عمّن بها، وعلى عادته وقاعدته.
فليعد إليها عود الحسام إلى غمده، والماء إلى منهل ورده، وليقدّم خيرة الله في المسير إليها، وليبسط العدل ليأمن أهلها بقدومه عليها، وليكرم من بها من العسكر المنصور، ويحسن إلى الرّعيّة بها ليصبح خير مشكور، ولينصف المظلوم ممّن ظلمه، وينشر للشّرع الشريف علمه، وليخلّص الحقّ من القويّ والضّعيف، والدّنيّ والشريف، وليلزم من بهذا الثّغر بعمل اليزك المعتاد، والتّيقّظ لأمر العدوّ المخذول ومضاعفة الاجتهاد، وليلازم تقوى الله تعالى في الأقوال والأفعال، والله تعالى يمنحه من فضله ما يرجو من الآمال.
وهذه نسخ تواقيع لأرباب الوظائف الدينية بطرابلس.
توقيع بنظر الحسبة بطرابلس، كتب به للقاضي «ناصر الدين بن شيصة» وهو:
__________
(1) بياض بالأصل. والزيادة من هامش الطبعة الأميرية.(12/468)
الحمد لله مبشّر الصابرين، وموصّل الأرزاق على يد أصفيائه من العالمين، ومعيد كلّ وليّ إلى منصبه ولو بعد حين.
نحمده على فضله المبين، ونشكره على أن جعلنا من عباده المؤمنين، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة ندّخرها ليوم الدّين، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، الذي أرسله بواضح الحجج ومحكم البراهين، وأنزل عليه كتابا عربيّا مبين (1)، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الغرّ المحجّلين، صلاة مستمرّة على ممرّ الأيام والشّهور والسّنين، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من غزّرنا موادّ رفده، وأجزلنا له حظوظ سعده، وبلّغناه من إقبالنا غاية قصده، وحمدنا تصرّفه من قبل عندما رسم لما جدّد [من] (2)
بعده، وأعدناه إلى رتبة ألفت منه حسن السياسة والتّدبير، وعرف فيها بالكفاية والصّيانة ويمن التأثير من له ولسلفه في المباشرات الجليلة يد طولى، فكان بوظيفته أحقّ وأولى.
ولما كان المجلس العالي هو المتّصف بصفات الكمال، المشكور في سائر الأحوال، فلذلك رسم بالأمر أنفذه الله في الآفاق، وأجراه بصلة الأرزاق أن يعاد فلان أدام الله نعمته إلى نظر الحسبة الشريفة بالمملكة الطّرابلسيّة على عادته وقاعدته، مضافا إلى ما بيده من بيت المال المعمور: لأنه الفاضل الذي لا يجارى، والعالم بأحوال الرّعيّة فلا يناظر في ذلك ولا يمارى، والفيلسوف الّذي يظهر زيف كلّ مريب، والنّحرير (3) الذي بخبرته يسير كلّ حبيب ولبيب.
__________
(1) كذا بالأصل. وقد خالف قواعد اللغة لضرورة التسجيع. وكان بإمكانه القول: «الكتاب العربيّ المبين» فهي أوضح وأصحّ.
(2) الزيادة يقتضيها السياق.
(3) النّحرير: العالم الحاذق في علمه.(12/469)
فلينظر في الدّقيق والجليل، والكثير والقليل، وما يحصر بالمقادير وما لا يحصر، وما يؤمر فيه بمعروف أو ينهى عن منكر، وما يشترى ويباع، وما يقرّب بتحريره إلى الجنّة ويبعد عن النار ولو لم يكن قد بقي بينه وبينها إلا قدر باع أو ذراع، وكلّ ما يعمل من المعايش في نهار أو ليل، وما لا يعرف قدره إلا إذا نطق لسان الميزان أو تكلّم فم الكيل وليعمل لديه معدّلا لكلّ عمل، وعيارا إذا عرضت عليه المعايير يعرف من جار ومن عدل، وليتفقّد أكثر هذه الأسباب، ويحذّر من الغشّ: فإنّ الدّاء أكثره من الطعام والشّراب وليتعرّف الأسعار، ويستعلم الأخبار من كلّ سوق من غير إعلام لأهله ولا إشعار وليقم عليهم من الأمناء من ينوب عنه في النّظر، ويطمئنّ به إن غاب أو حضر، ودار النّقود والضرب الّتي منها تنبثّ، وقد يكون فيها من الزّيف ما لا يظهر إلا بعد طول اللّبث، فليتصدّ لمهمّها بصدره الّذي لا يحرج، وليعرض منها على المحكّ [من رأيه (1) ما لا يجوز عليه بهرج، وما يعلق من الذهب المكسور ويروبص من الفضة ويخرج، وليقم الضّمّان على العطّارين والطّرقيّة في بيع غرائب العقاقير إلّا ممن لا يستراب فيه وهو معروف، وبخطّ طبيب ماهر لمريض معيّن في دواء موصوف والطّرقيّة وأهل النّجامة وسائر الطوائف المنسوبة إلى ساسان، ومن يأخذ أموال الرّجال بالحيلة ويأكلهم باللّسان، وكلّ إنسان سوء من هذا القبيل هو في الحقيقة شيطان لا إنسان، فامنعهم كلّ المنع، واصدعهم مثل الزّجاج حتّى لا ينجبر لهم صدع، وصبّ عليهم النّكال وإلّا فما تجدي في تأديبهم ذات التّأديب والصّفع، ومن وجدته قد غشّ مسلما، أو أكل بباطل درهما، أو أخبر مشتريا بزائد، أو خرج عن معهود العوائد، أشهره بالبلد، وأركب تلك الآلة قفاه حتّى يضعف منه الجلد وغير هؤلاء [من فقهاء المكاتب، وعالمات النساء وغيرهما من الأنواع] (2) ممن يخاف من ذئبه العائث في سرب الظباء والجآذر،
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 126. وفقهاء المكاتب هم الذين يعلمون الأولاد الصغار. وعالمات النساء معروفات إلى الآن، وهنّ اللواتي يدرن بيوت اللهو والمجون.(12/470)
ومن يقدم على ذلك أو مثله وما يحاذر، ارشقهم بسهامك، وزلزل أقدامهم بإقدامك، ولا تدع منهم إلّا من اخترت أمانته، واختبرت صيانته والنوّاب لا ترض منهم إلا من يحسن نفاذا، ويحتسب لك أجر استنابته إذا قيل لك: من استنبت؟ فقلت: هذا وتقوى الله هي نعم المسالك، وما لك في كلّ ما ذكرناه بل أكثره إلّا إذا عملت فيه بمذهب مالك والله تعالى يسدّدك ويرشدك ويوفّقك إلى أحسن المسالك.
توقيع بالخطابة والإمامة بالجامع المنصوريّ بطرابلس، كتب به للخطيب «جمال الدين إبراهيم»، ب «المجلس السامي» بغير ياء وهو:
رسم بالأمر الشريف لا زال عود منابر الإسلام بماء إحسانه رطيبا، وبرد شعائر الدين الحنيفيّ في أيّامه الزاهرة قشيبا، ومواهبه ومناقبه تقيم لممادحه في كلّ واد شاعرا ولمحامده في كلّ ناد خطيبا أن يرتب المجلس السامي، الإمام، العامل رحم الله تعالى السّلف، وزاد مجد الخلف خطيبا وإماما بالمسجد الجامع المعمور المنصوريّ بطرابلس المحروسة، عوضا عن فلان، وعلى عادته وقاعدته، وبمعلومه الشاهد به الديوان المعمور المستقرّ باسمه، إلى آخر وقت: رعاية لأهليّته الواضحة الدلائل، وفضيلته الناطقة الشّواهد الصّادقة المخايل، وأوصافه الجميلة الّتي بها تعرف من أبيه الشّمائل، ولأنّه الصّدر ابن الصدر النّجيب، والخطيب الإمام ابن الإمام الخطيب، والولد النّجيب الّذي حذا حذو والده في الصّلاح ما خاب ولا يخيب، والنّجل النّبيه المهذّب الّذي أشبه أباه في الدّين والورع: ومن أشبه أباه فما ظلم في النّباهة والتّهذيب.
فليباشر هذه الخطابة والإمامة الّتي هو ابن جلاها، وطلّاع ثناياها، زائنا حلاها، زائدا علاها، وليرق ذروة هذا المنصب الّذي هو أعلى المناصب الدّينيّة، وليتلقّ نعم الله عزّ وجلّ بالشّكر الّذي يوجب المزيد ويكسب المزيّة، وليقم مقام والده في هذه الرّتبة السّنيّة، بإخلاص العمل وصدق النّيّة، مجلّيا في
مضمار البيان الّذي سلّمت إليه أعنّته، وألقيت إليه أزمّته، محلّيا بقلائد المواعظ وفرائد الأمثال أعواد المنبر الّذي لو أمكنه لسعى إليه، مشنّفا الأسماع بجواهر الأوامر وزواهر الزّواجر الّتي يصدع بها عليه.(12/471)
فليباشر هذه الخطابة والإمامة الّتي هو ابن جلاها، وطلّاع ثناياها، زائنا حلاها، زائدا علاها، وليرق ذروة هذا المنصب الّذي هو أعلى المناصب الدّينيّة، وليتلقّ نعم الله عزّ وجلّ بالشّكر الّذي يوجب المزيد ويكسب المزيّة، وليقم مقام والده في هذه الرّتبة السّنيّة، بإخلاص العمل وصدق النّيّة، مجلّيا في
مضمار البيان الّذي سلّمت إليه أعنّته، وألقيت إليه أزمّته، محلّيا بقلائد المواعظ وفرائد الأمثال أعواد المنبر الّذي لو أمكنه لسعى إليه، مشنّفا الأسماع بجواهر الأوامر وزواهر الزّواجر الّتي يصدع بها عليه.
وليسر كسيرة والده في الطّريقة المثلى وسلوك المنهج الأسدّ، وليجتهد في إحياء رسومه في العبادة واقتفاء آثاره في العلم والزّهادة حتّى يقول الناس:
هذا الشّبل من ذاك الأسد، جاريا على أفضل العوائد في ديانته، ساريا بأجمل القواعد من صيانته، وليوصّل إليه معلومه الشاهد به الدّيوان المعمور المستقرّ إلى آخر وقت، على عادة من تقدّمه وقاعدته: لاستقبال مباشرته أحيان الوجوب وأزمان الاستحقاق، رزقا دارّا، سارّا، هنيّا، مرضيّا، من غير تنغيص، ولا تنقيص والاعتماد على العلامة الكريمة أعلاه، وثبوته إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بخطابة، كتب به للشيخ «صدر الدين الخابوري»، ب «المجلس الساميّ» بالياء وهي:
رسم لا زالت أيّامه الشّريفة تضع الأشياء في محلّها، وتفوّض المناصب المنيفة إلى أهلها، وتشرّف صدور المحافل بصدر العلماء في حزنها وسهلها أن تفوّض إلى فلان الخطابة بالجامع الناصريّ المعروف «بجامع التوبة» بطرابلس المحروسة وجوبا وتعيّنا، اقتضى في تقدّم الفاضل على المفضول تيقّنا وتبيّنا، لأنّه الحبر الّذي لا يجارى في فضائله، والبحر الّذي يجود فيجيد بفواضله، والصّدر الّذي ملئت بفوائده وفرائده بزمانه محافل صدوره وصدور محافله كم نطقت ألسن الأقلام بأفواه المحابر بفضله في الأقاليم والآفاق، وكم من عبارة بفصاحة وبلاغة حققت أنّه بها فات الفصحاء والبلغاء وفاق لقد أصبح شمل هذا الجامع بهذا الفاضل الّذي طال ارتقابه له جامعا، وأمسى وقد ظفرت يمناه من اليمن به والبركة بما لم يكن بشيء منه في مثل هذه
الأيّام طامعا، فلذلك بادر منبره المنيف وحلّ له حقوته (1) مسارعا ووطّأ لامتطائه إيّاه صهوته، وغفر للدّهر بهذه الحسنة الجميلة فيما سلف منه هفوته، وعلم أنّه الخطيب الذي استقرّ يطالع المنابر من خطبته بما يفجّر من العيون منابع المدامع، ويشوّق إلى الآخرة من ألفاظ يشنّف بها المسامع، وأنّ قسّا لا يقاس به في خطبه وعظاته، وأنّ سحبان يودّ من خجله أن يسحب ذيله على مآثره المأثورة عنه ليعفّي آثار فلتات كلماته ولفتات لفظاته.(12/472)
رسم لا زالت أيّامه الشّريفة تضع الأشياء في محلّها، وتفوّض المناصب المنيفة إلى أهلها، وتشرّف صدور المحافل بصدر العلماء في حزنها وسهلها أن تفوّض إلى فلان الخطابة بالجامع الناصريّ المعروف «بجامع التوبة» بطرابلس المحروسة وجوبا وتعيّنا، اقتضى في تقدّم الفاضل على المفضول تيقّنا وتبيّنا، لأنّه الحبر الّذي لا يجارى في فضائله، والبحر الّذي يجود فيجيد بفواضله، والصّدر الّذي ملئت بفوائده وفرائده بزمانه محافل صدوره وصدور محافله كم نطقت ألسن الأقلام بأفواه المحابر بفضله في الأقاليم والآفاق، وكم من عبارة بفصاحة وبلاغة حققت أنّه بها فات الفصحاء والبلغاء وفاق لقد أصبح شمل هذا الجامع بهذا الفاضل الّذي طال ارتقابه له جامعا، وأمسى وقد ظفرت يمناه من اليمن به والبركة بما لم يكن بشيء منه في مثل هذه
الأيّام طامعا، فلذلك بادر منبره المنيف وحلّ له حقوته (1) مسارعا ووطّأ لامتطائه إيّاه صهوته، وغفر للدّهر بهذه الحسنة الجميلة فيما سلف منه هفوته، وعلم أنّه الخطيب الذي استقرّ يطالع المنابر من خطبته بما يفجّر من العيون منابع المدامع، ويشوّق إلى الآخرة من ألفاظ يشنّف بها المسامع، وأنّ قسّا لا يقاس به في خطبه وعظاته، وأنّ سحبان يودّ من خجله أن يسحب ذيله على مآثره المأثورة عنه ليعفّي آثار فلتات كلماته ولفتات لفظاته.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة بالله تعالى مذكّرا، ولما أمر عباده ونهاهم عنه على أسماعهم مكرّرا، ويعلم أنّه في المحراب مناج لربه، واقف بين يدي من يحول بين المرء وقلبه فليعتصم بالله عزّ وجلّ في قوله وفعله، ويتيقّن أنّ الكلمة إذا خرجت من قلب لا تقع إلا في مثله.
وفي إحاطة علمه المشهور، وفضله المشهود المشكور، ما يغني عن وصيّة بها يتذكّر، وتذكرة في صحيفة فكره ترقم وتسطّر وليوصّل إليه معلومه على هذه الوظيفة الشاهد به الديوان المعمور، وليوفّر خاطره من التّبذّل في تحصيل معلومه الجاري له وطلبه، وليعامل بما يليق من الإجلال والإعظام بوظيفته الشّريفة والمحلّ العالي الرّفيع من منصبه والعلامة الكريمة أعلاه، حجّة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخ تواقيع لأرباب الوظائف الديوانية بطرابلس:
نسخة توقيع بشهادة الجيوش بطرابلس، كتب به للقاضي بدر الدين «محمد بن الفرفور»، ووالده يومئذ ناظر الجيوش بها، ب «المجلس العالي» وهي:
__________
(1) الحقو والحقوة: الخصر. وتأتي بمعنى الإزار، وهو المراد هنا. قال ابن برّي: الأصل في الحقو معقد الإزار ثم سمي الإزار حقوا لأنه يشدّ على الحقو. (أنظر اللسان: 14/ 190).(12/473)
أما بعد حمد الله الّذي زيّن سماء المعالي ببدرها، وأنبت في رياض السّعادة يانع زهرها، ورفع المناصب السّنيّة إلى شرف محلّها ومحلّ شرفها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة خالصة في قولها وفعلها، وأنّ محمدا عبده ورسوله أرسله بالملّة الحنيفيّة قائما بفرضها ونفلها، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر مبلّغا لرسالات ربّه كلّها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا ينحصر عددها، ولا ينقضي أمدها، وسلّم تسليما كثيرا فإنّ أولى من خطبته المناصب من هو أحقّ بها وأهلها [وله] فيها نسبة لا ينكر فضلها، ومباشرات في الممالك الإسلامية مشهورات بالكفاية والعفّة في برّها وبحرها.
ولمّا كان فلان حرس الله جنابه وأسبغ ظلّ والده هو المعنيّ بهذه الإشارة، وشمس هذه الهالة وبدر هذه الدّارة.
فلذلك رسم زاده الله تعالى عظمة وشرفا، ومنحة في الجنان قصورا وغرفا أن يستقرّ: إقرارا لعين والده، وجمعا له بين طريف السّعد وتالده، لأنّه النّبعة الّتي نشأت في رياش السّيادة، والزّهرة الّتي برزت في كمام السّعادة فلا يزال فرعه إن شاء الله بسعادة هذه الدّولة الشريفة ينمي إلى أن يتأصّل، وزهرته تزهى إلى أن تبلغ الإثمار وتتوصّل.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة مباشرة تظهر فيها كفايته عند الانتقاد، وتحمد فيها عقبى الاختيار والاختبار والرّشاد، وليسلك في أمانته سنن أبيه أسبغ الله ظلّه التي أحكمها في كلّ ما أبدى وأعاد، ويتّبع طرقه الهادية إلى سبيل السعادة والإرشاد، ويبد ما اكتسبه من والده عن سلفه من هذه الصّناعة وهو أحقّ بهذا السّند، ولا يخرج عن رأي أبيه أيّده الله حتّى يقول الناس: هذا الشّبل من ذاك الأسد، وليشمّر في تحصيل الفضائل الّتي تبلغ بها الآمال، وتصلح الأحوال، وليتلقّ هذه المباشرة بعزمه الشديد، بنفسه لا بالتّقليد، فإنّه شاهد ومسؤول بقوله يوفّق في الاستحقاق وفي النّقود والكيول وتقوى الله هي السّبب الأقوى، فليتمسّك بحبلها يقوى والوصايا كثيرة في ذلك ووالده بها
أعلم والله تعالى يسلّكه سبيل الهدى فإنّه أنجح الطّرق وأسلم والله تعالى يتولّى عونه، ويديم صونه والاعتماد(12/474)
فليباشر هذه الوظيفة المباركة مباشرة تظهر فيها كفايته عند الانتقاد، وتحمد فيها عقبى الاختيار والاختبار والرّشاد، وليسلك في أمانته سنن أبيه أسبغ الله ظلّه التي أحكمها في كلّ ما أبدى وأعاد، ويتّبع طرقه الهادية إلى سبيل السعادة والإرشاد، ويبد ما اكتسبه من والده عن سلفه من هذه الصّناعة وهو أحقّ بهذا السّند، ولا يخرج عن رأي أبيه أيّده الله حتّى يقول الناس: هذا الشّبل من ذاك الأسد، وليشمّر في تحصيل الفضائل الّتي تبلغ بها الآمال، وتصلح الأحوال، وليتلقّ هذه المباشرة بعزمه الشديد، بنفسه لا بالتّقليد، فإنّه شاهد ومسؤول بقوله يوفّق في الاستحقاق وفي النّقود والكيول وتقوى الله هي السّبب الأقوى، فليتمسّك بحبلها يقوى والوصايا كثيرة في ذلك ووالده بها
أعلم والله تعالى يسلّكه سبيل الهدى فإنّه أنجح الطّرق وأسلم والله تعالى يتولّى عونه، ويديم صونه والاعتماد
توقيع بكتابة الدّرج بطرابلس، كتب به ب «المجلس الساميّ» بالياء وهو:
رسم بالأمر الشّريف لا زالت مراسمه العالية تطلع في أفلاك المعالي بدرا منيرا هاديا إلى الفضائل مأمونا من السّرار (1)، ومكارمه الوافية ترفع من أعلام المعاني صدرا كبيرا رشيدا في البيان أمينا على الأسرار، ومراحمه الكافية تقرّعيون الأعيان والأخيار أن يرتّب فلان ضاعف الله تعالى أنوار فضائله التي يأتمّ بها المستضيء والمهتدي، ويعشو إلى قراها المستعين والمقتدي في كتابة الدّرج السعيد بطرابلس المحروسة بما قرّر له من المعلوم الوارد في الاستئمار الشّريف على ما يتعيّن بقلم الاستيفاء جهته، ويبّين تفصيله وجملته، نظرا إلى استحقاقه الظّاهر، وفضله الباهر وبلاغته الّتي أفصحت عن بيان البليغ القادر، وفصاحته الّتي بلغت الكمال بعون الملك القادر، وإطرابه، في إطنابه، وإعجازه، في إيجازه فله في الدلائل قدرة «المنصور» وفي الفضائل قوّة «الناصر» طالما أزهر بقلمه «المهديّ» للصواب، «السّفّاح» كالسّحاب، روض العلوم والآداب، وأظهر ببيانه «المنتصر» في الخطاب، «المقتدر» على الاقتضاب، طرق الفنون، واضحة العيون، محكمة الأسباب، وسبل الحكم مفتّحة الأبواب فهو بالسنا والسناء بدر «المسترشد»، وبالجدا والجداء «معزّ» «المستنجد»، وبفرط الحيا والحياء سحاب المستمطر و «المستظهر»، وبغرب الذّكا والذّكاء برق «المستبصر» و «المستنصر».
فليباشر هذه الوظيفة المباركة «معتصما» بحبل التّقوى، «مستعصما» من
__________
(1) سرار الشهر: آخر ليلة فيه.(12/475)
المراقبة بالسّبب الأقوم الأقوى، مجدّدا رسوم هذه الصناعة الّتي ربعها قد درس ومحلّها قد أقوى، فإن «المتّقي لله» «الرّاضي» به هو «الراشد» «الفائز» بالسّعادة، و «المتوكّل» عليه «المطيع» له هو «الواثق» ببلوغ القصد الحائز للارادة وليطرّز حلل البيان بوشي بنانه الّذي أصبح ديباج الطّرس به «معتزّا»، وليقوّم معاني البديع بعامل قلمه الخطّيّ الّذي أمسى الفضل به كالسّمهريّ قائما مهتزا، «مستكفيا» بما يصرّعه ويرصّعه نظما ونثرا من البدائع، «مستعليا» لما يرفّعه ويفرّعه من غرر الفقر، ودرر الفكر، بخاطره الوقّاد النّقّاد المنقاد الطائع، «مقتفيا» فيما ينشئه آثار ما يصدر عن «الحاكم» و «الآمر»، «مكتفيا» فيما يبديه بمقدار ما تبرز به المراسيم والأوامر، «حافظا» للسّرّ «العزيز» كاتبا كاتما فلا يعضده فيه «عاضد» ولا يظفر به «ظافر»، «معتمدا» على الكتمان في جميع ما يورده ويصدره، مقتصدا بالتّوفيق في سائر ما يخفيه ويظهره.
والوصايا فمن آدابه تستفاد، والنّصائح فلها منه المبدأ وإليه المعاد فليتسنّم ذروة أعلاها، وليتنسّم نفحة ريّاها
توقيع بشهادة دار الضّرب بطرابلس وهو:
رسم بالأمر لا زال رأيه الشريف يقرّب من الأمور صوابا، ولا برح أفق سماء مملكته الشريفة يطلع بفلكه بدرا منيرا وشهابا أن يرتّب فلان: لأنه العدل الّذي اشتهرت عدالته، والأمين الّذي بهرت فظهرت أمانته، والرّئيس الّذي ما برح صدر المحافل، والفاضل الّذي فاق بفضله على الأقران والأماثل، وشهدت بنزاهته المشهورة الأواخر والأوائل.
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة مطابقة لعدالته المشهورة، معربّة عن أصالته المخبورة، موضّحة عن ديانته الّتي غدت في العالمين معروفة غير منكورة، ليصبح هذا المنصب مشرقا بنوره، سنيّ الأرجاء بساطع ضياء شهابه ونور بدوره وهو أعزّه الله غنيّ عن وصيّة منه تستفاد، أو تنبيه على أمر منه يبدأ
وإليه يعاد وليتناول معلومه الشاهد به الديوان المعمور هنيّا ميسّرا، ولا يقف أمله عنده: فإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا.(12/476)
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة مطابقة لعدالته المشهورة، معربّة عن أصالته المخبورة، موضّحة عن ديانته الّتي غدت في العالمين معروفة غير منكورة، ليصبح هذا المنصب مشرقا بنوره، سنيّ الأرجاء بساطع ضياء شهابه ونور بدوره وهو أعزّه الله غنيّ عن وصيّة منه تستفاد، أو تنبيه على أمر منه يبدأ
وإليه يعاد وليتناول معلومه الشاهد به الديوان المعمور هنيّا ميسّرا، ولا يقف أمله عنده: فإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا.
توقيع بنظر اللّاذقيّة (1)، كتب به للقاضي «برهان الدين» الأذرعيّ وهو:
رسم بالأمر أنفذه الله في الآفاق، وطوّق بمنّه وفواضل برّه الأعناق أن يستقرّ المجلس السامي حرس الله مهجته، وأهلك حسدته في نظر اللاذقية المحروسة، على عادة من تقدّمه وقاعدته، بالمعلوم الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت: علما بأمانته المشهورة، وكتابته الّتي هي بين أهل الصّناعة مشكورة، وخبرته الّتي هي في المباشرات معروفة غير منكورة، وكفايته المألوفة الموفورة فإنّه باشر الحسبة الشّريفة ونهى وأمر، واتّبع في أحكامه ما أمر به «أمير المؤمنين عمر»، وضبط أموال بيت المال بحسن نظره وميّز وثمّر.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة مباشرة على أجمل العادات، ويسترفع مالها من الحسبانات، ويوصّل إلى أرباب الاستحقاق ما لهم من الحقوقات، على ما يشهد به الديوان المعمور في سائر الأوقات فإنّ هذه الوظيفة من أجلّ المباشرات وليتناول معلومه الشاهد به الديوان المعمور هنيّا ميسّرا على جاري العادة لمن تقدّمه في الفروع وسائر الجهات، وليعتمد على تقوى الله تعالى في سائر الحركات والسّكنات والله تعالى يتولّاه، والاعتماد على الخط الكريم أعلاه.
توقيع أيضا في المعنى:
لا زالت صدقاته الشريفة تقيم لاتباع الحقّ برهانا، وتسدي إلى كلّ أحد خيرا وإحسانا أن يرتّب فلان ناظرا باللّاذقيّة المحروسة وما هو مضاف إليها،
__________
(1) هي اليوم ميناء معروف على الساحل السوري شمالي طرابلس.(12/477)
على عادة من تقدّمه وقاعدته ومعلومه الشاهد به الديوان المعمور: لأنّه طالما باشر نظر بيت المال فوفّر الأموال، وأصلح ما فسد من الأحوال، وسدّد بحسن تدبيره الأقوال والأفعال، وأظهر من الأمانة ما تميّز به في مباشراته، وفاق به على قرنائه وأهل زمانه وأوقاته، ثم باشر الحسبة فسلك فيها مسلك السّرّ والجهر وصدق الخبر، وسلك مسلك أمير المؤمنين عمر.
فليباشر هذا النّظر بقلب منشرح، وأمل منفسح، وليظهر فيه ما جرّب به من الأمانة، وتجنّب الخيانة، وليجتهد في تحصيل أموال الدّيوان المعمور، ويبسط قلمه في إصلاح الأمور، وليوصّل إلى أرباب المرتّبات ما هو لهم مستحق، فإنّهم به أولى وأحق، وليوصّل إليه معلومه أوان وجوبه واستحقاقه
توقيع بمشارفة حصن الأكراد، كتب به للقاضي «بدر الدين» ب «المجلس العالي وهو:
رسم بالأمر الشّريف لا زالت مراسمه العالية تولي الأنام برّا، وتجدّد بإسباغ الإنعام بشرا، وتضوّع في كلّ ناد من أندية الثّناء والدعاء نشرا، وتطلع في كلّ أفق من آفاق السّيادة من صدور الأعيان وأعيان الصّدور بدرا أن يرتّب فلان في مشارفة حصن الأكراد المحروس: لما هو عليه من العفّة والصّلف (1)، والنّزاهة الّتي عرف بها واتّصف، والرّآسة الّتي انتقلت إلى الخلف عن السّلف، والعدالة الّتي لا يتكلّف لسلوك نهجها: ومن العجب خلوّ البدر عن الكف!، كم حفظت بمباشرته الأموال، وصلحت بملاحظته الأحوال، وعقدت الخناصر على سيرته وحسن سيره، واشتهر بجميل تدبير أوجب تقديمه على غيره.
__________
(1) الصّلف هنا بمعنى الشدّة في الحق، قياسا على الأصلف وهو الصّلب من الأرض. (أنظر اللسان: 9/ 198).(12/478)
فليباشر هذه الوظيفة الّتي هي من أجلّ الوظائف، وليشكر ما أولي من المعروف وأسدي إليه من العوارف، وليبذل جهده في صلاح الأحوال، وتثمير الأموال، وتقرير القواعد على السّداد، وإجراء العوائد على وفق المراد، فإنّه ممّن دلّت خبرته على جميل آثاره، ولاحت الغبطة في اختياره الّذي أغنى عن تقديم اختباره كيف لا؟ وهو ممّن نشأ في خدور فنون الكتابة، واشتهر في مواطن النّضال مع وفور الانتقال بحسن الإصابة فهو إن شاء الإنشاء بلغ منه المرام، وإن بسط الجرائد للتّصرّف قيل: هذا الكاتب النّظّام كم له من يد بيضاء في التّبييض والتّسويد، وهمّة علياء بلغ بها من السّيادة ما كان يريد.
فليقدّم خيرة الله تعالى في هذا الأمر ويجعلها إمامه، وليتمسّك بها مقتديا بمن قدمها أمامه، وليكن عند حسن الظّنّ به ليبلغ من سعادة الدّارين مرامه.
والوصايا الّتي يعمّ نفعها، ويتعيّن على تناسب الأعمال جمعها، به تسلك سبلها، وعنه تؤخذ تفاصيلها وجملها فليسلك منها الأقوم الأرشد، وليتمسّك بالأقود الأحمد، بحزم وافر، وعزم غير قاصر وليتناول معلومه الشاهد به الديوان المعمور أحيان الوجوب والاستحقاق رزقا دارّا، هنيّا ميسّرا سارّا، من غير تقتير ولا تكدير، ولا تنغيص ولا تأخير.
توقيع بمشيخة المقام الأدهميّ، كتب به باسم الشيخ «عبد الله السطوحيّ» ب «المجلس العالي» وهو:
أما بعد حمد الله الّذي سقى محلنا بإيابه (1)، وأنبت عشبنا بسحابه، وأقرأنا كتاب وجهه وأغنانا عن وجه كتابه، وجعل لكلّ مقام مقالا من صدق
__________
(1) في حديث عكرمة قال: كان طالوت أيّابا. قال الخطابي: جاء تفسيره في الحديث أنه السقّاء.
ولم نعثر في كتب اللغة الّتي بين أيدينا إلا على هذه الإشارة الّتي توضح معنى مناسبا هنا. (انظر اللسان: 1/ 221).(12/479)
أوليائه، ومنحهم بما اختار لهم من سرائر مواهبه وعطائه، وجمع قلوب الفقراء على العبادة والدعاء بواسطة من أحبابه وأخصّاء نجبائه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نجم السّرى، وليث الشرّى، وسيّد من وطيء الثّرى، وعلى آله وصحبه الذين منهم من لو أقسم لأبرّ قسمه ربّ السما، وسلّم تسليما كثيرا فلمّا كان الاعتناء بالأمور الدّينيّة من الواجبات، والمحافظة عليها [مما] (1) تبادر إليه من النّفوس الرّغبات وبيوت الله تعالى فهي قوام الدّين المتين، ولا ينهض بعمارتها إلا الذين اتّقوا وآمنوا بربّ العالمين، فطوبى لهم ونعم أجر العاملين.
ومن البيوت العامرة، والسّراة الطاهرة، والمقامات الّتي إذا حلّ بساحتها أكمه العين بصرته نجوما زاهرة مقام من ذكر كرامته أشأم في أقطار الأرض وأيمن وأنجد وأتهم، السّيّد الجليل وليّ الله «إبراهيم بن أدهم» (2)، سيّد الأولياء، وسلطان الأتقياء، رحمة الله عليه ما سار على الطّريق سائر، وما امتطى ظهر قلوص مسافر، مقام بالزّهد موصوف، وبالبركات معروف، وله الإطلاقات المشهورة، والمناهل المأثورة، في وردها المبرورة، قد استولت عليه يد التّبذير، وعاد بعد طول سماطه في تقصير، واختلف فيه النيّات فكان في كيس الفقير (3)، فكشف الله هذه النّقمة، وأدام سوابغ النّعمة، وأسبل على هذا المقام ظلال الحرمة، وأرسل الله على عباده المتّقين باعثا من عنده، وأيقظهم لعلمه بأن كلّا واقف عند أمره وحدّه، وأنطق لسان من لا رادّ لأمره، فكشف غمّة هذا المقام وعزل من يخاف عليه من سوء تدبيره وشرّه.
فلذلك رسم أن تفوّض مشيخة المقام الجليل الأدهميّ بثغر جبلة المحروس على ساكنه الرحمة والرضوان إلى فلان نفع الله ببركاته، وأعاد
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) راجع ص 384من هذا الجزء، حاشية (2).
(3) لعلّ الصواب «فصار في كيس الغنيّ بعد أن كان في كيس الفقير». وفي هامش الطبعة الأميرية:
«لعلّ الصواب: فكان في كيس الغنيّ بعد أن كان في كيس الفقر».(12/480)
على المسلمين من صالح دعواته عوضا عمن كان بها بحكم انفصاله حسب ما وردت المراسيم الشريفة شرفها الله تعالى وعظمها عند اتّصال العلوم الشريفة زادها الله تعظيما بأمر المقام المشار إليه واعتماد المتصرفين فيه: إذ وضعت الآن الأشياء في محلّها، وأسندت الأمور إلى أهلها، وقلّدت هذه المثوبة إلى من يظهر سرائر فضلها، ولحظت الآراء حجر هذا المقام والأثر، ولا شكّ أنّ السّعادة تلحظ الحجر كم له من آيات مشهورة، وكرامات بلسان الحمد مذكورة، ومساع في الخيرات مبرورة، وقد عمّ الزوايا بأجناس المكارم، وبسط للزّائرين من إكرامه سماطا يقول الزّائر: هذا ولا حاتم:
نزور ديارا زارها جود كفّه ... ومن دونها للزّائرين مراحل،
ونرجع عنها والجفون قريرة: ... كما راجعت مأوى الحقوف المساحل! (1)
فليتلقّ أعاد الله من بركته هذه الولاية، وليجعل للمقام المشار إليه من خاطره الكريم أوفر عناية، ويستخلف عنه إذا توجّه إلى [مشيخة كذا] (2) بحصن الأكراد فإنّها مستمرّة بيده وولايتها باقية عليه، وأمرها في إبدائه وإعادته عليه والله تعالى يتولّاه، فيما ولّاه والاعتماد
قلت: وقد أتيت على جملة من تواقيع أرباب الوظائف: بدمشق وحلب وطرابلس وأعمال كلّ منها، يستغني بها الماهر عمّا سواها، ويقيس عليها ما عداها إذ لا سبيل إلى استيفاء جميعها، والإتيان على جملتها.
وفيما ذكر من هذه الممالك الثلاث تنبيه على ما يكتب بحماة وصفد اللّتين هما في رتبة طرابلس، وتلويح إلى ما عداها، مما هو دونها كغزّة إذا كانت نيابة، والكرك الّتي هي دون ذلك.
__________
(1) المساحل: جمع مسحل وهو الحمار الوحشيّ أو الظبي. والحقف من الرمل: المعوجّ جمعه:
أحقاف وحقوف. والظبي الحاقف: الذي يكون رابضا في حقف من الرمل، أو منطويا كالحقف.
(2) بياض بالأصل. والزيادة من المقام.(12/481)
والله تعالى هو الهادي إلى التوفيق، والمرشد للسّداد، بمنّه وكرمه.
تم الجزء الثاني عشر. يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثالث عشر وأوّله المقالة السادسة (فيما يكتب في المسامحات، والإطلاقات السلطانية، والطّرخانيات وتحويل السنين والتذاكر وفيها أربعة أبواب) والحمد لله رب العالمين، وصلاته على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه والتابعين، وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل.(12/482)
مصادر ومراجع الهوامش للجزء الثاني عشر من صبح الأعشى
11 - القرآن الكريم.
2 - أساس البلاغة للزمخشري دار صادر بيروت.
3 - الأعلاق الخطيرة تأليف ابن شداد.
تحقيق يحيى عبّارة وزارة الثقافة، دمشق.
4 - الأعلام خير الدين الزركلي.
دار العلم للملايين بيروت.
5 - الألقاب الإسلامية في التاريخ والآثار والوثائق تأليف حسن الباشا. مكتبة النهضة المصرية.
6 - الإنتصار لواسطة عقد الأمصار تأليف ابن دقماق.
دار الآفاق الجديدة بيروت.
7 - بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب تأليف محمود شكري الآلوسي.
دار الكتب العلمية بيروت.
8 - تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل تأليف أحمد السعيد سليمان.
دار المعارف مصر.
9 - تاريخ التمدّن الإسلامي تأليف جرجي زيدان. 102التعريفات تأليف علي بن محمد الجرجاني.
دار الكتب العلمية بيروت.
11 - التعريف بمصطلحات صبح الأعشى تأليف محمد قنديل البلقي الهيئة المصرية للكتاب.
12 - تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور تأليف محيي الدين بن عبد الظاهر.
تحقيق مراد كامل ومحمد علي النجار وزارة الثقافة والإرشاد ج. ع. م.
13 - تهذيب الأسماء واللغات للنووي.
دار الكتب العلمية بيروت.
14 - جمهرة أمثال العرب تأليف أبي هلال العسكري.
تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش المؤسسة العربية الحديثة.
15 - جنى الجنتين في تمييز نوعي المثنيين تأليف المحبّي دار الآفاق الجديدة.
16 - الجوهر الثمين في سير الملوك والسلاطين تأليف ابن دقماق.(12/483)
15 - جنى الجنتين في تمييز نوعي المثنيين تأليف المحبّي دار الآفاق الجديدة.
16 - الجوهر الثمين في سير الملوك والسلاطين تأليف ابن دقماق.
تحقيق محمد كمال الدين عز الدين علي عالم الكتب.
17 - حسن التوسل في صناعة الترسّل تأليف شهاب الدين محمود الحلبي.
تحقيق أكرم عثمان يوسف وزارة الثقافة والإعلام العراقية.
18 - الحسبة والمحتسب في الإسلام نصوص جمعها وقدّم لها نقولا زيادة المطبعة الكاثوليكية بيروت.
19 - الحياة العقيلة في عصر الحروب الصليبية بمصر والشام. تأليف أحمد أحمد بدوي دار نهضة مصر للطباعة والنشر.
20 - الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة تأليف علي مبارك الهيئة المصرية للكتاب.
21 - خطط المقريزي.
دار صادر بيروت.
22 - دائرة المعارف الإسلامية مجموعة من المستشرقين الطبعة العربية.
دار الشعب القاهرة.
23 - شذرات الذهب تأليف ابن العماد الحنبلي.
دار إحياء التراث العربي.
24 - شرح أبيات مغني اللبيب تأليف عبد القادر بن عمر البغدادي.
تحقيق عبد العزيز رباح وأحمد يوسف دقاق.
25 - شرح ديوان الحماسة للتبريزي.
منشورات عالم الكتب بيروت. 262صبح الأعشى في صناعة الإنشا القلقشندي الطبعة الأميرية القاهرة.
27 - الضوء اللامع لأهل القرن التاسع تأليف محمد بن عبد الرحمن السخاوي.
دار مكتبة الحياة بيروت.
28 - طبقات الشافعية تأليف هداية الله الحسيني.
تحقيق عادل نويهض.
دار الآفاق الجديدة بيروت.
29 - طبقات الشعراء تأليف ابن قتبية الدينوري.
تحقيق مفيد قميحة.
دار الكتب العلمية بيروت.
30 - العقد الفريد تأليف ابن عبد ربه تحقيق عبد المجيد الترحيني. دار الكتب العلمية بيروت.
31 - فوات الوفيات تأليف محمد شاكر الكتبي.
تحقيق إحسان عباس.
دار صادر بيروت.
32 - القاموس المحيط للفيروزأبادي المؤسسة العربية للطباعة والنشر بيروت.
33 - القلقشندي وكتابه صبح الأعشى مجموعة من الباحثين الهيئة المصرية للكتاب.
34 - قوانين الدواوين تأليف ابن مماتي.
تحقيق عزيز سوريال عطية مطبعة مصر.
35 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون تأليف حاجي خليفة.
دار الفكر بيروت.
361 - الكليات تأليف أبي البقاء الكفوي.(12/484)
دار الفكر بيروت.
361 - الكليات تأليف أبي البقاء الكفوي.
تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري وزارة الثفاقة دمشق.
37 - لسان العرب تأليف ابن منظور.
دار صادر بيروت.
38 - مجمع الأمثال للميداني.
تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد مطبعة السنّة المحمدية.
39 - مراصد الإطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع تأليف عبد المؤمن البغدادي.
تحقيق علي محمد البجاوي.
دار أحياء الكتب العربية.
40 - مسالك الأبصار في ممالك الأمصار.
(قبائل العرب في القرنين السابع والثامن الهجريين). تأليف ابن فضل الله العمري.
تحقيق دوروثيا كرافولسكي.
41 - المستقصى في أمثال العرب للزمخشري.
دار الكتب العلمية بيروت.
42 - معجم البلدان ياقوت الحموي.
دار إحياء التراث العربي بيروت.
43 - معجم الألفاظ والأعلام القرآنية محمد اسماعيل إبراهيم.
دار الفكر العربي.
44 - معجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامي. للمستشرق زامباور مطبعة جامعة فؤاد الأول.
45 - معجم الشعراء المرزباني تصحيح وتعليق: د ف كرنكو.
دار الكتب العلمية بيروت. 462معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس.
تحقيق عبد السلام هارون دار الفكر.
47 - المعجم الوسيط مجمع اللغة العربية القاهرة.
48 - معجم عبد النور تأليف جبور عبد النور.
دار العلم للملايين.
49 - منطلق تاريخ لبنان تأليف كمال سليمان الصليبي منشورات كارافان نيويورك.
50 - الموسوعة العربية الميسرة بإشراف محمد شفيق غربال.
دار الشعب القاهرة.
51 - الموسوعة الفلسطينية هيئة الموسوعة الفلسطينية دمشق.
52 - مقدمة ابن خلدون تأليف عبد الرحمن ابن خلدون.
دار الكتاب اللبناني بيروت.
53 - نزهة النفوس والأبدان في تواريخ الزمان تأليف الخطيب الصيرفي.
تحقيق حسن حبشي.
مطبعة دار الكتب الظاهرة.
54 - النظم الإسلامية تأليف صحبي الصالح.
دار العلم للملايين بيروت.
55 - هدية العارفين إسماعيل باشا البغدادي دار الفكر بيروت.
56 - الوثائق السياسة للعهد النبوي والخلافة الراشدة تأليف محمد حميد الله.
دار النفائس بيروت.
57 - وفيات الأعيان تأليف ابن خلكان.
تحقيق إحسان عباس.
دار الثفافة بيروت.(12/485)
فهرس الجزء الثاني عشر من صبح الأعشى
الموضوع الصفحة القسم الثاني مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية ما يكتب لأرباب الوظائف بالممالك الشامية ونواب السلطنة في التولية على ضربين 3 الضرب الأوّل من لا تصدر عنه منهم تولية في عمل نيابته 3 الضرب الثاني من تصدر عنه التولية والعزل في عمل نيابته وكان في البلاد الشامية سبع ممالك عظام استقرّت سبع نيابات 3 النيابة الأولى نيابة دمشق، ويعبّر عنها بكفالة السلطنة بالشام، ووظائفها على نوعين 5 النوع الأوّل ما هو بحاضرة دمشق، ويشتمل ما يكتب به من وظائفها عن الأبواب السلطانية على أربعة أصناف 6 الصنف الأوّل أرباب السيوف، وهم على طبقات 6 الطبقة الأولى من يكتب له تقليد في قطع الثلثين ب «المقرّ العالي» مع الدعاء ب «عزّ الأنصار» وهو نائب السلطنة بها 6 الطبقة الثانية من يكتب له تقليد شريف في قطع النصف ب «المجلس العالي» وهو الوزير من أرباب السيوف 22 الطبقة الثالثة من يكتب له مرسوم شريف وهي على مرتبتين 23 المرتبة الأولى من يكتب له في قطع النصف، وهو نائب قلعة دمشق 23
المرتبة الثانية من المراسيم الّتي تكتب بحاضرة دمشق لأرباب السيوف، ما يكتب في قطع الثلث، وفيها وظيفتان 31 الوظيفة الأولى شدّ الدواوين بدمشق 31 الوظيفة الثانية شدّ المهمّات 33
الصنف الثاني من الوظائف بدمشق الوظائف الدينية، وجميع ما يكتب فيها تواقيع، وهي على مرتبتين 36 المرتبة الأولى ما يكتب في قطع النصف ب «المجلس العاليّ» بالياء، مفتتحا «بالحمد لله» 36 المرتبة الثانية من تواقيع الوظائف الدينية بدمشق، ما يكتب في قطع الثلث مفتتحا ب «الحمد لله» إن علت رتبة المتولي، أو «أما بعد حمد الله» إن انحطّت رتبته عن ذلك ب «المجلس السامي» وفيها وظائف 57 الوظيفة الأولى قضاء العسكر 57 الوظيفة الثانية إفتاء دار العدل بدمشق 57 الوظيفة الثالثة الحسبة 58 الوظيفة الرابعة وكالة بيت المال المعمور 63 الوظيفة الخامسة الخطابة 69 الوظيفة السادسة التداريس الكبار بدمشق المحروسة 76 الوظيفة السابعة التصادير بدمشق المحروسة 80 الوظيفة الثامنة النّظر 83 الصنف الثالث من تواقيع أرباب الوظائف بحاضرة دمشق تواقيع أرباب الوظائف الديوانية، وفيها مرتبتان 85 المرتبة الأولى ما يكتب في قطع النصف ب «المجلس العالي» وهي على ضربين 85 الضرب الأوّل تواقيع الوزارة بالمملكة الشاميّة على ما استقرّ عليه الحال، وفيه وظائف 85 الوظيفة الأولى ولاية تدبير الممالك الشامية 85 الوظيفة الثانية كتابة السرّ بالشام 85 الوظيفة الثالثة نظر الجيوش بالشام 96 المرتبة الثانية من مراتب أرباب التواقيع الديوانية بدمشق من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء، مفتتحا ب «الحمد لله» إن علت رتبته، وإلّا ب «أما بعد» وتشتمل على وظائف 98
الصنف الرابع من الوظائف بدمشق وظائف المتصوّفة ومشايخ الخوانق، وفيها مرتبتان 100 المرتبة الأولى ما يكتب في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء، مفتتحا ب «الحمد لله» وبذلك يكتب لشيخ الشيوخ بالشام 100 المرتبة الثانية من يكتب له في قطع العادة مفتتحا ب «رسم» 102 النوع الثاني من وظائف دمشق ما هو خارج عن حاضرتها، وقد تقدم في المقالة الثانية أن لدمشق أربع صفقات 103 الصفقة الغربية وهي المعبر عنها بالساحلية والجبلية، وتولّي فيها الأبواب السلطانية 103 الصفقة القبليّة ويولّى بها من الأبواب السلطانية نيابة صرخد 105 الصفقة الشرقية والنيابات فيها على طبقتين 105 الطبقة الأولى ما يكتب به مرسوم شريف في قطع النصف، وهو ما يليه مقدّم ألف أو طبلخاناه، وفيها نيابات 105 النيابة الأولى نيابة حمص 105 النيابة الثانية نيابة الرحبة 109 النيابة الثالثة نيابة مصياف 113 الصفقة الشمالية والّذي يولّى بهذه الصفقة عن الأبواب السلطانية نيابة بعلبكّ فقط 115 الصنف الثاني [لم يتقدم تقسيمه إلى أصناف، ولعلّ مراده أن ما تقدّم من التولية من الصفقات صنف أول وهذا صنف ثان] ممن هم خارج دمشق: ممن يولّى عن الأبواب السلطانية أمراء العربان، وهم على طبقتين 118 الطبقة الأولى من يكتب له منهم تقليد في قطع النصف ب «المجلس العالي» 118 الطبقة الثانية من عرب الشام من يكتب له مرسوم شريف، وهم على مرتبتين 124 المرتبة الأولى من يكتب له في قطع النصف 124
المرتبة الثانية من يكتب له قي قطع الثلث ب «السامي» يغير ياء مفتتحا ب «أما بعد» 136 النيابة الثانية من نيابات البلاد الشامية نيابة حلب، ووظائفها الّتي يكتب بها من الأبواب السلطانية على نوعين 141 النوع الأوّل من بحاضرة حلب، وهم على أصناف 141 الصنف الأوّل أرباب السيوف، وهم على طبقتين 141 الطبقة الأولى من يكتب له تقليد، وهو نائب السلطنة بها، وتقليده في قطع الثلثين ب «الجناب الكريم» 141 الطبقة الثانية من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس السامي» وفيها وظائف 151 الوظيفة الأولى نيابة القلعة بها 151 الوظيفة الثانية شدّ الدواوين بحلب 153 الصنف الثاني من أرباب الوظائف بحلب أرباب الوظائف الدينيّة، وهم على طبقتين 156 الطبقة الأولى من يكتب له في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء 156 الطبقة الثانية من يكتب له في قطع العادة ب «السامي» بغير ياء، أو ب «مجلس القاضي» 160 الصنف الثالث من أرباب الوظائف بحلب أرباب الوظيفة الديوانية، وهم على طبقتين 160 الطبقة الأولى من يكتب له في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء 160 الطبقة الثانية من يكتب له من أهل بالمملكة الحلبيّة في قطع العادة مفتتحا ب «رسم» 167 النوع الثاني من أرباب الوظائف بالمملكة الحلبيد من هو خارج عن حاضرتها، وهم على أصناف 167 الصنف الأوّل أرباب السيوف 167 الصنف الثاني مما هو خارج عن حاضرة حلب، الوظائف الدينية بمعاملتها: من القلاع وغيرها 174
الصنف الثالث مما هو خارج عن حاضرة حلب الوظائف الديوانيّة 174 النيابة الثالثة نيابة طرابلس، ووظائفها على نوعين 176 النوع الأوّل ما هو بحاضرة طرابلس، وهو على ثلاثة أصناف 176 الصنف الأوّل أرباب السيوف، وهم على طبقتين 176 الطبقة الأولى من يكتب له تقليد 176 الطبقة الثانية من يكتب له مرسوم شريف في قطع الثلث ب(12/487)
المرتبة الثانية من المراسيم الّتي تكتب بحاضرة دمشق لأرباب السيوف، ما يكتب في قطع الثلث، وفيها وظيفتان 31 الوظيفة الأولى شدّ الدواوين بدمشق 31 الوظيفة الثانية شدّ المهمّات 33
الصنف الثاني من الوظائف بدمشق الوظائف الدينية، وجميع ما يكتب فيها تواقيع، وهي على مرتبتين 36 المرتبة الأولى ما يكتب في قطع النصف ب «المجلس العاليّ» بالياء، مفتتحا «بالحمد لله» 36 المرتبة الثانية من تواقيع الوظائف الدينية بدمشق، ما يكتب في قطع الثلث مفتتحا ب «الحمد لله» إن علت رتبة المتولي، أو «أما بعد حمد الله» إن انحطّت رتبته عن ذلك ب «المجلس السامي» وفيها وظائف 57 الوظيفة الأولى قضاء العسكر 57 الوظيفة الثانية إفتاء دار العدل بدمشق 57 الوظيفة الثالثة الحسبة 58 الوظيفة الرابعة وكالة بيت المال المعمور 63 الوظيفة الخامسة الخطابة 69 الوظيفة السادسة التداريس الكبار بدمشق المحروسة 76 الوظيفة السابعة التصادير بدمشق المحروسة 80 الوظيفة الثامنة النّظر 83 الصنف الثالث من تواقيع أرباب الوظائف بحاضرة دمشق تواقيع أرباب الوظائف الديوانية، وفيها مرتبتان 85 المرتبة الأولى ما يكتب في قطع النصف ب «المجلس العالي» وهي على ضربين 85 الضرب الأوّل تواقيع الوزارة بالمملكة الشاميّة على ما استقرّ عليه الحال، وفيه وظائف 85 الوظيفة الأولى ولاية تدبير الممالك الشامية 85 الوظيفة الثانية كتابة السرّ بالشام 85 الوظيفة الثالثة نظر الجيوش بالشام 96 المرتبة الثانية من مراتب أرباب التواقيع الديوانية بدمشق من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء، مفتتحا ب «الحمد لله» إن علت رتبته، وإلّا ب «أما بعد» وتشتمل على وظائف 98
الصنف الرابع من الوظائف بدمشق وظائف المتصوّفة ومشايخ الخوانق، وفيها مرتبتان 100 المرتبة الأولى ما يكتب في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء، مفتتحا ب «الحمد لله» وبذلك يكتب لشيخ الشيوخ بالشام 100 المرتبة الثانية من يكتب له في قطع العادة مفتتحا ب «رسم» 102 النوع الثاني من وظائف دمشق ما هو خارج عن حاضرتها، وقد تقدم في المقالة الثانية أن لدمشق أربع صفقات 103 الصفقة الغربية وهي المعبر عنها بالساحلية والجبلية، وتولّي فيها الأبواب السلطانية 103 الصفقة القبليّة ويولّى بها من الأبواب السلطانية نيابة صرخد 105 الصفقة الشرقية والنيابات فيها على طبقتين 105 الطبقة الأولى ما يكتب به مرسوم شريف في قطع النصف، وهو ما يليه مقدّم ألف أو طبلخاناه، وفيها نيابات 105 النيابة الأولى نيابة حمص 105 النيابة الثانية نيابة الرحبة 109 النيابة الثالثة نيابة مصياف 113 الصفقة الشمالية والّذي يولّى بهذه الصفقة عن الأبواب السلطانية نيابة بعلبكّ فقط 115 الصنف الثاني [لم يتقدم تقسيمه إلى أصناف، ولعلّ مراده أن ما تقدّم من التولية من الصفقات صنف أول وهذا صنف ثان] ممن هم خارج دمشق: ممن يولّى عن الأبواب السلطانية أمراء العربان، وهم على طبقتين 118 الطبقة الأولى من يكتب له منهم تقليد في قطع النصف ب «المجلس العالي» 118 الطبقة الثانية من عرب الشام من يكتب له مرسوم شريف، وهم على مرتبتين 124 المرتبة الأولى من يكتب له في قطع النصف 124
المرتبة الثانية من يكتب له قي قطع الثلث ب «السامي» يغير ياء مفتتحا ب «أما بعد» 136 النيابة الثانية من نيابات البلاد الشامية نيابة حلب، ووظائفها الّتي يكتب بها من الأبواب السلطانية على نوعين 141 النوع الأوّل من بحاضرة حلب، وهم على أصناف 141 الصنف الأوّل أرباب السيوف، وهم على طبقتين 141 الطبقة الأولى من يكتب له تقليد، وهو نائب السلطنة بها، وتقليده في قطع الثلثين ب «الجناب الكريم» 141 الطبقة الثانية من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس السامي» وفيها وظائف 151 الوظيفة الأولى نيابة القلعة بها 151 الوظيفة الثانية شدّ الدواوين بحلب 153 الصنف الثاني من أرباب الوظائف بحلب أرباب الوظائف الدينيّة، وهم على طبقتين 156 الطبقة الأولى من يكتب له في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء 156 الطبقة الثانية من يكتب له في قطع العادة ب «السامي» بغير ياء، أو ب «مجلس القاضي» 160 الصنف الثالث من أرباب الوظائف بحلب أرباب الوظيفة الديوانية، وهم على طبقتين 160 الطبقة الأولى من يكتب له في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء 160 الطبقة الثانية من يكتب له من أهل بالمملكة الحلبيّة في قطع العادة مفتتحا ب «رسم» 167 النوع الثاني من أرباب الوظائف بالمملكة الحلبيد من هو خارج عن حاضرتها، وهم على أصناف 167 الصنف الأوّل أرباب السيوف 167 الصنف الثاني مما هو خارج عن حاضرة حلب، الوظائف الدينية بمعاملتها: من القلاع وغيرها 174
الصنف الثالث مما هو خارج عن حاضرة حلب الوظائف الديوانيّة 174 النيابة الثالثة نيابة طرابلس، ووظائفها على نوعين 176 النوع الأوّل ما هو بحاضرة طرابلس، وهو على ثلاثة أصناف 176 الصنف الأوّل أرباب السيوف، وهم على طبقتين 176 الطبقة الأولى من يكتب له تقليد 176 الطبقة الثانية من يكتب له مرسوم شريف في قطع الثلث ب(12/488)
المرتبة الثانية من المراسيم الّتي تكتب بحاضرة دمشق لأرباب السيوف، ما يكتب في قطع الثلث، وفيها وظيفتان 31 الوظيفة الأولى شدّ الدواوين بدمشق 31 الوظيفة الثانية شدّ المهمّات 33
الصنف الثاني من الوظائف بدمشق الوظائف الدينية، وجميع ما يكتب فيها تواقيع، وهي على مرتبتين 36 المرتبة الأولى ما يكتب في قطع النصف ب «المجلس العاليّ» بالياء، مفتتحا «بالحمد لله» 36 المرتبة الثانية من تواقيع الوظائف الدينية بدمشق، ما يكتب في قطع الثلث مفتتحا ب «الحمد لله» إن علت رتبة المتولي، أو «أما بعد حمد الله» إن انحطّت رتبته عن ذلك ب «المجلس السامي» وفيها وظائف 57 الوظيفة الأولى قضاء العسكر 57 الوظيفة الثانية إفتاء دار العدل بدمشق 57 الوظيفة الثالثة الحسبة 58 الوظيفة الرابعة وكالة بيت المال المعمور 63 الوظيفة الخامسة الخطابة 69 الوظيفة السادسة التداريس الكبار بدمشق المحروسة 76 الوظيفة السابعة التصادير بدمشق المحروسة 80 الوظيفة الثامنة النّظر 83 الصنف الثالث من تواقيع أرباب الوظائف بحاضرة دمشق تواقيع أرباب الوظائف الديوانية، وفيها مرتبتان 85 المرتبة الأولى ما يكتب في قطع النصف ب «المجلس العالي» وهي على ضربين 85 الضرب الأوّل تواقيع الوزارة بالمملكة الشاميّة على ما استقرّ عليه الحال، وفيه وظائف 85 الوظيفة الأولى ولاية تدبير الممالك الشامية 85 الوظيفة الثانية كتابة السرّ بالشام 85 الوظيفة الثالثة نظر الجيوش بالشام 96 المرتبة الثانية من مراتب أرباب التواقيع الديوانية بدمشق من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء، مفتتحا ب «الحمد لله» إن علت رتبته، وإلّا ب «أما بعد» وتشتمل على وظائف 98
الصنف الرابع من الوظائف بدمشق وظائف المتصوّفة ومشايخ الخوانق، وفيها مرتبتان 100 المرتبة الأولى ما يكتب في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء، مفتتحا ب «الحمد لله» وبذلك يكتب لشيخ الشيوخ بالشام 100 المرتبة الثانية من يكتب له في قطع العادة مفتتحا ب «رسم» 102 النوع الثاني من وظائف دمشق ما هو خارج عن حاضرتها، وقد تقدم في المقالة الثانية أن لدمشق أربع صفقات 103 الصفقة الغربية وهي المعبر عنها بالساحلية والجبلية، وتولّي فيها الأبواب السلطانية 103 الصفقة القبليّة ويولّى بها من الأبواب السلطانية نيابة صرخد 105 الصفقة الشرقية والنيابات فيها على طبقتين 105 الطبقة الأولى ما يكتب به مرسوم شريف في قطع النصف، وهو ما يليه مقدّم ألف أو طبلخاناه، وفيها نيابات 105 النيابة الأولى نيابة حمص 105 النيابة الثانية نيابة الرحبة 109 النيابة الثالثة نيابة مصياف 113 الصفقة الشمالية والّذي يولّى بهذه الصفقة عن الأبواب السلطانية نيابة بعلبكّ فقط 115 الصنف الثاني [لم يتقدم تقسيمه إلى أصناف، ولعلّ مراده أن ما تقدّم من التولية من الصفقات صنف أول وهذا صنف ثان] ممن هم خارج دمشق: ممن يولّى عن الأبواب السلطانية أمراء العربان، وهم على طبقتين 118 الطبقة الأولى من يكتب له منهم تقليد في قطع النصف ب «المجلس العالي» 118 الطبقة الثانية من عرب الشام من يكتب له مرسوم شريف، وهم على مرتبتين 124 المرتبة الأولى من يكتب له في قطع النصف 124
المرتبة الثانية من يكتب له قي قطع الثلث ب «السامي» يغير ياء مفتتحا ب «أما بعد» 136 النيابة الثانية من نيابات البلاد الشامية نيابة حلب، ووظائفها الّتي يكتب بها من الأبواب السلطانية على نوعين 141 النوع الأوّل من بحاضرة حلب، وهم على أصناف 141 الصنف الأوّل أرباب السيوف، وهم على طبقتين 141 الطبقة الأولى من يكتب له تقليد، وهو نائب السلطنة بها، وتقليده في قطع الثلثين ب «الجناب الكريم» 141 الطبقة الثانية من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس السامي» وفيها وظائف 151 الوظيفة الأولى نيابة القلعة بها 151 الوظيفة الثانية شدّ الدواوين بحلب 153 الصنف الثاني من أرباب الوظائف بحلب أرباب الوظائف الدينيّة، وهم على طبقتين 156 الطبقة الأولى من يكتب له في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء 156 الطبقة الثانية من يكتب له في قطع العادة ب «السامي» بغير ياء، أو ب «مجلس القاضي» 160 الصنف الثالث من أرباب الوظائف بحلب أرباب الوظيفة الديوانية، وهم على طبقتين 160 الطبقة الأولى من يكتب له في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء 160 الطبقة الثانية من يكتب له من أهل بالمملكة الحلبيّة في قطع العادة مفتتحا ب «رسم» 167 النوع الثاني من أرباب الوظائف بالمملكة الحلبيد من هو خارج عن حاضرتها، وهم على أصناف 167 الصنف الأوّل أرباب السيوف 167 الصنف الثاني مما هو خارج عن حاضرة حلب، الوظائف الدينية بمعاملتها: من القلاع وغيرها 174
الصنف الثالث مما هو خارج عن حاضرة حلب الوظائف الديوانيّة 174 النيابة الثالثة نيابة طرابلس، ووظائفها على نوعين 176 النوع الأوّل ما هو بحاضرة طرابلس، وهو على ثلاثة أصناف 176 الصنف الأوّل أرباب السيوف، وهم على طبقتين 176 الطبقة الأولى من يكتب له تقليد 176 الطبقة الثانية من يكتب له مرسوم شريف في قطع الثلث ب(12/489)