قبضات سوى النّصول، فإنها أبلغ في الغاية، وأنفذ في الدّروع، وأشكّ في الحديد، سامطين حقائبهم على متون خيولهم، مستخفّين من الآلة والأمتعة والزاد [إلا ما لا غناء بهم عنه] (1).
واحذر أن تكل مباشرة عرضهم وانتخابهم إلى أحد من أعوانك وكتّابك، فإنّك إن وكلته إليهم أضعت مواضع الحزم، وفرّطت حيث الرأي، ووقفت دون عزم الرّويّة، ودخل عملك ضياع الوهن، وخلص إليك عيب المحاباة، وناله فساد المداهنة، وغلب عليه من لا يصلح أن يكون طليعة للمسلمين ولا عدّة ولا حصنا يدّرئون به، ويكتهفون بموضعه. والطلائع حصون المسلمين وعيونهم، وهم أوّل مكيدتك، وعروة أمرك، فليكن اعتناؤك بهم، وانتقاؤك إيّاهم بحيث هم من مهمّ عملك، ومكيدة حربك، ثم انتخب للولاية عليهم رجلا بعيد الصوت (2)، مشهور الاسم، ظاهر الفضل، نبيه الذّكر، له في العدوّ وقعات معروفات، وأيام طوال وصولات متقدّمات، قد عرفت نكايته، وحذرت شوكته، وهيب صوته، وتنكّب لقاؤه، أمين السّريرة، ناصح الجيب (3) قد بلوت منه ما يسكّنك إلى ناحيته: من لين الطاعة، وخالص المودّة، وركانة (4) الصّرامة، وغلوب الشّهامة، واستجماع القوّة، وحصافة التدبير، ثم تقدّم إليه في حسن سياستهم، واستنزال طاعتهم، واجتلاب مودّاتهم واستعذاب ضمائرهم، وأجر عليهم وعليه أرزاقا تسعهم، وتمدّ من أطماعهم، سوى أرزاقهم في العامّة، فإنّ ذلك من القوّة لك عليهم، والاستنامة إلى ما قبلهم.
واعلم أنهم في أهمّ الأماكن لك، وأعظمها غناء عنك وعمّن معك وأقمعها كبتا لمحادّك وأشجاها غيظا لعدوّك ومن يكن في الثّقة، والجلد، والبأس،
__________
(1) الزيادة عن مفتاح الأفكار.
(2) الصوت والصيت والصات: الذكر الحسن.
(3) أي أمين.
(4) في مفتاح الأفكار «ونكاية الصرامة». والمعنى: يركن إليه في الشدّة.(10/227)
والطاعة، والقوّة، والنصيحة والعدّة، والنّجدة حيث وصف لك أمير المؤمنين وأمرك به، يضع عنك مؤونة الهم، ويرخ من خناقك روع الخوف، وتلتجيء إلى أمر منيع، وظهر قويّ، ورأي حازم، تأمن به فجآت عدوّك، وغرّات بغتاتهم، وطوارق أحداثهم، ويصير إليك علم أحوالهم، ومتقدّمات خيولهم، فانتخبهم رأي عين، وقوّهم بما يصلحهم من المنالات والأطماع والأرزاق، واجعلهم منك بالمنزل الذي هم به من محارز علاقتك، وحصانة كهوفتك، وقوّة سيّارة عسكرك. وإيّاك أن تدخل فيهم أحدا بشفاعة، أو تحتمله على هوادة، أو تقدّمه لأثرة، أو أن يكون مع أحد منهم بغل نفل (1)، أو فضل من الظّهر، أو ثقل (2) فادح، فتشتدّ عليهم مؤونة أنفسهم، ويدخلهم كلال السآمة فيما يعالجون من أثقالهم، ويشتغلون به عن عدوّهم إن دهمهم منه رائع، أو فجأهم منه طليعة، فتفقّد ذلك محكما له، وتقدّم فيه آخذا بالحزم في إمضائه، أرشدك الله لإصابة الحظّ، ووفّقك ليمن التدبير، وقصد بك لأسهل الرأي وأعوده نفعا في العاجل والآجل، وأكبته لعدوّك وأشجاه لهم، وأردعه لعاديتهم.
ولّ درّاجة عسكرك وإخراج أهله إلى مصافّهم ومراكزهم رجلا من أهل بيوتات الشّرف، محمود الخبرة، معروفا بالنّجدة، ذا سنّ وتجربة، ليّن الطاعة، قديم النّصيحة، مأمون السّريرة، له بصيرة بالحق نافذة تقدّمه، ونيّة صادقة عن الإدهان (3) تحجزه، واضمم إليه عدّة نفر من ثقات جندك وذوي أسنانهم يكونون شرطة معه ثم تقدّم إليه في إخراج المصافّ، وإقامة الأحراس، وإذكاء العيون، وحفظ الأطراف، وشدّة الحذر، ومره فليضع القوّاد بأنفسهم مع أصحابهم في مصافّهم، كلّ قائد بإزاء مكانه، وحيث منزله، قد سدّ ما بينه وبين صاحبه بالرّماح
__________
(1) النفل والنافلة: الزيادة.
(2) الثقل: متاع السفر.
(3) الإدهان: الغش وإظهار خلاف ما يضمر.(10/228)
شارعة، والتّرسة موضونة (1)، والرجال راصدة، ذاكية الأحراس، وجلة الرّوع، خائفة طوارق العدوّ وبياته، ثم مره فليخرج كلّ ليلة قائدا في أصحابه أو عدّة منهم إن كانوا كثيرا، على غلوة (2) أو اثنتين من عسكرك، منتبذا عنك محيطا بمنزلك، ذاكية أحراسه، قلقة التردّد، مفرطة الحذر، معدّة للرّوع، متأهّبة للقتال، آخذة على أطراف المعسكر ونواحيه، متفرّقين في اختلافهم كردوسا كردوسا (3) يستقبل بعضهم بعضا [في الاختلاف] (4) ويكسع (5) تال متقدّما في التردّد، واجعل ذلك بين قوّادك وأهل عسكرك نوبا معروفة، وحصصا مفروضة، لا تعر (6) منها مزدلفا منك بمودّة، ولا تتحامل فيه على أحد بموجدة، إن شاء الله تعالى.
فوّض إلى أمراء أجنادك وقوّاد خيلك أمور أصحابهم، والأخذ على قافية أيديهم، رياضة منك لهم على السّمع والطاعة لأمرائهم، والاتّباع لأمرهم، والوقوف عند نهيهم، وتقدّم إلى أمراء الأجناد في النوائب التي ألزمتهم إيّاها، والأعمال التي استنجدتهم لها، والأسلحة والكراع التي كتبتها عليهم، واحذر اعتلال أحد من قوّادك عليك بما يحول بينك وبين تأديب جندك، وتقويمهم لطاعتك، وقمعهم عن الإخلال بمراكزهم لشيء مما وكلوا به من أعمالهم فإنّ ذلك مفسدة للجند، مفثأة (7) للقوّاد عن الجدّ والإيثار للمناصحة، والتقدّم في الاحكام.
واعلم أنّ في استخفافهم بقوّادهم وتضييعهم أمر رؤسائهم دخولا للضياع
__________
(1) وضمن الشيء (كوعد) فهو موضون ووضين: ثنى بعضه على بعض وضاعفه ونضده.
(2) الغلوة: رمية سهم أبعد ما يقدر عليه قيل هي ثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة.
(3) الكردوس: القطعة العظيمة من الخيل: وكردس القائد خيله: جعلها كتيبة كتيبة.
(4) الزيادة عن مفتاح الأفكار.
(5) كسعه: ضرب دبره بيده أو بصدر قدمه.
(6) أي لا تخل.
(7) مفثأة: مفعلة من فثأه إذا سكنه وكسره. وفثأ القدر: سكن غليانها. وفي المنظوم والمنثور: «فإن ذلك مفسدة للجند، معي للقواد عن الجد والمناصحة، ومعي: معجز.(10/229)
على أعمالك، واستخفافا بأمرك الذي يأتمرون به ورأيك الذي ترتئي وأوعز إلى القوّاد أن لا يقدم أحد منهم على عقوبة أحد من أصحابه، إلا عقوبة تأديب في تقويم ميل، وتثقيف أود فأما عقوبة تبلغ تلف المهجة وإقامة حدّ في قطع، أو إفراط في ضرب أو أخذ مال، أو عقوبة في شعر (1) فلا يلينّ ذلك من جندك أحد غيرك، أو صاحب شرطتك بأمرك وعن رأيك وإذنك، ومتى لم تذلّل الجند لقوّادهم، وتضرعهم لأمرائهم، توجب لهم عليك الحجة بتضييع إن كان منهم لأمرك، أو خلل إن تهاونوا به من عملك، أو عجز إن فرط منهم في شيء مما وكّلتهم به أو أسندته إليهم، ولا تجد إلى الإقدام عليهم باللّوم وعضّ العقوبة عليهم مجازا تصل به إلى تعنيفهم، بتفريطك في تذليل أصحابهم لهم، وإفسادك إيّاهم عليك وعليهم فانظر في ذلك نظرا محكما، وتقدّم فيه برفقك تقدّما بليغا وإيّاك أن يدخل حزمك وهن، أو يشوب عزمك إيثار، أو يخلط رأيك ضياع، والله يستودع أمير المؤمنين نفسك ودينك.
إذا كنت من عدوّك على مسافة دانية وسنن لقاء مختصر، وكان من عسكرك مقتربا قد شامت (2) طلائعك مقدّمات ضلالته، وحماة فتنته، فتأهّب أهبة المناجز، وخذ اعتداد الحذر (3)، وكتّب خيولك، وعبّ جندك، وإيّاك والمسير إلا في مقدّمة وميمنة وميسرة وساقة، قد شهروا الأسلحة، ونشروا البنود والأعلام وعرّف جندك مراكزهم سائرين تحت ألويتهم، قد أخذوا أهبة القتال، واستعدّوا للّقاء، ملتجئين إلى مواقفهم، عارفين بمواضعهم في مسيرهم ومعسكرهم، وليكن ترحّلهم وتنزّلهم على راياتهم وأعلامهم وفي مراكزهم، قد عرّف كلّ قائد منهم أصحابه مواقفهم: من الميمنة والميسرة والقلب والساقة والطّليعة، لا زمين لها، غير مخلّين بما استنجدوا له، ولا متهاونين بما أهيب بهم إليه حتّى تكون عساكرك في منهل
__________
(1) أي جلد على شعر الجسد.
(2) شامت: نظرت وأصله من شام البرق: إذا نظر إليه اين يقصد وأين يمطر.
(3) في مفتاح الأفكار «وأعدّ اعداد الحذر».(10/230)
تصل إليه ومسافة تختارها (1) كأنها عسكر واحد في اجتماعها على العدوّ، وأخذها بالحزم، ومسيرها على راياتها، ونزولها في مراكزها، ومعرفتها بمواضعها، إن ضلّت دابة من موضعها، عرف أهل العسكر من أيّ المراكز هي، ومن صاحبها، وفي أيّ المحلّ حلوله منها فردّت إليه، هداية معروفة بسمت صاحب قيادتها، فإنّ تقدّمك في ذلك وإحكامك له طارح عن جندك مؤونة الطّلب، وعناية المعرفة، وابتغاء الضّالّة.
ثم اجعل على ساقتك أوثق أهل عسكرك في نفسك صرامة ونفاذا ورضا في العامّة، وإنصافا من نفسه للرعيّة وأخذا بالحق في المعدلة، مستشعرا تقوى الله وطاعته، آخذا بهديك وأدبك واقفا عند أمرك ونهيك معتزما على مناصحتك وتزيينك نظيرا لك في الحال، وشبيها بك في الشّرف، وعديلا في الموضع، ومقاربا في النسب (2) ثم أكثف معه الجمع، وأيّده بالقوّة، وقوّه بالظّهر، وأعنه بالأموال، واعمده (3) بالسلاح، ومره بالتعطّف على ذوي الضّعف من جندك ومن أزحفت (4) به دابّته وأصابته نكبة: من مرض أو رجلة (5) أو آفة، من غير أن يأذن لأحد منهم في التنحّي عن عسكره، أو التخلّف بعد ترحّله، إلا لمجهود سقما، أو لمطروق بآفة جائحة. ثم تقدّم إليه محذّرا، ومره زاجرا، وانهه مغلظا في الشدّة على من مرّ به منصرفا عن معسكرك من جندك بغير جوازك، شادّا لهم أسرا، وموقرهم (6) حديدا، ومعاقبهم موجعا، وموجّههم إليك فتنهكهم عقوبة، وتجعلهم لغيرهم من جندك عظة.
__________
(1) كذا أيضا في المنظوم والمنثور، وفي مفتاح الأفكار: «ومفازة تجتازها» وفي جمهرة رسائل العرب:
«ومسافة تجتازها» ولعله الأوضح.
(2) في مفتاح الأفكار «في الصيت» وهي أنسب.
(3) أي قوّة بالسلاح.
(4) أي أعيت.
(5) رجل الرجل (كفرح) فهو راجل ورجلان: إذا لم يكن له ظهر يركبه.
(6) أوقره: أثقله.(10/231)
واعلم أنه إن لم يكن بذلك الموضع من تسكن إليه واثقا بنصيحته قد بلوت منه أمانة تسكّنك إليه، وصرامة تؤمّنك مهانته، ونفاذا في أمرك يرخي عنك خناق الخوف في إضاعته، لم يأمن أمير المؤمنين تسلّل الجند عنك لواذا (1)، ورفضهم مراكزهم، وإخلالهم بمواضعهم وتخلّفهم عن أعمالهم، آمنين تغيير ذلك عليهم، والشدّة على من اجترمه منهم، فأوشك ذلك في وهنك، وخذل من قوّتك، وقلّل من كثرتك.
اجعل خلف ساقتك رجلا من وجوه قوّادك، جليدا ماضيا، عفيفا، صارما، شهم الرأي، شديد الحذر، شكيم القوّة، غير مداهن في عقوبة، ولا مهين في قوّة، في خمسين فارسا يحشر إليك جندك، ويلحق بك من تخلّف عنك بعد الإبلاغ في عقوبتهم والنّهك لهم والتنكيل بهم. وليكن بعقوتك (2) في المنزل الذي ترحل عنه، والمنهل الذي تتقوّض منه، مفرطا في النفض له، والتتبّع لمن تخلّف عنك به، مشتدّا في أهل المنزل وساكنه بالتقدّم، موعزا إليهم في إزعاج الجند عن منازلهم، وإخراجهم عن مكامنهم، وإيعاد العقوبة الموجعة والنّكال المبسل (3) في الأشعار والأبشار، واستصفاء الأموال وهدم العقار لمن آوى منهم أحدا أو ستر موضعه، أو أخفى محلّه، وحذّره عقوبتك إيّاه في الترخيص لأحد، والمحاباة لذي قرابة، والاختصاص بذلك لذي أثرة وهوادة، ولتكن فرسانه منتخبين في القوّة، معروفين بالنّجدة، عليهم سوابغ الدّروع دونها شعار الحشو وجبب الاستجنان، متقلدين سيوفهم، سامطين كنائنهم، مستعدّين لهيج إن بدههم [أو كمين إن يظهر لهم] (4) وإيّاك أن تقبل منهم في دوابّهم إلا فرسا قويّا أو برذونا وثيجا (5): فإن ذلك
__________
(1) بأن يستتر بعضهم ببعض حتى يخرج، أو يلوذ بأحد فينطلق معه كأنه تابعه. وهو منصوب على الحال مصدر بمعنى اسم الفاعل.
(2) العقوة: الساحة وما حول الدار والمحلة.
(3) أبسله: أسلمه للتهلكة.
(4) الزيادة عن مفتاح الأفكار.
(5) البراذين من الخيل: ما كان من غير نتاج العرب. والوثيج: المكتنز.(10/232)
من أقوى القوّة لهم، وأعون الظّهريّ (1) على عدوّهم، إن شاء الله.
ليكن رحيلك إبّانا واحدا (2)، ووقتا معلوما: لتخفّ المؤونة بذلك على جندك، ويعلموا أوان رحيلهم، فيقدّموا فيما يريدون من معالجة أطعمتهم، وأعلاف دوابّهم، وتسكن قلوبهم إلى الوقت الذي وقفوا عليه، ويطمئنّ ذو والرأي إلى إبّان الرحيل، ومتى يكن رحيلك مختلفا، تعظم المؤونة عليك وعلى جندك [ويخلّوا بمراكزهم] (3) ولا يزال ذو والسّفه [والنّزق] (4) يترحّلون بالإرجاف (5)
وينزلون بالتوهّم، حتى لا ينتفع ذو رأي بنوم ولا طمأنينة.
إيّاك أن تظهر استقلالا، أو تنادي برحيل من منزل تكون فيه، حتّى تأمر صاحب تعبئتك بالوقوف بأصحابه على معسكرك، آخذا بجنبتي فوهته (6)، بأسلحتهم عدّة لأمر إن حضر، أو مفاجأة من طليعة للعدوّ إن رأت منكم نهزة، أو لمحت عندكم غرّة، ثم مر الناس بالرّحيل وخيلك واقفة، وأهبتك معدّة، وجنّتك واقية، حتّى إذا استقللتم (7) من معسكركم، وتوجّهتم من منزلكم، سرتم على تعبئتكم بسكون ريح، وهدوّ حملة، وحسن دعة. فإذا انتهيت إلى منهل أردت نزوله أو هممت بالمعسكر به، فإيّاك ونزوله إلا بعد العلم بأهله، والمعرفة بمرافقه ومر صاحب طليعتك أن يعرف لك أحواله، ويستثير لك علم دفينه، ويستبطن علم أموره ثم ينهيها إليك على ما صارت إليه: لتعلم كيف احتماله لعسكرك، وكيف ماؤه وأعلافه وموضع معسكرك منه، وهل لك إن أردت مقاما به، أو مطاولة عدوّك أو مكايدته فيه قوّة تحملك ومدد يأتيه: فإنّك إن لم تفعل ذلك، لم تأمن أن تهجم على منزل يعجزك ويزعجك عنه ضيق مكانه، وقلّة
__________
(1) في مفتاح الأفكار «الظهير».
(2) أي وقتا واحدا.
(3) الزيادة عن مفتاح الأفكار والمنظوم والمنثور.
(4) الزيادة عن مفتاح الأفكار والمنظوم والمنثور.
(5) الأخبار السيئة والأقوال الكاذبة.
(6) في مفتاح الأفكار «آخذا بفوّهة جنبتيه».
(7) أي ارتحلتم.(10/233)
مياهه، وانقطاع موادّه، إن أردت بعدوّك مكيدة، أو احتجت من أمورهم إلى مطاولة، فإن ارتحلت منه كنت غرضا لعدوّك، ولم تجد إلى المحاربة والاخطار سبيلا، وإن أقمت به أقمت على مشقّة وحصر وفي أزل وضيق، فاعرف ذلك وتقدّم فيه. فإن أردت نزولا أمرت صاحب الخيل التي وكّلت بالناس فوقفت خيله متنحّية من معسكرك، عدّة لأمر إن غالك، ومفزعا لبديهة إن راعتك، فقد أمنت بحمد الله وقوّته فجأة عدوّك، وعرفت موقعها من حرزك (1)، حتّى يأخذ الناس منازلهم، وتوضع الأثقال مواضعها، ويأتيك خبر طلائعك، وتخرج دبّابتك (2) من معسكرك درّاجة ودبّابا محيطين بعسكرك، وعدّة إن احتجت إليها. ولتكن دبّابات جندك أهل جلد وقوّة، قائدا أو اثنين أو ثلاثة بأصحابهم، في كلّ ليلة ويوم نوبا بينهم، فإذا غربت الشمس ووجب (3) نورها، أخرج إليهم صاحب تعبئتك أبدالهم، عسسا بالليل في أقرب من مواضع دبّابي النهار، يتعاور ذلك قوّادك جميعا بلا محاباة لأحد فيه ولا إدهان [إن شاء الله] (4).
إيّاك وأن يكون منزلك إلا في خندق وحصن تأمن به بيات عدوّك وتستنيم فيه إلى الحزم من مكيدتك إذا وضعت الأثقال وحطّت أبنية أهل العسكر، لم يمدد طنب (5)، ولم يرفع خباء، ولم ينصب بناء حتى تقطع لكلّ قائد ذرعا معلوما من الأرض بقدر أصحابه، فيحفروه عليهم خندقا يطيفونه بعد ذلك بخنادق الحسك (6)، طارحين لها دون اشتجار الرّماح، ونصب التّرسة، لها بابان قد وكّلت
__________
(1) في المنظوم والمنثور «من حربك».
(2) المراد بالدبابة هنا الجماعة التي تدب حول الجيش لحراسته. وقد تقدم في هذه الرسالة نظيرها وهي سيارة من سار، ودراجة من درج. وليس المراد بها الآلة المعروفة.
(3) غاب.
(4) الزيادة عن مفتاح الأفكار.
(5) الطنب: حبل طويل يشد به سرادق البيت.
(6) الحسك: نبات له شوك صلب. ويعمل من الحديد أداة للحرب على مثال شوكة فيلقى حول المعسكر ويسمى باسمه (وهذا. هو المراد هنا) أي الأسلاك الشائكة.(10/234)
بحفظ كل باب منهما رجلا من قوّادك، في مائة رجل من أصحابه، فإذا فرغ من الخندق كان ذانك الرجلان القائدان بمن معهما من أصحابهما أهل ذلك المركز، وموضع تلك الخيل، وكانوا البوّابين والأحراس لذينك الموضعين، قد كفوهما وضبطوهما وأعفوا من أعمال العسكر ومكروهه غيرهما.
واعلم أنك إذا كنت في خندق، أمنت بإذن الله وقوّته طوارق عدوّك وبغتاتهم، فإن راموا تلك منك، كنت قد أحكمت ذلك وأخذت بالحزم فيه، وتقدّمت في الإعداد له، ورتقت مخوف الفتق منه وإن تكن العافية استحقّيت حمد الله عليها، وارتبطت شكره بها، ولم يضررك أخذك بالحزم: لأن كل كلفة ونصب ومؤونة إنفاق ومشقّة عمل مع السلامة غنم وغير خطر بالعاقبة، إن شاء الله. فإن ابتليت ببيات عدوّك أو طرقك رائعا في ليلك، فليلفك حذرا مشمّرا عن ساقك، حاسرا عن ذراعك، متشزّنا لحربك، قد تقدّمت درّاجتك إلى مواضعها على ما وصفه لك أمير المؤمنين، ودبّابتك في أوقاتها التي قدّر لك، وطلائعك حيث أمرك، وجندك على ما عبّأ لك قد خطرت عليهم بنفسك، وتقدّمت إلى جندك إن طرقهم طارق، أو فاجأهم عدوّ، أن لا يتكلّم منهم أحد رافعا صوته بالتكبير مغرقا في الإجلاب، معلنا بالإرهاب لأهل الناحية التي يقع بها العدوّ طارقا، وليشرعوا رماحهم ناشبين بها (1) في وجوههم، ويرشقونهم بالنبل مكتنّين (2) بأترستهم، لازمين لمراكزهم، غير مزيلي قدم عن موضعها، ولا متجاوزين إلى غير مركزهم وليكبّروا ثلاث تكبيرات متواليات وسائر الجند هادون، لتعرف موضع عدوّك من معسكرك، فتمدّ أهل تلك الناحية بالرجال من أعوانك وشرطتك ومن انتخبت قبل ذلك عدّة للشدائد بحضرتك وتدسّ إليهم النّشّاب والرّماح.
__________
(1) في مفتاح الأفكار «مادّين لها».
(2) في مفتاح الأفكار «ملبدين ترستهم» وفي هامش الطبعة الأميرية: «قال ابن السكّيت لا يقال أترسة على وزن أرغفة وإنما جمع الترس ترسة وتروس وتراس وربما قيل أتراس».(10/235)
وإيّاك وأن يشهروا سيفا يتجالدون به. وتقدّم إليهم أن لا يكون قتالهم في تلك المواضع لمن طرقهم إلا بالرّماح مسندين لها إلى صدورهم، والنّشّاب راشقين به وجوههم، قد ألبدوا (1) بالأترسة، واستجنّوا بالبيض، وألقوا عليهم سوابغ الدّروع وجباب الحشو، فإن صدّ العدوّ عنهم حاملين على جهة [أخرى، كبّر] (2) أهل تلك الناحية التي يقع فيها كفعل الناحية الأولى، وبقيّة العسكر سكوت والناحية التي صدّ عنها العدوّ لازمة مراكزهم منتطقة الهدوّ ساكنة الرّيح، ثم عملت في تقويتهم وإمدادهم بمثل صنيعك بإخوانهم.
وإياك أن تخمد نار رواقك [وإذا وقع العدوّ في معسكرك فأجّجها ساعرا لها وأوقدها حطبا جزلا يعرف به أهل العسكر مكانك وموضع رواقك] (3) فيسكن نافر قلوبهم، ويقوى واهي قوّتهم، ويشتدّ منخذل ظهورهم، ولا يرجمون بك الظّنون، ويجعلون لك آراء السّوء، ويرجفون بك آناء الخوف، وذلك من فعلك رادّ عدوّك بغيظه لم يستفلل منك ظفرا، ولم يبلغ من نكايتك سرورا. وإن انصرف عنك عدوّك ونكل عن الإصابة من جندك وكانت بخيلك قوّة على طلبه أو كانت لك من فرسانك خيل معدّة وكتيبة منتخبة، [و] (4) قدرت على أن تركب بهم أكساءهم (5)، وتحملهم على سننهم، فأتبعهم جريدة (6) خيل عليها الثّقات من فرسانك، وأولو النّجدة من حماتك، فإنك ترهق عدوّك وقد أمن من بياتك، وشغل بكلاله عن التحرّز منك والأخذ بأبواب معسكره، والضّبط لمحارسه عليك، موهنة حماتهم لغبة (7) أبطالهم: لما ألفوكم عليه من التشمير والجدّ، قد عقر الله فيهم (8)، وأصاب منهم، وجرح من مقاتلتهم، وكسر من أمانيّ ضلّالهم، وردّ من
__________
(1) أي لصقوا بها.
(2) الزيادة عن مفتاح الأفكار والمنظوم والمنثور.
(3) الزيادة عن مفتاح الأفكار والمنظوم والمنثور.
(4) الزيادة عن مفتاح الأفكار والمنظوم والمنثور.
(5) الأكساء: الأدبار، جمع كسء (بالضم)، وكسء كل شيء: مؤخره.
(6) الجريدة: خيل لا رجّالة فيها.
(7) اللغوب: التعب والإعياء.
(8) المعنى قد اندحروا وهزموا.(10/236)
مستعلي جماحهم.
وتقدّم إلى من توجّهه في طلبهم، وتتبعه أكساءهم، في سكون الرّيح، وقلّة الرّفث (1)، وكثرة التسبيح والتهليل، واستنصار الله عزّ وجل بألسنتهم وقلوبهم سرّا وجهرا، بلا لجب ضجّة، ولا ارتفاع ضوضاء، دون أن يردوا على مطلبهم، وينتهزوا فرصتهم، ثم ليشهروا السّلاح، وينتضوا السّيوف، فإنّ لها هيبة رائعة، وبديهة مخوفة، لا يقوم لها في بهمة الليل وحندسه (2) إلا البطل المحارب، وذو البصيرة المحامي، والمستميت المقاتل، وقليل ما هم عند تلك الحميّة وفي ذلك الموضع.
ليكن أوّل ما تتقدّم به في التهيّؤ لعدوّك، والاستعداد للقائه، انتخابك من فرسان عسكرك وحماة جندك ذوي البأس والحنكة والجلد والصّرامة، ممّن قد اعتاد طراد الكماة، وكشّر عن ناجذه في الحرب، وقام على ساق في منازلة الأقران، ثقف الفروسية، مجتمع القوّة، مستحصد المريرة (3)، صبورا على هول الليل، عارفا بمناهزة الفرص، لم تمهنه (4) الحنكة ضعفا، ولا بلغت به السّنّ كلالا، ولا أسكرته غرّة الحداثة جهلا، ولا أبطرته نجدة الأغمار (5) صلفا، جريئا على مخاطرة التلف، مقدما على ادّراع الموت، مكابرا لمهيب (6) الهول، متقحّما مخشيّ الحتوف، خائضا غمرات المهالك، برأي يؤيّده الحزم، ونيّة لا يخالجها الشّكّ، وأهواء مجتمعة، وقلوب مؤتلفة، عارفين بفضل الطاعة وعزّها وشرفها، وحيث محلّ أهلها من التأييد والظّفر والتمكين، ثم اعرضهم رأي عين على كراعهم وأسلحتهم، ولتكن دوابّهم إناث عتاق الخيل، وأسلحتهم سوابغ الدّروع
__________
(1) الرفث: الفحش.
(2) الحندس: الظلمة.
(3) المريرة: العزيمة. وأصلها الحبل الشديد الفتل.
(4) أمهنه: أضعفه.
(5) الغمر: من لم يجرّب الأمور.
(6) في مفتاح الأفكار «لمرهوب».(10/237)
وكمال آلة المحارب، متقلّدين سيوفهم، المستخلصة من جيّد الجوهر وصافي الحديد، المتخيرة من معادن الأجناس، هنديّة الحديد [أو تبّتيّة] (1) يمانية الطّبع، رقاق المضارب، مسمومة الشّحذ، مشطّبة الضّربية، ملبدين بالتّرسة الفارسيّة، صينيّة التعقيب، معلمة المقابض بحلق الحديد، أنحاؤها مربّعة، ومخارزها بالتجليد مضاعفة، محملها مستخف، وكنائن النّبل وجعاب القسيّ قد استحقبوها، وقسيّ الشّريان (2) والنّبع أعرابيّة الصّنعة، مختلفة الأجناس، محكمة العمل، مقوّمة التثقيف، ونصول النّبل مسمومة، وعملها مصيّصيّ (3)، وتركيبها عراقيّ، وترييشها بدويّ، مختلفة الصّوغ في الطّبع، شتّى الأعمال في التشطيب والتجنيح والاستدارة، ولتكن الفارسية مقلوبة المقابض منبسطة السّية (4)، سهلة الانعطاف، مقرّبة الانحناء، ممكنة المرمى، واسعة الأسهم، فرضها سهلة الورود، ومعاطفها غير مقتربة المواتاة، ثم ولّ على كلّ مائة رجل منهم رجلا من أهل خاصتك وثقاتك ونصحائك، له صيت في الرّياسة، وقدم في السابقة، وأوّليّة في المشايعة، وتقدّم إليه في ضبطهم، وكفّ معرّتهم، واستنزال نصائحهم، واستعداد طاعتهم، واستخلاص ضمائرهم، وتعاهد كراعهم وأسلحتهم: معفيا لهم من النوائب التي تلزم أهل عسكرك وعامّة جندك، واجعلهم عدّة لأمر إن حزبك أو طارق إن أتاك ومرهم أن يكونوا على أهبة معدّة، وحذر ناف لسنة الغفلة عنهم، فإنك لا تدري أيّ الساعات من ليلك ونهارك تكون إليهم حاجتك، فليكونوا كرجل واحد في التشمير والتّرادف وسرعة الإجابة، فإنّك عسيت أن لا تجد عند جماعة جندك في مثل تلك الرّوعة والمباغتة إن احتجت إلى ذلك منهم معونة كافية، ولا أهبة معدّة، بل ذلك كذلك. فليكن هؤلاء القوم الذين تنتخب عدّتك وقوّتك بعوثا قد وظّفتها على القوّاد الذين ولّيتهم أمورهم، فسمّيت أوّلا
__________
(1) الزيادة عن مفتاح الأفكار. والتّبّتية نسبة إلى التبت وهي الجزء الجنوبي الغربي من الصين.
(2) الشريان (بالفتح والكسر) شجر للقسيّ.
(3) نسبة إلى المصيصة: بلد بالشام. (انظر معجم البلدان: 5/ 145).
(4) سية القوس: ما عطف من طرفيها.(10/238)
وثانيا وثالثا ورابعا وخامسا وسادسا فإن اكتفيت فيما يطرقك ويبدهك ببعث واحد، كان معدّا لم تحتج إلى انتخابهم في ساعتك تلك فقطّع البعث عليهم عند ما يرهقك. وإن احتجت إلى اثنين أو ثلاثة وجّهت منهم إرادتك أو ما ترى قوّتك، إن شاء الله.
وكّل بخزائنك ودواوينك رجلا ناصحا أمينا، ذا ورع حاجز، ودين فاضل، وطاعة خالصة، وأمانة صادقة، واجعل معه خيلا يكون مسيرها ومنزلها ومرحلها (1)
مع خزانتك وحولها، وتقدّم إليه في حفظها، والتوقّي عليها، واتّهام كلّ من تسند إليه شيئا منها على إضاعته والتهاون به، والشّدّة على من دنا منها في مسير، أو ضامّها في منزل، أو خالطها في منهل. وليكن عامّة الجند والجيش إلا من استخلصت للمسير معها متنحّين عنها، مجانبين لها في المسير والمنزل، فإنه ربّما كانت الجولة وحدثت الفزعة، فإن لم يكن للخزائن ممن يوكّل بها أهل حفظ لها وذبّ عنها، وحياطة دونها، وقوّة على من أراد انتهابها، أسرع الجند إليها وتداعوا نحوها حتّى يكاد يترامى ذلك بهم إلى انتهاب العسكر، واضطراب الفتنة، فإنّ أهل الفتن وسوء السّيرة كثير، وإنما همّتهم الشّر، فإيّاك أن يكون لأحد في خزائنك ودواوينك [وبيوت أموالك] (2) مطمع أو يجد سبيلا إلى اغتيالها ومرزأتها [إن شاء الله] (3).
اعلم أنّ أحسن مكيدتك أثرا في العامّة، وأبعدها صيتا في حسن القالة، ما نلت الظّفر فيه بحزم الرّويّة، وحسن السّيرة، ولطف الحيلة، فلتكن رويّتك في ذلك وحرصك على إصابته بالحيل، لا بالقتال وأخطار التّلف، وادسس إلى عدوّك، وكاتب رؤساءهم وقادتهم وعدهم المنالات، ومنّهم الولايات، وسوّغهم التّراث، وضع عنهم الإحن (4)، واقطع أعناقهم بالمطامع، واستدعهم بالمثاوب،
__________
(1) في مفتاح الأفكار «وترحّلها».
(2) الزيادة من مفتاح الأفكار.
(3) الإحن: جمع إحنة بالكسر، وهي الحقد.
(4) الإحن: جمع إحنة بالكسر، وهي الحقد.(10/239)
واملأ قلوبهم بالترهيب إن أمكنتك منهم الدّوائر، وأصارتهم إليك الرّواجع، وادعهم إلى الوثوب بصاحبهم أو اعتزاله إن لم يكن لهم بالوثوب عليه طاقة، ولا عليك (1) أن تطرح إلى بعضهم كتبا كأنّها جواب (2) كتب لهم إليك، وتكتب على ألسنتهم كتبا إليك تدفعها إليهم، وتحمل بها صاحبهم عليهم وتنزلهم عنده بمنزلة التّهمة ومحلّ الظّنّة، فلعلّ مكيدتك في ذلك أن يكون فيها افتراق كلمتهم، وتشتيت جماعتهم، وإحن قلوبهم، وسوء الظنّ من واليهم بهم، فيوحشهم منه خوفهم إيّاه على أنفسهم إذا أيقنوا باتّهامه إيّاهم، فإن بسط يده فقتلهم، وأولغ سيفه في دمائهم، وأسرع الوثوب بهم، أشعرهم جميعا الخوف، وشملهم الرّعب، ودعاهم إليك الهرب فتهافتوا نحوك بالنصيحة وأمّوك بالطّلب، وإن كان متأنّيا محتملا رجوت أن تستميل إليك بعضهم، ويستدعي الطمع ذوي الشّره منهم، وتنال بذلك ما تحب من أخبارهم، إن شاء الله.
إذا تدانى الصّفّان، وتواقف الجمعان، واحتضرت الحرب، وعبّأت أصحابك لقتال عدوّهم، فأكثر من قول: لا حول ولا قوّة إلا بالله، والتوكّل على الله عزّ وجلّ والتفويض إليه، ومسألته توفيقك وإرشادك، وأن يعزم لك على الرّشد المنجي، والعصمة الكالئة، والحياطة الشاملة. ومر جندك بالصّمت وقلّة التلفّت عند المصاولة، وكثرة التكبير في أنفسهم (3)، والتسبيح بضمائرهم، ولا يظهروا تكبيرا إلا في الكرّات والحملات، وعند كل زلفة يزدلفونها، فأما وهم وقوف فإنّ ذلك من الفشل والجبن، وليذكروا الله في أنفسهم ويسألوه نصرهم وإعزازهم، وليكثروا من قول: لا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم، حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهمّ انصرنا على عدوّك وعدوّنا الباغي، واكفنا شوكته المستحدّة وأيّدنا بملائكتك الغالبين، واعصمنا بعونك من الفشل والعجز إنك أرحم الراحمين.
__________
(1) أي ولا حرج عليك.
(2) في مفتاح الأفكار: «جوابات».
(3) في مفتاح الأفكار «نفوسهم».(10/240)
وليكن في معسكرك المكبّرون في الليل والنهار قبل المواقعة (1)، وقوم موقوفون يخصّونهم على القتال ويحرّضونهم على عدوّهم، ويصفون لهم منازل الشّهداء وثوابهم، ويذكّرونهم الجنة ودرجاتها ونعيم أهلها وسكّانها، ويقولون:
اذكروا الله يذكركم، واستنصروه ينصركم، والتجئوا إليه يمنعكم، وإن استطعت أن تكون أنت المباشر لتعبئة جندك ووضعهم مواضعهم من رأيك (2)، ومعك رجال من ثقات فرسانك ذو وسنّ وتجربة ونجدة على التعبئة التي أمير المؤمنين واصفها لك في آخر كتابك (3)، فافعل إن شاء الله تعالى.
أيّدك الله بالنصر، وغلب لك على القوّة، وأعانك على الرّشد، وعصمك من الزّيغ، وأوجب لمن استشهد معك ثواب الشّهداء ومنازل الأصفياء، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وكتب سنة تسع وعشرين ومائة (4).
الطرف الثالث
(فيما كان يكتب عن خلفاء بني العباس ببغداد إلى حين انقراض الخلافة العبّاسية من بغداد) وهو على أربعة أنواع:
النوع الأوّل
(ما كان يكتب لوزراء الخلافة) وكان رسمهم فيه أن يفتتح بلفظ «أما بعد فالحمد لله» ويؤتى فيه بثلاث تحميدات، ورما اقتصر على تحميدة واحدة. وعلى ذلك كانت تقاليد وزرائهم من
__________
(1) في مفتاح الأفكار «المواقتة».
(2) في مفتاح الأفكار «من راياتك» وهي أنسب.
(3) في مفتاح الأفكار «كتابه» وهي أنسب.
(4) قال الطبري: «وقيل إن الضحاك إنما قتل سنة 129هـ» انظر تاريخ الطبري: 6/ 77.(10/241)
أرباب السّيوف والأقلام.
وهذه نسخة تقليد من ذلك كتب بها العلاء بن موصلايا (1)، عن القائم بأمر الله (2)، للوزير فخر الدولة بن جهير (3)، في شهور سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة، وهو:
أما بعد، فالحمد لله ذي الآلاء الصافية الموارد، والنّعماء الصادقة الشّواهد، والطّول الجامع شمل أسباب المنح الشّوارد، ذي القدرة المصرّفة على حكمها مجاري القدر، والمشيئة الحالية بالنّفاذ في حالتي الورد والصّدر، المذلّ بجميل صنعه أعناق المصاعب، المديم (4) بكريم لطفه من امتداد ذوائب النّوائب، الذي جلّ عن إدراك صفاته بعدّ أو حدّ، ودلّ بباهر آياته على كونه الفرد الوليّ بكل شكر وحمد سبحانه وتعالى عما يصفون.
والحمد لله الذي اختصّ محمدا صلى الله عليه وسلم بالرّسالة واجتباه، وحباه الكرامة بما أشرق له مطلع الجلال، واختاره وبعثه لإظهار كلمة الحقّ بعد أن مدّ الضّلال رواقه، فلم يزل بإعزاز الشّرع قائما، ولساعات زمانه في طلب رضا الله قاسما، لا ينحرف عن مقاصد الصواب ولا يميل، ولا يخلي مطايا جدّه في تقوية الدّين مما يتابع فيه الرّسيم والذّميل (5)، إلى أن أزال عن القلوب صدأ الشّكوك وجلا، وأجلى مسعاه عن كلّ ما أودع نفوس أحلاف الباطل وجلا (6)، ومضى وقد أضاء للإيمان
__________
(1) هو أبو سعد، العلاء بن الحسن بن وهب بن الموصلايا: الكاتب البغدادي، منشيء دار الخلافة، الملقب أمين الدولة. كان نصرانيا وأسلم على يد المقتدي بالله وحسن إسلامه، وله الرسائل الرائقة والأشعار الجيدة. توفي بعد أن كف بصره سنة 497هـ. (ابن خلكان: 3/ 480).
(2) ابن القادر بالله. ولي الخلافة سنة 422هـ وتوفي سنة 467هـ. (الأعلام: 4/ 66).
(3) هو محمد بن محمد بن جهير، الملقب فخر الدولة، مؤيد الدين الموصلي الثعلبي. كان ذا رأي وعقل وحزم وتدبير. توفي سنة 483هـ. (انظر ابن خلكان: 5/ 127وما بعدها).
(4) في هامش الطبعة الأميرية «لعله المديل، باللام».
(5) رسم البعير رسيما: عدا عدوا فوق الذميل. وذمل ذمولا وذميلا، سار سيرا سريعا لينا.
(6) من الوجل أي الخوف. وجلا الأولى فعل.(10/242)
هلال أمن سراره، وانتضى لإبادة الشّرك حساما لا ينبو قطّ غراره، فصلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وأصحابه المنتخبين، صلاة يتّصل الأصيل فيها بالغدوّ وترى قيمتها في الأجر وافية العلوّ والغلوّ.
والحمد لله الذي أصار إلى أمير المؤمنين من إرث النبوّة ما هو أحقّ به وأولى وأنار له من مطالع العزّ ما أسدى به كلّ نعمة وأولى، وأحلّه من شرف الإمامة بحيث عنت لطاعته أعناق الرّقاب الصّعاب، وأذعنت له القلوب بالانطواء على الولاء الفسيح الرحاب والشّعاب، وجعل أيّامه بالنّضارة آهلة المغاني، متقابلة أسماؤها في الحسن بالمعاني، فما يجري فيها إلا ما الصواب في فعله كامن، والحظّ بابتهاج سبله كائن، إبانة عن اقتران الرّشد بعزائمه في حالتي العقد والحلّ، واقتراب مرام كلّ ما يحلّ من الصّلاح في الدهر أفضل المحلّ.
ثم إنه يرى من إقرار الحقوق في نصابها، وإمرار حبال التوفيق في جانبها (1)
من الأطماع الممتدّة إلى اغتصابها، ما يعرب عن الاهتداء إلى طرق الرّشد، والاقتداء بمن وجد ضالّة المراد حين نشد، ويقصد من تجديد العوارف، عند كلّ عالم بقدرها في الزمان عارف، ما يحلو جنى ثمره في كل أوان، ويحدو (2) انتشار خبره على إعانة كل فكر في وصفه عنوان، فيتناقل الرّواة ذكر ذلك غورا ونجدا، وتلقى الهمم العليّة ادّخار الجمال به أنفع من كلّ قنية وأجدى، استمرارا على شاكلة تحلّت بالكرم وحلّت من الجلال في القلل والقمم، وحلت آثارها في إيلاء نفيس المنح وجزيل القسم.
ولما غدا منصب الوزارة موقوفا على الّذين طالما جزّوا بهممهم نواصي الخطوب، وحازوا بذممهم المنال في مقاصد استشهدوا بها على إحراز كلّ فضيلة واستدلّوا، وكفّوا بكفايتهم أكفّ الفساد وردّوا، وحازوا الفعال في كلّ ما سعوا له
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية: «لعله: في صيانتها».
(2) أي يبعث ويسوق.(10/243)
وجدّوا، وخلا الزمان ممّن ينهض بعبء هذا الأمر الجسيم، وتصبح أنباؤه فيه ذكيّة الأرج والنسيم لم يبق غيرك ممن يستحقّ التخييم في عراصه، والتحكيم في اجتناء الفخر منه واستخلاصه، وكان القدر سبق بانفصالك عن الخدمة لا لضعف سريرة، ولا لقوّة جريرة، ولا لكدر سيرة وكيف وأنت المتفرّد بالكمال، والمتجرّد في كل مقام سلم حدّ تقرّبك فيه من حادث الكلال، ولك في الدولة الحقوق التي أعتدت لك من وقع الاستزادة مجنّا، والمواقف التي اغتذت من درّة الإحماد بما أيّن (1) الظّئر لها وأنّا، والمقاصد التي أعدمت منك البدل، ولا انحرف لك منها مسعى عن مناهج الإصابة ولا عدل، وتمكّنت فيها من عنان التوفيق بما لا يجارى سيفك فيه قط، ولا يحسن له حال المسرى إليه المحطّ والآثار التي أثارت من كوامن الرضا أفضل ما يذخر ويقتنى، وأنارت من دلائل الزّلفى ما ينتجز به وعد المنى ويقتضى لكن كان ذلك مسطورا في الكتاب، وليتبيّن أنّه لا عوض عنك في الاستحقاق للأمر والاستيجاب، لم يوجد لهذه الرّتبة كفؤا سواك، ولا ينزّهها عن العطل غير رائق حلاك، فرأى أمير المؤمنين تسليم مقاليدها إليك إذ كنت أحقّ بها وأهلها، وممّن يجمع بعد الشّتات شملها، فطوّقك من قلائدها ما هو بأعطافك ألصق، وبتمام أوصافك أليق: لتدّرع من عزّ الوزارة جلبابا لا تخلق الأيام له جدّة، ولا تزال السّعود بما يؤول إلى دوام مدّته ممتدّة، وترتضع من لبان خلالها (2)
ما يقضي لك بأن تقف نفسها عليك، وتقف آمال الأمثال دون ما انتهت الغاية فيه إليك، وتعتمد فيما عدقه (3) بك منها وناطه، ووفّاك فيه حقوق النظر واشتراطه، بحكم توحّدت في إحراز أدواتها التي لا يبلغ أحد لك منها مدى، ولم يمدّ طامع إلى مساجلتك فيها يدا ما يرضي الله تعالى ويرضيه، ويخصّ ذكرك بالطيب
__________
(1) لعلّ الصواب: أوّن. يقال: أوّنت الحامل: عظم بطنها لقرب ولادتها، والرجل والدابة: أكل وشرب حتى صار جانباه كالأونين (العدلين).
والظئر: المرضعة لغير ولدها.
(2) الخلال: الصفات الحميدة.
(3) لعلها «عزقه بك» بمعنى ناطه.(10/244)
ويحيطه فتفوز فوزا كبيرا، وتعيد الساعي في إدراك شأوك ظالعا (1) حسيرا.
ثم إنه شفع هذه المنحة التي قمّصك مجاسد فخرها بالوجوب، وعوّضك فيها الدهر بحادث البشر عن سابق القطوب بإيصالك إلى حضرته، وإدنائك من سدّته، ومناجاتك بما يتيح لك امتطاء غارب المجد وصهوته، والاحتواء على خالص السعد وصفوته، وحبائك من صنوف التشريفات التي تروق حلى خلالها، وتتوق الآمال إلى إدراكها ومنالها وصفت الكرامات التي وفت المنى بها بعد مطالها، ونفت القذى عن مقل مغضوضة بسوء فعال الأيّام ومقالها، بما يوطيء عقبك الرجال، ويضيّق على من يحاول مجاراتك المسرح والمجال ولم يقتنع بذلك في حقّ النّعمى التي أعداك فيها على الغير، وأغداك منها في ظلّ من الأمن البادي الأوضاح والغرر، حتّى ألحق بسماتك «تاج الوزراء» تنويها بذكرك في الزّمان، وتنبيها على اختصاصك لديه بوجاهة الرّتبة والمكان، فصار مكروه الأمور في محبوبها سببا، وخبت نار كلّ من سعى في تضليل النظام وجيفا وخببا (2)، حتّى الآملون أن يجعلوا تخت الخلافة (3) زمنا (4)، وتصبح رباعه بعد النّضارة دمنا، ليعقبهم ذاك نيل ما وصلت إليه الإمضاء لهذا العزم. وبالجملة فالسّآمة واقعة من تتابع هذه الشّكاوى، وقد كان الأحبّ أن لا يضمّن الكتب النافذة سوى تعهّد الأنباء، لا زال عرفها أرجا من سائر الأرجاء والنّواحي. لكن تأتي مجاري الأقدار، ودواعي الاضطرار، إلى (5) ما يرنّق ماء الإرادة والإيثار، والآن فقد بلغ الماء، وجلب من عدم الصّبر الحنّاء، ولم يبق غير هزّة دينيّة منك تكشف بها هذه المعرّة، وتتحف منها أمير المؤمنين بما يتمّ لديه أكمل المسرّة فقم في ذلك مقام مثلك
__________
(1) الظالع: الذي يغمز في مشيه. والظالع أيّضا: المتّهم.
(2) وجف البعير وجيفا: أسرع. وخبّ خبّا وخببا وخبيبا: عدا وأسرع.
(3) في الأصل «المخافة» وقد اخترنا عبارة الطبعة الأميرية.
(4) الزمن (بكسر الميم): الضعيف الفاتر.
(5) لعل الصواب «بما يرنّق».(10/245)
وإن كان لا نظير لك يوجد تحظ بما يمضي لك فيه استحقاق كلّ الحمد ويوجب إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد من ذلك، كتب بها عن المسترشد (1) فيما أظن لبعض وزرائه، وهي:
أما بعد، فالحمد لله المنفرد بكبريائه، المتفضّل على أوليائه، مجزل النّعماء، وكاشف الغمّاء، ومسبغ العطاء، ومسبل الغطاء، ومسني الحباء، ومسدي الآلاء، الذي لا تؤوده الأعباء، ولا تكيده الأعداء، ولا تبلغه الأوهام، ولا تحيط به الأفهام، ولا تدركه الأبصار، ولا تتخيّله الأفكار، ولا تهرمه الأعوام بتواليها، ولا تعجزه الخطوب إذا ادلهمّت لياليها، عالم هواجس الفكر، وخالق كل شيء بقدر، مصرّف الأقدار على مشيئته ومجريها، ومانح مواهبه من أضحى بيد الشّكر يمتريها، حمدا يصوب حياه (2)، ويعذب جناه، وتتهلّل أسرّة الإخلاص من مطاويه، ويستدعي المزيد من آلائه ويقتضيه.
والحمد لله الذي استخلص محمدا صلى الله عليه وسلم من زكيّ الأصلاب، وانتخبه من أشرف الأنساب، وبعثه إلى الخليقة رسولا، وجعله إلى منهج النجاة دليلا، [وقد بوّأ الشرك بوار الذّلّ وقضاه] (3) وشهر عضب (4) العزّ وانتضاه والأمم عن طاعة الرحمن عازفة، وعلى عبادة الأوثان عاكفة، فلم يزل بأمر ربّه صادعا، وعن التمسّك بعرا الضّلال الواهية وازعا، وإلى ركوب محجّة الهدى داعيا، وعلى قدم
__________
(1) هو الفضل (المسترشد بالله) بن أحمد (المستظهر بالله) من خلفاء الدولة العباسية. بويع بالخلافة سنة 514هـ. قتله سنجر السلجوقي سنة 529هـ. (الأعلام: 5/ 147).
(2) الحيا: المطر والخصب.
(3) الجملة في الأصل خالية من النقط غير واضحة. والتصحيح من مآثر الإنافة: 3/ 184.
(4) العضب: الحاد القاطع. والمراد هنا السيف.(10/246)
الاجتهاد في إبادة الغواية ساعيا، حتّى أصبح وجه (1) الحق منيرا مشرقا، وعوده بعد الذّبول أخضر مورقا، ومضى الباطل مولّيا أدباره، ومستصحبا تتبيره وبواره، وقضى صلى الله عليه وسلم بعد أن مهّد من الإيمان قواعده، وأحكم آساسه ووطائده، وأوضح سبل الفوز لمن اقتفاها، ولحب طريقها بعد ما دثرت صواها (2)، فصلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه الأكرمين، صلاة متّصلا سحّ غمامها، مسفرا صبح دوامها.
والحمد لله على أن حاز لأمير المؤمنين من إرث النّبوّة (3) ما هو أجدر بحيازة مجده (4)، وأولى بفيض عدّه (5)، ووطّأ له من الخلافة المعظّمة مهادا أحفزته نحوه حوافز ارتياحه، وجذبته إليه أزمّة راعه والتياحه (6)، إلى أن أدرك من ذلك مناه، وألقى الاستقرار الذي لا يريم عصاه، وعضّد دولته بالتأييد من سائر أنحائه ومراميه، وأعراضه ومغازيه، حتّى فاقت الدّول المتقادمة إشراقا، وأعطتها الحوادث من التغيّر عهدا وفيّا وميثاقا، وأضحت أيامه أدامها الله حالية بالعدل أجيادها، جالية (7) في ميادين النّضارة جيادها، وراح الظّلم دارسة أطلاله، مقلّصا سرباله، قد أنجم سحابه، وزمّت للرّحلة ركابه، فما يستمرّ منها أمر إلا كان صنع الله سبحانه مؤيّده، والتوفيق مصاحبه أنّى يمّم ومسدّده، وهو يستوزعه جلّت عظمته شكر هذه النّعمة، ويستزيده بالتحدّث بها من آلائه الجمّة، ويستمدّ منه المعونة في كلّ أرب قصده وأمّه، وشحذ لانتحائه عزمه، وما توفيقه إلّا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.
__________
(1) في مآثر الإنافة «نور الحق» والأولى أنسب.
(2) الصوى: جمع صوّة وهي ما نصب من الحجارة ليستدل به على الطريق.
(3) في مآثر الإنافة «على أن صار لأمير المؤمنين من أدب النبوّة».
(4) في المرجع السابق «فخره».
(5) في المرجع السابق «غدره».
(6) في المرجع السابق «واكتباحه».
(7) في مآثر الإنافة «جائلة».(10/247)
ولمّا كانت الوزارة قطب الأمور الذي عليه مدارها، وإليه إيرادها وعنه إصدارها، وخلا منصبها من كاف (1) يكون له أهلا، وينظم من شماله (2) شملا، أجال أمير المؤمنين فيمن يختار [لذ] (3) لك فكره، وأنعم لأهل الاصطفاء لهذه المنزلة [نظره] (4) حتّى صرّح محض رأيه عن زبدة اختيارك، وهداه صائب تدبيره إلى اقتراحك وإيثارك، وألقى إليك بالمقاليد، وعوّل في دولته القاهرة على تدبيرك السّديد، وناط بك من أمر الوزارة ما لم يلف له سواك مستحقّا، ولا لنسيم استيجابه مسترقّا (5)، علما بما تبديه كفايتك المشهورة، وإيالتك المخبورة، من تقويم ما أعجز مياده، وإصلاح ما استشرى فساده، واستقامة كلّ حال وهي عمادها، وأصلت (6) على كثرة الافتداح زنادها، وتثبّتا لما تبسم عنه الأيام من آثار نظرك المعربة عن احتوائك على دلائل الجزالة، واستيلائك على مخايل الأصالة، اللذين تنال بهما غايات المعالي، وتفرع الذّرى والأعالي.
ثم إنّ أمير المؤمنين بمقتضى هذه الدّعاوى اللازمة، وحرمات جدّك وأبيك السالفة المتقادمة التي استحصدت في الدار العزيزة قوى أمراسها، وأدنت منك الآن ثمرة غراسها، رأى أن يشيّد هذه العارفة التي تأرّج لديك نسيمها، وبدت على أعناق فخرك رسومها، وجادت رباعك شآبيبها، وضفت عليك جلابيبها، بما يزيد أزرك اشتدادا، وباع أملك طولا وامتدادا، فأدناك من شريف حضرته مناجيا، ومنحك من مزايا الأيّام ما يكسبك ذكرا في الأعقاب ساريا، وعلى الأحقاب باقيا، وأفاض عليك من الملابس الفاخرة ما حزت به أوصاف الجمال، وجمع لك أباديد
__________
(1) في مآثر الإنافة «ممن كان يكون لها أهلا».
(2) في مآثر الإنافة «من جماله».
(3) الزيادة من مآثر الإنافة.
(4) الزيادة من مآثر الإنافة.
(5) في مآثر الإنافة «ولا لمتسنّم الستيجابه مترقّى».
(6) في مآثر الإنافة «وأصلد».(10/248)
الآمال، [وقلّدك من الفخر ما يدوم على مرّ الزمان ويبقى] (1) وأمطاك صهوة سابح يساوي (2) الرّياح سبقا، ووسمك بكذا وكذا في ضمن التأهيل للتكنية، إبانة عن جميل معتقده فيك، ورعاية لوسائلك المحكمة المرائر وأواخيك.
وأمرك بتقوى الله التي هي أحصن المعاقل، وأعذب المناهل، وأنفع الذّخائر، يوم تبلى السّرائر وأن تستشعرها فيما تبديه وتخفيه، وتذره وتأتيه: فإنها أفضل الأعمال وأوجبها، وأوضح المسالك إلى الفوز برضا الله وألحبها، وأجلب الأشياء للسعادة الباقية، وأجناها لقطوف الجنان (3) الدانية عالما بما في ذلك من نفع تتكامل أقسامه، وتتفتّح عن نور الصّلاح الجامع أكمامه، قال الله جلّت آلاؤه، وتقدّست أسماؤه: {وَسََارِعُوا إِلى ََ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (4) وقال تعالى حاضّا على تقواه، ومخبرا عما خصّ به متّقيه وحباه، وكفى بذلك داعيا إليها، وباعثا عليها: {فَإِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} * (5).
وأمرك أن تتوخّى المقاصد السليمة وتأتيها، وتتوخّم (6) الموارد الوخيمة وتجتويها، وأن تتبع (7) بالحزم أفعالك، وتجعل كتاب الله تعالى إمامك الذي تهتدي به ومثالك، وأن تكفّ من نفسك عند جماحها وإبائها، وتصدّها عن متابعة أهوائها، وتثني عند احتدام سورة الغضب عنانها، وتشعرها من حميد الخلائق ما يوافق إسرارها فيه إعلانها: فإنها لم تزل إلى منزلة السّوء المردية داعية، وعن سلوك مناهج الخير المنجية ناهية، قال الله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمََّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلََّا مََا}
__________
(1) هذه الجملة جاءت في نص الصبح مقتضبة مضطربة غير مفهومة. والتصحيح بين معقوفين من مآثر الإنافة.
(2) في مآثر الإنافة «يشأى».
(3) في مآثر الإنافة «الخيرات».
(4) آل عمران / 133.
(5) التوبة / 4و 7.
(6) في مآثر الإنافة «وتتوخّى» وهي أوضح.
(7) في مآثر الإنافة «وأن تشفع».(10/249)
{رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1).
وأمرك أن تتخيّر (2) للخدمة بين يديك من بلوت أخباره، واستشففت أسراره، فعلمته جامعا أدوات الكفاية، موسوما بالأمانة والدّراية، قد عركته رحا التّجارب عرك الثّفال (3) وحلب الدّهر أشطره على تصاريف الأحوال: ليكون أمر ما يولّاه (4) على منهج الاستقامة جاريا، وعن ملابس الخلل والارتياب عاريا، فلا يضع في مزلقة قدما، ولا يأتي ما يقرع سنّه لأجله ندما، وأن تمنح رعايا أمير المؤمنين من بشرك ما يعقل شوارد الأهواء، ويلوي إليك بأعناق نوافرها اللائي اعتصمن بالجماح والإباء مازجا ذلك بشدّة تستولي حميّا رهبتها على القلوب، وتفلّ مرهفات بأسها صرف الخطوب، من غير إفراط في استدامة ذلك يضيق نظامها به (5)، ويغريها اتّصاله باستشعار وعر الخطأ واستيطاء مركبه.
وأمرك أن تعذب مورد الإحسان لمن أحمدت بلاءه، وتحقّقت غناءه، واستحسنت أثره، وارتضيت عيانه وخبره، وتسدل أسمال الهوان على من بلوت فعله ذميما، وألفيته بعراص الإساءة مقيما، وإلى رباعها الموحشة مستأنسا مستديما، كيلا لكلّ امريء بصاعه، واتّباعا لما أمر الله باتّباعه، وتجنّبا للإهمال الجاعل المحسن والمسيء سواء، والمعيدهما في موقف الجزاء أكفاء، فإنّ في ذلك تزهيدا لذوي الحسنى في الإحسان، وتتابعا لأهل الإساءة في العدوان، ولولا ما فرضه الله على أمير المؤمنين من إيجاب الحجّة، والفكاك من ربقة الاجتهاد ببلاغ المعذرة، لثنى عنان الإطالة مقتصرا، واكتفى ببعض القول مختصرا، ثقة
__________
(1) يوسف / 53.
(2) في مآثر الإنافة «أن تنجز».
(3) الثفال: ما يبسط تحت الرحى عند الطحن من جلد وغيره ليسقط عليه الدقيق. وهو أيضا الحجر الأسفل من الرحى. وفي حديث عليّ: «وتدقهم الفتن دق الرحى بثفالها».
(4) في مآثر الإنافة «تولّاه».
(5) في مآثر الإنافة «يضيق بها على الطالب وسيع مذهبه».(10/250)
بامتناع سدادك ونهاك، أن يراك صواب الفعل حيث نهاك، واستنامة إلى ما خوّلك الله من الرأي الثاقب، المطّلع من خصائص البديهة على محتجب العواقب.
فارتبط يا فلان هذه النّعمى التي جادت ديمها مغانيك، وحقّقت الأيّام بمكانتها أمانيك، بشكر ينطق به لسان الاعتراف، فيؤمّن وحشيّ النّعم من النّفار والانحراف، واسلك في جمال السّيرة، والاقتداء بهذه الأوامر المبيّنة (1)
المذكورة، جددا يغري بحمدك الألسنة، ويعرب عن كونك من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، والله يصدّق مخيلة أمير المؤمنين فيك، ويوزعك شكر ما أولاك ويوليك، ويجعل الصّواب غرضا لنبال عزائمه، ويذود عن دولته القاهرة كتائب الخطوب بصوارم السّعد ولهاذمه (2) ويصل أيامه الزاهرة بالخلود، ويبسط على أقاصي الأرض ظلّه الممدود، ما استهلّ جفن الغيث المدرار، وابتسمت ثغور النّوّار، إن شاء الله تعالى.
النوع الثاني
(مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لأرباب الوظائف من أصحاب السّيوف، وهو على ضربين)
الضرب الأوّل
(العهود، وهي أعلاها رتبة) وطريقتهم فيها أن تفتتح بلفظ: «هذا ما عهد عبد الله ووليّه فلان أبو فلان الإمام الفلانيّ إلى فلان الفلانيّ حين عرف منه» ويذكر بعض مناقبه، وربّما تعرّض لثناء سلطان دولته عليه. ثم يقال: «فقلّده كذا وكذا» ثم يقال: «وأمره بكذا» ويأتي بما يناسب من الوصايا، ثم يقال: «فتقلّد كذا وكذا» ثم يقال:
«هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجّته عليك» أو نحو ذلك ولا يؤتى فيه بتحميد
__________
(1) في مآثر الإنافة: «المتينة».
(2) اللهذم: كل شيء قاطع، من سنان أو سيف أو ناب.(10/251)
في أوّل العهد ولا في أثنائه كما تقدّم في عهود الخلفاء للملوك.
عهود أرباب السيوف (وهي عدّة ولايات) منها النظر في المظالم.
وهذه نسخة عهد كتب به أبو إسحاق الصابي، عن المطيع لله، إلى الحسين ابن موسى العلويّ (1) بتقليد المظالم بمدينة السلام، وهي:
هذا ما عهد عبد الله الفضل الإمام المطيع لله أمير المؤمنين، إلى الحسين بن موسى العلويّ، حين اجتمع فيه شرف الأعراق، والأخلاق، وتكامل فيه يمن النقائب، والضّرائب، وعرف أمير المؤمنين فيه فضل الكفاية والغناء، ورشاد المقاصد والأنحاء، في سالف ما ولّاه إيّاه من أعماله الثقيلة التي لم يزل فيها محمود المقام، مستمرّا على النّظام، مصيب النّقض والإبرام، سديد الإسداء والإلحام، زائدا على المزايدين (2)، راجحا على الموازين، فائتا للمحاذين، مبرّا (3) على المبارين، فقلّده النظر في المظالم بمدينة السلام وسوادها وأعمالها، وما يجري معها، ثقة بعلمه ودينه، واعتمادا على بصيرته ويقينه، وسكونا إلى أنّ الأيام قد زادته تحليما وتهذيبا، والسّنّ قد تناهت به تحنيكا وتجريبا، وأن صنيعة أمير المؤمنين مستقرّة منه عند أكرم أكفائها، وأشرف أوليائها، برحمه المتّاء (4)
الدانية، وحرمته الشامخة العالية (5)، ومعرفته الثاقبة الدّاعية إلى التفويض إليه، الباعثة على التعويل عليه وأمير المؤمنين يستمدّ الله في ذلك أحسن ما عوّده من
__________
(1) هو الحسين بن موسى الحسيني العلوي الطالبي: نقيب العلويين في بغداد ووالد الشريفين الرضيّ والمرتضى. توفي سنة 400هـ (الأعلام: 2/ 260).
(2) في مآثر الإنافة «الزائدين».
(3) في مآثر الإنافة «مبرّزا».
(4) في مآثر الإنافة «الماسّة» وفي هامش الطبعة الأميرية «لعله: الماتّة».
(5) في مآثر الإنافة «الغالية» بالغين المعجمة.(10/252)
هداية وتسديد، ومعونة وتأييد، وما توفيقه إلّا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.
أمره بتقوى الله التي هي الجنّة الحصينة، والعصمة المتينة، والسبب المتّصل يوم انقطاع الأسباب، والزاد المبلّغ إلى دار الثّواب، وأن يستشعرها فيما يسرّ ويعلن، ويعتمدها فيما يظهر ويبطن، ويجعلها إمامه الذي ينحوه، ورائده الذي يقفوه، إذ هي شيمة الأبرار والأخيار، وكان أولى من تعلّق بعلائقها، وتمسّك بوثائقها (1)، لمفخره الكريم، ومنصبه الصّميم، واستظلاله مع أمير المؤمنين بدوحة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله التي يكتنّان في فنائها، ويأويان إلى أفيائها، وحقيق على من كان منزعه، وإليها مرجعه، أن يكون طيّبا زكيّا طاهرا نقيّا، عفيفا في قوله وفعله. نظيفا في سرّه وجهره، قال الله تعالى: {إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (2).
وأمره بتلاوة القرآن، وتأمّل ما فيه من البرهان، وأن يجعله نصبا لناظره، ومألفا لخاطره، فيأخذ به ويعطي، ويأتمر له (3) وينتهي، فإنه الحجة الواضحة، والمحجّة اللائحة، والمعجزة الباهرة، والبيّنة العادلة، والدليل الذي من اتّبعه سلم ونجا، ومن صدف عنه هلك وهوى قال الله عز من قائل: {وَإِنَّهُ لَكِتََابٌ عَزِيزٌ لََا يَأْتِيهِ الْبََاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلََا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (4).
وأمره أن يجلس للخصوم جلوسا عامّا، ويقبل عليهم إقبالا تامّا، ويتصفّح ما يرفع إليه من ظلاماتهم، وينعم النظر في أسباب محادثاتهم، فما كان طريقه طريق المنازعة المتعلّقة بنظر القضاة وشهادات العدول ردّه إلى المتولّي للحكم، وما كان طريقه الغصوب (5) المحتاج فيها إلى الكشف والفحص، والاستشفاف
__________
(1) في مآثر الإنافة «بدقائقها».
(2) الأحزاب / 33.
(3) في مآثر الإنافة «به».
(4) فصلت / 41.
(5) في مآثر الإنافة «طريقه طريق الغصوب الخ».(10/253)
والبحث، نظر فيه نظر صاحب المظالم، وانتزع الحقّ ممن غصب عليه، واستخلصه ممن امتدّت له يد التعدّي والتغرر إليه، وأعاده إلى مستحقّه، وأقرّه عند مستوجبه، غير مراقب كبيرا لكبره، ولا خاصّا لخصوصه ولا شريفا لشرفه، ولا متسلطنا لسلطانه، بل يقدّم أمر الله جلّ ذكره في كل ما يأتي ويذر، ويتوخّى رضاه فيما يورد ويصدر، ويكون على الضعيف المحق حدبا رؤوفا حتّى ينتصر (1)
وينتصف، وعلى القويّ المبطل شديدا غليظا حتّى ينقاد ويذعن، قال الله جل وعز:
{يََا دََاوُدُ إِنََّا جَعَلْنََاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النََّاسِ بِالْحَقِّ وَلََا تَتَّبِعِ الْهَوى ََ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ لَهُمْ عَذََابٌ شَدِيدٌ بِمََا نَسُوا يَوْمَ الْحِسََابِ} (2).
وأمره أن يفتح بابه، ويسهّل حجابه، ويبسط وجهه، ويلين كنفه، ويصبر على الخصوم الناقصين في بيانهم حتّى تظهر حجّتهم، وينعم النظر في أقوال أهل اللّسن والبيان منهم حتّى يعلم مصيبهم (3) فربّما استظهر العرّيض (4) المبطل بفضل بيانه، على العاجز المحقّ لعيّ لسانه وهنالك يجب أن يقع التصفّح على القولين، والاستظهار (5) للأمرين: ليؤمن أن يزول الحقّ عن سننه ويزورّ الحكم عن طريقه قال الله عز وجل: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جََاءَكُمْ فََاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهََالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ََ مََا فَعَلْتُمْ نََادِمِينَ} (6).
وأمره بأن لا يردّ للقضاة حكما يمضونه، ولا سجلّا ينفّذونه، ولا يعقّب ذلك بفسخ، ولا يطرّق عليه النقض (7)، بل يكون لهم موافقا مؤازرا، ولأحكامهم
__________
(1) في مآثر الإنافة «حتى يتصبّر».
(2) سورة ص / 26.
(3) في مآثر الإنافة «مغبّتهم».
(4) يقال: رجل عرّيض، مثل فسيّق: يتعرّض الناس بالشرّ. (انظر اللسان: 7/ 170).
(5) في مآثر الإنافة «والاستبطال».
(6) الحجرات / 6.
(7) في مآثر الإنافة «ولا يطرّق عليه بنقض».(10/254)
عاضدا ناصرا، إذ كان الحقّ واحدا وإن اختلفت المذاهب إليه، فإذا وجد القصّة (1) قد سيقت، والحكومة قد وقعت، فليس هناك شكّ يوقف عنده، ولا ريب يحتاج إلى الكشف عنه وإذا وجد الأمر مشتبها، والحقّ ملتبسا، والتغرّر مستعملا، والتغلّب مستجازا، نظر فيه نظر الناصر لحقّ المحقين، الداحض لباطل المبطلين، المقوّي لأيدي المستضعفين، الآخذ على أيدي المعتدين، قال الله عز وجل: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوََّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدََاءَ لِلََّهِ وَلَوْ عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوََالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللََّهُ أَوْلى ََ بِهِمََا فَلََا تَتَّبِعُوا الْهَوى ََ أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (2).
وأمره أن يستظهر على معرفته بمشاورة القضاة والفقهاء، ومباحثة الرّبّانيّين والعلماء فإن اشتبه عليه أمر استرشدهم، وإن عزب عنه صواب استدلّ عليه بهم، فإنهم أزمّة الأحكام، وإليهم مرجع الحكّام، وإذا اقتدى بهم في المشكلات، وعمل بأقوالهم في المعضلات، أمن من زلّة العاثر، وغلطة المستاثر وكان خليقا بالأصالة في رأيه، والإصابة في أبحاثه، وقد أمر الله تقدّست أسماؤه بالمشاورة فعرّف الناس فضلها، وأسلكهم سبلها بقوله لرسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: {وَشََاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذََا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (3).
وأمره أن يكتب لمن توجّب له حقّ من الحقوق إلى صاحب الكوفة بالشّدّ على يده والتمكّن له منه، وقبض الأيدي عن منازعته، وحسم الأطماع في معارضته، إذ هو مندوب لتنفيذ أحكامه، ومأمور بإمضاء قضاياه، ومتى أخذ أحد من الخصوم إلى مكاذبة (4) في حقّ قد حكم عليه به، أخذ على يده وكفّه عن
__________
(1) في مآثر الإنافة «القضيّة».
(2) النساء / 135.
(3) آل عمران / 195.
(4) في مآثر الإنافة «إلى محاربة».(10/255)
عدوانه، وردّه إلى حكم الله الذي لا يعدل عنه قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللََّهِ فَأُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ} (1).
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجّته عليك قد أرشدك وذكّرك.
وهداك وبصّرك فكن إليه منتهيا، وبه مقتديا، واستعن بالله يعنك، واستكفه يكفك.
وكتب الناصح أبو الطاهر في تاريخ كذا.
ومنها نقابة الطالبيّين: وهي المعبّر عنها الآن بنقابة الأشراف (2).
وهذه نسخة عهد بنقابة الطالبيّين كتب به أبو إسحاق الصابي، عن الطائع لله إلى الشريف أبي الحسن محمّد بن الحسين العلويّ الموسويّ، مضافا إليها النظر في المساجد وعمارتها، واستخلافه لوالده الشريف أبي أحمد الحسين بن موسى على النظر في المظالم والحجّ بالناس، في سنة ثمانين وثلاثمائة، وهي:
هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم، الإمام الطائع لله أمير المؤمنين، إلى محمّد بن الحسين بن موسى العلويّ، حين وصلته به الأنساب، وقرنت (3) لديه الأسباب، وظهرت دلائل عقله ولبابته (4)، ووضحت مخايل فضله ونجابته، ومهّد له بهاء الدولة وضياء الملة أبو نصر بن عضد الدولة ما مهّد عند أمير المؤمنين من
__________
(1) البقرة / 229.
(2) نقابة الأشراف الطالبيين: كان يتولاها أحد شيوخ هذه الطائفة ويكون جليل القدر وله النظر في أمورهم ومنع من يدخل فيهم من الأدعياء، وإذا تشكك في أحد طلب منه شجرة نسبه. وعليه أن يعود مرضاهم ويمشي في جنائزهم ويسعى في حوائجهم ويأخذ على يد المعتدي منهم وللنقيب الاهتمام بأولاد علي بن أبي طالب من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. (انظر الصبح: 3/ 273 482481و 4/ 37).
(3) في مآثر الإنافة «وقرنته لديه الأسباب» وفي هامش الطبعة الأميرية عن المثل السائر ص 122 «وتأكدت له الأسباب».
(4) في مآثر الإنافة «وأمانته».(10/256)
المحلّ المكين، ووصفه به من الحلم الرّزين، وأشار به من رفع المنزلة، وتقديم الرّتبة، والتأهيل لولاية الأعمال، وتحمّل الأعباء والأثقال، وحيث رغّبه فيه، سابقة الحسين أبيه، في الخدمة والنصيحة، والمشايعة الصّحيحة، والمواقف المحمودة، والمقامات المشهودة، التي طابت بها أخباره، وحسنت فيها آثاره، وكان محمد متخلّقا بخلائقه، وذاهبا على طرائقه: علما وديانة، وورعا وصيانة، وعفّة وأمانة، وشهامة وصرامة، وتفرّدا بالحظ الجزيل: من الفضل الجميل والأدب الجزل (1)، والتوجّه في الأهل، والإيفاء في المناقب على لداته وأترابه، والإبرار على قرنائه وأضرابه فقلّده ما كان داخلا في أعمال أبيه من نقابة نقباء الطالبيّين بمدينة السلام وسائر الأعمال والأمصار، وشرقا وغربا، وبعدا وقربا، واختصّه بذلك جذبا بضبعه، وإنافة بقدره، وقضاء لحقّ رحمه، وترفيها لأبيه، وإسعافا له بإيثاره فيه، إلى ما أمر أمير المؤمنين باستخلافه عليه من النّظر في المظالم، وتسيير الحجيج في أوان المواسم والله يعرّف أمير المؤمنين الخيرة فيما أمر ودبّر، وحسن العاقبة فيما قضى وأمضى، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.
أمره بتقوى الله التي هي شعار المؤمنين، وسيما الصالحين، وعصمة عباد الله أجمعين وأن يعتقدها سرّا وجهرا، ويعتمدها قولا وفعلا، فيأخذ بها ويعطي، ويريش ويبري (2)، ويأتي ويذر، ويورد ويصدر فإنها السبب المتين، والمعقل الحصين، والزاد النافع يوم الحساب، والمسلك المفضي إلى دار الثّواب، وقد حضّ الله أولياءه عليها، وهداهم في محكم كتابه إليها فقال: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ حَقَّ تُقََاتِهِ وَلََا تَمُوتُنَّ إِلََّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (3). وقال تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَكُونُوا مَعَ الصََّادِقِينَ} (4).
__________
(1) في مآثر الإنافة «من الفضل والأدب».
(2) في هامش الطبعة الأميرية عن المثل السائر «ويسرّ وينوي».
(3) آل عمران / 102.
(4) التوبة / 119.(10/257)
وأمره بتلاوة كتاب الله سبحانه مواظبا، وتصفّحه مداوما ملازما، والرّجوع إلى أحكامه فيما أحلّ وحرّم، ونقض وأبرم، وأثاب وعاقب [وباعد وقارب] (1) فقد صحّح الله برهانه [وحجّته] (2)، وأوضح منهاجه ومحجّته، وجعله فجرا في الظّلمات طالعا، ونورا في المشكلات ساطعا، فمن أخذ به نجا وسلم، ومن عدل عنه هلك وهوى [وندم] (3). قال الله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَكِتََابٌ عَزِيزٌ لََا يَأْتِيهِ الْبََاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلََا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (4).
وأمره بتنزيه نفسه عما تدعو إليه الشّهوات، وتتطلّع إليه النّزوات، وأن يضبطها ضبط الحكيم، ويكفّها كفّ الحليم، ويجعل عقله سلطانا عليها، وتمييزه آمرا ناهيا لها فلا يجعل لها عذرا إلى صبوة ولا هفوة، ولا يطلق منها عنانا عند ثورة ولا فورة، فإنّها أمّارة بالسّوء، منصبّة إلى الغيّ فالحازم يتّهمها عند تحرّك وطره وأربه، واهتياج غيظه وغضبه، ولا يدع أن يغضّها بالشكيم (5)، ويعركها عرك الأديم، ويقودها إلى مصالحها بالخزائم (6)، ويعتقلها عن مقارفة المحارم والمآثم، كيما يعزّ بتذليلها وتأديبها، ويجلّ برياضتها وتقويمها، والمفرّط في أمره تطمح به إذا طمحت، ويجمح معها أنّى جمحت، ولا يلبث أن تورده حيث لا صدر، وتلجئه إلى أن يعتذر، وتقيمه مقام النادم الواجم، وتتنكّب به سبيل الراشد السالم وأحقّ من تحلّى بالمحاسن، وتصدّى لاكتساب المحامد، من ضرب بمثل سهمه في نسب أمير المؤمنين الشريف، ومنصبه المنيف، واجتمع معه في ذؤابة العترة الطاهرة، واستظلّ بأوراق الدّوحة الفاخرة، فذاك الذي تتضاعف له المآثر إن آثرها، والمثالب إن أسفّ إليها، ولا سيّما من كان مندوبا لسياسة غيره،
__________
(1) الزيادة من مآثر الإنافة ومن الطبعة الأميرية عن المثل السائر.
(2) الزيادة من مآثر الإنافة ومن الطبعة الأميرية عن المثل السائر.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية عن المثل السائر.
(4) فصلت / 4241.
(5) من شكم (بكاف مكسورة) شكما (بالتحريك): جاع، فهو شكيم.
(6) الخزائم: جمع خزامة وهي حلقة من الشعر توضع في ثقب أنف البعير، يشدّ بها الزمام. ويقال:
وضع في أنف فلان الخزامة: أذلّه وسخّره.(10/258)
ومرشّحا للتقليد على أهله، إذ ليس يفي بإصلاح من ولّي عليه، من لا يفي بإصلاح ما بين جنبيه، وكان من أعظم الهجنة أن يأمر ولا يأتمر، ويزجر ولا يزدجر، قال الله عزّ وجلّ: {أَتَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتََابَ أَفَلََا تَعْقِلُونَ} (1).
وأمره بتصفّح أحوال من ولّي عليهم واستقراء مذاهبهم، والبحث عن بواطنهم (2) ودخائلهم، وأن يعرف لمن تقدّمت قدمه منهم وتظاهر فضله فيهم منزلته، ويوفّيه حقّه ورتبته، وينتهي في إكرام جماعتهم إلى الحدود التي توجبها أنسابهم (3) وأقدارهم، وتقتضيها مواقفهم وأخطارهم: فإنّ ذلك يلزمه لشيئين (4):
أحدهما يخصّه وهو النّسب الذي بينه وبينهم، والآخر يعمّه والمسلمين جميعا، وهو قول الله جلّ ثناؤه: {قُلْ لََا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ََ} (5)
فالمودّة لهم والإعظام لأكابرهم، والإشبال (6) على أصاغرهم [واجب] (7)
متضاعف الوجوب عليه، ومتأكّد اللزوم له ومن كان منهم في دون تلك الطّبقة من أحداث لم يحتنكوا، أو جذعان (8) لم يقرحوا، مجرين إلى ما يزري بأنسابهم ويغضّ من أحسابهم، عذلهم ونبّههم، ونهاهم ووعظهم فإن نزعوا وأقلعوا فذاك المراد بهم، والمقصود إليه فيهم، وإن أصرّوا وتتابعوا، أنالهم من العقوبة بقدر ما يكفّ ويردع فإن نفع وإلا تجاوزه إلى ما يوجع ويلذع، من غير تطرّق لأعراضهم، ولا انتهاك لأحسابهم، فإنّ الغرض منه الصّيانة، لا الإهانة،
__________
(1) البقرة / 44.
(2) في مآثر الإنافة «عن طرائقهم».
(3) في مآثر الإنافة «أسبابهم».
(4) في مآثر الإنافة «لسببين».
(5) الشورى / 23.
(6) الإشبال: العطف. وفي مآثر الإنافة «والإقبال» وفي هامش الطبعة الأميرية عن المثل السائر «والاشتمال» وجميعها تفيد المعنى نفسه.
(7) الزيادة من الطبعة الأميرية عن المثل السائر.
(8) الجذعان: جمع جذع وهو الشاب الحدث.(10/259)
والإدالة، لا الإذالة، وإذا وجبت عليهم الحقوق، أو تعلّقت بهم دواعي الخصوم، قادهم إلى الإغفاء بما يصح منها ويجب، والخروج إلى سنن الحق فيما يشتبه ويلتبس ومتى لزمتهم الحدود أقامها عليهم بحسب ما أمر الله به فيها، بعد أن تثبت الجرائم وتصح، وتبين وتتّضح، وتتجرّد عن الشكّ والشّبهة، وتتجلّى من الظنّ والتّهمة، فإن الذي يستحبّ في حدود الله أن تدرأ عن عباده مع نقصان اليقين والصّحّة، وأن تمضى عليهم مع قيام الدليل والبيّنة. قال الله عزّ وجل: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللََّهِ فَأُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ} (1).
وأمره بحياطة هذا النّسب الأطهر، والشّرف الأفخر، عن أن يدّعيه (2)
الأدعياء، أو يدخل فيه الدّخلاء ومن انتمى إليه كاذبا، وانتحله باطلا، ولم يوجد له بيت في الشّجرة (3)، ولا مصداق عند النّسّابين المهرة، أوقع به من العقوبة ما يستحقّه، ووسمه بما يعلم به كذبه وفسقه، وشهره شهرة ينكشف بها غشّه ولبسه، وينزع بها غيره ممن تسوّل له مثل ذلك نفسه وأن يحصن الفروج عن مناكحة من ليس لها كفؤا، ولا مشاركها في شرفها وفخرها، حتّى لا يطمع في المرأة الحسيبة النّسيبة إلا من كان مثلا لها مساويا، ونظيرا موازيا، فقد قال الله تعالى: {إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (4).
وأمره بمراعاة متبتّلي أهله ومتهجّديهم، وصلحائهم ومجاوريهم، وأراملهم وأصاغرهم، حتّى يسدّ الخلّة من أحوالهم، ويدرّ الموادّ عليهم، وتتعادل أقساطهم فيما يصل إليه من وجوه أموالهم، وأن يزوّج الأيامى ويربّي اليتامى، ويلزمهم المكاتب (5) ليتلقّنوا القرآن، ويعرفوا فرائض الإسلام والإيمان، ويتأدّبوا بالآداب،
__________
(1) البقرة / 229.
(2) وهذه كانت من واجبات نقيب الأشراف الطالبيين. راجع الحاشية الثانية من الصفحة: 256.
(3) أي شجرة النسب.
(4) الأحزاب / 33.
(5) المراد الكتاتيب جمع كتّاب وهو مكان صغير لتعليم الصبيان القراءة والكتابة وتحفيظهم القرآن الكريم.(10/260)
اللائقة بذوي الأحساب: فإنّ شرف الأعراق، محتاج إلى شرف الأخلاق ولا حمد لمن شرف نسبه، وسخف أدبه، إذ كان لم يكسب الفخر الحاصل له بفضل سعي ولا طلب، ولا اجتهاد ولا دأب، بل بصنع من الله عز وجلّ له، ومزيد في المنّة عليه، وبحسب ذلك لزوم ما يلزمه من شكره سبحانه على هذه العطيّة، والاعتداد بما فيها من المزيّة، وإعمال النّفس في حيازة الفضائل والمناقب، والترفّع عن الرّذائل والمثالب.
وأمره بإجمال النّيابة عن شيخه الحسين بن موسى فيما أمره أمير المؤمنين باستخلافه عليه من النظر في المظالم، والأخذ للمظلوم من الظالم، وأن يجلس للمترافعين إليه جلوسا عامّا، ويتأمّل ظلاماتهم تأمّلا تامّا فما كان منها متعلّقا بالحاكم ردّه إليه، ليحمل الخصوم عليه، وما كان طريقه طريق الغشم والظّلم، والتغلّب والغصب، قبض عنه اليد المبطلة، وثبّت فيه اليد المستحقّة، وتحرّى في قضاياه أن تكون موافقة للعدل، ومجانبة للخذل، فإنّ غايتي الحاكم وصاحب المظالم واحدة: وهي إقامة الحق ونصرته، وإبانته وإنارته، وإنما يختلف سبيلاهما في النظر: إذ الحاكم يعمل على ما ثبت وظهر، وصاحب المظالم يفحص عمّا غمض واستتر، وليس له مع ذلك أن يردّ لحاكم حكومة، ولا يعلّ له قضيّة، ولا يتعقّب ما ينفذه ويمضيه، ولا يتتّبع ما يحكم به ويقضيه، والله يهديه ويسدّده، ويوفّقه ويرشده.
وأمره أن يسيّر حجيج بيت الله إلى مقصدهم، ويحميهم في بدأتهم وعودتهم، ويرتّبهم في مسيرهم ومسلكهم، ويرعاهم في ليلهم ونهارهم، حتّى لا تنالهم شدّة، ولا تصل إليهم مضرّة، وأن يريحهم في المنازل (1)، ويوردهم المناهل، ويناوب بينهم في النّهل والعلل، ويمكّنهم من الارتواء والاكتفاء، مجتهدا في الصّيانة لهم، ومعذرا في الذّبّ عنهم، ومتلوّما على متأخّرهم
__________
(1) في مآثر الإنافة «وأن يرعاهم في المنازل».(10/261)
ومتخلّفهم، ومنهضا لضعيفهم ومهيضهم، فإنهم حجّاج بيت الله الحرام، وزوّار قبر الرسول عليه السلام، قد هجروا الأوطان، وفارقوا الأهل والإخوان، وتجشّموا المغارم الثّقال، وتعسّفوا السّهول والجبال، يلبّون دعاء الله عز اسمه، ويطيعون أمره ويؤدّون فرضه ويرجون ثوابه، وحقيق على المسلم المؤمن أن يحرسهم متبرّعا، ويحوطهم متطوّعا فكيف من تولّى ذلك وضمنه، وتقلّده واعتنقه، قال الله: {وَلِلََّهِ عَلَى النََّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطََاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (1).
وأمره أن يراعي أمور المساجد بمدينة السلام وأطرافها، وأقطارها وأكنافها، وأن يجبي أموال وقوفها، ويستقصي جميع حقوقها، وأن يلمّ شعثها، ويسدّ خللها، بما يتحصّل من هذه الوجوه قبله، حتى لا يتعطّل رسم جرى فيها، ولا تنقض عادة كانت لها، وأن يثبت اسم أمير المؤمنين على ما يعمره منها، ويذكر اسمه بعده بأنّ عمرانها جرى على يديه، وصلاحها أدّاه قول أمير المؤمنين إلى فعله، فقد فسّح له أمير المؤمنين بذلك تنويها باسمه، وإشادة بذكره وأن يولّي ذلك من قبله من حسنت أمانته، وظهرت عفّته وصيانته، فقد قال الله تعالى: {إِنَّمََا يَعْمُرُ مَسََاجِدَ اللََّهِ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقََامَ الصَّلََاةَ وَآتَى الزَّكََاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللََّهَ فَعَسى ََ أُولََئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (2).
وأمره أن يستخلف على ما يرى الاستخلاف عليه من هذه الأعمال: في الأمصار الدانية، والبلاد القريبة والبعيدة، من يثق به من صلحاء الرجال، وذوي الوفاء والاستقلال، وأن يعهد اليهم مثل الذي عهد إليه، ويعتمد عليهم في مثل ما اعتمد عليه، ويستقري مع ذلك آثارهم، ويتعرّف أخبارهم، فمن وجده محمودا أقرّه ولم يزله، ومن وجده مذموما صرفه ولم يمهله، واعتاض منه من ترجى (3) الأمانة عنده، وتكون الثّقة معهودة منه وأن يختار لكتابته وحجبته والتصرّف فيما قرب منه وبعد
__________
(1) آل عمران / 97.
(2) التوبة / 18.
(3) في مآثر الإنافة «من ترتجى».(10/262)
عنه، من يزينه ولا يشينه، وينصح له ولا يغشّه، ويجمّله ولا يهجّنه، من الطبقة المعروفة بالظّلف (1)، المتصوّنة عن النّطف (2) ويجعل لهم من الأرزاق الكافية، والأجرة الوافية، ما يصدّهم عن المكاسب الذميمة، والمآكل الوخيمة، فليس تجب عليهم الحجّة إلا مع إعطاء الحاجة، قال الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسََانِ إِلََّا مََا سَعى ََ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ََ ثُمَّ يُجْزََاهُ الْجَزََاءَ الْأَوْفى ََ} (3).
وأمره بأن يكتب لمن يقوم ببيّنته عنده وتنكشف حجته له، إلى أصحاب المعاون (4) بالشّدّ على يديه، وإيصال حقّه إليه، وحسم الطمع الكاذب فيه، وقبض اليد الظالمة عنه، إذ هم مندوبون للتصرّف بين أمره ونهيه، والوقوف عند رسمه وحدّه.
(5) وهذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجّته لك وعليك، وقد أنار فيه سبيلك وأوضح دليلك، وهداك وأرشدك وجعلك على بيّنة من أمرك، فاعمل به ولا تخالفه، وانته إليه ولا تتجاوزه، وإن عرض لك أمر يعجزك الوفاء به، ويشتبه عليك وجه الخروج منه، أنهيته إلى أمير المؤمنين مبادرا، وكنت إلى ما يأمرك (6) به صائرا، إن شاء الله تعالى. وكتب في مستهلّ شعبان (7) سنة ثمانين وثلاثمائة.
ومنها ولاية الصلاة.
__________
(1) الظّلف هنا بمعنى الترفع عن الدنايا.
(2) النطف (بالتحريك): العيب.
(3) النجم / 414039.
(4) المراد برجال المعاون أصحاب السلطات كرجال الإدارة والشرطة. وفي مآثر الإنافة «أصحاب المعاقل».
(5) لعل الواو زائدة.
(6) في مآثر الإنافة: «أمرك».
(7) في مآثر الإنافة «في مستهل رمضان سنة ثمانين وثلاثمائة».(10/263)
وهذه نسخة عهد كتب بها أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله، لأبي الحارث محمد بن موسى العلويّ الموسوي، بتقليده الصلاة في جميع النواحي والأمصار والأطراف، وتوقّف عن إظهاره لرأي رآه في ذلك، وهي:
هذا ما عهد عبد الله إلى محمد بن موسى العلويّ، لمّا استكفاه النظر في نقابة الطالبيين فكفاه، وتحمّل ذلك العبء فأغناه، وفات النظراء في الاستقلال والوفاء، وبذّ الأمثال في الاضطلاع والغناء، جامعا إلى شرف الأحساب والأعراق، شرف الآداب والأخلاق، وإلى كرائم المفاخر والمناقب، مكارم الطّباع والضّرائب (1)، على الحداثة من سنّه، والغضاضة من عوده، مستوليا من البراعة والنّجابة، والفراهة واللّبابة، على التي لا يبلغها الشّيب المفارق، فضلا عن البالغ المراهق، وغايات تنقطع دونها أنفاس المنافسين، وتتضرّم عليها أحشاء الحاسدين لا سيّما وقد أطّت (2) بأمير المؤمنين إليه شواجن الأرحام، وعطفته على اصطناعه عواطف الآباء والأعمام، واقتضت آثاره المحمودة، وطرائقه الرّشيدة، أن يناوبه على رتبة لم يبلغها أحد من ولد أبيه، ولم يفترع ذوائبها رجل دونه، فقلّده الصلاة بمدينة السلام في خمسة جوامعها: فأوّلها الجامع الداخل في حريم أمير المؤمنين، وجامع الرّصافة، وجامع المنصور، وجامع براثى، وجامع الكفّ الذى تولّى أبوه إشادته وعمارته، وحسنت آثاره في إنشائه وإعلائه وحيث سمت همته إليه، وبذل المجهود في إنفاق الأموال الدّثرة (3) عليه واستنزل بذلك من الله أجزل إثابة المثابين، وأوفر أجر المأجورين، وجميع المنابر في شرق الأرض وغربها، وبعيد الأقطار وقريبها وأمير المؤمنين يسأل الله حسن التسديد في ذلك وسائر مراميه، وجميع مطالبه ومغازيه، وجواري هممه التي يمضيها، وسرايا عزماته التي
__________
(1) الضرائب: جمع ضريبة وهي الطبع والسجيّة.
(2) في القاموس: مادة أط ط «أطّت له: رقّت وتحركت».
(3) قال في لسان العرب: 4/ 277 «الدّثر، بالفتح: المال الكثير، لا يثنى ولا يجمع. يقال: مال دثر ومالان دثر وأموال دثر. وقيل: هو الكثير من كل شيء» ولعل هاء التأنيث من زيادة الناسخ.(10/264)
ينويها، وأن يجعل النجاح قائدها وسائقها، والصلاح أوّلها وآخرها وما توفيق أمير المؤمنين إلّا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.
أمره بتقوى الله التي هي أحرز المعاقل، وأحصن الجنن عند النّوازل، وأعظم ملجإ يلجأ إليه، وآمن موئل يعوّل عليه، وأن يعتقدها في خلوته وحفلته، ويعتمدها في سرّه وعلانيته، ويجعلها سببا يتّبعه، ولباسا يدّرعه، فينازع بها من نازعه، ويوادع بها من وادعه: فإنها أوكد الأسباب، وأوصل القرب والأنساب، وأولى الناس بالتمسّك بحبلها، والاشتمال بظلّها، من كان بأجلّ المناسب تعلّقه، وبأشرف الخلائق تخلّقه قال الله سبحانه: {إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (1).
وأمره بتلاوة القرآن، والمواظبة عليه والإدمان، والائتمار بما فيه من الأوامر، والازدجار عما تضمّن من الزّواجر، وأن يجعله الإمام المتّبع فيقفوه، والطريق المهيع (2) فيقصده وينحوه: فإنه العلم المنجي من الغواية، والدليل القائد إلى الهداية، والنور الساطع للظلام إذا أشكل مشكل، والحاكم القاضي بالحقّ إذا أعضل معضل، قال الله: {وَإِنَّهُ لَكِتََابٌ عَزِيزٌ لََا يَأْتِيهِ الْبََاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلََا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (3).
وأمره بتهذيب لبّه، من جوامح الوساوس، وتطهير قلبه، من مطامح الهواجس، وأن يتوقّى اللحظة العارمة (4)، ويتجنّب اللفظة المؤلمة، عاصيا جواذب الخلاعة، ومطيعا أوامر النّزاهة، حتّى يستوي خافيه وعالنه، ويتّفق ظاهره وباطنه، فعال من جعله إمام المسلمين إماما، وقدّمته الرعية أماما، وكان إلى الله داعيا، وله عن عباده مناجيا، وبينهم وبين خالقهم وسيطا، وعلى ما قلّده من الصلاة بهم أمينا: لتصحّ شروط صلاته، ويقبل مرفوع دعواته قال الله عز وجل:
__________
(1) الأحزاب / 33.
(2) الطريق المهيع: الطريق البيّن.
(3) فصلت / 42.
(4) يقال: رجل عارم: خبيث شرّير.(10/265)
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعََا إِلَى اللََّهِ وَعَمِلَ صََالِحاً وَقََالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1).
وأمره بالمحافظة على الصلوات، وانتهاز فرصها من الأوقات، والدخول فيها بالرّقّة والخشوع، والتوفّر بالإخبات (2) والخضوع وحقيق على كل مستشعر شعار الإسلام، ومتجلبب جلباب الإيمان، أن يفعل ذلك مستوفيا شروطه ومستقصيا حدوده ورسومه، فكيف بمن أقامه أمير المؤمنين [مقامه] (3) في امتطاء غوارب (4) المنابر وذراها، ونصبه منصبه في أمّ الرعيّة أدناها وأقصاها. قال الله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً} (5). وقال: {اتَّقُوا اللََّهَ حَقَّ تُقََاتِهِ وَلََا تَمُوتُنَّ إِلََّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (6).
وأمره بالسّعي في الجمع إلى المساجد الجامعة، وفي الأعياد إلى المصلّيات الضاحية، وأن يخصّ أحدها بصلاته فيه وقصده له، ويأمر خلفاءه على الصلاة بالافتراق في سائر الجوامع وباقي المنابر، بعد الأمر بجمع المؤذّنين والمكبّرين، وإحضار القوّام والمرتّبين، في أتمّ أهبة وأجمل هيئة، بقلوب مستشعرة للخشوع، متصدّية للدّموع، وألسن بالتسبيح والتقديس منطلقة، وآمال في حسن الجزاء وجزيل الثّواب منفسحة، حتّى تعبّر ألسنتهم إذا افترعوا الخطب وافتتحوا الكلم عن مكنون ضمائرهم، ومضمون سرائرهم، فتجيء المواعظ بالغة، والزواجر ناجعة قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتََابَ أَفَلََا تَعْقِلُونَ} (7).
وأمره بمراعاة المساجد، وتعهّد الجوامع وسدّ خللها، ولمّ شعثها، فإنها
__________
(1) فصلت / 33.
(2) الإخبات: الخشوع والتواضع.
(3) الزيادة يقتضيها السياق.
(4) غوارب المنابر: ظهورها.
(5) الأحزاب / 70.
(6) آل عمران / 102.
(7) البقرة / 44.(10/266)
مقاوم (1) عزّه وفخره، ومحاضر صيته وذكره، ومراكز أعلام الدّين الخافقة، ومطالع شموس الإسلام الشارقة، ومواقف الحق المشهودة، وقواعد الإيمان الموطودة، مما لا يتضعضع أحدها إلا تضعضع من أركان الإسلام له ركن، ولا التات (2)
بعضها إلا التات من أعضاء الدّين عضو قال الله عز وجل: {إِنَّمََا يَعْمُرُ مَسََاجِدَ اللََّهِ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقََامَ الصَّلََاةَ وَآتَى الزَّكََاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللََّهَ فَعَسى ََ أُولََئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (3).
وأمره في خطبته بكثرة التحفّظ، وعند افتتاحه واختتامه بطول التيقّظ، فإن العيون به منوطة، والأعناق إليه ممدودة، والمسامع فاغرة تتلقّف ما يقوله، والقلوب فارغة لحفظ ما يبديء وما يعيد فقليل الزّلل، في ذلك الموقف كثير، وصغير الخطل، في ذلك المقام كبير والله تعالى يسدّده إلى المحجّة (4) الوسطى، ويقف به على الطريقة المثلى، بمنّه.
وأمره بالسّكينة في انتصابه للصّلاة الجامعة، وتقدّمه لقضاء الفروض اللازمة، وأن يسكن [في كلّ] (5) حدّ من حدودها في الرّكوع والسّجود، والقيام والقعود، فإنه عليها محاسب، وبما يلحق من يأتمّ به في جميعها مطالب، وأن يفرّع قلبه لما يتلوه من البيان، ويرفع صوته بما يمرّ به من قوارع القرآن، مرتّلا لقراءته، ومسترسلا في تلاوته: ليشترك في سماعها الأقرب والأقصى، وينتفع بمواعظها الأبعد والأدنى، بعد إخلاص سرّه وانتزاعه، وتسويته في الطهور بين باديه وخافيه، وغائبه وحاضره، فليس بالطاهر عند الله تعالى من يصيب بالماء أطرافه، وأدرن بالخبائث شغافه قال الله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا نُودِيَ لِلصَّلََاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ََ ذِكْرِ اللََّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (6). وقال:
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية: «المقاوم: جمع مقوم. والمقوم الخشبة التي يمسكها الحراث ولعله يريد أنها آلات عزه وفخره.
(2) أي انتقص منه شيء.
(3) التوبة / 18.
(4) الحجة: الطريق المستقيم.
(5) الزيادة من الطبعة الأميرية وهي غير موجودة في الأصل.
(6) الجمعة / 9.(10/267)
{إِنَّ الصَّلََاةَ كََانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتََاباً مَوْقُوتاً} (1).
وأمره أن يقيم الدّعوة على منابر أعماله القاصية والدانية والغائبة والحاضرة لأمير المؤمنين، ثم للناهض عنه بالأعباء، والقائم دونه في البأساء والضّرّاء، الذي غذّي بلبان الطاعة، وانقاد بزمام المتابعة: بهاء الدولة، ولولاة الأعمال من بعده الذين يدعى لهم على المنابر، ما يكون منها على العادة الجارية فيها، فإنها دعوة تلزم إقامتها، وكلمة تجب إشادتها، إذ كانت متعلّقة بطاعة الله عزّ وجلّ، وقد أوجبها الله تبارك وتعالى على كافّة المسلمين وجميع المعاهدين، إذ يقول [وهو] أصدق القائلين: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللََّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (2) وعائدتها تعمّهم، وفائدتها تشملهم، إذ كان صلاح الرعيّة مقرونا بصلاح راعيها، وفساد الأمّة منوطا بفساد واليها.
وأمره باستخلاف من يرى استخلافه على الصّلاة في الأقطار والأطراف والنواحي والبلدان، وأن يختار من الرجال كلّ حسن البيان، مصقع (3) اللسان بليل الرّيق إذا خطب، بليغ القول إذا وعظ.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجّته لك وعليك قد أعذر فيه وأنذر، وهدى من الضّلالة وبصّر، وأعلقك زمام رشدك وغيّك، وقلّدك عنان هلكك وفوزك، وخيّرك في كلا الأمرين، ووقفك إزاء الطريقين فإن سلكت أهدا هما لم تلبث أن تعود غانما، وإن ولجت أضلّهما فغير بعيد أن تؤوب نادما واستعن بالله يعنك، واستزده من الكفاية يزدك، واستلبسه الهداية يلبسك، واستدلله على نجاح المطالب يدللك، إن شاء الله، والحمد لله وحده.
ومنها نظر الأوقاف.
__________
(1) النساء / 103.
(2) النساء / 59.
(3) المصقع: البليغ المتفنن في مذاهب القول.(10/268)
وهذه نسخة عهد من ذلك، كتب بها أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله للحسين بن موسى العلوي، وهي:
هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين، إلى الحسين بن موسى العلويّ، حين طابت منه العناصر، ووصلته بأمير المؤمنين الأواصر جمع إلى شرف الأعراق الذي ورثه، شرف الخلق الذي اكتسبه ووضحت آثار دينه وأمانته، وبانت أدلّة فضله وكفايته، في جميع ما أسنده أمير المؤمنين إليه من الأعمال، وحمّله إيّاه من الأثقال، فأضاف إلى ما كان ولّاه من [ذلك] (1) النّظر في الوقوف التي كانت يد فلان فيها بالحضرة وسوادها، ثقة بسداده، وسكونا إلى رشاده، وعلما بأنه يعرف حقّ الصّنيعة، ويرعى ما يستحفظه من الوديعة، ويجري في المنهل الذي أحمده أمير المؤمنين منه ووكل إليه. والله يمدّ أمير المؤمنين بصواب الرأي فيما نحاه وتوخّاه، ويؤمّنه في عاقبته النّدم فيما قضاه وأمضاه وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.
أمره بتقوى الله التي هي عماد الدين، وشعار المؤمنين، وأن يعتقدها في سرّه ونجواه، ويجعلها الذخيرة لأولاه وأخراه، ويتجنّب الموانع المونية (2)، ويتوقّى الموارد المردية، ويغضّ طرفه عن المطامع (3) المغوية، ويذهب بنفسه عن المطارح المخزية فإنه أحق من فعل ذاك وآثره، وأولى من اعتمده واستشعره، بنسبه الشريف، ومفخره المنيف، وعادته المشهورة، وشاكلته المأثورة، وتلاوة كتاب الله الذي هو وعترة رسول الله الثّقلان المخلّفان في الأمّة،
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية. وعبارة مآثر الإنافة «فأضاف الى ما كان ولّاه من النظر في الوقوف التي كانت يد فلان فيها الوقوف (على النصب) بالحضرة وسوادها».
(2) في مآثر الإنافة «الموبية» بالباء الموحدة.
(3) في مآثر الإنافة «المطامح».(10/269)
وقد جمعته، وآخرهما الأنساب وجمعته والثاني عصمة أولى الألباب (1)، وتوجّهت حجّة الله [عليه] (2) بما يرجع من هذه الفضائل إليه، وأنّه غصن من دوحة أمير المؤمنين، التي تحدّاها الله بالإنذار قبل الخلائق أجمعين، إذ يقول لرسوله محمد صلّى الله عليه وعلى آله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (3). وقد حضّ تبارك وتعالى على التّقوى، ووعد عباده عليها الزّلفى، فقال: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَكُونُوا مَعَ الصََّادِقِينَ} (4).
وأمره بالاشتمال على ما أسنده إليه أمير المؤمنين من هذه الوقوف مستنفدا طوقه في عمارتها، مستفرغا وسعه في مصلحتها، دائبا في استغلالها وتثميرها، مجتهدا في تدبيرها وتوفيرها، وأن يصرف فاضل كلّ وقف منها بعد الذي يخرج منه للنّفقة على حفظ أصله، واستدرار حلبه، والمؤونة الراتبة للقوّام عليه، والحفظة له، إلى أربابه الذي يعود ذلك عليهم في وجوهها التي سبّل لها، ووقف عليها، واضعا جميع ذلك مواضعه، موقعا له مواقعه، خارجا إلى الله من الحقّ فيه، مؤدّيا الأمانة إليه، وأن يشهد على القابضين بما يقبضونه من وقوفهم، ويكتب البراآت عليهم بما يستوفونه من أموالهم، ويستظهر لنفسه بإعداد الشّواهد والأدلّة على ما ينفقه من أموال هذه الوقوف على مصالحه، ويصرفه منها إلى أهلها، ويخرجه منها في حقوقها وأبواب برّها، وسائر سبلها ووجوهها، سالكا في ذلك مذهبه المعروف في أداء الأمانة، واستعمال الظّلف والنّزاهة، معقّبا على من كان ناظرا فيها من الخونة الذين لم يرعوا عهدا، ولم يتصوّنوا عن سحت (5) المطاعم، وظلم المآثم.
وأمره باستكتاب كاتب معروف بالسّداد، مشهور بالرّشاد، معلوم منه
__________
(1) هذه الجمل هكذا في الأصول، وهي غير مستقيمة.
وفي مآثر الإنافة «وقد جمعته وأحدهما الانساب، وجمعنا والثاني عصمة أولي الألباب».
(2) الزيادة من مآثر الإنافة.
(3) الشعراء / 214.
(4) التوبة / 119.
(5) السّحت: ما خبث وقبح من المكاسب.(10/270)
نصيحة الأصحاب، والضّبط للحساب، وتفويض ديوان الوقوف وتدبيره إليه، وتوصيته بصيانة ما يشتمل عليه من أصول الأعمال وفروعها، وقليل الحجج وكثيرها، وأن يحتاط لأربابها في حفظ رسومها ومعاملاتها، وحراسة طسوقها (1)
ومقاسماتها، حتّى لا يستمرّ عليها حيف يبقى أثره، ولا يتغيّر فيها رسم يخاف ضرره، وأن ينصف الأكرة (2) فيها والمزارعين، وسائر المخالطين والمعاملين، ولا يجشّمهم حيفا، ولا يسومهم خسفا، ولا يغضي لهم عن حق، ولا يسمح لهم بواجب، خلا ما عادت السّماحة به بزيادة عماراتهم، وتأليف نيّاتهم، واجتلاب الفائدة منهم والعائدة بهم فإنه مؤتمن في ذلك كلّه أمانة، وعليه أن يؤدّيها ويخرج عن الحقّ فيها.
وأمره باختيار خازن حصيف، قؤوم أمين، يخزن حجج هذه الوقوف وسجلّاتها، وسائر دفاترها وحسباناتها فإنّها ودائع أربابها عنده، وواجب أن يحتاط عليها جهده فمتى شكّ في شرط من الشّروط، أو حدّ من الحدود، أو عارض معارض، أو شاغب مشاغب، في أيّام نظره وأيّام من عسى أن تنقل ولاية هذه الوقوف إليه، ويناط تدبيرها به، دفع ما يحدث من ذلك بهذه الحجج التي هي معارف (3) البرهان، وقواعد البنيان، وإليها المرجع في كلّ بينة تنصر (4) وتقام وشبهة تدحض وتضام.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، ووثيقته الحاصلة في يديك فاتّبع آثار أوامره، وازدجر عن نواهيه وزواجره، واستمسك به تنج وتسلم، واعمل عليه تفز
__________
(1) الطسوق: جمع طسق وهو شبه الخراج له مقدار معلوم. واللفظ غير عربي. (التعريف بمصطلحات الصبح: 231).
(2) الأكرة: الفلاحون.
(3) في مآثر الإنافة «معادن البرهان».
(4) في مآثر الإنافة «تبصر».(10/271)
وتغنم، واسترشد الله يرشدك، واستهده يهدك، واستعن به ينصرك، وفوّض إليه يعصمك إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني
(مما يكتب من ديوان الخلافة لأرباب السّيوف التقاليد. وهي لمن دون أرباب العهود في الرّتبة، وليس لافتتاحها عندهم ضابط) وهذه نسخة تقليد بحماية الكوفة، لأبي طريف بن عليان العقيلي، من إنشاء أبي إسحاق الصابي، وهي:
قد رأينا تقليدك أطال الله بقاءك الحماية بالكوفة وأعمالها وما يجري معها ثقة بشهامتك وغنائك، وسكونا إلى استقلالك ووفائك، واعتقادا لاصطناعك واصطفائك، وحسن ظنّ بك في شكر ما يسدى إليك، ومقابلته بما يحقّ عليك، من الأثر الجميل فيما تولّاه، والمقام الحميد فيما تستكفاه فتولّ أيدك الله ذلك مقدّما تقوى الله ومراقبته، ومستمدّا توفيقه ومعونته، واحرس الرعيّة في مساكنها، والسّابلة في مسالكها، وادفع عن عملك ونواحيه أهل العيث جميعا، واطلبهم طلبا شديدا، واطرقهم في مكامنهم، وتولّج عليهم في مظانّهم، ونكّل بمن تظفر به منهم نكالا تقيم به حكم الله عليهم، وحدوده في أمثالهم، وبالغ في ذلك مبالغة تخيف الظّنين وتوجسه، وتؤمّن السّليم وتؤنسه، وراع الأكرة والمزارعين حتّى ينبسطوا في معايشهم، ويتصرّفوا في مصالحهم، وتتيسّر عواملهم في عماراتها، ومواشيهم في مسارحها ومتى طردت لأحد منهم طريدة أو امتدّت إليهم يد عاتية، ارتجعت ما أخذ له، ورددته بعينه أو قيمة مثله، وخفّف عمن ولّيت عليه الوطأة، وارفع عنهم المؤونة والكلفة، وخذهم بالتناصف، واقبضهم عن التظالم، وامنع قويّهم من تحيّف المضعوف، وشريفهم من استضامة المشروف، وأولهم من عدلك وحسن سيرتك، واستقامة طريقتك، ما يتّصل عليه شكرك، ويطيب به ذكرك، ويقتضي لك دوام الولاية، وتضاعف العناية.
واعلم بأنك فيما ولّيته من هذا الأمر متضمّن للمال والدّم، ومأخوذ بكل ما
يهمّك من ذمة ومحرم فليكن اجتهادك في الضّبط والحماية، واحتراسك من الإهمال والإضاعة، بحسب ذلك، واكتب بأخبارك على سياقتها، وآثارك لأوقاتها: ليتّصل لك الإحماد (1) عليها، والمجازاة عنها، إن شاء الله تعالى.(10/272)
واعلم بأنك فيما ولّيته من هذا الأمر متضمّن للمال والدّم، ومأخوذ بكل ما
يهمّك من ذمة ومحرم فليكن اجتهادك في الضّبط والحماية، واحتراسك من الإهمال والإضاعة، بحسب ذلك، واكتب بأخبارك على سياقتها، وآثارك لأوقاتها: ليتّصل لك الإحماد (1) عليها، والمجازاة عنها، إن شاء الله تعالى.
النوع الثالث (مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لأرباب الوظائف ببغداد من أصحاب الأقلام)
وهي على ضربين:
الضرب الأوّل (العهود)
ورسمها على نحو ما تقدّم في عهود أرباب السّيوف، تفتتح ب «هذا ما عهد» إلى آخر الترتيب المتقدّم ذكره.
وهذه نسخة عهد بولاية قضاء حاضرة بغداد وسائر الأعمال كتب به المسترشد بالله لقاضي القضاة أبي القاسم عليّ بن الحسين الزينبي (2)، وهي:
هذا ما عهد عبد الله أبو منصور الفضل، الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين، إلى قاضي القضاة عليّ بن الحسين الزينبي: لمّا تأمّل طريقته، وشحذ عقيدته، وأحمد مذاهبه، وارتضى ضرائبه، وتكاثرت دواعيه، وحسنت مساعيه، ووجده عند الاختبار، وفي مضمار الاعتبار، راجعا إلى عقل رصين، ودين متين، وأمانة مشكورة، ونزاهة مخبورة، وورع ثمر المشرع، عار من دنس المطمع، وعلم توفّر منه قسمه، وأصاب فيه سهمه، وحين راعى فيه موروث شرف
__________
(1) من أحمده: استبان له استحقاقه للحمد.
(2) هو علي بن الحسين بن محمد الزينبي. له تصانيف منها: «الجامع الكبير» و «التجريد» في الفقه توفي سنة 543هـ. (الأعلام: 4/ 279).(10/273)
النّسب، إلى شرف العلم المكتسب، مع ما سلف لبيته من الحرمات المرعية المتأكّدة، والقربات المرضيّة المتمهّدة، والسوابق المحكمة المرائر (1)، الحميدة المباديء والمصاير، فقلّده قضاء القضاة بمدينة السلام وسائر الأمصار، في الآفاق والأقطار، شرقا وغربا، وبعدا وقربا، إنافة به إلى ما أصبح له مستحقّا، واستمرّ استيجابه مسترقّا، وجذبا بضبعه إلى ما يتحقّق نهوضه بأعبائه، وحسن استقلاله به وغنائه، واقتفاء لآثار الأئمة الراشدين في إيداع الودائع عند مستحقّها، وتفويض الأمور إلى أكفائها وأهلها، لا سيّما أولياء دولتهم، وأغذياء نعمتهم، الذين كشفت عن سجف خبرتهم التّجارب، ووردوا من الخلال الرشيدة أعذب المشارب، وانتهجوا الجدد الواضح، وتقبّلوا الخلق الصالح والله سبحانه يقرن عزائم أمير المؤمنين بالخيرة في كلّ رأي يرتئيه، وأمر يؤمّه وينتحيه، ويصدّق مخيلته في كلّ حال يأتيها، ويمضي عزمه فيها وما توفيقه إلا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.
أمره بتقوى الله التي لا يسعد أحد إلا بالتمسّك بسببها، ولا يشقى إلا مع إضاعتها فإنّها الجناب المريع، والمعقل المنيع، والنّجاة يوم الفزع الأكبر، والعدّة النافعة في المعاد والمحشر، والعصمة الحامية من نزعات الشيطان ومخايله، المنقذة من أشراكه وحبائله وبها تمحّص الأوزار، وتنال الأوطار، وتدرك المآرب، وتنجح المطالب قال الله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللََّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقََاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئََاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللََّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (2).
وأمره باستشعار خشية الله سبحانه في قوله وفعله واختلاف أطواره وأحواله، وتذكّر ما هو قادم عليه، ووافد إليه: {يَوْماً لََا يَجْزِي وََالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلََا مَوْلُودٌ هُوَ جََازٍ عَنْ وََالِدِهِ شَيْئاً} (3)، فلا يقوده الهوى إلى اتّباع شهوة، أو إجابة
__________
(1) المرائر: جمع المرير وهو ما طال ولطف واشتد فتله من الحبال.
(2) الأنفال: 29.
(3) لقمان / 33.(10/274)
داعي هفوة أو صبوة، إلا كان الخوف قادعه (1)، والحذار مانعه، وأن يجعل التواضع والوقار شيمته، والحلم دأبه وخليقته، فيكظم غيظه عند احتدام أواره، واضطرام ناره، مجتنبا عزّة الغضب الصائرة إلى ذلّة الاعتذار، ومتوخّيا في كل حال للمقاصد السليمة الإيراد والإصدار، وأن يتأمل أحوال غيره تأمّل من جعلها لنفسه مثالا، واتّخذها لنسجه منوالا فما استحسنه منها فيأتيه، وما كرهه فيجتويه (2)، غير ناه عمّا هو من أهله، ولا آمر بما هو مجانب لفعله قال الله جلّت عظمته:
{أَتَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتََابَ أَفَلََا تَعْقِلُونَ} (3).
وأمره بتلاوة كتاب الله مواظبا، والإكثار من قراءته دائبا، وأن يجعله إماما يقتفيه، ودليلا يتّبعه فيهديه، ونورا يستضيء به في الظّلمات، وهاديا يسترشده عند اعتراض الشّبهات، وموئلا يستند إليه في سائر أحكامه، وحصنا يلجأ به في نقضه وإبرامه، عاملا بأوامره، ومزدجرا بزواجره، ومنعما نظره في محكم آياته، وصادع بيّناته، ومعملا فكره في خوض غماره، واستخراج غوامض أسراره فإنّه الحقّ الذي لا يجور متّبعه، والمتجر الذي لا يبور مبتضعه، والمنار الذي به يقتدى، والمنهج الذي بأعلامه يهتدى، والمصدر الذي تغرى به الأمور في ملبس الإشكال، وتشرع معه الأحوال المستبهمة في ورود الوضوح السّلسال، وينبوع الحكمة الذي ضرب الله فيه الأمثال، وفرق فيه بين الحرام والحلال، والهداية والضّلال قال الله سبحانه: {وَنَزَّلْنََا عَلَيْكَ الْكِتََابَ تِبْيََاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى ََ لِلْمُسْلِمِينَ} (4).
وأمره بدراسة السّنن النّبويّة صلوات الله على صاحبها، والاقتداء بما جاءت به من مكارم الأخلاق التي ندب إليها، وحضّ عليها، وتتبّع ما يتداخلها من
__________
(1) قدع فلانا عن الشيء: كفّه ومنعه.
(2) اجتوى الشيء بمعنى كرهه.
(3) البقرة / 44.
(4) النحل / 89.(10/275)
الأخبار الجريحة (1)، والرّوايات غير الصّحيحة، والفحص عن طرقها وإسنادها، وتمييز قويمها وميّادها، والبحث عن رواتها، منحوزها (2) وثقاتها فما ألفاه بريئا من الطعن، آمنا من القدح والوهن، عاريا من ملابس الشّكّ والارتياب، عاطلا عن حلى الشّبهة والاعتياب، اتّبعه واقتفاه، وتمثّله واحتذاه، وكان به حاكما، ولأدواء الباطل باتّباعه حاسما، وما كان مترجّحا (3) بين كفّتي الشكّ واليقين، ولم تبد فيه مخايل الحق المبين، جعل الوقف حكمه، وردع عن العمل به عزمه، إلى أن يضح الحقّ فيه، فيعتمد ما يوجبه ويقتضيه: فإنه عليه السلام الداعي إلى الهدى، والرحمة التي عصم الله بها من عوادي الرّدى، والهادي الذي لم يفصل بين العمل بفرائض كتابه وسننه في قوله تقدّست أسماؤه، وجلّت آلاؤه: {وَمََا آتََاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمََا نَهََاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ شَدِيدُ الْعِقََابِ} (4).
وأمره بإقامة الصّلوات الخمس المفروضة في أوقاتها، والمبادرة إليها قبل فواتها، والإتيان بشرائطها المحدودة وأركانها.
وأمره بمجالسة العلماء، ومباحثة الفقهاء، ومناقشة ذوي البصيرة والفهم، والفطنة والحزم، ومشاورتهم في عوارض الأمور المشكلة، وسوانح الأحكام المستبهمة المعضلة، حتى يصرّح محض رأيه وآرائهم عن زبدة الصّواب، وتنتج أفكارهم باستجمامها نظرا شافيا بالجواب، رافعا عنه منسدل الحجاب وإنّ في ذلك ثلجا للصّدور، واستظهارا في الأمور، واحترازا من دواعي الزّلل، واستمرار الخلل، وامنا من غوائل الانفراد، وحطّا للتعويل على الاستبداد فلربّ ثقة أدّت إلى خجل، وأمن أفضى إلى وجل وما زالت الشّورى مقرونة بالإصابة، محكمة عرى الحق وأسبابه، حارسة من عواقب النّدم، داعية إلى السلامة من زلّة القدم
__________
(1) أي الفاسدة المعطون فيها. يقال: كثرت هذه الأحاديث واستجرحت: فسدت وقلّ صحاحها.
(2) من نحز الشيء: نخسه ودفعه وركله. والمراد الروايات المستبعدة لعدم الثقة برواتها.
(3) أي مترددا متذبذبا.
(4) الحشر / 7.(10/276)
وقد أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم، وأزلف محلّه لديه، بالاستظهار بالمشاورة مع عظم خطره، وشرف قدره فقال: {وَشََاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذََا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (1).
وأمره أن يختار للحكم الأماكن الفسيحة الأرجاء، الواسعة الفضاء، وينظر في أمور المسلمين نظرا تفترّ ثغور العدل فيه، وتلوح خشية الله من مطاويه، فيوصّل إليه كافّة الخصوم، ويبرز لهم على العموم، غير مشدّد حجابه، ولا مرتج (2)
دون المترافعين إليه بابه، وأن يولي كلّا من الإقبال عليه، وحسن الإصغاء إليه، ما يكون بينهم فيه مساويا، ولهم في مجمع الموازاة حاويا، ولا يعطي من التفاته [إلى] (3) الشريف لشرفه، وذي الشارة الحسنة من أجل ثوبه ومطرفه، ما يمنعه من تقحمه العيون، وتترجّم في خموله الظّنون: فإنّ ذلك مطمع لذي الرّواء في دفع الحقّ إذا وجب عليه، والتماس الباطل وإن ضعفت الدّواعي إليه مؤيس لذي الخمول من الانتصار لحقّه، وإن أسفر صبح يقينه ونطقت ألسنة أدلته فالناس وإن تباينوا في الأقدار والقيمة، وتفاوتوا في الأرزاق المقسومة، فالإسلام لهم مجتمع، والحقّ أحقّ أن يتّبع، وهم عند خالقهم سواء إلا من ميّزته التقوى، وتمسّك بسببها الأقوى قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللََّهِ أَتْقََاكُمْ} (4). وقال تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللََّهُ أَوْلى ََ بِهِمََا فَلََا تَتَّبِعُوا الْهَوى ََ أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (5).
وأمره أن يتأمّل أحوال المترافعين إليه، والخصوم لديه، ويتطلّب ما وقع نزاعهم لأجله في نصّ الكتاب، ويعدل إلى السّنّة عند عدمه من هذا الباب فإن
__________
(1) آل عمران / 159.
(2) رتج الباب: أغلقه.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية، وهي لازمة لانتظام السياق.
(4) الحجرات / 13.
(5) النساء / 135.(10/277)
فقد من هذين الوجهين، فليرجع إلى ما اختاره السّلف المهتدون، وأجمع عليه الفقهاء المجتهدون فإن لم يلف فيه قولا ولا إجماعا، ولا وجد إليه طريقا مستطاعا، أعمل رأيه واجتهاده، وامتطى ركاب وسعه وجياده، مستظهرا بمشورة الفقهاء في هذه الحال، ومستخلصا من آرائهم ما يقع عليه الاتّفاق الآمن الاعتلال: {وَاللََّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (1).
وأمره باستعمال الأناة عند الحكومات، واستماع الدّعاوى والبيّنات، من غير سرعة تحدث خطلا، ولا إفراط في التأنّي يورث مللا، فإنّ الحقّ بين ذينك على شفا خطر، وظهر غرر (2)، ولا سيّما إذا كان أحد الخصمين منطيقا، ينمّق كلامه تنميقا، فإنه يخلب ببلاغة نطقه مستمعه، ويغطّي وجه الباطل بألفاظه الموشّعة (3)، فإذا اتّفق لديه ما هذا سبيله، شحذ له غرب فطنته، وأرهف غرار فكره وبصيرته، ومنح كلّا من الإنصات ما يجتلي وجه النّصف منيرا، ويغدو لأشياع الجور مبيرا. وإن ذو اللّسن روّعه، وأو همه أنّ الحقّ معه، بما يلفّقه من كلام يقصر خصمه عن جوابه، ويحصر (4) عن جداله واستيفاء خطابه، مع عدم البينة المشهودة، وتعذّر الحجة الموجودة، استعاد كلامه واستنطقه، واستوضح مغزاه وتحقّقه، من غير إظهار إعجاب بما يذكره، ولا اغترار بما يطويه وينشره، ولا إصغاء يبدو أثر الرّغائب من فحواه، ولا اختصاص له بما يمنع صاحبه شرواه (5):
لئلا يولّد ذلك له اشتطاطا، ويحدث له انطلاقا في الخصومة وانبساطا حتّى إذا ابتسم الحقّ، وانتصر الصّدق، وفلج أحدهما بحجّته، ولحن ببيّنته، أقرّ الواجب في نصابه، وأداله من جنود الظّلم وأحزابه، وأمضى الحكم فيه باعتزام صادق، ورأي محصد الوثائق، غير ملتفت إلى مراجعة الخصوم وتشاجرهم، وشكواهم
__________
(1) الأحزاب / 4.
(2) الغرر: الخطر والتعريض للهلكة.
(3) الموشّع: الموشى.
(4) حصر في كلامه: عيي.
(5) شروى الشيء: مثله ونظيره.(10/278)
وتنافرهم، اعتمادا للواجب، وانتهاجا لجدد العدل اللاحب (1). قال الله تعالى:
{يََا دََاوُدُ إِنََّا جَعَلْنََاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النََّاسِ بِالْحَقِّ وَلََا تَتَّبِعِ الْهَوى ََ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ لَهُمْ عَذََابٌ شَدِيدٌ بِمََا نَسُوا يَوْمَ الْحِسََابِ} (2).
وأمره إذا انتدب للقضاء أن يفرّغ باله، ويقضي أمامه أو طاره وأشغاله، ويخلّي من أحوال الدنيا سرّه، ويشرح لما هو بصدده صدره فلا تنزع نفسه إلى تحصيل مأرب، ولا تتطلّع إلى درك مطلب فإن القلب إذا اكتنفته شجونه، وأحاطت به شؤونه، كان عرضة لتشعّب أفكاره، وحمله على مركب اضطراره الجاري بضدّ إيثاره واختياره، حريّا بالتقصير عن الفهم والإفهام، والضّجر عند مشتجر الخصام.
وأمره بالتثبّت في الحدود، والاستظهار عند إقامتها بمن يسكن إلى قوله من الشّهود، والاحتياط من عجل يحيل الحكم عن بيانه، أو ريث يرجيه عند وضوحه وتبيانه، وأن يتجافى عمّا لم يصرّح له بذكره وشرحه، ولا يسرع إلى تصديق ساع وإن تشبّه بالناصحين في نصحه، حتّى يستبين له الحقّ فيمضيه، عاملا بما يوجبه حكم الله فيه، وأن يدرأ من الحدود ما اعترضت الشّبهة دليله (3)، وكانت شواهده مدخولة، ويقيم منها ما قامت شهوده، ولم يمكن إنكاره وجحوده قال الله تعالى مكبرا لتجافيها، ومعظّما للتجوّز فيها: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللََّهِ فَأُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ} (4).
وأمره بتصفّح أحوال الشّهود المعدّلين، المسموعة أقوالهم في أمور المسلمين وأحوال الدّين، ومواصلة البحث عن طرائقهم، واستشفاف خلائقهم،
__________
(1) أي طريق العدل الواضح المستقيم.
(2) سورة ص / 26.
(3) عملا بالحديث الشريف «ادرأوا الحدود بالشبهات».
(4) البقرة / 229.(10/279)
مستخدما في ذلك سرّه وجهره، وواصلا بعوان دأبه فيه بكره فمن علمه سليما في فعله، غير ظنين في أصله، متحرّيا في كسبه، مرضيّا في مذهبه، حافظا لكتاب الله سبحانه، متمسّكا من علم الشريعة بما يلوي عن مهاوي الخطإ عنانه، حاليا بالدّيانة المنيرة المطالع، حاميا نفسه عن الإسفاف إلى دنايا المطامع، حاويا من الظّلف والأمانة، والقدر والصيانة، والاحتراس والتحفّظ، والتحرّز والتيقّظ، ما تميّز به على أشكاله وأترابه، وطال مناكب أمثاله وأضرابه، فقد كملت صفاته، واقتضت تقديمه أدواته، ووجب أن يمضي كونه عدلا، ويجعله لقبول الشهادة أهلا ومن رآه عن هذه الخلال مقصّرا، وببعضها مستظهرا، وكان موسوما بديانة مشكورة، ونزاهة مأثورة، رضي بذلك منه قانعا، وحكم بقوله سامعا. ومن كان عن هذين الفريقين نائيا، ولأحوالهم المبيّن ذكرها نافيا، ألغى قوله مطّرحا، وردّ شهادته مصرّحا فإنّ هؤلاء الشهود أعوان الحق على انتصاره، وحرب الباطل على تتبيره وبواره، ومحجّة الحاكم إلى قضائه، ووزره (1) الذي يستند إليه في سائر أنحائه فإذا أعذر في ارتيادهم، واستفرغ وسعه في انتقادهم، فقد خرج من عهدة الاجتهاد، واستحقّ من الله جزاء المجتهد يوم التّناد، ومتى غرّر في ذلك توجّهت اللائمة عليه، وكان قمنا (2) بنسبة التقصير في الاحتياط إليه والله يتولّى السرائر، ويبلو خفيّات الضمائر، قال سبحانه: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدََاءِ} (3). وقال اجل ذكره: {سَتُكْتَبُ شَهََادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ} (4).
وأمره أن يكل أمور اليتامى في أملاكهم وأموالهم، ومراعاة شؤونهم وأحوالهم، إلى الثّقات الأعفّاء، والكفاة الأتقياء، الذين لا تستهويهم دواعي
__________
(1) الوزر (بالتحريك): الجبل المنيع، والملجأ والمعتصم.
(2) القمن: الخليق، والجدير، ومثلها القمين. والمراد: كان مستحقا بنسبة. الخ.
(3) البقرة / 282.
(4) الزخرف / 19.(10/280)
الطّمع، ولا يوردهم الإسفاف موارد الطّبع (1)، وأن يتتبّع أمورهم ويتصفّحها، ويشارفها بنفسه ويستوضحها، عالما أنه عمّا في أيديهم مسؤول، فإنّ عذره في إهمال يتخلّله غير مقبول وهو سبحانه يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوََالَ الْيَتََامى ََ ظُلْماً إِنَّمََا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نََاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} (2).
وأن يوعز إليهم بالإنفاق على أربابها بالمعروف: لينتهجوا فيها جدد القصد المألوف حتّى إذا بلغوا الحلم، وأونس منهم الرّشد وعلم، وساغ لهم التصرّف في نفوسهم، ووثق منهم باستدرار معايشهم، دفع إليهم أموالهم محروسة، ووفّاهم إيّاها كاملة غير منقوصة، مستظهرا بالشّهادة عليهم، والبراءة منها بتسليمها إليهم، اتّباعا لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتََامى ََ حَتََّى إِذََا بَلَغُوا النِّكََاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوََالَهُمْ وَلََا تَأْكُلُوهََا إِسْرََافاً وَبِدََاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كََانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كََانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذََا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوََالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى ََ بِاللََّهِ حَسِيباً} (3).
وأمره بتزويج الأيامى اللّواتي فقدن الأولياء، واعتدى عليهنّ صرف الدّهر وأساء، وأضرّ بهنّ طول الإرمال، وبدت عليهنّ آثار الخلّة (4) في الحال، فينكحهنّ أكفاءهنّ من الرجال، ويتمّ عقد نكاحهنّ على مهور الأمثال.
وأمره بتفويض أمر الوقوف الجارية في نظره إلى من يأمنه ويختاره، وتقرن بإعلانه في ارتضائه أسراره: من أهل التّجربة والحياء، ذوي الاضطلاع والغناء فإنهم أقلّ إلى المطامع تشوّفا، وأبعد في عواقب الأمور نظرا وتلطّفا وأن يوسّع عليهم في الأرزاق، فيوصّلها إليهم مهنّأة عند الوجوب والاستحقاق، فبذلك يملك المرء نفسه ويستصلحها، ويتجنّب مواقف التّهم ويطرحها، وتجب عليه الحجّة إن
__________
(1) الطبع (بالتحريك): الشين والعيب.
(2) النساء / 10.
(3) النساء / 6.
(4) الخلّة: الحاجة والفقر.(10/281)
ثلم أمانة، أو قارف خيانة، مستظهرا بترتيب المشرفين الذين خبر أحوالهم، وسبر أفعالهم.
وأن يتقدّم إلى المستنابين قبله بالإنفاق عليها حسب الحاجة من محصولها، حافظا بما تعمّده من ذلك لأصولها، وجباية ارتفاعها من مظانّها، والتماس حقوقها في أوانها، وصرفها في وجوهها التي شرطها واقفوها، وعيّن عليها أربابها وأهلوها، غير مخلّ مع ذلك بالإشراف والتطلّع، ولا مهمل للفحص والتبلّغ فمن ألفاه حميد الأثر، ورضيّ العيان والخبر، عوّل عليه، وفوّض مستنيما إليه، ومن وجده قد مدّ إلى خيانة يده استبدل به وعزله، جزاء بما فعله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ مَنْ كََانَ خَوََّاناً أَثِيماً} (1).
وأمره أن يستخلف على مانأى عنه من البلاد من جمع [إلى الوقار] (2)
الحلم، وإلى الدّراية الفهم، وإلى التيقّظ الاستبصار، وإلى الورع الاستظهار:
ممن لا يضيق بالأمور ذرعا، ولا تحدث له مراجعة الخصوم ضجرا ولا تبرّما، ولا يتمادى في أسباب الزّلّة، ولا يقصّر عن الرجوع إلى الحقّ إذا اتّضح له، ولا يكتفي بأدنى معدلة عن بلوغ أقصاها، ولا تتهافت نفسه على طاعة هواها، ولا يرجيء الأخذ بالحجة عند انكشافها، ولا يعجّل بحكم مع اعتراض الشّبهة واكتنافها، ولا يستميله إغراء، ولا يزدهيه مدح وإطراء، وأن يعهد بمثل ما عهد أمير المؤمنين إليه، ويعذر في الإجهاد بإيجاب الحجة عليه: ليبرأ من تبعة بادرة عساه يأتيها، أو مزلقة تناديه فيهبّ ملبّيا لداعيها قال الله تعالى: {وَتَعََاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ََ وَلََا تَعََاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوََانِ وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ شَدِيدُ الْعِقََابِ} (3).
وأمره أن يمضي ما أمضاه الحكّام قبله ولا يتعقّب أحكامهم بتأويل، مجتنبا
__________
(1) النساء / 107.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) المائدة / 2.(10/282)
تتبّع عثراتهم، والبحث عن هفواتهم ومهما رفع إليه من ذلك مما الإجماع عليه موافق، ولسان الكتاب والسّنّة به ناطق، أمضاه وحكم به، وإن كان مباينا لمذهبه:
فإنّ الحكومات كلّها ماضية على اختلاف جهاتها، مستمرّة على تنافي صفاتها، محميّة عن التأويل والتعليل، محروسة من التغيير والتبديل، ما كان لها مخرج في بعض الأقوال، أو وجد لها عند الفقهاء احتمال، إلّا أن يكون الإجماع منعقدا على ضدّها، آخذا بإلغائها وردّها، فيستفرغ في إيضاحها جهده، وينفق في تلافيها من الاستطاعة وجده (1)، حتّى يعيدها إلى مقرّها من الواجب، ويمضيها على الحقّ اللّازب (2)، قال الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ} (3).
وأمره أن يتّخذ كاتبا بالظّلف موسوما، وبأدقّ ما يناط به قؤوما، خبيرا بما يسطره، عالما بما يذكره، عارفا بالشّروط والسّجلّات، وما يتوجّه نحوها من التأويلات، ويتداخلها من الشّبه والتلبيسات، مطّلعا على أسرارها وعللها، وتصاريف حيلها، متحرّزا في كل حال، متنزّها عن مذموم الفعال، متّخذا خشية الله شعارا، مسبلا دون عصيانه من التّقى أستارا: فإنها نظاماته التي يرجع إليها، ويده التي يبطش بها ويعوّل عليها ومتى لم يكن له من نفسه وازع، ولا من عقله ودينه رادع، لم يؤمن أن تدبّ عقاربه ليلا، ويسحب على الغوائل والموبقات ذيلا، فيعمّ الضرر بمكانه، ويشرع أذاه إلى المسلمين حدّ سنانه. وأن يتخيّر حاجبا طاويا كشحه دون الأشرار، جامعا لأدب الأخيار، مدّرعا جلباب الحياء، طلق الوجه عند اللّقاء، سهل الجانب ليّنه، مستشعر الخير متيقّنه، غير متجهّم للناس، ولا معاملهم بغير البشاشة والإيناس، فإنه الباب إليه، والمعتمد في لقائه عليه فلينتخبه انتخاب من علم أنّ حسن الثناء خير زاد، وأنفس ذخر وعتاد، ورأى طيّب
__________
(1) الوجد: اليسار والسّعة. وفي التنزيل العزيز: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}.
(2) اللازب: الثابت.
(3) المائدة / 45.(10/283)
المحمدة أجمل كسب مراد، وحظّ مجسّد مستفاد. ومتى كان عن هذه الخلال متخلّيا، وبخلافها متحلّيا، اعتاض عنه بمن هو أسلم غيبا، وآمن ريبا، وأنقى جيبا، وأقلّ عيبا، قال الله سبحانه: {وَمََا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} (1).
وأمره أن يتسلّم ديوان القضاء وما فيه من الحجج والسّجلّات، والوثائق والكفالات، والمحاضر والوكالات، بمحضر من العدول ليكونوا له مشاهدين، وعليه شاهدين، وأن يجعل خزّانها من يرتضيه، باجتماع أدوات الخير فيه، عاملا في حفظها بما تقتضيه الأمانة التي أشفقت السموات والأرض والجبال منها، وأقررن بالعجز عنها، متحرّيا من أمر يبوء معه بالأثام، في دار المقام قال الله تعالى: {إِنََّا عَرَضْنَا الْأَمََانَةَ عَلَى السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبََالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهََا وَأَشْفَقْنَ مِنْهََا وَحَمَلَهَا الْإِنْسََانُ إِنَّهُ كََانَ ظَلُوماً جَهُولًا} (2).
وأمره بمراعاة أمر الحسبة (3) فإنها أكبر المصالح وأهمّها، وأجمعها لنفع الناس وأعمّها، وأدعاها إلى تحصين أموالهم، وانتظام أحوالهم وحسم موادّ الفساد، وكفّ يده عن الامتداد، وأن يتقدّم إلى المستناب فيها بمداومة الاطّلاع على كمّيّة الأسعار، والفحص عن مادّة المخلوقات في الانقطاع والاستمرار، ومواصلة الجلوس في أماكن الأقوات ومظانّها: ليكون تسعيرها بمقتضى زيادتها ونقصانها، غير خارج في ذلك عن حدّ الاعتدال، ولا مائل إلى ما يجحف بالفريقين من إكثار وإقلال، وأن يراعي عيار المكاييل والموازين، ليميّز ذوي الصّحّة من المطفّفين، فيقول لمن حسن اعتباره [مر] (4) حى ويقابل من ساء اختباره بما يجعله لأمثاله رادعا، حتّى يزنوا بالقسطاس المستقيم، ويتجنّبوا التطفيف بقلب من إضمار
__________
(1) الكهف / 51.
(2) الأحزاب / 22.
(3) المراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية ومرحى: كلمة تعجب تقال للرامي أو الخطيب أو نحوهما إذا أصاب. وإذا أخطأ قيل له: برحى.(10/284)
المعاودة سليم قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتََالُوا عَلَى النََّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذََا كََالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلََا يَظُنُّ أُولََئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النََّاسُ لِرَبِّ الْعََالَمِينَ} (1).
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجّته عند الله تعالى عليك وقفك [فيه] (2) على منهج الصّلاح، وأعلقك منه إن اتّبعته بأسباب النّجاح، وأدرّ به عليك خلف السّعادة إن أمريته (3) بيد القبول، وجمع لك مع احتذائه (4) بدائد المأمول، وعطف لديك متى تمثّلته شوارد السّول، وأو جدك ضالّة متاعك إن أصغيت إليه سامعا مطيعا، وأعاد إن ائتمرت بأوامره شمل أقوالك جميعا، وأرادك مرعى النجاة إن نهضت بأعبائه مريعا، لم يدّخرك فيه شفيفا، ولا حقرك إرشادا وتعريفا، خلع به ربقة الأمانة عن عنق اجتهاده، وأوضح لك ما يسأل غدا عن فعله واعتماده.
فبادر إلى العمل به مسرعا، وقم بالمحدود فيه مضطلعا، واعلم أنّ لكل عالم هفوة، ولكلّ جواد كبوة فاغضض عن مطامح الهوى طرفك، واثن عن أضاليل الدّنيا الغرّارة عطفك، واخش موقفا تشخص فيه الأبصار، وتعدم الأعوان والأنصار، يوم ينظر المرء ما قدّمت يداه، وتنقطع الوسائل إلا ممّن أطاع الله واتّقاه، ينعم عوفك (5)، ويأمن يوم القيامة خوفك ومهما عرض لك من شبهة لم تلف مخرجا منها، ولا صدرا عنها، ولا وجدت لسقبها هناء، ولدائها شفاء، فطالع حضرة أمير المؤمنين بحالها مستعلما، وأنهها إليه مستفتحا باستدعاء الجواب عما أصبح لديك مستغلقا مبهما، يمددك منه بما يريك صبح الحق منبلجا، وضيق الشّكّ منفرجا، عن علم عنده البحر كالقياس، إلى أوشال (6) الناس والله تعالى
__________
(1) المطففين / 1.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) أمريته: استخرجته.
(4) في هامش الطبعة الأميرية «لعله مع اختزاله» ولا نرى مسوّغا لذلك، فالمراد واضح وهو: جمع لك مع اتباعه متفرق المأمول.
(5) أي ينعم بالك وحالك.
(6) أوشال الناس: لفيفهم وأوشابهم.(10/285)
يعضّد آراء أمير المؤمنين بالصواب، ويمدّه بالتوفيق في سائر الآراب، ويقود لمراده أزمّة جوامحها الصّعاب، ما أنجم سحاب، وأثجم رباب (1)، بمنّه وسعة فضله.
وهذه نسخة عهد بولاية القضاء بسرّ من رأى (2)، كتب بها أبو إسحاق الصابي، عن الطائع لله، للقاضي أبي الحسين محمد ابن قاضي القضاة أبي محمد عبيد الله، بن أحمد بن معروف، حين ولّاه القضاء بسرّ من رأى وغيرها، وما أضيف إلى ذلك من أعمال الجزيرة، وهي:
هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم، الإمام الطائع لله أمير المؤمنين، إلى محمد ابن قاضي القضاة عبيد الله بن أحمد، حين عرفت الفضيلة فيه، وتقيّل (3)
مذاهب أبيه، ونشأ من حصنه في المنشإ الأمين، وتبوّأ من سببه ونسبه المتبوّأ المصون، ووجده أمير المؤمنين مستحقّا لأن يوسم بالصّنيعة، والمنزلة الرّفيعة، على الحداثة من سنّه، والغضاضة من عوده، ساميا به في ذلك إلى مراتب أعيان الرّجال، التي لا تدرك إلّا مع الكمال والاكتهال: لما آنس من رشده ونجابته، واستوضح من عقله ولبابته، واسترجح من وقاره وحلمه، واستغزر من درايته وعلمه، وللّذي عليه شيخه قاضي القضاة عبيد الله بن أحمد من حصافة الدّين، وخلوص اليقين، والتقدّم على المتحلّين بحليته، والمنتحلين لصناعته، والاستبداد عليهم بالعلم الجمّ، والمعنى الفخم، والافتنان في المساعي الصالحة التي يسود أحدهم بأحدها، ويستحقّ التّجاوز لهم من استوعبها بأسرها، وبالثّقة والأمانة، والعفّة والنّزاهة، التي صار بها علما فردا، وواحدا فذّا، حتّى تكلّفها من
__________
(1) أثجمت السماء: أسرع مطرها ودام. والرباب: السحاب الأبيض، واحدته ربابة.
(2) سرّ من رأى: لغة في سامراء: مدينة تقع على الضفة اليسرى من دجلة، تبعد عن بغداد حوالي 100 كلم (انظر معجم البلدان: 3/ 173والموسوعة العربية الميسرة: 948).
(3) تقيّل أباه: نزع إليه في الشبه.(10/286)
أجله من ليست من طبعه ولا سنخه، فهو المحمود بأفعاله التي اختص بها وبأفعال غيره ممن حذاه فيها، وبما نفق من بضائع الخير بعد كسادها، وبالسابقة التي له في خدمة المطيع لله أوّلا ثم خدمة أمير المؤمنين ثانيا، فإنّها [سابقة] (1) شائع خبرها، وجميل أثرها، قويّة دواعيها، متمكّنة أواخيها، وللمكانة التي خصّ بها من أمير المؤمنين [ومن عزّ الدولة أبي منصور مولى أمير المؤمنين أيده الله] (2) ومن نصير الدولة الناصح أبي طاهر رعاه الله، ومن عظماء أهل حوزتهم، وأفاريق (3)
عوامّهم ورعيّتهم فلما صدق محمد فراسة أمير المؤمنين ومخايله، واحتذى سجايا أبيه وشمائله، وحصل له ما حصل من الحرمات المتأثّلة، والمواتّ المتأصّلة، أحرز من الأثرة على قرب المدى، ما لا يحرزه غيره على بعد المرمى، واستغنى أمير المؤمنين فيه عن طول التّجربة والاختبار، وتكرّر الامتحان والاعتبار، فقلّده الحكم بين أهل سرّ من رأى، وتكريت، والطبرهان (4)، والسّنّ، والبوازيج، ودقوقا (5)، وخانيجار، والبندنيجين، وبوحسابور، والرّاذانين (6)، [ومسكن] (7) وقطربّل، ونهر بوق، والدبين، وجميع الأعمال المضافة إلى ذلك والمنسوبة إليه، وشرّفه بالخلع والحملان، وضروب الإنعام والإحسان، وكان فيما أعطاه من هذا الصّيت والمجد، ونحله إيّاه من المفخر العدّ، مبتغيا ما كسبه من الله الرّضا والزّلفى، والسلامة في الفاتحة والعقبى، وراعيا لما يوجبه لقاضي قضاته عبيد الله بن أحمد من الحقوق التي أخفى منها أكثر مما أبدى، وأمسك عن أضعاف ما أحصى، وذاهبا على آثار الأئمة المهديّين، والولاة المجتهدين، في إقرار ودائعهم عند المرشّحين لحفظها، المضطلعين بحملها، من أولاد أوليائهم، وذريّة نصحائهم: إذ كان لا بدّ للأسلاف أن تمضي، وللأخلاف أن تنمي،
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «رسائل الصابي».
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «رسائل الصابي».
(3) أفاريق: جمع أفراق والأخيرة جمع فرقة.
(4) وردت في ديوان البحتري «الطيرهان» بالياء المثناة.
(5) في ياقوت «دقوقاء».
(6) وهما راذان الأعلى وراذان الأسفل. قال ياقوت: كورتان بسواد بغداد تشتمل على قرى كثيرة.
(7) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «رسائل الصابي».(10/287)
كالشجر الذي يغرس لدنا فيصير عظيما، والنبات الذي ينجم رطبا فيصير هشيما فالمصيب من تخيّر الغرس من حيث استنجب الشجر، واستحلى الثّمر، وتعمّد بالعرف من طاب منه الخبر، وحسن منه الأثر وأمير المؤمنين يسأل الله تعالى تسديدا تحمد عائدته، وتدرّ عليه مادّته، ويتولّاه في العزائم التي يعزمها، والأمور التي يبرمها، والعقود التي يعقدها، والأغراض التي يعتمدها وما توفيق أمير المؤمنين إلّا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.
أمره باعتماد التّقوى، فإنّها شعار أهل الهدى، وأن يراقب الله مراقبة المتحرّز من وعيده، والمتنجّز لمواعيده، ويطهّر قلبه من موبقات الوساوس، ويهذّبه من مرديات الهواجس، ويأخذ نفسه بمآخذ أهل الدّين، ويكلّفها كلف الأبرار المؤمنين، ويمنعها من أباطيل الهوى، وأضاليل المنى فإنها أمّارة بالسّوء، صبّة (1) إلى الغيّ، صادّة عن الخير، صادفة عن الرّشد، لا ترجع عن مضارّها إلّا بالشّكائم، ولا تنقاد إلى منافعها إلا بالخزائم فمن كبحها وثناها نجّاها، ومن أطلقها وأمرجها (2) أرداها. وأولى من جعل تقوى الله دأبه وديدنه، والخيفة منه منهاجه وسننه، من ارتدى رداء الحكّام، وأمر ونهى في الأحكام، وتصدّى لكفّ الظالم، وردّ المظالم، وإيجاب الحدود ودرئها، وتحليل الفروج وحظرها، وأخذ الحقوق وإعطائها، وتنفيذ القضايا وإمضائها: إذ ليس له أن يأمر ولا يأتمر، ويزجر ولا يزدجر، ويأتي مثل ما ينهى عنه، وينهى عمّا يأتي مثله، بل هو محقوق بأن يصلح ما بين جنبيه، قبل أن يصلح ما ردّ أمره إليه، وأن يهذّب من نيّته، ما يحاول أن يهذّب من رعيّته، قال الله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ حَقَّ تُقََاتِهِ وَلََا تَمُوتُنَّ إِلََّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (3): {فَاتَّقُوا النََّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النََّاسُ}
__________
(1) أي ذات صبوة وميل إلى الخ.
(2) في الأصل: «أهرجها» بالهاء. وقد اخترنا لفظ الطبعة الأميرية. وأمرج الدابة: تركها تذهب حيث شاءت. (انظر اللسان: 2/ 364).
(3) آل عمران / 102.(10/288)
{وَالْحِجََارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكََافِرِينَ} (1).
وأمره بالإكثار من تلاوة القرآن الواضح سبيله، الراشد دليله، الذي من استضاء بمصابيحه أبصر ونجا، ومن أعرض عنها زلّ وغوى، وأن يتخذه إماما يهتدي بآياته، ويقتدي ببيّناته، ومثالا يحذو عليه، ويردّ الأصول والفروع إليه فقد جعله الله حجّته الثابتة الواجبة، ومحجّته المستبينة اللّاحبة، ونوره الغالب الساطع، وبرهانه الباهر الناصع وإذا ورد عليه معضل، أو غمّ عليه مشكل، اعتصم به عائذا، وعطف عليه لائذا فبه يكشف الخطب، ويذلّل الصّعب، وينال الأرب، ويدرك المطلب، وهو أحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم فينا، ونصبهما معلما بعده لنا، قال الله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النََّاسِ بِمََا أَرََاكَ اللََّهُ وَلََا تَكُنْ لِلْخََائِنِينَ خَصِيماً} (2). وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتََابٌ عَزِيزٌ لََا يَأْتِيهِ الْبََاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلََا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (3).
وأمره بالمحافظة على الصّلوات، وإقامتها في حقائق الأوقات، وأن يدخل فيها أوان حلولها بإخلاص من قلبه، وحضور من لبّه، وجمع بين لفظه ونيّته، ومطابقة بين قوله وعمله، مرتّلا للقراءة فيها، مفصحا بالإبانة لها، متثبّتا في ركوعها وسجودها، مستوفيا لحدودها وشروطها، متجنّبا فيها جرائر الخطإ والسّهو، وعوارض الخطل واللّغو: فإنه واقف بين يدي جبّار السماء والأرض، ومالك البسط والقبض، والمطّلع على خائنة كلّ عين وخافية كلّ صدر، الذي لا تحتجب دونه طويّة، ولا تستعجم عليه خبيّة، ولا يضيع أجر محسن، ولا يصلح عمل مفسد وهو القائل عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلََاةَ إِنَّ الصَّلََاةَ تَنْهى ََ عَنِ الْفَحْشََاءِ وَالْمُنْكَرِ} (4).
__________
(1) البقرة / 24.
(2) النساء / 105104.
(3) فصلت / 42.
(4) العنكبوت / 45.(10/289)
وأمره بالجلوس للخصوم، وفتح بابه لهم على العموم، وأن يوازي بين الفريقين إذا تقدّما إليه، ويحاذي بينهما في الجلوس بين يديه، ويقسم لهما أقساما متماثلة من نظره، وأقساطا متعادلة من كلمه: فإنه مقام توازن الأقدام، وتكافؤ الخواصّ والعوامّ، لا يقبل على ذي هيئة لهيئته، ولا يعرض عن دميم لدمامته، ولا يزيد شريفا على مشروف، ولا قويّا على مضعوف، ولا قريبا على أجنبيّ، ولا مسلما على ذمّي، ما جمعهما التخاصم، وضمّهما التحاكم. ومن أحسّ منه بنقصان بيان، أو عجز عن برهان، أو قصور في علم، أو تأخّر في فهم، صبر عليه حتّى يستنبط ما عنده، ويستشقّ ضميره، وينقع بالإقناع غلّته، ويزيح بالإيضاح علّته.
ومن أحسّ منه بلسن وعبارة وفضل من بلاغة، أعمل فيما يسمعه منه فكره، وأحضره ذهنه، وقابله بسدّ خلّة خصمه، والإبانة لكل منهما عن صاحبه، ثم سلّط على أقوالهما ودعاويهما تأمّله، وأوقع على بيّناتهما وحججهما تدبّره، وأنفذ حينئذ الحكومة إنفاذا يعلمان به أنّ الحقّ مستقرّ مقرّه، وأن الحكم موضوع موضعه فلا يبقى للمحكوم عليه استرابة ولا للمحكوم له استزادة، وأن يأخذ نفسه مع ذلك بأطهر الخلائق وأحمدها، وأهدى السّجايا وأرشدها، وأن يقصد في مشيه، ويغضّ من صوته، ويحذف الفضول من [لفظه و] (1) لحظه، ويخفّف من حركاته ولفتاته، ويتوقّر من سائر جنباته [وجهاته] (2)، ويتجنّب الخرق والحدّة، ويتوقّى الفظاظة والشّدّة، ويلين كنفه من غير مهانة، ويربّ هيببته في غير غلظة، ويتوخّى في ذلك وقوفا بين غايتيه، وتوسّطا بين طرفيه، فإنه يخاطب أخلاطا من الناس مختلفين، وضروبا غير متّفقين، ولا يخلو فيهم من الجاهل الأهوج، والمظلوم المحرج، والشيخ الهمّ (3)، والناشيء الغرّ، والمرأة الرّكيكة، والرجل الضعيف النّحيزة وواجب عليه أن يغمرهم بعقله، ويشملهم بعدله، ويقيمهم على الاستقامة بسياسته، ويعطف عليهم بحلمه ورياسته، وأن يجلس وقد نال من
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن رسائل الصابي.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن رسائل الصابي.
(3) الهمّ: الشيخ الكبير الفاني.(10/290)
المطعم والمشرب طرفا يقف به عند أوّل الكفاية، ولا يبلغ منه إلى آخر النهاية، وأن يعرض نفسه على أسباب الحاجة كلّها، وعوارض البشريّة بأسرها: لئلا يلمّ به من ذلك ملمّ أو يطيف به طائف فيحيلانه عن جلده، ويحولان بينه وبين سدده، وليكن همّه إلى ما يقول ويقال له مصروفا، وخاطره على ما يرد عليه ويصدر عنه موقوفا قال الله تعالى: {يََا دََاوُدُ إِنََّا جَعَلْنََاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النََّاسِ بِالْحَقِّ وَلََا تَتَّبِعِ الْهَوى ََ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ لَهُمْ عَذََابٌ شَدِيدٌ بِمََا نَسُوا يَوْمَ الْحِسََابِ} (1).
وأمره إذا ثبت عنده حقّ من الحقوق لأحد من الخصوم، أن يكتب له متى التمس ذلك صاحب المعونة في عمله بأن يمكّنه منه، ويحسم المعارضات فيه عنه، ويقبض كلّ يد تمتدّ إلى منازعته، أو تتعدّى إلى مجاذبته فقد ندب الله الناس إلى معاونة المحق على المبطل، والمظلوم على الظالم إذ يقول عزّ وجلّ: {وَتَعََاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ََ وَلََا تَعََاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوََانِ} (2).
وأمره أن يستصحب كاتبا دربا بالمحاضر والسّجلّات، ماهرا في القضايا والحكومات، عالما بالشّروط والحدود، عارفا بما يجوز وما لا يجوز، غير مقصّر عن القضاة المستورين، والشّهود المقبولين، في طهارة ذيله، ونقاء جيبه، وتصوّنه عن خبث المآكل والمطاعم، ومقارفة الرّيب والتّهم فإن الكاتب زمام الحاكم الذي إليه مرجعه، وعليه معوّله، وبه يحترس من دواهي الحيل، وكوامن الغيل، وحاجبا سديدا رشيدا، أديبا لبيبا، لا يسفّ إلى دنيّة ولا يلم بمنكرة، ولا يقبل رشوة، ولا يلتمس جعالة (3)، ولا يحجب عنه أحدا يحاول لقاءه في وقته،
__________
(1) سورة ص / 26.
(2) المائدة / 2.
(3) الجعالة: ما يجعل على العمل من أجر أو رشوة.(10/291)
والوصول إليه في حينه، وخلفاء يردّ إليهم ما بعد من العمل عن مقرّه، وأعجزه أن يتولّى النظر فيه بنفسه، ينتخبهم من الأماثل، ويتخيّرهم من الأفاضل، ويعهد إليهم في كلّ ما عهد فيه إليه، ويأخذهم بمثل ما أخذ به، ويجعل لكلّ من هذه الطوائف رزقا يكفّه ويكفيه، وقوتا يحجزه ويغنيه فليس تلزمهم الحجّة إلا مع إعطائهم الحاجة، ولا تؤخذ عليهم الوثيقة إلا مع إزاحة العلّة فقد قال الله تعالى:
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسََانِ إِلََّا مََا سَعى ََ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ََ ثُمَّ يُجْزََاهُ الْجَزََاءَ الْأَوْفى ََ} (1).
وأمره بإقرار الشهود الموسومين بالعدالة على تعديلهم، وإمضاء القضاء بأقوالهم، وحملهم على ظاهر السّلامة، وشعار الاستقامة، وأن يعتمد مع هذا البحث عن أديانهم، والفحص عن أماناتهم، والإصغاء إلى الأحاديث عنهم: من ثناء يتكرر، أو قدح يتردّد فإذا تواتر عنده أحد الأمرين، ركن إلى المزكيّ الأمين، ونبا عن المتّهم الظّنين: فإنه إذا فعل ذلك اغتبط أهل الأمانة بأماناتهم، ونزع أهل الخيانة عن خياناتهم، وتقرّبوا إليه بما تنفق سوقه، ويستحقّ به التوجّه عنده، واستمرّ شهوده وأمناؤه، وأتباعه وخلفاؤه، على المنهج الأوضح، والمسلك الأنجح، وتحصّنت الأموال والحقوق، وصينت الحرمات والفروج ومتى وقف لأحد منهم على هفوة لا تغفر، وعثرة لا تقال، أسقطه من عددهم، وأخرجه عن جملتهم، واعتاض منه من يحمد دينه، ويرتضي أمانته قال الله تعالى: {وَإِمََّا تَخََافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيََانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى ََ سَوََاءٍ إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ الْخََائِنِينَ} (2). وقال في الشهادة: {وَأَقِيمُوا الشَّهََادَةَ لِلََّهِ} (3).
وأمره بالضّبط لما يجري في عمله من الوقوف الثابتة في ديوان حكمه،
__________
(1) النجم / 39.
(2) الأنفال / 58.
(3) الطلاق / 2.(10/292)
والتعويل فيها على الأمناء الثّقات، والحصفاء الكفاة، المعروفين بالظّلف والورع، المتنزّهين عن النّطف والجشع، والتقدّم إليهم في حفظ أصولها، وتوفير فروعها، وتثمير غلالها وارتفاعها، وصرفها إلى أهلها ومستحقّها وفي وجوهها وسبلها، ومطالبتهم بحساب ما يجري على أيديهم، والاستقراء لآثارهم فيه وأفعالهم، وأن يحمد منهم من كفى وكفّ، ويذم من أضاع وأسفّ، وينزل كلّا منهم منزلته التي استحقّها بعمله، واستوجبها بأثره، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمََانََاتِ إِلى ََ أَهْلِهََا وَإِذََا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النََّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللََّهَ نِعِمََّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللََّهَ كََانَ سَمِيعاً بَصِيراً} (1).
وأمره بالاحتياط على أموال الأيتام، وإسنادها إلى أعفّ وأوثق القوّام، والتقدّم إلى كل طائفة بأن يجريهم مجرى ولده، ويقيمهم مقام سلالته، في الشفقة عليهم، والإصلاح لشؤونهم، والإشراف على تأديبهم، وتلقينهم ما لا يسع المسلم جهله من الفرائض المفترضة، والسّنن المؤكّدة، وتخريجهم في أبواب معايشهم، وأسباب مصالحهم، والإنفاق عليهم من عرض أموالهم بالمعروف الذي لا شطط فيه ولا تبذير، ولا تضييق ولا تقتير فإذا بلغوا مبالغ كمالهم، وأونس منهم الرّشد في متصرّفاتهم، أطلق لهم أموالهم، وأشهد بذلك عليهم فقد جعله الله بما تقلّده من الحكم، خلفا من الآباء لذوي اليتم، وصار بهذه الولاية عليهم مسؤولا عنهم، ومجزيّا عما سار به فيهم، وأوصله من خير أو شرّ إليهم قال الله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعََافاً خََافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللََّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوََالَ الْيَتََامى ََ ظُلْماً إِنَّمََا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نََاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} (2).
وأمره بحفظ ما في ديوانه من الوثائق والسّجلّات، والحجج والبيّنات،
__________
(1) النساء / 58.
(2) النساء / 9.(10/293)
والوصايا والإقرارات: فإنها ودائع الرعيّة عنده، وواجب أن يحرسها جهده، وأن يكلها إلى الخزّان المأمونين، والحفظة المتيقّظين، ويوعز إليهم بأن لا يخرجوا شيئا منها عن موضعه ولا يضيفوا إليها ما لم يكن بعلمه، وأن يتّخذ لها بيتا يحصرها به، ويجعله بحيث يأمن عليه: ليرجع متى احتاج الرجوع إليه فقد قال الله تعالى:
{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمََانََاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رََاعُونَ} * (1).
وأمره إن ورد عليه أمر يعييه فصله، ويشتبه عليه وجه الحكم فيه، أن يردّه إلى كتاب الله، ويطلب به سبيل المخلص منه، فإن وجده وإلا ففي الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أدركه وإلا استفتى فيه من يليه من ذوي الفقه والفهم، والهداية والعلم فما زالت الأئمة والحكّام من السّلف الصالح، وطرّاق السّنن الواضح، يستفتي واحد منهم واحدا، ويسترشد بعض بعضا، لزوما للاجتهاد، وطلبا للصواب، وتحرّزا من الغلط، وتوقّيا من العثار قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنََازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللََّهِ وَالرَّسُولِ} (2).
وأمره أن لا ينقض حكما حكم به من كان قبله ولا يفسخه، وأن يعمل عليه ولا يعدل عنه، ما كان داخلا في إجماع المسلمين، وسائغا في أوضاع الدّين فإن خرج عن الإجماع، أوضح الحال فيه لمن بحضرته من الفقهاء والعلماء حتّى يصيروا مثله في إنكاره، ويجتمعوا معه على إيجاب ردّه، ثم ينقضه حينئذ نقضا يشيع ويذيع، ويعود به الأمر إلى واجبه، ويستقرّ معه الحقّ في نصابه قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الْفََاسِقُونَ} (3).
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجّته عليك قد شرح به صدرك، وأوضح به سبلك وأقام أعلام الهداية لك، ولم يألك تبصيرا وتذكيرا، ولم يدّخرك تعريفا
__________
(1) المؤمنون / 8.
(2) النساء / 59.
(3) المائدة / 47.(10/294)
وتوقيفا، ولم يجعلك في شيء من أمرك على شبهة تعترضك، ولا حيرة تعتاقك والله شاهد له بخروجه من الحق فيما وصّى وعهد، وعليك بقبولك ما قبلت مما ولّى وقلّد فإن عدلت واعتدلت وذلك خليق بك فقد فاز وفزت معه، وإن تجانفت (1) وزللت وذلك بعيد منك فقد ربح وخسرت دونه فلتكن التقوى زادك، والاحتراس شعارك، واستعن بالله يعنك، واستهده يهدك، واعتضد به يعضّدك، واستمدّ من توفيقه يمددك إن شاء الله تعالى.
[وكتب نصير الدولة الناصح أبو طاهر يوم كذا من رجب سنة ست وستين وثلاثمائة] (2).
وهذه نسخة عهد بقضاء القضاة [بحاضرة بغداد وسائر الأعمال] (3) شرقا وغربا كتب به عن الإمام الناصر لدين الله أحمد (4)، للقاضي محيي الدين أبي عبد الله محمد بن فضلان، من إنشاء أستاد الدار عضد الدين بن الضحّاك، وهي:
هذا ما عهد عبد الله وخليفته في العالمين، المفترض الطاعة على الخلق أجمعين، أبو العبّاس أحمد الناصر لدين الله أمير المؤمنين، إلى محمد بن يحيى ابن فضلان: حين سبر خلاله واستقراها، واعتبر طرائقه واستبراها، فألفاه رشيدا في مذاهبه، سديدا في أفعاله وضرائبه، موسوما بالرّصانة، حاليا بالورع والدّيانة، مبرّزا من العلوم في فنونها، عالما بمفروض الشريعة المطهّرة ومسنونها، مدّرعا ملابس العفاف، قد أناف على أمثاله في بوارع الأوصاف، فقلّده قضاء القضاة في مدينة السلام وجميع البلاد والأعمال، والنواحي والأمصار: شرقا وغربا، وبعدا
__________
(1) تجانف: تمايل، وتجانف عنه: عدل، وتجانف في مشيته: اختال وتمايل.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن رسائل الصابي.
(3) الزيادة من مآثر الإنافة: 3/ 140.
(4) هو أحمد بن المستضيء بأمر الله بن المستنجد. بويع بالخلافة سنة 575هـ وتوفي سنة 622هـ.
واستمرت خلافته 46سنة و 11شهرا إلا يومين. (الأعلام: 1/ 110).(10/295)
وقربا، سكونا إلى ما علم من حاله، واضطلاعه بالنهضة المنوطة به واستقلاله، وركونا إلى قيامه بالواجب فيما أسند إليه، ونهوضه بعبء ما يعوّل في حفظ قوانينه عليه، واستنامة إلى حلول الاصطناع عنده، ومصادفته منه مكانا تبوّاه بالاستحقاق وحده والله تعالى يعضّد آراء أمير المؤمنين بمزيد التوفيق في جميع الأمور، ويحسن له الخيرة فيما يؤمّه من مناظم الدّين وصلاح الجمهور وما توفيق أمير المؤمنين إلّا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.
أمره بتقوى الله تعالى في إعلانه وإسراره، وتقمّص شعارها في إظهار أمره وإضماره فإنها العروة الوثقى، والذّخر الأبقى، والسعادة التي ما دونها فوز ولا فوقها مرقى، وهي حلية الأبرار، وسيما الأخيار، والمنهج الواضح، والمتجر الرابح، والسبيل المؤدّي إلى النجاة والخلاص، يوم لا وزر ولات حين مناص، وأنفع العدد والذّخائر، وخير العتاد يوم تنشر الصّحف وتبلى السّرائر، يوم تشخص الأبصار، وتعدم الأنصار: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفََادِ سَرََابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرََانٍ وَتَغْشى ََ وُجُوهَهُمُ النََّارُ} (1)، ولا ينجو من عذاب الله يومئذ إلا من كان زاده التقوى، وتمسّك منها بالسبب الأقوى قال الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزََّادِ التَّقْوى ََ وَاتَّقُونِ يََا أُولِي الْأَلْبََابِ} (2).
وأمره أن يجعل كتاب الله إماما يهتدي بمناره، ويستصبح ببواهر أنواره، ويستضيء في ظلم المشكلات بمنير مصباحه، ويقف عند حدود محظوره ومباحه، ويتّخذه مثالا يحتذيه، ودليلا يتّبع أثره فيهديه، ويعمل به في قضاياه وأحكامه، ويقتدي بأوامره في نقضه وإبرامه: فإنه دليل الهدى ورائده، وسائق النّجح وقائده، ومعدن العلم ومنبعه، ومنجم الرّشاد ومطلعه، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمّة، والذّكر الذي جعله الله تعالى تبيانا لكل شيء
__________
(1) ابراهيم / 5049.
(2) البقرة / 197.
(3) في مآثر الإنافة «جعلهما».(10/296)
وهدى ورحمة، فقال عزّ من قائل: {وَنَزَّلْنََا عَلَيْكَ الْكِتََابَ تِبْيََاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى ََ لِلْمُسْلِمِينَ} (1).
وأمره بانتزاع (2) الآثار النبوية صلوات الله على صاحبها وسلامه، والاهتداء بشموسها التي تنجلي بها دجنّة كلّ مشكل وظلامه، والاقتداء بسنّة الشريعة المتبوعة، وتصفّح الأخبار المسموعة والعمل منها بما قامت أدلّة صحّته من جميع جهاته، واستحكمت الثّقة بنقلته عنه عليه السلام ورواته وسلمت أسانيده من قدح، ورجاله من ظنّة وجرح، فإنّها التالية للقرآن المجيد في وجوب العمل بأوامره، والانتهاء بروادعه وزواجره وهو عليه الصلاة والسلام الصادق الأمين الذي ما ضلّ وما غوى، وما ينطق عن الهوى وقد قرن الله سبحانه طاعته بطاعته، والعمل بكتابه والأخذ بسنّته فقال عز من قائل: {وَمََا آتََاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمََا نَهََاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ شَدِيدُ الْعِقََابِ} (3).
وأمره بمجالسة العلماء، ومباحثة الفقهاء، ومشاركتهم في الأمور المشكلة، وعوارض الحكومات المعضلة: لتستبين سبيل الصواب، ويعرى الحكم من ملابس الشّبه والارتياب، ويخلص من خطأ الانفراد، وغوائل الاستبداد، فالمشورة باليمن مقرونة، والسلامة في مطاويها مضمونة وقد أمر الله تعالى بها نبيّه صلى الله عليه وسلم مع شرف منزلته وكمال عصمته، وتأييده بوحيه (4) وملائكته فقال سبحانه:
{وَشََاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذََا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (5).
وأمره بفتح بابه، ورفع حجابه، وأن يجلس للخصوم جلوسا عامّا، وينظر في
__________
(1) النحل / 89.
(2) الانتزاع أي التمثّل. وفي مآثر الإنافة «باتباع».
(3) الحشر / 7.
(4) في مآثر الإنافة «بروحه».
(5) آل عمران / 159.(10/297)
أمورهم نظرا حسنا تامّا، مساويا بينهم في نظره ولحظه، وإصغائه ولفظه، محترزا من ذي اللّسن وجرأة جنانه، متأنّيا بذي الحصر عند إقامة برهانه، فربّما كان أحد الخصمين ألحن بحجّته، والآخر ضعيفا عن مقاومته، هذا مقام الفحص والاستفهام، والتثبّت (1) وإمضاء الأحكام: ليسلم من خديعة محتال، وكيد مغتال، مائلا في جميع ذلك مع الواجب، سالكا طريق العدل اللّاحب، غير فارق في إمضاء الحكم بين القويّ والضعيف، والمشروف والشريف، والمالك والمملوك، والغنيّ والصّعلوك، قال الله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللََّهُ أَوْلى ََ بِهِمََا فَلََا تَتَّبِعُوا الْهَوى ََ أَنْ تَعْدِلُوا} (2). وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الْكََافِرُونَ} (3).
وأمره أن يتصفّح أحوال الشهود، المسموعة أقوالهم في الحقوق والحدود، المرجوع إلى أمانتهم، المعمول بشهادتهم، الذين بهم تقام الحجج وتدحض، وتبرم الأحكام وتنقض، وتثبت الدّعاوى وتبطل، وتمضى القضايا وتسجّل، مجتهدا في البحث عن طرائقهم وأحوالهم، وانتقاد تصاريفهم وأفعالهم، واستشفاف سجاياهم، وعرفان مزاياهم، مخصّصا بالتمييز من كان حميد الخلال، مرضيّ الفعال، راجعا إلى ورع ودين، متمسّكا من الأمانة والنّزاهة بالسبب المتين قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (4).
وأمره بالنظر في أمور اليتامى وأموالهم، ومراعاة شؤونهم وأحوالهم، وأن يرتّب بسبب اتّساق مصالحهم الثّقات الأعفّاء، والأمناء الأتقياء، ممن ظهرت ديانته، وحسنت سريرته، واشتهر بالظّلف والعفاف، والتنزّه عن الطمع والإسفاف، ويأمرهم بحفظها من خلل يتخلّلها، ويد خائنة تدخلها وليكن عليهم
__________
(1) في مآثر الإنافة «والتثبت في إمضاء الأحكام».
(2) النساء / 135.
(3) المائدة / 44.
(4) الطلاق / 2.(10/298)
حدبا، وفي فرط الحنوّ أبا وخلفا من آبائهم في الإشفاق عليهم، وحسن الالتفات إليهم: فإنّه عنهم مسؤول، والعذر عند الله تعالى في إهمالهم غير مقبول، وأن يأذن لهم في الإنفاق عليهم بالمعروف من غير إسراف ولا تقتير، ولا تضييق ولا تبذير فإذا بلغ أحدهم النّكاح، وآنس منه أمارات الرّشد والصّلاح، دفع ماله إليه، وأشهد بقبضه عليه، على الوجه المنصوص، غير منقوص ولا منغوص، ممتثلا أمر الله تعالى في قوله سبحانه: {فَإِذََا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوََالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى ََ بِاللََّهِ حَسِيباً} (1).
وأمره بتزويج الأيامى اللّواتي لا أولياء لهنّ من أكفائهنّ، بمهور أمثالهنّ، وأن يشمل ذوات الغنى والفقر منهنّ بعدله، ويتحرّى لهنّ المصلحة في عقده وحلّه.
وأمره أن يستنيب فيما بعد عنه من البلاد ودنا، وقرب منه ونأى، كلّ ذي علم واستبصار، وتيقّظ في الحكم واستظهار، ونزاهة شائعة، وأوصاف لأدوات الاستحقاق جامعة، ممن يتحقّق نهوضه بذلك واضطلاعه، ويأمن استزلاله (2)
وانخداعه، وأن يعهد إليهم في ذلك بمثل ما عهد إليه ولا يألوهم تنبيها وتذكيرا، وإرشادا وتبصيرا قال الله تعالى: {وَتَعََاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ََ وَلََا تَعََاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوََانِ} (3).
وأمره بإمضاء ما أمضاه قبله الحكّام، من القضايا والأحكام، غير متعقّب أحكامهم بنقض ولا تبديل، ولا تغيير ولا تأويل، إذا كانت جائزة في بعض الأقوال، ممضاة على وجه من وجوه الاحتمال، غير خارقة للإجماع، عارية من ملابس الابتداع، وإن كان ذلك منافيا لمذهبه، فقد سبق حكم الحاكم به (4) قال
__________
(1) النساء / 6.
(2) في مآثر الإنافة «استنزاله».
(3) المائدة / 2.
(4) بدلا من هذه الجملة في مآثر الإنافة: «جاريا على خلاف معتقده».(10/299)
الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ} (1).
وأمره أن يتخذ كاتبا قيّما بشروط القضايا والسّجلّات، عارفا بما يتطرّق نحوها من الشّبه والتأويلات، ويتداخلها من النّقص والتلبيسات، متحرّزا في كلّ حال، متنزّها عن ذميم الأفعال، وأن يتخيّر حاجبا نقيّ الجيب، مأمون المشهد والغيب، مستشعرا للتقوى، في السّر والنجوى، سالكا للطريقة المثلى، غير متجهّم للناس، ولا معتمد ما ينافي بسط الوجه لهم والإيناس: فإنه وصلتهم إليه، ووجهه المشهود قبل الدخول عليه فلينتخبه من بين أصحابه، وممن يرتضيه من أمثاله وأضرابه.
وأمره بتسلّم ديوان القضاء والحكم، والاستظهار على ما في خزائنه بالإثبات والختم، والاحتياط على ما به من المال والسّجلّات، والحجج والمحاضر والوكالات (2)، والقبوض والوثائق والأثبات والكفالات، بمحضر من العدول الأمناء الثّقات، وأن يرتّب لذلك خازنا يؤدّي الأمانة فيه، ويتوخّى ما توجبه الديانة وتقتضيه.
وأمره بمراعاة أمر الحسبة: فإنها من أكبر المصالح وأهمّها، وأجمعها لمنافع الخلق وأعمّها، وأدعاها إلى تحصين أموالهم، وانتظام أحوالهم، وأن يأمر المستناب فيها باعتبار سائر المبيعات فيها: من الأقوات (3) وغيرها في عامّة الأوقات، وتحقيق أسباب الزيادة والنّقصان في الأسعار، والتصدّي لذلك على الدّوام والاستمرار، وأن يجري الأمر فيها بحسب ما تقتضيه الحال الحاضرة، والموجبات الشائعة الظاهرة، واعتبار الموازين والمكاييل، وإعادة الزائد والناقص منها إلى التّسوية والتعديل فإن اطّلع لأحد من المتعاملين على خيانة في
__________
(1) المائدة / 45.
(2) في مآثر الإنافة «والولايات».
(3) في مآثر الإنافة «باعتبار سائر المبيعات وما فيها من الأقوات وغيرها في عامة الأوقات».(10/300)
ذلك وفعل ذميم، أو تطفيف عدل فيه عن الوزن بالقسطاس المستقيم، أناله من التأديب، وأسباب التّهذيب، ما يكون له رادعا، ولغيره زاجرا وازعا قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتََالُوا عَلَى النََّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذََا كََالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلََا يَظُنُّ أُولََئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النََّاسُ لِرَبِّ الْعََالَمِينَ} (1).
وهذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجّته عند الله تعالى عليك قد أولاك من صنوف النّعم والآلاء، وجزيل الكرم والحباء، ما يوجب عليك الاعتراف بقدره، واستيزاع شكره، ووقف بك على محجّة الرّشاد، وهداك إلى منهج الحقّ وسنن السّداد، ولم يألك تثقيفا وتبصيرا، وتنبيها وتذكيرا، فتأمّل ذلك متدبّرا، وقف عند حدود أوامره ونواهيه مستبصرا، واعمل به في كلّ ما تأتيه وتذره، وتورده وتصدره، وكن للمخيلة في ارتيادك محقّقا، وللمعتقد فيك مصدّقا، تفز من خير الدارين بمعلّى القداح (2)، وإحماد السّرى عند الصّباح وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل [إن شاء الله تعالى] (3).
الضرب الثاني
(مما كان يكتب بديوان الخلافة ببغداد لأرباب الوظائف من أصحاب الأقلام التواقيع) وطريقتهم فيها أن يفتتح التوقيع بلفظ «أحقّ» أو «أولى» أو «أقمن من أفيضت عليه النّعم» أو «من فوّض إليه كذا» أو «من نوّه بذكره» ونحو ذلك «من كان بصفة كذا وكذا» ثم يقال: «ولما كان فلان بصفة كذا وكذا، فوّض إليه كذا وكذا» أو «أسند إليه كذا وكذا» ونحو ذلك.
__________
(1) المطففين / 1إلى 6.
(2) المراد بالنصيب الأوفى والسهم الأول.
(3) الزيادة من مآثر الإنافة.(10/301)
وهذه نسخة توقيع بتدريس، كتب به عن الإمام الناصر لدين الله، للقاضي محيي الدين «محمد بن فضلان» بتدريس المدرسة النّظاميّة ببغداد، في سنة أربع عشرة وستّمائة، وهي:
أحقّ من أفيضت عليه مجاسد (1) النّعم، وجذب بضبعه إلى مقام التنويه وتقدّم القدم، من أسفر في أفضية (2) الفضائل صباحه، وانتشر في العالم علمه وأزهر مصباحه.
ولمّا كان الأجلّ الأوحد، العالم، محيي الدين، حجّة الإسلام، رئيس الأصحاب، مفتي الفريقين، مفيد العلوم، أبو عبد الله «محمد بن يحيى بن فضلان»، أدام الله رفعته، ممن نظم فرائد المحامد عقده النّضيد، وأوى من العلم والعمل إلى ركن شديد، وثبتت قدمه من الديانة على مستثبت راسخ وقرار مهيد رؤي التعويل في تفويض التدريس بالمدرسة النّظاميّة (3) إليه: ثقة باضطلاعه واستقلاله، وتبريزه في حلبات الاستباق على نظرائه وأمثاله، وتراجع المساجلين له عن فوت غايته وبعد مناله (4)، وأسند إليه أدام الله رفعته النظر في أوقاف المدرسة المذكورة بأجمعها، واعتماد ما شرطه الواقف في مصارفها وسبلها، سكونا إلى كفايته، وركونا إلى سداده وأمانته.
ورسم له تقديم تقوى الله تعالى التي ما زال منتهجا لطرائقها، متمسّكا بعصمها ووثائقها، وأن يشرح صدره للمتعلمين، ولا تأخذه ضجرة (5) من المستفيدين، ولا تعدو عيناه عن جهلاء الطالبين (6)، ولا يتبرّم بالمبالغة في تفهيم
__________
(1) المجاسد: جمع مجسد (بالضم والكسر)، وهي الثياب التي تلي الجسد. والجساد: الزعفران.
(2) أفضية: جمع فضاء. وفي مآثر الإنافة «أقضية» بالقاف المثناة، وهو خطأ.
(3) أنشأها نظام الملك، وزير السلطان ملكشاه السلجوقي (485465هـ) في بغداد. وقد أنشأ مدرسة ثانية في نيسابور تعرف أيضا باسم المدرسة النظامية. (تاريخ الاسلام: 4/ 425).
(4) هذه الجملة ساقطة في مآثر الإنافة.
(5) أي الضجر والتبرم.
(6) في مآثر الإنافة «عن الطالبين».(10/302)
المبتدي، ولا يغفل عن تذكير المنتهى: فإنه إذا احتمل هذه المشقّة، وأعطى كلّ تلميذ حقّه، كان الله تعالى كفيلا بمعونته، بحسب ما يعلم من حرصه عليهم وإخلاص نيّته. وليكن بسائر المتفقّهة معتنيا رفيقا، وعليهم حدبا شفيقا، يفرّع لهم من الفقه ما وضح وتسهّل، ويبيّن لهم ما التبس من غوامضه وأشكل، حتّى تستنير قلوبهم بأضواء علوم الدين، وتنطق (1) ألسنتهم فيها باللفظ الفصيح المبين، وتظهر آثار بركاته في مراشده وتبين ولتتوفّر همّته في عمارة الوقوف واستنمائها، والتوفّر على كلّ ما عاد بتزايدها وزكائها، بحيث يتّضح مكان نظره فيها، ويبلغ الغاية الموفية على من تقدّمه ويوفيها، ولا يستعين إلّا بمن يؤدّي الأمانة ويوفّيها، ويقوم بشرائط الاستحفاظ ويكفيها وهو أدام الله رفعته يجري من عوائد المدرّسين والمتولّين قبله على أوفى معهود، ويسامي به (2) إلى أبعد مرتقى ومقام محمود، وأذن له في تناول إيجاب التدريس ونظر الوقوف المذكورة أسوة من تقدّمه في التدريس والنظر في الوقوف (3)، على ما شرط الواقف في كل ورد وصدر، واعتماد كل ما حدّه في ذلك ومثّله من غير تجاوز.
النوع الرابع
(مما كان يكتب من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لزعماء أهل الذّمّة) وطريقهم فيه أن يفتتح بلفظ: «هذا كتاب أمر بكتبه فلان أبو فلان الإمام الفلانيّ أمير المؤمنين لفلان» ثم يقال: «أما بعد فالحمد لله» ويؤتى فيه بتحميدة أو ثلاث تحميدات إن قصد المبالغة في قهر أهل الذمّة بدخولهم تحت ذمة الإسلام وانقيادهم إليه، ثم يذكر نظر الخليفة في صالح الرعيّة حتّى أهل الذمة، وأنه أنهي إليه حال فلان وسئل في توليته على طائفته فوّلاه عليهم للميزة على غيره من أبناء طائفته ونحو ذلك ثم يوصيه بما يناسبه من الوصايا.
__________
(1) في مآثر الإنافة «وتنطلق».
(2) في مآثر الإنافة «ويرقى فيه».
(3) في مآثر الإنافة «الموقوف».(10/303)
وهذه نسخة من ذلك، كتب بها عن القائم بأمر الله، لعبد يشوع (1)
الجاثليق، من إنشاء العلاء بن موصلايا، وهي:
هذا كتاب أمر بكتبه عبد الله أبو جعفر عبد الله الإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين، لعبد يشوع الجاثليق الفطرك (2).
أما بعد، فالحمد لله الواحد بغير ثان، القديم لا عن وجود زمان، الذي قصرت صنيعة الأوهام، عن إدراكه وحارت، وضلّت صنيعة الأفهام، عن بلوغ مدى صفاته وحالت، المتنزّه عن الولد والصاحبة، العاجزة عن إحاطة العلم به دلائل العقول الضافية الصائبة، ذي المشيئة الحالية بالمضاء، والقدرة الجارية عليها تصاريف القدر والقضاء، والعظمة الغنيّة عن العون والظّهير، المتعالي بها عن الكفء والنظير، والعزّة المكتفية عن العضد والنصير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3).
والحمد لله الذي اختار الإسلام دينا وارتضاه، وشام (4) به عضب الحقّ على الباطل وانتضاه، وأرسل محمدا صلى الله عليه وسلم منقذا من أشراك الضّلّة، وكاشفا عن الإيمان ما غمره من الإشراك وأظلّه، وبعثه ماحيا أثر الكفر من القلوب والأسماع، وناحيا في اتّباع أوامره (5) ماجدّ في البدار إليه والإسراع، [وأدّى ما حمّله أحسن الأداء] (6)، وداوى بمعجز النبوّة من النفوس معضل الداء، ولم يزل لأعلام الهدى
__________
(1) في مآثر الإنافة «لعبد يسوع الجاثليق الفطرك بمدينة السلام وسائر البلدان في ربيع الأول سنة سبع وستين وأربع مائة». والفطرك هو البطرك أو البطريرك.
(2) في مآثر الإنافة «لعبد يسوع الجاثليق الفطرك بمدينة السلام وسائر البلدان في ربيع الأول سنة سبع وستين وأربع مائة». والفطرك هو البطرك أو البطريرك.
(3) الشورى / 11.
(4) شام السيف شيما: سلّه.
(5) هذه الكلمة ساقطة في مآثر الإنافة.
(6) في الأصل وفي مآثر الإنافة «وأدلى ما حمّله أحسن الإدلاء» وقد اخترنا التصحيح المثبت في الطبعة الأميرية.(10/304)
مبينا، ولحبائل الغيّ حاسما مبينا، إلى أن خلص الحقّ وصفا، وغدا الدّين من أضداده منتصفا، واتّضح للحائر سنن الرّشد، وانقاد الأبيّ بالّليّن والأشدّ، فصلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وأصحابه المنتخبين، وخلفائه الأئمة الراشدين وسلّم تسليما.
والحمد لله الذي استخلص أمير المؤمنين من أزكى الدّوحة والأرومة، وأحلّه من عزّ الإمامة ذروة للمجد غير مرومة، وأصار إليه من تراث النبوّة ما حواه بالاستحقاق والوجوب، وأصاب به من مرامي الصّلاح ما حميت شموسه من الأفول والوجوب (1)، وأولاه من شرف الخلافة ما استقدم به الفخر فلبّى، واستخدم معه الدّهر فما تأبّى، ومنح أيّامه من ظهور العدل فيها وانتشاره، ولقاح حوامل (2) الإنصاف فيها ووضع عشاره (3)، ما فضل به العصور الخالية، وظلّت السير متضمّنة من ذكرها ما كانت من مثله عارية خالية، وهو يستديمه سبحانه المعونة على ما يقرّب لديه ويزلف عنده، ويستمدّ التوفيق الذي يغدو لعزائمه الميمونة أوفى العضد والعدّة وما توفيق أمير المؤمنين إلّا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.
وأمير المؤمنين مع ما أوجب الله تعالى عليه من اختصاص رعاياه [بأكنافه] (4)
التي يمدّ عليهم رواقها، ويردّ بها إلى أغصان صلاحهم أوراقها، ويلقي على أجيادهم عقودها، ويقي رياح ائتلافهم ركودها، يرى أن يولي أولي الاستقامة من أهل ذمّته ضروب الرأفة وصنوفها، وأقسام العاطفة الدافعة عنهم حوادث الغير
__________
(1) الوجوب هنا بمعنى الموت والهلاك.
(2) في مآثر الإنافة «حوائل» والحوائل: جمع حائل، وهي كل أنثى لا تحمل. وعبارة الصبح أوضح في المقام.
(3) العشار من النوق ونحوها: ما مضى على حملها عشرة أشهر. وفي التنزيل العزيز {وَإِذَا الْعِشََارُ عُطِّلَتْ}.
(4) الزيادة من مآثر الإنافة.(10/305)
وصروفها، بمقتضى عهودهم القويّة القوى، وأذمّتهم (1) التي يلزم أن يحافظ عليها أهل العدل والتقوى، ويغتمدهم من الضّرر (2) الغامر، والإجمام المضاهي الآنف منه الغابر بما يقبض (3) يد الضيّم وكفّه [ويفيض عليهم من الملاحظة كل ما حسم الضير دونهم وكفّه] (4) وأن يحبوهم (5) من الحياطة بما يحرس رسومهم المستمرّة من أسباب الاختلال، ويجريهم فيها على ما سنّه السلف معهم من مألوف السّجايا والخلال.
ولما أنهي إلى حضرة أمير المؤمنين تمييزك عن نظرائك، وتحلّيك من السّداد بما يستوجب معه أمثالك المبالغة في وصفك وإطرائك، وتخصّصك بالأنحاء التي فتّ فيها شأو أقرانك، وأفدت بها ما قصّر معه مساجلك من أبناء جنسك أن يعدلك في ميزانك، وما عليه أهل نحلتك من حاجتهم إلى جاثليق (6)
كافل بأمورهم، كاف في سياسة جمهورهم، مستقلّ بما يلزمه القيام به، غير مقلّ بما يتعيّن مثله في أدوات منصبه، وأنّ كلّا ممن يرجع إليه منهم لمّا تصفّح أحوال متقدّمي دينهم واستشفّ، وأعمل الفكر في اختيار الأرجح منهم والأشفّ، واتفقوا من بعد على إجالة الرأي الذي أفاضوا بينهم قداحه، وراضوا به زند الاجتهاد إلى أن أورى حين راموا اقتداحه، فلم يصادفوا من هو بالرياسة عليهم أحقّ وأحرى، وللشّروط الموجبة التقديم فيهم أجمع وأحوى، وعن أموال وقوفهم أعفّ وأورع، ومن نفسه لداعي التحرّي فيها أطوع وأتبع، منك اختاروك لهم راعيا، ولما شدّ نظامهم ملاحظا مراعيا، وسألوا إمضاء نصّهم عليك والإذن فيه،
__________
(1) الأذمة: جمع ذمام. والذمام والمذمة: الحق والحرمة. وفي مآثر الإنافة «وذمّتهم التي الخ».
(2) في مآثر الإنافة «من الصّون».
(3) في مآثر الإنافة «بما قنص».
(4) الزيادة من مآثر الإنافة.
(5) في مآثر الإنافة «وأن يحتويهم».
(6) الجاثليق والجثليق، وتجمع على جثالقة، وهو رئيس الأساقفة أو المطران. وبالفرنسية.(10/306)
وإجراء الأمر فيما يخصّك أسدّ مجاريه، وترتيبك فيما أهّلت له وحمّلت ثقله، واختصاصك على من تقدّمك من الأضراب، بمزيد من الإرعاء والإيجاب، وحملك وأهل نحلتك على الشّروط المعتادة، والرسوم التي 7مضاء الشريعة لها أوفى الشّهادة، رأى أمير المؤمنين الإجابة إلى ما وجّهت إليه فيه الرّغبه، واستخارة الله تعالى في كل عزم يطلق شباه ويمضي غربه، مقتديا فيما أسداه إليك، وأسناه من أنعمه (1) لديك، بأفعال الأئمة الماضين، والخلفاء الراشدين، صلوات الله عليهم أجمعين، مع أمثالك من الجثالقة الذين سبقوا، وفي مقامك اتّسقوا، وأوعز بترتيبك جاثليقا لنسطور النّصارى بمدينة السلام وسائر البلاد والأصقاع، وزعيما لهم وللرّوم واليعاقبة طرّا، ولكلّ من تحويه ديار الإسلام من هاتين الطائفتين ممّن بها يستقرّ وإليها يطرا، وجعل أمرك فيهم ممتثلا، وموضعك من الرّياسة عليهم متأثّلا، وأن تنفرد بالتقدّم على هذه الطوائف أجمع: ليكون قولك فيما يجيزه الشرع (2) فيهم يقبل وإليك في أحوالهم يرجع، وأن تتميز بأهبة الزّعامة، في مجامع النصارى ومصلّياتهم عامّة، من غير أن يشركك فيها أو يشاكلك في النّسبة الدالة عليها مطران أو أسقفّ للروم أو اليعاقبة: لتغدو شواهد ولايتك بالأوامر الإمامية بادية للسامع والناظر، وآثار قصورهم عن هذه الرّتبة التي لم يبلغوها كافّة للمجادل منهم والمناظر، ومنعوا بأسرهم عن مساواتك في كلّ أمر هو من شروط الزّعامة ورسومها، والتزيّي بما هو من علاماتها ووسومها إذ لا سبيل لأحدهم أن يمدّ في مباراتك باعه، ولا أن يخرج عن الموجب عليه من الطاعة لك والتّباعة، وحملك في ذاك على ما يدلّ عليه المنشور المنشأ لمن تقدّمك، الممضى لك ولكلّ من يأتي بعدك، المجدّد بما حواه ذكر ما نطقت به المناشير المقرّرة في أيام الخلفاء الراشدين، صلوات الله عليهم أجمعين، لمن تقدّمك في مقامك، وأحرز سبق مغزاك ومرامك: من كون المنصوب في الجثلقة إليه الزّعامة على ما تضمّه
__________
(1) في مآثر الإنافة «من النعمة».
(2) في مآثر الإنافة «الشرع الشريف».(10/307)
ديار الإسلام من هذه الفرق جمعا، والمنصوص عليه في التقدّم الذي ليس لغيره من رياضه مرعى وتقدّم أمير المؤمنين بحياطتك وأهل نحلتك في نفوسكم وأموالكم وبيعكم (1)، ودياركم ومقارّ صلواتكم وحراسة أموالكم (2)، واعتمادكم بأقسام الكلاءة على أجمل الرّسم معكم، وأن تحموا من نقض سنّة رضيّة قرّرت لكم، ودحض وتيرة حميدة استعملت في فرضكم، وأن تقبض الجزية من رجالكم ذوي القدرة على أدائها بحسب ما جرت به عاداتكم دون النساء ومن لم يبلغ الحلم دفعة واحدة في السنة، وتجروا في ذلك على السجيّة التي تناقلها الرّواة وتداولتها الألسنة، من غير تثنية ولا تكرير، ولا ترنيق لمنهل المعدلة عندكم ولا تكدير، وأن تحبى بالشّدّ دائما وتقوية يدك على من نصبته في أمورهم ناظرا ولشملهم ناظما ويفسح لك في فصل ما يشجر بينهم على سبيل الوساطة: لتقصد في ذاك ما يحسم دواعي الخلف ويطوي بساطه، وأن تمضي تثقيفك لهم وأمرك فيهم، أسوة ما جرى عليه الأمر مع من كان قبلك يليهم، لتحسن معه السيرة العادلة (3) عليهم بحفظ السّوام، المطابقة للشروط السائغة في دين الإسلام.
وأمر بإنشاء هذا الكتاب مشتملا على ما خصّك به، وأمضى أن تعامل بموجبه، فقابل نعمة أمير المؤمنين عندك بما تستوجبه من شكر تبلغ فيه المدى الأقصى، وبشر لا يوجد التصفّح له عندك قصورا ولا نقصا، وواظب على الاعتراف بما أوليته من كلّ ما جمّلك، وصدّق ظنّك وأملك، واستزد الإنعام بطاعة تطوي عليها الجوانح، وأدعية لأيامه تتبع الغادي منها بالرائح، وتجنّب التقصير فيما بك عدق (4)، وإليك وكل وعليك علّق واحتفظ بهذا الكتاب جنّة تمنع عنك
__________
(1) مفردها: بيعة، وهي معبد النصارى.
(2) في مآثر الإنافة «وحراسة أمواتكم».
(3) في هامش الطبعة الأميرية «لعله العائدة. تأمل».
(4) في هامش مآثر الإنافة «عدق يده: أدخلها في نواحي البئر أو الحوض ونحوهما كأنه يطلب شيئا. وكأنه يراد هنا تجنب التقصير فيما طلب أن يكون فيك» ونحن نرجح وقوع تحريف في هذا اللفظ، وأن أصله: عزق (بالزاي المعجمة) بمعنى لصق. والمراد: فيما أنيط بك أو فيما وكل اليك، كما يأتي بعده مباشرة.(10/308)
ريب الدّهر وغيره، وحجّة تحمل فيها على ما يحمي ما منحته من كل [ما شعّثه وغبّره] (1) وليعمل بهذا المثال كافّة المطارنة والأساقفة والقسيّسين، والنصارى أجمعين، وليعتمدوا من التّباعة لك ما يستحقّه تقديمك على الجماعة، وليثقوا بما يغمرهم من العاطفة (2) الحامية سربهم من التفريق والإضاعة إن شاء الله تعالى.
وكتب في شهر ربيع الأوّل سنة سبع وستين وأربعمائة.
الطرف الرابع
(فيما كان يكتب عن مدّعي (3) الخلافة ببلاد المغرب والأندلس) وكانوا يعبّرون عمّا يكتب من ذلك بالظّهائر والصّكوك: فالظهائر جمع ظهير، وهو المعين، سمّي مرسوم الخليفة أو السلطان ظهيرا لما يقع به من المعاونة لمن كتب له. والصّكوك جمع صكّ وهو الكتاب، قال الجوهري: وهو فارسيّ معرّب والجمع أصكّ وصكاك وصكوك ثم تحامى المتأخّرون منهم لفظ الصّكّ، لما جرى به عرف العامّة من غلبة استعماله في أحد معنيي الاشتراك فيه وهو الصّفع، واقتصروا على استعمال لفظ الظّهير.
ولذلك حالتان:
الحالة الأولى (4)
(ما كان الأمر عليه في الزمن القديم)
واعلم أنه لم يكن لهم مصطلح يقفون عند حدّه في الابتداءات، بل بحسب ما تقتضيه قريحة الكتّاب فتارة يبتدأ بلفظ: «من فلان إلى فلان» أو «من
__________
(1) أثبتت في الطبعة الأميرية هكذا: «ما شعته (؟) وغيره» والتصحيح الذي أثبتناه من مآثر الإنافة.
(2) في مآثر الإنافة «من المعاطف».
(3) عادة يقصد الكاتب بهذه التعبير الموحدين.
(4) لم يتكلم على الحالة الثانية.(10/309)
فلان إلى أهل فلانة» أو «إلى الأشياخ بفلانة» أو «يصلكم فلان بهذا الكتاب». وتارة يبتدأ ب «أما بعد حمد الله». وتارة يبتدأ بلفظ «تقدم فلان بكذا». وتارة يبتدأ بلفظ «مكتوبنا هذا» وغير ذلك مما لا ينحصر.
فمن الظّهائر المكتتبة لأرباب السّيوف عندهم، ما كتب به بولاية ناحية، وهي:
من فلان إلى أهل فلانة أدام الله لهم من الكرامة أتمّها ومن الرّعاية أوفاها، وأسبغ عليهم برود نعمه الجزيلة وأصفاها.
أما بعد حمد الله ميسّر أسباب النّجاح، ومسنّي مرام الرّشاد والصّلاح، والصلاة على سيدنا محمد رسوله نبيّ الرحمة والرّفق والإسجاح (1)، وعلى آله وصحبه المتّصفين بالقوّة في ذات الله تارة وتارة بخفض الجناح، والرّضا عن الخليفة أمير المؤمنين ذي الشّرف الذي لم يزل بالهدى النبويّ متوقّد المصباح، والدعاء للمقام الإماريّ بالنصر الذي يؤتي مقاليد الافتتاح، والتأييد الماضي حدّ رعبه حيث لا يمضي غرار المهنّد وشبا الرّماح، فإنّا كتبناه إليكم كتب الله لكم سكون الأرجاء وهدوّها، وأجرى لكم بالصّلاح رواح الأيّام وغدوّها «من فلانة» وللدّولة العليّة بركات تكاثر السّحب في انسكابها وانسجامها، وتقود الخيرات والمسرّات في كل أوب بزمامها، والحمد لله حمدا يقضي بوفور جزيلات النّعم وجسامها.
وإن الاهتمام بكم لمستبق على كل غرض جميل، ومقدّم فيما يحظيكم بكلّ بغية وتأميل وبحسب هذا لا يزال يختار لكم من الولاة كلّ مختار منتخب، ولا يقدّم عليكم إلّا من ينتهي إلى أثيل حسب وكريم منتسب، ولا يزال يداول موضعكم بين كل طريقة تتّصل من حسن السّير وسداد النظر بأمتن سبب وعلى هذا الأصل استخرنا الله وهو المستخار، والذي يقضي ما يشاء ويختار، في أن
__________
(1) الإسجاح: العفو. يقال: ملكت فأسجح أي فأحسن العفو وتكرّم.(10/310)
قدّمنا عليكم، وولّينا للنظر فيما لديكم، من له التقدّم في الإقدام، والاضطلاع الثابت الأقدام وذلك فلان وآثرناكم به اعتناء بجانبكم واهتبالا (1)، وخصصناكم منه بمن يفسح في كل أثر حميد مجالا، والمعتقد فيه أن يعمل على شاكلته بنباهة مكانه، وأن يبذل في الانتهاض والاكتفاء غاية وسعه وإمكانه وعليه أن يلازم تقوى الله العظيم في سرّه وعلنه، ويجري على سبيل العدل وسننه، ويشمّر عن ساعده في الدّفاع عن أحوازكم كلّ التشمير، ويأخذ على أيدي أهل التعدّي أخذا يقضي على الفساد وأهله بالتّتبير، ويقصد بكم سديد السّعي ورشيد الرأي في الدقيق والجليل والصغير والكبير، ويسوّي في الحق بين الحافل والتافه والغنيّ والفقير، وعليكم أن تسمعوا وتطيعوا، ولا تهملوا حقّ الامتثال والائتمار ولا تضيعوا، وأن تكونوا يده التي تبطش، وأعوانه فيما يحاول من مستوفي المساعي المرضيّة ومستوعبها، وأن تتعاونوا على التقوى والبرّ، وتقفوا له عند النهي والأمر، وتجتهدوا معه في مصالحكم كلّ الاجتهاد، وتعتمدوا على ما رسمناه لكم أتمّ الاعتماد، وستجدون من مواليكم إن شاء الله ما يوافق الظّنّ به، ويلائم العمل بحسب حسبه إن شاء الله تعالى والسلام.
ومنها ما كتب به في ولاية ناحية أيضا، وهي:
من فلان إلى أهل فلانة أدام الله تعالى كرامتهم بتقواه، وعرّفهم أحقّ النظر بمصالحهم وأحراه.
وبعد، فإنّا كتبناه لكم كتب الله لكم أحوالا متّصلة الصّلاح، حميدة الاختتام والافتتاح من فلانة، ونعم الله سبحانه موفورة الأقسام، صيّبة الغمام وقد اقتضى
__________
(1) أي اشتغالا واهتماما بشأنكم. يقال: اهتبل هبلك أي اشتغل بشأنك عن ابن الأعرابي (انظر اللسان: 11/ 688).(10/311)
ما نتوخّاه من الاحتياط على جوانبكم، ونعتمده من الإيثار لكم والاعتناء بكم، أن نتخيّر للتقديم عليكم من نعلم منه الأحوال المرضيّة حقيقة، ونحمد سيره فيما يحاوله وطريقه.
ولمّا كان فلان ممن حمدت مقاصده، وشكرت في المحاولات الاجتهاديّة عوائده، وحسنت فيما نصرّفه فيه مصادره وموارده، رأينا والله القاضي فيما نذره ونأتيه، بالتوفيق الذي يكون به انقياد النّجح وتأتّيه أن نقدّمه لحفظ جهاتكم، وتأمين أرجائكم وجنباتكم، ووصّيناه أن يجتهد فيما قلّدناه من ذلك كلّ الاجتهاد، وينتهض في إذهاب الشّرّ وإرهاب أهل الفساد، وبأن يسلك فيما يتولّاه من الأحكام سنن الحق، ويجري على سبيل العدل والرّفق، ويدفع أسباب المظالم، وينصف المظلوم من الظالم فإذا وافاكم فتلقّوه بنفوس منبسطة، وعقائد على العمل الصالح مرتبطة، وكونوا معه على تمشية الحق يدا واحدة، وفئة في ذات الله متعاونة متعاضدة، بحول الله سبحانه.
ومنها ما كتب به بإعادة وال إلى ناحية، وهي:
وإنا كتبناه إليكم كتبكم الله من المتعاونين على البر والتقوى، وأعلقكم من طاعته بالحبل الأمتن الأقوى من فلانة: والذي نوصيكم به تقوى الله تعالى والعمل بطاعته، والاستعانة به والتوكّل عليه وقد صرفنا إليكم فلانا بعد أن أقام هنا شاهدا مشاهد للتعلم نافعة، مباشرا من المذاكرة في الكتاب والسّنّة مجالس ضامنة لخير الدنيا والآخرة جامعة، مطالعا لأحوال الموحّدين أعزّهم الله في مآخذهم الدينيّة، ومقاصدهم المحيية لما درس من الملّة الحنيفيّة، فنال بذلك كلّه خيرا كثيرا، وأحرز به حظّا من السعادة كبيرا، وظفر منه بما يكون له في كل ما ينظر فيه سراجا منيرا، وقد أعدناه إلى الشّغل الذي كان يتولّاه لجهتكم حرسها الله، ووصيّناه بتقوى الله تعالى الذي لا يطّلع على السّرائر سواه، وأن يكون بما شاهده مما تقدّم ذكره مقتديا، وبأنواره الساطعة التي لا يضلّ من اهتدى بها مهتديا، ولا
يستند في شيء من أحكامه إلى من لا يقوم على عصمته دليل، ولا جعل إليه تحريم ولا تحليل فأعينوه وفقكم الله على تمشية هذه المقاصد الكريمة أكرم إعانة، واسلكوا من مظاهرته على الحق وموازرته على المسالك التي تستبين هنالكم أتمّ استبانة، إن شاء الله تعالى.(10/312)
وإنا كتبناه إليكم كتبكم الله من المتعاونين على البر والتقوى، وأعلقكم من طاعته بالحبل الأمتن الأقوى من فلانة: والذي نوصيكم به تقوى الله تعالى والعمل بطاعته، والاستعانة به والتوكّل عليه وقد صرفنا إليكم فلانا بعد أن أقام هنا شاهدا مشاهد للتعلم نافعة، مباشرا من المذاكرة في الكتاب والسّنّة مجالس ضامنة لخير الدنيا والآخرة جامعة، مطالعا لأحوال الموحّدين أعزّهم الله في مآخذهم الدينيّة، ومقاصدهم المحيية لما درس من الملّة الحنيفيّة، فنال بذلك كلّه خيرا كثيرا، وأحرز به حظّا من السعادة كبيرا، وظفر منه بما يكون له في كل ما ينظر فيه سراجا منيرا، وقد أعدناه إلى الشّغل الذي كان يتولّاه لجهتكم حرسها الله، ووصيّناه بتقوى الله تعالى الذي لا يطّلع على السّرائر سواه، وأن يكون بما شاهده مما تقدّم ذكره مقتديا، وبأنواره الساطعة التي لا يضلّ من اهتدى بها مهتديا، ولا
يستند في شيء من أحكامه إلى من لا يقوم على عصمته دليل، ولا جعل إليه تحريم ولا تحليل فأعينوه وفقكم الله على تمشية هذه المقاصد الكريمة أكرم إعانة، واسلكوا من مظاهرته على الحق وموازرته على المسالك التي تستبين هنالكم أتمّ استبانة، إن شاء الله تعالى.
ومن الظهائر المكتتبة بالوظائف الدينّية ما كتب به في ولاية قاض، وهو:
أما بعد حمد الله رافع علم الحقّ لمن اهتدى، وواضع ميزان القسط بالشريعة المحمديّة الآخذة بالحجز عن مهاوي الرّدى، ومؤيّد الدّين الحنيفيّ بمن ارتضى لتحديد حدوده وتجديد عهوده وهدى، والصلاة على سيدنا محمد نبيّه الكريم الذي أرسله إلى الناس كافّة غير مستثن عليه من الخلق أحدا، وعلى آله وصحبه الذين سلكوا في نصره وإظهار أمره جددا، والرضا عن الخليفة أمير المؤمنين العبّاسيّ الأطيب عنصرا ومحتدا، فإنا كتبناه إليكم كتبكم الله ممن اعتزّ بطاعته وتقواه، واعتصم من حبله المتين بأوثقه وأقواه من فلانة، وفضل الله سبحانه مديد الظّلال، وتوكّلنا عليه عز وجهه ظهيرنا المعتمد به في كلّ حال، وعمادنا الذي نقدّمه فيما ندبّره من الأعمال وإنّكم من عنايتنا، وموصول رعايتنا، لبالمحلّ الأدنى، ومن خاصّ نظرنا واهتمامنا لمن نكلف بشأنه كلّه ونعنى، ونعتمد من ذلك بالأحسن فالأحسن فجزاء الذين أحسنوا الحسنى.
وقد علمتم وصل الله كرامتكم أنّ الأحكام الشرعيّة هي ملاك الأمور ونظامها، وعليها مدار الأعمال الدينية وبها تمامها، وأنه لا يصلح لها إلا من تجرّد عن هواه، وآثر الحقّ على ما سواه، واتّبع حكم نبيّه عليه السلام في كلّ ما عمله ونواه، وتجمّل بالدّراية وحمل الرّواية فكانتا أظهر حلاه، واتّسم بالعدل والاعتدال فيما وليه من ذلك أو تولّاه، وكان ممن أطلق الحقّ لسانه وقيّد الورع يمناه وقد أمعنّا النظر فيمن له من هذه الأوصاف أوفى نصيب، ومن إن رمى عن قوس نظره الموفّق كان سهمه المسدّد مصيب: لنخصّكم به قاضيا في هذه الأحكام، ونقدّمه
للفصل بينكم في القضايا الشرعية حكما من صالحي الحكّام، فرأينا أهلا لذلكم ومحلّا من اختبرت على [النّهج] (1) القويم أحواله، وارتضيت فيما نيط به من ذلك أعماله وأقواله، وشهد له الاختبار بالانكفاف عن كل سابق وغائب (2)، وعن ارتكاب الثّنيّات إلى السّنن اللاحب، وذلكم «فلان» أدام الله كرامته وتوفيقه، ويسّر إلى مسالك النّجاة مسلكه وطريقه، فأنفذناه إليكم حكما مرضيّ السّير، وافر الحظّ من المعارف المصوّرة للحقّ في أجمل الصّور، مكتفيا لما لديه من استقامة الأحوال عن الوصايا ما خلا التذكير والتنبيه، والوصية بتقوى الله فهي التي تعصم العامل بها وتنجيه، فقد وصّى بها الله من اختاره من خلقه لإقامة حقّه وارتضاه، فقال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيََّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللََّهَ} (3).(10/313)
وقد علمتم وصل الله كرامتكم أنّ الأحكام الشرعيّة هي ملاك الأمور ونظامها، وعليها مدار الأعمال الدينية وبها تمامها، وأنه لا يصلح لها إلا من تجرّد عن هواه، وآثر الحقّ على ما سواه، واتّبع حكم نبيّه عليه السلام في كلّ ما عمله ونواه، وتجمّل بالدّراية وحمل الرّواية فكانتا أظهر حلاه، واتّسم بالعدل والاعتدال فيما وليه من ذلك أو تولّاه، وكان ممن أطلق الحقّ لسانه وقيّد الورع يمناه وقد أمعنّا النظر فيمن له من هذه الأوصاف أوفى نصيب، ومن إن رمى عن قوس نظره الموفّق كان سهمه المسدّد مصيب: لنخصّكم به قاضيا في هذه الأحكام، ونقدّمه
للفصل بينكم في القضايا الشرعية حكما من صالحي الحكّام، فرأينا أهلا لذلكم ومحلّا من اختبرت على [النّهج] (1) القويم أحواله، وارتضيت فيما نيط به من ذلك أعماله وأقواله، وشهد له الاختبار بالانكفاف عن كل سابق وغائب (2)، وعن ارتكاب الثّنيّات إلى السّنن اللاحب، وذلكم «فلان» أدام الله كرامته وتوفيقه، ويسّر إلى مسالك النّجاة مسلكه وطريقه، فأنفذناه إليكم حكما مرضيّ السّير، وافر الحظّ من المعارف المصوّرة للحقّ في أجمل الصّور، مكتفيا لما لديه من استقامة الأحوال عن الوصايا ما خلا التذكير والتنبيه، والوصية بتقوى الله فهي التي تعصم العامل بها وتنجيه، فقد وصّى بها الله من اختاره من خلقه لإقامة حقّه وارتضاه، فقال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيََّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللََّهَ} (3).
فتلقّوه أدام الله كرامتكم بنفوس منبسطة، وقلوب مبتهجة مغتبطة، وأهواء على التظافر والتناصر في الحق مجتمعة مرتبطة وتعاونوا في ذات الله على الطاعة، وكونوا في سبيل الله يدا واحدة فيد الله مع الجماعة، واستعينوه سبحانه على الخير يعنكم، واشكروا الله يؤتكم خيرا مما أخذ منكم، وهو سبحانه يتولّاكم بالحفظ الشامل، ويستعملكم من طاعته وسلوك سبيل مرضاته بأنجى ما استعمل به عامل والسلام.
ومنها ما كتب به أبو الحسن الرّعيني في ولاية قاض، وهي:
من فلان إلى الأشياخ بفلانة أدام الله كرامتهم بتقواه، واستعملهم فيما يحبّه ويرضاه.
أما بعد، فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم حسناه، وأوزعكم شكر ما خوّلكم
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) في هامش الطبعة الأميرية «لعله: عن كل شائن وعائب».
(3) النساء / 131.(10/314)
من نعماه ورحماه ومن مقاصد هذا الأمر العزيز أدامه الله ما يعلي يد الحقّ ويسميها ويسدّد سهام العدل إلى أغراضها ومراميها، ويتكفّل بالجزاء لمن لاذ بأكناف الطاعة ونواحيها، والحمد لله على نعمه التي لا نحصرها ولا نحصيها.
وإلى ذلكم فإنّ فلانا لمّا تمكنت الثّقة بجميل صفته، واستنامت البصيرة إلى استحكام سنّه ومعرفته، وقد كان تقدّم له من خدمة الأمر وأوليائه ما نجّده (1) مع الأيّام وخرّجه، وخصّصه من كريم الاستعمال بما استدناه إلى مراقي الذّكاء واستدرجه، رأينا والله المستعان أن نقدّمه للنظر في قضاياكم الدّينيّة، وأحكامكم الشرعيّة، بعد أن وصّيناه بتقوى الله فقدّمها، وعرضنا عليه ما يعلمه ويلزمه من شروط الحكومة فالتزمها فلينهض إلى ما قدّمناه على بركة الله تعالى مشمّرا عن ساعد الحزم، آخذا في كافّة أموره بما يأخذه أولو العزم، جاريا على السّنن الواضح المعروف، مسوّيا في الحق بين النّبيه والخامل والشريف والمشروف، محتسبا على إقامة فروض الدّين أكرم احتساب، مكتسبا من الأجر في ردع الظّلم والباطل أفضل اكتساب، راجيا في تمشية العدل على رغم من أباه ما يرجو المؤمن المحقّق من زلفى وحسن مآب، ولدينا من عقده على ذلك ما يحسّن مقصده، ويمكّن في بسطة الحقّ مقعده فإذا وافاكم فاستبشروا بموافاته، وقفوا عند ما يمضيه من لوازم الشّرع وموجباته، وتعاونوا على الخير تعاونا يجزل حظّكم من فضل الله وبركاته فهو المؤمّل في ذلك لا ربّ سواه.
ومن الظهائر المكتتبة بالوظائف الدّيوانية ما كتب به أبو المطرّف بن عميرة بولاية وزارة وهو:
مكتوبنا هذا بيد فلان أدام الله علاءه، وحفظ عنايته وغناءه، يجد به مكان
__________
(1) في الأصل: أنجده، بالهمز، ومعناه لا يناسب هنا. ونجّده الدهر: عجمه وعلّمه وهي تناسب:
خرّجه: أي درّبه وعلّمه. والمتعلم هو الخريج.(10/315)
العزّة مكينا، ومورد الكرامة عذبا معينا، وسبيل الحرمة المتأكدة واضحا مستبينا، ويتقلد وزارتنا تقلّد تفويض وإطلاق، ويلبس ما خلع عليه منها لبسة تمكّن واستحقاق، وينزل من رتبتها العليا منزلة شرفها ثابت وحماها باق، ويسوّغ الدار المخزنية التي يسكنها بفلانة تسويغا يملّكه إيّاها أصحّ تمليك، ويفرد فيها من غير تشريك، إن شاء الله تعالى والسلام.
ومنها ما كتب به أبو عبد الله بن الأبّار (1) في مشارفة ناحية، وهو:
عن إذن فلان، يتقدّم فلان للنّظر في الأشغال المخزنية بفلانة، موفّيا ما يجب عليه من الاجتهاد والتّشمير، والجدّ الذي ارتسم في الإنماء والتّثمير، مصدّقا ما قدّر فيه من الانتهاض والاستقلال، وقرّر عنه من الأمانة التي رشّحته وأهّلته لأنبه الأعمال، جاريا في ضبط الأمور المخزنية والرّفق بجانب الرعية على المقاصد الجليلة والمذاهب المرضيّة في عامّة الشّؤون والأحوال، عاملا بما تقدّمت به الوصيّة إليه، وتأكّدت الإشارة [به] (2) عليه، من تقوى الله في السّر والعلن، علما أنّ المرء بما قدّمته يداه مرتهن.
ومنها ما كتب به المذكور بإعادة مشارف إلى ناحية، وهو:
يعاد بهذا المكتوب فلان إلى خطّة الإشراف بفلانة: رافلا من ملابس التّكرمة والحظوة في شفوفها، مخلّى بينه وبين النظر في ضروب الأشغال المخزنية وصنوفها، فهو المعروف بالكفاية والاجتهاد، الموصوف بحسن الإصدار
__________
(1) هو محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعي البلنسي، أبو عبد الله، ابن الأبّار: من أعيان المؤرخين.
له التكملة لكتاب الصلة في تراجم علماء الأندلس، والحلّة السيراء في تاريخ أمراء المغرب. توفي سنة 658هـ. (الأعلام: 6/ 233وفوات الوفيات: 3/ 404).
(2) الزيادة يقتضيها السياق.(10/316)
والإيراد وأولى الناس بالتزام النّصيحة، والازدياد من بضائع الأعمال الرّبيحة، من كثرت النّعم السلطانيّة لديه، ودفع إلى الخطط ودفعت إليه، فليتقلّد هذه الخطّة بحقّها من الانتهاض والتشمير، وتأدية الأمانة بالإنماء والتّثمير، وليتزوّد تقوى الله تعالى ليوم يسأل عن النّقير والقطمير (1)، جاريا في أموره كلّها على الطريقة السّويّة، جامعا بين الاحتياط للمخزن والرّفق بالرعيّة، غير عادل في حال من الأحوال وفنّ من فنون الأعمال عن مقتضى هذه الوصيّه، إن شاء الله تعالى.
الطرف الخامس
(فيما كان عليه الأمر في الدولة الفاطمية بالديار المصريّة) وقد تقدّم في الكلام على ترتيب المملكة أنه كان بها من وظائف أرباب السّيوف الوزارة إذا كان الوزير صاحب سيف، والنظر في المظالم، وزمّ (2)
الأقارب، ونقابة العلويّين، وزمّ الرجال والطوائف (3): كالأموية، والحافظيّة، والأفضلية، وغيرهم ممّن تقدّم ذكره في ترتيب دولتهم، وولاية الشّرطة، وولاية المعاون والأحداث (4)، وولاية الحماية (5)، وولاية حفظ الثّغور، والإمارة على الحجّ، والإمارة على الجهاد، وولاية الأعمال، وغير ذلك. ومن الوظائف (6) قضاء
__________
(1) النقير والأنقور: النقرة في ظهر النواة، ويضرب به المثل في الشيء الضعيف. ففي التنزيل العزيز {وَلََا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} والقطمير: القشرة الرقيقة على النواة، والشيء الهينّ الحقير. يقال: ما أصبت منه قطميرا.
(2) وظيفة كان لصاحبها الحكم على طائفة الأشراف الذين هم أقارب الخليفة. راجع الصبح:
3/ 481).
(3) راجع المصدر السابق ص: 482481.
(4) أصحاب المعاون هم رجال الشرطة. والأحداث: الشرطة غير الرسمية. (راجع الصفحات 14 و 31من هذا الجزء).
(5) الحماية: وجمعها حمايات وهي مكوس يفرضها الأمير أو السلطان أحيانا على بعض الأراضي والمتاجر والمراكب والأرزاق. وقد أطلق عليها هذا الاسم لقيام الأمير بحماية الشخص الذي يدفع ذلك المكس المقرر. (انظر الصبح: 13/ 157والتعريف بمصطلحات الصبح: ص: 110).
(6) في هامش الطبعة الأميرية: «لعله: ومن وظائف أرباب الأقلام قضاء القضاة».(10/317)
القضاة، والدعوة إلى مذهبهم: والنظر في الأوقاف والأحباس، والنظر في المساجد وأمر الصلاة، وغير ذلك.
وكانت كتابة ما يكتب لديهم لأرباب الولايات على نوعين:
النوع الأوّل
(ما كان يكتب به عن الخليفة نفسه) وكان من شأنهم أنهم يتعرّضون في أثناء الولاية لإشارة الوزير بتولية المولّى وثنائه عليه، وربّما أهملوا ذلك، وكانوا يسمّون جميع ما يكتب من ديوان الإنشاء سجلّات، وربّما سمّوه عهودا وعليه يدلّ ما كتبه العاضد آخر خلفائهم في طرّة سجلّ السلطان صلاح الدّين بالوزارة: «هذا عهد لا عهد لوزير بمثله» على ما تقدّم ذكره في الكلام على عهود الملوك.
ولهم فيها أربعة مذاهب:
المذهب الأوّل (أن يفتتح ما يكتب في الولاية بالتّصدير)
وهو «من عبد الله ووليّه فلان أبي فلان الإمام الفلانيّ أمير المؤمنين، إلى فلان بن فلان» بالألقاب المنعوت بها من ديوان الخلافة، ويدعى له بدعوتين أو ثلاث، ثم يقال: «سلام عليك فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أخيه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب» ويؤتى من وصف الخليفة ومدحه بما يناسب المقام.
ثم هو بعد ذلك على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى (أن يقال بعد التصدير المقدّم «أما بعد فالحمد لله»)
ويؤتى من التحميد بما يناسب تلك الولاية، ثم يؤتى بتحميدة ثانية وثالثة،
وتكون الثالثة متعلّقة بالنّعم الشاملة لأمير المؤمنين، ثم يقال: «وإنّ أمير المؤمنين لما اختصّه الله به من كذا وكذا» ويذكر ما سنح من أوصاف الخليفة، ويذكر أنه تصفّح الناس وسبرهم فلم يجد من يصلح لتلك الولاية إلّا هو، ويذكر من صفته ما اتّفق ذكره، ثم يذكر تفويض الولاية إليه، ويوصيه بما يناسب، ويختم بالدعاء ثم بالسلام مع التفنّن في العبارة، واختلاف المعاني والألفاظ، والتقديم والتأخير بحسب ما تقتضيه حال المنشيء، وتؤدّي إليه قريحته.(10/318)
ويؤتى من التحميد بما يناسب تلك الولاية، ثم يؤتى بتحميدة ثانية وثالثة،
وتكون الثالثة متعلّقة بالنّعم الشاملة لأمير المؤمنين، ثم يقال: «وإنّ أمير المؤمنين لما اختصّه الله به من كذا وكذا» ويذكر ما سنح من أوصاف الخليفة، ويذكر أنه تصفّح الناس وسبرهم فلم يجد من يصلح لتلك الولاية إلّا هو، ويذكر من صفته ما اتّفق ذكره، ثم يذكر تفويض الولاية إليه، ويوصيه بما يناسب، ويختم بالدعاء ثم بالسلام مع التفنّن في العبارة، واختلاف المعاني والألفاظ، والتقديم والتأخير بحسب ما تقتضيه حال المنشيء، وتؤدّي إليه قريحته.
وهي على ضربين:
الضرب الأوّل (سجلّات أرباب السيوف (1))
وعلى ذلك كتب سجلّات وزرائهم أصحاب السيوف القائمين مقام السلاطين الآن، من لدن وزارة أمير الجيوش بدر الجماليّ وزير المستنصر:
خامس خلفائهم وإلى انقراض دولتهم. وقد تقدّم منها ذكر عهدي المنصور: أسد الدين شير كوه بن شادي، ثم ابن أخيه الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب بالوزارة عن العاضد في جملة عهود الخلفاء والملوك، حيث أشار في «التعريف» إلى عدّهما من جملة عهود الملوك.
ومن أحسنها وصفا، وأبهجها لفظا، وأدقّها معنى، ما كتب به الموفّق بن الخلّال (2) صاحب ديوان الإنشاء عن العاضد المتقدّم ذكره، بالوزارة لشاور السّعديّ (3)، بعد أن غلبه ضرغام (4) عليها ثم كانت له الكرّة عليه. وهذه نسخته:
__________
(1) لم يترجم الكاتب للضرب الثاني وهو سجلات أرباب الأقلام. ويبدو أنه اكتفى بذكرها ضمن المراتب الثلاث الآتية.
(2) هو أبو الحجاج يوسف بن محمد المعروف بابن الخلال، الملقب بالموفق صاحب ديوان الإنشاء بمصر في دولة الحافظ العبيدي، وأحد كبار الكتاب المترسلين. اشتغل عليه القاضي الفاضل في الإنشاء. توفي سنة 566هـ. (انظر ابن خلكان: 7/ 219والأعلام: 8/ 247).
(3) ولي الوزارة للعاضد سنة 558هـ، وتلقب بأمير الجيوش توفي سنة 564هـ. (انظر ترجمته في ابن خلكان: 2/ 439و 443والأعلام: 3/ 154).
(4) هو الملك المنصور أبو الأشبال ضرغام بن سوّار اللخمي. ولما صار شاور وزيرا وتلقب بأمير الجيوش قام عليه الضرغام وجمع جموعا كبيرة واستطاع أن يهزم شاور فهرب الأخير إلى الشام قاصدا نور الدين محمود بن زنكي. ثم استطاع شاور بمساعدة نور الدين أن يعود إلى الوزارة ويقتل ضرغاما سنة 559هـ. (ابن خلكان: 2/ 442و 444).(10/319)
من عبد الله ووليّه عبد الله أبي محمد العاضد لدين الله أمير المؤمنين، إلى السيّد الأجلّ، سلطان الجيوش، ناصر الإسلام، سيف الإمام، شرف الأنام، عمدة الدّين أبي فلان فلان.
سلام عليك: فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد خاتم النّبيين، وإمام المرسلين، صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين الأئمة المهديّين وسلّم تسليما.
أما بعد، فالحمد لله مانح الرغائب، ومنيلها، وكاشف المصاعب، ومزيلها، ومذلّ كل عصبة كلفت بالغدر والشّقاق ومذيلها، ناصر من بغي عليه، وعاكس كيد الكائد إذا فوّق سهمه إليه، ورادّ الحقوق إلى أربابها، ومرتجع المراتب إلى من هو أجدر برقيّها وأولى بها، ومسنّي الخير بتيسير أسبابه، ومسهّل الرّتب (1) بتمهيد طرقه وفتح أبوابه، ومدني نائي الحظّ بعد نفوره واغترابه، ومطلع الشمس بعد المغيب، ومتدارك الخطب إذا أعضل بالفرج القريب، مبدع ما كان ويكون، ومسبّب الحركة والسّكون محسن التدبير، ومسهّل التعسير: {قُلِ اللََّهُمَّ مََالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشََاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشََاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشََاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشََاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2).
والحمد لله الذي اختصّ أولياء أمير المؤمنين الأبرار بالاستعلاء والظّهور، وذلّل لهم جوامح الخطوب ومصاعب الأمور، وآتاهم من التأييد كلّ بديع
__________
(1) الرتب، بالتحريك: الشدّة والغلظة. والمراد الصعب.
(2) آل عمران / 26.(10/320)
مستغرب، وأنالهم من كل غريب إذا أورد قصصه أطرب، ومكّنهم من نواصي الأعداء، وشملهم بعناياته في الإعادة والإبداء، وضمن لهم أحمد العواقب، وأرشدهم إلى الأفعال التي ثبّتت لهم في صحائف الأيّام أفضل المناقب، وهداهم بأمير المؤمنين إلى ما راق زلاله، وتمّ غاية التّمام كما أنه كان لرضا الله سبحانه وحسن ثوابه مآله، ويمدّهم (1) في المجاهدة عن دولته بالتأييد والتمكين، ويحظيهم من أنوار اليقين، بما يجلو عن أفئدتهم دجى الشّكّ البهيم، ويظهر لأفهامهم خصائص الإمامة في حلل التفخيم والتعظيم، ويريهم أنّ خلوص الطاعة منجاة في المعاد بتقدير العزيز العليم.
والحمد لله الذي استثمر من دوخة النبوّة الأئمة الهادين، وأقامهم أعلاما مرعدة في محجّة الدين، وبيّن بتبصيرهم الحقائق وورّث أمير المؤمنين شرف مقاماتهم، وجعله محرز غاياتهم، وجامع معجزاتهم وآياتهم، وقضى لمن التحف بظلّ فنائه، واشتمل بسابغ نعمه وآلائه، وتمسّك بطاعته واعتصم بولائه، بالخلود في النعيم المقيم، والحلول في مقام رضوان كريم: {ذََلِكَ فَضْلُ اللََّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشََاءُ وَاللََّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} * (2).
يحمده أمير المؤمنين على نعمه التي جعلته للبشر إماما، وأمضت له في المشارق والمغارب أوامر وأحكاما، وجرّد من عزمه في حياطة دين الله عضبا مرهفا حساما، واستخلص لإنجاد دولته من أوليائها أكملهم شجاعة وإقداما، وأحسنهم في تدبير أمورها قانونا ونظاما، وأتمّهم لمصالح أجنادها ورعاياها تفقّدا واهتماما، وأولاهم بأن لا يوجّه عليه أحد في حقّ من حقوق الله ملاما، وأجدرهم بأن يحلّ من جميل رأي أمير المؤمنين دار سلام يلقى فيها تحيّة وسلاما ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد خاتم النبيين الذي أعلن بالتوحيد وجهر، وغلب بالتأييد وقهر، وأظهر
__________
(1) لم يتقدم ما يعطف عليه!
(2) الحديد / 21.(10/321)
المعجز البديع واستطال إعجازه وبهر، وأطلع نور الإسلام واشتهر في المشارق والمغارب إشراقه وظهر، وعلى أخيه وأبن عمّه أبينا عليّ بن أبي طالب سيف الله الذي شهره على الكفر وسلّه، وكفّله إعزاز الدّين فأعظمه بجهاده وأجلّه، وقرع بعزه صفاة (1) الإلحاد [فأزاله] (2) بعزه وأذلّه، وقصّد (3) الأصنام وأرغم من استغواه الشيطان باتّباعها وأضلّه، وعلى الأئمة من ذرّيتهما أعلام الدّين، وهداة المتقين، وموضّحي سبيل الحقّ لأهل اليقين، وموصّلي الأنوار الدينية إلى بصائر المؤمنين، صلاة تتكرّر وتتردّد، وتدوم مدى الأيام وتتجدّد.
وإن أمير المؤمنين لما اختصّه الله به من المنصب الشريف، وسما به إليه من المحلّ الشامخ المنيف، وفوّضه إليه من تدبير خلقه، وأفرده به من اتّباع أمره والقيام بحقّه، وناطه به من المحاماة عن الملّة الحنيفيّة، والاجتهاد في أن يشمل أهلها بالحالة السنيّة والعيشة الهنيّة، وإعانته في إظهار شعارها، وتأييده في إظهار علوّها على الملك واقتدارها يبذل جهده في الاستعانة بمن تقوم به حجّته عند الله بالاعتماد عليه، ويتوثّق لنفسه في اختيار من يقوم برضا الله في إسناد الأمور إليه، ويحرص على التفويض لمن يكفي في التدبير، وتحيط غاية نظره بالصغير من رجال الدولة والكبير، تقرّبا إلى الله بالعمل فيما ولّاه بما يرضيه، وازدلافا باتّباع أمره في كل ما ينفذه ويمضيه. وقد كان أمير المؤمنين تصفّح أولياء دولته، وعظماء مملكته وأكابر شيعته وأنصار دعوته، فوجدك أيّها السيد الأجلّ أكملهم فضلا، وأقلّهم مثلا، وأتمّهم في التدبير والسياسة إنصافا وعدلا، وأحقّهم بأن تكون لكلّ رياسة وسيادة أهلا، ففوّض إليك في أمور وزارته، وعوّل عليك في تدبير مملكته وجمع لك النظر فيما وراء سرير خلافته، فجرت الأمور بمقاصدك السعيدة على إيثار أمير
__________
(1) الصفاة: الحجر العريض الأملس. يقال: ما تقرع له صفاة أي لا يناله أحد بسوء، ويقال: فلّت صفاته: ضعف.
(2) في الأصل «فأعانه» وهي غير مستقيمة.
(3) قصّد العود: كسره بالنصف.(10/322)
المؤمنين وإرادته، واستمرّ أمر المملكة بمباشرتك على أحسن قانونه وعادته، وشملت الميامن والسّعود أتمّ اشتمال على تفصيله وجملته، وانحسمت الأدواء، وذلّت بسطوتك الأعداء، وزالت في أيّامك المظالم والاعتداء، وحسنت بأفعالك الأمور، وظهر بك الصّلاح وكان قبل وزارتك قليل الظّهور، فانبسطت الآمال، واتّسقت الأعمال، وأقمع الضّلال، وأمنت الأهوال، وخلصت من الرأي السّقيم، وحظيت بالملك العقيم، وغدا جندها ورعاياها ببركة رأيك في النّعيم المقيم.
فلمّا رمقتك عين الكمال، وألهب قلوب حسدتك ما أوتيته من تمام الخلال، تكاثر من يحوك المكايد، وتظافر عليك المنافس والمعاند، ورنت إليك إساءة من عاملته بالإحسان، وعدت عليك خيانة من ائتمنته أتمّ ائتمان، وتمّ له (1) المراد بوفائك وغدره، وسلامة صدرك ومكره، واتّفاق ظاهرك وباطنك ومباينة سرّه لجهره فكان ماهوّنه في نفسه سلامة النّفس وأكبر الولد، ومنح في إسداده نعما لا تنحصر بعدد وأفظع ما كان فيه ما أصيب به ولدك الأكبر رضي الله عنه الذي أصيب وهو مظلوم، ولو لم يصب لم يمتنع من الأجل المحتوم فربحت بما نالك ثوابا، واستفتح لك الحظّ من النصر على الباغي بابا، واغتصب الغادر ما لا يستحقّ، ورآه أمير المؤمنين بصورة المبطل ورآك بصورة المحقّ، وهدتك السعادة إلى العمل بسيرة الأنبياء، في الانحياز عن الأعداء، والتباعد عن أهل الغيّ والاعتداء، فانسللت من الغواة انسلال الصارم من غمده، وتواريت من العتاة تواري النار في زنده، وقطعت المفاوز مصاحبا للعفر والعين، حتّى حللت بربوة ذات قرار ومعين وإنّ أمير المؤمنين يمدّك في ذلك بدعائه، ويعدّك لتدبير دولته
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية: «لعله لك، بكاف الخطاب» ونحن نرجح استقامة استعمال ضمير الغائب. والمقصود تمّ له المراد في البداية، فقد رأينا أن شاور السعدي انهزم في البداية أمام ضرغام وفرّ إلى الشام. ويؤكد ما ذهبنا إليه ما سيأتي في الصفحة التالية، كما أن القلقشندي يشير إلى أن هذه الرسالة وجهت إلى شاور بعد انتصاره على ضرغام في الجولة الثانية. ونفهم أيضا من الرسالة أن هذا التقليد هو الثاني بالوزارة.(10/323)
وقمع أعدائه، ورآك وإن أبعدتك الضّرورات عن بابه، وأناتك الحادثات عن جنابه، أنّك وزيره المكين، وخالصته القويّ الأمين، الذي لا ينزع عنه شمس وزارته، ولا يؤثر له غير سلطانه ومملكته.
ولما وجّهت إلى أعمال أمير المؤمنين بمن استصحبته راجيا من عدوّك الانتصار، قاصدا إدراك الثار، وحللت بعقوته (1)، وخيّمت في جهته، فاتّصلت بينكم الحروب، وعزّ على كلّ منكما نيل المطلوب أنجدك أمير المؤمنين عند علمه ببلوغ الكتاب أجله، واستيفاء الوقت المحدود مهله، بإظهار ميله إليك وميله عن ضدّك، وأنّ قصده مباين لقصد المذكور موافق لقصدك، فسبّب ذا نصرك وخذلانه، وتقويتك وإيهانه ولأمير المؤمنين في حاله عناية تسعدك، ورعاية تؤيّدك.
فحين عدت إلى بابه عود الشّموس إلى مشارقها قبلك أحسن قبول، وتلقّاك بتبليغ السّول، وكشف الغطاء عمّا كان يسرّه إليك ويضمره، ويريده بك ويؤثره، وجدّد لك ما كنت تنظر فيه من الوزارة، ومباشرة ما كان مردودا إليك من السّفارة والظّهارة: لأنّك أوحد ملوك العصر كمالا، وأوسعهم في حسن التدبير مجالا، وأشرفهم شيما بديعة وخلالا، وأصلحهم آثارا وأعمالا، وأتمّهم سعادة وإقبالا، وأكثرهم تقيّة لله تعالى وما زلت للمفاخر جامعا، ولراية المجد رافعا، ولذرى العلاء والسّناء فارعا، تزدان العصور بعصرك، وتتجمّل الدنيا ببقاء نهيك وأمرك، وتتعجّب الأفلاك العليّة من سعة صدرك، وتتضاءل الأقدار السامية لعظيم قدرك وكم لك من منقبة تجلّ أن يكيّفها بديع الأقوال، وتعظم أن يتمنّاها بديع الأقوال (2) فالدولة العلويّة بتدبيرك مختالة زاهية، وأركان أعدائها وأضدادها بحزمك وعزمك واهية، وسعادات من تضمّه وتشتمل عليه متضاعفة غير منقطعة
__________
(1) عقوة الدار: ساحتها.
(2) الأقوال هنا جمع قيل، وهم ملوك حمير. ويجمع أيضا على أقيال.(10/324)
ولا متناهية، ولم تزل للإسلام سيفا قاطعا ماضيا، وعلى الإلحاد سيفا مرهفا قاضيا، تذود الشرك عن التوحيد، وتصدّ الكفر عن الإيمان فيحيد مرغما ويبيد وكم لك في خدمة أئمة الهدى من مأثرة تؤثر فتبهج ويورد ذكرها فيغري بالثناء عليك ويلهج، وتبذل في طاعتهم النفس والولد، وتنتهي في مناصحتهم إلى الأمد الذي ليس بعده أمد فلذلك فزت بدعواتهم التي أعقبتك حسن العواقب، وأحلّتك المحلّ الذي لا تسموا إلى رقيّه النجوم الثّواقب فإذا رفعك أمير المؤمنين إلى منزلة سامية، وجد محلّك لديه عنها يجلّ ويسمو، وإذا خصّك بفضيلة ما، صادف استحقاقك عنها يرتفع ويعلو، وإذا استشفّ خصائصك، وجدها بديعة الكمال، يمتنع أن يدرك مثلها بحرص ساع أو ينال وقد توافقت الخواطر على أنك أوحد وزراء الدولة العلويّة ظفرا ونظرا، وأحسنهم في طاعتها ومخالصتها أثرا، وأفضلهم خبرا وأطيبهم خبرا وقد جدّد لك أمير المؤمنين اصطفاءك لوزارته، واجتباءك لتدبير مملكته، وجعلك الفرد المشار لك في دولته.
فتقلّد ما قلّدك أمير المؤمنين من هذه المهمّات الجسام، وتسنّم ما وطّده لك من هذه الرّتب العظام، وتلقّ آلاءه بما يثبتك في جرائد الأبرار، ويمنحك مصاحبة التوفيق في الإيراد والإصدار، وباشر ما ناط إليك من كبير الأمور وصغيرها، وجليل الأحوال وحقيرها، وابسط يدك في تدبير دولته، وأنفذ أوامرك في أرجاء مملكته، واعن بما جعله لك من تدبير جيوشه الميامين وأوليائه المتّقين، وكفالة قضاة المسلمين وهداية دعاة المؤمنين، وربّ أحوال جنوده ورعاياه أجمعين، واعمل في ذلك بتقوى الله الذي ما برحت لك دأبا وطريقة، وشيمة وخليقة، وبها النجاة من النار، والسّلامة في دار القرار، والفوز بمعنى الخلاص، في يوم المناقشة والقصاص فالعارف من مهّد بها مقامه في الآخرة تمهيدا، وأحرز بها من الثواب في الآخرة مزيدا، بقول الله في الكتاب الذي جعله في الإعجاز فريدا:
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً} (1).
__________
(1) الأحزاب / 70.(10/325)
وراقب الله فيما ألقاه إليك فقد فوّض إليك مقاليد البسط والقبض، والرفع والخفض، والولاية والعزل، والقطع والوصل، والتولية والتصريف والصّرف، والإمضاء والوقف، والغضّ والتّنبيه، والإخمال والتّنويه، والإعزاز والإذلال، والإساءة والإجمال، والإبداء والإعادة، والنقص والزّيادة، والإنعام والإرغام، وكل ما تحدثه تصاريف الأيام، وتقتضيه مطالب الأنام فهو إليك مردود، وفيما عدق بنظرك معدود.
وأمّا العدل ومدّ رواقه، وإقامة مواسمه وأسواقه، والإنصاف واتباع محجّته، والاعتماد على أحكامه وأقضيته، وكفّ عوادي الجور والمظالم، وحمل الأمر على قصد التصاحب والتّسالم، وإظهار شعار الدّين، في إنصاف المتداعين إلى الشرع المتحاكمين، والدعوة الهادية (1) وفتح أبوابها للمستجيبين، وإعزاز من يتمسّك بها من كافّة المؤمنين، والأموال والنظر فيها، والأعمال أقاصيها وأدانيها، فكلّ ذلك محرّر في تقليد وزارتك الأوّل، وأنت أولى من حافظ على العمل به وأكمل.
وأمّا أمراء الدولة الأكابر، وصدورها الأماثل، وأمراؤها الأعيان، وأولياؤها الذين بسيوفهم تقام دعائم الإيمان، فأنت شفيعهم في كلّ مكان، ومعينهم الذي يبذل جهده بغاية الإمكان، والجاهد لهم في النّفع والصّلاح، والحريص على دفع ما يلمّ بكلّ منهم من الضّرر والاجتياح وما زلت لهم في الأغراض بحضرة أمير المؤمنين مساعدا، وعلى ما يبلّغهم الآراب حريصا جاهدا، وتخصّهم دائما بعنايتك، وتمدّهم برعايتك، وتعمل لهم في الحاجات صائب رأيك فأجرهم على ما ألفوه من الاعتناء والإجمال، وبلّغهم من محافظتك نهايات الآمال، فهم أبناء الملاحم، ومصطلو لهب الجمر الجاحم (2) ومصافحو الصّفاح، المرهفة
__________
(1) المراد بها الدعوة الفاطمية.
(2) الجمر الجاحم: الشديد الاشتعال.(10/326)
الضّروب، وملاعبوا الرّماح، العاسلة (1) ذات الكعوب، ومعملو العتاق الأعوجيّة (2)، ومرسلو السّهام المريشة المبريّة.
وأمير المؤمنين يعلم أنك بفضل فطرتك، وثاقب فطنتك، وما ميّزك الله به من قديم حنكتك وتجربتك، تغنى عن الوصايا، وتنزّه عن توسيع الشّرح في القضايا وإنما أورد لك هذا النّزر منها على جهة التيمّن بأوامر الأئمة، والتبرّك بمراسيم هداة الأمة والله يحقّق لأمير المؤمنين فيك الأمل، ويوفّقك في خدمته للقول والعمل، ويعينك على إصلاح دولته، واغتنام فرص طاعته، وبذل الجهد والطاقة في مناصحته، والاجتهاد في رفع منار دعوته، ويؤيّدك على أعداء مملكته، ويرشدك إلى العمل بما يسبغ عليك لباس نعمته فاعلم هذا من أمير المؤمنين ورسمه، وانته إلى موجبه وحكمه، إن شاء الله تعالى. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، والتحميد.
وعلى ذلك كتب الموفّق بن الخلّال أيضا عن العاضد بولاية ابن شاور السّعديّ نيابة الوزارة عن أبيه، وتفويض الأمور إليه، وهذه نسخته:
من عبد الله ووليه (بألقاب الخلافة) إلى فلان (بالنّعوت اللائقة به).
سلام عليك (إلى آخر الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم على نحو ما تقدّم في سجلّ الوزارة لأبيه).
أما بعد، فالحمد لله مؤيّد الحقائق بأفضل الأنصار، ومعزّ الممالك بأكمل ذوي النّفاذ والاستبصار، وجاعل الولد البارّ لوالده ركنا وسندا، والنّجل المختار لناجله نجدة ومددا، مرتّب الممالك على أفضل نظامها، ومرقّي الدّول إلى المؤثر من إجلالها وإعظامها: ليتّضح للمتأملين فضل تأكد الأواصر، ويستبين للناظرين
__________
(1) عسل الرمح، فهو عاسل وعسول وعسّال: اضطرب واهتز للينه.
(2) الأعوجية والأعوجيات: ضرب من جياد الخيل تنسب إلى أعوج: حصان لبني هلال.(10/327)
فصل تباين العناصر، إبراما منه جل وعزّ لأسباب الحكمة، وتوسيعا لسبيل الحنان والرحمة، وشمولا لما يتتابع به إحسانه من المنّ الجسيم {فَضْلًا مِنَ اللََّهِ وَنِعْمَةً وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1).
والحمد لله معلي الدّرجات ورافعها، ومفيد الأمم ونافعها، ومزيل البأساء ودافعها، ومجيب الدّعوات وسامعها، ومضاعف المصالح وجامعها، الذي وقف على الدولة العلويّة أحسن السّير، وخصّها فيمن تؤثر اصطفاءه بمساعدة القدر، ويسّر لها رائق التدبير بعد ملابسة الرّنق والكدر، وادّخر لها من الأصفياء من تشرق الدنيا بأنواره، وتزيّن الدّهور بمحاسن آثاره، وتسمو المفاخر بمفاخره، ويتوالى الثناء على ما ابتكره من المكارم في أوّل نشئه وآخره، ويتتابع الإحماد لمن يختاره ويجتبيه، وتتضاءل أقدار الملوك إذا ذكر فضله وفضل أبيه، وتسكن النفوس إلى تمام ورعه ودينه، وينطق لسان الإجماع بصحّة معتقده ويقينه.
والحمد لله الذي شمل البرايا فضله، وعمّ الخلائق عدله، وأقرّت العقول بأنّ إليه يرجع الأمر كلّه.
يحمده أمير المؤمنين على نعمه الظاهرة التي أحظت دولته الظاهرة، بمؤازرة البيت الجليل الشّاوريّ، وأيدت مملكته القاهرة، بمحاماته عن حوزتها بالعضب المرهف والسّمهريّ، ويشكره على مننه التي استخلصت له منه أنصارا يرهفون في طاعته العزائم، ويحقّرون في إرادته العظائم، فيذبّون عن حوزته ولا يخافون في ذات الله لومة لائم، ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد الداعي إلى الهدى، والمبعوث إلى الخلائق وهم إذ ذاك سدى، والمناضل في نصرة الإسلام بالأسرة والآل، والمطّرح عاجل الدنيا الفانية لآجل المآل، وعلى أبيه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي أقام من دين الله منكر الأود، وقام لنبيّ الله مقام النّجل المرتضى والولد، وقطّ من طواغيت الكفر شامخ الهام، وأوضح غامض
__________
(1) الحجرات / 8.(10/328)
التنزيل بما أفرده الله به من مزايا الإلهام، وعلى الأئمّة من ذرّيتهما أبناء الرّسالة والإمامة، والمختصّين بإرث بيته المحبوّ بتظليل الغمامة، والقائمين بنصرة الدّين، والمتفرّدين بإمرة المؤمنين.
وإنّ أمير المؤمنين لما أقامه الله له من تمكين قواعد الدّين، واختاره لإيضاحه من إرشاد فرق المسلمين، وأفضى به إليه من سرّ الإمامة المكنون، وألقاه إليه من خفايا الإلهام الذي تستنبط من أنوارها علّة ما كان ويكون، وأمدّه من التأييد الذي يستأصل طواغيت النّفاق بقوارع المهالك، ويسلك بمردة أهل العناد أوعر السّبل والمسالك، وأنجده في كلّ الحالات بالألطاف الخفيّة التي تتكفّل بإعلاء كلمته، وتتضمّن نصر أعلامه ونشر دعوته، وآتاه جوامع المعارف والحكم، وفرض طاعته على من دان بالتوحيد من جميع الأمم، وألزم مقاصده وأنحاءه التوفيق، وأوجب لها السعادة في كلّ جليل ودقيق، يفوّض أمره إلى الخالق، ويفيض جوده وبرّه في الخلائق فلا يزال لأحوال دولته مراقبا، ولا ينفكّ يفيد كلّ ما يتعلّق بها نظرا ثاقبا فإذا لاحت له لائحة صلاح، أو بدت لنظره مخيلة نجاح، اجتهد في توسيع مجالها، وحرّض على حثّها وقصد إعجالها، والتمس للدّولة اجتلابها، وفتح إلى استدعاء النّفع بابها: لينمى الخير العميم، في دولته، ويتضاعف النفع الجسيم، لرعيّته، وتكون كافّة الخلق فيها بالأمنة والسّكون مغمورين، وبحسن صنيع الله بهم فرحين مسرورين.
ولمّا تصفّح أمير المؤمنين أحوال دولته، وتأمّلها تأمّل من يؤثر أن يفقه الفحص في كل مهم على حقيقته، رأى أن الله جل وعلا قد منح أمير المؤمنين من خالصته وصفيّه، ووزيره وكافيه وولّيه، السيد الأجلّ (بالنعوت والدعاء) الذي قام بنصرته، وكفل أهوال الحروب بنفسه وأولاده وأسرته، وحالف التغرّب والأسفار، واستبدل من لين العيش بملاقاة السّهام واللهاذم والشّفار، واتخذ ظهور الجياد عوضا من الحشايا، ومنازلة الأبطال دأبا في الحنادس والبكر والعشايا، وآثر
على لبس الغضّ المونق الجديد، لباس اليلب (1) ولأمات الحديد، ولازم في ذات الله قرع أبواب الحتوف، والتهجّم على كل مخشيّ مخوف، حتّى ذلّل الأعداء، وقمع الاعتداء، وحسم الأدواء، وألزم الدّهر بعد خطئه الاستهواء، وأفاد دولة أمير المؤمنين باجتهاده عزّا، وادّخر لها عند الله من الأجر والمثوبة كنزا، وسيّر عنها في الآفاق أحسن الأحاديث، وبيّن فضلها على غيرها في القديم من الدّهر والحديث، وأخلص لأمير المؤمنين في الطاعة حتّى استخدم الموالي الموافق، والمباين المنافق، وكمّل فضائله التي لا تحدّ، ومحاسنه التي لا تنحصر ولا تعدّ، بفضيلة تفوت الفضائل، ومنقبة تفوق بفخرها المناقب الجلائل: وهي ما وجهه الله [له] (2)
من بنوّة الأجلّ فلان الذي لم يزل للدولة عزّا حاضرا، ووليّا ناصرا، وعونا قاهرا، ومجدا ظاهرا، وجمالا باهرا. وما برح الله جلّ وعلا مراقبا، ولرضاه وغفرانه طالبا، قد جمع إلى كمال الدّين وصحّة اليقين، المخالصة في طاعة أمير المؤمنين، لا يفتر منذ مدّة الطّفوليّة [عن] (3) درس القرآن، ولا يباري بغير الأمور الدينية نجباء الأقران إن تصفّحت محاسنه الدنيويّة عدّ ملكا مهذّبا، وإن تأمّلت مناقبه الدينيّة حسب ملكا مقرّبا وكم له من منقبة تستنقص الغيوث، وشجاعة تستجبن اللّيوث، ومهابة تردّ أحاديثها الجيوش على الأعقاب، وتغريها بموالاة الحذر والارتقاب إذا أسهبت الخطوب أوجز تدبيره، وإذا استطالت الحوادث قصّر طولها فأعجب تقريره فالدولة العلويّة من ذبّه في الحرم الآمن، والخلافة العاضديّة من ملاحظاته في تدبير يجمع أشتات الميامن فاجتماع المآثر قد وحّده، بشهادة الإجماع، وتوالي المحامد قد أفرده، بما شاع منه في الممالك وذاع تتحاسد عليه غرّ الأخلاق، وتتنافس فيه المكارم منافسة ذوات الإشراق، فلا توجد خلّة فضل بارع إلا وقد جمّعها، ولا مكنة جبر (4) قارع إلا وهو الذي مهّد(10/329)
ولمّا تصفّح أمير المؤمنين أحوال دولته، وتأمّلها تأمّل من يؤثر أن يفقه الفحص في كل مهم على حقيقته، رأى أن الله جل وعلا قد منح أمير المؤمنين من خالصته وصفيّه، ووزيره وكافيه وولّيه، السيد الأجلّ (بالنعوت والدعاء) الذي قام بنصرته، وكفل أهوال الحروب بنفسه وأولاده وأسرته، وحالف التغرّب والأسفار، واستبدل من لين العيش بملاقاة السّهام واللهاذم والشّفار، واتخذ ظهور الجياد عوضا من الحشايا، ومنازلة الأبطال دأبا في الحنادس والبكر والعشايا، وآثر
على لبس الغضّ المونق الجديد، لباس اليلب (1) ولأمات الحديد، ولازم في ذات الله قرع أبواب الحتوف، والتهجّم على كل مخشيّ مخوف، حتّى ذلّل الأعداء، وقمع الاعتداء، وحسم الأدواء، وألزم الدّهر بعد خطئه الاستهواء، وأفاد دولة أمير المؤمنين باجتهاده عزّا، وادّخر لها عند الله من الأجر والمثوبة كنزا، وسيّر عنها في الآفاق أحسن الأحاديث، وبيّن فضلها على غيرها في القديم من الدّهر والحديث، وأخلص لأمير المؤمنين في الطاعة حتّى استخدم الموالي الموافق، والمباين المنافق، وكمّل فضائله التي لا تحدّ، ومحاسنه التي لا تنحصر ولا تعدّ، بفضيلة تفوت الفضائل، ومنقبة تفوق بفخرها المناقب الجلائل: وهي ما وجهه الله [له] (2)
من بنوّة الأجلّ فلان الذي لم يزل للدولة عزّا حاضرا، ووليّا ناصرا، وعونا قاهرا، ومجدا ظاهرا، وجمالا باهرا. وما برح الله جلّ وعلا مراقبا، ولرضاه وغفرانه طالبا، قد جمع إلى كمال الدّين وصحّة اليقين، المخالصة في طاعة أمير المؤمنين، لا يفتر منذ مدّة الطّفوليّة [عن] (3) درس القرآن، ولا يباري بغير الأمور الدينية نجباء الأقران إن تصفّحت محاسنه الدنيويّة عدّ ملكا مهذّبا، وإن تأمّلت مناقبه الدينيّة حسب ملكا مقرّبا وكم له من منقبة تستنقص الغيوث، وشجاعة تستجبن اللّيوث، ومهابة تردّ أحاديثها الجيوش على الأعقاب، وتغريها بموالاة الحذر والارتقاب إذا أسهبت الخطوب أوجز تدبيره، وإذا استطالت الحوادث قصّر طولها فأعجب تقريره فالدولة العلويّة من ذبّه في الحرم الآمن، والخلافة العاضديّة من ملاحظاته في تدبير يجمع أشتات الميامن فاجتماع المآثر قد وحّده، بشهادة الإجماع، وتوالي المحامد قد أفرده، بما شاع منه في الممالك وذاع تتحاسد عليه غرّ الأخلاق، وتتنافس فيه المكارم منافسة ذوات الإشراق، فلا توجد خلّة فضل بارع إلا وقد جمّعها، ولا مكنة جبر (4) قارع إلا وهو الذي مهّد
__________
(1) اليلب: جلود يخرز بعضها إلى بعض تلبس على الرؤوس خاصة، وأحيانا على البدن. واللأمة:
أداة الحرب كلها.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(4) الجبر: الشجاع. والمكنة: التمكن والمكانة.(10/330)
محجّتها ووسّعها ومقاماته في الجهاد والجلاد مقامات أوضحت الحقائق للأفهام، وثبّتت الدقائق تثبيتا يبقى على غابر الأيّام، وأعزّت دعوة الدولة العلوية وأيّدتها، ونصرت أعلامها ونشرتها، وأكتنفت بالتفضيل والإحسان رجالها، وأزالت بالجدّ والتشمير أوجالها، ومحت آثار عداتها بالسّيوف، وألفتهم (1) عن النّكايات المجحفة بوزع المنايا والحتوف.
والحروب فمرباه في مهودها، ومنشاه بين أسودها، ورعاتها وقف على إضرامها وإخماد وقودها فإذا تورّدها تورّدها باسما متهلّلا، وإذا اقتحم مضايقها تصرّف فيها متوقّفا متمهّلا، لا يحفل بأهوالها، ولا يرى لقارعة من عظائم قوارعها وآلها وحسبك فتكاته في طغاة الكفّار، وقصد أولياء الدولة بالإظهار: فإنّ الكفّار حين نهدوا للنّفاق، واجتلبوا أشباههم من بعيد الآفاق، وتهجّموا على الأعمال فجأهم بعزمة من عزماته أقامت راية الدين، وجعلتهم حصيدا خامدين، وأفنت منهم الصّناديد، واصطلمتهم (2) ببلايا تزيد على التعديد، واجتحفتهم بالقتل والأسر والتفريق، ورمتهم بدواه لا يقدر بشريّ على دفاعها ولا يطيق ولمّا التجأ طاغية الكفر إلى الحيرة وركد، ورام الاعتصام بعروتها واجتهد، واغترّ بما معه من الجمع وكثرة العدد، نهد إليه في الأبطال الأنجاد، ونهض نحوه ثابتا للقراع والجلاد، فأزاله عن مجثمه، وذعره ذعرا شرّده عن معلمه، ورماه بالحراك بعد السّكون، والتّعب الذي قدّر باغتراره أنّ مثله لا يكون وكم له فتكة في أهل العمود (3) ذلّلت جماحهم، واستلبت أرواحهم، وأعادت ليلا بالنّقع صباحهم.
وعند تمادي عتاة الكفّار في الإصرار، وجوسهم خلال الدّيار، ونفثهم في وجوه الأذى والإضرار، وطمعهم في اجتياح أهل الأعمال والأقطار، عوّل أمير المؤمنين في استئصالهم على عزمه، واعتضد بذبّه وحسمه، وجعل إليه التدبير
__________
(1) ليس لهذا اللفظ معنى مناسب هنا. وفي هامش الطبعة الأميرية: «لعله: وألهتهم».
(2) اصطلمه وصلمه: قطعه. يقال: اصطلمهم الدهر أو الموت: استأصلهم وأبادهم.
(3) لعل المراد أهل الصليب.(10/331)
بالقاهرة المحروسة التي هي عمدة الإيمان والإسلام، ودار هجرة الإمام، ومعقل الخلافة منذ غابر الأيّام، وأطلق يده في ربّ جميع الأعمال، وتأمينها من بوائق الأوجال، فبثّ بالحضرة وبالأعمال من مهابته ما شرّد الأوغار (1)، وسهّل الأمصار، ومحق الضّلّال، وأذاقهم النّكال، فعمّ السّكون والأمنة، واستولت على الأعمال السياسة المستحسنة، فحادت بنضرة الأيام وصلاح الوجود، واغتبطوا من تدبيره بصعود الجدود، ورتعوا من عنايته في عيش يضاهي عيش جنان الخلود فالبلاغات بأسرها لا تقوم بمدح ما أوتي من الفضائل، ولا يوازي مجموعها منقبة من مناقبه التي أربى بها على الملوك الأواخر والأوائل، والخصائص الملوكية بجملتها فيه جبلّة وفطرة، وإذا قيست نادرة من نوادر فضله بما تفرّق في جميع الملوك كانت فضائله بمنزلة البحر ومجموع فضائل الملوك بمنزلة القطرة وقد طرّز فضائله البديعة، وخلاله السامية الرّفيعة، من موالاة أمير المؤمنين ومناصحة دولته بما تكفّل بسعادة الدنيا والآخرة، ونهايات مغانم الثواب الشريفة الفاخرة فليله ونهاره مصروفان إلى المجاهدة عن دولة أمير المؤمنين التي هي دولة التّوحيد، والمخلص فيها معرّض لكلّ مقام سعيد فمحاسنه ترتفع عن قدر التقريظ والمديح، ولا تقابل إلا بموالاة التسبيح.
ولما أحمد أمير المؤمنين أثرهما في خدمته، وشكر قصدهما في دولته، وكان السيد الأجلّ قد بلغ إربه في الخلال، وحلّ المحلّ الذي لا تتعاطاه جوامح الآمال وقدره يشرف عن كلّ تكريم،، وموضعه يتميّز عن كلّ منّ جسيم، ومنزلته تسمو عن كلّ تعظيم فأوصى أمير المؤمنين السيد الأجل أن يقرّر له جميع خدمه، ويسبغ عليه في المستأنف أضفى نعمه: فإن محلّه يرتفع عن محلّ الخدم الجليلة، ويسمو عن كل تصرّف يسمه في الدولة بسمة جميلة ورأى أمير المؤمنين والسيد الأجل أن يعلن بإسناد النيابة عن والده في أمور المملكة إليه، ويشهر أنّ ذلك معوّل فيه عليه: ليخفّف عن السيد الأجلّ أمير الجيوش أمر أثقالها،
__________
(1) الضغائن والأحقاد.(10/332)
ويتحمّل عنه تكليفه بعض أحوالها، ترفيها للسيد الأجل عن التّعب، وتخفيفا من كثرة النّصب على أنّ علوّ قدره الأجل لم يخله في وقت من الأوقات من مشاركة في التدبير، ولا صدّه عن ممازجة في مهمّ كبير، بل ما برحت يده في جميع أحوال الدولة جائلة، وجلالة منصبه تقضي بأن تكون تصريفاته لجميع الأمور شاملة، وتوقيعاته ماضية في الأموال والرجال، والجهات والأعمال وأمير المؤمنين والسيد الأجل يستسعدان بأداته، ويتتبّعان في كل السياسات ما هو موافق لإراداته: لما خصّه الله [به] (1) من المرامي الصائبة، والمقاصد التي السعادة على ما يرد منها مواظبة، وجبله عليه من المحافظة على حسن المرجع وحميد العاقبة خرج أمر أمير المؤمنين إلى السيد الأجل بالإيعاز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السّجلّ لك:
فتقلّد ما قلّدته من النيابة عن والدك فيما إليه من أمور مملكته، وأحوال دولته، معتمدا على تقوى الله التي بها نجاة أهل اليقين، وفوز سعداء المتّقين، لقول الله عز من قائل: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَكُونُوا مَعَ الصََّادِقِينَ} (2). واحمل عن السيد الأجل والدك ما يؤثر أن تحمله عنه من الأثقال، وتكفّل ما يكلّفك إيّاه من الأشغال، ونفّذ ما يختار أن تنفّذه، وأنجز ما يؤثر أن تنجزه، وأمض ما يشير إليك (3)
بإمضائه من أساليب التوقيعات، وفنون المهمّات، وقم في كل من أمور نيابتك المقام الذي يرضيه، ويوجبه برّك ويقتضيه وقد جعلك الله ميمون النّقيبة (4)، مسعود الضريبة، مكمّل الأدوات، مؤهّلا لترقّي الغايات، لا تكبر عن مباشرتك كبيرة، ولا تشفّ (5) عن رتبتك رتبة خطيرة واجر على عادة والدك في حسن السياسة والتدبير، والإجمال للأولياء لكما في كل صغير من الأمور وكبير.
والوصايا متّسعة الفنون، كثيرة الشّجون ولك من مزيّة الكمال، وفضيلة
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) التوبة / 119.
(3) في الأصل «إليك إلى امضائه» وما أثبتناه من الطبعة الأميرية.
(4) النقيبة هنا بمعنى الرأي والمشورة.
(5) أي لا تزيد.(10/333)
الجلال، ومساعدة الإقبال، والخبرة بالجهات والأعمال، وطوائف الأولياء والرجال، ما يعينك على استنباط دقائقها، والعمل بحقائقها، وسلوك أحسن طرائقها.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عليك فاعمل بأحكامه، وأجر أمورك على نظامه، وبالغ أيها السيد الأجل أمير الجيوش في شكر نعمة الله التي ألهمت الملوك إشاعة فضلك، ورتّبت السّعود على اكتناف عقدك وحلّك، ومنحتك آية كليم الله فجعلت لك وزيرا من أهلك (1) فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وعلى ذلك كتب بعض كتّابهم عن العاضد، لرزّيك (2) بن الصالح طلائع بن رزّيك، بولاية المظالم وتقدمة العسكر في وزارة أبيه، وهذه نسخته:
من عبد الله ووليّه فلان أبي فلان الإمام الفلاني (بلقب الخلافة) أمير المؤمنين، إلى فلان (بلقبه وكنيته).
سلام عليك، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وسيد المرسلين، صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الأئمة المهديّين، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فالحمد لله الغامر بالطّول والفضل، الآمر بالإحسان والعدل، موسّع سبل الصّلاح لبريّته، ومسبّب أسباب النّجاح لدينه الحنيف وملّته، وجاعل أبرار أوليائه ذخائر معدّة لنفع الخلق، ومصطفي سعداء أحبّائه لإعلاء منار الشرع وإقامة قسطاس الحق، وميسّرهم للنّهوض بالأعباء التي تتكفّل بعضد الدولة
__________
(1) إشارة إلى الآية الكريمة {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي}: طه / 29.
(2) تولى الوزارة من 19رمضان 556هـ إلى 22من المحرم سنة 558هـ.(10/334)
العلوية وتقوم، ومجتبيهم للفضل بمرضاته فيما يقضي بإغاثة الملهوف وإنصاف المظلوم، الذي تنقاد بمشيئته الأمور، وتتصرف بإرادته الدّهور، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور، ويغدو فضله على عباده جسيما، و {لََا يَظْلِمُ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضََاعِفْهََا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} (1).
والحمد لله الذي أوضح بأنبيائه سبل الهدى للأنام، وأنقذ بإرشادهم من عبادة الأوثان والأصنام، وأقام باجتهادهم أحكام ما شرعه من الملل والأديان، وأذهب بأنوارهم ما غمر الأمم من غياهب الظّلم والعدوان، وقفّى على آثارهم بمن لا نبوّة بعد نبوّته، ولا حجّة أقطع من حجّته، ولا وصلة أفضل من وصلة ذخرها لأمّته، ولا ذرّيّة أقوم بحقّ الله في حفظ نظام الإيمان من عترته وذرّيّته.
يحمده أمير المؤمنين على أن مكّن له في الأرض، وذخر شفاعته لذوي الولاء في يوم النّشور والعرض، وأورثه خصائص من مضى من أئمة الهدى آبائه، وأفرده بمعجز التأييد الذي أضاءت الآفاق بمشرق أنبائه، ويشكره على أن أنجد دولته بكفيل جدّد جلبابها، وظهير أحكم أسبابها، ونصير بلّغ بها في الوليّ والعدوّ مطالبها وآرابها، واستنجب له من نجله خليلا يتلوه في الفضائل البارعة، وناصرا يحاول في الذّبّ عن حوزته عزما أمضى من السّيوف القاطعة، وعضدا يقوم له بإرضاء الخالق والمخلوق، ومسعدا لا يألو جهدا في إيصال المستحقّين إلى ما جعله الله لهم من الحقوق. ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد سيد من بلّغ عن الله رسالة وأمرا، وأفضل من دعا إلى توحيد بارئه سرّا وجهرا، وأكمل من جاهد عن دينه حتّى ظهرت بعد الدّروس جدّته، وقهرت إثر الخضوع عزّته، وانتشرت في المشارق والمغارب كلمته ودعوته، صلّى الله عليه وعلى أخيه وابن عمّه أبينا عليّ بن أبي طالب، قسيمه في الشّرف والأبوّة، وصدّيقه الأكبر فيما جاء به من النبوّة، والمكمّل بالنّصّ على إمامته الدّين، وخامس الخمسة (2) الذين سادسهم الرّوح
__________
(1) النساء / 40. وأول الآية: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَظْلِمُ} الخ.
(2) المقصود أصحاب الكساء.(10/335)
الأمين، وأبي الأئمة الأبرار، والهازم بمفرده كلّ جيش جرّار، وعلى الأئمة من ذرّيتهما أعلام محجّة الهدى، وأنوار سبل الإيمان التي بأنوارها يستبصر ويقتدى، وأدلّة منهاج النجاة، وكاشفي غمم الشّكّ إذا الظّلم دجاه، وسلّم ومجّد، وتابع وردّد.
وإنّ أمير المؤمنين لما اصطفاه الله له من إرث سرّ الإمامة المصون المكنون، وحقّ بيانه العظيم الذي بالخشوع لجلاله أفلح المؤمنون، واختاره [له] (1) من نشر لواء الحقّ ونصره، وتأكيد أحكام الإنصاف ليحظى بعائدتها كافّة أهل زمنه وعصره، وألبسه إيّاه من تاج خلافته الذي أشرق لبصائر العارفين نوره الساطع، وتجلّى لأفهام الموقنين برهانه الصادع ودليله القاطع، وأودعه من خفايا الحكم التي عذب سلسبيلها، وبلغ إلى النعيم الخالد دليلها وسبيلها، وكمّله لأيّامه من الإقبال الذي جعلها مواسم زاهية بهجة النصر المبين، وأعياد ظفر تروق بتوالي إبادة العادلين عن الطاعة النّاكبين، وأوقاتا سعيدة تفيد الدين وأولياءه عزّا واعتلاء، وتوجب للإيمان وأنصاره اقتدارا واستيلاء، وتسبغ عليهم كيفما تصرّفت بهم الأحوال مننا ضافية وآلاء، ويسّره لعلمه من الإحاطة بكل مغيّب مستور، وأوجبه لأغراضه في كل ما يرومه من مظاهرة المقدور، ومهّده لحلوله من أشمخ منازل التطهير والتقديس، وشرّف به شيمه من كل خلق نبويّ بارع نفيس، وفضّله به من الكرم الذي لا تزال سحبه تجود الأمم سرفا، ولا تنفكّ غيوثه تجدّ لمن مطر به علاء وشرفا، ولا برح وابله يعمّ بالنّعم الغرّ الجسام، ولا تكفّ سيوبه عن إفاضة المنن التي علت وغلت فلا تسامى ولا تسام، وخصّ به إحسانه من المثابرة على إعظام المنائح للمستوجبين، والمحافظة على إجزال المواهب للمزدلفين إليه بالأعمال الصالحة المتقرّبين، يجهد آراءه في ارتياد من تتضاعف للبريّة بالاستعانة بكماله أسباب المصالح، وتتأكّد للأمّة بالتعويل على بارع فضله أحكام النّجح
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.(10/336)
والمناجح، وتقوم الحجة عند الله بالاعتضاد به فيما يقضي بنفع [العباد] (1)، ويسهل الاعتماد على ديانته بالنّصح لله في الحاضر من بريّته والباد، وينطق شرف خلائقه بتوفّره على إحراز مغانم البرّ والتقوى، وتعرب طرائقه عن السّعي الذي لا يقف في مرضاة ربّه دون بلوغ الغاية القصوى، وتدلّ أحواله على رعاية حقوق الله سبحانه في كلّ ما يفعل ويقول، وتوضّح أخباره حسن تأتّيه في مصالح الأمم لما يعجز عن استنباطه رواجح العقول، ويقتدح نظره أنوارا يستضاء بها في طرق السّياسات الفاضلة، ويفتتح فكره أبوابا تضحى بها الخليقة إلى الخيرات الكاملة واصلة، ويبعثه حسن جبلّته على أن يحتقر في إعانة البرايا، عظائم المشاقّ، ويدعوه كرم سجيّته إلى أن يحنو على الرعايا، حنوّ من يتوخّاهم بالرحمة والإشفاق، ويقوى بإعانته المستضعف قوّة تحصّنه من عدوى الاهتضام،، ويعزّ بملاحظته المستذلّ عزّة تخرجه عن صورة المقهور المستضام، ويقتفي الآثار الصالحيّة (2) في عدل الطّباع وحسن الشّيم، ويتّبع السّنن الغياثيّة (3) في الإحسان إلى جميع الأمم، ويقصد في اللّطف بالصغير والكبير قصدها، وينتحي نواجم الباطل فيعتمد اجتثاثها وحصدها ويكون تفويض أمير المؤمنين إليه توثّقا عند خالقه وباريه، واحتياطا لنفسه في استناد المهمّات منه إلى من لا يدانيه مدان ولا يباريه، وتتيمّن الدولة العلويّة بمباشرته للأحوال تيمّنا يؤذن لها بإدراك كلّ مطلب بعيد، وتستسعد بحسن سيرته استسعادا يقضي للمناجح بتمكين تبدي فيه وتعيد، وتختال الأيّام بما اجتلته من جواهر مفاخره، وتزدان الأزمان بما توشّحته من مناقبه التي حقّرت الملوك في أوّل الدّهر وآخره.
وقد اكتنفتك أيّها الأجلّ عنايات الله سبحانه واشتملت عليك، وتتابعت موادّ
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) نسبة إلى الصالح طلائع بن رزّيك، والده. ومن ألقاب الصالح: السيد الأجلّ، ناصر الأمة، كاشف الغمة، أمير الجيوش، سيف الإسلام، غياث الأنام، كافل قضاة المسلمين، هادي دعاة المؤمنين، أبو الغارات. (الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي: ص 285).
(3) نسبة إلى الصالح طلائع بن رزّيك، والده. ومن ألقاب الصالح: السيد الأجلّ، ناصر الأمة، كاشف الغمة، أمير الجيوش، سيف الإسلام، غياث الأنام، كافل قضاة المسلمين، هادي دعاة المؤمنين، أبو الغارات. (الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي: ص 285).(10/337)
اصطفائه واجتبائه إليك، وأنالتك من كلّ فضل بارع، غايته، وأظهرت فيك لكلّ كمال رائع، آيته، وجمعت لك من معجزات المحاسن ما لولا مشاهدتك لوجب استحالة جمعه، ولأنكر كلّ متدبّر صدر حديثه عن صدر صدره أو ورود سمعه ويسّر لك تمام السّعد والإقبال، الترقّي إلى ذروة العلى التي يهاب النجم أن تمرّ ملاحظتها منه ببال، وتأنّقت الحظوظ في إعظام ما خوّلتك من الفضائل الباهرة فبالغت وتناهت، وأغرقت فيما أتحفتك به من المحاسن النادرة فشرفت بك وتباهت، حتّى غدا جسيم ما قدّم شرحه من الثناء وذكره، وعظيم ما وجب منه نشره فتضوّع أرجه ونشره، نغبة من بحارها الزاخرة، وشذرة من عقودها الفاخرة، وقليلا من كثيرها الجسيم، وضئيلا من جزيلها الذي استكمل خصائص التعظيم.
واستثمر فأنت الجامع لمفترق الفضائل الملكية، والفارع ذرى الجلال الذي أفردتك به المواهب الملوكيّة، والممنوح أعلى رتب السيادة السارية إليك من أكرم الأصول، والملموح بارتقاء هضاب المجد التي عجز ملوك الآفاق عن [الانتهاء] (1) إليها والوصول، والأوحد الذي بذّ العظماء فعظم خطرا وقدرا، والأروع الذي انقادت له الصّعاب فرحب باعا وصدرا، والعالم بالأمور الذي أصبح أعلم ملوك الأرض بأحسن التّدبير وأدرى، والمذكي بأنوار ذكائه في عاتم النّوب سراجا وهّاجا، والمشمّر في ذات الله فلا يوجد له على غير ما أرضاه معاجا (2)، والمبتكر من غرائب السّياسات، ما لا تزال محاسنه على مفرق الزمن تاجا، والممجّد اللهج بتمجيده كلّ مقول ولسان، والمعجز كلّ متعاط وإن كان بليغا بديع الإحسان، والممنوح المعرق في السيادة والمملكة، والمبتدع المكارم أبكارا تجلّ عن أن يشابهه أحد فيها أو يشركه فآيات مجدك ظاهرة باهرة، وغرّ خلائقك في اختراع المآثر وافتراعها ماهرة، وإليك إيماء السعادة وإشاراتها، والدّسوت باعتلائك مناكبها تسامي السماء أرجاؤها، ويتحقّق في البحر الأعظم
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) المعاج: المكان الذي يعاج اليه ويقام به.(10/338)
بتصدّرك فيها رجاؤها، فلا كمال إلّا ما أصبح إليك ينسب، ولا جلال إلا ما يعدّ من خصائصك ويحسب ولم تزل لربّك خاضعا، ولشرفك متواضعا وأنوار الألمعيّة توضّح لك من طرق الأمانة ما يعجز عن إدراكه قويّ التجريب، وتحكم لك من أحكام السياسة ما تقصر عن أقلّه فطن الحكماء الشّيب، وتبدي لك أسرار الأزمنة المتطاولة في إقبال سنّك، وتلين بتلطفات صلابة الخطوب مع نضارة غصنك، وما برح ذكر أخبار صولتك، وحديث ما أعظمه الله من فروسيّتك وشجاعتك، يوفّر حلوم الأبطال في الملاحم إذا أطارها الذّعر فطاشت، ويسكّن نفوس الأنجاد في الملاحم إذا أطارها الذّعر فجاشت، ويحدث للجبناء جرأة وإقداما، ويجعل الكهام (1) في الحروب مذلّقا حساما فخيلاء الأعوجيّة (2) زهو مما ترقبه من شرف امتطائك، وصليل المشرفيّة (3) ترنّم بمطرب قصصك وأنبائك، واهتزاز السّمهريّة (4)
جذل بما كفّلتها من إشادة علائك، وضمّنتها من إبادة أعدائك، وليس بغريب أن تفضل الأملاك، وتطأ أخامص السّماك، وتختال في وشي الوصف البديع، وتشرق أسرّة محاسنك فتخجل ضوء الصّبح الصّديع (5) وقد أكرمك الله مع فضل الخليقة والفطرة، وكمال الخصائص التي غدا كلّ منها في بديع المعجزات ندرة، ببنوّة مغيث الأنام ومصلح الأيّام وكفيل أمير المؤمنين وكافيه، ومبريء ملكه من أسقام الحوادث وشافيه، السيد الأجلّ الملك (وتتمة النعوت والدعاء) الذي انتضاه الله لكشف الغمم، وارتضاه لتدبير الأمم، وفضّله على ملوك العرب
__________
(1) كهم الرجل كهامة فهو كهام: بطؤ عن النصرة والحرب. والمذلق: السريع
(2) راجع ص 327هامش: (2).
(3) المشرفية (بضم الميم): السيوف المشرفية، نسبة إلى المشارف: جمع مشرف، وهي قرى قرب حوران منها بصرى من الشام ثم من أعمال دمشق، إليها تنسب السيوف المشرفية. قال ياقوت: «ردّ إلى واحده ثم نسب إليه». ولو كانت النسبة على الجمع لقيل: المشارفية. (معجم البلدان:
5/ 131).
(4) السمهرية: الرماح الصليبة العود، نسبة إلى «سمهر»: رجل كان يقوّم الرماح، وامرأته ردينة.
(5) انصدع الصبح: أسفر.(10/339)
والعجم، وشمخ علاؤه فتطامن (1) له كلّ عليّ ودان، وسمت مواطيء أقدامه فتمنّت منالها مواطيء التّيجان، وحاز بالمساعي الفضل الباهر أجمع، واستولى على بواهر الحكم بالنظر الثاقب والقلب الأصمع (2)، وأفرد بكمال عزّ أن تدركه الآمال، أو يكون لا شتطاطها فيه مطمع أو مجال وغدا النصر المبين تابعا لعذب ألويته، وحسن إقباله في كلّ موطن كفيل بإدبار العدوّ وتوليته، وأجاب داعي الله إذ استنصر لآل بيت النبوّة واستصرخ، ولبّى دعاءه تلبية تسطّر أخبارها على ممرّ الزمان وتؤرّخ، وأجلى شياطين الضّلال وقد تبعت في زعيمها الجاحد وثنا، وصدّها بالعزم المرهف عما أصرّت عليه من منكر الإلحاد وثنى وبدّلت سطاه جبابرة الطّغاة من الأوطان بعدا وسحقا، وأمتعتهم فتكاته من الأعداء الوافرة إفناء وسحقا، وأذاقتهم حملات جيوشه وبال أمر من عاضد باطلا وعاند حقّا، وجعلتهم شفار سيوفه الباترة في التّنائف (3) حصيدا، ورمت بالإرغام والإضراع معاطسهم وخدودهم بعد أن عمروا شمّا وصيدا، وقصّد بمواضيها أشلاءهم ودماءهم فألجم غروبها وسقى، وكشف بلوامعها عن الدولة الفاطمية من معرّتهم جنحا عاتما وغسقا، وكفل أمورهم فأحسن الإيالة والكفالة، وأعادها إلى أفضل ما تقدّم لها من القوّة والفخامة والجلالة، ونظر أحوالها فقوّم كلّ معوجّ وعدّل كلّ مائل، وحباها ملبس جمال تقبح عند بهجته ملابس الخمائل.
ولمّا أباد عصب العناد، عطف على الاجتهاد في الجهاد، فجابت جحافله متقاذف الأقطار، ونالت من الفتك بالكفرة في أقصى بلادها نهاية الأوطار، وانتزعت منهم الحصون، واستباحت الممنّع المصون، حتّى أصارت جلدهم المشهور فشلا، وفيض إقدامهم المذكور وشلا (4)، وشمل الأمة بسيرة عرفت
__________
(1) تطامن: انخفض.
(2) الأصمع: الذكيّ المتوقّد.
(3) التنائف: جمع تنوفة وهي الفلاة لا ماء فيها ولا أنيس.
(4) الوشل: الماء القليل يتحلّب من جبل أو صخرة ولا يتصل قطره.(10/340)
بالعدل والإحسان، وأحظت الخلائق بالأمن المديد الظلال، وأرضتهم بالعيش الرائق الزّلال، وأنالتهم من المطالب ما اتّسعت لإدراكه خطا الآمال، وجاد ففضح الغمائم، ومنّ على ذوي الذّنوب حتّى كاد يتقرّب إليه بالجرائم، وأقال عثرات كبرت فلولا كرم سجيّته لم يرم الإقالة من خطرها رائم وأمدّه الله من معجزات البلاغة والبيان، وغرائب الحكم البديعة الافتنان، ما يستخفّ الأحلام بفرط الطّرب والإفتان ولم يزل منذ كان يحمي سرح الدين، ويضممّ نشر المؤمنين، ويبذل نفسه الشريفة في نصرة الدولة العلويّة بذل أكمل ناصر وأفضل معين وتكبر عظائم الخطوب فيكون عزمه أعظم وأكبر، وتزهى الأيام بغرّ محاسنه وهو لا يزهى ولا يتكبّر، فقد عزّ جانب كماله، عن أن يناهضه جهد المديح، وارتفع محلّ جلاله، فلا ينال تكييفه بإشارة ولا تصريح، وعظم قدر مفاخره فلم يقابل إلا بموالاة التمجيد لخالقه والتسبيح، ووجب على متصفّح خصائصه الموالاة في التعظيم، ولزوم منهج استيداع لا يبرح عنه ولا يريم، ومبالغة قوله تعالى: {مََا هََذََا بَشَراً إِنْ هََذََا إِلََّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} (1).
فبلّغ الله أمير المؤمنين في إطالة مدّته الآمال، وأبقى لمدّته باستمرار نظره الحظّ والجمال، وفتح له المشارق والمغارب بهممه العالية وعزائمه، وجعل نواجم الإلحاد حصائد شفار صوارمه، فافخر أيّها الرجل بأصلك وفرعك كيف شيت، وابجح بما منحت منه وأوتيت، ووال شكر خالقك على ما خوّلت وأوليت فما فخر بمثل فخرك ملك سميدع (2)، ولا تباهى الدّهر لأحد بمثل ما تباهى في حقّك ولا أبدع.
ولما تكامل لك أيّها الأجل بلوغ هذا الفضل الجسيم، وتمّ ما منحته من المجد الحادث والقديم، جدّد أمير المؤمنين لك شعار التعظيم، وكمّل لديك المفاخر تكميل العقد النظيم، وجعل الخير في إمرته لك عيانا، وأقامك للدولة
__________
(1) يوسف / 31.
(2) السميدع: السيد الكريم السخيّ، والرئيس، والشجاع. يجمع على سمادع وسمادعة.(10/341)
الفائزيّة والمملكة الصالحيّة برهانا، وجعلك لكافّة المسلمين في أقطار الأرض سلطانا، وطابق بين ما خصّك به من السّمات السنيّة، وبين ما مكّنه لك من المراتب العلية، فاتّخذك لدولته ناصرا وعضدا، وانتخبك للإسلام مجدا وسندا، وأحيا بمرافدتك أنصار الدين، وشفى بنظرك صدور المؤمنين، واستخلصك لنفسه النفيسة حميما وخليلا، وبلغ بك إلى الغاية القصوى إعلاء وتبجيلا، وشرّفك بخلع بديعة من أخصّ ملابس الخلافة تروق محاسنها كلّ النواظر، وتفوق بدائعها ما دبّجه زهر الروض الناضر، وقلّدك سيفا يؤذن بالتقليد، ويبشّر بالنصر الدائم المزيد، تتنافس في متنه وفرنده (1) الجواهر، ويستولي ناصعها على الباطن منه والظاهر، وعزّزها بالتشريفات التي اكتنفتها البهجة والبهاء، وبلّغتها في العلى إلى الغاية التي ليس بعدها انتهاء، وآثر أن تبسط يدك في التدبير، ويعدق بك ما هو عنده بالمحلّ الكبير، ويجمع لك من أشتات دولته ما لم يعرف لجمع مثله في سالف الزّمن نظير، ويسند إلى كمالك ما يعود النفع بصلاحه على المأمور من الأنام والأمير.
ففاوض أيّها السيد الأجلّ الملك الصالح والدك أدام الله قدرته، وأعلى كلمته، في ذلك مفاوضة أفضت إلى وقوع الإجماع على أنك أكمل ملوك دهرك دينا، وأصحّهم يقينا، وأشرفهم نفسا وأخلاقا، وأكرمهم أصولا وأعراقا، وأمثلهم طريقة وأحسنهم سيرة، وأنقاهم صدرا وأطهرهم سريرة، وأشفّهم جوهرا وأزكاهم ضريبة وأتقاهم لله سرّا وعلنا، وأولاهم بأن لا يصدر عنه من الأفعال إلّا جميلا حسنا وأنك أفضل من عدق أمير المؤمنين بنظره أمر الدنيا والدين، وأسند إلى ملاحظته أحوال أمراء الدولة ورجالها أجمعين، وفوّض مصالح المسلمين منه إلى التّقيّ الأمين وأنّ السيد الأجلّ الملك الصالح أدام الله قدرته لمّا أخلص محلّه عند أمير المؤمنين بتتابع الإشادة، وتفرّد باستمرار المضاعفة بإذن الله تعالى والزّيادة، واستولى على الأمد الأقصى في السموّ لديه والتعالي، وانخفضت عن
__________
(1) الفرند: السيف. وما يلمح في صفحته من أثر تموّج الضوء.(10/342)
ثراه ذرى أشمخ المعالي، كان عند أمير المؤمنين الأوّل في الجلال وأنت ثانيه، والسابق في الفخار وأنت تاليه، ودلّ بفضلك على فضله دلالة الصبح على النهار، والنّماء على الإبدار، والثّمر الطيب على فضيلة الأصل والنّجار، فتبارك مولي المنن لأوليائه وحزبه القائل في محكم كتابه: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبََاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} (1).
وقرّر لك أمير المؤمنين استشفاف أمور المظالم، وإنصاف المظلوم من الظالم، والنظر في اسفهسلارية (2) العساكر المؤيّدة المنصورة إيثارا من أمير المؤمنين لأن يجعل لك خير الدنيا والآخرة ميسّرا، ويثبت لك في كلّ من أمور العاجلة والآجلة حديثا حسنا وأثرا، ورتّب ذلك لك ترتيبا يصحبه التوفيق ويلزمه.
ويكمّله السعد ويتمّمه، ويحيط به اليمن والنّجاح، ويشتمل عليه الحظّ والفلاح.
فتقلّد ما قلّدك أمير المؤمنين شاكرا لأنعمه متمسّكا بأسباب ولائه وعصمه، جاريا على أحسن عاداتك في مراقبة الله وخيفته، مستمرّا على أفضل حالاتك في خشيته، متّبعا أوامره في العمل بتقواه، وزاجرا للنفس عما تؤثره وتهواه يقول الله في كتابه المبين: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللََّهَ لََا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (3).
واعلم أن المظالم (4) كنز من كنوز الرحمة، وباب يتوصّل منه إلى مصلحة الأمّة، ووسيلة يتوسّل بها السّعداء إلى خالقهم في استبقاء ما أسبغ عليهم من النّعمة فاجلس لها جلوسا عامّا ترفع فيه الحجاب، وتيسّر للوصول إليك عنده الأسباب، وتأمر بتقريب المتظلّمين وتوعز بإدنائهم لتسمع كلام الشاكين، وتوفّر على الأخذ بيد المستضعف القريع (5)، والحرمة التي لا تجد سبيلا للإنصاف ولا تستطيع، وتتقدّم بأن تحضر بين يديك النائب في الحكم العزيز الذي على فتياه
__________
(1) الأعراف / 58.
(2) الأسفهسلار هو قائد الجيش أو مقدم العسكر. وهو مركب من لفظين: أولهما فارسي وهو «أسفه» ومعناه المقدم، والثاني تركي ومعناه العسكر. (راجع الصبح: 3/ 483و 6/ 87).
(3) يوسف / 90.
(4) المراد ولاية المظالم.
(5) المراد هنا المحتقر أو المغلوب.(10/343)
مدار أحكام الدين، ومن تحتاجه من الموقّعين والدّواوين، وتأمر بإحضار القصص وعرضها، وتتأمّل دعاوي المتظلّمين في إبرامها ونقضها، وتوقع على كلّ منها بما يقتضيه الشرع وأحكامه، ويوجبه العدل ونظامه.
وانظر في مشكل القصص نظرا يزيل إشكالها، ويجعل إلى لوازم الشرع والحقّ مآلها، وراع أمر المنازعات حتّى تنتهي إلى الأواخر، ولا يبقى فيها تأمّل لمتأمّل ولا نظر لناظر وتخرج أوامرك بإيصال كلّ ذي حقّ إلى حقّه، وكفّ كلّ متعدّ عن سلوك سبيل العدوان وطرقه، وليكن الضعيف أقوى الأقوياء عندك إلى أن يصل إلى حقّه موفّرا، والقويّ أضعف الضّعفاء حتى يخرج مما عليه طائعا أو مجبرا والشرع والعدل فهما قسطاسا الله في أرضه، ومعينا [ن على] (1) الحق من أراد العمل بواجب الحقّ وفرضه، فخذ بهما وأعط بين العباد، وأثبت أحكامهما فيما قرب وبعد من البلاد، وساو بهما في الحقوق بين الأنام، وصرّف النصفة بحكمهما بين الخواصّ والعوام، حتّى ينتصف المشروف من الشريف، والضعيف من ذي القوّة العنيف، والمغمور من الشهير، والمأمور من الأمير، والصغير من الكبير واستكثر بإغاثة عباد الله ذخائر الرّضوان، واستفتح بقيامك بحقوق الله فيهم أبواب الجنان، واعمم بسعيد نظرك وتامّ تفقّدك وملاحظاتك جميع صدور أولياء الدولة وكبرائها، ومقدّميها المطوّقين (2) وأمرائها، وميّز بها الأعيان، ورجالها الظاهرة نجدتهم للعيان، وتوخّ الوجوه منهم بالإجلال والإكبار، وتبليغ الأغراض والأوطار، والتمييز الذي يحفظ نظام رتبهم، وينيلهم من حراسة المنازل غاية أربهم، والقهم مستبشرا كعادتك الحسنى، واجر معهم في كرم الأخلاق على مذهبك الأسنى، وعرّفهم بإقبالك على مصالح أمورهم، واتّجاهك لصالح شؤونهم، بركة اشتمالهم بفضلك، والتحافهم بظلّك، واقصد من يليهم بما يبسط
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الأمراء المطوّقون: كانوا في العهد الفاطمي يخلع عليهم بأطواق من الذهب في أعناقهم، وكانوا بمثابة الأمراء مقدمي الألوف زمن المماليك. (راجع الصبح: 3/ 476).(10/344)
آمالهم، ويوسع في التكرمة مجالهم، ويكسبهم عزّة الإدناء والتقريب، ويخصّهم من إحفائك بأوفر سهم ونصيب وكافّة الرجال فاحفظ نظامهم بحسن التدبير، وأثّر فيهم بجميل النظر أحسن التأثير، وتوخّهم بما يشدّ باهتمامك أزرهم، ويصلح بتفقّدك أمرهم، ويقف على الطاعة سرّهم وجهرهم، وييسّر لهم أسباب المصالح ويسهّلها، ويتمّم لمطالبهم أحكام الميامن ويكمّلها وأصف لجميع (1) ذكرهم من سابق في التّقدمة وتال، ومخلص في المشايعة وموال، مناهل إحسان أمير المؤمنين الطامية الحمام (2)، المتعرّضة مواردها العذبة لأدواء كافّة الأنام، فهم أنصار الدولة وأعوانها، وأبناء الدعوة وخلصاؤها وشجعان المملكة وفرسانها، ونجدة خلاصها (3) عند اعتراض الكروب، وسيوفها المذرّبة القاطعة الغروب، وأسنّتها المتوغّلة من الأعداء في سويداء القلوب، وحزبها الذي أذن الله بأنه الغالب غير المغلوب ولكلّ منهم منزله من التقديم، وموضعه من الاشتمال بظلّ الطّول العميم، ومحلّه من الغناء ومكانه من الكفاية الذي بلغ إليه فسدّه. فرتّب كلّا من المقدّمين في الموضع الجدير به اللائق، وأوضح للموفّقين أنوار مراشدك ليلحق بتهذيبك السّكيت (4) منهم بالسابق.
والوصايا متسعة النّطاق، متشعّبة الاشتقاق ولم يستوعب لك أمير المؤمنين أقسامها، ولا حاول إتمامها: للاستغناء بما لك من المعرفة التي غدت في استنباط حكم السياسات أكبر معين، والفطرة النفيسة التي تمدّك من كل فضيلة بأغزر معين ولا يزال يضيء لبصيرتك من أنوار السيد الأجلّ الملك الصالح أدام الله قدرته التي لا تبرح للبصائر لامعة، ولمحاسن الأفعال وغررها جامعة، ما تستعين (5) بأضوائها على الغرض المطلوب من الإصابة وأكثر.
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية «لعله: واصف لجميع من ذكرتهم من سابق الخ».
(2) الحمام: جمع حمّة: وهي كل عين ماء حارة تنبع من الأرض يستشفى بالاغتسال بمائها.
(3) في الأصل «اختلافها» وما أثبتناه من الطبعة الأميرية.
(4) السّكيت: المتخلف، وآخر ما يجيء من الخيل في الحلبة.
(5) في الأصل «فاستمد». وقد اخترنا عبارة الطبعة الأميرية.(10/345)
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وإنعامه عليك فتلقّه من الشّكر بما يكون للمزيد سببا مؤكّدا، ويغدو الإحسان معه مردّدا مجدّدا، وابذل جهدك فيما أرضى الله وأرضى إمام العصر، وثابر على الأعمال التي تناسب فضائلك المتجاوزة حدّ الحصر والله يعضّدك بالتوفيق، ويمهّد لك إلى السعادة أسهل طريق، ويرهف في الحرب عزائمك، ويمضي في الأعداء صوارمك، ويضاعف لك موادّ النصر والتأييد، ويخصّ بناء مجدك بالإعلاء والتشييد إن شاء الله. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
قلت: والذي يظهر أن مما كان يكتب في دولتهم على هذه الطريق سجلّات كبار نياباتهم، حال استفحال الدولة في مباديء أمرها، قبل خروج البلاد الشاسعة عنها واستقلاعها من أيديهم: كدمشق ومضافاتها من البلاد الشامية قبل خروجها عنهم لبني أرتق في زمن المستنصر أحد خلفائهم، وكأفريقية وما معها من بلاد الغرب قبل تغلّب المعزّ بن باديس نائب المستنصر المتقدّم ذكره بها وقطع الخطبة له، وكجزيرة صقلّيّة من جزائر البحر الرّوميّ قبل تغلّب رجّار أحد ملوك الفرنج عليها وانتزاعها من أيديهم في زمن المستنصر المذكور أيضا فإنّ دمشق وأفريقية وصقلّيّة كانت من أعظم نياباتهم، وأجلّ ولاياتهم، فلا يبعد أن تكون في كتابة السّجلّات عندهم من هذه الطبقة.
المرتبة الثانية
(من المذهب الأوّل من سجلّات ولايات الفاطميين أن يفتتح السّجلّ بالتصدير، فيقال: «من عبد الله ووليّه» إلى آخر التصلية، ثم يؤتى بالتحميد مرة واحدة ويؤتى في الباقي بنسبة ما تقدّم، إلا أنه يكون أخصر مما يؤتى به مع التحميدات الثلاث) ثم هي إما لأرباب السّيوف أو لأرباب الأقلام من أرباب الوظائف الدّينية والوظائف الدّيوانية.
فأما السّجلّات المكتتبة لأرباب السّيوف، فمن ذلك نسخة سجلّ بولاية
القاهرة من هذه الرتبة: لرفعة قدر متولّيها حينئذ، وهي:(10/346)
فأما السّجلّات المكتتبة لأرباب السّيوف، فمن ذلك نسخة سجلّ بولاية
القاهرة من هذه الرتبة: لرفعة قدر متولّيها حينئذ، وهي:
من عبد الله ووليّه (إلى آخره).
أما بعد، فالحمد لله رافع الدّرجات ومعليها، ومولي الآلاء ومواليها، ومحسن الجزاء لمن أحسن عملا، ومضاعف الحباء للذين لا يبغون عن طاعته حولا، ومنيل أفضل المواهب ومخوّلها، ومتمّم النعمة على القائم بشكرها ومكمّلها، متبع المنن السالفة بنظائرها وأشكالها، والمجازي على الحسنة بعشر أمثالها، وصلّى الله على جدّنا محمد رسوله الذي أقام عماد الدين الحنيف ورفعه، وخفض بجهاده منار الإلحاد ووضعه، وأرغم عبدة الصّليب والأوثان، ونشر في أقطار المملكة كلمة الإسلام والإيمان، وكشف غياهب الضّلال بأنوار الهدى اللامعة، وهتك حجاب الكفر ببراهين التوحيد الصادعة وسيوف النصر القاطعة، صلّى الله عليه وعلى أخيه وابن عمّه أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، سيف الحقّ الماضي المضارب، وبحر العلم الطامي اللّجج والعوارب (1)، ومعين الحكمة العذب المشارع، والمخصوص بكلّ شرف باسق وفضل بارع، وعلى آلهما سادة الأنام، وحماة سرح الإسلام، وموضّحي حقائق الدّين، وقاهري أحزاب الملحدين، وسلّم ومجّد، وضاعف وجدّد.
وإنّ أمير المؤمنين لما آتاه الله من شرف المحتد والنّجار، وتوّجه به من تيجان الإمامة المشرقة الأنوار، وألقاه إليه من مقاليد الإبرام والنّقض، وأناله إيّاه من الخلافة في الأرض، والشّفاعة في يوم العرض، وعدقه به من إيضاح سبل الهدى اللامعة، وهتك حجاب الكفر ببراهين التوحيد الصادعة وسيوف النصر القاطعة، إلى الأنام (2)، وأطلعه عليه من أسرار الحكمة بمناجاة الإلهام، وأقامه له من إعلاء منار الملّة وتقويم عماد الحق، وأمدّ به آراءه من العنايات الرّبانيّة فيما جلّ ودقّ،
__________
(1) العوارب: جمع عارب وعاربة. وماء عرب: كثير. ونهر عرب وبئر عربة: كثيرة الماء.
(2) متعلق بإيضاح سبل الهدى.(10/347)
وأمضاه له في الأقطار من الأوامر والنّواهي، وأفرده به من الخصائص الشريفة التي يقصر عن تعديدها إسهاب الواصف المتناهي، ويسّره لإرادته من اقتياد كلّ أبيّ جامح، وحبّبه إليه من استعمال السّيرة المستدنية من المصالح كلّ بعيد نازح يضاعف بهاء أيّامه باصطفاء ذوي الصّفاء، ويزيد في بهجة زمانه باستكفاء أولي الوفاء، ورفع منازل المعرقين في الولاء إلى غايات السّناء، وينيل المخلصين من الحباء، ما يدل على مواضعهم الخطيرة من الاجتباء، ويسند معالي الأمور، إلى الأعيان الصّدور، ويعدق الولايات الخطيرة، بمن حسنت منه الآثار والسّيرة، وأظهر تغاير الأمور ما هو عليه من خلوص النّية ونقاء السّريرة، واستولى على جوامع الفضل وغاياته، وقصرت همم الأكفاء عن مماثلته في الغناء ومساواته، وألقت إليه المناقب قياد المستسلم المسلّم، وأعجز تعديد محاسنه البارعة كلّ ناطق ومتكلّم، وسمت همّته إلى اكتساب الفخار، واستكمل فنون المحامد فحصلت لديه حصول الاقتناء الادّخار، وفاز من كلّ مأثرة بالنصيب الوافر المعلّى، وتشوّفت إليه الرّتب السنية تشوّف [من] (1) رأته لها دون الأكفاء أهلا، وكفى المهمّات بجنان ثابت وصدر واسع، وقرّبت عليه أفعاله المرضيّة من الميامن كلّ بعيد شاسع، ووسم جلائل التصرّفات بما خلّفه بها من مستحسن الآثار، وخلصت مشايعته من الأكدار فحلّ في أميز محلّ من الإيثار، وجارى المبرّزين من أرباب الرّياسات فسبق وأبرّ، وأحرز جميل رأي وليّ نعمته فيما ساء وسرّ.
ولمّا كنت أيها الأمير المعنيّ بهذا الوصف الرفيع، المخصوص من مفاخره بكلّ رائع بديع، الحالّ من الاصطفاء في أقرب محلّ وأدناه، المرتقي من الرياسة أشمخ مكان وأسناه، الأوحد في كل فضيلة ومنقبة، الكامل الذي أوجب له الكمال صعود الجدّ وسموّ المرتبة، المصلح ما يردّ إلى نظره بالتدبير الفائق، الشامل ما يعدق به بحزمه الذي لا تخشى معه البوائق (2)، المجمع على شكر خصائصه
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) البوائق: جمع بائقة وهي الداهية والشرّ.(10/348)
وخلاله، الفائت جهد الأعيان الأفاضل بعفو استقلاله، المعتصم من المشايعة بالسبب المتين، المتميّز على الأكفاء بمآثره المأثورة وفضله المبين وما زالت مساعيك في طاعة أمير المؤمنين توجب لك منه المزيد، تستدعي لمنزلتك من جميل رأيه مضاعفة التشييد، وتخصّك من الاجتباء بالنصيب، الوافر الجزيل، وتبلّغك من تتابع النّعم ما يوفي على الرجاء والتأميل.
وقد باشرت جلائل الولايات، وعدق بك أفخم المهمّات، فاستعملت السّيرة العادلة، وسست السياسة الفاضلة، وجمعت على محبّتك القلوب، وبلّغت الرعية من إفاضة الإنصاف كلّ مؤثر ومطلوب وإذا برقت بارقة نفاق، ونجم ناجم من مردة المرّاق، كنت الوليّ الوفيّ، والمخلص الصّفيّ، والمدافع عن الحوزة بجهاده، والمحامي عنها بماضي عزمه وصادق جلاده، والباذل مهجته دون وليّ نعمته، والجاهد فيما يحظيه بنائل مواتّه وتأكّد أذمّته (1) ومجلي ظلام الخطب الدامس بحسامه، ومزيل الخطب الكارث برأيه واعتزامه ومواقفك في الحروب، تكشف الكروب، وتروي من دماء الأبطال ظامئات الغروب (2)، وتورد سنان اللّدن العاسل (3)، وريد الكميّ الباسل، وتحكّم ظبا المناصل، في الهامات والمفاصل، وتستبيح من مهج الأقران كلّ مصون، وترميهم من قوارع الدّمار بضروب متّسعة الفنون فآثارك في كل الحالات محمودة، وشرائط الاصطفاء فيك فاضلة موجودة. وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووزيره، وكافل ملكه وظهيره، السيد الأجل الملك الذي (4) فأثنى عليك ثناء وسّع فيه المجال، وخصّك من شكره وإحماده بما أفاض عليك حلل الفخر والجمال، وقرر لك
__________
(1) المواتّ: جمع ماتّة وهي الحرمة والوسيلة.
والأذمّة: جمع ذمام وهو العهد والأمان والكفالة، والحق والحرمة.
(2) كناية عن السيوف القاطعة. والغرب (بتسكين الراء): أول كل شيء وحدّه. وسيف غرب: قاطع حادّ.
(3) راجع ص 327هامش: 1.
(4) بياض في الأصل. وفي هامش الطبعة الأميرية: «بياض بقدر كلمة ولعله: ذكرك فأثنى الخ».(10/349)
الخدمة في ولاية القاهرة المحروسة، فتقلّد ما قلّدك أمير المؤمنين من ذلك: عاملا بتقوى الله الذي تصير إليه الأمور، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور قال الله في كتابه المبين: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَكُونُوا مَعَ الصََّادِقِينَ} (1).
واعلم أنّ هذه المدينة هي التي أسّس على التقوى بنيانها، ولها الفضيلة التي ظهر دليلها ووضح برهانها: لأنها خصّت بفخر لا يدرك شأوه ولا تدرك آماده، وذلك أنّ منابرها لم يذكر عليها إلا أئمة الهدى آباء أمير المؤمنين وأجداده، ثم إنها الحرم الذي أضحى تقديسه أمرا حتما، وظلّ ساكنه لا يخاف ظلما ولا هضما، وغدت النعمة به متمّمة مكمّلة، والأدعية في بيوت العبادات به مرفوعة متقبّلة:
للقرب من أمير المؤمنين باب الرحمة ومعدن الجلالة، وثمرة النبوّة وسلالة الرسالة فاشمل كافّة الرعايا بها بالصّيانة والعناية، وعمهم بتامّ الحفظ والرّعاية، وابسط عليهم ظلّ العدل والأمنة، وسرفيهم بالسّيرة العادلة الحسنة، وساو في الحقّ بين الضعيف والقويّ، والرّشيد والغويّ، والملّيّ والذّميّ، والفقير والغنيّ، واعتمد من فيها من الأمراء والمميّزين، والأعيان المقدّمين والشّهود المعدّلين، والأماثل من الأجناد، وأرباب الخدم من القوّاد، بالإعزاز والإكرام، وبلّغهم نهاية المراد والمرام، وأقم حدود الله على من وجبت بمقتضى الكتاب الكريم، وسنّة محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، وتفقّد أمور المتعيّشين، وامنع من البخس في المكاييل والموازين، وحذّر من فساد مدخل على المطاعم والمشارب، وانتهج في ذلك سبيل الحق وطريق الواجب، واحظر أن يخلو رجل بامرأة ليست له بمحرم، وافعل في تنظيف الجوامع والمساجد وتنزيهها عن الابتذال بما تعزّ به وتكرم، واشدد من أعوان الحكم في قود أباة الخصوم، واعتمد من نصرة الحق ما تبقى به النعمة عليك وتدوم، وأوعز إلى المستخدمين بحفظ الشارع والحارات، وحراستها في جميع الأزمنة والأوقات، وواصل التّطواف في كل ليلة بنفسك في أوفى عدّة، وأظهر عدّة، وانته في ذلك وفيما يجاريه إلى ما يشهد باجتهادك، ويزيد في شكرك
__________
(1) التوبة / 119.(10/350)
وإحمادك والله تعالى يوفّقك ويرشدك، ويسدّدك في خدمة أمير المؤمنين ويسعدك فاعلم ذلك وأعمل به، وطالع مجلس النظر الأجليّ الملكيّ بما تحتاج إلى علمه، إن شاء الله تعالى.
قلت: وعلى هذا النّمط كان يكتب سجلّ ولاية الشرقية من أعمال الديار المصرية دون غيرها من سائر الولايات، إذ كانت هي خاصّ الخليفة كالجيزيّة والمنفلوطيّة (1) الآن، وكان واليها هو أكبر الولاة عند هم لذلك.
وأما الوظائف الدينية.
فمنها ما كتب به القاضي الفاضل عن العاضد بولاية قاض:
من عبد الله ووليّه عبد الله أبي محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين، إلى القاضي المؤتمن الأمين، علم الدين، خالصة أمير المؤمنين، وفّقه الله لما يرضيه، وسدّده فيما يذره ويأتيه، وأعانه على ما عدق به ووليّه.
سلام عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو، ويسأله أن يصلّي على جدّه سيّد ولد آدم، وعالم كل عالم، ومبقي كلمة المتقين على اليقين، ومعلي منار الموحّدين على الملحدين، صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وعلى أمراء المؤمنين، صلاة تتصل في كلّ بكرة وأصيل، ويعدّها أهل الفضل وأهل التحصيل، ووالى وجدّد، وعظّم ومجّد، وكرّر وردّد.
وإن أمير المؤمنين لما آتاه الله إيّاه من نفاذ حكمه ومضاء حكمته، وفوّضه إليه من إمامة أمّته، وأفاضه عليه من أنوار كشفت غمامة كلّ غمّة، وشرّدت بعدله من بسطة ظلم وسطوة ظلمة، وأظهره له من حقّ نصب للنصر علمه وللهداية علمه، وأيّده به من كلّ عزمة فتكت بكل أزمة، ووكّل به هممه من إتمام نعمة وابتداء نعمة، وأطلق به يده من معروف روّض الآمال صوب (2) مدراره، وبدت
__________
(1) انظر الانتصار: 4/ 130و 5/ 4322.
(2) الصّوب: المطر بقدر ما ينفع ولا يؤذي.(10/351)
على الأحوال آثار إيثاره، وأخذ به الخصب من المحل ثاره واستقال به الرخاء من وهدات عثاره، وعضّد به أفعاله من أمور التوفيق اتّباعا واقتضابا، وألهمه من موالاة الآلاء التي لا تذهب عهود عهادها انقضاء ولا انتضابا، ويسّر له عزيمة من الآراء التي لا تكسب إلا حمدا أو ثوابا يختصّ بإحسانه من ينصّ الاختبار على أنه أهل للاختيار، وتفيض الأحوال من حوالي أوصافه ما يديم المطار في الأوطار، وينعم على النعمة بإهدائها إلى ذوي الاستيجاب، ويصطنع الصّنيعة بإقرارها في مغارس الاستطابة والاستنجاب، ويرشّح لخدمه من عرف ذكره بأنه فائح، وعرف عرفه ناصع ناصح، ويبوّيء جنان إنعامه من أحسن عملا، واستحقّت منزلته من الكفاية أن تكون له بدلا، ولم تبغ تصرّفاته في كل الأحوال عنها حولا، ودرّجته خصائصه العلية فاقتعد صهوات الدّرجات العلى، واستحقّ بفضل تفضيله أن يولى الجميل جملا، وعرضت خلاله على تعيين الانتقاد فاقتضاها ولا يتضاهى، وزويت مسالك الغناء بصدره فضاهى فضاها.
ولما كنت أيّها القاضي المشتمل على هذه الخلال اشتمال الرّوض على الأزاهر، والأفق على النّجوم الزّواهر، والعقود على فاخر الجواهر، والخواطر على خطراتها الخواطر، والنّواظر على ما تصافح من الأنوار وتباشر، المثري من كل وصف حسن، المتبوع الأثر بما فرض من المحاسن وسنّ، الكاليء ما تستحفظ بعين كفاية لا يصافح أجفانها وسن، الأمين الذي تريه أمانته متاع الدنيا قليلا، وتصحبه ناظرا عن نضارتها كليلا، والمؤثر دينه على دنياه، المطيع الذي لا يسلو العصبة عن هواه، المخلص النية في الولاء و «لكلّ امريء ما نواه» الناصح الذي ينزّه ما يلابسه عن لباس الرّيب، البعيد عن مظانّ الظّنون فلا تتطلّع الأوهام منه على عيب غيب، النقيّ الساحة أن يغرس بها وصمة، التقيّ الذي لا تخدع يده عن التمسّك ما استطاع بحبل عصمة، المحتوم الحقوق بأن يستودع دهر الوفاء، المتوسّل بمواتّ توجب له الإيفاء على الأكفاء، المستقيم على مثل الظّهيرة كهلا ويافعا، الشافع بنفسه لنفسه وكفى بالاستحقاق شافعا وحسبك أنك حملت الأمانة وهي حفظ الكتاب، وأطلق الله به لسانك فشفيت القلوب من
الأوصاب، ووصل به سببك إلى رحمته يوم تنقطع الأسباب، وأصبح محلّك في الدارين آهلا أثيرا، وكنت ممن قال الله فيه: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} (1).(10/352)
ولما كنت أيّها القاضي المشتمل على هذه الخلال اشتمال الرّوض على الأزاهر، والأفق على النّجوم الزّواهر، والعقود على فاخر الجواهر، والخواطر على خطراتها الخواطر، والنّواظر على ما تصافح من الأنوار وتباشر، المثري من كل وصف حسن، المتبوع الأثر بما فرض من المحاسن وسنّ، الكاليء ما تستحفظ بعين كفاية لا يصافح أجفانها وسن، الأمين الذي تريه أمانته متاع الدنيا قليلا، وتصحبه ناظرا عن نضارتها كليلا، والمؤثر دينه على دنياه، المطيع الذي لا يسلو العصبة عن هواه، المخلص النية في الولاء و «لكلّ امريء ما نواه» الناصح الذي ينزّه ما يلابسه عن لباس الرّيب، البعيد عن مظانّ الظّنون فلا تتطلّع الأوهام منه على عيب غيب، النقيّ الساحة أن يغرس بها وصمة، التقيّ الذي لا تخدع يده عن التمسّك ما استطاع بحبل عصمة، المحتوم الحقوق بأن يستودع دهر الوفاء، المتوسّل بمواتّ توجب له الإيفاء على الأكفاء، المستقيم على مثل الظّهيرة كهلا ويافعا، الشافع بنفسه لنفسه وكفى بالاستحقاق شافعا وحسبك أنك حملت الأمانة وهي حفظ الكتاب، وأطلق الله به لسانك فشفيت القلوب من
الأوصاب، ووصل به سببك إلى رحمته يوم تنقطع الأسباب، وأصبح محلّك في الدارين آهلا أثيرا، وكنت ممن قال الله فيه: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} (1).
وقد خالطت في مواكب أمير المؤمنين المعقّبات التي من بين يديه ومن خلفه، وقربت من مجالسه المشتملة منه على عنوان عناية الله بالبريّة ولطفه، ونوره الذي كلّت العيون عن كشفه والحيل عن كسفه، وتقدّمت بخدمة الخلفاء الراشدين، أمراء المؤمنين، إلى سوابق سبقت بها في كل مضمار، وجمعت في المخالصة فيها بين الإعلان والإضمار، وسبر التجريب حالتيك بصحائف خبرة، واستمرّت بك الحال في القرب منهم وفي تقلّب الأحوال عبرة، وتدرّجت في حجب القصور، وبدت لك الغايات فما كنت عنها ذا قصور فكانت التّقدمة لك مظنونة وبك مضمونة، وسريرتك على الأسرار المصونة مأمونة، وما اعوجّت معالم إلا وكان تقويمها بتقويمك، ولا استيقظت حيلة فخاف الحقّ سبيل غيّها بتهويمك (2) وإنّ كل قائل لا يملك من إصغاء أمير المؤمنين ما تملك بتلاوة الذّكر الحكيم، ولا يسلك من قلبه ما تسلك بمعجز جدّه العظيم فأنت تخدم أمير المؤمنين بقلبك مواليا، وبلسانك تاليا، وبنظرك مؤتمنا، وبيدك مختزنا، لا جرم أنك حصدت ما زرعت طيّبا، وسقاك ما استمطرت صيّبا، وزفّت لك الأيادي بكرا وثيّبا، وحللت يفاع المنازل مستأنسا إذا حلّ غيرك وهداتها متهيبا.
فأمّا حرمتك التي بوّأتك من الاختصاص حرما، وجعلتك بين الخواصّ علما، وتوالي يدك بلمس ما حظي من الملابس بصحبة جسده الطاهر، واشتمل على زهر النّضار وزهر الجواهر، فذلك جار مجرى السّكة والدّعوة في أنهما أمانة تعم العباد والبلاد، وهذه أمانة تخصّ النّفوس والأجساد، ولك مما في خزانته وكالة
__________
(1) البقرة / 269.
(2) التهويم: النوم الخفيف. والمراد أنه لا ينام عن إبطال كل حيلة.(10/353)
التخيير والتعيير، وعن أغراضه الشريفة سفارة الإفراج والتغيير، وهذه مواتّ تجعل سماء السّماح لك دائمة الدّيم، وتسكن آمالك في حرم الكرم، وتعقد بينك وبين السعادة أوكد الذّمم، وتتقاضى لك جدود الجدّ بقدم الخدم.
وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه، الذي زهي الزمان به فتاه، ووزيره، الذي عزّ به منبره وسريره، السيد الأجلّ أفضل الملوك قدرا، وأكثرهم قدرة، وأعظمهم صبرا، وأدربهم نصرة وأفيضهم جودا غمرا، وأكشفهم لغمرة، وأمضاهم على الهول صدرا، وأردّهم لكرّة، وأثبتهم جأشا وصليل السيوف يخطب والمقاتل تسمع، وأوضحهم في استحقاق المجد حجّة شرعتها الرّماح الشّرّع، وأركبهم في طاعة أمير المؤمنين لمشقه، وأشدّهم وطأة على من جحد نوره وعقّ حقّه، فالدنيا مبتسمة به عن ثغور السّرور، والملك بكفالته بين وليّ منصور وعدوّ محصور، فأسفرت سفارته عن أنك من أمثل ودائع الصّنائع وأكفاء الاستكفاء، وأعيان من يحقّق اختيارهم وفضلهم العيان، وأفاضل من هو أهل لإسداء الفواضل وأن الصنيعة ثوب عرك (1) داره، وجار قد عقد بين شكرك وبينه جواره، وقرّر لك تقدمة في الحضرة لأنك فارسهم اسما وفعلا، وأوّلهم حين تتلو وحين تتلى، والنظر على المؤذّنين بالقصور الزاهرة، والمساجد الجامعة، وبالمشاهد الشريفة: لأن الأذان مقدّمة بين يدي القرآن، وأمارة على معالم الإيمان، والنظر في تقويم ما يرد إلى الخزانة العالية الخاصّة والعامّة من الملابس على اختلاف أصنافها، والأمتعة على ائتلاف أوصافها، ومشارفة خزانة الفروش ليكمل لك النظر في الكسوات التي تصان للملبوس، والكسوات التي تبتذل للجلوس، وخزن بيت المال الخاص ليكمل لك النظر في الذهب مصوغا ومرقوما، وخزنا وتقويما واستصوب أمير المؤمنين ما رآه، وأمضى ما أمضاه، وخرج أمره إلى ديوان الإنشاء أن يكتب هذا السجلّ لك بذلك.
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية بالإهمال مع علامة توقف. ولعلها «عزك داره» جملة من مبتدأ وخبر في محل نعت لثوب.(10/354)
فاعرف قدر ما عدق بك من أمور دين ودنيا، وخدم لا تقوى عليها إلا بلباس التقوى، وأنك قد أصبحت لجنّات أنعم أمير المؤمنين رضوانا، ويدك للفظ إحسانه لسانا، وباشر ذلك مستشعرا خشية الله في سرّك وجهرك، متحقّقا أنه غالب على أمرك، مدّخرا من الأعمال الصالحة ما يبقى عند فناء ذخرك، مستديما للنعمة بما يقيّدها من شكرك، وما يصونها أن تبتذل من بشرك، عالما أن التّقيّة حلية الإيمان، وضمان الأمان، وزاد أهل الجنان إلى الجنان، بقول الله سبحانه في كتابه العزيز: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزََّادِ التَّقْوى ََ} (1).
وأخلص نيّتك في خدمة أمير المؤمنين فمع الإخلاص الخلاص، وأدّ له الأمانة فإنّ أداءها أطيب القصص يوم القصاص، وقم في خدمته المقام المحمود، واستدم بها صعود ركاب السّعود، فقد عرفك الله بركة النصيحة وعوائدها، وأنجزت لك الآمال المنبسطة مواعدها، واستشرف أحوال القرّاء فهم أحقّ قوم بالتهذيب، ولزوم أساليب التأديب، فمن كان للآيات مرتّلا وللدّراسة متبتّلا، وبأثواب الصلاح متقمّصا، وبخصائص الدّين متخصّصا، ولما في صدره بقلبه لا بلسانه حافظا، وعلى آداب ما حفظ محافظا، فذلك الذي تشافه تلاوته القلوب، وتروض بأنواء المدامع جدوب الذّنوب، ومن كان دائم الإطالة في سفر البطالة، ساترا لأنوار المعرفة بظلم الجهالة، فحقّ عليك أن تصرفه وتبعده، وتجعل التوبة للعود موعده وكذلك المؤذّنون فهم أمناء الأوقات، ومتقاضون ديون الصلوات، ولا يصلح للتأذين إلا من كملت أوصاف عدالته، وأمنت أوصام جهالته.
وأما الأمانة في الأموال التي وكلت إلى خزنك وختمك، والأمتعة التي وكلت إلى تقويمك وحكمك، فأن تؤدّى بسلوك أخلاقك وهي الأمانة، واتّباع طباعك وهي الإباء للخيانة، وأن تستمرّ على وتيرتك، ومشكور سيرتك، ومشهور سريرتك، ومنير بصيرتك، وأن لا تؤتى من هوى تتّبعه، ولا حيف تبتدعه، ولا قويّ تنخدع له، ولا ضعيف تخدعه، ولا من محاباة وأن أحببت، ولا من مداجاة كيفما تقلّبت،
__________
(1) البقرة / 197.(10/355)
واذكر ما يتلى من آيات الله في مثلها: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمََانََاتِ إِلى ََ أَهْلِهََا} (1) والله يتولّى توفيقك وتوقيفك، ويديم [على] (2) ما يحبّ تصريفك إن شاء الله تعالى.
ومنها ما كتب به القاضي الفاضل أيضا، وهي:
من عبد الله ووليّه (إلى آخره).
أما بعد، فإنّ رتب الولايات متفاوتة الأقدار، متباينة الأخطار، وكلّ شيء منها عند أمير المؤمنين بمقدار، ولها رجال مشرّفو الأقدار، ومحالّها بحضرته مقدّرة تقدير منازل الأقمار، ومحالّ الأولياء بمقامه محالّ الأهلّة تتنقّل بين أوّل النّماء إلى انتهاء الإبدار (3) ومن أميزها قدرا، وأحقّها بأن يكون صدرا، وأن يشرح لمن حلّه صدرا، وأن يسوق إليه الخاطب من استحقاقه مهرا، ولاية مدينة مصر: لأنها المجاورة لمحلّ الخلافة، وكلّ مصر بالنّسبة إليها معها بالإضافة، وهي خطّة النّيل، وفرضة المنيل (4) وبها إذا هجمت الخطوب المنيل، ومنها من عثرات الأيام المقيل، ومنها تؤنس أنوار الإمامة على أنها تتوضّح بغير التأميل وبدء التأميل، ولا يؤهّل لولايتها إلا كل حامل لعبئها الثقيل، ولا تسند الخدمة فيها إلا لكل مثر من ذخائر السياسة غير فقير ولا مقلّ، ولا يتوقّل (5) رتبتها إلا من تكون به الرتب منيرة ومحاسنه لا تملّ مما يملّ، ولا يمتطي صهوتها إلا من لا يطأطيء للأطماع عزّة نزاهته ولا يذلّ، ولا يرتقي درجتها إلا من يهتدي بأعلام الديانة التي لا تضلّ، ولا يقرأ سجلّها إلا لمن يطوي مظالم الرعية طيّ الكتاب للسّجلّ.
ولما كنت أيها الأمير ممن توقّدت هذه الأوصاف فيه توقّد النار في ذرى
__________
(1) النساء / 58.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) بدر القمر بدرا: اكتمل.
(4) المنيل (بفتح الميم): الشيء المعطى.
(5) توقّل في الجبل: صعّد فيه. ويقال: توقّل في مصاعد الشرف.(10/356)
علمها، وأوجد معاني معاليها وأنقذها من إسار عدمها، وارتقى إلى هضبات الرياسة المنيعة بما جعل خلاله المسلّم فضلها مثل سلمها، وناولته الدّراية عناني سيفها وقلمها، وشهدت الأيام بتقدّم قدمه في مراتبها وقدمها، وأمنت الصواب أن يتبع أفعاله إذا أمضاها بعيب (1) بذمّها، وكتبت أقلام رماحه سطور الطعن في صدور العدا مستمدّة من دمّها، وتجشّم مشقّات المعالي فآثرته تعفي راحة بجسمها، واجتمعت فيه صفات المحاسن المتفرّقة فقضى عليها بتجسيمها، وتصدّر الدرجات المحصنة من مطالع الحاضر لحظّه من رقتها ونسيمها، وتعرّضت ذخائر المحامد لما في طبعه من اقتناصها ونعيمها، وقرّت عين المنازل فما زوت وجه إقبالها ولا بسطت راحة تظلّمها، وانثنت إليه عقائلها المصونة فما ثنت دون ديانته عنان تلوّمها، وأثرك في كل ولاية مشكور، وسعيك في كل غاية غير مقصور، وغناؤك في المهمّات معدّ مذخور، ومساجلك عن أيسر ما وصلت إليه مدفوع مدحور، وليل شبابك بالكوكب الدّريّ من صولتك منحور، وأفعالك أفعال من لا يجوز غير محرز كسب الأجور، وخلالك خلال من انتظم في سلك الذين يرجون تجارة لن تبور.
وقد سلفت لك خدم تصرّفت فيها وتدرّجت، وعرّفت (2) بطهر الذكر من رعيّتها وتأرّجت، وتحوّبت (3) من الأوزار على ما يوقع ذنبك وتحرّجت، وجريت على أجمل عادة، واقتضيت عند انقضاء شأو الإبداء استئناف شأو الإعادة. ومثل بحضرة أمير المؤمنين لسان أمره، وسيف زجره، السيد الأجلّ الذي قام بما استكفاه فأحسن وحسّن، وصان حمى الملك فأحصن وحصّن، وجاد بنفسه في
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية بإهمال الحرف الأخير مع علامة توقف. ولعل الصواب: «بعيب يذمّها» وجملة إذا أمضاها معترضة ينبغي وضعها بين فاصلتين.
(2) من عرّف الشيء: طيّبه وزيّنه. والعرف (بفتح العين وتسكين الراء): الرائحة مطلقا، وأكثر ما يستعمل في الطيبة منها.
(3) تحوّب من الشيء: توجع وتحسّر. ومن القبيح: تحرّج وهو المراد.(10/357)
سبيل الله فما ضنّ، وكان مكان ما أمّل عند اصطفائه وفوق ما ظنّ، وسدّد قصوده، فمرقت سهامها وما مرقت عن طاعته، وأطلع سعوده، وفأنارت نجوما لأوليائه ورجوما لأهل خلاف خلافته، وأطلقت أحكام عدل الله في خلق الله أحكام مراماته وسيف إخافته فالدنيا بيمن إيالته عن مآخذ السراء، وطلقاء الجود بما عملته يده من قيود الإحسان في عداد الأسراء، ورضا أمير المؤمنين عنه كافل له بأن يرضي الله في الأعداء، وملوك الأرض إن فدت السماء (1) طيّبة أنفسها له بالفداء، والدنيا متأرّجة بطيب خبره، والعلياء متبرّجة بحسن نظره، وبحار التدبير لا تفارق زبد أمواجها إلا بفاخر جوهره، وقوانين السّياسة لا توجد مسندة إلا عن اتّباع أثره، ولا حظّ لمحاربه إلا سلمه بعثاره وتثلّمه بعثيره (2)، فأثنى عليك بحضرته واصفا، وثنى إليك عنان عنايته عاطفا، ورأى تقليدك ولايتها معربا باستحقاقك عارفا خرج أمير المؤمنين إليه بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجلّ لك بتقليدك ولاية المعونة والحسبة بمدينة مصر والجيزة والقرافة (3)، إنافة بك عن النّظراء، وإبانة عمّا لك من جميل الآراء، وتطرية لحظك بما حصل به من الإطراء، ورعاية لما لك من الانتهاء إلى أقصى غايات الإحسان والإجراء، وإيجابا لما تتوسل به من العناء، وذخائر الغناء والإثراء، وإشادة لقدرك الذي أشاده ما أنت عليه من الإيواء إلى ظلّ النزاهة والاستيناء (4).
فتقلّد ما قلّدته من هذه الخدمة، وارفل بما ضفا عليك من ملابس هذه النعمة
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف. ولا نظن أن اللفظ من فدى فداء، إذ ليس له معنى مناسب هنا. ولعله من فدّ (بتشديد الدال المهملة) فدّا وفديدا: اشتدّ صوته، ويكون المراد: إن نادت بصوت عال. أو لعله من فدّ الرجل وفدّد: مشى مرحا متكبرا بطرا. وفي هذه الحال نفترض أن سقطا وقع من الأصل وتقديره: «وملوك الأرض، وإن فدّت تحت السماء، طيّبة الخ».
(2) العثير: الغبار، وهو أيضا الأثر الخفيّ فتأمل.
(3) القرافة: خطة بالفسطاط من مصر. وقرافة بطن من المعافر نزلوها فسميت بهم، وهي اليوم مقبرة أهل مصر، وبها أبنية جليلة ومحال واسعة ومشاهد للصالحين. (معجم البلدان: 4/ 317).
(4) استناء فلانا: طلب نوأه، أى عطاءه ورفده.(10/358)
وبما صفا لديك من موارد هذه الجمّة (1)، وقدّم تقوى الله أمامك، واتّبع وصيّتها التي استعمل الله بها إمامك فبها النجاة مضمونة، والرحمة متيقّنة لا مظنونة، قال الله سبحانه في كتابه المكنون: {وَيُنَجِّي اللََّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفََازَتِهِمْ لََا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2).
واعتمد المساواة بين الناس فيما هو حكم، والنظر بالعدل في كلّ ما هو ظلم، ولا تجعل بين الغنيّ والفقير في الحق فرقا، واسلك فيهم طريقا واحدا فقد ضلّ من سلك فيهم طرقا، واشمل أهل المدينة بطمأنينة تنيم الأخيار وتوقظ الأشرار، وأمنة تساوي فيها بين ظلام الليل ونور النهار: لتكون ولايتك لهم موسما، وموردها لثغور الأمر مبسما، وأنصف المظلوم واقمع الظالم، وكن لنفسك زعيما بنجاتها فالزعيم لها غارم، وانه عما نهى الله عنه من الفحشاء والمنكر، وأمر بالمعروف وحسبك أن تعرف به وتذكر، وخذ في الحدود بالاعتراف أو الشّهادة، ولا تتعدّ حدّها بنقص ولا زيادة وكما تقيمها بالبينات، فكذلك تدرؤها بالشّبهات، وفي هذه المدينة من أعيان الدولة ووجوهها، وكلّ سامي الأقدار نبيهها، وأرباب السيوف والأقلام، والمعدودين في العلماء والأعلام، والمعدّلين الذين هم مقاطع الأحكام، والتجار الذين هم عين الحلال والحرام، والرعية الذين بهم قوام العيش في الأيام، من يلزمك أن تكون لهم مكرما، ولإيالتهم محكما، ومن ظلمهم متحرّجا متأثّما، ولسانهم في الشكر عن لسانك متكلّما، وإلى قلوبهم بجميل السّيرة متحبّبا، ولمساخطهم ما لم تسخط الله متجنّبا.
واشدد من المستخدمين بباب الحكم في إشخاص من يتقاعد عن الحضور مع خصمه، ويتّبع حكم جهله فيخرج عن قضيّة الشرع وحكمه، وأوعز إلى أصحاب الأرباع (3) بإطلاعك على الخفايا، وإبانة كل مستور من القضايا، وأن يتيقّظوا
__________
(1) الجمّة: الماء الكثير.
(2) الزمر / 61.
(3) الأرباع: ومفردها ربع (بفتح الراء)، وهي الأمكنة المعدّة لاستقبال التجار الأجانب، يبيتون فيها.
ولا يزال في القاهرة إلى الآن منطقة تسمى «تحت الربع». «التعريف بمصطلحات الصبح: 25 والصبح: 13/ 93).(10/359)
لسكنات الليل وغفلات النهار، وخذهم في الليل بما التزموه من الحرس من مكايد اللّصوص والدّوّار، وأيقظهم لأن يتيقّظوا فربّما اجتنى ثمر الأمن من غرس الحذار، وإذا ظفرت بجان قد أوبقه عمله، وطمح إلى الفساد أمله، فاجمع له بين التنكيل والتوكيل، أو ذي ريبة إن زاد ريبة بالحبس الطويل، وإلا فطالع بأمره إن كان من غير هذا القبيل، وواصل التّطواف في العدد الوافر، والسّلاح الظاهر، في أرجاء المدينة وأطرافها، وعمّر بسرّك سائر أرجائها وأكنافها، وانظر في الحسبة نظر من يحتسب ما عند الله خير وأبقى ومن يرغب في الأجر ويعرض عن شعار لباس التمويه والّلبس، وامنع أن يخلو رجل بامرأة ليست بذات محرم: لتكون قد سلّمت وسلمت من شبهتي المطمع والمطعم، واستوضح آلات المعاملات وغيرها، فبها تخفّ الموازين أو ترجح {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمََاوََاتُ} (1)، واعتمد في تهذيبها وتصويبها ما تحسن فيه للمسيء والمحسن، لأنك تكفّ أحدهما عن عمل المتهافت وعن المهوب الممعن.
وتقدّم بنفض الأذى عن جادّة الطريق، وانه أن تحمّل دابّة أكثر مما تطيق، وتفقّد الجوامع والمساجد بالتنظيف إبانة لجمالها، وصيانة من ابتذالها، ولا تمكّن أحدا أن يحضرها إلا مؤدّيا للفرض أو منتظرا أو متطوّعا، أو عالما أو متعلما أو مستمعا، فإنها أسواق الآخرة، ومنازل التّقوى العامرة وأجر الأمور على عاداتها، واسترشد في طارئاتها ومشكلاتها فاعلم هذا واعمل به. إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة سجلّ بولاية قاض بثغر الإسكندرية، من إنشاء القاضي الفاضل، من هذه الرتبة، وهي:
__________
(1) ابراهيم / 48.(10/360)
من عبد الله ووليّه (إلى آخره).
أما بعد، فالحمد لله الذي نشر راية التوحيد وأعزّ ملّة الإسلام، وهدى بكرمه من اتّبع رضوانه سبل السّلام، رافع منار الشرع وحافظ نظامه، ومجزل الثواب لمن عمل بأمره في تحليل حلاله وتحريم حرامه وسع كلّ شيء رحمة وعلما، وساوى بين الخليقة فيما كان حكما، وقال جلّ من قائل في كتابه العزيز: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصََّالِحََاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلََا يَخََافُ ظُلْماً وَلََا هَضْماً} (1). سبحانه من خالق لم يزل رؤوفا ببريّته، عادلا في أقضيته، مضاعفا أجر من خشيه وعمل بخيفته، موفّرا ذلك له يوم يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته (2).
يحمده أمير المؤمنين أن أفاض عليه أنوارا إلهيّة، وتعبّد البريّة بأن جعلها بطاعته مأمورة وعن مخالفته منهيّة، واستخلف منه على الخليقة القويّ الأمين، وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين، ويسأله أن يصلّي على جدّه الذي عمّ إرساله بالرحمة، وكشف بمبعثه كلّ غمّة، وجعل شرعه خير شرع وأمّته خير أمّة، فأحيا من الإيمان ما كان رميما، وهدى بالإسلام صراطا مستقيما، وخاطبه الله فيما أنزل عليه بقوله: {إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النََّاسِ بِمََا أَرََاكَ اللََّهُ وَلََا تَكُنْ لِلْخََائِنِينَ خَصِيماً} (3) وعلى أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي وفّر الله نصيبه من العلم والحكمة، وجعل خلافته في أرضه لا تخرج عن ذرّيته الهداة الائمّة، وعلى آلهما الأطهار، وعترتهما السادة [سلاما] (4) باقيا إلى يوم الدين.
وإن أمير المؤمنين لما أفرده الله به من المآثر، وتوحّده به من المناقب
__________
(1) طه / 112.
(2) الفصيلة: عشيرة الرجل ورهطه الأدنون. والعبارة مأخوذة من قوله تعالى {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذََابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ، وَصََاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ}: سورة المعارج / الآيات:
131211.
(3) النساء / 105104.
(4) الزيادة يقتضيها السياق.(10/361)
والمفاخر، وخصّه بشرفه من الإحسان إلى أوليائه بالإنعام إليهم في الدنيا والشفاعة لهم في اليوم الآخر، يرتاد لجلائل الخدم من يشار إليه ويومى، ويختار لتولّيها من يكون بأثقالها ناهضا وبأعبائها قؤوما، ويسند أمرها إلى من لا يتمارى في سؤدده ولا يختلف في فضله، ويعدق شؤونها بمن عدقت الرياسة به وبأسلافه من قبله، فيكون إذا شرّف بها عرف منزلتها ومحلّها، ووقع الاتفاق على التمثل بقوله:
{وَكََانُوا أَحَقَّ بِهََا وَأَهْلَهََا} (1).
ولما كنت أيّها القاضي المكين من البيت الذي اشتهر قدره، وارتفع ذكره، وحلت رتبته، بأوصاف كلّ من أهله في قوله وفعله، وتردّدت رياسته، في عدد كثير لا عهد للرياسة بالتردّد في مثله، وكانت لك ولمن مضى من أسلافك آثار في الخدم خلّدت لكم مجدا يبقى، وأقرّت من الحديث به ما لا يسمو إليه النّسيان ولا يرقى فكل ما تتولّونه متجمّل بكم ولا يريد معكم زيادة، وكلّ ما يعتمد فيه عليكم قد نال مطلوبه وبلغ البغية والإرادة، والذي يخرج عن نظركم يتلهّف عليكم حنينا إليكم واشتياقا، وإن ردّ إليكم لم يأل تشبّثا بكم وتمسّكا واعتلاقا هذا إلى ما لكم من الحرمات المرعية، والمواتّ التي ليست بمنسية، والسيد الأجلّ الأفضل الذي حسبه من المفاخر قيامه بحق الله لمّا غفل الملوك عنه وقعدوا، واستيقاظه بمفرده حين ناموا دون استخلاصه مما عراه ورقدوا وإن انتصابه آية أظهرها الله للملّة، وحسم بها في رفع منار الدّين كلّ علّة، فإذا أنفقت الأعمار في [بيان] (2) أوصافه كانت جديرة بذلك حريّة، وإذا ذكرت آثاره في الإسلام كان العلم بكرمها لاحقا بالعلوم الضّرورية، فما ينسب المتوسّع في التقريظ له إلى تغال (3)، ولا تضييع وقت يقضى في اهتمام بالثناء على مناقبه واشتغال، يواصل (4) الثناء عليك والشكر
__________
(1) الفتح / 26.
(2) الزيادة يقتضيها السياق.
(3) أي مغالاة.
(4) عائدة إلى السيد الأجل.(10/362)
لك، ويتابع من ذلك ما إذا ذكر اليسير منه شرّفك وجمّلك، ويصف ما كان لأخيك القاضي المكين رحمه الله من الاجتهاد في المناصحات، ومن الأفعال الحسنة والأعمال الصالحات، ومن الوجاهة التي أحلّته مكانا متجاوزا غاية الآمال الطامحات، ما رفعه عن طبقات كثير من سادات الناس، وجعل حاسديه في راحة لما شملهم من دعة الياس. وإنك أيّها القاضي المكين، الأشرف الأمين، قد بلغت مداه في الجلالة، وورثت مجده لا عن كلالة، وحويت فضله وفخره، وقفوت أثره وأحييت ذكره، وحزت خلاله الجميلة وأفعاله الرضيّة، وحصّلت الفضيلتين الذاتيّة والعرضيّة، ولذلك تقرّرت نعوتك «القاضي المكين» لاستيجابك فيما تقضي به جزيل الثواب، ولتمكّن أفعالك في محل الصّواب، و «الأشرف الأمين» لشرف نفسك، وكون أمانتك في حاضر يومك على ما كانت في ماضي أمسك، و «تاج الأحكام» لأن ما يصدر منها سامي المنهاج، وقد ارتفع محلّه كما ارتفع محلّ التاج، و «جمال الحكّام» لأنك لما وليت ما ولّوا جمّلتهم إذ فعلت من الواجب فوق ما فعلوا، و «عمدة الدين» لأنّ من كان مثلك ركن إليه الدين واستند، وتوكّأ على جانبه واعتمد، و «عمدة أمير المؤمنين» لأنك ذخيرة لدولته، ونعم البقية الصالحة لمملكته.
ومعلوم أن ثغر الإسكندرية حماه الله تعالى الثغر الرفيع المقدار، الذي هو قرّة العين للإسلام وقذى في عيون الكفّار، ومحلّه مما تتطامن له معاقل التوحيد وحصونه، وهو مشتمل من الفقهاء والصلحاء والمرابطين وأهل الدّين على من لم يزل يحفظه ويصونه، وإليه تتناثل (1) السّفّار، وتتردّد التّجّار، وهو المقصود من الأقطار القصيّة النائية، ومن البلاد القريبة الدانية وما زالت أحواله جارية بنظرك على أحسن الأوضاع وأفضلها، وأوفى القضايا وأكملها وما كان استخدام غيرك فيه إلا ليظهر إشراق شمسك، وليزول الشكّ في تبريزك على جنسك، وليتبيّن
__________
(1) تناثل القوم إلى فلان: اجتمعوا اليه من كل صوب.(10/363)
فضل مباشرتك وتولّيك على أن ذلك لم يكن مكتتما، وليتحقّق أنّ عقد صلاحه لا يكون بتولّي غيرك متّسقا ولا منتظما.
وقد رأى أمير المؤمنين إمضاء ما رآه السيد الأجلّ الأفضل من إقرارك على الحكم والقضاء: لاطّلاعك من ذلك على سرّه، ونفاذك في جميع أمره، ولخبرتك به ودربتك، ولاستقلالك ومضائك ومعرفتك وإنك إذا استمررت على عادتك، غنيت عن تجديد وصيّتك فتماد على سنّتك، ولا تخرج عن سبيلك ومحجّتك وأنت تعلم أنّ الشّهود بهم يعطي الحكّام ويمنعون، وبأقوالهم يفصلون ويقطعون، وبشهاداتهم تثبت الظّلامات وتبطل، وعليها يعتمد في انتزاع الحقوق ممن يدافع ويمطل فواجب أن يكونوا من أتقياء الورى، وممن لا يتّبع الهوى فاستشفّ أحوالهم، واستوضح أمورهم وأفعالهم فمن كان بهذه الصفة فأجره على عادته في استماع مقالته، ومن كان بخلافه فقف الأمر على عدالته، واحسم مادّة الضرر في قبول شهادته وقد جعل لك ذلك من غير استئذان عليه، ولا اعتراض لك فيه ولا تقرّب أحدا من رتبة العدالة، وارفعها بإزالة الأطماع فيها عن الإهانة والإذالة، واغضض من أبصار المتطلّعين إليها، والمتوثّبين عليها، بالتطارح على الجهات، والتماسها بالعنايات التي هي من أقوى الشّبهات وإن ورد إليك توقيع وتزكية من الباب فأصدره [في] (1) مطالعتك ليحيط العلم به، ويخرج إليك من الأمر ما تفعل على حسبه وافعل في دار الضّرب وأحوال المستخدمين والمتصرّفين على ما أنت به العالم البصير، والعارف الخبير.
وقد جعل لك إضافة إلى ذلك النظر في أمر جميع هذا الثّغر المحروس وأسند إليك ووكل إلى صائب تدبيرك، وإلى حسن تهذيبك، وإلى بركة سياستك، وإلى عملك فيه بمقتضى ديانتك وصار جميع المستخدمين به من قبلك متصرّفين، ولأوامرك متوكّفين (2)، وعند ما تحدّه واقفين، ولمراسمك متابعين
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) أي متتبعين.(10/364)
غير مخالفين فمن أحمدته منهم وعلمت نهضته فأجره على عادته ورسمه، ومن كان بخلاف ذلك فاستبدل به وامح من الخدمة ذكر اسمه فلا يد مع يدك، ولا عدول عن مقصدك والاستخدام في هذا الامر قد أسند إليك وردّ، وكونه من جهة غيرك أغلق بابه وسدّ فلا تصّرف فيه إلا لمن صرّفته، ولا خدمة إلا لمن استخدمته.
وتأكيد القول عليك لا يزيدك حرصا، والمعرفة بهمّتك وخبرتك تغنيك عن أن توصى والذي تقدّم ذكره في هذا السجلّ إرهاف لحدّك، وإعلاء لجدّك، وإطلاع لكوكب سعدك والله يتولّى تأييدك وتوفيقك، ويوضح إلى الخير سبيلك وطريقك فاعلم هذا واعمل به، وطالع مجلس النظر بأمور خدمتك، وما تحتاج إلى عمله في جهتك. إن شاء الله عز وجل.
وأما السّجلّات المكتتبة بالوظائف الدّيوانية، فكما كتب به بعض كتّابهم بولاية ديوان المرتجع (1):
لسنيّ الدولة وجلالها، ذي الرياستين، أبي المنجّى سليمان بن سهل بن عمران.
أما بعد، فإنّه من حسنت آثاره في مناصحات الأئمة الخلفاء، وارتفع محلّه في طاعتهم عن الأنظار (2) والأمثال والأكفاء، وظهرت بركات أفعاله فيما يتولّاه ظهور الشمس ليس بها من خفاء، وباهى بتدبيره كلّ ما يباشره من أمر خطير قدره،
__________
(1) يختص هذا الديوان أن لناظره التحدث على ما يرتجع ممن يموت من الأمراء ونحو ذلك. وقد رفضت هذه الوظيفة وتعطلت ولايتها في الغالب وصار أمر المرتجع موقوفا على مستوفي المرتجع وهو الذي يحكم في القضايا الديوانية ويفصلها على مصطلح الديوان وهو المعبر عنه بديوان السلطان. وقد ألغيت وظيفة ديوان المرتجع في عهد قلاوون. (راجع الصبح: 4/ 33).
(2) الأنظار: لغة في النظراء أي الأمثال. ومفردها النّظر (بكسر النون وتسكين الظاء). (انظر اللسان:
5/ 219والوسيط: 2/ 932).(10/365)
واستدعت من الثناء والإطراء ما يتأرّج نشره ويتضوّع ذكره، وتساوى عنده القول والعمل ونافس فيه الخبر الخبر، ورتّبه مرتّبه مقدّما على من مضى من طبقته وغبر، ووسم الأعمال بسمات في العمائر تضاف إليه وتنسب، وغدت الخدم تزهى به وتعجب، وهو لا يزهى ولا ينظر ولا يعجب. كان ردّ المهمّات إليه حسن نظر لها وإذا حظرت جلالة تولّيها على غيره أضحى نفاذه منتهجا له محلّها، وكان التنويه به حقّا من حقوقه وواجبا من واجباته، والمبالغة في تكريمه وتفخيمه مما يتعيّن الانتهاء فيه إلى أقصى آماده وأبعد غاياته.
ولمّا كنت في متولّي الدواوين، مشهور الشأن والقدر، وحالّا من مراتب الكفاة المقدّمين، في حقيقة الصّدر، إن انتظموا عقدا كنت فيه الواسطة، وإن قسط غيرك على معامل لم تكن أفعالك قاسطة ولك السياسة التي ظلّت ساحاتها رحابا، والرياسة التي من وصفك بها فما تملّق ولا داجى ولا حاجى، والصّناعة البارعة التي تشهد بها الطّروس واليراع، والأمانة الوافية التي ارتفع فيها الخلاف ووقع عليها الإجماع، والتصرّف في أنواع الكتابة على تباين ضروبها، والاستيلاء على ظاهرها ومستورها وواضحها ومكتومها، والأخذ لها عن أهل بيتك الذين لم يزالوا فيها عريقين، ولم ينفكّوا في مداها سابقين غير ملحوقين وقد زدت عليهم بما حزته بهمّتك، ونلته بقريحتك، حتّى بلغت منها ذروة شامخة عليّة، وحصّلت فضيلتين فضيلة ذاتيّة وفضيلة عرضيّة، وأمنت من يباريك ويساجلك، وكفيت من يناوئك ويطاولك وكان الديوان المرتجع عن بهرام وغيره من أجلّ الدواوين وأوفاها، وأحقّها بالتقديم وأولاها: لأنه يشتمل على نواح مختارة، ويحتوى على ضياع مكنوفة بالعمارة وقد زاده ميزة على غيره كونك ناظرا فيه، وأنك مدبّر أمره ومستوفيه.
وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووزيره السيد الأجلّ الأفضل الذي عزّ بحسن سيرته الملك وتضاعف بهاؤه، وضمنت مصالح الأمور تدبيراته وآراؤه، وظلّت شؤون الدولة بما يقرّره منتظمة مستقيمة، وغدت الميامن والسّعود مخيّمة في داره مقيمة، واتّفقت على الثناء عليه مختلفات الأقوال، وقضت مهابته بحماية
النّفوس وصيانة الأموال، وفاوضه في أمر هذا الدّيوان فأفاض في وصفك وشكرك، وأطنب في تقريظك وإجمال ذكرك، ونبّه على الحظ في تولّيك إيّاه، وواصل من مدحك بما يتضوّع عرفه ويطيب ريّاه، وقرّر لك من تولّيه ما يصل سبب الخيرات بسببه، وميّزك بما لم يطمع أحد من كافّة متولي الدّواوين به، فلم يجعل فيه يدا مع يدك، ولا نظرا إلا لك بمفردك فلا يرفع [أحد] (1) شيئا إلى غير ديوانك من حساب ما يجري في أعماله، ولا معاملة لبيت المال إلّا معك فيما يحلّ من أمواله، فأمضى أمير المؤمنين ذلك وأمر به، وخرج أمره إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجلّ بتقليدك الدّيوان المرتجع المذكور: ثقة بأنك تأتي فيه على الإرادة، وتتأتّى لبلوغ الغرض وزيادة فاستخر الله تعالى وباشر أموره بجدّك المعهود، وشمّر عن ساق عزمك المشهود وسعيك المحمود، واجر على رسمك في العمل بما يحفظ أوضاعه، ويزجي ارتفاعه، ويزيح علّته، ويغزر مادّته، فاعتقد مواصلة الليل والنهار في مصالحه فرضا إذا اعتقدها غيرك نفلا (2)، واجعل اجتهادك لاستخراج أمواله وكن عليها إلى أن يصل إلى بيت المال قفلا، واستنظف ما فيه من تقاو (3)
وباق، وافعل في تدبيره ما يجري أموره على الوفاق، واستخدم من الكتّاب من تحمده وترتضيه، ونصّهم إلى الأفعال التي تستدعي شكرك لهم وتقتضيه، ولا تسوّغ لضامن ولا عامل أن يقصّر في العمارة، واعتمد من ذلك ما يكون على كفايتك أوضح دلالة وأصحّ أمارة.(10/366)
وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووزيره السيد الأجلّ الأفضل الذي عزّ بحسن سيرته الملك وتضاعف بهاؤه، وضمنت مصالح الأمور تدبيراته وآراؤه، وظلّت شؤون الدولة بما يقرّره منتظمة مستقيمة، وغدت الميامن والسّعود مخيّمة في داره مقيمة، واتّفقت على الثناء عليه مختلفات الأقوال، وقضت مهابته بحماية
النّفوس وصيانة الأموال، وفاوضه في أمر هذا الدّيوان فأفاض في وصفك وشكرك، وأطنب في تقريظك وإجمال ذكرك، ونبّه على الحظ في تولّيك إيّاه، وواصل من مدحك بما يتضوّع عرفه ويطيب ريّاه، وقرّر لك من تولّيه ما يصل سبب الخيرات بسببه، وميّزك بما لم يطمع أحد من كافّة متولي الدّواوين به، فلم يجعل فيه يدا مع يدك، ولا نظرا إلا لك بمفردك فلا يرفع [أحد] (1) شيئا إلى غير ديوانك من حساب ما يجري في أعماله، ولا معاملة لبيت المال إلّا معك فيما يحلّ من أمواله، فأمضى أمير المؤمنين ذلك وأمر به، وخرج أمره إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجلّ بتقليدك الدّيوان المرتجع المذكور: ثقة بأنك تأتي فيه على الإرادة، وتتأتّى لبلوغ الغرض وزيادة فاستخر الله تعالى وباشر أموره بجدّك المعهود، وشمّر عن ساق عزمك المشهود وسعيك المحمود، واجر على رسمك في العمل بما يحفظ أوضاعه، ويزجي ارتفاعه، ويزيح علّته، ويغزر مادّته، فاعتقد مواصلة الليل والنهار في مصالحه فرضا إذا اعتقدها غيرك نفلا (2)، واجعل اجتهادك لاستخراج أمواله وكن عليها إلى أن يصل إلى بيت المال قفلا، واستنظف ما فيه من تقاو (3)
وباق، وافعل في تدبيره ما يجري أموره على الوفاق، واستخدم من الكتّاب من تحمده وترتضيه، ونصّهم إلى الأفعال التي تستدعي شكرك لهم وتقتضيه، ولا تسوّغ لضامن ولا عامل أن يقصّر في العمارة، واعتمد من ذلك ما يكون على كفايتك أوضح دلالة وأصحّ أمارة.
وقد أمر أمير المؤمنين أن تجري الحال على ما كانت عليه من دخول ذلك وبيعه بغير مكس في جميع الأعمال، وأزاح مع ذلك علّتك ببسط يدك وإنفاذ أمرك وإمضاء قولك، وإفرادك بالنظر من غير أن يكون لأحد من متولّي الدواوين على اختلافهم نظر معك، فتماد في حسن تدبيره على سنّتك، ولا تخرج عن مذهبك
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) النفل والنافل: الزائد على المفروض.
(3) التقاوي: بذور القطن والقمح والفول ونحوها.(10/367)
وطريقتك والله يوفّقك ويسعدك، ويعينك ويعضّدك فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله عز وجل.
المرتبة الثالثة (من المذهب الأول من سجلات ولايات الفاطميين أن تفتتح بالتّصدير أيضا
، وهو «من عبد الله ووليه» إلى آخر التصلية على النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه ثم يؤتى بالبعدية، لكن من غير تحميد، بل يقال: «أما بعد فإنّ أولى» أو «إنّ أحق» ونحو ذلك ويذكر مناقب المولّى ثم يأتي بالوصايا) واعلم أنّ هذه المرتبة من السّجلّات يشترك فيها أرباب السيوف وأرباب الأقلام من أصحاب الوظائف الدينيّة والوظائف الدّيوانية.
فأما سجلّات أرباب السّيوف فكأصحاب زموم (1) طوائف الرّجال، يعني التّقدمة عليهم والولايات ونحو ذلك، على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخ ولايات لأرباب السيوف بالحضرة من هذه المرتبة.
نسخة سجلّ بزمّ طائفة، من إنشاء القاضي الفاضل، وهي:
من عبد الله ووليّه (إلى آخره).
أما بعد، فإنّ أمير المؤمنين يصطنع من يرتضيه لتأليف عبيده وضمّهم، ويستوقفه للنظر في تقديم رجال مملكته وزمّهم، ويختار من يجتبيه لإحراز مدحهم بالبعد من موجبات ذمّهم، ولا يؤهّل لذلك إلا من توسّل بالغناء وتقرّب، واستقلّ بالأعباء وتدرّب، وأطلق حدّه التوفيق فمضى وتذرّب (2)، وأودع الإحسان فما زايل محلّه ولا تغرّب، ولا بس الأمور ملابسة من فطن وجرّب وقد أيّد الله دولته بفتاه
__________
(1) جمع زمّ وهو المقدّم.
(2) أي أصبح ماضيا حادا.(10/368)
وأمينه، وعقده وثمينه، السيد الأجلّ الذي غدت آراؤه للمصالح كوافل، وأذكى للتدبير عيون حزم غير ملتفتات عنه ولا غوافل، وأطلع من السّعد نجوما غير غوارب ولا أوافل، وقام بفرائض النّصائح قيام من لم يجوّز فيها رخص النّوافل، وتحدّثت بأفعاله رماحه في المحافل فما راعت الجحافل.
ولمّا مثل بحضرة أمير المؤمنين أجمل ذكرك وأطابه، وقصد بك غرض الاصطناع فأصابه، واستمطر لك الإنعام الغدق السّحاب فأجابه، ووصف ما أنت عليه من شهامة شهدت وشهرت، وصرامة تظاهرت وظهرت، وكفاية برعت وفرعت، ونزاهة استودعت الأمانة فرعت، ومناصحة انفردت بوصفها، وتحلّت واسطة عقد صفّها، وجهاد لم يزل به القرآن مغريا، والصّعب المقاد مذعنا والخطب عابيا (1)
في قيادها مدعيا، وقرّر لك الاستخدام في زمّ الطائفة فأمضى تقريره، واستصاب تدبيره، وخرج أمره إليه بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السّجلّ وإيداعه ما تهتدي به، وتعمل بتأديبه فتقلّد ما قلّدته من ذلك عاملا بالتّقيّة فإنها الحجة والمحجّة، والجنّة، والمدد السليم، والمربح القويم، والنعمة والنّعيم، يقول الله سبحانه في كتابه الحكيم: {وَأَمََّا مَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ََ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ََ} (2) فانهض بشروط هذا الزّم نهوضا يؤدّي عنك من النّصح مفروضا، ويجعل لك كلّ يوم كتاب شكر مفضوضا، وسس هذه الطائفة بما يوليها دواعي الوفاق، ويحميها من عوادي الافتراق، واجهد في منافعها مجتلبا، ولأخلاف درّها محتلبا، وانتصب لاستشفاف أحوالهم وتعهّدها وملاحظة أفعالهم وتفقّدها فمن ألفيته إلى فرائض الخدمة مسرعا، وبنوافلها متطوّعا، وبكرمه عمّا يشينه مترفّعا، شحذت بصيرته بالتّكرمة، ورشّحت همّته للتّقدمة، ومن وجدته لتلك الصفات الزائنة مخالفا وللصفات الشائنة مؤالفا، ولنفسه عمّا يرفعها صارفا،
__________
(1) كذا في الأصل. وهي غير واضحة.
(2) النازعات / 40.(10/369)
قوّمت أوده وثقّفته، وأشرفت به على منهج الصّراط ووقّفته فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة سجلّ بولاية الفسطاط المعبّر عنها بمصر على نحو ما تقدّم في ولاية القاهرة، وهي:
أما بعد، فإنّ أمير المؤمنين لما خصّ الله به آراءه من التأييد الذي يسدّد سهامها، ويجزل من التوفيق سهامها (1)، وأطلق به يده من أياد تسبق آماد الآمال وتكاثر أوهامها، وألبس الدّين ببقائه من مهابة تصيّر قلوب أعدائه مهامها (2)، وميّز به عصره من خصائص نصر لا تطيل الأيام استفهامها ولا تخشى استبهامها، ويسّره من نبإدعوته التي طبّقت أنجاد الأرض وتهامها، ورقّاه من محلّ أمانة الإمامة التي لا يظهر أرباب الألباب على أسرار الله ولا اتهامها، وناطه بتدبيره من إيالة البريّة والاعتناء بمصالحها، وأصابه من مراشد اليقين التي تستضيء العقول بمصابحها (3)، وأتى به الأنفس الصالحة من تقواها، وصرف بما صرّفه على لسانه من الحكم عنها مضارّ الشّبه وطواها، وألبسه من هدي النبوّة التي قرّب الله إسناد من رآها وفضل من رواها، يستغزر موادّ التوفيق من خالقه بنصحه في الخلائق، ويقدّم الاستخارة بين يدي أفعاله فهي به أملك الخلال وأخصّ الخلائق، ويعتام (4) للقيام بتكاليف الاستنهاض، ويختار لتقويم الميّاد من اشتهر بالتدبير وجبر المنهاض، ويقدّم لكبار الولايات وعواليها، وخصائص الرّتب وغواليها، من تكافأت في استيعاب المحاسن خلاله، وخطب الخدم المتكثّرة لأولي الحظوظ استقلاله، وعلم استبداده بطيب الذكر وأمن انفصاله، وأوى إلى جنّة مريعة وجنّة منيعة من
__________
(1) السهام هنا جمع سهم وهو الحظ والنصيب. وتجمع أيضا على أسهم.
(2) المهامه: جمع مهمه وهو المكان المقفر.
(3) المصابح: جمع مصبح وهو المصباح.
(4) إعتام: أخذ العيمة. والعيمة من كل شيء: خياره. والجمع عيم.(10/370)
الولاء وألحفته ظلاله، واستقام على محجّة واضحة من المخالصة ولم يخف زيغه ولا ضلاله، ومضت ضرائبه في المهمّات مضاء الحسام الذي لا ينبو حدّه ولا يثبت انفلاله، وصحّ بصيرة في المناصحة فما سرّ الأعداء شكّه ولا اعتلاله، وأعطى الخدم حقوقها من إقامة القوانين، ونهض بأعبائها المثقّلة نهضة المشمّرين غير الوانين، واشتدّت وطأة تبادره على المفسدين والجانين، وتظاهرت شواهد ميزته بما يكثّر له الحسّاد ويرغم الشانين (1)، واقتنى من نفائس المحامد ما يعدّه أهل النظر قنية القانين، واستبقى من جميل الأحدوثة ما يبقى ذكره بعد فناء الفانين، ووفّقت في الخدمة مصادره وموارده، وانتظمت درر الذكر بحسن ذكره فأتلفت فوارده، ونشدت ضوالّ الغناء فالتقت عنده غرائبه وشوارده، واختصّت مساعيه بالإبرار على الأنظار، وصحّت خلاله على عيب النقد كما صحّح النار نور الأبصار، ونظر لمن أسند إليه أمره نظرا يعفيه من تطرّق الأكدار والمضارّ، ورعى له ما هو متوسّل به من آثار حقيقة بالإيثار، وكفاية تأخذ للخدم من الفخر بالثار.
ولمّا كنت أيها الأمير المراد بهذا الإيراد، المطّرد إليه هذا الاستطراد، المعدود في أمراء الدولة العلويّة من الأعيان الأفراد، المخلّي سيفه بين المساعي الجميلة ينتقي منها ما اختار ويصطفي ما أراد، المهادى الصّفات الحسنة فلا جاحد من عداته ولا رادّ، المضطلع بما يعيي حمله الحازم المطيق، المستنفد في أفعاله المشكورة أقوال الواصف المنطيق، الواصل بمحمود مساعيه إلى غايات السابقين في مهل، الجامع في تدبير المهمّات بين رأي احتنك وحزم اكتهل المنظور بعين الحزم بآيات دواعيه، المترقّي إلى أمانيّه في درج مساعيه، المجيب دعوة العزم إذا قام فلم يسمع المقصّرون داعيه، المجتهد في تشييد أركان التدبير إذا ارتقب اضطرابه وخيف تداعيه، الممتثل وصايا الأدب الصالح فهو بقلبه راعيه وبسمعه واعيه، الشّهم الذي ينفذ في الأمور نفاذ السّهم، الألمعيّ الذي علا أن يماثل بما أوتي من بسطة الفهم، المتبوّيء من النعمة منزلة شكر لا يروم ضيفها
__________
(1) شنأه شنئا وشنآنا: أبغضه وتجنبه، فهو شانىء.(10/371)
أن يريمه، ومربع حمد لا يسوم نازلها غير أن يسيمه، المباشر من مأثور السياسة ما استفاض ذكره فلم تتطرّق عليه أسباب الجحد، البالغ بسموّ المساعي ما قصّر الأكفاء عنه ولم يقصّروا عن الجهد، الحالّ من التقدمة في هضابها إذا نزل الأكفاء منها في الوهد، الحامل من أعباء المشايعة ما غدا به من الموفين على الأنظار الموفّين بالعهد، المحقوق من الوسائل بأن يجودها النجاح بأغزر ديمة وأسقى عهد، المؤدّي فيما يسند إليه فروض التفويض، المليّ بأن لا تنوب فرصة حزم إلا كان مليّا باللّحاق والتعويض، المكتفي من وصايا الحزم بما يقوم له مقام التصريح من التعريض، المستوجب أن تجدى إلى استحقاقه وتهدى سحائب الطّول الطويل العريض، المستوعب شرائط الرياسة بالاستيلاء على أدواتها، المتتبّع مظانّ الخطوب بمفاجأة الغرض في مداواتها، المبرّز على القرناء بخلال لا تطمع الهمم في مساماتها ولا مساواتها، الآخذ من كل شيء بأحسنه فأيّ حسنة لم يؤتها ولم ياتها، النافذ الآراء إذا المشكلات لم يتّضح لأرباب الألباب مصمت بيانها، المصيب شواكل الضّرائب فسهام آرائه مدلولة على شواتها (1)، المتبرّج المقاصد لعيان الحمد إذا تحفّزت الأفعال ووارت سوآتها، المعروف بثبوت الجنان، حين يلتبس الشّجاع بالجبان، المشكور في مواقف الحرب بأفواه الجراح ولسان السّنان، المقدّم حيث الأعضاء تتزيّل والأقدام تتزلزل، المقتحم غمرات الهيجاء والأرواح عن ولايات الأجسام تعزل. وقد ولّيت الولايات فاستقللت بها أحسن استقلال، ورفع لك منار العدل فاستدللت منه بأوضح استدلال، وجعلتها على من تؤويه حرما، وعلى من يطرقها حمى، وكنت لجمهور زمانك في المصالح والنّصائح مقسّما، ولحكم التقوى ولو ضفت مشقّاتها دون حكم الهوى محكّما.
وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووزيره السيد الأجلّ الذي حلّ المشكلات من رأيه وراياته بالشمس وضحاها، وتعرّضت له آية الليل من العدا
__________
(1) الشواة: واحد الشّوى. والشوى: أطراف الجسم. والضرائب: جمع ضريبة، أي المضروب بالسيف. والشواكل: جمع شاكلة، وهي الخاصرة. يقال: أصاب شاكلة الصواب.(10/372)
فجلّاها بسيوفه ومحاها، وثبّت نصاب الملك الفاطميّ حين أدارت الحرب على فتكاته رحاها، واقتاد الأعداء إلى مصارعها بخزائم (1) من العزائم وأعجلها وأوحاها، وقام بنصر أئمة الهدى حين قعد الناس، ورعى الله عزيمته الصابرة في البأساء والضّرّاء وحين الباس، وخاطر في حفظ الدّين بنفس تجري محبتها مع الأنفاس، وحلّ من ملوك الأرض محلّ العين من الراس بل الراس من الحواسّ، وأتعبت الأجسام هممه الجسام، وأعدى الزّمان فتبسّم جذلا بعدله البسّام، وقسّمت المطامع أمواله فحمى المجد الموفّر عليه من الانقسام. فطالع (2) أمير المؤمنين بأخبارك بعد اختبارك، وتوسّلك إلى التقدمة بمرضيّ آثارك، وما أظهره الامتحان من نقاء سريرتك وأسرارك، واستقامتك على مثلى الطريقة واستبصارك، وأن ولاية مصر من أنفس الولايات محلّا، وأثبتها على غيرها فضلا، بمجاورتها للمقام الكريم، وحصولها من استقلال الرّكاب الشريف إليها على الشّرف العظيم، واختصاصها من مجال الخلافة بما جمع لها بين الفخرين الحادث والقديم، وأوجب لها على غيرها من البلاد مزيّة ظاهرة التكريم والتقديم، وما يمتّ به أهلها من شرف الجوار الذي لآمالهم به التخيير في الإحسان والتحكيم، وما رأى من إسناد ولايتها إليك علما أنّك ممن تزكو لديه الصّنيعة، وتروق في جيد كفايته فرائد المنن البضيعة، وتتطامن لاستحقاقه ذروة كلّ مرتبة رفيعة، خرج أمر أمير المؤمنين إليه، بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجلّ لك بالولاية المذكورة فتقلّد ما قلّدك منها مقدّما تقوى الله على كل فعل وقول، متبرئا إليه من طول الحول، معدّا ذخيرتها النافعة ليوم الهول قال الله في محكم الكتاب:
{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزََّادِ التَّقْوى ََ وَاتَّقُونِ يََا أُولِي الْأَلْبََابِ} (3).
وانظر في هذه الولاية حاكما بالقسطاس، وساو في الحق بين طبقات
__________
(1) جمع خزامة وهي حلقة من الشعر توضع في ثقب أنف البعير يشدّ بها الزمام.
(2) فاعله فتاه ووزيره.
(3) البقرة / 197.(10/373)
الناس، ولا تميّز فيه رفيعا على حقير، ولا غنيّا على فقير، وأقم الحدود على من وجبت عليه إقامة يرتدع بها المغرور، وتستقيم بها الشّؤون وتنتظم الأمور، وراع من بهذه المدينة المحروسة من شهودها، ومتميّزي أهلها، ففيها الفقهاء والأتقياء، والقرّاء والعلماء، والمتميّزون الأعيان الوجوه، وأهل السلامة الذين يستوجب كلّ منهم نيل ما يأمله وبلوغ ما يرجوه، فاعتمد إعزازهم، وتوخّ تكرمتهم، ووفّهم ما يجب لهم من الحق، والقهم بالوجه المسفر الطّلق، وأمر بالمعروف ونصّ إليه، وانه عن المنكر وعاقب عليه، وتفقّد أحوال المطاعم والمشارب، وحافظ على إجرائها على أحكام الصواب وقضايا الواجب، واحظر في المكاييل والموازين البخس والتّطفيف، وقدّم الإنذار في ذلك والتحذير والتّخويف، وأوعز بتنظيف المسالك والساحات، وامنع من توعير (1) السّبل والطّرقات، واعتمد كلّ ليلة مواصلة التّطواف على أرجاء هذه المدينة وأكنافها، ومتابعة الإطلال على نواحيها وأطرافها، واعمل فيمن تظفر به من عابث وعاد، ومنتهج طريق الفساد، ما يرتدع به سواه، ويجعله موعظة لمن يعدل عن الصّواب ويتّبع هواه، واشدد من المتصرّفين على باب الحكم العزيز في قود أباة الخصوم، لينظر بينهم فيما ينتصف به المظلوم من الظّلوم، وتقدّم بتوقير الجوامع وصيانتها، وحافظ على ما عاد ببهجتها ونظافتها، وخذ المستخدمين من الأرباع بأن يتيقّظ كلّ منهم لما يجري في عمله، وأن يكون كلّ ما يحدث وينهى إليك من قبله، وانظر في الصّناعة المحروسة، وفي عمائر (2)
الأساطيل المظفّرة المنصورة، وتوفّر على تدبير أمورها والاهتمام بشؤونها، وحفظ ما فيها من الأخشاب، والحديد والعدد والآلات والأسباب، وابعث المستخدمين على المناصحة فيها، وبذل الجهد في قصد مصالحها وتوخّيها، وأجر أمر هذه الولاية على ما يشهد بحسن أثرك، وجميل ذكرك وطيّب خبرك فاعلم هذا واعمل به، وطالع مجلس النظر السيديّ الأجلّيّ بأمور خدمتك، وما يحتاج إليه من
__________
(1) وعّر المكان: جعله وعرا.
(2) العمائر: هي الأساطيل الحربية.(10/374)
جهتك إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة سجلّ بولاية الأعمال القوصيّة (1)، وهي بعد التصدير:
أما بعد فإنّ أمير المؤمنين لموضعه من خلافة الله التي أعمره إياها، وأنار بنظره محيّاها، والإمامة التي أفرعه ذراها، وناط به عراها، وما وكله إليه من القيام، بحفظ الإسلام، الذي رضيه دينا، وألبسه بعدله تحسينا وبذبّه عنه تحصينا، وما استودعه إياه من جوامع الحكم، وعدقه بكفالته من رعاية الأمم، وعضّد به آراءه من التأييد والتوفيق، وأوجبه من فرض طاعته على كلّ مطيق يصطفي لمعونته على النّهوض بما حمّله الله من أعباء الأمانة، والشّكر على ما اختصّه به من الوجاهة عنده والمكانة، ويستكفي فيما أمر به من إحسان الإيالة في بريّته، وينتخب لتفويض أمورهم والسّلوك بهم مسالك رأفته في سيرته، من يكون اصطفاؤه لرضا الله عنه مطابقا، واجتباؤه لشرائط المراد والاقتراح موافقا، وانتصابه للمهمّات أفضل ما بديء به وقدّم اعتماده، وإسناد الأمر الجسيم إليه أوفى ما عظم بتدبّره شأنه ورفع بنظره عماده، وإن ولّي ولاية، جعلها بمهابته حرما آمنا على أهلها من المخاوف، وغدا حسن سيرته برهانا على فضله يضطّر إلى التصديق به المؤالف والمخالف، وأعاد حميد أثره محلها ربيعا ممرعا، وقرّب حسن ثنائه من المطالب ما كان بعيدا ممتنعا، وإن ندب للجلّى، عاد مظفّر المقاصد، محفوفا بالميامن والمساعد، ساحبا ذيل الفخر، حائزا لكنوز الأجر، مستعينا بتوحيده على العدد الجمّ، والعسكر الدّهم (2).
وإنّ هذه الأوصاف قد أصبحت لك أيّها الأمير أسامي لم تزدك معرفة،
__________
(1) من الأعمال القوصية: أبنود، أدفوا، أرمنت، أسنا، قنا وغيرها هذا بالإضافة إلى قوص المدينة الرئيسية. وتقع قوص على مسافة اثني عشر ميلا من الفسطاط. (معجم البلدان: 4/ 413 والانتصار: 5/ 28وما بعدها).
(2) الدّهم: الكثير.(10/375)
وخواصّ لمهمّات إلى ملابستك إيّاها متطلّعة متشوّفة، وأفعالك الحميدة قد بنت لك بكلّ ريع (1) منارا، وجعلت لك في كل مكرمة سمات وآثارا، وجميل رأى أمير المؤمنين فيك قد زاد توفيق مساعيك، وضاعف ارتقاء معاليك، وجعل الخيرة مقترنة بمقاصدك ومراميك، وسما بك إلى رتبة من الوجاهة تتذبذب دونها مطارح الهمم، وأحلّك من الثّقة بك منزلة لا تفضي إليها خواطر الظّنن والتّهم، وتحقّق من يقينك ومضاء عزيمتك، وعدل سيرتك وصفاء سريرتك، ما جعل حظّك عنده زائد النّماء، وذكرك بحضرته مكنوفا بالشكر والثّناء، ووسائلك إليه متقبّلة وقد أدركت في ريّق الشباب حزامة الكهول، واستنجحت في مقاصدك بضمير من الولاء مأهول ولك البيت الذي كثر فيه الأمجاد والأفاضل، وأحلّك في دعة الناس من يخافهم المباري والمناضل، وتساوت في اعتقاد تفضيلهم حالتا السّرّ والجهر، وأصلح بعزائمهم ما ظهر من الفساد في البرّ والبحر، وفتّ المطامع بفضيلة هذا النّسب وفضيلة النفس، ودلت مآثرك على ما ظهر من خصائصك دلالة الفجر على الشّمس.
ولما رآك أمير المؤمنين أهلا للعون على استيجابه لطفا لله عنده، والتماس عوائد صنعه الجميل فيمن فارق سعيه ونبذ عهده، انتضى منك حساما حاسما للأدواء، معينا في اللأواء (2)، طبّا بتأليف الأهواء، لا ينبو غراره (3)، ولا يخشى اغتراره، ولا يفلّ حدّه، ولا يؤويه غمده، فانحقنت الدّماء، وسكنت الدّهماء، وعمّ الأمن، وعظم من الله تعالى الطّول والمنّ، وأصبح مكان القول فيك ذا سعة فسيحا، ولسان الإحماد لأفعالك منطلقا فصيحا، وحصلت من الوجاهة عند أمير المؤمنين بحيث قدرك (4) رتبة خطيرة، ولا تنأى عنك بجانبها [منزلة] (5) رفيعة
__________
(1) الرّيع: المرتفع من الأرض.
(2) اللأواء: ضيق المعيشة وشدّة المرض.
(3) غرار السيف: حدّه.
(4) استبدل هذا اللفظ في الطبعة الأميرية بعبارة: «لا تأباك» والعبارة الأخيرة أوضح في المقام بدليل ما يأتي بعدها: ولا تنأى.
(5) الزيادة من الطبعة الأميرية.(10/376)
أثيرة، بل غدت خواصّها فيك لاستجزال حظّها من الجمال بك راغبة، وممتنعاتها لاستكرام الأكفاء طالبة للإفضال بل خاطبة، إذا كان ما يعدم التّتمّة بك لا يعدم شعثا واختلالا، وما حظي منها بمقاربتك يتيه زهوّا بك واختيالا، فإذا أراد أمير المؤمنين أن ينظر إلى عمل من أعمال مملكته ويرفع من محلّه، ويفيض عليه من سحائب رأفته ما يكون ماحيا لآثار جدبه ومحله، ويعمّ بالبركات أقطاره، ويبلّغ كلّا من أهله مآربه من العدل وأوطاره، استند منك إلى القويّ الأمين، والكامل الذي لا يخدع الظنّ فيه ولا يمين (1)، إذا استكفي أمرا حمى حماه بالماضيين: حسامه واعتزامه، وتمسّك في حفظ نظامه بالحسنيين: طاعة الله وطاعة إمامه.
ولما كانت مدينة قوص وأعمالها أمدى أعمال المملكة مسافة، وأبعدها من دار الخلافة، وتشتمل على كثير من أجناس الناس، وأخلاط يحتاج فيهم إلى إحسان السّياسة والإيناس، وعليه معاج المسافرين من كلّ فجّ عميق، وإليه يقصد الحجّاج إلى بيت الله العتيق، رأى أمير المؤمنين وبالله توفيقه أن يردّ ولاية الحرب بها إليك، ويعوّل في تقويم مائدها وضمّ نشرها عليك، وأن يحسم بك داءها ويحسّن بنظرك رواءها، ويعمّ أهلها بك رأفة ومنّا، فخرج أمره إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجلّ بالولاية المذكورة، فتقلّد ما قلّدك أمير المؤمنين واعتمد على تقوى الله التي جعلها شرطا في الإيمان، وأمر باعتمادها في السّرّ والإعلان، فقال في كتابه المبين: {وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2).
وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، وابسط عدل أمير المؤمنين على البادين والحضّر، وأقم الحدود على من وجبت عليه بمقتضى الكتاب والسّنّة، وقم بما أمر الله به من ذلك بأنفذ عزم وأقوى منّة، وساو في الحقّ بين الضعيف والقويّ، وآس بين العدوّ والوليّ [والذميّ] (3) والملّيّ، واجعل من تضمّه هذه الولاية ساكنين في كنف الوقاية، مشمولين بالصّون والحماية، وليكن أربهم في الصلاح في أربك،
__________
(1) المين: الكذب.
(2) المائدة / 57.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(10/377)
فكلّ منهم شاكر لله على النعمة بك، وبثّ في أقطارها ما يحجز النفوس العادية عن التظالم، ويعيد شيمتهم بعد العدوان مخلدة إلى التوادع والتّسالم ومن أقدم على كبائر الإجرام، ولم يتحرّج عن الدّم الحرام فامتثل فيه ما أمر الله به في قوله:
{إِنَّمََا جَزََاءُ الَّذِينَ يُحََارِبُونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسََاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلََافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذََلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيََا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذََابٌ عَظِيمٌ} (1).
واعتمد المستخدم في الحكم العزيز والدّعوة الهاديّة ثبتهما الله بما يقوّي عزمه، وينفّذ حكمه، وأجزل حظّه من إعزاز الجانب، وتيسير المطالب، وأحسن إليه العون على صون المؤمنين، واجتلاب المستخبثين، والمستخدمون في الأموال من مشارف (2) وعامل وغيرهما فاندبهم في عمارة الأعمال، وبلّغهم في المرافدة كنه الآمال، واشدد منهم في صون الارتفاع، وحفظه من الإفراط والضّياع، وضافرهم على استخراج الخراج، وخذهم بحمل المعاملين على أعدل منهاج. والرجال العسكرية المركزية المستخدمون معك فاستخدمهم في الخدم السانحة، وصرّفهم في المهمّات القريبة والنازحة فمن استقام على طريق الصواب، أجريت أموره على الانتظام والاستتباب، ومن كان للإخلال آلفا، وللواجب مخالفا، قوّمت بالتأديب أوده، وحلّأته (3) عن مورد الفساد الذي تورّده.
هذه درر من الوصايا فابعث (4) على إحضاره الثقة بهدايتك إلى كلّ صواب، واعتلاقك من الديانة والأمانة بأوثق الأسباب، وإحاطة علم أمير المؤمنين باستغنائك بذاتك، وكمال أدواتك، عن الإيقاظ والتنبيه، والإرشاد فيما تنظر فيه
__________
(1) المائدة / 33.
(2) المشارف: عمله طلب التفاصيل الكاملة عن أية جهة من الجهات الضريبية التي تقع في دائرة عمله ويدخل في عهدته جمع المتحصلات المالية بعد ختمها. (قوانين الدواوين: ص 303302).
(3) حلّأه عن الشيء تحليئا وتحلئة: منعه.
(4) في هامش الطبعة الأميرية: «لعله: بعث على اختصارها الثقة الخ» وهو أوضح.(10/378)
والله يوفّقك إلى ما يرضيه، ويجعل الخيرة مكتنفة لما ترويه وتمضيه، فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة سجلّ بولاية الأعمال الغربيّة (1)، وهي:
أما بعد، فإن أمير المؤمنين لما فضّله الله به من إمامة البشر وشرّفه، وأناله إيّاه من الخلافة التي نظم بها عقد الدين الحنيف وألّفه، وأمضاه الله له في أقطار البسيطة من الأوامر، ونقله إليه من الخصائص النبويّة التي تجمّلت بذكرها فروق المنابر، ومكّنه له من السلطان الذي تخضع له الجبابرة وتدين، وعضّده به من التأييد الذي أرغم المشركين وخفض منار الملحدين، وآثره به من مزايا التقديس والتمجيد، وألهمه إيّاه من استكمال السّيرة التي أصبح الزمن بجمالها حالي الجيد، وأنجد به ملكه من موالاة النصر ومتابعة الإظفار، وحازه له من مواريث النبوّة المنتقلة إليه عن آبائه الأطهار، واصطفاه له من إيضاح سبل الهدى المعتاد، وألهمه إيّاه من إسباغ ملابس الرحمة على الحاضر من الأمم والباد، ووفّر عليه اجتهاده من استدناء المصالح واجتلابها، وصرف إليه هممه من تمهيد مسالك الأمنة وفتح أبوابها يتصفّح أمور دولته تصفّح العاني بتهذيب أحوالها، ويتفقّد أعمال مملكته تفقّدا يزيل شعثها ويؤمّن من اختلالها، ويعدق المهمّات الخطيرة بالصدور الأفاضل من أصفيائه، ويزيد في رفع منازل أوليائه إلى الغاية التي تشهد بجلالة مواضعهم من جميل آرائه، ويفيض عليهم من أنوار سعادته ما يظهر سناه للأبصار، ويمنحهم من اصطفائه ما لا يزال دائم الثّبات والاستقرار، ويعوّل في صيانة الرعايا من المضارّ، وحراسة الأعمال المتميّزة من عبث المفسدين والدّعّار، على من تروع مهابته ضواري الآساد، وتكفل عزائمه
__________
(1) قال ابن دقماق في الانتصار: «الأعمال الغربية: وصقعها زنار المحلة، جزيرة قويسنا، السخاوية، الطمريسية، الطندتاوية، السمنودية، الدنجاوية، السنهورية. وقصبتها مدينة المحلة. (الانتصار:
5/ 82).(10/379)
بقطع دابر الفساد، ويبدع في السياسة الفاضلة ويغرب، وتعجب أنباؤه في حسن التدبير وتطرب، ويعمّ الرعايا بضروب الدّعة والسّكون، ويشملهم من الأمنة والطّمأنينة بأنواع وفنون، وتقوم كفايته بسدّ الخلل وتقويم الأود، ويبلغ في تيمّنه في اكتساب المحامد إلى أقصى غاية وأبعد أمد، ويعنى بحفظ النّواميس وإقامة القوانين، ويدأب في استعمال السيرة الشاهدة له باستكمال الفضل المبين، ولا يألو جهدا في تقريب الصّلاح واستدنائه، ويقصد من الأفعال الجميلة ما تلهج به الألسن بإطابة ثنائه.
ولمّا كنت أيّها الأمير نجما من نجوم الدين المضيئة المشرقة، وثمرة من ثمرات دوحة العلاء الزّكيّة المورقة، وفذّا في الفضائل البديعة، وفردا في المحاسن التي لم تفز بنظير ذكرها أذن سميعة، وسيفا يحسم داء الفساد حدّاه، وكافيا لا يتجاوزه الاقتراح ولا يتعدّاه، وماجدا حاز المفاخر عن أهل بيته كابرا عن كابر، وعلما في المآثر يهتدي به الأعيان الأكابر، وهماما تملأ مهابته القلوب، وماضيا تلوذ بمضائه الأعمال الخطيرة وتؤوب، وصدرا تقرّ له الرؤساء بارتفاع المنزلة، ومهذّبا أغرته شيمه الرضيّة ببثّ الإنصاف وبسط المعدلة، وحازما لا يخشى اختداعه واغتراره، وعازما لا يكهم (1) عزمه ولا يكلّ غراره. وقد ألقت إليك المناقب قيادها مطيعة، وأحلّتك الرياسة في أشمخ ذروة رفيعة، وتألّفت عندك الفضائل تألّف الجواهر في العقود، وتكفّلت لك مساعيك المحمودة بتضاعف الميامن وترادف السّعود، وتكاملت فيك الخلال المطابقة لكرم أعراقك، واستعملت الأفعال الشاهدة بمبالغتك في ولاء أئمتك وإغراقك، وحصل لك من الانتماء إلى البيت الصالحي الكريم ما كسبك فخرا لا يبرح ولا يريم، وخصّك في كلّ زمن بمضاعفة التفخيم والتقديم، وأنالك من الإقبال غاية الرّجاء، وجعل وجاهتك فسيحة الفناء، وسيعة الأرجاء. ولك المهابة التي تغني غناء الجيوش المتكاثرة العدد، والشجاعة التي تسلّط قوارع الدّمار على من كفر وعند، والعزم
__________
(1) راجع ص: 339هامش: 1.(10/380)
الذي استمدّت السيوف الباترة من مضائه، وعزّ جانب التوحيد بانتضائه لجهاد أعداء الله وارتضائه، والإقدام الذي تلوذ منه أسود الوقائع بالفرار، والبأس الذي لا يعصم منه الهرب ولا ينجّي من بوادره الحذار.
وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووزيره، وصائن ملكه وظهيره، السيد الأجلّ الذي (1) فأثنى عليك ثناء طال وطاب، وحرّر في ذكر مناقبك ومحاسنك القول والخطاب، وذكر مالك [من الأعمال] (2) في الأعمال الغربية، التي أعادت الأمنة على الرعية، وما استعملت فيهم من السّيرة العادلة، والسياسات الفاضلة، وقرّر لك الخدمة في ولاية أعمال الغربيّة فخرج أمر أمير المؤمنين إليه بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجلّ لك بالولاية المذكورة فتقلّد ما قلّدته عاملا بتقوى الله سبحانه الذي إليه تصير الأمور، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور وقال الله جلّ من قائل في كتابه المكنون: {إِنَّ اللََّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (3) فاعمم بالعدل من تشتمل عليه هذه الولاية، وانته في حياطتهم وكلاءتهم إلى الغاية، وصنهم من كلّ أذى يلمّ بساحتهم، وتوفّر على ما عاد باستتباب مصلحتهم، واخصص أهل الستر والسلامة بما يصلح أحوالهم، ويشرح صدورهم ويبسط آمالهم، وقابل الأشرار منهم بما يدوّخ شرّتهم (4)، ويكفّ عن ذوي الخير مضرّتهم، واشدد وطأتك على الدّعّار وأهل العناد، وتطلّبهم حيث كانوا من البلاد، واقصد حماية السّبل والطّرقات، وصنها من غوائل المفسدين على ممرّ الأوقات ومن ظفرت به من المجرمين فاجعله مزدجرا لأمثاله، وموعظة لمن يسلك مسلك ضلاله والمقدمون على سفك الدّم الحرام، والمرتكبون لكبائر الذّنوب والإجرام، فامتثل فيهم ما أمر الله تعالى به في كتابه الكريم، إذ يقول: {إِنَّمََا جَزََاءُ الَّذِينَ يُحََارِبُونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ}
__________
(1) بياض في الأصل، ولعله «أجمل ذكرك» أو بما معناه.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) النحل / 128.
(4) الشرّة: الحدّة.(10/381)
{فَسََاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلََافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذََلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيََا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذََابٌ عَظِيمٌ} (1).
وأجزل حظّ النّواب في الحكم العزيز من عنايتك، واجعل لهم نصيبا وافرا من اهتمامك ورعايتك، وعاضدهم على إقامة منار الشرع، وأجر أحوالهم على أجمل قضيّة وأحسن وضع. والمستخدمون في الأموال، تشّد منهم شدّا يبلّغهم الآمال، ويقضي بتزجية الارتفاع وتثمير الاستغلال، وعاضدهم على عمارة البلاد، ووازرهم على ما تكون به أحوالها جارية على الاطّراد. والرجال المركزيّة والمجرّدون فاستنهضهم في المهمّات القريبة والبعيدة، وخذهم بلزوم المناهج المستقيمة السّديدة، وقابل الناهض منهم بما يستوجبه لنهضته، وقوّم المقصّر بما يوزع من يسلك مسلكه ويقتفي طريقته، فاعلم هذا واعمل به وطالع، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة سجلّ بولاية ثغر الإسكندرية، كتب به لابن مصّال (2)، من إنشاء القاضي الفاضل، وهي:
أما بعد، فإنّ أمير المؤمنين لما أكرمه الله به من شرف المنصب والنّصاب، وأجار العباد بآبائه الطاهرين من عبادة الأوثان والأنصاب، وأوردهم من موارد حكمه التي كلّ صادر عن ريّ قلبه منها صاد، وسخّره بأمره من رياح الصواب التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب، وأصمى بسهام عزائمه، من مقاتل الباطل، وحلّى بأنوار مكارمه، من أجياد الأمانيّ العواطل، وأنجزه على يد أياديه من وعود سعود تظلّ السّحب المواطر بمثلها هواطل، وتوحّده به من الإمامة التي أعزّ بها أحزاب
__________
(1) المائدة / 33.
(2) هو سليم بن محمد بن مصّال، نجم الدين، أبو الفتح. استوزره الظافر العبيدي صاحب مصر. قتله العادل بن السلار سنة 544هـ. (ابن خلكان: 3/ 417416).(10/382)
التوحيد، وأجراه من بركاته التي لا تقول الآمال لها هل من مزيد، وأوراه من فتكاته التي لا تقول لها الآجال هل من محيد، وأجدّ به من إرادته لأزمة الأيام فهي بين إنعامه وإسقامه تفيد وتبيد، وأحدثه له من معجزات التأييد التي تملك أحاديثها رقّ التأبيد، وشرّف به قدره في ملكوت السموات والأرض والملائكة له أنصار والملوك له عبيد، وألهمه من إيداع جليّ صنائعه حيث لا ينكر المقلّد ولا يستغرب التقليد، وأنطق به لسان كرمه من بدائع إحسان تروق بين التّرديد والتوليد ينظر بنور الله فيمن ينظر به للجمهور، ويجلو عقائل المكارم على من هو ماهر في تقدمة المهور، ويربح الذين يرجون بولائه تجارة لن تبور، ويقتدح الأنوار المودعة في سواد الشّباب كما يودع في سواد العين بياض النّور، ويرفع رتب الأعيان حتّى إذا تعاطاها سواهم ضرب بينه وبينها بسور، وتعود أياديه إلى بيوت النّعم فكلّ بيت تولّاه كالبيت المعمور، وتهدي السرور بهم إلى صدور الثّغور، والابتسام إلى ثغور الصّدور، ويرى أنهم يستوجبون فواضله ميراثا، وإذا سلّمت إليهم أعنّة الولايات كانت لهم تراثا، وإذا تبوّءوا الرّتب العلية كانت الرياسة لهم دارا والسّياسة أثاثا، لا سيّما الصدر الذي عرفته السعادة لدولة أمير المؤمنين واحدا يجمع فضل سلفه، وندبا ما عرضت عليه جواهر الدّنيا فضلا عن أعراضها إلّا ولّاها عطف نزاهته وظلفه، وألمعيّا تتناثر معاني المعالي من شمائله كما تنتثر من غصن القلم ثمار أحرفه، وكفؤا للصّدور من أنهضه بها بنصّ تكلّفه أنهضه بها فضل كلفه، وقوّاما بالأمور يمضي عليها مضاء النّجم في بحر حندسه لا السّهم في نحر هدفه، وملّاكا للثّغور إذا حلّ منها في إسكندريتها فهو على الحقيقة نجم حلّ برج شرفه، وطودا للوقار يعتزي الحلم منه إلى أقومه لا إلى أحنفه، وشرطا للاختيار، يكتفي مصطفيه منّة معرّفه ومؤونة معنّفه، ومعنى للفخار، لم ينتصف فيه من لسان واصفه مسمع مستوصفه، وعلما للأنظار، يبدو لهم منار إشراقه ويخفى عليهم منال شرفه.
ولمّا كنت أيّها الأمير واسطة عقد هذه الأوصاف الحسنى، ومنجد ألفاظها من الحقيقة بالمعنى الأسنى، المتوحّد من الرياسة باسم لا يجمع بعده ولا يثنّى،
الجاري إلى غاية من المجد لا يردّ عنها عنانه ولا يثنى، الجدير إذا ولّي أن يسكن الرعيّة اليوم عدلا لا تسكنه في غد عدنا، وينجز فيهم وعد الله الصادق في قوله:(10/383)
ولمّا كنت أيّها الأمير واسطة عقد هذه الأوصاف الحسنى، ومنجد ألفاظها من الحقيقة بالمعنى الأسنى، المتوحّد من الرياسة باسم لا يجمع بعده ولا يثنّى،
الجاري إلى غاية من المجد لا يردّ عنها عنانه ولا يثنى، الجدير إذا ولّي أن يسكن الرعيّة اليوم عدلا لا تسكنه في غد عدنا، وينجز فيهم وعد الله الصادق في قوله:
{وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} (1)، المستبدّ بالحمد حتىّ استقرّ فيما يفعل واستقرى فيما يكنى، الثّبت الذي لا تقرع الأهوال صفاته، الندب الذي لا تبلغ الأقوال صفاته، الوليّ الذي لا تكدّر الأحوال مصافاته، الجامع بين فضل السوابق وفضل اللواحق، المتجلّي في سماء الرّياسة نيّرا لا تهتضمه صروف الليالي المواحق، المشكور الفعال لا بألسنة الحقائب بل بألسنة الحقائق، المستبدّ بالهمم الجلائل المدلولة على المحاسن الدقائق، المستمدّ صوب الصواب من خاطر غير خاطل، المستجدّ ثوب الثواب بسعي ينصر الحقّ على الباطل، المستعدّ لعقب الأيام بأقران من الحزم تثنيها على الأعقاب، المستردّ بمساعيه فوارط محاسن كانت مطويّة في ضمائر الأحقاب، السامي بهمّته، إلى حيث تتقاصر النواظر السّوامي، المقرطس (2) بعزيمته، حيث لا تبلغ الأيدي الرّوامي، المستقلّ بقطّ نواجم الخطوب وحسمها، المستقرّ في النفوس أنه يقوم في ظلمها مقام نجمها، المطلق وجها فلا غرو أن تجلى به الجلّى، المطلق وصفا حسنا فلا يعرض له لولا ولا إلّا، المؤيّد العزمات، في صون ما يفوّض إليه ويليه، المتّقى الوثبات، ممن يجاوره من الأعداء ويليه، المحيي بمسعاه ما شاده أوّلوه، والمتوضّحة فيه نصوص المجد الذي كانوا تأوّلوه، والآوي إلى بيت تناسقت في عقوده الرؤساء الجلّة، والطالع منه في سماء إذا غربت منها البدور أشرقت فيها الأهلّة.
ولقد زدت عليهم وما قصّروا زيادة أبيض الفجر على أزرقه، وكنت شاهد من يروي مناقبهم البديعة، ودليل من ادّعى أن المكارم لكم ملكة وعند سواكم وديعة، وقبلت وصاياهم في المعالي فكأنما كانت لديكم شريعة، ونصرتم الدولة العلويّة فكنتم لها أمثل أولياء وأخصّ شيعة، وتجمّلت أنسابكم باصطناعها وكفاكم
__________
(1) النور / 55.
(2) قرطس: أصاب القرطاس. والقرطاس: كل ما ينصب للنضال، وهو الغرض. يقال: رمى فقرطس.(10/384)
إن عددتم لصنائع الله صنيعة، وأباحتكم من اصطفائها كلّ درجة على تعاطي الأطماع عليّة منيعة، وقدّمتكم جيش برّها وبحرها، وكان منكم سيف جهادها ونجم ليلها وفارس كرّها، وصالت بكم على أعدائها كلّ مصال، وأغربت من يليها إلا إذا استقرّت في داركم إلى مصّال وحين خرجت منها خائفا تترقّب، وأبقيت فيها حائفا يتعقّب، كنت الذهب المشهور، الذي ما بهرجه الرّغام (1)، والحرف المجهور، الذي ما أدرجه الإدغام، وكنت وإن كنت بين الكفّار، عنهم شديد النّفار، وحللت فيهم محلّ مؤمن آل فرعون يدعوهم إلى النجاة وإن دعوه إلى النار، وعدت إلى باب أمير المؤمنين عود الغائب إلى رحله، والآئب إلى أهله، واستقررت به استقرار الجوهر في فصله، والفرع في أصله، وأبان الاستشفاف عن جوهرك الشّفّاف، وخرجت من تلك الهفوات خروج الرياح لا خروج الكفاف، وأعربت السعادة إذ حيّتك بمشيب أسود، وتبع الأماجد غبارك الذي يرفع من طريق السّودد، واعتلقت بعروة الجدّ، فلست من دد ولا منك دد (2)، وضبّرت (3) قلب العيش الأصفى بعد العيش الأنكد لا جرم أن أمير المؤمنين أنساك سيئة أمسك بحسنة يومك، وسما بك إلى أعلى رتب الأولياء وأغناك عن تعرّض سومك، وأنعم بك على قوم ما عرفوا إلا رياسة قومك.
وحضر بحضرة أمير المؤمنين أمين مملكته، ويمين فتكته السيد الأجل الذي أتى الله به سهما إلى مصر وهي كنانته وأفرده بمزيّة السبق فلا حظّ لمساجله إلا أن تدمى بنانته، ورعى الرعيّة منه ناظر لا تلمّ بناظره مراود الهجود، وقام بالملك منه قائم لا يزال يورده موارد الجود، وأغنته يد الغلاب عن لسان الجلاب، ونال نادرة الأمل في نادرة الطّلاب، وجمّت فتكاته من الهرمين إلى الحرمين، وصرّف الرّمح تصريف القلم وكأنه يصول ويصلّ بقلمين، وردّ الله به العدوّ منخذلا، وطالما لقيه فأقام منجدلا، وأضحى به ذيل النعمة منسحبا وستر الأمنة منسدلا، ودبّر الأمور
__________
(1) بهرج الشيء: أباحه. والرغام: التراب.
(2) الدّد والددا: اللهو واللعب. والمراد: لست من أهل اللهو واللعب.
(3) ضبّر الشيء: جمعه.(10/385)
فأمسكها حازما وعقلها متوكّلا فأنهى ما لسلفك عند الأئمة الخلفاء من مزيّة الاصطفاء، وما لك في نفسك من الحسنات التي ما برحت بارحة الخفاء، وما اطّلع عليه من خلالك التي ما أخلّت بمنقبة، وأفعالك التي ما تغايرت في يوم ذي نعمة ولا يوم ذي مسغبة، وما لك من وثائق العقود، وما فيك من الأوصاف المؤكّدة لعلائق السّعود، وقرّر لك الخدمة في كذا وكذا خرج أمر أمير المؤمنين إليه بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجلّ لك بالخدم المذكورة وهي التي فرّقت لسلفك وجمعت لديك، كما أن محاسنهم المفرّقة منتظمة العقود عليك:
ليكمّل لك ولايتي الثغر والسيادة في حال، وليسدّ بك ثغر الجهاد وثغر الإمحال، ولتقوم [في هذا] (1) مقام الجحفل الجرّار وفي ذلك مقام الحيا (2) الهطّال، ولتكون فرائد الإنعام عندك تؤاما (3)، وليجعل ابتداء تصرّفك لغيرك تماما، وليختصر لك طريق الكمال، وليجري بك في ميدان الشكر طليق الآمال، فتقلّد ما قلّدته منهما عاملا بتقوى الله التي هي مصالح الأعمال، وميدان الإتحاف والإجمال، وسبب النجاة في الابتداء وعند المآل قال الله سبحانه في كتابه الذي لم يجعل له عوجا:
{وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} (4).
وابسط العدل على من يحويه هذا الثغر الذي هو ثغر الثّغور الباسم، وأولاها بأن تكون أيامه بأوامر الله وأمر أمير المؤمنين مواسم ففيه من صدور المحافل، وقلوب الجحافل، وعيون المدارس، وأعيان الفوارس، وتجّار الدنيا والآخرة، وأخبار الأمة المقيمة والمسافرة، ووفور مكارم عدل أمير المؤمنين التي هي بالرّجاء واردة وبالرضا صادرة، من يؤثر أن يكون فضل السّكون لهم شاملا، ورداء الأمن عليهم سابلا، وسحاب الإنعام عليهم هاطلا، وحالهم في الاتّساق لا متغيّرا ولا
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الحيا: المطر.
(3) التؤام: جمع توأم. قال في اللسان عن الأزهري: «وهو من الجمع العزيز مثل: غنم رباب وإبل ظؤار». (اللسان: 12/ 61).
(4) الطلاق / 4.(10/386)
حائلا (1)، وساو في الحق بين أبعدهم وأقربهم، ومقيمهم ومتغرّبهم، واعتمد منهم من تقدّم ذكره بما يرهف في الطاعة خاطره ويشحذه، ويصونه من تحيّف الأيدي الجائرة وينقذه، واخصص العلماء بكرامة تعينهم على التعليم، والأعيان بمزيّة توضّح لهم ما لهم من مزيّة التقديم، واكفف عوادي أهل الشّره والشّر، واقمع غلواء (2) من اعتّز بغير الله واغترّ، وتوخّهم بإقامة المهابة وبسطها، وكفّ الشوكة وقطّها، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، وأقم الحدود إقامة من يثاب عليها ويؤجر، وتفقّدها على حدّها غير داخل في الأقلّ ولا خارج إلى الأكثر، وأذك العيون على من يلمّ بسواحل الثغر من أسطول العدو اللعين ومراكبه، واحجز باليقظة بينه وبين تلصيص مطالبه، وأمر أهله باتخاذ الأسلحة التي يعزّ الله بها جانبه، ويذلّ مجانبه، وتبلغ العدو اللعين من ذكرها ما يعملها وهي في أيديهم موفرّة، ويبذلها في مقاتلهم وبيوتهم بها معمّرة قال الله سبحانه في آياته المتلوّة:
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (3).
واعتمد للأعمال البحريّة مثل ما تقدّم شرحه من تأمين الأخيار وترويع الأشرار، وتتبّع كل مريب مستخف بالليل وسارب بالنّهار ومن ظفرت به قد حارب الله في أرضه، وصار قتله من فرضه، فنفّذ حكم الله فيه في آية السيف وأمضه، وادع إلى عمارة بلادها وتخفّرها، وتفقّد المصالح بها وتكثّرها، وإطابة أنفس المزارعين بما تخفّفه عنهم من وطأة كانت ثقيلة، وتقلّله عنهم من مغارم لم تكن قليلة فما عمرت البلاد بمثل النزاهة التي هي شيمتك المعتادة، والمعدلة التي هي من خلالك مستفادة، واعتمد كلّا من النائب في الحكم العزيز والناظر في الدعوة الهاديّة والمشارف بالثغر والعمّال برعاية تحفظ مراتبهم، وتلحظ مطالبهم، وتنفّذ الأحكام، وتبلغ بما ينظرون فيه من المصالح غايات التّمام، وتعزّ طائفة
__________
(1) الحائل: المتغيّر.
(2) الغلواء: الغلوّ. وغلواء الشباب: أوله وحدّته.
(3) الأنفال / 60.(10/387)
الإيمان، وتظهر عليهم أثر الإحسان، وتستدرّ حلب الأموال، وتستديم عمارة الأعمال، وتقضي بمواصلة الحمول وتحصيل الغلال، وتعود بها عليك عوائد الأجر والجمال ومثلك اشتهارا أيّها الأمير من ولّي فلم تطل له الوصايا التي يحتاج إلى إطالتها سواه، ويوثق بما يذكيه من عيون حزم غير غوافل ولا سواه، ويحقّق أن تقواه رقيب سرّه ونجواه، وأن أمير ورعه يحكم على أسير هواه والله سبحانه يجعل نعمة أمير المؤمنين لديك مأمولة الدّوام موصولة الحبل، ويتمّها عليك كما أتمّها على أبويك من قبل إن شاء الله تعالى.
قلت: وعلى هذا النمط كانت سجلّات سائر ولايات أعمال الديار المصرية، فكانت تكتب على نظير ذلك في الوجه القبليّ ولاية الجيزيّة، وولاية الإطفيحيّة، وولاية البهنساويّة، وولاية البوصيريّة، وولاية الأشمونين والطّحاويّة، وولاية السّيوطية، وولاية الإخميميّة، وولاية الفيّوم، وولاية واح البهنسا، وولاية الواح الداخلة، وولاية الواح الخارجة (1). ومن الوجه البحري ولاية القليوبية، وولاية منية تردي وهي منية غمر، وولاية المرتاحية، وولاية الدّقهلية، وولاية مدينة تنّيس وبها كانت دار الطّراز وولاية المنوفيّة، وولاية جزيرة بني نصر وربما أضيفت إلى المنوفية وعبّر عنهما بالمنوفيّتين، وولاية جزيرة قوسينيّا (2)، وولاية البحيرة، وولاية ثغر رشيد المحروس، وولاية ثغر نستراوه (3)، وولاية ثغر دمياط، وولاية الفرما، بساحل الشامي فيما دون العريش.
وأما البلاد الشاميّة فقد تقدّم أنها كانت خرجت عنهم وتملّكت الفرنج غالب
__________
(1) في الانتصار: 5/ 11هي ثلاث واحات: الخاص والداخلة والخارجة. وعدد مدن كل منها.
(2) في معجم البلدان: بفتح القاف وسكون الواو وفتح السين المهملة وكسر النون وياء مشدّدة وألف مقصورة. وفي الانتصار «قويسنا». (معجم البلدان: 4/ 413والانتصار: 5/ 82).
(3) كذا ضبطها أيضا في الانتصار. وفي معجم البلدان «نسترو». بالفتح ثم السكون، وتاء مثناة من فوقها وراء مضمومة وراء ساكنة.(10/388)
سواحل الشام، ولم يبق معهم إلا ساحل عسقلان وما قاربه وكان مقرّ الولاية بها في عسقلان (1).
وهذه نسخة سجل بولايتها، وهي:
أما بعد، فإنّ أولى ما وفّر أمير المؤمنين حظّه من العناية والاشتمال، واعتقد العكوف على مصالحه من أشرف القربات وأفضل الأعمال، وأسند أمره إلى من يستظهر على الأسباب المعيية بحسن صبره، وعدق النظر فيه بمن لا يشكل عليه أمر لمضائه ونفاذه ومعرفته وخبره، ما كان حرزا للمرابطين ومعقلا، وملتحدا للمجاهدين وموئلا، وموجبا لكلّ مجتهد أن يكون لدرجات الثواب مرتقيا متوقّلا، عملا بالحوطة للإسلام الذي جعله الله في كفالته وضمانه، وتماديا على سياسته التي أقرّ بفضلها إقرار الضرورة كافّة ملوك زمانه، وحرصا على الأفعال التي لم يزل مقصودا فيها بألطاف الله تعالى وتوفيقه، وتبتّلا للأمور التي أرشده الله سبحانه في تدبيرها إلى منهج الصواب وطريقه، ومضاعفة من الحسنات عند أوليائه أهل الحق وحزبه وفريقه.
ولما كانت مدينة عسقلان حماها الله تعالى غرّة في بهيم الضّلال والكفر، وحرما يمتاز عن البلاد التي كلّمها الشّرك بالناب والظّفر، وهو من أشرف الثّغور والحصون، وأهله أنصار الدّين القيّم المحفوظ المصون، وكنت أيّها الأمير من أعيان أمراء الدولة وكبرائهم، ووجوه أفاضلهم ورؤسائهم، ولك في الطاعة استرسال الأمن في مواطن المخاوف، وفي الذّبّ عنها وحمايتها مواقف كريمة لا توازى بالمواقف وقد وصلت في ولائها القديم بالحديث والتالد بالطريف وحين ولّيت مهمّات استنجد فيها بعزمك، واستعين عليها بحزمك، تهيّب الأعداء فيها ذكر اسمك، وكان من آثارك فيها ما شهر غفلها (2) بوسمك، فلا يباريك مبار إلا
__________
(1) مدينة بالشام من أعمال فلسطين على ساحل البحر بين غزة وبيت جبرين. (معجم البلدان:
4/ 122).
(2) الغفل: ما لا علاقة فيه ولا سمة عليه.(10/389)
أربيت عليه وزدت، ولا يناويك مناو إلا أنسيت ذكره أو كدت فكم لك من مقام محمود يسير ثناؤه ووصفه، وكم لك من ذكر جميل يفوح أرجه ويتضوّع عرفه، وكم لك من مجال في المشايعة لا يقصر أمده ولا يكبو طرفه والسيد الأجلّ الأفضل الذي عظّم الله قدره ورفع مجده، وجعله في الغضب لتوحيده دون جميع البريّة أمّة وحده، وألهمه التجرّد لنصرة الإيمان فقام بحقّ الله لمّا غفل الملوك وقعدوا، وأمدّه بموادّ السعد فاستيقظ بمفرده حين ناموا عن استخلاصه مما عراه ورقدوا، وأضحى انتصابه آية أظهرها الله للملّة، وغدا انتصاره معجزة حسم بها في رفع منار الدّين كلّ علة، فهمّته مصروفة على ما يعزّ الشريعة الحنيفية، وعزمته موقوفة على الدّفع عنها بأطراف الذّوابل وحدّ المشرفية، فبلّغه الله في كلّ ما يحاوله ما يضاعف فخره، وأعانه على ما يقدّمه لمعاده ويجعله في الآخرة ذخره، بحوله ومنّه، وطوله وفضله.
فلا يزال هذا السيد الأجلّ يثني عليك ثناء يخلّد لك ولعقبك مجدا باقيا، ويحبوك من الوصف والإطراء بما يجعلك في مراتب الوجاهة والنّباهة ساميا راقيا، ويرشّحك من الخدم لأجلّها قدرا، ويطلع منك في آفاق سمائها بدرا، ويجعل لك بما يؤهّلك له صيتا ويسيّر لك ذكرا وحين جدّد شكرك، وأوصل على عادته ما يشيّد أمرك، قرّر لك ولاية «ثغر عسقلان» حماه الله تعالى الذي هو ثغر الدّين، وكنانة الموحّدين، ووزر الأتقياء المجاهدين، وشجى في صدور الكفرة المعاندين فأمضى أمير المؤمنين ما رآه من هذا التقرير، وعلم أن البركة مضمونة فيما يتكلّفه من التدبير، وخرج أمره إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بتقليدك ولاية هذا الثغر المحروس وعمله، وما هو منتظم معه من سهله وجبله، فاعرف قدر هذه النعمة التي رفعتك على جميع الأمراء، وأغناك فيها حسن رأي أمير المؤمنين ووزيره السيد الأجلّ الأفضل عن الوسائط والسّفراء، وأحلّتك أعلى مراتب الرّفعة والسّموّ، وأحظتك مع بعد الدّار بمزيّة القرب من قلبيهما والدّنوّ فتقلّد ما قلّدك أمير المؤمنين من هذه الولاية الشامخة المحلّ، التي غدا محظورها على غيرك من المباح لك المحلّ، وتلقّها من الشكر بما يجعلها إليك آوية، ولديك مقيمة ثاوية،
واعمل فيها بتقوى الله التي إذا أظلمت الخطوب طلعت في ليلها فجرا، قال الله عز من قائل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئََاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} (1).(10/390)
فلا يزال هذا السيد الأجلّ يثني عليك ثناء يخلّد لك ولعقبك مجدا باقيا، ويحبوك من الوصف والإطراء بما يجعلك في مراتب الوجاهة والنّباهة ساميا راقيا، ويرشّحك من الخدم لأجلّها قدرا، ويطلع منك في آفاق سمائها بدرا، ويجعل لك بما يؤهّلك له صيتا ويسيّر لك ذكرا وحين جدّد شكرك، وأوصل على عادته ما يشيّد أمرك، قرّر لك ولاية «ثغر عسقلان» حماه الله تعالى الذي هو ثغر الدّين، وكنانة الموحّدين، ووزر الأتقياء المجاهدين، وشجى في صدور الكفرة المعاندين فأمضى أمير المؤمنين ما رآه من هذا التقرير، وعلم أن البركة مضمونة فيما يتكلّفه من التدبير، وخرج أمره إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بتقليدك ولاية هذا الثغر المحروس وعمله، وما هو منتظم معه من سهله وجبله، فاعرف قدر هذه النعمة التي رفعتك على جميع الأمراء، وأغناك فيها حسن رأي أمير المؤمنين ووزيره السيد الأجلّ الأفضل عن الوسائط والسّفراء، وأحلّتك أعلى مراتب الرّفعة والسّموّ، وأحظتك مع بعد الدّار بمزيّة القرب من قلبيهما والدّنوّ فتقلّد ما قلّدك أمير المؤمنين من هذه الولاية الشامخة المحلّ، التي غدا محظورها على غيرك من المباح لك المحلّ، وتلقّها من الشكر بما يجعلها إليك آوية، ولديك مقيمة ثاوية،
واعمل فيها بتقوى الله التي إذا أظلمت الخطوب طلعت في ليلها فجرا، قال الله عز من قائل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئََاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} (1).
واشمل أهل هذه الولاية بالمماثلة بينهم فيما كان حقّا، ولا تجعل بين الشريف والمشروف في الواجب فرقا وأمر بالمعروف وابعث عليه، وانه عن المنكر وامنع من الإجراء إليه وأقم الحدود مستمرّا في إقامتها على العادة، ومتوقّيا من نقص ما يؤمر به منها أو زيادة، واصرف النصيب الأجزل، والأوفر الأكمل، إلى الاستيقاظ للعدوّ المخذول المجاور لك والبحث عن أخباره وعمل المكايد له، ومواصلته بما يديم مخافته ووجله، واغزه في عقر داره، واقصده بما يقضي بخفض مناره، ولا تهمل تسيير السّرايا إليه، وإطلاع الطلائع بالمكاره عليه، واعتمده بما يشرّد عنه لذيذ منامه، وازرع في قلبه خوفا يهابك به في يقظته وفي أحلامه، وافعل في أمر من يجرّد إليك من عسكر البدل المنصور في تقرير نوب المناسر (2)، ولتتخيّر لها كلّ متوثّب على الإقدام متجاسر، ما تقتضيه الحال مما أنت أقوم لمعرفته، وأهدى الناس في سبيله ومحجّته، ووفّر حظّ القاضي المكين متولّي الحكم والمشارفة من إعزازك وإكرامك، واشتمالك واهتمامك، ورعايتك ومعاضدتك، والعمل في ذلك بما هو معروف من سياستك، ومشهور من رياستك، وكذلك المستخدم في الدّعوة الهاديّة ثبتها الله تعالى، فاعتمده بما يعزّ أمره، ويبسط أمله ويشرح صدره، وضافر على أمر المال، ووفور الاستغلال، والعمل في ذلك بما فيه أكبر حظّ للديوان، واجر على ما هو مشهور عنك في ولايتك من حسن السياسة، والعمل بقضايا المصلحة، والتبتّل لما تستقيم به أمور الخدمة، وحفظ أهل السلامة وأرباب الدين، وإعمال السيف في مستوجبيه من المفسدين والمتمرّدين، مما أنت أنفذ الولاة فيه، وأعلمهم بما
__________
(1) الطلاق / 5.
(2) المناسر: طلائع الجيش.(10/391)
يوجبه الصواب ويقتضيه فاعلم هذا واعمل به، وطالع مجلس النظر بما تجب المطالعة بمثله إن شاء الله تعالى (1).
المذهب (2) الثاني
(أن يفتتح ما يكتب في الولاية بلفظ «هذا ما عهد عبد الله ووليّه فلان أبو فلان، الإمام الفلانيّ أمير المؤمنين، لفلان الفلانيّ حين ولّاه كيت وكيت» من غير تعرّض لتحميد في أوّل ما يكتب ولا في أثنائه ثم يقال: «أمره بكذا وأمره بكذا» على قاعدة ما كان يكتب في العهود بديوان الخلافة ببغداد، وهو قليل الاستعمال عندهم للغاية القصوى، ولم أظفر منه بغير هذا العهد) وهذه نسخة عهد على هذه الطريقة، كتب به عن الحاكم بأمر الله الفاطميّ، للحسين بن عليّ بن النّعمان (3)، بقضاء الديار المصرية وأجناد الشام وبلاد المغرب، مضافا إلى ذلك النظر في دور الضرب والعيار وأمر الجوامع والمساجد، وهو:
هذا ما عهد عبد الله ووليّه المنصور أبو عليّ الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، للقاضي حسين بن عليّ بن النّعمان حين ولّاه الحكم بالمعزّيّة القاهرة ومصر، والإسكندرية وأعمالها، والحرمين حرسهما الله تعالى، وأجناد الشام، وأعمال المغرب، وإعلاء المنابر، وأئمّة المساجد الجامعة، والقومة عليها والمؤذّنين بها، وسائر المتصرّفين فيها وفي غيرها من المساجد، والنظر في مصالحها جميعا،
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية «في بعض النسخ هنا زيادة نصها: وأما الوظائف الدينية فمنها. ثم ترك بياضا بقدر نصف صفحة.
(2) في الأصول «الضرب الثاني» والصواب ما أثبتناه، وهو كذلك في الطبعة الأميرية.
(3) قال في وفيات الأعيان: «ثم قلّد الحاكم صاحب مصر القضاء أبا عبد الله الحسين بن علي بن النعمان الذي كان ينوب عن عمه القاضي محمد أبي عبد الله. وكانت ولاية الحسين لست خلون من شهر ربيع الأول سنة 389هـ. وفي سنة 395هـ أمر الحاكم بضرب عنقه واحراق جثته. (ابن خلكان: 5/ 422).(10/392)
ومشارفة دار الضّرب (1) وعيار الذهب والفضّة (2)، مع ما اعتمده أمير المؤمنين وانتحاه، وقصده وتوخّاه: من اقتفائه لآثاره، وانتهائه إلى إيثاره، في كلّ عليّة للدولة ينشرها ويحييها، ودنيّة من أهل القبلة يدثرها ويعفّيها وما التوفيق إلّا بالله وليّ أمير المؤمنين عليه توكّله في الخيرة له ولسائر المسلمين فيما قلّده إيّاه، من أمورهم وولّاه.
أمره أن يتّقي الله عز وجلّ حقّ التقوى، في السّر والجهر والنّجوى، ويعتصم بالثّبات واليقين والنّهى، وينفصم من الشّبهات والشكوك والهوى: فإنّ تقوى الله تبارك وتعالى موئل لمن وأل إليها حصين، ومعقل لمن اقتفاها أمين، ومعوّل لمن عوّل عليها مكين، ووصيّة الله التي أشاد بفضلها، وزاد في سناها بما عهد أنه من أهلها، فقال تبارك وتعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَكُونُوا مَعَ الصََّادِقِينَ} (3).
وأمره أن لا ينزل ما ولّاه أمير المؤمنين [إيّاه] (4) من الأحكام في الدّماء والأشعار والأبشار، والفروج والأموال، [عن] (5) منزلته العظمى من حقوق الله المحرّمة، وحرماته المعظّمة، وبيّناته المبيّنة في آياته المحكمة، وأن يجعل كتاب الله عز وجلّ وسنّة جدّنا محمد خاتم الأنبياء، والمأثور عن أبينا عليّ سيد الأوصياء، وآبائنا الأئمة النّجباء صلّى الله على رسوله وعليهم قبلة لوجهه إليها يتوجّه، وعليها يكون (6) المتّجه، فيحكم بالحق ويقضي بالقسط، ولا يحكّم
__________
(1) كانت دار الضرب من منشآت الفاطميين، بناها المأمون بن البطائحي وزير الآمر سنة 315هـ بجهة القشاشين وسميت بالدار الآمرية نسبة إلى الخليفة الآمر بالله. وقرر المأمون دور الضرب بالإسكندرية وقوص وعسقلان ثم لما بنى الناصر محمد بن قلاوون قصره المعروف به جعل دار الضرب في وسطه. (المقريزي: 1/ 406والصبح: 3/ 439348و 4/ 35).
(2) انظر الصبح: 12/ 471339.
(3) التوبة / 119.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(5) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(6) في الأصل «إلينا يتوجه وعليها لا يكون متجه» وهو غير مستقيم. والتصحيح من الطبعة الأميرية.(10/393)
الهوى على العقل، ولا القسط على العدل، إيثارا لأمر الله عز وجلّ حيث يقول:
{فَاحْكُمْ بَيْنَ النََّاسِ بِالْحَقِّ وَلََا تَتَّبِعِ الْهَوى ََ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ لَهُمْ عَذََابٌ شَدِيدٌ بِمََا نَسُوا يَوْمَ الْحِسََابِ} (1): {وَلََا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى ََ أَلََّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ََ وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ خَبِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ} (2).
وأمره أن يقابل ما رسمه أمير المؤمنين وحدّه لفتاه برجوان (3)، من إعزازه والشّدّ على يده، وتنفيذ أحكامه وأقضيته والقصر من عنان كلّ متطاول على الحكم، والقبض من شكائمه، بالحق المفترض لله جل وعز ولأمير المؤمنين عليه: من ترك المجاملة فيه، والمحاباة لذي رحم وقربى، ووليّ للدولة أو مولى فالحكم لله ولخليفته في أرضه، والمستكين له لحكم الله وحكم وليّه يستكين، والمتطاول عليه، والمباين للإجابة إليه، حقيق بالإذالة والنّهوض (4) فليتق الله أن يستحيي من أحد في حق له: {وَاللََّهُ لََا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} (5).
وأمره أن يجعل جلوسه للحكم في المواضع الضاحية للمتحاكمين ويرفع عنهم حجابه، ويفتح لهم أبوابه، ويحسن لهم انتصابه، ويقسم بينهم لحظه ولفظه قسمة لا يحابي فيها قويّا لقوّته، ولا يردي فيها ضعيفا لضعفه، بل يميل مع الحقّ ويجنح إلى جهته، ولا يكون إلا مع الحقّ وفي كفّته، ويذكر بموقف الخصوم ومحاباتهم بين يديه موقفه ومحاباته بين يدي الحكم العدل الدّيان:
__________
(1) ص / 26.
(2) المائدة / 8.
(3) هو أبو الفتوح برجوان الذي ينسب إليه حارة برجوان بالقاهرة كان من خدام العزيز صاحب مصر ومدبري دولته، وكان نافذ الأمر مطاعا، نظر في أيام الحاكم في ديار مصر والحجاز والشام والمغرب وأعمال الحضرة وذلك في سنة 388هـ. قتل سنة 390هـ في القصر بالقاهرة بأمر الحاكم. (ابن خلكان: 1/ 270).
(4) من نهض فلانا نهضا: ظلمه.
(5) الأحزاب / 53.(10/394)
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مََا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمََا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهََا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللََّهُ نَفْسَهُ} (1).
وأمره أن ينعم النظر في الشّهود الذين إليهم يرجع وبهم يقطع في منافذ القضايا ومقاطع الأحكام، ويستشفّ أحوالهم استشفافا شافيا، ويتعرّف دخائلهم تعرّفا كافيا، ويسأل عن مذاهبهم وتقلّبهم في سرهم وجهرهم، والجليّ والخفيّ من أمورهم فمن وجده منهم في العدالة والأمانة، والنّزاهة والصّيانة، وتحرّي الصّدق، والشهادة بالحق، على الشّيمة الحسنى، والطريقة المثلى، [أبقاه] (2)
وإلا كان بالإسقاط للشهادة أولى، وأن يطالع حضرة أمير المؤمنين بما يبدوله فيمن يعدّله أو يردّ شهادته ولا يقبله: ليكون في الأمرين على ما يحدّ له ويمثّله، ويأمن فيما هذه سبيله كلّ خلل يدخله إذ كانت الشهادة أسّ الأحكام، وإليها يرجع الحكّام، والنظر فيمن يؤهّل لها أحقّ شيء بالإحكام قال الله تقدّست أسماؤه:
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوََّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدََاءَ لِلََّهِ وَلَوْ عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوََالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (3). وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لََا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذََا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرََاماً} (4).
وأمره أن يعمل بأمثلة أمير المؤمنين له فيمن يلي أموال الأيتام والوصايا وأولي الخلل في عقولهم، والعجز عن القيام بأموالهم، حتى يجوز أمرها على ما يرضى الله ووليّه: من حياطتها وصيانتها من الأمناء عليهم، وحفظهم لها، ولفظهم لما يحرم ولا يحلّ أكله منها، فيتبوّأ عند الله بعدا ومقتا، آكل الحرام والموكل له سحتا (5) قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوََالَ الْيَتََامى ََ ظُلْماً إِنَّمََا يَأْكُلُونَ فِي}
__________
(1) آل عمران / 30.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية، وهي ضرورية كما لا يخفى.
(3) النساء / 135.
(4) الفرقان / 72.
(5) السّحت: ما خبث وقبح من المكاسب فلزم عنه العار، كالرشوة، ونحوها.(10/395)
{بُطُونِهِمْ نََاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} (1).
وأمره أن يشارف أئمة المساجد والقومة عليها، والخطباء بها والمؤذّنين فيها، وسائر المتصرّفين في مصالحها، مشارفة لا يدخل معها خلل في شيء يلزم مثله: من تطهير ساحتها وأفنيتها، والاستبدال بما تبذّل من حصرها في أحيانها، وعمارتها (2) بالمصابيح في أوقاتها، والإنذار بالصّلوات في ساعاتها، وإقامتها لأوقاتها، وتوفيتها حقّ ركوعها وسجودها، مع المحافظة على رسومها وحدودها، من غير اختراع ولا اختلاع لشيء منها: {إِنَّ الصَّلََاةَ كََانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتََاباً مَوْقُوتاً} (3).
وأمره أن يرعى دار الضّرب وعيار الذهب والفضّة بثقات يحتاطون عليهما من كل لبس، ولا يمكّنون المتصرّفين فيهما من سبب يدخل على المعاملين بهما شيئا من الوكس (4) إذ كان بالعين والورق تتناول الرّباع (5)، والضّياع والمتاع، ويبتاع الرقيق، وتنعقد المناكح وتتقاضى الحقوق فدخول الغش والدّخل فيما هذه سبيله جرحة للدّين، وضرر على المسلمين، يتبرّأ إلى الله منهما أمير المؤمنين.
وأمره أن يستعين على أعمال الأمصار التي لا يمكنه أن يشاهدها بأفضل وأعلم وأرشد وأعمد من تمكنه الاستعانة به على ما طوّقه أمير المؤمنين في استعماله. قال الله عزّ وجل: {إِنََّا عَرَضْنَا الْأَمََانَةَ عَلَى السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبََالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهََا وَأَشْفَقْنَ مِنْهََا وَحَمَلَهَا الْإِنْسََانُ إِنَّهُ كََانَ ظَلُوماً جَهُولًا} (6).
__________
(1) النساء / 10.
(2) كذا بالأصل. وفي هامش الطبعة الأميرية: «الأولى: وإضاءتها».
(3) النساء / 103.
(4) الوكس: الخسارة.
(5) الرباع: نوع من النقد استحدثه الخليفة المأمون العباسي وسماه بهذا الاسم وضرب منه دراهم ودنانير. (التعريف بمصطلحات الصبح عن شذور العقود للمقريزي).
(6) الأحزاب / 22.(10/396)
هذا ما عهد أمير المؤمنين فأوف بعهده، تهتد بهديه، وترشد برشده وهذا أوّل إمرة أمّرها لك فاعمل بها، وحاسب نفسك قبل حسابها، ولا تدع من عاجل النظر لها أن تنظر لمآبها: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجََادِلُ عَنْ نَفْسِهََا وَتُوَفََّى كُلُّ نَفْسٍ مََا عَمِلَتْ وَهُمْ لََا يُظْلَمُونَ} (1).
وكتب في يوم الأحد لسبع ليال بقين من صفر (2) سنة 389.
المذهب الثالث من مذاهب كتّاب الدولة الفاطميّة
(أن يفتتح ما يكتب في الولايات بخطبة مبتدأة بالحمد لله (3) كما يكتب في أعلى الولايات في زماننا، ويقال: «يحمده أمير المؤمنين على كذا وكذا، ويسأله أن يصلّي على محمد وآله، وعلى جدّه عليّ بن أبي طالب» ثم يقال: «وإنّ أمير المؤمنين لم يزل ينظر فيمن يصلح لهذه الولاية، وإنه لم يجد من هو كفؤ لها غير المولّى، وإنه ولّاه تلك الوظيفة» ثم يوصّى بما يليق به من الوصية، ثم يقال: «هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عليك، فاعمل به» أو نحو ذلك مما يعطي هذا المعنى) وقد أورد عليّ بن خلف من إنشائه في كتابه «موادّ البيان» (4) المؤلّف في ترتيب الكتابة للدولة الفاطمية عدّة تقاليد لأرباب السّيوف.
منها تقليد في رسم ما يكتب للوزير، [وهو] (5):
الحمد لله المنفرد بالملكوت والسلطان، المستغني عن الوزراء والأعوان،
__________
(1) النحل / 111.
(2) ذكر ابن خلكان هذا التاريخ على نحو مختلف. راجع ص 392الهامش: 3من هذا الجزء.
(3) قال القلقشندي في مآثر الإنافة: 3/ 192 «وهو أسلوب نادر الوقوع فيما كتب به عن الخلفاء، لم يعرف منه إلا عهد الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب بمملكة الديار المصرية، وعليه أورد علي بن خلف مثل ما يكتب عنهم في الولايات، وتبعهم ملوك الديار المصرية من بني أيوب».
(4) في كشف الظنون «موارد البيان لعلي بن خلف بن عبد الوهاب، الكاتب».
(5) الزيادة يقتضيها ما درج عليه الكاتب.(10/397)
خالق الخلق بلا ظهير، ومصوّرهم في أحسن تصوير، الذي دبّر فأتقن التدبير، وعلا عن المكلّف والمشير، المانّ على عباده بأن جعلهم بالتوازر إخوانا، وبالتظافر أعوانا، وأفقر بعضهم إلى بعض في انتظام أمورهم، وصلاح جمهورهم.
يحمده أمير المؤمنين أن استخلفه في الأرض، وناط به أسباب البرم والنقض، واسترعاه على بريّته، واستخلصه لخلافته، وقيّضه لإعزاز الإسلام، وحياطة الأنام، وإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام، ويسأله الصلاة على سيدنا محمد خاتم الأنبياء، وخيرة الأصفياء، المؤيّد فأفضل الظّهراء، وأكمل الوزراء:
عليّ بن أبي طالب المتكفّل في حياته، بنصره وإظهار شريعته، والقائم بعد وفاته، مقامه في أمّته، صلّى الله عليهما،، وعلى الأئمة من ذرّيتهما، مفاتيح الحقائق، ومصابيح الخلائق، وسلّم، وشرّف وكرّم.
وإنّ الله تعالى نظر لخلقه بعين رحمته، وخصّ كلّا منهم بضرب من ضروب نعمته، وأقدرهم بالتعاضد، على انتظام أمورهم الوجودية، وأوجدهم السّبل بالترافد، إلى استقامة شؤونهم الدّنيويه: لتنبجس عيون المعاون بتوازرهم، وتدرّ أخلاف المرافق بتظافرهم.
وأولى الناس باتّخاذ الوزراء، واستخلاص الظّهراء، من جعله الله تعالى إلى حقّه داعيا، ولخلقه راعيا، ولدار الإسلام حاميا، وعن حماه مراميا، واستخلفه على الدّنيا وكلّفه سياسة المسلمين والمعاهدين، ولذلك سأل موسى عليه السلام وهو القويّ الأمين، في استخلاص أخيه هارون لوزارته، وشدّ أزره بموازرته، فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هََارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} (1)، واستوزر محمد صلى الله عليه وسلم وهو المؤيّد المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ابن عمه عليّا سيد الأوصياء، بدليل قوله له: «أنت منّي كهارون من موسى
__________
(1) طه / 29.(10/398)
إلا أنّه لا نبيّ بعدي» لأن الإمام لو تولّى كلّ ما قرب وبعد بنفسه، وعوّل في حيطته على حواسّه، لنصّ ذلك بتطرّق الخلل، ودخول الوهن والشّلل وإنما تستعين الأئمة على ما كفّلها الله بكفاة الأعوان، وأهل النّصرة في الأديان، وذوي الاستقلال والتشمير، والمعرفة بوجوه السياسة والتدبير، والخبرة بمجاري الأعمال، وأبواب الأموال، ومصالح الرجال.
وإنّ أمير المؤمنين لم يزل يرتاد لوزارته حقيقا بها مستحقّا نعتها، جامعا بين الكفاية والغناء، والمناصحة والولاء، والأبوّة والاختصاص، والطاعة والإخلاص، والنّصرة والعزم، وأصالة الرأي والحزم، ونفاسة السياسة والتدبير، والنّظر بالمصلحة في الصغير والكبير، والاحتيال والتأديب، وملابسة الأيّام والتجريب، والانتماء إلى كريم المناجب، بضمير المناصب، ويكّرر في الاختيار تقليده (1)، ويجيل في الانتقاء تأمّله وتدبّره. وكلّما عرضت له مخيلة قمن (2) توافق إيثاره، أخلف نوءها، وكلما لا حت له بارقة تطابق اختياره، خبا ضوءها، حتى انتهت رويّته إليك، وأوقفه ارتياده عليك، فرآك لها من بينهم أهلا، وبتقمّص سربالها أولى، وبالاستبداد بإمرتها أحقّ وأحرى: لاشتمالك على أعيان الخصائص التي كان زياد [لها] (3) جامعا، وحلولك في أعيان المناقب التي لم تزل ترومها متحلّيا بفرائدها، وما شهرت به من إفاضة العدل والإقساط، وإغاضة الجور والإشطاط، وإنالة الحقّ والإنصاف، وإزالة الظّلم والإجحاف، ومراعاة النّصح بإنسانك شاهدا، ومناجاته بحذارك جاهدا، ولنهوضك بالخطب إذا ألمّ وأشكل، والحادث إذا أهمّ وأعضل، وتفرّدك بالمساعي الصالحة، والآثار الواضحة، والطرائق الحميدة، والمذاهب السّديدة، والتحلّي بالنّزاهة والظّلف، والعطل من
__________
(1) لعله «تخيّره» كما في هامش الطبعة الأميرية.
(2) القمن والقمين: الخليق والجدير بالشيء.
(3) الزيادة يقتضيها السياق.(10/399)
الطّبع والنّطف (1)، وفضل السّيرة، وصدق السّريرة، ومحبة الخاصّة والعامّة، والمعرفة بقدر الأمانة، والاضطلاع بالصّنيعة، والحفظ للوديعة.
فرأى أمير المؤمنين برأيه فيما يريه، ويقضي له بالصلاح فيما يعزم عليه ويمضيه، ويسدّد مراميه ومساعيه، ويتعهّده في جميع مقاصده بلطف تحلو ثماره، وتحسن عليه وعلى الكافّة آثاره، أن قد ولّاك النظر في مملكته، وأعمال دولته:
برّها وبحرها، وسهلها ووعرها، وبدوها وحضرها، وردّ إليك سياسة رجالها وأجنادها، وكتّابها وعرفائها (2)، ورعيّتها ودواوينها، وارتفاعها ووجوه جباياتها وأموالها، وعدق بك البسط والقبض، والبرم والنّقض، والحطّ والرّفع، والعطاء والمنع، والإنعام والودع، والتصريف والصّرف، ثقة بأن الصواب منوط بما تسدي وتلحم، وتفيض وتنظم، وتنقض وتبرم، وتصدر وتورد، وتقرّر وتأتي وتذر، فلتهنأ هذه النعمة متملّيا بملبسها، ساريا في قبسها، وتلقّها من الشكر بما يسترهنها ويخلّدها، ويقرّها عليك ويؤبّدها، واعرف ما أهّلك له أمير المؤمنين من هذا المقام الأثير، والمحلّ الخطير فإنّما ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وأنت وإن كنت مكتفيا بفضل حصافتك، وثقابة فطنتك، وحسن ديانتك، ووثاقة تجربتك عن التبصير، مستغنيا عن التنبيه والتذكير، فإن أمير المؤمنين لا يمتنع أن يزيدك من مراشده، ما يقفك على سنن الصواب ومقاصده وهو يأمرك بتقوى الله تعالى في سرّك وجهرك، واستشعار خشيته ومراقبته والله قد جعل لمن اتّقاه مخرجا من ضيق أمره وحرجه، ونصب له أعلاما على مناهج فرجه. وأن
__________
(1) الطّبع والنّطف: العيب والفساد والشين.
(2) العريف: يعبر عنه في مصر بالحاشر. وفي التعريف في عقد الذمة أن ينصب على كل جمع عريفا لمعرفة من أسلم منهم ومن مات ومن بلغ من صبيانهم ومن قدم عليهم أو من سافر منهم، وعليه إحضارهم لأداء الجزية أو عند تقديم شكوى من تعدّي الذميّ على أحد من المسلمين ونحو ذلك.
(انظر الصبح: 14/ 362).(10/400)
تستعمل الإنصاف والعدل، وتسبغ الإحسان والفضل، وتلين كنفك، وتظهر لطفك، وتحسن سيرك، وتفيض برّك، وتصفح وتحلم، وتعفو وتكرم، وتبصّر من ترجو صلاحه وتفهّمه، وتنصف من أفرط جماحه وتقوّمه، وتأخذ بوثائق الحزم، وجوامع العزم، والغلظة والشدّة على من طغى ولجّ في غيّه وعتا، وبارز الله وأمير المؤمنين بالخلاف والشّقاق، والانحراف والنّفاق، مستعملا فاضل التدبير عند الموادعة، وفاصل المكافحة عند المقارعة، مصلحا للفاسد، مشتّتا للشارد، مكثّرا لأولياء الدولة وخلصائها، وحاصدا لبغاتها وأعدائها، واعظا مذكّر للغافل، مؤمّنا للمظلوم الخائف، مخيفا للظالم الحائف، مستصلحا للمسيئين، مذكّرا بإحسان المحسنين، متنجّزا لهم الجزاء على بلائهم في الطاعة وآثارهم في الخدمة. وأن تنظر في رجال الدولة على اختلافهم نظرا يسلك بهم سبيل السّداد، ويجري أمورهم على أفضل العرف المعتاد فأما الأماثل والأمراء، والأعيان والرؤساء، فتحفظ على من أحمدت طريقته، وعرف إخلاصه وطاعته، شعار رياسته، وتزيد في تكرمته، وتنتهي به إلى ما تتراءى إليه مواضي همّته وأمّا طوائف الأجناد فتقرّهم على مراتبهم في ديوان الجيش المنصور، وتخصّهم من عنايتك بالنصيب الموفور، وتستخدمهم في سدّ الثّغور وتسديد الأمور، وتراعي وصول أطماعهم إليهم، أوقات الاستحقاق إليهم، وانفاقهم نصاب (1) الوجوب منهم وأما الكتّاب المستخدمون منهم في استخراج الأموال، وعمارة الأعمال، فتخصّ كفاتهم بما تقتضيه كفايتهم، وأمناءهم بما توجبه أماناتهم، وتستبدل بالعاجز الخبيث الطّعمة، والطّبع المستشعر شعار المذمّة: ليتحفظ النّزه المأمون بنزاهته وأمانته، ويقلع الدّنس الخؤون عن دنسه وخيانته، وتأمر من تختاره لخدمة أمير المؤمنين منهم أن يسيروا بالسّير الفاضلة، ويعملوا على الرّسوم العادلة، فلا يضيّعوا حقّا لبيت مال المسلمين، ولا يخيفوا أحدا من المعاملين. وأما الرعيّة، فيأمرك أن تحكم بينها بالسّوية، وتعتمدها بعدل القضية، وترفع عنها نير الجور، وتحميها من ولاة
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية: «المراد قيامهم بما يجب عليهم من استجادة الخيل والسلاح».(10/401)
الظلم، وتسوسها بالفضل والرأفة متى استقامت على الطاعة، وتأدّبت في التّباعة، وتقوّمها متى أجرت إلى المنازح والافتتان، وأصرّت على مغضبة السلطان. وأما الأموال وهي العدّة التي ترهف عزائم الأولياء، وتغض من نواظر الأعداء، فتستخرجها من محقّها، وتضعها في مستحقّها، وتجتهد في وفورها، وتتوفّر على ما عاد بدرورها، وأن تطالع أمير المؤمنين بذرّة وجلّه، وعقد أمرك وحلّه، وتنهي إليه كل ما تعزم على إنهائه، وترجع فيه إلى آرائه: ليكرمك من موادّ تبصيره وتعريفه، ويزيدك من هدايته وتوقيفه، بما يفضي بك إلى جادّة الخير وسبيله، ويوضّح لك علم النّجاح ودليله.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك: وقد أودعه من تلويح الإشارة، ما يكتفى به عن تصريح العبارة، ثقة بأنك الأريب الألمعيّ، والفطن اللّوذعيّ، الذي تنتهي به متون التذكير إلى أطرافه وحواشيه، وتفضي به هوادي القول إلى أعجازه وتواليه.
فتقلّد ما قلدك أمير المؤمنين، وكن عند حسن ظنّه في فضلك، وصدّق مخيلته في كمالك، والله تعالى يعرّف أمير المؤمنين وجه الخيرة في تصيير أمره إليك، وتعويله في مهماته عليك، ويوفقك لشكر الموهبة في استخلاصك، والمنحة في اجتبائك، وينهضك بما حمّلك من أعباء مظاهرته، وجشّمك من أثقال دولته، ويسدّدك إلى ما يدرّ عليك أخلاف [نعمته] (1)، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
ومنها ما أورده في رسم تقليد زمّ الأقارب: وهو التقدمة على أقارب الخليفة، وهذه نسخته:
الحمد لله الذي ابتدأ بنعمته ابتداء واقتضابا، وأعادها جزاء وثوابا، وميّز من
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.(10/402)
اختصّه بهداية خلقه، واستخلصه لإظهار حقّه، بأضفاها عطافا، وأصفاها نطافا (1)، وأحسنها شعارا، وأجملها آثارا، واستخرجهم من أطيب البريّة أعراقا، وأطهرها شيما وأخلاقا، وأقدمها سؤددا ومجدا، وأكرمها أبا وجدّا، وتوحّد بأفضل ذلك وأعلاه، وأكمله وأسناه، محمدا صفوته من خلصائه، وخيرته من أنبيائه، فأظهره من المنجب الكريم، والمنجم الصّميم، والدّوحة الطاهر عنصرها، الشريف جوهرها، الحلو ثمرها، ورشّح من اختاره من عترته لسياسة بريّته، والدعاء إلى توحيده وطاعته.
يحمده أمير المؤمنين أن شرّفه بميراث النبوّة، وفضّلة بأكرم الولادة والأبوّة، وأحلّه في الذّروة العالية من الخلافة، وناط به أمور الكافة، ويسأله الصّلاة على جدّه محمد وعليّ أبيه، صلّى الله عليهما.
وإن أمير المؤمنين يرى أنّ من أشرف نعم الله عليه موقعا، وألطف مواهبه لديه موضعا، توفيقه للمحافظة على من يواشجه في كريم نسبه، ويمازجه في صميم حسبه، ويدانيه في طاهر مولده، ويقاربه في طيب محتده، وتنزيل كلّ ذي تميّز منهم في دين وعلم، ودراية وفهم، وإحلاله بالمنزلة التي يستوجبها بفاضل نسبه، وفضل مكتسبه، ويبعث أنظاره على التحلّي بخصاله، والتزيّن بخلاله:
ليحصل لهم من فضل الخلائق والآداب، ما يضاهي الحاصل لهم من عراقة المناجب والأنساب ولذلك لا يزال ينوط أمورهم، ويكل تدبيرهم، إلى أعيان دولته، وأماثل خاصّته، الذين يعتادون حضرته ويراوحونها، ويطالعونه بحقائق أحوالهم وينهونها، ويستخرجون أمره في مصالحهم بما يذلّل لهم قطوف إحسانه وطوله، ويعذب لهم مشارع برّه وفضله وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.
فإن كان العهد إلى خادم، قال:
__________
(1) النطاف: جمع نطفة وهي الماء الصافي.(10/403)
ولما كنت بحضرة أمير المؤمنين معدودا في أولي النّباهة، المترشّحين للاستقلال بأعباء دولته وذوي الوجاهة، المستخلصين لاستكفاء جلائل مملكته:
لما اجتمع فيك من إباء النفس وعزّتها، ووثاقة الدّيانة وحصافتها، وسداد السّيرة واستقامتها، ونقاء السريرة وطهارتها، وتقيّلك منهج أمير المؤمنين ومذهبه، وتمثّلك بهديه وأدبه، ونشئك في قصور خلافته، وارتضاعك درّ طاعته رأى والله تعالى يعزم له على الخير في آرائه، ويوفّقه لصالح القول والعمل في انحائه أن قلّدك زمّ بني عمّه الأشارف الإسماعيليين ثقة بسياستك وحميد طريقتك، وإنافة لمنزلتك وإعرابا عن أثير مكانتك.
وإن كان العهد إلى شريف قيل بدلا من هذا الفصل:
ولمّا كنت بحضرة أمير المؤمنين ممن زيّن شريف محتده، بمنيف سؤدده، وطاهر مولده، بظاهر محتده وكريم تالده بنفيس طارفه، وجليل سالفه، بنبيل آنفه، مقتفيا سنن أوّليّتك، مفرّعا على أصول دوحتك، ضاربا بالسّهم المعلّى في الدين والعلم، حائزا خصل (1) السّبق في الرّجاحة والفهم، رأى أمير المؤمنين أن قلّدك نقابة بني عمّه الأشراف الفلانيين: ثقة بأنك تعرف ما يجمعهم وإيّاك من الأرحام الواشجة، والأواصر المتمازجة، وتحسن السّيرة بهم، والتعهّد لهم والتوفّر عليهم.
ثم يوصل الكلام بأيّ الخطابين قدّم فيقال:
فتقلّد ما قلّدك أمير المؤمنين مستشعرا تقوى الله وطاعته، معتقدا خيفته ومراقبته، سائرا فيمن ولّاك أمير المؤمنين بسيرته، مستنّا بسنّته، متأدّبا بآدابه، مقتفيا مناهج صوابه، وإكرام هذه الأسرة [التي] (2) خصّها الله تعالى بكرامته، وفرض مودّتها على أهل طاعته، ونزّهها عن الأدناس، وطهّرها من الأرجاس، فقال
__________
(1) الخصل في النضال: الخطر الذي يراهن عليه.
(2) الزيادة يقتضيها السياق.(10/404)
جل قائلا: {إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (1).
واعرف لهم حقّ مراتبهم الدانية من أمير المؤمنين، ونزّلهم بحيث نزّلهم الله من الدّنيا والدّين، واعتمد تعظيم مشايخهم وتوقيرهم، وسياسة شبّانهم وتدبيرهم، وتقويم أخلاقهم وتثقيفهم، وخذهم بلزوم الطرائق الحميدة، والمذاهب السّديدة، التي تليق بأصولهم الطاهرة، وفروعهم المثمرة، ومناحتهم الصّميمة، ومناجبهم الكريمة، وتفقّد منشاهم ومرباهم، وخلطاهم وقرباهم فمن تناكرت أعراقه، وأخلاقه، وأنسابه، وآدابه، بالغت في تنبيهه وتعريفه، فإن نجع ذلك فيه وإلا بسطت يدك إلى تهذيبه، وإصلاحه وتأديبه: ليستيقظ من منامة غرّته، ويرجع إلى اللائق بشرف ولادته وانظر فيما أوقف عليهم من الأملاك والمستغلّات، والضيّاع والإقطاعات، والرّسوم والصّلات، واندب لتولّي ذلك من تسكن إلى ثقته وأمانته من الكتّاب، وراع سيرته في عمارته، وطريقته في تثمير ماله وزيادته فإن ألفيته كافيا أمينا أقررته، وإن وجدته عاجزا خؤونا صرفته، واستبدلت به من يحسن خبرك، ويطيب أثرك، وأجر الأمر في قسمته بين ذكورهم وإناثهم على الرسوم التي يشهد بها ديوانهم، واكتب الرّقاع عنهم إلى الحضرة في اقتضاء رسومهم، وما يعرض من مهمّات أمورهم، وتتنجّز كلّ ما يتعلق بهم وتنوب عنهم فيه: لتستقيم شؤونهم بسياستك، وتنتظم أحوالهم بحسن سيرتك.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك فاعمل به وانته إلى متضمّنه، إن شاء الله تعالى.
ومنها ما أورده في رسم تقليد بنقابة العلويّين، وهو:
الحمد لله الذي انتجب من أسرار عباده قادة جعلهم لمصالحهم نظاما،
__________
(1) الأحزاب / 33.(10/405)
وانتخب من أخيار خليقته سادة صيّرهم لأمورهم قواما، وعدق بهم هداية من ضلّ، وتقويم من دلّ (1)، وتعليم من جهل، وتذكير من غفل، ونصبهم أعلاما على طرق الرّشاد، وأدلّة على سبل السّداد.
يحمده أمير المؤمنين أن اختصّه بأثرة الخلافة والإمامة، وميّزه بمزيّة الولاية على الأمّة والزّعامة، وانهضه بما كلّفه من سياسة بريّته وتنزيلهم منازلهم من اختصاصه وإيثاره، وإحلالهم في محالّهم من استخلاصه واختياره، ويسأله الصلاة على أشرف الأمم نجارا وأطيبهم عنصرا، وأعظمهم مفخرا، سيدنا محمد صلّى الله عليه وعلى أخيه وابن عمّه، وباب حكمته وعلمه، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الراسخ في نسبه، المداني [له] (2) في حسبه، سيفه الباتر، ومعجزه الباهر، ومكاتفه المظاهر، وعلى الأئمة من ذرّيتهما المهديّين، وسلم تسليما.
وإنّ أمير المؤمنين بما خصّه الله تعالى من شرف المنجم والمولد، وكرم المحتد، وخوّله من مناصب الخلفاء والأئمّة، وناط به من إمامة الأمّة يرى أنّ من نعم الله التي يجب التحدّث بشكرها، وتحقّ الإفاضة في نشرها، وتوفيقه للنظر في أحوال ذوي لحمته، وأولي مناسبته، المواشجين له في أرومته، المعتزين إلى كرم ولادته، وتوخّيهم بما يرفلهم في ملابس الجمال، ويوقّلهم في هضبات الجلال، ويرتّبهم في الرّتب التي يستوجبونها [ويراها] (3) أولى بمغارسهم وأنسابهم، وماسّا بأنفسهم وآدابهم ولذلك يصرف اهتمامه إلى ما يجمع لهم بين شرف الأعراق، وكرم الأخلاق، وطهارة العناصر والأواصر، وحيازة المناقب والمآثر.
ولما كنت بحضرة أمير المؤمنين من جلّتهم العلماء، وطهرتهم الأزكياء، وأبرارهم الصّلحاء، وخيارهم الفضلاء، الذين تضارعت أخلاقهم وأعراقهم،
__________
(1) يقال: ما دلّك عليّ أي ما جرّاك عليّ. (انظر اللسان: 11/ 247).
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(10/406)
وتقارعت أنسابهم وآدابهم، وتشاكهت (1) مواردهم ومصادرهم، وتشابهت أوائلهم وأواخرهم، واتفقت جيوبهم ودخائلهم، وتوضّحت عن الدين والخير مخايلهم هذا مع ما يرعاه أمير المؤمنين من كريم مساعيك في خدمته، وإصابة مراميك في طاعته، واعتصامك بحبل متابعته، ونهوضك بحقوق ما أسبغه عليك من نعمته، رأى أمير المؤمنين والله تعالى يقضي له في آرائه بحسن الاختيار، ويمدّه بالعون والتأييد في مجاري الأقدار أن قلّدك النّقابة على الأشراف الطالبيّين أجمعين، المقيمين بالحضرة وسائر أعمال المملكة شرقا وغربا، وبعدا وقربا، ثقة بأنّك تصدّق مخيلته فيك واعتقاده، وتستدعي بكفاية ما استكفاك شكره وإحماده، وتستدرّ بالاستقلال والغناء أخلاف إحسانه وفضله، وتمتري بالاضطلاع بمضلع الأثقال فائض امتنانه وطوله فتقلّد ما قلّدك أمير المؤمنين عاملا بتقوى الله وطاعته، مستشعرا لخيفته ومراقبته، وأحسن رعاية من عدق بك رعايته، وسياسة من وكل إليك سياسته، واعلم أنّ أمير المؤمنين قد ميّزك على كافّة أهل نسبك، وجميع من يواشجك في حسبك، وجعلك عليهم رئيسا ولهم سائسا، فاعرف لهم حقّ القرابة والمشابكة، وتشاجر الأنساب والمشاركة فإن الله تعالى يقول: {قُلْ لََا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ََ} (2)، وعمّهم جميعا بالتوقير والإكرام، والتفقّد والاهتمام، واتّخذ شيخهم أبا، وكهلهم أخا، وطفلهم ولدا، وافرض لهم من الحنان، والإشفاق والفضل والإحسان، ما تقتضيه الرّحم الدانية، والأواصر المتقاربة، وكن مع ذلك متفقّدا لأحوالهم، مطالعا لسيرهم وأفعالهم فمن ألفيته سالكا لأقصد الطرائق، متخلّقا بأجمل الخلائق، حارسا لشرفه، متشبّها بسلفه، فزده في الأثرة زيادة ترغّب أمثاله في اقتفاء مذهبه، وتبعثه على التأدّب بأدبه، ومن وجدته مستحسنا ما لا يليق بصريح عرقه، راكبا ما ليس من طرقه، فأيقظه بنافع الوعظ، وذكّره بناجع اللّفظ فإن استقام على الطريقة المثلى، ورجع
__________
(1) شاكهه مشاكهة وشكاها: شابهه وشاكله.
(2) الشورى / 23.(10/407)
إلى الأجدر والأولى، عرفت ذلك من فعله، وفرضت له ما تفرضه لصلحاء أهله:
فإن الله تعالى قد فتح باب التوبة، ووعد بإقالة أهل الإنابة ومن انحرف عن التذكير، وانصرف عن التبصير، وأصرّ وتمادى، وارتكب ما يوجب حدّا، امتثلت أمر الله تعالى فيه، وأقمت الحدّ عليه، غير مصغ إلى شفاعة، ولا موجب لحّق ذريعة: فإن أمير المؤمنين يصل من ذوي أنسابه، من وكّدها بأسبابه، ويقطع من أوجب الحقّ قطيعته، ولا يراعي رحمه وقرابته. ووكلّ بهم من يروي إليك أخبارهم، ويكشف لك آثارهم: ليعلموا أنهم ببال من مطالعتك، وبعين من اهتمامك ومشارفتك، فيكبح ذلك جامحهم عن العثار والسّقط، ويمنع طامحهم من الزّلل والغلط، وتوخّهم في خطابك بالإكرام، وميّزهم عن محاورة العوام، ولا تقابل أحدا منهم ببذاء ولا سبّ، ولا قدح في أمّ ولا أب، فإنهم فروع دوحة أمير المؤمنين وعترته الذين طهّرهم الله من الأرجاس، وفرض قراهم على الناس، ووفّر اهتمامك على صيانة النّسب من الوكس، وحياطته من اللّبس، فإنه نسب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يتصل يوم انقطاع الأنساب، وسببه الذي يتّشج يوم انفراط الأسباب، وأثبت أسماء كافّة من يعتزي إلى هذا البيت منسوبة إلى أصولها: لتأمن من دخيل ملصق يتزوّر عليها، ومختلق ملحق ينضم إليها وإن عرف مدّع نسبا لا حجة له فيه، ولا بينة عنده عليه، فغلّظ له العقاب، واشهره شهرة تحجزه عن معاودة الكذاب، واحتط في أمر المناكح وصنها عن العوامّ، ووقّر كرائم أهل البيت عن ملابسة اللّئام وإن ادّعى أحد من الرعيّة حقّا على شريف فاحملها على السويّة وعده بإنصاف خصمه، وامنعه من ظلمه، وإن ثبت أيضا في مجلس الحكم حقّ على أحد من الأشراف فانزعه منه [وولّ] (1) على من في البلاد، أهل السّداد منهم والرّشاد، ومرهم بتقيّل مذهبك، ونقل أدبك، واصرف اهتمامك إلى حفظ أوقافهم وأملاكهم ومستغلّاتهم في سائر الأعمال، وحطها من العفاء والاضمحلال، وتوفّر على تثمير ارتفاعها، وتزجية (2) مالها، واستخدم لضبط
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) التزجية: دفع الشيء كما تزجّي البقرة ولدها أى تسوقه. ويقال أيضا: الإزجاء.(10/408)
حاصلها، وجهات منفقها، من تسكن إلى ثقته، وتثق بنهضته، ووزّع ما يرتفع من استغلالها بينهم على رتبهم التي يشهد بها ديوانهم.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك فآنته إليه منتهجا لتمثيله، معتمدا بدليله، وطالع أمير المؤمنين بما التبس عليك وأبهم، وأشكل واستعجم: ليقفك على واضح السّنن، ويرشدك إلى أحسن السّنن، واستعن بالله يهدك لمعونته، واستهده يؤيّدك بهدايته، إن شاء الله تعالى.
ومنها ما أورده في رسم تقليد بزمّ طوائف الرجال.
الحمد لله البديع تقديره، الحكيم تدبيره، الذي أتقن ما صنع وأحكمه، وكمّل ما أبدع وتمّمه، وأعطى كلّ مصلحة من مصالح عباده نظاما، وكلّ مرفق من مرافق خلقه قواما، فلا يقارب فيما خلق وصوّر، ولا يشاكل فيما قدّر ودبّر، ورأب ثلم بريّته بمن استخلصه من خاصّتها، لسياسة عامّتها، وانتخبه من أشرافها، لتسديد أطرافها، وإقامة من سادها لإصلاح فاسدها وتقويم مائدها، وتوقيفها على سنن الصواب، وتعريفها بمحاسن الآداب.
يحمده أمير المؤمنين أن أحلّه في المنزلة العليّة: من اصطفائه واستخلاصه، والذّروة السنيّة: من اجتبائه واختصاصه، وفوّض إليه تنزيل الرتب وتخويلها، وإقرار المنازل وتحويلها، وناط به البرم والنقض، والرّفع والخفض، والرّيش والحصّ (1)، والزيادة والنّقص، وسوّغه الشّكر على مواهبه السابغ عطافها، والفسيحة أكنافها، البعيدة أطرافها، و [يسأله] (2) أن يصلي على نبيّ الرحمة، ومفيد الحكمة، سيدنا محمد خاتم الرّسل، وموضّح السّبل، صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمّه، وخليفته على أمّته وقومه: عليّ بن أبي طالب أمير
__________
(1) الرّيش: الوفرة. يقال: كلأ ريش أي كثير الورق. والحصّ: القلّة.
(2) الزيادة لانتظام السياق.(10/409)
المؤمنين، ومولى المسلمين، وعلى الأئمة من ذرّيتهما الطاهرين.
وإنّ أمير المؤمنين بما فوّضه الله تعالى إليه من حماية الأنام، والمراماة عن دار الإسلام، وكفّله من غضّ نواظر أهل العناد، وتنكيس رؤوس رؤساء الإلحاد، لا يزال ينظر في مصالح عبيده، وتوفّر سياسة رجال دولته وجنوده، الذين هم حزب الله الغالبون، وجنده المنصورون، ويردّ النظر في أمورهم، والتقدّم عليهم، وزمّ طوائفهم، إلى خواصّ دولته، وأعيان مملكته، الذين بلا طرائقهم وحمد خلائقهم: من الغناء والكفاية، والسّداد وحسن السياسة، ونقّلهم في الخدم فاستقلّوا بأعبائها وأثقالها، ونهضوا بناهض أعمالها، ومضت عزائمهم في حياطة البيضة، واشتدّت صرائمهم في تحصين الحوزة، وصدقت نيّاتهم في المراماة عن الملّة، والمحاماة عن الدعوة والدّولة.
ولمّا كنت بحضرة أمير المؤمنين معدّا لمهمّاته، معدودا في أماثل كفاته، مشهورا بحسن السياسة لما تورده وتصدره، معروفا بفضل السّيرة فيما تأتيه وتذره، رأى أمير المؤمنين والله يرشده لأعود الآراء بالصلاح والإصلاح، وأدناها من الخير والنجاح أن قلّدك زمام طائفة الرجال الفلانيين (ويوصفون بما تقتضيه مكانتهم من الدولة وحسن سيرهم في الخدمة) إنافة بقدرك، وإبانة عن خطرك، وتنويها بذكرك، وتفخيما لأمرك.
وهو يأمرك بتقوى الله تعالى وطاعته، واستشعار مراقبته، ورياضة خلائقك على محبّة العدل، وإيثار الفضل، واتّباع اللّطف، واجتناب العسف، وتوخّي الإنصاف، وبسط الهيبة من غير إجحاف، وأن تخصّ هذه الطائفة من النظر في أمورها، وتعهّد صغيرها وكبيرها، بما يسدّد أحوالها، ويحقّق آمالها، وتأخذها بأحسن الآداب اللائقة بأمثالها، وسلوك الطريقة المعهودة من أعيانها وأماثلها، وتشعرها من أمير المؤمنين بما يشرح صدرها في خدمته، ويقرّ عينها في طاعته، والمسارعة إلى مكافحة أعدائه، والتميّز في نصرة أوليائه، وتطالع بحال من يستحقّ الاحترام، ويستوجب إفاضة الإنعام، وتكتب الرّقاع عنها (مستدعيا للرّباطات في الأطماع والعاجزين شاملا في التعويد والتأمير والتلقيب والولايات قاصدا في ذلك
ما يفسّح آمالها في الآجال، ويوثّقها بدرور الأمثال) (1)، فإنهم أمراء الحروب، وكفاة الخطوب، الذين يجاهدون عن الحوزة، ويرامون عن الدولة، وافرض لهم من الإكرام، وتامّ الاهتمام، ما تقتضيه مكانتهم في الدولة، وموضعهم من الخدمة، وتكفّل أوساطهم بالرّعاية، واصرف إليهم شطرا موفورا من العناية، وألحق من برّز منهم وتقدّم، ونهض وخدم، بنظرائه وأمثاله، وساو بينه وبين أشكاله، وتعهّد أطرافهم بملاحظتك، وتفقّدهم بسياستك وخذهم بلزوم السّير الحميدة، والمذاهب السّديدة، والتوفّر على ما يرهف عزائمهم، ويؤيّد أيديهم، ولا تفسّح لأحد من هذه المذاهب في مخالطة العوام ولا مشاركة التّجّار والاحتراف، ووكّل بهم من النّقباء من يبتلي سيرهم، وينهي إليك أخبارهم: فمن علمته قد اجترأ إلى نسخ المذهب، فتناوله بأليم الأدب، واحضضهم على الإدمان في نقل السلاح، والضّرب بالسيف، والمطاعنة بالرمح، والإرماء عن القوس، وميّز من مهر واستقلّ، وقصّر بمن ضجّع وأخلّ، فهم كالجوارح التي ينفعها التعليم والإجراء، ويضرّها الإهمال والإبقاء وفي صرفك الاهتمام إليهم ما يزيد في رغبة ذي الهمّة العليّة، ويبعث المعروف في النفس الدّنيّة، وأن تطالبهم بالاستعداد، وارتباط الخيول الجياد، والاستكثار من السّلاح الشاك والجنن، وليكن ما تطالبهم بإعداده من هذه الأصناف على حسب الفروض من العطاء، ولا ترخّص لأحد في الاقتناع بما لا يليق بمنزلته، والرضا بما يقع دون ما يعتدّه أماثل طبقته. ومن مات من هذه الطائفة وخلّف ولدا يتيما فضمّه إلى أمثاله، وانظر في حاله، ووكّل به من يفقّهه في دينه، ويعلّمه ما لا غنى به عن تعليمه من كتاب الله وسنّته، ومن يهذبه في الخدمة ويعلّمه العمل بآلاتها، والتنقّل في حالاتها، ويطلق له من إنعام أمير المؤمنين ما يقوم بكلفتها ولوازمها، وخذ كلّ من تقدّمهم بخدمها والجري على عادتها في النّهوض بما يستنهض به، ولا يفسّح لها في التّثاقل عنه، وسوّ بينهم في الاستخدام، ولا تخصّ قوما دون قوم بالترفيه والإجمام فإنّ في ذلك إرهافا لعزائمهم، وتقوية(10/410)
وهو يأمرك بتقوى الله تعالى وطاعته، واستشعار مراقبته، ورياضة خلائقك على محبّة العدل، وإيثار الفضل، واتّباع اللّطف، واجتناب العسف، وتوخّي الإنصاف، وبسط الهيبة من غير إجحاف، وأن تخصّ هذه الطائفة من النظر في أمورها، وتعهّد صغيرها وكبيرها، بما يسدّد أحوالها، ويحقّق آمالها، وتأخذها بأحسن الآداب اللائقة بأمثالها، وسلوك الطريقة المعهودة من أعيانها وأماثلها، وتشعرها من أمير المؤمنين بما يشرح صدرها في خدمته، ويقرّ عينها في طاعته، والمسارعة إلى مكافحة أعدائه، والتميّز في نصرة أوليائه، وتطالع بحال من يستحقّ الاحترام، ويستوجب إفاضة الإنعام، وتكتب الرّقاع عنها (مستدعيا للرّباطات في الأطماع والعاجزين شاملا في التعويد والتأمير والتلقيب والولايات قاصدا في ذلك
ما يفسّح آمالها في الآجال، ويوثّقها بدرور الأمثال) (1)، فإنهم أمراء الحروب، وكفاة الخطوب، الذين يجاهدون عن الحوزة، ويرامون عن الدولة، وافرض لهم من الإكرام، وتامّ الاهتمام، ما تقتضيه مكانتهم في الدولة، وموضعهم من الخدمة، وتكفّل أوساطهم بالرّعاية، واصرف إليهم شطرا موفورا من العناية، وألحق من برّز منهم وتقدّم، ونهض وخدم، بنظرائه وأمثاله، وساو بينه وبين أشكاله، وتعهّد أطرافهم بملاحظتك، وتفقّدهم بسياستك وخذهم بلزوم السّير الحميدة، والمذاهب السّديدة، والتوفّر على ما يرهف عزائمهم، ويؤيّد أيديهم، ولا تفسّح لأحد من هذه المذاهب في مخالطة العوام ولا مشاركة التّجّار والاحتراف، ووكّل بهم من النّقباء من يبتلي سيرهم، وينهي إليك أخبارهم: فمن علمته قد اجترأ إلى نسخ المذهب، فتناوله بأليم الأدب، واحضضهم على الإدمان في نقل السلاح، والضّرب بالسيف، والمطاعنة بالرمح، والإرماء عن القوس، وميّز من مهر واستقلّ، وقصّر بمن ضجّع وأخلّ، فهم كالجوارح التي ينفعها التعليم والإجراء، ويضرّها الإهمال والإبقاء وفي صرفك الاهتمام إليهم ما يزيد في رغبة ذي الهمّة العليّة، ويبعث المعروف في النفس الدّنيّة، وأن تطالبهم بالاستعداد، وارتباط الخيول الجياد، والاستكثار من السّلاح الشاك والجنن، وليكن ما تطالبهم بإعداده من هذه الأصناف على حسب الفروض من العطاء، ولا ترخّص لأحد في الاقتناع بما لا يليق بمنزلته، والرضا بما يقع دون ما يعتدّه أماثل طبقته. ومن مات من هذه الطائفة وخلّف ولدا يتيما فضمّه إلى أمثاله، وانظر في حاله، ووكّل به من يفقّهه في دينه، ويعلّمه ما لا غنى به عن تعليمه من كتاب الله وسنّته، ومن يهذبه في الخدمة ويعلّمه العمل بآلاتها، والتنقّل في حالاتها، ويطلق له من إنعام أمير المؤمنين ما يقوم بكلفتها ولوازمها، وخذ كلّ من تقدّمهم بخدمها والجري على عادتها في النّهوض بما يستنهض به، ولا يفسّح لها في التّثاقل عنه، وسوّ بينهم في الاستخدام، ولا تخصّ قوما دون قوم بالترفيه والإجمام فإنّ في ذلك إرهافا لعزائمهم، وتقوية
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية وفي الأصول والمراد غير واضح.(10/411)
لمننهم، وإفاضة العدل عليهم.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، قد وكّد به الحجة عليك فتأمّله ناظرا، وراجعه متدبّرا، وانته إلى مصايره ومراشده، واعمل على رسومه وحدوده، يوفّق الله مقاصدك، ويسعد مصالحك ويتولّاك، إن شاء الله تعالى.
ورسوم هذه العهود يتفاضل الخطاب فيها بحسب تفاضل الطوائف ومن يولّى عليها. وهذا الأنموذج متوسّط تمكن الزيادة عليه والنقص منه.
ومنها ما أورده في رسم تقليد بإمارة الحج، وهذه نسخته:
الحمد لله الذي طهّر بيته من الأرجاس، وجعله مثابة (1) للناس، وآمن من حلّه ونزله، وأوجب أجر من هاجر إليه ووصله.
يحمده أمير المؤمنين أن خصّه بحيازة البيت الأعظم، والحجر المكرّم، والحطيم (2) وزمزم وأفضى إليه ميراث النبوّة والإمامة، وتراث الخلافة والزّعامة، وجعله لفرضه موفّيا، ولحقوقه مؤدّيا، ولحدوده حافظا، ولشرائعه ملاحظا، ويسأله أن يصلّي على من أمره بالتأذين في الناس بالحجّ إلى بيته الحرام لشهادة منافعهم، وتأدية مناسكهم، وقضاء تفثهم (3)، ووفاء نذرهم، وذكر خالقهم، والطواف بحرمه، والشكر على نعمه: سيدنا محمد رسوله صلّى الله عليه وعلى وصيّه وخليفته، وباب مدينة علمه وحكمته: عليّ بن أبي طالب سيد الوصيّين، وعلى الأئمة من ذرّيتهما الطاهرين.
__________
(1) المثاب والمثابة: البيت والملجأ. وفي التنزيل العزيز: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثََابَةً لِلنََّاسِ وَأَمْناً}
البقرة / 125.
(2) الحطيم: بناء من خارج الميزاب قبالة الكعبة.
(3) التّفث: نتف الشعر، وقص الأظافر، وتنكب كل ما يحرم على المحرم، وكأنه الخروج من الإحرام إلى الإحلال.
قال الزجّاج: لا يعرف أهل اللغة التّفث إلا من التفسير. (اللسان: 2/ 120).(10/412)
وإنّ أولى ما صرف أمير المؤمنين إليه همّته، ووفّر عليه رعايته، مثابرا عليه، وناهضا لحق الله تعالى فيه، النظر في أمر رفق الحجيج الشاخصة إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام، وردّه إلى من حلّ محلّك من الدين، وتميّز بما تميّز به صلحاء المسلمين: من العلم، ورجاحة الحلم، ونفاذ البصيرة، وحسن السريرة، وعدل السّيرة ولذلك رأى أمير المؤمنين أن قلّدك أمر رفق الحجيج المتوجّهة من موضع كذا إلى الحرمين المحروسين، وولّاك الحرب والأحداث (1) بها: واثقا باستقلالك وغنائك، وسدادك وإصابة ارائك فتقلّد ما قلّدك أمير المؤمنين بعزم ثاقب، ورأى صائب، وهمّة ماضية، ونفس سامية، وشمّر فيه تشميرا يعرب عن محلّك من الاضطلاع، ويدلّ على استقلالك بحقّ الاصطناع، وخصّ الحجّاج بأتمّ الأحظّ (2)، وكن من أمرهم على تيقّظ، واعتمد ترقّبهم في المسير، وسوّ في رعايتهم بين الصغير والكبير، فإنهم جميعا إلى الله متوجّهون، وإلى بيته الحرام قاصدون، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وافدون، قد استقربوا بعيد الشّقّة، واستدمثوا خشن المشقّة، رغبة في ثواب الله وعفوه، والنجاة من عقابه وسطوه، وتقرّبا إليه بارتسام أمره وطاعته، وإيجابا للحرمة بالحلول في عراص بيته وأفنيته فمرافدتهم (3) واجبة، ومساعدتهم لازبة (4)، حتّى يصلوا إلى بغيتهم وقد شملتهم السلامة في الأنفس والأموال، والأمنة في الخيل والرجال: متوجّهين وقارّين وقافلين، بعد أن يشهدوا منافعهم، ويؤدّوا مناسكهم، ويعملوا بما حدّ لهم.
وردّهم في سيرهم عن الازدحام، ورتّبهم على الانتظام، وراعهم في ورود المناهل، وامنعهم عن التحادث عليها والتكاثر فيها، حتّى لا ينفصلوا منها إلّا بعد
__________
(1) راجع ص: 317هامش: 4من هذا الجزء.
(2) جاء في اللسان: «قال الجوهري وغيره: الحظ النصيب والجدّ، والجمع أحظّ في القلّة، وحظوظ وحظاظ في الكثرة، على غير قياس».
(3) الرفادة: ما كانت قريش تخرجه في الجاهلية من أموالها، تشتري به طعاما وشرابا لفقراء الحجاج في موسم الحج.
(4) أي لازمة واجبة.(10/413)
الارتواء، ووقوع التّساوي والاكتفاء، وقدّم أمامهم من يمنعهم من التسرّع، وأخّر وراءهم من يحفظهم من التقطّع، ورتّب ساقتهم، ولا تخلّ بحفظهم من جميع جهاتهم، وطالع أمير المؤمنين في كل منزل تنزله ومحلّ تحلّه بحقيقة أمرك ليقف عليها، ويمدّك بما ينهضك فيها.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك فتدبّره عاملا عليه، متبصّرا بما فيه، عاملا بما يحسن موقعه لك ويزيدك من رضا الله وثوابه، إن شاء الله تعالى.
ومنها ما أورده في رسم تقليد الإمارة على الجهاد، وهذه نسخته.
الحمد لله الصادق وعده، الغالب جنده، ناصر الحق ومديله، وخاذل الباطل ومذيله، محلّ النّكب بمن انصرف عن سبيله، ومنزل العقاب بمن تحرّف عن دليله، الذي اختار دين الإسلام فأعلى مناره، ووضّح أنواره، واستخلص له من أوليائه أعضادا لا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولا يغمضون عن المكافحة دونه جفن حالم، وجزاهم على سعيهم في نصرته جزاء فيه يتنافس المتنافسون، وإلى غاياته يرتمي بالهمم المجدّون، قصدا من الله تعالى في إعزاز دينه، وإنجاز ما وعد به خلفاءه من إظهاره وتمكينه، وقطّا لشوكة أهل العناد، وتعفية لآثار ذوي الفساد، وتوفيرا لأحاظي من بذل الاجتهاد، من سعداء عباده في الجهاد.
يحمده أمير المؤمنين أن اختصّه بلطيف الصّنع فيما استرعاه، ووفّقه للعمل بما يرضيه فيما ولّاه، وأعانه على المراماة عن دار المسلمين، والمحاماة عن ذمار الدّين، ومجاهدة [من] (1) ندّعنهما صادفا، ونكب عن سبيلهما منصرفا، وإبادة من عند عن طاعته واتّخذ معه إلها آخر لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يقول المشركون علوا كبيرا واستنزالهم من صياصيهم قهرا واقتسارا، وإخراجهم عن بيوتهم عزّا واقتدارا، وإذاقتهم وبال أمرهم [و] (2) عاقبة كفرهم، اتّباعا لقول الله
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(10/414)
تعالى إذ يقول: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قََاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفََّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (1).
ويسأله أن يصلّي على أشهر الخلق نورا وفضلا، وأطهر البريّة فرعا وأصلا، وأرشد الأنبياء دليلا، وأقصد الرّسل سبيلا: محمد رسوله الذي ابتعثه وقد توعّر طريق الحق عافيا، وتغوّر نور الهدى خافيا والناس يتسكّعون في حنادس الغمرات، ويتورّطون في مهاوي الهلكات، لا يعرفون أنهم ضلّال فيستهدون، ولا عمي فيستبصرون، فأيّده وعضّده، ووفّقه وسدّده، ونصره وأظهره، وأعانه وآزره، وانتخب له من صفوة خلقه، أولياء كاتفوه على ظهور حقّه، سمحوا بالأنفس العزيزة، والأموال الحريزة، وجاهدوا معه بأيد باسطة ماضية، وعزائم متكافية متوافية، وقلوب على الكفار قاسية، وعلى المؤمنين رؤوفة حانية فلمّا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وارتسموا أمره وانتهوا إليه، شركهم معه في الوصف والثناء، وأضافهم إليه في المدح والإطراء، فقال جل قائلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللََّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدََّاءُ عَلَى الْكُفََّارِ رُحَمََاءُ بَيْنَهُمْ} (2)، صلّى الله عليه وعلى أخيه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب سيف الله الفاصل، وسنانه العامل، ومعجز رسوله الباهر، ووزيره المظاهر، مبيد الشّجعان، ومبير الأقران، ومقطّر الفرسان، ومكسّر الصلبان، ومنكّس الأوثان، ومعزّ الإيمان، الذي سبق الناس إلى الإسلام، وتقدّمهم في الصّلاة والصّيام، وعلى الأئمة من ذرّيتهما الميامين، البررة الطاهرين، وسلّم تسليما.
وإنّ أمير المؤمنين بما كلّفه الله تعالى من [أمر] (3) دينه ووعده من إظهاره وتمكينه يرى أنّ أفضل ما رنا إليه ببصر بصيرته، ورمى نحوه بطامح همّته، ما شملت الدين والدنيا بركته، وعمّت الإسلام والمسلمين عائدته، وحلّ محلّ الغيث
__________
(1) التوبة / 123.
(2) الفتح / 29.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(10/415)
إذا تدفّق وهمع (1)، والنهار إذا تألّق ولمع. ولا شيء أعود على الأمة، وأدعى إلى سبوغ النّعمة من علو كلمتهم، وارتفاع رايتهم، وتحصين حوزتهم، وإيمان منصّتهم، وتأدية الفريضة في مجاهدة أعدائهم، وصرفهم عن غلوائهم، واقتيادهم بالإذلال والصّغار، وكبحهم بشكائم الإهوان والاقتسار، ومواصلتهم بغزو الديار، وتعفية الآثار، وإيداع الرّعب في صدورهم، وتكذيب أمانيّ غرورهم، ووعظهم بألسنة القواضب، ومكاتبتهم على أيدي الكتائب: لما في ذلك من ذلّ الشّرك وثبوره، وعزّ التوحيد وظهوره، ووضوح حجّة أولياء الله تعالى على أعدائه بما ينزله عليهم من نصره ومعونته، ويؤيّدهم به من تأييده وعنايته لا جرم أن أمير المؤمنين مصروف العزمة، موقوف الهمّة، على تنفيذ البعوث والسّرايا، والمواصلة بالجيوش والعرايا (2)، وتجهيز المرتزقة من أولياء الدولة، وحضّ المطّوعة من أهل الملّة، على ما أمر الله تعالى به من غزو المشركين، وجهاد الملحدين، نافذا في ذلك بنفسه، وباذلا فيه عزيز مهجته، عند تسهّل السبل إلى البعثة، ووجود الفسحة، ومعوّلا فيه عند التعذّر على أهل الشّجاعة والرّجاحة من أعيان أهل الإسلام الذين أيقنت ضمائرهم، وخلصت بصائرهم، ورغبوا في عاجل الذكر الجميل وآجل الأجر الجزيل، وأمير المؤمنين يسأل الله تعالى أن يجريه فيما يصدر ويورد، على أفضل ما لم يزل يولى ويعوّد: من التوفيق في رأيه وعزمه، والتسديد في تدبيره وحزمه، ويؤتيه من ذلك أفضل ما آتاه وليّا استخلفه، وأمينا كفّله عباده وكلّفه وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.
ولمّا كنت بحضرة أمير المؤمنين ممن يعدّه لجلائل مهمّاته، ويعدّه من أعيان كفاته، ورآه سدادا للخلل، وعمادا في الحادث الجلل، وسهما في كنانته صائبا وشهابا في سماء دولته ثاقبا، وسيفا بيد الدين قاطعا، ومجنّا عن الحوزة دافعا،
__________
(1) همع: سال.
(2) العرايا: جمع عريّة، وهي الريح الباردة. ولعل المراد: الغارات.(10/416)
رأى وبالله التوفيق أن يقدّمك على جيوش المسلمين، وبعوثهم الشاخصة إلى جهاد المشركين فقلّدك الحرب والأحداث بها، وعقد لك لواء بيده يلوي إليك الأعناق، وينكّس لك رؤوس أهل الشّقاق، وشرّفك بفاخر ملابسه وحملانه، وضاعف لديك موادّ إحسانه، وحباك بطوق من التّبر، مرصّع بفاخر الدّرّ، عادقا هذه الخدمة منك بالنّصيح المأمون، والنّجيح الميمون، الذي تتوضّح فيه أنوار اللّبابة، وتلوح عليه آثار النّجابة، واثقا بما تنطوي عليه من الإخلاص والولاية، وتتحلّى به من الغناء والكفاية، ويفترضه من الاستمرار على سنن الطاعة، والاستقامة على سمت الانقياد والتّباعة، وتوجبه من مناصحة المسلمين، والتشمير في نصرة الدين.
فتقلّد ما قلّدك أمير المؤمنين مستشعرا تقوى الله وطاعته في الإسرار والإعلان، معتقدا خيفته ومراقبته في الإظهار والإبطان، مخلص القلب، رابط اللّبّ، واثقا بنصر الله الذي يسبغه على خلصائه، ويفرغه على أوليائه، وآخذا بوثائق الحزم، متمسّكا بعلائق العزم، ناظرا من وراء العواقب، متفرّسا في وجوه التجارب، مقلّصا سجوف الآراء بإضفاء غيار التدبير، ممرّا مرائر التقرير، موغلا في المخاتل والمكايد، حارسا للمطالع والمراصد، يقظان النفس والناظر، متحرّزا في موقف الواني والمخاطر، وأن تتوجه على بركة الله وعونه وحسن توفيقه، ويمن تأييده، بعد أن تتسلّم من الجيوش المنصورة جرائد (1) بعدّة رجال أمير المؤمنين السائرين تحت رايتك، المنوطين بسياستك، وتعرضهم عليها، فتتخيّر من شهرت بسالته وكفاحه، وعتق (2) جواده وكمل سلاحه، وعرف بصدق العزيمة في مقارعة الأعداء، وحسن الطويّة في الإخلاص والولاء، وتستبدل بالورع (3) الجبان، والرّعديد
__________
(1) جرائد الجند، ومفردها جريدة، هي الفرق العسكرية الخيالة، لا رجالة فيها. والجريدة أيضا كالصحيفة تسجل فيها المنشورات. (انظر الصبح: 11/ 93والمعجم الوسيط).
(2) عتق الفرس عتقا: كرم وسبق.
(3) الورع (بفتح الراء) هو الضعيف الجبان، والجمع أوراع.(10/417)
الضعيف الجنان، الناقص العدّة، المقصّر النّجدة، المدخول النّيّة، النّغل (1)
الطّويّة، فإذا كملت العدّة من أهل الجلد والشّهامة، وأولي الحماسة والصّرامة، استدعيت من بيت المال ما ينفق فيهم من مستحق أطماعهم، ومعونة طريقهم، وأجريت النفقة فيهم على أيدي عارضيهم وكتّابهم، فإذا أزحت عللهم فاستصحب من العدد والسّلاح والخيم والأزواد والأموال ما يرهب الأعداء، وينهض الأولياء، وأذّن في مطّوّعة (2) المسلمين، بجهاد المشركين في [كل] (3) بلدة تنزلها، ومحلّة تحلّها، وابذل لهم الظّهر والميرة والمعونة بالسلاح وما يستدعونه، وأرهف عزائمهم في غزو الكفّار، وإجلائهم عن الأوطان والدّيار، واسلك الطريق القاصد، ولا تفارق أهل المناهل والموارد، ولا تغذّ (4) السير إغذاذا تنقطع له الرجال وتتأخّر به الأزواد، ولا تتلوّم (5) في المنازل تلوّما تتصرّم فيه الآماد، ويوجد المشركين مهلة للاحتيال والاستعداد، وراع جيشك عند الحلّ والتّرحال، ولا تباعد بين مضاربهم إذا نزلوا، ولا تمكّنهم من التفرّد إذا ارتحلوا، وخذهم بالاجتماع والالتئام، والتآلف والانتظام، ولا سيّما إذا حصلوا في أرض العدوّ فإنّهم ربّما اهتبلوا (6) الفرصة في المسير المتسرّع، والمبيت المتفرّد، ونالوا منه ما تتوسّم به الهضيمة (7) على أهل الإسلام والعياذ بالله. وإذا دانيت القوم فأعط الحزامة حقّها، مستعملا تارة للدّهاء والخداع، وأخرى للّقاء والقراع فربما أغنت المساترة عن المكاشرة، ونابت مخايل التّلطّف عن مداخل التعسّف، وكفت
__________
(1) في الأصول «المهروق الطويّة» وقد اخترنا عبارة الطبعة الأميرية.
(2) المطوّع هو المتطوّع. وفي التنزيل العزيز: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ} أي من يتطوعون للجهاد ونحوه. ويقال لهم: المطّوعة (بتشديد الطاء) والمطوّعة (بتخفيفها). (أنظر اللسان والوسيط).
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(4) أي لا تجعله سريعا متواصلا.
(5) أي لا تمكث وتنتظر.
(6) أي اغتنموا الفرصة.
(7) الهضيمة: الظلم والغصب.(10/418)
غوائل المخادعة، عن مواقف المماصعة (1) وقد قال إمام الحرب، وزعيم الطّعن والضّرب: «الحرب خدعة» (2). وإذا عزمت على المصاع والمنافحة، والإيقاع والمكافحة، فبثّ من سرعان الفرسان الذين لا تشكّ في محض نصحهم، ولا ترتاب بصدق نيّاتهم، طلائع تطلعك على الأخبار، وعيونا تكشف لك حقائق الآثار، وتغضّ الطّرف عن مجاوري الديار، ومر من تقدّمه عليهم بأن لا يقتحم خطرا، ولا يركب غررا، وليكن من تنفذه في ذلك [من] (3) أهل الخبرة بالطّرق والساحات، والدخلات والأودية والفجوات، حتى لا يتمّ للعدوّ فيهم حيلة، ولا ينالهم منه غيلة فإذا أتوك بالخبر اليقين، وأقبسوك قبس النّور المبين، بدأت الحرب مستخيرا لله تعالى، مقدّما أمامك الاستنجاح به، واستنزال النصر من عنده، مرتّبا للكتائب، معبيا للصّفوف والمقانب (4)، زاحفا بالراجل محصّنا بالفارس والرامي مجتنّا بالتارس، واشحن القلب والجناحين بالشّجعان المستبقين، والأبطال الحلاسين (5)، وأنزل إلى رحى الحرب من خفّ ركابه من الأنجاد الراغبين في علوّ الصّيت والذكر، الطالبين الفوز بالثواب والأجر، واجعل وراءهم ردءا، وأعدّلهم مددا يوازرونهم إن يجئهم ما لا يطيقونه ويحين (6)، ويطايرونهم على ما خلص إليهم وادعين، وقف من التأخير والإقدام، والنّفود والإحجام، موقفا تعطي الحزامة فيه حظّها، والرويّة قسطها، مصمّما ما كان (7) التصميم أدنى لانتهاز الفرصة، واهتبال الغرّة، متلوّما ما كان (8) التلوم أحمد للعاقبة، وأسلم للمغبّة.
__________
(1) المماصعة: القتال والتطاحن.
(2) الخدعة (بفتح الخاء) هي المرّة الواحدة من الخداع. والمراد أن الحرب ينقضي أمرها بخدعة واحدة.
(3) الزيادة يقتضيها السياق.
(4) المقانب: جمع مقنب، وهي جماعة من الفرسان والخيل دون المائة تجتمع للغارة.
(5) لعل المراد الأحلاس، أي الذين لا يفارقون ظهور الخيل. ولم نعثر على هذا الجمع.
(6) كذا في الأصول وفي الطبعة الأميرية.
(7) أي كلما كان الخ.
(8) أي كلما كان الخ.(10/419)
واعلم أنّ ريح النصر قد تهبّ للكافرين على المسلمين فلا يكن ذلك قادحا منك في الدّين، فإن الله تعالى يستدرج بسنّة الباطل لا بسنّة الإظفار، ويريهم الإقدار في مخايل الأقدار، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أوردتهم كواذب أمانيّهم موارد الهلكة، وأخذوا بغتة، ودالت دولة الحق لأوليائها مرفوعة الأعلام، آخذة بنواصي العداة والأقدام وتحقّق أنّ الأمور بخواتيمها، والأعمال بتمامها وأنه وليّ [المؤمنين] (1). ما جمع موقف فئتي شكّ ويقين، وكفر ودين، إلّا كان الفلج والنصر لأهل التّقى والدّين، والخسارة والبوار على الشاكّين الكافرين، تصديقا لوعده تعالى إذ يقول: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنََا لِعِبََادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنََا لَهُمُ الْغََالِبُونَ} (2)
وتحفظ بنفسك ولا تلقها في المهالك متهوّرا، ولا ترم بها في المتالف مخاطرا، ولا تساعدها على مطاوعة الحميّة والنّخوة، وتحرّز قبل السّقطة والهفوة، فإنك وإن كنت واحدا من الجيش أوحدهم الذين يتبادرون إليه، ويعتمدون في السياسة عليه وما دمت محفوظا ملحوظا فالهيبة عالية، والعين سامية وإن ألمّ بك والله يعصمك خطب، أو نالك والله يكفيك ريب، توجّه الخلل، وأرهف حدّ الوهن والشّلل. وإن دعتك نفسك إلى الجهاد، وحملك تصرّفك على الكفاح والجلاد، فليكن ذلك عند الإحجام، وتزلزل الأقدام: فإنّ ذلك يشحذ عزائم المسلمين، ويقوّي شكائم المتأخّرين، غير مضيّع للحذر، في الورد والصّدر وكذلك فاحرس أماثل القوّاد، ووجوه الأجناد، الذين تشفى صدور الكفّار بمصارعهم، وتنقع غللهم بمضايعهم، وحام عنهم حماية الجفون عن المقل، وصنهم صيانة الصّوارم من الخلل، ودافع عن كافة [جند] (3) المسلمين المرتزقين والمتطوّعين، فإنّ الله تعالى قد كافى بين دمائهم، وسوّى بين ضعفائهم
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الصافات / 173172171.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(10/420)
وأقويائهم على أنه سبحانه قد وعدهم عن بذل الأنفس في مجاهدة الملحدين، وإبادة المشركين، الجزاء الجسيم، والنعيم المقيم، والبقاء الذي لا يعتوره فناء، والجذل الذي لا يعترضه انقضاء.
وقدّم على الأساطيل والمراكب الحربيّة وأعمالها ورجال البحر من تختاره لذلك من أماثل الأمراء المشهورين بالشّدّة والنّجدة، والبصارة والمهارة والخبرة بشقّة البحر والقتال فيه، ومره بالتّسحيل (1) وملازمة السّيف والإرساء من الشّطوط بحيث يتأمّل مضاربك، ليكون ما حمل عليها من ميرة وعدّة قريبا منك فإن نازلت ثغرا من ثغور الساحل فاملأه بالخيل من برّه، وبالسفائن من بحره، واستخدم لحفظ ما فيها من الأزواد والأسلحة والعدد والنّفط ودهن البلسان والحبال والعرّادات (2) وغيرها من الآلات من تثق بأمانته ومعرفته، وتقدّم إليهم بالحوطة على ما يخرجونه من العواري (3) واسترجاعه بعد الغنى عنه، واستظهر بذلك استظهارا يحمد موقعه لك، ويعرف به رصين رأيك، وسديد مذهبك. واستخلص لمجالستك من أهل الأصالة والحزم، والرّجاحة والفهم، والدّراية والعلم، والتجارب في ممارسة الحروب، وملابسة الخطوب، من ترجع إلى رأيه فيما أشكل، وتعتمد على تجربته فيما أعضل ولا تستبدّ برأيك فإنّ الاستبداد يعمّي المراشد، ويبهم المقاصد.
ولمّا كانت الشّورى لقاح الأفهام، والكاشفة لغواشي الإبهام، أمر الله تعالى بها نبيّه عليه السلام فقال: {وَشََاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذََا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (4).
__________
(1) أي مقاربة الساحل.
(2) العرادات: واحدتها عرّادة، وهي من آلات الحرب، أصغر من المنجنيق، ترمي بالحجارة المرمى البعيد. (التعريف بمصطلحات الصبح: ص 242).
(3) العواري: مفردها عارة وعارية، وهي ما تعطيه غيرك على أن يعيده اليك. يقال: كل عارة مستردّة.
(4) آل عمران / 159.(10/421)
ولا تشاور جبانا ولا مثبّطا عن انتهاز الفرصة الممكنة، ولا متهوّرا يحملك على الغرّة المهلكة، وتأنّ في الآراء فإنّ التأنّي يجمّ (1) الألباب، ويجلو وجه الصواب، ويقلّص سجوف الارتياب، واضرب بعض الآراء ببعض وسجّلها، وأجل فكرك فيها وتأمّلها فإذا صرّحت عن زبدتها، وانشقّت أكمامها عن ثمرتها، فأمض صحيحها، واعتمد نجيحها وإذا استوى بك وبالعدوّ مرحى (2) الحرب فحرّقهم بنار الطّعن، وأذقهم وبال أمرهم، وعاقبة كفرهم، ولا ترقّ لهم واتّبع ما أمر الله تعالى به في الغلظة عليهم، فإنه يقول: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قََاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفََّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (3) فإن جنحوا للسّلم والموادعة مصانعين، فقابل بالقبول، فإن الله تعالى يقول: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهََا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (4). وابذل الأمان لمن طلبه، واعرضه على من لم يطلبه، وف لمن تعاهده بعهده، واثبت لمن تعاقده على عقده، ولا تجعل ما تفرطه من ذلك ذريعة إلى الخديعه، ولا وسيلة إلى الغيلة: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (5)، ورسوله صلى الله عليه وسلم يقول: «الناس عند شروطهم»، وإذا أعانك الله على افتتاح معاقل المشركين، واستضافته إلى ما بأيدي المسلمين، فارفع السيف عن قاطنيه، واعتمد اللّطف بالمقيمين فيه، وادعهم إلى الإسلام، واتل عليهم ما وعد الله به أهله من كريم المقام فمن أجابك إلى استشعار ظلّه، والاعتصام بحبله، فافرض له ما تفرضه لإخوانك في الدّين، واضمم إليهم من علماء المسلمين من يبصّرهم ويرشدهم، ويثقّفهم ويسدّدهم، وخيّر من آثر المقام على دينه بين تأدية الجزية، والاستعباد والمملكة فإن أدّوا الجزية فأجرهم مجرى أهل الذمّة المعاهدين، وخصّهم من الرّعاية بما أمر به في الدين، وإن أبوا ذلك فإن الله تعالى قد أباح
__________
(1) أجمّ النفس: أراحها.
(2) أي المكان الذي تدور عليه رحى الحرب.
(3) التوبة / 123.
(4) الأنفال / 61.
(5) المائدة / 1.(10/422)
دماء رجالهم، واستعباد ذراريّهم ونسائهم، وابتن بالمعقل مسجدا جامعا يجمّع فيه بالمسلمين، ويخطب على منبره لأمير المؤمنين، وارفع منارته حتّى تعلو على كنائس المشركين، وانصب فيه إماما يؤدّي الصلاة في أوقاتها، وخطيبا مصقعا يخطب الناس ويعظهم، ومكبّرين يدعون إلى الصلوات، وينبّهون على حقائق الأوقات، وقوّاما وخدّاما يتولّون تنوير مصابيحه، وتعهّد تنظيفه وفرشه، وأطلق لهم من الأرزاق والجرايات ما يبعثهم على ملازمته ويعينهم على خدمته، واحتط على من يحصل في يدك من أسرى المشركين، لتفدي بهم من في قبضتهم من أسراء المسلمين، وإذا عرضوا عليك الفداء فاحذر من خديعة تتمّ فيه، أو حيلة تتوجّه في افتكاك معروف منهم بمجهول من أهل الإسلام وإن كان الله تعالى قد فضّل أدنياء المسلمين على عظماء الملحدين، ولم يسوّ بينهم في دنيا ولا آخرة ولا دين، إلا أنّ هذا مما يوجب الحزم الحوطة فيه وإن ظفرت بنسيب لطاغيتهم المتملّك عليهم أو خصيص (1) به فاحمله إلى حضرة أمير المؤمنين، ليقرّبها رهينة على من قبلهم من المأسورين، وسبيلا إلى انتزاع ما يبذلونه في فدايته من المعاقل والحصون. وقد أمضى لك أمير المؤمنين أن تعقد الهدنة معهم إذا رغبوا فيها على الشرائط التي تعود بعلوّ كلمة الملّة، وتجمع الخواطر والاستظهار للدولة فعاقدهم محتاطا، واشترط عليهم مشطّا، وتحرّز في العقد ممّا يوجب تأوّلا، ويدخل وهنا، ويطرّق وهيا، وتحفّظ بجوالي (2) المعاهدين والأموال المقبوضة في فداء الغلّات والغنائم وسبي المشركين حتى يحمل ذلك إلى بيت مال المسلمين، فينظر أمير المؤمنين في تفريقه على مستحقّه، وإيصاله إلى مستوجبه، وافحص عن أحوال المستأمنين إليك تفحّصا يكشف ضمائرهم، ويبلو سرائرهم،
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية: «اشتهر هذا البناء على الألسنة وفي رسائل الأفاضل ولكن لم نجده في كتب اللغة، وإنما الذي فيها بهذا المعنى: فلان مخصّ بفلان أي خاص به وله به خصية».
(2) الجوالي هي ما يؤخذ من أهل الذمة من الجزية المقررة على رقابهم في كل سنة. والجوالي أيضا جمع جالية، وتطلق على أهل الذمة وقد قيل لهم ذلك لأن عمر بن الخطاب أجلاهم عن جزيرة العرب، ثم لزم هذا الاسم كل من لزمته الجزية من أهل الذمة وإن لم يجلوا عن أوطانهم.
(التعريف بمصطلحات الصبح: ص 94).(10/423)
وتحرّز منهم تحرّزا يؤمّنك مكايدهم وحيلهم، وخدائعهم وغيلهم، وإذا نازلت حصنا من حصون الكفار، فكن على يقظة من مخاتلهم في الليل والنهار، وانصب الحرس والأرصاد، واحذر الغرّة ولا تهمل الاعتداد: لتعرّف أعداء الله أن طرفك ساهد، وجنانك راصد، وتفقّد أمر الجيش وأزح علّة من ترقبه في الأطماع والمواكدات، ومطّوّعته في المعاون والجرايات، ولا تغفل عنهم غفلة تضطرّهم إلى الانفلال، وتدعوهم إلى الانفصال وأحسن إلى من حسن في الكفاح أثره، وطاب في الإبلاء خبره، وعده عن أمير المؤمنين بالحباء الجزيل والعطاء والتّنويل، فإنّ ذلك قادح لعزائم الأولياء، باعث لهم على التصميم في اللّقاء فإذا أنت بمشيئة الله شفيت الصّدور، واحتذيت المأمور، وأعززت الدين، وذللت الملحدين، ودّوخت البلاد، ونكّست رؤوس أهل العناد، فانقلب بعساكر أمير المؤمنين، ومطّوّعة المسلمين، إلى حضرته واثقا بجميل جزائه، وجليل حبائه، وطالع في موردك ومصدرك بما يجدّده الله لك ويفتحه على يدك، واذكر ما أشكل عليك ليمدّك أمير المؤمنين بالتبصير والتوقيف، والتعليم والتعريف، واستعن بالله فهو خير معين، وتوكّل على الله فإنه نعم الوكيل.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، فاعمل به وانته إليه يسدّد الله مساعيك، ويصوّب مراميك، إن شاء الله تعالى.
قلت: وأورد في خلال ذلك من تقاليد أرباب السيوف جملة أسقط من صدرها التحميدات.
ما أورده في رسم تقليد الإمارة على قتال أهل البغي أن يقال بعد التحميد ما مثاله:
وإن الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر على كافّة المؤمنين، وأكّد فرضها على جميع المسلمين، فقال جل قائلا، {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللََّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1)، علما منه تعالى بأنّ الطاعة ملاك الأمر ونظامه،
__________
(1) النساء / 59.(10/424)
ومساك الجمهور وقوامه، وأنه لا تتمّ سياسة مع الشّقاق والانحراف. وأمر سبحانه باستتابة من ألقى العصمة من يده، ونبذ الطاعة وراء ظهره، بشافي المواعظ والتبصير، ونافع التنبيه والتذكير فإن أقلع وتاب، ورجع وأناب، وإلا جوهد وقوتل، وقوبل بالرّدع حتى يقبل ويعتصم بالطاعة، وينتظم في سلك الجماعة، فقال تعالى: {وَإِنْ طََائِفَتََانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمََا} (1)، وقال:
{فَقََاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتََّى تَفِيءَ إِلى ََ أَمْرِ اللََّهِ} (2). وإنّ الغلاة (3) فارقوا اجتماع المسلمين، وانسلخوا من طاعة أمير المؤمنين، نابذين لبيعته، شائين بطل دعوته، وشقّوا عصا الإسلام، واستخفّوا محمل الحرام، واستوطئوا مركب السيئات والآثام، وعرّجوا عن قويم السّنن، وسمّوا بأراذل البدع أفاضل السّنن، وسعوا في الأرض بالفساد، وجاهروا بالعصيان والعناد وكاتبهم أمير المؤمنين مبصّرا، ومعذرا منذرا ومخوّفا محذّرا، ودعاهم إلى التي هي أصلح في الأولى والأخرى، وأربح في البدء والعقبى، وأعلمهم أنّ الله تعالى لا يقبل صلاتهم ولا صيامهم، ولا حجّهم ولا زكاتهم ولا يمضي قضاياهم ولا حكوماتهم، ولا عقودهم ومناكحاتهم، ما داموا على معصية إمامهم، ومفارقة وليّ أمرهم، الذي أوجب عليهم طاعته، وفرض في أعناقهم تباعته، وتابع في ذلك مواصلا، ووالاه مكاتبا ومراسلا، فأصرّوا على العقوق، واستمرّوا على اطّراح الحقوق، ودعوا إلى الأسوإ لها من إقدام الجيوش عليهم، ونقل العساكر إليهم، ومقابلتهم بما يقوّم أودهم، ويصلح فاسدهم ويزع جاهلهم، ويوقظ غافلهم.
وإنّ أمير المؤمنين تخيّرك للتقدّم على الجيش الهاتف نحوهم: لما يعلمه من شهامتك وصرامتك، وسدادك وسياستك، وإخلاصك ووفائك، وكفايتك وغنائك (ويوصف بما تقتضيه منزلته، والأمر الذي هو أهل له)، وهو يأمرك أن
__________
(1) الحجرات / 9.
(2) الحجرات / 9.
(3) في الأصل «الغلاب» ومعناها غير واضح. والتصحيح من الطبعة الأميرية. والغلاة هنا: البغاة.(10/425)
تقدم النفوذ إليهم مستنجحا دعاء أمير المؤمنين، مستنزلا لصروف الغالبين، مستشعرا لباس التقوى، في الإعلان والنّجوى، فإذا نازلتهم في عقر دارهم، فأذقهم بالمضايقة وبال أمرهم، واسلك بهم سبيل أمير المؤمنين وافتتحهم بالإرشاد، وحضّهم على ما يقضي بصلاح الدنيا والمعاد فإن استقاموا وتنصّلوا وراجعوا ورجعوا فأعطهم الأمان، وأفض عليهم ظلّ الإحسان، وإن أصرّوا وتمرّدوا، وجاهدوا واعتدوا، فشمّر لمنازلتهم، وصمّم في مقاتلتهم، واثقا بأن الله تعالى قد قضى بالنصر لأولياء أمير المؤمنين وأهل طاعته، والخذلان لأعدائه وأهل معصيته، إبانة بذلك عن تأييده لمن اعتصم بحبله، ودفعه لمن انسلخ من ظلّه، وحجّة بالغة لمن تمسّك بطاعته، وموعظة شافية لمن استخفّ بحمل معصيته فإن ملّكك الله تعالى البلاد، وطهّرها من أهل الفساد، وشرّد عنها الدّعار والأشرار، إلى أقاصي الدّيار، فاجبب نواعق الفتنة والضّلالة، وعفّ آثار ذوي الغيّ والجهالة، وأسبغ الأمن على أهل السّلامة، وأفرغ العدل على من سلك سبيل الاستقامة، وأجر الأمر في الخطبة لأمير المؤمنين على الرّسم المحدود، والمنهج المعهود، وطالعه بما انتهيت إليه، ليكاتبك بما تعتمد عليه.
ويضمّن هذا العهد ما يقع فيه من شروط العهد المتقدّم، ويؤمر أن لا يستصحب من الجند إلّا من يثق بإخلاصه وصفائه، ويسكن إلى أمانته ووفائه، وأن يرفض المدخول النّية، النّغل الطويّة، فإنه لا شيء أضرّ على المحاربة من لقاء عدوّ بجيش مخامرين، وجند مماكرين وقد يكون في العساكر من يداهن ويظهر الخدمة وهو في مثل العدوّ: إما لأنّ بينهما سالف وداد وولاية قد تأصّلت بإطماع وإفساد، أو يكون لسلطانه قليل الإحماد. وهذا الذي أوردناه ليس بمثال جامع وإنما هو الذي يتميز به هذا العهد عما تقدّمه، والكاتب إذا احتاج إلى استعماله رتّبه وقدّم ما يجب تقديمه، وأخّر ما يجب تأخيره [وأضاف إليه ما تجب] (1) إضافته إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.(10/426)
وهذه نسخة سجلّ بولاية مصر، وهي:
الحمد لله، الموفّق إلى دواعي رضاه، المحسن العون على ما أوجب المزيد من إفضاله واقتضاه، المثيب على ما هدى إليه من طاعته، القابل عمل من استنفد في الشكر أقصى طاقته، المتكفّل بمصالح عباده، المولي من مواهبه ما تعجز الخواطر والألسنة عن تعداده، وصلّى الله على جدّنا محمد الذي جعل اتّباعه سبيلا إلى سكن جنّات الخلود، وآلت بهداه نار الكفر إلى الهمود والخمود، وأنقذ من مهاوي الضّلال، ووسم من حادّه وحاد عن سبيله بالصّغار والإذلال، وخلّف في أمّته الثقلين كتاب الله وعترته، وأبقى بهما فيهم آيته وهدايته، وعلى أخيه وابن عمّه أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب مبرم أسباب الشريعة ومحكمها، ومطلق سيوفه في نفوس أعداء الملة ومحكّمها، وباب مدينة علم النّبوة التي لا يدخل إليها إلّا منه، وسيد من عناهم الله بقوله: {رَضِيَ اللََّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} * (1) وعلى آلهما الأئمة الهداة قوّام الإسلام، وساسة الأنام، وخلفاء الله في أرضه، والموفين بعهده والآمرين بأداء سنّته وفرضه، وركن العصمة الذي من لجأ إليه نجا، والحصن الذي ما خاب من أمّه فرجا منه فرجا، وسلّم وعظّم، ووالى وكرّم.
وإنّ أمير المؤمنين لما أودعه الله إيّاه من أسرار الحكمة، واجتباه له من إمامة الأمّة، واختاره له من كلاءة الخليفة وإيالتها، وحفظ حوزتها من المخاوف ورعايتها، وما خصّه به من بنوّة النبوّة والرّسالة، وأفرد به رأيه من الجزالة والأصالة، واكتنف به أنحاءه من التوفيق الذي لا يصدف عن غرض الإصابة ولا يحيد، وعضّده به من التأييد القاضي لعزائمه ببلوغ الغرض في نصرة التوحيد، واستودعه إياه من الإقبال الذي يجعل المستحيل لمراده إمكانا، والتأييد الذي أوضح به لإمامته برهانا، وتوحّده به من العصمة التي تصيب بها مراميه مواقع الرّشاد، وتضمن الخيرة لما يعانيه من الأمور مما سدّ وساد يعمل خواطره فيما يكفل للنفوس برضاها، ويجزل للدّين والدنيا به حظاها، وتتظاهر به ضروب الصلاح على
__________
(1) المائدة / 119.(10/427)
الأمة، وتحيا به سنن الخيرات وتتمّ النعمة، وينظر لمن استودعه الله إيّاهم من بريّته نظر المؤدّي الأمانة إلى مؤتمنه، المستودع فيما يتقرّب به إليه من البرّ شكر سوابغ منائحه ومننه، ويقرّب على الأمة منال الخير باصطفائه من يكون لأفاضل الشّيم مستكملا، وإلى ما أزلفه إلى الله سبحانه من طاعة أمير المؤمنين متوصّلا، ولشواذّ الثناء بفاضل سيرته متحلّيا، وللتسمّح في قوانين السّياسة مجتنبا ولما علم [رغبة] (1) الرعية فيه منتصبا، وفيما بلّغهم أقصى الآمال متسبّبا، وبمراقبة الله فيما يأتي ويذر متديّنا، وبحسن الجزاء على العمل بمرضاته متيقّنا: ليكون أمير المؤمنين قد قضى [ما أوجبه عليه] (2) مستخلفه باجتبائه واصطفائه، واستحمد إليه بإسناد جلائل الخدم إليه واستكفائه، وأتى ما تكون السلامة مضمونة في مباديه وعواقبه، وأحظى نبيل المراد في جميع جهاته وجوانبه، مستديما نعم الله التي أسداها إليه وأولاها، مواصلا حمده على مننه التي ظاهرها عليه ووالاها، ويستعينه على لوازم عوارفه التي من أجلّها خطرا، وأحمدها في البريّة أثرا، وأجمعها لمنافع الخاص والعام، وأعودها بحماية حوزة الإسلام، وأشهدها ببراهين الأئمّة، وأدلّها على عناية الله بهذه الأمّة، ما منحه أمير المؤمنين من موازرة فتاه ووزيره، ومعينه على المصالح وظهيره، السيد الأجل العادل أمير الجيوش أبي الحسن عليّ الظافريّ (3)، والدعاء الذي أظهر الله به لأمير المؤمنين آيات حقوقه، واستأصل ببأسه شأفة من تتابع في مروقه وبالغ في عقوقه، وكسا الدهر بإيالته ملابس الجمال، وفسّح بفاضل سيرته مجال الآمال، وبذل من الجهاد غاية الاجتهاد، ووالى من عمارة البلاد ما أنطق بحمده الجماد، واستخلص نخائل الصّدور (4)
بلطف سياسته ووسع عدله، ورغبت غرائب الآمال في الإيواء إلى سابغ فضله، وتبارت الليالي والأيام في خدمة أغراضه في أعاديه، واسترقّ قلوب الأولياء بما يواليه من بيض أياديه، ووضع الأشياء في مواضعها غير محاب ولا مرخّص، ولم
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) هو أبو الحسن، علي بن إسحق بن السلار. كان وزيرا للظافر بالله الفاطمي من 15شعبان 544هـ حتى 6محرم 548هـ. (الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي: ص 283).
(4) يقال: بذل له نخيلة قلبه وصدره: خالصه.(10/428)
يحظ بأيامه النيّرة غير الطائع المخلص، ولم ينفق للباطل سوق، وأتت سيرته بما يرضي الخالق والمخلوق فالله تعالى يجعل مدّته غير متناهية إلى مدى، والنصر والتوفيق لآرائه مددا، ويخلّد أبدا سعده، وينجز لأمير المؤمنين على يده وعده.
ولما كانت منزلته عند أمير المؤمنين المنزلة التي تتطامن دونها المنازل والرّتب، وجلّت أن ينالها أحد ممن بعد أو قرب، وأفعاله قدوة يهتدى بأمثالها في الشّكوك، وسيرته قد عظمت عن أن تتعاطى مماثلتها همم الملوك، ومحلّه عنده من الكمال بحيث تستحكم الثّقة باختياره، ويرجع في عقد الأمور وحلّها إلى اتّباع آثاره وموافقة إيثاره، وكانت مراتب الأولياء عند أمير المؤمنين بحسب مراتبهم من قربه، وموضعهم من رضاه مضاهيا لموضعهم من قلبه، ومكانهم من الحظوة لديه مناسبا لمكانهم من الزّلفة عنده، وأحقّهم بسناء الرّتب من أقبسه زنده وكساه مجده، ولا سيّما من لم يخرج منه عن حكم الولد، وحلّ منه محلّ القلب من الكبد، ونشأ في دوحته غصنا نضيرا، وطلع في سماء جلاله قمرا منيرا، واعتلى بجدّه، وقطع بحدّه، وتظاهرت شواهد سعده في مهده وكنت أيها الأمير الحاوي لهذا الفضل المبين، المعتلق من ولاء أمير المؤمنين بالحبل المتين، الذي نشأ متوقّلا في درج المعالي، وغدا متقيّلا في ظلال الصّوارم والعوالي، وأخذت بمراشد السيد الأجلّ العادل فزدت عن الظّنون وأوفيت، ووعدت عنك فصدّقت ضمانها ووفّيت، وما زلت بعين الإجلال والتعظيم ملموحا، وبأفضل خلال الرّؤساء ممنوحا، ولجلائل المراتب مؤهّلا، وبلسان الإجماع مفضّلا، ولما أعيا من أدواء النّفاق حاسما، وفي مواقف المخاوف رابط الجأش حازما، ولما يعدّ الأماجد له مذخور المضاء، وفيما تعانيه وتلابسه موفّق الآراء وقد اكتنفك من اتّباعك هدي السيد الأجل العادل أدام الله قدرته وولاءه ناصر الدين، الأجل المظفّر المقدّم الأمين، سيف الإمام، ركن الإسلام، شرف الأنام، فخر الملوك، مقدّم الجيوش، ذي الفضائل، خليل أمير المؤمنين، أبي الفضائل عبّاس (1)
__________
(1) هو أبو الفضل، عباس بن أبي الفتوح يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي. وزّر للظافر بالله ومن بعده للفائز بنصر الله. واستمرت وزارته من 12من المحرم 548هـ حتى 19من ربيع الأول 549هـ. ثم انتقلت الوزارة الى طلائع بن رزيك. (الوزارة والوزراء: ص 285).(10/429)
الظافريّ العادليّ، أدام الله به الإمتاع، وعضّده وأحسن عنه الدّفاع، الذي هو فخر الملوك ونجلهم، وأثراهم من المفاخر وأجلّهم، وأقدمهم في الرياسة قدما وأعرقهم، وأطيبهم أرج ثناء وأعبقهم ما جعلك أعلى الأعيان مفخرا، وأكرم الجواهر عنصرا، وأولاهم بآلاء أمير المؤمنين وعطائه، وأسبقهم في مضمار اختياره واجتبائه، وأثبتهم عنده مكانة، وأحراهم في خدمه بتأدية الأمانة وقد عرف من مواقفك المشهودة، ومقاماتك المحمودة، ما كان منك في نوبة ابن مصّال (1) وجموع ضلاله، وما استفاض من كونك سبب انهزامه وانفلاله، وانقلاب تدبيره عليه وانعكاسه، والتفريق بين جسده وراسه، وحصل لك بذلك من إحماد أمير المؤمنين ما لا يبلغ الوصف مداه، إذ كان قد جرّد سيف نصر والدك الأجل المظفّر وأنت حدّاه، رأى أمير المؤمنين وبالله توفيقه أن لا يضيّع ما فيك من جوهر مكنون، ولا يرجع في أمر نباهتك إلى ما تدل عليه السّنون إذ كنت للكمال مع فتاء السّنّ حائزا، وبمزيّة اصطناع أمير المؤمنين واختياره إيّاك فائزا وفاوض السيد الأجلّ العادل أدام الله قدرته في تشريفك بولاية يكشف بها شفوف جوهرك، ويوضّح لكافّة البريّة بما شرتك إيّاها ما استقرّ عنده من جميل مختبرك، ووقع التعيين على تقليدك ولاية مصر وما مع ذلك من الصّناعتين وغير هما من حقوقهما، فأمضى أمير المؤمنين ذلك لما لهذه الولاية من الحظوة بالقرب والدّنوّ، وليوفّر على الإيثار على أن يبلّغ نظرك إلى غايات العلوّ والسموّ، وخرج أمره إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بتقليدك الخدمة المذكورة: علما بانتظام شؤونها بإيالتك، وحياطة حوزتها بسطاك ومهابتك، وتحقّقا أنّ بسياستك تعمّها المصالح، وتتظاهر عليها الميامن والمناجح، وتظهر لها الحجة في الافتخار، على سائر
__________
(1) هو أبو الفتح، سليم بن محمد بن مصّال اللكّي. كانت وزارته في أيام الظافر من جمادى الآخرة 544هـ حتى 14شعبان من السنة نفسها. لم تطل وزارة ابن مصّال إذ ثار عليه ابن السلار، والي الإسكندرية والبحيرة، واجتمع معه ابن زوجته عباس بن باديس واتفقا على إزالة ابن مصال من الوزارة واستطاعا قتله. (انظر المقريزي: 2/ 30والوزارة والوزراء: 282).(10/430)
الأمصار، وتستأنف بمقارنتك من الميزة ما لم تحظ به فيما سلف من الأعصار، ويتضح بك البرهان لمن بالغ في تفضيلها، وتنال من فائض العدل بسيرتك ما تكاد تغنى به عن نيلها فتقلّد ما قلدك أمير المؤمنين من ذلك: معتمدا على تقوى الله الذي إليه تصير الأمور، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور قال الله تعالى في محكم كتابه المبين: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَكُونُوا مَعَ الصََّادِقِينَ} (1)، واجعل من تحويه هذه المدينة بالعدل مشمولين، وعلى أجمل السّيرة والرسوم محمولين، وساو في الحكم بين الشريف والدّنيّ، وآس في المقدار بين الملّيّ والذّمّيّ، وأقم الحدود على من تجب عليه بمقتضى الكتاب وصحيح الآثار، ولا تتعدّها بإقلال ولا إكثار. وفي هذه المدينة من ذوي الأنساب، وأعيان الأجناد ومتميّزي الكتّاب، وأماثل الشهود: فاعتمد تمييزهم والاحتفاء بهم، ومعونتهم على مطالبهم ومحابّهم، وكذلك من تضمّنت هذه الولاية من التّجّار والرعية، وتوخّهم بما يسكّن جاشهم، ويزيل استيحاشهم، ويفسح لهم في الرجاء والأمل، ويعينهم على صالح العمل وتقدّم بحفظ الجامع العتيق (2) وصونه وتوفيره، على ما يليق به وتوقيره، وامنع من ابتذاله في غير ما جعل له، ونصب له، من الإعلان بذكره فيه وأهله، ووفّر تامّ العناية، وشامل الرّعاية، على من به من الفقهاء والعلماء والمتصدّرين والقرّاء، وحضّهم بالتكرمة على المبالغة في طلب العلوم، والتزوّد من صالح الأعمال ليوم الوقت المعلوم، وخذ جميع المستخدمين معك بلزوم الطرائق الحميدة، والمقاصد المستوفقة السديدة فمن استمرّ على ما ترضاه من اجتهاده، وتستوفقه من صواب اعتماده، أجريته على رسمه في الرعاية، وتوخّيته
__________
(1) التوبة / 119.
(2) وهو جامع عمرو بن العاص بمدينة فسطاط مصر، ويقال له: تاج الجوامع، وهو أول مسجد أسس بديار مصر بعد فتحها، وذلك أنه لما افتتح عمر بن الخطاب البلدان كتب إلى عماله بالبصرة والكوفة والشام ومصر أن يتخذوا للقبائل مساجد، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة وكان عامل مصر يومئذ عمرو بن العاص فبنى هذا الجامع. (انظر الخطط التوفيقية: 4/ 13والمقريزي:
2/ 246).(10/431)
بالصون والحماية، ومن كان بالخدم مخلّا، وسلوكه عما يلزمه ضالّا مضلّا، فأوعز بتأديبه، وما يقضي بتقويمه وتهذيبه والثّقة بوفور حظّك من الصواب، وإجرائك على ما يناط بك على الاستتباب، أغنى عن الإطالة لك في الوصايا والإسهاب والله تعالى يقرن الخير بما تنظر فيه، ويجعل التوفيق مضمونا فيما تذره وتأتيه، وينيلك من رتب السعادة ما أنت له أهل، ويتمّ نعمته عليك كما أتّمها على أبويك من قبل فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
ومن السجلات بالوظائف الدينيّة على هذه الطريقة ما كتب به القاضي الفاضل عن العاضد بولاية بعض القضاة، وهو:
الحمد لله الواسعة عطاياه، الوازعة قضاياه، المشتملة على أقسام الخلق قسمه، المبرور في سؤالهم يوم فصل القضاء قسمه، المسطور في كتابه الذي ما فرّط فيه من شيء محلّل الشرع ومحرّمه، المتمثل فيه لمن مثله مطاع الأمر ومسلّمه، الكريم الذي لا يضيع ثواب العاملين، ولا يقطع أسباب الآملين، ولا يمنع طلاب السائلين، العدل الذي قامت حجّته على الناكبين والعادلين، والحقّ الذي يقضي بالحقّ وهو خير الفاصلين، مصفّي مشارع الشريعة من أعراض الكدر، وحامي معاقل الملّة من انتقاض المدر (1)، ومنزّه أوليائه من محاسنها في رياض الفكر، ومعرّفهم بما عرض عليهم من إنافتها لارتياض النظر، وارتكاض (2) الفطن والفطر، جاعل الحكم سلطانه الذي يأوي اللهيف إلى ظلّه، وحماه الذي يلجأ الضعيف إلى عدله، ومفزع الرائع (3) الذي يقف المشروف
__________
(1) انتقض الشيء: فسد بعد إحكامه. والمدر هو الطين اللزج المتماسك. وأهل المدر هم سكان البيوت المبنية، خلاف البدو.
(2) ارتكض: اضطرب وتحرّك.
(3) أي الخائف.(10/432)
والشريف عند فصله، وشفاء العلل الذي يذهب بكل [ما في] (1) صدر من علّة، ومشرع الإنصاف الذي يفضي إلى الظّمإ فيض سجله، وموعد الخلائق يوم تطوى السماء كطيّ سجلّه، ومظهره ليظهر به هذا الدين على الدّين كلّه، والآمر فيما أشكل منه بالتعريج إلى مستنبطه من أهله، وجاعل الأئمة الهادين الحجج على من رجع إلى قياس عقله أو تقليد جهله، وأحد الثقلين الذي يخفّف عن كلّ غارب كل ثقله، وأخوه الكتاب فلن يفترقا حتّى يردا الحوض يوم نهله وعلّه، وصراطه المستقيم الذي من أتى اليوم فيها بزلّة رأيه أتى غدا بزلة فعله، ومنار الأنوار المضروب على طرق الساري في ليل الضّلال وسبله، وسبب العصمة التي أشار فيها إلى الاعتصام بحبله وصلّى الله على جدّنا محمد الذي عظم به جدّنا، واعتلق بسببه مجدنا، ووجب به على كل من وادّ الله ورسوله ودّنا، وأورثنا من علمه ما حاز لنا شرفي الدين والدّنا، وحلم به نجير من ضاقت به المذاهب فرجا فرجا، وحكّمه المشركون فيما شجر بينهم فلم يجدوا في أنفسهم بما قضى حرجا، وعلى أخيه وابن عمّه، القائم مقامه بفصل حكمه وفضل علمه، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي حرز له من المكرمات لبابها، وطابت بغبار حلمه إقامة الألباب وإلبابها، وميّزه على الكافة بقوله: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» وشهد طورا بأنه أفتاهم، فعلم أنه أقربهم به شبها وفي مدى الفضل أقصاهم، وعلى الأئمة من ذرّيتهما الذين أنعموا فأجزلوا، وحكموا فعدلوا، وحمّلوا ثقل الأمانة فحملوا، وجاهدوا في سبيل الله فعلوا بما فعلوا، واستوجبوا الحمد بما أولوا والأجر بما ولّوا، صلاة مأمونة من الشبهات، متوضّحة الشّيات.
ولما كان حكم الصواب في الحكم بين الناس أن يختار من بان صوابه واتّضح، وبان عنه حكم الهوى الذي فضح، وأصغى ضميره إلى لسان الحقّ الذي فصح، وعرض جوهره على محكّ النّقد فصحّ، وميّز بينه وبين الرجال فثقل وزنا ورجح، واحتجّ به الإسلام على من نوى مناواته فنجح، وولي الأحكام بين
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.(10/433)
المسلمين فأصلح وصلح، وتسمّح إذا كان الحقّ له وإذا ما كان فيه فما أسمح ولا سمح (1)، وجدّد جدّه من معالم العلوم ما صحّ رسمه وأمحّ (2)، وأطلعته على خفايا المشكلات بديهة فكره لمّا لمح، وملك عنان هواه رأيه فجنح إلى هواه وما جمح، وشرح صدر الاختيار بما ملأ الأخيار من محاسنه وشرح، وتعالى الاقتراح لهذه المرتبة فكان وفق ما أراد وفوق ما اقترح، وتشبّث بعين الأعمال الصالحة وتمسّك، وتنزّه عن داء يلازمها وأعراض تشينها وتنسّك، وكثر الخوض في الباطل فإما صدع بالحق وإمّا أمسك، وأعدى فصله وفضله على من شكا أو شكّ، وغضّ عينيه عمّا أعطي سواه ومتّع به، واشترى طول راحته بنصيبه الآن من نصبه، وحسره (3) النعمة من تعبه، وأيس الظالم من ممالاته ومبالاته، وطمع المظلوم بقرب إعاناته وبعد إعناته (4)، ومرّ مرّ الدهر وحلا حلوه فلم يشهد باستمالاته عن حالاته، ولم يرض أحد به حكم صرف دهر يجري بأذاته، ولا كشفت منه التجارب إلا عن البصائر التي تروق السّمّاع والنّظّار، والحسنات التي قضت بصائرها بقضاء مناظرة الأنظار، والديانة التي عمرت المحاريب في الليل وأطراف النهار، والأمانة التي استمسك عقدها فما خيف عليه أن يتداعى ولا أن ينهار، والصيانة التي استوى فوق مركبها فحلّت بجنّات عدن تجري من تحتها الأنهار.
ولمّا كنت أيّها القاضي ملتقى هذه الأوصاف وطيّعها، ومشرق نحرها ومطلعها، وملقى عصا ارتيادها ومنجعها، ومورد فرط تلك الأموال ومشرعها، ومراد هذه السّمات التي تقع منك موقعها، وتألف عندك موضعها، وأصل هذه المحامد التي إن استعلقت بسواه فمنه فرّعها، وقارع صفاة هذه الذّروة التي ما كان لغيره أن يقرعها، ومن تعدّه الخناصر أتقى كفاة الرتب وأورعها، وأبلج أباة الرّيب وأردعها، وأشدّها قياما ومقاما في ذات الله وإن كان له أطوعها، وأمضاها حدّا إذا
__________
(1) أسمح: انقاد. وسمح: جاد وسخا.
(2) أمحت الدار: درست وعفت.
(3) كذا في الأصول وفي الطبعة الأميرية، والمراد غير واضح.
(4) أعنته: أوقعه في مشقّة وشدّة. وفي التنزيل العزيز: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَأَعْنَتَكُمْ}.(10/434)
كف الباطل الغروب، وأشرقها شمسا لا تتوارى بحجاب الغروب، وأقواها سلّة في تنفيذ حكم حقّ إذا ضعف الطالب والمطلوب، وأنقاها صحيفة بما أودعها من نور العمل المكتوب، وأبداها زهدا في دنياه إذا أنموا بوعدها الكاذب أمل إيتائها المكذوب، وأدومها مصاحبة لشكر لا يستقلّ به رفيقها المصحوب، وأقومها طريقة في الحسنات فما طريقه إلى الحوب بملحوب (1)، وأقواها طمأنينة قلب إلى ذكر الذي تطمئنّ به القلوب، وأنهضها عزما بما أعيا الهمم من تكاليف الطاعة وآد (2)
بسمع وبصر وفؤاد، وأقدرها على مجاهدة الشهوات أشدّ الجهاد وأنظرها لنفسه في تحصيل عمل يشهد له يوم قيام الأشهاد، وأمهدها لجنبه وذخائر التقوى نعم المهاد.
وإلى اليقين (3) الذي ظهرت شواهده، والعمل الذي جمعت إليك شوارده، والدّين الذي صفت إليك موارده، والعلم الذي هبّت بمذاكرتك رواكده، والفهم الذي تظاهرت بمناظرتك مراشده، والنظر الذي ألقى فرسان الجدال بالجدالة (4)، والأثر الذي يقضى به عليك بالعدالة، والمحاماة عن الحقّ بما يقضي لمخالفه بالإذالة ولمؤاليه بالإدالة، والإرشاد الذي ما بدا لفهم الشاكّ إلا بدا له، والفتيا التي ضربت ثبج الباطل بسيوفها، وحلّت مسامع المستفيدين بشنوفها، والجلالة التي لا يملّ مسموع أوصافها، والعدالة التي لا يملّ (5) مشروع إنصافها وكم ليلة أغمدت ظلامها في نور التهجّد والناس هجود، وسكّنت جفون مناقبها بيقظات السّجود، وأنشأت الخشية غمامها فاطفأت بماء الدمع النار ذات الوقود، وبلغت رياضة الجوارح التي تريد ورياض القلب التي ترود، فأسفر الصبح منك عن سار واقف، واستسرّ لك القبول عن أنس خائف، وتأرّجت أنفاس الأسحار
__________
(1) الحوب: الإثم. والتحب الطريق: وطئه وسلكه. والطريق الملحوب أي المسلوك.
(2) آد أيدا: قوي واشتدّ.
(3) المراد: وكل ذلك مضاف إلى اليقين الذي الخ.
(4) الجدالة: الأرض.
(5) كذا في الأصول وفي الطبعة الأميرية مع علامة توقف. ولعلها مصحفة عن «يميل».(10/435)
باستغفارك، وتمّ عنوان السّجود بأسرارك، وابيضّت شية (1) الليل بحلى آثارك، واكتنفتك الطّهارة حتّى كأنّك مصحف، وأرهفتك الديانة حتّى كأنك مرهف، وحالفتك الرّكانة (2) وكأنك مع سلامة الخلق أحنف (3)، وثقّفتك السّنّ فأبقت منك ما أبقت من سنان المثقّف، وعرفتك الأحكام بأنك ماض على الحقائق عند الشّبه تتوقّف، وألفتك النزاهة فشهد عدول أن نكرة المطامع عندك لا تتعرّف، وصرفتك النزاهة عن دنيا إن كانت عرائسها تزفّ فغدا مواردها تنزف، واستشرفتك المنازل التي لا تزال بأعناق الأشراف تستشرف وما رأست، حتى درست، ولا تنبّهت، حتى تفقّهت، ولا أقنيت حتى أفنيت المحابر، ولا تصدّرت حتّى تصبّرت على كلف تغلب الصابر فما حاباك من حباك، ولا قدّمك حتّى علم أن سواك ما ساواك فرياستك لم تكن فلتة، واستشراف وجه الرياسة لك لم يكن لفتة، بل تنقّلت متدرّجا، وأثنى عليك لسان حقيقة ما كان متلجلجا ولو أقعدك حسبك أو أباك (4)، لقبلك المجد وما أباك فكيف ولك نفس بنت لك الشرف الخالد، وجمعت الطريف منه إلى التالد، ولم تقنع بما ورثت من تراث رياسة الوالد.
والسيد الأجلّ الذي أعاد إلى الدولة رونق نضارتها، بعد رونق إضارتها، وأفاضت عليه حيا إشارتها، وأضافت إليه نصّ إشارتها، واعطته السعادة أفضل إمارتها، بما أعطته من فضل وزارتها، واشتملت معاني النّجاح من صفحة بشره التي عجّلناك الآمال ببشارتها، وأقرّت حركاته الخلافة في دارها والأنوار في دارتها، وقصّرت مهابته أيدي الأعداء بعد استطالتها، وأخمدت نارهم بعد استطارتها،
__________
(1) الشية هنا بمعنى اللون.
(2) الركانة: الرزانة.
(3) حنف الرجل حنفا: اعوجّت قدمه إلى الداخل. ويقال: حنفت رجله فهو أحنف.
(4) الأبالغة في الأب. قال في اللسان: وفّرت حروفه ولم تحذف لامه كما حذفت في الأب. يقال: هذا أبا ورأيت أبا ومررت بأبا، كما تقول: هذا قفا ورأيت قفا ومررت بقفا. (اللسان: 14/ 7).(10/436)
وذلّلت رياضته الأسود فلم ترع الأسماع بزأرها ولا العيون بزيارتها يعدّك (1)
للصّدور صدرا، ويعدك بما يرفع ذوي الأقدار قدرا، ويذكرك بما تطيب به نشرا، ويحسن ملبوسه بشرا، ويراك أولى من أقام الحقّ لازما جوادّه (2)، وأقعد الباطل حاسما موادّه، ويصفك بالعدل الذي يتألّم عليه الأضداد، والسّداد الذي لا يضرب بينك وبينه بالأسداد، والنزاهة المنزّهة عن التصنّع بالرياء، والسريرة الطيّبة النّشر والسيرة الحسنة الرّواء.
ولما قرّر لك النيابة عنه في الصلاة والخطابة والقضاء والمظالم والإشراف على الجوامع والمساجد ودار ضرب العين (3) والورق والسّكّة بالحضرة وسائر أعمال المملكة، أمضى أمير المؤمنين ما قرّر، وتخيّر لهذه العطية من تخيّر، سكونا إلى أمانتك التي حملت نوقها، وركونا إلى ديانتك التي أوجبت تطلّع هذه الرتبة إليك وسوقها، وعلما أنك فارسها الذي اتّسع ميدانه، وواحدها الذي رجح ميزانه، وكفؤها الذي تمكّن مكانه فتقلّد ما قلّدت من ذلك عاملا بتقوى الله التي يفوز العامل بها في مواقف الإسخاط، ويجوز بها السالك متالف الصراط، ويحوز بها الآمل معارف الاحتياط قال الله في فرقانه الذي نزله على عبده ليكون للعالمين نذيرا: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً} (4).
والحكم فهو عقد اللباس دنيا ودينا، وسبيل الحق الذي يسلكه من جرى شمالا وسلك يمينا، وبه كفّ الله الأيدي المتعدّية، وأنقذ من النار النفوس المتردّية، وأقام حدود كلّ من استحقّها ولم يتوقّها، وأوجب قصاص الدماء على من أراقها واستباح رقّها، وبه يقف القويّ والضعيف موقفا واحدا، ويظهر أولو عدل
__________
(1) فاعله عائد للسيد الأجل.
(2) الجوادّ: جمع جادّة، وهي وسط الطريق، أو الطريق الأعظم الذي يجمع الطرق.
(3) العين: ما ضرب نقدا من الدنانير. يقال: اشتريت بالعين لا بالدين.
(4) الحديد / 28.(10/437)
الله لمن كان بعين قلبه مشاهدا، وبه تتبيّن مواقع التحليل والتحريم، وفيه تتعيّن مقاطع الحكم بالتحكيم، ولمجالسه الوقار فهي جنّة لا لغو فيها ولا تأثيم، والظالم فيه وإن ظفر فإنما ظفر بما يقطع له من نار الجحيم. ولا تجعل بين المتحاكمين إليك من فرق، وساو في الحكم بين كافّة الخلق، ولا تحكم بحجّة أحد الخصمين وإن كان لها السّبق: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ وَلََا تَتَّبِعْ أَهْوََاءَهُمْ عَمََّا جََاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (1)، ولا تقطع بعلمك وإن كنت عليما، ولا تبال في الله أن تغضب ظالما وترضي مظلوما، واجعل لنفسك من نظرك وإصغائك بين المترافعين إليك مقسوما، فلا تحقر خطأ الحكم وتجنب منه بينهما ما تجده [عند] (2) الله عظيما، واحكم بينهم بما أنزل الله ولا تكن للخائنين خصيما (3) وتجلبب بالوقار الذي يبيّن فضل الملّة، ويشهد للكفر بالذّلّة، ويلبسك فخر السّراة (4) الجلّة، ولا يمنعك مذموم التكبّر، عن محمود التدبّر، ولا جبر لكسر التجبّر، ولا خير فيمن لا يمهل رويّة التحير، فالعجلة تضيّق ميدان التخيّر وإذا أوضح الملتبس لفهمك، وعزّ القطع بفصل حكمك، فأفهم الظالم ما توجّه عليه لخصمه، فربّما أوتي من سوء فهمه لا من طريق ظلمه، ولعله لا يجمع عليه بين فوت مراده وبقاء إثمه، وذاكر المقدمين على اليمين، بما على من يمين (5)، وأن كاذبها يدع الديار بلاقع (6)، وأن خرق الجرأة على الله ما له من راقع، وصرعة الفاجر ما لها من مزيل ولا رافع ومن قطعه الحصر عن الإفصاح، وصرفه العيّ عن الإيضاح، فاستعمل معه أناة توضّح ما يختلج في صدره، ورفقا يفصح ما يختلج في فكره، فإنّ رسول
__________
(1) المائدة / 48.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية، وهي ضرورية لانتظام السياق.
(3) من سورة النساء، الآية: 105. يقول الطبري «أي لا تكن لمن خان مسلما أو معاهدا في نفسه أو ماله خصيما، أي تخاصم عنه وتدفع عنه من طالبه بحقه الذي خانه فيه» (انظر تفسير الطبري:
9/ 176).
(4) السّراة: اسم جمع للسّريّ، وهو ذو المروءة والشرف.
(5) أي يكذب.
(6) البلقع: الخالي من كل شيء.(10/438)
الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّكم لتختصمون إليّ ولعلّ أحدكم أن يكون ألحن بحجّته من الآخر فأقضي له على نحو ما أسمع» ولدخول المجالس دهشة تورث اللسان عقلة، ولمفاجأة المحافل حيرة تعقب البيان مهلة، فواجب عليك ممن تدلّه أن تدلّه، وممن يشده أن تشدّه: لتقضي بما تقضي، وتمضي الحكم بحقيقة تمضي وإن تنجّزت قضيّة قد فرطت، وتدبّرت نوبة قد أفرطت، فبادر باستدراكها، قبل وقوعك في أدراكها، وتعذرك عن إدراكها ولست معصوما من المغالط، ولا موصوما بالخطإ الفارط، ولا ملوما [إلا] (1) إذا أقمت على ما الله منه ساخط، فقد ذمّ الله من اتّقى الخلائق ولم يتّق الخلّاق، فقال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النََّاسِ وَلََا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللََّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} (2).
وكتاب الله وسنة رسوله السّراجان اللذان ما ضلّ هداهما، والمهادان اللذان ما أوضحهما إليه وأبداهما وقد أغنت نصوصهما عن الأقيسة، وأوضح خصوصهما عامّة الأمور الملتبسة قال الله سبحانه: {مََا فَرَّطْنََا فِي الْكِتََابِ مِنْ شَيْءٍ} (3)، وقال تعالى: {وَمََا آتََاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمََا نَهََاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4)
وإن أشكلت نازلة غير مسطورة وأعضلت واقعة غير محصورة، فاسترشد أمير المؤمنين في أمرها، وقف على بحار علمه فلن تعدم سيح درّها، فأمير المؤمنين الذي أمر الله عند التنازع بأن نردّ [إليه] (5) ما أعضل، وأثّم أخذك للاستنباط [إلا من] (6) الذين حكم الله أن يردّ عليهم ما أشكل.
والشهادة فلقد أمر الله بإقامتها وكفى بالله شهيدا وكفى بذلك جلالة وتمجيدا ولا تتّخذ إلا العدول المقانع، ولا تسمع منهم إلا لمن هو لأمر الله سامع، فهم الأعوان التي تدفع بها نار جهنم، والجنن التي يتّقي بها الحاكم سهام
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية، وهي ضرورية لفهم المراد واستقامة المعنى.
(2) النساء / 108.
(3) الأنعام / 38.
(4) الحشر / 7.
(5) الزيادة من الطبعة الأميرية، وهي ضرورية لفهم المراد واستقامة المعنى.
(6) الزيادة من الطبعة الأميرية، وهي ضرورية لفهم المراد واستقامة المعنى.(10/439)
الآثام فيما حلّل وحرّم، وإلى علمهم انتهت مقاطع الحقوق التي الله بها أعلم وما سرى حكم إلا بعد أن تجد أقواله دليلا، ولك السمع ولهم البصر وكلّ أولئك كان عنه مسؤولا واستشفّ أمورهم فمن ألفيته آلفا لمحجّة الصواب، عائفا لمضلّة الارتياب، لا يحاف بالإغضاب، ولا يخاف بالإرهاب، ولا يحسب حسابا إلا ليوم الحساب، فاسمع مقالته، وأقرّ عدالته، ومن كان عن السبيل ناكبا، وللهوى راكبا، فأرجله عن ظهر العدالة، وتتبّع زلله بالإزالة، وواصل فيهم ألسنة حكمك، وأوجه علمك، فلا تستنب إلا من تعلم أن خطأه عليك وصوابه لك، ولا تعوّل إلّا على من لا يخجل نفسك ولا يذمّ تعويلك.
وكاتبك فقلمه لسانك، ولسانه ترجمانك، إن وقّع فإليك تنسب مواقع توقيعه، وإن وصل حكما بمسطوره فمقدارك مسطور من مسموعه فلا ترض بالدّون فيما يدوّن، ولا تعوّل إلا على كل من تصوّر وتصوّن.
وحاجبك فهو عينك وإن سمّي حاجبا، ووجهك الذي تلقى به إذا كنت غائبا فاختر من يكون متخيّرا في المقال، متحلّيا بحسن الفعال، مجرّبا في جميع الأحوال، لا يلتفت إلى دنيا دينه، ولا يخونك أمانته ولا تمتدّ يمينه، ولا يقول عنك ولا عن نفسه إلا ما يزينك ويزينه، ولا يخفّ إلى ما تخفّ به موازينه.
والخطباء فرسان المنابر، وألسنة المحاضر، وتراجم الشعائر، وأئمة المجامع، وسفراء القلوب بوساطة المسامع لمقامها الرافع، ومبرّها الفارع من القلوب على دائها، وتدحر حربه شياطين الأمم عند اعتدائها، ويعرب عن الهداية ويبالغ بلاغته في إهدائها، ويتقن مخارج الحروف محسنا في أدائها وإبدائها، وتحلّ موعظته عن العيون الجامدة عقد وكائها (1)، وينادي القلوب الصّدية فيكون صداه صوب بكائها، ويستشعر أردية الوقار فتشهد المنابر له بارتدائها، وتغذي النفوس مواعظة إذا قصدته باستنصارها على القلوب واستعدائها.
__________
(1) الوكاء: هو ما يشدّ به الكيس وغيره. (انظر اللسان: 1/ 200).(10/440)
والأيتام فأنت لهم والد، وأجر نفقتك عليهم في الصحيفة وارد، وهم ودائع الله لديك، وذخائر الآباء إلّا أنهم في يديك فأحسن بهم السياسة بالشّفقة، وأحسن لهم التدبير بالنّفقة ومن آنست رشده، فادفع ماله إليه، ومن لم تسترشد قصده، فأنفق منه عليه قال الله تنبيها وتحذيرا: {وَلََا تَأْكُلُوا أَمْوََالَهُمْ إِلى ََ أَمْوََالِكُمْ إِنَّهُ كََانَ حُوباً كَبِيراً} (1).
والمساجد بيوت الله التي يسبّح له فيها بالغدوّ والآصال، ومظانّ العبادة التي يعمرها أهل الاعتلاق بمعروفه والإفضال، ومصاعد الكلم الطيب والعمل الصالح، وأسواق الآخرة التي يوجب فيها المشترون صفقة البيع الرابح، فعبّد الطريق إلى زيارتها، واشرح قلوب المتطهّرين بطهارتها، وانس القائمين بالليل والمستغفرين بالأسحار بإنارتها.
والمضروب بدار الضرب فهو عين ما تجب عليه الزّكوات، ونفس ما تحاز [به] (2) المستملكات، ومدار ما تشتمل عليه المعاملات، وقيم ما تحقن به الدماء في الدّيات، ومنتهى ما توفّى به الصّدقات، وتوصي به الصدقات فتولّ أخذ عياره، ومباشرة تصفية درهمه وديناره، وأخلصه لتنجو من النار بلفحات ناره، واحفظ شكله الذي ينقش خاتم جوازه والأسماء المسطّرة عليه وسيلة امتيازه على بقية الأحجار وإعزازه.
والوكالة على باب الحكم فهي كفاح المتناضلين، وسلاح المتناصلين ومن ينتفع بها لا يعزل من الخطاب، كما لا ينصّب بها من يفتح له الباطل الأبواب فلا توعها إلا لمن حسمته الدّربة، في السرعة من القربة، وتدبر قول الله: {وَإِنْ كََانَ مِثْقََالَ حَبَّةٍ} (3) ممن يؤمن على النساء والرجال، ولا يعجبه إرسال لسانه في الحلال، ولا يبطل الحق إذا أطلق لسانه في سعة المجال.
__________
(1) النساء / 2.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الأنبياء / 47.(10/441)
والمتصرّفون الذين هم أيدي الشريعة التي تشخص الخصوم، ويستعان بهم على قمع الظّلوم ونفع المظلوم، فتخيّر أن يكون أكبرهم من أهل طبقته، وأمدّهم تحسينا لسمعته وتحصينا لأمانته.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك فاهتد بهديه، وقم بفرض رعيه وحقّ وعيه، وكريم سعي الآخرة أحسن سعيه، وتصرّف بين أمر الحقّ ونهيه والله سبحانه يبلّغك من مناجح أمرك، ما لا تبلغه بمطامح فكرك، وييسر لك من بديهة الإرشاد، ما تعجز عنه رويّة الارتياد فاعلم هذا من أمير المؤمنين ورسمه، واعمل بموجبه وحكمه، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك ما أورده عليّ بن خلف الكاتب في كتابه «موادّ البيان» في سجلّ بالدعوة للدولة والمشايعة لها، والموافقة على مذهبها، وهو:
الحمد لله خالق ما وقع تحت القياس (1) والحواس، والمتعالي عن أن تدركه البصائر بالاستدلال والأبصار بالإيناس (2)، الذي اختار الإسلام فأظهره وعظّمه، واستخلص الإيمان فأعزّه وأكرمه، وأوجب بهما الحجة على الخلائق، وهداهم بأنوارهما إلى أقصد الطرائق، وحاطهما بأوليائه الراشدين شموس الحقائق، الذين نصبهم في أرضه أعلاما، وجعلهم بين عباده حكّاما، فقال تعالى:
{وَجَعَلْنََاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنََا وَأَوْحَيْنََا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرََاتِ وَإِقََامَ الصَّلََاةِ وَإِيتََاءَ الزَّكََاةِ وَكََانُوا لَنََا عََابِدِينَ} (3).
يحمده أمير المؤمنين أن أصطفاه لخلافته، وخصّه بلطائف حكمته، وأقامه دليلا على مناهج هدايته، وداعيا إلى سبيل رحمته، ويسأله الصلاة على سيدنا
__________
(1) أي المعقول، لأن القياس لا يكون إلا بالعقل.
(2) انس الشيء: أبصره. ومنه «آنست نارا».
(3) الأنبياء / 73.(10/442)
محمد نبيّه الذي ابتعثه رحمة للعالمين، فأوضح معالم الدين، وشرع ظواهره للمسلمين، وأودع بواطنه لوصيّه سيد الوصيين: عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين، وفوّض إليه هداية المستجيبين، والتأليف بين قلوب المؤمنين، ففجّر ينابيع الرّشاد، وغوّر ضلالات الإلحاد، وقاتل على التأويل كما قاتل على الرسل، حتى أنار وأوضح السّبل، وحسر نقاب البيان، وأطلع شمس البرهان، صلّى الله عليهما، وعلى الأئمة من ذرّيّتهما، مصابيح الأديان، وأعلام الإيمان، وخلفاء الرحمن، وسلّم عليهم ما تعاقب الملوان، وترادف الجديدان (1).
وإنّ أمير المؤمنين بما منحه الله تعالى من شرف الحكمة، وأورثه من منصب الإمامة والأئمّة، وفوّض إليه من التوقيف على حدود الدين، وتبصير من أعتصم بحبله من المؤمنين، وتنوير بصائر من استمسك بعروته من المستجيبين يعلن بإقامة الدعوة الهاديّة بين أوليائه، وسبوغ ظلّها على أشياعه وخلصائه، وتغذية أفهامهم بلبانها، وإرهاف عقولهم ببيانها، وتهذيب أفكارهم بلطائفها، وإنقاذهم من حيرة الشّكوك بمعارفها، وتوقيفهم من علومها على ما يلحب لهم سبل الرّضوان، ويفضي بهم إلى روح الجنان وريح الحنان، والخلود السرمديّ في جوار الجواد المنّان ما يزال نظره مصروفا إلى نوطها بناشيء في حجرها، مغتذ بدرّها سار في نورها: عالم بسرائرها المدفونة، وغوامضها المكنونة، موفّرا على ذلك اختياره، وقاصية انتقاده واختباره، حتّى أدّاه الاجتهاد إليك، ووقفه الارتياد عليك، فأسندها منك إلى كفئها وكافيها، ومدرهما (2) المبرّز فيها، ولسانها المترجم عن حقائقها الخفيّة، ودقائقها المطويّة، ثقة بوثاثة دينك، وصحّة يقينك، وشهود هديك وهداك، وفضل سيرتك في كل ما ولّاك، ومحض إخلاصك، وقديم اختصاصك، وأجراك على رسم هذه الخدمة في التشريف والحملان، والتنويه ومضاعفة الإحسان فتقلّد ما قلّدك أمير المؤمنين مستشعرا للتقوى، عادلا عن
__________
(1) الملوان والجديدان هما الليل والنهار.
(2) المدره: السيّد الشريف، وزعيم القوم وخطيبهم.(10/443)
الهوى، سالكا سبيل الهدى فإنّ التقوى أحصن الجنن، وأزين الزّين، و {ادْعُ إِلى ََ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجََادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1)، فإن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} (2)، وحضّ على ذلك فقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعََا إِلَى اللََّهِ وَعَمِلَ صََالِحاً وَقََالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3)، وخذ العهد على كل مستجيب راغب، وشدّ العقد على كل منقاد ظاهر، ممن يظهر لك إخلاصه ويقينه، ويصحّ عندك عفافه ودينه، وحضّهم على الوفاء بما تعاهدهم عليه، فإن الله تعالى يقول: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كََانَ مَسْؤُلًا} (4)، ويقول جل من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ يُبََايِعُونَكَ إِنَّمََا يُبََايِعُونَ اللََّهَ يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمََا يَنْكُثُ عَلى ََ نَفْسِهِ} (5)، و [كفّ] (6) كافّة أهل الخلاف والعناد، وجادلهم باللّطف والسّداد، واقبل منهم من أقبل إليك بالطّوع والانقياد، ولا تكره أحدا على متابعتك والدخول في بيعتك، وإن حملتك على ذلك الشفقة والرأفة والحنان والعاطفة: فإنّ الله تعالى يقول لمن بعثه داعيا إليه بإذنه، محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمََا أَكْثَرُ النََّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (7) ولا تلق الوديعة إلا لحفّاظ الودائع، ولا تلق الحبّ إلا في مزرعة لا تكدي (8) على الزارع، وتوخّ لغرسك أجلّ المغارس، وتوردهم مشارع ماء الحياة المعين، وتقرّبهم بقربان المخلصين، وتخرجهم من ظلم الشكوك والشّبهات، إلى نور البراهين والآيات، واتل مجالس الحكم التي تخرج إليك في الحضرة على المؤمنين والمؤمنات، والمستجيبين والمستجيبات، في قصور الخلافة الزاهرة، والمسجد الجامع
__________
(1) النحل / 12.
(2) البقرة / 269.
(3) فصلت / 33.
(4) الإسراء / 24.
(5) الفتح / 48.
(6) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(7) يوسف / 103.
(8) أكدى: بخل. وأكدى المطر: قلّ، والعام: أجدب.(10/444)
بالمعزّيّة القاهرة، وصن أسرار الحكم إلا عن أهلها، ولا تبذلها إلا لمستحقّها، ولا تكشف للمستضعفين ما يعجزون عن تحمّله، ولا تستقلّ أفهامهم بتقبّله، واجمع من التبصّر بين أدلّة الشرائع والعقول، ودلّ على اتصال المتل بالممنون (1) فإن الظواهر أجسام والبواطن أشباحها، والبواطن أنفس والظواهر أرواحها، وإنه لا قوام للأشباح إلا بالأرواح، ولا قوام للأرواح في هذه الدار إلا بالأشباح، ولو افترقا لفسد النّظام، وانتسخ الإيجاد بالإعدام. واقتصر من البيان، على ما يحرس في النفوس صور الإيمان، ويصون المستضعفين من الافتتان، وانههم عن الإثم ظاهره وباطنه، وكامنه وعالنه، فإن الله تعالى يقول: {وَذَرُوا ظََاهِرَ الْإِثْمِ وَبََاطِنَهُ} (2).
واتّخذ كتاب الله مصباحا تقتبس أنواره، ودليلا تقتفي آثاره، واتله متبصّرا، وردّده متذكّرا، وتأمّله متفكرا، وتدبّر غوامض معانيه، وانشر ما طوي من الحكم فيه، وتصرّف مع ما حلّله وحرّمه، ونقضه وأبرمه، فقد فصّله الله وأحكمه، واجعل شرعه القويم الذي خصّ به ذوي الألباب، وأودعه جوامع الصلوات ومحاسن الآداب، سببا تتّبع جادّته، وتبلغ في الاحتجاج محجّته، وتمسّك بظاهره وتأويله ومثله، ولا تعدل عن منهجه وسبله، واضمم نشر المؤمنين، واجمع شمل المستجيبين، وأرشدهم إلى طاعة أمير المؤمنين، وسوّ بينهم في الوعظ والإرشاد، والله تعالى يقول في بيته الحرام: {سَوََاءً الْعََاكِفُ فِيهِ وَالْبََادِ} (3)، وزدلهم من الفوائد والموادّ على حسب قواهم من القبول، وما يظهر لك من جودة المحصول، ودرّجهم بالعلم ووفّ المؤمن حقّه من الاحترام، ولا تعدم الجاهل عندك قولا سلاما كما علّم ربّ السلام، وتوخّ رعاية المؤمنين، وحماية المعاهدين، وميّزهم من العامّة بما ميّزهم الله من فضل الإيمان والدين، وألن لهم جانبك واحن عليهم
__________
(1) الممنون من الناس والمتلّ بمعنى واحد، أي القوي الشديد.
(2) الأنعام / 120.
(3) الحج / 25.(10/445)
والطف، وابسط لهم وجهك وأقبل إليهم واعطف، فقد سمعت قول الله تعالى لسيد المرسلين: {وَاخْفِضْ جَنََاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (1)، ولا تفسّح لأحد منهم في التطاول بالدين، ولا الإضرار بأحد من المعاهدين والذّمّيّين، وميزّهم بالتواضع الذي هو حلية المؤمنين وإذا ألبس عليك أمر وأشكل، وصعب لديك مرام وأعضل، فأنهه إلى حضرة الإمامة متّبعا قول الله تعالى: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ} * (2)، وقوله: {فَإِنْ تَنََازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللََّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذََلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (3):
ليخرج إليك من بصائر توقيفها، ومراشد تعريفها، ما يقفك على مناهج الحقيقة، ويذهب [بك] (4) في لاحب الطّريقة، واقبض ما يحمله المؤمنون لك من الزكاة والجزى (5) والأخماس والقربات وما يجري هذا المجرى، وتتقدّم إلى كاتب الدعوة بإثبات أسماء أربابه، واحمله إلى أمير المؤمنين لينتفع مخرجوه بتنقيله له ووصوله إليه، وتبرأ ذممهم عند الله منه، واستنب عنك في أعمال الدعوة من شيوخ علم الحكمة ومن تثق بديانته، وتسكن فيه إلى وفور صناعته، واعهد إليهم كما عهد إليك، وخذ عليهم كما أخذ عليك، واستطلق لهم من فضل أمير المؤمنين ما يعينهم على خدمته، ويحمل ثقلهم عن أهل دعوته، واستخدم كاتبا ديّنا أمينا مؤمنا بصيرا عارفا، حقيقا بالاطلاع على أسرار الحكمة التي أمر الله بصيانتها وكتمانها عن غير أهلها، نقيّا حصيفا لطيفا، ينزلهم في مجلسك بحسب مراتبهم من العلم والدين والفضل.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك فتدبّره متبصّرا، وراجعه متدبّرا، وبه الوصايا
__________
(1) الشعراء / 315.
(2) النحل / 43.
(3) النساء / 59.
(4) الزيادة يقتضيها السياق.
(5) جمع جزية.(10/446)
تهدي وتسدّد، وتوفّق وترشد، واستعن بالله يمدّك بمعونته، ويدم حظّك من هدايته، إن شاء الله تعالى.
قلت: وعلى هذا سائر السجلات من هذا النوع. وقد أورد في «موادّ البيان» سجلّات غير هذه حذف منها التحميد واقتصر على مقاصدها، وفيما ذكر من ذلك مقنع.
المذهب الرابع (مما كان يكتب لأرباب الولايات بالدّولة الفاطمية مرتبة الأصاغر من أرباب السّيوف والأقلام)
وليس لهذه الرتبة صيغ محصورة في الافتتاح، بل تفتتح بلفظ: «إنّ أمير المؤمنين لما آتاه الله من كذا يفعل كذا وكذا ولمّا كنت بصفة كذا، وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووزيره فلان وأشار بكذا، قرّرك أمير المؤمنين في كذا» أو يقال: «إن أولى» أو «إنّ أحقّ» أو «إنّ أجدر» أو «أقمن» أو «من حسنت طريقته» أو «من كان متّصفا بكذا كان خليقا بكذا» أو «ولمّا كان كذا» أو «منشور تقدّم بكتبه فلان» ونحو ذلك.
فمن المكتتب عن الخليفة من هذه المرتبة لأرباب السيوف نسخة سجلّ بزمّ.
إنّ أمير المؤمنين لما آتاه الله من المحلّ الأرفع، وجعله اليوم الآمر المطاع وغدا الشفيع المشفّع، يتعهّد عبيده بعهاد كرمه، ويجير من هجر (1) النوائب من يحاول ظلّ حرمه، ويقبل وسيلة من كانت النجابة أقوى وسائله وذممه، ويؤمّنه من إلحاف حوادث الدهر به ولممه فلا زال بأمورهم عانيا، وبمكارم شيمته عن رفع مسائلهم غانيا، لا سيّما من حسن في الخدمة أثرا وطاب خبرا، ونشرت أوصافه في
__________
(1) الهجير والهجيرة والهجر والهاجرة: منتصف النهار. وقيل في كل ذلك أنه شدة الحرّ. (انظر اللسان: 5/ 254وما بعدها).(10/447)
أيدي الثّناء فكانت برودا وحبرا وضمن له الإحسان في كل زمان أن يأتي مستحمدا لا معتذرا، وعدقت به بحار المحاماة فما أخرجت منه إلا جوهرا. وغرس مقدّمات المخالصة وكان لسانح الإنعام مستثمرا، وصقل التجريب صفيحة طبعه وكان لضريبة الحزم مستأمرا، واستبد بموجبات المحامد مؤثرا لها ومستأثرا، وجعلت لديه أسباب الاستقلال التي قلّت عند سواه فظلّ منها مهدا (1) متكثرا.
ولما كنت أيّها الأمير ممن قام له هذا الوصف مقام الاسم [من] (2) المسمّى، وتوضّحت مخايله به فلم يكن من اللّغز المعمّى، وقام يقرر من الخدمة مشتملا، واستقل بشرائط التعويل مستكملا، وأدرك غايات المحاسن عجلا متمهّلا (3)، وضمنت له الشبيبة أن يعلو كاهل الرياسة متكهّلا، واشتهر بالتقدّم فلم تعرف به أوضاح الصنائع غفلا ولا مجهلا، واستوجب أن لا يزال في أفق الإنعام منهلّا عليه يغادر لديه غديرا ومنهلا، واستحقّ أن يملأ يديه من (4) ناظره متأمّلا، وأدّى فريضة النصيحة كافلا متكفّلا ومعملا لا متعمّلا، ونهض بتكاليف الخدمة متحمّلا فيها ما لم يزل متحمّلا.
وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه الذي أفتاه التوفيق باستبراره، ووليّه الذي جمّ به (5) مورد السعد بعد استنزاره: السيد الأجلّ سيف نصره المهنّد باسه، وليث حربه والسّنان ناب، وسحاب الرحمة إلى الإسلام بها حصل ربحي خضر الجناب، ومتعب الرائح في غيّه حتّى عزب في سهوب الإسهاب بأطناب الإطناب، ومستحقّ المدائح التي يعطّر بها الجناب، ويعطّل بها الرّكاب، والملك الذي خدمه الملوك لا لرتبة الغناء عنه بل لرتبة المناب، فذكرك بما جمّلك، واستمطر
__________
(1) كذا في الأصول وفي الطبعة الأميرية بالإهمال، وهي غير واضحة.
(2) الزيادة يقتضيها السياق.
(3) من معاني التمهل: التقدّم. (انظر اللسان: 11/ 634).
(4) بياض في الأصل بقدر كلمة. ولعله «من بحار» أو «مناهل».
(5) أي كثر بعد أن كان نزرا قليلا.(10/448)
لك من الإحسان ما جمّ لك، واستوفق في مناصحة الدولة عملك، وقرّبت عليك بسفارته بحضرة أمير المؤمنين أملك، وقرّر لك الخدمة بالزّمّ الفلاني إخلادا إلى ما تنطوي عليه جملتك، واعتمادا على ما تعز به كلمتك، فأجابه أمير المؤمنين إلى ما أجابك إليه، وتقدّم أمره باستخدامك فيما عيّن عليه، وخرج أمره إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بتقليدك ذلك، فتقلّد ما قلّدته مستشعرا لباس التقوى، ناهيا للنفس عن الهوى، سالكا الطريقة المثلى قال الله سبحانه: {وَالْعََاقِبَةُ لِلتَّقْوى ََ} (1). وهذه الخدمة من أمراء قبائل العرب، وهي المنبع وسواها الغرب (2)، وما فيها من يدعى إلى خدمة إلا طبّق المفصل وأتى على الأرب فخذها بالمرسوم لما تندب له من المهمّات السانحة والعوارض، والخفوف إليها بالأسلحة الرّوائع والخيول النّواهض، وألزم رجالها أن تحفظ من الطّرقات ما يصاقبها، وأن تسوق كلّ نفس بجنايتها إلى من يعفو عنها أو يعاقبها، وقدّم العرض الذي يستدلّ به على من كان بالوفاء ساقطا، وعن أعمال المملكة ساخطا، ليسترجع الدّيوان ما كان بيده، ويفتضح من كانت الخيانة سريرة مقصده، فاعلم هذا واعمل به.
ومن ذلك نسخة سجل بولاية ثغر، وهي:
إنّ أولى من رقّاه إنعام أمير المؤمنين إلى المحلّ اليفاع (3)، وشفعت فيه وسائل فضائله فغني عن الاستشفاع، وعظم له النفع لما به من عظيم الانتفاع، وجرّدته يد الاختيار سيفا من سيوف الذّبّ عن الملّة والدّفاع، واستقرّ في الرّتب التي لا تنقل إلا إلى الزّيادة ولا تغيّر إلا إلى الارتفاع، وجلّيت عليه وجوه النعماء واضحة اللّثام واضعة اللّفاع (4)، ونيطت منه وصايا الحزم بحافظ لها واع، وتوفّرت
__________
(1) طه / 132.
(2) الغرب (بالتحريك): الماء يقطر من الدلو بين الحوض والبئر. (القاموس: 1/ 114).
(3) اليفاع: المرتفع من كل شيء.
(4) اللفاع: ما يجلّل به الجسد كله، كساء كان أو غيره.(10/449)
عليه بواعث الصنائع ودعت إليه دواع من (1) ترشّح بالاستحقاق للرتب السنيّة وتأهّل، وسبق المجارين في حلبة الإخلاص على أنهم جهدوا وتمهّل، واستوجب امتطاء كاهل الرياسة بالفتك الذي شبّ والرأي الذي تكهّل، وثبت جأشه في المقامات التي يراع لها كلّ روع (2) ويذهل، ومنعت مهابته العدوّ أن يجهل (3) عليه وأبت له حصافته أن يجهل، وغريت همته بالمطلب الأصعب من العلاء وأنفت من المطلب الأسهل، وولي الولايات الجليلة فظلّت الرعايا تعلّ من موارد عدله وتنهل، ونشأت لهم سحب الرّكاب التي برقها يتهلّل وعارضها ينهلّ.
ولمّا كنت أيّها الأمير الناهض بحقوق هذه السّمات، البعيد القدر من المساواة والمسامات، المتنقّل في درجات التّقدمة والكرامات، المنفرجة عن أنوار فتكاته ظلمات المقامات، المعدّ النّجدة لمواقف البأساء والضراء والرادّ على أعقابها الأبطال المعلمة بالفتكات المعلمات، الدائم الغرام بمقامات الرّياسة وإن كانت عظيمة المؤن جسيمة الغرامات، القائم بما توجبه عليه صنائع أمير المؤمنين من حقوق المدافعة عن الحوزة وفروض المرامات، المتظاهرة فيه شواهد الفضائل بأصدق الأعذار وأوضح العلامات، المشهور المقامات، إذا جرت من متون الصّفاح جداول واهتزّت من غصون الرّماح قامات، الآخذ بالأرصاد على العدا بسيوف ترقب الرّقاب وتهيم في الهامات، الكافي الذي تنقّل في الخدم فكان من الشّكر مثري الأثر، وانتدب في المهمّات فكان مثاب التّواء مسفر السّفر، المعروف في تصرّفاته بانتهاز النّجح وقصر البجح، والمعوّل على أن تصفه أفعاله بشرح لصدر الاختيار به شرح، المعدود يوم الرّوع من كفاة الخطب وحماة السّرح، الماضي الحدّ إذا كان السيف لعدم الضارب مشتبه الحدّ بالصّفح، وقدّم فعل الاستقلال، وأخّر سؤال الاستغلال، وأسكنه من المخالصة
__________
(1) خبر متعلق بإنّ الابتدائية.
(2) الرّوع: القلب.
(3) جهل عليه: تسافه.(10/450)
إلى دار ببلوغ الآمال محلال، وارتفعت كاهل المجد بسعي لمحظورها به استحلال، وسهّلت إلى الطاعة كلّ معتاص من المطالب، وغدا الاستحقاق بمرادك نعم الكفيل وبأملك نعم الطالب، واشتهرت بخلال اقتضت الرّغبة فيما اقتضته إليك من الرغائب، وعظم النفع بك حتّى لا نفع مع غيبتك بحاضر ولا ضرر مع حضورك بغائب. ومثل بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووليّه وأمينه السيد الأجل، الذي سارت أوصافه مسير الشمس وأنارت إنارتها، وسقت مكارمه سقي الغيوث وأمارت إمارتها، وسرت خيوله مسرى طيف الخيال وإن كره الأعداء زيارتها، وقامت مهابته مقامها في البلاد وأغارت على القلوب إغارتها، ونازع الأقمار بعلوّ القدر دارها وما حسبوا الدّست (1) له دارتها، وأشارت له السعادة العلوية وأمضى التلطّف إشارتها وأحسن به شارتها، وطالع بما أنت عليه من طاعة تبذل فيها الطّاقة، وكفاية إذا تعاطاها الوصف المتّسع ضيّق نطاقه، وعدّك في سرعان الأولياء إذا رتّب سواك في الساقة، واحتسب بما لك من حسنات نظمها نظم السّياقة، وبما قرّره لك من الخدمة إلى ولاية كذا خرج أمر أمير المؤمنين بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل لك بالخدمة المذكورة، سكونا إلى مناصحتك التي سكنت ضميرك، وركونا إلى موالاتك التي حقّقت أملك وتقديرك، وإيرادا لك إلى الموارد التي توجب تقديمك وتصديرك فتقلّد ما قلّدته منها بادئا بتقوى الله التي إن جعلتها جنّتك كانت جنّتك، وإن استشعرتها عمدتك أنجزت في الدارين من السعادتين عدتك قال الله تعالى في كتابه المكنون: {إِنَّ اللََّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (2)، وقال تعالى: {وَيُنَجِّي اللََّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفََازَتِهِمْ لََا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3)، وابدأ في هذا الثغر الجليل قدره، المصاقب لما به محلّ السعد ومقرّه، الميسّر به لكلّ عامل ثوابه وأجره،
__________
(1) الدست هنا بمعنى المجلس والمقام.
(2) النحل / 128.
(3) الزمر / 61.(10/451)
المحضوض على رباطه لمن توفّر حظّه من ذخائر الآخرة فأحسن ذخره بعدل القضايا وصون الرّعايا، وبثّ السّرايا، وترويع العدوّ من جميع المطالع والثّنايا، وإهداء المنايا إليه في الغدوات والعشايا، والتطّلع على ما يجنّه من المكايد والخفايا، وكفاية أوساط الصّفاح مصافحة أطراف الرّماح تحايا، ولا تخليه أن تجهّز في كل يوم إليه راية أو تنفّذ فيه رايا، وأن تسترزق الله أمواله مغانم وحريمه سبايا، وتطلع عليهم في عقر دارهم طوالع المنايا وقوارع الرّزايا، حتى لا تلوح فرجة إلا اقتحمتها، ولا تعنّ فرصة إلا اغتنمتها، وامدد على من بهذا الثغر جناح الرّعاية والذّبّ، ومهّد لهم جانب العدل ليتبوّءوا فيه آمني السّرّ والسّرب، وصنهم صيانة ترفع عنهم عوادي المضارّ، وتوطد لهم أكناف السكون والاستقرار، واعتمد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يطلق فيك ألسنة المادحين، وينظمك في سلك من نحاه الله بقوله: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسََارِعُونَ فِي الْخَيْرََاتِ وَأُولََئِكَ مِنَ الصََّالِحِينَ} (1) وأقم الحدّ على من وجب عليه إقامة لا تتعدّى فيها الواجب، ولا تفارق بها منهج الحقّ اللّاحب، وتوخّ متولّي الحكم بإعزاز ينفّذ حكمه، وإكرام يشدّ في الحق عزمه، ويردع الظالم ويمنع ظلمه، وكذلك المستخدم في الدعوة الهاديّة عامله بما يشدّ أزره، ويشرح في دعاء المستجيبين صدره، وبالغ في عضد المستخدمين مبالغة تدرّ بها الأموال، وتوجد بها السبيل إلى توفير عطيّات الرجال، وتوسّع عليهم فيها المجال، وامنع من يتعرّض لكسب الضرائب، والإخلال بإلزام الواجب، وشرور الأقلاب، وقصد سرح المال بالتّباب، وأقم للسّور شطرا من اهتمامك تعمر أبراجه وأبدانه، وتستخدم حرّاسه وأعوانه، وترتّب عليه الوقود في الليالي المظلمة، وتعجز [عن] (2) مناله المطامع الميسورة والأيدي المتسنّمة (3)، وواصل من عمائره ما يتلافى الخلل قبل انفراجه، ويعيد مبدأ الغارة
__________
(1) آل عمران / 104.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) تسنّم فلانا: أخذه على غرّة.(10/452)
على أدراجه، فالقليل بالغفلة يستدعي كثرة الاهتمام، وربّما لم تصب فيه المرمى ولم ينجع المرام.
ومراكب الأسطول المنصورة فولّها من ترتضي نهوضه، ومن يقوم بشرائط الجهاد المفروضة وإذا آنس فرصة لم يعترضها التفويت، وإذا نزل به القرن (1)
ناداه بعزم المستميت، وإذا عرا المجتمع عرّض جمعه للتشتيت، واحتط على حواصل هذه المراكب فبها قوّة الإسلام على عدوّه، ومدد استظهاره وعلوّه، وأقم من الرؤساء من له حيلة في الأسفار، وخبرة بمكايد الغارات والحصار، ومثابرة يقتدر بها على فتح أبواب المنافع وسدّ أبواب المضارّ ولك من البصيرة الجامعة، والألمعيّة اللّامعة، ما أنت به جدير أن تكون لك الذّكرى نافعة فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
النوع الثاني (مما كان يكتب في الدولة الفاطمية بالديار المصرية ما كان يكتب عن الوزير)
وقد علمت في الكلام على «المسالك والممالك» أنّ الوزير إذ ذاك كان في منزلة السلطان الآن وكان الشأن فيما يكتب فيه أن يفتتح بما يفتتح به المذهب الثالث (2) مما كان يكتب عن الخليفة، وهو أن يفتتح ما يكتب بلفظ: «إنّ أولى» أو «إنّ أحقّ» أو «إنّ أجدر» أو «إنّ أقمن» أو «من حسنت طريقته» أو «من كان متّصفا بكذا كان خليقا بكذا» و «بلمّا كان فلان» أو «لمّا كنت» على نحو ما تقدّم.
ثم ما يكتب عن الوزير: تارة يكتب بأمر الخليفة، وتارة يصدر عن الوزير استقلالا، فيبيّنه الكاتب في كتابته، وهي: إما لصاحب سيف، أو قلم.
__________
(1) أي المثيل في الشجاعة والقوة.
(2) صوابه «المذهب الرابع». راجع ص: 447من هذا الجزء.(10/453)
فمن المكتتب عن الوزير في الدولة الفاطمية لأصحاب السّيوف نسخة سجل بولاية الإسكندرية من إنشاء القاضي الفاضل رحمه الله، وهي:
من عدّ من الأولياء الأماثل، ووجد عند الانتقاد قليل المماثل، وتوسّل بالحسنات التي يقبل عنده منها تشفيع الوسائل، وتقبل السفارة له الشاملة الاستحقاق الذي يغني عن المسائل، ولطف فكره لاقتناء الشّيم الموجبة لارتقاء الدرجات الجلائل، وألقت الرّتب قناعها له عند الكفء الذي يقدّم لها أفضل مهور الحلائل، وأسفرت مواقف الغناء منه عن الهزبر الشهم واللّوذعيّ الحلاحل (1)، وأفرج له الكفاة عن صدور المنازل الرفيعة فلم يكن بينه وبينها حائل، واستقلّ بعظيم ما يفوّض إليه فلم تحمل الأقوام ما هو حامل، واتّسع مجال كفايته في كلّ أمر يضيق بالمباشر ضيق كفّة الحابل (2)، وتتبّع آثار الخلل بعزماته تتبّع الغيث آثار الدّيار المواحل كانت الولايات الجليلات له من المعدّ المدّخر، وقرّبت عليه منازل الآثار التي يتجمّل بها ويفتخر.
ولمّا كان الأمير جامعا لما أفيض فيه من هذه الصّفة، وموصوفا بها من كلّ لسان صادق ونية منصفة، جارية على غيره مجرى النكرة ومستندة إليه استناد المعرفة، مشتملا على خلال كغرائب المكارم مستوفية متألّفة، كلفا بالشّيم الحميدة إذا افتضحت بها الشّيم المتكلّفة، قمنا أن يوفّي فيقرض سعيه إذا اقترضت المساعي المتسلّفة، نهّاضا بالمصاعب عند ما تختلف في إعطائها العزائم المتخلّفة، آويا من رجاحته إلى المعقل الحريز والحصن الحصين، حاويا لفضائل حسنة منها الفتك الجريّ والرأي الرّصين، مقدما على الأهوال إذا تغلّقت وجوهها غبرا، مصرّا على الخطرات حتى يظنّه الغمر غمرا، مصافحا للرماح، إذا
__________
(1) الهزبر: الضخم الصلب ويطلق اللفظ على الأسد. واللوذعيّ الحلاحل: اللّسن الذكيّ السيد في عشيرته ولا يقال الحلاحل في النساء. قال امرؤ القيس:
يا لهف نفسي إن خطئن كاهلا ... القائلين الملك الحلاحلا
(أنظر اللسان: 11/ 174).
(2) الحابل: الصائد بالحبالة، وهي المصيدة.(10/454)
بدت أنامل الأسنّة، مباشرا للصّفاح، إذا ذعرت لها النفس المطمئنّة، جديرا أن يردّ الخيل المغيرة تدمى نحورها، وتمدحك وتذمّها الجراح التي اشتملت عليها ظهورها، وسما للأعداء سيوفك فعندك غمودها وفيهم صدورها رأينا بما آتاه الله من رأي لا يستأخر أن يستخير، ونظر يستمرّ أن يمتاح من موارد الرّشاد ويستنير، ما خرج به أمرنا من ولايتك لثغر الإسكندرية بعد أن طالعنا مولانا صلوات الله عليه بما رأينا، واسترشدنا بميامن إمضائه ما أمضينا، وفاوضناه فيما فوّضناه إليك وأفضينا، وقضينا حقّ الخدمة فيما استمطرنا من صوب واقتضينا، إذ كان الله قد خصّ خلاله بمواتاة الأقدار، ووقف الميامن على ما يمضيه ويوقفه من أعنّة الإيراد والإصدار، وجعل الخيرة فيما يختار، والحقّ دائرا حيث دار، وأخلص للأولياء المستشعرين بولائه بخالصة ذكرى الدار، وجعل رأيه قطبا في سماء الخلافة عليه في مصالح خلق الله المدار، فصحّح ما عرضناه على مقام خلافته وصوّبه، وناجته بديهة الإلهام بما أغنته عمّا صعّد فيه المستشير وصوّبه، وخرج إلينا بأن يمضى لك هذا الأمر، ويفوّض إليك هذا الثغر فلتقابل هذه النعمة بشكر يوجب استيفاء باقيها، واعتداد يمهّد درجات مراقيها، متنجّزا وعد الله لمستوفيه بإيلاء المزيد، الجدير بإحالته من حالة التقليد إلى حالة التّخليد، جاعلا تقوى الله حجته فيما يقطعه ويصله، وعمدته فيما يمنعه ويبذله، قال الله سبحانه في كتابه الذي فضّله على كل كتاب: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزََّادِ التَّقْوى ََ وَاتَّقُونِ يََا أُولِي الْأَلْبََابِ} (1) ولا تجعل في حكمك بين الخصماء فرقا وإن عدل أحدهما، وليكن على الحق الذي لا مفاضلة فيه مقعدهما عندك وموردهما، وانتصف للمظلوم من الظالم، واعمل في ذلك عمل من لا تأخذه في الله لومة لائم، وأقم الحدود متحرّيا، وأمضها إمضاء من لا يزال بعين طاعة الله متحلّيا، ونفّذها غير مكثر ولا مقلّ، فإن المكثر متعدّ والمقلّ مخل. وقد علمت ما للقاضي من التّقدمة الشهيرة، والرّتبة الأثيرة، والمساعي التي هي بألسنة الحمد مأثورة، والأقوال التي هي في صحائف حسن
__________
(1) البقرة / 197.(10/455)
الذكر مسطورة، والحرمات التي شهدت بها الأيام والليالي، والمواتّ التي انتظمت في سلوك التصرّفات إنتظام اللآلي، والصّفات التي زهت بها أجياد المحامد الحوالي وله الخبرة بقوانين هذا الثغر وأحكامه، والعادة التي لا خلاف أنها لمصالح ما يباشره وإحكامه، وأنت مقدّم أرباب السيوف في الثّغر وهو مقدّم أرباب أقلامه، فاعرف له منزلته في الخدم المنوطة بكفالته، والأمور المحوطة بإيالته، ووفّه من أثر الإكبار حقّه، ويسّر فيما اشتدّ عليه من معونتك طرقه، وأعن الداعي على ما هو بسبيله من الإرشاد، وقم في إعلاء مناره قيام المغرم الشاد.
والأموال أولى ما صرفت إليها همّك، ووقفت عليها عزمك، فاستنهض المستخدمين فيما يستادى، ولا تمكّنهم أن يحدثوا رسما ولا يسقطوا معتادا ولا بدّ من المقام بظاهر البحر مدّة انفتاحه، وتفقّد الأسطول المقيم بالميناء تفقّدا يستوعب أسباب إصلاحه، وأذك العيون على سواحله فلم يخل أمر العدوّ من طارق ليل وخاطف نهار، وذدهم عن بغتات هجومهم بما يبلغهم عنك من دوام التيقّظ والاستظهار، واستنهض الرجال في نوائب الخدم وحوادثها، وصرّفهم على موجبات المتجدّدات وبواعثها.
وهذا الثغر ففيه من أرباب الزّوايا العاكفين على العبادات، والعلماء الداعين الناس إلى الإفادات، من لا يدّخر الإكرام إلا لأن يؤدّى إلى استحقاقهم، ولا يصان المال إلا لأن يبذل لاستحقاقهم (1) فأوصل إليهم ما هو مقرر لهم إيصالا هنيّا، وأعفهم من مؤونة الهزّ (2) وساقط عليهم رطبا جنيّا، واستنهض لنا دعواتهم فإنها أسهم الأسحار، واستخلص لنا نيّاتهم فهم لنا جند الليل وغيرهم لنا جند النهار والسلام.
__________
(1) كذا في الأصل، ولعله «في أسواقهم». وفي حاشية الطبعة الأميرية «لعله لاستيجابهم» فتأمل.
(2) المراد: أعفهم من مؤونة السعي إليه وتجشّم المشقة والإشارة هنا إلى الآية الكريمة {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسََاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا} سورة مريم / 25.(10/456)
ومن ذلك نسخة سجلّ بحماية الرّباع (1)، وهي:
من كان فيما يتولّاه مشكور السعي محمود الأثر، مستعملا من النصح وبذل الجهد ما يزيد الخبر فيه على طيّب الخبر، معتمدا ما يدلّ على دراية وخبرة ودربة، متوخّيا ما يجعل الخدم إذا ما ردّت إليه لم تحلّ في دار غربة استحق أن يورى زنده، ويرهف حدّه، وتقوّى منّته (2)، وتشحذ قريحته.
ولما كنت أيّها الأمير ممن عرف نفاذه وأحمدت خلاله، وشكرت طرائقه وارتضيت أفعاله، وظهر فيما يباشره غناؤه واستقلاله، وجمع إلى الكفاية نزاهة، وإلى الأمانة نباهة، وإلى اليقظة عفافا وسدادا، وإلى النهضة حزامة لا يجد الطالب عليها مستزادا، تقدّم فتى مولانا وسيدنا باستخدامك في حماية الرّباع السلطانية بالمعزّيّة القاهرة المحروسة: سكونا إلى جدّك وتشميرك، وتعويلا على تأتّيك وتدبيرك فاستخر الله وباشر ما ردّ إليك من هذه الحماية بعزم لا يمازجه فتور، وحزم لا يصاحبه قصور، واكشف أحوال هذه الرّباع كشفا يعرف به حالها، ويعلم منه استقامتها واختلالها، وانتصب لاستخراج مالها من السّكّان، واستعمل في استيدائه غاية الاستطاعة والإمكان.
وملاك الأمر فيها أن تتعهّدها بالطّواف فيها، وأن تحافظ على حراسة غيرها، وتناول أجرها، ورمّ ما لعله يسترمّ منها ويتشعّث، والعكوف على ذلك بحيث لا يتوقّف فيه أمر ولا يتريّث، وحمل مال ارتفاعها إلى بيت المال المعمور بعد ما يصرف في مصالحها، ويطلق فيما يتثبّت به عليها ولك من الأمير من يعينك
__________
(1) هي الدور العائدة للممتلكات السلطانية. قال في قوانين الدواوين: «منها ما أنشيء من مال الديوان السلطاني قديما، ومنها ما قبض عمن يوجبه عليه حق السلطان ومنها ما قبض عن الإسماعيلية والأجناد المصريين وقد خرج أكثرها بالوقف على السور والخانقاه والبيمارستان والبيع والأديرة، ولم يبق بعد ذلك إلا ما يرغب فيه، ولم يحصل منه إلا النزر اليسير، وربما أنفق أكثره على عمارة ما تهدم» ولا تزال هذه التسمية باقية حتى الآن بالقاهرة، فمن أحيائها منطقة «تحت الرابع».
(التعريف بمصطلحات الصبح: 157وقوانين الدواوين: 341).
(2) المنّة: القوة.(10/457)
وينجدك، ويلبّي دعوتك ويعضّدك، ويظافرك على انتظام شؤونك ومقصدك: من الاشتمال بما يزيد على تأميلك فاجعل عليه اعتمادك، وبه في الحلّ والعقد استرشادك فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
ومن الوظائف المكتتبة عن الوزير لأرباب الوظائف الدينية نسخة سجل بالحكم بقوص (1) ومشارفة أعمال الصعيد، وهي:
من تقدّمت لأسلافه خدم ومناصحات، وكانوا مشهورين بأنّ طرائقهم في السّداد مستقيمات واضحات، وعرف جميعهم بالصّيانة والدّيانة، والثّقة والأمانة، والمحافظة على ما يحظيهم عند وليّ نعمتهم، والعمل بما يقضي بطيب ذكرهم وحسن سمعتهم، كان ذلك ذريعة له ووسيلة، وماتّة ينال بها المواهب الجزيلة.
ولما كنت أيها القاضي على القضيّة المرضيّة من ولاء الدولة وطاعتها، والحرص على الإخلاص لها ومشايعتها، والتحلّي بالعلم والتمييز في أربابه، والتعلّق بفعل الخير والتمسّك بأسبابه، والعمل بما ينفعك في عاجلتك وآجلتك، والاجتهاد فيما يبعث على وفور حظّك من الإنعام وزيادتك، وكانت لك دربة فيما تعانيه ودراية، وصولة في حسن التأتّي إلى أمد بعيد وغاية وقد تقدّمت لأخيك القاضي الرشيد رحمه الله خدمة أبانت عن حرصه ومناصحته، وأعربت عن وفور نصيبه من النّهى ورجاحته، فأدّى ذلك إلى بلوغه من رتب أمثاله أقصاها، وإلى أن استقرّت خدمه عليه وألقت عنده عصاها وهذه نصيبك إذا اقتفيتها فقد عرفت مفضاها، وإذا عكفت عليها نالك من الإحسان على حسبها ومقتضاها تقدّم فتى مولانا وسيدنا باستخدامك في النّيابة في الحكم بمدينة قوص والمشارفة بأعمال الصعيد الأعلى: تنويها بك وتكريما لك، وتمهيدا لمكان الاصطناع الذي رتّبك فيه وأحلّك فاعرف قدر هذه النعمة، وقابلها ببذل الطاقة في النّصح في
__________
(1) راجع الحاشية الأولى في الصفحة 375من هذا الجزء.(10/458)
الخدمة، وبالغ في الشكر الذي يثبّتها عندك ويديمها لك، واحرص على القيام بحقّها حرصا تبذّ به نظراءك وأمثالك، واعمل في ذلك بما تضمّنه التقليد المكتتب لك من مجلس القاضي الأعز الماجد أدام الله تمكينه، وما أودعه من وصايا مرشدة، وهدايات إلى الصواب مقرّبة وعن الخطإ مبعدة، وافعل في أمر المشارفة ما اشتملت عليه التذكرة المعمولة من الدّيوان فإنه يوضّح لك منهج الصّلاح، ويأتيك منه بما يزيد على البغية والاقتراح، وانتصب للعمارة والاستكثار من الزراعة بالمعدلة على المعاملين، والاستخراج لحقوق بيت المال على أحسن القوانين، وواصل من الحمول، ما يكون محقّقا للمظنون فيك والمأمول فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله عز وجل.
ومن ذلك نسخة سجل بالنيابة في الحكم والأحباس (1) والجوالي (2) بثغر دمياط (3)، وهي:
أحقّ من كانت المواهب عنده مخلّدة، والمنائح إليه متواصلة متجدّدة، والعوارف تفد عليه فتخيّم في مغناه وتقيم، والفواضل تأتي نحوه فتستقرّ في مثواه ولا تريم، والنّعم الشّتّى لا تشكو في مواطنه استيحاشا ولا اغترابا، والمنن إذا حبي بها كان نيله لها استحقاقا منه لها واستيجابا من كرمت أعراقه ومحاتده، وشهرت أوصافه ومحامده، وصفت في المخالصة مصادره وموارده، وكثرت في تقريظه غرائب الثّناء وشوارده، وشيّد منار أسلافه بالتخلّق بخلائقهم، وأبقى الحديث عنهم بانتهاج سبلهم وطرائقهم، وأحسن برّهم، في الاقتفاء لأثرهم والاقتداء بهديهم، وإحياء ذكرهم، بالعمل بما كانوا عليه في عودهم وبدئهم.
__________
(1) الأحباس هي الأوقاف.
(2) راجع حاشية الصفحة 14من هذا الجزء (الجوالي).
(3) مدينة قديمة بين تنيس ومصر على زاوية بين بحر الروم والنيل. (معجم البلدان: 2/ 472).(10/459)
ولما كنت أيّها القاضي لهذه الخلال جامعا، وإلى المراشد مصغيا سامعا، ولبلوغ ما ناله أسلافك بالمناصحات راجيا طامعا ولك فيما يسند إليك نظر يدلّ على صواب آرائك، وفيما يردّ إلى تولّيك كفاية تميّزك على نظرائك ولمّا ندبت للأحكام الشرعية، أبنت عن الديانة والألمعيّة، وحين باشرت الأعمال الدّيوانيّة، نصحت واجتهدت وأخلصت النّية والذي بيدك يتمسّك بك، ويتعلّق بسببك، لأنك لما استكفيته نهضت وأحسنت، فلذلك يأبى أن يكلّفه غيرك وأن لا يتكفّله إلا أنت تقدّم فتى مولانا وسيدنا بكتب هذا المنشور بتجديد نظرك فيما هو بيدك من النيابة في الحكم العزيز بثغر دمياط حماه الله تعالى والمشارفة على الأحباس به، وعلى مستخرج الجوالي فيه، تقوية لعزمك، وإمضاء لحكمك، وشدّا لأزرك، وتأكيدا لأمرك، وإنفاذا لقولك، وبسطا ليدك، وإيضاحا لميزتك، وإظهارا لتكرمتك، وإبانة عن حسن النّية وإعرابا عن جميل الرأي فيك فاجر على رسمك وعادتك، واستغن بما أودعته تقاليدك من الوصايا، واستمرّ على نهجك الذي أفضى بك إلى أحمد الأفعال وأجمل القضايا، وارتبط النعمة عندك بتماديك على عادتك، وتوسّل بمشكور السعي إلى نموّ حظّك ووفور زيادتك فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله عز وجل.
ومن ذلك نسخة سجل بالحكم بالأعمال الغربية، وهي:
من كان بالعلوم الدينيّة قؤوما، وفي الأمور الشرعيّة ممّن يشار إليه ويومى، وظلّ من يجاريه من طبقته قليلا إذا لم يكن معدوما، وعلم نفاذه الذي سلم من المناقضة فيه والاختلاف، وعرف اعتماده الواجب من غير ميل عنه ولا انحراف، وكان لشمل الديانة والأمانة مؤلّفا جامعا، وغدا الوصف بجميل الخلال وحميد الأفعال عنه مسموعا ذائعا وآثاره في كل ما يتولّاه مدّاحه وخطباؤه، وسفراؤه في الرّتب الجليلة نزاهته وظلف نفسه وإباؤه صارت الأحكام بنظره مزهوّة، وأضحت الخدم الخطيرة تتوقّع بإسنادها إليه استظهارا وقوّة فهي تتشوّف إلى أن يوليها حظّا
من محاسنه يكسبها نضرة وبهاء، وتتصدّى من نظره فيها لما يضمن لها إدراكا للإرادة وبلوغا إليها وانتهاء.(10/460)
من كان بالعلوم الدينيّة قؤوما، وفي الأمور الشرعيّة ممّن يشار إليه ويومى، وظلّ من يجاريه من طبقته قليلا إذا لم يكن معدوما، وعلم نفاذه الذي سلم من المناقضة فيه والاختلاف، وعرف اعتماده الواجب من غير ميل عنه ولا انحراف، وكان لشمل الديانة والأمانة مؤلّفا جامعا، وغدا الوصف بجميل الخلال وحميد الأفعال عنه مسموعا ذائعا وآثاره في كل ما يتولّاه مدّاحه وخطباؤه، وسفراؤه في الرّتب الجليلة نزاهته وظلف نفسه وإباؤه صارت الأحكام بنظره مزهوّة، وأضحت الخدم الخطيرة تتوقّع بإسنادها إليه استظهارا وقوّة فهي تتشوّف إلى أن يوليها حظّا
من محاسنه يكسبها نضرة وبهاء، وتتصدّى من نظره فيها لما يضمن لها إدراكا للإرادة وبلوغا إليها وانتهاء.
ولما كنت أيّها القاضي حائزا لهذه الصفات، محيطا بما اشتملت عليه من الأدوات، سالكا أعدل طريق في الأمور إذا أشكلت، عاملا بقضايا الواجب إذا اعتمدت الإقبال عليك واتّكلت ولك الخدمة السنية، التي لا تطمح إليها كل أمنيّة، والرتب الرفيعة التي لا ينالها إلّا من كان عمله موافقا لصادق النيّة وكلّ ما تباشره يغتبط بك ويأسى على فراقك، وكلّ ما حظر على غيرك مباح لك لاستيجابك له واستحقاقك فمن العدل أن تكون كفايتك على الأعمال مقسّمة، وأن تكون آثارك في كل ما تعانيه من أمور المملكة علامة لك عليها وسمة وكانت الخدمة في الحكم بالغربية من التصرفات الوافية المقدار، السامية الأخطار، التي لا يسمو كلّ آمل إليها، ولا يحدث كل أحد نفسه بتولّيها وقد اشتهرت خبرتك بالأحكام، وحفظك فيها للنّظام، وبتّك للقصص المشكلة، ورفعك للنّوب المعضلة فرأينا استخدامك نائبا عن القاضي الأعزّ الماجد في الصّلاة والخطابة والقضاء بالأعمال الغربية المقدّم ذكرها: إذ كنت تعدل في أحكامك، ولا تخرج عن قضايا الصواب في نقضك وإبرامك، ولا تحابي في الحق ذا منزلة، ولا تنفكّ معتمدا ما يقضي لك بالميزة المتأكّدة والرتبة المتأثّلة، وأمرنا بكتب هذا المسطور شدّا لأزرك، وتشييدا لأمرك، وإيراء (1) لزندك وتقوية لعزمك، وضمّنّاه ما تقدّم ذكره من وصفك وشكرك، وتقريظك وإجمال ذكرك، والثناء على علمك، والأبانة عن قضيّتك في قضائك وحكمك فاعمل بما اشتمل عليه التقليد المكتتب لك من مجلس الحكم العزيز وانته إلى ما أودع من فصوله، وكن عاملا بمضمونه متّبعا لدليله والله يوفّقك ويرشدك، ويعينك ويسدّدك فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) من أورى الزند: أخرج ناره. والزّند هو العود الأعلى الذي تقدح به النار، والأسفل هو الزندة.(10/461)
ومن ذلك نسخة سجل بالحكم والمشارفة (1) بثغر عسقلان من سواحل الشام، وهي:
الذي منحنا الله من المفاخر الدالّة على محلّنا عنده، والمآثر التي أوصلنا بها من الشرف إلى أمد لا غاية بعده، والقضايا العادلة التي أبانت عما أجراه الله لنا من اللطائف، والسياسة الفاضلة التي تشهد لنا ببياض الصحائف، قد ضاعف حظّنا من التأييد فيما نراه ونمضيه، وضمن لنا الهداية في حق الله تعالى إلى ما يرضيه، وأجزل قسطنا من التوفيق في اجتباء من نجتبيه، وحبّب لنا إسناء المواهب لمن كان قليل النظير والشّبيه، ووقف اهتمامنا على التنبيه على كلّ مشكور المساعي، وصرف اعتزامنا إلى التفقّد للمقاصد التي هي على الاصطفاء من أقوى الدّواعي، ووفّر التفاتنا إلى تأمّل الإخلاص الذي صفت موارده، وصحّت سرائره، وأحكمت معاقده، وأحصدت مرائره، وتوكّل لصاحبه في بلوغ المطالب البعيدة المطارح، وتبتّل لمن وفّق له في سبوغ العوارف المخصبة المسارح، وجعلنا لا نغفل عمن بذل في الطاعة مهجته، وأظهر بدؤوبه وانتصابه دليله على الولاء المحض وحجّته، وأبان عن تقواه وحسن إيمانه، وتقرّب باستفراغ وسعه إلى الله تعالى وإلى سلطانه، وعمل فيما ائتمن عليه ما استوجب به جزيل الأجر، وكان له من رأيه في أعداء الملّة ما يقوم مقام العسكر الجرّ، وعلم أنّ تجارته في المخالصة نافقة مربحة، وأن مراميه في المناصحة صائبة منجحة، وتيقّن أنا بحمد الله لا نخيّب أملا، ولا نضيع أجر من أحسن عملا.
ولما كنت أيّها القاضي المكين المرتضى ثقة الإمام جلال الملك وعماده ذو المعالي صفي أمير المؤمنين، مستوليا على هذه الخلال، التي تكفّلت لك بإعلاء القدر، ومحتويا على هذه الخصال، التي رتّبتك على نظرائك في الصّدر، ولك من الحرمات سوابق لا يطمع فيها بلحاقك، ومن المواتّ شوافع تجعل جسائم النعم
__________
(1) عمل المشارف هو طلب التفاصيل الكاملة عن أية جهة من الجهات الضريبية التي تقع في دائرة عمله.
ويدخل في عهدته جمع المتحصلات المالية بعد ختمها. (قوانين الدواوين: ص 302).(10/462)
وقفا لاستحقاقك وقد عرفت بالجدّ والتشمير، واشتهرت بصادق العزم وصائب التدبير، وجعلت مؤهّلا لكل أمر خطير ومهمّ كبير، واستقرّ أنك إذا استكفيت جسيما فقد وكل منك إلى الأمين الخبير: لأنّ لك الرياسة التي لا تجارى فيها ولا تبارى، والكفاية التي لا يختلف فيها ولا يتمارى، والفضائل التي تشهد بها أعداؤك وحسّادك اضطرارا وما زالت أفعالك في كل ما تتولّاه من الخدم الجليلة دالة على كرم طباعك، وآثارك معربة عن سعة ذرعك في الخير وامتداد باعك، وأخبارك ناطقة بإبائك عن الباطل واقتفائك للحقّ واتّباعك ولما نظرت في القضاء تهلّل بنظرك وجه الشرع، وأبنت عن اضطلاعك من علمه بالأصل والفرع، وعدلت في أحكامك، ولم تعدل عن الواجب في نقضك وإبرامك، وفعلت ما أقرّ عين الملّة، وأربيت على من تقدّمك من القضاة الجلّة، واعتمدت من الإنصاف ما برّدت به الغلّة وأزحت به كلّ علّة، ووفّيت هذه الخدمة جميع شروطها، وفسّحت في تولّيك أمانيّ المظلومين بعد ضيقها وقنوطها، وقمت في ذلك المقام الذي يقضي بثبوت النعمة عندك وخلودها، وبالغت في ارتباطها بالشّكر لعلمك أن شرودها بكنودها.
فأما الإشراف فإنك أتيت فيه ما دلّ على حسن المعرفة، واستقبلت في وجهه كل صفة، وأوضح أنّ كلّ من باشره لم يبلغ مداك، ولا جرى مجراك، ولا وصل إلى غايتك، بل ما طمع بمداناتك ولا مقاربتك وكلّ ما عدق بكفايتك فقد أتيت بحمد الله فيه على الأغراض، لا جرم أنه مستدع لزيادتك ومطالب ومتقاض فحين اجتمعت لك هذه الأسباب استوجبت من إنعامنا ما يتنزّه كرمنا عن تعويقه، ومن جزيل إحساننا ما يكون تعجيله حقّا من حقوقه فشرّ فناك بتجديد ما هو بيدك من الحكم العزيز والمشارفة بثغر عسقلان حماه الله تعالى، وجعلنا النيابة في الحكم عنا تنويها بك ورفعا لشانك، وتبيينا لموضعك عندنا ومكين مكانك فاعمل بتقوى الله التي أمر بها في كتابه الذي به يهتدي المؤمنون فقال عزّ من قائل: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مََا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ خَبِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ} (1)، واجر على عادتك فيما حسّن أثرك، وأطاب خبرك،
__________
(1) الحشر / 18.(10/463)
معتمدا على ما تضمّنته عهودك، واشتملت عليه تقاليدك: من المساواة بين القويّ والضعيف في الحقّ، وإجراء الشريف والمشروف في المحاكمة مجرى واحدا من غير فرق، والنظر فيمن قبلك من الشّهود، وحملهم على القانون المألوف المعهود: من إقرار من ترتضيه، والمطالعة بحال من تأباه لما توجبه طريقته وتقتضيه، والمحافظة على أن لا يتعلّق بشيء من أمور الحكم إلا من أحمد فعله، وحصل له من التزكية ما يزكّى به مثله، إلى غير ذلك مما أودع فيها، وأحاطت بها الوصايا التي لم يزل يستوعبها ويستوفيها. واستقم على سبيلك في ضبط المال وحفظه وصونه، واستعن على بلوغ المراد في ذلك بتأييد الله وتوفيقه وعونه، وتماد على سنّتك في النظر في أحوال الثغر المحروس والانتصاب لمصالحه، والتوفّر على منافعه، والاجتهاد في الجهاد بآرائك، والاستمرار في ذلك على سديد أنحائك والله وليّ عونك وإرشادك، والمانّ بتبليغك فيما أنت فيه أقصى مرادك فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك نسخة سجل بتدريس، وهي:
أمير المؤمنين لما منحه الله من الخصائص التي جعلته لدينه حافظا، ولمصالح أمور المسلمين ملاحظا، ولما عاد بشمول المنافع لهم مواترا، وبما أحظاهم عنده تبارك وتعالى معينا وعليه مثابرا، لا يزال يوليهم إحسانا وفضلا ومنّا، ويسبغ عليهم إنعاما لم يزل تسم (1) هممهم إلى أن تتمنّى وقد يسّر الله تعالى لخلافته ودولته، ووهب لإمامته ومملكته، من السيد الأجل الأفضل، أكرم وليّ ضاعف تقواه وإيمانه، وأكمل صفيّ وقف اهتمامه واعتزامه على ما يرضيه سبحانه، وأعدل وزير لم يرض في تدبير الكافّة بدون الرتبة العليا، وأفضل ظهير ابتغى فيما أتاه الله الدار الآخرة ولم ينس نصيبه من الدّنيا فهو يظافر أمير المؤمنين
__________
(1) كذا في الأصول، وفي الطبعة الأميرية مع علامة توقف. والعبارة غير مستقيمة.(10/464)
على ما عمّ صلاحه عموم الهواء، ويفاوض حضرته فيما يستخلص الضمائر بما يرفع فيه من صالح الدعاء.
ولمّا انتهى إلى أمير المؤمنين ميزة ثغر الإسكندرية حماه الله تعالى على غيره من الثّغور، فإنه خليق بعناية تامة لا تزال تنجد عنده وتغور: لأنه من أوقى الحصون والمعاقل، والحديث عن فضله وخطير محلّه لا تهمة فيه للراوي والناقل، وهو يشتمل على القرّاء والفقهاء، والمرابطين والصّلحاء، وأن طالبي العلم من أهله ومن الواردين إليه، والطارئين عليه، متشتّتو الشّمل، متفرّقو الجمع أبى أمير المؤمنين أن يكونوا حائرين متلدّدين (1)، ولم يرض لهم أن يبقوا مذبذبين متبدّدين وخرجت أوامره بإنشاء المدرسة الحافظيّة بهذا الثغر المحروس بشارع المحجّة منّا عليهم وإنعاما، ومستقرّا لهم ومقاما، ومثوى لجميعهم ووطنا، ومحلّا لكافّتهم وسكنا فجدّد السيد الأجل الأفضل أدام الله قدرته الرغبة إلى أمير المؤمنين في أن يكون ما ينصرف إلى مؤونة كل منهم والقيام بأوده، وإعانته على ما هو بسبيله وبصدده: من عين وغلة، مطلقا من ديوانه، واسترفد أمير المؤمنين المثوبة في ذلك فأجابه جريا على عادة إحسانه، واستقرّت التقدمة في هذه المدرسة لك أيها الفقيه الرشيد جمال الفقهاء أبو الطاهر: لنفاذك واطلاعك، وقوّتك في الفقه واستضلاعك، ولأنك الصدر في علوم الشريعة، والحالّ منها في المنزلة الرفيعة، والمشتغل الذي اجتمع له الأصول والفروع، ومن إذا اختلف في المسائل والنوازل كان إليه فيها الرّجوع هذا مع ما أنت عليه من الورع والتّقى، وأنّ مجاريك لا يكون إلا ناكصا على عقبه مخفقا وأمر أمير المؤمنين أن تدرّس علوم الشريعة للراغبين، وتعلّم ما علّمك الله إيّاه لمن يريد ذلك من المؤثرين والطالبين وخرج أمره بكتب هذا المنشور بذلك شدّا لأزرك، وتقوية لأمرك ورفعا لذكرك فأخلص في طاعة الله سرّا وجهرا، فإنه تعالى يقول في كتابه: {وَمَنْ يَتَّقِ}
__________
(1) متلددين أي حائرين.(10/465)
{اللََّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئََاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} (1)، واعتمد توزيع المطلق عليهم، وتقسيمه فيهم على حسب ما يؤدّي اجتهادك إليه، ويوقفك نظرك عليه، وقرّب من ارتضيت طريقته، وأبعد من أنكرت قضيّته فقد وكل ذلك إليك، وعدق بك من غير اعتراض فيه عليك فمن قرأه أو قريء عليه من الأمير المظفّر والقاضي المكين أدام الله تأييدهما وكافّة الحماة والمتصرفين، والعمّال والمستخدمين، فليعتمد رعاية المدرسة المذكورة ومن احتوت عليه من الطلبة وإعزازهم، والاشتمال عليهم، والاهتمام بمصالحهم، والتوخي على منافعهم، وليتل هذا المنشور على الكافّة بالمسجد الجامع، وليخلّد بهذه المدرسة حجّة بما تضمّنه، إن شاء الله عزّ وجلّ.
ومن ذلك سجل بولاية الحسبة من إنشاء القاضي الفاضل، وهي:
من شكرت خلائقه، وتهذّبت طرائقه، وأمنت فيما يتولاه بوائقه، ونيطت بعرى الصواب علائقه، وفرجت بسداده مسالك الإشكال ومضايقه، واستحوى من الأمانة قرينا في التصرّفات يرافقه ولا يفارقه، ونهض إلى الاستحقاق ولم تعقه دونه عوائقه، وأثنى عليه لسان الاختبار وهو صحيح القول صادقه استوجب أن يخصّ من كل قول بأجمله، وأن يعان على نيل رجائه وبلوغ أمله، وأن يقتدح زند نيّته ليرى نور عمله، وتيسّر إلى النجاح متوعّرات طرقه ومشكلات سبله، وأن يقابل جريانه في الولاية قبله فيظهر عليه أثر الإحسان فيكون الشكر من قبل الإحسان لا من قبله، ويورد من موارد النجح ما يتكفّل له بالريّ من غلله، ويوسم من مياسم الاصطناع ما يكون حلية أوصاله ويشفع سداد خلاله في سدّ خلله.
ولما كنت أيها الشيخ المشتمل على ما تقدّم ذكره، المستكمل من الوصف ما يجب شكره، الآوي إلى حرز من الصيانة حريز، المستغني بغنائه عن
__________
(1) الطلاق / 5.(10/466)
الاستظهار بعزوة (1) العزيز، المستوجب إلى أن يعدّ من أهل التمييز لأنه من أهل التمييز، المستوعب من الخلال الجميلة ما لا يقتضيه القول الوجيز، المخرج من قضايا الدّنايا فما يستبيح محرّمها ولا يستجيز، الممدّح في خدم كلّها أخلصته خلاص الذهب الإبريز، وكانت له مضمارا تشهد له أفعاله [فيها] (2) بالسبق والتبريز، المتوسل بأمانة عزّبها جنابه عن الشّبهة ووجدانها في الناس عزيز تقدّم فتى مولانا السيد الأجل باستخدامك على الحسبة بمدينة كذا: فباشر أمرها مباشرة من يبذل في التقوى جهدا، فلا يرى غيرها على ظمإوردا، ولا يراه الله حيث نهاه، ولا يأمره أبدا وينهاه إلا نهاه، ولا يرى ما كشفته إلا وهو عالم أنّ الله يراه، وانته فيها إلى ما ينتهي إليه من بذل غاية وسعه، ومن لا يرتدّ عن جرركيه (3) من عموم نفعه، ومن يدلّ بتهذيب طباع الناس على طهارة طبعه، ومن يستجزل حسن صنيع الله لديه بحسن صنعه، ومن يستدعي منه بذل فضله بحظر ما أمر بحظره ومنعه، واسلك فيما تستعمله من أمرها المذهب القصد والمنهج الأقوم، واجتهد فيها اجتهاد معتصم بحبل التقوى المتين وسببها المبرم، وامنع أن يخلو رجل بامرأة ليست بذات محرم، واستوضح أحوال المطاعم والمشارب، وقوّم كلّ من يخرج في شيء منها عن السّنن الواجب، وعيّر المكاييل والموازين فهي آلات معاملات الناس، واجتهد في سلامتك من الآثام بسلامتها من الإلباس والأدناس، وحذّر أن تحمّل دابة ما لا تطيق حمله، وأدّب من يجري إلى ذلك يتوخّى فعله، وأوعز بتنظيف الجوامع والمساجد لتنير بالنّظافة مسالكها، كما تنير بالإضاءة حوالكها ففي ذلك إظهار لبهجتها وجمالها، وإيثار لصيانتها عن إخلاق نضرتها وابتذالها ولا تمكّن أحدا أن يحضرها إلا لصلاة أو ذكر، قاطعا للسان الخصام وموقظا لعين الفكر فأما من يجعلها سوقا للتّجارة، فقد حصل بهذه الجسارة على الخسارة،
__________
(1) العزوة (بالكسر): الاعتزاء والانتساب. وفي هامش الطبعة الأميرية: «في الأصل بعروة، بالإهمال».
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) كذا في الطبعة الأميرية ولم يتبين لنا المراد.(10/467)
فهي ميادين الضّمّر، وموازين الرّجح في الظاهر من أعمالهم والمضمر، وما أحقّ لياليها أن تقوم بها الهجّد (1) لا السّمّر، وهل أذن الله أن ترفع لغير اسمه أو تعمّر واحظر أن يحضر الطّرقات ما يمنع السلوك أو يوعره، وافعل في هذا الأمر ما يردع العابث ويزجره، وخذ النصارى واليهود والمخالفين بلبس الغيار (2) وشدّ الزّنّار، ففي ذلك إظهار لما في الإسلام من العزّة وفي المخالفة من الصّغار، وإبانة بالشدّ للتأهّب للمسير إلى النار، وتفريق بين المؤمنين والكفّار، وأدّب من يكيل مطفّفا، أو يزن متحيّفا، أدبا يكون لمعاملته مزيّفا (3)، وله من معاودة على فعله زاجرا ومخوّفا فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
ومن المكتتب عن الوزير لأرباب الوظائف الديوانية سجلّ بمشارفة الجوالي بالصعيد الأدنى والأشمونين (4)، وهي:
من حسنت آثاره فيما يتولّاه، واستعمل من الاجتهاد ما يدلّ على معرفته بقدر ما تولّاه، كان اعتماده بما يؤكّد سببه وينجح قصده ويبسط يده، ويرهف حدّه فيما يضمن مصالح خدمته، وينظم أمرها في سلك إيثاره وبغيته.
ولما كنت [أيها الأمير] (5) لمّا ندبت إلى مشارفة الجوالي بالصعيد الأدنى والأشمونين قد أبنت عن الخبرة والدّراية، والأمانة والكفاية، والانتصاب
__________
(1) الذين يتهجدون أي يصلّون بالليل.
(2) الغيار: علامة أهل الذمة، كالزنّار للمجوسي ونحوه يشدّه على وسطه. (المعجم الوسيط: 668).
(3) أي مظهرا باطلها. يقال: زيّف قوله أو رأيه: فنّده وأظهر باطله.
(4) قال في معجم البلدان: «أشمون، بالنون، وأهل مصر يقولون الأشمونين. وهي مدينة قديمة، قصبة كورة من كور الصعيد الأدنى غربي النيل». وفي الموسوعة العربية الميسّرة: «مدينتان تعرف كل منهما باسم: شمون، ومعناها الشامون، أي ثمانية العناصر الطبيعية التي قامت منها الحياة.
وهي عاصمة الإقليم الخامس عشر من أقاليم الصعيد». وفي دائرة المعارف الإسلامية: «من مدن مركز ملوي من أعمال مديرية أسيوط. كانت فيما مضى من الزمن من أهم مدن مصر.
(5) بياض بالأصل. والزيادة على نحو الصيغ السابقة في الخطاب.(10/468)
للاستخراج والجباية، والاجتهاد في الوفاء بما كتبت به خطّك، والحرص على ما يجزل نصيبك من جميل الرأي وقسطك تقدّم فتى مولانا وسيدنا بكتب هذا المنشور مضمّنا شكرك وإحمادك ومودعا ما يبلّغك في الخدمة بغيتك ومرادك، وتجديد نظرك وتقوية يدك، وإعزاز جانبك، وتوخّيك بما يشرح صدرك، ويشدّ أزرك، ويرفع موضعك ويزيح عللك، ويقيم هيبتك ويفسح مجالك، ويبلّغك آمالك فاجر على رسمك في هذه المشارفة واستمرّ على عادة دؤ وبك، واجعل التقرّب بالنصيحة غاية مطلوبك، وواصل الانتصاب لاستخراج مال هذه الجوالي واستنضاضه (1) واستيفائه واستنظافه، وتماد في ذلك على سنّتك الحميدة، وطريقتك السّديدة، وثق بأن ذلك يسفر لك عن بلوغ أراجيك، ويضاعف سهمك من حسن الرأي فيك فليعتمد الأميران معاضدة المذكور ومؤازرته، وإعانته ومظافرته، وإجابة ندائه، وتلبية دعائه، والشدّ منه في استخراج البواقي مع المال الحاضر:
ليجد السبيل إلى الوفاء بما شرطه على نفسه، وكتب خطّه به والمبالغة في ذلك مبالغة يعود نفعها على الديوان، ويشهد لهما ببذل الطاقة والإمكان فليعلم ذلك وليعمل به، إن شاء الله عز وجل.
ومن ذلك سجل باستيفاء الأعمال القبلية، وهو:
من كرم أصله ومحتده، وحسن في الولاء ظاهره ومعتقده، ولقّن المخالصة عن الماضين من أسلافه، ولزم في المناصحة منهجا لم يعدل عنه إلى خلافه، وتنقّل في جلائل الخدم بكثرة الثناء عليه والتعديد لأوصافه، وكان في كلّ ما يباشره على قضية تشهد بفضله، وتدلّ من محاسن الخلال على ما لا يجتمع إلا في مثله على أنه قليل النظراء والأكفاء، كلف بالاقتداء بمكارم الأفعال والاتباع لها والاقتفاء استوجب أن يرفع مكانه ومحلّه، واستحق أن يحمّل من أعباء المهمّات
__________
(1) استنضّ الشيء: تتبّعه. يقال: هو يستنضّ حقّه منه: يستنجزه ويأخذه الشيء بعد الشيء. واستنظف الشيء: أخذه نظيفا.(10/469)
ما لا ينهض به [إلا] (1) مثله، وصلح أن يجعل لما يراعي أمره سهما من نظره فيه، وأن يبرز من توليته إيّاه في ملبس جمال يسبغه حسن التدبير عليه ويضفيه.
ولما كنت أيها الشريف، تاج الخلافة، عضد الملك، صنيعة أمير المؤمنين، من جلّة آل أبي طالب، والموفوري الحظّ من المآثر والمناقب، ولك مع نسبك الشريف ميزة بيتك في الدولة العلوية خلد الله ملكها وتقدّمه، واستقرارك بنجوة (2) من السناء لا يضايقه أحد من طبقتك فيها ولا يزحمه وقد توليت أمورا جليلة فكنت عليها القويّ الأمين، وأهّلت لمنازل سنيّة فأوضحت لك الأثر الحسن وأظهرت منك الجوهر الثمين ولم تنتقل قطّ من شيء تتولّاه، إلى غيره مما تستحفظه وتستكفاه، إلا كان الأوّل عليك يتلهّف، والثاني إليك يتطلّع ونحوك يتشوّف وما برحت ملتمسا من الرتب الخطيرة مخطوبا: لأن الأسباب التي غدت في غيرك متشتّتة متفرّقة، قد ألفيت عندك مجتمعة متألّفة متّسقة فلك النزاهة السابقة بك كلّ من يجاريك، والوجاهة الرافعة قدرك على من يناويك والأمانة التي يشهد لك بها من لا يحابيك، والديانة التي حزتها عن الشريف عضد الدولة أبيك تقدّم فتى مولانا وسيدنا بالتعويل عليك في تولّي ديوان الاستيفاء (3)
على الأعمال القبلية وما جمع إليه، الذي هو من أجلّ الدّواوين قدرا، وأنبهها ذكرا، وأرفعها شانا، وأشمخها مكانا وخرج أمره بكتب هذا التقليد لك فباشر ذلك متقيا لله تعالى فيه، جاريا على مراقبة عادتك التي تزلف فاعلها وتحظيه فالله تعالى يقول إرشادا لعباده وتفهيما: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمََالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فََازَ فَوْزاً عَظِيماً} (4).
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) النجوة: المرتفع من الأرض.
(3) وعلى رأسه يكون المستوفي وعمله ضبط الديوان التابع له والتنبيه على ما فيه مصلحته من استخراج أمواله وضبطها وتحديد مواعيدها. (التعريف بمصطلحات الصبح: 310).
(4) الأحزاب / 70.(10/470)
وتبتّل إلى عمارة الأعمال، وتزجية الارتفاع واستخراج الأموال، واعتمد مواصلة الجدّ والتشمير، واعكف على الاجتهاد الذي يشهد لك بقلّة الشبيه وعدم النظير، واستنظف البواقي من كل الجهات والأماكن، وكن على ضبط ما تستخرج وصونه أحفظ له من الخزائن، وانظر في أمر الكتّاب نظر من يكشف عن جميع أسبابهم، ويعلم أنه المخاطب على خطئهم وصوابهم، وخذهم بملازمة الاشغال، والمواظبة على التنفيذ وعلى استيفاء الأعمال، ولا تسوّغ لضامن ولا عامل أن يضجّع (1)
في العمارة، ولا أن يماطل بها من ساعة إلى ساعة فإن فائت ذلك لا يلحق، وفارطه لا يدرك وقد أزيحت علّتك ببسط يدك وإنفاذ قولك وإمضاء حكمك فتماد على سنّتك واستمرّ على رسمك، واعلم هذا واعمل به، وطالع بما تحتاج إلى المطالعة بمثله، إن شاء الله تعالى.
سجل بمباشرة الأغنام والمطابخ.
لما كانت الأمانة كافلة بالتنويه لأربابها، والكفاية سافرة في التمييز لمن يتعلق بأسبابها، والخبرة خلّة لا يليق التصرّف ولا يحسن إلا بها وكنت أيها القاضي مشهور النّفاذ والمعرفة، خليقا إذا ذكر المرشّحون للمهمات بأجمل صفة وقد علمت نباهتك، واستقرّت نزاهتك، وحسن فيما تتولاه أثرك، وطاب فيما تباشره خبرك. وحين عدقت بك الخدم فيما يستدعى ويبتاع من الأغنام برسم المطابخ السعيدة وما ينفق ويطلق منها، متصرّفا في ذلك بين يدي المخلص السديد صفيّ الملك مأمون الدولة أبي الحسن: فرج الحافظي أدام الله تأييده، فشكر سعيك، وأحمد قصدك، ورضي اجتهادك، واستوفق اعتمادك تقدّم فتى مولانا وسيدنا فلان بكتب هذا المنشور لك، مضمّنا ما يقضي بشدّ أزرك، وشرح صدرك، وتقوية منّتك، وإرهاف عزمك في خدمتك، واعتمادك بما يؤدّي إلى
__________
(1) ضجّع في الأمر: قصّر.(10/471)
استقامة الأمر فيما عدق بك، ومساعدتك ومعاضدتك ومعونتك في أسبابك، وتبليغك أقصى طلابك والأميران يعتمدان رعايتك، والشدّ منك وإعانتك، والمحافظة على مصالح أمرك والتلبية لدعوتك، وتوفير حظك من الملاحظة لشؤونك. فلتعلم هذا ولتعمل به، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك نسخة منشور بمشارفة المواريث الحشرية (1)، والفروض الحكمية (2)، وهي:
منشور تقدّم بكتبه فتى مولانا وسيدنا السيد الأجل الأفضل لك أيها القاضي الرشيد، سديد الدولة، أبو الفتوح محمد بن القاضي السعيد عين الدولة أبي محمد عبد الله بن أبي عقيل أدام الله عزك لما اشتهرت كفايتك اشتهار الشمس، وأمنت أمانتك دخول الشبهة واللبس، وسلكت مذهب أسلافك في العفاف والنزاهة وظلف النفس، وظلّت آثارك فيما تتولاه شاهدة بديانتك، وأفعالك فيما تستكفاه معربة عن نباهتك، وسيرتك فيما تتكلّفه منتهية بك إلى أقصى أمد الاحتياط مفضية، وقد أضحى سبيل تقديمك معبّدا مذلّلا، وغدوت لما يناسب كريم بيتك مرشّحا مؤهّلا وإنما إبقاؤك على ما بيدك لتكمّل إصلاحه وتهذيبه، وتتمّم تثقيفه وترتيبه ولذلك كتب هذا المنشور مقصورا على إقرارك على ما أنت متولّيه من الخدمة في مشارفة المواريث الحشرية، وتقرير الفروض الحكمية فاجر على رسمك وعادتك، واستمرّ على منهجك في بذل استطاعتك، والزم
__________
(1) قال المقريزي: «وأما المواريث الحشرية فإنها في الدولة الفاطمية لم تكن كما هي اليوم، من أجل أن مذهبهم يورث ذوي الأرحام، وأن البنت إذا انفردت استحقت المال بأجمعه. فلما انقضت أيامهم واستولت الدولة الأيوبية ثم الدولة التركية صار من جملة أموال السلطان مال المواريث الحشرية وهي التي يستحقها بيت المال عند عدم وجود الوارث». (أنظر الخطط: 1/ 111وراجع الصبح: 3/ 460).
(2) المراد حكم الفروض في المواريث كما شرعها الله.(10/472)
المعهود منك فإنه مغن عن الاستزادة، وتماد على ما أتيت فيه على البغية والإرادة، واكتف بما تضمّنته التذكرة الديوانية المعمولة لهذه الخدمة، وحافظ من الاجتهاد على ما يجدّد لك كلّ وقت ملبس نعمة فاعلم هذا واعمل به، ولينسخ هذا المنشور بحيث ينسخ مثله، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك نسخة منشور بعمالة، وهي:
عند ما وصفت به من اجتهاد ومناصحة، وأمانة ليس فيها مساهلة ولا مسامحة، ومخالصة استمررت فيها القضية المستقيمة الواضحة، وكفاية تمسّكت منها بالسبب الوثيق وحصلت على الصّفقة الرابحة، ومعاملة تحرّيت فيها نهج من حبّب إليه الأعمال الصالحة، وكفاية إذا باشرت الدّهمة الكالحة أبدلتها بالغرّة الواضحة، وسمعة ما برحت الألسن لذخائر ثنائها مبيحة ولسرائر أسبابها بائحة وإنك إذا أهّلت لخدمة جعلتها لشكرك لسانا، ولكتاب كفايتك عنوانا ومن كان بها ملما (1) إذا رأتك دواءه كان مستعارا بك أحيانا فاعتمد في هذه الخدمة ما يحقّق بك ظنّا، ويقيم لك وزنا، ويشدّ بك ركنا، ويضاعف لديك منّا، وينيلك من الإحسان ما تتمنّى، ويسني لك من الزيادة والحسنى، ويتوكّل في اقتضاء الحظّ الجزيل الأسنى، واسترفع (؟) الحسبانات التي ما يلزم رفعها، ويحفظ به شرط الكفاية ووضعها، واكشف ولا تبق ممكنا حتى تكشفه ثم استنطقه، وحاصل به أصله ثم تجمله، وحاقق الجهابذ على ما خرجت به البراآت، ورفعت به الختمات، ولا تخل وصولا، من أن تكون بخطّك موصولا، واستخرج حقوق الديوان على ما مضت به مواضي سننه، وخذ من كل شيء في خدمتك بأحسنه، وأنزل نفسك من شؤون السنة بأمنع ظل وأحصنه، واحمل التّجّار والسّفّار على عوائد العدل وشرائطه، وقضايا الصون وحوائطه، وشواهد الدّيوان وضرائبه، ولا
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف. والمراد غير واضح.(10/473)
تتعدّ فيهم مألوف مطالبه، وانظر في الأملاك السلطانية نظرا يصلح معتلّها، ويصحّح مختلّها، ويوفّر أجرها، ويزجي غيرها وكذلك الأحباس والأحكار والمواريث: فحافظ على حفظ استغلالها، وكفّ كفّ من يرى باستباحة أمر الحرمة واستحلالها وقد وردت لك من الديوان تذكرة فاهتد بمنظومها، واقتد بمرسومها ولك من الآراء ما يشحذ عزمك، وينفّذ حكمك، ويسني موردك، ويعلي يدك، ويمثّل الرعاية فيك، ويقيم على أن تكفي الديوان بما يكفيك والسلام.
تم الجزء العاشر. يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الحادي عشر وأوّله الفصل الثالث (1)
(من الباب الرابع من المقالة الخامسة) والحمد لله ربّ العالمين. وصلاته على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه والتابعين، وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل
__________
(1) صوابه «الفصل الثاني» كما سيأتي.(10/474)
المصادر والمراجع المستعملة في حواشي الجزء العاشر من كتاب «صبح الأعشى»
11 - الأعلام (معجم تراجم) تأليف خير الدين الزركلي دار العلم للملايين بيروت 2الألقاب الإسلامية في التاريخ والوثائق والآثار تأليف حسن الباشا القاهرة 1957 3الانتصار لواسطة عقد الأمصار تأليف ابن دقماق دار الآفاق الجديدة بيروت 4بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب تأليف محمود شكري الآلوسي دار الكتب العلمية بيروت 5البيان والتبيين تأليف الجاحظ تحقيق عبد السلام هارون القاهرة 1961 6تاريخ الإسلام تأليف حسن إبراهيم حسن مكتبة النهضة المصرية القاهرة 7تاريخ الإسلام في الهند تأليف عبد المنعم النمر مكتبة دار العروبة القاهرة 8تاريخ الطبري 2تأليف ابن جرير الطبري تحقيق أبي الفضل ابراهيم دار المعارف القاهرة 9تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور تأليف القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر تحقيق مراد كامل ومحمد علي النجار وزارة الثقافة والإرشاد القومي بالجمهورية العربية المتحدة 10تفسير الطبري تأليف ابن جرير الطبري تحقيق محمود وأحمد شاكر دار المعارف القاهرة 11تهذيب الأسماء واللغات تأليف محيي الدين بن شرف النووي دار الكتب المعلمية بيروت 12جمهرة الامثال تأليف أبي هلال العسكري تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش المؤسسة العربية الحديثة القاهرة 13جمهرة رسائل العرب تأليف أحمد زكي صفوت المكتبة العليمة بيروت
141 - الجوهر الثمين في سير الملوك والسلاطين تأليف ابن دقماق تحقيق محمد كمال الدين عز الدين علي عالم الكتب بيروت 15الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة تأليف علي باشا مبارك الهيئة المصرية العامة القاهرة 16الخطط المقريزية تأليف أحمد بن علي المقريزي دار صادر بيروت 17دائرة المعارف الإسلامية تأليف مجموعة من المستشرقين الطبعة العربية دار الشعب القاهرة 18سيرة ابن هشام تحيق أحمد محمد عبد الحميد القاهرة 19شرح ديوان الحماسة تأليف الخطيب التبريزي عالم الكتب بيروت 20طبقات سلاطين الإسلام تأليف استانلي لين بول ترجمه للفارسية عباس إقبال ترجمه عن الفارسية مكي طاهر الكعبي منشورات البصري بغداد 21العقد الفريد تأليف ابن عبد ربّه تحقيق عبد المجيد ترحيني دار الكتب العلمية بيروت 22عيون الأخبار تأليف ابن قتبية الدينوري تحقيق يوسف الطويل ومفيد قميحة 2دار الكتب العلمية بيروت 23فوات الوفيات تأليف محمد بن شاكر الكتبي تحقيق احسان عباس دار صادر بيروت 24القاموس المحيط تأليف فيروز ابادي المؤسسة العربية للطباعة والنشر بيروت 25قوانين الدواوين تأليف ابن مماتي جمعه وحققه عزيز سوريال عطية مطبعة مصر القاهرة 26كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون تأليف حاجى خليفة دار الفكر بيروت 27الكليات (معجم في المصطلحات والفروق اللغوية) تأليف أبي البقاء الكفوي تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري وزارة الثقافة دمشق 28لسان العرب تأليف ابن منظور دار صادر بيروت 29مجموعد الوثائق السياسة للعهد النبوي والخلافة الراشدة جمع وتحقيق محمد حميد الله دار النفائس بيروت 30مآثر الإنافة في معالم الخلاقة تأليف القلقشندي تحقيق عبد الستار أحمد فراج عالم الكتب بيروت 31مقدمة ابن خلدون
1 - تأليف عبد الرحمن بن خلدون مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني بيروت 32معجم الألفاظ والأعلام القرآنية تأليف محمد إسماعيل ابراهيم دار الفكر العربي القاهرة 33المعجم الوسيط مجمع اللغة العربية القاهرة 34معجم المؤلفين تأليف عمر رضا كحالة مكتبة المثنى ودار إحياء التراث العربي 35معجم البلدان تأليف ياقوت الحموي دار الكتاب العربي بيروت 36معجم ما استعجم تأليف عبد الله بن عبد العزيز البكري تحقيق مصطفى السقّا عالم الكتب بيروت 37مجمع الأمثال تأليف الميداني تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد مطبعة السنة المحمدية 38مفتاح الأفكار تأليف الشيخ أحمد مفتاح القاهرة 39الموسوعة العربية الميسرة بإشراف محمد غربال 2دار الشعب ومؤسسة فرنكلين القاهرة 40نزهة النفوس والأبدان في تواريخ الزمان تأليف الخطيب الصيرفي تحقيق حسن حبشي مطبعة دار الكتب القاهرة 41نثر الدرّ تأليف منصور بن الحسين الآبي دار الشعب ومؤسسة فرنكلين القاهرة 42نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب تحقيق وشرح محمد أبي الفضل إبراهيم منشورات عيسى البابي الحلبي 43وفيات الأعيان تأليف ابن خلكان تحقيق احسان عباس دار الثقافة بيروت 44الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي تأليف محمد حمدي المناوي دار المعارف القاهرة 45صبح الأعشى في صناعة الانشا تأليف القلقشندي الطبعة الأميرية القاهرة 46التعريف بمصطلحات صبح الأعشى تأليف محمد قنديل البقلي الهيئة المصرية العامة القاهرة 47القرآن الكريم.(10/475)
11 - الأعلام (معجم تراجم) تأليف خير الدين الزركلي دار العلم للملايين بيروت 2الألقاب الإسلامية في التاريخ والوثائق والآثار تأليف حسن الباشا القاهرة 1957 3الانتصار لواسطة عقد الأمصار تأليف ابن دقماق دار الآفاق الجديدة بيروت 4بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب تأليف محمود شكري الآلوسي دار الكتب العلمية بيروت 5البيان والتبيين تأليف الجاحظ تحقيق عبد السلام هارون القاهرة 1961 6تاريخ الإسلام تأليف حسن إبراهيم حسن مكتبة النهضة المصرية القاهرة 7تاريخ الإسلام في الهند تأليف عبد المنعم النمر مكتبة دار العروبة القاهرة 8تاريخ الطبري 2تأليف ابن جرير الطبري تحقيق أبي الفضل ابراهيم دار المعارف القاهرة 9تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور تأليف القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر تحقيق مراد كامل ومحمد علي النجار وزارة الثقافة والإرشاد القومي بالجمهورية العربية المتحدة 10تفسير الطبري تأليف ابن جرير الطبري تحقيق محمود وأحمد شاكر دار المعارف القاهرة 11تهذيب الأسماء واللغات تأليف محيي الدين بن شرف النووي دار الكتب المعلمية بيروت 12جمهرة الامثال تأليف أبي هلال العسكري تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش المؤسسة العربية الحديثة القاهرة 13جمهرة رسائل العرب تأليف أحمد زكي صفوت المكتبة العليمة بيروت
141 - الجوهر الثمين في سير الملوك والسلاطين تأليف ابن دقماق تحقيق محمد كمال الدين عز الدين علي عالم الكتب بيروت 15الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة تأليف علي باشا مبارك الهيئة المصرية العامة القاهرة 16الخطط المقريزية تأليف أحمد بن علي المقريزي دار صادر بيروت 17دائرة المعارف الإسلامية تأليف مجموعة من المستشرقين الطبعة العربية دار الشعب القاهرة 18سيرة ابن هشام تحيق أحمد محمد عبد الحميد القاهرة 19شرح ديوان الحماسة تأليف الخطيب التبريزي عالم الكتب بيروت 20طبقات سلاطين الإسلام تأليف استانلي لين بول ترجمه للفارسية عباس إقبال ترجمه عن الفارسية مكي طاهر الكعبي منشورات البصري بغداد 21العقد الفريد تأليف ابن عبد ربّه تحقيق عبد المجيد ترحيني دار الكتب العلمية بيروت 22عيون الأخبار تأليف ابن قتبية الدينوري تحقيق يوسف الطويل ومفيد قميحة 2دار الكتب العلمية بيروت 23فوات الوفيات تأليف محمد بن شاكر الكتبي تحقيق احسان عباس دار صادر بيروت 24القاموس المحيط تأليف فيروز ابادي المؤسسة العربية للطباعة والنشر بيروت 25قوانين الدواوين تأليف ابن مماتي جمعه وحققه عزيز سوريال عطية مطبعة مصر القاهرة 26كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون تأليف حاجى خليفة دار الفكر بيروت 27الكليات (معجم في المصطلحات والفروق اللغوية) تأليف أبي البقاء الكفوي تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري وزارة الثقافة دمشق 28لسان العرب تأليف ابن منظور دار صادر بيروت 29مجموعد الوثائق السياسة للعهد النبوي والخلافة الراشدة جمع وتحقيق محمد حميد الله دار النفائس بيروت 30مآثر الإنافة في معالم الخلاقة تأليف القلقشندي تحقيق عبد الستار أحمد فراج عالم الكتب بيروت 31مقدمة ابن خلدون
1 - تأليف عبد الرحمن بن خلدون مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني بيروت 32معجم الألفاظ والأعلام القرآنية تأليف محمد إسماعيل ابراهيم دار الفكر العربي القاهرة 33المعجم الوسيط مجمع اللغة العربية القاهرة 34معجم المؤلفين تأليف عمر رضا كحالة مكتبة المثنى ودار إحياء التراث العربي 35معجم البلدان تأليف ياقوت الحموي دار الكتاب العربي بيروت 36معجم ما استعجم تأليف عبد الله بن عبد العزيز البكري تحقيق مصطفى السقّا عالم الكتب بيروت 37مجمع الأمثال تأليف الميداني تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد مطبعة السنة المحمدية 38مفتاح الأفكار تأليف الشيخ أحمد مفتاح القاهرة 39الموسوعة العربية الميسرة بإشراف محمد غربال 2دار الشعب ومؤسسة فرنكلين القاهرة 40نزهة النفوس والأبدان في تواريخ الزمان تأليف الخطيب الصيرفي تحقيق حسن حبشي مطبعة دار الكتب القاهرة 41نثر الدرّ تأليف منصور بن الحسين الآبي دار الشعب ومؤسسة فرنكلين القاهرة 42نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب تحقيق وشرح محمد أبي الفضل إبراهيم منشورات عيسى البابي الحلبي 43وفيات الأعيان تأليف ابن خلكان تحقيق احسان عباس دار الثقافة بيروت 44الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي تأليف محمد حمدي المناوي دار المعارف القاهرة 45صبح الأعشى في صناعة الانشا تأليف القلقشندي الطبعة الأميرية القاهرة 46التعريف بمصطلحات صبح الأعشى تأليف محمد قنديل البقلي الهيئة المصرية العامة القاهرة 47القرآن الكريم.(10/476)
11 - الأعلام (معجم تراجم) تأليف خير الدين الزركلي دار العلم للملايين بيروت 2الألقاب الإسلامية في التاريخ والوثائق والآثار تأليف حسن الباشا القاهرة 1957 3الانتصار لواسطة عقد الأمصار تأليف ابن دقماق دار الآفاق الجديدة بيروت 4بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب تأليف محمود شكري الآلوسي دار الكتب العلمية بيروت 5البيان والتبيين تأليف الجاحظ تحقيق عبد السلام هارون القاهرة 1961 6تاريخ الإسلام تأليف حسن إبراهيم حسن مكتبة النهضة المصرية القاهرة 7تاريخ الإسلام في الهند تأليف عبد المنعم النمر مكتبة دار العروبة القاهرة 8تاريخ الطبري 2تأليف ابن جرير الطبري تحقيق أبي الفضل ابراهيم دار المعارف القاهرة 9تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور تأليف القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر تحقيق مراد كامل ومحمد علي النجار وزارة الثقافة والإرشاد القومي بالجمهورية العربية المتحدة 10تفسير الطبري تأليف ابن جرير الطبري تحقيق محمود وأحمد شاكر دار المعارف القاهرة 11تهذيب الأسماء واللغات تأليف محيي الدين بن شرف النووي دار الكتب المعلمية بيروت 12جمهرة الامثال تأليف أبي هلال العسكري تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش المؤسسة العربية الحديثة القاهرة 13جمهرة رسائل العرب تأليف أحمد زكي صفوت المكتبة العليمة بيروت
141 - الجوهر الثمين في سير الملوك والسلاطين تأليف ابن دقماق تحقيق محمد كمال الدين عز الدين علي عالم الكتب بيروت 15الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة تأليف علي باشا مبارك الهيئة المصرية العامة القاهرة 16الخطط المقريزية تأليف أحمد بن علي المقريزي دار صادر بيروت 17دائرة المعارف الإسلامية تأليف مجموعة من المستشرقين الطبعة العربية دار الشعب القاهرة 18سيرة ابن هشام تحيق أحمد محمد عبد الحميد القاهرة 19شرح ديوان الحماسة تأليف الخطيب التبريزي عالم الكتب بيروت 20طبقات سلاطين الإسلام تأليف استانلي لين بول ترجمه للفارسية عباس إقبال ترجمه عن الفارسية مكي طاهر الكعبي منشورات البصري بغداد 21العقد الفريد تأليف ابن عبد ربّه تحقيق عبد المجيد ترحيني دار الكتب العلمية بيروت 22عيون الأخبار تأليف ابن قتبية الدينوري تحقيق يوسف الطويل ومفيد قميحة 2دار الكتب العلمية بيروت 23فوات الوفيات تأليف محمد بن شاكر الكتبي تحقيق احسان عباس دار صادر بيروت 24القاموس المحيط تأليف فيروز ابادي المؤسسة العربية للطباعة والنشر بيروت 25قوانين الدواوين تأليف ابن مماتي جمعه وحققه عزيز سوريال عطية مطبعة مصر القاهرة 26كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون تأليف حاجى خليفة دار الفكر بيروت 27الكليات (معجم في المصطلحات والفروق اللغوية) تأليف أبي البقاء الكفوي تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري وزارة الثقافة دمشق 28لسان العرب تأليف ابن منظور دار صادر بيروت 29مجموعد الوثائق السياسة للعهد النبوي والخلافة الراشدة جمع وتحقيق محمد حميد الله دار النفائس بيروت 30مآثر الإنافة في معالم الخلاقة تأليف القلقشندي تحقيق عبد الستار أحمد فراج عالم الكتب بيروت 31مقدمة ابن خلدون
1 - تأليف عبد الرحمن بن خلدون مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني بيروت 32معجم الألفاظ والأعلام القرآنية تأليف محمد إسماعيل ابراهيم دار الفكر العربي القاهرة 33المعجم الوسيط مجمع اللغة العربية القاهرة 34معجم المؤلفين تأليف عمر رضا كحالة مكتبة المثنى ودار إحياء التراث العربي 35معجم البلدان تأليف ياقوت الحموي دار الكتاب العربي بيروت 36معجم ما استعجم تأليف عبد الله بن عبد العزيز البكري تحقيق مصطفى السقّا عالم الكتب بيروت 37مجمع الأمثال تأليف الميداني تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد مطبعة السنة المحمدية 38مفتاح الأفكار تأليف الشيخ أحمد مفتاح القاهرة 39الموسوعة العربية الميسرة بإشراف محمد غربال 2دار الشعب ومؤسسة فرنكلين القاهرة 40نزهة النفوس والأبدان في تواريخ الزمان تأليف الخطيب الصيرفي تحقيق حسن حبشي مطبعة دار الكتب القاهرة 41نثر الدرّ تأليف منصور بن الحسين الآبي دار الشعب ومؤسسة فرنكلين القاهرة 42نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب تحقيق وشرح محمد أبي الفضل إبراهيم منشورات عيسى البابي الحلبي 43وفيات الأعيان تأليف ابن خلكان تحقيق احسان عباس دار الثقافة بيروت 44الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي تأليف محمد حمدي المناوي دار المعارف القاهرة 45صبح الأعشى في صناعة الانشا تأليف القلقشندي الطبعة الأميرية القاهرة 46التعريف بمصطلحات صبح الأعشى تأليف محمد قنديل البقلي الهيئة المصرية العامة القاهرة 47القرآن الكريم.(10/477)
11 - الأعلام (معجم تراجم) تأليف خير الدين الزركلي دار العلم للملايين بيروت 2الألقاب الإسلامية في التاريخ والوثائق والآثار تأليف حسن الباشا القاهرة 1957 3الانتصار لواسطة عقد الأمصار تأليف ابن دقماق دار الآفاق الجديدة بيروت 4بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب تأليف محمود شكري الآلوسي دار الكتب العلمية بيروت 5البيان والتبيين تأليف الجاحظ تحقيق عبد السلام هارون القاهرة 1961 6تاريخ الإسلام تأليف حسن إبراهيم حسن مكتبة النهضة المصرية القاهرة 7تاريخ الإسلام في الهند تأليف عبد المنعم النمر مكتبة دار العروبة القاهرة 8تاريخ الطبري 2تأليف ابن جرير الطبري تحقيق أبي الفضل ابراهيم دار المعارف القاهرة 9تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور تأليف القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر تحقيق مراد كامل ومحمد علي النجار وزارة الثقافة والإرشاد القومي بالجمهورية العربية المتحدة 10تفسير الطبري تأليف ابن جرير الطبري تحقيق محمود وأحمد شاكر دار المعارف القاهرة 11تهذيب الأسماء واللغات تأليف محيي الدين بن شرف النووي دار الكتب المعلمية بيروت 12جمهرة الامثال تأليف أبي هلال العسكري تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش المؤسسة العربية الحديثة القاهرة 13جمهرة رسائل العرب تأليف أحمد زكي صفوت المكتبة العليمة بيروت
141 - الجوهر الثمين في سير الملوك والسلاطين تأليف ابن دقماق تحقيق محمد كمال الدين عز الدين علي عالم الكتب بيروت 15الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة تأليف علي باشا مبارك الهيئة المصرية العامة القاهرة 16الخطط المقريزية تأليف أحمد بن علي المقريزي دار صادر بيروت 17دائرة المعارف الإسلامية تأليف مجموعة من المستشرقين الطبعة العربية دار الشعب القاهرة 18سيرة ابن هشام تحيق أحمد محمد عبد الحميد القاهرة 19شرح ديوان الحماسة تأليف الخطيب التبريزي عالم الكتب بيروت 20طبقات سلاطين الإسلام تأليف استانلي لين بول ترجمه للفارسية عباس إقبال ترجمه عن الفارسية مكي طاهر الكعبي منشورات البصري بغداد 21العقد الفريد تأليف ابن عبد ربّه تحقيق عبد المجيد ترحيني دار الكتب العلمية بيروت 22عيون الأخبار تأليف ابن قتبية الدينوري تحقيق يوسف الطويل ومفيد قميحة 2دار الكتب العلمية بيروت 23فوات الوفيات تأليف محمد بن شاكر الكتبي تحقيق احسان عباس دار صادر بيروت 24القاموس المحيط تأليف فيروز ابادي المؤسسة العربية للطباعة والنشر بيروت 25قوانين الدواوين تأليف ابن مماتي جمعه وحققه عزيز سوريال عطية مطبعة مصر القاهرة 26كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون تأليف حاجى خليفة دار الفكر بيروت 27الكليات (معجم في المصطلحات والفروق اللغوية) تأليف أبي البقاء الكفوي تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري وزارة الثقافة دمشق 28لسان العرب تأليف ابن منظور دار صادر بيروت 29مجموعد الوثائق السياسة للعهد النبوي والخلافة الراشدة جمع وتحقيق محمد حميد الله دار النفائس بيروت 30مآثر الإنافة في معالم الخلاقة تأليف القلقشندي تحقيق عبد الستار أحمد فراج عالم الكتب بيروت 31مقدمة ابن خلدون
1 - تأليف عبد الرحمن بن خلدون مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني بيروت 32معجم الألفاظ والأعلام القرآنية تأليف محمد إسماعيل ابراهيم دار الفكر العربي القاهرة 33المعجم الوسيط مجمع اللغة العربية القاهرة 34معجم المؤلفين تأليف عمر رضا كحالة مكتبة المثنى ودار إحياء التراث العربي 35معجم البلدان تأليف ياقوت الحموي دار الكتاب العربي بيروت 36معجم ما استعجم تأليف عبد الله بن عبد العزيز البكري تحقيق مصطفى السقّا عالم الكتب بيروت 37مجمع الأمثال تأليف الميداني تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد مطبعة السنة المحمدية 38مفتاح الأفكار تأليف الشيخ أحمد مفتاح القاهرة 39الموسوعة العربية الميسرة بإشراف محمد غربال 2دار الشعب ومؤسسة فرنكلين القاهرة 40نزهة النفوس والأبدان في تواريخ الزمان تأليف الخطيب الصيرفي تحقيق حسن حبشي مطبعة دار الكتب القاهرة 41نثر الدرّ تأليف منصور بن الحسين الآبي دار الشعب ومؤسسة فرنكلين القاهرة 42نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب تحقيق وشرح محمد أبي الفضل إبراهيم منشورات عيسى البابي الحلبي 43وفيات الأعيان تأليف ابن خلكان تحقيق احسان عباس دار الثقافة بيروت 44الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي تأليف محمد حمدي المناوي دار المعارف القاهرة 45صبح الأعشى في صناعة الانشا تأليف القلقشندي الطبعة الأميرية القاهرة 46التعريف بمصطلحات صبح الأعشى تأليف محمد قنديل البقلي الهيئة المصرية العامة القاهرة 47القرآن الكريم.
فهرس الجزء العاشر من صبح الأعشى
الموضوع الصفحة الوجه الخامس فيما يكتب في ألقاب الملوك عن الخلفاء، وهو نمطان 3 النمط الأول ما كان يكتب في قديم الزمن 3 النمط الثاني ما يكتب به لملوك الزمان 4 الوجه السادس فيما يكتب في متن العهود، وفيه ثلاثة مذاهب 6 المذهب الأول وعليه عامّة الكتاب من المتقدمين وأكثر المتأخرين، وفيه طريقتان 6 الطريقة الأولى طريقة المتقدّمين 7 الطريقة الثانية طريقة محقّقي المتأخرين ممن جرى على هذا المذهب 44 المذهب الثاني أن يفتتح العهد بلفظ «من فلان» باسم الخليفة وكنيته ولقب الخلافة، «إلى فلان» باسم السلطان وكنيته ولقب السلطنة كما في المكاتبات، ثم يأتي بعد ذلك بلفظ «أما بعد» 75 المذهب الثالث أن يفتتح العهد بخطبة 100 المذهب الرابع أن يفتتح العهد بقوله: «أما بعد فالحمد لله» أو «أما بعد فإن أمير المؤمنين» أو «أما بعد فإن كذا» ونحو ذلك 140 المذهب الخامس أن يفتتح العهد ب «إن أولى ما كان كذا» ونحوه 150 الوجه السابع فيما يكتب في مستند عهد السلطان عن الخليفة الخ 158 الوجه الثامن في قطع الورق الذي تكتب فيه عهود الملوك عن الخلفاء، والقلم الذي يكتب به الخ 159
الموضوع الصفحة النوع الثالث من العهود عهود الملوك لولاة العهد بالملك، ويتعلق النظر به من سبعة أوجه 162 الوجه الأول في بيان صحّة ذلك 163 الوجه الثاني فيما يكتب في الطرّة 163 الوجه الثالث في الألقاب التي تكتب في أثناء العهد 164 الوجه الرابع ما يكتب في المستند 164 الوجه الخامس ما يكتب في متن العهد 165 الوجه السادس فيما يكتب في مستند عهد وليّ العهد بالسلطنة، وما يكتبه السلطان في بيت العلامة، وما يكتب في ذيل العهد 182 الوجه السابع في قطع ورق هذا العهد وقلمه الذي يكتب به الخ 182 النوع الرابع من العهود عهود الملوك بالسلطنة للملوك المنفردين بصغار البلدان، ويتعلق النظر به من أربعة أوجه 184 الوجه الأوّل في بيان أصل ذلك وأوّل حدوثه في هذه المملكة إلى حين زواله عنها 184 الوجه الثاني في بيان ما يكتب في العهد، وهو على ضربين 187 الضرب الأوّل ما يكتب في الطرّة، وهو تلخيص ما يشتمل عليه العهد [ولم يذكر الضرب الثاني] 187 الوجه الثالث فيما يكتب في المستند عن السلطان في هذا العهد، وما يكتبه السلطان في بيت العلامة 191 الوجه الرابع في قطع ورق هذا العهد وقلمه الذي يكتب به الخ 192 الباب الرابع، من المقالة الخامسة في الولايات الصادرة عن الخلفاء لأرباب المناصب من أصحاب السيوف والأقلام، وفيه ثلاثة فصول 195 الفصل الأول فيما كان يكتب من ذلك عن الخلفاء، وفيه خمسة أطراف 195 الطرف الأوّل فيما كان يكتب عن الخلفاء الراشدين من الصحابة رضوان الله عليهم 195
الموضوع الصفحة الطرف الثاني فيما كان يكتب عن خلفاء بني أميّة 198 الطرف الثالث فيما كان يكتب عن خلفاء بني العباس ببغداد إلى حين انقراض الخلافة العباسية من بغداد، وهو على أربعة أنواع 241 النوع الأوّل ما كان يكتب لوزراء الخلافة 241 النوع الثاني مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لأرباب الوظائف من أصحاب السيوف، وهو على ضربين 251 الضرب الأوّل العهود، وهي أعلاها رتبة 251 الضرب الثاني مما يكتب من ديوان الخلافة لأرباب السيوف التقاليد، وهي لمن دون أرباب العهود في الرتبة 272 النوع الثالث مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لأرباب الوظائف ببغداد من أصحاب الأقلام، وهي على ضربين 273 الضرب الأوّل العهود 273 الضرب الثاني مما كان يكتب بديوان الخلافة ببغداد لأرباب الوظائف من أصحاب الأقلام التواقيع 301 النوع الرابع مما كان يكتب من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لزعماء أهل الذمّة 303 الطرف الرابع فيما كان يكتب عن مدّعي الخلافة ببلاد المغرب والأندلس، وله حالتان 309 الحالة الأولى ما كان الأمر عليه في الزمن القديم [ولم يذكر الحالة الثانية] 309 الطرف الخامس فيما كان عليه الأمر في الدولة الفاطمية بالديار المصرية، وكانت كتابة ما يكتب لديهم لأرباب الولايات على نوعين 317 النوع الأول ما كان يكتب به عن الخليفة نفسه، ولهم فيها أربعة مذاهب 318 المذهب الأوّل أن يفتتح ما يكتب في الولاية بالتصدير، وهو على ثلاث مراتب 318 المرتبة الأولى أن يقال بعد التصدير المقدّم «أما بعد فالحمد لله»، وهي على
لموضوع الصفحة ضربين 318 الضرب الأوّل سجلّات أرباب السيوف [ولم يترجم للضرب الثاني، وهو:(10/479)
الموضوع الصفحة الوجه الخامس فيما يكتب في ألقاب الملوك عن الخلفاء، وهو نمطان 3 النمط الأول ما كان يكتب في قديم الزمن 3 النمط الثاني ما يكتب به لملوك الزمان 4 الوجه السادس فيما يكتب في متن العهود، وفيه ثلاثة مذاهب 6 المذهب الأول وعليه عامّة الكتاب من المتقدمين وأكثر المتأخرين، وفيه طريقتان 6 الطريقة الأولى طريقة المتقدّمين 7 الطريقة الثانية طريقة محقّقي المتأخرين ممن جرى على هذا المذهب 44 المذهب الثاني أن يفتتح العهد بلفظ «من فلان» باسم الخليفة وكنيته ولقب الخلافة، «إلى فلان» باسم السلطان وكنيته ولقب السلطنة كما في المكاتبات، ثم يأتي بعد ذلك بلفظ «أما بعد» 75 المذهب الثالث أن يفتتح العهد بخطبة 100 المذهب الرابع أن يفتتح العهد بقوله: «أما بعد فالحمد لله» أو «أما بعد فإن أمير المؤمنين» أو «أما بعد فإن كذا» ونحو ذلك 140 المذهب الخامس أن يفتتح العهد ب «إن أولى ما كان كذا» ونحوه 150 الوجه السابع فيما يكتب في مستند عهد السلطان عن الخليفة الخ 158 الوجه الثامن في قطع الورق الذي تكتب فيه عهود الملوك عن الخلفاء، والقلم الذي يكتب به الخ 159
الموضوع الصفحة النوع الثالث من العهود عهود الملوك لولاة العهد بالملك، ويتعلق النظر به من سبعة أوجه 162 الوجه الأول في بيان صحّة ذلك 163 الوجه الثاني فيما يكتب في الطرّة 163 الوجه الثالث في الألقاب التي تكتب في أثناء العهد 164 الوجه الرابع ما يكتب في المستند 164 الوجه الخامس ما يكتب في متن العهد 165 الوجه السادس فيما يكتب في مستند عهد وليّ العهد بالسلطنة، وما يكتبه السلطان في بيت العلامة، وما يكتب في ذيل العهد 182 الوجه السابع في قطع ورق هذا العهد وقلمه الذي يكتب به الخ 182 النوع الرابع من العهود عهود الملوك بالسلطنة للملوك المنفردين بصغار البلدان، ويتعلق النظر به من أربعة أوجه 184 الوجه الأوّل في بيان أصل ذلك وأوّل حدوثه في هذه المملكة إلى حين زواله عنها 184 الوجه الثاني في بيان ما يكتب في العهد، وهو على ضربين 187 الضرب الأوّل ما يكتب في الطرّة، وهو تلخيص ما يشتمل عليه العهد [ولم يذكر الضرب الثاني] 187 الوجه الثالث فيما يكتب في المستند عن السلطان في هذا العهد، وما يكتبه السلطان في بيت العلامة 191 الوجه الرابع في قطع ورق هذا العهد وقلمه الذي يكتب به الخ 192 الباب الرابع، من المقالة الخامسة في الولايات الصادرة عن الخلفاء لأرباب المناصب من أصحاب السيوف والأقلام، وفيه ثلاثة فصول 195 الفصل الأول فيما كان يكتب من ذلك عن الخلفاء، وفيه خمسة أطراف 195 الطرف الأوّل فيما كان يكتب عن الخلفاء الراشدين من الصحابة رضوان الله عليهم 195
الموضوع الصفحة الطرف الثاني فيما كان يكتب عن خلفاء بني أميّة 198 الطرف الثالث فيما كان يكتب عن خلفاء بني العباس ببغداد إلى حين انقراض الخلافة العباسية من بغداد، وهو على أربعة أنواع 241 النوع الأوّل ما كان يكتب لوزراء الخلافة 241 النوع الثاني مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لأرباب الوظائف من أصحاب السيوف، وهو على ضربين 251 الضرب الأوّل العهود، وهي أعلاها رتبة 251 الضرب الثاني مما يكتب من ديوان الخلافة لأرباب السيوف التقاليد، وهي لمن دون أرباب العهود في الرتبة 272 النوع الثالث مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لأرباب الوظائف ببغداد من أصحاب الأقلام، وهي على ضربين 273 الضرب الأوّل العهود 273 الضرب الثاني مما كان يكتب بديوان الخلافة ببغداد لأرباب الوظائف من أصحاب الأقلام التواقيع 301 النوع الرابع مما كان يكتب من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لزعماء أهل الذمّة 303 الطرف الرابع فيما كان يكتب عن مدّعي الخلافة ببلاد المغرب والأندلس، وله حالتان 309 الحالة الأولى ما كان الأمر عليه في الزمن القديم [ولم يذكر الحالة الثانية] 309 الطرف الخامس فيما كان عليه الأمر في الدولة الفاطمية بالديار المصرية، وكانت كتابة ما يكتب لديهم لأرباب الولايات على نوعين 317 النوع الأول ما كان يكتب به عن الخليفة نفسه، ولهم فيها أربعة مذاهب 318 المذهب الأوّل أن يفتتح ما يكتب في الولاية بالتصدير، وهو على ثلاث مراتب 318 المرتبة الأولى أن يقال بعد التصدير المقدّم «أما بعد فالحمد لله»، وهي على
لموضوع الصفحة ضربين 318 الضرب الأوّل سجلّات أرباب السيوف [ولم يترجم للضرب الثاني، وهو:(10/480)
الموضوع الصفحة الوجه الخامس فيما يكتب في ألقاب الملوك عن الخلفاء، وهو نمطان 3 النمط الأول ما كان يكتب في قديم الزمن 3 النمط الثاني ما يكتب به لملوك الزمان 4 الوجه السادس فيما يكتب في متن العهود، وفيه ثلاثة مذاهب 6 المذهب الأول وعليه عامّة الكتاب من المتقدمين وأكثر المتأخرين، وفيه طريقتان 6 الطريقة الأولى طريقة المتقدّمين 7 الطريقة الثانية طريقة محقّقي المتأخرين ممن جرى على هذا المذهب 44 المذهب الثاني أن يفتتح العهد بلفظ «من فلان» باسم الخليفة وكنيته ولقب الخلافة، «إلى فلان» باسم السلطان وكنيته ولقب السلطنة كما في المكاتبات، ثم يأتي بعد ذلك بلفظ «أما بعد» 75 المذهب الثالث أن يفتتح العهد بخطبة 100 المذهب الرابع أن يفتتح العهد بقوله: «أما بعد فالحمد لله» أو «أما بعد فإن أمير المؤمنين» أو «أما بعد فإن كذا» ونحو ذلك 140 المذهب الخامس أن يفتتح العهد ب «إن أولى ما كان كذا» ونحوه 150 الوجه السابع فيما يكتب في مستند عهد السلطان عن الخليفة الخ 158 الوجه الثامن في قطع الورق الذي تكتب فيه عهود الملوك عن الخلفاء، والقلم الذي يكتب به الخ 159
الموضوع الصفحة النوع الثالث من العهود عهود الملوك لولاة العهد بالملك، ويتعلق النظر به من سبعة أوجه 162 الوجه الأول في بيان صحّة ذلك 163 الوجه الثاني فيما يكتب في الطرّة 163 الوجه الثالث في الألقاب التي تكتب في أثناء العهد 164 الوجه الرابع ما يكتب في المستند 164 الوجه الخامس ما يكتب في متن العهد 165 الوجه السادس فيما يكتب في مستند عهد وليّ العهد بالسلطنة، وما يكتبه السلطان في بيت العلامة، وما يكتب في ذيل العهد 182 الوجه السابع في قطع ورق هذا العهد وقلمه الذي يكتب به الخ 182 النوع الرابع من العهود عهود الملوك بالسلطنة للملوك المنفردين بصغار البلدان، ويتعلق النظر به من أربعة أوجه 184 الوجه الأوّل في بيان أصل ذلك وأوّل حدوثه في هذه المملكة إلى حين زواله عنها 184 الوجه الثاني في بيان ما يكتب في العهد، وهو على ضربين 187 الضرب الأوّل ما يكتب في الطرّة، وهو تلخيص ما يشتمل عليه العهد [ولم يذكر الضرب الثاني] 187 الوجه الثالث فيما يكتب في المستند عن السلطان في هذا العهد، وما يكتبه السلطان في بيت العلامة 191 الوجه الرابع في قطع ورق هذا العهد وقلمه الذي يكتب به الخ 192 الباب الرابع، من المقالة الخامسة في الولايات الصادرة عن الخلفاء لأرباب المناصب من أصحاب السيوف والأقلام، وفيه ثلاثة فصول 195 الفصل الأول فيما كان يكتب من ذلك عن الخلفاء، وفيه خمسة أطراف 195 الطرف الأوّل فيما كان يكتب عن الخلفاء الراشدين من الصحابة رضوان الله عليهم 195
الموضوع الصفحة الطرف الثاني فيما كان يكتب عن خلفاء بني أميّة 198 الطرف الثالث فيما كان يكتب عن خلفاء بني العباس ببغداد إلى حين انقراض الخلافة العباسية من بغداد، وهو على أربعة أنواع 241 النوع الأوّل ما كان يكتب لوزراء الخلافة 241 النوع الثاني مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لأرباب الوظائف من أصحاب السيوف، وهو على ضربين 251 الضرب الأوّل العهود، وهي أعلاها رتبة 251 الضرب الثاني مما يكتب من ديوان الخلافة لأرباب السيوف التقاليد، وهي لمن دون أرباب العهود في الرتبة 272 النوع الثالث مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لأرباب الوظائف ببغداد من أصحاب الأقلام، وهي على ضربين 273 الضرب الأوّل العهود 273 الضرب الثاني مما كان يكتب بديوان الخلافة ببغداد لأرباب الوظائف من أصحاب الأقلام التواقيع 301 النوع الرابع مما كان يكتب من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لزعماء أهل الذمّة 303 الطرف الرابع فيما كان يكتب عن مدّعي الخلافة ببلاد المغرب والأندلس، وله حالتان 309 الحالة الأولى ما كان الأمر عليه في الزمن القديم [ولم يذكر الحالة الثانية] 309 الطرف الخامس فيما كان عليه الأمر في الدولة الفاطمية بالديار المصرية، وكانت كتابة ما يكتب لديهم لأرباب الولايات على نوعين 317 النوع الأول ما كان يكتب به عن الخليفة نفسه، ولهم فيها أربعة مذاهب 318 المذهب الأوّل أن يفتتح ما يكتب في الولاية بالتصدير، وهو على ثلاث مراتب 318 المرتبة الأولى أن يقال بعد التصدير المقدّم «أما بعد فالحمد لله»، وهي على
لموضوع الصفحة ضربين 318 الضرب الأوّل سجلّات أرباب السيوف [ولم يترجم للضرب الثاني، وهو:(10/481)
الموضوع الصفحة الوجه الخامس فيما يكتب في ألقاب الملوك عن الخلفاء، وهو نمطان 3 النمط الأول ما كان يكتب في قديم الزمن 3 النمط الثاني ما يكتب به لملوك الزمان 4 الوجه السادس فيما يكتب في متن العهود، وفيه ثلاثة مذاهب 6 المذهب الأول وعليه عامّة الكتاب من المتقدمين وأكثر المتأخرين، وفيه طريقتان 6 الطريقة الأولى طريقة المتقدّمين 7 الطريقة الثانية طريقة محقّقي المتأخرين ممن جرى على هذا المذهب 44 المذهب الثاني أن يفتتح العهد بلفظ «من فلان» باسم الخليفة وكنيته ولقب الخلافة، «إلى فلان» باسم السلطان وكنيته ولقب السلطنة كما في المكاتبات، ثم يأتي بعد ذلك بلفظ «أما بعد» 75 المذهب الثالث أن يفتتح العهد بخطبة 100 المذهب الرابع أن يفتتح العهد بقوله: «أما بعد فالحمد لله» أو «أما بعد فإن أمير المؤمنين» أو «أما بعد فإن كذا» ونحو ذلك 140 المذهب الخامس أن يفتتح العهد ب «إن أولى ما كان كذا» ونحوه 150 الوجه السابع فيما يكتب في مستند عهد السلطان عن الخليفة الخ 158 الوجه الثامن في قطع الورق الذي تكتب فيه عهود الملوك عن الخلفاء، والقلم الذي يكتب به الخ 159
الموضوع الصفحة النوع الثالث من العهود عهود الملوك لولاة العهد بالملك، ويتعلق النظر به من سبعة أوجه 162 الوجه الأول في بيان صحّة ذلك 163 الوجه الثاني فيما يكتب في الطرّة 163 الوجه الثالث في الألقاب التي تكتب في أثناء العهد 164 الوجه الرابع ما يكتب في المستند 164 الوجه الخامس ما يكتب في متن العهد 165 الوجه السادس فيما يكتب في مستند عهد وليّ العهد بالسلطنة، وما يكتبه السلطان في بيت العلامة، وما يكتب في ذيل العهد 182 الوجه السابع في قطع ورق هذا العهد وقلمه الذي يكتب به الخ 182 النوع الرابع من العهود عهود الملوك بالسلطنة للملوك المنفردين بصغار البلدان، ويتعلق النظر به من أربعة أوجه 184 الوجه الأوّل في بيان أصل ذلك وأوّل حدوثه في هذه المملكة إلى حين زواله عنها 184 الوجه الثاني في بيان ما يكتب في العهد، وهو على ضربين 187 الضرب الأوّل ما يكتب في الطرّة، وهو تلخيص ما يشتمل عليه العهد [ولم يذكر الضرب الثاني] 187 الوجه الثالث فيما يكتب في المستند عن السلطان في هذا العهد، وما يكتبه السلطان في بيت العلامة 191 الوجه الرابع في قطع ورق هذا العهد وقلمه الذي يكتب به الخ 192 الباب الرابع، من المقالة الخامسة في الولايات الصادرة عن الخلفاء لأرباب المناصب من أصحاب السيوف والأقلام، وفيه ثلاثة فصول 195 الفصل الأول فيما كان يكتب من ذلك عن الخلفاء، وفيه خمسة أطراف 195 الطرف الأوّل فيما كان يكتب عن الخلفاء الراشدين من الصحابة رضوان الله عليهم 195
الموضوع الصفحة الطرف الثاني فيما كان يكتب عن خلفاء بني أميّة 198 الطرف الثالث فيما كان يكتب عن خلفاء بني العباس ببغداد إلى حين انقراض الخلافة العباسية من بغداد، وهو على أربعة أنواع 241 النوع الأوّل ما كان يكتب لوزراء الخلافة 241 النوع الثاني مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لأرباب الوظائف من أصحاب السيوف، وهو على ضربين 251 الضرب الأوّل العهود، وهي أعلاها رتبة 251 الضرب الثاني مما يكتب من ديوان الخلافة لأرباب السيوف التقاليد، وهي لمن دون أرباب العهود في الرتبة 272 النوع الثالث مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لأرباب الوظائف ببغداد من أصحاب الأقلام، وهي على ضربين 273 الضرب الأوّل العهود 273 الضرب الثاني مما كان يكتب بديوان الخلافة ببغداد لأرباب الوظائف من أصحاب الأقلام التواقيع 301 النوع الرابع مما كان يكتب من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لزعماء أهل الذمّة 303 الطرف الرابع فيما كان يكتب عن مدّعي الخلافة ببلاد المغرب والأندلس، وله حالتان 309 الحالة الأولى ما كان الأمر عليه في الزمن القديم [ولم يذكر الحالة الثانية] 309 الطرف الخامس فيما كان عليه الأمر في الدولة الفاطمية بالديار المصرية، وكانت كتابة ما يكتب لديهم لأرباب الولايات على نوعين 317 النوع الأول ما كان يكتب به عن الخليفة نفسه، ولهم فيها أربعة مذاهب 318 المذهب الأوّل أن يفتتح ما يكتب في الولاية بالتصدير، وهو على ثلاث مراتب 318 المرتبة الأولى أن يقال بعد التصدير المقدّم «أما بعد فالحمد لله»، وهي على
لموضوع الصفحة ضربين 318 الضرب الأوّل سجلّات أرباب السيوف [ولم يترجم للضرب الثاني، وهو:
سجلّات أرباب الأقلام] 319 المرتبة الثانية من المذهب الأوّل من سجلّات ولايات الفاطميين أن يفتتح السجلّ بالتصدير، فيقال «من عبد الله ووليه» الخ 346 المرتبة الثالثة من المذهب الأوّل من سجلّات ولايات الفاطميين أن تفتتح بالتصدير أيضا، وهو «من عبد الله ووليّه» إلى آخر التصلية على النبي صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه الخ 368 المذهب الثاني أن يفتتح ما يكتب في الولاية بلفظ «هذا ما عهد عبد الله ووليّه فلان أبو فلان الخ» 392 المذهب الثالث أن يفتتح ما يكتب في الولايات بخطبة مبتدأة بالحمد لله كما يكتب في أعلى الولايات في زماننا، ويقال «يحمده أمير المؤمنين على كذا وكذا الخ» 397 المذهب الرابع مما كان يكتب لأرباب الولايات بالدولة الفاطمية مرتبة الأصاغر من أرباب السيوف والأقلام 447 النوع الثاني مما كان يكتب في الدولة الفاطمية بالديار المصرية ما كان يكتب عن الوزير 453 تم بإذن الله فهرس الجزء العاشر من صبح الأعشى(10/482)
الجزء الحاديعشر
تتمة الباب الرابع من المقالة الخامسة
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيدنا محمّد وآله وصحبه
الفصل الثاني من الباب الرابع من المقالة الخامسة (فيما يكتب من الولايات عن الملوك، وفيه [ثلاثة] (1) أطراف)
الطّرف الأوّل (في مصطلح كتّاب الشرق)
قد تقدّم في الكلام على ما كان يكتب عن الخلفاء أنّ الولايات في الخلافة العبّاسيّة ببغداد كانت تصدر عن الخلفاء دون الملوك المساهمين لهم في الأمر، لا يشاركونهم في شيء من الولايات أصلا. وقد تقدّم ذكر ما كان يكتب عن خلفائهم من الولايات هناك.
والمقصود هنا ما كان يكتب عن ملوك بني جنكزخان من البيت الهولاكوهي فمن بعدهم. ولم أقف على شيء من مصطلحهم في ذلك فأورده هنا.
الطّرف الثاني (في مصطلح كتّاب الغرب والأندلس فيما يكتب من الولايات عن الملوك)
واعلم أنهم يعبّرون عما يكتب في جميع ولاياتهم بالظّهائر: جمع
__________
(1) الزيادة مما يقتضيه التقسيم الذي اتبعه المؤلف.(11/3)
ظهير (1)، يفتتحونه بلفظ «هذا ظهير» كما تقدّم بيانه في الكلام على ما كان يكتب عن خلفاء المغرب.
ثم هي على ثلاثة أضرب:
الضرب الأوّل (ما يكتب لأرباب الوظائف من أصحاب السّيوف)
وهذه نسخة ظهير بنيابة السلطنة بالحضرة من إنشاء أبي عبد الله بن الخطيب (2)، وهي:
هذا ظهير كريم، منزلته في الظهائر منزلة المعتمد به من الظّهراء، ومحلّه من الصّكوك، الصادرة عن أعاظم الملوك، محلّ أولي الرايات، الخافقة العذبات، والآراء، فتح على الإسلام، من بعد الإبهام، أبواب السّرّاء، وراق طرازا مذهبا على عاتق الدّولة الغرّاء، وأعمل عوامل الجهاد في طاعة ربّ العباد، شارعة لأهل الكفر والعناد، من باب الإعمال والإغراء أمر به فلان لصدر صدور أودّائه (3)، وحسامه المشهور على أعدائه، ووليّه الذي خبر صدق وفائه، وجلّى في مضمار الخلوص له مغبّرا في وجوه أكفائه، شيخ شيوخ المجاهدين، وقائد كتائبه المنصورة لغزو الكافرين والمعتدين، وعدّته التي يدافع بها عن الدّين، وسائق ورده المبرّز في الميادين، الشيخ الأجلّ الأعزّ الأسنى، الأمجد، الأسعد، الأصعد، الأعنى، الأحمى، الأحبّ، الأوصل،
__________
(1) الظهير هو العون، يستوي فيه الواحد والجمع، وقد جمعه الفرّاء على ظهراء. وفي شرح الأشموني عن بعض النحويين أنه يشترط في جمع فعيل على فعائل أن يكون علما لمؤنث.
(حاشية الصفحة 6من الطبعة الأميرية).
(2) هو لسان الدين، ابن الخطيب الغرناطي الأندلسي: وزير مؤرخ أديب. استوزره سلطان غرناطة أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل ثم ابنه الغني بالله محمد. توفي سنة 776هـ. (الأعلام:
6/ 235ودائرة المعارف الإسلامية: 1/ 268ومقدمة بروفنسال لتاريخ اسبانيا الإسلامية).
(3) الأودّاء: جمع وديد، وهو المحبّ.(11/4)
الأفضل، المجاهد، الأقضى، الأرضى، الأمضى، الشهيد المقدّس، المرحوم أبي عبد الله بدر الدين ابن شيخ الشّيوخ وعلم الأعلام، المدافع عن حوزة الإسلام، البعيد الغارة في تخوم عبدة الأصنام، الشيخ الكبير، الجليل الخطير، الرفيع، الصّدر، المعظّم، الموقّر، صاحب الجهاد الأرضى، والعزم الأمضى، المقدّس، المرحوم أبي عمران (موسى) بن أبي زيد رحوبن محيو بن عبد الحق بن محيو، وصل الله سعده، وحرس مجده، وبلّغه من مظاهرة دولته وموازرة خلافته قصده. رفع قبّة العناية والاختيار على عماد، وأشاد بدعوة التعظيم [مسمعا] (1) كلّ حيّ وجماد، وقابل السعي الكريم بإحماد، وأورد من البرّ غير ثماد (2)، واستظهر بالوفاء الذي لم تستتر ناره برماد، ولا قصّرت جياده عن بلوغ آماد، وقلّد سيف الجهاد عاتق الحسب اللّباب (3)، وأعلق يدي الاستظهار بأوثق الأسباب، واستغلظ على الأعداء بأحبّ الأحباب. لمّا قامت له البراهين الصادقة على كرم شيمه، ورسوخ قدمه، وجنى منه عند الشّدّة والتمحيص ثمرة ما أولاه من نعمه، قابل بالرّعي كرائم ذممه، وعظائم خدمه، وشدّ اليد على عهده الذي عرفه حين انتكثت العقد وأخلق المعتقد، واستأسد النّقد (4)، وتنكّر الصديق، وفرق الفريق، وسدّت على النّظرة الطّريق، وتميز المغرق والغريق، فأثقل له ميزان المكافات، وسجّل له رسم المصافات، وجعله يمين الملك الذي به يناضل، ويقاطع ويواصل، وسيف الجهاد، الذي يحمي بمضائه حوزة البلاد، ومرآة النّصح التي تتجلّى بها وجوه الرّشاد، فقدّمه أعلى الله قدمه، وشكر نعمه، وأسعده فيما يمّمه، ونشر بالنصر علمه شيخ الغزاة بحضرته العليّة، وسائر بلاده النصرية: ترجع القبائل والأشياخ إلى نظره
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن ريحانة الكتاب لابن الخطيب.
(2) الثماد: جمع ثمد، وهو الماء القليل الذي ليس له مدد. والمراد: أورد من البرّ ما لا ينقطع.
(3) حسب لباب أي محض.
(4) النقد، بالتحريك: السفل من الناس، وضرب من الغنم قصار الأرجل قباح الوجوه. يقال: أذل من النقد. (جمهرة الأمثال: 1/ 469).(11/5)
في السّكنات، وتستدرّ على يده من مقامه الكريم غيوم البركات، وتقرّر وسائلها بوساطة حظوته، وتقصّر خطاها اعترافا بحقّه الواجب عن خطوته فعليه تدور أفلاك جماعاتهم كلّما اجتمعوا وأتلفوا، وبحجة فضله يزول إشكالهم مهما اختلفوا، وبلسانه المبين يقرّر لهم ما أسلفوا، وفي كنف رعيه ينشأ من أعقبوا من النّشأة وخلّفوا، وبإقدامه تنهض أقدامهم مهما توقّفوا، فهو يعسوب (1) كتائبهم الملتفّة، وفرزان (2) قطعهم المصطفّة، وشهم (3) جوارحهم الفارهة، وعين عيونهم النّابهة، وتأويل أمورهم المتشابهة، عن نظره يردون ويصدرون، وبإشارته يريشون (4) ويبرون وآثاره يقتفون، وبتلعة (5) دوّاره المرينيّ (6) في خدمة مقامه النصريّ يقفون، فهو الذي لا تأنف أشراف القبائل من اقتفاء آثاره، ولا تجهل رفعة مقداره، فلبيته المزيّة بالحق، المستوجبة للفخر بسابقة السعادة لعبد الحقّ (7)، ولذاته قصب السبق، ولوفائه الشّهرة في الغرب والشّرق. فليتولّ ذلك تولّاه الله منشرحا بالعز صدره، مستمدّا (8) من شمس سعادته بدره، معروفا حقّه معظّما قدره فهي خطّة قومه، وفريسة حومه، وطيّة أمسه ويومه، وكفء خطبته، ومرمى رتبته، وحلي جيده، ومظهر توفيقه وتسديده مطلقا من عنان الثناء، على أهل الغناء، معاملا بصادق الإطراء، لذوي الآراء، متغمّدا بالإغضاء، هفوات أهل المضاء، معرّفا بالقبائل، والعشائر والفصائل، كلّما
__________
(1) اليعسوب: ملكة النحل، وهي أنثى، وكان العرب يظنونها ذكرا لضخامتها. ويقال: هو يعسوب قومه أي رئيسهم وكبيرهم ومقدّمهم.
(2) الفرزان: الملكة من حجارة الشطرنج. قال في القاموس: وهو معرّب.
(3) الشّهم: الصبور على القيام بما حمّل. والجوارح: الطيور الصائدة.
(4) راش السّهم: ركب عليه الريش. يقال: فلان لا يريش ولا يبري أي لا يضرّ ولا ينفع.
(5) التلعة: ما ارتفع من الأرض.
(6) نسبة إلى بني مرين. وقد حكم المرينيون المغرب الأقصى من سنة 1195إلى سنة 1470م.
أسس دولتهم عبد الحق بن محيو المتوفى سنة 1217م / 614هـ، وكان آخر ملوكهم عبد الحق ابن عثمان بن أحمد. (أنظر الأعلام: 3/ 282281والموسوعة العربية الميسّرة: 1690).
(7) انظر الحاشية السابقة.
(8) في ريحانة الكتاب «مشرقا».(11/6)
وفدوا من الآفاق للاستلحاق، منبّها على مظانّ الاستحقاق، مطبّقا للطباق، مميّزا لجيادها يوم السّباق، حريصا على إنماء الأعداد، مطبّقا مفاصل الشّراد، محتاطا على الأموال التي تمتري (1) بها أكفّ الجباية ضروع العباد، واضعا مال الله حيث وضعه الحق من الورع والاستداد، [لا] (2) سيّما في هذه البلاد، حتّى تعظم المزايا والمزاين، وتتوفّر الكتائب والخزائن، ويبتهج السامع ويسرّ المعاين، ويظهر الفضل على من تقدّم، وأنّ الظّهراءكم غادرت من متردّم (3)، ويتحسّر من قصّر ويتندم، وعند الله يجد كلّ ما قدّم. فهي قلادة الله التي يضيع من أضاعها (4)، ويرضى عمن أعمل فيها أوامره وأطاعها. وهو وصل الله سعادته! وحرس مجادته (5) أولى من لاحظ ضرائرها، واستطلع من ثنايا التوكل على الله بشائرها: نسبا وحسبا، وجدّا وأبا وحدّا وشبا، ونجدة وضحت مذهبا.
وعلى الغزاة (6) وفّر الله جموعهم! وأنجد تابعهم ومتبوعهم! أن يعرفوا قدر هذا التعظيم الذي خفقت أعلامه، ووضحت أحكامه، والاختصاص الذي لطف محلّه، والاعتناء الكريم الذي ضفا ظلّه، فيكونوا من إيجاب حقّه حيث حدّ ورسم، وميّز ووسم لا يتخلّف أحد منهم [في خدمته] (7) أيده الله عن إشارته الموفّقة، ولا يشذّ عن رياسته المطلقة، بحول الله تعالى وقوّته.
وهذا نسخة ظهير بنيابة السلطنة ببعض الأعمال، وهي:
هذا ظهير كريم، مضمّنه استجلاء لأمور الرّعايا واستطلاع ورعاية كرمت
__________
(1) أمترى الشيء: استخرجه، والضرع: حلبه.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن ريحانة الكتاب.
(3) جريا على أسلوب عنترة في قوله: هل غادر الشعراء من متردّم.
(4) في هامش الطبعة الأميرية: «في ريحانة الكتاب: التي لا يضيع من أضاعها، ويوفي ضاعها».
(5) من مجد مجدا ومجادة فهو ماجد.
(6) المراد الذين يغزون في سبيل الله.
(7) الزيادة من الطبعة الأميرية عن ريحانة الكتاب.(11/7)
منها أجناس وأنواع، وعدل بهر منه شعاع، ووصايا يجب لها إهطاع (1)، أصدرناه للفقيه أبي فلان، لمّا تقرّر لدينا دينه وعدله وفضله رأينا أنّه أحقّ من نقلّده المهمّ الأكيد، ونرمي [به] من أغراض البرّ الغرض البعيد، ونستكشف به أحوال الرّعايا حتّى لا يغيب عنا شيء من أحوالها، ولا يتطرّق إليها طارق من إهمالها، وينهي إلينا الحوادث التي تنشأ فيها إنهاء يتكفل بحياطة أبشارها وأموالها. وأمرناه أن يتوجه إلى جهة كذا حاطها الله فيجمع الناس في مساجدهم، ويندبهم من مشاهدهم، ويبدأ بتقرير غرضنا في صلاح أحوالهم، وإحساب (2) آمالهم، ومكابدتنا المشقّة في مداراة عدوّهم الذي يعلم من أحوالهم ما غاب عنهم دفعه الله بقدرته، ووقى نفوسهم وحريمهم من معرّته وبما رأينا من انبتات الأسباب التي فيك تؤمّل، وعجز الحيل التي كانت تعمل، ويستدعي إنجادهم بالدعاء، وإخلاصهم فيه إلى ربّ السماء، ويسأل عن سيرة القوّاد، وولاة الأحكام بالبلاد: فمن نالته مظلمة فليرفعها إليه، ويقصّها عليه:
ليبلّغها إلينا، ويوفدها مقرّرة الموجبات علينا، ويختبر ما افترض صدقة للجبل، وما فضل عن كريم ذلك العمل: ليعيّن لبناء الحصن بجبل قارة (3) يسّر الله لهم في إتمامه، وجعل صدقتهم تلك مسك ختامه، وغيره مما افترض إعانة للمسافرين، وإنجادا لجهاد الكافرين، فيعلم مقداره، ويتولّى اختباره، حتّى لا يجعل منه شيء على ضعيف، ولا يعدل به لمشروف عن شريف، ولا تقع فيه مضايقة ذي الجاه، ولا مخادعة غير المراقب لله. ومتى تحقّق أن غنيّا قصّر به فيه
__________
(1) في اللسان: الإهطاع هو الإسراع في العدو. وأهطع البعير في سيره واستهطع إذا أسرع. وناقة هطعى: سريعة.
(2) أحسب فلان فلانا: أعطاه أو أطعمه حتى قال حسبي. وفي القاموس: أحسبه أي أرضاه.
(3) قال في معجم البلدان: «قارة اسم قرية كبيرة على قارعة الطريق وهي المنزل الأول من حمص للقاصد إلى دمشق، وهي كانت آخر حدود حمص، وهي على رأس قارة (جبل). وقال الحفصي: القارة جبل بالبحرين. وذو القارة: إحدى القريات التي منها دومة وسكاكة، وهي على جبل وبها حصن منيع» ولم يذكر الحميري في الروض المعطار شيئا عن هذا الاسم.(11/8)
عن حقه، أو ضعيفا كلّف منه فوق طوقه، فيجير الفقير من الغنيّ، ويجري من العدل على السّنن السويّ، ويعلم الناس أن هذه المعونة وإن كانت بالنسبة إلى محلّ ضرورتها يسيرة، وأن الله يضاعفها لهم أضعافا كثيرة، ليست مما يلزم، ولا من المعاون التي بتكريرها يجزم، وينظر في عهود المتوفين فيصرفها في مصارفها المتعيّنة، وطرقها الواضحة البيّنة، ويتفقّد المساجد تفقّدا يكسو عاريها، ويتمّم منها المآرب [تتميما] (1) يرضي باريها، ويندب الناس إلى تعليم القرآن لصبيانهم، فذلك أصل أديانهم، ويحذّرهم المغيب عن كلّ شيء من أعشارهم فالزكاة أخت الصلاة وهما من قواعد الإسلام، وقد اخترنا لهم بأقصى الجدّ والاعتزام، ورفعنا عنهم رسم التعريف نظرا إليهم بعين الاهتمام، وقدّمنا الثّقات لهذه الأحكام، وجعلنا الخرص (2) شرعيّا في هذا العام، وفيما بعده إن شاء الله من الأعوام.
ومن أهمّ ما أسندناه إليه، وعوّلنا فيه عليه، البحث بتلك الأحواز عن أهل البدع والأهواء، والسائرين من السبيل على غير السّواء، ومن ينبز (3) بفساد العقد، وتحريف القصد، والتلبّس بالصوفيّة وهو في الباطن من أهل الفساد، والذاهبين إلى الإباحة وتأويل المعاد، والمؤلّفين بين النساء والرجال، والمتتبّعين لمذاهب الضّلال فمهما عثر على مطوّق بالتهمة، منبّز بشيء من ذلك من هذه الأمّة، فليشدّ وثاقه شدّا، وليسدّ عليه سبيل الخلاص سدّا، ويسترع في شأنه الموجبات، ويستوعب الشهادات، حتّى ننظر في حسم دائه، ونعالج المرض بدوائه فليتولّ ما ذكرنا نائبا بأحسن المناب، ويقصد وجه الله راجيا منه جزيل الثواب، ويعمل عمل من لا يخاف في الله لومة لائم ليجد ذلك
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية، وهي لازمة يقتضيها السياق.
(2) الخرص: تقدير الشيء بالظن. يقال: خرص النخل والكرم: حزر ما عليه من الرطب تمرا ومن العنب زبيبا.
(3) أي من يعاب.(11/9)
في مواقف الحساب.
وعلى من يقف عليه من القوّاد والأشياخ والحكّام أن يكونوا معه يدا واحدة على ما قرّرناه في هذه الفصول: من العمل المقبول والعدل المبذول ومن قصّر عن غاية من غاياته، أو خالف مقتضى من مقتضياته، فعقابه عقاب من عصى أمر الله وأمرنا فلا يلومنّ إلا نفسه التي غرّته وإلى مصرع النكير جرّته، والله المستعان.
وهذه نسخة ظهير بالإمرة على الجهاد، وهي:
هذا ظهير كريم بلغ فيه الاختيار، الذي عضّده الاختبار (1)، الى أقصى الغاية، وجمع له الوفاق، الذي خدمه البخت والاتفاق، والأهليّة التي شهدت بها الآفاق، بين نجح الرأي ونصر الراية، وأنتجت به مقدّمات الولاء نتيجة هذه الرتبة السامية العلاء والولاية، واستظهر من المعتمد به، على قصده الكريم في سبيل الله ومذهبه، بليث من ليوث أوليائه، شديد الوطأة على أعدائه والنّكاية، وفرع من فروع الملك الأصيل معروف الأبوّة والإباية، لتتضح حجة النصر العزيز والفتح المبين ذي القوّة المتين محكمة الآية، وتدل بداية هذه الدولة الرافعة لمعالم الدين، المؤيّدة في الأقوال والأفعال بمدد الرّوح الأمين، على شرف النّهاية.
أصدر حكمته وأبرز حكمه، وقرّر حدّه الماضي ورسمه، عبد الله، الغنيّ بالله [محمد ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر] (2) عضّد الله كتائبه وشدّ عضده، ويسّر في الظهور على أعداء الله قصده لوليّه المستولي على
__________
(1) في ريحانة الكتاب «بلغ فيه الاختيار النهاية والاختيار إلى الخ» (انظر الطبعة الأميرية:
11/ 12).
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن ريحانة الكتاب.(11/10)
ميادين حظوته وإيثاره، الفائز بالقدح المعلّى (1) من إجلاله وإكباره، ظهير استنصاره، وسيف جهاده المعدّ لصدق ضريبته ويوم افتخاره، ويعسوب قبائل الغزاة بأصقاعه الجهاديّة وأقطاره، الأمير أبي عبد الرحمن، ابن الأمير أبي عليّ، ابن السلطان أمير المسلمين أبي سعيد، ابن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق وصل الله له أسباب سعده، وأنجز للمسلمين بمظاهرته إيّاه على الكافرين سابق وعده، لمّا وفد على بابه الكريم مؤثرا على ما كان بسبيله عن جواره (2)، ملقيا بمحلّة الجهاد عصا تسياره، مفضّلا ما عند الله على رحب أوطانه وأقطاره، شيمة من أسرع إلى خير الآخرة ببداره، قبل اكتمال هلاله وإبداره، وعلى انبعاث أمله وترامي هممه واستقامة مداره قابل، أيده الله، وفادته بالقبول الممدوح، والصّدر المشروح، والعناية العالية المظاهر والصّروح، وجعل له الشّرب المهنّى في مناهل الصنائع التي صنع الله لملكه والفتوح، ولم يدّخر عنه تقريبا يقف الأولياء دون مداه، وترفيعا تشهد به محافل الملك ومنتداه، إلى أن ظفرت بحقيقة الموالاة الكريمة يداه، ثم استظهر به على أعداء الله وعداه، فوفّى النّصح لله وأدّاه، وأضمره وأبداه، وتحلّى بالبسالة والجلالة والطّهارة، اللائقة بمنصب الإمارة في رواحه ومغداه، حتّى اتفقت الأهواء على فضله وعفافه، وكمال أوصافه وظهرت عليه مخايل أسلافه. ثم رأى الآن سدّد الله رأيه، وشكر عن الإسلام والمسلمين سعيه أن يوفد ركائب الاعتقاد الجميل على جنابه، ويفسّح ميدان الاستظهار بحسن منابه، ويصل أسبابه بأسبابه، ويضاعف بولائه الصادق اهتمامه، ويقيمه في قود عساكره لجهاد البرّ مقامه، فأضفى ملابس ودّه عليه وجعله فاتح أبواب الجنة بفضل الله بين يديه، وأجراه مجرى عضده الذي تصدق عنه الضريبة في المجال، وسيفه الذي يفرّج به مضايق الأهوال، ونصبه للقبائل الجهادية قبلة في مناصحة الله ومناصحة
__________
(1) المراد: بالسهم الأوفر والنصيب الأوفر.
(2) في هامش الطبعة الأميرية: «لعله: مؤثرا له على ما كان يشغله عن جواره».(11/11)
مشروعه، وراية سعيدة في مظاهرة متبوعه، وعقد له الولاية الجهاديّة التي لا تعدل بولاية، ولا توازن عناية المعتمد بها بعناية، يشهد بصراحة نسبها الدين، وتتحلّى بحلى غرّتها الميادين. فالجهاد في سبيل الله نحلة نبي الأمّة، ومن بعده من الأيمّة، لا سيّما في هذا القطر المتأكّد فيه ذلك لأولي الدّين والهمّة.
فليتولّ ذلك تولّي مثله وإن قلّ وجود مثله، جاريا على سنن مجده وفضله، سائرا من رضا الله على أوضح سبله، معتمدا عليه في الأمر كلّه.
وليعلم أن الذي يخلق ما يشاء ويختار قد هيّأ له من أمره رشدا، وسلك به طريقا سددا (1)، واستعمله اليوم فيما يحظيه غدا، وجعل حظّه الذي عوّضه نورا وهدى، وأبعد له في الصالحات مدى ولينظر فيما لديه من القبائل الموفورة، والجموع المؤيّدة المنصورة، نظرا يزيح العلل، ويبلّغ الأمل، ويرعى الهمل (2)، ويحسن القول وينجح العمل، منبّها على أهل الغناء والاستحقاق، مستدرّا للعوائد والأرزاق، معرّفا بالغرباء الواردين من الآفاق، مطبقا منهم للطباق، متغمّدا للهفوات بحسن الأخلاق، مستجيدا للأسلحة والكراع (3)، مبادرا هيعات (4) الصّريخ بالإسراع، مسترعيا للمشورة التي يقع الحكم فيها عن حصول الإجماع، رفيقا بمن ضعف عن طول الباع، محتاطا على الإسلام في مواقف الدّفاع، مقدما عند اتّجاه الأطماع، صابرا في المضايق على القراع، متقدّما للأبطال بالاصطناع، مقابلا نصائح أولي الخبرة بحسن الاستماع، مستعملا في الحروب ما أجازه الشرع من وجوه الخداع حتّى يكون عمله وفق شهرته البعيدة المطار، وسيرته فيما أسند إليه مثلا في الأقطار، واستقامة التدبير على يديه ذريعة إلى إرغام أنوف الكفّار، بقوّة الله وحوله وعزّته وطوله.
__________
(1) السدد: القصد والاستقامة. والسدد أيضا مقصور من السداد.
(2) الهمل: اسم جمع لهامل. (اللسان: 11/ 710).
(3) الكراع: جماعة الخيل.
(4) الهيعة: الصوت تفزع منه وتخافه من عدوّ. ويقال أيضا: الهائعة.(11/12)
وعلى الغزاة بالحضرة العليّة، وسائر البلاد النّصرية، ومن بني مرين وسائر القبائل المجاهدين، أن يعرفوا قدره، ويمتثلوا في مرضاتنا أمره، ويكونوا معه روحا ويدا وجسدا، وساعدا وعضدا فبذلك يشمله من الله ومن مقامنا الرضا والقبول، والعزّ الموصول، ويمضي في عدوّ الله النّصول، ويتأتّى على خير الدنيا والآخرة الحصول، إن شاء الله. ومن وقف عليه، فليعرف ما لديه، بحول الله تعالى.
وهذه نسخة ظهير بالتّقدمة على الطبقة الأولى من المجاهدين، لولد السلطان، وهي:
هذا ظهير كريم، فاتح بنشر الألوية والبنود، وقود العساكر والجنود، وأجال في ميدان الوجود، جياد البأس والجود، وأضفى ستر الحماية والوقاية بالتّهائم والنّجود (1)، على الطائفين والعاكفين والرّكّع السّجود عقد للمعتمد به عقد التشريف والقدر المنيف زاكي الشّهود، وأوجب المنافسة بين مجالس السّروج ومضاجع المهود، وبشّر السيوف في الغمود، وأنشأ ريح النصر آمنة من الخمود، أمضى أحكامه، وأنهد العزّ أمامه، وفتّح عن زهر السّرور والحبور أكمامه، أمير المسلمين عبد الله محمد ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج يوسف ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد فرج بن نصر أيد الله أمره، وخلّد ذكره لكبير ولده، وسابق أمده، وريحانة خلده، وياقوتة الملك على يده، الأمير الكبير، الطاهر الظاهر، الأعلى، واسطة السلك، وهلال سماء الملك، ومصباح الظّلم الحلك، ومظنّة العناية الإلهيّة من مدبّر الفلك ومجرى الفلك، عنوان سعده، وحسام نصره وعضده، وسميّ جدّه، وسلالة فضله ومجده، السعيد المظفّر، الهمام، الأعلى، الأمضى، العالم، العادل، العامل، الأرضى المجاهد، المؤمّل، المعظم، أبي الحجاج يوسف ألبسه الله من رضاه عنه
__________
(1) التهائم: جمه تهامة، وهي الأرض المنخفضة. والنجود هي الأراضي المرتفعة.(11/13)
حللا لا تخلق جدّتها الأيام، ولا تبلغ كنهها الأفهام وبلغه في خدمه المبالغ التي يسرّ بها الإسلام، وتسبح في البحار صنائعها الأقلام، وحرس معاليه الباهرة بعينه التي لا تنام، وكنفه بركنه الذي لا يضام فهو الفرع الذي جرى بخصله على أصله، وارتسم نصره في نصله، واشتمل جدّه على فضله، وشهدت ألسن خلاله، برفعة جلاله، وظهرت دلائل سعادته، في بدء كل أمر وإعادته.
ولمّا صرف وجهه إلى ترشيحه لافتراع هضاب المجد البعيد المدى، وتوشيحه بالصّبر والحلم والبأس والنّدى، وأرهف منه سيفا من سيوف الله لضرب هام العدا، وأطلعه في سماء الملك بدر هدى، لمن راح وغدا، وأخذه بالآداب التي تقيم من النفوس أودا، وتبذر في اليوم فتجنى غدا، ورقّاه في رتب المعالي طورا فطورا، ترقّي النبات ورقا ونورا ليجده بحول الله يدا باطشة على أعدائه، ولسانه مجيبا عند ندائه، وطرازا على حلّة عليائه، وغماما من غمائم آلائه، وكوكبا وهّاجا بسمائه، وعقد له لواء الجهاد على الكتيبة الأندلسية من جنده، قبل أن ينتقل من مهده، وظلّله بجناح رايته، وهو على كتد (1) دايته، واستركب جيش الإسلام ترحيبا بوفادته، وتنويها بمجادته، وأثبت في غرض الإمارة النصرية سهم سعادته رأى أن يزيده من عنايته ضروبا وأجناسها، ويتبع أثره ناسا فناسا، قد اختلفوا لسانا ولباسا، واتفقوا ابتغاء لمرضاة الله والتماسا، ممّن كرم انتماؤه، وازّينت بالحسب الغر (2) سماؤه، وعرف غناؤه، وتأسّس على المجادة بناؤه، حتّى لا يدع من العناية فنّا إلا جلبه إليه، ولا مقادة فخر إلا جعلها في يديه، ولا حلّة عز إلا أضفى ملابسها عليه.
وكان جيش الإسلام في هذه البلاد الأندليسة أمّن الله خلالها، وسكّن زلزالها، وصدّق في رحمة الله التي وسعت كل شيء آمالها كلف همّته، ومرعى
__________
(1) الكتد، بفتح التاء وكسرها: مجتمع الكتفين من الإنسان والفرس. والداية هي الظئر أو المرضعة لغير ولدها. والمراد: وهو ما زال طفلا رضيعا.
(2) في هامش الطبعة الأميرية: «ولعله الأغرّ. وفي ريحانة الكتاب: الخالص».(11/14)
أذمّته، وميدان جياده، ومتعلّق أمد جهاده، ومعراج إرادته، إلى تحصيل سعادته، وسبيل خلاله، إلى بلوغ كماله فلم يدع له علّة إلا أزاحها، ولا طلبة إلا أجال قداحها، ولا عزيمة إلا أورى اقتداحها، ولا رغبة إلا فسّح ساحها، آخذا مروءته بالتهذيب، ومصافّة بالترتيب، وآماله بالتقريب، وتأنيس المريب، مستنجزا له وبه وعد النصر العزيز والفتح القريب، ورفع عنه لهذا العهد نظر من حكم الأغراض في حماته، واستشعر عروق الحسائف (1) لشريف كماته، واشتغل عن حسن الوساطة لهم بمصلحة ذاته، وجلب جباته، وتثمير ماله وتوفير أقواته، ذاهبا أقصى مذاهب التعمير بأمد حياته فانفرج الضّيق، وخلص إلى حسن نظره الطريق، وساغ الرّيق، ورضي الفريق.
رأى والله الكفيل بنجح رأيه، وشكر سعيه، وصلة حفظه ورعيه أن يحمد لهم اختياره، ويحسن لديهم آثاره، ويستنيب فيما بينه وبين سيوف جهاده، وأبطال جلاده، وحماة أحوازه، وآلات اعتزازه، من يجري مجرى نفسه النفيسة في كل معنى، ومن يكون له لفظ الولاية وله أيده الله المعنى، فقدّمة على الجماعة الأولى كبرى الكتائب، ومقاد الجنائب (2)، وأجمة الأبطال، ومزنة الودق (3) الهطّال، المشتملة من الغزاة على مشيخة آل يعقوب نسباء الملوك الكرام، وأعلام الإسلام، وسائر قبائل بني مرين، ليوث العرين، وغيرهم من أصناف القبائل، وأولي الوسائل، ليحوط جماعتهم، ويرفع بتفقّده إضاعتهم، ويستخلص لله ولأبيه أيده الله طاعتهم، ويشرّف بإمارته مواكبهم، ويزيّن بهلاله الناهض إلى الإبرار، على فلك سعادة الأقدار، كواكبهم، تقديما أشرق له وجه الدّين الحنيف وتهلّل، وأحسّ باقتراب ما أمّل فللخيل اختيال ومراح،
__________
(1) الحسائف: جمع حسيفة وحسافة، وهي الغيظ والحقد والعداوة.
(2) الجنائب: جمع جنيبة، وهي الدابة تقاد، والناقة يعطيها الرجل غيره ليمتار له عليها، والعدل إلى جنب البعير ونحوه. يقال: فلان تنقاد الجنائب بين يديه: إذا كان عظيما.
(3) الودق: المطر.(11/15)
وللأسل (1) السّمر اهتزاز وارتياح، وللصّدور انشراح، وللأمل مغدى في فضل الله ومراح.
فليتولّ ذلك أسعده الله تولّي مثله ممن أسرّة الملك أسرّته، وأسرة النبي صلّى الله عليه وسلّم أسرته، والملك الكريم أصل لفرعه، والنسب العربيّ مفخر (2) لطيب طبعه، آخذا أشرافهم بترفيع المجالس بنسبة أقدارهم، مقرّبا حسن اللقاء بإيثارهم، شاكرا غناءهم، مستديما ثناءهم، مستدرا لأرزاقهم، موجبا للمزيّة بحسب استحقاقهم، شافعا لديه في رغباتهم المؤمّلة، ووسائلهم المتحمّلة، مسهلا الإذن لوفودهم المتلاحقة، منفّقا لبضائعهم النافقة، مؤنسا لغربائهم، مستجليا أحوال أهليهم وآبائهم، مميزا بين أغفالهم ونبهائهم.
وعلى جماعتهم رعى الله جهادهم، ووفّر أعدادهم أن يطيعوه في طاعة الله وطاعة أبيه، ويكونوا يدا واحدة على دفاع أعادي الله وأعاديه، ويشدّوا في المواقف الكريهة أزره، ويمتثلوا نهيه وأمره، حتّى يعظم الانتفاع، ويثمر الدّفاع، ويخلص القصد لله والمطاع فلو وجد أيده الله غاية في تشريفهم لبلّغها، أو موهبة لسوّغها لكن ما بعد ولده العزيز عليه مذهب، ولا وراء مباشرتهم بنفسه مرغب والله منجح الأعمال، ومبلّغ الآمال، والكفيل بسعادة المال.
فمن وقف على هذا الظّهير الكريم فليعلم مقدار ما تضمّنه من أمر مطاع، وفخر مستند إلى إجماع، ووجوب اتّباع، وليكن خير مرعيّ لخير راع، بحول الله.
وأقطعه أيده الله ليكون بعض المدد لأزواد سفره، وسماط قفره، في جملة ما أولاه من نعمه، وسوّغه من موادّ كرمه جميع القرية المنسوبة إلى عرب
__________
(1) الأسل: الشوك الطويل. وهنا بمعنى الرماح (على التشبيه).
(2) في الريحانة «منجد لطيب» (هامش الطبعة الأميرية).(11/16)
غسّان: وهي المحلة الأثيرة، والمنزلة الشهيرة، تنطلق عليها أيدي خدّامه ورجاله، جارية مجرى صالح ماله، محرّرة من كل وظيف لاستغلاله، إن شاء الله فهو المستعان سبحانه، وكتب في كذا.
وهذه نسخة ظهير لمشيخة الغزاة بمدينة مالقة (1)، وهو:
هذا ظهير كريم أطلع الرّضا والقبول صباحا، وأنشأ للعناية في جوّ الوجود، من بعد الرّكود، رياحا، وأوسع العيون قرّة [وإبصارا] (2) والصّدور انشراحا، وهيّأ للمعتمد به مغدى في السعادة ومراحا، وهزّ منه سيفا عتيقا يفوق اختيارا ويروق التماحا، وولّاه رياسة الجهاد في القطر الذي تقدّمت الولاية فيه لسلفه فنال عزّا شهيرا وازداد فخرا صراحا، وكان [له] (3) ذلك إلى أبواب السعادة مفتاحا.
أمر به وأمضاه، وأوجب العمل بحسبه ومقتضاه، الأمير عبد الله محمد ابن مولانا أمير المسلمين، والمجاهد في سبيل رب العالمين، أبي الحجّاج [يوسف] (4) ابن مولانا أمير المسلمين، أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر أيد الله أمره وأعز نصره، وأسعد زمانه وعصره لوليه في الله الذي كساه مولاه من جميل اعتقاده حللا، وأورده من عذب رضاه منهلا، وعرّفه عوارف قبوله مفصّلا خطابها ومجملا، الشيخ أبي العلا، إدريس، ابن الشيخ أبي سعيد عثمان، بن أبى العلا، وصل الله أسباب سعادته، وحرس عليّ (5) مجادته، وأجراه من ترفيع المكانة لديه على [أحمد عادة سلفه] (6) وعادته.
ولمّا كان له القدر الجليل، والمجد الأثيل، والذكر الجميل، والفضائل
__________
(1) مالقة أو: مدينة بالأندلس على شاطيء البحر، بين الجزيرة الخضراء والمرية. (الروض المعطار: 517وصفة جزيرة الأندلس: 177ومعجم البلدان: 5/ 43).
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن ريحانة الكتاب.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية عن ريحانة الكتاب.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية عن ريحانة الكتاب.
(5) في ريحانة الكتاب «أكناف» وما أثبتناه من الطبعة الأميرية.
(6) الزيادة من الطبعة الأميرية عن ريحانة الكتاب.(11/17)
التي كرم منها الإجمال والتفصيل، وأحرز قصب السّبق بذاته وسلفه إذا ذكر المجد العريض الطويل، وكان قد أعمل الرّحلة إليه يحدوه إلى خدمته التأميل، ويهوي به الحبّ الذي وضح منه السبيل، وعاق عنه الواقع الذي تبيّن فيه عذره الجميل، ثم خلّصه الله من ملكة الكفر الخلاص الذي قام به على عنايته الدليل قابله بالقبول والإقبال، وفسّح له ميدان الرضا رحب المجال، وصرف إليه وجه الاعتداد بمضائه رائق الجمال، سافرا عن بلوغ الآمال، وآواه من خدمته إلى ربوة متّسعة الأرجاء وارفة الظّلال، وقطع عنه الأطماع بمقتضى همته البعيدة المنال ثم رأى والله ينجح رأيه، ويشكر في سبيل الله عن الجهاد سعيه أن يستظهر بمضائه، ويرسل عليه عوارف آلائه، ويعمر به رتب آبائه، فقدّمه أعلى الله قدمه، وشكر [آلاءه] (1) ونعمه شيخ الغزاة والمجاهدين، وكبير أولي الدّفاع عن الدين بمدينة (مالقة) حرسها الله أخت حضرة [دار] (2)
ملكه، وثانية الدّرّة الثمينة من سلكه، ودار سلفه وقرارة مجده، والأفق الذي تألّق منه نور سعده، راجعا إليه نظر القواعد الغربية رندة وركوان (3) وما إليه رجوع الاستغلال والاستيراد، والعزّ الفسيح المجال البعيد الآماد، يقود جميعها إلى الجهاد، عاملا على شاكلة مجده في الإصدار والإيراد، حتّى يظهر على تلك الجهات المباركة آثار الحماية والبسالة، ويعود لها عهد المجادة والجلالة، وتتزيّن ملابس الإيالة. وهو يعمل في ذلك الأعمال التي تليق بالمجد الكريم، والحسب الصميم، حتّى ينمو عدد الحماة، ويكفّ البأس أكفّ الغزاة ويعظم أثر الأبطال الكماة وتظهر ثمرة الاختيار، ويشمل الأمن جميع الأقطار، وتنحسم عنه أطماع الكفّار وعلى من يقف عليه من الفرسان وفّر الله أعدادهم، وأعزّ
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن ريحانة الكتاب.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن ريحانة الكتاب.
(3) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف. ولم نعثر على مدينة باسم ركوان ولعلّ الكلمة تحريف لمدينة «تاكرنّا» وهي مدينة بالأندلس بمقربة من إستجّة. قال في صفة جزيرة الأندلس: ومن مدن إقليم تاكرنا مدينة رندة. ومدينة رندة تقع على نهر ينسب إليها. (انظر الروض المعطار: 269وصفة جزيرة الأندلس: 62).(11/18)
جهادهم أن يكونوا ممتثلين في الجهاد لأمره، عارفين بقدره، ممضين فيما ذكر لحكمه، واقفين عند حدّه ورسمه وعلى من سواهم من الرعايا والخدّام، والولاة والحكّام، أن يعرفوا قدر هذا الاعتناء الواضح الأحكام، والبرّ المشرق القسام، فيعاملوه بمقتضى الإجلال والإكرام، والترفيع والإعظام. على هذا يعتمد، وبحسبه يعمل، بحول الله وقوّته.
الضرب الثاني (من ظهائر بلاد المغرب ما يكتب لأرباب الوظائف الدينية من أصحاب الأقلام)
وهذه نسخة ظهير بقضاء الجماعة (1) بالحضرة، وهو:
هذا ظهير كريم أنتج مطلوب الاختيار قياسه، ودلّ على ما يرضي الله عز وجل التماسه، وأطلع نور العناية يجلو الظلام نبراسه، واعتمد بمثابة العدل من عرف بافتراع هضبتها باسه، وألقى بيد المعتمد به زمام الاعتقاد الجميل تروق أنواعه وأجناسه، وشيّد مبنى العز الرفيع في قنّة الحسب المنيع، وكيف لا والله بانيه والمجد أساسه.
أمر به، وأمضى العمل بمقتضاه وحسبه، أمير المسلمين أبو الحجاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر أيد الله أمره، وخلد فخره لقاضي
__________
(1) كان قاضي الجماعة في دولة الموحدين بمثابة قاضي القضاة بالديار المصرية. وكان يقوم بأمر القضاء في الأندلس هيئتان: الفقهاء المشاورون والقضاة. فأما المشاورون فكانوا جماعة من كبار الفقهاء والعلماء يختارهم الأمير أو الخليفة ليستشيرهم في أمر القضاء والأحكام، ولم يكونوا هيئة بمعنى الكلمة تجتمع معا في مجلس خاص كالوزراء، بل كانوا فرادى، يختار الأمير من يراه صالحا للشورى، ثم يبعث إليه بما يريد ليفتي فيه، وقد يستقدمه إلى القصر. أما القضاة فهم المعروفون، وأكبرهم قاضي قرطبة أو قاضي الجماعة، وكان في منزلة الفقهاء المشاورين، وقد يمتاز عليهم إذا أهّلته ملكاته لذلك. (انظر الحلة السيراء: 2/ 202حاشية والصبح:
4/ 140).(11/19)
حضرته العلية، وخطيب حمرائه (1) السنيّة، المخصوص لديه بترفيع المزيّة، المصروف إليه خطاب القضاة بإيالته النّصريّة، قاضي الجماعة، ومصرّف الأحكام الشرعية المطاعة، الشيخ أبي الحسن ابن الشيخ أبي محمد بن الحسن وصل الله سعادته، وحرس مجادته، وسنّى من فضله إرادته، عصّب منه جبين المجد بتاج الولاية، وأجال قداح الاختيار حتّى بلغ الغاية وتجاوز النهاية، فألقى منه بيمين عرابة (2) الراية، وأحلّه منه محلّ اللفظ من المعنى والإعجاز من الآية، وحشر إلى مراعاة ترفيعه وجوه البرّ وأعيان العناية، وأنطق بتبجيله، ألسن أهل جيله، بين الإفصاح والكنايه.
ولما كان له الحسب الذي شهدت به ورقات الدّواوين، والأصالة التي قامت عليها صحاح البراهين، والآباء الذين اعتزّ بمضاء قضاتهم الدّين، وطبّق (3) مفاصل الحكم بسيوفهم الحقّ المبين، وازدان بمجالسة وزرائهم السلاطين: فمن فارس حكم أو حكيم تدبير، أو قاض في الأمور الشرعية ووزير، أو جامع بينهما جمع سلامة لا جمع تكسير تعدّد ذلك واطّرد، ووجد مشرع المجد عذبا فورد، وقصّرت النظراء عن مداه فانفرد، وفرى الفرى في يد الشّرع فأشبه السيف الفرند (4)، وجاء في أعقابهم محييا لما درس، بما حقّق
__________
(1) الحمراء: مجموعة من الأبنية تقوم على ربوة تطل على غرناطة بالأندلس، بنيت فيما بين 1248و 1354م، وكانت قلعة وقصرا لملوك بني نصر أو بني الأحمر. وكان فيها المسجد الجامع الذي يعتبر آية في فن العمارة والزخرفة. (انظر الموسوعة العربية الميسرة: 736وصفة جزيرة الأندلس: 158153).
(2) إشارة إلى عرابة بن أوس الحارثي، الأنصاري: من سادات المدينة الأجواد المشهورين. أدرك حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأسلم صغيرا. وهو الذي يقول فيه الشماخ المريّ:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين.
(بلوغ الأرب: 2/ 188187وأمل الآمل: 2/ 94والأعلام: 4/ 222).
(3) يقال: طبّق الحاكم، إذا أصاب وأحكم أمره. وطبّق السيف، إذا أصاب الطبق، وهو المفصل.
(4) فرى الشيء فريا: شقّه. والفرى: جمع فرية، وهي الكذب. والفرند: السيف، وما يلمح في صفحته من أثر تموّج الضوء.(11/20)
ودرس جانيا لما بذر السلف المبارك واغترس، طاهر النّشأة وقورها، محمود السّجيّة مشكورها، متحلّيا بالسّكينة، حالّا من النّزاهة بالمكانة المكينة، ساحبا أذيال الصّون، بعيدا عن الاتصاف بالفساد من لدن الكون، فخطبته الخطط العليّة، واغتبطت به المجادة الأوّليّة، واستعملته دولته التي ترتاد أهل الفضائل للرّتب، وتستظهر على المناصب بأبناء التّقى والحسب، والفضل والمجد والأدب، ممن يجمع بين الطارف والتالد والإرث والمكتسب فكان معدودا من عدول قضاتها وصدور نبهائها، وأعيان وزرائها، وأولي آرائها.
فلمّا زان الله خلافته بالتمحيص، المتجلّي عن التخصيص، وخلص ملكه الأصيل كالذهب الإبريز من بعد التخليص، كان ممن صحب ركابه الطالب للحق بسيف الحق، وسلك في مظاهرته أوضح الطّرق، وجادل من حادّه بأمضى من الحداد الذّلق، واشتهر خبر وفائه بالغرب والشّرق، وصلّى به صلاة السفر والحضر، والأمن والحذر، وخطب به في الأماكن التي بعد بذكر الله عهدها، وخاطب عنه أيده الله المخاطبات التي حمد قصدها، حتّى استقلّ ملكه فوق سريره، وابتهج منه الإسلام بأميره وابن أميره، ونزل السّتر على العباد والبلاد ببركة إيالته ويمن تدبيره، وكان الجليس المقرّب المحلّ، والحظيّ المشاور في العقد والحلّ، والرسول المؤتمن على الأسرار، والأمين على الوظائف الكبار، مزيّن المجلس السلطانيّ بالوقار، ومتحف الملك بغريب الأخبار، وخطيب منبره العالي في الجمعات، وقاريء الحديث لديه في المجتمعات.
ثم رأى أيده الله أن يشرك رعيته في نفعه، ويصرف عوامل الحظوة إلى مزيد رفعه، ويجلسه مجلس الشارع صلوات الله وسلامه عليه لإيضاح شرعه، وأصله الوثيق وفرعه وقدّمه أعلى الله قدمه، وشكر آلاءه ونعمه قاضيا في الأمور الشرعية، وفاصلا في القضايا الدينية، بحضرة غرناطة [العلية] (1) حرسها
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/21)
الله تقديم الاختيار والانتقاء، وأبقى له فخر السّلف على الخلف والله يمتّعه بطول البقاء.
فليتولّ ذلك عادلا في الحكم، مهتديا بنور العلم، مسوّيا بين الخصوم حتّى في لحظه والتفاته، متصفا من الحلم بأفضل صفاته، مهيبا بالدّين، رؤوفا بالمؤمنين، مسجّلا للحقوق، غير مبال في رضا الخالق بسخط المخلوق، جزلا في الأحكام، مجتهدا في الفصل بأمضى حسام، مراقبا لله عزّ وجلّ في النّقض والإبرام، بارّا بمشيخة أهل التوثيق، عادلا إلى سعة الأقوال عند المضيق، سائرا من مشهور المذهب (1) على أهدى طريق. وأوصاه بالمشورة التي تقدح زناد التوفيق، والتثبت حتّى ينبلج قياس التحقيق، وصيّة أصدرها له مصدر الذّكرى التي تنفع، ويعلي الله بها الدرجات ويرفع، وإلا فهو عن الوصاة غنيّ، وقصده قصد سنيّ، والله عز وجل وليّ إعانته، والكفيل بحفظه من الشّبهات وصيانته.
[وأمره أيده الله أن ينظر في الأحباس (2) على اختلافها، والأوقاف على شتّى أصنافها] (3) واليتامى التي انسدلت كفالة القضاة على ضعافها فيذود عنها طوارق الخلل، ويجري أمورها بما يتكفّل لها بالأمل.
وليعلم أن الله عز وجل يراه، وأن فلتات الحكم تعاوده المراجعة في أخراه، فيدّرع جنّة تقواه، فسبحان من يقول: {إِنَّ الْهُدى ََ هُدَى اللََّهِ} (4)
__________
(1) المقصود هو المذهب المالكي الذي جاء إقراره في الأندلس ردا على إقرار العباسيين مذهب أبي حنيفة بالمغرب. (انظر في ذلك تاريخ الإسلام: 4/ 456455).
(2) وظيفة نظر الأحباس تعادل وزارة الأوقاف في عصرنا الحالي وموضوعها أن صاحبها يتحدث في رزق الجوامع والمساجد والربط والزوايا والمدارس والأراضي المفردة لذلك (التعريف بمصطلحات الصبح: ص 341).
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية، عن ريحانة الكتاب ونفح الطيب.
(4) آل عمران / 73.(11/22)
فعلى من يقف عليه أن يعرف حقّ هذا الإجلال، صائنا منصبه عن الإخلال، مبادرا أمره الواجب بالامتثال، بحول الله.
وكتب في الثالث من شهر الله المحرّم فاتح عام أربعة وستّين وسبعمائة عرّف الله فيه هذا المقام العليّ عوارف النصر المبين والفتح القريب، بمنّه وكرمه، فهو المستعان لا رب غيره.
وهذه نسخة ظهير بقضاء الجماعة بالحضرة أيضا، وهو:
هذا ظهير كريم أعلى رتبة الاحتفاء [والاحتفال] اختيارا واختبارا، وأظهر معاني الكرامة والتخصيص انتقاء واصطفاء وإيثارا، ورفع لواء الجلالة على من اشتمل عليها حقيقة واعتبارا، ورقّى في درجات العز من طاولها علاء بهر أنوارا، ودينا كرم في الصالحات آثارا، وزكا في الأصالة نجارا، وخلوصا إلى هذا المقام العليّ السعيد راق إظهارا وإضمارا، أمر به وأمضاه، وأنفذ العمل بحكمه ومقتضاه، فلان للشيخ القاضي، العدل، الأرضى، قاضي الجماعة وخطيب الحضرة العلية، المخصوص لدى المقام العليّ بالحظوة السنيّة والمكانة الحفيّه، الفاضل، الحافل، الكامل، الموقّر، المبرور أبي الحسن ابن الشيخ الفقيه، الوزير، الأجل، الأعزّ، الماجد، الأسنى، المرفّع، الأحفل، الأصلح، المبارك، الأكمل، الموقّر، المبرور، المرحوم أبي محمد بن الحسن وصل الله عزّته، ووالى رفعته ومبرّته، ووهب له من صلة العناية الربّانية أمله وبغيته لمّا أصبح في صدور القضاة العلماء مشارا إلى جلاله، مستندا إلى معارفه المخصوصة بكماله، مطرّزا على الإفادة العلمية والأدبيّة بمحاسنه البديعة وخصاله، محفوفا مقعد الحكم النبويّ ببركة عدالته وفضل جلاله، وحلّ في هذه الحضرة العلية المحلّ الذي لا يرقاه إلّا عين الأعيان، ولا يتبوّء مهاده إلا مثله من أبناء المجد الثابت الأركان، وموالي العلم الواضح البرهان، والمبرّزين بالمآثر العليّة في الحسن والإحسان، وتصدّر لقضاء الجماعة فصدرت عنه
الأحكام الراجحة الميزان، والأنظار الحسنة الأثر والعيان، والمقاصد التي وفت بالغاية التي لا تستطاع في هذا الميدان فكم من قضيّة جلا بمعارفه مشكلها، ونازلة مبهمة فتح بإدراكه مقفلها، ومسألة مهملة عرّف نكرتها وقرّر مهملها، حتّى قرّت بعدالته وجزالته العيون، وصدقت فيه الآمال الناجحة والظّنون، وكان في تصديره لهذه الولاية العظمى من الخير والخيرة ما عسى أن يكون كان أحقّ بالتشفيع لولاياته وأولى، وأجدر بمضاعفة النّعم التي لا تزال تترادف على قدره الأعلى.(11/23)
هذا ظهير كريم أعلى رتبة الاحتفاء [والاحتفال] اختيارا واختبارا، وأظهر معاني الكرامة والتخصيص انتقاء واصطفاء وإيثارا، ورفع لواء الجلالة على من اشتمل عليها حقيقة واعتبارا، ورقّى في درجات العز من طاولها علاء بهر أنوارا، ودينا كرم في الصالحات آثارا، وزكا في الأصالة نجارا، وخلوصا إلى هذا المقام العليّ السعيد راق إظهارا وإضمارا، أمر به وأمضاه، وأنفذ العمل بحكمه ومقتضاه، فلان للشيخ القاضي، العدل، الأرضى، قاضي الجماعة وخطيب الحضرة العلية، المخصوص لدى المقام العليّ بالحظوة السنيّة والمكانة الحفيّه، الفاضل، الحافل، الكامل، الموقّر، المبرور أبي الحسن ابن الشيخ الفقيه، الوزير، الأجل، الأعزّ، الماجد، الأسنى، المرفّع، الأحفل، الأصلح، المبارك، الأكمل، الموقّر، المبرور، المرحوم أبي محمد بن الحسن وصل الله عزّته، ووالى رفعته ومبرّته، ووهب له من صلة العناية الربّانية أمله وبغيته لمّا أصبح في صدور القضاة العلماء مشارا إلى جلاله، مستندا إلى معارفه المخصوصة بكماله، مطرّزا على الإفادة العلمية والأدبيّة بمحاسنه البديعة وخصاله، محفوفا مقعد الحكم النبويّ ببركة عدالته وفضل جلاله، وحلّ في هذه الحضرة العلية المحلّ الذي لا يرقاه إلّا عين الأعيان، ولا يتبوّء مهاده إلا مثله من أبناء المجد الثابت الأركان، وموالي العلم الواضح البرهان، والمبرّزين بالمآثر العليّة في الحسن والإحسان، وتصدّر لقضاء الجماعة فصدرت عنه
الأحكام الراجحة الميزان، والأنظار الحسنة الأثر والعيان، والمقاصد التي وفت بالغاية التي لا تستطاع في هذا الميدان فكم من قضيّة جلا بمعارفه مشكلها، ونازلة مبهمة فتح بإدراكه مقفلها، ومسألة مهملة عرّف نكرتها وقرّر مهملها، حتّى قرّت بعدالته وجزالته العيون، وصدقت فيه الآمال الناجحة والظّنون، وكان في تصديره لهذه الولاية العظمى من الخير والخيرة ما عسى أن يكون كان أحقّ بالتشفيع لولاياته وأولى، وأجدر بمضاعفة النّعم التي لا تزال تترادف على قدره الأعلى.
فلذلك أصدر له أيده الله هذا الظهير الكريم مشيرا بالترفيع والتنويه، ومؤكّدا للاحتفاء الوجيه، وقدّمه أعلى الله قدمه، وشكر نعمه خطيبا بالجامع الأعظم [من حضرته] (1) عمره الله بذكره من علية الخطباء، وكبار العلماء، وخيار الفقهاء الصّلحاء فليتولّ ذلك في جمعاته، مظهرا في الخطبة أثر بركته وحسناته، عاملا على ما يقرّبه عند الله من مرضاته، ويظفره بجزيل مثوباته، بحول الله وقوّته.
الضرب الثالث (ما يكتب لأرباب الوظائف الديوانية)
وهذه نسخة ظهير بالقلم الأعلى المعبّر عنه في بلادنا بكتابه السر وهي:
هذا ظهير كريم نصب للمعتمد به الإنافة (2) الكبرى ببابه فرفعه، وأفرد له متلوّ العز جمعه ووتره وشفعه، وقرّبه في بساط الملك تقريبا [أرغم به أنف عداه ووضعه] (3)، وفتح له باب السعادة وشرعه، وأعطاه لواء القلم الأعلى فوجب على من دون رتبته، من أولي صنعته، أن يتّبعه، ورعى له وسيلته السابقة عند
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن الريحانة.
(2) جاء في هامش الطبعة الأميرية: «في الريحانة: نصب المعتمد به للأمانة الخ وهو أنسب بالمقام.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية عن الريحانة.(11/24)
استخلاص الملك لمّا ابتزّه الله من يد الغاصب وانتزعه وحسبك من ذمام لا يحتاج إلى شيء معه.
أمر به الأمير فلان لفلان وصل الله سعادته، وحرس مجادته أطلع له وجه العناية أبهى من الصبح الوسيم، وأقطعه جناب الإنعام الجميم، وأنشقه أرج الحظوة عاطر النسيم، ونقله من كرسيّ التدريس والتعليم، إلى مرقى التّنويه والتكريم، والرتبة الّتي لا يلقّاها إلا ذو حظّ عظيم، وجعل أقلامه جيادا لإجالة أمره العليّ وخطابه السنيّ، في ميادين الأقاليم، ووضع في يده أمانة القلم الأعلى، جاريا من الطريقة المثلى على النّهج القويم، واختصه بمزيّة الشّفوف على كتّاب بابه الكريم. لمّا كان ناهض الوكر في طلبة حضرته من البداية، ولم يزل تظهر عليه لأولي التمييز مخايل هذه العناية: فإن حضر حلق العلم جلّى في حلبة الحفّاظ إلى الغاية، وإن نظم أو نثر أتى بالقصائد المصقولة، والمخاطبات المنقولة، فاشتهر في بلده وغير بلده، وصارت أزمّة العناية طوع يده، بما أوجب له المزيّة في يومه وغده.
وحين ردّ الله عليه ملكه الذي جبر به جناح الإسلام، وزيّن وجوه الليالي والأيّام، وأدال الضّياء من الظلام، وكان ممّن وسمه الوفاء وشهره، وعجم الملك عود خلوصه وخبره، فحمد أثره، وشكر ظاهره ومضمره، واستصحب عليّ ركابه الذي صحب اليمن سفره، وأخلصت الحقيقة نفره، وكفل الله ورده وصدره، ميمون النّقيبة، حسن الضّريبة، خالصا في الأحوال المريبة، ناطقا عن مقامه بالمخاطبات العجيبة، واصلا إلى المعاني البعيدة بالعبارات القريبة، مبرّزا بالخدم الغريبة، حتّى استقام العماد، ونطق بصدق الطاعة الحيّ والجماد، ودخلت في دين الله أفواجا العباد والبلاد، لله الحمد على نعمه الثّرّة العهاد، وآلائه المتوالية التّرداد، رعى له أيّده الله هذه الوسائل وهو أحقّ من يرعاها، وشكر له الخدم المشكور مسعاها، فقصر عليه الرّتبة الشّمّاء التي خطبها بوفائه، وألبسه أثواب اعتنائه، وفسّح له مجال آلائه، وقدّمه أعلى الله قدمه، وشكر نعمه كاتب السّرّ، وأمير النهي والأمر، تقديم الاختبار، والاغتباط بخدمته
الحسنة الآثار، والتيمّن باستخدامه قبل الحلول بدار الملك والاستقرار، وغير ذلك من موجبات الإيثار.(11/25)
وحين ردّ الله عليه ملكه الذي جبر به جناح الإسلام، وزيّن وجوه الليالي والأيّام، وأدال الضّياء من الظلام، وكان ممّن وسمه الوفاء وشهره، وعجم الملك عود خلوصه وخبره، فحمد أثره، وشكر ظاهره ومضمره، واستصحب عليّ ركابه الذي صحب اليمن سفره، وأخلصت الحقيقة نفره، وكفل الله ورده وصدره، ميمون النّقيبة، حسن الضّريبة، خالصا في الأحوال المريبة، ناطقا عن مقامه بالمخاطبات العجيبة، واصلا إلى المعاني البعيدة بالعبارات القريبة، مبرّزا بالخدم الغريبة، حتّى استقام العماد، ونطق بصدق الطاعة الحيّ والجماد، ودخلت في دين الله أفواجا العباد والبلاد، لله الحمد على نعمه الثّرّة العهاد، وآلائه المتوالية التّرداد، رعى له أيّده الله هذه الوسائل وهو أحقّ من يرعاها، وشكر له الخدم المشكور مسعاها، فقصر عليه الرّتبة الشّمّاء التي خطبها بوفائه، وألبسه أثواب اعتنائه، وفسّح له مجال آلائه، وقدّمه أعلى الله قدمه، وشكر نعمه كاتب السّرّ، وأمير النهي والأمر، تقديم الاختبار، والاغتباط بخدمته
الحسنة الآثار، والتيمّن باستخدامه قبل الحلول بدار الملك والاستقرار، وغير ذلك من موجبات الإيثار.
فليتولّ ذلك عارفا بمقداره، مقتفيا لآثاره، مستعينا بالكتم لأسراره، والاضطلاع بعظام أموره وكباره، متّصفا بما يجمل من أمانته وعفافه ووقاره، معطيا هذا الرسم حقّه من الرّياسة، عارفا بأنه أكبر أركان السّياسة، حتّى يتأكّد الاغتباط بتقريبه وإدنائه،، وتتوفّر أسباب الزّيادة في إعلائه وهو إن شاء الله غنيّ عن الوصاة فهما ثاقبا، وأدبا لعيون الكمال مراقبا، فهو يعمل في ذلك أقصى العمل، المتكفّل ببلوغ الأمل.
وعلى من يقف عليه: من حملة الأقلام، والكتّاب الأعلام، وغيرهم من الكافّة والخدّام، أن يعرفوا قدر هذه العناية الواضحة الأحكام، والتقديم الراسخ الأقدام ويوجبوا ما أوجب من البرّ والإكرام، والإجلال والإعظام، بحول الله وقوّته وكتب في كذا.
الطرف الثالث (في مصطلح كتّاب الديار المصرية فيما قبل الخلفاء الفاطميين وفيما بعدهم إلى زماننا)
وفيه أربع حالات:
الحالة الأولى ما كان عليه أمر نوّاب الخلفاء بهذه المملكة إلى ابتداء الدولة الطّولونيّة (1)
ولم يكن لديوان الإنشاء بالديار المصرية في هذه المدّة صرف عناية، تقاصرا عن التشبّه بديوان الخلافة، إذ كانت الخلافة يومئذ في غاية العزّ ورفعة السلطان، ونيابة مصر بل سائر النيابات مضمحلّة في جانبها، والولايات الصادرة
__________
(1) الدولة الطولونية: من 254هـ إلى 292هـ (905868م).(11/26)
عن النوّاب في نياباتهم متصاغرة متضائلة بالنسبة إلى ما يصدر من أبواب الخلافة من الولايات، فلذلك لم يقع مما كتب منها ما تتوفّر الدواعي على نقله ولا تنصرف الهمم لتدوينه مع تطاول الأيام وتوالي اللّيالي.
الحالة الثانية ما كان عليه أمر الدولة الطّولونيّة من حين قيام دولتهم إلى انقراض الدولة الأخشيديّة (1)
وقد تقدّم أن أحمد بن طولون أوّل من أخذ في ترتيب الملك وإقامة شعار السلطنة بالديار المصرية. ولما شمخ سلطانه، وارتفع بها شانه أخذ في ترتيب ديوان الإنشاء لما يحتاج إليه في المكاتبات والولايات، فاستكتب ابن عبد كان (2)، فأقام منار ديوان الإنشاء ورفع مقداره وكان يفتتح ما يكتبه عنه في الولايات بلفظ «إنّ أولى كذا» أو «إن أحقّ كذا» وما أشبه ذلك.
وهذه نسخة عهد كتب به ابن عبد كان عن أحمد بن طولون بقضاء برقة (3)
ترشد إلى ما عداها من ذلك وهي:
إنّ أحقّ من آثر الحقّ وعمل به، وراقب الله في سرّ أمره وجهره، واحترس من الزّيغ والزّلل في قوله وفعله، وعمل لمعاده ورجعته، إلى دار فاقته وفقره ومسكنته، من جعل بين المسلمين حاكما، وفي أمورهم ناظرا: [فأراق] (4)
الدماء وحقنها، وأحلّ الفروج وحرّمها، وأعطى الحقوق وأخذها، ومن علم أنّ الله تبارك وتعالى سائله عن مثقال الذّرّة من عمله، وأنه إنما يتقلّب في قبضته، أيام
__________
(1) الدولة الإخشيدية: من 323هـ إلى 358هـ. (935م 969م).
(2) هو محمد بن عبد الله بن محمد بن مودود: كاتب من كبار المنشئين. ولي البريد بدمشق وحمص، في أول أمره. ثم كان على المكاتبات والترسل منذ أيام أحمد بن طولون إلى آخر أيام أبي الجيش خمارويه بن أحمد. توفي سنة 270هـ. (الأعلام: 6/ 223).
(3) برقة: اسم صقع كبير يشتمل على مدن وقرى بين الإسكندرية وأفريقية، واسم مدينتها:
أنطابلس، وتفسيره الخمس مدن. (معجم البلدان: 1/ 388).
(4) بياض في الأصل، والزيادة من الطبعة الأميرية والمقام يقتضيها.(11/27)
مدّته، ثم يخرج من دنياه كخروجه من بطن أمّه، إما سعيدا بعمله وإما شقيّا بسعيه.
وإنّا لما وقفنا عليه من سديد مذهبك وقويم طريقتك، وجميل هديك وحسن سيرتك، ورجوناه فيك، وقرّرناه عندك: من سلوك الطريقة المثلى، واقتفاء آثار أئمة الهدى، والعمل بالحق لا بالهوى رأينا تقليدك القضاء بين أهل ثغر برقة، وأمرناك بتقوى الله الذي لا يعجزه من طلب، ولا يفوته من هرب، وبطاعته التي من آثرها سعد، ومن عمل بها حمد، ومن لزمها نجا، ومن فارقها هوى وأن تواصل الجلوس لمن بحضرتك من الخصوم: صابرا بنفسك على تنازعهم في الحقوق، وتدافعهم في الأمور، غير برم بالمراجعات، ولا ضجر بالمحاكمات: فإنّ من حاول إصابة فصل القضاء، وموافقة حقيقة الحكم بغير مادّة من حلم، ولا معونة من صبر، ولا سهمة من كظم، لم يكن خليقا بالظّفر بهما، ولا حقيقا بالدّرك لهما وأن تقسم بين الخصمين إذا تقدّما إليك، وجلسا بين يديك، في لحظك ولفظك، وتوفّي كلّ واحد منهما قسمه من إنصافك وعدلك، حتّى ييأس القويّ من ميلك، ويأمن الضعيف من حيفك: فإنّ في إقبالك بنظرك وإصغائك بسمعك إلى أحد الخصمين دون صاحبه ما أضلّ الآخر عن حجّته، وأدخل الحيرة على فكره ورويّته وأن تحضر مجلس قضائك من يستظهر برأيه، ومن يرجع إلى دين وحجا وتقى: فإن أصبت أيّدك، وإن نسيت ذكّرك وأن تقتدي في كلّ ما تعمل فيه رويّتك، وتمضي عليه حكمك وقضيّتك، بكتاب الله الذي جعله صراطا مستقيما، ونورا مستبينا، فشرع فيه أحكامه، وبيّن حلاله وحرامه، وأوضح به مشكلات الأمور، فهو شفاء لما في الصّدور.
وما لم يكن في كتاب الله جل وعز نصّه فإنّ فيما يؤثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حكمه وما لم يكن في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اقتفيت فيه سبيل السّلف الصالح من أئمة الهدى رضي الله عنهم الذين لم يألوا الناس اختبارا، ولا ادّخروهم نصيحة واجتهادا، عالما أنك أسعد بالعدل ممن تعدل عليه، وأحظى بإصابة الحق ممن تصيبه فيه: لما تتعجّله من جميل أحدوثته وذكره، ويذخر لك من عظيم ثوابه
وأجره، ويصرف عنك من حوب (1) ما تتقلّده ووزره وأن يكون الذين تحكم بشهادتهم [من] (2) أهل الثّقة في أديانهم، والمعروفين بالأمانة في معاملاتهم، والموسومين بالصدق في مقالاتهم، والمشهورين بالتقدّم في عدالاتهم: فإنك جاعلهم بين الله وبينك في [كل] (3) كلام تصدره، وحكم تبرمه وحقيق بأن لا ترضى لنفسك منهم إلا بما يرضى منك وتعلم أن ذلك هو الصدق، وأنك قد أبليت عذرك في تخيّرهم، فإنه يعلم أن ذلك هو الصّدق من نيّتك، والصّحة من يقينك، تحسن عليه معونتك، ويحضرك التوفيق في جميع أقضيتك وأن يكون من تستعين به على المسألة عن أحوال هؤلاء الشهود ومذاهبهم، وما يعرفون به وينسبون إليه في رحالهم ومساكنهم، أهل الورع والأمانة، والصّدق والصيانة وأن تجدّد المسألة عنهم في كل مرّة، وتفحص عن خبرهم في كل قضية ثم لا يمنعك وقوفك على سقوط عدالة من تقدّمت بتعديله من استقبال الواجب في مثله، واستعمال الحقّ في أمره وأن تشرف على أعوانك وأصحابك، ومن تجري أمورك على يديه من خلفائك وأسبابك، إشرافا يمنعهم من الظلم للرعيّة، ويقبض أيديهم عن المآكل الرّديّة، ويدعوهم إلى تقويم أودهم، وإصلاح فاسدهم، ويزيد في بصيرة ذوي الثّقة والأمانة منهم فمن وقفت منه على امتثال لمذهبك، وقبول لأدبك، واقتصار فيما يتقلّده لك، أقررته وأحسنت مكافأته ومثوبته، ومن شممت منه حيفا في حكمه، وتعدّيا في سيرته، وبسطا ليده إلى ما لا يجب له، تقدّمت في صرفه، وألزمته في ذلك ما يلزمه وأن تختار لكتابتك من تعرف سداد مذهبه، واستقلاله بما يتقلّده، [وإيثاره للتأكد] (4)
من صحته، ومن تقدّر عنده تقديما في نصيحتك فيما يجري على يديه، وتوخّيا لصدقك فيما يحضره وتغيب عن مشاهدته فإنك تأمنه من أمر حكمك على ما لا(11/28)
وما لم يكن في كتاب الله جل وعز نصّه فإنّ فيما يؤثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حكمه وما لم يكن في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اقتفيت فيه سبيل السّلف الصالح من أئمة الهدى رضي الله عنهم الذين لم يألوا الناس اختبارا، ولا ادّخروهم نصيحة واجتهادا، عالما أنك أسعد بالعدل ممن تعدل عليه، وأحظى بإصابة الحق ممن تصيبه فيه: لما تتعجّله من جميل أحدوثته وذكره، ويذخر لك من عظيم ثوابه
وأجره، ويصرف عنك من حوب (1) ما تتقلّده ووزره وأن يكون الذين تحكم بشهادتهم [من] (2) أهل الثّقة في أديانهم، والمعروفين بالأمانة في معاملاتهم، والموسومين بالصدق في مقالاتهم، والمشهورين بالتقدّم في عدالاتهم: فإنك جاعلهم بين الله وبينك في [كل] (3) كلام تصدره، وحكم تبرمه وحقيق بأن لا ترضى لنفسك منهم إلا بما يرضى منك وتعلم أن ذلك هو الصدق، وأنك قد أبليت عذرك في تخيّرهم، فإنه يعلم أن ذلك هو الصّدق من نيّتك، والصّحة من يقينك، تحسن عليه معونتك، ويحضرك التوفيق في جميع أقضيتك وأن يكون من تستعين به على المسألة عن أحوال هؤلاء الشهود ومذاهبهم، وما يعرفون به وينسبون إليه في رحالهم ومساكنهم، أهل الورع والأمانة، والصّدق والصيانة وأن تجدّد المسألة عنهم في كل مرّة، وتفحص عن خبرهم في كل قضية ثم لا يمنعك وقوفك على سقوط عدالة من تقدّمت بتعديله من استقبال الواجب في مثله، واستعمال الحقّ في أمره وأن تشرف على أعوانك وأصحابك، ومن تجري أمورك على يديه من خلفائك وأسبابك، إشرافا يمنعهم من الظلم للرعيّة، ويقبض أيديهم عن المآكل الرّديّة، ويدعوهم إلى تقويم أودهم، وإصلاح فاسدهم، ويزيد في بصيرة ذوي الثّقة والأمانة منهم فمن وقفت منه على امتثال لمذهبك، وقبول لأدبك، واقتصار فيما يتقلّده لك، أقررته وأحسنت مكافأته ومثوبته، ومن شممت منه حيفا في حكمه، وتعدّيا في سيرته، وبسطا ليده إلى ما لا يجب له، تقدّمت في صرفه، وألزمته في ذلك ما يلزمه وأن تختار لكتابتك من تعرف سداد مذهبه، واستقلاله بما يتقلّده، [وإيثاره للتأكد] (4)
من صحته، ومن تقدّر عنده تقديما في نصيحتك فيما يجري على يديه، وتوخّيا لصدقك فيما يحضره وتغيب عن مشاهدته فإنك تأمنه من أمر حكمك على ما لا
__________
(1) الحوب: الإثم.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(4) العبارة في الأصل غير واضحة. والتصحيح من الطبعة الأميرية.(11/29)
يؤتمن على مثله إلا الأمين، وتفوّض إليه من حجج الخصوم المرفوعين إليك ما لا يفوّض إلا لذي العفاف والدّين وأن تتفقد مع ذلك أمره، وتتصفّح عمله، وتشرف على ما تحت يديه بما يؤدّيك إلى إحكامه وضبطه، ويؤمّنك من وقوع خلل فيه وأن تختار لحجابتك من لا يتجهّم الخصوم، ولا يختصّ بعضها دون بعض بالوصول، وتوعز إليه في بسط الوجه ولين الكنف، وحسن اللفظ، ورفع المؤونة، وكفّ الأذى.
فتقلّد ما قلّدناك من ذلك عاملا بما يحقّ عليك لله جلّ وعزّ ذكره، ومستعينا به في أمرك كلّه: فإنّا قلّدناك جسيما، وحمّلناك عظيما، وتبرّأنا إليك من وزره وإصره، واعتمدنا عليك في توخّي الحقّ وإصابته، وبسط العدل وإفاضته، واقبض لأرزاقك وأرزاق كتّابك وأعوانك ومن يحجبك ولثمن قراطيسك وسائر مؤنك في كل شهر أربعين دينارا، فقد كتبنا إلى عامل الخراج بازاحة ذلك، أوقات استحقاقك إيّاه ووجوبه لك، وإلى عامل المدينة بالشّدّ على يدك، والتقوية لأمرك، وضمّ العدّة التي كانت تضم إلى القضاة من الأولياء إليك، وهما فاعلان ذلك إن شاء الله تعالى.
الحالة الثالثة ما كان عليه الأمر في زمن بني أيّوب.
وكانوا يسمّون ما يكتب عن ملوكهم من الولايات لأرباب السيوف والأقلام «تقاليد» و «تواقيع» و «مراسيم» وربّما عبّروا عن بعضها ب «المناشير» وهي في الافتتاحات على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى
أن تفتتح الولاية بخطبة مبتدأة بالحمد لله تعالى ثم يؤتى بالبعديّة، ويذكر ما سنح من حال الولاية والمولّى، ويوصّى المولّى بما يليق بولايته ثم يقال: «وسبيل كلّ واقف عليه من النّواب العمل به» أو نحو ذلك.
وهي على ثلاثة أصناف:
الصنف الأوّل أرباب السيوف من هذه المرتبة
.
وهذه نسخة توقيع بولاية ناحية وإقطاع بلادها لمتولّيها، وهي:(11/30)
وهذه نسخة توقيع بولاية ناحية وإقطاع بلادها لمتولّيها، وهي:
الحمد لله على عوائده الجميلة وعواطفه، وفوائده الجزيلة وعوارفه، ناصب الحقّ وناصره، وقاصم الباطل وقاصره، ومنير الدين ومديله، ومبير الكفر ومذيله، وشادّ أزر أوليائه وسادّ ثغرهم، وناصر معزّهم ومعزّ نصرهم، الذي أضفى علينا مدارع نعمه، وأصفى لدينا مشارع كرمه، وأعلق أيدينا من العدل بأوكد الأسباب والأمراس، وصرف بنا صرف العسف وكفّ بكفايتنا كفّ البؤس عن الرعيّة والباس، وجلب إلى استجلاب الشكر من الناس همّتنا، وطوى على حبّ البرّ وإبرار المحب طويّتنا، وحسم بما أولاناه من أيد (1) مادّة كلّ يد تمتدّ إلى محظور، ويسّرنا ببساط العدل المطويّ لما طوى بعدلنا بساط الظّلم المنشور، وأبى لنا أن نكفر نعمة أو نهبها لكافر، أو ندع شكر منّة أو نودعها عند غير شاكر.
ولمّا كان الأمير فلان ممن سبقت لجدّه ولأبيه تعاهد الله بالعهاد مثواهما، وخص بثرّار الرحمة ثراهما الحرم الأكيدة، والخدم الطريفة والتّليدة، ولم يزالا مجتهدين في تعمير هذا البيت وتشييد أسّه، ملازمي الإدآب (2) في إنمائه وتشديد غرسه، مفضيين بالموالاة إلى مواليه، مفصحين بالمعاداة لمعاديه، رأينا لا زال الإقبال لارائنا مقابلا ومرافقا، والسعد مساعدا والتوفيق موافقا أن نلحقه بدرجة أوّليه، ونورده من كرمنا مورد جدّه وأبيه، ونثني إليه عنان عنايتنا، ونرعاه بعين رعايتنا، ونلحفه جناح لطفنا، ونبوّئه مقعد شرف تحت ظلّنا، ونحرس حدّه من الفلول، وجدّه من الخمول، وعوده من الخور، وورده من الكدر، وأن نقرّره على ما بوّأنا فيه والده من الهبات والإنعام، والإفضال والإحسان، وجميع ما دخل تحت اسمه من المعاقل والبلدان، وسيوضّح ذلك بقلم الدّيوان.
__________
(1) الأيد: القوة والشدّة.
(2) أدأب في الشيء إدآبا: جعله دأبه، وجدّ فيه وداوم عليه.(11/31)
فليقابل هذا الإنعام من الشكر بمثله، ويواز هذا الإفضال من حسن القبول بعدله، وليرتبط نعم الله عنده بالشّكر الوافي الوافر، فالسعيد من اطّرح خلّة الشاكي وادّرع حلّة الشاكر وليدمن التحدّث بها، فالتحدّث بالنّعم من الشكر، ويستجذب موادّها بإيضاح سبل البر، ويجعل التقوى شعاره ودثاره، ويخلص الطاعة لله إيراده وإصداره وليكن العدل ربيئته (1) ورائده، والأمر بالمعروف دليله وقائده، وليقم فيما نيط به حقّ القيام، ويشمّر في حفظ ما استرعيناه عن ساق الاهتمام، ويعلم أن منزلته عندنا أسنى المنازل وأعلاها، ومرتبته لدينا أبهج المراتب وأبهاها، ومحلّه عندنا السامي الذي لا يضاهيه سامي، ومكانه المكان الذي ليس له في الممكن أن يفترع علمه سامي فسبيله علم ذلك وتحقيقه، وتيقّنه وتصديقه، وسبيل كلّ واقف على هذا المثال، [أن] (2) يقابله بالامتثال، من سائر العمّال، وأرباب الولايات والأعمال. والاعتماد على العلامة الشريفة في أعلاه، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثاني أرباب الوظائف الدينية.
وهذه نسخة توقيع بتدريس مدرسة والنظر عليها، والتحدّث على أوقافها وسائر تعلّقاتها، وهي:
الحمد لله الظاهر إحسانه، الباهر برهانه، القاهر سلطانه، المتظاهر امتنانه، نحمده على إنعامه حمدا يدوم به من حلب غزارته وحلي نضارته ازدياده وازديانه، ونسأله أن يصلّي على سيدنا محمد نبيّه الشارع الشارح بيانه، وعلى آله وصحبه الذين هم أعضاد شرعه وأركانه.
أما بعد، فإنّا لما نراه من تشييد بيوت ذوي البيوتات، وإمضاء حكم المروءة في أهل المروءات، وإرعاء مواتّ (3) ذوي الحقوق الحقيقة بالمراعاة وإحياء
__________
(1) الربيئة والربيء: الطليعة الذي يرقب العدو من مكان عال لئلا يدهم قومه. والجمع: ربايا.
(2) الزيادة يقتضيها السياق.
(3) جمع ماتّة وهي الحرمة والصلة والقرابة.(11/32)
الموات، وموالاة النّعم الشامل عمومها لأولي الخصوص والخلوص في الموالات، ما نزال نلحق درجات الأخلاف منهم في الاختصاص بالاستخلاص بالأسلاف، فنوردهم من مشارع دولتنا ومشارب نعمتنا في الاصطفاء والاصطناع أعذب النّطاف (1)، ونجنيهم من مغارس الرجاء، ومجاري النّماء، في الإدناء والاجتباء، ثمرات النّعم الدانية القطاف، ونفيض عليهم من مدارع البهجة والبهاء، وحلل الثّناء والسّناء، في الاكرام، بالاحترام، ما يضفو على الأعطاف.
ولما كان الشيخ فلان متوحّدا بالنسب الأثير الأثيل، والحسب الجليّ الجليل، والمحتد الأكيد الأصيل، والفضل الموروث والمكتسب، والزّكاء في المنتمى والمنتسب، والذّكاء الذي أنارت في أفق التوفيق ذكاؤه (2)، والولاء الذي بان في شرعة الإخلاص صفاؤه، والدّين الذي علا سنا سنّته، في منار التحميد، والخلوص الذي حلا جنى جنّته، في مذاق التوحيد، والرّياسة التي تضوّع ريّا رياضها المونقة، والسماحة التي تنوّح حيا حياضها المغدقة، والأمانة التي نهضت بها فضائله، والموالاة التي نجحت بها عندنا وسائله رأينا إجراءه على عادة والده في تولّي المدرسة المعمورة التي أنشأها جدّه للشافعية بحلب، وأوقافها، وأسبابها، وتدريسها، وإعادتها، واستنابة من يراه ويختاره في ذلك كله، والنظر في جميع ما يتعلّق بها كثره وقلّه، وترتيب الفقهاء فيها، وتقرير مشاهراتهم (3) على ما يراه من تفضيل وتقديم، وتفصيل وتقسيم، وتخصيص وتعميم، ونقص وتكميل وتتميم، وحفظ الوقوف بالاحتياط في مصارفها، والعمل فيها، بشروط محبّسيها، وإطلاقها بقيود واقفيها، بالابتداء بالعمارات، التي تؤذن بتوفير الارتفاعات، وتكثير المغلّات، وتنمية الثمرات، مستشعرا تقوى الله التي هي حلية الأعمال الصالحات، والعصمة الباقية والجنّة الواقية عند
__________
(1) النطاف: الماء الصافي ومفردها: نطفة.
(2) الذّكاء (بالفتح): معروف، وبالضم: إسم الشمس. قال في اللسان: وهو معرفة لا ينصرف ولا تدخله الألف واللام. ويقال للصبح ابن ذكاء، لأنه من ضوئها. (اللسان: 14/ 287).
(3) أي رواتبهم الشهرية.(11/33)
النائبات. وفوّضنا ذلك إلى أمانته، وبعده إلى من يقوم مقامه من إخوته، تشييدا لبيتهم الكريم، وتجديدا لمجدهم القديم، ورفعا لمكانتهم المكينة، وحفظا لمرتبتهم المصونة، وأمرنا بإعفاء جميع أوقاف المدرسة وسائر أوقافهم، وأملاكه وأملاك إخوته وحمايتهم من جميع المظالم والمطالب، والنّوائب والشّوائب، والعوارض والعراض واللّوازم والكلف، والمؤن والسّخر، والتّبن والحطب، والأطباق والأنزال، وسائر التوزيعات والتقسيطات والأنفال، وإعفاء فلّاحيها ومزارعيها من جميع ذلك، وإطلاق كلّ ما يصل من مغلّات الأوقاف والأملاك المذكورة إلى مدينة حلب من جميع المؤن على الإطلاق، وكذلك جميع ما لهم من البضاعات والبياعات والتّجارات معفاة مطلقة لا اعتراض عليها لأحد، ولا تمدّ إلى شيء منها يد ذي يد، وليتولّ ذلك على عادته المشكورة، وأمانته المشهورة، بنظر كاف شاف، وكرم وافر واف، وورع من الشوائب صاف، وعزوف عن الدّنيّات بالدّينيّات متجاف، وسداد لركن المصالح شائد، وتذكر لترقي موادّ المناجح رائد، ورأي في ذمّة الصواب راجح، وسعي برتبة الرّشاد ناجح، وهمّة عالية في نشر العلم بالمدرسة وإعلاء مناره، وإلزام الفقهاء والطلبة بتدريسه وإعادته وحفظه وتكراره، ومروءة تامة في الاشتمال على إخوته ومخلّفي أبيه بما يصل به الرّحم، ويظهر به الكرم، ويحيي من مفاخر آبائه الرّمم، ويقوّي لهم من معاقد مكارمه العصم. وسبيل الولاة والنوّاب وكل واقف على هذا المثال إمضاء ذلك كلّه على سبيل الاستمرار، وتصرّم الأعمار، وتصرّف الأعصار، وتقلّب الأحوال والأدوار، وحفظه فيهم وفي أعقابهم على العصور والأحقاب، ووصل أسبابه عند انقطاع الأسباب، من فسخ ينقض مبرم معاقده، أو نسخ يقوّض محكم مقاعده، أو تبديل يكدّر صافي موارده ومشارعه، أو تحويل يقلّص ضافي ملابسه ومدارعه، وليبذل لهم المساعدة في كلّ ما يعود له ولجماعته بصلاح الحال، وفراغ البال ونجاح الآمال، وإقامة الجاه في جميع الأحوال. والعمل بالأمر العالي وبمقتضاه والاعتماد على التوقيع الأشرف به إن شاء الله تعالى.(11/34)
الصنف الثالث أرباب الوظائف الديوانية
وهذه نسخة توقيع بوزارة، من إنشاء بعض بني الأثير (1)، وهي:
الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من عباده، وأغنانا بمزيد عطائه عن ازدياده، وجعلنا ممن استخلفه في الأرض فشكر عواقب إصداره ومباديء إيراده.
نحمده ولسان أنعمه أفصح مقالا وأفسح مجالا، وإذا اختلفت خواطر الحامدين رويّة كاثرها ارتجالا ونسأله أن يوفّقنا لتلقّي أوامره ونواهيه بالاتباع، وأن يصغي بقلوبنا إلى إجابة داعي العدل الذي هو خير داع، وينقذنا من تبعات ما استرعاناه يوم يسأل عن رعيّته كلّ راع.
أما بعد، فإن الله قرن استخارته برشده، وجعلها نورا يهتدى به في سلوك جدده (2)، ويستمدّ من يمن صوابه ما يغني عن الرأي ومدده، ومن شأننا أن نتأدّب بآداب الله في جليل الأمر ودقيقه، وإذا دلّ التوفيق امرءا على عمله دلّ عملنا على توفيقه، فمن عنوان ذلك أنّا اصطفينا لوزارتنا من تحمدنا الأيام من أجله، وتحسدنا الملوك على مثله، ويعلم من أتى في عصره أنه فات السابقين من قبله، وهو الوزير الأجل السيد الصدر الكبير، جلال الدين، شرف الإسلام،
__________
(1) المشهورون في بني الأثير ستة، وهم: ابن الأثير (المحدّث) وهو المبارك بن محمد المتوفى سنة 606هـ، ولم يكتب لأحد ابن الأثير (المؤرخ) وهو علي بن محمد المتوفى سنة 630 هـ، ولم يكتب لأحد ابن الأثير (شرف الدين) وهو محمد بن نصر الله المتوفى سنة 622هـ، ولم يكتب لأحد ابن الأثير (الكاتب) وهو نصر الله بن محمد، المتوفى سنة 637هـ، والمعروف بضياء الدين، صاحب «المثل السائر» اتصل بخدمة صلاح الدين، وولي الوزارة للملك الأفضل، ابن صلاح الدين، وكتب لصاحب الموصل، محمود بن عز الدين مسعود ابن الأثير، اسماعيل بن أحمد المتوفى سنة 699هـ، والمعروف بعماد الدين ولي كتابة الدرج بالديار المصرية بعد أبيه «تاج الدين» ابن الأثير (المنشيء)، أحمد بن إسماعيل، المتوفى سنة 737هـ، المعروف بنجم الدين كان من كتاب الإنشاء بمصر وممن كان يحضر «دار العدل» بين يدي السلطان. (انظر الأعلام: 1/ 30997و 8/ 31).
(2) الجدد: الأرض المستوية. وفي المثل: «من سلك الجدد أمن العثار»(11/35)
مجتبى الإمام فخر الأنام وليست هذه النعوت مما تزيد مكانه عرفا، ولا تستوفي من أوصافه وصفا، وإن عدّها قوم جلّ ما يدّخرونه من الأحساب، ومعظم ما يخلّفونه من التّراث للأعقاب، ولا يفخر بذلك إلا من أعدم من ثروة شرفه، ورضي من الجوهر بصدفه وأنت فغير فاخر به ولا بما ورثته من مجد أبيك الذي أضحت الأيّام به شهودا، والجدود له جدودا، وغدا وكأنّ عليه من شمس الضّحى نورا ومن الصّباح عمودا، وقد علمت أنه كان إليه نسب المكارم وسيمها، وكان ما بلغه منها أعظم ما بلغه من دنياه على عظمها، لكنّك خلّفت لنفسك مجدا منك ميلاده، وعنك إيجاده، وإذا اقترن سعي الفتى بسعي أبيه فذلك هو الحسب الذي تقابل شرفاه، وتلاقى طرفاه، وغضّ الزمان عنه طرفه كما فتح بمدحه فاه وإذا استطرفت سادة قوم بنيت بالسّؤدد الطريف التّليد، ولقد صدّق الله لهجة المثني عليك إذ يقول: إنّك الرجل الذي تضرب به الأمثال، والمهذّب الذي لا يقال معه: أيّ الرجال (1) وإذا وازرت مملكة فقد حظيت منك بشدّ أزرها، وسدّ ثغرها، وأصبحت وأنت صدر لقلبها وقلب لصدرها فهي مزدانة منك بالفضل المبين، معانة بالقويّ الأمين، فلا تبيت إلا مستخدما ضميرك في ولائها، ولا تغدو إلا مستجديا كفايتك في تمهيدها وإعلائها.
ومن صفاتك أنك الواحد في عدم النظير، والمعدود بألف في صواب التدبير، والمؤازر عند ذكر الخير على الإعانة وعند نسيانه على التذكير ولم ترق إلى هذه الدرجة حتّى نكحت عقبات المعالي فقضيت أجلها، وآنست من طور السعادة نارا فهديت لها ولم تبلغ من العمر أشدّه، ولا نزع عنك الشباب برده بل أنت في ريعان عمرك المتجمل بريعان سؤدده، المتقمّص من سيما
__________
(1) إشارة إلى المثل «أيّ الرجال المهذّب»: يضرب مثلا للرجل يعرف بالإصابة في الأمور، وتكون منه السّقطة. وأصله من قول النابغة الذبياني (زياد بن معاوية بن ضباب):
ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أيّ الرجال المهذّب.
(انظر جمهرة الأمثال: 1/ 188والمستقصى: 1/ 449).(11/36)
الخلال ما أبرز وقار المشيب في أسوده. وهذا المنصب الذي أهّلت له، وإن كان ثاني الملك محلّا، وتلوه عقدا وحلّا، فقد علا بك قدره، وتأبّل (1) بك أمره، وأصبح وشخصك في أرجائه منار، ورأيك وفضلك من حوله سور وسوار، وله من قلمك خطيب يجادل عن أحساب الدولة فينفحها فخرا، وسيف يجالد عن حوزتها فيمنحها نصرا، ولقد كان من قبلك وقبل أبيك مكرها على إجابة خاطبه، والنّزول إليه عن مراتبه، فلمّا جئتماه استقرّ في مكانه، ورضي بعلوّ شأنكما لعلوّ شانه وقد علم الآن بأنك نزلته نزول الليث في أجمه، واستقللت به استقلال الرّمح باحدمه (2)، وما زالت المعالي تسفر بينك وبينه وأنت مشتغل بالسعي للسيادة وآدابها، عن السعي للسّعادة وطلابها، فخذ ما وصلت إليه باستحقاق فضلك ومناقبه، لا باتفاق طالعك وكواكبه.
واعلم أنّ هذه النعمة وإن جاءتك في حفلها، وأناخت بك بصاحبها وأهلها فلا يؤنسها بك إلا الشكر الذي يجعل دارها لك دارا، وودّها مستملكا لك لا معارا، وقد قيل: إنّ الشكر والنعمة توءمان، وإنه لا يتم إلا باجتماع سرّ القلب وحديث اللسان فاجعله معروفها الذي تمسكها بإحسانه، وتقيّدها بأشطانه (3)
وقد أفردنا لك من بيت المال ما تستعين به على فرائض خدمك (4)
ونوافله، وتردّ فضله على ابتناء مجدك وفضائله، وذلك شيء عائد على الدولة طيب سمعته فلها محمود ذكره ومنك موارد شرعته، وإذا حمدت مناهل الغدر كان الفضل للسحاب الذي أغدرها. والمفرد باسمك من بيت المال كذا وكذا.
__________
(1) تأبّل بالشيء: استغنى به عن غيره.
(2) كذا في الأصل بالإهمال، وفي الطبعة الأميرية مع علامة توقف.
(3) الأشطان: الحبال الطويلة يستقى بها من البئر، أو تشدّ بها الدابة. ومن ذلك قول عنترة:
يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم.
(4) كذا في الأصل وهي غير مستقيمة. وفي هامش الطبعة الأميرية «لعله: منصبك» وهي أوضح في المقام.(11/37)
وكلّ ما تضمّنه تقليد غيرك من الوصايا التي قرعت له عصاها، ونبذت له حصاها (1)، فأنت مستغن عن استماعها، مكتف باطّلاع فكرك عن اطّلاعها غير أنّا نسألك كما سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاذا (2)، ونسأل الله أن يجعل لك من أمرك يسرا ومن عزمك نفاذا، وقد أجابنا لسان حالك بأنك تأخذ بتقوى الله التي ضمن لها العاقبة، وجعل شيعتها الغالبة، وأنك تجعلها بينك وبينه سببا ممدودا، وبينك وبين الناس خلقا معهودا، حتّى تصبح وقد أمنت من دهرك عثارا، ومن أبنائه أسماعا وأبصارا ومن شرائطها أن يكون الرجل المسلم الذي سلم الناس من يده ولسانه، وفي هذين كفاية عن غيرهما من الشّيم، التي تحفظ بها سياسات الأمم: فإنّ العدل هو الميزان الذي جعله الله ثاني الكتاب، والإحسان الذي هو الطينة التي شاركتها القلوب في جبلّتها مشاركة الأحباب.
وأمّا ما سوى ذلك من سياسة الملك في تقرير أصوله، وتدبير محصوله:
كالبلاد واستعمارها، والأموال واستثمارها، وولاة الأعمال واختبارها، وتجنيد الجنود واختيارها، فكلّ ذلك لا يصدر تدبيره إلا عن نظرك، ولا يمشى فيه إلا على أثرك وأنت فيه الفقيه ابن الفقيه الذي سرى إليك علمه نفسا ودرسا، وثمرة وغرسا فهذا كتاب عهدنا إليك: فخذه بقوّة الأمانة التي أبت السموات والأرض حملها، وما أطاقت ثقلها، والله يسلك بك سددا، ويتحرّى بك رشدا، ويلزمك التوفيق قلبا ولسانا ويدا، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) نبذت له حصاها: أي رمي إليه بها. والاستعارة من المنابذة وهي نوع من أساليب البيع والشراء. قال في اللسان، عن اللحياني: «المنابذة أن ترمي إليه بالثوب ويرمي إليك بمثله والمنابذة أيضا أن يرمي إليك بحصاة». قال: ويقال إنما هي أن تقول: إذا نبذت الحصاة إليك فقد وجب البيع. (اللسان: 3/ 512).
(2) إشارة إلى كتاب العهد الذي بعث به النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى معاذ بن جبل حين ولاه أمر أهل اليمن. انظر نص الكتاب في الوثائق السياسية للعهد النبوي لمحمد حميد الله، ص: 212.(11/38)
ومن ذلك نسخة توقيع بإعادة النظر بثغر الإسكندرية لابن بصّاصة (1) في شهور سنة ثمان وسبعين وستمائة، وهي:
الحمد لله الذي أضحك الثّغور بعد عبوسها، وردّ لها جمالها وأنار أفقها بطلوع شموسها، وأحيا معالم الخير فيها وقد كادت أن تشرف على دروسها، وأقام لمصالح الأمة من يشرق وجه الحق ببياض آرائه، وتلتذّ الاسماع بتلاوة أوصافه الجميلة وأنبائه، حمد من أسبغت عليه النّعماء، وتهادت إليه الآلاء، وخطبته لنفسها العلياء.
وبعد، فأحقّ من [أماس] في أندية الرّياسة عطفا، واستجلى وجوه السعادة من حجب عزّها فأبدت له جمالا ولطفا. واصطفته الدولة القاهرة لمهمّاتها لمّا رأته خير كافل، وتنقّل في مراتبها السنية تنقّل النّيّرات في المنازل (2)
ولما كان المجلس السامي، القاضي، الأجلّ، الصدر، الكبير، الرئيس، الأوحد، الكامل، المجتبى، المرتضى، الفاضل، الرشيد، جمال الدين، فخر الأنام، شرف الأكابر، جمال الصّدور، قدوة الأمناء، ذخر الدولة، رضيّ الملوك والسلاطين، الحسين ابن القاضي زكيّ الدين أبي القاسم أدام الله رفعته ممن أشارت إليه المناقب الجليلة، وصارت له إلى كل سؤل نعم الوسيلة رسم بالأمر العالي، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، العادليّ، البدريّ ضاعف الله علاءه ونفاذه أن يفوّض إليه نظر ثغر الإسكندريّة المحروس ونظر متاجره، ونظر زكواته ونظر صادره، ونظر فوّة (3) والمزاحمتين، فيقدّم خيرة الله تعالى
__________
(1) هو القاضي جمال الدين بن بصّاصة. انظر ص: 413من هذا الجزء.
(2) لم يذكر خبر المبتدأ، ولعله سقط من قلم الناسخ. وفي هامش الطبعة الأميرية: وأصله «من اشتهر بمحاسن الخلال، ومحامد الخصال، وساس الأمور. برأيه الراجح، ودبّرها بسعيه الناجح ولما الخ» أو نحو ذلك.
(3) فوّة: بليدة على شاطىء النيل من نواحي مصر، قرب رشيد. ولم نعثر على المزاحمتين ولعلها قرب فوّة المذكورة. (معجم البلدان: 4/ 280).(11/39)
ويباشر هذا المنصب المبارك، بعزماته الماضية، وهممه العالية، برأي لا يساهم فيه ولا يشارك، ليصبح هذا الثغر بمباشرته باسما حاليا، وتعود بهجته له بجميل نظره ثانيا، وينتصب لتدبير أحواله على عادته، ويقرّر قواعده بعالي همّته، ويجتهد في تحصيل أمواله وتحصين ذخائره، واستخراج زكاته وتنمية متاجره، ومعاملة التّجار الواردين إليه بالعدل، الذي كانوا ألفوه منه، والرّفق الذي نقلوا أخباره السارّة عنه فإنهم هدايا البحور، ودوالبة الثّغور، ومن ألسنتهم يطّلع على ما تجنّه الصّدور، وإذا بذر لهم حبّ الإحسان نشروا له أجنحة مراكبهم وحاموا عليه كالطّيور، وليعتمد معهم ما تضمّنته المراسيم الكريمة المستقرّة الحكم إلى آخر وقت، ولا يسلك بهم حالة توجب لهم القلق والتظلّم والمقت، وليواصل بالحمول إلى بيت المال المعمور، وليملأ الخزائن السلطانيّة من مستعملات الثغر وأمتعته وأصنافه بكل ما يستغنى به عن الواصل في البرور والبحور، وليصرف همّته العالية إلى تدبير أحوال المتاجر بهذا الثغر بحيث ترتفع رؤوس أموالها وتنمي، وتجود سحائب فوائدها وتهمي، وليراع أحوال المستخدمين في مباشراتهم، ويكشف عن باطن سيرهم في جهاتهم، ليتحقّقوا أنّه مهيمن عليهم، وناظر بعين الرأفة إليهم، فتنكفّ يد الخائن منهم عن الخيانة، وتتحلّى أنامل الأمين بمحاسن الصّيانة وليتفق فيما يأتيه ويذره، ويقدّمه من المهمّات ويؤخّره، مع المجلس السامي، الأمير، الأجلّ، الكبير، المجاهد، المقدّم، الأوحد، النصير شمس الدين، متولّي الثغر المحروس أدام الله نعمته فإنه نعم المعين على تدبير المهمّات، ونعمت الشمس المشرقة في ظلم المشكلات. وليطالع بالمتجدّدات في الثغر المحروس، ليرد الجواب عليه عنها بما يشرح الصدور ويطيّب النفوس، وليتناول من الجامكية (1)
__________
(1) الجامكية: تجمع على جوامك وجامكيات وهي الرواتب عامة. وأصل اللفظ فارسي: «جامه» بمعنى اللباس، ومعناها اللغوي كما يرى دوزي هو مصروفات دولاب الملابس، وقد جرى استعمالها الاصطلاحي بمعنى الجراية الشهرية (انظر التعريف بمصطلحات الصبح: 82وتأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل: ص 59).(11/40)
والجراية عن ذلك في غرّة كلّ شهر من استقبال مباشرته ما يشهد به الديوان المعمور لمن تقدّمه من النّظّار بهذه الجهات، وهي نظر الثغر وما أضيف إليه على ما شرح أعلاه.
المرتبة الثانية (أن تفتتح الولاية بلفظ «أما بعد حمد الله» أو «أما بعد فإن كذا» ويؤتى بما يناسب من ذكر الولاية والمولّى، ثم يذكر ما سنح من الوصايا ثم يقال «وسبيل كل واقف عليه»)
فمن المكتتب لأرباب السّيوف من هذه المرتبة ما كان يكتب لبعض الولاة.
وهذه نسخة بولاية الشرقية (1)، وهي:
أما بعد، فإنّا لما منحنا الله إيّاه من معجزات النصر المستنطق الألسنة بالتسبيح، وآتاناه من نظر حمى ناضر عيش الأمّة من التّصويح (2)، وألبسناه من ثياب العظمة المخصوصة بأحسن التوشيع والتوشيح، ووفّقنا له من اصطفاء من نقبل عليه بوجه التأهيل للمهمّات والتشريح، وقوّاه من عزائمنا التي ترجّ بها أرض الكفر وتدوّخ، ووسّعه لنا من الفتوح التي أنباؤها خير ما تصدّر به السّير وتؤرّخ لا نزال نبالغ فيما صان الحوزة وحاطها، ومدّ رواق الأمنة ومهّد بساطها، وقرّب نوازح المصالح وجمع أشتاتها، وأوجب انصرام حبال اختلال الأمور واقتضى انبتاتها.
ولما كانت الأعمال الشرقية جديرة بمتابعة الاعتناء وموالاته، وإعراق كرم التعهّد فيما يحفظ نظامها بمغالاته، وأحقّها بأن تصرف إلى صونها وجوه الهمم الطّوامح، ويوقف عليها حسن الاحتفال الجامع دواعي تذليل الجامح، إذ كانت
__________
(1) جنوبي الديار المصرية.
(2) صوّح النّبت ونحوه: يبس حتّى تشقّق.(11/41)
أجدر الأعمال بكلاءة الفروع من أوضاعها والأصول، والباب الذي لا يجب أن يدخله إلّا من أذن له في القدوم إليها والوصول، ويتعيّن التحرّز على الطّرقات التي منها إليها الإفضاء، ويوكّل بما دونها من المياه عيون حفظة لا يلزمها النوم والإغضاء، وكنت أيّها الأمير أشدّ الأمراء باسا، وأوفاهم لحسن الذكر الجميل لباسا، وأكثرهم لمهج الأعداء اختلاسا، وأجمعهم للمحاسن المختلفة ضروبا وأجناسا، وقد تناصرت على قصودك الحسنة واضحات الدلائل، وتحلّت أجياد خلالك من جواهر المفاخر بقلائد غير قلائل، واستطار لك أجمل سمعة، وفطمت سيوفك أبناء الكفر عن ارتضاعها من الملّة الإسلامية ثدي طمعة، ولا استبهمت طرق السياسة إلا هديت إلى مجاهلها، ولا حلّأ (1) التقصير سواك عن شرائع النّعم إلا غدوت بكفايتك وارد مناهلها، وكم شهدت مقام جلاد، وموقف جهاد، فمزّقت ثوب ما رقّقه نسجا، وأدلت في ليل قسطله عوادي صوارمك شرجا، وقمت فيما وكل إليك من أمور الفاقوسيّة وقلعتي صدر وأيلة (2) حرسهما الله تعالى قياما أحظاك بالثناء والصواب، واستنبت في كلّ منها من أجرى أمورها على الصواب خرج أمر الملك الناصر بكتب هذا السجلّ بتقليدك ولاية الأعمال الشرقية المقدّم ذكرها فاعتمد مباشرتها عاملا بتقوى الله التي مغنمها خير ما اقتاده مستشعروها لأنفسهم واستاقوه. قال الله تعالى: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللََّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلََاقُوهُ} (3)، وأبسط العدل على أهل هذه الولاية، واخصص أهل السّلامة بما يسبل عليهم ستر الحياطة والحماية، وتطلّب المفسدين أتمّ تطلّب، واحظر عليهم التّنقّل، في هذه البلاد والتقلّب ومن
__________
(1) حلّأه عن الشيء تحليئا، وتحلئة: منعه.
(2) الفاقوسية: نسبة إلى «فاقوس» وهي مدينة في حوف مصر الشرقي. وصدر: قلعة بين القاهرة وأيلة (ضبطها ياقوت بتسكين الدال). أما أيلة فمدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام. قال أبو عبيدة: أيلة مدينة بين الفسطاط ومكة على شاطيء بحر القلزم، وتعدّ في بلاد الشام. (انظر في هذه الأمكنة معجم البلدان).
(3) البقرة / 223.(11/42)
ظفرت به منهم فقابله بما يوجبه حكم جريرته، ويقتضيه موقع جريمته، ويجعله مزدجرا لسالكي طريقته، وشدّ من المستخلف على الحكم العزيز شدّا ينصر جانب الشرع ويعزّه، ويكرّ به على الباطل ترويع الحق وأزّه (1)، وأعن المستخدمين في المال على استيفائه من وجوهه عند وجوبه، وبلّغ كلّا منهم من الإعانة على تحصيله أقصى مطلوبه، وقوّ أيديهم في تخضير البلاد وتعميرها وابعث المزارعين على مباشرة أحوال الزّراعة وتقرير أمورها، وفيما يسترعونه من مصالح الأعمال، ويعود عليهم في موجبات الرجاء بمناحج الآمال، وراع أمر السّبل والطّرقات، واجعل احتراسك عليها الآن موفيا على المتقدم من سالف الأوقات، ولا تن في إنفاذ المتخبّرين (2) إلى بلاد العدوّ، وتحدّيهم في الرّواح والغدوّ، بما يمنعهم من الهدوّ، وكشف أخبارهم، وتتّبع آثارهم، وتسيير الجواسيس إلى ديارهم، حتّى لا تخفى عنك من شؤونهم خافية، ولا يجدوا سبيل غرّة (3) يهتبلونها والعياذ بالله بالجملة الكافية، وطالع بما يتجدّد لك وما يرد من الأنباء عليك، وغير ذلك مما يحتاج إلى علمه من جهتك، وما تجري عليه أحكام خدمتك فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة بولاية الغربية من هذه المرتبة، وهي:
أما بعد، فإنّا لما آتانا الله من سعادة لطرق الإرادات فيها تعبيد، وأسبغه بنا من نعم لا يعدّها التحديد، ولا يحدّها التعديد، وأنهجنا به من اكتناف المطالب بنجاح لا يعقّبه تعسير ولا يعسّره تعقيد، وأمضاه من عزائمنا التي ما فتكت قطّ بالأعداء فقيد منهم فقيد، ولقّاه الأمنة بنظرنا من نضرة عيش جانب الجفاف دوحه المخضلّ، وأهداه بتبصيرنا من أنوار الهدى المتقدّمة كلّ ذي جهل ظلّ ممن ضلّ لا نزال نستوضح أمور أمراء دولتنا متصفّحين، ونبلو أخبار
__________
(1) الأزّ: الضرب الموجع.
(2) المراد الذين يجمعون الأخبار وهم العيون أو الجواسيس.
(3) الغرّة: الغفلة. واهتبل الفرصة: اغتنمها.(11/43)
المؤهّلين منهم لسياسة الرعيّة المرشّحين، ونكشف شؤونهم غير متجوّرين ولا متسمّحين، ونظهر في أحوالهم آثار الإيثار لرفع درجاتهم، وأمارات الرفع منهم مقابلة على حياطة أموال من نكون عليه وصون منجاتهم، ونبوّئهم مبوّأ صدق من تصديق آمالهم وتحقيقها، ونزفّ إليهم عقائل المنح المانع شكرهم من تسيّب سيبها وتطرّق تطليقها، ونحمل لكلّ منهم ما يؤمّله من اجتهاده ويؤثره، ولا نلغي الاهتمام بما يوطّيء لهم مهاد الطّول الجزيل ويؤثّره، عملا بآداب الله سبحانه في إجزال حظوظ المحسنين من إحسان المجازاة، وإيلائهم المزيد الحاكم بنقص اعتدادهم عن الموازنة له والموازاة، كما قال سبحانه، وقوله هدى ونور وشفاء لما في الصدور: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهََا حُسْناً إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} (1)
ولما كان الأمير (والنعوت والدعاء) من أنجحهم فالا، وأرجحهم مقالا، وأصلحهم أعمالا، وأوضحهم كمالا وما زالت أغصان نهاه متتابعة في بسوقها، وضرائبه نافقة أعلاق المحامد بسوقها، وعزائمه في إذلال الفرق المبالغة في فسوقها، مشمّرة عن سوقها، وما برح في شوط الفخر راكضا، ولعقود مكروه الأمور التي تزيغ الأمانة رافضا، وبأعباء القيام بفرائض الآلاء ناهضا، وما انفكّت مناقبه تعيي بيان الواصف وبنان العادّ، ومساعيه مدركة وهي وادعة ما يعجز عن أقلّه جدّ الجادّ، ورأيه [يرتق] (2) كلّ متفتّق ومنبثق من الأمور المهمّة بسداد الراتق السادّ، وجميل ذكره يفوح بما يفوق المسك فيثوب إليه من الثّواب بالنائي النادّ (3) وما فتيء دأب شيمته الإعراض، عن الموبق من الأعراض، واختيار الرّفق، والإغراق فيما يديمه إلى فكّ أعناق أسرى المسلمين من سرى العتق خرج أمر الملك الناصر بكتب هذا السجلّ له بتقليده ولاية
__________
(1) الشورى / 23.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) ندّ ندّا وندودا، فهو نادّ: نفر، وشرد، وبعد وغاب.(11/44)
الأعمال الغربية.
فليتقلّد ما قلّده معتمدا على تقوى الله التي صرف عن معتمدها شرب التكدير، ومنحه من المكارم عنده ما يوفي على التقدير، وليجر على عادته في بسط ظل المعدلة ومدّ رواقها، وصون مساحي (1) الرّعايا عن إملاقها منها وإخفاقها، والمساواة بها بين الأقوى والأضعف، والأدنى والأشرف، والبادي والحضّار، والمناوئين والأنصار، والخاصّ والعام، والأجنبيّ وربّ الحرمة والذّمام: لينام المستورون على مهاد الأمن، ويسلم جانب سلامة أموالهم وأرواحهم من الوهن، وليعامل المستخلف على الحكم العزيز بما يستوجبه مثله من نصرة الأحكام، ووكل إليه (2) أمر الأمراء لمن آثرها والإحكام، والإكرام الشامل لقدره، والاهتمام الشارح لصدره، وليتوخّ المستخدمين في الأموال بما يكون لعللهم مريحا، ليصل إليهم ما يرومونه نجيحا، ويلزم من جرت عادته بلزوم الحدود واجتناب تعدّيها، والتوفّر على حفظ مسالكها والمتردّدين فيها، وليطالع بما يتجدد قبله من الأحوال الطارية، وما لم تزل الرّسوم بإنهاء مثلها جارية، إن شاء الله تعالى.
المرتبة الثالثة (أن تفتتح الولاية بلفظ «رسم» ثم يذكر أمر الولاية والمولّى ويوضح، ثم يقال «وسبيل كلّ واقف عليه»)
فمن المكتتب لأرباب السيوف من هذه المرتبة نسخة مرسوم بشدّ (3)
__________
(1) المساحي: مفردها مسحاء وهي الأرض المستوية ذات حصى صغار.
(2) في هامش الطبعة الأميرية: «كذا في غير نسخة ولا معنى له. وقد تقدّم لهذا المقام أمثال ونظائر يفهم منها المقصود».
(3) الشدّ: ترادف كلمة «تفتيش» ويسمى متولي هذه الوظيفة «الشادّ» مضافا إليها جهة الاختصاص مثل شادّ الجوالي، وشاد الأوقاف، وشاد الزكاة وغير ذلك (التعريف بمصطلحات الصبح:
193).(11/45)
ناحية، وهي:
رسم أعلى الله المراسيم وأدام نفاذها بالإنعام على الأمير فلان بما يفيض عليه ملابس الاصطفاء ويضفيها، ويسمي لقدمه في الثبات مدارج الارتقاء ويسنيها، ويعرب عن اختصاصه بالمنزلة التي يفضل بها على مباريه، واستخلاصه للمرتبة التي يفوت بها شأو مجاريه، ويؤهّله لثغر حارم (1)
المحروس وشدّه وتولّيه أموره بكفايته ونهضته وحزامته وجدّه، وقد أمرنا بتسليم قلعة حارم وأعمالها، وسائر ما يختص بها ويضاف إليها من ضياعها ومواضعها إليه، والتعويل في ولايتها وتعميرها وتثميرها عليه، بموجب ما يفصّل من الديوان على ما كان جاريا في الإقطاع المحروس للحال، وسبيل أهل الديوان أيدهم الله العمل بالأمر العالي وبمقتضاه، والاعتماد على التوقيع الأشرف به، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك نسخة مرسوم بشدّ وقف، وهي:
رسم أعلى الله المراسيم وأدام نفاذها بالتعويل على الأمير فلان في تولية الوقوف بالجامع المعمور بحلب المحروسة، والبيمارستان، والمساجد، والمشاهد بالأماكن والمواضع، وظاهرها وباطنها وأعمالها، وتفويضها إليه، والاعتماد في جميعها عليه، سكونا إلى نهضته وكفايته، ووثوقا بخبرته ومعرفته وعلما بنزاهته، وسداده وأمانته، وذلك لاستقبال سنة سبع وثمانين وخمسمائة.
فليتولّ ذلك بكفاية كافية، ونهضة وافية، وهمّة لأدواء الأحوال شافية، ونظر تامّ، لشمل المصالح ضامّ، وتدبير جميل في كل خاصّ من أسباب عمله وعامّ، وتقوى لله عزّ وجل تقوى بها يده، ويضح بالاستقامة على سننها جدده،
__________
(1) في معجم البلدان: 2/ 205 «حارم: حصن حصين وكورة جليلة تجاه أنطاكية، وهي الآن من أعمال حلب».(11/46)
ناظرا في الوقوف ومصارفها، وتتّبع شروط واقفها، بكل ما يعود بتعمير أعمالها، وتثمير أموالها، وتدبير أحوالها، مطالبا بحساب من تقدّمه وتحقيق مبالغه تكميلا وإضافة، واحتسابا وسيافة، وليطلب شواهده، وليبن على الصحة قواعده وليلتمس ما يصح من بواقيه من جهاتها، وليكشف بما يوضّحه من سبل الأمانة وجوه شبهاتها، وقد أذن له في استخدام من يراه من النوّاب والمتصرفين والمشارفين (1)، والوكلاء والمستخدمين، على ما جرت به العادة، من غير زيادة. وسبيل النواب أيدهم الله العمل بالأمر العالي وبمقتضاه، والاعتماد على العلامة الشريفة، إن شاء الله تعالى.
المرتبة الرابعة (أن يفتتح بلفظ: «إن أحق» أو «إن أولى» أو «من كانت صفته كذا» وما أشبه ذلك)
فمن ذلك نسخة منشور بنقابة الأشراف (2)، وهي:
من كانت أوصافه شائعة بين الأنام، وصنوف فضائله منشورة لدى الخاصّ والعام، مع شرف نسب شامخ الأعلام، وتقى فخر به على الأنام، وعلم يجلى به صدأ الأفهام، وعفّة مرائرها محكمة الإبرام كان جديرا بإفاضة سجال النّعم عليه، وقمينا بإرسال سيل المواهب إليه.
ولما كان الشيخ فلان متصفا بهذه الصفات الجميلة، ومتخصّصا بمزاياها الجليلة، وضاربا فيها بالسّهم المعلّى، ونازلا منها في الشّرف الأعلى، ومتقمّصا
__________
(1) عمل المشارف طلب التفاصيل الكاملة عن أية جهة من الجهات الضريبية التي تقع في دائرة عمله ويدخل في عهدته جمع المتحصلات المالية بعد ختمها. (قوانين الدواوين، لابن مماتي ص 303302).
(2) المقصود نقابة الأشراف الطالبيين. وكان يتولاها أحد شيوخ هذه الطائفة وله النظر في أمورهم ومنع من يدخل فيهم من الأدعياء، وإذا تشكك في أحد طلب منه شجرة نسبه. (راجع الصبح:
3/ 273، 481).(11/47)
ثوب الإخلاص والصّفاء، ومتّشحا بوشاح العفّة والولاء اختصصناه بزيادة التقديم والاجتباء، وحبوناه بوفور الكرامة والاصطفاء، وأجريناه على مستمرّ رسمه بالرّعاية على ذرّيّة أهل العباء (1)، حسب عادته المستقرّة إلى آخر عهد من كانت الإيالة إليه وإلى رحمة الله مضى: ليسير فيهم بكتاب الله العظيم وسنّة رسوله، ويسلك جدد الحق الذي يوصّله من الزّلفى إلى أقصى مناه وسوله، ويحضّهم على تلاوة القرآن، ومعرفة ما يصلح للأديان. وليسوّ في الحكم بين الضعيف فيهم والقويّ، ويعمّ بالإنصاف الفقير والغنيّ، وليحسن إلى محسنهم، وليجر على فضله لمسيئهم، بعد أن يقدّم إليه زجرا ووعيدا، ويوسعه إنذارا وتهديدا، فإن وعى وارعوى وإلا سلّط عليه أسباب الأذى، وتولّاه بما يستحقّه من الجزا، ويعيده إلى حالة الاستقامة والاستواء، ويكفّه عن دواعي الهوى.
ومن وجب عليه حدّ أقامه فيه، وبادر إلى اعتماده وتوخّيه، حسب ما يوجبه حكم الشرع ويقتضيه.
وليكن رؤوفا بهم ما استقاموا، ومنتقما منهم ما اعوجّوا ومالوا وإن وجب على أحدهم حقّ لمليّ أو دنيّ، استخلصه منه ولم يمنعه تعلّقه بنسب شريف عليّ، وإن افترى منهم مفتر على أحد من الملل، قابله عليه بما يزجره عن قبيح العمل: فإنّ الناس في دار الإسلام ومن هو تحت الذّمام سواسية، وأقربهم إلى الله تعالى من كانت سيرته في الإسلام رضيّة، وطويّته في الإيمان خالصة نقيّة، ومن حكم عليه حاكم من الحكّام، بحقّ ثبت عنده بالبيّنة العادلة أو الإعلام، انتزعه منه أو سجنه عليه، إلى أن يرضي خصمه أو يردّ أمره إلى الحاكم ويفوّضه إليه.
وليحرس أنسابهم بإثبات أصولها، وتحقيق فروعها، ومن رام دخولا فيه بدعوى يبطل فيها نقّب عن كشف حاله، وإظهار محاله، وجازاه بما يستحقّه أمثاله، ويرتدع فيما بعد مثاله: ليخلص هذا النسب الكريم، من دعوى
__________
(1) المقصود أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(11/48)
المجهول، واندماجه في أسرة الرسول، عليه أفضل الصلاة والتسليم، ويمنع من اتصال أيّم من الأسرة إلى عامّيّ، ولا يفسّح أن يعقد عليها عقد إلا لكفء مليّ: ليبرأ هذا المجد الشريف من التكدير، ولا تزيّفه شوائب التغيير.
ولينظر في الوقوف على المشاهد والذّرّيّة، نظرا يحمده عليه من يعلمه من البريّة، ويحظيه بالصواب عند مالك المشيّة، ويبتديء بعمارة أصولها واستكمال فروعها، وقسمة مغلّها على ما تضمنه شرط الواقفين لها، وليحتط على النّذور، وينفقها على عادتها في المصالح والجمهور، عالما أنّ الله تعالى سائله عمّا توخّاه في جميع الأمور، وأنه لا يخفى عليه كلّ خفيّ مستور. قال الله سبحانه:
{يَوْمَ هُمْ بََارِزُونَ لََا يَخْفى ََ عَلَى اللََّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلََّهِ الْوََاحِدِ الْقَهََّارِ} (1)
وأذنّا له أن يستنيب عنه في حال حياته، وبعد وفاته فسّح الله له في المهل، وخوّله صالح العمل الأرشد من بنيه، ومن يختاره لهذا الأمر وله يرتضيه. وقد أنعمنا عليه بإجراء ما كان باسمه مستمرّا إلى الآن، وأضفنا إليه ما يعينه على النظر في مصالح الأسرة أدام الله له علوّ الشان، من تمليك وإدرار وتيسير، وجعلناه له مستمرّا، وعليه مستقرّا، ولمن بعده من نسله والأعقاب، على توالي الأزمان والأحقاب، وحظرنا تغييره وفسخه، وتبديله ونسخه: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مََا سَمِعَهُ فَإِنَّمََا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2) وهو معيّن من ديوان الاستيفاء (3) المعمور، بهذا المنشور المسطور، بالأمر العالي أعلاه الله وأمضاه، عمّا كان قديما، وما أنعم عليه به آخرا، وهو القديم الذي كان له وشهد به الديوان المعمور، وهو الإقطاع من ناحية كذا، ويجرى على عادته في إطلاق ما قرّر له من ناحية كذا بشهادة الديوان الفلاني، والمحدّد الذي
__________
(1) غافر / 16.
(2) البقرة / 181.
(3) يكون في ديوان الاستيفاء تحرير كل إقطاع وكل زيادة واقتطاع. (انظر ص 319من هذا الجزء).(11/49)
أنعم به عليه لاستقبال سنة سبع وسبعين وما بعدها. وسبيل كافّة الأسرة الطالبيّين بمدينة كذا الانقياد إلى تباعته، والامتثال لاشارته، والتوفّر على إجلاله وكرامته، فإنه زعيمهم، ومقدّمهم ورئيسهم، ومن خالفه منهم قابلناه، وبأليم العقاب جازيناه، والاعتماد في ذلك أجمع على التوقيع الأشرف العالي أعلاه الله، والعلائم الديوانيّة فيه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة بولاية الشرقية، وهي:
لمّا كانت الأعمال الشرقيّة أجدر البلاد بأكيد الاهتمام وأخلق، وأولاها بإضفاء سربال الاهتبال الذي لا يخلق إذا رثّ سواه وأخلق، وأقمنها بحسن نظر يرسل لرسول عليّ الرسم الأعنّة في إدامة نضرة العمارة عليها ويطلق، وأحقّها بأن يبرم لها سبب تفقّد لا يلتصق به رهن ولا يغلق، وأجراها باعتناء يقضي لأمرها بالاطّراد، وأولاها بتعهّد يجعل مصالح الشؤون آلفة للثّواء بها والمقام عائفة للنشوز عنها والشّراد، لأنها باب الشام، وإليها ترد القوافل المتردّدة منه على مرّ الأيّام، ومنها يستكشف الأخبار ويستنهض الطوالع والمتخبّرين، وبمواصلة التفقّد تعلم الأحوال الطارئة في كل وقت وحين، فتجب المبالغة في حفظ طرقاتها ومياهها، وأن تصرف الهمم إلى ضبط أحوالها، وعامة أنقابها واتّجاهها، ويوضع بناء الحزم في صون أطرافها على أثبت قاعدة ويؤسّس، ويبالغ في إذكاء العيون على كل طارق يتخبّر للعدوّ الملعون ويتجسّس وكنت أيّها الأمير من المشهورين بالشجاعة والإقدام، وذوي الكفاية الموفي ثراؤهم أيّها الأمير من المشهورين بالشجاعة والإقدام، وذوي الكفاية الموفي ثراؤهم فيها [على] (1) عارض الإعدام، وما زلت معدودا من خاص الأتراك الأعيان (بسهم) (2)، المقصّر مجاروهم إلى غاية البسالة عن اللّحاق بهم والإدراك وقد
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) كذا في الأصل، بالإهمال، وفي الطبعة الأميرية مع علاقة توقف. والواضح أن في العبارة سقطا، فتأمل.(11/50)
تقدّمت ولايتك هذه الأعمال فقصدت منها قصدا سديدا، وألحفت الرعايا ظلّا من الأمنة مديدا خرج الأمر بإيداع هذا المنشور ما أنعم به عليك من إعادتك إلى ولايتها، فبالغ في استيضاح الأنباء وكشفها، ورفع الونية في ذلك وصرفها، ووكّل به عزمة لا تلمّ سنة بطرفها، وانته فيه إلى غاية تضيق سعة القول بوصفها، وتابع في تسيير الطلائع وندبها، وعوّل من كلّ قبيلة من العربان المستنهضين على شهمها وندبها، واجتهد في حفظ الطّرقات والمناهل، واستنهض للتحرّز عليها من هو عالم بها غير جاهل، وتحفّظ من جلل يتطرّق والعياذ بالله على البلاد وخلل يتخلّلها، وانتض لهذه المهمات بصارم حدّ تسلم مضاربه من عجز يفلّلها، ولا تبق ممكنا في إنفاذ المتخبّرين، وإرسال من يغير على بلاد العدوّ من الخبيرين، بما [أنّ] (1) هذه سبيل المتدرّبين، وألزم أرباب الحدود من جميع الأقطار حراسة حدودهم، وخذهم باستنفاد وسعهم في الاحتياط واستفراغ مجهودهم، وطالع بما يورد قبلك وأنه ما يزيح بسرعة إجابتك عنه في الخدمة عللك فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة بولاية المرتاحية (2)، وهي:
خرج الأمر بكتب هذا المنشور وتضمينه: إنّ من أظهر خلاصة جوهره السّبك، وارتفع في إشكائه بالإنصاف عن كل شاك الشّكّ، وحصل عنده [من] (3) الخلال الزكيّة نظم لا ينحلّ وعقد لا ينفكّ وأوفى على التقدير والظنّ في التدبير المفرّج به عن الرعيّة الضّنك استوجب أن تسند إليه حمايتهم، وتجعل إليه كلاءتهم.
ولمّا كنت أيها الأمير ممن أحمد عند بحر عزمه، وتجريب نصل حزمه، واعتبار فصل مقالته، واختبار أصل أصالته، وشكر استمراره على الاتّصاف بمحض الولاء، واستدراره أخلاف غرر الآلاء، واستثماره أصناف جنى الثّناء.
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) المرتاحية: من كور مصر البحرية.
(3) الزيادة يقتضيها السياق.(11/51)
واستقراره أكناف وهبيّ الاعتناء، ولم تزل في رفعتك وجيها، وما برح جميل الرأي يديم بعثا لتحف الإحسان نحوك وتوجيها، وما انفكّت مجاهدتك مجاهدة في مهامّ إقدام تنويها، وشجاعتك ملقية على الكفّار كلّ كفاح يلقون منه كلّا ثقيلا ويوما كريها. أودع هذا المنشور ما رسم من استخدامك في ولاية الأعمال المرتاحيّة.
فباشرها معتمدا عى تقوى الله سبحانه التي تقوى بها أسباب توفيقك وتناله، وتسلم أمور مباشرتك من خلل يكدّر استبشارك وينكّد، واعتمد العدل على من تشتمل عليه هذه الولاية وتحويه، وبالغ فيما يزيل عنهم الحيف ويزويه، واقصد ما يقضي لسربهم بالتأمين، ويبلّغهم من تحصين أوطانهم غاية التأميل، واجعل أيدي المفسدين مكفوفة عن كافّتهم، ووجوه المعتدين مصروفة عن إخافتهم، وتطلّب الأشرار، وتتبّع الدّعّار ومن ظفرت به منهم فلا تكن عن التنكيل به ناكلا، ولا تقصّر في الحوطة عليه والمطالعة به عاجلا، وعامل النائب في الحكم العزيز بإنهاضه، وصون مديد باعه في تنفيذ الأحكام عن انقباضه، واعضده في إنفاذ قضاياه، واختصاصه بإكرام يقبل عليه مطلق محيّاه، وشدّ من الضامن في استيداء حقوق الديوان واستنطافها على أحسن حال من غير خروج عن الضرائب المستقرّة، وعوائد العدل المستمرّة، وتحرّز أن يكون لمناهضة العدوّ طروق إلى ناحيتك أو انتياب، وشمّر للتحفّظ من مكايدهم تشميرا يزول عن حقيقته عارض الارتياب، ولا تبق شيئا يمكّن لأهل ولايتك قواعد الأمنة منهم، وتبتّل لوقايتهم أذاهم تبتّل من لا ينام عنهم، وطالع بما يحتاج إلى علمه من جهتك إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة بولاية السّمنّوديّة (1)، وهي:
__________
(1) سمنود: بلد من نواحي مصر جهة دمياط على ضفة النيل، بينها وبين المحلة ميلان. وتضاف اليها كورة فيقال: كورة السّمنّوديّة. (معجم البلدان: 3/ 254).(11/52)
إنّ أولى من ولي الأعمال، وتعلّقت بكفايته الآمال، وعدقت (1) به المهمّات، وأسندت إليه الولايات، من نطقت بمعدلته الألسنة، وانتفت عن عين خبرته السّنة، وكان حسن السياسة لرعيّته، كثير العمارة مدّة توليته، شهما في استخراج الحقوق من جهاتها، صارما في ردع المجرمين عن زلّات النفس وهفواتها، حسنة سيرته، خالصة مناصحته وسريرته.
ولمّا كنت أيها الأمير فلان أدام الله تأييدك وتسديدك، وحراستك وتمهيدك أنت المتوشّح بهذه الصّفات الحسان، المتّصف بما تقدّم من الشّرح والبيان، الذي نطقت شمائلك بشهامتك، وشهدت مخايلك بنباهتك خرج الأمر الفلاني بأن تتولى مدينة سمنّود وضواحيها، وما هو معروف بها ومنسوب إليها، بشرط بسط العدل ونشره، وإعباق عرف (2) الحق ونشره، وأن تخفّف الوطأة عنهم وتفعل ما هو أولى، وتعلم أنك تسأل من الله تعالى في الأخرى ومنّا في الأولى، وأن تصون الرعايا وتجتلب لنا أدعيتهم، وتعاملهم بما يطيّب نفوسهم ويبلّغهم بغيتهم حتّى يتساوى في الحق ضعيفهم وقويّهم، ورشيدهم وغويّهم، ومليّهم ودنيّهم، وأن لا تقيم الحدود على من وجبت عليه إلا بمقتضى الشرع الشريف، والعدل المنيف، وأن تشدّ من نوّاب الحكم العزيز، وتفعل في ذلك فعل المهذّب ذي التمييز، وأن تحسر عن ساعد الاجتهاد في الجمع بين استخراج جميع الحقوق الديوانية والعمارة، وتجعل تقوى الله هي البطانة لك والظّهاره، وأن تبذل النهضة في استخراج الأموال، وتحصيل الغلال على التّمام والكمال، بحيث لا يتأخّر منها الدّرهم الفرد ولا القدح الواحد، وتفعل في ذلك فعل المشفق المشمّر الجاهد، وأن تديم مباشرتك للأقصاب في حال برشها وزراعتها وتربيتها وحملها، واعتصارها وطبخها، وتزكية أثمارها، بحيث
__________
(1) المراد: نيطت به، والأنسب استعمال «عزقت» بالزاي المعجمة وهذا اللفظ يتكرر في كثير من النصوص العائدة للعصر المملوكي والأيوبي التي يوردها القلقشندي
(2) أي نشر رائحته الطيبة.(11/53)
لا تكل الأمر في شيء من ذلك إلى غير ذي ذمّة بمفرده، ولا إلى من ليس بذي خبرة لا يعلم مشقي التصرّف من مسعده. وقد جعلنا لك النظر على جميع النّواحي الجارية في ديواننا بالوجه البحريّ خاصة لتنظر في أمرها، وتزجر أهل الجنايات بها، وتفعل فيها كلّ ما يحمد به الأثر، ويطيب بسماعه الخبر.
فتقلّد ما قلّدت، وقم حقّ القيام بما إليه ندبت، واعمل فيه بتقوى الله في سرّك وجهرك، وقدّم الخوف من الله على جميع ما تأتيه أو تذره من أمرك، وتسلّمه شاكرا لما أسديناه إليك، متمسّكا بما أوجبناه عليك فإنّ الشكر يوجب مزيدك، ويكثّر عديدك.
وهذه نسخة بولاية النّستراويّة (1)، وهي:
من عادتنا في التدبير وشيمتنا، وسنّتنا في السياسة وسيرتنا، إسباغ المواهب والنّعم، وتنقيل عبيدنا في مراتب الخدم، استرشادا بأسلافنا الملوك واقتداء، واستضاءة بأنوارهم المشرقة واهتداء.
ولمّا كنت أيّها الأمير ممن عرفت بسالته، واشتهرت شجاعته وصرامته، واستحقّ أن يلحظ بعين الرّعاية، وأن يشرّف بالارتضاء للتعويل عليه في ولاية، رأينا وبالله توفيقنا استخدامك في ولاية الأعمال النسّتراويّة، وخرج أمرنا إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السّجلّ بتقليدك ذلك، وتضمينه ما تعتمد عليه، وتنتهي إلى الممثّل لك فيه.
فتقلّد ما قلّدته عاملا بتقوى الله فيما تسرّه وتعلنه، معتمدا فيها غاية ما يستطيعه المكلّف ونهاية ما يمكنه فالله تعالى يقول إرشادا للمؤمنين وتفهيما:
__________
(1) نسترو: بالفتح ثم السكون وتاء مثناة من فوقها وراء مضمومة وواو ساكنة: جزيرة بين دمياط والإسكندرية. ويرد الاسم أحيانا «نستروة». (معجم البلدان: 5/ 284وسيرة الملك المنصور لابن عبد الظاهر: ص 35).(11/54)
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمََالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فََازَ فَوْزاً عَظِيماً} (1)، وساو بين القويّ من هذه الولاية والضعيف، ولا تجعل في الحقّ فرقا بين المشروف والشريف، وامدد على كافّتهم رواق السّكون والأمنة، وأجرهم في المعدلة على العادة الجميلة الحسنة، وافعل في إقامة الحدود على من تجب عليه ما يوجبه كتاب الله الكريم، وتقضي به سنّة نبيه محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، وادأب في حفظ السّبل والمسالك، واجتهد في ذلك الاجتهاد الذي يجب على أنظارك وأمثالك ومتى ظفرت بمن يؤذي مسافرا، أو يخيف واردا أو صادرا، فطالع بحاله ليمثّل لك في التمثيل بما تعتمده، وتؤمر في شأنه بما تنتهي إليه وتقصده، وراع المستخدمين على الحكم والدعوة فهما يتولّيان ما بإعزازه يقوم منار الإسلام، وتجري أمور الشريعة على أجمل وضع وأحسن نظام، وخذ المستخدمين في الأموال الدّيوانية بالاجتهاد في العمارة، وحمل المعاملين على ما توجبه المعدلة والحرص على ما وفّر الارتفاع، وحماه من أسباب التفريط والضّياع، واستنهض الرجال المستخدمين معك فيما ترى ندبهم إليه، واستنهاضهم فيه فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة بولاية الإسكندرية، وهي:
اهتمامنا بما حاط ثغر الإسكندرية حماه الله تعالى وحصّنه، ومنحه أتم حظ التفقّد وأكمله، وأجمل وضع التعهّد وأحسنه، وقوّى سبب استقامة شؤونه واتّساق أموره ومكّنه، ومدّ ظلّ الدّعة والسكون على كافّة من تديّره (2) وسكنه، وحفظ عليه نظام النّضارة، وأماط عنه مكروه الأحوال الضارّة، وأنام أهله على
__________
(1) الأحزاب / 70.
(2) تديّر المكان: اتّخذه دارا.(11/55)
مضجع الأمن ومهاده، وحكم بإحلالهم نجود الاتحاد على المصالح وإجلالهم عن وهاده، وحمى سوام أموالهم من مشروب ورد أجاج ومرعى نبت وخيم، وجباهم من رسوم الإحسان وعوائده ما لا ينطق لسان على زوائده بترخيم، وملا آمال الأعداء عن التطرّق إليه إخفاقا، وردّ نصول سهام مكايدهم عنه على ما عهد من فضل الله سبحانه أفواقا إذ كان من أجلّ الثغور الإسلامية أوزارا، وأسبقها إلى غاية التفضيل ابتدارا، وأكثرها بمن حواه من صدور الدّين وأئمة المسلمين افتخارا، وأفضلها محلّا ولم يزل مفزع السّفّار من كل جهة رسلا وتجارا أوجب أن نسند ولايته، ونردّ كلاءته، إلى من يجري في التدبير على حكم سياسته المعلوم، الحسنيّ الآخذ بيد المظلوم، ويقوم بحسن التفويض والائتمان، ويعطي بدل السّلامة من حقوق انتقامه عهدة الأمان، ويسلك فيما يعدق به طريق السّداد ويلزم نهجه، ولا يمكن أن يكون له على غير الصواب معاج ولا عرجة ويأخذ في كل أحواله بوثائق الحزم، وتحلّ له أعماله الصالحة من مثوى المنازل الرفيعة ما هو على غيره من الحرام الجزم.
ولما كان الأمير المعنيّ بهذا الوصف الواضح البيان، المتكافئة في ذكر مناقبه شهادة السّماع والعيان، الكاليء ما يناط به بقلب ألمعيّ وطرف يقظان، الحالّ من الورع في أسمى مكان وأعلى مظان، الجامع في إقامة شرع الإخلاص بين الفرائض والسّنن، الموفية عزائمه على مضارب المهنّدة التي لا تقي منها مانعات الجنن، الفائح من نبئه ما تؤثر صحاح الأنباء عن عليل نسيمه، الجدير بما يزفّ إليه من عقائل جزيل الإنعام وجسيمه وقد أبان في ولايته بمطابقته بين شدّته ولينه، وإقامة منار الإنصاف المعرب عن امتداد باعه في الحرب وانقباض يمينه، وإروائه كافّة أهلها من نمير العون على استتباب الأمور ومعينه خرج أمر الملك العادل بتقليده ولاية ثغر الإسكندرية حماه الله تعالى والبحيرة (1)
__________
(1) وهي بحيرة الإسكندرية، قال في معجم البلدان: وهذه ليست بحيرة ماء، إنما هي كورة معروفة من نواحي الإسكندرية بمصر، تشتمل على قرى كثيرة ودخل واسع. (معجم البلدان: 1/ 351 والانتصار: 5/ 43).(11/56)
فليتقلّد ما قلّده إيّاه، ويباشره منشرحا صدره متهلّلا محيّاه، وليعتمد على تقوى الله التي هي خير عتاد، وأفضل ما اعتمد عليه في الحياة الدّنيا ويوم يقوم الأشهاد وهي نجاة أهل اليقين، وفوز المتقين، قال الله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَكُونُوا مَعَ الصََّادِقِينَ} (1)
وليبالغ في نشر راية العدل ومدّ جناحه، وتعفية أذى الجور واجتياحه، وليشمل الصغير والكبير من أهل هذه الولاية برداء النّصفة، ويعاملهم بالجميل الموفي على الصّفة، ويقم الحدود على مستوجبيها، وينته إلى الغاية في تجنّب إضاعتها وتوقّيها، وليدلّ على المفسدين عين من يتتّبع وقوعهم في قبضته ويتطلّب، ويقابل كلّا منهم بما يرى متعقّبا بإيماض برق المعاقبة غير خلّب (2)، ولا يبق ممكنا في التنقيب على مرتكبي الآثام، والمرتكنين على سفك الدم الحرام ومن ظفر به منهم فليحكّم فيه شبا (3) ظفر الانتقام ونابه، وليجر على عادته فيما يسيّر عنه أحسن السّمعة، ويشهد له بالتنزّه عن خبيث الطّعمة وقبيح الطّمعة، ويشدّ من القاضي متولّي الحكم فيما يصدره ويورده، ويحلّه ويعقده، ويمضيه من الأحكام الشرعية، ويعتمده في القضايا بما لديه من الألمعيّة، ويعاضد المستخدمين في الأموال معاضدة تثمّره، وتنمّي الارتفاع وتوفّره، وتعود على الديوان بالحظّ الوافي، وتعرب عن كونه بمثل هذه الولاية نعم الكفء الكافي، ويعامل التّجار على تباين بلدانهم، واختلاف ألسنتهم وألوانهم، معاملة يجمل أثرها ويحسن، ويتلقّهم ببشر وطلاقة تنطق بشكر استبشارهم بها الألسن،
__________
(1) التوبة / 119.
(2) الخلّب: السحاب يومض برقه حتى يرجى مطره، ثم يخلف ويتقشّع. ويقال: برق خلّب. ويشبّه به من يعد ولا ينجز.
(3) شبا وشباة الشيء: حدّ طرفه.(11/57)
ويحفظهم في أنفسهم وبضائعهم، ويستنفد الوسع في دفع مضارّهم وروائعهم، وبعتمد بعث رجاله على الاستعداد للجهاد، والتأهب لقراع الأضداد، وينته إلى الغاية فيما يزيل منهم اعتذارا ويزيح اعتلالا، ويوجب لهم الاقتدار على مكافحة عدوّ إن طرق الثّغر والعياذ بالله تعالى.
وهذه نسخة بولاية برقة، وهي:
من حقّ الأطراف المتناهية في بعد أقطارها، والبلاد الشاسعة عن ثواء المملكة ومحلّ استقرارها، التي انتظمت في سلك أعمال المملكة الناصريّة وانخرطت، واستدركت معدّاتها لمن حوته فوائت الفوائد التي سلفت وفرطت أن يديم أكيد الاهتمام لها التحصين والتحسين، ولا يغبّ أهلها ما يغشاهم من الملاحظات مصبحين وممسين، وتزجي لها سحائب كرم التعهّد عهاده غدقا، ويعمل الأولياء في حياطتها من الغمود ألسنة ويذكون دونها من القنا حدقا، ويفوّض أمورهم إلى من تخفّ على يده كلفتهم، وتجتمع بحسن سيرته ألفتهم، ويشتمل من عنايته عليهم اشتمال الصدفة على القلوب، وتنيلهم مهابته من كفّ عدوى العدا كلّ مؤثر مطلوب.
ولما كنت أيّها الأمير من أميز سالكي هذه الطرائق، وأمثل فرسان الحروب وحماة الحقائق، واشجع المجاهدين في الله حقّ جهاده، وأجسرهم على إصلاء الشّرك ضرام فتك لا يخشى إصلاد (1) زناده، ولك السياسة التي ترتّب بين الأسود والظّباء اصطحابا، والمخالصة التي لا تناجى إذا وصفت بالتغالي فيها ولا تحابى خرج أمر الملك العادل بكتب هذا المنشور لك بما أنعم عليك بولايته وإقطاعه: وهو برقة بجميع أعمالها وحقوقها: من العقبة الصّغرى وإلى
__________
(1) أصلد الزناد: صوّت ولم يور. وعن الجوهري: صلد الزند (بكسر اللام) يصلد: إذا صوّت ولم يخرج نارا. (اللسان: 3/ 257).(11/58)
آخر حدودها، وبما أمر به كافّة العربان المقيمين بهذه البلاد، وجميع أهلها من حاضر وباد: من الإعلان لك بشعار الطاعة، وصون ما يلزمهم أداؤه إليك من فروض النّصح عن الإضاعة، وأن يبذلوا في موافقتك غاية الاجتهاد، ويعتمدوا من امتثال مراسمك أحسن اعتماد، ويحذروا من العدول عن أمرك، ويجتنبوا مخالفة نهيك وزجرك فاستمسك بحبل التقوى الفائز من يعتصم به ويتعلّق، واستشعر من خيفة الله ما يشرق لأجله عليك نور الرّضوان ويتألّق. قال الله تعالى في كتابه المكنون: {إِنَّ اللََّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (1)
وعامل أهل هذه الولاية بالإنصاف، وإيّاك ومكروه العدول عن محجّة العدل والانحراف، وتوقّ العسف بهم والحيف عليهم، واجتنب الترخيص لأصحابك في مدّ يد أحد منهم بعدوان إليهم، وسر فيهم سيرة ترؤف بهم وترفق، وجانب سبيل من تقوم عنده أسواق اختلاق المتخرّصين وتنفق، ولا تخرج في تدبير الأمور عن قانون الشّريعة، ولا تجعل لك إلى فوز الآخرة عن تقديم العمل الصالح من ذريعة، وغلّ عنهم أيدي حاضري المفسدين وأياديهم، وأبنهم بالمهابة عن إصرارهم على المنكرات وتماديهم، وكل بهم عزما رادعا لهم وازعا، ونكّل بمن ظفرت به منهم تنكيلا يزجر من يظلّ بحر الضّلال نازعا، وشدّ من خلفاء الحكم العزيز في تنفيذ قضاياه، وخصّهم من الكرامة بما تقتضيه إقامة مناره وإنارة مزاياه، واعتمد ما يعيد الحقائق بوجوه ناضرة، ويرّد الأباطيل بصفقة خاسرة، وراع أمور التّجّار والحجّاج مراعاة تشملهم في السفر والإقامة، وتحميهم من تطرّق استهانة إلى أحد منهم واستضامة، وطالع بما يتجدّد من أحوال خدمتك، وما يحتاج إلى علمه من جهتك، إن شاء الله عز وجلّ.
وهذه نسخة بولاية الفرما (2)، وهي:
__________
(1) النحل / 128.
(2) الفرما: مدينة قديمة بين العريش والفسطاط قرب قطية وشرقي تنّيس على ساحل البحر (معجم البلدان: 4/ 256والانتصار: 5/ 53).(11/59)
نحن لما ضاعفه الله لدينا من إحسانه وأجزله، وعدقه (1) بنا من تدبير أمور الخلق وأسنده إلينا ووكله نعتمد عبيدنا بتوفير الرّعاية لهم والإكرام، ونحافظ على ما يغمرهم من شامل الإفضال وسابغ الإنعام، فنقدّم للخدم من خطبها بخلوص طاعته، ونؤهّل للرّتب من أبانت شيمه عن خبرته ومناصحته.
ولمّا كنت أيّها الأمير ممن ظهرت مشايعته وموالاته، وحسنت في مكافحة الأعداء مشاهده ومقاماته، ووضحت في أفعاله دلائل النّصح وبانت عليه سماته، ولك مساع مشكورة، ومواقف مشهورة، ومقاصد هي من مآثرك معدودة وفي فضائلك مذكورة، رأينا وبالله توفيقنا استخدامك في ولاية الفرما والجفار (2): سكونا إلى رضا مذهبك، وثقة بانتظام الحال فيما يردّ إليك ويناط بك وخرج أمرنا إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجلّ بتقليدك الولاية المذكورة وتضمينه ما نأمر به ونرسمه، مما يهديك إلى الصواب فتتمسّك به وتعكف عليه وتلزمه.
فتقلّد ما قلّدته شاكرا على هذه النّعمى، عاملا بطاعة الله تعالى ومراقبته في السر والنجوى، واعتدّها زادا إلى الآخرة تطمئن به القلوب وتقوى قال الله عز من قائل في كتابه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزََّادِ التَّقْوى ََ} (3) واعتمد في أهل هذه الولاية نصفة تعمّهم ومعدلة، وسسهم سياسة تكون لسنّة الخير مؤكّدة ولسنّة الجور مبدّلة، وماثل في الحق بين قويّهم وضعيفهم، ولا تجعل مزيّة في الواجب لشريفهم على مشروفهم، وانتصف للمظلوم من المتعدّي الظالم،
__________
(1) المراد: لما ناطه بنا. والأوضح «عزقه بنا» بالزاي المعجمة، كما مرّ معنا في غير مكان من الصبح.
(2) كانت الجفار عبارة عن عدة مواضع عامرة، منها: العريش والورّادة ورفح وقطية والقس والزعقا.
(انظر معجم البلدان: 2/ 145).
(3) البقرة / 197.(11/60)
واعمل بالكتاب والسنّة في الحدود التي تقيمها على ذوي الجرائر والجرائم، وانتصب لحفظ الطّرقات، وصون الصادرين والواردين في جميع الأوقات، ونكّل بمن تظفر به من المفسدين، واجعله عظة لأمثاله من الظالمين والمعتدين، وعاضد النائب في الحكم العزيز معاضدة تقضي بإعزاز الجانب، وساعده مساعدة تنفذ بها أحكامه على قضيّة الواجب، وكذلك متولّي الدّعوة الهاديّة (1) فهي مصباح الزمان، وبإشادة ذكره تقوى دعائم الإيمان فاجتهد في تمييز متولّيها وإكرامه، وبلّغه في ذلك غاية مطلوبه ومرامه، وتوفّر على الشدّ من المستخدمين في الأموال، وراع [ما يحسن] (2) لدينا فيما تنظر فيه من الأعمال، واحرص على ما عاد بوفور ارتفاعها، وأجر أحوالها على أفضل رسومها وأوضاعها، بحيث يكون العدل منبسطا منبثّا، والحيف منحسما مستأصلا مجتثّا، وأجمل صحبة الرجال المستخدمين معك، وأحسن معاشرتهم مع مطالبتهم بملازمة الخدمة، واستنهاضهم في الأمور الشاقّة المهمّة، فاعلم هذا واعمل به، وطالع بما تحتاج إلى المطالعة به، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة بولاية عسقلان (3)، وهي:
من شيمنا التي غدت للمصالح ضوامن، وعلت فكلّ متطاول عندها متطامن (4)، وهممنا الكافلة [للرعيّة] (5) بما يقرّ عيونها، والقاضية للخاصّة والعامّة بما يوجب طمأنينتها وسكونها أنعمنا النظر فيما نرعاها به ونسوسها،
__________
(1) من عقائد الشيعة الإسماعيلية أن إسماعيل بن جعفر الصادق هو صاحب الدعوة الهاديّة، وهم ينتسبون إليه (انظر الصبح: 13/ 246).
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) عسقلان: مدينة بالشام، من أعمال فلسطين، على ساحل البحر بين غزة وبيت جبرين. (معجم البلدان: 4/ 122).
(4) أي منخفض مقصّر.
(5) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/61)
وأعملنا الفكر فيما يستقيم به أمرها ويزول معه بوسها، فيقف [بنا] الاجتهاد في ذلك على محجّة الصواب التي لا ضلال في سلوكها، ويفضي منا الحرص إلى غاية لم يبلغها أحد من مدبّري الدول وملوكها، فننتخب لخطير الخدم من كان قؤوما بها مستقلّا بآصارها، وننتجب لجليل الرّتب الأعيان من أمراء دولتنا وأنصارها، حفظا لما استحفظناه من أمور العباد والبلاد، ورفعا لعماد الصّلاح وحسما لموادّ الفساد.
ولمّا كنت أيها الأمير من الأولياء الذين صفت في المخالصة ضمائرهم، وحسنت في الطاعة عقائدهم وسرائرهم، ونالوا من نبيه الحظّ ما أطنب الواصف فيما يذكره منه ويرويه، وأحمدوا المناصحة فيما رقوا فيه من درج التنويه، وقد استكفيت مهمّات من الخدم فكفيت همّها وخفّفت ثقلها، وأهّلت لولايات سنيّة فحملت كلّها، وكنت مستحقّا لها وأهلها فلك مواتّ حميدة من حسن المقاصد ومشكور المساعي، وحرمات أكيدة ظلّت على اصطفائك من أوفى البواعث وأقوى الدّواعي وكانت مدينة عسقلان حماها الله تعالى ثغر الإسلام الذي لا ثغر له في الشام سواه، والرّباط الذي من كان به فقد نال الثواب الجزيل وأحرزه وحواه، وهو في عيون الكفار خذلهم الله نكتة (1) وأسباب طمعهم فيه منقطعة بمحاماته منبتّة ونحن نوفّر اهتمامنا عليه رعاية لمكانه المكين، وننتصي (2) الكفاة لتولّيه توصّلا إلى النّكاية في المشركين وهو معقل للمسلمين المجاهدين وردّ (3)، ومجاوروه قوم لدّ، وأمرهم أمر إدّ (4) فيجب أن يرتاد لضبطه النّدب (5) الذي لا تهتبل غرّته، ويسام لحفظه العضب (6) الذي لا
__________
(1) النكتة: شبه وقرة في قرنية العين، يسميها العامة: نقطة.
(2) انتصى الشيء (بالصاد المهملة): اختاره.
(3) الرّدّ: الذي يحمي ويردّ.
(4) الإدّ: الأمر الداهي المنكر. وفي التنزيل العزيز: «لقد جئتم شيئا إدّا».
(5) النّدب: السريع الخفيف عند الحاجة. والذي لا تهتبل غرّته: أي الذي لا يؤخذ على حين غرّة.
(6) العضب: القاطع الحاد.(11/62)
تتّقى ضربته، ويختار لصونه الشهم الذي تقف على المصالح همّته، وتنفذ فيها عزمته.
وحين كانت هذه الصفات فيك موجودة، وظلّت محسوبة من خلالك معدودة، رأينا وبالله توفيقنا ما خرج به أمرنا إلى ديوان الإنشاء من كتب هذا السجلّ بتقليدك ولاية هذا الثغر وضواحيه، وعمله ونواحيه، ثقة بمشهور مضائك، وعلما بإبرارك على نظرائك.
فتقلّد هذه الخدمة عارفا قدر ما خوّلت منها، وعاملا بتقوى الله وخيفته في جميع ما تأمر به وتنهى فإن تقواه الجنّة الواقية، وإن خيفته الذّخيرة الباقية وقد وعد الله المتقين بتيسير الأمور، وتكفير السّيئات وإعظام الأجور قال الله عزّ من قائل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} (1) ثم قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئََاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} (2) واستعمل العدل في جميع من يشتمل عليه عملك، ويجري عليه تولّيك ونظرك، وساو في الحق بين الضعيف والقويّ، وماثل في الحكم بين القريب والقصيّ وإذا ثبت على شريف حقّ فلا تحابه لرتبته، وإذا ثبت لوضيع فخذه ممّن لزمه واستقرّ في جهته.
واعتمد من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ما يستنطق بالثناء عليك ألسنة المادحين وينظمك فيمن عناهم الله تعالى بقوله: {يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسََارِعُونَ فِي الْخَيْرََاتِ وَأُولََئِكَ مِنَ الصََّالِحِينَ} (3)
وأقم الحدود على من لزمته بما أمر الله به إقامة [تجري بها] (4) مجراها،
__________
(1) الطلاق / 4.
(2) الطلاق / 5.
(3) آل عمران / 114.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/63)
وتوقّ الزيادة فيها والنقص توقّي من يتمثّل المجازاة كأنه يراها. وهذا الثغر لمحلّه وسموّ مقداره، وقرب العدوّ منه ودنوّ داره، لا يقنع له بمركزيّته، ولا يكتفى في حقّه بمرابطيّته وقراريّته فنحن نسيّر إليه العساكر المظفّرة دفعتين في كل سنة على حكم البدل: فيرده عسكر جديد مزاح العلة، كثيف العدّة، وافر العدّة، يؤثر أن يظهر أثره، ويحافظ على ما يطيب به ذكره وخبره فبثّ السرايا وشنّ الغارات، وضيّق على العدوّ فسيح النّواحي والجهات، وجهّز إليه من يخيفه في مآمنه، وابعث عليه من يطرقه في أحرز أماكنه، واندب من يطالعك بخفيّ أخباره، ويظهر لك باطن أموره ومستور أسراره: لتنتهز فيه الفرصة إذا لاحت مخايلها، وتبادر الغفلة منه إذا ظهرت دلائلها، واجعل للمتطوعين من الكنانيّين نصيبا من ثواب الجهاد، واحملهم على استفراغ الوسع بغاية الحرص والاجتهاد، وافعل في هذا الباب ما تتضاعف به موادّ الأجر، وتنتسخ به الأوزار كما ينتسخ الظلام بضياء الفجر، واعضد متولّي الحكم العزيز عضدا يعلي أمره ويشدّ أزره، ويحرس نظامه، وينفّذ قضاياه وأحكامه، وكذلك متولّي الدعوة الهادية ثبتها الله تعالى فاعتمده بما يشرح صدره فيما يوضّحه للمؤمنين، ويهدي به المستجيبين والمتديّنين، ووفّر موفّر اهتمامك على مرافدة من يتولّى أمر المال وما يجري في الخاصّ لتدرّ أخلافه (1)، ويزكو ارتفاعه، وتغزر مادّته، ويتوفّر مستخرجه، ويحتمي من خيانة وتحيّف، ويسلم استيداؤه من تريّث وتوقّف، واستنهض الرجال المستخدمين في الأمور السّوانح، وصرّفهم فيما ترى تصريفهم عليه من أسباب المنافع والمصالح، واستمطر الإحسان لمن أحمدت طريقته، وقوّم بالتأديب من ذممت فعله وكرهت سيرته، فاعلم هذا واعمل به، وطالع بما يحتاج إلى المطالعة بمثله، إن شاء الله عز وجل.
ومن المكتتب بالوظائف الديوانية من هذه المرتبة نسخة توقيع بنظر
__________
(1) الأخلاف: مفردها خلف وهو حلمة الضّرع.(11/64)
الدّواوين (1)، وهي:
أحقّ الأعمال بأن ينعم فيها النظر الشافي، ويندب لحمل عبئها الأمين الكافي، ويحال النظر في تقليدها للقيّم بأمرها، ويعمل الرأي لارتياد القويّ على ضبطها وحصرها، ما كان منها جامعا لمصالح الدولة، حائزا لمهامّ المملكة: وهي أعمال الدّيوان، والنظر في حفظ وجوه الأموال وما يعين على استنمائها، ويعود بالزيادة في أصول أبوابها إذ كان ذلك ملاك الأمور، وزمام التدبير في حفظ الجمهور، والمعونة العظمى على الاستكثار من الرجال الذين بهم يتمّ حفظ البلاد وحماية الثّغور.
ولمّا سلّطنا البحث على استصلاح من نؤهّله لهذه المنزلة، واستخلاص من نحلّه بهذه المرتبة، أدّانا الاختبار والانتقاد، وانتهى بنا الاعتيام والارتياد، إلى اختيار الشيخ فلان: حين سفرت له النّباهة في الكفاية، والوجاهة في الخبرة والدّراية، وجب (2) على اختصاصه بالفضل الذي تحلّى بأدبه، والعفاف الذي اشتهر من مذهبه، من الخصال الحميدة، والخلال الرّشيدة، والفضائل الموروثة والمكتسبة، والخلائق المنتقاة المهذّبة، ورأيناه أهلا لإحلال هذه المكانة، وعدلا قيّما باحتمال هذه الأمانة، وعلمنا أن الصنيعة عنده زاكية المغارس، والنعمة المفاضة عليه ضافية الملابس فقلّدناه أمر الديوان بحلب وما معها من البلاد المضافة إليها والداخلة في حكمها: قاصي ذلك ودانيه، وأواسطه وحواشيه، مقدّمين الاستخارة فيما نبديه من قول، ونعزم عليه من فعل.
وأمرناه أن يستشعر تقوى الله سبحانه فإنّها الجنّة الواقية، والذخيرة النافعة الباقية، ويعتلق أسبابها فإنها المنجّية من المهالك، الهادية إلى السّبل الواضحة
__________
(1) ناظر الدواوين هو الذي يعبّر عنه بناظر الدولة، ويشارك الوزير في التصرف والنظر في المالية وأرزاق أصحاب القلم من الموظفين خاصة ويسمى أحيانا ناظر النظّار أو الصاحب الشريف، ومقرّه ديوان النظر. ويعاونه في أعماله متولي الديوان، وهو ثاني رتبة الناظر. (التعريف بمصطلحات الصبح: ص 343).
(2) بياض بالأصل بقدر كلمة.(11/65)
إذا اشتبهت المسالك، محقّقا ما توسّمناه فيه من مخايل الأصالة، ودلائل الجزالة، مصدّقا ما استلمحناه من كفايته وغنائه، واستوضحناه من استقلاله واستقصائه، وأن يبدأ فيرتّب في كل معاملة أمينا من الثّقات الكفاة، مشهودا له بالنّهضة والأمانة المستوفاة، وأن يزمّ (1) الأعمال القاصية والدانية، والبلاد القريبة والنائية، بالضبط المستقصي، والحفظ المستوفي، وبمن يرتّبه عليها من الكتّاب الأمناء، ويستصلحه لها من الحفظة النّصحاء، ويتتبّع حال من بها من النّوّاب:
فمن شهدت له التجربة بالكفاية، ودلّ الاختبار منه على العفّة والأمانة، استدامه في خدمه المنوطة به، وطالع من حاله بما يقضي له حسن النظر بحسبه، ومن ألفاه متنكّبا سبيل الأمانة، مقارفا طريق العجز والخيانة، بادر إلى الاستبدال به، وعجّل قطع ما بينه من الخدمة وبين سببه، وأن يسترفع البواقي من الأموال، في سائر الجهات والأعمال، إلى آخر التاريخ الذي تليه مباشرته، ويتصل بآخره مبدأ نظره وفاتحته، موشّحة أوراق ذلك بخطوط الأمناء، مفصلة جهاته بأسماء المعاملين والضّمناء، حتّى إذا حملت إليه، وصارت حجّة على رافعها في يديه، طالبه بمواقفة من هو في ذمّته، وتقدّم بعد تصديقه على ذلك بمضايقته بعد المطالعة بجليّ الحال وحقيقته. ثم يسترفع من مستوفي الديوان وعمّاله شروط الضّمّان ورسومهم، وقواعدهم في الضمان وعوائدهم: ليكون علم ذلك عنده مبيّنا، ووقت مساس (2) الحاجة إليه حاضرا، ويطالب بجرائد (3) الضّياع خاصّها ومقطعها المشتملة على ذكر رسومها وحقوقها، وعدد فدنها ومقاسها، وجرائد الخراج اللازم لأرباب الأملاك على أملاكهم، وتحقيق المصفوح عنه والمسامح به والباقي على الأداء في جهته، وجرائد الجزية مفصّلة في نواحيها، وأسماء أربابها إلى حين رفعها وأن يطالب نوّاب الجزية في كل شهر بختمة
__________
(1) الزمّ هنا بمعنى الإشراف والحكم.
(2) كذا بالأصل. ولعلّ الصواب «مسيس الحاجة».
(3) الجرائد: مفردها جريدة وهي كالصحيفة تسجل فيها المنشورات.(11/66)
تتضمّن ذكر مصارف ما يحوّل إليهم، وإقامة وجوه المال الذي جمع عليهم، مفصّلة مميّزة الابتياعات عن الإطلاقات (1)، والضّيافات عن السّفرات والإصطبلات، وكذلك نوّاب الأهراء يسترفع منهم ما يدلّ على مثل ذلك، وسائر المتولين في سائر الخدم يطالبهم بهذه المطالبة، ويضيّق عليهم في مثل ذلك سبيل المغالطة والمواربة، ويجعل مؤاخذتهم بذلك من الأمور الراتبة، والوظائف اللازمة الواجبة، حتى يتبيّن له الكافي من العاجز، والأمين من الخائن.
وليتأمّل وجوه الإخراجات، ومبلغ الإطلاقات والإدرارات، ويسترفعه من مظانّه مفصّلا بجهاته، منسوبا إلى أربابه، ويتقدّم بكتب مؤامرة جامعة لذلك التفصيل، دالة على المقدار المطلق في كل سنة محكّم النظر الدقيق دون الجليل، وليعتمد في إطلاق ما يطلق منها على سبيل ما يوقع به عند ذلك، وليكن هذا من الأمور الجارية على العادة والرسم، ويلزمه كلّ من نوّاب الديوان.
ومن المكتتب منها بالوظائف الدينية نسخة تقليد بولاية الحسبة (2)، من إنشاء الوزير ضياء الدين بن الأثير، وهي:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3)
هذا أمر يشتمل على معنى الخصوص دون العموم، ولا يختصّ به إلا ذوو
__________
(1) جمع إطلاق ومعناه إما تقرير عدل لما قرره أحد الملوك السابقة أو ابتداء في معروف أو زيادة في إحسان على ما كان مقررا. ومن معانيه أيضا قطعة أرض تمنح وتعفى من جميع أنواع الضرائب (التعريف بمصطلحات الصبح: ص 36).
(2) وهي وظيفة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(3) آل عمران / 104.(11/67)
الأوامر المطاعة أو ذوو العلوم وقد منحنا الله هذين الوصفين كليهما، وجعلنا من المسخلفين عليهما.
فلنبدأ أوّلا بحمده الذي هو سبب للمزيد، ثم لنأخذ في القيام بأمره الذي هو على كلّ نفس منه رقيب عتيد ولا ريب أن إصلاح العباد يسري إلى الأرض حتّى تزكو بطونها، وتنمو عيونها، ويشترك في بركات السماء ساكنها ومسكونها والأمر بذلك حمل إن لم تتوزّعه الأكفّ ثقل على الرقاب، وإذا انتشرت أطراف البلاد فإنها تفتقر إلى مساعدة من مستنيب ومستناب وقد اخترنا لمدينة كذا رجلا لم نأل في اختياره جهدا، وقدّمنا فيه خيرة الله التي إذا صدقت نيّتها صادفت رشدا، وهو أنت أيها الشيخ فلان.
فابسط يدك [بقوّة] (1) إلى أخذ هذا الكتاب، وكن حسنة من حسناتنا التي ثمّ يرجح بها ميزان الثواب، وحقّق نظرنا فيك فإنه من نور الله الذي ليس دونه من حجاب.
واعلم أنّ أمر الشريعة مبنيّ على التيسير لا على التعسير، ولا يضع اللسان موضع السوط إلا من أوتي زيادة في التفسير وفي سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مندوحة لمن لزمها، وهي هدى لمن عمل بها ونور لمن علمها ويكفي من ذلك قصة الأعرابي الذي أتى حاجته في المسجد فسارع الناس إليه، فنهاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «إنّما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين، ثم دعا بذنوب (2) من ماء فصبّه عليه وقال: يا أخا العرب إنّ المساجد لم توضع لشيء من هذا وإنما وضعت للصّلاة وقراءة القرآن».
فانظر إلى هذا الرّفق النبويّ الذي شفى وكفى، وعفّى على أثر المعصية لمّا عفا ولو دعا ذلك الأعرابيّ لمثلها لنقل عن لين التهذيب، إلى
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «المثل السائر» ص 416.
(2) الذّنوب: الدّلو العظيمة.(11/68)
شدّة التأديب وكذلك فكن أنت في الرفق الذي حدّثت عنه، ومن عاد فينتقم الله منه.
ونحن نأمرك أن تحتسب أوّلا بلين القول لا بالأنف والنكير، وأن تترفّق في الموعظة التي هي طريق إلى الخشية والتذكير، وأن لا تكون باحتسابك مدلّا بأنّك على الصراط المستقيم، وأن الناس بين يديك على سنن التثقيف والتقويم فإن من أكبر الذنوب ذنب الإعجاب، والأولى لك حينئذ أن تعود على نفسك بالاحتساب (1) ومن أدبك وأدب أمثالك أن يقف في أمره بالمعروف مع التقوى لا مع هواه، وأن لا يفرّق في إزالة المعصية أن تكون بيده أو بيد أحد سواه وإذا كنت كذلك قرنك الله بمن أنزل السكينة على لسانه ويده، وقوّم له أود الناس لتقويم أوده، والله ينظر إلى قلب ابن آدم لا إلى عمله ولا إلى جسده.
وعليك بالمجاهدين الذين سلب عنهم ثوب العافية، ومن اختفى منك بالاستتار فلا تكشف عن حاله الخافية وأما ذوو الهيئات فإنّ عثراتهم تقال، وأعراضهم لا تذال، ولربّما كان التجاوز عنهم داعيا إلى الانتقال وفي قصة أبي محجن وسعد (2) ما ينبّئك أنّ الحياة أغنى في الازدجار، وفي الناس أذناب لا قدر لها تذبّ عنه ورؤوس تذبّ عمّا لها من الأقدار. وهاهنا من ضروريّات الوصايا ما يؤتى في مثله بتوكيد الأقوال، وأكثر ذلك يدور في المعاملات التي ألفها قوم دون قوم، واستمروا عليها يوما دون يوم وقد أتى منها ما اتّفق على العمل به
__________
(1) الاحتساب هنا بمعنى الإنكار.
(2) هما أبو محجن الثقفي وسعد بن أبي وقاص. وكان أبو محجن كثير الشرب للنبيذ، فحدّه عمر مرارا، ثم نفاه إلى جزيرة بالبحر. فهرب ولحق بسعد وهو بالقادسية يحارب الفرس، فكتب إليه عمر أن يحبسه فحبسه سعد عنده. واشتد القتال في أحد ايام القادسية، فالتمس أبو محجن من امرأة سعد (سلمى) أن تحلّ قيده، وعاهدها أن يعود إلى القيد إن سلم، فخلت سبيله، فقاتل قتالا عجيبا، ورجع بعد القتال إلى قيده وسجنه فحدّثت سلمى سعدا بخبره، فاطلقه وقال له:
لن أحدّك أبدا. فترك النبيذ وقال: كنت آنف أن أتركه من أجل الحدّ. (انظر الاعلام: 5/ 76 والشعر والشعراء: 206).(11/69)
كلّ فريق، وأيسر ذلك إزالة النّخامة (1) من المسجد وإماطة الأذى عن الطريق.
وهذه الوصايا كلّها لا تفتقر فيها إلى التوقيف، وأنت عالم بوضع كلمها في مواضعه وغيرك الذي يتعدّى إلى التحريف فامض على السّنن، وأت بالحسن، وسوّ بين حالتيك في السّرّ والعلن، وكن من خوف الله ورجائه بين رحلة سفر وقرارة وطن. وهذا عهدنا إليك تتقمّص اليوم منه رداء جميلا، وستحمل غدا منه عبئا ثقيلا، وقد فرضنا لك عن حقّ سعيك فريضة تجد بها كفافا، وتمنعك أن تمدّ عينيك إلى غيرها استشرافا فإنّ العمل الذي تولّيته يستغرق أوقاتك أن تكون للدنيا كاسبة، وتشغل نفسك بالعمل والنّصب لا أن تكون عاملة ناصبة.
وإذا نظرت إلى ما نيط بك وجدته قد استحصى الزّمن أو كاد، وأنت فيه بمنزلة الباني وقواعده: «وكلّ بناء على قدر بانيه وما شاد». ونحن نأمر ولاتنا على اختلاف مراتبهم أن يرفعوا من قدرك، ويسدّدوا من أمرك، وإذا استوعر عليك أمر من الجوانب سهّلوا من وعرك والله أمر أهل طاعته بأن يكون بعضهم لبعض من الأعوان، فقال جل وتعالى: {وَتَعََاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ََ وَلََا تَعََاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوََانِ} (2)
__________
(1) النّخامة: ما يلفظه الإنسان من البلغم.
(2) المائدة / 2.(11/70)
الحالة الرابعة (مما يكتب عن ملوك الديار المصرية من الولايات
ما عليه مصطلح كتّاب الزمان بديوان الإنشاء بالديار المصرية مما يكتب عن السلطان لأرباب السيوف والأقلام وغيرهم من التقاليد والمراسيم والتّفاويض والتواقيع، على ما سيأتي بيانه، وفيه [ثلاثة] (1) مقاصد)
المقصد الأوّل (في مقدّمات هذه الولايات، وفيه مهيعان)
المهيع الأوّل (في بيان رجوع هذه الولايات إلى الطريق الشرعيّ)
قد تقدّم في أوّل الكلام على العهود أنّ السلطنة في زماننا دائرة بين إمارة الاستيلاء: وهي أن يقلّده الخليفة الإمارة على بلاد ويفوّض إليه تدبيرها فيستولي عليها بالقوّة، وبين وزارة التفويض: وهي أن يستوزر الخليفة من يفوّض إليه تدبير الأمور برأيه وفصلها على اجتهاده، وأنها بإمارة الاستيلاء أشبه، على ما تقدّم بيانه هناك. وقد صرح الماورديّ في «الأحكام السلطانية» (2) أنه إذا كمل في المستولي على الأمر بالقوّة بعد تولية الخليفة له مع اشتماله على الصفات المعتبرة في المولّى في الولاية الصادرة عن اختيار الخليفة الإسلام، والحرّيّة، والأمانة، وصدق اللهجة، وقلّة الطمع، والسلامة من الميل مع الهوى، والبراءة من الشّحناء، والذّكاء، والفطنة جاز له ما يجوز للخليفة من تولية وزارة التفويض وغيرها من سائر النّيابات، وجرى على من استوزره أو استنابه
__________
(1) بياض بالأصل والتصحيح يناسب المعدود من المقاصد.
(2) قال في كشف الظنون: «رتبه على عشرين بابا. ومختصره للشيخ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911هـ. والماوردي نسبة إلى بيع الماورد. توفي الماوردي سنة 450هـ» (كشف الظنون:
1/ 19).(11/71)
أحكام من استوزره الخليفة أو استنابه وان لم يستكمل الصّفات المعتبرة في الولاية الصادرة عن اختيار الخليفة، استناب له الخليفة لكل ولاية من تتكامل فيه شروطها.
قلت: وقد كانت ملوك بني بويه وبني سلجوق مع غلبتهم على أمر الخلفاء ببغداد واستيلائهم يقتصرون في تصرّفهم على متعلّقات الملك في الجهاد والتصرّف في الأموال، ويكلون أمر الولايات إلى الخليفة يباشرها بنفسه، وتكتب عنه العهود والتقاليد على ما تشهد به نسخها الموجودة من إنشاء الصابي (1) وغيره وكذلك الخلفاء الفاطميّون بمصر عند غلبة وزرائهم على الأمر من لدن خلافة المستنصر وإلى انقراض خلافتهم من الديار المصرية، كالصالح طلائع بن رزّيك (2) في وزارته للفائز والعاضد، ونحو ذلك: فإنّ الخليفة هو الذي كانت الولايات تصدر عنه تارة بإشارة الوزير، وتارة بغير إشارته، على ما تشهد به نسخ السّجلّات المكتتبة في دولتهم، على ما تقدّم بيانه في الفصل الأوّل من هذا الباب. على أنّ أصحابنا الشافعية وغيرهم من أئمة الفقهاء رحمهم الله قد صحّحوا الإمامة بغلبة الشوكة والاستيلاء على الأمر بالقهر دون استكمال شروط الإمامة، تصحيحا للأحكام الشرعية الصادرة عن المستولي بالشوكة: من العقود والفسوخ وإقامة الحدود وغيرها، على ما هو مذكور في باب الإمامة، وحينئذ فتكون جميع الولايات الصادرة عن السلطان صحيحة شرعا وإن لم يستنبه عنه الخليفة وكذلك ما يترتب عليها، على ما الأمر جار عليه الآن.
__________
(1) هو أبو إسحاق الصابيء، إبراهيم بن هلال: صاحب الرسائل المشهورة والنظم البديع. كان كاتب الإنشاء ببغداد عن الخليفة وعن عز الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه الديلمي. (انظر ابن خلكان: 1/ 52).
(2) كانت وزارته للفائز في 19ربيع الأول سنة 549هـ، واستمر مع العاضد بالله حتى 19رمضان 556هـ حين وفاته. (ابن خلكان: 2/ 526).(11/72)
المهيع الثاني (فيما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة هذه الولايات)
واعلم أنه يجب على الكاتب في ذلك مراعاة أمور.
الأمر الأوّل براعة الاستهلال بذكر اسم المولّى أو نعته أو لقبه أو الوظيفة
، أو حال الولاية، مع استصحاب براعة الاستهلال إلى آخر الخطبة ونحوها من الافتتاحات، كما أشار إليه الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ رحمه الله في كتابه «حسن التوسل» (1) كما تقدّم ذكره في الكلام على البيعات والعهود.
الأمر الثاني مراعاة قطع الورق
(2) في الجملة لكلّ ما يكتب من ديوان الإنشاء من المكاتبات والولايات وغيرها. والذي يختص بهذا المكان ذكر مقادير قطع الورق فيما يتعلّق بهذه الولايات خاصّة، وهي خمسة مقادير: أحدها قطع الثلثين، ويختصّ في الولايات بكبار التقاليد دون غيرها وثانيها قطع النّصف، وفيه تكتب صغار التقاليد، والمراسيم المكبّرة، والتفاويض، وكبار التواقيع وثالثها قطع الثلث، وفيه تكتب صغار المراسيم المكبّرة، والتواقيع المتوسطة ورابعها قطع العادة المنصوري، وفيه تكتب صغار التواقيع والمراسيم التي لأصحابها بعض ميزة لا تنتهي بهم إلى رتبة قطع الثّلث وخامسها قطع العادة الصغير، وفيه تكتب صغار التواقيع والمراسيم التي هي في الرتبة الأخيرة.
الأمر الثالث معرفة ما يناسب كلّ قطع من هذه المقادير من الأقلام
. وقد تقدّم في المقالة الثالثة نقلا عن «التعريف» (3) ما لكلّ مقدار من الأقلام.
__________
(1) «حسن التوسّل في صناعة الترسّل» لشهاب الدين محمود الحلبي المتوفى سنة 725هـ. (كشف الظنون: 1/ 666وفوات الوفيات: 4/ 82).
(2) راجع المقالة الثالثة من هذا الكتاب حول قطع الورق وأنواع وصفات الأقلام المناسبة لها.
(3) «التعريف بالمصطلح الشريف» لابن فضل الله العمري.(11/73)
والمتعلّق بهذا الموضع من ذلك أنّ لقطع الثلثين قلم الثلث الثقيل، ولقطع النصف قلم الثلث الخفيف، ولقطع الثلث قلم التوقيعات، ولقطع العادة مطلقا قلم الرّقاع.
الأمر الرابع معرفة اللّقب المطابق لرتبة كلّ ولاية وصاحبها
من الألقاب الأصول المتقدّم ذكرها في الكلام على الألقاب من المقالة الثالثة، وهي المقرّ، والجناب، والمجلس، ومجلس كذا على الإضافة، وما يناسب كلّ لقب من هذه الألقاب من الفروع المرتّبة عليها، كوصف المقرّ بالكريم العالي، ووصف الجناب تارة بالكريم العالي، وتارة بالعالي مجرّدا عن الكريم، ووصف المجلس تارة بالعالي، وتارة بالسامي، وإضافة مجلس في حق أرباب السيوف إلى الأمير فيقال: مجلس الأمير، وفي حقّ أرباب الأقلام من العلماء وأصحاب الدواوين إلى القاضي فيقال: مجلس القاضي، وفي حقّ الصّلحاء إلى الشيخ فيقال مجلس الشيخ، وأنّ لمن دون هؤلاء الصّدر، ويوصف بالأجلّ فيقال:
الصّدر الأجلّ، وأن لكل أصل من هذه الأصول فروعا شتّى تترتّب عليه. وتقدّم أيضا في المقالة الرابعة في الكلام على المكاتبات الصادرة عن الأبواب السلطانية بالدّيار المصرية في زماننا إلى أهل المملكة مكاتبة كل واحد ممّن جرت العادة بالمكاتبة إليه، وما يختصّ به من الألقاب الأصول والفروع.
واعلم أنّ الولايات أعمّ من المكاتبات: فقد يكون للشخص ولاية من الأبواب السلطانية وليس له مكاتبة، إذ المكاتبات إنما تكون لقوم مخصوصين من أرباب الولايات. إذا علم ذلك فكلّ من له مكاتبة عن الأبواب السلطانية من أرباب السّيوف والأقلام ممن تقدّم ذكره في الكلام على المكاتبات إذا كتبت له ولاية نعت بألقابه ونعوته التي بها يكاتب عن الأبواب السلطانية إلا أنّ الدعاء المصدّر به المكاتبة يجعل في الآخر دون الأوّل: فإذا كانت المكاتبة إلى أحد «أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم» قيل في ألقابه في الولاية «المقرّ الكريم» إلى آخر ما يقتضيه الحال، ثم يقال: فلان أعز الله تعالى أنصاره وكذلك في
البواقي. أمّا من لم تجر العادة بمكاتبة إليه عن الأبواب السلطانية ممن يولّى عنها فإن لكل طبقة ألقابا تخصهم. ونحن نذكر الألقاب الأصول وما يتفرّع عليها لكلّ طبقة من كل طائفة على الوضع الذي تقتضيه الولايات دون المكاتبات، ليجرى كلّ من أرباب الولايات على ما يناسبه من الألقاب.(11/74)
واعلم أنّ الولايات أعمّ من المكاتبات: فقد يكون للشخص ولاية من الأبواب السلطانية وليس له مكاتبة، إذ المكاتبات إنما تكون لقوم مخصوصين من أرباب الولايات. إذا علم ذلك فكلّ من له مكاتبة عن الأبواب السلطانية من أرباب السّيوف والأقلام ممن تقدّم ذكره في الكلام على المكاتبات إذا كتبت له ولاية نعت بألقابه ونعوته التي بها يكاتب عن الأبواب السلطانية إلا أنّ الدعاء المصدّر به المكاتبة يجعل في الآخر دون الأوّل: فإذا كانت المكاتبة إلى أحد «أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم» قيل في ألقابه في الولاية «المقرّ الكريم» إلى آخر ما يقتضيه الحال، ثم يقال: فلان أعز الله تعالى أنصاره وكذلك في
البواقي. أمّا من لم تجر العادة بمكاتبة إليه عن الأبواب السلطانية ممن يولّى عنها فإن لكل طبقة ألقابا تخصهم. ونحن نذكر الألقاب الأصول وما يتفرّع عليها لكلّ طبقة من كل طائفة على الوضع الذي تقتضيه الولايات دون المكاتبات، ليجرى كلّ من أرباب الولايات على ما يناسبه من الألقاب.
وقد علمت فيما تقدّم في الكلام على الألقاب في المقالة الثالثة أن الألقاب على خمسة (1) أنواع:
النوع الأوّل (ألقاب أرباب السيوف)
والمستعمل منها بديوان الإنشاء تسع مراتب:
المرتبة الأولى المقرّ الكريم مع الدعاء بعزّ الأنصار
، وهي: المقرّ الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، الزعيميّ، العونيّ، الغياثيّ، المثاغريّ، المرابطيّ، الممهّديّ، المشيّديّ، الظّهيريّ، العابديّ، الناسكيّ الأتابكيّ، الكفيليّ، معزّ الإسلام والمسلمين، سيّد أمراء العالمين، ناصر الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين، ممهّد الدّول، مشيّد الممالك، عماد الملّة، عون الأمة، ظهير الملوك والسلاطين، عضد أمير المؤمنين، فلان (باسمه) الفلاني (بلقب الإضافة إلى لقب السلطان) أعزّ الله تعالى أنصاره.
المرتبة الثانية الجناب الكريم مع الدعاء بعزّ النّصرة
، وهي: الجناب الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، الزعيميّ، العونيّ، الغياثيّ، المثاغريّ، المرابطيّ، الممهّديّ، المشيّديّ، الظّهيريّ، الكافليّ، الفلانيّ، عزّ الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين، مقدّم العساكر، ممهّد الدّول، مشيّد
__________
(1) كذا بالأصل والمعدود ستة.(11/75)
الممالك، عماد الملّة، عون الأمّة، ظهير الملوك والسلاطين، سيف أمير المؤمنين، فلان (باسمه) الفلاني (بلقب الإضافة إلى لقب السلطان) أعزّ الله تعالى نصرته.
المرتبة الثالثة الجناب العالي مع الدعاء بمضاعفة النّعمة
، وهي:
الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، العونيّ، الزعيميّ، الممهّديّ، المشيّديّ، الظّهيريّ، الكافليّ، الفلانيّ، عزّ الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين، ممهّد الدّول، مشيّد الممالك، عماد الملّة، عون الأمّة، ظهير الملوك والسلاطين، سيف أمير المؤمنين، فلان (باسمه) الفلاني (بلقب الإضافة إلى السلطان) ضاعف الله تعالى نعمته.
المرتبة الرابعة الجناب العالي مع الدعاء بدوام النعمة
، وهي: الجناب العالي الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، المؤيّديّ، الأوحديّ، النّصيريّ، العونيّ، الهماميّ، المقدّميّ، الظّهيريّ، الفلانيّ، عزّ الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، مقدّم العساكر، كهف الملّة، ذخر الدّولة، عماد المملكة، ظهير الملوك والسلاطين، حسام أمير المؤمنين، فلان الفلاني، أدام الله تعالى نعمته.
المرتبة الخامسة المجلس العالي والدعاء بدوام النعمة
، وهي:
المجلس العالي الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، العونيّ، الأوحديّ، النّصيريّ، الهماميّ، المقدّميّ، الظهيريّ، الفلانيّ، عزّ الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، مقدّم العساكر، كهف الملّة، ذخر الدولة، ظهير الملوك والسلاطين، حسام أمير المؤمنين، فلان الفلاني، أدام الله تعالى نعمته.
المرتبة السادسة المجلس الساميّ بالياء، والدعاء بدوام التأييد ونحوه
، وهي: المجلس الساميّ، الأميريّ، الكبيريّ، الذّخريّ، النّصيريّ، الأوحديّ، المؤيّديّ، الفلانيّ، مجد الإسلام، بهاء الأنام، شرف الأمراء، ذخر
المجاهدين، عضد الملوك والسلاطين، فلان الفلانيّ، أدام الله تأييده.(11/76)
، وهي: المجلس الساميّ، الأميريّ، الكبيريّ، الذّخريّ، النّصيريّ، الأوحديّ، المؤيّديّ، الفلانيّ، مجد الإسلام، بهاء الأنام، شرف الأمراء، ذخر
المجاهدين، عضد الملوك والسلاطين، فلان الفلانيّ، أدام الله تأييده.
المرتبة السابعة السامي بغير ياء (1)، والدعاء أدام الله رفعته ونحو ذلك،
وهي: المجلس السامي، الأمير، الأجلّ، الكبير، الغازي، المجاهد، المؤيّد، الأوحد، المرتضى، فلان الدين، مجد الإسلام، بهاء الأنام، فخر الأمراء، زين المجاهدين، عمدة الملوك والسلاطين، أدام الله رفعته.
المرتبة الثامنة مجلس الأمير، والدعاء أدام الله سعده ونحوه
، وهي:
مجلس الأمير، الأجلّ، الكبير، الغازي، المجاهد، المؤيّد، الأوحد، المرتضى، فلان الدين، مجد الأمراء، زين المجاهدين، عدّة الملوك والسلاطين، فلان الفلاني، أدام الله سعده.
المرتبة التاسعة الأمير مجرّدا عن المضاف إليه
، وهي: الأمير، الأجلّ، وربّما زيد فيه فقيل الكبير، المحترم، ونحو ذلك.
النوع الثاني (ألقاب أرباب الوظائف الديوانية، وهي على ستّ مراتب)
المرتبة الأولى الجناب العالي مع الدعاء بمضاعفة النّعمة وفيها أسلوبان:
الأسلوب الأوّل ألقاب الوزير
وهي: الجناب العالي، الصاحبيّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، الأوحديّ، الأكمليّ، القواميّ، النّظاميّ، الأثيريّ، البليغيّ، المنفّذيّ، المسدّديّ، المتصرّفيّ، الممهّديّ، العونيّ، المدبّريّ، المشيريّ، الوزيريّ، الفلانيّ، صلاح الإسلام والمسلمين، سيّد الوزراء في العالمين، رئيس الكبراء، كبير الرؤساء، أوحد الأصحاب، ملاذ الكتّاب، قوام الدّول، نظام الملك، مفيد المناجح، معتمد المصالح، مرتّب
__________
(1) المراد بغير ياء النسب.(11/77)
الجيوش، عماد الملّة، عون الأمة، مشير الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين، فلان الفلاني، ضاعف الله تعالى نعمته.
الأسلوب الثاني ألقاب كاتب السرّ
، عند ما استقرّ ما يكتب له تقليدا في قطع الثلثين، وهي: الجناب العالي، القاضويّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، العلّاميّ، الأفضليّ، الأكمليّ، البلبغيّ، المسدّديّ، المنفّذيّ، المشيّديّ، العونيّ، المشيريّ، اليمينيّ، السّفيريّ، الأصيليّ، العريقيّ، الفلانيّ، صلاح الإسلام والمسلمين، سيد الرؤساء في العالمين، قدوة العلماء العاملين، جمال البلغاء، أوحد الفضلاء، جلال الأصحاب، كهف الكتّاب، يمين المملكة، لسان السّلطنة، سفير الأمّة، سليل الأكابر، مشير الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين، فلان الفلاني، ضاعف الله تعالى نعمته.
قلت: وقد كان رتبته: المجلس العالي عند ما كان يكتب له توقيع في قطع النّصف.
المرتبة الثانية المجلس العالي مع الدّعاء بدوام النعمة
وفيها أربعة أساليب:
الأسلوب الأوّل ألقاب كاتب السرّ
(1) على ما كان الأمر عليه في كتابة توقيع في قطع النصف، ويدعى له: أدام الله نعمته، وهي: المجلس، العالي، بالألقاب المتقدّمة له مع الجناب العالي، على ما استقرّ عليه الحال.
الأسلوب الثاني ألقاب ناظر الخاص
(2)، وهي: المجلس العالي القاضويّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، الأوحديّ، الأكمليّ، الرّئيسيّ، البليغيّ،
__________
(1) والعامة تقول: كاتم السرّ، لأنه يكتم سرّ الملك ويوقّع على القصص بدار العدل وغيرها ويجلس على يسار السلطان بدار العدل لخلاص المظالم. (انظر الصبح: 1/ 104و 4/ 29، 44، 53).
(2) وهو الذي ينظر في خاص أموال السلطان. (راجع الصبح: 5/ 465).(11/78)
البارعيّ، القواميّ، النّظاميّ، الماجديّ، الأثيريّ، المنفّذيّ، المسدّديّ، المتصرّفيّ، الفلانيّ، جمال الإسلام والمسلمين، سيد الرؤساء في العالمين، قوام المصالح، نظام المناجح، جلال الأكابر، قدوة الكتّاب، رئيس الأصحاب، عماد الملّة، صفوة الدولة، خالصة الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين، فلان الفلانيّ، أدام الله تعالى نعمته.
الأسلوب الثالث ألقاب وزير دمشق إذا صرّح له بالوزارة
، وهي:
المجلس العالي، الصاحبيّ، الوزيريّ، الأجلّيّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، الأوحديّ، القواميّ، النّظاميّ، الماجديّ، الأثيريّ، المشيريّ، الفلانيّ، صلاح الإسلام والمسلمين، سيد الوزراء في العالمين، رئيس الكبراء، كبير الرؤساء، بقية الأصحاب، ملاذ الكتّاب، عماد الملة، خالصة الدولة، مشير الملوك والسلاطين، خالصة أمير المؤمنين، فلان الفلاني، أدام الله تعالى نعمته.
الأسلوب الرابع ألقاب ناظر النّظّار بالشام
(1)، إذا لم يكن وزيرا، وهي:
المجلس العالي، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، الأوحديّ، الرّئيسيّ، الأثيريّ، القواميّ، النّظاميّ، المنفّذيّ، المتصرّفيّ، الفلانيّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الرؤساء في العالمين، أوحد الفضلاء، جلال الكبراء، حجّة الكتّاب، صفوة الملوك والسلاطين، خالصة أمير المؤمنين، فلان الفلاني، أدام الله تعالى نعمته.
المرتبة الثالثة المجلس الساميّ بالياء مع الدعاء بدوام الرفعة
وما في معناها، وهي: المجلس الساميّ، القضائيّ، الأجلّيّ، الكبيريّ، العالميّ،
__________
(1) وهو الذي يقوم مقام الوزير بالديار المصرية. وناظر النظار بالديار المصرية هو ناظر الدواوين أو ناظر الدولة، وهو المعبر عنه في مصطلح الدواوين المعمورة بالصحبة الشريفة. (راجع الصبح:
4/ 28، 29، و 5/ 465).(11/79)
الفاضليّ، الكامليّ، الرئيسيّ، الأوحديّ، الأصيليّ، الأثيريّ، البليغيّ، الفلانيّ، مجد الإسلام، شرف الرؤساء في الأنام، زين البلغاء، جمال الفضلاء، أوحد الكتّاب، فخر الحسّاب، صفوة الملوك والسلاطين، أدام الله تعالى رفعته.
فإن كان من كتاب الإنشاء، أسقط منه «فخر الحسّاب».
المرتبة الرابعة السامي بغير ياء، مع الدعاء بدوام الرّفعة
ونحوه أيضا، وهي: المجلس السامي، القاضي، الأجلّ، الكبير، الصّدر، الرئيس، الأوحد، البارع، الكامل، الأصيل، الفاضل، فلان الدين، جمال الإسلام، بهاء الأنام، شرف الأكابر، زين الرؤساء، أوحد الفضلاء، زين الكتّاب، صفوة الملوك والسلاطين، أدام الله تعالى رفعته.
المرتبة الخامسة مجلس القاضي
، وهي: مجلس القاضي، الأجلّ، الكبير، الفاضل، الأوحد، الأثير، الرّئيس، البليغ، العريق، الأصيل، فلان الدين، مجد الإسلام، بهاء الأنام، شرف الرؤساء، زين الكتاب، مرتضى الملوك والسلاطين، أدام الله رفعته.
المرتبة السادسة القاضي
، وهي: القاضي الأجلّ. وربّما زيد في التعظيم الصّدر، الرئيس، الكبير، ونحو ذلك.
النوع الثالث (ألقاب أرباب الوظائف الدّينية وهي أيضا على ستّ مراتب)
المرتبة الأولى الجناب العالي
وهي لمن استقرّ له كتابه تقليد في قطع الثلثين من قضاة القضاة بالدّيار المصرية وهو الشافعيّ وهي: الجناب العالي، القاضويّ، الشّيخيّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، الأفضليّ، الأكمليّ، الأوحديّ، البليغيّ، الفريديّ، المفيديّ، النّجيديّ، القدويّ، الحجّيّ، المحقّقيّ، الورعيّ، الخاشعيّ، الناسكيّ، الإماميّ، العلّاميّ، الأصيليّ،
العريقيّ، الحاكميّ، الفلانيّ، جمال الإسلام والمسلمين، شرف العلماء العاملين، أوحد الفضلاء المفيدين، قدوة البلغاء، حجّة الأمّة، عمدة المحقّقين، فخر المدرّسين، مفتي المسلمين، جلال الحكّام، بركة الدولة، صدر مصر والشام، معزّ السنّة، مؤيّد الملة، شمس الشريعة، رئيس الأصحاب، لسان المتكلمين، حكم الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين، فلان (بنسبه) أعز الله تعالى أحكامه.(11/80)
وهي لمن استقرّ له كتابه تقليد في قطع الثلثين من قضاة القضاة بالدّيار المصرية وهو الشافعيّ وهي: الجناب العالي، القاضويّ، الشّيخيّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، الأفضليّ، الأكمليّ، الأوحديّ، البليغيّ، الفريديّ، المفيديّ، النّجيديّ، القدويّ، الحجّيّ، المحقّقيّ، الورعيّ، الخاشعيّ، الناسكيّ، الإماميّ، العلّاميّ، الأصيليّ،
العريقيّ، الحاكميّ، الفلانيّ، جمال الإسلام والمسلمين، شرف العلماء العاملين، أوحد الفضلاء المفيدين، قدوة البلغاء، حجّة الأمّة، عمدة المحقّقين، فخر المدرّسين، مفتي المسلمين، جلال الحكّام، بركة الدولة، صدر مصر والشام، معزّ السنّة، مؤيّد الملة، شمس الشريعة، رئيس الأصحاب، لسان المتكلمين، حكم الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين، فلان (بنسبه) أعز الله تعالى أحكامه.
وكذلك قاضي القضاة الحنفيّ بالديار المصرية عند ما استقرّ المكتوب له تقليدا.
المرتبة الثانية المجلس العالي
وبها كان يكتب لقاضي القضاة الشافعيّ قبل أن يستقرّ ما يكتب له تقليدا، بالألقاب والنّعوت السابقة له مع الجناب وكذلك الثلاثة الباقون باختصار في الألقاب والنّعوت وهي:
المجلس العالي، القاضويّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، الأفضليّ، الأكمليّ، الأوحديّ، البليغيّ، الفريديّ، المفيديّ، النّجيديّ، القدويّ، الحجّيّ، المحقّقيّ، الإماميّ، الأصيليّ، العريقيّ، الحاكميّ، الفلانيّ، جمال الإسلام والمسلمين، سيّد العلماء العاملين، أوحد الفضلاء المفيدين، قدوة البلغاء، حجة الأمّة، عمدة المحدّثين، فخر المدرّسين، مفتي المسلمين، جلال الحكّام، حكم الملوك والسلاطين، فلان الفلاني (بنسبه) أعزّ الله تعالى أحكامه.
المرتبة الثالثة المجلس الساميّ
بالياء، وهي: المجلس الساميّ، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، الأوحديّ، الرئيسيّ، المفيديّ، البليغيّ، القدويّ، الأثيريّ، مجد الإسلام والمسلمين، جمال العلماء العاملين، أوحد الفضلاء، صدر المدرّسين، عمدة المفتين، خالصة الملوك والسلاطين، فلان الفلانيّ، أدام الله تعالى تأييده.
المرتبة الرابعة السامي
بغير ياء، وهي: المجلس السامي، القاضي،
الأجلّ، الكبير، الصّدر، الرئيس، العالم، الفاضل، الكامل، فلان الدين، مجد الصّدور، زين الأعيان، مرتضى الملوك والسلاطين، فلان، أدام الله تعالى رفعته.(11/81)
بغير ياء، وهي: المجلس السامي، القاضي،
الأجلّ، الكبير، الصّدر، الرئيس، العالم، الفاضل، الكامل، فلان الدين، مجد الصّدور، زين الأعيان، مرتضى الملوك والسلاطين، فلان، أدام الله تعالى رفعته.
المرتبة الخامسة مرتبة مجلس القاضي
وهي: مجلس القاضي، الأجلّ، الكبير، العالم، الفاضل، الأوحد، الصدر، الرئيس، مجد الإسلام، بهاء الأنام، زين الأعيان، فخر الصّدور، مرتضى الملوك والسلاطين، فلان، أعزّه الله تعالى.
المرتبة السادسة مرتبة القاضي
وهي: القاضي، الأجلّ. وربما زيد في التعظيم نحو الكبير، الصدر، الرئيس، ونحو ذلك.
النوع الرابع (ألقاب مشايخ الصّوفية وهي على خمس مراتب)
المرتبة الأولى المجلس العالي
وبها يكتب لشيخ الشّيوخ (1) بالديار المصرية، وهي: المجلس العالي، الشيخيّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، السالكيّ (2)، الأوحديّ، الزاهديّ، العابديّ، الخاشعيّ، الناسكيّ، المفيديّ، القدويّ، الإماميّ، النّظاميّ، الملاذيّ، جلال الإسلام والمسلمين، شرف الصّلحاء في العالمين، شيخ شيوخ الإسلام، أوحد العلماء في الأنام، قدوة السالكين، بركة الملوك والسلاطين، فلان، أعاد الله تعالى من بركاته.
المرتبة الثانية المجلس الساميّ
بالياء، وهي: المجلس الساميّ، الشيخيّ، الكبيريّ، الأوحديّ، الأكمليّ، العابديّ، الخاشعيّ، الناسكيّ،
__________
(1) كان الصوفيون في عصر المماليك يكوّنون طائفة كبيرة ولهم احترام خاص. (انظر خطط المقريزي: 4/ 273).
(2) نسبة إلى السالك: فاعل من السلوك والمراد سلوك سبيل الرشاد الموصل إلى الله تعالى. (راجع الصبح: 6/ 15).(11/82)
جمال الإسلام، زين الأنام، صفوة الصّلحاء، فخر العبّاد، بركة الملوك والسلاطين، أعاد الله تعالى من بركته.
المرتبة الثالثة المجلس السامي بغير ياء
، وهي: المجلس السامي، الشيخ، الصالح، الزاهد، العابد، الورع، الخاشع، الناسك، السالك، فلان الدّين، مجد الصلحاء، زين المشايخ، قدوة السالكين، بركة الملوك والسلاطين، نفع الله تعالى ببركته.
المرتبة الرابعة مجلس الشّيخ
، وهي: مجلس الشيخ، الصالح، الزاهد، العابد، الناسك، السالك، فلان الدين، مجد الصّلحاء، زين المشايخ، بركة الملوك والسلاطين، أدام الله تعالى بركته.
المرتبة الخامسة مرتبة الشيخ
، وهي: الشيخ، الصالح، الورع، الزاهد ونحو ذلك، نفع الله تعالى به.
النوع الخامس (ألقاب من قد يكتب له بولاية من رؤساء العامّة من التّجّار وغيرهم)
وفيها أربع مراتب:
المرتبة الأولى المجلس الساميّ بالياء
، وهي: المجلس الساميّ، الصدريّ، الأجلّ، الكبيريّ، الرئيسيّ، الفلانيّ.
المرتبة الثانية الملجس السامي بغير ياء
، وهي: المجلس السامي، الصدر، الأجلّ، الكبير، الرئيس، المحترم.
المرتبة الثالثة مجلس الصّدر
، وهي: مجلس الصدر، الأجلّ، الكبير، المحترم، المؤتمن، فلان الدين. ويقال في ألقاب المهتاريّة (1) ونحوهم:
الحاجّ فلان.
__________
(1) المهتار: كلمة فارسية مركبة من لفظين: مه بمعنى الكبير، وتار بمعنى أفعل التفضيل. وهو لقب يطلق على كبير كل طائفة من غلمان البيوت، كمهتار الشراب خاناه، ومهتار الطست خاناه. وقد ذكر الدكتور أحمد السعيد سليمان أن الصواب في أفعل التفضيل بالفارسية هو «تر» بدون زيادة الألف. (انظر الصبح: 5/ 470وتأصيل الدخيل: 188187).(11/83)
المرتبة الرابعة مرتبة الصّدر
، وهي: الصّدر، الأجلّ. فإن زيد في تكريمه قبل بعد ذلك: الكبير، المحترم.
النوع السادس (ألقاب زعماء أهل الذّمّة، وهم ثلاثة)
الأوّل بطرك النصارى اليعاقبة
، وهي: الحضرة السامية، الشيخ، الرئيس، المبجّل، المكرّم، الكافي، المعزّز، المفخّر، القدّيس، شمس الرياسة، عماد بني المعمودية (1)، كنز الطائفة الصليبيّة.
الثاني بطرك الملكانيّة
(2)، وتختصر ألقابه عمّا يكتب به لبطرك اليعاقبة بعض الاختصار.
الثالث رئيس اليهود
، وهي: الرئيس الأوحد، الأجلّ، الأعزّ، الأخصّ، الكبير، شرف الداووديين، فلان أبو فلان: سدّده الله في أقواله، وثبّته في أفعاله.
قلت: ومما يجب التنبّه له أن ما تقدّم من الألقاب والنّعوت المفرّعة على الألقاب الأصول ليست مما يوقف عند حدّ، بل محتملة للزيادة والنقص بحسب
__________
(1) وقد ذكر القلقشندي أن هذا اللقب ورد في ألقاب ملك الحبشة وفي ألقاب صاحب القسطنطينية وفي ألقاب الأذفونش صاحب طليطلة واشبيلية من بلاد الأندلس وفي ألقاب متملك سيس. وكان من اليعاقبة أيضا مسيحيو النوبة. (راجع الصبح: 6/ 174173).
(2) الطائفة الملكانية أو الملكية، وهي طائفة مسيحية من الطقس البيزنطي، منتشرة في سوريا ومصر وفلسطين، وكنيستهم تسمى أيضا كنيسة الروم، ويتكلم معظمهم العربية. سمّوا الملكيين لأنهم أيدوا القرار الذي اتخذه مجمع خلقيدونية سنة 451م ضد بدعة أو طيخا المونوفيزية. وبطركهم يقوم مقام الخليفة عند المسلمين وبمنزلة القان عند التتار بل إليه يرجع أمر التحليل والتحريم.
(انظر الموسوعة العربية الميسرة: 1742والصبح: 8/ 42).(11/84)
ما تقتضيه الحال، ويحتمله المقال، بل ربّما ولّي بعض المناصب من فيه صفات تستحق ألقابا ونعوتا خاصّة، فيكتب له بذلك مراعاة لما يقتضيه حاله، ويستوجبه مقامه، ثم يلي ذلك المنصب بعده من لا يستحق الوصف بالألقاب والنّعوت التي تخصّ المتقدّم، فيؤتى بها للثاني: كما اتّفق فيما كتب به في نيابة الشام حين وليها الأمير بيدمر الخوارزميّ (1) رحمه الله، وكان من الدّيانة على ما لا يوجد في غيره فكتب في ألقابه حينئذ: العابديّ، الناسكيّ، الخاشعيّ، فلزمت فيمن بعده وصارت مما يكتب به إلى الآن، سواء اتصف نائبها بدين أم لا وكما اتفق في الصاحب علم الدّين بن زنبور حين اجتمع له الوزارة ونظر الخاصّ والجيش، فكتب له بألقاب ونعوت جامعة لألقاب تلك الوظائف ونعوتها، فاستمرّ ذلك فيما يكتب به لكلّ من ولي الوزارة بعده إلى الآن حتّى إنه يكتب في ألقاب الوزير الآن «مرتّب الجيوش» وهو الألقاب الخاصّة بناظر الجيش استطرادا لما كتب به لابن زنبور: لانضمام نظر الجيش إليه على ما تقدّم وكما اتّفق فيما كتب به للشيخ تقيّ الدين السّبكي (2) من الألقاب الجليلة المقدار، الرفيعة المكانة، في قضاء الشام لرفعة مقامه، واتّساع باعه في العلم، وعلوّ مكانته في الخاصّة والعامّة فلزم كتابة ذلك لقاضي قضاة الشافعية بالديار المصرية، من حيث إنه لا يليق بالحال أن يكون قاضي الشام أعلى رتبة من قاضي الدّيار المصرية. ثم سرى ذلك في كل من ولي المنصب بعد ذلك، وهلمّ جرّا إلى زماننا.
ومما يلتحق بذلك أنه قد جرت العادة في الزمن المتقدّم وهلمّ جرّا إلى
__________
(1) هو سيف الدين، بيدمر الخوارزمي. كان نائب السلطنة على الشام من سنة 1360م إلى سنة 1386م. (منطلق تاريخ لبنان: 146).
(2) هو علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السّبكي الأنصاري. شيخ الإسلام في عصره وهو والد التاج السّبكي صاحب الطبقات. ولد في سبك (من أعمال المنوفية بمصر) وولي قضاء الشام سنة 739هـ. توفي بالقاهرة سنة 756هـ. (انظر الأعلام: 4/ 302).(11/85)
زماننا أنه كان يكتب في الطرّة (1) لأرباب السيوف بعد الأميريّ «الكبيريّ الفلانيّ» بلقب الإضافة إلى لقب السلطان كالناصريّ ونحوه، بخلاف أرباب الأقلام فإنه لم تجر العادة بأن يكتب لهم ذلك في شيء من طرّة تقاليدهم ولا تواقيعهم، إلى أن لبس القاضي سعد الدين بن غراب الكلّوتة (2)، واستقر إستادارا (3) في الدولة الناصرية فرج بن برقوق، ثم استقرّ مشيرا وكتب له تقليد بالإشارة كتب له في طرّة تقليده بعد الكبيريّ «الناصريّ» لجمعه بين السيف والقلم. ثم جرى بعض الكتّاب على مثل ذلك في غيره من أرباب الأقلام الأكابر: كالوزير، وكاتب السر، وناظر الخاصّ، وناظر الجيش، ومن في معناهم من أرباب الوظائف الديوانية. والحجة فيه ظاهرة من حيث إن كلّا من المذكورين إذا كتب عنه كتاب، كتب في أعلاه تحت البسملة «الملكيّ الناصريّ» وإذا كتب عنه قصّة، كتب فيها تحت البسملة «الملكيّ الفلانيّ».
ومقتضى ذلك أن يكتب لقب الإضافة إلى لقب السلطنة في تقليده أو توقيعه على ما تقدّمت الإشارة إليه من فعل بعض الكتّاب.
الأمر الخامس مما يجب على الكاتب مراعاته معرفة الوصف اللائق بصاحب الوظيفة.
فيجب عليه مراعاة ما يناسبه من الأوصاف التي يقع بها تقريظه ومدحه:
فإن كان نائب سلطنة وصفه بالشجاعة، والنّجدة، وقوّة العزم، والشّهامة، وشدّة الشّكيمة، ونصرة الدّين، وكفّ [الأيدي] (4) العادية، وإرهاب العدوّ،
__________
(1) وهي الهامش الذي يترك في أعلى الكتاب.
(2) وهي غطاء للرأس، تلبس وحدها أو بعمامة، وتسمى كلفة وكلفتاه وكلفته. ويقول البعض أنها من أصل لاتيني، ويقول آخرون أنها معربة عن الفارسية. (انظر الصبح: 4/ 396وخطط المقريزي: 2/ 98)
(3) الاستادار هو الذي يتولى شؤون مسكن السلطان أو الأمير ومصروفاته وتنفذ فيه أوامره. واللفظ فارسي مركب. (انظر الصبح: 4/ 20وتأصيل الدخيل: 13).
(4) الزيادة يقتضيها السياق.(11/86)
وقمع المفسدين، وإرغام أهل العدوان، وحماية الثّغور إن كان في ثغر ووفور الهيبة، وبعد الصّيت، وطيران السّمعة، مع بسط المعدلة والرّفق بالرعيّة، والرأفة بخلق الله تعالى، والشّفقة عليهم، والإحسان إلى الكافّة، والأخذ بقلوبهم، والوقوف مع أحكام الشريعة، وبذل الطاعة، والمناصحة، والمخالصة، وقدم هجرته في الدولة إن كان قديم هجرة ومرور الدّول عليه إن كان قد مرّت عليه دول، وأنه نشء الدولة إن كان ابتداء أمره فيها، ونحو ذلك.
وإن كان نائب قلعة وصفه بالحذق، واليقظة، وقوّة الحزم، وشدّة التحرّز، والمعرفة بأحوال الحصار وضروب القتال وطرق التحصين والمدافعة، ونحو ذلك.
وإن كان وزيرا وصفه بحسن التدبير، وجزالة الرأي، والاحتياط في الأمور، والقيام بمصالح الإسلام، وعمارة البلاد، والنّهوض في المهمّات، وكفّ الأيدي العادية، والأخذ على يد المتعدّي، وتنمية الأموال وتثميرها، وتسهيل ما يجري من الأرزاق على يده، وبذل المجهود في معاضدة الشريعة، وشبه ذلك مما يجري هذا المجرى.
وإن كان كاتب سرّ وصفه بالفصاحة والبلاغة، وقيام أقلامه في التأثير في العدوّ مقام السّيوف والرّماح، وكتبه في تفريق الكتائب مقام الجيوش والعساكر، وسداد الرأي، وكتم الأسرار، وحماية الممالك بنتائج أفكاره، وما شاكل ذلك.
وإن كان ناظر جيش وصفه بالمعرفة بأمور الجيوش وترتيبها، وأصناف الأمراء، والجند، والمستخدمين، وترتيب مقاماتهم، وما ينخرط في هذا السّلك.
وإن كان ناظر الخاص وصفه بالمعرفة بأمور الحساب، والنهضة في المهمّات، والمعرفة بأحوال ديوان الخاصّ وجهاته، والقدرة على تحصيل
الأموال وزيادتها، ومعرفة ما يحتاج إليه من أصناف الأقمشة والطّرز وغيرها، مع الأمانة والعفّة، وما يجري مجرى ذلك.(11/87)
وإن كان ناظر الخاص وصفه بالمعرفة بأمور الحساب، والنهضة في المهمّات، والمعرفة بأحوال ديوان الخاصّ وجهاته، والقدرة على تحصيل
الأموال وزيادتها، ومعرفة ما يحتاج إليه من أصناف الأقمشة والطّرز وغيرها، مع الأمانة والعفّة، وما يجري مجرى ذلك.
وإن كان مستوفي الصّحبة (1) وصفه بالمعرفة بفنون الكتابة، ونظم الحسبانات، والاحتياط في استرفاعها، مع الضبط والاحتراز والأمانة والعفّة وما هو من هذا القبيل.
وإن كان ناظر خزانة الخاصّ (2) وصفه بالأمانة، والعفّة، والمعرفة بأصناف الخزانة: من الأقمشة والتّشاريف، والطّرز، ومعرفة مراتب أربابها، وما يناسب كلّ واحد منهم من أنواع التشاريف من عاليها وهابطها، وما يطابق ذلك.
وإن كان قاضيا وصفه بغزارة العلم، وسعة الفضل، ونصرة السّنّة، وقمع البدعة، والعدل في الأحكام، وإنصاف المظلوم من الظالم، والأخذ للضعيف من القويّ، والنزاهة عن المطاعم الوخيمة، والمطامع الرديّة، والبعد عن الأهواء في الحكم، وما ينخرط في هذا السّلك.
وإن كان محتسبا (3) وصفه بعد وصفه بالفضل بالعفّة، والأمانة، وعلوّ الهمّة، وقوّة العزم، والصّرامة، ووفور الهيبة، والنّهوض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنظر في مصالح المسلمين، وعدم محاباة أهل الدّنيا وأرباب الجاه، وأنه لا يفرّق في الحق بين الجليل والحقير، وما في معنى ذلك.
وإن كان وكيل بيت المال وصفه بعد العلم والديانة بالوقوف مع الحق، والتثبّت فيه، ومراعاته المصلحة العامّة في كل ما يتعلّق به، والمعرفة بشروط
__________
(1) أنظر حول مهامه ص 93من هذا الجزء.
(2) وهو المسؤول عن خزانة خاص أموال السلطان. وتسمى خزانة الخاص أيضا «ديوان الخاص»، أنشأها السلطان الناصر محمد بن قلاوون. (راجع الصبح: 3/ 452).
(3) ويده مطلقة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على قاعدة الحسبة.(11/88)
الاعذار ومواقع إبداء الدافع ونفيه، وأنه يقدّم مصالح المسلمين على مصالح نفسه، وما يقارب ذلك.
وإن كان مدرّسا وصفه بسعة العلم، والتضلّع بالفنون، والأخذ من كلّ منها بحظّ وافر، وطول الباع في البحث والمناظرة، والوقوف مع الحقّ فيها، وعدم الجدال في الباطل، وتربية الطلبة، وتأديبهم، والتقريب على من عسر على فهمه شيء من المسائل، وعدم الترفّع عليهم، وتنزيلهم منازلهم في الفضل، وتقديم من برع منهم.
وإن كان خطيبا وصفه بالفصاحة، والبلاغة، وقوّة اللّسن، وشدّة الشّكيمة في الكلام، وتأثير وعظه في القلوب، وانسكاب الدموع من وقع عظاته، وما أشبه ذلك.
وإن كان شيخ خانقاه (1) وصفه بالورع، والزّهد، والنّسك، وقطع العلائق من الدنيا، وتربية المريدين وتسليكهم، والوقوف مع طريق السّلف الصالح.
وإن كان رئيس الأطبّاء وصفه بالحذق في الطّبّ، والمهارة فيه، وتقدّمه على غيره في الفنّ، والمعرفة بالعقاقير وما فيها من نفع وضرّ والمعرفة بالأمراض والعلل وطرق العلاج، وما يجري مجرى ذلك.
وإن كان رئيس الكحّالين (2) وصفه بالمعرفة في صنعة الكحل، والتقدّم على أبناء صنعته فيه، والمعرفة بحال العين وأمراضها، وأصناف الأكحال، وما يوافق كلّ علّة من ذلك، وما ينخرط في هذا السّلك.
وإن كان رئيس اليهود أو بطركا من بطاركة النصارى، وصفه بالمعرفة بأمور
__________
(1) الخانقاه: فارسية، ومعناها «بيت» وأصلها «خونقاه» أي الموضع الذي يأكل فيه الملك. والمراد هنا: بيت الصوفية. (خطط المقريزي: 2/ 414).
(2) أي رئيس أطباء العيون.(11/89)
ملّته، والوقوف مع قوانين شرعته ومعاطاة العدل في جماعته، والتزام شروط الذمة، والوقوف عند حدّها، والدخول تحت الطاعة، والوقوف عند ما حدّ له، ونحو ذلك.
الأمر السادس مما يجب على الكاتب مراعاته وصية ربّ كل ولاية من الولايات المعتبرة بما يناسبها.
واعلم أن كل ما حسن وصية المولّى به، حسن وصفه به. والوصايا مختلفة باختلاف موضوعاتها، إلا أنّ الجميع يشترك في الوصيّة بتقوى الله، فهي الأسّ الذي يبنى عليه، والركن الذي يستند إليه. وهذا الباب هو الذي يطول فيه سبح الكاتب، ويحتاج فيه إلى سعة الباع فإنه ما لم يكن الكاتب حاذقا بما يلزم ربّ كل ولاية ليوفّيها في الوصية حقّها، وإلا ضلّ عن الطريق، وحاد عن جادّة الصّنعة، ولذلك يقال للكاتب: «القلم الأكبر»: لأنه بصدد أن يعلّم كلّ واحد من أرباب الولايات ما يلزمه في ولايته.
وحينئذ فإن كان المتولّي «نائب سلطنة» وصّي بتفقّد العساكر، وعرض الجيوش، وإنهاضها للخدمة [وانتقائه] (1) للوظائف من يليق بها، وتنفيذ الأحكام الشرعيّة، ومعاضدة حكّام الشرع الشريف، وإجراء الأوقاف على شروط واقفيها، وملاحظة البلاد وعمارتها، وإطابة قلوب أهلها، والشّدّ من مباشري الأموال، وتقوية أيديهم، وملازمة العدل، وعدم الانفكاك عنه، وتحصين ما لديه من القلاع، واستطلاع الأخبار والمطالعة بها، والعمل بما يرد عليه من المراسيم السلطانية، وأنّ ما أشكل عليه يستضيء فيه بالآراء الشريفة، والإحسان إلى الجند، وتعيين إقطاع من مات منهم لولده إن كان صالحا، ونحو ذلك.
وإن كان «نائب قلعة» وصّي بحفظ تلك القلعة، وعمارة ما دعت الحاجة إلى عمارته منها، والأخذ بقلوب من فيها، وجمعهم على الطاعة، وأخذ قلوبهم
__________
(1) بياض بالأصل بقدر كلمة: والتصحيح عن هامش الطبعة الأميرية.(11/90)
بالإحسان إليهم، وتحصينها بآلات الحصار، وادّخار آلات الحرب، من المجانيق والقسيّ وسائر الآلات: من السّهام، واللّبوس (1)، والسّتائر (2)، وغير ذلك. وكذلك آلات أرباب الصنائع، كآلات الحدّادين، وصنّاع القسيّ ومن في معناهم مما يحتاج إلى عمله في آلات القلعة، والاعتناء بغلق أبواب القلعة وفتحها، وتفقّد متجدّدات أحوالها في كل مساء وصباح، وإقامة الحرس، وإدامة العسس، وتعرّف أخبار المجاورين لها من الأعداء، وإقامة نوب الحمام بها، والمطالعة بكل ما يتجدّد لديه من الأخبار.
وإن كان «وزيرا» وصّي بالعدل وزيادة الأموال وتثميرها، والإقبال على تحصيلها من جهات الحلّ، واختيار الكفاة الأمناء، وتجنّب الخونة، وتطهير بابه، وتسهيل حجابه، والنظر في المصالح، وأنه لا يستبدل إلا بمن ظهر لديه عجزه أو خيانته، والنظر في أمر الرواتب وإجرائها على أربابها.
وإن كان «كاتب سرّ» وصّي بالاهتمام بتلقّي أخبار الممالك وعرضها على المواقف الشريفة (3)، والاجابة عنها بما تبرز به المراسيم الشريفة، وتعريف النوّاب في الوصايا التي تكتب في تقاليدهم عن المواقف الشريفة ما أبهم عليهم، ويبيّن لهم ما يقفون عند حدّه، والنظر في تجهيز البريد والنّجّابة (4)، وما
__________
(1) اللّبوس: درع يغطي هيكل السفينة الحربية من الخارج لوقايتها، وهو كالستارة. (راجع الصبح:
2/ 145).
(2) الستائر: جمع ستارة وهي حائط خارجي مبني من الخشب أو غيره يحتمي وراءه المدافعون عن حصن أو سور ويستخدم المهاجمون الستائر أيضا للوقاية من قذائف العدو، وكانت تعمل أحيانا من اللبود. (التعريف بمصطلحات الصبح: 178).
(3) المواقف الشريفة، والمواقف المقدسة من ألقاب الكناية المكانية. والمراد الأماكن التي يقف فيها الخليفة أو السلطان. (راجع الصبح: 6/ 37).
(4) يستفاد من نصوص الخطيب الصيرفي في كتابه «نزهة النفوس والأبدان» أن النجاب (الجمع نجّابة) هو البريديّ الذي يحمل رسائل السلطان إلى مختلف الجهات. وقد أرّخ الصيرفي للأحداث والماجريات والوفيات بين سنتي 784هـ و 842هـ والمصطلحات المملوكية التي نجدها في كتابه هي نفس المصطلحات الواردة في كتاب الصبح. وفي هامش الطبعة الأميرية أن القلقشندي جارى العامة في هذا الاستعمال (انظر نزهة النفوس والأبدان: 2/ 110و 3/ 119 237).(11/91)
يبعث فيه من المصالح وينفّذ فيه من المهمّات والقصّاد، ومعرفة حقوق ذوي الخدمة والنّصيحة، وإجرائهم في رسوم الرواتب وعوائد البر والإحسان على أتمّ العوائد، وتأليف قلوبهم، والأخذ بخواطرهم، والنظر في أمر الكشّافة والدّيادب والنظّارة والمناور والمحرقات (1) وأبراج الحمام، وصرف نظره إلى رسل الملوك الواردة، ومعاملتهم بالإكرام، والأخذ في صون سرّ الملك وكتمانه حتّى عن نفسه، وضبط ألواح البريد، والاحتراز فيما تؤخذ عليه العلامة الشريفة، ومراعاة كتّاب ديوان الإنشاء، والإحسان إليهم، وأن لا يستكتب في ديوانه إلا من علم صلاحه لذلك وكفايته، ووثق منه بكتمان السرّ كما يثق به من نفسه.
وان كان «ناظر جيش» (2) وصّي بالاحتياط في أمر ديوانه، والوقوف على معالم هذه المباشرة، وجرائد الجند، والإقطاعات، وتحرير الكشوف والمحاسبات، واستيضاح أمر من يموت من أرباب الإقطاعات من ديوان المواريث أو من المقدّمين والنّقباء، والاحتراز في أمر المربّعات (3) وجهات
__________
(1) الكشافة: فئة من العسكر عملها الخروج لكشف أخبار العدو. والديادب: جمع ديدبان وهو الذي يقوم برصد العدو ورؤيته والنظارة بنفس المعنى. والمناور: هي مواضع رفع النار في الليل والدخان في النهار للإعلام بحركات العدو إذا قصد البلاد. أما المحرقات فهي فرقة من الرجال تجهز لحريق زراعة ونبات أرض مخصبة وذلك بقصد إضعاف العدو وعجزه ولموت خيوله جوعا فيعجز عن الحرب. (انظر في ذلك: التعريف بمصطلحات الصبح عن التعريف بالمصطلح الشريف لابن فضل الله العمري).
(2) كان يقوم بالإشراف على الجيش في العصر المملوكي ديوان في القلعة، يعمل فيه أرباب الأقلام وكان هذا الديوان يسمى ديوان الجيش ووظيفته تسمى نظارة أو نظر الجيش، ومن يقوم به يسمى ناظر الجيش. وأساس عمل ديوان الجيش هو تسجيل أسماء الجنود وأعدادها ونفقاتها.
(انظر ص 317من هذا الجزء وخطط المقريزي: 1/ 141ونظم دولة سلاطين المماليك:
1/ 138وما بعدها).
(3) المربعات: هي مراسيم مربعة تكتب في ورق شامي وهي خاصة بديوان الجيش. (انظر في ذلك الصبح: 13/ 155154).(11/92)
الإقطاعات وما يترتّب عليها من المناشير، والنظر في أمر المقطعين، من الجند، والعرب، والتّركمان، والأكراد، ومن عليه تقدمة أو درك بلاد أو غير ذلك.
وإن كان «ناظر خاص» وصّي بالاحتياط لديوانه، والأخذ في تحصيل أموال جهاته وتنميتها وتثميرها، وزيادتها وتوفيرها، والتحرّز فيما يرفع من حسباناتها، والاهتمام بأمر التّشاريف (1) والخلع، وما يختصّ بكل ولاية وغيرها من التّشاريف، وما جرت به العادة من الهدايا المحضّرة إلى ملوك الأقطار، والأخذ في ذلك كلّه بالحظّ الأوفى للديوان السلطانيّ، وما يجري مجرى ذلك.
وإن كان «مستوفي صحبة» (2) وصّي بإلزام الكتّاب بما يلزمهم من الأعمال وتحريرها، وعمل المكلّفات وتقدير المساحات، وتمييز ما بين تسجيل الفدن في كل بلد بحسب ما يصلح لها من الزّراعة، وتمييز قيم بعضها على بعض، ومستجدّ الجرائد، وما يقابل عليه من ديوان الإقطاعات والأحباس وغير ذلك.
وإن كان «ناظرا لخزانة الخاص» وصّي بتحصيل ما يحتاج إليه لتفصيل الخاصّ وتشاريف أرباب السيوف والأقلام: العرب، والتّركمان، والأكراد، وغيرهم، وهدايا الملوك وما يجري مجرى ذلك: من العتّابيّ (3) والأطلس، والمشربش، والمقندس (4) والمتمّر، والطّرازات على اختلافها: من الزّركش (5)، والباهي، وأنواع المستعملات، وما يحمل من دار الطّراز، وما
__________
(1) التشاريف هي ملابس خاصة ينعم بها السلطان على مختلف رتب أرباب السيوف والأقلام وهي على أنواع. (راجع الصبح: 4/ 5452).
(2) وكان يشارك الوزير في عمله.
(3) العتّابيّ: صنف من قماش خشن مخطط بحمرة وصفرة. (انظر التعريف بمصطلحات الصبح:
242 - عن معجم).
(4) نسبة إلى فراء القندس وهو حيوان قارض من الفصيلة القندسية. كثّ الفراء، له ذنب قوي مفلطح.
(5) من زركش الثوب أي صبغه أو لوّنه. والزراكشة اسم الذين يقومون بهذه الصناعة. والزركش نوع من الحرير تصنع منه العمائم، منسوج بالفضة. (انظر الصبح: 5/ 83ونزهة النفوس:
3/ 129).(11/93)
يبتاع للخزانة العالية (1)، وما هو مرصد لها من الجهات التي يحمل إليها متحصّلها: لينفق في أثمان المبيعات ومصروف المستعملات، والاحتراز فيما ينفق من الأثمان وقيمة المبتاع، وشهادات الرسائل المكتتبة إليه بالحمول وما يكتب بها من الرّجعات، وأن يحصّل كلّ شيء هو بصدد الحاجة إليه قبل الاحتياج.
وإن كان «قاضيا» وصّي بالتروّي في أحكامه قبل إمضائها، وأن يراجع الأمر مرّة بعد أخرى، واستشارة أهل العلم، والرّجوع إليهم فيما أشكل عليه، واستخارة الله تعالى قبل الإقدام على الحكم، والقضاء بحقّ الخصم بعد وضوحه، والتسجيل له به، والإشهاد على نفسه بذلك، والتسوية بين الخصوم حتّى في تقسيم النظر إلى الخصمين، والتحرّي في استيداء الشهادات، وأن لا يقبل من الشهود إلا من عرف بالعدالة: من ربّ قلم أو سيف، والتنقيب عما يصدر من العقود، ولا يعوّل من شهود القيمة (2) إلا على كل عارف بالقيم خبير بها، والنظر في أمر الرّسل والوكلاء، والنظر في أمور أهل مذهبه، والاعتناء بشأنهم.
ويزاد «الشافعيّ» التوصية بالنظر في دعاوى بيت المال ومحاكماته، والاحتراز في قضاياها ولا يقبل فيها بيّنة لوكيل بيت المال فيها مدفع، ولا يعمل فيها بمسألة ضعيفة، والنظر في أمر أموال الأيتام وأمر المتحدّثين فيها بالإحسان إليهم، وكذلك أموال الصدقات الجارية تحت نظره، والتيقّظ لإجرائها على السّداد في صرفها في وجوه استحقاقها، وأن لا يعمل في مسألة تفرّد بها مذهبه
__________
(1) يعبر عن الخزانة بدمشق بالخزانة العالية ومتوليها يكون رفيقا للخازندارية من الطواشية، ويكون متحدثا في أمر التشاريف والخلع وما معها، وهي وظيفة جليلة يوليها النائب بتوقيع كريم.
(الصبح: 4/ 191).
(2) انظر حول شهود القيمة ص: 195و 218من هذا الجزء.(11/94)
إلا بما نصّ عليه إمامه أو كان عليه أكثر أصحابه، ولا يعتمد في ذلك مرجوحا ولا ما تفرّد به قائله، وأن لا يولي في البرّ نائبا إلا من عرف استحقاقه وأهليته لما يتولّاه.
ويزاد «الحنفيّ» الوصية بالعمل بما اقتضاه مذهبه من الأمور التي فيها صلاح لكثير من الناس: كتزويج المعصرات (1)، وشفعة الجوار (2)، ونفقة المعتدّة البائن، وعدم سماع بيّنة الإعسار إلّا بعد مضيّ المدة المعتبرة في مذهبه والإحسان إلى من ضمّه نطاق ولايته ممن نزح إليه من أهل الشّرق وأقاصي الشّمال.
ويزاد «المالكيّ» الوصية بالتحرّي في بيّنات الدّماء، والإعذار إلى الخصم ليبدي ما لديه من دافع، والعمل بما تفرّد به مذهبه مما فيه فسحة للناس: كالثّبوت بالشهادة على الخط، وولاية الأوصياء، وإسقاط الرّيع، والوقف المستردّ بعد البيع، والإحسان إلى من لديه من غرباء أهل مذهبه، لا سيّما من أتاه من بلاد المغرب.
ويزاد «الحنبليّ» الوصية بالاحتياط في بيع ما دثر من الأوقاف والاستبدال بها، ورعاية المصلحة في ذلك لأهل الوقف بما أمكن، والفسخ على من غاب عن زوجته الغيبة المستوجبة للفسخ عندهم، ووقف الإنسان على نفسه، وأمر الجوائح التي يحصل بها التخفيف عن ضعفاء الناس، والمعامل على الزرع بالحرث ونحوه، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى، والوصية بأهل مذهبه الذين هم أقلّ المذاهب عدّة وأنزرهم وظائف وأوقافا، ومعاملتهم بالإحسان.
__________
(1) المعصر: التي بلغت عصر شبابها وأدركت وقيل: أول ما أدركت وحاضت. والجمع معاصر ومعاصير. والإعصار في الجارية كالمراهقة في الغلام. (انظر لسان العرب: 4/ 576).
(2) الشفعة: هي تملك البقعة جبرا بما قام على المشتري بالشركة والجوار. (التعريفات للجرجاني:
ص 127).(11/95)
وإن كان «قاضي عسكر» (1) وصّي بنحو ما يوصّى به [القاضي] (2) وأن يتخذ معه كاتبا يكتب للناس، وأن يقبل من الجند من كان ظاهره العدالة، فإنّ الشّهود المعدّين لتحمّل الشهادة يعزّ وجودهم في العسكر، وأن يكون له منزل معروف يقصد فيه إذا نصبت الخيام، وأحسن ما يكون ذلك عن يمين الأعلام السلطانية، وأن يكون مستعدّا للأحكام التي يكثر فصلها في العسكر: كالغنائم، والشّركة، والقسمة، والمبيعات، والردّ بالعيب، وأن يسرع في فصل القضاء بين الخصوم: لئلا يكون في ذلك تشاغل عن مواقع الحرب ومقدّماته، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى.
وإن كان «محتسبا» وصّي بالنظر في أمر المكاييل والموازين وسائر المقادير، والتحذير من الغش في الطعام والشّراب، وأن يتعرّف الأسعار، ويستعلم الأخبار في كل سوق من غير علم أهله، وأن يقيم على الأسواق وأرباب المعايش من ينوب عنه في النظر في أمورهم من الأمناء المأمونين، وأن لا يمكّن أحدا من العطّارين من بيع غرائب العقاقير إلا ممّن لا يستراب به بخط متطبب لمريض، وأن يمنع المتحيلين على أكل أموال الناس بالباطل: من الطّرقيّة وأهل النّجامة (3)، وسائر الطوائف المنسوبة إلى بني ساسان من تعاطي ما يتعاطونه من ذلك، ويقمعهم ويحسم مادّتهم، والتصدّي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنع من الغش وإخبار المشتري بأزيد مما اشترى به، والنظر في أمر فقهاء المكاتب (4) والعالمات (5) من النساء، ولا يمكن منهم أحدا أن يتعاطى
__________
(1) وجدت وظيفة قاضي العسكر منذ أيام الفاطميين، ولكنها لم تكن مفصولة عن وظيفة قاضي القضاة. ولما كانت دولة المماليك دولة عسكرية فقد شغل هذه الوظيفة جنديّ، وعمله يشمل شؤون العسكر ومن يختص بهم والذين تقبل شهادتهم. (التعريف بمصطلحات الصبح: 265).
(2) الزيادة يقتضيها السياق.
(3) أي المنجمين الذين يدعون معرفة الغيب بمقتضى النظر في أحوال النجوم. وفي الحديث:
«كذب المنجمون ولو صدقوا».
(4) هم الذين يعلمون الأولاد الصغار ويقومون بتحفيظهم القرآن الكريم.
(5) معروفات حتى الآن وهنّ اللواتي يدرن بيوت اللهو والمجون.(11/96)
ذلك إلا من عرفت أمانته، وأثرت صيانته، وأن لا يستنيب إلا أهل العفّة والأمانة والنّزاهة ممن بعد عن الطمع، ونأى عن مطاعم السّوء.
وإن كان «وكيل بيت المال» (1) وصّي بالعمل بالشرع الشريف في جميع أحكامه، وأنّ من مات وله ورثة تستوعب ميراثه لا يكلّفهم ثبوتا فيه تعنّت ومدافعة عن حقهم، والتّشديد في أمر من كانت قصّته منكرة، والتحرّز من شهود الزّور في مثل ذلك، وأن يرجع في كل ما يباع ويؤجّر إلى العوائد، وأن يتحرّز في شهادة شهود القيمة، ولا يرجع فيها إلا لمن يوثق به ممن يكون عنده معرفة بقيم الأشياء، وينبّه على أنّ له أن يدّعي بحق المسلمين حيث شاء عند من يشاء من أصحاب المذاهب، وأنّ الدعوى عليه لا تكون إلا في مجلس الحكم العزيز الشافعيّ، على ما جرت به العادة القديمة، والاحتياط في حقّ بيت المال، وليختر للاستنابة في الأعمال من يصلح لذلك.
وإن كان «مدرّسا» وصّي بأن يقبل على جماعة درسه بطلاقة وجه، وأن يستميلهم إليه جهد استطاعته، ويربّيهم كما يربّي الولد ولده، ويستحسن نتائج أفكارهم التي يأتون بها في درسه، ويقدّم منهم من يجب تقديمه، وينزل كلّ واحد منهم منزلته، ليهزّهم ذلك إلى الإكباب على الاشتغال والازدياد في التحصيل، ثم يأتي في كل مدرّس بما يناسبه من أمور العلم الذي يدرّس فيه إن كان يدرّس في علم خاصّ.
وإن كان «خطيبا» وصّي برعاية حقّ رتبة الخطابة والقيام بحق ازدواجها، وأن يأتي من المواعظ بما يقرع الأسماع بالوعد والوعيد، ويلين القلوب القاسية، وأن يعدّ لكل مقام مقالا يقوله، وأن يخفّف الخطبة، ويأتي بها بليغة مفهومة، إلى غير ذلك من متعلّقات الخطابة.
__________
(1) كانت وكالة بيت المال وظيفة عظيمة الشأن رفيعة القدر، وكان لمن يتولاها التحدث فيما يتعلق بمبيعات بيت المال ومشترياته من أراض ودور وغير ذلك، وكان مجلسه بدار العدل، وتارة يكون أرقى رتبة من المحتسب، وأحيانا أقل منه. (التعريف بمصطلحات الصبح: 361).(11/97)
وإن كان «شيخ خانقاه» وصّي بالاجتهاد في العبادة، والمشي على طريق السّلف من الزّهد والورع، والعفاف، وأن يأخذ جماعته بمآخذه في الأمور، وأن يعرف لجماعة مكانه حقوقهم الواجبة لهم وينزلهم منازلهم خصوصا أولي السابقة منهم، ويأخذ في الرفق بهم ومداراتهم، مع ترتيب من استجدّ منهم، وإجرائهم على طرائق الصّوفيّة، وتعريفهم الطريق إلى الله تعالى، وتدريج المريدين على قدر ما تحتمله أفهامهم، دون أن يهجم عليهم من أحوال الطريق بما لا تحتمله عقولهم، و [اتّباع] (1) سبيل الكتاب والسّنّة اللّذين من حاد عنهما ضلّ، ومن خرج عن جادّتهما زلّ، وكفّهم عن ارتكاب البدع والجري على منهاجها، ومن أتى ذنبا فخذه بالتوبة والاستغفار، والإنكار على من أخذ في الشّطحات، والخروج عن قانون ظاهر الشريعة، ومنع من نحا هذا النحو أو جرى على هذه الجادّة، والإحسان إلى من يقدم عليه من الآفاق، وحسن التلقّي له، وإكرام نزله بعد أن يعجّل له بالإذن، والأمر بأخذ عكّازة، وفرش سجّادة، وما ينخرط في سلك ذلك.
وإن كان «رئيس الأطباء» وصّي بالنظر في أمر طائفته، ومعرفة أحوالهم، ويأمر المعالج أن يعرف أوّلا حقيقة المرض وأسبابه وعلاماته، ثم ينظر إلى السّن والفصل والبلد، وحينئذ يشرع في تخفيف الحاصل، وقطع الواصل، مع حفظ القوّة، وأن لا يهاجم الداء، ولا يستغرب الدواء، ولا يقدم على الأبدان إلا ما يلائمها، ولا يخرج عن عادة الأطباء ولو غلب على ظنّه الإصابة حتّى يتبصّر فيه برأي أمثاله، ويتجنب الدّواء، ما أمكنته المعالجة بالغذاء، والمركّب ما أمكنته المعالجة بالمفرد، ويتجنب القياس إلا ما صحّ بتجريب غيره في مثل من أخذ في علاجه، وما عرض له، وسنّه، وفصله، وبلده، ودرجة الدواء، وأن يحذر التجربة فإنها خطر، مع الاحتراز في المقادير والكيفيات، وفي الاستعمال والأوقات، وما يتقدّم ذلك الدواء أو يتأخّر عنه، ولا يأمر باستعمال دواء ولا ما
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/98)
يستغرب من غذاء حتّى يحقّق حقيقته، ويعرف جديده من عتيقه، ليعرف مقدار قوّته في الفعل.
وإن كان «رئيس الكحّالين» وصّي بالنظر في حال جماعته أيضا، ومعرفة أحوالهم، وأن لا يصرّف منهم إلا من عرف بحسن المداراة والملازمة في العلاج، ويأمر كلّا منهم أن لا يقدم على مداواة عين حتّى يعرف حقيقة المرض، وأن يلاطفها بما يناسبها من الغذاء، وأن يتخيّر من الكحل ما فيه شفاء العين وجلاء البصر، وأن يستشير الأطباء الطبائعيّة (1) فيما أهمّ، مما لا يستغنى عن رأي مثلهم فيه، من تخفيف المادّة بالاستفراغ أو نقص دم أو غير ذلك.
وإن كان «رئيس اليهود» وصّي بضمّ جماعته، ولمّ شملهم، والحكم فيهم بقواعد ملّته، والنظر في أمور الأنكحة عندهم، وما يعتبر عندهم فيها على الإطلاق، وما يفتقر إلى الرضا من الجانبين في العقد والطّلاق، والنظر فيمن أوجب حكم دينه عليه التحريم، والتوجّه في صلاتهم تلقاء بيت المقدس إلى جهة قبلتهم، وإقامة حدود التوراة على ما أنزل الله تعالى من غير تحريف ولا تبديل للكلمة بتأويل ولا غيره، واتباع ما أعطوا عليه العهد مع إلزامه لهم [ما التزموه] (2) من حكم أمثالهم من أهل الذمة الذين أقرّوا في دار الإسلام على الصّغار والإذعان لأهل الإسلام، وعدم مضايقتهم للمسلمين في الطّرق، وتميزهم بشعارهم في الحمّام، كي لا يحصل اللّبس بالمسلمين، وحمل شعار الذمة على رؤوسهم: وهي العمائم الصّفر، ويأخذهم بتجديد صبغه في كل حين، وعدم التظاهر بما يقتضي المناقضة: من ذكر الله تعالى أو رسوله صلّى الله عليه وسلّم بسوء، أو إظهار الخمر أو معتقدهم في العزير عليه السّلام. وله أن يرتّب طبقاتهم على ما تقتضيه مراتبهم عنده، وكذلك له التحدّث في كنائس
__________
(1) الأطباء الطبائعية هم المختصون بعلاج الأبدان وهم الذين يطلق عليهم في مصطلحنا الحديث «أطباء الأمراض الباطنية».
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/99)
اليهود المستمرّة إلى الآن بأيديهم، من حين عقد الذمّة، من غير تجديد متخرّب، ولا فعل ما لم تعقد عليه الذمّة ويقرّهم عليه السلف الأوّل.
وإن كان «بطرك النصارى الملكانيّة» وصّي بما عليه بناء شرعته من المسامحة والاحتمال والصّبر على الأذى، وعدم الاكتراث به، وأخذ نفسه بهذه الآداب، وأنه يقدّم المصالحة بين المتحاكمين إليه قبل فصلها على البتّ فإنه قاعدة دينه المسيحيّ، ولم تخالف فيه الملة الإسلاميّة، وأنه ينقّي صدور إخوانه من الغلّ، ويتخلّق بكل خلق جميل، ولا يستكثر من الدنيا، ويتنزّه عن أموال جماعته والتوسّل إلى أخذها، وأنّ إليه أمر الكنائس والبيع، وعليه أن يتفقّدها في كلّ وقت، ويرفع ما فيها من الشّبهات، ويحذّر رهبان الدّيارات من جعلها مصيدة للمال، وأن يتجنّبوا فيها الخلوة بالنساء، ولا يؤوي إليه أحدا من الغرباء القادمين عليه يكون فيه ريبة، ولا يكتم ما اطلع عليه من ذلك عن المسامع الشريفة السلطانية، ولا يخفي كتابا يرد عليه من أحد من الملوك، أو يكتب له جوابا، ويتجنّب البحر وما يرد منه من مظانّ الرّيب.
وإن كان «بطرك اليعاقبة» قيل في وصيته نحو ما تقدّم في وصيّة بطرك الملكانيّين، إلا أنه لا يقال: واعلم أنّك في المدخل إلى شريعتك طريق الباب، بل يقال: واعلم أنك في المدخل إلى شريعتك قسيم الباب، ومساو له في الأمر والنهي والتحليل والتحريم. ويقال بدل قوله «وليتجنّب البحر»:
«وليتوقّ ما يأتيه سرّا من تلقاء الحبشة».
قلت: وهذه الوصايا مدخل إلى ما يرضى به أصحاب الولايات ممّن تقدّم ذكره والأمر في الزيادة والنقص في ذلك بحسب المناسبة راجع إلى نظر الكاتب. على أن المقرّ الشهابيّ ابن فضل الله رحمه الله قد ذكر في «التعريف» عدّة وصايا ليست مما يكتب الآن، فأضربنا عن ذكر مقاصدها هنا: لتورد برمّتها في الكلام على ما يكتب في متن التقاليد والتواقيع ونحوها، مع النسخ التي تورد هناك على صورة ما أوردها، لينسج على منوالها إن أمر بكتابة شيء منها.(11/100)
المقصد الثاني (في بيان مقاصد ما يكتب في الولايات، وفيه جملتان)
الجملة الأولى (في بيان الرّسوم في ذلك، ومقادير قطع الورق لكلّ صنف منها على سبيل الإجمال)
وهي على أربعة أنواع:
النوع الأوّل (التّقاليد)
جمع تقليد. يقال: قلّدته أمر كذا إذا ولّيته إيّاه. قال الجوهري: وهو مأخوذ من القلادة في العنق، يقال قلّدت المرأة فتقلدت، قال: ومنه التقليد في الدّين أيضا.
ثم التقاليد تشتمل على طرّة ومتن، فأما الطرّة فقد أشار إليها في «التعريف» بقوله: وعنوانها «تقليد شريف لفلان بكذا». وأوضح ذلك في «التثقيف» (1) فقال: وصورته: أن يكتب: تقليد شريف بأن يفوّض إلى المقرّ الكريم، أو إلى الجناب الكريم، أو إلى الجناب العالي الأميريّ الكبيريّ، الكافليّ، الفلانيّ، أعزّ الله تعالى أنصاره، أو نصرته، أو ضاعف الله تعالى نعمته، نيابة السلطنة الشريفة بالشام المحروس، أو بحلب المحروسة، أو بطرابلس المحروسة، أو نحوها، على أجمل العوائد في ذلك وأكمل القواعد على ما شرح فيه.
قلت: وتفصيل هذا الإجمال: إن كان المكتوب له التقليد هو النائب الكافل (2)، كتب في طرّة تقليده: تقليد شريف بأن يفوّض إلى المقرّ
__________
(1) المقصود «تثقيف التعريف» لابن ناظر الجيش.
(2) وهو الذي يحكم في كل ما يحكم فيه السلطان، ويعلّم في التقاليد والتواقيع والمناشير وجميع نواب المماليك تكاتبه فيما تكاتب فيه السلطان. (التعريف بمصطلحات الصبح).(11/101)
الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، الكفيليّ، الفلانيّ، فلان الفلانيّ، بلقب الإضافة إلى لقب السلطان، كالناصريّ مثلا، كفالة السلطنة الشريفة بالممالك الإسلاميّة، أعلاها الله تعالى على أجمل العوائد في ذلك وأكمل القواعد، على ما شرح فيه.
وإن كان التقليد بكفالة السّلطنة بالشام، كتب: تقليد شريف بأن يفوّض إلى المقرّ الكريم العالي، الأميريّ، الكبيريّ، الكفيليّ، فلان الناصريّ، مثلا كفالة السلطنة بالشام المحروس على أتمّ العوائد في ذلك وأجمل القواعد، على ما شرح فيه.
وإن كان التقليد بنيابة السلطنة بحلب، كتب: تقليد شريف بأن يفوّض إلى الجناب الكريم العالي، الأميريّ، الكبيريّ، الكافليّ، الفلانيّ، فلان الناصريّ، أعز الله تعالى نصرته، نيابة السلطنة الشريفة بحلب المحروسة، على أجمل العوائد في ذلك وأكمل القواعد، على ما شرح فيه.
وإن كان التقليد بنيابة طرابلس، كتب: تقليد شريف بأن يفوّض إلى الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، الكافليّ، الفلانيّ، فلان الناصريّ:
ضاعف الله تعالى نعمته، نيابة السلطنة الشريفة بطرابلس المحروسة، على أجمل العوائد في ذلك وأكمل القواعد، على ما شرح فيه.
وإن كان التقليد بنيابة السلطنة بحماة، أبدل لفظ طرابلس بحماة.
وإن كان بنيابة السلطنة بصفد، أبدل لفظ طرابلس وحماة بصفد، والباقي على ما ذكر في طرابلس.
وإن كان التقليد بنيابة السلطنة بغزّة حيث جعلت نيابة كتب: تقليد شريف بأن يفوّض إلى الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، الكافليّ، الفلانيّ،
فلان الناصريّ: أدام الله تعالى نعمته، نيابة السلطنة الشريفة بغزّة المحروسة، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، على ما شرح فيه.(11/102)
وإن كان التقليد بنيابة السلطنة بغزّة حيث جعلت نيابة كتب: تقليد شريف بأن يفوّض إلى الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، الكافليّ، الفلانيّ،
فلان الناصريّ: أدام الله تعالى نعمته، نيابة السلطنة الشريفة بغزّة المحروسة، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، على ما شرح فيه.
فإن كان مقدّم العسكر كما هو الآن، أبدل لفظ نيابة السلطنة الشريفة بلفظ «تقدمة العسكر المنصور» والباقي على ما ذكر.
وإن كان التقليد بنيابة السلطنة بالكرك، كتب: تقليد شريف بأن يفوّض إلى المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، الفلانيّ، فلان الناصريّ: أدام الله تعالى نعمته، نيابة السلطنة الشريفة بالكرك المحروس، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، على ما شرح فيه.
وإن كان التقليد بالوزارة، كتب: تقليد شريف بأن يفوّض إلى الجناب العالي الصاحبيّ، الفلانيّ، فلان الناصريّ: ضاعف الله تعالى نعمته، الوزارة الشريفة بالممالك الإسلامية أعلاها الله تعالى، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، بالمعلوم الشاهد به الديوان المعمور، على ما شرح فيه.
وإن كان التقليد بكتابة السرّ، كتب: تقليد شريف بأن يفوّض إلى الجناب العالي، القاضويّ، الكبيريّ، اليمينيّ، الفلانيّ، فلان الناصريّ: ضاعف الله تعالى نعمته، صحابة دواوين الإنشاء الشريفة بالممالك الإسلامية، أعلاها الله تعالى، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، بالمعلوم الشاهد به الدّيوان المعمور، على ما شرح فيه.
وإن كان التقليد بقضاء قضاة الشافعيّة بالديار المصريّة، كتب: تقليد شريف بأن يفوّض إلى الجناب العالي، القاضويّ، الكبيريّ، الفلانيّ، فلان:
أعزّ الله تعالى أحكامه، قضاء قضاة الشافعية بالديار المصرية، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، بالمعلوم الشاهد به الديوان المعمور، على ما شرح فيه.
وإن كان التقليد بقضاء قضاة الحنفيّة، كتب كذلك، إلا أنه يبدل لفظ الشافعية بلفظ الحنفيّة.
وإن كان التقليد لأمير مكّة، كتب: تقليد شريف بأن يفوّض إلى المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، الشريفيّ، فلان الفلانيّ: أدام الله تعالى نعمته إمرة مكة المشرّفة، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، على ما شرح فيه.(11/103)
وإن كان التقليد بقضاء قضاة الحنفيّة، كتب كذلك، إلا أنه يبدل لفظ الشافعية بلفظ الحنفيّة.
وإن كان التقليد لأمير مكّة، كتب: تقليد شريف بأن يفوّض إلى المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، الشريفيّ، فلان الفلانيّ: أدام الله تعالى نعمته إمرة مكة المشرّفة، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، على ما شرح فيه.
وإن كان بإمرة المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، والتحية والإكرام، كتب كذلك إلا أنه يبدل لفظ مكّة المشرّفة بلفظ المدينة الشّريفة.
وإن كان بإمرة آل فضل (1)، كتب: تقليد شريف بأن يفوّض إلى المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، الفلانيّ: أدام الله تعالى نعمته إمرة آل فضل، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، على ما شرح فيه.
هذه جملة ما عهدت كتابته من التقاليد المكتتبة من ديوان الإنشاء بالأبواب الشريفة، فإن حدث كتابة ما يستحقّ أن يكتب له تقليد، كالأتابكيّة (2) ونحوها، كتب بالألقاب اللائقة بصاحبه.
ثم وراء ذلك أمران: أحدهما أنه قد تقدّم نقلا عن «التعريف» أنه يكتب في العنوان الذي هو الطرّة: «تقليد شريف لفلان بكذا» فإن كتب تقليد بكفالة السلطنة مثلا، كتب: «تقليد شريف للمقرّ الكريم، العالي، الأميريّ،
__________
(1) كانت القبائل العربية في بلاد الشام، والحجاز (يسميهم القلقشندي العربان) تتمتع بنوع من الاستقلال الذاتي في العصر الأيوبي ثم المملوكي. وقد كان «أمير العرب» أيام المماليك يتزعم القبائل العربية بالشام والحجاز والحدود العراقية فقد كان النظام السياسي الأيوبي نظاما كونفدر اليا لا يعطي السلطان من أسباب القوة ووسائلها ما يستطيع به أن يخضع قبائل ذات استقلال، لزعامة أسرة بدوية واحدة. وفي أيام المماليك كان «أمير العرب» من ربيعة، وكانت زعامة ربيعة في آل فضل من بينهم. وآل فضل هؤلاء يحتلون أهم أجزاء الفصل الذي خصصه العمري لعرب زمانه، أي القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي. (انظر مقدمة مسالك الأبصار القسم الخاص بقبائل العرب في القرنين السابع والثامن الهجريين بقلم دوروتيا كرافولسكي).
(2) وهي وظيفة الأتابك. والأتابك لفظ تركي مركب وقد دلّ في العصر المملوكي على مقدم العساكر أو القائد العام. (انظر الصبح: 4/ 18ودائرة المعارف الإسلامية: 2/ 45).(11/104)
الكبيريّ، الفلانيّ، بكفالة السلطنة الشريفة بالممالك الإسلامية، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، على ما شرح فيه».
الثاني أنه اقتصر في «التثقيف» على قوله في آخر الطرّة، على أجمل العوائد في ذلك وأكمل القواعد، وليس الأمر منحصرا في ذلك، بل لو عكس بأن قيل: تقليد شريف بأن يفوّض إلى فلان كذا، أو تقليد شريف لفلان بكذا على أكمل القواعد وأجمل العوائد على ما شرح فيه، لكان سائغا.
فإن كان صاحب التقليد عليّ الرتبة: كالنائب الكافل، ونائب الشام، ونائب حلب، والوزير، وكاتب السرّ، ونحوهم، كتب على أجمل العوائد وأتمّها، وأكمل القواعد وأعمّها، أو بالعكس: بأن يكتب على أجمل العوائد وأعمّها، وأكمل القواعد وأتمّها، على ما شرح فيه.
وأما متن التقليد، فقد قال في «التعريف» إن التقاليد كلّها لا تفتتح إلا بالحمد لله وليس إلا، ثم يقال بعدها: أما بعد، ثم يذكر ما سنح من حال الولاية وحال المولّى، وحسن الفكر فيمن يصلح، وأنه لم ير أحقّ من ذلك المولّى ويسمّى، ثم يقال ما يفهم أنه هو المقدّم الوصف أو المتقدّم إليه بالإشارة ثم يقال: رسم بالأمر الشريف العالي، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ (ويدعى له) أن يقلّد كذا، أو أن يفوّض إليه كذا، والأوّل أجلّ ثم يوصى بما يناسب تلك الولاية مما لا بدّ منه تارة جمليّا وتارة تفصيليّا، وينبّه فيه على تقوى الله تعالى ثم يختم بالدعاء للمولّى، ثم يقال: وسبيل كل واقف عليه العمل به بعد الخطّ الشريف أعلاه.
قال: ولفضلاء الكتّاب في هذا أساليب، وتفنّن كثير الأعاجيب، وكلّ مألوف غريب، ومن طالع كلامهم في هذا وجد ما قلناه، وتجلّى له ما أبهمناه.
وذكره في «التثقيف» بأوضح معنى وأبين، فقال: ويكتب بعد الصّدر بخطبة مناسبة أوّلها الحمد لله إلى آخرها، ثم أما بعد، ويذكر ما يرى ذكره من حال الولاية والمولّى، ويذكر اسمه، وهو أن يقال: ولما كان المقرّ، أو الجناب،
وألقابه ونعوته إلى آخرها، ويدعى له: أعزّ الله أنصاره أو نصرته، أو نحوه، على ما جرت به عادته، ولا يزاد على دعوة واحدة ثم يقال ما يفهم أنه المراد بهذه الأوصاف، أو المعنيّ بهذه الإشارة أو نحو ذلك ثم يقال: اقتضى حسن رأينا الشريف، ويذكر ما يقتضي تكريمه وتعظيمه ثم يقال: فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ، الفلاني (ويدعى له بما يناسب الحال ثلاث دعوات أو أربعا) أن يفوّض إلى المشار إليه كذا ثم يقال:(11/105)
وذكره في «التثقيف» بأوضح معنى وأبين، فقال: ويكتب بعد الصّدر بخطبة مناسبة أوّلها الحمد لله إلى آخرها، ثم أما بعد، ويذكر ما يرى ذكره من حال الولاية والمولّى، ويذكر اسمه، وهو أن يقال: ولما كان المقرّ، أو الجناب،
وألقابه ونعوته إلى آخرها، ويدعى له: أعزّ الله أنصاره أو نصرته، أو نحوه، على ما جرت به عادته، ولا يزاد على دعوة واحدة ثم يقال ما يفهم أنه المراد بهذه الأوصاف، أو المعنيّ بهذه الإشارة أو نحو ذلك ثم يقال: اقتضى حسن رأينا الشريف، ويذكر ما يقتضي تكريمه وتعظيمه ثم يقال: فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ، الفلاني (ويدعى له بما يناسب الحال ثلاث دعوات أو أربعا) أن يفوّض إلى المشار إليه كذا ثم يقال:
فليتقلّد ذلك، أو فليتلقّ هذا التفويض، أو نحو هذا ثم يوصّى بما يناسب تلك الولاية مما لا بدّ منه، ويحرص أن ينبّه فيه على العمل بالتقوى ثم يختم بالدعاء للمولّى بالإعانة والتأييد ونحو ذلك ثلاث دعوات، وأكثرها أربع، وأقلّها اثنتان ثم يقال: بعد الخط الشريف شرّفه الله تعالى وأعلاه أعلاه إن شاء الله تعالى ثم التاريخ والمستند، والحمدلة، والحسبلة على العادة. ولم يقل فيه:
وسبيل كل واقف عليه، كما قال في «التعريف».
واعلم أنّ التقاليد على اختلافها لا تخرج في مقادير قطع الورق عن مقدارين:
الأوّل قطع الثلثين بقلم الثّلث الثقيل. وفيه يكتب لنوّاب السلطنة بمصر والشام مطلقا، وكذلك الوزير والمشير (1)، وكاتب السر، وقاضي قضاة الشافعية والحنفيّة بالديار المصرية.
الثاني قطع النصف بقلم الثّلث الخفيف. وفيه يكتب لذوي التقاليد من أمراء العرب: وهم أمير مكة المشرّفة، وأمير المدينة الشريفة، وأمير آل فضل من عرب الشام على ما تقدّم ذكره. ولا يكتب من التقاليد شيء فيما دون هذا المقدار من قطع الورق بحال. وسيأتي الكلام على نسخ التقاليد فيما بعد، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) المشير هو الناصح الذي يؤخذ رأيه.(11/106)
النوع الثاني (مما يكتب في الولايات السلطانية: المراسيم)
جمع مرسوم، أخذا من قولهم: رسمت له كذا فارتسمه إذا امتثله، أو من قولهم: رسم عليّ كذا إذا كتب، ويحتمل أن يكون منهما جميعا.
وهي على ضربين:
الضرب الأوّل (المراسيم المكبّرة)
لم يتعرّض لها المقرّ الشّهابيّ ابن فضل الله في «التعريف» لأنها لم تكن مستعملة في زمنه وإنما حدثت بعده.
قال في «التثقيف»: وهي على نمط التقاليد ليس بينهما اختلاف إلا في أمرين: أحدهما أنه لا يكتب شيء من المراسيم في قطع الثلثين بل في قطع النصف أو الثلث. الثاني أنه لا يقال فيها «تقليد شريف» بل «مرسوم شريف».
قلت: ويفترقان من أربعة وجوه. أحدها أنه يقتصر في طرّة المرسوم على «الأميريّ» دون «الكبيريّ» بخلاف التقاليد فإنه يقال فيها «الأميريّ الكبيريّ». الثاني أنه يقال في المرسوم: «أن يستقرّ» ولا يقال: «أن يفوّض» ولا: «أن يقلّد». الثالث أنه لا يقال: «على أجمل العوائد وأتمّ القواعد» بل يقال: «على عادة من تقدّمه وقاعدته». الرابع أنه لا يقال في الصّدر: «أما بعد» بل «وبعد».
قال: وهي تختص بنوّاب القلاع المنصورة بالممالك الإسلامية، وأمراء العربان [ممّن] (1) بالشام وحلب، وشادّي (2) مراكز البريد وغيرهم.
__________
(1) بالأصل «أو من» والتصحيح من الطبعة الأميرية.
(2) أي المفتشين.(11/107)
ثم هي على طبقتين:
الطبقة الأولى ما يكتب في قطع النصف بقلم خفيف الثلث، وذلك للنوّاب بالقلاع: من مقدّمي الألوف والطّبلخانات (1): كنائب حمص، والرّحبة، والبيرة، وقلعة المسلمين، وملطية، وطرسوس، وأذنة، وبهسنى، والفتوحات الجاهانيّة وغيرها ممن يكتب له المجلس العالي والساميّ بالياء أو بغير ياء على ما تقدّم بيانه في المكاتبات إليهم. وكذلك بعض أمراء العربان وهم أمير آل عليّ، وأمير آل مرا، وأمير بني عقبة (2) قال في «التثقيف»: وصورة ما يكتب في الطرّة أن يكتب: «مرسوم شريف بأن يستقرّ المجلس العالي أو الساميّ الأميريّ، الفلانيّ، فلان (ويدعى له بما يناسبه) في النيابة في الجهة الفلانية على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته على ما شرح فيه».
فإن كانت النيابة تقدمة ألف: كنيابة الرّحبة ونحوها، كتب في طرّة مرسوم نائبها: «مرسوم شريف بأن يستقرّ المجلس العالي الأميريّ الفلانيّ فلان، أدام الله تعالى نعمته، في المكان الفلانيّ على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته».
وإن كانت النيابة طبلخاناه كتب: «مرسوم شريف بأن يستقرّ المجلس السامي الأمير فلان، أدام الله تعالى تأييده في النيابة بمكان كذا، على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته»، أو كتب: «مرسوم شريف أن يستقرّ المجلس السامي الأمير فلان الدين فلان، أدام الله تعالى تأييده في النيابة بمكان كذا، على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته».
__________
(1) الطبلخاناه: رتبة عسكرية تعني «أمير أربعين» ويقال «أمير طبلخاناه» (راجع الصبح: 4/ 98).
(2) قال في مسالك الأبصار: «وأمّا آل ربيعة (من طيّىء)، وهم ملوك البر وأمراء الشام والعراق والحجاز، فهم آل فضل، وآل مرا، وآل عليّ من آل فضل». وعن بني عقبة قال: «وبنو عقبة من جذام وديارهم من الشوبك إلى حسمى إلى تبوك إلى تيماء إلى برد إلى رؤاف إلى الحديدا وهو شرقي الحجر. وآخر أمرائهم كان شطيّ بن عبيّة وكان سلطاننا الملك الناصر قد أقبل عليه إقبالا أحلّه فوق السماكين وألحقه بأمره آل مرا، وأقطعه الإقطاعات الجليلة» (انظر مسالك الابصار: ص 112111110).(11/108)
وإن كانت نيابة قلعة دمشق، كتب: «مرسوم شريف بأن يستقرّ المجلس العالي، الأميريّ، فلان، أدام الله تعالى نعمته في النيابة بالقلعة المنصورة بدمشق المحروسة، على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته، على ما شرح فيه».
وكذلك كلّ قلعة بحسب ألقاب نائبها التي يكاتب بها.
ثم يكتب في الصّدر بعد البسملة خطبة مفتتحة بالحمد لله، ثم يقول:
وبعد، ويأتي بنحو ما تقدّم ذكره في التقاليد، ثم يقال: ولما كان المجلس العالي أو الساميّ إلى آخر ألقابه، ثم يقال: فلان، ويدعى له بما جرت به عادته، ويقال ما يفهم منه أنه المقصود بما تقدّم ذكره من المدح والأوصاف السابقة ثم يقال: فلذلك رسم بالأمر الشريف إلى آخره أن يستقرّ المشار إليه في كذا على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته، فليتلقّ ذلك ونحوه. ثم يوصى بما يناسب وظيفته التي تولّاها، ويختم بنظير ما تقدّم ذكره في ختم التقاليد.
الطبقة الثانية من المراسيم المكبّرة ما يكتب في قطع الثلث بقلم التوقيعات (1) قال في «التثقيف»: وصورته في الطرّة والصدر على ما تقدّم في الطبقة الأولى، إلا أن خطبته تفتتح بأمّا بعد حمد الله، وتختتم بما تقدّم ذكره.
قال: وقد تكتب لنواب القلاع من أمراء العشرات: مثل نائب بغراس، ونائب الدّربساك، ونائب كركر، ونائب الكختا، ونحوها. قال: وكذلك أرباب الوظائف غير النّيابات، مثل شادّ الدّواوين بالشام وحلب، وشادّ مراكز البريد بهما، ونحو ذلك وبعض أمراء العرب: كأمير بني مهديّ، ومقدّم عرب جرم، ومقدّم عرب زبيد (2) على ندرة فيه. فإن كان المرسوم بنيابة من النيابات
__________
(1) وهو قلم خط الرقاع ومخرجه من خفيف الثلث الكبير، يكتب به التوقيعات. (الفهرست لابن النديم: ص 12).
(2) بنو مهدي: بطن من بني طريف من جذام من القحطانية، منازلهم بالبلقاء من بلاد الشام. أما بنو جرم فهم الذين كانوا يسكنون بلاد غزة والداروم، مما يلي الساحل إلى الجبل والجروم كثيرة وهم: جرم قضاعة، وجرم بجيلة، وجرم عاملة، وجرم طيّىء. وبنو زبيد بطن من سعد العشيرة من القحطانية. فهم من كان بالحجاز وكانوا حلفاء لآل ربيعة بالشام. قال في مسالك الأبصار:
«وزبيد (بضم الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة بعدها) فرق شتى بصرخد فهم بالحجاز وباليمن وبغوطة الشام وببلاد سنجار». (انظر مسالك الأبصار: 111109107ونهاية الأرب للقلقشندي: ص 381249248195194).(11/109)
المذكورة وغيرها، كتب: «مرسوم كريم بأن يستقرّ المجلس السامي، الأمير فلان الدين أعزه الله تعالى، في النيابة ببغراس، أو بالدّربساك، أو بكركر (1)، وما أشبه ذلك على عادة من تقدّمه وقاعدته». وإن كان بشدّ بالشام أو بحلب، كتب: «مرسوم كريم أن يستقرّ المجلس السامي، الأمير، فلان الدين: أعزه الله تعالى في شدّ الدواوين بالمكان الفلانيّ، على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته على ما شرح فيه». وإن كان بشدّ مراكز البريد، أبدل لفظ «شدّ الدواوين» بلفظ «شدّ مراكز البريد بالمكان الفلانيّ». وإن كان بإمرة بني مهديّ، كتب:
«في إمرة بني مهديّ، على عادة من تقدّمه وقاعدته». وإن كان بتقدمة عرب جرم، كتب: «في تقدمة عرب جرم، على عادة من تقدّمه وقاعدته». وإن كان بتقدمة عرب زبيد، أبدل لفظ جرم بزبيد، وعلى ذلك.
الضرب الثاني (من المراسيم التي تكتب بالولايات المراسيم المصغّرة)
وهي ما يكتب في قطع العادة، وبها يكتب لأرباب السيوف بالولايات الصغيرة مثل نظر الأوقاف ونحوه. وهي صنفان:
الصنف الأوّل ما يترك فيه أوصال بياض بين الطّرّة والبسملة
، وهي أعلاها، ويكتب بالسامي بغير ياء أو مجلس الأمير:
وصورتها أن يكتب في الطرّة: «مرسوم شريف أن يستقرّ المجلس السامي الأمير فلان الدين، أو مجلس الأمير فلان في كذا وكذا بما لذلك من المعلوم
__________
(1) كركر وبغراس والدربساك: من بلاد الروم. كانت من ممتلكات صاحب «سيس». استولى عليها الناصر محمد بن قلاوون.(11/110)
الشاهد به ديوان الوقف، أو نحو ذلك، على ما شرح فيه» ثم يكتب في الصّدر بعد البسملة ما صورته: «رسم بالأمر الشريف العالي، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ» (باللقب الخاصّ ولقب السلطنة) ويدعى له بما فيه براعة الاستهلال بذكر الوظيفة أو اسم صاحبها أو لقبه ونحو ذلك، وأقلّها ثلاث فقرات فما زاد «أن يستقرّ المجلس السامي، الأمير، الأجل» (إلى آخر ألقابه)، أو أن يستقرّ مجلس الأمير، الأجلّ (إلى آخر الألقاب) لما له من كذا وكذا (ويأتي من صفات المدح بما يناسب المقام) ثم يقال: فليباشر ذلك، أو فليتلقّ ذلك، أو فليقابل صدقاتنا الشريفة بكذا ونحو ذلك ثم يوصّى بما يليق به، ويدعى له بدعوتين فقط ثم يقال: بعد الخط الشريف العالي أعلاه الله تعالى».
قلت: وهذا الصّنف إن روعي صاحبه، كتب في قطع العادة المنصوريّ، وإلا ففي قطع العادة الصغير. قال في «التثقيف»: ومما ينبّه عليه أنه لا يكتب مرسوم شريف في قطع العادة إلا بمثل نيابة الشّقيف بصفد (1) وصرخد وعجلون والصّبيبة، فإنه لا يولّى فيها إلا مقدّم حلقة (2) أو جنديّ، ومثل هذا لا يكتب عن
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية «لعله: وصفد، بواو العطف». ونحن نرجّح صحة استعمال «بصفد»، والمراد «بمملكة صفد» فقد قسم المماليك بلاد الشام، بعد أن تمّت لهم السيطرة عليها، إلى ست ممالك، وكان يتبع كل مملكة عدة ولايات ونيابات وكانت صفد إحدى الممالك الشامية، وقاعدتها صفد في الجليل الأسفل. وكانت تشمل كامل الجليل من غور الأردن إلى البحر، ومن مجرى نهر «ليطا» (أي الليطاني) إلى مرتفعات فلسطين. ومن ولايات هذه المملكة في الجليل الأعلى وهو جبل عاملة ولاية شقيف أرنون (قرب بلدة النبطية) وولاية صور. (انظر منطلق تاريخ لبنان: 132131130129).
(2) مقدمو الحلقة هم أمراء أجناد (أو جنود) الحلقة. ويعرف أجناد الحلقة بأنهم من الجنود المحترفين المماليك، وهم أقرب الفئات إلى نظام الجيش الثابت المحترف في العصور الحديثة. أما كمال الصليبي في كتابه «منطلق تاريخ لبنان» فيرى أنهم رديف من الفرسان الأحرار (أي من غير المماليك) تنتقيهم الدولة من بين العناصر المحلية في مختلف المناطق للمساعدة في الحفاظ عليها. وكان لجنود الحلقة أمراء منهم «أمراء أربعين» و «أمراء عشرة» و «أمراء خمسة» ولم يكن منهم «أمراء مئة». وأمراء الأربعين بينهم قلائل. (انظر التعريف بمصطلحات الصبح: 16ومنطلق تاريخ لبنان: 129119).(11/111)
المواقف الشريفة إلا نادرا، فإنّ كفّال الممالك يستبدّون بالتولية في ذلك.
الصنف الثاني ما يكتب في هيئة ورقة الطريق، ويكون في ثلاثة أوصال
وصورته أن يكتب في الطرّة ما صورته: «مرسوم شريف أن يستقرّ فلان، أو أن يرتّب فلان في كذا وكذا، على ما شرح فيه» ويكون ذلك في سطرين، ولا يكتب في أعلاه الاسم الشريف كما يكتب في غيره: لأن من المعلوم أنه لا يكتب في هذا إلا الاسم الشريف فيستغنى عن ذكره ثم يكتب في آخر ذلك الوصل: «رسم بالأمر الشريف» على نحو ما تقدّم، إلا أنه لا يحتاج في الدعاء إلى ما يكون فيه براعة استهلال، بل يكفي «أعلاه الله وشرّفه، وأنفذه في الآفاق وصرّفه» ونحو ذلك «أن يستقرّ فلان في كذا أو يرتّب في كذا، فليعتمد ذلك ويعمل بحسبه ومقتضاه، بعد الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه، إن شاء الله تعالى».
النوع الثالث (مما يكتب في الولايات السلطانية التفاويض)
جمع تفويض وهو مصدر فوّض الأمر إلى زيد إذا ردّه إليه، ومنه قوله تعالى:
{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللََّهِ} (1) أي أردّه إليه. قال في «التعريف»: وبه يكتب لعامّة القضاة، يعني ممن دون أرباب التقاليد، وهي من نمط التقاليد، غير أنها يقال في تعريفها «تفويض شريف لفلان بكذا». ومقتضى ما ذكره أنه إذا كتب «تفويض شريف بقضاء قضاة الديار المصرية مثلا» يكتب في الطّرّة: «تفويض شريف للمجلس العالي، القاضويّ، الكبيريّ، بقضاء قضاة المالكيّة بالديار المصرية، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، بالمعلوم الشاهد به الديوان
__________
(1) غافر / 44.(11/112)
المعمور على ما شرح فيه» ثم يأتي بنحو ما تقدّم ترتيبه في التقاليد، إلا أنه يكون أخصر.
قلت: ولم أقف على نسخة تفويض غير نسخة واحدة من إنشاء المقرّ الشهابيّ ابن فضل الله لبعض قضاة دمشق. وقد أنشأت أنا تفويضا بقضاء قضاة المالكية بالديار المصرية لقاضي القضاة جمال الدين يوسف البساطيّ، حين ولّي على أثر ولاية قاضي القضاة جلال الدين البلقينيّ (1) قضاء قضاة الشافعيّة، افتتحته بلفظ: «الحمد لله الذي شفع جلال الإسلام بجماله» وكتبت له به، وكتبت في طرّته: «تفويض شريف للمجلس العالي، القاضويّ، الجماليّ، يوسف البساطيّ المالكيّ، أعز الله تعالى أحكامه بقضاء قضاة المالكية بالديار المصرية، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، على ما شرح فيه». وقرأته بالمجلس العامّ بالمدرسة المنصورية (2) وسيأتي ذكر نسخته في الكلام على النّسخ في المقصد الثاني من هذا الطّرف، إن شاء الله تعالى.
النوع الرابع (التواقيع، جمع توقيع)
قد تقدّم في مقدّمة الكتاب عن ابن حاجب النّعمان في «ذخيرة
__________
(1) نسبة إلى «بلقينة» بضم الباء وكسر القاف وهي قرية من قرى حوف مصر. وقد استقرّ القاضي جلال الدين ابن شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني في قضاء قضاة الشافعية بالديار المصرية عوضا عن القاضي ناصر الدين بن الصالحي بحكم عزله، وذلك يوم الإثنين الخامس من جمادى الآخرة سنة 804هـ. (وفي النجوم الزاهرة: في العشر الأخير من ربيع الثاني 804هـ). وبذلك يتحدد معنا تاريخ تولية القاضي البساطيّ. وقد عزل البساطيّ عن قضاء قضاة المالكية بالديار المصرية في شهر شوال من سنة 812هـ، واستقرّ عوضا عنه القاضي شمس الدين المدني.
(انظر نزهة النفوس والأبدان، 2/ 507259138ومعجم البلدان: 1/ 489).
(2) أنشأها المنصور قلاوون قبل سنة 690هـ، وهي المعروفة بجامع قلاوون وبجامع البيمارستان وموقعها في شارع النحّاسين، ويعرف بخط بين القصرين. (الخطط التوفيقية: 2/ 89).(11/113)
الكتّاب» (1): أنّ التوقيع معناه في اللغة التأثير الخفيف، ومنه قولهم: ناقة موقّعة الجنبة (2) إذا أثّر فيها الرّحل تأثيرا خفيفا، وأنه يحتمل غير ذلك. وفي اصطلاح الأقدمين من الكتّاب أنه اسم لما يكتب في حواشي القصص كخطّ الخليفة أو الوزير في الزمن المتقدّم، وخط كاتب السّرّ الآن ثم غلب حتّى صار علما على نوع خاصّ مما يكتب في الولايات وغيرها. قال في «التعريف»: وهي على أنموذج التفاويض. قال: وقد يقال: أن يرتّب، وأن يقدّم، ثم قال: وعنوانها «توقيع شريف لفلان بكذا» ولا يقال فيها على اختلافها: «وسبيل كلّ واقف عليه» كما في التقاليد، بل يقال: «فليعتمد ما رسم به فيه بعد الخطّ الشريف أعلاه». وقد ذكر في «التعريف» أنها تكون لعامّة أرباب الوظائف جليلها وحقيرها، وكبيرها وصغيرها، حتّى الطبلخانات اللاحقين بشأو الكبار فمن دونهم. وقال في «التثقيف»: إنها مختصّة بالمتعمّمين من أرباب الوظائف الدينيّة والدّيوانية، ولا يكتب لأرباب السيوف منها إلا القليل: مثل نظر البيمارستان (3)، ونظر الجامع الجديد (4)، ونظر الحرمين الشريفين، يعني حرم القدس وحرم الخليل عليه السّلام.
قلت: والجامع بين كلاميهما أنه في زمن صاحب «التعريف» كانت
__________
(1) ابن حاجب النعمان هو عبد العزيز بن إبراهيم بن داوود: أديب بغدادي. كان أحد الكتاب الحذاق بصناعة الكتابة وأمور الدواوين. توفي سنة 351هـ (الأعلام: 4/ 12).
(2) الجنبة: الجانب.
(3) وهو البيمارستان المنصوري الذي أنشأه المنصور قلاوون في محلة بين القصرين وكان دارا «لست الملك» أخت الحاكم بالله الفاطمي، فغير معالمه وزاد فيه. والبيمارستان (أو المارستان) هو عبارة عن مستشفى وكلية طب. (التعريف بمصطلحات الصبح: 348).
(4) هو الجامع الجديد الناصري كان موجودا بشاطيء النيل من ساحل مصر الجديدة. عمّره القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله ناظر الجيش باسم السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون بين سنتي 710و 712هـ. وقد زال هذا الجامع ولم يبق له أثر، وموضعه الآن حوش كبير من وقف السادات يعرف بحوش التكية كائن عند فم الخليج بحري سراي السادات.
(انظر خطط المقريزي: 2/ 304والخطط التوفيقية: 5/ 301والانتصار: 4/ 104).(11/114)
التواقيع تكتب بالوظائف لأرباب السّيوف من النّيابات وغيرها قبل أن تحدث المراسيم المكبّرة المقدّمة الذكر ثم خصّت التواقيع بعد ذلك بالمتعمّمين دون أرباب السيوف. ومضى الأمر على ذلك في زمن صاحب «التثقيف» فجرى على حكمه ولم يبق ممن يكتب له توقيع من أرباب السيوف سوى نظّار الجهات الثلاث المتقدّمة الذّكر: من البيمارستان المنصوري، والجامع الجديد الناصريّ بمصر، ونظر الحرمين: حرم القدس الشريف، وحرم الخليل عليه السّلام.
والحكم باق على ذلك إلى الآن.
ثم التواقيع على اختلافها لا تخرج عن أربع طبقات:
الطبقة الأولى (ما يفتتح بخطبة مفتتحة بالحمد لله، وفيها مرتبتان)
المرتبة الأولى ما يكتب في قطع النصف بقلم خفيف الثّلث
. قال في «التثقيف»: وصورته يعني ما يكتب به لأرباب الأقلام أن يكتب في الطرّة:
«توقيع شريف بأن يفوّض إلى المجلس العالي، القاضويّ، الكبيريّ، الفلانيّ (ويدعى له دعوة واحدة) [نظر الجامع الجديد الناصريّ] (1) بما جرت به عادته، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، بالمعلوم الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت على ما شرح فيه».
قال: فإن كان حاكما، كتب له بعد الكبيريّ، الحاكميّ. وإن كان كاتب السرّ، كتب له بعد الكبيريّ، اليمينيّ، لا غير. ثم يكتب في الصدر خطبة مفتتحة بالحمد لله ثم يقال: أما بعد، والتّتمة على نظير ما ذكر في التقاليد إلا فيما يليق بالوظيفة والمتولّي لها مما يناسب الحال. وقد ذكر في «التثقيف» أنه كان يكتب بذلك للقضاة الأربعة بالديار المصرية، والقضاة الأربعة بالشام،
__________
(1) الزيادة من هامش الطبعة الأميرية، وهي ضرورية، إذ لم يذكر المفوض به اليه.(11/115)
وكاتب السرّ بمصر والشام، وناظر الجيش بهما، وناظر الدواوين المعمورة والصّحبة الشريفة، وهو ناظر الدولة.
وحينئذ فإن كتب بذلك لقاضي القضاة الشافعيّة بالديار المصرية على ما كان الأمر عليه أوّلا، كتب في الطرّة «توقيع شريف بأن يستقرّ المجلس العالي، القاضويّ، الكبيريّ، الفلانيّ، فلان: أعزّ الله تعالى أحكامه، في قضاء قضاة الشافعيّة بالديار المصرية، على أجمل العوائد وأتمّها، وأكمل القواعد وأعمّها، بما لذلك من المعلوم الشاهد به الديوان المعمور، على ما شرح فيه».
وإن كتب به لقاضي القضاة الحنفيّة، على ما كان الأمر عليه أوّلا أيضا، كتب له نظير قاضي القضاة الشافعية إلا أنه يبدل لفظ الشافعية ب «الحنفيّة».
وإن كتب لقاضي القضاة المالكية، على ما الأمر مستقرّ عليه الآن، كتب له كذلك، وأبدل لفظ الشافعية والحنيفة ب «المالكيّة».
وإن كتب لقاضي القضاة الحنابلة فكذلك، ويقال فيه «الحنابلة».
وإن كتب به لأحد من القضاة الأربعة بالشام، فكذلك، إلا أنه يقال قضاء قضاة الشافعيّة أو الحنفية أو المالكية أو الحنابلة بالشّام المحروس.
وإن كتب به لكاتب السرّ على ما كان الأمر عليه أوّلا، كتب: «توقيع شريف بأن يفوّض إلى المجلس العالي، القاضويّ، الكبيريّ، اليمينيّ (1)
فلان، ضاعف الله تعالى نعمته، صحابة دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية أعلاها الله تعالى، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، بالمعلوم الشاهد به الديوان المعمور، على ما شرح فيه».
وإن كتب به لكاتب السرّ بالشام، أبدل لفظ الممالك الإسلامية ب «الشأم المحروس».
__________
(1) نسبة إلى اليمين أي كأنه يمين السلطان.(11/116)
وإن كتب به لناظر الجيش بالديار المصريّة، كتب: «توقيع شريف بأن يفوّض إلى المجلس العالي، القاضويّ، الكبيريّ، الفلانيّ: ضاعف الله تعالى نعمته، نظر الجيوش المنصورة بالممالك الإسلامية، أعلاها الله تعالى على ما شرح فيه».
وإن كتب به لناظر الجيش بالشام، أبدل لفظ الممالك الإسلامية ب «الشام المحروس».
وإن كتب به لناظر الدولة (1)، كتب: «توقيع شريف بأن يفوّض إلى المجلس العالي، القاضويّ، الكبيريّ، الفلانيّ، فلان، ضاعف الله تعالى نعمته، نظر الدواوين المعمورة والصّحبة الشريفة (2)، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، بالمعلوم الشاهد به الديوان المعمور على ما شرح فيه».
وإن كتب به لناظر البيمارستان [وكان صاحب] (3) سيف، كتب: «توقيع شريف أن يفوّض إلى المقرّ الكريم، أو الجناب الكريم، أو العالي (على قدر رتبته) الأميريّ، الكبيريّ، الفلانيّ، فلان الناصريّ مثلا: أعزّ الله أنصاره، أو نصرته، أو ضاعف الله تعالى نعمته (بحسب ما يليق به) نظر البيمارستان المعمور المنصوريّ، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، بما لذلك من المعلوم الشاهد به الديوان المعمور على ما شرح فيه». وكذلك نظر الجامع الجديد ونظر الحرمين الشريفين كلّ بما يناسب الألقاب. وعلى ذلك.
المرتبة الثانية من التواقيع ما يكتب في قطع الثلث بقلم التوقيعات
، وهو لمن مرتبته الساميّ بالياء. قال في «التثقيف»: وصورته في الطّرّة والصدر على ما تقدّم شرحه لكن بأخصر مما تقدّم. قال: وبذلك يكتب لنقيب الأشراف
__________
(1) ويسمى أيضا ناظر النظار وهو الذي يقوم مقام الوزير أو يشارك الوزير في التصرف من الناحية المالية، ويخضع له. (انظر الصبح: 5/ 465).
(2) ويعبر عنها أيضا في مصطلح الدواوين بنظر الدولة (انظر الصبح: 4/ 92).
(3) في الأصل «لصاحب» والتصحيح من هامش الطبعة الأميرية.(11/117)
ولقضاة القضاة بحلب وطرابلس وحماة وصفد والكرك، وكذلك لقضاة العسكر بالممالك المذكورة والمفتين بدار العدل بها، ووكلاء بيت المال بها، والمحتسبين، ونظّار الجيش بها، وكتّاب الدّست (1) بمصر والشام، وناظر البيوت (2) بالديار المصرية. وكذلك ناظر خزائن السّلاح، ومستوفي الصّحبة، وناظر بيت المال، وناظر الخزانة الكبرى (3) وخزانة الخاصّ، وناظر الأحباس (4)، ومشايخ الخوانق الكبار: كسعيد السعداء (5)، وبيبرس بالقاهرة (6)، والشّميصاتيّة (7) بدمشق، وكذلك تقدمة التّركمان بالشام، وتقدمة الأكراد به، ومشيخة العائد.
فإن كتب بذلك لنقيب الأشراف، كتب «توقيع شريف أن يستقرّ المجلس الساميّ، الأميريّ، الفلانيّ، فلان: أدام الله تعالى علوّه، في نقابة الأشراف بالديار المصرية، على عادة من تقدمه وقاعدته، على ما شرح فيه».
وإن كتب لقاضي قضاة الشافعية بحلب، كتب «توقيع شريف بأن يستقرّ المجلس الساميّ، القضائيّ، الفلانيّ، فلان: أيّد الله تعالى أحكامه، في قضاء
__________
(1) من موظفي ديوان الإنشاء وهم الذين يجلسون مع كاتب السرّ بمجلس السلطان بدار العدل، ويوقعون على القصص كما يوقع عليها كاتب السرّ. (التعريف بمصطلحات الصبح: 281).
(2) والاسم الكامل: «ناظر البيوت والحاشية». وكان عمله مشاركة الأستادار في إدارة بيوت السلطان كلها من المطابخ والشراب خاناه والحاشية والغلمان. (راجع الصبح: 6/ 31).
(3) كان يطلق عليها «الخزانة السلطانية» وأيضا «بيت المال» وكانت في أول أمرها مستودع أموال المملكة، وكان ناظر الخاص يشرف على جميع أموال الدولة. وعند ما أنشئت وظيفة الخاص قلّ شأن الخزانة الكبرى وأصبحت لا تستعمل إلا في تخزين الفائض والاحتياطي أو حفظ ما يخصص للموظفين من أرزاق. وكان يعمل بها ناظر وشهود وصيارفة وكاتب. (الصبح: 4/ 30 وخطط المقريزي: 2/ 224).
(4) ناظر الأحباس المبرورة. راجع ص 22من هذا الجزء، هامش: 1.
(5) الخانقاه الصلاحية أو دار سعيد السعداء بخط رحبة باب العيد بالقاهرة. وسعيد السعداء هو الأستاذ قنبر ويقال «عنبر» وهو أحد الاستاذين المحنكين أيام الخليفة المستنصر الفاطمي. (خطط المقريزي: 2/ 415).
(6) وهي خانقاه ركن الدين بيبرس. (انظر أيضا المقريزي: 2/ 418).
(7) ذكرها ابن خلكان باسم «السميساطية» بسينين مهملتين. (انظر وفيات الأعيان: 4/ 390).(11/118)
قضاة الشافعية بحلب المحروسة، على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته على ما شرح فيه.
وإن كتب للحنفيّ بها كتب كذلك، وأبدل لفظ الشافعية ب «الحنفيّة» وكذا في المالكية والحنابلة.
وإن كتب لأحد قضاة القضاة بغيرها: كطرابلس، وحماة، وصفد، والكرك، أبدل لفظ حلب بلفظ تلك المدينة، والباقي على حكمه.
وإن كتب لأحد من قضاة العسكر بالممالك المذكورة، كتب «توقيع شريف بأن يستقرّ المجلس الساميّ، القضائيّ، فلان الشافعيّ، مثلا أو نحو ذلك: أيّد الله تعالى أحكامه، في قضاء العسكر المنصور بالمكان الفلانيّ، على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته».
وإن كتب بإفتاء دار العدل بشيء من هذه الممالك، أبدل لفظ «قضاء العسكر» بلفظ «إفتاء دار العدل» والباقي على حكمه.
وإن كتب لأحد من وكلاء بيت المال بها، كتب: «توقيع شريف أن يستقرّ المجلس الساميّ، القضائيّ، الفلانيّ، فلان: أدام الله تعالى رفعته، في وكالة بيت المال المعمور بالمكان الفلانيّ، على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته».
وإن كتب لأحد من المحتسبين بهذه الممالك، كتب «توقيع شريف بأن يستقرّ المجلس الساميّ، القضائيّ، الفلانيّ، فلان: أدام الله تعالى رفعته، في نظر الحسبة الشريفة بالمكان الفلانيّ على عادة من تقدّمه وقاعدته».
وإن كتب لأحد من نظّار الجيش بها، كتب «توقيع شريف بأن يستقرّ المجلس الساميّ، القضائيّ، الفلانيّ، فلان: أدام الله تعالى رفعته، في نظر الجيوش المنصورة بالمملكة الفلانية، على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته».
وإن كتب لأحد من كتّاب الدّست بالديار المصرية، كتب «توقيع شريف بأن يستقرّ المجلس الساميّ، القضائيّ، الفلانيّ، فلان: أدام الله تعالى رفعته،
في كتابة الدّست الشريف بالأبواب الشريفة». ثم إن كان عن وفاة عيّنه أو بنزول عيّنه.(11/119)
وإن كتب لأحد من كتّاب الدّست بالديار المصرية، كتب «توقيع شريف بأن يستقرّ المجلس الساميّ، القضائيّ، الفلانيّ، فلان: أدام الله تعالى رفعته،
في كتابة الدّست الشريف بالأبواب الشريفة». ثم إن كان عن وفاة عيّنه أو بنزول عيّنه.
وإن كان بالشام، أبدل لفظ «بالأبواب الشريفة» بلفظ «بالشام المحروس».
وإن كتب بذلك في نظر البيوت بالديار المصرية، كتب «توقيع شريف أن يستقرّ المجلس الساميّ، القضائيّ، الفلانيّ: أدام الله رفعته، في نظر البيوت المعمورة».
وإن كتب لأحد بنظر خزائن السّلاح بالديار المصرية، كتب «توقيع شريف بأن يستقرّ المجلس الساميّ، القضائيّ، الفلانيّ: أدام الله رفعته، في خزائن السّلاح المنصورة، على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته».
وإن كتب باستيفاء الصّحبة (1)، كتب «توقيع شريف أن يستقرّ المجلس الساميّ، القضائيّ، الفلانيّ: أدام الله رفعته، في استيفاء الصّحبة الشريفة، على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته».
وإن كتب بنظر بيت المال، كتب «توقيع شريف بأن يستقرّ المجلس الساميّ، القضائيّ، الفلانيّ: أدام الله رفعته، في نظر بيت المال المعمور، على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته».
وإن كتب بنظر الخزانة الكبرى، كتب «توقيع شريف أن يستقرّ الملجس الساميّ، القضائيّ، الفلانيّ: أدام الله رفعته، في نظر الخزانة العالية الكبرى، على عادة من تقدّمه وقاعدته».
وإن كتب بنظر خزانة الخاصّ، أبدل لفظ الخزانة العالية الكبرى بلفظ
__________
(1) وظيفة جليلة القدر، ولصاحبها أن يتحدث في جميع المملكة مصر والشام وديوانه أرفع دواوين الأموال. (انظر الصبح: 4/ 29).(11/120)
خزانة الخاصّ الشريف، والباقي على ما تقدّم.
وإن كتب بنظر الأحباس، كتب «توقيع شريف أن يستقرّ المجلس الساميّ، القضائيّ، الفلانيّ، فلان: أدام الله تعالى رفعته، في نظر الأحباس المبرورة، على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته».
وإن كتب بمشيخة الخانقاه الصّلاحية (سعيد السعداء) كتب «توقيع شريف أن يستقرّ المجلس الساميّ، الشّيخيّ، الفلانيّ: أعاد الله تعالى من بركاته، في مشيخة الخانقاه الصّلاحيّة، على عادة من تقدّمه وقاعدته».
وإن كتب بمشيخة خانقاه بيبرس، أبدل لفظ «الخانقاه الصّلاحيّة» بلفظ «الخانقاه الرّكنيّة بيبرس» والباقي على ما تقدّم.
وإن كتب بمشيخة الشّميصاتية بدمشق، أبدل ذلك بلفظ «الخانقاه الشّميصاتيّة بالشام المحروس».
وإن كتب بتقدمة التّركمان بالشام، كتب «توقيع شريف بأن يستقرّ المجلس الساميّ، الفلانيّ: أعزّه الله تعالى، في تقدمة التّركمان بالشام المحروس، على عادة من تقدّمه وقاعدته».
وإن كتب بتقدمة الأكراد، أبدل لفظ «التّركمان» بلفظ «الأكراد».
وإن كتب بمشيخة العائد، كتب «توقيع شريف بأن يستقرّ المجلس الساميّ الفلانيّ: أعزّه الله تعالى، في مشيخة العائد، على عادة من تقدّمه وقاعدته». وعلى ذلك.
الطبقة الثانية (من التواقيع ما يفتتح بلفظ «أما بعد حمد الله» وهو لمن رتبته السامي بغير ياء، وهي على مرتبتين)
المرتبة الأولى ما يكتب في قطع الثلث
، وهو الأصل فيما يكتب في الثلث ثم ترقّي عنه إلى رتبة الافتتاح بالحمد. ألا ترى أن المناشير التي تكتب
في قطع الثّلث بقلم التوقيعات تفتتح كلّها بلفظ «أما بعد» على ما سيأتي بيانه في المقالة السادسة، في الكلام على المناشير، إن شاء الله تعالى.(11/121)
، وهو الأصل فيما يكتب في الثلث ثم ترقّي عنه إلى رتبة الافتتاح بالحمد. ألا ترى أن المناشير التي تكتب
في قطع الثّلث بقلم التوقيعات تفتتح كلّها بلفظ «أما بعد» على ما سيأتي بيانه في المقالة السادسة، في الكلام على المناشير، إن شاء الله تعالى.
وصورته أن يكتب في الطرّة «توقيع شريف بأن يستقرّ المجلس الساميّ، القضائيّ، فلان الدين أو الشيخ فلان الدين في كذا، على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته، على ما شرح فيه» ثم يكتب في الصدر «أما بعد حمد الله» ويصلّي على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثم يقول: «فإنّ أولى الأمور بكذا من هو بصفة كذا» أو «إنّ أولى الناس بالتقديم من هو متّصف بكذا» ونحو ذلك ثم يقال: «ولمّا كان المجلس» ويؤتى بنحو ما تقدّم من المفتتح بالحمد لله.
قلت: وقد قلّ استعمال هذا الضّرب بديوان الإنشاء الشريف وإن كان هو الأصل فيما يكتب في هذا القطع، حتّى لا يكاد يكتب به إلا في النادر، تغاليا في رفعة المكتوب لهم، مع المسامحة لهم في مثل ذلك.
المرتبة الثانية ما يكتب من هذه الطبقة في قطع الثلث
. قال في «التثقيف»: وهو قليل جدّا لا يكون إلا في تدريس كبير، أو نظر وقف كبير، أو مشيخة الحرم الشريف بالقدس الشريف، إن لم يكن في قطع الثلث، أو لرجل كبير قديم الهجرة في الخدمة الشريفة، إلا أنّ الوظيفة صغيرة لا تقتضي أن تكون في قطع الثلث.
الطبقة الثالثة (من التواقيع ما يفتتح بلفظ «رسم بالأمر الشريف» وهي على مرتبتين)
المرتبة الأولى ما يكتب في قطع العادة المنصوريّ بقلم الرّقاع
(1)، وهو لمن رتبته السامي بغير ياء ممن لم تبلغ رتبته قطع الثلث. قال في «التثقيف»:
وصورته أن يكتب في الطرّة «توقيع شريف بأن يستقرّ المجلس السامي القاضي
__________
(1) ومخرجه من خفيف الثلث الكبير، يكتب به التوقيعات وما أشبه ذلك. (الفهرست لابن النديم:
ص 12).(11/122)
فلان الدين: أعزه الله تعالى في كذا، أو أن يرتّب، أو أن يقدّم» ويذكر ما تضمّنه الشاهد من قصة أو قائمة من ديوان الوزارة أو الخاصّ أو غير ذلك «على ما شرح فيه». قال: ثم يكتب في الصدر بعد البسملة «رسم بالأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ، الفلاني، باللقب الخاص، ولقب السلطنة»: مثل الناصريّ، الزّينيّ، ونحو ذلك (ويدعى للسلطان بأدعية تناسب الوظيفة والمتولّي لها، وأقلّها ثلاث فقرات فما زاد) «أن يستقرّ المجلس السامي، القاضي، فلان الدين فلان، أو مجلس القاضي فلان الدين فلان:
أعزّه الله تعالى في كذا، لما له من صفات هي كذا وكذا (ويأتي من صفات المدح بما يناسب المقام) ثم يقال: فليباشر ذلك، أو فليتلقّ هذا الإحسان، أو فليقابل صدقاتنا الشريفة» ونحو ذلك ثم يوصى بما يليق بتلك الرتبة، ويدعى له بسجعتين فقط. ثم يقال: «بعد الخطّ الشريف أعلاه». ثم قال: وبذلك يكتب لكتّاب الدّرج (1)، ومستوفي الدولة (2)، وناظر الأهراء (3) وناظر المطابخ، ومشايخ الخوانق الصّغار، والتّداريس (4) الصّغار، وأنظار الأوقاف الصّغار، ونحو ذلك مما لا يأخذه حصر.
وحينئذ فإن كتب بذلك لكاتب درج، كتب في الطرّة «توقيع شريف أن
__________
(1) وهم الطبقة الثانية من موظفي ديوان الإنشاء، ويأتون بعد كتاب الدست. وكتاب الدّرج لا يوقعون على القصص. (انظر الصبح: 5/ 464وما بعدها).
(2) عمله ضبط كليات المال في كافة المملكة. وعمله كعمل مستوفي الصحبة الذي مرّ معنا، وليس من السهل تمييز عملهما. وكان يعاونهما عدد من المستوفين، منهم الكبار مثل: «مستوفي مباشرة». ومما يدل على أهمية مستوفي الصحبة أو مستوفي الدولة أن الأول يوصف بأنه «قطب ديوان المال» وأن أحد السلاطين أطلق عليه أيضا «وزير الوزراء». أما مستوفي الدولة فإنه يعين بسجل مثل كبار الدولة. (أنظر نظم دولة سلاطين المماليك: 1/ 67).
(3) الأهراء؟؟؟؟ الغلال السلطانية وموضوع النظر فيها هو التحدث فيما يصل إليها من النواحي من الغلال وغيرها وما يصرف منها على الإسطبلات السلطانية والمناخات. (التعريف بمصطلحات الصبح 342).
(4) وهي وظيفة التدريس في المدارس.(11/123)
يستقرّ مجلس القاضي فلان الدين فلان: أعزّه الله تعالى في كتابة الدّرج الشريف».
وإن كتب به لمستوف من مستوفي الدولة، كتب «أن يستقرّ المجلس السامي، القاضي، فلان الدين فلان: أدام الله نعمته، في استيفاء الدولة الشريفة على عادة من تقدّمه».
وإن كتب لناظر الأهراء، كتب «أن يستقر المجلس السامي، القاضي، فلان الدين فلان: أدام الله رفعته، في نظر الأهراء السعيدة».
وإن كتب بنظر مطابخ السّكّر، كتب «أن يستقرّ المجلس السامي، القاضي، فلان الدين فلان: أدام الله تعالى رفعته، في نظر المطابخ السعيدة».
وإن كتب بمشيخة خانقاه صغيرة، كتب «أن يستقر المجلس السامي، الشّيخيّ، فلان الدين فلان، أو مجلس الشيخ فلان الدين فلان: نفع الله تعالى ببركته، في مشيخة الخانقاه الفلانية، على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته».
وإن كتب بتدريس صغير، كتب «أن يستقرّ في تدريس المدرسة الفلانية، على عادة من تقدّمه وقاعدته».
وإن كتب بنظر وقف، كتب «أن يستقرّ في نظر الوقف الفلانيّ» ونحو ذلك.
ثم إن كان لشيء من ذلك معلوم يشهد به الديوان السلطانيّ ككتابة الدّرج واستيفاء الدولة، كتب بعد قوله وقاعدته: «بما لذلك من المعلوم الشاهد به الديوان المعمور».
وإن كان الشاهد بالمعلوم كتاب وقف، كتب «بما لذلك من المعلوم الشاهد به كتاب الوقف المبرور». ويقول في آخر طرّة كل ولاية من التقاليد، والتفاويض، والمراسيم، والتواقيع على اختلافها: «على ما شرح فيه».(11/124)
الطبقة الرابعة (التواقيع الصّغار وهي لأصغر ما يكون من الولايات: من نظر وقف صغير ونحو ذلك، وتكون في ثلاثة أوصال ونحوها)
وهي على ضربين:
الضرب الأوّل ما يكتب على مثال أوراق الطّريق.
وصورتها أن يكتب في أعلى الدّرج: «توقيع شريف بأن يستقرّ فلان في كذا، على ما شرح فيه». ويكون ذلك في سطرين ثم يكتب في آخر ذلك الوصل: «رسم بالأمر الشريف العاليّ المولويّ السلطانيّ» إلى آخر ما تقدّم في الطبقة الثالثة، ويقال في الدعاء: «أعلاه الله وشرّفه، وأنفذه وصرّفه» ونحو ذلك، ثم يقال: «أن يستقر فلان في كذا» ويشرح ما تضمّنه الجواب في هامش القصّة، ثم يقال: «فليعتمد هذا المرسوم الشريف كلّ واقف عليه، ويعمل بحسبه ومقتضاه، من غير عدول عنه ولا خروج عن معناه، بعد الخط الشريف أعلاه».
الضرب الثاني ما يكتب على ظهور القصص.
وكيفيّته أن تلصق القصّة التي شملها جواب كاتب السرّ أو غيره على وصلين من ورق العادة الصغير. قال في «التثقيف»: وصورتها أن يكتب في ظاهر القصّة بغير بسملة قبل الوصل الذي وصله بنحو أربعة أصابع ما صورته:
«رسم بالأمر الشريف العاليّ المولويّ السلطانيّ» على نحو ما تقدّم. ويدعى له: «أعلاه الله وشرّفه، وأنفذه وصرّفه» على ما تقدّم في الضرب الأوّل، ثم يقال: «أن يتأمّل ما أنهاه رافعها باطنا، وليتقدّم بكذا وكذا» ويشرح ما تضمّنه الجواب في هامش القصّة، ثم يقال: «فليعتمد هذا المرسوم الشريف كلّ واقف عليه، ويعمل بحسبه ومقتضاه، بعد الخطّ الشريف أعلاه». قال: وإن كان رافع القصّة ممن هو متميّز بعض التميّز قيل: «مترجمها» بدل «رافعها» فإن زيد في قدره، قيل: «ما ذكره مجلس القاضي أو المجلس السامي القاضي» إن كان
من هذه الرتبة، وتذكر بعض ألقابه، ثم يقال: «أدام الله علوّه» أو «أعزه الله، فليتقدّم» ويكمل إلى آخره.(11/125)
«رسم بالأمر الشريف العاليّ المولويّ السلطانيّ» على نحو ما تقدّم. ويدعى له: «أعلاه الله وشرّفه، وأنفذه وصرّفه» على ما تقدّم في الضرب الأوّل، ثم يقال: «أن يتأمّل ما أنهاه رافعها باطنا، وليتقدّم بكذا وكذا» ويشرح ما تضمّنه الجواب في هامش القصّة، ثم يقال: «فليعتمد هذا المرسوم الشريف كلّ واقف عليه، ويعمل بحسبه ومقتضاه، بعد الخطّ الشريف أعلاه». قال: وإن كان رافع القصّة ممن هو متميّز بعض التميّز قيل: «مترجمها» بدل «رافعها» فإن زيد في قدره، قيل: «ما ذكره مجلس القاضي أو المجلس السامي القاضي» إن كان
من هذه الرتبة، وتذكر بعض ألقابه، ثم يقال: «أدام الله علوّه» أو «أعزه الله، فليتقدّم» ويكمل إلى آخره.
واعلم أنّ المقرّ الشّهابيّ ابن فضل الله رحمه الله قد ذكر في «التعريف» افتتاحات أخرى للتواقيع بين رتبة «أما بعد حمد الله» ورتبة «رسم بالأمر الشريف» فقال: بعد الافتتاح بأما بعد حمد الله: وقد تستفتح بقول: «أما بعد فإنّ أولى ما كان كذا» أو ما هذا معناه، وقد تستفتح بقول: «من حسنت طرائقه، وحمدت خلائقه» أو ما هذا معناه، وجعلها رتبة بعد رتبة.
قلت: وهذه الافتتاحات كانت مستعملة في الدولة العباسية ببغداد، وفي الدولة الفاطميّة بالديار المصريّة والبلاد الشاميّة، ثم في الدولة التّركيّة إلى زمن المقرّ الشّهابيّ المشار إليه في الدولة الناصريّة محمد بن قلاوون ثم رفضت بعد ذلك، وترك استعمالها بالديار المصرية البتّة، فلم يكن أحد من كتّاب ديوان الإنشاء يستعمل شيئا منها.
المقصد الثالث (في بيان كيفيّة وضع ما يكتب في هذه الولايات في الورق، ويتعلّق به عشرة أمور)
الأمر الأوّل الطّرة
، وهي في اصطلاحهم عبارة عن طرف الدّرج من أعلاه، ثم أطلقوه على ما يكتب في رأس الدّرج مجازا، تسمية للشيء باسم محلّه.
قلت: وليس صحيحا من حيث اللغة، فإنّه في الأصل مأخوذ من طرّة الثوب. وقد ذكر الجوهريّ وغيره أن طرّة الثوب هي طرفه الذي لا هدب فيه، والذي لا هدب فيه من الثوب هو حاشيتاه، بخلاف أعلاه وأسفله. نعم يجوز أن تكون مأخوذة من الطّرّ بمعنى القطع، لأن الطّرّة مقتطعة عن كتابة المتن، يفصل بينهما بياض، ومنه سمّي الشّعر المرسل على الصّدغ طرّة. وقد جرت العادة في كل ما يكتب له طرّة أن يكتب في أعلى الدّرج في الوسط بقلم الرّقاع بكل حال
ما صورته «الاسم الشريف» ثم تكتب الطرّة تلو ذلك من أوّل عرض الدّرج إلى آخره، دون هامش عن يمين ولا شمال: بحيث تكون أطراف المنتصبات من أوّل السطر الأوّل ملاصقة لأسفل ما كتب في أعلى الدّرج مما تقدّم ذكره. ويأتي بالطرّة المناسبة: من تقليد، أو مرسوم، أو تفويض، أو توقيع، بالقلم المناسب لمقدار قطع ذلك الورق على ما تقدّم بيانه، ويأتي على ما يكتب في الطرّة على ما تقتضيه الحال، على ما سبق ذكره إلى أن ينتهي إلى آخره فإن انتهى في أثناء سطر، ترك باقيه بياضا، وكتب في آخره «على ما شرح فيه» بحيث يوافي آخر ذلك آخر السطر، وإن انتهى ما يكتب في الطرّة في آخر السطر، كتب تحت ذلك السطر على حيال آخره «على ما شرح فيه» كما تقدّم، لا يختلف الحال في ذلك في مكتوب ولاية، إلا فيما يكتب على ظهور القصص، فإنّ العادة جرت فيه أن لا يكون له طرّة، ولا يكتب في أعلاه الاسم الشريف: لأنه قد علم أنه لا يكتب فيه إلا الاسم الشريف، فلم يحتج إلى تنبيه على ذلك.(11/126)
قلت: وليس صحيحا من حيث اللغة، فإنّه في الأصل مأخوذ من طرّة الثوب. وقد ذكر الجوهريّ وغيره أن طرّة الثوب هي طرفه الذي لا هدب فيه، والذي لا هدب فيه من الثوب هو حاشيتاه، بخلاف أعلاه وأسفله. نعم يجوز أن تكون مأخوذة من الطّرّ بمعنى القطع، لأن الطّرّة مقتطعة عن كتابة المتن، يفصل بينهما بياض، ومنه سمّي الشّعر المرسل على الصّدغ طرّة. وقد جرت العادة في كل ما يكتب له طرّة أن يكتب في أعلى الدّرج في الوسط بقلم الرّقاع بكل حال
ما صورته «الاسم الشريف» ثم تكتب الطرّة تلو ذلك من أوّل عرض الدّرج إلى آخره، دون هامش عن يمين ولا شمال: بحيث تكون أطراف المنتصبات من أوّل السطر الأوّل ملاصقة لأسفل ما كتب في أعلى الدّرج مما تقدّم ذكره. ويأتي بالطرّة المناسبة: من تقليد، أو مرسوم، أو تفويض، أو توقيع، بالقلم المناسب لمقدار قطع ذلك الورق على ما تقدّم بيانه، ويأتي على ما يكتب في الطرّة على ما تقتضيه الحال، على ما سبق ذكره إلى أن ينتهي إلى آخره فإن انتهى في أثناء سطر، ترك باقيه بياضا، وكتب في آخره «على ما شرح فيه» بحيث يوافي آخر ذلك آخر السطر، وإن انتهى ما يكتب في الطرّة في آخر السطر، كتب تحت ذلك السطر على حيال آخره «على ما شرح فيه» كما تقدّم، لا يختلف الحال في ذلك في مكتوب ولاية، إلا فيما يكتب على ظهور القصص، فإنّ العادة جرت فيه أن لا يكون له طرّة، ولا يكتب في أعلاه الاسم الشريف: لأنه قد علم أنه لا يكتب فيه إلا الاسم الشريف، فلم يحتج إلى تنبيه على ذلك.
الأمر الثاني البسملة الشريفة
. ومن شأنها أن تكتب في أوّل كلّ ولاية لها شأن، عملا بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم» يعني ناقص البركة، ومحلّها من كتب الولايات في أوّل الوصل الرابع بعد أوصال البياض. أما ما لا بال له من كتب الولايات: كالتواقيع التي على ظهور القصص وما هو منها على صورة أوراق الطريق، فقد جرى الاصطلاح على أنه لا يكتب في أوّلها بسملة أصلا، بل تفتتح ب «رسم بالأمر الشريف».
قلت: وقد كان القاضي علاء الدين عليّ الكركيّ حين ولّي كتابة السرّ الشريف بالديار المصرية في أوّل سلطنة الظاهر برقوق الثانية أمر أن تكتب في أوّل هذه التواقيع بسملة لطيفة المقدار، طلبا للتبرك ثم ترك ذلك بعد موته وانتقال الوظيفة إلى غيره. ولا يخفى أنّ ما عليه الاصطلاح هو الوجه: فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد قيّد ما يبدأ بالبسملة بما يكون له بال من الأمور، ومقتضاه أنّ ما لا بال له لا يبدأ فيه ببسملة. على أنه قد كان أمر أن تجعل البسملة قبل قوله «رسم بالأمر الشريف» ومقتضى ذلك أن تقع العلامة فوق البسملة، وفيه ما لا
يخفى، بخلاف غيره من الولايات الكبار فإنّ العلامة تكون فيها تحت السطر الثاني من البسملة، على ما سيأتي بيانه.(11/127)
قلت: وقد كان القاضي علاء الدين عليّ الكركيّ حين ولّي كتابة السرّ الشريف بالديار المصرية في أوّل سلطنة الظاهر برقوق الثانية أمر أن تكتب في أوّل هذه التواقيع بسملة لطيفة المقدار، طلبا للتبرك ثم ترك ذلك بعد موته وانتقال الوظيفة إلى غيره. ولا يخفى أنّ ما عليه الاصطلاح هو الوجه: فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد قيّد ما يبدأ بالبسملة بما يكون له بال من الأمور، ومقتضاه أنّ ما لا بال له لا يبدأ فيه ببسملة. على أنه قد كان أمر أن تجعل البسملة قبل قوله «رسم بالأمر الشريف» ومقتضى ذلك أن تقع العلامة فوق البسملة، وفيه ما لا
يخفى، بخلاف غيره من الولايات الكبار فإنّ العلامة تكون فيها تحت السطر الثاني من البسملة، على ما سيأتي بيانه.
الأمر الثالث الافتتاح الذي يلي البسملة
. وقد علمت مما تقدّم أنّ الذي استقرّ عليه افتتاح كتب الولايات على اختلافها من أعلى وأدنى لا يخرج عن ثلاثة أصناف:
أحدها الافتتاح بالحمد لله، وهو أعلاها. ثم تختلف رتبته بعد ذلك باختلاف ما يكتب فيه من مقادير قطع الورق: إذ هو تارة تفتتح به التقاليد، وتارة تفتتح به المراسيم المكبّرة، وتارة تفتتح به التفاويض، وتارة تفتتح به كبار التواقيع.
الثاني الافتتاح بأما بعد حمد الله وهو المرتبة الثانية من المراسيم المكبّرة، والتواقيع الكبار وتكون في قطع الثلث تارة، وفي قطع العادة المنصوريّ أخرى.
الثالث الافتتاح برسم بالأمر الشريف وهو المرتبة الثالثة من المراسيم والتواقيع، وهي أدنى رتبها. وتكون في قطع العادة الصغير، وربما كتب بها في قطع العادة المنصوريّ.
الأمر الرابع البعدية فيما يفتتح فيه بالحمد لله
، وهو على ضربين:
الأوّل
أن يقال بعد التحميد والتشهّد والصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أما بعد، وهو الأعلى. وتكون في التقاليد خاصّة.
الثاني
وبعد، وهي دون أما بعد. وتكون في التفاويض وكبار المراسيم والتواقيع. وقد مرّ القول على ذلك مستوفى في الكلام على الفواتح في المقالة الثالثة.
الأمر الخامس وصف المتولّي بما يناسب مقامه ومقام الولاية من المدح والتفريظ
. وقد مرّ القول على ذلك في المقصد الأوّل من هذا الطّرف، في
الكلام على مقدّمات الولايات.(11/128)
وقد مرّ القول على ذلك في المقصد الأوّل من هذا الطّرف، في
الكلام على مقدّمات الولايات.
الأمر السادس الألقاب المختصّة بصاحب الولاية
. قد تقدّم أنه يذكر في الطّرّة بعض الألقاب التابعة للّقب الأصليّ: من المقرّ والجناب وغيرهما، مع التصريح باسم المولّى والدعاء له بما يناسبه، على ما تقدّم بيانه هناك. أما في أثناء الولاية، فإنه يستوعب جميع ألقابه ويعاد ذكر الاسم والدعاء المذكور في الطّرّة. وقد تقدّم ذكر الألقاب مستوفى في المقصد الأوّل من هذا الفصل في الكلام على مقدّمات الولايات.
الأمر السابع وصيّة صاحب الولاية بما يناسب ولايته
. وقد تقدّم التنبيه على ذلك في الكلام على مقدّمات الولايات أيضا.
الأمر الثامن الدعاء لصاحب الولاية بما يناسبه إذا كان مستحقّا لذلك.
وقد ذكر في «التعريف» أن من استصغر من المولّين لا يدعى له في أوّل ولاية ولا آخرها، وربما قيل بدل الدعاء أو بعده: «والخير يكون».
الأمر التاسع الخواتم
: من كتابة «إن شاء الله تعالى» والتاريخ، والمستند، والحمدلة، والتصلية، على نحو ما تقدّم في المكاتبات.
فأما المشيئة، فإنه يكتب في آخر مكتوب كلّ ولاية: «إن شاء الله تعالى» في سطر منفرد.
وأما التاريخ، فإنه يكتب في سطرين كما تقدّم في المكاتبات، فيكتب «كتب في يوم كذا من شهر كذا» في سطر، ويكتب «سنة كذا وكذا» في سطر تحته.
وأما المستند، فإنّه يكتب تحت التاريخ، كما تقدّم في المكاتبات، فإن كان بتلقّي كاتب السرّ، كتب في سطر واحد «حسب المرسوم الشريف»، وإن كان برسالة الدّوادار، كتب «حسب المرسوم الشريف» في سطر، ثم كتب في سطر تحته «برسالة الجناب العاليّ الأميريّ، الكبيريّ، الفلانيّ الدّوادار،
الناصريّ» مثلا وإن كان بخط السلطان، كتب «حسب الخطّ الشريف» وإن كان بإشارة النائب الكافل، كتب «بالإشارة العالية الأميريّة الكبيريّة الفلانية» في سطر، وكتب «كافل الممالك الشريفة الإسلاميّة أعلاها الله تعالى» في سطر تحته وإن كان بإشارة الوزير، كتب «بالإشارة العالية الصاحبيّة الوزيريّة الفلانية» في سطر، ثم كتب في السطر الثاني «مدبّر الممالك الشريفة الإسلامية أعلاها الله تعالى» وإن كان الوزير صاحب سيف، أسقط منها «الصاحبيّة». أللهم إلا أن يكون مرسوما صغيرا أو توقيعا صغيرا مما كتب في هيئة ورقة الطريق أو على ظهر القصّة، فإنه إن كان بتلقّي كاتب السرّ، كتب المستند على حاشية التوقيع على سمت ما بين السطر الأوّل والثاني وإن كان بإشارة النائب الكافل كتب هناك «بالإشارة العالية» سطرين، على نحو ما تقدّم فيما يكتب تحت التاريخ وإن كان بإشارة الوزير، فالأمر كذلك وإن كان برسالة الدّوادار، كتب على الحاشية هناك «حسب المرسوم الشريف»، ثم كتب تحت التاريخ «برسالة الجناب العالي» إلى آخر المستند.(11/129)
وأما المستند، فإنّه يكتب تحت التاريخ، كما تقدّم في المكاتبات، فإن كان بتلقّي كاتب السرّ، كتب في سطر واحد «حسب المرسوم الشريف»، وإن كان برسالة الدّوادار، كتب «حسب المرسوم الشريف» في سطر، ثم كتب في سطر تحته «برسالة الجناب العاليّ الأميريّ، الكبيريّ، الفلانيّ الدّوادار،
الناصريّ» مثلا وإن كان بخط السلطان، كتب «حسب الخطّ الشريف» وإن كان بإشارة النائب الكافل، كتب «بالإشارة العالية الأميريّة الكبيريّة الفلانية» في سطر، وكتب «كافل الممالك الشريفة الإسلاميّة أعلاها الله تعالى» في سطر تحته وإن كان بإشارة الوزير، كتب «بالإشارة العالية الصاحبيّة الوزيريّة الفلانية» في سطر، ثم كتب في السطر الثاني «مدبّر الممالك الشريفة الإسلامية أعلاها الله تعالى» وإن كان الوزير صاحب سيف، أسقط منها «الصاحبيّة». أللهم إلا أن يكون مرسوما صغيرا أو توقيعا صغيرا مما كتب في هيئة ورقة الطريق أو على ظهر القصّة، فإنه إن كان بتلقّي كاتب السرّ، كتب المستند على حاشية التوقيع على سمت ما بين السطر الأوّل والثاني وإن كان بإشارة النائب الكافل كتب هناك «بالإشارة العالية» سطرين، على نحو ما تقدّم فيما يكتب تحت التاريخ وإن كان بإشارة الوزير، فالأمر كذلك وإن كان برسالة الدّوادار، كتب على الحاشية هناك «حسب المرسوم الشريف»، ثم كتب تحت التاريخ «برسالة الجناب العالي» إلى آخر المستند.
وأما الحمدلة والصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ففي سطر تحت المستند، كما في المكاتبات، يكتب فيها «الحمد لله وحده» ثم يخلّي بياضا، ثم يكتب «وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه».
وأما الحسبلة، ففي سطر تحت ذلك يكتب فيه «حسبنا الله ونعم الوكيل» على ما تقدّم في المكاتبات.
الأمر العاشر البياض الواقع في كتب الولايات
، وله ستّة مواضع:
الأوّل فيما بين الطّرّة والبسملة
، وهي ثلاثة أوصال بالوصل الذي فيه الطرّة، لا يتجاوز ذلك في مقدار قطع كبير ولا صغير. إلا أنه ربما اقتصر على وصلين فيما استصغر شأنه من الرتبة الثالثة من التواقيع.
الثاني الحاشية فيما على يمين البسملة وما بعدها
. وأهل زماننا يعبّرون عن ذلك بالهامش، ولم أجد له أصلا في اللغة. وقد تقدّم القول عليها في
المقالة الثالثة، في الكلام على متعلّقات قطع الورق وما ينخرط في سلكه. أما آخر الأسطر فإنه لا بياض فيه على أنّ ملوك الروم يجعلون لكتبهم حاشية من أوّل الأسطر وحاشية من آخرها، على ما تقدّم القول عليها في الكتب الواردة عن صاحب القسطنطينيّة.(11/130)
وأهل زماننا يعبّرون عن ذلك بالهامش، ولم أجد له أصلا في اللغة. وقد تقدّم القول عليها في
المقالة الثالثة، في الكلام على متعلّقات قطع الورق وما ينخرط في سلكه. أما آخر الأسطر فإنه لا بياض فيه على أنّ ملوك الروم يجعلون لكتبهم حاشية من أوّل الأسطر وحاشية من آخرها، على ما تقدّم القول عليها في الكتب الواردة عن صاحب القسطنطينيّة.
الثالث بيت العلامة
وهو فيما بين السطر الأوّل: وهو الذي يلي البسملة، وبين السطر الثاني: وهو الذي يكون في آخر وصل البسملة. وقد تقدّم في الكلام على مقادير الورق في المقالة الثالثة أن مقداره في الزمن القديم كان قدر شبر، وقد شاهدناه دون ذلك بقليل فيما كتب به في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» على ما يشهد به الموجود من تواقيعهم، ثم تناقص قليلا فلمّا غلا الورق وقصّرت الأوصال نقص مقداره حتّى صار [نحو نصف شبر] (1)، وهو على ذلك إلى الآن. ويزيد ذلك وينقص باعتبار قطع الورق فإنه في القطع الكبير يكون الوصل أطول منه في القطع الصغير.
الرابع ما بين الأسطر في متن الولاية
وهو على مقدار النّصف من بيت العلامة في القطع الكبير والقطع الصغير، لا يكاد ذلك يختلف إلا في التّواقيع والمراسيم التي هي على هيئة أوراق الطريق، والتي على ظهور القصص، فإنّ ما بين السطرين منها يكون متضايقا حتّى يكون بقدر ثلاثة أصابع مطبوقة.
الخامس ما بين أسطر اللّواحق
فيما بعد «إن شاء الله تعالى» فإنه يكون ما بين كلّ سطرين من ذلك قدر نصف ما بين السطرين في متن الولاية، إلا في المستند إذا كان سطرين، مثل أن يكون برسالة الدّوادار ونحوها، فإنّ السطرين يكونان متلاصقين.
السادس ما بعد اللّواحق في آخر الكتاب
، وهو قدر يسير يكون قدر إصبعين مطبوقين أو ثلاثة أصابع مطبوقات وما قارب ذلك.
__________
(1) بالأصل «نحو شبر». والصواب ما أثبتناه، وهو يتضح من السياق.(11/131)
المهيع الثاني (في ذكر نسخ مما يكتب في متن الولايات من التقاليد والمراسيم المكبّرة والتفاويض والتّواقيع)
قلت: وقد كنت هممت أن أجعل ابتداآت التقاليد، والتفاويض، والمراسيم، والتواقيع: من الافتتاح ب «الحمد لله» أو ب «رسم بالأمر الشريف» في فصل مستقلّ، ومقاصدها المتعلقة بالوظيفة [في فصل على حدة ليختار] (1) الكاتب الذي لا يحسن الإنشاء ما أحب من الابتداآت المناسبة للاسم أو اللّقب ونحوهما ثم يبيّن القصد المتعلق بالوصف.
ثم أضربت عن ذلك وأتيت بالنسخ على صورتها لأمور: منها أن في تضييع النسخة إفسادا لصورتها وضياع فضيلة المنشئين وإشاعة ذكرهم. ومنها أن يعرف أنّ الصورة التي تورد مما كتب به في الزمن السابق، وأنها مصطلح قد اصطلح عليه أهل ذلك الزمان. ومنها أن يعرف المنشيء ترتيب من تقدّم لينسج على منواله. وإذا أراد من لا دربة له بالإنشاء أخذ تحميدة من تقليد أو توقيع وغيرهما ونقلها إلى مقصد من مقاصد الولاية لم يعجزه ذلك.
ثم قسمته على ثلاثة أقسام:
__________
(1) بياض بالأصل. والزيادة من هامش الطبعة الأميرية.(11/132)
القسم الأوّل (ولايات وظائف الديار المصرية وهي على نوعين)
النوع الأوّل (الولايات بالحضرة وهي على ستة أضرب)
الضرب الأوّل (ولايات أرباب السيوف وهي على طبقتين)
الطبقة الأولى (ذوات التقاليد وهي ثلاث وظائف)
الوظيفة الأولى (الكفالة، وهي نيابة السلطنة بالحضرة)
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب وظائف المملكة في المقالة الثانية أن الكفالة هي أعلى رتب نيابة السلطنة، وأنّ النائب الكافل يحكم في كل ما يحكم فيه السلطان، ويعلّم في التقاليد والتواقيع والمناشير وغير ذلك، بخلاف غيره من النوّاب، فإنّ كل نائب لا يعلّم إلا على ما يختصّ بخاصّة نيابته. وقد تقدّم في مقدّمة الولايات أنّ لقبه «المقرّ الكريم» على ما استقرّ عليه الحال.
وهذه نسخة تقليد بكفالة السلطنة، كتب بها من إنشاء الشّهاب محمود الحلبيّ (1) رحمه الله، وهي:
الحمد لله الذي جعل ركن الدولة في دولتنا القاهرة ثابت القواعد، على فرقد الفراقد، راقيا في رتب العلوّ الآخذة من أفق التأييد بالمطالع ومن نطق العزّ بالمعاقد، حاليا بعقود المهابة التي لا تزال لرعبها على الأعداء طلائع خيل في
__________
(1) هو أبو الثناء محمود الحلبي الدمشقي الحنبلي. ولد بدمشق سنة 644هـ وتوفي سنة 725هـ.
كان صاحب ديوان الإنشاء بدمشق لمدة ثمانية أعوام. (فوات الوفيات: 4/ 82).(11/133)
المراقب وروائع (1) خيال في المراقد، حاويا من أنواع المفاخر ما لو كاثرته الدّراريّ غدت وهي لمجموعه فراقد، أو فاخرته الدّرر ثقّبتها الأفكار النواقد، مقلّدا من سيوف الظّفر ما لا تنبو في نصرة الإسلام مضاربه وكيف تنبو وأوامرنا لعقود حمائلها على عواتق مجده عواقد.
نحمده على نعمه التي عدقت أمور دولتنا بمن يرفع بأسه منارها، وعقدت قواعد مملكتنا بمن يوالي فضله أنوارها، وعضدت همم أوليائنا بمن إذا تخيّلت أعداء الدين مواقع صوارمه كان أمنع صونها إسارها وأنفع سلاحها فرارها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تشرق الهمم بلوامعها، وتشرف الكلم بجوامعها، وتزكو الأمم بما تنقل الألسنة منها عن القلوب إلى مسامعها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أقامنا الله لنصر دينه، وألهمنا تفويض مصالح أمته إلى كلّ وليّ ما رفعت راية نصر إلا تلقّاها عرابة (2) مجده بيمينه، وعضّدنا في جهاد أعدائه بأعزّ صفيّ ينوب بأسه للجيش عن طليعته ويقوم رأيه في الحرب مقام كمينه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين اختارهم لصحبته وارتضاهم، وأرهفهم لإقامة ملّته وانتضاهم، فمنهم من فاز بمزيّتي سبقه وتصديقه، ومنهم من كان الشيطان ينكّب عن طريقه، ومنهم من اختار الشهادة على الانتصار بفريقه ورفيقه، ومنهم من أقامه بشرف الأخوّة معه مقام شقيقه، صلاة يبلغه إخلاص مقيمها، ويعرض عليه إيمان مديمها، وسلم.
أما بعد، فإنا من حين أورثنا الله ملك الإسلام لا عن كلالة، وألبسنا في مواقف الذّبّ عن دينه حلل العزّ المعلمة بالجلالة، ومكّن لنا في أرضه، وأنهضنا بمسنون الجهاد وفرضه، ونشر دعوة ملكنا في طول الوجود وعرضه لم نزل نرتاد لكفالة الممالك الإسلاميّة من تأوي
__________
(1) في الطبعة الأميرية «وورائع». والروائع: التي تريع وتخيف، فهي رائعة وروائع.
(2) انظر ص 20من هذا الجزء، هامش 2.(11/134)
منه إلى ركن شديد، ورأي سديد وحزم يقرّب من مواهب النصر كلّ بعيد، وعزم إذا أرهف صوارمه من أدنى الصعيد، وجف لهول مواقعها باب الحديد (1) فهو المطويّ في أثناء ضمائرنا وإن تقلّدنا قبله سواه، والمنويّ في أحناء سرائرنا وإنّما لا مريء ما نواه قد حلب قدم هجرته الدّهر أشطره، وكتب حسن خبرته من عنوان السّير أسطره، وتمثّلت مرآة الزمان لفكره فاجتلى صور الوقائع في صفائها، وترددت تجارب الأمم على سمعه فعلم ما يأتي وما يذر في تركها واقتفائها، واستقبل دولة أسلافنا الشريفة من فواتحها، فكان لسان محاسنها، وبنان ميامنها، وخزانة سرّها، وكنانة نهيها وأمرها، وطليعة تأييدها، وذريعة أوليائها إلى عوارفها وجودها، وعنوان أخبارها، وعنان سوابقها التي لا تدرك مآثر من سلف شقّ غبارها، ويمين قبضتها المصرّفة بين البأس والنّدى، وأمين آرائها المؤيّدة بالتوفيق اللّدنيّ على العدا، وركنها المشيّد بالأسل وهو ما تبنى عليه الممالك، وحصنها المصفّح بالصّفاح فلا تستطيع الأهواء أن تتوقّل (2) إليه تلك المسالك، وزعيم جيوشها التي اجتنت من قصب قواضبه ثمر النّصر غير مرّة، ومتقدّم عساكرها التي اجتلت به وجوه الظّفر الحلوة في أيّام الكريهة المرّة.
ولما كان المقرّ الكريم (الفلانيّ) هو معنى هذه الصفات المبهمة، ومبنى هذه القواعد المحكمة، وطراز حلل هذه الأحوال المعلمة، وسرّ المقاصد
__________
(1) لعل المراد «الباب الجديد» بالجيم المعجمة. وهو باب القلعة بالقاهرة أنشأه صلاح الدين الأيوبي سنة 579هـ والذي يسمى أيضا الباب المدرج أو باب سارية أو باب الدرفيل. وهناك أبواب عدة تعرف بهذا الاسم منها: «باب الحديد» أو «الباب الجديد» وهو موجود في سور مدينة بغداد قرب السور. وفي القصر القديم بالقيروان باب يعرف باسم «باب الحديد». و «باب الحديد» أيضا اسم يطلق على منطقة من الممرات الطبيعية تعتبر الحد الفاصل بين ما وراء النهر وبين الأراضي التابعة لبلخ على ضفتي نهر سيحون. (نزهة النفوس والأبدان: 1/ 201وفي التراث العربي لمصطفى جواد: 81والروض المعطار: 476ودائرة المعارف الإسلامية:
5/ 533).
(2) توقّل في الجبل: صعّد فيه.(11/135)
الظاهرة، وسلك هذه [النجوم] (1) الزاهية بل فلك هذه الدّراريّ الزاهرة: تحلّق صوادح البراعة، فتقع دون أوصافه بمراحل، وتغوص سوابح اليراعة، فيلقيها العجز عن استخراج درر نعوته بالسّواحل فأوصافه تذكر على وجه الإجمال لضيق نطاق الفصاحة عن تفصيلها، ومناقبه تشكر بلسان الإجماع لعجز ألسنة الأقلام عن بلوغها إلى غايتها ووصولها فلذلك اقتضت آراؤنا الشريفة أن نفسح مجال الهدى، بتفويض إيالة الممالك إليه، وأن نقطع آمال العدا، بالاعتماد في زعامة الجيوش الإسلاميّة عليه، وأن نقرّ عيون الرّعايا بإلقاء مقاليد العدل والإحسان إلى يديه، وأن نصون عقائل الممالك من مهابته بما يغدو سورا لعواصمها، وسوارا لمعاصمها، وشنبا (2) تفترّ ثغورها عن بروقه، أو لهبا (3) يقطع طريق أمل العدا عن تخيّل خيالها في طروقه،: ليعتضد الدّين منه بركنه، ويتغلّب [على] (4) الشّرك في حالتي حربه ووهنه، ويتقلّب كلّ من رعايانا بين وهاد يمنه ومهاد أمنه رسم بالأمر الشريف لا زال ملكه عليّ الأركان، راقيا من أفق النصر إلى أعلى مكانة وأرفع مكان أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالديار المصرية، والممالك الإسلامية، على أكمل العوائد، وأجمل القواعد، تفويضا تمضي أحكامه في الممالك الإسلامية شرقا وغربا، وبعدا وقربا فلا يخرج منها شيء عن أوامره وأحكامه، ولا يعدل في سلمها وحربها عن حكمي سيوفه وأقلامه.
فليستقرّ في هذه الرّتبة العالية استقرار الأركان المواكث، والأطواد اللّوابث، والأصول النّوابت، والنجوم الثوابت، مؤثّلا قواعدها برأيه السديد ورايته، معوّذا كمالها بسيف النصر وآيته، مبتدئا في إعلاء منارها من العدل بأقصاه ومن الإحسان بغايته، مكثّرا أعداد الجيوش الإسلامية برأيه السعيد، مقرّبا
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الشّنب: صفاء الأسنان وجمالها.
(3) اللهب: وجه من الجبل كالحائط لا يرتقى.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/136)
من مطامح النّصر النائية كلّ بعيد، موكّلا بحركات العدوّ وسكناته جفنا لا يألف الغرار (1)، وسيفا لا يعرف القرار، وعزما لا يرضى من عدوّه دون اصطلامه (2)
الفرار فلا تزال جيوش الإسلام بجميل تعاهده مزاحة العوائق، مزالة العلائق، لا مانع لها عن الركوب، ولا قاطع عن الوثوب، قد أعدّتها عزائمه، فكلّ زمانها بالتأهّب للّقاء وقت إمكانه، وأمدّت بأسها صوارمه، فهي لا تسأل عن عدد عدوّها بل عن مكانه، مقيما منار العدل الذي هو أساس الملك ودعامته، ورأس الحكم بأمر الله في خلقه وهامته، ونور الخصب الكافل بمصالح العباد والبلاد وعامته (3)، ناشرا له في أقطار الممالك، ماحيا بنور إقامته آية ليل الظّلم الحالك، معاضدا أحكام الشريعة المطهّرة بالانقياد إليها، والاعتماد في الحلّ والعقد عليها، والاحتفال برفع منارها: فإنّ ذلك من أفضل ما قدّمته الدول الصالحة بين يديها، مقدّما عمارة البلاد على كلّ مهمّ: فإنها الأصل الذي تتفرّع عنه المصالح على افتراقها، والمادّة التي تستطيل الجيوش الإسلاميّة على العدا بتوسعها في إنقادها وإنفاقها، والأسباب التي تعين الغيوث على نماء ما بسط الله لعباده من أرزاقها وآكد مصالحها الرّفق الذي ما كان في شيء إلا زانه، والعدل الذي ما اتّصف به ملك إلا حفظه وصانه فقد جعلنا أمره في ذلك جميعه من أمرنا المطاع، واقتصرنا عن ذكر الوصايا بما في خصائصه الكريمة من حسن الاضطلاع وجميل الاطّلاع، واكتفينا بما في خلائقه الجميلة من محاسن لو تخيّر نفسه لم يزدها على ما فيه من كرم الطّباع والله تعالى يؤيّده وقد فعل، ويجعل ركنه من أثبت قواعد الدّين وقد جعل، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بكفالة السلطنة أيضا، وهي:
__________
(1) الغرار: النوم القليل.
(2) اصطلمهم الدهر أو الموت أو العدو: استأصلهم.
(3) العامة: قبضات الحصيد إذا اجتمعت. (المعجم الوسيط: 638).(11/137)
الحمد لله الذي زان دولتنا القاهرة من حسامها بتقليده، وصان حمى ممالكنا الشريفة من أوليائنا بمن تغدو مواقع سيوفه من كل عدوّ قلائد جيده، وزاد جلالة الملك بمن إذا ركب في مواكب نيابته أورد جياد رعبه من كل متوّج من ملوك العدا مناهل وريده، وفوّض تقدمة جيوشنا المنصورة إلى من تضاعف مهابته في عيون العدا عدد جنوده، وتغزوه سرايا خيله في يقظته وتطلع عليه طلائع خياله في هجوده، وإذا صلّت سيوفه في موقف وغى أغرت رأس كلّ مستكبر لم يعرف الله قبل ركوعه بسجوده، مشرّف أقدار أوليائنا من المراتب بما تشرف به أقدار المراتب في نفسها، ومفضّل أيام دولتنا على الدّول بما ألفته من جلالة ملكنا في أمسها، ومجمّل سير أصفيائنا من المعدلة بما إذا غرسته في قلوب الرعايا كان الدعاء الصالح ثمرة غرسها، ومقلّد خواصّنا من إيالة الملك ما إذا خطبت به الأقلام على منابر الأنامل نقلت البلاغة في تلك الأوصاف عن قسّها (1)، ومفيض حلل الأنباء المرقومة بأسنى الرّتب على من إذا زانت حبرها (2)
اللابس زانها بلبسها، وإذا أشرقت به هالة المواكب لوغى سقطت فوارس ملوك العدا عن مراكبها واضطربت الأسرّة بملوك فرسها، وإذا كتمته الأعداء أنباءها نطقت ألسنة رياحه بأسرار أهل الشرك ولا يرى أسمع من صمّها ولا أفصح من خرسها، وإذا تطاولت أبطال الوقائع للقائه افترّت ثغور سيوفه عن شنب النصر لإلفها بمعانقة الأعناق وأنسها.
نحمده على نعمه التي جادت شرف أسمائنا إلى أسماع المنابر، وأنطقت بمضاعفة الأنباء لأوليائنا ألسنة الأقلام في أفواه المحابر، وأعادت بسيف النصر حقوق ملكنا الذي تلقّيناه مع الأوّلية والأولوية من أسلافنا الكرام كابرا عن كابر.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا تزال سيوفنا بإعلاء منارها
__________
(1) إشارة إلى قسّ بن ساعدة الإياديّ.
(2) الحبر: مفردها حبرة وهي ثوب من قطن أو كتّان مخطط كان يصنع باليمن. والحبرة أيضا:
ملاءة من الحرير كانت ترتديها النساء بمصر حين خروجهن.(11/138)
ناهضة، وجياد جهادنا لنشر دعوتها في الآفاق راكضة، وموادّ نعمنا ونقمنا لآمال حامليها باسطة ولأرواح جاحديها قابضة، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أيّده الله تعالى بنصره، وآتاه من معجزاته ما يحول البصر دون حصره، وجعله أمام الأنبياء وإمامهم مع تأخّر عصره، ونصره بالرّعب الذي زحزج كلّ ملك عن سريره وأنزل كلّ متوّج من قصره، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين هجروا في نصرته مألوف الأوطان والأوطار، وركبوا في إقامة ملّته مخوف الأهوال والأخطار، وفتحوا بيمن دعوته ما اشتملت عليه المشارق والمغارب من الأرجاء الممتدّة والاقطار، صلاة لا يزال سيف جهادنا لدوامها مقيما، وحكم جلادنا لإقامتها مديما، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من سمت التقاليد بأوصافه، وصرّفت أمور الممالك بين بأسه وإنصافه، وحلّيت مواقف الخدمة الشريفة من جواهر مهابته بما هو جدير بحلى السيف، وزيّنت مجالس العدل من إيالته بما هو مبرّأ من الميل والهوى منزّه عن الظلم والحيف، وملئت القلوب من مخافته بما يمنع ذا القوّة في الباطل من توهّم البطش وذا الصّبوة في الهوى من استزاره (1) ويحسّن لها الفرار، ويهوّن عليها في جنب ما تتوقّعه من مواقع سيوفه السّبي والإسار، وعدق به من مصالح الأقاليم ما يصرّفه بيمين دأبها اليمن ويسار شأنها اليسار، وفوّضت زعامة الجيوش منه إلى همام يقوم بأمرها على ما يجب، وليث لو لم ينهض بألوفها المؤلّفة في الوقائع لكان من نفسه وحدها في جحفل لجب، ومقدام آلاف العدا في شجاعته آحاد، وضرغام قسور (2) أهل الكفر بين يدي وثباته وثباته وأسودهم تقاد من لم نزل نعدّه في
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف.
(2) القسور والقسورة: الغالب الشديد البطش وهو من أسماء الأسد. وفي التنزيل العزيز:
المدثر / 51: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}.(11/139)
أركان البيت الشريف المنصوريّ بالخناصر، ونعدّه للمواقف التي ليس للدين فيها غير تأييد الله وحدّ السيف ناصر، وندّخره من معادن أوليائنا الذين تمسّكوا من الانتماء إلينا بأمكن الأسباب وأقوى الأواصر، ونقلّد أعطاف الأواصر منه سيفا يرمى منه بيت العدا ومعاقلهم بأفتك حاصد وأفلل حاصر فكم من مواقف شفع فيها الشجاعة بالخضوع لربّه، ومواطن لبس فيها قلبه على الدّرع إذا لبس غيره الدّرع على قلبه، ومسالك سلكها في طاعة الله وطاعتنا والسيوف تنفر من قربها، ومشاهد شهدها في طاعة الله وطاعتنا والقلوب تفرّ من حجبها، وليال قطعها في خدمتنا لم يصحب غير ألسنة أسنّته وأعين شهبها، ومقاصد للدّين بلغها والسّهام لا تحملها من الفرق قوادم النّسور، وسرايا وقف بينها وبين العدا فضرب بينهم من شجاعته بسور، وبحار حرب لم تتجاسر السوابح على قطعها حتّى مدّ عليها من معوجّات سيوفه قناطر ومن مقوّمات ذوابله جسور، وكم أنام الرعايا في مهاد عدله فلم يطرقهم طيف ظالم في الكرا، ولا روّع سربهم خيال مغير أوهمهم السّرى، بل كانوا محفوظين بمهابته محفوفين بمواهبه وادعين في ظلّه الذي ما دجا عليهم ليل خطب إلا أطلع لهم بدور الأمن في غياهبه.
ولما كان (فلان) هو الذي سار بذكر مهابته المثل، وصار له في قلوب الأعداء من الرّعب ما تشابه فيه القاتلان الوجل والخجل، وجمع محاسن الصفات فما أخذ عنه أو نطق به أو نظر إليه إلا وجد ملء المسامع والأفواه والمقل، ولا جرّد على العدا سيفا إلا وودّعت أرواحهم الأجساد، ولا أرهف في مجالس العدل والإحسان قلما إلّا وضمنت له الآجام التي نشأ بها كرم السّيول وسطوة الآساد، ولا طلع في أفق مواكب إلا وهالت العدا هالة بدره، ودلّت على عظم سلطاننا رفعة قدره، وشهدت له بحسن طاعتنا طاعة أمرائنا لأمره، وأسلف من خدمة والدنا السلطان الشهيد ما لم تزل له به عندنا حقوق مرعيّة، وسوابق مرضيّة، ورتبة تقديم سنيّة، ومزية تقريب جعلته مشاهدا بالعيان مقدّما في النيّة اقتضت آراؤنا الشريفة أن نروّع العدا بسيفه، ونريهم من تقدمته على الجيوش
يقظة ما كانوا يرونه حلما من طيفه، وليعلم الأعداء معاجلة أخذهم بالعنف والحيف، وأننا لا تأخذنا في الله لومة لائم فليس بيننا وبين أعداء الله ورسوله (صلّى الله عليه وسلّم) إلا السّيف.(11/140)
ولما كان (فلان) هو الذي سار بذكر مهابته المثل، وصار له في قلوب الأعداء من الرّعب ما تشابه فيه القاتلان الوجل والخجل، وجمع محاسن الصفات فما أخذ عنه أو نطق به أو نظر إليه إلا وجد ملء المسامع والأفواه والمقل، ولا جرّد على العدا سيفا إلا وودّعت أرواحهم الأجساد، ولا أرهف في مجالس العدل والإحسان قلما إلّا وضمنت له الآجام التي نشأ بها كرم السّيول وسطوة الآساد، ولا طلع في أفق مواكب إلا وهالت العدا هالة بدره، ودلّت على عظم سلطاننا رفعة قدره، وشهدت له بحسن طاعتنا طاعة أمرائنا لأمره، وأسلف من خدمة والدنا السلطان الشهيد ما لم تزل له به عندنا حقوق مرعيّة، وسوابق مرضيّة، ورتبة تقديم سنيّة، ومزية تقريب جعلته مشاهدا بالعيان مقدّما في النيّة اقتضت آراؤنا الشريفة أن نروّع العدا بسيفه، ونريهم من تقدمته على الجيوش
يقظة ما كانوا يرونه حلما من طيفه، وليعلم الأعداء معاجلة أخذهم بالعنف والحيف، وأننا لا تأخذنا في الله لومة لائم فليس بيننا وبين أعداء الله ورسوله (صلّى الله عليه وسلّم) إلا السّيف.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زالت ممالك الإسلام به مفترّة المباسم، عالية مدى المهابة إذا طرقتها عواصف رياح العدا وقفت دون بلوغها دامية المناسم أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالممالك الإسلامية على العادة في ذلك والقاعدة تفويضا يفيض على الممالك حلل المهابة، ويسلب أعداء الدين رداء الأمن فلا ينفعهم الخضوع ولا الإنابة، ويضاعف لنا أدعية الرعايا الصالحة بإجرائهم على ما ألفوه من العدل والإحسان فمنهم الدعاء الصالح ومن كرم الله الإجابة.
فليتقلّد هذه الرّتبة الدّالة على ارتفاع قدره لدينا، الشاهدة له باحتفالنا بما أوجبه إخلاصه من حقوق الطاعة والولاء علينا، المنبّهة على أنه سيفنا الذي نصون الممالك بحدّه، ونصول على العدا بمضائه الذي تهلّل وجوه النصر كلّما أسفر من غمده، وليستقرّ في ذلك نافذا في المصالح الإسلامية أمره، مغيرا على جيوش الأعداء ذكره، معملة في حماية الدّين بيضه المرهفة وسمره، مجمّلة بإشراق طلعته مطالع المواكب، مسيّرة نجوم أسنّته إلى قلوب أعداء الدّين مسير الكواكب، مخفقة بخفوق رايته مساعي الكفر الصادرة عن آمالهم الكواذب، ليعلم عدوّ الله أنه أشدّ طلبا له من أجله، وألزم لعنقه من عمله، وأسبق إليه من رجع صوته، وأنزل عليه من مفاجأة موته، وليجمل النظر في مصالح الجيوش الإسلامية بما يضاعف عدّتها، ويبقي على توالي الأحقاب حدّتها وجدّتها، ويأخذهم بإدامة التمرّن في الحروب، وإطالة عنان التأهّب للرّكوب، ويعين كلّا منهم بملاحظة حاله على استدامة قوّته وإمكانه، ويجعلهم بالاقتباس من شجاعته من القوم الذين لا يسألون عن عدد عدوّهم بل عن مكانه، وليكن لكلمة الشريعة الشريفة رافعا، ولشبه من يمتنع عن الانقياد إلى الأحكام دافعا، وعلى يد من يتطرّق إلى الخروج عن أحكامه آخذا، ولمن لم يسلك
الأدب بين يدي حكّامه بما يقتضيه تعظيم الحكم العزيز مؤاخذا، وليأمر النوّاب بإقامة منار العدل الذي يوم منه خير للأرض من أن تمطر أربعين يوما، ويصرف إلى مصالح الثّغور الإسلامية وحمايتها فكرا لم يختر دعة، ونظرا يأنف أن يألف نوما، وملاك الوصايا تقوى الله وهي من خصائص نفسه الكريمة، وراحة روحه التي هي للفكر في مصالح الإسلام مديمة فليجتهد في المحافظة عليها ما استطاع، ويمض بها في مصالح الإسلام أمره الذي جعلناه من أمرنا مطاع.(11/141)
فليتقلّد هذه الرّتبة الدّالة على ارتفاع قدره لدينا، الشاهدة له باحتفالنا بما أوجبه إخلاصه من حقوق الطاعة والولاء علينا، المنبّهة على أنه سيفنا الذي نصون الممالك بحدّه، ونصول على العدا بمضائه الذي تهلّل وجوه النصر كلّما أسفر من غمده، وليستقرّ في ذلك نافذا في المصالح الإسلامية أمره، مغيرا على جيوش الأعداء ذكره، معملة في حماية الدّين بيضه المرهفة وسمره، مجمّلة بإشراق طلعته مطالع المواكب، مسيّرة نجوم أسنّته إلى قلوب أعداء الدّين مسير الكواكب، مخفقة بخفوق رايته مساعي الكفر الصادرة عن آمالهم الكواذب، ليعلم عدوّ الله أنه أشدّ طلبا له من أجله، وألزم لعنقه من عمله، وأسبق إليه من رجع صوته، وأنزل عليه من مفاجأة موته، وليجمل النظر في مصالح الجيوش الإسلامية بما يضاعف عدّتها، ويبقي على توالي الأحقاب حدّتها وجدّتها، ويأخذهم بإدامة التمرّن في الحروب، وإطالة عنان التأهّب للرّكوب، ويعين كلّا منهم بملاحظة حاله على استدامة قوّته وإمكانه، ويجعلهم بالاقتباس من شجاعته من القوم الذين لا يسألون عن عدد عدوّهم بل عن مكانه، وليكن لكلمة الشريعة الشريفة رافعا، ولشبه من يمتنع عن الانقياد إلى الأحكام دافعا، وعلى يد من يتطرّق إلى الخروج عن أحكامه آخذا، ولمن لم يسلك
الأدب بين يدي حكّامه بما يقتضيه تعظيم الحكم العزيز مؤاخذا، وليأمر النوّاب بإقامة منار العدل الذي يوم منه خير للأرض من أن تمطر أربعين يوما، ويصرف إلى مصالح الثّغور الإسلامية وحمايتها فكرا لم يختر دعة، ونظرا يأنف أن يألف نوما، وملاك الوصايا تقوى الله وهي من خصائص نفسه الكريمة، وراحة روحه التي هي للفكر في مصالح الإسلام مديمة فليجتهد في المحافظة عليها ما استطاع، ويمض بها في مصالح الإسلام أمره الذي جعلناه من أمرنا مطاع.
وهذه نسخة تقليد بكفالة السلطنة أيضا، كتب به عن السلطان الملك أبي بكر ابن الناصر محمد بن قلاوون للأمير طقزدمر أمير مجلس (1)، في سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، بعد أن بطلت النيابة في دولة أبيه الملك الناصر عدّة سنين وهي:
الحمد لله الذي اصطفى لسلطاننا المنصور من ينوب عنّا في رعاية الجمهور أحسن مناب، وأضفى على ملكنا المعمور من رياسته أسرّ سربال ومن حراسته أجلّ جلباب (2)، وكفى دولتنا الشريفة بسياسته مهمّات الأمور: فلتأييدها بقيامه دوام ولتشييدها باهتمامه استصحاب، وشفى الصّدور بصدور إشارته المباركة التي لها بأوامرنا العالية اقتران ومن ضمائرنا الصافية اقتراب، وأوفى له من برّنا العميم بحقه الذي [له] (3) بعهده استحقاق للتقديم وإيجاب، وسبقه القديم الذي له من سعيد المصاهرة أكرم اتّشاج ومن حميد المظاهرة ألزم انتساب.
__________
(1) أمير مجلس: هو الذي يتحدث على الأطباء والكحالين ومن شاكلهم ولا يكون إلا واحدا. ومن عمله أيضا أنه يتولى أمر مجلس السلطان أو الأمير في الترتيب وغيره. (التعريف بمصطلحات الصبح: 50).
(2) السّربال والجلباب: القميص.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/142)
نحمده على أن بصّر آراءنا بطرق الوفاق وسبل الصواب، ونشكره على أن نضّر راياتنا في الآفاق: فلقلوب العدا من خوفها إرهاق وإرهاب.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة منزّهة عن الشّكّ والارتياب، موجّهة إلى قبلتها التي ترضاها الألباب، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أظفر عزمه بالثّبات وقهر خصمه بالتّباب (1)، ووفّر قسمه من الإنجاد ويسّر حزبه للإنجاب، وأظهر اسمه بعد اسمه فحلا في الأفواه ذكره وطاب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا من بعده في رعاية عهده أحسن الآداب، صلاة متصلة الأسباب، موصّلة إلى خير مال متكفّلة بنعم باب (2) لا يزال لسحب جودها في الوجود انصباب، ولمقترب وفودها ورود إلى مظانّ الرّضوان من غير إغباب (3)، ما جرّد انتقامنا على الأعداء سيف سطا يقدّ الرّقاب، وأورد إنعامنا الأولياء بحر ندى زاخر العباب، وجدّد قيامنا بعلم هدى مرّت عليه الأعوام وما لمح له أثر ولا فتح له باب، واعتمد مقامنا الشريف، في الجمع للقلوب والتأليف، على أعلى وليّ وأعلى جناب، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإنّ أولى من اعتمدنا في الإنجاب والإنجاح على ديانته، وانتجدنا فيما أردنا من الاستصحاب للصّلاح بإعانته، واعتضدنا في تقطين الممالك وتأمين المسالك بصيالته وصيانته، ورعينا عند والدنا الشهيد سقى الله عهده صوب (4) الرّضوان على علوّ مكانه ودنوّ مكانته، فاكتفينا في كفالة الأمّة وإيالة النّعمة بخشيته من ربّه واستكانته من حمدت سجاياه، وتعدّدت مزاياه واستندت إلى ما أمر الله تعالى به من العدل والإحسان في الأحكام قضاياه، ووجدت منه الزّهد والرّفق رعاة الإسلام ورعاياه، فهو الممدوح فعله، من جميع
__________
(1) التّباب: الهلاك.
(2) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف.
(3) أغبّ القوم: شربت ماشيتهم يوما وتركت يوما. والمراد: من غير انقطاع.
(4) الصّوب: المطر.(11/143)
الألسنة، الممنوح فضله، في سائر الأزمنة، الملموح عليه آثار القبول الظاهر من عناية الله لما نواه من الخير لخلق الله وأبطنه، فهو عاضد السلطنة الذي حلّ من العلياء موطنه، وكافل المملكة الذي سبق إلى كلّ مجد فأدركه، وسيف الدولة الحامي الحوزة البادي الصّولة، ومن له اشتمال على العليا، ومن يقارن التحقيق له رأيا، ولا يباين التوفيق له سعيا، ويعاون الهدى والنهى على طول المدى له أمرا ونهيا، ويعاين الورى لسلطاننا المنصور منه مهديّا يجمل لدولتنا حفظا ويحسن لملكنا رعيا.
وكان فلان هو الذي لم يزل متعيّن المحاسن، متبيّن الميامن، متمكّن الرّياسة في كل الأماكن فحلمه إذا اضطربت الجبال الرّواسي ثابت ساكن، وعلمه الزائد بأوضاع السّياسة وأنواع النّفاسة للوجود من بهجته زائن، ورأيه الصائب للبلاد والعباد صائن، ورعيه للخلق بالحق: القويّ منه خائف والضعيف إليه راكن، وبشره هاد للرائي وباد للمعاين، وذكره الجميل سائر في الآفاق والأقطار والمدائن، حتّى أظهر الله تعالى بإمداد نيّرنا الأعظم من إشراق بدره الكامل ما هو في سرّ الغيب كامن، وشهر سيفه الذي يغدو الإيمان من مهابته في كنف منيع وحرم آمن.
ولما مضت على منصب النيابة الشريفة في أيّام والدنا الشهيد بضع سنين، وانقضت الأيام والليالي والدهر بموهبتها ضنين، ولا وطيت لها ربوة، ولا امتطيت لها صهوة، وكانت في سلك ملكه مندرجة، وبصفو سلطنته ممتزجة، إلى أن قضى عليه الرّضوان النّحب، وأفضى من الجنان إلى المحلّ الرّحب، رأينا بعده بمن كان يتحقّق ودّه أن نستأنس، وأمضينا وصيّته المباركة في اختيار ثمرة الإخلاص بمن كان له الاختصاص يغرس، وأفضينا إليه بالمناب عنّا لما كان من أنوار والدنا الشهيد في كل تسديد يقتبس، ومن الاستئثار بمجالسته يفوز فيحوز حكم الحكم لأنه كان أمير ذلك الملجس، وقضينا باعتماد أمره الكريم بعد أمرنا الشريف: لأنه الخبير الذي لا ينبهم عليه شيء من خفايا القضايا ولا يلتبس اقتضى حسن الرأي الشريف إلقاء ما في أيدينا من مقاليد الممالك إلى
يده، وإبقاء وديعة هذا الأمر العظيم إلى صونه وعونه وتشدّده، وإيفاء جنابه إلى حميد هذه الغاية التي هي للمناسبة مناسبة لسؤدده.(11/144)
ولما مضت على منصب النيابة الشريفة في أيّام والدنا الشهيد بضع سنين، وانقضت الأيام والليالي والدهر بموهبتها ضنين، ولا وطيت لها ربوة، ولا امتطيت لها صهوة، وكانت في سلك ملكه مندرجة، وبصفو سلطنته ممتزجة، إلى أن قضى عليه الرّضوان النّحب، وأفضى من الجنان إلى المحلّ الرّحب، رأينا بعده بمن كان يتحقّق ودّه أن نستأنس، وأمضينا وصيّته المباركة في اختيار ثمرة الإخلاص بمن كان له الاختصاص يغرس، وأفضينا إليه بالمناب عنّا لما كان من أنوار والدنا الشهيد في كل تسديد يقتبس، ومن الاستئثار بمجالسته يفوز فيحوز حكم الحكم لأنه كان أمير ذلك الملجس، وقضينا باعتماد أمره الكريم بعد أمرنا الشريف: لأنه الخبير الذي لا ينبهم عليه شيء من خفايا القضايا ولا يلتبس اقتضى حسن الرأي الشريف إلقاء ما في أيدينا من مقاليد الممالك إلى
يده، وإبقاء وديعة هذا الأمر العظيم إلى صونه وعونه وتشدّده، وإيفاء جنابه إلى حميد هذه الغاية التي هي للمناسبة مناسبة لسؤدده.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال يجمع شمل الإسلام بتعيّنه وتفرّده، ويرجع أمر الأنام منه إلى مأمون الرأي رشيده سفّاح السّيف مهنّده، منصور العزم مؤيّده، ويوسع الخليفة إذا وليهم بالرأفة والرحمة ومن أولى من أبي بكر بأن يخصّ أصحاب محمد عند الخلافة بإعذاب منهل الجود ومورده أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالممالك الإسلامية أعلاها الله تعالى نيابة شاملة محيطة، كاملة بسيطة، تعني كلّ أمير ومأمور، وتدني أمرها الذي يعامل بالإجلال ويقابل بالسّرور، برّا وبحرا، وسهلا ووعرا، غورا ونجدا، بعدا وقربا، شرقا وغربا، وما منحه الله تعالى لوالدنا الناصر من الممالك ويدّخر لسلطاننا المنصور ويخبى: تستوعب أمر ما نأى من هذه الأقاليم ودنا، وتجب طاعته فيها على كلّ من كان مؤمنا، ويمتثل في ذلك كلّه أمره، وتعمل فيه الرويّة فيجمل فكره، ويؤمّل فيه فتحه ونصره، وينقل به مدحه وشكره، ولا ينفصل منحه وبرّه ناظرا في هذه النيابة الشريفة بفكره التامّ، سائرا فيها السير الجميل من الدّربة والإلهام، ناشرا ظلال المعدلة على من سار أو أقام، مظاهرا بجنابه منّا أجلّ مقام. ونحن وإن كنا نتحقّق من خلاله الحسنى كلّ وصف يسنى، ونثق منه بذي الصدر السليم الذي هو على المقاصد يعان وبالمحامد يعنى، فلسنا نخلّ بالوصية التي نعلم أنّ له عنها استغنا، ولكننا لا نترك بها التبرّك ولا ندع ما سنّ الله تعالى منها وشرع، ولا نغفل ما يجب به أن يحتفل فقد وصّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه، وأمضى أمره المسموع كلّ ذي رجوع إلى الله تعالى منهم وإنابة، فقد أولاه الله تعالى كلّ جميل قبل أن ولّاه، وحلّاه بالسّمات والمكرمات قبل أن رفع علاه، وأعطاه ما أرهب العدا من سطاه، وهداه إلى كلّ رشد تأتمّ به الهداة.
فأهمّ ذلك تقوى الله تعالى وهو عليها مجبول، وأمرها عنده متلقّى بالقبول، والعدل فهو منه مأمول، والاتّصاف بالإنصاف فهو دأبه فيما يفعل
ويقول، والجهاد: فعزائمه في ميدانه تجول، وصوارمه بها من قراع فرسانه فلول، والزّعماء والأكابر: فلهم من محافظته اعتناء وبملاحظته شمول، والعساكر الإسلاميّة: فبتأييده تبطش أيديهم بالعدا وتصول، وزعماء البلاد فلهم إلى ظلّ رحمته إيواء وبكنف نعمته ظلول، وممالك الإسلام فما منها إلا معمور بما أوته كفالته مأهول، وثغوره فكلّها بسّام بفتكاته التي ألقى رعبها في البحر فهو بين كلّ فاجر وبين البحر يحول، وما هو بذلك من حميد المسالك موصول، ومحلّه المقدّم لأنه أهمّ الأصول: من إكرام الحكّام، وإبرام الأحكام، واستيفاء الحدود، واقتفاء السّنن المعهود: من إنجاز الوعود، وإحراز السّعود، والإجهاز على كلّ كفور وجحود، والاحتراز من فظاظة الناس بإفاضة الجود فكلّ ذلك على خاطره مسرود، ولما آثره مورود، وفي ذخائره موجود، ومن خبرته معلوم معهود، وعن فكرته مشهور، ومن فطرته مشهود فليسع أمرنا هذا جميع الأمراء والجنود، وليرجع إليه كلّ من هو من جملة الملّة معدود، وليقابل مرسومنا بالسمع والطاعة، أهل السنة والجماعة، ساعة الوقوف عليه وحالة الورود، والله تعالى يصلح ببقائه الوجود، ويمنح باهتمامه المقصود، ويفتح المعاقل باعتزامه الذي ليس بمردود عن مراده ولا مصدود، بل يصبح الكفر من خوفه محصورا ويمسي وهو بسيفه محصود والعلامة الشريفة أعلاه، حجة بمقتضاه إن شاء الله تعالى.(11/145)
فأهمّ ذلك تقوى الله تعالى وهو عليها مجبول، وأمرها عنده متلقّى بالقبول، والعدل فهو منه مأمول، والاتّصاف بالإنصاف فهو دأبه فيما يفعل
ويقول، والجهاد: فعزائمه في ميدانه تجول، وصوارمه بها من قراع فرسانه فلول، والزّعماء والأكابر: فلهم من محافظته اعتناء وبملاحظته شمول، والعساكر الإسلاميّة: فبتأييده تبطش أيديهم بالعدا وتصول، وزعماء البلاد فلهم إلى ظلّ رحمته إيواء وبكنف نعمته ظلول، وممالك الإسلام فما منها إلا معمور بما أوته كفالته مأهول، وثغوره فكلّها بسّام بفتكاته التي ألقى رعبها في البحر فهو بين كلّ فاجر وبين البحر يحول، وما هو بذلك من حميد المسالك موصول، ومحلّه المقدّم لأنه أهمّ الأصول: من إكرام الحكّام، وإبرام الأحكام، واستيفاء الحدود، واقتفاء السّنن المعهود: من إنجاز الوعود، وإحراز السّعود، والإجهاز على كلّ كفور وجحود، والاحتراز من فظاظة الناس بإفاضة الجود فكلّ ذلك على خاطره مسرود، ولما آثره مورود، وفي ذخائره موجود، ومن خبرته معلوم معهود، وعن فكرته مشهور، ومن فطرته مشهود فليسع أمرنا هذا جميع الأمراء والجنود، وليرجع إليه كلّ من هو من جملة الملّة معدود، وليقابل مرسومنا بالسمع والطاعة، أهل السنة والجماعة، ساعة الوقوف عليه وحالة الورود، والله تعالى يصلح ببقائه الوجود، ويمنح باهتمامه المقصود، ويفتح المعاقل باعتزامه الذي ليس بمردود عن مراده ولا مصدود، بل يصبح الكفر من خوفه محصورا ويمسي وهو بسيفه محصود والعلامة الشريفة أعلاه، حجة بمقتضاه إن شاء الله تعالى.
وهذه وصيّة لنائب سلطنة، أوردها في «التعريف» قال:
يوصى بتقوى الله تعالى وتنفيذ الأحكام الشرعيّة، ومعاضدة حكّامها، واستخدام السّيوف لمساعدة أقلامها، وتفقّد العساكر المنصورة وعرضها، وإنهاضهم لنوافل الخدمة وفرضها، والتخيّر للوظائف، وإجراء الأوقاف على شرط كلّ واقف، والملاحظة الحسنى للبلاد وعمارة أوطانها، وإطابة قلوب سكّانها، ومعاضدة مباشري الأموال مع عدم الخروج عما ألف من عدل هذه الأيام الشريفة وإحسانها، وتحصين ما لديه، وتحسين كلّ ما أمره إليه،
واستطلاع الأخبار والمطالعة بها، والعمل بما يرد عليه من المراسيم المطاعة والتمسك بسببها وأنه مهما أشكل عليه يستضيء فيه بنور آرائنا العالية فهو يكفيه، ومن قتل من الجند أو مات وخلّف ولدا يصلح لإقطاعه يعيّن له ليقوم بمخلّفيه، ويقال من هذا ما يقوم بتمام الغرض ويوفّيه.(11/146)
يوصى بتقوى الله تعالى وتنفيذ الأحكام الشرعيّة، ومعاضدة حكّامها، واستخدام السّيوف لمساعدة أقلامها، وتفقّد العساكر المنصورة وعرضها، وإنهاضهم لنوافل الخدمة وفرضها، والتخيّر للوظائف، وإجراء الأوقاف على شرط كلّ واقف، والملاحظة الحسنى للبلاد وعمارة أوطانها، وإطابة قلوب سكّانها، ومعاضدة مباشري الأموال مع عدم الخروج عما ألف من عدل هذه الأيام الشريفة وإحسانها، وتحصين ما لديه، وتحسين كلّ ما أمره إليه،
واستطلاع الأخبار والمطالعة بها، والعمل بما يرد عليه من المراسيم المطاعة والتمسك بسببها وأنه مهما أشكل عليه يستضيء فيه بنور آرائنا العالية فهو يكفيه، ومن قتل من الجند أو مات وخلّف ولدا يصلح لإقطاعه يعيّن له ليقوم بمخلّفيه، ويقال من هذا ما يقوم بتمام الغرض ويوفّيه.
الوظيفة الثانية (الوزارة لصاحب سيف)
واعلم أنّ أوّل من أطلق عليه لقب الوزارة في الإسلام «أبو حفص الخلّال» وزير أبي العبّاس السّفّاح أوّل خلفائهم (1) كما ذكره القضاعيّ في «عيون المعارف (2) في أخبار الخلائف» ثم صارت الوزارة بعد ذلك للخلفاء والملوك دائرة بين أرباب السّيوف والأقلام، تارة يليها صاحب سيف وتارة يليها صاحب قلم إلا أنها في أرباب الأقلام أكثر،، وعلى ذلك جرى عرف الديار المصرية من ابتداء الأمر وإلى الآن.
ومما ينبّه عليه أنّ الوزير إذا كان صاحب سيف، كان في مجلس السلطان قائما في جملة الأمراء القائمين، وإذا كان صاحب قلم، كان جالسا كما يجلس أرباب الأقلام: من كاتب السرّ وغيره.
وهذه نسخة تقليد بالوزارة، كتب به للأمير سيف الدين بكتمر (3) وهي:
الحمد لله الذي شدّ أزر دولتنا القاهرة، من أوليائنا بأمضى سيف، وعضّد أيامنا الزاهرة، من أصفيائنا بأعدل وليّ لا يوجد في حكمه حيف، وعدق تدبير
__________
(1) أي خلفاء العباسيين.
(2) ذكره صاحب كشف الظنون باسم «عيون المعارف وفنون أخبار الخلائف» للقاضي أبي عبد الله محمد بن سلامة القضاعي المتوفى سنة 454هـ. وقد جمع فيه جملا من أنباء الأنبياء وتواريخ الخلفاء وولايات الملوك والأمراء وانتهى إلى الفاطمية. (كشف الظنون: 1188).
(3) لعل المقصود هو الأمير بكتمر الناصري جلّق وكان بكتمر هذا قد تزوج ببنت السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق. (نزهة النفوس والأبدان: 2/ 263).(11/147)
أمور ممالكنا الشريفة بمن تحجب مهابته ذوي الأطماع الطامحة عمّا لا يحب، فلا يلم بهم فيها خاطر [ولا] (1) يطرقهم بها طيف، جاعل التأييد لآرائنا مصاحبا، والتوفيق موافقا لأوامرنا التي لا تهمل من مصالح الإسلام مندوبا ولا تدع من مهمّات الملك واجبا، والإقبال تاليا لمراسيمنا في ارتياد من يغدو قلب المحقّ من حيفه ساكنا وقلب المبطل من خوفه واجبا، واليمن تابعا لاستخارتنا في انتخاب من لم يزل في خدمتنا الشريفة للأدعية الصالحة جالبا، ولمنافع الإسلام والملك طالبا، ولمضارّهما حاجبا.
نحمده على نعمه التي عضّدت أيامنا بمن جمعت أدواته، رتبتي السيف والقلم، وعدقت تدبير ممالكنا بمن أحرزت [صفاته] (2)، مزيّتي العلم والعلم، وشدّ أزر دولتنا بمن يبيّض بمعدلته من صحائف أيّامنا ما هو أحبّ إليها من حمر النّعم.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نعدّها للقائه، ونتيمّن بها في افتقاد من نعتضد به في مصالح أهلها وانتقائه، ونقدّمها أمام كل أمر ندّخره لاعتلاء وليّنا بالتقى وارتقائه، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أرسله إلى الأمم طرّا، وخصّه بالأمّة التي جعل أمارة سبقها إلى الخيرات أن غدت محجّلة غرّا، وأيّده بنصره وبالمؤمنين الذين ما منهم إلا من أعرض عن زخرف الدنيا وإن كان حلوا وقال الحقّ وإن كان مرّا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ولوا أمته فعدلوا، والذين تمسّكوا بسنن سنّته فما حادوا عنها ولا عدلوا، صلاة لا تزال الألسن لإقامتها مديمة، والقلوب لإدامتها مقيمة، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى من أبرزت الضمائر، في الاعتضاد به مكنون طويّتها، واعتمدت الخواطر، في تصريح علانيتها بأولويّته لمصالح الإسلام على نيّتها، وتشوّفت البلاغة لرقم مفاخره، وتنافست المعاني في تخليد مآثره، وهنّأت
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/148)
المعدلة نفسها، برافع لوائها، وأبّدت الدولة أنسها، بناشر برّها في الأقطار وآلائها، وافترّت ثغور الاقاليم المحروسة بمن تلهج بمصالحها ألسنة أقلامه، واخضرّت ربى آمال الأولياء بما يسفر عنه من تهلّل بهاء غرر أيامه، من هززنا منه لمصالح الإسلام سيفا يصل ما أمر الله به أن يوصل، ويفصل من مهمّات الممالك ما يقتضي الحقّ أن يفصل، ويبرز من معادن العدل والإحسان ما هو في سرّ خلائقه كامن، وينزل من استقامت سيرته في الحمى المخصب والحرم الآمن، ويصون الأموال بمهابته فلا تمتدّ إليها هواجس الأطماع، ولا تتجاسر أبصار غير الأمناء أن تقصّ نبأ رؤيتها على الأسماع، ويضاعفها بخبرته التي تهديها الأمانة إلى معادنها، وتدلّها النزاهة على مواطنها، وتبدي لها ظواهر الأعمال أسرار بواطنها، ويعمّر بيوت الأموال بعمارة البلاد، ويثمّر فروع الطّوارف من مصالحها بحفظ أصول التّلاد (1)، ويكفّ أكفّ الظلم عن الرعايا فلا يخشى محقّ على حقه، ولا يخاف مستقيم على ما قسم له من رزقه، ولا يطمح قويّ إلى من يستضعف جانبه، ولا يطمع باغ في الحيف على أحد مخالطه في نشب (2) كان أو مجانبه.
ولما كان الجناب العالي (الفلانيّ) هو الذي أشير إلى مناقبه، واعتضد منه بمطيع لله في السرّ والعلن ومراقبه، وفوّض تدبير الممالك منه إلى من لا تأخذه في الحق لومة لائم، واعتمدت أيامنا الزاهرة منه على من طالما سرى في مصالحها على جياد العزائم، وشدّ أزر الملك من موازرته بمن يكسو دست الوزارة أبّهة وجلالا، ويلبس منصبها سنا لو ملكته الشمس مارامت عن بروج شرفها انتقالا، ويمدّ على الرعايا لواء عدل لا يقلّص له هجير الظلم كما تتقلّص الظلال ظلالا، وتطلع به شموس الأرزاق على أولياء دولتنا لكن لا ترهب
__________
(1) الطارف والطريف: الحديث، والمستفاد من المال حديثا، والجمع: طوارف وطرف وطراف.
وعكسها التالد والتليد.
(2) النشب: المال أو العقار.(11/149)
كالشّموس غروبا ولا زوالا، مع مهابة تخيف الأسد في أجماتها، ومعدلة تعين الغيوث على رفع محول البلاد ودفع أزماتها، وديانة زانها التّقى، وخبرة صانها الورع وهما أفضل ما به يرتقى.
وكانت الوزارة الشريفة نظام المملكة وقوامها، وذروة الدولة وسنامها، وتاج المراتب وإكليلها، وعتاد الخزائن الجامع دقيق المصالح الإسلامية وجليلها اقتضت آراؤنا الشريفة أن تزيّن هذه الرتبة بجوهر فرنده، وأن يصدر منصبها عن مناقب لا تصدر إلا عن جهته ومفاخر لا ترد إلا من عنده، وأن يطلق في مصالحها قلمه، ويمضي في قواعدها إشاراته وكلمه، ويطلع في أفقها شمس تدبيره، ويعدق به ما يراه في أمورها من صغير الأمر وكبيره، وأن نجعل مسامع الأقاليم على سعتها إلى أوامره ونواهيه مصغية، وأن نصدّ بسمعته عمن بعد عوارض الإمهال الملهية ومواقع الإهمال المطغية.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زالت سحائب برّه مستهلّة، وركائب المحامد إلى حرم نعمه مهلّة أن تفوّض إليه الوزارة الشريفة بالممالك الإسلامية على أكمل القواعد، وأجمل العوائد، تفويضا يعلي مرامه، ويمضي مضاء ألسنة الأسنة أقلامه، ويبسط في مصالح الأقاليم المحروسة يده ولسانه، ويلقي إليه من مهمّات كلّ قطر أزمّته ليصرّف على ما يراه من المصالح عنانه.
فليستقرّ في هذه الرّتبة السنية استقرار الدّرر في أسلاكها، والدّراريّ في أفلاكها، نافذ الأمر في مصالح شرقها وغربها، مطاع القول في بعد أماكنها منه وقربها، ناشرا كلمة العدل في أرجائها، محققا بالإحسان آمال أمم قصرت على كرمنا ممدود رجائها، معليا منار الشرع الشريف بمعاضدة حكّامه، والوقوف عند أوامره المطاعة وأحكامه، حافظا أقدار الرّتب بأكفائها، معتمدا على ذوي البيوت المحافظين على اتّباع سير أسلافهم واقتفائها، معوّلا على ذوي الخبرة التامة مع الدّيانة، مراعيا مع ظهور المعرفة جانب العفّة والنّزاهة والصّيانة، موكّلا بمصالح بيوت الأموال والخزائن المعمورة موادّ الأموال ومعينها، صارفا إلى عمارة البلاد
جميل تدبير تعتضد البحار والسّحب منه بمساعدها على ريّ الأرض ومعينها، ميسّرا موادّ أرزاق خدم دولتنا القاهرة وأوليائها بجميل بشره وحسن روائه، مسهّلا مطالب أرباب الرواتب والصّدقات بطلاقة وجه لو تأمله امرؤ صادي الجوانح لارتوى من مائه،: ليتوفّر أهل الوظائف على خدمهم بقلوب منبسطة الآمال، ويناضل عنها الفقراء بسهام (1) الليل التي لا تطيش إذا طاشت النّبال فقد جعلنا أمره في ذلك جميعه من أمرنا فليكتب يمتثل، وليقل في مصالحنا بما يراه يسر كلامه سريّ الرياح ويسر قوله سير المثل، ولا يمض عقد ولا حلّ، ولا ولاية ولا عزل، ولا رفع ولا خفض، ولا إبرام ولا نقض، إلا عن رأيه وإشارته، وبنصّ خطّه وعبارته.(11/150)
فليستقرّ في هذه الرّتبة السنية استقرار الدّرر في أسلاكها، والدّراريّ في أفلاكها، نافذ الأمر في مصالح شرقها وغربها، مطاع القول في بعد أماكنها منه وقربها، ناشرا كلمة العدل في أرجائها، محققا بالإحسان آمال أمم قصرت على كرمنا ممدود رجائها، معليا منار الشرع الشريف بمعاضدة حكّامه، والوقوف عند أوامره المطاعة وأحكامه، حافظا أقدار الرّتب بأكفائها، معتمدا على ذوي البيوت المحافظين على اتّباع سير أسلافهم واقتفائها، معوّلا على ذوي الخبرة التامة مع الدّيانة، مراعيا مع ظهور المعرفة جانب العفّة والنّزاهة والصّيانة، موكّلا بمصالح بيوت الأموال والخزائن المعمورة موادّ الأموال ومعينها، صارفا إلى عمارة البلاد
جميل تدبير تعتضد البحار والسّحب منه بمساعدها على ريّ الأرض ومعينها، ميسّرا موادّ أرزاق خدم دولتنا القاهرة وأوليائها بجميل بشره وحسن روائه، مسهّلا مطالب أرباب الرواتب والصّدقات بطلاقة وجه لو تأمله امرؤ صادي الجوانح لارتوى من مائه،: ليتوفّر أهل الوظائف على خدمهم بقلوب منبسطة الآمال، ويناضل عنها الفقراء بسهام (1) الليل التي لا تطيش إذا طاشت النّبال فقد جعلنا أمره في ذلك جميعه من أمرنا فليكتب يمتثل، وليقل في مصالحنا بما يراه يسر كلامه سريّ الرياح ويسر قوله سير المثل، ولا يمض عقد ولا حلّ، ولا ولاية ولا عزل، ولا رفع ولا خفض، ولا إبرام ولا نقض، إلا عن رأيه وإشارته، وبنصّ خطّه وعبارته.
وفي سيرته السّريّة، وديانته التي هي من أسباب الهوى عريّة، ما يغني عن وصايا تملى على فكره، وقواعد تجلى على ذكره وملاكها تقوى الله: وهي من أخصّ أوصافه، ونشر العدل والإحسان وهما من نتائج إنصاته لأمور الرعايا وإنصافه لكن على سبيل الذّكرى التي تنفع المؤمنين، وترفع درجات المتقين فليجعلها نجيّ خاطره، وقبلة ناظره والله تعالى يعلي قدره وقد فعل، ويجعله من عباده المتقين وقد جعل بمنّه وكرمه. والاعتماد [على الخط الشريف أعلاه] (2)
إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الثالثة (الإشارة، وهي وظيفة قد حدثت كتابتها ولم يعهد بها كتابة في الزمن القديم)
وهذه نسخة تقليد أنشأته بالإشارة للأمير جمال الدين يوسف البشاسي (3)
__________
(1) لعل المراد بسهام الليل: الدعوات.
(2) الزيادة مما جرت عليه العادة في هذا المقام.
(3) هو جمال الدين يوسف ألبيري: استادار العالية. قتل بأمر من السلطان فرج بن برقوق سنة 812 بعد ما اتهم بمساعدته لشيخ المحمودي الذي أعلن العصيان في الشام. (انظر نزهة النفوس والأبدان: حوادث سنة 812هـ، الجزء الثاني).(11/151)
إستادار في الدولة الناصرية فرج، حين فوّضت إليه الإشارة مضافة إلى الإستداريّة، وكتب له به المقرّ الشمسيّ العمريّ كاتب الدّست الشريف، في شعبان سنة تسع وثمانمائة، وهي:
الحمد لله الذي جدّد للديار المصريّة بالمحاسن اليوسفيّة رونق جمالها، وأعزّ جانبها بأجلّ عزيز ملأت هيبته الوافرة فسيح مجالها، وأسعد جدّها بأسعد مشير أدارت آراؤه الصائبة متقاعس الأمور ما بين يمينها وشمالها، وأكرم مآبها بأمثل كاف عاد حسن تدبيره بضروب من المصالح أنام الخلق في ظلالها، وأجاب سؤلها بأكمل لم تعدل عن خطبتها له وإن أطال في مطالها.
نحمده على أن أغاث الدولة القاهرة بمن أخصب به بعد الإمحال ربعها، وطال بطوله بعد القصور فرعها، وحسن في المناظر بحسن تأتّيه لذي التأمّل ينعها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي شرع المشورة وحثّ عليها، وعدق أمور السيف والقلم بها فردّهما عند اختلاف الرأي إليها، شهادة ترفع قائلها إلى أسنى المراتب وتعليه، وتقرّب المخلص في انتحالها من مقام الاستخلاص وتدنيه، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي ورد وارد الأمة من منهل شرعته المطهّرة ما عذب مشرعه وردا وصدرا، والتقطت السّيّارة أحاديث فضله فصيّرتها للرّفاق سمرا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين تقيّلوا مساحب أذياله في العدل فعدلوا، ولزموا منهج سننه الواضح فما حادوا عن سواء السبيل ولا عدلوا، صلاة تفوق العدّ حصرا، وترفع بركاتها عن الأمة حصرا وتبدّل العسر يسرا، فتعيد عجاف الزمان سمانا وسنبلات الوقت بعد اليبس خضرا، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإنّ للمملكة قواعد تبنى عليها، وأركانا تستند إليها، ودعائم يشدّ بالاعتضاد بها بنيانها، وعمدا يعتمد عليها في المهمّات سلطانها وهذه المباني وإن اتّسع نطاقها، وامتدّ بامتداد المملكة رواقها، فإنّ بالسيف والقلم قوامها،
وبالتعلّق بحبالها بقاءها ودوامها إذ كانا قطبين عليهما مدار فلكها، ونقطتين عنهما ينشأ الخطّ المستقيم في تدبير ملكها، وزعيمين يترافع إليهما عند التخاصم، وحكمين يرجع إلى حكمهما عند التّحاكم إلا أنهما لا يستقلّان عند التحالف، ولا يقوم أحدهما برأسه لدى التّخالف بل لهما إمام يرجعان إليه، ويعوّلان عند اضطراب الأمور عليه، وهو الرأي الذي لا يقطع أمر دون حكمه، ولا يهتدي سار في مهامه المهمّات إلا بنجمه إذ كان على الشجاعة مقدّما، ودليله من المعقول والمنقول مسلّما، والمتّسم به لا يزال عند الملوك مبجّلا معظّما، لا يقدّمون عليه ولدا ولا والدا، ولا يؤثرون على معاضدته عضدا ولا ساعدا، إن أشار برأي تمسك الملك منه بالحبل المتين، أو محضه كلام نصح قال: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنََا مَكِينٌ أَمِينٌ} (1)
ولما كان الجناب العاليّ، الأميريّ، الكبيريّ (إلى آخر ألقابه) يوسف الناصري: ضاعف الله تعالى نعمته، هو الذي حنّكته التّجارب و «حلب الدّهر أشطره» وعرف بتقليب الأمور على ممرّ الزمان مخبره، مع ما اشتمل عليه من الرأي الصائب، والفكر الذي إذا أبدت قريحته في الارتياء عجبا أتت فطرته السليمة بالعجائب.(11/152)
أما بعد، فإنّ للمملكة قواعد تبنى عليها، وأركانا تستند إليها، ودعائم يشدّ بالاعتضاد بها بنيانها، وعمدا يعتمد عليها في المهمّات سلطانها وهذه المباني وإن اتّسع نطاقها، وامتدّ بامتداد المملكة رواقها، فإنّ بالسيف والقلم قوامها،
وبالتعلّق بحبالها بقاءها ودوامها إذ كانا قطبين عليهما مدار فلكها، ونقطتين عنهما ينشأ الخطّ المستقيم في تدبير ملكها، وزعيمين يترافع إليهما عند التخاصم، وحكمين يرجع إلى حكمهما عند التّحاكم إلا أنهما لا يستقلّان عند التحالف، ولا يقوم أحدهما برأسه لدى التّخالف بل لهما إمام يرجعان إليه، ويعوّلان عند اضطراب الأمور عليه، وهو الرأي الذي لا يقطع أمر دون حكمه، ولا يهتدي سار في مهامه المهمّات إلا بنجمه إذ كان على الشجاعة مقدّما، ودليله من المعقول والمنقول مسلّما، والمتّسم به لا يزال عند الملوك مبجّلا معظّما، لا يقدّمون عليه ولدا ولا والدا، ولا يؤثرون على معاضدته عضدا ولا ساعدا، إن أشار برأي تمسك الملك منه بالحبل المتين، أو محضه كلام نصح قال: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنََا مَكِينٌ أَمِينٌ} (1)
ولما كان الجناب العاليّ، الأميريّ، الكبيريّ (إلى آخر ألقابه) يوسف الناصري: ضاعف الله تعالى نعمته، هو الذي حنّكته التّجارب و «حلب الدّهر أشطره» وعرف بتقليب الأمور على ممرّ الزمان مخبره، مع ما اشتمل عليه من الرأي الصائب، والفكر الذي إذا أبدت قريحته في الارتياء عجبا أتت فطرته السليمة بالعجائب.
هذا وقد علا في الدولة القاهرة مقامه، ورشقت أغراض مقاصدها بانقضاء الآجال في الوقائع سهامه، وساس العساكر فأحسن في سياستها التدبير، وبذل في نفقاتها الأموال فمال فيها إلى الإسراف دون التقتير، واستجلب الخواطر فأخذ منها بمجامع القلوب، واقتاد النفوس الأبيّة قهرا فأطاعه من بين الشّمال والجنوب، وقام من المهمّات الشريفة بما لم يسبقه إليه سابق، وأتى من خوارق العادات في التنفيذ بما لم يلحقه فيه لاحق، وبادر إلى ترتيب المصالح فرتّبها ولم يعقه في انتهاز الفرصة عن دفع المفاسد عائق، وأخذ في حطّ الأسعار فورد منهلا من المعروف صافيا، وأمر بإبطال المعاملين فكان له عملا على توالي
__________
(1) يوسف / 54.(11/153)
الأزمان باقيا، ولازم بعد رضا الله تعالى رضا ملكه ففاز بأشرف المآثر في الحديث والقديم، وتأسّى في تعريفه بنفسه بيوسف عليه السّلام فقال:
{اجْعَلْنِي عَلى ََ خَزََائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (1) اقتضى حسن الرأي الشريف تنويهنا بذكره، وتقديمه على غيره ممن رام هذه الرتبة فحجب دونها {وَاللََّهُ غََالِبٌ عَلى ََ أَمْرِهِ} (2)
فلذلك رسم بالأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الناصريّ، الزينيّ لا زال يجمع لأوليائه شمل المعالي، ويرقّي أصفياءه في درجات العزّ على ممرّ الأيّام والليالي أن تفوّض إلى المشار إليه الإشارة الشريفة التي هي أسنى المقامات وأعلاها، وأقصى المرامات لدينا وأغياها، مع ما انضمّ إلى ذلك من النظر في الوزارة الشريفة التي جلّ قدرها، وعلا في المناصب ذكرها، والخاصّ الذي اختص بمهمّاتنا الشريفة، والديوان المفرد (3)
الذي غمر من ممالكنا السعيدة ذا الوظيفة وغير ذي الوظيفة، وتعلقات المملكة شرقا وغربا، ولوازمها المفترقة بعدا وقربا.
فليتلقّ ما فوّض إليه بيمينه التي طالما ربحت في الطاعة صفقتها، ويقابله بالقبول الذي محلّه من القلوب مهجتها، مقدّما تقوى الله تعالى فيما خفي من مقاصده وظهر، مؤثرا رضاه في كل ما يأتي ويذر، معتمدا في المصالح اعتماد ذي اليقظة الساهر، آتيا من غرائب الرّغائب بما يحقّق قول القائل: «كم ترك الأوّل للآخر».
والوصايا كثيرة ومن بحره تستخرج دررها، ومن سوابق آرائه تستوضح
__________
(1) يوسف / 55.
(2) يوسف / 21.
(3) يرجع تأسيس هذا الديوان إلى أيام الفاطميين وقد أفرد له السلطان برقوق بلادا وأقام له مباشرين وجعل الحديث فيه لأستاداره الكبير، ورتب عليه نفقة مماليكه من جامكيات (رواتب) وعليق وكسوة وغير ذلك. (التعريف بمصطلحات الصبح: 149).(11/154)
أوضاحها وغررها، والله تعالى يديم عليه نعم إقبالنا الباطنة والظاهرة، ويتولّاه من العناية بما يحقّق له دائم قوله: {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ} (1).
والاعتماد على الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه، إن شاء الله تعالى.
الطبقة الثانية (ممن يكتب له من أرباب السيوف ذوات التواقيع، وفيها وظائف)
الوظيفة الأولى (نظر البيمارستان لصاحب سيف)
الحمد لله رافع قدر من كان في (2) خدمتنا الشريفة كريم الخلال، ومعلي درجة من أضفى عليه الإخلاص في طاعتنا العلية مديد الظّلال، ومجدّد نعم من لم يخصّه اعتناؤنا بغاية إلا رقّته هممه فيها إلى أسنى رتب الكمال، ومفوّض النظر في قرب الملوك السالفة إلى من لم يلاحظ من خواصّنا أمرا إلا سرّنا ما نشاهد فيه من الأحوال الحوال (3).
نحمده على نعمه التي لا تزال تسري إلى الأولياء عوارفها، ومناهله التي لا تبرح تشتمل على الأصفياء عواطفها، وآلائه التي تسدّد آراءنا في تفويض القرب إلى من إذا باشرها سرّ بسيرته السريّة مستحقّها وواقفها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة رفع الإخلاص لواءها، وأفاض الإيمان على وجوه حملتها إشراقها وضياءها، ووالى الايقان إعادة أدائها بمواقف الحق وإبداءها.
ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المخصوص بعموم الشفاعة العظمى،
__________
(1) يوسف / 101.
(2) بياض بالأصل ولعله ترك لنسبة القول إلى منشئه كما يأتي في نظيره بعد.
(3) حليت الجارية حليا: صارت ذات حلي، ولبست الحليّ، فهي حال وحالية والجمع حوال.(11/155)
المقصوص في السّنّة ذكر حوضه الذي من شرب منه شربه فإنّه بعدها لا يظما، المنصوص على نبوّته في الصّحف المنزّلة وبشّرت به الهواتف نثرا ونظما، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فازوا من طاعته، بالرّتب الفاخرة، وحازوا بالإخلاص في محبته، سعادة الدنيا والآخرة، وأقبلوا على حظوظهم من رضا الله ورضاه فلم يلووا على خدع الدنيا الساحرة، صلاة دائمة الاتّصال آمنة شمس دولتها من الغروب والزّوال، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى الأمور بالنظر في مصالحها، وأحقّها بتوفير الفكر على اعتباد مناهجها واعتماد مناجحها، أمر جهات البرّ التي تقرّب بها السلطان الشهيد الملك المنصور (قدّس الله روحه) إلى من أفاض نعمه عليه، وتنوّع في إنشائها فأحسن فيها كما أحسن الله إليه، ورغب بها فيما عند الله: لعلمه أنّ ذلك من أنفس الذخائر التي أعدّها بين يديه، وحلّ منها في أكرم بقعة نقله الله بها عن سريره إلى مقعد صدق عند ربّه، وعمر بها مواطن العبادة في يوم سلمه بعد أن عفّى بها معاقل الكفر في يوم حربه، وأقام بها منار العلوم فعلا منالها، وأعدّ للضّعفاء بها من موادّ البرّ والإلطاف ما لو تعاطته الأغنياء قصرت عن التطاول إليه أموالها وأن نرتاد لها من إذا فوّضنا إليه أمرا تحقّقنا صلاحه، وتيقّنّا نجاحه، واعتقدنا تنمية أمواله، واعتمدنا في مضاعفة ارتفاعه وانتفاعه على أقواله وأفعاله، وعلمنا من ذلك ما لا نحتاج فيه إلى اختبار ولا اعتبار، ولا يحتاج في بيان الخيرة فيه إلى دليل إلا إذا احتاج إليه النّهار، لنكون في ذلك بمثابة من ضاعف لهذه القرب أسباب ثوابها، أو جدّد لها وقفا: لكونه أتى بيوت الإحسان في ارتياد أكفاء النّظر لها من أبوابها.
ولما كان فلان هو الذي نبّهت أوصافه على أنه ما ولي أمرا إلا وكان فوق ذلك قدرا، ولا اعتمد عليه فيما تضيق عنه همم الأولياء إلا رحب به صدرا، ولا طلع في أفق رتبة هلالا إلا وتأمّلته العيون لأجلّ رتب الكمال بدرا، يدرك ما نأى من مصالح ما يليه بأدنى نظر، ويسبق في سداد ما يباشره على ما يجب سداد الآراء ومواقع الفكر. ونحن نزداد غبطة بتدبيره، ونتحقّق أنّ كل ما عدقنا به إليه
من أمر جليل فقد أسندناه إلى عارفه وفوّضناه إلى خبيره اقتضت آراؤنا الشريفة أن نعدق بجميل نظره هذا المهمّ المقدّم لدينا، وأن نفوّض إليه نظر هذه الأوقاف التي النظر في مصالحها من آكد الأمور المتعيّنة علينا.(11/156)
ولما كان فلان هو الذي نبّهت أوصافه على أنه ما ولي أمرا إلا وكان فوق ذلك قدرا، ولا اعتمد عليه فيما تضيق عنه همم الأولياء إلا رحب به صدرا، ولا طلع في أفق رتبة هلالا إلا وتأمّلته العيون لأجلّ رتب الكمال بدرا، يدرك ما نأى من مصالح ما يليه بأدنى نظر، ويسبق في سداد ما يباشره على ما يجب سداد الآراء ومواقع الفكر. ونحن نزداد غبطة بتدبيره، ونتحقّق أنّ كل ما عدقنا به إليه
من أمر جليل فقد أسندناه إلى عارفه وفوّضناه إلى خبيره اقتضت آراؤنا الشريفة أن نعدق بجميل نظره هذا المهمّ المقدّم لدينا، وأن نفوّض إليه نظر هذه الأوقاف التي النظر في مصالحها من آكد الأمور المتعيّنة علينا.
فرسم بالأمر الشريف لا زال فضله عميما، وبرّه يقدّم في الرّتب من كان من خواصّ الأولياء كريما أن يفوّض إليه كيت وكيت.
فليل هذه الرتبة التي أريد بها وجه الله وما كان لله فهو أهمّ، وقصد بها النفع المتعدّي إلى العلماء والفقراء والضّعفاء ومراعاة ذلك من أخصّ المصالح وأعمّ، ولينظر في عموم مصالحها وخصوصها نظرا يسدّ خللها، ويزيح عللها، ويعمّر أصولها، ويثمّر محصولها، ويحفظ في أماكنها أموالها، ويقيم بها معالم العلوم في أرجائها، ويستنزل بها موادّ الرحمة لساكنها بألسنة قرّائها، ويستعيد صحّة من بها من الضعفاء بإعداد الذّخائر لملاطفة أسقامها ومعالجة أدوائها، ويحافظ على شروط الواقف في إقامة وظائفها، واعتبار مصارفها، وتقديم ما قدّمه مع ملاءة تدبيره باستكمال ذلك على أكمل ما يجب، وتمييز حواصلها بما يستدعي إليها من الأصناف التي يعزّ وجودها ويجتلب، وضبط تلك الحواصل التي لا خزائن لها أوثق من أيدي أمنائه وثقاته، ولا مودع لها أوفق من أمانة من يتّقي الله حقّ تقاته فلذلك وكلناه في الوصايا إلى حسن معرفته واطّلاعه، ويمن نهوضه بمصالحنا واضطلاعه، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الثانية
(نظر الجامع الطولوني) (1)
من إنشاء المقرّ البدريّ (2) ابن المقرّ العلائيّ بن فضل الله صاحب ديوان
__________
(1) من الجوامع العتيقة، الأنيقة الصنعة الواسعة البنيان. ذكر المقريزي في خططه أنه ابتدأ في بنائه الأمير أبو العباس أحمد بن طولون سنة 263هـ، وفرغ منه في رمضان سنة 265هـ وقد عمل في مؤخره ميضأة وخزانة شراب فيها جميع الأشربة والأدوية، وبلغت نفقة بنائه مائة وعشرين ألف دينار. وقد خرب مع مرور الزمن وضاعت أوقافه ثم اتخذ تكية للفقراء إلى الآن. (خطط المقريزي: 2/ 265والخطط التوفيقية: 2/ 309).
(2) هو القاضي بدر الدين محمد بن علي بن يحيى بن فضل الله العمري المتوفى سنة 796هـ وهو آخر من تولى رياسة ديوان الإنشاء من أسرة فضل الله العمري. (القلقشندي وكتابه صبح الأعشى: 107ونزهة النفوس والأبدان: 1/ 394).(11/157)
الإنشاء الشريف، في الدولة الظاهرية برقوق، كتب به المقرّ الشمسيّ العمريّ كاتب الدّست الشريف لأبي يزيد الدّوادار، وهي:
الحمد لله الذي أقام من أوليائنا خير ناظر، يقرّ به كل ناظر، وأدام بنا بناء المعروف الزاهر وحسنه الباهر، وأنام الأنام في مهاد الأمن بانتقاء وليّ لسان الكون حامد له ومادح وشاكر، وفتح أبواب السعادة باصطفاء صفيّ طاب بسفارته كلّ خاطر من مقيم وخاطر، ومنح أسباب السيادة بأوفى وفيّ عمر بوجوده الوجود وغمر بجوده كلّ باد وحاضر، وأبصر بالدين المتين والفضل المبين فأقمناه للنظر على بيوت الله تعالى لأولويّته بذلك: {إِنَّمََا يَعْمُرُ مَسََاجِدَ اللََّهِ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (1).
نحمده على نعمه التي ظهرت (2) بالمزيد فسرّت السرائر، وظهرت بنور الرّشد المديد فأشرق بها الباطن والظاهر، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز القادر، شهادة صدقت في الإخلاص بها الألسنة والضمائر، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله معدن الأسرار، وبحر الجود الزاخر، ومنبع الأنوار، صاحب الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة والمفاخر، الذي يبعثه الله مقاما محمودا يحمده الأوائل والأواخر، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه النّجوم الزّواهر، الذين جاهدوا في الله حقّ جهاده فكان كلّ منهم للدّين الحنيف أعظم مجتهد ومؤيّد وناصر، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى من ألقيت إليه مقاليد الأمور، وصرّفناه في جميع مصالح
__________
(1) التوبة / 18.
(2) ظهرت به: قويت به.(11/158)
الجمهور، وفوّضنا إليه النظر في بيوت الله تعالى ليعمرها بنظره السعيد وتضاعف له الأجور، ومكّنّا له في دولتنا الشريفة حتّى صار قطب فلكها عليه تدور، وبسطنا يده ولسانه فهو ينطق عنّا ويأمر بالقضاء والقدر في الورود والصّدور، وقيّدنا الأرزاق بقلمه، والمهمّات بكلمه، فلا فضل إلا من فيضه المنشور من امتاز على غيره بفضيلتي السّيف والقلم، وتقدّم في الطاعة الشريفة بأثبت قدم، كان بها من السابقين الأوّلين من القدم، واتّصف بالشّجاعة والشّهامة والمعرفة التامّة والحلم والعدل والحكم فهو التّرجمان عنّا الناطق بفصل الخطاب في السّرّ للتّرك والعرب والعجم، وعرف بالرأي السديد، والنظر السعيد، والتدبير الحميد، والقول المفيد، والجود والكرم وطبع على الخير الجزيل، والدّين الجميل، عمره في الحقّ قائم، لا تأخذه في الحقّ لومة لائم، طالما أحيا بحسن السّفارة من العدم.
هو واحد في الفضل والنظر السعيد لأبي سعيد.
فمن الذي يحكيه في الشّرف العتيد ... بطل الوغى أبو يزيد
قد تفرّد في العفّة والدّيانه، والثّقة والأمانة، والتحف بالصّفا، وتردّى بالوفا، وشفى بالخير والجبر من كان بالفقر على شفا فحصل له الشّفا، ووفى بالعهود والمواثيق وذلك أمر ما خفى (1)، ولحق في الجود والدّين بسميّه أبي يزيد البسطاميّ (2) الوليّ:
قالوا: الوليّ أبو يزيد قد مضى ... وهو الفريد بفضله والصادق!
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية: «جرى على لغة طيء نظرا للسجع».
(2) هو طيفور بن عيسى البسطامي: زاهد مشهور. كان ابن عربي يسميه أبا يزيد الأكبر ونسبته إلى بسطام بلدة بين خراسان والعراق وفي المستشرقين من يرى أنه كان يقول بوحدة الوجود، وأنه ربما كان أول قائل بمذهب الفناء، ويعرف أتباعه بالطيفورية أو البسطامية. توفي سنة 261هـ. قال ابن خلكان: «والبسطامي: بفتح الباء الموحدة». (انظر ابن خلكان:
2/ 531والأعلام: 3/ 235).(11/159)
قلت: الأمير أبو يزيد مثله ... هذاك سابقه وهذا اللاحق!
ولما كان فلان هو المشار إليه بهذه الصّفات الحسنة، والمناقب التي تنوّعت في مدائحها الألسنة، وعرف بالجود فملك حبّه الأفئدة فارتفعت الأصوات بالدعاء له معلنة، طالما أنال النّعم، وأزال النّقم، وجبر القلوب وكشف الكروب، وجلا ظلام الخطوب، ونشر المعروف، وأغاث الملهوف، وأنقذ من المهالك، وعمر بتدبيره الممالك، ووصل الأرزاق، وأجرى الأطلاق على الإطلاق اقتضت آراؤنا الشريفة أن نعتمد في جميع الأشياء عليه، ونلقي مقاليد الأمور إليه، وننوط به المهمّات وغيرها: ليكون العلم بالكلّيات والجزئيّات لديه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال يتحف بالمزيد من كرمه، ويسبغ جلابيب نعمه، ويجري بحر فضله الواسع، ويعمّ بنظره المقرّبين من أوليائه كلّ جامع للخير جامع، أن يستقرّ (1)
فليتلقّ هذا التفويض الجليل بقبوله، ويبلّغ الجامع المذكور ما يرتقبه من عمارته التي هي غاية مأموله. ومنه تؤخذ الوصايا لأنه لساننا الناطق، وسفير مملكتنا العالم بالحقائق والدّقائق، فلا يحتاج أن يوصى ولا أن نفتح معه في الوصية بابا، وما يصلح أن يقال لغيره لا يجوز أن يكون له خطابا:
ومثلك لا يدلّ على صواب ... وأنت تعلّم الناس الصّوابا!
والله تعالى يؤيده في القول والعمل، ويعمّ بوجوده وجوده الوجود وقد فعل، ويبقيه مدى الدهر، ويستخدم لسعوده الساعة واليوم والجمعة والشّهر، ويجعل بابه الطاهر مفتوحا للقاصدين على الدّوام، ويقيمه واسطة عقد الملك
__________
(1) بياض بالأصل، والمراد «في نظر الجامع الطولوني الخ» وكثيرا ما يفعل ذلك في مثل هذه الحالات.(11/160)
فإنه مبارك أينما كان ورحمة للأنام والاعتماد على الخطّ الشريف أعلاه حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الثالثة (نقابة الأشراف)
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب وظائف الدّيار المصرية في المقالة الثانية أنّ موضوعها التحدّث على الأشراف، وهم أولاد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، من فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قلت: وقد جرت العادة أنّ الذي يتولّى هذه الوظيفة يكون من رؤوس الأشراف، وأن يكون من أرباب الأقلام، وإنما أوردته مع أرباب السّيوف لأن المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله قد ذكر في بعض دساتيره الشاميّة أنه يكتب لنقيب الأشراف «الأميريّ» ولا يكتب له «القضائيّ» ولو كان صاحب قلم. وقد رأيت له عدّة تواقيع على ذلك مكتتبة من الأبواب السلطانية وعن نائبي الشام وحلب وغيرهما، معبّرا عنه فيها ب «الأميريّ» وتوقيعه في قطع الثّلث مفتتح بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله».
وهذه نسخة [توقيع] (1) بنقابة الأشراف، وهي:
الحمد لله مشرّف الأنساب، وموفي الأحساب، حقوق ملاحظتهم بغير حساب، وجاعل أيّامنا الشريفة تحمد الاكتساب.
نحمده بمحامد حسنة الإيجاد والإيجاب، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا شكّ في مقالها ولا ارتياب، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله ونبيّه الذي أنزل عليه الكتاب، وشرّف به الذّراريّ من شجرته المباركة الأعقاب، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا تتوارى شمسها بحجاب.
وبعد، فإنّ خير ما صرفت الهمم إلى تشييد مبانيه، وتقييد مهمل رواعيه
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية وهي يقتضيها المقام.(11/161)
وملاحظة قاصيه ودانيه، المحافظة على كلّ ما يرفع قدر الآل ويعليه، ويردّ إليهم عنان الاعتناء ويثنيه.
ولمّا كانت العترة الطاهرة النبوية ورّاث الوحي الذين آل إليهم ميزاته، وأهل البيت الذين حصل لهم من السّؤدد آياته وقد سأل الله وهو المسؤول لهم القربى، وخصّهم بمزايا حقيق بمثل متصرّفهم أنه بها يحبى وأنها لهم تجبى:
لما في ذلك من بركات ترضي سيّد المرسلين وتعجبه، ويسطّر الله [الأجر] (1)
لفاعله ويكتبه، وكان لا بدّ لهم من رئيس ينضّد سلكهم وينظّمه، ويعظّم فخرهم ويفخّمه، ويحفظ أنسابهم، ويصقل بمكارمه أحسابهم، وينمّي بتدبيره ريعهم، ويتابع تحت ظلّ هذه الشجرة الزكيّة ما زكّى ينعهم، ويحفظهم في ودائع النّسل، ويصدّ عن شرف أرومتهم من الأدعياء المدّعين بكل بسل (2)، ويحرس نظامهم، ويوالي إكرامهم، ويأخذهم بمكارم الأخلاق، ويمدّهم بأنواع الإرفاد والإرفاق، ويتولّى ردع جانيهم إذا لم يسمع، ويتدبّر فيه قوله: «أنفك منك وإن كان أجدع» (3).
ولمّا كان فلان هو المشار إليه من بني هذه السّلالة، وله من بينهم ميزة باطنة وظاهرة وإن كانوا كلّهم شيئا واحدا في الإجلال والإعظام، فقد تميزّت من بين الأنامل السّبّابة على الخنصر والبنصر والوسطى والإبهام، وكم ثمر جنيّ فضّل بعضه على بعض في الأكل وهو يسقى بماء واحد، وقد امتاز على بني هاشم سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والسلام اقتضى حسن الرأي المنيف، أن رسم بالأمر الشريف لا برح يختار وينتقي، ويجتبي من يخشى
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) البسل هو الباسل والبسل أيضا: الشدّة. وفي الأصل «نسك» وهو تصحيف. والتصحيح من الطبعة الأميرية. (انظر أيضا اللسان: 11/ 54).
(3) ويقال أيضا «أنفك منك وإن كان أذنّ». والذنين: ما يسيل من الأنف من المخاط وقد ذنّ الرجل يذنّ ذنينا فهو أذنّ، والمرأة ذنّاء. (انظر مجمع الأمثال: 1/ 21).(11/162)
الله ويتّقي أن تفوّض إليه نقابة الأشراف الطالبيّين على عادة من تقدّمه من النّقباء السادة.
فليجمع لهم من الخير ما يبهج الزهراء البتول فعله، ويفعل مع أهله وقرابته منهم ما هو أهله، وليحفظ مواليدهم، ويحرّز أسانيدهم (1)، ويضبط أوقافهم، ويعتمد إنصافهم، ويثمّر متحصّلاتهم، ويكثّر بالتدبير غلّاتهم، ويأخذ نفسه بمساواتهم، في جميع حالاتهم، وليأخذهم بالتجمّع عن كل ما يشين، والعمل بما يزين، حتّى يضيفوا إلى السّؤدد حسن الشّيم، وإلى المفاخر فاخر القيم، وكلّ ما يفعله معهم من خير أو غيره هو له وعليه، ومنه وإليه، والله يحفظه من خلفه ومن بين يديه، بمنّه وكرمه!.
وهذه نسخة وصية لنقيب الأشراف أوردها في «التعريف» فقال:
ونحن نجلّك عن الوصايا إلا ما نتبرّك بذكره، ويسرّك إذا اشتملت على سرّه فأهلك [أهلك راقب] (2) الله ورسوله جدّك صلّى الله عليه وسلّم فيما أنت عنه من أمورهم مسؤول، وارفق بهم فهم أولاد أمّك وأبيك حيدرة والبتول، وكفّ يد من علمت أنه [قد] (3) استطال بشرفه فمدّ إلى العناد يدا، واعلم أنّ الشريف والمشروف سواء في الإسلام إلا من اعتدى، وأنّ الأعمال محفوظة ثم معروضة بين يدي الله فقدّم في اليوم ما تفرح به غدا، وأزل البدع التي ينسب إليها أهل الغلوّ في ولائهم، والعلوّ فيما يوجب الطعن على آبائهم: لأنّه يعلم أنّ السلف الصالح رضي الله عنهم كانوا منزّهين عما يدّعيه خلف السّوء من افتراق ذات بينهم، ويتعرّض منهم أقوام إلى ما يجرّهم إلى مصارع حينهم (4)، فللشّيعة
__________
(1) المراد بالأسانيد: تسلسل النسب.
(2) ساقطة من الأصل. والتصحيح من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 130. والزيادة لازمة لاستقامة الكلام.
(3) ساقطة من الأصل. والتصحيح من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 130. والزيادة لازمة لاستقامة الكلام.
(4) الحين: الهلاك.(11/163)
عثرات لا تقال، من أقوال ثقال، فسدّ هذا الباب سدّ لبيب، واعمل في حسم موادّهم عمل أريب، وقم في نهيهم والسيف في يدك قيام خطيب، وخوّفهم من قوارعك [مواقع] (1) كلّ سهم مصيب فما دعي «بحيّ على خير العمل» إلى خير من الكتاب والسنة والإجماع [فانظم في نادي قومك عليها عقود الاجتماع] (2). ومن اعتزى إلى اعتزال، أو مال إلى الزّيديّة في زيادة مقال، أو ادّعى في الأئمة الماضين ما لم يدّعوه، أو اقتفى في طرق الإماميّة بعض ما ابتدعوه، أو كذب في قول على صادقهم، أو تكلّم بما أراد على لسان ناطقهم أو قال: إنه تلقّى عنهم سرّا ضنّوا على الأمّة ببلاغه، وذادوهم عن لذّة [مساغه] (3)، أو روى عن يوم السّقيفة والجمل غير ما ورد أخبارا [أو تمثّل بقول من يقول: عبد شمس قد أوقدت لبني هاشم نارا] (4) أو تمسّك من عقائد الباطن بظاهر، أو قال إنّ الذات القائمة بالمعنى تختلف في مظاهر، أو تعلّق له بأئمة السّتر (5) رجاء، أو انتظر مقيما برضوى (6) عنده عسل وماء، أو ربط على السّرداب فرسه لمن يقود الخيل يقدمها اللّواء أو تلفّت بوجهه يظنّ عليّا كرّم الله وجهه في الغمام، أو تفلّت من عقال العقل في اشتراط العصمة في الإمام.
فعرّفهم أجمعين أنّ هذا من فساد أذهانهم، وسوء عقائد أديانهم فإنّهم عدلوا في التقرّب بأهل هذا البيت الشريف عن مطلوبهم، وإن قال قائل إنهم طلبوا فقل له: {كَلََّا بَلْ رََانَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} (7).
__________
(1) ساقطة من الأصل، والتصحيح من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 130. والزيادة لازمة لاستقامة الكلام.
(2) ساقطة من الأصل، والتصحيح من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 130. والزيادة لازمة لاستقامة الكلام.
(3) ساقطة من الأصل، والتصحيح من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 130. والزيادة لازمة لاستقامة الكلام.
(4) ساقطة من الأصل، والتصحيح من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 130. والزيادة لازمة لاستقامة الكلام.
(5) من عقائد الشيعة المستعلوية والنزارية أنه لا بد من إمام معصوم ظاهر أو مستور. فالأئمة الظاهرون هم الذين يظهرون أنفسهم ويدعون الناس إلى إمامتهم، والمستورون هم الذين يستترون ويظهرون دعاتهم. وآخر الظاهرين عندهم اسماعيل الذي ينسبون إليه، وأول المستورين ابنه المكتوم وهو محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق. (انظر الصبح: 13/ 240239والأعلام:
6/ 34).
(6) رضوى: جبل بالمدينة وهو الجبل الذي يزعم الكيسانية أن محمد بن الحنفيّة به مقيم حيّ يرزق. (معجم البلدان: 3/ 51).
(7) المطففين / 14.(11/164)
وانظر في أمور أنسابهم نظرا لا يدع مجالا للرّيب، ولا يستطيع معه أحد أن يدخل فيهم بغير نسب، ولا يخرج منهم بغير سبب، وساوق المتصرّفين في أموالهم في كلّ حساب واحفظ لهم كلّ حسب. وأنت أولى من أحسن لمن طعن في أسانيد هذا الحديث الشريف أو تأوّل فيه على غير مراد قائله صلّى الله عليه وسلّم تأديبا، وأراهم مما يوصّلهم إلى الله تعالى وإلى رسوله طريقا قريبا، ونكّل بمن علمت أنه قد مالأ على الحق أو مال إلى فريق الباطل فرقا، وطوى صدره على الغلّ وغلب من أجله على ما سبق في علم الله تعالى من تقديم من تقدّم حنقا، [وجار وقد] (1) أوضحت لهم الطريقة المثلى طرقا، واردعهم إن تعرّضوا في القدح إلى نضال نصال، وامنعهم فإن فرقهم كلّها وإن كثرت خابطة في ظلام ضلال، وقدّم تقوى الله في كل عقد وحلّ، واعمل بالشريعة الشريفة فإنها النّسب الموصول الحبل.
واعلم أنّ المقرّ الشهابيّ بن فضل الله قد ذكر في «التعريف» عدّة وصايا لجماعة من أرباب السّيوف، لم يكتب لأحد منهم في زماننا، بل رفض استعمالها وأهمل. ونحن نذكرها، حفظا لذكرها، واحتياطا أن يقتضي الحال في زمن كتابة شيء منها.
إحداها وصية أتابك المجاهدين.
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب وظائف الدّيار المصرية أنّ أصله أطابك (2) بالطاء المهملة ومعناه الأب الأمير، وأنّ أوّل من لقّب بذلك زنكي أطابك صاحب الموصل، ثم غلبت فيه التاء المثناة بدل الطاء، وهي:
وأنت ابن ذلك الأب حقيقة، وولد ذلك الوالد الذي لم تعمل له إلا من
__________
(1) بياض بالأصل والتصحيح من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 132.
(2) من الكلمتين التركيتين: «أتا» بمعنى الأب، واللقب التركي «بك» بمعنى الأمير. والأتابك في الاصطلاح: مربي الأمير، ومدبر المملكة. ويطلق على أمير أمراء الجيش لقب أتابك العساكر.
(تأصيل الدخيل: 12ودائرة المعارف الإسلامية: 2/ 45).(11/165)
دماء الأعداء عقيقة وقد عرفت مثله بثبات الجنان، وصلت بيدك ووصلت إلى ما لم يصل إليه رمح ولا قدر عليه سنان، ولم يزاحمك عدوّ إلا قال له: أيّها البادي المقاتل كيف تزاحم الحديد، ولا سمّي اسمك لجبّار إلا قال له:
{وَجََاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذََلِكَ مََا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (1) وأنت أولى من قام بهذه الوظيفة، وألّف قلوب هذه الطائفة التي ما حلم بها حالم إلا وبات يرعد خيفة فليأخذ هذا الأمر بزمامه، وليعمل لله ولإمامه، وليرم في حبّ البقاء الدائم بنفسه على المنيّة، ولينادم على معاقرة الدّماء زهور سكاكينه الحنيّة، واطبع منهم زبرا (2) تطاول السيوف بسكاكينها، وتأخذ بها الأسود في عرينها، وتمتدّ كأنّها آمال، لما تريد، وترسل كأنّها آجال، ولهذا هي إلى كلّ عدوّ أقرب من حبل الوريد، وأذك منهم شعلا إذا دعيت بأحسابها لا تجد إلّا متحاميا، وارم منهم سهاما إذا دعيت بأنسابها الإسماعيلية فقد جاء أن إسماعيل كان راميا، وفرّج بهم عن الإسلام كلّ مضيق، واقلع عن المسلمين من العوانية كلّ حجر في الطريق، وصرّف رجالك الميامين، وتصيّد بهم فإنّهم صقور ومناسرهم السّكاكين، واخطف بهم الأبصار فبأيمانهم كلّ سكّينة كأنّها البرق الخاطف، واقطف الرؤوس فإنها ثمرات أينعت لقاطف، واعرف لهم حقّهم وضاعف لهم تكريما، وأدم لهم بنا برّا عميما، وقدّم أهل النفع منهم فقد قدّمهم الله {وَفَضَّلَ اللََّهُ الْمُجََاهِدِينَ عَلَى الْقََاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} (3)
واعلم أنهم مثل الوحوش فزد في تأنيسهم، واشكر إقدامهم فطالما اقتحموا على الملوك وما هابوا يقظة حرسهم، وارفع بعضهم على بعض درجات في نفقات تسافيرهم وقعود مجلسهم، ولا تسوّ بينهم فما هم سواء {لََا يَسْتَوِي الْقََاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجََاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ}
__________
(1) ق / 19.
(2) زبرة الحديد: القطعة الضخمة منه. وفي التنزيل العزيز: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ}: الكهف / 96.
(3) النساء / 95.(11/166)
{بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} (1) وأصل هذه الدعوة ما زالت تنتقل بالمواريث حتّى انتهت إلينا حقوقها، وأومضت بنا حيث خلعت هياكلها بجرعاء (2) الحمى بروقها والله تعالى يوفّقه ويرشده، ويطوّل باعه لما قصرت عنه سواعد الرّماح ووصلت إليه يده.
الثانية وصيّة أستاذ الدار (3)
وليتفقّد أحوال الحاشية على اختلاف طوائفها، وأنواع وظائفها، وليرتّبها في الخدمة على ما يجب، وينظر في أمورهم نظرا لا يخفى معه شيء مما هم عليه ولا يحتجب، وليبدأ بمهمّ السّماط المقدّم الذي يقدّم، وما يتنوّع فيه من كل مطعم، وما يمدّ منه في كل يوم بكرة والعصر، وما يستدعى معه من الطّواريء التي لا يحدّها الحدّ ولا يحصرها الحصر، وأحوال المطبخ الكريم الذي منه ظهور تلك المخافي، ووفاء ذلك الكرم الوافي، والتقدّم إلى الأمناء والمشرفين فيه بأمانة الإنفاق، وصيانة المآكل مما يعاب على الإطلاق. ثم أمر المشروب وما تغلق عليه أبواب الشراب خاناه السعيدة من لطائف مأكول ومشروب، وشيء عزيز لا يجود إلا فيها إذا عزّ المطلوب، ومراجعة الأطباء فيما تجري عليه قوانينها، وتشبّ لطبخه من حمر اليواقيت كوانينها، وإفراز ما هو للخاص الشريف منها وما هو للتفرقة، وما لا يصرف إلا بخط الطبيب ولا يسلّم إلا إلى ثقة. ثم «الطشت خاناه» (4) السعيدة التي هي خزانة اللّباس، وموضع
__________
(1) من الآية السابقة من سورة النساء.
(2) الجرعاء: الأرض ذات الحزونة تشاكل الرمل.
(3) الصواب «الاستادار». وقد ذكر القلقشندي في الصبح: 5/ 457أن القول «استاذ الدار» و «ستدار» هو خطأ صريح شائع. ولعله هنا قد ذهب الى الخطأ نفسه لشيوعه في زمنه. (انظر تأصيل الدخيل: 14).
(4) معناه بيت الطشت وسميت بذلك لأن فيها الطشت الذي تغسل فيه الأيدي ويغسل فيه القماش.
وقد غلب استعمال لفظ الطشت بشين معجمة وكسر الطاء وصوابه بالسين المهملة مع فتح الطاء وأصله «طسّ» بسين مشدودة فأبدلت من إحدى السينين للاستثقال فإذا جمع أو صغر ردّت السين إلى أصلها فيقال في الجمع: طساس وطسوس، وفي التصغير: طسوس. وكانت الطشت خاناه تسمى «بيت الطشت» أيام الأيوبيين. وكان بالطشت خاناه ثياب الخليفة أو السلطان التي لا بد لها من الغسل. (التعريف بمصطلحات الصبح: 231ونظم دولة سلاطين المماليك: 2/ 20).(11/167)
ما نبرز به من الزّينة للناس، وما يحتاج إليه من آلات التطبيب، وما يعيّن لها من الصابون وماء الورد والطّيب، وغير ذلك من بقيّة ما هي مستقرّه، ويؤخذ منها مستدرّه، ومن يستخدم بها ممن برأ من الرّيب، وعرف بالعفاف والأدب، وعلم أنه من أهل الصّيانة، وعلى ما سلّم إليه ومن خالطه الأمانة. ثم «الفراش خاناه» وما ينصب فيها من الخيام، وما يكون فيها من فرش سفر ومقام، وشمع يفضّض كافور كافوريّته آبنوس الظّلام. ثم غلمان الإصطبل السعيد والنّجّابة (1) وإن كان إلى سواه استخدامهم، ولدي غيره مستقرّهم ومقامهم، لكنّهم ما خرجوا من عديده، ولا يروقهم ويروعهم إلا حسن وعده وخشن وعيده. ثم المناخات السّلطانية وما بها من جمال، وما يسرح فيها من مال وجمال، ومن يستخدم فيها من سيروان ومهمرد (2)، وما فيها من قطار مزدوج وفرد فيوفّر لهذه الجهة نصيبا من النظر يشاهد أمورها وقد غابت في الأقطار، وتفرّقت كالسّحب يلزمها القطار القطّار وليكونوا على باله فإنهم يسرقون الذّرّة (3) من العين ومعهم الذّهب العين محمّلا بالقنطار فليحسن منهم الارتياد، وليتخيّر أرقّهم أفئدة فإنّهم بكثرة ملازمتهم للإبل مثلها حتّى في غلظ الأكباد. وطوائف المعاملين، والأبقار ومن عليها من العاملين، وزرائب الغنم وخولها (4) ورعائها، وأصناف البيوت الكريمة. وما تطلبه في استدعائها، ونفقات
__________
(1) النّجابة: مفردها نجّاب وهو البريديّ. (راجع ص 91).
(2) المهمرد: يطلق على من يقوم بحفظ قماش الجمال أو قماش الإصطبل والسائقين ونحو ذلك.
ومعناه في الفارسية «الرجل الكبير». (انظر الصبح: 5/ 471) ولم نعثر على معنى لفظ «سيروان»، ولعله على شاكلة المهمرد من القائمين بالعمل في الاصطبل السلطاني.
(3) جاء في هامش الطبعة الأميرية: «في التعريف: ذرة الكحل».
(4) في المعجم الوسيط: الخول: عطية الله من النعم والعبيد والإماء وغيرهم من الأتباع والحشم للواحد والجمع والذكر والأنثى.(11/168)
الأمراء المماليك السلطانيّة في إهلال كلّ هلال، وما يصرف في كساهم على جاري عادتهم أو إذا دعت إليه ضرورة الحال، وما يؤخذ عليه خطّه من وصولات تكتب، واستدعاآت تحسب من لوازمه وهي للكثرة لا تحسب فليكن لهذا كلّه مراعيا، ولأموره واعيا، ولما يجب فيه دون ما لا يجب مستدعيا وإليه داعيا وهو كبير البيت وإليه يرجع أمر كلّ مملوك ومستخدم، وبأمره يؤخّر من يؤخّر ويقدّم من يقدّم، ومثله يتعلّم منه ولا يعلّم، وعصاه على الكلّ محمولة على الرّقاب، مبسوطة في العفو والعقاب، ومكانه بين يدينا حيث نراه ويرانا ولدينا قاب قوسين أو أدنى من قاب (1)
وعليه بتقوى الله فبها تمام الوصايا وكمال الشروط، والأمر بها فعصاه محكمة وأمره مبسوط، وكلّ ما يناط بنا: من خاصّة أمورنا في بيتنا عمره الله ببقائنا وزاد تعميره بتدبيره منوط.
الثالثة وصيّة أمير آخور.
وقد تقدّم في الكلام على الألقاب في المقالة الثالثة أنّه مركّب من لفظين:
عربيّ وهو أمير ومعناه معروف، وأخور فارسيّ ومعناه العلف، والمعنى أمير العلف. وكأنه في الأصل كان هو المتولّي لعلوفة الخيل، ثم ارتفعت وظيفته حتّى صار صاحبها من أكبار الأمراء المقدّمين وهو يتحدّث في الإصطبلات السلطانيّة وما حوته من خيل وبغال ودوابّ وجمال وأثاث، وغير ذلك.
وهذه نسخة وصيته:
وليكن على أكمل ما يكون من إزاحة الأعذار، والتأهّب لحركاتنا الشريفة في ليل كان أو نهار، مقدّما الأهمّ فالأهمّ من الأمور، والأبدأ فالأبدأ من [تقديم] (2) مراكبنا السعيدة وتهيئة موكبنا المنصور، وترتيب ذلك كلّه على ما
__________
(1) القاب: المقدار. والقاب من القوس: ما بين المقبض وطرف القوس.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف».(11/169)
جرت به العوائد، وتحصيل ما تدعو الحاجة إليه على قدر الكفاية والزّوائد، والنّظر في جميع إصطبلاتنا الشريفة، والجشارات (1) السعيدة، وخيل البريد، والرّكائب المعدّة لقطع كلّ مدى بعيد، وما يجتمع في ذلك وينقسم، وما يركب منها ويجنب مما يسم الأرض بالبدور والأهلّة من كلّ حافر ومنسم، وما هو برسم الإطلاق، وما يعدّ لمماليك الطّباق (2)، وخيل التّلاد (3)، وما يجلب من قود (4)
كلّ قبيلة من القبائل ويجيء من كلّ بلد من البلاد، والمشترى مما يباع من المواريث ويستعرض من الأسواق، وما يعدّ للمواكب وللسّباق وليجل رأيه في ترتيب ذلك كلّه في مراتبه على ما تقتضيه المهمّات، والاحتراز في التّلاد مما لعلّه يبدّل ويقال هو هذا أو يؤخذ بحجة أنه مات وليجتهد في تحقيق ما نفق، [وليحرّره على حكم ما يتحقّق عنده لا على ما اتّفق] (5)، وكذلك فليكن فحصه عمّن يستخدم عنده من الغلمان، ولا يهمل أمورهم مع معاملتهم بالإحسان، ولا يستخدم إلا من تشكر سيرته في أحواله، وتعرف خبرته فيما يراد من أمثاله وكذلك الرّكّابة الذين تملك أيديهم أعنّة هذه الكرائم، والتحرّز في أمرهم ممن لعلّه يأوي إليهم من أرباب الجرائم، والأوشاقيّة (6) الذين هم مثل مماليكه وهم في الحقيقة إخوانه، وجماعة المباشرين الذين هم في مباشرة الإصطبلات السعيدة ديوانه وكلّ هؤلاء يلزمهم بما يلزم أمثالهم من السّلوك، ويعلمهم بما
__________
(1) الجشارات: جمع جشار، وهو مكان رعي الماشية من خيل وغيرها. (التعريف بمصطلحات الصبح: 85).
(2) مماليك الطباق: ويسمون أيضا «المماليك الكتابية» وهم الذين كانوا يدخلون الطباق (نوع من المدارس العسكرية) ويسكنونها وكانوا يتعلمون بها الكتابة، ولذلك سموا الكتابية. (التعريف بمصطلحات الصبح: 330ونظم دولة سلاطين المماليك: 1/ 15).
(3) يقال: تلدت ماشية فلان أي توالدت عنده.
(4) من معاني القود: الخيل. (اللسان: 3/ 370).
(5) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص: 100وهي لازمة كما لا يخفى.
(6) الأوشاقية أو الأوجاقية: واحدها أوشاقي أو أوجاقي وهو الذي يتولى ركوب الخيل للتسيير والرياضة. (راجع الصبح: 5/ 454).(11/170)
يجب عليهم أن يتعلّموه من خدمة الملوك، ولا يسمح لأحد منهم في أمر يفضي إلى إخلال، ولا يقتضي فرط إدلال، وليقم أودهم بالأدب فإن الأدب ما فيه إذلال وكلّ هؤلاء الطوائف ممن يتجنّب العامة مخالطتهم لما طار في أيّام من تقدّم عن أمثالهم من سوء السّمعة، ويتخوّف منهم السّرعة فليكن لهم منك أعظم زاجر، ومن شكي إليك منهم فسارع إلى التنكيل به وبادر، واشهر من فعلك بهم ما يوجب منهم الطّمأنينة، ولا يعود أحد بعده يكذّب يقينه وأمراء أخورية الذين هم أتباعك، وبهم يمتدّ باعك، هم بحسب ما تجعلهم بصدده، وما منهم إلا من يقدر أن يتعدّى حدّه في مقام قدمه وبسط يده فاجعل لكلّ منهم مقاما معلوما، وشيئا تجعل له فيه تحكيما. وتثمين الخيول المشتراة والتّقادم قوّمها بأهل الخبرة تقويم عدل، وقل الحقّ ولا يأخذك فيه لوم ولا عذل وما يصرف من العليق برسم الخيول السلطانية ومن له من صدقاتنا الشريفة عليق، مر بصرفه عند الاستحقاق واضبطه بالتعليق، وتصرّف في ذلك كلّه ولا تتصرّف إلا تصرّف شفيق، وصنه بأقلام جماعة الدّيوان ولا تقنع في غير أوقات الضرورة برفيق عن رفيق وكذلك البراسيم السلطانية أصلا وزيادة، ولا تصرف إلا ما نأمر به وإلا فلا تخرج فيه عن العادة ونزلاؤك من أمراء العربان عاملهم بالجميل، وزد في أخذ خواطرهم ولو ببسط بساط الأنس لهم فما هو قليل، لتتضاعف رغبتهم في كلّ عام، وليستدلّوا ببشاشة وجهك لهم على ما بعده من الإنعام وبغال الكؤوسات (1) السعيدة والأعلام المنصورة، وأثقال الخزانة العالية المعمورة، اجعلها من المهمّات المقدّمة، والمقدّمات لنتائج أيام النصر المعلمة، ورتّبها في مواقفها، وأتمّها أتمّ ما يكون من وظائفها فبها تثبت مواقف العسكر المنصور، وإليها يأوي كلّ مستظلّ ورحى الحرب تدور، وغير ذلك من قماش الإصطبلات السعيدة من الذّهب والفضّة والحرير، وكلّ قليل
__________
(1) لعل الأوضح «الكوسات» وهي صنوج من نحاس شبه الترس الصغير يدقّ بأحدها على الآخر بإيقاع مخصوص. ويتولى ذلك «الكوسى».(11/171)
وكثير، باشره مباشرة من لا يتخلّى، وأحصه خرجا ودخلا وإيّاك والأخذ بالرّخص، أو إهمال الفرص، أو طلب فائت جرم أهملته حتّى نكص.
الرابعة وصية مقدّم المماليك.
وقد تقدّم في الكلام على أرباب الوظائف أنه يتحدّث في أمر المماليك السّلطانية والحكم بينهم، ويركب خلفهم إذا ركب السلطان كأنّه يحفظهم.
والوصية هي:
وليحسن إليهم، وليعلم أنّه واحد منهم ولكنه مقدّم عليهم، وليأخذ بقلوبهم مع إقامة المهابة التي يخيّل إليهم بها أنه معهم وخلفهم وبين يديهم، وليلزم مقدّم كلّ طبقة بما يلزمه عند تقسيم صدقاتنا الجارية عليهم: من ترتيب الطّباق، وإجراء ساقية جارية من إحساننا إليهم ولا ينس السّوّاق وليكن لأحوالهم متعهّدا، ولأمورهم متفقّدا، وليستعلم أخبارهم حتّى لا يزال منها على بصيرة، وليعرف ما هم عليه مما لا يخفى عليه فإنهم وإن لم يكونوا له أهلا فإنهم جيرة، وليأمر كلّا منهم ومن مقدّميهم والسّوّاقين لهم بما يلزمهم من الخدمة، وليرتّبهم على حكم مكانتهم منّا فإن تساووا فليقدّم من له قدمة، وليعدل في كل تفرقة، وليحسن في كل عرض ونفقة، وليفرّق فيهم ما لهم من الكساوى (1)
ويسبل عليهم رداء الشّفقة، وليعدّ منهم لغابنا المحميّ سباعا تفترس العادية، وليجمل النظر في أمر الصّغار منهم والكبار أصحاب الطّبقات العالية، وليأخذهم بالرّكوب في الأيّام المعتادة، والدّخول إلى مكان الخدمة الشريفة والخروج على العادة، وليدرهم في أوقات البياكير (2) والأسفار نطاقا دائر الدّهليز (3) المنصور،
__________
(1) المراد الثياب. وهي من الكسوة أو الكساء، وتجمع على «كسا» و «أكسية». ولعل الكاتب جارى صيغة الجمع التي تستعملها العامة.
(2) أوقات البياكير أي أوقات الحرب. والبيكار لفظ فارسي معناه الحرب عامة. (التعريف بمصطلحات الصبح: 70).
(3) الدهليز: الخيمة التي ترافق السلطان في الحرب، وتختلف عن غيرها من الخيم والدهاليز الكبيرة التي تقام للسلاطين في الصيد والتنزه بكونها خيمة قائمة بذاتها، ليس بجانبها خيم صغيرة كما في حالات السلم. (المصدر السابق عن معجم).(11/172)
وليأمرهم أمرا عامّا بأن لا يركب أحد منهم إلا بدستور ولا ينزل إلا بدستور، وليحترز عليهم من طوائف الغلمان (1)، ولا يستخدم منهم إلا معروفا بالخير ويقيم عليهم الضّمّان، وليحرّر على من دخل عليهم وخرج، ولا يفتح لأحد منهم إلا من علم أنه ليس في مثله حرج، ولا يدع للرّيبة بينهم مجالا للاضطراب، وليوص مقدّميهم بتفقّد ما يدخل إليهم فإن الغشّ أكثره من الطّعام والشّراب، وليدم مراجعتنا في أمرهم فإن بها يعرف الصواب، وليعمل بما نأمره به ولا يجد جوى في جواب.
الضرب الثاني (ممّن يكتب له بالولايات بالديار المصرية أرباب الوظائف الدينية، وهو على طبقتين)
الطبقة الأولى (أصحاب التقاليد ممّن يكتب له بالجناب العالي)
وتشتمل على عدّة وظائف:
الوظيفة الأولى (القضاء)
قد تقدّم في المقالة الثانية في الكلام على ترتيب الوظائف أنّ الديار المصرية كان يليها قاض واحد، إلى أن كانت الدولة الظاهرية «بيبرس» في أوائل الدّولة التّركية، وقاضي القضاة يومئذ القاضي تاج الدين عبد الوهاب ابن
__________
(1) لعل المقصود طوائف الغلمان المجرية، وهي تسمية من العصر الفاطمي وهم بمثابة مماليك الطباق في العصر المملوكي، وكانوا يقفون في احتفالات الخليفة بتمام الزينة وبالمناطق المحلّاة. (انظر الصبح: 3/ 268).(11/173)
بنت الأعزّ الشافعيّ، فاضطرب الأمر لاختلاف المذاهب، فاقتضى رأي السلطان تقرير أربعة قضاة من كل مذهب قاض، وقرّر القاضي تاج الدين ابن بنت الأعزّ في قضاء قضاة الشافعية على حاله، وكتب لكلّ منهم تقليد بذلك ثم خصّ قاضي القضاة الشافعية بالتولية في بلاد الريف دون غيره من القضاة الثلاثة، واستمرّ الأمر على ذلك إلى الآن. إلا أنه لما حدث بديوان الإنشاء تنويع ما يكتب لأرباب الأقلام إلى تقاليد، في قطع الثلثين، وتفاويض، وتواقيع، في قطع النصف، تقرّر الحال على أن يكتب للقضاة الأربعة تواقيع في قطع النصف ب «المجلس العالي»، ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن ولي القاضي عماد الدين أحمد الكركيّ الأزرقيّ قضاء قضاة الشافعية (1) في أوّل سلطنة الظاهر «برقوق» الثانية، وأخوه القاضي علاء الدين عليّ كاتب السرّ، فعني بأخيه عماد الدين المذكور، فكتب له تقليدا في قطع الثلثين ب «الجناب العالي». وبقي الثلاثة على ما كانوا عليه من كتابة التواقيع إلى أن ولي القاضي جمال الدّين محمود الحلبيّ القيسريّ المعروف بالعجميّ (2) رحمه الله قضاء قضاة الحنفيّة في الدولة الظاهريّة أيضا، مضافا إلى نظر الجيش، فكتب له تقليد في قطع الثلثين بالجناب العالي أيضا وبقي المالكيّ والحنبليّ على ما كانا عليه من كتابة التواقيع في قطع النّصف. ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن ولي قاضي القضاة جمال الدين يوسف البساطيّ قضاء قضاة المالكية في الدولة الناصرية «فرج بن الظاهر برقوق» فأنشأت له تفويضا وكتبت له به، ولم يكن أحد ممن
__________
(1) الظاهر أنه كان حنفيا ثم أصبح شافعيا فقد جاء في نزهة النفوس والأبدان: «وفي الخامس عشر من شعبان 793هـ خلع على جمال الدين العجمي واستقر في قضاء القضاة الحنفية. قال الشيخ تقي الدين المقريزي: وكتب له في توقيعه الجناب العالي كما كتب للعماد أحمد الكركيّ، هذان أول من كتب لهما ذلك من قضاة الحنفيّة». ثم قال في أخبار سنة 794هـ: «وفي السابع عشر من ذي القعدة برز المرسوم الشريف لقاضي القضاة عماد الدين أحمد الكركيّ الشافعي بلزوم داره». (انظر نزهة النفوس والأبدان: 1/ 350331).
(2) في نزهة النفوس والأبدان: «جمال الدين محمود العجمي القيصري».(11/174)
عاصرناه كتب له تفويض غيره. ثم لما ولي الشيخ جمال الدين عبد الله الأقفهسيّ (1) قضاء المالكية، كتب له توقيع في قطع النصف، إلا أنه كتب له ب «الجناب العالي» كما يكتب لأصحاب التقاليد، وجرى الأمر فيمن بعده على ذلك. ولم يبق من هو على النّمط الأوّل سوى قاضي القضاة الحنابلة، ويوشك أن يكتب لكلّ من المالكيّ والحنبليّ أيضا تقليد: لمساواتهم بغيرهم من الأربعة.
وقد ذكرت ما يكتب لهم من تقاليد وتواقيع هنا جمعا للمفترق وتقريبا للمأخذ.
وهأنا أذكر ما يكتب للأربعة على الترتيب.
الأوّل: (قضاء القضاة الشافعية).
وهذه نسخة تقليد بقضاء القضاة الشافعية، كتب به لقاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعزّ (2) رحمه الله، حين استقرّ أحد القضاة الأربعة بعد انفراده بالوظيفة على ما تقدّم، وهي من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر (3)
رحمه الله تعالى، وهي:
الحمد لله مجرّد سيف الحقّ على من اعتدى، وموسّع مجاله لمن راح إليه
__________
(1) ولي قضاء القضاة المالكية في يوم الاثنين الثاني عشر من رمضان سنة 817هـ. قال في نزهة النفوس والأبدان: «استهلت سنة 818هـ وسلطان البلاد المصرية والشامية أبو النصر شيخ وخليفة الوقت المعتضد بالله بن المتوكل على الله وقاضي القضاة الشافعي جلال الدين عبد الرحيم بن البلقيني، وقاضي القضاة الحنفي ناصر الدين بن العديم، وقاضي القضاة المالكي جمال الدين الأقفهسيّ، وقاضي القضاة الحنبلي مجد الدين سالم العسقلاني». (نزهة النفوس: 2/ 348347343)
(2) هو أحمد بن محمد بن عبد الله، المعروف بابن بنت الشافعي. كان أبوه من فقهاء أصحاب الإمام الشافعي، فتزوج بابنة الشافعي زينب فولد له أحمد المذكور. (طبقات الشافعية: 40).
(3) هو محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر بن نشوان بن نجدة الجذامي المصري. ولد بالقاهرة سنة 620هـ وتوفي بها سنة 692هـ. يقول صاحب فوات الوفيات أنه «وضع كثيرا من اصطلاحات الإنشاء، ونظم الديوان، وبقيت نظمه واصطلاحاته معمولا بها في مصر والشام إلى أن فتح العثمانيون مصر» كان صاحب ديوان الإنشاء لكل من الظاهر بيبرس والملك المنصور قلاوون والملك الأشرف خليل. (انظر سيرة الملك المنصور لابن عبد الظاهر: مقدمة ص: 9وفوات الوفيات: 2/ 179).(11/175)
واغتدى، وموضّح طريقه لمن اقتاد واقتدى، ومزيّن سمائه بنجوم تستمدّ الأنوار من شمس الهدى، الذي أعذب لشرعة الشريعة المحمّدية ينبوعا، وأقامها أصلا مدّ بثمار الرّشد فروعا.
نحمده على نعمه التي ألزمتنا لتشييد مبانيها شروعا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نعمر بها من القلوب والأفواه ربوعا، ونصلّي على سيدنا محمد الذي أرسله الله إلى الخلائق جميعا، وقام بعبء الأمر يصنع حسنا ويحسن صنيعا، صلى الله عليه وعلى آله صلاة لا يبرح برقها ملموعا، ولا ينفكّ وترها (1) بالتسليم مشفوعا.
وبعد، فإنّ أحقّ من جدّد له شرف التقريض، وخلّد له إرضاء الأحكام وإمضاء التفويض، وريش جناحه وإن لم يكن المهيض، وفسّح مجاله وإن كان الطويل العريض، ورفع قدره على الأقدار، وتقسّمت من سحائبه الأنواء ومن أشعّته الأنوار، من غزر مدّه فجرت منه في رياض الحقّ الأنهار، وغدا تخشع لتقواه القلوب وتنصت لقوله الأسماع وترنو لمحيّاه الأبصار، قد أوفد من إرشاده للأمة لطفا فلطفا، وأوقد من علمه جذوة لا تخبو وقبسا بالهوى لا يطفى، وفات النّظراء والنّظّار فلا يرسل أحد معه طرفا ولا يمدّ إليه من حيائه طرفا، واحتوى من علوم الشريعة على ما تفرّق في غيره، وغدا خير دليل إلى الحقّ فلا يقتدى في المشكلات إلا برأي اجتهاده ولا يهتدى في المذاهب إلا بسيره، وكان لفلك الشريعة المحمّدية قطبا، ولجثمانها قلبا ولسوارها قلبا (2) ولدليلها برهانا، ولإنسانها عينا ولعينها إنسانا فكم أرضى بني الأنام عن الأيام، وكم أغضى حياء مع قدرته على الانتقام، وكم أمضى لله حكما لا انفصال لعروته ولا انفصام، وكم قضى بالجور في ماله وبالعدل في الأيتام فلو استعداه الليل على النهار لأنصفه من تعدّيه، ولم يداجه لما ستره عليه من تعدّيه في دياجيه فهو
__________
(1) الوتر: الفرد، والشّفع: الزوج.
(2) سوار قلب: الذي يكون نظما واحدا.(11/176)
الصادع بما أمر الله به ولو على نفسه، والمستردّ الحقوق الذاهبة من غير محاباة حتّى لغده من يومه وليومه من أمسه.
ولما كان قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهّاب ممن هو في أحسن هذه السّمات قد تصوّر، وكادت نجوم السماء بأنواره تتكثّر، وتجوهر بالعلوم فأصبح حقيقة هو التاج المجوهر، وله مزايا السّؤدد التي لا يشك فيها ولا يرتاب، وسجايا الفضل التي إذا دخل إليه غيره من باب واحد دخل هو إليه من عدّة أبواب وهو شجرة الأحكام، ومصعد كلم الحكّام، ومطلع أنجم شرائع الإسلام، ومهبط وحي المقدّمات والارتسام، ومجتمع رفاق القضايا في الحلال والحرام خرج الأمر الشريف بتجديد هذا التقليد الشريف له بقضاء القضاة بالديار المصرية: فليستصحب من الحق ما هو مليّ باستصحابه، وليستمرّ على إقامة منار الحق الذي هو موثّق عراه ومؤكّد أسبابه، وليحتلب من أخلاف الإنصاف ما حفّله اجتهاده ليد احتلابه، عالما بأنّ كل إضاءة إنارتها من قبسه، وإن استضاء بها في دياجي المنى، وكلّ ثمرة من مغترسه، وإن مدّ إليها يد الاجتنا، وكلّ جدول هو من بحره وإن بسط إليه راحة الاغتراف، وكلّ منهج هو من جادّته وإن ثنى إلى سلوكه عنان الانصراف لا الانحراف وهو بحمد الله المجتهد المصيب، والمادّة للعناصر وإن كان نصيبه منها أوفر نصيب، وسجاياه يتعلّم منها، كيف يوصّى ويعلّم، ومزاياه تقوّم الأود، كيف يقوّم، والله الموفّق بمنّه وكرمه! الثاني قاضي القضاة الحنفيّة على ما استقرّ عليه الحال من لدن القاضي جمال الدين محمود القيسريّ وإلى آخر وقت. وموضوعها النظر في الأحكام الشرعيّة على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، ويختصّ نظره بمصر والقاهرة خاصّة.
وهذه نسخة تقليد بقضاء قضاة الحنفيّة كتب به لمن لقبه شمس الدين، وهي:
الحمد لله الذي أطلع في أفق الدّين الحنيف شمسا منيرة، ورفع درجة من جعله من العلم على شريعة ومن الحكم على بصيرة، وقلّد أمور الأمة لمن يعلم أنّ بين يديه كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ووفّق لفصل القضاء من مشى على قدم أقدم الأئمة فسار في مذهبه المذهب أحسن سيرة، الذي أدّخر للحكم في أيّامنا الشريفة من نفائس العلماء أفضل ذخيرة، وقضى بإرجاء أمره لنختار له من تحلّى به بعد العطل (1) وكلّ قضاء خيرة، وأيقظ عنايتنا لمن رقد الدهر عن فضله فباتت عين الاستحقاق باستقرار رتبته قريرة.(11/177)
وهذه نسخة تقليد بقضاء قضاة الحنفيّة كتب به لمن لقبه شمس الدين، وهي:
الحمد لله الذي أطلع في أفق الدّين الحنيف شمسا منيرة، ورفع درجة من جعله من العلم على شريعة ومن الحكم على بصيرة، وقلّد أمور الأمة لمن يعلم أنّ بين يديه كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ووفّق لفصل القضاء من مشى على قدم أقدم الأئمة فسار في مذهبه المذهب أحسن سيرة، الذي أدّخر للحكم في أيّامنا الشريفة من نفائس العلماء أفضل ذخيرة، وقضى بإرجاء أمره لنختار له من تحلّى به بعد العطل (1) وكلّ قضاء خيرة، وأيقظ عنايتنا لمن رقد الدهر عن فضله فباتت عين الاستحقاق باستقرار رتبته قريرة.
نحمده حمد من توافت إليه النّعم الغزيرة، وتوالت عليه المنن الكثيرة في المدد اليسيرة، وأخصبت في أيامه رياض الفضائل فهي بكلّ عالم عدم النظير نضيرة، وافتتح دولته برفع منار العدل فآمال أهل الظلم عن تعاطيه قاصرة وأيدي أهل الباطل عن الامتداد إليه قصيرة، وخصّ المناصب في ممالكه بالأكفاء فإذا تلبّست بها همم غيرهم عادت خاسئة أو امتدت إليها أبصار من دونهم رجعت حسيرة.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تصلح العلن والسريرة، وتصبح بها القلوب موقنة والألسن ناطقة والأصابع مشيرة، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بعث الله به الرسل مخبرة وأنزل الكتب بمبعثه بشيرة، واجتباه من خير أمّة من أكرم أرومة وأشرف عشيرة، وأظهر أنوار ملّته إلا لمن أعمى الغيّ بصيرته وهل ينفع العمي شمس الظّهيرة، وخصّه بالأئمة الذين وفقهم للاستعانة بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة، وجعل علماءهم ورثة الأنبياء فلو ادّعيت لأحكامهم العصمة لكانت بذلك جديرة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة نتقرّب بدوامها إلى الله فيضاعفها لنا أضعافا كثيرة، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى الأمور بأن تشاد قواعده، وتتعهّد معاهده، ويعلى مناره،
__________
(1) العطل: فقدان الحلي. (اللسان: 11/ 454).(11/178)
وتفاض بطلوع شمسه أنواره، ويحلّى به بعد العطل جيده، وينظم في سلك عقود الأمة فريده، وتكمّل به قوى الدين تكملة الاجساد بقوى الطبائع الأربع، وتعمّر به ربوع الملة التي ليس بعدها من مصيف لملّة ولا مربع، وتثبّت به قوائم الشرع التي ما للباطل في إمالة بعضها من مطمع، وتجلى به عمّن ضاق عليه المجال في بعض المذاهب الغمّة، ويستقرّ به عدد الحكّام على عدد الأئمة المستقرّ على عدد الخلفاء الراشدين من خلفاء الأمّة، ويمدّ به على الخلق جناح الرحمة وافر القوادم وارف الظّلال، ويجمع به عليهم ما جمع الله في أقوال أئمتهم من الحق وماذا بعد الحقّ إلّا الضّلال، أمر القضاء على مذهب الإمام أبي حنيفة النّعمان بن ثابت رضي الله عنه الذي اشتقّ الله له من الملّة الحنيفيّة نسبة سرت في الآفاق، وأفاض عليه من موادّ القياس الجليّ كنوزا نمت على الإنفاق، وعضّد أيّامه بوليّي عهد قولهما حجة فيما تفرّدا به من الخلاف أو اجتمعا عليه من الوفاق وعدّ من التابعين لقدم عهده، وسمّي «سراج الأمة» لإضاءة نوره بهما من بعده.
ولما خلا بانتقال مباشره إلى الله تعالى، توقّف مدّة على ارتياد الأكفاء، وارتياء من هو أهل الاصطفاء، واختيار من تكمل به رفعة قدره، ويعيد لدسته بتصدّره على بساط سليمانه بهجة صدره، ويغدو لسرّ إمامه بعد إماتة هذه الفترة باعثا، ويصبح وإن كان واحد عصره لأبي يوسف ثانيا ولمحمد بن الحسن ثالثا ويشبّه به البلخيّ (1) زهدا وعلما، والطّحاويّ (2) تمسّكا بالسّنّة وفهما، ويغترف القدوريّ (3) من بحره، ويعترف الحصريّ (4) بالحصر عن إحصاء فضله وحصره،
__________
(1) لعل المقصود أحمد بن سهل، أبو زيد البلخي: أحد الكبار الأفذاذ من علماء الإسلام. جمع بين الشريعة والفلسفة والأدب والفنون. توفي سنة 322هـ. (الأعلام: 1/ 134).
(2) هو أحمد بن محمد بن سلامة: فقيه انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر. تفقه على مذهب الشافعي ثم تحول حنفيا. توفي سنة 321هـ. (الأعلام: 1/ 206).
(3) هو أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر، أبو الحسين القدوري: فقيه حنفي. انتهت إليه رياسة الحنفية في العراق. توفي سنة 428هـ. (الأعلام: 1/ 212).
(4) لم نتأكد من المقصود بهذا اللقب.(11/179)
ويقف من مذهب ابن ثابت (1)، على أثبت قدم وينتمي من فقه النّعمان إلى فرع زاك وأصل ثابت، وينشر من أحكامه ما إن وافق الأئمة فهو حجّة قاطعة ومحجّة ساطعة، أو خالفهم بمذهبه فهو رحمة واسعة، ونعمة وإن كانت بين الطّرق فارقة فإنها على الحق جامعة.
ولما كان فلان هو المنتظر لهذه الرتبة انتظار الشمس بعد الغسق، والمرتقب لبلوغ هذه المنزلة التي تقدّمت إليها بوادر استحقاقه في السّبق، والمعطوف على من وصف من الأئمة وإن تأخّر عن زمانه عطف النّسق وهو الذي ما دام يعدل دم الشهداء مداد أقلامه، وتضع الملائكة أجنحتها رضا بما يصنع من نقل خطواته في طلب العلم وسعي أقدامه، ودخل من خشية الله تعالى في زمرة من حصر بإنّما (2)، وهجر المضاجع في طاعة الله لتحصيل العلم فلو عدّت هجعاته لقلّما، وهجّر في إحراز الفضائل فقيّد أوابدها، وأحرز شواردها، ولجّج في بحار المعاني فغاص على جواهرها، ونظر نظرة في نجوم العلوم فاحتوى على زهرها وراد خمائل الفضائل فاستولى على أزاهرها، وانتهى إليه علم مذهبه فبرّز على من سلف، وجارى علماء عصره فوقفت أبصارهم عن رؤية غباره وما وقف، ونحا نحو إمامه فلو قابله يعقوب مع معرفته في بحث لانصرف، وتعيّن عليه القضاء وإن كان فرض كفاية لا فرض عين، وقدّمه الترجيح الذي جعل رتبته همزة استفهام ورتبة غيره بين بين اقتضى رأينا الشريف اختصاصه بهذا التمييز، والتنبيه على فضله البسيط بهذا اللفظ الوجيز.
فلذلك رسم أن يفوّض إليه كيت وكيت. فليتولّ هذه الرتبة التي أصبح فيها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نائبا وبشرعه قائما، ويتقلّدها تقلّد من يعلم أنه قد أصبح على حكم الله مقدّما وعلى الله قادما، ويتثبّت تثبّت من يعتصم بالله في حكمه فإنّ أحد الخصمين قد يكون ألحن بحجّته وإن كان ظالما، ويلبس لهذا
__________
(1) لعل المقصود أبو حنيفة النعمان، فهو ابن ثابت بن زوطى. (ابن خلكان: 5/ 405).
(2) إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّمََا يَخْشَى اللََّهَ مِنْ عِبََادِهِ الْعُلَمََاءُ}.(11/180)
المنصب حلّة تمنع المبطل من الإقدام عليه، وتدفع الظالم عن التطاول إلى أمر نزعه الشرع من يديه، وتؤمّن الحقّ من امتداد يدي الجور والحيف إليه، وليسوّ بين الخصمين في مجلسه ولحظه، ويعدل بينهما في إنصاته ولفظه،: ليعلم ذو الجاه أنه مساو في الحق لخصمه، مكفوف باستماع حجّته عن الطمع في ظلمه، ولا ينقض حكما لم يخالف نصّا ولا سنّة ولا إجماعا، وليشارك فيما لا يجهله من القضايا غيره من العلماء ليتزيّد بذلك مع اطّلاعه اطلاعا، وليغتنم في ذلك الاستعانة بآرائهم فإنّ الله تعالى لا ينتزع هذا العلم انتزاعا، وليسدّ مسالك الهوى عن فكره، ويصرف دواعي الغضب لغير الله عن المرور بذكره (1)
وليجعل العمل لوجه الله نتيجة علمه، وليحكم بما أراه الله {وَاللََّهُ يَحْكُمُ لََا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} (2) إن شاء الله تعالى.
الثالث قاضي القضاة المالكية:
وهذه نسخة تقليد بقضاء قضاة المالكية، لقاضي القضاة جمال الدين يوسف البساطيّ المقدّم ذكره، في العشر الأخير من رجب الفرد سنة أربع (3)
وثمانمائة، وهو:
الحمد لله الذي شفع جلال الإسلام بجماله، وناط أحكامه الشرعيّة بمن اقترن بحميد مقاله جميل فعاله، وخصّ مذهب عالم المدينة بخير حاكم ما جرى حديثه الحسن يوما إلا وكان معدودا من رجاله، وعدق النظر في أحكامه بأجلّ عالم لو طلب له في الفضل مثل لعجز الزمان أن يأتي بمثاله.
نحمده على أن أخلف من النّبعة الزكيّة صنوا زاكيا، وأدال من الأخ
__________
(1) المراد بتذكّره أو بفكره.
(2) الرعد / 41.
(3) قال في نزهة النفوس والأبدان: 2/ 180 «وفي يوم الإثنين سادس ربيع الأول 806هـ بعد العصر خلع على القاضي جمال الدين البساطي واستقر في قضاء القضاة المالكية بالديار المصرية عوضا عن قاضي القضاة ولي الدين بن خلدون المغربي».(11/181)
الصالح أخا للعلوم شافيا، ولمنصبه العليّ ولله الحمد وافيا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مجرّد سيف الحق على كلّ مبطل معاند، ومرهف حدّه القاضب لكل ملحد عن سواء السبيل حائد، وأنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل نبيّ فاق الأنام بفضله وعمّ البريّة بعدله، وسدّ باب التوبة على متنقّصه فلم تكن لتقبل توبة مثله، وكان إلى مالك مصيره فلا جرم قضى بإهدار دمه وتحتّم قتله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ذبّوا عن حمى الدين وذادوا، وسلكوا سبيل المعدلة إذ حكموا فما ضلّوا عن سنن الطريق ولا حادوا، صلاة تبقى ببقاء الدّهور، ولا تزول بهجة جمالها بتوالي الأعوام والشّهور، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإنّ أولى ما قصر عليه النظر، واستغرقت فيه الفكر وعرا العيون فيه السهر، وصرفت إليه الهمم، ورغبت في البراءة من تخلّفه الذّمم النظر في أمر منصب الشرع الشريف الذي يأوي الملهوف إلى ظلّه، ويلجأ المستجير إلى عدله، ويتعلّق العفاة بوثيق عروته ومتين حبله، وبرهبته يكفّ الظالم عن ظلمه، وينتصف الخصم من خصمه، ويذعن العاصي إلى طاعته وينقاد الأبيّ إلى حكمه، ويأتمّ به الحائر في دجى الجهل فيستضيء بنوره ويهتدي بنجمه لا سيما مذهب مالك الذي لم يزل للدّين من أهل الإلحاد مثّئرا، وللقصاص من أهل العناد مبتدرا، وبسلّ سيف الحقّ على الطّغاة المتمرّدين مشتهرا ففاز من سطوات الإرهاب بأرفع المراتب، وعلا رقاب الملحدين بأرهف القواضب، وخصّ من سفك دماء المبطلين على البتّ بما لم يشاركه فيه غيره من المذاهب فوجب أن يختار له من ينصّ الاختبار على أنه أهل للاختيار، ويقطع المنافس أنه الراجح وزنا عند الاعتبار، وتأخذ مناقبه البسيطة في البسط فلا تنفد إذا نفدت مناقب غيره المركّبة عند الاختصار، ويشهد له ضدّه بالتقدّم في الفضل وإن لم تتقدّم منه دعوى، ويعترف له بالاستحقاق خصمه فيتمسّك من عدم الدافع فيه بالسّبب الأقوى، ويحكم له بعلوّ الرّتبة مناوئه فيرتفع الخلاف وتنقطع النّجوى، ويسجّل له حاسده بثبوت المفاخر المحكوم بصحّتها فلا ينقضها حاكم وإن بلغ
من تدقيق النظر الغاية القصوى، وتنفذ أحكامه في البريّة فلا يوجد لها مخالف، وتحذر شيعة الباطل سطوته فلا يرى لباطل محالف، ويشتهر عنه من نصرة الحق ما يأمن معه المستضعف الخائف، ويتحقّق فيه من قيام العدل ما يرتدع به الظالم الحائف، ويستوي عنده في لزوم الحق القويّ والضعيف، ولا يفرّق في لازمه بين المشروف والشريف، ولا يميّز في حمل الأعباء الشرعيّة بين الشّاق وغيره ولا بين الثقيل والخفيف، ولا يحابي قريبا لقرابته، ولا جليلا لجلالته، ولا ظالما خوف ظلمه ولا ذا استطالة لاستطالته، ولا يستزلّه ذو لسن للسنه ولا بليغ لبلاغته، ولا يخالف بين الصديق الملاطف وغيره إلا في منع قبول شهادته.(11/182)
أما بعد، فإنّ أولى ما قصر عليه النظر، واستغرقت فيه الفكر وعرا العيون فيه السهر، وصرفت إليه الهمم، ورغبت في البراءة من تخلّفه الذّمم النظر في أمر منصب الشرع الشريف الذي يأوي الملهوف إلى ظلّه، ويلجأ المستجير إلى عدله، ويتعلّق العفاة بوثيق عروته ومتين حبله، وبرهبته يكفّ الظالم عن ظلمه، وينتصف الخصم من خصمه، ويذعن العاصي إلى طاعته وينقاد الأبيّ إلى حكمه، ويأتمّ به الحائر في دجى الجهل فيستضيء بنوره ويهتدي بنجمه لا سيما مذهب مالك الذي لم يزل للدّين من أهل الإلحاد مثّئرا، وللقصاص من أهل العناد مبتدرا، وبسلّ سيف الحقّ على الطّغاة المتمرّدين مشتهرا ففاز من سطوات الإرهاب بأرفع المراتب، وعلا رقاب الملحدين بأرهف القواضب، وخصّ من سفك دماء المبطلين على البتّ بما لم يشاركه فيه غيره من المذاهب فوجب أن يختار له من ينصّ الاختبار على أنه أهل للاختيار، ويقطع المنافس أنه الراجح وزنا عند الاعتبار، وتأخذ مناقبه البسيطة في البسط فلا تنفد إذا نفدت مناقب غيره المركّبة عند الاختصار، ويشهد له ضدّه بالتقدّم في الفضل وإن لم تتقدّم منه دعوى، ويعترف له بالاستحقاق خصمه فيتمسّك من عدم الدافع فيه بالسّبب الأقوى، ويحكم له بعلوّ الرّتبة مناوئه فيرتفع الخلاف وتنقطع النّجوى، ويسجّل له حاسده بثبوت المفاخر المحكوم بصحّتها فلا ينقضها حاكم وإن بلغ
من تدقيق النظر الغاية القصوى، وتنفذ أحكامه في البريّة فلا يوجد لها مخالف، وتحذر شيعة الباطل سطوته فلا يرى لباطل محالف، ويشتهر عنه من نصرة الحق ما يأمن معه المستضعف الخائف، ويتحقّق فيه من قيام العدل ما يرتدع به الظالم الحائف، ويستوي عنده في لزوم الحق القويّ والضعيف، ولا يفرّق في لازمه بين المشروف والشريف، ولا يميّز في حمل الأعباء الشرعيّة بين الشّاق وغيره ولا بين الثقيل والخفيف، ولا يحابي قريبا لقرابته، ولا جليلا لجلالته، ولا ظالما خوف ظلمه ولا ذا استطالة لاستطالته، ولا يستزلّه ذو لسن للسنه ولا بليغ لبلاغته، ولا يخالف بين الصديق الملاطف وغيره إلا في منع قبول شهادته.
ولما كان المجلس العاليّ القاضويّ، الكبيريّ، الإماميّ، العالميّ، الصّدريّ، الرئيسيّ، الأوحديّ، العلّاميّ، الكامليّ، الفاضليّ، المفيديّ، الفريديّ، الحجّيّ، القدويّ، الخاشعيّ، الناسكيّ، الحاكميّ، الجماليّ، جمال الإسلام، شرف الأنام، حاكم الحكّام، أوحد الأئمة، مفيد الأمّة، مؤيّد الملّة، معزّ السنّة، شمس الشريعة، سيف المناظرين، لسان المتكلمين، حكم الملوك والسلاطين، خالصة أمير المؤمنين أبو المحاسن «يوسف البساطيّ» المالكيّ أدام الله تعالى نعمته هو المراد من هذه الصّفات، التي وقعت من محلّه الكريم موقعها، والمقصود من هذه السّمات، التي ألفت من سيرته الفاضلة موضعها، وقارع صفاة هذه الذّروة التي ما كان ينبغي لغيره أن يقرعها، وشمس الفضل الحقيق بمثلها أن لا يتوارى جمالها بحجاب الغروب، وفاصل مشكلات القضايا إذا اشتد إشكالها وعظمت في فصلها الخطوب، ومتعيّن الولاية التي إذا كانت في حقّ غيره على الإباحة كانت في حقّه على الوجوب وقد درّب الأحكام وخبرها، وعرف على التحقيق حالها وخبرها، وورد من مشاربها الرائقة أصفى المناهل فأحسن وردها وصدرها، ونفست جواهر فوائده ففاقت جواهر المعادن، وغطّت محاسن فضله فضائل غيره ولا تنكر المحاسن ل «يوسف» وهو «أبو المحاسن» فعلومه المدوّنة بالبيان والتحصيل كافلة، ومقدّمات تنبيهاته بنتائج النّوادر الحسنة متواصلة، وتهذيب ألفاظه المنقّحة تؤذن
بالتحرير، وعيون مسائله المتواردة لا تدخل تحت حصر ولا تقدير فلو رآه «مالك» لقال: ما أعظم هذه الهمّة، أو أدركه «ابن القاسم» لوفّر من الثناء عليه قسمة، أو عاصره «ابن عبد الحكم» لحكم له بأنّ سهمه قد أصاب الغرض وغيره أطاش الريح سهمه، أو عاينه «أشهب» لقال قد ركب هذا الشّهباء أنّى يلحق، أو سمع «ابن وهب» كلامه لقطع بأنه هبة ربّانيّة وبمثله لم يسبق، أو بلغ «ابن حبيب» خبره لأحبّ لقاءه. أو بصر به «سحنون» لتحقّق أنه عالم المذهب ما وراءه، أو استشعر بقدومه «ابن سيرين» لبشّر به، أو جاوره «ابن عوف» لعاف مجاورة غيره أو مجاوزة طنبه، أو جالسه «ابن يونس» لتأنّس بمجالسته، أو حاضره «أبو الحسن بن القصّار» لأشجى قلبه بحسن محاضرته، أو جاراه «القاضي عبد الوهّاب» لقضى بعلوّ مكانته، أو اتّصل ذكره «بالمازريّ» لزرى على «مازر» لبعدها عن دار إقامته، أو اطّلع «القاضي عياض» على تحقيقاته لاستحسن تلك المدارك، أو ناظره «ابن عبد السلام» لسلّم أنه ليس له في المناظرة نظير ولا في تدقيق البحث مشارك، أو مرّ به «ابن الجلّاب» لجلب فوائده إلى بلاده، أو حضره «ابن الحاجب» لتحقّق أنه جامع الأمّهات على انفراده.(11/183)
ولما كان المجلس العاليّ القاضويّ، الكبيريّ، الإماميّ، العالميّ، الصّدريّ، الرئيسيّ، الأوحديّ، العلّاميّ، الكامليّ، الفاضليّ، المفيديّ، الفريديّ، الحجّيّ، القدويّ، الخاشعيّ، الناسكيّ، الحاكميّ، الجماليّ، جمال الإسلام، شرف الأنام، حاكم الحكّام، أوحد الأئمة، مفيد الأمّة، مؤيّد الملّة، معزّ السنّة، شمس الشريعة، سيف المناظرين، لسان المتكلمين، حكم الملوك والسلاطين، خالصة أمير المؤمنين أبو المحاسن «يوسف البساطيّ» المالكيّ أدام الله تعالى نعمته هو المراد من هذه الصّفات، التي وقعت من محلّه الكريم موقعها، والمقصود من هذه السّمات، التي ألفت من سيرته الفاضلة موضعها، وقارع صفاة هذه الذّروة التي ما كان ينبغي لغيره أن يقرعها، وشمس الفضل الحقيق بمثلها أن لا يتوارى جمالها بحجاب الغروب، وفاصل مشكلات القضايا إذا اشتد إشكالها وعظمت في فصلها الخطوب، ومتعيّن الولاية التي إذا كانت في حقّ غيره على الإباحة كانت في حقّه على الوجوب وقد درّب الأحكام وخبرها، وعرف على التحقيق حالها وخبرها، وورد من مشاربها الرائقة أصفى المناهل فأحسن وردها وصدرها، ونفست جواهر فوائده ففاقت جواهر المعادن، وغطّت محاسن فضله فضائل غيره ولا تنكر المحاسن ل «يوسف» وهو «أبو المحاسن» فعلومه المدوّنة بالبيان والتحصيل كافلة، ومقدّمات تنبيهاته بنتائج النّوادر الحسنة متواصلة، وتهذيب ألفاظه المنقّحة تؤذن
بالتحرير، وعيون مسائله المتواردة لا تدخل تحت حصر ولا تقدير فلو رآه «مالك» لقال: ما أعظم هذه الهمّة، أو أدركه «ابن القاسم» لوفّر من الثناء عليه قسمة، أو عاصره «ابن عبد الحكم» لحكم له بأنّ سهمه قد أصاب الغرض وغيره أطاش الريح سهمه، أو عاينه «أشهب» لقال قد ركب هذا الشّهباء أنّى يلحق، أو سمع «ابن وهب» كلامه لقطع بأنه هبة ربّانيّة وبمثله لم يسبق، أو بلغ «ابن حبيب» خبره لأحبّ لقاءه. أو بصر به «سحنون» لتحقّق أنه عالم المذهب ما وراءه، أو استشعر بقدومه «ابن سيرين» لبشّر به، أو جاوره «ابن عوف» لعاف مجاورة غيره أو مجاوزة طنبه، أو جالسه «ابن يونس» لتأنّس بمجالسته، أو حاضره «أبو الحسن بن القصّار» لأشجى قلبه بحسن محاضرته، أو جاراه «القاضي عبد الوهّاب» لقضى بعلوّ مكانته، أو اتّصل ذكره «بالمازريّ» لزرى على «مازر» لبعدها عن دار إقامته، أو اطّلع «القاضي عياض» على تحقيقاته لاستحسن تلك المدارك، أو ناظره «ابن عبد السلام» لسلّم أنه ليس له في المناظرة نظير ولا في تدقيق البحث مشارك، أو مرّ به «ابن الجلّاب» لجلب فوائده إلى بلاده، أو حضره «ابن الحاجب» لتحقّق أنه جامع الأمّهات على انفراده.
هذا وقد حفّ بجلال لا عهد لأحد مثله، ولا طاقة لفاضل بمقاومة فضله، ولا يسمح الزمان بنظيره من بعده كما لم يسمح به من قبله فاجتمع من جمال الجلال، وجلال الجمال، ما لم يكن ليدخل تحت الإمكان، وعزّز عددهما من أعلام الأئمة بثالث ورابع فقام بناء الدّين من المذاهب الأربعة على أربعة أركان ولا عبرة بما يذهب إليه الذاهبون من كراهة التربيع تبعا للمنجّمين في اعتقادهم الفاسد، فقد ورد أنّ زوايا الحوض على التربيع وذلك فيه أعظم دليل وأقوم شاهد.
وكان مذهب مالك رحمه الله هو المراد من هذه الولاية بالتخصيص، والمجلس الجماليّ المشار إليه هو المقصود بهذا التفويض بالتنصيص اقتضى حسن الرأي الشريف أن نوفّي مرتبته السنيّة حقّها، ونبوّيء النّعم مستحقّها، ونملّك
رقاب المعالي مسترقّها، ونقدّم على طائفة المالكية من أضحى لهم جمالا، ونتحفهم بمن أمسى لعزّهم كمالا، ونفوّض قضاء مذهبهم إلى من إذا جرى في ميدان حكمه قالت محاسن قضاياه: (هكذا هكذا وإلا فلا لا)، ونسند الأحكام الشرعية إلى من هو بها أعرف، ونقفها على من عرف أنه على الحقائق ماض وعند السّنّة يتوقّف، ونعدق أمرها بمن ألف النزاهة فنكرة المطامع عنده لا تتعرّف، ونكل النظر فيها إلى من أمسى لشروط الاستيجاب جامعا، ونقدّم في ولاية هذا المنصب من شفع له استحقاقه وكفى بالاستحقاق شافعا.(11/184)
وكان مذهب مالك رحمه الله هو المراد من هذه الولاية بالتخصيص، والمجلس الجماليّ المشار إليه هو المقصود بهذا التفويض بالتنصيص اقتضى حسن الرأي الشريف أن نوفّي مرتبته السنيّة حقّها، ونبوّيء النّعم مستحقّها، ونملّك
رقاب المعالي مسترقّها، ونقدّم على طائفة المالكية من أضحى لهم جمالا، ونتحفهم بمن أمسى لعزّهم كمالا، ونفوّض قضاء مذهبهم إلى من إذا جرى في ميدان حكمه قالت محاسن قضاياه: (هكذا هكذا وإلا فلا لا)، ونسند الأحكام الشرعية إلى من هو بها أعرف، ونقفها على من عرف أنه على الحقائق ماض وعند السّنّة يتوقّف، ونعدق أمرها بمن ألف النزاهة فنكرة المطامع عنده لا تتعرّف، ونكل النظر فيها إلى من أمسى لشروط الاستيجاب جامعا، ونقدّم في ولاية هذا المنصب من شفع له استحقاقه وكفى بالاستحقاق شافعا.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال يبسط لأوليائه من بساط الأنس ما كان مطويّا، وينيلهم من رغائب الآمال ما كان عنهم من سالف الأزمان مزويّا أن يفوّض إليه قضاء قضاة مذهب عالم المدينة، وإمام دار الهجرة، مالك بن أنس الأصبحيّ: قدّس الله تعالى روحه. فليتلقّ ما فوّض إليه بأفضل تلقّ يليق بمثله، ويتقبّله تقبّلا يناسب رفعة محلّه، ويبتهج بأجلّ تفويض لم يسمح بتمنّيه لآخر من قبله.
ومن أهمّ ما نوصيه به، ونوجّه القول إليه بسببه، تقوى الله تعالى التي هي ملاك الأمر كلّه، وقوام الدين من أصله، والاشتمال عليها في سرّه وجهره والعمل بها في قوله وفعله، ثم برّ الخلق والإحسان إليهم، والتجاوز عنهم إلا فيما أوجبه الشرع من الحقوق عليهم ففي التقوى رضا الله وفي البرّ رضا الخلق وناهيك بجمعهما من رتبة فاخرة، إذ لا شكّ أنّ من حصّل رضا الله ورضا الخلق فقد حصل على خير الدنيا والآخرة ووراء ذلك قاعدة في الوصايا جامعة، وتذكرة لذوي الذّكرى نافعة، وهي أن يتأمّل أحوال غيره تأمّل من جعلها لنفسه مثالا، ولنسجه منوالا فما استحسنه منها أتى مثله، وما استقبحه تجنّب فعله واقفا في ذلك عند ما وردت به الشريعة المطهرّة بنص صريح أو تأويل صحيح، معرضا عن العقليّات المحضة فلا مجال للعقل في تحسين ولا تقبيح.
وأما أدب القضاء الجاري ذكر مثله في العهود، والنظر في أمر النّواب
وكتّاب الحكم والشّهود، فهو به أدرب وأدرى، وبمعرفة ذلك لهم وعليهم أحقّ وأحرى غير أنّا نوصيه بالتثبت في أمر الدّماء وعلاقتها، وتحقّق حكمها قبل الحكم بإراقتها فإن ذلك لمادّة القلق فيها أحسم، ومن تبعاتها في الدارين أسلم والوصايا كثيرة ولكنّها منه تستفاد، وعنه تؤخذ وإليه تعاد والله تعالى يتولّاه، ويحوطه فيما ولّاه، ويديم عليه هذه النعمة فما فوق منصبه منصب يتمنّاه والاعتماد (1) إن شاء الله تعالى.(11/185)
وأما أدب القضاء الجاري ذكر مثله في العهود، والنظر في أمر النّواب
وكتّاب الحكم والشّهود، فهو به أدرب وأدرى، وبمعرفة ذلك لهم وعليهم أحقّ وأحرى غير أنّا نوصيه بالتثبت في أمر الدّماء وعلاقتها، وتحقّق حكمها قبل الحكم بإراقتها فإن ذلك لمادّة القلق فيها أحسم، ومن تبعاتها في الدارين أسلم والوصايا كثيرة ولكنّها منه تستفاد، وعنه تؤخذ وإليه تعاد والله تعالى يتولّاه، ويحوطه فيما ولّاه، ويديم عليه هذه النعمة فما فوق منصبه منصب يتمنّاه والاعتماد (1) إن شاء الله تعالى.
وكتب لستّ إن بقين من شهر رجب الفرد عام أربع وثمانمائة، حسب المرسوم الشريف، بمقتضى الخط الشريف.
وهذه نسخة توقيع بقضاء القضاة الحنفيّة بدمشق، من إنشاء القاضي ناصر الدين ابن النّشائيّ، وهي:
الحمد لله الذي جعل منار الشّرع الشريف مستمرّا على الدّوام، وشمل منصب الحكم العزيز للعالم بعد العالم على ممرّ الأيام، وأجمل انتخاب من يقوم بأعباء القضايا، ومن تدوم به مزايا السّجايا، فيتخيّر لذلك الإمام بعد الإمام، وأقبل بوجه اجتبائه على وليّ نتأكّد بإنصاته وإنصافه إحكام الأحكام، وعدل باعتنائه إلى تعيين من ترتفع به في العلوم أعلام الإعلام، ومن يتأيّد به الحقّ في كل نقض وإبرام.
نحمده على نعمه الوافرة الأقسام، السافرة [اللثام] (2) عن وجوه الزيادة الوسام، ونشكره على مننه الجسام، ومواهبه التي لا تبرح ثغور إحسانها لذوي الاستحقاق واضحة الابتسام.
__________
(1) أي إلى آخر ما يكتب في مثله. وقد حذفه للاختصار.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/186)
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة كفيلة بالمرام، منيلة للإكرام، جميلة التلفّظ والالتئام، جزيلة الكنف والاعتصام، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أقام الله به شعائر الإسلام، وأظهر شرائع الدين الحنيف بحسام نصره الحسّام، وأورث من أهّله من أمّته كنوز العلوم التي لا تنفد فوائدها مع كثرة الإنفاق مدى السنين والأعوام، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين هدوا المؤمنين بإلهام الكلام، وعدوا على المشركين بسهام الكلام، وأبدوا من إرشادهم إلى خفايا القضايا ما يظهر بتهذيبهم ظهور بدر التّمام، صلاة دائمة باقية تجزل لقائلها الأجر التامّ، وترسل إليه سحائب المواهب هاطلة الغمام، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من تذهّب به مذهبه، وتحلّى به محلّ الشرع الشريف ومنصبه، وأنار بنور إرشاده ليل الشك وغيهبه، وسهل بتقريبه على فهم الطالب مطلبه، وهمى به وابل العلم وصيّبه (1) وأتيح به للمستفيد كنز الفوائد التي يدنو بها أربه، وشيم من برق شيمه بالشام ما وجد في الجود صادقه وفقد خلّبه من علا في العلوم نسبه، وتأكّد في الدين سببه، وشيّد مبنيّ المعالي معربه، وصقل مرايا الأفهام مهذّبه، وزاحم منكب الجوزاء في ارتفاع القدر منكبه، وجمّل مواكب المباحث في الأصول والفروع موكبه، وسحّت بدقائق الحقائق سحبه، واشتاق إلى قربه موطن الحكم العزيز فما زال يرتقبه، وارتاح الزمان إلى عفافه وإنصافه فأرشد حيث نختاره لذلك وننتخبه.
ولما كان المجلس العالي (2) أيّد الله أحكامه هو الذي أرشد الطالبين في البداية (3)، وأفاد المنتهين درجات النّهاية، وأفهم
__________
(1) الصيّب: السحاب ذو المطر.
(2) بياض بالأصل. وهو متروك لتكملة الألقاب المعروفة.
(3) أشار في هامش الطبعة الأميرية عن المصباح أن البداية بالياء مكان الهمز عاميّ. والصواب:
البداءة.(11/187)
المستفيدين صواب الهداية، وغدا سابقا في حلبة العلماء إلى أقصى غاية. كم قرّب إلى الأذهان غامض المشكل وأوضح مفهومه، وكم أشاع فرائد فوائده التي طبّق الأرض بها علومه، وكم أباح لقط ألفاظه المشحونة بالحكم فتحلّى الناس بدررها المنثورة والمنظومة، مع ما له من دين متين، واستحقاق للتقدّم مبين، وصلاح بلغ به درجات المتّقين المرتقين، واتباع لسنن الحق في الحكم بين الخلق عن يقين اقتضى حسن الرأي الشريف أن يقرن منصب القضاء بجماله، وأن يعوّض عن إمامه المفقود بإمامه الموجود ليستمرّ الأمر على حاله.
فلذلك رسم لا زالت أئمة العلم الشريف في أيامه يخلف بعضهم بعضا، وأقدارهم تدوم رفعتها مدى المدد فلا تجد نقصا ولا نقضا أن يفوّض (1)
فليباشر ذلك بعلمه المأثور، وحكمه المشهور، وإنصافه الذي يعدل فيه، واتصافه بالحق الذي ما برح يوفيه، قاضيا بين الخصوم بما أمر الله عز وجل، مراقبا لخشية الله على عادته، مذيعا للملّة الحنيفيّة أنواع إفادته، قاطعا بنصل نصّه مشكل الإلباس، جامعا في أحكامه المسدّدة بمقتضى مذهبه بين الكتاب والسّنّة والقياس. والوصايا كثيرة وملاكها التقوى وهي مادّته، وطريقه المستقيم وجادّته، وما زالت عمدته التي يعتمد عليها، وعدّته التي يستند في إسناد أمره إليها والله تعالى يجمّل الأيام بأحكامه، ويبلّغه من خير الدنيا والآخرة غاية مراده ومرامه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بقضاء قضاة المالكيّة أيضا، أنشأته لقاضي القضاة جمال الدين البساطيّ المذكور عند عوده إلى الوظيفة، لأربع بقين من ذي القعدة سنة سبع وثمانمائة. وقد وافق عوده عود شيخ الإسلام جلال الدين عبد
__________
(1) بياض بالأصل. والمراد: أن يفوّض إليه قضاء القضاة الحنفية الخ.(11/188)
الرحمن البلقينيّ إلى قضاء قضاة الشافعيّة أيضا، وهي:
الحمد لله الذي أعاد لرتبة القضاء رونق «جمالها» وأسعد جدّها بأسعد قران ظهرت آثار يمنه بما آثرته من ظهور «جلالها»، وأجاب سؤلها بأجلّ حاكم لم تعدل عنه يوما في سؤالها، وأسعد طلبتها بأكمل كفء لم تنفكّ عن خطبته وإن أطال في مطالها، وأكرم مآبها بأكرم كاف ما فاتها منال ماض إلا أدركته به في مالها.
نحمده على أن أعطيت القوس باريها، وأعيدت مياه الاستحقاق إلى مجاريها، وردّت الشاردة إلى مالك ألفت منه بالآخرة ما ألفت من خيره في مباديها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يخفق بالإخلاص مناطها، ويزداد مع طول الأمد نشاطها، ولا ينطوي على ممرّ الأيام إن شاء الله تعالى بساطها، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل نبيّ رفع قواعد الدين وشاد، وقام في الله حقّ القيام فحسم بسيف الشرع مادّة الفساد، وأحكم بسدّ الذّرائع سداد الأمور فجرت أحكام شريعته المطهّرة على السّداد، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين استنشق من معدلتهم أطيب عرف، وخصّوا من صفات الكمال بأحسن حلية وأكمل وصف، صلاة توهي عرا الإلحاد، وتفصمها، وتبكّ أعناق أهل العناد، وتقصمها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فلا خفاء في أنّ الأبصار تتشوّف لرؤية الهلال مع قرب الغيبة للأخذ منه بنصيبها، والشمس يترقّب طلوعها في كلّ يوم وإن قرب زمان مغيبها، والمسافر يسرّ بإيابه وإن تكرر قدومه من بعيد المسافة وقريبها، والسّهران يتطلّع من ليلته الطويلة إلى طلوع فجرها، والمناصب السنيّة تأرز (1) إلى
__________
(1) أرز الى المكان: لجأ إليه. وفي الحديث الشريف: «إن الاسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحيّة إلى جحرها».(11/189)
مستحقّها كما تأرز الحيّة إلى جحرها.
ولما كان المجلس العاليّ، القاضويّ، (إلى آخر ألقابه) أعزّ الله تعالى أحكامه هو الذي حمدت في القضاء آثاره، وسارت بحسن السّيرة في الآفاق أخباره، وحسن بحسن تأتّيه في الورد والصّدر إيراده وإصداره، وتنافس في جميل وصفه الطّرس والقلم، وظهرت فضائله (ظهور نار القرى ليلا على علم)، ونشرت الأيّام من علومه ما تطوى إليه المراحل، وجادت مواطر فكره بما يخصب به جناب المربع الماحل، وعمرت من منصب القضاء بولايته معاهده، وجرت بقضايا الخير في البدء والعود عوائده، ونفذت بنفاذ أوامره في الوجود أحكامه، ورقم في صحائف الأيّام على توالي الدّهور نقضه وإبرامه، وسجّل بثبوت أحقّيّته فانقطعت دون بلوغ شأوه الأطماع، وحكم بموجب فضله فانعقد على صحّة تقدّمه الإجماع ففرائد فوائده المدوّنة تؤذن بالبيان والتحصيل، ومقدّمات تنبيهاته المحقّقة، تكفي نتائج إفضالها عن الإجمال والتفصيل، وجواهر ألفاظه الرائقة، نعم الذخيرة التي تقتنى، ومدارك معانيه الفائقة، حسبك من ثمرة فكر تجتنى، وتهذيب إيراداته الواضحة تغني في إدراكها عن الوسائل، وتحقيق مسائله الدقيقة تحقّق فيها أنها عيون المسائل وكانت وظيفة قضاء قضاة المالكية بالديار المصرية في رفيع رتبتها، ووافر حرمتها، قد ألقت إليه مقاليدها، ورفعت بالانتماء إلى مجلسه العالي أسانيدها، وعرفت محلّه الرفيع فتعلّقت منه بأعزّ منال، وحظيت بجماله اليوسفيّ المرّة بعد الأخرى فقالت: لا براح لي عن هذا الجمال، وعجمت بتكرّر العود عوده فأعرضت عن السّوى، وقرّت بالإياب إليه عينا «فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى» اقتضى حسن الرأي الشريف أن نعيد الوظيفة المذكورة إليه، ونعوّل في استكشاف مشكلات الأحكام على ما لديه، إقرارا للأمر في نصابه، وردّا له بعد الشّراد إلى مثابه، وإسعافا للمنصب بطلبته وإن أتعب غيره نفسه في طلابه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال يبديء المعروف ويعيده، ويوفّر نصيب الأولياء ويزيده أن يفوّض إلى المجلس العالي المشار إليه قضاء القضاة
بمذهب عالم المدينة وإمام دار الهجرة «مالك بن أنس الأصبحيّ» رضي الله عنه، على جاري عادته المتقدّمة في ذلك، وأن يضاف إليه تدريس قبّة الصالح والأنظار الشاهد بها توقيعه الشريف، وأن لا يقرّر أحد في دروس المالكية من مدرّس ومعيد (1) إلا بتعيينه، على أتم العوائد وأجملها، وأعمّ القواعد وأكملها.(11/190)
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال يبديء المعروف ويعيده، ويوفّر نصيب الأولياء ويزيده أن يفوّض إلى المجلس العالي المشار إليه قضاء القضاة
بمذهب عالم المدينة وإمام دار الهجرة «مالك بن أنس الأصبحيّ» رضي الله عنه، على جاري عادته المتقدّمة في ذلك، وأن يضاف إليه تدريس قبّة الصالح والأنظار الشاهد بها توقيعه الشريف، وأن لا يقرّر أحد في دروس المالكية من مدرّس ومعيد (1) إلا بتعيينه، على أتم العوائد وأجملها، وأعمّ القواعد وأكملها.
فليعد إلى رتبته السنية برفيع قدره وعليّ همّته، ويقابل إحساننا بالشكر نتحفه بمزيد الإقبال إذ لا زيادة في العلوّ على رتبته. ثم أوّل ما نوصيه به، ونؤكّد القول عليه بسببه، تقوى الله التي هي ملاك الأمور كلّها، وأولى المفترضات في عقد الأمور وحلّها فهي العصمة التي من لجأ إليها نجا، والوقاية التي ليس لمن حاد عنها من لحاق قوارع الله ملتجا. ونتبع ذلك بالتلويح إلى الاحتياط في المسائل التي تفرّد بها مذهبه الشريف ضيقا وسعة، واختصّ بها إمامه الأصبحيّ دون غيره من الأئمة الأربعة وهي مسائل قليلة، آثارها في الورى كثيرة جليلة منها سفك دم المنتقص والسابّ، وتحتّم قتله على البتّ وإن تاب فعليه أن يأخذ في ذلك بالاهتمام، ولا يعطي رخصة في حقّ أحد من الأنبياء والملائكة عليهم السّلام، ليكون ذلك وسيلة إلى الخلوص عن القذى، وذريعة إلى سلامة الشّرف الرفيع من الأذى إلا أنّا نوصيه بالتثبّت في الثّبوت، وأن لا يعجل بالحكم بإراقة الدم فإنه لا يمكن تداركه بعد أن يفوت. ومنها: الشهادة على الخط وإحياء ما مات من كتب الأوقاف والأملاك، وتقريب ما شطّ فلا يقبل فيه إلا اليقظ الواقف مع تحقّقه دون حدسه، ولا يطلق عنان الشّهود فإنّ الكاتب ربما اشتبه عليه خطّ نفسه ومنها: ثبوت الولاية للأوصياء، فيجريها على اعتقاده، ولكن إذا ظهرت المصلحة في ذلك على وفق مراده ومنها: إسقاط غلّة الوقف إذا استردّ بعد بيعه مدّة بقائه في يد المشتري، تحذيرا من الإقدام
__________
(1) هذه الوظيفة هي المعروفة في نظام الجامعات في أيامنا. وهي أن يقوم المعيد بشرح محاضرة الاستاذ على الطلبة وتفسير ما غمض فيها. ومعنى ذلك أن النظام الجامعي عرف في مصر في عهد المماليك. (انظر الصبح: 5/ 464).(11/191)
على بيع الوقف وعقوبة رادعة لبائعه المجتري، إلى غير ذلك من مسائل الانفراد، وما شاركه فيه غيره من المذاهب لموافقة الاعتقاد، فيمضي الحكم فيه بأقوى العزائم، ويلزم فيها بما استبان له من الحقّ ولا تأخذه في الله لومة لائم.
وأما غير ذلك من الوصايا الراجعة إلى أدب القضاء فلديه منها الخبر والخبر، ومنه تستملى فوصيّته بها كنقل التّمر إلى هجر (1) والله تعالى يعامله بلطفه الجميل، ويحفّه بالعناية الشاملة في المقام والرّحيل، إن شاء الله تعالى والاعتماد
وهذه نسخة توقيع بقضاء قضاة الحنابلة، وهي:
الحمد لله الذي أطلع في أفق الدّين (2) القيّم شمسا منيرة، ورفع درجة من جعله من العلم على شريعة ومن الحكم على بصيرة، وقلّد أمور الأمّة بمن يعلم أنّ بين يديه كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ووفّق لفصل القضاء من مشى على قدم إمامه الذي ادّخر منه للحكم في أيّامنا الشريفة من نفائس العلماء أفضل ذخيرة وقضى بإرجاء أمره لنختار له من تحلّى به بعد العطل وكلّ قضاء خيرة، وأيقظ عنايتنا لمن رقد الدهر عن فضله فباتت عين الاستحقاق باستقرار رتبته قريرة.
نحمده حمد من توافت إليه النّعم الغزيرة، وتوالت عليه المنن الكثيرة في المدد اليسيرة، وأخصبت في أيّامه رياض الفضائل فهي بكلّ عالم عدم النظير نضيرة، وافتتح دولته برفع منار العدل فآمال أهل الظلم عن تعاطيه قاصرة وأيدي أهل الباطل عن الامتداد إليه قصيرة، وخصّ المناصب في ممالكه بالأكفاء فإذا
__________
(1) في المثل: «كمستبضع التمر إلى هجر» أو «كمستبضع تمرا إلى خيبر». (انظر المستقصى في أمثال العرب: 2/ 233).
(2) تقدمت في تقليد حنفيّ بأطول من هذا وببعض الاختلاف. انظر ص 178من هذا الجزء.(11/192)
تلبّست بها همم غيرهم عادت خاسئة أو امتدّت إليها أبصار من دونهم رجعت حسيرة.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تصلح العلن والسّريرة، وتصبح بها القلوب موقنة والألسن ناطقة والأصابع مشيرة، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي بعث الله به الرسل مخبرة وأنزل الكتب بمبعثه بشيرة، واجتباه في خير أمّة من أكرم أرومة وأشرف عشيرة، وأظهر أنوار ملّته إلا لمن أعمى الغيّ بصيرته وهل تنفع العمي شمس الظّهيرة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة نتقرّب بدوامها إلى الله فيضاعفها لنا أضعافا كثيرة، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى الأمور بأن تشاد قواعده، وتتعهّد معاهده، ويعلى مناره، وتفاض بطلوع شمسه أنواره، وتكمّل به قوى الدين تكملة الأجساد بقوى الطبائع الأربع، وتعمّر به ربوع الملة التي ليس بعدها من مصيف لملّة ولا مربع، وتثبّت به قوائم الشرع التي ما للباطل في إمالة بعضها من مطمع، أمر القضاء على مذهب الإمام الرّبّانيّ «أحمد بن حنبل» رضي الله عنه، وكان قد خلا بانتقال مباشره إلى الله تعالى، وتوقّف مدّة على ارتياد الأكفاء، والإرشاد إلى من هو أهل الاصطفاء، واختيار من تكمل به رفعة قدره، ويعيد لدسته على بساط سليمانه بهجة صدره.
ولما كان فلان هو المنتظر لهذه الرّتبة انتظار الشمس بعد الغسق، والمرتقب لبلوغ هذه المنزلة التي تقدّمت إليها بوادر استحقاقه في السّبق، والمعطوف على الأئمة من أصحاب إمامه وأن تأخر زمانه عطف النّسق، وهو الذي ما زال يعدل دم الشهداء مداد أقلامه، وتضع الملائكة أجنحتها رضا بما يصنع من نقل خطواته في طلب العلم وسعي أقدامه، ودخل من خشية الله تعالى في زمرة من حصر بإنّما، وهجر المضاجع في طاعة الله لتحصيل العلم فلو عدّت هجعاته لقلّما، وهجّر في إحراز الفضائل فقيّد أوابدها، وأحرز شواردها، ولجّج في بحار المعاني فغاص على جواهرها، ونظر نظرة في نجوم العلوم
فاحتوى على زهرها وزار خمائل الفضائل فاستوى على أزاهرها، وانتهى إليه علم مذهبه فبرّز على من سلف، وجارى علماء عصره فوقفت أبصارهم عن رؤية غباره وما وقف، وتعيّن عليه القضاء وإن كان فرض كفاية لا فرض عين، وقدّمه الترجيح الذي جعل رتبته همزة استفهام ورتبة غيره بين بين اقتضى رأينا الشريف اختصاصه بهذا التمييز، والتنبيه على فضله البسيط بهذا اللفظ الوجيز.(11/193)
ولما كان فلان هو المنتظر لهذه الرّتبة انتظار الشمس بعد الغسق، والمرتقب لبلوغ هذه المنزلة التي تقدّمت إليها بوادر استحقاقه في السّبق، والمعطوف على الأئمة من أصحاب إمامه وأن تأخر زمانه عطف النّسق، وهو الذي ما زال يعدل دم الشهداء مداد أقلامه، وتضع الملائكة أجنحتها رضا بما يصنع من نقل خطواته في طلب العلم وسعي أقدامه، ودخل من خشية الله تعالى في زمرة من حصر بإنّما، وهجر المضاجع في طاعة الله لتحصيل العلم فلو عدّت هجعاته لقلّما، وهجّر في إحراز الفضائل فقيّد أوابدها، وأحرز شواردها، ولجّج في بحار المعاني فغاص على جواهرها، ونظر نظرة في نجوم العلوم
فاحتوى على زهرها وزار خمائل الفضائل فاستوى على أزاهرها، وانتهى إليه علم مذهبه فبرّز على من سلف، وجارى علماء عصره فوقفت أبصارهم عن رؤية غباره وما وقف، وتعيّن عليه القضاء وإن كان فرض كفاية لا فرض عين، وقدّمه الترجيح الذي جعل رتبته همزة استفهام ورتبة غيره بين بين اقتضى رأينا الشريف اختصاصه بهذا التمييز، والتنبيه على فضله البسيط بهذا اللفظ الوجيز.
فلذلك رسم أن يفوّض إليه كيت وكيت. فليتولّ هذه الرتبة التي أصبح فيها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نائبا وبشرعه قائما، ويتقلّدها تقلّد من يعلم أنه قد أصبح على حكم الله تعالى مقدّما وعلى الله قادما، ويثبّت تثبّت من يعتصم بحبل الله في حكمه فإنّ أحد الخصمين قد يكون ألحن بحجّته وإن كان ظالما، ويلبس لهذا المنصب حلّة تمنع المبطل من الإقدام عليه، وتدفع الظالم عن التطاول إلى أمر نزعه الشرع الشريف من يديه، ويؤمّن الحقّ من امتداد يد الجور والحيف إليه، وليسوّ بين الخصمين في مجلسه ولحظه، ويعدل بينهما في إنصاته ولفظه: ليعلم ذو الجاه أنّه مساو في الحقّ لخصمه، مكفوف باستماع حجّته عن الطمع في ظلمه، ولا ينقض حكما لم يخالف نصّا ولا سنّة ولا إجماعا، وليشارك فيما لا يجهله من القضايا غيره من العلماء ليتزيّد بذلك مع اطلاعه اطّلاعا، وليغتنم في ذلك الاستعانة بآرائهم: فإنّ الله تعالى لا ينتزع هذا العلم انتزاعا، وليسدّ مسالك الهوى عن فكره، ويصرف دواعي الغضب لغير الله عن المرور بذكره، وليجعل العمل لوجه الله نتيجة علمه، وليحكم بما أراه الله {وَاللََّهُ يَحْكُمُ لََا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}.
وهذه نسخة وصية أوردها في «التعريف» تشمل القضاة الأربعة، قال:
وصية جامعة [لقاض] (1) من أيّ مذهب كان، وهي:
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 116.(11/194)
وهذه الرّتبة التي جعل الله إليها منتهى القضايا، وإنهاء الشّكايا، ولا يكون صاحبها إلا من العلماء، الذين هم ورثة الأنبياء، ومتولّي الأحكام الشرعيّة بها كما ورث عن نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم علمه، كذلك ورث حكمه وقد أصبح بيده زمام الأحكام، وفصل القضاء الذي يعرض [بعضه] (1) بعده على غيره من الحكّام وما منهم إلا من ينقد نقد الصيرفيّ، وينفذ حكمه نفاذ المشرفيّ فليتروّ في أحكامه [قبل إمضائها، وفي المحاكمات إليه] (2) قبل فصل قضائها، وليراجع الأمر مرّة بعد مرّة حتى يزول عنه الالتباس، ويعاود فيه بعد التأمّل كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم والإجماع والقياس وما أشكل عليه بعد ذلك فليجلّ ظلمه بالاستخارة، وليحلّ مشكله بالاستشارة، ولا ير نقصا عليه إذا استشار فقد أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالشّورى، ومرّ من أوّل السّلف من جعلها بينه وبين خطإ الاجتهاد سورا فقد يسنح للمرء ما أعيا غيره وقد أكثر فيه الدّأب، ويتفطّن الصغير لما لم يفطن إليه الكبير كما فطن ابن عمر رضي الله عنهما للنخلة [و] (3) ما منعه أن يتكلّم إلا صغر سنّه ولزوما مع من هو أكبر منه للأدب ثم إذا وضح له الحقّ قضى به لمستحقّه، وسجّل له به وأشهد على نفسه بثبوت حقّه، وحكم له به حكما يسرّه يوم القيامة أن يراه، وإذا كتب له به، ذكر بخير إذا بلي وبقّى الدهر ما كتبت يداه. وليسوّ بين الخصوم حتّى في تقسيم النظر، وليجعل كلّ عمله على الحقّ فيما أباح وما حظر، وليجد النظر في أمر الشهود حتّى لا يدخل عليه زيف، وليتحرّ في استيداء الشهادات فربّ قاض ذبح بغير سكّين وشاهد قتل بغير سيف ولا يقبل منهم إلا من عرف بالعدالة، وألف منه أن يرى أوامر النفس أشدّ العداله وغير هؤلاء ممن لم تجر له بالشهادة عادة، ولا تصدّى للارتزاق بسحتها (4) ومات وهو حيّ على الشّهادة، فليقبل منهم من لا يكون في قبول مثله ملامة، فربّ عدل بين منطقة وسيف وفاسق في فرجيّة (5) وعمامة ولينقّب على
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 116.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 116.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 116.
(4) السّحت: ما خبث وقبح من المكاسب وهو النزر القليل أيضا.
(5) الفرجيّة: ثوب واسع طويل الأكمام يتزيا به علماء الدين.(11/195)
ما يصدر من العقود التي يؤسّس أكثرها على شفا جرف هار (1)، ويوقع في مثل السّفاح إلا أنّ الحدود تدرأ بالشّبهات ويبقى العار وشهود القيمة الذين يقطع بقولهم في حقّ كلّ مستحقّ ومال كلّ يتيم، ويقلّد شهاداتهم على كل أمر عظيم فلا يعوّل منهم إلا على كلّ ربّ مال عارف لا تخفى عليه القيم، ولا يخاف معه خطأ الحدس وقد صقل التجريب مرآة فهمه على طول القدم. وليتأنّ في ذلك كلّه أناة لا تقضي بإضاعة الحقّ، ولا إلى المطاولة التي تفضي إلى ملل من استحقّ، وليمهّد لرمسه، ولا يتعلّل بأن القاضي أسير الشهود وهو كذلك وإنما يسعى لخلاص نفسه والوكلاء هم البلاء المبرم، والشياطين المسوّلون لمن توكّلوا له الباطل ليقضى لهم به وإنما تقطع لهم قطعة من جهنّم، فليكفّ بمهابته وساوس أفكارهم، ومساوي فجّارهم، ولا يدع لمجنى أحد منهم ثمرة إلا ممنوعة، ولا يد اعتداء تمتدّ إلا مغلولة إلى عنقه أو مقطوعة، وليطهّر بابه من دنس الرسل الذين يمشون على غير الطريق، وإذا رأى واحد منهم درهما ودّ لو حصل في يده ووقع في نار الحريق وغير هذا مما لا يحتاج به مثله أن يوصى، ولا أن يحصى عليه منه أفراد عمله وهو لا يحصى، ومنها النظر في أمور أوقاف أهل مذهبه نظر العموم، فليعمرها بجميل نظره فربّ نظرة أنفع من؟؟؟
الغيوم، وليأخذ بقلوب طائفته الذين خصّ من بينهم بالتقديم، وتفاوت بعد ما بينه وبينهم حتّى صار يزيل عارض الرجل منهم النظرة منه ويأسو جراحه منه التكليم. وهذه الوصايا إنما ذكرت على سبيل الذّكرى، وفيه بحمد الله أضعافها ولهذا ولّيناه والحمد لله شكرا وقد جعلنا له أن يستنيب من يكون بمثل أوصافه أو قريبا من هذه المثابة، ومن يرضى له أن يحمل عنه الكلّ ويقاسمه ثوابه وتقوى الله تعالى هي جماع الخير ولا سيّما لصاحب هذه الوظيفة، ولمن وليها أصلا وفرعا لا يستغني عنها ربّ حكم مطلق التصرّف ولا خليفة.
__________
(1) الجرف: جانب الوادي الذي أكله الماء. وفي التنزيل العزيز: التوبة / 109 {أَسَّسَ بُنْيََانَهُ عَلى ََ شَفََا جُرُفٍ هََارٍ فَانْهََارَ بِهِ}. والمراد: العقود التي تؤسس على أسس واهية.(11/196)
ويزاد الشافعيّ:
وليعلم أنه صدر المجلس، وأنه أدنى القوم وإن كانوا أشباهه منا حيث نجلس، وأنه ذو الطّيلسان (1) الذي يخضع له ربّ كلّ سيف ويبلس (2)
وليتحقّق أنه إنما رفعه علمه وتقاه، وأنّ سبب دينه لا دنياه هو الذي رقّاه فليقدر حقّ هذه النّعم، وليقف عند حدّ منصبه الذي يودّ لو اشترى سواد مداده بحمر النّعم.
ويقال في وصيته: وأمر دعاوى بيت المال المعمور، ومحاكماته التي فيها حقّ كل فرد فرد من الجمهور فليحترز في قضاياها غاية الاحتراز، وليعمل بما يقتضيه لها الحقّ من الصّيانة والإحراز، ولا يقبل فيها كلّ بينة للوكيل عن المسلمين فيها مدفع، ولا يعمل فيها بمسألة ضعيفة يظن أنها ما تضرّ عند الله فإنها ما تنفع وله حقوق فلا يجد من يسعى في تملّك شيء منها بالباطل منه إلا الياس، ولا يلتفت إلى من رخّص لنفسه وقال: هو مال السلطان فإنّه مالنا فيه إلا ما لواحد من الناس. وأموال الأيتام الذين حذّر الله من أكل مالهم إلا بالمعروف لا بالشّبهات، وقد مات آباؤهم ومنهم صغار لا يهتدون إلى غير الثدي للرّضاع ومنهم حمل في بطون الأمّهات فليأمر المتحدّثين لهم بالإحسان إليهم، وليعرّفهم بأنهم سيجزون في بنيهم بمثل ما يعملون معهم إذا ماتوا وتركوا ما في يديهم، وليحذّر منهم من لا ولد له: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعََافاً خََافُوا عَلَيْهِمْ} (3). وليقصّ عليهم في مثل ذلك أنباء من سلف تذكيرا، وليتل عليهم القرآن ويذكّرهم بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوََالَ}
__________
(1) الطيلسان: ضرب من الأوشحة يلبس على الكتف، أو يحيط بالبدن، خال من التفصيل والخياطة. واللفظ فارسي معرب: تالسان أو تالشان. وذكر صاحب القاموس أن لام الطيلسان مثلاثة. (المعجم الوسيط: 561والقاموس: 2/ 235).
(2) أبلس: سكت لحيرة أو انقطاع حجّة. وفي التنزيل العزيز: {وَيَوْمَ تَقُومُ السََّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ}.
(3) النساء / 9.(11/197)
{الْيَتََامى ََ ظُلْماً إِنَّمََا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نََاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} (1) والصدقات الموكولة إلى تصريف قلمه، المأكولة بعدم أمانة المباشرين وهي في ذممه، يتيقّظ لإجرائها على السّداد في صرفها في وجوه استحقاقها، والعمل بما لا يجب سواه في أخذها وإنفاقها، والمسائل التي تفرّد بها مذهبه وترجّح عنده بها العمل، وأعدّ عنها الجواب لله إذا سأل، لا يعمل فيها بمرجوح إلا إذا كان نصّ مذهب إمامه أو عليه أكثر الأصحاب، ورآه قد حكم به أهل العلم ممن تقدّمه لرجحانه عنده وللاستصحاب. ونوّاب البرّ لا يقلّد منهم إلا من تحقّق استحقاقه، فإنه إنما يولّيه على مسلمين لا علم لأكثرهم فهم إلى ذي العلم أشدّ فاقة هذا إلى ما يتعرّف من ديانتهم ومن عفافهم الذي يتجرّع المرء منهم به مرارة الصبر من الفاقة وهو به يتحلّى، ثم لا يزال له عين عليهم فإنّ الرجال كالصناديق المقفلة لا يعرف الرجل ما هو حتّى يتولّى.
ويزاد الحنفيّ:
وليعلم أن إمامه أوّل من دوّن الفقه وجمعه، وتقدّم وأسبق العلماء من تبعه وفي مذهبه ومذاهب أصحابه أقوال في المذهب، ومسائل ما لحقه فيها مالك وهو أوّل من جاء بعده وممّن يعدّ من سوابقه أشهب ومن أهمها تزويج الصّغائر، وتحصينهنّ بالأكفاء من الأزواج خوفا عليهن من الكبائر، وشفعة الجوار التي لو لم تكن من رأيهم لما أمن جار السّوء على رغم الأنوف، ولأقام الرجل الدّهر ساكنا في داره بين أهله وهو يتوقّع المخوف، وكذلك نفقة المعتدّة التي هي في أسر من طلّقها وإن بتّت من حباله، وبقيت لا هو بالذي ينفق عليها ولا هي بالتي تستطيع أن تتزوّج من رجل ينفق عليها من ماله، ومن استدان مالا فأكله وادّعى الإعسار، ولفّق له بينة أراد أن تسمع له ولم يدخل الحبس ولا أرهق من أمره الأعسار، وأهل مذهبه على أنه يسجن ويمكث مدّة، ثم إذا ادّعى أنّ له بينة أحضرت ثم هل تقبل أو لا. فهذا وأمثاله مما فيه عموم صلاح، وعظيم
__________
(1) النساء / 10.(11/198)
نفع ما فيه جناح فليقض في هذا كلّه إذا رآه بمقتضى مذهبه، وليهتد في هذه الآراء وسواها بقمر إمامه الطالع أبي حنيفة وشبهه، وليحسن إلى فقهاء أهل مذهبه الذين أدنى إليه أكثرهم الاغتراب، وحلّق بهم إليه طائر النهار حيث لا يحلّق البازيّ وجناح الليل حيث لا يطير الغراب وقد تركوا وراءهم من البلاد الشاسعة، والأمداد الواسعة، ما يراعى لهم حقّه إذا عدّت الحقوق، ويجمعه وإيّاهم به أبوه أبو حنيفة وما مثله من ينسب إلى العقوق.
ويزاد المالكيّ:
ومذهبه له السيف المصلت على من كفر، والمذهب بدم من طلّ دمه وحصل به الظّفر ومن عدا قدره الوضيع، وتعرّض إلى أنبياء الله صلوات الله عليهم بالقول الشّنيع، فإنه إنما يقتل بسيفه المجرّد، ويراق دمه تعزيرا بقوله الذي به تفرّد ولم يزل سيف مذهبه لهم بارز الصّفحة، مسلّما لهم إلى مالك خازن النار من مذهب مالك الذي ما فيه فسحة وفي هذا ما يصرح غدر الدّين من القذى، وما لم تطلّ دماء هؤلاء (لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى) وإنما نوصيه بالتحرّي في الثّبوت، [والبينة التي لا يستدرك بها ما يفوت،] (1) وإنما هو رجل يحيا أو يموت، فليتمهّل قبل بتّ القضاء، وليعذر إليهم لاحتمال ثبوت تفسيق الشهود أو بغضاء، حتّى لا يعجّل تلافا، ولا يعجل بما لا يتلافى فكما أننا نوصيه أن لا ينقض في شدّ الوثاق عليهم إبراما، فهكذا نوصيه أن لا يصيب بغير حقّه دما حراما وكذلك قبول الشهادة على الخطّ، وإحياء ما مات من الكتب وإدناء ما شطّ، فهذا مما فيه فسحة للناس، وراحة ما فيها باس إلا أنه يكون الثبوت بهذه البيّنة للاتصال، لا لنزع يد ولا إلزام بمجرّدها بمال وهكذا ما يراه من ولاية الأوصياء وهو مما تفرّد به هو دون البقية، وفيه مصلحة وإلا فما معنى الوصيّة وهو زيادة احتراز ما تضرّ مراعاة مثلها في الأمور الشرعيّة، وسوى هذا مثل إسقاط الرّيع في وقف استردّ وقد بيع، وعطل المشتري من التكسّب
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 121.(11/199)
بذلك المال مدة لا يشتري ولا يبيع وهذا مما يبتّ قضاءه في مثله، ويجعل عقاب من أقدم على بيع الوقف إحرامه مدّة البيع من مغلّه، وسوى ذلك مما عليه العمل، ومما إذا قال فيه قال بحقّ وإذا حكم عدل. وفقهاء مذهبه في هذه البلاد قليل ما هم، وهم غرباء فليحسن مأواهم، وليكرم بكرمه مثواهم، وليستقرّ بهم النّوى في كنفه فقد ملّوا طول الدّرب، ومعاناة السفر الذي هو أشدّ الحرب، ولينسهم أوطانهم ببرّه ولا يدع في مآقيهم دمعا يفيض على الغرب.
ويزاد الحنبليّ:
والمهمّ المقدّم وهو يعلم ما حدث على أهل مذهبه من الشّناعة، وما رموا به من الأقوال التي نتركها لما فيها من البشاعة، ونكتفي به في تعفية آثارها، وإماطة أذاها عن طريق مذهبه لتأمن السالكة عليه من عثارها فتعالى الله أن يعرف بكيف، أو يجاوب السائل عنه بهذا إلا بالسيف والانضمام إلى الجماعة والحذر من الانفراد، وإقرار آيات الصّفات على ما جاءت عليه من الاعتقاد، وأنّ الظاهر غير المراد، والخروج بهم إلى النّور من الظّلماء، وتأويل ما لا بدّ من تأويله مثل حديث الأمة التي سئلت عن ربّها: أين هو فقالت في السماء وإلا ففي البليّة بإثبات الجهة ما فيها من الكوارث، ويلزم منها الحدوث والله سبحانه وتعالى قديم ليس بحادث ولا محلّا للحوادث وكذلك القول في القرآن ونحن نحذّر من تكلّم فيه بصوت أو حرف، فما جزاء من قال بالصوت إلا سوط وبالحرف إلا حتف ثم بعد هذا الذي يزع به الجهّال، ويردّ دون غايته الفكر الجوّال، ينظر في أمور مذهبه ويعمل بكل ما صحّ نقله عن إمامه وأصحابه: من كان منهم في زمانه ومن تخلف عن أيامه فقد كان رحمه الله إمام حقّ نهض وقد قعد الناس تلك المدّة، وقام نوبة المحنة مقام سيد تيم (1) رضي الله عنه نوبة الرّدّة، ولم تهبّ به زعازع المريسيّ (2) وقد هبّت مريسا (3)، ولا
__________
(1) الإشارة إلى أبي بكر الصديق.
(2) بهذا الضبط في الطبعة الأميرية. وضبطه ابن خلكان بفتح الميم وكسر الراء وسكون الياء المثناة من تحتها، وكذا في أكثر كتب التراجم. وهو بشر بن غياث بن أبي كريمة: الفقيه الحنفيّ المتكلم. اعتنق الاعتزال ورمي بالزندقة وإليه تنسب الطائفة المريسيّة القائلة بالإرجاء. أخذ الفقه عن القاضي أبي يوسف، وقال برأي الجهمية، وأوذي في دولة هارون الرشيد. توفي سنة 218هـ. (وفيات الأعيان: 1/ 277والأعلام: 2/ 55).
(3) أي هبّت قوية شديدة.(11/200)
ابن أبي دواد (1) وقد جمع له كلّ ذود وساق إليه من كلّ قطر عيسا، ولا نكث عهدة ما قدّم له المأمون في وصيّة أخيه من المواثق. [ولا روّعه سوط المعتصم وقد صبّ عليه عذابه ولا سيف الواثق] (2)
فليقفّ على أثره، وليقف بمسنده [على مذهبه] (3) كلّه أو أكثره، وليقض بمفرداته وما اختاره أصحابه الأخيار، وليقلّدهم إذا لم تختلف عليه الأخبار، وليحترز لدينه في بيع ما دثر من الأوقاف وصرف ثمنه في مثله، والاستبدال بما فيه المصلحة لأهله، والفسخ على من غاب مدّة يسوغ في مثلها الفسخ، وترك زوجة لم يترك لها نفقة وخلّاها وهي مع بقائها في زوجيّته كالمعلّقة، وإطلاق سراحها لتتزوّج بعد ثبوت الفسخ بشروطه التي يبقى حكمها به حكم المطلّقة، وفيما يمنع مضارّة الجار، وما يتفرّع على قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ضرر ولا ضرار»، وأمر وقف الإنسان على نفسه وإن رآه سوى أهل مذهبه، وطلعت به أهلّة علماء لولا هم لما جلا الزمان جنح غيهبه وكذلك الجوائح التي يخفّف بها عن الضّعفاء وإن كان لا يرى بها الإلزام، ولا تجري لديه إلا مجرى المصالحة بدليل الالتزام وكذل المعاملة التي لولا الرّخصة عندهم فيها لما أكل أكثر الناس إلا الحرام المحض، ولا أخذ قسم الغلال والمعامل هو الذي يزرع البذور ويحرث الأرض، وغير ذلك مما هو من مفرداته التي هي للرّفق جامعة،
__________
(1) هو أحمد بن أبي دواد: أحد القضاة المشهورين من المعتزلة. يقال بأنه كان رأس فتنة القول بخلق القرآن. قال الذهبي: «كان جهميا بغيضا، حمل الخلفاء على امتحان الناس بخلق القرآن، ولولا ذلك لا جتمعت الألسنة عليه». توفي سنة 240هـ في خلافة المتوكل. (انظر الأعلام: 1/ 124وابن خلكان: 1/ 81).
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 122.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 122.(11/201)
وللرّعايا في أكثر معايشهم وأسبابهم نافعة فإذا استقرّت الفروع (1) كانت الأصول لها جامعة. وفقهاء مذهبه هم الفقراء لقلّة المحصول وضعف الأوقاف، وهم على الرّقّة كالرّماح المعدّة للثّقاف فخذ بخواطرهم، ومدّ آمالهم في غائب وقتهم وحاضرهم، واشملهم بالإحسان الذي يرغّبهم، ويقل به طلبهم لوجوه الغنى ويكثر طلّبهم.
الطبقة الثانية (من أرباب الوظائف الدّينية أصحاب التواقيع، وتشتمل على مراتب)
المرتبة الأولى
(ما كان يكتب في النصف ب «المجلس العالي» كما كان يكتب للقضاة الأربعة أوّلا، وقد تقدّم)
المرتبة الثانية (ما يكتب في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء)
واعلم أنّ الأصل فيما يكتب من التواقيع أن يفتتح ب «أما بعد» إلا أن الكتّاب تسامحوا فيه فافتتحوا لمن علت رتبته حيث اقتضى الحال الكتابة له في الثلث ب «الحمد لله»، وأبقوا من انحطّت رتبته عن ذلك على ما كان عليه من الافتتاح ب «أما بعد» وها أنا أورد ما سنح من ذلك مما أنشأه الكتّاب في ذلك من الافتتاحين جميعا. ويشتمل على وظائف.
الوظيفة الأولى (قضاء العسكر)
وقد تقدّم في المقالة الثانية أنّ موضوعها التحدّث في الأحكام في الأسفار السلطانيّة وأنّ له مجلسا يحضره بدار العدل في الحضر. وقد جرت العادة أن
__________
(1) عبارة «التعريف»: «وإذا استقرّت الأصول كانت الفروع لها تابعة».(11/202)
يكون قضاة العسكر أربعة: من كلّ مذهب قاض.
وهذه نسخة توقيع شريف بقضاء العسكر المنصور بالحضرة السلطانية، وهي:
الحمد لله الذي رفع للعلم الشريف في أيّامنا الزاهرة منارا، وزاد بإعلاء رتب أهله دولتنا القاهرة رفعة وفخارا، وزان أحكامه الشريفة بحكّامه الذين طلعوا في غياهب مشكلاته بدورا وتدفّقوا في إفاضته في الأحكام الشرعيّة بحارا.
نحمده على نعمه التي حلّت فحلّت، ومننه التي أهلّت الجود فاستهلّت.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تكون لقائلها ذخرا، وتعلي للمتمسّك بها في الملإ الأعلى ذكرا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي هو أسبق الأنبياء رتبة وإن كان آخرهم عصرا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين أضحوا للمقتدين بهم شموسا منيرة وللمهتدين بعلومهم نجوما زهرا، صلاة لا تزال الألسن تقيمها، والأسماع تستديمها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من نوّهنا بذكره، ونبّهنا على رفعة قدره، وأطلقنا ألسنة الأقلام في وصف مفاخره وشكره، وأثّلنا قواعد مجده التي لو رام بنان البيان استقصاءها حال الحصر دون حصره، ونفّذنا كلم حكمه ورفعنا في أندية الفضائل ألوية فنونه وأعلام نصره، من لم يزل دم الشهداء يعدل مداد أقلامه، وتقيم منار الهدى أدلة فضائله وشواهد أحكامه، وتوضّح الحقّ حتى يكاد المتأمّل يلحظ الحكم لوضوحه ويبصره، وينصر الشرع بأمداد علمه ولينصرنّ الله من ينصره، وشيّد مذهب إمامه الإمام الفلانيّ فأصبح فسيح الأرجاء وإن لم يكن فيه فسحة، وجدّد قواعد العدل في قضايا عساكرنا المنصورة فهو مشاهد من كلمه ومن نظره في لمحه ملحة.
ولما كان فلان هو الذي نعتنا بما تقدّم من الخطاب خلائقه الحسنى، وأثنينا على ما هو عليه من الإقبال على جوهر العلم دون التعرّض إلى العرض الأدنى مع ما حواه من موادّ فضائل تزكو على كثرة الإنفاق، وفرائد فوائد تجلب
على أيدي الطّلبة إلى الآفاق، وقوّة في الحق، الذي لا تأخذه فيه لومة لائم، وعدل أحكام في الخلق، ألذّ من سنة الكرى في جفن نائم اقتضى حسن الرأي الشريف أن نوطّد في عساكرنا المنصورة قواعد أحكامه، ونوطّن كلّا منهم على أنه تحت ما يمضيه في أقضيته النافذة من نقضه وإبرامه.(11/203)
ولما كان فلان هو الذي نعتنا بما تقدّم من الخطاب خلائقه الحسنى، وأثنينا على ما هو عليه من الإقبال على جوهر العلم دون التعرّض إلى العرض الأدنى مع ما حواه من موادّ فضائل تزكو على كثرة الإنفاق، وفرائد فوائد تجلب
على أيدي الطّلبة إلى الآفاق، وقوّة في الحق، الذي لا تأخذه فيه لومة لائم، وعدل أحكام في الخلق، ألذّ من سنة الكرى في جفن نائم اقتضى حسن الرأي الشريف أن نوطّد في عساكرنا المنصورة قواعد أحكامه، ونوطّن كلّا منهم على أنه تحت ما يمضيه في أقضيته النافذة من نقضه وإبرامه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يفوّض إليه قضاء العساكر المنصورة الشريفة: على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، وأن تبسط كلمته في كلّ ما يتعلق بذلك من أحكام الشرع الشريف فليحكم في ذلك كلّه بما أراه الله من علمه، وآتاه من حكمه وحكمه، وبيّن له من سبل الهدى، وعيّنه لبصيرته من سنن نبيه صلّى الله عليه وسلم التي من حاد عنها فقد جار واعتدى، وليقف من الأحكام عند ما قرّرته الشريعة المطهرّة من أحكام الله التي لا يعقلها إلا العالمون، ويأمر كلّا من المتقاضين بالوقوف عند ما حدّ له: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللََّهِ فَأُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ} (1)
والوصايا وإن كثرت فمن مثله تفاد، وإن جلّت فسمعه في غنى عما يبدأ له منها ويعاد وملاكها تقوى الله تعالى التي هي شعار أنسه، وحلية يومه وأمسه والله تعالى يسدّده في القول والعمل، ويوفّقه لما يرضاه ويصونه من الخطإ والخطل.
وهذه وصية لقاضي العسكر، أوردها في «التعريف» وهي أن يقال:
وهو الحاكم حيث لا تنفذ إلا أقضية السيوف، ولا تزدحم الغرماء إلا في مواقف الصّفوف، والماضي قلمه وكلّ خطّيّ يمدّ بالدّماء، والممضى سجلّه وقد طوى العجاج كالكتاب سجلّ السماء وأكثر ما يتحاكم إليه في الغنائم التي لم تحلّ لأحد قبل هذه الأمّة، وفي الشّركة وما تطلب فيه القسمة، وفي المبيعات وما يردّ منها بعيب، وفي الديون المؤجلة وما يحكم فيها بغيب وكلّ هذا مما لا يحتمل طول الأناة في القضاء، واشتغال الجند المنصور عن مواقف الجهاد
__________
(1) البقرة / 229.(11/204)
بالتردّد إليه بالإمضاء فليكن مستحضرا لهذه المسائل ليبتّ الحكم في وقته، ويسارع السيف المصلت في ذلك الموقف ببتّه، وليعلم أن العسكر المنصور هم في ذلك الموطن أهل الشهادة، وفيهم من يكون جرحه تعديلا له وزيادة فليقبل منهم من لا تخفى عليه سيما القبول، ولا يردّ منهم من لا يضرّه أن يردّه هو وهو عند الله مقبول، وليجعل له مستقرّا معروفا في المعسكر يقصد فيه إذا نصبت الخيام، وموضعا يمشي فيه ليقضي فيه وهو سائر وأشهر ما كان على يمين الأعلام وليلزم ذلك طول سفره وفي مدد المقام، ولا يخالفه ليبهم على ذوي الحوائج فما هو بالصالحيّة (1) بمصر ولا بالعادليّة الشام، وليتّخذ معه كتّابا تكتب للناس وإلا فمن أين يوجد مركز الشهود، وليسجّل لذي الحق بحقه وإلا فما انسدّ باب الجحود وتقوى الله هي التي بها تنصر الجنود، وما لم تكن أعلى ما يكون على أعلام الحرب وإلا فما الحاجة إلى نشر البنود.
الوظيفة الثانية (إفتاء دار العدل)
وموضوعها الجلوس بدار العدل حيث يجلس السلطان لفصل الحكومات، والإفتاء فيما لعلّه يطرأ من الأحكام بدار العدل. وهي وظيفة جليلة، لصاحبها مجلس بدار العدل يجلسه مع القضاة الأربعة ومن في معناهم.
وهذه نسخة توقيع لمن لقبه «جمال الدين» ينسج على منوالها، وهي:
الحمد لله جاعل العلم للدّين جمالا، وللدنيا عصمة وثمالا (2)، ولأسباب
__________
(1) هناك أكثر من «صالحية» عدّدها محمد رمزي في القاموس الجغرافي للبلاد المصرية، منها الصالحية بمركز طوخ، والصالحية من بلدان فاقوس بمحافظة الشرقية.
(2) الثّمال: الملجأ والغياث. قال أبو طالب يمدح النبي صلّى الله عليه وسلّم:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل(11/205)
النّجاة والنّجاح شارة إذا تحلّى بها ذو التمييز كان أحسن ذوي المراتب حالا، وأجلّهم في الدارين مبدأ ومالا، وأحقّهم برتبة التفضيل التي ضربت لها السنّة المطهّرة فضل البدر على الكواكب مثالا.
نحمده على نعمه التي خصّت دار عدلنا الشريف من العلماء بأكفائها، واصطفت لما قرب من مجلسنا المعظّم من دلّ على أن التأييد قرين اصطفائها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يفترّ عن شنب الصواب، ثغرها، ويتفتّح عن فصل الخطاب، زهرها ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله المخصوص بمحكم التنزيل، المنصوص في الصّحف المنزّلة على ذكر أمّته الذين علماؤهم كأنبياء بني إسرائيل، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين هم كالنّجوم المشرقة، من اقتدى بهم أهتدى، وكالرّجوم المحرقة، من اعتدى وجد منها شهابا رصدا وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى ما ارتدنا له من رياض العلم من سما فيه فرعه، ورحب بتلقّي أنواع العلوم ذرعه، وبسقت في فنون الفضائل أفنانه، ونسقت فرائد الفوائد في سلك الطّروس بنانه فتيا دار عدلنا الشريف التي أحكامنا لها تابعة، وأغصان العدل بثمار فتاويها مورقة يانعة، وأعيننا إلى أفواه مفتيها رامقة وآذاننا لمقالاتهم سامعة.
ولما كان فلان هو ثمرة هذا الارتياد، ونخبة هذا الانتقاد، المعقود عليه في اختيار العلماء بالخناصر، والعريق في أصالة العلوم بأصالة ثابتة الأواصر، والذي إذا أجاب تدفّقت أنواء الفوائد، وتألّقت أضواء الفرائد، واتّخذت مسائل فقهه قواعد تترتّب الأحكام الشرعية عليها ومصادر وحيه موارد اقتضت آراؤنا الشريفة أن نزيّن بهجة هذه الوظيفة بجماله، وننزّه إشراقها بنور فضائله التي لو قابلها بدر الأفق نازعته حلّة كماله.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زالت أحكامه مع أوامر الشرع الشريف واقفة، ومعدلته الشريفة باقتفاء آثار الحق لمشتكيات الظّلم كاشفة أن يفوّض إليه
كذا: فليباشر هذه الوظيفة السنيّة مفجّرا ينابيع العلوم في أرجائها، محقّقا للفتاوى بتسهيل مواردها وتقريب أوجائها (1)، موضّحا طرقها بإقامة براهينه وأدلّته، مبديا دقائقها التي يشرق بها أفق الفكر إشراق السماء بنجومها والأفق بأهلّته، مظهرا من غوامضها ما يقرّب على الأفهام مناله، ويفسّح لجياد القرائح مجاله، وينقّح لكل ذي تروّ رويّته ولكل مرتجل بديهته وارتجاله فإنه الكامل الذي قطع إلى بلوغ الغاية مسالك اللّيالي، والإمام الذي غاص فكره من كل بحر لجج المعاني فاستخرج منها مكنون اللّالي مع أن علمه المهذّب غنيّ عن تنبيه الوصايا، مليّ بما يلزم هذه الوظيفة من الخصائص والمزايا فإنّ البحر يأبى إلّا تدفّقا، والبدر إلا تألّقا والله تعالى يزيده من فضله، ويزيّن به أفق العلم ويزيد منّا دنوّا قرب محلّه.(11/206)
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زالت أحكامه مع أوامر الشرع الشريف واقفة، ومعدلته الشريفة باقتفاء آثار الحق لمشتكيات الظّلم كاشفة أن يفوّض إليه
كذا: فليباشر هذه الوظيفة السنيّة مفجّرا ينابيع العلوم في أرجائها، محقّقا للفتاوى بتسهيل مواردها وتقريب أوجائها (1)، موضّحا طرقها بإقامة براهينه وأدلّته، مبديا دقائقها التي يشرق بها أفق الفكر إشراق السماء بنجومها والأفق بأهلّته، مظهرا من غوامضها ما يقرّب على الأفهام مناله، ويفسّح لجياد القرائح مجاله، وينقّح لكل ذي تروّ رويّته ولكل مرتجل بديهته وارتجاله فإنه الكامل الذي قطع إلى بلوغ الغاية مسالك اللّيالي، والإمام الذي غاص فكره من كل بحر لجج المعاني فاستخرج منها مكنون اللّالي مع أن علمه المهذّب غنيّ عن تنبيه الوصايا، مليّ بما يلزم هذه الوظيفة من الخصائص والمزايا فإنّ البحر يأبى إلّا تدفّقا، والبدر إلا تألّقا والله تعالى يزيده من فضله، ويزيّن به أفق العلم ويزيد منّا دنوّا قرب محلّه.
الوظيفة الثالثة (الحسبة)
وقد تقدّم أنّ موضوعها التحدّث على أرباب المعايش والصّنائع، والأخذ على يد الخارج عن طريق الصّلاح في معيشته وصناعته. وحاضرة الديار المصريّة تشتمل على حسبتين:
الأولى حسبة (2) القاهرة: وهي أعلاهما قدرا، وأفخمهما رتبة، ولصاحبها مجلس بدار العدل مع القضاة الأربعة وقضاة العسكر ومفتي دار العدل وغيرهم وهو يتحدّث في الوجه البحريّ من الديار المصرية في ولاية النّوّاب وعزلهم.
قلت: ولم تزل الحسبة تولّى للمتعمّمين وأرباب الأقلام إلى الدولة المؤيدية شيخ، فولّاها للأمير سيف الدّين منكلي بغا الفقيه أمير حاجب مضافة
__________
(1) أي بعيدها. من الأوج وهو العلوّ، وأبعد نقطة في مدار القمر على الأرض.
(2) والثانية حسبة الفسطاط.(11/207)
إلى الحجوبيّة (1) على أنّ في سجلّات الفاطميّين ما يشهد لها في الزمن المتقدّم. وربما أسندت حسبة القاهرة إلى والي القاهرة، وحسبة مصر إلى والي مصر.
وهذه نسخة توقيع من ذلك، وهي:
الحمد لله مجدّد عوائد الإحسان، ومجري أولياء دولتنا القاهرة، في أيّامنا الزاهرة، على ما ألفوه من الرّتب الحسان، ومضاعف نعمنا على من اجتنى لنا بحسن سيرته الدعاء الصالح من كل لسان.
نحمده على نعمه التي لا تحصى بعدّها، ولا تحصر بحدّها، ولا تستزاد بغير شكر آلاء المنعم وحمدها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نقيمها في كلّ حكم، وتحاول سيوفنا جاحديها فتنهض فتنطق بالحجة عليهم وهم بكم، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أشرف من ائتمر بالعدل والإحسان، وأعدل آمر أمّته بالوزن بالقسط وأن لا يخسروا الميزان، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين احتسبوا في سبيل الله جلّ عتادهم، واحتبسوا أنفسهم في مقاطعة أهل الكفر وجهادهم فلا تنتهب جنائبها في الوجود، وتسري نجائبها في التّهائم والنّجود، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من دعاه إحساننا لرفع قدره، وإنارة بدره، وإعلاء رتبته، وإدناء منزلته، وإعلام مخلص الأولياء بمضاعفة الإحسان إليه أنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وأنّ كرمنا لا يخيّب لمن أسلف سوابق طاعته في أيّامنا الشريفة أملا، من لم تزل خدمه السابقة إلى الله مقرّبة، وعن طرق الهوى منكّبة،
__________
(1) قال في نزهة النفوس والأبدان: «وفي يوم الثلاثاء العشرين من رجب سنة 816هـ خلع على الأمير منكلي بغا العجمي، واستقرّ في حسبة القاهرة عوضا عن القاضي صدر الدين بن الأدمي بحكم عزله، وأضيفت إليه الحجوبية الصغرى أيضا». (نزهة النفوس: 2/ 331).(11/208)
وبالله مذكّرة، وعلى الباقيات الصالحات من الأعمال موفّرة، مع ما أضافه إلى ذلك من أمر بمعروف، وإغاثة ملهوف، ونهي عن منكر، واحتساب في الحق أتى فيه بكلّ ما تحمد خلائقه وتشكر، واجتناب لأعراض الدنيا الدّنيّة، واجتهاد لما يرضي الله ويرضينا من اتّباع سيرتنا السّريّة، وشدّة في الحق حتّى يقال به ويقام، ورفق بالخلق إلا في بدع تنتهك بها حرمة الإسلام، أو غشّ إن لم يخصّ ضرره الخاصّ فإنّ ذلك يعمّ العام.
ولمّا كان فلان هو الذي اختصّ من خدمتنا، بما رفعه لدينا، وأسلف من طاعتنا، ما اقتضى تقريبه منّا واستدعاءه إلينا، ونهض فيما عدقناه به من مصالح الرعايا وكان مشكور المساعي في كل ما عرض من أعماله في ذلك علينا اقتضى رأينا الشريف أن يفوّض إليه كذا، فليستقرّ في ذلك مجتهدا في كلّ ما يعمّ البرايا نفعه، ويجمل لديهم وقعه، ويمنع من يتعرّض باليسار، إلى ما لهم بغير حقّ، أو يضيّق بالاحتكار، على ضعفائهم ما بسط الله لهم من رزق، ويذبّ عنهم بإقامة الحدود شبه تعطيلها، ويعرّفهم بالمحافظة على الحق في المعاملات قواعد تحريمها وتحليلها، ويريهم بالإنصاف نار القسطاس المستقيم لعلهم يبصرون، ويؤدّب من يجد فيهم من المطفّفين: {الَّذِينَ إِذَا اكْتََالُوا عَلَى النََّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذََا كََالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (1) ويأمر أهل الأسواق بإقامة الجماعات والجمع، ويقابل من تخلّف عن ذلك بالتأديب الذي يردع من أصرّ فيه على المخالفة ويزع، ويلزم ذوي الهيئات بالصّيانة التي تناسب مناصبهم، وتوافق مراتبهم، وتنزّه عن الأدناس مكاسبهم، وتصون عن الشوائب شاهدهم وغائبهم، ولا يمكّن ذوي البيوع أن يغبنوا ضعفاء الرعايا وأغبياءهم، ولا يفسّح لهم أن يرفعوا على الحق أسعارهم ويبخسوا الناس أشياءهم.
وليحمل كلّا منهم على المعاملات الصحيحة، والعقود التي غدت لها الشريعة الشريفة مبيحة، ويجنّبهم العقود الفاسدة، والحيل التي تغرّ بتدليس
__________
(1) المطففين / 2.(11/209)
السّلع الكاسدة، وهو أخبر بالبيوع المنصوص على فسادها في الشرع الشريف، وأدرى بما في عدم تحريرهم المكاييل والموازين من الإخسار والتطفيف فليفعل ذلك في كل ما يجب، ويحتسب فيه ما يدّخره عند الله ويحتسب ولتكن كلمته في ذلك مبسوطة، ويد تصرّفه في جميع ذلك محيطة وبما يستند إليه من أوامره محوطة، وليوص نوّابه بمثل ذلك، ويوضّح لهم بإنارة طريقته كلّ حال حالك، ويقدّم تقوى الله على كلّ أمر، ويتّبع فيه رضا الله تعالى لا رضا زيد وعمرو والخطّ الشريف أعلاه.
وهذه نسخة توقيع من ذلك بحسبة الفسطاط المعبّر عنه الآن بمصر عودا إليها، وهي:
الحمد لله الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، الشاهد بالعدل الذي تقوى به كلمة الإيمان وتنصر، والغامر بالجود الذي لا يحصى والفضل الذي لا يحصر، العامر ربوع ذوي البيوت بتقديم من انعقدت الخناصر على فضله الذي لا يجحد ولا ينكر.
نحمده على نعمه التي لا تزال ألسنة الأقلام ترقم لها في صحف الإنعام ذكرا، وتجدّد لها بإصابة مواقع الإحسان العامّ شكرا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تصدع بنورها ليل الشرك فيؤول فجرا، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي قمع الله به من اغترّ بالمعاصي وغرّر، وأقام بشريعته لواء الحق الأطهر ومنار العدل الأظهر، وعلى آله وصحبه الذين سلكوا من الهداية بإرشاده منهج الحق الأنور، واحتسبوا نفوسهم في نصرته ففازوا من رضاه بالحظ الأوفى والنصيب الأوفر.
وبعد، فإن الله تعالى لما جعل كلمتنا المبسوطة على العدل والإحسان مقصورة، وأوامرنا الشريفة بإقامة منار المعروف مؤيّدة منصورة، وأحكامنا المشهورة بالإنصاف في صحائف الدّهر بالمحاسن مسطورة، وألهمنا من اتّباع
الشرع الشريف ما غدت به قلوب الرعايا آمنة مسرورة قصدنا أن نختار لمراتب الدّيانة والعفاف من لم يزل بيته بالصّدارة عليّا، ووصفه بأنواع المحامد والممادح مليّا.(11/210)
وبعد، فإن الله تعالى لما جعل كلمتنا المبسوطة على العدل والإحسان مقصورة، وأوامرنا الشريفة بإقامة منار المعروف مؤيّدة منصورة، وأحكامنا المشهورة بالإنصاف في صحائف الدّهر بالمحاسن مسطورة، وألهمنا من اتّباع
الشرع الشريف ما غدت به قلوب الرعايا آمنة مسرورة قصدنا أن نختار لمراتب الدّيانة والعفاف من لم يزل بيته بالصّدارة عليّا، ووصفه بأنواع المحامد والممادح مليّا.
ولما كان فلان هو الذي ورث السّيادة، عن سلف طاهر، وتلقّى السعادة، عن بيت فروعه التقوى فأزرت بالروض الزّاهي الزّاهر، وسرت سرائره بحسن سيرته وسيره، وأبطن من الدّيانة ما أظهرته أدلّة خيره، وتنقّل في المراتب الدّينيّة فأربى في حسن السلوك على غيره، وسلك من الأمانة الطريق المثلى، واعتمد ما عدم به مضاهيا ومثلا، وجنى ما نطق بإنصافه فضل الكيل والميزان، ورجاه من أهل الخير كلّ ذي إحسان وخشيه أهل الزّيغ والبهتان وكانت الحسبة المباركة بمصر المحروسة قد ألفت قضاياه وأحكامه، وعرفت بالخبر معروفه وشكرت نقضه وإبرامه، وفارقها على رغمها منه اختيارا، وعادت له خاطبة عقيلة نزاهته التي لا تجارى.
فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي أن يفوّض إليه كذا. فليقدّم خيرة الله في مباشرة هذه الوظيفة، وليقم منارها بإقامة حدودها الشريفة، ولينظر في الكيل والميزان اللّذين هما لسان الحق الناطق، ولينشر لواء العدل الذي طالما خفقت بنوده في أيامنا حتّى غدا قلب المجرم وهو خافق، وليحسن النظر في المطاعم والمشارب، وليردع أهل البدع ممن هو مستخف باللّيل وسارب وفيه بمحمد الله تعالى من حسن الألمعيّة ما يغني عن الإسهاب في الوصايا، ويعين على السّداد في نفاذ الأحكام وفصل القضايا وكيف لا وهو الخبير بما يأتي ويذر، والصّدر الذي لا يعدو الصّواب إن ورد أو صدر والله تعالى يعمر به للعدل معلما، ويكسوه بالإقبال في أيامنا الشريفة ثوبا بالثّواب معلما والخطّ الشريف أعلاه، حجة بمقتضاه.
وهذه وصية محتسب أوردها في «التعريف» وهي:
وقد ولي أمر هذه الرّتبة، ووكل بعينه النظر في مصالح المسلمين لله حسبة فلينظر في الدّقيق والجليل، والكثير والقليل، وما يحصر بالمقادير وما لا يحصر، وما يؤمر فيه بمعروف أو ينهى عن منكر، وما يشترى ويباع، وما يقرّب بتحريره إلى الجنّة ويبعد من النار ولو لم يكن قد بقي بينه وبينها إلا قدر باع أو ذراع وكل ما يعمل من المعايش في نهار أو ليل، وما لا يعرف قدره إلا إذا نطق لسان الميزان أو تكلّم فم الكيل. وليعمل لديه معدّلا لكلّ عمل، وعيارا إذا عرضت عليه المعايير يعرف من جار ومن عدل، وليتفقّد أكثر هذه الأسباب، ويحذّر من الغشّ فإنّ الداء أكثره من الطّعام أو الشّراب، وليتعرّف الأسعار ويستعلم الأخبار، في كل سوق من غير إعلام لأهله ولا إشعار، وليقم عليهم من الأمناء من ينوب عنه في النّظر، ويطمئنّ به وإن غاب إذا حضر، ويأمره بإعلامه بما أعضل، ومراجعته مهما أمكن فإنّ رأي مثله أفضل. ودار الضّرب والنّقود التي منها تنبثّ، وقد يكون فيها من الزّيف ما لا يظهر إلا بعد طول اللّبث فليتصدّ لمهمّاتها بصدره الذي لا يحرج، وليعرض منها على المحكّ من رأيه ما لا يجوز عليه بهرج، وما يعلّق من الذهب المكسور ويروبص (1) من الفضّة ويخرج، وما أكلت النار كلّ لحامه أو بعضه فليقم عليه من جهته الرقباء، وليقم على شمس ذهبه من يرقب منه ما ترقب من الشمس الحرباء، وليقم الضّمّان على العطّارين والطّرقيّة (2) من بيع غرائب العقاقير إلا ممّن لا يستراب فيه وهو معروف، وبخطّ متطبّب ماهر لمريض معيّن في دواء موصوف. والطّرقيّة وأهل النّجامة وسائر الطوائف المنسوبة إلى ساسان، ومن يأخذ أموال الرجال بالحيلة ويأكلهم باللسان، وكل إنسان سوء من هذا القبيل هو في الحقيقة شيطان لا إنسان امنعهم كلّ المنع، واصدعهم مثل الزّجاج حتّى لا ينجبر لهم صدع، وصبّ عليهم النّكال وإلا فما يجدي في تأديبهم ذات التأديب والصّفع، واحسم(11/211)
وهذه وصية محتسب أوردها في «التعريف» وهي:
وقد ولي أمر هذه الرّتبة، ووكل بعينه النظر في مصالح المسلمين لله حسبة فلينظر في الدّقيق والجليل، والكثير والقليل، وما يحصر بالمقادير وما لا يحصر، وما يؤمر فيه بمعروف أو ينهى عن منكر، وما يشترى ويباع، وما يقرّب بتحريره إلى الجنّة ويبعد من النار ولو لم يكن قد بقي بينه وبينها إلا قدر باع أو ذراع وكل ما يعمل من المعايش في نهار أو ليل، وما لا يعرف قدره إلا إذا نطق لسان الميزان أو تكلّم فم الكيل. وليعمل لديه معدّلا لكلّ عمل، وعيارا إذا عرضت عليه المعايير يعرف من جار ومن عدل، وليتفقّد أكثر هذه الأسباب، ويحذّر من الغشّ فإنّ الداء أكثره من الطّعام أو الشّراب، وليتعرّف الأسعار ويستعلم الأخبار، في كل سوق من غير إعلام لأهله ولا إشعار، وليقم عليهم من الأمناء من ينوب عنه في النّظر، ويطمئنّ به وإن غاب إذا حضر، ويأمره بإعلامه بما أعضل، ومراجعته مهما أمكن فإنّ رأي مثله أفضل. ودار الضّرب والنّقود التي منها تنبثّ، وقد يكون فيها من الزّيف ما لا يظهر إلا بعد طول اللّبث فليتصدّ لمهمّاتها بصدره الذي لا يحرج، وليعرض منها على المحكّ من رأيه ما لا يجوز عليه بهرج، وما يعلّق من الذهب المكسور ويروبص (1) من الفضّة ويخرج، وما أكلت النار كلّ لحامه أو بعضه فليقم عليه من جهته الرقباء، وليقم على شمس ذهبه من يرقب منه ما ترقب من الشمس الحرباء، وليقم الضّمّان على العطّارين والطّرقيّة (2) من بيع غرائب العقاقير إلا ممّن لا يستراب فيه وهو معروف، وبخطّ متطبّب ماهر لمريض معيّن في دواء موصوف. والطّرقيّة وأهل النّجامة وسائر الطوائف المنسوبة إلى ساسان، ومن يأخذ أموال الرجال بالحيلة ويأكلهم باللسان، وكل إنسان سوء من هذا القبيل هو في الحقيقة شيطان لا إنسان امنعهم كلّ المنع، واصدعهم مثل الزّجاج حتّى لا ينجبر لهم صدع، وصبّ عليهم النّكال وإلا فما يجدي في تأديبهم ذات التأديب والصّفع، واحسم
__________
(1) لعل المراد بالفضة المروبصة: غير المسكوكة.
(2) الطرقيّة هم الذين يقدّمون ألعابا في الطريق ليحصلوا على الأموال بدون وجه حق. وعبارة «من بيع غرائب العقاقير» عائدة للعطارين.(11/212)
كلّ هذه الموادّ الخبيثة، واقطع ما يجدّد ضعفاء الناس من هذه الأسباب الرّثيثة ومن وجدته قد غشّ مسلما، أو أكل بباطل درهما، أو أخبر مشتريا بزائد، أو خرج عن معهود العوائد، أشهره في البلد، وأركب تلك الآلة قفاه حتّى يضعف منه الجلد وغير هؤلاء من فقهاء المكاتب وعالمات النّساء وغيرهما من الأنواع ممن يخاف من ذئبه العائث في سرب الظّباء والجاذر، ومن يقدم على ذلك ومثله وما يحاذر، ارشقهم بسهامك، وزلزل أقدامهم بإقدامك، ولا تدع منهم إلا من اختبرت أمانته، واخترت صيانته. والنّوّاب لا ترض منهم إلا من يحسن نفاذا، ويحسب لك أجر استنابته إذا قيل لك من استنبت فقلت هذا وتقوى الله هي نعم المسالك، وما لك في كلّ ما ذكرناه بل أكثره إلا إذا عملت فيه بمذهب مالك.
الوظيفة الرابعة (وكالة بيت المال)
وهي وظيفة عظيمة الشان رفيعة المقدار، وقد تقدّم أن موضوعها التحدّث فيما يتعلّق بمبيعات بيت المال ومشترواته (1): من أرض وآدرّ وغير ذلك مما يجري هذا المجرى، وأنّ متولّيها لا يكون إلا من أهل العلم والدّيانة، وأنّ له مجلسا بدار العدل: تارة يكون دون مجلس المحتسب، وتارة فوق مجلسه، بحسب رفعة قدر كل منهما في نفسه. وقد أضيف إليها في المباشرة نظر كسوة الكعبة الشريفة وصارا كالوظيفة الواحدة.
وهذه نسخة توقيع بوكالة بيت المال:
الحمد لله جامع المناصب الدينيّة، لمن خطبته لها رتبتان: العلم والعمل، ومكمّل الرّتب السّنيّة، لمن وجدت فيه أهبتان: الورع والتّقى، وعدمت منه خلّتان: الحرص والأمل، جاعل اختصاص الرّتب بأكفائها حلية الدّول،
__________
(1) الصواب: «مشترياته» وقد استعمل اللفظ العاميّ.(11/213)
والنظر في مصالحها الخاصّة والعامّة زينة أيامنا التي تتلفّت إلى محاسنها أجياد الأيّام الأول.
نحمده على نعمه التي عصمت آراءنا من اعتراض الخلل، وأمضت أوامرنا من مصالح الأمة بما تسري به المحامد سريّ النجوم ويسير به الشّكر سير المثل.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لم نزل نستنطق بها في الجهاد، ألسنة الأسل، ونوقظ لإقامتها عيون جلاد، لها الغمود جفون والسهام أهداب والسّيوف مقل، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أظهر الله دينه على الأديان وشرّف ملّته على الملل، وأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إلى سدرة المنتهى وعاد ولم يكمل الليل بين السّير والقفل، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين هجروا في المهاجر إليه الأحياء والحلل، وشفوا بأسنّة سنّته العلل والغلل، وتفرّدوا بكمال المفاخر فإذا خلعت الأقلام على أوصافهم حللا غدت منها في أبهى من الحلل، صلاة تتوالى بالعشيّ والإبكار وتتواتر في الإشراق والطّفل (1)، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى الرّتب بإنعام النظر في ارتياد أكفائها، وانتقاد فرائد الأعيان لها وانتقائها، واستخارة الله تعالى في اختيار من يكون أمر دينه هو المهمّ المقدّم لديه، واستنارة التوفيق في اصطفاء من يكون مهمّ آخرته هو المرثيّ المصوّر بين عينيه، مع ما اتصف به من محاسن سجايا جبلت عليها طباعه، وخصّ به من سوابق مزايا رحب بها في تلقّي المصالح الدينيّة صدره وباعه، رتبتان يعمّ نفعهما ويخصّ، ويحسن وقعهما بما يبديه من أوصافه ويقصّ، ويتعلّق كلّ منهما بجماعة الأمّة فردا فردا، ويشتملان على منافعهم على
__________
(1) الطّفل: إقبال الليل على النهار بظلمته والظلمة نفسها والوقت قبيل غروب الشمس أو بعد العصر. وطفل الغداة: بعيد طلوع الشمس.(11/214)
اختلافها بدأ وإعادة وعكسا وطردا، ويكون المتصدّي لهما مناقشا على حقوقهم وهم ساهون، ومفتّشا عن مصالحهم وهم عنها لاهون، ومناضلا عنهم وهم غافلون، ومشمّرا للسعي في مصالحهم وهم في حبر الدّعة رافلون، ومتكلّفا لاستماع الدّعوى عنهم جوب فلوات الجواب، ومتكفّلا بالتحرّي في المحاورة عنهم وإصابة شاكلة الصّواب، ومؤدّيا في نصحهم جهده تقرّبا إلى مراضينا وله عندنا الرّضا وابتغاء ثواب الله: {وَاللََّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوََابِ} (1) وهما وكالة بيت المال المعمور والحسبة الشريفة بالقاهرة المحروسة: فإنّ منافع وكالة بيت مال المسلمين عائدة عليهم، آئلة بأحكام الشريعة المطهّرة إليهم، راجعة إلى ما يعمّهم مسارّه، معدّة لما تدفع به عنهم من حيث لا يشعرون مضارّه، صائنة حقوقهم من تعدّي الأيدي الغاصبة، حافظة بيوت أموالهم من اعتراض الآمال العاملة الناصبة: وكذلك نظر الحسبة: فإنه من أخصّ مصالح الخلق وأعمّها، وآكد الوظائف العامّة وأكملها استقصائيّة للمصالح الدينيّة والدّنيويّة وأتمّها، يحفظ على ذوي الهيئات أقدارهم، ويبيّن بتجنّب الهنات في الصّدر مقدارهم، ويصون بتوقّي الشّبهات إيرادهم وإصدارهم، وينزّه معاملاتهم عن فساد يعارضها أو شبه تنافي كمال الصحة وتناقضها، ويحفظ أقواتهم من غشّ متلف، أو غلوّ مجحف، إلى غير ذلك من أدوية لا بدّ من الوقوف على صحة ترتيبها وتركيبها، وتتبّع الأقوال التي تجري بها الثّقة إلى غاية تجريبها ولذلك لا تجمعان إلا لمن أوقفه علمه على جادّة العمل، واقتصر به ورعه على مادّة الحق فليس له في التعرض إلى غيره أمل، وسمت به أوصافه إلى معالم الأمور فوجد التّقى أفضل ما يرتقى، وعرضت عليه أدواته جوهر الذخائر فوجد العمل الصالح أكمل ما ينتقد منها وما ينتقى، وتحلّى بالأمانة، فصارت له خلقا وسجيّة، وأنس بالنّزاهة، فكانت له في سائر الأحوال للنّجاة نجيّة، وأرته فضائله الحقّ حيث هو فتمسّك بأسبابه وتشبّث بأهدابه، واتّصف به في سائر أحواله فإن أخذ أخذ بحكمه وإن
__________
(1) آل عمران / 195.(11/215)
أعطى أعطى به، واحترز لدينه فهو به ضنين، واستوثق لأمانته وإن لم يكن فيها بحمد الله متّهما ولا عليها بظنين، واجتنى ثمار المحامد الحلوة من كمام الأمانة المرّة، وعلم أنّ رضا الله تعالى في الوقوف مع الحقّ فوقف معه في كلّ ما ساءه للخلق وسرّه.
ولمّا كان فلان هو الذي أمسكت الفضائل بما كمّلها من آداب نفسه ونفاسة آدابه، وتجاذبته الرّتب للتحلّي بمكانته فلم تكن هذه الرتبة بأحقّ به من مجالس العلم ولا أولى به، وشهدت له فضائله معنى بما شهدت له به الأئمة الأعلام لفظا، ونوّهت بذكره العلوم الدينيّة التي أتقنها بحثا وأكملها دراية وأثبتها حفظا فأوصافه كالأعلام المشتقّة من طباعه، والدالّة بدوامها على انحصار سبب الاستحقاق فيه واجتماعه المنبّهة على أنه هو المقصود بهذه الإشارات التي وراءها كلّ ما يحمد من اضطلاعه بقواعد هذه الرّتب واطّلاعه فهو سرّ ما ذكر من نعوت وأوصاف، ومعنى ما شهر من معدلة وإنصاف، ورقوم ما حبّر من حلل أفيضت منه على أجمل أعطاف رسم (1) أن يفوّض (2). تفويضا يقع به الأمر في أحسن مواقعه، ونضع به الحكم في أحمد مواضعه، ويحلّ من أجياد هذه المناصب محلّ الفرائد من القلائد، ويقع من رياض هذه المراتب وقوع الحيا الذي سعد به رأي الرائد.
فليباشر هاتين الوظيفتين مرهفا في مصالحهما همّة غير همّة (3)، مجتهدا من قواعدهما فيما تبرأ به عند الله منّا ومنه الذّمّة، محاققا على حقوق بيت المال حيث كانت محاققة من يعلم أنه مطلوب بذلك من جميع الأمّة، متحرّيا للحق فلا يغدو لما يجب له مهملا، ولا لما يجب عليه مماطلا، واقفا مع حكم الله تعالى الجليّ في الأخذ والعطاء فإنّه سيّان من ترك حقّا أو أخذ باطلا، مجريا عوائد الحسبة على ما ألف من تدبيره، وعرف من إتقانه وتحريره، وشهر من
__________
(1) بياض في الأصل. والغرض منه الاختصار: وهو مفهوم مما تقدّم مرارا.
(2) بياض في الأصل. والغرض منه الاختصار: وهو مفهوم مما تقدّم مرارا.
(3) أي غير ضعيفة. والهمّ: الشيخ الكبير الفاني. وقدح همّ: قديم متكسّر.(11/216)
اعتماده للواجب في سائر أموره، مكتفيا بما اطّلع عليه قديما من مصالحها، منتهيا إلى ما سبقت معرفته به من أسبابها ومناجحها، والله تعالى يوفّقه في اجتهاده، ويعينه على ما يدّخره لمعاده، إن شاء الله تعالى.
وهذه وصية وكيل بيت المال أوردها في «التعريف».
وهو الوكيل في جميع حقوق المسلمين وماله معهم إلا حقّ رجل واحد، والمكلّف بالمخاصمة عنهم حتّى يقرّ الجاحد، وهو القائم للدّعوى لهم وعليهم، والمطلوب من الله ومنّا بما يؤخذ لهم أو يؤخذ من يديهم، والمعدّ لتصحيح العقود، وترجيح جهة بيت المال في العقار المبيع والثمن المنقود، والمتكلّم بكتاب الوكالة الشرعية الثابتة، والثابت القدم والأقدام غير ثابتة، والمفسوح المجال في مجالس الحكّام، والمجادل بلسان الحقّ في الأحكام، والموقوفة كلّ دعوى لم تسمع في وجهه أو في وجه من أذن له في سماعها، والمرجوع إليه في إماتة كلّ مخاصمة حصل الضجر من طول نزاعها، وإبداء الدّوافع، ما لم يجد بدّا من الإشهاد عليه بعدم الدافع، والانتهاء إلى الحق كان له أو عليه ولا يقف عند تثقيل مثقّل ولا شفاعة شافع، وبوقوفه تحدّد الحدود [وتمتحن الشهود] (1) ويمشى على الطّرق المستقيمة، وتحفظ لأصحابها الحقوق القديمة، وبه يتم عقد كل بيع وإيجار إذا كانت المصلحة فيها لعامّة المسلمين ظاهرة، ولهم فيما يوكّل عنهم فيه الحظّ والغبطة بحسب الأوقات الحاضرة.
ونحن نوصيه في ذلك كلّه بالعمل بما علم، والانتهاء في مقتضى قولنا إلى ما فهم، وتقديم تقوى الله فإنه متى قدّمها بين يديه سلم، والوقوف مع رضا الله تعالى فإنه متى وقف معه غنم، والعمل بالشرع الشريف كيفما توجّهت به
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 132.(11/217)
أحكامه، والحذر من الوقوف في طريقه إذا نفذت سهامه ومن مات له ورثة معروفة تستكمل بحقّها ميراثه، وتحوز بحظّها تراثه لا يكلفهم ثبوتا يكون من باب العنت، والمدافعة بحقّ لا يحتاج [مستحقّه] (1) إلى زيادة ثبت وإنما أنت ومن كانت قضيّته منكرة، والمعروف من مستحقّي ميراثه نكرة، فأولئك شدّد في أمرهم، وأوط شهداءهم في الاستفسار منهم على جمرهم وتتّبع باطن الحال لعله عنك لا يتستّر، ولا يمشي عليك فيه الباطل ويمشي شاهد الزّور بكميّه ويتبختر فإن تحقّقت صحة شهاداتهم وإلا فأشهرهم في الدنيا ودعهم في الآخرة لا يخفّف عنهم العذاب ولا يفتّر، وكلّ ما يباع أو يؤجّر ارجع فيه إلى العوائد، وتقلّد أمر الصغير، وجدّد لك أمرا منّا في الكبير، وذلك بعد مراعاة ما تجب مراعاته، والتأنّي كلّ التأنّي حتّى يثبت ما ينبغي إثباته وشهود القيمة عليهم المدار، وبشهادتهم يقدّر المقدار وما لم يكونوا من ذوي الأقدار، ومن أهل الخبرة بالبزّ والجدار، وممن اشترى العقار واستغلّه وبنى الدار وإلا (2)
فاعلم أنّ مثله لا يرجع إليه، ولا يعوّل ولا سيّما في حقّ بيت المال عليه، فاتّفق مع ولاة الأمور من أهل الأحكام، على تعيين من تعيّن لتقليد مثل هذه الشهادة، وتعرّف منهم من له كلّ الخبرة حتّى تعرف أنه من أهل الزّهادة، ولك أن تدّعي بحق المسلمين حيث شئت ممن ترى أن حقّه عنده يترجّح، وأن بيّنتهم تكون عنده أوضح، فأمّا الدّعوى عليك فمن عادتها أن لا تسمع إلا في مجلس الحكم العزيز الشافعيّ أجلّه الله تعالى ونحن لا نغيّر العوائد، ولا ننقض ما بنت الدول السالفة عليه القواعد فليكن في ذلك المجلس سماعها إذا تعيّنت، وإقامة البينات عليها إذا تبيّنت، والله الله في حقّ بيت المال، ثم الله الله في الوقت الحاضر والمآل، ومن تستنيبهم عنك بالأعمال لا تقرّ منهم إلا من تقرّ به عينك، ويوفّى به عند الله لا بما تحصّله من الدنيا دينك ومن كان لعمله
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 132.
(2) في هامش الطبعة الأميرية: «كذا أيضا في التعريف. والمراد أن المقوّمين يشترط فيهم أن يكونوا بتلك الصفات وإلا فلا يؤخذ بتقويمهم ولا يعوّل على كلامهم».(11/218)
مصلحا، ولأمله منجحا، لا تغيّر عليه فيما هو فيه، ودعه حتّى يتبين لك خافيه ولتستقص في كلّ وقت عنهم الأخبار، ولتستعلم حقائق ما هم عليه بمن تستصحبه من الأخيار، ولا تزال منهم على يقين، وعمل بما فيه خلاص دنيا ودين.
الوظيفة الخامسة (الخطابة)
وهي من أجلّ الوظائف وأعلاها رتبة في نفس الأمر. وموضوعها معروف وتختصّ هذه الطبقة من التواقيع بخطابة الجوامع.
وهذه نسخة توقيع بخطابة الجامع (1) بقلعة الجبل المحروسة، حيث مصلّى السلطان، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ:
الحمد لله الذي أنار بالذّكر قلوب أوليائه، وكشف بالذّكرى بصائر أصفيائه، وأنال أهل العلم بالإبلاغ عنه إلى خلقه وراثة أنبيائه، واختار لإذكارنا بآلاء الله من فرسان المنابر من يجاهد الأعداء بدعائه، ويجاهر الأودّاء من مواعظه بما يعلم كلّ منهم أنّ في مؤلم صوادعه دواء دائه فإذا افتتح بحمد الله أثنى عليه بموادّ علمه حقّ ثنائه، ونزّهه بما ينبغي لسبحات وجهه وجلال قدسه وتقدّس أسمائه، وأثنى كما يجب على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم الذي آدم ومن بعده من الرّسل تحت لوائه، وإذا تليت على خيل الله خطبته تشوّقت بلقاء أعداء الله إلى لقائه، وخطبت الجنان من بذل نفوسها ونفائسها بما أقنته في سبيل الله لاتّقائه.
نحمده على أن جعلنا لذكره مستمعين، ولأمره ونهيه متّبعين، وعلى حمده في كل ملأ من الأولياء مجتمعين.
__________
(1) وهو جامع القلعة القديم. أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاوون سنة 718هـ. وهو معطل الشعائر في أيامنا. (انظر الخطط التوفيقية: 5/ 179).(11/219)
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا تزال تختال بذكرها أعطاف المنابر، وتتعطّر ألسنة الأقلام بما تنقله منها عن أفواه المحابر، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي هدى الله من تقدّم من الأمة بخبره ومن تأخّر بخبره، وجعل روضة من رياض الجنة بين قبره ومنبره، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين هم أوّل من عقدت بهم من الجمع صلواتها، وأكرم من زهيت به من الجهاد والمنابر صهواتها، صلاة لا نزال نقيمها عند كلّ مسجد، ونديمها في كلّ متهم في الآفاق ومنجد، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى المنابر أن يرتاد له من أئمة العلماء علّامة عصره، ورحلة (1) مصره، وإمام وقته الذي يصدع بالحق وإن صدع، وعالم زمانه الذي يقوم في كل مقام بما يناسبه مما يأخذ في الموعظة الحسنة وما يدع، منبر نذكّر بآلاء الله على أعواده وإن لم نزل لها من الذّاكرين، وننبّه فيه على شكر الله بالرأفة على خلقه وإن لم نبرح لها بذلك وغيره من الشاكرين، ونشوّق عليه إلى الجهاد في سبيل الله بما أعدّ الله لنا على ذلك من النصر والأجر وإن كنّا على الأبد إليه مبادرين، وإلى إقامة دعوة الحق به مباكرين.
ولما كان فلان هو الذي تعيّن لرقيّ هذه الرتبة فخطب لخطابتها، وتبيّن أنه كفؤها الذي تتشوق النّفوس إلى مواعظه فترغب في إطالتها لإطابتها اقتضت آراؤنا الشريفة أن نحلّي بفضائله أعطاف هذا المنبر الكريم، وأن نختصّ نحن وأولياؤنا بسماع مواعظه التي ترغّب فيما عند الله بجهاد أعداء الله، والله عنده أجر عظيم.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال يطلع في أفق المنابر من الأولياء شمسا منيرة، ويقيم شعائر الدين من الأئمة الأعلام بكلّ مشرق العلانية طاهر السّريرة أن يفوّض إليه كذا: فليحلّ هذه الرتبة التي لم تقرّب لغيره جيادها،
__________
(1) يقال: عالم رحلة (بضم الميم): يرتحل إليه من الآفاق.(11/220)
ويحلّ هذه العقيلة التي لا تزان بسوى العلم والعمل أجيادها، ويرق هذه الهضبة التي يطول إلّا على مثله صعودها، ويلق تلك العصبة التي تجتمع للأولياء به حشودها. وهو يعلم أنّه في موقف الإبلاغ عن الله لعباده، والإعلام بما أعدّ الله في دار كرامته لمن جاهد في الله حقّ جهاده، والإنذار لمن قصّر في إعداد الأهبة ليوم معاده وهو بمحضر من حماة الإسلام، ومشهد ممن قلّدناه أمر أمّة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فليقصر خطبه على طاعة لله يحضّ عليها، وعزمة في سبيل الله يشوّق إليها، ومعدلة يصف ما أعدّ الله لولاة أمر قدّمتها بين يديها، وتوبة يبعث الهمم، على تعجيلها، وأوقات مكرمة ينبّه الأمم، على احترامها بتقوى الله وتبجيلها، ودنيا ينذر من خداعها، ويبيّن للمغترّ بها ما عرف من خلائقها المذمومة وألف من طباعها، وأخرى يوضّح للمعرض عنها وشك قدومها، ويحذّر المقصّر في طلابها من عذابها ويبشّر المشمّر لها بنعيمها. وليعلم أنّ الموعظة إذا خرجت من الألسنة لم تعد الأسماع، ولم يحصل منها على غير تعقّل القرائن والأسجاع وإذا خرجت من القلوب وقعت في مثلها، وأثمرت في الحال بالمحافظة على فرض الطاعة ونفلها، وسكّنت في السرائر طباع طاعة تأبى على محاول نقلها، وقدحت في البصائر من أنواع المعرفة ما لم يعهد من قبلها. وليجعل خطبه في كل وقت مناسبة لأحوال مستمعيها، متناسبة في وضوح المقاصد بين إدراك من يعي غوامض الكلام ومن لا يعيها فخير الكلام ما قلّ ودلّ وإذا كان قصر خطبة الرجل وطول صلاته منبئين عن فقهه فما قصّر من حافظ على ذلك ولا أخلّ وليوشّح خطبه من الدعاء لنا وللمسلمين بما يرجى أن يوافق ساعة الإجابة، وإذا توخّى الغرض بدعائه لعموم الأمة فقد تعيّنت إن شاء الله الإصابة وهذه الوصايا على سبيل الذّكرى التي تنفع المؤمنين وترفع المحسنين، والله تعالى يجعله وقد فعل من أوليائه المتقين، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وهذه وصية خطيب أوردها في «التعريف»:
وليرق هذه الرّتبة التي رفعت له ذرا أعوادها، وقدّمت له من المنابر مقرّبات جيادها، وليصعد منها على أعلى درجة وليسعد منها بصهوة كأنما كانت له من بكرة يومه المشرق مسرجة، وليرع حقّ هذه الرتبة الشريفة، والذّروة التي ما أعدّت إلّا لإمام فرد مثله أو خليفة، وليقف حيث تخفق على رأسه الأعلام، ويتكلّم فتخرس الألسنة وتجفّ في فم الذّرا الأقلام، وليقرع المسامع بالوعد والوعيد، ويذكّر بأيام الله من {كََانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (1)، ويليّن القلوب القاسية وإن كان منها ما هو أشدّ قسوة من الحجارة والحديد، وليكن قد قدّم لنفسه قبل أن يتقدّم، وليسبل عليه درع التوبة قبل أن يتكلّم، وليجعل لكل مقام مقالا يقوم به على رؤوس الأشهاد، ويفوّق منه سهما لا يخطيء موقعه كلّ فؤاد، وليقم في المحراب مقام من يخشى ربّه، ويخاف أن يخطف الوجل قلبه، وليعلم أنّ صدفة ذلك المحراب ما انفلقت عن مثل درّته المكنونة، وصناديق الصّدور ما أطبقت على مثل جوهرته المخزونة، وليؤمّ بذلك الجمّ الغفير، وليتقدّم بين أيديهم فإنّه السّفير، وليؤدّ هذه الفريضة التي هي من أعظم الأركان، وأوّل الأعمال التي توضع في الميزان، وأقرب القرب التي يجمع إليها داعي كلّ أذان، وليقم بالصلاة في أوقاتها، وليرح بها الناس في أوّل ميقاتها، وليخفّف مع الإتمام، وليتحمّل عمّن وراءه فإنه هو الإمام، وعليه بالتقوى في عقد كل نيّة، وأمام كلّ قضيّة والله تعالى يجعله ممن ينقلب إلى أهله وهو مسرور، وينصب له مع الأئمة المقسطين يوم القيامة عن يمين الرحمن منابر من نور بمنّه وكرمه.(11/221)
وهذه وصية خطيب أوردها في «التعريف»:
وليرق هذه الرّتبة التي رفعت له ذرا أعوادها، وقدّمت له من المنابر مقرّبات جيادها، وليصعد منها على أعلى درجة وليسعد منها بصهوة كأنما كانت له من بكرة يومه المشرق مسرجة، وليرع حقّ هذه الرتبة الشريفة، والذّروة التي ما أعدّت إلّا لإمام فرد مثله أو خليفة، وليقف حيث تخفق على رأسه الأعلام، ويتكلّم فتخرس الألسنة وتجفّ في فم الذّرا الأقلام، وليقرع المسامع بالوعد والوعيد، ويذكّر بأيام الله من {كََانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (1)، ويليّن القلوب القاسية وإن كان منها ما هو أشدّ قسوة من الحجارة والحديد، وليكن قد قدّم لنفسه قبل أن يتقدّم، وليسبل عليه درع التوبة قبل أن يتكلّم، وليجعل لكل مقام مقالا يقوم به على رؤوس الأشهاد، ويفوّق منه سهما لا يخطيء موقعه كلّ فؤاد، وليقم في المحراب مقام من يخشى ربّه، ويخاف أن يخطف الوجل قلبه، وليعلم أنّ صدفة ذلك المحراب ما انفلقت عن مثل درّته المكنونة، وصناديق الصّدور ما أطبقت على مثل جوهرته المخزونة، وليؤمّ بذلك الجمّ الغفير، وليتقدّم بين أيديهم فإنّه السّفير، وليؤدّ هذه الفريضة التي هي من أعظم الأركان، وأوّل الأعمال التي توضع في الميزان، وأقرب القرب التي يجمع إليها داعي كلّ أذان، وليقم بالصلاة في أوقاتها، وليرح بها الناس في أوّل ميقاتها، وليخفّف مع الإتمام، وليتحمّل عمّن وراءه فإنه هو الإمام، وعليه بالتقوى في عقد كل نيّة، وأمام كلّ قضيّة والله تعالى يجعله ممن ينقلب إلى أهله وهو مسرور، وينصب له مع الأئمة المقسطين يوم القيامة عن يمين الرحمن منابر من نور بمنّه وكرمه.
الوظيفة السادسة (الإمامة بالجوامع، والمساجد، والمدارس الكبار التي تصدر التولية عن السلطان في مثلها)
وهذه نسخة توقيع بالإمامة:
__________
(1) سورة ق / 37.(11/222)
أما بعد حمد الله على نعمه التي جعلت أيّامنا الشريفة تزيد أهل الفضائل إكراما، وتخص بالسيادة والتقديم من أنشأه الله تعالى قرّة أعين وجعله للمتّقين إماما، وقدّمه على أهل الطاعة الذين يبيتون لربّهم سجّدا وقياما، والشّهادة له بالوحدانيّة التي تكسو مخلصها جلالا وسّاما، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أمّ الناس وعلّمهم الصلاة وأظهر في إقامة الدّين مقالا محمودا ومقاما، وعلى آله وصحبه الذين تمسّكوا بسنّته توثّقا واعتصاما فإن خير الرتب في هذا العصر وفيما تقدّم رتبة الإمامة حيث تقدّم سيد البشر في محرابها على الأمة وأمّ، فاختارها من اتّبع الطريق المحمديّة وشرعها، وعلم سناءها ورفعها، فزاد بذلك سموّا إلى سموّه، وحصل على تضاعف الأجر ونموّه وهو فلان.
رسم لا زالت أيامه الشريفة تشمل ذوي الأصالة والصّدارة بجزيل فضلها، وعوائد إنعامه تجري بإتمام المعروف فتبقي الرتب الدينيّة بيد مستحقّها وتسارع إلى تخليد النعم عند أهلها أن يستمرّ فلان في كذا جاريا فيه على أجمل العادات إعانة له على اكتساب الأجور بما يعتمده من تأهيل معهد العبادات، ورعاية لتكثير المبارّ، وترجيحا لما اشتمل عليه من حسن النظر في كل إيراد وإصدار، وتوفيرا للمناجح التي عرفت من بيته الذي كم ألف منه فعل جميل وعمل بارّ، ووثوقا بأنه يعتمد في عمارة مساجد الله سبحانه وتعالى أنه تشهد به الملائكة المتعاقبون بالليل والنهار، والله تعالى يجعل النّعم عنده مؤبّدة الاستقرار إن شاء الله تعالى.
الوظيفة السابعة (التدريس، وموضوعه إلقاء المسائل العلمية للطّلبة)
وهذه نسخة توقيع بتدريس كتب به للقاضي عزّ الدين (1) ابن قاضي
__________
(1) هو عبد العزيز بن محمد بن ابراهيم، ابن جماعة الكناني، الحموي الأصل: الحافظ، قاضي القضاة. ولي قضاء الديار المصرية سنة 739هـ. جاور بالحجاز ومات بمكة سنة 767هـ.
(الأعلام: 4/ 26).(11/223)
القضاة بدر الدّين بن جماعة، عوضا عن والده، في جمادى الآخرة سنة ثلاثين وسبعمائة وهي:
الحمد لله متمّ فضله على كلّ أحد، ومقرّ النّعمة على كلّ والد وولد، الذي خصّ أولياءنا ببلوغ الغايات في أقرب المدد، واستصحاب المعروف فما ينزع منهم خاتم من يد إلّا ليد.
نحمده بأفضل ما يحمده به من حمد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة باقية على الأبد، ونصلي على سيدنا محمد نبيّه الذي جعل شريعته واضحة الجدد، قائمة بأعلام العلماء قيام الأمد، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين شبّههم في الهدى بالنّجوم وهم مثلها في كثرة العدد، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ نعمنا الشريفة لا تتحوّل، ومواهبنا الجزيلة [لا تزال لأوليائنا] (1) تتخوّل، وكرمنا يمهّد منازل السّعود لكل بدر يتنقّل، وشيمنا الشريفة ترعى الذّمم لكلّ من أنفق عمره في ولائها، وتحفظ ما لها من المآثر القديمة بإبقائها في نجباء أبنائها مع ما نلاحظه في استحقاق التقديم، وانتخاب من ترقّى منهم بين العلم والتعليم، وحصّل في الزمن القليل العلم الكثير، واستمدّ من نور والده وهو البدر المنير، وعلم بأنّه في الفضائل سرّ أبيه الذي شاع، وخليفته الذي لو لم ينصّ عليه لما انعقد [إلا] (2) عليه الإجماع، والواحد الذي ساد في رتبة أبيه وما خلت من مثله لا أخلى الله منه البقاع!.
وكان المجلس الساميّ القضائيّ، الفلانيّ، هو المراد بما قدّمنا من صفاته الجميلة، وتوسّمنا أنه لمعة البدر وهي لا تخفى لأنها لا تردّ العيون كليلة ورأى والده المشار إليه من استحقاقه ما اقتضى أن ينوّه بذكره، وينبّه على المعرفة
__________
(1) بياض بالأصل. والزيادة من هامش الطبعة الأميرية. والتخوّل: التعهد وحسن الرعاية.
(2) الزيادة يقتضيها المقام.(11/224)
بحقّ قدره، فآثر النّزول له عمّا باسمه من تدريس الزاوية بجامع مصر المحروسة ليقوم مقامه، ويقرّر فوائده وينشر أعلامه، ويعلم أنه قد حلّق في العلياء حتّى لحق البدر وبلغ تمامه فعلمنا أنّ البركة فيما أشار، وأنّ اليمن بحمد الله فيما رجّحه من الاختيار.
فلذلك رسم بالأمر الشريف زاد الله في شرفه، وجعل أقطار الأرض في تصرّفه أن يرتّب في هذا التدريس عوضا عن والده، أطال الله بقاءه على عادته وقاعدته إلى آخر وقت لأنه أحقّ من استحق قدره الرفيع التمييز، وأولى بمصر ممن سواه لما عرفت به مصر من العزيز ثم من عبد العزيز.
ونحن نوصيك أيّها العالم وفّقك الله بالمداومة على ما أنت بصدده، والمذاكرة للعلم فإنّك لا تكاثر العلماء إلا بمدده، والعمل بتقوى الله تعالى في كل قصد وتصدير، وتقريب وتقرير، وتأثيل وتأثير، وتقليل وتكثير، ونصّ وتأويل، وترتيب وترتيل، وفي كل ما تزداد به رفعتك، وتطير به سمعتك، ويحسن به الثناء على دينك المتين، ويقوم به الدليل على ما وضح من فضلك المبين.
واعلم بأنك قد أدركت بحمد الله تعالى وبكرمنا وبأبيك وباستحقاقك ما ارتدّ به كثير عن مقامك، ووصلت في البداية إلى المشيخة في زاوية إمامك فاعمل في إفادة الطّلبة بما يرفع الرافعيّ لك به الراية، ويأتمّ بك إمام الحرمين في النّهاية فقد أمسيت جار البحر فاستخرج جمانه، واجتهد لتصيب في فتاويك فإنّ أوّليك سهام رميها من كنانة وسبيل كل واقف عليه العمل بمقتضاه والاعتماد (1).
وهذه نسخة توقيع بتدريس زاوية الشافعيّ بالجامع العتيق أيضا، من إنشاء
__________
(1) أي إلى آخر ما يقال في مثل هذا المقام.(11/225)
المولى زين الدين بن الخضر موقّع الدّست، كتب به لتاج الدين محمد الإخنائي شاهد خزانة الخاص، بالنّيابة عن عمّه قاضي القضاة تقيّ الدين (1)
المالكيّ في أيام حياته، مستقلّا بعد وفاته، وهي:
أما بعد حمد الله على أن زان مجالس المدارس في أيامنا الشريفة بتاجها، وأقرّ بها من ذوي الإنابة من يستحقّ النيابة عن تقيّ قوّى الأحكام بإحكامها وإنتاجها، ورفع قدر بيت مبارك طالما اشتهر علم علمه وصدر عن صدره فكان مادّة مسرّة النفس وابتهاجها، وجعل عوارفنا ترعى الذّرّيّة الصالحة في عقبها وتولّي كلّ رتبة من أضحى لأهلها بوجاهته مواجها، والشهادة له بالوحدانيّة التي تنفي شرك الطائفة الكافرة ومعلول احتجاجها، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي استقامت به أمور هذه الأمة بعد اعوجاجها، وتشرّفت به علماؤها حتّى صارت كأنبياء بني إسرائيل بحسن استنباطها للجمل وجميل استخراجها، وعلى آله وصحبه الذين علموا وعملوا وأوضحوا لهذه الملّة قويم منهاجها فإنّ أولى الأولياء ببلوغ الأمل، وتعاهد مدارس العلم بصالح العمل وإظهار سرّ الفوائد للطالبين، وحلّ عقود مشكلها بجميل الاطّلاع وحسن اليقين، من حوى معرفة الفروع والأصول، وحاز من مذهبه المذهب خير محصول، ونشأ في حجر الفضائل، واقتدى بحكّام بيته الذين لهم في العلوم بمصر والشام أوضح البراهين وأقوى الدّلائل، وله في الآباء والأبوّة، الديانة التي بلغ بها من الإقبال مرجوّه طالما سارت أحكام عمّه أجله الله في الأقطار، وحكم فأبدى الحكم بين أيدينا أو في الأمصار، وله العفاف والتّقى والمآثر الجميلة وجميل الآثار، والفتاوى التي أوضح بها مشكلا، وفتح مقفلا، والفصل بين الخصوم بالحقّ المجتلى، والبركة التي لدولتنا الشريفة منها نصيب وافر، والتصميم الذي اقترن بغزارة العلم والوقار الظاهر فهو أعز الله أحكامه من العلماء العاملين، وله
__________
(1) وهو محمد بن أبي بكر بن عيسى المتوفى سنة 750هـ. انتقده ابن تيمية في كتابه «الردّ على الاخنائي». (الأعلام: 6/ 56).(11/226)
البشرى بما قاله أصدق القائلين، في النبإ الذي تتمّ به الزيادة والنماء: {إِنَّمََا يَخْشَى اللََّهَ مِنْ عِبََادِهِ الْعُلَمََاءُ} (1)
ولما كان المجلس السامي هو الذي استوجب التصدير لإلقاء الدروس، وأضحى مالكيّا مالكا أزمّة الفضائل حائزا من أثوابها أفخر ملبوس، وله بخزانة خاصّنا الشريف وإصطبلاته السعيدة الشهادة البيّنة، والكتابة التي هي العزّ الحاضر فلا يحتاج معها إلى إقامة بيّنة، والكفالة التي نطقت بها الأفواه مسرّة ومعلنة، والأمانة التي حذا فيها حذو أبيه واتّبع سننه.
فلذلك رسم لا زال يديم النّعم لأهلها، ويبقي المراتب الدينيّة لمن أضحى محلّه مناسبا لمحلّها، أن يستقر [في تدريس زاوية الشافعي] (2) فلينب عن عمّه في هذا التدريس، وليقف ما يسرّ النفوس من أثره النفيس، وليفد الطلبة على عادته، وليبد لهم من النّقول ما يظهر غزير مادّته، وليستنبط المسائل، وليجب بالأدلّة المسائل، وليرجّح المباحث، وليكن لوالده رحمه الله أحقّ وارث، وليستقلّ بهذه الوظيفة المباركة بعد وفاة عمه أبقاه الله تعالى، وليتزيّد من العلوم ليبلغ من صدقاتنا الشريفة آمالا، والله تعالى يسدّد له بالتقوى أقوالا وأفعالا، بمنّه وكرمه.
وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة الصّلاحيّة (3) المجاورة لتربة الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، كتب به لقاضي القضاة تقيّ الدين، ابن قاضي القضاة تاج الدّين ابن بنت الأعزّ. من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وهي:
__________
(1) فاطر / 28.
(2) بياض بالأصل. والزيادة من المقام.
(3) بناها صلاح الدين الأيوبي للشافعية. (الخطط التوفيقية: 1/ 71).(11/227)
الحمد لله شافي عيّ البحث بخير إمام شافعيّ، والآتي منه في الزّمن الأخير بمن لو كان في الصّدر الأوّل لأثنى على ورعه ودينه كلّ صحابيّ وتابعيّ، ومفيد الأسماع من وجيز قوله المحرّر ما لولا السبق لما عدل إلى شرح وجيز سواه الرافعيّ.
نحمده على نعم ألهمت وضع الأشياء في محلّها، واستيداعها عند أهلها، وتأتّيها بما يزيل الإشكال بانجذاب من شكله مناسب لشكلها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يتزيّن بها المقال، ويتبيّن بها الحقّ من الضّلال، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله ونبيّه موضّح الطّرق إلى الحق المبين، وناهجها إلى حيث مجتمع الهدى ومرتبع الدّين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تهدي إلى صراط الّذين، ورضي الله عن أصحابه، الذين منهم من جاء بالصّدق وصدّق به فقوي سبب الدين المتين، ومنهم من فرق (1) بين الحق والباطل وكان إمام المتقين وسمّيّ أمير المؤمنين، ومنهم من جهّز جيش العسرة فثبّت جأش المسلمين، ومنهم من أعطاه صلّى الله عليه وسلّم الراية فأخذها منه باليمين، ورضي الله عن بقيّة الصحابة أجمعين.
وبعد، فلما كان مذهب الإمام الشافعي «محمد بن إدريس» رضي الله عنه هو شهدة المتلفّظ، وكفاية المتحفّظ، وبهجة المتلحّظ وطراز ملبس الهدى، وميدان الاجتهاد الذي لا تقف أعنّة جياده عن إدراك المدى وقد تجملت ديار مصر من بركة صاحبه بمن تشدّ إليه الرّحال، وتفخر جبّانة هو فيها حالّ، وجيد هو بجواهر علومه حال، ومن يحسن إلى ضريحه المنيف الاستناد، وإذا قرئت كتبه لديه قيل ما أبعد هذا المرمى الأسنى! وما أقرب هذا الإسناد!، وما أسعد حلقة تجمع بين يدي جدثه يتصدّر فيها أجلّ حبر، ويتصدّى لنشر العلوم
__________
(1) الإشارة إلى عمر بن الخطاب الملقب بالفاروق. والمصدق هو أبو بكر الصديق، ومجهّز جيش العسرة هو عثمان بن عفان، ومن أعطاه النبي صلّى الله عليه وسلّم الراية هو علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم.(11/228)
بها من عرف بحسن السّيرة عند السّبر، ومن لولا خرق العوائد لأجاب بالشّكر والثناء عليه صاحب ذلك القبر كلما قال: «قال صاحب هذا القبر» حسن بهذه المناسبة أن لا ينتصب في هذا المنصب إلا من يحمد هذا السيد الإمام جواره، ومن يرضيه منه رضي الله عنه حسن العبارة، ومن يستحقّ أن يتصدّر بين نجوم العلماء بدارة تلك الخطّة فيقال قد جمّل الله به دارة هذا البدر وعمّر به من هذا المدرّس داره، الذي يفتقر إلى تنويل نعمه، وتنويه قلمه، من الأئمة كلّ غني، ويعجب ببلاغة خطبه، وصياغة كتبه، من يجتلي ومن يجتني، ومن يهنا المستفيدون من عذوبة ألفاظه وصفاء معانيه بالمورد الهني، ومن إذا سحّ سحابه الهطّال اعترف له بالهموّ والهمول المزني، والذي لسعد جدّه من أبيه ليث أكرم به من ليث وأكرم ببنيه من أشبال!، وأعزز به من فاتح أبواب إشكالات عجز عن فتحا القفّال!، ومن إذا قال سكت الناس، ومن إذا قام قعد كلّ ذي شماس، وإذا أخذ بالنصّ ذهب الاقتياس، وإذا قاس قيل هذا بحر المذهب المشار إليه بالأصابع في مصره جلالة ولا ينكر لبحر المصر الإشارة بالأصابع ولا القياس، ومن يزهو بتقى قلبه ورقى جوابه لسان التعويل ولسان التعويذ، كما يميس بإحاطته وحياطته قلم الفتوى وقلم التنفيذ، ومن يفخر به كلّ عالم مفيد إذا قال: أنا بين يديه طالب وأنا له تلميذ، ومن حيثما التفتّ وجدت له سؤددا جما، وكيفما نظرت رأيت له من هنا وزارة، ومن هنا خطابة، ومن هنا مشيخة، ومن هنا تدريسا ومن هنا حكما!!! فهو الأصل ومن سواه فروع، وهم الأثماد وهو الينبوع، وهو مجموع السيادة، المختار منه الإفادة، فما أحسنه من اختيار وما أتمّه من مجموع. وكان قاضي القضاة، سيّد العلماء، رئيس الأصحاب، مقتدى الفرق، قدوة الطوائف، الصاحب تقيّ الدين «عبد الرحمن» ولد الصاحب قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز أدام الله شرفه، ورحم سلفه، وهو منتهى رغبة الراغب، ومشتهى منية الطالب، ومن إذا أضاءت ليالي النّفوس بأقمار فتاويه قيل (بياض العطايا في سواد المطالب)، ومن تتّفق الآراء على أنه لسنّ الكهولة شيخ المذاهب، ومن عليه يحسن الاتفاق، وبه يجمل
الوفاق، وإذا ولي هذا المنصب ابتهج بولايته إيّاه مالك في المدينة وأبو حنيفة وأحمد رضي الله عنهم في العراق، واهتزّت به وبمجاورة فوائده من ضريح إمامه جانب ذلك القبر طربا، وقالت «الأمّ» لقد أبهجت رحم الله سلفك بجدّك وإبائك جدّا وأبا، ولقد استحقّيت أن يقول لك منصب سلفك رضي الله عنهم: أهلا وسهلا ومرحبا، وهذه نسمات صبا، كانت الإفادة هنالك تعرفها منك من الصّبا.(11/229)
بها من عرف بحسن السّيرة عند السّبر، ومن لولا خرق العوائد لأجاب بالشّكر والثناء عليه صاحب ذلك القبر كلما قال: «قال صاحب هذا القبر» حسن بهذه المناسبة أن لا ينتصب في هذا المنصب إلا من يحمد هذا السيد الإمام جواره، ومن يرضيه منه رضي الله عنه حسن العبارة، ومن يستحقّ أن يتصدّر بين نجوم العلماء بدارة تلك الخطّة فيقال قد جمّل الله به دارة هذا البدر وعمّر به من هذا المدرّس داره، الذي يفتقر إلى تنويل نعمه، وتنويه قلمه، من الأئمة كلّ غني، ويعجب ببلاغة خطبه، وصياغة كتبه، من يجتلي ومن يجتني، ومن يهنا المستفيدون من عذوبة ألفاظه وصفاء معانيه بالمورد الهني، ومن إذا سحّ سحابه الهطّال اعترف له بالهموّ والهمول المزني، والذي لسعد جدّه من أبيه ليث أكرم به من ليث وأكرم ببنيه من أشبال!، وأعزز به من فاتح أبواب إشكالات عجز عن فتحا القفّال!، ومن إذا قال سكت الناس، ومن إذا قام قعد كلّ ذي شماس، وإذا أخذ بالنصّ ذهب الاقتياس، وإذا قاس قيل هذا بحر المذهب المشار إليه بالأصابع في مصره جلالة ولا ينكر لبحر المصر الإشارة بالأصابع ولا القياس، ومن يزهو بتقى قلبه ورقى جوابه لسان التعويل ولسان التعويذ، كما يميس بإحاطته وحياطته قلم الفتوى وقلم التنفيذ، ومن يفخر به كلّ عالم مفيد إذا قال: أنا بين يديه طالب وأنا له تلميذ، ومن حيثما التفتّ وجدت له سؤددا جما، وكيفما نظرت رأيت له من هنا وزارة، ومن هنا خطابة، ومن هنا مشيخة، ومن هنا تدريسا ومن هنا حكما!!! فهو الأصل ومن سواه فروع، وهم الأثماد وهو الينبوع، وهو مجموع السيادة، المختار منه الإفادة، فما أحسنه من اختيار وما أتمّه من مجموع. وكان قاضي القضاة، سيّد العلماء، رئيس الأصحاب، مقتدى الفرق، قدوة الطوائف، الصاحب تقيّ الدين «عبد الرحمن» ولد الصاحب قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز أدام الله شرفه، ورحم سلفه، وهو منتهى رغبة الراغب، ومشتهى منية الطالب، ومن إذا أضاءت ليالي النّفوس بأقمار فتاويه قيل (بياض العطايا في سواد المطالب)، ومن تتّفق الآراء على أنه لسنّ الكهولة شيخ المذاهب، ومن عليه يحسن الاتفاق، وبه يجمل
الوفاق، وإذا ولي هذا المنصب ابتهج بولايته إيّاه مالك في المدينة وأبو حنيفة وأحمد رضي الله عنهم في العراق، واهتزّت به وبمجاورة فوائده من ضريح إمامه جانب ذلك القبر طربا، وقالت «الأمّ» لقد أبهجت رحم الله سلفك بجدّك وإبائك جدّا وأبا، ولقد استحقّيت أن يقول لك منصب سلفك رضي الله عنهم: أهلا وسهلا ومرحبا، وهذه نسمات صبا، كانت الإفادة هنالك تعرفها منك من الصّبا.
فالحمد لله على أن أعطى قوس ذلك المحراب باريها، وخصّ بشقّ سهامها من لا يزال سعده مباريها، وجمّل مطلع تلك السماء ببدر كم باتت عليه الدّرر تحسد دراريها، وألهم حسن الاختيار أن يجري القلم بما يحسن بالتوقيع الشريف موقعه، ويجمل في أثناء الطروس وضعه وموضعه.
فرسم بالأمر الشريف العاليّ المولويّ، السلطانيّ: أجراه الله بالصواب وكشف بارتيائه كلّ ارتياب، ولا زال يختار وينتقي للمناصب الدّينيّة كلّ عالم بأحكام السنّة والكتاب أن يفوّض إليه تدريس المدرسة الصلاحيّة الناصريّة المجاورة لضريح الإمام الشافعيّ بالقرافة رضي الله عنه. فليخوّل ولينوّل كلّ ذي استفادة، وليجمّل منه بذلك العقد الثمين من علماء الدّين بأفخم واسطة تفخر بها تلك القلادة، وليذكر من الدروس ما يبهج الأسماع، ويرضي الانتجاع، ويجاد به الانتفاع، ويحتلبه من أخلاف الفوائد ارتضاء الارتضاع، ويتناقل الرّواة فوائده إلى علماء كل أفق من البقاع، وليقل فإنّ الأسماع لفوائده منصتة، والأصوات لمباحثه خاشعة والقلوب لمهابته مخبتة (1)، ولينهض قويّ المسائل بما يحصّل لها أعظم انتعاش، وليمت ما أماته إمامه من البدع فيقال به له: هذا محمد بن إدريس مذ قمت أنت عاش، وليسمع بعلومه من به من الجهل صمم، وليستنطق من به من الفهاهة (2) بكم، وليحقّق عند الناس
__________
(1) أي خاشعة متواضعة.
(2) الفهاهة: العيّ.(11/230)
بتعصّبه لهذا الإمام أنه قد قام بالتنويه به الآن الحاكم ابن الحاكم أخو الحاكم كما قام به فيما سلف بنو عبد الحكم.
وأما غير ذلك من الوصايا فهو بحمد الله صاحب إلهامها، وجالب أقسامها، وجهينة (1) أخبارها، ومطلع أنوارها، فلا يعاد عليه ما منه يستفاد، ولا ينثر عليه درّ هو منظّمه في الأجياد، والله تعالى يعمّر بسيادته معالم الدين وأكنافه، ويزيّن بفضله المتين أوساط كلّ مصر وأطرافه، ويضيف إليه من المستفيدين من بإرفاقه وإشفاقه يكون عيشه خفضا بتلك الإضافة، ويجعله لا يخصّص حنوّه بمعهد دون معهد ولا بمسافة دون مسافة، ويبقيه ومنفعته إلى سارية سارية الإطافة واللّطافة، وألطافه بهذه الولاية تقول لكلّ طالب في القرافة (2) الق رافه.
قلت: ولما توفّي قاضي القضاة بدر الدين بن أبي البقاء تغمده الله تعالى برحمته وكان من جملة وظائفه تدريس هذه المدرسة، كان السلطان قد سافر إلى الشام في بعض الحركات، فسافر ابنه أقضى القضاة جلال الدين حتّى أدرك السلطان بالطريق، على القرب من غزّة، فولّاه الوظيفة المذكورة مكان أبيه، وكان القاضي نور الدين بن هلال الدولة الدّمشقيّ حاضرا هناك، فأشار إليه القاضي فتح الدين فتح الله كاتب السر الشريف عامله الله بلطفه الخفيّ بإنشاء صدر لتوقيعه، يسطر به للعلامة الشريفة السلطانية، فأنشأ له سجعتين، هما:
الحمد لله الذي أظهر جلال العلماء الشافعية بحضرة إمامهم، وأقام سادات الأبناء مقام آبائهم في بثّ علومهم وصلاتهم وصيامهم. ولم يجاوز ذلك إلى
__________
(1) في المثل «عند جهينة الخبر اليقين» و «عند جفينة الخبر اليقين» يضرب مثلا لمعرفة الخبر والسؤال عنه. (جمهرة الأمثال: 2/ 44والمستقصى: 2/ 169).
(2) كانت مقبرة أهل مصر. وكان فيها أبنية جليلة ومحالّ واسعة وسوق قائمة ومشاهد للصالحين وترب للأكابر مثل ابن طولون والماذرائي والشافعي. (معجم البلدان: 4/ 317).(11/231)
غيره، فسطّر التوقيع بهاتين السجعتين، وعلّم عليه العلامة السلطانية.
وكان من قول نور الدين بن هلال الدولة للقاضي جلال الدّين المذكور:
إنّ هذا التوقيع يبقى أبيض: فإنه ليس بالديار المصرية من ينهض بتكملته على هذا الأسلوب. فسمع القاضي كاتب السرّ كلامه، فكتب لي بتكملته على ظهره، وعاد به القاضي جلال الدين فأعطانيه، وأخبرني بكلام ابن هلال الدولة وما كان من قوله، فتلكّأت عن ذلك، ثم لم أجد بدّا من إكماله وإن لم أكن من فرسان هذا الميدان، فأنشأت له على تينك السجعتين ما أكملته به، فجاء منه تلو السجعتين السابقتين اللتين أنشأهما ابن هلال الدولة:
وخصّ برياسة العلم أهل بيت رأت كهولهم في اليقظة ما يتمنّى شيوخ العلماء أن لو رأوه في منامهم.
وجاء من وسطه:
اقتضى حسن الرأي الشريف أن ننوّه بذكره، ونقدّمه على غيره ممّن رام هذا المقام فحجب دونه {وَاللََّهُ غََالِبٌ عَلى ََ أَمْرِهِ} (1)
وجاء في آخره:
والله تعالى يرقّيه إلى أرفع الذّرا وهذه الرتبة وإن كانت بدايته فهي نهاية غيره (وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا).
وقد أعوزني وجدان النسخة عند إرادة إثباتها في هذا التأليف لضياع مسودّتها ولم يحضرني منها غير ما ذكرته. وفيما تقدّم من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر من توقيع القاضي تقيّ الدين ابن بنت الأعز ما لا ينظر مع وجوده إلى غيره.
__________
(1) يوسف / 21.(11/232)
وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة الصلاحية بمصر، المختصّة بالمالكية، المعروفة بالقمحية، بمصر المحروسة، أنشأته لقاضي القضاة جمال الدين الأقفهسيّ (1)، وهي:
الحمد لله الذي زيّن معالم المدارس من أعلام العلماء بجمالها، وميّز مراتب الكملة بإجراء سوابق الأفكار في ميادين الدّروس وفسيح مجالها، وعمّر معاهد العلم بأجلّ عالم إذا ذكرت وقائع المناظرة كان رأس فرسانها وريّس رجالها، وناط مقاصد صلاح الدين بأكمل حبر إذا أوردت مناقبه المأثورة تمسّك أهل الدّيانة منها بوثيق حبالها.
نحمده على اختيار الجواهر والإعراض عن العرض، والتوفيق لإدراك المرامي وإصابة الغرض.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي خصّ أهل العلم بكريم حبائه، وشرّف مقامهم في الخليقة فجعلهم في حمل الشريعة ورثة أنبيائه، شهادة تعذب لقائلها بحسن الإيراد وردا، وتجدّد لمنتحلها بمواطن الذّكر عهدا فيتّخذ بها عند الرحمن عهدا، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل نبيّ علم وعلّم، وأكرم رسول فصّل الأحكام إذ شرع وندب وأوجب وحلّل وحرّم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين عنوا بتفسير كتاب الله تعالى فأدركوا دقيق معانيه، واهتمّوا بالحديث رواية ودراية ففازوا بتأسيس فقه الدّين وإقامة مبانيه، صلاة تحيط من بحار العلم بزاخرها، وتأخذ من الدّروس بطرفيها فتقارن الحمد في أوّلها وتصحب الدعاء في آخرها، ما تتبّع بالمنقول مواقع الأثر، وعوّل في المعقول على إجالة الفكر وإجادة النّظر، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى ما صرفت النفوس إليه هممها، وأخلصت فيه نيّتها
__________
(1) استقرّ قاضي القضاة المالكية في الثاني عشر من رمضان سنة 817هـ عوضا عن القاضي شمس الدين الأموي بحكم عزله. وكان ذلك في سلطنة الملك المؤيد شيخ. (نزهة النفوس والأبدان:
2/ 343).(11/233)
وخلّصت من تبعاته ذممها، وتبعت فيه آثار من سلف من الملوك الكرام، وأعارته كلّيّ نظرها وقامت بواجبه حقّ القيام أمر المدارس التي هي مسقط حجر الاشتغال بالعلم ومستقرّ قاعدته، وقطب فلك تطلابه ومحيط دائرته، وميدان فرسان المشايخ ومدار رجالها، ومورد ظماء الطّلبة ومحطّ رحالها لا سيّما المدارس الأيّوبية التي أسّس على الخير بناؤها، وكان عن صلاح الدين منشؤها فتألّق برقها واستطار ضياؤها.
ومن أثبتها وثيقة، وأمثلها في الترتيب طريقة، المدرسة القمحية بالفسطاط الآخذة من وجوه الخير بنطاقها، والمخصوص بالسادة المالكيّة امتداد رواقها إن اعتبرت رعاية المذاهب قالت: مالك وما مالك، وإن عملت حسبة المدارس في البرّ، كانت لها فذالك قد رتّب بها أربعة دروس فكانت لها كالأركان الأربعة، وجعلت صدقتها الجارية برّا فكانت أعظم برّا وأعمّ منفعة.
ولما كان المجلس العاليّ، القاضويّ، الشيخيّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، الأفضليّ، الأكمليّ، الأوحديّ، البليغيّ، الفريديّ، المفيديّ، النّجيديّ، القدويّ، الحجّيّ، المحقّقّ، الإماميّ، الجماليّ: جمال الإسلام والمسلمين، شرف العلماء العاملين، أوحد الفضلاء المفيدين، قدوة البلغاء زين الأمة، أوحد الأئمّة، رحلة الطالبين، فخر المدرّسين، مفتي الفرق لسان المتكلمين، حجّة المناظرين، خالصة الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين، أبو محمد «عبد الله الأقفهسيّ» المالكيّ ضاعف الله تعالى نعمته هو عين أعيان الزمان، والمحدّث بفضله في الآفاق وليس الخبر كالعيان ما ولي منصبا من المناصب إلا كان له أهلا، ولا أراد الانصراف من مجلس علم إلا قال له مهلا، ولا رمى إلى غاية إلا أدركها، ولا أحاط به منطقة طلبة إلا هزّها بدقيق نظره للبحث وحرّكها، إن أطال في مجلسه أطاب، وإن أوجز قصّر محاوره عن الإطالة وأناب، وإن أورد سؤالا عجز مناوئه عن جوابه، أو فتح بابا في المناظرة أحجم مناظره عن سدّ بابه، وإن ألمّ ببحث أربى فيه وأناف، وإن أفتى بحكم اندفع عنه المعارض وارتفع فيه الخلاف فنوادره المدوّنة فيها البيان والتحصيل،
ومقدّماته المبسوطة إجمالها يغني عن التفصيل، ومشارقه النيّرة لا يأفل طالعها، ومداركه الحسنة لا يسأم سامعها، وتهذيبه المهذّب جامع الأمّهات، وجواهره الثمينة لا تقاوم في القيمة ولا تضاهى في الصّفات اقتضى حسن الرأي الشريف أن ننوّه بذكره، ونقدّمه على غيره، ممن حاول ذلك فامتنع عليه {وَاللََّهُ غََالِبٌ عَلى ََ أَمْرِهِ} (1)
فلذلك رسم بالأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السّلطانيّ، الملكيّ، الناصريّ، الزينيّ لا زالت مقاصده الشريفة في مذاهب السّداد ذاهبة، ولأغراض الحقّ والاستحقاق صائبة أن يستقرّ المجلس العاليّ المشار إليه في تدريس المدرسة الصّلاحية بمصر المحروسة المعروفة بالقمحية عوضا عن فلان الفلانيّ، على عادة من تقدّمه.(11/234)
ولما كان المجلس العاليّ، القاضويّ، الشيخيّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، الأفضليّ، الأكمليّ، الأوحديّ، البليغيّ، الفريديّ، المفيديّ، النّجيديّ، القدويّ، الحجّيّ، المحقّقّ، الإماميّ، الجماليّ: جمال الإسلام والمسلمين، شرف العلماء العاملين، أوحد الفضلاء المفيدين، قدوة البلغاء زين الأمة، أوحد الأئمّة، رحلة الطالبين، فخر المدرّسين، مفتي الفرق لسان المتكلمين، حجّة المناظرين، خالصة الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين، أبو محمد «عبد الله الأقفهسيّ» المالكيّ ضاعف الله تعالى نعمته هو عين أعيان الزمان، والمحدّث بفضله في الآفاق وليس الخبر كالعيان ما ولي منصبا من المناصب إلا كان له أهلا، ولا أراد الانصراف من مجلس علم إلا قال له مهلا، ولا رمى إلى غاية إلا أدركها، ولا أحاط به منطقة طلبة إلا هزّها بدقيق نظره للبحث وحرّكها، إن أطال في مجلسه أطاب، وإن أوجز قصّر محاوره عن الإطالة وأناب، وإن أورد سؤالا عجز مناوئه عن جوابه، أو فتح بابا في المناظرة أحجم مناظره عن سدّ بابه، وإن ألمّ ببحث أربى فيه وأناف، وإن أفتى بحكم اندفع عنه المعارض وارتفع فيه الخلاف فنوادره المدوّنة فيها البيان والتحصيل،
ومقدّماته المبسوطة إجمالها يغني عن التفصيل، ومشارقه النيّرة لا يأفل طالعها، ومداركه الحسنة لا يسأم سامعها، وتهذيبه المهذّب جامع الأمّهات، وجواهره الثمينة لا تقاوم في القيمة ولا تضاهى في الصّفات اقتضى حسن الرأي الشريف أن ننوّه بذكره، ونقدّمه على غيره، ممن حاول ذلك فامتنع عليه {وَاللََّهُ غََالِبٌ عَلى ََ أَمْرِهِ} (1)
فلذلك رسم بالأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السّلطانيّ، الملكيّ، الناصريّ، الزينيّ لا زالت مقاصده الشريفة في مذاهب السّداد ذاهبة، ولأغراض الحقّ والاستحقاق صائبة أن يستقرّ المجلس العاليّ المشار إليه في تدريس المدرسة الصّلاحية بمصر المحروسة المعروفة بالقمحية عوضا عن فلان الفلانيّ، على عادة من تقدّمه.
فليتلقّ ذلك بالقبول، ويبسط في مجالس العلم لسانه فمن كان بمثابته في الفضل حقّ له أن يقول ويطول وملاك الأمر تقوى الله تعالى فهي خير زاد، والوصايا كثيرة وعنه تؤخذ ومنه تستفاد والله تعالى يبلّغه من مقاصده الجميلة غاية الأمل، ويرقّيه من هضاب المعالي إلى أعلى مراتب الكمال وقد فعل والاعتماد على الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع أيضا بتدريس المدرسة الصلاحيّة المذكورة، أنشأته للقاضي شمس الدين محمد ابن المرحوم شهاب الدين أحمد الدّفريّ المالكيّ، في شعبان سنة خمس وثمانمائة، وهو:
الحمد لله مطلع شمس الفضائل في سماء معاليها، ومبلّغ دراريّ الذّراريّ النبيهة الذّكر بسعادة الجدّ غاية غيرها في مباديها، وجاعل صلاح الدّين أفضل
__________
(1) يوسف / 21.(11/235)
قصد فوّقت العناية سهامها بأصابة غرضه في مراميها، ومجدّد معالم المدارس الدارسة بخير نظر يقضي بتشييد قواعدها وإحكام مبانيها.
نحمده على أن صرف إلى القيام بنشر العلم الشريف اهتمامنا، وجعل بخيرته العائدة إلى التوفيق في حسن الاختيار اعتصامنا.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مفيض نتائج الأفكار من وافر إمداده، ومخصّص أهل التحقيق بدقيق النّظر تخصيص العامّ بقصره على بعض أفراده، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أوفر البرية في الفضل سهما، والقائل تنويها بفضيلة العلم: «لا بورك لي في صبيحة يوم لا أزداد فيه علما» صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حلّوا من الفضل جواهره الثمينة، والتابعين وتابعي التابعين الذين ضربت آباط الإبل منهم إلى عالم المدينة (1)
وبعد، فإنّ أولى ما صرفت إليه الهمم، وبرئت بتأدية حقّه الذّمم، وغدت النفوس بالنظر في مصالحه مشتغلة، والفكر لشرف محلّه منه إلى غيره منتقلة، النظر في أمر المدارس التي جعلت للاشتغال بالعلم سببا موصولا، ولطلبته ربعا لا يزال بمجالس الذكر مأهولا لا سيّما المدارس التي قدم في الإسلام عهدها، وعذب باستمرار المعروف على توالي الأيّام وردها.
ولما كانت المدرسة الصّلاحية بفسطاط مصر المحروسة قد أسّس على التقوى بنيانها، ومهّدت على الخير قواعدها وأركانها، واختصّت طائفة المالكية منها بالخصّيصة التي أغنى عن باطن الأمر عنوانها، وكان المجلس الساميّ هو الذي خطبته الرّتب الجليلة لنفسها، وعيّنته لهذه الوظيفة فضائله التي قد آن ولله الحمد بزوغ شمسها، وعهدت منه المعاهد الجليلة حسن النظر فتاقت في يومها إلى ما ألفت منه في أمسها اقتضى حسن الرأي الشريف أن نفرده بهذه الوظيفة التي يقوم إفراده فيها مقام الجمع، ونجمع له من طرفيها ما يتّفق على حسنه
__________
(1) المراد هو الإمام مالك بن أنس.(11/236)
البصر ويقضي بطيب خبره السّمع.
فلذلك رسم بالأمر الشريف، العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الناصريّ، الزّينيّ: لا زال يقيم للدّين شعارا، ويرفع لأهل العلم الشريف مقدارا أن يستقرّ في الوظيفة المذكورة لما اشتهر من علمه وديانته، وبان من عفّته المشهورة ونزاهته، واتّصف به من الإفادة، وعرف عنه من نشر العلوم في الإبداء والإعادة، وشاع من طريقته المعروفة في إيضاحه وبيانه، وذاع من فوائده التي قدّمته على أبناء زمانه، ورفعته إلى هذه المرتبة باستحقاقه على أقرانه.
فليباشر تدريسها مظهرا من فوائده الجليلة ما هو في طيّ ضميره، مضمرا من حسن بيانه ما يستغنى بقليله عن كثيره، مقرّبا إلى أذهان الطلبة بتهذيب ألفاظه الرائقة ما يفيد، موردا من علومه المدوّنة ما يجمع له بين نوادر المقدّمات ومدارك التمهيد، موفّيا نظرها بحسن التدبير حقّ النظر، موفّرا رزقها بما يصدّق الخبر فيه الخبر، قاصدا بذلك وجه الله الذي لا يخيّب لراج أملا، معاملا فيه الله معاملة من يعلم أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا. وملاك الوصايا تقوى الله تعالى فليجعلها إمامه، ويتخيّلها في كل الأحوال أمامه والله تعالى يسدّده في قوله وعمله، ويبلّغه من رضاه نهاية سؤله وغاية أمله، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بالتدريس بقبّة الصالح (1)، أنشأته لقاضي القضاة جمال الدين «يوسف البساطيّ» بعد أن كتب له بها مع قضاء القضاة المالكية، في العشر الأخير من شعبان سنة أربع وثمانمائة، وهي:
الحمد لله الذي جعل للعلم جمالا تتهافت على دركه محاسن الفضائل،
__________
(1) قال المقريزي: «هذا المسجد كان بخط جامع القرافة المعروف بجامع الأولياء عرف بمسجد بني عبيد الله وبمسجد القبّة وبمسجد العزاء والذي بناه الصالح طلائع بن رزيك وزير مصر. وقد أدركته عامرا إلى ما بعد سنة ثمانمائة». (خطط المقريزي: 2/ 447).(11/237)
وتتوارد على ثبوت محامده المتواردة قواطع الدلائل، وتحقّق شواهد الحال من فضله ما يتلمّح فيه من لوائح المخايل.
نحمده على نعمه التي ما استهلّت على وليّ فأقلع عنه غمامها، ولا استقرّت بيد صفيّ فانتزعت من يده حيث تصرّف زمامها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تزهر بمعالم الدّين غروسها، وتينع بثمار الفوائد المتتابعة دروسها، وأن سيدنا محمدا عبده ورسوله أشرف الأنبياء قدرا، وأوّلهم في علوّ المرتبة مكانا وإن كان آخرهم في الوجود عصرا صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الحائزين بقربه أفخر المناقب، والفائزين من درجة الفضل بأرفع المراتب، صلاة تكون لحلق الذّكر نظاما، ولأوّلها افتتاحا ولآخرها ختاما، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ من شيمنا الشريفة، وسجايانا الزاكية المنيفة، أنّا إذا منحنا منحا لا نستعيده، وإذا أعطينا عطاء لا ننقصه بل نزيده، وإذا قرّبنا وليّا لا نقصيه، وإذا أنعمنا على صفيّ إنعاما لا نعدّه عليه ولا نحصيه.
ولمّا كان تدريس المدرسة المالكية بقبّة الصالح من أعلى دروسهم قدرا، وأرفعها لدى التحقيق ذكرا، وأعظمها إذا ذكرت الدروس فخرا إذ بمجال جداله تنفطر المرائر، وبميدان مباحثه تشتهر البلق من مضمرات الضمائر، وبسوق مناظرته يتميز النّضار عن الشّبه، وبمحكّ مطارحته تتبيّن الحقائق من الشّبه، وبمظانّ مجلسه يعرف العالي والسافل، وبمعركة فرسانه يعرف من المفضول والفاضل ومن ثمّ لا يليه من علمائهم إلا الفحول، ولا يتصدّى لتدريسه إلا من أمسى بحسام لسانه على الأقران يصول ولم يزل في جملة الوظائف المضافة لقضاء القضاة في الأوّل والآخر، تابعا لمنصب الحكم في الولاية كلّ زمن إلا في القليل النادر وكان المجلس العاليّ، القاضويّ، الكبيريّ (إلى آخر ألقابه) أدام الله تعالى نعمته قد اشتملت ولايته عليه لابتداء الأمر استحقاقا، وحفظه كرمنا عليه فلم يجد الغير إليه استطراقا اقتضى حسن الرأي
الشريف أن نتبع ذلك بولاية ثانية تؤكّد حكم الولاية الأولى، ونردفه بتوقيع يجمع له شرف القدمة والجمع ولو بوجه أولى.(11/238)
ولمّا كان تدريس المدرسة المالكية بقبّة الصالح من أعلى دروسهم قدرا، وأرفعها لدى التحقيق ذكرا، وأعظمها إذا ذكرت الدروس فخرا إذ بمجال جداله تنفطر المرائر، وبميدان مباحثه تشتهر البلق من مضمرات الضمائر، وبسوق مناظرته يتميز النّضار عن الشّبه، وبمحكّ مطارحته تتبيّن الحقائق من الشّبه، وبمظانّ مجلسه يعرف العالي والسافل، وبمعركة فرسانه يعرف من المفضول والفاضل ومن ثمّ لا يليه من علمائهم إلا الفحول، ولا يتصدّى لتدريسه إلا من أمسى بحسام لسانه على الأقران يصول ولم يزل في جملة الوظائف المضافة لقضاء القضاة في الأوّل والآخر، تابعا لمنصب الحكم في الولاية كلّ زمن إلا في القليل النادر وكان المجلس العاليّ، القاضويّ، الكبيريّ (إلى آخر ألقابه) أدام الله تعالى نعمته قد اشتملت ولايته عليه لابتداء الأمر استحقاقا، وحفظه كرمنا عليه فلم يجد الغير إليه استطراقا اقتضى حسن الرأي
الشريف أن نتبع ذلك بولاية ثانية تؤكّد حكم الولاية الأولى، ونردفه بتوقيع يجمع له شرف القدمة والجمع ولو بوجه أولى.
فلذلك رسم بالأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الناصريّ، الزّينيّ لا زال يعتمد في مشاهد الملوك أتمّ المصالح، ويخصّ الصالح منهم بمزيد النّظر حتّى يقال ما أحسن نظر الناصر في مصالح الصّالح! أن يستمرّ المجلس العالي المشار إليه على ما بيده من الولاية الشريفة بالتدريس بقبّة الصالح المذكورة، ومنع المعارض وإبطال ما كتب به وما سيكتب ما دام ذلك في يده، على أتمّ العوائد وأكملها، وأحسن القواعد وأجملها.
فليتلقّ ما فوّض إليه بكلتا يديه، ويشكر إحساننا الشريف على هذه المنحة فإنّها نعمة جديدة توجب مزيد الشكر عليه، وليتصدّر بهذا الدرس الذي لم تزل القلوب تتقطّع على إدراكه حسرات، ويتصدّ لإلقاء فوائده التي إذا سمعها السامع قال: هنا تسكب العبرات، ويبرز لفرسان الطّلبة من (1). صدره من كمينه، ويفض على جداولهم الجافّة ماسحّ به فكره من ينابيع معينه، مستخرجا لهم من قاموس قريحته درر ذلك البحر الزاخر، مظهرا من مكنون علمه ما لا يعلم لمدّه أوّل ولا يدرك لمداه آخر، وينفق من ذخائر فضله ما هو بإنفاقه مليّ، متفقّدا بفضل غنائه من هو عن فرائده المربحة غير غنيّ، مقرّرا للبحث تقريرا يزول معه الالتباس، مسندا فروعه النامية إلى أثبت الأصول من الكتاب والسنّة والإجماع والقياس، معتمدا لما عليه جادّة مذهبه في الترجيح، جاريا على ما ذهب إليه جهابذة محقّقيه من التصحيح، مقبلا بطلاقة وجهه في درسه على جماعته، باذلا في استمالتهم طاقة جهده محسنا إليهم جهد طاقته، مربّيا لهم كما يربّي الوالد الولد، موفّيا من حقوقهم في التعليم ما يبقى له ذكره على الأبد، منمّيا ناشئتهم بالتدريب الحسن تنمية الغروس، جاهدا في ترقّيهم بالتدريج حتّى يؤهّل من لم يكن تظنّ فيه أهلية الطلب لأن يتصدّى للفتاوى وإلقاء الدّروس
__________
(1) بياض بالأصل بقدر كلمة.(11/239)
سالكا من مناهج التقوى أحسن المسالك، موردا من تحقيقات مذهبه ما إذا لمحه اللّامح لم يشكّ أنه لزمام المذهب مالك والله تعالى يجريه على ما ألفه من موارد إنعامه، ويمتّع [هذه الرتبة] (1) السنيّة: تارة بمجالس دروسه وتارة بمجالس أحكامه والاعتماد.
وهذه نسخة توقيع بتدريس الحديث بالجامع الحاكميّ (2)، من إنشاء الشّهاب «محمود الحلبيّ» للشيخ قطب الدين «عبد الكريم» (3) وهي:
الحمد لله الذي أطلع في أفق السنّة الشريفة من أعلام علمائها قطبا، وأظهر في مطالعها من أعيان أئمّتها نجوما أضاء بهم الوجود شرقا وغربا، وأقام لحفظها من أئمة أعلامها أعلاما أحسنوا عن سندها دفاعا وأجملوا عن متونها ذبّا، وشرّف بها أهلها فكلّما بعدت راحلتهم في طلبها ازدادوا من الله قربا، واختار لحملها أمناء شغفت محاسنهم قلوب أهل الفرق على اختلافها حبّا، وسلكوا باتباعها سنن السّنن فأمنوا أن تروّع لهم الشّبه سربا، وألهمنا من تعظيم هذه الطائفة ما مهّد لهم في ظل تقرّبنا إليه مقاما كريما ومنزلا رحبا، وعصم آراءنا في الارتياد له من الخلل فلا نختار له إلا من تسرّ باختياره طلبة وتغبط بتعيينه أئمة ونرضي بارتياده ربّا.
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) كان هذا الجامع خارج باب الفتوح، أحد أبواب القاهرة. أسسه العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله معد سنة 380هـ. ثم لما وسّع أمير الجيوش بدر الجمالي القاهرة وجعل أبوابها حيث هي اليوم صار الجامع من داخلها وكان يعرف أولا بجامع الخطبة، ويقال له: الجامع الأنور. وفي سنة 401هـ أكمله ولده الحاكم بأمر الله. وقد جدد بناء هذا الجامع أكثر من مرّة. (الخطط التوفيقية: 4/ 167وخطط المقريزي: 2/ 277).
(3) هو الشيخ قطب الدين عبد الكريم بن تقي الدين محمد بن الحافظ قطب الدين عبد الكريم.
توفي يوم الثامن من رجب سنة 809هـ. كان يروي كتبا كثيرة في الحديث. (نزهة النفوس:
2/ 236).(11/240)
نحمده على نعمه التي صانت هذه الرتبة السنيّة بأكفائها، وزانت هذه المرتبة الشريفة بمن لم تمل عينه في تأثيل قواعدها إلى إغفائها، وجعلت هذه الدرجة العليّة فلكا تشرق فيه لأئمّة الحديث أنوار علوم تفنى الدّهور دون إطفائها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مجادل عن سنّته الشريفة بألسنة أسنّته، مجالد عن كلمتها العالية بقبض معاقد سيوفه وإطلاق أعنّته، باعث بالجهاد دعوتها إلى كلّ قلب كان عن قبولها في حجب أكنّته، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أوتي جوامع الكلم، ولوامع السّنّة التي من اعتصم بها عصم ومن سلّم بها سلم فهي مع كتاب الله أصل شرعه القويم، وحبل حكمه الذي لا تتمكّن يد الباطل من حلّ عقده النظيم، وكنوز دينه التي لا يلقّاها إلا ذو حظّ عظيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين عضّوا على سنّته بالنّواجذ، وذبّوا عن شريعته بسيوف الجلاد القواطع وسهام الجدال النوافذ، صلاة لا يزال يقام فرضها، ويملأ بها طول البسيطة وعرضها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى ما توجّهت الهمم إلى ارتياد أئمّته، وتوفّرت الدّواعي على التقرّب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتفويض مناصبه إلى البررة الكرام من أمّته علم الحديث النبويّ صلوات الله وسلامه على قائله، وحفظه بدروسه التي جعلت أواخر زمنه في صحّة نقله ومعرفة أسراره كأوائله وأن (1) نختار لذلك من نشأ في طلبه حتّى اكتهل، وسرى في تحصيله سرى الأهلّة حتّى اكتمل، وغذّي بلبان التبحّر فيه حتى امتزج بأديمه، وجدّ في تحصيله واجتهد حتّى ساوى في الطلب بين حديث عمره وقديمه، وحفظ من متونه، ما بمثله يستحقّ أن يدعى حافظا، وغلب على فنونه، حتّى قلّ أن يرى بغير علومه والنظر في أحكامه لافظا فإنّه بعد كتاب الله العزيز مادّة هذا الدّين الذي يحكم بنصوصه، وتتفاوت
__________
(1) لم يتقدّم ما يعطف عليه. ولعل الأصل «فوجب أن نهتم به أجلّ اهتمام، وأن نختار الخ».(11/241)
رتب العلماء في حسن العمل بمطلقه ومقيّده وعمومه وخصوصه، وعنهما تفرّعت أحكام الملّة فملأت علومها جميع الآفاق، وزكت أحكامها الشرعية على كثرة الإنفاق، وسرى الناس منها على المحجّة التي استوى في الإشراق ليلها ونهارها، وعلا على الملل بالبراهين القاطعة نورها ومنارها وكفى أهلها شرفا أنهم يذبّون عن سنّة نبيهم ذبّ اللّيوث، ويجودون على الأسماع بما ينفع الناس في أمر دينهم ودنياهم منها جود الغيوث، ويحافظون على ألفاظها محافظة من سمعها منه صلّى الله عليه وسلّم، ويعظّمون مجالس إيرادها ونقلها حتّى كأنهم لحسن الأدب جلوس بين يديه، ويغالون في العلوّ طلبا للقرب منه وذلك من أسنى المطالب، ويرحلون لضمّ شوارده من الآفاق فياقرب المشارق عندهم من المغارب! ولما كان المجلس الساميّ الفلانيّ: هو الذي عني بكلّ ما ذكر من وصف كريم، وحديث ورع قديم، وقدم هجرة في علم الحديث اقتضت له حسن أولويّة ووجوب تقديم، وتلقّى هذا العلم كما وصف عن أئمّته حتّى صار من أعيانهم، ولقي منهم علماء أضحى باقتفائهم كما كانوا رحلة زمانهم، ونظر في علومه فأتقنها فكأنه ينطق فيها بلسان ابن الصّلاح (1)، وأحرز غايات الكمال، في أسماء الرّجال، فإلى اطّلاعه يرجع في تجريح المجرّح وتعديل الصّحاح وكان منصب تدريس الحديث الشريف النبويّ الذي أنشأناه بالجامع الحاكميّ تكثيرا لنشر أحاديث من لا ينطق عن الهوى، ونويناه لارتواء الرّواة من بحر هذا العلم الشريف بالإعانة على ذلك وإنّما لكلّ امريء ما نوى، قد استغرقت أوقات مباشره بتفويضنا الحكم العزيز على مذهبه إليه، وتوفير زمانه على (2)
قلت: وتختلف أحوال التواقيع التي تكتب بالتداريس باختلاف
__________
(1) هو أبو عمرو، عثمان بن عبد الرحمن، المعروف بابن الصلاح: فقيه شافعي. كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال. توفي بدمشق سنة 643هـ. (ابن خلكان:
3/ 243).
(2) بياض. ولعله تركه هكذا اتكالا على ما هو معروف في مثل هذا المقام.(11/242)
موضوعاتها: من تدريس التفسير، والحديث، والفقه، واللّغة، والنحو، وغير ذلك، في براعة الاستهلال والوصايا، وهو في الوصايا آكد.
وهذه نسخ وصايا أوردها في التعريف:
وصية مدرّس وليطلع في محرابه كالبدر وحوله هالة تلك الحلقة (1)، وقد وقت أهداب ذلك السواد منه أعظم اسودادا من الحدقة، وليرق سجّادته التي هي لبدة جواده إذا استنّ الجدال في المضمار، وليخف [أضواء] (2) أولئك العلماء الذين هم كالنّجوم كما تتضاءل الكواكب في مطالع الأقمار، وليبرز لهم من وراء المحراب كمينه، وليفض على جداولهم الجافّة معينه، وليقذف لهم من جنبات ما بين جنبيه درر ذلك البحر العجّاج، وليرهم من غرر جياده ما يعلم به أنّ سوابقه لا يهولها قطع الفجاج، وليظهر لهم من مكنون علمه ما كان يخفيه الوقار، وليهب من ممنون فضله ما يهب منه عن ظهر غنى أهل الافتقار، وليقرّر تلك البحوث ويبيّن ما يرد عليها، وما يردّ به من منعها وتطرّق بالنقض إليها، حتّى لا تنفصل الجماعة إلا بعد ظهور الترجيح، والإجماع على كلمة واحدة على الصحيح، وليقبل في الدروس طلق الوجه على جماعته، وليستملهم إليه بجهد استطاعته، وليربّهم كما يربّي الوالد الولد، وليستحسن ما تجيء به أفكارهم وإلا فكم رجل بالجبه لبنت فكر وأد هذا إلى أخذهم بالاشتغال، وقدح أذهانهم للاشتغال ولينشّيء الطلبة حتّى ينمّي منهم الغروس، ويؤهّل منهم من كان لا يظنّ منه أنه يتعلّم لأن يعلّم ويلقي الدّروس.
وصية مقريء:
وليدم على ما هو عليه من تلاوة القرآن فإنه مصباح قلبه، وصلاح قربه،
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية: «جرى في تحريك لام الحلقة، على ما رواه يونس عن أبي عمرو بن العلاء من كونه لغة في السكون».
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/243)
وصباح القبول المؤذن له برضا ربه، وليجعل سوره له أسوارا، وآياته تظهر بين عينيه أنوارا، وليتل القرآن بحروفه وإذا قرأ استعاذ، وليجمع طرقه وهي التي عليها الجمهور ويترك الشّواذّ، ولا يرتدّ دون غاية لإقصار، ولا يقف فبعد أن أتمّ لم يبق بحمد الله إحصار، وليتوسّع في مذاهبه ولا يخرج عن قراءة القرّاء السبعة (1) أئمة الأمصار، وليبذل للطّلبة الرّغاب، وليشبع فإنّ ذوي النّهمة سغاب، ولير الناس ما وهبه الله من الاقتدار فإنه احتضن السّبع (2) ودخل الغاب وليتمّ مباني ما أتم «ابن عامر» و «أبو عمرو» له التعمير، ولفّه «الكسائيّ» في كسائه ولم يقل جدّي «ابن كثير» وحمّ به «لحمزة» أن يعود ذاهب الزمان، وعلم أنه لا «عاصم» من أمر الله يلجأ معه إليه وهو الطّوفان، وطفق يتفجّر علما وقد وقفت السّيول الدّوافع، وضر أكثر قرّاء الزمان لعدم تفهيمهم وهو «نافع» وليقبل على ذوي الإقبال على الطّلب، وليأخذهم بالتربية فما منهم إلا من هو إليه قد انتسب وهو يعلم ما منّ الله عليه بحفظ كتابه العزيز من النّعماء، ووصل سببه منه بحبل الله الممتدّ من الأرض إلى السماء فليقدر حقّ هذه النعمة بحسن إقباله على التعليم، والإنصاف إذا سئل فعلم الله ما يتناهى {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (3)
__________
(1) القراء السبعة الذين اشتهرت قراءاتهم في العالم الإسلامي وأقبل الناس عليها هم: في مكة، عبد الله بن كثير الداريّ المتوفى سنة 120هـ، وفي المدينة، نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المتوفى سنة 169هـ، وفي الشام، عبد الله اليحصبي المشهور بابن عامر المتوفى سنة 118هـ، وفي البصرة كل من أبي عمرو بن العلاء المتوفى سنة 154هـ ويعقوب بن إسحاق الحضرمي المتوفى سنة 205هـ، وفي الكوفة كل من حمزة بن حبيب الزيات مولى عكرمة بن ربيع التيمي المتوفى سنة 188هـ وعاصم الأسدي المتوفى سنة 187هـ. (ترجمتهم تجدها في طبقات القراء لابن الجزري. انظر أيضا: قضايا لغوية في ضوء القراءات القرآنية للشيخ صبحي الصالح وتفسير الطبري: 1/ 5821).
(2) المراد بالسّبع: السّبع المثاني التي هي فاتحة الكتاب وقد سمي القرآن الكريم جميعه بالسّبع.
وفي التنزيل العزيز: {وَلَقَدْ آتَيْنََاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}. (انظر تفسير الطبري:
1/ 110ولسان العرب: 8/ 145).
(3) يوسف / 76.(11/244)
وصية محدّث:
وقد أصبح بالسنّة النبويّة مضطلعا، وعلى ما جمعته طرق أهل الحديث مطّلعا وصحّ في الصحيح أنّ حديثه الحسن، وأنّ المرسل منه في الطلب مقطوع عنه كلّ ذي لسن، وأنّ سنده هو المأخوذ عن العوالي، وسماعه هو المرقّص منه طول الليالي، وأنّ مثله لا يوجد في نسبه المعرق، ولا يعرف مثله للحافظين «ابن عبد البرّ» بالمغرب و «خطيب بغداد» بالمشرق وهو يعلم مقدار طلب الطالب فإنه طالما شدّ له النّطاق، وسعى له سعيه وتجشّم المشاقّ، وارتحل له يشتدّ به حرصه والمطايا مرزمة (1)، وينبّهه له طلبه والجفون مقفلة والعيون مهوّمة، ووقف على الأبواب لا يضجره طول الوقوف حتى يؤذن له في ولوجها، وقعد القرفصاء في المجالس لا تضيق به على قصر فروجها.
فليعامل الطلبة إذا أتوه للفائدة معاملة من جرّب، ولينشّط الأقرباء منهم ويؤنس الغرباء فما هو إلا ممن طلب آونة من قريب وآونة تغرّب، وليسفر لهم صباح قصده عن النّجاح، ولينتق لهم من عقوده الصّحاح، وليوضّح لهم الحديث، وليرح خواطرهم بتقريبه ما كان يسار إليه السّير الحثيث، وليؤتهم مما وسّع الله عليه فيه المجال، ويعلّمهم ما يجب تعليمه من المتون والرجال، ويبصّرهم بمواقع الجرح والتعديل، والتوجيه والتعليل، والصحيح والمعتلّ الذي تتناثر أعضاؤه سقما كالعليل، وغير ذلك مما لرجال هذا الشان به عناية، وما ينقّب فيه عن دراية أو يقنع فيه بمجرّد رواية، ومثله ما يزاد حلما، ولا يعرف بمن رخّص في حديث موضوع أو كتم علما.
وصية نحويّ:
وهو زيد الزّمان، الذي يضرب به المثل، وعمرو الأوان (2)، وقد كثر من
__________
(1) يقال: أرزمت الناقة: حنّت على ولدها، أو صوّتت حنينا على ولدها. وأرزم الرعد: اشتدّ صوته.
(2) سبق توضيح هذه الإشارات في الجزء الأول من هذا الكتاب. ص 175وما بعدها.(11/245)
سيبويه الملل، ومازنيّ الوقت ولكنه الذي لم تستبح منه الإبل، وكسائيّ الدّهر الذي لو تقدّم لما اختار غيره الرشيد للمأمون، وذو السؤدد، لا أبو الأسود، مع أنه ذو السابقة والأجر الممنون وهو ذو البرّ المأثور، والقدر المرفوع ولواؤه المنصوب وذيل فخاره المجرور، والمعروف بما لا ينكر لمثله من الحزم، والذاهب عمله الصالح بكل العوامل التي لم يبق منها لحسوده إلا الجزم وهو ذو الأبنية التي لا يفصح عن مثلها الإعراب، ولا يعرف أفصح منها فيما أخذ عن الأعراب، والذي أصبحت أهدابه فوق عمائم الغمائم تلاث (1)، ولم يزل طول الدهر يشكر منه أمسه ويومه وغده وإنما الكلمات ثلاث. فليتصدّ للإفادة، وليعلّمهم مثل ما ذكر فيه من علم النحو نحو هذا وزيادة، وليكن للطلبة نجما به يهتدى، وليرفع بتعليمه قدر كل خبر يكون خبرا له وهو المبتدا، وليقدّم منهم كلّ من صلح للتبريز، واستحقّ أن ينصب إماما بالتمييز، وليورد من موارده أعذب النّطاف (2)، وليجرّ إليه كلّ مضاف إليه ومضاف، وليوقفهم على حقائق الأسماء، ويعرّفهم دقائق البحوث حتّى اشتقاق الاسم هل هو من السّموّ أو من السيماء، وليبيّن لهم الأسماء الأعجميّة المنقولة والعربية الخالصة، وليدلّهم على أحسن الأفعال لا ما يشتبه فيه بصفات كان وأخواتها من الأفعال الناقصة، وليحفّظهم المثل وكلمات الشّعراء، ولينصب نفسه لحدّ أذهان بعضهم ببعض نصب الإغراء، وليعامل جماعة المستفيدين منه بالعطف، ومع هذا كلّه فليرفق بهم فما بلغ أحد علما بقوّة ولا غاية بعسف.
وهذه وصية لغويّ أوردها في التعريف (3)
__________
(1) لاث العمامة على رأسه: لفّها وعصبها.
(2) النطاف: الماء العذب الصافي.
(3) لم يورد الوصيّة. وفي هامش الطبعة الأميرية ما يفيد أن المحقق لم يجدها في «التعريف».(11/246)
الوظيفة الثامنة (التصدير)
وموضوعه الجلوس بصدر المجلس بجامع أو نحوه. ويجلس متكلّم أمامه على كرسيّ كأنه يقرأ عليه، يفتتح بالتفسير ثم بالرّقائق والوعظيّات، فإذا انتهى كلامه وسكت، أخذ المتصدّر في الكلام على ما هو في معنى تفسير الآية التي يقع الكلام عليها، ويستدرج من ذلك إلى ما سنح له من الكلام. وربما أفرد التصدير عن المتكلم على الكرسيّ.
وهذه نسخة توقيع بتصدير أنشأته للشيخ شهاب الدين «أحمد الأنصاريّ» الشهير ب «الشابّ التائب» بالجامع الأزهر، وهي:
رسم (1). لا زالت صدقاته الشريفة تخصّ المجالس بمن إذا جلس صدر مجلس كان لرتبته أجمل صدر يجتبى من علماء التفسير، ومن إذا دقّق لم يفهم [شرحه إلا] (2) عنه، وإذا سلك سبيل الإيضاح كان كلامه في الحقيقة تفسير تفسير، وتصطفي من سراة الأماثل من دار نعته بين «الشابّ التائب» و «الشيخ الصالح» فكان له أكرم نعت على كلّ تقدير أن يستمرّ المجلس الساميّ أدام الله تعالى رفعته في كذا وكذا، لأنّه الإمام الذي لا تسامى علومه ولا تسام، والعلّامة الذي لا تدرك مداركه ولا ترام، والحبر الذي تنعقد على فضله الخناصر، وفارس الحلبة الذي يعترف بالقصور عن مجاراة جياده المناظر، وآية التفسير التي لا تنسخ، وعقد حقيقته الذي لا يفسخ، والماهر الذي استحقّ بمهارته التصدير، والجامع لفنونه المتنوعة جمع سلامة لا جمع تكسير، وترجمان معانيه الآتي من غرائب تأويله بالعجب العجاب، والعارف بهدي طريقه الذي إذا قال قال الذي عنده علم من الكتاب، وزاهد
__________
(1) أي: رسم بالأمر الشريف الخ مع إضافة الألقاب.
(2) بياض بالأصل والزيادة تناسب السياق والمقام.(11/247)
الوقت الذي زيّن بالعلم العمل، وناسك الدهر الذي قصّر عن مبلغ مداه الأمل.
فليتلقّ ما ألقي إليه بالقبول، وليستند إلى صدر مجلس يقول فيه ويطول، وليبيّن من معاني كتاب الله ما أجمل، ويوضّح من خفيّ مقاصده ما أشكل، وليسلك في تفسيره أقوم سنن، ويعلن بأسراره الخفيّة فسرّ كتاب الله أجدر أن يكون عن علن، وليجر فيه على ما ألف من تحقيقاته فإنه إذا لم يحقّق المناظرة فمن؟، وليأخذ مشايخ أهل مجلسه بالإحسان، كما أحسن الله إليه فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، ويحضّ شبابهم على التوبة ليحبّهم الله فيتّصل في المحبة سندهم فإن «الشابّ التائب» حبيب الرحمن والله تعالى يرقّيه إلى أرفع الذّرا، ويرفع مجلسه السامي على محل الثّريّا (وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا)، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة التاسعة (النظر)
وموضوعه التحدّث في أمور خاصّة بإباحة ضروراتها، وعمل مصالحها، واستخراج متحصّل جهاتها، وصرفه على الوجه المعتبر، وما يجري مجرى ذلك.
وتشتمل على عدّة أنظار:
منها: نظر الأحباس: جمع حبس (1) وهو الوقف: فقد تقدّم في المقالة الثانية أنه كان أصل وضعه أراضي اشتراها (الإمام الليث بن سعد رضي الله عنه) ووقفها على جهات برّ، ثم تبعه الناس في إضافة الأوقاف إلى ذلك، إلى أن كانت وزارة الصاحب بهاء الدين ابن حنّا في سلطنة الظاهر بيبرس
__________
(1) قال في اللسان عن الأزهري: والحبس (بثلاث ضمات) جمع الحبيس يقع على كل شيء، وقفه صاحبه وقفا محرّما لا يورث ولا يباع. وعن الهروي: بضم الحاء وإسكان الباء. (اللسان:
6/ 45).(11/248)
البندقداري، فأفرد للجوامع والمساجد والرّبط والزّوايا ونحو ذلك رزقا، وقصر تحدّث ناظر الأحباس ومباشريه عليها، وأفردت الأوقاف بناظر ومباشرين كما سيأتي:
وهذه نسخة توقيع بتدريس (1) الطب بالبيمارستان المنصوريّ، كتب بها «لمهذّب الدين» (2) وهي:
الحمد لله الذي دبّر بحكمته الوجود، وعمّ برحمته كلّ موجود، وحال بنفع الدواء بين ضرّ الداء كما حالت عطاياه دون الوعود نحمده ونشكره وهو المشكور المحمود، ونثني عليه خير الثناء قياما وقعودا وعلى الجنوب وفي السجود، ونستزيده من فضله فإنه أهل الفضل والجود.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة الله بها والملائكة وأولو العلم شهود ونشهد أن محمدا عبده ورسوله المبشّر لأمته بالجنّات والخلود صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة دائمة إلى يوم الوعود (3)
وبعد، فإنّا لما أقام الله بنا شعائر الإيمان، وأصبح دينه بحمد الله منصورا بنا على سائر الأديان، وجاهدنا في الله حقّ الجهاد باليد والقلب واللّسان، وشيّدنا لعلومه وشرائعه كلّ بديع الإتقان، ورتّبنا فيه من العلماء الأعيان كلّ رفيع الشان، واخترنا له الأخيار من أهل العلم بالطّب والفقه والحديث والقرآن ورأينا كل من تقدّمنا من الملوك، وإن سلك في سياسة الرعية أحسن سلوك، قد اهتمّ بعلم الأديان وأهمل علم الأبدان، وأنشأ كلّ منهم مدرسة ولم يحفل ببيمارستان، وغفل عن قوله صلّى الله عليه وسلم: «العلم علمان»، ولم يأخذ أحدا من رعيته بالاشتغال بعلم الطّب المضطّرّ إليه، ولا وقف وقفا على طلبة هذا العلم
__________
(1) الأولى ذكر هذا التوقيع في تواقيع الوظيفة السابقة التي تكلم فيها على التداريس.
(2) هو الشيخ مهذب الدين، أبو الحسن بن الموفق بن النجم بن المهذب أبي الحسن بن سمويل المتطبب اليهودي. (سيرة الملك المنصور لابن عبد الظاهر: ص 216).
(3) في سيرة الملك المنصور عن ابن الفرات «اليوم الموعود»(11/249)
المنصوص عليه، ولا أعدّ له مكانا يحضر من يشتغل بهذا الفن فيه، ولا نصب له شخصا يتمثّل هذا المشتغل لديه علمنا نحن بحمد الله تعالى من ذلك ما جهلوه، وذكرنا من هذه القربة ما أهملوه، ووصلنا من هذه الأسباب الدّينية والدّنيوية ما فصلوه، وأنشأنا بيمارستانا يبهر العيون بهجة، ويفوق الأبنية بالدليل والحجّة، ويحفظ الصحة والعافية على كل مهجة لو حلّه من أشفى لعوجل بالشّفا، أو جاءه من أكمده السّقم لاشتفى، أو أشرف عليه العمر بلا شفاء لعاد عنه بشفا ووقفنا عليه من الأوقاف المبرورة ما يملأ العينين، ويطرف سماع جملته الأذنين، ويعيد عنه من أمّه مملوء اليدين، وأبحنا التّداوي فيه لكل شريف ومشروف ومأمور وأمير، وساوينا في الانتفاع به بين كل صغير وكبير، وعلمنا أن لا نظير لنا في ملكنا ولا نظير له في إبقائه فلم نجعل لوقفه وشرطه من نظير، وجعلنا فيه مكانا للاشتغال بعلم الطب الذي كاد أن يجهل، وشرعنا للناس إلى ورد بحره أعذب منهل، وسهّلنا عليهم من أمره ما كان الحلم به من اليقظة أسهل، وارتدنا له من علماء الطّب من يصلح لإلقاء الدروس، وينتفع به الرئيس من أهل الصّناعة والمرؤوس، ويؤتمن على صحة الأبدان وحفظ النفوس فلم نجد غير رئيس هذه الطائفة أهلا لهذه المرتبة، ولم نرض لها من لم تكن له هذه المنقبة، وعلمنا أنه متى وليها أمسى بها معجبا وأضحت به معجبة.
ولما كان المجلس السامي «مهذّب الدين» هو الرئيس المشار إليه، والوحيد الذي تعقد الخناصر عليه، وكان هو الحكيم «بقراط»، بل الجليل «سقراط»، بل الفاضل «جالينوس»، بل الأفضل «ديسقوريدوس» اقتضت الآراء الشريفة أن تزاد جلالته بتولية هذا المنصب الجليل جلالة، وأن تزفّ إليه تجرّ [أذيالها، ويزفّ إليها يجرّر] (1) أذياله، وأن يقال: (لم يك يصلح إلا لها ولم
__________
(1) هذه العبارة ساقطة من الطبعة الأميرية، وهي لازمة. وقد زدناها من سيرة الملك المنصور عن ابن الفرات.(11/250)
تك تصلح إلّا له).
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال للدّين ناصرا، ولأعلام العلوم ناشرا أن يفوّض إليه تدريس الطب بالبيمارستان المبارك المنصوريّ، المستجدّ الإنشاء بالقاهرة المحروسة، علما بأنه المتمهّر في هذا الفنّ، وأنه عند الفراسة فيه والظّنّ، وأنه سقراط الإقليم إذا كان غيره سقراط الدّنّ، وثقة بأنا للجوهر قد التقطنا، وبالخير قد اغتبطنا، وعلى الخبير قد سقطنا.
فليتلقّ هذه النعمة بالشكر الجليل، والحمد الجزيل، والثناء الذي هو بالنّماء والزيادة كفيل، ولينتصب لهذا العلم المبارك انتصاب من يقوم بالفرض منه والسّنّة، ويعرف له فيه الفضل ويتقلّد له فيه المنّة، ويثنى على آثاره الجميلة فيه وتثنى إليه الأعنّة، وليبطل بتقويمه الصحّة ما ألّفه ابن «بطلان» (1)، وليرنا بتدبيره جبلّة البرّ فإنه «جالينوس» الزمان، وليبذل النّجاة من الأمراض والشفاء من الأسقام فإنه «ابن سينا» الأوان، وليجمع عنده شمل الطلبة، وليعط كلّ طالب منهم ما طلبه، وليبلّغ كلّ متمنّ من الاشتغال أربه، وليشرح لهم صدره، وليبذل لهم من عمره شطره، وليكشف لهم من هذا العلم المكنون سرّه، وليرهم ما خفي عنهم منه جهره، وليجعل منهم جماعة طبائعية (2)، وطائفة كحّالين وجرائحيه، وقوما مجبّرين، وبالحديد عاملين، وأخرى بأسماء الحشائش وقوى الأدوية وأوصافها عالمين، وليأمر كلّا منهم بحفظ ما يجب حفظه، ومعرفة ما يزيد به حظه، وليأخذه بما يصلح به لسانه ولفظه، ولا يفتر عنهم في الاشتغال لحظة، وليفرد لكل علم من العلوم طائفة، ولكل فن من فنونه جماعة بمحاسنه
__________
(1) هو المختار بن الحسن بن عبدون بن بطلان: طبيب نصراني من أهل بغداد. سافر الى مصر وأقام فيها ثلاث سنوات ورحل إلى القسطنطينية ثم إلى انطاكية فترهب ومات فيها سنة 458هـ. من كتبه «دعوة الأطباء» و «تقويم الصحة». (الأعلام: 7/ 191ودائرة المعارف الإسلامية:
1/ 221).
(2) الطبائعيون هم أطباء الأمراض الباطنية. والكحالون: أطباء العيون.(11/251)
عارفة وليصرف إليهم من وجوه فضائله كلّ عارفة، وليكشف لهم ما أشكل عليهم من غوامضه فليس لها من دون إيضاحه كاشفة، لينشر في هذا المكان المبارك من أرباب هذه العلوم قوم بعد قوم، ويظهر منهم في الغد إن شاء الله أضعاف ما هو ظاهر منهم اليوم وليقال لكلّ من طلبته إذا شرع في إجازته وتزكيته: لقد أحسن شيخه الذي عليه تأدّب، وإنّ من خرّج هذا «المهذّب»، عاملا في ذلك بشروط الواقف أعزّ الله نصره، واقفا عند أمره أمضى الله أمره والخير يكون، إن شاء الله تعالى (1)
وهذه نسخة توقيع بنظر الأحباس مفتتحة ب «أما بعد» وهي:
أما بعد حمد الله الذي أذن أن ترفع بيوته ويذكر فيها اسمه، ويكثّر فيها قسم ثوابه ويجزل قسمه، والصلاة على سيدنا محمد الذي عظم به قطع دابر الكفر وكثر حسمه فإنّ خير من عوّل عليه في تأسيس بيوت الله وعمارة ربوعها، ولمّ شعثها وشعب صدوعها، والقيام بوظائفها، وتسهيل لطائفها، وتأهيل نواحيها، لهبوط الملائكة لتلقّي المصلّين فيها، من كان ذا عزم لا تأخذه في الله لومة لائم، وحزم لا يلمّ بأفعاله لمم المآثم، ونظر ثاقب، ورغبة في اختيار جميل المآثر والمناقب، ومباشرة ترعى قوانين الأمور وتكتنفها اكتناف مراقب.
ولما كان فلان ممّن هذه الأوصاف شعاره، وإلى هذه الأمور بداره، وكم كتب الله به للدّولة أجر راكع وساجد، وكم شكرته وذكرته ألسنة أعلام الجوامع وأفواه محاريب المساجد اقتضى منيف الملاحظة والمحافظة على كل قريب من بيوت الله وشاهد، أن خرج الأمر الشريف لا برح يكشف الأوجال، ويدعو له في الغدوّ والآصال رجال أن يفوّض لفلان نظر ديوان الأحباس والجوامع
__________
(1) تاريخ هذا التقليد: رمضان 684هـ / 1285م، وقد كتبه القاضي محمد بن المكرم. (سيرة الملك المنصور عن ابن الفرات: 8/ 25).(11/252)
والمساجد المعمورة بذكر الله تعالى.
فليباشرها مباشرة من يراقب الله إن وقّع أو توقّع، وإن أطاع أو تطوّع، وإن عزل أو ولّى، وإن أدّب من نهى عبدا إذا صلّى، وليجتهد كلّ الاجتهاد في [صرف] (1) ريع المساجد والجوامع في مصارفها الشرعيّة، وجهاتها المرعيّة، وليأخذ أهلها بالملازمة في أحيانها وأوقاتها، وعمارتها بمصابيحها وآلاتها، وحفظ ما يحفظون به لأجلها، ومعاملتهم بالكرامة التي ينبغي أن يعامل مثلهم بمثلها، وليحرّر في إخراج الحالات إذا خرّجت وأخرجت، وفي مستحقّات الأجائر إذا استحقّت وإذا عجّلت، وفي التواقيع إذا أنزلت وإذا نزّلت، وفي الاستئمارات التي أهملت وكان ينبغي لو أهّلت وإذا باشر [و] (2) ظهر له بالمباشرة خفايا هذا الدّيوان، وفهم ما تحتويه جرائد الإحسان، فليكن إلى مصالحه أوّل مبادر، ويكفيه تدبر قوله تعالى: {إِنَّمََا يَعْمُرُ مَسََاجِدَ اللََّهِ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (3)
قلت: وقد كنت أنشأت توقيعا بنظر الأحباس، للقاضي «بدر الدين حسن» الشهير بابن الدّاية (4)، مفتتحا بالحمد لله، جاء فردا في بابه، إلا أن مسودّته غيّبت عنّي، فلم أجدها لأثبتها هاهنا كما أثبتّ غيرها مما أنشأته: من البيعات والعهود والتواقيع والرسائل وغير ذلك.
ومنها نظر الأوقاف بمصر والقاهرة المحروستين، ويدخل فيه أوقاف الحرمين وغيرهما.
وهذه نسخة توقيع بنظرها، وهي:
الحمد لله الذي حفظ معالم البرّ من الدّثور، وأحيا آثار المعروف
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) التوبة / 18.
(4) وكان ذلك يوم الخميس 28شعبان سنة 800هـ. وقد استقر ابن الداية في نظر الأحباس عوضا عن شمس الدين الدّميري الذي عزل. (نزهة النفوس والأبدان: 1/ 463).(11/253)
والأجور، وصان الأوقاف المحبّسة من تبديل الشروط على توالي الأيّام والشهور.
نحمده على فضله الموفور، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لها في القلوب نور على نور، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المؤيّد المنصور، الطالع البدور، المبعوث بالفرقان والنّور، والمنعوت في التوراة والإنجيل والزّبور، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما كرّت الدّهور، وطلعت كواكب ثم تغور.
وبعد، فإنّ أهل الخير من المؤمنين تقرّبوا إلى الله سبحانه وتعالى من طيّبات أموالهم بأوقاف وقفوها على وجوه البرّ وعرّفوها، وجعلوا لها شروطا ووصفوها فتقبّل الله لهم ذلك، ثم ماتوا فما انقطع عملهم بها وهم في برزخ المهالك ووليها بعدهم الأمناء من النّظّار، فقاموا بحقوقها وحفظ الآثار، وأجروا برّها الدارّ في كلّ دار، وصانوا معالمها من الأغيار، وشاركوا واقفيها في الصدقة لأنهم خزّان أمناء أخيار.
ولما كان فلان هو الذي لا يتدنّس عرضه بشائبة، ولا تمسي المصالح وهي عن فكره غائبة، ولا تبرح نجوم السّعود طالعة عليه غير غائبة، وهو أهل أن يناط به التحدّث في جهات البرّ الموقوفة، وأموال الخير المصروفة، لأنه نزّه نفسه عما ليس له فلو كانت أموال غيره غنما ما اختصّ منها بصوفة فلذلك رسم (1)
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة حسنة التأثير، جميلة التّثمير، مأمونة التغيير، مخصوصة بالتعبير، ولينظر في هذه الأوقاف على اختلافها من ربوع ومباني، ومساكن ومغاني، وخانات مسبّلة، وحوانيت مكمّلة، ومسقّفات معمورة، وساحات مأجورة غير مهجورة، وليبدأ بالعمارة فإنّها تحفظ العين وتكفي البناء
__________
(1) أي على شاكلة التواقيع السابقة.(11/254)
دثوره، وليتّبع شروط الواقفين ولا يعدل عنها فإنّ في ذلك سروره ويندرج في هذه الأوقاف ما هو على المساجد ومواطن الذّكر: فليقم شعارها، وليحفظ آثارها، وليرفع منارها والوصايا كثيرة والتقوى ظلّها المخطوب، ومراقبة الله أصلها المطلوب ووصلها المحبوب، والله تعالى يجمع على محبته القلوب، بمنّه وكرمه!.
ومنها نظر البيمارستان المنصوريّ بين القصرين لأرباب الأقلام، وهو من أجلّ الأنظار وأرفعها قدرا، ما زال يتولّاه الوزراء وكتّاب السرّ ومن في معناهم. [وهذه نسخة توقيع] (1) من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ، وهي: (2)
الحمد لله رافع قدر من كان في خدمتنا الشريفة كريم الخلال، ومعلي درجة من أضفى عليه الإخلاص في طاعتنا العليّة مديد الظّلال، ومجدّد نعم من لم يخصّه اعتناؤنا بغاية إلا ورقّته همّته فيها إلى أسنى رتب الكمال، ومفوّض النظر في قرب سلفنا الطاهر إلى من لم يلاحظ من خواصّنا أمرا إلا سرّنا ما نشاهد فيه من الأحوال الحوال.
نحمده على نعمه التي لا تزال تسرى إلى الأولياء عوارفها، ومننه التي لا تبرح تشمل الأصفياء عواطفها، وآلائه التي تسدّد آراءنا في تفويض قربنا إلى من إذا باشرها [سرّ] (3) بسيرته السّريّة مستحقّها وواقفها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة رفع الإخلاص لواءها، وأفاض الإيمان على وجوه حملتها إشراقها وضياءها، ووالى الإيقان إعادة أدائها بمواقف الحقّ وإبداءها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المخصوص بعموم
__________
(1) ساقطة من الأصل والسياق يقتضيها.
(2) تقدمت في وظائف الطبقة الثانية من ذوات التواقيع مع بعض تغيير واختصار.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/255)
الشفاعة العظمى، المقصوص في السنة ذكر حوضه الذي من شرب منه شربة فإنه بعدها لا يظما، المنصوص على نبوّته في الصّحف المنزّلة وبشّرت به الهواتف نثرا ونظما، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فازوا من طاعته، بالرّتب الفاخرة، وحازوا بالإخلاص في محبّته، سعادة الدنيا والآخرة، وأقبلوا على حظهم من رضا الله ورضاه فلم يلوا على خدع الدنيا الساحرة، صلاة دائمة الاتصال، آمنة شمس دولتها من الغروب والزّوال، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى الأمور بإنعام النظر في مصالحها، وأحقّها بتوفير الفكر على اعتبار مناهجها واعتماد مناجحها أمر جهات البر التي تقرّب والدنا السلطان الشهيد قدّس الله روحه بها إلى من أفاض نعمه عليه، وتنوّع في إنشائها فأحسن فيها كما أحسن الله إليه، ورغب بها فيما عند الله لعلمه أنّ ذلك من أنفس الذخائر التي أعدّها بين يديه، وحلّ منها في أكرم بقعة نقله الله بها عن سريره إلى مقعد صدق عند ربّه، وعمر بها مواطن العبادة في يوم سلمه بعد أن عفّى على معاقل الكفر في يوم حربه، وأقام بها منار العلوم فعلا منالها، وأعدّ للضّعفاء بها من موادّ البرّ والإلطاف ما لو تعاطته الأغنياء قصرت عن التطاول إليه أموالها وأن نرتاد لها من إذا فوّضنا إليه أمرا تحقّقنا صلاحه، وتيقّنّا نجاحه، واعتقدنا تنمية أمواله، واعتمدنا في مضاعفة ارتفاعه وانتفاعه على أقواله وأفعاله، وعلمنا من ذلك ما لا نحتاج فيه إلى إخبار ولا اختبار، ولا يحتاج في بيان الخيرة فيه إلى دليل إلّا إذا احتاج إليه النّهار، لنكون في هذا بمثابة من ضاعف لهذه القرب أسباب ثوابها أو جدّد لها وقفا لكونه أتى بيوت الإحسان في ارتياد الأكفاء لها من أبوابها.
ولذلك لما كان فلان هو الذي صان أموال خواصّنا، وأبان عن يمن الآراء في استئثارنا به لمصالحنا الخاصّة واختصاصنا، واعتددنا بجميل نظره في أسباب التدبير التي تملأ الخزائن، وتدلّ على أنّ من الأولياء من هو أوقع على المقاصد من سهام الكنائن، وتحقّق أنه كما في العناصر الأربعة معادن فكذلك في الرجال معادن، ونبّهت أوصافه على أنه ما ولي أمرا إلا وكان فوق ذلك قدرا،
ولا اعتمد عليه فيما تضيق عنه همم الأولياء إلا رحب به صدرا، ولا طلع في أفق رتبة هلالا إلا وتأمّلته العيون في أجلّ درج الكمال بدرا يدرك ما نأى من مصالح ما يليه بأدنى نظر، ويسبق في سداد ما يباشره على ما يجب سداد الآراء ومواقع الفكر فنحن نزداد كل يوم غبطة بتدبيره، ونتحقّق أن كل ما عدقنا به إليه من أمر جليل فقد أسندناه إلى عارفه وفوّضناه إلى خبيره اقتضت آراؤنا الشريفة أن نعدق بجميل نظره أمر هذا المهمّ المقدّم لدينا، وأن نفوّض إليه نظر هذه الأوقاف التي النظر في مصالحها من آكد الأمور المتعيّنة علينا.(11/256)
ولذلك لما كان فلان هو الذي صان أموال خواصّنا، وأبان عن يمن الآراء في استئثارنا به لمصالحنا الخاصّة واختصاصنا، واعتددنا بجميل نظره في أسباب التدبير التي تملأ الخزائن، وتدلّ على أنّ من الأولياء من هو أوقع على المقاصد من سهام الكنائن، وتحقّق أنه كما في العناصر الأربعة معادن فكذلك في الرجال معادن، ونبّهت أوصافه على أنه ما ولي أمرا إلا وكان فوق ذلك قدرا،
ولا اعتمد عليه فيما تضيق عنه همم الأولياء إلا رحب به صدرا، ولا طلع في أفق رتبة هلالا إلا وتأمّلته العيون في أجلّ درج الكمال بدرا يدرك ما نأى من مصالح ما يليه بأدنى نظر، ويسبق في سداد ما يباشره على ما يجب سداد الآراء ومواقع الفكر فنحن نزداد كل يوم غبطة بتدبيره، ونتحقّق أن كل ما عدقنا به إليه من أمر جليل فقد أسندناه إلى عارفه وفوّضناه إلى خبيره اقتضت آراؤنا الشريفة أن نعدق بجميل نظره أمر هذا المهمّ المقدّم لدينا، وأن نفوّض إليه نظر هذه الأوقاف التي النظر في مصالحها من آكد الأمور المتعيّنة علينا.
فرسم بالأمر الشريف لا زال فضله عميما، وبرّه يقدّم في الرتب من كان من الأولياء كريما أن يفوّض إليه كيت وكيت.
فليل هذه الرتبة التي أريد بها وجه الله وما كان لله فهو أهمّ، وقصد بها النفع المتعدّي إلى العلماء والفقراء والضّعفاء، ومراعاة ذلك من أخصّ المصالح وأعمّ، ولينظر في عموم مصالحها وخصوصها نظرا يسدّ خللها، ويزيح عللها، ويعمّر أصولها، ويثمّر محصولها، ويحفظ في أماكنها أموالها، ويقيم معالم العلوم في أرجائها، ويستنزل بها موادّ الرحمة لساكنها بألسنة قرّائها، ويستعيد صحّة من بها من الضعفاء بإعداد الذّخائر لملاطفة أسقامها ومعالجة أدوائها، ويحافظ على شروط الواقف قدّس الله روحه في إقامة وظائفها، واعتبار مصارفها، وتقديم ما قدّمه مع ملاءة تدبيره باستكمال ذلك على أكمل ما يجب، وتمييز حواصلها لما يستدعي إليها من الأصناف التي يعزّ وجودها ويجتلب، وضبط تلك الحواصل التي لا خزائن لها أوثق من أيدي أمنائه وثقاته، ولا مودع لها أوفق من أمانة من يتّقي الله حقّ تقاته وليفعل في ذلك جميعه ما عرفناه من تدبيره الجميل خبرا وخبرا، وحمدناه في كل ما يليه وردا في المصالح وصدرا فإنه بحمد الله الميمون نظرا وتصرّفا، المأمون نزاهة وتعفّفا، الكريم سجيّة وطباعا، الرحيب في تلقّي المهمات الجليلة صدرا وباعا فلذلك وكلناه في الوصايا إلى حسن معرفته واطّلاعه، ويمن نهوضه بمصالحنا واضطلاعه والله تعالى يسدّده في قوله وعمله، ويحقّق بالوقوف مع مراضي
الله تعالى ومراضينا غاية أمله، إن شاء الله تعالى.(11/257)
فليل هذه الرتبة التي أريد بها وجه الله وما كان لله فهو أهمّ، وقصد بها النفع المتعدّي إلى العلماء والفقراء والضّعفاء، ومراعاة ذلك من أخصّ المصالح وأعمّ، ولينظر في عموم مصالحها وخصوصها نظرا يسدّ خللها، ويزيح عللها، ويعمّر أصولها، ويثمّر محصولها، ويحفظ في أماكنها أموالها، ويقيم معالم العلوم في أرجائها، ويستنزل بها موادّ الرحمة لساكنها بألسنة قرّائها، ويستعيد صحّة من بها من الضعفاء بإعداد الذّخائر لملاطفة أسقامها ومعالجة أدوائها، ويحافظ على شروط الواقف قدّس الله روحه في إقامة وظائفها، واعتبار مصارفها، وتقديم ما قدّمه مع ملاءة تدبيره باستكمال ذلك على أكمل ما يجب، وتمييز حواصلها لما يستدعي إليها من الأصناف التي يعزّ وجودها ويجتلب، وضبط تلك الحواصل التي لا خزائن لها أوثق من أيدي أمنائه وثقاته، ولا مودع لها أوفق من أمانة من يتّقي الله حقّ تقاته وليفعل في ذلك جميعه ما عرفناه من تدبيره الجميل خبرا وخبرا، وحمدناه في كل ما يليه وردا في المصالح وصدرا فإنه بحمد الله الميمون نظرا وتصرّفا، المأمون نزاهة وتعفّفا، الكريم سجيّة وطباعا، الرحيب في تلقّي المهمات الجليلة صدرا وباعا فلذلك وكلناه في الوصايا إلى حسن معرفته واطّلاعه، ويمن نهوضه بمصالحنا واضطلاعه والله تعالى يسدّده في قوله وعمله، ويحقّق بالوقوف مع مراضي
الله تعالى ومراضينا غاية أمله، إن شاء الله تعالى.
ومنها نظر الجامع الناصريّ بقلعة الجبل.
وهذه نسخة توقيع بنظره، كتب به للقاضي جلال الدين القزوينيّ (1) وهو يومئذ قاضي قضاة الشافعيّة بالديار المصريّة، وهي:
الحمد لله الذي زاد بنا الدين رفعة وجلالا، وجعل لنا على منار الإسلام إقبالا، وأحسن لنظرنا الشريف في كلّ اختيار مالا، ووفّق مرامي مرامنا لمن أخلصنا عليه اتّكالا.
نحمده حمدا يتواتر ويتوالى، ويقرّب من المنى منالا، وتنير به معاهد نعمه عندنا وتتلالا، ونديمه إدامة لا نبغي عنها حولا ولا انتقالا.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نصدّقها نيّة ومقالا، ونرجو بالتّغالي فيها القبول منه تعالى، ويتراسل عليها القلب واللسان فلا يعتري ذاك سهو ولا يخاف هذا كلالا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي كرم صحابة وآلا، ودلّهم على الرّشد فورّثوه علماء الأمّة رجالا، صلى الله عليه وعليهم صلاة نسترعي عليها من الحفظة أكفاء أكفالا، ونستمد لرقمها المذهبات بكرا وآصالا، وتسمو إليه الأنفاس سموّ حباب الماء حالا فحالا، ما مدّت الليالي على أيّامها ظلالا، وما بلغ سواد شبابها من بياض صبح اكتهالا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ من بنى حقّ عليه أن يشيد، ومن أراد [أن] (2) سنّته الحسنى تبقى فليتخذ معينا على ما يريد، ومن أنشأ برّا فلا بدّ من مباشر عنه يضمن له
__________
(1) تولى قضاء قضاة الشافعية بمصر سنة 727هـ، ثم نفاه السلطان الملك الناصر إلى دمشق سنة 738هـ وتوفي بها سنة 739هـ. (الأعلام: 6/ 192).
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/258)
التجديد، ويظنّ به مع تأثيره التّخليد، ومن تاجر لله بمعروف فما يسخو بالمشاركة فيه لمن يقوم مقام نفسه أو يزيد، ومن بدأ جميلا فشرط صلاحه أن يسنده إلى من له بالمراقبة تقييد، فيما يبديء ويعيد، وأيّ إشادة أقوى، من التأسيس على التقوى، أو معين أجلّ من حاكم استخلصناه لنا ولإخواننا المسلمين، أو مباشر أنفع، من سيد ارتدى بالمجد وتلفّع، وتروّى بالعلوم وتضلّع، أو مشارك في الخير أولى من وليّ قلّدناه ديننا قبل الدّنيا، وأعليناه بالمنصبين: الحكم والخطابة فتصرّف منهما بين الكلمة العالية والدّرجة العليا، أو أحسن مراقبة من حبر يعبد الله كأنّه يراه، وإمام يدعو إليه دعاء أوّاب أوّاه، قد انفرد بمجموع المحاسن يقينا، وأصبح قدره الجليّ الجليل يعنينا وعن المدائح يغنينا فحسبنا الوصف إيضاحا وتبيينا، ولكن نصرّح باسمه تنويها وتعيينا، وتحسينا لسيرة أيّامنا الشريفة بعالم زمانها وتزيينا لا عذر لفكر لم ينضّد مناقبه وقد تمثلت معاليه جواهر، وقلم لم يوشّ الطّروس بمعانيه بعد ما زان من فنونها أنواع الأزاهر، وهو المجلس العاليّ القضائيّ، الإماميّ، العالميّ، العامليّ، العلّاميّ، الكامليّ، الفاضليّ، القدويّ، المفيديّ، الخاشعيّ، الناسكيّ الورعيّ، الحاكميّ، الجلاليّ، حجة الإسلام والمسلمين، قدوة العلماء العاملين في العالمين، بركة الأمة، علّامة الأئمة عزّ السنّة، مؤيّد الدّولة، سيف الشريعة، شمس النظر، مفتي الغرر، خطيب الخطباء، إمام البلغاء، لسان المتكلّمين، حكم الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين، أبو المعالي محمد ابن قاضي القضاة سعد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن عمر بن أحمد القزوينيّ قاضي القضاة الشافعية: أدام الله عزّة الشرع الشريف بأحكامه، وترفيه سيوف الجلاد وأسله بلسان جداله وأقلامه قاض يفرّق بين المهترجين (1)
برأي لا يطيش حلمه ولا يزلّ حكمه، ويتّقي الشّبهات بورع يتبعه عمله ويهديه علمه ما لحظ جهة إلا حظيت ببركة دارّة مزنها، سارية مناجحها سارّ يمنها، ولا
__________
(1) أي المتخاصمين. من اهترج مثل اقتتل، بصيغة «افتعل».(11/259)
أقبل على بيت من بيوت الله إلا حنّ منه إلى سبحات الجلال، ولا تكلّم في وقف إلا أجراه في صالح الأعمال على أقوم مثال ونحن لهذه المزايا نردّ إلى نظره الكريم ما أهمّنا من عمارة مسجد وجامع، ونقلّده من أوقافنا ما يخلفنا فيه خيرا فإنّ الأوقاف ودائع.
فلذلك رسم بالأمر الشريف العاليّ المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الناصريّ لا زال يصيب الصّواب، ولا يعدو أولي الألباب أن يفوّض إليه نظر الجامع الناصريّ المعمور بذكر الله تعالى، بقلعة الجبل المحروسة، وأوقافه، والنظر على التربة والمدرسة الأشرفيّين وأوقافهما.
ومنها نظر مشهد الإمام الحسين رضي الله عنه بالقاهرة المحروسة.
وقد تقدّم في الكلام على خطط القاهرة في المقالة الثانية أنّ الصالح طلائع بن رزّيك حين قصد نقل رأس الإمام الحسين إلى القاهرة، بنى لذلك جامعه خارج بابي زويلة (1)، فبلغ ذلك الخليفة فأفرد لها هذه القاعة من قاعات القصر وأمر بنقلها إليها.
وهذه نسخة توقيع بنظره، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ، وهي: الحمد لله الذي جعل مواطن الشّرف في أيّامنا الزاهرة، محصورة في أكفائها، ومشاهد السيادة في دولتنا القاهرة، مقصورة على من حبته أوامرنا باعتنائها، وخصّته آلاؤنا باصطفائها، الذي أجرى حسن النظر في مظانّ الآباء الطاهرة على يد من طلع في أفق العلياء من أبنائها، وعمر معاهد القربات بتدبير من بدأ بقواعد دينه وأجاد إحكام تشييدها وإتقان بنائها.
__________
(1) هما بابان متجاوران للقاهرة من جهتها القبلية. وقد بنى أمير الجيوش بدر الجمالي باب زويلة الكبير، وإن كان المقريزي في خططه: 1/ 381يقول إن ابن عبد الظاهر ذكر في كتابه «خطط القاهرة» أن الذي بناه هو العزيز بالله نزار بن المعز وأورد شعرا في هذا الباب. ويرى المقريزي أن ابن عبد الظاهر أخطأ في نسبة هذا البناء إلى العزيز بالله في قوله: «ومن تأمل الأسطر التي كتبت على أعلاه من خارجه فإنه يجد فيها اسم أمير الجيوش والخليفة المنتصر وتاريخ بنائه».(11/260)
نحمده على ما خصّت به أيامنا من رفع أقدار ذوي السّيادة والشّرف، واتّصف به إنعامنا من مزيد برّ علم بحسن ظهوره على الأولياء أنّ الخير في السّرف.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يعرّف بها من اعترف، ويشرّف قدر من له بالمحافظة عليها شغف، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي طهّر الله بضعته الزاهرء وبنيها، وخصّهم بمزيّة القربى التي نزّهه أن يسأل على الهداية أجرا إلا المودّة فيها، صلى الله عليه وعلى آله الذين هم أجدر بالكرم، وأحقّ بمحاسن الشّيم، وما منهم إلا من (تعرف البطحاء وطاته
والبيت يعرفه والحلّ والحرم) (1)، وعلى آله وأصحابه الذين أنعم الله به عليهم، واتّبعوه في ساعة العسرة فمنهم الذين أخرجوا من ديارهم والذين يحبّون من هاجر إليهم، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من زيّنت به مواطن الشّرف، وعدقت به العناية بخدمة من درج من بيت النبوّة وسلف، وعمرت به مشاهد آثارهم التي هي في الحقيقة لهم غرف، [ونالت الدولة] (2) من تدبيره الجميل بعض حظّها، وخصّت بقعته المباركة من نظره بما ينوب في خدمة محلّه الشريف عن مواقع لحظها، وجعلت به لابن رسول الله من خدمة أبيه معها نصيبا، وفعلت ذلك إذ خبرت خدمته أجنبيّا علما أنها تتضاعف له إذا كان نسيبا، وحكمت بما قام عندها مقام الثّبوت، وأمرته أن يبدأ بخدمة أهل البيت [فإن] (3) لازمها لديها مقدّم على البيوت من طلع شهاب فضله من الشّرف السّنيّ في أكرم أفق، وأحاطت به أسباب السّؤدد من سائر الوجوه إحاطة الطّوق بالعنق، وزان الشّرف بالسّؤدد والعلم بالعمل، والرياسة باللطف فاختارته المناصب واختالت به الدّول، وتقدّم بنفسه ونفاسة أصله فكان شوط من تقدّمه وراء خطوه وهو يمشي على مهل، واصطفته الدولة
__________
(1) إشارة إلى ما ورد في قصيدة الفرزدق في مدح زين العابدين، علي بن الحسين والتي مطلعها:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/261)
القاهرة لنفسها فتمسّك من الموالاة بأوثق أسبابها، واعتمدت عليه في بثّ نعمها، وبعث كرمها، فعرّف في ذلك الأمور من وجهها وأتى البيوت من أبوابها، وحمدت وفود أبوابنا العالية لحسن سيرته في إكرامهم السّرى، واكتفت [حتى] (1) مع ترك الكرامة إليهم ببشاشة وجهه التي هي خير من القرى، وصان البيوت عن الإقواء بتدبيره الذي هو من موادّ الأرزاق، وزاد الحواصل بتثميره مع كثرة الكلف التي لو حاكتها الغمائم لأمسكت خشية الإنفاق.
ولما كان فلان هو الذي تليت مناقب بيته الطاهر، وجليت مفاخر أصله الزاهر، وتجملت بشرف خلاله خلال الشّرف التي تركها الأوّل للآخر، وكان مشهد الإمام السيد الحسين ابن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهما السلام بالقاهرة المحروسة بقعة هي منتجع الرحمة، ومظنّة إجابة الأمّة، وروضة من شرّفت بانتقاله إليها، وتربة شهيد الزهراء صلوات الله على أبيها وعليها، وبه الآن [من] (2) رواتب القربات ووظائف العلوم وجهات الخير ما يحتاج إلى اختيار من يجمل النظر فيه، ويسلك نهج سلفه في الإعراض عن عرض الدنيا ويقتفيه رأينا أن نختار لذلك من اخترناه لأنفسنا فكان الكفء الكريم، واختبرناه لمصالحنا فخبرنا منه الحفيظ العليم، وأن نقدّم مهمّ ذلك البيت على مهمّ بيوتنا فإنّ حقوق آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحقّ بالتعظيم.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زالت مكارمه بتقريب ذوي القربى جديرة، ومراسيمه على إقدار ذوي الرّتب على ما يجب قديرة، أن يفوّض إليه النظر على مشهد الإمام الحسين ابن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهما السلام بالقاهرة المحروسة، على قاعدة من تقدّمه في ذلك، بالمعلوم الشاهد به ديوان الوقف: لما قدّمناه من أسباب رجّحته لذلك، وبيّناه من أمور أوضحت في اختيارنا له المسالك ومن أولى منه بهذه الرتبة التي شهدت له باستحقاقها مناصبه ومناسبه، أو أقدر منه على أمثال هذه الوظيفة وقد أقرّت بكماله وكرم خلاله مراتب الباب الشريف ورواتبه.
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/262)
فليمعن النظر في مباشرة أوقاف هذه البقعة المباركة مظهرا ثمرة تفويضها إليه، مبيّنا نتيجة تعرّضها له وعرضها عليه، منّبها على سرّ التوفيق فيما وضع أمرنا من مقاليد أمرها في يديه، مجتهدا في تمييز أموال الوقف من كل كاتب [حديث] (1)، موضّحا من شفقة الولد [على] (2) ما نسب إلى الوالد ما شهدت به في حقّها الأحاديث، سالكا من خدمة ذلك المشهد ما يشهد له به غدا عند جدّه، ناشرا من [عنايته به] (3) لواء فضل رفعه في الحقيقة رفع لمجده وليلحظ تلك المصالح بنظره الذي يزيد أموالها تثميرا، ورباعها تعميرا، وحواصلها تمييزا وتوفيرا، وارج أيّها السيد الشريف عند الله تعالى بذلك عن كل حسنة عشرا إن ذلك كان على الله يسيرا، وصن ما بيدك عن شوائب الأدناس: {إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (4) وقد خبرنا من سيرتك وسريرتك ما لا نحتاج أن نزداد به خبرا، ولا أن نبلوه بعد ما سلف مرّة أخرى ولكن نذكّرك بتقوى الله التي أنت بها متّصف، وبوجودها فيك معروف وبوجوبها عليك تعترف فقدّمها بين يديك واجعلها العمدة فيما اعتمدنا فيه عليك، إن شاء الله تعالى.
المرتبة الثالثة
(من الوظائف الدينية ما يكتب في قطع العادة الصغير، مفتتحا ب «رسم بالأمر الشريف») وهو لمن كانت رتبته مجلس القاضي، وربّما كتب فيه بالسامي بغير ياء لمن قصد تعظيمه وهو قليل، وبه يكتب لأرباب الوظائف الصّغار من الخطباء، والمدرّسين، ونظّار الأوقاف، وغيرهم ممن لا ينحصر كثرة.
وهذه نسخة توقيع بنظر البيمارستان (5) العتيق الذي رتّبه السلطان صلاح
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(4) الأحزاب / 33.
(5) وتختصر في كثير من الأحيان فيقال «مارستان». وهي مأخوذة من الكلمة الفارسية «بيمار» بمعنى مريض، و «إستان» بمعنى مكان. وتدل على المستشفى. وكان يدرّس الطب في البيمارستان أيضا. (دائرة المعارف الإسلامية: 9/ 54).(11/263)
الدين «يوسف بن أيّوب» في بعض قاعات قصر الفاطميّين، وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زالت أيّامه تفيد علاء، وتستخدم أكفاء، وتضفي ملابس النّعماء على كلّ عليّ فتكسوه بهجة وبهاء أن يستقرّ فلان في نظر البيمارستان الصّلاحيّ بالقاهرة المحروسة، بالمعلوم الشاهد به الدّيوان المعمور إلى آخر وقت، لكفاءته التي اشتهر ذكرها، وأمانته التي صدّق خبرها خبرها، ونزاهته التي أضحى بها عليّ النفس فغدا بكل ثناء مليّا، ورياسته التي أحلّت قدره أسمى رتبة فلا غرو أن يكون «عليّا».
فليباشر نظر البيمارستان المذكور مباشرة يظهر بها انتفاعه، وتتميّز بها أوضاعه، ويضحى عامر الأرجاء والنّواحي، ويقول لسان حاله عند حسن نظره وجميل تصرّفه: الآن كما بدا صلاحي، وليجعل همّته مصروفة إلى ضبط مقبوضه ومصروفه، ويظهر نهضته المعروفة بتثمير ريعه حتى تتضاعف موادّ معروفه، ويلاحظ أحوال من فيه ملاحظة تذهب عنهم الباس، ويراع مصالح حاله في تنميته وتزكيته حتّى لا يزال منه شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، وليتناول المعلوم الشاهد به الدّيوان المعمور من استقبال تاريخه بعد الخط الشريف أعلاه.
واعلم أنّ من تواقيع أرباب الوظائف الدينية ما يكتب في هيئة أوراق الطريق، أو على ظهور القصص، وقد تقدّم.
وهذه نسخة توقيع بالتحدّث في وقف:
رسم بالأمر الشريف العاليّ المولويّ السلطانيّ الملكيّ الفلانيّ أعلاه الله تعالى وشرّفه، وأنفذه وصرّفه أن يستقرّ القاضي فلان الدين فلان في التحدث في الوقف الفلانيّ، بما لذلك من المعلوم الشاهد به كتاب الوقف.
فليعتمد هذا المرسوم الشريف كلّ واقف عليه، ويعمل بحسبه وبمقتضاه، بعد الخط الشريف، إن شاء الله تعالى.(11/264)
فليعتمد هذا المرسوم الشريف كلّ واقف عليه، ويعمل بحسبه وبمقتضاه، بعد الخط الشريف، إن شاء الله تعالى.
الضرب الثالث (من الولايات بالحضرة السلطانية بالديار المصرية الوظائف الديوانية)
وهي على طبقتين:
الطبقة الأولى (أرباب التقاليد، في قطع الثلثين ممن يكتب له «الجناب العالي» وفيها وظيفتان)
الوظيفة الأولى (الوزارة، إذا كان متولّيها من أرباب الأقلام، كما هو الغالب)
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب وظائف الديار المصرية نقلا عن «مسالك الأبصار» أن ربّها ثاني السلطان لو أنصف وعرف حقّه إلا أنها لما حدثت عليها النيابة، تأخّرت وقعد بها مكانها حتّى صار المتحدّث فيها كناظر المال، لا يتعدّى الحديث فيه ولا يتّسع له في التصرّف مجال، ولا تمتد يده في الولاية والعزل لتطلّع السلطان إلى الإحاطة بجريان الأحوال في الولاية والعزل. وقد تقدّم ذكر ألقابه مستوفاة في الكلام على مقدّمة الولايات في الطّرف الأوّل من هذا الفصل والكلام على طرّة تقليده في الكلام على التقاليد.
وهذه نسخة تقليد بالوزارة، كتب بها للصاحب «بهاء الدين بن حنّا» (1)، من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وهي:
الحمد لله الذي وهب لهذه الدولة القاهرة من لدنه وليّا، وجعل مكان
__________
(1) هو علي بن محمد بن سليم. استوزره الظاهر ثم من بعده ابنه السعيد. عاش أربعا وسبعين سنة وتوفي سنة 677هـ. (انظر فوات الوفيات: 3/ 76).(11/265)
سرّها وشدّ أزرها عليّا، ورضي لها من لم يزل عند ربّه مرضيّا.
نحمده على لطفه الذي أمسى بنا حفيّا، ونشكره على أن جعل دولتنا جنّة أورث تدبيرها من عباده من كان تقيّا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نسبّح بها بكرة وعشيّا، ونصلّي على سيدنا محمد الذي آتاه الله الكتاب وجعله نبيّا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة نتّبع بها صراطا سويّا.
وبعد، فإنّ أولى ما تنغّمت ألسنة الأقلام بتلاوة سوره، وتنعّمت أفواه المحابر بالاستمداد لتسطير سيره، وتناجت الكرام الكاتبون بشكر مجمله ومفصّله، وتناشدت الرّواة بحسن لسنه وترنّمت الحداة بطيب غزله، وتهادت الأقاليم تحف معجّله ومؤجّله، وعنت وجوه المهارق (1) لصعود كلمه الطيّب ورفع صالح عمله ما كان فيه شكر لنعمة تمنّها على الدولة سعادة جدودها وحظوظها، وإفادة مصونها ومحفوظها، وإرادة مرموقها بحسن الاستيداع وملحوظها، وحمد لمنحة أفاءتها بركات أحسنت للمملكة الشريفة مآلا، وقرّبت لها منالا، وأصلحت لها أحوالا، وكاثرت مدد البحر فكلّما أجرى ذاك ماء أجرت هي مالا وإن ضنّت السّحب أنشأت هي سحبا، وإن قيل بشحّ سيحنا (2):
رونق الأرض ذهب، عوّضت عنه ذهبا كم لها في الوجود من كرم وكرامة، وفي الوجوه من وسوم ووسامة، كم أحيت مهجا، وكم جعلت للدولة من أمرها مخرجا، وكم وسّعت أملا، وكم تركت صدر الحزن سهلا، وكم تركت صدر الخزائن ضيّقا حرجا، كم استخدمت جيش تهجّد في بطن الليل، وجيش جهاد على ظهور الخيل، وكم أنفقت في واقف في قلب بين صفوف الحروب، وفي واقف في صفوف المساجد من أصحاب القلوب كم سبيل يسّرت، وسعود كثّرت، وكم مخاوف أدبرت حين درّت، وكم آثار في البلاد والعباد آثرت وأثرّت، وكم وافت ووفّت، وكم كفت وكفّت، وكم أعفت وعفت وعفّت، وكم
__________
(1) المهارق: جمع مهرق وهو الصحيفة البيضاء يكتب فيها.
(2) السّيح: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض.(11/266)
بها موازين للأولياء ثقلت وموازين للأعداء خفّت، كم أجرت من وقوف، وكم عرفت بمعروف كم بيوت عبادة صاحب هذه البركات هو محرابها، وسماء جود هو سحابها ومدينة علم هو بابها تثني الليالي على تغليسه إلى المساجد في الحنادس (1)، والأيام على تهجيره لعيادة الفقراء وحضور الجنائز وزيارة القبور الدّوارس يكتنّ تحت جناح عدله الظاعن والمقيم، وتشكر مبارّه يثرب وزمزم ومكّة والحطيم كم عمّت سنن تفقّداته ونوافله، وكم مرّت صدقاته بالوادي فسّح الله في مدّته فأثنت عليه رماله، وبالنادي فأثنت عليه أرامله ما زار الشام إلا أغناه عن منّة المطر، ولا صحب سلطانه في سفر إلا قال: نعم الصاحب في السّفر والحضر.
ولما كان المنفرد بهذه البركات هو واحد الوجود، ومن لا يشاركه في المزايا شريك وإنّ الليالي بإيجاد مثله غير ولود، وهو الذي لو لم نسمّه قال سامع هذه المناقب: هذا الموصوف، عند الله وعند خلقه معروف، وهذا الممدوح، بأكثر من هذه الممادح والمحامد من ربه ممدوح وممنوح، وهذا المنعوت بذلك، قد نعتته بأكثر من هذه النّعوت الملائك وإنما نذكر نعوته التذاذا، فلا يعتقد خاطب ولا كاتب أنه وفّى جلالته بعض حقّها فإنه أشرف من هذا وإذا كان لا بدّ للممادح أن تجول، وللقلم أن يقول، فتلك بركات المجلس العاليّ، الصاحبيّ، السيّديّ، الورعيّ، الزاهديّ، العابديّ، الوالديّ، الذّخريّ، الكفيليّ، الممهّدي، المشيّديّ، العونيّ، القواميّ، النّظاميّ، الأفضليّ، الأشرفيّ، العالميّ، العادليّ، البهائيّ، سيد الوزراء في العالمين، كهف العابدين، ملجأ الصالحين، شرف الأولياء المتّقين، مدبّر الدول، سداد الثّغور، صلاح الممالك، قدوة الملوك والسلاطين، يمين أمير المؤمنين، عليّ بن
__________
(1) التغليس هو السّير في الغلس. والغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح. وفي الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي الصبح بغلس. والحنادس: جمع حندس، وهو الليل الشديد الظلمة. والحنادس ثلاث ليال في آخر الشهر.(11/267)
محمد: أدام الله جلاله. من تشرف الأقاليم بحياطة قلمه المبارك، والتقاليد بتجديد تنفيذه الذي لا يساهم فيه ولا يشارك فما جدّد منها إنما هو بمثابة آيات فتردّد، أو بمنزلة سجلات في كل حين بها يحكم وفيها يشهد حتى تتناقل ثبوته الأيام والليالي، ولا يخلو جيد دولة من أنه يكون الحالي بما له من فاخر اللآلي.
فلذلك خرج الأمر العالي لا برح يكسب بهاء الدين المحمديّ أتمّ الأنوار، ولا برحت مراسمه تزهو من قلم منفّذه بذي الفقر وذي الفقار أن يضمّن هذا التقليد الشريف بالوزارة التامة، العامّة، الشاملة، الكاملة: من المآثر الشريفة الصاحبية، البهائية، أحسن التضمين، وأن ينشر منها ما يتلقّى رايته كلّ ربّ سيف وقلم باليمين، وأن يعلم كافّة الناس ومن تضمّه طاعة هذه الدولة وملكها وسلكها من ملك وأمير، وكلّ مدينة ذات منبر وسرير، وكلّ من جمعته الأقاليم من نوّاب سلطنة، وذي طاعة مذعنة، وأصحاب عقد وحلّ، وظعن وحلّ، وذي جنود وحشود، ورافعي أعلام وبنود، وكلّ راع ورعية، وكل من ينظر في الأمور الشرعية، وكلّ صاحب علم وتدريس، وتهليل وتقديس، وكلّ من يدخل في حكم هذه الدولة الغالبة من شموسها المضيئة، وبدورها المنيرة وشهبها الثاقبة، في الممالك المصريّة، والنّوبيّة، والساحليّة، والكركيّة، والشّوبكيّة، والشاميّة، والحلبية، وما يتداخل بين ذلك، من ثغور وحصون وممالك أنّ القلم المبارك الصاحبيّ البهائيّ في جميع هذه الممالك مبسوط، وأمر تدبيرها به منوط، ورعاية شفقته لها تحوط وله النظر في أحوالها، وأموالها، وإليه أمر قوانينها، ودواوينها، وكتّابها، وحسّابها، ومراتبها، ورواتبها، وتصريفها، ومصروفها، وإليه التولية والصّرف، وإلى تقدّمه البدل والنعت والتوكيد والعطف فهو صاحب الرّتبة التي لا يحلّها سواه وسوى من هو مرتضيه، من السادة الوزراء بنيه، وما سمّينا غيره وغيرهم بالصّحوبية (1) فليحذر
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية: «في التعبير بالصحوبية تسامح في العربية».(11/268)
من يخاطب غيره وغيرهم بها أو يسمّيه فكما كان والدنا الشهيد رحمه الله يخاطبه بالوالد قد خاطبناه بذلك وخطبناه، وما عدلنا عن ذلك بل عدلنا لأنه ما ظلم من أشبه أباه فمنزلته لا تسامى ولا تسام، ومكانته لا ترامى ولا ترام فمن قدح في سيادته من حسّاده زناد قدح أحرق بشرر شرّه، ومن ركب إلى جلالته، ثبج سوء أغرق في بحره، ومن فتل لسعادته، حبل كيد فإنما فتله مبرمه لنحره فلتلزم الألسنة والأقلام والأقدام في خدمته أحسن الآداب، وليقل المتردّدون:
حطّة (1) إذا دخلوا الباب ولا يغرّنهم فرط تواضعه لدينه وتقواه، فمن تأدّب معه تأدّب معنا ومن تأدّب معنا تأدّب مع الله. وليتل هذا التقليد على رؤوس الأشهاد، وتنسخ نسخته حتّى تتناقلها الأمصار والبلاد فهو حجّتنا على من سمّيناه خصوصا ومن يدخل في ذلك بطريق العموم، فليعملوا فيه بالنص والقياس والاستنباط والمفهوم والله يزيد المجلس الصاحبيّ الوزيريّ البهائيّ سيد الوزراء من فضله، ويبقيه لغاب هذه الدولة يصونه لشبله كما صانه لأسده من قبله، ويمتّع بنيته الصالحة التي يحسن بها إن شاء الله نماء الفرع كما حسن نماء أصله، بمنّه وكرمه! وهذه نسخة تقليد بالوزارة، كتب به للصاحب تاج الدين (2) محمد بن فخر الدين ابن الصاحب بهاء الدين علي بن حنّا، في ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وستّمائة، من إنشاء المولى شهاب الدين محمود الحلبيّ، تغمده الله برحمته، وهي:
الحمد لله مكمّل شرف الوزارة بطلعة تاجها، ومشرّف قدرها بمن تشرق عليها أشعّة سعده إشراق الكواكب على أبراجها، ورافع لواء مجدها بمن تلقّته
__________
(1) الحطّة: طلب المغفرة. والإشارة إلى الآية الكريمة: {وَادْخُلُوا الْبََابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطََايََاكُمْ} البقرة / 58.
(2) ولد سنة 640هـ وتوفي سنة 707هـ. قال في فوات الوفيات: «ورأى من العز والرياسة والوجاهة ومن السيادة ما لا رآه جده الصاحب بهاء الدين». (فوات الوفيات: 3/ 255).(11/269)
بعد الجفاء في حلل سرورها وحليّ ابتهاجها، وتحلّت بعد العطل من جواهر مفاخره بما تتزيّن عقود السّعود بازدواجها، وترفل من انتسابها إلى أبّهة بهائه بما يودّ ذهب الأصيل لو امتزج بسلوك انتساجها، الذي شيّد قواعد هذه المرتبة السنيّة في أيّامنا وجدّدها، وبعث لها على فترة من الأكفاء من حسم الأدواء فكان مسيحها وشرع المعدلة فكان محمّدها، وردّها بحكم الاستحقاق إلى من لا يختلف في أنه صاحبها، ورجعها إلى من خطبته لنفسها بعد أن أحجم لشرف قدرها خاطبها.
نحمده على أن شدّ أزر ملكنا بأكرم وزير، وأيمن مشير، وأجلّ من ينتهي إلى بيت كريم، وحسب صميم، ومن إذا قال لسان ملكنا: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} (1) قالت كفايته: {اجْعَلْنِي عَلى ََ خَزََائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (2)
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نقرّ بها سرّا وعلنا، ونقرّ بها هذه العقيلة الجليلة عند من يكسوها مجده رفعة وسنا، ويلبس جفن الدّهر عنها وسنا، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله المخصوص بكل صاحب شهد الكتاب والسّنّة بفضله، وقام بعضهم بحسن مؤازرته مقام من شدّ الله به عضد من سأله وزيرا من أهله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا تغرب شمسها، ولا يعزب أنسها، ولا يتفاوت في المحافظة عليها غدها وأمسها، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإنّ أولى من خطبت بحمده الأقلام، وافتتحت به الدولة التي ابتسمت بنسيمها ثغور الأيام، وودّت مسكة الليل لو مازجت أنفاسه، وأمّل بياض النهار لو أخذ من غير سمة عوض ورق الورق قرطاسه، وتحاشدت النجوم
__________
(1) من الآية 54من سورة يوسف.
(2) يوسف / 55.(11/270)
لتنتسق في سلك معانيه وطارت بذكره في الآفاق أنباء السّعود، وحكمت الجدود بأنه في اقتبال إقباله نهاية الآباء وغاية الجدود، وافترّت به ثغور الممالك عن أحسن الدّرّ النّضيد، وسرت بذكره رفاق الآفاق ففي كلّ ناد مناد وفي كلّ برّ بريد، واختالت به أعطاف الدولة القاهرة فأوت من الرأي السّديد إلى كلّ ركن شديد، ونطق به العدل والحقّ فخرس الظّلم وما يبديء الباطل وما يعيد، وجرت به أقدار ذوي الرّتب على أجمل مناهجها فأمّا أهل العدل فيقرّبون نجيّا وأما أهل الظّلم فاولئك ينادون من مكان بعيد، وبدت به وجوه المصالح سافرة بعد الحجاب، بارزة بعد طول الانتقال إلى الانتقاب، داخلة بوفود المحامد من كلّ باب، إلا الظّلم فإنه بحمد الله قد سدّ ذلك الباب. وأقرّ منصب الوزارة الشريفة أنّا أعدنا به الحقّ إلى نصابه، ورددناه إلى من هو أولى به بعد اغتصابه، وألبسناه من بهجة أيّامنا تاجا ردّ عليه عزّا لا تطمع يد الذّهب في انتزاعه عنه ولا استلابه، وتقليده لمن يودّ الفرقد لو عقد به إكليله ويتمّنى الطّرف لو أدرك غاية مجده وإن رجع وهو حسير البصر كليله، وتفويض ذلك إلى من كان له وهو في يد غيره، ومن به وببيته تمهّدت قواعده فما كان فيه من خير فهو من سيرتهم وما كان من شرّ فمن قبل المقصّر من عثارهم في سيره وما أحدث فيه من ظلم فهو منه براء إذ إثم ذلك على من اجترأ عليه، وما أجري به من معروف فإلى طريقهم منسوب وإن تلبّس منه بما لم يعط من نسب إليه وما خلا منهم هذا الدّست الكريم إلا وهم بالأولويّة في صدره الجلوس، ولا تصدّى غيرهم لتعاطيه إلا وأقبلت عليه في أيّامه الجسوم وعلية النّفوس.
ولذلك لمّا كانت هذه الدولة القاهرة مفتتحة بالبركات أيّامها، ماضية بكفّ الظلم ونشر العدل سيوفها وأقلامها، مستهلّة بالأرزاق سحب فضلها التي لا يقلع غمامها اقتضت الآراء الشريفة اختيار خير صاحب يعين على الحق بآرائه، ويجمّل الدّست ببهجته وروائه، ويجري الأرزاق بوجه لو تأمّله امرؤ ظاميء الجوانح لارتوى من مائه وكان المجلس العاليّ، الصاحبيّ، الوزيريّ، التاجيّ: أدام الله تعالى نعمته، ورحم سلفه، هو المخطوب لفضله،
والمطلوب لهذا الدّست الذي تعين له دون الأكفاء وإن لم يكن غير أهله من أهله، وما زال يتشوّف إليه تشوّف البروج إلى نجوم السّعود، ويتطلّع إلى محيّاه الذي هو كنور الشمس في الدّنوّ وكمحلّها في الصّعود، وما زالت الأدعية الصالحة ترتفع في أيامه لمالك عصره، والآراء تقام منها جنود لتأييده وحشود لنصره، والأموال تحمل منها إلى خزائنه بأشبه بموج البحر في الحضر دون حصره.(11/271)
ولذلك لمّا كانت هذه الدولة القاهرة مفتتحة بالبركات أيّامها، ماضية بكفّ الظلم ونشر العدل سيوفها وأقلامها، مستهلّة بالأرزاق سحب فضلها التي لا يقلع غمامها اقتضت الآراء الشريفة اختيار خير صاحب يعين على الحق بآرائه، ويجمّل الدّست ببهجته وروائه، ويجري الأرزاق بوجه لو تأمّله امرؤ ظاميء الجوانح لارتوى من مائه وكان المجلس العاليّ، الصاحبيّ، الوزيريّ، التاجيّ: أدام الله تعالى نعمته، ورحم سلفه، هو المخطوب لفضله،
والمطلوب لهذا الدّست الذي تعين له دون الأكفاء وإن لم يكن غير أهله من أهله، وما زال يتشوّف إليه تشوّف البروج إلى نجوم السّعود، ويتطلّع إلى محيّاه الذي هو كنور الشمس في الدّنوّ وكمحلّها في الصّعود، وما زالت الأدعية الصالحة ترتفع في أيامه لمالك عصره، والآراء تقام منها جنود لتأييده وحشود لنصره، والأموال تحمل منها إلى خزائنه بأشبه بموج البحر في الحضر دون حصره.
فلذلك رسم بالأمر الشريف ضاعف الله مواهبه العميمة، وكمّل جلال دولته بتفويض أمورها إلى ذوي الأصول العريقة والبيوت القديمة أن تحلّى منه هذه الرتبة العلية بما حلّى به الدّين، وتعقد له راية فضلها المتين، ليتلقّاها شرقا وغربا، وبعدا وقربا وبرّا وبحرا، وشاما ومصرا، ويحلّى حلاه علم وعلم، وسيف وقلم، ومنبر وسرير، ومأمور وأمير.
فليتلقّ أمره بالطاعة كلّ مؤتمر بأمرنا الشريف، جار في طاعتنا المفروضة بين بيان التقليد وعنان التصريف، وليبادر إلى تدبير أمور الأقاليم بأقلامه المباركة، ويمض القواعد على ما تراه آراؤه المنزّهة عن المنازعة في الأمر والمشاركة، ولينشر كلمة العدل التي أمر الله بإضافة الإحسان إليها، ويمت بدع الظلم فإنّ الله يشكره على تلك الإماتة ويحمده عليها، ويسهّل رزق الصدقات، ووظائف القربات، فإن ذلك من أجلّ ما قدّمته [الطائفة] (1) الصالحة بين يديها، وليكثر بذلك جنود الليل فإنها لا تطيش سهامها، ويتوقّ من محاربتها بظلم فإنّه لا يداوى بالرّقى سمامها، وليعوّذ بتمائم التيسير مواهبنا فإنّ تمام النعمة تمائمها، وليطلق قلمه في البسط والقبض وليعد بتدبيره على هذا المنصب الشريف بهجته، ويتدارك بآرائه ذماءه وبدوائه مهجته، ويصن عن شوائب الظّلم حرمته، ويخلّص ذمّتنا من المآثم وذمّته، وليعلم أنّ أمور المملكة الشريفة منوطة بآرائه
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/272)
وأحكامه، مضبوطة بأقواله وأقلامه فليجعل فكره مرآة تجلو عليه صورها، ويقم آراءه صحفا تتلو لديه سورها، ويأمر النوّاب بما يراه من مصالحنا ليلبّوه سامعين، ويسهر جفنه في مصالح البلاد والعباد لترقد الرّعايا في مهاد الأمن وادعين ويعضّد الشريعة المطهّرة بتنفيذ أحكامها، وإعلاء أعلامها، وإظهار أنوارها، وإقامة ما رفعه الله من منارها ولا يعدل في أمور مباشرتها بالممالك الشريفة عن آرائه، ولا يمضي فيها عزلا ولا ولاية إلا بعد تتبّعه الواجب في ذلك واستقرائه، وهو أعلم بما يجب لهذه الرّتبة من قواعد إليه يرجع في أوضاعها، وعليه يعوّل في اصطلاحها لانفرادها فيه واجتماعها فليفعل في ذلك ما هو عليه بحسن الثناء جدير، وليعتصم بالله في أموره فإنّه نعم المولى ونعم النصير، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بالوزارة، كتب به للصاحب ضياء الدين بالاستمرار على الوزارة، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ:
الحمد لله الذي شدّ أزر ملكنا الشريف، بمن أضاء في أفق الدّين علمه، وشيّد قواعد عدلنا المنيف، بمن أعلت منار الحق آياته في أحكام الممالك وحلمه، ووطّد أركان دولتنا القاهرة بمن يفعل في نكاية أعداء الله فعل الحرب العوان سلمه، وأجرى الأرزاق في أيّامنا الزاهرة على يد من كفّت أقلامه كفّ الحوادث فلا عدوان تغشى ظلمه ولا عاد يخشى ظلمه، وصان ممالكنا المحروسة بآراء من إن صرف إلى نكاية أعداء الله حدّ يراعه لم ينب موقعه ولم يعف كلمه، وإن صرفه في حماية ثغر لم يشم (1) برقه ولم يدق بالوهم ظلمه، وإن حمى جانب إقليم عزّ على الأيام ثلّ عروش ما حماه وشمه، وإن أرهفه لذبّ
__________
(1) شام السحاب والبرق: نظر إليه يتحقق أين يكون مطره. وشام الشيء: حزره وقدّره. وودق المطر، يدق ودقا: قطر. وودق إلى الشيء: اقترب منه.(11/273)
عن دين الله راعت عدوّ الدين منه يقظته وسلّه عليه حلمه.
نحمده على نعمه التي زانت أسنى مناصب الدنيا في أيّامنا الزاهرة بضياء الدّين، وأعلت أقدار الرّتب العليا بتصرّفها بآراء من أصبح علمه علما للمتقين وعمله سننا للمقتدين، وفجّرت ينابيع الأرزاق في دولتنا القاهرة بيد من أغنى بيدنا المعتفين وقمع بمهابتنا المعتدين.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أعاد يمنها على سمع المنابر من نعوتنا ما فقد، وأطفأ إعلانها عن حملتها لهب العناد وقد وقد (1)، وفوّض اعتناؤنا بمصالح أهلها أمورهم إلى أكمل من انتقى لنا التأييد من ذخائر العلماء وأفضل من انتقد، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أقامنا الله للذّبّ عن أمّته، وجلا بنور جهادنا لأعدائه عن قلب كل مؤمن ما أظلّه من غمّه وران عليه من غمّته، وعضّدنا من أئمة ملّته بمن أردنا مصالح العباد والبلاد في إلقاء كلّ أمر إليه بأزمّته، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من فاز بسبقه، وحاز بتصديقه قدم صدقه، واختصّه الله بمؤازرة نبيّه دون من اجتباه من خلقه ومنهم من كان الشيطان ينكّب عن طرقه، ونطق من الصواب بما نزل الذّكر الحكيم على وفقه، وسمّي الفاروق لتمييزه بين الحقّ والباطل وفرقه، ومنهم من قابل المعتدين برفقه وقتل شهيدا على حقّه، وكانت ملائكة الرحمن تستحيي من خلقه الكريم وكرم خلقه، ومنهم من طلع لامع نور الإيمان من أفقه، وكان سيفه من كل ملحد في دين الله بمثابة قلادة عنقه، وطلّق الدنيا تورّعا عنها وبيده مفاتيح ما بسط الله للّامّة من رزقه، صلاة يقيم الإيمان، فرضها، ويملأ بها الإيقان، طول البسيطة وعرضها، وتزيّن كواكب ذكرها ومواكب نصرها سماء الدنيا وأرضها، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإنّ أولى من رقمت لأعطاف فضله حلل الكلام، ونظمت لأجياد
__________
(1) يقال: وقدت النار وقدا أي اتّقدت.(11/274)
ذكره فرائد المعاني المستخرجة من بحار الفكر على ألسنة الأقلام، ووشّحت التقاليد من مناقبه بما هو أحسن من اتّساق الدّراريّ على هالات البدور، وجلّي على المسامع مفاخره بما هو أبهى من النّور في العيون، وأحلى من الأمن في القلوب، وأوقع من الشّفاء في الصّدور، وأطلع في أفق الطروس من أوصافه شمس أسفر بأنواع العلوم ضياؤها، وأنشئت في أثناء السطور من نعت مآثره سحب إذا قابلتها وجوه الحيا سترها بحمرة البرق حياؤها، وأودعت المهارق من ذكر خلاله لطفا يودّ ذهب الأصيل لو ناب عن أنفسها، ومنحت صدور المعاني من معاليه طرفا تتمنّى الرياض العواطر لو تلقّت عن أنفاسها من سمت الوزارة باستقرارها منه في معدن الفضائل، واتّسمت منه بالصاحب الذي أعادت أيّامه ما فقد من محاسن السّير الأوائل، وابتسمت من علومه بالعلّامة الذي تتفرّع من أحكامه أحكام الفروع وتتفجّر من تواقيعه عيون المسائل، واتّصفت من معدلته بالمنصف الذي هجر في أيّامه هجير الحيف والظّلم فالأوقات في أيامه المباركة كلّها أسحار وأصائل، وابتهجت من إنصافه بالعادل الذي سهّل على ذوي المطالب حجاب بابه فلا يحتاج أن يطرق بالشّفاعات ولا أن يستفتح بالوسائل، وأشرقت من مفاخره بالكامل الذي حسنت به حلل الثناء فكأنها ابتسام ثغور النّور في أثناء الخمائل فالعدل في أيّامه كالإحسان شامل، والمعروف بأقلامه كالسّحب المتكفّلة بريّ الأرض الهامل، والظلم والإنصاف مفترقان منه بين العدم والوجود فلا يرى بهذا آمرا ولا يردّ عن هذا آمل قد أعطى دست الوزارة الشريفة حقّه: فالأقدار بآياته مرفوعة، والمضارّ بمعدلته مدفوعة، وكلمة المظلوم بإنصاف إنصاته مسموعة، وأسباب الخيرات بحسن نيّته لنيّته الحسنة مجموعة، والأقاليم بكلاءة أقلامه محوطة، وأحوال المملكة بآرائه المشتملة على مصالحها منوطة، والثّغور بحسن تفقّده مفترّة المباسم، مصونة بإزاحة الأعذار عن مرّ الرّياح النّواسم، آهلة النّواحي بموالاة الحمول التي لا تزال عيسها بإدامة السّرى دامية المناسم، والبلاد بما نشرت أقلامه من العدل معمورة، والرّعايا بما بسطت يد إحسانه من الإحسان مغمورة، وأرباب التصرّف بما تقتضيه أقلامه عن الحيف
منهيّة وبالرّفق مأمورة، والأيدي بالأدعية الصالحة لأيّامنا الزاهرة مرتفعة، والرعيّة لتقلّبها في مهاد الأمن والدّعة بالعيش منتفعة، وبيوت الأموال آهلة، على كثرة الإنفاق، والغلال متواصلة، مع التوفّر على عمارة البلاد، والحمول متوالية مع أمن من صدرت عنهم على ما في أيديهم من الطّوارف والتّلاد، والأمور بالتيقّظ لها على سعة الممالك مضبوطة، والنّفوس بالأمن على ما هي عليه من التملّي بالنّعم مغبوطة، والمناصب مصونة بأكفائها، والمراتب آهلة بالأعيان الذين تنبّهت لهم في أيّامه عيون الحظّ بعد إغفائها، ومجالس المعدلة حالية، بأحكام سيرته المنصفة، ومواطن العلم عالية، بما يملى فيها من فوائده التي أتعب ألسنة الأقلام ما فيها من صفة.(11/275)
ذكره فرائد المعاني المستخرجة من بحار الفكر على ألسنة الأقلام، ووشّحت التقاليد من مناقبه بما هو أحسن من اتّساق الدّراريّ على هالات البدور، وجلّي على المسامع مفاخره بما هو أبهى من النّور في العيون، وأحلى من الأمن في القلوب، وأوقع من الشّفاء في الصّدور، وأطلع في أفق الطروس من أوصافه شمس أسفر بأنواع العلوم ضياؤها، وأنشئت في أثناء السطور من نعت مآثره سحب إذا قابلتها وجوه الحيا سترها بحمرة البرق حياؤها، وأودعت المهارق من ذكر خلاله لطفا يودّ ذهب الأصيل لو ناب عن أنفسها، ومنحت صدور المعاني من معاليه طرفا تتمنّى الرياض العواطر لو تلقّت عن أنفاسها من سمت الوزارة باستقرارها منه في معدن الفضائل، واتّسمت منه بالصاحب الذي أعادت أيّامه ما فقد من محاسن السّير الأوائل، وابتسمت من علومه بالعلّامة الذي تتفرّع من أحكامه أحكام الفروع وتتفجّر من تواقيعه عيون المسائل، واتّصفت من معدلته بالمنصف الذي هجر في أيّامه هجير الحيف والظّلم فالأوقات في أيامه المباركة كلّها أسحار وأصائل، وابتهجت من إنصافه بالعادل الذي سهّل على ذوي المطالب حجاب بابه فلا يحتاج أن يطرق بالشّفاعات ولا أن يستفتح بالوسائل، وأشرقت من مفاخره بالكامل الذي حسنت به حلل الثناء فكأنها ابتسام ثغور النّور في أثناء الخمائل فالعدل في أيّامه كالإحسان شامل، والمعروف بأقلامه كالسّحب المتكفّلة بريّ الأرض الهامل، والظلم والإنصاف مفترقان منه بين العدم والوجود فلا يرى بهذا آمرا ولا يردّ عن هذا آمل قد أعطى دست الوزارة الشريفة حقّه: فالأقدار بآياته مرفوعة، والمضارّ بمعدلته مدفوعة، وكلمة المظلوم بإنصاف إنصاته مسموعة، وأسباب الخيرات بحسن نيّته لنيّته الحسنة مجموعة، والأقاليم بكلاءة أقلامه محوطة، وأحوال المملكة بآرائه المشتملة على مصالحها منوطة، والثّغور بحسن تفقّده مفترّة المباسم، مصونة بإزاحة الأعذار عن مرّ الرّياح النّواسم، آهلة النّواحي بموالاة الحمول التي لا تزال عيسها بإدامة السّرى دامية المناسم، والبلاد بما نشرت أقلامه من العدل معمورة، والرّعايا بما بسطت يد إحسانه من الإحسان مغمورة، وأرباب التصرّف بما تقتضيه أقلامه عن الحيف
منهيّة وبالرّفق مأمورة، والأيدي بالأدعية الصالحة لأيّامنا الزاهرة مرتفعة، والرعيّة لتقلّبها في مهاد الأمن والدّعة بالعيش منتفعة، وبيوت الأموال آهلة، على كثرة الإنفاق، والغلال متواصلة، مع التوفّر على عمارة البلاد، والحمول متوالية مع أمن من صدرت عنهم على ما في أيديهم من الطّوارف والتّلاد، والأمور بالتيقّظ لها على سعة الممالك مضبوطة، والنّفوس بالأمن على ما هي عليه من التملّي بالنّعم مغبوطة، والمناصب مصونة بأكفائها، والمراتب آهلة بالأعيان الذين تنبّهت لهم في أيّامه عيون الحظّ بعد إغفائها، ومجالس المعدلة حالية، بأحكام سيرته المنصفة، ومواطن العلم عالية، بما يملى فيها من فوائده التي أتعب ألسنة الأقلام ما فيها من صفة.
ولما كان الجناب العاليّ، الصاحبيّ، الوزيريّ، الضّيائيّ، وزير الممالك الشريفة، هو الذي كرمت به مناسبها، وعظمت بالانتماء إليه مناصبها، وتحلّت بعلمه معاطفها، ونزلت على حكم حلمه عوارف برّها العميمة وعواطفها، وزهت بجواهر فضائله أجيادها، واستوت في ملابس حلل المسرّة أيامّها الزاهية وأعيادها، وأنارت بمعدلته لياليها، وأشرقت بالانتظام في سخاب (1) إيالته لآليها فكم من أقاليم صان قلمه أموالها، وممالك حلّى عدله أحوالها، وبلاد أعان تدبيره السّحب على ريّها، وأعمال أبان عن استغنائها بتأثيره عن منّة الحيا حسن مسموعها ومرئيّها، وأرزاق أدرّها، ورزق أجراها على قواعد الإحسان وأقرّها، وجهات برّ أعان واقفيها عليها، وأسباب خير جعل أيّامنا بإدامة فتحها السابقة إليها، وقدم سعاية أزالها وأزلّها، وكلمة حادثة أذالها وأذلّها، ووجوه مضرّة ردّها بيد المعدلة وصدّها، وأبواب ظلم لا طاقة للرعيّة بسلوكها أغلقها بيمنى يمنه وسدّها فدأبه أن يسدّد إلى مقاتل العدا باتخاذ اليد عند الفقراء سهام
__________
(1) السّخاب، بكسر السين المهملة وبالخاء المعجمة: قلادة من مسك وقرنفل ومحلب، ليس فيها من اللؤلؤ والجوهر شيء. وجمعها: سخب، ككتب.(11/276)
الليل (1) التي لا تصدّها الدّروع، وأن يجدّد لأوليائنا من عوارف آلائنا أخلاف برّ تروي الآمال وهي حافلة الضروع اقتضت آراؤنا الشريفة أن نزيّن بمجده غرر التقاليد، ونجدّد إليه في أمور وزارتنا الشريفة إلقاء المقاليد، وأن نوشّي الطروس من أوصافه بما يجدّد على أعطافها الحبر، ونردّد على ألسنة الأقاليم من نعوته ما لا تملّ المسامع إيراد الخبر منه بعد الخبر.
فلذلك رسم بالأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السّلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ لا زال الدّين في أيامه الشريفة مشرقا ضياؤه، آهلة باعتلائه مرابع الوجود وأحياؤه، ممدودة على الأمة ظلاله الوارفة وأفياؤه أن يجدّد هذا التقليد باستقراره تجديدا لا يبلي الدهر حلله، ولا تقوّض الأيام حلله (2)، بل يشرق في أفق الممالك إشراق النجوم الثّوابت، ويتفرّع في مصالح الملك تفرّع الأفنان الناشئة في الأصول النّوابت، وتختال به مناصب الدولة القاهرة في أسنى ملابسها، وتضيء به مواطن العلوم إضاءة صباحة المصباح في يد قابسها، وتسترفع لنا به الأدعية الصالحة من كلّ لسان، وتجتلى به لأيامنا الزاهرة من كل أفق وجوه الشّكر الحسان.
فلتجر أقلامه في مصالح دولتنا الشريفة على أفضل عادتها، ويرسلها في نشر العدل على سجيّتها وفي إجراء الجود على جادّتها، ويكفّ بها أكفّ الحوادث فإنما تزال أسباب الظلم بحسم مادّتها، ولينطقها في مصالح الأموال بما تظلّ له مسامع الحمول مصغية، ويطلقها في عمارة البلاد بما تغدو له ألسنة الخصب حافظة ولما عداه ملغية وكذلك الخزائن التي هي معاقل الإسلام وحصونه، وحماه الذي لا يبتذل بغير أمرنا الشريف في مصالح الملك والملّة مصونه فليجعلها بتدبيره كالبحار التي لا تنقص بكثرة الورّاد جمامها، ولا تنزحها السّحب لكثرة ما تحمل إلى الآفاق غمامها، ولتكن كلمة العدل من أهمّ
__________
(1) سهام الليل هي الأدعية.
(2) الحلّة: منزل القوم، وجماعة البيوت. والجمع: حلال وأحلّة. وفي المصباح: الحلل هي البيوت وهي مائة فما فوقها.(11/277)
ما تفتتح به مجالسه، وآكد ما يؤمر به محاضره من الأولياء ومجالسه، وأزكى ما يستجيد به لاستمثار الدعاء الصالح مغارسه، وأوثق ما يحوط به حمى الملك الذي إذا غفا جفن عينه كان حارسه، وأوّل ما ينبغي أن ينافس عليه حاضر دسته وغائبه، وأولى ما يعدّ على إهماله نكاله ويعدّ على إقامته رغائبه.
وليلاحظ من مصالح كلّ إقليم ما كأنّه ينظر إليه بعين قلبه، ويمثّل صورته في مرآة لبّه، فيقرّ كلّ أمر على ما يراه من سداده، ويقرّر حال كلّ ثغر على ما يحصل به المراد في سداده، فيغدو لأعذاره بموالاة الحمول إليه مزيحا، ويمسي بسدّ خلله لخواطر أهل الكفر متعبا ولخواطرنا الشريفة مريحا، وينظر في أحوال من به من الجند والرجال بما يؤكّد الطاعة عليهم، ويجدّد الاستطاعة لديهم، ويزيل أعذارهم واعتذارهم [بوصول حقوقهم إليهم، ويوفّرهم على إعداد الأهبة للأعداء] (1) إذا أتوهم من فورهم، ويكفّهم بإدار الأرزاق عليهم عن اعتدائهم على الرعايا وجورهم، ويتفقّد من أحوال مباشريها وولاة الحكم والتحكّم فيها ما يعلمون به أنه مناقشهم على الأمور اليسيرة، والهفوات التي يرونها قليلة وهي بالنسبة إلى كثرة الرّعايا كثيرة، ويتعاهد أمور الرتب الدينيّة فلا تؤخذ مناصبها بالمناسب، ولا تغدو أوقافها المعدّة لاكتساب العلوم في المكاسب، بل يتعين أن يرتاد لها العلماء الأعيان حيث حلّوا، ويقرّر في رتبها الأئمّة الأكفاء وإلا اتخذ الناس رؤوسا جهّالا فضلّوا وأضلّوا. ولتكن أقلامه على كلّ ما جرت به العوائد في ذلك محتوية، وأيامه على أكمل القواعد في ذلك وغيره منطوية، فما ثمّ شيء من قواعد الوزارة الشريفة خارج عن حكمه فليكتب يمتثل، وليقل في مصالح دولتنا القاهرة يكن قوله أمضى من الظّبا وأسرى من الصّبا وأسير من المثل فلا تمضى في ذلك ولاية ولا عزل، ولا منع ولا بذل، ولا عقد ولا حلّ، إلا وهو معدوق بآرائه، متوقّف على تنفيذه وإمضائه، متلقّى
__________
(1) الزيادة من التقليد الذي يليه.(11/278)
ما يقرّر فيه من تلقائه، وفي الاكتفاء بسيرته ما يغني عن إطرائه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بالوزارة:
الحمد لله الذي شدّ لدولتنا القاهرة باصطفاء أشرف الوزراء أزرا، وخصّ أيّامنا الزاهرة باجتباء من حماها عدله أن تضع أو تحمل وزرا، وأفاض إنعامنا على من طلع في أفق خدمتنا هلالا واستقلّ بحسن السّير والسّيرة بدرا، وضاعف إحساننا لمن لا نرفعه إلى رتبة شرف إلا وكان أجلّ الأكفاء على ذلك قدرة وقدرا، وجمّل ملكنا بمن إذا افتخرت الدّول ببعض مناقبه كفاها ذلك جلالا وفخرا، وإذا ادّخرت تدبيره وبذلت ما عداه فحسبها ما أبقته وقاية للملك وذخرا، وبسط عدلنا في الأقاليم بيد من حين أمرنا القلم بتقليده ذلك سجد في الطّرس شكرا وافتتح بحمد الله يذكّر النعمة به على آلائه إنّ في ذلك لذكرى، وأخذ في وصف درر مفاخره التي تمثّلت له فنضّدها دون أن يستدعي رويّة أو يعمل فكرا.
نحمده حمد من والى إلى أوليائه، موادّ النّعم، وأضفى على أصفيائه، ملابس الكرم، وحفظ لمن أخلص في طاعته معارف معروفه التي هي في أهل النّهى ذمم، ونبّه لمصالح رعاياه من عمّ عدله وإن لم يغف عن ملاحظة أمورهم ولم ينم.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نعلنها ونعليها، ونرخص أرواح جاحديها ونغليها، ونوالي النّعم على المتمسّك بها ونوليها، ونقرّب بيمنها رتب الأولياء من إحساننا وندنيها، ونجدّد لهم بتأييدها ملابس المنن نظهر عليهم آثار النّعم السنية فيها، ونرفعهم بحسن عنايتنا إلى أشرف غاية كانوا يسرّون أهليّتهم لها والله يبديها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أقامنا لنصر دينه فقمنا به كما أمر، وأبقى على أيّامنا حكم أيّامه فاستمرّ الحال على ما
سبقت به دعوته من تأييد الدين بعمر، وخصّنا ممن ينتمي إلى أصحابه بأجلّ صاحب ينوب عن شمس عدلنا في محو ظلمة الظّلم مناب القمر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الزّهر الغرر، وسلّم تسليما كثيرا.(11/279)
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نعلنها ونعليها، ونرخص أرواح جاحديها ونغليها، ونوالي النّعم على المتمسّك بها ونوليها، ونقرّب بيمنها رتب الأولياء من إحساننا وندنيها، ونجدّد لهم بتأييدها ملابس المنن نظهر عليهم آثار النّعم السنية فيها، ونرفعهم بحسن عنايتنا إلى أشرف غاية كانوا يسرّون أهليّتهم لها والله يبديها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أقامنا لنصر دينه فقمنا به كما أمر، وأبقى على أيّامنا حكم أيّامه فاستمرّ الحال على ما
سبقت به دعوته من تأييد الدين بعمر، وخصّنا ممن ينتمي إلى أصحابه بأجلّ صاحب ينوب عن شمس عدلنا في محو ظلمة الظّلم مناب القمر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الزّهر الغرر، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من اختيرت جواهر الكلام لرصف مفاخره، وانتخبت غرر المعاني لوصف آثاره في مصالح الإسلام ومآثره، وقامت خطباء الأقلام على منابر الأنامل بشيرة بيمن أيّامه، وتطلّعت مقل الكواكب مشيرة إلى ما أقبل على الأقاليم من إقباله وسحّت سحب أقلامه، وتبرّجت زهر النجوم لينتظم في عقود مناقبه سعودها، وتأرّجت أرجاء المهارق إذ تبلّج من ليل عن فجر عمودها، وسارت به أنباء السّعود والقلم الناطق بذكره وهو المحلّق الميمون طائره، والطّرس الموشّع بشكره وهو المخلق الذي تملأ الدنيا بشائره من استخلصته الدولة القاهرة لنفسها فتملّاها عينا وسرّ بها قلبا، واختصّته بخواصها الشريفة فرحب بها صدرا ولبّاها لبّا، وكلف بمؤازرتها بذاتها حتّى قيل: هذه {تُرََاوِدُ فَتََاهََا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهََا حُبًّا} (1) وأحلّته من وزارتها الشريفة بالمكان الأسنى والحرم الحريز، وأثنت على فضله الأسمى بلسان الكرم البسيط الوجيز، واعتمدت في أمور رعاياها على ما فيه من عدل وورع لا ينكر وجودهما من مثله وهو في الحقيقة عمر بن عبد العزيز، وأدنته عنايتنا منّا لما فيه من فضل عميم، وحسب صميم، ونسب حديث مجده قديم، وأصالة إذا افتخرت يوما تميم بقومها قالت أين تميمك من جدّه صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تميم، وغرسته لنفسها وطال ذلك الغرس وطاب الثّمر، واعتضدت بتدبيره فكان له عند أطراف العوالي في مكانه الأعزّ أظرف سمر، ووثقت بما فيه من عدل ومعرفة لا ينكر من نحا الصواب اجتماعهما في عمر، واشتقّت له بإحساننا من نسبته وصفا جميلا ونعتا جليلا، وخصّته لمزيّة ذلك الاشتقاق بمزيد قربنا فأمسى في خدمتنا جليلا وأصبح خليلا، ورعت له ما قد تمّ من تدبير أتى عليه بنفسه، وسداد ظهرت مزيّة
__________
(1) يوسف / 30.(11/280)
كل يوم منه على أمسه، وسعي جميل ما برح في مصالح الإسلام رائحا وغاديا، واجتهاد في أمور أهل الجهاد ما برح يداب فيه علما بما أعدّ الله لمن جهّز غازيا، ودان له من حسن ملاحظته الأمور ما ليس للوصف به من قبل، وتأملت ما يكشف له على البعد من المصالح التي يأمر بالصواب فيها وكيف لا وعمر الذي شاهد السّريّة على البعد من سارية الجبل، وأيقنت ببسط العدل في الرّعايا إذ هو مؤتمر والعادل آمر، وتحقّقت عمارة البلاد على يديه لأنّ عمر بحكم العدل عند الحقيقة عامر.
ولذلك لما كان المجلس العاليّ الفخريّ ضاعف الله نعمته هو الذي قرّبته طاعتنا نجيّا، ورفعته ولايتنا مكانا عليّا، وحقّق له اجتهاده في مصالح الإسلام الأمل من رضانا وكان عند ربّه مرضيّا، وأخلص في خدمة دولتنا الشريفة فاتّخذته لخاصّ الأمور وعامّتها صفيّا، وأظهر ما بطن من جميل اجتهاده فجعلته لمصالح الملك وزيرا وصاحبا ووليّا، وأنجزت منه لتدبير أمور الممالك ما كان الزّمن به ماطلا، وأجرت على يده التي هي مليّة بتصريف الأرزاق ما لا يبرح غمامه هاطلا، وقلّدته رعاية الأمور وأمور الرّعايا علما أنه لا يترك لله حقّا ولا يأخذ باطلا، وقلّدت جيده بأسنى حلى هذه الرتبة الجليلة، وإن لم يكن منها بحكم قربه منّا عاطلا، ورفعت له لواء عدل ما زال له بالمنى في أيّامنا الشريفة حاملا، وكمّلت له ببلوغ الغاية من أفق العلوّ رفعة قدره وما زال المؤهّل للكمال باعتبار ما يؤول إليه كاملا، ونوّهت بذكره وما كان لظهور مخايل هذا المنصب الجليل عليه في وقت خاملا، ونظرت الرعايا فما عدلت بهم عن برّ رفيق، وصاحب شفيق، ووزير عمريّ السيرة ما سلك طريقا إلا وعدل شيطان الظلم عن ذلك الطريق وكان هذا المنصب الجليل غاية مدار الممالك عليها، وقبلة توجّه وجوه أهل الطاعة فيما يفاض عليهم من نعمنا إليها وهو الذي يتدرّع صاحبه من أنواع الطاعات لبوسا، ويعالج من أدواء المهامّ ما بغير عزائمه لا يوسى، ويتردّد في المخالصة والمناصحة من مالك أمره بمنزلة هارون من موسى اقتضت آراؤنا الشريفة أن نفوّض ذلك إلى من نهض في طاعتنا الشريفة
بما يجب، وعلمنا تحرّزه لدينه ولنا فيما يأتي ويجتنب، ومن تزاد به مع فخره أيّامنا الشريفة فخرا، ويصبح له مع ماله من الجلالة في نفسه رتب جلالة أخرى.(11/281)
ولذلك لما كان المجلس العاليّ الفخريّ ضاعف الله نعمته هو الذي قرّبته طاعتنا نجيّا، ورفعته ولايتنا مكانا عليّا، وحقّق له اجتهاده في مصالح الإسلام الأمل من رضانا وكان عند ربّه مرضيّا، وأخلص في خدمة دولتنا الشريفة فاتّخذته لخاصّ الأمور وعامّتها صفيّا، وأظهر ما بطن من جميل اجتهاده فجعلته لمصالح الملك وزيرا وصاحبا ووليّا، وأنجزت منه لتدبير أمور الممالك ما كان الزّمن به ماطلا، وأجرت على يده التي هي مليّة بتصريف الأرزاق ما لا يبرح غمامه هاطلا، وقلّدته رعاية الأمور وأمور الرّعايا علما أنه لا يترك لله حقّا ولا يأخذ باطلا، وقلّدت جيده بأسنى حلى هذه الرتبة الجليلة، وإن لم يكن منها بحكم قربه منّا عاطلا، ورفعت له لواء عدل ما زال له بالمنى في أيّامنا الشريفة حاملا، وكمّلت له ببلوغ الغاية من أفق العلوّ رفعة قدره وما زال المؤهّل للكمال باعتبار ما يؤول إليه كاملا، ونوّهت بذكره وما كان لظهور مخايل هذا المنصب الجليل عليه في وقت خاملا، ونظرت الرعايا فما عدلت بهم عن برّ رفيق، وصاحب شفيق، ووزير عمريّ السيرة ما سلك طريقا إلا وعدل شيطان الظلم عن ذلك الطريق وكان هذا المنصب الجليل غاية مدار الممالك عليها، وقبلة توجّه وجوه أهل الطاعة فيما يفاض عليهم من نعمنا إليها وهو الذي يتدرّع صاحبه من أنواع الطاعات لبوسا، ويعالج من أدواء المهامّ ما بغير عزائمه لا يوسى، ويتردّد في المخالصة والمناصحة من مالك أمره بمنزلة هارون من موسى اقتضت آراؤنا الشريفة أن نفوّض ذلك إلى من نهض في طاعتنا الشريفة
بما يجب، وعلمنا تحرّزه لدينه ولنا فيما يأتي ويجتنب، ومن تزاد به مع فخره أيّامنا الشريفة فخرا، ويصبح له مع ماله من الجلالة في نفسه رتب جلالة أخرى.
ولهذا رسم بالأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ: لا زال يصرّف الأقدار بيمين أيّامه، ويشرّف الأقدار ببرّه وإنعامه، ويدرّ على الأولياء وابل جوده الذي تخجل الدّيم من دوامه أن تفوّض إليه الوزارة الشريفة الكاملة على جميع الممالك الإسلامية: شرقا وغربا، وبعدا وقربا، وبرّا وبحرا، وشاما ومصرا، على أجمل القواعد في ذلك وأكملها، وأسنى الفوائد وأفضلها، وأتمّ الأحوال التي يستغنى بمجملها عن مفصّلها.
فليعط هذه الرتبة من جلالته حظّا كانت من إبطائه على وجل، ويجار الغمائم بوابل إنعامنا الذي يعلم به أن حمرة البرق في أثنائه خجل، ويطلق قلمه في مصالح الدولة القاهرة بسطا وقبضا، وإبراما ونقضا، وتدبيرا يعين النّيل والغمام على تتبّع المحل ما وجد كلّ منهما أرضا، ويعمل آراءه المباركة تدبيرا للمناجح وتدريبا، وتقريرا للقواعد وتقريبا، ونظرا يجعل لكلّ عمل من ملاحظته نصيبا، وفكرا يحاسب به على حقوق الله وحقوق خلقه فإنّ الله هو المناقش على ذلك {وَكَفى ََ بِاللََّهِ حَسِيباً} * (1)
ويبدأ بالعدل الذي رسم الله به وبالإحسان في ملكنا الشريف، ويخفّف مع الجمع بين المصالح عن خلق الله الوطأة فإنّ الإنسان ضعيف، وينجز لأولياء دولتنا موادّ الأرزاق فإنّ سيف المنع الذي نحاشي أيّامنا عن تجريده أقلّ نكاية من التسويف، ويمنع الولاة من ظلم الرعايا باعتبار أحوالهم دون أقوالهم فإنّ منهم من يدّعي العدل ويجور ويظهر الرّفق ويحيف وليتتبّع أدواء المحل تتبّع طبيب خبير، ويصرّف الأمور بجميل تدبيره فإنّ البركة معدوقة بحسن
__________
(1) النساء / 6.(11/282)
التدبير، ويستقبل ريّ البلاد إن شاء الله تعالى بسداد حزم يغتفر به هذا القليل لذلك الكثير، ويستخلف بالرّفق والعدل أضعاف ما فات في أمسه فإنّ ذلك على الله يسير، وليهتمّ ببيوت الأموال فيوالي إتيان الحمول إليها من أبوابها، ويضاعف بها الحواصل التي لا يطّلع بغير حسن التدبير على أسبابها فإنّها معادن الذخائر وموارد الرجال، وإذا أعدّ منها جبالا شوامخ تلا إنفاقنا في سبيل الله:
{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبََالِ} (1)
وكذلك الخزائن التي هي معاقل الإسلام وحصونه، وحماه الذي لا يبتذل بغير أمرنا الشريف في مصالح الملك والملة مصونه، فيجعلها بتدبيره الجميل كالبحار التي لا تنقص بكثرة الورّاد جمامها، ولا تنزحها السّحب على كثرة ما تحمل إلى الآفاق غمامها، وليلاحظ من مصالح كلّ إقليم بما تمثّله له على البعد أفكاره، ويأمر في أحوال من به من الجند بما يؤكّد الطاعة عليهم، ويجدّد الاستطاعة لديهم، ويزيح أعذارهم واعتذارهم بوصول حقوقهم إليهم، ويوفّرهم على إعداد الأهبة للأعداء إذا أتوهم من فورهم، ويكفّهم بإدرار الأرزاق عليهم عن اعتدائهم على الرعايا وجورهم، ويجعل ثغور كل جانب بتيسير محصولها، وتثمير ذخائرها التي هي من موارد رجالها مصفّحة بالصّفاح، مشرقة بأسنّة الرّماح، مسدودة من جهة العدوّ عنها مسالك الرياح، ويتفقّد من أحوال مباشريه، وولاة الحكم والتحكّم فيه، ما يعلمون به أنه مناقشهم على الأمور اليسيرة، والهفوات التي يرونها قليلة وهي بالنسبة إلى كثرة الرعايا كثيرة، والأحوال التي إذا عدّدها الكتاب عليهم قالوا: {يََا وَيْلَتَنََا مََا لِهََذَا الْكِتََابِ لََا يُغََادِرُ صَغِيرَةً وَلََا كَبِيرَةً} (2)، ويتعاهد أمور الرّتب الدينية فلا تؤخذ مناصبها بالمناسب، ولا تعدّ رزقها المعدّة لاكتساب العلم في المكاسب، بل يتعيّن أن يرتاد لذلك العلماء الأعلام حيث حلّوا، ويقرّر في مراتبها الأكفاء وإلا اتخذ
__________
(1) طه / 105.
(2) الكهف / 49.(11/283)
الناس رؤوسا جهّالا فضلّوا وأضلّوا وقد جعلنا أمره في ذلك جميعه من أمرنا، فليقل يمتثل، وينشر كلمة عدلنا التي يسير بطريقتها المثلى المثل ولا تمضى ولاية ولا عزل، ولا منع ولا بذل، ولا عقد ولا حلّ، إلا وهو معدوق بآرائه، متلقّى من تلقائه، متوقّف على تنفيذه وإمضائه وقد اختصرنا الوصايا، اكتفاء بما فيه من حسن الشّيم، واقتصرنا على ذكر بعض المزايا، إذ مثله لا يدلّ على صواب ولا يزاد ما فيه من كرم لكنّ تقوى الله أولى ما ذكّر به من لم يزل لربّه ذاكرا، وأحقّ ما شكر على التوفيق من لم يبرح له به شاكرا والله يزيد قدره اعتلاء، ويضاعف للدولة الشريفة احتفالا بشكره واعتناء.
وهذه نسخة تقليد بالوزارة:
الحمد لله الذي شدّ أزر الملك من الوزراء بالمكين الأمين، وأشرك في أمر ملكه من هو على صلاح الجمهور خير معين، وألقى مقاليد حسن تدبيره لمن دلّت عليه بركة الاستخارة، وصوّب أمر دقيقه وجليله لمن هو لجميل الثناء المعنى وإليه ببنان الاجتباء الإشارة، وناول كتابها لمن هو أحقّ بتحمل أعبائه، ورقّى منصبها لمن لا شبهة بأنه الحقيق باستعلائه، وناول قلم إعطائها ومنعها لواضع الإشارة في محلّها، وعدق تثمير أموالها بمن لا يأخذها بمقتضى يبديه إلا من حلّها.
نحمده على حسن إلهامه، وشريف إفهامه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبد مخلص في أدائها، محقّ في إعادتها وإبدائها، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله خير من هو بالحق مبعوث وبالصدق منعوت، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا تزال مستمرّة في كل وقت موقوت، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ يد الوزارة هي اليد الباسطة فيما قلّ وجلّ، والمتحكّمة فيما عدق بالملك من كلّ عقد وحلّ، والموقوف عند إشارة بنانها وإليها التحكّم في
كل إعطاء ومنع، وتفريق وجمع، وعزل وولاية، ونهاية كل نهي وأمر وما لها من غاية، وربّها من الملك كالرّوح الباصرة من العين، واللسان المعبّر عن كلّ زين وشين وحسبه أنه في المحلّ من ذات اليمين، ومن مكانة التمكّن في الحرز الحصين ولهذا لا يؤهّل لها إلا من انعقد على سؤدده الإجماع، وانقطعت دون لحاق شرفه الأطماع، وتأصّل في فخارها وتفرّع، وقام بفروض كفاية كفالتها وتطوّع، وسار حديث مناقبه في الآفاق، وجاء بالاختيار والاختبار بالوفاق، وحسن صورة ومعنى، وتعدّدت مناقبه فدلّت على أنه الفرد إذا اتّسقت عقوده مثنى مثنى. وكان المجلس العاليّ الفلانيّ ربّ حوزتها وسريرها، وروح بصر مرتمق هذه المحامد وإليه أمر مصيرها، والذي حكمت له السيادة بمنالها وحكّمته، وأوضحت بأصالتها وجه الصواب في اختياره لها وأحكمته، وقد حاز من متفرّق لوازمها ما تفرّق فيمن سواه، وحوى من أدواتها ما دلّ على أنّ الله خلقه فسوّاه إن قال فالصواب موكّل بمنطقه، أو صمت فعظم مهابته قائم مقامه بجميل الخلق لا تخلّقه قد جمع إلى التواضع فرط المهابة، وإلى الابتداء بالمعروف حسن الإجابة إن ذكرت الصّدارة فهو مالك زمامها، أو الرّياسة فهو غرّة لثامها، أو الكفالة فهو مصرّف عنانها، أو الوزارة فهو عين أعيانها لم تزل رتبتها متشوّقة لحلوله، ممهّدة لشريف تأهيله.(11/284)
وبعد، فإنّ يد الوزارة هي اليد الباسطة فيما قلّ وجلّ، والمتحكّمة فيما عدق بالملك من كلّ عقد وحلّ، والموقوف عند إشارة بنانها وإليها التحكّم في
كل إعطاء ومنع، وتفريق وجمع، وعزل وولاية، ونهاية كل نهي وأمر وما لها من غاية، وربّها من الملك كالرّوح الباصرة من العين، واللسان المعبّر عن كلّ زين وشين وحسبه أنه في المحلّ من ذات اليمين، ومن مكانة التمكّن في الحرز الحصين ولهذا لا يؤهّل لها إلا من انعقد على سؤدده الإجماع، وانقطعت دون لحاق شرفه الأطماع، وتأصّل في فخارها وتفرّع، وقام بفروض كفاية كفالتها وتطوّع، وسار حديث مناقبه في الآفاق، وجاء بالاختيار والاختبار بالوفاق، وحسن صورة ومعنى، وتعدّدت مناقبه فدلّت على أنه الفرد إذا اتّسقت عقوده مثنى مثنى. وكان المجلس العاليّ الفلانيّ ربّ حوزتها وسريرها، وروح بصر مرتمق هذه المحامد وإليه أمر مصيرها، والذي حكمت له السيادة بمنالها وحكّمته، وأوضحت بأصالتها وجه الصواب في اختياره لها وأحكمته، وقد حاز من متفرّق لوازمها ما تفرّق فيمن سواه، وحوى من أدواتها ما دلّ على أنّ الله خلقه فسوّاه إن قال فالصواب موكّل بمنطقه، أو صمت فعظم مهابته قائم مقامه بجميل الخلق لا تخلّقه قد جمع إلى التواضع فرط المهابة، وإلى الابتداء بالمعروف حسن الإجابة إن ذكرت الصّدارة فهو مالك زمامها، أو الرّياسة فهو غرّة لثامها، أو الكفالة فهو مصرّف عنانها، أو الوزارة فهو عين أعيانها لم تزل رتبتها متشوّقة لحلوله، ممهّدة لشريف تأهيله.
ولما تحلّى منها بهذه الحلى، وسار حديث ملاءته بتخويلها في الملا، وتلا لسان القلم سور هذه المحاسن وتلا الثاني بالأوّل منها إذا تلا، رسم بالأمر العاليّ أمتعه الله بما وهبه من حسن مؤازرته، وشدّ عضد مملكته بالإمتاع بربح حسن معاملته لله وله ولمتاجرته أن تفوّض الوزارة المفخّمة، المكرّمة المبجّلة المعظّمة، للمشار إليه: تفويضا عامّا للقريب من مصالحها والبعيد، والطارف والتليد، والمقيم والنازح، والغادي والرائح، والسانح والبارح، والباغم والصادح (1)
__________
(1) الباغم: يقال لكل ذي صوت ليّن رقيق، والصادح للذي ارتفع صوته.(11/285)
فليباشر ما فوّض إليه منها مباشرة مثله لمثلها، وليعطها من نيله مناسب نيلها، وليأخذ أمرها بكلتا يديه، وليعرها جانبا من احتفاله ليظهر عليها آثار سؤدده كما ظهر شريف تخويلها عليه، وليطلق فيها لسان نهيه وأمره، وليعمل في مصالحها صالح فكره فقد عدقت به مهامّها: جليلها وحقيرها، وقليلها وكثيرها، وأميرها ومأمورها، وخليلها وضريرها، وناعقها وناعبها، وكاسيها وكاسبها، ودانيها وقاصيها، وطائعها وعاصيها، ومستقبلها وحالها وماضيها، وواليها وقاضيها، ثقة بتمام تدبيره، وحميد تأثيره، وأنّه إن حكم فصل، وإن قطع أو وصل كان الحزم فيما قطع ووصل إذ هو الوزير الذي قد صرف عن عمل الأوزار وسار، إلا أنه في كل منهج سار، تقطر السيادة من معاطفه، وتجني ثمر المنى من أغصان قلمه يد قاطفه لا شيء يخرج عن حكمه، ولا مصلحة تعزب عن علمه فولاية الحكّام معدوقة بإشارته، موقوفة على ما يثبته ببليغ عبارته. ومع جلالة قدره لا يحتاج إلى التأكيد في الأموال واستدرار أخلافها، والرّعايا والاستدامة بالإحسان ودّ أحلافها، وبيوت الأموال واستيداء حقوقها، ومراعاة جانبها إذ هي الأمّ الحنونة بتجنّب عقوقها، والخزائن فهو أدرى بما يجب من تضييق صدرها بالمناقيص عن الانشراح، والاهتمام بحواصل تشريفها المستجلبة إفاضة ملابسها قلب من غدا وراح وثمّ دقائق، هو أدرى بمالها من طرائق، وحقائق، هو أعرف إذ كان فيها الفاتق الراتق فهو أجلّه الله غنيّ عن تفصيلها، وذهنه أشرف عن الوصايا المندوبة لتوصيلها والله تعالى يقدّر له وبه الخير، ويمتّع بحسن تدبيره المقرون بجميل السريرة والسّير والخطّ الشريف أعلاه، حجّة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه وصية وزير أوردها في «التعريف» وهي:
يوصى بتقوى الله فإنه عليه رقيب، وإليه أقرب من كلّ قريب فليجعله أمامه، وليطلب منه لكل ما شرع فيه تمامه، وليجل رأيه في كلّ ما تشدّ به الدولة أزرها،
وتسند إليه ظهرها، وليجعل العدل أصلا يبني على أسّه، والعمل في أموره كلّها لسلطانه لا لنفسه، وليدع منه الغرض جانبا، وحظّ النفس الذي لا يبدو إلا من العدوّ ليصدق من دعاه صاحبا، وليبصر كيف يثمّر الأموال من جهاتها، وكيف يخلّص بيوت الأموال بالاقتصار على الدّراهم الحلال من شبهاتها، ولينزّه مطاعم العساكر المنصورة عن أكل الحرام فإنه لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يرى به من العين إلا ما يحرّم الهجوع، وليحذر من هذا فإن المفاجيء به كالمخاتل، وليتجنّب إطعام الجند منه فإن [آكل] (1) الدراهم الحرام ما يقاتل، وليحسن كيف يولّي ويعزل، ويسمّن ويهزل وعليه بالكفاة الأمناء، وتجنّب الخونة وإن كانوا ذوي غناء وإيّاه والعاجز، ومن لو رأى المصلحة بين عينيه ألفى بينه وبينها ألف حاجز وليطهّر بابه، ويسهّل حجابه، ويفكّر فيما بعد أكثر مما قرب: مقدّما للأهمّ فالأهمّ من المصالح، وينظر إلى ما غاب عنه وحضر نظر المماسي والمصابح، ولا يستبدل إلا بمن ظهر لديه عجزه أو ثبتت عنده خيانته، ولا يدع من جميل نظره من صحّت لديه كفايته، أو تحقّقت عنده أمانته، وليسلك أقصد الطّرق في أمر الرواتب التي هي من صدقاتنا الشريفة وصدقات من تقدّم من الملوك، وهي إمّا لمن وجب له حقّ وإن كان غنيّا أو عرف صلاحه وهو صعلوك وكذلك ما هو لأيتام الجند الذين ماتوا على الطاعة، وأمثالهم ممن خدم دولتنا القاهرة بما استطاعه فإن غالب من مات منهم لم يخلّف لهم إلا ما نسمح لهم به من معروف، ونجريه لهم من جار هو أنفع من كثير مما يخلّفه الآباء للأبناء من المال المتملّك والوقف الموقوف وليصرف اهتمامه إلى استخلاص مال الله الذي نحن أمناؤه، وبه يشغل أوقاته وتمتليء كالإناء آناؤه فلا يدع شيئا يجب لبيت المال المعمور من مستحقه، ولا يتسمّح في تخلية شيء منه كما أننا نوصيه أنه لا يأخذ شيئا إلا بحقّه وليبق لأيّامنا الزاهرة بتواقيعه ذكرا لا يفنى، وبرّا لا(11/286)
يوصى بتقوى الله فإنه عليه رقيب، وإليه أقرب من كلّ قريب فليجعله أمامه، وليطلب منه لكل ما شرع فيه تمامه، وليجل رأيه في كلّ ما تشدّ به الدولة أزرها،
وتسند إليه ظهرها، وليجعل العدل أصلا يبني على أسّه، والعمل في أموره كلّها لسلطانه لا لنفسه، وليدع منه الغرض جانبا، وحظّ النفس الذي لا يبدو إلا من العدوّ ليصدق من دعاه صاحبا، وليبصر كيف يثمّر الأموال من جهاتها، وكيف يخلّص بيوت الأموال بالاقتصار على الدّراهم الحلال من شبهاتها، ولينزّه مطاعم العساكر المنصورة عن أكل الحرام فإنه لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يرى به من العين إلا ما يحرّم الهجوع، وليحذر من هذا فإن المفاجيء به كالمخاتل، وليتجنّب إطعام الجند منه فإن [آكل] (1) الدراهم الحرام ما يقاتل، وليحسن كيف يولّي ويعزل، ويسمّن ويهزل وعليه بالكفاة الأمناء، وتجنّب الخونة وإن كانوا ذوي غناء وإيّاه والعاجز، ومن لو رأى المصلحة بين عينيه ألفى بينه وبينها ألف حاجز وليطهّر بابه، ويسهّل حجابه، ويفكّر فيما بعد أكثر مما قرب: مقدّما للأهمّ فالأهمّ من المصالح، وينظر إلى ما غاب عنه وحضر نظر المماسي والمصابح، ولا يستبدل إلا بمن ظهر لديه عجزه أو ثبتت عنده خيانته، ولا يدع من جميل نظره من صحّت لديه كفايته، أو تحقّقت عنده أمانته، وليسلك أقصد الطّرق في أمر الرواتب التي هي من صدقاتنا الشريفة وصدقات من تقدّم من الملوك، وهي إمّا لمن وجب له حقّ وإن كان غنيّا أو عرف صلاحه وهو صعلوك وكذلك ما هو لأيتام الجند الذين ماتوا على الطاعة، وأمثالهم ممن خدم دولتنا القاهرة بما استطاعه فإن غالب من مات منهم لم يخلّف لهم إلا ما نسمح لهم به من معروف، ونجريه لهم من جار هو أنفع من كثير مما يخلّفه الآباء للأبناء من المال المتملّك والوقف الموقوف وليصرف اهتمامه إلى استخلاص مال الله الذي نحن أمناؤه، وبه يشغل أوقاته وتمتليء كالإناء آناؤه فلا يدع شيئا يجب لبيت المال المعمور من مستحقه، ولا يتسمّح في تخلية شيء منه كما أننا نوصيه أنه لا يأخذ شيئا إلا بحقّه وليبق لأيّامنا الزاهرة بتواقيعه ذكرا لا يفنى، وبرّا لا
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية، وهي يقتضيها السياق.(11/287)
يزال ثمره الطيّب من قلمه يجنى، ليكون من رياح دولتنا التي تغتنم ما يثيره من سحابها المطير، وحسنات أيّامنا التي ما ذكرنا وذكر معنا إلا وقيل: نعم الملك ونعم الوزير.
الوظيفة الثانية (كتابة السّرّ، ويقال لصاحبها «صاحب دواوين الإنشاء»)
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب الوظائف أنّ موضوعها قراءة الكتب الواردة على السلطان، وكتابة أجوبتها، وأخذ خطّ السلطان عليها وتسفيرها، وتصريف المراسيم ورودا وصدورا، والجلوس لقراءة القصص بدار العدل، وأنّه صار يوقّع فيما كان يوقّع فيه بقلم الوزارة.
قلت: وقد كان فيما تقدّم يكتب له توقيع في قطع النصف بلقب «المجلس العالي» ثم استقرّ أن يكتب له تقليد في قطع الثلثين بلقب «الجناب العالي». وقد تقدّم الكلام على تقليده في الكلام على التقاليد.
وهذه نسخة تقليد بكتابة السر، كتب بها للمقر المحيويّ «محيي الدين (1) بن فضل الله» عند عوده إلى كتابة السّر بالديار المصرية، في جمادى الأولى سنة ثلاث (2). من إنشاء الشريف شهاب الدين، أحد كتّاب الدّرج الشريف، وهي:
__________
(1) هو والد المقر الشهابي، أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري صاحب «مسالك الأبصار» و «التعريف بالمصطلح الشريف». وقد تولى محيي الدين كتابة السر للناصر محمد بن قلاوون.
(الألقاب الإسلامية: ص 45).
(2) بياض بالأصل. ونرجّح أن يكون ذلك سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، فقد ترك القاضي محيي الدين بن فضل الله ديوان الإنشاء وفوض أمره استقلالا لولده القاضي علاء الدين سنة 738هـ.
وإذا علمنا أن محيي الدين تولى ديوان الإنشاء بعد أخيه عبد الوهاب الذي توفي سنة 717هـ، تكون عودته إلى كتابة السرّ بالديار المصرية في السنة التي ذكرناها على الأرجح. (انظر: فوات الوفيات: 2/ 421والأعلام: 4/ 185والقلقشندي وكتابه صبح الأعشى: 89).(11/288)
الحمد لله المانّ بفضله، المستعان به في الأمر كلّه، الذي رفع أوّل الأولياء من العلياء إلى محلّه، ووضع النّعم عند من ينصّ الاستحقاق على تقديمه بمنصبه ويجلّ ما فوّض إليه من أجله، وأبدع نظام السّؤدد بأجمل حال ما دام يحيى جامع شمله، وأودع سرّ ملكنا الشريف عند الحفيظين منه ومن نجله، وأرجع الرياسة إلى من سما ثباتا، ونما نباتا، وعلا عزما، ووفى حزما فبيمن آثاره تضرب الأمثال ولا تجد في يمن سجاياه كمثله.
نحمده على أن أعاد بنا الحقّ إلى أهله، ونشكره على أن جاد روض الامال بواكف سحاب كرمنا ووبله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من وفّق للصواب في قوله وفعله، وتحقّق منه جميل الإخلاص في جميع مذاهبه وسبله، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المؤوي يوم الجزاء إلى سابغ ظلّه، والمروي يوم العطش الأكبر بسائغ نهله، والنبيّ الذي بعثه خاتم رسله، وآتاه من الكرامة ما لم يؤت أحدا من الأنبياء من قبله، والمجتبي من علماء صحابته من أهّله لإيداع سرّه وصونه وإبلاغ أمره وحمله، صلى الله عليه وعلى آله الذين سبقوا إلى غايات الفخار وخصّوا بخصله، ورضي الله عن أصحابه المجاهدين في حبّه المعتصمين بحبله، خصوصا الصدّيق الذي أحسن الخلافة من بعده وقاتل من ارتدّ بقتله، ومن فرق بين الحق والباطل بحسن سيرته ومحض عدله ومن تلقّى عنه آيات الكتاب فأ [حسن] (1) في ترتيبه وجمعه وأدائه ونقله، ومن كان فارس حربه، وحارس سربه، وكاتب وحيه وخاطب كفله، وعن بقية المهاجرين والأنصار الذين انفردوا بأكمل الفضل وأجلّه، صلاة ورضوانا وضح بهما نور الهدى لمستدلّه، ما شفى كرمنا الصّدور بصدور إقباله إلى من قام بفرض ولائه ونفله، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فنعمنا لا تزال للعهود حافظة، وبالجود متحفة وبالسّعود
__________
(1) بياض بالأصل. والزيادة يقتضيها السياق.(11/289)
ملاحظة، وعلى المعهود من كرم شيمها محافظة، وللخدم مكافية، وللقسم موفية وبالنّعم موافية، وبمألوف الكرم ملافية، اتّباعا لسبيل الصّواب، وإيداعا للمنحة عند من لحقّه في استحقاقها إيجاب، فلمحلّه اقتران بالاقتراب، ولفعله إنجاز لوعود الصّعود وإنجاب، ولفيض الله تعالى عليه من القبول أبهى جلباب، وله سبق ولاء لملكنا بعد جفاء فيه السنين والأحقاب، وصدق ودّ ما ضاع لدينا ولا خاب، وقدم هجرة كم لها في تأييد الدّين انتصار وانتصاب، وتعدّد مناقب هي في الإشراق والرّفعة كالنّجوم وفي الكثرة عدد الرمل والحصى والتّراب فما دعاه سلطاننا إلا استجاب، ولا استوعاه سرّه إلا غدا به يصان ولا يصاب، ولا استنطقنا قلمه إلا كفى الخطب بأملح خطاب، ولا استثرنا رأيه إلا حضر الرّشد وما غاب فكم فرّق للأعداء من كتيبة بكتاب، وقرّب من ظفر والسيف في القراب فبدعواته يستنزل من النّعماء أهمر سحاب، وببركاته جاء نصر الله والفتح وكان كيد الكافرين في تباب، وبأقلامه إنعامنا يهب وانتقامنا يهاب فهي على الممالك أمنع سياج، ولها في مسالك الخير أبدع منهاج، وللدولة به وبولده استغناء وإليهما احتياج، فكم ضمّنا درر كلامهما الأدراج، وأطلعا زهر أقلامهما من المهارق في أبراج، وكم واصلت في ليل النّقس (1) السّرى والإدلاج، حتى أبدت صباح النجاح ذا ابتلاج، فلا عجب أن كان للنّعم إليهما معاد ومعاج، ولضيق الخطب عند باعهما الرّحب فسحة وانفراج.
ولما كان المجلس العاليّ المحيويّ هو أسرى من تلقى إليه الأسرار، وتبقى منه عند أحرى الأحرار، فكم لها صان أين صار، وكم لخواطرنا الشريفة من أفعاله سارّ حيث سار، وكم له من كرمنا دارّ في كل دار، فمنّا لقربه إيثار، ولأثنيتنا (2) عليه إكبار، ولنا بفضائله إقرار، يوجب للنّعم عنده الإقرار اقتضى
__________
(1) النّقس: المداد يكتب به.
(2) جمع ثناء، وهو المدح.(11/290)
حسن الرأي الشريف أن نعيد إليه منصبه، ونزيد لديه الموهبة، ونجعل وجود تفضيله لدولتنا أعظم مزيّة ومنقبة، ونراه أجلّ كفء لاستجلاء عقائل الأسرار المحجّبة، وإن كان لنزاهته لا يخطبها فهي لوجاهته ترغب أن تخطبه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ لا برح بفضل الله يحيي الدّين، وبتأييده يبين أنّه الحقّ المبين، وبتسديده يصيب عين الصواب في التعيين أن نفوّض للمشار إليه صحابة ديوان الإنشاء الشريف بالأبواب الشريفة شرّفها الله وعظّمها: على أجمل عوائده، وأكمل قواعده، وأحسن حالاته في حسن مقاصده، ونفوذ ما يبلّغه من رسائل عدلنا في مصادر كل أمر وموارده وليستقرّ باسمه من المعلوم كذا وكذا.
فليتلقّ منصبه المبارك بأمل في كرمنا مبسوط، ورتبته التي يحمي حماها ويحوط، ممضيا للمهمّات والمراسم، مبقيا من يمن آثاره ما تضحى به ثغور الثّغور بواسم، معيدا لمن عنده من كتّابنا أوقات الأنس فأيّامهم به كلّها مواسم، وبها لهم من الخيرات أجزل المقاسم وقد وفّروا دواعيهم إلى الخدمة إذ وفّر على نفقتهم دواعيه، وهو لسان الدولة وهم أذن صون لما يلقيه إليهم واعية، فحقّ لهم إلى وداده أن يجنحوا، وبإسعاده أن ينجحوا، وعن ولائه لن يبرحوا:
{قُلْ بِفَضْلِ اللََّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذََلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} (1)، فلسرير الملك به سرور، وللدولة من أشعّة إنابه وطلعة شهابه نور على نور، وبهما عماد الشرف الأعلى مرفوع وبيت الفضل الاوفى معمور، وهو وبل هذا الغيث الغمر وشبل هذا الليث الهصور طالما هزم الصّفوف من كتبنا بالسّطور، وجهّز بردا سرّها بالصون مكتوم وعلمها بالنصر منشور، وهو كنز الفضائل وكتابه الذّهب شذور، ومن هذه الأسرة العمرية بأفق العلياء نجوم وأهلّة وبدور، وللنّيّر الأكبر إشراق وأتلاق وسفور، وغيره بالوصايا المأمور، وسواه نبيّن له قصد السبيل حتّى لا يضلّ ولا يجور، ولا
__________
(1) يونس / 58.(11/291)
نحتاج أن نذكّره بما هو من علمه مذكور، وفي صحائفه مسطور، ولا نعلّمه سدادا إذ هو عليه مجبول ومفطور، بل الهدى منه ملتمس ومقتفى ومقتبس، ومأثور وبحمد الله ما في حزمه قصور، ولا في عزمه فتور، وهو بحر العلم المحيط وثبير (1) الحلم الموفور، وليس التقديم له بمستغرب بل فضله المعروف المشهور والله تعالى يرعى له في خدمتنا عهدا قديما، ويبقيه للدعاء مواصلا ومديما، ويوزعه شكر فضل الله على ذلك {وَكََانَ فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (2)
إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بكتابة السّر، كتب بها للقاضي شهاب الدّين بن فضل الله (3) وهي:
الحمد لله على عناية حفظت ملكنا الشريف بمعقّباتها، وصانته بصاحب تصريف تقوم كتبه وآراؤه مقام الكتائب وراياتها، وسنّت لنا الخيرة لمن نجتني بقلمه النصر من ثمراتها، وبينت الحسنى في طريقته المثلى حتّى انقسم الصّبح من قسماتها، واقتسم النّجح من عاداتها، واتّسم فكره بالنّصح وقد ضلّت الأفكار عن إصاباتها فظلّت في غفلاتها.
نحمده حمدا يهبّ مع الأنفاس في هبّاتها، ويهب من اللطائف الحسان أفضل هباتها، وينبّه القلوب لتقييد شوارد النّعم بصدق نيّاتها، وينافس الكرام الكاتبين على نفائس الثّناء في تسبيح لغاتها بصفيح سماواتها، ونشهد أن لا إله
__________
(1) ليس في معاني «ثبر» ما يناسب هنا. ولعل المراد بثبير اسم جبل بمكة واستعماله هنا على الاستعارة. (انظر لسان العرب: 4/ 100).
(2) النساء / 113.
(3) ولد سنة 700هـ وتوفي سنة 748هـ. انصرف عن صناعة الإنشاء بعد وفاة السلطان الناصر بن قلاوون وفي ذلك يقول: «هذا وقد خلعت ذلك الرداء المعار، ومات سلطاننا رحمه الله وزال ذلك الستار، وقد أهملت هذا الفن حتى نسيته». (الألقاب الإسلامية: 45وتجد ترجمته كاملة في الأعلام: 1/ 268وفوات الوفيات: 1/ 157).(11/292)
إلا الله وحده لا شريك له شهادة تملأ الصّحف بحسناتها، وتملّي الوجوه بالأنوار في توجّهاتها، وتلوح من سماتها سيمياء (1) لا تشقّ على الأبصار في توسّماتها، وتفخر برقمها الأقلام بأنه لا طعن في اعتدال حركاتها، على الرّماح في اعتدال قاماتها، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أدّى الرسالة بما تحمّله من أماناتها، ورعى العهود لمن أخلص في مراعاتها، ودعا الأمّة بإذن الله إلى سبيل نجاتها، واستأمن على الوحي كتّابا سبقوا في السّعادة إلى غاياتها، وبلّغوا عنه السّنّة بإباناتها والسّور وآياتها، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه فرسان البلاغة ورواتها، وحفظة الأسرار وثقاتها، وصاغة المعاني في الألفاظ الغرّ بنفثاتها، وأولي الأحلام التي لا تطيشها وقائع الدهر بروعاتها، ولا تذهلها عن الأوراد في أوقاتها، وتلقّي الوفود بأقواتها، والأخلاق التي اتّسع نطاقها في تصرّفاتها، وامتنع حجابها أن تتخطّاه الخدع بهفواتها، صلاة تزيد الأعمار بزكاتها، وتزيّن الأعمال ببركاتها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ الملك عمود بناؤه بسرّه وارتفاعه بالتأسيس لمستقرّه، وامتناعه بعد العساكر المنصورة بكاتب يخاتل العدوّ في مكره قبل مكرّه، ويقاتل في الحرب والسّلم بنفّاذ رأيه ونفّاث سحره، ويقابل كلّ حال بما يحسن موقعه من صدمه بصدره أو صدّه بصبره، وينظر في العواقب نظر البصير بأمره، الواعي لاحتيال عذره قبل اختيال الباغي في غدره إذا جادل فبالحجّة البالغة، وإذا جاوب أبطل الأهوال الزّائغة، وإذا أمرنا بالعدل والإحسان سيّرهما عنّا كالشمس البازغة، وملأ بهما حبّا لنا القلوب الفارغة وقد جرّبنا على طول المدى كتّابا، وانتخبنا منهم كثيرا ارتضيناهم أصحابا، ومارسنا جماعة ازددنا بهم إعجابا، ورأينا طوائف فيهم من إن أجاد اجتناء لزهرات القول حاد عن الجادّة اجتنابا، وإن كلّف نفسه مذاهب الكتّاب أخلّ بمقاصد الملوك إن كتب عنهم كتابا.
ولم نظفر بمن تمّت فيه الشروط المشروطة، ومتّ بالدائرة المحيطة إلى
__________
(1) يقال: السيماء والسيمياء، وهي العلامة.(11/293)
الفضائل المبسوطة، وامتاز بفهم لا يقبل على الفساد ولا يقبل الأغلوطة إن أمليناه إملاء ذكره، وإن حمنا حول معنى لا تؤدّي إليه العبارة فسره (1)، وإن سردنا عليه فصلا مطوّلا خبره، وربما رأى المصلحة في اختصاره فاختصره، وإن أودعناه سرّا ستره، وصانه بمحو غيّب أثره، وكتمه إمّا بخطّه عن قلبه فلم يدركه أو بقلبه عن لحظه فلم يره، وإن خلّينا بينه وبين غرض من أغراضنا الشريفة استخرجه كما في خواطرنا وأظهره كالمجلس العاليّ، القضائيّ، الأجليّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، العونيّ، العلّاميّ، القواميّ، النّظاميّ، المدبّريّ، المشيريّ، الفاضليّ، الكامليّ، الأوحديّ، المفوّهيّ، الخاشعيّ، السفيريّ، الشّهابي، صلاح الإسلام والمسلمين، سيّد الرؤساء في العالمين، قدوة العلماء العاملين، إمام الفضلاء والمتكلّمين، رئيس الأصحاب، ملاذ الكتّاب، سفير الأمة، عماد الملّة، لسان السلطنة، مدبّر الدّول، مشيّد الممالك، مشير الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين «أحمد بن فضل الله» ضاعف الله نعمته فإنّا خطبناه لهذه الوظيفة، واستخلصناه على كثرة المتعيّنين لأنفسنا الشريفة، وامتحنّاه في الأمور الجليلة واللطيفة، وحمّلناه الأعباء الثقيلة والخفيفة، وأوقفناه مرّة وأخرى أطلقنا تصريفه، وأنعمنا النظر في حاله حتى تحقّقنا تثقيفه، وكتب واستكتب عنا سرّا وجهرا فملأ قلبا وسمعا، وباشر مراسمنا العالية مصرا وشاما وصلا وقطعا فعزّ رفعة وعمّ نفعا، وأنشأ التقاليد وقلّدها، ونفّذ المهمات وسدّدها، ووقّع التواقيع وأطلق بها وقد قيّدها، ومشّى المصالح باحتراز ما بدّدها واحتراس ما عقّدها، وجهّز البرد بهمّة ما قيّدها طلب الراحة ولا أقعدها. وهو كاتب ملوك، وصانع سلوك، وشارع سلوك (2)، وصائغ ذهب مسبوك، وناسج وشي محوك، وجامع صفات ما سواها هو المتروك لا يعدو
__________
(1) فسره وفسّره (بالتخفيف والتشديد) بمعنى واحد. (اللسان: 5/ 55).
(2) إشارة إلى وضعه كتاب «التعريف بالمصطلح الشريف» الذي يعتبر أهم الدساتير التي نظمت مصطلح الكتابة في عصر المماليك البحرية، والقانون الذي ظل يعمل به في ديوان الإنشاء طوال عصر المماليك. وقد فرغ ابن فضل الله من كتابته حوالي سنة 735هـ. (الألقاب الإسلامية لحسن باشا: ص 45).(11/294)
بالكلمة محلّها، ولا يؤاخي بالقرينة إلا شكلها، ولا يسمح بمخاطبة إلا لمن تعيّن لها، ولا يعامل بالغلظة إلا من استوجبها ولا يخصّ بالحسنى إلا أهلها نأمره بالتّهويل فيزلزل قواعد العدوّ، ونشير إليه بالتهوين فيفيد مع بقاء المهابة الهدوّ وقد رضيناه حقّ الرضا، وأضربنا به عمّن بقي من أكابر الكتّاب ونسينا من مضى، وتعيّن علينا أن نحكم له بهذا الاعتبار ونحمله على هذا المقتضى، وأن نطلعه في سماء دستنا الشريف شهابا أضا، وأن نقلّده مهمّا ما زال هو القائم بتنفيذ أشغاله، والساعي بين أيدينا الشريفة في تدبير مقاصده وجملة أحواله، إلى ما له من بيت (1) أثّلوا مجده، وأثّروا سعده، وأرّثوا عندنا ودّه، وبنى كما بنوا، واجتنى من السّؤدد ما اجتنوا، ورمى في خدمة الدّول إلى ما رموا إلا أنّ مذهبه في البيان أحلى، وأسلوبه أجلى، وقيمة كلامه أغلى، وقدحه في الكمال هو المعلّى، وأدبه بحمد الله قد لحظته سعادة أيّامنا الزاهرة فما فيه لوّ (2) ولا لولا سوى أنه اتّفق معارض (3) اعترض بين السّهم والهدف، وسفه نفسه فوقف في مواقف التّلف، ودقّ عنه شأن كاتب السر فسقط من حيث طمع في السّقوط وما عرف، ورام الدّخول بين
__________
(1) لقد تولّت أسرة فضل الله العمري ديوان الإنشاء لأكثر من قرن من الزمان، وذلك في دولتي المماليك البحرية والبرجية. وقد شغل أفراد هذه الأسرة هذه الوظيفة عن جدارة أدبية. وكان أولهم القاضي شرف الدين، عبد الوهاب بن فضل الله، وآخرهم القاضي بدر الدين، محمد بن محيي الدين بن فضل الله.
(2) لو: حرف تقدير معروفة. واللّوّ: الكلام الخفيّ والباطل. ويقال: «إياك واللّوّ، فإن اللّوّ من الشيطان»، يريد النهي عن قول المتندم: لو كان كذا لقلت كذا أو لفعلت كذا.
(3) الظاهر أن هذا التقليد كتب عن الملك الناصر محمد بن قلاوون. وقد كان العمري معززا مكرما لديه، ولم ينتقص من هذا التكريم ما كان يحاوله بعض الوشاة الحاسدين. والظاهر أن مكائدهم قد نجحت بعد موت الناصر، إذ ما لبث ابن فضل الله العمري أن اعتزل ديوان الإنشاء في بداية عهد السلطان الجديد، وهو الملك المنصور سيف الدين أبو بكر، ابن الناصر قلاوون، الذي تولى السلطنة على أثر وفاة والده سنة 741هـ، في أواخرها. وإلى هذا الأمر يشير العمري في مقدمة كتابه «التعريف».(11/295)
الملك وبين يده، وبين اللّسان وما يحدّثه به الضمير من حقيقة معتقده، والاطلاع على ما لو لم يكن للإنسان لما أداره في خلده والتعدّي بما ليس له من لفظه متوقع، وسرى في مسرى لو طمح إليه طرف السّها لتقطّع وما علم أنّ كاتب السر هو مستودع الخبايا، ومستطلع الخفايا، وقلمه (ابن جلا وطلّاع الثّنايا)، وفي استمداده يعرف بالمنى ويرعف بالمنايا، وله الكتابة والتوقيع، والتصرّف فيما للتنفيذ من التحسين والتّنويع، وغير ذلك من التفريق والتجميع، والتأصيل والتفريع، والترغيب والترهيب والتأمين والتّرويع.
ولما دلّ ذلك المعترض بإكباره، وأطال المطار في غير مطاره، وقال الناس إنّ أبوابنا العالية جنّة حفّت من سوء أخلاقه بالمكاره، رمينا به من شاهق، وأبعدناه لآخرته أزهد ما هدر من تلك الشقاشق (1) وتقدّمنا بإنشاء هذا التوقيع الشريف تقوية لكاتب سرّنا الشريف في تصريفه، وبيّنّا أنه لا يقاس به أحد فإنّه لسان السلطان ويده وكفى بذلك دلالة على تشريفه.
فرسم بالأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الناصريّ لا زال إذا عزم صمّم، وإذا بدأ المعروف تمّم، وإذا استخار الله في شيء رضي بخيرته وسلّم أن يستقلّ المجلس العاليّ، القضائي، الشّهابيّ «أحمد بن فضل الله» المشار إليه بصحابة دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة: رفيقا لأبيه المجلس العاليّ، القضائيّ، المحيويّ:
ضاعف الله تعالى نعمته وبركته في المباشرة، وشريكا بل منفردا ليقوم معه ودونه بما قام به من كتابة باطنة وظاهرة، استقلّ كلّ منهما بها فيما بعد وقرب مما يضمّه نطاق الدولة القاهرة مع ما هو مستقرّ فيه من كتابة السر الشريف،
__________
(1) في خطبة لعلي بن أبي طالب: «تلك شقشقة هدرت ثم قرّت» والشقشقة لهاة البعير. وتقال للكثير الكلام الذي يدخل فيه الكذب. وفي حديث عليّ، رضي الله عنه: أن كثيرا من الخطب من شقاشق الشيطان. والمراد تلك التي يخالطها الكذب. والهدر للبعير. (انظر اللسان:
10/ 185).(11/296)
والتصرّف في المهمّات الشريفة والتصريف وهو المنفرد بتقديم البريد وعرضه، ومباشرة ختمه وفضّه، وقراءته بين أيدينا، واستخراج مراسمنا الشريفة في كل مناب، ومشافهة وخطاب، وابتداء وجواب، وملطّف ومكبّر (1)، ومقدّم ومؤخّر، ومكمّل ومشطّر، وإليه أمر البريد والقصّاد والنّجّابة (2)، ومن اشتمل من الدّجى جلبابه، أو ألقته إلى ملاءة الصّباح المنشورة يد ليلة منجابة، وتعيين من يرى تعيينه منهم في المهمّات الشريفة السلطانيّة، والمصالح المقدّسة الإسلاميّة، وإليه الحمام الرسائليّ وتزجيته، وزجالته ومدرجته (3)، ومن يصل من رسل الملوك إلى أبوابنا العالية، وجميع من يكاتب الدولة الشريفة من كل منتسب وغريب، وبعيد وقريب، وقراءة القصص لدينا، والكتابة على ما يسوغ كتابة مثله، وأخذ العلامة الشريفة من يده.
وأما من نستكتبهم عنّا في ممالكنا الشريفة فهو المقلّد لأعبائهم، والمخلّى بينه وبين ما يراه في اجتبائهم، يستكتب كلّ أحد فيما يراه، ويرفع بعضهم فوق بعض درجات منهم مستيقظ ومنهم نائم في غمرات كراه كلّ هذا من غير معارضة له فيه، ولا اعتراض عليه في شيء منه، يبلّغنا مهمّاتنا الشريفة ويتلقّى عنا، ومنه إلينا وإليه منّا.
وأما ما يرد عليه من الرسائل عنّا بما يكتب به فيمشّي ما لا يمكن وقوفه، ويراجعنا فيما لا يكون إلا بعد مراجعتنا تصريفه فليمش على هذه القاعدة، وليستقلّ بهذه الوظيفة استقلالا هو كالخبر محلّ الفائدة، ولينشر من إقبالنا الشريف عليه
__________
(1) الملطفات هي الرسائل تكتب عادة إلى الأمراء للترضية والمدح، أو التغرير والتأمين تمهيدا لما يزعمه لهم السلطان من عقوبة أو قتل. وكانت الملطفات تكتب بقلم الغبار. والمراسيم المكبرة (واحدتها المكبّر) هي على نمط التقاليد، باختلافات معينة (انظر الصبح: 3/ 131 و 11/ 108).
(2) النّجابة هم البريديون، راجع ص 91من هذا الجزء الهامش: 4.
(3) حول الحمام الرسائلي ومتعلقاته، انظر الباب الثاني من الخاتمة الجزء الرابع عشر من هذا الكتاب.(11/297)
بالصّلات العائدة ونحن نختصر له الوصايا لأنّه الذي يمليها، ونقتصر منها على التقوى فإنها الذخيرة النافعة لمن يعانيها، والباقية الصالحة خير لمن يقتفيها، والله تعالى يقوّي أسبابه، وينير شهابه، ويزيد من المعالي اكتسابه، ويغنينا بقلمه عن سنان يتقدّم عامله، وبلسانه عن سيف يفارق قرابه، والاعتماد على الخط الشريف أعلاه.
وهذه نسخة تقليد بعود القاضي شهاب الدّين بن فضل الله إلى كتابة السر. من إنشاء الشريف شهاب الدين كاتب الإنشاء الشريف، وهي:
الحمد لله الذي أحمد العقبى بفضله، وأكّد النّعمى بوصله، وأودع سرّ ملكنا الشريف عند أهله، وأطلع شهاب الدين من أفق العلياء في محلّ شرفه وشرف محلّه، ورفع قدره في سيره إلى بروج السّعود وحلوله بدرجات الصّعود ونقله، وأرجع الموهبة منه إلى من يشكرها بقوله وفعله، وأينع الفرع الزاكي الذي يحيا أصله بواكف سحاب كرمنا ووبله، وأتمّ النّعمة عليه كما أتمّها على أبويه من قبله، وضمّ له أطراف الرياسة وجمع شملها بشمله، وعمّ بفضله وفضلنا أهل هذا البيت الذين فطروا على السّؤدد وبصروا من رضانا باتّباع سبله.
نحمده على إضفاء ظلّه، ونشكره على إصفاء نهله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أشرق نور هداها، بمستدلّه، وأغدق نوء نداها، بمستهلّه، ونشهد أنّ سيّدنا محمدا عبده ورسوله أرسله خاتم رسله، وجعل له الفضل على الخلق كلّه، وألهم به سبل هديه وسنن عدله، وأرشده إلى فرض دينه ونفله، وأودعه السّرّ الذي لم يودعه سواه وحمّله من أعباء الرّسالة ما لم ينهض غيره بحمله، صلى الله عليه وعلى آله أغصان الشجرة الزهراء التي هي بضعة منه ونبعة من أصله، ورضي الله عن أصحابه الذين أجلّهم من أجله،
خصوصا من بادر إلى الإيمان فخصّ من السّبق بخصله (1)، ومن أيّد به الدين وفرّ الشيطان من ظلّه، ومن جهّز جيش العسرة حتّى غزا العدا بخيله ورجله، ومن كان باب مدينة العلم ومانح جزله وفاتح قفله، وعن بقيّة المهاجرين والأنصار الذي ما منهم إلا من جاهد حتّى قام الدين بنصره ونصله، صلاة دائمة يجعلها اللسان أهمّ شغله، ويتلقّى قادمها من مواطن القبول بأكرم نزله، ما رمى قوس العزم بصائب نبله، وحمى حمى الملك بليثه وشبله، وفوّض أجلّ المناصب إلى فاضل العصر وأجلّه.(11/298)
نحمده على إضفاء ظلّه، ونشكره على إصفاء نهله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أشرق نور هداها، بمستدلّه، وأغدق نوء نداها، بمستهلّه، ونشهد أنّ سيّدنا محمدا عبده ورسوله أرسله خاتم رسله، وجعل له الفضل على الخلق كلّه، وألهم به سبل هديه وسنن عدله، وأرشده إلى فرض دينه ونفله، وأودعه السّرّ الذي لم يودعه سواه وحمّله من أعباء الرّسالة ما لم ينهض غيره بحمله، صلى الله عليه وعلى آله أغصان الشجرة الزهراء التي هي بضعة منه ونبعة من أصله، ورضي الله عن أصحابه الذين أجلّهم من أجله،
خصوصا من بادر إلى الإيمان فخصّ من السّبق بخصله (1)، ومن أيّد به الدين وفرّ الشيطان من ظلّه، ومن جهّز جيش العسرة حتّى غزا العدا بخيله ورجله، ومن كان باب مدينة العلم ومانح جزله وفاتح قفله، وعن بقيّة المهاجرين والأنصار الذي ما منهم إلا من جاهد حتّى قام الدين بنصره ونصله، صلاة دائمة يجعلها اللسان أهمّ شغله، ويتلقّى قادمها من مواطن القبول بأكرم نزله، ما رمى قوس العزم بصائب نبله، وحمى حمى الملك بليثه وشبله، وفوّض أجلّ المناصب إلى فاضل العصر وأجلّه.
أما بعد، فإنّ آراءنا لا تزال للمصالح مراعية، ولا تبرح بالإسعاد إلى الأولياء ساعية، فتدعو إلى مقامها من وفّر على الإخلاص دواعيه، وتدني من ملكها من له بالخفايا أعظم بصيرة وفي جميل القضايا أجمل طواعية، وتلقي أسرارها إلى من له لسان حقّ ناطق وأذن خير واعية، وتقدّم من له قدم صدق ثابتة ويد بيضاء طولى في المهمّات عالية، لتغدو سهام أقلامه إلى الأغراض رامية، وصوائب أفكاره عن حمى الملك محامية، وتكون عبارته للمقاصد موفية وإشارته لموعد اليمن موافية، وتضحي ديم نعمنا الواكفة لسوابق خدمه مكافية، لما يتّصل بذلك من المصالح، وتناجي خواطرنا الشريفة به المناجح، ويقبل عليه وجه الإقبال، في كل حال، ويغدو إليه طرف الإجلال، وهو طامح، فنجمّل به ممالكنا مصرا وشاما، ونسدّد به مرمى ونصيب مراما، ونحفظ له ولأبيه في خدمتنا حقّا وذماما، ونكون له في الحالتين برّا وإكراما، ونعلي محلّه إعلانا بعلوّ مكانه وإعلاما، فيؤلّف للرياسة نظاما، ويضاعف للرّتبة إعظاما، ويعمل يراعا بل حساما، ويجلو وجه المنى طلقا ويبدو بعد البشر بسّاما، ويحسن بأعباء المهمّات قياما وحيث نقلته أوطانه هضاب المجد وقّلته، وأين وجّهته أعلت قدره ونوّهته، وكلما أوفدته أفاضت عليه ملبس العزّ وجدّدته، واختصّته بالتصرف وأفردته،
__________
(1) الخصلة والخصل في النضال: أن يقع السهم بلزق القرطاس. وأصاب خصله وأحرز خصله:
غلب على الرهان. ومنه قول الشاعر: ولي إذا ناضلت سهم الخصل. (اللسان: 11/ 206).(11/299)
وانتضت ماضي اجتهاده وجرّدته، وأجرته من إجراء فضلها على ما عوّدته، واستقلّت له منائحها من كثير المواهب ما خوّلته، ومن كبير المناصب ما قلّدته.
ولما كان فلان هو الذي أودع الأسرار فحفظها، واطّلع على الدقائق فرعاها ببصيرته ولحظها، وباشر مهمّاتنا فأمضاها، وسرّ خواطرنا وأرضاها، وظهرت منه بين أيدينا كفاية لا تضاهى، وقلّد أجياد أوليائنا من تقاليده عقودا، وأدنى من المقاصد بلطف عبارته بعيدا، وأغنى الدولة أن تجهّز جيشا وجهّز بريدا، وأبان بمقاله عمّا في أنفسنا فلم يبق مزيدا، وصان الأسرار فجعل لها في خلده خلودا، وجمع أشتات المحاسن فأضحى فريدا كم لعمّه (1) في خدمتنا من هجرة قديمة، ولأبيه من موالاة هي للمخالصة مواصلة ومديمة، وكم لهما أسباب في الرياسة قويّة وطرائق في الهداية قويمة، وكم كاتب يسّر الله بهداهما تعليمه وتفهيمه، وقدّر على يديهما وصوله إلى رتب العلياء وتقديمه، فمنفعتهما عميمة، ونبعتهما صميمة، ولهما في الشام ومصر أجمل شيمة، وكم له هو أيضا من تقدّمات اقتضت تكريمه، وكفاية عند علومنا الشريفة معلومة، وكتابة حلل المهارق بوشيها مرقومة فلو قابله الفاضل «عبد الرحيم» لبادر إلى فضله إقراره وتسليمه، أو «عبد الحميد» لكانت مناهجه الحميدة بالنسبة إلى مذاهبه ذميمة، أو سمع «عبد الرحمن» مقاله لضمّن ألفاظه معانيه العقيمة، أو أدركه «قدامة» لعرف تقديمه، واقتدى بسبله المستقيمة، أو حوى «الجوهريّ» فرائد ألفاظه لعرف أنّ صحاحه إذا قرنت بها سقيمة، أو رأى «ابن العديم» خطّه لاستغنت منه بسلاسل الذّهب نفسه العديمة، أو «الوليّ» لاستجدى من صوب إجادته أغزر ديمة، أو نظره «ابن مقلة» لوجدت مقلته نضرة خطّه ونعيمه، أو «ابن البوّاب» لكان خدين بابه وخديمه فهم (2) صدور صدورهم سليمة، وأماثل
__________
(1) أي القاضي شرف الدين، عبد الوهاب بن فضل الله العمري.
(2) المشار إليهم سابقا من أجلّة الكتاب المنشئين البلغاء وهم: القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي المتوفى سنة 596هـ كان من وزراء صلاح الدين ومن أئمة الكتاب وعبد الحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمد آخر ملوك بني أميّة المتوفى سنة 132هـ وقدامة بن جعفر صاحب كتاب «نقد الشعر» المتوفى سنة 337هـ وإسماعيل بن حماد الجوهري صاحب «صحاح اللغة» المتوفى سنة 393هـ وابن العديم، عمر بن أحمد بن هبة الله، المؤرخ المحدث الكاتب المتوفى سنة 660هـ والوليّ هو وليّ الدولة أحمد بن علي بن خيران، صاحب ديوان الإنشاء للظاهر ثم للمستنصر، والمتوفى سنة 431هـ وابن مقلة هو محمد بن علي بن الحسين، الوزير الشاعر الأديب مضرب المثل بحسن الخط، المتوفى سنة 328هـ وابن البواب علي بن هلال المتوفى سنة 423هـ، وهو الخطاط المشهور الذي هذّب طريقة ابن مقلة ولم نتيقن من المقصود بعبد الرحمن. (تجد ترجمة هؤلاء جميعا في أعلام الزركلي ووفيات ابن خلكان).(11/300)
معدودة وأمثالهم معدومة.
اقتضى حسن رأينا الشريف أن نلقي إليه منصبا هو أولى به، ونقرّ عينه بدنوّه منّا واقترابه، ونمتّع البصر والسمع بخطّه وخطابه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف، العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ لا برح يعيد نعمه كما بدأها أوّل مرّة، ويسرّ القلوب بكاف أودعه سرّه، ويحمد لأحمد الأولياء عوده ومستقرّه (1).
فليتلقّ هذه النّعمة بشكرها وليترقّ منصبا رفيعا يناسب رفعة قدره، وليبسط قلمه في تنفيذ مهمّ الممالك من نهيه وأمره، وليحفظ ما أودعه من خفيّ سرّه، وليلاحظ المهمّات بفكره، وليحافظ على ما يعرفه من رضانا طول دهره ونحن نعلم من صواب أفعاله وتسديدها، ما لا نحتاج معه إلى تكثير الوصايا وتعديدها، ولا إلى تكريرها وترديدها لا سيّما وقد سلفت له بها خبرة لا نفتقر إلى استيعاب ذكراها ولا إلى تجديدها، وتقدّمت له مباشرة استبشرنا بميمونها وأثنينا على حميدها، واستدنينا سناها واستغنينا عن سواها بوجودها وله بحمد الله توفّر التوفيق، وهو الحقيق بما فوّضنا إليه على التحقيق، وفضله من الشوائن عريّ وفي المجانبين عريق، وقدره بتجديد النّعم جدير وبخلال الكرم خليق، والله
__________
(1) حذف المرسوم به اختصارا في الكتابة واتكالا على معرفته من نظائره المتقدمة.(11/301)
تعالى يوضّح به من الخير أبين طريق، ويسرّ بمقدمه الوليّ والصديق، ويفرق به بين الحقّ والباطل فجدّه (1) الفاروق وهو من أكرم فريق، بمحمد وآله! وهذه نسخة تقليد بكتابة السرّ:
الحمد لله الذي أظهر لتدبير دولتنا شهابا يعلو على فرقد الفراقد، وكمّل به عقود الممالك فسمت جواهر فرائدها على الدّراريّ إذ كان واسطة تلك الفرائد، ومعيد إحساننا إلى خير وليّ أغنى تدبيره عمّن سواه فكان بالألف ذلك الواحد، ومخوّل موادّ كرمنا لمن هو صدر أسرارنا ويمين مملكتنا في كلّ صادر عنها ووارد، ومنقّل الأكفاء إلى مراتب سعودهم فتصبح ألوية محامدهم في معاقل العزّ أفخر معاقد، ومحلّي ملكنا الشريف بأكمل كاف ما أمّ مصرا إلا تلقّته بالهناء ولا فارق شاما إلا أسفت عليه تلك الربوع والمعاهد.
نحمده على نعم أقرّت عيون الأولياء لمّا أقرّتهم من موادّ جودنا على أكمل القواعد، ونشكره على ما بلّغنا من جميل المآرب وبلوغ المقاصد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجّي قائلها من جميع الشدائد، ونشهد أنّ سيد [نا محمدا سيد] (2) البشر عبده ورسوله الذي جاد بهدايته فكان أكرم جائد، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته خصوصا على أوّل الخلفاء أبي بكر الصديق الذي لا فخر كفخاره، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب حامل أسراره وفاتح أمصاره، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفّان مبدّل عسره بيساره، وعلى ابن عمّه عليّ بن أبي طالب أعزّ نسبائه وأخصّ أصهاره، وعلى بقية مهاجريه وأنصاره، صلاة سهلة المشارع عذبة الموارد.
وبعد فإنّ من سجيّتنا إذا تيمّنّا بوليّ لا نزال نلحظه، ونرعى حقوق خدمه
__________
(1) يعود نسبه إلى عمر بن الخطاب: فهو ابن فضل الله القرشي العدوي العمري.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/302)
في القرب والبعد ونحفظه، ونقابل ما أسلفه لدينا بنفائس النّعم، ونفيض عليه ملابس الجود والكرم، لا سيّما من لم يزل يظهر لنا كل يوم تعبّدا جديدا، ومن أصبح في الفصاحة والبلاغة وحيدا، ومن جمع أطراف السؤدد والرياسة فلم يبرح بهما فريدا، ومن تحسن النعم بإفاضتها عليه، وتكمل المنن بإضافة محاسنها إليه، وتزهو فرائد البلاغة بانتظامها في سلك مجده، وتشرق كواكب اليراعة في اتّساقها في فلك سعده وكان للبابته في الاختصاص بنا اليد الطّولى، وتلا عليه لسان اعتنائنا في الحالين: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى ََ} (1)
ولمّا كنت أيّها الصدر «شهاب الدين» أحقّ الناس بهذا المنصب لما لوالدك أبقاه الله تعالى ولعمّك رحمة الله تعالى من الحقوق، ولما أسلفاه من الخدم التي لا يحسن التناسي لها ولا العقوق، ولأنك جمعت في المجد بين طارف وتالد، وفقت بأزكى نفر وعمّ وإخوة ووالد، وجلالة، ما ورثتها عن كلالة، وخلال، ما لها في السّيادة من إخلال، ومفاخر، تكاثر البحر الزّاخر، ومآثر، يعجز عن وصفها الناظم والناثر، ولما نعلمه من فضائلك التي لا تجحد، رعيناك في عودك لوظيفتك وعود «أحمد» أحمد.
ولما كان فلان (2) هو الذي تقطر الفصاحة من أعطاف قلمه، وتخطر البلاغة في أثواب حكمه، وتنزل المعاني الممتنعة من معاقل القرائح على حكمه، وتقف جياد البداهة المتسرّعة حيرى قبل التوسّط في علمه إن وشّى الطّرس فرياض، أو أجرى النّقس فحياض، أو نظم فقلائد، أو نثر ففرائد. لا يتجاسر المعنى المطروق أن يلمّ بفكره، ولا يقدم المعنى المتخيّل المسبوق للمرور بذكره، ولا يجوز زيف الكلام على ذهنه المتّقد، ولا يثبت غثاء الكلام لدى
__________
(1) الضحى / 4.
(2) ذكر هذه العبارة باعتبارها يمكن أن تكتب بدل الأولى، ولا يجمع بينهما. والكاتب مخيّر في تصدير مقاله بإحداهما.(11/303)
خاطره المنتقد، ف «عبد الحميد» ك «عبد الرحيم» في العجز عن لحاق علومه التي يجد «الراغب» (1) على نورها هدى، والأصمعيّ لو أدركه لتلا عليه: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى ََ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمََّا عُلِّمْتَ رُشْداً} (2) «والطّغرائيّ» (3) لو عاصره لزاد نظمه وازداد على نوره هدى، و «الحريريّ» لو رافقه لأمن في «مقاماته» من التجريح والرّدى قد قصّرت عن غاية كماله جياد القرائح، وعجزت عن وصف صفاته جميع المدائح، وشرف منصبه بانتسابه إليه، ورفع قدره بمثوله لديه مع ما تميّز به من نزاهة صرف بها عن الدنيا طرفه، وزهادة زانت بالسّعد صدره وملاءة ملأت بالعفّة كفّه فهو واحد زمانه، وأوحد أوانه، والبحر الذي يحدّث عن فضله ولا حرج، والروض الذي ينقل عن فضله إلى الأسماع أطيب الأرج وكان قد مال عن منصبه وهو يذكره، وفارقه وهو يشكره، ونادى غيره وبقوله يلبّي، وشغل بغيره وهو يقول حسبي «شهاب الدين» حسبي: {فَلَمََّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قََالَ هََذََا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} (4) فلما حصل له الاستئناس، وزال عنه القلق والالتباس، قال: {ذََلِكَ مِنْ فَضْلِ اللََّهِ عَلَيْنََا وَعَلَى النََّاسِ} (5) اقتضى حسن الرأي الشريف أن نخصّه باستقرار رتبته لديه، وأن نستمرّ به على وظيفته السنية استمرار السّعود المقبل عليه.
فرسم بالأمر الشريف لا زال شهاب سعده لامعا، وسحاب كرمه هامعا، ومطاع أمره لمصالح الدّين والدنيا جامعا، لمناقبه (6) التي وفرت ميامنها،
__________
(1) المقصود هو الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد بن المفضل: أديب من الحكماء العلماء صاحب «محاضرات الأدباء» المتوفى سنة 502هـ. (الأعلام: 2/ 255).
(2) الكهف / 66.
(3) هو الحسين بن علي بن محمد الأصبهاني الطغرائي: شاعر من الوزراء الكتاب. وأشهر شعره «لامية العجم» ومطلعها: «أصالة الرأي صانتني عن الخطل». توفي سنة 513هـ.
(الأعلام: 2/ 246).
(4) من الآية 40من سورة النمل.
(5) يوسف / 38.
(6) المراد: أن يستقرّ في كذا لمناقبه وأن يعاد.(11/304)
وأسفرت بوصف آثاره الحسنة كوامنها، وأن يعاد إليها كما يعاد السّوار إلى الزّند، أو كما يعود نسيم الصّبا إلى الرّند، فليؤنس منصبا كان إليه مشتاقا، ومجلسا كان منتظرا أن يزرّ من ملابس جلاله على عنقه أطواقا، وليجمّل هالة كانت متشوّقة إلى عقود درره. فاحمد الله على ما خصصناك به من مزيد الاعتناء، وأن السعادة في أيّامنا الشريفة متصلة فتشمل الآباء والأبناء ويكفيك بهذا التوقيع الشريف إذ بلغت به جميع الأماني، وتوّجناه بيميننا الشريفة لقرب عهدها بمصافحة الرّكن اليماني، واصطفيناك بقلم عظم شأنا بتلك السّتور، وغدا معمورا بالهداية ببركة البيت المعمور، وازداد بمشافهة الحرم الشريف نورا على نور. فليحسن نظره المبارك في ذلك كلّه، وليبد ما يحسن في هذه الوظيفة من مثله وفي تقدّم مباشرته في هذه الوظيفة وعلمه ما يغني عن كثرة الوصايا، وملاكها تقوى الله تعالى وهي أكمل المزايا وليحمد أفعاله ويصل أسباب اعتماده بسببها والله تعالى يجمّل له مواهب تخويله، ويجعل له الخير في تنقّله وتحويله والخطّ الشريف أعلاه، حجّة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بكتابة السرّ:
الحمد لله الذي جعل خواطر أوليائنا بإقرار نعمنا مستقرّة، ومواطر آلائنا على ذوي الإخلاص في ولائنا دائمة الدّيم مستمرّة، وبشائر رضانا تجدّد لكلّ من ذوي الاختصاص ابتهاجه وبشره، وسوافر أوجه إقبالنا لأولي الاصطفاء والوفاء مشرقة الأوضاح متهلّلة الأسرّة، مودع أسرار ملكنا الشريف من آل «فضل الله» عند أكرم أسرة، وممتّع دولتنا بخير كاف دقّق في مصالحنا فكره، وأنفق في مناجحنا عمره، ومجمع آرائنا على أعلى عليّ حلّ من بهر بيته بمعرّفه وبهر خيره، ومطلع أنجمهم بأفق تقريبنا مرّة بعد مرّة، فنحيي نيّرهم الأكبر وقد شيّدنا بارتقائهم بيته وشددنا بعلائهم أزره.
نحمده على أن جبل سجايانا، على الإحسان والمبرّة، ونشكره على أن
أجزل عطايانا، لمن لم يزل يعرف حقّه ويألف خيره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تشرح لمؤمنها صدره، وتصلح لموقنها أمره، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أسمى على الخلائق قدره، وتولّى في المضايق نصره، وأعلى في المشارق والمغارب ذكره، صلى الله عليه وعلى آله أعزّ عترة، ورضي الله عن أصحابه الذين أسدوا المنّة وسدّوا الثّغرة، صلاة ورضوانا متواصلين في كلّ أصيل ومكرّرين في كلّ بكرة، ما وهب فضل الله مستحقّا فسرّ بالعواطف والعوارف سرّه، وعقّب في سماء الإسعاد كوكب كوكبا فحلّ محلّه وقرّ مقرّه، وسلّم تسليما كثيرا.(11/305)
نحمده على أن جبل سجايانا، على الإحسان والمبرّة، ونشكره على أن
أجزل عطايانا، لمن لم يزل يعرف حقّه ويألف خيره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تشرح لمؤمنها صدره، وتصلح لموقنها أمره، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أسمى على الخلائق قدره، وتولّى في المضايق نصره، وأعلى في المشارق والمغارب ذكره، صلى الله عليه وعلى آله أعزّ عترة، ورضي الله عن أصحابه الذين أسدوا المنّة وسدّوا الثّغرة، صلاة ورضوانا متواصلين في كلّ أصيل ومكرّرين في كلّ بكرة، ما وهب فضل الله مستحقّا فسرّ بالعواطف والعوارف سرّه، وعقّب في سماء الإسعاد كوكب كوكبا فحلّ محلّه وقرّ مقرّه، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد فشيمنا ترعى لأوليائها حقوقا، ونعمنا الغامرة تسني صدقاتها لمن لم يزل في ولائها صدوقا، وتزيد هباتها توفيرا لمن عهدت منه لمراضيها توفيقا، وتجدّد بتعاهدها معهد الفضل فلا يمسي خليّا بل يضحي بإكرامها خليقا، وتشيّد بإحسانها بيتا أسّس على تقوى الله وطاعة سلطانها فغدا بالحفظ حقيقا، وتحمي باعتنائها جوانبه من الغير فلا يرهب حماه لها طروقا، ولا تجد بفضل الله لها عليه طريقا، وتطلع في بروج سعودها زهرا تروق شروقا، وتجمع على مهمّاتها من عظموا فضلا وكرموا فريقا، وتودع أسرارها عند سراتهم ركونا إليهم وسكونا ورضا بهم ووثوقا، وتشفع منائحها بمنائح تزيد آمالهم نجاحا وتفيد أمانيّهم تحقيقا، وترفع مكانا عليّا إلى حيث اتّسع السّرار من ملكها من كان بالميامن مليّا وفي المحاسن عريقا، ويخلف في خدمها شقيق منهم شقيقا، ويصرّف أوامرها ونواهيها من أعيانهم من تأمن المصالح مع اجتهاده تفويتا وتخاف الأعداء لسداده تعويقا، طالما ائتمنّاهم على إيداع أسرارنا فحلّت من سرائرهم مستودعا وثيقا، وعيّنوا للمعالي فصادفت طويّتنا من يقظتهم ونهضتهم تصديقا فهم أولى أن نجعل لأجيادهم بعقود جودنا تطويقا، وأحقّ أن نرفع بنعمنا محلّهم، ونجمع في خدمتنا شملهم، فلا يخشون نقضا ولا تفريقا.
ولما كان المجلس العاليّ الفلانيّ هو الذي لحظته عنايتنا، فعلا فعلا،
وأيقظته إشارتنا، فغدا في الحكم كهلا، وحفظته رعايتنا، فعمرت بيته العمريّ الذي ما زال بالعوارف ملموحا وللقبول أهلا، وأحظته سعادتنا، في إقامته مقام أبيه في حفظ أسرارنا التي هو أحقّ بإيداعها وأولى اقتضى حسن الرأي الشريف أن نجري بمراسمنا أقلامه، ونوفّر من إنعامنا أقسامه.(11/306)
ولما كان المجلس العاليّ الفلانيّ هو الذي لحظته عنايتنا، فعلا فعلا،
وأيقظته إشارتنا، فغدا في الحكم كهلا، وحفظته رعايتنا، فعمرت بيته العمريّ الذي ما زال بالعوارف ملموحا وللقبول أهلا، وأحظته سعادتنا، في إقامته مقام أبيه في حفظ أسرارنا التي هو أحقّ بإيداعها وأولى اقتضى حسن الرأي الشريف أن نجري بمراسمنا أقلامه، ونوفّر من إنعامنا أقسامه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا برحت سحائبه عامّة، ومواهبه لها مزيد وإدامة، ورعايته إذا ابتدأت فضلا رأت إتمامه، وكواكبه تسير في منازل عزّها ولنيّرها الأكبر الإرشاد والإمامة أن يفوّض إليه كذا وكذا، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، نظير ما كان مستقرّا لأخيه.
فليباشر هذه الوظيفة التي لها به وبأهله أعظم فخار، وليحلّ هذه الرتبة التي ما منهم إلا من يجتبى ويستخار، وليجمّل هذا المنصب الذي إليهم مصيره في جميع الأمصار، وليحلّ المهارق بإنشاءاته التي شان مطاولها عن شأوها الإقصار، وليتوقّل هذه الهضبة التي لها على عليائهم اقتصار، وفي آبائهم وأبنائهم لها تعيين وانحصار، وليدبّج الطّروس من خطّه بالوشي الرقيم، وليبهج النفوس من خطابه بالدّرّ النظيم، وليسرج الشّموس من أوضاع كتابته التي تبرز من إبريز كنوزها «ابن العديم»، وليجهزّ البرد التي تقدمها مهابتنا فلم يكتبها من كتائب الأعداء هزيم، وليزيّن مقاصدها التي قرن بها الفتح القريب والنصر العزيز والفضل العظيم وهو بحمد الله غنيّ عن الإرشاد بالوصايا والتفهيم، عليّ القدر لا يحتاج مع ألمعيّته إلى تنبيه ولا إلى تعليم، وهم أئمة هذه الصناعة ولهم الفضل القديم، وسبيلهم السّويّ وصراطهم القويم والله تعالى يوفّر لهم فضلنا العميم، ويظفر أقدارهم من لدنّا بتكرير التكريم، ويسني أمرهم في آفاق العلياء يسعد ويقعد ويقيم، ويديم لكلّ منهم في ظلّ نعمنا المزيد والتأكيد والتقديم والعلامة الشريفة أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه وصية لكاتب السرّ، أوردها في «التعريف» وهي:
وليأمر عنّا بما يقابل بالامتثال، ويقال به: السيوف لأقلامه مثال، ويبلغ [من] (1) ملوك العدا ما لا تبلغه الأسنّة، ولا تصل إليه المراكب المشرعة القلوع والخيول المطلقة الأعنّة، وليوقّع عنّا بما تذهب الأيام ويبقى، ويخلّد من الحسنات ما يلفى آخرة ويلقى، وليمل من لدنه من غرر الإنشاء ما يطرّز كلّ تقليد، وتلقى إليه المقاليد، ولينفّذ من المهمّات ما تحجب دونه الرّماح، وتحجم عن مجاراة خيل البريد به الرّياح، وليتلقّ ما يرد إلينا من أخبار الممالك على اتّساع أطرافها، وما تضمّه ملاءة النّهار ملء أطرافها، وليحسن لدينا عرضها، وليؤدّ بأدائها واجب الخدمة وليتمّ فرضها، وليجب عنّا بما استخرج فيه مراسمنا المطاعة، وبما وكل إلى رأيه فسمع له الصواب وأطاعه، وليمض ما يصدر عنّا مما يجوب الآفاق، ويزكو على الإنفاق، ويجول ما بين مصر والعراق، ويطير به الحمام الرسائليّ وتجري الخيل العتاق، ولير النوّاب ما أبهم عليهم بما يريهم من ضوء آرائنا، وليؤكّد عندهم أسباب الولاء بما يوالي إليهم من عميم آلائنا، وليأمر الولاة بما يقف به كلّ منهم عند حدّه ولا يتجاوزه في عمله، ولا يقف بعده على سواه بأمله، وليتولّ تجهيز البريد، واستطلاع كلّ خبر قريب وبعيد، والنّجّابة وما تسير فيه من المصالح، وتأخذ منه بأطراف الأحاديث إذا سالت منه بأعناق المطيّ الأباطح، وأمور النّصحاء والقصّاد، ومن يظلّ سرّهم عنده إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها وهم شتّى في البلاد، وليعرف حقوق ذوي الخدمة منهم، وأهل النصيحة الذين رضي الله عنهم، ولا ينس عوائدهم من رسوم إحساننا الموظّف، وكرمنا الذي يستميل به القلوب ويتألّف، وليصن السرّ بجهده وهيهات أن يختفي، وليحجبه حتّى عن مسمعيه فسرّ الثلاثة غير الخفي، والكشّافة الذين هم ربيئة (2) النظر، وجلّابة كل خبر، ومن هم أسرع طروقا من الطيف، وأدخل في نحور الأعداء من ذباب السّيف، وهم أهل الرّباط(11/307)
وهذه وصية لكاتب السرّ، أوردها في «التعريف» وهي:
وليأمر عنّا بما يقابل بالامتثال، ويقال به: السيوف لأقلامه مثال، ويبلغ [من] (1) ملوك العدا ما لا تبلغه الأسنّة، ولا تصل إليه المراكب المشرعة القلوع والخيول المطلقة الأعنّة، وليوقّع عنّا بما تذهب الأيام ويبقى، ويخلّد من الحسنات ما يلفى آخرة ويلقى، وليمل من لدنه من غرر الإنشاء ما يطرّز كلّ تقليد، وتلقى إليه المقاليد، ولينفّذ من المهمّات ما تحجب دونه الرّماح، وتحجم عن مجاراة خيل البريد به الرّياح، وليتلقّ ما يرد إلينا من أخبار الممالك على اتّساع أطرافها، وما تضمّه ملاءة النّهار ملء أطرافها، وليحسن لدينا عرضها، وليؤدّ بأدائها واجب الخدمة وليتمّ فرضها، وليجب عنّا بما استخرج فيه مراسمنا المطاعة، وبما وكل إلى رأيه فسمع له الصواب وأطاعه، وليمض ما يصدر عنّا مما يجوب الآفاق، ويزكو على الإنفاق، ويجول ما بين مصر والعراق، ويطير به الحمام الرسائليّ وتجري الخيل العتاق، ولير النوّاب ما أبهم عليهم بما يريهم من ضوء آرائنا، وليؤكّد عندهم أسباب الولاء بما يوالي إليهم من عميم آلائنا، وليأمر الولاة بما يقف به كلّ منهم عند حدّه ولا يتجاوزه في عمله، ولا يقف بعده على سواه بأمله، وليتولّ تجهيز البريد، واستطلاع كلّ خبر قريب وبعيد، والنّجّابة وما تسير فيه من المصالح، وتأخذ منه بأطراف الأحاديث إذا سالت منه بأعناق المطيّ الأباطح، وأمور النّصحاء والقصّاد، ومن يظلّ سرّهم عنده إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها وهم شتّى في البلاد، وليعرف حقوق ذوي الخدمة منهم، وأهل النصيحة الذين رضي الله عنهم، ولا ينس عوائدهم من رسوم إحساننا الموظّف، وكرمنا الذي يستميل به القلوب ويتألّف، وليصن السرّ بجهده وهيهات أن يختفي، وليحجبه حتّى عن مسمعيه فسرّ الثلاثة غير الخفي، والكشّافة الذين هم ربيئة (2) النظر، وجلّابة كل خبر، ومن هم أسرع طروقا من الطيف، وأدخل في نحور الأعداء من ذباب السّيف، وهم أهل الرّباط
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) الربيئة والربيء: الطليعة الذي يرقب العدوّ من مكان عال لئلا يدهم قومه. والجمع: ربايا.(11/308)
للخيل، وما منهم إلا من هو مقبل ومدرك كاللّيل والدّيادب والنّظّارة (1)، ومن يعلم به العلم اليقين إذا رفع دخانه أو ناره وهم في جنبات حيث لا يخفى لأحد منهم منار، ولا يزال كلّ نبإ بتنويرهم كأنه جبل في رأسه نار والحمام الرسائليّ وما يحمل من بطائق، ويتحمّل من الأنباء ما ليس سواه له بطائق، ويخوض من قطع الأنهار، ويقطع إلينا ما بعد مسافة شهر وأكثر منه في ساعة من نهار، ويعزم السّرى لا يلوي على الرّباع، ويعلم أنها من ملائكة النصر لأنها رسل ولها أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وغير هذا مما هو به معدوق، وإليه تحدى به النّوق، من رسل الملوك الواردة، وطوائف المستأمنين الوافدة وكلّ هؤلاء [هولآ] (2) مالهم المترجم، والمصرّح عن حالهم المحمحم فليعاملهم بالكرامة، وليوسع لهم من راتب المضيّف ما يحبّب إليهم في أبوابنا العالية الإقامة، وليعلم أنه هو لدينا المستشار المؤتمن، والسفير الذي كلّ أحد بسفارته مرتهن، وهو إذا كتب بناننا، وإذا نطق لساننا، وإذا خاطب ملكا بعيد المدى عنواننا، وإذا سدّد رأيه في نحور الأعداء سهمنا المرسل وسناننا فلينزل نفسه مكانها، ولينظر لدينا رتبته العليّة إذا رأى مثل النجوم عيانها.
فليراقب الله في هذه الرتبة، وليتوقّ لدينه فإنّ الله لا يضيع عنده مثقال حبّة، وليخف سوء الحساب وليتّق الله ربّه وجماعة الكتّاب بديوان الإنشاء بالممالك الإسلامية هم على الحقيقة رعيّته، وهداهم بما تمدّهم به من الآلاء ألمعيته فلا تستكتب إلا من لا تجد عليه عاتبا، ولا يجد إلا إذا قعد بين يديه كاتبا، والوصايا منه تستملى.
__________
(1) الديادب: جمع ديدبان وهم الذين يقومون برصد العدو ورؤيته. والنظارة مثلهم.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(11/309)
الطبقة الثانية (من أرباب الوظائف الديوانية بالحضرة السلطانية أصحاب التواقيع، وهم على ثلاث درجات)
الدرجة الأولى (ما يكتب في قطع النصف ب «المجلس العالي» وكلّها مفتتحة ب «الحمد لله»)
وتشتمل على ثلاث وظائف سوى ما تقدّم أنه نقل إلى رتبة التقاليد، وهو كتابة السرّ.
الوظيفة الأولى (نظر الخاصّ)
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب وظائف الديار المصرية أنّها وظيفة محدثة، أحدثها السلطان الملك الناصر «محمد بن قلاوون» حين أبطل الوزارة، وأنّ أصل موضوعها التحدّث فيما هو خاصّ بمال السلطان، وأنّ صاحبها صار كالوزير لقربه من السلطان وتصرّفه في تدبير جملة الأمور، وتعيين المباشرين، إلا أنّه لا يقدر على الاستقلال بأمر، بلا لا بدّ له من مراجعة السلطان. وقد تقدّم ذكر ألقابه في الكلام على مقدّمة الولايات من هذا الفصل، وعلى طرّة توقيعه في الكلام على التواقيع.
وهذه نسخة توقيع بنظر الخاصّ، كتب به للقاضي شمس الدين موسى بن عبد الوهّاب في الأيام الناصرية «محمد بن قلاوون» وهي:
الحمد لله الذي جعل كلّ جرح بنا يوسى، وعجّل كلّ نعمة تبدّل بوسا، وتغيّر بالسّرور من المساءة لبوسا.
نحمده حمدا يشرح صدورا ويسرّ نفوسا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ترفع لقائلها رؤوسا، وتطلع في آفاق ممالكنا الشريفة شموسا، وتنشيء في أيّامنا الزاهرة غروسا، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بشّر به
موسى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة تملأ طروسا، وسلّم تسليما كثيرا.(11/310)
نحمده حمدا يشرح صدورا ويسرّ نفوسا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ترفع لقائلها رؤوسا، وتطلع في آفاق ممالكنا الشريفة شموسا، وتنشيء في أيّامنا الزاهرة غروسا، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بشّر به
موسى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة تملأ طروسا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن العمل بالسنّة أولى ما يتمسك به المتمسّك، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم:
«ابدأ بنفسك» وكانت الخواصّ الشريفة هي المصلحة الخاصّة بنا، المتعلّقة دون كل شيء بأنفسنا، لأن من خزائنها العالية تتفرّق مواهبنا الشريفة في الوجود، وتتحلّى معاطف الأمراء والجنود، وكان فيها من لم يزل هو وبنوه قائمين بها أحسن قيام، وفيها من ممالكنا الشريفة ما يضاهي بمدده الغمام، من حضر منهم لا يتفقّد معه من غاب، ومن كتب منهم في شيء من مصالحها قال الذي عنده علم من الكتاب كم أجرت صدقاتنا الشريفة بأقلامهم من إنعام، وتقسّموا في مصالحنا الشريفة هذا في الخاص وهذا في العامّ طالما انقطع والدهم رحمه الله تعالى بعذر فمشّوا الأمور على أكمل سداد، وأجمل اعتماد، وأتمّ مالو حضر أبوهم وكان هو المتولّي لما زاد فما خلت في وقت منه، أو من أحد منهم لمّا غاب من بقي يسدّ عنه فلم يزل منهم ربعها مأنوسا، ولا سئل فيها عن قصّة إلا وأنبأت بها صحف إبراهيم وموسى.
وكان المجلس العالي فلان هو الذي تفرّد آخرا بهذه الوظيفة، واستقلّ فيها بين أيدينا الشريفة، وسافر فيها إلى ثغر الإسكندرية حرسها الله تعالى فافترّ بيمن تصرّفه، وحسن تعفّفه، وعدم فيها المضاهي لأنه لا شيء يضاهى الشمس إذا حلّ سرّها في منازل شرفه كم كفت له كفاية، وبدت بداية، وكم بلغ من غاية، كم له من همم، وكم تقدّمت له قدم، وكم اعترف السيف ببزّ القلم كم له في خدمة المقامات العالية أولادنا أثر جميل، وفعل جليّ جليل، وسلوك فلا يحتاج في الشمس إلى دليل كم أحسن في مرّة، كم رددناه إلى الكرك كرّة كم غلب على السحاب فرقى إليها، وبلغ النّجوم وله قدوم عليها فلما انتقل والده القاضي تاج الدين عبد الوهاب إلى رحمة الله تعالى، احتاج إلى توقيع شريف بالاستقلال في وظيفة نظر الخاصّ الشريف التي خلت عن أبيه، ليعلم كلّ متطاول إليها أنه لا يصل إليها مع وجود بنيه فما عاد إلا وعاد
بعين العناية محروسا، ولا أقبل على كرمنا إلا قال {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يََا مُوسى ََ} (1)
فلذلك رسم بالأمر الشريف زاد الله شرفه، ومكّن في الأرض تصرّفه أن يفوّض إليه نظر الخاصّ الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة، على عادة والده رحمه الله في هذه الوظيفة، وقاعدته في رتبتها المنيفة، ليقضي ما كان في خاطر أبيه من الوطر، ولأنه في أمثاله عين الأعيان والعين أولى بالنظر.(11/311)
وكان المجلس العالي فلان هو الذي تفرّد آخرا بهذه الوظيفة، واستقلّ فيها بين أيدينا الشريفة، وسافر فيها إلى ثغر الإسكندرية حرسها الله تعالى فافترّ بيمن تصرّفه، وحسن تعفّفه، وعدم فيها المضاهي لأنه لا شيء يضاهى الشمس إذا حلّ سرّها في منازل شرفه كم كفت له كفاية، وبدت بداية، وكم بلغ من غاية، كم له من همم، وكم تقدّمت له قدم، وكم اعترف السيف ببزّ القلم كم له في خدمة المقامات العالية أولادنا أثر جميل، وفعل جليّ جليل، وسلوك فلا يحتاج في الشمس إلى دليل كم أحسن في مرّة، كم رددناه إلى الكرك كرّة كم غلب على السحاب فرقى إليها، وبلغ النّجوم وله قدوم عليها فلما انتقل والده القاضي تاج الدين عبد الوهاب إلى رحمة الله تعالى، احتاج إلى توقيع شريف بالاستقلال في وظيفة نظر الخاصّ الشريف التي خلت عن أبيه، ليعلم كلّ متطاول إليها أنه لا يصل إليها مع وجود بنيه فما عاد إلا وعاد
بعين العناية محروسا، ولا أقبل على كرمنا إلا قال {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يََا مُوسى ََ} (1)
فلذلك رسم بالأمر الشريف زاد الله شرفه، ومكّن في الأرض تصرّفه أن يفوّض إليه نظر الخاصّ الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة، على عادة والده رحمه الله في هذه الوظيفة، وقاعدته في رتبتها المنيفة، ليقضي ما كان في خاطر أبيه من الوطر، ولأنه في أمثاله عين الأعيان والعين أولى بالنظر.
فليباشر ما أنعمت به صدقاتنا العميمة عليه على ما عهد منه بالأمس، وعرف به من حسن السلوك كمن يمشي في ضوء الشمس، وليقدّم تقوى الله والأمانة فهما أفضل ما يقدّم، وأجمل ما يعمل به من تقدّم، والنهضة فإنها هي التي تقوم بها المصالح، والتصدّي لما هو بصدده فإن به يتمّ كلّ عمل صالح، وليحتفظ على الخزائن العالية، وليكن فيها كواحد من رفقته عملا بالعادة [فيها] (2)، وإلا فنحن نعلم من كفايته [أنه] (3) يكفيها، وليثمّر الجهات التي إليه مرجعها، والأموال التي يدوم إليه من العين تطلّعها، وليستجلب خواطر التّجّار بإيصال حقوقهم إليهم، والقائمين في خدمة أبوابنا الشريفة بتعجيل ما تنعم به صدقاتنا الشريفة عليهم، وليكن إلى ما تبرز به مراسمنا الشريفة مسارعا، ولها في كلّ ما أشكل عليه من الأمور مراجعا وبقيّة هذا من كلّ ما يحتاج أن نوصيه بتعلّمه فقد علم مما جرت به عادتنا الشريفة بأن نقوله في مثله، ولهذا نختصر في الوصايا التي تشرح اكتفاء بما آتاه الله بنا من فضله والله تعالى يأخذ به إلى النّجاح، ويفتتح له بنا أحسن الافتتاح والاعتماد على الخطّ الشريف أعلاه، إن شاء تعالى.
__________
(1) طه / 36.
(2) الزيادة يقتضيها السياق والتسجيع.
(3) الزيادة يقتضيها السياق والتسجيع.(11/312)
وهذه نسخة توقيع بنظر الخاص:
الحمد لله الذي جعل خواصّ النّعم لملكنا الشريف لأجلّها، ونفائس الذخائر من دولتنا القاهرة بمحلّها، وأخاير المفاخر مبسوطا في أيّامنا ظلّها.
نحمده بمحامده التي لا نملّها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أشرق مستهلّها، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي ختمت به أنبياؤها ورسلها، وبعثه الله للأرحام يبلّها، وللأولياء يجلّها، وللأعداء يذلّها، ولسيوف النصر من الغمود يسلّها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما شدّ على مطيّة رحلها، وولي المراتب أهلها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ خزائن ملكنا الشريف مستودع كلّ ثمين، وممالكنا المعظّمة لا تعدق إلّا بالثّقة الأمين، ومتاجر خواصّنا الشريفة لا يثمّرها إلا من رأيه يعضّد قلمه في اليمين، والمتجر المحروس لا يقوم بنماء محصوله إلا من له حزم سديد وعزم متين، ونظر الخواصّ هو الذّروة العالية فمرتقيها على كل ما يعترضه معين.
ولما كان فلان هو المختار على يقين، والمخطوب لهذا المنصب ليزيده في التحسين والتّحصين، والذي إن نظر في القليل عاد كثيرا بالألوف والمئين فإن دبّر تدبيرا حفظ وحرس وصين، وضبط في حسن الاعتماد بلغ إلى الصّين، وإن توجّه إلى الثغر المحروس تفجّر له عن أمواله الجمّة، وأخرج له من فاخر الحلل ما حسّن راقمه رقمه، وصدر عنه إلى أبوابنا الشريفة بالتّحف المثمنة، والحمول التي أوقرت (1) السّفن في النّيل، والإبل في السبيل، فأزال الغمّة، وأنار الأمور المدلهمّة، ونشر ما طواه لدينا فشكرنا له ما تقدّم به مما أتمّه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف فليباشر هذا المنصب الكريم بتدبير يصلح الفاسد، وينفّق الكاسد، ويكبت الحاسد، ويكثّر الأموال، ويسعد
__________
(1) أوقرت: أثقلت.(11/313)
الأحوال، ويثمّر الذّخائر، ويسرّ السّرائر، ويوفّر حاصل الجواهر، ويكثّر التّحف من كل صنف فاخر، ويوفي المهمّات الشريفة حقّها في الأوّل والآخر، وينشر التشاريف كالأزاهر. وليختر الأمناء الثّقات، وليحرّر كلّ منهم الميقات، وليبع لخاصّنا الشريف ويشتر بالأرباح في سائر الأوقات، وليتلقّ تجار الكارم (1)
الواردين من عدن، باستجلاب الخواطر وبسط المنن، ونشر المعدلة عليهم ليجدوا من اليمن ما لم يجدوه في اليمن وكذلك تجار الجهة الغربيّة الواردين إلى الثغر المحروس من أصناف المسلمين والفرنج: فليحسن لهم الوفادة، وليعاملهم بالمعدلة المستفادة، فإنّ مكاسب الثغر منهم ومن الله الحسنى وزيادة. والوصايا كثيرة وهو غنيّ عن الإعادة، و [ملاكها] (2) تقوى الله فليقتف رشاده، وليصلح مآبه ومعاده، ولا يتدنّس بأقذار هذه الدنيا فإنها جمرة وقّادة والله تعالى يحرس إرفاقه وإرفاده، بمنّه وكرمه!: بعد الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الثانية (نظر الجيش)
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب وظائف الديار المصرية أنّ موضوعها التحدّث في الإقطاعات بمصر والشام، والكتابة بالكشف عنها، ومشاورة السلطان عليها، وأخذ خطّه، وقد تقدّم ذكر ألقابه في جملة الألقاب في الكلام على مقدّمات الولايات من هذا الفصل، وتقدّم ذكر ما يكتب في طرّة تقليده في الكلام على التواقيع.
__________
(1) أو التجار الكارمية: فئة من التجار كان بيدهم تجارة البهار من الفلفل والقرنفل ونحوهما مما يجلب من الهند عن طريق ثغور اليمن. وكان معظمهم في الأصل من بلاد «الكانم» الإسلامية التي تقع بين بحر الغزال، وبحيرة تشاد بالسودان الغربي، فنسبوا إلى أصلهم الجغرافي بعد تحريفه الى «الكارم» ثم أطلق ذلك اللفظ على جميع من مارس تلك التجارة بمصر.
(2) الزيادة مستفادة من الصّيغ المعتادة.(11/314)
وهذه نسخة توقيع بنظر الجيش:
الحمد لله الذي عدق (1) بالأكفاء مصالح الجنود، وصرّف أقلامهم فيما نقطعه من الجود، واجتبى لمراتب السيادة من تحمده الأقلام في العطايا البيض والسّيوف في الخطوب السّود.
نحمده وهو المحمود، ونشكره شكرا مشرق الميامن والسّعود، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة عذبة الورود، يجد المخلص بركتها يوم العرض {ذََلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النََّاسُ وَذََلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} (2) ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أضحت به جيوش الإسلام منشورة الألوية والبنود، منصورة السّرايا في التّهائم والنّجود، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما أورق عود، وأولج نهار السيوف في ليل الغمود، وسلّم تسليما.
وبعد، فإن أجلّ رتب هذه الدولة الشريفة مرتقى، وأجملها منتقى، وأكرمها هاديا حلّى بعقد السّيادة مفرقا، رتبة حكّمنا مرتقيها في أرزاق الجيوش الذين هم حماة الدين وأنصاره، ولهم رواح الظّفر وابتكاره ولهذا لا يحظى بتسنّمها إلا من علا مقدارا، وشكرت الدولة الشريفة له آثارا، وجيّبت (3) عليه السعادة أثوابها، وأوكفت عليه سحابها، وأنزلته ساحاتها ورحابها، وغدت لأحاديث عليائه تروي، وحمده الميسور والمنشور والمطوي.
ولما كان فلان هو الذي نمت مآثره، وكرمت مفاخره، واستوت على العلياء مظاهره، وشكر استبصاره وحياطته، وكمل سلوكه منهج الفخار وجادّته، وأحصى الجنود عددا، وإن كاثروا النجوم مددا، وأحاط بالأرض المقطعة، فلم تكن نواحيها عنه ممتنعة، ولم يغادر منها شيئا إلّا أحصاه، واتّبع سبب مراضينا
__________
(1) عدق هنا بمعنى جمع. والأوضح «عزق بهم» أي ناط بهم.
(2) هود / 103.
(3) جيّب القميص ونحوه: جعل له جيبا. والمراد: خاطت.(11/315)
حتّى بلغ أقصاه فالعلم يثني عليه والعلم، والحرب والسّلم يشكرانه لمناسبة نظره القرطاس والقلم اقتضى حسن الرأي الشريف أن نرقّيه هضبة سامية العلى، فاخرة الحلى، ومنبع أرزاق أئمة الفضل وأبطالها، ورتبة شهد منالها بعدم مثالها.
فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يفوّض إليه [نظر الجيش الخ].
فليباشر هذه الوظيفة المباركة، وليحلّ ذراها الأسمى، وليجمل اطّلاعه على الجيوش المنصورة حتّى لا يغادر منها اسما (1)، لتغدو مصالحها وريقة الغراس باسقة، وعقودها نفيسة الفرائد متناسقة، وليجر نظره المبارك فيما صرّفناه فيه، آخذا بيمن السّداد من فعله وحسن التنفيذ من فيه، ملزما من تحت نظره بإتقان ما هم بصدده من العروض والأمثلة، حتّى تغدو لديه ممثّلة، محرّرا للإقطاعات وعلم خفاياها فيما نهبه ونقطعه، ونصله ونقطعه، والمقايضات وإن اختلفت، والإفراجات وإن اكتنفت، والمغلّات الآتية والأخرى التي سلفت، وما يخصّ المتّصل، من فعل المنفصل، والمتحصل والعبرة (2)، والخاص والعدّة لذوي الإمرة ومنها مصريّ لا غنى عن تحريره، وشاميّ يفتقر إلى الإتقان في قليله وكثيره ولينظر فيمن له جامكيّة (3) أو إقطاع مجزل، وكلاهما في دولتنا سماك (4): هذا رامح وهذا أعزل.
هذه وصايا جمّه، وأنت غنيّ عن أن يستقصي القلم ذكرها أو يتمّه والله
__________
(1) كان من مهمات ناظر الجيش وضع لوائح (جرائد) بأعداد وأسماء الجنود مرتبة تحت اسماء أمرائهم من ألوف ومئين وعشرات، بحيث أن أي جندي لا يستطيع أن ينقل من قيده مع أمير إلى أمير آخر.
(2) العبرة: من التعابير الخاصة بنظام الإقطاع، ومعناها القيمة المالية التي يدفعها المقتطع للدولة بدل اقطاعه قطعة من الأرض أو منطقة معينة.
(3) الجامكية: الراتب الشهري. وتجمع على جوامك وجامكيات.
(4) السّماك هنا بمعنى النجم. والسماكان: نجمان نيّران، أحدهما في الشمال وهو السماك الرامح، والآخر في الجنوب وهو السّماك الأعزل.(11/316)
تعالى يجمّل به رتبه، ويبلّغه أربه، ويرفع عليه لواء المجد وعذبه (1) بعد العلامة الشريفة أعلاها الله تعالى أعلاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بنظر الجيش:
الحمد لله الذي أعزّ الجيوش المنصورة، وجزّ أعناق العدا بالسّيوف المشهورة، وهزّ ألوية التأييد المنشورة، وجعل الجحافل مشرفة وأجنحتها خافقة وساقتها محدقة وقلوبها مسرورة.
نحمده بمحامده المذكورة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مأثورة، موصولة غير مهجورة، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أبطل من الشيطان غروره، وصان للإسلام حوزته وثغوره، وسنّ لأمّته الاستخارة والمشورة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة نوّرت من الليل ديجوره، وكثّرت لقائلها أجوره، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أحوال جيوشنا يتعيّن حسن النظر في أمرها، والقيام بموادّ نصرها، وإسعافها بناظر يحرّر جهات أرزاقها، ويضبطها مخافة افتراقها، ويأمر بنظم جرائد أسمائهم واتفاقها، ويتقن الحلى، ويبيّن يوم العرض محلّه في ارتقاء العلى، ويصون المحاسبات لكل منفصل ومتّصل من الحلل، ويسرع في الدخول والخروج ما يصل به لكلّ حقّه عند استحقاق الأجل.
ولما كان فلان هو الممدوح بألسنة الأقلام، والرئيس بين الأنام، والمشكور بين أرباب السّيوف وذوي الأقلام، والمأمون فيما يعدق به من مهامّ، والعزيز المثال، والسائر بمجده الأمثال، والمنشور فضله في كل منشور، والظاهر أثره [وتحريره] (2) في الديوان المعمور، والذي شكرته المملكة الشريفة
__________
(1) عذبة كل شيء: طرفه. وعذبة الرمح: خرقة تشدّ على رأسه. والجمع من كل ذلك. عذب.
(2) في الأصل «تجريده». والتصحيح من هامش الطبعة الأميرية.(11/317)
فهو من صدورها في الصّدور.
فلذلك رسم [بالأمر الشريف الخ] (1) فليباشر نظر هذا المنصب السعيد بأمانة تحفظ أرزاق العساكر، وتجلو الظّلام العاكر، وليحرّر جرائد التجريد، وليصن العدّة الكاملة من التّبديد، ولتكن أوراق البياكر (2) نصب عينيه حتّى إذا طلبت منه أحضرها محرّرة، وإذا وقع فيهم حركة كانت أقلامه غير مقصّرة، وليرغّب في اقتناء الثناء حتّى يصبح عنده منه جملة من الألوف، وليكن للأمانة والنّصح نعم الألوف، وليتّق الله مع أصحاب السّيوف، وليستجلب خواطر أرباب الصّفوف، وليجعل له برّا في كل أرض يطوف، وتقوى الله فهي السبيل المعروف، فلينعم بجنّتها الدانية القطوف، وليلبس بردتها الضافية السّجوف (3)، والله تعالى ينجّيه من المخوف، بمنّه وكرمه!.
وهذه وصية ناظر جيش أوردها في «التعريف» قال:
وليأخذ أمر هذا الديوان بكلّيته، ويستحضر كلّ مسمّى فيه إذا دعي باسمه وقوبل عليه بحليته وليقم فيه قياما بغيره لم يرض، وليقدّم من يجب تقديمه في العرض، وليقف على معالم هذه المباشرة، وجرائد جنودنا وما تضحي له من الأعلام ناشرة، وليقتصد في كل محاسبة، ويحرّرها على ما يجب أو ما قاربه وناسبه، وليستصحّ أمر كلّ ميت تأتي إليه من ديوان المواريث الحشريّة (4) ورقة وفاته، أو يخبره به مقدّمه أو نقيبه إذا مات معه في البيكار (5) عند موافاته، وليحرّر
__________
(1) بياض بالأصل. وما أضفناه مما تقدّم له في مثل هذا المقام.
(2) البياكر: جمع بيكار، وهو لفظ فارسيّ معناه الحرب عامة.
(3) السجوف: جمع سجف، وهو السّتر.
(4) كان متولي ديوان المواريث الحشرية يكتب تعريفا بمن يموت بمصر والقاهرة من رجال ونساء وصغار ويهود ونصارى وتكتب منه نسخ لعدد من الدواوين. وأموال المواريث الحشرية هي التي تعود إلى بيت المال عند عدم وجود الوارث. (راجع الصبح: 3/ 460والمقريزي، الخطط:
1/ 111).
(5) البياكر: جمع بيكار، وهو لفظ فارسيّ معناه الحرب عامة.(11/318)
ما تضمّنته الكشوف، ويحقّق ما يقابل به من إخراج كلّ حال على ما هو معروف، حتى إذا سئل عن أمر كان عنه لم يخف، وإذا كشف على كشف أظهر ما هو عليه ولا ينكر هذا لأهل الكشف، وليحتوز في أمر كلّ مربعة، وما فيها من الجهات المقطعة، وكلّ منشور يكتب، ومثال عليه جميع الأمر يترتّب، وما يثبت عنده وينزل في تعليقه، ويرجع فيه إلى تحقيقه وليعلم أنّ وراءه من ديوان الاستيفاء من يساوقه في تحرير كل إقطاع، وفي كل زيادة وأقطاع، وفي كل ما ينسب إليه وإن كان إنما فعله بأمرنا المطاع، فليتبصّر بمن وراءه، وليتوقّ اختلاق كلّ مبطل وافتراءه، وليتحقّق أنه هو المشار إليه دون رفقته والموكل به النظر، والمحقّق به جملة جندنا المنصور من البدو والحضر. وإليه مدارج الأمراء فيما تنزل، وأمر كلّ جنديّ له ممّن فارق أو نزّل وكذلك مساوقات الحساب ومن يأخذ بتاريخ المنشور أو على السّياقة، ومن هو في العساكر المنصورة في الطّليعة أو في السّاقة. وطوائف العرب والتّركمان والأكراد، ومن عليهم تقدمة أو يلزمهم روك (1) بلاد، أو غير ذلك مما لا يفوت إحصاؤه القلم، وأقصاه أو أدناه تحت كل لواء ينشر أو علم فلا يزال لهذا كله مستحضرا، وعلى خاطره محضرا، لتكون لفتات نظرنا إليه دون رفقته في السؤال راجعة، وحافظته الحاضرة غنيّة عن التّذكار والمراجعة.
__________
(1) الرّوك في الاصطلاح التاريخي معناه مسح أرض الزراعة في بلد من البلاد لتقدير الخراج المستحق عليها لبيت المال. وقد مسحت الأراضي المصرية لأول مرّة على يد ابن رفاعة عامل الخراج بمصر في خلافة الوليد وأخيه سليمان بن عبد الملك الأموي حوالي سنة 97هـ / 715 م. والمرة الثانية كانت على يد ابن الحبحاب في خلافة هشام بن عبد الملك سنة 110 هـ / 729م. والمرة الثالثة كانت على يد ابن مدبّر في خلافة المعتز بالله العباسي حوالي سنة 253هـ / 867م. ثم كان في عصر المماليك الروك الذي أجراه السلطان حسام الدين لاجين وتلاه الروك الناصري. (انظر: خطط المقريزي: 1/ 8887والتعريف بمصطلحات الصبح:
ص 165).(11/319)
الوظيفة الثالثة (نظر الدواوين المعبّر عنها بنظر الدّولة)
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب وظائف الديار المصرية أنّ موضوعها التحدّث في كل ما يتحدّث فيه الوزير، وأن كلّ ما كتب فيه الوزير «يكشف» مثلا، كتب فيه «يكشف عمّا رسم به» ونحو ذلك. وتقدّم ذكر ألقابه في الكلام على مقدّمات الولايات من هذا الفصل، وتقدّم ذكر ما يكتب في طرّة توقيعه في الكلام على التواقيع.
وهذه نسخة توقيع بنظر الدواوين، كتب به لتاج الدّين بن سعيد الدولة، وهي:
الحمد لله الذي خصّ من أخلص في الطاعة من آلائنا بحسن النظر، وأجنى من غرس في قلبه أصل الإيمان من عوارف أيّامنا الزاهرة يانع الثمر، ورفع من استضاء في دولتنا القاهرة بأنوار الهدى من حجول (1) الرّتب إلى مكان الغرر، وأظهر لوامع السعادة من نعمنا على من أضاء له الرّشد فرآه بعين البصيرة قبل البصر.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة هي أرفع ما يقتنى وأنفع ما يدّخر، وأفضل ما نجت به الفرقة الموحّدة وهلكت به الفرق الأخر، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أشرف البشر، وأرأف البدو والحضر، والمبعوث إلى الأمم كافّة لما قضاه الله تعالى من سعادة من آمن وشقاوة من كفر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الميامين الغرر، صلاة دائمة الورد والصّدر، باقية العين والأثر، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من خصّه برّنا بالنظر الحسن، وشمله كرمنا من الرّتب بما يهجر في بلوغ مثله الوسن، واشتمل عليه معروفنا بما يجعل يراعه في
__________
(1) الحجل: الخلخال، والقيد، والجمع: أحجال وحجول. والمراد: الرتب الوضيعة.(11/320)
مصالح الدولة القاهرة جميل العبارة حسن اللّسن، من سمت به نفسه إلى سعادة الآخرة فأتته سعادة الدنيا تابعة، وسلك في مراضي الدولة القاهرة طريق الإخلاص فغدت لكلّ خير حاوية ولكلّ يمن جامعة مع كفاءة جاءت المناصب على قدر، ومعرفة ما لحظت المصالح بأقرب نظر، إلا نمّت الأموال وبدرت البدر، وخبرة ما اعتبرت فيها محاسن سيرته في كل ما يباشره إلا صغّر خبرها الخبر، ونزاهة سلكت به في كل ما يليه أحسن المسالك، وعفّة رفعته من الرتب الديوانيّة إلى مفارقها ولا رتبة للتّاج إلا ذلك.
ولمّا كان فلان هو الذي اجتنى من إحسان الدولة القاهرة بالطاعة أفضل الجنى، وفاز من عوارفها العميمة بجميل المخالصة ما زاد على المنى، وانتمى من أدوات نفسه إلى كمال المعرفة والعفّة وهما أفخر ما يدّخر للرّتب الجليلة وأنفس ما يقتنى، وعني من أسباب استحقاقه المناصب بما اقتضى إحسان الدولة القاهرة أن يحتفل بتقديمه وأن يعتنى.
فلذلك رسم أن يفوّض إليه نظر الدواوين المعمورة: فليباشر ذلك محلّيا هذه الرتبة بعقود تصرّفه الجميل، ومجلّيا في هذه الحلبة بسبق معرفته الذي لا يحتاج إلى دليل، ومبيّنا من نتائج قلمه ما يبرهن على أنه موضع الاختيار، ومن كوامن اطّلاعه ما لا يحتاج إلى برهان إلا إذا احتاج إليه النّهار، فلا يزال فرع يراعه في روض المصالح مثمرا، وليل نقسه في ليل الأعمال مقمرا، وحسن نظره إلى ما قرب ونأى من المصالح محدقا، ولسان قلمه لما دقّ من أمور الأقاليم محقّقا، ورسم خطّه لما يستقرّ في الدواوين المعمورة مثبتا، ووسم تحريره لما يجتنى من غروس المصالح منبتا، ولدرّ أخلاف الأعمال، بحسن الاطّلاع محتلبا، ولوجوه الأموال، بإنفاق التوجه إلى تثميرها إن أقبلت مجتليا وإن أعرضت مختلبا فإنّ الأمور معادن يستثيرها التصرف الجميل، ومنابت ينمّيها النظر الجليّ والإتقان الجليل. وملاك كلّ أمر تقوى الله تعالى فليجعلها إمامه، ويتخيّلها في كلّ حال أمامه والله تعالى يوفّقه بمنه وكرمه!.
قلت: وربّما أضيف إلى نظر الدواوين المعمورة نظر الصّحبة الشريفة الآتي ذكرها، وكتب بهما جميعا لشخص واحد.(11/321)
فلذلك رسم أن يفوّض إليه نظر الدواوين المعمورة: فليباشر ذلك محلّيا هذه الرتبة بعقود تصرّفه الجميل، ومجلّيا في هذه الحلبة بسبق معرفته الذي لا يحتاج إلى دليل، ومبيّنا من نتائج قلمه ما يبرهن على أنه موضع الاختيار، ومن كوامن اطّلاعه ما لا يحتاج إلى برهان إلا إذا احتاج إليه النّهار، فلا يزال فرع يراعه في روض المصالح مثمرا، وليل نقسه في ليل الأعمال مقمرا، وحسن نظره إلى ما قرب ونأى من المصالح محدقا، ولسان قلمه لما دقّ من أمور الأقاليم محقّقا، ورسم خطّه لما يستقرّ في الدواوين المعمورة مثبتا، ووسم تحريره لما يجتنى من غروس المصالح منبتا، ولدرّ أخلاف الأعمال، بحسن الاطّلاع محتلبا، ولوجوه الأموال، بإنفاق التوجه إلى تثميرها إن أقبلت مجتليا وإن أعرضت مختلبا فإنّ الأمور معادن يستثيرها التصرف الجميل، ومنابت ينمّيها النظر الجليّ والإتقان الجليل. وملاك كلّ أمر تقوى الله تعالى فليجعلها إمامه، ويتخيّلها في كلّ حال أمامه والله تعالى يوفّقه بمنه وكرمه!.
قلت: وربّما أضيف إلى نظر الدواوين المعمورة نظر الصّحبة الشريفة الآتي ذكرها، وكتب بهما جميعا لشخص واحد.
وهذه نسخة توقيع (1) بهما جميعا، كتب بها لتاج الدّين بن سعيد الدولة على أثر إسلامه، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي، وهي:
الحمد لله الذي خصّ من أخلص في الطاعة من آلائنا بحسن النظر، وأجنى من غرس في قلبه أصل الإيمان من عوارف أيّامنا الزاهرة يانع الثمر، ورفع من استضاء في دولتنا القاهرة بأنوار الهدى من حجول الرّتب إلى مكان الغرر، وأظهر لوامع السعادة من نعمنا على من أضاء له الرّشد فرآه بعين البصيرة قبل البصر.
نحمده على إحسانه الذي عمر، وامتنانه الذي بهر، وفضله الذي عمّ كلّ من ظهر له الهدى فلم يعارض الحقّ إذا ظهر.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة هي أرفع ما يقتنى وأنفع ما يدّخر، وأوضح ما نجت به الفرقة الموحّدة وهلكت به الفرق الأخر، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أشرف البشر، وأرأف البدو والحضر، والمبعوث إلى الأمم كافّة لما قضاه الله من سعادة من آمن وشقاوة من كفر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الميامين الغرر، صلاة دائمة الورد والصدر، باقية العين والأثر، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من خصّه برّنا بالنظر الحسن، وشمله كرمنا من الرّتب بما يهجر في بلوغ مثله الوسن، واشتمل عليه معروفنا بما يجعل يراعه في مصالح الدولة القاهرة جميل العبارة حسن اللّسن، من سمت به نفسه إلى سعادة الآخرة فأتته [سعادة] (2) الدنيا تابعة، وسلك في مراضي الدولة القاهرة طريق
__________
(1) هي عين سابقتها، وفيها ضم الصحبة مع تغيير يسير.
(2) الزيادة مما جاء في التوقيع السابق.(11/322)
الإخلاص فغدت لكل خير حاوية ولكل يمن جامعة مع كفاءة جاءت المناصب على قدر، ومعرفة ما لحظت المصالح بأقرب نظر إلا نمّت الأموال وبدرت البدر، وخبرة ما اعتبرت فيها محاسن سيرته في مباشرة إلا صغّر خبرها الخبر، ونزاهة سلكت به في كل ما يليه أحسن المسالك، وعفّة رفعته من الرتب الديوانية إلى غررها ولا رتبة للتّاج إلا ذلك.
ولما كان فلان هو الذي اجتنى من إحسان الدولة القاهرة بالطاعة أفضل الجنى، وفاز من عوارفها العميمة بجميل المخالصة ما زاد على المنى، وانتمى من أدوات نفسه إلى كمال المعرفة والعفّة وهما أفخر ما يدّخر للرتب الجليلة وأنفس ما يقتنى، وعني من أسباب استحقاقه المناصب والرتب بما اقتضى إحسان الدولة القاهرة أن يحتفل بتقديمه وأن يعتنى فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يفوّض إليه نظر الدواوين المعمورة ونظر الصّحبة الشريفة.
فليباشر ذلك محلّيا هذه الرتبة بعقود تصرّفه الجميل، ومجلّيا في هذه الحلبة بسبق معرفته التي لا تحتاج إلى دليل، ومبيّنا من نتائج قلمه ما يبرهن على أنه موضع الاختيار، ومن كوامن اطّلاعه ما لا يحتاج إلى برهان إلا إذا احتاج إليه النّهار فلا يزال فرع يراعه في روض المصالح مثمرا، وليل نقسه في ليل الأعمال مقمرا، وحسن نظره إلى ما قرب ونأى من المصالح محدقا، ولسان قلمه لما دقّ وجلّ من أمور الأقاليم محقّقا، ورسم خطّه يستقرّ في الدواوين المعمورة مثبتا، ووسم تحريره لما يجتنى من غروس المصالح منبتا، ولدرّ أخلاف الأعمال بحسن الاطّلاع محتلبا، ولوجوه الأموال، بإنفاق التوجّه إلى تثميرها إن أقبلت مجتليا وإن أعرضت مختلبا، فإن الأمور معادن يستثيرها التصرف الجميل، ومنابت ينمّيها النظر الجليّ والإتقان الجليل وملاك كلّ أمر تقوى الله تعالى فليجعلها إمامه، ويتخيّلها في كل وقت أمامه، والله تعالى يوفّقه بمنّه وكرمه، والخطّ الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه.(11/323)
الوظيفة الرابعة (نظر الصّحبة)
[وموضوعها أن صاحبها يتحدث مع الوزير في كل ما يتحدّث ويشاركه في الكتابة في كل ما يكتب فيه ويوقع في كل ما يكتب فيه الوزير.] (1).
[وهذه نسخة توقيع بنظر الصحبة] (2) كتب به للشريف شهاب الدين ناظر الصّحبة، من إنشاء الشهاب محمود الحلبيّ، وهو:
الحمد لله الذي جعل الشرف حيث حلّ ركابنا مصاحبا، وأطلع للفضل في أفق خدمتنا من أولياء دولتنا شهابا ثاقبا، وعدق النظر في صحبتنا بمن لم يزل لمصالحنا ملاحظا ولأوامرنا مراقبا، وفوّض أمور مباشرة حال من اجتهد أو قصّر في خدمتنا إلى من لم يزل بنفسه في واجب الطاعة منافسا وعلى فرض الموالاة محاسبا.
نحمده حمد من أجمل في أوليائنا نظرا، وخصّ بالنظر في صحبتنا من اختبرت خدمته فتساوت في الطاعة والمناصحة سفرا وحضرا، واعتمد في ملاحظة مباشري ما يمرّ عليه من ممالكه على من لا يهمل له حقّا ولا يحدث له ضررا.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا تزال جيوشنا لإعلاء منارها مجهّزة، وسرايانا إلى مقاتل جاحديها البارزة مبرّزة، ووعود النصر على من ألحد فيها لنا معجّلة وعلى أيدينا منجّزة، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أنهضنا الله من جهاد أعداء دينه بما فرض، وأيقظنا لرفع أقدار أهل بيته فلم يقصّر بأحد منهم في أيّامنا أمل ولا بعد عليه غرض، وخصّنا منهم بمن تسمّك بجوهره الأعلى فلم يتعرّض من هذا الأدنى إلى عرض، صلّى الله عليه وعلى آله
__________
(1) سقط من الأصل. والزيادة من الجزء الرابع من الصبح ص 29، وقياسا على ما سبق في نظائره من التواقيع.
(2) سقط من الأصل. والزيادة من الجزء الرابع من الصبح ص 29، وقياسا على ما سبق في نظائره من التواقيع.(11/324)