عليها سالف الأمد) (1) ولا جيش إلا وقد فرّ وأين يفرّ وهو يطوي في قبضتنا المراحل؟، ولا طرائد بحر إلا وهي مطرودة في اللّجج لتيقّنهم أن العطب لا السلامة في الساحل.
فمن أجل ذلك رأينا أنّ اشتغال جيش الإسلام بجانب الكفر هو المهمّ المقدّم على ما سواه، والغرض الذي نيّتنا فيه إنقاذ أهل الإسلام من كلمة الكفر وتحكّمه «ولكلّ آمريء ما نواه» ورأينا أنّ أمر هذه الجهة ما يفوت بمشيئة الله وعونه وتمكينه، وإذا كان الله قد أقام بقدرته منا ملكا لنصرة دينه فإنّ اليمن وغيره في يمينه وهي محسوبة من أعداد ممالكنا المحروسة، ومعدودة من أقسام بلادنا التي هي بوفود الفتوح مأنوسة ولا بدّ من النظر في أمرها، وإعمال الفكر في إزاحة ضرّها، وتجريد العساكر المنصورة إليها، وإقدام الجيوش التي عادتها الإقدام في الوغى عليها ليكون العمل في أمرها بما يرضي الله ورسوله، ويبلغ من كان بتلك الجهات يروم الجهاد ولا يطيقه سوله فإن المملكة المذكورة توالت عليها المدد، ومضى عليها الأبد وهمّة من فيها إلى اللهو مصروفة، وعلى اللّذات موقوفة وأحكام الجهاد عندهم مرفوضة حتى كأنّ الجهاد لم يبلغهم وغره حلمه (2)، ولا أحاطت أفكارهم بشيء من علمه بل كأنه على غيرهم وجب، وكأنّ ما أعدّ الله من الأجر عليه إنما أريد به الذين يكنزون الذهب وتمادت الأيام وليس في نكاية أعداء الله منهم مصيب، وتفرّقت الأموال وما لجند الله فيما احتووا عليه من ذلك سهم ولا نصيب وأيّ عذر عند الله لمن جعله مؤتمنا على ماله فلم يكن له في
__________
(1) إشارة إلى مطلع قصيدة النابغة:
يا دار ميّة بالعلياء فالسّند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد
(2) كذا بالأصل. ولعله: «لم يبلغهم فرض حكمه».(7/374)
سبيل الله إنفاق؟ وأيّ حجة لمن [لم] يقف موقف جهاد وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«من مات ولم يغز ولم يحدّث به نفسه مات على شعبة من نفاق».
والآن فإنّ الله سبحانه وتعالى قد أقامنا لنصرة الإسلام ورفع كلمة الإيمان وتمهيد البلاد، وإجراء الأحوال في القريب منها والبعيد على ما يرضي الله تعالى ويرضي رسوله عليه السلام من السّداد وأهمّ الأمور عندنا أمر الغزاة والمجاهدين الذين ما منهم إلا ممسك بعنان فرسه، مكتحل بسهاد حرسه لا يأمن العدوّ مهاجمة خيله في سراه، ولا مفاجأة خياله في كراه، حصنه ظهر حصانه، وجوابه على لسان سنانه، كلّما سمع هيعة (1) أو رقعة طار على متن فرسه يلتمس الموت والقتل في مظانّه وهؤلاء هم جيوشنا الذين دوّخوا البلاد، وأذلّوا أهل العناد وطهّروا السواحل وأجروا في كل مواطن من أنهار الدماء ما يروي البلد الماحل، وهزموا جيوش التتار وهم في أعداد الكواكب، وحصدوهم بسيوفهم عرورة (؟) وهم في نحو المائة ألف راكب حتّى إن ملوك التتار الآن ليتمنّون إرضاءنا وإعضاءنا، ويستدعون ويدّعون للآباد ولاءنا، ويطلبون المسالمة منا، ويودّون نسمة قبول تصدر إليهم عنّا والطويل العمر منهم وممن والاهم هو الذي يهرب من بين يدي جيوشنا المنصورة ليسلم بنفسه، وإن أسلم ما يعزّ عليه من ماله وولده وعرسه. فمثل هؤلاء الذين يستحقّون أموال الممالك الإسلامية ليستعينوا بها في جهازهم لجهادهم، وينفقوها في إعدادهم لأعدائهم ويصرفوها في ذبّهم عن دين ربّهم.
وهذه المملكة اليمنيّة قد اجتمع فيها من الأموال ما يربي عن الحصر والحدّ، ويزيد على الإحصاء والعدّ لا ينفق منها شيء في الجهاد، ولا يعدّ منها مصروف إلا بما لا تحمد عاقبته في المعاد قد صدّ عنها جند الله الذين ينفقونها سرّا وجهرا، ويستنزلون بها أرواح أعداء الله على حكم سيوفهم قسرا وقهرا
__________
(1) الهيعة والهائعة: الصوت المفزع.(7/375)
وأبيحت لمن تأبّى الجهاد جانبا، ورضي باللهو صاحبا، واقتنى السّلاح لغير يوم الباس، واعتنى بارتباط الجياد بطرا ورئاء الناس.
وكان كتابنا قد تقدّم في أمر المجاهدين وما يحتاجونه من الإعانة بما يحمل إليهم من الأموال بالمملكة اليمنيّة: ليصرف ذلك في حقه، ويصل إلى مستحقّه ويكون قد أعدّ منها للإنفاق في سبيل الله جانب بحيث لا يضاع، ووصل إلى مجاهدي الأمة نصيب من مال الله الذي هو في يد من ولّاه شيئا من أمور عباده على حكم الإيداع ويدخل ذلك (1) في زمرة الذين يكنزون الذهب والفضّة لا ينفقونها فحصلت المكابرة في الجواب عن ذلك، وأيّ عذر في المكابرة عن مثل هذا الأمر وشغل الوقت بذكره؟ ونحن عندنا في كل وقت من البشائر بمواهب الفتح، وغرائب المنح، ومتجدّدات الظّفر والنصر، ومتحلّيات التأييد التي قسّمت أعداء الله بين الحصد والحصر، ما يهبّ نشره هبوب الرّيح في البرّ والبحار، ويودّ الدهر لو رقمه بذهب الأصيل على صفحات النّهار، وكلّ ذلك في أشدّ أعداء الله تعالى: من التتار، الذين عرف عددهم وجلدهم، والفرنج الذين طال وكثر في عداوة الإسلام أبدهم ومددهم، والأرمن الذين هم أكثر الطائفتين في الظاهر وفاقا، وأشدّ الفئتين في الباطن نفرا ونفاقا وهم لهؤلاء وهؤلاء مادّة تمير وتمير، وتغريهم وتغرّهم فتصير بهم من نار الحرب المضرّسة لسيوفنا إلى جهنّم وبئس المصير وأيّ شيء من ذلك يذكر عند مواقف جيوشنا المنصورة، وظفر عساكرنا المؤيّدة؟، لو كان حصل عنده الفكر الصائب ما وردت مكاتبته إلا وهي مقترنة بما يرضي الله ورسوله وأهل الإسلام: من إمداد الغزاة (2) بالأموال، وإعانتهم على الكلف التي كلّما أعد لها مال [بدت] حال يلائمها الإنفاق في سبيل الله ويسألونك عن الجبال وها هي قادمة إلينا يقدمها النصر، ويتقدّمها من أسرى العدا وغنائمهم ما يربي عن الحصر وما
__________
(1) كذا في الأصل. ولعله «ولا يدخل بذلك في زمرة الخ».
(2) يستعمل الكاتب عادة هذا اللفظ بمعنى المجاهدين.(7/376)
بينها وبين ركوب ثبج (1) هذا البحر لملك تمهّده، وعدل تجدّده، وبغاة تكفّ غربها، ورعايا تؤمّن بالمهابة سربها، وتصفّي من أكدار الفتن شربها وأموال تصونها، وخزائن ينزّه عن غير الإنفاق في سبيل الله مصونها، إلا بمقدار ما تستقرّ بها المنازل استقرار السّنة بالجفون لا النوم، وتأخذ أهبة لذلك المهمّ في يوم أو بعض يوم.
أللهم إلا أن تلبّى دعوة الجهاد من تلك الجهة بألسنة النّفير، وتعبّى صفوف الجلاد في الجواري (2) التي تكاد بأجنحة القلوع تطير أو تنوب عنها خزائن الأموال التي تنفق في سبيل الله تعالى، أو تقوم مقامها النفقات التي تصرف إلى جنود الله التي تنفر في سبيل الله تعالى خفافا وثقالا، ليكون قد استدرّ ببركة ذلك الطّلّ أخلاف الوابل، وأنفق ما اختزنه في سبيل الله الذي مثل ما ينفق فيه كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل وتستعدّ الجيوش المنصورة إلى طود يصون برأيه ملكه ويصول، ويستطيل على الوجود ولو أنّ البرّ سيوف والبحر نصول والله تعالى يرشده إلى ما هو أقرب للتقوى، ويمسّكه من طاعته بالسبيل الأقوم والسّبب الأقوى إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الثاني (وهو المذكور في «التعريف»)
أن تفتتح المكاتبة بلفظ: «أعزّ الله تعالى جانب المقام العالي» إلى آخر الألقاب، ثم الدعاء، مثل: ولا زال يحسن ولاية حسبه، وينهض بجناح نسبه، ويصون ملكه بعدله أكثر من قضبه (3)، ويثبت في اليمن اليمن في حالة إقامته ومنقلبه.
__________
(1) ثبج الشيء: وسطه.
(2) الجواري: السفن.
(3) القضب: السيوف القاطعة.(7/377)
أصدرناها إلى مقامه موشّجة المعاطف بحليّه، شاكرة علا عليّه، ذاكرة من محامده ما يتكثّر السحاب بوليّه، مبدية لعلمه الكريم كيت وكيت.
وهذه أدعية وصدور تناسب كل سلطان بها:
ولا زال به «تعزّ» تعزّ وتفوز ببره زبيد، ويخرج من عدن عدن فضله المديد، وتمتلي بوفود البرّ والبحر: هذا تطير به المراكب وهذه الركائب كلاهما من مكان بعيد ولا برحت به آهلة الأوطان، مشتقّة صفات قطره اليمنيّ من «الأيمان يمان» محجوبا بالجلالة أو محجوبا لما ينسب إليه من أحد الأركان.
أصدرناها والسلام يباري ما تنبت أرضه من نباتها الطيّب، ويجاري بالثّناء ما ينهلّ في أكنافه الجنوبيّة من سحابها الصيّب (1) وتسري إليه بتحيّاتنا الشريفة على قادمة كل نسيم، وفي طيّ كلّ عام له وقوف على ربعه وتسليم وتوضّح لعلمه الكريم.
دعاء وصدر يختصّ بالمجاهد عليّ، وهو:
ولا زال أفضل متوّج في يمنه، وأعلى عليّ إذا قيس بابن ذي يزنه، وأشجع من حمى بعهوده ما لا تقدر السّيوف على حمايته من وطنه ولا انفكّ الملك المجاهد عن عرضه المصون، وسيف الدين الذي يقوم في المفروض من مراضي الله بالمسنون وأبا الحسن لما يحسن في فطنته الحسنى أو فطرته من الظّنون، والعليّ قدرا إذا أخذت الملوك مراتبها وحدّقت إليه العيون.
صدرت هذه المفاوضة إلى حضرته وسلامها يتفاوح لديها، ويصافح غمائمه في يديها، وتجري سفائن إخلاصه حتّى تقف عليها، وتسري بتحياتنا محلّقة بالبشرى في صباح كلّ يوم يقرّب من الوصول إليها، وتبدي لعلمه الكريم.
قلت: ولم أقف على صورة مكاتبة مفتتحة بلفظ «أعز الله تعالى جانب
__________
(1) السحاب الصّيّب: الذي ينزل مطرا بقدر ما ينفع ولا يؤذي.(7/378)
المقام» كتب بها إلى بعض ملوك اليمن في زمن من الأزمان فأوردها استشهادا لهذا الأسلوب.
الأسلوب الثالث (أن تفتتح المكاتبة بلفظ: «أعزّ الله تعالى نصرة المقام العالي»)
وهذه نسخة كتاب كتب به إلى صاحب اليمن أيضا، عن السلطان الملك المنصور قلاوون، مبشّرا بفتوح (1) صافيتا (2)، من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمه الله، وهو:
أعزّ الله تعالى نصرة المقام العالي، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، المظفّريّ، الشّمسيّ وأشركه في كل بشرى تشدّ الرحال لاستماعها، وتحلّ الحبى (3) لاستطلاعها وتتهافت التواريخ والسّير على استرفاعها، وتتنافس الأقلام والسيوف على الأفهام بأجناسها وأنواعها ولا خلا موقف جهاد من اسمه، ولا مصرف أجر من قسمه، ولا غرض هناء من سهمه، ولا أفق ابتهاج من بزوغ شمسه وطلوع نجمه. سطّر المملوك هذه البشرى والسيف والقلم يستمدّان: هذا من دم وهذا من نقس (4)، ويمضيان: هذا في رأس وهذا في طرس ويتجاوبان:
هذا بالصّليل وهذا بالصّرير، ويتناوبان: هذا يستميل وهذا يستمير (5) وكلّ منهما ينافس الآخر على المشافهة بخبر هذا الفتح الذي ما سمت إليه همم الملوك الأوائل، ولا وسمت به سيرهم التي بدت أجيادها من حلاه عواطل ولا دار
__________
(1) علق محقق الطبعة الأميرية على استعمال لفظ «فتوح» كمصدر قائلا: «لم نجد لفتح مصدرا على فعول فإما أن يكون جارى العرف وإما أن يكون جمع المصدر باعتبار أنواعه ووقائعه، وهو بعيد».
(2) كانت صافيتا من أعمال طرابلس الشام.
(3) الحبى مفردها الحبوة. يقال احتبى فلان بالثوب: أداره على ساقيه وظهره وهو جالس. ويقال: حلّ فلان حبوته: حلّ ثوبه وتهيّأ للحركة.
(4) النّقس: المداد. جمع أنقاس وأنقس.
(5) يستمير: يناظر ويجادل.(7/379)
في خلد أن مثله يتهيّأ في المدد الطويلة، ولا تشكّل في ذهن أنه سيدرك بحول ولا حيلة وهو النّصر المرتّب على حركتنا التي طوى الله لركابنا فيها المراحل، وألقى بدرر عساكرنا في بحر الحديد المالح إلى الساحل وهجومنا على البلاد الفرنجيّة:
وهي طرابلس وصافيتا وأنطرسوس ومرقيّة والمرقب، كما يهجم الغيث ومصادمتنا صدورها كما يصدم الليث، وسلوكنا منها حيث لم يبق حيث وما جرى في هذه الوجهة من إغارات أحسنت متقلّب الأعنّة ومتعلّق السيوف ومخترق الأسنّة وما تهيّأ منها من فتوح صافيتا التي هي أمّ البلاد، ومنتجع الحاضر والباد وكونها قدّمت نفسها في جملة ما يقرى به الضيف، وقالت: هذا فتوح حضر على هذا الفتوح لهذا السيف وتلطّفت في مسح أطراف الأمان، وطلبت شكرا ومنّا شكران وأحضرت إلينا من أهلها الوقت وهدّت السيوف في أعناقهم فتشبّهت بها الأغلال، وأنفت أيمان أهل الإيمان من مصافحتهم لأنهم أصحاب الشّمال فأطلقهم سيفنا وأمله يمتدّ إلى من هو أعزّ منهم مالا، وأكثر احتفالا، وأبزّ مآلا، وأهزّ سيوفا قصارا ورماحا طوالا واستطار منها شرار نار الحرب الموقدة إلى غيرها من القلاع، واستطال إلى سواها من الحصون منهم الباع فلا حصن إلا وافترّت ثنيّته عن نصر مسهّل، وفتح معجل ومؤجّل.
فمن ذلك حصن الأكراد الذي تاه بعطفه على الممالك والحصون، وشمخ بأنفه عن أن تمتدّ إلى مثله يد الحرب الزّبون (1) وغدا جاذبا بضبع (2) الشام، وآخذا بمخانق بلاد الإسلام وشللا في يد البلاد، وشجا في صدر العباد تنقضّ من عشّه صقور الأعداء الكاسرة، وترتاع من سطوتها قلوب الجيوش الطائرة وتربض بأرباضه آساد تحمي تلك الآجام، وتفوّق من قسيّه سهام تصمي مفوّقات السّهام تعطيه الملوك الجزية عن يد وهم صاغرون، ويصطفي كرام أموالهم وهم
__________
(1) يقال: الحرب تزبن الناس: تصدمهم فهي زبون، على التشبيه.
(2) الضّبع: ما بين الإبط إلى نصف العضد من أعلاها، وهما ضبعان. والاستعمال هنا على سبيل الاستعارة.(7/380)
صابرون لا مصابرون كم شكت منه حماة تثني بنكرها قلّة الإنصاف، وكم خافته معرّة وما من معرّة خاف ما زالت أيدي الممالك تمتدّ إلى الله بالدعاء عليه تشكو من جور جواره تلك الحصون والصّياصي، وتبكي بمدمع نهرها من تأثير آثاره مع عصيانها وناهيك بمدمع العاصي حتّى نبّه الله ألحاظ سيوف الإسلام من جفونها، ووفّى النّصرة ما وجب من ديونها وذاك بأنّا قصدنا فسيح ربعه، ونزلنا ونازلنا محميّ صقعه، وختمنا بنصالنا على قلبه وسمعه وله مدن حوله خمس هو كالراحة وهي كالأنامل، وتكاد بروجه ترى كالمطايا المقطّرة وهي منها بمنزلة الزّوامل (1)
ما خيّمنا به حتّى استبحنا محميّ تلك المدائن المكنيّ عنها بالأرباض، وأسحنا بساحاتها بحرا من الحديد ما اندفع حتّى فاض وأخذنا الثّقوب في أسوار لا تنقض ولا ينقضّ بنيانها المرصوص، ولا تقرأ المعاول ما لخواتم أبراجها من نقوش الفصوص ونصبنا عليها عدّة مجانيق حملت في شواهق الجبال، على رؤوس الأبطال فتغيّظت السّمهريّة (2) أنّ الذي تقوم به هذه تلك به لا تقوم، وأنّ ما منها إلا له من الأيدي والرّؤوس مقام معلوم وصار يرمي بها كلّ كميّ مختلس، وأروع منتهس (3)، وكلّ ليث غابة يحميها وتحميه. فشكرا لأسود حتّى غاباتها تفترس إلى أن جئت أسوارها على الرّكب، وكانت سهام مجانيقها تميل من العجب فصارت تميد من العجب، وكانت تطلب فصارت تهرب من الطّلب واشتدّ الأمر على الكفّار فقاتلوا قتالا أقضّ مضاجع الأسلحة، وأطار حجارة مجانيقهم بغير أجنحة، وأشجى بشجو النّصول المترنّمة على غصون السّهام المترنّحة هذا وأهل الإيمان يتلقّون ذلك كلّه بصبر يستطعمون منه شهدا، وإقدام يتلقّى صدى الحديد بأكباد ما زالت إلى موارده قصدا يقتحمون نار الحرب التي كلّما أوقدوها أطفأها الله وقال يا نار كوني بردا، والبلاد الفرنجيّة قد غضّت منها الأبصار وخشعت القلوب،
__________
(1) الزوامل: جمع زاملة وهي ما يحمل عليها من الإبل. والزامل من الدواب: الذي كأنه يظلع في سيره من نشاطه.
(2) تغيظت: أظهرت الغيظ. والسمهرية: الرماح القوية المستقيمة.
(3) الأروع: المريع المخيف. والمنتهس: الذي ينهس أو ينهش بأسنانه.(7/381)
واعتقد كلّ منها في نفسه أنه بعد هذا الحصن المطلوب فهذه تودّ لو أكنّتها البحار تحت جناح أمواجها، وهذه لو أسبلت الرياح العواصف عليها ذيول عجاجها وهذه لو اجتثّت من فوق الأرض ما لها من قرار، وهذه لو خسف بها الثّرى وعفت منها الآثار وذلك لما بلغهم وشاهدوه من ويل حلّ بأهل هذا الحصن المنيع، ومن فتك أمحل ربعه المريع، وضيّق مجاله الوسيع وقراع أضجر الحديد من الحديد وا لأبطال لم تضجر، ونضال أسهر كلّ جفن حتّى جفون السيوف لأنا عوّدناها مثل جفوننا أن تسهر فكم شكت النّقوب من مناكبهم زحاما، والشّرفات من ترقّبهم التزاما، والرّقاب من سيوفهم اقتساما وكم حمدت التجارب من رأيهم شيخا وحمد الأقدام من ثبوتهم غلاما قد دوّخوا البلاد فلا موطن إلا لهم به معركة، وأرملوا الحلائل فلا مشرك إلا وقد أرمل من مشركة، وأزعجوا الكفر فلا قلب إلا به منهم خوف ولا سمع إلا لهم به حركة، وملأوا الأرض كثرة وكيف لا يكّثر الله جمعا للإسلام جعل الله فيه بركة.
وكتابنا هذا والمولى بحمد الله أحقّ من هنّيء بهذا الفتح الذي تثني على كتاب بشائره الحقائب، وتجري إلى سماع أخباره الركائب، وتتزاحم على المسير تحت البرد الواصلة به متون الصّبا وظهور الجنائب (1) وإذا ذكرت ملاحمه، قال كلّ: هذا كتاب أم كتيبة تلوح، وإذا شوهدت حمرة طرسه قيل: وهذا ما صبغته في اليد المعلّمة عليه دم الكفر السمفوح، وينعم أعز الله نصره بالإعلان بهذا النبإ الحسن الذي تستروح إليه الأسماع، وتسرّ بالأفهم به أخوات هذا الحصن من مدنه ومن قلاعه العظيمة الامتناع فإنه ما برح الأخ يفرح بأخيه، وإذا كان الهناء عظيما اشترك كلّ شيء فيه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة كتاب آخر إلى صاحب اليمن من هذا الأسلوب: كتب به
__________
(1) الجنائب، جمع الجنوب وهي الريح التي تهب من هذه الجهة.(7/382)
الفاضل محيي الدين بن عبد الظاهر أيضا، عن الملك المنصور قلاوون، جواب تعزية أرسلها إليه في ولده الملك الصالح في ورق أزرق وكانت العادة أن تكون في ورق أصفر. ونصها بعد البسملة.
أعز الله تعالى نصرة المقام إلى آخر الألقاب، وأحسن بتسليته الصبر على كل فادح، والأجر على كلّ مصاب قرح القرائح وجرح الجوانح وأوفد من تعازيه كلّ مسكّن طاحت به من تلقاء صنعاء اليمن الطّوائح وكتب له جزاء التصبّر عن جار من دمع طافح، على جار لسويداء القلب صالح.
المملوك يخدم خدمة لا يذود المواصلة بها حادث، ولا يؤخّرها عن وقتها أمر كارث، ولا ينقضها عن تحسينها وترتيبها بواعث الاختلاف ولا اختلاف البواعث ويطلع العلم الكريم على ورود مثال كريم، لولا زرقة طرسه وزرقة لبسه لقال:
{وَابْيَضَّتْ عَيْنََاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} (1). تتضمّن ما كان حدث من رزء تلافى الله بتناسيه، وتوافى بعود الصبر فتولّى التسليم تليين تقاسيه وتمرين قاسيه فشكرنا الله تعالى على ما أعطى وحمدناه على ما أخذ، وما قلنا: هذا جزع قد انتبه إلا وقلنا هذا تثبّت قد انتبذ، ولا توهّمنا أنّ فلذة كبد قد اختطفت إلا وشاهدنا حولنا من ذرّيتنا والحمد لله فلذ وأحسنّا الاحتساب، ودخلت الملائكة علينا من كل باب، ووفّانا الله عز وجلّ أجر الصابرين بغير حساب ولنا والشكر لله صبر جميل لا نأسف معه على فائت ولا نأسى على مفقود، وإذا علم الله سبحانه حسن الاستنابة إلى قضائه، والاستكانة إلى عطائه، عوّض كلّ يوم ما يقول المبشّر به: هذا مولى مولود. وليست الإبل بأغلظ أكبادا ممن له قلب لا يبالي بالصّدمات كثرت أو قلّت، ولا بالتّباريح حقرت أو جلّت، ولا بالأزمات إن هي توالت أو توّلت، ولا بالجفون إن ألقت بما فيها من الدّموع والهجوع وتخلّت ويخاف من الدّهر من لا حلب أشطره، ويأسف على الفائت من لا بات بنبإ الخطوب الخطرة على أنّ الفادح
__________
(1) يوسف / 84.(7/383)
بموت الولد الملك الصالح رضي الله عنه وإن كان منكيا، والنافح بشجوه وإن كان مبكيا، والنائح بذلك الأسف وإن كان لنار الأسف مذكيا، فإن وراء ذلك من تثبيت الله عز وجلّ ما ينسفه نسفا، ومن إلهامه الصبر ما يجدّد لتمزيق القلوب أحسن ما به ترفى. وبكتاب الله تعالى وبسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم عندنا حسن اقتداء يضرب عن كلّ رثاء صفحا، وما كنّا مع ذلك والمنة الله نصغي لمن يؤنّب ويؤبّن أذنا، ولا نعيرها لمن يلحا إذ الولد الذاهب في رضوان الله تعالى سالكا طريقا لا عوج فيها ولا أمتا (1)، وانتقل سارّا بارّا صالحا صالحا وما هكذا كلّ الموتى نعيا ونعتا، ولئن كان نفعنا في الدنيا فها نحن بالصّدقات والترحّم عليه ننفعه، وإذا كان الولد عمل أبيه وقد رفع الله تعالى روح ولدنا إلى أعلى علّيّين تحقّق أنه العمل الصالح يرفعه وفيما نحن بصدده من اشتغال بالحروب، ما يهوّن ما يهول من الكروب وفيما نحن عاكفون عليه من مكافحات الأعداء ما بين المرء وقلبه يحول، بل عن تخيّل أسف في الخاطر يجول.
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأهون ما تمرّ به الوحول!
فلنا بحمد الله تعالى ذرّية دريّة، وعقود والشكر لله كلّها درّيّة.
إذا سيّد منهم خلا قام سيّد ... قؤول لما قال الكرام فعول!
ما منهم إلا من نظر سعده ومن سعده ينتظر، ومن يحسن أن يكون المبتدأ وأن يسدّ حاله بكفالته وكفايته مسدّ الخبر، (والشمس طالعة إن غيّب القمر) لا سيما من الذي يراد (2) هو صلاحه أعرف، ومن إذا قيل لبناء ملك هذا عليه قد وهي قيل هذا خير منه من أعلى بناء سعد أشرف. وعلى كل حال لا عدم إحسان العمل الذي يتنوّع في برّه ويعاجل قضاء الحقوق فيساعف مرسومه في توصيله طاعة بحره وبرّه وله الشكر على مساهمة المولى في الفرح والتّرح، ومشاركته في
__________
(1) الأمت: هو العيب والضعف والوهن والعوج. ويقال غالبا للاختلاف في المكان ارتفاعا وانخفاضا
(2) كذا في الأصل. ومغزى العبارة غير واضح.(7/384)
الهناء إذا سنح وفي الدمع إذا سفح وما مثل مكارم المولى من يعزب ذلك عن علمها، ولا يعزى إلى غير حكمها وحلمها وهو أعزه الله ذو التّجارب التي مخضت له من هذه وهذه الزّبدة، وعرضت عليه منها الهضبة والوهدة. والرغبة إلى الله تعالى أن يجعل تلك المصيبة للرّزايا خاتمة، كما لم يجعلها للظّهور قاصمة وأن يجعلها بعد حمل هذا الهمّ وفصاله على عليه فاطمة، وأن يحبّب إلينا كلّ ما يلهي عن الأموال والأولاد، من غزو وجهاد، وأن يخوّلنا فليس يحدّ لدينا على مفقود تأدّبا مع الله عز وجل غير السيوف فإنها تعرف بالحداد، وأن لا تقصف رماحنا إلا في فود أو فؤاد، ولا تحوّل سروج خيلنا إلا من ظهر جواد في السّرايا إلى ظهر جواد، وأن لا تشق لدينا إلا أكباد النادّ (1)، ولا تجز غير شعور ملوك التتار تتوّج بها رؤوس الرماح ويصعد بها على قمم الصّعاد والله تعالى يشكر للمولى سعي مراثيه التي لولا لطف الله بما صبّرنا به لأقامت الجنائز، واستخفّت النحائز (2)، ولأهوت بالنّفوس في استعمال الجائز من الأسف وغير الجائز، ولا شغل الله لبّ المولى بفادحه، ولا خاطره بسانحة من الحزن أو بارحه، ولا أسمعه لغير المسرّات من هواتف الإبهاج صادحه، إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الرابع (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أعزّ الله تعالى أنصار المقام الشريف العالي» وعليها كان الأمر في أوّل الدولة التركية)
وهذه نسخة كتاب من ذلك، كتب بها عن الملك المظفّر قطز (3) وصاحب
__________
(1) النادّ: الشاذ عن القاعدة، والعاصي.
(2) النحائز: جمع نحيزة (بالحاء المهملة) وهي الطبيعة. يقال: هو كريم النحيزة.
(3) هو قطز بن عبد الله المعزّي، سيف الدين: ثالث ملوك الترك المماليك بمصر والشام. كان مملوكا للمعزّ «أيبك» التركماني. وترقّى إلى أن كان في دولة المنصور بن المعز «أتابك» العساكر. ثم خلع المنصور وتسلطن مكانه سنة 657هـ وخلع على الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري وجعله أتابك العساكر وفوض إليه جميع أمور المملكة. ونهض لقتال التتار، وكانوا بعد تخريب بغداد قد.
وصلوا إلى دمشق، وهددوا مصر فجمع الأموال والرجال، وخرج من مصر، فلقي جيشا منهم في عين جالوت بفلسطين فكسرهم سنة 658هـ وطارد فلولهم إلى بيسان فظفر بهم، ودخل دمشق في موكب عظيم، وعزل من بقي من أولاد بني أيوب واستبدل بهم من اختار من رجاله، ورجل يريد مصر. وبينما هو في الطريق تقدم منه أتابك عسكره بيبرس ووراءه عدد كبير من أمراء الجيش فتناولوه بسيوفهم فقتلوه وذلك سنة 658هـ في السادس عشر من ذي القعدة. (انظر الأعلام: 5/ 201 وفوات الوفيات: 3/ 201وما بعدها).(7/385)
اليمن يومئذ المنصور بالبشارة بهزيمة التّتار. وأظنها من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وهي:
أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الشريف العالي، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، المنصوريّ، وأعلى مناره، وضاعف اقتداره تعلمه أنه لما كان النّصف من شهر رجب الفرد، فتح الله تعالى بنصر المسلمين على أعداء الدين:
من كلّ من لولا تسعّر بأسه ... لا خضرّ جودا في يديه الأسمر
فصدرت هذه التهنئة إليه راوية للصدق عن اليوم المحجّل الأغر:
يوم غدا بالنّقع فيه يهتدي ... من ضلّ فيه بأنجم المرّان (1)
ففي أذن الدهر من وقعه صمم، وفي عرنين البدر من نقعه شمم ترفعه رواة الأسل عن الأسنّة، ويسندة مجرّ العوالي عن مجرّ الأعنّة، أما النصر الذي شهد الضرب بصحّته، والطعن بنصيحته، فهو أن التتر خذلهم الله تعالى استطالوا على الأيام، وخاضوا بلاد الشام، واستنجدوا بقبائلهم على الإسلام:
سعى الطّمع المردي بهم لحتوفهم ... ومن يمسكن ذيل المطامع يعطب
فاعتاضوا عن الصحة بالمرض، وعن الجوهر بالعرض وقد أرخت الغفلة زمامهم، وقاد الشيطان خطامهم (2) وعاد كيدهم في نحورهم: {وَرَدَّ اللََّهُ الَّذِينَ}
__________
(1) المرّان: الرماح الصلبة اللدنة. والنّقع: الغبار.
(2) الخطام: الزّمام.(7/386)
{كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنََالُوا خَيْراً وَكَفَى اللََّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتََالَ وَكََانَ اللََّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً} (1)
رامو الأمور فمذ لاحت عواقبها ... بضدّ ما أمّلوا في الورد والصّدر،
ظلّوا حيارى وكأس الموت دائرة ... عليهم شرعا في الورد والصّدر!
وأضعف الرّعب أيديهم فطعنهم ... بالسّمهريّة (2) مثل الوخز بالإبر!
لا جرم أنّهم لسنّ النّدم قارعون، وعلى مقابلة إحساننا بالإساءة نادمون.
تدرّعوا بدروع البغي سابغة ... والمرء يحصد من دنياه ما زرعا!
فأقلعت بهم طرائق الضّلال، وسارت مراكب أمانيّهم في بحار الآمال فتلك آمال خائبة، ومراكب للظّنون عاطبة وأقلعوا في البحر بمراكبه، والبرّ بمواكبه وساروا وللشيطان فيهم وساوس، تغرّهم أمنيّة الظّنون الحوادس فما وسوس الشيطان كفرا إلا وأحرقه الإيمان بكوكب (3) هذا وعساكر المسلمين مستوطنة في مواطنها، جاذية (4) عقبانها في وكور ظباها، رابضة آسادها في غيل (5) أقناها (6)، وما تزلزل لمؤمن قدم إلا وقدم إيمانه راسخة، ولا ثبتت لأحد حجة إلا وكانت الجمعة لها ناسخة ولا عقد [ت] برجمة (7) ناقوس إلا وحلّها الأذان، ولا نطق كتاب إلا وأخرسه القرآن ولم تزل أخبار المسلمين تنتقل إلى الكفّار، وأخبار الكفّار تنتقل إلى المسلمين إلى أن خلط الصّباح فضّته بذهب
__________
(1) الأحزاب / 25.
(2) السّمهريّ والسمهريّة: الرمح الصليب العود. يقال: هو منسوب إلى «سمهر»: رجل كان يقوّم الرماح. وامرأته «ردينة» التي ينسب إليها الرماح أيضا، ويقال: الردينية.
(3) بياض بالأصل.
(4) جذا جذوا: ثبت قائما.
(5) الغيل: موضع الأسد والشجر الملتفّ الذي يستتر فيه.
(6) قنيت الشجرة: طالت، فهو أقنى وهي قنواء. والقناء: العذق وهو من النخل كالعنقود من العنب، والجمع: أقناء. والمقناة: المرضع الظليل.
(7) البرجمة: مفصل الإصبع. وبرجمة الناقوس: مفصل الحديدة التي تحمله.(7/387)
الأصيل، وصار اليوم كأمس، ونسخت آية الليل بسورة الشمس واكتحلت الأعين بمرود السّبات، وخاف كلّ من المسلمين إصدار البيات (1).
ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي ... بأخرى الأعادي، فهو يقظان نائم!
إلى أن تراءت العين بالعين، واضطرم نار الحرب بين الفريقين فلم تر إلا ضربا يجعل البرق نضوا، ويترك في بطن كلّ من المشركين شلوا حتّى صارت المفاوز دلاصا (2) ومراتع الظّبا للظّبا عراصا (3) واقتنصت آساد المسلمين المشركين اقتناصا، ورأى المجرمون النار فظنّوا أنّهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مناصا فلا روضة إلا درع ولا جدول إلا حسام، ولا غمامة إلا نقع ولا وبل إلا سهام ولا مدام إلا دماء ولا نغم إلا صهيل، ولا معربد إلا قاتل ولا سكران إلا قتيل حتّى صار كافور الدّين شقيقا، وتلوّن الحصباء من الدّماء عقيقا وضرب النقع في السماء طريقا، وازدحمت الجنائب في الفضاء فجعلته مضيقا وقتل من المشركين كلّ جبّار عنيد، ذلك بما قدّمت أيديهم {وَمََا رَبُّكَ بِظَلََّامٍ لِلْعَبِيدِ} (4).
قلت: وهذه النسخة تلقّفتها من أفواه بعض الناس، ذكر أنه وجدها في بعض المجاميع فحفظها منه، وهي في غاية من البلاغة، إلا أنها لا تخلو من تغيير وقع في بعض أماكنها، ولعله من الناقل لها، من حيث إنه ليس من أهل هذه الصناعة. ولم يسعني ترك إيرادها لما فيها من المحاسن، ولانفرادها بأسلوب من الأساليب التي
__________
(1) البيات: المفاجأة. يقال: أتاهم الأمر بياتا: فجأة في جوف الليل.
(2) الدّلصة: الأرض المستوية. والجمع: دلاص. والمفاوز: جمع مفازة، وهي الصحراء والمهلكة.
(3) العراص: جمع عرصة، وهي ساحة الدار والبقعة الواسعة.
(4) فصّلت / 46والآية بتمامها: «{مَنْ عَمِلَ صََالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسََاءَ فَعَلَيْهََا وَمََا رَبُّكَ بِظَلََّامٍ لِلْعَبِيدِ}(7/388)
كتب بها إلى ملوك اليمن فأورتها على ما هي عليه، وجزى الله خيرا من ظفر لها بنسخة صحيحة فقابلها عليها وصحّحها وأصلح ما فيها.
الأسلوب الخامس (وهو ما جرى عليه في «التثقيف» أن تفتتح المكاتبة بلفظ أعزّ الله تعالى أنصار المقام العالي)
صدره على ما ذكره في «التثقيف» أعزّ الله تعالى أنصار المقام العالي، السلطانيّ، الملكي، الفلاني، الفلاني، مثل أن يقال: الأفضليّ السيفيّ ثم الدعاء ثم يقال: أصدرناها وتبدي لعلمه الكريم كذا وكذا. قال في «التثقيف» والمكاتبة إليه في قطع النصف والطلب منه «والقصد من المقام العالي» وخاتمة الكتاب بالدعاء، والعلامة «أخوه» وتعريفه «صاحب اليمن». وفي دستور المقرّ الشهابيّ بن فضل الله أنّ خطابه يكون بالمقام العالي.
وهذه نسخة كتاب إليه، ذكر المقرّ الشهابي بن فضل الله في تذكرته أنه أنشأها جوابا عن هديّته ولم يكتب بها إليه، وهو يومئذ الملك المجاهد سيف الدين عليّ (1) بن داود.
أعزّ الله تعالى أنصار المقام العالي، ولا زالت مكارمه تخصّ من كلّ نوع بأحسنه، وتتحف بأزيده وأزينه، وتجلب كلّ غريب الديار من وطنه، وتمنح من السّوابق بما تمتدّ المجرّة في رسنه، ومن المحاسن بما يملي على (عليّ)
__________
(1) هو علي بن داوود المؤيد بن يوسف المظفر: من ملوك الدولة الرسولية في اليمن. ولي الملك بعد وفاة أبيه سنة 721هـ فأقام سنة وخلعه الأمراء والمماليك وولوا المنصور، فمكث أشهرا. وثار بعضهم فأعادوا عليا. وحج سنة 751هـ. فلما كان بمكة بلغ قادة الركب المصري أنه عازم على نزع سلطة مصر عن الحجاز وإلحاقه باليمن، فاجتمعوا وأحاطوا بمخيمه وكلفوه السفر معهم إلى مصر. وقيل إنه سجن في الكرك إلى أن شفع به الأمير يلبغا سنة 752هـ فأخرج وعاد إلى ملكه إلى أن توفي سنة 764هـ. (الأعلام: 4/ 286).(7/389)
أوصاف حسنه، ويعرب عن الفرس والسيف والرمح بأطيب لحن في نصبه وجرّه ورفعه.
صدرت إلى المقام العالي أعزّ الله جانبه تصل بوداده، وتصف حبّا علق بفؤاده وتعرّض ببرحاء يمنيّة أحلام الكرى طمعا أن يرى طيفه في رقاده. وتبدي أن كتابه الكريم ورد جالبا لدرّ مننه، جالبا لليمن من يمنه، نافحا بالطّيب من عدنه، ناقدا من قوّة السيوف بما لا يدّعيه ابن ذي يزنه فتؤمّل ما حوى من كرم لا يجارى، ونعم تملأ البرّ برّا والبحار بحارا وأبدع في الهبة التي قدر (1) مهديها، وقدّر فيها من التّحف ما لا يوجد إلا فيها وجاء بكلّ ما يستعين به المرابط، وتهتزّ به الخزائن والمرابط وتفتخر من الرّماح بكل معتدل قاسط، وبما يردي العدا من أسنّته بكلّ نجم هابط. كم لها من فعل جميل لا يشارك، وكم قال طعين: إنّ لها كعبا مدوّرا وما قدر الطاعن أن يقول إلا أنها كعب مبارك. ومن السّيوف بما لا يطبع النهر في نصله، ولا يطمع البرق في مناضلة مثله، ولا يطمح الهلال أن يستقيم على شكله كم أخمدت أنفاسا ولها التهاب، ولمعت من نواحي الغمود كما نصلت أنمل من خضاب. ومن الخيل بما ترقص في أعنّتها، وتفتخر على البدور بأنها تدوس على أهلّتها: من كلّ أشهب (2) يحسن ابتدارا، ويحسب قمرا قد تكمّل إبدارا، ويطلع في كلّ ناحية نهارا جهارا. وأدهم (3) قد غصب الظلام، واستدارت غرّته فأسفر وجهه تحت برقع من لئام. وأحوى (4) أخضر الجلدة من بيت للعرب، قد حوى من الروض ما سلب. وكميت (5) ينضو النقع وهو سبوق، وتقدّم في ميادينه
__________
(1) لعله «التي دلّت على قدر الخ» أو «التي على قدر الخ».
(2) قال الآلوسي في «ألوان الخيل عند العرب»: «الشهبة: وهو البياض، فإذا كان في الدابة ضروب من الألوان من غير بلق فذلك التوليع، يقال: برذون مولع. والدهمة: هو السواد، شديده وهينه.
والحوّة: وهي خضرة تضرب إلى السواد. والكمتة والحمة وهو أحب الألوان إلى العرب مع الحوة.
والكمتة: حمرة تدخلها قنوء. وفي الكمتة لونان: يكون الفرس كميتا مدمّى ويكون كميتا أحم وفي الخيل الشّقرة: وهي الحمرة التي فيها مغرة، يقال: فرس أمغر بيّن المغرة» (بلوغ الأرب:
2/ 9594).
(3) قال الآلوسي في «ألوان الخيل عند العرب»: «الشهبة: وهو البياض، فإذا كان في الدابة ضروب من الألوان من غير بلق فذلك التوليع، يقال: برذون مولع. والدهمة: هو السواد، شديده وهينه.
والحوّة: وهي خضرة تضرب إلى السواد. والكمتة والحمة وهو أحب الألوان إلى العرب مع الحوة.
والكمتة: حمرة تدخلها قنوء. وفي الكمتة لونان: يكون الفرس كميتا مدمّى ويكون كميتا أحم وفي الخيل الشّقرة: وهي الحمرة التي فيها مغرة، يقال: فرس أمغر بيّن المغرة» (بلوغ الأرب:
2/ 9594).
(4) قال الآلوسي في «ألوان الخيل عند العرب»: «الشهبة: وهو البياض، فإذا كان في الدابة ضروب من الألوان من غير بلق فذلك التوليع، يقال: برذون مولع. والدهمة: هو السواد، شديده وهينه.
والحوّة: وهي خضرة تضرب إلى السواد. والكمتة والحمة وهو أحب الألوان إلى العرب مع الحوة.
والكمتة: حمرة تدخلها قنوء. وفي الكمتة لونان: يكون الفرس كميتا مدمّى ويكون كميتا أحم وفي الخيل الشّقرة: وهي الحمرة التي فيها مغرة، يقال: فرس أمغر بيّن المغرة» (بلوغ الأرب:
2/ 9594).
(5) قال الآلوسي في «ألوان الخيل عند العرب»: «الشهبة: وهو البياض، فإذا كان في الدابة ضروب من الألوان من غير بلق فذلك التوليع، يقال: برذون مولع. والدهمة: هو السواد، شديده وهينه.
والحوّة: وهي خضرة تضرب إلى السواد. والكمتة والحمة وهو أحب الألوان إلى العرب مع الحوة.
والكمتة: حمرة تدخلها قنوء. وفي الكمتة لونان: يكون الفرس كميتا مدمّى ويكون كميتا أحم وفي الخيل الشّقرة: وهي الحمرة التي فيها مغرة، يقال: فرس أمغر بيّن المغرة» (بلوغ الأرب:
2/ 9594).(7/390)
فجاء مضمّخا بالخلوق. وأشقر قد كشف البرق عذاره، وأطار الرّكض منه شراره ومعها كلّ فيل كأنّه غمام تبدّى، أو ملك مفدّى، بخرطوم يرتدّ كالصّولجان، ويمتدّ كالأفعوان، ويهول منظره كأنه من تمام الخلق بنيان، ويتحرّك فتحسبه كمّ راقصة تشير به إلى النّدمان تقشعرّ منها الجلود، وتقتل نفسها بنيران الحقد محافظة على عهود الهنود كم أحسنت بخراطيمها لها من صدورها الضيّقة مخرجا، وأضاءت فروجها بين أنيابها طرّة صبح تحت أذيال الدّجى وزرافة، لها إنافة، كأنّها شفق بينه نجوم، أو بروق تكلّلت بقطر الغيوم لها في المدخل على القلوب حذاقة، وولوج من باب ودخول من طاقة. وحمارة وحشيّة جاءت بوصف الرّبيع في اعتدال الليل والنّهار، وجمعت الهالات والأقمار، ودلّت على أصل كريم تفتّحت في فروعه الأزهار، وحكت بخطوطها الدّوح مما تراكم ظلّه فأظلم وانفرج فأنار. ونمر يؤلف على نفاره، ويسبح ليله في أنهار نهاره يتدفّق في مثل أنبوب القناة المضطمر (1)، ويصدّق من شبّه ركود الرّبا على الرّمال بقطعة من جلدة النّمر. وقطّ الزّباد (2) الذي لا تحكيه الأسود في صورها، ولا تسمح غزلان المسك بما يخزنه من عرفه (3) الطيّب في سررها كم تنقّل في بيوت وطابت موطنا، ومشى من دار أصحابه فقالوا: ربّنا عجّل لنا قطّنا وكذلك من الطّيب، ما يطيب، وما يزور بنفحه الحبيب قد بعث أكبره، وأفاد أكثره، واستخدم المتنعّمون به صندله وكافوره وعنبره. وغير هذه الأنواع مما جاد بإرساله، وأتى من كلّ بديع به وبأمثاله فقوبلت بالقبول هذه التّحف، وأكرمت إكرام من لها عرف و [بها] اعترف وحمد سحابه الذي تسرّعت مواطره، وبعثت من طرفها بالروض وما تنوء عنه أزاهره، وشرعت بما اتّصلت بمصر أوائله وباليمن أواخره والله تعالى يشكر هممه التي تعالت، وشيمه العلويّة التي لأجلها المحامد قد توالت. وقد جهّزنا له
__________
(1) المضطمر: الضامر.
(2) قط الزباد: حيوان ثديي من الفصيلة الزبادية، قريب من السنانير، له كيس عطر قرب الشرج يفرز مادة دهنية تستخدم في كثير من بلاد الشرق أساسا للعطر. (الموسوعة العربية الميسرة: 918).
(3) قط الزباد: حيوان ثديي من الفصيلة الزبادية، قريب من السنانير، له كيس عطر قرب الشرج يفرز مادة دهنية تستخدم في كثير من بلاد الشرق أساسا للعطر. (الموسوعة العربية الميسرة: 918).(7/391)
من التّحف المنعم بها ما أمكن تعجيل حمله، وجرت عوائد ملوك الأقاليم بالتشريف من خزائننا العالية بمثله وحمّلنا رسله من السلام ما تعبق به الفجاج، وتعذب به البحار وهي ملح أجاج. والمراد منه أن يواصل بمكاتباته التي تتناوب الصّدور، وتنوب عن لمحة البدور، وتؤوب بما تقدم به من السرور والله تعالى يديم لسلطانه التأييد، ولملكه التأييد، ولاقتداره ما به تعزّ تعزّ (1) وتميد زبيد (2). إن شاء الله تعالى.
فائدة المكاتبة إلى صاحب اليمن عن وليّ العهد بالسلطنة كالمكاتبة إليه عن السلطان نفسه في جميع المكاتبة على السّواء.
وعلى ذلك كتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر عن «الأشرف خليل ابن قلاوون» قرين كتاب أبيه المنصور قلاوون إلى صاحب اليمن، بالبشرى بفتح طرابلس.
وهذه نسخته:
أعزّ الله تعالى نصرة المقام! وأوفد عليه كلّ بشرى أحسن من أختها، وكلّ تهنئة لا يجلّيها إلا هو لوقتها وكلّ مبهجة يعجز البنان والبيان عن ثبتها ونعتها، وتتبلّج فتودّ الدّرر والدّراريّ لو رقت هذه إلى ترقّيها وسمت هذه إلى سمتها.
وصبّحه منها بكل هاتفة أسمع من هواتف الحمائم، وبكل عارفة أسرع من عوارف الزّهر عند عزائم النّسائم وبكلّ عاطفة أعنّة الإتحاف بالإيجاف الذي شكرت الصّفاح منه أعظم قادر والصحائف أكرم قادم والغزو الذي لا يخصّ تهامة ببشراه بل جميع النّجود والتّهائم، وذوي الصّورام والصّرائم (3)، وأولي القوى والقوائم، وكلّ ثغر عن ابتهاج الإسلام باسم، وكلّ برّ برّ بتوصيل ما ترتّب عليه من ملاحم
__________
(1) قال ياقوت: تعزّ (بالزاي المشددة) قلعة عظيمة من قلاع اليمن المشهورات. وزبيد: اسم واد به مدينة يقال لها الحصيب ثم غلب عليها اسم الوادي فلا تعرف إلا به. وهي مدينة مشهورة باليمن أحدثت في أيام المأمون. (معجم البلدان: 2/ 34و 3/ 131).
(2) قال ياقوت: تعزّ (بالزاي المشددة) قلعة عظيمة من قلاع اليمن المشهورات. وزبيد: اسم واد به مدينة يقال لها الحصيب ثم غلب عليها اسم الوادي فلا تعرف إلا به. وهي مدينة مشهورة باليمن أحدثت في أيام المأمون. (معجم البلدان: 2/ 34و 3/ 131).
(3) الصوارم: السيوف. جمع صارم. والصرائم: العزائم، جمع صريمة وهي العزيمة والعزم.(7/392)
وكلّ بحر عذب يمون كلّ غاز لا يحبس عن جهاد الكفّار في عقر الدّار الشّكائم، وكلّ بحر ملح كم تغيّظ من مجاورة أخيه لأهل الشرك ومشاركتهم فيه فراح وموجه المتلاطم.
المملوك يخدم خدمة يقتفي فيها أثر والده، ويجري في تجميلها على أجمل عوائده، ويستفتح فيها استفتاحا تحفّ به من هنا ومن هنا تحف محامده، ويصف ولاء قد جعله الله أجمل عقوده وأكمل عقائده ويشفعها بإخلاص قد جعله ميله أحسن وسائله وقلبه أزين وسائده ويطلع علمه على أن من سجايا المتعرّضين إلى الإعلان بشكر الله تعالى في كلّ ما يعرض للمسلمين من نصر، ويفترض لهم من أجر غزو كم قعد عنه ملك فيما مضى من عصر أن يقدروا هذه النعمة حقّ قدرها من التحدّث بنعمتها، والتنبيه بسماع نغمتها، وإرسال أعنّة الأقلام بها في ميادين الطّروس، وإدارة حرباء وصف حرّ حرب (؟) إلى مواجهة خير الشّموس.
ولما كانت غزوات مولانا السلطان ملك البسيطة الوالد خلّد الله سلطانه قد أصبحت ذكرى للبشر، ومواقفه للنصركم جاءت هي والقدر على قدر وقد صارت سيرها وسيرها هذه شدو في الأسمار، وهذه جادّة تستطيب منها حسن الحدو السّفّار فكم قاتلت من يليها من الكفّار، وكم جعلت من يواليها وهو منصورها منصورا بالمهاجرين والأنصار.
ولمّا أذلّ الله ببأسها طوائف التّتار في أقاصي بلاد العجم، وجعل حظّ قلوبهم الوجع من الخوف ونصيب وجوههم الوجم وأخلى الله من نسورهم الأوكار ومن أسودهم الأجم، وقصّرت بهم هممهم حتّى صاروا يخافون الصّبح إذا هجم، والظّنّ إذا رجم وصارت رؤية الدماء تفزعهم فلو احتاج أحدهم لتنقيص دم لمرض لأجنح من خوفه وما احتجم. وأباد الله الأرمن فحل بالنّبيل منهم الويل، وما شمّر أحد من الجنود الإسلاميّة عن ساعد إلا وشمّر هو من الذّلّ الذيل ولا أثارت الجياد من الخيل عثيرا منعقدا إلا وظنّوه مساء قد أقبل أو ليل، وانتهت نوبة
القتل بهم والإسار إلى التكفور ليفون (1) ملك الأرمن الذي كان يحمي سرحهم، ويمرّد صرحهم، ويستنطق هتف التّتار ويسترجع صدحهم وتعتزّ طرابلس الشام بأنّه خال ابرنسها (2) الكافر، ولسان شورته السّفير ووجه تدبيره السّافر. وطالما غرّ وأغرى، وأجرّ وأجرى وضرّ وأضرى فلما توكّل مولانا السلطان وعزم فتوكّل، وتحقّق أنّ البلاء به قد نزل وما تشكّك أنّ ذلك في ذهن القدر قد تصوّر وتشكّل وأنّ يومه في الفتك سيكون أعظم من أمنيّته، وأعظم منهما معاداة غده، وأنّ نصر الله لن يخلفه صادق وعده أكل يده ندامة على ما فرّط في جنب الله وساق الحتف لنفسه بيده، فعمر الله بروحه الخبيثة الدّرك الأسفل من النار، وسقاه الحتف كأسا بعد كأس لم يكن لهما غير الملك من خمّار. وكانت طرابلس هي ضالّة الإسلام الشّريدة، وإحدى آبقاته (3) من الأعوام العديدة وكلما مرّت شمخت بأنفها، وتأنّقت في تحسين منازه منازهها وتزيين ريحانها وعصفها (4)، ومرّت وهي لا تغازل ملكا بطرفها، وكلّما تقادم عهدها تكثّرت بالأفواج والأمواج من بين يديها ومن خلفها إذ البحر لها جلباب والسّحاب لها خمار، وليس لها من البرّ إلا بمقدار ساحة الباب من الدار كأنها في سيف ذلك البحر جبل قد انحطّ، أو ميل استواء قد خرج عن الخطّ، وما قصد أحد شطّها بنكاية إلّا شطّ واشتطّ.(7/393)
ولمّا أذلّ الله ببأسها طوائف التّتار في أقاصي بلاد العجم، وجعل حظّ قلوبهم الوجع من الخوف ونصيب وجوههم الوجم وأخلى الله من نسورهم الأوكار ومن أسودهم الأجم، وقصّرت بهم هممهم حتّى صاروا يخافون الصّبح إذا هجم، والظّنّ إذا رجم وصارت رؤية الدماء تفزعهم فلو احتاج أحدهم لتنقيص دم لمرض لأجنح من خوفه وما احتجم. وأباد الله الأرمن فحل بالنّبيل منهم الويل، وما شمّر أحد من الجنود الإسلاميّة عن ساعد إلا وشمّر هو من الذّلّ الذيل ولا أثارت الجياد من الخيل عثيرا منعقدا إلا وظنّوه مساء قد أقبل أو ليل، وانتهت نوبة
القتل بهم والإسار إلى التكفور ليفون (1) ملك الأرمن الذي كان يحمي سرحهم، ويمرّد صرحهم، ويستنطق هتف التّتار ويسترجع صدحهم وتعتزّ طرابلس الشام بأنّه خال ابرنسها (2) الكافر، ولسان شورته السّفير ووجه تدبيره السّافر. وطالما غرّ وأغرى، وأجرّ وأجرى وضرّ وأضرى فلما توكّل مولانا السلطان وعزم فتوكّل، وتحقّق أنّ البلاء به قد نزل وما تشكّك أنّ ذلك في ذهن القدر قد تصوّر وتشكّل وأنّ يومه في الفتك سيكون أعظم من أمنيّته، وأعظم منهما معاداة غده، وأنّ نصر الله لن يخلفه صادق وعده أكل يده ندامة على ما فرّط في جنب الله وساق الحتف لنفسه بيده، فعمر الله بروحه الخبيثة الدّرك الأسفل من النار، وسقاه الحتف كأسا بعد كأس لم يكن لهما غير الملك من خمّار. وكانت طرابلس هي ضالّة الإسلام الشّريدة، وإحدى آبقاته (3) من الأعوام العديدة وكلما مرّت شمخت بأنفها، وتأنّقت في تحسين منازه منازهها وتزيين ريحانها وعصفها (4)، ومرّت وهي لا تغازل ملكا بطرفها، وكلّما تقادم عهدها تكثّرت بالأفواج والأمواج من بين يديها ومن خلفها إذ البحر لها جلباب والسّحاب لها خمار، وليس لها من البرّ إلا بمقدار ساحة الباب من الدار كأنها في سيف ذلك البحر جبل قد انحطّ، أو ميل استواء قد خرج عن الخطّ، وما قصد أحد شطّها بنكاية إلّا شطّ واشتطّ.
قدّر الله تعالى أن صرف مولانا السلطان إليها العنان، وسبق جيشه إليها كلّ خبر و «ليس الخبر كالعيان»، وجاءها بنفسه النفيسة والسعادة قد حرسته عيونها وتلك المخاوف كلّها أمان، وقد اتّخذ من إقدامه عليها خير حبائل ومن مفاجأته لها أمدّ عنان وفي خدمته جنود لا تستبعد مفازه، وكم راحت
__________
(1) التكفور: من ألقاب ملوك الأرمن. والمقصود هنا هو: ليفون (ليون) بن التكفور هيثوم بن قسطنطين بن باسال واسمه لما ملك ليون الثالث) (وقد أمتد حكمه من 669 688هـ / 12891270م. (سيرة الملك المنصور: 2569231).
(2) إبرنس أي الأمير.
(3) الآبقة: الهاربة.
(4) العصف: ورق الزرع. والورق الذي ينفتح عن الثمرة. والعصف والعصافة أيضا: حطام التبن ودقاقه.(7/394)
وغدت وفي نفسها للأعداء حزازه فامتطوا بخيولهم من جبال لبنان تيجانا لها صاغتها الثّلوج، ومعارج لا مرافق بها غير الرياح الهوج وانحطّت تلك الجيوش من تلك الجنادل، انحطاط الأجادل واندفعوا في تلك الأوعار، اندفاع الأوعال ولم يحفل أحد منهم بسرب لاصق، ولا جبل شاهق فقال: أهذا منخفض أو عال، وشرعوا في التحصيل لما يوهي ذلك التحصين، وابتنى كلّ سورا أمام أسوارها من التدبير الحسن والرأي الرّصين فما لبثوا إلا بمقدار ما قيل لهم دونكم والاختطاب، ونقل المجانيق على الخيل وعلى الرقاب حتّى جرّوها بأسرع من جرّ النّفس، وأجروها على الأرض سفائن وكم قالوا: السّفينة لا تجري على يبس وفي الحال نقلت إليها فرأوا من متوقّلها من يمشي بها على رجلين ومنهم من يمشي على أربع، ووجّهت سهامها وجوهها إلى منافذها فما شوهدت منها عين إلا وكان قدّامها منها إصبع وألقيت العداوة بين الحجارة من المجانيق والحجارة من الأسوار، فكم ثقبت ونقبت عن فلذة كبدها، عن (1) وأوقدت نيران المكايد ثمّ فكم حولها من صافن ومن صافر، وكم رمتهم بشرر كالقصر فوقع الحافر كما يقال على الحافر وما برحت سوق أهل الإيمان في نفاق، على أهل النّفاق، وأكابرهم تساق، أرواحهم الخبيثة إلى السّاق.
وكان أهل عكّا قد أنجدوهم من البحر بكل برّ، ورموا الإسلام بكل شرر وبكل شرّ فصار السهم الذي يخرج بها لا يخرج إلا مقترنا بسهام، وشرفات ذلك الثغر كالثّنايا ولكنها لكثرة من بها لا تفترّ عن ابتسام.
وما زالت جنود الإسلام كذلك، ومولانا السلطان لا ترى جماعة مقدمة ولا متقدّمة إلا وهو يرى بين أولئك. واستمرّ ذلك من مستهلّ ربيع الأوّل إلى رابع ربيع الآخر، فزحف إليها في بكرة ذلك النهار وهو الثّلاثاء زحفا يقتحم كلّ هضبة ووهدة، وكلّ صلبة وصلدة حتّى أنجز الله وعده، وفتحها المسلمون مجازا وفي
__________
(1) بياض بالأصل.(7/395)
الحقيقة فتحها وحده وطلعت سناجق الإسلام الصّفر على أسوارها، ودخلت عليهم من أقطارها، وجاست الكسابة إلى ديارها فاحتازها مولانا السلطان لنفسه ملكا، وما كان يكون له في فتحها شريك وقد نفى عنها شركا وكلّما قيل هذه طرابلس فتحت قال النصر لمن قتل فيها من النّجد الواصلة: وأكثر عكّا وأهل عكّا وأعاد الله تعالى بها قوّة الكفر أنكاثا، فكان أخذها من مائة سنة وثمانين سنة في يوم ثلاثا، واستردّت في يوم الثّلاثا.
ولما عمّت هذه البشائر، وكل بها مولانا السلطان إلى من يستجلي حسان هذه العرائس، ويستحلي نفيس هذه النّفائس.
سيّر مولانا السلطان إلى المولى كلّ بشرى تقعقع بها البريد، لتتلى بأمره على كلّ من ألقى السمع وهو شهيد وكما عمّ السرور بذلك كلّ قريب قصد أن يعمّ الهناء كلّ بعيد.
وأصدر المملوك هذه الخدمة يتجرّب بين يديه نجواها، ويتوثّب بعد هذه الفاتحة المباركة لكلّ سانحة يحسن لدى المولى مستقرّها ومثواها لا برح المقام العالي يستبشر لكماة الإسلام بكلّ فضل وبكل نعمى، ويفرح بسرح الكفر إذا انتهك وبسفح الملك إذا يحمى، وبسمع الشّرك إذا يصمّ وبقلبه إذا يصمى والله الموفق.
الجملة الثانية (في المكاتبات إلى عرب البحرين ومن انضاف إليهم)
قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك في المقالة الثانية أنّ بلاد البحرين لم تزل بيد العرب، وأنها صارت الآن بيد بني عقيل بضم العين من بني عامر بن صعصعة، من هوازن، من قيس عيلان، من العدنانية. قال في «التعريف»: ومنهم قوم يصلون إلى باب السلطان وصول التّجّار، يجلبون جياد الخيل وكرام المهاري واللّؤلؤ وأمتعة من أمتعة العراق والهند، ويرجعون بأنواع الحباء والإنعام والقماش والسّكّر وغير ذلك ويكتب لهم بالمسامحة فيردون
ويصدرون. قال: وبلادهم بلاد زرع وضرع، وبرّ وبحر، ولهم متاجر مربحة، وواصلهم إلى الهند لا ينقطع، وبلادهم ما بين العراق والحجاز، ولهم قصور مبنيّة، وآطام عليّة، وريف غير متّسع، إلى ما لهم من النّعم والماشية، والحاشية والغاشية إلا أنّ الكلمة قد صارت بينهم شتّى، والجماعة متفرّقة. وقد سبق الكلام على بلادهم مستوفى في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك.(7/396)
قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك في المقالة الثانية أنّ بلاد البحرين لم تزل بيد العرب، وأنها صارت الآن بيد بني عقيل بضم العين من بني عامر بن صعصعة، من هوازن، من قيس عيلان، من العدنانية. قال في «التعريف»: ومنهم قوم يصلون إلى باب السلطان وصول التّجّار، يجلبون جياد الخيل وكرام المهاري واللّؤلؤ وأمتعة من أمتعة العراق والهند، ويرجعون بأنواع الحباء والإنعام والقماش والسّكّر وغير ذلك ويكتب لهم بالمسامحة فيردون
ويصدرون. قال: وبلادهم بلاد زرع وضرع، وبرّ وبحر، ولهم متاجر مربحة، وواصلهم إلى الهند لا ينقطع، وبلادهم ما بين العراق والحجاز، ولهم قصور مبنيّة، وآطام عليّة، وريف غير متّسع، إلى ما لهم من النّعم والماشية، والحاشية والغاشية إلا أنّ الكلمة قد صارت بينهم شتّى، والجماعة متفرّقة. وقد سبق الكلام على بلادهم مستوفى في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك.
قال في «التعريف»: ورسم المكاتبة إلى كبرائهم «الساميّ» بالياء.
والعلامة الشريفة «أخوه» ثم ما دون ذلك لمن دونهم.
واعلم أنه في «التثقيف» قد جمع بين عرب البحرين وعرب البصرة وما والى ذلك، وجعل المكاتبة إليهم على ثلاث مراتب.
المرتبة الأولى من يكتب إليه «الساميّ» بالياء والعلامة الاسم، وذكر أنّ بها يكاتب أميرهم، وسماه حينئذ «صدقة بن إبراهيم بن أبي دلف» وأن تعريفه فلان بن فلان. وذكر في رتبته في المكاتبة يومئذ محمد بن مانع، وأخوه حسين بن مانع، وعليّ بن منصور.
المرتبة الثانية من يكتب إليه «الساميّ» بغير ياء والعلامة الاسم. وذكر منهم بدران بن مانع روميّ بن أبي دلف زين بن قاسم يوسف بن قاسم، سعيد بن معدي راشد بن مانع عيسى بن عرفة ظالم بن مجاشع إسماعيل ابن صواري كلبي بن ماجد بن بدران مانع بن عليّ مانع بن بدران.
المرتبة الثالثة من يكتب إليه «مجلس الأمير» والعلامة الاسم. وعدّ منهم جماعة، وهم عظيم بن حسن بن مانع موسى بن أبي الحسن سعد بن مغامس زيد بن مانع هلال بن يحيى معمر بن مانع محمد بن خليفة.
قلت: وحاصل ما ذكره في «التعريف» و «التثقيف» أنّ جملة المكاتبة إليهم لا تجاوز المراتب الثلاث المذكورة، والكاتب يستخبر أخبارهم في المقدار، وينزل كلّ واحد منهم على قدر مرتبته من ذلك كما في الأسماء المتقدّمة الذكر.(7/397)
المهيع الرابع (في المكاتبة إلى صاحب الهند والسّند)
وقد ذكر في «التعريف» أن صاحبه في زمانه كان اسمه أبا المجاهد محمد بن طغلقشاه (1) ثم قال: وهو أعظم ملوك الأرض شرقا وغربا وجنوبا وشمالا، وبرّا وبحرا، وسهلا وقفرا وأن سمته في بلاده «الإسكندر الثاني» ثم قال: وتالله إنه يستحقّ أن يسمّى بذلك ويوسم به: لاتّساع بلاده، وكثرة أعداده، وغزر أمداده وشرف منابت أرضه، ووفور معادنه، وما تنبته أرضه، ويخرجه بحره. ويجبى إليه، ويرد من التّجّار عليه. وأهل بلاده أمم لا تحصى، وطوائف لا تعدّ. ثم حكى عن قوم ثقات منهم قاضي القضاة سراج الدين الهنديّ الحنفيّ، وهو يومئذ مدرّس البيدمريّة بالقاهرة، والتاج البزّي، والشيخ مبارك الأنبايتيّ: أن عسكر
__________
(1) أسس غياث الدين طغلق شاه (حكم بين 721هـ 725) أسرة حكمت الهند نحو مائة سنة.
وبعدما استقرت له الأمور جعل ابنه محمدا وليا للعهد. وقد تآمر محمد على والده ودبّر له مكيدة أودت به. ولما توفي طغلق شاه تولى محمد الملك باسم «محمد طغلق» وكنيته «أبو المجاهد» وكان اسمه «جونه» وسميت مدينة جونبور المعروفة في الهند باسمه وقد سماه أبوه «ألغ خان» وهو ولي العهد. يقول عنه صاحب نزهة الخواطر (ابن الصاحب المتوفى سنة 813هـ) إنه السلطان الجائر المشهور بالعادل، وكان من عجائب الزمن وسوانح الدهر لم ير مثله في الملوك والسلاطين في بذل الأموال الطائلة وسفك الدماء المعصومة. وقد جاء ابن بطوطة إلى دلهي في زمانه سنة 734هـ 1337م ودون كل ما شاهده وسمعه عنه ويقول: أما أخبار هذا الملك فمعظمها أيام كوني ببلاده، ثم يصفه فيقول: وهو أحب الناس لإسداء العطايا وإراقة الدماء، فلا يخلو بابه من نفير يغني أو حي يقتل. ثم يقول: وسنذكر من أخباره عجائب لم يسمع بمثلها عمن تقدمه. وابن بطوطه لم يقتصر على ذكر كرمه ومدائحه، ولكنه ذكر بجانب ذلك فظائعه وجرائمه التي ارتكبها ومن أجل هذا يعتبر ابن بطوطة من أوثق المصادر عن تاريخ هذا الملك. وتذكر بعض كتب التاريخ عنه أنه كان متدينا لا يشرب الخمر، وقائدا شجاعا وإداريا قديرا يعتبر أحد القواد والإداريين العظام، غير أنه كان شديدا في معاملة رعاياه إلى حد القسوة يقتل أحدهم على الذنب الصغير. ويقول ابن بطوطة: ومن أعظم ما كان ينقم بسببه على السلطان إجلاؤه لأهل دلهي عنها وسبب ذلك أنهم كانوا يكتبون بطائق فيها شتمه وسبّه ويرمونها بالقصر ليلا فعزم على تخريب دلهي واشترى من أهلها جميعا دورهم وأمرهم بالانتقال عنها إلى «دولت أباد». (انظر تاريخ الإسلام في الهند:
ص: 126وما بعدها).(7/398)
هذا السلطان نحو التسعمائة ألف فارس، وعنده زهاء ألفي فيل يقاتل عليها، وخلق من العبيد تقاتل رجّالة مع سعة الملك والحال، وكثرة الدّخل والمال، وشرف النّفس والإباء، مع الاتّضاع للعلماء والصّلحاء وكثرة الإنفاق، وعميم الإطلاق ومعاملة الله تعالى بالصّدقة، وإخراج الكفاية للمرتزقة بمرتّبات دائمة، وإدرارات متّصلة بعد أن حكى عن رسوليه دميرخوان (1) وافتخار ما قال: إنه لو سكنت النفوس إلى براءتهما من التعصب [فيه] لحكى منه العجائب، وحدّث عنه بالغرائب ثم ذكر أنه أرسل مرّة مالا برسم الحرمين وبيت المقدس، وهدية للسلطان تزيد على ألف ألف دينار فقطع عليها الطريق باليمن، وقتل محضرها بأيدي مماليك صاحب اليمن، لأمر بيّت بليل ثم قتل قاتلوه، وأخذ أهل اليمن المال وأكلوه وكتب عن السلطان إلى صاحب اليمن في هذا كتاب منه «وقد عددت عليه فعلته» وقيل فيه: «وفعل ما لا يليق، وأمسى وهو يعدّ من الملوك فأصبح يعدّ من قطّاع الطريق». وقد سبق في الكلام على المسالك والممالك من عظيم هذه المملكة وعظم قدر رجالها ما فيه كفاية عن الإعادة.
قال في «التعريف»: ورسم المكاتبة إليه رسم المكاتبة إلى القانات الكبار المقدّم ذكرهم، في هيئة الكتاب وما يكتب به والطّغراة والخطبة. وألقابه «المقام الأشرف، العالي، المولويّ، السلطانيّ، الأعظميّ، الشاهنشاهيّ، العالميّ، المجاهديّ، المرابطيّ، المثاغريّ، المظفّريّ، المؤيّديّ، المنصوريّ، إسكندر الزمان، سلطان الأوان، منبع الكرم والإحسان، المعفّي على ملوك آل ساسان، وبقايا أفراسياب وخاقان، ملك البسيطة، سلطان الإسلام، غياث الأنام أوحد الملوك والسلاطين» ويدعى له. قال: ولم يكتب إليه في ذلك الوقت لقب ينسب إلى الخلافة نحو «خليل أمير المؤمنين» وما يجري هذا المجرى، إذ كان قد بلغنا أنه يربأ بنفسه إلى أن يدّعى الخلافة، ويرى له فضل الإنافة.
__________
(1) في حاشية الطبعة الأميرية عن التعريف ص: 49: «دفتر خوان والافتخار».(7/399)
قلت: مقتضى ما ذكره في «التعريف» حيث قال: إن رسم المكاتبة إليه رسم المكاتبة إلى القانات الكبار في هيئة الكتاب وما يكتب به، والطّغراة والخطبة، أن المكاتبة إليه تفتتح بخطبة مبتدأة ب «الحمد لله» كما تقدّم في افتتاح المكاتبات إلى القانات. والذي ذكره في «التثقيف» أن المكاتبة إليه تكون في قطع البغداديّ الكامل بالذهب والأسود، كما جرت العادة به، يعني في كتب القانات، إلا أنه جعل رسم المكاتبة إليه: «أعزّ الله تعالى أنصار المقام، العالي، السلطانيّ، العالميّ، العادليّ، الملكيّ، الفلانيّ». ثم قال: وهذه الألقاب سطران كاملان وبينهما بيت العلامة على العادة، وبعد السطرين المذكورين في الجانب الأيمن من غير بياض «أبو المجاهد محمد ابن السلطان طغلقشاه زيدت عظمته». ولا يذكر لقبه. والدعاء، والعلامة «أخوه». وتعريفه «صاحب الهند». وقد رأيت تصويره في بعض الدساتير على هذه الصورة:
أعز الله تعالى أنصار المقام العالي بيت العلامة السلطانيّ، العالميّ، العادليّ، الملكيّ، الفلانيّ قال في «التعريف»: والعنوان جميعه بالذهب وهو سطران، وتعريفه «صاحب الهند». وبقية الكتاب بالسواد والذهب أسوة القانات وبه يشعر كلام «التعريف» فيما تقدّم.
وهذا دعاء معطوف وصدر يليق به، ذكره في «التعريف» وهو:
ولا زال سلطانه للأعداء مبيرا، وزمانه بما يقضي به من خلود ملكه خبيرا، وشأنه وإن عظم يتدفّق بحرا ويرسي ثبيرا (1)، ومكانه وإن جلّ أن يجلببه مسكيّ الليل يملأ الأرجاء أرجا والوجود عبيرا، وإمكانه يستكين له الإسكندر خاضعا وإن جاز نعيما جمّا وملكا كبيرا، ولا برحت الملوك بولائه تتشّرف، وبآلائه
__________
(1) يقال: ثبر البحر: جزر.(7/400)
تتعرّف، وبما تطبع مهابته من البيض ببيض الهند في المهج تتصرّف. المملوك يخدم بدعاء يحلّق الله إلى أفقه، [ويحلّ العلياء والمجرّة في طرقه] (1)، ويهدي منه ما يعتدل به التاج فوق مفرقة، ويعتدّ له النّجم ولا يثنيه إلّا وسادة تحت مرفقة ويسمو إلى مقام جلاله ولا يسأم من دعاء الخير، ولا يملّ له إذا ملّت النجوم عن السّير ولا يزال يصف ملكه المحمّديّ بأكثر مما وصف به الملك السليماني، وقد قال: وأوتينا من كلّ شيء، وعلّمنا منطق الطير.
قلت: وهذا الدعاء المعطوف مما يؤكد ابتداء المكاتبة بالدعاء، خلافا لما تقدّم أنه مقتضى تصوير كلامه في «التعريف».
واعلم أنّ في هذه المكاتبة على ما ذكره في «التعريف» شيئين قد خالف فيهما قاعدة المكاتبات عن الأبواب السلطانية.
أحدهما إتيانه في «التعريف» في ألقابه بالمولويّ. والثاني قوله في الصدر المتقدّم الذكر «المملوك يخدم». فقد ذكر صاحب «التعريف» في كتابه «عرف التعريف» (2): أن السلطان لا يكتب عنه في العلامة «المملوك» وإنما خالف القاعدة في ذلك هنا تعظيما لمقام المكتوب إليه وإعلاء لرتبته، حيث قال في أوّل كلامه: إنه أعظم ملوك الأرض على ما تقدّم ذكره، فعبّر عن مقامه بما يليق به، وخاطبه بما يليق بخطابه، كما تقدّم أنه كان يكتب إلى أبواب الخلافة «المملوك» أو «الخادم ينتهب ثرى الأعتاب» أو «يقبّل الأرض» ونحو ذلك تعظيما لمحل الخلافة، لا سيما وقد تقدّم أن صاحب الهند حينئذ كان يدّعي الخلافة، إلا أنّ
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن التعريف، وهي لازمة.
(2) وهو مختصر «التعريف بالمصطلح الشريف» جعله ابن فضل الله العمري على سبعة أقسام كما في التعريف. (كشف الظنون: 2/ 1131).(7/401)
نظام هذا الملك قد أختلّ ونقص عمّا كان بموت السلطان محمد بن طغلقشاه حين توفي، واستقر مكانه ابن خالته (1) فيروز شاه (2)
ولعل المكاتبة التي ذكرها في «التثقيف» إنما رتّبت على حكم ما كان في أيّامه بعد (3) ذكر المكاتبة المذكورة، بعد أن ذكر أنّ محمد بن طغلقشاه مات وقام فيروز شاه مقامه، إلا أنه مثل المكاتبة المذكورة بمحمد بن طغلقشاه، فاقتضى أن يكون هو المعنيّ بالمكاتبة. ثم تفرّقت المملكة بعد ذلك في سلطانين (4)، فيما أخبرني به بعض أهل الهند ثم تزايد نقصها بعد أن غزا (5) [ها] تمرلنك وغلب
__________
(1) في «تاريخ الإسلام في الهند»: «ابن عمه». قال صاحب الكتاب المذكور: «لم يترك محمد طغلق وارثا للعرش من ذريته، وكان فيروز وفيا ومخلصا له، لازمه في أيام مرضه يخدمه، فأثر ذلك في نفسه فأشار وهو مريض أن يكون فيروز ولي عهده، ولكن لم يعلن ذلك رسميا ولما مات حدث بعض الهرج نظرا لعدم وجود ولي للعهد معلوم عند الجميع وأيا ما كان فقد تولى فيروز الملك في المحرم سنة 752هـ 1351م، وقد تربى في حجر عمه غياث الدين طغلق وابن عمه محمد طغلق، وولي الحجابة مدة من الزمان. وقد ساس دولته سياسة الحكام العظام الذين يعنون بشعوبهم ويسهرون لتوفير الراحة لهم.» وتوفي سنة 790هـ 1388م. (تاريخ الإسلام في الهند: 134).
(2) في «تاريخ الإسلام في الهند»: «ابن عمه». قال صاحب الكتاب المذكور: «لم يترك محمد طغلق وارثا للعرش من ذريته، وكان فيروز وفيا ومخلصا له، لازمه في أيام مرضه يخدمه، فأثر ذلك في نفسه فأشار وهو مريض أن يكون فيروز ولي عهده، ولكن لم يعلن ذلك رسميا ولما مات حدث بعض الهرج نظرا لعدم وجود ولي للعهد معلوم عند الجميع وأيا ما كان فقد تولى فيروز الملك في المحرم سنة 752هـ 1351م، وقد تربى في حجر عمه غياث الدين طغلق وابن عمه محمد طغلق، وولي الحجابة مدة من الزمان. وقد ساس دولته سياسة الحكام العظام الذين يعنون بشعوبهم ويسهرون لتوفير الراحة لهم.» وتوفي سنة 790هـ 1388م. (تاريخ الإسلام في الهند: 134).
(3) يرى محقق الطبعة الأميرية أن هذه البعدية برمّتها من زيادة الناسخ أو طغيان القلم.
(4) بعد وفاة فيروز كان حفيده «طغلق» هو السلطان، وسمي غياث الدين طغلق الثاني، وكان شابا لاهيا عن تدبير أمور السلطنة، فكانت عاقبته أن قتله «أبو بكر بن ظفرخان بن فيروز» سنة 791هـ 1389م وتولى أبو بكر هذا مكانه، لكن عمه محمدا الذي فرّ في حياة أبيه فيروز أخذ يعمل للاستيلاء على دلهي، فهجم عليها ثلاث مرات انتهت بانتصاره. وتولي محمد بن فيروز الملك باسم «ناصر الدين» واستمر حتى توفي بمرض السل سنة 796هـ في ربيع الأول. وجاء بعده ابنه اسكندر ومكث في الحكم نحو شهر ونصف توفي بعده. ثم اشتد الخلاف بين أركان الدولة واستمرت دلهي بدون سلطان خمسة وأربعين يوما، ثم نادوا بمحمود بن محمد بن فيروز سلطانا على دلهي، وكان صغير السن ضعيفا قامت في عهده عدة ثورات في الولايات التابعة لدلهي تطلب الاستقلال. فقامت ثورة من الهندوس في شرق الهند فقمعها «خواجه جهان» الذي طمع بدوره في الاستقلال واستطاع أن يؤسس أسرة حاكمة عرفت باسم «ملوك الشرق». وفي البنجاب وغيرها قامت الثورات وأخذ سلطان دلهي يتضاءل. وفي هذا الوقت هجم تيمورلنك على الهند ليخضعها لسلطانه بعد أن أخضع كثيرا من الممالك الإسلامية وكان هجومه سنة 801هـ 1399م فاستولى على دلهي وفر السلطان محمود غير أنه عاد إلى دلهي بعد خروج تيمور منها.
(انظر تاريخ الإسلام في الهند ص: 140. ودائرة المعارف الإسلامية: 10/ 300).
(5) بعد وفاة فيروز كان حفيده «طغلق» هو السلطان، وسمي غياث الدين طغلق الثاني، وكان شابا لاهيا عن تدبير أمور السلطنة، فكانت عاقبته أن قتله «أبو بكر بن ظفرخان بن فيروز» سنة 791هـ 1389م وتولى أبو بكر هذا مكانه، لكن عمه محمدا الذي فرّ في حياة أبيه فيروز أخذ يعمل للاستيلاء على دلهي، فهجم عليها ثلاث مرات انتهت بانتصاره. وتولي محمد بن فيروز الملك باسم «ناصر الدين» واستمر حتى توفي بمرض السل سنة 796هـ في ربيع الأول. وجاء بعده ابنه اسكندر ومكث في الحكم نحو شهر ونصف توفي بعده. ثم اشتد الخلاف بين أركان الدولة واستمرت دلهي بدون سلطان خمسة وأربعين يوما، ثم نادوا بمحمود بن محمد بن فيروز سلطانا على دلهي، وكان صغير السن ضعيفا قامت في عهده عدة ثورات في الولايات التابعة لدلهي تطلب الاستقلال. فقامت ثورة من الهندوس في شرق الهند فقمعها «خواجه جهان» الذي طمع بدوره في الاستقلال واستطاع أن يؤسس أسرة حاكمة عرفت باسم «ملوك الشرق». وفي البنجاب وغيرها قامت الثورات وأخذ سلطان دلهي يتضاءل. وفي هذا الوقت هجم تيمورلنك على الهند ليخضعها لسلطانه بعد أن أخضع كثيرا من الممالك الإسلامية وكان هجومه سنة 801هـ 1399م فاستولى على دلهي وفر السلطان محمود غير أنه عاد إلى دلهي بعد خروج تيمور منها.
(انظر تاريخ الإسلام في الهند ص: 140. ودائرة المعارف الإسلامية: 10/ 300).(7/402)
عليها ثم نزح عنها. وبكل حال فلا ينبغي أن يقصّر بصاحب الهند عن رتبة القانات. ولم أقف على نص مكاتبة كتب بها إلى صاحب الهند فأذكرها.
المقصد الثاني (من المصطلح المستقرّ عليه الحال من المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية في المكاتبات إلى ملوك الغرب
، وفيه أربع جمل)
الجملة الأولى (في المكاتبات إلى صاحب أفريقيّة
، وهو صاحب تونس، وتنضم إليها بجاية وقسنطينة (1) تارة، وتنفرد عنها أخرى) وقد تقدّم في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك نقلا عن «التعريف» أنّ حدّ هذه المملكة غربا من جزائر بني مزغنّان (2) إلى عقبة برقة الفارقة بين طرابلس وبين برقة، وهي نهاية الحدّ الشرقي ومن الشام البحر (3)
ومن الجنوب آخر بلاد الجريد (4) والأرض السّوّاخة إلى ما يقال إنه موقع المدينة
__________
(1) بجاية اليوم ميناء بالجزائر على شاطيء المتوسط تابعة لولاية قسنطينة. (انظر الموسوعة العربية:
1381327).
(2) المقصود مدينة الجزائر. قال ياقوت: وتعرف بجزائر بني مزغنّاي (بالياء المتطرفة). وفي الروض المعطار: جزائر بني مزغنّا (بدون ياء). (معجم البلدان: 2/ 132والروض المعطار: 163).
(3) أي البحر الرومي (المتوسط) كما تقدّم في الجزء الخامس أثناء الكلام على مملكة تونس.
(4) بلاد الجريد: إقليم في تونس الوسطى، ويطلق هذا الاسم الآن على واحات أربع هي «توزر» و «نقطة» و «الوديان» و «الحمة». والجريد أرض صخرية ممتدة يحدها من الشمال شط «غرسة» ومن الجنوب شط الجريد. وشط الجريد هو وبقيته شط «فجج» يكادان أن يكونا غورا متصلا يبدأ من شواطيء خليج «قابس» وينتهي عند حدود الجزائر. ولا تطابق الجريد الحالية تمام المطابقة الإقليم الذي عرفه مؤرخو العرب وجغرافيوهم باسم بلاد الجريد أو بلاد قسطيلية. وفي رأي ابن حوقل أن الاسم قسطيلية إنما ينطبق على مدينة توزر. أما البكري فيجعلها شاملة للأرض المجاورة لها فيقول: فأما بلاد قسطيلية فإن من مدنها توزر والحمة ونفطة. ويعد ابن خلدون الاسمين علما على شيء واحد، ثم إنه يدخل قفصة التي في الشمال ونفزاوة التي في الجنوب في بلاد الجريد. (دائرة المعارف الإسلامية: 11/ 240ومعجم البلدان: 4/ 348).(7/403)
المسمّاة بمدينة النّحاس (1) ثم قال: وهو أجلّ ملوك الغرب مطلقا.
وقد تقدّم هناك أيضا ذكر حال مملكتها ومن ملكها جاهلية وإسلاما، وأنها كانت قبل الإسلام بيد البربر حين كان معهم جميع المغرب ثم انتزعها منهم الرّوم والفرنج إلى أن انتهت حال الفتح الإسلاميّ إلى جرجيس (2) ملك الفرنج في جملة ممالك المغرب، ودار ملكه يومئذ سبيطلة (3)، إلى أن فتحت في خلافة عثمان رضي الله عنه على يد عبد الله بن أبي (4) سرح، وتوالت عليها نوّاب الخلفاء، وصارت دار المملكة بها القيروان حتّى صارت منهم إلى [بني الأغلب] (5) ثم إلى العبيديين بني عبيد الله المهديّ ثم الموحّدين أصحاب المهديّ بن تومرت، وهي بأيديهم إلى الآن، وهي مستقرّة الآن بيد الحفصيّين منهم، وهم يدّعون النسب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فيقولون: أبو حفص عمر بن يحيى بن محمد بن وانّود بن عليّ بن أحمد بن والّال بن إدريس بن خالد بن اليسع بن إلياس بن عمر بن وافتن بن محمد بن نجية بن كعب بن محمد بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. وباعتبار ذلك القائمون بها من بني أبي حفص يدّعون الخلافة، ويدعى القائم منهم في
__________
(1) قال ياقوت: «مدينة النحاس، ويقال لها مدينة الصفر وهي من عجائب الأندلس». وينقل قصة لها يستبعد صحتها. (معجم البلدان: 5/ 80).
(2) في «الحلة السيراء» و «معجم البلدان» و «الروض المعطار» ورد هذا الاسم برسم «جرجير» (بكسر الجيم أحيانا وبضمها أحيانا أخرى) وفي حاشية الصفحة 24من الحلة السيراء: «جرجير هو البطريق جريجوريوس الذي كان قد استبد بأمر أفريقية بعد موت الأمبراطور هرقل وقبيل فتح المسلمين للمغرب» وقال ابن الأبار عن ابن عبد الحكم: «كان سلطان جرجير من طرابلس إلى طنجة». (معجم البلدان: 3/ 187والروض المعطار: 13والحلة السيراء:
1/ 2414).
(3) قال ياقوت: بطاء مكسورة. مدينة من مدن أفريقية بينها وبين القيروان سبعون ميلا.
(4) في الروض المعطار والحلة السيراء: «عبد الله بن سعد بن أبي سرح» والذي قتل جرجير في تلك الواقعة هو عبد الله بن الزبير الذي كان بصحبة ابن أبي سرج. (انظر أيضا: فتوح البلدان: 317وما بعدها).
(5) بياض في الأصل والزيادة مما تقدم في الجزء الخامس ص: 22.(7/404)
بلاده بأمير المؤمنين، وربّما كاتبه بها بعض ملوك المغرب. قال في «التعريف»: ومن أهل النسب من ينكر ذلك، ويجعلهم تارة بنسب إلى عديّ بن كعب: رهط عمر بن الخطاب دون بني عمر. ومنهم من ينسبهم إلى هنتاتة (1) من قبائل البربر بالمغرب، وهي قبيلة عظيمة مشهورة.
وهي الآن (إلى حدود الثمانمائة) بيد السلطان أبي فارس عزّوز وقد دوّخ البلاد وأظهر العدل ورفع منار الإسلام. وقد ذكر في «التعريف» أنّ السلطان بها في زمانه كان المتوكّل على الله أبو يحيى أبو بكر.
ورسم المكاتبة إليه فيما ذكره في «التعريف» أن يكتب بعد البسملة. «أما بعد حمد الله» بخطبة مختصرة في مقتضى الحال، ثم يقول فهذه المفاوضة، أو النجوى، أو المذاكرة، أو المطارحة، أو ما يجري مجرى ذلك، تهدي من طيب السلام (ومن هذا ومثله) إلى الحضرة الشريفة، العليّة، السنية، السريّة، العالميّة، العادليّة، الكامليّة، الأوحدية، حضرة الإمارة العدويّة، ومكان الإمامة القرشيّة، وبقية السّلالة الطاهرة الزكيّة، حضرة أمير المسلمين، وزعيم الموحّدين، والقائم في مصالح الدنيا والدين، السلطان السيّد الكبير، المجاهد، المؤيّد، المرابط، المثاغر، المظفّر المنصور، المتوكّل على ربه، والمجاهد في حبّه، والمناضل عن الإسلام بذبّه، فلان ويدعى له بما يناسب مختصرا، ثم يذكر ما يليق بكرم الجدود.
صدر آخر من «التعريف» أيضا:
__________
(1) قال القلقشندي في نهاية الأرب: «هنتاتة بطن من مصمودة من البربر، منهم أبو حفص أحد أصحاب المهدي بن تومرت الذي من ذريته بقايا الموحدين ملوك أفريقية الآن». وقال ابن خلدون في سكان الإقليم الثالث: «وفي هذه الناحية أمم من البربر لا يحصيهم إلا خالقهم ومنهم المصامدة ثم هنتاتة ثم تينملك ثم كدميوة ثم مسكورة ثم قبائل صنهاكة وهم صنهاجة». (نهاية الأرب: 389ومقدمة ابن خلدون: 102).(7/405)
صدرت إليه تهدي إليه من طيب السلام ما ترقّ في جانبه الغربيّ أصائله، ويروق فيما ينصبّ لديه من أنهار النّهار جداوله، ويحمله لكلّ غاد ورائح، وتجري به السّفن كالمدن والركائب الطّلائح (1) وتخصّ ذلك المقرّ منه بثناء يعزّ لأن ينيب لبعده الدار، ويستطلع ليل العراق به من فرق أفريقيّة النهار وتحامي مصر عن جارتها الممنّعة، وتفخر بجاريتها الشمس التي لا ترى في أفقها إلا مبرقعة.
ولم يذكر في «التعريف» قطع الورق، ولا العنوان، والخاتمة، والعلامة، وما في معنى ذلك. والذي ذكره في «التثقيف» أنّ رسم المكاتبة إليه في قطع بحيث يكون تحتها سواء في الجانب الأيمن من غير بياض ما مثاله «عبد الله ووليّه» ثم يخلّى مقدار بيت العلامة ثم تكتب الألقاب الشريفة من أوّل السطر مسامتا للبسملة. وهي «السلطان، الأعظم، المالك، الملك، الفلانيّ، السيد، الأجلّ، العالم، العادل، المؤيّد، المجاهد، المرابط، المثاغر، المظفّر، الشاهنشاه وهذه تختصر غالبا ناصر الدّنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، وارث الملك، سلطان العرب والعجم والتّرك فاتح الأقطار، مانح الممالك والأقاليم والأمصار، إسكندر الزّمان، مولي الإحسان، جامع كلمة الإيمان، مملّك أصحاب المنابر والتّخوت والتّيجان، ملك البحرين، مسلّك سبيل القبلتين، خادم الحرمين الشريفين، ظلّ الله في أرضه، القائم بسنّته وفرضه سلطان البسيطة، مؤمّن الأرض المحيطة سيد الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين، أبو فلان فلان، ابن الملك الفلاني فلان الدين والدنيا» ويرفع في نسبه إلى منتهاه «خلّد الله سلطانه، ونصر جيوشه وأعوانه. ويجتهد أن يكون «وأعوانه» آخر السطر أو قريبا
__________
(1) الطلائح: المهزولة المجهودة من السير.(7/406)
من آخره. قال: والواجب بدل وليّ أمير المؤمنين قسيم أمير المؤمنين ثم يقول:
يخصّ الحضرة العالية، السّنيّة، الشّريفة، الميمونة، المنصورة، المصونة حضرة الأمير العالم، العادل، العابد، المؤيّد، الأوحد، فلان ذخر الإسلام والمسلمين، عدّة الدنيا والدّين، ناصر الغزاة والمجاهدين، سيف جماعة الشاكرين، صلاح الدول، والدعاء بإهداء السلام والشكر. ثم بعد حمد الله بخطبة مختصرة جدّا، فإنا نوضّح لعلمه الكريم وتعريفه «صاحب تونس».
قلت: وخطابه بالإخاء.
وهذه نسخة كتاب كتب بها عن الظاهر «برقوق» (1) من إنشاء علاء الدين، وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم:
من عبد الله ووليّه.
السلطان الأعظم المالك، الملك الظاهر، الأجلّ العالم العادل، المجاهد المرابط، المثاغر المؤيّد، المظفّر، سيف الدّنيا والدّين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، قامع الخوارج والمتمرّدين وارث الملك، ملك ملوك العرب والعجم والتّرك، مبيد الطّغاة والبغاة والكفّار، مملّك الممالك والأقاليم والأمصار، إسكندر الزمان، ناشر لواء العدل والإحسان، مليك أصحاب المنابر والأسرّة والتّخوت والتّيجان، مالك البحرين، صاحب سبل القبلتين، خادم الحرمين الشريفين، ظلّ الله في أرضه، القائم بسنّته وفرضه، سلطان البسيطة، مؤمّن الأرض المحيطة، سيد الملوك والسلاطين، قسيم أمير المؤمنين «أبي سعيد برقوق» خلد الله سلطانه، ونصر جنوده وأعوانه، وأفاض على العباد والبلاد جوده وإحسانه تحية تتأرّج نفحا، وتتبلّج صبحا، وتطوي بعرفها نشر الخزامى، وتعيد ميّت الأشواق حيّا إذا ما
__________
(1) هو برقوق بن أنص أو أنس العثماني، أبو سعيد، الملك الظاهر: أول من ملك مصر من الجراكسة توفي سنة 801هـ. (الأعلام 2/ 48).(7/407)
تخصّ الحضرة العلية، السنيّة السريّة، المظفّرة الميمونة، المنصورة المصونة حضرة الأمير العالم، العادل، المجاهد، المؤيّد، الأوحد، ذخر الإسلام والمسلمين، عدّة الدنيا والدين، قدوة الموحّدين، ناصر الغزاة والمجاهدين، سيف جماعة الشاكرين، صلاح الدول، المتوكّل على الله أحمد، ابن مولانا الأمير أبي عبد الله محمد، ابن مولانا أمير المؤمنين أبي يحيى أبي بكر، ابن الأمراء الراشدين، أعزّ الله دولته وأذلّ عداته، وأنجز من صعود أوليائه وسعود آلائه صادق عداته.
بعد حمد الله جامع الشمل بعد تفريقه، راتق خلل الملك عند تمزيقه، والشهادة بأن لا إله إلّا هو مبيد الباطل بحقّ سرّه وسرّ تحقيقه والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله موضّح سبيل التوكّل على الله وطريقه. وإهداء سلام ما الزّهر بأعبق من فتيقه (1)، وثناء ما الروض بأعطر من خلوقه فإننا نوضّح لعلمه الكريم أنّ كتابه الكريم ورد ورود السّنة على الجفن الساهر، أو المزنة على الروض الزّاهر أو الزّلال على الأوام (2) أو البرء على السّقام فمددنا إليه يد القبول، وارتحنا له ارتياح الشمائل إلى الشّمول (3)، وملنا إلى مفاكهته ميل الغصون إلى الرّياح، وامتزجنا بمصافاته امتزاج الماء بالراح وفضضنا ختامه عن فضّيّ كلامه، وذهبنا إلى ذهبيّ نثاره ونظامه وتأمّلناه تأمّلا كلّ نظر عبده وخادمه، ووقفنا عليه وقوف شحيح ضاع في التّرب خاتمه ونظمنا جواهر اعتباره في قلائد الأفكار، وصبونا إلى اختباره كما صبت النفوس إلى الادّكار وفتحنا له جهد الطاقة بابا من المحبة لم يغلق، ونقسم بمن خلق الإنسان من علق أنّها بغير قلوبنا لم تعلق فإذا سطوره جنود مصطفّة، أو قيان بها الحسان محتفّة وإذا رقمه طراز حلّة، أو عقد شدّه البنان وحلّه وإذا لفظه قد رقّ وراق، ومرّ بالأسماع فملأ
__________
(1) الفتيق: الصبح المشرق. وهو أيضا الفصيح الحادّ اللسان.
(2) الأوام، بهمزة مضمونة: شدة العطش.
(3) الشمول: ريح الشمال، والخمر.(7/408)
بحلاوته الأوراق وإذا معناه ألطف من النّسيم الساري، وأعذب مذاقا من الماء الجاري وإذا سجعه يفوق سجع الحمائم، ويزري بالرّوض الضاحك لبكاء الغمائم وإذا سلامه قد حيّته الأزاهر، وطوى بعرفه نشر الروض الزّاهر وإذا هناؤه قد ملك عنان التّهاني، واستمطر عنان الأمان من سماء الأماني فعبّر لنا لفظ عبيره عن معنى المحبّة، وقرّب شاسع الذّكر وإن بعد المدى بين الأحبّة وأقام شاهد الإخاء على دعوى الإخلاص فقبلناه، ونادى مطيع المودّة فاستجبنا له ولبّيناه سقيا له من كتاب غذّي بلبان الفصاحة، وجرى جواد التماحه من مضمار الملاحة لا عيب فيه، سوى بلاغة فيه، ولا نقص يعتريه، سوى كمال باريه لعمري لقد فاق الأواخر والأوائل، فما أجدر كلامه بقول القائل:
وكلام كدمع صبّ غريب ... رقّ حتّى الهواء يكثف عنده!
راق لفظا ورقّ معنى فأضحى ... كلّ سحر من البلاغة عبده!
لله درّه من كتاب حلب درّ الأفراح، وجدّد من أثواب المسرّة ما كان قد أخلقته يد الأتراح فهمنا معناه فهمنا، وشرحنا متن فحواه فانشرحنا وعلمنا ما اتّصل بسماعكم من خبرنا العجيب، وحديث أمرنا القديم الغريب، الذي أظهر فينا لله أسرارا، وكتب لنا منه عناية كبت بها أشرارا جلّ جلاله خافض رافع، معل بحكمته واضع سبحانه أوجد بعد العدم وأنسى ثم أنشأ، قل اللهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشا كسر وجبر، وقرن المبتدأ بالخبر وهب ما كان سلب، وجعل لصبرنا حسن المنقلب أعادنا إلى الملك مع كثرة الأعداء وقلّة الأنصار، وأظهرنا بعد الخفاء فاعتبروا يا أولي الأبصار وأبرز إبريزنا بعد السّبك خالصا يروق الناظر، ويفوق برونقه وجه الروض الناضر فاعلموا أنّ لله في ذلك سرّا خفيّا، لم يزل ببركة رسوله صلّى الله عليه وسلّم بنا حفيّا قمتم لنا فيه بواجب الهنا، وأحاط بنا طولكم الطويل من هاهنا وهاهنا فاستجلينا من كتابكم عرائس بشراه، وحمدنا عند صباح طرسه ليل مسراه وشكرنا له هذه الأيادي التي تقصر عنها الأيدي المتطاولة، وثنينا إليكم عنان الثناء الذي فاق بمخايله الروض الأريض وخمائله.
ولمّا تمثل إلينا رسولكم المكرّم، وصاحبكم الكامل المعظّم، ذو الأصل الطاهر، والنسب الباهر والرأي السّديد، والبأس الشديد، فلان: لا زال عليّ مقامه حسنا، وجفن علمه لا يبعث الجهل عليه وسنا فأبدى إلينا ما في وطابه، وأثلج الصّدور بحكمة فضله وفصل خطابه، وأخذ يجاذبنا عنكم أطراف الأحاديث الطيّبة، ويرسل علينا من سماء محبّتكم مزنها الصّيّبة وأطربنا بسماع أخباركم، ونصر أعوانكم وأنصاركم ونبّه على ما أودعه كتابكم، وتضمّنه من النّصرة خطابكم ودوس جنودكم جزيرة «غودش» وعودهم بالمنّ والمنح، وتلاوتهم عند الانتصار {إِذََا جََاءَ نَصْرُ اللََّهِ وَالْفَتْحُ} (1) وقفولهم متفيّئين من الجهاد بظلّه، فرحين بما آتاهم الله من فضله، بعد أن نعقت منهم على الكفّار الغربان، واقتنصت الرجال آجالهم اقتناص العقبان، وجاءتهم كالجبال الرّواسي، وظفرت بهم أظافير الرّماة ومخالب المراسي، وغنّت عليهم أوتار القسيّ فأرقصت رؤوسهم على الضّرب، وسقتهم كؤوس الرّدى مترعة ونعم هذا الشّرب لأولئك الشّرب، وأعادت المسلمين بالغنائم إلى الأوطان بعد نيل الأوطار، وبشّرت الخواطر بما أقرّ العيون من النّجاح والنّجاة من الأخطار هذا والعدوّ الملقي السّلم (2) عند الجهاد، جيء بهم مقرّنين في الأصفاد يا لها غزاة أشرق نورها كالغزالة، وأشرق يوم إسلامها على ليل الكفر فأزاله، وتولّد منها الجهاد فلا يرى بعدها إن شاء الله عقيما، وتلا لسان الشّوق إليه {يََا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} (3). لا زالت رقاب الأعداء لأسيافكم قرابا، وغزواتكم الصالحة تنيلكم من الله أجرا وثوابا.(7/409)
وكلام كدمع صبّ غريب ... رقّ حتّى الهواء يكثف عنده!
راق لفظا ورقّ معنى فأضحى ... كلّ سحر من البلاغة عبده!
لله درّه من كتاب حلب درّ الأفراح، وجدّد من أثواب المسرّة ما كان قد أخلقته يد الأتراح فهمنا معناه فهمنا، وشرحنا متن فحواه فانشرحنا وعلمنا ما اتّصل بسماعكم من خبرنا العجيب، وحديث أمرنا القديم الغريب، الذي أظهر فينا لله أسرارا، وكتب لنا منه عناية كبت بها أشرارا جلّ جلاله خافض رافع، معل بحكمته واضع سبحانه أوجد بعد العدم وأنسى ثم أنشأ، قل اللهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشا كسر وجبر، وقرن المبتدأ بالخبر وهب ما كان سلب، وجعل لصبرنا حسن المنقلب أعادنا إلى الملك مع كثرة الأعداء وقلّة الأنصار، وأظهرنا بعد الخفاء فاعتبروا يا أولي الأبصار وأبرز إبريزنا بعد السّبك خالصا يروق الناظر، ويفوق برونقه وجه الروض الناضر فاعلموا أنّ لله في ذلك سرّا خفيّا، لم يزل ببركة رسوله صلّى الله عليه وسلّم بنا حفيّا قمتم لنا فيه بواجب الهنا، وأحاط بنا طولكم الطويل من هاهنا وهاهنا فاستجلينا من كتابكم عرائس بشراه، وحمدنا عند صباح طرسه ليل مسراه وشكرنا له هذه الأيادي التي تقصر عنها الأيدي المتطاولة، وثنينا إليكم عنان الثناء الذي فاق بمخايله الروض الأريض وخمائله.
ولمّا تمثل إلينا رسولكم المكرّم، وصاحبكم الكامل المعظّم، ذو الأصل الطاهر، والنسب الباهر والرأي السّديد، والبأس الشديد، فلان: لا زال عليّ مقامه حسنا، وجفن علمه لا يبعث الجهل عليه وسنا فأبدى إلينا ما في وطابه، وأثلج الصّدور بحكمة فضله وفصل خطابه، وأخذ يجاذبنا عنكم أطراف الأحاديث الطيّبة، ويرسل علينا من سماء محبّتكم مزنها الصّيّبة وأطربنا بسماع أخباركم، ونصر أعوانكم وأنصاركم ونبّه على ما أودعه كتابكم، وتضمّنه من النّصرة خطابكم ودوس جنودكم جزيرة «غودش» وعودهم بالمنّ والمنح، وتلاوتهم عند الانتصار {إِذََا جََاءَ نَصْرُ اللََّهِ وَالْفَتْحُ} (1) وقفولهم متفيّئين من الجهاد بظلّه، فرحين بما آتاهم الله من فضله، بعد أن نعقت منهم على الكفّار الغربان، واقتنصت الرجال آجالهم اقتناص العقبان، وجاءتهم كالجبال الرّواسي، وظفرت بهم أظافير الرّماة ومخالب المراسي، وغنّت عليهم أوتار القسيّ فأرقصت رؤوسهم على الضّرب، وسقتهم كؤوس الرّدى مترعة ونعم هذا الشّرب لأولئك الشّرب، وأعادت المسلمين بالغنائم إلى الأوطان بعد نيل الأوطار، وبشّرت الخواطر بما أقرّ العيون من النّجاح والنّجاة من الأخطار هذا والعدوّ الملقي السّلم (2) عند الجهاد، جيء بهم مقرّنين في الأصفاد يا لها غزاة أشرق نورها كالغزالة، وأشرق يوم إسلامها على ليل الكفر فأزاله، وتولّد منها الجهاد فلا يرى بعدها إن شاء الله عقيما، وتلا لسان الشّوق إليه {يََا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} (3). لا زالت رقاب الأعداء لأسيافكم قرابا، وغزواتكم الصالحة تنيلكم من الله أجرا وثوابا.
ولما عرضت علينا من جودكم عند العشيّ الصافنات الجياد، وحلّينا منها بقلائد منّها الأجياد، نقسم لقد حيّرتنا، ألوانها إذ خيّرتنا.
__________
(1) النصر / 1.
(2) السلّم: الاستسلام، والتسليم، والأسر من غير حرب.
(3) النساء / 73.(7/410)
فمن أشهب كأنّ الشّهب له قنيصه (1)، أو الصّباح ألبسه قميصه أو كأنما قلب من اللّجين في قالب البياض، وسقي سواد أحداقه أقداح الرّباحة من غير حياض.
ومن أدهم كأن النّقس (2) لمسه (3) في مداده، أو الطرف أمدّ طرفه بسواده أو كأنما تقمّص إهاب الليل، لمّا طلع عليه فجر غرّته فولّى مشمّر الذيل.
ومن احمر كأنما صيغ من الذهب، أو كوّن من النار واللهب أو كأنّ الشّفق ألقى عليه قميصه ثم أشفق، أو الشّقيق أجرى عليه دمعه دما وجيبه شقّق.
ومن أشقر كأنما ألبس ثوب الأصيل، وبشّر السريّة يمن طلعته بالنصر والتحصيل أو كأنّ النّضار (4) كساه حلّة العشّاق، وقد ادّرعوا بأسواق المحبّة مطارف الأشواق.
ومن أخضر كأنما تلّفّع من الروض الأريض بأوراقه، أو صبغ بالعذار المخضرّ وقد شقّت عليه مرائر عشّاقه أو كأنّما الزّمرّد تلوينه، أو من شارب الشادن تكوينه كلّ بطرف منها يسبق الطّرف، ويروق الناظر بالحسن الناضر والظّرف تقام به حجّة الإعراض وهو باعتراف ممتطية قادرملي، وينصب إلى الإدراك حسن السير كجلمود صخر حطّة السّيل من علي فأسرجنا (5) لها جود القبول، وامتطينا منها صهوة كلّ مأمول وأعددناها مراكب للمواكب، ولليل المهمّات الواقعة بدورا وكواكب وأطلقنا أعنّة شكرها في ميادين المحامد، وطفقنا نرجّع ذكرها بين شاكر وحامد.
__________
(1) القنيص والقنيصة: الصائد. وهي المصيد أيضا.
(2) النّقس: المداد.
(3) لعله: «غمسه».
(4) النضار: الذهب. والخالص من كل شيء.
(5) الظاهر أن هذا هو جواب «لما عرضت» وقد قرن بالفاء وهو جائز.(7/411)
مكاتبة وزير تونس رأيت في الدستور المنسوب للمقرّ العلائيّ بن فضل الله أنه كتب إلى أبي عبد الله بن بعلاص.
صدرت هذه المكاتبة إلى (1) الشّيخيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، الأوحديّ، الأكمليّ، الأرشدي، الأمجديّ، الأثيريّ، البليغيّ، الفلاني، مجد الإسلام، بهاء الأنام، شرف الفضلاء، زين العلماء، نجل الأكابر، أوحد الأعيان، بركة الدّولة، صفوة الملوك والسلاطين (ويدعى له بما يناسبه). وتوضّح لعلمه المبارك كيت وكيت ولم يذكر قطع الورق ولا العلامة ولا التعريف. والذي يظهر أنّ قطع الورق العادة، والعلامة «أخوه». والتعريف «وزير تونس».
الجملة الثانية (في مكاتبة صاحب الغرب الأوسط، وهو صاحب تلمسان)
وقد تقدّم في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك الكلام على هذه المملكة ومن ملكها جاهليّة وإسلاما وهي الآن بيد بني عبد الواد من زناتة من قبائل البربر والقائم بها الآن منهم إلى حدود الثمانمائة من الهجرة هو السلطان أبو زيّان (2)، ابن السلطان أبي حمو: موسى بن يوسف، بن عبد الرحمن، بن يحيى، ابن يغمراسن، بن زيّان، بن ثابت، بن محمد، بن ركدار (3)، بن
__________
(1) بياض في الأصل. ولعله «إلى المجلس الشيخي».
(2) هو محمد بن موسى (أبي حمو) بن يوسف الزيّاني: من سلاطين تلمسان المعروفين ببني عبد الواد. كان من أتباع السلطان عثمان المريني بفاس. وأرسله المريني بجيش لإخراج أخيه عبد الله بن موسى من تلمسان. قال ابن الأحمر في روضة النسرين: فدخلها بسيوف بني مرين في ذى القعدة سنة 804هو هو إلى الآن أى 21ربيع الأول 807هو هو تاريخ تأليف كتابه ملك بها يعطي الخراج للمولى السلطان عثمان المريني. (الأعلام: 7/ 118).
(3) في تاريخ ابن خلدون: 7/ 75 «زكراز».(7/412)
تيدوكس، بن طاع الله، بن عليّ، بن القاسم، بن عبد الواد.
قلت: وذكر هذه المملكة في «مسالك الأبصار» مضافة إلى مملكة فاس:
لانضمامها حينئذ إليها في مملكة السلطان أبي الحسن المرينيّ: صاحب فاس في زمانه، ولذلك لم يذكر لصاحبها مكاتبة في «التعريف». على أنّي رأيت من صاحبها موسى بن يغمراسن مكاتبة إلى الناصر «محمد بن قلاوون» صاحب مصر. وسيأتي إيرادها في جملة المكاتبات الواردة إلى هذه المملكة. وذكر صاحب «التثقيف» أن صاحبها في زمانه في الدولة الأشرفية «شعبان بن حسين» أي سلطانها يومئذ أبو حفص عمر بن أبي عمران موسى، وأن المكاتبة إليه مثل المكاتبة إلى صاحب تونس المقدّم ذكره على السواء. وذكر أنه كتب ذلك إليه ورأى جماعة كتّاب الإنشاء يكتبونه، وكذلك رأيته في الدّستور المنسوب إلى المقرّ العلائي بن فضل الله، ولم أظفر بصورة مكاتبة فأذكرها.
الجملة الثالثة (في المكاتبة إلى صاحب الغرب الأقصى)
وهو صاحب فاس، وتعرف مملكته ببرّ العدوة. وقد تقدّم الكلام على مملكتها وأحوالها ومن ملكها جاهليّة وإسلاما في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك، وأنها الآن بيد بني عبد الحق من بني مرين من زناتة من قبائل البربر، وأنها الآن بيد السلطان أبي فارس عثمان، ابن السلطان أبي العبّاس أحمد، ابن السلطان أبي سالم إبراهيم، ابن السلطان أبي الحسن عليّ، ابن السلطان أبي سعيد عثمان، ابن السلطان أبي يوسف يعقوب، بن عبد الحق، بن محيو، بن أبي بكر، بن حمامة، بن محمد، بن ورصيص (1)، بن فكّوس، بن كوماط، بن مرين، بن ورتاجن، بن ماخوخ، بن وحريج (2)، بن قاتن، بن
__________
(1) في الجزء الخامس من هذا الكتاب ص 144 «ورزيز».
(2) تقدم «جديج».(7/413)
بدر، بن نجفت، بن عبد الله، بن ورتبيص، بن المعز، بن إبراهيم، بن رجيك، بن واشين، بن بصلتن، بن شرا (1)، بن أكيا، بن ورشيك، بن أديدت، بن جانا، وهو زناتة.
وقد ذكر في «التعريف» أن السلطنة فيهم في زمانه في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» صاحب مصر كانت في السلطان أبي الحسن عليّ بن عثمان المقدّم ذكره. ثم قال: وورث هذا السلطان ملك العزفيين بسبتة، وملك بنى عبد الواد بتلمسان، وأطاعه ملك الأندلس، ودان له ملك أفريقيّة، وعرض عليه ابنته فتزوّجها، فساقها إليه سوق الأمة. ثم قال: وبنو مرين رجال الوغى وناسها، وأبطال الحرب وأحلاسها (2) وهم يفخرون بغزارة علمه وفضل تقواه.
قال: وهو اليوم ملك ملوك الغرب، وموقد نار الحرب.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف» بعد البسملة:
من السلطان الأعظم الملك الفلانيّ، إلى آخر الألقاب المذكورة في المكاتبة لصاحب تونس، إلى قوله ونصر جيوشه وجنوده وأعوانه. ثم يقول: تحيّة بفتتح بها الخطاب، ويقدّم منها ما زكا وطاب وتقال هنا سجعات مختصرة نحو أربع أو خمس، يخصّ بها الحضرة الشريفة العلية، الطاهرة الزكيّة، حضرة المقام العالي، السلطان، السيد، الأجلّ، العالم، العادل، المجاهد، المرابط، المثاغر، المؤيّد، المظفّر، المنصور، الأسرى، الأسنى، الزّكيّ، الأتقى، [المجاهد في الله] (3) المؤيّد على أعداء الله أمير المسلمين، قائد الموحّدين، مجهّز الغزاة والمجاهدين، مجنّد الجنود، عاقد البنود، ماليء صدور البراري والبحار، مزعزع أسرّة الكفّار، مؤيّد السنة، معزّ الملة، شرف الملوك والسلاطين، بقيّة السّلف الكريم، والحسب الصّميم، ربيب الملك القديم، أبي
__________
(1) تقدم «ورمشد».
(2) أحلاسها: الذين لا يفارقونها. يقال: هو حلس بيته: لا يبرحه.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية نقلا عن التعريف.(7/414)
فلان فلان بن فلان. ويرفع نسبه إلى عبد الحق وهو أوّل نسبه. ويقال في كل منهم: أمير المسلمين أبي فلان فلان ثم يدعى له: نحو أعز الله أنصاره أو سلطانه وغير ذلك من الأدعية الملوكية بدعاء مطوّل مفخّم. ثم يقال: أما بعد حمد الله، ويخطب خطبة مختصرة. ثم يقال: أصدرت إليه، وسيّرت لتعرض عليه، لتهدي إليه من السلام كذا وكذا. ثم يقال: ومما تبديه كذا وكذا.
صدر: يليق بهذه المكاتبة تهدي إليه من السلام ما يطلع عليه نهاره المشرق من مشرقه، ويحييه به الهلال الطالع من جانبه الغربيّ على أفقه وتصف شوقا أقام بين جفنيه والكرى الحرب، وودادا يملأ برسله كلّ بحر ويأتي بكل ضرب، وثناء يستروح بنسيمه وإن كان لا يستروح إلا بما يهبّ من الغرب مقدّمة شكرا لما يبهر من عزماته التي أعزّت الدين، وغزت الملحدين وحلّقت على من جاورها من الكفّار [تحليق] (1) صقور الرجال على مسفّة الغربان، وتقيم عند الشجاع عذر الجبان وتبيّن آثارها في أعناق الأعداء وللسّيوف آثار بيان وإن كان فعله أكثر مما طارت به الأخبار، وطافت به مخلّقات البشائر في الأقطار وسار به الحجيج تعرف آثاره عرفات، وصارت تستعلم أخباره وتندب قبل زمانه ما فات.
والذي ذكره في «التثقيف» أنه كان السلطان في زمانه في الدولة الأشرفية «شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون» عبد العزيز بن أبي الحسن عليّ المقدّم ذكره وذكر أنّ المكاتبة إليه في قطع النّصف، وأنه يكتب تحت البسملة في الجانب الأيمن من غير بياض ما مثاله «عبد الله ووليّه» ثم يخلّى بيت العلامة ثم تكتب الألقاب السلطانية في أوّل السطر مسامتا للبسملة «السلطان الأعظم الملك الفلاني» إلى آخر الألقاب السلطانية المذكورة في المكاتبة إلى صاحب تونس، إلى قوله: ونصر جيوشه وأعوانه. ثم يقول: تخصّ المقام العالي، السلطان، الملك، الأجلّ، الكبير، المجاهد، المعاضد، المرابط، المثاغر، المكرّم،
__________
(1) الزيادة لانتظام الكلام.(7/415)
المعظّم، المظفّر، الموقّر، المؤيّد، المسدّد، الأسعد، الأصعد، الأرشد، الأنجد، الأوحد، الأمجد، البهيّ، الزّكيّ، السّنيّ، السّريّ، فلان، أمير المسلمين ابن أبي فلان فلان، إلى عبد الحق المريني. والدعاء بما يناسب ذلك المقام ثم أمّا بعد حمد الله، بخطبة لطيفة، فإنا نفاوض علمه الكريم ونحو ذلك. وأكثر مخاطبته بالإخاء وتختم بالدعاء، والعلامة «أخوه» وتعريفه «ملك الغرب». وفي الدستور العلائيّ أنّ الطلب منه بالمستمدّ، ويختم باستعراض الحوائج والخدم مكمّلا بالدعاء.
وهذه نسخة كتاب من الملك الناصر «محمد بن قلاوون» إلى السلطان أبي الحسن المرينيّ، في جواب كتاب ورد عليه منه وهي:
عبد الله ووليّه، السلطان الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، مؤمّن أولياء الله المؤمنين، ظلّ الله الممدود، وميسّر السّبل للوفود، حامي القبلتين بحسامه من أهل الجحود، وخادم الحرمين الشريفين متّبعا للسنة الإبراهيمية في تطهير بيت الله للطائفين والعاكفين والرّكّع السّجود، والقائم بمصالح أشرف روضة وطيّبة يعطّر طيبها في الوجود وليّ أمير المؤمنين جمع الله به كلمة الإسلام بعد الافتراق، وقمع برعبه أهل العناد والشّقاق وأوزعه شكر نعم الله التي ألّفت على ولائه قلوب ملوك الآفاق، وأمتعه بها منحة صيّرت له الملك بالإرث والاستحقاق، وسيّرت كواكب مناقبه فلها بالمغارب إضاءة وبالمشارق إشراق. ابن السلطان السعيد الشهيد الملك المنصور، سيف الدنيا والدين، سقى الله عهده عهاد الرحمة ذوات إغراق، وأبقى مجده بمحمّده الذي للأمة المحمدية على تعظيمه إجماع وعلى تقديمه اتّفاق يخصّ المقام العالى، الملك الأجلّ الكبير، المجير، العاضد، المثاغر، المظاهر، الفائز، الحائز، المنصور، المأثور، الفاتح، الصّالح، الأمكن، الأصون، الأشرف، الأعرف، الكريم، المعظّم، أبا الحسن عليّا أمير المسلمين، ابن السلطان السعيد، الحميد، الطاهر، الفاخر، الماهد، الزاهد، الأورع، الأروع، أمير المسلمين، أبي سعيد عثمان، ابن السلطان، السعيد، الرّشيد،
السابق، الوامق، الجامع، الصادع، أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، ناظم مفرّق الفخار، وهازم فرق الفجّار، والملازم لإحياء سنّة الجهاد المتروكة في الأقطار، حتّى يجمع في ملكه أطراف الغرب الأقصى للاستيلاء والاستظهار، ويخضع لفتكه كلّ متكبّر جبّار، ويرصّع في سلكه ما تأبّى وصعب من تلك الديار، ويرفع لنسكه أعمالا من الجهاد والاجتهاد تسرّ الحفظة الأبرار، يظهر فيها لبركة الاسم العلويّ من نشر الهدى، وقهر العداء، أوضح الأدلّة وأبين الآثار، ويؤثر سلطاننا المحمديّ من عليّ عزمه، وحميّ حزمه، بأعزّ الأعوان والأنصار، فتظفر دار الإسلام من قومه بمهاجرين من أبناء البلاد يقرّ لهم بأمّ القرى قرار، ويسير سواهم للبيت ذي الحجر والحجر (1) والباب والميزاب والملتزم والجدار والأستار، بسلام مشرق الغرر، مونق الحبر، وثناء مع ريّاه لا يعبأ بالعبير مع نشره ولا يعتبر، ووداد مخفيّ الخبر، واعتداد يطول منه ألسنة الشكر عن إحصائه واستقصائه قصر، وإيراد لمفاخره التي سارت بها الأخبار والسّير، واعتقاد لمآثره التي سبق عثمانها إلى إحراز مزايا الفضل وجاء عليّها على الأثر.(7/416)
عبد الله ووليّه، السلطان الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، مؤمّن أولياء الله المؤمنين، ظلّ الله الممدود، وميسّر السّبل للوفود، حامي القبلتين بحسامه من أهل الجحود، وخادم الحرمين الشريفين متّبعا للسنة الإبراهيمية في تطهير بيت الله للطائفين والعاكفين والرّكّع السّجود، والقائم بمصالح أشرف روضة وطيّبة يعطّر طيبها في الوجود وليّ أمير المؤمنين جمع الله به كلمة الإسلام بعد الافتراق، وقمع برعبه أهل العناد والشّقاق وأوزعه شكر نعم الله التي ألّفت على ولائه قلوب ملوك الآفاق، وأمتعه بها منحة صيّرت له الملك بالإرث والاستحقاق، وسيّرت كواكب مناقبه فلها بالمغارب إضاءة وبالمشارق إشراق. ابن السلطان السعيد الشهيد الملك المنصور، سيف الدنيا والدين، سقى الله عهده عهاد الرحمة ذوات إغراق، وأبقى مجده بمحمّده الذي للأمة المحمدية على تعظيمه إجماع وعلى تقديمه اتّفاق يخصّ المقام العالى، الملك الأجلّ الكبير، المجير، العاضد، المثاغر، المظاهر، الفائز، الحائز، المنصور، المأثور، الفاتح، الصّالح، الأمكن، الأصون، الأشرف، الأعرف، الكريم، المعظّم، أبا الحسن عليّا أمير المسلمين، ابن السلطان السعيد، الحميد، الطاهر، الفاخر، الماهد، الزاهد، الأورع، الأروع، أمير المسلمين، أبي سعيد عثمان، ابن السلطان، السعيد، الرّشيد،
السابق، الوامق، الجامع، الصادع، أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، ناظم مفرّق الفخار، وهازم فرق الفجّار، والملازم لإحياء سنّة الجهاد المتروكة في الأقطار، حتّى يجمع في ملكه أطراف الغرب الأقصى للاستيلاء والاستظهار، ويخضع لفتكه كلّ متكبّر جبّار، ويرصّع في سلكه ما تأبّى وصعب من تلك الديار، ويرفع لنسكه أعمالا من الجهاد والاجتهاد تسرّ الحفظة الأبرار، يظهر فيها لبركة الاسم العلويّ من نشر الهدى، وقهر العداء، أوضح الأدلّة وأبين الآثار، ويؤثر سلطاننا المحمديّ من عليّ عزمه، وحميّ حزمه، بأعزّ الأعوان والأنصار، فتظفر دار الإسلام من قومه بمهاجرين من أبناء البلاد يقرّ لهم بأمّ القرى قرار، ويسير سواهم للبيت ذي الحجر والحجر (1) والباب والميزاب والملتزم والجدار والأستار، بسلام مشرق الغرر، مونق الحبر، وثناء مع ريّاه لا يعبأ بالعبير مع نشره ولا يعتبر، ووداد مخفيّ الخبر، واعتداد يطول منه ألسنة الشكر عن إحصائه واستقصائه قصر، وإيراد لمفاخره التي سارت بها الأخبار والسّير، واعتقاد لمآثره التي سبق عثمانها إلى إحراز مزايا الفضل وجاء عليّها على الأثر.
أما بعد حمد الله الذي أمر أولياءه المؤمنين بالمعاونة والمظافرة، ونهى عباده الصالحين عن المباينة والمنافرة، ورعى لحجّاج بيته حرمة القصد وكتب لهم أجر المهاجرة، ودعا إلى حرمه، من أهّله من خدمه، فأجابه بالتلبية وأثابه وآجره.
والشهادة له بالوحدانيّة التي تسعد بمصاحبة المصابرة، وتصعد إلى الدرجات الفاخرة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ذي المناقب الباهرة، والمواهب الزّاخرة، والمراتب التي منها النّبوّة والرسالة في الدنيا والوسيلة والشفاعة في الآخرة، وعلى آله وصحبه الذين أفنى الله الشرك بصوارمهم الحاصدة وأدنى القتل بعزائمهم الحاضرة، صلاة إلى مظانّ الرّضوان متواترة، ما ربحت وفود مكة البركة الوافرة، ووضحت لقاصدي الكعبة البيت الحرام أوجه القبول سافرة.
__________
(1) الحجر: هو الحجر الأسود يلمسه الحجاج عند طوافه. والحجر (بالحاء المكسورة والجيم الساكنة) ما حواه الحطيم، وهو جانب الكعبة من جهة الشمال.(7/417)
فإنه ورد أورد الله تعالى البشرى على سمعه، وأيّد اهتمامه بتأليف شمل السّعد وجمعه من جانبه المكرّم ومعهده وربعه، كتاب كريم نسبه، فخيم أدبه، عليّ منصبه، مليّ إذا أخلف السّحاب بما يهبه، سريّ سرت إلى بيت الله وحرم رسوله القريب قربه، على يد رسوله: الشيخ الأمين الأزكى، الأروع الأتقى الخطيب البليغ، المدرّس، المفيد أبي إسحاق ابن الشيخ الصالح أبي زيد، عبد الرحمن بن أبي يحيى، نفع الله به، وحاجبه الكبير المختار، المرتضى، الأعزّ، أبي زيّان عريف ابن الشيخ المرحوم أبي زكريّا، أيده الله تعالى، وكاتبه الأمجد الأسعد أبي الفضل ابن الفقيه المكرّم أبي عبد الله بن أبي مدين، وفقه الله تعالى وسدّده، ومن معهم من الخاصّة والزعماء والفرسان الماثلين في خدمة الجهة المصونة بلّغها الله أربها، وقبل قربها، الواصلة بركبكم المبارك الرّواح والمغدى، المعان على إكمال فرض الحج المؤدّى، المرحولين بحمد العقبى كما حمد المبدأ ففضضنا ختامه الذّكيّ، وأفضنا في حديث شكره الزّكي، وعرضنا منه بحضرتنا روضا يانع الروض به محكيّ، وحضضنا نوّابنا على إعانة خاصّة وفده وعامتهم على قضاء النّسك بذلك الحرم المكّيّ، وتلمّحنا فصوله الميمونة فإذا هي مقصورات على مثوبات محضة، ورغبات تؤدّي من الحج فرضه، وهبات يعامل بها من يضاعف أجره ويوفّيه قرضه، وقربات يحمد فاعلها يوم قيام الأشهاد نشره وحشره وعرضه.
فأمّا ما ذكره من ورود الكتابين الواصلين إلى حضرته صحبة الشيخين الأجلّين «أبي محمد عبد الله بن صالح، والحاج محمد بن أبي لمحان» وأنه أمضى حكمهما، وأجرى رسمهما، فقد آثرنا للأجر حوزه، واخترنا بالشّكر فوزه، وقصدنا بهما تجديد جلباب الوداد، وتأكيد أسباب الولاء على البعاد وإلا فمع وجود إنصافه الحقوق من غاصبها تستعاد، والوثوق بنصره للمظلوم وقهره للظالم لا يختلف فيه اعتقاد وقد شكرنا لكم ذلك الاحتفال، وآثرنا حمدكم في المحافل والمحال.
وأما ما نعته مما أشرتم إليه مما يتعيّن له التقديم، ويستحقّ توفية حقه من
تكرير التكريم، وهو تجهيز ركبكم المحروس في السّرى والمقام، في خدمة من يقوم مقام الوالدة المرحومة في الاحترام، سقى الله صوب الرحمة صفيحها، ورقّى إلى الغرفات روحها، ومعها وجوه دولتكم الغرّ، وأعيان مملكتكم من سراة بني مرين الذين تبهج مرائيهم وتسر وما نبهتم عليه من ارتفاع شأنهم، واجتماع فرسانهم، واستيداع أمانتنا نفائس أنفسهم وأديانهم، فقد استقبلناهم على بعد بالإكرام، وأحللناهم من القرب في أعلى مقام، وصرفنا إلى تلقائهم وجه الإقبال والاهتمام، وعرّفنا حقّهم أهل الإسلام، ونشرنا لهم بفنائنا الأعلام، ويسّرنا لهم باعتنائنا كلّ مرام، وأمرنا بتسهيل طريقهم، وتوصيل البرّ لفريقهم، وأسدلنا الخلع على جميعهم، واحتفلنا بهم في قدومهم ومقامهم وتشييعهم، وأجزلنا لهم أقسام الإنعام في توجيههم، وكذلك يكون في رجوعهم وعرضوا بين أيدينا ما أصحبتهم من الطّرف والهدايا، التي لا تحملها ظهور البحار فكيف ظهور المطايا، من عقود منظّمة، وبرود مسهّمة (1)، ومطارف معلمه، ولطائف بالإمكان والإتقان معلمه، وصنائع محكمة، وبدائع للأفهام مفحمة، وذخائر معظّمة، وضرائر للشموس في الكون والسّمة، وبواتر تفرّق بين الهام والأجسام والهام ملحمة، وأخاير بمقدار مهديها في الجلال مفهمة، وخيول مسوّمة بالأهلّة مسرجة وبالنّجوم ملجمة، معوّدة نزال الأبطال معلّمة، ذوات صدور مبقورة وأكفال مسلّمة، تسحب من الحرير أذيالا، وتصحب من الوشي سربالا، وتميس بحللها وحلاها عجبا واختيالا، ويقيس مشبّهها سرعتها بالبرق فلا يتغالى، عاتيات الأجسام، عاليات كالآكام، لفحولها صهيل يذعر الأسود، ولسنابكها وقع يفطر الجلمود، أتعبت الرّوّاض، وركبت منها صهوة كلّ بحر سابح حيث لجج الموت تخاض وقرنت مرابطها بحماية جواهر النّفوس من الأعراض، وجنيبة (2) تجرّ من ذيولها كل فضّاض وحسبت لاختلاف شياتها (3) كأنها قطع الرّياض: من شهب كأنما ارتدت الأقاح،(7/418)
وأما ما نعته مما أشرتم إليه مما يتعيّن له التقديم، ويستحقّ توفية حقه من
تكرير التكريم، وهو تجهيز ركبكم المحروس في السّرى والمقام، في خدمة من يقوم مقام الوالدة المرحومة في الاحترام، سقى الله صوب الرحمة صفيحها، ورقّى إلى الغرفات روحها، ومعها وجوه دولتكم الغرّ، وأعيان مملكتكم من سراة بني مرين الذين تبهج مرائيهم وتسر وما نبهتم عليه من ارتفاع شأنهم، واجتماع فرسانهم، واستيداع أمانتنا نفائس أنفسهم وأديانهم، فقد استقبلناهم على بعد بالإكرام، وأحللناهم من القرب في أعلى مقام، وصرفنا إلى تلقائهم وجه الإقبال والاهتمام، وعرّفنا حقّهم أهل الإسلام، ونشرنا لهم بفنائنا الأعلام، ويسّرنا لهم باعتنائنا كلّ مرام، وأمرنا بتسهيل طريقهم، وتوصيل البرّ لفريقهم، وأسدلنا الخلع على جميعهم، واحتفلنا بهم في قدومهم ومقامهم وتشييعهم، وأجزلنا لهم أقسام الإنعام في توجيههم، وكذلك يكون في رجوعهم وعرضوا بين أيدينا ما أصحبتهم من الطّرف والهدايا، التي لا تحملها ظهور البحار فكيف ظهور المطايا، من عقود منظّمة، وبرود مسهّمة (1)، ومطارف معلمه، ولطائف بالإمكان والإتقان معلمه، وصنائع محكمة، وبدائع للأفهام مفحمة، وذخائر معظّمة، وضرائر للشموس في الكون والسّمة، وبواتر تفرّق بين الهام والأجسام والهام ملحمة، وأخاير بمقدار مهديها في الجلال مفهمة، وخيول مسوّمة بالأهلّة مسرجة وبالنّجوم ملجمة، معوّدة نزال الأبطال معلّمة، ذوات صدور مبقورة وأكفال مسلّمة، تسحب من الحرير أذيالا، وتصحب من الوشي سربالا، وتميس بحللها وحلاها عجبا واختيالا، ويقيس مشبّهها سرعتها بالبرق فلا يتغالى، عاتيات الأجسام، عاليات كالآكام، لفحولها صهيل يذعر الأسود، ولسنابكها وقع يفطر الجلمود، أتعبت الرّوّاض، وركبت منها صهوة كلّ بحر سابح حيث لجج الموت تخاض وقرنت مرابطها بحماية جواهر النّفوس من الأعراض، وجنيبة (2) تجرّ من ذيولها كل فضّاض وحسبت لاختلاف شياتها (3) كأنها قطع الرّياض: من شهب كأنما ارتدت الأقاح،
__________
(1) سهّم الثوب أو غيره: صوّر فيه سهاما فهو مسهّم.
(2) الجنيبة: الدابة والناقة.
(3) شياتها: ألوانها.(7/419)
أو غدت رافلة في حلل الإصباح ودهم نفضت عليها الليالي صبغها فلا براح، وربما أغفلت من ذلك غرر وأوضاح وكمت كأنّها فتح (1) صلب البطاح، تطير إلى الظّفر بجناح وحمر كأنها خلقت للنّجاح، وأطلقت أعنّتها فقالت ألسنة أسنّتها للطّرائد: لا براح وخضر كأنها البزاة الموشّاة الوشاح، أو مشيب في الشّباب قد لاح وشقر تكبو في طلبها الرّياح، وتخبو نار البرق إذا أمسى بسنا سنابكها اقتداح.
ووراءها البغال، التي تحمل الأثقال، ولا تزلّ في الأوحال بحال وعليها الزّنّاريّات الموشعة، وحليها الجلال الملمّعة وهي تمشي رويدا، وتبدي قوّة وأيدا (2) كأن قلامتها قناه عيدا (؟) وهي وافرة الأمداد، فاخرة على الجياد، باهرة العدد متكاثرة الأعداد، راسخات القوائم كأنها أطواد، شامخات الرؤوس حاليات الأجياد، باذخات الأكفال غلاظ شداد، وسارت لها إلى رحابنا انقياد، وصارت من محلّ إسعاد إلى مواطن إصعاد فتقبّلنا أجناسها وأنواعها، وتأمّلنا غرائبها وإبداعها، وجعلنا يوما أو بعض يوم في حواصلنا إيداعها ثم استصفينا منها نفائس آثرنا إليها إرجاعها، وفرّقنا في أوليائنا اجتماعها، وقسمنا مشاعها، وغنمنا لمّا أفاء الله صفاياها ومرباعها (3) فتوالت لكلّ وليّ منها منح، وسارت إلى كل صفيّ منها ملح وقالت الألسنة وطالت في وصف ما عليه به فتح، فاستبان
__________
(1) من معاني الفتح الماء الجاري على وجه الأرض وقد شبه الجياد في جريها بالماء الجاري على البطحاء الصلبة.
(2) الأيد: القوة والشدة.
(3) الصفيّ والصفيّة (الجمع: صفايا) ما يختاره الرئيس من المغنم ويصطفيه لنفسه قبل القسمة من فرس أو سيف وغيره. والمرباع: ربع الغنيمة يأخذه الرئيس في الجاهلية. قال عبد الله بن عنمة يخاطب بسطام بن قيس:
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
وفي الحديث: إن أعطيتم الخمس وسهم النبي، صلى الله عليه وسلّم، والصفيّ فأنتم آمنون. (انظر لسان العرب: 14/ 462).(7/420)
ووضح وكان لأهل الإيمان بنعته أعظم هناء وأكبر فرح.
وسطّرناها وركبكم المبارك قد رامت السّرى نجائبهم وأمّت أمّ القرى ركائبهم يسايرهم الأمن ويصاحبهم، ويظاهرهم اليمن ويواظبهم فقد أعدّت لهم المير (1) في جميع المنازل، وشدّت لهم الهجان البوازل، وأترعت لهم الموارد والمناهل، وأمرعت لهم بالميرة القفار والمراحل، ووكّلت بهم الحفظة في المخاوف ونصبت لهم الأدلّة في المجاهل، وجرّد معهم الفرسان، وجدّد لهم الإحسان، وأكّد لهم حقّان حقّ مرسلهم وحقّ الإيمان، وقلّد درك حياطتهم أمرا العربان، وشوهد من تعظيمنا لهم ما يحسدهم عليه ملوك الزمان بكلّ مكان وكتبنا على أيديهم إلى أمراء الأشراف بالنّهوض في خدمتهم والوقوف، وأن يحيط بهم كلّ مقدّم طائفة ويطوف، يتسلّمهم زعيم من زعيم، إلى أن تحطّ رحالهم بالحطيم (2)، ويحلّ كلّ منهم بالمقام ويقيم، وتكمل مناسكهم بشهود الموقف العظيم.
وكذلك كتبنا إلى أمراء المدينة المشرّفة، أن تتلقّى بالقبول الحسن مصحفه، وتحلّه بين الروضة والمنبر، وتجلّه فقد ربح سعي كاتبه وبرّ، وكتبت له بعدد حروفه أجور توفّر ويمكّن من يرقّ لتلاوته في الآصال والبكر، ويهيمن على ذلك فإنّه من بيت هم الملاك الأعلى وعندهم وفيهم جاءت الآيات والسور.
وعمّا قليل يتمّ حجّهم واعتمارهم، ويؤمّ طيبة الطّيّبة العاطرة زوّارهم فيكرم جوارهم ويعظم فخارهم، وتنعم بإشراق تلك الأنوار بصائرهم وأبصارهم، وتفوح أرواح نجد من ثيابهم، وتلوح أنوار القبول على شيبهم وشبابهم ثم يعودون إلينا فنعيد لهم الصّلات، ونفيد كلّا منهم ديم النّعم المرسلات ثم يصدرون إن شاء الله إليكم ركائبهم بالمنائح مثقلات، ومطالبهم بالمناجح مكمّلات ويظفرون من الله في الدارين بقسم النّعم المجزلات حتّى يلقوا
__________
(1) طعام المسافر.
(2) الحطيم: بناء قبالة الميزاب في خارج الكعبة.(7/421)
برحابكم عصا التّسيار، ويصونوا حرّ وجوههم بالصبر على حرّ الهجير [من] لفح النار، ويدّخروا بما أنفقوا عند الله من درهم ودينار، أجرا جمّا وما عند الله خير للأبرار والله تعالى يقرّبه من تلك المواطن، ويدنيه منها بالظاهر وإن كان يسري إليها بالباطن ويسهّل [له] ذلل الحرم، وإن كان قد أعان القاطن والقادم، حتّى تحلّ ركائبه بين المروتين (1) وتجيز، ويكون له بذلك على ملوك الغرب تمييز، وما ذلك على الله بعزيز.
لا زالت مقبولة على المدى هداياه، مجبولة على النّدى سجاياه، مدلولة على الهدى قضاياه، منصورة على العدا سراياه، مبرورة أبدا تحاياه. والسلام الأتمّ الذي يعبق ريّاه، والثناء الأعمّ المشرق محيّاه، عليكم ورحمة الله وبركاته، والخير يكون، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة جواب الكتاب الوارد على الملك الناصر «محمد بن قلاوون» من ابن (2) أبي الحسن عليّ المرينيّ، صاحب فاس المغرب، بالبشارة بفتح بجاية، والانتصار على تلمسان.
واستفتاحه بعد البسملة بقوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللََّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدََامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمََالَهُمْ} (3)
ثم المكاتبة المعهودة: من ألقاب الملكين، والدعاء. والصدر:
__________
(1) المروتان: الصفا والمروة: موضعان بمكة.
(2) لفظ «ابن» زائد فالملك الناصر محمد بن قلاوون توفي سنة 741هـ، في حين أن ابن أبي الحسن المريني وهو أبو عنان فارس قد استلم الإمارة بعد وفاة والده سنة 752هـ. هذا بالإضافة إلى أن مضمون الخطاب في الرسالة موجّه بمجموعه إلى الوالد وليس إلى الإبن. (انظر الأعلام 4/ 311و 5/ 127و 7/ 11والخطط التوفيقية: 1/ 99).
(3) محمد / 7.(7/422)
قهر الله ببأسه من ناواه من أئمة الكفر وطغاته، ونصره على من لاواه (1) من حزب الشيطان وحماته. ونشر أعلامه بالظّفر بمن خالفه من عداة الله وعداته.
وأجراه من بلوغ الوطر في سكونه وحركاته، على أجمل أوضاعه وأكمل عاداته، ويسّر له بدوام سعوده فتح ما استغلق من معاقل الحائدين عن مرضاته. ولا زالت ركائب البشائر عنه تسري وإليه من تلقائنا تسير، ومصير الظّفر حيث يصير، ويدور الفلك المستدير، بسعده الأثيل الأثير، وينوّر الحلك بضوء جبينه الذي يهتدي به الضالّ ويلجأ إليه المستجير، وتغور أعين العدا إن عاينوا جحفله الجرّار وناهدوا جيشه المبير. بتحيّة تحكي اللّطائم (2) عرفها الشميم، وتودّ الكمائم لو تفتّقت عن مثل مالها من نضارة أو تسنيم، ويودّ عقد الجوزاء لو انتظم في عقدها النّضيد النظيم.
وكيف لا وهي تحيّة صادرة عن مقام شريف إلى روضة غنّاء تزري بالنّبت العميم، واردة من محلّ عظيم، على محيّا وسيم، منطوية على (3) الأرض من سلامة ولملوك الإسلام من سلام سليم، وطرفة نشرها كالمسك الذي ينبغي أن يختتم به هذا الكتاب، وثناء يستفزّ الألباب، ويستقرّ في حبّات قلوب الأحباب، ويستدرّ أخلاف الودّين المتحابّين في الله فلا غرو أن دخلت عليهم ملائكة النصر من كلّ باب. يتسابقان إلى ذلك المجد الأسنى في أسعد مضمار، ويتساوقان بحياز قصبات السّبق إلى تلك العصبة المشرقة الأنوار، ويزداد فيّهما بالوفود عليه طيبا، ويغدو عود الودّ بهما رطيبا حيث الرّبع مريع، والمهيع منيع، والعزّ مجدّد والقدر مطيع وسحب الكرم ثرّة، ورياض الفضل مخضرّة، وعساكر النصر تحلّ نحوه من المجرّة حيث تستعر الحرب، ويتسحرّ الضرب، وتشرق شموس المشرفيّات لامعة (4)
__________
(1) لاواه: عانده.
(2) اللطائم: أوعية المسك أو أسواقها. وفي الأصل: العظائم، وهو تصحيف واضح.
(3) بياض بالأصل. ولعله «على ملء الأرض».
(4) بياض بالأصل.(7/423)
أما بعد حمد الله مظهر دينه على كلّ دين، ومطهّر أرجاء البسيطة من الماردين المارقين، ومجرّد سيف النصر على الجاحدين الحائدين، وموهن كيد الكافرين، ومجزل أجر الصابرين، ومنجز وعد من بشّرهم في كتابه المبين بقوله:
{بَلِ اللََّهُ مَوْلََاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النََّاصِرِينَ} (1) الذي عصم حمى الإسلام بكل ملك قاهر، وفصم عرى الشّرك بكلّ سلطان غدا على عدوّ الله وعدوّه بالحقّ ظاهر، وقصم كلّ فاجر بمهابة أئمة الهدى الذين ما منهم إلا من هو للمحاسن ناظم ولقمم العدا نائر ناشر علم الإيمان بحماة الأمصار، وناصر علم الإسلام بملوك الأقطار، وجاعل كلمته العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، لا جرم أنّ لهم النّار جامع قلوب أهل الإيمان على إعلاء علم الدّين الحنيف وإن بعدت بينهم شقّة النّوى وشطّ المزار.
والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الذي أرسله الله رحمة للعالمين ونقمة على الكفّار، ونصره بالرّعب مسيرة شهر وبالملائكة الكرام في إيراد كلّ أمر وإصدار، وألان ببأسه صليب الصّلبوت (2) وأهان بالتنكيس عبدة الأصنام وسدنة النار، وأيّده بآل وأصهار، وأصحاب وأنصار، وجنود تهون النّقع المثار، وأتباع ما أظلم خطب إلا أجالوا سيوفهم فبدا نجم الظّفر في سماء الإيمان وأنار، وأمة ظاهرة على من ناواها، ظافرة بمن عاداها، ما تعاقب الليل والنّهار، صلاة وتسليما يدومان بدوام العشيّ والإبكار.
فقد ورد علينا كتاب مختوم بالتكريم، محتوم بالتبجيل والتقديم، محتو على وصف فضل الله العميم، ونصره العظيم، ومنّه الجسيم فأكرمنا نزله، ونشرنا حلله، وتفهّمنا تفاصيله وجمله فتيمّنّا بوصوله، وتأمّلنا مخايل النصر العزيز من فصوله، ووجدناه قد اشتمل من سعادة مرسله على أنواع، ومن وصف تعداد نصرته على عون من الله ومن يعن الله فهو المنصور المطاع.
__________
(1) آل عمران / 150.
(2) لم نجد هذا اللفظ في المعاجم التي بين أيدينا ولعل المراد: أصحاب الصليب.(7/424)
فأما ما ذكره المقام العالي من أمر الوالدة المقدّس صفيحها (1) المغمور بالرحمة ضريحها وما كانت عزمت عليه من قصد مبرور وتجارة لن تبور، وأمّ إلى البيت الآمن والحرم المعمور، وما فاجأها من الأجل، وعاجلها من أمر الله عزّ وجلّ فالمقام أجزل الله ثوابه يتحقّق أنّ النيّة في الأجور أبلغ من العمل، وأنه من أجاب داعي الحمام فلا تقصير في فعله ولا خلل والله نسأل أن يكتب لها ما نوته من خير، وأن يطيف روحها الزكية ببيته المعمور في جنّات عدن كما أطاف أرواح الشهداء في حواصل ذلك الطّير.
وكنّا نودّ أن لو قدمت ليتلقّاها منّا زائد الإكرام، ويوافي مضاربها وافد الاحتفال والاهتمام، ونستجلب دعواتها الخالصة الصالحة، وتظفر هي من مشاهدة الحرم المعظّم والمثوى المكرّم والبيت المقدّس بالصّفقة الرابحة. على أنّه من ورد من تلقائكم قابلناه من جميل الوفادة بما به يليق، وتقدّمنا بمعاملته بما هو به حقيق، ويسّرنا له السبيل وهديناه الطريق، وأبلغناه في حرز السلامة مع ركبنا الشريف أمله من قضاء المناسك والتّطواف بالبيت العتيق.
وأمّا ما أشار إليه من أمر من كان «بتلمسان» وأنه ممن لا يعرف مواقع الإحسان، وما وصفه المقام العالي من أحوال ليس الخبر فيها كالعيان، وأنه اعتدى على من يتاخمه من الملوك، وخرج عن القصد فيما اعتمده من ذلك السّلوك حتّى أن ملك تونس أرسل إلى المقام ابنه ووزيره، وسأله أن يكون ظهيره على الحق ونصيره، وأن المقام العالي أرسل إلى ذلك الشّخص منكرا اعتماده، طالبا إصلاحه لا إفساده راجيا أن يكون ممن تنفعه الذّكرى، ظانّا أنه ممّن يأبى أن يقال له: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} (2) وأنه بعد ذلك تمادى على غيّه، وأراد أن يذوق طعم الموت في حيّه، وأبى الظالم إلا نفورا، وذكر الملك عنه أنه قتل أباه بعد أن آتاه الله به نعمة وملكا كبيرا. وأن المقام العالي أتاه نبأ عن أخيه المقيم
__________
(1) الصفيح: الوجه.
(2) الكهف / 74.(7/425)
بسجلماسة (1)، وخبر صدق أوجب أن يعامل بما يليق بجميل السياسة وحريز الحراسة فجنّد المقام له جنودا، وعقد بنودا، وأضرى أسودا أوهنت كيده، وأذهبت أيده، وعاجلت صيده، وأذالت باسه، وأزالت عنه سيما الملك ونزعت لباسه. وأنه في غضون ذلك أتاه سلطان الأندلس (2) يستصرخ به على عدوّ الله وعدوّ المؤمنين، ويستعديه على الكفرة المعتدين، وأنّ المقام لبّى دعوته مسرعا، وأكرم نزله ممرعا، ووعده الجميل، وحقّق له التأميل. وأن صاحب تلمسان لما غرّه الإمهال، وظنّ هذه المهامّ توجب للمقام بعض اشتغال، أعمل أطماعه (3) في التجرّي على بعض ممالكه المحروسة ومدّ، وسار إلى محلّ هو بينهما كالحدّ.
وأنّ المقام عند ذلك صرف إليه وجه العزم، وأخذ في حفظ شأنه بما لأعلام النصر من نصب وما للاعتداء من رفع وما للاهتمام من جزم. وأنه لم يقدر عليه إلا بعد أن حذّره من أليم العقاب حلولا، وتمسك فيه بقوله تعالى: {وَمََا كُنََّا مُعَذِّبِينَ حَتََّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (4) [ولمّا] (5) لم ينفعه الإنذار، وأبى إلا المداومة والإصرار، أرسل إليه المقام العالي من جيشه الخضمّ، وعسكره الذي طالما تعضّده ملائكة السماء وإلى أعداده تنضمّ، كلّ باسل يقوم مقام الكتيبة، وكلّ مشاهد يشاهد منه في العرين كلّ غريبه، وكلّ ضرغام تعرف العدا مواقع ضربه لكنها تجهل ندّه أو ضريبه، فأذاقوه كأس الحمام صرفا، ولم يبتغوا عن حماه بدون نفسه عدلا ولا
__________
(1) بلدة قديمة بالمغرب كانت قصبة تافيلالت. وهي اليوم أطلال، تقع على الشاطيء الأيسر لوادي زيز. قيل إنها شيدت سنة 758م بناها بربر مكناسة وحكمها بنو مدرار 771/ 772م واستولى عليها جوهر القائد 958/ 959م. زارها ابن بطوطة سنة 1351م وقال إنها من أجمل البلدان.
(الموسوعة العربية الميسرة: 971ومعجم البلدان: 3/ 192).
(2) استنجد به بنو الأحمر عندما احتل الفرنج جبل طارق.
(3) كان بنو زيان أصحاب تلمسان على غير وفاق مع بني مرين، فصالحهم أبو الحسن، ولكنهم نكثوا فزحف عليهم سنة 735هـ فافتتح وجدة وهدم أسوارها واستولى على وهران وهنين ومليانة والجزائر وجدد بناء «المنصورة» بقرب تلسمان، ثم تمّ له فتح تلمسان وأطاعته زناتة. (الأعلام: 4/ 311).
(4) الإسراء / 15.
(5) في الأصل «فلم ينفعه» بدون لما.(7/426)
صرفا، إلى أن أخذوه في جماعة من بني أبيه، وشرذمة قليلة ممّن كانت تخالصه في الشدائد وتوافيه، وأن المقام العالي بعد ذلك سيّر مطارف العدل في الرعيّة، وأقرّ أحوالهم في عدم التعرّض إلى الأموال والذّرّية، على ما هو المسنون في قتال البغاة من الأمور الشرعيّة. وفهمنا جميع ما شرحه في هذا الفصل، وما أخبر به من هذا الظّفر الذي ابيضّ به وجه الفتح وإن كان قد احمرّ به صدر النصل والله تعالى يزيد ملكه رقيّا، ويجزيه لقبول النّعم لقيّا، ويجعله دائما كوصفه مظفّرا وكاسمه عليّا. وأن المقام العالي لما فرغ وجهه من هذه الوجهة، وحاز هذا الملك الذي لم يحز آباؤه كنهه، عاد إلى المهمّ الذي قدم فيه سلطان الأندلس لأنه أبدى ما المسلمون فيه من محاورة الأذى، ومجاورة العدا وقرب المسافة بين هذين العدوّين كالشّجا، وفي عيونهم كالقذى. وأنه ثوى به من الطّغاة من أسدل على المسلمين أردية الرّدى، وأنه على جانب البحر المعروف بالزّقاق (1)، وبه قطّان يمنعون الإرفاد والإرفاق، ويصدّون عن السبيل من قصد سلوكه من الرفاق. وأن البرّ أيضا مملوء منهم بصقور صائده، وعلوج مكايده، وكفّار معانده، وفجّار على السّوء متعاضده، والبحر مشحون بغربان طائرة بأجنحة القلوع طارده، صادرة بالموت وارده، جارية في فلك البحر كالأعلام إلا أنّها بالإعلام بالخبر شاهده، تتخطّف كلّ آمّ وقاصد، وتقعد لأهل الإيمان بالمراصد، وتدني الموت الأحمر، ممن ركب البحر الأخضر، وتمنع السالك، إلا أن يكون من أهل الضّلال الحالك، من بني الأصفر.
وأنّ المقام العالي عند ذلك قام لله وغار، وأنجد جنوده في طلب الثار من أهل النار وأغار، وأنجد قاصد حرمه ببعوث كرمه وأعار، وأرسل عقبان فرسانه محلّقة إلى ذلك الجبل الشّامخ الذّرى وأطار، إلى أن أحاطت بهم جنوده إحاطة الآساد بالفرائس لا إحاطة الهالات بالأقمار، فما منهم إلّا من أعمل على العدا
__________
(1) مضيق جبل طارق.(7/427)
رحى المنون وأدار، وسار وناعي البين يقدمه إلى أين سار وقدّم عليهم ولده (1)
الميمون النّقيبة، الممنوح غربه من مواقع النصر بكلّ غريبة، الجاري على سنن آبائه الكرام، المظفّر أنّى سرى الممدوح حيث أقام. وأنه مزّق (2) جموعهم الكثيفة، وهدم معاقلهم المنيفة، واستدنى منهم القاصي، واستنزل العاصي، وأخذ بالأقدام والنّواصي، وأحلّ العذاب والنّكال، بمن يستحقّه من أهل الإلحاد والمعاصى، وقرن بين الأرواح والآجال، وأذكرهم بهذا النصر أيّام ابن نصر وأعاد، وأثبت لهذا الجبل حقيقة اسم المدح (3)، واستقرّ في صحائف فعله المقام إلى آخر هذا المنح.
وعلمنا أيضا ما اعتمده الطاغي المغتال لعنه الله من الحضور بنفسه، وجمعه الملحدين من أبناء خدمته والمارقين من جنسه. وأنّه أعظم هذا الأمر وأكبر، وأيدى الزفير لهذا المصاب وأظهر، وأقسم بمعبوده المصوّر وصليبه المكسّر، أن لا يعود إلا بعد أن يظفر بما سلبه الحقّ إيّاه وتبصّر فأبى الله والمؤمنون أن تكون النّيّة إلا خائبة، وقضت سعادة الإسلام أن تكون الأيّام لما عقده من الطّويّة الرّديّة ناكبة فلمّا طال عليه الأمد وحان الحين، عاد صفر اليدين ولكن بخفّي حنين، ناكصا على عقبه، خاسئا لسوء منقلبه، وأسرع إلى مقرّ طاغوته
__________
(1) في الأعلام: «جهز الجيوش لقتال الفرنجة في الأندلس بقيادة ابن له يدعى «أبا مالك» فقتل الإفرنج أبا مالك فتولى السلطان مباشرة الجهاد بنفسه فرحل إلى سبتة وجمع الأساطيل فضرب بها أساطيل الفرنج ببحر الزقاق سنة 740هـ وعبر البحر إلى ناحية طريف وكانت في يد العدو فحاصرها طويلا، وفاجأه الإفرنج بجيوش متعددة فأصيبت عساكره بفاجعة قلما وقع مثلها وقتلت النساء والولدان ونجا ببقايا جموعه سنة 741هـ فقفل إلى الجزيرة الخضراء فجبل الفتح وركب إلى سبتة. واستأسد الفرنج فأغرقوا أساطيله في الزقاق واحتلوا الجزيرة الخضراء» ولعل الرسالة التي نحن بصددها قد وجهت إلى أبي الحسن المريني وهو في بداية معاركه مع الفرنجة وعلى أثر تحقيقه بعض الانتصارات عليهم وذلك قبل أن تنقلب الموازين وتدور الدوائر على جيشه.
على أننا لا نستطيع تجاهل التناقض المتعلق بخبر ابنه الذي وجهه إلى الفرنج: ففي حين تجعله رسالة الناصر منتصرا، يشير صاحب الأعلام إلى مقتله على يد الفرنجة. (انظر الأعلام: 4/ 311).
(2) في الأعلام: «جهز الجيوش لقتال الفرنجة في الأندلس بقيادة ابن له يدعى «أبا مالك» فقتل الإفرنج أبا مالك فتولى السلطان مباشرة الجهاد بنفسه فرحل إلى سبتة وجمع الأساطيل فضرب بها أساطيل الفرنج ببحر الزقاق سنة 740هـ وعبر البحر إلى ناحية طريف وكانت في يد العدو فحاصرها طويلا، وفاجأه الإفرنج بجيوش متعددة فأصيبت عساكره بفاجعة قلما وقع مثلها وقتلت النساء والولدان ونجا ببقايا جموعه سنة 741هـ فقفل إلى الجزيرة الخضراء فجبل الفتح وركب إلى سبتة. واستأسد الفرنج فأغرقوا أساطيله في الزقاق واحتلوا الجزيرة الخضراء» ولعل الرسالة التي نحن بصددها قد وجهت إلى أبي الحسن المريني وهو في بداية معاركه مع الفرنجة وعلى أثر تحقيقه بعض الانتصارات عليهم وذلك قبل أن تنقلب الموازين وتدور الدوائر على جيشه.
على أننا لا نستطيع تجاهل التناقض المتعلق بخبر ابنه الذي وجهه إلى الفرنج: ففي حين تجعله رسالة الناصر منتصرا، يشير صاحب الأعلام إلى مقتله على يد الفرنجة. (انظر الأعلام: 4/ 311).
(3) أي جبل الفتح. وهو جبل طارق.(7/428)
سرى وسيرا، ولو كان من ذوي الألباب لتعقّل في أمر قول الله تعالى: {وَرَدَّ اللََّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنََالُوا خَيْراً} (1). وأنّ المقام العالي ألزمه بعد ذلك ما كان على أهل «أغرناطة» (2) له في كلّ عام موظّفا، ووضع عنهم إصر ما برج كالأسر مجحفا.
وهذه عزّة إسلاميّة جدّد الله على يد المقام بذلك القطر صدورها، وسطّر في صحائف حسناته أجورها، وأبقى له مذخورها، وأعدّها له ليوم تجد فيه كلّ نفس ما عملت من خير محضرا إذا شاهدت عرضها ونشرها، ومنّة من الله أربت على العدّ، وتجاوزت الحدّ، ومزيّة لا تطمح الآمال إلى ميلها في جانبها ولا تمتدّ، ورتب جدّ يلحق بها الولد الناجم في سماء المعالي رتب الكرام من أب له وجدّ والله يجعله مظفّرا على العدا، منصورا على من حاد عن سواء السبيل واعتدى، مستحقا لمحاسن الأخبار على قرب المدّة وبعد المدى.
وقد كان أخونا أمير المسلمين، وسلطان الموحّدين، والدك الشهيد قدّس الله سرّه وبوّأه دار النعيم وبها أقرّه، في كلّ آونة يخبرنا بمثل هذا الفتح، ويذكر لنا ما ناله من جزيل المنح (فهذه شنشنة نعرفها من أخزم) (3)، وسنّة سلك فيها الشّبل الصائد سنن ذلك الضّيغم الأعظم، ونحن نحمد الله الذي أقام المقام مقام
__________
(1) الأحزاب / 25.
(2) ضبطها بروفنسال بكسر الهمزة الابتدائية وسكون الغين المعجمة وفتح الراء. وهي مدينة بالأندلس بينها وبين وادي آش أربعون ميلا، وهي من مدن إلبيرة. وهي مدينة محدثة من أيام الثوار بالأندلس، وإنما كانت المدينة المقصودة إلبيرة، فخلت وانتقل أهلها منها إلى إغرناطة. (انظر: صفة جزيرة الأندلس: 23والروض المعطار: 45ومعجم البلدان: 4/ 195).
(3) الشّنشنة: الخليقة والطبيعة. والمثل يضرب للرجل يشبه أباه، وهو لجدّ حاتم بن عبد الله بن الحشرج بن الأخزم. وكان أخزم من أكرم الناس وأجودهم، فلما نشأ حاتم وفعل من أفعال الكرم ما فعل قال: هي شنشنة أعرفها من أخزم، فقال عقيل بن علقمة:
إن بنيّ ضرّجوني بالدم ... شنشنة أعرفها من أخزم
من يلق أبطال الرجال يكلم. (جمهرة الأمثال: 1/ 541ومجمع الأمثال 1/ 361.
والمستقصى: 1/ 134. واللسان: 13/ 243).(7/429)
أبيه لنصرة الإسلام وأبقى، وصدّق بما تنشئه من حسن أفعالك وسعيد آرائك أنّك أبو الحسين وأنّ أباك أبو سعيد حقّا.
وحيث سلك المقام سنن والده الشهيد، وأتحفنا من أنبائه بكلّ جديد، وقصّ علينا أحاديث ذلك الجانب الغربيّ المشرق بأنواره، ونصّ متجدّداته مفصّلة حتّى صرنا كأنّا مشاهدون لذلك النصر ومواقع آثاره، فقضى الودّ أن نتحفه من أحاديث جيشنا الذي أشرقت لمعات سيوفه في الشّرق الأعلى بما يشنّف سمعه، ويسرّ معشر الإسلام وجمعه، وموطنه وربعه: ليتحقّق أنّ نعم الله لكلّ من قام بتشييد هذا الدّين المحمّديّ عامّة، ومننه لديهم تامّة، وألطافه بهم حافّة، ومناصرته ليد سلطان الإسلام في أعناق العدا مطلقة ولأكفّ أهل الشّرك كافّة، {وَأَمََّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (1)
فمما نبديه لعلمه ونهديه لسعيد فهمه، أنّ من جملة من يحمل لأبوابنا الشريفة من ملوك الكفر القطيعة في كلّ عام، ويرى أنّ ذلك من جملة الإفضال عليه والإنعام متملّك سيس، الذي هو في ملّته من ساكني البرّ كالرئيس، وبين بطارقته وطغاته كالكتد (2) الأعظم أو كالقدّيس النفيس وعليه مع ذلك لأبوابنا الشريفة من القناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوّمة ما لا يحيد عنه ولا يحيس (3)، ومرتّب لا يقبل التنقيص ولا يسمح لخناقه بتنفيس، تحمله نوّابه إلى أبوابنا الشريفة عن يد وهم صاغرون، ويقومون به على قدم العبوديّة وهم ضارعون.
ولمّا كان في العام الماضي سوّف ببعضه وأخّر، ودافع عند إبّانه وقصّر، وسأل مراحمنا في تنقيص بعض ذلك المقرّر، وأرسل ضراعاته إلى نوّابنا بالممالك
__________
(1) الضحى / 11.
(2) الكتد: مجتمع الكتفين من الإنسان والفرس أو الكاهل، والجمع: أكتاد وكتود.
(3) حاس، يحيس: لم يبرح مكانه حتى ينال حاجته. وهذا المعنى أورده الأزهري وانفرد به. (انظر اللسان: 6/ 61).(7/430)
الشامية في هذا المعنى وكرّر، وقدّر في نفسه المراوغة وأسرّ خسرا في ارتعا (1) والله أعلم بما قدّر فاقتضت آراؤنا الشريفة أن نرسل إليه بعثا يذلّل قياده، وينكّس صعاده، ويخرّب بلاده، ويوطيء أطواده، ويوهن عناده، ويذهب فساده، ويفرّق أجناده، ويمزّق أنجاده، ويقلّل أعداده، ويفلّل جموعه، ويدكدك ربوعه، ويذري على ملكه دموعه، ويدني خضوعه، ويفصل تلك الأبدان التي هي للطّغيان مجموعه، فأنهضنا إليه من الأبطال كلّ باسل، وأنهدنا إليه منهم كلّ ضرغام خادر يظنّ الجاهل أنه متكاسل، وأشهدنا حربه كلّ مؤمن يرى الشهادة مغنما، والتخلّف مأثما والتّباطؤ مغرما، والعذر في هذا المهمّ أمرا محرّما، ويعدّ الرّكوب إلى هذا السّفر قربه، والرّكون إلى وطنه غربه، ويرغب فيما وعد الله به جيشه المنصور وحزبه، ويربأ بنفسه أن يكون من الخالفين حبّا لها وتكريما، ويبادر إلى ما أمر به رغبة في قوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللََّهُ الْمُجََاهِدِينَ عَلَى الْقََاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} (2)، على صافنات جياد، ليس لها غير الطّير في سرعة المرام أضداد، وعاديات عاديات على أهل العناد، وضابحات (3) ذابحات لذوي الفساد، ومغيرات طالما أسفر صبحها عن النّجاح، ومثيرات نقع يتبلّج غيهبها عن تحقّق النّجاة وإزالة الجناح. وصواهل عراب، كم للفضل بها من كمون وللموت اقتراب، وأصائل خيل، تخيّل لراكبها أنها أجرى من الرياح وأسرى من اللّيل، قد عقد الخير بنواصيها، وعهد النصر من أعرافها وصياصيها، وتسنّم راكبوها لذروة العزّ من ظهورها، واحتووا على الكبير الأعلى من نصرتها على العدا وظهورها، بسيوف تبدّد الأوهام، وتزيل الإيهام، وتقدّ الهام، وتدني الموت الزّؤام، وتطهّر بميامنها نجس الشرك ودنسه، وتقرع أجسادهم فتغدو كلّها عيونا ولكن بالدّماء منجسه، قد تسربل كلّ منهم من الإيمان درعا حصينا، واتخذ لبسه جنّة ولكن من الذهب
__________
(1) كذا في الأصل، واللفظ غير واضح المعنى.
(2) النساء / 95.
(3) ضبحت الخيل: صوّتت أنفاسها في جوفها حين العدو. وفي التنزيل العزيز: {وَالْعََادِيََاتِ ضَبْحاً}: العاديات / 1.(7/431)
والإستبرق ليكون لفضل الله مظهرا ولإحساننا مبينا، واتّخذ لسهام القسيّ ليوم اللّقاء الألسن الحداد، ومدّ يد المظاهرة ببيض قصار وسمر صعاد.
فلمّا جاسوا خلال تلك الدّيار، وما سوا يرفلون في حلل الإيمان التي تشفي صدور قوم مؤمنين وتغيظ الكفّار، لم يسلكوا شعبا إلا سلك شيطان الكفر شعبا سواه، ولا وطئوا موطئا إلّا وكلّ كافر يأباه ولا نالوا من عدوّ نيلا إلّا كتب لهم به عمل صالح كما وعدهم الله وما أتوا لهم على ضرع حافل إلا جفّ، ولا مرّوا على زرع حاقل (1) إلا أصبح هشيما تذروه الرّياح أو حطيما تكفيه الكفّ ولا هشيم إلا حرّقوه، ولا جمع إلا فرّقوه، ولا قطيع شاء إلا قطّعوه ومزّقوه، ولا ضائز (2) إلا ضنّوا عليه أن يدعوه لهم أو يطلقوه، وما برحوا كذلك إلى أن نازلوا البلد المسمّى بآياس، فحصل لأهله من مسمّاه الأشتقاق الأصغر والاشتقاق الأكبر (3)
بقطع الأمل منه واتّصال الإياس فناداهم من بذلك الحصن من أسارى المؤمنين.
يا رحمة الله حلّي في منازلنا ... حسبي برائحة الفردوس من فيك
__________
(1) أحقل الزرع: تشعّب. وأحقلت الأرض: صارت حقلا. والحاقل هو الأكّار.
(2) الضائز الجائر. وفي التنزيل العزيز: «تلك إذا قسمة ضيزى» أي جائرة: النجم / 22.
(3) الاشتقاق في دلالته الوضعية هو توليد لبعض الألفاظ من بعض، والرجوع بها إلى أصل واحد يحدد مادتها ويوحي بمعناها المشترك الأصيل مثلما يوحي بمعناها الخاص الجديد. وهناك ثلاثة أنواع شائعة من الاشتقاق وهي: الأصغر والأكبر والكبير ويلحق بها نوع رابع وهو «النحت» ويسميه بعض المحدثين «الاشتقاق الأكبر». والاشتقاق الأصغر، وهو الأكثر ورودا في العربية، هو تقليب تصاريف الكلمة حتى يرجع منها إلى صيغة هي أصل الصيغ كلها، دلالة اطراد أو حروفا غالبا فالرابطة المعنوية العامة لمادة (ع رف) التي تفيد انكشاف الشيء وظهوره تتحقق في جميع الكلمات الآتية: عرف، عرّف، تعرّف، تعارف، عرف، أعراف، عرفان الخ. ولقد اصطلحوا على أن الاشتقاق الأكبر هو ارتباط بعض المجموعات الثلاثية الصوتية ببعض المعاني ارتباطا عاما لا يتقيد بالأصوات نفسها بل بترتيبها الأصلي والنوع الذي تندرج تحته. وحينئذ متى وردت إحدى تلك المجموعات الصوتية على ترتيبها الأصلي فلا بد أن تفيد الرابطة المعنوية المشتركة، سواء احتفظت بأصواتها نفسها أم استعاضت عن هذه الأصوات أو بعضها بحروف أخر تقارب مخرجها الصوتي. مثل: هديل الحمام وهديره، وكشط الجلد وقشطه (انظر: دراسات في فقه اللغة العربية: 211210174. وفقه اللغة: 175وما بعدها).(7/432)
ويا نصر الله انشر بالظّفر رايات مواجهنا ومنازلنا فطالما كنّا نؤمّلك ونرتجيك ويا خيل الله اركبي، ويا خيل الكفّار اذهبي، ويا جند إبليس ارهبي، من جند الله الغالبين وإن وجدت مناصا فانفري، وياما للإسلام من جنود وأنصار، قاتلوا الذين يلونكم من الكفّار.
وكانت موافاة عسكرنا المنصور إليهم عند الإسفار (1)، فلم يملكوا القرار، ولا استطاعوا الفرار، ولم يجدوا ملجأ من الله إلّا إليه. وقال: لا وزر وكيف به لمن يلبّي الأوزار، ورأوا ما أعددنا لحصارهم من مجانيق تقدّ الصّخور، وتدكدك القصور، وتغيض بها مياه نفوس تلك الأجساد الخبيثة فلا يجتمعان إلى يوم البعث والنّشور وأنا أمددنا جيوشنا بجاريات في بحر الفرات، مشحونة بالأموال والأقوات، والعدد والآلآت وأرفدناهم من الذّهب والفضّة بالقناطير المقنطرات، وأوفدنا عليهم من أنجادنا بالديار البكريّة، وأطراف البلاد الشامية، جيوشا كالسّحاب المتراكم، وأطرنا عليهم عقبان اقتناص من عقبان التّراكمين (2) اعتادت صيد الأراقم، وأسر الضّراغم فلمّا تحقّقوا الدّمار، لم يلبثوا إلا كما وصف الله تعالى حال من أهلك من القوم الفاسقين ساعة من نهار.
فعند الظهيرة حمي الوطيس، ونكص عند إعلان الأذان على عقبه إبليس وشاهدوا (3) الموت عيانا، وتحقّقوا الذّهاب أموالا وإخوانا وولدانا، أذعنوا إلى السّلم، ونادوا الأمان الأمان يا أهل الإيمان والعلم، والكفّ الكفّ يا جند الملك الموصوف عند الشّقاق بالحزم، وعند القدرة على العقاب بالحلم. وأرسل طاغيتهم الأكبر ليفون، يقسم بصليبه: إنّا من القوم الذين يقومون بما عليهم من الجزية ويوفون ومن الرّعيّة الذين يطيعون أمر ملكهم الأعظم وعن حمى الإسلام
__________
(1) الإسفار: هو سفر الصبح.
(2) لعلها «التراكم» بمعنى التركمان، فتأمّل.
(3) لعله «وحين شاهدوا» ليتعلق به «أذعنوا».(7/433)
يكفّون فعند ذلك رأى نوّابنا بذلك العسكر أن تكفّ عنهم شقّة الشّقاق وتطوى، ولانت قلوبهم لتذكار قوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ََ} (1) وطالعوا علومنا بما سأله القوم من الرحمة والرّأفة، وما ضرعوا إليهم فيه من الأمان والألفة، وإعطاء ما كنّا رسمنا به من تسليم قلاع معدوده، وتسويغ أراض محدوده، تستقرّ بيد نوّابنا وتقطع بالمناشير الشريفة لأهل الجهاد من أبوابنا، مع استقرار ما رسمنا به من قطيعة، وعقد الهدنة على أمور هي عندنا محبّبة ولديهم فظيعة.
هذا بعد أن استولت عساكرنا على قلاع لهم وحصون، ومحرز من أموالهم ومصون وطلعت أعلامنا المحمّديّة على قلعة آياس، ونزل أهل الكفر على حكم أهل الإيمان وزال التحفّظ والاحتراس، وأعلن بالأذان في ذلك الصّرح، وظهرت كلمة الإيمان كما بدأت أوّل مرّة وهذا يغني عن الشّرح وعلت الملّة الحنيفيّة بذلك القطر وقام أهلها وصالوا، وغلّت أيدي الكفّار ولعنوا بما قالوا.
وكان جيشنا قبل ذلك أخذ قلعة تسمّى «بكاورّا» واستنزلوا أهلها قسرا، واستزالوهم عنها ما بين قتلى وأسرى وهي قلعة شامخة الذّرى، فسيحة العرا، وثيقة العرا، يكاد الطرف يرجع عنها خاسئا.
ولما اتّصل بأبوابنا هذا الخبر السّارّ، وشفع لنا من نرى قبول شفاعته في إجابة ما سأله هذا الشّعب من إرجاء عذاب أهل الكفر إلى نار تلك الدار مننّا عليهم بالأمان، وقابلناهم بعد العدل بالإحسان وتقدّم أمرنا إلى نوّابنا بكفّ السيف وإغماده، وإطفاء مسعّر الحرب وإخماده وأن يجرى المنّ على مألوفه منّا ومعتاده، بعد تسليم تلك القلاع، وهدم الأسوار التي كان بها لأهل الكفر الامتناع، واستبقاء الرعيّة، واستحياء الذّرّية، وإجراء الهدنة المسؤولة على القواعد الشرعيّة وعاد عسكرنا منشور الذوائب، مظفّر الكتائب، مؤيّد المواكب، مشحونا بغرائب الرّغائب.
__________
(1) البقرة / 237.(7/434)
وعند وصولهم إلى أبوابنا فتحنا لهم أبواب العطاء الأوفر، وبدّلناهم بالتي هي أحسن وعوّضناهم الذي هو أكثر وأفضنا عليهم من خلع القبول ما أنساهم مشقّة ذلك السّرى وشقّة السّير، وتلا عليهم لسان الإنصاف {(وَلِبََاسُ التَّقْوى ََ ذََلِكَ خَيْرٌ} (1)
وبعد ذلك ورد علينا كتاب بعض نوّابنا بالأطراف من أولاد قرمان، القائمين بمشارق ممالكنا على وجه الأمن وسعة الأمان، بأنّهم عند عودهم من سيس، ونصرتهم على حرب إبليس، استطردوا فأخذوا للكفر تسع قلاع، ما برحت شديدة الامتناع، لا تمتدّ إليها الأطماع فتكمّل المأخوذ في هذه السفرة وما قبلها خمس عشرة قلعة، وبدّد الله شمل الكفر وفرّق جمعه، وآثرنا أن نعلم المقام العالي بلمحة مما لله لدينا من النّعم، ولبره من شارة يستدلّ بها على أثر أخلاف كالدّيم، ونطلعه على درّة من سحاب، وغرفة من بحر عباب، وطرفة نشرها كالمسك الذي ينبغي أن يختتم بها هذا الكتاب.
ونحن نرغب إلى المقام أن يواصل بكتبه المفتتحة بالوداد، المشتملة على النّصرة على أهل العناد، المشحونة بمواقع الفتح والظّفر التي تتضاعف إن شاء الله وتزداد، المحتوية على الطّارف من الإخلاص والتّلاد، المتّصل سببها بين الآباء الكرام ونجباء الأولاد، والله تعالى يجعله دائما لثمرات النصر من الرماح يجتني، ولوجوه الفتح من الصّوارم يجتلي، ويديم على الإسلام مزيد العزّ الذي يتجدّد كلّ آونة من طلائع رايات محمد وبدائع آراء علي (2)، بمنه وكرمه.
__________
(1) الأعراف / 26.
(2) يقول الدكتور عبد القادر أحمد طليمات في مقالته عن وثائق القلقشندي في صبح الأعشى:
«وتدل خاتمة رسالة السلطان على حقيقة هامة غير مألوفة، لم ينتبه إليها الدارسون للعصر المملوكي، وهي أن المماليك جروا على سياسة التوفيق بين المذهب السني والمذهب الشيعي.
ولعل ذلك التوفيق كان مقصودا لأن بني مرين باعتبارهم ورثة الموحدين، كانوا يعطفون على الشيعة، بينما كان قلاوون وأهل بيته سنّيين، فاقتضت المجاملة من السلطان أن يشير إلى محمد عليه الصلاة والسلام، وإلى علي بن أبي طالب ربيبه وزوج ابنته، منتهزا فرصة تطابق اسمه (أي السلطان) وهو «محمد» على اسم النبي، وتطابق اسم صاحب فاس وهو «علي» على اسم علي رضي الله عنه، فختم الناصر دعاءه على النحو الذي رأيناه». (القلقشندي وكتابه صبح الأعشى:
ص 130)(7/435)
وهذه نسخة كتاب جواب إلى صاحب فاس حيث ورد كتابه بالتعرّض لوقعة «تمرلنك» من إنشاء مؤلّفه، كتب بذلك عن السلطان الملك الناصر «فرج بن برقوق» وهو.
عبد الله ووليّه السلطان الأعظم (إلى إخر ألقاب سلطاننا) أجرى الله تعالى الأقدار برفعة قدره، وأدار الأفلاك بتأييده ونصره، وأذلّ رقاب الأعداء بسطوته وقهره، وشحن الأقطار بسمعته وملأ الآفاق بذكره، يخصّ المقام العالي (إلى آخر الألقاب): رفع الله تعالى له في ملكه الشامخ منارا، وجعل النصر والظّفر له شعارا، وأحسن بحسن مواتاته إلا لأهل الكفر جوارا، بسلام يفوق العبير عبيقه، ويزري بفتيق المسك الداريّ فتيقه، ويخجل الروض المنمنم إذا تزيّن بالبهار خلوقه، وثناء تكلّ الألسنة البليغة عن وصفه، ويعجز بناة المجد الأثيل عن حسن رصفه، وتعترف الأزاهر بالقصور عن طيب أرجه ومسك عرفه وشكر يوالي الورد فيه الصّدر، ويحقّق الخبر فيه الخبر، ويشيع في الآفاق ذكره فتتّخذه السّمّار حديث سمر.
أما بعد حمد الله واصل أسباب المودّة وحافظ نظامها، ومؤكّد علائق المحبّة بشدّة التئامها، ورابط جأش المعاضدة باتّحاد وتناسب مرامها، ومجدّد مسرّات القلوب بتوالي أخبارها المبهجة عن عالي مقامها. والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل نبيّ رعى الذّمام على البعاد، وأكرم رسول قرن صدق الإخاء منه بصحّة الوداد، صلاة تبلّغ من رتبة الشّرف منتهاها، وتنطوي الشّقّة البعيدة دون بلوغ مداها فإن ورد علينا على يد رسولكم فلان كتاب كريم طاب وروده،
وتهللت بالبشر سعوده، وشهد بصدق المحبة الصادقة شهوده، وطلع من الجانب الغربيّ هلاله فلاحت بالمشرق بحسن التلقّي سعوده فقرّ منه برؤيته الناظر، وابتهج بموافاته الخاطر، ولاحت من جوانبه لوائح البشر فأحسن تلقّيه سلطاننا الناصر.(7/436)
أما بعد حمد الله واصل أسباب المودّة وحافظ نظامها، ومؤكّد علائق المحبّة بشدّة التئامها، ورابط جأش المعاضدة باتّحاد وتناسب مرامها، ومجدّد مسرّات القلوب بتوالي أخبارها المبهجة عن عالي مقامها. والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل نبيّ رعى الذّمام على البعاد، وأكرم رسول قرن صدق الإخاء منه بصحّة الوداد، صلاة تبلّغ من رتبة الشّرف منتهاها، وتنطوي الشّقّة البعيدة دون بلوغ مداها فإن ورد علينا على يد رسولكم فلان كتاب كريم طاب وروده،
وتهللت بالبشر سعوده، وشهد بصدق المحبة الصادقة شهوده، وطلع من الجانب الغربيّ هلاله فلاحت بالمشرق بحسن التلقّي سعوده فقرّ منه برؤيته الناظر، وابتهج بموافاته الخاطر، ولاحت من جوانبه لوائح البشر فأحسن تلقّيه سلطاننا الناصر.
وقابلناه من القبول بما كاد باطنه لكمال الموافاة يكون عنوانا للظاهر، وفضضنا ختامه المصون عن بديع كلام مخترع، وبنات فكر قبله لم تفترع، وفصاحة قد أحكم اللّسن مبانيها، وبلاغة تناسبت ألفاظها فكانت قوالب لمعانيها، وبراعة قد أحسنت البديهة ترتيبها فجاءت وتواليها تتبع هواديها وفهمنا ما أظهره من كوامن المحبة التي بلغت من القلب الشّغاف، وبوارح الشوق الذي عندنا من مثله أضعاف أضعاف وانتهينا إلى ما أشار إليه المقام العالي من التلويح إلى ما طرق أطراف ممالكنا الشريفة من طارق الاعتدا، وما كان من الواقعة التي كان خبرها لفظاعته يكون كالمبتدا.
ونحن نبدي لعلم المقام العالي ما يوضّح له أنّ ما وقع من هذه القصّة لم يكن عن سوء تدبير، ونورد عليه من بيان السبب ما يحقّق عنده أنّ ذلك لم يكن لعجز ولا تقصير، بل لأمر قدّر في الأزل، ومقدور الله تعالى لا يدفع بالحيل.
وذلك أنه لما اتّصل بمسامعنا الشريفة قصد العدوّ إلى جهتنا، وتجاوزه حدّ بلاده إلى أطراف مملكتنا بادرنا الحركة إليه في عسكر لجب، وجيوش يضيق عن وسعها الفضاء الرّحب من كل بطل عركته الحروب، وثقّفته الخطوب، وحنّكته التّجارب، وعجم عوده بكثرة المنازلات قراع الكتائب. قد امتطى طرفا (1) عربيّ الأصل كريم الحسب، خالص العتق صريح النّسب يفوت الطّرف مدى باعه المديد، ويسبق حافره موقع بصره الحديد. ولبس درعا قد أحكم سردها، وأبرم
__________
(1) الطّرف: الكريم من الناس والخيل ونحوها.(7/437)
شدّها، وبالغت في السّبوغ (1) فاتّصفت بصفات الكرام، وضاقت عينها فمنعت شبحا حتّى ذباب السّهام. ووضع على رأسه بيضة (2) يخطف الأبصار وميض برقها، وتزلق السّهام الراشقة صلابة طرقها وترفعها الأبطال على الرؤوس فلا ترى أنها قامت ببعض حقّها. وتقلّد سيفا يمضي على الرقاب نافذ حكمه، ويقضي بانقضاء الأجل انقضاض نجمه، لا ينبو عن ضريبة فيردّ، ولا يقف حدّه في القطع عند حدّ. واعتقل رمحا يجري الدماء سنانه بأنابيبه، ويمدّ إلى الفارس باعه الطويل فيأخذ بتلابيبه، وتتمسّك المنايا بأسبابه فتتعلّق منه بالأذيال، وتضرّس الحرب بزرق أنيابه كأنها أنياب أغوال. وتنكّب قوسا موعز الآجال هلال هلالها، ومورد المنون إرسال نبالها ومدرك الثار رنّة وترها، وموقد نار الحرب قدح شررها، قد اقترن بها سهام تسابق الريح في سرعتها، وتعاجل الموت بصرعتها، وتختطف العيون في ممرّها، وتختلس النفوس من مقرّها تدخل هجما كلّ محتجب، وتأتي الحذر من حيث لا يحتسب. وتناول عمودا يهجم على الأضالع بأضلاعه فيفدغها، ويصافح الرّؤوس بكفّه الملتحمة الأصابع فيدمغها يقرّب من الأجل كلّ بعيد، ويخلق من العمر كلّ جديد، ولا يقاومه في الدّفاع بيضة وأنّى تقاوم البيضة زبرة (3) من حديد.
وتحرّكنا من الديار المصرية في جيوش لا يأخذها حصر، ولا يلحقها هصر، ولا يظنّ بها على كثرة الأعداد كسر ولم نزل نحثّ السير، ونسرع الحركة للقاء العدوّ إسراع الطير، حتّى وافينا دمشق المحروسة فنزلنا بظاهرها، مستمطرين النصر في أوائل حركتنا وأواخرها وانضمّ إلينا من عساكر الشام وعربانها، وتركمانها الزائدة على العدّ وعشرانها، مالا ينقطع له مدد، ولا يدخل تحت حصر
__________
(1) سبغ الشيء سبوغا: تمّ واكتمل. وأسبغ الفارس: لبس درعا سابغة. وأسبغ الله عليك النعمة: أكملها وأتمها.
(2) البيضة: الخوذة.
(3) زبرة الحديد: القطعة الضخمة منه.(7/438)
ولا عدد. وأقبل القوم في لفيف كالجراد المنتشر، وأمواج البحر التي لا تنحصر:
من أجناس مختلفة، وجموع على تباين الأنواع مؤتلفة، وتراءى الجمعان في أفسح مكان، ورأى كلّ قبيل الآخر رأى العين وليس الخبر كالعيان، واعتدّ الفريقان للنّزال، واحتفروا خنادق للاحتراس وتبوّأنا مقاعد للقتال، ولم يبق إلا المبارزة، والتقاء الصّفوف والمناجزة، إذ ورد وارد من جهتهم بطلب الصّلح والموادعة، والجنوح إلى السّلم وقطع المنازعة فأجبناهم بالإجابة، ورأينا أنّ حقن الدماء من الجانبين من أتمّ مواقع الرأي إصابة وكتبنا إليهم في ضمن الجواب:
لمّا أتانا منكم قاصد ... يسأل في الصّلح وكفّ القتال
قلنا له نعم الّذي قلته ... والصّلح خير وأجبنا السّؤال
فبينا نحن على ذلك، واقفون من المواعدة على الموادعة على ما هنالك، إذ بلغنا أن طائفة من الخونة الذين ضلّ سعيهم، وعاد عليهم بالوبال ولله الحمد بغيهم، توجّهوا إلى الديار المصرية للاستيلاء على تخت ملكنا الشريف في الغيبة، آملين ما لم يحصلوا منه إلا على الخيبة فلم يسع إلا الإسراع في طلبهم، للقبض عليهم وإيقاع النّكال بهم، وجازيناهم بما يجازي به الملوك من رام مرامهم، وظنّ العدوّ أن قصدنا الديار المصرية إنما كان لخوف أو فشل، فأخذ في خداع أهل البلد حتّى سلّموه إليه وفعل فعلته التي فعل، ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
ثم لم نزل ندأب في تحصين البلاد وترويج أعمالها، وترتيب أمورها وتعديل أحوالها، حائطين أقطارها المتسعة بجيوش لا يكلّ حدّها، ولا يعقب بالجزر مدّها، ليكونوا للبلاد أسوارا، وللدولة القاهرة إن شاء الله تعالى أعوانا وأنصارا وأعاد الله تعالى المملكة إلى حالها المعروف، وترتيبها المألوف، فاستقرّت بعد الاضطراب، وتوطّنت بعد الاغتراب.
وفي خلال ذلك تردّدت الرسل إلينا في عقد الصلح وإمضائه، ودفن ما كان
بين الفريقين من المباينة وإخفائه فلم يسعنا التلكّؤ عن المصالحة [بل سعينا] سعيها والله تعالى يقول: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهََا} (1) فعقدنا لهم عقد الصّلح وأمضيناه وأحكمنا قواعده توكّلا على الله تعالى وأبرمناه، وجهّزنا إليهم نسخة منه طمغت بطمغة قانهم عليها، وأعيدت إلينا بعد ذلك ليكون المرجع عند الاختلاف والعياذ بالله تعالى إليها: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمََا يَنْكُثُ عَلى ََ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى ََ بِمََا عََاهَدَ عَلَيْهُ اللََّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (2).(7/439)
وفي خلال ذلك تردّدت الرسل إلينا في عقد الصلح وإمضائه، ودفن ما كان
بين الفريقين من المباينة وإخفائه فلم يسعنا التلكّؤ عن المصالحة [بل سعينا] سعيها والله تعالى يقول: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهََا} (1) فعقدنا لهم عقد الصّلح وأمضيناه وأحكمنا قواعده توكّلا على الله تعالى وأبرمناه، وجهّزنا إليهم نسخة منه طمغت بطمغة قانهم عليها، وأعيدت إلينا بعد ذلك ليكون المرجع عند الاختلاف والعياذ بالله تعالى إليها: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمََا يَنْكُثُ عَلى ََ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى ََ بِمََا عََاهَدَ عَلَيْهُ اللََّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (2).
والله تعالى يجنّب إخاءكم الكريم مواقع الغير، ويقرن مودّته الصادقة بصفاء لا يشوبه على ممرّ الزمان كدر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجملة الرابعة (في مكاتبة ملك المسلمين بالأندلس)
وهو صاحب غرناطة، وقلعتها تسمى حمراء غرناطة. وقد تقدّم في المقالة الثانية في المسالك والممالك ذكر هذه المملكة وأحوالها، ومن ملكها جاهليّة وإسلاما، وأنها الآن بيد بني الأحمر. وقد ذكر في «التعريف» أنهم من ولد قيس ابن سعد بن عبادة سيد الخزرج الأنصاريّ: صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهي منهم الآن بيد السلطان محمد بن يوسف بن محمد المخلوع ابن يوسف بن إسماعيل ابن الرئيس أبي سعيد فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر وقد أذلّ الله من يجاوره من نصارى الفرنج بسيفه، وامتنع في أيامه ما كان يؤدّيه من قبله من أواخر ملوك الأندلس إلى ملك الفرنج من الإتاوة في كل سنة، لاستقبال سنة ثنتين وسبعين وسبعمائة وإلى آخر وقت.
وقد ذكر في «التعريف» أنّ سلطانها كان في زمانه في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» أبا الفضل يوسف ولعله يوسف بن إسماعيل المقدّم
__________
(1) الأنفال / 61.
(2) الفتح / 10.(7/440)
ذكره. قال: وهو شابّ فاضل له يد في الموشّحات. ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف» بعد البسملة «أما بعد» بخطبة مختصرة، «فهذه المفاوضة إلى الحضرة العلية، السنيّة، السريّة، العالميّة، العادليّة، المجاهدية، المؤيّديّة، المرابطيّة، المثاغرية، المظفّرية، المنصوريّة، بقيّة شجرة الفخار، وخالصة سلف الأنصار، المجاهد عن الدين، والذابّ عن حوزة المسلمين، ناصر الغزاة والمجاهدين، زعيم الجيوش، خلاصة الخلافة المعظمة، أثير الإمامة المكرّمة، ظهير أمير المؤمنين، أبي فلان فلان».
وهذا صدر لهذه المكاتبة ذكره في «التعريف» وهو.
صدرت هذه المكاتبة إليه متكفّلة بالنصر على بعد الدار، مجرّدة النصل إلا أنه الذي لا يؤخّره البدار مسعدة بالهمم ولولا الاشتغال بجهاد أعداء الله فيمن قرب لما تقدّمت سرعان الخيل، ولا أقبلت إلّا وفي [أوائل] (1) طلائعها للأعداء الويل ولا كتبت إلا والعجاج يترّب السّطور، والفجاج تقذف ما فيها على ظهور الصّواهل إلى بطون البحور. مبدية ذكر ما عندنا بسببها لمجاورة الكفّار، ومحاورة السيوف التي لا تملّ من النفار مع العلم بما لها في ذلك من فضيلة الجهاد، ومزيّة الجلد على طول الجلاد، ومصابرة السهر لأوقات منيمه، ومكاثرة هذا العدوّ بالصبر ليكون لها غنيمة، ونحن على إمدادها أيدها الله بالنصر وبالدعاء الذي هو أخفّ إليها من العساكر، وأخفى مسيرا إذا قدّر حقّه الشاكر ثقة بأن الله سينصر حزبه الغالب، ويكفّ عدوّه المغالب، ويصل بإمداد الملائكة لجنده، ويأتي بالفتح أو بأمر من عنده، لتجري ألطافه على ما عوّدت، ويؤخذ الأعداء بالجريرة، ولينصرنّ الله من ينصره وينظر إلى أهل هذه الجزيرة.
والذي ذكره في «التثقيف» أن رسم المكاتبة إليه مثل صاحب تونس في القطع والخطابة، والاختتام، والعلامة، والتعريف «صاحب حمراء غرناطة».
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف».(7/441)
وهذه نسخة جواب إلى صاحب حمراء غرناطة. وقد ورد كتابه في ورق أحمر يتضمّن قيامه بأمر الجهاد في الكفّار، وما حصل من استيلاء بعض أقاربه على ملكه ونزعه منه، وأنه استظهر بعد ذلك على المذكور وقتله، وعاد إلى ملكه على عادته. في جمادى الأولى سنة خمس وستين وسبعمائة، وهي:
نخصّ الحضرة العلية، حضرة الأمير فلان، وألقابه، جعل الله له النصر أين سار قرينا، والظّفر والاستظهار مصاحبا وخدينا، وزاد في محلّه الأسنى تمكينا وتأمينا، ومنح أفقه الغربيّ من أسرّة وجهه المتلأليء الإشراق، ومهابة بطشه الذي يورد العدا موارد الرّدى بالاتّفاق، تحسينا وتحصينا بإهداء السلام الذي يتأرّج عرفا، ويتبلّج وصفا، ويكاد يمازح النّسيم لطفا وإبداء الشّكر الذي جلّله ملابس الإكرام وأضفى، وأجمل منه نفائس عقد المودّة التي أظهرها فلم تكن تخفى.
ثم بعد حمد الله مؤكّد أسباب علاه، ومؤيّد موجبات نصره وما النصر إلا من عند الله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله الذي أمدّه بملائكته المقرّبين، ونصره بالرّعب مسيرة شهر كما ورد بالنصّ والتعيين، ورفع باسمه ألوية المؤمنين الموحّدين، وقمع ببأسه ثائرة البغاة والمتمرّدين، وعلى آله وصحبه الذين لازموا التمسك بأسباب الدين، وجاهدوا في إقامة منار الإسلام لما علموا مقدار أجرهم علم اليقين، صلاة متوالية متواترة على ممرّ الأحقاب والسّنين فإنا نوضّح لعلمه الكريم أنّ كتابه ورد علينا مشتملا على المحاسن الغرّاء، مغربا بل معربا لنا بحمرة لونه أن نسبته إلى الحمراء، مشبها ورد الخدود والنّقس فيه كالخال، أو شقائق النّعمان كما بدا روضه غبّ السحاب المتوال. فوقفنا على مضمونه جميعه، وتلمّحنا بديع معانيه من جميل توشيعه وترصيعه، وعلمنا ما شرحه فيه: من استمراره على عادة سلفه في القيام بأمر الجهاد، وقطع دابر الكفرة ذوي الشّقاق والعناد، وتوطيد ما لديه من تلك البلاد، وتطمين ما بها من العباد، وما اتفق من قريبه في الصورة لا في المعنى، وكيف أساء إليه فعلا وقد أحسن به ظنّا، وأنه رصد الغفلة من جنابه، وأقدم على ما أقدم عليه من اقتراف البغي والتمسّك بأسبابه، ولم يزل يراعي غيبة الرّقيب وهجوع السامر، إلى أن تمكّن من الاستيلاء على ذلك
الملك الذي ظنّ أنّ أمره إليه صائر لكنه مع كونه قد اقتحم في فعلته هذه الأهوال، وتوهّم أنه قد حصل بمكره على بلوغ بعض الآمال، فإنه ما سلّم ولله الحمد والمنّة حتّى ودّع، ولا أقبل سحاب استيلائه حتّى أقشع، بما قدّره الله تعالى لحضرة الأمير من نصرته، وعوده إلى محلّ أمره وإمرته. وأنه آثر اطّلاع علومنا الشريفة على هذه الواقعة، لما يعلم من تأكيد المودة التي غدت حمائهما على أفنان المحبّة ساجعة وقد علمنا هذا الأمر، وشكرنا جميل محبّته التي لم ينسج على منوالها زيد ولا عمرو، وابتهجنا بما يسّره الله تعالى له من ذلك، وانتهزنا فرص السّرور بما منحه الله من ظفره المتقارب المتدارك، وحمدنا الله تعالى على تأييد هذه العصابة الإسلاميّة، وما منّ به من عود شمس هذا الأفق الغربيّ إلى مطالعها السنيّة ولا جرم أن كانت له النّصرة، والاستيلاء والقدرة: لأن الله تعالى قد تكفّل سبحانه لأوليائه بمزيد التكريم والتعزيز، إذ قال عز وجل: {ذََلِكَ وَمَنْ عََاقَبَ بِمِثْلِ مََا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللََّهُ} (1) {إِنَّ اللََّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} *.(7/442)
ثم بعد حمد الله مؤكّد أسباب علاه، ومؤيّد موجبات نصره وما النصر إلا من عند الله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله الذي أمدّه بملائكته المقرّبين، ونصره بالرّعب مسيرة شهر كما ورد بالنصّ والتعيين، ورفع باسمه ألوية المؤمنين الموحّدين، وقمع ببأسه ثائرة البغاة والمتمرّدين، وعلى آله وصحبه الذين لازموا التمسك بأسباب الدين، وجاهدوا في إقامة منار الإسلام لما علموا مقدار أجرهم علم اليقين، صلاة متوالية متواترة على ممرّ الأحقاب والسّنين فإنا نوضّح لعلمه الكريم أنّ كتابه ورد علينا مشتملا على المحاسن الغرّاء، مغربا بل معربا لنا بحمرة لونه أن نسبته إلى الحمراء، مشبها ورد الخدود والنّقس فيه كالخال، أو شقائق النّعمان كما بدا روضه غبّ السحاب المتوال. فوقفنا على مضمونه جميعه، وتلمّحنا بديع معانيه من جميل توشيعه وترصيعه، وعلمنا ما شرحه فيه: من استمراره على عادة سلفه في القيام بأمر الجهاد، وقطع دابر الكفرة ذوي الشّقاق والعناد، وتوطيد ما لديه من تلك البلاد، وتطمين ما بها من العباد، وما اتفق من قريبه في الصورة لا في المعنى، وكيف أساء إليه فعلا وقد أحسن به ظنّا، وأنه رصد الغفلة من جنابه، وأقدم على ما أقدم عليه من اقتراف البغي والتمسّك بأسبابه، ولم يزل يراعي غيبة الرّقيب وهجوع السامر، إلى أن تمكّن من الاستيلاء على ذلك
الملك الذي ظنّ أنّ أمره إليه صائر لكنه مع كونه قد اقتحم في فعلته هذه الأهوال، وتوهّم أنه قد حصل بمكره على بلوغ بعض الآمال، فإنه ما سلّم ولله الحمد والمنّة حتّى ودّع، ولا أقبل سحاب استيلائه حتّى أقشع، بما قدّره الله تعالى لحضرة الأمير من نصرته، وعوده إلى محلّ أمره وإمرته. وأنه آثر اطّلاع علومنا الشريفة على هذه الواقعة، لما يعلم من تأكيد المودة التي غدت حمائهما على أفنان المحبّة ساجعة وقد علمنا هذا الأمر، وشكرنا جميل محبّته التي لم ينسج على منوالها زيد ولا عمرو، وابتهجنا بما يسّره الله تعالى له من ذلك، وانتهزنا فرص السّرور بما منحه الله من ظفره المتقارب المتدارك، وحمدنا الله تعالى على تأييد هذه العصابة الإسلاميّة، وما منّ به من عود شمس هذا الأفق الغربيّ إلى مطالعها السنيّة ولا جرم أن كانت له النّصرة، والاستيلاء والقدرة: لأن الله تعالى قد تكفّل سبحانه لأوليائه بمزيد التكريم والتعزيز، إذ قال عز وجل: {ذََلِكَ وَمَنْ عََاقَبَ بِمِثْلِ مََا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللََّهُ} (1) {إِنَّ اللََّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} *.
وأما غير ذلك، فقد وصل رسول الحضرة العلية إلينا وتمثل بمواقفنا المعظّمة، ومحالّ مملكتنا المكرّمة وأقبلنا عليه، وضاعفنا الإحسان إليه، وأدّى إلينا ما تحمّله من المشافهة الكريمة، ورسائل المحبّة والمودّة القديمة فرسمنا باجابة قصده، وتوفير برّه ورفده، وقضاء شغله الذي حضر فيه، وتسهيل مآربه بمزيد التنويل والتنويه، ومسامحة الحضرة العلية بما يتعيّن على ما قيمته ألفا دينار مصرية حسب ما عيّنه رسوله المذكور، ولو كان سألنا أضعاف ذلك لأجبنا سؤاله من غير تروّ ولا فتور. وقد جهّزنا إليه صحبته ما أنعمت به صدقاتنا الشريفة عليه من الدّرياق ودهن البلسان (2)، فليتحقّق ماله عندنا من المكانة والمحلّ الرفيع الشان وقد أعدنا رسوله المذكور إلى جهته الكريمة بهذا الجواب الشريف،
__________
(1) الحج / 60.
(2) الدرياق: هو الترياق، مضاد للسمّ. والبلسان: شجر له زهر أبيض صغير كهيئة العناقيد، ويستخرج من بعض أنواعه دهن عطر ينبت بعين شمس بظاهر القاهرة.(7/443)
محترما مكرّما مشمولا من إحساننا بالتّليد والطّريف فيحيط علما بذلك والله تعالى يمدّه بمزيد التأييد، ويمنحه من جميل الإقبال، وجزيل النّوال، ما يربي على الأمل ويزيد!
تم الجزء السابع. يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن المقصد الثالث (في المكاتبة إلى أهل الجانب الجنوبي ممن جرت العادة بالمكاتبة إليه من العرب والسّودان، وفيه ثلاث جمل) والحمد لله رب العالمين. وصلاته على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه والتابعين وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل(7/444)
تم الجزء السابع. يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن المقصد الثالث (في المكاتبة إلى أهل الجانب الجنوبي ممن جرت العادة بالمكاتبة إليه من العرب والسّودان، وفيه ثلاث جمل) والحمد لله رب العالمين. وصلاته على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه والتابعين وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل
مراجع تحقيق الجزء السابع من صبح الأعشى
1 1 أبو العباس القلقشندي وكتابه صبح الأعشى:
مجموعة دراسات الجمعية المصرية العامة للدراسات التاريخية.
منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب 1973 2مقدمة لدراسة التاريخ الإسلامي:
تأليف: د. عبد المنعم ماجد الطبعة الثالثة مكتبة الانجلو المصرية 1971.
3 - الفهرست ابن النديم.
دار المعرفة بيروت 4الأعلام: خير الدين الزركلي.
دار العلم للملايين بيروت 1980 الطبعة الخامسة.
5 - تاريخ الإسلام:
حسن إبراهيم حسن مكتبة النهضة المصرية.
الطبعة السابعة 1964.
6 - معجم البلدان: 2ياقوت الحموي.
دار الكتاب العربي بيروت.
7 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون:
حاجي خليفة.
دار الفكر 1982.
8 - فوات الوفيات:
محمد شاكر الكتبي.
تحقيق احسان عباس دار صادر بيروت 9صبح الأعشى في صناعة الانشا:
القلقشندي الطبعة الأميرية القاهرة.
10 - الحلة السيراء:
ابن الأبّار.
تحقيق حسين مؤنس.
الشركة العربية للطباعة والنشر الطبعة الاولى 1963.
11 - دائرة المعارف الإسلامية:
مجموعة من المستشرقين النسخة العربية منشورات كتاب الشعب القاهرة.
12 - تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور
1 - محي الدين بن عبد الظاهر.(7/445)
12 - تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور
1 - محي الدين بن عبد الظاهر.
تحقيق: مراد كامل ومحمد علي النجار.
منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي بالجمهورية العربية المتحدة الطبعة الاولى 1961.
13 - منطلق تاريخ لبنان:
كمال سليمان الصليبي منشورات كارافان نيويورك 1979.
14 - الروض المعطار في خبر الأقطار:
محمد بن عبد المنعم الحميري.
تحقيق: إحسان عباس.
مكتبة لبنان 1984.
15 - تاريخ اسبانيا الإسلامية (أو كتاب أعمال الأعلام في من بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام) تأليف: ا. ليفي بروفنسال.
دار المكشوف 1957.
16 - صفة جزيرة الأندلس. (منتخبة من كتاب الروض المعطار).
نشر وتصحيح وتعليق: إ. ليفي بروفنسال. القاهرة 1937.
17 - التعريف بمصطلحات صبح الاعشى:
محمد قنديل البقلي.
الهيئة المصرية للكتاب. 1983.
18 - نزهة النفوس والأبدان في تواريخ الزمان:
الخطيب الجوهري، علي بن داوود الصيرفي.
مطبعة دار الكتب 1973.
19 - وفيات الأعيان:
ابن خلكان.
تحقيق احسان عباس دار الثقافة، بيروت 202معجم ما استعجم:
عبد الله بن عبد العزيز البكري.
تحقيق مصطفى السقا عالم الكتب بيروت.
21 - بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب:
محمود شكري الآلوسي.
تحقيق محمد بهجة الاثري.
دار الكتب العلمية بيروت.
22 - التعريفات:
الجرجاني.
دار الكتب العلمية بيروت.
23 - الكليات (معجم في المصطلحات والفروق اللغوية:
أيوب بن موسى الحسيني الكندي.
تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري.
وزارة الثقافة دمشق.
24 - معجم المؤلفين:
عمر رضا كحالة.
مكتبة المثنى ودار احياء التراث بيروت.
25 - سفرنامة (رحلة ناصر خسرو إلى لبنان وفلسطين ومصر والجزيرة في القرن الخامس الهجري).
نقله إلى العربية: يحيى الخشاب دار الكتاب الجديد.
26 - تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن):
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري.
تحقيق: محمود محمد شاكر وأحمد محمد شاكر.
دار المعارف مصر.
27 - الميزان في تفسير القرآن:
محمد حسين الطباطبائي.
1 - مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت.(7/446)
محمد حسين الطباطبائي.
1 - مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت.
28 - تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل:
أحمد السعيد سليمان.
دار المعارف مصر.
29 - الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة:
علي باشا مبارك.
الهيئة المصرية للكتاب 1980.
30 - الانتصار لواسطة عقد الامصار:
ابن دقماق.
دار الآفاق الجديدة بيروت.
31 - ولاة مصر:
محمد يوسف الكندي.
دار صادر بيروت.
تحقيق: حسين نصار.
32 - الخطط المقريزية (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار).
دار صادر بيروت.
33 - مسالك الأبصار في ممالك الامصار (قبائل العرب في القرنين السابع والثامن الهجريين).
لابن فضل الله العمري.
دراسة وتحقيق: دوروتيا كرافولسكي.
المركز الإسلامي للبحوث بيروت.
34 - نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب:
القلقشندي.
دار الكتب العلمية بيروت 1984.
35 - معجم قبائل العرب القديمة والحديثة:
عمر رضا كحالة.
مكتبة المثنى ودار احياء التراث بيروت.
36 - الموسوعة العربية الميسرة:
إشراف محمد شفيق غربال. 2دار الشعب ومؤسسة فرنكلين 1965.
37 - مقدمة ابن خلدون:
مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني 1979.
38 - في التراث العربي:
مصطفى جواد.
منشورات وزارة الإعلام العراق 1975.
39 - الدولة المملوكية:
انطوان خليل ضومط.
دار الحداثة بيروت 1980.
40 - تاريخ الإسلام في الهند:
عبد المنعم النمر.
دار العهد الجديد 1959.
41 - فتوح البلدان:
البلاذري.
تحقيق عبد الله الطباع. وعمر الطباع.
دار النشر للجامعيين 1957.
42 - جمهرة الأمثال:
أبو هلال العسكري.
تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش.
المؤسسة العربية الحديثة 1964.
43 - مجمع الأمثال:
الميداني تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.
مطبعة السنة المحمدية 1955.
44 - المستقصى في أمثال العرب:
الزمخشري.
دار الكتب العلمية بيروت 1977.
45 - امثال العرب:
المفضل بن محمد الضبّي
1 - قدم له وعلق عليه: إحسان عباس.(7/447)
المفضل بن محمد الضبّي
1 - قدم له وعلق عليه: إحسان عباس.
دار الرائد العربي. بيروت.
46 - دراسات في فقه اللغة:
الشيخ صبحي الصالح.
دار العلم للملايين 1960.
47 - فقه اللغة:
علي عبد الواحد وافي.
دار نهضة مصر الطبعة السابعة.
48 - علوم الحديث ومصطلحه:
الشيخ صبحي الصالح.
دار العلم للملايين 1977.
49 - معجم الألفاظ والأعلام القرآنية:
محمد إسماعيل إبراهيم.
دار الفكر العربي.
50 - الألقاب الإسلامية في التاريخ والوثائق والآثار:
د. حسن الباشا.
القاهرة 1957.
51 - ضوء الصبح: 2القلقشندي.
القاهرة 1324هـ.
52 - لسان العرب:
ابن منظور.
دار صادر بيروت.
53 - القاموس المحيط:
الفيروزآبادي.
المؤسسة العربية للطباعة والنشر بيروت.
54 - المعجم الوسيط:
مجمع اللغة العربية القاهرة.
55 - مقاييس اللغة:
أحمد بن فارس.
تحقيق عبد السلام هارون. دار الفكر.
56 - معجم عبد النور المفصل:
جبور عبد النور.
دار العلم للملايين بيروت.
57 - معجم 0891.(7/448)
فهرس موضوعات الجزء السابع
الوضوع الصفحة الطرف العاشر في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية، ولها حالتان 3 الحالة الأولى ما كان الأمر عليه قبل دولة الخلفاء الفاطميين 3 الحالة الثانية من حالات المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية، ومكاتباتهم على أربعة أساليب 18 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بالدعاء للمجلس أو الجناب 20 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإصدار 22 الأسلوب الثالث أن تفتتح المكاتبة بلفظ «هذه المكاتبة إلى المجلس» 27 الأسلوب الرابع أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابنا» وباقي الأمر على نحو ما تقدّم 29 الطرف الحادي عشر في المكاتبات الصادرة عن ملوك أهل الغرب، ولها حالتان 30 الحالة الأولى ما كان الأمر عليه في الزمن المتقدّم، وهو على أربعة أساليب 31 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ «من فلان إلى فلان» ويدعى للمكتوب إليه 31 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أما بعد» وهو على ضربين 34 الضرب الأول أن تعقّب البعدية بالحمد لله، ويؤتى على الخطبة إلى آخرها 34 الضرب الثاني أن تعقّب البعدية بذكر المقصود من غير خطبة 37 الأسلوب الثالث أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابنا إليكم من موضع كذا والأمر على كذا وكذا» 38 الحالة الثانية ما الأمر مستقرّ عليه الآن مماكان عليه وزير ابن الأحمر، والمكابتة فيه على ثلاثة أساليب 40 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة باللقب اللائق بالمكتوب إليه، وهو على أضرب 41 الضرب الأول أن يبتدأ بلفظ «المقام» وهو مخصّص بالكتابة إلى الملوك 41
الموضوع الصفحة الضرب الثاني أن يقع الابتداء بالمقرّ 50 الضرب الثالث أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإمارة 61 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب إليه أو المكتوب عنه، وهو على ضربين 64 الضرب الأول أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب إليه تعظيما له 64 الضرب الثاني أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب عنه، وهو على صنفين 67 الصنف الأول ما يكتب به إلى بعض الملوك 67 الصنف الثاني ما يكتب به إلى الرعايا 70 الأسلوب الثالث أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أما بعد» 74 الطرف الثاني عشر في الكتب الصادرة عن وزراء الخلفاء، وفيه جملتان 6 الجملة الأولى في الكتب الصادرة عن وزراء خلفاء بني العباس ببغداد، وهي على أسلوبين 76 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابي» 78 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإصدار 81 الجملة الثانية في الكتب الصادرة عن وزرا خلفاء الفاطميين بالديار المصرية 83 الطرف الثالث عشر في المكاتبات الصادرة عن الاتباع، إلى الملوك ومن في معناهم، وفيه ثلاث جمل 86 الجملة الأولى في المكاتبات الصادرة عن الاتباع ملوك الشرق إليهم في الزمن المتقدم، وهي على أسلوبين 86 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابي» 86 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بالإصدار 89 الجملة الثانية في المكاتبات الصادرة عن الاتباع ملوك المغرب إليهم والمختار منه أربعة أساليب 95 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بالحضرة 99
الموضوع الصفحة الأسلوب الثالث أن تفتتح المكاتبة بأمّا بعد، ويتخلص إلى المقصد ويختم بما يناسب المقام 103 الأسلوب الرابع أن تفتتح المكاتبة بلفظ «سيدي» أو «مولاي» مع حرف النداء أو دونه 104 الطرف الرابع عشر فيما يختص بالأجوبة الصادرة عن الملوك وإليهم، وهي على ضربين 109 الضرب الأول الأجوبة الصادرة عن الملوك إلى غيرهم، وفيه ثلاث جمل 109 الجملة الأولى في الأجوبة الصادرة عن ملوك الشرق، وفيه أسلوبان 109 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابنا» و «وصل كتابك» 109 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بلفظ «وصل كتابك» 112 الجملة الثانية في الأجوبة الصادرة عن ملوك الديار المصرية من وزراء الخلفاء الفاطميين القائمين مقام الملوك الآن فمن بعدهم، وفيه أسلوب واحد، وهو الافتتاح بلفظ «وصل» 113 الجملة الثالثة في الأجوبة الصادرة عن ملوك الغرب 116 الضرب الثاني الأجوبة الواردة على الملوك 117 القسم الثاني المكاتبات الصادرة عنهم إلى ملوك الكفر، وفيه طرفان 118 الجملة الأولى في المكاتبات الصادرة إليهم عن ملوك بلاد الشرق ممن بني بويه فمن بعدهم 118 الجملة الثانية في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية إليهم 121 الجلمة الثالثة في الأجوبة الصادرة إليهم عن ملوك الغرب 123 الطرف الخامس عشر المكاتبات الصادرة إلى ملوك الكفر في الأجوبة 124 الفصل الرابع من الباب الثاني، من المقالة الرابعة في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية إلى ولاة العهد بالخلافة 127 الطرف الأول في المكاتبات الصادرة عنهم إلى الخلفاء من بني العباس 127 الطرف الثاني في المكاتبة إلى ولاة العهد بالخلافة 144 الطرف الثالث من المصطلح المستقرّ عليه الحال في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية إلى أهل المملكة: من مصر والشام والحجاز، وفيه ثلاثة مقاصد 148 المقصد الأول في المكاتبات المفردة وفيه مسلكان 148
الموضوع الصفحة المسلك الأول في بيان رتب المكاتبات ورتب أهلها، وهي على ضربين 148 الضرب الأول المكاتبات إلى الملوك على ما كان عليه الحال في الزمن المتقدم 148 الضرب الثاني المكاتبات(7/449)
الوضوع الصفحة الطرف العاشر في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية، ولها حالتان 3 الحالة الأولى ما كان الأمر عليه قبل دولة الخلفاء الفاطميين 3 الحالة الثانية من حالات المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية، ومكاتباتهم على أربعة أساليب 18 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بالدعاء للمجلس أو الجناب 20 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإصدار 22 الأسلوب الثالث أن تفتتح المكاتبة بلفظ «هذه المكاتبة إلى المجلس» 27 الأسلوب الرابع أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابنا» وباقي الأمر على نحو ما تقدّم 29 الطرف الحادي عشر في المكاتبات الصادرة عن ملوك أهل الغرب، ولها حالتان 30 الحالة الأولى ما كان الأمر عليه في الزمن المتقدّم، وهو على أربعة أساليب 31 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ «من فلان إلى فلان» ويدعى للمكتوب إليه 31 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أما بعد» وهو على ضربين 34 الضرب الأول أن تعقّب البعدية بالحمد لله، ويؤتى على الخطبة إلى آخرها 34 الضرب الثاني أن تعقّب البعدية بذكر المقصود من غير خطبة 37 الأسلوب الثالث أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابنا إليكم من موضع كذا والأمر على كذا وكذا» 38 الحالة الثانية ما الأمر مستقرّ عليه الآن مماكان عليه وزير ابن الأحمر، والمكابتة فيه على ثلاثة أساليب 40 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة باللقب اللائق بالمكتوب إليه، وهو على أضرب 41 الضرب الأول أن يبتدأ بلفظ «المقام» وهو مخصّص بالكتابة إلى الملوك 41
الموضوع الصفحة الضرب الثاني أن يقع الابتداء بالمقرّ 50 الضرب الثالث أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإمارة 61 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب إليه أو المكتوب عنه، وهو على ضربين 64 الضرب الأول أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب إليه تعظيما له 64 الضرب الثاني أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب عنه، وهو على صنفين 67 الصنف الأول ما يكتب به إلى بعض الملوك 67 الصنف الثاني ما يكتب به إلى الرعايا 70 الأسلوب الثالث أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أما بعد» 74 الطرف الثاني عشر في الكتب الصادرة عن وزراء الخلفاء، وفيه جملتان 6 الجملة الأولى في الكتب الصادرة عن وزراء خلفاء بني العباس ببغداد، وهي على أسلوبين 76 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابي» 78 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإصدار 81 الجملة الثانية في الكتب الصادرة عن وزرا خلفاء الفاطميين بالديار المصرية 83 الطرف الثالث عشر في المكاتبات الصادرة عن الاتباع، إلى الملوك ومن في معناهم، وفيه ثلاث جمل 86 الجملة الأولى في المكاتبات الصادرة عن الاتباع ملوك الشرق إليهم في الزمن المتقدم، وهي على أسلوبين 86 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابي» 86 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بالإصدار 89 الجملة الثانية في المكاتبات الصادرة عن الاتباع ملوك المغرب إليهم والمختار منه أربعة أساليب 95 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بالحضرة 99
الموضوع الصفحة الأسلوب الثالث أن تفتتح المكاتبة بأمّا بعد، ويتخلص إلى المقصد ويختم بما يناسب المقام 103 الأسلوب الرابع أن تفتتح المكاتبة بلفظ «سيدي» أو «مولاي» مع حرف النداء أو دونه 104 الطرف الرابع عشر فيما يختص بالأجوبة الصادرة عن الملوك وإليهم، وهي على ضربين 109 الضرب الأول الأجوبة الصادرة عن الملوك إلى غيرهم، وفيه ثلاث جمل 109 الجملة الأولى في الأجوبة الصادرة عن ملوك الشرق، وفيه أسلوبان 109 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابنا» و «وصل كتابك» 109 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بلفظ «وصل كتابك» 112 الجملة الثانية في الأجوبة الصادرة عن ملوك الديار المصرية من وزراء الخلفاء الفاطميين القائمين مقام الملوك الآن فمن بعدهم، وفيه أسلوب واحد، وهو الافتتاح بلفظ «وصل» 113 الجملة الثالثة في الأجوبة الصادرة عن ملوك الغرب 116 الضرب الثاني الأجوبة الواردة على الملوك 117 القسم الثاني المكاتبات الصادرة عنهم إلى ملوك الكفر، وفيه طرفان 118 الجملة الأولى في المكاتبات الصادرة إليهم عن ملوك بلاد الشرق ممن بني بويه فمن بعدهم 118 الجملة الثانية في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية إليهم 121 الجلمة الثالثة في الأجوبة الصادرة إليهم عن ملوك الغرب 123 الطرف الخامس عشر المكاتبات الصادرة إلى ملوك الكفر في الأجوبة 124 الفصل الرابع من الباب الثاني، من المقالة الرابعة في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية إلى ولاة العهد بالخلافة 127 الطرف الأول في المكاتبات الصادرة عنهم إلى الخلفاء من بني العباس 127 الطرف الثاني في المكاتبة إلى ولاة العهد بالخلافة 144 الطرف الثالث من المصطلح المستقرّ عليه الحال في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية إلى أهل المملكة: من مصر والشام والحجاز، وفيه ثلاثة مقاصد 148 المقصد الأول في المكاتبات المفردة وفيه مسلكان 148
الموضوع الصفحة المسلك الأول في بيان رتب المكاتبات ورتب أهلها، وهي على ضربين 148 الضرب الأول المكاتبات إلى الملوك على ما كان عليه الحال في الزمن المتقدم 148 الضرب الثاني المكاتبات(7/450)
الوضوع الصفحة الطرف العاشر في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية، ولها حالتان 3 الحالة الأولى ما كان الأمر عليه قبل دولة الخلفاء الفاطميين 3 الحالة الثانية من حالات المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية، ومكاتباتهم على أربعة أساليب 18 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بالدعاء للمجلس أو الجناب 20 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإصدار 22 الأسلوب الثالث أن تفتتح المكاتبة بلفظ «هذه المكاتبة إلى المجلس» 27 الأسلوب الرابع أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابنا» وباقي الأمر على نحو ما تقدّم 29 الطرف الحادي عشر في المكاتبات الصادرة عن ملوك أهل الغرب، ولها حالتان 30 الحالة الأولى ما كان الأمر عليه في الزمن المتقدّم، وهو على أربعة أساليب 31 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ «من فلان إلى فلان» ويدعى للمكتوب إليه 31 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أما بعد» وهو على ضربين 34 الضرب الأول أن تعقّب البعدية بالحمد لله، ويؤتى على الخطبة إلى آخرها 34 الضرب الثاني أن تعقّب البعدية بذكر المقصود من غير خطبة 37 الأسلوب الثالث أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابنا إليكم من موضع كذا والأمر على كذا وكذا» 38 الحالة الثانية ما الأمر مستقرّ عليه الآن مماكان عليه وزير ابن الأحمر، والمكابتة فيه على ثلاثة أساليب 40 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة باللقب اللائق بالمكتوب إليه، وهو على أضرب 41 الضرب الأول أن يبتدأ بلفظ «المقام» وهو مخصّص بالكتابة إلى الملوك 41
الموضوع الصفحة الضرب الثاني أن يقع الابتداء بالمقرّ 50 الضرب الثالث أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإمارة 61 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب إليه أو المكتوب عنه، وهو على ضربين 64 الضرب الأول أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب إليه تعظيما له 64 الضرب الثاني أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب عنه، وهو على صنفين 67 الصنف الأول ما يكتب به إلى بعض الملوك 67 الصنف الثاني ما يكتب به إلى الرعايا 70 الأسلوب الثالث أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أما بعد» 74 الطرف الثاني عشر في الكتب الصادرة عن وزراء الخلفاء، وفيه جملتان 6 الجملة الأولى في الكتب الصادرة عن وزراء خلفاء بني العباس ببغداد، وهي على أسلوبين 76 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابي» 78 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإصدار 81 الجملة الثانية في الكتب الصادرة عن وزرا خلفاء الفاطميين بالديار المصرية 83 الطرف الثالث عشر في المكاتبات الصادرة عن الاتباع، إلى الملوك ومن في معناهم، وفيه ثلاث جمل 86 الجملة الأولى في المكاتبات الصادرة عن الاتباع ملوك الشرق إليهم في الزمن المتقدم، وهي على أسلوبين 86 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابي» 86 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بالإصدار 89 الجملة الثانية في المكاتبات الصادرة عن الاتباع ملوك المغرب إليهم والمختار منه أربعة أساليب 95 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بالحضرة 99
الموضوع الصفحة الأسلوب الثالث أن تفتتح المكاتبة بأمّا بعد، ويتخلص إلى المقصد ويختم بما يناسب المقام 103 الأسلوب الرابع أن تفتتح المكاتبة بلفظ «سيدي» أو «مولاي» مع حرف النداء أو دونه 104 الطرف الرابع عشر فيما يختص بالأجوبة الصادرة عن الملوك وإليهم، وهي على ضربين 109 الضرب الأول الأجوبة الصادرة عن الملوك إلى غيرهم، وفيه ثلاث جمل 109 الجملة الأولى في الأجوبة الصادرة عن ملوك الشرق، وفيه أسلوبان 109 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابنا» و «وصل كتابك» 109 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بلفظ «وصل كتابك» 112 الجملة الثانية في الأجوبة الصادرة عن ملوك الديار المصرية من وزراء الخلفاء الفاطميين القائمين مقام الملوك الآن فمن بعدهم، وفيه أسلوب واحد، وهو الافتتاح بلفظ «وصل» 113 الجملة الثالثة في الأجوبة الصادرة عن ملوك الغرب 116 الضرب الثاني الأجوبة الواردة على الملوك 117 القسم الثاني المكاتبات الصادرة عنهم إلى ملوك الكفر، وفيه طرفان 118 الجملة الأولى في المكاتبات الصادرة إليهم عن ملوك بلاد الشرق ممن بني بويه فمن بعدهم 118 الجملة الثانية في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية إليهم 121 الجلمة الثالثة في الأجوبة الصادرة إليهم عن ملوك الغرب 123 الطرف الخامس عشر المكاتبات الصادرة إلى ملوك الكفر في الأجوبة 124 الفصل الرابع من الباب الثاني، من المقالة الرابعة في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية إلى ولاة العهد بالخلافة 127 الطرف الأول في المكاتبات الصادرة عنهم إلى الخلفاء من بني العباس 127 الطرف الثاني في المكاتبة إلى ولاة العهد بالخلافة 144 الطرف الثالث من المصطلح المستقرّ عليه الحال في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية إلى أهل المملكة: من مصر والشام والحجاز، وفيه ثلاثة مقاصد 148 المقصد الأول في المكاتبات المفردة وفيه مسلكان 148
الموضوع الصفحة المسلك الأول في بيان رتب المكاتبات ورتب أهلها، وهي على ضربين 148 الضرب الأول المكاتبات إلى الملوك على ما كان عليه الحال في الزمن المتقدم 148 الضرب الثاني المكاتبات(7/451)
الوضوع الصفحة الطرف العاشر في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية، ولها حالتان 3 الحالة الأولى ما كان الأمر عليه قبل دولة الخلفاء الفاطميين 3 الحالة الثانية من حالات المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية، ومكاتباتهم على أربعة أساليب 18 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بالدعاء للمجلس أو الجناب 20 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإصدار 22 الأسلوب الثالث أن تفتتح المكاتبة بلفظ «هذه المكاتبة إلى المجلس» 27 الأسلوب الرابع أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابنا» وباقي الأمر على نحو ما تقدّم 29 الطرف الحادي عشر في المكاتبات الصادرة عن ملوك أهل الغرب، ولها حالتان 30 الحالة الأولى ما كان الأمر عليه في الزمن المتقدّم، وهو على أربعة أساليب 31 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ «من فلان إلى فلان» ويدعى للمكتوب إليه 31 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أما بعد» وهو على ضربين 34 الضرب الأول أن تعقّب البعدية بالحمد لله، ويؤتى على الخطبة إلى آخرها 34 الضرب الثاني أن تعقّب البعدية بذكر المقصود من غير خطبة 37 الأسلوب الثالث أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابنا إليكم من موضع كذا والأمر على كذا وكذا» 38 الحالة الثانية ما الأمر مستقرّ عليه الآن مماكان عليه وزير ابن الأحمر، والمكابتة فيه على ثلاثة أساليب 40 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة باللقب اللائق بالمكتوب إليه، وهو على أضرب 41 الضرب الأول أن يبتدأ بلفظ «المقام» وهو مخصّص بالكتابة إلى الملوك 41
الموضوع الصفحة الضرب الثاني أن يقع الابتداء بالمقرّ 50 الضرب الثالث أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإمارة 61 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب إليه أو المكتوب عنه، وهو على ضربين 64 الضرب الأول أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب إليه تعظيما له 64 الضرب الثاني أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب عنه، وهو على صنفين 67 الصنف الأول ما يكتب به إلى بعض الملوك 67 الصنف الثاني ما يكتب به إلى الرعايا 70 الأسلوب الثالث أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أما بعد» 74 الطرف الثاني عشر في الكتب الصادرة عن وزراء الخلفاء، وفيه جملتان 6 الجملة الأولى في الكتب الصادرة عن وزراء خلفاء بني العباس ببغداد، وهي على أسلوبين 76 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابي» 78 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإصدار 81 الجملة الثانية في الكتب الصادرة عن وزرا خلفاء الفاطميين بالديار المصرية 83 الطرف الثالث عشر في المكاتبات الصادرة عن الاتباع، إلى الملوك ومن في معناهم، وفيه ثلاث جمل 86 الجملة الأولى في المكاتبات الصادرة عن الاتباع ملوك الشرق إليهم في الزمن المتقدم، وهي على أسلوبين 86 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابي» 86 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بالإصدار 89 الجملة الثانية في المكاتبات الصادرة عن الاتباع ملوك المغرب إليهم والمختار منه أربعة أساليب 95 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بالحضرة 99
الموضوع الصفحة الأسلوب الثالث أن تفتتح المكاتبة بأمّا بعد، ويتخلص إلى المقصد ويختم بما يناسب المقام 103 الأسلوب الرابع أن تفتتح المكاتبة بلفظ «سيدي» أو «مولاي» مع حرف النداء أو دونه 104 الطرف الرابع عشر فيما يختص بالأجوبة الصادرة عن الملوك وإليهم، وهي على ضربين 109 الضرب الأول الأجوبة الصادرة عن الملوك إلى غيرهم، وفيه ثلاث جمل 109 الجملة الأولى في الأجوبة الصادرة عن ملوك الشرق، وفيه أسلوبان 109 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابنا» و «وصل كتابك» 109 الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بلفظ «وصل كتابك» 112 الجملة الثانية في الأجوبة الصادرة عن ملوك الديار المصرية من وزراء الخلفاء الفاطميين القائمين مقام الملوك الآن فمن بعدهم، وفيه أسلوب واحد، وهو الافتتاح بلفظ «وصل» 113 الجملة الثالثة في الأجوبة الصادرة عن ملوك الغرب 116 الضرب الثاني الأجوبة الواردة على الملوك 117 القسم الثاني المكاتبات الصادرة عنهم إلى ملوك الكفر، وفيه طرفان 118 الجملة الأولى في المكاتبات الصادرة إليهم عن ملوك بلاد الشرق ممن بني بويه فمن بعدهم 118 الجملة الثانية في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية إليهم 121 الجلمة الثالثة في الأجوبة الصادرة إليهم عن ملوك الغرب 123 الطرف الخامس عشر المكاتبات الصادرة إلى ملوك الكفر في الأجوبة 124 الفصل الرابع من الباب الثاني، من المقالة الرابعة في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية إلى ولاة العهد بالخلافة 127 الطرف الأول في المكاتبات الصادرة عنهم إلى الخلفاء من بني العباس 127 الطرف الثاني في المكاتبة إلى ولاة العهد بالخلافة 144 الطرف الثالث من المصطلح المستقرّ عليه الحال في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية إلى أهل المملكة: من مصر والشام والحجاز، وفيه ثلاثة مقاصد 148 المقصد الأول في المكاتبات المفردة وفيه مسلكان 148
الموضوع الصفحة المسلك الأول في بيان رتب المكاتبات ورتب أهلها، وهي على ضربين 148 الضرب الأول المكاتبات إلى الملوك على ما كان عليه الحال في الزمن المتقدم 148 الضرب الثاني المكاتبات
إلى من عدا الملوك من أرباب السيوف والأقلام وغيرهم، وفيه مهيعان 150 المهيع الأول في رتب المكاتبات، وهي على عشر درجات 150 الدرجة الأولى الدعاء للمقرّ 150 الدرجة الثانية الدعاء للجناب الكريم 153 الدرجة الثالثة الدعاء للجناب العالي بمضاعفة النعمة 154 الدرجة الرابعة الدعاء للجناب العالي بدوام النعمة 155 الدرجة الخامسة الدعاء للمجلس بدوام النعمة 155 الدرجة السادسة صدرت والعالي، ويعبّر عنها بالساميّ أيضا 156 الدرجة السابعة صدرت والسامي، ويعبر عنها بالسامي بغير ياء 157 الدرجة الثامنة يعلم مجلس الأمير 157 المهيع الثاني في بيان مراتب المكتوب إليهم من أهل المملكة، وهم ثلاثة أنواع 166 النوع الأول أرباب السيوف، وهم على ثلاثة أقسام 166 القسم الأول من هو منهم بالديار المصرية، وهم ستة أصناف 166 الصنف الأول نوّاب السلطنة الشريفة، وهم أربعة نواب 166 الصنف الثاني الكشّاف 170 الصنف الثالث الولاة بالوجهين القبليّ والبحريّ 171 الصنف الرابع من يتوجه من الأبواب السلطانية من الأمراء لبعض الأعمال المتقدّمة الذكر 172 الصنف الخامس باقي الأمراء بالديار المصرية 172 الصنف السادس العربان بالديار المصرية وبرقة 175 النوع الثاني ممن يكاتب عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية أرباب الأقلام، وهم على ضربين 179 الضرب الأول أرباب الدواوين من الوزراء ومن في معناهم 179 الضرب الثاني أرباب الوظائف الدينية والعلماء 180 النوع الثالث ممن يكاتب عن الأبواب السلطانية ممن بالديار المصرية الخوندات السلطانية 182
الموضوع الصفحة القسم الثاني من يكاتب بالممالك الشامية، وهم أربعة أنواع 184 النوع الأول أرباب السيوف من النواب الكفّال وأتباعهم، وهي ثمان نيابات 184 النيابة الأولى نيابة دمشق، المعبّر عنها في عرف الزمان بالمملكة الشامية، والمكاتبون بها ضربان 184 الضرب الأول من بمدينة دمشق 184 الضرب الثاني من بأعمال دمشق من نوّاب المدن والقلاع 185 النيابة الثانية نيابة حلب، والمكاتبون بها على ضربين 194 الضرب الأول من بمدينة طرابلس 194 الضرب الثاني من بأعمال طرابلس من النوّاب، وهم صنفان 195 الصنف الأول نوّاب قلاع نفس طرابلس 195 الصنف الثاني نوّاب قلاع الدعوة المضافة إلى طرابلس 196 النيابة الرابعة نيابة حماة، والمكاتبون بها ضرب واحد بمدينة صفد خاصة 197 النيابة الخامسة نيابة صفد، والمكاتبون بها ضرب احد بمدينة غزّة خاصة 197 النيابة السادسة نيابة غزّة، والمكاتبون بها ضرب احد بمدينة غزّة خاصة 197 النيابة السابعة نيابة الكرك، والمكاتبون بها ضرب واحد بمدينة الكرك خاصة 198 النيابة الثامنة نيابة سيس 199 النوع الثاني ممن يكاتب بالمماليك الشامية أرباب الأقلام، وهم صنفان 201 الصنف الأول أرباب الوظائف الديوانية 201 الصنف الثاني القضاة والعلماء 202 النوع الثالث ممن يكاتب بالبلاد الشامية العربان 203 النوع الثالث ممن يكاتب بالبلاد الشمية التركمان 209 النوع الرابع ممن يكاتب بالبلاد الشامية الأكراد 209 القسم الثالث من يكاتب بالبلاد الحجازية 210 المسلك الثاني في معرفة ترتيب المكاتبات المقدّمة الذكر وكيفية أوضاعها، وفيه مأخذان 214
الموضوع الصفحة المأخذ الأول في ترتيب متون المكاتبات ولا يكون إلا ابتداء، وهي على ضربين 214 الضرب الأول ما يكتب في خلاص الحقوق 214 الضرب الثاني ما يكتب من متعلقات البريد في الأمور السلطانية وهي صنفان 217 الصنف الأول ما يكتب به ابتداء 217 الصنف الثاني ما يكتب في الجواب عمّا يرد من النواب وغيرهم 226 المأخذ الثاني في معرفة أوضاع هذه المكاتبات 235 المقصد الثاني في المكاتبات العامة إلى أهل هذه المملكة، وهي المطلقات، وحاصل مرجوعها إلى ثلاثة أضرب 238 الضرب الأول المطلقات المكبّره 239 الضرب الثاني من المطلقات المصغّره 243 الضرب الثالث من المطلقات البرالغ 248 المقصد الثالث من المكاتبات في أوراق الجواز وبطائق الحمام، وفيه جملتان 251 الجملة الأولى في أوراق الجواز 251 الجملة الثانية في نسخ البطائق، وهي على ضربين 254 الضرب الأول أن تكون البطاقة بعلامة شريفة 254 الضرب الثاني أن تكون بغير علامة 254 الطرف الثالث في المكاتبات إلى عظماء ملوك الإسلام، وفيه أربعة مقاصد 255 المقصد الأول في المكاتبات إلى عظماء ملولك الشرق، وفيه أربعة مهايع 256 المهيع الأول في المكاتبة إلى الملوك والحكّام ومن جرى مجراهم بمملكة إيران، ويشتمل المقصود منها على ثلاث جمل 256 الجملة الأولى في رسم المكاتبة إلى قانها الأعظم الجامع لحدودها، وله حالتان 256 الحالة الأولى ما كان الأمر عليه في رسم المكاتبة في أوائل الدولة التركية، وفيه أسلوبان 256 الأسلوب الأول أن يكتب تحت البسملة من الجانب الأيمن «بقوّة الله تعالى» 256 الأسلوب الثاني أن يكتب تحت البسملة على حيال وسطا «بقوة الله تعالى وميامين الملة المحمدية» 264 الحالة الثانية ما كان عليه رسم المكاتبة في الدولة الناصرية «محمد بن
الموضوع الصفحة قلاوون» إلى أبي سعيد 272 الجملة الثانية في المكاتبات إلى من ملك توزير وبغداد بعد موت أبي سعيد 279 الجملة الثالثة في رسم المكاتبة الى من انطوت عليه مملكة ايران، في أيام أبي سعيد فمن بعده، وهم ثمانية أصناف 285 النصف الأول(7/452)
إلى من عدا الملوك من أرباب السيوف والأقلام وغيرهم، وفيه مهيعان 150 المهيع الأول في رتب المكاتبات، وهي على عشر درجات 150 الدرجة الأولى الدعاء للمقرّ 150 الدرجة الثانية الدعاء للجناب الكريم 153 الدرجة الثالثة الدعاء للجناب العالي بمضاعفة النعمة 154 الدرجة الرابعة الدعاء للجناب العالي بدوام النعمة 155 الدرجة الخامسة الدعاء للمجلس بدوام النعمة 155 الدرجة السادسة صدرت والعالي، ويعبّر عنها بالساميّ أيضا 156 الدرجة السابعة صدرت والسامي، ويعبر عنها بالسامي بغير ياء 157 الدرجة الثامنة يعلم مجلس الأمير 157 المهيع الثاني في بيان مراتب المكتوب إليهم من أهل المملكة، وهم ثلاثة أنواع 166 النوع الأول أرباب السيوف، وهم على ثلاثة أقسام 166 القسم الأول من هو منهم بالديار المصرية، وهم ستة أصناف 166 الصنف الأول نوّاب السلطنة الشريفة، وهم أربعة نواب 166 الصنف الثاني الكشّاف 170 الصنف الثالث الولاة بالوجهين القبليّ والبحريّ 171 الصنف الرابع من يتوجه من الأبواب السلطانية من الأمراء لبعض الأعمال المتقدّمة الذكر 172 الصنف الخامس باقي الأمراء بالديار المصرية 172 الصنف السادس العربان بالديار المصرية وبرقة 175 النوع الثاني ممن يكاتب عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية أرباب الأقلام، وهم على ضربين 179 الضرب الأول أرباب الدواوين من الوزراء ومن في معناهم 179 الضرب الثاني أرباب الوظائف الدينية والعلماء 180 النوع الثالث ممن يكاتب عن الأبواب السلطانية ممن بالديار المصرية الخوندات السلطانية 182
الموضوع الصفحة القسم الثاني من يكاتب بالممالك الشامية، وهم أربعة أنواع 184 النوع الأول أرباب السيوف من النواب الكفّال وأتباعهم، وهي ثمان نيابات 184 النيابة الأولى نيابة دمشق، المعبّر عنها في عرف الزمان بالمملكة الشامية، والمكاتبون بها ضربان 184 الضرب الأول من بمدينة دمشق 184 الضرب الثاني من بأعمال دمشق من نوّاب المدن والقلاع 185 النيابة الثانية نيابة حلب، والمكاتبون بها على ضربين 194 الضرب الأول من بمدينة طرابلس 194 الضرب الثاني من بأعمال طرابلس من النوّاب، وهم صنفان 195 الصنف الأول نوّاب قلاع نفس طرابلس 195 الصنف الثاني نوّاب قلاع الدعوة المضافة إلى طرابلس 196 النيابة الرابعة نيابة حماة، والمكاتبون بها ضرب واحد بمدينة صفد خاصة 197 النيابة الخامسة نيابة صفد، والمكاتبون بها ضرب احد بمدينة غزّة خاصة 197 النيابة السادسة نيابة غزّة، والمكاتبون بها ضرب احد بمدينة غزّة خاصة 197 النيابة السابعة نيابة الكرك، والمكاتبون بها ضرب واحد بمدينة الكرك خاصة 198 النيابة الثامنة نيابة سيس 199 النوع الثاني ممن يكاتب بالمماليك الشامية أرباب الأقلام، وهم صنفان 201 الصنف الأول أرباب الوظائف الديوانية 201 الصنف الثاني القضاة والعلماء 202 النوع الثالث ممن يكاتب بالبلاد الشامية العربان 203 النوع الثالث ممن يكاتب بالبلاد الشمية التركمان 209 النوع الرابع ممن يكاتب بالبلاد الشامية الأكراد 209 القسم الثالث من يكاتب بالبلاد الحجازية 210 المسلك الثاني في معرفة ترتيب المكاتبات المقدّمة الذكر وكيفية أوضاعها، وفيه مأخذان 214
الموضوع الصفحة المأخذ الأول في ترتيب متون المكاتبات ولا يكون إلا ابتداء، وهي على ضربين 214 الضرب الأول ما يكتب في خلاص الحقوق 214 الضرب الثاني ما يكتب من متعلقات البريد في الأمور السلطانية وهي صنفان 217 الصنف الأول ما يكتب به ابتداء 217 الصنف الثاني ما يكتب في الجواب عمّا يرد من النواب وغيرهم 226 المأخذ الثاني في معرفة أوضاع هذه المكاتبات 235 المقصد الثاني في المكاتبات العامة إلى أهل هذه المملكة، وهي المطلقات، وحاصل مرجوعها إلى ثلاثة أضرب 238 الضرب الأول المطلقات المكبّره 239 الضرب الثاني من المطلقات المصغّره 243 الضرب الثالث من المطلقات البرالغ 248 المقصد الثالث من المكاتبات في أوراق الجواز وبطائق الحمام، وفيه جملتان 251 الجملة الأولى في أوراق الجواز 251 الجملة الثانية في نسخ البطائق، وهي على ضربين 254 الضرب الأول أن تكون البطاقة بعلامة شريفة 254 الضرب الثاني أن تكون بغير علامة 254 الطرف الثالث في المكاتبات إلى عظماء ملوك الإسلام، وفيه أربعة مقاصد 255 المقصد الأول في المكاتبات إلى عظماء ملولك الشرق، وفيه أربعة مهايع 256 المهيع الأول في المكاتبة إلى الملوك والحكّام ومن جرى مجراهم بمملكة إيران، ويشتمل المقصود منها على ثلاث جمل 256 الجملة الأولى في رسم المكاتبة إلى قانها الأعظم الجامع لحدودها، وله حالتان 256 الحالة الأولى ما كان الأمر عليه في رسم المكاتبة في أوائل الدولة التركية، وفيه أسلوبان 256 الأسلوب الأول أن يكتب تحت البسملة من الجانب الأيمن «بقوّة الله تعالى» 256 الأسلوب الثاني أن يكتب تحت البسملة على حيال وسطا «بقوة الله تعالى وميامين الملة المحمدية» 264 الحالة الثانية ما كان عليه رسم المكاتبة في الدولة الناصرية «محمد بن
الموضوع الصفحة قلاوون» إلى أبي سعيد 272 الجملة الثانية في المكاتبات إلى من ملك توزير وبغداد بعد موت أبي سعيد 279 الجملة الثالثة في رسم المكاتبة الى من انطوت عليه مملكة ايران، في أيام أبي سعيد فمن بعده، وهم ثمانية أصناف 285 النصف الأول(7/453)
إلى من عدا الملوك من أرباب السيوف والأقلام وغيرهم، وفيه مهيعان 150 المهيع الأول في رتب المكاتبات، وهي على عشر درجات 150 الدرجة الأولى الدعاء للمقرّ 150 الدرجة الثانية الدعاء للجناب الكريم 153 الدرجة الثالثة الدعاء للجناب العالي بمضاعفة النعمة 154 الدرجة الرابعة الدعاء للجناب العالي بدوام النعمة 155 الدرجة الخامسة الدعاء للمجلس بدوام النعمة 155 الدرجة السادسة صدرت والعالي، ويعبّر عنها بالساميّ أيضا 156 الدرجة السابعة صدرت والسامي، ويعبر عنها بالسامي بغير ياء 157 الدرجة الثامنة يعلم مجلس الأمير 157 المهيع الثاني في بيان مراتب المكتوب إليهم من أهل المملكة، وهم ثلاثة أنواع 166 النوع الأول أرباب السيوف، وهم على ثلاثة أقسام 166 القسم الأول من هو منهم بالديار المصرية، وهم ستة أصناف 166 الصنف الأول نوّاب السلطنة الشريفة، وهم أربعة نواب 166 الصنف الثاني الكشّاف 170 الصنف الثالث الولاة بالوجهين القبليّ والبحريّ 171 الصنف الرابع من يتوجه من الأبواب السلطانية من الأمراء لبعض الأعمال المتقدّمة الذكر 172 الصنف الخامس باقي الأمراء بالديار المصرية 172 الصنف السادس العربان بالديار المصرية وبرقة 175 النوع الثاني ممن يكاتب عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية أرباب الأقلام، وهم على ضربين 179 الضرب الأول أرباب الدواوين من الوزراء ومن في معناهم 179 الضرب الثاني أرباب الوظائف الدينية والعلماء 180 النوع الثالث ممن يكاتب عن الأبواب السلطانية ممن بالديار المصرية الخوندات السلطانية 182
الموضوع الصفحة القسم الثاني من يكاتب بالممالك الشامية، وهم أربعة أنواع 184 النوع الأول أرباب السيوف من النواب الكفّال وأتباعهم، وهي ثمان نيابات 184 النيابة الأولى نيابة دمشق، المعبّر عنها في عرف الزمان بالمملكة الشامية، والمكاتبون بها ضربان 184 الضرب الأول من بمدينة دمشق 184 الضرب الثاني من بأعمال دمشق من نوّاب المدن والقلاع 185 النيابة الثانية نيابة حلب، والمكاتبون بها على ضربين 194 الضرب الأول من بمدينة طرابلس 194 الضرب الثاني من بأعمال طرابلس من النوّاب، وهم صنفان 195 الصنف الأول نوّاب قلاع نفس طرابلس 195 الصنف الثاني نوّاب قلاع الدعوة المضافة إلى طرابلس 196 النيابة الرابعة نيابة حماة، والمكاتبون بها ضرب واحد بمدينة صفد خاصة 197 النيابة الخامسة نيابة صفد، والمكاتبون بها ضرب احد بمدينة غزّة خاصة 197 النيابة السادسة نيابة غزّة، والمكاتبون بها ضرب احد بمدينة غزّة خاصة 197 النيابة السابعة نيابة الكرك، والمكاتبون بها ضرب واحد بمدينة الكرك خاصة 198 النيابة الثامنة نيابة سيس 199 النوع الثاني ممن يكاتب بالمماليك الشامية أرباب الأقلام، وهم صنفان 201 الصنف الأول أرباب الوظائف الديوانية 201 الصنف الثاني القضاة والعلماء 202 النوع الثالث ممن يكاتب بالبلاد الشامية العربان 203 النوع الثالث ممن يكاتب بالبلاد الشمية التركمان 209 النوع الرابع ممن يكاتب بالبلاد الشامية الأكراد 209 القسم الثالث من يكاتب بالبلاد الحجازية 210 المسلك الثاني في معرفة ترتيب المكاتبات المقدّمة الذكر وكيفية أوضاعها، وفيه مأخذان 214
الموضوع الصفحة المأخذ الأول في ترتيب متون المكاتبات ولا يكون إلا ابتداء، وهي على ضربين 214 الضرب الأول ما يكتب في خلاص الحقوق 214 الضرب الثاني ما يكتب من متعلقات البريد في الأمور السلطانية وهي صنفان 217 الصنف الأول ما يكتب به ابتداء 217 الصنف الثاني ما يكتب في الجواب عمّا يرد من النواب وغيرهم 226 المأخذ الثاني في معرفة أوضاع هذه المكاتبات 235 المقصد الثاني في المكاتبات العامة إلى أهل هذه المملكة، وهي المطلقات، وحاصل مرجوعها إلى ثلاثة أضرب 238 الضرب الأول المطلقات المكبّره 239 الضرب الثاني من المطلقات المصغّره 243 الضرب الثالث من المطلقات البرالغ 248 المقصد الثالث من المكاتبات في أوراق الجواز وبطائق الحمام، وفيه جملتان 251 الجملة الأولى في أوراق الجواز 251 الجملة الثانية في نسخ البطائق، وهي على ضربين 254 الضرب الأول أن تكون البطاقة بعلامة شريفة 254 الضرب الثاني أن تكون بغير علامة 254 الطرف الثالث في المكاتبات إلى عظماء ملوك الإسلام، وفيه أربعة مقاصد 255 المقصد الأول في المكاتبات إلى عظماء ملولك الشرق، وفيه أربعة مهايع 256 المهيع الأول في المكاتبة إلى الملوك والحكّام ومن جرى مجراهم بمملكة إيران، ويشتمل المقصود منها على ثلاث جمل 256 الجملة الأولى في رسم المكاتبة إلى قانها الأعظم الجامع لحدودها، وله حالتان 256 الحالة الأولى ما كان الأمر عليه في رسم المكاتبة في أوائل الدولة التركية، وفيه أسلوبان 256 الأسلوب الأول أن يكتب تحت البسملة من الجانب الأيمن «بقوّة الله تعالى» 256 الأسلوب الثاني أن يكتب تحت البسملة على حيال وسطا «بقوة الله تعالى وميامين الملة المحمدية» 264 الحالة الثانية ما كان عليه رسم المكاتبة في الدولة الناصرية «محمد بن
الموضوع الصفحة قلاوون» إلى أبي سعيد 272 الجملة الثانية في المكاتبات إلى من ملك توزير وبغداد بعد موت أبي سعيد 279 الجملة الثالثة في رسم المكاتبة الى من انطوت عليه مملكة ايران، في أيام أبي سعيد فمن بعده، وهم ثمانية أصناف 285 النصف الأول(7/454)
إلى من عدا الملوك من أرباب السيوف والأقلام وغيرهم، وفيه مهيعان 150 المهيع الأول في رتب المكاتبات، وهي على عشر درجات 150 الدرجة الأولى الدعاء للمقرّ 150 الدرجة الثانية الدعاء للجناب الكريم 153 الدرجة الثالثة الدعاء للجناب العالي بمضاعفة النعمة 154 الدرجة الرابعة الدعاء للجناب العالي بدوام النعمة 155 الدرجة الخامسة الدعاء للمجلس بدوام النعمة 155 الدرجة السادسة صدرت والعالي، ويعبّر عنها بالساميّ أيضا 156 الدرجة السابعة صدرت والسامي، ويعبر عنها بالسامي بغير ياء 157 الدرجة الثامنة يعلم مجلس الأمير 157 المهيع الثاني في بيان مراتب المكتوب إليهم من أهل المملكة، وهم ثلاثة أنواع 166 النوع الأول أرباب السيوف، وهم على ثلاثة أقسام 166 القسم الأول من هو منهم بالديار المصرية، وهم ستة أصناف 166 الصنف الأول نوّاب السلطنة الشريفة، وهم أربعة نواب 166 الصنف الثاني الكشّاف 170 الصنف الثالث الولاة بالوجهين القبليّ والبحريّ 171 الصنف الرابع من يتوجه من الأبواب السلطانية من الأمراء لبعض الأعمال المتقدّمة الذكر 172 الصنف الخامس باقي الأمراء بالديار المصرية 172 الصنف السادس العربان بالديار المصرية وبرقة 175 النوع الثاني ممن يكاتب عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية أرباب الأقلام، وهم على ضربين 179 الضرب الأول أرباب الدواوين من الوزراء ومن في معناهم 179 الضرب الثاني أرباب الوظائف الدينية والعلماء 180 النوع الثالث ممن يكاتب عن الأبواب السلطانية ممن بالديار المصرية الخوندات السلطانية 182
الموضوع الصفحة القسم الثاني من يكاتب بالممالك الشامية، وهم أربعة أنواع 184 النوع الأول أرباب السيوف من النواب الكفّال وأتباعهم، وهي ثمان نيابات 184 النيابة الأولى نيابة دمشق، المعبّر عنها في عرف الزمان بالمملكة الشامية، والمكاتبون بها ضربان 184 الضرب الأول من بمدينة دمشق 184 الضرب الثاني من بأعمال دمشق من نوّاب المدن والقلاع 185 النيابة الثانية نيابة حلب، والمكاتبون بها على ضربين 194 الضرب الأول من بمدينة طرابلس 194 الضرب الثاني من بأعمال طرابلس من النوّاب، وهم صنفان 195 الصنف الأول نوّاب قلاع نفس طرابلس 195 الصنف الثاني نوّاب قلاع الدعوة المضافة إلى طرابلس 196 النيابة الرابعة نيابة حماة، والمكاتبون بها ضرب واحد بمدينة صفد خاصة 197 النيابة الخامسة نيابة صفد، والمكاتبون بها ضرب احد بمدينة غزّة خاصة 197 النيابة السادسة نيابة غزّة، والمكاتبون بها ضرب احد بمدينة غزّة خاصة 197 النيابة السابعة نيابة الكرك، والمكاتبون بها ضرب واحد بمدينة الكرك خاصة 198 النيابة الثامنة نيابة سيس 199 النوع الثاني ممن يكاتب بالمماليك الشامية أرباب الأقلام، وهم صنفان 201 الصنف الأول أرباب الوظائف الديوانية 201 الصنف الثاني القضاة والعلماء 202 النوع الثالث ممن يكاتب بالبلاد الشامية العربان 203 النوع الثالث ممن يكاتب بالبلاد الشمية التركمان 209 النوع الرابع ممن يكاتب بالبلاد الشامية الأكراد 209 القسم الثالث من يكاتب بالبلاد الحجازية 210 المسلك الثاني في معرفة ترتيب المكاتبات المقدّمة الذكر وكيفية أوضاعها، وفيه مأخذان 214
الموضوع الصفحة المأخذ الأول في ترتيب متون المكاتبات ولا يكون إلا ابتداء، وهي على ضربين 214 الضرب الأول ما يكتب في خلاص الحقوق 214 الضرب الثاني ما يكتب من متعلقات البريد في الأمور السلطانية وهي صنفان 217 الصنف الأول ما يكتب به ابتداء 217 الصنف الثاني ما يكتب في الجواب عمّا يرد من النواب وغيرهم 226 المأخذ الثاني في معرفة أوضاع هذه المكاتبات 235 المقصد الثاني في المكاتبات العامة إلى أهل هذه المملكة، وهي المطلقات، وحاصل مرجوعها إلى ثلاثة أضرب 238 الضرب الأول المطلقات المكبّره 239 الضرب الثاني من المطلقات المصغّره 243 الضرب الثالث من المطلقات البرالغ 248 المقصد الثالث من المكاتبات في أوراق الجواز وبطائق الحمام، وفيه جملتان 251 الجملة الأولى في أوراق الجواز 251 الجملة الثانية في نسخ البطائق، وهي على ضربين 254 الضرب الأول أن تكون البطاقة بعلامة شريفة 254 الضرب الثاني أن تكون بغير علامة 254 الطرف الثالث في المكاتبات إلى عظماء ملوك الإسلام، وفيه أربعة مقاصد 255 المقصد الأول في المكاتبات إلى عظماء ملولك الشرق، وفيه أربعة مهايع 256 المهيع الأول في المكاتبة إلى الملوك والحكّام ومن جرى مجراهم بمملكة إيران، ويشتمل المقصود منها على ثلاث جمل 256 الجملة الأولى في رسم المكاتبة إلى قانها الأعظم الجامع لحدودها، وله حالتان 256 الحالة الأولى ما كان الأمر عليه في رسم المكاتبة في أوائل الدولة التركية، وفيه أسلوبان 256 الأسلوب الأول أن يكتب تحت البسملة من الجانب الأيمن «بقوّة الله تعالى» 256 الأسلوب الثاني أن يكتب تحت البسملة على حيال وسطا «بقوة الله تعالى وميامين الملة المحمدية» 264 الحالة الثانية ما كان عليه رسم المكاتبة في الدولة الناصرية «محمد بن
الموضوع الصفحة قلاوون» إلى أبي سعيد 272 الجملة الثانية في المكاتبات إلى من ملك توزير وبغداد بعد موت أبي سعيد 279 الجملة الثالثة في رسم المكاتبة الى من انطوت عليه مملكة ايران، في أيام أبي سعيد فمن بعده، وهم ثمانية أصناف 285 النصف الأول
كفّال المملكة بحضرة القان، وهم على ضربين 285 الصنف الأول كفّال المملكة بالحضرة في زمن القانات العظام كأبي سعيد ومن قبله من ملوكهم حين كانت المملكة على أتم الأبّهة وأعلى الترتيب 285 الضرب الثاني كفّال المملكة بالحضرة بعد موت أبي سعيد 287 الصنف الثاني ممن جرت العادة بمكاتبة مملكة ايران عن الأبواب السلطانية، صغار الملوك المنفردين ببعض البلدان 288 الصنف الثالث ممن يكاتب هذه المملكة العربان، وهم: عبادة وخفاجة 304 الصنف الرابع ممن يكاتب هذه المملكة التركمان 304 الصنف الخامس ممن يكاتب بهذه المملكة الأكراد، وهم على ضربين 306 الضرب الأول المنسوب منهم إلى بلاد ومقّرات معروفة 306 الضرب الثاني من لم يصرّح له بمكان 311 الصنف السادس ممن يكاتب بهذه المملكة إيران أرباب الأقلام 311 الصنف السابع ممن يكاتب بمملكة إيران أكابر المشايخ والصلحاء 313 الصنف الثامن ممن يكاتب بمملكة إيران النساء 314 المهيع الثاني من المكاتبة إلى الملوك مملكة توران، وهي مملكة الخاقانية وفيها جملتان 315 الجملة الأولى في رسم المكاتبة إلى قانها القائم بها 316 الجملة الثانية في رسم المكاتبة إلى من انطوت عليه هذه المملكة من الاتباع والحكّام وهم على اصناف 325 الصنف الأول كفّال المملكة 325 الصنف الثاني الحكّام بالبلاد بهذه المملكة 327 المهيع الثالث في المكاتبات إلى من بجزيرة العرب مما هو خارج عن مضافات الديار المصرية، وفيه جملتان 357 الجملة الأولى في المكاتبات إلى ملوك اليمن، هم فرقتان 357 الفرقة الأولى أئمة الزيدية 357 الفرقة الثانية أولاد رسول 364
الموضوع الصفحة المكاتبات بين صاحب مصر وصاحب اليمن، وهي على ضربين 365 الضرب الأول ماكان الأمر عليه في الدولة الأيوبية، وهو أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أصدرناها» 365 الضرب الثاني ما الأمر عليه من ابتداء الدولة التركية وهلّم جرّا إلى زماننا، وهو على ثلاثة أساليب 369 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أدام الله تعالى نعمة أيام المقام العالي» 369 الأسلوب الثاني وهو المذكور في «التعريف» 377 الأسلوب الثالث أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أعزّ الله» تعالى نصرة المقام العالي» 379 الأسلوب الرابع أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أعزّ الله تعالى نصرة المقام الشريف العالي» 385 الأسلوب الخامس وهو ما جرى عليه في «التثقيف» أن أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أعزّ الله تعالى أنصار المقام العالي» 389 الجملة الثانية في المكاتبات إلى عرب البحرين ومن انصاف إليهم 396 المهيع الرابع في المكاتبة إلى صاحب الهند والسند 398 المقصد الثاني من المصطلح المستقرّ عليه الحال من المكتابتات الصادرة عن ملوك الديار المصرية في المكاتبات إلى ملوك الغرب، وفيه أربع جمل 403 الجملة الثانية في المكاتبات إلى صاحب أفريقية، وهو صاحب تونس 403 الجملة الثالثة في المكاتبة إلى صاحب الغرب الأقصى 413 الجملة الرابعة في المكاتبة ملك المسلمين بالأندلس 440 تمّ بإذن الله فهرس موضوعات الجزء السابع من صبح الأعشى(7/455)
كفّال المملكة بحضرة القان، وهم على ضربين 285 الصنف الأول كفّال المملكة بالحضرة في زمن القانات العظام كأبي سعيد ومن قبله من ملوكهم حين كانت المملكة على أتم الأبّهة وأعلى الترتيب 285 الضرب الثاني كفّال المملكة بالحضرة بعد موت أبي سعيد 287 الصنف الثاني ممن جرت العادة بمكاتبة مملكة ايران عن الأبواب السلطانية، صغار الملوك المنفردين ببعض البلدان 288 الصنف الثالث ممن يكاتب هذه المملكة العربان، وهم: عبادة وخفاجة 304 الصنف الرابع ممن يكاتب هذه المملكة التركمان 304 الصنف الخامس ممن يكاتب بهذه المملكة الأكراد، وهم على ضربين 306 الضرب الأول المنسوب منهم إلى بلاد ومقّرات معروفة 306 الضرب الثاني من لم يصرّح له بمكان 311 الصنف السادس ممن يكاتب بهذه المملكة إيران أرباب الأقلام 311 الصنف السابع ممن يكاتب بمملكة إيران أكابر المشايخ والصلحاء 313 الصنف الثامن ممن يكاتب بمملكة إيران النساء 314 المهيع الثاني من المكاتبة إلى الملوك مملكة توران، وهي مملكة الخاقانية وفيها جملتان 315 الجملة الأولى في رسم المكاتبة إلى قانها القائم بها 316 الجملة الثانية في رسم المكاتبة إلى من انطوت عليه هذه المملكة من الاتباع والحكّام وهم على اصناف 325 الصنف الأول كفّال المملكة 325 الصنف الثاني الحكّام بالبلاد بهذه المملكة 327 المهيع الثالث في المكاتبات إلى من بجزيرة العرب مما هو خارج عن مضافات الديار المصرية، وفيه جملتان 357 الجملة الأولى في المكاتبات إلى ملوك اليمن، هم فرقتان 357 الفرقة الأولى أئمة الزيدية 357 الفرقة الثانية أولاد رسول 364
الموضوع الصفحة المكاتبات بين صاحب مصر وصاحب اليمن، وهي على ضربين 365 الضرب الأول ماكان الأمر عليه في الدولة الأيوبية، وهو أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أصدرناها» 365 الضرب الثاني ما الأمر عليه من ابتداء الدولة التركية وهلّم جرّا إلى زماننا، وهو على ثلاثة أساليب 369 الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أدام الله تعالى نعمة أيام المقام العالي» 369 الأسلوب الثاني وهو المذكور في «التعريف» 377 الأسلوب الثالث أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أعزّ الله» تعالى نصرة المقام العالي» 379 الأسلوب الرابع أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أعزّ الله تعالى نصرة المقام الشريف العالي» 385 الأسلوب الخامس وهو ما جرى عليه في «التثقيف» أن أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أعزّ الله تعالى أنصار المقام العالي» 389 الجملة الثانية في المكاتبات إلى عرب البحرين ومن انصاف إليهم 396 المهيع الرابع في المكاتبة إلى صاحب الهند والسند 398 المقصد الثاني من المصطلح المستقرّ عليه الحال من المكتابتات الصادرة عن ملوك الديار المصرية في المكاتبات إلى ملوك الغرب، وفيه أربع جمل 403 الجملة الثانية في المكاتبات إلى صاحب أفريقية، وهو صاحب تونس 403 الجملة الثالثة في المكاتبة إلى صاحب الغرب الأقصى 413 الجملة الرابعة في المكاتبة ملك المسلمين بالأندلس 440 تمّ بإذن الله فهرس موضوعات الجزء السابع من صبح الأعشى(7/456)
المجلد الثامن
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
تتمة المقالة الرابعة
تتمة الباب الثاني
تتمة الفصل الرابع
تتمة الطرف الثالث
المقصد الثالث في المكاتبة إلى أهل الجانب الجنوبيّ ممن جرت العادة بالمكاتبة إليه من العرب والسّودان، وفيه ثلاث جمل
الجملة الأولى في المكاتبة إلى من بهذا الجانب من العربان
وقد ذكر في «التثقيف» (1) ممن كوتب منهم جماعة بالطّرقات الموصّلة من الديار المصرية إلى بلاد الحبشة وغيرها، ثم قال: ولعلّ هؤلاء أيضا من عربان الممالك المحروسة، غير أنه لا إقطاعات لهم، وعدّ منهم ثمانية أشخاص، وذكر أنه كتب إلى كل منهم الاسم ومجلس الأمير:
الأوّل سمرة بن كامل العامريّ.
الثاني عبّاد بن قاسم.
الثالث كمال بن سوار. قال: وهو مستحدث المكاتبة في العشر الأوّل من جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وسبعمائة.
__________
(1) الكتاب للقاضي تقي الدين عبد الرحمن بن محمد بن يوسف الحلبي الأصل، ابن ناظر الجيش.
كان فاضلا اشتغل بالعلم وباشر كتابة الدست في حياة أبيه، وولي نظر الجيش بعد أبيه توفي سنة 786هـ. أنظر شذرات الذهب (ج 6ص 291) ومعجم المؤلفين (ج 5ص 193).(8/3)
الرابع جنيد: شيخ الجوابرة من الهكاريّة بأبواب النّوبة. قال: وهو مستحدث المكاتبة في سنة تسع سنين وستين وسبعمائة.
الخامس شريف: شيخ النّمانمة، بأبواب النّوبة أيضا، ومكاتبته مستجدّة حينئذ.
السادس عليّ: شيخ دغيم.
السابع زامل الثاني.
الثامن أبو مهنّا العمرانيّ.
الجملة الثانية (في المكاتبة إلى مسلمي ملوك السّودان، وهم أربعة ملوك)
الأوّل ملك النّوبة (1). وهو صاحب مدينة دنقلة (2)، وقد تقدّم الكلام عليها مستوفى في الكلام على المقالة الثانية في «المسالك والممالك». قال (3) في «التعريف»: وهو رعيّة من رعايا صاحب مصر، وعليه (4) حمل مقرّر، يقوم به في (5) كل سنة، ويخطب [ببلاده] (6) لخليفة العصر وصاحب مصر.
__________
(1) النوبة: بضم النون وسكون الواو: جنس أو جيل من السودان، الواحد نوبيّ، لهم بلاد واسعة بجنوب الصعيد تعرف ببلاد النوبة. لسان العرب ومحيط المحيط (نوب).
(2) دنقلة: هي دمقلة، بضم أولها وسكون ثانيها وضم قافها، مدينة كبيرة في بلاد النوبة، وهي منزلة ملك النوبة على شاطيء النيل، ولها أسوار عالية. غزاها عبد الله بن سعد بن أبي سرح في سنة 31هـ في خلافة عثمان بن عفّان. معجم البلدان (ج 2ص 471470، 478).
(3) هو القاضي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يحيى بن فضل الله القرشي العدوي العمري، صاحب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار». كان إماما فاضلا بليغا، أحد المشاهير من الكتّاب المترسّلين، وإمام وقته في معرفة الممالك والمسالك. ولد سنة 700هـ بدمشق، وتوفي سنة 749هـ. أنظر فوات الوفيات (ج 1ص 161157)، والدرر الكامنة (ج 1ص 333331)، والنجوم الزاهرة (ج 10ص 334)، والردّ الوافر ص 81والأعلام (ج 1ص 268).
(4) في التعريف بالمصطلح الشريف ص 29: «عليه» بدون واو العطف.
(5) في التعريف بالمصطلح الشريف ص 29: «به كلّ سنة».
(6) الزيادة من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/4)
قلت: هذا كان في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» (1) وهذه الإتاوة كانت مقرّرة عليهم من زمن الفتح، في إمارة عمرو بن العاص، رضي الله عنه، ثم صارت تنقطع تارة وتحمل أخرى، بحسب الطاعة والعصيان. وهي الآن مملكة مستقلّة بذاتها، ولذلك أوردت مكاتبة صاحبها في جملة الملوك.
ورسم المكاتبة إليه إن كان مسلما على ما ذكره في «التعريف»:
صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس الجليل، الكبير، الغازي، المجاهد، المؤيّد، الأوحد، العضد، مجد الإسلام، زين الأنام، فخر المجاهدين، عمدة الملوك والسلاطين (2)
وذكر ذلك في «التثقيف» نقلا عنه، ثم قال: ولم أجد له مكاتبة متداولة بين الجماعة. قال: ولم يكتب له شيء في مدّة مباشرتي بديوان الإنشاء، ولم يزد على ذلك.
ورأيت في الدّستور المنسوب للمقرّ العلائيّ بن فضل الله أنّ مكاتبته هذه المكاتبة أيضا، وأنه يقال بعد عمدة الملوك والسلاطين: «أدام الله سعادته، وبلّغه في الدارين إرادته، تتضمّن إعلامه كيت وكيت، فيتقدّم بكذا وكذا، فيحيط علمه بذلك». ثم قال: والمكاتبة إليه في قطع العادة، والعلامة «أخوة» ولا يخفى أنّ العنوان بالألقاب، ويظهر أن التعريف «صاحب دنقلة».
__________
(1) هو أبو الفتح الملك الناصر محمد بن السلطان الملك المنصور قلالاون. ولد سنة 684هـ، وولي سلطنة مصر والشام عقب قتل أخيه الأشرف سنة 693هـ، وعمره تسع سنين، فخلع منها سنة 694هـ لصغر سنه، ثم أعيد إليها سنة 698هـ، ولكنه بقي في القلعة محجورا عليه، بحيث انحصرت الأعمال في يد الإستدّار بيبرس، فأظهر العزم على الحج وترك السلطنة، فقدم الكرك وظل فيها مدة، ثم قدم دمشق، وهيّأ نفسه لدخول مصر فدخلها وقتل بيبرس بيده خنقا وعاد إلى عرشه سنة 709هـ، فاستمرّ في الحكم إلى أن توفي سنة 741هـ. انظر فوات الوفيات (ج 4 ص 3635)، والبداية والنهاية (ج 14ص 5551، 190)، والدرر الكامنة (ج 4ص 144 148)، والنجوم الزاهرة (ج 8ص 41، 115) و (ج 9ص 3) والأعلام (ج 7ص 11).
(2) ورد القول في التعريف ص 30دون تغيير عما هنا.(8/5)
الثاني ملك (1) البرنو. قال في «التعريف»: وبلاده تحدّ بلاد [ملك] (2)
التّكرور (3) من (4) الشرق، ثم يكون حدّها من الشمال بلاد [صاحب] (5) أفريقيّة، ومن الجنوب الهمج (6) وقد تقدّم الكلام عليها مستوفى في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك. ولم يذكر هذه المملكة في «مسالك الأبصار».
قلت: وملكها يزعم أنه من ذرّية سيف بن ذي يزن ملك اليمن على ما ورد به كتابه في أواخر المائة السابعة.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف»:
أدام الله تعالى نصر الجناب الكريم، العالي، الملك الجليل، الكبير، العالم، العادل، الغازي، المجاهد، الهمام، الأوحد، المظفّر، المنصور، عزّ الإسلام، (من نوع ألقاب ملك التّكرور) (7) يعني شرف ملوك الأنام، ناصر الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين، جمال الملوك والسلاطين، ظهير الإمام، عضد أمير المؤمنين الملك فلان. ويدعى له بما يناسبه، وبعد إهداء السّلام والتشوّق هذه المفاوضة تبدي، على ما سيأتي ذكره في مكاتبته.
وهذا صدر يليق به: ولا زالت همم سلطانه غير مقصرة، ووفود حجّه غير محصرة،
__________
(1) ملك البرنو هو أحد ملوك السودان. والبرنو مملكة قريبة من مملكة الكانم. انظر قلائد الجمان للقلقشندي ص 57.
(2) الزيادة من التعريف بالمصطلح الشريف ص 28. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(3) ملك التكرور هو صاحب مالّي، ومالّي عبارة عن اسم إقليم، والتكرور مدينة من مدنها، وحدّ مملكته في الغرب البحر المحيط، وفي الشرق بلاد البرنو، وفي الشمال جبال البربر، وفي الجنوب الهمج. كان ملك التكرور مسلما يدّعى النسب إلى عبد الله بن صالح بن الحسن بن علي بن أبي طالب. هكذا ورد في كتاب التعريف بالمصطلح الشريف ص 27. وقال ياقوت في معجم البلدان (ج 2ص 38): التكرور بلاد تنسب إلى قبيل من السودان في أقصى جنوب المغرب، وأهلها أشبه الناس بالزنوج.
(4) في «التعريف» ص 28: «في الشرق».
(5) الزيادة من التعريف بالمصطلح الشريف ص 28. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(6) الهمج: ماء وعيون عليه نخل من المدينة من جهة وادي القرى. معجم البلدان (ج 5ص 410).
(7) الزيادة من «التعريف ص 29». وقد جاء فيه: «ملك التكرور، وتختصر».(8/6)
وسيفه في سواد من جاوره من أعدائه الكفّار، يقول: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} (1) صدرت، ولها مثل مسكة أفقه عبق، وعنبرة طينته سواد إلّا أنّه من السّواد اليقق، وشبيبة ملكه الذي يفدّيه سواد الحدق، أوجبها ودّ أسكنه [مسكنه] (2) من سويداء القلب لا يريم، وأراه غرّة الصّباح الوضّاح تحت طرّة الليل البهيم. وحكى ذلك عنه في «التثقيف» ولم يزد عليه.
ورأيت في الدّستور المنسوب للمقرّ العلائيّ بن فضل الله أنّ مكاتبته في قطع الثّلث، والعلامة «أخوه» وتعريفه «صاحب برنو».
قلت: ووصل من هذا الملك كتاب في الدولة الظاهرية (برقوق) يتشكّى فيه من عرب جذام المجاورين له، ويذكر أنهم أخذوا جماعة من أقاربه باعوهم في الأقطار، وسأل الكشف عن خبرهم، والمنع من بيعهم بمصر والشام، وأرسل هدية صالحة من زئبق وغيره. وكتب جوابه بخط زين الدين طاهر، أحد كتّاب الدّست، صدره: أعزّ الله تعالى جانب الجناب الكريم، العالي، الملك الجليل، العالم، العادل، الغازي، المجاهد، الهمام، الأوحد، المظفّر، المنصور، المتوكّل، فخر الدين أبي عمر وعثمان بن إدريس، عزّ الإسلام، شرف ملوك الأنام، ناصر الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين، جمال الملوك والسلاطين، سيف الجلالة، ظهير الإمامة.
وبعث إليه به مع رسوله الوارد صحبة الحجيج، فأعيد وقد كتب الجواب على ظهره بعد سنة أو سنتين.
الثالث ملك (3) الكانم. قال في «مسالك الأبصار»: وقاعدة الملك منها
__________
(1) سورة الإسراء 17، الآية 12.
(2) الزيادة من التعريف ص 29. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(3) قال ابن فضل الله العمري في التعريف ص 29: ملك الكانم من بيت قديم في الإسلام، تمذهب بمذهب الشافعي، وكانم، بكسر النون: من بلاد البربر بأقصى المغرب في بلاد السودان. معجم البلدان (ج 4ص 432).(8/7)
بلدة اسمها «جيمي» ومبدأ مملكته من جهة مصر بلدة اسمها «زلّا» وآخرها طولا بلدة يقال لها «كاكا» وبينهما نحو ثلاثة أشهر. قال: وعسكرهم يتلثّمون، وملكهم على حقارة سلطانه، وسوء بقعة مكانه، في غاية لا تدرك من الكبرياء، يمسح برأسه عنان السماء، مع ضعف أجناد، وقلّة متحصّل بلاد، محجوب، لا يراه أحد إلّا في يوم العيدين بكرة وعند العصر، وفي سائر السنة لا يكلمه أحد ولو كان أميرا إلّا من وراء حجاب.
وقال في «التعريف»: ملوكها (1) من بيت قديم في الإسلام، وجاء منهم من ادّعى النسب العلويّ في بني الحسن، وهو (2) يتمذهب بمذهب الشافعيّ، ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف» كرسم مكاتبة صاحب البرنو، بدون الكريم، وتبعه على ذلك في «التثقيف» ناقلا له عنه. ثم قال: ولم أطّلع على مكاتبة له غير الذي قد ذكره.
الرابع ملك مالّي (3) قال في «مسالك الأبصار»: وهي في نهاية الغرب متصلة بالبحر المحيط، وقاعدة الملك بها بنبي. وهي أعظم ممالك السّودان، وقد تقدّم في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك ذكر أحوالها، وما تيسّر من ذكر ملوكها، وأن مالّي اسم للإقليم، والتّكرور مدينة من مدنه، وكان ملكها في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» منسا موسى، ومعنى منسا السلطان.
وقد ذكر في «مسالك (4) الأبصار» أنه وصل منه كتاب عن نفسه لنفسه فيه ناموسا، وأنه وصل إلى الديار المصرية حاجّا، واجتمع بالسلطان الملك الناصر،
__________
(1) جاء في التعريف ص 29: «صاحب الكانم من بيت».
(2) في المصدر السابق: «الحسن، ويتمذهب».
(3) مالي: عبارة عن اسم إقليم، من مدنها التكرور. انظر التعريف بالمصطلح الشريف، ص 27.
(4) عبارة «المسالك» في الكلام على مملكة مالي نصها «ولقد جاء كتاب من هذا السلطان إلى الحضرة السلطانية بمصر وهو بالخط المغربي في ورق عريض، السطر إلى جانب السطر وهو يمسك فيه ناموسا لنفسه». حاشية الطبعة الأميرية.(8/8)
فقام له وتلقّاه، وأكرمه وأحسن نزله، على ما هو مبسوط في موضعه.
قال في «التعريف»: وملك التّكرور هذا يدّعي نسبا (1) إلى عبد الله بن صالح بن الحسن، بن عليّ بن أبي طالب.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف»: «أدام الله تعالى نصر المقرّ العالي، السلطان، الجليل، الكبير، العالم، العادل، المجاهد، المويّد، الأوحد، عزّ الإسلام، شرف ملوك الأنام، ناصر الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين، جمال الملوك والسلاطين، سيف الجلالة، ظهير الإمامة، عضد أمير المؤمنين، الملك فلان. ويدعى له بما يناسب. وبعد إهداء (2) السّلام والتشوّق هذه المفاوضة تبدي».
قال: ولا يعرّض له ولا يقرّ بشيء من الألقاب الدالة على النسب العلويّ.
وهذا صدر لهذه المكاتبة ذكره في «التعريف»:
ويسّر له القيام بفرضه، وأحسن له المعاملة في قرضه، وكثّر سواده الأعظم وجعلهم بيض الوجوه يوم عرضه، ومتّعه بملك يجد الحديد (3) سجف سمائه والذهب نبات أرضه. صدرت هذه المفاوضة، وصدرها به مملو، وشكرها عليه يحلو (4)، ومزايا حبّه في القلوب سرّ كلّ فؤاد، وسبب ما حلي به الطرف والقلب من السّواد، تنزل به سفنها المسيرة في البحر وترسى، وتحلّ عند ملك ينقص به زائده، وينسى موسى منسى، وتقيم عليه والدهر لا يطرقه فيما ينوب، والفكر لا يشوقه إلّا إذا هبّت صبا من أرضه أو جنوب.
والمتداول بين جماعة كتّاب الإنشاء أن المكاتبة إليه: «أعز الله تعالى جانب الجناب الكريم العالي، الملك، الجليل، العالم، العادل، المجاهد،
__________
(1) في التعريف ص 27: «يدّعي النسب».
(2) في المصدر المذكور ص 28: «وبعد هذا سلام وتشوّق».
(3) في المصدر المذكور ص 28: «الجديد» بالجيم المعجمة.
(4) في المصدر المذكور ص 28: «مجلو» وهو أصوب للسجع.(8/9)
المؤيّد، المرابط، المثاغر، العابد، الناسك، الأوحد، فلان، ذخر الإسلام والمسلمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، عون جيوش الموحّدين، ركن الأمّة، عماد الملّة، جمال الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين» والدعاء.
وذكر نحو ذلك في الدّستور المنسوب للمقرّ العلائي بن فضل الله، ثم قال:
ويقال: «صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي مملوءة الصدر بشكره، باسمة الثغر برفعة قدره، موضّحة لعلمه الكريم كيت وكيت، وذكر أنّ خطابه بالجناب الكريم، والطلب والقصد والختم بالاحاطة، وذكر هو وصاحب «التثقيف» أن المكاتبة إليه في قطع الثلث، والعلامة «أخوه» وتعريفه «صاحب مالّي وغانة».
الجملة الثالثة (في المكاتبة إلى ملوك المسلمين بالحبشة)
قد تقدّم في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك أنّ ببلاد الحبشة سبعة ملوك مسلمين، لهم سبع ممالك كلّ مملكة منفردة بملك، وبها الجوامع والمساجد ينادى فيها بالأذان، وتقام بها الجمع والجماعات، وهم مع ذلك تحت أمر صاحب (1) أمحرا ملك ملوك الحبشة، يختار لولاية ممالكهم من شاء توليته ولا يردون ويصدرون إلّا عن أمره، وهي مملكة أوفات والزّيلع، ومملكة دوارو، ومملكة أرابيني ومملكة هدية، ومملكة شرحا، ومملكة بالي، ومملكة دارة.
وقد تقدّم الكلام عليها وعلى أحوالها مستوفى عند الكلام عليها في المقالة الثانية. قال في «مسالك الأبصار»: وهذه الممالك تجاور ناصع، وسواكن،
__________
(1) ذكره ابن فضل العمري في التعريف ص 30فقال: صاحب أمجره (بالجيم المعجمة) ملك ملوك الحبشة، وهو نصراني يحكم على تسعة وتسعين ملكا، وهو تمام المائة، ومنهم سبعة مسلمون. وهو ملك جليل متسع البلاد.(8/10)
ودهلك، وليس بها مملكة مشهورة.
قال في «التعريف»: ولم يرد (1) من هذه الملوك السبعة كتاب، ولا صدر إليهم خطاب. قال: فإن ورد منهم شيء فتجري مكاتبتهم مثل المكاتبة صاحب الكانم والبرنو. وقد تقدّم أنّ رسم المكاتبة إليهما على ما ذكره في «التعريف»:
«أعزّ الله تعالى نصرة الجناب الكريم، وأعزّ الله تعالى جانب الجناب الكريم» على ما كتب به القاضي زين الدين طاهر في جواب صاحب البرنو على ما هو مذكور في موضعه.
المقصد الرابع (في المكاتبة إلى أهل الجانب الشّماليّ وفيه ثلاثة أطراف)
الطرف الأوّل (في المكاتبات إلى أمراء الأتراك بالبلاد المعروفة ببلاد الرّوم المسمّاة الآن ببلاد الدّروب)
قال في «التعريف»: وهي البلاد المنحصرة بين بحري القرم والخليج القسطنطينيّ، تنتهي في شرقيّها إلى بحر القرم المسمّى بحر نيطش، وفي الغرب إلى الخليج القسطنطينيّ وتنتهي متشاملة إلى القسطنطينية، وتنتهي جنوبا إلى بلاد الأرمن، يحدّها البحر الشاميّ (2) قال: وهذه البلاد بلاد متسعة، وهي مفرّقة لملوك مجتمعة، ولكنه (3) لا يطلق عليهم إلّا اسم الإمارة، ولا انتظام لكلمتهم، ولا اجتماع لجملتهم، ثم قال: وأكبرهم صاحب كرميان (4)، وله بينهم وضع محفوظ، ونظام مرعيّ.
__________
(1) في التعريف ص 31: «وأما الملوك السبعة المسلمون فلم يرد منهم كتاب ولا صدر إليهم خطاب».
(2) من: «وهي البلاد المنحصرة حتى البحر الشامي» مختلف الترتيب في التعريف ص 40عما هنا.
(3) في التعريف: «وإنما هم لا يطلق».
(4) في التعريف: «كرمينان».(8/11)
أما (1) ملوكنا، فأجلّ من لديهم منهم جماعة بني قرمان، لقرب ديارهم، وتواصل أخبارهم، ولنكاياتهم في متملّك (2) سيس وأهل بلاد الأرمن، واجتياحهم لهم من ذلك الجانب، مثل اجتياح (3) عساكرنا لهم من هذا الجانب، فمكاتبتنا إلى بني قرمان لا تكاد تنقطع، وأما إلى البقيّة فأقلّ من القليل، وأخفى من مرأى الضئيل. ثم عدّ منهم ستة عشر أميرا، وذكر رسم المكاتبة إلى كلّ واحد منهم:
الأول صاحب كرميان (4) قال في «التعريف»: ولم (5) يكتب إليه مدّة مقامي بالأبواب السلطانية، ويشبه أن تكون المكاتبة إليه بالمقرّ نظير صاحب ماردين (6)، لكن بأبسط ألقاب، إذ هي أدعى لا ستحسانهم لقلّة معارفهم، وعلى هذا التقدير يكون رسم المكاتبة إليه: «أعزّ الله تعالى نصر المقرّ الكريم، العالي، الملكي، الأجلّيّ، العالميّ، العادليّ، المجاهديّ، المؤيّديّ،
__________
(1) في التعريف: «فأما».
(2) سيس: بلاد تفصل بين حلب والروم من جهة الساحل، وتجاور مدينة المصّيصة الواقعة على ساحل بحر الشام، كما تجاور طرسوس. هكذا عرّفها ابن خلّكان في وفيات الأعيان (ج 1ص 127) و (ج 4 ص 62) و (ج 7ص 168). وهكذا ذكرها ابن فضل الله في كتابه «التعريف» ص 55. أما ياقوت فقد ذكرها باسم «سيسية» وقال: عامة أهلها يقولون: «سيس»، وأضاف: وهي من أعظم مدن الثغور الشاميّة بين أنطاكية وطرسوس، وبها سكن ابن ليون سلطان تلك النواحي الأرمني. معجم البلدان (ج 3ص 298297). وانظر أيضا الصحيفة 30من هذا الجزء من صبح الأعشى، ففيها حديث عن سيس.
(3) في التعريف ص 40: «احتياج».
(4) في التعريف ص 40: «كرمينان».
(5) في التعريف ص 40: «فلم».
(6) صاحب ماردين هو الملك الصالح شمس الدين صالح ابن الملك المنصور، وهو من أرتق، وهم أهل مملكة قديمة، كان جدهم من أكابر أمراء السلطان ملك شاه ألب أرسلان السلجوقي، ومن خدمته ترقّى إلى الملك فصارت هذه المملكة بماردين وأعمالها في عقبه إلى أيام ابن فضل الله العمري. هكذا قال في كتابه التعريف ص 32. وماردين، بكسر الراء والدال: قلعة مشهورة مشرفة على نصيبين، وقدّامها ربض عظيم فيه أسواق كثيرة ومدارس. وقد ذكرها جرير بقوله (بسيط):
يا خزر تغلب، إن اللؤم حالفكم ... ما دام في ماردين الزيت يعتصر
معجم البلدان (ج 5ص 39).(8/12)
المرابطيّ، المثاغريّ، المظفّريّ، المنصوريّ، الفلاني، عون الأنام (1)، شرف الملوك والسلاطين، نصير الغزاة والمجاهدين، زعيم الجيوش، مقدّم العساكر، ظهير أمير المؤمنين».
قال: فإن لم يسمح له بكل هذه المخاطبة، ولم يؤهّل لنظير هذه المكاتبة، كتبت إليه هذه الألقاب مع الجناب الكريم، وخوطب بالإمارة إن لم يسمح له بالمخاطبة بالملك.
قال في «التثقيف»: ولعل مكاتبته بالجناب مع هذه الألقاب كما ذكر ومخاطبته بالإمارة أولى لأنه إذا كان بنو قرمان أجلّ لدى ملوكنا، ومكاتباتهم بالدعاء والمجلس العالي، فيتعين حيث هو أكبر منهم أن يكون هو أعلى منهم رتبة في المكاتبة بدرجتين (2)، وهي: الجناب الكريم. قال: هذا هو الأولى عندي.
قلت: وهذا كلّه إنما كان قبل أن يعلو قدر ابن عثمان صاحب برسا الآتي ذكره، ويرتفع قدره على من بتلك البلاد جملة. أما بعد ارتفاعه وانحطاطهم دونه فينبغي أن ينظر في قدر المكتوب إليه، ويكتب إليه بحسب ما تقتضيه الحال.
الثاني صاحب طنغزلو. قال في «التعريف»: ورسم المكاتبة إليه:
«صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي الأميريّ» ولم يذكر العلامة إليه. قال في «التثقيف» والذي وجدته مسطورا في مكاتبته الاسم والساميّ بالياء.
الثالث صاحب توازا. قال في «التعريف»: وهو في المكاتبة نظير صاحب طنغزلو، ولم يزد على ذلك، غير أنه ذكر أن اسمه في زمانه كان «على أرينه» وذكر في «التثقيف» أنه لم يقف له على رسم مكاتبة سوى ذلك.
الرابع صاحب عيدلي. قد ذكر في «التعريف» أن اسمه في زمانه دندار
__________
(1) في التعريف ص 41: «عون الإسلام والمسلمين، فخر الملوك والسلاطين، نصير».
(2) لعله «بدرجة». حاشية الطبعة الأميرية.(8/13)
أخو يونس صاحب أنطاليا. وأنه نظير صاحب توازا في المكاتبة، فتكون المكاتبة إليه: صدرت والعالي. قال في «التثقيف»: ولم أقف على رسم مكاتبة إليه سوى ذلك، إلّا أنه ذكر بعد ذلك صاحب عدليو. وقال: إن المكاتبة إليه الاسم والساميّ بالياء، وذكر أن المقرّ الشهابيّ بن فضل الله لم يتعرّض إلى ذكره في «التعريف» ثم قال: وقد تكون هي عيد لي المقدّم ذكرها، وإنما تكرّرت بتغيير الحروف. قال ولم يتحرّر هل هما اثنان أو واحد.
الخامس: صاحب كصطمونية وهي قسطمونية. قال في «التعريف» وكانت آخر وقت لسليمان باشا، وكان أميرا كبيرا، كثير العدد، موفور المدد، ذا هيبة (1) وتمنّع. ثم قال: وورث ملكه ابنه إبراهيم شاه، وكان عاقّا لأبيه، خارجا عن مراضيه، وكان في حياته منفردا (2) بمملكة سنوب. قال: وهي الآن داخلة في ملكه منخرطة (3) في سلكه.
وذكر أنّ رسم المكاتبة إليه: «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي الأميريّ بأكمل الألقاب، وأتمّ ما يكتب في هذا الباب». وذكر في «التثقيف» نقلا عن القاضي ناصر الدين بن النشائي، وأمين الدين خضر مثل ذلك، وأن العلامة إليه «أخوه».
السادس صاحب فاويا. قال في «التعريف» وهو (يعني في زمانه) مراد الدين حمزة، وهو ملك مضعوف، ورجل بمجالس أنسه مشغوف. قال: ورسم المكاتبة إليه: «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس الساميّ الأميريّ» بالياء.
قال في «التثقيف» وهو غير بعيد.
__________
(1) في التعريف ص 41: «هيئة وتمتّع».
(2) في التعريف ص 41: «متفردا».
(3) في التعريف ص 41: «ومنخرطة».(8/14)
السابع صاحب برسا (1) وقد ذكر في «التعريف» أنه في زمانه أرخان بن عثمان. ثم قال: وهو نظير صاحب فاويا في المكاتبة، فتكون مكاتبته الساميّ بالياء. قال في «التثقيف» ولم أطّلع على رسم للمكاتبة إليه غير ذلك، إلّا أنه ذكر في الفصل الأوّل من الباب الرابع في الكلام على مكاتبات الحكّام أرخان بن عثمان. وقال: إنّ لقبه سيف الدين. ثم قال: ويقال إنه صاحب برسا، وذكر أن رسم المكاتبة إليه في قطع العادة والدعاء والمجلس العالي، والعلامة أخوه، وتعريفه اسمه.
قلت: وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أن الأمر قد آل في بني عثمان إلى أرخان بن عثمان جق، ثم إلى ابنه مراد بك، وأنه اتّسع ملكه وجاوز في الفتح الخليج القسطنطينيّ حتى قارب خليج البنادقة، ثم إلى ابنه أبي يزيد فزاد في الملك على ما كان بيد أبيه، وتزوّج في بني قرمان، ودخل بنو قرمان وسائر التركمان في طاعته، ولم يبق خارجا عن ملكه إلّا سيواس، فإنها كانت مع قاضيها إبراهيم المتغلب عليها، ولم يزل كذلك حتّى قصده تمرلنك وأسره، ومات في يديه، وملك بعده ابنه سليمان جلبي. ثم مات، وملك بعده أخوه محمد بن أبي يزيد بن مراد بك بن عثمان جق، وهو القائم بها إلى الآن. وكانت المكاتبة قد استقرّت إلى أبي يزيد في الأيام الظاهرية (برقوق) (2)
الثامن صاحب أكبرا. قد ذكر في «التعريف»: أنه كان في زمانه دمر (3)
خان بن قراشي، وذكر أن مكاتبته نظير مكاتبة صاحب برسا، يعني الساميّ بالياء، وذكر في «التثقيف»: أنه لم يقف على سوى ذلك.
__________
(1) ذكر القلقشندي برسا ضمن الجانب الشمالي من بلاد الروم وذلك في الصحيفة 119من هذا الجزء من صبح الأعشى.
(2) ترك بياضا في الأصل لصورة المكاتبة. حاشية الطبعة الأميرية.
(3) هي كذلك في كتاب «المسالك»، والذي تقدم في الجزء الخامس نقلا عن كتاب «التعريف» أيضا: «صاروخان»، وليست في نسخة «التعريف» التي بأيدينا. حاشية الطبعة الأميرية.(8/15)
التاسع صاحب مرمرا. وقد ذكر في «التعريف»: أنه في زمانه كان بخشي بن قراشي. وقال: إن رسم المكاتبة إليه: «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي».
قلت: وقد تقدّم في المسالك والممالك أن هذه البلدة كانت جزيرة بالخليج القسطنطيني بها مقطع رخام، وأنّ النصارى غلبوا عليها.
العاشر صاحب مغنيسيا. ذكر في «التعريف»: أن اسمه صاروخان.
وقال: إن المكاتبة إليه الساميّ بالياء. وذكر في «التثقيف»: أنها صارت بعده إلى ابنه إسحاق بن صاروخان، وأنه كتب إليه في شوّال سنة سبع وستين وسبعمائة بالاسم والساميّ بالياء.
الحادي عشر صاحب نيف. ذكر في «التعريف»: أنه في زمانه كان علي باشا أخو صاروخان صاحب «مغنيسيا» المقدّم ذكره، وذكر أنّ رسم المكاتبة إليه مثل أخيه المذكور، فتكون صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي.
الثاني عشر صاحب بركي. ذكر في «التعريف»: أنها في زمانه كانت بيد ابن أيدين ولم يصرّح باسمه. قال: وإن المكاتبة إليه «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي» بالألقاب التامّة، وذكر في «التثقيف»: أنه لم يقف له على مكاتبة غير ذلك.
الثالث عشر صاحب فوكه. ذكر في «التعريف»: أنه كان في زمانه أرخان ابن منتشا، وأنّ المكاتبة إليه نظير صاحب بركي، فتكون الدعاء مع العالي بالألقاب التامّة أيضا، وذكر في «التثقيف»: أنه لم يقف في مكاتبته على غير ذلك.
الرابع عشر صاحب أنطاليا (1) ذكر في «التعريف» أنه كان في زمانه اسمه
__________
(1) أنطاليا: ذكره ياقوت «أنطالية» وقال: بلد كبير من مشاهير بلاد الروم، كان أول من نزله أنطالية فسمي باسمها. وقال البلخي: حصن للروم على شط البحر منيع واسع كثير الأهل. معجم البلدان (ج 1ص 270).(8/16)
خضر بن يونس، وقال: إن رسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي». وذكر في «التثقيف»: أن خضر بن يونس المذكور كان يلقب سنان الدين، وأنه استقرّ بعده دادي بك، ثم استقرّ بها آخرا محمد المعروف بكاجوك، وذكر أن المكاتبة (1) إليه «أخوه» والدعاء والعالي. ثم قال: وهو الأصحّ لأنه آخر ما استقرّ عليه الحال في مكاتبته وكتب به إليه.
الخامس عشر صاحب قراصار. ذكر في «التعريف» أنه كان في زمانه اسمه زكريّا، وأن رسم المكاتبة إليه: هذه المكاتبة إلى المجلس الساميّ، بلا ياء وذكر في «التثقيف» أنه لم يطلع على مكاتبة إليه سوى ذلك وأنه لم يكتب إليه شيء في مدّة مباشرته.
السادس عشر صاحب أرمناك. ذكر في «التعريف» أنها كانت في زمانه بيد ابن قرمان (2) ولم يصرح باسمه، وذكر في «التثقيف» أن اسمه علاء الدين سليمان.
قال في «التعريف»: ورسم المكاتبة إليه: «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي بأكمل الألقاب وأكبرها، وأجمعها وأكثرها (3)». وذكر في «التثقيف» أنّ آخر من استقرّ بها في شوّال سنة سبع وستين وسبعمائة علاء الدين علي بك بن قرمان، ووافق على رسم المكاتبة المذكورة. وقال: إن العلامة إليه «أخوه» وتعريفه «فلان بن قرمان».
قال في «التعريف»: ولإخوة (4) صاحبها ابن قرمان المذكور رسوم في المكاتبات، فأكبرهم (5) قدرا، وأفتكهم نابا وظفرا، الأمير بهاء الدين موسى. وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك في المقالة الثانية أنّه (6) حضر إلى الأبواب
__________
(1) لعله «العلامة إليه». حاشية الطبعة الأميرية.
(2) في التعريف ص 41: «صاحب أرمناك هو ابن قرمان المقدم الذكر».
(3) هكذا ورد في التعريف ص 42.
(4) في التعريف ص 42: «ولإخوته أيضا رسوم في».
(5) في التعريف ص 42: «فأكثرهم».
(6) في التعريف ص 42: «وحضر إلى باب السلطان وتلقي بالإجلال وعاد إلى الأبواب السلطانية مع أمراء المشور، وأشرك في الرأي وسأل السلطان في منشور». وبذلك لا يختلف هذا النص كثيرا عن نصّ نفس المؤلّف في كتابه المسالك والممالك.(8/17)
السلطانية، وحجّ مع الركب الشريف، ثم عاد إلى الأبواب السلطانية، وأجلس في المرتين مع أمراء المشورة، وأشرك في الرأي. وسأل السلطان في كتابة منشور بما يفتحه من بلاد الأرمن فكتب له. قال في «التعريف»: واستقرّت (1) المكاتبة إليه مثل مكاتبة أخيه. قال: أما بقيّة بني قرمان فدونهما في المكاتبة.
واعلم أن صاحب «التثقيف» قد زاد على ذلك من أمراء هذه البلاد ستّة نفر.
أحدهم الحاكم بالعلايا (2) وذكر أنه كان اسمه حسام الدين محمود بن علاء الدين، وأنه كتب إليه في شوّال سنة سبع وستين وسبعمائة «أخوه» والدعاء، والعالي، في قطع العادة.
الثاني صاحب بلاط (3) ورئحر (4) ذكر أنه كان بها «أمير موسى» بن إبراهيم بن منتشا، وأن المكاتبة إليه في قطع العادة «والده» والدعاء: «والمجلس العالي».
الثالث صاحب أكردور وهي أكردون. ذكر أنه كان بها إلياس بن مصطفى من بني حميد، وأن رسم المكاتبة إليه على ما استقرّ عليه الحال عند ما كتب إليه في شوّال سنة سبع وستين وسبعمائة «والده» والساميّ بالياء.
__________
(1) في التعريف: «واستقرّ رسم مكاتبته نظير مكاتبة أخيه، وهو مثله، وشبيه فضله. فأما بقية قرمان فدونهما في المكاتبة».
(2) ذكرها ياقوت «العلاية» وقال: اسم موضع قال فيه أبو سهم الهذلي (طويل).
أرى الدهر لا يبقي على حدثانه ... أنور بأطراف العلاية فارد؟
معجم البلدان (ج 4ص 145).
(3) البلاط، بكسر الباء وفتحها: مدينة عتيقة بين مرعش وأنطاكية يشقّها النهر الأسود الخارج من الثغور، وهي من أعمال حلب. وقيل: البلاط موضع بالقسطنطينية، ذكره أبو فراس الحمداني في شعره لأنه كان محبس الأسراء أيام سيف الدولة بن حمدان. معجم البلدان (ج 1ص 477).
(4) كذا بإهمال جميع حروفها، ولم نعثر عليها بعد البحث. حاشية الطبعة الأميرية.(8/18)
الرابع صاحب أيا سلوق. ذكر أنه كان بها عيسى بن أيدين، وأنه كتب إليه في شوّال من السنة المذكورة أيضا.
الخامس صاحب يلي شار. ذكر أنه كان بها الأمير محمد ولم يذكر نسبته.
وقال: إن المكاتبة إليه الاسم والساميّ بالياء.
السادس الأمير ذروان بن كرمان بن منتشا. ذكر أنه ممن استجدّت مكاتبته في شوّال سنة سبع وستين وسبعمائة.
واعلم أنه قد زاد في «التثقيف» ذكر مكاتبة جماعة لم أتحقّق هل هم من أهل هذه البلاد أم من غيرها.
منهم صاحب قلعة الحنفاء، ذكر أنه كان اسمه سيف الدين قوجي، وأن المكاتبة إليه في قطع الثلث والساميّ بالياء.
ومنهم صاحب قلعة الجوز، في قطع الثلث الاسم والساميّ بالياء، وتعريفه اسمه.
ومنهم صاحب بكجرى: استجدّت الكتابة إليه في شوّال سنة سبع وستين وسبعمائة، وكتب إليه الاسم والسامي بغير ياء.
ومنهم الحاكم بقلعة أبيض كتب إليه الاسم ومجلس الأمير.
ومنهم الحاكم بقلعة نعمة، كتب إليه الاسم ومجلس الأمير أيضا.
ومنهم الحاكم بقلعة أشنى: وهي أشنو كتب إليه كذلك.
على أنه قد ذكر منهم جماعة أيضا ليسوا من أهل هذه البلاد جملة، منهم نائب خلاط، وصاحب موغان، وهي موقان، والحاكم بإسعرد وهي سعرت، وصاحب قيشان وهي قاشان.
وقد تقدم أن خلاط من أرمينية، وموقان من أرمينية، وإسعرد من ديار ربيعة من الجزيرة الفراتيّة، وقاشان من عراق العجم، وبالجملة فقد خلّط في «التثقيف» في البلدان تخليطا كثيرا، وخلط بعض أقاليم البلاد ببعض.
قلت: قد تقدّم في صدر الكلام على المكاتبات ذكر أصول يعتمدها الكاتب في كتبه تعمّ الكتب السلطانية وغيرها، وأنا أذكر هنا ما يختصّ منها بالكتب الصادرة عن السلطان على النّمط الجاري عليه الاصطلاح الآن ليسهل القصد إليها لقربها، ويحصل الغرض من ذلك، بذكر [تسعة] أمور:(8/19)
وقد تقدم أن خلاط من أرمينية، وموقان من أرمينية، وإسعرد من ديار ربيعة من الجزيرة الفراتيّة، وقاشان من عراق العجم، وبالجملة فقد خلّط في «التثقيف» في البلدان تخليطا كثيرا، وخلط بعض أقاليم البلاد ببعض.
قلت: قد تقدّم في صدر الكلام على المكاتبات ذكر أصول يعتمدها الكاتب في كتبه تعمّ الكتب السلطانية وغيرها، وأنا أذكر هنا ما يختصّ منها بالكتب الصادرة عن السلطان على النّمط الجاري عليه الاصطلاح الآن ليسهل القصد إليها لقربها، ويحصل الغرض من ذلك، بذكر [تسعة] أمور:
أوّلها مقادير قطع الورق، قد تقدّم في الكلام على مقادير قطع الورق المستعملة في دواوين الإنشاء جملة، والذي يختص منها بالكتب الصادرة عن السلطان أربعة مقادير:
أحدها قطع البغداديّ الكامل، وقد مرّ أنه يكتب فيه للقانات.
وثانيها قطع النّصف، وفيه يكتب إلى أكابر الملوك ممّن دون القانات.
وثالثها قطع الثّلث، وفيه يكتب إلى الرتبة الثانية من الملوك.
ورابعها قطع العادة، وفيه يكتب إلى أصاغر الملوك والولاة وغيرهم.
الثاني العنوان قد تقدّم في مقدّمة الكتاب أنّ الذي كان يكتب عنوانات الكتب السلطانية في الزمن المتقدّم هو صاحب ديوان الإنشاء دون غيره، أما الآن، فإنّ كاتب كلّ كتاب صار هو الذي يكتب عنوانه بنفسه.
وقد جرت العادة في عامة الكتب السلطانية أن يكون المكتوب فيها هي ألقاب المكتوب إليه ونعوته التي في صدر المكاتبة في الباطن، ثم يدعى للمكتوب إليه في آخر الألقاب بالدّعوة التي صدّر بها الدعاء في الصدر مثل: أعزّ الله أنصاره، أو ضاعف الله نعمته، وما أشبه ذلك من الأدعية التي تفتتح بها المكاتبات، فإن كان الكتاب مفتتحا بالحمدلة أو بلفظ من فلان، كتب في العنوان الألقاب التي في صدر الكتاب بعد ذلك، ثم بعد الدعاء يخلّي بياضا قليلا، ثم يذكر تعريف المكتوب إليه، مثل «صاحب فلانة» ونحو ذلك مما تقدم ذكره من التعريفات. وتكون كتابة العنوان بنظير قلم الباطن في الدّقة والغلظ. وتكون أسطره متصلة من أوّل عرض الدّرج إلى آخره، وأسطره متلاصقة متتالية.
الثالث الطرّة التي يكتب فيها تعريف المكتوب إليه، والعلامة التي يكتبها المكتوب عنه، والسبب في كتابته.(8/20)
وقد جرت العادة في عامة الكتب السلطانية أن يكون المكتوب فيها هي ألقاب المكتوب إليه ونعوته التي في صدر المكاتبة في الباطن، ثم يدعى للمكتوب إليه في آخر الألقاب بالدّعوة التي صدّر بها الدعاء في الصدر مثل: أعزّ الله أنصاره، أو ضاعف الله نعمته، وما أشبه ذلك من الأدعية التي تفتتح بها المكاتبات، فإن كان الكتاب مفتتحا بالحمدلة أو بلفظ من فلان، كتب في العنوان الألقاب التي في صدر الكتاب بعد ذلك، ثم بعد الدعاء يخلّي بياضا قليلا، ثم يذكر تعريف المكتوب إليه، مثل «صاحب فلانة» ونحو ذلك مما تقدم ذكره من التعريفات. وتكون كتابة العنوان بنظير قلم الباطن في الدّقة والغلظ. وتكون أسطره متصلة من أوّل عرض الدّرج إلى آخره، وأسطره متلاصقة متتالية.
الثالث الطرّة التي يكتب فيها تعريف المكتوب إليه، والعلامة التي يكتبها المكتوب عنه، والسبب في كتابته.
وقد جرت العادة في ذلك أنه يكتب في رأس الدّرج (1) في الجانب الأيمن «إلى فلان» وفي الجانب الأيسر «بسبب كذا وكذا» وفي الوسط العلامة التي يعلمها السلطان مثل «أخوه» أو «والده» أو «اسمه»، لينظر عند علامة السلطان على الكتاب فيعلم حال الكتاب، ويجرى الأمر في العلامة (2) على هذا الرسم، وتكون كتابتها بقلم الكتاب من ثلث أو رقاع أو غيرهما، إلّا أن يكون الكتاب بمختصر الطّومار (3) في قطع البغداديّ فيكون ذلك بقلم الثلث. وهذه الطرّة تقطع بعد أن يعلّم على الكتاب.
الرابع البياض في أعلى الكتاب، وقد جرت العادة في الكتب السلطانية أنّ العلامة إلى المكتوب إليه، إن كانت «أخوه» أو «والده» ترك فيه ثلاثة أوصال بياضا بما فيه من وصل العنوان، ثم تكتب البسملة في رأس الوصل الرابع، وإن كانت العلامة إليه الاسم، ترك وصلان بياضا فقط وكتبت البسملة في أوّل الوصل الثالث، ثم يكتب السطر الأول من الكتاب على سمت البسملة ملاصقا لها، ثم يخلّى موضع العلامة بياضا، ويكتب السطر الثاني على سمت الأوّل في أواخر ذلك الوصل على قدر إصبعين من آخره، ثم يجعل بين كل سطرين أربعة أصابع مطبوقة، إن كان القطع صغيرا، وإن كان القطع كبيرا كان فيه قدر ربع ذراع أو نحوه بحسب المناسبة، فإذا انتهى إلى آخر الكتاب كتب «إن شاء الله تعالى» في
__________
(1) كتاب الدرج هم الطبقة الثانية من موظفي ديوان الإنشاء، ويأتي كاتب الدرج في مرتبته بعد كاتب الدست. وكتّاب الدرج هم الذين يكتبون ما يوقّع به كاتب السرّ أو كاتب الدست. ويجوز أن يطلق عليهم كتّاب الإنشاء. أنظر هذا المؤلّف (ج 5ص 465464). والدرج هو الذي يكتب فيه يقال: أنفذته في درج الكتاب أي في طيّه.
(2) لعلّه: «في الكتابة» أي يكتب ما يناسب العلامة. حاشية الطبعة الأميرية.
(3) الطومار: الصحيفة، وجمعها طوامير.(8/21)
الوسط على بعد قدر إصبعين من السطر الآخر. ثم يكتب: «كتب في تاريخ كذا من شهر كذا سنة كذا وكذا» ويكون إلى آخر ذكر الشهر سطر، ومن أوّل سنة كذا إلى آخره سطر. ثم يكتب المستند على نحو البعد المذكور: فإن كان بتلقّي كاتب السّرّ خاصّة كتب «حسب المرسوم الشريف» فقط. وإن كان بتلقّي كاتب السر وكتّاب الدّست من دار العدل كتب «حسب المرسوم الشريف» في سطر، وتحته بقدر إصبع «من دار العدل الشريف» في سطر. وإن كان برسالة الدّوادار (1) كتب «حسب المرسوم الشريف» في سطر، وتحته بقدر إصبع «برسالة الجناب العالي الأميريّ الفلانيّ الدّوادار الفلانيّ» بلقب السلطان «ضاعف الله تعالى نعمته». وإن كان من ديوان الخاصّ، كتب «حسب المرسوم الشريف» في سطر وتحته «من ديوان الخاصّ الشريف». وإن كان بخطّ السلطان، بأن كتب على القصّة بالخط الشريف، كتب «حسب الخطّ الشريف» في سطر واحد. وإن كان بإشارة النائب الكافل كتب «بالإشارة العالية الأميريّة الكبيريّة الفلانية» في سطر، وكتب تحته بقدر إصبع «كافل الممالك الشريفة الإسلامية أعلاها الله تعالى».
وإن كان بإشارة أستاد الدار (2)، كتب «بالإشارة العالية الأميرية الكبيرية الفلانية» في سطر، ثم يكتب تحته بقدر إصبع «أستاد الدار العالية أعلاها الله تعالى».
على أنه قد تقدّم في الألقاب أن كتابتهم أستاد الدار هو عرف جرى عليه
__________
(1) الدوادار: كلمة تتكون من لفظين أحدهما عربي وهو الدواة، والآخر فارسي وهو الدار، ومعناه:
ممسك. وصاحب وظيفة الدوادارية يتولّى أمر دواة السلطان مع تبليغ الرسائل عنه وتقديم البريد.
وبمعنى آخر، هو الذي يقرأ للسلطان كتب الأسرار الواردة عليه من الملوك وهو الذي يجيب عنها، ويسفر بينه وبين وزرائه وكتّابه. استحدثت هذه الوظيفة في عصر قلاوون. صبح الأعشى (ج 4ص 19) و (ج 5ص 462).
(2) هو الذي يتولّى شؤون مسكن السلطان أو الأمير ومصر وفاته، وهو لقب على الذي يتولى قبض مال السلطان أو الأمير، وهو مركب من لفظين فارسيين: أحدهما «إستذ» بهمزة مكسورة ومعناه الأخذ، والثاني «دار» ومعناه الممسك، فأدمغت الذال الأولى، وهي المعجمة، في الثانية، وهي المهملة، فصار إستادار، ومعناه: المتولّي للأخذ، وسمي بذلك لأنه يتولى قبض الأموال. وهناك إستادار الأملاك الشريفة، وإستادار الصحبة، وإستادار العالية، وإستادار المباشرة. انظر صبح الأعشى (ج 3ص 481) و (ج 4ص 20، 188، 457) و (ج 5ص 457) و (ج 8ص 218).(8/22)
اصطلاحهم، وأنّ الصواب فيه إستدّار بغير ألف بعد التاء. وتكون كتابة المستند ببياض من جانبيه، سواء كان سطرا واحدا أو سطرين، ثم إذا فرغ من كتابة المستند، كتب الحمدلة والصلاة على النبي صلّى الله عليه وآله في سطر كامل على بعد قدر إصبعين من المستند، ثم يكتب الحسبلة على قدر إصبعين من سطر الحمدلة والتصلية.
وقد تقدّم في الكلام على الخواتم في المقالة الثالثة نقلا عن عبد الرحيم بن شيث (1) أن موضعها من ثلث السطر الأخير من أوّله إلى حين تنتهي كتابتها.
الخامس قد ذكر ابن شيث في معالم الكتابة أنه لا يكتب في حواشي الكتب السلطانية لأن في ذلك شحّا بالورق، وذلك مما لا يليق بالسلطان، ولا خفاء في استقباح ذلك، بل قد يستقبح ذلك في غير السلطان كما سيأتي ذكره في الإخوانيّات.
السادس العلامة السلطانية على المكتوب، في بيت العلامة من البياض السابق ذكره. قد ذكر في «التعريف» أن أكبر من يكتب إليه من الأمراء ومماليك البيت الشريف فترجمته بالخط الشريف «والده» ومن دون ذلك «الاسم الشريف»، أما الغرباء كملوك المسلمين والعربان وأكابر القضاة وأهل الصّلاح والأكابر، فترجمته بالخط الشريف «أخوه» ومن دون ذلك الاسم الشريف.
والذي استقر عليه الحال آخرا في زماننا أنّ لأكابر الأمراء من النواب وغيرهم «أخوه» لرفعة مكان الأخ على الولد، ولمن دونهم «والده» ولمن دون ذلك «الاسم»
__________
(1) هو أبو القاسم عبد الرحيم بن علي بن الحسين بن شيث، القاضي الرئيس جمال الدين الأموي الأسنائي القوصي، أحد كتاب الدولة الأيوبية بالديار المصرية وصاحب ديوان الإنشاء للملك المعظم عيسى. وكتابه المذكور أعلاه هو «معالم الكتابة ومغانم الإصابة». ولد سنة 557هـ بأسنا، وتوفي سنة 625هـ بدمشق. انظر فوات الوفيات (ج 2ص 315312)، والطالع السعيد ص 305. وج 6ص 352من هذا المطبوع، والأعلام (ج 3ص 347).(8/23)
وباقي الحال على ما ذكره، وقد سبقت ترجمة كلّ مكتوب إليه في الكلام على المكاتبة إليه.
أما القانات الكبار فقد تقدّم في الكلام على المكاتبة إليهم أنه تكتب لهم طغراة بالألقاب السلطانية في موضع العلامة، وأما ملوك الكفر، فسيأتي أنه تكتب طغراة بالألقاب السلطانية فوق البسملة.
السابع طيّ الكتب السلطانية، قد تقدّم في صدر الكلام على المكاتبات نقلا عن ابن شيث من كتّاب الدولة الأيوبية أنّ كتب السلطان يكون طيّها في عرض أربعة أصابع، وأن مقتضى ذلك أن كتب السلطان بالديار المصرية كانت تطوى على هذه الهيئة كما في كتب أهل المغرب الآن، والذي استقر عليه الحال آخرا أنها يجعل طيّها في صورة أنبوب القناة ولا تضغط في طيّها لتكون نبيلة تعظيما لأمر السلطان وإجلالا لقدره.
الثامن ختم الكتاب، قد تقدّم في الكلام على الخواتم واللّوا حق في المقالة الثالثة أنّ الكتب السلطانية كانت تختم (1) بسحاءة، ويطبع عليها بطين أحمر، يوتى به من سيراف (2)، وتختم بخاتم كما تختم المغاربة الآن. أما الآن فقد استقرّ الحال على أن الكتب تلصق بالنّشا أو ما في معناه من الكثيراء (3) ونحوها، وقد سأل الشيخ جمال الدين بن نباتة في رسالته التي كتبها إلى الشّهاب محمود رحمه الله حين بلغه وقوع بعض كتّاب دمشق في حقه عمن غيّر طين الختم إلى النّشا، ولم
__________
(1) يريد: تلفّ عليها سحاءة كما يؤخذ من بقية العبارة، ومما تقدم في الجزء الخامس من هذا المطبوع. حاشية الطبعة الأميرية. والسحاءة: واحدة السحاء، والسحاء نبت شائك يرعاه النحل فيطيب عسله عليه.
(2) سيراف: بكسر السين وسكون الياء: فرضة عظيمة لفارس، ومدينة جليلة من أغنى بلاد فارس، تقع على ساحل بحر فارس مما يلي كرمان، بينها وبين البصرة سبعة أيام، وقيل: كانت قصبة كورة أردشير من أعمال فارس. انظر وفيات الأعيان (ج 2ص 79) و (ج 7ص 74)، ومعجم البلدان (ج 3 ص 295294) وصورة الأرض ص 248.
(3) الكثيراء: رطوبة تخرج من أصل شجرة تكون بجبال لبنان.(8/24)
أقف على زمان تغيّر ذلك ولا من غيّره، على أني حللت معظم أسؤولة هذه الرسالة في خلال هذا الكتاب مفرّقة في مواضعها.
التاسع أن الكتب الصادرة عن الأبواب السلطانية، إن كانت إلى أحد من عظماء الملوك كالقانات ببلاد الشّرق، أو ملوك بلاد المغرب ونحوهم ممن يتعانى البلاغة في الكتب الصادرة عنه، كتبت مسجوعة كلّها، وإن كانت إلى صغار الملوك والحكّام كتبت غير مسجوعة، وإن كانت إلى أحد من أهل المملكة، فإن كانت في أمر بعد وقوعه، كالكتابة بالبشارة بوفاء النيل، أو جلوس السلطان على التّخت لأوّل أمره، أو برئه من المرض، أو ولادة ولد له، أو البشارة بفتح، أو الإعلام بركوب الميدان، أو الإنعام بخيل أو نحوها، كتبت مسجوعة، وإلّا كتبت مرسلة غير مسجوعة.
الطرف الثاني (في المكاتبة عن ملوك الديار المصرية على المصطلح المستقرّ عليه الحال، إلى ملوك الكفر)
واعلم أن ملوك الكفر المكاتبين عن هذه المملكة جميعهم نصارى: من الرّوم، والفرنج، والكرج، والحبشة وغيرهم، إذ كانوا هم المستولين على أكثر الممالك. أما اليهود، فإنهم لم يبق لهم مملكة معروفة، بل هم تحت الذّمّة أين كانوا. قال تعالى: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس} (1) قال في «التعريف» وجميع الكتب المكتوبة إلى ملوك الكفر لا يشملها الخطّ الشريف أصلا، بل يكتب فوق البسملة في الكتاب بخط الكاتب عوض العلامة الشريفة أسطر قصيرة ببياض من الجانبين ما صورته:
«من السلطان الأعظم الملك الناصر مثلا العالم، العادل، المجاهد، المرابط، المثاغر، المؤيّد، المظفّر، المنصور، الشاهنشاه، فلان الدنيا والدين،
__________
(1) سورة آل عمران 3، الآية 112.(8/25)
سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، وارث الملك، ملك العرب والعجم والتّرك، ظلّ الله في أرضه، القائم بسنّته وفرضه، إسكندر الزمان، مملّك أصحاب المنابر والتّخوت والتّيجان، واهب الأقاليم والأمصار، مبيد الطّغاة والكفّار، حامي الحرمين والقبلتين، جامع كلمة الإيمان، ناشر لواء العدل والإحسان، سيد ملوك الزمان، إمام المتقين، قسيم أمير المؤمنين، أبي فلان، ابن السلطان الشهيد الملك الفلاني فلان، خلّد الله سلطانه، ونصر جنوده وجيوشه وأعوانه».
وأوضح ذلك في «التثقيف» فقال: ويكون في الطرّة بعد وصلين بياضا من أوّل الكتاب بهامش جيد من الجانبين يمنة ويسرة ويكونان في قدر بياضهما سواء تقدير أربعة أصابع فأكثر من كل جانب، من الورق العريض، وفي قطع العادة دون ذلك، وتكون الأسطر متقاربة، ما بينهما من البياض تقدير إبهام أو أزيد منه بشيء يسير، وإذا انتهت الألقاب يترك بعدها وصلا أبيض، ثم يكتب البسملة الشريفة، وبعدها رسم المكاتبة للمكتوب إليه.
الطرف الثالث (في المكاتبة إلى من وراء بحر القرم بالجانب الشماليّ منه)
وهو صاحب البلغار والسّرب. وهي بلاد في نهاية الشمال. متاخمة لصاحب السّراي، وقد ذكر في «التعريف» المكاتبة إليه في المكاتبة إلى جملة ملوك المسلمين. وقال: إنّ صاحبها يظهر الانقياد لصاحب السّراي، وإنه أرسل رسله تطلب له الألوية من الأبواب السلطانية فجهّزت إليه مع ما جرت به العادة من السيف والتشريف والخيل المسرجة الملجمة (1) وذكر أن رسم المكاتبة إليه على ما كتب إذ ذاك:
«أعزّ الله نصر الجناب الكريم، العالي، الملكيّ، الأجلّيّ، الكبيريّ،
__________
(1) الفقرة في التعريف ص 51تختلف عما هنا اختلافا بسيطا.(8/26)
العالميّ، العادليّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، المرابطيّ، المثاغريّ، الأوحديّ، سيف الإسلام والمسلمين، ناصر الغزاة والمجاهدين، زعيم الجيوش، مقدّم العساكر، جمال الملوك والسلاطين، ذخر (1) أمير المؤمنين».
ثم هذا الطرف يشتمل على أربعة مقاصد مشتملة على الجهات الأربع:
المقصد الأوّل (في المكاتبة إلى ملوك الكفّار ببلاد الشّرق، وجملة من بها من ملوك النصارى المكاتبين عن هذه المملكة مملكتان)
الأولى مملكة الكرج (2) من النصارى الملكيّة. قال: في «التعريف»:
ويقال في المسلمين الكرد، وفي النصارى الكرج، قال: وموقع هذه [البلاد] بين بلاد الرّوم وبين بلاد أرمينية، وهي بلاد جليلة، ومملكة مفخّمة، وكأنها مقتطعة من البلادين، ولها ملك قائم، وبها ملك دائم، وأمّها مدينة تفليس، وسلطان بيت هولاكو بمملكة إيران يحكم عليها، ويرالغه تصل إليها، إلّا أنه لا يطغى بها سيله، ولا تجوس خلال ديارها للحرب المضرمة خيله، وإنما له بها تومان اتخذه سدادا لثغرها، وقياما بأمرها، منزلهم فسيح بواديها، أهل حلّ وترحال، وتنقّل من حال إلى حال، قال: وآخر من كان له في هذه البلاد سمعة، وأقيلت به للمهابة صرعة، الشيخ محمود بن جوبان، وكان باسلا لا يطاق، ورجلا مرّ المذاق، ولمّا جرت الكائنة لأبيه، لاذ بالسلطان (أزبك قان) ثم لم تطل له مدّة، ولا انفرجت له حلق شدّة، وأتاه أجله وما استطاع ردّه. ثم قال: وعسكر الكرج (3) صليبة دين الصّليب وأهل البأس والنّجدة، وهم للعساكر الهولاكوهيّة عتاد وذخر، ولهم بهم وثوق وعليهم اعتماد [ولا] سيّما لأولاد جوبان وبنيه، وبقايا مخلّفيه، لسالف إحسان
__________
(1) في التعريف: «زخر» بالزاي المعجمة.
(2) كان الكرج يسكنون في جبال القبق وبلد السرير فقويت شوكتهم حتى ملكوا مدينة تفليس، ولهم ولاية تنسب إليهم، وملك ولغة. انظر قلائد الجمان ص 31ومعجم البلدان (ج 4ص 446).
(3) في التعريف ص 54: «الكرج، فهم صليبة».(8/27)
جوبان، إليهم، ويد مشكورة كانت له عندهم، وكان صديقا (1) لملكهم برطلما يغرس عنده الصّنائع، ويسترعيه الودائع، فكان أخصّ خصيص به، وأصدق صديق له، يدعوه للمهم، ويستصرخ به في الملمّ، ويعدّه ردءا لعسكره، ومزيلا (2) لمنكره. وعقّب ذلك بأن قال: وبرطلما المذكور عهدي به حيّ يرزق من أجلّ ملوك النّصرانية، وأعرق أنساب بني المعموديّة، وقد كان كاتب الأبواب (3)
السلطانية بسبب كنيسة المصلّبة، وأن ترفع عنها الأيدي المتغلّبة، فبرزت الأوامر المطاعة بإعادتها عليهم وكانت قد أخذت منهم وهي بظاهر القدس الشريف واتّخذت مسجدا، وعزّ هذا على طوائف العلماء والصّلحاء وإن لم يعمل هذا سدى، قيل: إنه كان يحسّن لجوبان قصد البلاد، ويبذل له عليه الطارف والتّلاد.
وذكر أن رسم المكاتبة إليه: «أدام الله تعالى بهجة الحضرة العلية، حضرة الملك الجليل الهمام، الباسل، الضّرغام، السّميدع (4) الكرّار، الغضنفر، المتخّت، المتوّج، العالم في ملّته، العادل في رعيّته، بقيّة الملوك الأغريقيّة، سلطان الكرج، ذخر ملك البحار والخلج، حامي حمى الفرسان، وارث آبائه في الأسرّة والتّيجان، سياج بلاد الروم وإيران، سليل اليونان، خلاصة (5) ملوك السّريان، بقيّة أبناء التّخوت والتّيجان، معزّ النصرانية، مؤيّد العيسويّة مسيح (6) الأبطال المسيحية معظّم البيت المقدّس بعقد النيّة، عماد بني المعمودية، ظهير الباب پاپارومية، موادّ المسلمين، خالصة الأصدقاء المقرّبين، صديق الملوك والسلاطين».
__________
(1) في المصدر السابق: «صديق ملكهم».
(2) في المصدر السابق: «ومذيلا المنكرة».
(3) في المصدر السابق: «الأبواب الشريفة السلطانية».
(4) السميدع: السيد الكريم الشريف السخيّ. انظر لسان العرب، مادة (سمدع).
(5) عبارة «خلاصة والتيجان» ساقطة في التعريف.
(6) في المصدر السابق: «مشيح» بالشين المعجمة.(8/28)
وهذا دعاء أورده في «التعريف» يليق به وهو: وحمى ملكه بودّه لا بجنده، وبوفائه بعهده لا بجيشه ومدّ بنده، وبما عندنا من سجايا الإحسان لا بما يظنّ أنه من عنده، وبما في رأينا الموري لا بما يقدح النار من زنده وربما قيل مصافي المسلمين بدل موادّ المسلمين.
أما في «التثقيف» فقد ذكر أن للكرج ملكين (أحدهما) صاحب تفليس (1)
المقدّم ذكره، وذكر أنه كان اسمه إذ ذاك «داود» (الثاني) الحاكم «بسخوم» و «أبخاس» وهما مدينتان على جانب بحر القرم من الجانب الجنوبيّ كما تقدّم ذكره في الكلام على المسالك والممالك في الجانب الشماليّ، وسمّي صاحبها إذ ذاك (ديادان). قال: ورسم المكاتبة إلى كلّ منهما في قطع النصف: أطال الله تعالى بقاء حضرة الملك الجليل، المكرّم، الخطير الباسل، الهمام، المقدّس، الرّوحانيّ، فلان عزّ الأمّة المسيحية، كنز الطائفة الصليبيّة، فخر دين النّصرانية، ملك الجبال والكرج والجرجان، صديق الملوك والسلاطين.
وتعريف كلّ منهما «ملك الكرج».
ثم قال: وقد ذكر القاضي المرحوم شهاب الدين بن فضل الله في المكاتبة المذكورة من التغييرات ما لا حاجة إلى ذكره لأنّ ما ذكرته هو المستقرّ في المكاتبة إليه إلى آخر وقت.
قلت: وذلك لأنه في زمن المقر الشهابيّ بن فضل الله كان مرعيّ الجانب بممالأة التّتر وانضمامه إلى جوبان، كما تقدّمت الإشارة إليه، فكانت المكاتبة إليه إذ ذاك أعلى وأفخم، فلما زالت دولة التّتر من إيران وحمدت قسوتهم انحطّت رتبة المكاتبة إلى ملك الكرج عن هذه الرتبة. ثم قد تقدّم في المسالك والممالك في
__________
(1) تفليس: بفتح أوله ويكسر: بلد بأرمينية الأولى، وبعض يقول بأرّان، وهي مدينة قديمة أزلية يجري في وسطها نهر يقال له الكر يصبّ في البحر. افتتحها المسلمون في أيام عثمان بن عفّان، ولم تزل بأيديهم حتى سنة 515هـ حين حاصرها جيل من النصارى يقال لهم الكرج وملكوها عنوة وقتلوا من المسلمين بها خلقا كثيرا. معجم البلدان (ج 2ص 3635).(8/29)
الكلام على مدينة تفليس أنها من إقليم أرّان وأنها كانت قد فتحها المسلمون. ثم غلب عليها الكرج وملكوها فلو (1) عبّر عن صاحبها بمتملّك تفليس كما كان يعبّر عن المستولي على سيس (2) من الأرمن بمتملّك سيس، وعن المستولي على قبرس بمتملّك قبرس على ما سيأتي ذكره على الأثر إن شاء الله تعالى.
الثانية مملكة الأرمن وقاعدتها مدينة «سيس» قبل فتحها، وقد سبق في الكلام على مدينة سيس عند ذكر مضافات حلب، في الكلام على الممالك الشامية في المسالك والممالك ذكر حدود هذه البلاد وبيان أحوالها، وأنها كانت تسمّى في زمن الخلفاء بلاد الثّغور والعواصم، وأنها كانت بأيدي المسلمين، وأهلها نصارى أرمن، وعليهم جزية مقرّرة يؤدونها إلى الملوك، إلى أن كانت طاعتهم آخرا لبقيّة الملوك السّلاجقة ببلاد الروم، والعمّال والشّحاني على بلادهم من جهة الملك السّلجوقيّ حتّى ضعفت تلك الدولة، وسكنت شقاشق (3) تلك الصّولة، وانتدب بعضهم لقتال بعض، وصارت الكلمة شورى، والرعيّة فوضى، وشوامخ المعاقل مجالا للتخريب، والبلاد المصونة قاصية من الغنم للذّيب، وطمع رئيس النصارى بهذه البلاد حينئذ فيها واستنسر بغاثه، واشتدّ إنكاثه، ورأى سواما لا ذائد عنه فساقه، ومتاعا لا حامية له فملأ منه أوساقه، فاستولى على هذه البلاد وتملّكها، وتحيّف مواريث بني سلجوق واستهلكها. وذكر في «مسالك الأبصار» أن كبيرهم كان يسمّى قليج بن لاون.
قال في «التعريف»: وقد أخذ في أخريات الأيام الناصرية (4)، يعني (محمد بن قلاوون) بلاد ماوراء نهر جاهان (5) وأمّها آياس، وكان قد أخذ بعض
__________
(1) جواب لو معلوم، أي لكان له وجه. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) تقدم الحديث عنها في الصحيفة 12من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 2.
(3) الشقاشق: ج شقشقة، وهي لهاة البعير ولا تكون إلّا للعربي من الإبل، ومنه سمّي الخطباء شقاشق، شبّهوا المكثار بالبعير الكثير الهدر. لسان العرب (شقق).
(4) في التعريف ص 56: «الناصرية، عدّة بلاد مما وراءه».
(5) في التعريف ص 56: «نهرجان».(8/30)
ذلك [أيام] (1) الملك المنصور (لاجين) واستنيب به أستدمر الكرجيّ، ثم أعيدت (2) إلى الأرمن بمواطأة أستدمر حين (3) قتل لاجين وضعفت الدولة. وذكر أنه قرّر على الأرمن لملوك الديار المصرية قطيعة مقرّرة (4) بلغت ألف ألف ومائتي ألف درهم مع أصناف، ثم حطّ لهم منها (5)، ثم صاروا بعد ذلك بين طاعة وعصيان.
وذكر أنه كان لملوك البيت الهولاكو هيّ عليهم حكم قاهر، وله (6) فيهم أمر نافذ، قبل ضعف شوكتهم، ولين قسوتهم، ولين قسوتهم، وخلوّ غابهم من قسورتهم، ثم قال: ولو تمكّنوا (7) من دمشق لمحوا آثارها، وأنسوا أخبارها، ثم أشار إلى أنّ ملكها يومئذ صاهر صاحب قبرس ليتقوّى به، وأنه مع ذلك أوصى سلطاننا صاحب مصر على ابنه بوصيّة أشهد عليها أهل مملكته، وجعل (8) ذلك وسيلة لبقاء دولته، وكتب (9)
له تقليد عوضا عن أبيه وجهّز إليه، وألبس التشريف فلبس وقبّل الأرض به وخدم (10) قال في «التعريف»: ومن ملك منهم سميّ التّكفور، سمة جرت عليهم منذ كانوا وإلى الآن. قال: وملكهم (11) ملك عريق من أبناء الملوك، يزعم أن أصله من البيت القسطنطينيّ. قال: وعندي نظر في دعواهم ذلك، إذ كان أهل ذلك البيت هم (12) صليبة الرّوم ومعتقدهم معتقد الملكانية والبيت التّكفوريّ أرمن
__________
(1) في التعريف ص 56: «أيام المنصور».
(2) في التعريف ص 56: «ثم أعيد».
(3) في التعريف ص 56: «إذ قتل».
(4) في التعريف ص 56: «مقدرة كانت بلغت».
(5) في التعريف ص 56: «منها، وهم الآن بين طاعة».
(6) في التعريف ص 56: «قاهر، وفيهم أمر».
(7) في التعريف ص 56: «ولو مكنوا».
(8) في التعريف ص 56: «وجعلها سبلة».
(9) في التعريف ص 56: «وكتبت له تقليدا عوض أبيه من إنشائي، وجهز له من حلفه فحلف ولبسه التشريف».
(10) في المصدر السابق: «وقبّل الأرض بدون خدم». انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(11) في التعريف ص 55: «متملك سيس، وهو ملك عريق أبناء ملوك يزعم».
(12) «هم» الضمير ساقط في المصدر السابق.(8/31)
ومعتقدهم معتقد اليعاقبة أو ما يقاربه، وبين المعتقدين بعد عظيم، وبون ناء. وقد ذكر في «التعريف» أن اسمه ليفور (1) بن أوشير. وذكر أن رسم المكاتبة [إليه] صدرت هذه المكاتبة إلى حضرة الملك، الجليل، البطل، الباسل، الهمام، السّميدع، الضّرغام، الغضنفر (2)، فلان بن فلان، فخر الملّة المسيحيّة، ذخر الأمّة النّصرانيّة، عماد بني المعموديّة، صديق الملوك والسلاطين.
وهذه أدعية ذكرها في «التعريف» تناسبه:
وفّقه الله تعالى لطاعة يكنفه ذمامها، ويقيه مصارع السّوء التزامها، وتجري له بالسّلامة في النّفس والمال أحكامها.
آخر: ولا عدم من منننا (3) الكرم الذي أجاره، والأمن الذي أمّن جاره، والأمان الذي وسّع عليه وجاره، والعفو الذي وقاه في الدنيا قبل الآخرة نارا وقودها الناس والحجارة.
آخر: أبقاه الله لولاء يبديه، وفرض من الخدمة يؤدّيه، ودين في ذمّته من الوظيفة (4) يقوم به مع طرائف ما يهديه.
آخر: أراه الله ما يستدفع به من مواضي السّيوف البلاء إذا نزل، والسّمهري (5) الذي لا يرويه البحر إذا نهل، والسّيل الذي لا يقف في طريقه شيء ولا يمشي على مهل.
__________
(1) في المصدر السابق ص 57: «ليغون بن أوشين».
(2) في المصدر السابق ص 57: «الغضنفر، ليغون بن أوشين، فخر».
(3) في المصدر السابق ص 57: «لا عدم من بيننا».
(4) في المصدر السابق ص 57: «القطيعة».
(5) السمهريّ: الرمح الصلب والمنسوب إلى سمهر زوج ردينة اللذين كانا يثقّفان الرماح، أو إلى قرية في الحبشة. راجع الرديني في محيط المحيط، مادة (ردن).(8/32)
آخر: صان الله تعالى بمصانعته من أهل ملّته كلّ قبيل (1)، وأمّن الله بمداراته من خوف جيوشنا المنصورة كلّ سبيل، وصدّ عنه بصدق صداقته بعث جنودنا الذي لا يردّ وأوّله بالفرات وآخره بالنّيل.
آخر: ولا زال يتوقّى بطاعته بوادر الأسنة، وعوادي الخيل موشّحة بالأعنّة، وعيث الجيش حيث لا يبقى إلّا أحد الأقسام الثلاثة: القتل أو الأسر أو المنّة.
آخر: جنّب الله رأيه سوء التعكيس، وشرّ ما يزيّن لمثله إبليس، وأخذ جنائب قلاعه وأوّل تلك الجنائب سيس.
والذي ذكره في «التثقيف» أنه كان اسمه كستندين بن هتيوم، وأنّ رسم المكاتبة إليه على ما كان استقرّ عليه الحال إلى حين الفتوح في سنة ستّ وسبعين وسبعمائة، في قطع العادة: «صدرت هذه المكاتبة إلى حضرة الملك الجليل، المكرّم، المبجّل، المعظّم، المعزّز، الهمام، الباسل، فلان بن فلان، عزّ دين النصرانية، كبير الطائفة الصليبيّة، عماد بني المعمودية، صديق الملوك والسلاطين، أدام الله نعمته، وحرس مهجته، تعلمه كذا وكذا» وتعريفه «متملك سيس»، قال: وكتبت أنا والجماعة إليه بهذه المكاتبة مرّات.
قلت: وقد بطلت هذه المكاتبة بفتح سيس حين فتحها قشتمر المنصوريّ نائب حلب في الدولة الأشرفية «شعبان بن حسين» في التاريخ المقدّم ذكره، واستقرّت نيابة في رتبة نيابة طرابلس وما في معناها، ثم استقرّت تقدمة عسكر في مضافات حلب على ما تقدّم ذكره في المسالك والممالك هناك. وإنما كان يقال له متملّك سيس دون ملك سيس لما تقدّم من أنها كنت أوّلا بيد المسلمين، ثم وثب عليها رئيس الأرمن المقدّم ذكره فملكها من أيدي المسلمين، ولله الحمد في إعادتها إلى يد المسلمين، واستقرارها في جملة الممالك الإسلامية.
__________
(1) في التعريف ص 57: «قتيل، وأمّن بمداراته».(8/33)
المقصد الثاني (في المكاتبة إلى ملوك الكفّار ببلاد المغرب من جزيرة الأندلس وما والاها مما هو شماليّ الأندلس من الأرض الكبيرة)
قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك من المقالة الثانية أن المسلمين كانوا قد افتتحوا جزيرة الأندلس في خلافة أمير المؤمنين عثمان (1) بن عفان رضي الله عنه وأنها أقامت بأيدي المسلمين إلى رأس السّتّمائة من الهجرة، ولم يبق منها بيد المسلمين إلّا غرناطة وما معها من شرق الأندلس، عرض ثلاثة أيام في طول عشرة أيام، وباقي الجزيرة على سعتها بيد أهل الكفر من نصارى الفرنج، وأن المستولي على ذلك منهم أربعة ملوك.
الأوّل صاحب طليطلة (2) وما معها، ولقبه (3) الأذفونش، سمة على كل من ملك منهم، وعامّة المغاربة يسمّونه الفنش وله مملكة عظيمة وعمالات متّسعة تشتمل على طليطلة وقشتالة، وإشبيلية، وبلنسية، وقرطاجنّة، وجيّان وجلّيقيّة، وسائر أعمالها.
الثاني صاحب أشبونة وما معها، وتسمّى البرتغال (4)، ومملكته صغيرة واقعة في الجانب الغربيّ عرضا له، تشتمل على أشبونة وغرب الأندلس.
الثالث صاحب برشلونة، وأرغون، وشاطبة، وسرقسطة، وبلنسية (5)
وجزيرة دانية، وميورقة.
__________
(1) الصحيح أنهم افتتحوا جزيرة الأندلس في خلافة الوليد بن عبد الملك وذلك في سنة 91هـ.
(2) طليطلة: مدينة كبيرة يتصل عملها بعمل وادي الحجارة من أعمال الأندلس، وهي على شاطيء نهر تاجه. وبينها وبين قرطبة سبعة أيام للفارس. اشتهرت بالزعفران. وما زالت في أيدي المسلمين منذ فتح الأندلس إلى أن ملكها الإفرنج في سنة 478هـ، وليس سنة 477هـ كما يذكر ياقوت.
معجم البلدان (ج 4ص 4039).
(3) الأذفونش اسم لا لقب، وهو الأذفونش السادس الذي ملك طليطلة.
(4) في الأصل: «البرتقال» بالقاف، وهو تصحيف.
(5) هي بلنسية المتقدمة، أضيفت إلى برشلونة فيما بعد. حاشية الطبعة الأميرية.(8/34)
الرابع صاحب بيرة (1): وهي بين عمالات قشتالة، وعمالات برشلونة وقاعدته مدينة ينبلونة، ويقال لملكها ملك البشكنس، ووراء هؤلاء بالأرض الكبيرة صاحب إفرنسة التي هي أصل مملكة الفرنج كما تقدّم في الكلام على المسالك والممالك، وملكها يقال له الرّيد إفرنس. قال في «التعريف»: وهو الملك الكبير المطاع، وإنما الأذفونش هو صاحب السطوة وذكره أشهر في المغرب لقربه منهم، وبعد الرّيد إفرنس.
والمكاتب منهم ملكان:
الأوّل الأذفونش المبدّأ بذكره. قال في «التعريف»: وبيده جمهور الأندلس، وبسيوفه فنيت جحاجحها (2) الشّمس، وهو وارث ملك لذريق (3)، ولذريق هذا الذي أشار إليه في «التعريف» هو الذي انتزعها المسلمون من يده حين الفتح في صدر الإسلام. قال صاحب «التعريف»: وحدّثني رسول الأذفونش بتعريف ترجمان موثوق به من أهل العدالة يسمّى صلاح الدين الترجمان الناصري، أن الأذفونش من ولد هرقل المفتتح منه الشام، وأنّ الكتاب الشريف النبويّ الوارد على هرقل متوارث عندهم مصون (4) يلف بالدّيباج والأطلس، ويدّخر أكثر من ادّخار الجواهر والأعلاق، وهو إلى الآن عندهم لا يخرج، ولا يسمح بإخراجه، ينظر فيه بعين الإجلال ويكرمونه غاية الكرامة، بوصية توارثها منهم كابر عن كابر وخلف عن سلف.
قال: وكان الأذفونش ممن قوي طمعه في بلاد مصر والشام في أخرى ليالي
__________
(1) الصحيح «بلبيرة» باللام أو إلبيرة، وهي كورة كبيرة من الأندلس، ومدينة قريبة من تطيلة، بينها وبين قرطبة تسعون ميلا، وأرضها كثيرة الأنهار والأشجار. انظر معجم البلدان (ج 1 ص 244).
(2) في التعريف ص 60: «جحاجحتها».
(3) في التعريف ص 60: «لدريق الملك».
(4) في التعريف ص 62: «عندهم محفوظ مصون».(8/35)
الأيّام الفاطمية (1) ثم قال: ومكاتباته متواصلة، والرّسل بيننا وبينه ما تنقطع على سوء مقاصده، وخبث سرّه وعلانيته، أهدى مرّة إلى السلطان سيفا طويلا وثوبا بندقيّا وطارقة طويلة دقيقة (2)، تشبه النّعش، وفي هذا ما لا يخفى من استفتاح باب الشر والتصريح المعروف بالكناية، فكان الجواب (3) أن أرسل إليه حبل أسود وحجر، أي إنه كلب إن ربط (4) بالحبل وإلّا رمي بالحجر.
قال في «التعريف»: ورسم المكاتبة إليه أطال الله بقاء الحضرة السامية، حضرة (5) الملك الجليل، الهمام، الأسد، الباسل، الضّرغام، الغضنفر، بقيّة سلف (6) قيصر، حامي حماة بني الأصفر، الممنّع السّلوك، وارث لذريق وذراريّ الملوك، فارس البرّ والبحر، ملك طليطلة وما يليها، بطل النصرانية، عماد بني المعمودية، حامل راية المسيحية، وارث التّيجان شبيه مريحنّا المعمدان، محبّ المسلمين، صديق الملوك والسلاطين. [الأذفنش سرقلان] (7)
دعاء وصدر يليقان به وكفاه شرّ نفسه، وجناه ثمر غرسه، ووقاه فعل يوم يجرّ (8) عليه مثل أمسه، وأراه مقدار النّعمة بالبحر الذي تمنّع بسوره وتوقّى بترسه. أصدرناها إليه وجند الله لا يمنعهم مانع، ولا يضرّ بهم (9) في الله ما هو جامع، ولا يبالون أكتائب يخلّفونها أم كتبا، وجداول تعرض لهم أم بحار لا تقطعها إلّا وثبا.
__________
(1) ورد هذا القول في التعريف ص 61كما هنا.
(2) في التعريف ص 63: «رقيقة».
(3) في التعريف ص 63: «الجواب إرسال حبل».
(4) في التعريف ص 63: «إن قيّد في الحبل».
(5) كلمة «حضرة» ساقطة في التعريف ص 64.
(6) في المصدر السابق: «بقية سلّم وقيصر».
(7) الزيادة من التعريف ص 65.
(8) في التعريف: «يحبر».
(9) في التعريف: «ولا يضرّهم في الله ما هو صانع».(8/36)
آخر: ووقاه بتوفيقه تلاف (1) المهج، وكفاه بأس كلّ أسد لم يهج وحماه من شرّ فتنة لا يبلّ البحر الذي تحصّن به [ما يعقده] (2) غبارها من الرّهج.
أصدرناها إليه وأسنّتنا لا تردّ عن نحر، وأعنّتنا لا تصدّ بسور ولو ضرب من وراء البحر.
قلت: وينبغي أن تكون في قطع النّصف.
الثاني صاحب برجلونة (3) ووهم في «التثقيف» فجعله هو الأذفونش المقدّم ذكره. وقال: إنه يلقّب أتفونش، دون حاكم. ثم قال: وهم طائفة الكيتلان ورسم المكاتبة إليه في قطع النصف بقلم الثّلث الكبير (4) «أدام الله تعالى بهجة الحضرة الموقّرة الملك الجليل، المكرّم، المبجّل، الخطير، البطل، الباسل، الهمام، الضّرغام، الرّيد أرغون، فلان، نصير النّصرانية، فخر الأمّة العيسويّة، ذخر الملة المسيحية، حامي الثّغور، متملّك السّواحل والبحور، عماد المعموديّة، ظهير بابا رومية، ملاذ الفرسان، جمال التّخوت والتّيجان، صديق الملوك والسلاطين، صاحب برجلونة».
قال في «التعريف»: أما الرّيد (5) فرنس فلم يرد (6) له إلّا رسول واحد، أبرق وأرعد وجاء يطلب بيت المقدس على أنه يفتح له ساحل قيساريّة أو
__________
(1) في التعريف: «إتلاف».
(2) الزيادة من المصدر السابق.
(3) الصحيح بكسر الجيم وليس بفتحها. انظر جمهرة أنساب العرب ص 94.
(4) مراده الثلث الثقيل. حاشية الطبعة الأميرية.
(5) الريد فرنس أو ريد افرنس أي ملك افرنس هو بولش الإفرنجي المعروف بالفرنسيس، أجلّ ملوك الإفرنج وأعظمهم قدرا وأكثرهم عساكر وأموالا وبلادا، قصد الديار المصرية واستولى على طرف منها، وملك دمياط سنة 647هـ. ثم أسر وبقي في أيدي المسلمين مدّة، ثم أطلق بعد تسليم دمياط إلى المسلمين، وكان مهلكه سنة 661هـ. انظر فوات الوفيات (ج 1ص 232231).
(6) في التعريف بالمصطلح الشريف ص 63: «أما الريد فرنس فلا أذكر إلّا فرد رسول ورد وأبرق، أحرق بناره وأرعد، جاء يطلب».(8/37)
عسقلان، ويكون للإسلام بهما ولاة مع ولاته، والبلاد مناصفة، ومساجد المسلمين قائمة، وإدارات قومتها (1) دارّة، على أنه يبذل مائتي ألف دينار تعجّل وتحمل (2) في [كل] (3) سنة، نظير دخل [نصف] (4) البلاد التي يتسلّمها على معدّل ثلاث سنين، ويطرف في كل سنة بغرائب التّحف والهدايا، وحسّن هذا كتّاب من كتبة القبط، كانوا صاروا رؤسا في الدولة بعمائم بيض وسرائر سود، وهم أعداء زرق، يجرّعون الموت الأحمر، وعملوا على تمشية هذا القصد و [إن] (5) سرى في البدن هذا السّم، وتطلّب له الدّرياق فعزّ وقالوا: هذا مال جليل معجّل (6) ثم ماذا عسى أن يكون منهم وهم نفطة (7) في بحر، وحصاة في دهناء.
قال: وبلغ هذا أبي، رحمه الله، فآلى أن يجاهر في هذا، ويجاهد بما أمكنه، ويدافع بمهما قدر عليه، ولولا لاوى السلطان على رأيه إن أصغى إلى أولئك الأفكة، وقال لي: تقوم معي وتتكلّم، ولو خضبت منا ثيابنا بالدّم (8)، وراسلنا قاضي القضاة القزويني الخطيب، فأجاب وأجاد الاستعداد، فلما بكّرنا إلى الخدمة وحضرنا بين يدي السلطان بدار العدل، حضرت (9) الرسل، وكان بعض أولئك الكتبة حاضرا، فاستعدّ لأن يتكلّم، وكذلك استعدّينا نحن، فما استتم كلامهم حتّى غضب السلطان وحمي غضبه، وكاد يتضرّم عليهم حطبه، ويتعجّل لهم عطبه، وأسكت ذلك المنافق بخزيته، وسكتنا نحن اكتفاء بما بلغه السلطان مما ردّه (10) بخيبته، فصدّ ذلك الشيطان وكفى الله المؤمنين القتال، وردّت
__________
(1) في المصدر السابق: «قومهما».
(2) في المصدر السابق: «ويحمل».
(3) الزيادة من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(4) الزيادة من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(5) الزيادة من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(6) في التعريف: «يتعجل ثم ما عسى».
(7) في التعريف: «نطفة».
(8) في التعريف ص 64: «بدم».
(9) في التعريف ص 64: «أحضرت».
(10) في التعريف ص 64: «ردّ بخيبته قصد ذلك الشيطان».(8/38)
على راميها النّصال. وكان الذي قاله السلطان: والكم أنتم عرفتم ما لقيتم نوبة دمياط من عسكر الملك الصالح، وكانوا جماعة أكراد ملفّقة (1) مجمّعة، وما كان (2) بعد هؤلاء التّرك، وما كان يشغلنا عنكم إلّا قتال التتر (3)، ونحن اليوم بحمد الله تعالى صلح [نحن وإياهم] (4) من جنس واحد ما يتخلّى بعضه عن بعض، وما كنا نريد إلّا الابتداء، فأما الآن فتحصّلوا وتعالوا، وإن لم تجوا فنحن نجيكم ولو أننا نخوض البحر بالخيل، والكم صارت لكم ألسنة تذكرون (5) بها القدس، والله ما ينال أحد منكم منه ترابة إلّا ما تسفيه (6) الرياح عليه وهو مصلوب! وصرخ فيهم صرخة زعزعت قواهم، وردّهم أقبح ردّ، ولم يقرأ لهم كتابا، ولا ردّ عليهم سوى هذا جوابا.
قلت: فإن اتفق أن يكتب إلى الرّيد إفرنس المذكور فتكون المكاتبة إليه مثل المكاتبة إلى الأذفونش أو أجلّ من ذلك.
واعلم أن الريد فرنس هو الذي قصد الديار المصريّة بمواطأة الأذفونش، صاحب طليطلة المقدّم ذكره، وملكوا دمياط (7) وكانت الواقعة بينهم في الدولة الأيوبية في أيام الصالح أيّوب، وأخذ الرّيد فرنس وأمسك وحبس بالدار التي كان ينزلها فخر الدّين بن لقمان، صاحب ديوان الإنشاء، بالمنصورة، ورسم عليه الطّواشي صبيح، ثم نفّس عنه، وأطلق لأمر قرّر عليه، وقال في ذلك جمال الدين بن مطروح (8) أبياته المشهورة وهي: (سريع)
__________
(1) في التعريف ص 64: «وملفقة».
(2) عبارة «وما كان بعد هؤلاء الترك» ساقطة في المصدر السابق.
(3) في المصدر السابق: «التتار».
(4) الزيادة من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(5) في المصدر السابق: «تذكر القدس».
(6) في المصدر السابق: «تسفيها».
(7) كان ذلك في سنة 647هـ. انظر الحاشية رقم 5ص 37من هذا الجزء من صبح الأعشى.
(8) هو أبو الحسن يحيى بن عيسى بن إبراهيم بن مطروح، الملقب جمال الدين. اتصل بخدمة السلطان الملك الصالح أبي الفتح أيوب الملقب نجم الدين. كانت ولادته بأسيوط سنة 592هـ، وتوفي بمصر سنة 649هـ. وقيل: سنة 650هـ. انظر وفيات الأعيان (ج 6ص 266258)، والنجوم الزاهرة (ج 7ص 27) والبداية والنهاية (ج 13ص 182).(8/39)
[قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال صدق من قؤول نصوح (1)
أتيت مصرا تبتغي ملكها ... تحسب (2) أنّ الزمر يا طبل ريح
وكلّ أصحابك أودعتهم ... بحسن تدبيرك بطن الضّريح (3)
خمسين ألفا لا ترى منهم ... غير قتيل أو أسير جريح (4)
وفّقك الله لأمثالها ... لعل عيسى منكم يستريح
آجرك الله على ما جرى ... أفنيت عبّاد يسوع المسيح (5)
فقل (6) لهم إن أضمروا عودة ... لأخذ ثأر أو لقصد صحيح
دار ابن لقمان على حالها ... والقيد (7) باق والطّواشي صبيح] (8)
المقصد الثالث (في المكاتبة إلى ملوك الكفّار بالجانب الجنوبيّ)
والمكاتب بهذا الجانب منهم ملكان:
__________
(1) رواية عجر البيت في فوات الوفيات (ج 1ص 332) هي: مقال حقّ من مقول فصيح. وفي التعريف ص 62:
مقالة من ذي وداد نصيح
(2) في المصدر نفسه: «تزعم».
(3) رواية البيت في المصدر نفسه هي:
وكلّ أصحابك أوردتهم ... بسوء أفعالك بطن الضريح
(4) رواية البيت في المصدر نفسه هي:
خمسون ألفا لا يرى منهم ... إلّا قتيل أو أسير جريح
(5) رواية عجز البيت في المصدر نفسه هي: من قتل عبّاد يسوع المسيح.
(6) في المصدر نفسه: «وقل».
(7) في التعريف: ص 62: «فالقيد».
(8) بياض في الأصول، وقد نقلنا هذه الأبيات من الجزء الخامس من هذا المطبوع من صبح الأعشى.
حاشية الطبعة الأميرية.(8/40)
الأوّل صاحب أمحرا
(1)، ملك ملوك الحبشة، ولقبه عندهم حطّي بفتح الحاء وكسر الطاء المشدّدة المهملتين، سمة على كلّ من ملّك عليهم منهم.
قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك في المقالة الثانية أنه نصرانيّ يعقوبيّ، يحكم على تسعة وتسعين ملكا، منهم سبعة مسلمون، وهم صاحب وفات، وصاحب دوارو، وصاحب أرابيني، وصاحب شرحا، وصاحب هدية، وصاحب بالي، وصاحب دارة، وأنه لولا أنّ معتقد دين النّصرانية لطائفة اليعاقبة أنه لا يصحّ تعمد معموديّ إلّا باتّصال من البطريرك، وأنّ كرسيّ البطريرك كنيسة الإسكندريّة فيحتاج إلى أخذ مطران بعد مطران من عنده، لشمخ بأنفه عن المكاتبة لكنه مضطرّ إلى ذلك.
قال في «التعريف» ورسم المكاتبة إليه:
أطال الله بقاء الحضرة العالية، الملك، الجليل، الهمام، الضّرغام، الأسد، الغضنفر، الخطير، الباسل، السّميدع (2)، العالم في ملّته، العادل في مملكته، المنصف لرعيّته، المستمع (3) لما يجب في أقضيته، عزّ الملّة النّصرانية، ناصر الملّة المسيحيّة، ركن الأمّة العيسويّة، عماد بني المعموديّة، حافظ البلاد الجنوبيّة، متّبع الحواريّين، والأحبار (4) الرّبّانيين، والبطاركة القدّسين، معظّم كنيسة صهيون، أوحد ملوك اليعقوبية، صديق الملوك والسلاطين، ويدعى له دعاء مفخّما يليق به [ولا يعلم له] (5)
وهذا دعاء وصدر يليقان به، ذكرهما في «التعريف»:
__________
(1) في التعريف ص 30: «أمجره» بالجيم المعجمة. انظر الحاشية رقم 1ص 10من هذا الجزء من صبح الأعشى.
(2) السميدع: السيد الكريم الشريف السخيّ. لسان العرب، مادة (سمدع).
(3) في التعريف ص 31: «المتبع».
(4) في التعريف ص 31: «الحواريين، والربانيين والقديسين».
(5) الزيادة من المصدر السابق.(8/41)
وأظهر فضله (1) على من يدانيه من كلّ ملك هو بالتاج معتصب، ولكفّ اللّجاج بالعدل منتصب، ولقطع حجاج كلّ معاند بالحق معتصر أو للحقّ مغتصب.
صدرت هذه المفاوضة إلى حضرته العلية ومن حضرة القدس مسراها، ومن أسرة الملك القديم سراها، وعلى صفاء تلك السّريرة الصافية ترد وإن لم يكن بها غليل، وإلى ذلك الصديق الصّدوق [المسيحيّ] تصل، وإن لم تكن بعثت إلّا من تلقاء الخليل.
ولم يذكر القطع الذي يكتب إليه فيه. أما في «التثقيف» (2): فإنه ذكر أنه يكتب إليه في قطع الثلث بقلم التوقيعات ما نصه:
أطال الله بقاء الملك، الجليل، المكرّم، الخطير، الأسد، الضّرغام، الهمام، الباسل، فلان بن فلان، العالم في ملّته، العادل في مملكته، حطّي ملك أمحرا، أكبر ملوك الحبشان، نجاشيّ عصره، سند الملّة المسيحية، عضد دين النصرانية، عماد بني المعمودية، صديق الملوك والسلاطين، والدعاء، وتعريفه «صاحب الحبشة».
قال: فإن كانت المكاتبة جوابا، صدّر الكتاب إليه بما صورته: ورد كتاب الملك الجليل، ويذكر بقية المكاتبة. ثم قال: وهذه المكاتبة هي التي استقرّ عليها الحال عند ما كتب جوابه في التاسع من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة.
وهذه نسخة جواب كتاب ورد عن صاحب الحبشة من سلطنة الملك
__________
(1) في التعريف: «فعله».
(2) انظر الحاشية رقم 1ص 3من هذا الجزء من صبح الأعشى.(8/42)
المظفّر (1) صاحب اليمن، على الملك «الظاهر (2) بيبرس» رحمه الله، بطلب مطران يقيمه لهم البطرك، مما كتب به القاضي محيي (3) الدين بن عبد الظاهر رحمه الله، وهي:
ورد كتاب الملك، الجليل، الهمام، العادل في ملّته، حطّيّ ملك أمحرا أكبر ملوك الحبشان، الحاكم على ما لهم من البلدان، نجاشيّ عصره، صديق الملوك والسلاطين، سلطان الأمحرا، حرس الله نفسه، وبنى على الخير أسّه، فوقفنا عليه وفهمنا ما تضمّنه. فأما طلب المطران فلم يحضر من جهة الملك أحد حتّى كنا نعرف الغرض المطلوب، وإنما كتاب السلطان الملك المظفّر صاحب اليمن ورد مضمونه أنه وصل من جهة الملك كتاب وقاصد، وأنه أقام عنده حتّى يسيّر إليه الجواب. وأما ما ذكره من كثرة عساكره، وأن من جملتها مائة ألف فارس مسلمين، فالله تعالى يكثر في عساكر الإسلام. وأما وخم بلاده فالآجال مقدّرة من الله تعالى، ولا يموت أحد إلّا بأجله، ومن فرغ أجله مات.
واعلم أنّ العادة جرت أنه كلما كتب إليه كتاب عن الأبواب السلطانية كتب
__________
(1) هو يوسف بن المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول، أقام في مملكة اليمن بعد أبيه سبعا وأربعين سنة، وعمر ثمانين سنة، فتوفي في سنة 694هـ، انظر البداية والنهاية (ج 13ص 341).
(2) هو السلطان الأعظم ركن الدين أبو الفتح، بيبرس الصالحي النجمي، أحد مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب. تولّى المملكة بعد قتل الملك المظفر سيف الدين قطز بن عبد الله المعزّي في سنة 658هـ، فكان صاحب البلاد المصرية والشامية والحلبية وغيرها. كان ملكا شجاعا عالي الهمة شديد البأس، كسر التتر ودخل الروم ووصل إلى قيسارية ثم عاد إلى دمشق وأقام بها إلى أوائل سنة 676هـ فتوفي بها في السنة المذكورة. انظر وفيات الأعيان (ج 4ص 156155)، وفوات الوفيات (ج 1ص 247235)، والبداية والنهاية (ج 13ص 277274) والنجوم الزاهرة (ج 7 ص 94).
(3) هو عبد الله بن رشيد الدين عبد الظاهر بن نشوان بن عبد الظاهر بن نجدة الجذامي المصري، القاضي محيي الدين، شيخ أهل الترسّل، الكاتب الناظم الناثر. كان كاتب الإنشاء في الديار المصرية وآخر من برز في هذا الفن على أهل زمانه، ومن مصنفاته «سيرة الملك الظاهر». ولد سنة 620هـ، وتوفي سنة 692هـ بالقاهرة. انظر فوات الوفيات (ج 2ص 179)، والنجوم الزاهرة (ج 8ص 38) والبداية والنهاية (ج 13ص 334).(8/43)
قرينه كتاب عن البطريرك. قال في «التعريف»: ولأوامر البطريرك عنده ما لشريعته من الحرمة، وإذا كتب كتابا فأتى ذلك الكتاب أوّل مملكته، خرج عميد تلك الأرض فحمل الكتاب على رأس علم، ولا يزال يحمله بيده حتّى يخرجه من أرضه، وأرباب الديانة في تلك الأرض، كالقسوس والشّمامسة حوله مشاة بالأدخنة، فإذا خرجوا من حدّ أرضهم تلقّاهم من يليهم أبدا كذلك في كلّ أرض بعد أرض حتّى يصلوا إلى أمحرا، فيخرج صاحبها بنفسه، ويفعل مثل ذلك الفعل الأوّل، إلّا أنّ المطران هو الذي يحمل الكتاب لعظمته لا لتأبّي الملك. ثم لا يتصرف الملك في أمر ولا نهي، ولا قليل ولا كثير، حتّى ينادى للكتاب، ويجتمع له يوم الأحد في الكنيسة، ويقرأ والملك واقف، ثم لا يجلس مجلسه حتّى ينفّذ ما أمره به.
الثاني صاحب دنقلة
(1) قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أن دنقلة هي قاعدة مملكة النّوبة، وأنها كانت في الأصل يكون ملكها من نصارى النّوبة، ومعتقدهم معتقد اليعاقبة، وأنه ربما غلب عليها بعض المسلمين من العرب فملكها، وقد تقدّم ذكر المكاتبة إلى صاحبها إذا كان مسلما، أما إذا كان نصرانيا فقد ذكر في «التثقيف» أن المكاتبة إليه: هذه المكاتبة إلى النائب، الجليل، المبجّل، الموقّر، الأسد، الباسل، فلان، مجد الملّة المسيحية، كبير الطائفة الصليبيّة، غرس الملوك والسلاطين، والدعاء، وتعريفه «النائب بدنقلة».
المقصد الرابع (في المكاتبة إلى ملوك الكفّار بالجانب الشّماليّ من الرّوم والفرنجة على اختلاف أجناسهم، وجميعهم معتقدهم معتقد الملكانيّة)
وجملة ما ذكر من المكاتبات في «التعريف» و «التثقيف» اثنتا عشرة مكاتبة:
__________
(1) تقدم الحديث عنها في الصحيفة 4من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 2.(8/44)
الأولى مكاتبة الباب
، وهو بطريرك الملكيّة، القائم عندهم مقام الخليفة، والعجب من جعله في «التثقيف» بمنزلة القان عند التتار، والقان إنما هو بمنزلة ملكهم الأكبر، والباب ليس من هذا القبيل، بل إليه أمر الدّيانة حتّى في التحليل والتحريم.
وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك عند ذكر البطاركة أنهم كانوا يسمّون القسّيس ونحوه أبا، ويسمّون البطريرك أبا، فأحبّوا أن يأتوا (1) على البطريرك بسمة له تميّزه عن غيره من الآباء، فاختاروا له لفظ الباب، وأنه يقال فيه الباب والبابا ومعناه أبو الآباء، ثم لما غلب الروم على المملكة، وعلت كلمتهم على اليعاقبة، خصّوا اسم الباب ببطريركهم، فصار ذلك علما عليه، ومقرّه مدينة رومية على ما تقدّم هناك، ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التثقيف» ضاعف الله تعالى بهجة الحضرة السامية، الباب الجليل، القدّيس، الرّوحاني، الخاشع، العامل، بابا رومية، عظيم الملة المسيحيّة قدوة الطائفة العيسويّة، مملّك ملوك النّصرانية، حافظ الجسور والخلجان، ملاذ البطاركة والأساقفة والقسوس والرّهبان، تالي الإنجيل، معرّف طائفته التحريم والتحليل، صديق الملوك والسلاطين، والدعاء، وصدرت هذه المكاتبة.
قال في «التثقيف»: هذا ما وجدته مسطورا ولم يكتب إليه شيء في مدّة مباشرتي، ولا أدري في أيّ شيء كان يكتب إليه ولا عرفت تعريفه، ولم يتعرّض له المقرّ الشهابيّ بن فضل الله في «التعريف» جملة، ورأيت في بعض الدّساتير أنه لم يكتب إليه إلّا مرّة واحدة، وأن الكتابة إليه في قطع النصف مع المكاتبة المتقدّمة.
الثانية المكاتبة إلى ملك الروم صاحب القسطنطينيّة
. قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أنها صارت آخرا إلى بني الأشكريّ، فصار الأشكري
__________
(1) مراده: أن يطلقوا على البطريرك سمة الخ. حاشية الطبعة الأميرية.(8/45)
سمة لهم ملكا بعد ملك. قال في «التعريف»: وقد كان قبل غلبة الفرنج ملكا جليلا، يرجع إليه من عبّاد الصّليب سائر الملوك، ويفتقر إليه منهم الغنيّ والصّعلوك، وكتب التواريخ مشحونة بأخباره، وذكر وقائعه وآثاره، وأوّل من ألبس هامته الذّلّة، وأصار جمعه إلى القلّة، هارون الرشيد حين أغزاه أبوه المهديّ إيّاه، فأزال الشّمم من أنفه، وثنى جامح عطفه، فأما غزوات مسلمة بن عبد الملك ويزيد بن معاوية فإنها لم تبلغ فيه حدّ النّكاية، ولا أعظمت له الشّكاية، قال: وهذا الملك الآن كان السلطان (أزبك) قد كاد يبتزّ تاجه، ويعقم نتاجه، ويخل من جانب البحر المغلق رتاجه، فاحتاج إلى مداراته وبذل له نفائس المال، وصحب أيّامه على مضض الاحتمال، وكانت له عليه قطيعة مقرّرة، وجملة مال مقدّرة، ثم عميت علينا بعده منهم الأخبار، وتولّى بالدنيا الإدبار.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف»: ضاعف الله تعالى بهجة الحضرة العالية، المكرّمة، حضرة الملك، الجليل، الخطير، الهمام، الأسد الغضنفر، الباسل، الضّرغام، المعرق، الأصيل، الممجّد، الأثير، الأثيل، البلالاوس، الرّيد أرغون، ضابط الممالك الرّوميّة، جامع البلاد الساحليّة، وارث القياصرة القدماء، محيي طرق الفلاسفة والحكماء، العالم بأمور دينه، العادل في ممالكه، معزّ النّصرانيّة، مؤيّد المسيحيّة، أوحد ملوك العيسوية، مخوّل التخوت والتّيجان، حامي البحار والخلبان، آخر ملوك اليونان، ملك ملوك السّريان، عماد بني المعموديّة، رضيّ الباب بابا رومية، ثقة الأصدقاء، صديق المسلمين، أسوة الملوك والسلاطين، ثم يكتب اسمه هنا ويدعى (1) له، ولم يذكر قطع الورق الذي يكتب إليه فيه.
وهذا دعاء وصدر يليقان به أوردهما في التعريف:
وجعل له من السّلامة (2) يدا لا تزعزعه من أوطانه، ولا تنزعه من سلطانه،
__________
(1) في التعريف ص 52: «ويدعو له».
(2) في التعريف ص 53: «مع الإسلام». انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/46)
ولا توجب له إلّا استقرارا لتيجانه، واستمرارا بملكه على ما دارت على حصونه (1)
مناطق خلجانه، ولا برحت ثمار الودّ تدنو من أفنائه، ومواثيق العهد تبوّيء (2) له ما يسرّ به من إشادة معالم سلفه وشدّ بناء يونانه، أصدرناها، وشكره كجاره البحر لا يوقف له على آخر، ولا يوصف مثل عقده الفاخر، ولا يكاثر إلّا قيل: أين هذا القليل من هذا الزاخر؟
آخر له: ونظم سلكه، وحمى (3) بحسن تأتّيه ملكه، وكفى محبّه هلكه، وأجرى (4) بودّه ركائبه وفلكه، ووقاه كذب الكاذب وكفّ إفكه، وأشهد على ودّه الليل والنهار وما جنّ (5) كافور هذا كافوره ولا مسك هذا مسكه.
قلت: هذا الدعاء والصدر وإن أورده في «التعريف» في جملة الأدعية له والصدور، فإنه منحطّ الرتبة عن المكاتبة السابقة، اللهم إلّا أن يخصّ هذا بحالة منابذة أو تهديد، ونحو ذلك.
وذكر في «التثقيف» أن الذي استقرّ عليه الحال في المكاتبة إليه أنه يكتب إليه في قطع النّصف ما نصه: ضاعف الله تعالى [بهجة] (6) حضرة الملك الجليل، المكرّم، المبجّل، الأسد، الخطير، البطل، الباسل، الهمام، الضّرغام، فلان، العالم في ملّته، العادل في أهل مملكته، عزّ الأمة المسيحيّة، كبير الطائفة الصّليبيّة، جمال بني المعموديّة، صمصام الملوك اليونانيّة، حسام المملكة الماكصونيّة، مالك اليرغليّة والأملاحية، صاحب أمصار الرّوس والعلّان، معزّ اعتقاد الكرج والسّريان، وارث الأسرّة والتّيجان، الحاكم على
__________
(1) في التعريف ص 53: «على خصوره».
(2) في التعريف ص 53: «تنوي له».
(3) في المصدر السابق: «ونظم سلكه وحمى ملكه وكفى محبيه»
(4) في المصدر السابق: «وأجرى إلينا بولاية ركائبه».
(5) في المصدر السابق: «وما عند كافوره هذا كف ولا مسكة هذا مسكه».
(6) الزيادة من التعريف ص 52لصحة الكلام. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/47)
الثّغور والبحور والخلجان، الضّوقس الأنجالوس الكمنينوس البالالوغس، صديق الملوك والسلاطين، ثم الدعاء. صدرت هذه المكاتبة إلى حضرته تشكر موالاته، (ومن هذه المادة) وتوضّح لعلمه السعيد.
ورأيت في بعض الدساتير أنه يختمها بقوله: فيحيط بذلك علما، والله تعالى يديم بهجته.
قال في «التثقيف»: وتعريفه «ضابط مملكة الروم» وذكر أن هذه المكاتبة هي المتداولة بديوان الإنشاء بين كتّابه، وأنه هو كتب بها إليه، ولم يتعرّض لإيراد المكاتبة التي ذكرها في «التعريف»، بل أحال في معرفتها لمن أرادها على النظر فيه.
الثالثة المكاتبة إلى حكّام جنوة
، وهم جماعة متفاوتو المراتب، وهم:
البودشطا، والكبطان، والمشايخ. ورسم المكاتبة إليهم على ما ذكره في «التثقيف» في قطع الثّلث:
صدرت هذه المكاتبة إلى حضرة البودشطا والكبطان الجليلين، المكرّمين، الموقّرين، المبجّلين، الخطيرين، فلان وفلان، والمشايخ الأكابر المحترمين، أصحاب الرأي والمشورة، الكمنون (1) بجنوة، أمجاد الأمّة المسيحية، أكابر دين النصرانية، أصدقاء الملوك والسلاطين، ألهمهم الله تعالى رشدهم، وقرن بالخير قصدهم، وجعل النصيحة عندهم، تتضمن إعلامهم كذا وكذا. وتعريفهم «الحكّام بجنوة».
قال في «التثقيف»: والذي استقرّ عليه الحال آخرا في مفتتح سنة سبع وستين وسبعمائة إبطال المكاتبة إلى البودشطا والكبطان، بحكم أنهما أبطلا، واستقرّ [ت مكاتبة] الدّوج مكانهما بما نصه:
__________
(1) لعله: «الحاكمون بجنوة». حاشية الطبعة الأميرية.(8/48)
صدرت هذه المكاتبة إلى الدّوج الجليل، المكرّم، المبجّل، الموقّر، الخطير، فلان، والمشايخ، والباقي على ما تقدّم ذكره.
قلت: هكذا هو في «التثقيف» بدال وواو وجيم، والمعروف إبدال الجيم في آخره كافا على ما سيأتي ذكره في الكلام على صاحب البندقية على الأثر.
واعلم أنه قد ذكر في «التثقيف» أنه كان لصاحب جنوة مقدّم على الشّواني بقبرس، وقيل إنه كان بالماغوصة، وأنه كتب إليه في رمضان جوابا عما ورد عنه في قطع العادة ما نصه:
وردت مكاتبة المحتشم، الجليل، المبجّل، الموقّر، الأسد، الباسل، فلان، مجد الملة المسيحية، كبير الطائفة الصّليبيّة، غرس الملوك والسلاطين، ثم الدعاء. وتعريفه «مقدّم الشّواني الجنويّة بقبرس».
الرابعة المكاتبة إلى صاحب البندقيّة
. قال في «التثقيف»: ورسم المكاتبة إليه على ما استقرّ عليه الحال عندما كتب إليه جوابه في شهر رجب سنة سبع وستين وسبعمائة، وهو يومئذ مركريادو في قطع الثلث:
وردت مكاتبة حضرة الدّوج، الجليل، المكرّم، الخطير، الباسل، الموقّر، المفخّم، مركريادو فخر الملة المسيحية، جمال الطائفة الصّليبية، دوج البندقيّة والمانسية، دوج كرال دين بني المعمودية، صديق الملوك والسلاطين، والدعاء. وتعريفه «صاحب البندقية»: ثم ذكر بعد ذلك نقلا عن خط القاضي ناصر الدين بن النشائي أنه كتب في الجواب إلى دوك البنادقة:
وردت مطالعة الدّوك الجليل، المكرّم، المبجّل، الموقّر، البطل، الهمام الضّرغام، الغضنفر، الخطير، مجد الملة النّصرانية، فخر الأمّة العيسويّة، عماد بني المعمودية، معزّ بابا رومية، صديق الملوك والسلاطين، دوك البنادقة، وديارقة، والرّوسا، والإصطنبوليّة. ثم قال: ولم يذكر تعريفه ولا قطع الورق الذي يكتب إليه فيه، ثم نقل عنه أيضا أن المكاتبة إلى دوك البندقيّة: هذه المكاتبة إلى حضرة المحتشم، الجليل، المبجّل، الموقّر، المكرم، المفخّم، الباسل،
الضّرغام، فلان، عزّ الأمة المسيحيّة، جمال الطائفة العيسويّة، ذخر الملّة الصليبية، صديق الملوك والسلاطين. ثم قال: هكذا رأيته من غير ذكر تعريفه ولا القطع الذي يكتب إليه فيه. قال: وما يبعد أنه غير الأوّل ولم يزد على ذلك.(8/49)
وردت مطالعة الدّوك الجليل، المكرّم، المبجّل، الموقّر، البطل، الهمام الضّرغام، الغضنفر، الخطير، مجد الملة النّصرانية، فخر الأمّة العيسويّة، عماد بني المعمودية، معزّ بابا رومية، صديق الملوك والسلاطين، دوك البنادقة، وديارقة، والرّوسا، والإصطنبوليّة. ثم قال: ولم يذكر تعريفه ولا قطع الورق الذي يكتب إليه فيه، ثم نقل عنه أيضا أن المكاتبة إلى دوك البندقيّة: هذه المكاتبة إلى حضرة المحتشم، الجليل، المبجّل، الموقّر، المكرم، المفخّم، الباسل،
الضّرغام، فلان، عزّ الأمة المسيحيّة، جمال الطائفة العيسويّة، ذخر الملّة الصليبية، صديق الملوك والسلاطين. ثم قال: هكذا رأيته من غير ذكر تعريفه ولا القطع الذي يكتب إليه فيه. قال: وما يبعد أنه غير الأوّل ولم يزد على ذلك.
قلت: ومقتضى ما ذكره من جميع ذلك أن الدّوك غير الملك نفسه. على أن المكاتبة الأولى والثانية في الجواب متقاربتان. أما المكاتبة الثالثة فمنحطّة عن الأوّلتين. على أنه قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك عند ذكر البندقيّة نقلا عن ابن (1) سعيد أن ملك البنادقة يقال له الدّوك بضم الدال المهملة وواو وكاف في الآخر، وهذا مما يحتاج إلى تحرير فإن كان الدّوك هو الملك فتكون المكاتبة إليه اختلفت باختلاف الحال، أو باختلاف غرض الكتّاب، أو عدم اطّلاعهم على حقيقة الأقدار والوقوف مع ما يلقى إليهم من المزاحمة في كل وقت، وهو الظاهر.
الخامسة المكاتبة إلى صاحب سنوب
(2)، من سواحل بلاد الروم، قبل أن تفتح ويستولي عليها التّركمان. قال في «التعريف»: وهي (3) على ضفّة الخليج القسطنطينيّ، وملكها روميّ من بيت الملك القديم، من أقارب (4) صاحب القسطنطينيّة. قال: ويقال إن أباه أعرق من آبائه في السلطان. قال: ولكن ليس
__________
(1) هو أبو الحسن علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد الأندلسي، الأديب النحوي المؤرخ وصاحب المؤلّفات الشهيرة «كالمغرب في حلى المغرب» و «رايات المبرّزين» و «الغصون اليانعة». توفي سنة 685هـ. واختلاف في تحديد سنة وفاته فقال ابن شاكر الكتبي والسيوطي إنه توفي في سنة 673هـ. انظر نفح الطيب (ج 2ص 262، 271270)، والمغرب في حلى المغرب (ج 2ص 178)، واختصار القدح ص 1، وفوات الوفيات (ج 3ص 103)، والذيل والتكملة، السفر الخامس، القسم الأول ص 413412، والديباج المذهب ص 208، وبغية الوعاة ص 357، والأعلام (ج 5ص 26).
(2) قال في التعريف ص 58: «ويقال: بالسين والصاد، وهي بلد على ضفة الخليج القسطنطيني».
(3) في المصدر السابق: «وهي بلد على».
(4) في المصدر السابق: «يقرب إلى صاحب».(8/50)
ملكه بكبير، ولا عدده بكثير، ويكون بينه وبين أمراء الأتراك حروب، يكون في أكثرها المغلوب.
وذكر أنّ رسم المكاتبة إليه مثل متملّك سيس (1) فتكون على ما ذكره في مكاتبة متملك سيس:
صدرت هذه المكاتبة إلى حضرة الملك، الجليل، البطل، الباسل، الهمام، السّميدع (2)، الضّرغام، الغضنفر، فلان، فخر الملّة المسيحيّة، ذخر الأمة النّصرانية، عماد بني المعموديّة، صديق الملوك والسلاطين (3)
وهذا دعاء يليق به، ذكره في «التعريف»:
وكفاه شرّ ما ينوب، وروّح خاطره في الشّمال بريّا ما يهبّ من الجنوب، ووقاه سوء فعل يورث النّدم وأوّل ما يقرع السّنّ سنوب (4)
السادسة المكاتبة إلى صاحب البلغار والسّرب
. قد تقدّم في الكلام على المكاتبات إلى ملوك الإسلام بالجانب الشّماليّ نقلا عن «التعريف» (5) ما يقتضي أنّ ملكها مسلم، وذكرت مكاتبته الإسلامية هناك، وعلى ذلك اقتصر في «التعريف»، وتقدّم النقل عن «مسالك الأبصار» أنها صارت إلى ملوك النّصرانية، وعليه اقتصر في «التثقيف» وهو المراد هنا.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التثقيف» نقلا عن ابن النشائي (6) في قطع الثلث ما نصه:
__________
(1) تقدم الحديث عنها في الصحيفة 12من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 2.
(2) السميدع: السيد الكريم الشريف السخيّ. لسان العرب (سمدع).
(3) هكذا وردت هذه المكاتبة في المصدر السابق ص 57.
(4) في التعريف ص 58: «شنوب» بالشين المعجمة.
(5) انظر هذه المكاتبة في التعريف ص 51.
(6) هو القاضي ناصر الدين بن النشائي كما سيرد في هذا الجزء من صبح الأعشى ص 54. والنشائي نسبة إلى قرية «نشا» بريف مصر.(8/51)
أطال الله تعالى بقاء حضرة الملك، الجليل، المكرّم، المبجّل، الهمام، الضّرغام، الباسل، الدّوقس، الأنجالوس، الكمنينوس، فلان، عماد النّصرانية، مالك السّرب والبلغار، فخر الأمّة العيسوية، ذخر الملة المسيحية، فارس البحور، حامي الحصون والثّغور، والدعاء، أصدرنا هذه المكاتبة، وتعريفه «صاحب البلغار».
واعلم أنه في «التثقيف» بعد أن أورد المكاتبة المتقدّمة لصاحب السّرب والبلغار، نقلا عن ابن النشائي، ذكر نقلا عنه أيضا أن المكاتبة إلى صاحب السّرب في قطع الثلث نظير متملّك سيس، فتكون المكاتبة إليه على ما تقدّم أنه الذي استقرّ عليه الحال في المكاتبة لمتملّك سيس:
صدرت هذه المكاتبة إلى حضرة الملك، الجليل، المكرّم، المبجّل، المعزّز، الهمام، الباسل، فلان، عزّ دين النّصرانية، كبير الطائفة الصّليبيّة، عماد بني المعموديّة، صديق الملوك والسلاطين، أدام الله نعمته، وحرس مهجته، تعلمه كذا وكذا، وتعريفه «صاحب السّرب».
ثم قال: ولم أدر هل يجتمعان لشخص واحد تارة فيكون بهما اثنان تارة وواحد تارة أم لا. ثم قال: على أنه لو كان الأمر كذلك لكان يتعين أن يذكر مكاتبة صاحب البلغار وحده مفردا كما ذكر مكاتبة صاحب السّرب وحده مفردا.
قلت: كلا الأمرين محتمل، فيجوز أنهما كانا مجتمعين لواحد، وأنه كتب تعريفه بالإضافة إلى أحدهما استغناء به عن الآخر، أو أنه كتب إلى صاحب السّرب بمفرده، ولم يحطّ رتبته في قطع الورق عن رتبة من اجتمعاله، ولا يلزم من ذلك أنه كان يكتب لصاحب البلغار بمفرده لاحتمال أنه لم يكتب إليه شيء حينئذ، وبالجملة فهذا أمر راجع إلى النقل.
السابعة المكاتبة إلى ملك رودس
. قال في «التعريف»: وهي جزيرة تقابل شطوط البلاد الرّوميّة. قال: وأهلها في البحر حراميّة، إذا ظفروا بالمسلم،
أخذوا ماله، وأحيوه، وباعوه (1) أو استخدموه، وإذا ظفروا بالفرنجيّ، أخذوا (2)
ماله وقتلوه.(8/52)
قال في «التعريف»: وهي جزيرة تقابل شطوط البلاد الرّوميّة. قال: وأهلها في البحر حراميّة، إذا ظفروا بالمسلم،
أخذوا ماله، وأحيوه، وباعوه (1) أو استخدموه، وإذا ظفروا بالفرنجيّ، أخذوا (2)
ماله وقتلوه.
ورسم المكاتبة إليه مثل متملك سيس، إلّا أنه لا يقال فيه معزّ بابا رومية، وتختصر بعض ألقابه لأنه دونه، وحينئذ فيتجه أن تكون المكاتبة إليه:
صدرت هذه المكاتبة إلى حضرة الملك الجليل، البطل، الباسل، السّميدع، فلان، فخر الملة المسيحية، ذخر الأمة النّصرانية، صديق الملوك والسلاطين، أو نحو ذلك. على أنه في «التعريف» لم يذكر في المكاتبة إلى متملّك سيس، معزّ بابا رومية، فلم يكن ليحتاج أن يقول: إلّا أنه لا يقال فيه معزّ بابا رومية.
وهذا دعاء يليق به، ذكره في «التعريف» وهو:
قدّم الله له الأعذار، وكفاه قوامع (3) الإنذار، وحذّره عاقبة البغي قبل أن لا ينفع الحذار.
آخر: فكّ الله من وثاقه كلّ مأسور، وأقال كلّ غراب له من الرّجوع وجناحه مكسور، وعصمه بالتّوبة مما اقترف، لا بالبحر ولو أنه سبعة أبحر، وسور مدينته ولو أنه مائة سور.
الثامنة المكاتبة إلى صاحب جزيرة المصطكى
. قال في «التعريف»:
وهي جزيرة صغيرة (4) لا تبعد مدّى من الإسكندريّة، وصاحبها صغير لا في مال ولا في رجال، وجزيرته ذات قحط لا يطرّ شاربها بزرع، ولا يدرّ حالبها بضرع، إلا أنها تنبت هذه الشجرة فتحمل (5) منها وتجلب، وترسى السفن عليها بسببها وتطلب. قال: وفي ملكها خدمة لرسلنا إذا ركبوا ثبج البحر، وتجهيز لهم إلى حيث
__________
(1) في التعريف ص 59: «فباعوه».
(2) في التعريف ص 59: «أخذوه وقتلوه».
(3) في المصدر السابق: «توابع».
(4) في المصدر السابق: «حقيرة صغيرة».
(5) في المصدر السابق: «فيحمل منها ويجلب».(8/53)
أرادوا، وتنجيز لهم إذا توجّهوا وإذا عادوا. ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف» كالمكاتبة إلى صاحب جزيرة رودس المتقدّمة الذكر آنفا وهي:
صدرت هذه المكاتبة إلى حضرة الملك الجليل إلى آخر ما تقدّم.
وهذه أدعية (1) تليق به ذكرها في «التعريف» دعاء من ذلك: «وفّقه الله لطاعته، وأنهضه من الولاء بقدر طاقته».
آخر: أطاب الله قلبه، وأدام إلينا قربه.
آخر: لا زال إلى الطاعة يبادر، وعلى الخدمة أنهض قادر، ومكانه تزمّ إليه ركائب السّفن بكل وارد وصادر.
التاسعة المكاتبة إلى متملّك قبرس
. إنما قيل له متملّك قبرس لأنها كانت قد فتحها المسلمون، ثم تغلّب عليها النصارى وملكوها، فقيل لمن غلب عليها متملك ولم يقل له ملك، وذكر في «التثقيف» عن القاضي ناصر الدين بن النّشائي أن المكاتبة إليه [مثل] متملك سيس ولم يزد على ذلك، وحينئذ فتكون المكاتبة إليه مثل ما استقرّ عليه الحال في المكاتبة إلى متملّك سيس في قطع العادة:
صدرت هذه المكاتبة إلى حضرة الملك، الجليل، المكرّم، المبجّل، المعزّز، الهمام، الباسل، فلان، عزّ دين النصرانية، كبير الطائفة الصّليبية، عماد بني المعموديّة، صديق الملوك والسلاطين، أدام الله نعمته، وحرس مهجته.
وتعريفه «متملك قبرس».
قال صاحب «التثقيف»: ولم أقف على مكاتبة إليه ابتداء ولا جوابا سوى ذلك، إلّا أنه كتب إليه عن الأمير الجاي اليوسفي عند وقوع الصلح في سنة اثنتين وستين وسبعمائة، يعني عند ما كان الجاي أتابك العساكر المنصورة.
العاشرة المكاتبة إلى ملك مونفراد
. ذكر في «التثقيف» أنه كان بها ابن
__________
(1) وردت هذه الأدعية في التعريف ص 60كما هنا.(8/54)
ملك إصطنبول، وأنه كتب إليه في سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة:
أصدرناها إلى حضرة الملك الجليل، المكرّم، البطل، الهمام، الأسد، الضّرغام، فلان، مجد النّصرانية، فخر العيسويّة، عماد بني المعموديّة، جمال الطائفتين الرومية والفرنجيّة، ملك مونفراد، وارث التاج، معزّ الباب، أدام الله بقاه، وحفظه ووقاه، وأورثه من أبيه تخته وتاجه وولّاه، تتضمن إعلامه كذا وكذا.
ثم قال: هذا ما وجدته مسطورا في رسم المكاتبة المذكورة، ولم يكتب إليه شيء في مدّة مباشرتي. ولم أدر ما تعريفه، ولا في أيّ قطع يكتب إليه. قال: والذي يظهر أنه يكتب إليه في قطع العادة، وأن يكون تعريفه «ملك مونفراد».
الحادية عشرة المكاتبة إلى صاحبة نابل
(1) وقد ذكر في «التثقيف» أنه كان اسم صاحبتها جوانا، وأنه كتب إليها في أواخر سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة ما صورته:
صدرت هذه المكاتبة إلى الملكة، الجليلة، المكرّمة، المبجّلة، الموقّرة، المفخّمة، المعزّزة، فلانة، العالمة في ملّتها، العادلة في مملكتها، كبيرة دين النّصرانية، بصيرة الأمّة العيسوية، حامية الثغور، صديقة الملوك والسلاطين. ثم الدعاء، تتضمّن إعلامها، وتعريفها «صاحبة نابل» ولم يذكر قطع الورق لمكاتبتها، ولا خفاء أنه يكتب إليها في قطع العادة لصغر مقامها.
قلت: فإن ولي مملكتها رجل، فينبغي أن يكتب إليه بهذه المكاتبة على التذكير أو أعلى من ذلك، لميزة الرجال على النساء. وهؤلاء جملة من تعرّض إلى مكاتبته في «التعريف» و «التثقيف» من ملوك الكفر، فإن اتفقت المكاتبة إلى أحد سواهم فليقس على من هو مثله منهم. ثم قد ذكر في «التثقيف» القنصل بكفا، وذكر أنها جارية في حكم جنوة، وأنه لم يكتب إليه شيء عن المواقف الشريفة، ولا خفاء في ذلك، فإن مقام القنصل دون أن يكاتب عن الأبواب السلطانية.
__________
(1) نابل: إقليم من أقاليم إفريقية بين تونس وسوسه. معجم البلدان (ج 5ص 249).(8/55)
الفصل الخامس من الباب الثاني من المقالة الرابعة
(في الكتب الواردة على الأبواب الشريفة السلطانية بالديار المصرية، ممن جرت العادة بمكاتبته إليها من أهل المملكة وغيرها من سائر الممالك المكاتبة عن هذه المملكة، وهي نوعان)
النوع الأوّل (المكاتبات الواردة عن ملوك المسلمين، وهي على قسمين)
القسم الأوّل في الكتب الواردة عن أهل هذه المملكة
، بالديار المصرية، والبلاد الشامية، ممن يؤهّل للمكاتبة إلى الأبواب السلطانية، من النّواب وغيرهم من الأمراء، وأرباب الأقلام، من الوزراء، والعلماء ومن في معناهم، وهم على ضربين:
الضرب الأوّل (في المطالعات الواردة عن أكابر أهل الدولة بالديار المصرية والبلاد الشامية، من النوّاب ومن في معناهم)
قد جرت عادة من يكتب إلى الأبواب السلطانية من أهل هذه المرتبة، أن يكتب جميعهم كتبهم في قطع العادة، فإن كان بالديار المصرية فمن الورق البلديّ، وإن كان بالبلاد الشامية فمن الورق الشاميّ، وجميع ذلك في الورق الأبيض، إلّا نائب الشام نائب الكرك، فإنهما قد جرت العادة فيهما بأنهما يكتبان إلى الأبواب السلطانية في الورق الأحمر الشاميّ، شيء اختصّا به دون سائر أهل المملكة.
ثم قد ذكر في «عرف التعريف» أن الملوك لا يكتب إليهم إلا «يقبّل الأرض» وينهي. ويختم الكتاب بما صورته: طالع المملوك بذلك وللآراء العالية مزيد العلوّ، أو أنهى المملوك ذلك وللآراء العالية مزيد العلوّ، والعنوان «الملكيّ الفلانيّ، مطالعة المملوك فلان» وحينئذ فالذي جرت به العادة في ذلك أن يبتديء الكاتب فيكتب فهرست الكتاب في رأس لدّرج من جهة وجهه، في عرض إصبع، في الجانب الأيمن «إلى الأبواب الشريفة» وفي الجانب الأيسر «بسبب كذا وكذا» ثم يقلب الدّرج ويكتب في ظاهره، بعد ترك ما كتب الفهرست في باطنه، العنوان، فيكتب: «الملكيّ الفلانيّ» في أوّل العنوان، و «مطالعة المملوك فلان» في آخره. ثم بعد ذلك يقلب الدرج، ويترك وصلا أبيض، ويكتب البسملة في رأس الوصل الثاني بعد خلوّهامش من الجانب الأيمن. ثم يكتب تحت البسملة ملاصقا لها ما صورته «الملكيّ الفلاني» بحيث يكون آخر الملكيّ الفلاني مسامتا لجلالة البسملة، بلقب السلطان، كأنه ينسب نفسه إلى سلطانه.(8/56)
قد جرت عادة من يكتب إلى الأبواب السلطانية من أهل هذه المرتبة، أن يكتب جميعهم كتبهم في قطع العادة، فإن كان بالديار المصرية فمن الورق البلديّ، وإن كان بالبلاد الشامية فمن الورق الشاميّ، وجميع ذلك في الورق الأبيض، إلّا نائب الشام نائب الكرك، فإنهما قد جرت العادة فيهما بأنهما يكتبان إلى الأبواب السلطانية في الورق الأحمر الشاميّ، شيء اختصّا به دون سائر أهل المملكة.
ثم قد ذكر في «عرف التعريف» أن الملوك لا يكتب إليهم إلا «يقبّل الأرض» وينهي. ويختم الكتاب بما صورته: طالع المملوك بذلك وللآراء العالية مزيد العلوّ، أو أنهى المملوك ذلك وللآراء العالية مزيد العلوّ، والعنوان «الملكيّ الفلانيّ، مطالعة المملوك فلان» وحينئذ فالذي جرت به العادة في ذلك أن يبتديء الكاتب فيكتب فهرست الكتاب في رأس لدّرج من جهة وجهه، في عرض إصبع، في الجانب الأيمن «إلى الأبواب الشريفة» وفي الجانب الأيسر «بسبب كذا وكذا» ثم يقلب الدّرج ويكتب في ظاهره، بعد ترك ما كتب الفهرست في باطنه، العنوان، فيكتب: «الملكيّ الفلانيّ» في أوّل العنوان، و «مطالعة المملوك فلان» في آخره. ثم بعد ذلك يقلب الدرج، ويترك وصلا أبيض، ويكتب البسملة في رأس الوصل الثاني بعد خلوّهامش من الجانب الأيمن. ثم يكتب تحت البسملة ملاصقا لها ما صورته «الملكيّ الفلاني» بحيث يكون آخر الملكيّ الفلاني مسامتا لجلالة البسملة، بلقب السلطان، كأنه ينسب نفسه إلى سلطانه.
ثم يكتب صورة المكاتبة على سمت البسملة في سطر ملاصق للملكيّ الفلانيّ «يقبّل الأرض وينهي كذا وكذا» فإن كان ابتداء كتب وينهي أن الأمر كذا وكذا، ويأتي بمقاصد المكاتبة، فإن كانت فصلا واحدا ذكره وختم الكتاب بآخر كلامه، وإن كان الكتاب مشتملا على فصول أتى بالفصل الأول إلى آخره. ثم يخلّي بياضا قدر خمسة أسطر. ثم يسرد الفصول بعد ذلك فصلا فصلا، يخلّي بين كل فصلين قدر خمسة أسطر أيضا، ويقول في أوّل كل فصل «المملوك ينهي كذا وكذا» وإذا أتى على ذكر السلطان، قال: خلّد الله سلطانه، أو خلّد الله ظلّه، أو أتى على ذكر المرسوم الشريف، قال: شرّفه الله وعظّمه ونحو ذلك، وإذا سأل في أمر، قال:
والمملوك يعرض على الآراء الشريفة كذا وكذا، أو إن اقتضت الآراء الشريفة كذا فلها مزيد العلوّ، ولا يقال: يسأل الصدقات الشريفة، إلّا في أمر جليل أو شيء مهمّ، والعرض أبلغ في الأدب، ولا يلقّب أحدا بالجناب والمجلس ومجلس الأمير، وإذا ذكر كبيرا في الدولة كالنائب الكافل، ونائب الشام، أو نائب حلب، أو أمير كبير، قال: إن مملوك مولانا السلطان خلّد الله ملكه الأمير فلان الدين فلان
الناصري مثلا، كافل الممالك الشريفة، أو نائب السلطنة الشريفة بالمملكة الشامية المحروسة، أو كافل المملكة الشامية المحروسة، أو نائب السلطنة الشريفة بحلب المحروسة، أو الأمير فلان الدين فلان الناصري مثلا، أو القاضي فلان الدين، أو ناظر الجيوش المنصورة بالأبواب الشريفة، وما يجري هذا المجرى ولا يدعى في المطالعة لأحد. وإذا انتهت الفصول إلى آخرها، قال:(8/57)
والمملوك يعرض على الآراء الشريفة كذا وكذا، أو إن اقتضت الآراء الشريفة كذا فلها مزيد العلوّ، ولا يقال: يسأل الصدقات الشريفة، إلّا في أمر جليل أو شيء مهمّ، والعرض أبلغ في الأدب، ولا يلقّب أحدا بالجناب والمجلس ومجلس الأمير، وإذا ذكر كبيرا في الدولة كالنائب الكافل، ونائب الشام، أو نائب حلب، أو أمير كبير، قال: إن مملوك مولانا السلطان خلّد الله ملكه الأمير فلان الدين فلان
الناصري مثلا، كافل الممالك الشريفة، أو نائب السلطنة الشريفة بالمملكة الشامية المحروسة، أو كافل المملكة الشامية المحروسة، أو نائب السلطنة الشريفة بحلب المحروسة، أو الأمير فلان الدين فلان الناصري مثلا، أو القاضي فلان الدين، أو ناظر الجيوش المنصورة بالأبواب الشريفة، وما يجري هذا المجرى ولا يدعى في المطالعة لأحد. وإذا انتهت الفصول إلى آخرها، قال:
وقد جهّز المملوك بمطالعته هذه مملوكه فلانا السّيفيّ مثلا الماثل بها. وإن كان ثم مشافهة، قال: وقد حمّله مشافهة يسأل المسامع الشريفة سماعها إن اقتضت ذلك، أو ينهيها إلى المسامع الشريفة إذا رسم له بإنهائها، طالع بذلك، أو أنهى ذلك.
ثم قد جرت عادة النّوّاب بالبلاد الشامية أن يقدّموا في صدر المكاتبة ما اشتمل على أخبار البلاد الشرقية من مملكة إيران المجاورة لأواخر هذه المملكة، من تجدّد أمر، أو حركة عدوّ، أو حكاية حال مهمّة من أحوال تلك البلاد، مثل أن يقال في أوّل المكاتبة: وينهي أنّ قصّاده عادوا من البلاد الشرقية مخبرين بكذا وكذا، ويشرح الحال التي أخبر بها قصّاده.
وإن كان الخبر نقلا عن نائب من نوّاب الأطراف كالرّها (1) ونحوها، قال: إن مطالعة نائب فلانة وردت بكذا وكذا، ويذكر ما تضمنته ملخّصا وإن كانت المطالعة جواب مثال شريف ورد فقط، قال: وينهي أن المرسوم الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه ورد على المملوك على يد فلان الدين فلان البريديّ بالأبواب الشريفة يتضمّن ما اقتضته المراسيم الشريفة، أو ما اقتضته الآراء الشريفة شرّفها الله تعالى وعظّمها، من كذا وكذا، ويذكر نصّ المثال الشريف حرفا حرفا. ثم يقال: وتفهّم المملوك ما رسم له به، وقابل المراسيم الشريفة زاد الله تعالى
__________
(1) الرها: بضم أوله، والمدّ والقصر: مدينة بالجزيرة بين الموصل والشام بينهما ستة فراسخ، بنيت في السنة السادسة من موت الإسكندر. معجم البلدان (ج 3ص 106).(8/58)
شرفها بتكرار تقبيل الأرض والامتثال، وتقدّم بكذا، إن كان الأمر مما نفذ، أو والذي ينهيه المملوك كذا وكذا إن كان الأمر قد توقّف.
ثم إن كان النائب عظيم القدر كنائب السلطنة الشريفة بالشام أو حلب، جعل بعد ما بين كل سطرين تقدير رأس إصبع، وإن كان دون ذلك جعل ما بينهما أقلّ من ذلك حتّى ينتهي في أقل الرتب إلى ملاصقة السطور بعضها ببعض.
وإن كانت المطالعة في أمر مهمّ كاستقرار نائب أو بشارة بفتح أو نحو ذلك، أتى بجميع الكتاب مسجّعا وإلّا فلا.
وهذه نسخة مطالعة عن نائب الشام ابتداء.
يقبّل الأرض، وينهي أنه ورد على المملوك مكاتبة نائب السلطنة الشريفة بحلب المحروسة، يذكر فيها أن قصّاده عادوا من جهة بلاد الشرق، وأخبروا أن العدوّ المخذول فلانا قد خرج عليه عدوّ من ورائه وقصد بلاده فكرّ راجعا إليه بعد أن كان قاصدا هذه الجهة، وأحبّ المملوك إحاطة الخواطر الشريفة بذلك.
المملوك ينهي أنّ مطالعة نائب الرّحبة المحروسة وردت على المملوك يخبر فيها أن فلانا التّركمانيّ قد عاد إلى الطاعة الشريفة، ولاذ بمراحم الأبواب العالية، وأنه ما كان حمله على ما وقع منه من عدم المقابلة إلّا الخوف من السّطوات الشريفة، وأنه يسأل كتابة أمان شريف له ولجماعته ومن يليه بأن يكونوا آمنين على أنفسهم، وأموالهم، وسائر ذات يدهم، وأنه إذا وصل إليه الأمان قصد الأبواب السلطانية، وتمثل بالمواقف الشريفة، وامتثل ما تبرز به الأوامر المطاعة في أمره وأمر جماعته. والمملوك ينظر ما يرد به الجواب الشريف في أمره لكاتب نائب الرّحبة المحروسة بما يعتمده في أمره.
المملوك ينهي أنه قد بلغ المملوك أنّ البحر مشغول بمراكب الفرنج، ولم يعلم إلى أيّ مكان يقصدون، وقد أخذ المملوك في الاحتراز على السواحل
المذكورة بإقامة المركّزين، وأمرهم بالاحتراز والاحتفاظ، وقد عرض المملوك ذلك على الآراء العالية ليكون ذلك على الخواطر الشريفة، ويكاتب به النّواب بالبلاد المجاورة للبحر.(8/59)
المملوك ينهي أنه قد بلغ المملوك أنّ البحر مشغول بمراكب الفرنج، ولم يعلم إلى أيّ مكان يقصدون، وقد أخذ المملوك في الاحتراز على السواحل
المذكورة بإقامة المركّزين، وأمرهم بالاحتراز والاحتفاظ، وقد عرض المملوك ذلك على الآراء العالية ليكون ذلك على الخواطر الشريفة، ويكاتب به النّواب بالبلاد المجاورة للبحر.
المملوك ينهي أن الأمير فلانا الفلانيّ، أحد أمراء الطبلخاناه (1) بدمشق المحروسة قد توفّي إلى رحمة الله تعالى، والمملوك يسأل الصّدقات الشريفة في استقرار إمرته باسم مملوك مولانا السلطان عز نصره، ولد المملوك فلان، إعانة له على الخدمة الشريفة، وجبرا لخاطر المملوك، فإن حسن ذلك بالآراء الشريفة، وإلّا فللرأي العالي مزيد العلوّ.
المملوك ينهي أن الأمير فلان الدين فلانا، أمير حاجب بالشام المحروس، كان قد برزت المراسيم الشريفة باستقراره في نيابة صفد المحروسة، وقد توجه إلى محلّ نيابته، والمملوك يعرض على الآراء الشريفة إن حسن بالرأي الشريف أن يستقرّ في الوظيفة المذكورة الأمير فلان الدين فلان، أحد الأمراء الطبلخاناه بدمشق المحروسة، فإنه كفء لذلك، أو يستقرّ من تبرز به الآراء الشريفة.
المملوك ينهي أن فلانا: أحد رجال الحلقة المنصورة بدمشق المحروسة، قد درج بالوفاة، وقد كتب المملوك مربّعة باسم فلان الدين فلان باستقراره على إقطاعه، وجهّزها إلى الأبواب الشريفة لتعرض على الآراء العالية، فإن حسن بالرأي الشريف إمضاؤها وإلّا فيستقرّ على إقطاعه من تبرز المراسيم الشريفة باستقراره، وقد جهّز المملوك هذه المطالعة على يد مملوكه فلان إلى الأبواب الشريفة.
طالع بذلك، إن شاء الله تعالى. ثم يكمل.
__________
(1) الطبلخاناه (بيت الطبل) يحكم عليها أمير من أمراء العشرات يعرف بأمير علم، ولها مهتار متسلّم لحواصلها يعرف بمهتار الطبلخاناه، وله رجال تحت يده. ولا تكون الطبلخاناه لأقلّ من أربعين.
صبح الأعشى (ج 4ص 13، 15) والحاشية رقم 2في فوات الوفيات (ج 2ص 86).(8/60)
وهذه نسخة مطالعة عن نائب (1) الشام أيضا، في جواب مكاتبة شريفة وردت عليه وهي:
يقبّل الأرض وينهي أن المرسوم الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه ورد على المملوك على يد فلان الدين فلان البريديّ، بالأبواب الشريفة، يتضمّن أنّ المرسوم الشريف اقتضى الاجتهاد والاهتمام في حفظ السواحل والمواني، وإقامة الأيزاك (2) والأبدال (3) في أوقاتها على العادة، وإلزام أربابها بمواظبتها، وإلزام المنوّرين بالدّيدبانات (4) والمناظر والمناور في الأماكن المعروفة، وتعهّد أحوالها وتفقّدها، وتقويم أحوالها بحيث تقوم أحوالها على أحسن العوائد وأكملها، ولا يقع على أحد درك بسببها، وأنّ المملوك يتقدّم باعتماد ما اقتضاه المرسوم الشريف من ذلك مع مضاعفة الاحتفال بذلك والمبادرة إليه، فوقف المملوك على المرسوم الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه، وتفهّم ما رسم له به، وقابل المراسيم الشريفة زاد الله تعالى شرفها بالامتثال، وتقدم باعتماد ما اقتضته المراسيم الشريفة من ذلك، وأخذ في حفظ السواحل والمواني، وإقامة الأيزاك والأبدال، وإلزام أربابها بمواظبتها، وإلزام المنوّرين بالدّيدبانات والمناظر [فقامت الأحوال] على أحسن العوائد، وجرت على أكمل القواعد، ولم يكن عند المملوك غفلة عما هو بصدده من ذلك، وقد أعاد المملوك فلان الدين فلانا البريدي المذكور بهذه المطالعة ليحصل الوقوف عليها. طالع بذلك
وهذه نسخة مطالعة تشتمل على ابتداء وجواب: يقبّل الأرض وينهي أنه قد
__________
(1) ذكره في التعريف ص 68فقال: نائب الشام كان مستقرا في رسم مكاتبته في الأيام الناصرية، واستقرّ الآن (في أيام ابن فضل الله العمري مؤلف كتاب التعريف) في الدولة الصالحية.
(2) الأيزاك: ج يزك، وهو رئيس العسس، ومن يراقب من مضى فيتبعه، فارسية، والنسبة إليه يزكيّ.
(3) الأبدال: ج بدل، وهو القائم مقام الشيء.
(4) الديدبانات: ج ديدبان، وهو الرقيب والطليعة والدليل، معرّب ديدب بان بالفارسية.(8/61)
حضر رسول من القان فلان بالمملكة الفلانية [وقصده التوجه] إلى الأبواب الشريفة، والمملوك يعرض على الآراء العالية أمره، فإن أذن له في التوجّه إلى أبوابه الشريفة، جهّزه المملوك إليها على العادة.
المملوك ينهي أن المرسوم الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه ورد على المملوك على يد فلان الدّين فلان المسفّر من الأبواب الشريفة، يتضمّن طلب فلان الفلانيّ، وحمله إلى الأبواب الشريفة محتفظا به، فبادر المملوك ما برزت به المراسيم الشريفة بالامتثال، وتقدّم بطلب فلان المذكور وسلّمه إلى فلان الدين المسفّر المذكور، وبعث معه من يحتفظ به في الطريق إلى حين وصوله إلى الأبواب الشريفة.
صورة وضع المطالعة من نوّاب السلطنة ومن في معناهم، إلى الأبواب الشريفة:
الجانب الأيمن الطرة الجانب الأيسر إلى الأبواب الشريفة بسبب كذا العنوان مطالعة المملوك الملكي الفلاني فلان الصدر {بسم الله الرحمن الرحيم} *
الملكي الظاهري مثلا يقبل الأرض وينهي أن المرسوم الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه، ورد على المملوك، على يد فلان الدين فلان البريديّ، ويكمل عليه إلى آخره.
الضرب الثاني (من المطالعات الواردة إلى الأبواب السلطانية عن أهل المملكة)
المطالعات الواردة من الولاة ومن في معناهم (1)
__________
(1) بياض في الأصل بعد ذلك بقدر صفحة. حاشية الطبعة الأميرية.(8/62)
القسم الثاني في الكتب الواردة على الأبواب السلطانية
، عن أهل الممالك الإسلامية المكاتبة عن هذه المملكة. وحالها مختلف باختلاف حال مصطلح أهل البلاد وحال المكتوب عنه في رفعة القدر. وفائدة معرفة ذلك أنه إذا عرف الكاتب نصطلح كلّ مملكة في الكتابة، ظهر له ما هو وارد عن ملكها حقيقة وما هو مفتعل عليه، ولا يخفى ما في ذلك من كبير الفائدة، وعظيم النّفع، وارتفاع قدر الكاتب عند ملكه بإظهار الزّيف بمحكّ المعرفة.
ومن غريب ما وقع في هذا المعنى أنه ورد رسول من الشرق، في الأيام الظاهرية الشهيديّة برقوق سقى الله تعالى عهده، وأظهر لأهل الطّرقات أنه رسول من عند طقتمش صاحب بلاد أزبك، ورفعت بطاقته بالقلعة المحروسة بذلك، فأمر السلطان النائب الكافل وأكابر الأمراء بالخروج لملاقاته على القرب من القاهرة، فخرجوا وتلقّوه بالتعظيم، على أنه رسول طقتمش خان المقدّم ذكره، وأنزل بالميدان الكبير تعظيما لأمره، فلما عرض كتابه نظر فيه المقرّ البدريّ بن فضل الله، تغمّده الله تعالى برحمته، وهو يومئذ صاحب ديوان الإنشاء الشريف، فوجده غير جار على مصطلح كتب القانات في الورق والكتابة، فاستفسر الرسول المذكور عن ذلك ونوقش في قضيته، فأخبر أنه عن الحاكم بالقرم من أتباع طقتمش خان، فأنكر عليه ذلك، وحطّ رتبته عند السلطان وأهل دولته عما كان عليه، وعلا بذلك مقدار المقرّ البدريّ بن فضل الله المشار إليه عند السلطان، وشكر له ما كان من ذلك.
ويشتمل على أربعة مقاصد:
المقصد الأوّل (في الكتب الواردة عن أهل الشرق، وفيه أطراف)
الطرف الأوّل (الكتب الواردة عن القانات العظام من بني جنكز خان، ولها حالان)
الحال الأولى ما كان الأمر عليه قبل دخولهم في دين الإسلام
.
وكان الأمر يجري في كتابتهم مجرى المخاشنة، والتصريح بالعداوة، ولم أقف على مقادير قطع ورق كتبهم يومئذ ولا ترتيب كتابتها.(8/63)
وكان الأمر يجري في كتابتهم مجرى المخاشنة، والتصريح بالعداوة، ولم أقف على مقادير قطع ورق كتبهم يومئذ ولا ترتيب كتابتها.
وهذه نسخة كتاب كتب به هولاكو (1) بن طوجي بن جنكز خان، المنتزع العراق من أيدي الخلفاء العباسيين، كتب به إلى الملك المظفّر (2) قطز في سنة ثمان وخمسين وستمائة (3)، وهو:
من ملك الملوك شرقا وغربا القان الأعظم:
باسمك اللهمّ باسط الأرض ورافع السماء.
يعلم الملك المظفّر قطز الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم يتمتعون بأنعامه، ويقتلون من كان سلطانه بعد ذلك.
يعلم الملك المظفّر وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، أننا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلّطنا على من أحلّ عليه غضبه، فسلّموا إلينا أموركم تسلموا، قبل أن ينكشف الغطاء فتندموا، وقد عرفتم أنّنا خرّبنا البلاد، وقتلنا العباد، فلكم منّا الهرب، ولنا خلفكم الطّلب،
__________
(1) ترجم له ابن شاكر الكتبي فقال: هولاكو بن تولي قان بن جنكز خان ملك التتار ومقدمهم، كان طاغية من أعظم ملوك التتار، وكان شجاعا مقداما جبارا حازما، فتح بلاد خراسان وفارس وأذربيجان والشام والجزيرة، واستولى على بغداد وقتل الخليفة المستعصم آخر خلفاء بني العباس. وذكره ابن كثير فقال: كان ملكا جبارا فاجرا كفّارا، مات في سنة 664هـ، وقيل في سنة 663هـ. انظر فوات الوفيات (ج 4ص 241240)، والبداية والنهاية (ج 13ص 248)، والنجوم الزاهرة (ج 7 ص 220)، والمختصر في أخبار البشر، حوادث سنة 663هـ.
(2) هو سيف الدين قطز بن عبد الله المعزّي، ثالث ملوك الترك المماليك بمصر والشام، كان من أكبر مماليك المعزّ أيبك التركماني وكان ملكا عالي الهمة شديد البأس، وكان له اليد البيضاء في جهاد التتار. حكم في أواخر سنة 657هـ وقتل في سنة 658هـ. انظر وفيات الأعيان (ج 4ص 155)، وفوات الوفيات (ج 3ص 203201).
(3) في الطبعة الأميرية: «وسبعمائة»، وهذا خطأ. لأن بغداد سقطت بيد هولاكو سنة 656هـ، وكان عبد الله المستعصم بالله آنذاك خليفة بني العباس ببغداد، وقيل: إن هولاكو، لما ملك بغداد، أمر بخنق المستعصم، وقيل: رفس المستعصم، إلى أن مات في سنة 656هـ. انظر فوات الوفيات (ج 2ص 233231).(8/64)
فما لكم من سيوفنا خلاص، خيولنا سوابق، وسيوفنا قواطع، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرّمال، ومن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلّم، فإن أنتم لشرطنا وأوامرنا أطعتم فلكم مالنا، وعليكم ما علينا، فقد أعذر من أنذر. وقد ثبت عندكم أنّنا كفرة، وثبت عندنا أنكم الفجرة، فأسرعوا إلينا بالجواب قبل أن تضرم الحرب نارها، وترميكم بشرارها، فلا يبقى لكم جاه ولا عزّ، ولا يعصمكم منّا جبل ولا حرز (1)، فما بقي لنا مقصد سواكم، والسّلام علينا وعليكم، وعلى من اتّبع الهدى، وخشي عواقب الرّدى، وأطاع الملك الأعلى.
الحال الثانية ما كان الأمر عليه بعد دخولهم في دين الإسلام
مع قيام العداوة بين الدولتين.
وكان من عادتهم (2) في الكتابة أن يكتب بعد البسملة «بقوة الله تعالى» ثم يكتب بعد ذلك «بإقبال قان فرمان فلان» يعني كلام فلان.
ولهم في ذلك طريقتان.
إحداهما أن يكتب بسم الله سطرا، ويكتب «الرحمن الرحيم» سطرا تحتها، ويكتب «بقوة الله» سطرا «وتعالى» سطرا آخر تحته، ثم يكتب تحت ذلك في الوسط بهامش من الجانبين «بإقبال قان» سطرا، وتحته «فرمان فلان» باسم السلطان المكتوب عنه سطرا آخر.
والطريقة الثانية أن تكتب البسملة جميعها سطرا واحدا، ثم يكتب تحت وسط البسملة «بقوة الله تعالى» سطرا «وميامين الملّة المحمّدية» سطرا آخر، ثم يكتب تحت ذلك سطرا آخر بزيادة يسيرة من الجانبين «فرمان السلطان فلان» يعني كلام السلطان فلان.
ولم أقف على قطع الورق الذي كتب فيه حينئذ، والظاهر أنه في البغداديّ
__________
(1) الحرز: الموضع الحصين. لسان العرب (حرز).
(2) في الأصل: «وكان عادتهم».(8/65)
الكامل تعظيما لشأن المكتوب عنه عندهم. وبالجملة فإنّ الظاهر أنّ الكتب الواردة عنهم على نمط الكتب الواردة من هذه المملكة إليهم، جريا على قاعدة كتّاب هذه المملكة من أنّ الغالب مضاهاتهم لأكابر الملوك في كتبهم في الهيئة والترتيب شرقا وغربا.
وهذه نسخة كتاب على الطريقة الأولى، ورد عن السلطان «أحمد» صاحب مملكة إيران، من بني هولاكو المقدّم ذكره، وهو أوّل من أسلم منهم، كتب به إلى الملك المنصور «قلاوون» (1) صاحب الديار المصرية، تغمّده الله تعالى برضوانه، ورد مؤرّخا بأوسط جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وستمائة، ورأيت في بعض الدساتير أنه من إنشاء الفخر بن عيسى الموصليّ، وورد بخطه وهو:
بسم الله بقوّة الله الرحمن الرحيم تعالى بإقبال قان فرمان أحمد.
إلى سلطان مصر، أما بعد، فإنّ الله سبحانه وتعالى بسابق عنايته، ونور هدايته، قد كان أرشدنا في عنفوان الصّبا، وريعان الحداثة، إلى الإقرار بربوبيّته، والاعتراف بوحدانيته، والشهادة لمحمد، عليه أفضل الصلاة والسّلام، بصدق نبوّته، وحسن الاعتقاد في أوليائه الصالحين من عباده وبريّته {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} (2) فلم نزل نميل إلى إعلاء كلمة الدين، وإصلاح أمور الإسلام والمسلمين، إلى أن أفضى إلينا بعد أبينا الجليل، وأخينا الكبير، نوبة
__________
(1) هو سيف الدين قلاوون الصالحي النجمي، اشتري بألف دينار، ولهذا كان يقال له «الألفي».
استقلّ بالملك حين خلعوا العادل سلامش وبايعوه في سنة 678هـ، وخطب له على المنابر في الديار المصرية والشامية. وكان ملكا عظيما لا يحب سفك الدماء. توفي سنة 689هـ. انظر وفيات الأعيان (ج 4ص 158) و (ج 5ص 88)، وفوات الوفيات (ج 3ص 204203)، والبداية والنهاية (ج 13ص 289288، 316) والنجوم الزاهرة (ج 7ص 292).
(2) سورة الأنعام 6، الآية 125.(8/66)
الملك، فأضفى علينا من جلابيب ألطافه ولطائفه، ما حقّق به آمالنا في جزيل آلائه وعوارفه، وجلّى هذه المملكة علينا، وأهدى عقيلتها إلينا، فاجتمع عندنا في قوريليان (1) المبارك وهو المجتمع الذي تقدح فيه الآراء جميع الإخوان والأولاد والأمراء الكبار، ومقدّمو العساكر، وزعماء البلاد، واتّفقت كلمتهم على تنفيذ ما سبق به حكم أخينا الكبير، في إنفاذ الجمّ الغفير، من عساكرنا التي ضاقت الأرض برحبها من كثرتها، وامتلأت الأرض رعبا من عظيم صولتها، وشديد بطشتها، إلى تلك الجهة بهمة تخضع لها صمّ الأطواد، وعزمة تلين لها الصّمّ الصّلاد، ففكّرنا فيما تمخّضت زبد عزائمهم عنه، واجتمعت أهواؤهم عليه، فوجدناه مخالفا لما كان في ضميرنا من اقتفاء الخير العامّ، الذي هو عبارة عن تقوية شعار الإسلام، وأن لا يصدر عن أوامرنا ما أمكننا إلّا ما يوجب حقن الدّماء، وتسكين الدّهماء، وتجري به في الأقطار، رخاء نسائم الأمن والأمان، ويستريح به المسلمون في سائر الأمصار، في مهاد الشّفقة والإحسان، تعظيما لأمر الله، وشفقة على خلق الله، فألهمنا الله تعالى إطفاء تلك النائرة (2)، وتسكين الفتن الثائرة، وإعلام من أشار بذلك الرأي بما أرشدنا الله إليه، من تقديم ما يرجى به شفاء مزاج العالم من الأدواء، وتأخير ما يجب أن يكون آخر الدواء، وأننا لا نحبّ المسارعة إلى هزّ النّصال للنّضال إلّا بعد إيضاح المحجّة، ولا نبادر لها إلّا بعد تبيين الحق وتركيب الحجّة، وقوّى عزمنا على ما رأيناه من دواعي الصّلاح، وتنفيذ ما ظهر لنا به وجه النجاح، إذ كان، الشيخ قدوة العارفين «كمال الدين عبد الرحمن» الذي هو نعم العون لنا في أمور الدين، فأرسلناه رحمة من الله لمن [لبّى] دعاه، ونقمة على من أعرض عنه وعصاه، وأنفذنا أقضى القضاة قطب الملة والدّين، والأتابك بهاء الدين، اللّذين هما من ثقات هذه الدولة الزاهرة ليعرّفوهم طريقتنا، ويتحقّق
__________
(1) القور: ج قارة، وهي الأصاغر من الجبال والأعاظم من الآكام، وهي متفرقة خشنة كثيرة الحجارة.
لسان العرب (قور).
(2) النائرة: الهائجة يقال: نارت نائرة في الناس: هاجت هائجة. لسان العرب (نار).(8/67)
عندهم ما تنطوي عليه لعموم المسلمين جميل نيّتنا، وبيّنا لهم أنّا من الله تعالى على بصيرة، وأنّ الإسلام يجبّ (1) ما قبله، وأنه تعالى ألقى في قلوبنا أن نتّبع الحقّ وأهله، ونشاهد أنّ عظيم نعمة الله للكافّة بما دعانا إليه من تقديم أسباب الإحسان، أن لا يحرموها بالنظر إلى سائر الأحوال فكلّ يوم هو في شان، فإن تطلّعت نفوسهم إلى دليل تستحكم بسببه دواعي الاعتماد، وحجّة يثقون بها من بلوغ المراد، فلينظروا إلى ما ظهر من أمرنا مما اشتهر خبره، وعمّ أثره، فإنا ابتدانا بتوفيق الله بإعلاء أعلام الدّين وإظهاره، في إيراه كلّ أمر وإصداره، تقديما لناموس الشرع المحمديّ، على مقتضى قانون العدل الاحمديّ، إجلالا وتعظيما، وأدخلنا السرور، على قلوب الجمهور، وعفونا عن كل من اجترح سيّئة واقترف، وقابلناه بالصّفح وقلنا عفا الله عمّا سلف، وتقدّمنا بإصلاح أمور أوقاف المسلمين من المساجد والمشاهد والمدارس، وعمارة بقاع الدّين والرّبط الدّوارس، وإيصال حاصلها بموجب عوائدها القائمة إلى مستحقّيها بشروط واقفيها، ومنعنا أن يلتمس شيء مما استحدث عليها، وأن لا يغيّر أحد شيئا مما قرّر أوّلا، وأمرنا بتعظيم أمر الحجّاج وتجهيز وفدها، وتأمين سبلها، وتسيير قوافلها، وإنا أطلقنا سبيل التّجار المتردّدين إلى تلك البلاد ليسافروا بحسب اختيارهم على أحسن قواعدهم، وحرّمنا على العساكر والقراغولات (2) والشّحاني في الأطراف التّعرّض لهم في مصادرهم ومواردهم، وقد كان قراغول صادف جاسوسا في زيّ الفقراء كان سبيله أن يهلك، فلم نهرق دمه لحرمة ما حرّمه الله تعالى وأعدناه إليهم. ولا يخفى عنهم ما كان في إنفاذ الجواسيس من الضرر العامّ للمسلمين، فإنّ عساكرنا طالما رأوهم في زيّ الفقراء والنّسّاك وأهل الصّلاح، فساءت ظنونهم في تلك الطوائف، فقتلوا منهم من قتلوا، وفعلوا بهم ما فعلوا، وارتفعت الحاجة
__________
(1) الحديث هو: «إن الإسلام يجبّ ما قبله والتوبة تجبّ ما قبلها». أي يقطعان ويمحوان ما كان قبلهما من الكفر والمعاصي والذنوب. لسان العرب (جبب).
(2) القراغولات: ج قراغول، وهو حافظ الطريق عند التتر، وعربيّتها الخفير. والعامة تقول:
«كركون». المنجد في اللغة والأدب (قرغ).(8/68)
بحمد الله إلى ذلك بما صدر إذننا به من فتح الطريق وتردّد التّجار، فإذا أمعنوا الفكر في هذه الأمور وأمثالها لا يخفى عنهم أنها أخلاق جبلّيّة طبيعية، وعن شوائب التّكلّف والتصنّع عريّة. وإذا كانت الحال على ذلك فقد ارتفعت دواعي المضرّة التي كانت موجبة للمخالفة، فإنها إن كانت طريقا للذّبّ والذود عن حوزة الإسلام، فقد ظهر بفضل الله تعالى في دولتنا النّور المبين، وإن كانت لما سبق من الأسباب، فمن يتحرّى الآن طريق الصّواب، فإنّ له عندنا لزلفى وحسن مآب.
وقد رفعنا الحجاب، وأتينا بفصل الخطاب، وعرّفناهم [طريقتنا و] ما عزمنا بنيّة خالصة لله تعالى على استئنافها، وحرّمنا على جميع العساكر العمل بخلافها، لنرضي الله والرسول، ويلوح على صفحاتها آثار الإقبال والقبول، وتستريح من اختلاف الكلمة هذه الأمّة، وتنجلي بنور الائتلاف، ظلمة الاختلاف، والغمّة، ويشكر سابغ ظلّها البوادي والحواضر، وتقرّ القلوب التي بلغت من الجهل الحناجر، ويعفى عن سالف الجرائر، فإن وفّق الله سلطان مصر إلى ما فيه صلاح العالم، وانتظام أمور بني أدم، فقد وجب عليه التّمسك بالعروة الوثقى، وسلوك الطريقة المثلى، بفتح أبواب الطاعة والاتّحاد، وبذل الإخلاص بحيث تعمر تلك الممالك وتيك البلاد، وتسكن الفتنة الثائرة، وتغمد السّيوف الباترة، وتحلّ العامّة أرض الهوينى (1) وروض الهدون (2)، وتخلص رقاب المسلمين من أغلال الذّلّ والهون. وإن غلب سوء الظن بما تفضّل به واهب الرحمة، ومنع معرفة هذه النعمة، فقد شكر الله مساعينا وأبلى عذرنا، {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (3) والله تعالى الموفّق للرّشاد والسّداد، وهو المهيمن على البلاد والعباد، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الهوينا: التؤدة والرفق والسكينة والوقار. لسان العرب (هون).
(2) الهدون: الدعة والسكون. لسان العرب (هدن).
(3) سورة الإسراء 17، الآية 15.(8/69)
وهذه نسخة كتاب على الطريقة الثانية، كتب به عن السلطان «محمود غازان» صاحب إيران أيضا، إلى السلطان الملك الناصر «محمد (1) بن قلاوون» صاحب الديار المصريّة وما معها من البلاد الشامية، وهي:
{بسم الله الرحمن الرحيم} *
بقوّة الله تعالى وميامين الملّة المحمّدية فرمان السلطان محمود غازان ليعلم السلطان الملك الناصر، أنه في العالم الماضي، بعض عساكرهم المفسدة دخلوا أطراف بلادنا، وأفسدوا فيها لعناد الله وعنادنا، كماردين (2)
ونواحيها، وجاهروا الله بالمعاصي فيمن ظفروا به من أهليها، وأقدموا على أمور بديعة، وارتكبوا آثاما شنيعة، من محاربة الله وخرق ناموس الشّريعة، فأنفنا من تهجّمهم، وغرنا من تقحّمهم، وأخذتنا الحميّة الإسلامية فجذبتنا إلى دخول بلادهم، ومقابلتهم على فسادهم، فركبنا بمن كان لدينا من العساكر، وتوجّهنا بمن اتفق منهم أنّه حاضر، وقبل وقوع الفعل منا، واشتهار الفتك عنا، سلكنا سنن سيّد المرسلين، واقتفينا آثار المتقدّمين، واقتدينا بقول الله {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} (3) وأنفذنا صحبة يعقوب السكرجي جماعة من القضاة، والأئمة الثّقات، وقلنا {هذا نذير من النذر الأولى أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة} (4) فقابلتم ذلك بالإصرار، وحكمتم عليكم وعلى المسلمين بالإضرار، وخالفتم سنن الملوك، في حسن السّلوك، وصبرنا على تماديكم في غيّكم، وخلودكم إلى بغيكم، إلى أن نصرنا الله، وأراكم في أنفسكم قضاه
__________
(1) تقدمت ترجمته في الصحيفة 5من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.
(2) تقدم الحديث عنها في الصحيفة 12من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 6.
(3) سورة النساء 4، الآية 165.
(4) سورة النجم 53، الآيات 56، 57، 58.(8/70)
{أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله} (1) وظننّا أنهم حيث تحقّقوا كنه الحال، وآل بهم الأمر إلى ما آل، أنهم تداركوا الفارط من أمرهم، ورتقوا ما فتقوا بغدرهم، ووجّه إلينا وجه عذرهم، فإنهم ربما سيّروا إلينا حال دخولهم إلى الدّيار المصرية، رسلا لإصلاح تلك القضية، فبقينا بدمشق غير مثحثحين (2)، وتثبّطنا تثبّط المتمكّنين، فصدّهم عن السعي في صلاح حالهم التّواني، وعلّقوا نفوسهم عن اليقين بالأماني، ثم بلغنا بعد عودنا إلى بلادنا أنهم ألقوا في قلوب العساكر والعوامّ، وراموا جبر ما أوهنوا من الإسلام، أنهم فيما بعد يلقوننا على حلب والفراه، وأنّ عزمهم مصرّ على ذلك لا سواه، فجمعنا العساكر وتوجهنا للقاهم، ووصلنا الفرات مرتقبين ثبوت دعواهم، وقلنا لعلّ وعساهم، فما لمع لهم بارق، ولا ذرّ شارق، فقدمنا إلى أطراف حلب، وعجبنا من تبطّيهم غاية العجب، وفكرنا في أنه متى تقدّمنا بعساكرنا الباهرة، وجموعنا العظيمة القاهرة، ربّما أخرب البلاد مرورها، وبإقامتهم فيها فسدت أمورها، وعمّ الضرر العباد، والخراب البلاد، فعدنا بقيا عليها، ونظرة لطف من الله إليها. وها نحن الآن مهتمّون بجمع العساكر المنصورة، ومشحذون (3) غرار عزائمنا المشهورة، ومشتغلون بصنع المجانيق (4)
وآلات الحصار، وعازمون بعد الإنذار {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (5)
وقد سيّرنا حاملي هذا الكتاب الأمير الكبير ناصر الدين علي خواجا، والإمام العالم ملك القضاة جمال الدين موسى بن يوسف، وقد حمّلنا هما كلاما شافهنا هما به،
__________
(1) سورة الأعراف 7، الآية 99.
(2) الثحثحة: صوت فيه بحّة عند اللهاة. قال الشاعر: (وافر).
أبحّ مثحثح صحل الثحيح لسان العرب (ثحثح).
(3) شحذ السكين والسيف ونحوهما يشحذه شحذا: أحدّه بالمسنّ وغيره مما يخرج حدّه، فهو شحيذ ومشحوذ. ويقال: مرّ يشحذهم أي يطردهم. لسان العرب (شحذ).
(4) المجانيق: ج منجنيق، وهي آلة حربية كانوا يرمون بها الحجارة، مؤنثة. وهي يونانية.
المحيط والمنجد (جنق).
(5) سورة الإسراء 17، الآية 15.(8/71)
فلتثقوا بما تقدّمنا به إليهما فإنهما من الأعيان، المعتمد عليهما في الديوان، كما قال الله تعالى {فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} (1) فلتعدّوا لنا الهدايا والتّحف، فما بعد الإنذار من عاذر، وإن لم تتداركوا الأرض فدماء المسلمين وأموالهم مطلولة بتدبيرهم، ومطلوبة عند الله في طول تقصيرهم.
فليمعن السلطان لرعيّته النظر في أمره، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم «من ولّاه الله أمرا من أمور هذه الأمّة فاحتجب دون حاجتهم وخلّتهم، احتجب دون حاجته وخلّته وفقره». وقد أعذر من أنذر، وأنصف من حذّر، والسّلام على من اتبع الهدى في العشر الأوسط (2) من شهر رمضان سنة سبعمائة بجبال الأكراد، والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على سيدنا [محمد] المصطفى وآله وصحبه وعترته الطاهرين.
قلت: وقد تقدّم جواب هذين الكتابين في الكلام على المكاتبات إلى القانات ببلاد الشّرق من بني جنكز خان فلينظر هناك.
الطرف الثاني (في المطالعات الواردة إلى الأبواب السلطانية عن أهل الشرق
من الملوك والحكّام بالبلاد أتباع القانات ومن في معناهم) (3)
الطرف الثالث (في رسم المكاتبات الواردة عن صاحب اليمن إلى هذه المملكة)
وعادة مكاتبته أن يحذو حذو الديار المصرية، فيما يكتب إليه عنها، فيبتديء المكاتبة بلفظ: أعزّ الله تعالى أنصار المقام الشريف، العالي، المولويّ،
__________
(1) سورة الأنعام 6، الآية 149.
(2) تقدم له أنه لا يقال: العشر الأوسط بل العشر الوسطى أو الوسط قال: وبعض النحويين أجازه فما في الجواب على ذلك الرأي. حاشية الطبعة الأميرية.
(3) ترك في الأصل باقي الصفحة بياضا ولم يكتب عن هذا الطرف شيئا. حاشية الطبعة الأميرية.(8/72)
السلطانيّ، الفلانيّ بلقب السلطنة، ثم يقول أصدرها من مكان كذا، ويذكر المقصد، ويختم بالدعاء ونحوه، ويكتبون في قطع الشاميّ الكامل بقلم الثلث.
وهذه نسخة كتاب عن الملك الأشرف «إسماعيل» صاحب اليمن، إلى الملك الظاهر «برقوق» (1) صاحب الديار المصرية، في شهور سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، على يد القاضي برهان (2) الدين المحلّي، تاجر الخاص، والطواشي افتخار الدين فاخر دوادار الملك الأشرف صاحب اليمن المذكور، وهو:
أعزّ الله تعالى أنصار المقام الشريف العالي السلطانيّ الظاهريّ، وزاده في البسطة والقدرة، وضاعف له موادّ الاستظهار والنّظر العزيز، وجعل الظّفر مقرونا براياته أينما يمّمت ما بينهما تمييز، ومحبوبا إلى عساكره المنصورة حيث توجّهت وفتح ببركة أيّامه كلّ مقفل ممتنع بأمر وجيز، ولا زال ممتثل الأوامر والمراسم، رافلا في أردان العزّ والمكارم، ممدودا على الأمة [منه] ظلّ المراحم، بمنّه وكرمه.
أصدرها إليه من زبدة زبيد (3) المحروسة معربة عن صدق ولائه، متمسّكة بوثيق أسباب آلائه، ناشرة طيب ثنائه، مترجمة ناظمة لمنثور الكتاب الكريم الظاهريّ الوارد على يد المجلس العالي البرهانيّ، بتاريخ ذي الحجّة عظّم الله بركاتها، سنة سبع وتسعين وسبعمائة، أحسن الله خاتمتها، فتلقّيناه باليدين،
__________
(1) هو أبو سعيد برقوق بن أنص أو أنس الجركسي العثماني، نسبة إلى جالبه من جركس الخواجا عثمان. ابتاعه منه يلبغا الكبير في سنة 764هـ، واسمه حينئذ الطنبغا، فسماه برقوقا لنتوء في عينيه. ثم أعتق، وتقدم في دولة المنصور القلاووني علي بن شعبان، وانتزع السلطنة من آخر بني قلاوون الصالح أمير حاج سنة 784هـ، وتلقب بالملك الظاهر، وانقادت إليه مصر والشام. توفي سنة 801هـ بالقاهرة. انظر الضوء اللامع (ج 3ص 1210) والأعلام (ج 2ص 48).
(2) هو إبراهيم بن عمر المحلي، كما سيرد في الصحيفة 74من هذا الجزء من صبح الأعشى.
(3) زبيد: بفتح أوله وكسر ثانيه: اسم واد به مدينة يقال لها الحصيب، ثم غلب عليها اسم الوادي فلا تعرف إلّا به، وهي مدينة مشهورة باليمن أحدثت في أيام المأمون، وينسب إليها جمع كثير من العلماء. معجم البلدان (ج 3ص 132131).(8/73)
ووضعناه على الرأس والعين، واستدللنا به على شريف همّته، وصفاء مودّته، وتأكيد أخوّته، وسألنا الله تعالى أن يمتّعنا ببقاء دولته القاهرة، وينشر في المشارق والمغارب أقلامه الزاهرة، ففضضنا ختامه، فوجدنا فيه من نشر السّلم الأريج أذكاه، ومن أنوار ما مجّه القلم الشريف ما يخجل منه نوّار الربيع وبهاه، فانشرحت به الصّدور، وتزايد به السّرور، وقرّت به الأعين، وكثر التهجد به لمّا استعذبته الألسن، وامتثلنا المرسوم الشريف في تعظيم المجلس العالي ذي الجلالتين، برهان الدّين إبراهيم بن عمر المحلّي، ومراعاته في جميع أموره وسرعة تجهيزه، على أنّا نجلّه ونبجّله، ونوجب حقّه ولا نجهله، فهو عندنا كما كان في عهد الوالد المرحوم الملك الأفضل، بل أمكن وأفضل، فهو لدينا المكين الأمين، وجهّزنا له المتجر السعيد الظاهريّ، وبرزت مراسمنا إلى النّواب بثغر عدن المحروس أن لا يعترض في عشور ونول، وحملناه على ظهور مراكبنا عزيزا مكرّما، وعرّفناه أن لا يصرف على الحمل السعيد ولا الدّرهم الفرد، وذلك قليل منّا لاجل غلمان بابكم الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه، وجهّزنا الهديّة السعيدة المباركة المتقبّلة، صحبته هو والأمير الأجلّ الكبير الافتخاري، افتخار الدين فاخر الدّوادار، وصارت بأيديهما بأوراق مفصّلة، للمقام الشريف والأمراء الأجلّاء الكبراء، وصحبتهما نفر من المعلّمين البازداريّة، برسم حمل الطيور للصيد السعيد، والمهتاريّة للصافنات الجياد، على أنّا لو أهدينا إلى جلال المقام الشريف الظاهريّ أعزّ الله أنصاره بمقدار همّته الشريفة العالية، ورتبته المنيفة السامية، لا ستصغرت الأفلاك الدائرة، والشّهب السائرة، واستقلّت السبعة الأقاليم تحفه، والأرض وما أقلّته طرفه، ولم نرض أن نبعث إليه الأنام مماليك وخولا، ونجبي إليه ثمرات كلّ شيء قبلا، ولو رام محبّ المقام هذه القضية، لقصر عنه حوله، ولم يصل إليه طوله، ولكنه يرجع إلى المشهور، بين الجمهور، فوجدنا العمل يقوم مقام الاعتقاد (1)، وليس على المستمرّ على الطاعة سوى الاجتهاد، والمخلص في
__________
(1) لعله: «الاعتقاد يقوم مقام العمل» أو «العمل يقوم مقامه الاعتقاد» حاشية الطبعة الأميرية.(8/74)
الولاء محمول على قدرته لا على ما أراد، فوثق بهذه القضيّة، وأنفذ إلى المقام الشريف على يد موصّلها هذه الهديّة، راغبا إلى إنعامه في بسط عذره، وحمله على شروط المحبّة طول دهره، وتصريفه بين أوامره الممتثلة، ومراسيمه المتقبّلة.
والمسؤول الإتحاف بالمهمّات والمراسيم الشريفة شرّفها الله تعالى وعظّمها.
ونوضّح لعلمه الكريم ما أفاء الله به علينا من النّصر الذي خفقت بنوده، وأشرقت سعوده، وبرقت سيوفه في رقاب المارقين، واطّردت في راياته المآرب فتناولها باليمين {نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين} (1) وفتح القلاع والمصانع، والاستيلاء على المرابع والمزارع، واستئصالنا شأفة (2) المارقين، واسترجاع حصن قاف المحروس بعد طول مكثه تحت يد العرب، فكم من كميّ مقتول، وأسير مكبول، وحصان ترك سبيلها، وربّ حصان كثر عليه عويلها، فخرّبنا المعاقل، وأطلقنا العقائل، وأوطنّاهم الحميم {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} (3) وغير ذلك مما أرسلنا على يد المجلس البرهاني والأمير افتخار الدين، فاخر الدّوادار، لقضاء بعض الحوائج الطارئة من الديار المصرية «ألف وأربعمائة وسبعون قطعة من أصناف البهار، وسبع قطع حرير» والمستمدّ من إحسان المقام الشريف العالي، بروز أمره الأشرف العزيز النافذ المطاع، أنفذه الله تعالى شرقا وغربا، وأمضاه بعدا وقربا، في قضاء حوائجهما وسرعة تجهيزهما وقفولهما إلى يمن اليمن، وعزّ تعزّ قريبا.
وبعد، فإنّ الجلالة والاحترام بهما دوام الموالاة، وتوفير الحرمات، بل هي أعظم الكرامات، والمسؤول من المقام الشريف الظاهريّ أعز الله تعالى أنصاره، وضاعف اقتداره، بروز أمره الأشرف إلى النّوّاب بمصر المحروسة، وثغر
__________
(1) سورة الصف 61، الآية 13.
(2) استأصلنا شأفة المارقين: أي أزلناهم من أصلهم، والشأفة: الأصل.
(3) سورة آل عمران 3، الآية 126.(8/75)
الإسكندرية، والشام، بالجلالة والاحترام، لكافّة غلماننا الواردين إلى الديار المصريّة، ومن انتسب إلينا من تاجر وغيره، مسافرا كان أو مقيما، وأن يعار في مهمّاته، جلالة تفيّأ ظلالها، ويشمله إقبالها، كما سبق للوالد المرحوم المقدّس الملك المجاهد، تغشّاه الله برحمته، بل نرجو فوق ذلك مظهرا، إن شاء الله، فثمّ خطوط ناصريّة من السلطان حسن والملك الصالح لخدّامنا القدماء، لمّا أرسلوا إلى الإسكندرية ودمشق، كتب لهم مربّعات ومثالات شريفة، ولا غرو أن يبدي المستعطي ما في ضميره إلى المعطي، والاشتهار بما بيننا وبين المقام الشريف من الأخوّة الممهّدة، والمصافاة المؤكّدة، والمودّات المحكمة، والأسباب الثابتة، أوجب ذلك، وحسن الظنّ الجميل نطق به لسان الحال، في هذا الاسترسال. ولم يخف عن المقام الشريف أنّ لله عوارف يجذب بها القلوب إليه، ولطائف خفيّة يستدلّ بها المحبّ عليه، وتعاطي كأس الوداد، يدلّ على حسن الاعتقاد، ولذلك نطق اللّسان، وكتب البنان، بما افترض على عباده الرحمن، فقال في محكم كتابه المبين {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} (1) ومحبّ المقام الشريف يقدّم الكتاب، ويسأل الجواب، بالإذن الشريف، ليعتمد بعد الله عليه في حجّ البيت الحرام، عند تيسير الله تعالى لذلك، فقد حسّن ظنّه بذلك، وركن إليه لقضاء الفرض والتبرّك بالمشاعر العظام، فلا زالت أيّام المقام الشريف على منابر الدنيا تتلى، وآيات الشكر لله سبحانه على استقراره في الملك العقيم تملى. جميع هذا الخطاب مقدّمة الإيجاب بالإذن بالحج، وتسفير المحمل في كل عام، إلى بيت الله الحرام، فحاجّ اليمن تعذرت عليه الطّرقات، ولم يطق حمل النّفقات، ونرجو من الله تعالى أن يفتح ببركة أيامه الشريفة، وشمول الفكر الشريف، بحلّ عقدة هذه الأسباب، إنه هو الكريم الوهّاب، بمنّه وكرمه.
وأمّا ما نعتقده من أمانة المجلس البرهانيّ فإنها متينة، وشواهدها من أقواله
__________
(1) سورة آل عمران 3، الآية 97.(8/76)
وأفعاله مبينة، خصوصا في المقام الشريف، واستمالته للقلوب بالعبارات اللطيفة، فقد نظم معاقد الائتلاف، وتزايد بشرحه الأنس في محاورته والاختلاف، ولولا المهمّ الشريف لا ستوقفناه عندنا عاما كاملا من بعد هذا التاريخ، ليملي علينا آيات المقام الشريف، شرّفه الله تعالى وعظّمه. وعلى لسانه ما يبديه في المواقف الشريفة شفاها إن شاء الله تعالى.
في سابع جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، أحسن الله تعالى ختامها، والحمد لله أوّلا وآخرا، وباطنا وظاهرا.
قلت: أما إمام الزيدية (1) باليمن فلم أقف له على مكاتبة، وإن كان المقرّ الشهابيّ ابن فضل الله قد أشار في كتابه «التعريف» إلى أنه ورد عنه مكاتبة إلى الأبواب السلطانية الناصرية (محمد بن (2) قلاوون) يستجيشه على صاحب اليمن، والغالب على الظنّ أنّ مكاتبته أعرابية، كما أن إمارته أعرابيّة إذ لا اعتناء لأهل البادية وعربان الوادي بفنّ الإنشاء جملة، وإنما يكتب عنهم بحسب ما يقتضيه حالهم، على أن فيما يأتون به مقنعا من الفصاحة والبلاغة بكل حال، إذ عنهم قد علم اللسان وعليهم فيه يعوّل.
الطرف الرابع (في الكتب الواردة إلى الأبواب السلطانية عن ملوك الهند)
قد تقدّم أن المكاتبة إلى صاحب الهند تشبه المكاتبة إلى القانات العظام بإيران وتوران (3) وتقدّم أن الكتب الواردة عن القانات المذكورين تكون في معنى الكتب الصادرة إليهم في قطع الورق والترتيب، من حيث إن الغالب جريان العادة
__________
(1) ذكره في التعريف ص 13فقال: هو من بقايا الحسنيين بآمل الشط من بلاد طبرستان، وقد كان سلفهم جاذب الدولة العباسية حتى كاد يطيح رداءها.
(2) تقدمت ترجمته في الصحيفة 5من هذا الجزء.
(3) توران: بضم أوله وسكون ثانية: بلاد ماوراء النهر، ويقال لملكها توران شاه. معجم البلدان (ج 2 ص 57).(8/77)
في الأجوبة بأن تكون على نمط الكتب الواردة، وحينئذ فيكون مقتضى ذلك أن الكتب الواردة من صاحب الهند في هيئة الكتب الصادرة إليه في قطع الورق وغيره، فتكون في البغداديّ الكامل بقلم مختصر الطّومار (1) بالطّغراء والخطبة المكتتبتين بالذهب، إلى ما يجري مجرى ذلك مما تقدّم ذكره في المكاتبات إلى القانات.
قلت: ولم أقف على صورة مكاتبة من ذلك ولا على نسخة شيء ورد، لكن قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك في المقالة الثانية عند ذكر مملكة الهند أن من جملة ممالك الهند مملكة تعرف بالسّيلان (2)، وقد رأيت في تذكرة (محمد (3) بن مكرّم) التي جمعها في وقائع ديوان الإنشاء بالديار المصرية، أنه في سنة اثنتين وثمانين وستمائة، وصل كتاب من صاحب السّيلان هذه في صفيحة ذهب رقيقة، عرض ثلاثة أصابع، في طول نصف ذراع، وحوله مدوّرة (حلقة) داخلها شبيه بالخوص (4) أخضر، عليه كتابة تشبه الخط الروميّ أو القبطيّ، فطلب من يقرأه فلم يوجد، فسئل الرسل عما هو مكتوب فيها، فقيل: إنه سيّر رسوله رومان ورفيقه، وقصد أن يسيّر معهما الهديّة إلى الباب الشريف، فقيل له: ما لهم طريق. فقال لهم: سافروا إلى (هرمز) (5) فحضروا إليها، وذكروا أنّ مضمون الكتاب السّلام، والدعاء للسلطان، وأنّ بلاد السّيلان مصر، وبلاد مصر السّيلان، وأنه ترك صحبة صاحب اليمن مرّة واحدة، وتعلق بمحبة مولانا السلطان خلّد الله
__________
(1) الطومار: الصحيفة، جمعها طوامير.
(2) سيلان: بالتحريك: جزيرة عظيمة، بها عدة ملوك لا يدين بعضهم لبعض، وهي متوسطة بين الهند والصين، وفيها عقاقير كثيرة لا توجد في غيرها، وقيل: إن فيها معادن الجواهر. هكذا ترجم لها ياقوت في معجم البلدان (ج 3ص 298).
(3) هو ابن منظور صاحب «لسان العرب» والمتوفّى سنة 711هـ.
(4) الخوص: بضم أوله وسكون ثانيه: ورق النخل والنارجيل والمقل وما شاكلها يقال: أخوصت الشجرة: تفطرت بورق. لسان العرب (خوص).
(5) هرمز: بضم أوله، وسكون ثانية وضم الميم: فرضة كرمان إليها ترفأ المراكب ومنها تنقل أمتعة الهند إلى كرمان وخراسان وسجستان. معجم البلدان (ج 5ص 402).(8/78)
ملكه، وسأل أن يحضر رسول من عند مولانا السلطان إلى عنده صحبة رسله، ورسول آخر إلى عدن ينتظر حضورهم من تلك الجهة على تلك الطريق، وأن عنده الجواهر والّلآليء والفيلة والقماش الكثير من البزّ وغيره، وكذلك البقّم والقرفة وجميع ما يطلب الكارم، وأن عنده في كل سنة عشرين مركبا يسيّرها إليه، فيطلق مولانا السلطان التّجّار إلى البلاد، وأن رسول صاحب اليمن حضر في هذه السنة يتسلم التّقادم والفيلة حتّى يسافروا إلى اليمن فردّه، ولم يعطه شيئا، وأنه يعبّي التّقادم والفيلة إلى أبواب مولانا السلطان، وأنّ بمملكة سيلان سبعا وعشرين قلعة، وبها معادن الجوهر والياقوت ومغاص اللؤلؤ، ولم يزد على ذلك. ورأيت في كتاب «الذيل» على تاريخ ابن الأثير نحو ذلك، وفيه ذكر البلاد التي مرّت عليها رسل صاحب السّيلان في طرقها.
المقصد الثاني (في المكاتبات الواردة عن ملوك الغرب)
والعادة الجارية في الكتب الواردة عنهم أن تكون على نمط واحد في الورق، مع تقارب الحال في الترتيب، وتكون كتبهم في طومار واحد، في عرض نحو شبرين، في طول نحو ثلاثة أشبار، والبسملة بعد بياض نحو شبر وثلاثة أصابع مطبوقة من أعلى الطّومار، وعرض سبعة أصابع مطبوقة عن يمين البسملة، والسّطور منحطّة الأوائل مرتفعة الأواخر حتّى يصير البياض الذي في أعلاها في آخر سطر البسملة قدر شبر فقط، وبين كلّ سطرين قدر عرض إصبع ونصف إصبع، وكلّ سطر ينقص عن الذي فوقه قليلا من جهة اليمين على التدريج، حتى يكون السطر الآخر قطعة لطيفة في زاوية الطّومار التي على اليسار من أسفل، ثم يكتب بحاشية الطّومار من أسفله آخذا من آخر السطر الأخير، ويكون بين ذلك وبين الكتابة الأصلية قدر رأس خنصر، ويبتديء السطر الأوّل منها بقطعة لطيفة منحطّة الأوّل مرتفعة الآخر ثم السطر الثاني قطعة أطول من ذلك، ولا يزال كذلك حتّى يكمل السطر فيكتب أسطرا كاملة، إلّا أنه في أوّل كلّ سطر ينقصه قليلا عن الذي
قبله حتّى يكون السطر الأخير قدر الأنملة في زاوية الطومار من جهة البسملة، ويكون بين كتابة الأصل وبين كتابة الحاشية قدر إصبعين بياضا إلى سمت البسملة، أسطرا متضايقة حتّى ينتهي إلى آخر الكلام، ويكتب في آخره بقلم الثلث: وكتب في التاريخ المؤرّخ، ويزاد فيه هاء مشقوقة راجعة إلى الخلف.(8/79)
والعادة الجارية في الكتب الواردة عنهم أن تكون على نمط واحد في الورق، مع تقارب الحال في الترتيب، وتكون كتبهم في طومار واحد، في عرض نحو شبرين، في طول نحو ثلاثة أشبار، والبسملة بعد بياض نحو شبر وثلاثة أصابع مطبوقة من أعلى الطّومار، وعرض سبعة أصابع مطبوقة عن يمين البسملة، والسّطور منحطّة الأوائل مرتفعة الأواخر حتّى يصير البياض الذي في أعلاها في آخر سطر البسملة قدر شبر فقط، وبين كلّ سطرين قدر عرض إصبع ونصف إصبع، وكلّ سطر ينقص عن الذي فوقه قليلا من جهة اليمين على التدريج، حتى يكون السطر الآخر قطعة لطيفة في زاوية الطّومار التي على اليسار من أسفل، ثم يكتب بحاشية الطّومار من أسفله آخذا من آخر السطر الأخير، ويكون بين ذلك وبين الكتابة الأصلية قدر رأس خنصر، ويبتديء السطر الأوّل منها بقطعة لطيفة منحطّة الأوّل مرتفعة الآخر ثم السطر الثاني قطعة أطول من ذلك، ولا يزال كذلك حتّى يكمل السطر فيكتب أسطرا كاملة، إلّا أنه في أوّل كلّ سطر ينقصه قليلا عن الذي
قبله حتّى يكون السطر الأخير قدر الأنملة في زاوية الطومار من جهة البسملة، ويكون بين كتابة الأصل وبين كتابة الحاشية قدر إصبعين بياضا إلى سمت البسملة، أسطرا متضايقة حتّى ينتهي إلى آخر الكلام، ويكتب في آخره بقلم الثلث: وكتب في التاريخ المؤرّخ، ويزاد فيه هاء مشقوقة راجعة إلى الخلف.
وفيه جمل:
الجملة الأولى (في المكاتبة الواردة عن صاحب تونس)
وعادة مكاتبته أن تفتتح بلفظ: «من عبد الله الفلاني» بلقب الخلافة الخاصّ به، «أمير المؤمنين ابن فلان». ويقال في كل من آبائه أمير المؤمنين إن كان قد ولي الخلافة ويدعى له «إلى أخينا فلان» ويؤتى بالسلام والتحية، ثم يتخلص بالبعديّة إلى المقصد، ويختم الكتاب.
وهذه نسخة كتاب عن المتوكل على الله أحمد (1) بن أبي عبد الله بن أبي بكر، إلى السلطان الملك الظاهر (2) (برقوق) صاحب مصر، جوابا عن كتابه إليه. وهو:
من عبد الله، المتوكل على الله، أمير المؤمنين «أحمد» ابن مولانا الأمير أبي عبد الله، ابن مولانا أمير المؤمنين أبي يحيى أبي بكر، ابن الأمراء الراشدين، أعلى الله به كلمة الإسلام، وضاعف نوافل سيفه من عبدة الأصنام، وغضّ عن جانب عزّه عيون حوادث الأيّام.
إلى أخينا الذي لم نزل نشاهد من إخائه الكريم، في ذات الرّبّ الرحيم،
__________
(1) هو أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر الحفصي وأحد كبار ملوك الحفصيين بتونس. ثار على السلطان خالد بن إبراهيم صاحب تونس فخلعه وتولّى السلطنة فيها سنة 772هـ. توفي سنة 796هـ. انظر الدرر الكامنة (ج 1ص 257) والأعلام (ج 1ص 225).
(2) تقدمت ترجمته في الصحيفة 73من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.(8/80)
قبلة صفاء لم تغيّرها يد بعد ولا انتزاح، ونثابر من حفظ عهده، والقيام بحقّ ودّه، على ما يؤكّد معرفة الخلوص من لدن تعارف الأرواح، ونبادر لما يبعث القلوب على الائتلاف، والأمن بفضل الله من عوائق الاختلاف وإن شحطت الدار وتناءت الصّور والأشباح. ونعترف بما له من مزيد الإعظام، بمجاورة البيت الحرام، والقيام بما هنالك من مطالع الوحي الكريم ومشاعر الصّلاح، ونجتلي من أنوائه الكريمة الشريفة، ومطالعه العالية المنيفة، وجوه البشائر رائقة الغرر والأوضاح. ونستهدي ما يسرّنا من أنبائه، ممّن يرد من تلقائه، حتّى من أنوار الصّباح وسفراء الرّياح، ونبتهل إلى الله بالدعاء أن يخبرنا عنه، ويطلعنا منه، على ما يقرّ عيون الفوز ويشرح صدور النجاح السلطان الجليل الطاهر، الملك الأعظم «الظاهر»، جمال الدين والدنيا، مؤيّد كلمة الله العليا، سيف الملّة المرهوب المضاء، بيد القضاء، وركنها الباسق العلاء، في أوج عزّها المنداح للفضاء، المشهود له من لدن حلّ التمائم، ولوث العمائم، بالشّهامة التي ترعب الأسد في أجمها، وتستخدم له سائر الأمم، تركها وعربها وعجمها، المختار للقيام بحقّه بين عباده، في أرضه وبلاده، الفائز من جوار بيت الله ومقام خليله، ومشرع الحجيج إليه وتيسير سبيله، بما أحرز له سعادة الدارين، وعزّ المقامين، كوكب السعد الذي شقيت به أعداوه، وبدر الدين الذي استضاءت به أنحاؤه، ميزان العدل لإنصاف الحقوق، وشمس الهداية النيّرة الغروب والشّروق، (أبي سعيد (1) برقوق) وصل الله له رتبة راقية يتبوّأ محلّها، ونعمة باقية يتفيأ ظلّها، وعزّة واقية تسم وجوه أعدائه خسفها وذلّها، بمنّه وكرمه.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد حمد الله ناظم الشّمل وقد راب نثره وشتاته، وجابر الصّدع وقد اتسعت عن الجبر جهاته، ورادّ الأمر وقد أعيا ذهابه وفواته، وواصل الحبل وقد استولى انقطاعه وانبتاته، العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة مما تكنّه أرضه
__________
(1) تقدمت ترجمته في الصحيفة 73من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.(8/81)
وسمواته، الذي قرن بالعسر يسرا، وجعل لكل شيء قدرا، فلا تتحرّك ذرّة إلّا بإذنه ولا يكون في ملكه إلّا ما تنفّذه أحكامه وإرادته.
والصلاة والسّلام الأكملين، على سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي صدعت بالحق آياته، وقامت بحجّة دعواه معجزاته، ونطقت بأنه رسول الله على لسان وحيه الصادق الأمين كلماته، المبعوث بالملّة السّمحة، ومن أزكاها حجّ بيت الله المقدّسة أركانه وحجراته، المعظّمة عند الله حرماته، المغفورة لمن سبقت له الحسنى بحجّه سيّئاته، وعلى آله وأصحابه الذين قضوا رضي الله عنهم وهم أولياء دينه الكريم وولاته، وأنصار حزبه المفلح وحماته، وليوث دفاعه في صدور الأعداء وكماته، والرضا عن الإمام المهديّ القائم بهذه الدعوة الموحّديّة قيام من خلصت لله نيّاته، وصدقت في ذاته دعواته، وصمّمت لإظهار دينه القويم عزماته، وصلة الدعاء لهذا المقام الأحمديّ المتوكّل الفاروقيّ، بنصر تمضي به في صدور أعدائه شباته، وعزّ يطّرد به استقلاله وثباته، وسعد تطيب به أيامه المتصلة وأوقاته، وتطول به حياته.
فإننا كتبنا لسلطانكم كتب الله لكم من إسعاده ما يتكفّل بعزّه ونصره، ويتضمّن إطالة زمنه المبارك وعصره، ويقوم بحفظ قطره الشريف ومصره من حضرتنا العلية «تونس» كلأها الله تعالى، ووجوه نصر الله العزيز لدينا وضّاحة الأسرّة متبلّجة الصّور، وآيات فتحه المبين ولله المنّة محكمة السّور، وأحاديث الشّكر على نعمه سبحانه مسلسلة الخبر، وبشرنا بما منّ الله به عليكم قد عمل بمقتضاه من تحت (1) إيالتنا الكريمة من البشر. وإلى هذا فموجبه إليكم بعد تقريب حبّ شرعت في ملّة الوفاء قواعده، وقبل في عقد الصّفاء شاهده، واستقلّ بصلة الخلوص عائده، وثبت في مرسوم الصّداقة الصادقة زائده، إعلامكم أنّا علم الله من حين اتّصل بنا خبركم الذي جرّه القدر المقدور، وجرى به في أمّ الكتاب
__________
(1) مراده: من تحت حكمنا وسياستنا. حاشية الطبعة الأميرية.(8/82)
الحكم المسطور، لم نزل نتوجّه إلى الله تعالى في مظانّ قبول الدّعاء، ورفع النّداء، بأن يجبركم بفضله من حيث صدع، ويصلكم بخيره إثر ما قطع، ويعطيكم من نعمته أضعاف ما منع، إلى أن دارك الله بلطفه وأجاب، وتأذن بفضله في قبول الدعاء بظهر الغيب وهو مستجاب، فردّ عليكم ملككم، وصرف إليكم ملككم، فأخذ القوس باريها، وفوّق (1) السهم مقرطسها وراميها، وأنفذ القضايا حكمها ومفتيها، وإذا كان العويل يفضي إلى النّجدة، والبلا يقضي بالجدّة، والفرج يدافع في صدر الشّدّة، فلا جرم غفر الله للأيّام ما اقترفت، لمّا أنابت واعترفت، وهل هو إلّا التمحيص الإلهيّ أراكم الله من باطن الضّرّاء سرّاءكم، وأجزل من جانب الغمّاء (2) نعماءكم، والتّبر بعد السّبك يروق النواظر خلاصة نضاره، والبدر بعد السّرار تتألّق أشعّة أنواره.
ولما جاءنا بنصركم البشير، وطلع من ثنيّة الهناء بأكمام السّرور إلينا يشير، هززنا له أعطاف الارتياح، وتلقينا منه وارد التّهاني والأفراح، وحمدنا الله لكم على ما منّ به من الفوز والنّجاح، ورأينا أنّ تهنئتكم به من فروضنا المؤكّدة، وعهودنا المجدّدة، وأنه لا يقوم به عنّا هنالكم، ويؤدّي ما يجب منه بين يدي كرسيّ جلالكم، إلّا من له من ديار الملوك، قرب الأدب والسّلوك، فاقتضى نظرنا الجميل أن عيّنّا له شيخ دولتنا المستشار، وعلمها الذي في مهمّاتها إليه يشار، فلان.
وقد كان منذ أعوام يتطارح علينا في أن نخلّي للحجّ سبيله، ونبلّغه من ذلك مأموله، ويد الضّنّة لا تسمح به طرفة عين، ونفس الاغتباط لا تجيب فيه دواعي البين، إلى أن تعيّن من تهنئتكم الكريمة ما عيّنه، وسهّل شأنه علينا وهوّنه، فوجّهناه والله تعالى يسعد وجهته، ويجعل حجّته لقبول الأعمال حجّته. وحمّلناه من أمانة الحبّ ما يلقي إليكم، ومن حديث الشّوق ما يقصّ أخباره عليكم، ومن طيّب الثّناء ما يفضّ ختامه بين يديكم، وأصحبناه برسم إصطبلاتكم الشريفة ما
__________
(1) أي عمل له فوقا، والفوق هو مشقّ رأس السهم حيث يقع الوتر. لسان العرب (فوق).
(2) الغمّاء والغمّ والغمّة: الكرب. لسان العرب والقاموس المحيط (غمم).(8/83)
يسّر الحبّ سبيلها، وأوضح الخلوص دليلها، ورجونا من فضلكم على نزارتها قبولها، إذ لو كانت الملوك تهادى على قدر جلالها، لما اتّسعت لذلك خزائن أموالها، لكنّها عنوان الحبّ السليم، حسب ما اقتضاه الحديث النبويّ الكريم.
وفي أثناء شروعنا في ذلك، وسلوكنا منه أيمن المسالك، وصل إلينا كتابكم الكريم، تعرف النواظر في وجوه بشائره نضرة النّعيم، فاطّلعنا منه على ما راق العيون وصفا ونعتا، وعبر للخلوص سبيلا لا ترى القلوب فيها عوجا ولا أمتا (1)، ولله هو من كتاب كتب من البيان كتائب، واستأثر بفلك الإجادة فأحرز به سعادة الكاتب، فقسما بالقلم وما سطّر! والحبر وما حبّر! لو رآه عبد (2) الحميد لتركه غير حميد، أو بصر به لبيد (3) لأعاده في مقام بليد، ولو قصّ على قسّ إياد فصاحته لنزّله عن منبر خطابته بعكاظ، أو سحب على سحبان وائل ذيل بلاغته لأراه كيف يتولّد السّحر الحلال بين المعاني الرائقة والألفاظ.
ولما استقرينا من فحواه، وخطابه الكريم ونجواه، تشوّقكم لأخبار جهادنا، وسروركم بما يسنّيه الله من ذلك ببلادنا، رأينا أن نتحف أسماعكم منه بما قرّت به
__________
(1) الأمت: العوج. لسان العرب (أمت).
(2) هو عبد الحميد بن يحيى، كاتب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، من أهل الشام، كان أولا معلّم صبية ينتقل في البلدان، وعنه أخذ المترسّلون ولطريقته لزموا، وهو الذي سهّل سبيل البلاغة في الترسّل، ولرسائله مجموع نحو ألف ورقة. كاتب بليغ مشهور، واحد دهره، ضرب به المثل في البلاغة حتى قيل: فتحت الرسائل بعبد الحميد وختمت بابن العميد. قتل مع مروان بن محمد سنة 132هـ. انظر الفهرست ص 131، 139، ووفيات الأعيان (ج 3ص 232228) والأعلام (ج 3 ص 290289).
(3) هو أبو عقيل لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر. كان من شعراء الجاهلية وفرسانهم، وأدرك الإسلام، وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وتوفي سنة 41هـ وهو ابن مائة وسبع وخمسين سنة. عدّه ابن سلام في الطبقة الثالثة، وهو أحد أصحاب المعلقات، ومطلع معلقته (كامل).
عفت الديار محلّها فمقامها ... بمنى، تأبّد غولها فرجامها
انظر الشعر والشعراء (ج 1ص 204194)، وطبقات الشعراءص 53، والكامل في اللغة (ج 2ص 326324) والأغاني (ج 14ص 93) و (ج 15ص 137)، ومقدمة ديوان لبيد، والأعلام (ج 5ص 240).(8/84)
أعين الإسلام، وأثلج صدور اللّيالي والأيّام وذلك أنّا من حين صدر من عدوّ الملّة في الجزيرة ما صدر، حسب ما جرّه محتوم القدر، لم نزل نبيح لأساطيلنا المنصورة حرمه وحماه، ونطرق طروق الغارة الشّعواء بلاده وقراه، ونكتسح بأيدي الاستلاب ما جمعت بها يداه، إلى أن ذاقوا من ذلك وبال أمرهم، وتعرّفوا عاقبة مكرهم.
وكان من جزائرهم المعترضة شجا في حلوق الخطّار، ومتجشّمي الأخطار، وركّاب البحار، من الحجّاج والتّجار، جزيرة «غودش» وبها من أعداء الله جمّ كثير، وجمع كبير، فأرسلنا عليهم من أسطولنا المنصور غربانا نعقت عليهم بالمنون، وعرّفت المسلمين بركة هذا الطائر الميمون، وشحنّاها عددا وعددا، واستمددنا لها من الله ملائكة سمائه مددا، فسارت تحت أجنحة النّجاح إليها، وتحوم إلى أن رمت مخالب مراسيها عليها، فلما نزلوا بساحتها، وكبّروا تكبيرة الإسلام لإباحتها، بهت الذي كفر، وودّ الفرار والحين يناديه: أين المفرّ؟ فلما قضى السيف منهم أوطاره، وشفى الدّين من دمائهم أواره، وشكر الله من المسلمين أنصاره، عمدوا إلى ما تخطّاه السيف من والد وولد، ومن أخلد إلى الأرض من رجالهم عن المدافعة فلم يعترضه بالقتل منهم أحد، فجمعوا منه عددا ينيف بعد الأربعمائة على الأربعين، وجاؤوا بهم في الأصفاد مقرّنين، وامتلأت بغنائمهم والحمد لله أيدي المسلمين، وانقلبوا فرحين بما آتاهم الله مستبشرين، إلى أن دخلوا حضرتنا العليّة بسلام آمنين.
فعرّفناكم بهذا الفتح لتأخذوا بحظّكم من شكر الله عليه، وتتوجّهوا في مثله بصالح أدعيتكم إليه، وهو سبحانه وتعالى يطلعنا ويطلعكم على ما يسرّ النفوس ويهنّيها، ويجلو وجوه البشائر ويبديها، بمنّه وكرمه، والسّلام العطر المحيا الجميل المحيّا عائد عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجملة الثانية (في المكاتبات الواردة عن صاحب «تلمسان» من بني عبد الواد)
ورسم مكاتبته فيما وقفت عليه في المكاتبة الواردة على صاحب
الديار المصرية أن يبتدأ الكتاب بقوله: إلى الحضرة الفلانية حضرة فلان بالألقاب المعظّمة المفخّمة ثم يدعى له بما يناسب الحال، ويؤتى بخطبة، ثم بالسلام، ويقع الخطاب في أثناء الكتاب بالإخاء بلفظ الجمع، ويختم بالدعاء المناسب.(8/85)
ورسم مكاتبته فيما وقفت عليه في المكاتبة الواردة على صاحب
الديار المصرية أن يبتدأ الكتاب بقوله: إلى الحضرة الفلانية حضرة فلان بالألقاب المعظّمة المفخّمة ثم يدعى له بما يناسب الحال، ويؤتى بخطبة، ثم بالسلام، ويقع الخطاب في أثناء الكتاب بالإخاء بلفظ الجمع، ويختم بالدعاء المناسب.
كما كتب عبد (1) الرحمن بن أبي موسى بن يغمراسن، إلى السلطان الملك الناصر (محمد بن قلاوون) في سنة خمس وعشرين وسبعمائة:
إلى الحضرة العالية السامية، السنيّة، الماجدة، المحسنة، الفاضلة، المؤيّدة، المظفّرة، المنصورة، المالكة، حضرة السلطان، الملك، الجليل، الفاضل، المؤيّد، المنصور، المظفّر، المعظّم، ناصر الإسلام، ومذلّ عبدة الأصنام، الذي أيّده الله بالبراهين القاطعة، والأنوار المنيرة الساطعة، الأعلى، الأوحد، الأكمل، الأرفع، الأمجد، الأسمى، الأسرى، ذي المجد الظاهر، والشّرف الباهر، الملك الناصر، ابن السلطان، الملك، الجليل، العادل، الفاضل، المؤيّد، المظفّر، الأعلى، الأوحد، الأكمل، الأرفع، الأمجد، الأسنى، الأسمى، ناصر الإسلام والمسلمين، ومعلي كلمة الموحّدين، المقدّس، المرحوم، ذي المجد المشهور، والفخر المنشور، والذكر المذخور، الملك المنصور، أدام الله علوّ قدره في الدّنيا والآخرة، وأسبغ عليه نعمه باطنة وظاهرة، وجعل وجوه محاسنهم في صفحات الدهر سارّة سافرة، وصفقة أعدائهم خائبة خاسرة.
وبعد حمد الله الذي أظهر الأمر العليّ الناصريّ وأيّده، وبسط في قول الحق وفعله لسانه ويده، وسدّد نحو الصّواب منحاه كلّه ومقصده، والصلاة التامة المباركة على سيدنا محمد رسوله المصطفى، الذي خصّه الله بعموم الدّعوة
__________
(1) ذكره ابن خلدون والزركلي باسم عبد الرحمن بن موسى بن عثمان بن يغمراسن، وقالا: هو من بني عبد الواد، من سلاطين تلمسان وأطرافها في المغرب الأوسط، قتل أباه وحلّ في الملك محله في سنة 718هـ، وانصرف إلى عمران بلاده فكان أكثر سلاطين دولة بني عبد الواد آثارا. توفي سنة 737هـ. تاريخ ابن خلدون (ج 13ص 180170). والأعلام (ج 3ص 339).(8/86)
وأفرده، وقرن ذكره بذكره فأبقاه أبد الدّهر وخلّده. والرّضا عن آله الكرام، وصحابته الأعلام، الذين حفظوا بالتوقير والتعزير مغيبه ومشهده، وكانوا عند استلال السّيوف، ومجال الحتوف، عدده المظفّر وعدده. والدعاء لذلكم المقام الشريف بسعد يطيل في شرف الدين والدنيا مدده وأمده.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، من أخيكم، البرّ بكم، الحريص على تصافيكم، عبد الرحمن بن أبي موسى بن يغمراسن. وإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم أنجح المقاصد وأرجحها، وأثبتها عزّا وأوضحها، من حصن «تلمسان» حرسها الله تعالى، ولا ناشيء بفضل الله تعالى إلّا ما عوّد من بشائر تحثّ جيادها، ومسارّ يتطاول إلى المزيد اعتيادها وإلى هذا أعلى الله كلمتكم، وأمتع المسلمين بطول بقائكم، فإنا نعرّفكم بوصول كتابكم الخطير الأثير، فتلقيناه بما يجب من التكريم والتعظيم، وتتبّعنا فصوله، واستوعبنا فروعه وأصوله، وتحقّقنا مقتضاه ومحصوله، وعلمنا ما انطوى عليه من المنن والإفضال، واشتمل عليه من التفصيل والإجمال، ومن أعظم ذلك إذنكم لنا في أداء فرض الحجّ المبرور وزيارة سيد البشر، الشفيع في المحشر، الذي وجبت له نبوّته، ومثنّى الغيب عليه منسدل، وآدم صلوات الله عليه في طينته منجدل، وعلم الله أننا لم تزل آمالنا متعلقة بتلكم المشاعر الكريمة، وقلوبنا متشوّقة إلى تلكم المشاهد العظيمة، فلنا في ذلك نيّات صادقة التّحويم، وعزمات داعية التصميم، وكان بودّنا لو ساعدنا المقدار، وجرى الأمر على ما نحبّه من ذلك ونختار، أن نمتّع برؤية المواطن التي تقرّ أبصارا، ويتشفّى بها إيرادا وإصدارا، ولعلّ الله تعالى ينفعنا بخالص نيّاتنا، وصادق طويّاتنا، بمنه وكرمه.
وقد وجب شكركم علينا من كلّ الجهات، واتصلت المحبة والمودّة طول الحياة، غير أنّ في قلوبنا شيئا من ميلكم إلى غيرنا واستئناسكم، ونحن والحمد لله أعلم الناس بما يجب من حقوق ذلكم المقام الشريف، ولنا القدرة على القيام بواجبكم، والوفاء بكريم حقكم، وليس بيننا وبين بلادكم من يخشى والحمد لله من كيده، ولا يبالى بهزله ولا جدّه، وقد توجّه إلى بابكم الشريف قرابتنا الشيخ
الصالح الحسيب الأورع الأكمل الزاهد أبو زكريّا يحيى ابن الشيخ الصالح المرابط المقدّس المرحوم أبي عبد الله محمد بن جرار الواديّ، وهو من أهل الدّين والخير، وقد شافهناه بما يلقيه إلى ذلكم المقام الشريف من تقرير الودّ والإخاء، والمحبّة والصّفاء، مما يعجز عنه الكتاب، فالمقام الشريف يثق إلى قوله ويعامله بما يليق ببيته ودينه. وغرضنا أن تعرّفوه بجميع ما يصلح لذلكم المقام الشريف مما في بلادنا، ويصلكم إن شاء الله في أقرب الأوقات، على أحسن الحالات، ولكم بذلك علينا المنّة العظمى، والمزيّة القصوى، والله تعالى يبقي ذلكم المقام الشريف محروس المذاهب، مشكور المناقب، إن شاء الله تعالى.(8/87)
وقد وجب شكركم علينا من كلّ الجهات، واتصلت المحبة والمودّة طول الحياة، غير أنّ في قلوبنا شيئا من ميلكم إلى غيرنا واستئناسكم، ونحن والحمد لله أعلم الناس بما يجب من حقوق ذلكم المقام الشريف، ولنا القدرة على القيام بواجبكم، والوفاء بكريم حقكم، وليس بيننا وبين بلادكم من يخشى والحمد لله من كيده، ولا يبالى بهزله ولا جدّه، وقد توجّه إلى بابكم الشريف قرابتنا الشيخ
الصالح الحسيب الأورع الأكمل الزاهد أبو زكريّا يحيى ابن الشيخ الصالح المرابط المقدّس المرحوم أبي عبد الله محمد بن جرار الواديّ، وهو من أهل الدّين والخير، وقد شافهناه بما يلقيه إلى ذلكم المقام الشريف من تقرير الودّ والإخاء، والمحبّة والصّفاء، مما يعجز عنه الكتاب، فالمقام الشريف يثق إلى قوله ويعامله بما يليق ببيته ودينه. وغرضنا أن تعرّفوه بجميع ما يصلح لذلكم المقام الشريف مما في بلادنا، ويصلكم إن شاء الله في أقرب الأوقات، على أحسن الحالات، ولكم بذلك علينا المنّة العظمى، والمزيّة القصوى، والله تعالى يبقي ذلكم المقام الشريف محروس المذاهب، مشكور المناقب، إن شاء الله تعالى.
الجملة الثالثة (في المكاتبات الواردة عن صاحب «فاس» إلى الأبواب السلطانية، بالديار المصرية)
وعادة كتبهم أن تفتتح بلفظ «من عبد الله فلان أمير المسلمين». وأوّل من كتب منهم أمير المسلمين «يوسف بن (1) تاشفين» حين استولى على المغرب، قبل بني مرين، خضوعا أن يتلقّب بأمير المؤمنين مضاهاة للخلفاء. وهو:
من عبد الله عليّ (2) أمير المسلمين، وناصر الدّين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، ملك البرّين، ومالك العدوتين (3)، أبي سعيد (4)، ابن مولانا أمير
__________
(1) هو أبو يعقوب اللمتوني، كان شجاعا عادلا مقداما. ملك المغرب والأندلس، واختط بالمغرب مدينة مراكش. وكان لا يعرف اللسان العربي لكنه كان يجيد فهم المقاصد. هو أول من تسمّى بأمير المسلمين. توفي سنة خمسمائة للهجرة. انظر وفيات الأعيان (ج 7ص 130112) والبيان المغرب (ج 4ص 2821) وصفحات متفرقة من الكتاب المذكور.
(2) هو أبو الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني، المنصور بالله وأحد كبار بني مرين ملوك المغرب. بويع بفاس بعد وفاة أبيه سنة 731هـ بعهد منه. استنجد به بنو الأحمر، وقد احتل الإفرنج جبل طارق، فأرسل الجيوش وافتتح الجبل وحصّنه. توفي سنة 752هـ.
(3) أي المغرب والأندلس معا. جذوة الاقتباس ص 291، والاستقصا (ج 2ص 8757) واللمحة البدرية ص 92، والتعريف بالمصطلح الشريف ص 22.
(4) كذا في الأصل الوحيد، وصوابه «أبي الحسن» كما تقدم في ترجمته في الحاشية رقم 2من هذه الصفحة. انظر أيضا حاشية الطبعة الأميرية.(8/88)
المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، ملك البرّين، وسلطان العدوتين، القائم لله بإعلاء دين الحق، أبي يوسف يعقوب (1) بن عبد الحق، منح الله التأييد مقامه، وفسّح لفتح معاقل الكفر وكسر جحافل الصّفر أيّامه.
إلى السلطان، الجليل، الكبير، الشهير، العادل، الفاضل، الكامل، الحافل، الملك، الناصر، المجاهد، المرابط، المثاغر، المؤيّد، المظفّر، المنصور، الأسعد، الأصعد، الأرقى، الأوقى، ناصر الدنيا والدين، وقامع البغاة والمعتدين، مفيد الأوطار، مبيد الكفّار، هازم جيوش الأرمن والفرنج والكرج والتّتار، ماليء صدور البراريّ والبحار، حامي القبلتين، خديم الحرمين، غيث العفاة، عون العناة، مصرّف الكتائب، مشرّف المواكب، ناصر الإسلام، ناشر الأعلام، فخر الأنام، ذخر الأيّام، قائد الجنود، عاقد البنود، حافظ الثغور، حامي الجمهور، نظام المصالح، بقيّة السّلف الصالح، ظهير الخلافة وعضدها، وليّ الإمامة وسندها، عاضد كلمة الموحّدين، وليّ أمير المؤمنين، أبي المعالي (محمد) ابن السلطان، الكبير، الجليل، الشهير، الشهيد، الخطير، العادل، الفاضل، الكامل، الحافظ، الحافل، المؤيّد، المظفّر، المعظّم، المبجّل، المكبّر، الموقّر، المعزّز، المجاهد، المرابط، المثاغر، الأوحد، سيف الدين (قلاوون) أدام الله فضل عزمه الماضي بتأييده، وأدار الأفلاك بتشييد ملكه الشامخ وتمهيده، وطهّر أرجاءه من أرجاس المنافقين، وأدناس المارقين، بما يريق عليها من دمائهم، فما كلّ متطهّر يجزيء عنه غسل مائه أو تيمّم صعيده.
سلام كريم، طيّب عميم، أرج الشّميم، متضوّع النّسيم، تستمدّ الشمس
__________
(1) هو السلطان المنصور بالله، سيد بني مرين على الإطلاق. بربري، من أصل عربي. انقرضت على يده دولة الموحدين بني عبد المؤمن. وكان قد استفحل شر الإفرنج في الأندلس، فقام لإنجادها بنفسه. توفي بقصره في الجزيرة الخضراء بالأندلس ودفن برباط الفتح. أنظر الاستقصا (ج 2 ص 3210) وجذوة الاقتباس ص 349واللمحة البدرية ص 42والأعلام (ج 8ص 200199).(8/89)
باهر سناه، ويستعير المسك عاطر شذاه، يخصّ إخاءكم العليّ، ووفاءكم الوفيّ، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي أيّد المؤمنين، على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين، وعرّف الإسلام وأهله من السّرّ العجيب، والصّنع الغريب، ما فيه عبرة للسامعين والنّاظرين، حكمة عجزت عن فهم سرّها المكتوم، وقصرت عن كنهها المختوم، ألباب عبيده القاصرين. والصلاة والسّلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي أرشد به الحائدين الحائرين، وأرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه برغم الجاحدين الكافرين، وعلى آله وصحبه الذين هاجروا إليه وبلادهم هجروا، والذين آووا من أوى إليهم ونصروا، والذين جاهدوا في الله فصبروا، ففازوا بذكر المهاجرين والأنصار وأجر المجاهدين الصابرين، وصلة الدعاء لحزب الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها بفضل لا يزالون معه لأعدائهم قاهرين، وسعد لا ينفكّون له بآمالهم ظافرين، ونصر من عند الله وما النّصر إلّا من عند الله وهو خير الناصرين.
فإنا كتبنا لكم كتب الله لكم مجدا مديد الظّلال، وعضدا حديد الإلال (1)، وسعدا جديد السّربال من منصورة «تلمسان» حرسها الله تعالى، والصنائع الرّبّانيّة تكيّف العجائب، وتعرّف العوارف الرغائب، وتشنّف الأسماع بما تسمعها من إجزال المنوح والمواهب، وتفوّف الرّقاع بما تودعها من أحاديث الفتوح الغرائب، والحمد لله على ما يسّر من المآرب، وسهّل من المواهب، وإخاؤكم الصادق مبرور الجوانب، مأثور المناقب، مشرق الكواكب، مغدق السحائب، نامي المراتب، سامي المراقب، والله تعالى يبقيه في ذاته، ويقيه من صرف الدهر وأذاته. وإلى هذا وصل الله لكم سعدا جديدا، وجدّا سعيدا، ومجدا حميدا،
__________
(1) الإلال: ج ألّة، وهي الحربة العظيمة النصل، سمّيت بذلك لبريقها ولمعانها، وقيل: الألّة هي السلاح وجميع أداة الحرب. لسان العرب (ألل).(8/90)
وحمدا مجيدا، فقد وصل كتابكم الأثير، المزري بالمسك النّثير، فاجتلينا منه روضة جادها البيان فأمرعها (1)، ورادها البنان فوشّعها، واجتنينا من غصون سطوره ثمرات وداد ما أينعها، إنباء عما تلقّاه الإخاء الكريم من قبل الشيخ الأجل، أبي عبد الله محمد بن الجرّاح مما عنّا تحمّل، وفي إلفائه وأدائه بحضرتكم الكريمة أحسن وأجمل، وهو ما كان عليه عزم مولاتنا الوالدة ألحقها الله تعالى رضوانه، وبوّأها جنانه، من حجّ البيت المحرّم، وزيارة [القبر] المعظّم المكرّم، والصلاة بالمسجد الحرام ومسجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وثالثها في شدّ الرحال للمسجد الأقصى ونعم المغتنم، وقضاء النّسك بتلك المناسك والمشاهد، والتبرّك بتلك المعالم المنيفة والمعاهد، وما وصف مع ذلك بهذا الجانب الغربيّ، ورصف من أمر قتالنا لكلّ مارق أبيّ وكافر حربيّ، وما منحنا الله من نصر لقلوب أهل الإيمان مبهج، ولصدور عبدة الصّلبان محرج، وأن الإخاء الكريم حصل له بذلك أبهى ابتهاج، وحلّ منه محلّ القبول الذي انتهج له من اقتفى سبيل القصد أنهى انتهاج، فعقد العزم على تلقّي الوافد من تلقائنا، والوارد رجاء أداء فرض الحجّ من أرجائنا، بتسهيل سبيله، وتيسير ارتحاله إلى بيت الله ورسوله، وأنه متى وقع الشّعور بمقدم المولاة رحمها الله تعالى على بلاده، وقربها من جهاته المجودة من جود جوده بعهاده، يقدّم للخروج من يتلقّى ركابها، ويعتمد بالبرّ والتكريم جنابها، حتّى تحمد وجهتها الشريفة بجميل نظره وإيابها، وقام عنّا بما نودّه من برّها، وساهم فيما تقدّمه إلى الله عزّ وجلّ من صالح أجرها. وقد قابلنا هذا الفضل من الشّكر بأجزله، ومن البرّ بأحفاه وأحفله، وحصل لدينا بإزائه سليم ودّه وكريم إخائه، من تخليص ولائه، وتمحيص صفائه، منّا ما يزال عهده الأنيق في نهائه، وعقده الوثيق في ازدياده ونمائه، وغصنه الوريق في رونق غلوائه، ولئن كانت المولاة الوالدة قدّس الله روحها، وبرّد ضريحها، قد وافت بما قدّمت عند الله من صالح
__________
(1) يقال: مرع المكان والوادي: أخصب وأكلأ، وأمرع رأسه بدهن أي أكثر منه وأوسعه. لسان العرب (مرع).(8/91)
العمل، وماتت على ما أبرمته في قصد البيت الشريف في نيّة وأمل، إذ كانت رحمة الله تعالى عليها قد تأهّبت لذلك، واعتدّت لسلوك تلك المسالك، وأداء ما فرض الله من السّعاية والمناسك، وعلى الله إجزال ثوابها، وعنده نحتسب ما ألمّ فآلم من مصابها فإنّ لدينا ممّن يمتّ بحرمة المحرم إلينا، ويلزم بحقّ التربية علينا، من يقوم عندنا مقامها، ويروم من ذلك المقصد الشريف مرامها، وسنوردها إن شاء الله تعالى على تلكم البقاع، ونوردها من تلكم الأقطار والأصقاع، ما يجمل بحسن نظركم مورده ومصدره، ويطّابق في جميل اعتنائكم وحفيل احتفالكم خبره ومخبره، بفضل الله وعونه.
وأما تشوّق ذلكم الإخاء، لمواصلة الكتب بسارّ الأنباء، فإنّ من أقربها عهدا وأعذبها حديثا يهادى ويهدى، ما كان من أمر العاقّ قاتل أبيه، الحالّ من إقليم تلمسان وممالكها بالمحلّ النّبيه، وذلك أنّ أسلافه بني زيّان، كانوا قد استولوا على هذه المملكة في سالف الزّمان، ولم يزل بينهم وبين أسلافي المحتوين على ملك المغرب الأقصى وقائع توردهم الحمام، وتذيقهم الموت الزّؤام، فيدعون المنازعة، ويعودون للموادعة، ثم لم يلبثوا أن ينكثوا، ولم يصبروا أن يغدروا، إلى أن كان من حصار عمّنا المقدّس المرحوم أبي يعقوب قدّس الله تربته إيّاهم، فأكثر موتهم وكدّر محياهم، وتمادى بهم الحصار تسع سنين، وما كانوا غير شرذمة قليلين، وهنالكم اتصلت بينكما المراسلة، وحصلت الصّداقة والمواصلة، ثم حمّ موته، وتمّ فوته، رحمة الله تؤمّه، ورضوانه يشمله ويعمّه، فنفّس خناقهم، وعاد إلى الإبدار محاقهم، وصرف القائم بعده عنهم الحين، عما كان هو رحمه الله قد طوّعه من بلاد مغراوة (1) وتحين، فاتّسعت عليهم المسالك، وملكوا ما لم يكن فيه لأوائلهم طمع من الممالك. لكنّ هذا الخائن وعمّه كانا ممن أسأرته الفتن، وعمّ
__________
(1) مغراوة: قبيلة بربرية في المغرب الأقصى والأوسط. وكذلك تحين قبيلة أخرى. انظر جمهرة أنساب العرب ص 498ونفح الطيب (ج 1ص 385).(8/92)
به فيها غوامر المحن، فسلكا مسلك أسلافهما في إذاعة المهادنة، والرّوغان عن الإعلان بالمفاتنة.
ولما سوّل الشيطان لهذا العاقّ قتل والده، والاستيلاء على طارفه وتالده، لم يقدّم (1) عملا على إشخاص إرساله بحضرة مولانا المقدّس أبي سعيد، قدّس الله مثواه، وجعل الجنة مأواه، في السّلم راغبا، وللحكم بموادعته طالبا، فاقتضى النظر المصلحيّ حينئذ موافقته في غرضه، وإن كان باطنه على مرضه، فقوي أمره، وضري ضرّه، وشري شرّه، ووقد تحت الرّماد جمره، وسرى إلى بلاد جيرانه الموحّدين داؤه، وطال عليهم تضييقه واعتداؤه، واستشعر ضعفهم عن مدافعته، ووهنهم عن مقاومته ومنازعته، فبغى وطغى، ولم يدر أنّ من فوقه سقب (2) السماء رغا، وباطن جماعة من عرب أفريقيّة المفسدين وجرّوه بحبل الأطماع إليها، وأقام على بجاية (3) عشرين سنة يشدّ على بجاية (4) الحصار، ويشنّ على أحواز تونس الغار، حتّى كان من هزيمة جيشه لصاحبها ما كان، بممالأة منهم ومن غيرهم من وراتيه (؟) كابن اللّحياني، وابن الشهيد، وابن عمران، فأدّى ذلك صاحبها السلطان أبا يحيى أعزّه الله تعالى أن بعث إلينا وزيره في طلب النّصرة رسولا، وأوفد علينا أعزّ ولده أبا زكريّا في إذهاب المضرّة عنه دخيلا، فخاطبنا إذ ذاك هذا الخائن العاقّ مبصّرين، وبقوله تعالى {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} (5) مذكّرين، فما زادته الموعظة إلّا أشرا، ولا أفادته التذكرة إلّا
__________
(1) مراده أنه بدأ أوّل كل شيء بإشخاص الخ. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) السقب: عمود الخباء. لسان العرب (سقب).
(3) بجاية: بكسر الباء وتخفيف الجيم: مدينة على ساحل البحر بين إفريقية والمغرب، كان أوّل من اختطّها الناصر بن علناس بن زيري بن بلكّين، في حدود سنة 457هـ. وكانت قديما ميناء فقط ثم بنيت المدينة، وتسمّى الناصرية أيضا باسم بانيها. معجم البلدان (ج 1ص 339) وذكرها ابن خلكان فقال: هي آخر أعمال إفريقية. (وفيات الأعيان) (ج 6ص 217).
(4) المقام للإضمار. حاشية الطبعة الأميرية.
(5) سورة الحجرات 49، الآية 9.(8/93)
بطرا، وحين ذكّر فلم تنفعه الذّكرى، وفكّر فلم يتيسّر لليسرى، امتثلنا فيه أمر الله تعالى المرتب على قوله {فإن بغت إحداهما على الأخرى} (1) فأزمعنا قدعه (2)، وأجمعنا ردّه وردعه. وفي أثناء ذلكم وصل إلينا أيضا سلطان الأندلس مستغيثا على النصارى أعداء الله جيرانه على طاغيتهم، المصرّ على عداوته وعداوتهم فجهّزنا معه ولدنا عبد الواحد في أربعة آلاف من الأبطال، وأمددناهم بما كفاهم من الطعام والعدّة والمال، فأجاز من سبتة إلى الخضراء (3) عجلا، ولم يقدّم على منازلة جبل الفتح عملا، وكان هذا الجبل الخطير شأنه منذ استولى عليه العدوّ قصمه الله في سنة تسع وستين شجا في لهوات أهل العدوتين، وغصّة لنفوس الساكنين بالجهتين، لإطلاله عليهما، وإرساله جوارح جواريه إليهما، تحطف من رام العبور ببحر الزّقاق، وما يقرب الملجأ إلى هذا المعقل المستقرّ من اللّحاق، فكم أرمل وأيتم، وأثكل (4) وأيّم فأحاطت به العاديات السوابح برّا وبحرا، وأذاقت من به من أهماج الأعلاج شرّا وحصرا، إلى أن أسلموا للمسلمين قهرا وقسرا، ومنح الله حزبه المؤمنين فتحا ونصرا، وسمع الطاغية الغادر إجابة الله تعالى بأمره، فطار بما قدر عليه من حشوده وجنوده إلى إغاثته ونصره، فوصله بعد ثمانية أيام، من تسليمه للإسلام، فنزل بخيله ورجله (5) إزاءه، وأقسم بمعبوده لا يبرح فناءه، حتّى يعيد إليه دينه، أو يلقى منونه دونه، فأكذب الله زعمه، وأوهن عزمه، وأحنث (6) يمينه، وأقلع بعد شهرين وأيام مدلجا، وأسرع العود إلى مستقرّه واسأله كيف نجا، وكان ذلك سبب إنابته للسّلم وانقياده، وإجابته لترك ما كان له على أصحاب «غرناطة» من معتاده، وكانوا يعطونه ما ينيف على الأربعين ألفا من
__________
(1) سورة الحجرات 49، الآية 9.
(2) القدع: الكفّ والمنع.
(3) أي الجزيرة الخضراء، وهي مدينة أندلسية قريبة من جبل طارق ومتصلة بأعمال شذوته، وسورها يضرب به ماء البحر. معجم البلدان (ج 2ص 136).
(4) يقال: أثكلت المرأة ولدها إذا فقدته. وأيّم الرجل أو المرأة: قتل زوجه أو جعله أيّما.
(5) الرجل: ج راجل، وهو خلاف الفارس.
(6) أي لم يبرّ فيها يقال: حنث في يمينه أي أثم، والحنث: الرجوع في اليمين.(8/94)
الذهب في العام، ضريبة ألزمهم الطاغية أداءها في عقد مصالحته أيّ إلزام، فسمناه تركها وإسقاطها، وألزمناه فيما عقدناه له من السّلم أن يدع اشتراطها، والحمد لله الذي أعزّ بنا دين الإسلام، وأذلّ رقاب عبدة الأصنام، وقد اعتنينا بتحصين حصن هذا الجبل تتميما لها وتكميلا، وابتدأنا من تحصين أسواره وأبراجه بما يغدو على جبينه تاجا وإكليلا. وكنا في هذه المدة التي جرت بها هذه الأحوال، وعرت فيها هذه الأهواء والأهوال، منازلين أخانا الممتنع «بسجلماسة» (1) من بعض بلاد القبلة، ومحاولين من إزاحة ضرّه، والإراحة من شرّه، ما فيه الصلاح والفلاح على التفصيل والجملة، لعثايته في الفساد، ودعايته إلى العناد، ومعاضدته صاحب «تلمسان»، ومساعدته على البغي والعدوان، فسهّل الله افتتاحها، وعجّل من صنائعه الجميلة منها مباحها، وذلك بعد تسليم جبل الفتح بثلاثة أشهر ونصف، ويسّر الله تعالى في ذلك من بدائع الصنائع ما يقصر عنه كلّ نعت ووصف. وفي خلال تلكم المنازلة، وحال تلكم المحاولة، لاحت للخائن التّلمسانيّ فرصة، جرّع منها غصّة، إذ ظنّ أنّا عنه مشغولون، وفي أمر ما عرض من سجلماسة وجبل الفتح معتملون، فخرج من بلده على حين غفلة بالعزيمة والجدّ، إلى حصن ماوربرت (2) الذي هو بين بلاده وبلادنا كالحدّ، فوجد هنالك ولدنا الأسعد تاشفين، في ثلّة من بني مرين، آساد العرين، فلما نذروا به ثاروا إليه مسرعين، فنكص على عقبه ولم ير له جنّة أوقى من هربه، وعاد لذلك ثانية، فلم تكن عساكرنا عن طرده وانية، بل ردّته في الحافرة، وأنشدته بلسان حالها الساخرة (سريع).
إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النعل لها حاضره
__________
(1) سجلماسة: بكسر أوله وثانيه، وسكون اللام، وبعد الألف سين مهملة: مدينة في جنوبي المغرب في طرف بلاد السودان، بينها وبين فاس عشرة أيام تلقاء الجنوب. يمرّ بها نهر كبير غرسوا عليه بساتين ونخيلا مدّ البصر. أكثر أقوات أهلها من التمر، ولنسائهم يد صناع في غزل الصوف. معجم البلدان (ج 3ص 192).
(2) كذا في الأصل بإهمال الحروف ولعله مصحف عن بنزرت. حاشية الطبعة الأميرية.(8/95)
ولما فرغنا والحمد لله من تلكم الشّواغل، وأرغنا من الخائن التّلمساني ترك ما هو فيه من إثارة الفتن واغل، فأعرض وأشاح، وما لاحت عليه مخيلة فلاح، نهدنا نحو أرضه، لنجزيه بقرضه، بجيوش يضيق عنها فسيح كلّ مدى، وخيول تذر الأكم للحوافر سجّدا، تنقضّ على الأقران أمثال الأجادل، وتقضّ الجنادل من حوافرها بأصلب من الجنادل، فكلفنا بتسلّم منازله فمنزلا، وتسنّم معاقله معقلا فمعقلا، وجلّ رعاياه تقرّ بفضلنا، وتفرّ من جوره إلى عدلنا، ومن تمسّك منهم بحبله، أو سلك من الغيّ في سبله، قاده السيف برغمه، واستنزله على حكمه، والعفو مع ذلك يؤمّهم، والإحسان يشملهم ويعمّهم، حتّى لم يبق إلّا معقله الأشب، ومنزله الذي رأى أنه عن عين الشّوائب محتجب، قد شمخ أنفا حميّا، وصافح كفّا للثّريّا، ولم يرض لها منه عمائم إلّا الغمائم، ولا لأنامل شرفاته خواتم، إلّا النّجوم العواتم، فنزلنا بساحه، وأقبلنا على كفاحه، وجعلنا نقذفهم من حجارة المجانيق، بأمثال النّيق، ومن كيزان النّفظ الموقدة، بأمثال الشّهب المرصدة، ومن السّهام العقّارة، بأمثال العقارب الجرّارة، حتّى غدت جدرانهم مهدومة، وجسومهم مكلومة، وثغور شرفاتهم في أفواه أبراجهم مهتومة، وظلّت الفعلة تشيّد إزاء أبراجهم أبراجا، وتمهّد منها لتسوير أسوارهم أدراجا، وللمعاول في أسافلها إعوال، وللعواسل على أعاليها أعمال، وللأشقياء مع ذلك شدّة وجلد، وعدّة وعدد، وحدّة ولدد، يقاتلون حميّة، وينازلون بنفوس أبيّة، وحجارة المجانيق (1)
تشدخ هامهم، وبنات الكنائن تزلزل أقدامهم، وهم في مثل ذلك لازمون إقدامهم، إلى أن اشتدّت أزمتهم فلم يجدوا لها من فارج، وأحاطت بهم الأوجال من خارج، وهدمت أبراجهم الشّواهق، وردمت حفائرهم والخنادق، وأخذت الكماة في العروج إلى البروج، والحماة في السّباق إلى الأنفاق، والرماة في النّضال بالنّصال، فمن مرتق سلّما، غير متّق مؤلما، ومشتغل بالنّقب، غير
__________
(1) المجانيق: ج منجنيق، وهي آلة حربية كانوا يرمون بها الحجارة، مؤنثة، وهي يونانية. محيط المحيط والمنجد (جنق).(8/96)
محتفل بشابور الحجارة المنصبّ، وأفرج المضيق، وانتهج الطّريق، واقتحمته أطلاب الأبطال، وولجته أقيال القبائل وولّى الأشقياء الأدبار، وعاذوا بالفرار، وبدت عليهم علامات الإدبار، وسابقوا إلى الأبواب، فكان مجيئهم من أقوى الأسباب، وقتل منهم الزّحام، من أسأره الهدم والحسام، فتملّكنا ما دارت عليه الأسوار الخارجة، كفرار السبع والملعب، وجميع الجنان والعروش التي ما انفكّ الشقيّ يجتهد في عمارتها ويتعب، وأعلنّا بالنّداء أن كلّ من جاءنا هاربا، ووصل إلينا تائبا، منحناه العفو، ومحونا عنه الهفو، وأوردناه من إحساننا الصّفو، فتبادروا عند ذلك يتساقطون من الأسوار، تساقط جنيّات الثّمار، فرادى ومثنى، آئبين إلى الحسنى، فيسعهم الصّفح، ويحسبهم المنّ والمنح.
ولما رأى الخائن قلّة من بقي معه، وشاهد تفرّق من ذلك الموقف جمعه، أمر بسراح من في قبضته وسجنه، واعتقدهم عونا له فكانوا أعون شيء على وهيه ووهنه، واعتمد الناس في بقيّة يومهم السّور تتوسّع أنقابه، وتتخرّق أبوابه، إلى أن جنّهم الليل، وحاق منهم بالأعداء الويل، ولزم كلّ مركزه، ولم يكن الليل ليحجبه من عمله ولا يحجزه، وبات الفرّار إلينا يهربون، ومن كل نفق يتسرّبون فلما ارتفع الضّياء، ومتع (1) الضّحاء، أمرنا ولدينا يعقوب وعبد الواحد، ووزيرنا القاعد له بالمراصد، بأن زحفوا إليها، مع أطلابنا تحت راياتنا المنصورة عليها، فرجفت قلوبهم، ووجبت جنوبهم، ولم يكن إلّا كلا حتّى امتطيت تلك الصّهوة، وتسنّمت فيها الذّروة، وتسلّمت بيد العنوة، وفصمت عراها عروة عروة، وأنزلوا من صياصيهم (2)، وتمكّنت يد القهر من نواصيهم، وحقّت عليهم كلمة العذاب من معاصيهم، وفرّ الشّقيّ إلى فناء داره، في نفر من ذويه وأنصاره، وفيهم ولداه مسعود وعثمان، ووزيره موسى بن عليّ معينه على البغي والعصيان، وعبد الحق بن
__________
(1) متع الضحاء ومتعت الضحى متوعا: بلغت الغاية وذلك إلى أول الضحى.
(2) الصياصي: ج صيصة، وهي الحصن وكل ما امتنع به.(8/97)
عثمان الخائن الغادر، وابن أخيه العامل بعمله ثابت بن عامر، فتكنّفهم هنالك أولياء دولتنا العلية، فأوردوهم ويوسف ولد الشقيّ السالب حياض المنيّة، ونبذت بالعراء أجسامهم، وتقدّمنا للحين، بأن يمدّ على الرعيّة ظلّ التأمين، ويوطّأ لهم كنف التهدئة والتسكين، ويوطّد لهم مهاد العافية، وتكفّ عنهم الأكفّ العادية، حتى لا تمتدّ إليهم كفّ منتهب، ولا يلتفت نحوهم طرف مستلب، ومن انتهب شيئا أمر بردّه، وصدّ عن قصده وكمل لنا والحمد لله بالاستيلاء على هذا القطر جميع البلاد، الداخلة في ولاية بني عبد الواد، ونسخت منها دولتهم، ومحيت من صحيفتها دعوتهم، وعوّض الرّعايا من خوفهم أمنا، ومن شؤمهم يمنا، وشملتهم كلمتنا الراقية، المنصورة بكلمة الله الباقية، وفي ذلك معتبر لأهل اليقين، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين.
والحمد لله على هذه النعمة التي أفاضت على النّعم جلالا، والصّنيعة التي بهرت الصنائع جمالا، وأضفت على المسلمين من الصّلاح والعافية سربالا. وقد رأينا من حقّ هذا الإنعام الجسيم، والصّنع الرائق الوسيم، أن نتبع العفو بعد المقدرة، بالإحسان لمن أسلف لنا غمطه (1) أو شكره، [فمننّا] (2) على قبائل بني عبد الواد، وأضفينا عليهم صنوف الملابس نساء ورجالا، وأوسعنا لهم في العطاء مجالا، وأفعمنا لهم من الحباء سجالا، وأقطعنا لهم من بلاد المغرب حاطها الله تعالى ما هو خير من بلادهم، وحبوناهم منها بما كفل بإحساب مرادهم، وإخصاب مرادهم، وخلطناهم بقبائل بني مرين، وحطناهم باتّحاد الكلمة من تقوّل المتقوّلين، وتزوير المزوّرين، وأعددنا منهم لأوان الجهاد أوفر عدد، وأعتدنا من فرسانهم ورجالهم لطعان الأعادي أكبر مدد، وأزيل عن الرّعايا بهذه البلاد الشّرقيّة إصرهم (3)، وأزيح عنهم بتوخّي العدل فيهم جورهم ووزرهم، وخفّفنا عنهم ما آد
__________
(1) الغمط: الاستهانة والاستحقار يقال: غمط النعمة: لم يشكرها.
(2) بياض في الأصل، وقد اقتبسنا هذه الكلمة من المقام. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(3) الإصر: الأمر الذي يثقل علينا، أو العهد الثقيل.(8/98)
من المغارم، وهاد من المكارم، فانشرحت صدورهم، وصلحت أمورهم.
والحمد لله الذي ثلّ محالّ الباغين ومجالهم، وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم، وأخذهم بما احتقبوا من المآثم، واكتسبوا من الجرائم واستحلّوا من المحارم، وأباحوا من المسكرات، وأذاعوا من المنكرات، وطالما أصبح ربعهم معدن الفسوق، وموطن العقوق، ومقطن إضاعة الحقوق، لا سيّما في أيام المسرور بهناته، المغرور بما سوّل له الشيطان وأملى له من ترّهاته، المشهور بقتل أبيه، المأثور من مثالبه ومعايبه بما لم يأت الدّهر له بشبيه، ولقد طبّقت الآفاق معاصيه، وبلغت أخبار خيانته من بأطراف المعمور وأقاصيه، ولكنّ الله تعالى أملى له ليكثّر مآثمه، حتّى إذا شاء أخذه أخذ القرى وهي ظالمة.
والحمد لله الذي طهّر بأيدينا هذه الأرجاء من أرجاسه، ورحض (1) عنها بأيدينا أوضار أدناسه وأنجاسه، وأتاح لأهلها بهلاك هذا المريد المراد، وأراح منه ومن شيعته البلاد والعباد، ولو لم (2) يكن إلّا ما نال الحجّاج من تعنّيه وتعدّيه، وطال عليهم من تعرّضه لهم وتصدّيه، حتّى حجز عن الحجاز الشريف قصّاده، وحجر بقطع السبيل عن بيت الله الحرام من أراده، فكم سلب الحجّاج، وسدّ عليهم المسالك والفجاج، وفرّق فريقهم، وعوّق طريقهم. والآن بحمد الله حقّت الحقائق، وارتفعت العوائق، وصحّ العليل، ووضح السبيل، وتسهّل المرام، وتيسّر القصد إلى البيت الحرام، مكان ترده الزّوّار عليكم أرسالا، ووفود الأبرار للسّلم خفافا وثقالا، يأتون من كلّ فجّ عميق، ويقضون ما يقضون من مناسكهم، آمنين في مسالكهم، إلى البيت العتيق، وهكذا أيضا خلا وجهنا لجهاد الرّوم، ولإعداد من يغزونهم في عقر دارهم للقصد المروم، وأن نجدّد من هذا العمل بجزيرة الأندلس حماها الله تعالى ما لسلفنا بها سلف، ونبدّد من شمل عبّاد الصليب ما لخلفهم بفضل الله تعالى خير خلف، فعمل الجهاد، بهذه البلاد، هو
__________
(1) أي أزال أوضار أدناسه، يقال: رحض الثوب: غسله. والأوضار: الأوساخ.
(2) لم يذكر في الكلام جواب لو، ولكنه معلوم أي تكفي. حاشية الطبعة الأميرية.(8/99)
الفضيلة التي لنا الله سبحانه ذخرها، والحسنة التي في صحائف أعمالنا سطرها، وبجيوشنا المنصورة عزّ دين الإسلام بهذا المغرب الغريب، وبسيوفنا المشكورة والله المشكور ذلّ بها الصّليب، أوزعنا الله تعالى شكر آلائه، وأمتعنا بتواتر نعمائه، بمنّه وفضله.
وأنهينا لعلمكم الكريم هذه الأنباء السارّة، والآلاء الدّارّة، لما ذكرتم من تشوّفكم لاستطلاعها، وسطّرتم من تشوّقكم لاستماعها، ولعلمنا أنكم تسرّون بقطع دابر الباغين، وتستبشرون بحسم أدواء الطاغين، وتؤثرون الإخبار بائتلاف الكلمة على أعداء الله الكافرين إيثار الحامدين لفعل الله تعالى في إظهار دينه الشاكرين. لا زلتم تشرع نحوكم البشائر، وتفرع بذكركم المنابر، وترفع لاجتلاء آثار أمركم الستائر، واستجلاء أخبار سيركم الباهرة النّواظر، وتجمع لسجاياكم السنيّة العلاء، ومزاياكم العليّة السّناء، ثواقب المناقب وقول خير المفاخر، إن شاء الله. والسّلام الأتمّ، الأضوع الأنمّ، يخصّ إخاءكم الأوفى، ورحمة الله وبركاته.
قلت: جواب هذا الكتاب [تقدّم] في الكلام على المكاتبات عن الأبواب السلطانية في المكاتبات إلى الملوك.
وهذه نسخة كتاب ورد من أبي (1) الحسن المرينيّ صحبة الهدايا، والحرّة الحاجّة في شهر رمضان المعظّم سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، ونصّه بعد البسملة:
من عبد الله عليّ أمير المسلمين، ناصر الدين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، ملك البرّين، مالك العدوتين، ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، ملك البرّين، وسلطان العدوتين، أبي سعيد، ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، ملك البرّين، وسلطان العدوتين،
__________
(1) هو علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني، وقد تقدمت ترجمته في الصحيفة 88من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 2.(8/100)
أبي (1) سعيد، ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، ملك البرّين، وسلطان العدوتين، أبي يوسف (2) يعقوب بن عبد الحق، منح الله التأييد مقامه، وفسح لفتح معاقل الكفر وكسر جحافل الصّفر أيّامه.
إلى السلطان الجليل، الكبير، الشهير، العادل، الفاضل، الكامل، الكافل، الملك الناصر، المجاهد، المرابط، المؤيّد، المنصور، الأسعد، الأصعد، الأرقى، الأوقى، الأمجد، الأنجد، الأفخم، الأضخم، الأوحد، الأوفى، ناصر الدين، عاضد كلمة المسلمين، محيي العدل في العالمين، فاتح الأمصار، حائز ملك الأقطار، مفيد الأوطار، مبيد الكفّار، هازم جيوش الأرمن والفرنج والكرج والتّتار، خادم الحرمين، غيث العفاة، مصرّف الكتائب، مشرّف المواكب، ناصر الإسلام، ناشر الأعلام، فخر الأنام، ذخر الأيّام، قائد الجنود، عاقد البنود، حافظ الثّغور، حائط الجمهور، حامي كلمة الموحّدين، أبي المعالي، محمد ابن السلطان، الجليل، الكبير، الشهير، الشهيد، الخطير، العادل، الفاضل، الكافل، الكامل، الحافظ، الحافل، المؤيّد، المكرّم، المبجّل، المكبّر، الموقّر، المعزّر، المعزّز، المجاهد، المرابط، المثاغر، الأوحد، الأسعد، الأصعد، الأوفى، الأفخم، الأضخم، المقدّس، المرحوم، الملك المنصور، سيف الدنيا والدّين، قسيم أمير المؤمنين. أبقى الله ملكه موصول الصّولة والاقتدار، محميّ الحوزة حاميا للدّيار، حميد المآثر المأثورة والآثار، عزيز الأولياء في كلّ موطن والأنصار.
سلام كريم، زاك عميم، تشرق إشراق النهار صفحاته، وتعبق عن شذا الروض المعطار نفحاته، يخصّ إخاءكم العليّ، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي وسع العباد منّا جسيما، وفضلا جزيلا، وألهمهم الرّشاد بأن أبدى لهم من آثار قدرته، على مقدار وحدته، برهانا واضحا ودليلا،
__________
(1) تقدم في ص 88من هذا الجزء التنبيه على سلسلة نسب أبي الحسن المريني. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(2) تقدمت ترجمته في الصحيفة 89من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.(8/101)
وألزم أمّة الإسلام، حجّ بيته الحرام، من استطاع إليه سبيلا، وجعل تعظيم شعائره من تقوى القلوب، ومثابات محطّ الأوزار والذّنوب، فما أجزل نعمته منيلا، وأجمل رحمة ربّه مقيلا، والصلاة والسّلام على سيدنا ومولانا محمد المصطفى من أفضل العرب فصيلة، في أكمل بقاع الأرض فضيلة، وأكرمها جملة وتفصيلا، المجتبى لختم الرسالة، وحسم أدواء الضّلالة، فأحسب الله به النبوّة تتميما والرسالة تكميلا، المخصوص بالحوض المورود، والمقام المحمود، يوم يقول الظالم {يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا} (1) المبوّإ من دار هجرته، ومقرّ نصرته، محلّا ما بين بيته ومنبره فيه روضة من رياض الجنّة لم يزل بها نزيلا، والرضا عن آله الأبرار، وأصحابه الأخيار، الذين فضّلتهم سابقة السعادة تفضيلا، وأهّلتهم العناية [بأمر الدّين إلى أن يوسعوا الأحكام برهانا ودليلا، فإنا نحيط علم] (2) الإخاء الأعزّ ما كان من عزم مولاتنا الوالدة قدّس الله روحها، ونوّر ضريحها، على أداء فريضة الحجّ الواجبة، وتوفية مناسكه اللازبة، فاعترض الحمام، دون ذلك المرام، وعاق القدر، عن بلوغ ذلك الوطر، فطوي كتابها، وعجّل إلى مقرّ الرحمة بفضل الله مآبها، وعلى الله أجرها، وعنده يحتسب ذخرها، وإنّ لدينا من نوجب إعظامها، ونقيمها بحكم البرّ مقامها، وعزمها إلى ما أمّلته مصروف، وأملها إلى ما كانت أمّته موقوف، وهي محلّ والدتنا المكرّمة، المبرورة الأثيرة، الموقّرة، المبجّلة، المفضّلة، المعزّزة، المعزّرة، المعظّمة، المطهّرة، أسنى الله مكانتها، وسنّى من هذا القصد الشريف لبانتها، وقد شيّعناها إلى حجّ بيت الله الحرام، والمثول بحول الله تعالى ما بين زمزم والمقام، والفوز من السّلام، على ضريح الرسالة، ومثابة الجلالة، بنيل السّول والمرام، لتظفر بأملها المرغوب، وتنفر بعد أداء فرضها لأكرم الوجوب.
__________
(1) سورة الفرقان 25، الآية 28.
(2) في الأصل: «وأهّلتهم العناية الإخاء» ولا يخفى ما فيه، ولعله سقط من قلم الناسخ شيء فزدنا ما بين التربيعين ليرتبط الكلام. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/102)
وحين شخص لذلكم الغرض الكريم، موكبها، وخلص إلى قصد الحرم العظيم، مذهبها، والكرامة تلحفها، والسلامة إن شاء الله تكنفها، أصحبناها من حور دولتنا وأحظيائها، ووجوه دعوتنا العليّة وأوليائها، من اخترناه لهذه الوجهة الحميدة الأثر، والرّحلة السعيدة الورد إن شاء الله تعالى والصّدر، من أعيان بني مرين أعزّهم الله تعالى والعرب، وأولاد المشايخ أولي الديانة والتقوى المالئين دلاء القرب، إلى عقد الكرب، وكلّ من له أثرة مشهورة، وشهرة بالمزايا الراجحة والسّجايا الصالحة مأثورة، وقصدهم من أداء فرض الحجّ قصدها، ووردهم إن شاء الله تعالى من منهل بركاته الجمّة وردها، وهكذا سيّرنا من تحف هذه البلاد إليكم ما تيسّر في الوقت تسييره، وإن تعذّر في كثير مما قصدناه ولهذا الغرض أردناه تيسيره، لطول المغيب عن الحضرة، والشّغل بتمهيد البلاد التي فتحها الله علينا في هذه السّفرة، وعيّنّا لإيرادها لديكم، وإيفادها عليكم، أبا إسحاق ابن الشيخ أبي زكريّا يحيى بن عثمان السّويدي، وأمير الركب الحسن بن عمران وغيرهم، كتب الله سلامتهم، ويمّن ظعنهم وإقامتهم. ومقام ذلك الإخاء الكريم يسنّي لهم من اليسرى والتسهيل القصد والسّول، ويأمر نوّاب ماله من الممالك، وقوّام ما بها من المسالك، لتكمل العناية بهم في الممرّ والقفول. ومعظم قصدنا من هذه الوجهة المباركة إيصال المصحف العزيز الذي خططناه بيدنا، وجعلناه ذخيرة يومنا لغدنا، إلى مسجد سيدنا ومولانا، وعصمة ديننا ودنيانا، محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بطيبة (1) زادها الله تشريفا، وأبقى على الأيام فخرها منيفا، رغبة في الثواب، وحرصا على الفوز بحظّ من أجر التلاوة فيه يوم المآب.
وقد عيّنّا بيد محلّ الوالدة المذكورة فيه، كرّم الله جبهتها، ويمّن وجهتها،
__________
(1) طيبة: بفتح الطاء والباء معا وسكون الياء: اسم لمدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال صرمة الأنصاري (طويل).
فلما أتانا أظهر الله دينه ... وأصبح مسرورا بطيبة راضيا
معجم البلدان (ج 4ص 53).(8/103)
من المال ما يشترى به في تلكم البلاد المحوطة من المستغلّات ما يكون وقفا على القرأة فيه، مؤبّدا عليهم وعلى غيرهم من المالكيّة فوائده ومجانيه. والإخاء الكريم يتلقّى من الرّسل المذكورين ما إليهم في هذه الأغراض ألقيناه [ويأمر] بإحضارهم لأدائهم بالمشافهة ما لديهم أو عيناه، ويوعز بإعانتهم على هذا الغرض المطلوب، وييسّر لهم أسباب التوصل إلى الأمل والمرغوب، وشأنه العون على الأعمال الصالحة ولا سيما ما كان من أمثال هذا إلى مثل هذه السّبل الواضحة، وشكر بادراتكم موطّد الأساس، مطّرد القياس، متجدّد مع اللّحظات والأنفاس، والله يصل للإخاء العليّ نضرة أيّامه، ويوالي نصرة أعلامه، ويبقي الثّغور القصيّة، والسّبل السّريّة، منوطة بنقضه وإبرامه، محوطة بمعاضدة أسيافه وأقلامه، والسّلام الكريم العميم، يخصّ إخاءكم الأعزّ، ورحمة الله وبركاته وكتب في يوم الخميس المبارك الخامس والعشرين من ربيع الأوّل عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة.
وهذه نسخة كتاب عن السلطان عثمان (1) بن أبي العباس المرينيّ، في العشر الأوسط (2) من شعبان سنة أربع وثمانمائة، وهو:
من عبد الله ووليّه عثمان أمير المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، سلطان الإسلام والمسلمين، ناشر بساط العدل في العالمين، المقتدي بآثار آبائه الكرام، المقتفي سننهم الحميدة في نصرة الإسلام، المعمل نفسه العزيزة في التهمّم بما قلّده الله من أمور عباده، وحياطة ثغوره وبلاده، سيف الله المسلول على أعدائه، المنتشر عدله على أقطار المعمور وأنحائه، ظلّ الله تعالى في أرضه، القائم بسنّته وفرضه، عماد الدنيا والدّين، علم الأئمة المهتدين، ابن
__________
(1) هو أبو سعيد عثمان بن أحمد بن إبراهيم بن علي، من ملوك الدولة المرينية في المغرب. بويع بفاس بعد وفاة أخيه عبد الله سنة 800هـ. توفي سنة 823هـ. انظر جذوة الاقتباس ص 289، والاستقصا (ج 2ص 144)، والضوء اللامع (ج 5ص 124). والأعلام (ج 4ص 202).
(2) جرى على طريقة بعض النحاة وإن كان الأكثر أنه يقال: العشر الوسطى أو الوسط. حاشية الطبعة الأميرية.(8/104)
مولانا السلطان المظفّر القان الخليفة الإمام، ملك الملوك الأعلام، فاتح البلدان والأقطار، ممهّد الأقاليم والأمصار، جامع أشتات المحامد، ملجإ الصادر والوارد، الملك الجواد، الذي حلّت محبّته في الصدور محلّ الأرواح في الأجساد، أمير المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، أبي العبّاس ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، أبي سالم، ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، أبي الحسن ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، أبي سعيد، ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، أبي يوسف يعقوب (1) بن عبد الحق، وصل الله تعالى أسباب تأييده وعضده، وقضى باتصال عرف تجديد سعده، وأناله من جميل صنعه ما يتكفّل بتيسير أمره وبلوغ قصده.
إلى محلّ أخينا الذي نؤثر حقّ إخائه الكريم، ونثني على سلطانه السعيد ثناء الوليّ الحميم، ونشكر ما له فينا من الحبّ السليم، والودّ الثابت المقيم، السلطان الجليل، الماجد الأصيل، الأعزّ الخطير المثيل، الشهير الأمجد الأرفع، الهمام الأمنع، السّريّ الأرضى، المجاهد الأمضى، الأوحد الأسنى، المكين الأحمى، خديم الحرمين الشّريفين، حائز الفخرين المنيفين، ناصر الدّنيا والدّين، محيي العدل في العالمين، الأجدّ، الأودّ، المكين، الأخلص، الأفضل، الأكمل، أبي السّعادات فرج، ابن السلطان الجليل، الأعزّ المثيل، الخطير الأصيل، الأرفع، الأمجد، الشهير، الهمام، الأوحد، الأسمى، الأسرى، الأرضى، المجاهد، الأمضى، خديم الحرمين الشريفين، حائز الفخرين المنيفين، الأفضل، الأكمل المبرور، المقدّم المرحوم، أبي سعيد (برقوق) (2) بن أنص، وصل الله تعالى لسلطانه المؤيّد جدّا لا يعجم عوده، وعزّا لا يميل عموده،
__________
(1) تقدمت ترجمته في الصحيفة 89من هذا الجزء من صبح الأعشى. الحاشية رقم 1.
(2) تقدمت ترجمته في الصحيفة 73من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.(8/105)
ونصرا يملأ قطره بما يغصّ به حسوده، وعضدا يأخذ بزمام أمله السنيّ فيسوقه ويقوده.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله على سبوغ نعمائه، وترادف لطفه وآلائه، الذي عرّفنا من ولائكم الكريم ما سرّنا من اطراد اعتنائه، وأبهج النّفوس والأسماع من صفاء ولائه، ومواصلة صفائه، والصلاة والسّلام الأكملين على سيدنا ومولانا محمد خاتم رسله وأنبيائه، ومبلّغ رسالاته وأنبائه، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، واللّواء المعقود، فأكرم بمقامه وحوضه ولوائه، والرضا عن آله وصحبه وأوليائه، الذين هم للدّين بدور اهتدائه ونجوم اقتدائه، وصلة الدعاء لمقامكم الكريم بدوام عزّه واعتلائه، واقتبال النصر المبالغ في احتفاله واحتفائه، وحياطة أنحائه وأرجائه، وتأييد عزماته وآرائه.
فإنا كتبنا إليكم كتب الله لكم سعدا سافرا، وعزما ظافرا، من حضرتنا العلية بالمدينة البيضاء كلأها الله تعالى وحرسها، ونعم الله سبحانه لدينا واكفة السّجال، وولاؤه جلّ جلاله سابغ الأذيال، وخلافتكم التي نرعى بعين البرّ جوانبها، ونقتفي في كل منقبة كريمة سيرها الحميدة ومذاهبها وإلى هذا وصل الله سعدكم ووالى عضدكم، وكتابنا هذا يقرّر لكم من ودادنا ما شاع وذاع، ويؤكّد من إخلاصنا إليكم ما تتحدّث به السّمّار فتوعيه جميع الأسماع، وقد كان انتهى إلينا حركة عدوّ الله وعدوّ الإسلام، الباغي بالاجتراء على عباده سبحانه بالبؤس والانتقام، الآخذ فيهم بالعيث والفساد، الساعي بجهده في تهديم الحصون وتخريب البلاد، وتعرّفنا أنه كان يعلّق أمله الخائب بالوصول إلى أطراف بلادكم المصرية، وانتهاز الفرصة على حين غفلة من خلافتكم العلية، والحمد لله الذي كفى بفضله شرّه، ودفع نقمته وضرّه، وانصرف ناكصا على عقبه، خائبا من نيل أربه. ولقد كنّا حين سمعنا بسوء رأيه الذي غلبه الله عليه، وما أضمر لخلق الله من الشرّ الذي يجده في أخراه ظلّه يسعى بين يديه [عزمنا على] أن نمدّكم من عساكرنا المظفّرة بما يضيق
عنه الفضا، ونجهّز لجهتكم من أساطيلنا المنصورة ما يحمد في إمداد المناصرة ويرتضى، فالحمد لله على أن كفى المؤمنين القتال، وأذهب عنهم الأوجال، ويسّر لهم الأعمال، وهيّأ لخلافتكم السنيّة وللمسلمين هناء يتضمّن السلامة لكم ولهم على تعاقب الأعوام والسّنين.(8/106)
فإنا كتبنا إليكم كتب الله لكم سعدا سافرا، وعزما ظافرا، من حضرتنا العلية بالمدينة البيضاء كلأها الله تعالى وحرسها، ونعم الله سبحانه لدينا واكفة السّجال، وولاؤه جلّ جلاله سابغ الأذيال، وخلافتكم التي نرعى بعين البرّ جوانبها، ونقتفي في كل منقبة كريمة سيرها الحميدة ومذاهبها وإلى هذا وصل الله سعدكم ووالى عضدكم، وكتابنا هذا يقرّر لكم من ودادنا ما شاع وذاع، ويؤكّد من إخلاصنا إليكم ما تتحدّث به السّمّار فتوعيه جميع الأسماع، وقد كان انتهى إلينا حركة عدوّ الله وعدوّ الإسلام، الباغي بالاجتراء على عباده سبحانه بالبؤس والانتقام، الآخذ فيهم بالعيث والفساد، الساعي بجهده في تهديم الحصون وتخريب البلاد، وتعرّفنا أنه كان يعلّق أمله الخائب بالوصول إلى أطراف بلادكم المصرية، وانتهاز الفرصة على حين غفلة من خلافتكم العلية، والحمد لله الذي كفى بفضله شرّه، ودفع نقمته وضرّه، وانصرف ناكصا على عقبه، خائبا من نيل أربه. ولقد كنّا حين سمعنا بسوء رأيه الذي غلبه الله عليه، وما أضمر لخلق الله من الشرّ الذي يجده في أخراه ظلّه يسعى بين يديه [عزمنا على] أن نمدّكم من عساكرنا المظفّرة بما يضيق
عنه الفضا، ونجهّز لجهتكم من أساطيلنا المنصورة ما يحمد في إمداد المناصرة ويرتضى، فالحمد لله على أن كفى المؤمنين القتال، وأذهب عنهم الأوجال، ويسّر لهم الأعمال، وهيّأ لخلافتكم السنيّة وللمسلمين هناء يتضمّن السلامة لكم ولهم على تعاقب الأعوام والسّنين.
وبحسب ما لنا فيكم من الودّ الذي أسّست المصافاة بنيانه، والحبّ الذي أوضح الإخلاص برهانه، وقع تخيّرنا فيمن يتوجّه من بابنا الكريم لتفصيل مجمله، وتقرير ما لدينا فيه على أتمّ وجه الاعتقاد وأكمله، على الشيخ، الأجل، الشريف، المبارك، الأصيل، الأسنى، الحظيّ، الأعز، الحاج، المبرور، الأمين، الأحفل، الأفضل، الأكمل أبي عبد الله محمد، ابن الشيخ الأجلّ، الأعزّ، الأسنى، الأوجه، الأنوه، الأرفع، الأمجد، الآثر، الأزهى، الشريف، الأصيل، المعظّم المثيل، الأشهر، الأخطر، الأمثل، الأجمل، الأفضل، الأكمل، المرضيّ، المقدّس، المرحوم أبي عبد الله محمد بن أبي القاسم بن نفيس الحسني العراقي، وصل الله تعالى سعادته، وأحمد على حضرتكم السّنيّة وفادته، حسب ما يفي بشرح ما حمّلناه نقله، ويكمل بإيضاحه لديكم يقظته ونبله، إن شاء الله تعالى، وهو سبحانه وتعالى يديم سعادتكم، ويحفظ مجادتكم، ويسني من كل خير إرادتكم، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجملة الرابعة (في عادة الكتب الواردة عن صاحب الأندلس)
والرسم في ذلك أن يكتب «الأبواب الشريفة» ويصفها، ثم يقول:
«أبواب السلطان الفلاني» ويصفه، ويذكر ألقابه، ثم يدعو له، ثم يقول:
«سلام كريم» ويصفه، من فلان، ويذكر السلطان المكتوب عنه، ثم يقول: أما بعد حمد الله، ويأتي بخطبة في المعنى تشتمل على التحميد، والتصلية على
النبي صلّى الله عليه وسلّم، والرّضا عن الصحابة رضي الله عنهم، ثم يقول: فإنا كتبنا إليكم، ويأتي على ما يناسب المقام، ثم ينخرط في سلك المقصود إلى آخره ويختم بالدعاء.(8/107)
«سلام كريم» ويصفه، من فلان، ويذكر السلطان المكتوب عنه، ثم يقول: أما بعد حمد الله، ويأتي بخطبة في المعنى تشتمل على التحميد، والتصلية على
النبي صلّى الله عليه وسلّم، والرّضا عن الصحابة رضي الله عنهم، ثم يقول: فإنا كتبنا إليكم، ويأتي على ما يناسب المقام، ثم ينخرط في سلك المقصود إلى آخره ويختم بالدعاء.
وهذه نسخة كتاب كتب به عن أمير المسلمين السلطان أبي (1) عبد الله محمد ابن أبي الحجّاج يوسف بن نصر بن الأحمر، صاحب غرناطة من الأندلس، إلى السلطان الملك الأشرف «شعبان (2) بن حسين» ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون، إنشاء الوزير أبي عبد الله بن (3) الخطيب، صاحب ديوان إنشائه، يشير فيه إلى حادثة الفرنج بالإسكندرية، الواقعة في سنة سبع وستين وسبعمائة، إلّا أنه وهم في لقبه الملوكيّ فلقبه المنصور. وهي:
الأبواب الشريفة التي تعنو لعزّة قدرها الأبواب، وتعتزي (4) إلى نسب عدلها الحكمة والصّواب، وتناديها الأقطار البعيدة مفتخرة بولائها، واصلة السبب
__________
(1) هو الغني بالله أبو عبد الله محمد ابن السلطان أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر، ثامن سلاطين بني نصر بالأندلس. ولي سنة 755هـ. بعد وفاة أبيه، فجدّد رسوم الوزارة لوزير أبيه، ابن الخطيب. كان حازما داهية، استمر في الملك إلى أن توفي سنة 793هـ. انظر الإحاطة (ج 2ص 592)، ونفح الطيب (ج 1ص 452) و (ج 5ص 8480)، واللمحة البدرية ص 100، وأزهار الرياض (ج 1ص 37، 58، 204194، 224) والأعلام (ج 7ص 154153).
(2) هو أبو المعالي، الأشرف الثاني، ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون، من ملوك الدولة القلاوونية بمصر والشام. ولي السلطنة سنة 764هـ، وقتل خنقا سنة 778هـ. انظر الدرر الكامنة (ج 2 ص 190)، والبداية والنهاية (ج 14ص 324302) والأعلام (ج 3ص 164163).
(3) هو محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني اللوشي الأصل، الغرناطي المولد والمنشأ، الشهير بلسان الدين ابن الخطيب، أديب، مؤرخ، شاعر مشهور. كان وزير سلطان غرناطة أبي الحجاج وابنه الغني بالله محمد من بعده. لقّب بذي الوزارتين: القلم والسيف. وكان يقال له: «ذو العمرين» لاشتغاله بالتصنيف في ليله وبتدبير المملكة في نهاره، وله مؤلفات تزيد على الستين. مات قتلا، وهو في السجن، في سنة 776هـ. انظر نفح الطيب (ج 6ص 22013)، والدرر الكامنة (ج 3 ص 469)، ونثير فرائد الجمان ص 245242، والأعلام (ج 6ص 235).
(4) في ريحانة الكتّاب (ج 1ص 295): «ويعتزى».(8/108)
بعلائها، فيصدر بما يشفي الجوى منها الجواب. فإذا حسن مناب عن أئمة الهدى، وسبّاق المدى، كان منها عن عمومة النّبوّة النّوّاب، وإذا ضفت على العفاة بغيرها أثواب الصّلات (1)، ضفت منها على الكعبة المقدّسة الأثواب أبواب السلطان الكبير، الجليل الشهير، الطاهر الظاهر، الأوحد الأسعد، الأصعد الأمجد، الأعلى العادل، العالم (2) العامل الكامل الفاضل، الكافل، سلطان الإسلام والمسلمين، رافع ظلال العدل على العالمين، جمال الإسلام، علم الأعلام، فخر الليالي والأيّام، ملك البرّين والبحرين، إمام (3) الحرمين، مؤمّل الأمصار والأقطار، وعاصب تاج الفخار، هازم الفرنج والتّرك والتتار، الملك المنصور أبي الفتوح شعبان، ابن الأمير الرفيع المجادة، الكريم البنوّة والولادة.
الطاهر الظاهر، الكبير الشّهير، المعظّم الممجّد الأسمى، الموقّر الأعلى، فخر الملّة، سيف الأمّة، تاج الإمارة، عزّ الإسلام، جمال الأيّام (4)، قمر الميادين، أسد أجمة لدين، سمام الطّغاة والمعتدين، المقدّس المظفّر، الأمير أبي (5) عليّ حسين، ابن السلطان الكبير، الشهير، ملك الإسلام (6) والمسلمين، والد السلاطين، [سيف خلافة الله في العالمين، وليّ أمير المؤمنين، وظهير الدين] (7)
سلطان الحجّ والجهاد، وكاسي الحرم الأمين، قامع المعتدين، قاهر الخوارج والمتمرّدين، ناصر السنّة، محيي الملّة، ملك البرّين والبحرين، مقيم رسوم الحرمين الشريفين، العادل (8)، العالم، العامل، الطاهر الظاهر، الأسعد،
__________
(1) في المصدر السابق: «الصلاة».
(2) في المصدر السابق: «العامل العالم الفاضل الكامل، سلطان العدل، وحيد الفضل جمال الإسلام، علم الأعلام، فخر هذه الأيام».
(3) عبارة «إمام الحرمين» ساقطة في ريحانة الكتّاب.
(4) في ريحانة الكتاب (ج 1ص 296): «الأنام».
(5) في المصدر السابق: «الأمير أبي حسن».
(6) في المصدر السابق: «ملك الإسلام وأبو السلاطين سيف».
(7) الزيادة من المصدر السابق.
(8) في المصدر السابق: «الشريفين، العامل العالم».(8/109)
الأصعد الأوحد، الأعلى المنصور، المؤيّد المعان، المرفّع المعظّم، المبجّل المؤمّل، المجاهد المرابط، الغازي، أبي (1) عبد الله محمد بن قلاوون، الصالحيّ أبقاه الله، وفلق الصباح (2) يشهد بكماله، وخدمة الحرمين الشريفين، طراز مذهب على حلّة أعماله، ومسوّرات الإسلام، آمنة على طول الأيام، من إهماله، ولا زال ركنا للدّين الحنيف، تتزاحم على مستلمه الشريف، شفاه أمّاله.
سلام كريم، برّ عميم، كما استودعت الرياض أسرارها صدر النسيم، وأرسلت مطالع الفجر أنهارها، من بحر الصبّاح الوسيم، يسري من الطّيب، والحمد المطيل (3) المطيب، في الصّوان الكريم، ويقف موقف (4) الأدب والفهامة، بما استحفظ من الأمانة إلى محل (5) الإمامة، وقوف الحفيظ العليم، يعتمد مشارع تلك الأبواب الشارعة إلى الفضل العميم، المقابلة لذمام وسائل الإسلام بالصّدر المشروح، والبرّ الممنوح، والقلب السليم. من معظّم سلطانه، ومجلّ شانه، المفتخر بالانتظام في سلك خلصانه (6)، أمير المسلمين بالأندلس، عبد الله الغني (7) بالله، محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن نصر، بلّغه الله من رضاه أقصى سؤله، وأعانه على جهاد عدوّ الله وعدوّ رسوله.
أما بعد حمد الله جاعل قلادة الإسلام، على الدوام، آمنة من الانخرام،
__________
(1) في المصدر السابق: «أبو عبد الله».
(2) في المصدر السابق: «الإصباح».
(3) في المصدر السابق: «المستطيل».
(4) في المصدر السابق: «مواقف».
(5) في المصدر السابق: «مجال الإمامة».
(6) في المصدر السابق: «خلصائه».
(7) في الطبعة الأميرية: «الغالب بالله»، وهو خطأ، والصواب: الغني بالله لأن الغالب بالله هو لقب أبي عبد الله محمد بن يوسف بن محمد، مؤسس الدولة النصرية بالأندلس، والمتوفى سنة 671هـ، وليس لقب المتحدّث عنه محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن نصر، الملقّب بالغني بالله. وفي ريحانة الكتاب ص 297: «الغني بالله» أيضا.(8/110)
والانتثار (1)، مفصّلة النّظام، بخرز (2) المآثر العظام، والآثار، معرّف أهلها، في حزن البسيطة وسهلها عوارف الصّنع المثار، وإقالة العثار، القويّ العزيز، الذي لا يغالب قدره بالاحتشاد والاستكثار، ولا يبدّل غيبه المحجوب، بعد ما عيّن حكمه الوجوب (3)، في خزائن الاستئثار (4)، حتّى تظهر خبيئة عنايته بأوليائه، المعترفين بآلائه، بادية للأبصار، فيما قرب وبعد من الأعصار، ورحمته عند الاستغاثة به والانتصار، في مختلف الأقطار والأمصار، الوليّ الذي لا تكدّر هبات فضله شروط الاعتصار (5)، ولا تشين خطب حمده ضرائر الاقتصار والاختصار.
والصلاة والسّلام (6) على سيدنا محمد رسوله، نخبة الأكوان، وسرّ الدّهور والأزمان، وفائدة الأدوار، نور الله المتميّز باختصاصه، واستصفائه واستخلاصه، قبل خلق الظّلمات (7) والأنوار، ورحمته الوارفة الشاملة، الهامية الهاملة، على الهضاب والوهاد والنّجاد والأغوار، أقرب عوالم الشّهادة والخلق، إلى حضرة الحقّ، على تعدّد الرّتب وتفاضل الأطوار، منقذ الناس من البوار، ومبوّئهم من جوار الله خير الجوار، نبيّ الرحمة والجهاد والغوار، المنصور على الأحزاب عند ما استداروا بمثوى نبوّته على الأطم والأسوار دور السّوار، الواعد عن ربه بظهور دينه الحقّ على الأديان فمهما أوقدوا نار (8) الحرب تكفّل الله لهم بإطفاء النار وإخماد الأوار.
والرّضا عن آله وأصحابه حماة الذّمار، ومقتحمي الغمار، وباذلي كرائم (9)
__________
(1) في ريحانة الكتاب: «والانتشار».
(2) في ريحانة الكتاب: «بحرز المآثر».
(3) في ريحانة الكتاب: «حكمه للوجوب».
(4) في ريحانة الكتاب: «الاستبشار».
(5) في ريحانة الكتاب: «الاعتصام، ولا يشين».
(6) في ريحانة الكتاب: «والصلاة على سيدنا ومولانا محمد».
(7) في ريحانة الكتاب: «الظلمة».
(8) في المصدر السابق ص 298: «أوقدوا نارا».
(9) في المصدر السابق ص 298: «كرام الأموال».(8/111)
الأموال من دونه ونفائس الأعمار، القائمين في سماء ملّته للاهتداء بسننهم، والاقتداء بسننهم، مقام النجوم الهادية والأقمار، ما صقلت مداوس (1) النّسيم سيوف الأنهار، وخجل الورد من تبسّم البهار، وغازلت عيون زهر المجرّة عيون الأزهار، وطرد أدهم الليل أشهب النهار.
والدّعاء لتلك الأبواب، المتعدّدة الحجّاب، المعوّدة باجتلاء غرر الفتوح، والمطالع المشيدة المصانع على العزّ الممنوح، والأواوين، المؤيّدة الدّواوين، بالملائكة والرّوح، بإعلاء المظاهر والصّروح، وإنارة الله تعالى بأهلّة تلك السّروج ساحات تلك السّروح (2)، ولا زالت أقلام بشائرها تأتي على سورة الفتح بأكمل الشّروح.
فإنا كتبناه لمثابتكم السلطانية دار العزّ (3) الأحمى، والملك الأشرف الأسمى، والصّيت البعيد المرمى، كتب الله لها من عنايته وقد فعل أوفر مقاسم النّعمى، وجعل غيث نوالها الأهمى، وحظّ جلالها من الله الأنمى، ودامت كواكب سعودها تمزّق جلابيب الظّلما، وأخبار بأسها وجودها، وسعادة وجودها، تهديدها على البعد ركائب الدّأما، وترفرف برياح ارتياحها أجنحة بنات الما. من منزلنا المحبور، بسعادة سلطانكم المنصور، وخزي عدوّه المدحور، بحمراء غرناطة، دار ملك الجهاد بجزيرة ثغر (4) الأندلس، والى الله عنها الدّفاع، وأنار بمشكاة نوره، الذي وعد بإتمامه الأعلام منها والأيفاع، ووصل لها بشرف مخاطبتكم الارتفاع والانتفاع، حتّى تشفع بتهانيكم الأوتار وتوتر (5) الأشفاع، وآلاء الله لدينا، بنعمة دين الإسلام علينا، قد أخجلت اللسان الشّكور، وإن استنفدت الرّواح والبكور، والثّقة بالله في هذا الثغر الغريب قد كثّرت العدد المنزور، والحقّ
__________
(1) في المصدر السابق: «مدارس».
(2) في المصدر السابق: «السروج» بالجيم المعجمة.
(3) في المصدر السابق: «ذات العزّ».
(4) في المصدر السابق: «بجزيرة الأندلس».
(5) في المصدر السابق: «الأوتار، ونور الإشفاع».(8/112)
الصّريح (1) قد كافح الزّور، والتّوطين على الشهادة قد شرح الصّدور، واقتطع في الجنة المنازل والدّور، والمعرفة بمقام تلك الأبواب الشريفة عقيدة (2) لا تبدّل وأدواح علائها حمائم الحمد بها تتهدّل، ومحافل ثنائها تتراكم في سمائها الألوّة (3) والمندل، [والحال ما علمتم: بحر زاخر الأمواج، وعدوّ وافر الأفواج] (4) وحرم لولا اتّقاء الله مقتحم السّياج (5)، وجياد ضمّرتها مصابرة الهياج، وداء على الأيّام متوقّع الاهتياج، وعدد إلى الإصراخ (6) والإنجاد عظيم الاحتياج فالنفوس إلى الله تجهّز (7) وتسلّم، والصّبيان في المكاتب تدرّب على مواقف الشهادة وتعلّم، والألسنة بغير شعار الإسلام لا تنبس غالبا ولا تتكلّم، إلّا أنّ عادة الخبير اللّطيف، تخفيف (8) الذّعر المطيف، ونصر النّزر الضعيف، على عدد التضعيف، والحال تزجى بين الحرب والسّلم، والمكالمة والكلم، وتأميل الجبر، وارتقاب عاقبة الصّبر، على حماة الدّبر.
وإلى هذا فإننا اتّصل بنا ما رامت الرّوم (9) من المكيدة التي كان دفاع الله من دونها سدّا، والملائكة جندا، والعصمة سورا، والرّوح الأمين مددا منصورا، وأنها استنفدت الوسع في احتشادها، حتّى ضاقت اللّجج عن أعوادها، وبلغت المجهود في استنفادها (10)، حتّى غصّ كافر البحر بكفّارها، يصيح بهم التأليب،
__________
(1) في المصدر السابق ص 299: «والحقّ الصالح».
(2) في المصدر السابق ص 299: «عقائد».
(3) الألوّة: العود يتبخّر به، فارسي معرّب، والجمع ألاوية. والمندل: العود أو أجوده، والجمع منادل.
(4) الزيادة من ريحانة الكتاب.
(5) عبارة: «وحرم السياج» ساقطة في المصدر السابق.
(6) في المصدر السابق: «الإمداد والإصراخ».
(7) في المصدر السابق: «تجهر وتسلّم».
(8) في المصدر السابق: «تخفيض».
(9) في المصدر السابق: «المروم».
(10) في المصدر السابق: «في استنفارها».(8/113)
ويذمّرهم الصليب، وقد (1) سوّل لهم الشيطان كياد ثغر الإسكندرية شجا صدورهم، ومرمى آمال غرورهم (2)، ومحوّم قديمهم، ومتعلّل غريمهم، ليهتموا ثغر (3) الإسلام بصدمتها، ويقودوا جنائب (4) الساحل في رمّتها، ويرفعوا عن دينهم المعرّة، ويتلقّفوا في القدس كرة الكرّة، ويقلّصوا ما امتدّ من ظلال الإسلام، ويشيموا (5) سيوف التغلّب على الشام، ويحولوا بين المسلمين وبين محطّ أوزارهم، وحجّهم ومزارهم، وبيت ربّهم، الذي يقصدونه من كل فجّ عميق، ويركبون إليه نهج كلّ طريق، وقبر نبيّهم الذي يطفئون بزيارته من الشّوق كلّ حريق، ويكحلون الجفون بمشاهدة آثاره عن بكاء وشهيق، وشوق بذلك الحبيب خليق، ويقطعوا حبل المسلمين حتّى (6) لا يتأتّى بلوغ فريق ولا غرض تشريق، والله من ورائهم محيط، وبدمائهم مشيط، وبعباده بصير، ولدينه الحقّ وليّ ونصير، {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} * (7) فما هو إلّا أن صمأ (8) جرادهم، وخلص إليها مرادهم، وفاض عليها بحرهم، وعظم من المحاولة أمرهم، حتّى اشترك الشّرك بعض أسوارها، ونال النهب مستطرف ديارها، وظنّت أنها الوهية التي لا ترفع، والمصيبة التي غلّتها لا تنقع، واشتعل (9) الباس، وذعر الناس، وأرى الشّدّة من تدارك (10) بالفرج، وأعاد إلى السّعة من الحرج، وأنشأ ريح النّصر عاطرة الأرج، ونصر حزب الإسلام من
__________
(1) «وقد» ساقطة في المصدر السابق.
(2) في المصدر السابق: «غدورهم».
(3) في المصدر السابق: «ثغور».
(4) في المصدر السابق: «جناب السواحل».
(5) شام السيف: استلّه.
(6) في ريحانة الكتاب ص 300: «بحيث لا يتأتّى».
(7) سورة التوبة 9، الآية 33.
(8) في ريحانة الكتاب: «طما».
(9) في ريحانة الكتاب: «واشتمل».
(10) في ريحانة الكتاب: «يتدارك».(8/114)
لا غالب لمن ينصره، وحصر العدوّ (1) من كان العدوّ يحصره، وظهر الحقّ على الباطل، والحالي بزينة الله على العاطل، فخرج العدوّ الخاسر عما حازه والسّيوف ترهقه حيث تلفيه، والسّهام تثبته وتنفيه، وغرماء كرّة الإسلام تستقضي (2) منه دينها وتستوفيه، والخزي قد جلّل سباله الصّهب، وحنّاءالدّماء قد خضبت مشيخته الشّهب، والغلب قد أخضع رقابه الغلب، فكم من غريق أردته دروعه، لمّا حشي بالرّوع روعه، وطعين نظمت بالسّمهريّ (3) ضلوعه، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين، وأحقّ الله الحقّ بكلماته وقطع دابر الكافرين، و {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} (4) فأيّ رحمة منشورة ضفت على الإسلام ظلالها، وخطّة نعمة اتّسع نطاقها ورحب مجالها، ومجلى صنيعة راق عيون المؤمنين جمالها، فاهتزّت (5) بها الأرض وربت، وبشكر الله جلّ جلاله أعربت، واستبشرت النّفوس، وذهب البوس، وضفا بمنّة الله اللّبوس، وظهرت عناية الله بمقامكم، وإقالة عثرة الإسلام في أيّامكم، فما كان الله سبحانه ليضيع لكم خدمة الحرمين، وإنّها للوسيلة الكبرى، والذّريعة إلى سعادة الدنيا والأخرى، وهي عهدة الله التي يصونها من كل اهتضام، وقلادته التي ما كان (6)
يتركها بغير نظام. وكان من لطائف هذا الفتح الذي أجزل البشرى، وأوسع أعلام الإسلام نشرا، وروده بعد أن شفيت العلّة، ونصرت الملّة، وبعد أن جفا الدهر وتجافى، وعادى ثمّ صافى، وهجر ووافى، وأمرض ثم عافى، فلو ورد مقدّمه قبل تاليه، ونقده متأخّرا (7) عن كاليه، أو كانت أواخره بعيدا ما بينها وبين أواليه،
__________
(1) في ريحانة الكتاب: «وحصر العدوّ بخصره من».
(2) في المصدر السابق ص 301: «تقتضي».
(3) السمهريّ: الرمح الصلب والمنسوب إلى سمهر زوج ردينة، اللذين كانا يثقّفان الرماح، أو إلى قرية في الحبشة. راجع الرديني في محيط المحيط، مادة (ردن).
(4) سورة البقرة 2، الآية 249.
(5) في ريحانة الكتاب: «واهتزّت».
(6) كلمة «كان» ساقطة في المصدر السابق.
(7) في المصدر السابق: «متأخّر».(8/115)
لأوحشت (1) الظّنون وساءت، وبلغت الهموم من النّفوس ما شاءت، فإنّ الإسلام كالجسد يتداعى كلّه لتألّم بعضه، ويتساهم إخوانه في بسطه وقبضه، وسماؤه مرتبطة بأرضه، ونفله متعلّق بفرضه، فالحمد لله الذي خفّف الأثقال (2) وألهم حال الضّرّ الانتقال، وسوّغ في الشّكر المقال، وزار وأقال، وجمع بين إيقاظ القلوب، وإنالة المطلوب، وإن وجد العدوّ طعم الإسلام مرّا فما (3) ذاقه، وعوده صلبا فما أطاقه، ورفع عن طريق بيت الله ما عاقه، وقاد إليكم في بيوتكم فضل الجهاد وساقه [وردّ المكر السّيّيء على العدوّ وأحاقه] (4) فما كانت هذه المكيدة إلا داهية للكفر طارقة، ونكثة لعصب (5) التثليث عارقة، ومعجزة من آثار النبيّ الشريف لهذا الدين المنيف خارقة، واستأصلت (6) للعدوّ المال، وقطعت الآمال، وأوهنت اليمين والشّمال فبادرنا عند تعرّف الخبر، المختال من أثواب المسرّة في أبهى الحبر، المهدي أعظم العبر، إلى تهنئتكم تطير بنا (7) أجنحة الارتياح، مبارية للرّياح، وتستفزّنا دواعي الأفراح، بحسب الودّ الصّراح، وكيف لا يسرّ اليسار بيمينه [والوجه بجبينه، والمسلم بدينه، وخاطبناكم مهنئين ولولا العوائق] (8)
التي لا تبرح، والموانع التي وضحت حتّى لا تشرح، ومكايدة (9) هذا العدوّ الذي يأسو به الدّهر ويجرح، لم نجتز بإعلام القلم، عن إعمال القدم، حتّى نتشرف [بالورود على تلك المثابة الشريفة، ونمتاز بزيارة الأبواب المنيفة، فيقضى] (10)
الفرض تحت رعيها، وبركة سعيها، لكن المرء جنيب أمله، ونيّة المؤمن أبلغ من
__________
(1) في المصدر السابق: «لأوجست».
(2) في المصدر السابق: «الأثقال، وزاد وأقال، وسوّغ في الشكر المقال، وجمع بين القلوب».
(3) في المصدر السابق: «لما».
(4) الزيادة من المصدر السابق ص 302.
(5) في المصدر السابق: «لعضب التثليث غارقة».
(6) في المصدر السابق: «استأصلت العدوّ والمال، وقطعت للعدوّ الآمال».
(7) في المصدر السابق: «بها».
(8) الزيادة من المصدر السابق.
(9) في المصدر السابق: «ومكابدة هذا العدوّ الذي يأسو الدهر به».
(10) الزيادة من ريحانة الكتاب.(8/116)
عمله. فهنيئا بما خوّلكم (1) الله من ظفر شهدت برضى الله مراسمه، وافترّت عن ثغور العناية الربّانيّة مباسمه، وتوفّرت لديكم مواهبه ومقاسمه، ويهنّيء البيت المقدّس مكان فضل الله ومنّه، وسلامة مجنّه، ويهنّيء الإسلام عصمة ثغره المؤشر، وطهارة كتابه المنشر، وجمال عنوانه، وقفل صوانه (2)، وباب إيوانه، مرفأ (3) الفسطاط، ومركز لواء الرّباط، ومحطّ رحال (4) الاغتباط، ومتخيّر الإسكندر عند البناء والاختطاط. ومما زادنا بجحا (5) بهذا الفتح، وسرورا زائدا بهذا المنح، ما تحقّقنا أنه يثير من شفقة المسلمين لهذا القطر الذي لا يزال يطرقه ما طرق الإسكندرية على مرّ الأيام، وتجلب عليه برّا وبحرا عبدة الأصنام، بحيث البرّ موصول، والكفر بكثرة العدد يصول، ونيران الجوار [مترائية للعيان، والفراسخ القليلة] (6) متوسّطة بين مختلف النّحل والأديان، والعدد لا ينسب، والصّريح إلّا من عند الله لا يحسب، فتنجدنا بالدعاء ألسنة فضلائه، وتسهمنا خواطر صالحيه وأوليائه، والله لا يقطع عن الجميع عوائد آلائه، ويعرّفنا بركة أنبيائه (7)، وينصرنا في أرضه بملائكة سمائه.
وقد كان اتّصل بنا في هذه الأيّام الفارطة الذّخر الذي ملأ اليد استكثارا، والخلد (8) اعتدادا واستظهارا، والهمم فخارا، وأضاء القطر أنوارا، جوابكم الكريم يشمّ (9) من نفحاته شذا الإذخر (10) والجليل، وتلتمس من خلال حافاته
__________
(1) في المصدر السابق: «منحكم».
(2) في المصدر السابق: «صنوانه».
(3) في المصدر السابق: «بمرفإ».
(4) في المصدر السابق: «ومحل رحال الاغتباط، ومتخيّر الإسكندرية».
(5) بجحا: فرحا يقال: بجح بالشيء يبجح بجحا: فرح به.
(6) الزيادة من ريحانة الكتاب.
(7) في ريحانة الكتاب: «بركة خاتمة أنبيائه».
(8) في ريحانة الكتاب: «والجلد استعدادا».
(9) في ريحانة الكتاب: «يشيم».
(10) في ريحانة الكتاب: «الأخضر». والإذخر نبات طيّب الرائحة، واحدتها إذخرة، وقيل: حشيشة طيبة الرائحة. لسان العرب (ذخر).(8/117)
بركات الخليل، وتقرى الوجوه به آثار المعاهد، وتلتمح من ثنايا وفادته بوارق الفوائد، فأكرم به من وافد مخطوب، وزائر مرقوب، صدعنا به في حفل الجهاد انتحاء وافتخارا، ثم صنّاه في كرائم الخزائن اقتناء للخلف وادّخارا، وجعلنا قراه شكرا معطارا، وثناء يبقى في الخافقين مطارا، ودعاء يعلي الله به لمقامكم السنيّ في أوليائه مقدارا، ويجهّز به لملككم كما فعل أنصارا، ويثيبكم الجنة التي لا يرضى السعداء بغيرها قرارا، والله تعالى يجعل لأفلاك الهناء على مخاطبة مقامكم الرفيع العلاء مدارا، ويقيم الشكر ألزم الوظائف لحقّكم ابتدارا، والثناء أولى ما تحلّى به مجدكم شعارا، ويبقيكم للإسلام ركنا شديدا، وظلّا مديدا، وسماء مدرارا، ما استأنفت البدور إبدارا، وعاقب الليل نهارا، والسّلام.
المقصد الثالث (في رسم المكاتبات الواردة عن ملوك السّودان، وفيه ثلاثة أطراف)
الطرف الأوّل (في المكاتبات إلى (1) صاحب مالّي)
وهو المستولي على التّكرور (2) وغانة وغيرهما، وهي أعظم ممالك السّودان المسلمين مملكة، ولم أقف لأحد منهم على صورة مكاتبة إلى الأبواب السلطانية، إلّا أنّ المقرّ الشهابيّ بن فضل الله في كتابه «مسالك الأبصار» عند الكلام على هذه المملكة تعرض لذكر سلطانها في زمان الملك الناصر «محمد بن قلاوون» وهو منسى موسى، وذكر أنه ورد منه كتاب يمسك لنفسه فيه ناموسا ولم يورد نسخته.
__________
(1) كذا في الأصل ولعله «المكاتبات الواردة من صاحب مالي» كما يقتضيه التقسيم، فتنبه. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) تقدم الحديث عنها في الصحيفة 6من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 3.(8/118)
الطرف الثاني (في المكاتبات الصادرة عن صاحب (1) البرنو)
ورسم مكاتبته أن يكتب في ورق مربع بخطّ كخط المغاربة فإن فضل من المكاتبة شيء كتب بظاهرها، وتفتتح المكاتبة بخطبة مفتتحة بالحمد، ثم يتخلّص إلى المقصد ببعديّة، ويأتي على المقصد إلى آخره، ورأيته قد ختم مكاتبته إلى الأبواب السلطانية بقوله: والسّلام على من اتّبع الهدى. وكأنّ ذلك جهل من الكاتب بمقاصد صناعة الإنشاء، إذ لا يهتدون إلى حقائقها.
وهذه نسخة (2) كتاب ورد على الملك الظاهر «أبي (3) سعيد برقوق» ووصل في شهور سنة أربع وتسعين وسبعمائة، صحبة ابن عمه، مع هديّة بعث بها إلى السلطان بسبب ما يذكر فيه من أمر عرب جذام المجاورة لهم، وهي في ورق مربّع، السطر إلى جانب السّطر، بخطّ مغربيّ، وليس له هامش في أعلاه ولا جانبه، وتتمّة الكتاب في ظهره من ذيل الكتاب وهو:
{بسم الله الرحمن الرحيم} *، صلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما.
الحمد لله الذي جعل الخطّ تراسلا بين الأباعد، وترجمانا بين الأقارب، ومصافحة بين الأحباب، ومؤنسا بين العلماء، وموحشا بين الجهّال، ولولا ذلك لبطلت الكلمات، وفسدت الحاجات. وصلوات الله على نبينا المصطفى، ورسولنا المرتضى، الذي أغلق الله به باب النبوّة وختم، وجعله آخر المرسلين بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، ما ناحت الورق (4)، وما عاقب
__________
(1) انظر الحاشية رقم 1ص 6من هذا الجزء من صبح الأعشى.
(2) ورد خبر هذا الكتاب في قلائد الجمان ص 57، باختلاف بسيط عمّا هنا.
(3) تقدّمت ترجمته في الصحيفة 63من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية 1.
(4) الورق: الحمام، واحدتها ورقاء.(8/119)
الشّروق الأصيل. ثم بعد ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ، رضي الله عنهم أجمعين.
من المتوكّل على الله تعالى، الملك، الأجل، سيف الإسلام، وربيع الأيتام، الملك المقدام، القائم بأمر الرحمن، المستنصر بالله المنصور في كلّ حين وأوان، ودهر وزمان، الملك، العادل، الزاهد، التقيّ، النقيّ، الأنجد، الأمجد، الغشمشم (1)، فخر الدين، زين الإسلام، قطب الجلالة، سلالة الكرماء، كهف الصّدور، مصباح الظلام، أبي عمر وعثمان الملك، ابن إدريس الحاج أمير المؤمنين المرحوم، كرم الله ضريحه، وأدام ذريّة هذا بملكه هذا اللفظ وارد على [لسان] كاتبنا لآلنا ولا فخر إلى ملك المصر الجليل، أرض الله المباركة أمّ الدنيا.
سلام عليكم أعطر من المسك الأذفر (2)، وأعذب من ماء الغمام واليمّ، زاد الله ملككم وسلطانكم، والسّلام على جلسائكم وفقهائكم وعلمائكم، الذين يدرسون القرآن والعلوم، وجماعتكم، وأهل طاعتكم، أجمعين.
وبعد ذاك، فإنا قد أرسلنا إليكم رسولنا، وهو ابن عمّي، اسمه إدريس بن محمد من أجل الجائحة (3) الّتي وجدناها، وملوكنا، فإنّ الأعراب [الذين] يسمّون جذاما وغيرهم قد سبوا أحرارنا، من النساء والصّبيان، وضعفاء الرجال، وقرابتنا، وغيرهم من المسلمين. ومنهم من يشركون بالله، يمارقون للدين، فغاروا على المسلمين فقتلوهم قتلا شديدا لفتنة وقعت بيننا وبين أعدائنا، فبسبب تلك الفتنة قد قتلوا ملكنا، عمرو بن إدريس الشهيد، وهو أخونا ابن أبينا إدريس الحاج بن
__________
(1) الغشمشم: الجريء الماضي. لسان العرب (غشم).
(2) أي المسك الذي ظهرت رائحته واشتدّت طيبة.
(3) الجائحة: المصيبة تحلّ بالرجل في ماله فتجتاحه كلّه قال ابن شميل: أصابتهم جائحة أي سنة شديدة اجتاحت أموالهم. لسان العرب (جوح).(8/120)
إبراهيم الحاج، ونحن بنو سيف بن ذي يزن، و [الد] قبيلتنا، العربيّ القرشيّ، كذا ضبطناه عن شيوخنا، وهؤلاء الأعراب قد أفسدوا أرضنا كلّها، في بلد برنو كافّة حتّى الآن، وسبوا أحرارنا وقرابتنا من المسلمين، ويبيعونهم لجلّاب مصر والشام وغيرهم، ويختدمون ببعضهم، فإنّ حكم مصر قد جعله الله في أيديكم من البحر إلى أسوان، فإنهم قد اتخذوا متجرا، فتبعثوا الرسل إلى جميع أرضكم، وأمرائكم، ووزرائكم، وقضاتكم، وحكّامكم، وعلمائكم، وصواحب أسواقكم، ينظرون ويبحثون ويكشفون، فإذا وجدوهم فلينزعوهم من أيديهم، وليبتلوهم، فإن قالوا نحن أحرار ونحن مسلمون فصدّقوهم ولا تكذّبوهم، فإذا تبيّن ذلك لكم فأطلقوهم، وردّوهم إلى حرّيتهم وإسلامهم، فإن بعض الأعراب يفسدون في أرضنا ولا يصلحون، فإنهم الجاهلون كتاب الله وسنة رسولنا، فإنهم يزيّنون الباطل، فاتقوا الله واخشوه ولا تخذلوهم يسترقّوا ويباعوا، قال الله تعالى {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (1) وقال الله تعالى لنبيه عليه السّلام {فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} (2) وقال الله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} (3) وكان عليه السّلام يقول: «السلطان ظلّ الله في الأرض يأوي إليه كلّ مظلوم». وقال: المؤمنون كالبنيان يشدّ بعضهم بعضا إلى يوم القيامة».
وقال: «المؤمن أخو المؤمن لا يظلمه ولا يسلمه» إلى آخره. وفي الحكمة: ومن الفرائض الأمر بالمعروف على كلّ من بسطت يده في الأرض (أراد به السلاطين) وعلى من تصل يده إلى ذلك (أراد بذلك القضاة والحكّام والأمراء) فإن لم يقدر فبلسانه، (أراد بذلك الفقهاء والعلماء) وإن لم يقدر فبقلبه، (أراد بذلك عامّة المسلمين) أطال الله بقاءكم في أرضكم. فازجروا الأعراب المفسدين عن
__________
(1) سورة التوبة 9، الآية 71.
(2) سورة المائدة 5، الآية 48.
(3) سورة البقرة 2، الآية 251.(8/121)
دعرهم، قال الله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} (1) وقال عليه السّلام: «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته».
وقال في الحكمة: لولا السلطان لأكل بعضهم بعضا. وقال تعالى لنبيه داود عليه السّلام {يا داود، إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} (2) والسّلام على من اتبع الهدى ولم يؤرّخ.
الطرف الثالث (في المكاتبات الصادرة عن ملك «الكانم»
(3) ولم أقف له على مكاتبة إلّا أنه يشبه أن تكون المكاتبة عنه نظير المكاتبة عن صاحب «البرنو» فإنه على قرب من مملكته والله أعلم)
المقصد الرابع (في الكتب الواردة من الجانب الشّماليّ، وهي بلاد الروم)
قد تقدّم ذكر المكاتبة إلى أمرائها، وأنّ كبيرهم الذي صار أمرهم إليه وانقادوا إلى طاعته الآن هو ابن عثمان صاحب برسا (4)
__________
(1) سورة العنكبوت 29، الآية 69.
(2) سورة ص 38، الآية 26.
(3) الكانم من بلاد البربر بأقصى المغرب. انظر الصحيفة 7من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 3.
(4) لم يذكر في الأصل نموذجا من المكاتبة ولا ترك لها بياضا كالعادة. حاشية الطبعة الأميرية. وبرسا ذكرها المقّري في نفح الطيب (ج 2ص 618) بضم الراء وتشديد السين وقال: هي من بلاد الروم.(8/122)
النوع الثاني (من المكاتبات الواردة إلى هذه المملكة الكتب الواردة عن ملوك الكفّار، وهي على أربعة أضرب)
الضرب الأوّل
(الكتب الواردة عن ملوك الكرج) (1)
الضرب الثاني (الكتب الواردة عن ملوك الحبشة)
والعادة فيها أن ترد في قطع (2) باللسان (3) ولم أظفر بصورة مكاتبة في هذا المعنى إلّا مكاتبة واحدة وردت على الملك الظاهر بيبرس، ضمن كتاب إلى صاحب اليمن، وصاحب اليمن أرسله إلى هنا فيما وقفت عليه في بعض المصنّفات وهو:
أقل المماليك يقبّل الأرض، وينهي بين يدي السلطان الملك الظاهر، خلّد الله ملكه، أنّ رسولا وصل إليّ من والي قوص (4)، بسبب الراهب الذي جاءنا، فنحن ما جاءنا مطران مولانا السلطان ونحن عبيده، فيرسم مولانا السلطان للبطريرك [أن] يجهّز لنا مطرانا يكون رجلا جيّدا عالما، لا يجني ذهبا ولا فضّة، ويرسله إلى مدينة «عوان». وأقلّ المماليك يسيّر إلى نوّاب مولانا الملك المظفّر، صاحب اليمن ما يلزمه، وهو يسيّره إلى نوّاب مولانا السلطان، وما كان
__________
(1) لم يذكر القلقشندي لها نموذجا ولم يتكلم على رسمها كغيرها. حاشية الطبعة الأميرية. والكرج بالضم ثم السكون: جيل من الناس نصارى، من بني إيران بن أشوذ بن سام، وإلى إيران هذا تنسب مملكة إيران التي كان بها ملوك الفرس. وكان الكرج يسكنون في جبال القبق وبلد السرير فقويت شوكتهم حتى ملكوا مدينة تفليس، ولهم ولاية تنسب إليهم، وملك ولغة. انظر معجم البلدان (ج 4ص 446) وقلائد الجمان ص 31.
(2) بياض في الأصل. حاشية الطبعة الأميرية.
(3) بياض في الأصل. حاشية الطبعة الأميرية.
(4) قوص: بالضم ثم السكون: مدينة كبيرة عظيمة، بينها وبين الفسطاط اثنا عشر يوما، وهي شرقي النيل بينها وبين بحر اليمن خمسة أيام أو أربعة. أهلها أرباب ثروة واسعة، وهي محطّ التجار القادمين من عدن. معجم البلدان (ج 4ص 413).(8/123)
سبب تأخير الرّسل عن الحضور إلى [ما] بين يدي مولانا السلطان، إلّا أنني كنت في سكار (؟) والملك داود قد توفّي، وقد ملّك موضعه ولده، وعندي في عسكري مائة ألف فارس مسلمين، وأما النصارى فكثير لا يحصون، والكلّ غلمانك وتحت أمرك، والمطران الكبير يدعو لك والخلق كلّهم يقولون آمين، وكلّ من يصل من المسلمين إلى بلادنا نكون له أقلّ المماليك، ونحفظهم ونسفّرهم كما يحبّون ويختارون، وأما الرسول الذي سفّروه فهو مريض، وبلادنا وخمة، أيّ من مرض لا يقدر أحد يدخل إليه، وأيّ من شمّ رائحته فيمرض فيموت. ونحن نحفظ كلّ من يأتي من بلاد المسلمين، فسيّروا مطرانا يحفظهم.
قلت: وقد تقدّم الجواب عن هذا الكتاب من كلام القاضي (1) محيي الدين ابن عبد الظاهر، في الكلام على الكتب الصادرة عن الأبواب السلطانية إلى أهل الجانب الجنوبي من أهل الكفر، ولكن الكتاب المذكور يخالف ما تقدّم هناك من ادّعائه العظمة، وأنه لولا اضطراره إلى أخذ المطران من بطريرك الديار المصرية لكان يشمخ بنفسه عن المكاتبة، ولعلّ ذلك كان في الزمن المتقدّم.
الضرب الثالث (الكتب الواردة عن ملوك الرّوم، ورأس الكلّ صاحب القسطنطينيّة)
وقد وقفت على كتاب ورد منه في السابع والعشرين من صفر سنة أربع عشرة وثمانمائة في درج ورق فرنجيّ في نحو عشرين وصلا قطع النصف، والبياض في أعلاه وصل واحد، وفي أسفله وصلان، وله هامش عن يمينه وهامش عن يساره، كلّ منهما تقدير إصبعين، ومقدار ما بين السّطور متفاوت، فأعلاه بين كلّ سطرين أربعة أصابع مطبوقة، ثم بعد تقدير ثلث الكتاب بين كلّ سطرين قدر ثلاثة أصابع، ثم بعد ذلك بين كل سطرين قدر إصبعين، ثم بعد ذلك بين كل سطرين قدر ثلاثة أصابع إلى آخر الكتاب، والقلم في غاية [الدقة ب] قلم الرّقاع
__________
(1) تقدمت ترجمته في الصحيفة 43من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 3.(8/124)
الدقيق، وفي آخره ثلاثة أسطر وقطعة بالحمرة بقلم أجلّ من الأوّل قليلا.
وهذه نسخة كتاب معرّبة بترجمة بطرك الملكانية بحضور سيف الدين سيف (1) التّرجمان، وهي:
المعظّم، الممجّد، المبجّل، الضابط، السلطان، الكبير، سلطان مصر ودمشق وحلب وغيرها، الملك الناصر (فرج) ابن السلطان الكبير المرحوم الظاهر (برقوق) المحبوب إليّ العزيز أكثر من أولاد مملكتي.
يحيط علمه أنني ومملكتي طيّبون بنعمة الله تعالى، وكذلك تكون إن شاء الله تعالى سلطنتك الممجّدة طيبة في خير، وأنّ المحبة والمودّة لم تزل بين والدك المرحوم وبين والدي إلى آخر وقت. ونحن بحمد الله قد تزايدت محبّتنا على ذلك وتكاثرت، وتتوكّد أيضا المحبة بيننا وبين سلطنتك المعظّمة إلى الأبد، فإنّ ذلك واجب، وتتردّد رسلكم بكتبكم إلينا، وكذلك رسلنا بكتبنا إلى ملككم، وكان قصدنا أن نجهّز إليكم رسولا لكنّ الفتن في بلادنا، وما بلغنا من سفر مولانا السلطان من تخت مملكته، ولم نعرف إلى أيّ مكان توجّه، أوجب تأخير ذلك، وأنّ حامل هذا الكتاب المتوجه به إلى السلطان المعظم المسمّى (سورمش) التاجر من اسطنبول هو من جهتنا، وله عادة بالتردّد إلى مملكتكم المعظّمة، ونحن نعلم أنّ سلطنتك تحبّ الطيور الكواهي، فجهّزنا لكم صحبة المذكور خمس كواهي (2) وبازدار (3)، ليكون نظركم الشريف عليهم، وكذلك على البطاركة
__________
(1) لعله سيف الدين سودون الآتي في الضرب الرابع ص 127من هذا الجزء من صبح الأعشى. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(2) الكواهيّ: ج كوهيّة، وهي طائر من الجوارح من حجم الباشق، سوداء الظهر بيضاء البطن، حمراء العينين، صفراء الرجلين. معجم متن اللغة (ج 5ص 131). وقال القلقشندي في (ج 2ص 61) من هذا المطبوع: الكوهيّة من الجوارح الصقور، وهي موشّاة بالبياض والسواد يخالط لونها صفرة، وتجلب من البحر.
(3) البازدار: هو الذي يحمل البازيّ، ويقال فيه البازيار والبيزار. قال الكميت (متقارب).
كأنّ سوابقها، في الغبار، ... صقور تعارض بيزارها
أنظر لسان العرب ومحيط المحيط (بزر).(8/125)
والنصارى والكنائس على حكم معدلة السلطان ومحبّته، والوصية بهم، ومعاونتهم ورعايتهم وإجراؤهم على جاري عوائدهم، من غير تشويش على ما ألفوه من إنصافكم أوّلا وآخرا لأجل محبتكم لنا ومحبتنا، واستمرار العناية بهم، مع أنّ البطاركة عرّفونا أنّ مولانا السلطان يبرز مرسومه بمراعاتهم، والإحسان إليهم، ولم يزالوا داعين له شاكرين من معدلته، ونضاعف شكرنا من إحسانكم على ذلك، وتكونوا إن شاء الله تعالى طيبين، والمحبة متزايدة في أيّامكم وأيّامنا، ومهما كان لمولانا السلطان بمملكتنا من أطواع (1) فيرسم يعرّفنا بها ونبادر بذلك.
والذي بآخره بالحمرة علامة الملك مضمونها (مانويك المسيحي بنعمة الله، ضابط مملكة الروم البلالوغس).
الضرب الرابع (الكتب الواردة من جهة ملوك الفرنج بالأندلس، والجهات الشّمالية، وما والى ذلك)
والعادة فيها أن تكتب باللسان الفرنجيّ، وعادة الكتب الواردة عنهم جملة أن تكتب في فرخة ورق فرنجيّ مربّعة على نحو مقدار الفرخة البلديّ أو دونها، بأسطر متقاربة، باللسان الفرنجيّ وقلمه، ثم يطوى طيّا مسطّحا ويعنون في وسطه، ويطوى من جهتي الأوّل والآخر حتّى يصير العنوان ظاهرا من الطيّ، ثم يخرز ويختم بسحاءة (2)، ويختم عليه بطمغة في شمع أحمر على نحو ما تقدّم في الكتب الواردة عن ملوك الغرب، فإذا ورد على الأبواب السلطانية فكّ ختمه، وترجم بترجمة التّرجمان بالأبواب السلطانية وكتب تعريبه في ورقة مفردة وألصقت به بعد كتابة الجواب من التعريب على ما تقدّم ذكره في مقدّمة الكتاب.
وهذه نسخة كتاب وارد من دوج البنادقة ميكائيل، على يد قاصده نقولا البندقيّ في سادس عشر صفر المبارك سنة أربع عشرة وثمانمائة، ترجمة شمس
__________
(1) كذا في الأصل، ومراده: من خدم أو حاجات. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) السحاءة: واحدة السحاء، والسحاء نبت شائك يرعاه النحل فيطيب عسله عليه.(8/126)
الدين سنقر، وسيف الدّين سودون، التراجمة بالأبواب الشريفة، في فرخة ورق فرنجيّ مربعة متقاربة السطور، وهو:
السلطان المعظّم، ملك الملوك «فرج الله» ناصر الملة الإسلامية، خلّد الله سلطانه.
يقبّل الأرض بين يديه نقولا (1) دوج البنادقة، ويسأل الله أن يزيد عظمته، لأنه ناصر الحق ومؤيّده، وموئل الممالك الإسلامية كلّها، وينهي ما عنده من الشّوق والمحبة لمولانا السلطان، وأنه لم تزل أكابر التجار والمحتشمين والمتردّدين من الفرنج إلى الممالك الإسلامية شاكرين من عدل مولانا السلطان وعلوّ مجده، وتزايد الدعاء ببقاء دولته، وقد رغب التّجّار بالتّرداد إلى مملكته الشريفة بواسطة ذلك، ولأجل الصّلح المتصل الآن بيننا والمحبة.
وأما غير ذلك، فإنه بلغنا ما اتّفق في العام الماضي من حبس العنز في ثغر دمياط المحروس، وأن مولانا السلطان مسك قنصل البنادقة والمحتشمين من التّجّار بثغر الإسكندرية المحروس، وزنجرهم بالحديد، وأحضرهم إلى القاهرة، وحصلت لهم البهدلة بين جنوسهم والضّرر والقهر الزائد، وكسر حرمتنا بين أهل طائفتنا، فإن الذي فعل مع المذكورين إنما فعل معنا، وتعجّبنا من ذلك لأنّ طائفتنا لم يكن لهم ذنب، وهذا مع كثرة عدل مولانا السلطان في مملكته، ومحبّتنا له، ومناداتنا في جميع مملكتنا بكثرة عدله، وبمحبته لطائفتنا، وإقباله عليهم، وقولنا لجميع نوّابنا: إنهم يكرمون من يجدونه من مملكة مولانا السلطان، ويراعونه ويحسنون إليه، والمسؤول من إحسانه الوصية بالقنصل والتجّار وغيرهم من البنادقة، ومراعاتهم وإكرامهم والإقبال عليهم، والنظر في أمورهم إذا حصل ما يشبه هذا الأمر، ومنع من يشاكلهم لتحصل بذلك الطّمأنينة للتّجّار، ويتردّدوا إلى مملكته.
__________
(1) تقدم قبل أسطر أن اسمه ميكائيل وأن اسم رسوله نقولا، فتنبّه. حاشية الطبعة الأميرية.(8/127)
وهذه نسخة كتاب ورد من كبطان الماغوصة والمستشارين بها، في ثامن عشر صفر المبارك سنة أربع عشرة وثمانمائة، ترجمة شمس الدين سنقر وسيف الدين سودون التّرجمانين بالأبواب الشريفة، وهو:
الملك المعظّم، ملك الملوك، صاحب مصر المحروسة، الملك الناصر، عظّم الله شأنه.
يقبّل الأرض بين أياديه الكبطان والمستشارون، وينهون أنهم آناء (1) الليل داعون بطول بقائه، مجتهدون في استمرار الصّلح والمودّة التي لا يشوبها كدر بين القومون (؟) وبين مولانا السلطان، وأنّ في هذا الوقت ثمّ حراميّة غراب يتحرّمون بأطراف هذه البلاد، والمين الإسلامية، ونحن لم نزل نشحطهم بالمراكب والأغربة، ونمنعهم من ذلك جهدنا وقدرتنا، حتّى إنّ أحدا صار لا يجسر على الدخول إلى مينا الماغوصة جملة كافية، مع أننا كنّا خلّصنا في المدّة الماضية من الحراميّة المذكورين خمسة وعشرين نفرا من المسلمين، وأكرمناهم وأطلقنا سبيلهم [وعزمنا أن] (2) نجهّزهم إلى دمياط أو إلى ثغر الإسكندرية.
وأما غير ذلك، فقد بلغنا أن برطلما أوسق للمواقف الشريفة صابونا في مراكبه، وكان قصده أن يهرب بذلك، فللحال عمّرنا مركبا كبيرا، وأخذنا برطلما المذكور بالمحاربة، وأحضرناه إلى الماغوصة، وعهدنا بطروق المركب إلى شخص يسمّى (أرمان سليوريون) وهو رجل مشكور السّيرة، وقلنا له إنه يتوجّه إلى خازن الصابون المذكور ويستشيره إن كان يوسق شيئا من الأصناق لمولانا السلطان، ويجهّزه إلى أيّ مكان اختاره ليسلمه ليد من تبرز له المراسيم الشريفة بتسليمه، فليفعل، وهذا القول كلّه يكون دليلا عند مولانا السلطان على صدق
__________
(1) آناء الليل: ساعاته.
(2) في الأصل «وعقيبها نجهزهم». حاشية الطبعة الأميرية.(8/128)
الولاء والتمسك بالصّلح، والمسؤول من الصدقات الشريفة الإقبال على التّجّار الجنويّة الذين عند مملكته، وكفّ أسباب الضرر عنهم، وينشر معدلته عليهم، والله تعالى يديم بقاءه بمنّه وكرمه.(8/129)
الفصل السادس [من الباب الثاني] من المقالة الرابعة
(في رسوم المكاتبات الإخوانيّات وهي جمع إخوانيّة نسبة إلى الإخوان جمع أخ والمراد المكاتبات الدائرة بين الأصدقاء، وفيه طرفان)
الطرف الأوّل (في رسوم إخوانيّات السّلف من الصّحابة
رضوان الله عليهم والتابعين، وهي في الغالب لا تخرج عن ضربين)
الضرب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب عنه)
وكان رسمهم فيه أن تفتتح المكاتبة بلفظ «من فلان إلى فلان، سلام عليك، إنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو» فلما كانت خلافة الرشيد وأمر أن يزاد هنا في السلطانيات «وأسأله أن يصلّي على سيدنا محمد عبده ورسوله» كما تقدّم في موضعه، جرى الكتّاب في الإخوانيات على ذلك أيضا، وكان الخطاب يجري بينهم في ذلك بأنا، وأنت، ولي، ولك، وعندي، وعندك، وما أشبه ذلك من ألفاظ الخطاب، وكانت خاتمه الكتب عندهم بالسّلام.
الضرب الثاني (أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب إليه، تفخيما لأمره، وتعظيما لشأنه)
وكان رسمهم في ذلك أن يفتتحوا المكاتبة بلفظ «إلى فلان من فلان، سلام
عليك، فإنّي أحمد اليك الله الذي لا إله إلّا هو» وباقي الكتاب على ما تقدّم في الضرب الأوّل في الخطاب والختام وغيرهما.(8/130)
وكان رسمهم في ذلك أن يفتتحوا المكاتبة بلفظ «إلى فلان من فلان، سلام
عليك، فإنّي أحمد اليك الله الذي لا إله إلّا هو» وباقي الكتاب على ما تقدّم في الضرب الأوّل في الخطاب والختام وغيرهما.
الطرف الثاني (في رسوم الإخوانيّات المحدثة بعد السّلف، وفيه ثلاثة مقاصد)
المقصد الأوّل (في رسوم إخوانيّات أهل المشرق، وفيه أربعة مهايع)
المهيع الأوّل (في صدور الابتداآت، وهي على أساليب)
(1)
الأسلوب الأوّل أن تفتتح المكاتبة بالدعاء، وعليه اقتصر أبو جعفر (2)
النّحاس في كتابه «صناعة الكتاب» وكان على رأس الثّلثمائة في خلافة الراضي، وقد تقدّم في الكلام على مقدّمات المكاتبات نقلا عن «موادّ البيان» أنّ الأدعية كانت في الزمن الأوّل تستعمل فيما يتعلّق بأمر الدّين، مثل قولك: أكرمه الله، وحفظه الله ووفّقه، وحاطه، وما أشبه ذلك، فعدل عنها قصدا للإجلال والإعظام إلى الدعاء بإطالة البقاء، وإدامة العزّ، وإسباغ النّعمة، ونحو ذلك مما يتنافس فيه أبناء الدنيا، جريا على عادة الفرس. ثم رتّبوا الدعاء على مراتب، فجعلوا أعلاها الدعاء بإطالة البقاء، ثم بإطالة العمر، ثم بالمدّ في العمر، وكذلك سائر المكاتبات على ما تقدّم بيانه هناك.
__________
(1) لم يذكر منها إلّا الأسلوب الأوّل ونبّه على أن النحاس اقتصر عليه. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) هو أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس المرادي المعروف بالنحّاس، إذ يقول أهل مصر لمن يعمل الأواني الصفريّة: «النحاس». هو نحوي مصري، رحل إلى بغداد وأخذ النحو عن الأخفش الأصغر والمبرّد والزجّاج ونفطويه، ثم عاد إلى مصر وصنّف كتبا كثيرة. توفي سنة 338هـ، بمصر، وقيل: 337هـ. انظر وفيات الأعيان (ج 1ص 10099) وبغية الوعاة ص 157.(8/131)
ثم هو على ستة أضرب:
الضرب الأوّل (المكاتبة من المرؤوس إلى الرئيس وهو على صنفين)
الصنف الأوّل (المكاتبة إلى الأمراء)
قد ذكر النحّاس أنه يقال في افتتاح مكاتباتهم: أطال الله بقاء الأمير، فإذا أردت أجلّ ذلك كلّه، كتبت: أطال الله بقاء الأمير في أعزّ العزّ وأدوم الكرامة والسّرور والغبطة، وأتمّ عليه نعمه في علوّ الدّرجة، وشرف من الفضيلة، وتتابع من الفائدة، ووهب له السلامة والعافية في الدنيا والآخرة، وبلغ بالأمير أفضل ما تجري إليه همّته، وتسمو إليه أمنيّته، أو بلغ بالأمير أفضل شرف العاجل والآجل، وأجزل له ثواب الآخرة.
ثم قال: ومن الدعاء له: أطال الله بقاء الأمير في عزّ قاهر، وكرامة دائمة، ونعمة سابغة، وزاد في إحسانه إليه، والفضيلة لديه، ولا أخلى مكانه منه.
قال: ومنه أطال الله بقاء الأمير، وأدام عزّه وتأييده، وعلوّه وتمكينه، وكبت عدوّه.
ثم ذكر أدعية أخرى للأمراء عن الفضل (1) بن سهل. منها أطال الله بقاء
__________
(1) هو أبو العباس الفضل بن سهل بن عبد الله السرخسي، أخو الحسن بن سهل، وأحد الكتّاب المترسّلين. أسلم سنة 190هـ على يد المأمون بن هارون الرشيد ووزر له. لقّبه المأمون بذي الرياستين لأنه تقلّد الوزارة والسيف، أي رأس الحرب والتدبير. ولمّا ثقل أمره على المأمون، دسّ المأمون عليه خاله غالبا المسعودي، فدخل عليه الحمّام بسرخس من بلاد خراسان، في دار المأمون، ومعه جماعة، فقتلوه سنة 202هـ، وقيل: سنة 203هـ. انظر العقد الفريد (ج 5 ص 120)، وكتاب الوزراء والكتّاب ص 250، 255، وتاريخ بغداد (ج 12ص 343339)، ومروج الذهب (ج 4ص 4، 33)، ومعجم الشعراء ص 313، والفهرست ص 135، 191، ووفيات الأعيان (ج 4ص 4441)، وصبح الأعشى (ج 6ص 482) والأعلام (ج 5ص 149).(8/132)
الأمير، ومكّن له في البسطة وتزايد النّعمة، وزاده من الكرامة والفضيلة، والمواهب الجليلة في أعزّ عزّ وأدوم سلامة، وأسبل عافية ومنها أطال الله بقاء الأمير، وأدام له الكرامة مرغوبا إليه، وزاد في إحسانه لديه، وأتمّ نعمته عليه، ووصل له خير العاجل بجزيل الآجل.
الصنف الثاني (المكاتبة إلى القضاة)
وقد قال النحاس: إنه يدعى للقاضي بمثل ما يدعى به للأمير، غير أنه يجعل مكان الأمير القاضي، إلّا أنّ الفضل بن سهل قال: يدعى لقاضي القضاة، أطال الله بقاء القاضي، وأدام عزّه وكرامته، ونعمته وسلامته، وأحسن من كلّ جميل زيادته، وألبسه عفوه وعافيته. وإنه يدعى له أيضا: أطال الله بقاء القاضي في عزّ وسعادة، وأدام كرامته، وأحسن زيادته، وأتمّ نعمته عليه في أسبغ عافية، وأشمل سلامة.
قال: وقال غير الفضل: إن الكفء يكاتب كفأه ومن كان خارجا من نعمته: أدام الله بقاءك أيّها القاضي.
الضرب الثاني (المكاتبة من الرئيس إلى المرؤوس، كالمكاتبة عن الوزير وقاضي القضاة وغيرهما، والخطاب في جميعها بالكاف)
قال النحاس: وهي على مراتب، أعلاها في حق المكتوب إليه أطال الله بقاءك وأدام عزّك وأكرمك، وأتمّ نعمته عليك، وإحسانه إليك وعندك. ودونه «أطال الله بقاءك، وأعزّك وأكرمك، وأتمّ نعمته عليك، وعندك». ودونه «أدام الله عزّك، وأطال بقاءك، وأدام كرامتك، وأتمّ نعمته عليك، وأدامها لك». ودونه «أعزّك الله ومدّ في عمرك، وأتمّ نعمته عليك، وما بعده على توالي (1) الدعاء الذي تقدّم». ودونه «أكرمك الله وأبقاك، وأتمّ نعمته عليك، وأدامها لك». ودونه «أن
__________
(1) لعله: «على منوال». حاشية الطبعة الأميرية.(8/133)
تسقط وأدامها لك». ودونه «أبقاك الله وحفظك وأتمّ نعمته عليك، وأدامها لك».
ودونه «أن تسقط وأدامها لك». ودونه «حفظك الله وأبقاك، وأمتع بك». ودونه «عافانا الله وإيّاك من السّوء».
قال (1) في «صناعة الكتاب»: هذا إذا جرى الأمر على نسبته ولم تتغيّر الرسوم، وإلّا فقد يعرض أن يكون في الدولة من هو مقدّم على الوزير أو مساوى به فتتغير المكاتبة، فقد كان عبد الله بن سليمان (يعني وزير المعتضد) يكاتب أبا الجيش (يعني خمارويه بن أحمد بن طولون): أطال الله يا أخي بقاك إلى آخر الصدر، للمصاهرة التي كانت بين أبي الجيش وبين المعتضد ولأنّ المعتضد كنّاه.
ثم قال: فإن كان الرئيس غير الوزير، فربما زاد في مكاتبته زيادة لمن له محلّ، فيزيده ويكاتبه بزيادة التأييد ودوام العزّ. قال: ويدعى للفقهاء: أدام الله بقاءك في طاعته وسلامته وكفايته وأعلى جدّك وصان قدرك، وكان لك ومعك حيث لا تكون لنفسك. أو: أدام الله بقاءك في أسرّ عيش وأنعم بال، وخصّك بالتوفيق لما يحبّ ويرضى، وحباك برشده، وقطع بينك وبين معاصيه. أو أطال الله بقاءك بما أطال به بقاء المطيعين، وأعطاك من العطاء ما أعطى الصالحين. أو: أكرمك الله بطاعته، وتولّاك بحفظه، وأسعدك بعونه، وأيّدك بنصره، وجمع لك خير الدنيا والآخرة برحمته، إنه سميع قريب. أو: تولّاك من يمسك السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه، وكان لك من هو بالمؤمنين رؤوف رحيم. أو: أكرم الله عن النار وجهك، وزيّن بالتقوى تجمّلك. أو: أكرمك الله بكرامة تكون لك في الدنيا عزّا، وفي الآخرة من النار حرزا.
الضرب الثالث (المكاتبة إلى النظراء، والمخاطبة فيه بالكاف)
قال في «صناعة الكتّاب» وأعلى ما يكتب في ذلك (يعني بالنسبة إلى
__________
(1) أي قال أبو جعفر النحاس، وقد تقدمت ترجمته ص 131من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 2.(8/134)
المكتوب إليه) «يا سيّدي أطال الله بقاءك وأدام عزّك وتأييدك إلى آخر الصدر».
ودونه «أطال الله يا سيدي بقاءك». ودونه «يا سيّدي وأخي أطال الله بقاءك». ودونه «أدام الله يا أخي بقاءك».
الضرب الرابع (المكاتبة إلى الأبناء، والخطاب فيه بالكاف)
قال في «صناعة الكتاب» يكتب الرجل إلى ابنه: بأبي أنت، أو: فداك أبوك. أو: مات قبلك. أو: أسأل الله عزّ وجلّ حفظك وحياطتك ورعايتك. أو:
أرشدك الله أمرك. أو: أحسن البلاغ بك. أو: بلّغ الله بك أفضل الأمل، وأتمّ السرور بك، وجعلك خلفا صالحا، وبقيّة زاكية.
الضرب الخامس (المكاتبة إلى الفتيان، والخطاب فيه بالكاف)
قال النحاس: يدعى لهم: صرف الله السوء عنك، وعن حظّي منك. أو:
أطال الله بقاء النعمة عليك وعليّ فيك. أو: جعلت أنا وطارفي وتالدي فداك. أو:
ملّاني الله إخاءك، وأدام بقاءك. أو: أستودع الله عزّ وجلّ ما وهب لي من خلّتك، ومنحني من أخوّتك، وأعزّني به من مودّتك. أو: حاط الله حظّي منك، وأحسن المدافعة عنك. أو: ببقائك متّعت، وفقدك منعت. أو: نفسي تفديك، والله يبقيك، ويقيني الأسواء فيك. أو: ملّاني الله النعمة ببقائك، وهنأني ما منحني من إخائك. أو: أبقى الله النعمة لي ببقائها لك، وبلّغتها بك. أو: وفّر الله حظّي منك، كما وفّر من المكارم حظّك. أو: ملّاني الله ببقاك، كما منحني إخاك. أو:
دافع الله لي وللمكارم عن حوبائك (1)، وأمتعني ببقائك، وجمع أملي فيك بجمعه المكارم لك. أو: زادك الله من النّعم حسب تزيّدك في البرّ لإخوانك، وبلّغ بك أملهم كما بلّغ بهم آمالهم فيك.
__________
(1) الحوباء: النفس.(8/135)
الضرب السادس (المكاتبة إلى النساء)
قد ذكر النحاس أنهنّ يكاتبن على نظير ما تقدّم من مكاتبة الرئيس والمرؤوس والنظير، غير أنه قد وقع في الاصطلاح من بعضهم أنه لا يقال في مكاتبتهنّ: وكرامتك ولا وأتمّ نعمته عليك، ولكن وأتم نعمته لديك، ولا فضله عندك، ولا سعادتك، ولا فعلت ولا أن تفعلي، ولكن يقال: إن رأيت أن تمنّي بذلك مننت به، وما أشبه ذلك، وقد تقدّم في الكلام على مقدّمات المكاتبات بيان كراهتهنّ لذلك.
قلت: ثم راعى الكتّاب في تعظيم المكتوب إليه أن عدلوا عن خطابه بالكاف عن (1) نظير خطاب المواجهة إلى معنى الغيبة، فقالوا: له، وإليه، وعنده، ونحو ذلك وخصّوا الخطاب بالكاف بأدنى المراتب في حقّ المكتوب إليه. على أنه قد تقدّم من كلام النحاس إنكار ذلك على من اعتمده محتجّا عليه بأنه لا أعظم من الله تعالى مع أنه يقال في الدعاء يا الله ونحو ذلك.
وقد ذكر ابن حاجب (2) النّعمان في كتابه «ذخيرة الكتاب» أدعية مرتّبة على
__________
(1) كذا في الأصل ولعل مراده: «وغير الكاف من ضمير خطاب المواجهة» إلى الخ حاشية الطبعة الأميرية.
(2) أغلب الظن أنه أبو الحسين عبد العزيز بن إبراهيم بن بيان بن داود البغدادي، المتوفّى سنة 351هـ، وليس ابنه أبا الحسن علي بن عبد العزيز، المتوفى سنة 421هـ إذ الاثنان يلقبان بابن حاجب النعمان، وكلاهما كاتب حاذق بصنعة الكتابة، فأبو الحسين كان كاتب أبي محمد المهلبي وزير معزّ الدولة، وكان ابنه علي يكتب للطائع لله ثم للقادر بالله بعده. وكان الأوّل صاحب تصانيف عدة كأخبار النساء وأشعار الكتّاب وكتاب الصبوة، وكان لعلي أيضا كتب ورسائل.
وإضافة إلى ذلك فإن المؤلفين، كحاجي خليفة وإسماعيل باشا البغدادي، لم يذكروا كتاب «ذخيرة الكتّاب»، كما إن الذين ترجموا للاثنين لم يذكروا هذا الكتاب. انظر الفهرست ص 194190، وتاريخ بغداد (ج 10ص 456) و (ج 12ص 3231)، والكامل في التاريخ (ج 9ص 128، 175، 220، 410)، ومعجم الأدباء. (ج 5ص 240239، 259)، وهدية العارفين (ج 1ص 577، 687)، وإيضاح المكنون ص 485، ومعجم المؤلفين (ج 5ص 239 240)، والأعلام (ج 4ص 12، 300).(8/136)
الغيبة، وقال: أعلاها «أطال الله بقاءه، وأدام تمكينه وارتقاءه، ورفعته وسناءه، وكبت عدوّه». ودونه «أطال الله بقاه، وأدام تأييده، وعلاه وتمهيده، وكبت عداه».
ودونه «أطال الله بقاءه، وأدام تأييده وحرس حوباءه». ودونه «أطال الله بقاه، وأدام تأييده ونعماه». ودونه «أطال الله بقاه، وأدام نعماه». ودونه «أطال الله بقاه، وأدام عزّه». ودونه «أطال الله بقاه، وأدام توفيقه وتسديده». ودونه «أطال الله بقاه، وأدام سداده وإرشاده». ودونه «أطال الله بقاه، وأدام حراسته». ودونه «أدام الله تأييده».
ودونه «أدام الله توفيقه». ودونه «أدام الله عزّه وسناءه». ودونه «أدام الله عزّه». ودونه «أدام الله حراسته». ودونه «أدام الله كرامته». ودونه «أدام الله سلامته». ودونه «أدام الله رعايته». ودونه «أدام الله كفايته». ودونه «أبقاه الله». ودونه «حفظه الله». ودونه «أعزّه الله». ودونه «أيّده الله». ودونه «حرسه الله». ودونه «أكرمه الله». ودونه «وفّقه الله». ودونه «سلّمه الله». ودونه «رعاه الله». ودونه «عافاه الله». وعلى معنى الغيبة يقال في الدّعاء: أطال الله بقاء الأمير، أو بقاء القاضي، أو بقاء سيّدي، أو بقاء مولاي، وما أشبه ذلك في كلّ رتبة بحسبها.
واعلم أن الذاهبين من الكتّاب إلى إجراء المخاطبة في المكاتبة على معنى الغيبة كما هو طريقة ابن حاجب النّعمان وغيره، يعبّرون عن المكتوب إليه بلقبه الخاص: كالوزير، والأمير، والحاجب، والقاضي، وما أشبه ذلك، وذكره بالسيادة وما في معناها، مفضّلين لفظ الجمع، كسيّدنا ومولانا على لفظ الإفراد كسيدي ومولاي، وينعتون المكتوب إليه بالجليل أو الحاجب (1) الجليل، ويجعلون الإفراد دون ذلك في الرتبة فيقولون: سيّدي، أو مولاي الأمير الجليل، أو الحاجب الجليل، ونحو ذلك. ثم توسّعوا في ذلك فجعلوا الدّعاء متوسّطا كلام الصدر على القرب من الابتداء، مقدّمين بعض كلام الصدر عليه، ومؤخّرين بعضه عنه، مثل أن يقال في المكاتبة بشكر: إذا كان الشّكر أطال الله بقاء سيدنا
__________
(1) لعله «كالحاجب الجليل»، إن لم يكن زائدا من قلم الناسخ. حاشية الطبعة الأميرية.(8/137)
الأمير فلان ترجمان النّيّة، ولسان الطويّة، وشاهد الإخلاص، وعنوان الاختصاص، وسببا إلى الزّيادة، وطريقا إلى السّعادة، وكانت معارفه قد أحاطت بمعادنه واستولت على محاسنه، فألسن آثارها مع الصّمت أفصح من لسانه، وبيانها مع الجحود أبلغ من بيانه، ونحو ذلك. ثم أحدثوا اصطلاحا آخر أضافوه إلى الاصطلاح الأوّل، فقدّموا على الدعاء لفظ «كتابنا» أو لفظ «كتابي» رتبة دون رتبة، مثل أن كتبوا: كتابنا أطال الله بقاء الأمير! ونحن على أفضل ما عوّدنا الله من انتظام الأمور وسدادها، واستقامتها بحضرتنا واطّرادها، أو كتابي أطال الله بقاء مولاي الحاجب عن سلامة ينغّصها فقدك، وينتقصها فراقك، وما يجري مجرى ذلك. وربما أبدلوا لفظ كتابنا أو كتابي بلفظ كتبت بصيغة الفعل، وربما ابتدأوا بلفظ أنا ونحوه. ثم خرج بهم الاختيار إلى مصطلحات اصطلحوا عليها مع بقاء بعض المصطلح القديم، فخاطبوا بالحضرة تارة، وبالخدمة تارة، وبالمجلس أخرى، فكتبوا: كتابي، أطال الله بقاء حضرة سيّدنا الوزير، أو سيّدنا الأمير، ونحو ذلك، أو أسعد الله الحضرة، أو أسعد الله الخدمة، أو ضاعف الله جلال الخدمة، أو أعزّ الله أنصار الخدمة. وربما كتبوا: صدرت هذه الخدمة إلى فلان. وقد يكتبون: صدرت هذه الجملة، إلى غير ذلك من تفنّناتهم التي لا يسع استيعابها، ولا يمكن اجتماع متفرّقها.
قلت: وبالجملة فضبط صدور الإخوانيّات وابتداءاتها على هذا المصطلح غير ممكن لاختلاف مذاهبهم في ذلك، والذي تحصّل لي من كلام النحاس وابن حاجب النعمان، وترسّل أبي إسحاق (1) الصابي، والعلاء بن (2) موصلايا، وأبي
__________
(1) هو إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن هارون الحرّاني، صاحب الرسائل المشهورة والنظم البديع.
تقلّد ديوان الرسائل سنة 349هـ ببغداد، وكانت وفاته في سنة 384هـ. وقال النديم: توفي سنة 380هـ، انظر يتيمة الدهر (ج 2ص 311241)، والفهرست ص 149ووفيات الأعيان (ج 1ص 5452).
(2) ترجم له ابن خلّكان فقال: أبو سعد العلاء بن الحسن بن وهب بن الموصلايا كاتب بغدادي، كان نصرانيا وأسلم على يد الإمام المقتدي بالله. خدم بديوان الإنشاء للإمام الخليفة القائم في سنة 432هـ. توفي في سنة 497هـ. وقد وردت كنيته أبا سعيد في صبح الأعشى (ج 6ص 404)، وانظر وفيات الأعيان (ج 3ص 480)، ونكت الهميان ص 201والأعلام (ج 4ص 245).(8/138)
الفرج الببّغاء (1) وغيرهم من الكتّاب المجيدين أنّ الغالب في المكاتبات الدائرة بين أعيان الدول على سبعة أساليب:
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بالدعاء)
كما كتب أبو إسحاق الصابي إلى الصاحب إسماعيل (2) بن عبّاد بالشكر والتشوّق: أطال الله بقاء سيدنا الصاحب الجليل، في سلامة دنيا ودين، ونفاذ أمر وتمكين، وتمام عزّ وتأييد، وثبات وطأة وتمهيد، وعلوّ قدر وسلطان، وتعاظم خطر وشان، وتولّاه في نفسه وأوليائه بأحسن ما عرف وألف، من نعم دارّة الحلب متفرّعة الشّعب، محميّة الجهات والجوانب، محجوبة عن النوائب والشّوائب، وأراه في حسّاد فضائله، وكفّار فواضله، ما عوّده فيهم من شقاء جدودهم، وفلول حدودهم، وحلول النّكال بهم، وإثبات العصمة منهم، وجعل حكمه قطبا لمدار الأفلاك، ونهجا لمجاري الأقدار، فلا ينزل منها محبوب مطلوب إلّا توجّه إليه ونحاه، ولا محذور إلّا أعرض عنه وتحاماه، ثم كان برؤوس معانديه حلوله،
__________
(1) هو الكاتب الشاعر أبو الفرج عبد الواحد بن نصر بن محمد المخزومي، من أهل نصيبين. لقّب بالببغاء للثغة كانت في لسانه، وقيل: لحسن فصاحته. كان في ريعان شبابه متصلا بسيف الدولة مقيما في جملته. وبعد وفاة سيف الدولة تنقّلت به الأحوال فورد الموصل وبغداد ونادم بهما الملوك والرؤساء. وتوفي سنة 398هـ، انظر يتيمة الدهر (ج 1ص 270236)، وتاريخ بغداد (ج 11ص 1211) ووفيات الأعيان (ج 3ص 202199).
(2) هو أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد بن العباس بن عبّاد الطالقاني. كان نادرة الدهر وأعجوبة العصر في فضائله ومكارمه. هو أول من لقّب بالصاحب من الوزراء لأنه كان يصحب ابن العميد، وقيل:
لأنه صحب مؤيّد الدولة بن بويه منذ الصبا فغلب عليه هذا اللقب. ولي الوزارة ثماني عشرة سنة.
توفي سنة 385هـ. انظر أخباره في يتيمة الدهر (ج 2ص 286188)، ووفيات الأعيان (ج 1ص 233228)، وبغية الوعاة ص 197196. وذكره القلقشندي في صبح الأعشى (ج 6ص 18) فقال: هو أول من لقب من الوزراء بكافي الكفاة. وانظر الأعلام (ج 1ص 316).(8/139)
وبرقابهم إحاطته، وفوق ظهورهم محمله، وعلى صدورهم مجثمه، أمرا جزما قضاه الله له وخصّه به، وأعطته الأيام عليه عهد أمانها، وأمرّت له به عقد ضمانها، عاطفة عليه بطاعتها ومواتاتها، مغضية له عن نوائبها ونبواتها، وحقيق عليه جلّ اسمه أن يفعل ذلك به، ويسمع هذا الدعاء فيه، إذ كان مرفوعا إليه في أوفر عباده فضلا، وأغمرهم نيلا، وأجزلهم أدبا، وأكثرهم حسبا، وأعملهم بطاعته، وأولاهم بإحسانه ومعونته.
كتبت هذا الكتاب أطال الله بقاء سيدنا الصاحب الجليل، ثم انخرط في سلك مقصده إلى آخره.
الأسلوب الثاني (أن يتوسّط الدعاء صدر الكتاب بعد الابتداء بكلام مناسب للحال)
كما كتب أبو إسحاق الصابي أيضا عن بعض الأمراء إلى أمير آخر، مبشّرا بفتح:
ومن أعظم النّعم أطال الله بقاء مولانا الأمير الجليل خطرا وأحسنها أثرا، نعمة سكّنت ثورة، وأطفأت فورة، وعادت على الناس بجميل الصّنع، وجليل النّفع، ونظام الأمور، وصلاح الجمهور، فتلك التي يجب أن يكون الشكر عليها مترادفا، والاعتداد بها متضاعفا، بحسب ما أزالت من المضرّة، وجدّدت من المسرّة، وأماطت من المحذور، ونشرت من المأمول. وحقيق على الناس أن يعرفوا حقّها ويوفوها من حمد الله قسطها، ويتنجّزوه وعده الحقّ في أدائها، وإطالة الإمتاع بها، والحمد لله على أن جعلنا ممن يعرف ذلك ويهتدي إليه، ويعتقده وينطوي عليه، ويؤدّي فرض الاجتهاد في الاستدامة والاستزادة منه، وأن خصّنا من هذه النّعم بذوات الفضل السابغ، والظّلّ الماتع، الجامعة لكبت العدوّ ومساءته، وابتهاج الوليّ ومسرّته، وهو المسؤول جلّ اسمه وعزّ ذكره، أن لا يسلبنا ما ألبسناه من سرابيلها، وأجرّناه من فضل ذيولها، وعوّدناه من جلالة أقدارها، وتعاظم أخطارها، ولا يعدمنا معونة منه على بلوغ أقصى الوسع
في الاعتداد بها، ومنتهى الطّوق في البشر لها، بمنّه وطوله، وقوّته وحوله.(8/140)
ومن أعظم النّعم أطال الله بقاء مولانا الأمير الجليل خطرا وأحسنها أثرا، نعمة سكّنت ثورة، وأطفأت فورة، وعادت على الناس بجميل الصّنع، وجليل النّفع، ونظام الأمور، وصلاح الجمهور، فتلك التي يجب أن يكون الشكر عليها مترادفا، والاعتداد بها متضاعفا، بحسب ما أزالت من المضرّة، وجدّدت من المسرّة، وأماطت من المحذور، ونشرت من المأمول. وحقيق على الناس أن يعرفوا حقّها ويوفوها من حمد الله قسطها، ويتنجّزوه وعده الحقّ في أدائها، وإطالة الإمتاع بها، والحمد لله على أن جعلنا ممن يعرف ذلك ويهتدي إليه، ويعتقده وينطوي عليه، ويؤدّي فرض الاجتهاد في الاستدامة والاستزادة منه، وأن خصّنا من هذه النّعم بذوات الفضل السابغ، والظّلّ الماتع، الجامعة لكبت العدوّ ومساءته، وابتهاج الوليّ ومسرّته، وهو المسؤول جلّ اسمه وعزّ ذكره، أن لا يسلبنا ما ألبسناه من سرابيلها، وأجرّناه من فضل ذيولها، وعوّدناه من جلالة أقدارها، وتعاظم أخطارها، ولا يعدمنا معونة منه على بلوغ أقصى الوسع
في الاعتداد بها، ومنتهى الطّوق في البشر لها، بمنّه وطوله، وقوّته وحوله.
وقد عرف مولانا الأمير فلان ما كان من كذا وكذا، ثم أتى على ذكر الفتح إلى آخره.
الأسلوب الثالث
أن يفتتح الكتاب بلفظ «كتابي» كما كتب الصابي عن الوزير أبي عبد الله الحسن بن سعدان، إلى فخر (1) الدولة بن بويه في بشارة فتح:
كتابي أطال الله بقاء مولانا الأمير الجليل فخر الدولة ومولانا الملك السيّد صمصام الدولة وشمس الملّة، جار على أفضل حال، جمع الله بينهما في تمام عزّ ونصر، ونفاذ أمر ونهي، وعلوّ كلمة ورأي، وسبوغ موهبة ونعمة، وشكر الله يستزيد من فضله، ويستدرّ المادّة من طوله، وأنا جار فيما أحمّله من أعباء خدمتهما، وأتولّاه من تعاظم شؤونهما، على أجمل ما عوّد الله وزراء هذه المملكة المناصحين لها، وأوليائها المحامين عنها، من هداية إلى مراشد الأمور، وتوفيق لصواب التدبير، والحمد لله ربّ العالمين، وقد كان كذا وكذا.
الأسلوب الرابع
أن يفتتح الكتاب بلفظ «كتبت» كما كتب الصابي إلى صاحب الجيش في تعزية:
كتبت أطال الله بقاء سيدنا صاحب الجيش والعين عبرى، والكبد حرّى، والصبر مسلوب، والعزاء مغلوب، بالفجيعة في سيّدي فلان نضّر الله
__________
(1) هو أبو الحسن علي بن ركن الدولة، الملقب فخر الدولة، أخو عضد الدولة، جعله والده على همذان وبلاد الجبل مع الطاعة لأخيه، فانضمّ إلى بختيار بن معزّ الدولة، فلما ظفر عضد الدولة ببختيار كتب إلى فخر الدولة يوبّخه، فأغلظ له الجواب ونسي عهد أبيه وقوة أخيه، فسار عضد الدولة إلى مملكته فاستولى عليها وجعلها في حكم أخيهما مؤيّد الدولة، والتجأ فخر الدولة إلى قابوس بن وشمكير صاحب جرجان. انظر المختار من رسائل الصابي ص 141، الحاشية رقم 1.(8/141)
وجهه، وكرّم منقلبه، التي هدّت الجلد، وفتّت في العضد، وبسطت عذر الجزوع، وهجّنت حلم الحليم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإلى أمره صائرون، وعند الله نحتسبه غصنا ذوى، وشهابا خبا، وعلق مضنّة علقت به أيدي النّوائب، وتخيّرته سهام المصائب، وقارنت بين قلوب الأباعد والأقارب، والخواصّ والعوامّ في التألم لفقده والاستيحاش لمصرعه، والكآبة لوقوع المحذور به، وعزّ عليّ أن يجري لساني بهذا القول، ويدي بهذا الخطّ، إلى آخر المكاتبة.
الأسلوب الخامس
أن يفتتح الكتاب بالخطاب، كما كتب صاحب ديوان الإنشاء في زمن المسترشد (1) عن نفسه، إلى شجاع الدولة وزير دمشق، بعد هلاك زنكي (2) بن اقسنقر:
أيها السيد الرئيس المحامي عن سربه، والذي قصّر إلّا في المعالي، ربّ ناء بجسمه وهو دان بقلبه، وغريب إذا نسبت وأمير على دمشق مطاع في صحبه، وله بالعراق إخوان من حزبه، إلى آخر المكاتبة.
الأسلوب السادس
أن تفتتح المكاتبة بلفظ: «أنا» كما كتب الصابي عن نفسه إلى الأثير أبي الحسن يهنّئه بعيد:
__________
(1) هو الفضل بن أحمد المستظهر بالله ابن المقتدي، ولد سنة 486هـ وبويع بالخلافة سنة 512هـ. ومات قتلا سنة 529هـ علي يد أربعة وعشرين رجلا من الباطنية. انظر فوات الوفيات (ج 3ص 182179) وتاريخ الخلفاء ص 463، والمنتظم (ج 10ص 53)، والكامل في التاريخ (ج 10ص 226، 536). و (ج 11ص 2827) والأعلام (ج 5ص 147).
(2) هو صاحب الموصل والشام، الملقب بعماد الدين. تولّى الموصل وأعمالها سنة 521هـ، وتولّى مدينة حماة سنة 523هـ، قتله جماعة من ممالكيه ليلا غيلة، وهو يحاصر قلعة جعبر، وذلك في سنة 541هـ. كان شديد الهيبة على عسكره ورعيّته، عظيم السياسة. انظر الكامل في التاريخ (ج 10ص 622، 636، 605604، 643، 650، 658) و (ج 11ص 112110) والبداية والنهاية (ج 12ص 221).(8/142)
أنا أطال الله بقاء سيّدنا الأستاذ الأثير أحاول الخدمة له والقربة منه منذ وصلت إلى العسكر المنصور، فيعترض دون ذلك عوارض يجري بها المقدور، إلى الحين الموقّت المسطور، وقد علم منّي وشهر عني كذا وكذا، إلى آخر الكتاب.
الأسلوب السابع
أن تفتتح المكاتبة بلفظ «صدرت» أو «أصدرت» كما كتب صاحب ديوان الإنشاء في زمن المسترشد عن نفسه إلى أبي الفرج سعد بن محمد تشوّقا:
صدرت هذه الجملة إلى فلان، ولواعج الأشواق إليه متضاعفة مترادفة، واستمرار الصّبر على البعد عنه قد رثّ قواه، ووهن عراه، وأعوزنا وجدانه إذ عنّت ذكراه، وإن كان ذكره سمير الخاطر، وتجاه الناظر، والغريم الملازم، الذي يستحق غالبه اللبيب الحازم، إلى آخر الكتاب.
المهيع الثاني (في الأجوبة على هذا المصطلح، وهي على ضربين)
الضرب الأوّل أن يفتتح الجواب بما يفتتح به الابتداء
ثم يقع التعرّض بعد ذلك لوصول الكتاب والجواب عنه، إما ملاصقا لأوّل الابتداء، وإما بعد كلام طويل.
فأما ما هو متصل بأوّل الابتداء، فكما كتب الصابي:
كتابي ووصل كتاب مولاي وفهمته، وجلّ عندي قدره وموقعه، وسكنت إلى ما دلّ عليه من سلامته، وسألت الله أن يسبغ عليه ظلّها، ويملّيه نعمه كلّها، فأما ما ذكره من كذا وكذا، إلى آخر الكتاب.
وأمّا ما هو بعد كلام طويل، فكما كتب الصابي أيضا عن نفسه إلى الصاحب
ابن عبّاد (1):(8/143)
وأمّا ما هو بعد كلام طويل، فكما كتب الصابي أيضا عن نفسه إلى الصاحب
ابن عبّاد (1):
كتابي أطال الله بقاء مولانا الصاحب الجليل كافي الكفاة وليس من جارحة إلّا ناطقة بشكره وحمده، ولا في الدّهر جراحة إلّا عافية بفضله ورفده، وأنا مستمرّ له على دعاء، إن خلوت من أن يكون عائدا لصلاحي، ورائشا لجناحي، لألتزمنّه عن الأحرار العائشين في نداه، المستظلّين بذراه (2)، فكيف وأنا أوّل ساهر في مرابعه، ووارد لشرائعه، وأحوالي جارية على استقامة أقوى أسبابها تصرّف الأيام على آرائه، واتباعها إيثاره في أوليائه وأعدائه. والحمد لله رب العالمين، قضاء لحقّه واقتضاء لمزيده، واستدامة للنّعمة عنده، التي استحصفت في أيدينا سعتها، وسالت علينا شعابها، وغمرتنا سجالها، وتفيّأت لنا ظلالها، وما يزال بين رغبة مولانا الصاحب الجليل كافي الكفاة أدام الله علوّه، وكبت عدوّه، في عبده ورغبة عبده إليه سرّ مكنون في الصّدور، ومستور تحت الضّلوع، فهما يتناجيان به على بعد الدار، ويلتقيان عليه بالأفكار، فإن تطلّع من حجاب القلوب، وشذّ من ظهور الغيوب، فإنّ ظهوره يكون من جهته في نفحات الإنعام، ومن جهتي في ثمرات الكلام. وقد وصل كتابه المخطوط بكرمه لا بقلمه، إلى صنيعته الماثل بين يديه بهممه لا بقدمه، فلم يستطع أن ينهض من الفكر، إلّا بقدر ما يبرّيء ساحته من الكفر، ويبلّغه إلى آخر الاجتهاد والعذر، وأسأل الله أن يطيل بقاءه للإفضال المأخوذ منه، والفضل المأخوذ عنه، والعلم الذي يزخر به بحره، والفخر الذي يسحب له ذيله، والعزّ الذي ضرب عليه رواقه، والسلطان الذي ألقي إليه استحقاقه، والأمر والنهي اللذين يحويهما تراثا واكتسابا، إذا حواهما غيره غلولا واغتصابا، بمنّه وطوله، وقد كان كذا وكذا.
__________
(1) تقدّمت ترجمته في الصحيفة 139من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 2.
(2) بذراه: بظلّه يقال: فلان في ذرى فلان أي في ظله وكنفه وستره ودفئه. لسان العرب (ذرا).(8/144)
الضرب الثاني (أن يفتتح الجواب بلفظ «ورد أو وصل» ونحوهما)
كما كتب الصابي عن الوزير أبي عبد الله بن سعدان في جواب كتاب ورد عليه: وصل كتابك أطال الله بقاءك وفهمته، وأدّى فلان ما تحمّله عنك ووعيته، وازددت به بصيرة في سدادك ومعرفتك، وفضلك وحصافتك، واجتماع الأدوات الجميلة فيك، الداعية إلى إعلاء محلّك، وحميد حالك، والثّقة بك، والاستنامة إليك، وأنهيت ذلك إلى الملك فلان، فأصغى إليه مستمعا، وأوجب لك به حقّا متضاعفا، وأمرني بكذا وكذا إلى آخر مراده.
وكما كتب أبو الفرج (1) الببّغاء في جواب كتاب:
ورد كتابك مشافها من البرّ، ومؤدّيا من الفضل، ومتحمّلا من المنن، ما تجاوز الإنصاف إلى الإسراف، وقرن الإكرام بالإنعام، ولم أدر أيّ المنح به أشكر، ولا بأيّ العوارف له أعترف أبما تحمّله من جميل نيّته، أم ما أدّى من جليل مخاطبته، أم ما ناجتني به فوائد ملاطفته، أم ما اعتمدني من حلاوة مفاوضته، إلى غير ذلك من الوصول إلى النعمة التي لا أطاولها بشكر، ولا أقاومها بمنّة اعتداد، وهو ابتداؤه إيّاي من المكاتبة بما أحرز به على عادته قصب السّبق، وزاد على الرّغبة مبرهنا وبصادق الودّ مخبرا، وإلى البسط دليلا، وعلى مستأنف الخدمة بالمواصلة باعثا، ووجدته أيده الله قد فعل كذا وكذا.
المهيع الثالث (في خواتم الإخوانيّات على هذا المصطلح)
واعلم أنه لم يكن لهم ضابط للاختتامات، ولا ما يقتضي ملازمة اختتام معين لصدر معيّن، بل ذلك موكول إلى رأي الكاتب لا يراعي فيه غير علوّ الرتبة
__________
(1) تقدمت ترجمته في الصحيفة 139من هذا الجزء، الحاشية رقم 1.(8/145)
وهبوطها، حيث تفاوتت رتب الاختتامات عندهم.
ثم الاختتامات لديهم على أنواع شتّى:
منها الاختتام باستماحة الرّأي، وهو على مراتب: أعلاها «ولمولانا علوّ الرأي في ذلك» كما كتب الصابي في خاتمة كتاب: ولمولانا علوّ الرأي في تشريف خادمه بالقبول، والتقدّم بإعلامه بالوصول، واستخدامه بما يتعلق بآرابه (1)
وأطاره ومن نظائر ذلك وأشكاله إن شاء الله تعالى.
ودون ذلك الاختتام بلفظ «فإن رأى كذا وكذا فعل» كما كتب الصابي في خاتمة كتاب بشارة بفتح: فإن رأى سيّدي أن يعرّفني موقع هذه البشرى منه، ومقابلتها بالشكر الواجب عليها، ويتقدّم بإشاعتها في نواحيه وأعماله، ليكبت الله به عدوّه وعدوّنا، ويكاتبني بما أتطلّعه من أحواله وأخباره، وأتعمّد إسعافه به من مآربه وأوطاره، فإنّي أعتدّه شريكا لنا مساهما، وخليطا مفاوضا، فعل إن شاء الله تعالى.
ودونه «فرأيك في كذا وكذا» كما كتب أبو الفرج الببّغاء في خاتمة كتاب في الحثّ على مواصلة الكتب، فرأيك في إيناسنا بكتبك متضمنة ما نؤثره من انبساطك، ونعلمه من أخبارك، موفّقا إن شاء الله تعالى.
وقد تقدّم في الكلام على أصول المكاتبات لأيّ معنى كان فرأيك دون فإن رأيت.
وذكر ابن حاجب (2) النّعمان أنّ أعلى المراتب «وللآراء العالية فضل السموّ ومزيد القدرة. ودونه «ولرأي المجلس الفلانيّ فضله وسموّه». ودونه «ولرأي الحضرة الفلانية فضله». ودونه «ورأي حضرة مولانا أسمى». ودونه «ورأي حضرة مولاي العالي». ودونه «ورأيه موفّقا». ودونه «ورأيه السديد». ودونه «ورأيه الأرشد».
__________
(1) الآراب: ج إربة، وهي الحاجة. والأوطار: ج وطر، وهو الحاجة أيضا.
(2) تقدمت ترجمته في الصحيفة 136من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 2.(8/146)
ودونه «والمؤثر كذا». ودونه «فأحبّ أن يفعل كذا». ودونه «ويجب أن يفعل كذا».
ودونه «فافعل كذا من غير مخالفة». ودونه «واحذر المخالفة».
ومنها الاختتام بالدعاء، كما كتب الصابي خاتمة كتاب «وأسأل الله أن يطيل بقاءه، ويصل إخاءه، ويحفظه بعيدا وقريبا، ويرعاه غائبا وحاضرا.
ومنها الاختتام بطلب مواصلة الكتب، كما كتب الصابي في خاتمة كتاب:
وأنا أسأله أن يواصلني بكتبه، مضمّنة أخباره الطيّبة، وأمره الممتثل، وأوطاره ومهمّاته، معتمدا بذلك، إن شاء الله تعالى.
ومنها الاختتام بترك التكليف بالمكاتبة في غير الضروري، كما كتب الصابي في آخر مكاتبة: وما أطالب سيدي بالمكاتبة إلّا عند الحاجة العارضة، فإنه يفيدني بها جميلا أشكره، ويستفيد مني سعيا يحمده، فأمّا ما عدا ذلك مما يشغل أوقات راحته، ويسدّ فرج خلوته، فإنني أستعفي منها استعفاء المتقرّب إليه، المؤثر لما خفّ عليه، وله فيما سألت فضل النظر فيه، والإسعاف به، إن شاء الله تعالى.
ومنها الاختتام بالتحذير من المخالفة، كما كتب الصابي في خاتمة الكتاب إلى جماعة بتحصيل قوم: وليكتب كلّ واحد منهم بخبر من عسى أن يظفر به من هؤلاء، أو يقف على موضعه، أو ينتهي إليه شيء من خبره، وليحذر من التقصير في ذلك. إلى غير ذلك من الاختتامات التي لا تحصى كثرة.
وقد ذهب كثير من الكتّاب [إلى عدم تفضيل بعض الاختتامات على بعض] (1) على أنّ ابن حاجب النّعمان قد قال في «ذخيرة الكتاب»: إنّ أعلى ذلك بالنسبة إلى المكتوب إليه، وللآراء الفلانيّة فضل السّموّ ومزيد القدرة. ودونه «ولرأي المجلس الفلاني فضله وسموّه». ودونه «ولرأي الحضرة الفلانيّة فضله».
__________
(1) اقتبسنا هذه الجملة من المقام وأضفناها لتتميم الكلام. وعبارة ابن حاجب النعمان تقدمت في الصفحة قبل، فتنبه. حاشية الطبعة الأميرية.(8/147)
ودونه «ورأي حضرة سيدنا أسمى». ودونه «ورأي حضرة مولاي العالي». ودونه «ورأيه موفّقا». ودونه «ورأيه السّديد». ودونه «ورأيه الأرشد». ودونه «والمؤثر كذا». ودونه «فأحبّ كذا». ودونه «ويجب أن يفعل كذا». ودونه «وسبيله أن يعتمد كذا». ودونه «فافعل كذا». ودونه «فافعل كذا من غير مخالفة». ودونه «واحذر المخالفة».
المهيع الرابع (في عنوانات الكتب على هذا المصطلح، وفيها أربعة أحوال)
الحالة الأولى أن يكون العنوان من الرئيس إلى المرؤوس
. قد ذكر في «صناعة (1) الكتّاب» أنّ العنوانات من الوزير والقاضي وغيرهما من الرؤساء على تسع مراتب:
(الأولى) أن يكتب في الجانب الأيمن «لأبي فلان أطال الله بقاءه وأعزه»، وفي الجانب الأيسر «من فلان بن فلان» باسم الوزير واسم أبيه إن لم يكنّه الإمام، فإن كنّاه، كتب «من أبي فلان»، والقاضي في معنى ذلك.
(الثانية) أن يكتب في الجانب الأيمن «لأبي فلان أطال الله بقاءه» فقط، ويكتب الاسم (2) ولا يكتب: وأعزّه.
(الثالثة) أن يكتب في الدعاء للمكتوب إليه: أدام الله عزّه.
(الرابعة) أن يكتب: أعزّه الله.
(الخامسة) أن يكتب: أكرمه الله وأدام كرامته.
(السادسة) أن يكتب: أكرمه الله، وفي ذلك يكتب اسم الوزير في الجانب الأيسر.
__________
(1) الكتاب لأبي جعفر النحّاس، وقد تقدمت ترجمته في الصحيفة 131من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 2.
(2) أي اسم الوزير في الجانب الأيسر، وقوله: «ولا يكتب وأعزه» أي: في الدعاء للمكتوب إليه الذي هو في الجانب الأيمن. حاشية الطبعة الأميرية.(8/148)
(السابعة) أن يكتب: أبقاه الله، ولا يذكر اسم الوزير في هذه المرتبة وما بعدها.
(الثامنة) أن يكتب: حفظه الله، ولا يكتب اسم الوزير.
(التاسعة) أن يكتب: عافاه الله.
وعلى نحو ذلك جرى ابن حاجب النّعمان في «ذخيرة الكتاب» فقال: إنه يبدأ في الجانب الأيمن بذكر المكتوب إليه ونعوته وكنيته واسمه واسم أبيه ونسبه المشهور من ناحيته أو قبيلته أو بلده، ثم يذكر المكتوب عنه في الجانب الأيسر باسمه واسم أبيه، فإن كان الكتاب عن الوزير، ذكر كنيته في الجانب الأيسر، إن كان الإمام أمره أن يكاتب متكنّيا أو متلقّبا.
وقد سبق في الكلام على أصول المكاتبات في أوّل الباب الثاني من هذه المقالة أنّ من السّلف من كره لأبي فلان وقال: الصواب أن يكتب إلى أبي فلان.
قال في «صناعة الكتاب» ويكتب: لأبي الحسن، فإن أعدت الكنية في الناحية الأخرى رفعت فقلت: أبو الحسن عليّ بن فلان على المبتدإ والخبر أو على إضمار مبتدإ، وإن شئت خفضت على البدل، فإن لم تعد الكنية كان الخفض أحسن فقلت لأبي الحسن. ثم قال: وإن كتبت إلى رجلين كنية كلّ منهما أبو الحسن، كتبت لأبوي الحسن، إذا لم يكن لهما ولد يقال له الحسن، فإن كان لكل منهما ولد يقال له الحسن، جاز أن يكتب لأبوي الحسنين. قال: والاختيار أن يكتب لأبوي الحسن أيضا لأنّ المعنى للّذين يقال لكلّ واحد منهما أبو الحسن.
ويجوز أن يكتب إلى الرجلين اللّذين يكنّيان بأبي الحسن: لأبي الحسن بفتح الباء وكسر الياء على لغة من قال جاءني أبك، والأصل فيه لأبين الحسن سقطت النون للإضافة، ويكتب في الجميع لأبي الحسن بكسر الباء، الأصل لأبين بكسرها أيضا، سقطت النون للإضافة على لغة من قال: جاءني أبوك يعني بضم (1) الواو،
__________
(1) كذا في الأصل، ولم نعثر في كتب النحو على هذه اللغة، ولعله تحريف من الناسخ، والأصل:
جاءني أبك، أي بضم الباء. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/149)
ويجوز أن يكتب لرجل كنيته أبو الحسن لأبا الحسن على لغة القصر، كما يقال لفتى الحسن.
قال في «ذخيرة الكتاب» وإن كان الكتاب إلى اثنين (1) وكنايتهما مختلفة، كأبي جعفر، وأبي منصور، وأبي بكر، كتبت آباء جعفر ومنصور وبكر. وإن كانت كنايتهم متفقة مثل أن تكون كنية كلّ منهم أبو جعفر كتبت آباء جعفر.
الحالة الثانية أن يكون العنوان من المرؤوس إلى الرئيس
. قد ذكر «النحاس» عن الفضل بن سهل أنه إذا خوطب الكفء «بجعلني الله فداءك» بالصدر الكامل، فأحسن دعائه للعنوان، «أعزّه الله وأطال بقاءه»، وذكر أنه إذا كوتب بأعزّه الله فأجمل العنوان مدّ الله في عمره. قال في «صناعة الكتّاب» ولا يتكنّى الرجل في كتبه، إلّا أن تكون كنيته أشهر من اسمه فيتكنّى على نظيره، ويتسمّى لمن فوقه، ثم يلحق المعروف أبا فلان، أو المعروف بأبي فلان. قال:
ويكتب: من أخيه، إن كانت الحال بينهما توجب ذلك.
الحالة الثالثة أن يكون العنوان من الرجل إلى ابنه ومن في معناه
، قد ذكر النحاس أنه يعنون إليه من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان، ثم قال: وكذا كبير الإخوة والرجل إلى أهل بيته.
الحالة الرابعة أن يكون المكتوب إليه امرأة
. قال في «صناعة الكتّاب»:
إن كان المكتوب إليه أمّ الخليفة، كتب: للسيدة أمّ فلان أمير المؤمنين، وإن كانت امرأة الخليفة وكان ابنها معهودا إليه بالخلافة، كتب للسيدة أمّ فلان وليّ عهد المسلمين، وإن كانت امرأة رجل جليل، كتب للحرّة أمّ فلان، ولا يكتب اسمها، ويدعو لها بالدعاء الذي يكون خطابها به.
__________
(1) الأصح: «إلى اثنين فأكثر وكنايتهم» ويتضح ذلك من سياق الفقرة. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/150)
هذا ما كان الحال عليه في زمن النحاس في خلافة الراضي وما حولها.
وقد ذكر ابن حاجب النعمان في «ذخيرة الكتّاب» أنّ الحال تغيّر عن ذلك عند تغيّر المكاتبات إلى المجلس العالي، والحضرة السامية، وما يجري مجرى ذلك، ثم قال: فعلى هذا إذا كتب إلى المكتوب إليه بالمجلس العالي أو السامي ونعوته، فيجب أن يكنّي عن نفسه بالمملوك أو مملوكه أو العبد أو الخادم. وإذا كتب: الحضرة السامية أو العالية ونعوتها، فيجب أن يكنّي عن نفسه الخادم أو خادمها أو عبدها أو إذا كتب: حضرة سيدنا ونعوتها، فيجب أن يكنّي عن نفسه خادمها أو خادمه وعبدها أو عبده. وإذا كتب: حضرة مولانا ونعوته، فيجوز أن يكنّي عن نفسه ما شاء من ذلك. قال: وفي الكتابة إلى النظير لا ضابط لعنوانه كما لا ضابط لمكاتبته، بل له أن يكنّي عن نفسه بما شاء مما تقدّم ذكره.
ثم قال: وإن كانت المكاتبة من الرئيس إلى المرؤوس، فيجب أن يكنّي:
حضرة الفلاني بغير مولاي ودونه: الفلاني بغير حضرة، وكنيته ونعوته واسمه واسم أبيه، ويكنّي عن نفسه ما يختار أن يكتبه الرئيس إلى المرؤوس مما هو معروف مشهور، ويزيد في اسمه واسم أبيه ألفا ولا ما، إن كانا مما يجوز أن يزاد [فيهما]، وإذا كتب المرؤوس إلى الرئيس وكنّى عن نفسه بما كنّى، فيجب أن يحذف من اسمه واسم أبيه الألف واللام. قال: وللرئيس أن يكتب عن نفسه بما شاء من الكنايات التي تليق بمنصبه واسمه واسم أبيه ونعته المقترن بأمير المؤمنين، مثل ناصر أمير المؤمنين، وحسام أمير المؤمنين، وما أشبه ذلك.
المقصد الثاني (في [رسوم] إخوانيّات أهل المغرب)
وعادتهم فيها أن يكون الخطاب فيها خطاب المواجهة. مثل: أنت، وأنا، ولك، وعندي، وعندك. وربّما خاطبوا الواحد بميم الجمع تعظيما للمكتوب إليه، كما يعبّر عن المتكلّم الواحد بنون الجمع تعظيما له. قال ابن شيث في
«معالم الكتابة»: ولا يعرف ذلك لغيرهم، وربّما وقع الخطاب عندهم على الغيبة أيضا، وفيه جملتان:(8/151)
وعادتهم فيها أن يكون الخطاب فيها خطاب المواجهة. مثل: أنت، وأنا، ولك، وعندي، وعندك. وربّما خاطبوا الواحد بميم الجمع تعظيما للمكتوب إليه، كما يعبّر عن المتكلّم الواحد بنون الجمع تعظيما له. قال ابن شيث في
«معالم الكتابة»: ولا يعرف ذلك لغيرهم، وربّما وقع الخطاب عندهم على الغيبة أيضا، وفيه جملتان:
[الجملة الأولى (في مفتتحات المكاتبات على اصطلاحهم، وفيها مهيعان)
المهيع الأوّل (في ابتداء المكاتبات، وهي على طرق)]
(1)
منها أن تفتتح المكاتبة بالدعاء إمّا بطول البقاء كما كتب عبد الله بن طاهر (2): أطال الله بقاء سيدي الأعلى، ومفزعي في الجلّى، متمّمة عليه النّعم، ميسّرة لديه الهمم، أقول بدءا أيّدك الله: لقد أعشى الناظرين سناك، كما أعيا الطالبين مسعاك، ولئن فتّ الجميع، لقد أبدعت الصّنيع، فلا غاية لمجد إلّا وأنت آتيها، لا ذروة لعزّ إلّا ومن ظباك بانيها، لك الهدى والناس ضلّال، وفي يديك الضوء والكلّ أغفال، وإن الأمر كذا وكذا.
وكما كتب أبو المطرّف بن عميرة (3): أطال الله بقاء الأخ السّريّ الكريم، الحريّ بالتّقديم والتعظيم، أوحد فرسان الإحسان، وواحد عقبان البيان، ولا زال قلمه جالي بدائع السّحر، جالب بضائع الشّحر (4) مغبوط السّبق، عند كلال جياد
__________
(1) بياض في الأصل وزدناها من نظيرتها الآتية. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) هو أبو محمد عبد الله بن طاهر الأزدي الوادي آشي. كانت له رحلة إلى المشرق أدّى فيها الفريضة، ثم قفل إلى بلده. انظر نفح الطيب (ج 2ص 222).
(3) هو الإمام الأديب الكاتب القاضي أحمد بن عبد الله بن محمد بن الحسين بن أحمد بن عميرة المخزومي، من أهل جزيرة شقر، سكن بلنسية، وكان شيخ كتّاب زمانه وإمام أدباء أوانه، وكان في الكتابة فارسها الذي لا يجارى. فارق الأندلس وقدم تونس وتوفي بها سنة 658هـ. انظر الذيل والتكملة، القسم الأول ص 180150، واختصار القدح ص 5242، ونفح الطيب (ج 1 ص 321313) و (ج 3ص 488)، والمقتضب من كتاب تحفة القادم ص 197والأعلام (ج 1 ص 159).
(4) الشحر: بكسر أوله وسكون ثانية: صقع على ساحل بحر عدن من ناحية اليمن، قال الأصمعي: هو بين عدن وعمان، وإليه ينسب العنبر الشحري لأنه يوجد في سواحله. معجم البلدان (ج 3 ص 327) ولسان العرب، مادة (شحر).(8/152)
الكلام، مبسوط الرّزق، في حال إملاق الأقلام، إن ذكرت أبقاك الله البلاغة فمن على موردها يساجلك، أو قيل في شريعتها بنيت على خمس فإنما هي أناملك، صفوها متفجّر من معينك، وشاؤها لا مطمع فيه لغير يمينك، وشأوها تستوفيه في هيئة متمهّل، وجناها ترعاه بعزّة أخي مهلهل، فقد صرت أمام أمّتها، لا بل إمام أئمتها، والراضع لرسلها، بل الواضع لأصلها. فهنيئا لها أن كنت سابق غايتها، وسائق رايتها، وبشرى لمهرق وشّته يراعتك، ومشّته براعتك، لقد أوتي من الحسن ما تشتريه القلوب بحبّاتها وتشتهيه النفوس أكثر من حياتها، وإن الأمر كذا وكذا.
وإما بالبقاء المجرّد.
كما كتب أبو محمد بن عبد (1) البرّ، إلى بعض أرباب الأقلام:
أبقى الله الشيخ في عزّة تالدة طارفة، وسعادة لا تزال طارقة بكلّ عارفة، ولا زال قاصده مخيّما من رفده بروض ناضر، ومحوّما من مجده على مسرّة سمع وقرّة ناظر، والأمر كذا وكذا.
وإما بالدعاء للحضرة.
كما كتب أبو زيد (2) الفازازي:
أبقى الله حضرة السيد ناضرة أدواح السّعد، عاطرة أفواح المجد، ساكبة أنواع الجدّ، صائبة سهام الجدّ، ولا زالت مغشيّة الجناب، بوفد الحمد، موشيّة
__________
(1) هو الأديب الكاتب أبو محمد عبد الله ابن الإمام الحافظ محدّث الأندلس الفقيه أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النميري، من أهل الأدب البارع والبلاغة الذائعة. توفي سنة 474هـ. انظر الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة (ق 3م 1ص 126125)، وبغية الملتمس ص 354، وقلائد العقيان ص 181ونفح الطيب (ج 4ص 598597).
(2) هو عبد الرحمن بن يخلفتن بن أحمد الفازازي، ولد بقرطبة ونشأ بها، وتجول ببلاد الأندلس والعدوة. توفي بمراكش سنة 627هـ. انظر المقتضب من تحفة القادم ص 185.(8/153)
الإهاب، بسودد الحفد. الظّلّ إذا رحب، ازدحم عليه الضّاحون، والورد إذا عذب، ازدلف إليه الممتاحون، وظلّ الحضرة المكرّمة كثيف الأفياء، ووردها مغن عن وسائط الأرشية والدّلاء، فلا غرو أن تضرب إليها أكباد الإبل، وتغصّ بالوفود عليها أفواه السّبل، والله تعالى يعين الحضرة المكرّمة على الأيادي تسوّغها، والآمال تبلّغها، بمنّه. وإن الأمر كذا وكذا.
وإما بالدّعاء للمحلّ.
كما كتب أبو المطرّف بن عميرة في صدر شفاعة:
أبقى الله المحلّ الأعلى حرما يتحاماه الأنام، وعلما تتضاءل له الأعلام، ولا زالت آراؤه الناجحة، تستمدّها العقول والأفهام، ومساعيه الصالحة، يشكرها الله والإسلام، إنّ مجدا سامى الكواكب بمثواه، وسارى الغرّ السواكب في جدواه، لداع إلى استلام كفّه العلية، والاستهام على وصفه الذي له حقيقة الأوليّة، وكيف لا وقد أجار من الدهر المخيف، وصار قبلة كلّ داخل تحت التكليف، يعيد متى أخطأها صلاة الأمل، ويرى الاجتهاد في طلبها من راحة العمل، وإنّ الأمر كذا وكذا إلى غير ذلك من أنواع الدعاء.
ومنها أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابي» كما كتب أبو المطرّف بن عميرة إلى بعض العلماء:
كتابي إلى سيدي حفظه الله مقيما وسائرا، وأبقاه لغرر البيان ساحرا، وعن وجه الإحسان سافرا، ولا زالت آدابه تشرق وتروق ساهرا، ومحاسنه كالشمس إذا لم يلق نورها ساترا، من فلانة والودّ روضة مطلولة، ورحم موصولة، خلص من القلب إلى حبّته، واختصّ منه بما ليس لأحد من أحبّته، وأثار شوقا على قدره، وهوى ثوى في صدره، وأسفا على عهد أصبو إلى ذكره، فات، وردّ الفائت يعسر، وقصر، وأيام السّرور تقصر، كأنما كان قراءة سطر، أو إغفاءة فجر، أو زيارة مجتاز، أو عبارة ذي إيجاز. فمن لنا بذلك الأرج الذكي، والأريحيّ يرتاح لما يخترع أو يحكي، ومتى نفوز بمن ينحت من صخر، ويزري بأبي صخر، ويغرف
من بحر، ويجري مع أبي بحر، ويجمع إسناده بين الجامع والمسند، وينشد من بدائع حفظه ما يؤثر يد المسند، شجرة علم تؤتى كلّ حين أكلها، ومزنة فضل تجود ما نخشى بخلها، وضالّة أدب يقلّ لها أن يجعل القارت (1) جعلها، فات عنّا، فأتعب وعنّى، فهل معين على دواء إن نحن لسعنا، أو سبيل إلى ما يفيدنا من الكلام فنحن في حروف تجيء بغير معنى، وإن الأمر كذا وكذا.(8/154)
كتابي إلى سيدي حفظه الله مقيما وسائرا، وأبقاه لغرر البيان ساحرا، وعن وجه الإحسان سافرا، ولا زالت آدابه تشرق وتروق ساهرا، ومحاسنه كالشمس إذا لم يلق نورها ساترا، من فلانة والودّ روضة مطلولة، ورحم موصولة، خلص من القلب إلى حبّته، واختصّ منه بما ليس لأحد من أحبّته، وأثار شوقا على قدره، وهوى ثوى في صدره، وأسفا على عهد أصبو إلى ذكره، فات، وردّ الفائت يعسر، وقصر، وأيام السّرور تقصر، كأنما كان قراءة سطر، أو إغفاءة فجر، أو زيارة مجتاز، أو عبارة ذي إيجاز. فمن لنا بذلك الأرج الذكي، والأريحيّ يرتاح لما يخترع أو يحكي، ومتى نفوز بمن ينحت من صخر، ويزري بأبي صخر، ويغرف
من بحر، ويجري مع أبي بحر، ويجمع إسناده بين الجامع والمسند، وينشد من بدائع حفظه ما يؤثر يد المسند، شجرة علم تؤتى كلّ حين أكلها، ومزنة فضل تجود ما نخشى بخلها، وضالّة أدب يقلّ لها أن يجعل القارت (1) جعلها، فات عنّا، فأتعب وعنّى، فهل معين على دواء إن نحن لسعنا، أو سبيل إلى ما يفيدنا من الكلام فنحن في حروف تجيء بغير معنى، وإن الأمر كذا وكذا.
ومنها أن تفتتح المكاتبة بلفظ: كتبت.
كما كتب أبو زيد الفازازي:
كتبت كتب الله للأخ الأبرّ الأوفى، والفاضل الذي آثار مآثره لا تخفى، مجدا هامي الرّبابة، سامي الرابة، وذاكرا منتحلا بالإطالة والإطابة، وقرن أعماله بالقبول ودعواته بالاستجابة من مكان كذا، ولا جديد بيمن الله تعالى إلّا صنعه الجميل، ولطفه العريض الطويل، والحمد لله ربّ العالمين، حمدا يؤمّن آلاءه من التغيير والتبديل، والأمر على كذا وكذا.
ومنها أن تفتتح المكاتبة بكناية عن المكتوب إليه من لقب ونحوه، كما كتب أبو المطرّف بن عميرة لبعض الرؤساء:
الجناب الرّياسيّ أدام الله اعتلاءه وحرس مجده وسناءه.
صدرت هذه الخدمة إليه من فلانة، ولا مزيد على ما يجب لجلاله من التعظيم، ولفضله من التقديم، ولآلائه من الشّكر العميم، وإنّ الأمر كذا وكذا.
وكما كتب أبو بكر (2) بن عيسى شافعا في أنصاريّ:
__________
(1) المسك القارت والقرّات: أجفّ المسك وأجوده قال (طويل).
يعلّ بقرّات، من المسك، فاتق لسان العرب (قرت).
(2) هو محمد بن عيسى بن محمد، اللخمي الداني الأديب الشاعر الأندلسي المشهور بابن اللبانة، إذ كانت أمه تشتغل ببيع اللبن، من شعراء ملك إشبيلية المعتمد بن عباد. قدم ميورقة سنة 489 وتوفي بها سنة 507هـ. انظر الذخيرة (ق 3م 2ص 668666)، وقلائد العقيان ص 245، وبغية الملتمس ص 110109، والمطرب ص 178، ووفيات الأعيان (ج 5ص 27، 39) وفوات الوفيات (ج 4ص 27) ونفح الطيب (ج 4ص 259) وصفحات أخرى متفرقة.(8/155)
السيد العماد، والماجد الجواد، والملجأ المنيع المريع لمن يرتاع أو يرتاد، أدام الله علاءه، وضاعف عنده آلاءه، بدر الجملة الشريفة، وفرع الدّوحة المنيفة، من آل قيس الجود، وقيل بني قيلة الباذلين الموجود، أولئك الذين عزّ المهاجرون بإخائهم وسخائهم، فلا غرو أن تكلف الألسنة بمدحه، وتمدّ الأيدي إلى منحه، ويصدّر باسمه تاريخ الأجداد فهو أحقّ مفتتحه، والأمر كذا وكذا.
وكما كتب أبو المطرّف بن عميرة، عن الأمير أبي جميل (1) زيّان، إلى الأمير أبي زكريّا (2) بن إسحاق:
الأمير الأجلّ الهمام الأعلى حرس الله مقامه، وأسعد أيّامه، وظاهر بالنّصرة مضاءه واعتزامه، راسخ شرف النّجار، ثابت أصل الفخار، مستهلّ آلاء السّحب الغزار، والعيون إليه سامية، والهمم إلى ما لديه مترامية، والصدور بالأمل فيه تشرح، والنفوس الحرّة إلى استرقاقه تطمح، ولا غرو والكرم من بعض شيمه، والغنى من فضل ديمه أن يسير إليه في البر والبحر كلّ ذي رغبة، وتترامى نحوه ركائب الرّجاء من كل تربة، ومخاطبتنا هذه إلى مجلسه أيده الله عمّا نعلمه من كبير قدره، ونوجبه لعالي أمره، ونبيح به من طيّب خبره، وجميل ذكره، والأمر كذا وكذا.
__________
(1) هو زيّان بن مردنيش، ممدوح ابن عميرة وصاحب بلنسية. انظر اختصار القدح ص 43.
(2) أغلب الظن أنه أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص عمر الهنتاني، صاحب إفريقية وتونس، والمتوفّى سنة 647هـ، وليس أبا زكريا إسحاق كما يذكر القلقشندي. قال المقّري: لم يزل أمر بلنسية يضعف باستيلاء العدو على أعمالها إلى أن حصرها ملك برشلونة، فاستغاث زيّان ابن مردنيش بصاحب إفريقية أبي زكريّا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص، وأوفد عليه كاتبه الشهير ابن الأبّار صاحب كتاب التكملة، فقام بين يدي السلطان منشدا قصيدته السينية الفريدة والتي مطلعها (بسيط).
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إنّ السبيل إلى منجاتها درسا
انظر نفح الطيب (ج 2ص 590) و (ج 4ص 460456) وفوات الوفيات (ج 4 ص 294293).(8/156)
وكما كتب أبو الحسن بن شلبون (1):
العماد المذخر، والملاذ الذي بولائه أفخر، جعل الله قدره عاليا، ودهره بمحاسنه حاليا، ولا زال للنّعم قابلا وللأ [سواء] قاليا، كتبت من مكان كذا، والودّ حلية يتألّق رونقها، وشجرة لا يسقط ورقها، وإنها مغروسة، لا تقبل بذر العوادي، ومحروسة، لا يقع عليها من يقع في شجر الوادي، والأمر كذا وكذا.
وكما كتب أبو المطرّف بن عميرة إلى بعض الفقهاء شافعا موصيا:
المحلّ الأعلى ضاعف الله أنوار هدايته، وأبقى على الجميع آثار عنايته مستودع الكمال، ومشرع الآمال، ومقعد أرباب السّؤال، ومصعد الصالح من الأعمال، وإن فلانا من أمره كذا وكذا.
وكما كتب ابن أبي (2) الخصال:
الشيخ الأجلّ أدام الله عزّه ونعماه، ووصل رفعته وعلاه بتقواه، مجلّ قدركم، وملتزم برّكم وشكركم، العارف بحقّكم، فلان، فكتب يعظّمكم كتب الله لكم خيرا مستمرّا، ورضا على ما ترضونه ثابتا مستقرّا، من مكان كذا، على الرسم الملتزم من توفير علائك، والشّكر لآلائك، والربّ تعالى ينهض بحقكم اللازم الألزم، ويصل حراسة مجدكم الأتلد الأقدم، بمنّه وفضله، وإنّ الأمر كذا وكذا.
واعلم أنه ربّما أتي بعد ذكر النّعوت بالسلام، ثم بحمد الله تعالى والصلاة
__________
(1) هو علي بن لبّ بن شلبون المعافري، من أهل بلنسية، كتب لولاتها، ثم وزر لمحمد بن يوسف بن هود سنة 625هـ. كان من الأدباء النجباء وكانت وفاته بمراكش سنة 639هـ. انظر المقتضب من كتاب تحفة القادم ص 203.
(2) هو ذو الوزارتين أبو عبد الله محمد بن مسعود بن خلصة بن فرج بن مجاهد بن أبي الخصال، الغافقي النحوي الأديب الكاتب، إمام الكتابة والنظم. أصله من فرغليط من عمل شقورة، سكن قرطبة وغرناطة، وكتب ليوسف بن تاشفين أمير المرابطين. توفي مقتولا سنة 540هـ بقرطبة على يد رجال ابن غانية. انظر الذخيرة (ق 3م 2ص 787784)، وقلائد العقيان ص 175، وبغية الملتمس ص 131، والمطرب ص 188187وبغية الوعاة ص 104.(8/157)
على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله، ثم الرّضا عن الخلفاء الماضين والخليفة القائم. وعلى ذلك كانت طريقة كتّاب دولة الموحّدين أتباع «المهديّ (1) بن تومرت» كما كتب أبو محمد بن عبد البرّ:
الشيخ الأجلّ، أدام الله عزّته، ووصل كرامته ورفعته، مجلّ قدره، وملتزم برّه وشكره، المسرور بما يجريه إحسانه من طيّب ذكره.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد حمد الله العظيم، والصلاة على سيدنا محمد رسوله الكريم، وعلى آله والرّضا عن الإمام المعصوم مهديّه، وعن خلفائه الأئمة الراشدين والدعاء لسيدنا الخليفة الإمام أمير المؤمنين، ابن الأئمة الخلفاء أمراء المؤمنين، بالنّصر الأعزّ، والفتح الأتمّ الأوفى، فكتب كتب الله لكم مجدا لا يهي شرفه، وسعدا لا يني طرفه، من فلانة حرسها الله ولا ناشيء عن الله تعالى وعميم لطفه إلّا الخير الأكمل، والصّنع الأجمل، والحمد لله رب العالمين كثيرا، وإنّ الأمر كذا وكذا.
قلت: وعلى هذه الطريقة كانت كتابة أبي عبد الله بن الخطيب (2)، كاتب ابن الأحمر بالأندلس على القرب من زماننا.
ومنها أن تفتتح المكاتبة بالخطاب، إما مع حذف ياء النّسب أو مع إثباتها، أما مع حذفها، فكما كتب أبو المطرّف بن المثنى (3):
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت، المنعوت بالمهدي الهرغي، صاحب دعوة عبد المؤمن بن علي بالمغرب، ومؤسس حكم الموحدين بالمغرب والأندلس. كان ورعا ناسكا مقبلا على العبادة. توفي سنة 524هـ. انظر وفيات الأعيان (ج 5ص 5545).
(2) تقدمت ترجمته في الصحيفة 108من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 3.
(3) هو الوزير الكاتب عبد الرحمن بن أحمد بن صبغون، من أهل قرطبة وسكن بلنسية، ثم انفصل عن المنصور عبد العزيز بن أبي عامر، صاحب بلنسية، والتحق بالمأمون يحيى بن ذي النون، صاحب طليطلة، فاستوزره عدة سنين. كان متحققا بصناعة الكتابة، بذ أهل وقته في البيان والبلاغة، وكانت وفاته سنة 458هـ. انظر الذخيرة (ق 1م 1ص 28)، و (ق 3م 1 ص 418409) ونفح الطيب (ج 3ص 559).(8/158)
سيّدي ومفخري، وعصمتي ووزري، وركني وعمادي، وذخيرتي وعتادي، أبقاك الله ناهجا سبل المكارم والمعالي، موقّى حوادث الأيّام واللّيالي. كتبي أعزّك الله عن عهد حسن لك قد أحكمت معاقده، وودّ محض فيك قد صفت موارده، ونفس ترتاح لذكراك، ولسان لاه بين محاسنك وعلاك، قد انفسح في نشر فضائلك ميدانها، وفاق في وصف فواضلك بيانها، فهي تنظم عقود مجدك، على أجياد شكرك، وتحوك من برود تقريظك وثنائك، خلعا لمجدك وسنائك، وشيها الذّكر الخطير، وطرازها الترفيع والتّوقير، تكسر عصب عدن، وتعفّي على وشي اليمن، وتطلع من رياض أخلاقك، في منابت أعراقك، ما يزري بنسيم المسك تضوّع عرفه وانتشاره، ويربي على حسن النجوم الزاهرة طوالع أزهاره وأنواره، وأخلق بمن جمع الله العالم فيه، وحرس معاهد البرّ بكريم مساعيه، أن لا تعزى خلّة نبيلة إلّا إليه، ولا تقصر منقبة جليلة إلّا عليه، ولا تؤثر مأثرة نفيسة إلّا عنه، ولا تقتبس سيرة جميلة إلّا منه، والله تقدّس اسمه يحمي هذه الأوصاف البديعة، والخلال الرفيعة، من طوارق الدّهر ونوازل الغير، ويجعل عليها يدّه، ويصرف عنها معرّة كل خطب وشدّة، بحوله وطوله، ويكون الأمر كذا وكذا.
وأمّا مع إثبات ياء النّسب (1)، فكما كتب أبو المطرّف بن الدّبّاغ (2) إلى بعض الأدباء عند وروده إلى بلاده:
يا مولاي وسيّدي، العظيم شأنه وأمره، العالي صيته وذكره، ومن أبقاه الله في عزّ لا تنفصم عراه، وحرز لا يستباح حماه، لم أزل أبقى الله سيّدي ومولاي تسمو بي إلى الكتابة همّة، وتترامى بي إلى البلاغة عزمة، حتّى تذلّلت لي صعابها فامتطيت، وتسهّلت لي حزونها فارتقيت، ولمّا رفعت لي عن غرائبها
__________
(1) لم تثبت فيه ياء النسب كما هو ظاهر. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) هو الوزير الكاتب عبد الرحمن بن فاخر المعروف بابن الدبّاغ، خدم ملك سرقسطة المقتدر بن هود، ثم خرج عنه وفرّ إلى إشبيلية فأجزل المعتمد بن عباد قراه، ثم عاد إلى سرقسطة، فقتل في بستان من بساتينها. انظر الذخيرة (ق 1م 1ص 28، 480) و (ق 3م 1ص 317251) وقلائد العقيان ص 106.(8/159)
الأستار، وعلمت من غوامضها الأسرار، وفزت بالمعلّى من سهامها، والموفور من أقسامها، جعلت بأيّ أئمتها أأتمّ وأهتدي، وإلى أي رؤسائها أنتسب وأعتزي، ناظرا في ذلك إلى شائع الأخبار، ومتداول الآثار، فوجدت الألسنة إذا تناولت صفة سواه، تحلّت بعض حلاه، أو أرقته إلى رتبة من العلياء، تمثّلت به في الرّفعة والسّناء، ثم تفرده أعزّه الله دونها بالفهم المتين، والعلم المشهور، والحلم المتعارف، والفضل المتواصف، والرّتبة السامية، والجلالة المتناهية، فكلّما رأيت محاسن مجده تجلى، وسور فضله تتلى، هممت أن أطير إلى حضرته بجناح الارتياح، وأركب إلى أفقه نوّره الله أعناق الرّياح، والأيّام تقطعني بمصائبها، وتقيّدني بأحداثها وبحوائبها، حتّى قضى الله أن يرد هذا الأفق فأخرخ الأمل بغير نصب، وأنال البغية بغير طلب (طويل).
وليس الّذي يتّبّع الوبل رائدا ... كمن جاءه في داره رائد الوبل
ومنها أن تفتتح المكاتبة بالتحيّة والسّلام.
كما كتب أبو المطرّف (1) بن عميرة:
تخصّ الابن محبّة ومقة، والعباد اعتدادا بجانبه وثقة، حفظ الله نجابته، وجعل لداعي السّيادة تلبيته وإجابته، تحيّة الإجلال والتّكرمة، والمودّة الخالصة المتحكّمة، ورحمة الله تعالى وبركاته، من مكان (2) كذا، والودّ كلف، والعهد بالصّون من جميع جوانبه مكتنف، وتكلم الذات السنيّة ذخيرة جليلة، وأمل لا تخطيء منه مخيلة (3)، وهبة يكذب معها أن يقال الأيّام (4) بخيلة. وكنّا نظنّ أنّ
__________
(1) تقدمت ترجمته في الصحيفة 152من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 3. والكتاب المذكور ورد في اختصار القدح ص 5150، بعثه ابن عميرة لأحد الرؤساء بشاطبة.
(2) جملة «من مكان كذا» ساقطة في اختصار القدح، صفحة 51.
(3) المخيلة: الظنّ.
(4) في اختصار القدح: «إنّ الأيام بخيلة».(8/160)
بناء (1) الكرم صمّ صداه، ومربع الفضل عاصب (2) برداه، وغائب عن الرّشد أداه (3) ونقول: ما كلّ من أقعدته العيلة (4) عميلة، ومتى يفطن (5) عمير عمر وبحيله، فكفا بكفاتها، وهل (6) سوى قيس لرحى العجوز عدمت جداتها، حتّى (7) تمثّل هذا المجاهد من طرفيه، المستقبل آثار سلفيه، حفظ الله الألفاظ والألسنة، وحملة الأقلام والأسنّة.
وكما كتب أبو زيد الفازازي:
السّلام الكريم العميم، على الشيخ الذي أثبت على ودّه فلا أتحوّل، وأطنب في حمده فلا أستعير ولا أتأوّل، وأتعلّل بذكره عند عدم مرآته ولأمر ما أتعلّل، فلان أدام الله رفعته، وحرس من الأسواء مهجته. كتب أخوكم، البرّ بكم، الشّيّق إليكم الشاكر لمحاسنكم، المسرور بما سمعه من صلاح أحوالكم، فلان، ولا جديد بمنّ الله تعالى إلّا الخير والحمد لله كثيرا، والأمر كذا وكذا.
__________
(1) في اختصار القدح: «أنّ فناء الكرم».
(2) في اختصار القدح: «غاض». وبردى نهر دمشق، وهو هنا على التمثيل.
(3) في اختصار القدح: «وغابت عن المتوسّد أبرداه، وأنه لا فتى كمالك، ولا سؤدد إلّا ما يؤثر عن مالك. ونقول» والأبردان هما الليل والنهار. ومالك هو مالك بن نويرة، أدرك الإسلام وأسلم، وكان فارسا شاعرا، وهو الذي يقال فيه المثل: «فتى ولا كمالك». مجمع الأمثال (ج 2 ص 78) ومالك الاسم الثاني هو مالك بن طوق بن غياث التغلبي، أحد الأشراف والفرسان الأجواد، المتوفّى سنة 259هـ. فوات الوفيات (ج 3ص 232231).
(4) في اختصار القدح: «العيلة، جاوره عميلة». وعميلة هو عميلة الفزاري، من الأجواد، وقصة مشاطرته أسيد بن عنقاء الفزاري ماله مشهورة. انظر عيون الأخبار (ج 3ص 180) والأغاني (ج 17 ص 117).
(5) في اختصار القدح: «ومتى يفطن غير عمرو لخلة يخفى مكانها، وهل سوى» وعمرو هو عمرو ابن العاص.
(6) في المصدر السابق: «وهل سوى قيس يرتجى لعجوز عدمت جرذانها». وهنا أوضح. وقيس هو قيس بن سعد بن عبادة. وقد وقفت عليه امرأة فقالت: أشكو إليك قلة الجرذان. قال: ما أحسن هذه الكناية! املئوا لها بيتها خبزا ولحما وسمنا وتمرا. انظر العقد الفريد (ج 1ص 256).
(7) في اختصار القدح: «حتى نشأ هذا الماجد من طرفيه، المتقبّل آثار سلفيه، حفظة الأطراف والسنة، وحملة الأقلام والأسنة». وهنا أوضح.(8/161)
ومنها أن تفتتح المكاتبة بالكناية عن المكتوب عنه، كما كتب ابن أبي الخصال إلى بعض الكتّاب يسأله حاجة:
معظّم الشيخ الأجلّ أبي فلان، ومجلّه المكبّر له فلان، أعلى الله قدركم، وأوزع أولياءكم شكركم، أياديكم أدام الله كرامتكم أوكف من الغمام، ونعمكم ألزم للأعناق من أطواق الحمام، وإنّ وليّكم ومعظّمكم يحتاج إلى كذا وكذا.
ومنها أن تفتتح المكاتبة بلفظ من فلان.
كما كتب [بعضهم] من فلان، إلى الشيخ الحافظ الأكرم أبي فلان، أدام الله كرامته بتقواه، فالكتاب إليكم كتب الله لكم أحوالا صالحة، وخيرات عليكم غادية رائحة، من موضع كذا، والبركات متوافرة، والخيرات متظاهرة، والحمد لله تعالى، وإنّ الأمر كذا وكذا.
ومنها أن تفتتح المكاتبة بلفظ إلى فلان.
كما كتب بعضهم إلى والده:
إلى مولاي المعظّم وأبي، المتكفّل بتعليمي وحسن أدبي، أبقاه الله ناظرا إليّ بعين رضاه، وأعانني على الجري في برّه على حكم الشّرع القويم ومقتضاه، من ابنك المعظّم لك، بل عبدك المتطلّع إلى ما يصل من الأنباء الكريمة من عندك، المواصل المسعى في شكرك وحمدك، فلان بأبي كتبته كتب الله لكم ليانا من العيش وخفضا، وجمع بعد الافتراق بعضا منّا وبعضا، ويسّر لي بطوله ومنّته أن يصفح عنّي وأن يرضى، من موضع كذا، ولا جديد إلّا نعم من الله عزّ وجلّ تراوح وتغادي، وتجري الخواتم منها على حكم المبادي، وشوق إليكم يعمر أحناء ضلوعي وفؤادي، ويحسم عنّي قطيعي دمعي الهتون وسهادي، والله جلّ وعزّ ييسّر انقضاب غربة النّوى، ويريح النفوس من محرق اللّوعة ولا عج الجوى والأمر كذا وكذا.(8/162)
المهيع الثاني (في الأجوبة) (وهي على ما تقدّم في أجوبة المشارقة من أنها على ضربين)
الضرب الأوّل (أن يفتتح الجواب بما يفتتح به الابتداء، ثم يقع التعرّض إلى وصول الكتاب، وذكر الجواب عنه)
كما كتب أبو عمرو (1) الباجي:
وعدك الكريم أدام الله عزّك دين، وقضاؤه شرف وزين، ومثلك من تحلّى بمحاسن الشّيم، وزاحم في السّيادة بالمنكب العمم، وحفظ العهد لما أضيع، واشترى المجد بما بيع، والتزم للوفاء شرطا لا يفسخ، ورآه شرعا لا ينسخ، ووصل كتابك العزيز في معنى كذا وكذا.
الضرب الثاني (أن يفتتح الجواب بورود الكتاب ووصوله ابتداء)
كما كتب ابن أبي الخصال:
ورد كتابك في أمر فلان يفرض الحمل عليه في النّفوذ لوجهته، والتقدّم إلى رتبته، وليس عندي إلّا عون وإنجاد، وطاعة وانقياد، غير أنّ في الأمر كذا وكذا.
الجملة الثانية (في خواتم المكاتبات على اصطلاحهم، وهي على أساليب)
مها أن يختم الكتاب بالسلام المجرّد عن الدعاء.
__________
(1) ترجم له ابن بسام وذكر كنيته أبا عمرو وأبا عمر وقال: هو الوزير الكاتب يوسف بن جعفر، كاتب الرسائل، ومن بلغاء الكتّاب. كان أبوه جعفر أحد الكتّاب صدر الفتنة عند عدد من الملوك، آخرهم يحيى بن إسماعيل بن ذي النون. توفي سنة 435هـ. الذخيرة (ق 1م 1ص 25، 337) و (ق 1م 2 ص 666، 897) و (ق 2م 1ص 200186). وقلائد العقيان ص 102.(8/163)
كما كتب أبو عمرو الباجي في خاتمة كتاب:
وأقرأ عليك سيّدي، وأسنى عددي، أجزل السّلام وأحفله، وأتمّه وأكمله.
ومنها أن يختم بالدعاء.
كما كتب أبو المطرّف بن الدبّاغ في خاتمة كتاب:
والله لا يخلي مولاي من عبد يسترقّه، ومنعم ينعم عليه [بما] يستحقّه، وجميل يوليه، وصنع يسديه، بمنّه وجميل صنعه.
ومنها أن يختم بذكر التودّد والمحبّة.
كما كتب أبو جعفر (1) الكاتب في آخر كتاب:
وإن لم يكن لي من الحقّ ما لا أتبسّط به عليه، فلي من الودّ ما أمتّ به إليه، فحسبي به سلّما إلى فضلك، وذريعة إلى مجدك، إن شاء الله تعالى والسّلام.
ومنها أن يختم باستماحة النظر في أمر المكتوب عنه.
كما كتب أبو المطرّف بن المثنّى في خاتمة كتاب:
ولك الطّول العامّ، والفضل الزاهر، في اعتبار أمري، وتحقيق خبري، والسّلام.
إلى غير ذلك من الخواتم التي تستدعيها المكاتبة وتستوجبها المقاصد، وفيما ذكر من الصّدور والخواتم ابتداء وجوابا مقنع لمن تأمّل والله المستعان في الأمر كلّه.
__________
(1) هو الوزير الكاتب أحمد بن أحمد الداني، من مدينة دانية، كان أنبه الكتّاب وأوسعهم عند ملوك الطوائف، وكان متقدّما في المنظوم والمنثور. انظر الذخيرة (ق 1م 1ص 29). و (ق 3م 2 ص 773755) وقلائد العقيان ص 165.(8/164)
المقصد الثالث (في الإخوانيّات المستعملة بالديار المصرية، وفيه ثلاثة مصطلحات)
المصطلح الأوّل (ما كان الأمر عليه في الدولة الطّولونيّة وما قاربها مما جرى عليه ابن عبد كان (1) وغيره، وفيه ثلاثة مهايع)
المهيع الأوّل (في الصّدور وهي على ضربين)
الضرب الأوّل (الابتداءات، ولهم فيه أساليب)
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بالدعاء، وعليه غالب كتابتهم، وهي على أنماط)
منها الدعاء بطول البقاء وما في معناه.
كما كتب ابن عبد كان في صدر مكاتبة: أطال الله بقاءك، ففي إطالته حياة الأنام وأنس الأيام والليالي، وأدام عزّك ففي إدامته دوام الشّرف ونموّ المعالي، وأتم نعمته عليك فإنها نعمة حلّت محلّ الاستحقاق، ونزلت منزلة الاستيجاب ووقفت على من لا تكره الآلاء مكانه، ولا تنكر الفواضل محلّه.
وكما كتب: عمر الله بك الأزمنة والدّهور، وآنس ببقائك الأيّام والشّهور، وأمتع بدوام عزّك السّعداء بحظّهم منك.
__________
(1) هو أبو جعفر محمد بن عبد الله بن محمد بن مودود، الكاتب المنشيء وصاحب الرسائل المدوّنة في عشر مجلدات. كان على المكاتبات والترسّل منذ أيام أحمد بن طولون، ومكاتباته وأجوبته موجودة إلى آخر أيام أبي الجيش خمارويه بن أحمد، ولي البريد بدمشق وحمص أول الأمر ثم صار كاتب أبي الجيش خمارويه. توفي سنة 270هـ. انظر الوافي بالوفيات (ج 3ص 315) والأعلام (ج 6 ص 223).(8/165)
ومنها الدعاء بدوام النّعمة.
كما كتب: أسبغ الله عليك نعمه الراهنة بنعمة المستظفر، وصانها لديك بإيزاع الشّكر عليها، فلم أر ولله الحمد نعمة قصدت مستقرّها، وتوخّت وليّها، وتمنّت كفؤها، إلّا نعمتك أكسبت أولياءها عزّا ونضرة، وملأت أعداءها ذلّة وغضاضة، وتمكّنت بمحلّ الصّيانة والرّعاية، وخيّمت بمستقرّ الشّكر والحمد.
ومنها اطّراح الدعاء بدوام النعمة لتقييدها بموجباتها منها.
كما كتب: قد كفى الله عزّ وجلّ مؤونة الدعاء لنعمتك بالنّماء لأنها توخّت لديك محلّها، فحلّت بفنائك سارّة، مطمئنّة قارّة، تستوثر مهادها قبلك، وتستهنيء مواردها عندك، ولم تزل تائقة إليك، متطلّعة نحوك بما استجمع لها فيك، من لطيف السّياسة وحسن الاحتمال لأعباء المغارم، فهنأكها الله متصلة البقاء بطول مدّة بقائك، ومتحلّية بحسن فنائك، فلا زلت لعوارف النعم مستدعيا، وللشكر بالزيادة فيها ممتريا، وبدوام الحمد لردفها مستمريا.
ومنها الدعاء بجعلت فداك.
كما كتب: جعلني الله فداك، فإنّ في ذلك شرفا في العاجل، وذخر العقبى في الآجل، وخير تراث لمخلّفي من بعدي، دعاء أخلصته النّيّة، وصدّقته الطويّة.
ومنها استكراه الدعاء بالتفدية.
كما كتب: إن قلت في كتبي إليك: جعلني الله فداك، فأكون قد بخستك حظّ إحسانك إليّ، وحقّ مفترضك عليّ لأنها نفس لا توازن ساعة من يومك، ولا توازي طرفة من دهرك، وإنما يفدّى مثلك بالأنفس التي هي أنفس من الدنيا وأعرض من أقطار الأرض.
ومنها تفدية النّعمة إعظاما لها.
كما كتب: جعلني الله فداء نعمتك التي علت ذروة سنامها، وفاضت درّة سمائها، فعمّرت أقطار الآملين، ونضّرت جناب ناحية المعتمدين.
ومنها الدعاء بصلاح الدنيا وغبطة الآخرة.
كما كتب: أسعدك الله بعواقب قضائه وقدره، ووهب لك الصّلاح في دينك والسلامة في دنياك.(8/166)
ومنها الدعاء بصلاح الدنيا وغبطة الآخرة.
كما كتب: أسعدك الله بعواقب قضائه وقدره، ووهب لك الصّلاح في دينك والسلامة في دنياك.
ومنها الدعاء بكبت العدوّ.
كما كتب: مكّن الله يدك من ناصية عدوّك بالصّولة عليه، ومن زمام وليّك بالإحسان إليه، وبلّغك من كلتا الحالتين ما ينمي على تأميلك، ويوفي على تمنّيك.
ومنها الدعاء المشترك بين المكتوب عنه والمكتوب إليه.
كما كتب: أدام الله أنسي بحياتك، وحرسني من الغير في نعمتك، وأكرمني بصيانة أيّامك ولياليك، وأعزّني بذلّ عدوّك وقمح حاسديك.
ومنها الدعاء بطيب الحياة.
كما كتب: عش أطيب الأعمار، موقّى من سوء الأقدار، مبلّغا نهاية الآمال، مغبوطا في كلّ الأحوال، لا ينقضي عنك حقّ عارفة حتّى تجدّد لك أخرى أجلّ منها، ولا يمرّ بك يوم من الأيّام إلّا كان مؤمّنا (1) على أمسه مقصّرا عن فضلة غده.
ومنها: الدعاء باقتضاء العدل والإنصاف.
كما كتب: جعلك الله ممّن ينظر بعين العدل، وينطق بلسان القسط، ويزن بقسطاس الحقّ، ويكيل بمعيار الإنصاف.
ومنها: الدعاء بإيزاع الشّكر.
كما كتب: وصل الله لك كلّ نعمة ينعمها عليك من الشّكر بما يكون لحقّها قاضيا، وللمزيد إليها داعيا، ومن الغير مؤمّنا، وللسّلامة موجبا.
ومنها: الدعاء للحاجّ بالبلاغ.
__________
(1) لعله: «موفيا» تأمل. حاشية الطبعة الأميرية.(8/167)
كما كتب: أوطأك الله في مسيرك أوثر المطايا، وخوّلك فيما نويته أسبغ العطايا، وأوردك الهداية إلى كريم المشاهدة وزكيّ المواقف وأولاها بالزّلفة المقبولة، والقربة المأمولة.
ومنها: الدعاء للمسافر.
كما كتب: جعلك الله في حفظه وكنفه، وأحاطك بحيطته، وجعل سفرك أيمن سفر عليك، ورجع لك بدرك الحاجة، وبلوغ الأمل، ونجح الطّلبة، ونيل السّؤل.
ومنها: الدعاء بالعافية من المرض.
كما كتب: مسح الله ما بك، وعاد بالبرّ عليك، وعجّل الشّفاء لك، ومحّص بلواك.
ومنها: الدعاء للولاة.
كما كتب: أجرى الله بالخير يدك، وصما (؟) بالعزّ طرفك، وأوطأ كلّ مكرمة قدمك، وأطال إلى كلّ غاية هممك، وبلّغك أقصى محبّتك.
ومنها: الدعاء في الأضحية بقبول النّسك.
كما كتب: جعلك الله بقبول النّسيكة والقربان، فائزا بالأجر والرّضوان، مخلصا لله بالإيمان، في السّرّ والإعلان، مؤدّيا لما افترض عليك، شاكرا لإحسانه إليك.
ومنها: الدعاء بالهناء في الأعياد.
كما كتب: عرّفك الله في هذا العيد المبارك من السّلامة وعمومها، والعافية وشمولها، والعارفة وسبوغها، والحياطة وكمالها، والحماية وجمالها، أفضل ما عرّفك في ماضي أعيادك، وسالف أعوامك.
ومنها: الدعاء بدفع النوائب.
كما كتب: كان الله جارك من فجائع الدّهر ونوبه، ووليّ إنعام النّعمة فيما آتاك من فضله، وتطوّل عليك من حسن الحياطة لما تولّاك والذّبّ عمّا أفادك.(8/168)
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة بلفظ: كتابي أو كتبت)
فأمّا كتابي، فكما كتب ابن عبد كان: كتابي إليك، وأنا أستعتب الأيّام فيك، وأصانع الزّمان في تقريبك، وربع الجوار الذي كنا نسكن تحت ظلاله، ونتفيّأ برونق جماله، بأجلّ تحفة، وأيسر ألفة، وأعذب مشاهدة، وأصدق مشافهة، ولعل أن يرتاح فيشعب صدعا، ويؤلّف جمعا.
وأما كتبت، فكما كتب ابن عبد كان أيضا: كتبت وأنا من حنين الصّبابة إليك، وإرزام الشّوق نحوك، وأليم التشوق إليك، ولا عج اللّوعة بك، على ما أسأل الله أن يرحم ضعفي ويتصدّق عليّ برؤيتك، ويهب لي النظر إلى وجهك وجمال غرّتك، التي هي حليف الجذل، ونزهة الأمل.
الأسلوب الثالث (أن تفتتح المكاتبة بالخطاب بأنا)
كما كتب: أنا من جملة صنائعك، وحفظة ودائعك، وشكرة إحسانك، متى تصرّفت في البلاد، فأنا المعروف بمعروفك، والعائش بجدواك، وأنت منزع همّتي وقرّة عيني، ومدار أملي، ومحلّ رجائي.
الضرب الثاني (الأجوبة)
وابتداؤها إما كما في الصّدور الابتداآت كما تقدّم ثم يقع التعرّض لوصول الكتاب، وإما بأن تصدّر بوصوله وهو الأكثر.
كما كتب ابن عبد كان: وصل كتابك فدفع تباريح الشّوق، وقمع كآبة البين، وأطفأ لهيب الحرقة، وبرّد حرّ الصّبابة.
وكما كتب: وصل كتابك مشتملا من أنواع البرّ، على ما يقصر في جنب أيسره أعظم الشّكر.
وكما كتب: وصل كتابك المصدّر بجواهر لفظك، وبدائع معانيك، ومحاسن نظمك، مستودعا ما لا يقدر على حمده وشكره إلّا بالاعتراف بالعجز عنه، وما أشبه ذلك.(8/169)
وكما كتب: وصل كتابك مشتملا من أنواع البرّ، على ما يقصر في جنب أيسره أعظم الشّكر.
وكما كتب: وصل كتابك المصدّر بجواهر لفظك، وبدائع معانيك، ومحاسن نظمك، مستودعا ما لا يقدر على حمده وشكره إلّا بالاعتراف بالعجز عنه، وما أشبه ذلك.
المهيع الثاني (في خواتم الكتب)
وكان اختتام المكاتبات عند أهل هذا المصطلح على ما تقدّم في مكاتبات أهل المشرق من استماحة الرأي، إما بلفظ فإن رأيت:
كما كتب ابن عبد كان: فإن رأيت أن تأتي فيه مؤتنفا، ما لم تزل تأتيه سلفا، فعلت.
وإما بلفظ فرأيك:
كما كتب: فرأيك فيه بما أنت أهله، فإن الرأي [الذي] أنت أهله، فوق ما يلتمسه المسرف في همّته، والمتبسّط في أمنيّته.
وكما كتب: فرأيك في ذلك بما تقضي به الحقّ وتصل به الذّمام، وتحفظ به الحرمة وتصدّق به الأمل، وتقتعد به الصّنيعة، وتستوجب به الشّكر.
المهيع الثالث (في عنوانات الكتب)
ومصطلحهم فيه على نحو ما تقدّم في مكاتبات أهل المشرق، من كتابة إلى فلان من فلان، أو من فلان إلى فلان.
فأمّا ما يكتب إلى فلان من فلان، فكما كتب ابن عبد كان: للسيّد الذي استعبد الأحرار بفضله.
وكما كتب: لمن قربه يمن وسعادة، ونأيه نكد ومحنة.
وأما ما يكتب من فلان، فكما كتب: من صريع الشّوق إليه، وأسير الرّقبة عليه.
وكما كتب: ممّن لا يتمنّى الخير إلّا له، إذ كان لا يناله إلّا به.(8/170)
وأما ما يكتب من فلان، فكما كتب: من صريع الشّوق إليه، وأسير الرّقبة عليه.
وكما كتب: ممّن لا يتمنّى الخير إلّا له، إذ كان لا يناله إلّا به.
المصطلح الثاني (من مصطلحات الديار المصرية ما كان عليه الحال في الدولة الأيّوبيّة مما جرى عليه القاضي (1) الفاضل ومن بعده، وهو على قسمين)
القسم الأوّل الابتداء: وليس لمصطلحهم ضابط في الابتداء ولا في الترتيب في الرّفعة والضّعة، بل افتتاحاتهم في ذلك متباينة.
فمن ذلك الافتتاح بالدعاء، وهو أكثر ما يقع في مكاتباتهم، والغالب في ذلك الدعاء للمجلس، كما كتب القاضي الفاضل إلى العماد الأصفهانيّ: أدام الله أيام المجلس التي لحسنات المدلّ مديلة، ولعثرات المقلّ مقيلة، ولمعاطف العزّ مميلة، ولمقاطف الفوز منيلة، ولقداح الجدوى مجيلة، ولا زالت الآراب بمكارمه باجخة، والآراء بمراسمه ناجحة، ومتاجر المفاخر بموالاته رابحة، وأيدي الآمال لأياديه بمصافاته مصافحة، وأرواح أوليائه بروح آلائه في مواطاة أعطياته عابقة فائحة، وأدعية الداعين لأيامن أيّامه، المذعنين لعهود إنعامه، طيّبة صالحة.
ومن ذلك افتتاح العماد (2) الأصفهانيّ في اعتذار تأخّر المكاتبات: إن تأخّرت مكاتباتي، فإنّ العذر معلوم، والأجر محتوم، والقلم مصدود، واللّقم مسدود، والبلد محصور.
__________
(1) هو أبو علي عبد الرحيم بن علي بن السعيد اللخمي العسقلاني المولد، المصري الدار، المعروف بالقاضي الفاضل. وزر للسلطان الناصر صلاح الدين، وتمكن منه غاية التمكّن. برز في صناعة الإنشاء وفاق المتقدمين. توفي سنة 596هـ. بالقاهرة. انظر وفيات الأعيان (ج 3 ص 163158). والأعلام (ج 3ص 346).
(2) هو أبو عبد الله محمد بن صفي الدين بن هبة الله، الملقب عماد الدين، الكاتب الأصبهاني. كان فقيها شافعي المذهب. نشأ بأصبهان وقدم بغداد في حداثته، ثم انتقل إلى دمشق. عرف السلطان صلاح الدين ومدحه بدمشق. أشهر تصانيفه كتاب «خريدة القصر وجريدة العصر». توفي سنة 597هـ. بدمشق. انظر وفيات الأعيان (ج 5ص 152147).(8/171)
إلى غير ذلك من أساليبهم المشهورة التي لا يسع استيعابها، ولا حاجة إلى الإمعان في ذكرها (1)
المصطلح الثالث (من مصطلحات الديار المصريّة في الإخوانيّات
، ما جرى عليه الاصطلاح في الدولة التّركيّة، مما رتّبه القاضي محيي الدّين (2) بن عبد الظاهر، والشيخ شهاب الدين محمود (3) الحلبيّ، والمقرّ الشّهابيّ بن (4) فضل الله، ومن جرى مجراهم، من فضلاء الكتّاب إلى زماننا، مما هو دائر بين أعيان المملكة وأكابر أهل الدولة، من نوّاب السّلطنة وسائر الأمراء والوزراء، ومن في معناهم، من أعيان الكتّاب ومن نهج نهجهم من أرباب الوظائف) وفيه مهيعان:
__________
(1) لم يذكر القسم الثاني، وهو قسم الكلام على الخواتم ولم يترك له بياضا، ويفهم ذلك مما تقدّم في الكلام على الخواتم العمومية. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 3ص 43من هذا الجزء من صبح الأعشى.
(3) هو أبو الثناء محمود بن سلمان بن فهد الحلبي ثم الدمشقي، العالم العلّامة الإمام البارع البليغ، الكاتب الحافظ، شيخ صناعة الإنشاء، الذي لم يكن بعد القاضي الفاضل مثله في صناعة الإنشاء.
ولد سنة 644هـ. بدمشق وقيل: بحلب. مكث في ديوان الإنشاء نحوا من خمسين سنة، ثم ولي كتابة السرّ بدمشق نحوا من ثماني سنين إلى أن توفي سنة 725هـ. انظر فوات الوفيات (ج 4 ص 9682)، والبداية والنهاية (ج 14ص 120)، والدرر الكامنة (ج 5ص 92) والنجوم الزاهرة (ج 9ص 264).
(4) هو صاحب كتاب التعريف، وقد تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 3ص 4من هذا الجزء من صبح الأعشى.(8/172)
المهيع الأوّل (في رتب المكاتبات المصطلح عليها)
وقد اختلفت مقاصدهم في ترتيبها اختلافا متقاربا في الزيادة والنقص والتقديم والتأخير، مع مراعاة أصول المراتب. وها أنا أذكر ما استقرّ عليه الحال من ذلك، وأنبّه على ما خالفه من ترتيبهم المتقدّم الذّكر، لتحصل الإحاطة به، ويعلم ما جرى عليه أهل كلّ عصر منهم مما لعلّ مختارا يختاره، أو ينسج على منواله، منبّها على وهم من وهم في شيء من ذلك.
واعلم أنهم قد بنوا هذا النوع من الإخوانيّات على قاعدتين، تتعيّن معرفتهما قبل الخوض في رتب المكاتبات:
القاعدة الأولى فيما يتعلّق بورق هذه المكاتبات.
قد جرت العادة أن تكون جميع هذه المكاتبات من الأعلى إلى الأدنى، ومن الأدنى إلى الأعلى، ومن النظير إلى النّظير، في ورق قطع العادة دون ما فوقه من مقادير قطع الورق المتقدّمة الذكر، غير أنّ أعيان أهل الديار المصرية يكاتبون في الورق المصريّ، وأعيان أهل الشأم يكاتبون في الورق الشاميّ لكثرة وجوده عندهم، والمعنى في ذلك أنّ كتب السلطان الصادرة عنه إلى جميع أهل المملكة من النّوّاب وغيرهم في هذا القطع، فلا جائز أن تعلو مكاتبة أحد منهم على مكاتبة السلطان في ذلك.
ثم قد اصطلحوا على أن يكون في أعلى المكاتبة عن كلّ أحد من أعيان الدولة قبل البسملة وصل واحد بياضا، إذ كان أقلّ ما يجعل بياضا في كتب السلطان وصلين فاقتصروا على وصل واحد، كي لا يساويه غيره في ذلك، واصطلحوا أيضا على أن لا تنقص المكاتبات المذكورة عن ثلاثة أوصال: الوصل الأبيض في أعلى المكاتبة على ما تقدّم، ووصلان مكتوبان، إذ لو نقص عن ذلك، لخرج الكتاب في القصر عن الحدّ فيزدرى، أما لو دعت الضرورة إلى الزيادة على الثلاثة لزيادة الكلام فلا مانع منه. واصطلحوا على أن يترك للكتاب حاشية بيضاء تكون بقدر ربع الدّرح على ما تقدّم ذكره في غير هذا الموضع.(8/173)
القاعدة الثانية فيما يتعلّق بخطّ هذه المكاتبات، وكيفيّة أوضاعها.
قد اصطلحوا على أنّ جميع هذه المكاتبات تكتب بقلم الرّقاع على ما تقدّم ذكره في الكلام على قطع الورق [من] أنّ لقطع العادة قلم الرّقاع.
واصطلحوا أيضا على أن تكون كتابة البسملة في أوّل الوصل الثاني من المكاتبة، وأن يكون تحت الجلالة من البسملة لقب المكتوب عنه المضاف إلى ملكه أو أميره، فإن كان المكتوب عنه من أتباع السلطان كنوّاب السلطنة وغيرهم من الأمراء والوزراء ومن في معناهم من رؤساء الكتّاب السلطانية، كتب الملكيّ الفلانيّ بلقب ملكه السلطان، مثل الملكيّ الظاهريّ ونحو ذلك كما في هذه الصورة:
بسم الله الرّحمن الرّحيم الملكيّ الظاهريّ وإن كان المكتوب عنه من أتباع الأمراء كإستدّار (1) أمير ونحوه، انتسب في كتابته إلى لقب أميره الخاصّ مما يضاف في التلقيب إلى الدّين، فإن كان أميره لقبه سيف الدين مثلا، كتب بدل الملكي الفلانيّ: السيفيّ، وإن كان لقب أميره ناصر الدّين كتب الناصريّ، وإن كان لقبه علاء الدين كتب العلائيّ، ونحو ذلك. وإذا كتب تحت الجلالة من البسملة الملكي الفلانيّ ونحو ذلك، جعل ما قبله في السطر بياضا وما بعده بياضا، ويكون ذلك قطعة من سطر مفردة بذاتها.
واصطلحوا على أنه كلّما دقّ القلم وتقاربت الأسطر، كان أعلى في رتبة المكتوب إليه، وكلما غلظ القلم وتباعدت الأسطر كان أنزل في رتبة المكتوب إليه.
واصطلحوا على أن في الرتبة العليّة من المكاتبات يكون السطر الأوّل من المكاتبة تلو الملكيّ الفلانيّ وما في معناه ملاصقا له، وفيما دون ذلك من المكاتبات يترك بياض يسير، ولا يكتب فيه شيء، وكأن المكتوب عنه يقول للمكتوب إليه: هذا محلّ العلامة، ولكنّي قد تركت الكتابة فيه وكتبت بحاشية الكتاب تأدّبا معك ورفعة
__________
(1) تقدم الحديث عن الإستدّار أو الأستاد الدار في الحاشية رقم 2من الصحيفة 22من هذا الجزء من صبح الأعشى، فانظره.(8/174)
لقدرك، وفيما دون ذلك يترك بياض أوسع من ذلك ويكتب فيه المكتوب عنه علامته على ما سيأتي بيانه في مواضعه إن شاء الله تعالى. واصطلحوا على أنه بعد انتهاء الكلام في المكاتبة يكتب «إن شاء الله تعالى» في خطّه. ثم يكتب التاريخ في سطرين: اليوم والشهر في سطر، والسنة في سطر. ثم تكتب الحمدلة والصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في سطر، ثم الحسبلة في سطر على ما تقدّم بيانه في الكلام على الفواتح والخواتم في المقالة الثالثة.
وليعلم أنّ هذه المكاتبات على قسمين:
القسم الأوّل الابتداءات
، وهو على أربع درجات سبق توجيه ترتيبها في الكلام على أصول المكاتبات، في أوّل هذه المقالة.
الدرجة الأولى [المكاتبة] بتقبيل الأرض
، وهي أعلاها رتبة بالنسبة إلى المكتوب إليه.
واعلم أنّ كثيرا من كتّاب الزمان يظنّون أن المكاتبة «بيقبّل الأرض» من مخترعات كتّاب الدولة التركية، بل بعضهم يظنّ أنها من مخترعات المقرّ الشهابيّ بن فضل الله وليس كذلك، بل المكاتبة بذلك كانت موجودة في أواخر الدولة العباسيّة ببغداد، ثم سرت إلى الديار المصرية في أوائل الدولة الأيّوبيّة، فاستعملت بعض الاستعمال، والمكاتبة بذلك موجودة في كلام القاضي الفاضل في بعض المكاتبات الملوكية، ومن ذلك ما كتب به عن نفسه إلى السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» في صدر كتاب تهنئة بمولود:
المملوك يقبّل الأرض بالمقام العالي الناصريّ، نضّر الله الإسلام بمقامه، وأهلك أعداء الحقّ بانتقامه، ولا أعدم الأمة المحمديّة عقد التزامه، بكفالتها ومضاء اعتزامه. ثم توسّع فيه الكتّاب بعد ذلك حتّى كاتب به الآحاد بعضهم بعضا.
وقد رتّبوا المكاتبة بتقبيل الأرض في المصطلح المستقرّ عليه الحال على خمس مراتب:(8/175)
وقد رتّبوا المكاتبة بتقبيل الأرض في المصطلح المستقرّ عليه الحال على خمس مراتب:
المرتبة الأولى الإتيان بالإنهاء
بعد «يقبّل الأرض» من غير تعرّض لذكر دعاء ولا ثناء، مع مراعاة الاختصار وعدم السّجع وتقارب السّطور، مثل أن يكتب بعد البسملة ولقب المكتوب عنه الذي تحت البسملة:
يقبل الأرض وينهي كيت وكيت، وسؤال المملوك من الصّدقات العميمة بروز الأوامر العالية بكيت وكيت، أو: والمملوك يعرض على الآراء العالية كيت وكيت، ونحو ذلك. ويختم الكتاب بقوله: أنهى ذلك، أو طالع بذلك، وللآراء العالية مزيد العلوّ، ويعبّر عن المكتوب عنه في خلال المكاتبة بالمملوك.
ويختلف الحال في خطاب المكتوب إليه، فإن كان من أرباب السّيوف وهو نائب سلطنة خوطب بمولانا ملك الأمراء عزّ نصره أو أعزّ الله أنصاره، وإن كان أميرا غير نائب سلطنة، خوطب بمولانا المخدوم ونحو ذلك مما يقتضيه الحال، وإن كان وزيرا ربّ سيف خوطب بمولانا الوزير، وإن كان قاضيا خوطب بمولانا قاضي القضاة، وإن كان عالما كبيرا، خوطب بمولانا شيخ الإسلام، وإن كان من مشايخ الصّوفية خوطب بمولانا شيخ الشّيوخ، وعلى ذلك بحسب المراتب والوظائف على ما يقتضيه رأي الكاتب بما يناسب الحال.
والعنوان في هذه المكاتبة: الفلانيّ مطالعة المملوك فلان، ويعبّر عن ذلك:
بالفلانيّ بمطالعة. وقد يعبّر عن (1) ذلك عن نفس المكاتبة. وصورته: أن يكتب في رأس ظاهر المكاتبة من الجانب الأيمن «الفلانيّ» باللّقب الخاص بالمكتوب إليه، كالسّيفيّ، والناصريّ، والشّمسيّ، وما أشبه ذلك. ويكون ذلك ممتدّا إلى نحو ربع عرض الدّرج، وتحته فلان بما يقتضي تعريفه من وظيفة أو شهرة. فإن كان نائب سلطنة كتب تحت الفلانيّ: مولانا ملك الأمراء بالمكان الفلانيّ، وإن كان وزيرا كتب: مولانا الوزير بالمكان الفلانيّ، وإن كان قاضي قضاة، كتب:
مولانا قاضي القضاة بالمكان الفلاني، ونحو ذلك، ويعبّر عن ذلك بالتعريف،
__________
(1) لعله: «وقد يعبر بذلك عن نفس» الخ. حاشية الطبعة الأميرية.(8/176)
ويكتب في الجانب الأيسر من رأس ظاهر المكاتبة مقابل ما كتبه في الأولى ما صورته «مطالعة المملوك فلان» باسم المكتوب عنه ويكون لفظ المملوك تحت ذلك، وفلان تحته عن بعد ثلاثة أسطر، وتكون لطيفة القدّ غير ممشوقة على الضدّ من المكتوب إليه. وهذا مثال عنوان إلى نائب سلطنة بالشام لقبه سيف الدين، عمّن اسمه يلبغا.
السيفيّ مطالعة مولانا ملك الأمراء بالشام المحروس عزّ نصره المملوك يلبغا وعلى ذلك يقاس سائر العنوانات من هذه المرتبة، والأصل في ذلك أنّ الحجّاج بن يوسف كتب كتابا إلى عبد الملك بن مروان، فكتب في عنوانه بقلم جليل: لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين، وفي الجانب الأيسر بقلم ضئيل: من الحجّاج بن يوسف كما حكاه أبو جعفر النحّاس في «صناعة الكتاب» فتبعه الناس على ذلك في تعظيم اسم المكتوب إليه، وتلطيف اسم المكتوب عنه، والعلامة في هذه المكاتبة «المملوك فلان» باسم المكتوب عنه بقلم ضئيل بحاشية الكتاب سطرين: المملوك [سطر] والاسم سطر تحته على هذه الصورة:
المملوك فلان ويكون ذلك مقابل «يقبّل» ملاصقا له بحيث تكون جرّة الكاف من المملوك تحت الياء من يفبّل، فكأنّهم راعوا في ذلك صورة ما يكتب في القصص التي ترفع إلى الأكابر لاستماحة الحوائج ونحوها من حيث إنها يكتب فيها «المملوك فلان يقبّل الأرض وينهي كيت وكيت» لما في ذلك من إظهار الخضوع والتواضع.
المرتبة الثانية أن يأتي بعد «يقبّل الأرض» بذكر الدعاء دون الثناء
مع تقارب الأسطر أيضا واجتناب السّجع. وقد اصطلحوا في هذه المكاتبة على أن يكتبوا تحت البسملة مع لقب المكتوب عنه الذي هو الملكيّ الفلانيّ ونحوه لقب
المكتوب إليه، كالسيفيّ ونحوه، على سمعت الملكيّ الفلاني من الجهة اليمنى مع بياض بينهما، بحيث يقع بعض اللقب في حاشية الكتاب، وبعضه تحت أوّل البسملة على هذه الصّورة:(8/177)
مع تقارب الأسطر أيضا واجتناب السّجع. وقد اصطلحوا في هذه المكاتبة على أن يكتبوا تحت البسملة مع لقب المكتوب عنه الذي هو الملكيّ الفلانيّ ونحوه لقب
المكتوب إليه، كالسيفيّ ونحوه، على سمعت الملكيّ الفلاني من الجهة اليمنى مع بياض بينهما، بحيث يقع بعض اللقب في حاشية الكتاب، وبعضه تحت أوّل البسملة على هذه الصّورة:
بسم الله الرّحمن الرّحيم السيفي الملكيّ الظاهريّ ثم يأتي بصورة المكاتبة بعد ذلك. ويختلف الحال في هذه المكاتبة باختلاف حال المكتوب إليه، فإن كان نائب سلطنة كتب «يقبّل الأرض» وينهي بعد رفع الأدعية الصالحة، أو بعد ابتهاله إلى الله تعالى بالأدعية الصالحة، تقبّلها الله تعالى من المملوك ومن كلّ داع مخلص، ببقاء مولانا ملك الأمراء، أو بدوام أيام مولانا ملك الأمراء، وخلود سعادته، ومزيد تأييده، وعلوّ درجاته في الدنيا والآخرة، بمحمّد وآله: أنّ الأمر كيت وكيت، والمملوك يسأل الصّدقات العميمة، أو الصدقات الكريمة، أعزّ الله تعالى أنصارها بروز الأوامر المطاعة بكيت وكيت. ثم يقول: والمملوك مملوك مولانا ملك الأمراء وعبد بابه ونشء إحسانه، ويسأل تشريفه بمراسيمه وخدمه، أو والمملوك يستعرض المراسيم الكريمة، والخدم العالية، ليبادر إلى امتثالها، والفوز بقضائها، أو والمملوك مملوك الأبواب العالية ونشؤها وغلامها، ويسأل دوام النظر الكريم عليه في أحواله كلّها، ونحو ذلك مما يقتضيه الحال، وقد جهّز المملوك بهذه المكاتبة فلانا أو مملوكه فلانا. فإن كان قد حمّله كلام مشافهة، قال: وحمّله من المشافهة ما يسأل الصدقة عليه بسماعه والإصغاء إليه ونحو ذلك. ثم يقول: طالع بذلك والرأي العالي أعلاه الله تعالى أعلى. وإن كان المكتوب إليه أميرا غير نائب سلطنة، كتب «بدوام أيام مولانا المخدوم» بدل مولانا ملك الأمراء. وإن كان قاضيا، كتب «ببقاء مولانا قاضي القضاة، أو بدوام أيّام مولانا قاضي القضاة». وإن كان من مشايخ الصّوفيّة، كتب «ببقاء مولانا شيخ الشيوخ» ونحو ذلك، وباقي المكاتبة على ما
تقدّم بحسب ما يقتضيه الحال. والعنوان في هذه المكاتبة «الأبواب الفلانيّة، مطالعة المملوك فلان» ويعبر عن ذلك بالأبواب بمطالعة، ويختلف الحال في ذلك باختلاف حال المكتوب إليه، فإن كان المكتوب إليه نائب سلطنة، كتب:(8/178)
بسم الله الرّحمن الرّحيم السيفي الملكيّ الظاهريّ ثم يأتي بصورة المكاتبة بعد ذلك. ويختلف الحال في هذه المكاتبة باختلاف حال المكتوب إليه، فإن كان نائب سلطنة كتب «يقبّل الأرض» وينهي بعد رفع الأدعية الصالحة، أو بعد ابتهاله إلى الله تعالى بالأدعية الصالحة، تقبّلها الله تعالى من المملوك ومن كلّ داع مخلص، ببقاء مولانا ملك الأمراء، أو بدوام أيام مولانا ملك الأمراء، وخلود سعادته، ومزيد تأييده، وعلوّ درجاته في الدنيا والآخرة، بمحمّد وآله: أنّ الأمر كيت وكيت، والمملوك يسأل الصّدقات العميمة، أو الصدقات الكريمة، أعزّ الله تعالى أنصارها بروز الأوامر المطاعة بكيت وكيت. ثم يقول: والمملوك مملوك مولانا ملك الأمراء وعبد بابه ونشء إحسانه، ويسأل تشريفه بمراسيمه وخدمه، أو والمملوك يستعرض المراسيم الكريمة، والخدم العالية، ليبادر إلى امتثالها، والفوز بقضائها، أو والمملوك مملوك الأبواب العالية ونشؤها وغلامها، ويسأل دوام النظر الكريم عليه في أحواله كلّها، ونحو ذلك مما يقتضيه الحال، وقد جهّز المملوك بهذه المكاتبة فلانا أو مملوكه فلانا. فإن كان قد حمّله كلام مشافهة، قال: وحمّله من المشافهة ما يسأل الصدقة عليه بسماعه والإصغاء إليه ونحو ذلك. ثم يقول: طالع بذلك والرأي العالي أعلاه الله تعالى أعلى. وإن كان المكتوب إليه أميرا غير نائب سلطنة، كتب «بدوام أيام مولانا المخدوم» بدل مولانا ملك الأمراء. وإن كان قاضيا، كتب «ببقاء مولانا قاضي القضاة، أو بدوام أيّام مولانا قاضي القضاة». وإن كان من مشايخ الصّوفيّة، كتب «ببقاء مولانا شيخ الشيوخ» ونحو ذلك، وباقي المكاتبة على ما
تقدّم بحسب ما يقتضيه الحال. والعنوان في هذه المكاتبة «الأبواب الفلانيّة، مطالعة المملوك فلان» ويعبر عن ذلك بالأبواب بمطالعة، ويختلف الحال في ذلك باختلاف حال المكتوب إليه، فإن كان المكتوب إليه نائب سلطنة، كتب:
الأبواب الكريمة، العالية، المولويّة، الأميرية، الكبيرية، المالكيّة، المخدوميّة، الكافلية، بلقبه الخاص كالسيفية ونحوها، أعلاها الله تعالى فلان الفلاني، باسمه وشهرته. وإن كان المكتوب إليه أميرا غير نائب سلطنة أسقط منه الكافلية. وإن كان وزيرا ربّ سيف، كتب بعد الأميرية: الوزيريّة. وإن كان وزيرا ربّ قلم، أسقط الأميرية، وكتب قبل الفلانية الصاحبيّة. وإن كان من رؤساء الكتّاب ممن في معنى الوزراء، ككاتب السرّ، وناظر الخاصّ، وناظر الجيش، ونحوهم، أبدل لفظ الأميرية والوزيرية بالقاضويّة. وإن كان قاضي حكم، أتى مع القاضويّة قبل الفلانية بالحاكميّة. وإن كان من مشايخ الصّوفيّة أبدل القاضويّة بالشّيخيّة ونحو ذلك.
وصورته أن يكتب الألقاب من أوّل عرض الدّرج سطرا إلى آخر المالكيّة، ويخلّي بياضا في آخر السطر بقدر ربع الدّرج، ثم يكتب المخدوميّة الفلانية في أوّل السطر الثاني ملاصقا للأوّل، ثم يخلّي بياضا يسيرا، ثم يكتب: أعلاها الله تعالى، ثم يخلّي بياضا يسيرا، ثم يكتب «فلان الفلاني» تحت آخر السطر الأوّل، ثم يكتب في آخر الدّرج من الجهة اليسرى بعد خلوّ بياض «مطالعة المملوك فلان» ثلاثة أسطر على ما تقدّم في العنونة بالفلاني بمطالعة كما في هذه الصورة:
الأبواب الكريمة، العالية، المولويّة، الأميريّة، الكبيرية، المالكية، مطالعة المخدومية، السيفيّة أعلاها الله تعالى أمر دوادار الظاهريّ المملوك فلان والعلامة «المملوك فلان» بقلم ضئيل مسامت يقبّل كما في المكاتبة قبلها.
قال في «التثقيف» (1): وبهذه المكاتبة يكتب عن أكابر أمراء الديار المصريّة إلى نائب الشام وحلب فيما أظنّ.(8/179)
الأبواب الكريمة، العالية، المولويّة، الأميريّة، الكبيرية، المالكية، مطالعة المخدومية، السيفيّة أعلاها الله تعالى أمر دوادار الظاهريّ المملوك فلان والعلامة «المملوك فلان» بقلم ضئيل مسامت يقبّل كما في المكاتبة قبلها.
قال في «التثقيف» (1): وبهذه المكاتبة يكتب عن أكابر أمراء الديار المصريّة إلى نائب الشام وحلب فيما أظنّ.
قال: وكذلك كان يكتب المقرّ العلائيّ بن فضل الله كاتب السرّ الشريف إلى المشار إليه، يعني نائب حلب، إلّا أنه كان يكتب له العلامة أسفل الكتاب دون أعلاه.
قلت: وعلى هذا يكون للعلامة في هذه المكاتبة رتبتان، إن عظّمه كتب له العلامة على سمت يقبّل، وإلّا ففي أسفل الكتاب، ومن ثم ذكرت قول صاحب «التثقيف» هنا وإن كان محلّه رتب المتكاتبين على ما سيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
المرتبة الثالثة أن لا يكتب في أوّل المكاتبة عن يمين أسفل البسملة الفلانيّ
ويأتي بذكر الدّعاء والثناء مسجوعا، مثل أن يكتب بعد البسملة ولقب المكتوب عنه الذي هو الملكيّ الفلاني «يقبّل الأرض» وينهي بعد رفع دعائه، وإخلاصه في محبّته وولائه، واعترافه بإحسان مولانا وجزيل آلائه، أنّ الأمر كيت وكيت، والمملوك يسأل إحسان مولانا، أو صدقات مولانا، أو إحسان المخدوم، أو صدقاته في كيت وكيت، ثم يقول: والمملوك فهو مملوك مولانا ومحبّه، والداعي لإحسانه، ويسأل تشريفه بمراسيمه وخدمه، وقد جهّز المملوك بهذه العبوديّة فلانا، أو مملوكه فلانا، وحمّله من الدّعاء والولاء ما ينهيه من لسانه، ويعرب عنه ببيانه، أو وقد حمّله المملوك ما يقوم عنه به في إنهائه، من رصف الأدعية، ووصف الأثنية، والمملوك يسأل الإصغاء إليه، والتشريف بالمراسيم العالية والخدم الكريمة، ليفوز بإقبالها، ويبادر إلى امتثالها، طالع بذلك، أو أنهى ذلك، أو والمملوك يستعرض المراسيم العالية، والخدم الكريمة المتوالية، ليتشرّف بقضائها، ويتشوّف إلى إمضائها.
__________
(1) الكتاب للقاضي تقي الدين ابن ناظر الجيش. انظر الحاشية رقم 1ص 3من هذا الجزء من صبح الأعشى.(8/180)
صدر آخر: وينهي بعد رفع الأدعية، وبثّ المحامد والأثنية، والموالاة التي يحمل منها عالي الألوية، أنّ الأمر كيت.
آخر: وينهي بعد رفع دعائه الذي لا يفتر لسانه عن رفعه، ولا يخفى إن شاء الله إبّان نفعه، وابتهاله الذي يرفع السّحب، وشوقه الذي يهدي النّجب، أنّ الأمر كيت وكيت.
آخر: وينهي بعد دعائه المقبول، وشوقه الذي لا يحول عنه ولا يزول، وسلامه الذي يعجز عن شرحه القلم ويضعف عن حمله الرّسول.
آخر: وينهي بعد دعاء يرفعه بالغدوّ والآصال، وولاء لا يتغيّر ما دامت الأيّام واللّيال، وثناء أطيب من عرف الرّوض إذا مرّ عليه نسيم الشّمال، أنّ الأمر كيت وكيت.
آخر: وينهي بعد رفع الدعاء، ونصب لواء الولاء، وجرّ ذيول الفخر بالانتساب إلى عبودية مولانا والاعتزاء، أنّ الأمر كيت وكيت.
آخر: وينهي بعد دعائه المرفوع، وثنائه الذي هو كالمسك يضوع، وشكره الذي يسمع منه ويسمع أطيب مسموع، أنّ الأمر كيت وكيت.
والعنوان لهذه المكاتبة «الأبواب الفلانية» بغير مطالعة، ويختلف الحال فيه، فإن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف وهو نائب سلطنة، كتب «الأبواب الكريمة، العالية، المولويّة، الأميريّة، الكبيريّة، السيّديّة، المالكيّة، المخدوميّة، الكافلية، الفلانية، أعلاها الله تعالى» ثم يقال: نائب السلطنة الشريفة المحروسة، أو كافل المملكة الفلانية المحروسة، وباقي عنوانات أرباب الوظائف، من أرباب السيوف والأقلام على ما تقدّم في العنونة بالأبواب بمطالعة.
وصورة وضعه أن يكتب «الأبواب الكريمة إلى آخر الكافلية» مثلا سطرا واحدا من أوّل عرض الدّرج إلى آخره، ثم يكتب «الفلانيّة أعلاها الله تعالى» في أوّل السطر الثاني ملاصقا له، ثم يترك بياضا قدر رأس إبهام، ثم يكتب في آخر
السطر الثاني «كافل الممالك الشريفة الفلانية المحروسة» كما في هذه الصورة:(8/181)
وصورة وضعه أن يكتب «الأبواب الكريمة إلى آخر الكافلية» مثلا سطرا واحدا من أوّل عرض الدّرج إلى آخره، ثم يكتب «الفلانيّة أعلاها الله تعالى» في أوّل السطر الثاني ملاصقا له، ثم يترك بياضا قدر رأس إبهام، ثم يكتب في آخر
السطر الثاني «كافل الممالك الشريفة الفلانية المحروسة» كما في هذه الصورة:
الأبواب الكريمة، العالية، المولوية، الأميرية، الكبيرية، السيدية، المالكية، المخدومية، الكافلية، السيفية، أعلاها الله تعالى كافل الممالك الشريفة بالشام المحروس والعلامة في ذيل الكتاب مقابل تحت البسملة بقلم الرقاع «المملوك فلان» وكأنهم لما انحطّت رتبة المكتوب إليه عن أن تكتب العلامة إليه على سمت «يقبّل» ليكون في معنى القصّة كما تقدّم، أخذ المكتوب عنه في التنازل إلى آخر المكاتبة تواضعا للمكتوب إليه وتأدّبا معه.
قال في «التثقيف»: وبذلك كان يكتب عن الأمير يلبغا العمريّ، يعني الخاصكيّ وهو أتابك العساكر المنصورة بالديار المصرية إلى نائبي الشام وحلب.
قال: وكذلك كتب بعده إلى المذكورين: الأمير منكلي بغا، والأمير الجاي، ونوّاب السلطنة بالديار المصرية.
المرتبة الرابعة أن يأتي بصدر المكاتبة على ما تقدّم في المكاتبة قبلها
من الابتداء «بيقبّل الأرض» وينهي بعد رفع دعائه وما في معناه على ما تقدّم من غير فرق ولا يختلف الحال في الصدر ولا في متن الكتاب، والعنوان «الباب الكريم» ولا يكون إلّا بغير مطالعة. فإن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف، كتب «الباب الكريم، العالي، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، المالكيّ، المخدوميّ، الفلانيّ، أعلاه الله تعالى، فلان الفلاني باسم المكتوب إليه. وإن كان من أرباب الأقلام أو غيرهم فعلى ما تقدّم في «الأبواب بمطالعة» من إبدال الأميريّ بالقضائيّ، أو الشّيخيّ، وزيادة قاضي الحكم الحاكميّ قبل الفلاني.
وصورة وضعه: الباب الكريم بالألقاب المتقدّمة إلى آخر المالكيّ سطرا واحدا من أوّل عرض الدّرج إلى آخره، ثم يكتب المخدوميّ الفلانيّ أعلاه الله تعالى في أوّل السطر الثاني، ويترك بياضا، ثم يكتب فلان الفلانيّ باسم المكتوب إليه أو شهرته كما في هذه الصورة:
الباب الكريم العالي، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّدي، المالكيّ، المخدوميّ، السّيفيّ، أعلاه الله تعالى بهادر أمير أخور الأشرفيّ.(8/182)
وصورة وضعه: الباب الكريم بالألقاب المتقدّمة إلى آخر المالكيّ سطرا واحدا من أوّل عرض الدّرج إلى آخره، ثم يكتب المخدوميّ الفلانيّ أعلاه الله تعالى في أوّل السطر الثاني، ويترك بياضا، ثم يكتب فلان الفلانيّ باسم المكتوب إليه أو شهرته كما في هذه الصورة:
الباب الكريم العالي، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّدي، المالكيّ، المخدوميّ، السّيفيّ، أعلاه الله تعالى بهادر أمير أخور الأشرفيّ.
تنبيه كلّ ما كان العنوان فيه الباب الكريم، كان العنوان فيه للمسافر «المخيّم» بدل الباب، وباقي الألقاب على حالها كما نبّه عليه في «التثقيف» وغيره، والعلامة في آخر المكاتبة مقابل حسبي الله، إذ لمّا كانت العلامة في أسفل الكتاب مقابل تحت الحسبلة كانت العلامة فيما فوق ذلك أنزل في رتبة المكتوب إليه وأعلى في رتبة المكتوب عنه.
المرتبة الخامسة يقبّل الأرض بالمقر الشريف
. والرسم فيه أن يترك بعد البسملة وما تحتها من الملكي الفلاني قدر سطر أو سطرين بياضا، ثم يكتب يقبّل الأرض بالمقر الشريف، ويختلف الحال فيه فإن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف، كتب «يقبّل الأرض بالمقر الشريف، العالي، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، الذّخريّ، الظّهيريّ، المسنديّ، الزّعيميّ، المالكيّ، المخدوميّ، الفلاني، أعزّ الله تعالى أنصاره، وأعلى مناره، وضاعف مباره، وينهي بعد وصف محبّته، وبثّ أثنيته، كيت وكيت، والمسؤول من إحسانه كيت وكيت» وربما كتب: «والمملوك يسأل كيت وكيت» كما في المكاتبات السابقة، أو «والمملوك يسأل تشريفه بمراسمه وخدمه، والله تعالى يديم عليه سوابغ نعمه».
دعاء آخر لهذه المكاتبة: أعزّ الله تعالى أنصاره، وأدام انتصاره، وجعل على غايات النّجوم اقتصاره، وينهي.
آخر: لا زالت الرّقاب لمهابته خاضعة، والرّكاب به فوق النّجوم واضعة، وأجنّة السيوف بمضار به من ماء الأعداء راضعة، وينهي.
آخر: لا زالت أعلامه مشرّفة، وأقلامه مصرّفة، وأيامه بطيب ثنائه بين الخافقين معرّفة.
آخر: لا زالت الدنيا ببقائه مجمّلة، والعلياء لا رتقائه مؤمّلة، والنّعم على اختلافها جواهر مكمّلة، وينهي.(8/183)
آخر: لا زالت أعلامه مشرّفة، وأقلامه مصرّفة، وأيامه بطيب ثنائه بين الخافقين معرّفة.
آخر: لا زالت الدنيا ببقائه مجمّلة، والعلياء لا رتقائه مؤمّلة، والنّعم على اختلافها جواهر مكمّلة، وينهي.
قلت وربما أتي بصورة الإنهاء مسجوعة أيضا، مثل أن يكتب: وينهي بعد تعبّده بولائه، وقيامه بحقوق آلائه. أو وينهي بعد دعاء يقوم بوظائفه، وولاء يتردّى بمطارفه. أو ينهي بعد رفع أدعيته، وقطع العمر في موالاته وعبوديّته، ونحو ذلك. وعلى ذلك جرى في «عرف التعريف» إلّا أنّ الغالب في كتابة أهل الزمان إهماله. والعنوان إن قصد تعظيمه: الباب العالي، بألقاب الباب الكريم في المكاتبة قبلها، إلّا أنه يحذف منها الكريم، وإن لم يقصد تعظيمه فالمقرّ الشريف بالألقاب التي في صدر الكتاب. وصورة وضعه في الباب العالي على ما تقدّم في الباب الكريم: أن يأتي به في سطرين كاملين من أوّل عرض الدّرج إلى آخره، كما في هذه الصورة:
المقرّ الشريف، العاليّ، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، الذخريّ، الظّهيريّ، المسنديّ، الزّعيميّ، المالكيّ، المخدوميّ، السيفيّ، أعزّ الله تعالى أنصاره أمير حاجب بالشام المحروس.
والعلامة في هذه المكاتبة «المملوك فلان» بقلم الرقاع، بأسافل الكتاب، مقابل إن شاء الله تعالى.
واعلم أنّ هذه المراتب الخمس هي الدائرة في المكاتبات بين كتّاب زماننا بمملكة الديار المصريّة وما جرى على نهجها، والمعنى في ترتيبها على هذا الترتيب أنه في المرتبة الأولى منها حذف الدعاء والثناء المقتضيان للدّالّة من المكتوب عنه على المكتوب إليه، واقتصر على اليسير من الكلام دون الكثير الذي فيه سآمة المكتوب إليه واضجاره، عند قراءة الكتاب، وعنونت بالفلاني كالسّيفيّ ونحوه، من حيث إنه لقبّ مؤدّ إلى رفعة، وأتي فيه بمطالعة المملوك فلان، إشارة إلى التصريح بالرقّ والعبوديّة من المكتوب عنه للمكتوب إليه مع إقامته في مقام الرّفعة بذكر لقبه المؤدّي إلى رفعة قدره وفي المرتبة الثانية أتي فيها بالفلانيّ داخل المكاتبة دون العنوان فكانت أنزل مما قبلها، من حيث إنّ العنوان ظاهر وباطن
المكاتبة خفيّ والظاهر المؤدّي إلى الرفعة أعلى من الخفيّ من ذلك، وأتي بالدعاء فكانت أنزل رتبة من التي قبلها لما تقدّم من أنّ الدعاء فيه معنى الدالّة، واجتنب فيه السجع من حيث إنّ في الإتيان به تفاصحا على المكتوب إليه، وعنون بالأبواب إشارة إلى شرف محلّ المكتوب إليه من حيث الإشعار بأن له أبوابا يوقف عليها، وجعلت دون المرتبة الثانية (1) من حيث إنّ العنونة في المرتبة الأولى باللّقب المؤدّي إلى الرّفعة مع دلالته على الذات. وفي الثانية عنون بالأبواب الموصّلة إلى محلّ الشخص، ولا يخفى أنّ ما دلّ على نفس الشّخص أعلى مما هو موصّل إلى محلّه، وأتي فيها بمطالعة المملوك فلان إشارة إلى التصريح للمكتوب إليه بالرّقّ والعبوديّة كما تقدّم في المرتبة الأولى. وفي المرتبة الثالثة حذف منها الفلاني المؤدّي إلى الرّفعة من داخل المكاتبة فكانت أنزل من التي قبلها فأتي فيها بذلك، وأتي بالدعاء مسجوعا فكان أنزل مما قبله لما في السجع من التفاصح على المكتوب إليه، وأسقط من عنوانه مطالعة المملوك فلان فكان أنزل من حيث إنّه لم يقع فيه تصريح برقّ وعبوديّة كما في المرتبة الأولى والثانية. وفي المرتبة الرابعة بقي الصّدر على حاله وعنون فيها بالباب بلفظ الإفراد، فكانت أنزل مما قبلها، من حيث إنّ الإفراد دون الجمع بدليل أنه بعض من أبعاضه. وفي المرتبة الخامسة قيل: يقبّل الأرض بالمقرّ، يعني مقرّ المكتوب إليه، فكانت أنزل مما قبلها من حيث إشعار ذلك بالقرب من محلّه بخلاف «يقبّل مطلق (2) الأرض» فإنه لا ينحصر في ذلك، ثم إن عنونت بالباب العالي مجرّدا عن الكريم، كانت أنزل مما عنون فيه بالكريم لما جرى عليه الاصطلاح من رفعة رتبة الكريم العالي على العالي المجرّد عن الكريم، على ما تقدّم في الكلام على الألقاب في المقالة الثالثة، وإن عنونت بالمقرّ الشريف فهي على انحطاط الرتبة عمّا قبلها من حيث(8/184)
واعلم أنّ هذه المراتب الخمس هي الدائرة في المكاتبات بين كتّاب زماننا بمملكة الديار المصريّة وما جرى على نهجها، والمعنى في ترتيبها على هذا الترتيب أنه في المرتبة الأولى منها حذف الدعاء والثناء المقتضيان للدّالّة من المكتوب عنه على المكتوب إليه، واقتصر على اليسير من الكلام دون الكثير الذي فيه سآمة المكتوب إليه واضجاره، عند قراءة الكتاب، وعنونت بالفلاني كالسّيفيّ ونحوه، من حيث إنه لقبّ مؤدّ إلى رفعة، وأتي فيه بمطالعة المملوك فلان، إشارة إلى التصريح بالرقّ والعبوديّة من المكتوب عنه للمكتوب إليه مع إقامته في مقام الرّفعة بذكر لقبه المؤدّي إلى رفعة قدره وفي المرتبة الثانية أتي فيها بالفلانيّ داخل المكاتبة دون العنوان فكانت أنزل مما قبلها، من حيث إنّ العنوان ظاهر وباطن
المكاتبة خفيّ والظاهر المؤدّي إلى الرفعة أعلى من الخفيّ من ذلك، وأتي بالدعاء فكانت أنزل رتبة من التي قبلها لما تقدّم من أنّ الدعاء فيه معنى الدالّة، واجتنب فيه السجع من حيث إنّ في الإتيان به تفاصحا على المكتوب إليه، وعنون بالأبواب إشارة إلى شرف محلّ المكتوب إليه من حيث الإشعار بأن له أبوابا يوقف عليها، وجعلت دون المرتبة الثانية (1) من حيث إنّ العنونة في المرتبة الأولى باللّقب المؤدّي إلى الرّفعة مع دلالته على الذات. وفي الثانية عنون بالأبواب الموصّلة إلى محلّ الشخص، ولا يخفى أنّ ما دلّ على نفس الشّخص أعلى مما هو موصّل إلى محلّه، وأتي فيها بمطالعة المملوك فلان إشارة إلى التصريح للمكتوب إليه بالرّقّ والعبوديّة كما تقدّم في المرتبة الأولى. وفي المرتبة الثالثة حذف منها الفلاني المؤدّي إلى الرّفعة من داخل المكاتبة فكانت أنزل من التي قبلها فأتي فيها بذلك، وأتي بالدعاء مسجوعا فكان أنزل مما قبله لما في السجع من التفاصح على المكتوب إليه، وأسقط من عنوانه مطالعة المملوك فلان فكان أنزل من حيث إنّه لم يقع فيه تصريح برقّ وعبوديّة كما في المرتبة الأولى والثانية. وفي المرتبة الرابعة بقي الصّدر على حاله وعنون فيها بالباب بلفظ الإفراد، فكانت أنزل مما قبلها، من حيث إنّ الإفراد دون الجمع بدليل أنه بعض من أبعاضه. وفي المرتبة الخامسة قيل: يقبّل الأرض بالمقرّ، يعني مقرّ المكتوب إليه، فكانت أنزل مما قبلها من حيث إشعار ذلك بالقرب من محلّه بخلاف «يقبّل مطلق (2) الأرض» فإنه لا ينحصر في ذلك، ثم إن عنونت بالباب العالي مجرّدا عن الكريم، كانت أنزل مما عنون فيه بالكريم لما جرى عليه الاصطلاح من رفعة رتبة الكريم العالي على العالي المجرّد عن الكريم، على ما تقدّم في الكلام على الألقاب في المقالة الثالثة، وإن عنونت بالمقرّ الشريف فهي على انحطاط الرتبة عمّا قبلها من حيث
__________
(1) لعله: «دون المرتبة الأولى»، ومراده أن العنونة بالأبواب أقل من العنونة بالألقاب للعلة التي ذكرها. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) مراده: يقبل الأرض بغير أن يتقيد بالمقرّ. حاشية الطبعة الأميرية.(8/185)
إشعاره بقرب المحلّ من المكتوب إليه. على أنّ في عنونة هذه المكاتبة بالمقرّ الشريف نظرا، فإنّ أعلى مراتب الابتداء في المكاتبة بالدعاء هي الدعاء للمقرّ الشريف، وهو بعد تقبيل الباسط والباسطة واليد على ما سيأتي ذكره في الدّرجة الثالثة فيما بعد إن شاء الله تعالى.
فربّما التبس عنوان هذه بعنوان تلك قبل فضّها، والوقوف على صدرها هل هو مفتتح «بيقبّل الأرض بالمقرّ» أو بالدعاء للمقرّ، إلّا أنّ كتّاب الزمان قد رفضوا المكاتبة بالدعاء للمقرّ الشريف واقتصروا على الدعاء للمقرّ الكريم، إذ كان هو أعلى ما يكتب به عن السلطان لأكابر أمراء المملكة على ما تقدّم ذكره في الكلام على مكاتبات السلطان إلى أهل المملكة في المقالة الرابعة.
قلت: وفي الدساتير المؤلّفة في الإخوانيّات في الدولة التّركية في الزمن السابق ما يخالف بعض هذا الترتيب، فجعل في «عرف (1) التعريف» أعلى المراتب يقبّل الأرض وينهي كيت وكيت، والعنوان «الفلاني بمطالعة» على ما تقدّم ذكره في الترتيب السابق. ودونه: الصدر بعينه، والعنوان «الأبواب بمطالعة». ودونه: كذلك والعنوان «الأبواب» بغير مطالعة. ودونه: «يقبّل الأرض بالمقرّ الشريف، والعنوان إما الباب العالي أو المقرّ الشريف».
وفي دستور يعزى لبعض بني الأثير أنّ أعلى المراتب «يقبّل الأرض وينهي كيت وكيت» على ما تقدّم. ودونه. «يقبّل الأرض ويدعو مثل يقبّل الأرض وينهي بعد رفع دعائه الذي لا يفتر لسانه عن رفعه، ولا يخفى إن شاء الله إبّان نفعه».
ودونه: «يقبّل الأرض ويدعو لها، مثل: يقبّل الأرض حماها الله تعالى من غير الزّمان، واكتنفها بالأمان، من صروف الحدثان، ولا زالت محطّ وفود الجدا، وكعبة قصّاد النّدا، وينهي كيت وكيت». ودونه «يقبّل الأرض ويصفها، مثل أن
__________
(1) الكتاب لشهاب الدين بن فضل الله القرشي العمري، وقد تقدمت ترجمته في الصحيفة 4من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 3.(8/186)
يكتب: يقبّل الأرض التي هي ملجأ العفاه، وملثم الشّفاه، ومحلّ الكرم الذي لا يخيب من اقتفاه، ومقصد الراجي الذي إذا عوّل عليه كفاه، وينهي كيت وكيت». ودونه «يقبّل الأرض ويدعو لها (1)، مثل أن يكتب: يقبّل الأرض لا زالت محروسة الرّحاب، هامية السّحاب، فسيحة الجناب، لمن أناب وينهي كيت وكيت».
وجرى في «التثقيف» (2) على الترتيب المتقدّم في المرتبة الأولى والثانية والثالثة والرابعة على ما تقدّم في المراتب الخمس السابقة، وجعل المرتبة الخامسة «يقبّل الأرض» مع وصفها على ما تقدّم في الدّستور المنسوب لبعض بني الأثير مع العنونة بالباب العالي، وجعل «يقبّل الأرض بالمقرّ الشريف» مرتبة سادسة مع العنونة بالباب العالي أو المقرّ الشريف.
وفي غير هذه الدّساتير ما يخالف بعض ذلك في الترتيب والتقديم والتأخير، وفي بعض الدّساتير بعد تقبيل الأرض تقبيل العتبات، مثل أن يكتب: يقبّل العتبات الكريمة، لا برحت مطلع السّعود، ومنبع الجود، ومهيعا للمقام المحمود. أو: يقبّل العتبات الكريمة، لا زالت الأفلاك تتمنّى أنها بها تحفّ، وأنها لنجومها إليها بحوض الوالدين (؟) تزف. أو: يقبّل العتبات الكريمة، لا زالت الآمال بها مطيفة، والسّعود لها حليفة، وسعادتها لاستخدام كلّ ذي إلمام مضيفة.
ولا يخفى أنّ بعض هذه الاختيارات غير محكم الأساس، ولا موضوع على أصل يقتضي صحة الترتيب فيه، بل الكثير من ذلك راجع إلى التشهّي، كلّما تقدّم متقدّم في دولة من الدّول أحبّ أن يؤثر مخالفة غيره، ويجعل له شيئا يحدثه لينسب إليه ولا يبالي وافق في ذلك غرضا صحيحا أم لا، وقلّ من يصيب الغرض في ذلك.
__________
(1) هذه المرتبة تقدمت قبل بأسطر إلّا أن يكون انحطاطها من حيث صيغة الدعاء. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) انظر الحاشية رقم 1ص 180من هذا الجزء من صبح الأعشى.(8/187)
على أنّ تقديم بعض هذه المراتب على بعض في العلوّ والهبوط إنما هو من جهة استحسانه، لو تكلّف المتكلّف تأخير ما تقدّم فيها أو تقديم ما أخّر، لأمكنه ذلك.
الدرجة الثانية (المكاتبة بتقبيل اليد، وقد رتّبوا ذلك على ثلاث مراتب)
المرتبة الأولى يقبّل الباسط الشريف
، وهي الأعلى بالنسبة إلى المكتوب إليه. والرسم فيها أن يترك الكاتب تحت الملكيّ الفلانيّ بعد البسملة قدر سطرين بياضا كما في المسألة (1) قبلها، ويختلف الحال في ذلك، فإن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف، كتب: يقبّل الباسط الشريف، العالي، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيديّ، السيديّ، المالكيّ، المخدوميّ، المحسنيّ، الفلاني، لا زالت ساحته مقبّلة، وسماحته مؤمّلة، وينهي بعد وصف خدمه، وثبوت قيامه فيها على قدمه، أنّ الأمر كيت وكيت، والمسؤول من إحسانه كيت وكيت، والله تعالى يحرسه بمنّه وكرمه.
دعاء آخر: يليق بهذه المكاتبة، يقال بعد تكملة الألقاب: لا زالت نعمه باسطة، وأيّامه لعقود الأيام واسطة، وينهي كيت وكيت.
آخر: لا زال جناح كرمه مبسوطا، وجناب حرمه من المخاوف محوطا، وينهي كيت وكيت.
آخر: لا زال يصرّف الأعنّة والأسنّة، ويقلّد أعناق أعدائه كلّ أجل وأعناق أودّائه كلّ منّة، وينهي.
آخر: لا زالت حمائل السّيوف تتسابق إلى بنانه، وأعقاب الرّماح تأوي إلى أنامله، ليمكّنها من قلوب أعداء الله يوم طعانه، ومتون الخيل متحصّنة بعزائمه فيقوى جنانها بجنانه.
__________
(1) يعني المرتبة الخامسة. حاشية الطبعة الأميرية.(8/188)
آخر: لا زالت رحى حروبه على أعدائه تدار، وأسنّة رماحه تنادي الأعداء البدار البدار، وجنوده تقاتل سفرة الوجوه إذا قاتل الأعداء في قرى محصّنة أو من وراء جدار.
آخر: لا زالت أعلام النصر معقودة بأعلامه، وجواري اليمّ السعيد معدودة من خدّامه، وسطور البأس والكرم مثبتة إما بأقلام الخطّ من رماحه وإمّا برماح الخط من أقلامه.
آخر: لا زالت الأعنّة والأسنّة طوع يمينه وشماله، والآمال والأحوال تحت ظلال كرمه وكرم ظلاله، والسيوف والأقلام، هذه جارية بعوائد بأسه، وهذه جارية بعوائد نواله.
آخر: ولا زالت وجوه النضر تتراءى في مرآة صفاحه، وثمار النّصر تجتنى من أغصان رماحه، ولا برح السيف والقلم يتباريان في ضرّ الأعداء ببأسه ونفع الأولياء بسماحه وإن كان المكتوب إليه وزيرا ربّ سيف، كتب بعد الأميريّ «الوزيري». وإن كان وزيرا ربّ قلم، كتب قبل الفلاني أيضا «الصاحبيّ». وإن كان من أعيان الكتّاب: ككاتب السّرّ وناظر الخاصّ وناظر الجيش وناظر الدّولة وكتّاب الدّست ونحوهم، كتب بدل الأميري «القضائيّ» ثم يكتب للجميع بعد الوزيري أو القضائي، العالميّ، العادليّ، الممهّديّ، المشيّديّ، المالكيّ، المخدوميّ، المحسنيّ، الفلاني، أسبغ الله تعالى ظلاله ومدّها، وشيّد به مباني الملك وشدّها، ووهب الأيام منه هبة لا تستطيع الليالي ردّها، وينهي كيت وكيت.
دعاء آخر: يليق بهذه المكاتبة، يقال بعد تكملة الألقاب، ولا زالت أقلامه تروّع الأسد في آجامها، وتزيد على الغيوث في انسجامها، وتعلّم الرّماح الإقدام إذا نكصت لإحجامها، وينهي.
آخر: ولا زالت الدّول مشيّدة بتصريفه، مجدّدة لتشريفه، مؤيّدة بين صرير القلم وصريفه.
آخر: ولا زالت أقلامه تهزأ بالغيوث الهامية، وأنعامه تفوق على البحار الطامية، وموارد إحسانه تأوي إليها الوفود الظامية.(8/189)
آخر: ولا زالت الدّول مشيّدة بتصريفه، مجدّدة لتشريفه، مؤيّدة بين صرير القلم وصريفه.
آخر: ولا زالت أقلامه تهزأ بالغيوث الهامية، وأنعامه تفوق على البحار الطامية، وموارد إحسانه تأوي إليها الوفود الظامية.
آخر: وأدام القصد لبابه، ونزول الآمال برحابه، وصعودها إلى سحابه.
آخر: لا زال فسيحا للمقاصد جنابه، مجرّبا للمناجح بابه، صريحا في ابتغاء خير الدنيا والآخرة طلابه وإن كان من القضاة الحكّام، كتب: يقبّل الباسط الشريف، العالي، المولويّ، القضائيّ، العالميّ، الإماميّ، العلّامي، السيّديّ، المالكيّ، المخدوميّ، المحسنيّ، الحاكميّ، الفلانيّ، أعزّ الله تعالى أحكامه، وجمّل به الدهر وحكّامه، وثبّت به الأمر وزاد إحكامه، وينهي كيت وكيت.
دعاء آخر يناسبه: يقال بعد تكملة الألقاب: أعزّ الله تعالى أحكامه وأنفذها، وتدارك به الأمّة وأنقذها، وأسعف به الملّة الإسلاميّة وأسعدها، وينهي.
آخر: نضرّ الله الدّين بنوره، وسقى الغمام باقي سوره، وحمى حمى الشرع الشريف بما ضرب عليه من سوره.
آخر: وجمّل الدهر بمناقبه، وزيّن سماء العلم بكواكبه، ولا زال الزمان يقول لمنصب الشرع الشريف بشخصه ورأيه: عزّ يدوم وإقبال لصاحبه.
آخر: وأمضى بيده سيوف الشّرع التي هي أقلامه، وأعلى طروس العدل والحقّ فإنها أعلامه، ولا زالت يد القصد مشيرة إليه، ولا ينعقد إلّا على ثنائه خنصر ولا ينجلي إلّا بهداه إبهام.
آخر: وسدّد سهام الحقّ بأقضيته، وشيّد أركان الشّرع بأبنيته، وأيّد الإسلام بأقلام سجلّاته القائمة للنّصر مقام ألويته وإن كان المكتوب إليه من مشايخ الصّوفيّة، كتب: يقبّل الباسط الشريف، العالي، المولويّ، الشيخيّ، الإماميّ، العالميّ، العامليّ، الخاشعيّ، الناسكيّ، السيّديّ، المالكيّ، المخدوميّ، المحسنيّ، الفلانيّ، لا زال يقاتل بسلاحه، ويقابل فساد الدّهر بصلاحه، ويجلو دجى الظّلماء بصباحه، وينهي.
آخر: ونفع ببركاته في الرّوحات والغدوات، وجمّل ببقائه المحافل والملوات، وبسط في صالح الدّول [يده]، إمّا في مباشرته بصالح التدبير وإمّا في انقطاعه بصالح الدّعوات.(8/190)
آخر: وسدّد سهام الحقّ بأقضيته، وشيّد أركان الشّرع بأبنيته، وأيّد الإسلام بأقلام سجلّاته القائمة للنّصر مقام ألويته وإن كان المكتوب إليه من مشايخ الصّوفيّة، كتب: يقبّل الباسط الشريف، العالي، المولويّ، الشيخيّ، الإماميّ، العالميّ، العامليّ، الخاشعيّ، الناسكيّ، السيّديّ، المالكيّ، المخدوميّ، المحسنيّ، الفلانيّ، لا زال يقاتل بسلاحه، ويقابل فساد الدّهر بصلاحه، ويجلو دجى الظّلماء بصباحه، وينهي.
آخر: ونفع ببركاته في الرّوحات والغدوات، وجمّل ببقائه المحافل والملوات، وبسط في صالح الدّول [يده]، إمّا في مباشرته بصالح التدبير وإمّا في انقطاعه بصالح الدّعوات.
والعنوان في هذه المكاتبة «الباسط الشريف» بالألقاب التي في صدر المكاتبة على السّواء، والدعاء له بأوّل سجعة من دعاء الصّدر أو نحوها، بحسب حال المكتوب إليه، مثل أن يكتب لمن هو من أرباب السيوف، أعزّ الله تعالى نصره، أو عزّ نصره. ولمن هو من رؤساء الكتّاب: أسبغ الله ظلاله. ولمن هو قاضي حكم: أعزّ الله أحكامه. ولمن هو من مشايخ الصوفية: أعاد الله من بركاته.
وصورة وضعه في الورق أن تكتب الألقاب والدعاء والتعريف في سطرين كاملين من أوّل عرض الورق إلى آخره، إلّا أنه يفصل بين الألقاب والدعاء ببياض لطيف، وبين الدعاء والتعريف ببياض لطيف كما في هذه الصورة:
الباسط الشريف، العالي، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، السيّديّ، المالكيّ، المخدوميّ، المحسنيّ، الفلانيّ أعزّ الله أنصاره أمير حاجب بحلب المحروسة وقد ذكر في «عرف التعريف»: أنه إن قصد تعظيمه، عنونه بالمقرّ الشريف بالألقاب المتقدّمة على السّواء، ولا تخفى صورة وضعه بعد ما تقدّم، والعلامة «المملوك فلان» بقلم الرّقاع مقابل إن شاء الله كالمكاتبة بالمقرّ الشريف المتقدّمة.
المرتبة الثانية [يقبّل الباسطة الشريفة] (1) والرسم فيها أن يترك تحت الملكيّ الفلاني قدر سطرين بياضا
كما في المكاتبة قبلها، ثم يكتب «يقبّل الباسطة الشريفة» بالتأنيث، ويجري الحال في ذلك كما في الباسط، فإن كان المكتوب إليه من أرباب السيوف، كتب: يقبّل الباسطة الشريفة، العالية،
__________
(1) زدنا هذه العبارة أخذا مما سيأتي على الأثر ولعلها سقطت من قلم الناسخ. حاشية الطبعة الأميرية.(8/191)
المولويّة، الأميريّة، الكبيريّة، العالميّة، العادليّة، المؤيّدية، الذّخريّة، المالكية، المحسنيّة، الفلانية، لا زالت سحائبها مستهلّة، ومواهبها للبحار مستقلّة، وينهي كيت وكيت، والمستمدّ من محبّته كيت وكيت. وربما قيل والمسؤول، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه.
دعاء آخر يليق بذلك: لا زالت سيولها تملأ الرّحاب وسيوفها تسرع السّلّ إلى الرّقاب.
آخر: لا زالت خناصر الحمد على فضل بنانها معقودة، ومآثر البأس والكرم لها ومنها شاهدة ومشهودة، وبواتر السّيوف مسيّرة القصد إلى مناصرة أقلامها المنضودة.
آخر: ضاعف الله تعالى موادّ نعمها، وجوادّ كرمها، واتّصال الآمال بمساقط ديمها.
آخر: لا زالت الآمال لائذة بكرمها، عائذة بحرمها، مستنجدة على جدب الأيّام بسقي ديمها.
آخر: لا زالت لرسوم الكرم مقيمة، ولصنائع المعروف مديمة، ولأيادي الإحسان متابعة إذا قصّرت عن البروق ديمة وإن كان المكتوب إليه من رؤوس الكتّاب كتب بدل الأميريّ القضائيّ، والباقي على ما تقدّم، ثم يدعى له بما يناسبه.
دعاء يناسب ذلك: لا زالت السيوف خاضعة لأقلامها، والنجوم خاشعة لكلامها، والجبال متواضعة لإعلاء أعلامها.
آخر: لا زالت موالاتها فريضة، وأجنحة أعدائها مهيضة، ومقل الأسنّة إذا خاصمتها ألسنة أقلامها غضيضة.
آخر: أسبغ الله ظلّها، وهنّأ بها أمّة قرب مبعث زمانها وأظلّها، وهدى الآمال وقد حيّرها الحرمان وأضلّها.
آخر: لا زال قلمها مفتاح الرّزق لطالبه، والجاه لكاسبه، والنصر لمستنيب كتبها عن كتائبه.(8/192)
آخر: أسبغ الله ظلّها، وهنّأ بها أمّة قرب مبعث زمانها وأظلّها، وهدى الآمال وقد حيّرها الحرمان وأضلّها.
آخر: لا زال قلمها مفتاح الرّزق لطالبه، والجاه لكاسبه، والنصر لمستنيب كتبها عن كتائبه.
آخر: لا زال رفدها المطلوب، وسعدها المكتوب، وقلمها المخاطب في مصالح الدول والمخطوب.
آخر: بسط الله ظلّها ولا قلّصها، وزادها من فضله ولا نقصها، ولا جرّع كبد حاسدها الظالمية إلّا غصصها.
آخر: ولا زال عميما إنعامها، قديما وحديثا ديمها وإكرامها، قاضية بسعدها النجوم التي هي خدّامها.
آخر: لا زالت بسيطا ظلّها، مديدا فضلها، سريعا إلى داعي النّدى والرّدى قلمها في المهمّات ونصلها وإن كان من قضاة الحكم زاد مع القاضويّ قبل الفلاني الحاكميّ ودعا بما يناسب.
دعاء: أعزّ الله شانها (1)، وأذلّ من شانها (2)، وأغصّ بأدمع أعدائها الضّريحة شانها (3)
دعاء آخر يليق بذلك: ولا زالت الآمال إليها وافدة، والصّلات عائدة، ومعاني الفضل عن أخبار معنها زائدة.
آخر: لا زالت خناصر الحمد معقودة على فضل بنانها، وفصل بيانها، وعوائد الفضل والكرم شاهدة بالحسنين من فضلها وامتنانها. وإن كان من مشايخ الصّوفيّة أبدل القضائيّة بالشيخيّة وأسقط العادليّة والحاكميّة ودعا له نحو قوله: ومتّع الإسلام ببقيّته الصالحة، وبيّض صحائف أعماله التي لأيدي الملائكة الكرام مصافحة.
__________
(1) أي شأنها بالهمز، حذفت الهمزة للسجع، والشأن: الحال والأمر. لسان العرب (شأن).
(2) شانها: ضدّ زانها، والشين، العيب. محيط المحيط (شين).
(3) أي شأنها بالهمز أيضا، والشأن هنا مجرى الدمع إلى العين. لسان العرب (شأن).(8/193)
آخر: لا أخلى الله من بركاته خلواته، وأعاد من نوامي دعواته، وسوامي درجاته وتوجّهاته، ونحو ذلك.
والعنوان الألقاب التي في صدر المكاتبة، والدعاء بالسّجعة الأولى من الدّعاء باطنه أو نحوها.
وصورة وضعه أن تكتب الألقاب والدعاء والتعريف في سطرين كما تقدّم في الباسط كما في هذه الصورة:
الباسطة، الشريفة، العالية، المولويّة، الأميريّة، الكبيريّة، العالميّة، العادليّة، الذّخرية، السنديّة، الكامليّة، المحسنيّة، أعزّ الله تعالى أنصارها أمير حاجب بحماة المحروسة والعلامة «المملوك فلان» بقلم الرّقاع في أوّل الوصل الثالث على القرب من اللّصاق.
المرتبة الثالثة يقبّل اليد الشريفة بألقاب الباسطة المتقدّمة
، ثم اليد الكريمة، ثم اليد العالية مع حذف الكريمة رتبة بعد رتبة، والألقاب بحالها ويدعى له، ثم يقال والمستمدّ من محبّته كيت وكيت، والله تعالى يؤيّده. والحال في اختلاف بعض ألقابها بالنّسبة إلى أرباب السيوف وغيرهم على ما تقدّم في الباسطة.
وهذه أدعية لأرباب السّيوف في هذه المكاتبة دعاء من ذلك: يقال بعد استكمال الألقاب: لا زالت مقبّلة البنان، مؤمّلة الإحسان، مفضّلة على أنواء السّحب بكل لسان، وينهي.
آخر: لا زالت تردّ بالسيف صدور الكتائب، وترد الظّماة منها موارد السحائب، وتحدّث عن البحر وكم في البحر من العجائب.
آخر: لا زالت بربّها مأمونة، وبذبّها ممنونة، وأيامها تصبّح الأعداء بأسنّتها الزّرق المسنونة.
آخر: لا أخلى الله من ودّها، ولا قطع وظائف حمدها، ولا قضى مغيبها إلّا جعل لها ذكرى بعدها.(8/194)
آخر: لا زالت بربّها مأمونة، وبذبّها ممنونة، وأيامها تصبّح الأعداء بأسنّتها الزّرق المسنونة.
آخر: لا أخلى الله من ودّها، ولا قطع وظائف حمدها، ولا قضى مغيبها إلّا جعل لها ذكرى بعدها.
آخر: لا زالت مصالحها تظفر بالمنى، وتحصل على الغنى، وتطلق لسانه بعاطر الثّنا.
آخر: لا زالت لتقليد المنن سابقة في الجود العذل، مقسّمة في مكارم التكريم، باطنها للنّدى وظاهرها للقبل.
وهذه أدعية تناسب أرباب الأقلام يقال بعد استيفاء الألقاب: لا زالت مستهلّة بالنّدا، مستقلّة بكبت العدا، مطلّة على النجوم على بعد ما بينهما من المدى.
آخر: لا برحت مفاخرها مفصّلة، ومحبّتها في الخواطر ممثّلة، والكواكب تودّ لو فارقت فلكها وأصبحت لديها مسبلة.
آخر: لا زالت لصحائف الإحسان مسطّرة، ولقلوب الأعداء مفطّرة، ولصنائع المعروف إذا أمسكت الأنواء ممطرة.
آخر: أعلى الله تعالى شانها، وضاعف إحسانها.
والعنوان: اليد الشريفة، أو اليد الكريمة، أو اليد العالية، بالألقاب التي في صدر الكتاب من غير زيادة ولا نقص، والدعاء بأوّل سجعة من المدعوّ به في صدر الكتاب أو نحوها، والتعريف بعد ذلك.
وصورة وضعه في الكتابة أن يكتب سطران على ما تقدّم في الباسط والباسطة كما في هذه الصورة:
اليد الشريفة، العالية، المولويّة، الأميريّة، الكبيريّة، العالمية، العادليّة، الذّخرية، المالكيّة، المحسنيّة، الفلانية. أعلى الله تعالى شأنها نائب ملطية (1) المحروسة
__________
(1) ملطية: بفتح أوله وثانيه وسكون الطاء وتخفيف الياء: بلدة من بلاد الروم مشهورة تتاخم الشام، وهي من بناء الإسكندر، وجامعها من بناء الصحابة. قيل فيها أشعار كثيرة منها قول بعضهم (كامل).
فلأ بكينّ على ملطية كلّما ... أبصرت سيفا أو سمعت صهيلا
هدم الدمستق سورها وقصورها ... فسمعت فيها للنساء عويلا
معجم البلدان (ج 5ص 193192).(8/195)
والعلامة «المملوك فلان» بقلم التوقيعات، في آخر الوصل الثاني من الكتاب، على القرب من موضع لصاقه (1)
واعلم أنه ربما وصف التقبيل في هذه المراتب بعد الدّعاء بالأوصاف الدالّة على زيادة التأدّب ورفعة قدر المكتوب إليه، وعلى ذلك جرى في «عرف التعريف». وقد يستعمله بعض كتّاب الزمان، وذلك مثل أن يقول في تقبيل الباسط بعد استعمال الدعاء: تقبيلا يحوم على مناهله، ويحلّق نسر السماء على منازله، أو يقول: تقبيل محبّ أخلص ولاءه، ومحّص الصّدق وفاءه، أو تقبيلا يواليه، وينظّم لآليه، أو تقبيلا يواصل به الخدم، ويودّ لو سعى لأدائه على الرأس إن لم تسعف القدم، أو تقبيلا لا يروى الكرم إلّا عنه، ولا تستفاد المكارم إلّا منه، أو تقبيل وارد على ذلك الزّلال، رائد في ذلك الروض الممتدّ الظّلال، أو تقبيل مسارع إليها، مزاحم عليها.
وربما أتى في الإنهاء بما يلائم المقام، مثل أن يقول: وينهي بعد وصف خدمه، وتمنّيه لو وقف في صفّ خدمه، وما أشبه ذلك.
قلت: وفي بعض الدّساتير بعد تقبيل اليد العالية، يقبّل يد الجناب الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، المؤيّديّ، النصيريّ، الزّعيميّ، الفلانيّ، وبعد ذلك: يخدم الجناب الكريم بنحو هذه الألقاب. وفي «التثقيف»: يقبّل يد الجناب العالي، ويخدم الجناب العالي، بدون الكريم، ثم يقال بعد ذلك ويبدي لعلمه كيت وكيت، والقصد من محبّته كيت وكيت، فيحيط علما بذلك. وبعض الكتّاب يستعمل ذلك إلى الآن، وهو ذهول، إذ سيأتي في
__________
(1) الأظهر: «من موضع لصقه». حاشية الطبعة الأميرية.(8/196)
أوّل الدرجة الثالثة أنّ أعلى المراتب المفتتحة بالدعاء الدعاء للمقرّ الشريف على المصطلح الأوّل، وللمقرّ الكريم على ما استقرّ عليه الحال الآن، وإذا كان كذلك فكيف يتأتّى أن تكون مرتبة من مراتب الجناب الكريم أو الجناب العالي قبل المقرّ الشريف أو المقرّ الكريم.
الدرجة الثالثة (المكاتبة بالدعاء)
وقد رتّبوا المكاتبة بالدعاء على [ثلاث] (1) مراتب:
المرتبة الأولى الدعاء للمقرّ
، والرسم فيه أن يترك بعد «الملكي الفلاني» قدر عرض ثلاث أصابع بياضا ثم يؤتى بصدر المكاتبة على سمت البسملة.
ويختلف الحال في ذلك، فإن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف، كتب: أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، العونيّ، النّصيريّ، الفلانيّ. ثم يدعى له بما يناسب نحو: ولا زالت جيوشه جائلة، وجنوده بين الأعداء وبين مطالبها حائلة، وأولياؤه على صهوات خيلها لديه قائلة، أصدرناها إلى المقرّ الكريم، تهدي إليه من السّلام أطيبه، ومن الثّناء أطنبه، وتبدي لعلمه الكريم أنّ الأمر كيت وكيت، والقصد من اهتمامه كيت وكيت، فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه.
وهذه أدعية تناسب ذلك:
دعاء يليق بذلك: يقال بعد تكملة الألقاب: وأيّد عزائمه ونصرها، وأعلى أعلامه ونشرها، ودقّق في مقاتل الأعداء حيث تزور الأسنّة نظرها، وينهي.
__________
(1) بياض في الأصل. حاشية الطبعة الأميرية.(8/197)
آخر: ولا برحت الآمال بكرمه تعترف، وبوارق صوارمه لأبصار الأعداء تختطف.
آخر: وأعلى قدره، وأنفذ أمره، أصدرناها.
وإن كان من رؤساء الكتّاب، كتب: بسط الله ظلّ المقرّ، أو أسبغ الله ظلال المقرّ الكريم، العالي، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، السيّديّ، السّنديّ، المالكيّ، المخدوميّ، المحسنيّ، الفلانيّ، وباقي المكاتبة كما في أرباب السيوف.
وهذه أدعية تناسب ذلك:
دعاء يليق به: ولا زالت الأمور إليه مفوّضة، ومضارب العزّ إلّا عنه مقوّضة، وصحائف الحسنات بتسويده على أثناء الدّهر مبيّضة، أصدرناها.
آخر: وصرّف لسان قلمه، وشرّف مكان قدمه، وعرّف من كان يناويه أنّه أصبح لا يعدّ من خدمه.
قلت: وقد ذكر في «عرف التعريف» (1) أن القضاة والحكّام لا مدخل لهم في المكاتبة بالمقرّ، وعلى ذلك جرى في مشايخ الصوفيّة، على أنه قد كوتب بذلك. وقد رأيت المكاتبة بذلك في بعض الدساتير، وحينئذ فيكتب: أعزّ الله تعالى أحكام المقرّ، العالي، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، العلّاميّ، الإماميّ، المالكيّ، المحسنيّ، الحاكميّ، الفلانيّ، ويدعى له بما يناسب، مثل: وجدّد له إقبالا، وبلّغه من الدّارين آمالا، وأحسن إليه مبدأ ومآلا، ونحو ذلك. والباقي على نحو ما تقدّم.
وهذه أدعية تناسب ذلك: لا برحت الشريعة محوطة بأقلامه، مضبوطة بأحكامه، منوطة بما يشيّد
__________
(1) انظر الصحيفة 186من هذا الجزء من صبح الأعشى الحاشية رقم 1.(8/198)
مبانيها ومثانيها من أحكامه، مؤرّخة أيام سعودها بأيامه.
آخر: حرس الله بأحكامه سرح المدى، ولا برحت فتاويه بها يقتدى، ويظهر على المناوين والمبتدعين من تجريدها مهنّدا مهنّدا.
آخر: لا برحت أنوار فتاويه لامعة، وسيوف أقلامها بها قاطعة، وحدودها إلى [موارد] أحكام الشريعة المحمّدية شارعة.
والعنوان لهذه المكاتبة: «المقر الكريم» بنظير ما في الصّدر، والدعاء بأوّل سجعة في الصدر من الدعاء.
وصورة وضعه في الورق أن يكتب في سطرين الألقاب والدعاء والتعريف كما في هذه الصورة:
المقرّ الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، العونيّ، النّصيريّ، الفلانيّ، أعزّ الله تعالى أنصاره فلان الفلانيّ والعلامة «المملوك فلان» بقلم الثلث مقابل السطر الثاني من المكاتبة.
المرتبة الثانية: الدعاء للجناب، وهو على ثلاث طبقات
:الطبقة الأولى أعزّ الله تعالى نصرة الجناب الكريم
. والرسم فيه أن يترك تحت «الملكيّ الناصريّ» عرض ثلاثة أصابع بياضا كما في المسألة قبلها.
ثم إن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف، كتب: أعزّ الله تعالى نصرة الجناب الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، العونيّ، الذّخريّ، العضديّ، الفلانيّ، ويدعى له، نحو: وأعلى قدره، وأنفذ أمره، صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب الكريم، تهدي إليه سلاما رائقا، وثناء عابقا، وتوضّح لعلمه الكريم كيت وكيت، والقصد من اهتمامه كيت وكيت، فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يحرسه بمنّه وكرمه.
وهذه أدعية تناسب ذلك.(8/199)
ثم إن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف، كتب: أعزّ الله تعالى نصرة الجناب الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، العونيّ، الذّخريّ، العضديّ، الفلانيّ، ويدعى له، نحو: وأعلى قدره، وأنفذ أمره، صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب الكريم، تهدي إليه سلاما رائقا، وثناء عابقا، وتوضّح لعلمه الكريم كيت وكيت، والقصد من اهتمامه كيت وكيت، فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يحرسه بمنّه وكرمه.
وهذه أدعية تناسب ذلك.
دعاء منه: ولا زالت عزائمه تعير السّيوف المضاء، وتعلّم السّهام النّفوذ في القضاء.
آخر: ولا زال جنابه مرتعا، وسحابه مربعا، ورعبه لا يدع من قلوب الأعداء موضعا.
آخر: ولا زالت عزائمه تباري السّيوف، وتشقّ الصّفوف، وتجاري إلى مقاتل الأعداء الحتوف، صدرت.
وإن كان من الكتّاب، كتب: أدام الله تعالى جلال الجناب الكريم، العالي، القضائيّ، الكبيريّ، الصّدريّ، الرّئيسيّ، العونيّ، الغياثيّ، الملاذيّ، الفلانيّ، ويدعى له بما يناسبه، والباقي من نسبة أرباب السّيوف.
دعاء يناسبه: وحرس سماءه التي تغنى عن المصابيح، ونعماءه التي هي للنّعم مفاتيح.
آخر: وبلّغه أشرف الرّتب، وملأ به قلوب الأعداء غاية الرّهب، وشكر ندى قلمه الذي لم يدع للغمام إلّا فضل ما وهب، صدرت.
وإن كان قاضيا، كتب: أعزّ الله تعالى أحكام الجناب الكريم العالي، القضائيّ، الإماميّ، العالميّ، العلّاميّ، الأوحديّ، الفلانيّ. ويدعو له نحو:
ونوّر بعلمه البصائر، وسرّ بحكمه السّرائر، وجعل فيض يمّه مما لا تودع درره إلا في الضمائر. والباقي من نسبة ما تقدم.
وإن كان من مشايخ الصّوفيّة، كتب: أعاد الله تعالى من بركات الجناب الكريم، العالي، الشّيخيّ، الإماميّ، العالميّ، العامليّ، الورعيّ، الزاهديّ، الفلانيّ. ويدعى له، نحو: ولا زال يقاتل بسلاحه، ويقابل فساد الدّهر بصلاحه، وتجلى دجى الظّلماء بصباحه. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب الكريم تهدي إليه سلاما يزدان بعرض بخدمته، ويزداد نضرة بنظرته.
والعنوان لكلّ منهم بألقاب الصدر، والدعاء بأوّل سجعة من دعائه أو نحو ذلك.(8/200)
وإن كان من مشايخ الصّوفيّة، كتب: أعاد الله تعالى من بركات الجناب الكريم، العالي، الشّيخيّ، الإماميّ، العالميّ، العامليّ، الورعيّ، الزاهديّ، الفلانيّ. ويدعى له، نحو: ولا زال يقاتل بسلاحه، ويقابل فساد الدّهر بصلاحه، وتجلى دجى الظّلماء بصباحه. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب الكريم تهدي إليه سلاما يزدان بعرض بخدمته، ويزداد نضرة بنظرته.
والعنوان لكلّ منهم بألقاب الصدر، والدعاء بأوّل سجعة من دعائه أو نحو ذلك.
وصورة وضعه أن يكتب في سطرين ألقابه ودعاءه وتعريفه كما في هذه الصّورة:
الجناب الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، النّصيريّ، الفلانيّ، أعزّ الله تعالى نصرته فلان الفلانيّ.
والعلامة «المملوك فلان» بقلم الثلث مقابل السطر الثاني كما في المكاتبة التي قبلها.
الطبقة الثانية من المرتبة الثانية
: ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي.
والرسم فيه أن يترك تحت الملكيّ الفلانيّ قدر أربعة أصابع بياضا، ثم يختلف الحال في ذلك فإن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف، كتب: ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، العونيّ، النّصيريّ، الذّخريّ، الفلانيّ. ثم يدعى له، نحو: ونصره في جلاده، وأيّده في مواقف جهاده. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما يشوق، وثناء يروق، وتوضّح لعلمه كيت وكيت، فالجناب العالي، يتقدّم بكيت وكيت، فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه.
دعاء آخر يناسب هذه المكاتبة: يقال بعد استيفاء الألقاب: ولا زال عزمه مؤيّدا، وعزّه مؤبّدا، واجتهاده وجهاده، هذا يسرّ الأولياء وهذا يسوء العدا.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تخصّه بالسّلام، والثناء الوافر الأقسام، وتوضّح لعلمه كيت وكيت.
آخر: ولا زالت آراؤه كواكب يهتدى بلوامعها، وتقرأ سورة النصر في جوامعها، وتسير كالسّحب فترمي الأعداء بصواعقها وتأتي الأولياء بهوامعها.
وإن كان من الكتّاب، كتب: ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي،
القضائيّ، الكبيريّ، الصّدريّ، الرّئيسيّ، القواميّ، النّظاميّ، الفلانيّ. ثم يدعى له نحو: ولا زال يرجى لكلّ جليل، ويؤمّل لكلّ جميل، ويؤهّل لكلّ منتهى تقصر دونه أصابع النّيل. صدرت هذه المكاتبة، والباقي على ما تقدّم في أرباب السيوف.(8/201)
وإن كان من الكتّاب، كتب: ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي،
القضائيّ، الكبيريّ، الصّدريّ، الرّئيسيّ، القواميّ، النّظاميّ، الفلانيّ. ثم يدعى له نحو: ولا زال يرجى لكلّ جليل، ويؤمّل لكلّ جميل، ويؤهّل لكلّ منتهى تقصر دونه أصابع النّيل. صدرت هذه المكاتبة، والباقي على ما تقدّم في أرباب السيوف.
وإن كان من القضاة، كتب: ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي، القضائيّ، العالميّ، الفاضليّ، الأوحديّ، الصّدريّ، الرئيسيّ، الفلانيّ. ويدعى له نحو: ودفع عنه الأباطيل، وأرشد بهداه من الأضاليل.
وإن كان من مشايخ الصّوفيّة، كتب: أعاد الله تعالى من بركة الجناب العالي، الشّيخيّ، الإماميّ، العالميّ، الكامليّ، الورعيّ، الزاهديّ. ويدعى له، نحو: ولا زال تكشف به اللّأواء (1)، وتطبّ به الأدواء. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما، وتفضّ عن مثل المسك ختاما، وتوضّح لعلمه.
دعاء آخر: نفع الله بدعواته التي لا حاجب لها عن الإجابة، ولا عارض يمنعها عن الإصابة، وأمتع ببركاته التي هي أمن للناس ومثابة. صدرت.
والعنوان: الألقاب التي في صدر المكاتبة. والدعاء: ضاعف الله تعالى نعمته، ثم التعريف.
وصورة وضعه في الورق أن يكتب في سطرين ألقابه ودعاؤه وتعريفه كما في هذه الصورة:
الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، العونيّ، النّصيريّ، الذّخريّ، الفلانيّ. ضاعف الله تعالى نعمته فلان الفلانيّ.
والعلامة «المملوك فلان» بقلم الثلث الثقيل مقابل السطر الأوّل من المكاتبة.
__________
(1) اللأواء: الشدّة والمحنة، وهي فعلاء من التأى.(8/202)
الطبقة الثالثة أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي وما في معنى ذلك
. والرسم فيه أن يترك تحت الملكي الفلاني بحيث يبقى من الوصل الذي فيه البسملة ما يسع سطرين فقط ثم يختلف الحال فيه فإن كان المكتوب إليه من أرباب السيوف، كتب: أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، العونيّ، النّصيريّ، الذّخريّ، الفلانيّ. ويدعى له، نحو: وأيّد عزمه وأظهره، وكبت عدوّه وقهره، صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما طيّبا، وثناء مطنبا، وتوضّح لعلمه كيت وكيت، فالجناب العالي يتقدّم بكيت وكيت، فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه.
دعاء آخر يناسبه: وموّه بجهاده كلّ سنان، ونبّه بجلاده جفن كلّ سيف وسنان. صدرت هذه المكاتبة تحيّيه بسلام يطيب، وثناء يهتزّ غصنه الرّطيب، وتوضّح لعلمه.
وإن كان من الكتّاب، كتب: أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي، القضائي. والألقاب من نسبة ما تقدّم في: ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي.
والدعاء، نحو: ولا زال قلمه لأبواب الأرزاق فاتحا، ونجم رفده [لأنواء الفضل مانحا (1)] صدرت.
وإن كان من القضاة، كتب: أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي، والألقاب من نسبة ما تقدّم في ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي. والدعاء، نحو: ولا أخلى الله أفق الفضل من كوكبه، ولا مجال الجدال من مركبه. صدرت.
وإن كان من مشايخ الصوفية، كتب: أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي الشيخيّ. وبقيّة الألقاب من نسبة ما تقدّم مع ضاعف الله تعالى نعمة الجناب.
__________
(1) بياض في الأصل لبقية هذه السجعة، فأثبتناها ليلتئم الكلام. حاشية الطبعة الأميرية.(8/203)
والدعاء، نحو: نفع الله ببركات خلواته التي كم انجلت عن الرّشاد، وبان في مرآتها نور الهدى للعباد، وأنارت إنارة الشمس لا إنارة الزّناد.
والعنوان بنظير الألقاب التي في صدر المكاتبة، والدعاء: أدام الله تعالى نعمته.
وصورة وضعه في الورق أن يكتب في سطرين الألقاب والدعاء والتعريف كما في هذه الصورة:
الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، العونيّ، النّصيريّ، الذّخريّ، الفلانيّ، أدام الله نعمته فلان الفلانيّ.
والعلامة «المملوك فلان» تحت البسملة بقلم مختصر الطّومار (1).
المرتبة الثالثة الدعاء للمجلس
، ويختصّ بالمجلس العالي، والبياض فيه تحت الملكي الفلاني بحيث يبقى من الوصل قدر سطرين كما تقدّم في الجناب العالي. ويختلف الحال فيه فإن كان من أرباب السّيوف، كتب: أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، الذّخريّ، العونيّ، الفلاني. ويدعى له، نحو: وأيّد عزمه، ووفّر من الخيرات قسمه. صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي تهدي إليه سلاما، وتوفّر له من الخير أقساما، وتوضح لعلمه المبارك كيت وكيت، فالمجلس يتقدّم بكيت وكيت، فيحيط بذلك علما. والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه.
وهذه أدعية تليق بهذه المكاتبة.
دعاء من ذلك: ولا زال مشكور الاهتمام، موصوف المحاسن وصف البدر التّمام، معروفا بجميل الأثر مثل ما تعرف مواقع الغمام. صدرت هذه المكاتبة إلى
__________
(1) الطومار: الصحيفة، وجمعها طوامير.(8/204)
المجلس العالي تهدي إليه سلاما، وتسدّد لرأيه الصائب سهاما، وتوضّح لعلمه الكريم.
آخر: ولا زال سيفا يدفع بحدّه، ويجري ماء النصر من فرنده (1)، ويتنوّع به الظّفر فيقتل بتجريده ويخاف وهو في غمده.
وإن كان من الكتّاب، كتب: أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، القضائيّ، الأجلّيّ، الكبيريّ، الرئيسيّ، الماجديّ، الأوحديّ، الأثيريّ، الفلانيّ. ويدعى له، نحو: وسدّد رأيه ووفّقه، وصدّق فيه الظّنّ وحقّقه، وجمع له شمل السعادة ثم لا فرّقه. صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي تشكر مساعيه، واهتمامه الذي بان طرف النّجم وهو يراعيه، وتوضّح لعلمه الكريم.
آخر: ولا نزع عنه ثوب سعادة، ولا غيّر منه جميل عادة، ولا عرف سوى بابه الذي لو كان له الحقّ في جبهة الأسد لاستعاده. صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي تهدي إليه السّلام، والثّناء الذي تنطق به ألسنة الأقلام، وتوضح لعلمه.
وإن كان من القضاة، كتب: أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، الفاضليّ، الأوحديّ، الفلانيّ. ويدعى له، نحو: ولا برحت طلبته (2) مفيدة المطالب، مورية الهدى في الغياهب، قائمة أقلام هدايتها في ليالي الحيرة مقام الكواكب.
آخر: ولا برحت الدنيا ممطورة بغمامه، محبورة بدخولها تحت ذمامه.
وإن كان من مشايخ الصوفية، كتب: أدام الله تعالى بركة المجلس العالي، الشّيخيّ، الإماميّ، العالميّ، العامليّ، العابديّ، الورعيّ، الزاهديّ،
__________
(1) الفرند: السيف ووشيه وجوهره.
(2) الطلبة: بضم الطاء وسكون اللام وفتح الباء: السفرة البعيدة. لسان العرب (طلب) وقد تكون مصحّفة عن «طلعته». انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/205)
الأوحديّ، الفلانيّ. ويدعى له نحو: ولا زال نوره يسعى بين يديه، ويدعى باسمه إليه.
آخر: أعاد الله من بركاته على الراعي والرّعيّة، وجعل خلواته خلوات كلّ نفس راضية مرضيّة، والباقي على ما تقدّم.
والعنوان الألقاب التي في الصّدر، والدعاء: أدام الله تعالى نعمته. ثم التعريف.
وصورة وضعه في الورق أن تكتب ألقابه والدعاء والتعريف كما في هذه الصورة:
المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، الذّخريّ، العونيّ، الفلانيّ، أدام الله تعالى نعمته فلان الفلانيّ.
والعلامة «المملوك فلان» بقلم مختصر الطّومار تحت الملكي الفلاني، على ما تقدّم في المكاتبة قبلها.
واعلم أنّ ترتيب هذه الدرجة على هذه المراتب: من الدّعاء بأعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم، ثم أعزّ الله تعالى نصرة الجناب الكريم، ثم ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي ثم أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي، ثم أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، هو المستقرّ عليه الحال بين كتّاب الزمان بالديار المصرية. وجعل في «عرف التعريف» أعلى المراتب في الدعاء: أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم، ثم أعزّ الله تعالى نصرة المقرّ الكريم، ثم أعزّ الله تعالى نصر المقرّ الكريم، ثم أدام الله تعالى نصرة الجناب الشريف، ثم أدام الله تعالى نصرة الجناب الكريم، ثم ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي، وحرس الله تعالى نعمة الجناب العالي، مع اختصار الألقاب وحذف بعضها، ثم أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي. وعلى كثير من ذلك كان الحال جاريا إلى آخر الدولة الأشرفيّة «شعبان (1) بن حسين» ثم أخذ
__________
(1) تقدمت ترجمته في الصحيفة 108من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 2.(8/206)
الناس في التغيير إلى أن صار الأمر على ما هو عليه الآن.
قلت: وكانوا في الزّمن السالف في الدولة الناصرية «محمد (1) بن قلاوون» وما والاها لا يأتون مع المقرّ الشريف، والمقرّ الكريم، والمقرّ العالي، والجناب الشريف، بأصدرناها ولا بصدرت هذه المكاتبة كما هو الآن بل بعد الدعاء يقولون مع «أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الشريف»: المملوك يقبّل الباسطة. ثم يأتي بالإنهاء بعد ذلك مثل أن يقول: المملوك يقبّل الباسطة الكريمة التي هي معدن السّماح، وموطن ما يوهن العدا من صدور الصّفاح، وينهي. أو يقول: يقبّل الباسطة الكريمة، ويرتع منها في كلّ ديمة، وينهي. أو والمملوك يقبّل اليد الشريفة، ويلجأ إلى ظلالها الوريفة، وينهي. ومع «الجناب الشريف» لفظ «المملوك يخدم». ثم يقول: ويبدي مثل أن يكتب: المملوك يخدم بأثنيته ويفضّ عقود الشّكر على أنديته، ويبدي لعلمه الكريم. أو المملوك يخدم بأثنيته التي تزيد الطّيب طيبا، وتسري سرى السّحب فلا تدع في الأرض جريبا (2)، ويبدي لعلمه الكريم. وربما أعاض ذلك بقوله: صدرت هذه الخدمة، مثل أن يقول: صدرت هذه الخدمة وسلامها يتضوّع، وثناؤها السافر لا يتبرقع.
الدرجة الرابعة (الابتداء بصيغ مخترعة من صدور مكاتبات الأدعية)
اعلم أن صدور المكاتبات المفتتحة بالأدعية يقال فيها بعد الدّعاء المعطوف: أصدرناها أو صدرت هذه المكاتبة، ثم يقال: وتبدي لعلمه أو وتوضّح لعلمه. ومن أجل ذلك جعلت هذه الدرجة دون درجة الافتتاح بالدعاء لأنّ هذه فرع من فروع تلك، وحينئذ فيكون الصدر مشتملا بعد الدعاء على ثلاثة أشياء:
أحدها [افتتاح] صدور المكاتبة بقوله: أصدرناها أو صدرت.
__________
(1) تقدمت ترجمته في الصحيفة 5من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.
(2) الجريب من الأرض: مقدار معلوم الذراع والمساحة، وهو عشرة أقفزة، وقيل: الجريب من الأرض نصف الفنجان. لسان العرب (جرب).(8/207)
والثاني الإشارة إلى المكاتبة بقوله: هذه المكاتبة.
والثالث الإعلام بما صدرت بسببه المكاتبة، فانتظم من ذلك ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى الافتتاح بصدور المكاتبة
، وفيها طبقتان:
الطبقة الأولى صدرت والعالي
، وهي أن تفتتح المكاتبة بأن يقال: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي. ويختلف الحال فيها.
فإن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف، كتب: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، الذّخريّ، الأوحديّ، الفلانيّ. ويدعى له نحو: أدام الله تعالى نعمته، ووفّر من الخير قسمته، تتضمّن إعلامه كيت وكيت. فالمجلس العالي يتقدّم بكيت وكيت، فيعلم ذلك ويعتمده والله الموفّق.
وإن كان من الكتّاب، كتب: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي، القضائيّ، الكبيريّ، الرئيسيّ، الكامليّ، الماجديّ، الأثيريّ، الأوحديّ، الفلانيّ. ويدعى له، نحو: حرس الله مجده، وأنجح قصده، والباقي على ما تقدّم.
وإن كان من القضاة، كتب: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي، القضائيّ، الأجلّيّ، الإماميّ، الصّدريّ، الفقيهيّ، الكامليّ، الفاضليّ، الفلانيّ، ويدعى له، نحو: أيّد الله أحكامه، ووفّر من الخير أقسامه، والباقي على ما تقدّم.
وإن كان من مشايخ الصوفيّة، كتب: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي، الشّيخيّ، الإماميّ، العالميّ، العامليّ، الزاهديّ، العابديّ، الورعيّ، الأوحديّ. ويدعى له نحو: أعاد الله من بركته، ونفع المسلمين بصالح أدعيته، والباقي على ما تقدّم.
والعنوان بالألقاب التي في الصّدر وأوّل سجعة من الدعاء فيه. وتكون الألقاب والدعاء والتعريف في سطرين كما في هذه الصورة:
المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، الذّخريّ، الأوحديّ، الفلانيّ أدام الله رفعته فلان الفلانيّ والعلامة «المملوك فلان» تحت «الملكيّ الفلاني» بقلم مختصر الطّومار الثقيل، وربما جعل بعضهم العلامة «أخوه».(8/208)
والعنوان بالألقاب التي في الصّدر وأوّل سجعة من الدعاء فيه. وتكون الألقاب والدعاء والتعريف في سطرين كما في هذه الصورة:
المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، الذّخريّ، الأوحديّ، الفلانيّ أدام الله رفعته فلان الفلانيّ والعلامة «المملوك فلان» تحت «الملكيّ الفلاني» بقلم مختصر الطّومار الثقيل، وربما جعل بعضهم العلامة «أخوه».
الطبقة الثانية صدرت والسامي
، وهي أن تفتتح المكاتبة بأن يقال:
صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس الساميّ، والبياض فيها تحت الملكيّ الفلانيّ كما في المكاتبة التي قبلها، بحيث لا يبقى من الوصل إلّا ما يسع سطرين فقط على ما تقدّم.
ثم إن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف، كتب: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، الأميريّ، الكبيريّ، المجاهديّ، العضديّ، الذّخريّ، الأوحديّ، الفلانيّ. ويدعى له نحو: أدام الله سعده، وأنجح قصده. ثم يقال:
تتضمّن إعلامه كيت وكيت. فالمجلس السامي يتقدّم بكيت وكيت، فيعلم ذلك ويعتمده ويبادر إليه، والله الموفّق.
وإن كان من الكتّاب، كتب: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي القضائيّ، الأجلّيّ، الكبيريّ، الزّينيّ، الماجديّ، الأثيريّ، الأوحديّ، الفلانيّ.
ويدعى له، نحو: ضاعف الله تعالى إقباله، أو أدام الله سعادته، وبلّغه إرادته، والباقي على ما تقدّم.
وإن كان من القضاة، كتب: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، القضائيّ، الصّدريّ، الفقيهيّ، الإماميّ، العالميّ، الفاضليّ، الكامليّ، الأوحديّ، فلان الدين. والباقي من نسبة ما تقدّم.
وإن كان من مشايخ الصوفية، كتب: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، الشّيخيّ، العالميّ، العامليّ، الورعيّ، الزاهديّ، الأوحديّ، الفلانيّ، ويدعى له، نحو: لا أخلاه الله من أنسه، ولا أبعده من حضرة قدسه. والباقي على نحو ما تقدّم.
والعنوان الألقاب التي في صدر المكاتبة بالسّجعة الأولى مما فيه من الدعاء والتعريف.
وصورة وضعه في الورق أن يكتب في سطرين كما في هذه الصورة:(8/209)
والعنوان الألقاب التي في صدر المكاتبة بالسّجعة الأولى مما فيه من الدعاء والتعريف.
وصورة وضعه في الورق أن يكتب في سطرين كما في هذه الصورة:
المجلس السامي، الأميريّ، الكبيريّ، المجاهديّ، العضديّ، الذّخريّ، الأوحديّ، الفلانيّ. أدام الله سعده فلان الفلاني.
والعلامة «أخوه فلان» تحت الملكيّ الفلانيّ، بقلم مختصر الطّومار الثقيل.
المرتبة الثانية الافتتاح بالإشارة إلى المكاتبة
، وهي أن يكتب: هذه المكاتبة إلى المجلس السامي بغير ياء في ألقابه، ويعبّر عنه بالسامي بغير ياء، والبياض فيها تحت الملكيّ الفلانيّ متّسع أيضا، بحيث لا يبقى من الوصل إلّا ما يسع سطرين فقط.
ثم إن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف، كتب: هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، الأمير، الأجلّ، الكبير، المجاهد، المؤيّد، الأوحد، الذّخر، فلان الدين. ويدعى له نحو: أدام الله إقباله، وبلّغه آماله، أو أنجح الله قصده، وأعذب ورده، تعلمه كيت وكيت، فالمجلس يتقدّم بكيت وكيت، فيعلم ذلك ويعتمده ويبادر إليه، والله الموفّق.
وإن كان من الكتّاب كتب: هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، القاضي، الأجلّ، الكبير، الصّدر، الرئيس، الأوحد. ويدعى له، نحو: أدام الله سعادته، وبلغه من الخير إرادته، تعلمه كيت وكيت. والباقي على ما تقدّم.
وإن كان من القضاة، كتب: هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، القاضي، الأجلّ، الكبير، العالم، الفاضل، الكامل، الأوحد، فلان الدين. والباقي من نسبة ما تقدّم.
وإن كان من مشايخ الصّوفية، كتب: هذه المكاتبة إلى المجلس السامي الشيخ، الصالح، الورع، الزاهد، فلان الدين، نفع الله تعالى ببركته، ولا أخلى مجالس الذّكر من محاسن سمته وسمته. والباقي من نسبة ما تقدّم.
والعنوان: الألقاب التي في صدر الكتاب، وأوّل سجعة من الدعاء الذي فيه وتعريفه، ويكون في سطرين كما في هذه الصورة:
المجلس السامي، الأمير، الأجلّ، الكبير، المجاهد، المؤيّد، الأوحد، الذّخر، فلان الدين. أدام الله إقباله فلان الفلانيّ.(8/210)
والعنوان: الألقاب التي في صدر الكتاب، وأوّل سجعة من الدعاء الذي فيه وتعريفه، ويكون في سطرين كما في هذه الصورة:
المجلس السامي، الأمير، الأجلّ، الكبير، المجاهد، المؤيّد، الأوحد، الذّخر، فلان الدين. أدام الله إقباله فلان الفلانيّ.
المرتبة الثالثة الافتتاح بالإعلام بالقصد
، وهو أن يكتب: يعلم فلان، وقد تقدّم في الكلام على مقدّمة المكاتبات من هذه المقالة أنّ الصواب فيها ليعلم بإثبات لام الأمر في أوّله، فحذف كتّاب الزمان منها اللام اللازم إثباتها وأجروها مجرى الخبر. والرسم فيه أن يترك تحت الملكيّ الفلانيّ بياض، بحيث لا يبقى من الوصل إلّا ما يسع سطرين كما في المكاتبة قبلها وما قبل ذلك.
ثم إن كان المكتوب له من أرباب السّيوف، كتب: يعلم الأمير، الأجلّ، الكبير، المؤيّد، الذّخر، المرتضى، المختار، فلان الدين. ويدعى له، نحو:
أدام الله عزّه، ووفّر من الخير كنزه، كيت وكيت، فمجلس الأمير يتقدّم بكيت وكيت، فيعلم ذلك ويعتمده ويبادر إليه، والله الموفّق بمنّه وكرمه.
وإن كان من الكتّاب، كتب: يعلم مجلس القاضي، الأجلّ، الكبير، العالم، الفاضل، الكامل، الأوحد، فلان الدين، كيت وكيت، والباقي من نسبة ما تقدّم.
وإن كان من القضاة، كتب: يعلم مجلس القاضي، الأجلّ، الكبير، العالم، الفاضل، الكامل، الأوحد، فلان الدين، كيت وكيت، والباقي من نسبة ما تقدّم.
وإن كان من مشايخ الصّوفية، كتب: يعلم مجلس الشيخ، الصالح الورع، الزاهد، الأوحد، الكامل، فلان الدين، كيت وكيت، والباقي من نسبة ما تقدّم.
والعنوان لهذه المكاتبة الألقاب التي في الصّدر والدعاء بأوّل سجعة مما فيه من الدعاء والتعريف.
وصورة وضعه في الورق أن يكتب ذلك في سطرين كما في هذه الصورة:
المجلس الأمير، الأجلّ، الكبير، المؤيّد، الذخر، المرتضى، المختار فلان الدين. أدام الله عزّه فلان الفلانيّ.(8/211)
وصورة وضعه في الورق أن يكتب ذلك في سطرين كما في هذه الصورة:
المجلس الأمير، الأجلّ، الكبير، المؤيّد، الذخر، المرتضى، المختار فلان الدين. أدام الله عزّه فلان الفلانيّ.
والعلامة تحت البسملة الاسم بقلم مختصر الطّومار الثقيل.
قلت: ومما يجب التنبيه عليه أنّ الألقاب المذكورة في صدور المكاتبات وعنواناتها ليست موقوفا عندها، بل لكلّ واحد فيها اختيار من تقديم وتأخير وتبديل لقب بلقب، وزيادة ونقص، إلّا أن الزيادة والنقص يكونان على المقاربة، مثل زيادة لقب ولقبين وثلاثة، ونقصها. على أنهم في الزمن السابق كانوا يتعاطون في الإخوانيّات الألقاب المركّبة في الصّدور والعنوانات فيما يبدأ فيه بالدعاء وما بعد ذلك إلى آخر المراتب كما هو في السّلطانيّات.
فإن كان من أرباب السيوف قيل مع الدعاء للمقرّ الشريف لأرباب السّيوف بعد استيفاء الألقاب المفردة: عزّ الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، زعيم الجيوش، مقدّم العساكر، عون الأمة، غياث الملة، ممهّد الدّول، مشيّد الممالك، ظهير الملوك والسلاطين، عضد أمير المؤمنين. ومع الدعاء للمقرّ الكريم: عزّ الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين، عماد الدولة، عون الأمة، ذخر الملة، ظهير الملوك والسلاطين، سيف أمير المؤمنين، وعلى ذلك إلى آخر كل مرتبة بحسبها.
وإن كان من رؤساء الكتّاب، قيل: جلال الإسلام والمسلمين، سيّد الكبراء في العالمين، رئيس الأصحاب، قوام الأمة، نظام الملّة، مدبّر الدولة، ذخر الممالك، ظهير الملوك والسلاطين، وكذلك إلى آخر المراتب كلّ مرتبة بحسبها، وكذلك القول في القضاة ومشايخ الصّوفية كلّ أحد منهم بما يناسبه من الألقاب لوظيفته ورتبته. ثم اقتصروا بعد ذلك على استعمال اللّقب المضاف إلى الملوك والسلاطين، مثل ظهير الملوك والسلاطين ونحو ذلك، فحذف كتّاب الزمان هذه الألقاب المركّبة جملة اختصارا، وهو مستحسن لما في ذلك من ميل النّفوس إلى
الاختصار، ولتخالف المكاتبات الصادرة عن السلطان، فتكون مختصّة بالألقاب المركّبة دون غيرها.(8/212)
وإن كان من رؤساء الكتّاب، قيل: جلال الإسلام والمسلمين، سيّد الكبراء في العالمين، رئيس الأصحاب، قوام الأمة، نظام الملّة، مدبّر الدولة، ذخر الممالك، ظهير الملوك والسلاطين، وكذلك إلى آخر المراتب كلّ مرتبة بحسبها، وكذلك القول في القضاة ومشايخ الصّوفية كلّ أحد منهم بما يناسبه من الألقاب لوظيفته ورتبته. ثم اقتصروا بعد ذلك على استعمال اللّقب المضاف إلى الملوك والسلاطين، مثل ظهير الملوك والسلاطين ونحو ذلك، فحذف كتّاب الزمان هذه الألقاب المركّبة جملة اختصارا، وهو مستحسن لما في ذلك من ميل النّفوس إلى
الاختصار، ولتخالف المكاتبات الصادرة عن السلطان، فتكون مختصّة بالألقاب المركّبة دون غيرها.
القسم الثاني (من المكاتبات الإخوانيّات الدائرة بين أعيان المملكة وأكابر أهل الدولة، الأجوبة، وهي على ضربين)
الضرب الأوّل (ما يفتتح من ذلك بما تفتتح به الابتداءات المتقدّمة الذّكر)
والرسم فيها أن يكتب صدر الكتاب كما يكتب أن لو كان ابتداء، ثم يذكر ورود الكتاب المجاوب عنه، ويؤتى بالجواب عما تضمّنه، وهو على أربع مراتب:
المرتبة الأولى وهي أعلاها في تعظيم الكتاب الوارد
، أن يعبّر عنه بالمثال، وذلك مع الابتداء بلفظ «يقبّل الأرض» وينهي كيت وكيت. وصورته أن يقول بعد كمال الصّدر: ورود (1) المثال الكريم العالي أعلاه الله تعالى على المملوك على يد فلان، ويذكر ما يليق به من المجلس العالي أو المجلس السامي أو غيرهما، ثم يقول: فقبّل المملوك لوروده الأرض، وأدّى من واجبه الفرض، وتضاعف دعاء المملوك لتأهيله لغلمانية الأبواب الكريمة، وابتهج بوروده، وحمد الله وشكره على ما دلّ عليه، من عافية مولانا ملك الأمراء أعزّ الله أنصاره إن كان المثال قد ورد من نائب سلطنة أو من عافية مولانا قاضي القضاة إن كان قاضيا أو من عافية المخدوم وصحة مزاجه المحروس. وقابل المملوك المراسيم الكريمة بالامتثال، ففهم ما رسم له به من كيت وكيت، والمملوك لم يكن عنده غفلة ولا إهمال فيما رسم له به. وإن كان ثمّ فصول كثيرة، قال: فأما ما رسم له به من كيت وكيت فقد امتثله المملوك، ويجاوب عنه. ثم يقول: وأما ما رسم له به من كيت وكيت، فالأمر فيه كيت وكيت، حتى يأتي على آخر الفصول، فإذا انتهى إلى
__________
(1) أي الذي منه وينهي ورود المثال الخ، وهكذا في الآتي. حاشية الطبعة الأميرية.(8/213)
آخرها، قال: وسؤاله من الصّدقات العميمة، إمداده بمراسيمه الكريمة وخدمه، ليفوز بقضائها، ويبادر إلى امتثالها، والمملوك مملوكه وعبد بابه الشريف.
المرتبة الثانية أن يعبّر عن الكتاب الوارد بالمثال العالي بدون الكريم
، وذلك مع الابتداء بلفظ «يقبّل الأرض» وينهي بعد ابتهاله إلى الله تعالى، والابتداء بيقبّل الأرض بعد رفع دعائه، ويقبّل الأرض، بالمقرّ الشريف، ويقبّل الباسط الشريف. فأما مع يقبّل الأرض بعد ابتهاله، فالأمر على ما تقدّم في جواب المكاتبة قبلها، إلّا أنه يقتصر على المثال العالي دون الكريم كما تقدّمت الإشارة إليه. وأما مع يقبّل الأرض بعد رفع دعائه، فإنه يقول بعد تكملة الصّدر: ورود المثال العالي أعلاه الله تعالى على يد فلان، فقبّله حين قابله، ووقف على ما تضمّنه من كيت وكيت، وفرح بما دلّ عليه من عافية المخدوم، وحمد الله تعالى وشكره على ذلك، وفهم ما أشار إليه من كيت وكيت، ويجاوب عنه، ثم يقول:
والمملوك يسأل إحسان المخدوم بتشريف المملوك بمهمّاته ومراسيمه ليفوز بقضائها، فإنّ المملوك وقف المالك، طالع بذلك، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه، أو نحو ذلك. وأما مع يقبّل الأرض بالمقرّ الشريف، ويقبّل الباسط الشريف، فإنه يقال ورود المثال العالي أيضا، وربما قيل ورود مثاله العالي. وقد يقال المشرّف الكريم العالي على ما تقتضيه رتبة المكتوب إليه، ويرتضيه المكتوب عنه، والباقي على نحو ما تقدّم.
المرتبة الثالثة أن يعبّر عن الكتاب الوارد بالمشرّفة
، على التأنيث، وذلك مع يقبّل الباسطة ويقبّل اليد. ويختلف الحال في ذلك بحسب المراتب، فيقال:
يقبّل الباسطة وينهي ورود المشرّفة الكريمة، ومع اليد الشريفة والكريمة، والعالية، وفي معنى ذلك يخدم إذا كتب بها، وكذلك أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم، وإن كان المكتوب عنه يكنّي عن نفسه بنون الجمع المقتضية للتعظيم.
ثم يقول في كلّ منها: فقبّلها المملوك حين قابلها، ووقف على ما تضمّنته من محبّته ومودّته، وفهم ما شرحه من أمر كيت وكيت، ويجاوب عنه، ثم يقول: والمستمدّ من محبّته تشريف المملوك بمراسيمه ومشرّفاته وخدمه، ليفوز بقضائها، ويبادر
إلى امتثالها، فإن المملوك ما عنده غفلة فيما يقتضيه رأيه العالي، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه.(8/214)
ثم يقول في كلّ منها: فقبّلها المملوك حين قابلها، ووقف على ما تضمّنته من محبّته ومودّته، وفهم ما شرحه من أمر كيت وكيت، ويجاوب عنه، ثم يقول: والمستمدّ من محبّته تشريف المملوك بمراسيمه ومشرّفاته وخدمه، ليفوز بقضائها، ويبادر
إلى امتثالها، فإن المملوك ما عنده غفلة فيما يقتضيه رأيه العالي، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه.
المرتبة الرابعة أن يعبّر عن الكتاب الوارد بالمكاتبة
، وذلك مع الابتداء بالدعاء بلفظ: ضاعف الله نعمة الجناب العالي، وأدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، وصدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي، أو المجلس السامي، أو هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، أو يعلم مجلس، فيقال: وتوضّح لعلمه، أو موضّحة لعلمه أو تتضمّن إعلامه، أو تعلمه، أو يعلم على حسب المراتب المتقدّمة، ورود مكاتبته، فوقفنا عليها، وأحطنا علما بما تضمّنته من كيت وكيت، ويجاوب عنه، ثم يقول: فيتقدّم الجناب أو المجلس أو مجلس الأمير ونحو ذلك مما يقتضيه الحال، بإعلامنا بأخباره وضروراته وحوائجه.
واعلم أنّ لكاتب السرّ أجوبة لنوّاب السّلطنة وغيرهم ممن ترد عليه مكاتباتهم بطلب الملاحظة عند عرض مكاتباتهم على الحضرة السّلطانية، وتحسين السّفارة في ذلك، ويقع الخطاب في جواب كلّ منهم على حسب رتبته.
ففي جواب نائب السلطان بالشام المحروس يكتب ما صورته: وينهي بعد رفع أدعيته الصالحة تقبّلها الله تعالى من المملوك ومن كلّ داع مخلص، بدوام أيام مولانا ملك الأمراء، أعزّ الله تعالى أنصاره، وخلود سعادته عليه، أنّ المثال الكريم ورد على المملوك على يد فلان، فنهض له المملوك، وأجمل في تلقّيه السّلوك، وفضّه عن صدقات عميمة، وتفضّلات جسيمة، وفرح بما دلّ عليه من سلامة مولانا ملك الأمراء أعزّ الله أنصاره وعافيته، وصحّة مزاجه المحروس، وتضاعف سرور المملوك بذلك، وتزايد ابتهاجه به، وسأل الله تعالى أن يديم حياة مولانا ملك الأمراء، أعز الله أنصاره، ويبقيه، وانتهى إلى ما تضمنته الإشارة في معنى تجهيز المشار إليه إلى خدمة الأبواب الشريفة بما على يده من المكاتبة الكريمة، وما رسم به من القيام في خدمتها وعرضها بين يدي المواقف الشريفة شرّفها الله تعالى وعظّمها، وقابل المملوك الإشارة الكريمة بالامتثال بالسّمع والطاعة، وبادر إلى ما رسم به وقد عرض المملوك المكاتبة الكريمة على المسامع
الشريفة، وكتب الجواب الشريف عن ذلك بما ستحيط به العلوم الكريمة، وعاد بذلك إلى خدمة مولانا ملك الأمراء أعزّ الله أنصاره. والمملوك مملوك مولانا ملك الأمراء عزّ نصره، ومحبّه القديم، والمعترف بإحسانه وصدقاته، ويسأل تشريفه بالمهمّات والخدم، أنهى ذلك، إن شاء الله تعالى.(8/215)
ففي جواب نائب السلطان بالشام المحروس يكتب ما صورته: وينهي بعد رفع أدعيته الصالحة تقبّلها الله تعالى من المملوك ومن كلّ داع مخلص، بدوام أيام مولانا ملك الأمراء، أعزّ الله تعالى أنصاره، وخلود سعادته عليه، أنّ المثال الكريم ورد على المملوك على يد فلان، فنهض له المملوك، وأجمل في تلقّيه السّلوك، وفضّه عن صدقات عميمة، وتفضّلات جسيمة، وفرح بما دلّ عليه من سلامة مولانا ملك الأمراء أعزّ الله أنصاره وعافيته، وصحّة مزاجه المحروس، وتضاعف سرور المملوك بذلك، وتزايد ابتهاجه به، وسأل الله تعالى أن يديم حياة مولانا ملك الأمراء، أعز الله أنصاره، ويبقيه، وانتهى إلى ما تضمنته الإشارة في معنى تجهيز المشار إليه إلى خدمة الأبواب الشريفة بما على يده من المكاتبة الكريمة، وما رسم به من القيام في خدمتها وعرضها بين يدي المواقف الشريفة شرّفها الله تعالى وعظّمها، وقابل المملوك الإشارة الكريمة بالامتثال بالسّمع والطاعة، وبادر إلى ما رسم به وقد عرض المملوك المكاتبة الكريمة على المسامع
الشريفة، وكتب الجواب الشريف عن ذلك بما ستحيط به العلوم الكريمة، وعاد بذلك إلى خدمة مولانا ملك الأمراء أعزّ الله أنصاره. والمملوك مملوك مولانا ملك الأمراء عزّ نصره، ومحبّه القديم، والمعترف بإحسانه وصدقاته، ويسأل تشريفه بالمهمّات والخدم، أنهى ذلك، إن شاء الله تعالى.
وفي جواب بقيّة النّوّاب بالممالك الشامية، كنوّاب السلطنة بحماة وطرابلس وصفد والكرك، ومقدّم العسكر بغزّة، يكتب: وينهي بعد رفع دعائه، وإخلاصه في محبّته وولائه، واعترافه بإحسان مولانا وآلائه، أنّ المثال العالي أعلاه الله تعالى ورد على المملوك على يد فلان، فقبّله المملوك، وأحسن في تلقّيه السّلوك وفرح بما دلّ عليه من عافية مولانا وسلامته، وصحّة مزاجه المحروس، وحمد الله تعالى على ذلك، وانتهى إلى ما أشار إليه، من تجهيز المطالعة الكريمة إلى الأبواب الشريفة، شرّفها الله تعالى وعظّمها، وفهم المملوك ذلك، وامتثل ما أشار إليه بالسّمع والطاعة، ووقف في خدمتها عند العرض على المسامع الشريفة، وأحاطت العلوم الشريفة بمضمونها، وكتب الجواب الشريف عن ذلك بما سيحيط به علم مولانا، وقد عاد فلان بالجواب الشريف وبهذه الخدمة، وحمّله المملوك من السّلام والشوق والدعاء والولاء وتقبيل الأرض ما يبديه لمسامع مولانا.
والمملوك يسأل إحسانه الإصغاء إلى ذلك، والتشريف بمراسيمه وخدمه، ليبادر إلى قبولها. والله تعالى يؤيّده ويحرسه بمنّه وكرمه.
وعلى قياس ذلك في غير هذه من المكاتبات بحسب ما تقتضيه رتبة كلّ واحد من أصحابها.
الضرب الثاني (من الأجوبة ما يفتتح بورود المكاتبة مصدّرا بلفظ: وردت أو وصلت أو وقفت على المكاتبة، وما أشبه ذلك)
مثل أن يكتب: ورد المثال الكريم الفلانيّ، وذكر سلامته أحلى من ذكر الأوائل، وقد تطرّز منه طرازا أشرف من طراز الغلائل، وما سكن القلب إلى شيء
كسكونه إليه، ولا رأى واردا أكرم منه عليه، فقابل نعمة قدومه بدوام شكرها، وطوى صحائف الآمال إلّا من نشرها. وإذا كان وجه الأيّام مقطّبا استغنى ببشر وجهه الميمون عن بشرها، فإن حسن في رأيه الإجراء على عوائد إحسانه [من التشريف بمراسيمه وخدمه] (1) والمواصلة بها، [نالت] (2) النفس من ورودها نهاية أربها.(8/216)
مثل أن يكتب: ورد المثال الكريم الفلانيّ، وذكر سلامته أحلى من ذكر الأوائل، وقد تطرّز منه طرازا أشرف من طراز الغلائل، وما سكن القلب إلى شيء
كسكونه إليه، ولا رأى واردا أكرم منه عليه، فقابل نعمة قدومه بدوام شكرها، وطوى صحائف الآمال إلّا من نشرها. وإذا كان وجه الأيّام مقطّبا استغنى ببشر وجهه الميمون عن بشرها، فإن حسن في رأيه الإجراء على عوائد إحسانه [من التشريف بمراسيمه وخدمه] (1) والمواصلة بها، [نالت] (2) النفس من ورودها نهاية أربها.
قلت: أما الأجوبة المطلقة، وهي الدائرة بين الأصدقاء والأصحاب من أفاضل الكتّاب، وعيون أهل الأدب، ممن له ملكة في الإنشاء، وقوّة في النظم والنثر، فإنها لا تتوقّف على ابتداء مخصوص، ابتداء ولا جوابا، بل قد تكون مبتدأة بما تقدّم من الابتداءات، وقد تكون بغير ذلك من الافتتاحات التي يختارها صاحب الرسالة، بل أكثرها مفتتح بالشعر المناسب للحال المكتوب فيها، بل ربّما اقتصر فيها على الشعر خاصّة دون النثر.
المهيع الثاني (في بيان رتب المكتوب عنهم والمكتوب إليهم، من أعيان الدّولة بمملكة الديار المصرية، وما يستحقّه كلّ منهم من رتب المكاتبات السابقة على ما الحال مستقرّ عليه في زماننا)
اعلم أنّ المكتوب عنهم من أعيان الدولة على طبقات، لكلّ منهم مكاتبات بصدر يختصّ به، إلى من فوق رتبته أو مساو له في الرتبة أو دونه فيها، مرتّبة على ترتيب المكاتبات الصادرة عن الأبواب السلطانية إلى أهل الدولة:
الطبقة الأولى من المكتوب عنهم من يكتب إليه عن السلطان
«أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم» ككافل السلطنة، وهو نائب السّلطان بالحضرة، وأتابك العساكر، ونائب السلطنة بالشام. والمكتوب إليهم عن هذه الطبقة على مراتب:
__________
(1) بياض في الأصل، وما أثبتناه مأخوذ من المقام. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) بياض في الأصل، وما أثبتناه مأخوذ من المقام. حاشية الطبعة الأميرية.(8/217)
المرتبة الأولى من يكتب له عن هذه الطبقة
«الفلانيّ بمطالعة»، وممن يكتب إليه بذلك عن نائب الشام فيما رأيته أتابك العساكر بالأبواب الشريفة، وكان ما كتب له «المخدوميّ الأتابكيّ فلان الفلانيّ» باللّقب المضاف إلى لقب السلطان، «أتابك العساكر المنصورة».
المرتبة الثانية من يكتب إليه «الأبواب بمطالعة»
وممن يكتب إليه بذلك عن النائب (1) الكافل بالحضرة، والأتابك نائب السلطنة بالشام، فقد قال في «التثقيف» (2): إنّ بهذه المكاتبة يكتب عن أكابر أمراء الديار المصرية إلى نائب الشام وحلب فيما أظنّ، وممن يكتب إليه بذلك عن نائب الشام الدّوادار (3)
وأميراخور (4) ومقدّمو الألوف بالديار المصرية، وأكابر الأمراء مقدّمي الألوف بالشام، وكافل المملكة الشريفة الحلبية.
المرتبة الثالثة من يكتب له عن هذه الطبقة «الأبواب بغير مطالعة»
وبذلك يكتب عن كافل السلطنة بالحضرة إلى نائب السلطنة بحلب. وقد ذكر في «التثقيف» أنه كان يكتب بذلك عن الأمير يلبغا العمري (يعني الخاصكيّ) وهو أتابك الديار المصرية، إلى نائب الشام أيضا. ثم قال: وكذلك كتب بعده إلى نائبي الشام
__________
(1) النائب الكافل من الألقاب المختصة بنائب السلطنة بالحضرة، ويقال فيه: الكافل، وهو الذي يحكم في كل ما يحكم فيه السلطان، ويعلم في التقاليد والتواقيع والمناشير، وغير ذلك مما هو من هذا النوع على كل ما يعلم عليه السلطان، وجميع نواب المماليك تكاتبه فيما تكاتب فيه السلطان، ويراجعونه فيه كما يراجع السلطان. والكافل في اللغة هو الذي يكفل الإنسان ويعوله. ولقد تحدث ابن ناظر الجيش في كتابه «التثقيف» عن ألقاب النائب الكافل. انظر صبح الأعشى (ج 4ص 16) و (ج 5ص 454453). و (ج 6ص 24، 134) والتعريف بالمصطلح الشريف ص 65.
(2) الكتاب لابن ناظر الجيش. انظر الصحيفة 3من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.
(3) تقدم الحديث عنه في الصحيفة 22من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.
(4) أمير اخور: وظيفة يتحدث متولّيها على إسطبل السلطان أو الأمير، ويتولى أمر ما فيه من الخيل والإبل وغيرها مما هو داخل في حكم الإسطبلات. وهو مركب من لفظين: الأول أمير والثاني فارسي، وهو آخور ومعناه المعلف، فيكون معنى أمير آخور أمير المعلف لأنه يتولّى أمر الدواب. صبح الأعشى (ج 5ص 461).(8/218)
وحلب، الأمير منكلي بغا، والأمير الجاي، ونوّاب السلطنة بالديار المصريّة، وبذلك يكتب عن نائب الشام إلى كلّ من قضاة القضاة الأربعة بالديار المصرية، وكذلك الوزير وكاتب السّر بها.
المرتبة الرابعة من يكتب له عن هذه الطبقة «الباب الكريم والباب العالي»
أما الباب الكريم، فإنه يكتب بذلك عن النائب الكافل والأتابك (1)
وبذلك يكتب عن نائب الشام إلى الأمراء (2) الطبلخاناه بالديار المصرية، وإستادار (3) الأملاك الشريفة، وناظر (4) الجيوش المنصورة بالأبواب السلطانية، وناظر الخواصّ، وناظر الدّولة، وحاجب الحجّاب بالشام، وقاضي القضاة الشافعيّ بالشام، وكاتب السّرّ به، ونائب السلطنة بطرابلس، ونائب السلطنة بحماة، ونائب السلطنة بصفد، ونائب السلطنة بالكرك.
أمّا من يكتب له عن نائب الشام الباب العالي بدون الكريم، فمقدّم العسكر المنصور بغزّة، والقضاة الثلاثة بالشام، ما خلا الشافعيّ المقدّم ذكره، والوزير بالشام.
المرتبة الخامسة من يكتب إليه عن هذه الطبقة «يقبّل الأرض بالمقرّ الشريف»
وبذلك يكتب عن النائب الكافل والأتابك، إلى نائب طرابلس، ونائب
__________
(1) بياض في الأصل بقدر سطر، والساقط هو المكتوب إليهم، ولعله: إلى نائب الشام ونائب طرابلس إلى آخر ما يأتي بعد. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) تقدم الحديث عن أمراء الطبلخاناه في الصحيفة 60من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.
(3) تقدم الحديث عنه في الصحيفة 22من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 2.
(4) ناظر الجيش هو الذي يقوم بديوان الجيش، وتسمّى وظيفة ديوان الجيش نظارة الجيش أو نظر الجيش. وكان أساس عمل هذا الديوان تسجيل أسماء الجنود وأعدادها ونفقاتها. ولمّا كان جيش المماليك يتطلب من الدولة الإشراف عليه في وقت السلم أو الحرب، فقد كان يقوم بذلك ديوان في القلعة يعمل فيه أرباب الأقلام. وكان ناظر الجيش يعيّن بتكليف ووصيّة، ويعاونه عدد من الكتّاب.
صبح الأعشى (ج 11ص 325323).(8/219)
حماة، ونائب صفد، ونائب الإسكندريّة، وأمراء الألوف بالديار المصريّة، وبه يكتب عن نائب الشام.
المرتبة السادسة من يكتب إليه عن هذه الطبقة «الباسط الشريف»
وبذلك يكتب عن النائب الكافل والأتابك، إلى مقدّم العسكر بغزّة، ومقدّم العسكر بسيس (1)، ونائب السلطنة بالكرك، وحاجب الحجّاب بالشام، وحاجب الحجّاب بحلب.
المرتبة السابعة من يكتب له عن هذه الطبقة «الباسطة الشّريفة»
وممن يكتب له بذلك عن نائب الشام قاضي القضاة الشافعيّ بحلب.
المرتبة الثامنة من يكتب له عن هذه الطبقة «اليد الشريفة»
أو «اليد الكريمة» أو «اليد العالية». وبذلك يكتب عن النائب الكافل والأتابك، إلى نائبي الوجه القبليّ والوجه البحريّ بالديار المصرية، ونائب القدس، ونائب حمص، ونائب الرّحبة، ونائب البيرة (2)، ونائب قلعة المسلمين، ونائب ملطية (3) ونائب دبركي، ونائب الأبلستين (4)، ونائب طرسوس، ونائب أذنة، ونائب بهسنا (5)
وأمراء الألوف بالشام وحلب.
وبذلك يكتب [أيضا] عن نائب الشام إلى أمراء العشرات بالديار المصريّة،
__________
(1) تقدم الحديث عنها في الصحيفة 12من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 2.
(2) البيرة: بكسر الباء وسكون الياء وفتح الراء وبعدها هاء ساكنة: قلعة بقرب سميساط من ثغور الروم على الفرات من جانب الجزيرة الفراتية، بين حلب والثغور الرومية. وفيات الأعيان (ج 2ص 258) ومعجم البلدان (ج 1ص 526).
(3) ملطية: تقدم الحديث عنها في الصحيفة 195من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.
(4) أبلستين: بالفتح ثم الضم ولام مضمومة أيضا وسين ساكنة وتاء مفتوحة وياء ساكنة: مدينة مشهورة ببلاد الروم، قريبة من أبسس مدينة أصحاب الكهف. معجم البلدان (ج 1ص 75). وعن مدينة أبسس انظر المصدر نفسه ص 73. وقال المقريزي: أبلستين تسمّى اليوم البستان. السلوك. (ج 1 ص 625).
(5) بهسنا: بفتحتين وسكون السين: قلعة حصينة عجيبة بقرب مرعش وسميساط، كانت من أعمال حلب. معجم البلدان (ج 1ص 516). وذكرها ابن خلّكان ضمن حصون بلاد الروم. وفيات الأعيان (ج 5ص 185).(8/220)
وقضاة العسكر بها، وحاجب الحجّاب بحلب، والقضاة الثلاثة: الحنفيّ، والمالكيّ، والحنبليّ، بها.
المرتبة التاسعة من يكتب له عن هذه الطبقة «أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم»
. وبذلك يكتب عن نائب الشام إلى كاشف الصّفقة القبليّة، وإلى الأمراء مقدّمي الألوف بالشام، وناظر الجيش به، وأمير آل فضل، ونائب حمص، وكاتب السرّ بحلب، ونائب المملكة بها، ونائب دوركي، ونائب درندة.
المرتبة العاشرة من يكتب له عن هذه الطبقة «أعزّ الله تعالى نصرة المقرّ الكريم»
. وبذلك يكتب عن نائب الشام إلى نائب قلعة دمشق، والحاجب الثاني بها، ووكيل بيت المال بها، ومقدّمي الألوف بحلب، ونائب الجيش بها، ونائب الرّحبة، ونائب الأبلستين، ونائب ملطية، ونائب قلعة المسلمين، ونائب بهسنا، ونائب البيرة، ونائب جعبر (1)، ونائب الرّها (2)، ونائب حسبان.
المرتبة الحادية عشرة من يكتب له عن هذه الطبقة «أعزّ الله تعالى نصرة الجناب الكريم»
. وبذلك يكتب عن نائب الشام إلى أمراء الطّبلخاناه بالشام، ونائب القدس، ونائب بعلبكّ، ومتولّي صيدا، وأمراء الطّبلخاناه بحلب، ووكيل بيت المال بها، والمحتسب بها، وناظر خاصّ البريد بها، وأمير حاجب بصفد.
المرتبة الثانية عشرة من يكتب إليه عن هذه الطبقة: «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي»
. وبذلك يكتب عن نائب الشام، إلى والي قطيا (3)، وربّما زيد فيه الكريم.
__________
(1) ذكرها ياقوت فقال: جعبر: بفتح الجيم وسكون العين ثم باء مفتوحة، وأضاف: قلعة جعبر على الفرات بين بالس والرقّة قرب صفين. وذكرها ابن خلّكان فقال: تنسب القلعة إلى جعبر بن سابق القشيري، وتقع في بر الجزيرة الفراتية، بينها وبين صفين مقدار فرسخ أو أقل، وقد انتزعها منه السلطان ملك شاه بن ألب أرسلان السلجوقي، والجعبر في اللغة: القصير الغليظ. معجم البلدان (ج 2ص 142141) ووفيات الأعيان (ج 1ص 364363) و (ج 2ص 329).
(2) تقدم الحديث عنها في الصحيفة 58من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.
(3) ذكرها ياقوت بالفتح ثم السكون وهاء «قطية» وقال: قرية في طريق مصر في وسط الرمل قرب الفرما. والفرما مدينة على الساحل من ناحية مصر. معجم البلدان (ج 4ص 255، 378).(8/221)
المرتبة الثالثة عشرة من يكتب إليه عن هذه الطبقة: «أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي»
. وبذلك يكتب عن نائب الشام إلى أمراء العشرات بمصر، وأمراء العشرينات بالشام، والمحتسب بها، والحاجب الكبير بغزّة، ومقدّم عرب بني عقبة، وأكابر عرب آل فضل، وأمير عرب آل عليّ، وأمير آل موسى، ونائب مصياف (1)، ومتولّي بيروت.
المرتبة الرابعة عشرة من يكتب إليه عن هذه الطبقة: «المجلس العالي مع الدّعاء»
. وبذلك يكتب عن نائب الشام إلى العشرات بدمشق، ووالي المدينة، ووالي البرّ بها، والحاجب الثاني بغزّة، وأمير آل مرا، ومقدّم عرب جرم، ومقدّم بني مهديّ، وأمراء العشرينات بحلب.
المرتبة الخامسة عشرة من يكتب إليه عن هذه الطبقة: «صدرت والعالي»
. وبذلك يكتب عن النائب الكافل والأتابك، إلى كاشف الوجه البحريّ من الديار المصريّة، وكاشف الفيّوم والبهنساويّة (2)، ووالي أسوان، وكشّاف الجسور من أمراء الطّبلخاناه بالوجهين، القبليّ والبحريّ بالديار المصرية، ونائب قلعة حلب، ونائب آياس (3)، ونائب جعبر، ونائب درندة، وحاجب الحجّاب بطرابلس، وحاجب الحجّاب بحماة، وحاجب الحجّاب بصفد. وبذلك يكتب [أيضا] عن نائب الشام إلى أجناد الحلقة بمصر، والحاجب
__________
(1) ذكره ياقوت في معجم البلدان (ج 5ص 144) باسم «مصياب»، ثم قال: وبعضهم يقول:
«مصياف»، وهو حصن حصين مشهور للإسماعيلية بالساحل الشامي قرب طرابلس. انظر أيضا تاريخ ابن خلدون (ج 1ص 117) والحاشية رقم 2من الصفحة نفسها.
(2) نسبة إلى البهنسا، بفتح الباء والنون والسين وسكون الهاء، وهي مدينة بمصر من الصعيد الأدنى غربي النيل، وهي عامرة كبيرة كثيرة الدخل، وبظاهرها مشهد يزار، يزعمون أن المسيح وأمه أقاما به سبع سنين. معجم البلدان (ج 1ص 517516).
(3) آياس: ذكرها القلقشندي في هذا الجزء ص 401وقال: كانت قاعدة بلاد الأرمن، وأن المسلمين انتزعوها من أيديهم. وذكرها ابن خلدون فقال: انهزم الأرمن في آياس وسيس على يد الناصر واستولى المسلمون على هاتين المدينتين. تاريخ ابن خلدون (ج 10ص 924923). وقال ابن كثير: في ربيع الأول من سنة 722هـ. تكامل فتح إياس وانتزاعها من أيدي الأرمن. البداية والنهاية (ج 14ص 102).(8/222)
الكبير بحمص، وأمراء العشرات بحلب.
المرتبة السادسة عشرة من يكتب إليه عن هذه الطبقة: «صدرت والسامي»
. وبذلك يكتب عن النائب الكافل والأتابك، إلى والي قوص (1)، ووالي منفلوط، ووالي الأشمونين (2)، ووالي البهنسا، ووالي منوف (3)، ووالي الغربيّة، ووالي الشرقيّة، ووالي قطيا، ونائب مصياف، ونائب بعلبك، ونائب قلعة صفد، ونائب عينتاب، والحاجب الكبير بغزّة. وبذلك يكتب [أيضا] عن نائب الشام إلى مقدّم الحلقة بالشام، وأعيان الجند بها، ومقدّم بني مهديّ، ومتولّي الصّلت وعجلون، ومتولي صرخد (4)، والحاجب الصغير بحمص، ووالي تدمر، ومقدّم إقليم الخرّوب بصيدا، ومقدّم إقليم النّعاج، ووالي البقاعين، ووالي بلنياس (5)
المرتبة السابعة عشرة من يكتب إليه عن هذه الطبقة: «هذه المكاتبة»،
وبذلك يكتب عن النائب الكافل والأتابك، إلى والي الجيزيّة، ووالي إطفيح، ووالي قليوب، ووالي أشموم الرّمّان بالديار المصرية. وبذلك يكتب أيضا إلى نائب الكختا، ونائب كركر، ونائب حجر شغلان، ونائب سرفندكار، ونائب القصير، ونائب بغراس، ونائب الرّاوندان، ونائب الشّغر وبكاس، ونائب الرّها، ونائب الدّربساك، ونائب شيزر بالمملكة الحلبية. وإلى نائب اللّاذقيّة، ونائب صهيون ونائب حصن الأكراد، ونائب حمص، ونائب المرقب، ونائب بلاطنس، ونائب الكهف، ونائب القدموس، ونائب الخوابي، ونائب العلّيقة، ونائب
__________
(1) تقدم الحديث عنها في الصفحة 123من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 3.
(2) الأشمونين أو أشمون: مدينة قديمة أزلية عامرة، وهي قصبة كورة من كور الصعيد الأدنى غربي النيل ذات بساتين ونخل كثير. معجم البلدان (ج 1ص 200).
(3) منوف: من قرى مصر القديمة، لها ذكر في فتوح مصر. معجم البلدان (ج 5ص 216).
(4) صرخد: بفتح الصاد والخاء وسكون الراء: بلد ملاصق لبلاد حوران من أعمال دمشق، وهي قلعة حصينة وولاية حسنة واسعة، ينسب إليها الخمر. معجم البلدان (ج 3ص 401).
(5) بلنياس: بضمتين وسكون النون: كورة ومدينة صغيرة وحصن بسواحل حمص على البحر، ولعلها سميت باسم الحكيم بلنياس صاحب الطلسمات. معجم البلدان (ج 1ص 489).(8/223)
المينقة من أعمال طرابلس. ونائب شقيف تيرون من معاملة صفد. وبذلك يكتب [أيضا] عن نائب الشام إلى صغار الأجناد بمصر، وإلى كاشف الرّملة، ومتولّي حسبان، وحامي الخربة.
المرتبة الثامنة عشرة من يكتب إليه عن هذه الطبقة: «يعلم»
وبذلك يكتب عن نائب الشام إلى صغار الأجناد بالشّام.
واعلم أنّ وراء ما تقدّم من المكاتبات عن نائب الشام مكاتبات أخرى إلى من هو خارج عن المملكة، وهم على مراتب:
المرتبة الأولى من يكتب له عنه: «يقبّل الأرض»: صاحب بغداد، كما كان يكتب للقان أحمد (1) بن أويس، كان يكتب إليه في ورق قطع نصف الحمويّ بقلم الثلث الصغير: يقبّل الأرض لدى الحضرة الشريفة، العالية، المولويّة، السلطانيّة، العالميّة، العادليّة، المؤيّدية، المالكيّة، القانيّة، ولا زالت عزماتها مؤيّدة، وآراؤها مسدّدة، وينهى إلى العلم الكريم. صاحب السّراي: ودشت القبجاق مثله بأبسط ألقاب.
المرتبة الثانية من يكتب إليه: «أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الشريف» ابن السلطان أحمد بن أويس المذكور. وورقه نظير ورق والده، وقلمه نظير قلمه.
صاحب هراة: مثله.
المرتبة الثالثة من يكتب إليه: «أعزّ الله أنصار المقرّ الكريم»، صاحب ماردين (2): أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم العالي، المولويّ، الكبيريّ،
__________
(1) هو السلطان أحمد بن أويس بن حسن الجلايري، آخر سلاطين «الجلايرية» في بغداد. مغولي الأصل. تولّى السلطنة سنة 784هـ، واستقرّ في بغداد نحو خمسين سنة حيث ثار عليه الأمير المغولي قرا يوسف، فقاتله، فانهزم السلطان أحمد وأسر وقتل خنقا ببغداد سنة 813هـ. انظر الضوء اللامع (ج 1ص 244) والأعلام (ج 1ص 102101).
(2) تقدم الحديث عنها في الصحيفة 13من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 4.(8/224)
العادليّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ، ورفع مقداره، وأجزل مبارّه. المملوك يجدّد الخدمة العالية، ويصف أشواقه المتوالية، وينهي لعلمه الكريم. صاحب برصا: من بلاد الروم، وهو ابن عثمان. والرسم فيه على ما كان يكتب لأبي يزيد بن مراد بك بن عثمان: أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم، العالي، المولويّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، العونيّ، الغياثيّ، الممهّديّ، المشيّديّ، الزّعيميّ، الغازي، المجاهديّ، المثاغريّ، المرابطيّ، العابديّ، الناسكيّ، الزاهديّ، المقدميّ، الأتابكيّ، المحسنيّ، الظهيريّ، الملكيّ، الفلانيّ، معزّ الإسلام والمسلمين، سيد الأمراء في العالمين، ناصر الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين، مبيد المشركين، قامع أعداء الدين، مقتلع الحصون من الكافرين، عون الأمّة، عماد الملّة، ذخر الدولة، ظهير الملوك والسلاطين، حاكم البلاد الرّوميّة، صاحب برصا وقيسرية (1)، سيف أمير المؤمنين، قهر [الله] أعداء الدين الحنيفيّ بعزائمه وسطواته، وجعله مؤيّدا في حركاته وسكناته، وأيّده في جهاده واجتهاده بالنصر الذي لا يفارق ألوية أعلامه وراياته، ولا زالت رعاياه محبورة، وعساكره منصورة، هؤلاء بجوده [وهباته]، وهؤلاء بوجوده وحياته. المملوك يقبّل اليد التي لا زال القصد بها يزيد، وبحر البرّ من أناملها مديد، ونوالها يناله الوافدون حيث أمّوه من قريب وبعيد، ويصف صفاء محبّة يتضاعف نماؤها كلّ يوم جديد، وتترادف تحيّات أشواقها بالموالاة والتحميد، ويتؤامر بهادي رسائلها بصدق المودّة الدائمة على التأبيد، ويبدي إلى العلم الكريم.
قلت: كذا رأيته في دستور بخطّ القاضي ناصر الدين بن أبي الطيّب، كاتب سرّ الشأم كان. وفيه اضطراب وتخليط من نعته في ألقابه [بقوله] الملكيّ الفلانيّ، وقوله سيد الأمراء في العالمين، حيث وصفه أوّلا بأوصاف الملوك، ثم وصفه
__________
(1) قيسرية: بفتح القاف وسكون الياء: ذكرها ابن خلّكان باسم قيسارية وقال: هي بليدة بالشام على ساحل البحر. وفيات الأعيان (ج 4ص 461).(8/225)
بأوصاف الأمراء، إلى غير ذلك من الخبط الذي لا يخفى على متأمل.
المرتبة الرابعة «أعز الله أنصار المقرّ العالي»، وزير صاحب بغداد، وورقه في قطع الحمويّ بقلم الثلث الخفيف. قاضي بغداد: مثله سواء. صاحب لارندا، من بلاد الروم بمملكة بني قرمان. ويقال في ألقابه: الأصيليّ نوين التّوامين، مجهز المقانب، ذخر القانات. صاحب سيواس، من البلاد الرومية أيضا. صاحب آياس لوق، من البلاد الرّومية. صاحب جولمرك، من بلاد الأكراد.
المرتبة الخامسة «الجناب الكريم» صاحب حصن كيفا، من بلاد الجزيرة، ويقال فيه: الملكيّ الفلانيّ مقدّم التّركمان البياضية.
المرتبة السادسة «الجناب العالي» صاحب أرزنجان (1). صاحب جزيرة (2) ابن عمر من بلاد الجزيرة. صاحب أنطاليا (3) من بلاد الروم. ابن الشيخ عبد القادر الكيلاني شيخ الجبال.
المرتبة السابعة «المجلس العالي»، صاحب ميّافارقين (4) من بلاد الجزيرة صاحب أكلّ (5)، من الجزيرة أيضا صاحب أرقنين (6) صاحب قلعة الجوز صاحب
__________
(1) أرزنجان: بالفتح ثم السكون، وفتح الزاي وسكون النون: بلدة طيبة مشهورة كثيرة الخيرات والأهل، من بلاد أرمينية، وغالب أهلها أرمن، وفيها مسلمون وهم أعيان أهلها. معجم البلدان (ج 1 ص 150).
(2) جزيرة ابن عمر: بلدة فوق الموصل، بينهما ثلاثة أيام، عمّرها الحسن بن عمر بن خطّاب الثعلبي سنة 250هـ. وتحيط بها دجلة إلّا من ناحية واحدة. معجم البلدان (ج 2ص 138).
(3) أنطاليا: تقدم الحديث عنها في الصحيفة 16من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.
(4) ميّافارقين: بفتح الميم وتشديد الياء وكسر الراء والقاف معا: أشهر مدينة بديار بكر، قالوا: سمّيت بميّا بنت لأنها أول من بناها، وفارقين هو الخلاف بالفارسية. ظلت هذه المدينة بأيدي الروم إلى أيام قباذ بن فيروز، ملك الفرس، فإنه غزا ديار بكر وربيعة وافتتحها وسبى أهلها. ثم أعادها هرقل ملك الروم إلى مملكته وملكها ثماني سنين آخرها سنة 18هـ. ثم نازلها خالد بن الوليد، فيقال:
فتحت عنوة، وقيل: صلحا. معجم البلدان (ج 5ص 238235).
(5) أكلّ: بفتح أوله وكسر ثانية وتشديد اللام: من قرى ماردين. معجم البلدان (ج 1ص 240).
(6) أرقنين: بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح القاف وكسر النون: بلد بالروم غزاه سيف الدولة بن حمدان، وذكره أبو فراس فقال: (طويل).
إلى أن وردنا أرقنين نسوقها ... وقد نكلت أعقابنا والمخاصر
معجم البلدان (ج 1ص 153).(8/226)
جرموك صاحب أماسيا، من بلاد الروم نائب ماردين (1) خادم صاحب ماردين صاحب بطنان (2) صاحب سنجار، من بلاد الجزيرة صاحب حاسك (؟) صاحب أزبك صاحب الموصل صاحب سنوب صاحب بوشاظ صاحب الدّربند (3) صاحب عين دارا صاحب الحمّة صاحب خلاط (4) صاحب طلان صاحب تاخ صاحب جمشكزاك نائب كربزاك صاحب القنطرة نائب خرت برت (5) صاحب البارعيّة صاحب حرّان صاحب العمادية صاحب حاني (6) نائب مازكرد نائب صالحية ماردين أمير التركمان الشهرية صاحب أشنه (7)
الطبقة الثانية ممن يكتب عنهم من أعيان الدولة بالديار المصرية
، من يكتب إليه عن السلطان: «أعزّ الله تعالى نصرة الجناب الكريم» وهو نائب السلطنة بحلب.
والكتابة عنه على مراتب:
__________
(1) تقدم الحديث عنها في الصحيفة 13من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 4.
(2) بطنان: بضم الباء وسكون الطاء: اسم واد بين منبج وحلب، فيه أنهار جارية وقرى متصلة. معجم البلدان (ج 1ص 447).
(3) الدربند: بفتح الدال والباء وسكون الراء والنون: باب الأبواب، ومدينة في وسطها مرسى السفن، تقع على بحر طبرستان. معجم البلدان (ج 1ص 306303) و (ج 2ص 449).
(4) خلاط: بكسر أوله: قصبة أرمينية الوسطى، فيها الفواكه الكثيرة والمياه الغزيرة. معجم البلدان (ج 2 ص 381380).
(5) خرتبرت: بالفتح ثم السكون، وفتح التاء وباء مسكورة وراء ساكنة: اسم أرمني، وهو الحصن المعروف بحصن زياد، بينه وبين ملطية مسيرة يومين. معجم البلدان (ج 2ص 355).
(6) حاني: اسم مدينة معروفة بديار بكر، فيها معدن الحديد ومنها يجلب إلى سائر البلاد. معجم البلدان (ج 2ص 208).
(7) أشنه: بالضم ثم السكون وضم النون وهاء محضة: بلدة في طرف أذربيجان، بينها وبين إربل خمسة أيام. معجم البلدان (ج 1ص 202201).(8/227)
المرتبة الأولى «الفلانيّ بمطالعة»
وهو النّائب الكافل (1) بالحضرة السلطانية، وأتابك العساكر المنصورة.
المرتبة الثانية «الأبواب بمطالعة» وهو نائب السّلطنة بالشام
، والأمير الدّوادار (2) بالأبواب السلطانية، وأستاد (3) الدّار بها، وأكابر الأمراء المقدّمين الخاصكيّة (4)
المرتبة الثالثة «الأبواب بغير مطالعة»
. وبذلك يكتب إلى نائب الشام.
المرتبة الرابعة «الباب الكريم»
. وبذلك يكتب إلى نائب السلطنة بطرابلس، ونائب السلطنة بحماة، ونائب السّلطنة بصفد، وكذلك يكتب به إلى الطبقة الثانية من الأمراء المقدّمين بالحضرة ممن دون الخاصكية، وفي معنى ذلك الوزير، وكاتب السّرّ، وناظر الخاصّ (5)، وناظر الجيش (6)، ومن في معناهم.
المرتبة الخامسة «يقبّل الأرض بالمقرّ الشريف»
. وبذلك يكتب إلى حاجب الحجّاب بالشأم.
المرتبة السادسة «يقبّل الباسطة»
وبذلك يكتب إلى الحاجب الثاني بالشأم، وحاجب الحجّاب بحلب، وحاجب الحجّاب بحماة، وحاجب الحجّاب بطرابلس، وقاضي القضاة الشافعيّ بحلب، وكاتب السّرّ بها.
المرتبة السابعة «يقبل اليد الشريفة»
. وبذلك يكتب إلى نائب البيرة،
__________
(1) تقدم الحديث عنه في الصحيفة 218من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.
(2) تقدم الحديث عنه في الصحيفة 22من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.
(3) تقدم الحديث عنه في الصحيفة 22من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 2.
(4) الخاصكية هم الذين يدخلون على السلطان في أوقات خلواته وفراغه ويركبون لركوبه ليلا ونهارا ويتميّزون بسيوفهم وملابسهم الطرز المزركش. انظر زبدة كشف الممالك ص 115.
(5) ناظر الخاصّ هو الذي ينظر في خاصّ أموال السلطان. صبح الأعشى (ج 5ص 465).
(6) تقدم الحديث عنه في الصحيفة 219من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 4.(8/228)
ونائب ملطية (1)، ونائب قلعة المسلمين، ونائب جعبر (2)، ونائب الرّها (3)، ونائب الأبلستين (4) ونائب حمص، وأمراء الطّبلخاناه (5) بدمشق.
المرتبة الثامنة «أعز الله تعالى أنصار المقرّ الكريم»
. وبذلك يكتب إلى نائب طرسوس، ونائب الرّحبة، والحاجب الثاني بطرابلس، ومقدّمي الألوف بها، والقضاة الثلاثة: المالكيّ، والحنفيّ، والحنبليّ بحلب. إلّا أنه يقال: «أعز الله تعالى أحكام المقرّ».
المرتبة التاسعة «أعز الله تعالى أنصار المقر الكريم العالي»
وبذلك يكتب إلى نائب بهسنى، ونائب الرّحبة، وأكابر الطبلخاناه بالشام، ومن تولّى الإمرة من عرب آل فضل ثم عزل، وقضاة العساكر المنصورة بحلب، وناظر المملكة بها، وأمير آل عليّ.
المرتبة العاشرة «أعز الله تعالى نصرة الجناب الكريم»
. وبذلك يكتب إلى أعيان أمراء الطبلخاناه بحلب، والحاجب الثالث والرابع بها، وأكابر أولاد أمراء عرب آل فضل.
المرتبة الحادية عشرة «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي»
وما في معناه مما يكتب به إلى أرباب الأقلام وغيرهم. وبذلك يكتب إلى نائب (6) شيزر،
__________
(1) تقدم الحديث عنها في الصحيفة 195من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.
(2) تقدم الحديث عنها في الصحيفة 221من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.
(3) تقدم الحديث عنها في الصحيفة 58من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.
(4) تقدم الحديث عنها في الصحيفة 220من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 4.
(5) تقدم الحديث عن أمراء الطبلخاناه في الصحيفة 60من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم
(6) شيزر: بفتح أوله وسكون الياء وفتح الزاي: قلعة تشتمل على كورة بالشام قرب المعرّة، بينها وبين حماة يوم، في وسطها نهر الأردن، ذكرها امرؤ القيس في قوله: (طويل).
تقطّع أسباب اللبانة والهوى ... عشيّة جاوزنا حماة وشيزرا
معجم البلدان (ج 3ص 383).(8/229)
وأمراء الطبلخاناه بحلب، غير الأعيان، وناظر الأملاك الشريفة بحلب، وناظر خاصّ البريد وموقّعي الدّست (1) بها.
المرتبة الثانية عشرة «صدرت والعالي»
. وبذلك يكتب إلى نائب عينتاب (2) ونائب الرّاوندان (3)، ونائب الكختا، ونائب كركر، ونائب بغراس (4)، ونائب الدربساك (5)، ونائب الشّغر (6) وبكاس، ونائب القصير (7)، وأمراء العشرينات بحلب، وأعيان العشرات بها.
المرتبة الثالثة عشرة «صدرت والسامي»
. وبذلك يكتب إلى مقدّمي الحلقة بحلب، ومقدّمي البريديّة بها، وأعيانهم.
المرتبة الرابعة عشرة «السامي» بغير ياء
. وبذلك يكتب إلى والي سرمين (8)، ووالي الباب، ووالي غزاز، ووالي أنطاكية، ووالي حارم، ووالي كفر
__________
(1) كتابة الدّست من وظائف ديوان الإنشاء، والتسمية نسبة إلى دست السلطان، وهو مرتبة جلوسه لجلوس الكتّاب للكتابة بين يديه. انظر هذا المطبوع (ج 1ص 13، 137).
(2) عين تاب: قلعة حصينة ورستاق بين حلب وأنطاكية، وهي من أعمال حلب. معجم البلدان (ج 4 ص 176).
(3) الراوندان: قلعة حصينة وكورة من نواحي حلب. معجم البلدان (ج 3ص 19).
(4) بغراس: ذكرها ياقوت وقال: مدينة مطلّة على نواحي طرسوس، بينها وبين أنطاكية أربعة فراسخ، كانت بيد الإفرنج وفتحها صلاح الدين الأيوبي في سنة 584هـ. وقال ابن خلكان وابن الأثير:
بغراس قلعة حصينة بالقرب من أنطاكية. معجم البلدان (ج 1ص 467)، ووفيات الأعيان (ج 7ص 192) والكامل في التاريخ (ج 12ص 18).
(5) دربساك: قلعة حصينة منيعة مجاورة لبلاد ابن ليون الأرمني، صاحب الدروب، كانت بيد الإفرنج وفتحها صلاح الدين الأيوبي في سنة 584هـ. انظر وفيات الأعيان (ج 7ص 192)، وفوات الوفيات (ج 1ص 242) والكامل في التاريخ (ج 12ص 17، 239).
(6) الشغر: بضم أوله وسكون ثانيه: قلعة قرب أنطاكية. وبكاس: بتخفيف الكاف: قلعة أخرى قرب أنطاكية وتقابل قلعة الشغر، وهي من نواحي حلب. معجم البلدان (ج 1ص 474) و (ج 3 ص 352).
(7) القصير: ضيعة أول منزل لمن يريد حمص من دمشق. معجم البلدان (ج 4ص 367).
(8) سرمين: بفتح أوله وسكون ثانيه وكسر ميمه: بلدة مشهورة من أعمال حلب. معجم البلدان (ج 3 ص 215).(8/230)
طاب، ووالي الجبّول، ووالي منبج، ووالي تلّ باشر، وأجناد الحلقة بحلب، وصغار البريدية بها، وعداد التركمان وعداد الأكراد.
واعلم أن وراء ما تقدّم من المكاتبات الصادرة عن نائب حلب [مكاتبات أخرى] إلى من هو خارج عن المملكة، كما تقدم في المكاتبات الصادرة عن نائب الشام، وهي على مراتب:
المرتبة الأولى المكاتبة ب «يقبّل الأرض» القان صاحب بغداد كما كان يكتب إلى القان أويس (1) وابنه أحمد (2): يقبّل الأرض بالمقام الشريف العالي، المولويّ، السّلطانيّ، الأعظميّ، الأوحديّ، الملاذيّ، العطوفيّ، المحسنيّ، القانيّ، الملكيّ الفلانيّ، الجلاليّ، أعلى الله تعالى شانه، وأعز سلطانه، وأمكن من رقاب الأعداء مكانه، ولا زال لواؤه يتأزّر بالنصر ويرتدي، وفناؤه يروح إليه العزّ ويغتدي، وعزمه يثقّف صرف الزّمان فلا يعتاد أن يعتدي، ولا برح محمودا في موقف النصر موقفه، ماضيا في هامات أعدائه مرهفه. وينهي بعد أدعية رفعها إلى مواطن الإجابة {فتقبلها ربها بقبول حسن} (3) وموالاة شفعها بالإخلاص، فعجز عن وصفها ذوو البلاغة واللّسن، وأثنية جمعها فلذّت بها الأسماع لذاذة الأعين الساهرة بالوسن، أن الأمر كيت وكيت.
المرتبة الثانية من يكتب له «أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الشريف» صاحب ماردين. والرسم أن يكتب إليه: أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الشريف، العالي، المولويّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، السّلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ.
ويدعى له، نحو: لا زالت أيامه مسعودة، وأبوابه مقصودة، وألوية النّصر بنواصي خيله معقودة، المملوك يقبل اليد الشريفة، ويقوم من الخدمة بأكمل وظيفة،
__________
(1) هو أويس بن حسن الجلايري، صاحب بغداد. انظر أخباره في تاريخ ابن خلدون (ج 10ص 1169 وما بعدها).
(2) تقدمت ترجمته في الصحيفة 224من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.
(3) سورة آل عمران 3، الآية 37.(8/231)
وينهي لعلمه الكريم بعد السّلام الزكيّ، والثناء المسكيّ، كيت وكيت، فيحيط بذلك علمه الكريم، ويتحف بالمشرّفات على عادة فضله العميم.
المرتبة الثالثة «أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم». وبذلك يكتب إلى ابن قرمان نائب السلطنة بالبلاد القرمانيّة، حاكم جولمرك، صاحب برصا وهو ابن عثمان، صاحب آياس لوق.
المرتبة الرابعة «المقرّ العالي» وبذلك يكتب إلى صاحب حصن (1)
كيفا، والوزير بالممالك القانية وقاضيها.
المرتبة الخامسة «أعز الله تعالى نصرة الجناب الكريم». وبذلك يكتب إلى صاحب أنطاليا من بلاد الروم.
المرتبة السادسة «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي». وبذلك يكتب إلى نائب كربزاك، وحاكم جمشكزاك، وحاكم سيواس، وحاكم أماسيا، وحاكم سنوب، والحاكم بخرت برت (2)
المرتبة السابعة «أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي». وبذلك يكتب إلى نائب صاحب ماردين، ونائب الصّالحيّة، وبعض خدّام صاحب ماردين.
المرتبة الثامنة «صدرت والعالي». وبذلك يكتب إلى حاكم حرّان، ونائب مازكرد، وحاكم قلعة الجوز.
الطبقة الثالثة ممن يكتب عنه من أعيان الدولة بمملكة الديار المصرية.
من يكتب إليه عن السلطان: «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي». كوزير
__________
(1) حصن كيفا ويقال كيبا: بلدة وقلعة عظيمة مشرفة على دجلة بين آمد وجزيرة ابن عمر من ديار بكر، وهي لصاحب آمد من ولد داود بن سقمان بن أرتق. معجم البلدان (ج 2ص 265) وصاحب كيفا هو من بقايا الملوك الأيوبية، وقد كان آخر وقت منهم الملك الصالح. انظر التعريف بالمصطلح الشريف ص 33.
(2) تقدم الحديث عنها في الصحيفة 227من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 5.(8/232)
المملكة بالديار المصرية، وناظر الخاصّ، على ما استقرّ عليه الحال آخرا، وأرباب الوظائف من الأمراء المقدّمين بها، كأمير سلاح، وأمير مجلس، وأميراخور، والدّوادار، وإستادار، وحاجب الحجّاب، ونائب الإسكندرية، وكذلك نوّاب السلطنة بطرابلس، وحماة، وصفد، من الممالك الشامية.
والمكتوب إليهم عن هذه الطبقة على [تسع] مراتب:
المرتبة الأولى «الفلانيّ بمطالعة»
وهم: النّائب الكافل، وأتابك العساكر، ونائب الشأم.
المرتبة الثانية «الأبواب بمطالعة»
. وبذلك يكتب إلى نائب حلب.
المرتبة الثالثة «الأبواب بغير مطالعة»
وبذلك يكتب إلى نائب طرابلس، ونائب حماة، ونائب صفد، ونائب الكرك، وأمير سلاح وغيره من سائر من في هذه الطبقة.
المرتبة الرابعة «الباب الكريم»
. وبذلك يكتب إلى نائبي الوجهين القبليّ والبحريّ بالديار المصرية، ومقدّمي العسكر بغزّة وسيس، والأمراء المقدّمين المتوجهين من الأبواب السلطانية لكشف الجسور والمساحة وقبض الغلال.
المرتبة الخامسة «يقبّل الأرض بالمقرّ الشريف» إن قصد تعظيمه
، أو الباسط الشريف إن لم يقصد، وبذلك يكتب إلى (1)
المرتبة السادسة «يقبّل اليد العالية»
. وبذلك يكتب إلى أمراء الطبلخاناه (2) المتوجّهين من الأبواب السلطانية لكشف الجسور والمساحة والقبض. وربما انحطّت رتبة أحد هؤلاء فكتب إليه: أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ
__________
(1) بياض بالأصل بقدر كلمة. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) عن أمراء الطبلخاناه انظر الصحيفة 60من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.(8/233)
الكريم، أو نصرة الجناب الكريم، أو ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي.
المرتبة السابعة «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي»
. وبذلك يكتب إلى كاشف الوجه البحري وكاشف الفيّوم والبهنساويّة.
المرتبة الثامنة «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي»
. وبذلك يكتب إلى الولاة الطبلخاناه بالوجهين القبليّ والبحريّ بالديار المصرية، كقوص والمحلّة، وغيرهما. وربما كتب «صدرت والعالي» لأحدهم.
المرتبة التاسعة «صدرت والسامي»
. وبذلك يكتب إلى ولاة العشرات بالوجهين القبليّ والبحريّ بالديار المصرية.
الطبقة الرابعة ممن يكتب عنه من أعيان الدّولة بمملكة الديار المصرية،
من يكتب إليه عن السلطان «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي»، ككاتب السرّ وناظر الجيش (1)، وكذلك الحجّاب الطبلخاناه بالديار المصرية. وعلى ذلك كان ناظر الخاصّ (2) في الزمن المتقدّم، فلما جمع للصاحب شمس الدّين المقسي بين الوزارة ونظر الخاصّ، كان يكتب عنه بما يكتب به عن الوزراء كما تقدّم. فلما انفصل الخاصّ عن الوزارة روعي في الخاصّ ذلك القدر، فكتب عن ناظر الخاص كما كتب عن الوزير، والأمر على ذلك إلى الآن.
والمكاتبات الصادرة عن هذه الطبقة على مراتب:
المرتبة الأولى «الفلانيّ بمطالعة»
. وبذلك يكتب إلى النّائب الكافل، والأتابك، ونائب الشّام، وألحقوا بهذه الرتبة نائب حلب، فكتبوا إليه الفلانيّ.
المرتبة الثانية «الأبواب بمطالعة»
. وبذلك يكتب عن هذه الطبقة إلى نوّاب السلطنة بطرابلس، وحماة، وصفد، وثغر الإسكندريّة.
__________
(1) انظر الحاشية رقم 8ص 218من هذا الجزء من صبح الأعشى.
(2) انظر الحاشية رقم 5ص 228من هذا الجزء من صبح الأعشى.(8/234)
المرتبة الثالثة «الأبواب بغير مطالعة»
وبذلك يكتب إلى نائبي الوجهين القبليّ والبحريّ بالديار المصرية، ومقدّمي العسكر بغزّة وسيس، وربما كتب إلى أحدهم «الباب الكريم».
المرتبة الرابعة «الباسط الشريف»
. وبذلك يكتب إلى نائب الكرك.
المرتبة الخامسة «يقبّل الباسطة»
. وبذلك يكتب إلى نائب القدس الشريف، ونائب الرّحبة، وكاشف الوجه البحري، وكاشف الفيّوم بالديار المصرية.
المرتبة السادسة «يقبل اليد العالية»
. وبذلك يكتب إلى الولاة الطبلخاناه، بالوجهين القبليّ والبحريّ، بالديار المصرية.
المرتبة السابعة «يخدم الجناب العالي»
. وبذلك يكتب إلى الولاة العشرات بالوجهين القبليّ والبحريّ أيضا.
قلت: وعلى هذه الطبقات الأربع يقاس من دونهم ممن يكتب إليه عن السلطان، صدرت والعالي، كنائبي القدس والرّحبة، ومن يكتب له: صدرت والسامي، كالكاشف بالوجه البحريّ، وكاشف الفيّوم، ومن يكتب له: هذه المكاتبة، كالولاة الطبلخاناه بالوجهين القبليّ والبحريّ، ومن يكتب له: «يعلم» كالولاة العشرات بالوجهين أيضا. على أن الغالب في مثل هؤلاء أن تكون الكتابة عنهم لأعيان الدولة «الفلانيّ بمطالعة» وفيمن هو مثلهم أو دونهم يقاس على ما تقدّم.
واعلم أن هذه المراتب المضمّنة للطبقات ليست على سبيل اللّزوم في الوقوف عند حدّها، بحيث لا يجوز تجاوزها بزيادة ولا التأخّر عنها بنقص، بل هي على سبيل التقريب، والأمر في زيادة رتبة المكتوب إليه زيادة لا تخرجه عن حدّه في المقدار موكول إلى اختيار الكاتب، يزيد في ذلك وينقص، بحسب ما يقتضيه الحال من رفعة قدر المكتوب إليه، لمزيد رفعته عن نوعه، أو محاباته لا ستمالته إلى القصد المطلوب منه، أو الغضّ منه بحطيطة رتبته أو نحو ذلك.(8/235)
الفصل السابع من الباب الثاني من المقالة الرابعة (في مقاصد المكاتبات، وهي الأمور التي تكتب المكاتبات بسببها)
وهي الجزء الأعظم من صناعة التّرسّل، وعليها مدار صنعة الكتابة، إذ الولايات من مقاصد المكاتبات، وهي أهمّ ما تضلّع به الكاتب، وألزم ما مهر فيه، وهي قسمان:
القسم الأوّل (مقاصد المكاتبات السلطانيات، وهي على نوعين)
النوع الأوّل (ما يكتب عن الخلفاء والملوك، وهو على ثلاثة أضرب)
الضرب الأوّل (ما يكتب عن الخلفاء والملوك ومن ضاهاهم)
ممّا هو مستعمل الآن ممّا كان عليه الحال في الزمن القديم مما يقلّ ويكثر، ويتكرّر تداوله في الكتابة وسائر المكاتبات في الحوادث المألوفة التي يكثر تداولها، وتتكرر الكتابة فيها بتكرر وقائعها، وما رسم الكتابة به باق إلى زماننا، وإن تغير مصطلح الابتداء والخطاب وغيرهما من رسوم المكاتبات. وهو على أصناف:(8/236)
ممّا هو مستعمل الآن ممّا كان عليه الحال في الزمن القديم مما يقلّ ويكثر، ويتكرّر تداوله في الكتابة وسائر المكاتبات في الحوادث المألوفة التي يكثر تداولها، وتتكرر الكتابة فيها بتكرر وقائعها، وما رسم الكتابة به باق إلى زماننا، وإن تغير مصطلح الابتداء والخطاب وغيرهما من رسوم المكاتبات. وهو على أصناف:
الصنف الأوّل (الكتب بانتقال الخلافة إلى الخليفة)
قال في «موادّ (1) البيان»: جرت العادة أن تنفّذ الكتب إلى ولاة الأعمال في مثل هذه الحالة، متضمّنة ما جرى عليه الأمر بالحضرة، من انقياد الأولياء والرعايا إلى الطاعة، ودخولهم في البيعة بصدور منشرحة، وحضّ من بالأعمال من رجال السلطان ورعيته على الدخول فيما دخل فيه أمثالهم، وإعطاء الرّعايا على ذلك صفقة أيمانهم.
وقد كان الرسم فيها أن تصدّر بحمد الله تعالى على عوارفه التي لم تزل تكشف الخطب، وترأب الشّعب، وتدفع المهمّ، وترفع الملمّ، وتجبر الوهن، وتسبغ الأمن، والصلاة على سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وذكر خصائصه ومناقبه، وتشريف الله تعالى له بإقرار الإمامة في أقاربه، وتخصيصها ببني عمّه الذين هم أحقّ الناس به، وما أمر به الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم من طلب مودّتهم من الأمة بقوله جلّ من قائل:
{قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} (2) وما أشار إليه صلّى الله عليه وسلّم من بقاء الخلافة فيهم بقوله لعمّه العباس: «ألا أبشّرك يا عمّ، بي ختمت النّبوّة وبولدك تختم الخلافة» وما يجري مجرى ذلك. ثم يتلو ذلك بالإفصاح عن شرف الخلافة وفضلها، والإبانة عن رفيع مكانها ومحلّها، وأنها ظلّ الله الممدود، وحبله المشدود، ومساك الدّين ونظامه، وملاك الحق وقوامه، وامتنان الله تعالى على العباد بأن جعل فيهم أئمة يقسطون (3) العدل عليهم، ويقيمون الحدود فيهم، ويقوّمون أديانهم، ويهذّبون إيمانهم، ويرهفون بصائرهم، ويهدون حائرهم، ويكفّون ظلومهم، وينصفون مظلومهم، ويجمعون كلمتهم، ويحمون
__________
(1) الكتاب لأبي الحسن علي بن خلف بن عبد الوهاب الكاتب، وقد ذكره حاجي خليفة باسم «موارد البيان» كشف الظنون (ج 2ص 1888) وصبح الأعشى (ج 9ص 9).
(2) سورة الشورى 42، الآية 23.
(3) لعله: «يفيضون العدل». حاشية الطبعة الأميرية.(8/237)
ذمارهم (1)، ويحوطون ديارهم، وما يجري مجرى ذلك. ثم يذكر ما أوجبه الله تعالى على أهل الإسلام للإمام من الطاعة وحسن التّباعة أيام حياته، والانقياد لأمره في طاعة من ينصّ عليه في القيام مقامه بعد وفاته، ليتّصل حبل الإمامة بينهم، ويمتدّ ظلّ الخلافة عليهم، فإن كان قد تلقّى الخلافة بعهد عن خليفة قد مات، من أب أو غيره، أتى بمقدّمة في ذكر الموت، وأن الله تعالى سوّى فيه بين بريّته وجعل في تطرّقه إلى رسوله أسوة لخليقته، وتفرّد بالبقاء، وامتنع عن الفناء، ثم يقال: وإن الله تعالى لما اختار لعبده ووليه فلان النّقلة إلى دار كرامته، والحلول بفناء طاعته، وأعانه على سياسة بريته، وأنهضه بما حمّله، وأيده فيما كفّله، من الذبّ عن المسلمين، والمراماة عن الدّين، والعمل بكتابه وسنّته في القول والفعل، واستشعار خيفته ومراقبته في السرّ والجهر، وما يليق بهذا استخلص عبده ووليّه فلانا الإمام الفلانيّ لخلافته، وأهمى سماء الرحمة بإمامته، وأحلّ عزيز النصر بولايته، وألقى في نفيس رأيه النصّ عليه، والتفويض إليه، لما علم سبحانه في ذلك من شمول المصلحة للعباد، وعموم الأمنة للبلاد، فأمضى قدس الله روحه ما ألهمه، وكمّله قبل خروجه من دار الدنيا وتممه، عالما بفضل اختياره، وأنه لم يمل به الهوى في إيثاره، فقام أمير المؤمنين الإمام الفلانيّ مقامه، وحفظ نظامه، وسدّ ثلمته، وعفّى رزيّته، وأقر الله تعالى الإمامة به في نصابها ومقرّها، وزاد باستخلافه في صيت الخلافة وقدرها.
وأمير المؤمنين يسأل الله تعالى أن يخص وليّه السعيد بقربه بأفضل صلواته، وأشرف تحياته، ويحسن جزاءه في سعيه في صلاح العباد، وسداد البلاد، وأن يلهم أمير المؤمنين الصبر على تجرّع الرّزيّة فيه [ويجزيه] أفضل ما جزى به صابرا محتسبا، وأن يجبر كسره في فقده، ويوفّقه لجميل العزاء من بعده، ويسدّده في مصادره وموارده، ويهديه لما يرضيه في جميع مقاصده، ويعينه على تأليف الأهواء، وجمع الآراء، ونظم الشّمل، وكفّ القتل، وإرخاء الظل.
__________
(1) الذمار: بكسر الذال: ما يلزمك حفظه وحمايته من عرض وحريم وناموس.(8/238)
وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك وقد اجتمع من بحضرته، من ذوي جهته وأمراء دولته، وكافّة جنده وجماعة حوزته على بيعته، وإعطائه صفقة أيمانهم على طاعته ومشايعته، عن صدور مخلصة نقيّة، وسرائر صافية سليمة، وعقائد مشتملة على الوفاء بما عقدوا عليه، وانقادوا مختارين إليه، وشملتهم بذلك الرحمة، وضفت عليهم النعمة، فما برحوا الرّزيّة، حتّى فرحوا بالعطية، ولا وجموا للمصيبة، حتّى بسموا للرغيبة، ولا أظلموا لفقد الماضي، حتّى أضاء الوجود بالآتي.
فلله الحمد على هذه النعمة التي جبرت الوهن، وحققت في فضله المنّ، حمدا يستدرّ أخلاف فضله، ويستدعي سابغ طوله، وصلّى الله على محمد وآله، وأمير المؤمنين يراك من أهل مخالصته، والمتحققين بطاعته، وهو يأمرك أن تأخذ البيعة له على نفسك، وعلى جميع أوليائه المقيمين قبلك، وكافّة رعاياه الذين هم في عملك، وتشعرهم بما عنده للمسارعين لطاعته، المبادرين إلى اتّباعه، من تيسير الإنصاف والعدل، وإفاضة الإحسان والفضل، وما لمن نكب عن الطريقة المثلى، وحاد عن الأولى، من الكفّ الرّادع، والأدب الوازع، ويتوسّع في هذا المعنى توسّعا يشرح صدور أهل السلامة، المستمرّين على نهج الاستقامة، ويردع أهل الفساد، ويغضّ من نواظر ذوي العناد. ويحلّي الكتاب بآيات من القرآن الكريم تحسن استعارتها في باب العزاء، ويليق ذكرها في باب الإشادة بالخلافة والخلفاء. فإن كان الكتاب مما يقرأ بالحضرة، قال في موضع «وكتاب أمير المؤمنين إليك»: وأنتم معاشر أقارب أمير المؤمنين، من إخوته وبني عمه وخواصّ الدولة وأمرائها وأجنادها وكتّابها وقضاتها وكافّة رعيتها، ومن اشتمل عليه ظل مملكتها، أحقّ من حافظ على عوارف أمير المؤمنين واعتدّ بلطائفه، وقام بشكر نعمته، وسارع إلى اتباعه واعتصم بحبل دعوته، فأجمعوا على متابعته، وإعطائه صفقة أيمانكم على مبايعته، ليجمع الله على التأليف كلمتكم، ويحمي بالتّازر بيضتكم. ويتبع ذلك من وعد أهل الطاعة بما يضاعف جدودهم، ومن وعيد أهل المعصية بما يصفّر خدودهم، على نسق ما سبق في الترتيب.
وهذه نسخة كتاب في المعنى، كتب به عن الآمر (1) بأحكام الله تعالى عند استقراره في الخلافة بعد أبيه المستعلي (2) بالله، والدّولة مشتملة على وزير، من إنشاء ابن (3) الصّيرفيّ، وهي:(8/239)
فلله الحمد على هذه النعمة التي جبرت الوهن، وحققت في فضله المنّ، حمدا يستدرّ أخلاف فضله، ويستدعي سابغ طوله، وصلّى الله على محمد وآله، وأمير المؤمنين يراك من أهل مخالصته، والمتحققين بطاعته، وهو يأمرك أن تأخذ البيعة له على نفسك، وعلى جميع أوليائه المقيمين قبلك، وكافّة رعاياه الذين هم في عملك، وتشعرهم بما عنده للمسارعين لطاعته، المبادرين إلى اتّباعه، من تيسير الإنصاف والعدل، وإفاضة الإحسان والفضل، وما لمن نكب عن الطريقة المثلى، وحاد عن الأولى، من الكفّ الرّادع، والأدب الوازع، ويتوسّع في هذا المعنى توسّعا يشرح صدور أهل السلامة، المستمرّين على نهج الاستقامة، ويردع أهل الفساد، ويغضّ من نواظر ذوي العناد. ويحلّي الكتاب بآيات من القرآن الكريم تحسن استعارتها في باب العزاء، ويليق ذكرها في باب الإشادة بالخلافة والخلفاء. فإن كان الكتاب مما يقرأ بالحضرة، قال في موضع «وكتاب أمير المؤمنين إليك»: وأنتم معاشر أقارب أمير المؤمنين، من إخوته وبني عمه وخواصّ الدولة وأمرائها وأجنادها وكتّابها وقضاتها وكافّة رعيتها، ومن اشتمل عليه ظل مملكتها، أحقّ من حافظ على عوارف أمير المؤمنين واعتدّ بلطائفه، وقام بشكر نعمته، وسارع إلى اتباعه واعتصم بحبل دعوته، فأجمعوا على متابعته، وإعطائه صفقة أيمانكم على مبايعته، ليجمع الله على التأليف كلمتكم، ويحمي بالتّازر بيضتكم. ويتبع ذلك من وعد أهل الطاعة بما يضاعف جدودهم، ومن وعيد أهل المعصية بما يصفّر خدودهم، على نسق ما سبق في الترتيب.
وهذه نسخة كتاب في المعنى، كتب به عن الآمر (1) بأحكام الله تعالى عند استقراره في الخلافة بعد أبيه المستعلي (2) بالله، والدّولة مشتملة على وزير، من إنشاء ابن (3) الصّيرفيّ، وهي:
الحمد لله المتوحّد بالبقاء، القاضي على عباده بالفناء، الذي تمجّد بالأزليّة والقدم، وتفرّد بالوجود وتنزّه عن العدم، وجعل الموت حتما مقضيّا على جميع الأمم.
يحمده أمير المؤمنين على ما خصّه به من الإمامة التي قمّصه سربالها، وورّثه فخرها وجمالها، حمد شاكر على جزيل العطيّة، صابر على جليل الرّزيّة، مسلّم إليه في الحكم والقضية، ويسأله أن يصلي على جده محمد الذي ثبتت حجته، ووضحت محجّته، وعلت كلمته، وأنافت على درج الأنبياء درجته، صلّى الله عليه وعلى أخيه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي جعل
__________
(1) هو أبو علي المنصور بن المستعلي بن المستنصر بن الظاهر بن الحاكم العبيدي الفاطمي. ولد سنة 490هـ، في القاهرة، وفي سنة 495هـ ولي الأمر بالديار المصرية والشامية، بعد وفاة أبيه المستعلي، وعمره آنذاك خمس سنين وشهر وأربعة أيام. كان سيء السيرة في رعيته مؤثرا للذاته.
مات قتلا على يد قوم من الباطنية في سنة 524هـ. وكانت ولايته تسعا وعشرين سنة وخمسة أشهر، وقال ابن خلدون: ونصف سنة. انظر وفيات الأعيان (ج 5ص 302299)، والكامل في التاريخ (ج 10ص 328، 665664)، وتاريخ ابن خلدون (ج 7ص 151142)، والنجوم الزاهرة (ج 5ص 185170) والأعلام (ج 7ص 297).
(2) هو أبو القاسم أحمد بن معدّ المستنصر بن الظاهر بن الحاكم العبيدي الفاطمي. ولد سنة 469هـ، وفي سنة 487هـ ولي بعد وفاة أبيه المستنصر بالديار المصرية والشامية، وتوفي بمصر سنة 495هـ، فكانت مدة خلافته سبع سنين وقريب شهرين. انظر وفيات الأعيان (ج 1 ص 180178)، والكامل في التاريخ (ج 10ص 237، 328)، وتاريخ ابن خلدون (ج 7 ص 140139، 143142)، والنجوم الزاهرة (ج 5ص 142) والأعلام (ج 1ص 259).
(3) هو أبو القاسم علي بن منجب بن سليمان، الكاتب المصري وصاحب الرسائل. ولي ديوان الإنشاء بمصر في أيام الآمر الفاطمي سنة 495هـ، وتوفي سنة 542هـ. انظر وفيات الأعيان (ج 1ص 270) و (ج 2ص 177) و (ج 4ص 374) و (ج 7ص 31)، ومعجم الأدباء ص 422والأعلام (ج 5ص 24).(8/240)
[الله] الإمامة كلمة في عقبه باقية، وحبّه جنّة (1) يوم الفزع الأكبر واقية، وعلى الأئمة من ذرّيتهما الطاهرين، صلاة دائمة إلى يوم الدّين.
وإن الإمام المستعلي بالله أمير المؤمنين قدّس الله روحه وصلّى عليه، كان من أوليائه الذين اصطفاهم لخلافته في الأرض، وجعل إليهم أزمّة البسط والقبض، وقام بما حمّله من أوق (2) الإمامة، ولم يزل عاملا بمرضاة الله إلى أن نقله إلى دار المقامة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضا بقضائه، وصبرا على بلائه، وإلى الله يرغب أمير المؤمنين في إلهامه حسن الصبر على هذا المصاب، وإجزال حظّه عليه من الأجر والثواب، وإمداده في خلافته بموادّ الإرشاد والصواب، بكرمه.
وكتاب أمير المؤمنين يوم كذا من الشهر الفلانيّ من سنة كذا، بعد أن جلس للحاضرين بحضرته من الأمراء عمومته، وأوليائه وخدم دولته، وسائر أجناده وعبيد مملكته، وعامة شيعته، وأصناف رعيّته، وأنوار الخلافة عليه مشرقة، وأغصان الإمامة مثمرة مورقة، والسيد الأجلّ الأفضل الذي أمدّه الله في نصرة الدولة العلوية بالتأييد والإظهار، وأبان به برهان الإمامة الآمرية فوضحت أنوارها للبصائر والأبصار، وشهر له من المناقب ما سار مسير الشمس في جميع الأقطار، يتولّى الأمر بحضرته تولّي الكافل الزّعيم، ويباشر النظر في بيعته مباشرة القسيم الحميم، والناس داخلون في البيعة بانشراح صدور، وإظهار ابتهاج وسرور، يعطون صفقة أيمانهم، ويعلمون ما لهم من الحظّ في طاعة إمام زمانهم، قد تحققوا شمول السّعد وعموم الرشاد، وتيقنوا الخيرة لهم في العاجلة والمعاد، وأمير المؤمنين يعزّيك ومن قبلك من أولياء دولته، وسائر رعيته، عن المصيبة في الإمام
__________
(1) الجنّة: بضم الجيم: السترة وكل ما وقى من سلاح. لسان العرب (جنن).
(2) الأوق: الثقل يقال: ألقى عليه أوقه أي ثقله: أنشد ابن بري (رجز).
إليك حتى قلّدوك طوقها ... وحمّلوك عبأها وأوقها
لسان العرب، مادة (أوق).(8/241)
المستعلي بالله صلّى الله عليه التي قطعت من النفوس أملها، وأسكنت الألباب جزعا وولها، ويهنّيك وإياهم بمتجدّد دولته التي تهلّل لها وجه الزمان، واستهلت بها سحائب الفضل والإحسان. وأمير المؤمنين يحمد الله الذي أقرّ الحقّ في منصبه، وأفرده بما كان والده الإمام المستعلي بالله أفرد به.
فاعلم ما أعلمك أمير المؤمنين من هذا الخطب الجسيم، والنّبأ العظيم، واشكر الله على ما جدّده لك ولكافّة المسلمين، من النعمة بإمامة أمير المؤمنين، التي أوفت بإساءة الزمان وجنايته وشفت من داء كلمه ونكايته، وتقدّم إلى الدعاء قبلك بأخذ البيعة على نفسك وعلى كافّة من في ولايتك، واستحمد إلى أمير المؤمنين أنت وهم بالإخلاص في طاعته، والاجتهاد في مناصحته، والتّمسّك بعصم مشايعته، لتنالوا في العاجلة حظّا جسيما، وتحرزوا في الآجلة أجرا كريما:
{ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما} (1)
وطالع بالكائن منك بعد قراءة كتاب أمير المؤمنين على الحاضرين قبلك، وإذاعته في الواردين عليك والمستوطنين عملك، ليحمدوا الله على ما أنالهم بخلافة أمير المؤمنين من جميل الصّنع العائد على العباد، وصلاح البلاد وكتب في اليوم المذكور.
وهذه نسخة كتاب عن الآمر بأحكام الله المقدّم ذكره، كتب به إلى ولاة الأطراف بعد قراءة عهده، مهنئا بخلافته، وتجديد ولايته، من إنشاء ابن الصّيرفيّ، أيضا، وهي:
أما بعد، فالحمد لله مولي المنائح من نعمه، ومجزل العطايا من مواهبه وقسمه، ومعوّد الصنع الجميل من لطفه وكرمه، الذي له الحكم الظاهر عدله، ولديه الطّول الفائض فضله، وعنده مفاتح الغيب وإليه يرجع الأمر كلّه.
__________
(1) سورة الفتح 48، الآية 10.(8/242)
يحمده أمير المؤمنين على ما أفرده به من سنيّ المواهب، ونظمه له من عقود المناقب، ونقله إليه من تراث آبائه الكرام الذين جلا ضياؤهم ظلام الغياهب، وتزينت بهم الأرض تزيّن السماء الدنيا بزينة الكواكب، ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد الذي نشر الله به الرحمة، وكشف الغمّة، وأنقذ الأمّة، صلّى الله عليه وعلى أخيه وابن عمّه عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين، والمذكور في زبر الأوّلين، وعلى الصّفوة من ذرّيتهما الهداة الراشدين، صلاة باقية إلى يوم الدين.
وإنّ النّعم تتفاضل أقدارها بحسب مواقعها، وتتفاوت أخطارها بقدر مواضعها، ومن ألطفها مكانا، وأشرفها محلّا وشأنا، وأولاها بأن تستنطق به الأقلام، وأحقّها بأن يتناقل ذكرها الخاصّ والعام، ما خصّ الله به أمير المؤمنين من المنن الظاهرة، وتولّاه من المنح المتظاهرة، وأصاره إليه من الخلافة في أرضه، واستخلفه عليه من القيام بسنن دينه وفرضه، واسترعاه إيّاه من حياطة بلاده، وأوجبه من طاعته على كافّة خلقه وعباده، وذخره لدولته من كفيله وخليله، ومقيم أدلّة حقه وموضّح سبيله، السيد الأجلّ الأفضل الذي ارتضاه الله للذّبّ عن الإسلام، وانتضاه لنصرة إمام بعد إمام، وشهر مناقبه في كلّ موقف ومقام، وخصّه بفضائل لم تر مجتمعة لملك من ملوك الإسلام، لا جرم (1) أنّ أمير المؤمنين قد أحلّه منه محلّ الرّوح من الجسد، والوالد من الولد، وفوّض الأمور إليه تفويض معوّل على يمن نقيبته معتمد، مبالغ في حسن الاختيار للأمة مجتهد، والله تعالى يمتّع أمير المؤمنين ببقائه الكافل ببلوغ الأمل، ويجازيه عن تشييد مملكته أحسن ما جزى به مخلصا جمع في الإيمان بين القول والعمل، بكرمه.
ولما وقف أمير المؤمنين بما طالعه به السيد الأجلّ الأفضل عند مثوله بحضرته، وإنهائه أمور دولته وأحوال مملكته، على أمرك الذي استحمده في الخدمة، واستحققت به إفاضة الإحسان وإسباغ النعمة، وأن لك في الدولتين
__________
(1) لا جرم: لا بدّ ولا محالة. لسان العرب (جرم).(8/243)
المستنصريّة والمستعليّة من الخدم المشكورة، والمساعي المبرورة، ما يدلّ على مناصحتك وإخلاصك، ويبعث على اصطناعك واستخلاصك، أمر بكتب هذا السّجلّ لك مؤكّدا لأواخيك (1)، ومعربا عن رأيه الجميل فيك، ومجدّدا من ولايتك، ومجريا لك فيها على مستمرّ رسمك ومستقرّ عادتك. فقابل نعمة أمير المؤمنين من الإخلاص في طاعته بما يرتبطها، ووفّها من حقّ الاجتهاد ما يقرّها عندك ويثبّطها، واجعل تقوى الله تعالى عمادك، واطو عليها طويّتك واعتقادك، ومكّن في نفوس الأولياء جميل رأي أمير المؤمنين فيهم، وإحماده لمواقفهم في الخدمة ومساعيهم، وحقّق عند كافّة المستقرّين لديك، والواردين عليك، ما يكنفون به من الأمر الشامل، ويغمرون به من حسن النظر المتواصل، واجر على العادة المألوفة في إفاضة العدل والإنصاف، وتنكّب سبيل الجور والإجحاف، ومهّد السّبل قبلك، واحم من أسباب الفساد ولايتك وعملك، واخصص متولّي الحكم والدعوة الهادية ثبتها الله تعالى بالإعزاز والرعاية، ووفّر حظّهم من الملاحظة والعناية، وخذ المستخدم في الخطبة العلويّة بإقامتها في أوقاتها، على أفضل قوانينها وواجباتها، معلنا فيها بذكر أمير المؤمنين الذي يتوّج فروق المنابر، ويشنّف أسماع البوادي والحواضر، وتوفّر على ما ثمّر الأموال وأنماها، وغزّرها ورخّاها، وقضى بوفورها وحصولها، ودعا إلى درورها ومواصلة حمولها، وانظر في أمر الرجال المستخدمين معك نظرا يؤدّي إلى مصلحتهم، فاعلم هذا من أمير المؤمنين، واغتبط بما أصاره الله إليه اغتباط أمثالك من المخلصين، واعتقد طاعته اعتقاد من يجاريك من أهل اليقين، واعمل بوصاياه ومراشده تحظ في الدنيا والدين، وطالع بالكائن منك بعد قراءة هذا السّجلّ على كافة الناس أجمعين، وكتب في كذا وكذا.
__________
(1) أي مؤكدا لحبل الصداقة والثقة بك والأواخي والأواخيّ بالتشديد جمع أخيّة وآخيّة، وهي حبل يدفن في الأرض مثنيّا فيبرز منه شبه حلقة تشدّ فيها الدابة يقال: له عند الأمير آخيّة ثابتة، وشدّ الله بينكما أواخيّ الإخاء وحلّ أواريّ الرياء. أساس البلاغة ومحيط المحيط، مادة (أخو).(8/244)
واعلم أن العادة جارية بينهم أنه إذا كتب كتاب عن الخليفة بانتقال الخلافة إليه، يكتب ملطف عن الوزير، يلفّ كتاب الخليفة ضمنه، ويوجّه به إلى حيث المقصد.
وهذه نسخة ملطّف في هذا المعنى، كتب به عن وزير في الدولة الفاطمية، ليلفّ كتاب الخليفة طيّه، وهو:
ينطوي هذا الأمر الوارد على الأمير على كتاب مولانا وسيدنا الإمام الفلانيّ لدين الله، أمير المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين، أو: أبنائه المنتظرين، إن كان لا ولد له، بما أصاره إليه من شرف الإمامة، وبوّأه إيّاه من مقام العظمة والكرامة، إثر انتقال الإمام فلان أمير المؤمنين قدّس الله روحه إلى جوار ربّه. فاعتمد العمل بمضمونه في أخذ البيعة على نفسك ومن يليك وتلاوته على رؤوس الأشهاد، وإذاعة مكنونه في الحاضر والباد، على الرسم المعتاد، فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
قلت: وهذا المعنى في الكتابة بانتقال الخلافة إلى الخليفة جار في زماننا بانتقال السّلطنة إلى السلطان، ويعبّر عن ذلك بجلوسه على تخت الملك، والأمر على ما تقدّم في الخلافة من التعزية بالماضي، والتهنئة بالمستقرّ، ونحو ذلك مما يجري مجراه.
وهذه نسخة مكاتبة بالبشارة بجلوس الملك الصالح صالح (1) ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون على التخت، في شهر رجب الفرد سنة اثنتين وخمسين
__________
(1) هو الصالح صلاح الدين بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي، سلطان الديار المصرية والبلاد الشامية والحرمين الشريفين. ولد بالقاهرة، وولي الأمر بعد عزل أخيه السلطان حسن بن الناصر محمد بن المنصور قلاوون الصالحي من قبل الأمراء وذلك سنة 752هـ، وهو ابن أربع عشرة سنة. وفي سنة 755هـ خلع الصالح وسجن وأعيد أخوه حسن، فكانت مدة ولايته ثلاث سنين وثلاثة أشهر ونصف، وبقي مسجونا إلى أن مات سنة 761هـ.
انظر البداية والنهاية (ج 14ص 267239)، والدرر الكامنة (ج 2ص 204203) وفيه أن وفاته في صفر سنة 762هـ، والنجوم الزاهرة (ج 10ص 287254) والأعلام (ج 3ص 195)(8/245)
وسبعمائة، بعد خلع أخيه الملك الناصر [حسن]. وصورتها بعد الصّدر والألقاب:
وأورد عليه من البشائر أسنى البشر، وأسمعه من التّهاني ما انتشى حديثه بين البرايا وانتشر، وحفظ عليه وعلى الأمة ما أراد لهم من الخير وولّى عليهم خيارهم وجعل مليكهم صالح البشر.
صدرت هذه المكاتبة إلى فلان وبصربها (1) مقدما بالظّفر، وذكرها قد ملأ الأقطار فجمع عليه كلّ قلب كان قد نفر، تهدي إليه سلاما عن وجه الشّكر سفر، وثناء يحصل منه على النّصيب الأوفر، وتوضّح لعلمه أن الجنابات العالية الأمراء الأكابر، أمراء الدولة الشريفة، ضاعف الله نعمتهم، كانوا قد عظّموا أخانا الناصر، وحكّموه، ومشوا إلى خدمته على أحسن سنن، وما أبقوا في خدمته ممكنا من التعظيم، والإجلال والتحكيم، وامتثال الأمر في كل جليل وحقير، فلم يرع لهم ذلك، ولا التفت إلى ما لهم عليه من حقوق الخدمة، واتفق مع الصبيان، وأراد القبض على الأمراء، وإمساك الجنابات العالية الأمراء الأكابر والإيقاع بهم. فلما تحققوا منه ذلك اجتمعت الأمراء، واتفقت الكلمة على خلعه من الملك الشريف وإقامتنا، فخلع المشار إليه، وكان جلوسنا على تخت الملك الشريف وكرسيّ السّلطنة المعظمة في يوم الاثنين المبارك، بحضور الإمام المعتضد بالله أمير المؤمنين أبي الفتح أبي بكر، ابن الإمام المرحوم أمير المؤمنين أبي الرّبيع سليمان المستكفي بالله، ومبايعته لنا، وحضور المجالس العالية قضاة القضاة بالأبواب
__________
(1) كذا بالأصل على هذه الصورة. حاشية الطبعة الأميرية.(8/246)
الشريفة، أعز الله تعالى أحكامهم، وحلف لنا أمراء الدولة الشريفة على جاري العادة في ذلك، وضربت عند ذلك البشائر، وشهد هذا الهناء كلّ باد وحاضر، وتشنّفت الأسماع وقرّت العيون واستقرّت الخواطر، وابتهجت بذلك الأمم، وتباشرت بهذا السّعد الذي كتب لنا من القدم، وأصبح كلّ من أنصار دولتنا الشريفة مبتهلا بالدعاء مبتهجا.
فليأخذ المقرّ حظّه من هذه التهنية، وليذع خبرها لتكون المسارّ معيدة ومبدية، ويتحقق ماله عندنا من المكانة، والمحلّ الذي زان بالإقبال الشريف زمانه ويتقدّم أمره الكريم بتهنئة المجالس العالية والسامية ومجالس الأمراء بالمملكة الفلانية، ويتقدّم أيضا بضرب البشائر وبالزينة على العادة.
وقد تجهّز إلى الجناب العالي نسخة يمين شريفة يحلف عليها، ويكتب خطّه، ويجهزها إلينا صحبة المجلس السامي، الأمير، الأجلّ، الكبير، العضد، الذّخريّ، النّصيريّ، الأوحديّ، عضد الملوك والسلاطين، يلبغا الحمويّ الصالحيّ، أدام الله علوّه، المتوجّه بهذا المثال الشريف، وقد جهزنا نسخة يمين شريفة ليحلف عليها لنا الأمراء بطرابلس ويكتبوا خطوطهم ويجهزها إلينا على العادة صحبة المشار إليه.
وقد جهزنا للجناب العالي صحبة المشار إليه تشريفا شريفا كاملا، فيتقدّم الجناب العالي بتسلمه منه ولبسه، ويتحقق ماله عندنا من المكانة والمنزلة، ويعيد الأمير سيف الدّين يلبغا المشار إليه إلى الباب الشريف، فيحيط علمه بذلك.
الصنف الثاني (من الكتب السلطانية الكتب في الدعاء إلى الدّين، وهو من أهمّ المهمّات)
قال في «موادّ (1) البيان»: أشرف ما ينشئه الكاتب الدعاء إلى دين الإسلام
__________
(1) انظر الحاشية رقم 1ص 237من هذا الجزء من صبح الأعشى.(8/247)
الذي أظهره الله تعالى على كلّ دين، وأعزّه على كره المشركين، واستجرار مخالفيه إليه، واجتذاب الخارجين عن دائرته إلى الدخول فيه، عملا بما كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء من بعده لأنه قوام الملك ونظام السلطان اللّذان لا يصحّان إلّا به.
قال: والكاتب يحتاج في إنشاء هذه الكتب إلى علم التوحيد وبراهينه، وشرع الرسول صلّى الله عليه وسلّم خاصّه وعامّه، ومعجزاته، وآيات نبوّته، ليتوسّع في الإبانة من ظهور حجته، ووضوح محجّته.
ثم قال: والرسم فيها أن تفتتح بحمد الله الذي اختار دين الإسلام فأعلاه وأظهره، وقدّسه وطهّره، وجعله سبيلا إلى رضاه وكرامته، وطريقا إلى الزّلفى في جنّته، وشفيعا لا يقبل عمل عامل إلّا به، وبابا لا يصل واصل إلّا منه، فلا تغفر السيئات إلّا لمن اعتصم بحبله، ولا تتقبّل الحسنات إلّا من أهله، وشكره تعالى على الهداية إليه، والتوفيق عليه، وذيادته عن مجاهل الضلالة بما أوضحه من برهانه، ونوّره من تبيانه، وتمجيده من تعظيم آياته، وباهر معجزاته، وحكيم صنعته وبديع فطرته، وتنزيهه عما لا يليق بسلطانه، ولا تجوز إضافته إلى عظيم شانه، وتسبيحه عما يصفه به الملحدون، ويختلقه الجاحدون، والصّلاة على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم والإفصاح عن دلائل نبوّته، وبراهين رسالته، وما خصّه الله تعالى به من إعلاء ذكره وإمداده بالمعجزات الباهرة، والآيات الظاهرة.
ثم يتبع ذلك بالدعاء إلى الدّين والحضّ عليه، وإيضاح ما في التّمسّك به من الرّشاد في داري المبدإ والمعاد، والتّبشير بما وعد الله به المستجيبين له، والداخلين فيه، من تمحيص السّيّئات، ومضاعفة الحسنات، وعزّ الدنيا وفوز الآخرة، والإنذار بما أوعد الله به النّاكبين عن سبيله، العادلين عن دليله، من الإذلال في هذه الدار، والتّخليد بعد العرض عليه في النار، وتصريف المخالفين بين الرّغبة والرّهبة، في العاجل والمغبّة.
قال: وينبغي أن يتأنّى الكاتب فيما يورده من هذه الأغراض، ليقع في
المواقع اللائقة به، ويجلو الحجج في أحسن المعاريض، ويفصح عنها بأقرب الألفاظ من النفوس فإنه إذا وفّق لذلك، ناب كتابه مناب الجيوش والأجناد، وأقرّ السيوف في الأغماد، ثم قال: ومن صدقت في هذا الفنّ رغبته، أيد الله تعالى غريزته، وعضّد بديهته ورويّته.(8/248)
قال: وينبغي أن يتأنّى الكاتب فيما يورده من هذه الأغراض، ليقع في
المواقع اللائقة به، ويجلو الحجج في أحسن المعاريض، ويفصح عنها بأقرب الألفاظ من النفوس فإنه إذا وفّق لذلك، ناب كتابه مناب الجيوش والأجناد، وأقرّ السيوف في الأغماد، ثم قال: ومن صدقت في هذا الفنّ رغبته، أيد الله تعالى غريزته، وعضّد بديهته ورويّته.
قلت: وهذا الصّنف من المكاتبات السلطانية قد بطل في زماننا، فلم يعهد أنّ ملكا من الملوك كتب إلى بلاد الكفر بالدّعاية إلى الدين، إذ مثل ذلك إنما يصدر مع الغلبة والقوّة والقهر. كما كان الخلفاء في الزمن المتقدّم والكفر مقهور معهم، مذلول لديهم. أما الآن فلولا ما أخبر به صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «ونصرت بالرّعب مسيرة شهر» وفي رواية «ونصرت أمّتي» لاجتاح أهل الكفر الإسلام، ولكن الله وعد دينه أن لا يخذل.
الصنف الثالث (من الكتب السلطانية الكتب بالحثّ على الجهاد)
قال في «موادّ البيان»: كما أن الدّين ينتظم بالدعاء إليه والترغيب فيه، كذلك ينتظم بصيانة حوزته، وما دخل في مملكته، وكفّ أعدائه عن تنقّص أطرافه، والتّغلّب على بلاده. ولهذا فرض الله تعالى الجهاد وأوجبه، وأكّد الأمر فيه وشدّده، والسلطان يحتاج عند الحوادث التي تحدث من تطرّق المخالفين إلى بعض الثّغور، أو شنّ الغارة على أهل الإسلام، أن يدعو إلى الجهاد ومقارعة الأعداء، وصون حريم الملة، وحفظ نظام الدولة.
ثم ذكر أن الرسم فيها أن تفتتح بحمد الله تعالى على جميل صنعه، على إعزاز الكلمة، وإسباغ النّعمة باظهار هذه الملة، وما وعد الله به من نصر أوليائه، وخذلان أعدائه، وإدالة الموحدين، وإذالة الملحدين، والصلاة على رسوله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله، وذكر طرف من مواقفه في الجهاد، ومقارعته لشيع الإلحاد، وتأييد الله تعالى أنصاره على أهل العناد، ثم يذكر الحادثة بنصّها، ويشرح القصة على فصّها، ويندب من جاوره وداناه من أهل الملّة أجمعين،
ويخاطبهم بما يرهف عزائمهم في نصرة الدين وكافّة المسلمين، واتّباع سبيل السّلف الصالحين، الذين خصّهم الله تعالى بصدق الضّمائر، ونفاذ البصائر، وصحّة الدين، ووثاقة اليقين، فلم يكونوا ليروموا مراما إلّا سهّل لهم ما توعّر، ويسّر عليهم ما تعسّر، وسما بهم إلى ما هو أقصى منه مرمى وأبعد مدى، رغبة فيما رغّبهم فيه من نصرته، وتعرّضا لما عرّضهم له من جزيل مثوبته، وأن يحضّهم على التمسك بعزائم الدين، والعمل على بصائر المخلصين، وافتراض ما فرض الله عليهم من جهاد أعدائه، وتنجيز ما وعدهم به من الإظفار بهم والإظهار عليهم، وأن يجاهدوا مستنصرين، ويؤدّوا الحقّ محتسبين، ويقدموا رسلا لا ناكصين ولا شاكّين ولا مرتابين، متّبعين الحقّ حيث يمم وقصد، ومضاربين دونه من صدّ عنه وعند، ويبالغ في تنخية أهل البسالة والنّجدة، والبأس والشّدّة، ويبعثهم على نصر حقّهم وطاعة خالقهم، والفوز بدرك الثواب والرّضوان، وتنوّر البصائر في الإيمان، وفضيله الأنف من الضّيم، والبعد من الذّيم (1)، إلى غير هذا مما يعدل الأرواح والمهج، والإقدام على مصارع التّلف. فإن الملوك الماضين لعلمهم بأن الناس إنما يجودون بذلك للفوائد التي توجبه كانوا يبذلون لمن يدعونه إلى المكافحة، ويعرّضونه للمذابحة، الرغائب التي تهوّن عليهم إلقاء نفوسهم في المهالك تارة، ويذكّرونهم الأحقاد والضغائن ويخوّفونهم من الوقوع في المذلّة أخرى.(8/249)
ثم ذكر أن الرسم فيها أن تفتتح بحمد الله تعالى على جميل صنعه، على إعزاز الكلمة، وإسباغ النّعمة باظهار هذه الملة، وما وعد الله به من نصر أوليائه، وخذلان أعدائه، وإدالة الموحدين، وإذالة الملحدين، والصلاة على رسوله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله، وذكر طرف من مواقفه في الجهاد، ومقارعته لشيع الإلحاد، وتأييد الله تعالى أنصاره على أهل العناد، ثم يذكر الحادثة بنصّها، ويشرح القصة على فصّها، ويندب من جاوره وداناه من أهل الملّة أجمعين،
ويخاطبهم بما يرهف عزائمهم في نصرة الدين وكافّة المسلمين، واتّباع سبيل السّلف الصالحين، الذين خصّهم الله تعالى بصدق الضّمائر، ونفاذ البصائر، وصحّة الدين، ووثاقة اليقين، فلم يكونوا ليروموا مراما إلّا سهّل لهم ما توعّر، ويسّر عليهم ما تعسّر، وسما بهم إلى ما هو أقصى منه مرمى وأبعد مدى، رغبة فيما رغّبهم فيه من نصرته، وتعرّضا لما عرّضهم له من جزيل مثوبته، وأن يحضّهم على التمسك بعزائم الدين، والعمل على بصائر المخلصين، وافتراض ما فرض الله عليهم من جهاد أعدائه، وتنجيز ما وعدهم به من الإظفار بهم والإظهار عليهم، وأن يجاهدوا مستنصرين، ويؤدّوا الحقّ محتسبين، ويقدموا رسلا لا ناكصين ولا شاكّين ولا مرتابين، متّبعين الحقّ حيث يمم وقصد، ومضاربين دونه من صدّ عنه وعند، ويبالغ في تنخية أهل البسالة والنّجدة، والبأس والشّدّة، ويبعثهم على نصر حقّهم وطاعة خالقهم، والفوز بدرك الثواب والرّضوان، وتنوّر البصائر في الإيمان، وفضيله الأنف من الضّيم، والبعد من الذّيم (1)، إلى غير هذا مما يعدل الأرواح والمهج، والإقدام على مصارع التّلف. فإن الملوك الماضين لعلمهم بأن الناس إنما يجودون بذلك للفوائد التي توجبه كانوا يبذلون لمن يدعونه إلى المكافحة، ويعرّضونه للمذابحة، الرغائب التي تهوّن عليهم إلقاء نفوسهم في المهالك تارة، ويذكّرونهم الأحقاد والضغائن ويخوّفونهم من الوقوع في المذلّة أخرى.
ثم قال: وينبغي للكاتب أن يقدّم في هذه الكتب مقدّمات، يرتبها على ترتيب يهزّ الأريحيّات، ويشحذ العزائم، ليجمع بين خدمة سلطانه والفوز بنصيب من الأجر.
قلت: وهذا الصّنف من المكاتبات السلطانيات مستمرّ الحكم إلى زماننا.
فما زالت الملوك يكتبون إلى ما يليهم بالحثّ على الجهاد، والقيام بأوامره، والحضّ على ملاقاة العدوّ، والأخذ بنصرة الدين. وقد تقدّم في الكلام على
__________
(1) الذيم: العيب تقول: من احتمل الضيم استحق الذيم. أساس البلاغة، مادة (ذيم).(8/250)
مقدّمات المكاتبات في أوّل هذه المقالة، أن الشّيخ شهاب الدين محمودا الحلبي ذكر في «حسن التوسل» أنه إذا كتب عن الملك في أوقات حركات العدوّ إلى أهل الثغور، يعلمهم بالحركة للقاء عدوّهم، أنّه يبسط القول في وصف العزائم، وقوّة الهمم، وشدّة الحميّة للدّين، وكثرة العساكر والجيوش، وسرعة الحركة، وطيّ المراحل، ومعاجلة العدوّ، وتخيّل أسباب النّصر، والوثوق بعوائد الله في الظّفر، وتقوية القلوب منهم، وبسط آمالهم، وحثّهم على التّيقّظ، وحضّهم على حفظ ما بأيديهم من ذلك وما أشبهه. وأنه يبرز ذلك في أبين كلام وأجلّه، وأمكنه وأقربه من القوّة والبسالة، وأبعده من اللّين والرّقّة، ويبالغ في وصف الإنابة إلى الله تعالى واستنزال نصره وتأييده والرجوع إليه في تثبيت الأقدام، والاعتصام به في الصّبر، والاستعانة به على العدوّ، والرّغبة إليه في خذلانهم، وزلزلة أقدامهم، وجعل الدائرة عليهم، دون التصريح بسؤال بطلان حركتهم، ورجاء تأخيرهم، وانتظار العرضيّات في تخلّفهم، لما في ذلك من إيهام الضّعف عن لقائهم، واستشعار الوهن والخوف منهم، وأن زيادة البسط ونقصها في ذلك بحسب المكتوب إليه.
وهذه نسخة مكاتبة من ذلك عن السلطان إلى بعض نوّاب الثّغور، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود (1) الحلبيّ، أوردها في «حسن التوسل» وهي:
أصدرناها ومنادي النّصر (2) قد أعلن بياخيل الله اركبي، ويا ملائكة الرحمن اصحبي، ويا وفود الظّفر والتأييد اقربي، والعزائم قد ركضت على سوابق الرّكض إلى العدا، والهمم قد نهضت إلى عدوّ الإسلام فلو كان في مطلع الشمس لا ستقربت ما بينها وبينه من المدى، والسّيوف قد أنفت من الغمود فكادت تنفر من قربها، والأسنّة قد ظمئت إلى موارد القلوب فتشوّفت إلى الارتواء من قلبها، والكماة قد زأرت كاللّيوث إذا دنت فرائسها، والجياد قد مرحت لما عوّدتها من
__________
(1) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 3ص 172من هذا الجزء من صبح الأعشى.
(2) في حسن التوسل إلى صناعة الترسل ص 94: «النفير». انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/251)
الانتعال بجماجم الأبطال فوارسها، والجيوش قد كاثرت النجوم أعدادها، وسار بها للهجوم على أعداء الله من الملائكة الكرام أمدادها، والنفوس قد أضرمت الحميّة للدّين نار غضبها، وعداها حرّ الإشفاق على ثغور المسلمين عن برد الثغور وطيب شنبها، والنّصر قد أشرقت في الوجود دلائله، والتأييد قد ظهرت على الوجوه مخايله، وحسن اليقين بالله في إعزاز دينه قد أنبأت بحسن المآل أوائله، والألسن باستنزال نصر الله لهجة، والأرجاء بأرواح القبول أرجة، والقلوب بعوائد لطف الله بهذه الأمة مبتهجة، والحماة وما منهم إلّا من استظهر بإمكان قوّته وقوّة إمكانه، والأبطال وليس فيهم من يسأل عن عدد عدوّه بل عن مكانه، والنّيّات على طلب عدوّ الله حيث كان مجتمعة، والخواطر مطمئنة بكونها مع الله بصدقها و «من كان مع الله كان الله معه»، وما بقي إلّا طيّ المراحل، والنزول على أطراف الثّغور نزول الغيث على البلد الماحل، والإحاطة بعدوّ الله من كل جانب، وإنزال نفوسهم على [حكم] (1) الأمرين [الآخرين] (2)، من عذاب واصب وهمّ ناصب، وإحالة وجودهم إلى العدم، وإجالة السّيوف التي إن أنكرتها أعناقهم فما بالعهد من قدم، واصطلامهم على ما بأيدي العصابة المؤيّدة بنصر الله في حربها، وابتلاؤهم من حملاتها بريح عاد التي تدمّر كلّ شيء بأمر ربّها، فليكن مترقّبا طلوع طلائعها عليه، متيقّنا من كرم الله استئصال عدوّه الذي إن فرّ أدركته من ورائه وإن ثبت أخذته من بين يديه، وليجتهد في حفظ ما قبله من الأطراف وضمّها، وجمع سوائم الرعايا من الأماكن المخوفة ولمّها، وإصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه من مسالك الأرباض المتطرّفة ورمّها، فإن الاحتياط على كل حال من آكد المصالح الإسلامية وأهمها، فكأنّه بالعدوّ وقد زال طمعه، وزاد ظلعه، وذمّ عقبى مسيره، وتحقّق سوء منقلبه ومصيره، وتبرأ منه الشيطان الذي دلّاه بغروره، وأصبح لحمه موزّعا بين ذئاب الفلا وضباعها، وبين عقبان الجوّ ونسوره، ثقة من وعد الله وتمسّكا منه باليقين، وتحققا أن الله ينصر من ينصره والعاقبة للمتقين.
__________
(1) الزيادة من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/252)
وهذه نسخة مرسوم كريم في المعنى، بل هو أصرح في ذلك ممّا قبله، كتب به عند ظهور الفرنج اللوساريّة والشوال بالبحر، من إنشاء الشيخ بدر الدين بن حبيب (1) الحلبيّ (2)، وهو وإن لم يكن عن السلطان فإنه في معناه لقيام النائب بالمملكة قيام السلطان الذي استنابه، وهو:
المرسوم بالأمر العالي أعلاه الله تعالى، لا زالت مراسمه النافذة تبلّغ أهل العصابة المحمّدية غاية الآمال، وأوامره المطاعة تقضي بكسر اللّوساريّة وشين الشوال، أن تتقدّم العساكر المنصورة بالمملكة الطّرابلسيّة أيد الله تعالى عزائمهم القاهرة، وأذلّ بسيوفهم الطائفة الكافرة، بارتداء ملابس الجهاد، والتّحلّي بمرارة الصّبر على اجتلاء الجلاد، وأن يجيبوا داعي الدّين، ويكفّوا أيدي المعتدين، ويفوّقوا سهامهم، ويجعلوا التّقوى أمامهم، ويشرعوا رماحهم، ويحملوا سلاحهم، ويومضوا بروق السيوف، ويرسلوا نبال الحتوف، ويهدموا بنيان الكفّار، ويطلعوا أهلّة القسيّ بمدّ الأوتار، ويهضموا جانب أهل العناد، ويقابلوا البحر بملء بحر من الجياد، ويناظروا أمواجه بأمواج النّصال، ويقاتلوا الفرقة الفرنجيّة أشدّ القتال، ولا يهملوهم بالنهار ولا بالليل، ويعدّوا لهم ما استطاعوا من قوّة ومن رباط الخيل، وينوّروا بمصابيح الرّباط في سبيل الله ظلام الدّجنّة، وأن يصابروا ويصبروا، فإذا استنفروا فلينفروا، ويبالغوا في الغدوّ والرّواح ليبلّغوا الرّعيّة من الأمن أمانيها. فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها». ويعتمدوا على القريب المجيب، ويجتهدوا في كسر أصلاب أهل الصّليب، وينافسوا في أمر الآخرة ويدعوا الدنيا، ويقاتلوا لتكون كلمة الله هي
__________
(1) في الطبعة الأميرية: «بدر الدين حبيب»،، والصحيح ما أثبتناه.
(2) هو أبو محمد وأبو طاهر الحسن بن عمر بن الحسن بن حبيب بن عمر بن شويخ بن عمر، الدمشقي الأصل، الحلبي، كان أبوه محتسبا بحلب. ولد الحسن سنة 710هـ، ونشأ محبا في الآداب، وأخذ عن ابن نباتة وغيره. له كتاب «درّة الأسلاك في دولة الأتراك» يدل على اطلاع زائد واقتدار على النظم والنثر. توفي سنة 779هـ. انظر الدرر الكامنة (ج 2ص 3029) وكشف الظنون (ج 1ص 737) والأعلام (ج 2ص 209).(8/253)
العليا، ويشهدوا المواقف، ويبذلوا التّالد والطّارف، وليبرز الفارس والراجل، ويظهر الرّامح والنّابل، فإن الجهاد، سطوة الله تعالى على ذوي الفساد، ونقمته القائمة على أهل الشّرك والعناد، وهو من الفروض الواجبة، التي لم تزل سهام أصحابه صائبة، فواظبوا على فعله، ولا تذهبوا عن مذاهبه وسبله، واطلبوا أعداء الله برّا وبحرا، وقسّموا بينهم الفتكات قتلا وأسرا، وفاجئوهم بمكروه الحرب، وناجوهم برسائل الطّعن والضّرب، وخذوا من الكفّار باليمين، وجدّوا في تحصيل الرّبح الثّمين، ولازموا النزول بساحل البحر لمنازلة الطّغاة والمشركين {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين} (1) وسابقوا الأعنّة، وهزّوا أعطاف الأسنّة، وشمّروا عن ساق العزائم، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، واتّخذوا الخيام مساكن، واجعلوا ظهور الخيل لكم مواطن، وانصبوا الألوية والأعلام، وأطفئوا جمرة الشّرذمة الغائظة للإسلام، ولا تخشوا من جمعهم الآئل إلى التّفريق، وحشدهم الذي هو عمّا قليل إن شاء الله تعالى غريق، ولا تعبأوا بسفنهم البحرية فإن سفنكم الخيل المخلوقة من الرّياح، ولا تنظروا إلى مجاديفهم الخشبيّة، فإن مجاديفكم السيوف والرماح، فاقلعوا قلوعهم، وشتّتوا جموعهم، وأذهبوا الجنف (2) والحيف، وخاطبوهم بألسنة السّيف، وأوقدوا في قلوبهم بالتّحصين والاحتراز نارا، وادعوا الله أن لا يذر على الأرض من الكافرين ديّارا، ونكّسوا صليبهم المنصوب، وبادروا إلى حرب حزبهم المغلوب، وارفعوا باليقين شكّ هذه المحنة، وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة، واهجروا في ذات الله طيب المنام، وانقلوا الأقدام إلى الأقدام، واكشفوا عنكم أستار الملال والملام، واهتموا بما يعلي كلمة الإسلام والسّلام، فليرفعنّكم الله إلى منازل العزّ والتمييز {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} (3).
__________
(1) سورة التوبة 9، الآية 123.
(2) الجنف: الميل إلى الجور.
(3) سورة الحج 22، الآية 40.(8/254)
الصّنف الرابع (من الكتب السلطانية الكتب في الحثّ على لزوم الطاعة وذمّ الخلاف)
قال في «موادّ البيان»: طاعة السلطان والانقياد إليه، والرجوع إلى رأيه والاعتماد عليه، أبدى الأسباب، في استمرار الاتّساق والاستتباب، وهي فرض أوجبه الله تعالى. فقال: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (1) ولا تصح مملكة ولا تدوم دولة إلّا بأمرين أحدهما عدل السلطان، والآخر طاعة الرّعيّة له، فمتى ارتفع أحدهما، فسد السّائس والمسوس، ولم تزل ملوك الأزمنة يقدّمون إلى الرعايا لزوم الطاعة، والاعتصام بحبل الشريعة والنّهي عن مفارقة الجماعة.
قال: والرسم فيها أن تفتتح بالحمد لله على النّعم، في تأليف قلوب أهل الدّين، وجمع كلمة الموحّدين، ورعاية أهوائهم إلى الاتّفاق، وصيانة عصاهم عن الانشقاق، والصلاة على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، والتنبيه على فضائل الطاعة، فإنها العروة الوثقى، والمعقل الذي لا يرقى، والحصن الحصين، والكنف الأمين، والحمى الأمنع، والمرقب الأرفع، وأنّ من حافظ عليها فاز وسلّم، وربح وغنم، ومن فارقها خسر وخاب، ونكب عن سبيل الصّواب، وإيضاح ما في سبيل الطاعة من اتّفاق الكلمة، وانتظام شمل الأمة، وشمول الخيرات، وعموم البركات، وعمارة البلاد، وصلاح العباد، وما في المشاققة من الفساد العام، العائد بانتثار النّظام، وانبتات الحبل، وتفرّق الشّمل، واجتثاث الأصل، وطموس الديار، وصيال الأشرار، وانقماع الأخيار، وتوالي الفتن التي لا تصيب الظالم خاصّة دون العادل، ولا المشاقق دون الموافق، وحلول النّوائب المزيلة للنعم، وإتباع ذلك بما يجب من إعذار وإنذار، وترهيب وترغيب، وتذكير وتبصير، ووعظ وتخويف، وبعث العلماء الحصفاء، على ردع الجهلاء السّخفاء، وتنبيه أهل
__________
(1) سورة النساء 4، الآية 59.(8/255)
السلامة والصلاح، على كفّ ذوي العيث والطّلاح، إلى نحو هذا مما يجاريه. وأن يبالغ فيما يورده من هذه المعاني، فإن هذه الكتب إذا كانت بليغة مستوفاة جيّدة العبارة، أخذت بمجامع القلوب، وأغنت عن الكتائب في إدراك المطلوب.
وهذه [مكاتبات] في معنى ذلك أوردها أبو الحسين بن (1) سعد في ترسّله، وهي:
أما بعد، فإن الله افترض الطاعة وأوجبها، وأمر بها ورغّب فيها، وجعلها عصمة من كل فتنة، وضياء من كل شبهة، وسلامة من كل هلكة، وسببا للظّفر بخير الدنيا والآخرة، من أراد الله به خيرا وفّقه لها، وألزمه المحافظة عليها والاعتصام بحبلها، فتعجّل عزّها وشرفها، وسعتها وأمنها، واستحق السعادة في الدار الآخرة بها، والمثوبة عليها.
آخر: وقد علمتم ما جعل الله في الطاعة ولزومها، والمحافظة عليها، من العز والمنعة والأيد والقوّة والفوز بخير الدنيا والآخرة [وما] في خلافها من صنوف المخاوف، وأنواع المتالف.
آخر: وقد كانت الطاعة أنافت بك على كلّ ظليل، وأفضت بك إلى لين مهاد عند إقضاض المضاجع، وصفاء المشارب عند تكدّر المناهل، واتصال أمنة عند حدوث المخاوف، حتّى فعلت كذا وكذا.
آخر: فلم يمرق من طاعته مارق، ولا فارقها مفارق، إلّا صرع الله خدّه، وأتعس جدّه، وخضد (2) شوكته، وأكذب ظنّه وأمنيّته، وجعله لسيوف الله غرضا، ولأوليائه غنيمة.
__________
(1) أغلب الظن أنه أبو الحسين علي بن محمد، وزير الراضي بالله أبي العباس ابن المقتدر. انظر العقد الفريد (ج 5ص 129).
(2) خضد شوكته: قطعها، ومنه حديث الدعاء: يقطع به دابرهم ويخضد به شوكتهم. لسان العرب (خضد).(8/256)
آخر: والطاعة هي العروة الوثقى، والطريقة المثلى، والغنيمة لأهلها في الأخرى والأولى.
«عبد الحميد» (1): فإن الفتنة تتشوّف لأهلها بآنق منظر، وأزين ملبس، تجرّ لهم أذيالها، وتعدهم تتابع لذّاتها، حتّى ترمي بهم في حومات أمواجها، مسلّمة لهم، تعدهم الكذب وتمنّيهم الخدع، فإذا لزمهم عضاضها (2)، ونفر بهم شماسها، وتخلّت عنهم خاذلة لهم، وتبرأت منهم معرضة، قد سلبوا أجمل لباس دينهم، واستنزلوا عن أحصن معاقل دنياهم، من الغناء البهيّ منظره، الجميل أثره، حتّى تطرحهم في فضائح أعمالهم، والإيجاف في التّعب، وسوء المنقلب، فمن آثر دينه على دنياه تمسك بطاعة ولاته، وتحرّز بالدخول في الجماعة، تاركا لأثقل الأمرين، وأوبل الحالين.
«ابن عبد كان» (3) في ذمّ الخلاف: وإن فلانا كان عبدا من عبيدنا، اعتوره إنعامنا، ونوّه به إكرامنا، وشرّفه ولاؤنا، وحسن عنده بلاؤنا، وابتنينا له الأموال، وأسنينا له الأعمال، وأوطأنا عقبه الرجال، فلم تقع النّعم منه عند شاكر، ولا الصنيعة عند محتمل فلما رفع الله بمكاننا خسيسته، وبلّغه من شرف الذّكر ونباهة القدر وانبساط يده ما كانت همّته تعجز عنه، وآماله تقصر دونه، أضراه ذلك وأبطره، وأطغاه وأكفره، فاختال زاهيا، واستكبر عاليا، وغدر باغيا، وشاقّ عاصيا، وأوضع في الفتنة لنا حربا، ولأعدائنا حزبا، ولمن انحرف عنا يدّا، ولمن مال إلينا ضدّا، من غير سبب أوجبه، ولا أمر دعاه إليه، فكان كما قال الله عزّ وجلّ في كتابه: {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} (4) وكقوله: {ولو بسط الله}
__________
(1) هو عبد الحميد الكاتب، وقد تقدمت ترجمته في الصحيفة 84من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 2.
(2) أي شدّتها، وهاء الضمير تعود على الفتنة.
(3) تقدمت ترجمته في الصحيفة 165من هذا الجزء، الحاشية رقم 1.
(4) سورة العلق 96، الآيتان 6و 7.(8/257)
{الرزق لعباده لبغوا في الأرض} (1) فلما ورده الخبر بما هيّأ الله لنا من الرجوع إلى الفسطاط على الحال السارّة لأوليائنا، الغائظة لأعدائنا، سقط في يده، وفكّر في غليظ جرمه وخيانته، فأدّاه الخوف الذي استشعره، والإشفاق الذي خامره، إلى أن ركب عظيما من الأمور، وكاشف بالعصبيّة والغرور، مكاتفا أعداء (2)، ومواليا ذوي العداوة والشّنارة (3)، ونرجو بحول الله وقوّته، وإرادته ومشيئته، وما لم يزل الله تقدّس اسمه يجريه عندنا من جميل عاداته فيمن سفه الحق، وزاغ عن القصد، أن يبسل هذا الخائن بخبائث أعماله، ويسلمه لقبائح أفعاله، وأن يصرعه بأسو إ مصارع أمثاله، فإنّ أحدا لم يحمد النعمة، إلّا استدعى النّقمة، ولم يذع الشكر، ويستعمل الكفر، إلّا كانت العثرة منه قريبة، والبلايا محيطة، قولا لا يبدّل رسمه ولا يحوّل.
من كتاب موسى (4) بن عيسى:
أما بعد، فإن امرأ لو خلص من فلتات الخطإ وخطوات الملإ (5)، بفضيلة رأي ولطافة بصر بالأمور، كنت أحجى بذلك دون أهل زمانك، للذي جرت لك عليه تصاريف التبع وتعرّضت لك به وجوه العبر، ولما استقبلت من موارد أمور نفسك، وتعقّبت من مصادر أمور غيرك، ولكنّ الله إذا أراد أمرا جعل له من قضائه سببا، ومن مقاديره عللا، فمن مقادير علل البلاء تضييع المعرفة، وإلغاء ما تفيده
__________
(1) سورة الشورى 42، الآية 27.
(2) بياض في الأصل، ولعلّه: «الامارة». حاشية الطبعة الأميرية.
(3) الذي في كتب اللغة: الشنار، وهو العيب الذي فيه عار، أو أقبح العيب والعار. لسان العرب (شنر).
(4) هو موسى بن عيسى بن موسى بن محمد العباسي الهاشمي، كان جوادا عاقلا، ولّاه هارون الرشيد الكوفة فدمشق، إذ تزوج موسى عليّة بنت المهدي العباسية أخت هارون الرشيد. توفي سنة 183هـ. انظر الولاة والقضاة ص 137132، ووفيات الأعيان (ج 2ص 467)، وفوات الوفيات (ج 3ص 123) والنجوم الزاهرة (ج 2ص 66). والأعلام (ج 7ص 326).
(5) الملأ: الطمع والظن، وبه فسّر قوله (وافر).
فقلنا أحسني ملأ جهينا أي أحسني ظنا. لسان العرب (ملأ).(8/258)
التّجربة، ومن أسباب السّلامة الانتباه بالعبر، والاستدلال بما كان على ما يكون.
وأنت امرؤ جرت لك وعليك أنحاء من النعم، وأنحاء من الحجج، عرفت بها ما لك وعليك، فإن تأخذ بها، عرفت كيف تسلك مسالكه، وإن تدع الأخذ بذلك، تدعه على علم. وقد رأيت الذي انقادت لك به النّعمة، ووهبت لك به العافية، فيما ألهمك الله من طاعة ولاة أمورك، والصبر لها على مواطن الحقّ التي رفع الله بها ذكرك، وأحسن عليها عقباك وذخرك، فلم تمض بك في طاعتهم رتبة، إلا قرّبك الله بها في الخير عقبة، ولا تبذل من نفسك نصحا، إلّا أوجب لك به نححا ولم تفتأ تواتر ذلك، من مناصحتك وحسن طاعتك، حتّى طلت بها على من طاولك، وفضلت بها من فاضلك، وجريت ممدودا عنانك إلى قصوى غايات أملك، فأصبحت قريع المسلمين، بعد خليفة الله أمير المؤمنين، وخيرته من خلقه، بعد ذوي الفضل من أهل بيته، حتّى مالك من رجالات العرب نظير في منزلة، ولا نديد في حال ولا رتبة، بل هم فيك رجلان: إما راهب منك، وإما راغب فيك.
قلت: وهذا الصنف من المكاتبات السلطانية مستمرّ الكتابة إلى زماننا. فما زالت الملوك يكتبون إلى من يتخيّلون منه خلع الطاعة من النوّاب ومن في معناهم، ويحثّونهم على لزوم الطاعة، ويحذّرونهم المخالفة والخروج عن الجماعة.
ومن ذلك ما كتب به الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي إلى متملك سيس (1) عند كسرة التتار، بعد قيامه معهم في المصافّ، ومساعدته إياهم، وهو:
بصّره الله برشده، وأراه مواقع غيّه في الإصرار على مخالفته ونقض عهده، وأسلاه بسلامة نفسه عمن روّعته السيوف الإسلامية بفقده.
صدرت تعرّفه أنه قد تحقّق ما كان من أمر العدوّ الذي دلّاه بغروره، وحمله
__________
(1) تقدم الحديث عنها في الصحيفة 12من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 2.(8/259)
التمسك بخداعه على مجانبة الصواب في أموره، وأنهم استنجدوا بكل طائفة، وأقدموا على البلاد الإسلامية بنفوس طامعة وقلوب خائفة، وذلك بعد أن أقاموا مدّة يشترون المخادعة بالموادعة، ويسرّون المصارمة في المسالمة، ويظهرون في الظاهر أمورا، [ويدبّرون في الباطن أمورا] (1) ويعدون كلّ طائفة من أعداء الدين ويمنّونهم وما يعدهم الشّيطان إلّا غرورا، وكنّا بمكرهم عالمين، وعلى معاجلتهم عاملين، وحين تبيّن مرادهم، وتكمّل احتشادهم، استدرجناهم إلى مصارعهم، واستجررناهم ليقربوا في القتل من مضاجعهم، ويبعدوا في الهرب عن مواضعهم، وصدمناهم بقوّة الله صدمة لم يكن لهم بها قبل، وحملنا عليهم حملة ألجأهم طوفانها إلى ذلك الجبل، وهل يعصم من أمر الله جبل؟ فحصرناهم في ذلك الفضاء المتّسع، وضايقناهم كما قد رؤي ومزّقناهم كما قد سمع، وأنزلناهم على حكم السّيف الذي نهل من دمائهم حتّى روي وأكل من لحومهم حتّى شبع، وتبعتهم جيوشنا المنصورة تتخطّفهم رماحها، وتتلقّفهم صفاحها، ويبدّدهم في الفلوات رعبها، ويفرّقهم في القفار طعنها المتدارك وضربها، ويقتل من فات السيوف منهم العطش والجوع، ويخيّل للحيّ منهم أنّ موضعه كالدنيا التي ليس للميّت إليها رجوع، ولعله قد رأى من ذلك فوق ما وصف عيانا، وتحقّق من كلّ ما جرى ما لا يحتاج أن نزيده به علما ولا نقيم عليه برهانا.
وقد علم أن أمر هذا العدوّ المخذول ما زال معنا على هذه الوتيرة، وأنهم ما أقدموا إلّا ونصرنا الله عليهم في مواطن كثيرة، وما ساقتهم الأطماع في وقت ما إلا إلى حتوفهم، ولا عاد منهم قطّ في وقعة آحاد تخبر عن مصارع ألوفهم، ولقد أضاع الحزم من حيث لم يستدم نعمة الله عليه [بطاعتنا] (2) التي كان في مهاد أمنها، ووهاد يمنها، وحماية عفوها، وبرد رأفتها التي كدّرها بالمخالفة بعد صفوها، يصون رعاياه بالطاعة عن القتل والإسار، ويحمي أهل ملّته [بالحذر عن
__________
(1) الزيادة من حسن التوسل ص 97. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(2) بياض بالأصل، والتصحيح عن المصدر السابق ص 98. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/260)
الحركات] (1) التي ما نهضوا إليها إلّا وجرّوا ذيول الخسار، ولقد عرّض نفسه وأصحابه لسيوفنا التي كان من سطواتها في أمان، ووثق بما ضمن له التّتار من نصره وقد رأى ما آل إليه [أمر] ذلك الضمان، وجرّ لنفسه بموالاة التّتار عناء كان عنه في غنى، وأوقع روحه بمظافرة المغل في حومة السيوف التي تخطّفت أولياءه من هنا ومن هنا، واقتحم بنفسه موارد هلاك سلبت رداء الأمن عن منكبيه، واغترّ هو وقومه بما زيّن لهم الشيطان من غروره {فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه} (2) وما هو والوقوف في هذه المواطن التي تتزلزل فيها أقدام الملوك الأكاسرة؟ وأنّى لضعاف النّقّاد قدرة على الثبات لوثبات الأسود الضّارية واللّيوث الكاسرة؟ لقد اعترض بين السّهم والهدف بنحره، وتعرّض للوقوف بين ناب الأسد وظفره، وهو يعلم أننا مع ذلك نرعى له حقوق طاعة أسلافه التي ماتوا عليها، ونحفظ له خدمة آبائه التي بذلوا نفوسهم ونفائسهم في التّوصّل إليها، ونجريه وأهل بلاده مجرى أهل ذمتنا الذين لا نؤيسهم من عفونا ما استقاموا، ونسلك فيهم حكم من في أطراف البلاد من رعايانا الذين هم في قبضتنا، نزحوا أو أقاموا، ونحن نتحقق أنه ما بقي ينسى ملازمة ربقة الحتف خناقه، ولا يرجع يورد نفسه في موارد الهلاك وهل يرجع إلى الموت من ذاقه؟ فيستدرك باب الإنابة قبل أن يغلق دونه، ويصون نفسه وأهله قبل أن تبتذل السيوف الإسلامية مصونه، ويبادر إلى الطاعة قبل أن يبذلها فلا تقبل، ويتمسّك بأذيال العفو قبل أن ترفع دونه فلا تسبل، ويعجّل بحمل أموال القطيعة وإلّا كان أهله وأولاده في جملة ما يحمل منها إلينا، ويسلّم مفاتح ما عدا عليه من فتوحنا وإلّا فهو يعلم أنها وجميع ما تأخّر من بلاده بين يدينا، ويكون هو السبب في تمزّق شمله، وتفرّق أهله، وقلع بيته من أصله، وهدم كنائسه، وابتذال نفسه ونفائسه، واسترقاق حرمه، واستخدام أولاده قبل خدمه، واستقلاع قلاعه، وإحراق ربوعه ورباعه، وتعجيل رؤية ما وعد به قبل
__________
(1) بياض بالأصل، والتصحيح عن حسن التوسل ص 98. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(2) سورة الأنفال 8، الآية 48.(8/261)
سماعه. ومن لغازان أن يجاب إلى مثل ذلك، أو يسمح له مع الأمن من سيوفنا ببعض ما في يده من الممالك، لينتفع بما أبقت جيوشنا المؤيّدة في يده من الخيل والخول، ويعيش في الأمن ببعض ما نسمح له به ومن للعور بالحول، والسيوف الآن مصغية إلى جوابه لتكفّ إن أبصر سبيل الرشاد، أو تتعوّض برؤوس حماته وكماته عن الإغماد إن أصرّ على العناد، والخير يكون إن شاء الله تعالى.
الصنف الخامس (من الكتب السلطانية الكتب إلى من نكث العهد من المخالفين)
قال في «موادّ البيان»: إذا نقض معاهد عهده، أو نفض من شروط الهدنة يده، فالرسم أن يصدّر ما يكاتب به بالحمد لله تعالى على موهبته في إظهار الدين، وإعزار المسلمين، وما تكفّله من النصر على الباغين، ووعد به أهل العدل من الإدالة والتّمكين، والصلاة على سيدنا محمد النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله أجمعين، وإيراد طرف من معجزاته وفضائله، وآياته ومناقبه التي تنخرط في هذا النظام، وتليق بهذا النّمط من الكلام، ثم يتبع ذلك بمقدّمة تدلّ على متانة البصائر في الدين، ووثاقة العقائد في إذالة المحادّين، ومضاء العزائم في مجاهدة المعتدين، والاستطالة على المعاندين، مع ما تضمّنه الله تعالى من نصره وإظفاره، ووعد به من تأييده وإقراره، وسهّله من إهواء الأهوية إليه، وجمع الكلمة عليه، بما خوّله من بأس وشدّة، وعديد وعدّة، وما يليق بذلك مما يعرب به عن علوّ السلطان، ووفور الإخوان، واتّساع القوّة والأيد، وصدق العزم والجدّ. ثم يذكر الحال التي انعقدت الهدنة عليها، وأن الإجابة إليها لم تقع قصورا عن غزوهم في عقر دارهم، وتشريدهم بالغارات المبثوثة برّا وبحرا عن قرارهم، وإنما قبولا لمساءلتهم، وامتثالا لأمر الله تعالى في مسالمتهم. ويأخذ في تعديد الوقائع التي أوقعها أهل الإسلام بهم، والمشاهد التي نصرالله تعالى فيها عليهم، والمعاقل المنتزعة من أيديهم، وأن تلك العزائم مضطرمة متوقدة، وتلك السيوف مشحذة مهنّدة، وأن الله تعالى قد أباح حرم من نقض عهده، ونفض من الذّمام يده، وأن كتائب الله موجفة وراء هذا الكتاب، في جيش يلحق الخبت بالهضاب،
ما لم يكن منهم مبادرة إلى الإقلاع والإنابة، ومكاتبة في الصّفح والاستتابة، وأنه قد قدّم الأعذار، وبدأ قبل الإقدام بالإنذار، وما يقتضيه الحال من هذا ومثله.(8/262)
قال في «موادّ البيان»: إذا نقض معاهد عهده، أو نفض من شروط الهدنة يده، فالرسم أن يصدّر ما يكاتب به بالحمد لله تعالى على موهبته في إظهار الدين، وإعزار المسلمين، وما تكفّله من النصر على الباغين، ووعد به أهل العدل من الإدالة والتّمكين، والصلاة على سيدنا محمد النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله أجمعين، وإيراد طرف من معجزاته وفضائله، وآياته ومناقبه التي تنخرط في هذا النظام، وتليق بهذا النّمط من الكلام، ثم يتبع ذلك بمقدّمة تدلّ على متانة البصائر في الدين، ووثاقة العقائد في إذالة المحادّين، ومضاء العزائم في مجاهدة المعتدين، والاستطالة على المعاندين، مع ما تضمّنه الله تعالى من نصره وإظفاره، ووعد به من تأييده وإقراره، وسهّله من إهواء الأهوية إليه، وجمع الكلمة عليه، بما خوّله من بأس وشدّة، وعديد وعدّة، وما يليق بذلك مما يعرب به عن علوّ السلطان، ووفور الإخوان، واتّساع القوّة والأيد، وصدق العزم والجدّ. ثم يذكر الحال التي انعقدت الهدنة عليها، وأن الإجابة إليها لم تقع قصورا عن غزوهم في عقر دارهم، وتشريدهم بالغارات المبثوثة برّا وبحرا عن قرارهم، وإنما قبولا لمساءلتهم، وامتثالا لأمر الله تعالى في مسالمتهم. ويأخذ في تعديد الوقائع التي أوقعها أهل الإسلام بهم، والمشاهد التي نصرالله تعالى فيها عليهم، والمعاقل المنتزعة من أيديهم، وأن تلك العزائم مضطرمة متوقدة، وتلك السيوف مشحذة مهنّدة، وأن الله تعالى قد أباح حرم من نقض عهده، ونفض من الذّمام يده، وأن كتائب الله موجفة وراء هذا الكتاب، في جيش يلحق الخبت بالهضاب،
ما لم يكن منهم مبادرة إلى الإقلاع والإنابة، ومكاتبة في الصّفح والاستتابة، وأنه قد قدّم الأعذار، وبدأ قبل الإقدام بالإنذار، وما يقتضيه الحال من هذا ومثله.
قال: فإن كان الكتاب جوابا عن كتاب ورد، أجيب بما ينقضه، وبني الأمر فيه على ما يبسط الهيبة، ويدعو إلى النزول على أحكام الطاعة. ويختلف الحال في ذلك باختلاف الأمور الحادثة، والأسباب العارضة، فينبغي للكاتب أن يحتاط فيما يطلق به قلمه من هذه المعاني الخطيرة لأنها مزاحمة بالدّول والملك، وحجج تحصل من كل دولة عند الآخرين، ودرك ما يقع فيها عائد عليه، ومنسوب إليه.
وهذه نسخة كتاب كتب به عن الحافظ لدين (1) الله الخليفة الفاطميّ بالديار المصرية، إلى بهرام (2) النّصرانيّ الأرمنيّ الذي كان استوزره، ثم خرج عليه رضوان (3) بن ولخشي، ارتغاما للدين، لتحكّم نصرانيّ في أهل الملة، وولي
__________
(1) هو أبو ميمون عبد المجيد بن أبي القاسم محمد بن المستنصر بن الظاهر بن الحاكم بن المهدي عبيد الله، ولد سنة 467هـ بعسقلان، وقيل: سنة 466هـ، وبويع بالعهد يوم قتل الآمر بأحكام الله بن المستعلي، صاحب مصر، وله من العمر ثمان وخمسون سنة، وذلك في سنة 524هـ.
ومات بمصر سنة 544هـ، وقيل: 543هـ. انظر وفيات الأعيان (ج 3ص 237235)، والبداية والنهاية (ج 12ص 201200، 226)، والنجوم الزاهرة (ج 5ص 273وما بعدها)، والكامل في التاريخ (ج 10ص 665664) و (ج 11ص 141) والأعلام (ج 4ص 150).
(2) هو الأمير تاج الدولة بهرام الأرمني، استوزره الحافظ لدين الله سنة 529هـ بعد موت ابنه حسن بن الحافظ، فتمكن في البلاد واستعمل الأرمن على الناس وعزل المسلمين وأساء السيرة فيهم، فعزله الحافظ لدين الله سنة 531هـ، وسجنه بالقصر، فبقي مدة، ثم ترهّب وخرج من الحبس. انظر الكامل في التاريخ (ج 11ص 24، 48).
(3) ذكره ابن الأثير باسم رضوان بن الأريحيّ وقال: وزر رضوان للحافظ لدين الله ولقّب بالملك الأفضل، وهو أول وزير للمصريين يلقّب بالملك. وأضاف: لما ساءه ما فعله بهرام النصراني بالمسلمين من سوء معاملة، قصد القاهرة، فسمع به بهرام، فهرب إلى الصعيد من غير قتال، وقصد مدينة أسوان، فمنعه واليها من الدخول إليها، عندها طلب بهرام الأمان من الحافظ، فأمّنه، فعاد إلى القاهرة وسجنه وذلك سنة 531هـ. ثم فسد ما بين رضوان وبين الحافظ، فعمل الحافظ في إخراجه، فثار الناس عليه سنة 533هـ، وهرب من داره، ثم عاد إلى مصر سنة 534هـ، فحبسه الحافظ عنده في القصر، فأقام في القصر إلى سنة 543هـ، فنقب الحبس وخرج منه، ولم يستوزر الحافظ بعده أحدا، وباشر الأمور بنفسه إلى أن مات. انظر الكامل في التاريخ (ج 11 ص 4948).(8/263)
الوزارة مكانه، ففرّ هاربا إلى الشام ناقضا للعهد، وكتب إلى الحافظ يطلب أهله وجماعته من الأرمن الذين كانوا معه في جملة جند الديار المصرية، مظهرا للطاعة والرغبة إلى التّخلّي عن الدنيا، والانقطاع في بعض الدّيرة للتّعبّد مكرا وخديعة، فكتب له بذلك جوابا عن كتابه الوارد منه. ونصّ ما كتب إليه:
عرض بحضرة أمير المؤمنين الكتاب الوارد منك أيها الأمير، المقدّم، المؤيد، المنصور، عزّ الخلافة وشمسها، تاج المملكة ونظامها، فخر الأمراء، شيخ الدّولة وعمادها، ذو المجدين، مصطفى أمير المؤمنين. ووقف على جميعه، واستولى بحكمه على مضمونه.
فأما ما وسّعت القول فيه وبسطته، وتفسّحت فيما أوردته منه وذكرته، ممّا فحواه ومحصوله ما أنت عليه من الطاعة، والولاء والمشايعة، والاعتراف بنعم الدولة عليك، والإقرار بإحسانها إليك، فلعمر أمير المؤمنين إن هذا الذي يليق بك ويحسن منك، ويحسن أن يرد عنك، ويجب أن يعرف لك، وقد كانت الدولة أسلفتك من حسن الظّنّ قديما، ونقلتك في درجة التّنويه حديثا، حتّى رفعتك إلى أعلى المراتب، وبلّغتك ما لم تسم إليه همّة طالب، وأوطأت الرّجال عقبك، وجعلت جميع أهل الدولة تبعك ممّا أغنى اعترافك به عن الإطالة بشرحه، والإطناب في ذكره.
وأما ما ذكرته مما كان أمير المؤمنين أعطاك التّوثقة عليه، فأجابك منه إلى ما رغبت فيه، فاستقرّ بينه وبينك في معناه ما اطمأننت إليه، فلم يزل أمير المؤمنين على الوفاء باطنا وظاهرا، ونية وعلانية، واعتقاده أن لا يرجع عنه، ولا يغيّر ما أحكمه منه، وإنما حال بينه وبين هذا المراد أن كافّة المسلمين في البعد والقرب
غضبوا لملّتهم، وامتعضوا مما لم تجربه عادة في شريعتهم، ونفرت نفوسهم مما يعتقدون أن الصّبر عليه قادح في دينهم، ومضاعف لآلامهم، وأنه ذنب لا يغفر، ووزر لا يتجاوز ولا يصفح [عنه] حتّى إن أهل المشرق أخذوا في ذلك وأعطوا، وعزموا على ما اتفقوا عليه ممّا صرفه الله وكفى مؤونته والاشتغال به.(8/264)
وأما ما ذكرته مما كان أمير المؤمنين أعطاك التّوثقة عليه، فأجابك منه إلى ما رغبت فيه، فاستقرّ بينه وبينك في معناه ما اطمأننت إليه، فلم يزل أمير المؤمنين على الوفاء باطنا وظاهرا، ونية وعلانية، واعتقاده أن لا يرجع عنه، ولا يغيّر ما أحكمه منه، وإنما حال بينه وبين هذا المراد أن كافّة المسلمين في البعد والقرب
غضبوا لملّتهم، وامتعضوا مما لم تجربه عادة في شريعتهم، ونفرت نفوسهم مما يعتقدون أن الصّبر عليه قادح في دينهم، ومضاعف لآلامهم، وأنه ذنب لا يغفر، ووزر لا يتجاوز ولا يصفح [عنه] حتّى إن أهل المشرق أخذوا في ذلك وأعطوا، وعزموا على ما اتفقوا عليه ممّا صرفه الله وكفى مؤونته والاشتغال به.
وأما ما التمسته من تسيير من بالباب من طائفتك إليك، فهذا أمر لا يسوغ ولا يمكن فعله، ولو جاز أن يؤمر به لمنع المسلمون منه فلم يفسحوا فيه. والآن فلن يخلو حالك من أحد قسمين، إما أن تكون متعلّقا بأمور الدنيا وغير منفصل عنها، فأمير المؤمنين يخيّرك في ولاية أحد ثلاثة مواضع، إما قوص، أو إخميم، أو أسيوط، فأيّها اخترت ولّاك إيّاه، وردّ أمره والنظر فيه إليك، على أن تقتصر من الذين معك على خمسين أو ستين فارسا، وتسيّر الباقين إلى الباب ليجروا على عاداتهم، ورسومهم في واجباتهم وإقطاعاتهم، إذ كانوا عبيد الدولة ومتقلبين في فضلها، وأكثرهم متولّدون في ظلّها. وإما أن تكون على القضية التي ما زلت تذكر رغبتك فيها وإيثارك لها، من التّخلّي عن الدنيا ولزوم أحد الدّيرة، والانقطاع إلى العبادة، فإن كنت مقيما على ذلك فتخيّر ضيعة من أي الضّياع شئت يكون فيها دير تقيم فيه وتنقطع إليه، فتعيّن الضيعة ليجعلها أمير المؤمنين تسويغا لك مؤبّدا، وإقطاعا دائما مخلّدا، وتجري مجرى الملك، ويكتب لك بذلك ما جرت العادة بمثله، مما تطمئن إليه وتستحكم ثقتك به. وإن أبيت القسمين المذكورين ولم يرضك الأوّل منهما، ولا رغبت في الثاني، فتحقّق أن المسلمين بأجمعهم، وكافّتهم وأسرهم، وكلّ من يقول بالشهادتين، من قاص ودان، وقريب وبعيد، وكبير وصغير، ينفرون إليك، ويتّفقون على القصد لك، ولا يختلفون في التوجّه نحوك، وهو عمل دينيّ، لا يريّثه أمر دنيويّ، فتأمّل ما تضمنته هذه الإجابة من الأقسام، وطالع بما عندك في ذلك.
قلت: وهذا الصّنف من المكاتبات السلطانية لا وجود له في زماننا لعدم وقوع الهدن المترتب عليها هذا الصّنف من المكاتبات، فإن احتيج إلى ذلك مشّاه الكاتب على القاعدة القديمة المتقدّمة.(8/265)
الصنف السادس (من الكتب السلطانية، الكتب إلى من خلع الطاعة)
قال في «موادّ البيان»: وهذه الكتب تختلف رسومها بحسب اختلاف أقدار المكاتبين وأحوالهم في الخروج عن الطاعة. قال: وجمع أوضاعها كلّها في قانون كلّيّ عسير المرام، إلّا أننا نرسم فيها رسوما يمكن الزيادة فيها والنقص منها.
ثم قال: والعادة أن تنفذ هذه الكتب إلى من ترجى إنابته، وتؤمل مراجعته. فأما من وقع الإياس من استصلاحه، ودعت الضرورة إلى كفاحه، فلا حاجة إلى معاتبته، ولا وجه لمكاتبته.
قال: والرسم فيها أن تفتتح بالتحميد المناسب لمعنى الكتاب، والصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، بما يدعو إلى إيناسه، ويزيل أسباب استيحاشه، ويعود بثبات جاشه، ويبعثه على مراجعة فكره، ومعاودة النّظر في أمره، ويذكّره ما أسدي من العوارف إليه، وأفيض من النّعم عليه، وأنه لا ينفّر سربها بجحدها وكفرها، ويوحش ربعها بإهمال حمدها وشكرها، ويربطها بحسن الطاعة ويسترهنها بالتأدّب في التّباعة، ولا يجرّ الوبال إلى نفسه بالخروج عن العصمة، في عاجل ذميم الوصمة وفي آجل أليم النّقمة، ويبصّره بعاقبته ومن يليه من ذوي الجند بما يقتضي ربّ الإنعام لديهم، وإقرار الفضل عليهم، وأن يسلبهم ملبس الظّل الظليل، وأن يعطّلهم من حلي الرّأي الجميل، ويتدرّع في أثناء ذلك بشعار النّفاق، ويتّسم بميسم الشّقاق، ويتعجّل إزعاجه من داره، وبعده من قراره، وهدم ما شيّده الإخلاص من ذكره، وتقويض ما رفعته الطاعة من قدره، ويعود بعد أن كان مجاهدا عن الحوزة مجاهدا بمحتدّها، وبعد أن كان مراميا عن السّدّة مرميّا بيدّها، ويضيع ما أسدي إليه، وأفيض من الإحسان عليه، وما ذهب من اليقين في تدريجه إلى مراقي السيادة، ومن الرغائب في إلحاقه بأهل السعادة، ولا يغترّ بمن يزيّن له عاجل الآجل، ويتقرّب إليه بخدع الباطل، ويجعل أقوالهم دبر سمعه، ويبعد أشخاصهم عن نظره، ناظرا في عاقبته، وحارسا مهجته، وراغبا في حقن دمه، وصيانة حرمه، وليرجع إلى الفناء الذي لم يزل يحرزه، والكنف الذي لم يزل
يعزّه، ولا يجعل مسالمه بالعنود منازعا، ومواصله بالجحود مقاطعا، وواهبه بالكفر سالبا، ومطلع النعمة بضياعه حقّها مغربا، وقد بقي في الحبل ممسك، وفي الأمر مستدرك، لأن يهبّ من رقدته، ويستبدل من لقاء أمير المؤمنين بلقاء حضرته. ثم يقول: فإن كان ما جناه قد هدّ سربه، وكدّر شربه، وأحسّ في نفسه سوء الظن، وأخافه بعد الأمن، فليبعث رسوله يستوثق ويعاقد، ويتوكّد ويعاهد، فإذا عاد إليه بما يملأ فؤاده أمنا، ويكون عليه حصنا، سارع إلى امتثال المراسم، وجرى في الطاعة على سننه المتقادم، ولا يستمرّ على المدافعة والمطاولة، ويقتصر على المغايظة والمماطلة.(8/266)
قال: والرسم فيها أن تفتتح بالتحميد المناسب لمعنى الكتاب، والصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، بما يدعو إلى إيناسه، ويزيل أسباب استيحاشه، ويعود بثبات جاشه، ويبعثه على مراجعة فكره، ومعاودة النّظر في أمره، ويذكّره ما أسدي من العوارف إليه، وأفيض من النّعم عليه، وأنه لا ينفّر سربها بجحدها وكفرها، ويوحش ربعها بإهمال حمدها وشكرها، ويربطها بحسن الطاعة ويسترهنها بالتأدّب في التّباعة، ولا يجرّ الوبال إلى نفسه بالخروج عن العصمة، في عاجل ذميم الوصمة وفي آجل أليم النّقمة، ويبصّره بعاقبته ومن يليه من ذوي الجند بما يقتضي ربّ الإنعام لديهم، وإقرار الفضل عليهم، وأن يسلبهم ملبس الظّل الظليل، وأن يعطّلهم من حلي الرّأي الجميل، ويتدرّع في أثناء ذلك بشعار النّفاق، ويتّسم بميسم الشّقاق، ويتعجّل إزعاجه من داره، وبعده من قراره، وهدم ما شيّده الإخلاص من ذكره، وتقويض ما رفعته الطاعة من قدره، ويعود بعد أن كان مجاهدا عن الحوزة مجاهدا بمحتدّها، وبعد أن كان مراميا عن السّدّة مرميّا بيدّها، ويضيع ما أسدي إليه، وأفيض من الإحسان عليه، وما ذهب من اليقين في تدريجه إلى مراقي السيادة، ومن الرغائب في إلحاقه بأهل السعادة، ولا يغترّ بمن يزيّن له عاجل الآجل، ويتقرّب إليه بخدع الباطل، ويجعل أقوالهم دبر سمعه، ويبعد أشخاصهم عن نظره، ناظرا في عاقبته، وحارسا مهجته، وراغبا في حقن دمه، وصيانة حرمه، وليرجع إلى الفناء الذي لم يزل يحرزه، والكنف الذي لم يزل
يعزّه، ولا يجعل مسالمه بالعنود منازعا، ومواصله بالجحود مقاطعا، وواهبه بالكفر سالبا، ومطلع النعمة بضياعه حقّها مغربا، وقد بقي في الحبل ممسك، وفي الأمر مستدرك، لأن يهبّ من رقدته، ويستبدل من لقاء أمير المؤمنين بلقاء حضرته. ثم يقول: فإن كان ما جناه قد هدّ سربه، وكدّر شربه، وأحسّ في نفسه سوء الظن، وأخافه بعد الأمن، فليبعث رسوله يستوثق ويعاقد، ويتوكّد ويعاهد، فإذا عاد إليه بما يملأ فؤاده أمنا، ويكون عليه حصنا، سارع إلى امتثال المراسم، وجرى في الطاعة على سننه المتقادم، ولا يستمرّ على المدافعة والمطاولة، ويقتصر على المغايظة والمماطلة.
ثم يقال بعد هذا: وقد قدّم أمير المؤمنين كتابه هذا إليك نائبا عنه في استصلاحك، وقائدا يقودك إلى طريق نجاحك، قبل تجريد مواضيه، وإلحاق مستأنفه في الحرب بماضيه، وخيوله تجاذب الأعنّة، وذوابله مشرعة الأسنّة، ولم يبق إلّا قصدك في عقر دارك التي بوّأكها، وانتزاع نعمته التي أعطاكها، لتذوق مرارة المخالفة، وتزنها بحلاوة الموافقة، فكن على نفسك لنفسك حاكما، ولا تكن لها ظالما، ونحو ذلك مما يليق به.
وإن كانت المكاتبة إلى رجل قد سبقت له سابقة بخلع الطاعة، ثم سأل الإقالة فأقيل بعد مشارفة الإحاطة به والنّكاية فيه، ثم راجع العصيان، فالرسم أن تفتتح بحمد الله جاعل العاقبة للمتقين، والعدوان على الظالمين، والعزّة لحزبه، والذّلّة لحربه، والإظهار لأهل طاعته، والخسار لأهل معصيته، ودائرة السّوء على الخالعين طاعة خلفائه، القائمين بحجّته. ثم يقال: أمير المؤمنين على ما يراك تتخوّله به من تصديق آماله، وتوفيق أفعاله، وتسديد مراميه، وهداية مساعيه، وإجابة دعوته، وتحقيق رغبته، بإدالة مواليه، وإذالة معاديه، ومعونته على ما ولّاه، وتمكينه ممن ناواه، ويسأله الصلاة على سيدنا محمد نبيه صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
ثم يؤتى بمقدّمة تدل على جميل عاقبة الطاعة، وذميم مغبّة المعصية، يبسط
القول عليها، ويتوسع فيها، لتكون فراشا لما يتلوها. ثم يقال بعدها: وإنما يحمل ذلك أهل الغرارة الذين لم يلوكوا شكائم التّجارب، ولم يمارسوا ضرائم النوائب، وأنت فقد تذوّقت من كراهة المعصية ومرارتها، وعذوبة الطاعة وحلاوتها، ما يرجو أمير المؤمنين أن يكون قد وعظك وأدّبك، وقوّمك وهذّبك، وكشف لك عن عاقبتهما، وعرّفك بغايتهما، فدعتك الطاعة إليها بما أسبغته عليك من لباس شرفها ومجدها، واستخدمته لك من أنصار إقبالها وسعدها، ونهتك المعصية عنها بما بلوته من نوائبها وصنائعها، وجرّبته من مرمض مراميها ومواقعها، لأنها أقلّت عددك، ومزّقت مطرفك ومتلدك، حتّى تداركك من عطف أمير المؤمنين ما أنبتك بعد الحصد، وراشك بعد الحصّ، وانتهى إلى أمير المؤمنين أنك حنيت إلى أتباع الضلالة الذين غرّوك، وملت إلى أشياع الفتنة الذين استهووك، فأصغيت إلى أقوالهم التي ظاهرها نصح وباطنها غشّ، وآرائهم التي مواردها صلاح ومصادرها فساد، وملت إلى معاودة الشّقاق والارتكاس في العصيان، ومقابلة النّعمى بالكفران، فقدّم كتابه إليك مذكّرا، ومنحك خطابه معذرا منذرا، ليعرّفك حظّك، ويهديك رشدك، [ويدلّك] على الأحسن لك في مبدئك وعاقبتك، ويحذّرك من مراجعة ما قارفته، وأن تنزل عن المنزلة التي رقّاك إليها، وتجدب رباعك من النعمة التي أرتعك فيها، وتتخلّى عن مرابع الدّعة التي أوردك عليها، فانظر لنفسك حسنا، وكن إليها محسنا، وانتفع بمراشد أمير المؤمنين، ولا تفسدنّ بخلافك عن أمره نصيبك من الدّنيا والدين، فارجع إليه مسترغما فإنه يقتدي بالله في الرحمة للمحسنين، ما دام مؤثرا لربّ النعمة لديك، وإقرارها عليك. فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.(8/267)
ثم يؤتى بمقدّمة تدل على جميل عاقبة الطاعة، وذميم مغبّة المعصية، يبسط
القول عليها، ويتوسع فيها، لتكون فراشا لما يتلوها. ثم يقال بعدها: وإنما يحمل ذلك أهل الغرارة الذين لم يلوكوا شكائم التّجارب، ولم يمارسوا ضرائم النوائب، وأنت فقد تذوّقت من كراهة المعصية ومرارتها، وعذوبة الطاعة وحلاوتها، ما يرجو أمير المؤمنين أن يكون قد وعظك وأدّبك، وقوّمك وهذّبك، وكشف لك عن عاقبتهما، وعرّفك بغايتهما، فدعتك الطاعة إليها بما أسبغته عليك من لباس شرفها ومجدها، واستخدمته لك من أنصار إقبالها وسعدها، ونهتك المعصية عنها بما بلوته من نوائبها وصنائعها، وجرّبته من مرمض مراميها ومواقعها، لأنها أقلّت عددك، ومزّقت مطرفك ومتلدك، حتّى تداركك من عطف أمير المؤمنين ما أنبتك بعد الحصد، وراشك بعد الحصّ، وانتهى إلى أمير المؤمنين أنك حنيت إلى أتباع الضلالة الذين غرّوك، وملت إلى أشياع الفتنة الذين استهووك، فأصغيت إلى أقوالهم التي ظاهرها نصح وباطنها غشّ، وآرائهم التي مواردها صلاح ومصادرها فساد، وملت إلى معاودة الشّقاق والارتكاس في العصيان، ومقابلة النّعمى بالكفران، فقدّم كتابه إليك مذكّرا، ومنحك خطابه معذرا منذرا، ليعرّفك حظّك، ويهديك رشدك، [ويدلّك] على الأحسن لك في مبدئك وعاقبتك، ويحذّرك من مراجعة ما قارفته، وأن تنزل عن المنزلة التي رقّاك إليها، وتجدب رباعك من النعمة التي أرتعك فيها، وتتخلّى عن مرابع الدّعة التي أوردك عليها، فانظر لنفسك حسنا، وكن إليها محسنا، وانتفع بمراشد أمير المؤمنين، ولا تفسدنّ بخلافك عن أمره نصيبك من الدّنيا والدين، فارجع إليه مسترغما فإنه يقتدي بالله في الرحمة للمحسنين، ما دام مؤثرا لربّ النعمة لديك، وإقرارها عليك. فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
قال: وإن كانت المكاتبة إلى رعيّة قد خرجت عن الطاعة كتب إليها بما مثاله:
أما بعد، وفّقكم الله لطاعته، وعصمكم من معصيته، فإنّ الشيطان يدلي الإنسان بغروره، ويقيم له الضلال في صورة الهدى ببهتانه وزوره، مستخفّا لطائشي الألباب، ومستزلّا للأقدام عن موقف الصواب، محسّنا بكيده
لاعتقاد الأباطيل، مزيّنا بغيّه اتّباع الأضاليل، صارفا بمكره عن سواء السبيل، مصوّرا للحق في صورة المين (1)، مغطّيا على القلوب بشغاف الرّين (2)، والحازم اليقظ من تحرّز من أشراكه وحبائله، وتحفّظ من مخايله وغوائله، واتّهم هواجس فكره، واستراب بوساوس صدره، وعرض ما يعرض له على عقله، وكرّر فيه النظر متحرّزا من مكر الشيطان وختله، فإن ألفاه عادلا عن الهوى، مائلا إلى التقوى، بريئا من خدع الشيطان، آمنا من عوادي الافتتان، أمضاه واثقا بسلامة مغبّته وعاقبته، وشمول الأمن في أولاه وأخراه.(8/268)
أما بعد، وفّقكم الله لطاعته، وعصمكم من معصيته، فإنّ الشيطان يدلي الإنسان بغروره، ويقيم له الضلال في صورة الهدى ببهتانه وزوره، مستخفّا لطائشي الألباب، ومستزلّا للأقدام عن موقف الصواب، محسّنا بكيده
لاعتقاد الأباطيل، مزيّنا بغيّه اتّباع الأضاليل، صارفا بمكره عن سواء السبيل، مصوّرا للحق في صورة المين (1)، مغطّيا على القلوب بشغاف الرّين (2)، والحازم اليقظ من تحرّز من أشراكه وحبائله، وتحفّظ من مخايله وغوائله، واتّهم هواجس فكره، واستراب بوساوس صدره، وعرض ما يعرض له على عقله، وكرّر فيه النظر متحرّزا من مكر الشيطان وختله، فإن ألفاه عادلا عن الهوى، مائلا إلى التقوى، بريئا من خدع الشيطان، آمنا من عوادي الافتتان، أمضاه واثقا بسلامة مغبّته وعاقبته، وشمول الأمن في أولاه وأخراه.
وانتهى إلى أمير المؤمنين أن الشيطان المريد استخفّ أحلام جماعة من جهّالكم، واستولى على أفهام عدّة من أراذلكم، وحسّن لهم شقّ عصا الإسلام، ومعصية الإمام، ومفارقة الجماعة، والانسلاخ من الطاعة التي فرضها الله تعالى على الجمهور، وجعلها نظام الأمور، فقال جلّ قائلا: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [3] واختيار الفرقة التي نهى الله عنها.
فقال: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} [4]
ومجانبة الألفة التي عدّها في جلائل نعمه، فقال ممتنّا بها على عباده: {واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} [5]
وسوّل لهم التّعرّي من آداب الدين، والمجاهرة بالخلاف على أمير المؤمنين، فنبذوا ما بأيديهم من بيعته، وسلبوا من ظلّ دعوته، وركبوا من ذلك أوعر المراكب، وسلكوا أخشن المسارب، وسعوا في البلاد بالفساد، وقاموا في وجه الحقّ بالعناد، واستخفّوا بحمل الآثام، وبسطوا أيديهم إلى الدّماء الحرام، وشنّوا
__________
(1) المين: الكذب.
(2) الرين والران: هو ما غطّى على القلب وركبه من القسوة للذنب، بعد الذنب، أساس البلاغة (رين).
(3) سورة النساء 4، الآية 59.
(4) سورة آل عمران 3، الآية 105. والبينات هم اليهود والنصارى. انظر تفسير الجلالين.
(5) سورة آل عمران 3، الآية 103.(8/269)
الغارات على أهل الإسلام.
وقد علمتم أن من أقدم على تأثير مثل هذه الآثار، فقد استنزل في هذه الدار سخط الجبّار، وتبوّأ في الآخرة مقعده من النار، وجرى على غير الواجب في إقامة الفروض والصّلوات، وتأدية العبادات والزّكوات، وعقد العقود والمناكحات لأن هذه الأحوال إنّما ترضى وترفع، وتجاب وتسمع، إذا تولّاها أمير المؤمنين، أو من يستخلفه من صلحاء المسلمين، فأما إذا استبددتم فيها بأنفسكم، واقتديتم في تأديتها بناكب عن سبيله، مجانب لدليله، فقد تسكّعتم في الضلالة، وتطابقتم على الجهالة، وكلّ راض منكم بذلك، عاص لله ورسوله وللإمام.
ولما اطّلع أمير المؤمنين على ما ذهبتم إليه بسوء الاختيار، وركبتموه من مراكب الاغترار، لم ير أن يلغيكم ويهجركم، ويغفلكم ولا يبصّركم، فقدّم مكاتبتكم معذرا منذرا، ومخوّفا محذّرا، وبدأكم بوعظه مشفقا عليكم من زلّة القدم، وموقف النّدم، وجاذبا لكم عن مضالّ الغواية، إلى مراشد الهداية، وافتتحكم باللّفظ الأحسن، والقول الألين، وهداكم إلى السبيل الأوضح، والمتجر الأربح، واختار أن يهديكم الله تعالى إلى طريق الرشاد، ويدلّكم على مقاصد السّداد، ويعيدكم إلى الأولى، ويبعثكم على الطريقة المثلى، وأن تعرفوا الحقّ فتعتصموا في أيديكم من بيعته، وتقوموا بما فرض عليكم من طاعته، وترجعوا إلى إجماع المسلمين، وما اتفقت عليه كلمة إخوانكم في الدّين، وتتّبعوا مذاهب أهل السلامة، وأولي الاستقامة، فإن وقع ما ألقاه إليكم الموقع الذي قدّره فيكم، وسألتم الإقالة، فالتّوبة تنفعكم، والعفو يسعكم، وإن تماديتم في غيّكم وباطلكم، وغروركم وجهلكم، تقدّمت إليكم جيوش أمير المؤمنين مقوّمة، ومن عصاتكم منتقمة، وذلك مقام لا يتميز فيه البريء من السقيم، ولا الجاهل من العليم، ألا تسمعون الله تعالى يقول: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [1]؟ وأيّ فتنة أشدّ من طاعة الشيطان، ومعصية السلطان، وشقّ العصا،
__________
(1) سورة الأنفال 8، الآية 25.(8/270)
وإراقة الدّما، وإثارة الدهما؟ فاتّقوا الله وارجعوا، وتأملوا وراجعوا، وتبصّروا واستبصروا، وقد أوضح لكم أمير المؤمنين المحجّة، وبدأكم بالحجّة، فأوجدوه السبيل إلى ما ينويه لكم ولكافة أهل الإسلام، من حقن الدماء، وصيانة الحريم، وتحصين الأموال، وشمول الأمن والأمان، وأجيبوا عن كتابه هذا بما يوفّقكم الله تعالى [إليه]، من إجابة دعائه والعمل برأيه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة ما كتب به عبد الحميد إلى بعض من خرج عن الطاعة، وهو:
أما بعد: بلغني كتابك تذكر أنك تحمل المرد على الجرد، فسترد عليك جنود الله المقرّبون، وأولياؤه الغالبون، ويرد عليك مع ذلك حزبه المنصور من الكهول، على الفحول، كأنّها الوعول، تخوض الوحول، طوال السّبال، تختضب بالجربال، رجال هم الرجال، بين رامح وناشب، ليس معهم إلّا كلب محارب، ولا ينكلون عن الأصحاب، قد ضروا بضرب الهام، واعتادوا الكرّ والإقدام، ليسوا بذوي هينة ولا إحجام، يقضون بالسيوف، ويخالطون الزّحوف، في أعنّتهم الحتوف، يزأرون زئير الأسود، ويثبون وثوب الفهود، ليس فيهم إلا شاك محتبك، في الحرب مجرّب، قد شرب على ناجذ الحرب وأكل، ذو شقشقة (1) وكلكل (2)، كأنّما أشرب وجهه نقيع الحنّاء، قد رئم الحرب ورضعها، وغذّته وألفها، فهي أمّه وهو ابنها، يسكن إليها ويأنس بقربها، فهو بطلبها أرب، وعلى أهلها حرب، لا يروعه ما يروع، ولا يزيغه ما يزيغ الغمر الجبان، حين
__________
(1) الشقشقة: لهاة البعير ولا تكون إلّا للعربي من الإبل، والجمع شقاشق، ومنه سمّي الخطباء شقاشق، شبّهوا المكثار بالبعير الكثير الهدر. لسان العرب (شقق).
(2) الكلكل: الصدر من كل شيء، والكلكل من الفرس: ما بين محزمه إلى ما مسّ الأرض منه إذا ربض، وقد يستعار الكلكل لما ليس بجسم كقول امريء القيس في صفة الليل: (طويل).
فقلت له لمّا تمطّى بجوزه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
لسان العرب (كلل) وديوان امريء القيس ص 18.(8/271)
يشتدّ الوغى، وتخطر القنا، وتقلّص الشّفاه، وتسفر الكماه، فعند ذلك تسلمك المرد، وتكشف عن الجرد. فتأهب لذلك اّهبتك، واخطب له خطبتك، من المساكين والحوكة (1)، ثم كيدوني جميعا فلا تنظرون فما أسرنا إكثارك الجموع، وحشدك الخيول، فإنك لا تكثّف جمعا، ولا تسرّب خيلا، إلّا وثقنا بأن سيمدّنا الله من ملائكته، ويزيدنا من نصره، بما قد جرت به سنّته، وسلفت به عادته، ونحن نجري من ذلك على نقمات من الله ونكال وسطوات مهلكة، فرأيتم ذلك في المنازل، وعرفتموه في المواطن التي يجمعها الحقّ والباطل، فأبشر منا بما ساءك ضجرا، ومشّاك تقاد كما يقاد الجمل المخشوش.
ومن أحسن الكتب المكتتبة في هذا الباب ما كتب به قوام الدّين (يحيى بن زيادة) وزير أمير المؤمنين الناصر لدين (2) الله الخليفة ببغداد إلى (طغرل) مقطع البصرة بأمر الخليفة له في ذلك، وقد بلغه أنه نزح عنها، قاصدا بعض الأطراف، مفارقا لطاعة الخليفة، عندما طلب من ديوانه شيء من المال، فأوجب ذلك انثناءه عن عزمه وتوجّهه إلى بغداد داخلا تحت الطاعة، ومقابلته بالصّفح وتلقّيه بالقبول.
وهذه نسخته:
أصدرت هذه الخدمة إلى الجناب الكريم، الأميريّ، الاسفهسلاريّ،
__________
(1) الحوكة: ج حائك، وهو الذي يحوك الثوب أي ينسجه. لسان العرب (حوك).
(2) هو أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن أبي المظفر يوسف المستنجد ابن المقتفي. ولد ببغداد سنة 553هـ، وبويع له بالخلافة بعد موت أبيه سنة 575هـ، وتوفي سنة 622هـ، فكانت خلافته سبعا وأربعين سنة إلّا شهرا، ولم يقم أحد من الخلفاء العباسيين قبله في الخلافة هذه المدة الطويلة. كان سيء السيرة في رعيّته، ظالما، فخرّب العراق في أيامه، وأخذ أموال أهل البلاد وأملاكهم. وقال ابن الأثير: بقي الناصر لدين الله ثلاث سنين عاطلا عن الحركة بالكلية، وقد ذهبت إحدى عينيه والأخرى يبصر بها إبصارا ضعيفا. انظر فوات الوفيات (ج 1 ص 6866)، والكامل في التاريخ (ج 11ص 459) و (ج 12ص 440438)، والبداية والنهاية (ج 12ص 262، 305304) و (ج 13ص 107106)، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 480والأعلام (ج 1ص 110).(8/272)
الأجليّ، الكبيريّ، السّيّديّ، العماديّ، الرّكنيّ، الظّهيريّ، المحترميّ، العزّيّ، الجماليّ، أمير الجيوش، أطال الله بقاءه، وأدام علوّه ونعمته، وأنا أوقع الأقوال المتواترة، والأموال المتناصرة، مستغربا لها، متعجّبا منها، كأني أسمعها في المنام، وتخاطبني بها أضغاث أحلام، فلولا أن الأيام صحائف العجائب، ولا يأنس بمتجدّداتها إلّا من حنّكته التّجارب، لم أصدّق هذه الحركة المباركة التي وقعت منه بسعادته، فإنّي ما أراها إلّا عثرة من جواد، وعورة على كماله، وإلّا فمن أين يدخل الزّلل على ذلك الرّأي السديد، والعقل الراجح، والفكر الصائب؟ الذي يعلّم الآراء كيف تنير، ويعرّف النجوم كيف تسير، ويهدي غيره في المشكلات إلى صواب التدبير. والفائت لا كلام فيه، غير أن العقل يقضي باستدراك الممكن وتلافيه، بالانحراف عن الهوى إلى الرّأي الصادق، والرّجوع عن تأويل النفس إلى مراجعة الفكر الناضج، فالعود إلى الحق أولى من التّمادي على الباطل، وأحبّ أن تسمع ما أقول بأذن واعية وقلب حاضر، وحوشي أن تستدفعه الكواذب عن تدبّر الحقائق، وعرفان النصائح، فإنّ من القول ما هانه لا يحتاج إلى شاهد من غيره.
قبل كلّ شيء، ما الّذي أحوج إلى هذه الحال القبيحة السّمعة، وركوب الخطر في هذه الحركة، واحتمال هذه المشاقّ، والانزعاج من غير أن تدعو إليه حاجة؟ هل هو إلّا شيء جرت العادة بمثله، وبمطالبة ديوانه بما كان يندفع الأمر ببعضه كما جرت عادة الدواوين، وخدم السلاطين؟ ثم إنّه عمد أدام الله نعمته بأوّل خاطره، وباديء رأيه في هذه العجلة، من غير تثبت ولا رويّة. لم لا راجع فكره الكريم، ويقول لنفسه: إلى أين أمضي؟ ولمن أخدم؟ وعلى أيّ باب أقف؟
وتحت أيّ لواء أسير؟ وبأيّ غبار أكتحل؟ وفضل من أطلب؟ وعلى حكم من أنزل؟
بعد أن ربّيت في عرصة الخلافة، ودار النبوّة، وحضن المملكة، أنشأني نعيمها صغيرا، وقدّمني كبيرا، وكنت مأمورا فجعلني أميرا، وطار صيتي في الدنيا ولم أكن شيئا مذكورا، فأنا خير من ملك أقصده، وأمثل من كلّ من أرجوه وأستنجده، أفأنزل من السّماء إلى الحضيض، وأهدم ما بنى الإنعام عندي في الزمن الطويل العريض؟! هذا هو المكروه الأعظم، الذي تعوّذ منه رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم، حين قال: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من الحور بعد الكور» ومن يكون حضين خلافة كيف يرضى أن يكون تابع إمارة؟ ولو لم يكن ما هجم عليه إلّا هذا لكفى.(8/273)
بعد أن ربّيت في عرصة الخلافة، ودار النبوّة، وحضن المملكة، أنشأني نعيمها صغيرا، وقدّمني كبيرا، وكنت مأمورا فجعلني أميرا، وطار صيتي في الدنيا ولم أكن شيئا مذكورا، فأنا خير من ملك أقصده، وأمثل من كلّ من أرجوه وأستنجده، أفأنزل من السّماء إلى الحضيض، وأهدم ما بنى الإنعام عندي في الزمن الطويل العريض؟! هذا هو المكروه الأعظم، الذي تعوّذ منه رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم، حين قال: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من الحور بعد الكور» ومن يكون حضين خلافة كيف يرضى أن يكون تابع إمارة؟ ولو لم يكن ما هجم عليه إلّا هذا لكفى.
ثم لم لا يلتفت في هذه الحال التي هو عليها، التي صحبته بوفائها، ويسمع خطابها بلسان حالها ثمّ؟ تقول له: يا عماد الدين، أما هذه خيام الإنعام عليك؟ أما هذه الخيل المسوّمة تحتك؟ أما هذه ملابسه الفاخرة مفاضة عليك؟ أما هذه مماليكه حافّة بك؟ أليس الاصطناع رفع قدرك إلى المنزلة التي ثقل عليك بعض الانحطاط عنها، ووهب لك الهمة التي أبيت الضّيم بها؟ فحوشيت أن تكون ممّن تواترت عليه النعم فملّها، وتكاثرت عليه فضعف عن حملها، فياليت شعري! ماذا يكون جوابها؟ والله إنني أقول له بسعادته ولا أعقّب، ولو أنه قد تحقّق والعياذ بالله وقوع كلّ محذور، وحلول كلّ مكروه، لم يكن في هذه الحركة معذورا، فكيف بظنّ مرجّم، وقول مسوّف متوهّم، ورأي فطير غير مختمر. ولقد كان استسلامه لمالك الرّقّ صلوات الله عليه وسلامه أحسن في الدنيا وأحمد في العقبى، واقعا ذلك من أحواله حيث وقع. والآن فالوقت ضاق في إصدار هذه المكاتبة، عن استقصاء العتاب والمحاققة، وإيراد كلّ ما تلزم به الحجّة، لكنّي أقول على سبيل الجملة:
إنني أخاف على سديد ذلك الرّأي إجابة داعي الهوى، فإنّ اللّجاج من أوسع مداخل الشّيطان على الإنسان، وحوشي كماله من هذا القسم.
والثاني استشعاره بسعادته من بادرته، واستيحاشه من عجلته، وهذا أيضا من أدقّ مكايد النّفس الأمّارة بالسّوء، فإنها تؤمّن من المخوف، وتخوّف من المأمون، وتسحر العقل بالتحيّر والشّك، فلا تصحّ له عزيمة، ولا تصفو له فكرة، وهذا النّوع إذا عرض في الصّدر يجب دفعه بالنّظر إلى الحقّ وشجاعة القلب، والإخلاد إلى مناظرة النّفس، فإنّ الإنسان ليس بمعصوم، والزّلل في الرّأي ليس من أوصاف الجماد، بل من الأوصاف اللازمة للبشريّة، وليس الكمال لأحد إلا للواحد الصّمد. فإذا عرض له بسعادته هذا الاستشعار، فيدفعه عن نفسه، فليس سلطان الوسواس الخنّاس، إلّا في صدور النّاس، فلهذا لا ينبغي لمذنب أن
يقنط، ولا لمسيء أن يستوحش، لا سيّما إذا أتبع الذّنب بالاستقالة والاستغفار، والاعتذار والإقلاع، وعلى الخصوص إذا كانت الخيانة عند من لا يتعاظمه عفوها، ولا يضيق حلمه عنها، فإن كلّ كبيرة توجب المخافة، تغرق في بحر عفو الخلافة، فيجب أن يقرّر بسعادته ذلك في نفسه، ويخرج سوء الظّنّ والاستشعار من خياله، فإن مثله من خلصان المماليك لا يسمح به، ولا يشغب عليه عند هفوة بادرة.(8/274)
والثاني استشعاره بسعادته من بادرته، واستيحاشه من عجلته، وهذا أيضا من أدقّ مكايد النّفس الأمّارة بالسّوء، فإنها تؤمّن من المخوف، وتخوّف من المأمون، وتسحر العقل بالتحيّر والشّك، فلا تصحّ له عزيمة، ولا تصفو له فكرة، وهذا النّوع إذا عرض في الصّدر يجب دفعه بالنّظر إلى الحقّ وشجاعة القلب، والإخلاد إلى مناظرة النّفس، فإنّ الإنسان ليس بمعصوم، والزّلل في الرّأي ليس من أوصاف الجماد، بل من الأوصاف اللازمة للبشريّة، وليس الكمال لأحد إلا للواحد الصّمد. فإذا عرض له بسعادته هذا الاستشعار، فيدفعه عن نفسه، فليس سلطان الوسواس الخنّاس، إلّا في صدور النّاس، فلهذا لا ينبغي لمذنب أن
يقنط، ولا لمسيء أن يستوحش، لا سيّما إذا أتبع الذّنب بالاستقالة والاستغفار، والاعتذار والإقلاع، وعلى الخصوص إذا كانت الخيانة عند من لا يتعاظمه عفوها، ولا يضيق حلمه عنها، فإن كلّ كبيرة توجب المخافة، تغرق في بحر عفو الخلافة، فيجب أن يقرّر بسعادته ذلك في نفسه، ويخرج سوء الظّنّ والاستشعار من خياله، فإن مثله من خلصان المماليك لا يسمح به، ولا يشغب عليه عند هفوة بادرة.
والثالث الانقباض والحياء. فإنه ربّما يقول في نفسه: بأيّ وجه ألقى مولاي؟ وبأيّ عين أبصر مواطن الدّار العزيزة؟ ربّاني وأنشاني!. وهذا أيضا لا يصلح خطوره بباله في هذا المقام، فإنّه من ضعف النّحيزة، والميل مع خوادع الطّبع، عن نصائح العقل والشّرع، فإن الحياء إتباع زلّة القدم بالنّدم والاعتذار، لا (1) التّهوّك في اللّجاج والإصرار. فقد قال بعض الملوك لخصيص من خواصّه، عصاه في شيء من أمره: «بأيّ عين تلقاني وقد عصيت أمري؟» فقال:
«بالعين التي ألقى بها ربّي في الصّلوات الخمس، وهو سبحانه يراني على فواضح المعاصي». وقد أثنى الله سبحانه على من أذنب ثم تاب، وشرد عن طاعته ثم أناب. وبحمد الله تعالى ما جرى ما يقتضي فرط الاستشعار. هل هو إلا عبد خاف بادرة مولاه، فتنحّى من مكانه إلى أن يعطف عليه برحمته؟ وليس هذا ببديع، ولا من الصّفح ببعيد. على أنه بسعادته لو أنصف من نفسه لما استشعر.
فكم أخرجت الخزائن الشريفة عليه من الأموال حتّى نبت عرقه، وأورق غصنه، وكبر شأنه، وجميع ضمان البصرة عشر معشار ذلك.
والرابع إصغاؤه والعياذ بالله إلى قول من لا ينصحه، ويغويه ولا يرشده، ويتقرّب إليه بمتابعة هواه. وهذا ما لا يخفى عن لمحة النّاقث، ولا يحتاج الإعراض عنه إلى باعث، فقديما قيل: «صديقك من نهاك، وعدوّك من أغراك»
__________
(1) في الأصل «بل» ولا معنى لها. حاشية الطبعة الأميرية.(8/275)
والله تعالى يوفّقه لتحقيقه النّظر في هذه الأقسام الأربعة، التي أحذرها عليه، وأحذّره منها، وييسّره لليسرى.
وبعد ذلك فأنا أنصفه من نفسي، وأقول الحقّ: إن نفسا ربّاها خليفة الله في أرضه صلوات الله عليه وسلامه بإنعامه، وأعلى همّتها باختصاصه، وشرّفها بنسب عبوديّته، لا تحتمل الهوان، ولا تقرّ على الابتذال، فغالب ظنّي أنّ نفوره بسعادته إنما هو من ديوان الزّمام المعمور. والآن فأنا وهو بسعادته عبدان، ولكنّي أنفرد عنه بالسّنّ والتّجريب، وطريقتي هو بسعادته يعرفها، وإنّني لا أدّخر عن أحد نصحا. فالصواب أن يقبل قولي، ويتحقق صحّة مقصدي في نصيحته ومقصده، فإني أوجب ذلك له على نفسي، وأراه من واجبات خدم مالك الرّق صلوات الله عليه وسلامه أيضا.
وقد علم الله تعالى أني قد أوضحت من عذره، وأحسنت المناب عنه بسعادته، ما لو حضره وتولّاه بنفسه لما زاد عليه، ورأيت الإنعام يستغني عن كلّ شرط ولا يحتاج إليه، وتقرّرت قاعدته بسعادته أن لا يكون له مع ديوان الزّمام المعمور حديث، ولا مع غيره ممّن لا يعرف حقّه، ولا من الاحترام واجبه، فإن أمر أن أتولّى وساطته فأنا أعتمد ذلك في مراضيه، وتمشية أمره أكثر ممّا في نفسه. وإن اختار بسعادته أن يكون غيري وسيطه وسفيره، فيعين من يختاره، ليكون حديثه معه. وقد أسلفت من وظائف إحسان المناب أنني تنجّزت له بسعادته أمانا متوّجا بالقلم الأشرف المقدّس، على نفسه الكريمة وماله وأولاده والأمان المذكور طيّ كتابي هذا مقرونا بخاتم أمان ثان، فيجب أن يكون هو بسعادته جواب ذلك. إذ لا يجوز أن يكون الجواب إلّا هو بنفسه الكريمة، فلا يشعر به أحد إلّا وهو مقابل التّاج الشريف، ملقيا نفسه بين يدي مالكها الذي هو أرحم لها، وألطف بها، وأشفق عليها منها، تاليا ما حكاه القرآن المجيد عن يونس عليه السّلام، إذ نادى وهو مكظوم: {سبحانك إني كنت من الظالمين} (1) فإنّه يرى
__________
(1) سورة الأنبياء 21، الآية 87.(8/276)
بمشيئة الله تعالى وتوفيقه كلّ ما يحبّ، ويأمن كلّ ما يحذر. وأنا أستسرع وصوله عن استعراض مهمّاته، ولرأيه كرمه، إن شاء الله تعالى.
قلت: فإن اتفقت المكاتبة في معنى ذلك في زماننا، راعى الكاتب فيه صورة الحال، وجرى في ذلك على ما يلائم حاله، ويناسب ما هو فيه، مع النظر في كلام من سبقه إلى شيء من ذلك، والنّسج على منوال المجيد، والاقتداء بالمحسن في إيراده وإصداره.
الصّنف السابع (الكتب في الفتوحات والظّفر بأعداء الدّولة وأعداء الملة، واسترجاع المعاقل والحصون، والاستيلاء على المدن)
وأصلها من فتح الأقفال ودخول الأبواب، كأنّ المدينة أو الحصن كان مقفلا ممتنعا بالأغلاق على قاصده حتّى يفتح له فيدخل.
قال في «موادّ البيان»: وهو من أعظم المكاتبات خطرا، وأجلّها قدرا، لاشتمال أغراضها على إنجاز وعد الله تعالى الذي وعد به أهل الطاعة في إظهار دينهم على كل دين، وتوفير حظّهم من التأييد والتّمكين، وما يمرّ فيها من الأساليب المختلفة التي يشتمل هذا القانون عليها.
قال: والكاتب يحتاج إلى تصريف فكره فيها، وتهذيب معانيها لأنها تتلى من فوق المنابر على أسماع السامعين، وتجعل نصب عيون المتصفّحين.
ثم قال: والرسم فيها أن تفتتح بحمد الله العفوّ الحليم الغفور الرحيم، العليم الحكيم، ذي البرهان المبين والفضل الجسيم، والقوّة المتين والعقاب الأليم، مبيد الظالمين، ومبير القاسطين، ومؤيّد العادلين، وجاعل العاقبة للمتّقين، المملي إمهالا وإنذارا، والمعاقب تنبيها وإذكارا، الذي لا ينجي منه مهرب، ولا يبعد عليه مطلب، وكيف يعتصم منه وهو أقرب من حبل الوريد، وله على كلّ لافظ رقيب وعتيد؟. والصلاة على رسوله الأمين، الذي ختم به النّبيّين،
وفضّله على المرسلين، وأيده بأوليائه التّائبين، الذين قاموا في نصرته، وإعزاز رايته، المقام الذي فازوا فيه بالخصل، فاستولوا به على قصبات الفضل، فشركهم معه في الوصف والثناء، فقال جلّ قائلا: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} (1)
ثم يؤتى بمقدّمة تشتمل على التّحدّث بنعمة الله في شحذ العزائم لنصرته، وتثبيت الأقدام في لقاء عدوّه ومجاهدته، وإنجازه وعده في الإعزاز والإظهار، والظّفر والإظفار، والاستبشار بموقع النّعمة في الفتح الجليل، والإشادة بإبقاء هذا الأثر الجميل. ثم يفيض بما جرت العادة به في مقاربة العدوّ ومداناته، وبثّ الطّلائع لتنفيذ السّرايا في مبادي ملاقاته، وما أفضى إليه الأمر في التّقابل والمواثبة، والتّواشج في المطاعنة والمضاربة، وذكر مواقف الشّجعان في الكفاح والمجاهدة، والذّبّ والمجالدة، وثبوت الأقدام، والجود بالنّفوس، واشتداد الأيدي، وقوّة الشّكائم، واستصحاب العزائم، وتفخيم أمر العدوّ، بوصفه بكثرة الرّجال والأجناد، والقوّة والاستعداد لأنّ توقّع الظّفر بمن هذه صفته أعظم خطرا، وأوقع في النفوس أثرا.(8/277)
ثم قال: والرسم فيها أن تفتتح بحمد الله العفوّ الحليم الغفور الرحيم، العليم الحكيم، ذي البرهان المبين والفضل الجسيم، والقوّة المتين والعقاب الأليم، مبيد الظالمين، ومبير القاسطين، ومؤيّد العادلين، وجاعل العاقبة للمتّقين، المملي إمهالا وإنذارا، والمعاقب تنبيها وإذكارا، الذي لا ينجي منه مهرب، ولا يبعد عليه مطلب، وكيف يعتصم منه وهو أقرب من حبل الوريد، وله على كلّ لافظ رقيب وعتيد؟. والصلاة على رسوله الأمين، الذي ختم به النّبيّين،
وفضّله على المرسلين، وأيده بأوليائه التّائبين، الذين قاموا في نصرته، وإعزاز رايته، المقام الذي فازوا فيه بالخصل، فاستولوا به على قصبات الفضل، فشركهم معه في الوصف والثناء، فقال جلّ قائلا: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} (1)
ثم يؤتى بمقدّمة تشتمل على التّحدّث بنعمة الله في شحذ العزائم لنصرته، وتثبيت الأقدام في لقاء عدوّه ومجاهدته، وإنجازه وعده في الإعزاز والإظهار، والظّفر والإظفار، والاستبشار بموقع النّعمة في الفتح الجليل، والإشادة بإبقاء هذا الأثر الجميل. ثم يفيض بما جرت العادة به في مقاربة العدوّ ومداناته، وبثّ الطّلائع لتنفيذ السّرايا في مبادي ملاقاته، وما أفضى إليه الأمر في التّقابل والمواثبة، والتّواشج في المطاعنة والمضاربة، وذكر مواقف الشّجعان في الكفاح والمجاهدة، والذّبّ والمجالدة، وثبوت الأقدام، والجود بالنّفوس، واشتداد الأيدي، وقوّة الشّكائم، واستصحاب العزائم، وتفخيم أمر العدوّ، بوصفه بكثرة الرّجال والأجناد، والقوّة والاستعداد لأنّ توقّع الظّفر بمن هذه صفته أعظم خطرا، وأوقع في النفوس أثرا.
ثم يذكر ما جال بين الفريقين من قراع ومصاع، ومضاربة ودفاع، ومصاولة ومناضلة، ومناهدة ومكافحة، وحماية ومنافحة، وثبات ومصاففة، ومقاومة ومواقفة، ومخادعة ومطامعة، وينعت المواكب والكتائب، والخيول والأسلحة، والجرحى والمجدّلين، والأسرى والمقتّلين. واستعمال التشبيهات الفائقة، والاستعارات الرّائقة، وإرداف المعاني في الإبانة عن لمعان أسنّة الذّوابل، وبريق صفحات المناصل، وإعمال المقاصل في القمم، وظهور نجوم السّيوف من ليل الحرب في دياجي الظّلم، وينعت الدماء المنبعثة من الجراح، على متون الرّماح والصّفاح.
__________
(1) سورة الفتح 48، الآية 29.(8/278)
ويذكر ما أظهره الله تعالى من تكامل النّصر ودلائل الظّفر، وما انجلت عنه الحرب من قتل من قتل وأسر من أسر، وهزيمة من هزم، وما فاز به الرجال من الأسلاب والأموال، والدّوابّ والرّجال، وما جرت عليه الحال من انفلال العدوّ عند المقاتلة، أو أسر العدوّ إن أسر، أو اعتصامه بمعقل لا يحصّنه، أو امتناعه بحيث يحتاج إلى منازلته باستنزاله قسرا، أو حيازة المعقل الذي كان بيده، وما اعتمد فيه من حسن السّيرة، وتخفيف الوطأة عن الرّعيّة وحسم أسباب الفتنة، أو رغبته في المسالمة، وسؤاله في المهادنة لخوف أظلّه، وهلع احتلّه، وما تردّد من رسائل، وتقرّر من شروط وعقود، وإنفاذ الأمر في ذلك كما أوجبه الحزم، واقتضاه صواب الرأي.
وإن كان السّلم قد وقع، والتّنازع قد ارتفع، ذكر اتّفاق الحزبين (1)، واتّحاد الكلمة، وشمول النعمة.
وإن كان لم يجبه إلى المهادنة، حذرا من المكر والمخادعة، ذكر ما مرّ في ذلك من رأي وتدبير، وتسديد وتقرير.
وإن كان طلب المهادنة ليجد فسحة المهل فيكثّر عدده، ويجم عدده، وتتمّ حيلته، فاطّلع منه على ذلك، فبادره مفلّلا لكيده ومكره، مذيقا له وبال أمره، شرح الحال على نصّها وما انتهى إليه آخرها.
قال: وقد يقع من هذه الأمور ما لا يحتسب، وسبيل جميعه هذا السبيل.
ثم قال: ويختم الكتاب بحمد الله القاضي لأوليائه بالإدالة، ولأعدائه بالإذالة، الذي يستدرج بحلمه إمهالا، ولا يلقى العادل عن حكمه إهمالا، والصلاة على رسوله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله.
وقد تقدّم في الكلام على مقدّمة المكاتبات في أوائل المقالة الرابعة من الكتاب، أن هذه الكتب مما يجب بسطها والإطناب فيها، وأن ما وقع في كتاب
__________
(1) في الأصل «اتساع الحربين» وهو غير مناسب. حاشية الطبعة الأميرية.(8/279)
المهلّب (1) بن أبي صفرة، من كتابه إلى الحجّاج في فتح الأزارقة من الخوارج، على عظم الفتح وبعد صيته، على سبيل الإيجاز والاختصار، حيث قال فيه:
أما بعد، فالحمد لله الذي لا تنقطع موادّ نعمه عن خلقه حتّى تنقطع منهم موادّ الشّكر. وإنا وعدوّنا كنّا على حال يسرّنا منهم أكثر ممّا يسوءنا، ويسوءهم منّا أكثر مما يسرّهم، ولم يزل الله جل ثناؤه يزيدنا وينقصهم، ويعزّنا ويذلّهم، ويؤيّدنا ويخذلهم، ويمحّصنا ويمحقهم، حتّى بلغ الكتاب أجله. {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} (2) فإنّما سلك فيه سبيل الإيجاز، لكونه من التابع إلى المتبوع، إذ الحجّاج كان هو القائم بأمر العراق وما والاه لعبد الملك بن مروان، على شدّة سطوته، وما كان عليه من قوّة الشّكيمة وشدّة البأس، مع كون الأدب في مكاتبة المرؤوس الرئيس الإتيان بقليل اللفظ الدال على المقصد، حتّى لا يكون فيه شغل للرئيس بطول الكلام وبسط القول، على ما تقدّم بيانه في موضعه.
واعلم أن الكتابة في فتوحات بلاد الكفر ومعاقلهم والاستيلاء على بلاد البغاة تكاد أن تكون في الكتابة (3) على نسق واحد، إلّا أنّ مجال الكاتب في فتوحات بلاد الكفر أوسع، من حيث عزّة الإسلام على الكفر، وظهور دينه على سائر الأديان.
__________
(1) هو أبو سعيد ظالم بن سراق بن صبح بن الأزد، البصري. كان يكنى ببنت له اسمها صفرة. وكان أميرا بطاشا جوادا من أشجع الناس. ولي إمارة البصرة لمصعب بن الزبير فحماها من الخوارج، وكانت له معهم وقائع مشهورة بالأهواز. ثم ولّاه عبد الملك بن مروان ولاية خراسان فقدمها سنة 79هـ، ومات فيها سنة 82هـ، وقيل: 83هـ. انظر مروج الذهب (ج 3ص 152، 207)، والكامل في اللغة (ج 2ص 138، 228، 252، 268، 288)، ووفيات الأعيان (ج 5ص 350 359)، وصفحات متفرقة من العقد الفريد، والأعلام (ج 7ص 315).
(2) سورة الأنعام 6، الآية 45.
(3) «في الكتابة» قد تكون زائدة من قلم الناسخ.(8/280)
وهذه نسخة (1) كتاب بفتح فتحه الخليفة وعاد منه، وهي:
الحمد لله مديل الحقّ ومنيره، ومذلّ الباطل ومبيره، مؤيّد الإسلام بباهر الإعجاز، ومتمّم (2) وعده في الإظهار بوشيك الإنجاز، وأخمد (3) كلّ دين وأعلاه، ورفض كلّ شرع واجتباه، وجعله نوره اللامع، وظلّه الماتع، وابتعث به السراج المنير، والبشير النّذير، فأوضح مناهجه، وبيّن مدارجه، وأنار أعلامه، وفصّل أحكامه، وسنّ حلاله وحرامه، وبيّن خاصّه وعامّه، ودعا إلى الله بإذنه، وحضّ على التّمسّك بعصم دينه، وشمّر في نصره مجاهدا من ندّ عن سبيله، وعند عن دليله، حتّى قصّد الأنصاب (4) والأصنام، وأبطل الميسر والأزلام (5)، وكشف غيابات الإظلام، وانتعلت خيل الله بقبائل (6) الهام.
يحمده أمير المؤمنين أن [جعله من ولاة أمره، ووفّقه لاتّباع سنّة رسوله واقتفاء أثره، وأعانه على تمكين الدين، وتوهين المشركين، وشفاء صدور المؤمنين و] (7) أنهضه بالمراماة عن الملّة، والمحاماة عن الحوزة، وإعزاز أهل الإيمان، وإذلال حزب الكفران. ويسأله الصلاة على خيرته المجتبى، وصفوته المنتصى، محمد أفضل من ذبّ وكافح، وجاهد ونافح، وحمى الذّمار (8) وغزا الكفّار، صلّى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه أمير (9) المؤمنين عليّ بن أبي طالب
__________
(1) وردت نسخة هذا الكتاب في الجزء السادس من هذا المطبوع ص 442440.
(2) في المصدر المذكور ص 440: «ومتمّم وعده».
(3) في المصدر المذكور: «أخمد» بدون واو العطف.
(4) الأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهلّ عليها ويذبح لغير الله تعالى، وبمعنى آخر، هي الأصنام التي كانت تنصب للعبادة.
(5) الأزلام قداح الاستقسام في الجاهلية. قال الله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان}. سورة المائدة 5. الآية 90.
(6) أي برؤوس الأعداء.
(7) الزيادة من الجزء السادس من هذا المطبوع. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(8) الذمار: ما يلزمك حفظه وحمايته من عرض وحريم وناموس.
(9) «أمير المؤمنين» ساقطة في الجزء السادس من هذا المطبوع ص 441.(8/281)
سيفه القاطع، ومجنّه المدافع (1)، وسهمه الصّارد، وناصره المعاضد (2)، فارس الوقائع، ومفرّق (3) الجمائع، مبيد الأقران، ومبدّد الشّجعان، وعلى الطّهرة من عترته أئمة الأزمان، وخالصة الله من الإنس والجان.
وإنّ أولى النّعم بأن يرفل في لباسها، ويتوصّل بالشّكر إلى إيناسها (4)، ويتهادى طيب خبرها، ويتفاوض بحسن أثرها، نعمة الله تعالى في التوفيق لمجاهدة أهل الإلحاد والشّرك، وغزو أولي الباطل والإفك، والهجوم عليهم في عقر دارهم، واجتثات أصلهم والجدّ (5) في دمارهم، واستنزالهم من معاقلهم، وتشريدهم عن منازلهم، وتغميض نواظرهم الشّوس (6) [وإلباسهم لباس البوس] (7) لما في ذلك من ظهور التوحيد وعزّه، وخمود الإلحاد وعرّه، وعلوّ ملة المسلمين، وانخفاض دولة المشركين، ووضوح [محجّة] (8) الحقّ وحجّته، وصدوع (9) برهانه وآيته.
وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك، وقد انكفأ عن ديار الفلانيّين المشركين (10)
إلى دست خلافته، ومقرّ إمامته، بعد أن غزاهم برّا وبحرا، وشرّدهم سهلا ووعرا، وجرّعهم من عواقب كفرهم مرّا، وفرّق جمائعهم التي تطبّق سهوب الفضاء [خيلا ورجلا، وتضيق بها المهامه حزنا وسهلا، ومزّق كتائبهم التي تلحق الوهاد
__________
(1) المجنّ: الترس. وفي المصدر السابق: «ومجنّه الدافع».
(2) في المصدر السابق: «العاضد».
(3) في المصدر السابق: «ومعنوس». وقد وضع المحقق بجانبها هناك علامة توقف لعدم ظهور معناها انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(4) في المصدر السابق: «إلى لباثها». انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(5) في المصدر السابق: «وهدم منارهم».
(6) النواظر الشوس: أي العيون الصغيرة يقال: شاس الرجل إذا صغّر عينه وضمّ أجفانه للنظر، أو نظر بمؤخر عينه تكبّرا.
(7) الزيادة من الجزء السادس من هذا المطبوع.
(8) الزيادة من الجزء السادس من هذا المطبوع.
(9) في المصدر المذكور: «وفضوح».
(10) في المصدر المذكور: «والمشركين».(8/282)
بالنّجاد، وتختطف الأبصار ببوارق الأغماد] (1) وتجعل رعود سنابكها في السماء (2)، وسبى الذّراريّ والأطفال، وأسر البطاريق والأقيال، وافتتح المعاقل والأعمال، وحاز الأسلاب والأموال، واستولى من الحصون على حصن كذا وحصن كذا، ومحا منها رسوم الشّرك وعفّاها، وأثبت سنن التوحيد بها وأمضاها، وغنم أولياء أمير المؤمنين ومتطوّعة المسلمين [من الغنائم] (3) ما أقرّ العيون، وحقّق الظّنون، وانفصلوا وقد زادت بصائرهم نفاذا في الدّين، وسرائرهم إخلاصا في طاعة أمير المؤمنين، بما أولاهم الله من النّصر والإظفار، والإعزاز والإظهار، ووضح للمشركين بما أنزل (4) الله عليهم من الخذلان، وأنالهم إيّاه من الهوان، أنهم على مضلّة من الغيّ والعمى، ومنحاة (5) من الرّشد والهدى، فضرعوا إلى أمير المؤمنين في السّلم والموادعة، وتحمّلوا بذلا بذلوه [تفاديا] (6) من الكفاح والمقارعة، فأجابهم إلى ذلك متوكّلا على الله تعالى، وامتثالا (7) لقوله إذ يقول:
{وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم} (8) وعاقد طاغيتهم على كتاب هدنة كتبه له، وأقره في يده، حجّة بمضمونه.
أشعرك أمير المؤمنين ذلك لتأخذ من هذه النّعمة بنصيب مثلك من المخلصين، وتعرف موقع ما تفضّل الله تعالى به على الإسلام والمسلمين، فيحسن (9) ظنّك، وتقرّ عينك، وتشكر الله تعالى شكر المستمدّ من فضله، المعتدّ بطوله، وتتلو كتاب أمير المؤمنين، على كافّة من قبلك من المسلمين ليعلموا ما تولّاهم الله به من نصره وتمكينه، وإذلال عدوّهم وتوهينه، فاعلم ذلك واعمل به، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الزيادة من المصدر السابق.
(2) عبارة: «وتجعل السماء» ساقطة في المصدر السابق.
(3) الزيادة من المصدر السابق.
(4) في المصدر السابق: «بما أنزله عليهم».
(5) في المصدر السابق ص 442: «وبعد».
(6) الزيادة من المصدر السابق.
(7) في المصدر السابق: «ومتمثلا بقوله تعالى».
(8) سورة الأنفال 8، الآية 61.
(9) في الجزء السادس من هذا المطبوع: «فتحسن ظنّك».(8/283)
ثم الفتوح إما فتح لبعض بلاد الكفر، وإما فتح لما استولى عليه البغاة من المسلمين.
فأما فتح بلاد الكفّار فكان سبيلهم فيه أن يصدّر الكتاب بحمد الله تعالى على علوّ دين الإسلام ورفعته، وإظهاره على كل دين، ثم على بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالهداية إلى الدّين القويم، والصّراط المستقيم، ويذكر ما كان من أمره صلّى الله عليه وسلّم من جهاد الكفّار. ثم على إقامة الخلفاء في الأرض حفظا للرّعيّة، وحياطة للبريّة، وصونا للبيضة، ويخصّ خليفة زمانه من ذلك بما فيه تفضيله ورفعة شأنه، ثم يؤخذ في تعظيم شأن العدوّ وتهويل أمره، وكثرة عدده، ووفور مدده، ثم في وصف جيوش المسلمين بالقوّة والاستعداد، والاشتداد في الله تعالى، والقيام في نصرة دينه، ثم تذكر الملحمة وما كان من الوقيعة والتحام القتال، وما انجلت عنه الملحمة من النّصرة على عدوّ الدين وخذلانه، والإمكان منه، وقتل من قتل منهم، وأسر من أسر، وتفريق شملهم، وانتظام كلمة الإسلام، وطماعيتهم بهلاك عدوّهم، وما في معنى ذلك.
وهذه نسخة (1) كتاب كتب به إلى الدّيوان العزيز، أيام الناصر لدين الله، عن السلطان صلاح الدّين يوسف بن أيّوب، بفتح القدس الشريف، وإنقاذه من يد الكفر، في آخر شعبان سنة ثلاث وثمانين وخمسائة، من إنشاء القاضي (2)
الفاضل، وهو:
أدام (3) الله أيام الدّيوان العزيز النّبويّ الناصريّ (4)، ولا زال مظفّر الجدّ بكلّ
__________
(1) وردت نسخة هذا الكتاب في الجزء السادس من هذا المؤلّف ص 504496.
(2) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 1ص 171من هذا الجزء من صبح الأعشى.
(3) قال ابن خلّكان في وفيات الأعيان (ج 7ص 179): «وإذ قد ذكرنا فتوح القدس يليق أن نذكر الرسالة التي كتبها القاضي الفاضل إلى الإمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد ابن الإمام المستضيء بأمر الله ولم أذكرها بكمالها بل اخترت منها أحسنها، وتركت الباقي لأنها طويلة، وهي».
(4) «الناصري» ساقطة في وفيات الأعيان.(8/284)
جاحد، غنيّ التّوفيق (1) عن رأي كلّ رائد، موقوف المساعي على اقتناء مطلقات المحامد، مستيقظ النّصر والسيف (2) في جفنه راقد، وارد الجود والسّحاب على الأرض غير وارد، متعدّد مساعي الفضل وإن كان لا يلقى إلّا بشكر واحد، ماضي [حكم العدل] (3) بعزم لا يمضي إلّا بنبل غويّ وريش راشد، ولا زالت غيوث فضله [إلى الأولياء] (4) أنواء إلى المرابع (5) وأنوارا إلى المساجد، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلا إلى المراقب وخيالا إلى المراقد.
كتب الخادم هذه الخدمة تلو ما صدر عنه ممّا كان يجري مجرى التباشير لصبح هذه الخدمة (6)، والعنوان لكتاب وصف هذه النعمة، فإنها بحر للأقلام فيه سبح طويل، ولطف تحمّل الشكر (7) فيه عبء ثقيل، وبشرى للخواطر في شرحها مآرب، ويسرى للأسرار في إظهارها مسارب، ولله (8) في إعادة شكره رضا، وللنعمة الرّاهنة به دوام لا يقال معه: هذا مضى. وقد صارت أمور الإسلام إلى أحسن مصايرها، واستتبّت (9) عقائد أهله على أبين (10) بصائرها، وتقلّص ظلّ رجاء الكافر المبسوط، وصدق الله أهل دينه، فلمّا وقع الشرط حصل (11)
المشروط، وكان الدّين غريبا فهو الآن في وطنه، والفوز معروضا فقد بذلت الأنفس في ثمنه، وأمر أمر الحقّ وكان مستضعفا، وأهل ربعه وكان قد عيف حين
__________
(1) كذا في الجزء السادس من صبح الأعشى، وفي وفيات الأعيان: «غنيّا بالتوفيق». انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(2) في وفيات الأعيان (ج 7ص 180): «والنصل».
(3) الزيادة من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(4) الزيادة من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(5) في المصدر السابق: «المراتع».
(6) في المصدر السابق: «هذه العزمة».
(7) في المصدر السابق: «ولطف لحمل الشكر».
(8) في المصدر السابق: «ولله تعالى».
(9) في المصدر السابق: «وقد استتبّت».
(10) في الجزء السادس من صبح الأعشى: «على بصائرها».
(11) في وفيات الأعيان: «وقع».(8/285)
عفا، وجاء أمر الله وأنوف أهل الشّرك راغمة، فأدلجت (1) السيوف إلى الآجال وهي نائمة، وصدق وعد الله في إظهار دينه على كلّ دين، واستطارت له أنوار أبانت أنّ الصّباح عندها حيان الحين (2)، واستردّ المسلمون تراثا كان عنهم آبقا، وظفروا يقظة بما لم يصدّقوا أنهم يظفرون به طيفا على النّأي طارقا، واستقرّت على الأعلى أقدامهم، وخفقت على الأقصى أعلامهم، وتلاقت على الصّخرة قبلهم، وشفيت بها وإن كانت صخرة كما تشفى بالماء غللهم.
ولما قدم الدّين عليها عرف منها سويداء قلبه، وهنّأ كفؤها الحجر الأسود ببتّ (3) عصمتها من الكافر بحربه. وكان الخادم لا يسعى سعيه إلّا لهذه العظمى، ولا يقاسي تلك البؤسى إلّا رجاء هذه النّعمى، ولا يناجز من يستمطله (4) في حربه، ولا يعاتب بأطراف القنا من يتمادى (5) في عتبه، إلّا لتكون الكلمة مجموعة، والدّعوة (6) إلى سامعها مرفوعة، فتكون كلمة الله هي العليا، وليفوز بجوهر الآخرة لا بالعرض الأدنى من الدّنيا، وكانت الألسنة (7) ربّما سلقته فأنضج قلوبها بالاحتقار، وكانت الخواطر ربّما غلت عليه مراجلها فأطفأها بالاحتمال والاصطبار، ومن طلب خطيرا خاطر ومن رام صفقة رابحة تجاسر (8) ومن سما لأن يجلّي غمرة غامر، وإلّا فإنّ القعود يلين تحت نيوب الأعداء المعاجم فتعضّها (9)، ويضعف بأيديها مهز القوائم فتقضّها (10)، هذا إلى كون القعود لا يقضي فرض الله
__________
(1) في وفيات الأعيان: «وأدلجت».
(2) في وفيات الأعيان: «جنان الجنين».
(3) في وفيات الأعيان: «بيت عصمتها».
(4) هكذا في المصدر السابق، وفي صبح الأعشى (ج 6ص 498): «من استمطله».
(5) في المصدر السابق: «يتعادى». وفي صبح الأعشى (ج 6ص 498): «تمادى».
(6) عبارة: «والدعوة إلى سامعها مرفوعة» ساقطة في وفيات الأعيان.
(7) في وفيات الأعيان: «الألسن».
(8) في المصدر السابق: «جاسر».
(9) في المصدر السابق: «فيعضّها».
(10) في المصدر السابق: «فيفضّها».(8/286)
في الجهاد، ولا يرعى به حقّ (1) الله في العباد، ولا يوفى به واجب التقليد الذي تطوّقه (2) الخادم من أئمّة قضوا بالحقّ وبه كانوا يعدلون، وخلفاء الله (3)
كانوا في مثل هذا اليوم لله (4) يسألون، لا جرم أنهم أورثوا سرّهم (5) وسريرهم خلفهم الأطهر، ونجلهم الأكبر، وبقيّتهم الشريفة، وطلعتهم (6) المنيفة، وعنوان (7) صحيفة فضلهم لا عدم سواد العلم وبياض الصحيفة، فما غابوا لمّا حضر، ولا غضّوا لمّا نظر، بل وصلهم الأجر لما كان به موصولا، وشاطروه العمل لما كان عنه منقولا ومنه مقبولا، وخلص إليهم إلى المضاجع ما اطمأنّت به جنوبها، وإلى الصحائف ما عبقت به جيوبها، وفاز منها بذكر لا يزال اللّيل به سميرا، والنهار به بصيرا، والشّرق يهتدي بأنواره، بل إن أبدى نورا من ذاته هتف به الغرب بأن واره، فإنّه نور لا تكنّه أغساق (8) السّدف، وذكر لا تواريه أوراق الصّحف.
وكتاب (9) الخادم هذا، وقد أظفر الله بالعدوّ الذي تشظّت قناته شفقا (10)، وطارت فرقه فرقا، وفلّ سيفه فصار عصا، وصدعت حصاته وكان الأكثر عددا وحصا، وكلّت حملاته وكانت (11) قدرة الله تصرّف فيه العيان بالعنان، عقوبة من الله ليس لصاحب يد (12) بها يدان، وعثرت قدمه وكانت الأرض لها حليفة، وغضّت
__________
(1) في المصدر السابق: «حقّه».
(2) في المصدر السابق: «يطوّقه».
(3) «الله» ساقطة في وفيات الأعيان.
(4) «الله» ساقطة في وفيات الأعيان.
(5) في المصدر نفسه: «سرهم».
(6) في المصدر نفسه: «وطليعتهم».
(7) هكذا في المصدر السابق، وفي صبح الأعشى. (ج 6ص 498): «وعلوان».
(8) الأغساق: ج غسق، وهو دخول أول الليل حين يختلط الظلام. أساس البلاغة (غسق).
(9) في وفيات الأعيان: «وكتب».
(10) في المصدر نفسه: «شققا» بقافين.
(11) في المصدر نفسه: «وكان قدرا يضرب فيه العنان بالعنان، وعقوبة».
(12) في المصدر نفسه: «يديها».(8/287)
عينه وكانت [عيون] (1) السيوف دونها كسيفة (2)، ونام جفن سيفه وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه وطالما كانت شامخة بالمنى أو راعفة بالمنون، وأضحت (3) الأرض المقدّسة الطاهرة وكانت الطّامث، والرّبّ المعبود الواحد وكان عندهم الثالث، فبيوت الشّرك مهدومة [ونيوب الكفر (4)
مهتومة] (5) وطوائفه المحامية، مجتمعة (6) على تسليم البلاد الحامية، وشجعانه المتوافية، مذعنة لبذل (7) المطامع (8) الوافية، لا يرون في ماء الحديد لهم عصرة، ولا في فناء (9) الأفنية لهم نصرة، وقد (10) ضربت عليهم الذّلّة والمسكنة، وبدّل الله مكان السّيئة الحسنة، ونقل بيت عبادته من أيدي أصحاب المشأمة إلى أيدي أصحاب الميمنة.
وقد كان الخادم لقيهم اللّقاة الأولى فأمدّه الله بمداركته، وأنجده بملائكته، فكسرهم كسرة ما بعدها جبر، وصرعهم صرعة لا ينتعش (11) بعدها بمشيئة الله كفر، وأسر منهم من أسرت به السلاسل، وقتل منهم من فتكت (12) به المناصل، وأجلت المعركة عن صرعى من الخيل والسّلاح [والكفّار، وعن أصناف يخيّل بأنّه قتلهم بالسّيوف الأفلاق والرّماح الأكسار، فنيلوا بثار من السّلاح ونالوه أيضا بثار (13)]،
__________
(1) الزيادة من وفيات الأعيان وصبح الأعشى. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(2) في وفيات الأعيان: «كثيفة».
(3) في وفيات الأعيان: «وأصبحت».
(4) في وفيات الأعيان: «الشرك».
(5) الزيادة من وفيات الأعيان وصبح الأعشى. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(6) في وفيات الأعيان: «مجمعة على تسليم القلاع».
(7) في صبح الأعشى: «ببذل».
(8) في وفيات الأعيان: «القطائع».
(9) في المصدر نفسه: «في نار الأنفة».
(10) في المصدر نفسه: «قد» بدون واو.
(11) هكذا في وفيات الأعيان، وفي صبح الأعشى (ج 6ص 499): «لا يعيش معها».
(12) في وفيات الأعيان: «قتلت». والمناصل: ج منصل، وهو السيف.
(13) الزيادة من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/288)
فكم أهلّة سيوف تقارض (1) الضّراب بها حتّى صارت كالعراجين (2)، وكم أنجم أسنّة (3) تبادلت الطّعان حتّى صارت كالمطاعين، وكم فارسيّة ركض عليها فارسها الشّهم (4) إلى أجل فاختلسه، وفغرت تلك القوس فاها فإذا فوها قد نهش القرن على بعد المسافة فافترسه (5)، وكان اليوم مشهودا، وكانت الملائكة شهودا، وكان الكفر (6) مفقودا والإسلام مولودا، وجعل الله ضلوع الكفّار لنار جهنّم وقودا. وأسر الملك وبيده أوثق وثائقه، وآكد وصله بالدّين وعلائقه، وهو صليب الصّلبوت، وقائد أهل الجبروت، وما (7) دهموا قطّ بأمر إلّا وقام بين دهمائهم يبسط لهم باعه، ويحرّضهم (8) وكان مدّ اليدين في هذه الدّفعة وداعة، لا جرم أنّهم يتهافت (9) على ناره فراشهم، ويجتمع (10) في ظلّ ظلامه (11) خشاشهم، ويقاتلون (12) تحت ذلك الصّليب أصلب قتال وأصدقه، ويرونه ميثاقا يبنون عليه أشدّ عقد (13) وأوثقه، ويعدّونه سورا تحفر حوافر الخيل خندقه.
__________
(1) في صبح الأعشى: «تقارضن الضراب».
(2) العراجين: ج عرجون، وهو العذق الذي يعوجّ وتقطع منه الشماريخ فيبقى على النخل يابسا، أي هو عود الشماريخ إذا عتق فإنه يرقّ ويتقوّس ويصفرّ. وهذا من قول الله تعالى: {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم}. سورة يس 36، الآية 39.
(3) في وفيات الأعيان: «قنا».
(4) في صبح الأعشى: «السهم».
(5) في وفيات الأعيان: «وافترسه، فكان اليوم».
(6) في وفيات الأعيان ص 183182: «وكان الظلال صارخا وكان الإسلام مولودا، وكانت ضلوع الكفّار».
(7) في المصدر نفسه: «ما» بدون الواو.
(8) كلمة: «ويحرّضهم» ساقطة في وفيات الأعيان.
(9) في صبح الأعشى ص 500: «تهافت على نارهم».
(10) في المصدر نفسه: «وتجمّع».
(11) في وفيات الأعيان: «ضلاله».
(12) في المصدرين السابقين: «فيقاتلون».
(13) في وفيات الأعيان: «عهد».(8/289)
وفي هذا اليوم أسرت سراتهم، وذهبت (1) دهاتهم [ولم يفلت منهم معروف إلّا القومص، وكان لعنه الله مليّا يوم الظّفر بالقتال، ومليّا يوم الخذلان] (2)
بالاحتيال، فنجا ولكن كيف؟ وطار خوفا من أن يلحقه منسر الرّمح أو (3) جناح السّيف، ثم أخذه الله تعالى بعد أيام بيده، وأهلكه لموعده، فكان لعدّتهم فذلك، وانتقل من ملك الموت إلى مالك.
وبعد الكسرة مرّ الخادم على البلاد فطواها بما نشر عليها من الرّاية العبّاسية السّوداء صبغا، البيضاء صنعا، الخافقة هي وقلوب أعدائها، الغالبة هي [وعزائم أوليائها] (4) المستضاء بأنوارها إذا فتح عينها البشر (5)، وأشارت بأنامل العذبات إلى وجه النّصر، فافتتح بلد (6) كذا وكذا وهذه [كلّها] (7) أمصار ومدن، وقد تسمّى البلاد بلادا وهي مزارع وفدن (8)، وكل (9) هذه ذوات معاقل ومعاقر، وبحار وجزائر، وجوامع ومنائر، وجموع وعساكر، يتجاوزها الخادم بعد أن يحرزها، ويتركها وراءه بعد أن ينتهزها ويحصد منها كفرا ويزرع إيمانا، ويحطّ من منائر جوامعها صلبانا ويرفع أذانا، ويبدّل المذابح منابر والكنائس مساجد، ويبوّيء (10) بعد أهل الصّلبان أهل القرآن للذّبّ عن دين الله مقاعد، ويقرّ عينه وعيون أهل الإسلام أن تعلّق (11) النّصر منه ومن عسكره بجارّ ومجرور، وأن ظفر (12)
__________
(1) في وفيات الأعيان: «ودهيت».
(2) الزيادة من المصدر نفسه. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(3) في صبح الأعشى: «وجناح».
(4) الزيادة من وفيات الأعيان. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(5) في المصدر السابق: «النشر».
(6) في المصدر السابق: «بلاد».
(7) الزيادة من وفيات الأعيان. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(8) الفدن: بالضم: ج فدان بالفتح أيضا، وهو الآلة التي يحرث بها، أي ما يجمع أداة الثورين في القران للحرث، وقيل: الفدان هو الثور. اللسان (فدن)
(9) في وفيات الأعيان: «كلّ» بدون واو العطف.
(10) في المصدر السابق: «ويبويء أهل القرآن بعد أهل الصلبان للقتال عن دين الله».
(11) في المصدر السابق: «يعلّق».
(12) في المصدر السابق: «يظفر».(8/290)
بكلّ سور ما كان يخاف زلزاله وزياله (1) إلى يوم النّفخ في الصّور.
ولمّا لم يبق إلّا القدس وقد اجتمع (2) إليها كلّ شريد منهم وطريد، واعتصم بمنعتها كلّ قريب منهم وبعيد، وظنّوا أنها من الله مانعتهم، وأن كنيستها إلى الله شافعتهم، فلمّا (3) نازلها (4) الخادم رأى بلدا كبلاد، وجمعا كيوم التّناد، وعزائم قد تألّبت (5) وتألّفت على الموت فنزلت بعرصته، وهان عليها مورد السّيف وأن تموت بغصّته، فزاول البلد من (6)
جانب فإذا أودية عميقة، ولجج وعرة (7) غريقة، وسور قد انعطف عطف السّوار، وأبرجة قد نزلت مكان الواسطة من عقد (8) الدار، فعدل إلى جهة أخرى كان للمطامع (9) عليها معرّج، وللخيل فيها متولّج، فنزل عليها، وأحاط بها وقرب منها، وضرب (10) خيمته بحيث يناله السّلاح بأطرافه، ويزاحمه السّور بأكنافه، وقابلها ثم قاتلها، ونزلها ثم نازلها، وبرز إليها ثم بارزها، وحاجزها ثم ناجزها، فضمّها (11) ضمّة ارتقب بعدها الفتح، وصدع أهلها (12) فإذا هم لا يصبرون على عبوديّة الخدّ (13) عن عتق الصّفح، فراسلوه ببذل قطيعة إلى مدّة، وقصدوا نظرة من شدّة وانتظارا
__________
(1) في المصدر السابق: «ولا زياله».
(2) في المصدر السابق: «وقد اجتمع إليه كلّ طريد منهم وشريد».
(3) كذا في المصدر السابق ص 184أيضا بغير ذكر جواب «لما» في عبارة: «لمّا لم يبق»، وهو مفهوم من المقام. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(4) في المصدر السابق: «نزلها».
(5) في صبح الأعشى (ج 6ص 501): «تألّفت وتألّبت».
(6) في وفيات الأعيان: «من كل جانب».
(7) في وفيات الأعيان: «وعر غريقه».
(8) في وفيات الأعيان: «عقر الدار».
(9) في وفيات الأعيان: «للطالع».
(10) هكذا في المصدر السابق، وفي صبح الأعشى: «وضربت».
(11) في وفيات الأعيان: «وضمّها».
(12) في وفيات الأعيان: «جمعها».
(13) في وفيات الأعيان: «الحدّ عن عنق».(8/291)
لنجدة، فعرفهم الخادم (1) في لحن القول، وأجابهم بلسان الطّول، وقدّم المنجنيقات (2) التي تتولّى عقوبات الحصون عصيّها وحبالها، وأوتر لهم قسيّها التي تضرب (3) فلا تفارقها سهامها، ولا يفارق سهامها نصالها، فصافحت السّور بأكنافه (4) فإذا سهمها في ثنايا شرفاتها سواك، وقدّم النّصر نسرا من المنجنيق يخلد إخلاده إلى الأرض ويعلو علوّه إلى السّماك فشجّ مرادع أبراجها، وأسمع صوت عجيجها [صمّ أعلاجها] (5) ورفع مثار عجاجها (6) فأخلى السّور من السّيّارة، والحرب من النّظّارة، فأمكن (7) النّقّاب، أن يسفر للحرب النّقاب، وأن يعيد الحجر إلى سيرته [الأولى] (8) من التّراب، فتقدّم إلى الصّخر فمضغ سرده بأنياب معوله، وحلّ عقده بضربه الأخرق الدّالّ على لطافة أنمله، وأسمع الصّخرة الشريفة حنينه (9) واستغاثته إلى أن كادت ترقّ لمقبّله (10) وتبرّأ بعض الحجارة من بعض، وأخذ الخراب عليها موثقا فلن تبرح الأرض، وفتح في (11)
السّور بابا سدّ من نجاتهم أبوابا، وأخذ ينقب (12) في حجره فقال (13) عنده الكافر:
{يا ليتني كنت ترابا} (14) فحينئذ يئس الكفّار من أصحاب الدّور، كما يئس الكفّار من أصحاب القبور، وجاء أمر الله وغرّهم بالله الغرور (15)
__________
(1) كلمة «الخادم» ساقطة في صبح الأعشى (ج 6ص 501).
(2) المنجنيقات: ج منجنيق، وهي آلة ترمى بها الحجارة، مؤنثة.
(3) في وفيات الأعيان: «ترمي ولا تفارقها سهامها ولكن تفارق سهامها».
(4) كلمة: «بأكنافه» ساقطة في المصدر السابق.
(5) الزيادة من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(6) العجاج، بالفتح: الغبار.
(7) في وفيات الأعيان: «وأمكن».
(8) الزيادة من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(9) في وفيات الأعيان: «أنينه».
(10) في وفيات الأعيان: «لمقتله».
(11) في وفيات الأعيان: «من السور». وفي صبح الأعشى: «وفتح في السور باب».
(12) هكذا في وفيات الأعيان. وفي صبح الأعشى: «وأخذ نقب».
(13) هكذا في وفيات الأعيان. وفي صبح الأعشى: «قال».
(14) سورة النبإ 78، الآية 40.
(15) الغرور: الدنيا.(8/292)
وفي الحال خرج طاغية كفرهم، وزمام أمرهم ابن بارزان (1) سائلا أن يؤخذ البلد بالسّلام (2) لا بالعنوة، وبالأمان لا بالسّطوة، وألقى بيده إلى التّهلكة، وعلاه ذلّ الملكة (3) بعد عزّ المملكة، وطرح (4) جبينه في التراب وكان جبينا لا يتعاطاه طارح، وبذل مبلغا من القطيعة لا يطمح (5) إليه طرق آمل طامح، وقال: هاهنا أسارى مؤمنون (6) يتجاوزون الألوف، وقد تعاقد الفرنج على أنهم إن هجمت عليهم الدار، وحمّلت الحرب على ظهورهم الأوزار، بديء بهم فعجّلوا، وثنّي بنساء الفرنج وأطفالهم فقتّلوا، ثم استقتلوا بعد ذلك فلم يقتل (7) خصم إلّا بعد أن ينتصف، ولم يسلّ (8) سيف من يد إلّا بعد أن تنقطع (9) أو ينقصف، وأشار (10)
الأمراء بالأخذ بالميسور، من البلد المأسور، فإنّه (11) إن أخذ حربا فلا بدّ أن تقتحم الرجال الأنجاد، وتبذل أنفسها في آخر أمر قد نيل من أوّله المراد. وكانت الجراح في العساكر قد تقدّم منها ما اعتقل الفتكات، واعتاق (12) الحركات، فقبل منهم المبذول عن يد وهم صاغرون، وانصرف أهل الحرب عن قدرة وهم ظاهرون، وملك الإسلام خطّة كان عهده بها دمنة سكّان، فخدمها الكفر إلى أن صارت روضة جنان، لا جرم أنّ الله أخرجهم منها وأهبطهم، وأرضى أهل الحقّ
__________
(1) يعني هنا. انظر حاشية وفيات الأعيان.
(2) في المصدرين السابقين: «بالسلم».
(3) في وفيات الأعيان: «الهلكة».
(4) في المصدر نفسه: «جنبه على التراب وكان جنبا الخ».
(5) في المصدر نفسه: «لا يطمح إليها أمل طامح».
(6) في المصدر نفسه: «مسلمون».
(7) في المصدر نفسه: «فلا يقتل».
(8) في المصدر نفسه: «ولا يفلّ».
(9) في المصدر نفسه: «تقطع».
(10) في المصدر نفسه: «فأشار الأمراء بأخذ الميسور».
(11) في المصدر نفسه: «فإنه لو أخذ حربا فلا بدّ أن يتقحّم الرجال الأنجاد، ويقال: كفّوا عنها في آخر أمر».
(12) في المصدر نفسه: «وأثقل».(8/293)
وأسخطهم فإنّهم خذلهم الله حموها بالأسل والصّفاح [وبنوها بالعمد والصّفّاح] (1) وأودعوا الكنائس بها وبيوت الدّيوية والاستبارية (2) منها كلّ غريبة من الرّخام الذي يطرد ماؤه، ولا يطرد (3) لألاؤه، وقد لطف الحديد في تجزيعه، وتفنّن في توشيعه، إلى أن صار الحديد الذي فيه بأس شديد، كالذّهب الذي فيه نعيم عتيد، فما ترى إلّا مقاعد كالرّياض (4) لها من بياض الترخيم رقراق، [وعمدا كالأشجار لها من التّنبيت أوراق] (5)
وأوعز (6) الخادم بردّ الأقصى إلى عهده المعهود، وأقام له من الأئمّة من يوفّيه ورده المورود، وأقيمت الخطبة يوم الجمعة رابع (7) شهر شعبان فكادت السموات يتفطّرن للسّجوم (8) لا للسجوم، والكواكب [منها] (9) ينتثرن للطّرب لا للرّجوم، ورفعت إلى الله كلمة التوحيد وكانت طرائقها (10) مسدودة، وظهرت (11) قبور الأنبياء وكانت (12) بالنّجاسات مكدودة، وأقيمت الخمس وكان التثليث يقعدها [وجهرت الألسنة بالله أكبر وكان سحر الكفر يعقدها] (13) وجهر باسم أمير المؤمنين في وطنه (14) الأشرف من المنبر، فرحّب به ترحيب من برّ بمن برّ، وخفق علماه في
__________
(1) الزيادة من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(2) في المصدر نفسه: «والاسبتارية فيها بكل غريبة».
(3) في المصدر نفسه: «ولا ينطرد».
(4) في الأصل: «كالأسمار»، والتصحيح من وفيات الأعيان. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(5) الزيادة من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(6) هكذا في وفيات الأعيان، وفي صبح الأعشى (ج 6ص 503): «وأوزع».
(7) في وفيات الأعيان، ص 186: «رابع شعبان».
(8) في وفيات الأعيان ص 186: «للسجود».
(9) الزيادة من المصدر السابق.
(10) في المصدر السابق: «طريقها».
(11) في المصدر السابق: «وطهّرت».
(12) هكذا في المصدر المذكور، وفي صبح الأعشى: «وكانت بينهم بالنجاسات».
(13) الزيادة من وفيات الأعيان. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(14) هكذا في وفيات الأعيان، وفي صبح الأعشى: «في قطبه الأقرب».(8/294)
حفافيه، فلو طار به سرورا لطار بجناحيه.
وكتاب الخادم وهو مجدّ في استفتاح بقيّة الثّغور، واستشراح ما ضاق بتمادي الحرب من الصّدور، فإنّ قوى العساكر قد استنفدت مواردها [وأيام الشّقاء قد مردت مواردها] (1) والبلاد المأخوذة المشار إليها قد جاست العساكر خلالها، ونهبت ذخائرها وأكلت غلالها، فهي بلاد ترفد ولا تسترفد، وتجمّ ولا تستنفد، وينفق (2) عليها، ولا ينفق منها، وتجهّز الأساطيل لبحرها، وتقام المرابط لبرّها (3)، ويدأب في عمارة أسوارها، ومرمّات معاقلها، وكلّ مشقّة فهي بالإضافة إلى نعمة الفتح محتملة، وأطماع (4) الفرنج فيما بعد ذلك مذاهبها غير مرجئة ولا معتزلة، فلن يدعوا دعوة يرجو الخادم من الله أنّها لا تسمع، ولن (5) تزول أيديهم من أطواق البلاد حتّى تقطع.
وهذه البشائر لها تفاصيل لا تكاد من غير الألسنة تتشخّص، ولا بما سوى المشافهة تتلخّص. فلذلك نفّذنا (6) لسانا شارحا، ومبشّرا صادحا، ينشر (7) الخبر على سياقته، ويعرض جيش المسرّة من طليعته إلى ساقته (8)
__________
(1) الزيادة من وفيات الأعيان. وفي صبح الأعشى: «وأيام الشتاء». انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(2) في وفيات الأعيان: «ينفق» بدون واو العطف.
(3) في وفيات الأعيان: «بساحلها».
(4) في وفيات الأعيان: «وأطماع الفرنج بعد ذلك غير مرجئة».
(5) في وفيات الأعيان: «ولن يكفوا أيديهم من أطراف البلاد».
(6) في وفيات الأعيان: «نفّذ الخادم».
(7) في وفيات الأعيان: «يطالع بالخبر».
(8) في وفيات الأعيان بعد «إلى ساقته»: وهو فلان، والله الموفّق. ثم أضاف ابن خلّكان: «هذا آخر الرسالة الفاضلية، وكان في عزمي اختصارها والاقتصار على محاسنها، فلما شرعت فيها قلت في نفسي: عسى أن يقف عليها من يؤثر الوقوف على جميعها فأكملتها ورجعت عن الرأي الأول، وهي قليلة الوجود في أيدي الناس، وكانت النسخة التي نقلتها منها سقيمة، ولقد اجتهدت في تحريرها حتى صحّت على هذه الصورة حسب الإمكان».(8/295)
قلت: وقد وقفت على نسخة كتاب كتب به عن المكتفي (1) بالله، عند ما بعث محمد (2) بن سليمان الكاتب إلى الديار المصرية، فانتزعها من يد بني (3)
طولون واستولى عليها للخليفة، في نحو كرّاسة، تاريخها سنة اثنتين وتسعين (4)
ومائتين، أوّلها: أما بعد فالحمد لله العليّ الكبير، العزيز القدير أضربت عن ذكرها لطولها.
الصنف الثامن (المكاتبة بالاعتذار عن السلطان في الهزيمة)
قال في «موادّ البيان»: من أخلاق العامّة تقبيح سيرة السلطان إذا زلّ في بعض آرائه، والإزراء على تدبيره في جيش يجهّزه فيكسر، ونحو ذلك، مما لا يسلم من مثله، والإفاضة فيه والتشنيع به، فيحتاج إلى مكاتبتهم بما يتلافى الوهن
__________
(1) هو أبو محمد علي بن أحمد المعتضد بالله، ولد سنة 264هـ، وبويع له بالخلافة في اليوم الذي كانت فيه وفاة أبيه المعتضد سنة 289هـ، وتوفي سنة 295هـ، فكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوما. انظر مروج الذهب (ج 4ص 309)، ووفيات الأعيان (ج 6ص 429) والبداية والنهاية (ج 11ص 94، 105104).
(2) هو أبو علي محمد بن سليمان الكاتب الحنيفي، عراقي المولد، رحل إلى مصر، وولي الكتابة للؤلؤ (غلام أحمد بن طولون) ثم عاد إلى بغداد، واتصل بالمكتفي العباسي فصار من قواده وكاتب الجيش عنده. ثم ولّاه قتال القرامطة في الشام فقضى على فتنتهم، ووجّهه إلى مصر لمقاتلة الطولونيين، فقاتلهم وأزال ملكهم وهدم قصورهم. انظر الكامل في التاريخ (ج 7ص 526، 536530)، والنجوم الزاهرة (ج 3ص 112) والأعلام (ج 6ص 149).
(3) ذكر ابن الأثير وابن كثير أن المكتفي بعث كاتبه محمد بن سليمان إلى حدود مصر في المحرم من سنة 292هـ لحرب هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون. وأضاف: زحف محمد في الجيوش حتى دنا من مصر، وكانت بينه وبين هارون وقعات انتصر فيها محمد واستولى على دور آل طولون وأموالهم، وأخذهم جميعا، وهم بضعة عشر رجلا، فقيّدهم وحبسهم واستقصى أموالهم، وكان ذلك في صفر، وكتب بالفتح إلى المكتفي، فأمره بإشخاص آل طولون من مصر والشام إلى بغداد، ولا يترك منهم أحدا، ففعل ذلك وبذلك انقضت الدولة الطولونيّة على الديار المصرية. الكامل في التاريخ (ج 7ص 536535) والبداية والنهاية (ج 11ص 99).
(4) في الطبعة الأميرية: «سنة ثمان وستين ومائتين»، وهذا ما لا يوافق تاريخ انتزاع مصر من الطولونيين، والتصحيح من الكامل في التاريخ (ج 7ص 535).(8/296)
ويقيم العذر، كما يكاتبهم بتفخيم المنح، وتعظيم الفتوحات، والتّحدّث بمواقع المواهب، وشكر الله تعالى على إسباغ النّعم، والإظفار بأعداء الدين والدّولة ليقوّي بذلك منّتهم، ويرهف بصائرهم ويستخلص طاعتهم، ويملأ صدورهم رهبة. قال: وليست لهذه الكتب رسوم ينتظم كلّ ما وقع فيها لاختلاف ما يلام فيه ويعتذر.
ثم قال: ونحن نرسم في أصوله قولا وجيزا، وهو أن يقتضب الكاتب له المعاذير التي تحسّن أحدوثته، وتستر زلّته، والحجج التي تعيد اللائم عاذرا، والذّامّ شاكرا، وتوجب التقريظ من حيث يجب التأنيب، والإحماد من حيث يستحقّ التّذنيب. مثل أن يعتذر عن هزيمة جيش، فيقول: وقد علمتم أن الحرب سجال، والدنيا دول تدال، وقد تهبّ ريح النّصر للقاسطين على المقسطين امتحانا من الله وبلوى، ليجزي الّذين أساءوا بما عملوا ويجزي الّذين أحسنوا بالحسنى، من غير أن يصرّح بباطل، ولا يطلق كذبا محضا، ولا يختلق زورا يعلم الناس خلافه، فتتضاعف الهجنة، وتتكاثف المحنة، فإنه لا شيء أقبح على السلطان، وأقدح في جلالة الشان، من أن يعثر في كتبه على إفك قد يعلمه بعض من يقف عليه، بل ينبغي أن يعتمد في ذلك حسن التّخلّص والتّورية عن الغرض، واستعمال الألفاظ التي تدلّ على أطراف الحال ولا تفصح بحقائقها.
وهذه نسخة كتاب من ذلك:
الحمد لله الذي ساس الأمور بحكمته، وأبان فيها مواقع قدرته، وسلك فيها طريق مشيئته، وصرّفها على ما رآه عدلا بين العباد في أقسام نعمته ومحنته، وأحوال بلواه وعافيته، وجعل الأيام فيهم نوبا، والأحوال بينهم عقبا، فخصّ أولياءه وأهل طاعته بالنّصر في المحاكمة، والصّلح عند المخاصمة، والظّهور على من شاقّهم وعاداهم، والقهر لمن ضادّهم وناواهم، إنجازا لما وعد به الصابرين المحتسبين، وإعزازا للدّين وأنصاره من المؤمنين، ولم يخل أعداءه من دولة أدالها لهم، وجولة على الحق زادها في طغيانهم، ووصل الإملاء لهم فيها بخذلانهم، ليجب الثواب للمحسنين، ويحقّ العذاب على الكافرين. فقال
في محكم كتابه وقد ظهر المشركون على المسلمين {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس} (1) وقال: {ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} (2) وناوب بين الفريقين في المصائب، والمواهب، والمسارّ، والمضارّ، ليشفي الله صدور المؤمنين، وليمحّص ما في قلوبهم، ويوجب لهم إخلاص السرائر في طاعته، والجهاد في سبيله، والنّصرة لرسوله، والمراماة عن دينه، والمدافعة عن حريمه، ضعف الثّواب وحسن المآب، ويحلّ بالمشركين ما أعدّ لهم في دار الجزاء من أليم العذاب.(8/297)
الحمد لله الذي ساس الأمور بحكمته، وأبان فيها مواقع قدرته، وسلك فيها طريق مشيئته، وصرّفها على ما رآه عدلا بين العباد في أقسام نعمته ومحنته، وأحوال بلواه وعافيته، وجعل الأيام فيهم نوبا، والأحوال بينهم عقبا، فخصّ أولياءه وأهل طاعته بالنّصر في المحاكمة، والصّلح عند المخاصمة، والظّهور على من شاقّهم وعاداهم، والقهر لمن ضادّهم وناواهم، إنجازا لما وعد به الصابرين المحتسبين، وإعزازا للدّين وأنصاره من المؤمنين، ولم يخل أعداءه من دولة أدالها لهم، وجولة على الحق زادها في طغيانهم، ووصل الإملاء لهم فيها بخذلانهم، ليجب الثواب للمحسنين، ويحقّ العذاب على الكافرين. فقال
في محكم كتابه وقد ظهر المشركون على المسلمين {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس} (1) وقال: {ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} (2) وناوب بين الفريقين في المصائب، والمواهب، والمسارّ، والمضارّ، ليشفي الله صدور المؤمنين، وليمحّص ما في قلوبهم، ويوجب لهم إخلاص السرائر في طاعته، والجهاد في سبيله، والنّصرة لرسوله، والمراماة عن دينه، والمدافعة عن حريمه، ضعف الثّواب وحسن المآب، ويحلّ بالمشركين ما أعدّ لهم في دار الجزاء من أليم العذاب.
وإذا كان الحال بين الفريقين المتلاقيين، والفئتين المتجاورتين، والحزبين المتحاكمين، في تعاور الغلبة، وتعاقب الدّولة، جاريا على تقدير الله ومتصرفا على حكمه، ومستوسقا على ما سبق في علمه، فليس يغني في ذلك زيادة عدد، ولا اتصال مدد، ولا قوّةّ أيد، ولا لطف كيد، ولا اختيار وقت محمود للقتال، ولا الانتخاب لأهل البسالة والنّجدة من الرجال، ولا يجب أن يستريث النّصر من أبطأ عنه، ويستشعر الجزع من نال خصمه منه، بعد تحصيله السلامة في نفسه، وقيام العذر له بعنايته وجدّه، وقد جمع الله للأمير من المناقب، التي ورثها عن آبائه، وحازها في صدره، والحيازة فيما بان من فضل بأسه، وثبات جأشه، وأصالة رأيه، وصحّة تدبيره، وإيفائه الحرب شروطها، والهيجاء حقوقها، من الحزم والتّؤدة، والإقدام عند الفرصة، والإصابة في التّقدير والتّعبير، والاحتياط في سدّ مواقع الخلل والعورة، وإعمال النّظر والرّويّة، لولا اعتراض القضاء الذي هو مالك نواصي العباد، وغير مدفوع بمحال ولا جلاد، ولا قوّة ولا عدّة ولا عتاد ما أوفى حسنه على مزيّة الظّفر، وزاد عظمه في السّناء والخطر، إلى ما شمل عسكره في منقلبه بمراعاته لهم، ومدافعته من ورائهم، حتّى توافى الجمع موفورين، وآبوا سالمين غانمين، وبالله الحول والقوّة وعليه ضمان الإدالة على ما جرى به وعده
__________
(1) سورة آل عمران 3، الآية 140.
(2) السورة نفسها، الآية 141.(8/298)
الصادق، وأخبر عنه كتابه الناطق، وهو حسب أمير المؤمنين وكافيه، وناصره وواليه، ونعم الوكيل والظّهير، والمولى والنّصير، وصلّى الله على سيدنا محمد سيّد المرسلين، وإمام المتّقين، وآله الطيبين أجمعين، وسلّم تسليما.
وفي مثله من إنشاء أحمد بن (1) سعيد:
أحكام الله جلّ جلاله جارية على سبل جامعة لوجوه الحكمة، منتظمة لأسباب الصلاح والمعدلة. فمنها ما عرّف الله أولياءه والمندوبين بطاعته، والمجموعين بهدايته، طريق المراد منه، وسبب الدّاعي إليه، والعلّة فيما قضي من ذلك لحينه، والصّورة المقتضية له. ومنها ما استأثر بعلمه، وطوى عن الخلق معرفة حاله، فهو وإن أشكل عليهم موضع الحاجة إليه، وموقع العائدة به، ورؤي بهم اضطرابا في ظاهره عند تأمّلهم إياه بمقادير عقولهم، ومبالغ أفهامهم مبنيّ على أوثق آساس الحكمة، وأثبت أركان الصّواب على الجملة، وكيف لا يكون كذلك؟ والله خالق الأشياء كلّها، وعالم بها قبل كونها، في أحوال تكوينه إياها وبعده في منزع غاياتها ومقتضيّ عواقبها، فليس تخفى عليه خافية، ولا تعزب عنه دانية ولا قاصية، ولا يسقط عن معرفته فصل ما بين الخاطرين والوهمين في الخير والشّر، وما بين الجبلين والدّر بين في الوفور والغمور، فكيف بما يبرزه الظهور، ويخبر فيه عن موضع التدبير، المحتاج فيه إلى إحكام الصّنعة وإتقان التقدير؟ ومن ظنّ أنّ شيئا من ذلك يخرج عن نهج الصواب، ويخالف طريق الصّلاح، فقد ضلّ من حيث ضلّل، وغلط من حيث غلّط، واتّصل سوء ظنّه، وفساد فكره، بالزّراية على فعل ربّه، تعالى عن قول المبطلين، ورجم الشّياطين.
ثم إن لله جلّ جلاله عادة في الجيشين المتحاربين، والحزبين
__________
(1) انظر أخباره في كتاب الفهرست ص 81.(8/299)
المتحاكمين، من عباده المؤمنين، وأضدادهم المفسدين الملحدين، في المداولة بينهما، والمعاقبة بين الفئتين منهما، في العجز والظّهور، والوفاء والقصور، والمعافاة والامتحان، والنّصر والخذلان، والإعلاء لراية الحقّ في حال، والإملاء للباطل في أخرى، بتضمين الخيرة لأوليائه، والدائرة على أعدائه، عاجلا بالتّمحيص لهؤلاء، وبالمحق لأولئك، بما يصل إليهم من مصيبته، وينوبهم في حاضر الدنيا من رغبته، ويحلّ العادين من المشركين دار الفاسقين، ويجعل العاقبة للمتّقين، ومن سعد بقسم من التوفيق، وحظّ من فائدة الإرشاد، فليس (1) في هذه الحالة بزيادة أنصار وعدّة، وفضل عتاد وعدّة، وبسالة ونجدة، وأيد وقوّة، وسعة وبسطة، ولا يعدو أن يسلّم لله تعالى قاضيا له وعليه، ويوفّى بإحدى الحسنيين من علوّه، أو غلبة عدوّه أو يتوكل عليه، وهو حسبه منعما، وممتحنا ومعافيا ومسلّما، ونعم الوكيل.
قلت: وهذا الصنف من المكاتبات السلطانية مستعمل بين الكتّاب، دائر في مصطلحاتهم إلى الآن. وللشّيخ شهاب الدين محمود (2) الحلبيّ في ذلك تفنّنات كثيرة، أورد بعضها في كتابه «حسن التّوسّل».
فمن ذلك. ما أنشأه فيمن هزم هو وجيشه، يتضمّن إقامة عذره، ووصف اجتهاده، ويحثّ على معاودة عدوّه، والطّلب بثاره، وهو:
هذه المكاتبة إلى فلان: لا زال مأمون الغرّة، مأمول الكرّة، مجتنيا حلو الظّفر من أكمام تلك المرّة المرّة، راجيا من عواقب الصّبر أن يسفر له مساء تلك المساءة عن صبح المسرّة، واثقا من عوائد نصر الله بإعادته ومن معه في [القوّة و] (3)
الاستظهار كما بدأهم أوّل مرّة.
أصدرناها وقد اتّصل بنا نبأ ذلك المقام الذي أوضحت فيه السيوف عذرها،
__________
(1) بياض في الأصل، ولعله: «فليس انتصاره». حاشية الطبعة الأميرية.
(2) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 3ص 172من هذا الجزء من صبح الأعشى.
(3) الزيادة من حسن التوسل ص 117. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/300)
وأبدت به الكماة صبرها، وأظهرت فيه الحماة من الوثبات والثّبات ما يجب عليها، وبذلت فيه الأبطال من الجلاد جهدها ولكن لم يكن الظّفر إليها، وكان عليهم الإقدام على غمرات المنون، والاصطلاء بجمرات الحرب الزّبون، ولم يكن عليهم إتمام ما قدّر أنّه لا يكون، فكابرت رقاب الأعداء في ذلك الموقف السّيوف، وكاثرت أعدادهم الحتوف، وتدفّقت بحارهم على جداول من معه ولولا حكم القدر لا نتصفت تلك الآحاد من تلك الألوف، فضاق بازدحام الصفوف على رجاله المجال، وزاد العدد على الجلد فلم يفد له الإقدام على الأوجال مع قدوم الآجال، وأملي للكافرين بما قدّر لهم من الإنظار، وحصل لهم من الاستظهار، وعوّضوا بما لم يعرفوه من الإقدام عمّا ألفوه من الفرار. {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} (1) وقد ورد أنهم ينصرون كما ننصر، وإذا كانت الحروب سجالا فلا ينسب إلى من كانت عليه [وبالا] (2) إذا اجتهد ولم يساعده القدر أنه قصّر، مع أنه قد اشتهر بما فعله في مجاله، من الذّبّ عن رجاله، وما أبداه في قتاله، من الضّرب الذي ما تروّى فيه خصمه إلّا بدره بارتجاله، وأن الرّماح التي امتدّت إليه أخرس سيفه ألسنة أسنّتها، والجياد التي أقدمت عليه جعل طعنة أكفالها مكان أعنّتها، فأثبت في مستنقع الموت رجله، ووقف وما في الموت شكّ لواقف ليحمي خيله ورجله، حتّى تحيّز أصحابه إلى مأمنهم، وأقام نفسه دونهم دريئة لمن بدر من سرعان القوم أو ظهر من مكمنهم، وهذا هو الموقف الذي قام له مقام النّصر، إذ فاته النّصراء وفاته النّصر، والمقام الذي أصيب فيه من أصحابه آحاد يدركهم أدنى العدد وفقد فيه من أعدائه مع ظهورهم ألوف لا يدركهم الحصر، [وكذا فليكن قلب] (3) الجيش كالقلب يقوى بقوّته الجسد، وإذا حقّ اللّقاء فلا يفرّ عن كناسه إلّا الظّبي ولا يحمي [عرينه] (4) إلّا الأسد، وما بقى إلّا أن تعفو الكلوم، وتثوب الحلوم، وتندمل الجراح، وتبرأ من فلول المضارب صدور الصّفاح،
__________
(1) سورة البقرة 2، الآية 251.
(2) الزيادة من حسن التوسل. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة من حسن التوسل. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(4) الزيادة من حسن التوسل. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/301)
وتنهض لاقتضاء دين الدّين، من غرمائه المعتدين، وتبادر إلى استنجاز وعد الله بأن الله يمحّص المؤمنين، ويمحق الكافرين، واللّيث إذا جرح كان أشدّ لثباته، وأمدّ لوثباته، والموتور لا يصطلى بناره، والثّائر لا يرهب الإقدام على المنون في طلب ثاره، والدهر ذو دول، والزمان متلوّن إن دجت عليكم منه بالقهر ليلة واحدة فقد أشرقت لكم منه بالنّصر ليال أول، فالمولى لا يلتفت إلى ما فات، ويقبل بفكره على تدبير ما هو آت، ويعدّ للحرب عدّته، ويعجل أمد الاستظهار ومدّته، ولا يؤخر فرصة الإمكان، ولا يعيد ذكر ما مضى فإنه دخل في خبر كان، ولا يظهر (1)
بما جرى عجزا، فإن العاجز من ظنّ أنه يصيب ولا يصاب، ولا يتّخذ غير ظهر حصانه حصنا فلا حرز أمنع من صهوة الجواد ولا سلّم أسلم من الرّكاب، وليعلم أن العاقبة للمتقين، ويدّرع جنّة الصّبر ليكون من النّصر على ثقة ومن الظّفر على يقين، فإن الله مع الصابرين، ومن كان الله معه كانت يده الطّولى، وإذا لقي عدوّ الله وعدوّة فليصبر لحملته فإنّ الصبر عند الصّدمة الأولى والله تعالى يكلؤه بعينه، ويمدّه بعونه، ويجعل الظّفر بعدوّه موقوفا على مطالبته له بدينه.
ومن ذلك ما كتبه على لسان المهزوم يتضمن الاعتذار، ويصف الاحتفال بأخذ الثّار:
هذه المكاتبة إلى فلان: أتبع الله ما ساءه من أمرنا مع العدوّ بما يسرّه، وبلّغه عنّا من الانتصاف والانتصار ما يظهر من صدور الصّفاح وألسنة الرّماح سرّه، وأراه من عواقب صنعه الجميل بنا ما يتحقّق به أنّ كسوف الشمس لا ينال طلعتها وأنّ سرار القمر لا يضرّه. توضح لعلمه أنه ربما اتّصل به خبر تلك الوقعة التي صدقنا فيها اللّقاء، وصدمنا العدوّ صدمة من لا يحبّ البقاء، وأريناه حربا لو أعانها التأييد فلّلت جموعه، وأذقناه ضربا لو أنّ حكم النّصر فيه إلى النّصل أوجده
__________
(1) في المصدر السابق: «ولا يظن ما جرى» انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/302)
مصارعه وأعدمه رجوعه. وحين شرعت رياح النّصر تهب، وسحاب الدماء من مقاتلهم تصوب وتصب، وكرعت الصّفاح في موارد نحورهم، وكشفت الرّماح خبايا صدورهم، وما بقي إلّا أن تستكمل سيوفنا الرّيّ من دمائهم، وتقف صفوفنا على ربوات أشلائهم، وتقبض بالكفّ من صفحت الصّفاح عن دمه، وتكفّ بالقبض يد من ألبسته الجراح حلّة عندمه، أظهروا الخرع (1) في عزائمهم، وحكّموا الطّمع في غنائمهم، فحصل لجندنا عجب أعجل سيوفنا أن تتمّ هدم بنائهم. وطمع منع جيوشنا أن تكفّ عن النّهب إلى أن تصير من ورائهم، فاغتنم العدوّ تلك الغفلة (2)
التي ساقها المهلكان، العجب والطّمع، وانتهز فرصة الإمكان (3)، التي أعانه عليها [المطمعان] (4) إبداء الهلع، وتخلية ما جمع، فانتثر [من جمعنا] (5) بعض ذلك العقد المنظّم، وانتقض من حزبنا ركن ذلك الصّفّ الذي أخذ فيه الزّحام بالكظم، وثبت الخادم في طائفة من ذوي القوّة في يقينهم، وأرباب البصائر في دينهم، فكسّرنا جفون السّيوف، وحطّمنا صدور الرّماح في صدور الصفوف، وأرينا تلك الألوف كيف تعدّ الآحاد بالألوف، وحلنا بين العدوّ وبين أصحابنا بضرب يكفّ أطماعهم، ويردّ سراعهم، ويعمي ويصمّ عن الآثار والأخبار أبصارهم وأسماعهم، إلى أن نفّسنا للمنهزم عن خناقه، وآيسنا طالبه عن لحاقه، ورددناه عنه خائبا بعد أن كادت يده تعتلق بأطواقه، وأحجم العدوّ مع ما يرى من قلّتنا عن الإقدام علينا، ورأى منا جدّا كاد لولا كثرة جمعه يستسلم به إلينا، وعادوا ولنا في قلوبهم رعب يثنيهم وهم الغالبون، [ويدركهم وهم الطالبون] (6) ويسلبهم رداء الأمن وهم السالبون، وقد لمّ الخادم شعث رجاله، وضم فرقهم (7) بذخائر ماله،
__________
(1) الخرع: اللين والرخاوة، ومن المجاز: في فلان خرع أي جبن وخور. أساس البلاغة (خرع).
(2) كذا في حسن التوسل، وفي الأصل «الفقرة»، ولعلها مصحّفة عن «الغفوة». انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(3) في المصدر السابق: «فرصة الكرة». انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(4) الزيادة من المصدر السابق ص 119. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(5) الزيادة من المصدر السابق ص 119. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(6) الزيادة من المصدر السابق ص 119. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(7) في الأصل: «وضربهم»، والتصحيح عن المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/303)
وأمدّهم بنفقات أصلحت أحوالهم، وأطلقت في طلب عدوّ الله أقوالهم، وسلاح جدّد استطاعتهم، وأعان شجاعتهم، وخيول تكاد تسابقهم إلى طلب عدوّهم، وتحضّهم على أخذ حظّهم من اللقاء كأنّها تساهمهم في أجر رواحهم وغدوّهم، وقد نضوا رداء الإعجاب عن أكتافهم، واعتصموا بعون الله وتأييده لا بقوّة جلدهم ولا بحدّة أسيافهم، وسيعجلون العدوّ إن شاء الله تعالى عن اندمال جراحه، ويتعجّلون إليه بجيوش تسوء طلائعها في مسائه وتصبّحه كتائبها في صباحه، والله تعالى لا يكلنا إلى جلدنا، ولا ينزع أعنّة نصره من يدنا.
الصنف التاسع (المكاتبة بتوبيخ المهزوم وتقريعه والتّهكّم به)
وهذا النوع من المكاتبات قليل الوقوع، ولذلك لم يتعرّض إليه في «موادّ البيان». والذي ينبغي أن تبنى المكاتبة فيه عليه ذكر هزيمة المهزوم وما استولى عليه من الغلبة والقهر، وصورة الحال في النّصرة عليه، والاستيلاء على بلاده وأمواله وسائر ذات يده، وأسر رجاله، واسترقاق ذراريّهم ونسائهم، وما يجري مجرى ذلك، ممّا فيه إيلام خاطره، وتقطيع قلبه حسرات على ما ناله، ونحو ذلك ممّا يدعو المكتوب إليه إلى الطاعة، ويوجب الانقياد.
وهذه نسخة كتاب من هذه النّمط، كتب به القاضي محيي الدّين (1) بن عبد الظاهر رحمه الله، إلى البولس بيمند (2) ملك الفرنج، المستولي على طرابلس من
__________
(1) تقدمت ترجمته في الصحيفة 43من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 3.
(2) في حاشية الطبعة الأميرية: «كذا بالأصل بإهمال النقط وفي الكامل لابن الأثير ج 10ص 254:
بيمند». وبيمند المذكور في حاشية الطبعة الأميرية هو جدّ المذكور هنا. والمذكور هنا هو بيمند ابن بيمند بن بيمند، الذي استقلّ بطرابلس، وتوفي سنة 673هـ، ودفن في كنيسة طرابلس، ولما فتحها المسلمون في سنة 688هـ نبش الناس قبره وأخرجوه منه وألقوا عظامه على المزابل للكلاب.
وبيمند المذكور في حاشية الطبعة الأميرية ذكره ابن الأثير في حوادث سنة 393هـ. انظر البداية والنهاية (ج 13ص 269).(8/304)
الشام، وأنطاكية من بلاد العواصم حين غزاه الملك (1) في طرابلس، ثم قصد أنطاكية فأخذها من عانيه (2)، وهي:
قد علم القومص الجليل المنتقلة مخاطبته بأخذ أنطاكية منه من البولسية إلى القومصية، ألهمه الله رشده، وقرن بالخير قصده، وجعل النّصيحة محفوظة عنده، ما كان من قصدنا طرابلس وغزونا له في عقر الدار، وما شاهده بعد رحيلنا من إخراب العمائر وهدم الأعمار، وكيف كنست تلك الكنائس من على بساط الأرض ودارت الدّوائر على كلّ دائر، وكيف جعلت تلك الجزائر من الأجساد على ساحل البحر كالجزائر، وكيف قطّرت الرجال واستخدمت الأولاد وتملّكت الحرائر، وكيف قطّعت الأشجار ولم يترك إلّا ما يصلح لأعواد المجانيق إن شاء الله تعالى والستائر، وكيف نهبت لك ولرعيّتك الأموال والحريم والأولاد والحواشي، وكيف استغنى الفقير وتأهّل العازب واستخدم الحريم وركب الماشي، هذا وأنت تنظر نظر المغشيّ عليه من الموت، وإذا سمعت صوتا قلت فزعا: عليّ هذا الصّوت، وكيف رحلنا عنك رحيل من يعود، وأخّرناك وما كان تأخيرك إلّا لأجل معدود، وكيف فارقنا بلادك وما بقيت فيها ماشية، إلّا وهي لدينا ماشية، ولا جارية، إلّا وهي في ملكنا جارية، ولا سارية، إلّا وهي بين أيدي المعاون سارية، ولا زرع إلّا وهو محصود، ولا موجود إلّا وهو منك مفقود، وما منعت تلك المغاير (3) التي هي في رؤوس الجبال الشّاهقة، ولا تلك الأودية التي في التّخوم مخترقة وللعقول خارقة، وكيف سقنا عنك ولم يسبقنا إلى مدينتك أنطاكية خبر، وكيف وصلنا إليها وأنت لا تصدّق أننا نبعد عنك وإن بعدنا فسنعود على الأثر، وها نحن نعلمك بما تمّ، ونفهمك بالبلاء الذي عمّ.
كان رحيلنا عنك من طرابلس يوم الأربعاء، ونزولنا أنطاكية في شهر
__________
(1) بياض بالأصل مقدار كلمة، حاشية الطبعة الأميرية. ولعل القول: «الملك المذكور».
(2) كذا بالأصل، ولعله: «منه عنوة». حاشية الطبعة الأميرية.
(3) لم يرد في كتب اللغة جمع المغارة على مغاير، وإنما جمعه مغارات. حاشية الطبعة الأميرية.(8/305)
رمضان، وفي حال النّزول خرجت عساكرك للمبارزة وتناصروا فما نصروا، وأسر من بينهم كبد اسطبل (1) فسأل في مراجعة أصحابك، فدخل إلى المدينة، فخرج هو وجماعة من رهبانك، وإن رأيهم في الخير مختلف، وقولهم في الشّرّ واحد، فلما رأيناهم قد فات فيهم الفوت، وأنّهم قد قدّر الله عليهم الموت، رددناهم وقلنا: نحن السّاعة لكم نحاصر، وهذا هو الأوّل في الإنذار والآخر، فرجعوا به متشبّهين بفعلك، ومعتقدين أنك تدركهم بخيلك ورجلك، ففي بعض ساعة مرّشان المرشان، وداخل الرّهب الرّهبان، ولان للبلاء القسطلان، وجاءهم الموت من كلّ مكان، وفتحناها بالسّيف في الساعة الرابعة من يوم السبت رابع شهر رمضان، وقتلنا كلّ من اخترته لحفظها والمحاماة عنها، وما كان أحد منهم إلا وعنده شيء من الدنيا فما بقي أحد منّا إلّا وعنده شيء منهم ومنها، فلو رأيت خيّالتك وهي صرعى تحت أرجل الخيول، وديارك والنّهّابة فيها تصول والكسّابة فيها تجول، وأموالك وهي توزن بالقنطار، وإماءك وكلّ أربع منها تباع فتشترى من مالك بدينار، ولو رأيت كنائسك وصلبانها قد كسّرت ونثرت، وصحفها من الأناجيل المزوّرة قد نشرت، وقبور البطارقة وقد تغيرت، ولو رأيت عدوّك المسلم وقد داس مكان القدّاس، والمذبح وقد ذبح فيه الرّاهب والقسّيس والشّمّاس، والبطارقة وقد دهموا بطارقة، وأبناء المملكة وقد دخلوا في المملكة، ولو شاهدت النّيران وهي في قصورك تخترق، والقتلى بنار الدنيا قبل نار الآخرة تحترق، وقصورك وأحوالها قد حالت، وكنيسة بونصر وكنيسة القسيّان وقد زلّت كلّ منهما وزالت لكنت تقول: ياليتني كنت ترابا، ويا ليتني لم أوت بهذا الخبر كتابا، ولكانت نفسك تذهب من حسرتك، ولكنت تطفيء تلك النيران بماء عبرتك، ولو رأيت مغانيك وقد أقفرت، ومراكبك وقد أخذت في السّويديّة بمراكبك، لصارت شوانيك من شوانيك، ولتيقّنت أن الإله الذي أنطاك (2) أنطاكية منك استرجعها،
__________
(1) كذا في الأصل بإهمال جميع الحروف. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) أعطاك أنطيته أنطاء مثل أعطيته اعطاء زنة ومعنى، وهي لغة لأهل اليمن.(8/306)
والرّبّ الذي أعطاك قلعتها منك قلعها ومن الأرض اقتلعها. ولتعلم أنّا قد أخذنا بحمد الله منك ما كنت أخذته من حصون الإسلام، وهو دركوش (1)، وشقيف تلّ منّس (2)، وشقيف كفردبّين (3)، وجميع ما كان لك في بلاد أنطاكية في هذه المدّة إقامة (؟) وكونك ما كنت بها، فيكون إما قتيلا، وإما أسيرا، وإما جريحا وإما كسيرا، وسلامة النفس هي التي يفرح بها الحيّ إذا شاهد الأموات، ولعلّ الله إنّما أخّرك لأن تستدرك من الطاعة والخدمة ما فات، ولمّا لم يسلم أحد يخبرك بما جرى خبّرناك، ولمّا لم يقدر أحد [أن] يباشرك بالبشرى بسلامة نفسك وهلاك ما سواها باشرناك بهذه المفاوضة وبشّرناك، لتتحقّق الأمر على ما جرى، وبعد هذه المكاتبة لا ينبغي لك أن تكذّب لنا خبرا، كما أنّ بعيد هذه المخاطبة يجب أن لا تسأل عمّا جرى.
وهذه نسخة في هذا المعنى، من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ، وهي:
هذه المكاتبة إلى فلان أقاله الله عثرة زلّته، وأقامه من حفرة ذلّته، وتجاوز له عن كبيرة فراره من جمع عدوّه على قلّته.
بلغنا أمر الواقعة التي لقي فيها [العدوّ] (4) بجمع قليل غناؤه، ضعيف بناؤه، كثيف في رأي العين جمعه، خفيف في المعنى وقعه ونفعه، أسرع في مفارقة المجال، من الظّلّ في الانتقال، وأشبه في مماثلة الوجود بالعدم من طيف
__________
(1) دركوش: حصن قرب أنطاكية من أعمال العواصم. معجم البلدان (ج 2ص 452).
(2) في الأصل: «تلميس»، ولم نعثر عليه في المعاجم، والذي في معجم البلدان (ج 2ص 44) أن تلّ منّس، بفتح الميم وتشديد النون وفتحها، حصن قرب معرّة النعمان بالشام. انظر أيضا حاشية الطبعة الأميرية.
(3) كفردبّين: بفتح الكاف والفاء وسكون الراء وضم الدال وتشديد الباء وكسرها: حصن بنواحي أنطاكية. معجم البلدان (ج 4ص 469).
(4) الزيادة من حسن التوسل ص 118. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/307)
الخيال، يمشون (1) إليه بقلب واجب، ويهتدون من تخرّصه برأي (2) بينه وبين الصّواب ألف حاجب، ويأتمّون منه بمقدّم يرى الواحد من عدوّه كألف، ويتسرّعون منه وراء مقدام يمشي إلى الزّحف ولكن إلى خلف، جناح جيشه مهيض، وطرف سنانه غضيض، وساقة عسكره طالعة، وطلائعه كالنّجوم ولكن في حال كونها راجعة، تأسف السيوف بيمينه على ضارب، وتأسى الجنائب حوله إذ تعدّ لمحارب فتعدّ لهارب، وأنه حين وقعت العين على العين، وأيقن عدوّه لما رأى (3) من عدده وعدده معاجلة الحين، أعجل نصول العدا عن وصولها، وترك غنيمة الظّفر لعداه بعد أن أشرف على حصولها، تناديه ألسنة أسنّته: الكرّة الكرّة فلا يلوي إلى ندائها، وتشكو إليه سيوفه الظّمأ وقد رأت موارد الوريد فيردّها إلى الغمود بدائها، فمنح عدوّه مقاتل رجاله، وأباحهم كرائم مال جنده وماله، وخلّى لهم خزائن سلاحه التي أعدّها لقتالهم فأصبحت معدّة لقتاله، فنجا منجى الحارث ابن هشام، وآب بسلامة أعذب منها لو عقل شرب كأس الحمام، واتّسم بين أوليائه وأعدائه بسمة الفرار، وكان يقال: النّار ولا العار، فجمع له فراره من الزّحف بين النّار والعار، وعاد بجمع موفور من الجراح، موقر من الإثم والاجتراح، لا علم بما جرى عند أسيافهم، ولا شاهد بمشاهدتهم الوغى غير مواقع الظّبا في أكتافهم، فبأيّ جنان يطمع في معاودة عدوّه من هذا قلبه، وهؤلاء حزبه، [وذلك القتال قتاله وتلك الحرب حربه] (4)
وبعد، فإن كانت له حميّة فستظهر آثارها، أو أريحيّة فستشبّ نارها، أو أنفة فستحمله على غسل هذه الدّنيّة، وتبعثه على طلب غايتين: إما شهادة مريحة أو
__________
(1) في الأصل: «يحفون عنه»، والتصحيح من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(2) كذا في المصدر السابق، والذي في الأصل: «ويهتدون من تجريبه وتهذيبه بينه». انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(3) في المصدر السابق: «ولا يلتفت». انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(4) الزيادة من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/308)
حياة هنيّة، والله تعالى يوقظ عزمه من سنته، ويعجل له الانتصاف من عدوّه قبل إكمال سنته.
الصنف العاشر (في المكاتبات بالتضييق على أهل الجرائم)
قال في «موادّ البيان»: لم يزل السلطان يكتب إلى الولاة عندما ينتهي [إليه] من إقدام الرّعايا على ارتكاب الجرائم، واستباحة المحارم، واقتراف المآثم، كالزّنا واللّواط، وشرب الخمر، وقطع الطّرق، والغصب والتّظالم، وما يجري هذا المجرى بالتضييق عليهم، وإقامة حدود الله تعالى فيهم.
قال: والرسم فيها أن تفتتح بحمد الله الباديء بنعمته قبل افتراض طاعته، الممتنّ بفضله قبل إيجاب شكره، خالق الخلائق جودا وكرما، وموسعهم منّا ونعما، الذي اختار دين الإسلام وطهّره من الأرجاس، ونزّهه عن الأدناس، واختصّ به صفوته من الناس، وابتعث به محمدا سيّد المرسلين: {لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين} (1) يحمده أمير المؤمنين أن فوّض إليه إيالة خلقه، وأقدره على القيام بخدمته، ونصبه لإعزاز دينه، والمحافظة على مفروضه ومسنونه، وذيادة العباد عن محارمه التي نهى عن التعدّي إليها، وإقامة الحدود عليهم فيها، ويسأله الصلاة على محمد صلّى الله عليه وسلّم.
ثم يقال: وإنّ أمير المؤمنين يرى أنّ من أعظم نعم الله تعالى عليه توفيقه لحفظ ما استحفظه من شريعته، ورعاية ما استرعاه من بريّته، وتوفير القيام على من قلّده النّظر فيهم، واعتماد ما يعود بالصّلاح في الدّين والدّنيا عليهم، ومساواته بين قريبهم وبعيدهم في تفقّده، ومماثلته بين قاصيهم ودانيهم في تعهّده، فلا ينال القريب [فقط] نصيبا من رعايته ويعلّم جاهلهم، ويهدي حائرهم، ويشحذ بصائرهم، ويثقّف مائدهم، ويصلح فاسدهم، ويتخوّلهم من مواعظه بما يبرّد
__________
(1) سورة يس 36، الآية 70.(8/309)
الغلل، ويشفي العلل، وينسخ الشّك باليقين، ويقبس مقابس النّور المبين، [فمن] أصغى إلى إرشاده سعد جدّه، وورى زنده، وأحمد يومه وغده، ومن خالف عن أمره ضلّ مسعاه، وخسر آخرته ودنياه، ودعا إلى اتباع أمر الله تعالى في تقويمه وإصلاحه، والكفّ بإقامة الحدود عليه من جماحه.
وانتهى إلى أمير المؤمنين ما أقدم عليه الأحداث وأهل الدّعارة قبلكم من احتقاب الآثام، واستدماث مراكب الحرام، والاستهتار بمحظور اللّذّات، والإكباب على دنيء الشّهوات التي تسلخ من الدّين، وتخرج عن دائرة المسلمين، وتدفع عن تأدية العبادات، وإقامة الصّلوات، وتنظم في سلك البهائم المرسلة، والسوائم المهملة، وتقصير مشايخهم وعلمائهم عن كفّهم، والأخذ على أكفّهم، وتعريفهم وجوه مراشدهم وتقويم أودهم (1)، فامتعض من ذلك، وأشفق من نزول القوارع والمثلات، وحلول البليّات والآيات، وارتجاع ما أودعكم الله تعالى من نعمته، وانتزاع ما ألبسكم من رحمته، وبادر بكتابه موقظا لغافلكم، ومبصّرا لذاهلكم، وباعثا لكم على مراضيه الأولى، ومعاودة الطريقة المثلى، ومبادرة آجالكم بأعمالكم، والأخذ لأخراكم من أولاكم، ولسقمكم من صحتكم، ولنومكم من يقظتكم، عالمين بأن الدنيا لعب ولهو، وأن الآخرة هي دار القرار، وأنكم فيها كسفر شارفوا المنزل، فاجهدوا عباد الله واحتشدوا، وأقلعوا وارجعوا، واسمعوا وعوا، فكأنكم والله وقد توضّحت خدعها، وتصرّم متاعها، وجلّ متوقّعها، والسعيد من وثق بما قدّم لنفسه بعد نفاد أيّامه، وورود حمامه، والشّقيّ من أفرط وفرّط، وندم حيث لا مندم وأوعز إلى والي الحرب فلان بقراءة ما نصّ فيه عليكم، واختبار سيركم بعد مروره على أسماعكم، فمن رغب في التّقوى، وآثر الآخرة على الدنيا، عرف ذلك وتوخّاه بتكرمته وتخوّله، ومن أبى إلّا غواية وضلالا، وبطالة ومحالا، أقام حدّ الله تعالى عليه غير مراقب فيه، فرحم الله عبدا صان نفسه في هذه الدار عن العار، وحماها في الآخرة من عذاب النّار، وأمير
__________
(1) الأود: الاعوجاج.(8/310)
المؤمنين يرجو أن ينفعكم الله بهدايته، ويشفي صدوركم بموعظته، ويرشدكم إلى ما يفضي بكم إلى الكفاية والحماية. فليعلم فلان بن فلان ذلك من أمير المؤمنين ورسمه، وليعمل عليه بجملته، إن شاء الله تعالى.
الصنف الحادي عشر (الكتب في النّهي عن التّنازع في الدّين)
قال في «موادّ البيان»: من أهمّ ما صرف إليه السلطان تفقّده، ووقف عليه [تعهّده] أمر الرعايا في أعماله، وتنفيذ الكتب إليهم بالنّهي عن التنازع في الدين، وحسم أسباب المجادلة والمراء، والتّحذير من اتّباع البدع والأهواء، والإخلاد إلى مضلّ النّحل والآراء لأنه متى فسّح لهم في هذا الباب صاروا شيعا متباينين، وفرقا متحاربين، وانشقّت عصاهم، وانقضت حيلهم، وخرجوا عن أحكام أهل السلامة إلى أحكام أهل الفتنة، وعاد ضرر ذلك على الدّين والسّلطان. ولهذا صرف إليه السّاسة الحزمة من الملوك الاهتمام، ولم يبخلوا بحسم مادّته على تغاير الأيام.
ثم قال: والرسم فيها أن تصدّر بحمد الله تعالى على نعمه في تأليف كلمة أهل الإسلام، وما منّ به عليهم من الاتفاق والالتئام، وشكره على موهبته في نزع الغلّ من صدورهم، والتأليف بين قلوبهم، وتصييرهم إخوانا متصافين، وخلّانا متوافين، وعونهم بما وفّقهم له من إظهارهم على من شقّ عصاهم، وإقدارهم بما منحهم من الألفة على مراماة من راماهم، والصّلاة على سيدنا محمد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم. ثم يشفع هذا بأن أمير المؤمنين بما مكّنه الله تعالى من مراضيه، ووفّقه له من القيام بفرضه، والنّهوض بحقوق طاعته، والعمل بكتابه وسنّته، ورغبته في الخير العام وشمول الصّلاح لكافّة الأنام لا يزال يحضّ رعيّته على ما يقضي بسداد دنياهم، وحسن المنقلب في أخراهم، ويرى أن أنفع ذلك عائدة، وأجزله فائدة، ما رفع عنهم أسباب التّنافر، ودعاهم إلى التّعاضد والتّظافر، وحال بينهم وبين الخوض في محدث النّحل والآراء، والإصغاء إلى مضلّ البدع
والأهواء التي تصدّ عن سنن الهدى، وتلقي في مهاوي الرّدى، وتدعو إلى شقّ العصا، وتقضي بانتثار النّظام، واختلاف الأنام، وانفصام عرى الإسلام، وكفّهم عن المماراة في الدّين، والإصغاء إلى سنّة المضلّين، المعطّلة للسّنن، القادحة للفتن، الداعية إلى احتقاب الآثام، وإراقة الدّماء الحرام، ونحو هذا مما يضاهيه.(8/311)
ثم قال: والرسم فيها أن تصدّر بحمد الله تعالى على نعمه في تأليف كلمة أهل الإسلام، وما منّ به عليهم من الاتفاق والالتئام، وشكره على موهبته في نزع الغلّ من صدورهم، والتأليف بين قلوبهم، وتصييرهم إخوانا متصافين، وخلّانا متوافين، وعونهم بما وفّقهم له من إظهارهم على من شقّ عصاهم، وإقدارهم بما منحهم من الألفة على مراماة من راماهم، والصّلاة على سيدنا محمد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم. ثم يشفع هذا بأن أمير المؤمنين بما مكّنه الله تعالى من مراضيه، ووفّقه له من القيام بفرضه، والنّهوض بحقوق طاعته، والعمل بكتابه وسنّته، ورغبته في الخير العام وشمول الصّلاح لكافّة الأنام لا يزال يحضّ رعيّته على ما يقضي بسداد دنياهم، وحسن المنقلب في أخراهم، ويرى أن أنفع ذلك عائدة، وأجزله فائدة، ما رفع عنهم أسباب التّنافر، ودعاهم إلى التّعاضد والتّظافر، وحال بينهم وبين الخوض في محدث النّحل والآراء، والإصغاء إلى مضلّ البدع
والأهواء التي تصدّ عن سنن الهدى، وتلقي في مهاوي الرّدى، وتدعو إلى شقّ العصا، وتقضي بانتثار النّظام، واختلاف الأنام، وانفصام عرى الإسلام، وكفّهم عن المماراة في الدّين، والإصغاء إلى سنّة المضلّين، المعطّلة للسّنن، القادحة للفتن، الداعية إلى احتقاب الآثام، وإراقة الدّماء الحرام، ونحو هذا مما يضاهيه.
ثم يقول: وانتهى إلى أمير المؤمنين التفاتكم عن معايشكم التي جعلها الله لدنياكم قواما، وعبادتكم التي صيّرها لآخرتكم نظاما، وإقبالكم على المماراة والمنازعة، والمناظرة والمجادلة، إلى شكوك يقيمها من يرغب في الرّياسة والتّقدّم، ليفوز بخبيث المطعم الذي يعمي البصائر، ويفسد السرائر، ويقدح زند الضّلال، ويشبّ نار المحال والانتحال، فامتعض أمير المؤمنين من ذلك وخاف عليكم أليم عاجلته، وذميم آجلته، وبادركم بكتابه هذا منبّها لغافلكم، ومرشدا لجاهلكم، وباعثا لكم على التّشاغل بما أطاب أخباركم، وحسّن آثاركم، من تلاوة كتاب الله الذي آثركم بتلاوته، وزيارة بيوت عبادته، والتأدّب بأدب نبيّه وعترته، وأوعز إلى النائب في الحرب بتقويم من خرج عن أمره، وتثقيف من أصرّ على غيّه، وأن يحسم الداء قبل استشرائه، ويستدركه دوين استفحاله، فاصغوا إلى زواجر أمير المؤمنين ومواعظه، واقتدّوا بهديه ومراشده، لتفوزوا بطاعته، وتسعدوا برضاه، وتسلموا في الحاضر، من مهانة أنتم بغيرها أولى، إن سلكتم الطريقة المثلى، وفي الغابر مما أعدّه الله لمن خالف عن أمره من العقاب في الدار الأخرى، فاعلموا هذا واعملوا به إن شاء الله تعالى.
قال: وقد يكتب السلطان إلى الرّعيّة بالنّهي عن التّفاخر بالبادية والتنازع في العصبيّة. ثم قال: والطريقة في هذا المعنى مشتقة من طريقة هذا الرسم.
الصنف الثاني عشر (المكاتبة بالأوامر والنواهي)
قال في «موادّ البيان»: على هذه الكتب مدار أشغال السلطان في أعماله
لأنها النافذة في تصريف الأمور وتنفيذ المراسيم ولاية وعمالة.(8/312)
قال في «موادّ البيان»: على هذه الكتب مدار أشغال السلطان في أعماله
لأنها النافذة في تصريف الأمور وتنفيذ المراسيم ولاية وعمالة.
قال: وليس لهذا أمثلة فنوردها، لكنّه ينبغي للكاتب أن يؤكّد القول بها، فإن الأمر فيها والنّهي وإن اختلف نظمهما نوع واحد لأن كلّ مأمور به منهيّ عن ضدّه، وكلّ منهيّ عنه مأمور بضدّه، فينبغي له أن يؤكّد القول في امتثال ما أمر، والعمل عليه والإنفاذ له، والانتهاء عما نهى عنه، والحذر من الإلمام به.
ويجزم الأمر في العبارة عنهما جزما تامّا لا يتمكّن معه من الإخلال ببعضهما والنّقص فيهما لهوى، ويأتي من المبالغة بما يضيّق العذر، ومتى وقع تقصير أو تثاقل عما حدّد فيهما، فإنّما يمثّل ذلك بمثل جامعة مع تفنّن المعاني التي يأمر بها وينهى عنها. ثم قال: والكاتب إذا عرف الترتيب الواقع في هذين الغرضين على طريق الإجمال، أمكنه أن يبسطه إذا احتاج إلى التفصيل والبيان بمشيئة الله تعالى.
واعلم أنه كان للخلفاء والملوك وولاة الأمور في قديم الزمان عناية بالكتابة إلى الرعايا بالأوامر والنّواهي المتعلقة بالدّين، من الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، وما يجري مجرى ذلك، وإلى العمّال بالوصيّة بالرعايا، والاجتهاد فيما لديهم من جباية الخراج، والاهتمام بأمر الدّواوين، وما أشبه ذلك.
فأما الأوامر والنواهي المتعلقة بالدّين، فقد تقدّم في الكلام على مصطلح أهل الغرب في أوائل هذه المقالة من إنشاء أبي زيد (1) الفازازي ما أغنى ذكره هناك عن إعادته هنا أو ذكر غيره.
وأما الأوامر والنواهي المتعلقة بأمور السّلطنة، فمن ذلك ما كتب به أبو عبد الله بن الجنان (2)، عن الأمير أبي عبد الله بن (3) هود أحد ملوك الطوائف
__________
(1) انظر الحاشية رقم 2ص 153من هذا الجزء من صبح الأعشى.
(2) هو الفقيه الكاتب أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد الأنصاري، من أهل مرسية بالأندلس، له باع مديد في النظم والنثر. وكان كاتبا بليغا شاعرا بارعا، محدّثا وراوية ضابطا، خرج من مرسية حين تمكّن العدو من قبضتها سنة 640هـ، فاستقر بأريولة، ثم انتقل إلى سبتة، ثم إلى بجاية فتوفي بها سنة 650هـ. انظر نفح الطيب (ج 7ص 406، 416415، 431).
(3) هو محمد بن يوسف بن هود الجذامي، الثائر بمرسية وشرق الأندلس على الموحدين في سنة 625هـ. تلقّب بالمتوكل على الله في السنة المذكورة، وخطب باسم المستنصر الخليفة ببغداد. ثار عليه محمد بن يوسف، المعروف بابن الأحمر والملقب بالشيخ، بحصنه أرجونة وتلقّف الكرة من يده، وخلع الدعوة العباسية ودعا للأمير أبي زكريا بن أبي حفص في سنة 629هـ، وانتهى الأمر لصالح ابن الأحمر الذي أسّس مملكة غرناطة، وهلك ابن هود سنة 635هـ. انظر المقتضب من كتاب تحفة القادم ص 203، واختصار القدح ص 109، 146، 217، 218، وتاريخ ابن خلدون (ج 13ص 391)، ونفح الطيب (ج 1ص 447446) و (ج 7ص 406)، والاستقصا لأخبار المغرب الأقصى ص 198، والأعلام (ج 7ص 150149).(8/313)
بالأندلس في الرّفق بالرّعيّة، وهو:
أما بعد حمد الله تعالى معلي منار الحقّ ورافعه، ومولي متوالي الإنعام ومتتابعه، والصلاة على سيدنا محمد رسوله مشفّع الحشر وشافعه، المبعوث ببدائع الحكم وجوامعه، وعلى آله وصحبه المبادرين إلى مقاصده العليّة ومنازعه، والذّابّين عن حوزة الإسلام بمواضي الاعتزام وقواطعه، والرّضا عن الخليفة الإمام العباسيّ أمير المؤمنين ذي المجد الذي لا ينال سموّ مطالعه.
فإنا كتبنا إليكم، كتب الله لكم عزّة قدحها بالثبوت فائز، وسعادة قسطها للنّماء حائز، من فلانة: وكلمة الحقّ منصورة اللّواء، منشورة الأضواء، والتوكّل على الله في الإعادة والإبداء، والتسليم إليه مناط أمرنا في الانتهاء والابتداء، وحمد الله تعالى وشكره وصلتنا إلى نيل مزيد النّعماء والآلاء، ومكانتكم لدينا مكانة السّنيّ المناصب، المنتمي إلى كرام المنتميات والمناسب، المتحلّي في الغناء والاكتفاء، والخلوص والصفاء، بأكرم السّجيّات والمناقب، المعلوم ما لديه من المناصحة السّالكة بأكرم السّجيّات في المناحي الحسان على المهيع الأوضح والسّنن اللّاحب.
وقد وقفنا على كتابكم معلما بخبر فلانة وبما رأيتموه من المصلحة في تحصينها، والاجتهاد في سبب تأمينها، ونحن نعلم أنكم تريدون الإصلاح،
وتتوخّون ما تتوسمون فيه النّجاح، لكن أهمّ الأمور عندنا، وأولى ما يوافق غرضنا وقصدنا، الرّفق بالرّعيّة، وحملها على قوانين الإحسان المرعيّة، وعلى أثر وصول كتابكم وصلنا كتاب [أهل] فلانة المذكورة يشكون ضرر الخدمة المتصرّفين فيهم، ويتظلّمون من متحيّفيهم ومتعسّفيهم، وفي هذا ما لا يخفى عليكم، ولا ترضون به لو انتهى إليكم، فإنه إذا كان الناظر في خدمة ممّن لا يحسن سياسة الأمور، ولا يعلم طريق الرّفق الحاوية لرفق الخاصّة والجمهور، أعاد التّسكين تنفيرا، والتّيسير تعسيرا، وتعلمون أنا لا نقدّم على إيثار العدل في عباد الله المسلمين عملا، ولا نبغي لهم باطنة بغير التخفيف عنهم والإحسان إليهم بدلا، وأنتم أوّل وأولى من يعتقد فيه أنه يكمّل هذا المقصد، ويتحرّى في مصالح الرعايا هذا السّنن الأرشد، وقد خاطبنا أهل فلانة بما يذهب وجلهم، ويبسط أملهم، وعرّفناهم بأنكم لو علمتم ما هو جار عليهم من [بعض] الخدمة لأخذتم على يده، وجازيتموه بسوء معتمده، وأشعرناهم بأنّا قد استوصيناكم بهم خيرا، ونبّهناكم على ما يدفع عنهم ضيما ويرفع ضيرا، وأنتم إن شاء الله تستأنفون نظرا جميلا، وتؤخّرون عنهم الخدمة الذين لا يسلكون من السّياسة سبيلا، وتقدّمون عليهم من تحسن فيهم سيرته، وتكرم في تمشية الرّفق علانيته وسريرته، ومثلكم لا يؤكّد عليه في مذهب تحسن عواقبه، وغرض يوافقه القصد الاحتياطيّ ويصاحبه، إن شاء الله تعالى.(8/314)
وقد وقفنا على كتابكم معلما بخبر فلانة وبما رأيتموه من المصلحة في تحصينها، والاجتهاد في سبب تأمينها، ونحن نعلم أنكم تريدون الإصلاح،
وتتوخّون ما تتوسمون فيه النّجاح، لكن أهمّ الأمور عندنا، وأولى ما يوافق غرضنا وقصدنا، الرّفق بالرّعيّة، وحملها على قوانين الإحسان المرعيّة، وعلى أثر وصول كتابكم وصلنا كتاب [أهل] فلانة المذكورة يشكون ضرر الخدمة المتصرّفين فيهم، ويتظلّمون من متحيّفيهم ومتعسّفيهم، وفي هذا ما لا يخفى عليكم، ولا ترضون به لو انتهى إليكم، فإنه إذا كان الناظر في خدمة ممّن لا يحسن سياسة الأمور، ولا يعلم طريق الرّفق الحاوية لرفق الخاصّة والجمهور، أعاد التّسكين تنفيرا، والتّيسير تعسيرا، وتعلمون أنا لا نقدّم على إيثار العدل في عباد الله المسلمين عملا، ولا نبغي لهم باطنة بغير التخفيف عنهم والإحسان إليهم بدلا، وأنتم أوّل وأولى من يعتقد فيه أنه يكمّل هذا المقصد، ويتحرّى في مصالح الرعايا هذا السّنن الأرشد، وقد خاطبنا أهل فلانة بما يذهب وجلهم، ويبسط أملهم، وعرّفناهم بأنكم لو علمتم ما هو جار عليهم من [بعض] الخدمة لأخذتم على يده، وجازيتموه بسوء معتمده، وأشعرناهم بأنّا قد استوصيناكم بهم خيرا، ونبّهناكم على ما يدفع عنهم ضيما ويرفع ضيرا، وأنتم إن شاء الله تستأنفون نظرا جميلا، وتؤخّرون عنهم الخدمة الذين لا يسلكون من السّياسة سبيلا، وتقدّمون عليهم من تحسن فيهم سيرته، وتكرم في تمشية الرّفق علانيته وسريرته، ومثلكم لا يؤكّد عليه في مذهب تحسن عواقبه، وغرض يوافقه القصد الاحتياطيّ ويصاحبه، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثالث عشر (المكاتبات عند حدوث الآيات السّماويّة)
قال في «مواد البيان»: جرت العادة أن يكتب السلطان إلى الرعايا عند حدوث الآيات المهوّلة التي يريد الله تعالى بها إرشاد عباده إلى الإقلاع عن معصيته، والإقبال على طاعته، كالرّياح العواصف، والزّلازل والصواعق، واحتباس القطر وخروجه في التّسكاب عمّا جرت به العادة كتبا يضمّنها من الوعظ الشافي الرّقيق ما يأخذ بمجامع القلوب، ويشعرها التّقوى والرّهبة، ويبعث على المراقبة والنّظر في العاقبة.
قال: وينبغي للكاتب أن يتلطّف في الموعظة، ويبالغ في الذّكرى التي تخطر الخواطر وتقدح الأنفس، وتحرّك العزائم نحو الإخلاص، فإنه إذا أبرز هذه المعاني في صور [تشعر] (1) الخيفة من غضب الله تعالى وعقابه، وترغّب في عفوه وثوابه، نفع الله بذلك (؟) من رغب عن الهوى، ورغب في التقوى بكتابه.(8/315)
قال في «مواد البيان»: جرت العادة أن يكتب السلطان إلى الرعايا عند حدوث الآيات المهوّلة التي يريد الله تعالى بها إرشاد عباده إلى الإقلاع عن معصيته، والإقبال على طاعته، كالرّياح العواصف، والزّلازل والصواعق، واحتباس القطر وخروجه في التّسكاب عمّا جرت به العادة كتبا يضمّنها من الوعظ الشافي الرّقيق ما يأخذ بمجامع القلوب، ويشعرها التّقوى والرّهبة، ويبعث على المراقبة والنّظر في العاقبة.
قال: وينبغي للكاتب أن يتلطّف في الموعظة، ويبالغ في الذّكرى التي تخطر الخواطر وتقدح الأنفس، وتحرّك العزائم نحو الإخلاص، فإنه إذا أبرز هذه المعاني في صور [تشعر] (1) الخيفة من غضب الله تعالى وعقابه، وترغّب في عفوه وثوابه، نفع الله بذلك (؟) من رغب عن الهوى، ورغب في التقوى بكتابه.
قال: والرسم فيها أن تفتتح بحمد الله تعالى على آلائه التي يفيضها ابتلاء واختبارا، وآياته التي يرسلها تخويفا وإنذارا، وموهبته في التوقيف بسابغ نعمته على طاعته، والتحذير بدافع نقمته من معصيته، والصلاة على رسوله الذي أنقذ بشفاعته، وعصم من نزول القوارع بنبوّته. ثم يقدّم مقدّمة تتضمن أن الله تعالى يقدّم الإعذار أمام سخطه وعذابه، ويبدأ بالإنذار قبل غضبه وعقابه، فمن استيقظ من سنته، ونظر لعاقبته [ونهض] (2) إلى طاعته، وأقلع عن معصيته، كشف الرّين (3)
عن قلبه، وضاعف أجره، ومن أضرب عن موعظته، وتعامى عن تبصيره وتذكيره، أخذه على غرّته، وسلبه سربال نعمته.
ثم يأخذ في حثّ الأمة على الفزع إلى الصّلوات، والمسارعة إلى بيوت العبادات، والإكثار من التّضرّع والخشوع، والاستكانة والخنوع، بإذراء سحائب الدموع، وإخلاص التّوبة عن محتقب الآثام ومخترع الأوزار، والتّوسّل إلى الله تعالى في قبول الإنابة بقلوب نقيّة، وطويّات على الطهارة مطويّة، وسرائر صريحة، ونيّات صحيحة، يصدّقها النّدم على الماضي، وعقد العزم على الإقلاع في الآتي، والرّغبة إليه في رفع سخطه وإنزال رحمته، وما يجاري هذا.
قلت: وهذا الصّنف من المكاتبات قد ترك في زماننا، فلا عناية لأحد به أصلا، وإن كان مما يجب الاهتمام به وتقديمه.
__________
(1) بياض بالأصل، والتصحيح يقتضيه المقام. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) بياض بالأصل، والتصحيح يقتضيه المقام. حاشية الطبعة الأميرية.
(3) الرين: كالصدإ يغشى القلب.(8/316)
الصنف الرابع عشر (المكاتبات في التنبيه على شرف مواسم العبادة وشريف الأزمنة)
قال في «موادّ البيان»: إن الله وقّت لعباده أوقاتا عظّم شانها، ورفع مكانها، وأمرهم أن يتقرّبوا فيها إليه بتأدية ما فرضه عليهم لطفا بهم ورأفة، وحنانا ورحمة.
قال: ولم يزل السلطان يكتب إلى عمّاله بتنبيه الرعايا عليها، وتعريفهم فضل العبادة فيها، ليستقبلوها بالإخبات والخشوع، ويتلقّوها بالتّضرّع والخضوع، ويتوسلوا في قبول التّوبات، وغفران الخطيّات، حفظا لنظام الدين، وتفقّدا لمصالح المسلمين.
قال: وينبغي للكاتب أن يحسن التّأتّي في هذه الكتب (1) ويذكّر النّاسي وينبه الغافل اللّاهي، والمهمل السّاهي، ويحرّك النفوس نحو مصالحها، ويبعثها على الأخذ بفاضل الأعمال وصالحها.
قال: والرسم فيها أن تفتتح بحمد الله تعالى على أن وهب لعباده أوقاتا يتقبل فيها قربهم وأعمالهم، ويخفّف بالإنابة إليه عند حلولها أوزارهم وأثقالهم، فيغفر لمستغفرهم، ويعفو عن مسيئهم، ويتقبل التّوبة عن تائبهم، والصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله. ثم يقدّم مقدّمة مبنية على تعظيم هذه الأوقات، والإنابة عما في قصرها على العبادات، والمسابقة إلى الخيرات، من عظيم الثواب. ويشفع ببعث الولاة على أخذ الرعايا بالمحافظة على السّنن، وتعهّد حقّ الله تعالى فيها، والتّوسّع في توكيد الحجّة، ونفي الشبهة، وإيراد المواعظ الرادعة، والزواجر الوازعة، التي تعود بشحذ البصائر، وصفاء الضّمائر، والإتيان بحقوق هذه الأوقات وواجباتها، والفوز بما يوفّره من جزيل بركاتها، والتّوفّر على حسن مجاورتها، والتقرّب إلى الله تعالى ببذل الصّدقات، والإقبال على الصّلوات وزيارة
__________
(1) بياض بالأصل مقدار كلمة. حاشية الطبعة الأميرية.(8/317)
بيوت العبادات، ومذاكرة أهل الدّين، والسّعي في مصالح المسلمين، ونحو ذلك مما يناسبه.
ثم قال: فإن كان الكتاب مقصورا على الدعاء إلى الحجّ افتتح بالحمد لله على أن جعل لعباده حرما آمنا يمحّص ذنوبهم بزيارته، ويمحو آثامهم بحجّه ووفادته، ويلي ذلك ما يليق به من الحثّ على تأدية المناسك، وتكميل الفرائض والسّنن، وزيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك الحكم في سائر الأبواب الدّينية.
الصنف الخامس عشر (المكاتبة بالسلامة في الركوب في المواسم والأعياد وما ينخرط في سلكها من المواكب الجامعة)
قال في «مواد البيان»: جرت العادة أن يكاتب السلطان عمّاله وولاته بسلامة المواسم الإسلامية كلّها لأنها تشاهد لجميع أصناف الرّعايا وذوي الآراء المختلفة والمذاهب المتباينة، والقلوب المتعادية والمتصاحبة في أمر الدين والدنيا، وكلّ متربّص لفتنة ينتهز فرصتها. فلا تكاد هذه المشاهد تخلو من ثورة وحدوث أحداث منكرة تفضي إلى الفتن التي لا ترفع. فإذا أنعم الله تعالى بالسلامة منها، وجب التّحدّث بنعمته، والشّكر لمشيئته، وأن يكتب أمير المؤمنين بسلامة ما قبله إلى عمّاله، لتسكن الكافّة إلى ذلك، ويشتركوا في حمد الله تعالى عليه.
واعلم أن المواسم التي كان يعتاد الخلفاء الركوب فيها والكتابة بالسلامة منها هي: عيد الفطر، وعيد النّحر. وكان الخلفاء الفاطميّون بالديار المصرية يعتادون مع ذلك الركوب في غرّة السّنة، وفي أوّل رمضان، وفي الجمعة الأولى، والجمعة الثانية، والجمعة الثالثة منه، على ما تقدّم ذكره في الكلام على ترتيب المملكة في المقالة الثانية. وكذلك «عيد الغدير»: وهو عيد من أعياد الشّيعة كما سيأتي ذكره. ونحن نشير إلى ذكر مواكبها موكبا موكبا، ونذكر ما جرت به العادة في الكتابة في البشارة بالسلامة في ركوب كلّ موكب منها.
الأوّل البشارة بالسلامة في الركوب في غرّة السنة
. وقد تقدّم الكلام على
صورة الموكب في الكلام على ترتيب المملكة في الدّولة الفاطمية بالديار المصرية في المقالة الثانية.(8/318)
وقد تقدّم الكلام على
صورة الموكب في الكلام على ترتيب المملكة في الدّولة الفاطمية بالديار المصرية في المقالة الثانية.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، أورده أبو الفضل الصّوريّ في تذكرته، وهي:
الحمد لله الذي لم يزل يولي إحسانا وإنعاما، وإذا أبلى عبيده عاما أجدّ لهم بفضله عاما، فقد أمدّكم معاشر [الخلفاء (1)] كرما ومنّا، وآتاكم من جوده أكثر ممّا يتمنّى، ومنحكم من عطائه ما يوفي على ما أردتموه، {وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه} [2] وقد استقبلتم هذه السّنة السعيدة، وإذا عملتم بالطاعة كنتم مستنجزين من ثواب الله الأغراض البعيدة.
وصلّى الله على سيدنا محمد نبيّه الذي غدت الجنة مدّخرة لمن عمل بهداه لمّا سمعه، ومهيّأة لمن آمن به واتّبع النّور الذي أنزل معه، وبيّن بإرشاده ما تجري أمور السّنين عليه في العدد والحساب، ونسخ ما كانت الجاهلية [تفعله] فيه زيادة في الكفر وضلالا عن الصّواب، وعلى أخيه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي كمّل الله الإسلام بإمامته، وضاعف الأجر لأهل ولايته، ومنح شيعته مقبول شفاعته، وعلى الأئمة من ذرّيتهما خلفاء الله على خلقه، والقائمين بواجب حقّه، والعاملين في سياسة الكافّة بما يرضيه سبحانه، ويضمن غفرانه ورضوانه، وسلّم عليهم أجمعين، سلاما باقيا إلى يوم الدّين.
وإنّ أحق النّعم بنشر الذّكر وأوجبها للوصف وإعمال الفكر، نعمة رفعت الشّكّ وأزالت اللّبس، ووضح ضياؤها لأولي الألباب وضوح الشمس، واشترك الناس فتضاعفت الفائدة لديهم، وانتفعوا بذلك في تواريخهم ومعاملاتهم ومالهم وعليهم، وتلك [هي] المعرفة باليوم الذي هو مطلع السّنة وأوّلها، ومبدؤها
__________
(1) بياض بالأصل، والتصحيح من المقام. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) سورة إبراهيم 14، الآيتان 33، 34.(8/319)
ومستقبلها، وحقيقة ذلك ظهور إمام كلّ زمان. وكان ظهور إمام زماننا مولانا وسيّدنا الإمام فلان ليتساوى في الشرف برؤيته العامّة والخاصّة، فيكون استقلال ركابه إشعارا بأن اليوم الذي تجلّى فيه لأوليائه، ولرعاياه المتفيّئين ظلّ لوائه، هو افتتاح السنة وأوّل محرّمها، وعليه المعتمد في عدد تامّ الشهور وناقصها من مفتتحها إلى مختتمها يوم كذا غرّة المحرّم من سنة كذا، في عساكر لا يحصر عددها، وقبائل لا ينقطع مددها، وإذا اضطرمت نار الكفر والتهبت، طفئت بأنوارهم وخبت، وقد تقلّدت هندّية تروع إذا أشرقت وسكنت، فما الظّنّ إذا اصطحبت، والأرض بمرورها عليها مبهجة مونقة، وملائكة الله عزّ وجلّ حافّة به محدقة، فآذن بأن اليوم المذكور هو غرّة السّنة المعيّنة، وأن اليوم الفلانيّ أمسه انسلاخ كذا سنة كذا المتقدمة، لتستقيم أمورهم على أعدل نهوجهم، وليحفظ نظام دينهم في صومهم وفطرهم وحجّهم، وكذلك أصدر هذا الكتاب ليتلوه الأمير على من يسكن عمله، وجميع من قبله، ويتماثلوا في معرفته، ويحمل كلّ منهم الأمر عليه في معتقده وأسباب معاملاته، ويشكروا الله على النّعمة عليهم بهدايته.
وهو يعتمد ذلك ويطالع بكائنه فيه إن شاء الله تعالى، وكتب في اليوم المذكور.
الثاني البشارة بالسّلامة في الرّكوب في أوّل شهر رمضان
، وهي على نحو مما تقدّم في الركوب في غرّة السّنة.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، من إنشاء ابن (1) الصّير فيّ، وهو:
الحمد لله كاليء خلقه في اليقظة والمنام، والكافل لهم بمضاعفة الأجر في شهر الصّيام، وصلّى الله على سيدنا محمد الذي بعثه رحمة للأنام، وعلى أخيه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أخلص وليّ، وأشرف وصيّ، وأفضل إمام، وعلى الأئمة من ذرّيّتهما الدّاعين إلى دار السّلام، صلاة دائمة الاتّصال، مستمرّة في الغدوّ والآصال.
__________
(1) تقدمت ترجمته في الصحيفة 240من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 3.(8/320)
وإن من المسرّة التي تتهادى، والنّعمة الشاملة للخلق جميعا وفرادى، ما منّ الله به من ظهور مولانا وسيدنا الإمام فلان، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين، يوم كذا غرّة شهر رمضان من سنة كذا، إعلاما بأوّل الشّهر وافتتاحه، وأن الصيام الأوّل من فجره الأوّل قبل تنفّس صباحه، وتوجّهه إلى ظاهر المعزّيّة القاهرة المحروسة في عساكره المظفّرة وجنوده، وأوليائه وأنصاره وعبيده، والمنّة برؤيته قد تساوى فيها الكافّة، وملائكة الله مطيفة حافّة، وعوده إلى قصوره الزاهرة، وقد شمل المستظلين بأفيائه بسعادتي الدنيا والآخرة.
أصدر إليك هذا الأمر لتقف على الجملة، وتشكر النّعمة السابغة على أهل الملّة، وتتلوها على أهل عملك، وتطالع بكائنك في ذلك، فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
الثالث الكتابة بالبشارة بالسلامة في ركوب الجمعة الأولى من شهر رمضان.
وهذه نسخة كتاب من ذلك، من إنشاء ابن الصّيرفيّ أيضا، وهي:
أفضل ما سيّر ذكره، ووجب حمد الله تعالى عليه وشكره، ما عاد على الشريعة بالجمال والبهجة، وأضحى واصفه صحيح المقال صادق اللهجة، فضاعف حسنه ومحّص سيّئه، وجعل أسباب السعادة متسهّلة متهيّئة، وذلك ما يسرّه الله تعالى من استقلال ركاب سيّدنا ومولانا صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين، يوم الجمعة من شهر رمضان من سنة كذا، مؤدّيا خطبتها وصلاتها، وضامنا لأمّة ائتمّت به خلاصها يوم الفزع الأكبر ونجاتها، في وقار النبوّة وسكينة الرّسالة، والهيبة المستولية على العظمة والجلالة، والعساكر الجمّة التي تقلق بمهابتها وتزعج، وتظنّ لكثرتها واقفة والرّكاب يهملج، ولما انتهى إليه، خطب ووعظ ففتح أبواب التّوبة، وآب إلى الطاعات من لم يطمع منه بالأوبة، وصلّى صلاة تقبّلها جلّ وعزّ بقبول حسن، وقصّر في وصفها ذوو الفصاحة واللّسن، وعاد إلى مستقرّ الخلافة، ومثوى الرحمة والرافة، وعين الله له
ملاحظة، وملائكته له حافظة. أعلمت ذلك لتذيعه في أهل عملك، وتطالع بكائنك.(8/321)
أفضل ما سيّر ذكره، ووجب حمد الله تعالى عليه وشكره، ما عاد على الشريعة بالجمال والبهجة، وأضحى واصفه صحيح المقال صادق اللهجة، فضاعف حسنه ومحّص سيّئه، وجعل أسباب السعادة متسهّلة متهيّئة، وذلك ما يسرّه الله تعالى من استقلال ركاب سيّدنا ومولانا صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين، يوم الجمعة من شهر رمضان من سنة كذا، مؤدّيا خطبتها وصلاتها، وضامنا لأمّة ائتمّت به خلاصها يوم الفزع الأكبر ونجاتها، في وقار النبوّة وسكينة الرّسالة، والهيبة المستولية على العظمة والجلالة، والعساكر الجمّة التي تقلق بمهابتها وتزعج، وتظنّ لكثرتها واقفة والرّكاب يهملج، ولما انتهى إليه، خطب ووعظ ففتح أبواب التّوبة، وآب إلى الطاعات من لم يطمع منه بالأوبة، وصلّى صلاة تقبّلها جلّ وعزّ بقبول حسن، وقصّر في وصفها ذوو الفصاحة واللّسن، وعاد إلى مستقرّ الخلافة، ومثوى الرحمة والرافة، وعين الله له
ملاحظة، وملائكته له حافظة. أعلمت ذلك لتذيعه في أهل عملك، وتطالع بكائنك.
الرابع المكاتبة بالبشارة بالسلامة في ركوب الجمعة الثانية من شهر رمضان.
قد تقدم في الكلام على ترتيب المملكة بالديار المصرية في الدّولة الفاطميّة، في المقالة الثانية، أن الخليفة كان يركب في الجمعة الثانية من شهر رمضان إلى الجامع الأنور، وهو جامع باب البحر، الذي عمره الحاكم بأمر الله، وجدّده الصّاحب شمس الدين المقسيّ.
وهذه نسخة كتاب في المعنى، من إنشاء ابن الصّيرفيّ أيضا، وهي:
لم يزل غامر كرم الله وفضله، يفوق حاضره ما كان من قبله، فنعمة الله تعالى سابغة، ومننه متتابعة، وملابسها ضافية، ومغارسها نامية، وسحائبها هامية، وهو جلّ وعزّ يضاعفها على من صلّى وصام، ويواليها عند من تمسّك بالعروة الوثقى التي لا انفصال لها ولا انفصام، وتجدّد من ذلك ما كان من بروز مولانا وسيدنا الإمام فلان، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين، يوم الجمعة من شهر رمضان من سنة كذا، في شامخ عزّه، وباذخ مجده، وتوجّهه إلى الجامع الأنور المنسوب إلى مولانا الإمام الحاكم بأمر الله جدّه، سلام الله عليه وصلواته، وبركاته وتحيّاته، وعساكره قد تجاوزت الحدّ، وكثرت عن الإحصاء والعدّ، فإذا تأملها الطّرف انقلب عنها خاسئا وارتدّ.
ولما وصل إلى الجامع المذكور خطب فأورد من القول أحسنه، ووعظ فأسمع من الوعظ أوضحه وأبينه، وصلّى صلاة جهر بالقراءة فيها ورتّلها، وعاد إلى قصوره الشريفة وقد شملت البركات برؤيته، ووفّق من عمل بموعظته، ونجا من اقتدى به في صلاته، واستولى على السّعد من جميع أرجائه وجهاته. أعلمناك ذلك لتعرف قدر النّعمة به، فاشكر الله سبحانه بمقتضاه، واعتمد تلاوة هذا الأمر على رؤوس الأشهاد، فاعلم ذلك.(8/322)
الخامس المكاتبة بالسّلامة في الرّكوب في الجمعة الثالثة من شهر رمضان.
قد تقدّم في الكلام على ترتيب المملكة في المقالة الثانية أن الخليفة كان يركب في الجمعة الثالثة منه إلى الجامع العتيق (1) بمصر، فيخطب فيه ويعود إلى قصره.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، من إنشاء ابن الصّيرفيّ، وهي:
من عوائد الله سبحانه الإحسان إلى عبيده، وتعويضهم للشّكر عليه بنموّه ومزيده، والامتنان بتيسير عصيّه، وتعجيل قصيّه، وتقريب بعيده، فهو لا يخليهم من نواجمه، ولا يعفيهم من هواجمه.
ولما أقبل هذا الشهر الشريف كان من عموم بركاته، وشمول خيراته، أن مولانا وسيدنا الإمام الفلانيّ صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين، والى فيه بركاته، وزكيّ أعمال المؤمنين في استماع اختطابه والائتمام بصلاته، وفي هذا اليوم وهو يوم الجمعة من شهر رمضان، أعمل ركابه إلى الجامع العتيق بمصر ليسهم لهذه المدينة من حظّي الدنيا والآخرة، مثل ما أسهمه وعجّله لأهل المعزّيّة القاهرة. فكانت هيبته يعجز وصفها كلّ لسان، وظهر عليه السّلام في الرّداءين: السّيف والطّيلسان، والجيوش قد انبسطت وانتشرت، والنفوس قد ابتهجت واستبشرت، والألسنة قد عكفت على الدعاء بتخليد ملكه وتوفّرت. وعند وصوله خطب فأحسن في الألفاظ والمعاني، وحذّر من تأخير التّوبة
__________
(1) قال القلقشندي في (ج 3ص 512511) من هذا المطبوع ما نصّه: «فإذا كانت الجمعة الثالثة من الشهر [شهر رمضان]، ركب [أي ركب الخليفة] إلى الجامع الأزهر كذلك وفعل كما فعل في الجمعة الأولى، لا يختلف في ذلك غير الجامع. فإذا كانت الجمعة الرابعة منه، ركب إلى الجامع العتيق بمصر ويزيّن له أهل القاهرة من باب القصر إلى الجامع الطولوني، ويزيّن له أهل مصر من الجامع الطولونيّ إلى الجامع العتيق فإذا قضى الصلاة عاد إلى القاهرة من طريقه تلك إلى أن يصل إلى قصره، وفي خلال ذلك كلّه لا يمرّ بمسجد إلّا أعطى أهله دينارا على كثرة المساجد في طريقه». انظر أيضا حاشية الطبعة الأميرية.(8/323)
والتّضجيع فيها والتّواني، وصلّى صلاة شرّفها الله وفضّلها، ورضيها تبارك وتعالى وتقبّلها، وانكفأ عائدا إلى قصوره ومنازله المعظمة، ضاعف الله له ثوابه وأجره، وأوجب شكره ورفع ذكره، ويجب أن تعتمد إذاعة ذلك ليبالغ الكافّة في الاعتراف بالنّعمة فيه، ويواصلوا شكر الله تعالى عليه، والمطالعة بما اعتمد فيه.
السادس ما يكتب بالبشارة بالسّلامة في ركوب عيد الفطر.
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب الدّولة الفاطمية في المقالة الثانية، أن الخليفة كان يركب لصلاة عيد الفطر صبيحة العيد، ويخرج من باب العيد من أبواب القصر، ويتوجه إلى [المصلّى] (1) فيصلّي ويخطب، ثم يعود إلى قصوره، ويكتب بذلك إلى أعمال المملكة، تارة مع خلوّ الدّولة عن وزير، وتارة مع اشتمالها على وزير.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، مع خلوّ الدّولة عن وزير، من إنشاء ابن الصّيرفيّ، وهو:
الحمد لله ناشر لوائه في الأقطار، ومعوّض المطيعين من جزائه ببلوغ الأوطار، الذي نسخ الإفطار بالصّيام ونسخ الصّيام بالإفطار، وكلّف عباده ما يطيقونه ووعد عليه جزيل أجره، وأسبغ من نعمه ما لا يطمع [في القيام] بواجب حمده عليه وشكره، وصلّى الله على سيدنا محمد نبيّه الذي أعلن بالإيمان وباح، وبيّن المحظور في الشّريعة والمباح، وأرشد إلى ما حرّمه الإسلام وحلّله، ومهّد سبل الهدى لمن استغواه الشّيطان وضلّله، وأوضح مراتب الأوقات ومنازلها، وعرّف تفاوت الأيام وتفاضلها، وعلى أخيه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي مضت في الله عزماته، وبيّضت وجه الدّين الحنيف مواقفه ومقاماته،
__________
(1) بياض بالأصل، والزيادة يقتضيها المقام، إذ سبق وتحدّث المؤلّف عن ركوب الخليفة لصلاة عيديّ الفطر والأضحى فقال: إذا كمل رمضان، وكان اليوم الأول من شوّال، خرج الخليفة من باب العيد على عادته في ركوب المواكب، وهو يرتدي الثياب البيض الموشّحة، وركب إلى المصلّى الخ. صبح الأعشى (ج 3ص 513512). وحاشية الطبعة الأميرية.(8/324)
وعلى الأئمة من ذرّيّتهما الذين تكفّلوا أمر الأمة نصّا، وامتطوا على منارها فلم يألوا جهدا ولم يتركوا حرصا، فالحاضر منهم يوفي على من كان [من] قبله، وأحزاب الحقّ فرحون بما آتاهم الله من فضله، وسلّم عليهم أجمعين سلاما لا انقطاع لدوامه، وشرّفهم تشريفا لا انفصام لإبرامه، وأسنى ومجّد، وتابع وجدّد.
وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك يوم كذا عيد الفطر من سنة كذا: بعد أن وفّى الصّيام حقّه، وحاز أجر من جعل الله على خزائنه رزقه، وبعد أن أفطر بحضرته الأولياء من آله وأسرته، والمقدّمون من رؤساء دولته، والمتميّزون من أوليائه وشيعته. وكان من نبإ هذا اليوم أنّ أمير المؤمنين لمّا ارتقب بروزه من قصوره، وتجلّى فأشرقت الأرض بنوره، توجه إلى المصلّى قاضيا لسنّة العيد، فكانت نعمة ظهوره بالنّظر [للحاضر] وبالخبر للبعيد، واستقلّ ركابه بالعساكر المنصورة التي أبدت منظرا مفتنا معجبا، وجعلت أديم الأرض بالخيل والرّجل محتجبا، وذخرت الانتقام ممّن شقّ العصا، وتجاوزت في الكثرة عدد الرّمل والحصا، وزيّنت الفضاء بهيئتها، وروّعت الأعداء بهيبتها، وجمعت بين الطّاعة وشدّة الباس، وادّرعت من التّقوى أمنع جنّة وأحصن لباس، ولم يزل سائرا في السّكينة والوقار، ناظرا للدّنيا بعين الاحتقار، والثّرى بالجباه والشّفاه مصافح ملثوم، فهما موسومتان به وهو بهما موسوم، إلى أن وصل إلى مقرّ الصّلاة، ومحلّ المناجاة، فصلّى أتمّ صلاة وأكملها، وأدّاها أحسن تأدية وأفضلها، وأخلص في التّكبير والتّهليل إخلاص من لم يفت أمرا ويخشى الله ويتّقيه ونصح في إرشاده ووعظه، وأعرب ببديع معناه وفصيح لفظه، وعاد إلى مثوى كرامته، وفلك إمامته، محمود المقام، مشمولا بالتوفيق في النّقض والإبرام. أعلمك أمير المؤمنين ذلك لتذيعه فيمن قبلك، وتشكروا الله على النّعمة الشاملة لهم ولك، فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى. وكتب في اليوم المذكور.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، والدّولة مشتملة على وزير، عن الحافظ
لدين الله (1) العلويّ خليفة الديار المصريّة، في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، وهي:(8/325)
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، والدّولة مشتملة على وزير، عن الحافظ
لدين الله (1) العلويّ خليفة الديار المصريّة، في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، وهي:
الحمد لله الذي أعزّ الإسلام وشيّد مناره، وأيّد أولياءه ونصر أنصاره، وأظهر في مواسمه قوّته واستظهاره، وختم الشّرائع بشرف أبديّ فكان حظّها منه إيثاره، وحظّ الإسلام استبداده به واستئثاره، وصلّى الله على جدّنا محمد الذي كرّمه باصطفائه، وأسعد من حافظ على اتّباع نهجه واقتفائه، وبيّن بشرعه ما حلّله وحرّمه، ودعا الأمة بإرساله إلى دين قيّم أعلى بناءه وأحكمه، ووعدهم على مفروضه ومسنونه جزيل الأجر، وأمر في اعتقاد خلافه بالدّفع والمنع والزّجر، وعلى أخيه وابن عمّه أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أوّل الأئمة الخلفاء، والمشتهرة فضائله اشتهارا ليس به من خفاء، ومن حباه الله المحلّ الرفيع والمنّ الجزيل، وخصّه من الشّرف بما جاء فيه من محكم التّنزيل، وعلى الأئمة من ذرّيّتهما القائمين بفرض الله والمؤدّين لحقوقه، والذين كفلت أمانتهم بانبساط نور الحقّ وانتشار لوائه وخفوقه، وسلّم وكرّم، ومجّد وعظّم.
وكتاب أمير المؤمنين إليك يوم كذا عيد الفطر من سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، الذي أمر الله فيه بما نهى عنه من قبله، وضاعف الأجر بكرمه وفضله، فرفع تكاليف الصّوم، وأوجب الإفطار في هذا اليوم، وساوى في ذلك [بين] كلّ متهم ومنجد، وأمر بني آدم فيه بأخذ الزّينة عند كلّ مسجد، وكان من خبره أن الفجر لمّا طلع مبشّرا بالشمس، ومؤذنا ببعثها من الرّمس، تتابعت الجيوش الموفورة، والعساكر المنصورة، إلى أبواب القصور الزاهرة توكّفا لأنوار أمير المؤمنين، وترقّبا لظهوره قاضيا حقّ الدّين، فلما أسفر الصّبح وأضاء، وملأت الخلائق الفضاء، تجلّى من أفلاك إمامته، وبرز فأغبط كلّ مؤمن بثباته على المشايعة وإقامته، وكان ظاهرا وهو محتجب بالأنوار، وممتنعا وهو منتهب
__________
(1) تقدمت ترجمته في الصحيفة 263من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.(8/326)
بالأبصار، والكافّة يصافحون الأرض ويجتهدون في الدعاء بإخلاص نيّاتهم، والعساكر المؤيّدة لو أنّها عمّت الأرض بتطبيقها، وساوت بين قريبها وسحيقها، وصارت كالجبال الرّواسي فيها، لكانت قد تزلزلت ومادت بأهليها، وهي مع تباين أجناسها وطوائفها متظافرة على معاندي الدّولة ومخالفيها، متلائمة على الولاء، متمالئة على الأعداء، تتلفّت إلى المجاهدة كأنها الأسود إقداما وباسا، وكأنّما فصّلت جوامد الغدران سلاحا لها ولباسا، والسيّد الأجلّ الأفضل التي عظمت به المواهب وجلّت، وذهبت بوزارته الغياهب وتجلّت، وتهلّل بنظره وجه الملّة وكان عابسا، وأعاد الدّولة معصرا وقد كانت قبله عانسا، وحسنت الدّنيا بأيامه إذ ليس فيها من يضاهيه، وانتظمت أمورها على الإرادة بصدورها عن أوامره ونواهيه، ترتّب المواكب بمهابته، ويستغنى بتوغّلها في القلوب عن إيمائه وإشارته، وكلّ طائفة مقبلة على شانها، لازمة لمكانها، متصرّفة على تهذيبه وتقريره، عاملة بآدابه، فوقوفها بوقوفه ومسيرها بمسيره.
وتوجه أمير المؤمنين إلى المصلّى محفوفا بأنوار تجلّي ما أنشأته سنابك الخيل، وتمحو آية نقع قام مثارها مقام ظلام اللّيل، وعليه من وقار الإمامة، وسكينة الخلافة، ما خصّه الله تعالى به دون البريّة وحده لأنه مما ورث أمية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآله وجدّه (1)، ولما انتهى إليه قصد [المحراب] (2)
وأمّه، وأدّى الصّلاة أكمل أداء وأتمّه، ثم انتهى إلى المنبر (3) فعلاه، ومجّد الله تعالى وحمده على ما أولاه، ووعظ وعظا خوّف عاقبة المعاصي والذّنوب، وحلّ وكاء العيون وداوى مرض القلوب، وأمر بسلوك سبيل الطّاعات وأفعال البر، وحثّ على التّوفّر عليها في الجهر والسّر، وعاد إلى قصوره المكرمة، ومواطنه المقدّسة،
__________
(1) كذا بالأصل. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) بياض بالأصل، والتصحيح من المقام. حاشية الطبعة الأميرية.
(3) في الأصل «إلى المحراب فصلاه» ولا معنى لها. حاشية الطبعة الأميرية.(8/327)
وقد بذل في نصحه لله ولرسوله وللمؤمنين جهده، وفعل في الإرشاد والهداية ما لا غاية بعده.
أنبأك أمير المؤمنين خبر هذا اليوم لتشكر الله على النّعمة فيه، وتذيعه قبلك على الرسم فيما يجاريه، فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
السابع ما يكتب بالبشارة بالسلامة في ركوب عيد النّحر.
قد تقدّم في الكلام على ترتيب دولة الفاطميّين في المقالة الثانية أن الخليفة كان يركب لصلاة عيد النّحر كما يركب لصلاة عيد الفطر، تارة مع اشتمال الدّولة على وزير، وتارة مع عدم اشتمالها على وزير.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، من إنشاء ابن (1) الصّيرفيّ، وهي:
أما بعد، فالحمد لله الذي أعلى منار الملّة، وشرّف مواسم أهل القبلة، وكفّل أمير المؤمنين أمر الأيّام، كما كفّله أمر الأنام، فرأى الناس من حسن سيرته أيقاظا ما لا يرونه مجازا في المنام، وصلّى الله على جدّنا محمد نبيّه الذي أرسله إلى الناس كافّة، وجعل العصمة محيطة به حافّة، فأطلع في ظلام الشّرك شمس التوحيد وبدره، وآمن به من شرح الله للإسلام صدره، وعصاه من تمرّد فأثقل الوزر ظهره، وبيّن عبادات كرم أجرها وعظم ثوابها، وألزم طاعات جعل الجنّة للعاملين بها مفتّحة أبوابها، وعلى أخيه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب مظافره ومظاهره، والمساوي في حكمه بين باطنه وظاهره، ولم يزل حاملا على المحجّة البيضاء جاعلا ذلك من قربه وذخائره، قائما بحقوق الله جاهدا في تعظيم حرماته وشعائره، وعلى الأئمة من ذرّيّتهما نجوم الأرض وهداة أهلها، والواجبة طاعتهم على من في وعرها وسهلها، والذّابّين بالمشرفيّة عن حمى الشريعة، والّذين متابعتهم من أوجه ذريعة.
وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك يوم كذا عيد النّحر سنة كذا وكذا، وهو يوم
__________
(1) تقدمت ترجمته في الصحيفة 240من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 3.(8/328)
أظهر الله فيه قوّة الدّولة واقتدارها، وأوجب فيه رغبة ورهبة مسارعة النفوس المخالفة إلى الطاعة وابتدارها، وذلك أن عساكر أمير المؤمنين توجهت إلى قصوره الزاهرة عند انفجار الفجر، وحافظت على ما تحرزه من كريم الثّواب وجزيل الأجر، واستنزلت الرّحمة برؤية إمام الأمّة، وأعدّت الإخلاص في خدمته من أوفى الحرمات وأقوى الأذمّة، وأقامت إلى أن برز أمير المؤمنين والأنوار الساطعة طوالعه، ومهابته تمنع كلّ طرف من استقصاء تأمّله وتدافعه، وقصد المصلّى في كتائب لجبة، ومواكب للتعظيم مستوجبة، وعزّة تتبين في الشّمائل والصّفحات، وقوّة يشهد بطيب وصفها أرج النّفحات، قد غدت عددها محكّمة، وخيولها مطهّمة، وذوابلها إذا ظمئت كانت مقوّمة، وإذا رويت عادت محطّمة، تتقلّد صفائح متى انتضيت أنصفت من الجائر الحائف، ومتى اقتضبت عملا كان اقتضابها مبيّضا للصّحائف، وفي ظلّها معاقل للّائذين، وبحدّها مصارع للمنابذين، وهي للدّماء هوارق، وللهامات فوالق، ولمستغلق البلاد مفاتح ولمستفتحها مغالق.
ولما انتهى إلى المصلّى قضى الصلاة أحسن قضاء وأدّاها أفضل تأدية، واستنزل رحمة لم تزل بصلاته متمادية، وانتهى إلى المنبر فرقيه، وخطب خطبة من استخلفه الله فكان مراقبه ومتّقيه، ووعظ أبلغ وعظ، وأبان عمّا للعامل بنصحه في الدّنيا والآخرة من فائدة وحظّ، وعطف على الأضاحي المعدّة له فنحرها جريا في الطاعات على فعلها المتهادي، وأضحت تتوقع التّكميل بإنجازه وعيده في الأعادي، فالله يقضي بتصديقه، ويمنّ بتخيّله وتحقيقه، وعاد إلى قصوره المكرّمة مشكورا سعيه، مضمونا نفعه، مرضيّا فعله، مشمولا عبيده منه بما هو أهله.
أعلمك أمير المؤمنين ذلك فاعلم هذا واعمل به. وكتب في اليوم المذكور.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، والدولة مشتملة على وزير، من إنشاء ابن
قادوس (1)، وهي:(8/329)
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، والدولة مشتملة على وزير، من إنشاء ابن
قادوس (1)، وهي:
أما بعد، فالحمد لله ماحي دنس الآثام بالحجّ إلى بيته الحرام، وموجب الفوز في المعاد لمن عمل بمراشد أئمة الهدى الكرام، ومضاعف الثّواب لمن اجتهد فيما أمر الله به من التّلبية والإحرام، ومخوّل الغفران لمن كان بفرائض الحجّ ونوافله شديد الولوع والغرام، وصلّى الله على جدّنا محمد الذي لبّى وأحرم، وبيّن ما أحلّ الله وحرّم، وعلى أخيه أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي ضرب وكبّر، وحقّر من طغى وتجبّر، وعلى الأئمة من ذرّيّتهما أعلام الدّين، وحتوف المعتدين، وسلّم وكرّم، وشرّف وعظّم.
وإنّ من الأيام التي كملت محاسنها وتمّت، وكثرت فضائلها وجمّت، ووجب تخليد عزّ صفاتها، وتعيّن تسطير تأثيراتها، يوم عيد النّحر من سنة كذا، وكان من قصصه أن الفجر لما سلّ حسامه، وأبدى الصّباح ابتسامه، نهض عبيد الدّولة في جموع الأولياء والأنصار، وأولي العزيمة والاستبصار، ميمّمين القصور الزاهرة متبرّكين بأفنيتها، ومستملين بسعادتها، وتألّفوا صفوفا تبهر النواظر، ويخجل تألّفها تألّف زهر الرّوض الناضر، مستصحبين فنونا من الأزياء تروق، ومستتبعين أصنافا من الأسلحة يغضّ لمعها من لمع اللهب والبروق، والأعلام خافقة، والرّايات بألسنة النّصر، على الإخلاص لإمام العصر، متوافقة، فأقاموا على تشوّف لظهوره، وتطلّع للتّبرّك بلامع نوره.
ولما بزغت شمس سعادته، وجرت الأمور على إيثاره وإرادته، وبدت أنوار الإمامة الجليّة، وظهرت طلعتها المعظّمة البهيّة، خرّ الأنام سجودا بالدعاء والتمجيد، والاعتراف بأنّهم العبيد بنو العبيد، واستقلّ ركاب أمير المؤمنين، ووزيره السّيّد الأجلّ الذي قام بنصر الله في إنجاد أوليائه، وتكفّل للإسلام برفع
__________
(1) هو أبو الفتح محمود بن إسماعيل بن قادوس، القاضي الكاتب المصري، وصاحب ديوان الإنشاء بالديار المصرية. أصله من دمياط، وتوفي سنة 551هـ. انظر فوات الوفيات (ج 4 ص 101100).(8/330)
مناره ونشر لوائه، وناضل عن حوزة الدّين وجاهد، وناصل أحزاب الكفّار وناهد، يقوم بأحكام الوزارة، وتدبير الدولة تدبير أولي الإخلاص والطّهارة، ويتّبع آراء أمير المؤمنين فيما تنفذ به أوامره، ويعمل بأحكام الصّواب فيما تقتضيه موارده ومصادره، ويحسن السّياسة والتدبير، ويتوخّى الإصابة في كلّ صغير من أمور الدّولة العلويّة وكبير، ويخلص لله جلّ وعزّ ولإمامه، ويكفكف من الأعداء ببذل الجهد في إعمال لهذمه (1) وحسامه، وسار أمير المؤمنين والعساكر متتابعة في أثره، متوافقة على امتثال أمره، قد رفعت السّنابك من العجاج سحابا، وخيّلت جنن الجند للناظرين في البرّ عبابا. والجياد المسوّمة تموج في أعنّتها، وتختال في مراكبها وأجلّتها، وتسرع فتكسب الرّياح نشاطا، وتفيد المتعرّض لوصفها إفراطا، وتهدي لمن يحاول مماثلتها غلوّا واشتطاطا، وأصوات مرتفعة بالتهليل، وأصوات الحديد تسمع بشائر النّصر بترجمة الصّليل، ويكاد يرعب الأرض تزلزل الصّهيل، وترضّ سنابكها الهضاب وتغدو صلابها كالكثيب المهيل.
ولما انتهى ركاب أمير المؤمنين إلى المصلّى والتوفيق يكتنفه، والسعادة تصرّفه، قصد المحراب فأقام الصلاة، ونحا المنبر فشرّفه إذ علاه، وأدّى الصّلاة على أكمل الأوضاع وأتمّها، وأجمع [الأحوال] لمراضي الله وأعمّها، وانثنى للبدن المعدّة فنحر ما حضر تقرّبا لخالقه، وأجرى القانون على حقائقه، وعاد إلى قصوره الزاهرة وقد غفر الله بسعيه الذّنوب، وطهّر برؤيته القلوب، وبلّغ الأمم من المراشد نهاية المطلوب.
أعلمك أمير المؤمنين نبأ هذا اليوم الّذي تشتمل المسارّ على جميعه أوّلا وآخرا، وباطنا وظاهرا، لتذيع نبأه في عمل ولايتك، وتشيع خبره في الرعايا على جاري عادتك، فاعلم هذا واعمل به، وطالع مجلس النّظر السيديّ الأجليّ بما اعتمدته في ذلك، إن شاء الله تعالى. وكتب في اليوم المذكور.
__________
(1) اللهذم: الحادّ القاطع من الأسنّة، والجمع لهاذم ولهاذمة.(8/331)
قلت: وهذا الصنف من المكاتبات قد رفض وترك استعماله بديوان الإنشاء في زماننا.
الصنف السادس عشر (المكاتبة بالبشارة بوفاء النّيل والبشارة بالسّلامة في الركوب لفتح الخليج)
وهذه المكاتبة من خصائص الديار المصريّة، لا يشاركها فيها غيرها من الممالك. ولم يزل القائمون بالأمر بالديار المصريّة من قديم الزمان وهلمّ جرّا يكتبون بالبشارة بذلك إلى ولاة الأعمال اهتماما بشأن النّيل، وإظهارا للسّرور بوفائه، الّذي يترتب عليه الخصب المؤدّي إلى العمارة وقوام المملكة، وانتظام أمر الرّعيّة. وقد كان للخلفاء الفاطميّين القائمين بأمر الديار المصرية بذلك كبير العناية ووافر الاهتمام، وكانت عادتهم في ذلك أنّهم يكتبون بالبشارة بوفاء النّيل كتبا مفردة، وبفتح الخليج وهو المعبر عنه في زماننا بالكسر كتبا مفردة. ولعلّ فتح الخليج كان يتراخى في زمنهم عن يوم الوفاء، فيفردون كلّ واحد منهما بكتب.
فأما وفاء النّيل المبارك فهذه نسخة كتاب بالبشارة به في الأيام الفاطميّة، من إنشاء ابن قادوس، وهي:
النّعم وإن كانت شاملة للأمم، فإنّها متفاضلة الأقدار والقيم، فأولاها بشكر تنشر في الآفاق أعلامه، واعتداد تحكم بإدراك الغايات أحكامه، نعمة يشترك في النّفع بها العباد، وتبدو بركتها على النّاطق والصّامت الجماد، وتلك النّعمة النيل المصريّ الذي تبرز به الأرض الجرز في أحسن الملابس، وتظهر حلل الرّياض على القيعان والبسابس، وترى الكنوز ظاهرة للعيان، متبرّجة بالجواهر واللّجين والعقيان، فسبحان من جعله سببا لإنشار الموات، وتعالى من ضاعف به ضروب البركات، ووفّر به موادّ الأرزاق والأقوات، وهذا الأمر صادر إلى الأمير، وقد منّ الله جلّ وعلا بوفاء النّيل المبارك، وخلع على القاضي فلان بن أبي الرّدّاد في يوم كذا وكذا، وطاف بالخلع والتشريفات، والمواهب المضاعفات، بالقاهرة
المحروسة ومصر على جاري عادته، وقديم سيرته، ونودي على الماء بوفائه ستة عشر ذراعا وإصبعا من سبعة عشر ذراعا، واستبشر بالنّعمة بذلك الخلائق، وواصلوا بالشّكر مواصلة لا تستوقفهم عنها العوائق، وبدا من مسرّات الأمم وابتهاجهم ما يضمن لهم من الله المزيد، وينيلهم المنال السعيد، ويقضي لهم بالمآل الحميد. وموصّل هذا الأمر إليك فلان، فاعتمد عند وصوله إليك إكرامه وإعزازه، وإجمال تلقّيه وإفضاله، إلى ما جرت به عادة مثله من رجاء، وتنويه واحتفاء، وإكرام واعتناء، ليعود شاكرا. فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.(8/332)
النّعم وإن كانت شاملة للأمم، فإنّها متفاضلة الأقدار والقيم، فأولاها بشكر تنشر في الآفاق أعلامه، واعتداد تحكم بإدراك الغايات أحكامه، نعمة يشترك في النّفع بها العباد، وتبدو بركتها على النّاطق والصّامت الجماد، وتلك النّعمة النيل المصريّ الذي تبرز به الأرض الجرز في أحسن الملابس، وتظهر حلل الرّياض على القيعان والبسابس، وترى الكنوز ظاهرة للعيان، متبرّجة بالجواهر واللّجين والعقيان، فسبحان من جعله سببا لإنشار الموات، وتعالى من ضاعف به ضروب البركات، ووفّر به موادّ الأرزاق والأقوات، وهذا الأمر صادر إلى الأمير، وقد منّ الله جلّ وعلا بوفاء النّيل المبارك، وخلع على القاضي فلان بن أبي الرّدّاد في يوم كذا وكذا، وطاف بالخلع والتشريفات، والمواهب المضاعفات، بالقاهرة
المحروسة ومصر على جاري عادته، وقديم سيرته، ونودي على الماء بوفائه ستة عشر ذراعا وإصبعا من سبعة عشر ذراعا، واستبشر بالنّعمة بذلك الخلائق، وواصلوا بالشّكر مواصلة لا تستوقفهم عنها العوائق، وبدا من مسرّات الأمم وابتهاجهم ما يضمن لهم من الله المزيد، وينيلهم المنال السعيد، ويقضي لهم بالمآل الحميد. وموصّل هذا الأمر إليك فلان، فاعتمد عند وصوله إليك إكرامه وإعزازه، وإجمال تلقّيه وإفضاله، إلى ما جرت به عادة مثله من رجاء، وتنويه واحتفاء، وإكرام واعتناء، ليعود شاكرا. فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة أخرى من ذلك، من إنشاء ابن الصّيرفيّ، وهي:
أولى ما تحدّث به ناقله وراويه، وتعجّل المسرّة به حاضره ورائيه، ما كانت الفائدة به شائعة لا تتحيّز، والنّعمة به ذائعة لا يتخصّص أحد بشمولها ولا يتميز، إذ كان علّة لتكاثر الأقوات، وبها يكون التّماثل في البقاء والتساوي في الحيات، وذلك ما منّ الله تعالى به من وفاء النّيل المبارك، فإنه انتهى في يوم كذا في سنة كذا، إلى ستة عشر ذراعا وزاد إصبعا من سبعة عشر ذراعا، وقد سيّرنا، أيّها الأمير، فلانا بهذه البشرى إليك، وخصّصناه بالورود بها عليك، فتلقّها من الشّكر بمستوجبها، واستقبلها من الابتهاج والاغتباط بما يليق بها، واجعل الرّسوم التي جرت العادة بتوظيفها لفلان بن أبي الرّدّاد محمولة من جهتك إلى حضرتنا، لتولى إليه من جهتنا، فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى، وكتب في اليوم المذكور.
وهذا الصّنف من المكاتبات متداول بالديار المصريّة إلى آخر وقت، يكتب به في كلّ سنة عن الأبواب السلطانية إلى نوّاب السّلطنة بالممالك الشاميّة عند وفاء النّيل، وتسير به البريديّة، وربّما جبي للبريديّ من الممالك شيء بسبب ذلك.
وإذا كانت الدّولة عادلة ضمّن الكتاب أنه لا يجبى للبريديّ شيء بسبب ذلك.
وهذه نسخة مثال شريف في معنى ذلك:
ولا زال يروى عنه وإليه حديث الوفاء والنّدا، ويورد على سمعه الكريم نبأ الخصب الذي صفا موردا، ويهنّى بكلّ نعمة تكفّلت للرعايا بمضاعفة الجود ومرادفة الجدا، ويخصّ بكلّ منّة عمّت مواهبها الأنام فلن تنسى أحدا.(8/333)
وهذه نسخة مثال شريف في معنى ذلك:
ولا زال يروى عنه وإليه حديث الوفاء والنّدا، ويورد على سمعه الكريم نبأ الخصب الذي صفا موردا، ويهنّى بكلّ نعمة تكفّلت للرعايا بمضاعفة الجود ومرادفة الجدا، ويخصّ بكلّ منّة عمّت مواهبها الأنام فلن تنسى أحدا.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي، وبحر كرمها لا ينتهي إلى مدى، وبشر بشراها دائم أبدا، تهدي إليه سلاما مؤكّدا، وثناء أضحى به الشّكر مردّدا، وتوضّح لعلمه الكريم أن الله تعالى قد أجرى على جميل عاداته، وأراد بالأمّة من الخير ما هو المألوف من إراداته، ومنح مزيد النّعم التي لم تزل تعهد من زياداته، فأسدى معروفه المعروف إلى خلقه، وأيّدهم بما يكون سببا لمادّة عطائه ورزقه، فبلّغهم تأميلهم، وأجرى نيلهم، وزادهم بسطة في الأرض، وملأ به الملا وطبّق به البلاد طولها والعرض، ونشر على الخافقين لواء خصبه، وأتى بعسكرريّه لقتل المحل وجدبه، وبينما هو في القاع إذ بلغ بإذن ربّه، فجعل من الذّهب لباسه، وعطّر بالشّذا أنفاسه، ولم يترك خلال قطر إلّا جاءه فجاسه، ونصّ السّير فسيّر نصّ مجيئه في الأرض لمّا صحّح بالوفاء قياسه، وغازلته الشمس فكسته حمرة أصيلها لما غدت له بمشاهدتها ماسه، ولم يكن في هذا العام إلّا بمقدار ما قيل: أقبل إذ قيل: وفّى، ومدّ في الزيادة باعا وبسط ذراعا، وأطلق بمواهب أصابعه كفّا، وعاجل إدراك الهرم في ابتداء أمره مطال شبابه، ومرّ على الأرض فحلا في الأفواه لمّا ساغ شكر سائغ شرابه، واعتمد على نصّ الكتاب العزيز فكاد أن يدخل كلّ بيت من بابه.
ولما كان يوم كذا من شهر كذا الموافق لكذا من شهور القبط بادرت إلى الوفاء شيمه، وأغنت أمواجه عن منّة السّحب فذمّت عندها ديمه، وزار البلاد منه أجلّ ضيف فرشت له صفحة خدّها للقرى فعمّها كرمه، وبلغ من الأذرع ستة عشر ذراعا ورفع لواءه بالمزيد ونشر، وجاء للبشر بأنواع البشر، فرسمنا بتعليق ستر مقياسه، وتخليقه وتضويع أنفاسه، وفي صبيحة اليوم المذكور كسر سدّ خليجه على العادة، وبلغ الأنام أقصى الإرادة، وتباشر بذلك العامّ والخاصّ، وأعلنت الألسنة بحمد ربّها بالإخلاص، وسطّرها وهو بفضل الله ورحمته متتابع المزيد،
بسيط بحره المديد، متجدّد النّموّ في كلّ يوم من أيّام الزّيادة جديد. فالجناب العالي يأخذ من هذه البشرى بأوفر نصيب، ويشكر نعمة الله على ما منح إن شاء الله هذا العام الخصيب، ويذيع لها خبرا وذكرا، ويضوّع بطيّ هنائها نشرا، ويتقدّم بأن لا يجبى عن ذلك بشارة بالجملة الكافية، لتغدو المنّة تامة والمسرّة وافية، وقد جهزنا بهذه المكاتبة فلانا، وكتبنا على يده أمثلة شريفة إلى نوّاب القلاع الفلانية [جريا] (1) على العادة، فيتقدّم بتجهيزه بذلك على عادة همّته، فيحيط علمه بذلك.(8/334)
ولما كان يوم كذا من شهر كذا الموافق لكذا من شهور القبط بادرت إلى الوفاء شيمه، وأغنت أمواجه عن منّة السّحب فذمّت عندها ديمه، وزار البلاد منه أجلّ ضيف فرشت له صفحة خدّها للقرى فعمّها كرمه، وبلغ من الأذرع ستة عشر ذراعا ورفع لواءه بالمزيد ونشر، وجاء للبشر بأنواع البشر، فرسمنا بتعليق ستر مقياسه، وتخليقه وتضويع أنفاسه، وفي صبيحة اليوم المذكور كسر سدّ خليجه على العادة، وبلغ الأنام أقصى الإرادة، وتباشر بذلك العامّ والخاصّ، وأعلنت الألسنة بحمد ربّها بالإخلاص، وسطّرها وهو بفضل الله ورحمته متتابع المزيد،
بسيط بحره المديد، متجدّد النّموّ في كلّ يوم من أيّام الزّيادة جديد. فالجناب العالي يأخذ من هذه البشرى بأوفر نصيب، ويشكر نعمة الله على ما منح إن شاء الله هذا العام الخصيب، ويذيع لها خبرا وذكرا، ويضوّع بطيّ هنائها نشرا، ويتقدّم بأن لا يجبى عن ذلك بشارة بالجملة الكافية، لتغدو المنّة تامة والمسرّة وافية، وقد جهزنا بهذه المكاتبة فلانا، وكتبنا على يده أمثلة شريفة إلى نوّاب القلاع الفلانية [جريا] (1) على العادة، فيتقدّم بتجهيزه بذلك على عادة همّته، فيحيط علمه بذلك.
وهذه نسخة أخرى في معنى ذلك، كتب بها في سابع عشر ذي القعدة سنة ست وستين وسبعمائة، وصورتها بعد الصّدر:
وبشّره بأخصب عام، وأخصّ مسرّة هناؤها للوجود عامّ، وأكمل نعمة تقابل العام من عيون الأرض بمزيد الإنعام.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه أتمّ سلام، وأعمّ ثناء تام، وتوضح لعلمه الكريم، أن الله تعالى وله الحمد قد جرى في أمر النيل المبارك على عوائد ألطافه، ومنح عباده وبلاده من مديد نعمه مزيد إسعافه، وأورد الآمال من جوده منهلا عذبا، وملأها به إقبالا وخصبا، وأحيا به من موات الأرض فاهتزّت وربت، وأنبتت كلّ بهيج وأنجبت، وأينعت الرّياض فجرت فيها الرّوح ودبّت، وامتلأت الحياض ففاضت بالمياه وانصبّت، وطلع كالبدر في ازدياده، وتوالى على مديد الأرض بأمداده، إلى أن بلغ حدّه، ووصّل الفرج ومنع الشّدّة، وفي يوم كذا من شهر كذا الموافق لكذا وكذا من شهور القبط، وفّاه الله ستة عشر ذراعا فاه فيها بالنّجح، وعمّ ثراه الأرض فأشرق بعد ليل الجدب بالرّخاء أضوأ صبح، وفي ذلك اليوم علقّ ستره، وخلّق مقياسه فاشتهر ذكره، وكسر سدّه،
__________
(1) بياض بالأصل مقدار كلمة والتصحيح يقتضيه المقام حاشية الطبعة الأميرية.(8/335)
وتوالى مدّه، ونجز من الخصب وعده، وعلا التّرع والجروف، وقطع الطريق فأمّن من الجدب المخوف، وأقبل بوجهه الطّلق المحيّا، وأسبل على الأرض لباس النّفع فبدّلها بعد الظّمإ ريّا، فحمدنا الله تعالى على هذه النّعم، ورأينا أن يكون للجناب العالي أوفر نصيب من هذا الهناء الأعم، وآثرنا إعلامه بذلك، ليكون في شكر هذه النّعمة أكبر مشارك، فالجناب العالي يأخذ حظّه من هذه البشرى، ويتحقق ماله عندنا من المكانة التي خصّته في كلّ مبهجة بالذّكرى، ويتقدّم أمره الكريم بأن لا يجبى عن ذلك حقّ بشارة، ولا يتعرّض إلى أحد بخسارة، وقد جهّزنا بذلك فلانا.
الصنف السابع عشر (فيما يكتب في البشارة بركوب الميدان الكبير بخطّ اللّوق عند وفاء النّيل في كلّ سنة)
وهو مما يتكرر في كلّ سنة عند ركوب الميدان، ويكتب به إلى جميع النوّاب الأكابر والأصاغر، وتجهّز إلى أكابر النوّاب خيول صحبة المثال الشريف، ويرسم لهم بالركوب في ميادين الممالك للعب الكرة، تأسّيا بالسلطان، فيركبون ويلعبون الكرة. والعادة في مثل ذلك أن تنشأ نسخة كتاب من ديوان الإنشاء الشريف، ويكتب بها إلى جميع النيابات، لا يختلف فيها سوى صدرها، بحسب ما يقتضيه حال ذلك النائب.
وهذه نسخة مثال شريف في معنى ذلك، كتب به في ذي القعدة سنة ستين وسبعمائة لنائب طرابلس، وصورته بعد الصّدر:
ولا زال تحمل إليه أنباء ما يبرد غلّته من مضاعفة السّرور، وتبثّ له أقوال الهناء بما يجبّ علته من النّصر الموفور، ونخصّه من إقبالنا الشريف بأكمل تكريم وأنمّ حبور.
صدرت هذه المكاتبة تهدي إليه من السّلام والثناء كذا كذا، وتوضّح لعلمه الكريم أننا نتحقّق مضاء عزائمه حربا وسلما، واعتلاء هممه التي تحرس بها
الممالك وتحمى، وأنّ صوافنه (1) ترتبط لتركض، وتحبس لتنهض، فلذلك نعلمه من أنباء استظهارنا ما يبهج خاطره، ويقرّ ناظره، وهو أنّنا لما كان في يوم السبت المبارك خامس شوّال، توجّه ركابنا الشريف إلى الميدان السعيد وفاض به جودنا فاخضرّت مروجه، وظهر به نيّرنا الأعظم فأشرقت آفاقه وتشرّفت بروجه، وأقرّ العيون منير وجهنا المبارك وبهيجه، وغدا كلّ وليّ بموالاة إنعامنا مشمولا، وبمنالات إكرامنا موصولا، وركض الأولياء بين أيدينا جيادا ألفت نزالا وعرفت طرادا، وانعطفت لينا وانقيادا، وعدنا إلى مستقرّ ملكنا الشريف وقد جدّد الله تعالى لنا إسعادا، وأيّد لعزمنا المعان مبدأ ومعادا، وآثرنا إعلام الجناب العالي بهذه الوجهة الميمونة، والحركة التي هي بالبركة مقرونة، ليأخذ حظّه من السّرور بذلك والهنا، ويتحقق من إقبالنا الشريف عليه ما يبلغ به المنى.(8/336)
صدرت هذه المكاتبة تهدي إليه من السّلام والثناء كذا كذا، وتوضّح لعلمه الكريم أننا نتحقّق مضاء عزائمه حربا وسلما، واعتلاء هممه التي تحرس بها
الممالك وتحمى، وأنّ صوافنه (1) ترتبط لتركض، وتحبس لتنهض، فلذلك نعلمه من أنباء استظهارنا ما يبهج خاطره، ويقرّ ناظره، وهو أنّنا لما كان في يوم السبت المبارك خامس شوّال، توجّه ركابنا الشريف إلى الميدان السعيد وفاض به جودنا فاخضرّت مروجه، وظهر به نيّرنا الأعظم فأشرقت آفاقه وتشرّفت بروجه، وأقرّ العيون منير وجهنا المبارك وبهيجه، وغدا كلّ وليّ بموالاة إنعامنا مشمولا، وبمنالات إكرامنا موصولا، وركض الأولياء بين أيدينا جيادا ألفت نزالا وعرفت طرادا، وانعطفت لينا وانقيادا، وعدنا إلى مستقرّ ملكنا الشريف وقد جدّد الله تعالى لنا إسعادا، وأيّد لعزمنا المعان مبدأ ومعادا، وآثرنا إعلام الجناب العالي بهذه الوجهة الميمونة، والحركة التي هي بالبركة مقرونة، ليأخذ حظّه من السّرور بذلك والهنا، ويتحقق من إقبالنا الشريف عليه ما يبلغ به المنى.
وهذه نسخة مثال شريف في المعنى، كتب به في العشرين من شعبان، سنة أربع وخمسين وسبعمائة. وصورته بعد الصّدر:
ولا زالت ميادين سعده لا تتناهى إلى مدى، وكرات كرّاته في رحاب النّصر تلمع كنجم الهدى، ومدوّر صوالجه كشواجر المرّان (2) تحلو بتأييدها للأولياء وتغدو مريرة للعدا.
صدرت هذه المكاتبة وظفرها لا يزال مؤيّدا، ونصرها لا برح مؤبّدا، تهدي إليه سلاما مؤكّدا، وثناء كنشر الأرض بالنّدى، وتوضّح لعلمه أننا لم نزل بحمد الله نتّبع سنن سلفنا الشريف، ونجري الأمور على عوائد جميلهم المنيف، ونرى تمرين الأولياء على ممارسة الحروب، ونؤثر إبقاء آثار الجهاد فيهم على أحسن أسلوب، فلذلك لا نخلّ في كلّ عام بالتّعاهد إلى الميدان السعيد، والركوب إليه
__________
(1) الصوافن: ج صافن، والصافن من الخيل هو القائم على ثلاث قوائم وقد أقام الرابعة على طرف الحافر. لسان العرب ومحيط المحيط (صفن).
(2) المرّان: الرماح الصلبة اللدنة، جمع مرّانة، والرماح الشواجر: المختلفة المتداخلة.(8/337)
في أسعد طالع يبديء النّصر ويعيد لما في ذلك من ابتهاج يتجدّد، وأسباب مسرّة لكافّة الأنام تتأكّد، ودعوات ألسنتها تتضاعف من الرعية وتتردّد.
ولما كان في يوم السبت المبارك سادس عشر شهر رجب الفرد، ركبنا إلى الميدان السعيد في أتمّ وقت أخذ من السّعد بمجموعه، وأظهر في أفق العساكر من وجهنا الشريف البدر عند طلوعه، ولم نبرح يومنا المذكور في عطاء نجيده، وإنعام نفيده، وإطلاق نبدئه ونعيده، والأولياء بين أيدينا الشريفة يمرحون، وفي بحار كرمنا المنيف يسبحون، وفي ميدان تأييدنا المطيف يسيحون، والكرات كالشمس تجنح تارة وتغيب، وتخشى من وقع الصّوالجة فتقابلها بوجه مصفرّ مريب. ثم عدنا إلى القلعة المنصورة على أتمّ حال، وأسعد طالع بلّغ الأنام الأمان والآمال، والعساكر بخدمتنا الشريفة محدقون، ومماليكنا بعقود ولائنا مطوّقون، والرّعايا قد ألبسها السّرور أثوابا، وفتح لها من الابتهاج أبوابا، وقد آثرنا إعلام الجناب بذلك ليأخذ حظّه من هذه المسرّة والبشرى، ويشترك هو والأنام في هذه النّعمة الكبرى، ومرسومنا للجناب أن يتقدّم بالركوب بمن عنده من الأمراء في ميدان طرابلس المحروسة، ويلعب بالكرة على جاري العادة في ذلك، ليساهم أولياء دولتنا القاهرة في ذلك، ويسلك من طرقهم الجميلة أجمل المسالك.
قلت: وهذا الصّنف من المكاتبات السلطانية لم يزل مستعملا بديوان الإنشاء، يكتب له كلّما ركب السلطان إلى الميدان الصّالحيّ بخطّ اللّوق، إلى أن عطّل جيده من الركوب في أواخر الدّولة الظاهرية «برقوق» واقتصر على لعب الكرة في الميدان الذي جرت به العادة، فتركت المكاتبة بذلك من ديوان الإنشاء ورفض استعمالها.
الصنف الثامن عشر (المكاتبة بالبشارة بحجّ الخليفة)
لما كانت الأسفار، محلّ الأخطار، وموقع الاختلاف وحدوث الفتن، كانت الخلفاء يكتبون الكتب إلى عمّالهم بالسلامة عند الإياب من السّفر للحجّ وغيره.
والرّسم فيها أن يذكر أن الحجّ من أجلّ العبادات، وأن من النعمة [أن يمنّ] (1)
الله تعالى بقضاء المناسك، والوقوف بالمشعر الحرام، والطّواف بالبيت العتيق، والسّعي بين الصّفا والمروة، وما يجري مجرى ذلك من شعائر الحجّ، ثم بعد بزيارة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، واتفاق الكلمة في جميع هذه الأحوال، على كثرة الخلائق ومزيد الجيوش والعساكر.(8/338)
لما كانت الأسفار، محلّ الأخطار، وموقع الاختلاف وحدوث الفتن، كانت الخلفاء يكتبون الكتب إلى عمّالهم بالسلامة عند الإياب من السّفر للحجّ وغيره.
والرّسم فيها أن يذكر أن الحجّ من أجلّ العبادات، وأن من النعمة [أن يمنّ] (1)
الله تعالى بقضاء المناسك، والوقوف بالمشعر الحرام، والطّواف بالبيت العتيق، والسّعي بين الصّفا والمروة، وما يجري مجرى ذلك من شعائر الحجّ، ثم بعد بزيارة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، واتفاق الكلمة في جميع هذه الأحوال، على كثرة الخلائق ومزيد الجيوش والعساكر.
وهذه نسخة كتاب بالسلامة من سفر الحجّ، وهي:
الحمد لله الذي جعل بيته مثابة للناس وأمنا، وحرما من دخله كان آمنا، الذي اختار دين الإسلام على الأديان، وابتعث به صفوته من الإنس والجان، محمدا أكرم بني معدّ بن عدنان.
يحمده أمير المؤمنين أن أعانه على تأدية حقّه، ونصبه لكفالة خلقه، ووفّقه للعمل بما يرضيه ويدني إليه، ويسأله أن يصلّي على خير من غار وأنجد، وصدر وورد، وركع وسجد، ووحّد ومجّد، وصلّى وعبد، وحلّ وأحرم، وحجّ الحرم، وأتى المستجار والملتزم، والحطيم (2) وزمزم، محمد سيّد ولد آدم، وعلى أخيه وابن عمّه مصباح الدّلالة، وحجاب الرّسالة، إمام الأمّة، وباب الحكمة، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، ممزّق الكتائب، ومفرّق المواكب ومحطّم القواضب، في القلل والمناكب، وعلى الأئمة من ذرّيّتهما الهادين، صلاة باقية في العالمين.
وإنّ أولى النّعم بأن يستعذب ذكرها، ويستعطر نشرها، وتتحدّث بها الألسنة، وتعدّ في مواهب الله الحسنة، نعم الله تعالى في التوفيق لحجّ بيته الذي جعله مثابة لزائريه، والإطافة بحرمه الذي يوجب المغفرة لقاصديه، والنّزول
__________
(1) بياض بالأصل والتصحيح مما يقتضيه المقام. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) الحطيم: موضع بين الركن والمقام وزمزم والحجر. معجم البلدان (ج 2ص 273) وزمزم هي البئر المباركة المشهورة، قيل: سميت زمزم لكثرة مائها، وقيل: هو اسم لها. معجم البلدان (ج 3 ص 147).(8/339)
بأفنيته التي من يخدم بها فقد انسلخ من السّيّئات، وتلبّس بالحسنات، وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك يوم النّفر الأوّل، وقد قضى بحمد الله تفثه (1)، ووفّى نذره، وتمّم حجّه، وكمّل طوافه، وشهد منافعه، وأدّى مناسكه، ووقف الموقف بين يدي ربّه قانتا داعيا، وراغبا راجيا، وعرّفه بعرفات إعلامه قبول سعيه، وإجابة تلبيته، وبلّغه في منّى أمانيّه من رأفته، وأراه من مخايل الرّحمة، ودلائل المغفرة، ما تلألأت أنواره، وتوضّحت آثاره، وأجراه على تفصيل العبارة في شمول السّلامة لكلّ من حجّ بحجّه، ووقف موقفه من أوليائه وخاصّته، وعامّته ورعيّته، وأنعم باتفاق كلمتهم، واجتماع أهويتهم، واكتناف الدّعة والسّكون لهم، وزوال الاختلاف والمباينة بينهم.
فإن أراد زيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: وهو يصدر بإذن الله تعالى عن موقفه هذا من البيت الحرام، إلى زيارة قبر النبيّ عليه السّلام.
فإن أزمع الانكفاء إلى مقرّه، قال:
وأشعرك أمير المؤمنين ذلك وهو عائد بمشيئة الله تعالى إلى مقرّ خلافته، في عزّ من قدرته، وعلوّ من كلمته، وامتداد من سلطانه، وتضاعف من جنده وأعوانه، لتأخذ بحظّك من الابتهاج والجذل، وتذيعه بين أهل العمل، ليشاركك العامّة في العلم بهذه النّعمة فيخلصوا لله الشّكر عليها، ويرغبوا إليه في الزيادة منها، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة كتاب بسلامة الخليفة من سفر في الجملة.
والرسم فيه أن تذكر نعمة الله تعالى بما منح أمير المؤمنين في سفره ذلك، من بلوغ المآرب، وتسهيل المقاصد، وإدراك الأوطار، وشمول النّعمة في الذّهاب والإياب، وما يجري مجرى ذلك ممّا ينخرط في هذا السّلك، وهذه نسخته:
__________
(1) التفث: المناسك، قال الله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم}. سورة الحج 22، الآية 29.(8/340)
الحمد لله ذي الطّول والإنعام، والفضل والإكرام، والمنن العظام، والأيادي الجسام، الذي أرعى أمير المؤمنين من حياطته عينا لا تنام، واستخدم لحراسته والمراماة دونه اللّيالي والأيام، وقضى له بالتوفيق والسّعادة في الظّعن والمقام.
يحمده أمير المؤمنين أن استخلصه لإمامة الأنام، وعدق به أساليب النّقض والإبرام، ويسأله الصلاة على من اختصّه بشرف المقام، وابتعثه بدين الإسلام، وجلا به حنادس الظّلام، محمد خاتم الأنبياء الكرام، وعلى أخيه وابن عمّه الهمام الضّرغام، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب مكسّر الأصنام، وعلى الأئمة من ذرّيّتهما أعلام الأحكام، وأدلّة الحلال والحرام.
وإن أمير المؤمنين لا يزال يتحدّث بنعم الله مستدرّا لأخلافها، منتصبا لقطافها، ويفيض في ذكرها، مستدعيا للزيادة بشكرها، ويطلع خلصاءه على حسن آثارها لديه، وسبوغ ملابسها عليه، ليأخذوا بحظّ من الغبطة والاستبشار، ويسرحوا في مسارح المباهج والمسارّ، وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك حين استقرّ ركابه بناحية كذا، مبشرا لك بنعمة الله في حياطته، وموهبته في سلامته، وما أولاه من إنارة (؟) الدّليل، وتسهيل السّبيل، وطيّ المجاهل، وتقريب المنازل، وإعذاب المناهل، وإنالة الأوطار، وتدميث الأوعار، وبركة المتصرّف، وسعادة المنصرف، ووصوله إلى مقصده قرير العين، قليل الأين (1)، محفوظا ساريا وآئبا، مكلوءا عائدا وذاهبا، مشرّد النّصب مسرورا، موفور النّصيب محبورا، في اجتماع من كلمة أوليائه على طاعته، ونفوذ بصائرهم في نصر رايته، وإعانته على ما استحفظه من عباده، واسترعاه من بلاده: ليأخذ بالحظّ الأجزل، من الابتهاج والجذل، ويشكر الله تعالى على هذه النّعمة المتجدّدة، ويضيفها إلى سوالف نعمه التّالده، ويذيعها بين رعيّته، وأنصار دعوته، ليشتركوا في ارتشاف لعابها،
__________
(1) الأين: الإعياء.(8/341)
والتحاف أثوابها، فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
قلت: وهذا الصّنف من المكاتبات السلطانية قليل الوقوع، فإن وقع مثله للكاتب في زماننا، خرّجه على نسبة الأسلوب المتقدّم.
الصنف التاسع عشر (الكتابة بالإنعام بالتشاريف والخلع)
وهذا الصّنف ممّا أغفله صاحب «موادّ البيان» ولا بدّ منه.
والرسم فيه أن يكتب عن الخليفة أو السلطان إلى من أخلص في الطاعة، أو ظهرت له آثار كفاية، كفتح أو كسر عدوّ، وما يجري مجرى ذلك.
وهذه نسخة (1) كتاب كتب به أبو إسحاق (2) الصّابي عن الطائع (3) لله، إلى صمصام (4) الدّولة بن عضد الدّولة بن بويه، قرين خلعة وفرسين بمركبين من ذهب وسيف وطوق، وهي:
من عبد الله عبد الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين، إلى صمصام الدّولة وشمس الملّة أبي كاليجار بن عضد الدّولة وتاج الملّة مولى أمير المؤمنين.
__________
(1) وردت نسخة هذا الكتاب في الجزء السادس من هذا المطبوع ص 397396.
(2) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 1ص 138من هذا الجزء.
(3) هو أبو بكر عبد الكريم بن الفضل المطيع لله بن جعفر المقتدر بالله بن المعتضد بالله. بايعه والده المطيع لله بالخلافة بعد أن خلع المطيع نفسه في سنة 363هـ. قيل: خلع من قبل الحاجب سبكتكين وذلك لفالج أصابه فثقل لسانه وتعذّرت الحركة عليه. تولّى الطائع لله الخلافة ببغداد حتى سنة 381هـ حيث خلعه بهاء الدولة بن عضد الدولة بإشارة الأمراء ومعونتهم وسملوا عينيه. توفي ليلة عيد الفطر سنة 393هـ. انظر تاريخ بغداد (ج 11ص 79)، وفوات الوفيات (ج 2ص 376375)، والكامل في التاريخ (ج 8ص 637، 645) و (ج 9ص 8079، 175) و (ج 10ص 61)، والبداية والنهاية (ج 11ص 276، 282) والأعلام (ج 4ص 53).
(4) هو ابن عضد الدولة صاحب بلاد فارس، خرج عليه ابن عمه أبو نصر بن بختيار وقتله في سنة 388هـ، بعد حكم دام تسع سنين وأشهر. انظر تاريخ ابن خلدون (ج 7ص 709، 997993) والبداية والنهاية (ج 11ص 325).(8/342)
سلام عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو، ويسأله أن يصلّي على جده (1) محمد عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
أما بعد أطال الله بقاءك فإن أمير المؤمنين وإن كان قد بوّأك المنزلة العليا، وأنالك من أثرته الغاية القصوى، وجعل لك ما كان لأبيك عضد الدّولة وتاج الملّة رحمة الله عليه من القدر والمحلّ، والموضع الأرفع الأجلّ، فإنه يوجب لك عند كلّ (2) أثر يكون منك في الخدمة، ومقام حمد تقومه في حماية البيضة، إنعاما يظاهره، وإكراما يتابعه ويواتره. والله يزيدك (3) من توفيقه وتسديده، ويمدّك بمعونته وتأييده، ويخير لأمير المؤمنين فيما رأيه مستمرّ عليه من مزيدك وتمكينك، والإبقاء بك وتعظيمك، وما توفيق أمير المؤمنين إلّا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.
وقد عرفت أدام الله عزّك ما كان من [أمر كردويه] (4) كافر نعمة أمير المؤمنين ونعمتك، وجاحد صنيعته وصنيعتك، في الوثبة التي وثبها، والكبيرة التي ارتكبها، وتقديره (5) أن ينتهز الفرصة التي لم يمكّنه الله منها، بل كان من وراء [ذلك] دفعه وردّه عنها، ومعاجلتك إياه الحرب التي أصلاه الله نارها، وقنّعه عارها وشنارها (6)، حتّى انهزم والأوغاد (7) الذين شركوه في إثارة الفتنة، على أقبح أحوال الذّلّة والقلّة، بعد القتل الذّريع، والإثخان الوجيع. فالحمد لله على هذه النعمة التي جلّ موقعها، وبان على الخاصّة والعامّة أثرها، ولزم أمير المؤمنين خصوصا والمسلمين عموما نشرها والحديث بها، وهو المسؤول إقامتها وإدامتها برحمته.
__________
(1) هذه الكلمة ساقطة في الجزء السادس من هذا المطبوع من صبح الأعشى ص 396.
(2) في الجزء السادس من هذا المطبوع «عند بذلك أثرا» انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(3) في المصدر المذكور: «والله يؤيّدك». حاشية الطبعة الأميرية.
(4) الزيادة من المصدر المذكور. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(5) في المصدر السابق: «وتقريره».
(6) الشنار: أقبح العيب، والعار.
(7) الأوغاد: ج وغد، وهو الأحمق الدنيء.(8/343)
وقد رأى أمير المؤمنين أن يجازيك عن هذا الفتح العظيم، والمقام المجيد الكريم، بخلع (1) تامّة، ودابّتين بمركبين (2) من ذهب من مراكبه، وسيف وطوق وسوار مرصّع، فتلقّ ذلك بشكر الله (3) تعالى عليه، والاعتداد بنعمته فيه، والبس خلع أمير المؤمنين وتكرمته، وسر [من بابه] (4) على حملاته، وأظهر ما حباك به لأهل حضرته، ليعزّ الله بذلك وليّه ووليّك، ويذلّ عدوّه وعدوّك، إن شاء الله تعالى، والسّلام عليك ورحمته وبركاته. وكتب فلان (5) لثمان بقين من شهر ربيع الأوّل سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، أطال الله بقاءك، وأدام عزّك، وأجزل (6)
حفظك وحياطتك، وأمتع أمير المؤمنين بك وبالنعمة فيك وعندك.
قلت: وهذا الصنف من المكاتبات السلطانية باق على الاستعمال، متى أنعم السلطان على نائب سلطنة أو أمير أو وزير أو غيره بخلعة بعث بها إليه وكتب قرينها مثال شريف بذكر ذلك، إلّا أنه أهمل في ذلك السّجع والازدواج، واقتصر فيه على الكلام المحلول كما في غيره من المكاتبات، إلّا في النادر المعتنى بشأنه.
الصنف العشرون (المكاتبة بالتّنويه والتلقيب)
قال في «موادّ البيان»: جرت عادة الخلفاء بالكتابة بالتلقيب، لأن اللّقب موهبة من مواهب الإمام، أمضاها وأجازها، فإذا جرت عليه كانت كغيرها من نعمه التي يمنحها على عبيده، والكنية تكرمة يستعملها الناس فيما بينهم، فليس حكمها كحكم اللّقب.
__________
(1) الخلع: ج خلعة، وهي الثوب الذي يعطى منحة، أو خيار المال، أو ما يخلع على الإنسان.
(2) في الجزء السادس من هذا المطبوع ص 397: «ومركبين من ذهب» وهذا أوضح.
(3) في المصدر السابق: «بالشكر عليه».
(4) بياض بالأصل والتصحيح من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(5) في المصدر السابق: «وكتب أحمد بن محمد».
(6) في المصدر السابق: «وأحسن».(8/344)
قال: والرسم في هذه الكتب أن تفتتح بحمد الله على نعمه السّابغة الضّافية، ومواهبه الزّاهية النامية، وعوارفه التي جعلها جزاء للمحسنين، وزيادة للشّاكرين، ونحو هذا مما يليق أن يفتتح به هذا الغرض، والصّلاة على سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم. ثم يقال:
وإنّ أمير المؤمنين بما خوّله الله تعالى من نعمه، وبوّأه من قسمه، وخصّه به من التمكين في أرضه، والمعونة على القيام بفرضه، يرى المنّ على خلصائه، وإسباغ النّعم على أوليائه، واختصاصهم بالنّصيب الأوفر من حبائه، والإمالة بهم إلى المنازل الباذخة، والرّتب الشّامخة، وإن أحقّ من وفر قسمه من مواهبه، وغزر سهمه من عطاياه ورغائبه، من تميّز بما تميزت به من إخلاص ومطاوعة، وولاء ومشايعة، وانقياد ومتابعة، وصفاء عقيدة وسريرة، وحسن مذهب وسيرة، ولذلك رأى أمير المؤمنين أن ينعتك بكذا لاشتقاقه هذا النّعت من سماتك، واستنباطه إياه من صفاتك، وشرّفك من ملابسه بكذا، وطوّقك بطوق أو بعقد وقلّدك بسيف من سيوفه، وعقد لك لواء من ألويته، وحملك على كذا من خيله وكذا من مراكبه.
وبحسن الوصف في كلّ نوع من هذه الأنواع واشتقاق الألفاظ من معانيه، يعرب عن قدر الموهبة فيه. ثم يقال: إبانة لك عن مكانك من حضرته، وإثابة على تشميرك في خدمته، فالبس تشريفه وتطوّق، وتقلّد ما قلّدك به، واركب حمولاته، وابرز للخاصّة والعامّة في ملابس نعمائه، وارفل في حلل آلائه، وزيّن موكبك بلوائه، وقل {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي} * (1) وأعنّي على ما يسترهنها لديّ، وخاطب أمير المؤمنين متلقبا بسمتك متنعّتا بنعتك.
وهذه نسخة مكاتبة إلى الأفضل (2) بن ولخشي، وزير الحافظ (3) لدين الله
__________
(1) سورة النمل 27، الآية 19.
(2) هو رضوان بن ولخشى، والأفضل لقب له، لقّب بالملك الأفضل، وقد ذكره ابن الأثير باسم رضوان ابن الأريحيّ، وقد تقدمت ترجمته في الصحيفة 263من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 3.
(3) تقدمت ترجمته في الصحيفة 263من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.(8/345)
الفاطميّ، أحد خلفاء الفاطميين بالديار المصريّة، حين قرّر الحافظ نعوته:
السيد، الأجلّ، الأفضل، أمير الجيوش، سيف الإسلام، ناصر الأنام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، وهي:
أما بعد، فالحمد لله الذي تفرّد بالإلهية، وتوحّد بالقدم والأزليّة، وأبدع من برأ وخلق، وأنشأهم من غير مثال سبق، واصطفى لتدبيرهم في أرضه من بعثه برسالته، وجعل ما جاءوا به من الشرائع من أمارة لطفه بهم ودلالته، وصلّى الله على جدّنا محمد رسوله الذي جعل رتبته أخيرا ونبوّته أولى فكان أفضل من تقدّمه نبيّا وسبقه رسولا، وعلى أخيه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي ذخره لخلافته، وأيّده بوزارته، مع كونه من منزلة الاصطفاء، وتأييد الوحي الظاهر من غير خفاء، بحيث لا يفتقر إلى وزير، ولا يحتاج إلى ظهير، وإنما جعل ذلك تعليما لمن يستخلفه في الأرض من عباده، وتمثيلا نصّ جلّ وعزّ إلى قصده واعتماده، لما فيه من ضمّ النّشر، وصلاح البشر، وشمول المنافع، وعموم الخيرات التي أمن فيها من مدافع، وعلى الأئمة من ذرّيّتهما العالمين بمرضاته، والمتّقين له حقّ تقاته، والكافلين لكلّ مؤمن بأمانه يوم الفزع الأكبر ونجاته، وسلّم عليهم أجمعين، سلاما متصلا إلى يوم الدّين.
والحمد لله الذي جعل النّعم التي أسبغها على أمير المؤمنين، بحسب ما اختصّه به من منزلته التي فضّله بها على جميع العالمين، فجعله خليفة في الأرض، والشّفيع لمن شايعه يوم الحساب والعرض، وأجزل له من مننه ما لا يناهضه شكر إلّا كان ظالعا، ولا يقابله اعتداد إلّا استولى عليه العجز فلم يكن بما يجب له طامعا، وإنّ من أرفعها مكانا، وأعظمها شانا، وأفخمها قدرا، وأنبهها ذكرا، وأعمّها نفعا، وأحسنها صنعا، وأغزرها مادّة، وأثبتها قاعدة إذا غدت النّعم شاردة نادّة، وأعودها فائدة على الخاصّ والعام، وأضمنها للسّعد المساعد والحظّ الوافر التّامّ ما كان من المنّة الشامخة الذّرى، والمنحة الشاملة لجميع الورى، والعارفة التي اعترف بها التوحيد والإسلام، والموهبة التي [إذا] أنفق كلّ أحد عمره
في وصفها وشكرها فما يعذل ولا يلام، والآية التي أظهرها الله للملّة الحنيفيّة على فترة من الرّسل، والمعجزة التي هدى أهله لها دون كافّة الأمّة إلى أعدل السّبل، والبرهان الذي خصّ به أمير المؤمنين وأظهره في دولته، والفضيلة التي أبانت مكانه من الله وكريم منزلته، وذلك ما منّ الله به على الشريعة الهادية، والكلمة الباقية، والخلافة النّبويّة، والإمامة الحافظيّة، منك أيّها السيد الأجلّ الأفضل، ولقد طال قدرك في حلل الثّناء، وجلّ استحقاقك عن كلّ عوض وجزاء، وغدت أوصافك مسألة اجتماع وائتلاف، فلو كانت مقالة لم يقع بين أرباب الملل شيء من التّناقض فيها والاختلاف، وأين يبلغ أمد استيجابك من منتحيه، أو يتسهّل إدراك شأوه على طالبه ومبتغيه؟ والإيمان لو تجسّم لكان على السّعي على شكرك أعظم مثابر، والإسلام لو أمكنه النّطق لقام بالدعاء لك خطيبا على المنابر، فأما الشّرك فلو أبقيته حيّا لتصدّى وتعرّض، لكنّك أنحيت عليه وأدلت التوحيد منه فانهدّ بناؤه بحمد الله وتقوّض، فكان لك في حقّ الله العضب الذي تقرّبت به إليه فأرضيته، والعزم الذي صمّمت عليه في نصرة الحقّ فأمضيته، والباطن الذي اطّلع عليه منك فنصرك ولم ترق دما، ولا روّعت مسلما، ولا أقلقت أحدا ولا أزعجته، ولا عدلت عن منهج صواب لما انتهجته، وذلك مما اشترك الكافّة في معرفته، وتساووا في علم حقيقته، مع ما كان من تسييرك العساكر المظفّرة صحبة أخيك الأجلّ الأوحد، أدام الله به الإمتاع وعضّده، وأحسن عنه الدّفاع وأيّده، مما جرت الحال فيه بحسن سياستك، وفضل سيادتك، على أفضل ما عوّدك الله من بلوغ آمالك، من غير أذى لحق أحدا من رجالك، والأمر في ذلك أشهر من الإيضاح، وأبين من ضياء فلق الصّباح، وهذا إذا تأمّله أمير المؤمنين أوجب عليه أن يقابلك من إحسانه، بغاية ما في إمكانه، وأن يوليك من منّته، أقصى ما في استطاعته وقدرته، ولم ير أحضر من أن قرّر نعوتك «السيّد، الأجلّ، الأفضل، أمير الجيوش، سيف الإسلام، ناصر الأنام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، أبو الفتح رضوان الحافظيّ» إذ لا أولى منك بكفالة قضاة دولته وإرشادهم، وهداية دعاتها إلى ما فيه نجاة المستجيبين في معادهم، وجدّد لك ما
كان قدّمه من تكفيلك أمر مملكته، وإعادة القول فيما أسلفه من ردّه إليك تدبير ما وراء سرير خلافته التذاذا بتكرار ذلك وترديده، وابتهاجا بتطرية ذكره وتجديده، فأمور الملّة والدّولة معدوقة بتدبيرك، وأحوال الأداني والأقاصي موكولة إلى تقريرك، وقد جمع لك أمير المؤمنين من استخدام الأقلام، وجعل السيادة لك على سائر القضاة والدّعاة والحكّام، وأسجل لك بالاختصاص بالمعالي والانفراد، والتّوحّد بأنواع الرّياسات والاستبداد، ولك الإبرام والنّقض، والرّفع والخفض، والولاية والعزل، والتقديم والتأخير، والتّنويه والتأمير، فالمقدّم من قدّمته والمحمود من حمدته، والمؤخّر من أخّرته، والمذموم من ذممته، فلا مخالفة لما أحببته، ولا معدلة عما أردته، ولا تجاوز لما حدّدته، ولا خروج عمّا دبّرته، وأين ذلك ممّا يضمره لك أمير المؤمنين وينويه، ويعتقده فيك فلا يزال مدى الدّهر يعيده ويبديه؟ ولو لم يكن من بركاتك على دولة أمير المؤمنين، ويمن تدبيرك العائد على الإسلام والمسلمين، إلّا أنّ أوّل عسكر جهّزته إلى جهاد الكفرة الملاعين وكان له النّصر العزيز الذي تبلّج فجره، والفتح المبين الذي جلّ قدره وانتشر ذكره(8/346)
والحمد لله الذي جعل النّعم التي أسبغها على أمير المؤمنين، بحسب ما اختصّه به من منزلته التي فضّله بها على جميع العالمين، فجعله خليفة في الأرض، والشّفيع لمن شايعه يوم الحساب والعرض، وأجزل له من مننه ما لا يناهضه شكر إلّا كان ظالعا، ولا يقابله اعتداد إلّا استولى عليه العجز فلم يكن بما يجب له طامعا، وإنّ من أرفعها مكانا، وأعظمها شانا، وأفخمها قدرا، وأنبهها ذكرا، وأعمّها نفعا، وأحسنها صنعا، وأغزرها مادّة، وأثبتها قاعدة إذا غدت النّعم شاردة نادّة، وأعودها فائدة على الخاصّ والعام، وأضمنها للسّعد المساعد والحظّ الوافر التّامّ ما كان من المنّة الشامخة الذّرى، والمنحة الشاملة لجميع الورى، والعارفة التي اعترف بها التوحيد والإسلام، والموهبة التي [إذا] أنفق كلّ أحد عمره
في وصفها وشكرها فما يعذل ولا يلام، والآية التي أظهرها الله للملّة الحنيفيّة على فترة من الرّسل، والمعجزة التي هدى أهله لها دون كافّة الأمّة إلى أعدل السّبل، والبرهان الذي خصّ به أمير المؤمنين وأظهره في دولته، والفضيلة التي أبانت مكانه من الله وكريم منزلته، وذلك ما منّ الله به على الشريعة الهادية، والكلمة الباقية، والخلافة النّبويّة، والإمامة الحافظيّة، منك أيّها السيد الأجلّ الأفضل، ولقد طال قدرك في حلل الثّناء، وجلّ استحقاقك عن كلّ عوض وجزاء، وغدت أوصافك مسألة اجتماع وائتلاف، فلو كانت مقالة لم يقع بين أرباب الملل شيء من التّناقض فيها والاختلاف، وأين يبلغ أمد استيجابك من منتحيه، أو يتسهّل إدراك شأوه على طالبه ومبتغيه؟ والإيمان لو تجسّم لكان على السّعي على شكرك أعظم مثابر، والإسلام لو أمكنه النّطق لقام بالدعاء لك خطيبا على المنابر، فأما الشّرك فلو أبقيته حيّا لتصدّى وتعرّض، لكنّك أنحيت عليه وأدلت التوحيد منه فانهدّ بناؤه بحمد الله وتقوّض، فكان لك في حقّ الله العضب الذي تقرّبت به إليه فأرضيته، والعزم الذي صمّمت عليه في نصرة الحقّ فأمضيته، والباطن الذي اطّلع عليه منك فنصرك ولم ترق دما، ولا روّعت مسلما، ولا أقلقت أحدا ولا أزعجته، ولا عدلت عن منهج صواب لما انتهجته، وذلك مما اشترك الكافّة في معرفته، وتساووا في علم حقيقته، مع ما كان من تسييرك العساكر المظفّرة صحبة أخيك الأجلّ الأوحد، أدام الله به الإمتاع وعضّده، وأحسن عنه الدّفاع وأيّده، مما جرت الحال فيه بحسن سياستك، وفضل سيادتك، على أفضل ما عوّدك الله من بلوغ آمالك، من غير أذى لحق أحدا من رجالك، والأمر في ذلك أشهر من الإيضاح، وأبين من ضياء فلق الصّباح، وهذا إذا تأمّله أمير المؤمنين أوجب عليه أن يقابلك من إحسانه، بغاية ما في إمكانه، وأن يوليك من منّته، أقصى ما في استطاعته وقدرته، ولم ير أحضر من أن قرّر نعوتك «السيّد، الأجلّ، الأفضل، أمير الجيوش، سيف الإسلام، ناصر الأنام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، أبو الفتح رضوان الحافظيّ» إذ لا أولى منك بكفالة قضاة دولته وإرشادهم، وهداية دعاتها إلى ما فيه نجاة المستجيبين في معادهم، وجدّد لك ما
كان قدّمه من تكفيلك أمر مملكته، وإعادة القول فيما أسلفه من ردّه إليك تدبير ما وراء سرير خلافته التذاذا بتكرار ذلك وترديده، وابتهاجا بتطرية ذكره وتجديده، فأمور الملّة والدّولة معدوقة بتدبيرك، وأحوال الأداني والأقاصي موكولة إلى تقريرك، وقد جمع لك أمير المؤمنين من استخدام الأقلام، وجعل السيادة لك على سائر القضاة والدّعاة والحكّام، وأسجل لك بالاختصاص بالمعالي والانفراد، والتّوحّد بأنواع الرّياسات والاستبداد، ولك الإبرام والنّقض، والرّفع والخفض، والولاية والعزل، والتقديم والتأخير، والتّنويه والتأمير، فالمقدّم من قدّمته والمحمود من حمدته، والمؤخّر من أخّرته، والمذموم من ذممته، فلا مخالفة لما أحببته، ولا معدلة عما أردته، ولا تجاوز لما حدّدته، ولا خروج عمّا دبّرته، وأين ذلك ممّا يضمره لك أمير المؤمنين وينويه، ويعتقده فيك فلا يزال مدى الدّهر يعيده ويبديه؟ ولو لم يكن من بركاتك على دولة أمير المؤمنين، ويمن تدبيرك العائد على الإسلام والمسلمين، إلّا أنّ أوّل عسكر جهّزته إلى جهاد الكفرة الملاعين وكان له النّصر العزيز الذي تبلّج فجره، والفتح المبين الذي جلّ قدره وانتشر ذكره(8/347)
والحمد لله الذي جعل النّعم التي أسبغها على أمير المؤمنين، بحسب ما اختصّه به من منزلته التي فضّله بها على جميع العالمين، فجعله خليفة في الأرض، والشّفيع لمن شايعه يوم الحساب والعرض، وأجزل له من مننه ما لا يناهضه شكر إلّا كان ظالعا، ولا يقابله اعتداد إلّا استولى عليه العجز فلم يكن بما يجب له طامعا، وإنّ من أرفعها مكانا، وأعظمها شانا، وأفخمها قدرا، وأنبهها ذكرا، وأعمّها نفعا، وأحسنها صنعا، وأغزرها مادّة، وأثبتها قاعدة إذا غدت النّعم شاردة نادّة، وأعودها فائدة على الخاصّ والعام، وأضمنها للسّعد المساعد والحظّ الوافر التّامّ ما كان من المنّة الشامخة الذّرى، والمنحة الشاملة لجميع الورى، والعارفة التي اعترف بها التوحيد والإسلام، والموهبة التي [إذا] أنفق كلّ أحد عمره
في وصفها وشكرها فما يعذل ولا يلام، والآية التي أظهرها الله للملّة الحنيفيّة على فترة من الرّسل، والمعجزة التي هدى أهله لها دون كافّة الأمّة إلى أعدل السّبل، والبرهان الذي خصّ به أمير المؤمنين وأظهره في دولته، والفضيلة التي أبانت مكانه من الله وكريم منزلته، وذلك ما منّ الله به على الشريعة الهادية، والكلمة الباقية، والخلافة النّبويّة، والإمامة الحافظيّة، منك أيّها السيد الأجلّ الأفضل، ولقد طال قدرك في حلل الثّناء، وجلّ استحقاقك عن كلّ عوض وجزاء، وغدت أوصافك مسألة اجتماع وائتلاف، فلو كانت مقالة لم يقع بين أرباب الملل شيء من التّناقض فيها والاختلاف، وأين يبلغ أمد استيجابك من منتحيه، أو يتسهّل إدراك شأوه على طالبه ومبتغيه؟ والإيمان لو تجسّم لكان على السّعي على شكرك أعظم مثابر، والإسلام لو أمكنه النّطق لقام بالدعاء لك خطيبا على المنابر، فأما الشّرك فلو أبقيته حيّا لتصدّى وتعرّض، لكنّك أنحيت عليه وأدلت التوحيد منه فانهدّ بناؤه بحمد الله وتقوّض، فكان لك في حقّ الله العضب الذي تقرّبت به إليه فأرضيته، والعزم الذي صمّمت عليه في نصرة الحقّ فأمضيته، والباطن الذي اطّلع عليه منك فنصرك ولم ترق دما، ولا روّعت مسلما، ولا أقلقت أحدا ولا أزعجته، ولا عدلت عن منهج صواب لما انتهجته، وذلك مما اشترك الكافّة في معرفته، وتساووا في علم حقيقته، مع ما كان من تسييرك العساكر المظفّرة صحبة أخيك الأجلّ الأوحد، أدام الله به الإمتاع وعضّده، وأحسن عنه الدّفاع وأيّده، مما جرت الحال فيه بحسن سياستك، وفضل سيادتك، على أفضل ما عوّدك الله من بلوغ آمالك، من غير أذى لحق أحدا من رجالك، والأمر في ذلك أشهر من الإيضاح، وأبين من ضياء فلق الصّباح، وهذا إذا تأمّله أمير المؤمنين أوجب عليه أن يقابلك من إحسانه، بغاية ما في إمكانه، وأن يوليك من منّته، أقصى ما في استطاعته وقدرته، ولم ير أحضر من أن قرّر نعوتك «السيّد، الأجلّ، الأفضل، أمير الجيوش، سيف الإسلام، ناصر الأنام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، أبو الفتح رضوان الحافظيّ» إذ لا أولى منك بكفالة قضاة دولته وإرشادهم، وهداية دعاتها إلى ما فيه نجاة المستجيبين في معادهم، وجدّد لك ما
كان قدّمه من تكفيلك أمر مملكته، وإعادة القول فيما أسلفه من ردّه إليك تدبير ما وراء سرير خلافته التذاذا بتكرار ذلك وترديده، وابتهاجا بتطرية ذكره وتجديده، فأمور الملّة والدّولة معدوقة بتدبيرك، وأحوال الأداني والأقاصي موكولة إلى تقريرك، وقد جمع لك أمير المؤمنين من استخدام الأقلام، وجعل السيادة لك على سائر القضاة والدّعاة والحكّام، وأسجل لك بالاختصاص بالمعالي والانفراد، والتّوحّد بأنواع الرّياسات والاستبداد، ولك الإبرام والنّقض، والرّفع والخفض، والولاية والعزل، والتقديم والتأخير، والتّنويه والتأمير، فالمقدّم من قدّمته والمحمود من حمدته، والمؤخّر من أخّرته، والمذموم من ذممته، فلا مخالفة لما أحببته، ولا معدلة عما أردته، ولا تجاوز لما حدّدته، ولا خروج عمّا دبّرته، وأين ذلك ممّا يضمره لك أمير المؤمنين وينويه، ويعتقده فيك فلا يزال مدى الدّهر يعيده ويبديه؟ ولو لم يكن من بركاتك على دولة أمير المؤمنين، ويمن تدبيرك العائد على الإسلام والمسلمين، إلّا أنّ أوّل عسكر جهّزته إلى جهاد الكفرة الملاعين وكان له النّصر العزيز الذي تبلّج فجره، والفتح المبين الذي جلّ قدره وانتشر ذكره
، والظّفر المبهج للدّين العسكر المنصور على الطائفة الكافرة، قتلا لأبطالها وأسرا لأعناق رجالها، وأخذا لقلاع الملسرة (1) منها، وأنه لم يفلت من جماعتها إلّا من يخبر عنها، ولو علم أمير المؤمنين تعظيما يخرج عما تضمّنه هذا السّجلّ لما اقتصر عليه، إلّا أنه عاجله ما يسرّه فجاهر (2) لك بما هو مستقرّ لديه، والله عزّ وجلّ يخدمك السّعود، ويخصّك من مواهبه بما يتجاوز المعهود، ويمدّك بموادّ التوفيق والتأييد، ويقضي لك في كلّ أمورك بما لا موضع فيه للمزيد، إن شاء الله تعالى، والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته.
قلت: وهذا الصّنف من الكتب السلطانية قد رفض وترك استعماله في
__________
(1) كذا بالأصل، وقد وضع فوقها علامة توقف لعدم ظهور معناها، ولعلها مصحفة عن «الكفرة».
حاشية الطبعة الأميرية.
(2) في الأصل «وشاهد». حاشية الطبعة الأميرية.(8/348)
زماننا فلا معوّل عليه أصلا.
الصنف الحادي والعشرون (المكاتبة بالإحماد والإذمام)
قال في «موادّ البيان»: السلطان محتاج إلى مكاتبة من يقف منه على طاعة واجتهاد، ومناصحة وإخلاص، بالشّكر والإحماد، والبعث على الازدياد من المخالصة وحسن السّعي في الخدمة وغيرها، مما يرتبط به النّعمة، ويستوجب معه حفظ الرّتبة، ومكاتبة من يعثر منه على تقصير وتضجيع، وتفريط وتضييع، بالذّمّ والتقريع والتّأنيب لأنه لا يخلو أعوان السلطان من كفاة يستديم كفايتهم بتصويب مراميهم، واستحسان مساعيهم، وإحمادهم على تشميرهم، وشرح صدورهم ببسط آمالهم، والعدة برفع منازلهم ومحالّهم، وتمييزهم على نظرائهم وأشكالهم، وتحذيرهم من التوبيخ وتقديم الأعذار، والتخويف من سقوط المراتب، وقبح المصاير والعواقب.
قال: وينبغي للكاتب أن ينتهي في خطاب من انتهى في الحالين إلى غايتيهما، إلى المعاني الناجعة في الغرضين، ويتوسط فيهما سيّما التوسط الذي يقتضيه الحال المفاض فيها لأنّ في ذلك تقريرا للمحسن على إحسانه، ونقلا للمسيء عن إساءته لأنه إذا علم النّاهض أنه مثاب على نهضته، والواني أنه معاقب على ونيته، اجتهد هذا في الاستظهار بخدمته بما يزيد في رتبته، وخاف هذا من حطّ منزلته وتغيّر حالته، ثم قال: والرسوم في هذه المكاتبات تختلف بحسب اختلاف أغراضها، وتتشعب بتشعّب معانيها، والأمر في ذلك موكول إلى نظر الكاتب العارف الكامل، ووضعه كلّ شيء في موضعه، وترتيبه إياه في مرتبته.
فأمّا المكاتبة بالإحماد، فكما كتب (1) عن صمصام (2) الدولة بن عضد
__________
(1) الرسالة لأبي إسحاق الصابي، وقد تقدمت ترجمته ص 138من هذا الجزء، الحاشية رقم 1.
(2) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 4ص 342من هذا الجزء.(8/349)
الدّولة بن بويه، إلى حاجب الحجّاب أبي القاسم سعد (1) بن محمد وهو مقيم بنصيبين (2) على محاربة باد (3) الكرديّ:
كتابنا، ووصل كتابك مؤرّخا بيوم كذا، تذكر فيه ما جرى عليه أمرك في الخدمة التي نيطت بكفايتك وغنائك، ووكلت إلى تدبيرك ووفائك، من ردّ باد الكرديّ عن الأعمال التي تطرّقها، وحدّث نفسه بالتّغلّب عليها، وتصرّفك في ذلك على موجبات الأوقات، والتّردّد بين أخينا وعدّتنا أبي حرب، زياد بن شهراكويه وبينك من المكاتبات، وحسن بلائك في تحيّفه، ومقاماتك في حصّ جناحه، وآثارك في الانقضاض على فريق بعد فريق من أصحابه، واضطرارك إيّاه بذلك وبضروب الرياضات التي استعملتها، والسّياسات التي سست أمره بها، إلى أن نزل عن وعورة المعصية إلى سهولة الطاعة، وانصرف عن مجاهل الغواية إلى معالم الهداية، وتراجع عن السّوم إلى الاقتصار، وعن السّرف إلى الاقتصاد، وعن الإباء إلى الانقياد، وعن الاعتياص إلى الإذعان، وأن الأمر استقرّ على أن قبلت منه الإنابة، وبذلت له فيما طلب الاستجابة، واستعيد إلى الطاعة،
__________
(1) انظر أخباره في الكامل في التاريخ (ج 9ص 35، 54).
(2) نصيبين: بفتح النون وكسر الصاد: مدينة مشهورة بالجزيرة، بينها وبين الموصل ستة أيام، ومنها كثير من العلماء. انظر تهذيب الأسماء واللغات (ج 1ق 2ص 176) ومعجم البلدان (ج 5 ص 288).
(3) هو أحد رؤساء الأكراد الحميدية بنواحي الموصل، قيل: باد لقب له، واسمه أبو عبد الله الحسين ابن ذوشتك، وقيل: باد اسمه وكنيته أبو شجاع بن ذوشتك، وأبو عبد الله الحسين أخوه. كان له بأس وشدة فملك مدينة أرجيش، ودخل الموصل سنة 373هـ، وقوي أمره وحدّث نفسه بملك بغداد. وبعد موت عضد الدولة، ملك باد ميّافارقين واستولى على نصيبين وآمد، ولكن صمصام الدولة جهّز إليه العساكر مع أبي سعد بهرام بن أردشير، فواقعه، وانهزم بهرام، وقوي أمر باد، فأرسل صمصام الدولة إليه أبا القاسم سعد بن محمد الحاجب في عسكر كثير، فانهزم سعد وأصحابه، واستولى باد على كثير من الديلم. وفي سنة 380هـ نكب بباد فرسه في معركة مع العرب فوقع طريحا فقتله بعض العرب وحملوا رأسه إلى بني حمدان ورجعوا ظافرين إلى الموصل. انظر الكامل في التاريخ (ج 9ص 3635) وتاريخ ابن خلدون (ج 7ص 541538) و (ج 8 ص 979977).(8/350)
واستضيف إلى الجماعة، وتصرّف على أحكام الخدمة وجرى مجرى من تضمّه الجملة، وأخذت عليه بذلك العهود المستحكمة، والأيمان المغلّظة، وجدّدت له الولاية على الأعمال التي دخلت في تقليده وضربت عليها حدوده، وفهمناه.
وقد كانت كتب أخينا وعدّتنا أبي حرب [زياد بن شهراكويه] (1) مولى أمير المؤمنين ترد علينا، وتصل إلينا، مشتملة على كتبك إليه، ومطالعاتك إياه، فنعرف من ذلك حسن أثرك [وحزم رأيك] (2) وسداد قولك، وصواب اعتمادك، ووقوع مضاربك في مفاصلها، وإصابة مراميك أغراضها، وما عدوت في مذاهبك كلّها، ومتقلّباتك بأسرها، المطابقة لإيثارنا، والموافقة لما أمرت به عنا، ولا خلت كتب أخينا وعدّتنا أبي حرب من شكر لسعيك، وإحماد لأثرك، وثناء جميل عليك، وتلويح وإفصاح بالمناصحة الحقيقة بك، والموالاة اللّازمة لك، والوفاء الذي لا يستغرب من مثلك، ولا يستكثر ممّن حلّ في المعرفة محلّك، ولئن كنت قصدت في كلّ نهج استمررت عليه، ومعدل عدلت إليه، مكافحة هذا الرجل ومراغمته، ومصابرته ومنازلته، والتماس الظّهور عليه في جميع ما تراجعتماه من قول، وتنازعتماه من حدّ، فقد اجتمع لك إلى إحمادنا إياك، وارتضائنا ما كان منك، المنة عليه إذ سكّنت جاشه، وأزلت استيحاشه، واستللته من دنس لباس المخالفة، وكسوته حسن شعار الطاعة، وأطلت يده بالولاية، وبسطت لسانه بالحجّة، وأوفيت به على مراتب نظرائه، ومنازل قرنائه، حتّى هابوه هيبة الولاة، وارتفع بينهم عن مطارح العصاة.
فالحمد لله على أن جعلك عندنا محمودا، وعند أخينا وعدّتنا أبي حرب مشكورا، وعلى هذا الرّجل مانّا، وفي إصلاح ما أصلحت من الأمر مثابا مأجورا، وإياه نسأل أن يجري علينا عادته الجارية في إظهار آياتنا، ونصرة أوليائنا، والحكم لنا على أعدائنا، وإنزالهم على إرادتنا، طوعا أو كرها، وسلما أو حربا، فلا يخلو
__________
(1) الزيادة عن رسائل الصابي المخطوطة. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة عن رسائل الصابي المخطوطة. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/351)
أحد منهم من أن تحيط لنا بعنقه ربقة أسر، أو منّة عفو، إنه جلّ ثناؤه بذلك جدير، وعليه قدير.
ويجب أن تنفّذ إلى حضرتنا الوثيقة المكتتبة على باد الكرديّ إن كنت لم تنفّذها إلى أوان وصول هذا الكتاب، لتكون في خزائننا محفوظة، وفي دواويننا منسوخة، وأن تتصرّف في أمر رسله وفي بقيّة إن كانت بقيت من أمره على ما يرسمه لك عنّا أخونا وعدّتنا أبو حرب، فرأيك في العمل على ذلك، وعلى مطالعتنا بأخبارك وأحوالك، وما يحتاج إلى علمه من جهتك، موفّقا إن شاء الله تعالى.
وأما الإذمام فيختلف الحال فيه باختلاف الملوم فيه والمذموم بسببه. فمن ذلك الذمّ على [ترك] الطاعة وشقّ العصا.
كما كتب عمارة (1) يصف شخصا بأنه لمّا ارتفع مكانه، وعلا قدره، بطر معيشته، وخرج عن طاعة الخليفة، وأن فلانا كان ممّن عرفت حاله، في غموض أمره، وخمول ذكره، وضيق معيشته، وقلّة عدده وناهضته، ولا تجاوز حياته ما يقوله، ولا يتعاطى ما وراء ذلك ولا يرومه، ولا يمنّيه نفسه، ولا يدفع يد لامس عنه بقوّة تنوء بملأ، ولا عزّ يلجأ إليه، فأنعم عليه أمير المؤمنين وأكرمه وشرّفه، وبلغ به الغاية التي لم يكن يرجوها ولا ترجى له، وبسط له من الدّنيا، وآتاه من غضارتها ونعمتها، وعزّها وسلطانها، ما لم يؤت أحدا من أهل زمانه، فلما مكّن الله له في الدنيا طغى وتجبّر، وعلا وتكبّر، وظنّ أن الذي كان فيه شيء قاده إلى نفسه بحوله وقوّته، تهويلا من الشّيطان واستدراجا منه له.
وكما كتب عبد الحميد (2) في مثله:
__________
(1) أغلب الظن أنه عمارة بن حمزة، مولى أبي جعفر المنصور العباسي كان يكتب له ولأخيه المهدي، وولي لهما الأعمال الكبار. كان بليغا فصيحا، صنّف رسائل مجموعة من جملتها رسالة الخميس (وقيل رسالة الجيش) التي تقرّ لبني العباس. توفي في حدود سنة 160هـ. انظر الفهرست (ص 131، 140139) وهدية العارفين (ج 1ص 779).
(2) هو عبد الحميد الكاتب، وقد تقدمت ترجمته في الصحيفة 84من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 2.(8/352)
أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين عنك أمر لم يحتمله لك، إلّا ما أحبّ من ربّ صنيعته قبلك، واستتمام معروفه إليك، وكان أمير المؤمنين أحقّ من أصلح ما فسد منك، وإنّك إن عدت لمثل مقالتك، وما بلغ أمير المؤمنين عنك، رأى في معاجلتك رأيه، فإن النّعمة إذا طالت بالعبد ممتدّة أبطرته، فأساء حمل الكرامة، واستثقل العافية، ونسب ما هو فيه إلى حيلته، وحسن نبته ورهطه وعشيرته، وإذا نزلت به الغير، وانكشفت عماية العشى عنه، ذلّ منقادا، وندم حسيرا، وتمكّن منه عدوّه، قادرا عليه، وقاهرا له. ولو أراد أمير المؤمنين مكافأتك بلفظك، ومعاجلة إفسادك، جمع بينه وبين من شهد فلتات خطئك وعظيم زلّتك، ولعمري لو حاول أمير المؤمنين مكافأتك بلفظك في مجلسك، وجحودك فضله عليك، لردّك إلى ما كنت عليه، ولكنت مستحقّا.
وفي مثله: فإن صاحب البريد كتب إليّ عن أصحابك بكذا، فقلت: إنهم لم يقدموا على ما أقدموا عليه حتّى عجموك، فعرفوا خور عودك، وضعف مكسرك ومهانة نفسك، وأنّه لا غير عندك ولا نكير.
ومن ذلك الذّمّ على الخطأ، كما كتب أحمد (1) بن يوسف:
كأنّ البخل والشّؤم صارا معا في سهمه، وكانا قبل ذلك في قسمه، فحازهما لوارثه، واستحقّ ما استملك منهما بالشّفعة، وأشهد على حيازتهما أهل الدين والأمانة حتّى خلصا له من كلّ ممانع، وسلما له من تبعة كلّ منازع، فهو لا يصيب إلّا مخطئا، ولا يحسن إلّا ناسيا، ولا ينفق إلّا كارها، ولا ينصف إلّا صاغرا.
__________
(1) هو الكاتب أبو جعفر أحمد بن يوسف بن القاسم بن صبيح، مولى بني عجل. ولي ديوان الرسائل للمأمون، وكان من أفاضل كتابه، جيّد الكلام، فصيح اللسان، حسن اللفظ. توفي سنة 213هـ، وذهب ابن كثير إلى أنه توفي سنة 214هـ. انظر تاريخ بغداد (ج 5ص 218217)، والفهرست ص 135، 137، 140139، 188، والعقد الفريد (ج 4ص 165). والبداية والنهاية (ج 10 ص 269) والأعلام (ج 1ص 272).(8/353)
قلت: وهذا الصّنف من المكاتبات السلطانية لا يمتنع وقوعه في وقت من الأوقات فإن عرض له موجب، راعى الكاتب فيه صورة الحال، وكتب على ما يوجبه المقام، وتقتضيه تلك الوقعة.
الصنف الثاني والعشرون (ما يكتب مع الإنعام لنوّاب السّلطنة بالخيل والجوارح وغيرها من أنواع الإنعامات وهذا الصّنف من المستعمل في زماننا كلّ وقت)
فأما ما يكتب مع الإنعام بالخيل، فقد جرت العادة أن السلطان ينعم بالخيل على نوّاب السلطنة بالشام، ويكتب بذلك مثالات شريفة إليهم، وربّما أنعم بالخيل وكتب بها في غير ذلك.
وهذه نسخة مثال شريف من ذلك:
ضاعف الله تعالى نعمة الجناب وخصّه من النّعم بما لا تحصى له آثار، ولا يتعلّق له بغبار، ولا يوصف بحال واحدة لأنه إن جرى فبحر، وإن وقف فنار.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي بكلّ سلام لا تدرك لسوابقه غاية، ولا تحصى له نهاية، ولا يردّ منه كل ما جاء وله في وجهه كفلق الصّبح آية، ولا يتقدّم في ميدان إلّا وقد حمل له في كلّ مكان راية. وتوضّح لعلمه الكريم أنه قد جهّز له قرينها ما جرت به عادته من الحصن التي لا يدّعي البرق أنه لها نظير، ولا تجاري الرّياح من سوابقها ما يطير، كم لها في ميدان مجال، وكم لها في رؤية دوّيّة ارتجال، وكم دعي الوغى بها على كلّ ضامر فأتت رجالا تقدح سنابكها نارا، وتفيض جوانبها من الرّكض عقارا، ويتكفّل بديعها بكلّ مرام، وتعطي ما في يديها لأنها من الكرام، وقد تشرّفت من نعمنا الشريفة بالسّروج واللّجم والعدّة المكمّلة، وتحلّت من الذّهب والفضّة ما يغني بجملته المفصّلة، وأرسلناها إليه ترقص في أعنّتها زهوا، وتترك بطيب صهيلها كلّ بحر تخوضه إلى المنايا رهوا، وتوجّه بها فلان كالعرائس المجلوّة في حللها، والنّجوم لولا ما تميزت به من حلي عطلها، والسّحاب إلّا أنّها لا تحتاج منّة الرّياح في تنقّلها.
فليقابل هذه النّعمة الشريفة بشكرها، وليتسلّم هذه الصّدقات العميمة التي تعترف كلّ نعمة بقدرها، وليحمد الله من تفقّداتنا الشريفة على كرم فرس جاء وهو سابق، وجود جواد لا يدور معه السّحاب في طابق، ويعتمدها لارتقاء كلّ صهوة منيفة، وجهاد أعداء الله عليها بين أيدينا الشريفة، ويعيد الواصل بها إلى خدمة أبوابنا العالية، والله تعالى يديم عليه بنا النّعم المتوالية، إن شاء الله تعالى.(8/354)
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي بكلّ سلام لا تدرك لسوابقه غاية، ولا تحصى له نهاية، ولا يردّ منه كل ما جاء وله في وجهه كفلق الصّبح آية، ولا يتقدّم في ميدان إلّا وقد حمل له في كلّ مكان راية. وتوضّح لعلمه الكريم أنه قد جهّز له قرينها ما جرت به عادته من الحصن التي لا يدّعي البرق أنه لها نظير، ولا تجاري الرّياح من سوابقها ما يطير، كم لها في ميدان مجال، وكم لها في رؤية دوّيّة ارتجال، وكم دعي الوغى بها على كلّ ضامر فأتت رجالا تقدح سنابكها نارا، وتفيض جوانبها من الرّكض عقارا، ويتكفّل بديعها بكلّ مرام، وتعطي ما في يديها لأنها من الكرام، وقد تشرّفت من نعمنا الشريفة بالسّروج واللّجم والعدّة المكمّلة، وتحلّت من الذّهب والفضّة ما يغني بجملته المفصّلة، وأرسلناها إليه ترقص في أعنّتها زهوا، وتترك بطيب صهيلها كلّ بحر تخوضه إلى المنايا رهوا، وتوجّه بها فلان كالعرائس المجلوّة في حللها، والنّجوم لولا ما تميزت به من حلي عطلها، والسّحاب إلّا أنّها لا تحتاج منّة الرّياح في تنقّلها.
فليقابل هذه النّعمة الشريفة بشكرها، وليتسلّم هذه الصّدقات العميمة التي تعترف كلّ نعمة بقدرها، وليحمد الله من تفقّداتنا الشريفة على كرم فرس جاء وهو سابق، وجود جواد لا يدور معه السّحاب في طابق، ويعتمدها لارتقاء كلّ صهوة منيفة، وجهاد أعداء الله عليها بين أيدينا الشريفة، ويعيد الواصل بها إلى خدمة أبوابنا العالية، والله تعالى يديم عليه بنا النّعم المتوالية، إن شاء الله تعالى.
آخر: ولا زال إقبالنا يمدّه من الصّافنات الجياد بما يباري الرّياح، ويتيمّن بغررها الصّباح، ويطلق أعنّتها في حلبة السّباق فتسبق بركضها ذوات الجناح، ولا برح إنعامنا يتحفه بكلّ طرف يبهج الطّرف، ويثلج الصّدر بما استمدّ عليه من الملاحة التي تروق العين وتفوق الوصف، ويفرده بما اجتمع فيه من الحسن واليمن، إذ هو واحد كالألف تهدي إليه سلاما تعبق بطيب نشره أرجاءه، وثناء يعرب عما في ضميره من علوّ قدره وسموّ ذكره فيشرق سناؤه ويضاعف ثناؤه، وتوضّح لعلمه الكريم أنه غير خاف عنه ما يصل إلى أبوابنا الشريفة من الخيول البرقيّة في كلّ عام، وما نخصّه منها بكلّ ميمون الغرّة مبارك الطّلعة هنيء السّير على الإنعام، وقد أرسلنا إلى جنابه الكريم من ذلك سهمه، وأضفنا إلى ذلك ما استصلحناه من الخيل العربيّة الغربية والعتاق العجيبة العربية (؟) مما الخير معقود بنواصيها، فتزهق على صهواتها نفوس الأعداء وتستنزلها من صياصيها (1)، فيأخذ الجناب العالي ما يخصّه من ذلك، ويفرّق الباقي على من رسمنا له به بيمن رأيه المبارك الذي لا يساهمه فيه أحد ولا يشارك، ويجهّز الخيل المخصوصة بفلان إليه، والله تعالى يضاعف عزّ ظهورها عند امتطائها لديه.
وأمّا ما يكتب مع الإنعام بالجوارح [فممّا يكتب] (2) مع إرسال سنقر (3):
__________
(1) الصياصي: ج صيصة، وهي الحصن وكل ما امتنع به.
(2) بياض بالأصل، والتصحيح يقتضيه المقام. حاشية الطبعة الأميرية.
(3) السنقر والسنقور: طائر من الجوارح أعظم من الصقر وأجمل منه، وهو أشرف الجوارح وإن كان لا ذكر له في القديم. والسناقر تجلب من البحر الشامي مغالى في أثمانها. انظر صبح الأعشى (ج 2 ص 6059)، والتعريف بالمصطلح الشريف ص 225والمنجد في اللغة.(8/355)
وقد بعثنا إليه بسنقر كأنّه ملك متوّج، ورزق مروّج، تجرّأ على سفك الدّماء، وأبى أن يطلب رزقه إلّا من السماء، يودّ الكركيّ (1) لو خلص من مخاليبه، ويخاف أن يسلم من خرط (2) الشّبكة ويقع في كلاليبه، يدرك الصّيد ولا يؤجّله، ويرفع (3) صدره ثم يومي إليه برأسه كأنّه يستعجله، قد جمع من المحاسن كلّ الصّنوف، وكتبت عليه أسطر تقرأ بما تقرى به الضّيوف.
ومما يكتب مع إرسال صقر (4):
وقد وجّهنا إليه بصقر لا تؤسى (5) له من الصّيد جراح، ولا يدع من وحش يسرح ولا طائر يطير بجناح، أينما توجّه (6) لا يأت إلّا بخير، وحيثما أطلق كان حتف الوحش والطّير، يدع أقطار الفلاة مجزرة، أو روضة بالدماء مزهرة، يجدّ إلى الطير في عنقه، ويحلّق إلى السماء فيرجع وطائره في عنقه، تخافه العفر على نفوسها، وتخضع له ولأمثاله فما تخرج إلّا والطّير على رؤوسها، يزيد خبره في مظانّ الصّيد على الخبر، وتخرج الظّباء وقد تسجّت (7) خوفا منه في ملاءة من العجاج مخيطة من قرونها بالإبر، شديد الأيد، قد بنى على الكسر حروف
__________
(1) الكركي طائر من طيور الماء، طويل الساقين والعنق، قدر الإوزّة، أبتر الذنب رماديّ اللون قليل اللحم صلب العظم، وهو أبعد الطير صوتا. وجمعها الكراكي. انظر لسان العرب، ومعجم متن اللغة (ج 5ص 54) وصبح الأعشى (ج 2ص 62).
(2) كذا في الأصل، والتعريف ص 225. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(3) في التعريف: «ويدفع».
(4) الصقر والسقر: من جوارح الطير، يصاد به، ويقال له: بغل الطير لأنه أصبر على الأذى، وأحسن إلفا، ومزاجه أبرد من البازيّ والشاهين. والجمع أصقر وصقور وصقورة. لسان العرب (سقر) و (صقر) وصبح الأعشى (ج 2ص 60).
(5) في التعريف: «لا يوسى له جراح».
(6) في التعريف: «وجّه».
(7) في التعريف: «نسجت».(8/356)
الصّيد، يحمد مقتنيه أيامه الغرّ، ويقول له إذا تلفّت إلى الصيد: إن جلبت ضبعا (1)
فأنت حر، لا يصحب مستصحبه معه إلّا مزاده، وأينما سار حامله وهو (2) معه كان معه زاده.
ومما يكتب مع إرسال شاهين (3):
وقد وجّه إليه بشاهين إذا حلّق وراء الطّير شاهت به الوجوه، وشاهدت الآمال به ما ترجوه، قد أصبح كلّ محلّق الجناح (4) رهين يده، وكلّ سارب من الوحش طعام يومه أو غده، لا يتعبه خلف الطّريدة بعد المدى، ولا يردّه خوف مسافة ولا تقحّم ردى، ربيّة عام لم يمتّع بطول (5) ما دهر، وممتدّة (6) منه في الطّلق مثل ريح سليمان (7) غدوّها شهر ورواحها شهر.
ومما يكتب مع إرسال كوهيّة (8):
وقد جهّزنا إليه كوهيّة، هي بالمحاسن حريّة، ولكثرة الإقدام جريّة (9)، يكل بها صاحبها أمر مطبخه، ويمدّها (10) من الطير من ليس بمصرخه، لا نعفّ عن دم، ولا ترى أطرافها إلّا مثمرة (11) بعنّاب أو مخضّبة بعندم، قد أخلت من كلّ
__________
(1) في التعريف: «ضيفا».
(2) في التعريف: «وهو على يده كأنّ معه زاده».
(3) الشاهين من سباع الطير، وهو أسرع الجوارح كلّها وأسجعها وأخفّها وأشدّها ضراوة على الصيد، وهو أصلب عظاما من غيره من سائر الجوارح، والجمع شواهين. لسان العرب (شهن) وصبح الأعشى (ج 2ص 5958).
(4) في التعريف: «بجناحه».
(5) في التعريف: «بطول دهر».
(6) في التعريف: «وممتدّ».
(7) في التعريف: «سليمان التي غدوّها».
(8) الكوهية طائر من الجوارح، وقد تقدم الحديث عنها في الحاشية رقم 1ص 122من هذا الجزء من صبح الأعشى.
(9) في التعريف «بحرية، قد وكل بها أمر مطبخه».
(10) في التعريف: «ومدّ بها من».
(11) كذا في التعريف، وفي الأصل: «مسمرة». انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/357)
سانح (1)، ولبست زيّ الرّاهب المتعبّد وفتكت بكلّ سائح.
ومما يكتب مع سقاوة (2):
وقد جهزنا إليه بسقاوة، مخاليبها على الطّير كالحديد أو أشدّ قساوة، تسيل دماء الصيد كالمذانب (3)، وتكسو الأرض حبرا من رياش الحبارى وفراء من جلود الأرانب، وجعلت في قبضة الكفّ ما كانت العين عليه تدور، وتكفّلت بكفاية المطبخ وملأت القدور.
ومما يكتب مع إرسال باز (4):
وقد بعثنا إليه بباز مهما لقي لقف، ومهما خطا لديه خطف، كأنّما خطّ جوهره (5) بقلم، أو ريش عليه من الصّباح والظّلم، قد أعدّ (6) للطوارق، وادّرأ بمثل الطّوارق، قد دحض حجج الحجل، وكسرها حتّى أبان عليها حمرة الخجل، لا يسأل في (7) الصيد عما نهب، ولا تعرف له قيمة إلّا أنّ له عينا من الذّهب.
ومما يكتب مع الفهد (8):
__________
(1) في الأصل: «قد أحلت من كل شامخ»، والتصحيح عن التعريف. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(2) السقاوة من الجوارح، وهي قريبة الشكل من الصقر. انظر ج 2من هذا المطبوع ص 61. وفقرة «وقد جهزنا القدور» وردت في التعريف ص 226225باختلاف يسير عمّا هنا.
(3) كذا في التعريف ص 226، وفي الأصل: «كالدايب». انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(4) الباز من أشرف الطيور الجوارح، وأحرصها على طلب صيده، وهو خفيف الجناح سريع الطيران.
انظر ج 2من هذا المطبوع ص 55.
(5) في التعريف ص 226: «جؤجؤ بقلم، أو رشّ عليه».
(6) في التعريف ص 226: «اعتدّ».
(7) في التعريف ص 226: «من».
(8) وقع في هذه الرسالة تحريف كثير في الأصل، فصحّحناها من «حسن التوسّل إلى صناعة الترسّل» ص 101. انظر حاشية الطبعة الأميرية. والفهد من السباع التي تصاد ثم تؤنّس حتى تصيد. وأول من صاد به كسرى أنو شروان أحد ملوك الطبقة الأخيرة من الفرس. انظر ج 2من صبح الأعشى ص 4039.(8/358)
وقد أنعمنا عليه بفهد أهرت الشّدق، ظاهر الحذق، بادي العبوس، مدنّر الملبوس، شثن البراثن، ذي أنياب كالمدى ومخالب كالمحاجن، قد أخذ من الفلق والغسق إهابا، وتقمّص من نجل الحدق جلبابا، يضرب المثل في سرعة وثوب الأجل به وبشبهه، وتكاد الشّمس مذ لقّبوها بالغزالة لا تطلع من الوجل على وجهه، يسبق إلى الصيد مرامي طرفه، ويفوت لحظ مرسله إليه فلا يستكمل النظر إلّا وهو في كفّه، وتتقدّمه الضّواري إلى الوحش فإذا وثب له تعثّرت من خلفه.
وأما ما يكتب مع الإنعام بالسلاح:
فمن ذلك: وقد جهزنا إليه سيفا تلمع مخايل النّصر من غمده، وتشرق جواهر الفتح في فرنده، وإذا سابق الأجل إلى قبض النّفوس، عرف الأجل قدره فوقف عند حدّه، ومتى جرّد على ملك من ملوك العدا وهت عزائمه، وعجز جناح جيشه أن تنهض به قوادمه، وعلم أنه سيفنا الذي على عاتق الملك [الأعز] (1)
نجاده وفي يد جبّار السموات قائمه.
الصنف الثالث والعشرون (المكاتبة بالبشارة عن الخليفة بولد رزقه)
والرسم فيها أن يذكر شرف الخلافة وعلوّ رتبتها، ويشير إلى تخصيص الخلافة بمصيرها إليه دون سائر البريّة، وانتقالها إليه بالتّوارث من آبائه الطاهرين كابرا عن كابر، وبقائها في عقبه إلى الأبد. ثم يتخلص إلى ذكر النّعمة على أمير المؤمنين التي أنعمها الله تعالى عليه، وأنّ من أعظمها نعمة أن رزقه الله تعالى ولدا، ويذكر اسمه وكنيته، ويصفه بما يناسبه.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، وهي:
الحمد لله مؤيّد الإسلام بخلفائه الراشدين، ومظهر الإيمان بأوليائه الهادين، الذي جعل الإمامة كلمة باقية فيهم إلى يوم الدّين، وأقام منهم الحاضر المتّبع،
__________
(1) الزيادة من حسن التوسل ص 100. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/359)
والمرجوّ المتوقّع، وأطلع منهم في سماء الهداية شهبا لا يخبو منها شهاب حتّى يتوقّد شهاب، وفتح بهم للإرشاد أبوابا لا يرتج منها باب حتّى يفتح باب.
يحمده أمير المؤمنين أن فوّض إليه منازل آبائه، ووفّقه (؟) بانتقال ما ورثه من آبائه إلى أبنائه، ويسأله أن يصلّي على من كرّمه بولادته وشرّفه بالانتساب إلى شجرة سيدنا محمد خاتم رسله، المترجم عن توحيده وعدله، وعلى أخيه وابن عمّه عليّ بن أبي طالب قسيمه في فضله، ووصيّه على أمّته وأهله.
وإن أولى النّعم بأن يفاض في شكرها، وتعطّر المحافل بنشرها، نعمة حاطت دعائم الدّين، وأمرّت حبل المسلمين، وتساوى في [تناول] (1) قطافها الكافّة، وآذنت بشيوع الرّحمة والرافة، وأضحت بها النّبوّة مشرقة الأنوار، والإمامة عالية المنار، والخلافة مختالة المنبر والسّرير، رافلة في حلل الابتهاج والسّرور.
وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك، وقد رزقه الله تعالى ولدا ذكرا مباركا رضيّا، سمّاه فلانا، وكنّاه أبا فلان، فجلا بنهار غرّته الدّامس، وافترّ بمقدمه العابس، واخضرّ بيمن [نقيبته] (2) اليابس، ووثقت الآمال بسعادة مقدمه، وتطلّعت الأعناق إلى جوده وكرمه، مبشّرا لك بهذه النّعمى الحسنة الأثر، القليلة الخطر، علما بمكانك من ولائه ومخالصته، وسرورك بما يفيضه الله عليه من شآبيب نعمته، لتأخذ من المسرّة والجذل بحظّ المولى المخلص، والعبد المتخصّص، ولتشيع مضمون كتابه فيمن قبلك من الأولياء، ليشاركونا في الشّكر والثّناء فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
[قلت] (3) وهذا الصّنف من المكاتبات السلطانية مستعمل في البشارة عن السلطان إذا حدث له ولد، فيكتب بالبشارة به إلى نوّاب السلطنة وأهل المملكة.
__________
(1) بياض بالأصل والتصحيح من المقام. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) بياض بالأصل والتصحيح من المقام. حاشية الطبعة الأميرية.
(3) بياض بالأصل والتصحيح من المقام. حاشية الطبعة الأميرية.(8/360)
الصنف الرابع والعشرون (ما يكتب عن السلطان بالبشارة بعافيته من مرض)
وهذه نسخة كتاب بعافية الملك النّاصر «محمد (1) بن قلاوون» من مرض، إلى صاحب ماردين (2)، وهو:
ولا زالت البشائر على سمعه الكريم متواترة، والمسارّ إلى مقام ملكه سائرة، والتّهاني، ببلوغ الأماني، من كمال شفائنا تجعل ثغور الثّغور باسمة ووجوه الدّهور ناضرة، ونعم الله تعالى مقابلة بالشّكر الجزيل على أن أجدّ ملك الإسلام بافتقاده، وأبقي للدّين المحمديّ ناصره. أصدرناها إلى المقام العالي ومواردنا من الصّحّة حلوة في الأفواه، وألسنتنا شاكرة لنعم الله، وعافيتنا تجدّد في كلّ جديد، وصحّتنا قد بلغت من المزيد ما نريد، وقد ألبسنا الله تعالى من الشّفاء ثوبا قشيبا، ونصرنا نصرا عزيزا وفتح لنا فتحا مبينا، تهدي إليه سلاما تتأرج به أرجاء ملكه، وثناء تنتظم الأثنية في سلكه، وتوضح لعلمه الكريم ما حصل من عافيتنا التي تضاعف بها فرح الإسلام والمسلمين، ووجب الشّكر عليهم والحمد لله ربّ العالمين.
الضرب الثاني (من مقاصد المكاتبات السلطانية ما يكتب عن السلطان في الجواب)
وكلّ معنى من المعاني الوارد بها الكتاب إليه يستقّ جوابه منها، وغالب ما يعتنى به من ذلك جواب ما يرد من المكاتبات بالتّقادم والهدايا، وما في معنى ذلك.
وهذه أدعية من ذلك يستضاء بها في أوائل الأجوبة عن المعاني التي ترد فيها.
جواب سلطانيّ عن وصول خيل: ولا زال يتحف بكلّ صاهل في الجحفل،
__________
(1) تقدمت ترجمته في الصحيفة 5من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.
(2) تقدم الحديث عنها في الصحيفة 12من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 6.(8/361)
جمال في المحفل، وأجرد إذا أمّ غاية لمعت في أثره البروق تتطفّل، ومسوّم يلتزم جلاله بمزيد جلاله، وكيف لا وهي إذا أسدلت عليه يتكفّل؟ أصدرناها والعطر يضوع من سلامها، والمسك يفوح من ختامها، وآثار الندى تحكي آثار أقلامها.
آخر في المعنى: ولا زال محتفلا بالجياد وإرسالها، ومهديا لركابنا الشّريف السّوابق التي إذا لم يسابقها شيء من الحيوان تجلّت في مسابقة ظلالها، وينتقي لمواكبنا الخيول التي إذا أصبحت في مدّى أصبحت الرياح تتعلق بأذيالها.
أصدرناها.
آخر في مثله: ولا زال يهدي إلينا من الجياد بحرا، ويقود من العراب (1) ما تملأ غرّته المواكب بشرا، وإذا طلع في الكتيبة يزيدها عزّا ونصرا، من كلّ طرف تأصّل حسنا وحسن إهابا وجلّ قدرا.
آخر في مثله: وأعلى له على صهوات العتاق مرتقى، وخصّه بكلّ جواد وهو منتقل إليه منتقى، وأطلع عليه نواصي الصّوافن (2) التي عقد الخير بها عقدا موثقا.
أصدرناها ونور التّحايا من أرجائها ينير، ومفاخرها تشرّف بها كلّ منبر وسرير، وركائب أثنيتها تسير إلى مقامه فتطيب راحلة في ذلك المسير.
آخر في مثله: ولا زال يهدي من الجياد المسوّمة أصائلها، ويتحف مما يحييه عند الوفادة عليه صاهلها، ويقابل أكرم غرّة، الخير معقود بناصيتها واليمن يقابلها، ويمتّع بأعزّ جواد حلية الشّفق دون إهابه إذ يماثلها، وسرعة البرق خفّته إذ يساجلها.
__________
(1) المعرب من الخيل: الذي ليس فيه عرق هجين، والأنثى معربة، وإبل عراب كذلك يقال: الإبل العراب والخيل العراب. لسان العرب، مادة (عرب).
(2) الصوافن: جمع صافن، والصافن من الخيل القائم على ثلاث قوائم وقد أقام الرابعة على طرف الحافر. لسان العرب ومحيط المحيط (صفن).(8/362)
الضرب الثالث (من الكتب السلطانية الكتب الصادرة عن نوّاب السلطنة إلى النوّاب بسبب ما يرد عليهم من المثالات السلطانية)
اعلم أنه قد جرت العادة بأنّه إذا ورد على نائب السلطنة بالشّام مثال شريف من الأبواب السلطانية، يأمرهم (1) كتب نائب الشّام إلى نوّاب السلطنة بورود المثال الشريف مبشّرا بذلك، ويجهز إلى كلّ منهم مع المثال الوارد إلى كلّ نائب من نوّاب السلطان معنى المثال الوارد من الأبواب السلطانية بذلك. إلّا أنه يكون حاكيا لصورة المثال الوارد بذلك، لا أنّه مبتدئه، ويشتمل ذلك على عدّة أمور:
فمن ذلك جلوس السلطان على تخت الملك، فيخبر نائب الشّام في الكتاب الصادر عنه إلى بعض النوّاب بأنّ المثال الشريف ورد عليه بذلك، وأنه ورد كتاب إلى المكتوب إليه فجهزه إليه.
[وهذه نسخة كتاب من ذلك] كتب به عن نائب الشّام إلى بعض نوّاب (2)
السلطنة، بالبشارة بسلطنة السلطان الملك الصّالح إسماعيل (3) بن الناصر محمد ابن قلاوون، وقد ورد على يد بعض الحجّاب، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن (4)
__________
(1) بياض بالأصل، ولعله: «يأمرهم بأمر». حاشية الطبعة الأميرية.
(2) نواب السلطنة: ج نائب السلطنة، وهو الذي كان يعيّن في إحدى نيابات الشام الست، يوم كانت الشام وهي تخضع لحكم المماليك مقسّمة إلى ست ممالك عرفت أيضا بالنيابات. انظر نظم دولة سلاطين المماليك (ج 1ص 8988).
(3) هو عماد الدين إسماعيل سلطان المسلمين بالديار المصرية والشامية والحرمين والبلاد الحلبية.
بويع بالسلطنة في سنة 743هـ بعد خلع أخيه أحمد. وكانت وفاته في سنة 746هـ. فكانت مدة سلطنته ثلاث سنين وشهرا ونصف الشهر. انظر البداية والنهاية (ج 14ص 202، 216215)، والنجوم الزاهرة (ج 10ص 78)، والدرر الكامنة (ج 1ص 380) والأعلام (ج 1ص 324).
(4) هو الشاعر المصري جمال الدين أبو بكر محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن صالح بن يحيى، أصله من ميّافارقين، وكانت ولادته في سنة 676هـ، ووفاته في سنة 768هـ، وذكر ابن كثير أنه توفي سنة 767هـ. كان حامل لواء شعراء زمانه بديار مصر. انظر نفاضة الجراب ص 65، والبداية والنهاية (ج 14ص 322)، والدرر الكامنة (ج 4ص 218216)، والنجوم الزاهرة (ج 11 ص 95) والأعلام (ج 7ص 38).(8/363)
نباتة، في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، وهي بعد الصدر:
أمتعه [الله] من البشائر بما يتوضّح على جبين الصّباح بشره، وبما يترجّح على ميزان الكواكب قدره، وبما ينفسح من أوقات أمن لا يختصم في ظلّها زيد وعمرو حتّى يقال: ولا زيد النّحو وعمره. وينهي بعد دعاء يتبلّج في الليل فجره، وثناء يتأرّج في طيّ النّسيم نشره، وولاء يتساوى في درجات الصّفاء سرّه وجهره، أنّ خير البشائر ما خصّ أولياء الدّولة الشريفة وعمّ الرعايا، وسما إلى ثغور الإسلام خبره الجليّ فقال: (وافر) «أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا» (1) وقسمت مسرّته على كافلي الممالك فقالت مملكة مولانا (وافر) «لنا المرباع منها والصّفايا». وسلك المملوك من الإسراع بإشاعته الحقّ الواجب وجهّز خدمته بين يدي المثال الشريف الذي سبق طائر يمنه ولكنّه جاء في خدمته حاجب، وهي البشرى الواردة في الأمثلة الشريفة السلطانية، المالكية الملكيه، الصالحية العماديه، العريقة في نسب النّصر بالأنساب النّاصريّة المنصورة، أعلى الله تعالى أبدا على قواعد الملك عمادها، وصرّف بها الأعنّة لما سرّ وصرفها عمّا دهى، بجلوسه على كرسيّ المملكة الذي هو آية سعده الكبرى، وتخت السّلطنة الذي عاينه ملك الجود والعلم فقال: السّلام عليك بحرا، وإجماع الأمة على أنه صالح المؤمنين، وكفاة الحلّ والعقد على أنه سلطان الإسلام والمسلمين، وأركان البيت النّاصريّ على أنه عماده، وعلى أنه سنده المكمّل وإذا انقضّ بيت سناده، فيا له جلوسا قامت فيه كواكب السّعد مشدودة المناطق، وياله إجماعا اتفق فيه حتى من تصميم السيوف وتعبير الأقلام كلّ صامت وناطق،
__________
(1) هو صدر بيت لسحيم بن وثيل الرياحي، شاعر الجاهلية والإسلام، وعجز البيت هو: متى أضع العمامة تعرفوني. وابن جلا هو الواضح الأمر، وهو اسم رجل كان صاحب فتك يطلع في الغارات من ثنيّة الجبل على أهلها. وقال ثعلب: العمامة تلبس في الحرب وتوضع في السلم. وقال غيره: كأنه قال: أنا ابن الذي يقال له: جلا الأمور وكشفها. انظر عيون الأخبار (ج 2ص 265، الحاشية رقم 2)، والشعر والشعراء ص 538، والعقد الفريد (ج 4ص 120) ولسان العرب، مادة جلا.(8/364)
وياله بيت ملك أبى الله إلّا أن يقيم وزنه أفضل الأفاعيل، وياله ملكا قال الدّهر الطويل انتظاره: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل} (1) ويا له أمرا بلّغ خبره وخبره الأوطار والأوطان، ونفذت برده المصرية على حين فترة تالية له السّعود: {فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} (2)
وحشر الناس ضحى ليوم الزّينة، وجاءوا إليها مستبشرين من أدنى وأقصى كلّ من في المدينة، وضربت البشائر ويا عجبا! إنّها تضرب ومكانتها من القلوب مكينة.
حتّى إذا أخذت مصر حظّها من الهناء قسّمت على الأمصار، وأضاء بارق نشرها من كلّ وجه فسمت بالشّامات غرّة الأبصار، وركض بريد الخير بمبارك باب البريد ووصل نيل النّيل إلى أنهار دمشق فبردى على الشّكر ثابت ويزيد، وبشّر الإسلام من وجه الخلف الصّالح بأكرم من برّ، واستفاض الاسم الشريف، فلو كلّف مشتاق فوق وسعه لسعى إليه المنبر.
فالحمد لله على أن سرّ البيت الشريف النّاصريّ بجمع شمله، وعلى أن أتى الملك العقيم الصّالح من أهله، وقد جهّز المملوك المثال الشّريف المختصّ بمولانا، ومولانا أولى من انتظمت لديه درر هذه الأخبار الثّمينة، وعظّمت بناحيته شعائر هذه الدّولة المكينة، وكمّل لخير حماه خير قرينة، والله تعالى يعزّ الإسلام بعزمه، ويمضي الآجال والأرزاق على يدي حربه وسلمه، وينجز لرأيه ورايته النّصر قبل أن يطوف الأولياء بعلمه، وقبل أن يحيط الأذكياء بعلمه.
ومن ذلك الكتابة بورود مثال شريف بعافية السلطان الملك الصالح عماد الدّين إسماعيل، بن الناصر محمد بن قلاوون، في خلافة الحاكم بأمر الله أحمد ابن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان (3) من إنشاء الشيخ جمال الدّين بن نباتة، وهي بعد الألقاب:
__________
(1) سورة إبراهيم 14، الآية 39.
(2) سورة الرحمن 55، الآية 33.
(3) في الطبعة الأميرية: «المعتضد بالله أبي الربيع سليمان»، وهو خطأ لأن السلطان عماد الدين إسماعيل بن الناصر بويع بالسلطنة سنة 743هـ، وتوفي سنة 746هـ، وأن الخليفة الحاكم بأمر الله ولي الخلافة سنة 742هـ، وتوفي سنة 753هـ، وهي المدة التي كان فيها إسماعيل بن الناصر سلطانا، وأن المعتضد بالله أبا بكر بن سليمان ولي الخلافة بعد وفاة أخيه أحمد سنة 753هـ، وتوفي سنة 763هـ، وهي المدة التي كان فيها إسماعيل بن الناصر متوفّى. والحاكم بأمر الله هو أبو القاسم أحمد بن المستكفي بالله سليمان بن الحاكم بأمر الله الأول، من خلفاء الدولة العباسية الثانية بمصر. استمر في الحكم إلى أن مات في الطاعون في نصف سنة 753هـ. انظر الحاشية رقم 3 ص 363، والدرر الكامنة (ج 1ص 137)، والبداية والنهاية (ج 14ص 187، 191، 293)، والنجوم الزاهرة (ج 10ص 284) والأعلام (ج 1ص 133132) و (ج 2ص 64).(8/365)
أورد الله عليه من الهناء كلّ سريّ يسرّه، وكلّ سنيّ يقرّ أمام ناظره الكريم ويقرّه، وكلّ وفيّ إذا طلع في آفاق حلب قيل: لله درّه، ولا زالت البشائر تلقاه بكل وجه جميل، وبكلّ جليّ جليل، وبكلّ خبر تصحّ الدنيا بصحّته فليس بها غير النسيم عليل، تقبيلا يزاحم عقود الثّغور، ويكاد يمنع ضمّ الشّفتين للّثم طول الابتسام للسّرور، وينهي بعد رفع اليد بدعائه، وضمّ الجوانح على ولائه، وجزم الهناء المشترك بمسرّة مولانا وهنائه، أن المثال الشريف زاده الله شرفا، وزاد فضل سلطانه على العباد سرفا، ورد بالبشارة العظمى، والنّعماء التي ما ضاهتها الأيام قبل بنعمى، والمسرّة التي يأكل حديثها أحاديث المسرّات أكلا لمّا، ويحبّها الإسلام والمسلمون حبا جمّا، بسلامة جوهر الجسد الشريف من ذلك العرض، وشفائه الذي في عيون الأعداء منه شفار تطعن وفي قلوبهم مرض، وأن مادّة الأدواء بحمد الله قد انحسمت، والواردة من الافتقاد بالأجر والعافية قد ابتسمت، وأن ظنون الإشفاق قد اضمحلّت، ونسمات الرّوض قد فدت الجسم الشّريف فاعتلّت، وأخبار الهناء يعيّنها كلّ بريد نشوان من الفرح [ينشد] أسائلها أيّ المواطن حلّت، فيالها بشارة خصّت الإسلام وعمّت بنيه، وسارت فوق الأرض وسرت تحتها أسلاف الملك ومبتنيه، وشملت البلاد وعبادها، والسّلطنة وقد حجب الله عمادها عمّا دهى، والملك السليمانيّ وقد ثبّت الله به على الدنيا من السماء خيمتها ومن الجبال أوتادها، والطّير وقد حملت ورقه أوراق السّرور، والوحش وقد قالت مهاه: على عيني أتحمّل ذلك السّقام أو ذلك الفتور، {ذلك الفضل من الله وكفى
بالله عليما} (1) والألطاف الرّاحم بها المؤمنين من خلقه {وكان بالمؤمنين رحيما} (2)
وكان ورود هذا المثال الشّريف على يد فلان، فياله من وارد لمشارع الأمن أورد، ولروائع الناس عن القلوب حجب أو ردّ، وقد جهزه المملوك بالمثال الشريف المختصّ بمولانا وهذه الخدمة بعد أن ضربت البشائر مسوّغة في كلّ ضرب من التهاني، وزيّنت البلد زينة ما نظمت فيها غير العقود أيدي الغواني، فيأخذ حظّه من هذه البشرى، ونصيبه من هذا الوجه الذي ملأ الوجود بشرا، وشطره من الهناء المخصوص الذي تعجّل منه المملوك شطرا، والله تعالى يسرّه بكلّ خير تشرق زواهره، وتعبق في كمائم الدّروج أزاهره، ويتألّق على يد بريده من المخلقات كلّ كوكب صبح تملأ الدنيا بشائره.(8/366)
أورد الله عليه من الهناء كلّ سريّ يسرّه، وكلّ سنيّ يقرّ أمام ناظره الكريم ويقرّه، وكلّ وفيّ إذا طلع في آفاق حلب قيل: لله درّه، ولا زالت البشائر تلقاه بكل وجه جميل، وبكلّ جليّ جليل، وبكلّ خبر تصحّ الدنيا بصحّته فليس بها غير النسيم عليل، تقبيلا يزاحم عقود الثّغور، ويكاد يمنع ضمّ الشّفتين للّثم طول الابتسام للسّرور، وينهي بعد رفع اليد بدعائه، وضمّ الجوانح على ولائه، وجزم الهناء المشترك بمسرّة مولانا وهنائه، أن المثال الشريف زاده الله شرفا، وزاد فضل سلطانه على العباد سرفا، ورد بالبشارة العظمى، والنّعماء التي ما ضاهتها الأيام قبل بنعمى، والمسرّة التي يأكل حديثها أحاديث المسرّات أكلا لمّا، ويحبّها الإسلام والمسلمون حبا جمّا، بسلامة جوهر الجسد الشريف من ذلك العرض، وشفائه الذي في عيون الأعداء منه شفار تطعن وفي قلوبهم مرض، وأن مادّة الأدواء بحمد الله قد انحسمت، والواردة من الافتقاد بالأجر والعافية قد ابتسمت، وأن ظنون الإشفاق قد اضمحلّت، ونسمات الرّوض قد فدت الجسم الشّريف فاعتلّت، وأخبار الهناء يعيّنها كلّ بريد نشوان من الفرح [ينشد] أسائلها أيّ المواطن حلّت، فيالها بشارة خصّت الإسلام وعمّت بنيه، وسارت فوق الأرض وسرت تحتها أسلاف الملك ومبتنيه، وشملت البلاد وعبادها، والسّلطنة وقد حجب الله عمادها عمّا دهى، والملك السليمانيّ وقد ثبّت الله به على الدنيا من السماء خيمتها ومن الجبال أوتادها، والطّير وقد حملت ورقه أوراق السّرور، والوحش وقد قالت مهاه: على عيني أتحمّل ذلك السّقام أو ذلك الفتور، {ذلك الفضل من الله وكفى
بالله عليما} (1) والألطاف الرّاحم بها المؤمنين من خلقه {وكان بالمؤمنين رحيما} (2)
وكان ورود هذا المثال الشّريف على يد فلان، فياله من وارد لمشارع الأمن أورد، ولروائع الناس عن القلوب حجب أو ردّ، وقد جهزه المملوك بالمثال الشريف المختصّ بمولانا وهذه الخدمة بعد أن ضربت البشائر مسوّغة في كلّ ضرب من التهاني، وزيّنت البلد زينة ما نظمت فيها غير العقود أيدي الغواني، فيأخذ حظّه من هذه البشرى، ونصيبه من هذا الوجه الذي ملأ الوجود بشرا، وشطره من الهناء المخصوص الذي تعجّل منه المملوك شطرا، والله تعالى يسرّه بكلّ خير تشرق زواهره، وتعبق في كمائم الدّروج أزاهره، ويتألّق على يد بريده من المخلقات كلّ كوكب صبح تملأ الدنيا بشائره.
ومن ذلك المكاتبة بورود المثال الشريف بوفاء النّيل:
إذا ورد على نائب الشام بوفاء النّيل المبارك، كتب نائب الشّام عن نفسه إلى نائب حلب وغيره، من نوّاب السلطنة بالممالك الشامية، بورود المثال الشريف عليه بذلك، ويكتب عنه، كما يكتب عن السلطان، من السّجع، وإيراده مورد البشارة، وإظهار الفرح والسرور بذلك، لا يكاد يخالفه إلّا في كونه واردا مورد الحكاية لمثال السلطان، ومثال السلطان مخبر بذلك ابتداء.
وهذه نسخة مثال كريم من ذلك عن نائب الشّام، من إنشاء الشيخ جمال الدّين بن نباته، كتب به لسنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، وهي بعد الصدر:
لا زالت مبشّرة بكلّ مبهجة، معطّرة الأرجاء بكلّ سائرة أرجة، ميسّرة الأوقات بمقدّمتي سماع وعيان، كلاهما للمسارّ منتجة، مستحضرة في معالي الكرم كلّ دقيقة تشهد بسطة النّيل أنها ارفع درجة، وينهي بعد دعاء ما الرّوض أعطر من شذاه، ولا ماء النّيل وإن كرم وفاء بأوفى من جداه، أن المرسوم الشريف
__________
(1) سورة النساء 4، الآية 70.
(2) سورة الأحزاب 33، الآية 43.(8/367)
زاده الله تعالى شرفا، ورد بوفاء النّيل المبارك وحبّذا هو من وفيّ موافي (1)، ومتغيّر المجرى وعيش البلاد به العيش الصّافي، وحسن الزّيارة والرّحيل ما ضاهته الغيوث في ولافي، ووارد من معبّد بعيد، وحميل (2) لا جرم أن مدّه ثابت (3)
ويزيد، وجائد إذا تتابع حيث تيّاره يقلّد برّه ودرّه من الأرض وساكنها كلّ جيد، وإذا ذكر الخصب لمكان عيده المشهود ألقى السّمع وهو شهيد، وذلك في يوم كذا، وأن البلاد جبرت بكسر خليجه، واستقامت أحوالها بتفريجه، وأثنت عليه بآلائه، ووسمت لونه الأصهب على رغم الصّهباء بأحسن أسمائه، وخلّق فملأت الدّنيا بشائر مخلّقه، وعلّق ستره المصريّ التّبريّ فزكا على معلّقه، وحلّق مسير تراعه على القرى فبات على النّدا ضيف محلّقه، وحدّث عن البحر ولا حرج، وانعرج على البقاع يلوي معصمه فلله أوقات ذلك اللّوى والمنعرج، واستقرّت الرعايا آمنين آملين، وقطع دابر الجدب بسعود هذه الدّولة القاهرة {وقيل الحمد لله رب العالمين} (4) ورسم أن لا يجبى حقّ بشارة، ولا تعبث يد التنقيص منها ليزداد الخبر نورا على نور، ويكون في إيثاره وحسنه الخبر الحسن المأثور، ووصل بهذا الخبر فلان وعلى يده مثال شريف يختص بمولانا وقد جهز به، فيأخذ مولانا حظّه من هذه البشرى، ويوضّح بها على كلّ الوجوه بشرا، والله تعالى يملأ له بالمسرّات صدرا، ويضع بعدله عن الرعية إصرا (5)، ويسرّهم في أيامه بكلّ وارد يقول الإحسان لمتحمّله: {لو شئت لاتخذت عليه أجرا} (6) إن شاء الله تعالى.
__________
(1) أصل القول: «مواف»، وقد بقيت كذلك للسجع.
(2) حميل السيل: ما يحمل من الغثاء والطين، وهو ما يجيء به السيل. لسان العرب (حمل).
(3) في الأصل «لا جرم أن يده». حاشية الطبعة الأميرية.
(4) سورة الزمر 39، الآية 75.
(5) الإصر: العهد الثقيل، والجمع آصار. قال الله تعالى: {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا}. سورة البقرة 2، الآية 286ولسان العرب (أصر).
(6) سورة الكهف 18، الآية 77.(8/368)
وهذه نسخة كتاب آخر في المعنى إلى بعض النوّاب، من إنشاء الشيخ جمال الدّين بن نباتة أيضا، وهي بعد الصدر:
وضاعف موادّ نعمه ونعمائه، ومسرّته وهنائه، وحفظ عليه ما وهبه من المناقب التي يروي النّيل عن كرمه ووفائه، وشرّف السّيوف لكونها من سمات كرمه والسّيول لكونها من سمائه.
المملوك يجدّد الخدمة بنفحات سلامه وثنائه، ويصف ولاء لو تجسّم لا ستمدّت عين الشمس من سنائه، وينهي أن المرسوم الشريف زاده الله تعالى شرفا، ورد مبشّرا بوفاء النيل المبارك في يوم كذا، فياله ربيعا جاء في ربيع، وحاملا في مفرده الفضل الجميع، وداعيا بالخصب ينشد كلّ ثانية اثنين ريحانة الدّاعي السميع، ومتغنّيا على منصّة المقياس عرسه يجلى عليه من شباكها السّتر الرفيع، وأنه أقبل والبلاد أشهى ما تكون للقياه، وأشوق ما ترى لمباشرة ريّه وريّاه، وقد امتدّت أيدي الجسور لفمه، واستعدّت شفاه الحروف اللّعس للثمه، فكرم عليها زائره، وصحبها بالنّجح ساريه وسائره، ودارت على الجدب من خطوط الأمواج دوائره، وعمّت المنافع، وتلقت عيون الفلا ناهلة بالأصابع، وفاض البحر ببرّه، ونشر رداءه على الأرض وسيضوع روضها بنشره، وخلّق المقياس فيالك من قياس بشرى غير ممنوع، وكسر الخليج فياله غصن قلم على النيل وطائر سجعه على الفرات مسموع، ورسم أن لا يجبى حقّ بشارة، ولا يدخل فيها النقيص لدار ولا التنغيص لدارة، ووصل بهذا الأمر فلان وقد جهّز بما على يده، والله تعالى يمتّع مولانا من أقسام المسارّ بصنوف، ويدفع عن حصون الإسلام بيمنه أيدي الصّروف، وينفعها بظلاله التي آواها ملكه الكريم إلى جنّة، وكذلك الجنّة تحت ظلال السّيوف.(8/369)
الضرب الرابع (من المكاتبات السّلطانية ما يكتب عن النّوّاب والأتباع إلى الخليفة أو السلطان، وفيه مهيعان)
المهيع الأوّل (في الأجوبة عن الكتب السلطانية السابقة في الضّرب الأوّل)
قد تقدّم في الكلام على مقدّمة المكاتبات في أوّل هذه المقالة ذكر الخلاف: هل الكتب الابتدائية [أعلى رتبة] (1) في الإتيان بها أم الجوابية؟ وذكر الاحتجاج لكلّ من المذهبين، وذكر التحقيق في ذلك، فليراجع من موضعه هناك. ونحن نذكر الكلام على أجوبة الكتب السابقة على الترتيب المتقدّم، جارين في ذلك على ما قرّره في «موادّ البيان».
فأما الجواب عن الكتاب الوارد بانتقال الخلافة إلى الخليفة، فإنّ الكتاب إن كان متضمنا التعزية في سلفه، والهناء بمتجدّد النعمة عنده في انتقال الخلافة إليه فالرّسم فيما يكاتب به عن الخليفة أن يبنى على الاستبشار بالنّعمة في خلافته، والمسارعة بإخلاص الضمير إلى الدّخول في طاعته وبيعته، وانفساح الآمال في دولته، والشّكر لله تعالى على جبر الوهن وعلوّ كلمة الإسلام والمسلمين بدعوته، وتعزيته عن أبيه، بما يوجبه محلّ المحنة ويقتضيه، يعني إن كان الخليفة الميّت أباه، فالدعاء له بأن ينهضه الله تعالى بما حمّله، ويعينه على ما كفّله، ويقرن ملكه بالجدّ السعيد، والخلود والتأييد، وإدالة الأولياء، وإذالة الأعداء، ونحو هذا مما يجاريه.
وإن كان الكتاب الوارد بانتقال الخلافة إليه عن أبيه، ومن في معناه ممّن يواليه في المحبّة، فإن الكاتب يحوم في الجواب على ما حصل بذلك من صلاح حال الأمّة، واستقامة أمر الرّعيّه بانتقال الخلافة إليه، من غير أن يصرّح بذمّ
__________
(1) بياض بالأصل، والتصحيح عما تقدم في (ج 6ص 323) من هذا المطبوع. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/370)
الذاهب قبله. ولا يخفى أن الجواب عن ورود الكتاب بانتقال السلطنة إلى السلطان وجلوسه على تخت الملك في معنى الجواب في انتقال الخلافة إلى الخليفة، لا يكاد يفرق بينهما، على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالدعاء إلى الدّين، فإنما يتكلّفها كتّاب مخالفي الملّة لأنها إنما تصدر إليهم. قال في «موادّ البيان» (1): إلّا أنه لا غنى لكتّاب الإسلام عن علم ما يقع فيها، لتتقدّم عندهم المعرفة بما يجيب به المخالفون، فيأخذوا عليهم بأطراف الحجّة إذا كاتبوهم ابتداء أو جوابا.
قال: ولا تخلو أجوبة هذه الكتب من أربعة معان:
أحدها إجابة الدعاء إلى الدّين، وقبول الإرشاد والهدى، والنّزوع عن الغيّ، والإقبال على التّبصرة والتذكرة، بعقائد خالصة، ونيّات صريحة.
والثاني الإصرار على ما هم متمسّكون به، وتمحّل الشّبهة في نصرته، وادّعاء الحقّ فيما يعتقدونه، والمغالطة عن الإجابة إلى قبول ما دعوا إليه.
والثالث بذل الجزية والمصالحة، والجنوح إلى السّلم والموادعة.
والرابع إظهار الحميّة، والقيام في دفاع من يروم اقتسارهم على مفارقة شرائعهم وأديانهم، وبذل الأنفس في مقارعته.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالحثّ على الجهاد، فقد ذكر في «موادّ البيان» أنها لا تخرج عن معنيين:
أحدهما إجابة الصّريخ، والمبادرة إلى التّشمير في الجهاد، والقيام في معونة الأولياء، على كفاح الأعداء.
والثاني الاعتذار والتّعلّل والتّثاقل.
هذا إن كانت الكتب صادرة إلى القوّاد والمقدّمين، أما إذا كانت مقصورة
__________
(1) انظر الحاشية رقم 1ص 237من هذا الجزء من صبح الأعشى.(8/371)
على الاستنفار، فلا جواب لها إلّا النّفور أو الإمساك. قال في «موادّ البيان»:
والطريق إلى إقامة العذر للمستصرخ في التأخّر عن مستصرخه متى أراد الاعتذار عنه صعب على الكاتب، ولا سيّما إذا كانت الأعذار متكلّفة غير صحيحة.
قال: وينبغي أن يتأتّى لذلك ويحسن التلطّف فيه، ولا يعتلّ بكذب صراح ينكشف للمعتذر إليه.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالحثّ على لزوم الطاعة، إذا وردت على النوّاب والولاة وأمروا بقراءتها في أعمالهم على الرّعايا، فإنه يكون: إما بانقياد الرّعايا إلى ما دعوا إليه، أو استدامتهم لمركب النّفاق، واستدعاء مادّة لتقويمهم.
وأما الجواب عن الكتب إلى من نكث عهده من المعاهدين، فقد ذكر في «موادّ البيان» أنها لا تخلو من أحد أربعة معان:
أوّلها الاعتذار والاستقالة من مراجعة النّكث، والرغبة في الصفح عن النّبوة، والمسامحة بالهفوة.
والثاني المغالطة والمراوغة، واستعمال المداهنة والمخادعة.
والثالث التّجليح والمكاشفة.
والرابع إيجاب الحجّة على المجوب (؟) عنه في أنه المبتديء بفسخ ما عاقد عليه. قال: والكاتب إذا كان ماهرا كسا كلّ معنى من هذه المعاني الغرض اللّائق به في الصناعة.
وأما الجواب عن الكتب إلى من خلع الطاعة، فقد قال في «موادّ البيان»:
إنها تحتمل معنيين: أحدهما الاعتذار، والآخر الإصرار، وكلّ واحد منهما محتاج إلى عبارة لائقة به، ثم قال: والكاتب إذا كان حاذقا، عرف سبيل التّخلّص فيها بمشيئة الله تعالى.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالفتوح، فإنّها إن صدرت من السلطان إلى ولاته، فينبغي أن يبنى جوابها على الاستبشار بموقع النّعم في الظّفر بالعدوّ،
والجذل بمتجدّد الفتح، وأنّ ذلك إنّما تهيّأ بسعادته، وعلوّ رأيه وانبساط هيبته، وما عوّده من إظهار أوليائه، وخذلان أعدائه، وأنّهم قد أشاعوا هذا النبأ في الخاصّة والعامّة من رعاياه فابتهجوا به، وشكروا الله تعالى عليه ودعوا له بصالح الدعاء.(8/372)
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالفتوح، فإنّها إن صدرت من السلطان إلى ولاته، فينبغي أن يبنى جوابها على الاستبشار بموقع النّعم في الظّفر بالعدوّ،
والجذل بمتجدّد الفتح، وأنّ ذلك إنّما تهيّأ بسعادته، وعلوّ رأيه وانبساط هيبته، وما عوّده من إظهار أوليائه، وخذلان أعدائه، وأنّهم قد أشاعوا هذا النبأ في الخاصّة والعامّة من رعاياه فابتهجوا به، وشكروا الله تعالى عليه ودعوا له بصالح الدعاء.
وإن صدرت من ولاة الحرب إلى السلطان، فينبغي أن يكون ما يجيبهم به مبنيّا على حمد الله تعالى على عوارفه، والرّغبة في مضاعفة لطائفه، وشكره على إنجاز وعده في الإظفار بأعداء الملّة والدّولة ونحو هذا. ومخاطبة أهل الطاعة بما يرهف عزائمهم، ويقوّي شوكتهم، وتقريظ والي الحرب ووصفه بما يشحذ بصيرته في الخدمة، والثّناء على الأجناد، ووعدهم بجزيل الجزاء على الجهاد والإبلاء، إلى غير هذا مما يقتضيه الحال، ويوجبه تدبير الأمر الحاضر.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالاعتذار عن السلطان عند ما يحصل له زلل في التدبير أو [في] الظّفر بقبض الأعداء على جيش من جيوشه، فإنما تقع الإجابة عنها إذا نفّذت إلى أحد العمّال خصوصا. قال في «موادّ البيان»: وحينئذ فينبغي أن يكون الجواب عنها مبنيّا على تقوية نفس السلطان وتوثيقه بالأدلّة، وأن ما ناله لا يتوجّه كثيرا على ذوي الحرم، إلّا أن عواقب الفلج والظّفر والإصابة في الرّأي والتدبير تكون لهم، ونحو هذا مما يجاريه ويليق به.
قال: أما إذا كانت المكاتبة في ذلك إلى الكافّة، ممهّدة لعذر السلطان، قاطعة قالة (1) الرّعية عنه، فإنه لا جواب عنها لأنها إذا لم توجّه إلى واحد بعينه لا تستدعي خطابا.
وأما الجواب عن الكتب الواردة عن السلطان بالنّهي عن التّنازع في الدّين، إذا صدرت إلى العمّال، وأمروا بقراءتها على الرّعايا على منابر أعمالهم، فإنه يبنى الأمر فيها على امتثال الأمر، والمطالعة بارتسام القوم ما رسم لهم فيها. أما إذا كانت صادرة لتقرأ على العامّة ليبصروا ما فيها ويعلموا عليه، فإنه لا جواب عنها
__________
(1) القالة: اسم من القول يقال: كثرت قالة الناس.(8/373)
لأنها إنما تشتمل على مواعظ ومراشد تتخوّل بها الأئمة رعاياهم.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالأوامر والنّواهي، فقد ذكر في «موادّ البيان» أن الكتاب الوارد في ذلك، إن كان شيئا قد جزم المتبوع فيه الأمر، وضيّق على التّابع في إيثاره سبيل المراجعة فيه، فإن الجواب عنه سهل لأنه إنما يجيب بجواب جامع، وهو وقوفه على أمر به وإنفاذه له. وإن كان الوارد أمرا محتملا للمراجعة، من حيث إنّ في إمضائه إذا أمضي إفسادا للعمل، وإخلالا بأسباب الملك والسلطان، فالجواب عنه شاقّ صعب لأنه ينبغي أن يبنى على تلطّف شديد في الإبانة عما ينتجه ذلك المأمور به إذا أنفذ على وجهه من فتق وخلل، ومورد المراجعة في ألفاظه لا يتبيّن فيه إزراء على رأي الرئيس ولا طعن في تدبيره، بأن تكون ناطقة بأنّ رأيه الأعلى، وتدبيره الأصوب، فيكون باطن الكلام توقيفا على الصّواب، وظاهره تصويبا وتقريظا لأن كثيرا من الرؤساء والملوك يعجبون بآرائهم، وينزلون أنفسهم بحكم الرياسة في منزلة من لا يراجع ولا يعارض فيما يأمر به.
قال: وقد تأتي من كتب الأوامر كتب يأمر الرئيس فيها المرؤوس بشرح حال واقتصاص أمور. ثم قال: وأجوبة هذه الكتب يجب أن تكون مستقصية للمعنى المنشرح، مستولية على حواشيه، غير مخلّة بشيء مما يحتاج إلى تعرّفه منه.
وأما الجواب عن الكتب الواردة عن الإمام عند حدوث الآيات السماوية، وهي مشتملة على مواعظ ومراشد يتخوّل بها الأئمة رعاياهم، فإذا صدرت إلى العمّال وأمروا بقراءتها على الرّعايا، فأجوبتها إنما تبنى على امتثال الأمر والمطالعة بارتسام القوم ما رسم لهم فيها. أما إذا كانت صادرة لتقرأ على العامّة ليتبصّروا بما فيها ويعملوا عليه، فإنه لا جواب عنها.
وأما الجواب عن التّنبيه على مواسم العبادة، فإنه يصدر عمّن ورد عنه إلى الإمام بعد شهود ذلك الموسم، والانفصال عنه على حال السلامة، كما في صلاة
العيد ونحوها. قال في «موادّ البيان»: وأجوبتها تصدر إلى الخلفاء مقصورة على ذكر ما منّ الله تعالى به من قضاء الفريضة على حال الائتلاف والاتّفاق، وشمول الأمن والهدي والسّكون، وسبوغ النّعمة على الكافّة، وأن ذلك بسعادة وعناية الله تعالى بدولته وبرعيّته، ونحوها ممّا يقتضيه المعنى.(8/374)
وأما الجواب عن التّنبيه على مواسم العبادة، فإنه يصدر عمّن ورد عنه إلى الإمام بعد شهود ذلك الموسم، والانفصال عنه على حال السلامة، كما في صلاة
العيد ونحوها. قال في «موادّ البيان»: وأجوبتها تصدر إلى الخلفاء مقصورة على ذكر ما منّ الله تعالى به من قضاء الفريضة على حال الائتلاف والاتّفاق، وشمول الأمن والهدي والسّكون، وسبوغ النّعمة على الكافّة، وأن ذلك بسعادة وعناية الله تعالى بدولته وبرعيّته، ونحوها ممّا يقتضيه المعنى.
وأما الجواب عن الكتب الواردة عن الإمام إلى ولاة أمره بالسلامة في ركوب أوّل العام وغرّة رمضان، والجمعة الأولى والثانية والثالثة منه، وعيدي الفطر والأضحى، وفتح الخليج بعد وفاء النيل، فقد قال في «موادّ البيان»: إنّه إن كان الكتاب عن السلامة في صلاة العيدين أو جمع رمضان، فينبغي أن يكون مبنيّا على ورود كتبه متضمنة ما أعان الله تعالى عليه أمير المؤمنين من تأدية فريضته، والجمع في صلاة عيد كذا برعيّته، وما ألبسه الله تعالى من الهدي والوقار، وأفاضه عليه من البهاء والأنوار، وبروزه في خاصّته وعامّته إلى مصلّاه، وسماع خطبته وعوده إلى قصره الزاهر، وعليه تلألأ القبول لصلاته ودعائه، مما أجراه الله تعالى فيه على عادة آلائه، ووقف عليه وقابله بالشكر والإحماد، والاعتراف والاعتداد، وافتضّه على رؤوس الأشهاد، فأغرقوا في شكر الله تعالى على الموهبة في أمير المؤمنين، ورغبوا إليه في إطالة بقائه مراميا عن الإسلام والمسلمين، ونحو هذا مما يجاريه.
ثم قال: فإذا نفّذت هذه الكتب من العمّال إلى أمير المؤمنين مبشّرة باجتماع رعاياه لتأدية فريضتهم، وعودهم إلى منازلهم سالمين، فينبغي أن يكون الجواب عنها: «وصل كتابك متضمّنا ما لا يزال الله تعالى يوليه لأمير المؤمنين في رعيّته، وخاصّته وعامّته، من اتفاق كلمتهم، وائتلاف أفئدتهم وسلامة كافّتهم، وما منّ الله به عليه وعليهم من اجتماعهم لتأدية فريضتهم، وعودهم إلى منازلهم، على السّلامة من ضمائرهم، والطّهارة من سرائرهم، فحمد أمير المؤمنين الله تعالى على ذلك وسأله مزيدهم منه، وتوفيقهم لما يرضيه عنهم، وشكر مسعاك في سياستهم، وامتداد يدك في إيالتهم، وهو يأمرك أن تجري على عادتك، وتسير فيهم بجميل سيرتك» وما يليق بهذا.
ثم بنى على ذلك سائر كتب السلامة، وقال: ينبغي أن يستنبط من نفس كلّ
كتاب منها المعنى الذي تجب الإجابة به، مثل أن يكون الكتاب ورد من أمير المؤمنين إلى أحد عمّاله، مبشّرا بسلامته من سفره، فينبغي أن يبنى جوابه على ما صورته: «ورد كتاب أمير المؤمنين مبشّرا عبده بما هيّأه الله تعالى له من السلامة ويمن الوجهة، مع تقريب الشّقّة، وإنالة المسارّ، وتسهيل الأوطار، وإدناء الدار، فوقف العبد عليه، وامتثل المرسوم في إطلاع الأولياء على ما نصّ فيه من هذه البشرى، فعظمت المنحة لديهم، وجلّت النّعمة عندهم، وانشرحت صدورهم، وانفسحت آمالهم، ووفّقوا بصنع الله تعالى لهم، وارتفعت أيديهم إلى الله سبحانه بالرغبة في حياطة أمير المؤمنين قاطنا وظاعنا، وحسن صحابته حالّا وراحلا، وجميل الخلافة على من خلفه من حامّته (1) وعامّته، وأهل دعوته وخاصّة دولته، والله تعالى يجيب في أمير المؤمنين صالح الدّعاء، ويمدّه بطول البقاء» وما ينتظم في سلك هذا الكلام ويضاهيه.(8/375)
ثم بنى على ذلك سائر كتب السلامة، وقال: ينبغي أن يستنبط من نفس كلّ
كتاب منها المعنى الذي تجب الإجابة به، مثل أن يكون الكتاب ورد من أمير المؤمنين إلى أحد عمّاله، مبشّرا بسلامته من سفره، فينبغي أن يبنى جوابه على ما صورته: «ورد كتاب أمير المؤمنين مبشّرا عبده بما هيّأه الله تعالى له من السلامة ويمن الوجهة، مع تقريب الشّقّة، وإنالة المسارّ، وتسهيل الأوطار، وإدناء الدار، فوقف العبد عليه، وامتثل المرسوم في إطلاع الأولياء على ما نصّ فيه من هذه البشرى، فعظمت المنحة لديهم، وجلّت النّعمة عندهم، وانشرحت صدورهم، وانفسحت آمالهم، ووفّقوا بصنع الله تعالى لهم، وارتفعت أيديهم إلى الله سبحانه بالرغبة في حياطة أمير المؤمنين قاطنا وظاعنا، وحسن صحابته حالّا وراحلا، وجميل الخلافة على من خلفه من حامّته (1) وعامّته، وأهل دعوته وخاصّة دولته، والله تعالى يجيب في أمير المؤمنين صالح الدّعاء، ويمدّه بطول البقاء» وما ينتظم في سلك هذا الكلام ويضاهيه.
قلت: وقد تقدّم في الكلام على المكاتبة السلطانية الابتدائية، أن المكاتبة بالبشارة بالسلامة في ركوب العيدين وما في معناهما من قدوم السّفر وغيره، قد ترك استعماله بديوان الإنشاء في زماننا. فإن قدّر مثله في هذه الأيام، أجراه الكاتب على نحو مما تقدّم، على ما يقتضيه مصطلح الزمان في المكاتبات السلطانية.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالخلع وما في معنى ذلك، فينبغي أن يكون مبنيّا على تعظيم المنّة، والاعتراف بجزالة المنحة، وجميل العطية، وزائد الفضل، وأن ما أسدي إليه من ذلك تفضّل عليه، وتطوّل من غير استحقاق لذلك، بل فائض فضل، وجزيل امتنان، وأنه عاجز عن شكر هذه النّعمة والقيام بواجبها، لا يستطيع لها مكافأة غير الرّغبة إلى الله تعالى بالأدعية لهذه الدّولة. وما يناسب ذلك من الكلام ويلائمه.
وأما الجواب عن الكتب بالتّنويه والتلقيب إذا صدرت إلى نوّاب المملكة،
__________
(1) الحامّة هنا بمعنى خاصة الرجل من أهله وولده.(8/376)
فالذي ذكره في «موادّ البيان» أن المنوّه به يجيب عمّا يصله من ذلك بوصول الكتاب إليه، ووقوفه عليه، ومعرفته بقدر العارفة مما تضمنته الرّغبة إلى الله تعالى في إيزاعه الشّكر، ومعونته على مقابلة النّعمة بالإخلاص والطاعة. أما إذا كتبت بالتّنويه والتلقيب لأحد من المقيمين بحضرة الخلافة، فإنه لا جواب لها.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالإحماد والإذمام، فيختلف الحال فيه فإن كان الكتاب الوارد بالإحماد والتّقريظ، فجوابه مقصور على الشّكر الدال على وقوع ذلك الإحماد موقعه من المحمود، ومطالبته لنفسه بالخروج من حقّه باستفراغ الوسع في الأسباب الموجبة للزيادة منه. وإن كان الكتاب بالإذمام، فإن كان ذلك لموجدة بسبب أمر بلغه عنه من عدوّ أو حاسد نعمة أو منزلة هو مخصوص بها من رئيسه، كان الجواب بالتّنصّل والمقابلة بما يبرّيء ساحته، ويدلّ على سلامة ناحيته، وأن يورد ذلك بصيغة تزيل عن النفس ما سبق إليها، وتبعث على الرّضا. وكذلك في كل واقعة بحسبها، مما يحصل به التّنصّل والاسترضاء ونحو ذلك.
وأما الجواب عن الكتب الواردة مع الإنعام السلطانيّ، فعلى نحو ما سبق في الخلع، من تعظيم المنّة، والاعتراف [بجزالة المنحة] (1) وجميل العطية، وزيادة الفضل، وما في معنى ذلك مما تقدّم ذكره.
وأما الجواب عن الكتب الواردة عن الخليفة أو السلطان بتجدّد ولد، فإنه يكون بإظهار السرور والاغتباط، وزيادة الفرح والسّرور بما منّ الله تعالى به من تكثير العدد، وزيادة المدد، والرّغبة إلى الله تعالى في أن يوالي هذا المزيد ويضاعفه. ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بعافية الخليفة أو السلطان من مرض كان
__________
(1) بياض بالأصل، والتصحيح عما تقدّم في الجواب عن الخلع في الصحيفة 376من هذا الجزء من صبح الأعشى. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/377)
قد عرض له، فطريقه حمد الله تعالى وشكره على ما منّ الله تعالى به من العافية، وتفضّل به من إزاحة المرض، ووقاية المكروه، وإظهار الفرح والسرور بذلك.
وما ينخرط في هذا السّلك.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالتعزية بولد أو قريب، فإنه يظهر فيه الغمّ (1) والحزن والكآبة، وحمد الله تعالى على سلامة نفسه، والرغبة إلى الله تعالى في الخلف عليه، إن كان الميّت ولدا، مع الدعاء بطول البقاء وخلود الدّولة، وما يجري هذا المجرى.
وهذه نسخ أجوبة عن مكاتبات سلطانية، ممّا يكثر وقوعه، ويتعدّد تكراره، يستضيء بها الكاتب في كتابة الأجوبة، وينسج على منوالها.
نسخة جواب عن كتاب وصل من الخليفة بانتقال الخلافة إليه، كتب به إلى أمير الأمراء، قرين خلعة وسيف وتاج وسوارين، من إنشاء أبي الحسين (2) بن سعد، وهو:
فإن كان سيّدنا أمير المؤمنين، بما أعلم من فضل مراعاته لأمور الدّين، وصدق عنايته بمصالح المسلمين، وأفيض له (؟) من مواهب الله عندهم، وصنوف نعمه عليهم، فيما هداه من طرق الرّشاد، وبصّره إياه من مناهج الصّواب، وقرنه به من التّوفيق في عزائمه، والجدّ في مراسمه، وتوعّده فيه بالخيرات التّامّة، والكفاية العامّة، في كلّ أمر يمضيه، ورأى يرتئيه، اعتماد له بحسن المعونة على ما استرعاه، ووصله بالمزيد فيما خوّله وأعطاه، وحراسة ما ساقه إليه من إرث النّبوة، وحمّله إياه من ثقل الإمامة، لما عرفه من نهوضه بالعبء، وقيامه بالحقّ فيما ناطه وأسنده إليه، وتأمّله ما تأمّله من حال عبده الذي لم
__________
(1) في الأصل «التغمم»، ولم نعثر عليه في كتب اللغة. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) أغلب الظن أنه أبو الحسين علي بن محمد، وزير الراضي بالله أبي العباس ابن المقتدر. انظر العقد الفريد (ج 5ص 129).(8/378)
يزل لطاعته معتقدا، وبعصمة ولايته معتضدا، ولوقت يبلّغه منزلة الإحماد، ويحوز له عائدة الاجتهاد، فيما أرضاه مرتصدا، ولسعيه ونيّته، وظاهره وطويّته، معتمدا، ووجوده أيّده الله في يسير ما امتحن به بلاءه، وعرف فيه غناءه، موضعا للصّنيعة، محتملا للعارفة، مقرّا بحقّ النّعمة، عارفا بقدر الموهبة، وترقّبه فرصة ينتهزها في إبداء عزمه، وإمضاء رأيه، وأنّه [واثق] بالاستظهار بمكانه، والإسهام له في عزّ سلطانه، حتّى أسفرت رويّته، واستقرّت عزيمته، فاختصّ عبده بجميل الأثر، واصطفاه بلطيف الحظوة، واعتمد عليه في إمارة الأمراء، موفيا به على رتبة النّظراء، وكاسيا له حلّة المجد والسّناء، وردّ إليه تدبير الرجال، وتقدير أمور العمّال، وشفع ذلك بالتّكنية والتّلقيب في مشاهد حفلته، ومجالس خلوته، وأكمل الصّنع عنده بإلحاق عبده فيما قسم لكلّ واحد منهما من شريف حبائه، وسنيّ عطائه، وتجاوز في التّكرمة له إلى أعلى الأحوال، وأرفع الرّتب والمحالّ، فيما أمر أعلى الله أمره بحمله إليه من الخلعة التي يبقى شرف لباسها [على] الأيام، ويخلّد ذكرها على الدّهور والأعوام، والسّيف الذي تفاءل لعبده فيه بما يرجو يمن مولاه وسعادة جدّه، أن يحقّقه الله في الاعتماد به على أعدائه، وغمده في نحور مشاقّيه وغامصي نعمائه، والتّاج المرصّع الذي نظم له جوامع الفخر، والوشاح الموشّى الذي وشّحه حلية الجمال مدى الدهر، والطّوق الذي طوّقه قلائد المجد، والسّوارين اللّذين آذناه بقوّة العضد وبسطة اليد، واللّواء المعقود به مفاتح العزّ في طاعته، المرفوع به معالم النّصر على شانيء دولته، ووصل إليّ وفهمته.
وسيّدنا أمير المؤمنين فيما أكرمه الله به من خلافته، وأتمنه من الحكم على بريّته، ووكله إليه من حقوق الدّين، وحياطته كرم المسلمين، وإحياء السّير الرّضيّة، والسّنن الحميدة، وإماطة الأحكام الجائرة، والمظالم الظاهرة، وتقويم أود المملكة بعد تزعزع أركانها، وتصدّع بنيانها، وإعزاز الأمة وإيناسها، بعد أن اشتملت [الذّلّة (1)] عليها وتمكنت الوحشة فيها، وحكم اليأس في آمالها، وغلب
__________
(1) بياض بالأصل، والتصحيح من المقام. حاشية الطبعة الأميرية.(8/379)
القنوط على أطماعها، وتفاءل بما اعتمده له، وفوّضه إلى نظره، من الحلية بحقائقه، والتوكيد بما لم تزل المخايل فيه لائحة، والأمارات منه واضحة، والشّواهد به صادقة، والدّلائل عليه ناطقة، حتّى تدارك بنعمة الله الدّين بعد أن طمس مناره، وتعفّت آثاره، ودرست رسومه، وغارت نجومه، وأنحى الشيطان بجرانه، واشرأبّ لتبديله بعدوانه، وانتدب لنصرة الإسلام برأي يستغرق آراء الرّجال، وحلم يستخفّ رواسي الجبال، ورويّة تستخرج كوامن الغيوب، وتكشف عنها حنادس الشكوك، وباع لما يمتدّ إليه بسيط، وذراع لما ينتظم عليه رحيب، وصدر يتّسع لمعضلات الأمور، ويشرق في مدلهمّات الحوادث، فشرّد أعداء الله بعد أن اتصلت بهم مهلة الاغترار، وتطاولت بهم مدّة الإصرار، ومدّ رواق الملك وضرب قبابه، وثبّت أواخيه وأحصد (1) أسبابه، وقطع أطماع الملحدين، وأبطل كيد الكافرين، وفتّ في أعضاد المنابذين، فتحصّنت البيضة، واجتمعت الكلمة، واتّفقت الأهواء المتفرّقة، وانتظمت الآراء المتشعّبة، وسكنت الدّهماء المضطربة، وقرّت القلوب المنزعجة، وصدقت خواطر الصّدور المثلجة، وظهر الحقّ ورسخ عموده، وبهر جماله ونضر عوده، ونشرت أعلامه وطلعت سعوده، وعزّ أولياؤه ونصرت جنوده، وساخ بالباطل قدمه، وانقطعت وصائله وعصمه، وانبتّت حباله ورممه، وانحلّت أسبابه وذممه حقيق بما بان من فضله، واستفاض في الأمّة من عدله، وعمّ كافّة الرّعية من طوله، ووصلت إلى الملّيّ والذميّ والدّاني والقاصي عائدة الخير في أيامه، وفائدة الأمن بمملكته وسلطانه، ومأمول لأفضل ما بدا لعبده من ثمرة اجتبائه واصطفائه، وما تغمّده به من النّعم العظيمة، والمواهب الجسيمة، وأسبغه عليه من العوارف السّنيّة، ورفعه إليه من المنازل العليّة، التي تقصر عنها همم ذوي الأقدار، وتقف دونها آمال أولي الأخطار، مقدّما له على أهل السّوابق من أنصار دولته، وأشياع دعوته.
فلو ترادفت ألسن العباد أيّد الله أمير المؤمنين على اختلاف لغاتهم،
__________
(1) في الأصل «أخضد» وهو تصحيف. حاشية الطبعة الأميرية.(8/380)
وتباين طبقاتهم، وتفاوت حالاتهم، في مقابلة نعمة سيّدنا التي أعشى العيون بهاؤها، وتأدية حقوقه التي أعيا المجتهدين قضاؤها، لكانت حيث انتهت، وأنّى تصرّفت، على استفراغ القدرة واستنفاد الطاعة غير مقاربة حدّا من حدودها، ولا مؤدّية فرضا من فروضها، وإذا كان الأمر على ذلك أيّد الله أمير المؤمنين في فوت الإحسان مقادير الشّكر، وإيفائه على مبالغ الوسع، فقصد عبده في جبر النّقيصة، وسدّ الخلّة، الازدياد في الطّاعة، والإخلاص في الموالاة والمشايعة، وإدامة الابتهال إلى الله تعالى، ورفع الرّغبة في معونة عبد أمير المؤمنين على مجافاة (1) بلائه، والتّفرّد بجزائه، وتجديد المسألة في إطالة بقائه، في عزّ لا تبلى جدّته، وسلطان لا تنتهي مدّته، وموادّ من مناسجه وموائده، وروادف من عوائده، متظاهرة لا ينقطع منها أوّل حتّى يلحق تاليه، ولا ينصرم سالفه حتّى ينصرف آتيه، ويكون المآل بعد استيفاء شروط الأمل، وتقضّي حدود المهل، إلى النّعيم المقيم، في جوار العزيز الكريم.
ومن تمام إفضال سيّدنا على عبده، ونظام معروفه عنده بدؤه إيّاه بما يمتحن به خفّة نهضته، وسرعة حركته، وقعوده لأمره بحدّ حديد، وبعيش عتيد، وصمده لما يحظيه لذلك مولاه، ويحوز له حمده ورضاه، بصدق بصيرة، وخلوص سريرة، واستسهال لكلّ خطّة، وتجشّم لكلّ مشقّة، دنت المسافة أم شسعت، قربت الطّيّة أم نزحت، وسيّدنا أهل لاستتمام يد ابتداها، وإكمال عارفة أنشأها وكرامة ابتناها، باستعمال عبده بأمره ونهيه، واعتماده لمهمّاته بحضرته وفي أطراف مملكته، إن شاء الله تعالى.
قلت: وهذه نسخة كتاب أنشأته ليكتب به إلى أمير المؤمنين المستعين بالله، أبي الفضل العبّاس خليفة العصر، عن نائب الغيبة بالديار المصريّة، حين
__________
(1) في الأصل «مصافاة»، وهو تصحيف. حاشية الطبعة الأميرية.(8/381)
وردت كتبه الشريفة من الشأم إلى الديار المصريّة بالقبض على النّاصر فرج بن الظاهر برقوق بالشّأم، واستبداده بالأمر دون سلطان معه، في أوائل سنة خمس عشرة وثمانمائة، مفتتحا له ب «يقبّل الأرض» التي يكاتب بها الملوك. وإن كان قد تقدّم من كلام المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله أن المكاتبة إلى أبواب الخلافة بالدعاء للديوان، لا يختلف فيه ملك ولا سوقة، وهو:
يقبّل الأرض وينهي ورود المثال الأشرف الميمون طائره، المرقوم على صفحات الأفلاك تهانيه المحمول على متن السّحاب بشائره، الشّاهد بالفتح المبين أوائله وبالنّصر العزيز أواخره، متضمّنا ما منّ الله تعالى به من جميل الصّنع الذي وكفت بالخير سحائبه، وخفيّ اللّطف الذي بهرت العقول عجائبه، بما منح الله تعالى به مولانا أمير المؤمنين مدّ الله تعالى على الإسلام وارف ظلّه، وأنام الأنام بمدّ رواق الإمامة المعظمة في مهاد عدله، ومكّن له في الأرض كما مكّن لآبائه الخلفاء الراشدين من قبله، من جلوسه على سدّة الخلافة المقدّسة التي وصل منقطع حديثها بإسناده، وحاز منها بأشرف مقعد تراث آبائه الكرام وأجداده، وابتسم ثغر الخلافة بعبّاسه، وتآنس منها جانب الدّين بعد الاستيحاش بإيناسه، فقبّل المملوك له الأرض خاضعا، ولبّى أوامره الشّريفة ضارعا، وأجاب داعيه بالامتثال سامعا طائعا، وسجد سجود الشّكر لذلك فعرف بسيماه، وانتسب إلى الولاء الشّريف الإماميّ انتسابا شاملا لاسمه ومعناه، وأعلم من قبله من الأمراء والأجناد بذلك فقابلوه بالاستبشار طرّا، وتلقوها تلقّيا يليق بمثلها وإن كان لا مثل لهذه البشرى، وقرئت المطلقات الشريفة على المنابر فسكنت الدّهماء وقرّت، وسرت ألفاظها إلى الأسماع الشّيّقة فسرّت، وكرّرت ألفاظها العذبة مرارا فحلت لدى النفوس إذ مرّت، وارتفعت الأصوات بالدعاء بدوام هذه الدّولة النّبويّة دواما لا يستشعر مستشعر خلافه، فحقيق ظهور معجزة أكرم مرسل بعد الثمانمائة بقوله لعمّه العباس: «ألا أبشّرك يا عمّ، بي ختمت النّبوّة وبولدك تختم الخلافة».
وهذه نسخة جواب عن نائب طرابلس عن مثال شريف ورد بوفاة السلطان الملك الناصر «محمد (1) بن قلاوون» واستقرار ولده السلطان الملك المنصور «أبي (2) بكر» مكانه في الملك بعهد من أبيه، من إنشاء القاضي تاج الدين بن البار نباريّ، بعد التّعزية بأبيه السلطان الملك الناصر، وهي:(8/382)
يقبّل الأرض وينهي ورود المثال الأشرف الميمون طائره، المرقوم على صفحات الأفلاك تهانيه المحمول على متن السّحاب بشائره، الشّاهد بالفتح المبين أوائله وبالنّصر العزيز أواخره، متضمّنا ما منّ الله تعالى به من جميل الصّنع الذي وكفت بالخير سحائبه، وخفيّ اللّطف الذي بهرت العقول عجائبه، بما منح الله تعالى به مولانا أمير المؤمنين مدّ الله تعالى على الإسلام وارف ظلّه، وأنام الأنام بمدّ رواق الإمامة المعظمة في مهاد عدله، ومكّن له في الأرض كما مكّن لآبائه الخلفاء الراشدين من قبله، من جلوسه على سدّة الخلافة المقدّسة التي وصل منقطع حديثها بإسناده، وحاز منها بأشرف مقعد تراث آبائه الكرام وأجداده، وابتسم ثغر الخلافة بعبّاسه، وتآنس منها جانب الدّين بعد الاستيحاش بإيناسه، فقبّل المملوك له الأرض خاضعا، ولبّى أوامره الشّريفة ضارعا، وأجاب داعيه بالامتثال سامعا طائعا، وسجد سجود الشّكر لذلك فعرف بسيماه، وانتسب إلى الولاء الشّريف الإماميّ انتسابا شاملا لاسمه ومعناه، وأعلم من قبله من الأمراء والأجناد بذلك فقابلوه بالاستبشار طرّا، وتلقوها تلقّيا يليق بمثلها وإن كان لا مثل لهذه البشرى، وقرئت المطلقات الشريفة على المنابر فسكنت الدّهماء وقرّت، وسرت ألفاظها إلى الأسماع الشّيّقة فسرّت، وكرّرت ألفاظها العذبة مرارا فحلت لدى النفوس إذ مرّت، وارتفعت الأصوات بالدعاء بدوام هذه الدّولة النّبويّة دواما لا يستشعر مستشعر خلافه، فحقيق ظهور معجزة أكرم مرسل بعد الثمانمائة بقوله لعمّه العباس: «ألا أبشّرك يا عمّ، بي ختمت النّبوّة وبولدك تختم الخلافة».
وهذه نسخة جواب عن نائب طرابلس عن مثال شريف ورد بوفاة السلطان الملك الناصر «محمد (1) بن قلاوون» واستقرار ولده السلطان الملك المنصور «أبي (2) بكر» مكانه في الملك بعهد من أبيه، من إنشاء القاضي تاج الدين بن البار نباريّ، بعد التّعزية بأبيه السلطان الملك الناصر، وهي:
وينهي ورود المرسوم الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه، يتضمن أمر المصاب الذي كادت لوقوعه الأرض تتزلزل بأهلها، والعقول تتزيّل عن محلّها، وبلغت القلوب الحناجر، واستوحشت القصور واستأنست المقابر، وتصدّعت له صدور السيوف ورؤوس المنابر، وقصم الظّهور، وشيّب السّود من الشّعور، وجرّع كؤوسه، وصدّع الحوزة المحروسة، وذلك بما قدّر الله تعالى من انتقال مولانا السلطان السعيد، الشهيد، والد مولانا السلطان خلّد الله ملكه إلى رحمته ورضوانه، فأجرى المملوك عوض الدّموع دما، وأقام الإسلام والمسلمون عليه مأتما، وتغير البدر المنير لفقده فأمسى مظلما، وندبه الإسلام في سائر محاريبه ومصلّاه، وأسف عليه البيت الحرام وركناه {إنا لله وإنا إليه راجعون} (3):
{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (4)
لمّا دخل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة، أشرق منها ذلك اليوم كلّ شيء، ويوم قبض أظلم منها كلّ شيء، وكان أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه أثبت النّاس يوم وفاته صلّى الله عليه وسلّم، وهو الخليفة من بعده، ومولانا السلطان الشهيد قدّس الله روحه كان
__________
(1) تقدمت ترجمته في الصحيفة 1من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 1.
(2) هو سيف الدين أبو بكر بن محمد بن قلاوون، كان أبوه الناصر قد أخذ العهد له ولقبه بالملك المنصور. ولي بعد وفاة أبيه سنة 741هـ، ثم خلعه الخليفة وأرسله إلى قوص مع ثلاثة من إخوته في سنة 742هـ، فمات في السجن في السنة المذكورة، وبذلك تكون مدة ولايته ثلاثة أشهر. انظر البداية والنهاية (ج 14ص 191190)، والنجوم الزاهرة (ج 10ص 30) والأعلام (ج 2ص 69).
(3) سورة البقرة 2، الآية 156.
(4) سورة الأحزاب 33، الآية 21.(8/383)
متشرّفا باسم نبيّه، ومتبرّكا في ذرّيّته الشريفة بذكر سميّه (1)، ولو ذابت المهج أسفا عليه لما أنصفت، وقد أسفت عليه الأمم بأسرها وحقّ لها أن أسفت، نبتت لحومنا من صدقاته، وغمرت المملوك والممالك مجزلات هباته، وما نقل من قصره إلّا إلى جنّات النّعيم، وما فارق ملكه إلّا وبات في جوار الله الكريم، وكان سلطاننا وهو اليوم عند الله سلطان، فسقى الله عهده صوب الرّحمة والرّضوان.
وبحمد الله قد جبرت القلوب المنصدعة بجلوس مولانا السلطان خلّد الله ملكه على تخت السّلطنة المعظمة والله معه، وما جلس على كرسيّ الملك إلّا أهله، ولا قام بأمر المسلمين إلّا من علم فضله، ومولانا السلطان وارث الملك الناصريّ المنصور حقّا، والقائم بشأن السلطنة غربا وشرقا، وخلاصة هذا البيت الشريف زاده الله نصرا، وأدام ملكه دواما مستمرّا، والعيون الباكية قد قرّت الآن بهذه البشرى، والقلوب الثّاكلة قد ملئت بهجة: {إن مع العسر يسرا} * (2) واستقرّ الإسلام بعد قلقه، ونام على جفنه بعد أرقه، واستقبلت الأمّة عاما جديدا وسلطانا منصورا سعيدا، واستبشرت القبلتان، وتناجى بالمسرّة الثّقلان، والّذين كفروا أمسوا خائبين، والّذين آمنوا أضحوا فرحين {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} (3) ومولانا السلطان هو العريق في سلطنة الإسلام، والإمام الأعظم ابن الإمام، فخلّد الله ملكه ما دامت الأيام، وأحسن عزاءه في خير سلطان الأنام، وابتهلت الألسنة بالتّرحّم على مولانا السلطان الشهيد قدّس الله روحه بدموع سائلة، وقلوب موجوعة بجراحات النّياحات ثم عوّضوا بالمسرّات الكاملة، والدعاء مرفوع لمولانا السلطان خلّد الله ملكه برّا وبحرا، والبلاد مطمئنّة والعساكر على ما يجب من التّمسّك بالطاعة الشريفة، والتشريف بإقبال دولة سلطانهم، ووارث سلطانهم، وكان المملوك يودّ لو شاهد مولانا السلطان خلّد
__________
(1) أي بذكر أبي بكر. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) سورة الشرح 94، الآية 6.
(3) سورة الأنفال 8، الآية 62.(8/384)
الله ملكه على ذلك السّرير والمنبر، وقبّل الأرض بين يدي المواقف المعظّمة والمقام الأكبر، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة جواب عن ورود المثال الشريف بركوب السلطان بالميدان والإذن للنوّاب في لعب الكرة، وهي:
ينهي ورود المثال الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه، يتضمن الصّدقة التي أجرت أولياءها على أجمل عادة من الاحتفال، والمراحم الشاملة التي وسّعت لهم كرمها سافرة عن أوجه الإقبال، والبشرى التي جمعت من أنواع المسرّات ما بلغته الآمال، وهو أنّ الرّكاب الشريف استقلّ إلى الميدان السعيد نهار السّبت في كذا من شهر كذا، في أسعد طالع وأيمن وقت مطاوع، وفي الخدمة الشريفة من الأمراء كثّرهم الله تعالى من جرت العادة بهم من كلّ كميّ مقنّع، قد لبس من الطاعة بردا وبالإخلاص تدرّع، وامتطى من فائض الصّدقات الشريفة صهوة سابق قد شمّر للسّبق ذيلا، وفرّ كبرق لمع ليلا.
وأنّ مولانا السلطان خلّد الله ملكه طلع عليهم طلوع البدر عند الكمال، وحوله المماليك الشريفة كالأنجم الزاهرة التي لا تعدّ ولا تشبّه بمثال، والجياد لا يرى لها أثر من الرّكض، والكرة تتشرّف بالصّولجان كما تتشرّف بالتقبيل الأرض، وعاد الرّكاب الشريف زاده الله شرفا وعظّمه إلى القلعة المنصورة، إلى محلّ المملكة الشريفة، وفي دست السلطنة المعظّمة، محفوظا من الله تعالى بلطفه {له معقبات من بين يديه ومن خلفه} (1).
وما اقتضته الآراء الشريفة، والمراحم المطيفة، وآثرت به إعلام المملوك بذلك، والمرسوم الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه أن يتقدّم المملوك بالنّزول إلى ميدان فلانة المحروسة، ومعه مماليك مولانا السّلطان خلّد الله تعالى ملكه
__________
(1) سورة الرعد 13، الآية 11.(8/385)
والأمراء، فقابل المملوك هذه الصّدقات، بتقبيل الأرض ورفع الدّعوات، وجمعوا بين الكرة والصّولجان، وحصل لهم من المسرّات ما لا يحصره بيان، وانبسطت نفوسهم إذ أصبحوا في أمن وأمان، وابتهلوا إلى الله تعالى بدوام هذه الأيام التي نوّعتهم بأنواع الإحسان، وضجّوا بالأدعية لمولانا السلطان خلّد الله ملكه التي عمّت مواهبه وفاق بمكارمه الماضين، وأربى على سلفه الشريف بالعطاء والتّمكين، جعل الله أعداءه تحت قهره إلى يوم الدّين، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة جواب بوفاء النّيل المبارك كتب به عن نائب طرابلس، وهي:
وينهي ورود المثال الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه الذي أشرقت أنوار تهانيه، وتألّقت بروق ألفاظه ومعانيه، فبشّرت بفيض فضل الرّحمة، وعموم الرعايا بتواتر عميم النّعمة، ووفاء النّيل المبارك الذي ما برح في هذه الأيام الزاهرة يفي بعهده، ويسلّ سيف الخصب من غمده، ويقتل المحل بحمرة متنه وجوهر حدّه، مهنّئا للأولياء بهذه الدّولة التي أصبحت قلوبهم مطمئنّة بالأمن والرّخاء، مسرورة بما منّ الله به من ترادف الآلاء وعموم النّعماء، وحال ما ورد المرسوم الشريف بتقبيل الأرض والسّمع والطّاعة، وأخذ كلّ حظّه من هذه البشرى، التي عمّت تهانيها برّا وبحرا، وجعلت أمور هذه الأمة بيمن بركة هذه الأيّام الشريفة بعد عسر يسرا، وقد عاد فلان البريديّ ومن معه إلى الأبواب الشريفة بالجواب الشريف، طالع بذلك إن شاء الله تعالى.
آخر في المعنى:
وينهي ورود المثال الشريف زاده الله علوّا وشرفا، وبيّض له في القيامة صحفا، يتضمّن أنواع الإنعام الجزيل. وإبداء آثار السّرور بما يسّر الله من وفاء النّيل، فأشرقت أنوار تهانيه، وتألّقت بروق ألفاظه ومعانيه، فبشّر بفيض فصل
الرّحمة، وعموم الرعايا بتواتر عموم النّعمة، إذ جاء محيّاه في هذا العام طلقا وسلك في عوائد البرّ والإحسان طرقا، وأذن ببلوغ المرام والمراد، وكسر سدّ خليجه جبرا للعباد والبلاد، حيث ملأ الأرض ريّا، وأهدى من نفحات الأمن والمنّ ريّا، والمرسوم الشريف شرّفه الله وعظّمه بأن لا يجبى على ذلك حقّ بشارة، ولا يتعرّض إلى أحد بخسارة، فقابل المملوك المثال الشريف والمرسوم الشريف بتقبيل الأرض والسّمع والطّاعة، وبادر المملوك إلى إذاعة هذه البشرى، التي عمّت تهانيها برّا وبحرا، وجعلت أمور هذه الأمّة بيمن بركة هذه الأيام الشريفة بعد عسر يسرا، واستنطق الألسنة بالدّعاء لهذه الدّولة القاهرة، وجلا وتلا صور الهناء وسور الآلاء بهذه النّعمة الوافية والمنّة الوافرة، وسأل الله تعالى أن يخلّد ملك مولانا السلطان، ويوالي أنباء البشائر في أيّامه الشريفة مرويّة بالأسانيد الحسان، وقد عاد فلان البريديّ بالأبواب الشريفة شرّفها الله تعالى وعظّمها بهذا الجواب الشريف، وقد عاين ابتهال أهل هذه الملكة الفلانية بالدعاء بدوام هذه الأيام الزّاهرة السّارة بهذه البشائر بخلوّها من الكلف والخسارة، طالع بذلك.(8/386)
وينهي ورود المثال الشريف زاده الله علوّا وشرفا، وبيّض له في القيامة صحفا، يتضمّن أنواع الإنعام الجزيل. وإبداء آثار السّرور بما يسّر الله من وفاء النّيل، فأشرقت أنوار تهانيه، وتألّقت بروق ألفاظه ومعانيه، فبشّر بفيض فصل
الرّحمة، وعموم الرعايا بتواتر عموم النّعمة، إذ جاء محيّاه في هذا العام طلقا وسلك في عوائد البرّ والإحسان طرقا، وأذن ببلوغ المرام والمراد، وكسر سدّ خليجه جبرا للعباد والبلاد، حيث ملأ الأرض ريّا، وأهدى من نفحات الأمن والمنّ ريّا، والمرسوم الشريف شرّفه الله وعظّمه بأن لا يجبى على ذلك حقّ بشارة، ولا يتعرّض إلى أحد بخسارة، فقابل المملوك المثال الشريف والمرسوم الشريف بتقبيل الأرض والسّمع والطّاعة، وبادر المملوك إلى إذاعة هذه البشرى، التي عمّت تهانيها برّا وبحرا، وجعلت أمور هذه الأمّة بيمن بركة هذه الأيام الشريفة بعد عسر يسرا، واستنطق الألسنة بالدّعاء لهذه الدّولة القاهرة، وجلا وتلا صور الهناء وسور الآلاء بهذه النّعمة الوافية والمنّة الوافرة، وسأل الله تعالى أن يخلّد ملك مولانا السلطان، ويوالي أنباء البشائر في أيّامه الشريفة مرويّة بالأسانيد الحسان، وقد عاد فلان البريديّ بالأبواب الشريفة شرّفها الله تعالى وعظّمها بهذا الجواب الشريف، وقد عاين ابتهال أهل هذه الملكة الفلانية بالدعاء بدوام هذه الأيام الزّاهرة السّارة بهذه البشائر بخلوّها من الكلف والخسارة، طالع بذلك.
إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة جواب عن مثال شريف بوصول فرس إنعام، كتب به عن نائب طرابلس، وهي:
يقبّل الأرض وينهي ورود المرسوم الشريف أعلاه الله تعالى وشرّفه، يتضمن ما اقتضته الآراء الشريفة من الخير التّامّ، والإنعام العامّ، والصّدقة الوافية الوافرة الأقسام، التي ما برحت مماليك هذه الدّولة الشريفة في إنعامها العميم تتقلّب، والخيل السّوابق بسعادتها الأبديّة تجلب وتجنب وتركب، من تجهيز الحصان البرقيّ بسرجه ولجامه وعدّته الكاملة، وشمول المملوك بالصّدقات التي ما برحت مترادفة متواصلة، ولعبد هذا البيت الشريف شاملة، وقبّل المملوك الأرض وقبّل حوافره، واعتدّ بهذه النعمة الباطنة والظّاهرة، وأعدّه ليومي تجمّل وجهاد، ولقاء
عدوّ وطراد، والله تعالى يخلّد هذه الصّدقات الشريفة التي ما برحت تشمل القريب والبعيد، والموالي من أولياء هذه الدّولة الشريفة والعبيد، طالع بذلك إن شاء الله تعالى.(8/387)
يقبّل الأرض وينهي ورود المرسوم الشريف أعلاه الله تعالى وشرّفه، يتضمن ما اقتضته الآراء الشريفة من الخير التّامّ، والإنعام العامّ، والصّدقة الوافية الوافرة الأقسام، التي ما برحت مماليك هذه الدّولة الشريفة في إنعامها العميم تتقلّب، والخيل السّوابق بسعادتها الأبديّة تجلب وتجنب وتركب، من تجهيز الحصان البرقيّ بسرجه ولجامه وعدّته الكاملة، وشمول المملوك بالصّدقات التي ما برحت مترادفة متواصلة، ولعبد هذا البيت الشريف شاملة، وقبّل المملوك الأرض وقبّل حوافره، واعتدّ بهذه النعمة الباطنة والظّاهرة، وأعدّه ليومي تجمّل وجهاد، ولقاء
عدوّ وطراد، والله تعالى يخلّد هذه الصّدقات الشريفة التي ما برحت تشمل القريب والبعيد، والموالي من أولياء هذه الدّولة الشريفة والعبيد، طالع بذلك إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة جواب عن وصول خيل من الإنعام السّلطانيّ، من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود (1) الحلبيّ:
وينهي وصول ما أنعهم به من الخيل التي وجد الخير في نواصيها، وتتّخذ (2) صهواتها حصونا يعتصم في الوغى بصياصيها.
فمن أشهب غطّاه النّهار بحلّته، وأوطاه اللّيل على أهلّته، يتموّج أديمه ريّا، ويتأرّج ريّا، ويقول من استقبله في حليّ لجامه: هذا الفجر قد طلع بالثّريّا، إن انفلت (3) في المضايق انساب انسياب الأيم، وإن انفرجت المسالك مرّ مرور الغيم، كم أبصر فارسه يوما أبيض بطلعته، وكم عاين [طرف] (4) السّنان مقاتل العدوّ في ظلام النّقع بنور أشعّته، لا يستنّ داحس في مضماره، ولا تطمع الغبراء في شقّ غباره، ولا يظفر لاحق من لحاقه بسوى آثاره، تسابق يداه مرامي طرفه، ويدرك شوارد البروق ثانيا من [عطفه] (5).
ومن أدهم حالك الأديم، حالي الشّكيم، له مقلة غانية وسالفة ريم، قد ألبسه اللّيل برده، وأطلع بين عينيه سعده، يظنّ من نظر إلى سواد طرّته، وبياض حجوله وغرّته، أنه توهّم النّهار نهرا فخاضه، وألقى بين عينيه نقطة من رشاش تلك المخاضة، ليّن الأعطاف، سريع الانعطاف، يقبل كاللّيل، ويمرّ كجلمود
__________
(1) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 3ص 172من هذا الجزء من صبح الأعشى.
(2) في حسن التوسل ص 99: «وادّخرت». انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(3) في المصدر السابق: «إن التفّت المضايق»، وهي أوضح. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(4) بياض بالأصل، والتصحيح من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(5) بياض بالأصل، والتصحيح من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/388)
[صخر] (1) حطّه السّيل، يكاد يسبق ظلّه، ومتى جارى السّهم إلى غرض بلغه قبله.
ومن أشقر وشّاه البرق بلهبه، وغشّاه الأصيل بذهبه، يتوجّس (2) ما لديه بدقيقتين، وينفض وفرتيه عن عقيقتين، وينزل عذار لجامه من سالفتيه على شقيقتين، له من الرّاح لونها، ومن الرّيّاح لينها، إن جرى فبرق خفق، وإن أسرع فهلال على شفق، لو أدرك أوائل حرب بني وائل لم يكن للوجيه وجاهة، ولا للنّعامة نباهة، ولكان ترك إغارة [سكاب لؤما وتحريم بيعها سفاهة] (3) يركض ما وجد أرضا، وإذا اعترض به راكبه بحرا وثب عرضا.
ومن كميت نهد، كأنّ راكبه في مهد، عندميّ الإهاب، شماليّ الذّهاب، يزلّ [الغلام] (4) الخفّ عن صهواته، وكأنّ نغم الغريض ومعبد (5) في لهواته، قصير المطا، فسيح (6) الخطا، إن ركب لصيد قيّد الأوابد، وأعجل عن الوثوب الوحش اللّوابد، وإن جنّب إلى حرب لم يزورّ من وقع القنا بلبانه، ولم يشك لو علم الكلام بلسانه، ولم يردون بلوغ الغاية وهي ظفر راكبه ثانيا من عنانه، وإن
__________
(1) بياض بالأصل، والتصحيح من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(2) في المصدر السابق: «يتوخّش». انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(3) بياض بالأصل، والتصحيح من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(4) الزيادة من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(5) في الأصل: «ومقبل»، والتصحيح من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية. والغريض هو أبو زيد عبد الملك، من مولّدي البربر، ومن أشهر المغنّين في صدر الإسلام. سكن مكة، وكان صاحب معبد. كان يضرب بالعود وينقر بالدف. سمّي الغريض باسم الطلع، ويقال فيه: الغريض والاغريض، سمّي بالغريض لنقاء لونه، وقيل: لطراوته. توفي نحو 95هـ. انظر الأغاني (ج 2 ص 318)، ووفيات الأعيان (ج 3ص 438437) والأعلام (ج 4ص 156). ومعبد هو صاحب الغريض، وهو معبد بن وهب، أبو عباد المدني، نابغة الغناء العربي، أخذ الغناء عن سلّم الخاسر. كان والغريض بمكة، ولمعبد أكثر الصناعة الثقيلة. انظر العقد الفريد (ج 6 ص 3029)، ووفيات الأعيان (ج 3ص 437) والحاشية رقم 7ص 89من عيون الأخبار ج 4.
(6) في الأصل: «سريع»، والتصحيح عن حسن التوسل. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/389)
سار في سهل اختال بصاحبه كالثّمل، وإن أصعد في جبل طار في عقابه كالعقاب وانحطّ في مجاريه كالوعل، متى ما ترقّ العين فيه تسهّل، ومتى أراد البرق مجاراته قال له الوقوف عند قدره: ما أنت هناك فتمهّل.
ومن حبشيّ أصفر يروق العين، ويشوق القلب (1) بمشابهته العين، كأن الشّمس ألقت عليه من أشعّتها جلالا، وكأنّه نفر من الدّجى فاعتنق منه عرفا واعتلق أحجالا، ذي كفل يزين سرجه، وذيل يسدّ إذا استدبرته منه فرجه، قد أطلعته الرّياضة على مراد فارسه، وأغناه نضار لونه ونضارته عن ترصيع قلائده وتوشيع ملابسه، له من البرق خفّة وطئه وخطفه، ومن النّسيم لين مروره (2) ولطفه، ومن الرّيح هزيزها إذا ما جرى شأوين وابتلّ عطفه، يطير بالغمز، ويدرك بالرّياضة مواقع الرّمز، ويعدو كألف الوصل في استغناء مثلها عن الهمز.
ومن أخضر حكاه من الرّوض تفويفه، ومن الوشي تقسيمه وتأليفه، قد كساه النّهار واللّيل حلّتي وقار وسنا، واجتمع فيه من السّواد والبياض ضدّان لمّا استجمعا حسنا، ومنحه البازي حلّة وشيه، ونحلته الرّياح ونسماتها قوّة ركضه وخفّة مشيه، يعطيك أفانين الجري قبل سؤاله، ولمّا لم يسابقه شيء من الخيل أغراه حبّ الظّفر بمسابقة خياله، كأنه [تفاريق] (3) شيب في سواد عذار، أو طلائع فجر خالط بياضه الدّجى، فما سجى، ومازج ظلامه النهار، فما أنار، يختال لمشاركة اسم الجري بينه وبين الماء في السّير كالسّيل، ويدلّ بسبقه على المعنى المشترك بين البروق اللّوامع وبين البرقيّة من الخيل، ويكذب [المانويّة] (4)
__________
(1) في الأصل: «العين»، والتصحيح عن المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(2) في الأصل: «طروقه»، والتصحيح عن المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة عن المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(4) بياض بالأصل، والتصحيح عن المصدر السابق ص 100. انظر حاشية الطبعة الأميرية. والمانوية نسبة إلى مان، وهو رجل ذهب إلى أن النور فاعل الخير، والظلام فاعل الشرّ. وإلى ذلك أشار المتنبي بقوله: (طويل).
وكم لظلام الليل عندي من يد ... تخبر أن المانويّة تكذب(8/390)
لتولّد اليمن فيه بين إضاءة النّهار وظلمة اللّيل.
ومن أبلق ظهره حرم، وجريه ضرم، إن قصد غاية فوجود الفضاء بينه وبينها عدم، وإن صرّف في حرب فعمله ما يشاء البنان والعنان وفعله ما تريد الكفّ والقدم، قد طابق الحسن البديع بين ضدّي لونه، ودلّت على اجتماع النّقيضين علّة كونه، وأشبه زمن الرّبيع باعتدال اللّيل فيه والنّهار، وأخذ وصف حلّتي الدّجى في حالتي الإبدار والسّرار، لا تكلّ مناكبه، ولا يضلّ في حجرات الجيوش راكبه، ولا يحتاج ليله المشرق بمجاورة نهاره إلى أن تسترسل فيه كواكبه، ولا يجاريه الخيال فضلا عن الخيل، ولا يملّ السّرى إلّا إذا ملّه مشبهاه: النّهار واللّيل، ولا تتمسّك البروق اللّوامع من لحاقه بسوى الأثر فإن جهدت فبالذّيل، فهو الأبلق الفرد، والجواد الذي لمحاربه العكس وله الطّرد، قد أغنته شهرة نوعه في جنسه عن الأوصاف، وعدل بالرّياح عن مباراته لسلوكها له في الاعتراف جادّة الإنصاف.
فترقّى المملوك إلى رتب العزّ من ظهورها، وأعدّها لخطبة الجنان إذ الجهاد عليها من أنفس مهورها، وكلف بركوبها فكلّما أكمله عاد، وكلما أملّه شره إليه فلو أنّه زيد الخيل (1) لما زاد، ورأى من آدابها ما دلّ على أنها من أكرم الأصائل، وعلم أنّها ليومي سلمه وحربه جنّة الصّائد وجنّة الصائل (2)، وقابل إحسان مهديها (3)
بثنائه ودعائه، وأعدّها في الجهاد لمقارعة أعداء الله وأعدائه [والله تعالى يشكر برّه الذي أفرده في النّدى بمذاهبه، وجعل الصّافنات الجياد من بعض مواهبه] (4)
__________
(1) كذا في المصدر السابق، وفي الأصل: «زبد البحر والخيل». انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(2) كذا في المصدر السابق، وفي الأصل: «جنّة للصائل وجنّة للمصائل». انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(3) في الأصل: «الصدقات الشريفة»، والتصحيح عن المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(4) الزيادة عن المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/391)
المهيع الثاني (من مقاصد المكاتبات السلطانية ما يكتب به عن نوّاب السلطان والأتباع إلى السلطان ابتداء)
وهو على أنواع كثيرة، نذكر منها ما يستضيء به الكاتب في مثله.
فمن ذلك ما يكتب عن نائب كلّ مملكة إذا وصل إلى محلّ ولايته.
قد جرت العادة أن النائب إذا وصل إلى مملكته ومقرّ ولايته، كتب إلى السّلطان يخبره بذلك وبما المملكة عليه.
وهذه نسخة مكاتبة من ذلك، كتب بها عن نائب حلب في معنى ذلك، وهي:
يقبّل الأرض وينهي أن المملوك وصل إلى المملكة الفلانية المحروسة، وحلّ محالّها المأنوسة، التي شملته الصّدقات الشريفة بكفالتها، وأهّلته المراحم المنيفة لإيالتها، رافلا في حلل الإنعام الشريف، متفيّئا ظلّ العزّ الوريف، صحبة فلان مسفّره، ودخلها يوم كذا من شهر كذا لا بسا تشريفه الشريف المنعم به عليه، ماشيا لمحلّ الكرامة الذي سار إليه [بحضور من جرت العادة بحضوره] (1)
من قضاة القضاة والأمراء والحجّاب، والعساكر المنصورة والأصحاب، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، وقبّل الأرض بباب القلعة المنصورة، ودخل دار العدل الشريف وقطوف الأمانيّ له مهصورة، وقريء بها بحضرة أولياء الدّولة تقليده، وعظّم المراسم الشريفة تأييده، وتصدّى لما نصبته له المراسم الشريفة من إنصاف المظلوم، وتنفيذ كلّ مهمّ شريف ومرسوم، وتصفّح أحوال المملكة، وسلك كلّ أحد مسلكه، واستجلبت الأدعية لمولانا السلطان، واجتهد في حياطة البلاد ممّن يمدّ إليه شيطان المفسدين بأشطان، وانتظم له أمر المملكة بالمهابة
__________
(1) الزيادة مأخوذة من الصفحة التالية (نسخة كتاب إلى الأبواب السلطانية عن نائب طرابلس)، وهي من سقط الناسخ. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/392)
الشريفة أحسن انتظام، وبلغ به كلّ وليّ من قهر العدوّ غاية المرام وقد أعاد المملوك فلانا مسفّره إلى خدمة الأبواب الشريفة مزاح الأعذار، مبلّغ الأوطار، على العادة طالع بذلك ولا زال منه مزيد الشّرف والعلوّ إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة كتاب في المعنى إلى الأبواب السلطانية عن نائب طرابلس، وهي:
يقبّل الأرض وينهي أنّه وصل إلى طرابلس المحروسة مغمورا بالصّدقات الشريفة، والإنعامات المطيفة، صحبة مملوك مولانا السلطان فلان خلّد الله تعالى ملكه، وألبس تشريفه الشريف، وقريء تقليده الشريف بدار العدل، وقبّل الأرض مرارا على العادة، وتقدّم المملوك بالحلف الشّريف على النّسخة المجهّزة صحبة المشار إليه من الأبواب الشريفة عظّمها الله تعالى، بحضور من جرت العادة بحضوره، من قضاة القضاة والأمراء، وكتب خطّه عليها، وانتصب المملوك لخلاص الحقوق، وإزالة المظالم، ونشر لواء العدل الشريف، لينتصف المشروف من الشريف، وينزجر القويّ عن الضّعيف، واتّباع الحقّ في القضايا واستجلاب الأدعية بدوام هذه الدولة العادلة من الرّعايا، ورتّب أمور الآزاك المنصورة على أكمل عادة وأجمل قاعدة، وقد عاد فلان إلى الأبواب الشريفة، شرّفها الله تعالى وعظّمها، لينهي بين يدي الأيادي المعظّمة، ما عاينه من المملوك من إخلاصه في الطاعة الشريفة ومغالاته، طالع بذلك، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك ما يكتب به في التّهنئة بالخلافة:
أما التهنئة بالخلافة، فقد قال في «موادّ البيان»: من الأدب المستفيض ترفيه الخلفاء عن الهناء والعزاء، إكبارا لهم وتعظيما، إلّا أنّنا رأينا ذوي الأخطار من القدماء قد شافهوهم بالعزاء مسلّين، وبالهناء داعين، وربّما دفع الكاتب إلى صحبة رئيس يقتضي محلّه أن يهنّيء الخليفة بمتجدّد النّعم لديه، ويعزّيه لمتطرّق النوائب إليه، فاحتيج إلى أن يرسم في هناء الخلفاء وعزائهم، ما يحتذى عليه،
عند الحاجة إلى استعمال مثله.(8/393)
أما التهنئة بالخلافة، فقد قال في «موادّ البيان»: من الأدب المستفيض ترفيه الخلفاء عن الهناء والعزاء، إكبارا لهم وتعظيما، إلّا أنّنا رأينا ذوي الأخطار من القدماء قد شافهوهم بالعزاء مسلّين، وبالهناء داعين، وربّما دفع الكاتب إلى صحبة رئيس يقتضي محلّه أن يهنّيء الخليفة بمتجدّد النّعم لديه، ويعزّيه لمتطرّق النوائب إليه، فاحتيج إلى أن يرسم في هناء الخلفاء وعزائهم، ما يحتذى عليه،
عند الحاجة إلى استعمال مثله.
وهذه نسخة تهنئة بالخلافة، أوردها في «موادّ البيان»: وهي:
أولى النّعم خلّد الله ملك مولانا أمير المؤمنين بأن تنطق بها ألسن الذّاكرين يضوع عطرها، وتتناقلها أفواه الشّاكرين يفوح نشرها نعمة إيلائه في خلافته التي جعلها ذخرا للأنام، وعصمة للإسلام، وحاجزا بين الحلال والحرام، وقواما للائتلاف والاتّفاق وزماما عن الاختلاف والافتراق، ونظاما لصلاح الخاصّة والعامّة، وسبيلا إلى اجتماع الكلمة وسكون الأمّة، وسببا لحقن الدّماء، ودعة الدّهماء، ومجاهدة الأعداء، وإقامة الصّلوات، وإيتاء الزّكوات، والعمل بالفرائض والسّنن، وحسم البدع والفتن، وعدقها بالأخيار ورثة نبيّه وعترته، والأبرار الطّهرة من أرومة رسوله وشجرته، الّذين نصبهم دعاة إلى طاعته، وهداة لبريّته، وأعلاما لشريعته، يأمرون بالمعروف ويأتمرون، وينهون عن المنكر وينتهون، ويقضون بالحقّ وبه يعدلون وكلّما لحق منهم سلف بمقرّ أوّليّته أقام خلفا يختصّه بانتخابه وتكرمته.
والحمد لله الذي قصر خلافته على أمير المؤمنين وآبائه، وجعل منهم الماضي الّذي كانت مفوّضة إليه، والآتي الّذي أقرّت عليه، وأنجز لهم ما وعدهم من إبقاء الإمامة، في عقبهم إلى يوم القيامة، واستخلص لها في عصرنا هذا وليّها الحامي لحقيقتها، المرامي عن حوزتها، المعزّ لكلمتها، الرّافع لرايتها، المحدّد لحدودها، الحافظ لعقودها، وسلّم قوسا منه إلى باريها، وناطها بكفئها وكافيها، وأفضى إليه بشرف الولادة والأبوّة، وميراث الإمامة والنّبوّة، وألّف به بين القلوب الآبية، وجمع عليه النفوس النّائية، واتّفقت الآراء بعد تباينها وتنافيها، وتطابقت الأهواء على اختلافها وتعاديها، واستدّت ثلمة الدّين بعد انثغارها، واطمأنّت الدّهماء بعد نفارها، حمدا يكون لنعمته كفاء، ولموهبته جزاء.
وخلافة الله وإن كانت الغاية التي لا تنزع الهمم إليها، ولا تتطلّع الأماني عليها، لاختصاص الله بها صفوته من بريّته، وخالصته من أهل بيت نبيّه وعترته، فإنّ أمير المؤمنين يتعاظم عن تهنئته بوصولها إليه، وسبوغ ملابسها عليه، إذ لا
يسوغ أن يهنّأ بإدراك ما كتب الله له أن يدركه بأقلام الأقدار على صفحات اللّيل والنّهار، والعبد يسأل الله تعالى ضارعا إليه في إنهاض أمير المؤمنين بما حمّله وكلّفه، وتوفيقه فيما كفّله واستخلفه، وأن يمكّن له في الأرض، ويعلي يده بالبسط والقبض، ويمدّه بعزّ السلطان، وعلوّ الشّان، وظهور الأولياء، وثبور الأعداء، وإعزاز الدّين، وابتزاز الملحدين، وتقوية يده في نصرة الإسلام، وسياسة الأنام، ويعرّف رعيّته من يمن دولته، وسعادة ولايته، ما يجمعهم على الطاعة والموافقة، ويعصمهم من المعصية والمفارقة، ويوفّقهم من الإخلاص في موالاته، لما يوفّر حظّهم من مرضاته، ويجعل ولايته هذه مقرونة بانفساح المدّة والأجل، وبلوغ المنى والأمل، وصالح القول والعمل، ويبلّغه في مملكته ودولته أفضل ما بلّغه خليفة من خلفائه، ووليّا من أوليائه.(8/394)
وخلافة الله وإن كانت الغاية التي لا تنزع الهمم إليها، ولا تتطلّع الأماني عليها، لاختصاص الله بها صفوته من بريّته، وخالصته من أهل بيت نبيّه وعترته، فإنّ أمير المؤمنين يتعاظم عن تهنئته بوصولها إليه، وسبوغ ملابسها عليه، إذ لا
يسوغ أن يهنّأ بإدراك ما كتب الله له أن يدركه بأقلام الأقدار على صفحات اللّيل والنّهار، والعبد يسأل الله تعالى ضارعا إليه في إنهاض أمير المؤمنين بما حمّله وكلّفه، وتوفيقه فيما كفّله واستخلفه، وأن يمكّن له في الأرض، ويعلي يده بالبسط والقبض، ويمدّه بعزّ السلطان، وعلوّ الشّان، وظهور الأولياء، وثبور الأعداء، وإعزاز الدّين، وابتزاز الملحدين، وتقوية يده في نصرة الإسلام، وسياسة الأنام، ويعرّف رعيّته من يمن دولته، وسعادة ولايته، ما يجمعهم على الطاعة والموافقة، ويعصمهم من المعصية والمفارقة، ويوفّقهم من الإخلاص في موالاته، لما يوفّر حظّهم من مرضاته، ويجعل ولايته هذه مقرونة بانفساح المدّة والأجل، وبلوغ المنى والأمل، وصالح القول والعمل، ويبلّغه في مملكته ودولته أفضل ما بلّغه خليفة من خلفائه، ووليّا من أوليائه.
ومن ذلك ما يكتب في البشارة بالفتوح:
قد جرت العادة أن السلطان إذا وجه جيشا لفتح قلعة أو قطر من الأقطار وحصل الفتح على يديه أن يكتب السلطان مبشّرا بذلك الفتح، منوّها بقدره، معظما لأمره، وما كان فيه من عزيز النّصر وقوّة الظّفر.
[فمن مكاتبة في البشارة بفتح حصن (1) المرقب، وهي:] (2)
قد أسفر عن الفتح المبين صباحه، والتّأييد وقد طار به محلّق التباشير فخفق في الخافقين جناحه، والإسلام وقد وطيء هامة الكفر بمقدمه، والدّين وقد عزّ بفتكات سيفه المنصور فأنف أن يكون الشّرك من خدمه، والأفلاك وقد علمت أنّه لهذا الفتح القريب كان اجتماع كواكبها، والأملاك وقد نزلت لتشهد
__________
(1) المرقب: بفتح الميم والقاف معا وسكون الراء: بلد وقلعة حصينة تشرف على ساحل بحر الشام وعلى مدينة بلنياس. وفي سنة 454هـ عمّر المسلمون في المرقب الحصن المعروف بالمرقب بساحل جبلة، وهو حصن يحدّث كلّ من رآه أنه لم ير مثله. معجم البلدان (ج 5ص 108).
(2) لم يذكر المؤلف عنوانا لهذه المكاتبة، فذكرنا عنوانها بحسب ما يقتضيه المقام ليلتئم الكلام. وقد بحثنا عن هذه المكاتبة في الكتب التي بأيدينا فلم نهتد إليها، غير أن الشيخ شهاب الدين محمودا الحلبي قد ذكر فقرات منها في حسن التوسل ص 101. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/395)
أحمد النّصرة البدريّة في صفوفها ومواكبها، وحصن المرقب وقد ألقت عليه الملّة الإسلامية أشعّة سعدها، وأنجزت له الأيام من الشّرف بها آماله بعد ما طال انتظاره لوعدها، وأمّنته الأقدار التي ذلّلته للإسلام أن تطاول إليه الحوادث من بعدها، وقد أحاطت العلوم بأن هذا الحصن طالما شحّت الأحلام، أن تخيّل فتحه لمن سلف من الأنام، فما حدّثت الملوك أنفسها بقصده إلّا وثناها الخجل، ولا خطبته ببذل النّفائس والنّفوس إلّا وكانت من الحرمان على ثقة ومن معاجلة الأجل وقته على وجل، وحوله من الجبال كلّ شامخ تتهيّب عقاب الجوّ قطع عقابه، وتقف الرّياح خدما دون التّوقّل في هضابه، [وحوله من] (1) الأودية خنادق لا تعلم منها الشّهور إلّا بأنصافها، ولا تعرف فيها الأهلّة إلّا بأوصافها، وهو مع ذلك قد تقرّط بالنّجوم، وتقرطق بالغيوم، وسما فرعه إلى السّماء ورسا أصله في التّخوم، تخال الشّمس إذا علت أنّها تتنقّل في أبراجه، ويظنّ من سما إلى السّها أنّه ذبالة في سراجه، فكم من ذي جيوش قد مات بغصّة، وذي سطوات أعمل الحيل فلم يفز من نظره على البعد بفرصة، لا يعلوه من مسمّى الطير سوى نسر الفلك ومرزمه، ولا يرمق متبرّجات أبراجه غير عين شمسه والمقل التي تطرف من أنجمه، وقد كان نصب عليه من المجانيق ما سهامه أنفذ من سهام الجفون، وخطراته أسرع من لحظات العيون، لا يخاطب إلّا بوساطة رسله بضمير الطّلاب، ولا يرى لسان سهمه إلّا كما ترى خطفات البرق إذا تألّق في علوّ السّحاب، فنزلت عليه الجيوش نزول القضاء، وصدمته بهممها التي تستعير منها الصّوارم سرعة المضاء وروعة الانتضاء، فنظرت منه حصنا قد زرّر عليه الجوّ جيب غمامه، وافترّ ثغره كلّما جذب عنه البرق فاضل لثامه، فتذلّلت صعابه، وسهلت عقابه، وركزت للجنوبات (؟) في سفحه وطالما رامت الطّير أدناه فلم تقو عليه القوادم، وكم همّت العواصف بتسنّم رباه فأصبحت مخلّفة تبكي عليها الغمائم، فضرب بينها وبين الحصن بسور باطنه فيه الرّحمة
__________
(1) في الأصل: «ففي الأدوية»، والتصحيح من المصدر السابق. انظر حاشية الطبعة الأميرية.(8/396)
وظاهره من قبله العذاب، ونصبت فوقه من الأسنّة ثغور برّاقة الثّنايا ولكنّها غير عذاب، فعاد ذلك السّفح مصفّحا بصفاحها، مشرقا بأعلام أسنّة رماحها، فأرسلت إلى أرجائها ما أربى على الغمائم، وزاد في نفحه (1) على التّمائم (طويل).
وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثت القتلى عليها تمائم
ونصبت عليها المجانيق فلم ترع حقّ جنسها، وسطت عليها فأصبح غدها في التّحامل أبعد من أمسها، واستنهضتها العدا فاعلمتهم أنّها لا تطيق الدّفاع عن غيرها بعد أن عجزت عن نفسها، وبسطت أنفها أمارة على الإذعان، ورفعت أصابعها، إما إجابة أن تذلّ للتّشهّد وإما إنابة إلى طلب الأمان، فخاف العدا من ظهور هذا الاستظهار، وعلموا أن المجانيق فحول لا تثبت لها الإناث التي عريت من النّفع بأيديهم فاستعانوا عليهن مع العدا بطول الجدار، فعند ذلك غدت تكمن كمون الأساود وتثب وثوب الأسود، وتباري بها الحصون السّماء فكلّما قذفت هذه بكواكبها النّيّرة قذف هذا بكواكبه السّود، ولم يكسر لهم منجنيق إلّا ونصبوا آخر بمكانه، ولا قطعت لأحد إصبع إلّا وصل الآخر ببنانه، فظلّت تتحارب مثل الكماة، وتتحامل تحامل الرّماة، حتّى لقحت وفسحت للرّضا مجالا، ومالت وميل فيها وكذلك الحرب تكون سجالا.
هذا والنّقوب قد دبّت في باطنه دبيب السّقام، وتمشّت في مفاصله كما تتمشّى في مفاصل شاربها المدام، وحشت أضالعه نارا تشبه نار الهوى، تحرق الأحشاء ولا يبدو لها ضرام، قد داخلت مرسلة الوجل، فتحققوا حلول الأجل، وعلموا أن هذا الفتح الذي تمادت عليه الأيام قد جاء يسعى إلى ما بين يديه على عجل، وأيقن الحصن بالانتظام في سلك الممالك الشريفة فكاد يرقصه بمن فيه فرط الجذل، وزاد شوقه إلى التشريف ويا صبابة لوسمها واسمها مشتاق لكنهم أظهروا الجلد، وأخفوا ضرام نار الجزع وكيف تخفى وقد وقد، وتدفّقت إليهم الجيوش فملأت الأفق، وأحاطت بهم إحاطة الطّوق
__________
(1) كذا بالأصل، ولعله: «في نفعه». حاشية الطبعة الأميرية.(8/397)
بالعنق، ونهضت إليهم مستمدّة من عزمات سلطانها، مستعدّة لانتزاع أرواح العدا على يديها من أوطانها، فانقطعت بهم الظّنون، ودارت عليهم رحى المنون، وأمطرت عليهم المجانيق أحجارها {فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون} (1) وحطّت بساحتها عقبان تلك الأحجار، فهدمت العمائر والأعمار، وأجرت في أرجائها أنهار الدّماء فهلكوا بالسّيف والنّبل والنّار، وتحكّمت هذه الثلاثة في أهل التّثليث فبدّلوا بالخوف من أمنهم، وهربوا منها إلى مخايل حصنهم.
ولما ركب الأوّل للزّحف في جيوشه التي كاثرت البحر بأمواجه، تزلزل الحصن لشدّة ركضه، وتضعضع من خوف عصيانه فلحقت سماؤه بأرضه، وتحلّلت قواعد ما شيّد من أركانه فانحلت، وألقت الأرض ما فيها وتخلّت، ومشت النّار من تحتهم وهم لا يشعرون، ونفخ في الصّور بل في السّور فإذا هم قيام ينظرون، وما كان إلّا أن قابلت العساكر ذلك البرج حتّى أهوى يلثم التّراب، وتأدّب بآداب الطاعة فخرّ راكعا وأناب، فهاجمتهم الجيوش مهاجمة الحتوف، وأسرعت المضاء والانتضاء فلم تدر العدا: أهم أم الّذين في أيمانهم السّيوف التي تسبق العذل؟ وثبت منهم من لم يجد وراءه مجالا فلجأوا إلى الأمان، وتمسّك دنيء كفرهم بعزّة الإيمان، وتشبّثوا بساحل العفو حتّى ظنّوا أنّهم أحيط بهم وجاءهم الموج من كلّ مكان، وسألونا أن يكونوا لما من جملة الصّنائع، وتضرّعوا في أن نجعل أرواحهم لسيوفنا من جملة الودائع فنتصدّق عليهم بأرواحهم كرما، وظلّوا على معنى الحديث النّبويّ: يرون الممات يقظة والحياة حلما وأطلقتهم اليد التي لا يخيب لديها الآمل، وأعتقتهم اليمنى التي فجاج الأرض في قبضتها، فمتى تشاء تجمع عليهم الأنامل، وخرجوا بنفوس قد تجرّدت حتّى من الأجسام، ومقل طلّقت الكرا خوفا من الصّوارم التي تسلّها عليهم الأحلام، وسطّرت والمدينة قد تسنّم أعلاها، وشعار الإيمان قد جرّدها من لباس الكفر وأعراها، والأعلام قد
__________
(1) سورة الأعراف 7، الآية 118.(8/398)
سلكت إلى ذلك الحصن أعلى مرقى، والسّعادة قد بدّلت بيعه مساجد ومحاريبه قبلة وكانت شرقا، فأصبح يرفل في حلل الإيمان، وأذعن بالطاعة فأخرس جرس الجرس به صوت الأذان، إن شاء الله تعالى.
[ومن ذلك] ما يكتب به في التّعازي إلى الخلفاء:
وقد تقدّم في الكلام على التّهنئة بولاية الخلافة، أنه كما ينبغي أن لا يهنّأ الخليفة بالخلافة إعظاما، فكذلك ينبغي أن لا يعزّى في مصابه، إلّا أنه ربّما دعت ضرورة الكاتب إلى ذلك لإكرام بعض أخصاء الخليفة إياه بالكتابة بذلك إلى الخليفة. ولا يخفى أن الحال في ذلك تختلف باختلاف المعزّي، من والد أو ولد أو غيرهما.
[وهذه نسخة مكاتبة في معنى ذلك] (1) ذكرها في «موادّ البيان» وهي:
أما بعد، فإن الله تعالى جعل خلافته لخلقه قواما، ولبريّته نظاما، وجعل له خلفاء يدّخرهم لميراثها، ويختصّهم بتراثها، فإذا انقضت مدّة ماضيهم، لما يريده الله من استدنائه إلى مقرّ خلصائه، نقلها إلى نوره باصطناعه واصطفائه.
والحمد لله الذي قصر خلافته على أمير المؤمنين وآبائه، وجعل منهم زعيمهم الماضي الذي كانت بيديه مواريثها، والآتي الذي صار إليه [تراثها].
والحمد لله الذي ختم لأمير المؤمنين المنتقل إلى دار الكرامة بأفضل الخاتمة وأحسن له الجزاء عن السّعي في الأمّة، وأنعم باستخلاص أمير المؤمنين لإمامة خليقته، وحياطة سريعته، وحماية بلاده، وسياسة عباده، ولوراثة تراث آبائه وأجداده، وجعل الماضي منهم مرضيّا عنه، والآتي مرضيّا به، وأعتدت الرّعيّة من عدل أمير المؤمنين ما جبر كسرها في خليفته، وصبرها في رزيّته، وهو المسؤول أن يلهمه على المصيبة في سلفه الطاهر صبرا، وعلى ما أخلفه عليه في تأهيله لخلافته التي لا كفاء لها شكرا، بمنّه وفضله إن شاء الله تعالى.
__________
(1) بياض بالأصل، والتصحيح يقتضيه المقام. حاشية الطبعة الأميرية.(8/399)
[وهذه نسخة كتاب في التّعزية أيضا] (1) وهي:
إنّ الله خصّ أمير المؤمنين بما هو أهله من خلافته، وعظّم محلّه بما نصبه له من إمامة بريّته، وجعله عمادا لأهل الإسلام تجتمع عليه أهواؤهم، وتسكن إليه أملاؤهم، ويصلح به دينهم ودنياهم، ويستقيم به أمر أولاهم وأخراهم، فإذا أسبغ نعمة من نعمه عليه، وظاهر موهبة من مواهبه لديه، شركوه فيها، ونهضوا معه على الشّكر عليها، وإذا ابتلاه ببليّة، وامتحن صبره برزيّة، أخذوا بالنّصيب العظيم من الحادث، والحظّ الجسيم من الكارث، [و] ما أفردوه بثواب الله فيها وما جعله جزاء من الأجر عليها.
وإن الله تعالى كان أعار أمير المؤمنين من ولده فلان رضي الله عنه عارية من عواريه، وبلّغه من الاستمتاع بها ما احتسب من أمانيه، ثم استرجعها ليثقّل بها ميزانه، ويضاعف إحسانه، ويجعلها له ذخرا، ونورا يسعى بين يديه وأجرا، فعظم بذلك المصاب على رعيّته، وكبر الرّزء على أهل دعوته، لما كانوا يرجونه من سكون القلوب، ونقع الخطوب، واستقرار قواعد الخلافة، وشمول الرّحمة والرّافة، وقد حصل أمير المؤمنين على نعم كثيرة من موهبته وثوابه في استعادته، وحصل كافّة خاصّته على القلق لفقده، والأسى من بعده، وقد جعله الله تعالى صلاح كلّ فساد، وثقاف كلّ ميّاد، ومهبط كلّ رحمة، وطريق كلّ نعمة، وهو خليق بأن يظهر من صبره، ورضاه بقضاء الله وتسليمه لأمره، ما يبعث على التّأسّي به، والتّأدّب بأدبه والله تعالى يحسن لأمير المؤمنين الخلف، ويعوّضه أحسن العوض في المؤتنف، ويوفّر حظّه من الثّواب، ويعظم له الأجر على المصاب، ويريه في أوليائه وأحبابه، أعظم محابّه وغاية آرابه، وينقل المنقول إلى إيوان الكرامة والاحتفاء، بأفاضل الأجداد والآباء، بفضله ورحمته، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) بياض بالأصل، والتصحيح يقتضيه المقام. حاشية الطبعة الأميرية.(8/400)
[وهذه] نسخة كتاب، كتب به إلى الأبواب السلطانية عند فتح (1) (آياس) قاعدة بلاد الأرمن وانتزاعها من أيديهم، وهي (2):
يقبّل الأرض وينهي أن ليلة الانتظار أطلعت صباحها، ومواعيد الآمال بعثت على يد الإقبال نجاحها، والعساكر المنصورة جرّدت رابع ربيع الأوّل بمدينة آياس صفاحها، وأوردت إلى الصّدور رماحها، فلم يكن إلّا كلمح البصر، ولسان صدق القتال قائل بأنّ الجيش النّاصريّ قد انتصر، وانقضى ذلك النّهار، بإيقاد نار حرب الحصار، على أبراج وأسوار، أديرت على المينا كما أدير المعصم على السّوار، فما أشرق صباح الصّفاح ولاح، إلّا والأعلام النّاصريّة على قلّة (3) القلعة مائسة الأعطاف من الارتياح، معلنة ألسنتها بحيّ على الفلاح وحيّ على النّجاح، وعزّ الإسلام يقابل ذلّ الكفر، بهذا النّصر وهذا الافتتاح، وجمع الأرمن الملا تفرّق ما بين قتل وأسر وانتزاح، ولعبت أيدي النّيران في القلعة وجوانبها، وتفرّقت من الأسوار أعضاء مناكبها، ونطق بالأقدار لسان النّار: هذي منازل أهل النّار في النّار.
ثم انتقلت المحاصرة إلى قلعة البحر، وضمّ الأرمن الملا إليها سيف القدرة والقهر، وهذه القلعة عروس بكر في سماء العزّ شاهقة، لم يسبق لأحد من الملوك الأوائل إلى خطبتها سابقة، قد شمخت بأنفها، ونأت بعطفها، وتاهت على وامقها، وغضّت عين رامقها، فهي في عقاب لوح الجوّ كالطائر، وسوّرها البحر والحجر فلا يكاد يصل إلى وكرها النّاظر، وقد أوثقت بحلقات الحديد،
__________
(1) تحدث ابن خلدون عن انهزام الأرمن في آياس وسيس على يد الناصر، واستيلاء المسلمين على المدينتين. تاريخ ابن خلدون (ج 10ص 924923) وانظر ص 222من هذا الجزء من صبح الأعشى، الحاشية رقم 3.
(2) كان الأولى ذكر هذه المكاتبة مع المكاتبات التي ذكرت في البشارة بالفتوح، إذ لا مناسبة في ذكرها هنا. حاشية الطبعة الأميرية.
(3) قلّة القلعة: أعلاها.(8/401)
وقيّدت كأنّها عاصية تساق بالأصفاد إلى يوم الوعيد، فأرسل عليها المنجنيق عقابه، وأعلق بها ظفره ونابه، فكشف من شرفاتها شنب ثغرها، وسقاها بأكفّ أسهمه كؤوس حجارة فتمايلت من شدة سكرها، وفضّ من أبراجها الصّناديق المقفلة، وفصّل من أسوارها الأعضاء المتّصلة، فتزلزل عمدها، وزيل عن مكانه جلمدها، وعلت الأيدي المرامية بها، وغلّت الأيدي المحامية عنها، واشتدّ مرضها من حرارة وهج الحصار، وضعفت قوّتها عن مقاومة تلك الأحجار، ولم يبق على سورها من يفتح له جفنا، وشنّ المنجنيق عليها غارته إلى أن صارت شنّا، فأرسل إليها من سماء غضبه رجوما، ووالى ذلك عليها سبع ليال وثمانية أيّام حسوما، فبادرت إلى الطّاعة واستسلمت، وكرّر نحوها ركوعه فسجدت، وركبت الجيوش المنصورة عوض الصّافنات اللّجج، وسمحت في سبيل الله عزّ وجلّ بالمهج، فعند ذلك سارع أهلها إلى التّعلّق بأسباب الهرب، وكان خراب قلعة المينا هذي لخراب قلعتهم من الجرب، وأحرقوا كبدها من أيديهم بنار الغضب، وانتزحوا منها ليلا، وجرّوا من الهزيمة ذيلا، وتسلّمها المسلمون، وتحسّر عليها الحسرة الكبرى الكافرون، وهدمت حجرا حجرا، وصافحت بجبهتها وجه الثّرى، وأعدمت من الوجود عينا وأثرا، فما أعجب هذا الفتوح (1) وأغرب! وما أحلى ذكره في الأفواه وما أعذب!! وما ألذّ حديثه في الأسماع وما أطرب!! وما أسعد هذا الجيش النّاصريّ وما أنجب!!!! (بسيط).
بشراك بشراك هذا النّصر والظّفر ... هذا الفتوح الّذي قد كان ينتظر
فتح مبين ونصر جلّ موقعه ... سارت به وله الأملاك والبشر
عجائب ظهرت في فتحه بهرت ... لم تأت أمثالها الأيام والسّير
لو كان في زمن ماض به نزلت ... في وصف وقعته الآيات والسّور
__________
(1) الفتوح في الأصل جمع فتح، والفتح هنا هو النصر، وقد ساقها المؤلّف على أنها مفرد، وأغلب الظن أنه استعملها كما استعملها الشاعر في البيتين الأول والذي ما قبل الأخير من القصيدة التالية:
(انظر لسان العرب (فتح).(8/402)
هذي أياس الّتي قد عزّ جانبها ... وعزّ خاطبها حتّى أتى القدر
جاءت إليها جيوش كم بها أسد ... بيض الصّفاح لها الأنياب والظّفر
جيش لهام كبحر زاخر لجب (1) ... إذا سرى لا يرى شمس ولا قمر
يسير بالنّصر أنّى سار متّجها ... ما زال يقدمه التّأييد والظّفر
جيش له الله والأملاك ناصرة ... مليكه ناصر للدّين منتصر
يوم الخميس رأيت الخيل حاملة ... على رؤوس عداة هامها أكر (2)
وقلعة البحر كانت آية لهم ... فعن يسير فأضحت للورى عبر
كانت بأفق سماء العزّ شاهقة ... أبراجها باسقات خرتها (3) خطر
فركب المسلمون البحر باذلة ... أرواحها في سبيل الله تدّخر
لم يبق منهم أمير لا ولا ملك ... يأوي مقرّا إلى أن مدّت الجسر
وعجّل الله بالفتح المبين لهم ... هذا الفتوح الّذي توفى له النّذر
يرضى به الله والإسلام قاطبة ... وشاهد القول فيه العين والأثر
تم الجزء الثامن. يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء التاسع وأوّله القسم الثاني (من مقاصد المكاتبات الإخوانيات) والحمد لله ربّ العالمين، وصلاته على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه والتابعين، وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل
__________
(1) بحر لجب: ذو لجب، أي أمواجه مضطربة.
(2) الأكر: جمع أكرة، وهي الكرة.
(3) يقال: خرت الشيء: ثقبه. لسان العرب (خرت).(8/403)
ثبت بأسماء المصادر والمراجع الجزء الثامن من صبح الأعشى
11 - الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب (41).
طبعة مصر، 1319هـ.
2 - اختصار القدح المعلّى في التاريخ المحلّى لابن سعيد الأندلسي.
تحقيق الأستاذ إبراهيم الأبياري، القاهرة، 1959.
3 - اختصار القدح المعلّى في التاريخ المحلّى لابن سعيد الأندلسي.
تحقيق الأستاذ إبراهيم الأبياري.
دار الكتب الإسلامية، دار الكتاب المصري، دار الكتاب اللبناني.
الطبعة الثانية، 1980.
4 - أزهار الرياض في أخبار عياض للمقّري التلمساني (31).
تحقيق الأساتذة السقا والأبياري وشلبي، القاهرة، 19421939.
5 - أساس البلاغة للزمخشري.
تحقيق عبد الرحيم محمود.
دار المعرفة، بيروت، 1979.
6 - الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى لأحمد ابن خالد الناصري السلاوي (41)، مصر، 1312هـ.
7 - الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى لأحمد 2ابن خالد الناصري السلاوي (41).
طبعة الدار البيضاء، 1373هـ.
8 - الأعلام للزركلي (81).
دار العلم للملايين، بيروت، 1980.
9 - الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (251).
طبعة دار الثقافة، بيروت، 19611955.
10 - الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (1 25).
طبعة بولاق.
11 - إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لإسماعيل باشا البغدادي، 1945.
12 - البداية والنهاية في التاريخ لابن كثير (1 14)، مصر، 13581351هـ.
13 - بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس للضبي.
دار الكاتب العربي، 1967.
14 - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي.
دار المعرفة، بيروت.
15 - البيان المغرب لابن عذاري المراكشي (41).
تحقيق ج. س. كولان وإ. ليفي
1 - بروفنسال والدكتور إحسان عباس.(8/405)
تحقيق ج. س. كولان وإ. ليفي
1 - بروفنسال والدكتور إحسان عباس.
دار الثقافة، بيروت.
16 - تاريخ ابن خلدون (141).
دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1981.
17 - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (1 14).
دار الكتاب العربي، بيروت.
18 - تاريخ الخلفاء للسيوطي، بيروت.
19 - التعريف بالمصطلح الشريف لابن فضل الله العمري.
مطبعة العاصمة بمصر، 1312هـ.
20 - تهذيب الأسماء واللغات لابن شرف النووي، الجزء الأول من القسم الثاني.
دار الكتب العلمية، بيروت.
21 - جذوة الاقتباس فيمن حلّ من الأعلام بمدينة فاس لابن القاضي، فاس، 1309هـ.
22 - حسن التوسّل إلى صناعة الترسّل لشهاب الدين الحلبي.
مطبعة أمين هندية بمصر، 1315هـ.
23 - الدرر الكامنة في أعيان الماية الثامنة لابن حجر العسقلاني (41)، حيدرآباد، 19501945.
24 - الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب لابن فرحون المالكي، مصر، 1351هـ.
25 - ديوان امريء القيس.
تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
دار المعارف بمصر، 1969.
26 - ديوان لبيد، نشر الدكتور إحسان عباس.
الكويت، 1962.
27 - الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام الشنتريني.
2 - تحقيق الدكتور إحسان عباس.
دار الثقافة، بيروت، 19791978.
28 - الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي (61).
تحقيق الأستاذين محمد بن شريفة وإحسان عباس.
دار الثقافة، بيروت، 1973.
29 - الرد الوافر لابن ناصر الدين، تحقيق زهير الشاويش، بيروت، 1393هـ.
30 - ريحانة الكتّاب ونجعة المنتاب لابن الخطيب، المجلد الأول.
تحقيق محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي.
المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، 1980.
31 - زبدة كشف الممالك للظاهري، باريس، 1894.
32 - السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي (21).
تحقيق محمد مصطفى زيادة، القاهرة، 19421934 (43).
تحقيق سعيد عبد الفتاح عاشور، 19721970.
33 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب للعماد الحنبلي (81). القاهرة، 1350 1351هـ.
34 - الشعر والشعراء لابن قتيبة (21).
دار الثقافة، بيروت، 1969.
35 - صورة الأرض لابن حوقل النصيبي.
دار مكتبة الحياة، بيروت.
36 - الضوء اللامع لأهل القرن التاسع
1 - للسخاوي (121)، مصر، 1353 1355هـ.(8/406)
36 - الضوء اللامع لأهل القرن التاسع
1 - للسخاوي (121)، مصر، 1353 1355هـ.
37 - الطالع السعيد لكمال الدين أبي الفضل الأدفوي.
تحقيق سعد محمد حسن، القاهرة، 1966.
38 - طبقات الشعراء لابن سلام، نشر الألماني جوزف هل.
دار الكتب العلمية، بيروت، 1982.
39 - العقد الفريد لابن عبد ربه (71) شرح أحمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم الأبياري.
مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 19651949.
40 - عيون الأخبار لابن قتيبة (21) شرح وضبط الدكتور يوسف طويل (43) شرح وضبط الدكتور مفيد قميحة.
دار الكتب العلمية، بيروت، 1986.
41 - الفهرست للنديم.
تحقيق رضا تجدد، طهران، 1971.
42 - فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي (1 5).
تحقيق الدكتور إحسان عباس.
دار الثقافة، بيروت، 19741973.
43 - القاموس المحيط للفيروز ابادي (1 4)، مصر، 1330هـ.
44 - قرآن كريم.
دار الفكر، بيروت، 1403هـ.
45 - قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان للقلقشندي.
تحقيق إبراهيم الأبياري.
دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982.
462 - قلائد العقيان لابن خاقان.
طبعة بولاق، 1283هـ.
47 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة (21)، إستانبول.
19431941.
48 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة (21).
دار الفكر، 1982.
49 - الكامل في التاريخ لابن الأثير (131) دار صادر، بيروت، 1982.
50 - الكامل في اللغة والأدب للمبرّد (21).
مكتبة المعارف، بيروت.
51 - لسان العرب لابن منظور (151).
دار صادر، بيروت.
52 - اللمحة البدرية في الدولة النصرية لابن الخطيب.
المطبعة السلفية، مصر، 1347هـ.
53 - مجمع الأمثال للميداني (21).
تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
مطبعة السنة المحمدية، 1955.
54 - محيط المحيط لبطرس البستاني.
مكتبة لبنان، بيروت، 1977.
55 - المختار من رسائل أبي إسحاق بن زهرون الصابي، نقّحه وعلّق حواشيه الأمير شكيب ارسلان.
دار النهضة الحديثة، بيروت.
56 - المختصر في أخبار البشر (ويعرف بتاريخ أبي الفداء) للملك المؤيّد إسماعيل أبي الفداء صاحب حماة، سبعة أجزاء في مجلدين.
دار الكتاب اللبناني.
57 - مروج الذهب للمسعودي (41) شرح
1 - وتقديم الدكتور مفيد قميحة.(8/407)
57 - مروج الذهب للمسعودي (41) شرح
1 - وتقديم الدكتور مفيد قميحة.
دار الكتب العلمية، بيروت، 1986.
58 - المطرب من أشعار أهل المغرب لابن دحية.
تحقيق الأساتذة إبراهيم الأبياري وحامد عبد المجيد وأحمد أحمد بدوي.
دار العلم للجميع، بيروت، 1955.
59 - معجم الأدباء لياقوت الحموي (71).
طبعة مرجليوت، مصر، 1907 1925.
60 - معجم البلدان لياقوت الحموي (51).
دار صادر، دار بيروت، 1984.
61 - معجم الشعراء للمرزباني، ومعه المؤتلف والمختلف للآمدي، تصحيح الدكتور ف. كرنكو.
دار الكتب العلمية، بيروت، 1982.
62 - معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة (1 15).
مطبعة الترقي، دمشق، 1959.
63 - معجم متن اللغة للشيخ أحمد رضا (1 5).
دار مكتبة الحياة، بيروت، 1960.
64 - المغرب في حلى المغرب لابن سعيد الأندلسي (21).
تحقيق شوقي ضيق.
دار المعارف بمصر، 19551953.
65 - مفتاح الأفكار في النثر المختار للشيخ أحمد مفتاح، مصر، 1314هـ.
66 - المقتضب من كتاب تحفة القادم لابن الأبّار.
تحقيق إبراهيم الأبياري.
دار الكتاب اللبناني، دار الكتب 2الإسلامية، الدار الإفريقية العربية، 1983.
67 - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي (105)، حيدرآباد الدكن، 1357هـ.
68 - المنجد في اللغة والأعلام.
دار المشرق، بيروت، 1978.
69 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي (31)، مصر، 1325هـ.
70 - نثير فرائد الجمان في نظم فحول الزمان لابن الأحمر، دراسة وتحقيق محمد رضوان الداية.
دار الثقافة، بيروت، 1967.
71 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغزي بردي (161).
دار الكتب المصرية.
72 - نظم دولة سلاطين المماليك للدكتور عبد المنعم ماجد (21).
مكتبة الأنجلو المصرية، 1967.
73 - نفاضة الجراب في علالة الاغتراب لابن الخطيب.
تحقيق الدكتور أحمد مختار العبادي.
دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة.
74 - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقّري (81).
تحقيق الدكتور إحسان عباس.
دار صادر، بيروت، 1968.
75 - نكت الهميان في نكت العميان لصلاح الدين الصفدي، مصر، 1329هـ.
76 - الوافي بالوفيات للصفدي (221)، إستانبول وفيسبادن، 19831931.
771 - وفيات الأعيان لابن خلّكان (81).(8/408)
76 - الوافي بالوفيات للصفدي (221)، إستانبول وفيسبادن، 19831931.
771 - وفيات الأعيان لابن خلّكان (81).
تحقيق الدكتور إحسان عباس.
دار صادر، بيروت، 19781977.
78 - الولاة والقضاة لمحمد بن يوسف الكندي، بيروت، 1908.
792 - يتيمة الدهر للثعالبي (41).
دار الكتب العلمية، بيروت، 1979.
80 - هدية العارفين، أسماء المؤلفين وآثار المصنفين لإسماعيل باشا البغدادي (1 2)، إستانبول، 19551951.(8/409)
فهرس الجزء الثامن من كتاب صبح الأعشى للقلقشنديّ
المقصد الثالث في المكاتبة إلى أهل الجانب الجنوبيّ، من العرب والسودان، وفيه ثلاث جمل 3 الجملة الأولى في المكاتبة إلى من بهذا الجانب من العربان 3 الجملة الثانية في المكاتبة إلى مسلمي ملوك السودان 4 الجملة الثالثة في المكاتبة إلى ملوك المسلمين بالحبشة 10 المقصد الرابع في المكاتبة إلى أهل الجانب الشمالي، وفيه ثلاثة أطراف 11 الطرف الأوّل في المكاتبات إلى أمراء الأتراك ببلاد الروم المسماة الآن ببلاد الدروب 11 الطرف الثاني في المكاتبة عن ملوك الديار المصرية إلى ملوك الكفر 25 الطرف الثالث في المكاتبة إلى من وراء بحر القرم، ويشتمل على أربعة مقاصد 26 المقصد الأوّل في المكاتبة إلى ملوك الكفار ببلاد الشرق 27 المقصد الثاني في المكاتبة إلى ملوك الكفار ببلاد المغرب من جزيرة الأندلس وما والاها 34 المقصد الثالث في المكاتبة إلى ملوك الكفار بالجانب الجنوبي 40 المقصد الرابع في المكاتبة إلى ملوك الكفار بالجانب الشماليّ من الروم والفرنجة على اختلاف أجناسهم 44 الفصل الخامس من الباب الثاني من المقالة الرابعة في الكتب الواردة على الأبواب السلطانية من أهل المملكة وغيرها، وفيه نوعان 56 النوع الأوّل المكاتبات الواردة عن ملوك المسلمين، وهي على قسمين 56
القسم الأوّل في الكتب الواردة عن أهل هذه المملكة بالديار المصرية والبلاد الشامية، وفيه ضربان 56 القسم الثاني في الكتب الواردة على الأبواب السلطانية عن أهل الممالك الإسلامية، ويشتمل على أربعة مقاصد 63 المقصد الأوّل في الكتب الواردة عن أهل الشرق، وفيه أطراف 63 الطرف الأوّل الكتب الواردة عن القانات العظام من بني جنكزخان 63 الطرف الثاني في المطالعات الواردة إلى الأبواب السلطانية عن أهل الشرق 72 الطرف الثالث في رسم المكاتبات الواردة عن صاحب اليمن إلى هذه المملكة 72 الطرف الرابع في الكتب الواردة إلى الأبواب السلطانية عن ملوك الهند 77 المقصد الثاني في المكاتبات الواردة عن ملوك الغرب، وفيه جمل 79 الجملة الأولى في المكاتبة الواردة عن صاحب تونس 80 الجملة الثانية في المكاتبات الواردة عن صاحب تلمسان من بني عبد الواد 85 الجملة الثالثة في المكاتبات الواردة عن صاحب فاس 88 الجملة الرابعة في عادة الكتب الواردة عن صاحب الأندلس 107 المقصد الثالث في رسم المكاتبات الواردة عن ملوك السودان، وفيه ثلاثة أطراف 118 الطرف الأوّل في المكاتبات إلى صاحب مالّي 118 الطرف الثاني في المكاتبات الصادرة عن صاحب البرنو 119 الطرف الثالث في المكاتبات الصادرة عن ملك الكانم 122 المقصد الرابع في الكتب الواردة من الجانب الشمالي وهي بلاد الروم 122 النوع الثاني [كتب خطأ القسم الثالث] من المكاتبات الواردة إلى هذه المملكة الكتب الواردة عن ملوك الكفار، وهي على أربعة أضرب 123 الفصل السادس من الباب الثاني من المقالة الرابعة في رسوم المكاتبات الإخوانيات، وفيه طرفان 130
الطرف الأوّل في رسوم إخوانيات السلف من الصحابة والتابعين 130 الطرف الثاني في رسوم الإخوانيات المحدثة بعد السلف، وفيه ثلاثة مقاصد 131 المقصد الأوّل في رسوم إخوانيات أهل المشرق، وفيه أربعة مهايع 131 المهيع الأوّل في صدور الابتداءات 131 المهيع الثاني في الأجوبة على هذا المصطلح 143 المهيع الثالث في خواتم الإخوانيات على هذا المصطلح 145 المهيع الرابع في عنوانات الكتب على هذا المصطلح 148 المقصد الثاني في رسوم إخوانيات أهل المغرب، وفيه جملتان 151 الجملة الأولى في مفتتحات المكاتبات على اصطلاحهم، وفيها مهيعان 152 المهيع الأوّل في ابتداء المكاتبات 152 المهيع الثاني في الأجوبة 163 الجملة الثانية في خواتم المكاتبات على اصطلاحهم 163 المقصد الثالث في الإخوانيات المستعملة بالديار المصرية، وفيه ثلاثة مصطلحات 165 المصطلح الأوّل ما كان الأمر عليه في الدولة الطولونية وفيه ثلاثة مهايع 165 المهيع الأوّل في الصدور 165 المهيع الثاني في خواتم الكتب 170 المهيع الثالث في عنوانات الكتب 170 المصطلح الثاني من مصطلحات الديار المصرية ما كان عليه الحال في الدولة الأيوبية 171 المصطلح الثالث من مصطلحات الديار المصرية في الإخوانيات ما جرى عليه الاصطلاح في الدولة التركية، وفيه مهيعان 172 المهيع الأوّل في رتب المكاتبات المصطلح عليها وهي على قسمين 173 القسم الأوّل الابتداءات 175
القسم الثاني من المكاتبات الإخوانيات الدائرة بين أعيان المملكة وأكابر أهل الدولة الأجوبة 213 المهيع الثاني في بيان رتب المكتوب عنهم والمكتوب إليهم من أعيان الدولة 217 الفصل السابع من الباب الثاني من المقالة الرابعة في مقاصد المكاتبات، وهي قسمان 236 القسم الأوّل مقاصد المكاتبات السلطانيّات، وهي على نوعين 236 النوع الأوّل ما يكتب عن الخلفاء والملوك، وهو على ثلاثة أضرب [صوابه أربعة] 236 الضرب الأوّل ما يكتب عن الخلفاء والملوك ومن ضاهاهم، وهو على أصناف 236 الصنف الأوّل الكتب بانتقال الخلافة إلى الخليفة 237 الصنف الثاني من الكتب السلطانية الكتب في الدعاء إلى الدين 247 الصنف الثالث من الكتب السلطانية الكتب بالحث على الجهاد 249 الصنف الرابع من الكتب السلطانية الكتب في الحث على لزوم الطاعة وذمّ الخلاف 255 الصنف الخامس من الكتب(8/411)
المقصد الثالث في المكاتبة إلى أهل الجانب الجنوبيّ، من العرب والسودان، وفيه ثلاث جمل 3 الجملة الأولى في المكاتبة إلى من بهذا الجانب من العربان 3 الجملة الثانية في المكاتبة إلى مسلمي ملوك السودان 4 الجملة الثالثة في المكاتبة إلى ملوك المسلمين بالحبشة 10 المقصد الرابع في المكاتبة إلى أهل الجانب الشمالي، وفيه ثلاثة أطراف 11 الطرف الأوّل في المكاتبات إلى أمراء الأتراك ببلاد الروم المسماة الآن ببلاد الدروب 11 الطرف الثاني في المكاتبة عن ملوك الديار المصرية إلى ملوك الكفر 25 الطرف الثالث في المكاتبة إلى من وراء بحر القرم، ويشتمل على أربعة مقاصد 26 المقصد الأوّل في المكاتبة إلى ملوك الكفار ببلاد الشرق 27 المقصد الثاني في المكاتبة إلى ملوك الكفار ببلاد المغرب من جزيرة الأندلس وما والاها 34 المقصد الثالث في المكاتبة إلى ملوك الكفار بالجانب الجنوبي 40 المقصد الرابع في المكاتبة إلى ملوك الكفار بالجانب الشماليّ من الروم والفرنجة على اختلاف أجناسهم 44 الفصل الخامس من الباب الثاني من المقالة الرابعة في الكتب الواردة على الأبواب السلطانية من أهل المملكة وغيرها، وفيه نوعان 56 النوع الأوّل المكاتبات الواردة عن ملوك المسلمين، وهي على قسمين 56
القسم الأوّل في الكتب الواردة عن أهل هذه المملكة بالديار المصرية والبلاد الشامية، وفيه ضربان 56 القسم الثاني في الكتب الواردة على الأبواب السلطانية عن أهل الممالك الإسلامية، ويشتمل على أربعة مقاصد 63 المقصد الأوّل في الكتب الواردة عن أهل الشرق، وفيه أطراف 63 الطرف الأوّل الكتب الواردة عن القانات العظام من بني جنكزخان 63 الطرف الثاني في المطالعات الواردة إلى الأبواب السلطانية عن أهل الشرق 72 الطرف الثالث في رسم المكاتبات الواردة عن صاحب اليمن إلى هذه المملكة 72 الطرف الرابع في الكتب الواردة إلى الأبواب السلطانية عن ملوك الهند 77 المقصد الثاني في المكاتبات الواردة عن ملوك الغرب، وفيه جمل 79 الجملة الأولى في المكاتبة الواردة عن صاحب تونس 80 الجملة الثانية في المكاتبات الواردة عن صاحب تلمسان من بني عبد الواد 85 الجملة الثالثة في المكاتبات الواردة عن صاحب فاس 88 الجملة الرابعة في عادة الكتب الواردة عن صاحب الأندلس 107 المقصد الثالث في رسم المكاتبات الواردة عن ملوك السودان، وفيه ثلاثة أطراف 118 الطرف الأوّل في المكاتبات إلى صاحب مالّي 118 الطرف الثاني في المكاتبات الصادرة عن صاحب البرنو 119 الطرف الثالث في المكاتبات الصادرة عن ملك الكانم 122 المقصد الرابع في الكتب الواردة من الجانب الشمالي وهي بلاد الروم 122 النوع الثاني [كتب خطأ القسم الثالث] من المكاتبات الواردة إلى هذه المملكة الكتب الواردة عن ملوك الكفار، وهي على أربعة أضرب 123 الفصل السادس من الباب الثاني من المقالة الرابعة في رسوم المكاتبات الإخوانيات، وفيه طرفان 130
الطرف الأوّل في رسوم إخوانيات السلف من الصحابة والتابعين 130 الطرف الثاني في رسوم الإخوانيات المحدثة بعد السلف، وفيه ثلاثة مقاصد 131 المقصد الأوّل في رسوم إخوانيات أهل المشرق، وفيه أربعة مهايع 131 المهيع الأوّل في صدور الابتداءات 131 المهيع الثاني في الأجوبة على هذا المصطلح 143 المهيع الثالث في خواتم الإخوانيات على هذا المصطلح 145 المهيع الرابع في عنوانات الكتب على هذا المصطلح 148 المقصد الثاني في رسوم إخوانيات أهل المغرب، وفيه جملتان 151 الجملة الأولى في مفتتحات المكاتبات على اصطلاحهم، وفيها مهيعان 152 المهيع الأوّل في ابتداء المكاتبات 152 المهيع الثاني في الأجوبة 163 الجملة الثانية في خواتم المكاتبات على اصطلاحهم 163 المقصد الثالث في الإخوانيات المستعملة بالديار المصرية، وفيه ثلاثة مصطلحات 165 المصطلح الأوّل ما كان الأمر عليه في الدولة الطولونية وفيه ثلاثة مهايع 165 المهيع الأوّل في الصدور 165 المهيع الثاني في خواتم الكتب 170 المهيع الثالث في عنوانات الكتب 170 المصطلح الثاني من مصطلحات الديار المصرية ما كان عليه الحال في الدولة الأيوبية 171 المصطلح الثالث من مصطلحات الديار المصرية في الإخوانيات ما جرى عليه الاصطلاح في الدولة التركية، وفيه مهيعان 172 المهيع الأوّل في رتب المكاتبات المصطلح عليها وهي على قسمين 173 القسم الأوّل الابتداءات 175
القسم الثاني من المكاتبات الإخوانيات الدائرة بين أعيان المملكة وأكابر أهل الدولة الأجوبة 213 المهيع الثاني في بيان رتب المكتوب عنهم والمكتوب إليهم من أعيان الدولة 217 الفصل السابع من الباب الثاني من المقالة الرابعة في مقاصد المكاتبات، وهي قسمان 236 القسم الأوّل مقاصد المكاتبات السلطانيّات، وهي على نوعين 236 النوع الأوّل ما يكتب عن الخلفاء والملوك، وهو على ثلاثة أضرب [صوابه أربعة] 236 الضرب الأوّل ما يكتب عن الخلفاء والملوك ومن ضاهاهم، وهو على أصناف 236 الصنف الأوّل الكتب بانتقال الخلافة إلى الخليفة 237 الصنف الثاني من الكتب السلطانية الكتب في الدعاء إلى الدين 247 الصنف الثالث من الكتب السلطانية الكتب بالحث على الجهاد 249 الصنف الرابع من الكتب السلطانية الكتب في الحث على لزوم الطاعة وذمّ الخلاف 255 الصنف الخامس من الكتب(8/412)
المقصد الثالث في المكاتبة إلى أهل الجانب الجنوبيّ، من العرب والسودان، وفيه ثلاث جمل 3 الجملة الأولى في المكاتبة إلى من بهذا الجانب من العربان 3 الجملة الثانية في المكاتبة إلى مسلمي ملوك السودان 4 الجملة الثالثة في المكاتبة إلى ملوك المسلمين بالحبشة 10 المقصد الرابع في المكاتبة إلى أهل الجانب الشمالي، وفيه ثلاثة أطراف 11 الطرف الأوّل في المكاتبات إلى أمراء الأتراك ببلاد الروم المسماة الآن ببلاد الدروب 11 الطرف الثاني في المكاتبة عن ملوك الديار المصرية إلى ملوك الكفر 25 الطرف الثالث في المكاتبة إلى من وراء بحر القرم، ويشتمل على أربعة مقاصد 26 المقصد الأوّل في المكاتبة إلى ملوك الكفار ببلاد الشرق 27 المقصد الثاني في المكاتبة إلى ملوك الكفار ببلاد المغرب من جزيرة الأندلس وما والاها 34 المقصد الثالث في المكاتبة إلى ملوك الكفار بالجانب الجنوبي 40 المقصد الرابع في المكاتبة إلى ملوك الكفار بالجانب الشماليّ من الروم والفرنجة على اختلاف أجناسهم 44 الفصل الخامس من الباب الثاني من المقالة الرابعة في الكتب الواردة على الأبواب السلطانية من أهل المملكة وغيرها، وفيه نوعان 56 النوع الأوّل المكاتبات الواردة عن ملوك المسلمين، وهي على قسمين 56
القسم الأوّل في الكتب الواردة عن أهل هذه المملكة بالديار المصرية والبلاد الشامية، وفيه ضربان 56 القسم الثاني في الكتب الواردة على الأبواب السلطانية عن أهل الممالك الإسلامية، ويشتمل على أربعة مقاصد 63 المقصد الأوّل في الكتب الواردة عن أهل الشرق، وفيه أطراف 63 الطرف الأوّل الكتب الواردة عن القانات العظام من بني جنكزخان 63 الطرف الثاني في المطالعات الواردة إلى الأبواب السلطانية عن أهل الشرق 72 الطرف الثالث في رسم المكاتبات الواردة عن صاحب اليمن إلى هذه المملكة 72 الطرف الرابع في الكتب الواردة إلى الأبواب السلطانية عن ملوك الهند 77 المقصد الثاني في المكاتبات الواردة عن ملوك الغرب، وفيه جمل 79 الجملة الأولى في المكاتبة الواردة عن صاحب تونس 80 الجملة الثانية في المكاتبات الواردة عن صاحب تلمسان من بني عبد الواد 85 الجملة الثالثة في المكاتبات الواردة عن صاحب فاس 88 الجملة الرابعة في عادة الكتب الواردة عن صاحب الأندلس 107 المقصد الثالث في رسم المكاتبات الواردة عن ملوك السودان، وفيه ثلاثة أطراف 118 الطرف الأوّل في المكاتبات إلى صاحب مالّي 118 الطرف الثاني في المكاتبات الصادرة عن صاحب البرنو 119 الطرف الثالث في المكاتبات الصادرة عن ملك الكانم 122 المقصد الرابع في الكتب الواردة من الجانب الشمالي وهي بلاد الروم 122 النوع الثاني [كتب خطأ القسم الثالث] من المكاتبات الواردة إلى هذه المملكة الكتب الواردة عن ملوك الكفار، وهي على أربعة أضرب 123 الفصل السادس من الباب الثاني من المقالة الرابعة في رسوم المكاتبات الإخوانيات، وفيه طرفان 130
الطرف الأوّل في رسوم إخوانيات السلف من الصحابة والتابعين 130 الطرف الثاني في رسوم الإخوانيات المحدثة بعد السلف، وفيه ثلاثة مقاصد 131 المقصد الأوّل في رسوم إخوانيات أهل المشرق، وفيه أربعة مهايع 131 المهيع الأوّل في صدور الابتداءات 131 المهيع الثاني في الأجوبة على هذا المصطلح 143 المهيع الثالث في خواتم الإخوانيات على هذا المصطلح 145 المهيع الرابع في عنوانات الكتب على هذا المصطلح 148 المقصد الثاني في رسوم إخوانيات أهل المغرب، وفيه جملتان 151 الجملة الأولى في مفتتحات المكاتبات على اصطلاحهم، وفيها مهيعان 152 المهيع الأوّل في ابتداء المكاتبات 152 المهيع الثاني في الأجوبة 163 الجملة الثانية في خواتم المكاتبات على اصطلاحهم 163 المقصد الثالث في الإخوانيات المستعملة بالديار المصرية، وفيه ثلاثة مصطلحات 165 المصطلح الأوّل ما كان الأمر عليه في الدولة الطولونية وفيه ثلاثة مهايع 165 المهيع الأوّل في الصدور 165 المهيع الثاني في خواتم الكتب 170 المهيع الثالث في عنوانات الكتب 170 المصطلح الثاني من مصطلحات الديار المصرية ما كان عليه الحال في الدولة الأيوبية 171 المصطلح الثالث من مصطلحات الديار المصرية في الإخوانيات ما جرى عليه الاصطلاح في الدولة التركية، وفيه مهيعان 172 المهيع الأوّل في رتب المكاتبات المصطلح عليها وهي على قسمين 173 القسم الأوّل الابتداءات 175
القسم الثاني من المكاتبات الإخوانيات الدائرة بين أعيان المملكة وأكابر أهل الدولة الأجوبة 213 المهيع الثاني في بيان رتب المكتوب عنهم والمكتوب إليهم من أعيان الدولة 217 الفصل السابع من الباب الثاني من المقالة الرابعة في مقاصد المكاتبات، وهي قسمان 236 القسم الأوّل مقاصد المكاتبات السلطانيّات، وهي على نوعين 236 النوع الأوّل ما يكتب عن الخلفاء والملوك، وهو على ثلاثة أضرب [صوابه أربعة] 236 الضرب الأوّل ما يكتب عن الخلفاء والملوك ومن ضاهاهم، وهو على أصناف 236 الصنف الأوّل الكتب بانتقال الخلافة إلى الخليفة 237 الصنف الثاني من الكتب السلطانية الكتب في الدعاء إلى الدين 247 الصنف الثالث من الكتب السلطانية الكتب بالحث على الجهاد 249 الصنف الرابع من الكتب السلطانية الكتب في الحث على لزوم الطاعة وذمّ الخلاف 255 الصنف الخامس من الكتب(8/413)
المقصد الثالث في المكاتبة إلى أهل الجانب الجنوبيّ، من العرب والسودان، وفيه ثلاث جمل 3 الجملة الأولى في المكاتبة إلى من بهذا الجانب من العربان 3 الجملة الثانية في المكاتبة إلى مسلمي ملوك السودان 4 الجملة الثالثة في المكاتبة إلى ملوك المسلمين بالحبشة 10 المقصد الرابع في المكاتبة إلى أهل الجانب الشمالي، وفيه ثلاثة أطراف 11 الطرف الأوّل في المكاتبات إلى أمراء الأتراك ببلاد الروم المسماة الآن ببلاد الدروب 11 الطرف الثاني في المكاتبة عن ملوك الديار المصرية إلى ملوك الكفر 25 الطرف الثالث في المكاتبة إلى من وراء بحر القرم، ويشتمل على أربعة مقاصد 26 المقصد الأوّل في المكاتبة إلى ملوك الكفار ببلاد الشرق 27 المقصد الثاني في المكاتبة إلى ملوك الكفار ببلاد المغرب من جزيرة الأندلس وما والاها 34 المقصد الثالث في المكاتبة إلى ملوك الكفار بالجانب الجنوبي 40 المقصد الرابع في المكاتبة إلى ملوك الكفار بالجانب الشماليّ من الروم والفرنجة على اختلاف أجناسهم 44 الفصل الخامس من الباب الثاني من المقالة الرابعة في الكتب الواردة على الأبواب السلطانية من أهل المملكة وغيرها، وفيه نوعان 56 النوع الأوّل المكاتبات الواردة عن ملوك المسلمين، وهي على قسمين 56
القسم الأوّل في الكتب الواردة عن أهل هذه المملكة بالديار المصرية والبلاد الشامية، وفيه ضربان 56 القسم الثاني في الكتب الواردة على الأبواب السلطانية عن أهل الممالك الإسلامية، ويشتمل على أربعة مقاصد 63 المقصد الأوّل في الكتب الواردة عن أهل الشرق، وفيه أطراف 63 الطرف الأوّل الكتب الواردة عن القانات العظام من بني جنكزخان 63 الطرف الثاني في المطالعات الواردة إلى الأبواب السلطانية عن أهل الشرق 72 الطرف الثالث في رسم المكاتبات الواردة عن صاحب اليمن إلى هذه المملكة 72 الطرف الرابع في الكتب الواردة إلى الأبواب السلطانية عن ملوك الهند 77 المقصد الثاني في المكاتبات الواردة عن ملوك الغرب، وفيه جمل 79 الجملة الأولى في المكاتبة الواردة عن صاحب تونس 80 الجملة الثانية في المكاتبات الواردة عن صاحب تلمسان من بني عبد الواد 85 الجملة الثالثة في المكاتبات الواردة عن صاحب فاس 88 الجملة الرابعة في عادة الكتب الواردة عن صاحب الأندلس 107 المقصد الثالث في رسم المكاتبات الواردة عن ملوك السودان، وفيه ثلاثة أطراف 118 الطرف الأوّل في المكاتبات إلى صاحب مالّي 118 الطرف الثاني في المكاتبات الصادرة عن صاحب البرنو 119 الطرف الثالث في المكاتبات الصادرة عن ملك الكانم 122 المقصد الرابع في الكتب الواردة من الجانب الشمالي وهي بلاد الروم 122 النوع الثاني [كتب خطأ القسم الثالث] من المكاتبات الواردة إلى هذه المملكة الكتب الواردة عن ملوك الكفار، وهي على أربعة أضرب 123 الفصل السادس من الباب الثاني من المقالة الرابعة في رسوم المكاتبات الإخوانيات، وفيه طرفان 130
الطرف الأوّل في رسوم إخوانيات السلف من الصحابة والتابعين 130 الطرف الثاني في رسوم الإخوانيات المحدثة بعد السلف، وفيه ثلاثة مقاصد 131 المقصد الأوّل في رسوم إخوانيات أهل المشرق، وفيه أربعة مهايع 131 المهيع الأوّل في صدور الابتداءات 131 المهيع الثاني في الأجوبة على هذا المصطلح 143 المهيع الثالث في خواتم الإخوانيات على هذا المصطلح 145 المهيع الرابع في عنوانات الكتب على هذا المصطلح 148 المقصد الثاني في رسوم إخوانيات أهل المغرب، وفيه جملتان 151 الجملة الأولى في مفتتحات المكاتبات على اصطلاحهم، وفيها مهيعان 152 المهيع الأوّل في ابتداء المكاتبات 152 المهيع الثاني في الأجوبة 163 الجملة الثانية في خواتم المكاتبات على اصطلاحهم 163 المقصد الثالث في الإخوانيات المستعملة بالديار المصرية، وفيه ثلاثة مصطلحات 165 المصطلح الأوّل ما كان الأمر عليه في الدولة الطولونية وفيه ثلاثة مهايع 165 المهيع الأوّل في الصدور 165 المهيع الثاني في خواتم الكتب 170 المهيع الثالث في عنوانات الكتب 170 المصطلح الثاني من مصطلحات الديار المصرية ما كان عليه الحال في الدولة الأيوبية 171 المصطلح الثالث من مصطلحات الديار المصرية في الإخوانيات ما جرى عليه الاصطلاح في الدولة التركية، وفيه مهيعان 172 المهيع الأوّل في رتب المكاتبات المصطلح عليها وهي على قسمين 173 القسم الأوّل الابتداءات 175
القسم الثاني من المكاتبات الإخوانيات الدائرة بين أعيان المملكة وأكابر أهل الدولة الأجوبة 213 المهيع الثاني في بيان رتب المكتوب عنهم والمكتوب إليهم من أعيان الدولة 217 الفصل السابع من الباب الثاني من المقالة الرابعة في مقاصد المكاتبات، وهي قسمان 236 القسم الأوّل مقاصد المكاتبات السلطانيّات، وهي على نوعين 236 النوع الأوّل ما يكتب عن الخلفاء والملوك، وهو على ثلاثة أضرب [صوابه أربعة] 236 الضرب الأوّل ما يكتب عن الخلفاء والملوك ومن ضاهاهم، وهو على أصناف 236 الصنف الأوّل الكتب بانتقال الخلافة إلى الخليفة 237 الصنف الثاني من الكتب السلطانية الكتب في الدعاء إلى الدين 247 الصنف الثالث من الكتب السلطانية الكتب بالحث على الجهاد 249 الصنف الرابع من الكتب السلطانية الكتب في الحث على لزوم الطاعة وذمّ الخلاف 255 الصنف الخامس من الكتب
السلطانية الكتب إلى من نكث العهد من المخالفين 262 الصنف السادس من الكتب السلطانية الكتب إلى من خلع الطاعة 266 الصنف السابع الكتب في الفتوحات والظفر 277 الصنف الثامن المكاتبة بالاعتذار عن السلطان في الهزيمة 296 الصنف التاسع المكاتبة بتوبيخ المهزوم الخ 304 الصنف العاشر في المكاتبات بالتضييق على أهل الجرائم 309 الصنف الحادي عشر الكتب في النهي عن التنازع في الدين 311 الصنف الثاني عشر المكاتبة بالأوامر والنواهي 312 الصنف الثالث عشر المكاتبات عند حدوث الآيات السماوية 315 الصنف الرابع عشر المكاتبات في التنبيه على شرف مواسم العبادة الخ 317
الصنف الخامس عشر المكاتبة بالسلامة في الركوب في المواسم والأعياد 318 الصنف السادس عشر المكاتبة بالبشارة بوفاء النيل والبشارة بالسلامة في الركوب لفتح الخليج 332 الصنف السابع عشر فيما يكتب في البشارة بركوب الميدان الكبير الخ 336 الصنف الثامن عشر المكاتبة بالبشارة بحج الخليفة 338 الصنف التاسع عشر الكتابة بالإنعام بالتشاريف والخلع 342 الصنف العشرون المكاتبة بالتنويه والتلقيب 344 الصنف الحادي والعشرون المكاتبة بالإحماد والإذمام 349 الصنف الثاني والعشرون ما يكتب مع الإنعام لنوّاب السلطنة بالخيل والجوارح 354 الصنف الثالث والعشرون المكاتبة بالبشارة عن الخليفة بولد رزقه 359 الصنف الرابع والعشرون ما يكتب عن السلطان بالبشارة بعافيته من مرض 361 الضرب الثاني من مقاصد المكاتبات السلطانية ما يكتب عن السلطان في الجواب 361 الضرب الثالث من الكتب السلطانية الكتب الصادرة عن نوّاب السلطنة الخ 363 الضرب الرابع من المكاتبات السلطانية ما يكتب عن النوّاب والأتباع إلى الخليفة أو السلطان، وفيه مهيعان 370 المهيع الأوّل في الأجوبة عن الكتب السلطانية 370 المهيع الثاني من مقاصد المكاتبات السلطانية ما يكتب به عن نوّاب السلطان والأتباع إلى السلطان ابتداء 392 (تم فهرس الجزء الثامن من كتاب صبح الأعشى)(8/414)
السلطانية الكتب إلى من نكث العهد من المخالفين 262 الصنف السادس من الكتب السلطانية الكتب إلى من خلع الطاعة 266 الصنف السابع الكتب في الفتوحات والظفر 277 الصنف الثامن المكاتبة بالاعتذار عن السلطان في الهزيمة 296 الصنف التاسع المكاتبة بتوبيخ المهزوم الخ 304 الصنف العاشر في المكاتبات بالتضييق على أهل الجرائم 309 الصنف الحادي عشر الكتب في النهي عن التنازع في الدين 311 الصنف الثاني عشر المكاتبة بالأوامر والنواهي 312 الصنف الثالث عشر المكاتبات عند حدوث الآيات السماوية 315 الصنف الرابع عشر المكاتبات في التنبيه على شرف مواسم العبادة الخ 317
الصنف الخامس عشر المكاتبة بالسلامة في الركوب في المواسم والأعياد 318 الصنف السادس عشر المكاتبة بالبشارة بوفاء النيل والبشارة بالسلامة في الركوب لفتح الخليج 332 الصنف السابع عشر فيما يكتب في البشارة بركوب الميدان الكبير الخ 336 الصنف الثامن عشر المكاتبة بالبشارة بحج الخليفة 338 الصنف التاسع عشر الكتابة بالإنعام بالتشاريف والخلع 342 الصنف العشرون المكاتبة بالتنويه والتلقيب 344 الصنف الحادي والعشرون المكاتبة بالإحماد والإذمام 349 الصنف الثاني والعشرون ما يكتب مع الإنعام لنوّاب السلطنة بالخيل والجوارح 354 الصنف الثالث والعشرون المكاتبة بالبشارة عن الخليفة بولد رزقه 359 الصنف الرابع والعشرون ما يكتب عن السلطان بالبشارة بعافيته من مرض 361 الضرب الثاني من مقاصد المكاتبات السلطانية ما يكتب عن السلطان في الجواب 361 الضرب الثالث من الكتب السلطانية الكتب الصادرة عن نوّاب السلطنة الخ 363 الضرب الرابع من المكاتبات السلطانية ما يكتب عن النوّاب والأتباع إلى الخليفة أو السلطان، وفيه مهيعان 370 المهيع الأوّل في الأجوبة عن الكتب السلطانية 370 المهيع الثاني من مقاصد المكاتبات السلطانية ما يكتب به عن نوّاب السلطان والأتباع إلى السلطان ابتداء 392 (تم فهرس الجزء الثامن من كتاب صبح الأعشى)(8/415)
الجزء التاسع
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تتمة المقالة الرابعة
تتمة الفصل السابع
وصلّى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله وصحبه
القسم الثاني من مقاصد المكاتبات، الإخوانيّات (مما يكتب به الرئيس إلى المرؤوس والمرؤوس إلى الرئيس والنظير إلى النظير)
قال في «موادّ البيان (1)»: ولها موقع خطير من حيث تشترك الكافّة في الحاجة إليها. قال: والكاتب (2) إذا كان ماهرا، أغرب معانيها، ولطّف مبانيها، وتسهّل له فيها ما لا يكاد أن يتسّهل في الكتب الّتي لها أمثلة ورسوم لا تتغيّر ولا تتجاوز، وهي على سبعة عشر نوعا:
__________
(1) الكتاب لأبي الحسن علي بن خلف بن عبد الوهاب الكاتب، وقد ذكره حاجي خليفة باسم «موارد البيان». كشف الظنون (ج 2ص 1888).
(2) في ج 1من هذا المطبوع ص 133130عدّد القلقشندي الكتّاب فقال: كاتب ينشىء ما يكتب من المكاتبات، وكاتب يكتب مكاتبات الملوك عن ملكه، وكاتب يكتب مكاتبات أهل الدولة وكبرائها وولاتها، وكاتب يكتب المناشير والكتب اللطاف والنسخ، وكاتب يبيّض ما ينشئه المنشىء مما يحتاج إلى حسن الخط، وكاتب يتصفّح ما يكتب في الديوان، وكاتب يكتب التذاكر والدفاتر المضمّنة لمتعلّقات الديوان.(9/3)
النوع الأوّل (التّهاني)
قال في «مواد البيان»: كتب التّهاني من الكتب الّتي تظهر فيها مقادير أفهام الكتّاب، ومنازلهم من الصّناعة، ومواقعهم من البلاغة. وهي من ضروب الكتابة الجليلة النفيسة، لما في التهنئة البليغة من الإفصاح بقدر النعمة، والإبانة عن موقع الموهبة، وتضاعف السّرور بالعطيّة. وأغراضها ومعانيها متشعّبة لا تقف عند حدّ، وإنما نذكر منها الأصول الّتي تفرّعت منها فروع رجعت إليها، وحملت عليها.
قال: ويجب على الكاتب أن يراعي فيها مرتبة المكتوب إليه والمكتوب عنه في الرسالة اللائقة بهما مما لا يتسامح بمثله.
ثم التهاني على أحد عشر ضربا:
الضرب الأوّل (التهنئة بالولايات، وهي على تسعة أصناف)
الصنف الأوّل التهنئة بولاية الوزارة
(1):
قد تقدّم في المقالة الثانية في الكلام على ترتيب المملكة أنّ الوزارة كانت في الزمن المتقدّم هي أرفع وظائف المملكة وأعلاها رتبة، وأنّها الرتبة الثانية بعد الخلافة. وكانت في زمن الخلفاء تكاد أن تكون كالسلطنة الآن، فهي (2) من
__________
(1) خطّة الوزارة تأتي في المرتبة الثانية بعد الحجابة، وإذا كانت تعني الرتبة الرسمية فإنها من مستحدثات الفرس، وإذا كانت تعني المعاونة والمؤازرة فإنها وجدت في أيام الرسول الكريم.
والوزارة أجلّ الوظائف وأرفعها رتبة، وأول من لقّب بالوزير هو أبو سلمة حفص بن سليمان الخلّال، وزير أبي العباس السفاح الخليفة العباسي. كذلك استقر لقب الوزارة على من يليها من أرباب السيوف والأقلام إلى انقراض الخلافة من بغداد. انظر ج 4من هذا المطبوع ص 28 وج 5ص 448، والعقد الفريد (ج 5ص 113) وتاريخ ابن خلدون (ج 1ص 419).
(2) أي التهنئة من الأتباع. حاشية الطبعة الأميرية.(9/4)
الأتباع ومن في معناهم على نحو ما كانت في الزّمن المتقدّم بين الرّؤساء والأكابر، ومن الرؤساء والأكابر بحسب ما تقتضيه رتبة المهنّإ.
وهذه نسخ تهان من ذلك على ما كان عليه الحال في الزّمن القديم.
تهنئة بوزارة: من إنشاء أبي (1) الحسين بن سعد، كتب بها إلى الوزير محمد (2) بن القاسم بن عبيد رحمه الله، وهي:
من كانت النعمة أيد الله الوزير نافرة عنه وبفنائه غريبة، فهي تأوي من الوزير إلى مثوى معهود، وكنف محمود، وتجاور منه من يوفّيها حقّها، ويقابلها بحسن الصّحبة لها، ويجري في الشكر لما يولّاه، والرّعاية لما يسترعاه، على شاكلة مضى عليها السّلف من أهله، ونشأ في مثلها الخلف، مقتديا بالأوّل الآخر، وبالماضي الغابر، تشابها في كرم الأفعال، ورعاية لحقوق الآمال، واعتمادا للرأفة والرّحمة، وعموما بالإنصاف والمعدلة، إلى ما خصّ الله به أهل البيت رضي الله عن الماضين منهم وأقام عزّ الباقين وحراستهم: من العلم بالسياسة والدّرابة (3) بتدبير المملكة ورعاية الأمّة، والهداية فيهم لطرق الحيطة ونهج المصلحة.
والحمد لله على ما خصّ به الوزير من فضله الذي رفع قدره فيه عن
__________
(1) أغلب الظن أنه أبو الحسين علي بن محمد، وزير الراضي بالله أبي العباس بن المقتدر. انظر العقد الفريد (ج 5ص 129).
(2) هو أبو جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب الكرخي، أحد الكتّاب المترسّلين البليغين. له ديوان رسائل وديوان شعر. استوزره القاهر بالله سنة 321هـ. مكان وزيره ابن مقلة، ثم عزله وقبض عليه في السنة المذكورة وسجنه، فكانت وزارته ثلاثة أشهر واثني عشر يوما. ثم وزر للراضي بالله الذي تولى الخلافة سنة 322هـ. انظر العقد الفريد (ج 4ص 166) و (ج 5ص 128)، ومروج الذهب (ج 4ص 221، 231)، والفهرست ص 152، والكامل في التاريخ (ج 8ص 256، 262260) والبداية والنهاية (ج 11ص 173171).
(3) في الأصل: «والوراثة لتدبير المملكة» وهو تصحيف. حاشية الطبعة الأميرية.(9/5)
مساماة ومشاكلة المقادر (1) والشّبيه، وجعله فيما حباه به نسيج وحده، وقريع دهره، وجمع له من مواهب الخير، وخصائص الفضل ما أبان به موقعه في الدّين، وأعطاه معه الولاية من جميع المسلمين.
والحمد لله حمدا مجدّدا على ما جدّده له من رأي أمير المؤمنين واجتبائه، ومحلّه من اختياره واصطفائه.
والحمد لله على ما منحه من كرامته، وجدّد له من نعمته، فيما أعاد إلى تدبيره من وزارته، وأشركه فيه من أمانته، احتياطا منه للمملكة، ونظرا للخاصّة والعامّة، فإنّ عائدة رأيه سوّت بين الضّعيف والقويّ، ووصلت إلى الدّاني والقضيّ وأعادت إلى الملك بهاءه، وإلى الإسلام نوره وضياءه، فاكتست الدنيا من الجدّة بعد الإخلاق (2)، والنّضارة بعد الإنهاج (3)، ما لم يكن يوجد مثله إلّا بالوزير في شرف منصبه، وكرم مركّبه، فهنّأ الله الوزير ما آتاه وتابع له قسمه، ووصل له ما جدّد له بالسّعادة، وأمدّه فيه بالزّيادة وأعطاه من كلّ مأمول أعظم حظّ وأوفر نصيب وقسم، تراخيا في مدّة العمر، وتناهيا في درجة العزّ، وأحتياطا بالموهبة في العاجلة، وفوزا بالكرامة في الآجلة، إنه فعّال لما يشاء.
تهنئة أخرى في مثل ذلك: أوردها في ترسّله، وهي:
التهنئة بالوزير للزّمان وأهله بما جمّلهم به، وجدّد لهم من ميسم العزّ، وسربلهم إياه من حلّة الأمن بولايته، والنعمة على أوليائه ورعاياه على حسب مواقعهم من مشاركته وحظوظهم من معدلته ظاهرة، ولله على ذلك الحمد الفاضل، والشكر الكامل. وللوزير من هذه النعمة الجليلة، والدولة السعيدة، أهناها موقعا، وأسراها ملبسا، وأدومها مدّة، وأجملها نغية، وأثراها مبوّءا، وأسلمها
__________
(1) المقادر: اسم فاعل لفعل قادر يقال: قادرته أي قايسته وفعلت مثل فعله. القاموس المحيط، مادة (قدر).
(2) الإخلاق: البلى خلق الثوب خلوقة وخلقا إذا بلي. القاموس المحيط (خلق).
(3) الإنهاج: البلى يقال: نهج الثوب إذا بلي. القاموس المحيط (نهج).(9/6)
عقبى، فتولّاه الله بالمعونة والحراسة، وأيّده الله بالنصر والكفاية، وأنهضه بما قلّده واسترعاه، وبلّغه محابّه ومناه، وأرجو أن يكون موقعي من ثقة الوزير يلحقني عنده بمن مكّنته الأيام من قضاء الحقّ في التلقّي والإبعاد، ويعوّضني بتفضيله مما حرمته منها محلّ ذوي الإخلاص والاعتداد.
تهنئة أخرى في مثل ذلك: أوردها في ترسّله أيضا، وهي:
وهذا أوّل يتلوه ما بعده بلا تناه ولا نقص بإذن الله ومشيئته، بل يكون موصولا لا تبلغ منه غاية إلّا شفعتها درجة ترقى، تكنف ذلك كفاية من الله شاملة كاملة، وغبطة في البدء والعاقبة بلا انقطاع ولا ارتجاع، حتّى يكون المنقلب منه بعد بلوغ العمر منتهاه، إلى فوز برحمة الله ورضاه. فهنيئا للوزير بما لا يقدر أحد أن يدّعي فيه مساعفة المقدار، ولا يناله بغير استحقاق، إذ لا مثل ولا نظير للوزير: فضلا ظاهرا، وعلما على العلوم موفيا، وسابقة في تقليب الخلافة ظهرا لبطن، وحلب الدّهر شطرا بعد شطر، وجمعا من مال السلطان (1) لما كان متفرّقا، وحفظا لما كان ضائعا، وحماية لبيضة (2) الملك، وضبطا للثّغور، وتلقّيا للخطوب بما يفلّ حدّها، ويطفيء نارها ولهبها ويقيم أودها (3)، وما وهب الله في رأيه من فتح البلاد المرتجة، وقمع الأعداء المتغلّبة، وسكون الدّهماء، وشمول الأمن، وعموم العدل، والله يصل ذلك بأحسنه.
__________
(1) السلطان اسم خاص في العرف العام بالملوك، ويقال: إن أول من لقّب به هو خالد بن برمك، وزير الرشيد، لقّبه به الرشيد تعظيما له، ثم انقطع التلقيب به إلى أيام بني بويه فتلقب به ملوكهم فمن بعدهم من الملوك السلاجقة وغيرهم وهلمّ جرّا إلى زمان القلقشندي. قيل: إنه مشتقّ من السلاطة وهي القهر والغلبة، وقيل: مشتقّ من السليط. وأصله في اللغة الحجّة، قال الله تعالى:
{وَمََا كََانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطََانٍ} يعني من حجّة. سورة سبإ 34، الآية 21. انظر ج 5من هذا المطبوع ص 447.
(2) المقصود تخت الملك وسريره وبيضة كلّ شيء: حوزته، وبيضة القوم: ساحتهم. لسان العرب والقاموس المحيط ومختار الصحاح، مادة (بيض).
(3) أي أزال أو قوّم عوجها، ويقال أيضا: أقام درأه أي أزال عوجه. القاموس المحيط (أود) و (قوم).(9/7)
تهنئة أخرى في مثل ذلك: من إنشاء عليّ (1) بن خلف في «مواد البيان» وهي:
أطال الله بقاء حضرة الوزارة السامية، فارعة من المعالي أسمقها نجودا، كارعة من المنن أعذبها ورودا، ساحبة من الميامن أرقّها برودا، ممتّعة بالنّعم الّتي يرامي الشّكر عن حوزتها، ويحامي البشر عن حومتها، مبلّغة في أوليائها وأعدائها، قاضية ما ترتمي إليه رحابها، فلا ترى لها وليّا إلّا لا حب المذهب، ثاقب الكوكب، سامي الطّرف، حامي الأنف، ولا عدوّا إلّا ضيّق المطرح، وعر المسرح، صالد الزّند، مفلّل الحدّ، راغم العرنين، متلولا للجبين. ولا زالت أزمّة الدنيا بيدها حتّى تبلغ بآمالها منتهاها، وتجري بأيّامها إلى أقصى مداها، [فهي] من أعظم النّعم خطرا، وأحسنها على الكافّة أثرا، وأولاها بأن يفاض في شكرها، وتتعطّر الآفاق بذكرها. ولسيدنا الوزير الأجلّ يراع يستيقظ في صلاحهم وهم هاجعون، وينصب في الذّبّ عنهم وهم وادعون، وكل تدبيرهم فيه، إلى مدبّر يخاف الله ويتّقيه، ويعمل فيمن استرعاه بما يرتضيه، ولا يمدّ يد الاقتدار عليهم متسلّطا، ولا يتّبع دواعي الهوى فيهم متسقّطا، واضعا الأشياء في حقائقها، سالكا بها أمثل طرائقها، ملاينا من غير ضعف، مخاشنا من غير عنف، قريبا من غير صغر، بعيدا من غير كبر، مرغّبا بلا إسراف، مرهبا بإنصاف، ناظرا إلى محقّرات الأمور وأطرافها، كما ينظر في معاظمها وأشرافها، آخذا بوثائق الحزم، متمسّكا بعلائق العزم، راميا بفكرته من وراء العواقب، خاطما بآرائه أنوف المصاعب، ناظما بإيالته عقود المصالح، موطّئا برياضته ظهور الجوامح، إن ثقّف ذا النّبوة الفريدة، والهفوة الوحيدة، اقتصر على ما يوافقه الوالد الحدب، من مقوّم الأدب [وإن قبض] (2) على المرتكس في غوايته، المفلس في عنايته، ضيّق عليه مجال العفو، وأحاق به أليم العذاب والسّطو،
__________
(1) انظر الحاشية رقم 1ص 3من هذا الجزء من صبح الأعشى.
(2) الزيادة يقتضيها المقام كما لا يخفى. حاشية الطبعة الأميرية.(9/8)
فقد سكنت الرعيّة في عدله، وأوت حرما منيعا من ظلّه، ووثقت أنّ الحق بنظره شامخ شاهق، والباطل سائخ زاهق، والإنصاف مبسوط منشور، والإجحاف محطوط مبتور، والشّمل منظوم، والشّرّ مضموم. فنطقت ألسنتها بإحماده، واشتملت أفئدتها على وداده، واتفقت أهواؤها على رياسته، وتطابقت آراؤها المسابقة على دوام سيادته، وعرف أمير المؤمنين عدق النظر في دولته، وسلّم أمور مملكته إلى النّصيح المأمون، والنّجيح الميمون، الذي وفّقه الله تعالى لاختياره، ويسّره لاصطفائه وإيثاره، وأنّه قد ناط أموره بمن لم يستخفّ ثقيل حملها، وينوء بباهظ ثقلها، فتمتّع بلذيذ الكرى، وتودّع بعد السّير والسّرى، وألم من إلمام ملمّ معضل، وحدوث حدث مشكل. وهذه نعمة تعمّ الخاصّة والعامّة عموم الغيث إذا همع (1) وتدفّق، وتشملهم شمول النهار إذا لمع وتألّق، وهم أولى بالتهنئة فيها وشكر الله تعالى عليها.
وسيدنا الوزير حقيق بأن يهدى إليه الدعاء المرفوع، والتضرّع المسموع، بأن ينهضه الله تعالى بما حمّله، ويعينه على ما كفّله، ويتولّاه بتوفيق يثقب أنواره، وتأييد يطبّق غراره، وتسديد يحسّن آثاره، وإجراء ما يتولّاه على أوضح سبيل وأقصده، وأرجح دليل وأرشده، إذ لا يجوز أن يهنّأ بما له عياؤه وكلّه، ولمذعنيه صلاحه كلّه. والعبد يسأل الله ضارعا لديه، باسطا يده إليه، في أن يقبل صالح أدعيته لحضرة الوزارة السامية، وأن يجعل ما أحلّه في محلّه من رياستها، وأوقعه في موقعه من سياستها، دائبا لا ينتزع، وخالدا لا يرتجع، وأن يؤيّدها فيه بما يقضي له بالإحراز والتّخويل، ويحميه من الابتزاز والتحويل، إنّه سميع الدعاء، فعّال لما يشاء، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثاني التهنة بكفالة السلطنة
: __________
(1) أي سال يقال: همع الطلّ على الشجرة إذا سال، وهمعت عينه: أسالت الدمع. القاموس المحيط (همع).(9/9)
وهذه نسخة من ذلك، كتب بها عن نائب (1) الشام، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة (2)، وهي بعد الألقاب:
لا زال دائرا بهنائه الفلك، منيرا بضياء عدله وبشره الحلك، قريرا بحسن كفالته الملك، شاهدا بفضل أسمائه وسماته الملك، مقسوما بأمر الله نداه وبأسه ليحيا من حيّ ويهلك من هلك، تقبيلا يشافه به التّراب، ويشاهد شرف مطلعه على السّحاب. وينهي قيامه على قدم ولاء ودعاء: هذا ينزل القلب وهذا يصعد إلى الأفق، ومقامه على بشرى وحمد منهما الأمن يحلّى بوصفه النّطق كما تحلّى الأعطاف (3) بالنّطق، وأنه ورد مثال شريف على يد فلان يتضمّن البشارة العامّة، والمسرّة التامّة، والنعمة الّتي يعوّذ سنا جبينها من كل عين لامّة، وخبر الخير الذي حيّت أزهاره المتضوّعة ندّ مصر فأوّل ما بلّغه منافس الشام شامّة، بأنّ المواقف الشريفة أعزّ الله تعالى سلطانها قد فوضت إلى مولانا كفالة الإسلام وبنيه، وكفاية الملك بصالح مؤمنيه، ونيابة (4) السلطنة الشريفة وما نسقت، وتدبير الممالك وما وسقت، فيالها بشرى ابتسمت لها ثغور البشر، ومسرّة
__________
(1) النائب لقب على القائم مقام السلطان في عامة أموره أو غالبها، ويطلق هذا اللقب على كل نائب عن السلطان بالحضرة أو خارجا عنها، إلّا أنّ النائب عن السلطان بالحضرة يوصف بالكافل فيقال: «النائب الكافل»، والنائب عنه بدمشق يقال فيه: «كافل السلطنة»، ومن دونه من أكابر النوّاب كنائب حلب ونائب طرابلس ونائب حماه ونائب صفد ونائب الكرك من الممالك الشاميّة، يقال فيه: نائب السلطنة الشريفة بكذا. انظر ج 5من هذا المطبوع ص 454453.
(2) هو الشاعر المصري جمال الدين أبو بكر محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن صالح بن يحيى، أصله من ميّافارقين، وكانت ولادته في سنة 676هـ. ووفاته في سنة 768هـ، وذكر ابن الأثير أنه توفي سنة 767هـ. كان حامل لواء شعراء زمانه بديار مصر. انظر نفاضة الجراب ص 65، والبداية والنهاية (ج 14ص 322)، والدرر الكامنة (ج 4ص 218216)، والنجوم الزاهرة (ج 11ص 95) والأعلام (ج 7ص 38).
(3) الأعطاف: جمع عطف، وهو المنكب، وعطفا الرجل: جانباه من لدن رأسه إلى وركيه. والنطق:
ج نطاق، وهو شبه إزار فيه تكة كانت المرأة تنتطق به. لسان العرب (عطف ونطق).
(4) نيابة السلطنة بدمشق أجلّ نيابات المملكة الشاميّة وأرفعها في الرتبة، ونائبها يضاهي النائب الكافل بالحضرة السلطانيّة في الرتبة والألقاب والمكاتبة، ويعبّر عنه في المكاتبات السلطانية وغيرها ب «كافل السلطنة الشريفة بالشام المحروس»، وهو يكتب على كل ما يتعلق بنيابته من المناشير والتواقيع والمراسيم الشريفة، ومعه يكون نظر البيمارستان النوري، كما يكون البيمارستان المنصوري بالقاهرة مع أتابك العسكر، وكذلك يكون معه نظر الجامع الأموي بدمشق. انظر ج 4من هذا المطبوع ص 184.(9/10)
استجلى سناها من آمن وبهت الذي كفر، وخبرا تلقّت الأسماع بريده منشدة:
قل وأعد بأطيب الخبر، هنالك أخذ المملوك حظّه من خير بشرى، ونصيبه من مسرّة حمد بصباح طرسها المسرى وحمد الله تعالى على أن أقام لسلطان البسيطة من يبسط العدل والإحسان لمنابه، ويقلّد رعيّته عقود النّعم إذا تقلّد ما وراء سريره وبابه، ومن إذا كفل سيفه ممالك الإسلام وثقت بالمغنم والسّلامة، وإذا كتب قلمه قالت، ولا سيّما أخبار جند المسلمين: هكذا تكون العلامة، وجهّز المملوك هذه الخدمة نائبة عنه في تقبيل الأرض، وعرض الهناء بين يدي من يسرّ المملوك بولائه إليوم ويرجو أن يسرّ به يوم العرض، ولو وصف المملوك ما عنده من السّرور والشّوق لضاق الورق عن تسطير الواجب منه وضاق الوقت عن أداء الفرض. والله تعالى يجدّد لمولانا ثمرات الفضل الواضح، والرأي الرابح، والقدر الذي هو على ميزان الكواكب راجح، ويمتّعنا كافّة المماليك (1)
بدولة سلطانه الذي علم البيت الشريف أنّه على الحقيقة الخلف الصّالح.
وهذه نسخة تهنئة لأمير (2) جاندار بولاية إمرة (3) جاندار، من إنشاء الشيخ
__________
(1) يتولّى أمر المماليك للسلطان أو الأمير رجل يسمّى مقدّم المماليك. انظر ج 5من هذا المطبوع ص 456.
(2) أمير جاندار لقب على الذي يستأذن على الأمراء وغيرهم في أيام المواكب عند الجلوس بدار العدل، أو يستأذن على دخول الأمراء للخدمة، ويدخل أمامهم إلى الديوان، ويقدّم البريد مع الدوادار وكاتب السر. وإذا أراد السلطان تعزيز أحد أو قتله كان ذلك على يد الأمير جاندار. ويطوف هذا بالزّفة حول السلطان في سفره. وهو مركب من ثلاثة ألفاظ أحدها عربي وهو «أمير»، والثاني «جان» ومعناه الروح بالفارسية والتركية، والثالث «دار» ومعناه ممسك: فيكون المعنى: «الأمير الممسك للروح»، والمراد أنه الحافظ لدم السلطان فلا يأذن عليه إلّا لمن يأمن عاقبته. انظر ج 4 من هذا المطبوع ص 20وج 5ص 461.
(3) الإمرة مصدر أمر يقال: أمر فلان إذا صار أميرا. والإمرة والإمارة واحد. انظر الحاشية رقم 1 ص 12من هذا الجزء من صبح الأعشى. وإمرة جاندار وظيفة من وظائف أرباب السيوف الهامة، وموضوعها تحدثنا عنه في الحاشية رقم 2من هذه الصفحة. انظر ج 4من هذا المطبوع ص 20.(9/11)
جمال الدين بن نباتة، وهي بعد الألقاب:
أعلى الله منارها ومنالها، وخلّد قبولها وإقبالها، وأجزل من الغضّ الذي تناولته ثمرها وأسبغ به ظلالها، ولا زال في سيفها وعصاها مآرب للملك، وفي بأسها ونداها مواقع للنّجاة والهلك، ولا برحت القضب من سيوف وغصون:
هذه حاكمة بسعدها حكم الملك، وهذه مسخّرة في تجريدها تسخير الفلك، تقبيل مخلص في ولائه ودعائه، مهنّا القلب مسرور بما يتجدّد من مسرّات مولانا وهنائه، وينهي أنه بلغه ما أفاضته الصدقات الشريفة على مولانا من المبرّات، وما جدّدت له من المسرّات، وأنها ضاعفت مزيد الإحسان إليه، ودعته أمير جاندار ودّت العصيّ النّجوميّة لو قدّمت نفسها بين يديه، وأنّ المواقف الشريفة قرّت به عينا وأقرّت، وأنّ الدولة القاهرة ألقت عصاها إليه واستقرّت وكما سلّمت إليه العصا في السّلم سلّمت إليه السيف في الحرب، وكما قرّبته في مواقف العدل والإحسان قرّبته في مواقف الطّعن والضّرب، فأخذ المملوك حظّه من البشرى، وأوجب على نفسه الفرح وسجد لله شكرا، وودّ لو حضر يشاقه بهذا الهناء الشامل، ومثل قائما لديه بحقّ التهنئة القيام الحقيقيّ الكامل. وحيث بعدت داره، ونأت عن العيان أخباره، فقد علم الله تعالى مواصلته بالأدعية الصالحة ليلا ونهارا، والموالاة والمحبّة الّتي يشهد بها الخاطر الكريم سرّا وجهارا. والله تعالى المسؤول أن يزيد مولانا من فضله، ويسرّه بمتجدّدات الخير الذي هو من أهله، ويمتّعنا كافّة المماليك بدوام سلطان هذه الدولة الذي شمل بظله، وغني بنصره عن نصله، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثالث التهنئة بالإمارة
(1).
__________
(1) كانت الإمارة تولّى من أبواب الخلافة ببغداد إلى حين انقراضها، إلّا ما تغلّب عليه الفاطميون أصحاب مصر في خلال ذلك، ثم استقرّت آخرا من جهة ملوك مصر إلى أيام القلقشندي.
والإمارة أيضا من ألقاب أرباب السيوف، والأمير هو زعيم الجيش أو الناحية ونحو ذلك ممّن يولّيه الإمام، وأصله في اللغة ذو الأمر، وهو فعيل بمعنى فاعل، فيكون أمير بمعنى آمر سمّي بذلك لامتثال قومه أمره. ويقال: أمر فلان إذا صار أميرا، والمصدر الإمرة والإمارة بكسر فيهما. والتأمير تولية الأمير، وهي وظيفة قديمة. انظر ج 5من هذا المطبوع ص 449وج 12ص 233.(9/12)
من كلام الأقدمين:
تهنئة من ذلك، أوردها أبو الحسين بن (1) سعد في ترسّله، وهي:
وهنأ الله الأمير مواهبه الهنيّة، وعطاياه السّويّة، وأدام تمكينه وقدرته، وثبّت وطأته، وحرس ما خوّله، وجعل ما هيّأ له من مؤتنف الكرامة أيمن الأمور فاتحة وأسعدها عاقبة، ووصل أيّامه بأجمل الولاية، وأجلّ الكفاية، حتّى ينتهي [من] استيفاء سعادات الحظوظ وحوز القسم والآمال، [إلى] الدرجة الّتي تليق بما أفرده الله به من الكمال، وخصّه به من الفضل في جميع الخصال. ومن أفضل ما أعتدّ به من نعم الله عليّ بالأمير وبجميل رأيه، ومحلّي من طاعته وخدمته، أنّي لا أخلو في كل وقت وحال من بهجة تتجدّد لي، ومسرّة تصل إليّ، وتتوفّر عليّ، بما يسهّله الأمير على يده من مستصعب الأمور، ومستغلق الخطوب، الّتي تبعد عمّن يزاولها، ويجعل الله بطوله وحوله للأمير القدرة عليها، ويتوحّد بالكفاية فيها، فينمو بجميل تدبيره ولطيف نظره، ويطّرد بصاعد نجمه ويمن نقيبته وعزّ دولته، وذلك من فضل الله ونعمته، يؤتي فضله من يشاء وهو ذو الفضل العظيم.
الصنف الرابع التهنئة بولاية الحجابة.
وقد كان لها في الزّمن القديم المحلّ الوافر في الدولة وعلوّ الرتبة فيها.
من كلام الأقدمين:
تهنئة من إنشاء أبي الحسين بن سعد، كتب بها إلى أبي بكر (2) بن ياقوت
__________
(1) انظر الحاشية رقم 1ص 5من هذا الجزء.
(2) هو محمد بن ياقوت، الذي عاصر ثلاثة من الخلفاء العباسيين استعمله المقتدر بالله على شرطة بغداد وقلّده الحسبة، وعلت منزلته عند القاهر بالله، وعندما تولّى الراضي بالله الخلافة سنة 322 هـ، أصبح محمد بن ياقوت حاجبه ورئيس الجيش، وأدخل يده في أمر الدواوين. وفي سنة 323 هـ، قبض الراضي عليه وسجنه، فمات في السجن في السنة المذكورة بنفث الدم. انظر العقد الفريد (ج 5ص 129) والكامل في التاريخ (ج 8ص 216، 225223، 250، 256، 281، 284283، 287، 294، 305، 312311).(9/13)
حين ولي الحجابة بعد نكبة أصابته، وهي بعد الصدر:
وقد كانت أنفسنا معشر عبيد سيدنا وحملة إنعامه، ومؤمّلي أيامه، في هذه الأحوال الّتي نفد سيدنا منها فيما ابتلاه صبره، وأبان فيه قدره، وزاد العارف بفضله نفوذا في البصيرة، وأعاد ذوي الارتياب فيه إلى الثّقة، فاستوى المنازع والمسلّم، واستوى العالم والمعاند نعمة منه تعالى ذكره خصّه بها وصانه عن مشاكلة النظير، ومزاحمة الأكفاء على سبيل من القلق والارتماض (1)، والسّقوط والانخفاض، جزعا من تلك الحال الغليظة، وإشفاقا على تلك النّفس النّفيسة، وخوفا على معالم البرّ والتّقى، وبقيّة العلم والحجا، وتاريخ الكرم والنّدى، أن يدرس منارها، وتطمس آثارها، ولولا ما منّ الله به من الخلاص منها وما منح بكرمه في عاقبتها، لأوشكت أن تأتي عليها وتعجلها عن مواقيت آجالها، لكنه عظمت آلاؤه، وتقدّست أسماؤه، أتى بالأمن والفرج، بعد استيلاء الكرب والوجل، وانبتات أسباب الرّجاء والأمل، فعرف سيدنا موقع الخيرة فيما قضاه، وميّز له الخبيث من الطيّب ممّن عاداه وتولّاه، وجعل النعمة الّتي جدّدها له فيما ردّه أمير المؤمنين إلى تدبيره من أمر داره ومملكته، وحراسة بيضة رعيّته، مشتركة النّفع والفائدة، مقسومة الخير والعائدة، بين كافّة الأمّة فيما عمّ من المعدلة، وشمل من المصلحة، ولاح من تباشير الخير، وأمارات البركة، في استقامة أمور البلاد وصلاح أحوال العباد، وأفرد الله سيدنا بحظّ من الموهبة وفّاني فيه على حظوظ الأولياء، وزادني على سهام الشّركاء. وأنا أرغب إلى الله في إسعاد سيدنا بما جدّده له، وتعريفه بركة مفتتحه ويمن خاتمته.
والحمد لله في مبتداه، والسلامة في عقباه، وتبليغه من حظّ مأمول، وخير
__________
(1) الارتماض: القلق: يقال: ارتمض الرجل من كذا أي اشتدّ عليه وأقلقه. لسان العرب (رمض).(9/14)
مطلوب، وحال عليّة، ورتبة سنيّة، أفضل ما بلّغ أحدا اختصّه بفضله، واصطفاه من خلقه، إنه جواد ماجد. فإن رأى سيدنا أن يتطوّل بإجراء عبده على كريم عادته في تشريفه بمكاتبته، وتصريفه في أمره ونهيه، محقّقا بذلك أمله، وزائدا في نعمه عنده، فعل إن شاء الله تعالى.
تهنئة أخرى من ذلك، من إنشاء عليّ (1) بن خلف أوردها في «موادّ البيان» وهي:
إنما يهنّأ بالولاية أطال الله بقاء الحاجب (2) الجليل سيّدي ومولاي من انبسطت إليها يده بعد انقباض، وارتفع لها قدره من انخفاض، وأوجدته الطريق إلى إحراز جزيل الأجر والجزاء، واكتناز جميل البركة والثّناء، وأفضت به إلى اتّساع السّلطان، وانتفاع الأعوان، فأمّا من جعل الله يده الطّولى، وقدره الأعلى، ورياسته حاصلة في نفسه وجوهره، وسيادته مجتناة من سنخه (3)
وعنصره، فالأولى إذا استكفي رغبة في إنصافه وعدله، وحاجة إلى سداده وفضله، وافتقارا إلى فضل سيرته، واضطرارا إلى فاضل سياسته أن تهنّأ الرعيّة بولايته، وتسرّ الخاصّة والعامّة بما عدق من أمورها بكفايته وغير بدع ربط (4)
أمير المؤمنين بالحاجب الجليل أمر حجابته، ونصبه الزّحمة (5) عن حضرته، وجعله الوسيط والسفير بينه وبين خواصّ دولته، وقد وثق بيمن نقيبته، واطّلع
__________
(1) انظر الحاشية رقم 1ص 3من هذا الجزء.
(2) الحاجب وظيفة قديمة الوضع كانت لابتداء الخلافة بحيث كان لكل خليفة حاجب. سمي الحاجب بذلك لأنه يحجب الخليفة أو الملك عمّن يدخل إليه بغير إذن، ثم تصرّفوا في هذا اللقب ووضعوه في غير موضعه، وربما أطلق على من قام مقام الخليفة في الأمر، وكانوا في الدولة الفاطمية بالديار المصرية يعبّرون عنه بصاحب الباب. وفي زمان القلقشندي أصبح الحاجب عبارة عمّن يقف بين يدي السلطان ونحوه في المواكب، ليبلّغ ضرورات الرعيّة إليه. وله ببلاد المغرب والأندلس أوضاع تخصّه في القديم والحديث. انظر ج 6من هذا المطبوع ص 450.
(3) السنخ، بكسر السين وسكون النون: الأصل. القاموس المحيط (سنخ).
(4) في الأصل: «إرباط»، ولم نقف على فعله فيما بأيدينا من كتب اللغة. حاشية الطبعة الأميرية.
(5) الزحمة: الدفع والذب يقال: زحمته عنه أي دفعته. المصباح. انظر حاشية الطبعة الأميرية(9/15)
على خلوص نيّته، وسكن إلى صدق طاعته، وعرف طهارة جيبه، وسلامة غيبه، وصدق لهجته، وحصافة أمانته، واعتماده للحقّ فيما يورد ويصدر، وينهي ويجيب، وابتلاه فعرف طيب طعمته، وخفّة وطأته، ورأفته بالضّعيف المهضوم، وغلظته على العسوف الظّلوم، [فرأى] أن يحلّه محلّ من لا يغيب عمّا شهده، ولا يرتاب بما سمعه، على أنّني المهنّأ بكل نعمة يجدّدها الله لديه، وسعادة يسبغها عليه. [ولو أنصفت] لسلكت من الصّواب سننا، واعتقدت جميلا حسنا لاستشعاري بالأنفس من لبوس سيادته، وتحلّيّ بالأنصع من عقود رياسته، وإذا كانت رعيّته أجدر أن تهنّأ بولايته، وتعرف قدر ما لها من الحظّ في نظره، فأنا أعدل من هنائه إلى الدّعاء له بأن يبارك الله تعالى له فيما قلّده، ويوفّقه فيما ولّاه ويسدّده، ويلهمه ادّخار الثواب والأجر، واكتناز الحمد والشكر، والهداية إلى سنن الاستقامة، وما عاد بمحبّة الخاصّة والعامّة، وإنهاضه في خدمة أمير المؤمنين، والعمل من طاعته بما يزلف في الدنيا والدين. والله يستجيب في الحاجب الجليل هذا الدعاء ويسمعه، ويتقبّله ويرفعه، إن شاء الله تعالى.
الصنف الخامس التهنئة بولاية القضاء.
التهنئة بذلك من كلام الأقدمين:
تهنئة من ذلك: من إنشاء عليّ بن خلف، أوردها في «موادّ البيان» وهي:
أولى المنح أن يتفاوض شكرها والتحدّث بها، ويتقارض حمدها والقيام بواجبها، نعمة شمل عطافها، وعمّت ألطافها، واشترك الناس فيها اشتراك العموم وحلّت منهم في النفع محلّ الغيث السّجوم (1). وهذه صورة النعمة في
__________
(1) يقال: سجمت السحابة الماء تسجمه سجما وسجوما: سال قليلا أو كثيرا، وكذلك عين سجوم وسحاب سجوم. وأسجمت السحابة: دام مطرها، وأسجمت السماء: صبّت. لسان العرب والقاموس المحيط (سجم).(9/16)
ولاية قاضي (1) القضاة أطال الله بقاءه لما تتضمّنه من إثبات العدل والإنصاف، وانحسار الجور والإجحاف، واعتلاء الحقّ وظهوره، واختلاء الباطل وثبوره، وعزّ المظلوم وإدالته، وذلّ الظّلوم وإذالته، وتمكين المضعوف واقتداره، وانخزال العسوف واقتساره. وإن هنّأته حرس الله علاه بموهبة أتى بارقها بجميل الثّناء، وجزيل الجزاء، قد ناء من تحمّلها بباهظ الشيء ومتعبه، وقام من سئلها بكل الأدب ومنصبه، عدلت عن الأمثل وضللت عن الطريقة المثلى، لكنّي أهنّئه خصوصا بالمواهب المختصّة به اختصاص أطواق الحمائم بأعناقها والمناقب المطيفة به إطافة كواكب السّماء بنطاقها، في أن ألّف الله القلوب المتباينة على الإقرار بفضله، وجمع الأفئدة المتنافية على الاعتراف بقصور كلّ محلّ عن محلّه، وجعل كلّ نعمة تسبغ عليه، ومنّة تسدى إليه، موافقة الآمال والأماني، مفضية للبشائر والتّهاني لأنّ من أحبّ الحقّ وآثره، ولبس الصّدق واستشعره، ينطق بلسان الإرادة والاختيار، ومن تركهما وقلاهما، وخلعهما وألقاهما، ينطق بلسان الافتقار والاضطرار والخصائص الّتي هو فيها نسيج وحده، وعطر يومه وغده والمحاسن الّتي هي أناسيّ عيون الزّمان، ومصابيح أعيان الحسن والإحسان. ثم أعود فأهنّئه عموما بالنّعم المشتركة الشّمول، الفضفاضة الذّيول، الّتي أقرّت القضاء في نصابه، وأعادت الحكم إلى وطنه بعد نجعته واغترابه، وأعلتهما في الرّتبة الفاضلة، وقدعت (2) بهما
__________
(1) قاضي القضاة عظيم الشأن جليل، وله النظر في الأحكام الشرعيّة، وفي دور الضرب وضبط عيارها، ووظيفته من أجلّ أرباب الوظائف الدينية. وأول قاض كان في الإسلام هو عمر بن الخطاب، استقضاه أبو بكر الصديق في خلافته، فمكث سنة لا يأتيه أحد في قضيّة. وكانت الديار المصرية في عهد الفاطميين يليها قاض واحد، وفي الأيام الظاهرية بيبرس، وبالتحديد في سنة 663هـ، اقتضى رأي السلطان تقرير أربعة قضاة من مذاهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل، فكان قاضي قضاة الشافعية، وقاضي قضاة المالكية، وقاضي قضاة الحنفية، وقاضي قضاة الحنبلية. وكما في الديار المصرية والشامية، كان بحلب أربعة قضاة، من كل مذهب قاض، والشافعيّ منهم هو الذي يولّي بالبلاد كما في مصر والشام. انظر ج 1من هذا المطبوع ص 417، وج 3ص 486، وج 4ص 35وج 11ص 181174.
(2) أي جاوزت بهما أنف الذروة العالية.(9/17)
أنف الذّروة العالية. وأرفع يدي إلى الله تعالى داعيا في إمداد قاضي القضاة بتوفيق يسدّد مراميه، ويرشد مساعيه، ويهذّب آراءه ويصحّحها (1)، ويبلج أحكامه ويوضّحها، ويخلّد عليه النعمة خلودها على الشاكرين، ويبصّره بحسن العقبى في الدنيا والدّين، وهو سبحانه يتقبّل ذلك ويرفعه، إن شاء الله تعالى.
التهنئة بذلك، من كلام أهل العصر:
تهنئة من ذلك: أوردها الشيخ شهاب (2) الدين محمود الحلبيّ في كتابه «زهر الربيع في الترسّل البديع» وهي:
أنفذ الله تعالى أحكامه، وشكر إحسانه وإنعامه، وخلّده ناصرا للشريعة المطهّرة وأدامه، وجدّد سعده وأسعد أيّامه، وجعله المسترشد والمقتفي بأمر الله والرّاشد والمستنجد والمستنصر والناصر والعاضد، والحاكم القائم بأمر الله (3) من القضاة الثلاثة الواحد.
المملوك يقبّل اليد العالية تبرّكا بتقبيلها، وأداء لواجب تعظيمها وتبجيلها، ويهنّيء المولى بما خصّه الله تعالى من مضاعفة نفاذ كلمته ورفع منزلته، وإمضاء أحكامه الشريفة وأقضيته، وتقليده أمور الإسلام، وتنفيذ أوامره في الخاصّ والعام، ويهنّيء بالمولى من ردّت أموره إليه، وعوّل في ملاحظة مصالحه عليه،
__________
(1) في الأصل: «ويفخمها»، وهي تصحيف لا يناسب المقام. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) هو أبو الثناء محمود بن سلمان بن فهد الحلبي ثم الدمشقي، الإمام العالم العلّامة، البارع البليغ، الكاتب الحافظ، شيخ صناعة الانشاء، الذي لم يكن بعد القاضي الفاضل مثله في صنعة الإنشاء. ولد سنة 644هـ. بدمشق، وقيل: بحلب. مكث في ديوان الإنشاء نحوا من خمسين سنة، ثم ولي كتابة السرّ بدمشق نحوا من ثماني سنين إلى أن توفي سنة 725هـ. انظر فوات الوفيات (ج 4ص 9682)، والبداية والنهاية (ج 14ص 120)، والدرر الكامنة (ج 5ص 92) والنجوم الزاهرة (ج 9ص 264).
(3) بياض بالأصل بقدر كلمة، ولعله: «حتى يكون من القضاة» حاشية الطبعة الأميرية.(9/18)
فإنّ مولانا ما زال بالعلم والعمل مشهورا، وسعيه في الدنيا والآخرة سعيا مشكورا، ويقظة مولانا جديرة بزيادة الاهتمام، والاحتياط التامّ، بملاحظة طلبة العلم والمشتغلين، والفقهاء والمدرّسين، وسبر أحوال النّوّاب (1)، وأن لا يكفيه الاعتماد على حسن البزّة وطهارة الأثواب، بل يمعن في الاطّلاع على ما يعتمدونه النّظر، ويلاحظ كلّا منهم إن غاب عن مجلسه أو حضر، فمن رآه يهدي إلى الحقّ وإلى الطريق المستقيم، ولا يقرب إلّا بالتي هي أحسن مال اليتيم، فيحقّق له من العناية أملا، ولا يضيع أجر من أحسن عملا، حرس الله المولى ومتّع بحياته، وأعاد على الكافّة بركة صيامه المقبول وصلاته، ونفع الإسلام بمستجاب دعواته، إن شاء الله تعالى.
الصنف السادس التهنئة بولاية الدعوة على مذهب الشّيعة.
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب المملكة في الدّولة الفاطميّة، بالديار المصرية، ذكر موضوعها وعلوّ رتبتها عندهم، وإنما ذكرناها حفظا للأصل ولاحتمال وقوعها.
تهنئة من ذلك: من إنشاء عليّ بن خلف، أوردها في «موادّ البيان» وهي:
أطال الله بقاء داعي (2) الدّعاة لصباح من الرحمة يبلجه، وطريق من
__________
(1) المقصود نواب الديار المصرية، وهم أربعة الأول هو نائب الإسكندرية، وهو من الأمراء المقدّمين، وهو في رتبة نائب طرابلس. والثاني نائب الوجه البحري، وهو من الأمراء المقدّمين أيضا، وهو في رتبة مقدّم العسكر بغزّة، ولقد استحدثت هذه النيابة في الدولة الظاهرية برقوق.
والثالث نائب الوجه القبليّ، ومقرّ نائبها مدينة أسيوط، ولقد استحدثت هذه النيابة في الدولة الظاهرية برقوق أيضا. والرابع هو النائب الكافل، وهو صاحب النيابة، ويسمّى أيضا كافل الممالك الإسلامية، وهو يحكم في كل ما يحكم فيه السلطان، ويعلّم في التقاليد والتواقيع والمناشير وغير ذلك مما هو من هذا النوع على كل ما يعلم عليه السلطان. انظر ج 4من هذا المطبوع ص 16، 6563، وج 12ص 5، والتعريف بالمصطلح الشريف ص 65.
(2) داعي الدعاة يلي قاضي القضاة في الرتبة ويتزيّا بزيّه في اللباس وغيره. وموضوعه أنه يقرأ عليه مذاهب أهل البيت بدار تعرف بدار العلم، ويأخذ العهد على من ينتقل إلى مذهبهم. وداعي الدعاة لقب كان الشيعة يتداولونه في الأيام الفاطمية. انظر ج 3من هذا المطبوع ص 487وج 5 ص 452.(9/19)
الحكمة يظهر بيانه، وليل من السّنّة ينزع طيلسانه، وحرسه على الإيمان يجدّد ما أخلق من بروده، وينظّم ما وهي من عقوده، وعلى المؤمنين يفتح لهم أبواب الرّشاد، ويهمي إليهم سماء الإفادة والإمداد، ولا زالت الحقائق مقصودة منه بالميزة الّتي رشّحته لحفظ مبانيها، وأهّلته للعبارة عن معانيها، حتّى يرقمها في الأخلاد، ويمحو بها رسوم العناد، وينشر بشرها في الآفاق والبلاد. أنا أعدل عن هناء داعي الدّعاة أطال الله بقاءه بما عدق به من أمر الدّعوة الهاديّة العلويّة، ونصب له من فرّ مضاحك المشكلات عن أسرار الحقائق الإلهيّة، والترجمة عن غوامض الحكم الشّرعيّة، والتوقيف على موارد الهدى ومشارعه، والإرشاد إلى مشارق الحق ومطالعه، إلى هناء الدّعوة وأهلها بما قيّضه الله تعالى لهم من محلّه الرفيع الذي ألحقه العقل نحو هذا الكمال، ووطّأ له مدارج الترقّي والاتّصال، فشفّت نفسه وشرفت، وتطلّعت على عالم الملكوت وأشرفت، وجنى بيد التّبصرة ثمار الحكمة، واستنزل بمنزل الموادّ غيوث النّعمة، وجرّد الضّياء من الظلام، تجريد الأرواح من الأجسام إلى دار السّلام، واستمدّ بلطيفته موائد علوم عالم اللّطافة، وأمدّ بمركّب ألفاظها تحاكم الكافة، وحلّ في الغبراء محلّ الغرّاء في الخضراء، إن أوضحت سبيل سائر بجنب طريق جائر توصّل بنزوعها غاشية إظلام، حسر عن الحق قناع إبهام، أو فعلت (1) في الجواهر زيادة وثمرة (؟) أخذت تعاديا (؟) فأدلته للهمم العاملة شرفا وسموّا لما أعلى بذلك من قدرها وقدرهم، وطيّب من ذكرها وذكرهم، وأعطف إلى الدعاء لداعي الدّعاة بأن يجعل الله تعالى ما خوّله من هذه الرّياسة راهنا لا يرتجع، وما نوّله من هذه السيادة مستقرّا لا ينتزع، وأن يؤيّده بالتوفيق، ويعبّد له مناهج التحقيق، ويطلق لسانه بالبيان، ويمدّه بروح منه في نصرة الإيمان، وقد حتم الله
__________
(1) كذا في الأصل، ولم نهتد إلى تثقيفه. حاشية الطبعة الأميرية.(9/20)
تعالى بإجابة داعيه، ولا سيما داعي الدّعاة [فإنه] جدير بأن يجاب الدعاء فيه، إن شاء الله تعالى.
قال في «موادّ البيان»: وإنما أوردت هذا المثال بهذه الألفاظ لأن ألفاظ هذا الدّاعي يجب أن تكون مشتقّة من ألفاظ الدعوة، مناسبة لمذهبها، ولولا ذلك لأغنى عنه مثال تهنئة قاضي القضاة، ومن تأملهما عرف ما بينهما من الفرقان.
الصنف السابع التهنئة بالتقدمة على الرجال.
رقعة من ذلك:
[من حلّ] محلّ سيدي أطال الله بقاءه من السّؤدد الناطق الشّواهد، المنتظم المعاقد، المتضارع الطارف والتالد، المنتقل في الولد عن الوالد والمجد الذي قصر عن مطاولته الطّراز الأوّل، وتطأطأ له الإنعام المخوّل، وحاز ما حازه من شرف الرّياسة، وفضل السّياسة، والاستقلال بحقوق ما تولّاه، وتسديد ما نوّله واستكفاه، فتشوّقت إليه أعالي الرّتب وتشوّقت إليه المنازل السنيّة من كثب خطبته العلا سائقة عنه مهرها، وتطامنت له موطّئة ظهرها، فلم يكثر له أن يتقدّم على [أهل] عصره فضلا عن قبيلته، ويتأمّر على جميع نوعه فضلا عن طائفته، لأنه المقدّم عليهم بالرّتبة والطّبع، لا بالاصطلاح والوضع، فشكر المملوك الله تعالى على بزوغ هلاله وإبراقه، وطلوعه لميقات العز وتنفاقه، وسأله أن يجعل ما أقرّ العيون من سيادته، وحقّق الظنون في سعادته، خالدا راهنا، ومقيما قاطنا، وأن يزيده من السعادة، ويرقّيه كلّ يوم في درج السيادة، لتكون هذه الرتبة على امتناع مرقبها، وارتفاع مركبها، أوّل درجة تخطّاها، ومنزلة فرعها وعلاها، ثم لا يزال راقيا فيما يتلوها حتّى يحتذي بكواكب الجوزاء، ويطحو دارة على الحلفاء، مهنّأ غير منغّص، ومزيّدا غير منقّص، والله تعالى يجيب هذه الأدعية الواقعة مواقعها، والمستحقّات الموضوعة مواضعها.(9/21)
الصنف الثامن التهنئة بولاية الديوان (1)
. رقعة من ذلك:
وينهي أنّ من حلّ محلّ مولانا أطال الله بقاءه رافلا في لبوس السّعادة، متحفّلا بسلوس السّيادة، متنقّلا في رتب المجد، متوقّلا إلى غدن (2) الجدّ، مستوليا على شعاب العلا، متمكّنا من رقاب الأعداء في الاستقلال والاضطلاع، والمعرفة بحقوق الاصطفاء والاصطناع، ورفعة مذهبه على الكفاية والغناء، والنهوض بثقيل الأعباء، خطبته التصرّفات حاملة عنه صداقها، وتشوّفته الولايات مادّة إليه أعناقها، وقد اتصل بالمملوك ما جدّده الله تعالى من سعادته، وأنجزه من مواعيد سيادته، الّتي كانت واضحة في مخايل فضله، لائحة في دلائل نبله، مكتوبة في صفحات الأقدار، مرقومة بسواد اللّيل على بياض النهار، فجذل المملوك بذلك، جذل الحميم المشارك، وسرّبه سرور الخليط المشابك، وليس ذلك لأنّ الذي تولّاه مولانا وجد [فيه] خللا فرقعه، وخمولا فرفعه بل لأنّ الحقّ غالب الحظّ فغلبه، والواجب سالب الممكن
__________
(1) المقصود بالديوان ديوان الإنشاء، وهو اسم مركّب من مضاف، وهو الديوان، ومضاف إليه، وهو الإنشاء. وديوان الإنشاء أول ديوان وضع في الإسلام، وذلك أن النبيّ، صلّى الله عليه وآله وسلّم، كان يكاتب أمراءه ويكاتبونه. وفي عهد بني أمية كان يتولّى أمر ديوان الإنشاء كاتب. وفي عهد بني العباس كان هذا الديوان يضاف تارة إلى الوزارة فيكون الوزير هو الذي ينفّذ أموره بقلمه، وتارة يفرد عنه بكاتب ينظر في أمره. ولما استولى المغول على بغداد سنة 656هـ بطل رسم الكتابة المعتبرة، وصار أكثر ما يكتب عن ملوك التتار بالفارسية أو المغلية. وكذلك صرف الفاطميون، في الديار المصرية، عنايتهم لديوان الإنشاء وكتّابه، ولم يتغيّر الوضع في أيام الأيوبيين ولا في عهد الدولة التركية. وكان صاحب الديوان رفيع القدر، لا يكون عند الملك أخصّ منه ولا ألزم لمجالسته، ولم يزل معظّما عند الملوك في كل زمن، مقدّما لديهم على من عداه. لقّب متولّيه بصاحب ديوان الرسائل أو متولّي ديوان الرسائل، وربما قيل: صاحب ديوان المكاتبات، أو متولّي ديوان المكاتبات. وفي زمان القلقشندي كان الديوان بالديار المصرية مشهورا بديوان الإنشاء، لذا لقّب متولّيه بصاحب ديوان الإنشاء. انظر ج 1من هذا المطبوع ص 9789، 153101.
(2) الغدن، بالفتح: النعمة واللين. القاموس المحيط (غدن). والجدّ، بفتح الجيم: الحظّ والبخت والرزق والحظوة، والجمع الجدود. القاموس المحيط ومختار الصحاح (جدد).(9/22)
فسلبه، وأناخ ركاب الرّياسة في المحلّ الخصب الذي يحمده ويرتضيه، والله تعالى يتفضّل على رعيّته، المتوطّنين بفاضل سياسته، من حبائه ولطفه، ورأفته وعطفه، بما يسبغ عليهم ظلال العدل، ويقلّص عنهم سدول الجور والحيف، إن شاء الله تعالى.
قلت: وكتبت للمقرّ البدريّ محمود (1) الكلستاني الشهير بالسّراي مهنّئا له باستقراره في كتابة السّرّ الشريف بالديار المصرية في الدولة الظاهرية «برقوق» (2)
في سلطنته الأولى (بسيط).
رفعت للمجد مذ ولّيت بنيانا ... وشدت للفضل بعد الوهن أركانا
وأصبح الملك في زهو، ومالكه ... يميس عجبا، وهنّا التّخت (3) إيوانا
قدمت مصرا فأمست منك في فره (4) ... تهزّ بالبشر من لقياك أردانا
وغودر النّيل مذ وافيت مبتهجا ... وقد رمى الصّدّ والإبعاد جيحانا
__________
(1) هو بدر الدين أبو الثناء محمود بن عبد الله السرائي أو الصرائي ثم القاهري الحنفي، المعروف بالكلستاني، بضم الكاف واللام لكونه كان يكثر من قراءة كتاب السعدي العجمي الشاعر المسمى كلستان (وهو بالتركي والعجمي حديقة الورد). اشتغل ببلاده ثم ببغداد، وقدم دمشق، ثم قدم مصر فأعطاه الظاهر برقوق كتابة السرّ فباشرها. توفي سنة 801هـ بحلب بعد ضعفه ستة وأربعين يوما. انظر الضوء اللامع (ج 10ص 137136) وهدية العارفين (ج 1ص 410).
(2) هو أبو سعيد برقوق بن أنص أو أنس الجركسي العثماني، نسبة إلى جالبه من جركس الخواجا عثمان. ابتاعه منه يلبغا الكبير في سنة 764هـ، واسمه حينئذ الطنبغا، فسماه برقوقا لنتوء في عينيه، ثم أعتق، وتقدّم في دولة المنصور القلاووني علي بن شعبان، وانتزع السلطنة من آخر بني قلاوون الصالح أمير حاج سنة 784هـ، وتلقب بالملك الظاهر، وانقادت إليه مصر والشام.
توفي بالقاهرة سنة 801هـ. انظر الضوء اللامع (ج 3ص 1210) والأعلام (ج 2ص 48).
(3) التخت: هو ما يجلس عليه الملوك في المواكب، ويقال له السرير، ولم يزل من رسوم الملوك قديما وحديثا رفعة لمكان الملك في الجلوس عن غيره حتى لا يساويه غيره من جلسائه. انظر ج 2من هذا المطبوع ص 126ومعجم متن اللغة (ج 1ص 388). والإيوان والإوان: هو الذي يجلس فيه السلطان بقلعة الجبل بالديار المصرية، وهو أيضا مشارف الدار. والإيوان الكبير هو دار العدل. انظر ج 4من هذا المطبوع ص 44، 195، ومعجم متن اللغة (ج 1ص 227).
(4) الفره: الفرح. لسان العرب (فره)(9/23)
ألفاظك الغرّ صارت للورى مثلا ... وكتبك الزّهر بعد اللّثم تيجانا
تفوق قسّا إذا تبدو فصاحتها ... وتفضح المصقع الملّاق سحبانا
قد أفحمت في مجازات بلاغتها ... تركا وروما وبعد الفرس عربانا
كلّ الموالي إذا ولّوا فلا أسف ... إذ أنت باق، ويبقي الله مولانا
مولّى به قد تشرّفنا وجمّلنا ... بوجهه، ولذكر القوم أنسانا
الصنف التاسع التهنئة بولاية عمل.
أبو الفرج (1) الببّغاء:
عرّف الله سيدي بركة هذا العمل الجليل، بنبيل نظره الجميل، وحميد أثره المحروس، وتناصر سياسته الشريفة بسمة رياسته، ووفّق رعيّته لشكر ما وليها من فائض عدله ومحمود فعله، فالأعمال منه أيده الله تعالى بالتهنئة أولى، وبالتّطاول بما شملها من بركات تدبيره أحرى، والله بكرمه يسمع فيه صالح الدعاء، ويبلّغه أبلغ مدد البقاء، في أسبغ نعمة، وأرفع منزلة، وأصدق أمنيّة، وأنجح طلبة، بمنّه.
وله في مثله:
لولا ما يشرك التّهاني من بركات الدّعاء الذي أرجو أن يسمع الله فيك صالحه، ويجيب أحسنه، لأجللناك عن التّهنئة بمستجدّ الأعمال، ومستحدث الولايات، لقصورها عن استحقاقك، وانحطاطها وإن جلّت عن أيسر واجباتك، وتعجّلها بمأثور كفايتك، وبركات نظرك، ومواقع إنصافك. فهنأك الله نعمة
__________
(1) هو الكاتب الشاعر أبو الفرج عبد الواحد بن نصر بن محمد المخزومي، من أهل نصيبين. لقّب بالببغاء للثغة كانت في لسانه، وقيل: لحسن فصاحته. كان في ريعان شبابه متصلا بسيف الدولة مقيما في جملته، وبعد وفاة سيف الدولة تنقّلت به الأحوال فورد الموصل وبغداد ونادم بهما الملوك والرؤساء. وتوفي سنة 398هـ. انظر يتيمة الدهر (ج 1ص 270236)، وتاريخ بغداد (ج 11ص 1211) ووفيات الأعيان (ج 3ص 202199).(9/24)
الفضل الّتي الولاية أصغر آلاتها، والرّياسة بعض صفاتها، ولا أخلاك من موهبة مجدّدة، ومنحة مؤبّدة.
وله في مثله:
سيدي أيده الله أرفع قدرا، وأنبه ذكرا، وأعظم نبلا، وأشهر فضلا، من أن نهنّئه بولاية وإنّ جلّ خطرها، وعظم قدرها لأنّ الواجب تهنئة الأعمال بفائض عدله، والرّعيّة بمحمود فعله، والأقاليم بآثار رياسته، والولايات بسمات سياسته، فعرّفه الله يمن ما تولّاه، ورعاه في سائر ما استرعاه، ولا أخلاه من التوفيق فيما يعانيه، والتسديد فيما يبرمه ويمضيه.
الأجوبة عن التّهاني بالولايات قال في «موادّ البيان»: هذه الكتب إذا وردت، وجب على المجيب أن يستنبط من كل كتاب منها المعنى الذي يجيب به. قال: والطريقة المستعملة فيها أنّ كتاب المجيب يجب أن يبنى على أن المهنّيء قسيم في النّعمة المتجدّدة، وشريك في المنزلة المستحدثة، وأن الحظّ الأوفر فيما ناله المهنّى للمهنّي وببركة دعائه، وتوقعه لما يرد من حاجاته وتبعاته لينفّذها، نازلا على أخلص مخالصته، وعاملا بشروط مودّته، ونحو هذا مما يضارعه. فإن كان المجيب رئيسا أو مرؤوسا، وجب أن يرتّب الخطاب على ما تقتضيه رتبة كلّ واحد منهما.
وهذا مثال من ذلك:
زهر الربيع:
وردت المشرّفة الكريمة، أتمّ الله على مرسلها نعمته، وأعلى قدره ومنزلته، وجعل جناح العدا مخفوضا، وعيشه في دعة وخفض، وقدره للتمييز مرفوعا، وعدوّه للتقصير في انحطاط وخفض، فتلقّاها باليمين، وظنّها الريح الجنوب لما تحمّلته من رقّة الحنين، وعلم ما أبداه فيها من تفضّلاته، واعترف بالتقصير عن مجاراته ومجازاته، فشنّف سمعه بألفاظ كأنّهنّ اللّؤلؤ والمرجان،
وبيّنت البون الذي بينه وبين غيره تلك الفصاحة والبيان، وقابل أياديه بشكر لسانه، وجازاه بحسن الدّعاء عن إحسانه، ولا يقوم بشكر فضله اللسان ولا الجثمان، وهل جزاء الإحسان إلّا الإحسان؟(9/25)
وردت المشرّفة الكريمة، أتمّ الله على مرسلها نعمته، وأعلى قدره ومنزلته، وجعل جناح العدا مخفوضا، وعيشه في دعة وخفض، وقدره للتمييز مرفوعا، وعدوّه للتقصير في انحطاط وخفض، فتلقّاها باليمين، وظنّها الريح الجنوب لما تحمّلته من رقّة الحنين، وعلم ما أبداه فيها من تفضّلاته، واعترف بالتقصير عن مجاراته ومجازاته، فشنّف سمعه بألفاظ كأنّهنّ اللّؤلؤ والمرجان،
وبيّنت البون الذي بينه وبين غيره تلك الفصاحة والبيان، وقابل أياديه بشكر لسانه، وجازاه بحسن الدّعاء عن إحسانه، ولا يقوم بشكر فضله اللسان ولا الجثمان، وهل جزاء الإحسان إلّا الإحسان؟
فأمّا ما أشار إليه من الهناء بالمكان الذي تولّاه، وأبداه من المحبّة الّتي أوجبت عليه أن يتوالاه، فالله تعالى يعينه على ما هو بصدده، ويجعل الحقّ والخير جاريين على لسانه ويده، ويرزقه اتباع محكم كتابه وسنّة رسوله، ويحصّل له من الرّشد غاية سوله ومأموله، فإن هذه الولاية صعبة المراس، وجوادها كثير الشّماس، لكن ببركات المولى يحصل من الله الأرب، ويسهل لأوليائه القصد والإسعاد والطّلب، أدام الله ظلّ المولى وأسعده، وأوضح لديه طريق السعادة ومهّده، ومنحه من الألطاف الخفيّة أفضل ما عوّده، بمنّه وكرمه.
الضرب الثاني (التهنئة بكرامة السلطان وأجوبتها)
وفيه ثلاثة أصناف:
الصنف الأوّل التهنئة بالإنعام والمزيد ولبس الخلع (1) وغير ذلك.
من كلام الأقدمين:
وينهي أنه اتّصل بالمملوك ما أهّل مولانا السلطان مولانا له: من المحلّ السّنيّ،
__________
(1) الخلع: جمع خلعة، وهي الثوب تخلعه وتمنحه غيرك. هكذا عرّفها في معجم متن اللغة (ج 2 ص 319). وفي القاموس المحيط، مادة (خلع): الخلعة: ما يخلع على الإنسان، وخيار المال.
وتحدث القلقشندي عن الخلع فقال: جرت عادة السلطان أنه ينعم على مماليكه وخواصّ أهل المناصب من حملة الأقلام في كل سنة بكسوة في الشتاء وكسوة في الصيف على قدر مراتبهم.
أما أمراء الشام فلا حظّ لهم من الإنعام في غير قباء يلبس في وقت الشتاء إلّا من تعرّض لقصد السلطان. والخلعة في إفريقية تختلف عما عليه في مصر فهي كسوة أي قماش غير مفصّل يتصرف فيه كيف شاء. وكانت الخلع تعمل في دار الطراز. انظر ج 4من هذا المطبوع ص 55 وج 5ص 149وج 11ص 426.(9/26)
والمكان العليّ، الذي لم يزل موقوفا عليه، متشوّفا إليه، نافرا عن كلّ خاطب سواه، جامحا على كلّ راكب إلّا إيّاه، فأقرّ الله عين المملوك بذلك لصدق ظنه، وعلم أنّ ما أصاره الله تعالى إليه من هذه المنزلة المنيفة، والرّتبة الشريفة، مدرجة تفضي إلى مدارج، ومعرجة تنتهي إلى معارج، والله تعالى يزيد معاليه علوّا، ويضاعف محلّه سموّا، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
ومنه وينهي أنه اتّصل بالمملوك نبأ الموهبة المتجدّدة لديه، والنعمة المسبغة عليه، وما اختصّه به مولانا السلطان من الاصطفاء والإيثار، والاجتباء والاختيار، وتقديمه للرّتبة الأثيرة، والإنافة إلى المنزلة الخطيرة، فسرّ المملوك للرّياسة إذ أحلّها الله تعالى في محلّها، وأنزلها على أهلها، ووصلها بكفئها وكافيها، وسلّم قوسها إلى راميها، والله تعالى يجعل هذه الرتبة أوّل مرقاة من مراقي الآمال، ومكين الرّتب الّتي يفرعها من رتب الجلال، إن شاء الله تعالى.
من كلام المتأخرين:
الشيخ شهاب الدين محمود (1) الحلبي:
أدام الله أنصاره، وجعل التّقوى شعاره، وألبسه من المحامد أكرم حلّة، ونوّله من المكارم أحمد خلّة، ولا زالت الخلع تتشرّف إذا أفيضت عليه، والمدائح تستطاب بذكره لا سيّما إذا أنشدت بين يديه.
الخادم ينهي إلى علم المولى أنه اتّصل به خبر أهدى إليه سرورا، ومنحه بهجة وحبورا، وهو ما أنعم به المولى السلطان خلّد الله سلطانه، وضاعف إحسانه، من تشريفه بخلعته، وما أسبغه عليه من وارف ظلّه ووافر نعمته، وأبداه من عنايته بالمولى ومحبّته، وقد حصل له من المسرّة ما أجذله، وبسط في مضاعفة سعد المولى أمله، فإنه بلغه أنّ هذه الخلعة كالرّياض في نضارتها، وحسن بهجتها، وأنها كلّما برقت برق لها البصر، وظنّها لحسنها حديقة وقد
__________
(1) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 2ص 18من هذا الجزء.(9/27)
حدّق إليها النظر، وقد جمعت ألوان الأزهار، وأربى ناسجها في اللّطف على نسمة الأسحار، وأسكنت حبّها حبّات القلوب الّتي في الصّدور، وسمت عن المدح برائق المنظوم وفائق المنثور، وأن ابن سليمان (1) لو رآها، لاعترف بأنّ في لبسها لكلّ فتى شرفا لا ريب فيه، ونسب البيت المنسوب إليه إلى أعاديه، وأنّه لو نظر نضرة نضارها لما جعل لها في الحسن نظيرا، ولو ألقاها على وجهه لارتدّ لوقته بصيرا فلذلك أصدر هذه الخدمة مهنية، ومعربة عما حصل له من الفرح ومنبّية، ولجيد مدحه العاطل من مثل هذه الألفاظ محلّية، نوّله الله في كلّ يوم مسرّة وبشرى، وأجرى له على الأسن حمدا وشكرا، وجعله لكلّ خير أهلا، وشكر له تفضّلا شاملا وفضلا، ومتّعه من العافية بلباس لا يبلى، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثاني التهنئة برضى السلطان بعد غضبه.
فمن ذلك:
وتنهي أنه اتصل بي ما جدّده الله تعالى لمولاي أطال الله بقاءه من حسن عاطفة مولانا أمير المؤمنين خلّد الله ملكه وانعطافه عليه بعد انصرافه، وإعادته إلى رتبته الّتي نشزت عنه دلالا لا ملالا، وهجرته هجر المستصلح المستعتب، لا هجر القالي المتجنّب، وكيف تقلاه، وهي لا تجد لها كفؤا سواه، ولتوقّع المملوك بما وقع من هذه الحال، وعلمه أنّ عودها إليه كعودة المودع [إلى مودعه،] لا عودة المنتجع إلى مربعه، وأنّ الذي وقع من
__________
(1) هو أبو العلاء المعرّي أحمد بن عبد الله بن سليمان بن قضاعة التنوخي، اللغوي الشاعر. كان متضلعا من فنون الأدب، وله التصانيف الكثيرة المشهورة والرسائل المأثورة. ولد سنة 363هـ.
بالمعرّة، وعمي من الجدريّ أول سنة 367هـ، ودخل بغداد سنة 398هـ، ودخلها ثانية سنة 399هو أقام بها سنة وسبعة أشهر، ثم رجع إلى المعرّة ولزم منزله وشرع في التصنيف. توفي سنة 449هبالمعرّة. انظر وفيات الأعيان (ج 1ص 116113)، ومعجم الأدباء (ج 1 ص 181)، والأعلام (ج 1ص 157) وكتاب «تعريف القدماء بأبي العلاء» ففيه معظم ما كتب عنه في المصادر القديمة.(9/28)
الانحراف إصلاح باديه تهذيب وتقويم، وخافيه توقير وتعظيم، لما في عتاب أمير المؤمنين من شرف الرّتبة، والدّلالة على استقرار الأثرة والقربة، وحلوله محلّ الصّقال، من أبيض النّصال، والثّقاف من العسّال، ولا سيّما ورياسته محفوظة، وسيادته ملحوظة، وهيبته في النّفوس مائلة، وجلالته في القلوب حاصلة، ولم (1)
ير المملوك أجلّ موهبة من الله سبحانه من شكر يسترهن هذه النعمة ويخلّدها، وحمد يرتبطها ويقيّدها، ورغبت إلى الله سبحانه أن يجعل هذا العزّ الحادث لابثا لا يتحوّل، والسعد الطارف ماكثا لا يتنقّل، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك:
وينهي أنّ من عادة الزمان أن يكف سحابه ثم يكفّ، ويرفّ نباته ثم يجفّ، ويدرّ حلبه ثم ينقطع، ويقبل خيره ثم يرتجع، إلّا أنّه إذا سلب النعمة ممن يستوجب إمرارها عليه، وانتزع الموهبة ممن يستحقّ استمرارها لديه، كان كالغالط الذي يراجع نفسه فيندم على ما فرط، ولا يلبث أن يستدرك الغلط، معقبا نبوته بإنابته، متعقّبا هفوته باستقالته، ماحيا إساءته برأب ما ثلم، وأسو ما كلم، وإصلاح ما أفسد، وتأليف ما شرّد. فلا جرم (2) أنّ النفوس بإقباله على من هذه صفته واثقة، والآمال لانصرافه إلى من هذه صورته متحقّقة، وإذا سلبها هرول في إيداعها لديه، وأخذ [في] إفاضتها عليه. وما زال المملوك مذ عامل الزمان مولانا بسوء أدبه، ونأى عنه بجانبه، وقبض بنانه، وغيّر عليه سلطانه عارفا أنّ هذه الفعلة فلتة من فلتاته الّتي يتوقّى شرّها، ولا يرجع إلى مثلها، وأنّ الاستبصار، يقوده إلى الاعتذار، والاضطرار، يحدوه على ردّ ما انتزعه بالإجبار لأنه لا يجد من يحلّ محلّ مولانا في ارتباطه بإيناسه، وتعهّده بسقي أغراسه، وقيامه بشكره، وتزكيته ببرّه متوقّعا لأن تتيقّظ عينه، وينكشف رينه (3)،
__________
(1) لعل الواو زائدة، ويكون متعلق اللام في قوله: «ولتوقّع» الخ. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) لا جرم: لا بدّ ولا محالة. لسان العرب، مادة (جرم).
(3) الرين: الطبع والدنس. القاموس المحيط ومختار الصحاح، مادة (رين)(9/29)
فيرى ما صنعت يداه، ويبادر لاستقالة ما جناه، حتّى طرق البشير بما سهّله الله تعالى من انحسار الكربة، وعود مولانا إلى شرف الرّتبة، وصلاح ما فسد، وعود السلطان أعزّ الله نصره إلى ما عهد، وركوبه إلى حضرته، وانقلابه عنه رافلا في تشريفه ومكرمته، فكان معتقد المملوك فيه هلالا في السّرار فأهلّ، وجنينا في الحشا فاستهلّ، فاستولى على المملوك من السّرور ما عمّ جوارحه، وعمر جوانحه، وأطار بجناح المرح، وألبس حلّة الفرح، إذ ما جدّده الله تعالى له من السعادة يحلّ به في العموم، محلّ الغيث السّجوم (1) لأنّه حرس الله عزّه لا يستأثر بعوارف الله عنده، ولا يكزّ على عطاياه يده، بل يمنح مما منح، ويولي مما تولّى، ولا يضنّ بمال ولا جاه، ولا يقعد عمن أمّله ورجاه، والله تعالى يجعل ذلك مما أقرّبه العيون، وصدّق فيه الظّنون، لا تخلقه الأيام ولا تبليه، ولا تزويه الحوادث ولا تؤثّر فيه، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثالث التهنئة بالخلاص من الاعتقال.
الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي:
جدّد الله سعده، وضاعف جدّه، وأنجح قصده، وأعذب منهله وورده، ولا انفكّت الأيّام زاهية ببقائه، والأنفس مسرورة بارتقائه إلى رتب عليائه.
أصدرها تفصح عن شوق يعجز عن سوقه الجنان، ويقصر عن طوله اللّسان، وسرور تزايد حتّى أبكاه، ولا عج بمشاهدة طلعته السعيدة أغراه، وتهنّيه بما جدّد الله له بعد الاعتقال من الفرج والفرح، ومنّ به بعد ضيق الخواطر من الابتهاج والمرح، فهذه المسرّة ماء زلال برد بها الأوام، وإنعام عامّ، حمد الله عليها الخاصّ والعامّ، فالحمد لله الذي عوّضه عن مأتم الحزن بما تمّ من السرور، و [عن] الهمّ المانع عن الورود والصّدور بانشراح الصّدور، فإنّ القلوب شعفها حبّه وشغفها، وضاعف لتعويقه أساها وأسفها، بحيث اعترى المناطق قلق
__________
(1) انظر الحاشية رقم 1ص 16من هذا الجزء.(9/30)
وعلاها اصفرار، وعطّلت يد كل غانية من الحليّ فما ضمّها قلب (1) ولا سوار، ولبس الخطباء حزنا وألبسته المحابر، وكادت لغيبته وفقد اسمه تندبه الجوامع وتبكيه المنابر، خلّد الله سعادته، وسهّل له من خيري الدنيا والآخرة قصده وإرادته، بمنّه وكرمه.
الأجوبة عن التهنئة بكرامة السلطان ورضاه بعد غضبه قال في «موادّ البيان» (2): يجب أن تكون أجوبة هذه الرّقاع مودعة من الثناء على المهنّي لمحافظته على رسوم المودّة وقيامه بشروط الخلّة ما تقتضيه رتبته ورتبة المجيب، وأنّه مشارك له في متجدّد النعمة، مفاوض في حديث المسرّة، والتيمّن بالدعاء، ونحو هذا مما يحسن موقعه عند المبتديء بالهناء، ويضعه بحيث وضع نفسه من الاختصاص بمن كاتبه.
وهذا مثال من ذلك:
زهر الربيع: [جواب] هناء بخلعة:
أدام الله علاءه، وشكر آلاءه، وضاعف سناءه، وحمد مننه الّتي أثقلت لكلّ معتف ظهرا وخفّفت همّا، وأنالت لكلّ وليّ نصيبا من عوارفها وقسما.
المملوك ينهي إلى العلم الكريم ورود المكاتبة الّتي كستها يده حلّة جمال، وألبستها ثوب إفضال، وأعدّتها بكرمها، وحسّنت وجهها بلسان قلمها، فأمطرته سحاب جود أربى على السّحاب الهتون (3)، وأوقفته منها على ألفاظ كأمثال اللّؤلؤ المكنون، فاجتنى ثمار الفضائل من أغصانها، واجتلى عروس محاسنها وإحسانها، وفهم ما أشار إليه من التهنئة بالخلعة الّتي أنعم المولى (4) بها على
__________
(1) القلب، بضم القاف وسكون اللام: سوار المرأة. القاموس المحيط (قلب).
(2) انظر الحاشية رقم 1ص 3من هذا الجزء.
(3) السحاب الهاتن والهتون: المنصبّ، أو ما هو فوق الهطل، أو الضعيف الدائم. القاموس المحيط (هتن).
(4) في الأصول: «أتمّ الله بها مخدومه»، ولا معنى له. حاشية الطبعة الأميرية.(9/31)
خادمه وتصدّق، وحقّق الأمل في مكارمه وصدّق، وإنعامه خلّد الله دولته، وأعزّ نصرته، قد كثر حتّى أخجله، وميّزه على كثير من مماليك بيته العالي وفضّله، وأناله من المنزلة ما سما بها على أمثاله، ورقي بها بعد رقّة حاله، فالله يخلّد سلطانه، ويثبّت بالسعادة أركانه، وهذا بسعادة مولانا ومساعدته، ومعاونته ومعاضدته، فإنه كان السبب في الاتّصال ببابه أوّلا وآخرا، وممّن أغاثه بذلك وأعانه عليه باطنا وظاهرا. (بسيط).
وكلّ خير توخّاني الزّمان به ... فأنت باعثه لي أو مسبّبه
الضرب الثالث (من التهاني التهنئة بالعود من الحجّ)
وهذه نسخ من ذلك ينسج على منوالها.
فمن ذلك:
وينهي أنه طرق المملوك البشير بعود مولانا أطال الله بقاءه من مقام الطائفين، إلى مقام المعتفين، وأوبته من كعبة الإحرام، إلى كعبة الإكرام، وتنقّله من موقف الحجّاج، إلى موقف المحتاج، وحلوله بمنزله الذي هو قبلة ذوي الآمال، ومحطّ الرّحال، بالسّعي المشكور، والحجّ المبرور، والنّسك المقبول، والأجر المكتوب، فحمدت الله تعالى على موهبته، وسألته زيادته من مكرمته، واستنجحت هذه المكاتبة أمام ما أرومه من مشاهدته، وأرجوه من الاستسعاد بملاحظته، وبرد أوار الشوق بمحاضرته، ومجدّدا عهود التيمّن بمباسمته، فإن اقتضى رأيه العالي أن يعرّف المملوك جملة من خبره في بدئه وعوده، ومنقلبه ومتوجّهه، وما تفضّل الله تعالى به من أمان سبيله، وهداية دليله، وتخفيف وعثاء سفره، وتسهيل وطره، لأسكن إلى ذلك إلى حين التمثّل بنظره، فله الفضل في ذلك، والله تعالى يبلّغه سوله، ويوصّله مراده ومأموله، بمنّه وكرمه.
ومن ذلك:
وينهي أنّ مولانا لا يزال حاجّا إلى كعبة الحرم، أو كعبة الكرم، وطائفا بشعائر الوفود، أو بشعائر الجود، وواقفا بموقف الاستفتاح، أو موقف السّماح، وناحر البدن (1) بمنى (2)، أو ناثر البدر للمنى، فلا يرتفع في حال من الأحوال برّه، ولا ينقطع عن الله تعالى ذكره، ومن كان بهذه المثابة، في إحراز الأجر والإنابة، فهو حقيق أن تعمر بالتهنئة أوقاته وأزمانه، كما عمرها سعيه وإحسانه، وقد عرف المملوك انكفاءه أدام الله علوّه عن مقام الطائفين والعاكفين، إلى مقام القاصدين والمعتفين، وعوده إلى منزله المعمور، بعد قضائه فريضة السّعي المشكور، فعدلت في مخاطبته عن الهناء إلى الدعاء بأن يتقبّل الله تعالى نسكه ويثقّل ميزانه، ويطلق في حلبة الخيرات عنانه، ويحييه لأجر يحرزه، وثواب يكنزه، والله تعالى يجيب ذلك فيه، ويريه في نفسه وأحبّته ما يرتضيه.(9/32)
ومن ذلك:
وينهي أنّ مولانا لا يزال حاجّا إلى كعبة الحرم، أو كعبة الكرم، وطائفا بشعائر الوفود، أو بشعائر الجود، وواقفا بموقف الاستفتاح، أو موقف السّماح، وناحر البدن (1) بمنى (2)، أو ناثر البدر للمنى، فلا يرتفع في حال من الأحوال برّه، ولا ينقطع عن الله تعالى ذكره، ومن كان بهذه المثابة، في إحراز الأجر والإنابة، فهو حقيق أن تعمر بالتهنئة أوقاته وأزمانه، كما عمرها سعيه وإحسانه، وقد عرف المملوك انكفاءه أدام الله علوّه عن مقام الطائفين والعاكفين، إلى مقام القاصدين والمعتفين، وعوده إلى منزله المعمور، بعد قضائه فريضة السّعي المشكور، فعدلت في مخاطبته عن الهناء إلى الدعاء بأن يتقبّل الله تعالى نسكه ويثقّل ميزانه، ويطلق في حلبة الخيرات عنانه، ويحييه لأجر يحرزه، وثواب يكنزه، والله تعالى يجيب ذلك فيه، ويريه في نفسه وأحبّته ما يرتضيه.
ومن ذلك:
وتنهي أنّه قد طرقني البشير بانكفاء مولانا إلى مقرّ علائه، وانفصاله عن ملاذ النّسّاك والعبّاد، إلى معاذ الزّوّار والقصّاد، فعرفت أنّ ذلك النسيم العليل من تلقائه، وذلك النّور الصادع من آلائه، وذلك الافترار من أسرّته ومخايله، وتلك العذوبة من شيمه وشمائله، فكاد المملوك يطير لو طار قبلي غير ذي مطار فرحا، وأخرق الأرض وأبلغ الجبال لو أمكن ذلك مرحا، وانفتح قلبي حتّى كادت مهجته تفيض سرورا، وطاش حلمي حتّى تفرّق مجموعه بهجة وحبورا، والله تعالى يجعل نعمه موصولة الحبل، مجموعة الشّمل، بمنّه وكرمه.
__________
(1) البدن: ج بدنة، والبدنة من الإبل والبقر، كالأضحية من الغنم، تهدى إلى مكة، للذكر والأنثى.
القاموس المحيط (بدن).
(2) منى: بكسر الميم، تصرف ولا تصرف، وهي بليدة على ثلاثة أميال من مكة، ما بين العقبة ووادي محسر، تعمّر أيام الموسم وتخلو بقيّة السنة إلّا ممن يحفظها، وعلى رأس منى من نحو مكة عقبة ترمى عليها الجمرة يوم النحر، سمّيت بذلك لأن الكبش مني بها، أي ذبح. معجم البلدان (ج 5ص 198) وتهذيب الأسماء واللغات (ق 2ج 1ص 158157).(9/33)
أبو الفرج (1) الببّغاء:
جعل الله سعيك مشكورا، وحجّك مبرورا، ونسكك مقبولا، وأجرك مكتوبا، وأجزل من المثوبة جزاءك، ومن عاجل الأجر وآجله عطاءك، وقرن بالطاعات عزماتك، وبالسّعي إلى الخير نهضاتك، ووفّقك من صالح الأعمال، وزكيّ الأفعال، لما يجمع كلّ خير الدارين. ولمّا طرقتني البشارة بقدومك، بدأت بإهداء الدعاء، وتجديد الشكر لله تعالى والثّناء، واستنبت في ذلك المكاتبة، أمام ما أنا [عازم] عليه، من المشافهة والمخاطبة. ولن أتأخّر عن حظّي من المسير إليك للتيمّن بالنظر إلى غرّتك، ومداواة ما عانيته من ألم الشوق بمشاهدتك.
الضرب الرابع (من التهاني، التهنئة بالقدوم من السّفر)
من كلام المتقدمين:
عليّ (2) بن خلف:
وينهي أنّه اتّصل بالمملوك خبر توجّهه (3) إلى الناحية الفلانية، فعرف المملوك أنه قصدها ليخصّ قاطنيها، بنصيب من مواهبه، ويفيض على ساكنيها، سجالا من رغائبه، ويسوّي بينهم وبين من راشه بحبائه، وجبره بنوافله وآلائه، فسألت الله تعالى أن يطيل عمر المكارم بإطالة بقائه، ويجمع شمل السّؤدد بدوام علائه، ثم اتّصل بي عوده إلى مقرّه، خفيف الحقائب من وفره، ثقيلها من ثنائه وشكره، فحمد المملوك الله تعالى على إسفار سفره عن بلوغ الأوطار، وانحسار أمنيّته عن أذيال المسارّ، وما خصّه به من السّير الشّحيح، والسّعي
__________
(1) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 1ص 24من هذا الجزء.
(2) انظر الحاشية رقم 1ص 3من هذا الجزء.
(3) في الأصل: «وجهته»، وهو تصحيف، إذ الوجهة هي الناحية والجهة، وهو غير مراد كما لا يخفى. حاشية الطبعة الأميرية.(9/34)
النّجيح، والسّلامة المفرّقة على الوجهة والمنقلب، والمفتتح والمعتقب، ولمّا عرض للمملوك ما قطعه عن مشافهته بالدعاء، رفع يده إلى الله تعالى ضارعا لديه في أن يتولّاه في هذا المقدم الميمون، بالسعد المضمون، وإنالة الأمانيّ المقرّة للعيون، وأن يمنحه في الحلّ والتّرحال، والقطن (1) والانتقال، توفيقا يقارن ويصاحب، ويساير ويواكب، وأن يجعل ما خوّله من نعمه راهنا خالدا، وما أولاه من مواهبه بادئا عائدا، إن شاء الله تعالى.
وله أيضا:
وينهي أنه طلع عليه البشير، طلوع القمر المنير، مؤذنا بمقدم حضرته، ومعلما بظهور طلعته، وحلوله في معانه (2) الذي هو معان الإقبال، وعون الرجال، وقرارة الأقيال، ومحطّ الرّحال، وقبلة الجود، ومعرّس الوفود، فسألت الله تعالى أن يبقيه جمالا للأيّام، وثمالا (3) للأنام، وعمادا للقصّاد، ومرادا للرّوّاد، والله تعالى لا يخليه في تصرّفاته، وجميع حركاته وسكناته، من سعي سعيد، وعيش رغيد، بمنّه وكرمه.
أبو الفرج الببّغاء:
من كانت غيبة المكارم مقرونة بغيبته، وأوبة النّعم موصولة بأوبته، سافرت الأنفس حيث كان إليه، وقدمت الآمال عند قدومه عليه، وما زالت الأنفس إلى الأمنيّة بقربه متطلّعة، ولورود السّرور بوروده متوقّعة، إلى أن أنست
__________
(1) مصدر «قطن» في كتب اللغة الّتي بأيدينا على وزن «فعول»، لا على وزن «فعل». حاشية الطبعة الأميرية.
(2) المعان، بالفتح: المبأة أو المباءة، والمنزل، ومعان القوم: منزلهم. يقال: الكوفة معان منّا أي منزل منّا. انظر لسان العرب والقاموس المحيط، مادة (معن).
(3) الثمال، بالكسر: الغياث والعماد يقال: فلان ثمال بني فلان أي عمادهم وغياث لهم يقوم بأمرهم. قال الحطيئة (طويل) فدى لابن حصن ما أريح، فإنه ... ثمال اليتامى، عصمة في المهالك
انظر لسان العرب، مادة (ثمل).(9/35)
بعد الوحشة بلقائه، وتنسّمت أرج منّه ونعمائه، فوصل الله قدومه من الكرامة، بأضعاف ما قرن به مسيره من السّلامة، محروسا من طوارق الغير، مبلّغا أبعد العمر.
وله في مثله:
من كانت مادّة سروره، بمغيبه وحضوره، لم يجد مع بعدك مؤنسا يسكن إليه، ولا عوضا يعوّل في السّلوة عليه، وما زلت أيام غيبتك لا أوحش الله منك بالوحدة مستأنسا، وبالشّوق إليك مجالسا، ألاقيك بالفكر، وأشاهدك باتّصال الذّكر، إلى أن منّ الله من أوبتك بما عظمت به النعمة، وجلّت لديّ معه الموهبة، فوصل الله بالسلامة نهضاتك، وبالسعادة حركاتك، وبالتوفيق آراءك وعزماتك، وحرسني ببقائك وبقاء النعمة عندك، وهنأني النعمة الجليلة بقربك.
وله في مثله:
من كنت نهاية أمنيّته، وقطب مسرّته، كان من نفسه مستوحشا مع بعدك، وبدهره مستأنسا مع قربك، وما زلت معك بالنّيّة مسافرا، وبالشّوق سائرا، وبالفكر ملاقيا، وبالأمانيّ مناجيا، إلى أن جمع الله شمل سروري بأوبتك، وسكّن نافر قلقي بعودتك، على الحال السارّة من كمال السّلامة، ووفور الكلفة، فأسعدك الله بمقدمك سعادة تكون بها من الزمان محروسا، وللإقبال مقابلا، وبالأمانيّ ظافرا، ولا أوحش الله منك أوطان الفضل، وعضّد إخوانك ببقائك وبقاء النعمة عندك.
وله في مثله:
لو كان القلب يجد عنك منصرفا، أو يرى منك في اكتساب المسرّة خلفا، لاستراح إليه من ألم بعدك، واستنجده على مرارة فراقك، لكنّك أيّدك الله جملة مسرّته، ونهاية أمنيّته، فليس تتوجّه أمانيّه إلّا إليك، ولا تقف آماله إلّا عليك، فالحمد لله الذي أقرّ بفيئتك أعين إخوانك وأودّائك، وافاك الله من السّعادة في أوبتك أضعاف ما اكتنفك من الكفاية في ظعنك.
ابن أبي (1) الخصال:(9/36)
لو كان القلب يجد عنك منصرفا، أو يرى منك في اكتساب المسرّة خلفا، لاستراح إليه من ألم بعدك، واستنجده على مرارة فراقك، لكنّك أيّدك الله جملة مسرّته، ونهاية أمنيّته، فليس تتوجّه أمانيّه إلّا إليك، ولا تقف آماله إلّا عليك، فالحمد لله الذي أقرّ بفيئتك أعين إخوانك وأودّائك، وافاك الله من السّعادة في أوبتك أضعاف ما اكتنفك من الكفاية في ظعنك.
ابن أبي (1) الخصال:
سرّ الله مولاي ورئيسي، وربّ تشريفي وأنيسي، بلقاء الأحباب، واتّصال الأسباب، وأوبة الغيّاب، ولا زالت الأيام تتصنّع لإقباله، وتقبّله أوجه العزّ في اقتباله، وتوفيه على رغم الحاسد حقّ جلاله.
البشرى أدام الله اعتزازه بمقدم الوزير فلان قد أوضعت ركابها، واتّصل بالنفوس أعلاقها وأسبابها، فهنيئا معشر الأولياء بسبوغ هذه النعمة الجليلة، والمنحة الجزيلة، ولا أستوفي شكر ما به أتى معظّم قدره، وملتزم برّه، من ثناء كعرف الطيب يهدى، ومذهب في الإنهاض لا يقضى واجبه ولا يؤدّى، ولا زالت حياة مولاي تفدّى، وأفعال برّه تتعدّى، وقد لثمت مواقع أنامله ودّا، ووردت من محاسن بيانه منهلا عذبا [ووردا] فأمتعني الله بحياته العزيزة الأيّام، الطيّبة الإلمام، الموصولة العهد والذّمام، وأقرأ على سيدي من سلامي ما يلثم يده، ويقضي حقّ اليراع [الذي] أنشأ به البر وولّده، والسّلام المعاد عليه وعلى جملته ورحمة الله وبركاته.
الشيخ جمال الدين بن نباتة (2) عن نائب الشام إلى القاضي علاء الدين بن فضل الله (3) كاتب (4) السرّ الشريف، بالأبواب الشريفة بالديار
__________
(1) هو ذو الوزارتين أبو عبد الله محمد بن مسعود بن خلصة بن فرج بن مجاهد بن أبي الخصال الغافقي، النحوي الأديب الكاتب، إمام الكتابة والنظم. أصله من فرغليط من عمل شقورة، سكن قرطبة وغرناطة، وكتب ليوسف بن تاشفين أمير المرابطين. توفي مقتولا سنة 540هـ بقرطبة على يد رجال ابن غانية. انظر الذخيرة (ق 3ج 2ص 787784)، وقلائد العقيان ص 175، وبغية الملتمس ص 131، والمطرب ص 188187، وبغية الوعاة ص 104ونفح الطيب (ج 3ص 184، 268، 519).
(2) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 2ص 10من هذا الجزء.
(3) هو المقرّ العلائي أخو شهاب الدين بن فضل الله العمري. انظر ج 7من هذا المطبوع ص 229.
(4) كاتب السرّ هو صاحب ديوان الإنشاء، وكان معظّما عند الملوك في كل زمان، مقدّما لديهم على من عداه، يلقون إليه أسرارهم ويطلعونه على ما لم يطلع عليه أخصّ الأخصّاء من الوزراء والأهل والولد. وفي أوائل الدولة التركية، تارة يلي الديوان كاتب واحد، وتارة يليه جماعة، ويقال: إنهم كانوا في أيام الظاهر بيبرس ثلاثة، أرفعهم درجة محيي الدين بن عبد الظاهر. انظر ج 1من هذا المطبوع ص 105104وج 5ص 464.(9/37)
المصرية، عند عوده من الكرك (1) إلى الديار المصرية، في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، مهنّئا له بعوده إلى منزله بالديار المصرية، واستقراره وعوده إلى كتابة السرّ الشريف بالأبواب الشريفة السلطانية، وهي:
تقبّل الباسطة الشريفة إلى آخر الألقاب لا زالت خناصر الحمد على فضل بنانها معقودة، ومآثر البأس والكرم لها ومنها شاهدة ومشهودة، وبواتر السّيوف مسيّرة القصد إلى مناظرة أقلامها المقصودة، تقبيلا يودّ لو شافه بشفاهه مورد الجود من الأنامل، وكاثر بثغره عند المثول للتقبيل ثغور الأماثل، فكان يشافه بشوقه موردا كثير الزّحام، وكان يكاثر بعقد قبله على يد الفضل عقودا جزيلة الانتظام، وكان يحاكم جور الضّيم إلى من أبى الله لجار مشاهدته أن يضام، وينهي ما وصل إليه وإلى الأولياء من السّرور، وما رفع بينهم وبين الابتهاج من الشّرور، وما طولع في أخبار المسرّة من السّطور، بوصول مولانا ومن معه إلى مساكن العزّ ساكنين، ودخولهم كدخول يوسف عليه السّلام ومن معه إلى مصر آمنين، واستقراره في أشرف مكان ومكانة، واستنصار مصر بأقلامه على العادة، فإنّ هذه سهام وهذه كنانة، وإسفار غمام السّفرة عن كوكب علا طالما حرس بيمينه أفق الملك وهداه وزانه، وما كانت إلّا غيبة أحمد الله عقباها، وغيابة بعد منّ الله عزّ وجلّ وجلاها، وفترة ثنى فترتها فتنفّس خناق المنصب المشتاق لوجهه الكريم، وهجرة صرف الله هجيرها فسقى طرس الإنشاء الذي ابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم وما محاسن مولانا إلّا زينة من زين الدنيا فعليها يتشاكس المتشاكسون، وما مزاج كلماته إلّا من تسنيم {وَفِي}
__________
(1) الكرك، بفتح أوله وثانيه: اسم لقلعة حصينة جدّا في طرف الشام من نواحي البلقاء، وقيل: قرية كبيرة قرب بعلبك. وهي كلمة عجمية معجم البلدان (ج 4ص 453). وذكره ابن فضل الله العمري في كتابه «التعريف بالمصطلح الشريف» ص 183فقال: يعرف بكرك الشوبك، وهو حصن الإسلام، بناه الملك العادل ابن أيوب وشيّد بناءه ووسّع فناءه.(9/38)
{ذََلِكَ فَلْيَتَنََافَسِ الْمُتَنََافِسُونَ} (1).
فالحمد لله على أن أقرّ العيون بمعاودة ظلّه الوريف، وعلى أن شفى الصّدور بقربه وأوّلها وأولاها صدر السرّ الشريف، وعلى أن أجزل الهناء وقد شمل ظلّه، وقد كمل بابن الفضل فضله، وقد بهر سناؤه وسناه، وقد تسعّب (2)
القريب والبعيد فإن أجدى على مصر مورده فقد جادت على الشام سماه، وقد أخذ المملوك حظّه من هذه البشرى، ووالى السّجود لله شكرا، وجهّز خدمته هذه نائبة عنه في تقبيل بنان إن سمّاه مولى الكرم بحرا، فقد سمّاه مربّي الملك برّا، لا زالت الممالك متحفة بيمن مولانا ظاعنا ومقيما، متّصفة بحمده وحمد سلفه الكريم حديثا وقديما، تالية على مهمّات الملك بصحبة بيته الشريف {وَكََانَ فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (3).
الشيخ شهاب الدين محمود (4) الحلبي في تهنئة بقدوم من سفر:
أدام الله ظلّه، ورفع محلّه، وشكر إنعامه وفضله، وأعزّ أنصاره، وضاعف اقتداره، ولا زال مؤيّدا في حركاته، مسدّدا في سائر فعلاته، مصحوبا بالسلامة في المهامه والقفار، مخصوصا من الله تعالى بالأعوان والأنصار.
المملوك ينهي بعد تقبيل الأرض، والقيام بما يجب من سننه والفرض، علمه بحلول ركابه العالي بمغناه، واستقرار خاطره الشريف في محلّه ومثواه، وجمع الشّمل بالأهل بعد طول الغيبة، وبعد القفول والأوبة، فتضاعف لذلك فرحه وسروره، وزال عن قلبه قليل الهمّ وكثيره، فالله يمنح المولى أطيب المنازل، وأسرّ الرّواحل، ويجعل تجارة مجده رابحة، وأوامر دوام عزّه لائحة،
__________
(1) سورة المطفّفين 83، الآية 26.
(2) تسعّب: تمطّط، أي تمدّد. القاموس (سعب) و (مطط).
(3) سورة النساء 4، الآية 113.
(4) تقدّمت ترجمته في الحاشية رقم 2ص 18من هذا الجزء.(9/39)
حتّى تنشد نفسه الكريمة قول أبي الطيّب (1) (كامل).
أنا من جميع النّاس أطيب منزلا ... وأسرّ راحلة وأربح متجرا (2)
لا زالت الأعين قريرة برؤيته، وقلوب الإخوان قارّة بمشاهدته، والأوجه وسيمة، والنّعم الظاعنة مقيمة، إن شاء الله تعالى.
أجوبة التهنئة بالقدوم من السفر قال في «موادّ (3) البيان»: أجوبة هذه الرّقاع ينبغي أن تبنى على الاعتراف للمهنّيء بحقّ تعهّده، وكرم تفقّده، وإطلاعه على الحال في السّفر، وما أفضت إليه من السلامة، والتأسّف على ما تقضّى من الأيّام في مباعدته، والتخلّف عن مباسمته، وأنه لم يزل يدرّع الإدلاج، ويقطع الفجاج، رغبة في القدوم إليه، والوفادة عليه، وبلّ الغلّة برؤيته، وترويح النفس بمحاضرته، وما يليق بهذا النّمط من الكلام.
الضرب الخامس (من التهانيء التهنئة بالشهور والمواسم والأعياد)
وهي على ثمانية أصناف:
__________
(1) هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي، الشاعر المشهور. قيل له المتنبي لأنه ادّعى النبوّة في بادية السماوة. التحق بالأمير سيف الدولة بن حمدان في سنة 337 هـ، ومدحه، ثم فارقه ودخل مصر سنة 346هـ، ومدح كافورا الأخشيدي، ثم رحل عنه. وفي سنة 354هـ قصد بلاد فارس ومدح عضد الدولة بن بويه الديلمي وأقام عنده مدة، ثم رجع يريد بغداد فعرض له فاتك فقتله في الطريق بالقرب من النعمانيّة في سنة 354هـ. انظر يتيمة الدهر (ج 1ص 122110)، وتاريخ بغداد (ج 4ص 105102) ووفيات الأعيان (ج 1ص 120 125).
(2) هكذا ورد البيت في ديوان المتنبي (ج 2ص 172). وأسرّ: مبالغة من السرّ، أي أخفتني بسراها ليلا حتى أتيتك، وإن كان من السرور، فيكون سرور صاحبها هو المراد بسرورها. والمتجر: ما يتّخذ للتجارة. انظر شرح الديوان.
(3) انظر الحاشية رقم 1ص 3من هذا الجزء.(9/40)
الصنف الأوّل التهنئة بأوّل العام وغرّة السّنة.
من كلام المتقدّمين:
تهنئة من ذلك: من إنشاء أبي مسلم محمد (1) بن بحر:
أسعد الله سيّدي بعامه، والفضل منه وما حوى من الأعياد والأيّام الخطيرة وسائر شهوره وأيّامه، ومتصرّف أحواله، وبما يأتي ويكرّ عليه من زمانه، سعادة تسوق إليه حظوظ الدّين والدنيا كاملة، وتجمع له فوائد الأمدين تامّة وافية، وترتهن إليه النّعم فلا تزال لديه زائدة نامية، وبلّغه بها الأمل، ومدّ له في البقاء إلى أنفس المهل.
ولأبي (2) الحسين بن سعد:
عظّم الله على مولاي بركة الشهر والسنة المتجدّدين، ووهب له فيهما وفيما يتلوهما من أيام عمره، وأزمان دهره، سعادة تجمع له أشتات الحظوظ، وتصل لديه موادّ المزيد، وتيسّر له بلوغ الأمل في كلّ ما يطالع وينازع، والأمن من كلّ ما يراقب ويحاذر.
وله في مثله:
عظّم الله على سيّدي بركة الشهر والسنة، وأعاشه لأمثالهما مدّة اختلاف الجديدين، وتجاور الفرقدين، ممتّعا بالنّعم السابغة، والمواهب المترادفة، والسّعادة والغبطة، والعزّ والمسرّة.
وله في معناه:
__________
(1) هو محمد بن مسلم بن بحر الأصبهاني، الكاتب المترسل البليغ، المتكلم الجدل. ولي أصفهان وبلاد فارس للمقتدر العباسي، واستمر إلى أن دخل ابن بويه أصفهان سنة 321هـ، فعزل. كانت وفاته في سنة 321هـ. انظر الفهرس ص 151، ومعجم الأدباء (ج 6ص 420) والأعلام (ج 6 ص 50).
(2) انظر الحاشية رقم 1ص 5من هذا الجزء.(9/41)
جدّد الله لسيّدي في الأيّام الحاضرة (1) والمستقبلة، والأحوال الراهنة والمتنقّلة، حظوظا من السّعادات، وأقساما من الخيرات، لا يحصى عددها، ولا ينقضي مددها.
وله في مثله:
عظّم الله [على مولاي] بركة الشهر والسنة المتجدّدين عليه، وعرّفه فيهما وفي الأيّام بعدهما من حادث صنعه، ولطيف كفايته، ما تدوم فيه السعادة، وتعظم به المنّة، وتحسن فيه العاقبة.
وله في مثله:
عظّم الله على مولاي بركة هذا الشهر، الماضي [من] أيّامه وباقيها، وهذه السنة، وجعلها أيمن سنة حالت عليه وأسعدها.
ومنه: وينهي أنّ المملوك يهنّيء غرّة الأيّام، بغرّة الأنام، وصدر العام، بصدر الكرام، بل يهنّيء الزمن كلّه نعم وأهله بالحضرة الّتي واست المعالي.
الصنف الثاني التهنئة بشهر رمضان.
من كلام المتقدّمين:
لأبي الحسين بن سعد:
جمع الله لمولاي في هذا الشهر الشريف شروط آماله وأحكام أماليه، في حاضر أمره وعاقبته، وعاجل دنياه وآخرته، وأبقاه لأمثاله بقاء لا يتناهى أمده، في ظلّ عيش يرضاه ويحمده.
وله في مثله:
عرّف الله سيدي بركة هذا الشهر الشريف وأعاشه لأمثاله، ما كرّ الجديدان (2)، واختلف العصران، ممتّعا بسوابغ النّعم، محروسا من حوادث
__________
(1) في الأصول: «الماضية». حاشية الطبعة الأميرية.
(2) الجديدان والأجدّان: الليل والنهار، القاموس المحيط ومختار الصحاح، مادة (جدد).(9/42)
الغير، وموفّقا في شهره، وأزمان دهره، لأزكى الأعمال، وأرضى الأحوال، ومقبولا منه ما يؤدّيه من فرضه، ويتنفّل به قربة إلى ربّه.
وله في مثله:
عرّفه الله بركة إهلاله، وأبقاه طويلا لأمثاله، موفّقا فيه من عمل الخير، ومراعاة الحقّ، وتأدية الفرض، والتنفّل بالبرّ، لما يرضيه، ويستحقّ جزيل المثوبة عليه، ممتّعا بعده بسنّي المواهب، وجسيم الفوائد، مع اتصال مدّة العمر، واجتماع أمنيّات الأمل.
وله في مثله:
عرّف الله مولانا بركة هذا الشهر الشريف وأيّامه، وأعانك على صيامه وقيامه، ووصل لك ما يزيد من فضله وإنعامه، وتابع لك المزيد من منائحه وأنعامه، وختم لك بالسعادة العظمى بعد الانتقال [في الجاه والرياسة إلى] أبعد المدى، وفي العزّ والثّروة إلى أقصى المنى.
أبو الفرج (1) الببغاء:
جعل الله ما أظلّه من هذا الصيام مقرونا بأفضل قبول، مؤذنا بإدراك البغية ونجح المأمول، ووفّقه فيه وفي سائر أيّامه، ومستأنف شهوره وأعوامه، لأشرف الأعمال وأفضلها، وأزكى الأفعال وأكملها، ولا أخلاه من برّ مرفوع، ودعاء مسموع، وسعي مشكور، وأمر مبرور، إلى أن يقطع في أجمل غبطة وأتمّ مسرّة أمثاله.
وله في مثله:
عرّفك الله بركة هذا الشهر المعظّم قدره، المشرّف ذكره، ووفّقك فيه لصالح الأعمال، وزكّي الأفعال، وقابل بالقبول صيامك، وبتعظيم المثوبة تهجّدك وقيامك، ولا أخلاك في سائر ما يتبعه من الشّهور، ويليه من الأزمنة
__________
(1) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 1ص 24من هذا الجزء.(9/43)
والدّهور، من أجر تذخره، وأثر تشكره.
قلت: ومما كتبت به تهنئة بالصوم للمقرّ الأشرف الناصريّ محمد بن (1)
البارزيّ كاتب السرّ الشريف المؤيّديّ بالممالك الإسلامية، في سنة ستّ عشرة وثمانمائة نظما (طويل).
أيا كاتب السّرّ الشّريف ومن به ... تميس نواحي مصر تيها مع الشّام
ومن جلت الجلّى كتائب كتبه، ... ومن ناب عن وقع السّيوف بأقلام
تهنّ بهذا الصّوم والعيد بعده، ... ومن بعده بالعيد والعام فالعام
وترقى رقيّ الشّمس في أوج سعدها ... وتبقى بقاء الدّهر في فيض إنعام
الصنف الثالث ما يصلح تهنئة لكلّ شهر من سائر الشّهور.
لأبي الحسين بن سعد:
عظّم الله بركة إهلاله، وأعاشه لأمثاله، أطول المدّة، ممتّعا بأدوم النّعمة، ومشفّعا (؟) بأفضل الأمل والأمنيّة.
وله: أسعد الله سيّدي بانصرامه وإهلال ما بعده، وأبقاه ما بقي الزمان ممتّعا بالعزّ والنّعمة، محروسا من الآفات المخوفة، والحوادث المحذورة.
وله: عظّم الله على سيدي بركة الماضي والمستقبل من الأيام والشّهور [والأعوام] والدّهور، ووصل لي السعادة باتّصالها، وجدّد له النّعمة بتجدّدها.
وله: عظّم الله بركة انسلاخه، وإهلال ما يتلوه، مجدّدا لك بتجدّده فوائد الخيرات، وأقسام البركات، تدوم فيها المدّة، وتطول بها النّعمة.
__________
(1) هو قاضي القضاة أبو المعالي محمد ابن المقر الكريم قاضي القضاة كمال الدين محمد ابن قاضي القضاة فخر الدين عثمان بن البارزي الحموي الشافعي. هو من بيت علم وأدب، ولد سنة 769هـ، ونشأ بحماه، وقلّد قضاء القضاة بها لابتداء أمره، ثم قلّده المؤيّد شيخ أبي النصر، صاحب الديار المصرية والممالك الشامية، ديوان أنسابه. انظر قلائد الجمان للقلقشندي ص 206179.(9/44)
وله: أسعدك الله بإهلاله، وأعاشك أبدا لأمثاله، ممتّعا بدوام العزّ والنعمة، واجتماع أسباب الرّخاء وشروط المحبة، إنّه جواد كريم.
[وله: عظّم الله على مولاي بركات هذا الشّهر وما يتلوه، وبلّغه ما يحاوله وينحوه، في مستأنف الشّهور، ومؤئنف الدّهور، مضاعفا له العزّ والتأييد، وموصولا له أصل النعمة بحسن المزيد] (1).
وله: عظّم الله على مولاي بركة الشّهر، وأدام له سلامة الدّهر، موفورا من العزّ والسلطان، غير مذعور بنوائب الزّمان.
وله: عظّم الله على سيدي بركة الأيّام والشّهور، والسّنين والأحقاب، وجمع له المواهب كاملة، والفوائد فاضلة، دينا ودنيا، وحاضرة وعقبى.
وله: عظّم الله عليك بركته، وعرّفك يمنه وسعادته، وجدّد لك الخيرات، تجديد الأوقات والسّاعات، حتّى تحوز منها أسنى الحظوظ وتبلغ مما تتمنّاه أقصى الغايات.
الصنف الرابع التهنئة بعيد الفطر.
من كلام المتقدّمين:
لأبي الحسين بن سعد:
عظّم الله على سيّدي بركة هذا العيد، وأعاشه لأمثاله، من الأعياد المشهودة، والأيّام الجديدة [في] أهنإ عيش وأرغده، وأطول مدّى وأبعده.
أبو الفرج الببغاء (2):
أسعدك الله بهذا الفطر الجديد، والعيد السّعيد، ووصل أيّامك بعده بأكمل السّعادات، وأجمل البركات، وجعل ما أسلفته من الدّعاء مقبولا
__________
(1) الزيادة في بعض النسخ. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 1ص 24من هذا الجزء.(9/45)
مسموعا، ومن التهجّد زاكيا مرفوعا، ولا أخلاك من نعمة يحرس الشكر مدّتها، ولا يخلق الدّهر جدّتها.
من كلام المتأخرين:
الشيخ شهاب الدين محمود (1) الحلبي:
المولى أدام الله نعمه، وحرس شيمه، هو سيّد الأفاضل، ورئيس الأماثل وحسنة الزّمان، وليث الأقران، وهو في الأنام (2)، كالأعياد في الأيّام، فإنّ الأنام ليل والمولى المصباح بل الصّباح، وسائر الأيّام أجساد وسائر الأعياد هي الأرواح، فإذا كان المولى قد زهي على أبناء جنسه، ويوم العيد على غده وأمسه، فقد صار كلّ منكما إلى صاحبه يتقرّب، ويلزم ويلزب، وهو أحقّ الناس بأن يبهجه مقدمه، وأن يهنّى بيومه الذي هو مجمع السّرور وموسمه.
والخادم يهنّيء المولى بهذا العيد، واليوم السّعيد، فإنه وافى في أوان الرّبيع وزمانه، ليباهي بغصن قدّه أغصان بانه (3)، ويستنشق في صدره وورده، رائحة ريحانه وورده، ويختال في رياضه وحدائقه، ويلاحظ بهجة أزهاره وشقائقه، والعيد والرّبيع ضيفان ومكارم المولى جديرة بإكرام الضيف، والتمتّع بالملاذّ فيهما قبل رحيلهما وقدوم حرّ الصّيف، وأن يحسّن وجه عيده، بحلوله في مغناه ووجوده، بما يوليه لعفاته من إنعامه وجوده، لا زالت الأعياد تهنّى ببقائه، وألسنة الأيام تشكر سوابغ نعمائه، وتحمد جزيل عطائه، وتنطق بولائه وثنائه، أبدا، إن شاء الله تعالى.
قلت: ومما كتبت به مهنّئا للمقرّ الأشرف الناصريّ محمد بن البارزي
__________
(1) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 2ص 18من هذا الجزء.
(2) الأنام، بفتحتين: الخلق. القاموس المحيط (أنم).
(3) البان: شجر من العضاه يسمو ويطول في استواء مثل نبات الأثل، وتشبّه به قدود الحسان، وثمرته تشبه قرون اللوبياء، إلّا أن خضرتها شديدة، ويتّخذ من حبّه دهن طيّب. انظر لسان العرب (بون) و (بين) والقاموس المحيط (بون). ومعجم متن اللغة (ج 1ص 377).(9/46)
صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية في الدولة المؤيّديّة «شيخ» (1) بعيد الفطر نظما، بعد أن سألته حاجة فقضاها، وأسنى لي الجائزة على نثر كتبته له (طويل).
سألت نظام الملك كاتب سرّه ... إزالة ضنك (2) أرهف الدّهر حدّه
فمنّ بجاه زعزع الأرض وقعه، ... وجاد بمال لا يرى الفقر بعده
وبالبارزيّ ازدان وصف مكارم ... فأشبه في فضل أباه وجدّه
فيهناه صوم ثمّ عيد مسرّة ... وطالع إقبال يقارن سعده
ورفع دعاء لا يغبّ تتابعا، ... وطيب ثناء خامر المسك ندّه
الصنف الخامس التهنئة بعيد الأضحى.
من كلام المتقدمين:
أبو الحسين بن سعد:
كتابي والنحر نحر الله أعداء مولاي وحسّاد نعمته، وأمتعه بمواهبه عنده، وبارك له في أعياده ومتجدّد أيّامه، بركة تنتظم السّعادات، وتتضمّن الخيرات، متصلة غير منقطعة، وراهنة غير فانية.
من كلام المتأخرين:
الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي (طويل).
تهنّ فأيّام السّرور أواهل ... وكلّ مخوف عن جنابك راحل
ونجمك من فوق الكواكب طالع، ... ونجم امريء يشنا سموّك آفل
ألا أيّها المولى الذي عمّ جوده ... فدتك العوالي والجياد الصّواهل
تمتّع بعيد النّحر، وافاك خاضعا ... يحقّق من دنياك ما أنت آمل
__________
(1) هو شيخ أبو نصر صاحب الديار المصرية والممالك الشامية، وما أضيف إلى ذلك من الجزيرة الفراتيّة، وبلاد الثغور والعواصم، وما جاورها من بلاد الروم. انظر قلائد الجمان ص 188.
(2) الضنك: الضيق في كل شيء، للذكر والأنثى. القاموس المحيط (ضنك).(9/47)
ودم كابت الأعداء وابق مخلّدا ... على المال عال، بالرعيّة عادل
لقد راق مدحي في معاليك مثل ما ... صفت منك أوصاف ورقّت شمائل
جعله الله أبرك الأعياد وأسعدها، وأيمن الأيّام وأمجدها، وأجمل الأوقات وألذّها وأرغدها، ولا برح مسرورا مستبشرا، منصورا على الأعداء مقتدرا، مسعودا محمودا، معانا بملائكة السماء معضودا، مهنّأ بالسّعود الجديدة، والجدود السّعيدة، والقوّة والناصر، والعمر الطويل الوافر (طويل).
ولا زالت الأعياد لبسك بعده ... [فتخلع] (1) مخروقا وتعطى مجدّدا
فذا اليوم في الأيّام مثلك في الورى ... كما كنت فيهم أوحدا كان أوحدا
وأعاده على المولى في صحّة دائمة، وسلامة ملازمة، وأصار عيده مطيعا لأوامره كسائر العبيد، وعبيده في كلّ يوم من المسرّة ببقائه لها كالعيد، والأيّام به ضاحكة المباسم، والأعوام جميلة المواسم، ومتّعنا بدوام حياته، واستجلاء جميل صفاته، واستحلاء مدائحه بإنشاد عفاته، وأراه نحر أعاديه، بين يديه كأضاحيه، وأصار الحجّ إلى بابه غافرا سيّئات الإفلاس والإعدام، ومبيحا لبس المخيط من إنعام العامّ، ألبسه الله من السعادة أجمل حلّة، ومنحه من المكارم أحسن خلّة.
الصنف السادس التهنئة بعيد الغدير من أعياد الشّيعة:
وكان لهم به اهتمام في الدولة الفاطمية بالديار المصرية، والطريق في التهنئة به على نحو غيره من الأعياد.
ما يصلح تهنئة لكلّ عيد.
أبو الفرج الببغاء:
لولا العادة المشهورة، والسّنّة المأثورة، بالإضافة في الدّعاء، والمشافهة بالتهنئة والثناء، في مثل هذا اليوم الشريف قدره، الرفيع ذكره، لكان أيّده الله
__________
(1) بياض بالأصل، والتصحيح من المقام. حاشية الطبعة الأميرية.(9/48)
دون رؤساء الدّهر، وملوك العصر يجلّ عن التهنئة إذ كانت سائر أيّامه بما يودعها من أفعال الخير معظّمة، وبما يبثّها من المحاسن مكرّمة، فبلّغه الله أمثاله محروسا في نفسه ونعمته، محفوظا في سلطانه ودولته، موفيا على أبعد أمانيه، مدركا غايتها فيما يؤمّله ويرتجيه.
وله في مثله:
عرّفك الله يمن هذا العيد وبركته، وضاعف لك إقباله وسعادته، وأحياك لأمثاله في أسبغ النّعم وأكملها، وأفسح المدد وأطولها، وأشرف الرّتب وأرفعها، وأعزّ المنازل وأيفعها، وحرس منحتك من المحذور، ووقى نعمتك من عثرات الدّهور.
الصنف السابع التهنئة بالنّيروز.
وهو من أجلّ أعياد الفرس، على ما تقدّم ذكره في الكلام على أعياد الأمم، في المقالة الأولى. وكان للكتّاب به اهتمام في أوائل الدّولة العبّاسية بالعراق، جريا على ما كان عليه الفرس من قديم الزمان.
وفيه (1) لأبي الحسين بن (2) سعد:
هذا يوم شرّفته العجم، ورعى ذمامه الكرم، وهو من أسلاف سيّدي ذوي النباهة، وأخلافه ذوي الطّهارة، بين منشيء رسمه، ومؤدّي حقّه، وكاس له بقبول انتسابه إليه جمالا يبقى على الأيام، وحالا ينفق بها لدى الأنام، فليس أحد أحق بالتهنئة [به] ممن سنّه آباؤه، وشيّدته آلاؤه، فصارت إلى أوّليّته نسبته، وبكرم سجيّته عصمته.
وفيه له: هذا أيد الله سيّدي يوم عظّمه السّلف من العجم، وسيّدي وارث سنّة الكرم، وللسادة على العبيد في هذا اليوم رسم في الإلطاف،
__________
(1) أي في النيروز.
(2) انظر الحاشية رقم 1ص 5من هذا الجزء.(9/49)
وعليها لهم حقّ في القبول والإسعاف، وقد بعثت بما حضر جاريا على سنّة الخدمة، وعادلا عن طريق الحشمة، ومقتصرا على ما اتّسعت له الحال، وما يوجبه قدر سيّدي من المبالغة في الاحتفال، فإن رأى أن يشرّف عبده بالاحتمال إليه، وإجرائه مجرى الأنس عنده، فعل، إن شاء الله تعالى.
وفيه للكرجيّ (1):
هذا يوم تسموله العجم، ويستعجم (2) في العرب، تشريفا له واعترافا بفضله، واقتداء بأهله، وأخذا بسنّتهم فيه، فليهن (3) لإحراز الدولة في العزّ [منزلا] بحيث لا يرام، ولا يضام، ولا ترقى إليه الأماني، ولا يطمع في مساواته المساوي، وإنّهم بعد تصرّم الدولة على حميد آثارها، وجميل الذّكر فيها، أعلام تضرب بهم الأمثال، وتزهو بأيّامهم الأيّام، وآثارهم تقتفى، وأعيادهم تنتظر، يتأهّب لها قبل الأوان، ويعرف فيها أثر الزمان، وإنك منهم في الذّروة السامية، والرّتبة العالية، وبمحلّ لا عار معه على حرّة في الخشوع لك، والتعلّق بحبلك. وقد وجدت الأتباع عند ساداتها في مثل هذا اليوم على عادة في الإلطاف جسّمتها، وسيّرت بها على أقوام منحتهم ظهور الدّعوى فيها، فأقبل قائلهم يقول: «لو كان باب الإهداء مفتوحا غير مسدود، ومباحا غير ممنوع، لأتحفت بالغراب الأعصم، والكبريت الأحمر، والأبلق العقوق، وبيض الأنوق». وقد بعثت بهديّة لا تردّ (يعني الدعاء).
وفيه: من كان محلّك من العزّ، ونباهة الذّكر، وارتفاع الدّرجة، وعلوّ
__________
(1) أغلب الظن أنه أبو العباس محمد بن علي بن أحمد، الأديب، نزيل نيسابور: تأدّب به جماعة، وأخذ الفقه عن الزبيري بالبصرة، وكانت وفاته في سنة 343هـ. انظر طبقات الشافعية (ج 2 ص 345).
(2) مراده أن العرب اتّبعت العجم في تعظيمه. حاشية الطبعة الأميرية.
(3) بلغ التحريف من هذا مبلغه حتى لا يكاد يفهم، والمراد أن دولة الفرس أحرزت من العزّ منزلا بحيث لا يرام الخ». حاشية الطبعة الأميرية.(9/50)
المنزلة، وسعة البلد، وبعد الأمد، لم يتقرّب متحلّ بالعلم والأدب إليه في يوم جديد إلّا بصالح الدّعاء، وحسن الثناء.
وفيه: لو أخّرنا هذا انتظارا لوجود ما تستحقّه، لانقضت أيّامنا، بل أعمارنا، قبل أن نقضي حقّا، أو نؤدّي عن أنفسنا فرضا لارتفاع قدرك عمّا تحويه أيدينا، وعلوّ حالك عما تبلغه آمالنا، وقد اقتديت بسنّة الخدم والأولياء في الأعياد، وأوضحت العذر في ترك الاجتهاد، وبعثت في هذا اليوم، الذي أسأل الله أن يعيده عليك ألف عام، في نماء من العز، وعلوّ من القدر، وتمام من السّرور، ومزيد من النّعمة
الصنف الثامن التهنئة بالمهرجان.
وهو أحد أعياد الفرس، على ما تقدّم ذكره في المقالة الأولى، في الكلام على أعياد الأمم. وكان للكتّاب من الاحتفال بالتهنئة به في أوائل الدولة العبّاسيّة مالهم بالنّيروز.
فيه (1) لأبي الحسين بن سعد:
لسيّدي عليّ في الأعياد المشهورة، والأيّام الجديدة، عادة اختزلني عن بعضها في هذا الفصل، كلال الطّبع عن البعض، ووقوع الخطر (؟) بعرضه من الثناء نظما ونثرا، ومن الإهداء عرضا وبرّا، دعاء تزيد قيمته على الأعلاق الثّمينة، وموقعه على الذخائر النّفيسة، ولطفه على التّحف البديعة، فأسعد الله سيدي بهذا اليوم سعادة تقيم، ولا تريم، وتزيد، ولا تبيد، وتتوطّن، ولا تظعن، وتجمع حظوظا من الخيرات، وفوائد من البركات، يتّصل سندها، ولا ينتهي أمدها، وأبقاه في أسبغ عزّ وأرفع رتبة وأرغد عيشة، مكنوفا بحراسة تقيه [وآله] عوادي الزمان، وتصرف عنهما طوارق الحدثان، ما طرد الليل النّهار، وطلع نجم وغار، وعلى ذلك أيد الله سيدي فإنّ الحرص على إقامة الرّسم والتطيّر
__________
(1) أي في المهرجان.(9/51)
من إضاعة الحقّ بعثاني على مراجعة القريحة، واستكداد الرّويّة، فأسعفا بما قبلته الضرورة، ولم أطع في إهدائه سلطان الحشمة، وفضل سيدي يتّسع لقبول الميسور، وتحسين القبيح، والله المعين على تأدية حقّه، والقيام بواجب فرضه.
وله فيه أيضا، إلى من منع أن تهدى إليه فيه هدية.
لو كنت فتحت باب الإلطاف، ونهجت إليه سبيلا، لتنازع أولياؤك قصب السّبق وتنافسوا في السّرف، فبان للمجتهد فضله، والتمس العذر في التقصير ملتمسه، وعمّت المنحة كافّتهم بما يظهر من مواقعهم، وينكشف من أحوالهم، لكنّك حظرت ذلك حظرا استوى فيه الفريقان في الحكم، وامتدّ فيه على ذوي الخلل السّتر، ولم تحظر الدّعاء، إذ حظرت الإهداء، فأنا أهديه ضرورة واختيارا، وإعلانا وإسرارا، فأسعدك الله بهذا العيد الجديد، الذي زاد بك في قدره، وشرّفه بأن جعلك من أربابه وولاة أمره.
أبو الفرج (1) البّبغاء:
هذا اليوم من غرر الدّهور المشهورة، وفضائل الأزمنة المذكورة، معظّم في العهد الكسرويّ، مستظرف في العصر العربيّ، باعث على عمارة المودّات، مخصوص بالانبساط في الملاطفات، ولست استزيده أيّده الله من برّ يوليه، ولا تطوّل إليّ يسديه غير إدخالي في جملة من بسطته الأنسة، وثقّفته المحبّة، وتقرّبت منه بوكيد الخدمة، في قبول ما إن شرّف بقبوله، كان كثيرا مع قلّته، جليلا مع نزارته، فإن رأى أن يقوّي منه ثقتي، ويقابل بقبول ما أنفذته رغبتي، فعل، إن شاء الله تعالى.
وله في مثله:
قد أطعت في الانبساط إليك دواعي الثّقة، وسلكت في التحرّم بك سبل
__________
(1) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 1ص 24.(9/52)
الأنسة، وتوصّلت بملاطفتك إلى حسم موادّ الحشمة، فاستشهدت على ثقتي بك فيما أنفذته بمفارقة الحفلة (1)، وكلف المكاثرة، فإن رأيت أن تكلني في تقبّله إلى سعة أخلاقك، وتسلك في ذلك أخصر طريق إلى ما أخطبه من مودّتك، وأزاحم عليه في إخائك، فعلت، إن شاء الله تعالى.
وله في مثله:
هذا اليوم أيد الله سيدي من أعياد المروّة، ومواسم الفتوّة، وأوطان السرور، ومحاسن الأزمنة والدّهور، بلّغه [الله] أمثاله في أنضر عيش وأسبغ سلامة، وأبسط قدرة، وأكمل مسرّة، وقد توثّبت إلى الاقتداء فيه بأدبه، والأخذ بمعرفة فروضه بمذهبه، وأطعت في الانبساط إليه دواعي الثّقة، وأنفذت ما اعتمدت في قبوله على مكاني منه، عائذا بالتقليل من كلف المكاثرة، ومستثقل الكلفة، فإن رأى أن يأتي فيما التمسته ما يناسب شرف طبعه، وسعة أخلاقه، فعل، إن شاء الله تعالى.
وله في مثله:
لو كانت الملاطفات بحسب الرّتب وقدر المنازل، لما انبسطت قدرة ولا اتسع مكان لما يستحقّه نبل محلّه، وواجبات رياسته، ولكنت من بين خدمه ضعيف المنّة عن خدمته في هذا اليوم السعيد، بلّغه الله أمثاله في أفسح أجل، وأنجح أمل، بما يخدمه به ذوو الخدمات الوكيدة عنده، المكينة لديه، غير أنّي أثق منه أيده الله بحمل قليلي على علمه بإخلاصي في ولائه، وانتسابي إلى جملته، واختلاطي بأنسابه، فإن رأى أن يجريني في قبول ذلك على سنّة أمثاله من ذوي الجلالة، عند أمثالي من الأولياء والحاشية، فعل.
وله في مثله:
لو كانت الهدايا لا تتقبّل ما لم تناسب في نفاسة القدر، وجلالة الذكر،
__________
(1) كذا في الأصل، ولعله: «الكلفة». حاشية الطبعة الأميرية.(9/53)
محلّ من يتقرّب بها إليه، ومنزلة من أهداها إليه عليه، لما سمت همّة، ولا اتّسعت قدرة، لما يستحقّه أيده الله بأيسر واجباته، وأصغر مفترضاته، غير أنّ الأنسة بتفضّله، والاعتداد بسالف تطوّله، والتحقّق بخدمته، والانتساب إلى جملته، بسطني إلى إنفاذ ما إن شرّفني بقبوله كان مع قلّته كثيرا، ومع نزارته جليلا، فإن رأى أن يقوّي بذلك منه ثقتي، ويحسم مادّة احتشامي، فعل.
أجوبة التهنئة بالمواسم والأعياد قال في «موادّ البيان» (1): هذه الكتب والرّقاع مضمونها الهناء بالموسم الجديد، والدعاء للمهنإ فيه بتملّيه. قال: وهذا المعنى مفاوض بين المهنّي والمهنّى، وينبغي أن تكون أجوبتها مشتقّة منها. ثم قال: وقد يتصرّف الكتّاب فيها إذا كاتبوا الرّؤساء تصرّفا يخرج عن هذا الحكم.
وهذه أمثلة من ذلك:
أبو الفرج الببغاء:
سمع الله دعاءك، وبدأ في تقبّل المسألة بك، وأجزل من أقسامه حظّك، وبلّغك أمثاله في أفسح مدد البقاء، وزاد فيما خوّلك من المواهب والنّعماء، ولا أخلاني من برّك، وأنهضني بواجباتك.
وله في مثله:
كلّ يوم أسعد فيه بمشاهدتك، وأقطعه في ظلّ مودّتك، حقيق بالإحماد، موف على محاسن الأعياد، فسمع الله دعاءك، وأطال ما شئت البقا بقاءك، وجعل سائر أيّامك مقرونة بالسّعادات، موصولة بتناصر البركات.
من زهر الربيع:
يخدم المجلس العالي جعل الله قدره على الأقدار ساميا، وجزيل نواله
__________
(1) انظر الحاشية رقم 1ص 3من هذا الجزء.(9/54)
على من هام به من العفاة هاميا، ونصره نصرا عزيزا، وأسكنه من حراسته حصنا حصينا وحرزا حريزا، ولا زالت الأيّام حالية الجيد بوجوده والأيدي تهشّ إلى تناول أياديه وجوده، وأخبار المكارم عنه مرويّة وإليه معزوّة، وآيات فضله وفضائله بكلّ لسان متلوّة.
وينهي إلى علمه ورود مشرّفته الّتي حلّت الأسماع عندما حلّت، وسمت عن الرّياض لمّا جلّيت عروس فضلها وجلّت، وزهت على زهورها، برقم سطورها، وطيب عرفها ونشرها، بما فاح من طيّها عند نشرها، وفائق حسنها وبهجتها، برائق براعة عبارتها، ومعاملتها بما يجب من فروض إكرامها والسّنن، والمشي في تبجيلها على الطريق المألوف من موالاته والسّنن، وعلمه بما أشار إليه من الهناء بالعيد، واليوم السعيد، وقد تحقّق بذلك إحسانه الذي ما برح متحقّقا بجميله وجزيله، وشاكرا لكثيره وقليله، وحصلت له البشرى، والمسرّة الكبرى، ليس للعيد بمفرده، ولا لهذا الهناء بمجرّده، بل لبقاء المولى ودوام سعادته، وتخليد سيادته، فإنّه لكلّ إنسان عين ولكلّ عين إنسان، وهو روح والأيّام والأنام جثمان، فالمملوك ببقائه كلّ يوم يتجدّد له عيد جديد، ويتضاعف له جدّ سعيد، حرس الله شرفه الرفيع من الأذى، وأراه في عين أعاديه جذعا ناتئا وسلّم لحظه المحروس من القذى، وأصار أيّامه كلّها أيام هناء، وبداية سعادته بغير حدّ وانتهاء.
الضرب السادس (التهنئة بالزواج والتسرّي) (1)
من كلام المتقدّمين:
أبو الفرج الببغاء:
__________
(1) التسرّي: اتّخاد سرّيّة يقال: تسرّى الرجل الجارية تسرّيا إذا أخذ سرّيّة، ويقال: نكحت سريّا أي نفيسا شريفا. لسان العرب ومحيط المحيط (سرا).(9/55)
وصل الله هذا الاتّصال السعيد، والعقد الحميد، بأحمد العواقب، وأجمل المنح والمواهب، وجعل شمل مسرّتك به ملتئما، وسبب أنسك بإقباله منتظما، وعرّفك به تعجّل البركات، وتناصر الخيرات، ولا أخلاك فيه من التّهاني بنجباء الأولاد، وكبت بكثرة عددك سائر الحسّاد، وهنأني النعمة الجليلة بإخائك، وعضّدني وسائر إخوانك ببقائك.
وله في مثله:
قرن الله بالخيرة ما عقدت وبالسعادة ما جدّدت، وبجميل العاقبة ما أفدت، وعرّفك بركات هذا الاتّصال، ولا أخلاك فيه من موادّ السعادة والإقبال، وعضّدك بالبررة من عقبك، والسادة من ذرّيّتك.
وله في مثله:
إنّي وإن كنت ملتحفا بلحف مودّتك، ومتمسّكا بعصم أخوّتك، أولى بالتهنئة بما يحدث لك من ورود نعمة، واتّصال موهبة، فإنّي ما أجد فرض الدعاء لك ساقطا، ولا واجب الشكر لله تعالى على ما أولاني فيك زائلا، فعرّفك الله بركة هذا الاتصال الحميد، والاقتران السّعيد، وجعله للسّرور مكثّرا، وباليمن مبشّرا، وأحياك للتهاني بمثله في السادة من ولدك، والنّجباء من ذرّيّتك.
وله في مثله:
وصل الله هذا الاتصال الميمون بأرجح البركات وأفضلها، وأنجح الطّلبات وأكملها، وأحمد بدأه وعقباه، وبلّغك الآمال في سائر ما تهواه، وأحياك للتّهاني بأمثاله في البررة من ولدك، والنّجباء من عقبك.
من كلام المتأخرين:
للشيخ شهاب الدين محمود (1) الحلبي:
جعل الله الخيرة له فيما يذره ويأتيه، والنجاح مقرونا بما يعيده من الأوامر
__________
(1) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 2ص 18من هذا الجزء.(9/56)
ويبديه، والألسنة شاكرة بما يوليه من الإنعام ويسديه. صدرت هذه الخدمة معربة عن ثناء تأرّج عرفه، وولاء أعجز الألسنة شرحه ووصفه، وتهنئة بهذه الوصلة المباركة جعلها الله للاتصال بالسعادة سببا، ومحصّلة من الخيرات مراما وافرا وأربا، وعرّفه بركة هذا العرس الذي أصبح الخير بفنائه معرّسا، ونور الشمس من ضياء بهجته مقتبسا، فنحمد الله على هذه الوصلة سرّا وجهرا، ونشكره أن جعل بينه وبين السّعد نسبا وصهرا، منح الله المولى الرّفاء والبنين، والعمر الذي يفني الأيام والسّنين، ورزقه إسعافا دائما وإسعادا، وأراه أولاد ألاده آباء بل أجدادا، إن شاء الله تعالى.
أجوبة التهنئة بالزّواج والتّسرّي قال في «موادّ البيان»: أجوبة هذه الرّقاع يجب أن تكون شكرا للمهنّي على العناية والاهتمام، و [مشتملة على] الإبانة عن موقع دعائه من التبرّك والتيمّن به، إلّا أن تكون البداية بمعنى يخرج عما هذا جوابه، فينبغي أن يجاب عنه بما يقتضي الإجابة عن ذلك.
الضرب السابع (من التّهاني التهنئة بالأولاد، وهو على ثلاثة أصناف)
الصنف الأوّل التهنئة بالبنين.
مما أورده أبو الحسين بن سعد في ترسّله:
إنّه ليس من نعم الله وفرائد قسمه وإن حسن موقعها، ولطف محلّها، نعمة تعدل النعمة في الولد، لنمائها في العدد، وزيادتها في قوّة العضد، وما يتعجّل من عظيم بهجتها، ويرجى من باقي ذكرها في الخلوف والأعقاب، ولا حق بركتها في الدعاء والاستغفار.
ومنه: إنّه ليس من النّعم نعمة تشبه النعمة في الولد، لزيادتها في قوّة العضد، وحسن موقعها في الخلف والعقب، واتصل بي خبر مولود فسرّني ما
وصل الله به من العارفة إليك، وشركتك في جميل الموهبة فيه شركة من له مالك وعليه ما عليك، وسألت الله أن يوزعك شكر النّعمة ويؤنس بهذا المولود ربعك، ويكثّر به عددك، ويعظّم بركته ويمن طائره عليك، ويزيد به في النعمة كذلك، ويفعل الله ذلك، بمنّه وطوله.(9/57)
ومنه: إنّه ليس من النّعم نعمة تشبه النعمة في الولد، لزيادتها في قوّة العضد، وحسن موقعها في الخلف والعقب، واتصل بي خبر مولود فسرّني ما
وصل الله به من العارفة إليك، وشركتك في جميل الموهبة فيه شركة من له مالك وعليه ما عليك، وسألت الله أن يوزعك شكر النّعمة ويؤنس بهذا المولود ربعك، ويكثّر به عددك، ويعظّم بركته ويمن طائره عليك، ويزيد به في النعمة كذلك، ويفعل الله ذلك، بمنّه وطوله.
وفيه لأبي الحسين بن سعد (1) إلى أبي مسلم (2) بن بحر يهنّئه بابن حدث له:
فأمّا ما جدّد الله من النعمة في القادم والموهوب لك ولدا وأنسا، ولنا سندا وذخرا، فقد جلّ قدر هذه الموهبة عن أن يحاط لها بوصف، أو يوفى لها بشكر.
وفيه لعلي بن خلف (3):
وينهي أنه اتّصل بالمملوك بزوغ نجم سعد في مشارق إقباله، مؤذن باتّساق سموّه وجلاله، فأحدث من الحلال والاستبشار بمقدمه، والتبرّك والتيمّن بقدمه، ما تلألأت على المملوك أنواره، وحسنت عنده آثاره، وسألت الله تعالى راغبا إليه في أن يعرّفه سعادة مولده، ويمن موفده، ويجعله شادّا لعضده، وموريا لزنده، ويشفعه والسادة السابقين، بنجباء متلاحقين، يتبلّجون في نطاق سعادته، ويتوسّمون في آفاق سيادته، ويصون سلكهم من الانفصام، وشملهم من الانهدام، ويبقيهم غررا في وجوه الأيّام، وأقمارا في صفحات الظّلام، بمنّه وفضله، إن شاء الله تعالى.
وفيه له: وينهي أنّ المملوك يشكر الله تعالى على ما أنزله عند مولانا من عوارفه، واختصّه به من لطائفه، شكر من شاركه في النعمة المسبغة عليه، وانتهى إليّ خبر السّند المتجدّد لمولانا، فطار المملوك بخوافي السّرور
__________
(1) انظر الحاشية رقم 1ص 5من هذا الجزء.
(2) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 1ص 41من هذا الجزء.
(3) انظر الحاشية رقم 1ص 3من هذا الجزء.(9/58)
ومقادمه، وأخذ من الابتهاج بأوفى قسمه، وسأل الله تعالى أن يبارك له في عطيّته، ويردفه بزيادته، ويوفّر عدده، ويشدّ بصالح الولد عضده، ويجنيه من هذا القادم ثمار المسرّة، ويري عينه منه أقرّ قرّة، ويشفع المنحة في موهبته بإطالة مدّته.
وفيه: وينهي أنّ أفضل النّعم موقعا، وأشرفها خطرا وموضعا، نعمة الله تعالى في الولد لزيادتها في العدد وقوّة العضد، وما يتعجّل من عظم جمالها وزينتها، ويرجى من حسن مآلها وعاقبتها، في حفظ النّسب والأصل، وحسن الخلافة على الأهل وجميل الذّكر والثّناء، ومتقبّل الاستغفار والدّعاء، وقد اتصل بالمملوك بزوغ هلال سماء المجد، ومتعلّق الإقبال والسّعد، فأشرقت الأيام بإشراقه، ووثقت الآمال باجتلائه واتّساقه، فقام المملوك عن مولانا بشكر هذه النعمة المتجدّدة، والموهبة الراهنة الخالدة، وهنّأت نفسي بها، وأخذت بحظّي منها، والله تعالى يعرّفه يمن المولود من أطهر والدة وأطيب والد، ويعمّر به منزله، ويؤنس ببقائه رحله، ويبلّغ محبّيه، من الآمال فيه، ما بلّغهم في الماجد أبيه، إن شاء الله تعالى.
وفيه: وينهي أنّ نعم الله تعالى وإن كانت على مولانا متظاهرة، ولديه متناصرة، فقد كان المملوك يرغب إلى الله تعالى في أن يجمّل الأيام من نسله، بمن يحفظ عليها شرف أصله، ويخلفه بعد العمر الطويل في نبله وكرم فعله، ولمّا اتّصل بالمملوك نبأ هذا الهلال البازغ في سمائه، المقرّ لعيون أوليائه، المخيّب لظنون أعدائه، حمدت الله تعالى على موهبته، وسألته إقرار نعمته، وأن يعرّف مولانا بركة قدمه، ويمن مقدمه، ويوفّر حظّه من زيادته، وسعادة وفادته، وأن يجعله برّا تقيّا، مباركا رضيّا، ويفسّح في أجله، ويبلّغه فيه أمله، إن شاء الله تعالى.
من كلام المتأخرين:
الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي (كامل)
هنّئت بالإسعاف والإسعاد ... ونفاذ أمر في العدا بنفاد
وبقيت ما بقي الزمان مهنّأ ... ووقيت شرّ شماتة الحسّاد
يا مالك الرّق الّذي أضحى لنا ... من جوده الأطواق في الأجياد
خلّدت في عيش هنيّ أخضر ... يسطو ببيض ظبا وسمر صعاد
حتّى يخاطبك الزمان مبشّرا: ... متعت بالإخوان والأولاد
جدّد الله في كلّ يوم له مسرّة وبشرى، وأطاب لعرفه عرفا ونشرا، وشدّ له بولده السعيد الطلعة أزرا وأسرا، وسرّى به الهموم عن القلوب وأصارها لديه أسرى، ورفع درجته إلى سماء المعالي ليقال: سبحان الذي بعبده أسرى.(9/59)
الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي (كامل)
هنّئت بالإسعاف والإسعاد ... ونفاذ أمر في العدا بنفاد
وبقيت ما بقي الزمان مهنّأ ... ووقيت شرّ شماتة الحسّاد
يا مالك الرّق الّذي أضحى لنا ... من جوده الأطواق في الأجياد
خلّدت في عيش هنيّ أخضر ... يسطو ببيض ظبا وسمر صعاد
حتّى يخاطبك الزمان مبشّرا: ... متعت بالإخوان والأولاد
جدّد الله في كلّ يوم له مسرّة وبشرى، وأطاب لعرفه عرفا ونشرا، وشدّ له بولده السعيد الطلعة أزرا وأسرا، وسرّى به الهموم عن القلوب وأصارها لديه أسرى، ورفع درجته إلى سماء المعالي ليقال: سبحان الذي بعبده أسرى.
المملوك يخدم المولى ويهنّيه ويشكره ويطلعه على ما حصل له من الابتهاج للسبب الذي ينهيه ويذكره، وهو أنه اتّصل به قدوم المسافر بل إسفار البدر، وظهور ميمون الغرّة الذي جاء لأهله بأمان من صروف الدّهر، وهو الولد العزيز الموفّق النّجيب، فلان، أبقاه الله تعالى ليحيا مشكورا محمودا، وأدام عزّه وعلاه، وأعلى نجمه وخلّد شرفه وبهاه، وضاعف سناءه وسناه، وأرانا منه ما أرانا من السعادة في أبيه، فسرّ وابتهج بهذه النعمة غاية السّرور والابتهاج، واتّضح له في شكر إحسان المولى وحسن ولده كلّ طريق ومنهاج، وسأل الله تعالى أن يطوّل له عمرا، ويجعله لإسعاد والده وإسعافه ذخرا، ليرتعا في رياض الدّعة في صحّة وسلامة، ويجعلا في فناء العلا لهما دار إقامة، ويبلغا من السعادة درجة لا تريم عالية ولا ترام، وتخضع لهما اللّيالي والأيّام، ويرشقاهما بسهام الصّروف ويطعناهما بأسنّتها، ويفهما دعاء الأيّام لهما من صدورها ويسمعاه من ألسنتها، مخاطبة لأبيه، ومنشدة لسائر أهله ومحبّيه (رجز) مدّ لك الله الحياة مدّا ... حتّى ترى نجلك هذا جدّا
الصنف الثاني التهنئة بالبنات.
من كلام المتقدّمين:
أبو الحسين بن سعد:
النّعمة نعمتان، إحداهما تعجّل الأنس، والأخرى تدّخر الأجر، وعلى حسب ما تتلقّى به من الشّكر على ظاهر المحبوب، والتّسليم فيما يجري مجرى بعض المكروه، يكون المتاع عاجلا، والثواب آجلا، وما قدّمت القول [إلّا] لما ظننته يعرض لك من الوجوم في هذه الموهبة، في المولودة الّتي أرجو أن يعظّم الله بركتها، ويجعلها أيمن مولود في عصرها، ودالّة على سعادة أبيها وجّدها، و [لئن] كان في الطبع حبّ الذّكور والشّعف بالبنين، فإنّ البنين من البنات، وهنّ باليمن معروفات، وبالبركات موصوفات، وبالذّكور في أثرهنّ مبشّرات، فهنأك الله النّعمة فيها تهنئة لا تنقضي سعادتها، ولا يعترض النقص والتقدير (1) شيئا منها، وأبقى هذه الصبيّة ممتّعا أبوها بها، ومنشأ له الحظّ من حداثتها، وبلّغها أفضل مبالغ الصالحات القانتات من أمّهاتها، وجعل في مولدها أصدق دليل على طول عمر أبيها وسعادة جدّة، وتضاعف نعم الله عنده، إنه لطيف جواد.(9/60)
أبو الحسين بن سعد:
النّعمة نعمتان، إحداهما تعجّل الأنس، والأخرى تدّخر الأجر، وعلى حسب ما تتلقّى به من الشّكر على ظاهر المحبوب، والتّسليم فيما يجري مجرى بعض المكروه، يكون المتاع عاجلا، والثواب آجلا، وما قدّمت القول [إلّا] لما ظننته يعرض لك من الوجوم في هذه الموهبة، في المولودة الّتي أرجو أن يعظّم الله بركتها، ويجعلها أيمن مولود في عصرها، ودالّة على سعادة أبيها وجّدها، و [لئن] كان في الطبع حبّ الذّكور والشّعف بالبنين، فإنّ البنين من البنات، وهنّ باليمن معروفات، وبالبركات موصوفات، وبالذّكور في أثرهنّ مبشّرات، فهنأك الله النّعمة فيها تهنئة لا تنقضي سعادتها، ولا يعترض النقص والتقدير (1) شيئا منها، وأبقى هذه الصبيّة ممتّعا أبوها بها، ومنشأ له الحظّ من حداثتها، وبلّغها أفضل مبالغ الصالحات القانتات من أمّهاتها، وجعل في مولدها أصدق دليل على طول عمر أبيها وسعادة جدّة، وتضاعف نعم الله عنده، إنه لطيف جواد.
أبو مسلم (2) محمد بن بحر:
مرحبا ببكر النّساء، وبكر الأولاد، وعقيلة الخباء، والمأمولة للبركة، والمشهورة باليمن، وقد جرّبناه فوجدناه معهودا مسعودا، والله يعرّفك أضعاف ما عرّف من قبلك، ويبارك لك فيما رزقك، ويثنّي لك بأخ للمولودة ويجعله رديفها، وفي الخير قرينها وشريكها.
عليّ (3) بن خلف.
وينهي أنّ المملوك اتّصل به ارتماض (4) مولانا بمقدم الكريمة الوافدة،
__________
(1) التقدير: التضييق يقال: قدر عليه الشيء يقدره ويقدره قدرا وقدّره: ضيّقه. لسان العرب والقاموس المحيط، مادة (قدر).
(2) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 1ص 41من هذا الجزء.
(3) انظر الحاشية رقم 1ص 3من هذا الجزء.
(4) الارتماض: القلق يقال: ارتمض الرجل من كذا أي اشتدّ عليه وأقلقه. لسان العرب (رمض).(9/61)
بطالع السّعادة المتجدّدة، فعجب المملوك من وقوع ذلك من مثل مولانا مع كمال نبله، وشرف عقله وعلمه، فإنّ الله تعالى جلّ اسمه يقول: {يَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ إِنََاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ الذُّكُورَ} (1) وإنّ ما جدّده الله تعالى من مواهبه جدير أن يتلقّى بالسّرور والفرح، لا بالاستياء والتّرح، لا سيّما والذّكر إنما يتفصل على الأنثى بنجابته، لا بحليته وصورته، وقد يقع في الإناث من هو أشرف من الذكور طبعا، وأجزل عائدة ونفعا، وقد روي أنّ رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إذا رزق العبد الأنثى نادى مناد من السماء: يا أهل الدار، أبشروا بالرّزق، وإذا رزق ذكرا نادى مناد من السماء: يا أهل الدار، أبشروا بالعزّ» فليستقبل مولانا الرّزق بالشّكر فإنّ العزّ يتبعه، ولا يعارض الله تعالى في إرادته، ولا يستقلّ شيئا من هبته، والله تعالى يعرّفه يمن عهودها، وسعادة قدومها، وأن يسرّه بعدها بإخوة متتابعين متلاحقين، يؤيّدون أمره، ويحيون بعد العمر الأطول ذكره.
أبو الفرج الببغاء:
لو كان الإنسان متصرّفا في أمره بإرادته، قادرا على إدراك مشيئته، لبطلت دلائل القدرة، واستحالت حقائق الصّنعة، ودرست معالم الآمال، وتساوى الناس ببلوغ الأحوال، غير أنّ الأمر لمّا كان بغير مشيئته مصنوعا، وعلى ما عنه ظهر في الابتداء مطبوعا، كان المخرج له إلى الوجود من العدم، فيما ارتضاه له غير متّهم، ومولانا أيده الله مع كمال فضله، وتناهي عقله، وحدّة فطنته، وثاقب معرفته، أجلّ من أن يجهل مواقع النّعم الواردة من الله تعالى عليه، أو يتسخّط مواهبه الصادرة إليه، فيرمقها بنواظر الكفر، ويسلك بها غير مذاهب الشكر.
وقد اتّصل بالمملوك خبر المولودة كرّم الله غرّتها، وأطال مدّتها، وعرّف مولانا البركة بها، وبلّغه أمله فيها، وما كان من تغيّره عند اتّضاح الخبر، وإنكار
__________
(1) سورة الشورى 42، الآية 49.(9/62)
ما أختاره له سابق القدر، فعجب المملوك من ذلك واستنكره، من مولانا وأنكره، لضيق العذر في مثله عليه. وقد علم مولانا أنّهن أقرب إلى القلوب، وأنّ الله تعالى بدأ بهنّ في الترتيب فقال جلّ من قائل: {يَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ إِنََاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ الذُّكُورَ} (1) وما سمّاه الله هبة فهو بالشّكر أولى، وبحسن التقبّل أحرى، ولكم نسب أفدن، وشرف استحدثن، من طرق الأصهار، والاتّصال بالأخيار، والملتمس من الذّكر نجابته، لا صورته وولادته، ولكم ذكر الأنثى أكرم منه طبعا، وأظهر منه نفعا، فمولانا يصوّر الحال بصورتها، ويجدّد الشّكر على ما وهب منها، ويستأنف الاعتراف له تعالى بما هو الأشبه ببصيرته، والأولى بمثله، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثالث التهنئة بالتّوءم.
أحسن ما رأيت من ذلك قول بعض الشّعراء مما كتب به إلى بعض أصحابه، وقد ولد له ذكر وأنثى من جارية سوداء، وهو قوله (طويل) وخصّك ربّ العرش منها بتوءم ... ومن ظلمات البحر تستخرج الدّرر
وابرك أضحى وارثا علم جابر (2) ... فأعطاك من ألقابه الشّمس والقمر
الأجوبة عن التهنئة بالأولاد قال في «موادّ البيان»: أجوبة هذه الرّقاع يجب أن تبنى على شكر اهتمام المهنّيء ورعايته، والاعتداد بعنايته، وأنّ الزيادة في تجدّد المهنّى [به]
__________
(1) سورة الشورى 42، الآية 49.
(2) هو العالم أبو موسى جابر بن حيّان بن عبد الله الكوفي المعروف بالصوفي، صاحب المصنّفات الكثيرة في الكيمياء والمنطق والفلسفة، ككتاب القمر، وكتاب الشمس، وكتاب تليين الحجارة، وكتاب أسرار الكيمياء، وكتاب أصول الكيمياء، وكتاب مصححات سقراط، وكتاب اللاهوت.
توفي في حدود التسعين والماية، وقيل: سنة 200هـ. انظر الفهرست ص 423420، وفوات الوفيات (ج 1ص 275)، والأعلام (ج 2ص 104103) وتاريخ العلوم عند العرب ص 116 117.(9/63)
زيادة في عدده، وأن نصيبه من تحرّك السرور فيما يخلص إليه من المواهب كنصيبه لتناسبهما في الإخاء، وتوافيهما في الصّفاء، وأن تراعى مع ذلك مرتبة المهنّي والمهنّى، ويبنى الخطاب على ما يقتضيه كلّ منهما.
وهذا مثال من ذلك:
زهر الربيع:
وينهي ورود الكتاب الذي تشرّف المملوك بوروده، وأشرقت الأيّام بكمال سعوده، وأرغم ببلاغته معطس مناويه وحسوده، فشكر أيادي من أنعم بإرساله، واكتسى بالوقوف عليه حلّة من حلل فخره وجماله، وبالغ في إكماله، حتّى وقف إجلالا له بين يديه، ثم تلا آيات حسنه على أذنيه، فوجده مشتملا على إحسان لم يسبقه إلى مثله أحد، ومنن أودعها فيه فلا يحصيها حصر ولا عدد، فهيّج بوروده رسيس الأشواق، وتقلّد بإنعام مرسله كما قلّدت الحمائم بالأطواق، ووجد لوعة لا يحسن وصفها لسان اليراع في الأوراق، وعلم ما أشار إليه المولى من التهنئة بالولد الجديد، بل بأصغر الخدم والعبيد، وما أبداه من الابتهاج لميلاده وأظهره من التفضّل المعروف من آبائه الكرام وأجداده، ولم لا يكون الأمر كذلك والوالد مملوكه؟ وهو مملوك السادة الأجلّاء أولاده، حرس الله مجده ومتّعه بثوب مكارمه، وخفض قدر محاربه ورفع كلمة مسالمه، ولا زال مماليكه تتزيد تزيّد الأيّام وسعادته باقية بقاء الأعوام، وعين العناية تحرسه في حالتي السفر والمقام، إن شاء الله تعالى.
الضرب الثامن (من التهاني التهنئة بالإبلال من المرض والعافية من السّقم)
فمن ذلك:
وينهي أنه ما زالت أجسام أهل التّصافي، تشترك في الأسقام والعوافي، كما تشترك أنفسهم في التخلّص والتّوافي، ولمّا ألم بمولانا هذا الألم الذي تفضّل الله تعالى بإماطته، ومنّ فيه على السّؤدد بحراسة مولانا وحياطته، فرأيته
حالّا في جوارحي، محرقا لجوانحي، ممازجا لأعضائي، متملّكا لأنوائي (1).(9/64)
وينهي أنه ما زالت أجسام أهل التّصافي، تشترك في الأسقام والعوافي، كما تشترك أنفسهم في التخلّص والتّوافي، ولمّا ألم بمولانا هذا الألم الذي تفضّل الله تعالى بإماطته، ومنّ فيه على السّؤدد بحراسة مولانا وحياطته، فرأيته
حالّا في جوارحي، محرقا لجوانحي، ممازجا لأعضائي، متملّكا لأنوائي (1).
ولئن كنت قد تحمّلت من ذلك عبّا، وارتقيت من تحمّله مرتقى صعبا، فلقد فخرت بمماسّته، وأحمدت طبعي على مشاكلته، وشكرت الله تعالى إذ جعلني شعبة من سرحته، وجبلّة من طينته، وعلى ما سرّ به من إقالته وإنعاشه، ومصافاته وإبشاشه، وسألت الله تعالى أن يبقيه نورا يوضّح مغرب الدّهر ومشرقه، ودرّا يرصّع فود المجد ومفرقه، ويحسن الدّفاع عن حوبائه (2) وهو سبحانه يجيب ذلك ويتقبّله، ويرفعه ويسمعه، إن شاء الله تعالى.
وله في مثله:
المملوك يهنّيء مولاه خاصّة إذ جعله الله تعالى من صفوة أوليائه، وخالصة أحبّائه، الذين يبتليهم اختبارا، وينتابهم اختيارا ليجمع لهم بين تمحيص وزرهم، ومضاعفة أجرهم، والحضّ على طاعته، والانصراف عن معصيته، ويهنّيء الكافّة عامّة بالموهبة في نوره المطلعة لأمل الإقبال، المروية لماحل الآمال، ثم أعطف على حمد الله على ما منّ به من إبلاله، ويسّره من استقلاله، والرّغبة إليه في أن يمنحه صحة تخلّد وتقيم، وعافية ترهن ولا تريم، وأن يحميه من عوارض الأسقام، ويصونه من حوادث الأيّام، بفضله وجوده، إن شاء الله تعالى.
أبو الفرج الببغاء:
أفضل ما يفزع إليه العبد المخلص، والمولى المتخصّص، فيما ينوب سيّده ويهمّ وليّ نعمته، الدعاء المقترن بصدق النية، وصفاء الطويّة [فالحمد لله الذي منّ بالصحّة وتصدّق بالإقالة، وتدارك بجميل المدافعة، وعمّ سائر خدمه أيّده الله بالنّعمة، وأعاده إلى أجمل عاداته من السلامة والصّحّة، فائزا بمدّخر
__________
(1) كذا في الأصل، ولعله: «لأحشائي» أو نحو ذلك. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) الحوباء: النفس، والجمع حوباوات. القاموس المحيط (حوب).(9/65)
الأجر، متعبّدا بمستأنف الشّكر، فلا أخلاه الله من زيادة فيما يوليه، ولا قصدنا بسماع سوء فيه، وحرس من الغير مهجته، ومن المحذور نعمته.
وله في مثله:
ما كنت أعلم أنّ عافيتي مقرونة بعافيتك ولا سلامتي مضافة لسلامتك، إلى أن تحقّقت ذلك من مشاركتي إيّاك في حالتي الألم والصّحّة، والمرض والمحنة، فالحمد لله الذي شرّف طبعي بمناسبتك وجمّل خلقي بملاءمتك، فيما ساء وسرّ، وإيّاه تعالى أشكر على ما خصّني به من كمال غافيتك، وسبوغ سلامتك وسرعة إقالتك، وبه جلّ اسمه أثق في مزيدك من تظاهر النّعم، وتوفّر القسم.
وله في مثله:
ولولا أنّ متضمّن كتابك قرن ذكر المرض الهاجم عليك، بذكر ما وهبه الله لك من عود السلامة إليك، لما اقتصر بي القلق على [ما] دون المسير نحوك، والمبادرة لمشاهدتك، غير أنّ السّكون إلى ما أدّاه كتابك سابق الجزع، والطّمأنينة إلى ما وهبه الله من كفايتك حالت دون الهلع، فالحمد لله الذي منّ بالإقالة، وتصدّق بالسّلامة وعمّ بالكفاية، وهو وليّ حراستك وحراستي فيك.
وله في مثله:
سيّدنا في سائر ما يذكّره الله من هجوم ألم مؤذن بصحّة، واعتراض محنة مؤدّية إلى منحة، مرموق بالعافية، محروس من الله جلّ اسمه بالحفظ والكلاءة، فهو مع العلة فائز بذخائر الأجر، ومع العافية موفّق لاستزادة الشّكر، فالحمد لله الذي عقد الكرم ببقائه، وشفى مرض الآمال بشفائه، وكفاه اعتراض المخوف، وعوارض الصّروف.
وله في مثله:
ما انفرد جسمك بالعلّة دون قلبي، ولا اختصّت نفسك حرسها الله تعالى بمعاناة المرض دون نفسي، ولم أزل بالقلب تاليا، وفي سائر ما شكوته
بالنّيّة مساويا، إلى أن كشف الله الغمّة، وأقال العثرة، ونفّس الكربة، ومنّ بالسلامة، وتصدّق بالكفاية، وأوجب بالعافية علينا جميعا فروض الشكر، بعد ما ادّخره لك بالألم من كثرة الأجر، فالحمد لله على ذلك حمدا يؤدّي إلى حراسة ما خوّلك، ويؤذن بالمزيد فيما منحك.(9/66)
ما انفرد جسمك بالعلّة دون قلبي، ولا اختصّت نفسك حرسها الله تعالى بمعاناة المرض دون نفسي، ولم أزل بالقلب تاليا، وفي سائر ما شكوته
بالنّيّة مساويا، إلى أن كشف الله الغمّة، وأقال العثرة، ونفّس الكربة، ومنّ بالسلامة، وتصدّق بالكفاية، وأوجب بالعافية علينا جميعا فروض الشكر، بعد ما ادّخره لك بالألم من كثرة الأجر، فالحمد لله على ذلك حمدا يؤدّي إلى حراسة ما خوّلك، ويؤذن بالمزيد فيما منحك.
ومن كلام المتأخرين:
أعلى الله قدر الجناب الفلاني، ولا زالت شموس أيامه لا تخاف كسوفا ولا أفولا، وأقمار لياليه تغرس في قلوب أوليائه ومحبّيه فروعا وأصولا.
المملوك يخدم خدمة من تحمّل جميلا، ونال من تفضّل الجناب (1)
الكريم جزيلا.
وينهي ما حصل له من السّرور بعافية مولانا، فالشكر لله على ما جدّد من النّعمة التامّة، وسمح به من الكرامة العامّة، حين أعاد البدر إلى كماله، والسّرور إلى أتمّ أحواله، وما كانت إلّا غلطة من الدّهر فاستدركها، وصفقة خارجة عن يده فملّكها، فقرّت بذلك العيون، وتحقّقت في بلوغ الأمل الظّنون وانجبر قلبه بعد ما وهن، وعاد جفنه بعد الأرق إلى الوسن وقال: {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} (2) ولقد كان يتمنّى المملوك لو فاز من الرّؤية الشريفة بحظّ السمع والبصر، وتملّى بمشاهدة وجهه الكريم فإنّ فيه البغية والوطر (3).
والمملوك فما يعدّ نفسه إلّا من المحبين الذين بذلوا نفوسهم لمحبته وأعدّوها، والله تعالى يسرّ الأولياء بتضاعف سعوده، ويديم بهجة الأيّام بميمون وجوده، ويطيل في مدّته ويحرسها من الغير، ويحرس أحوال مزاجه الكريم على
__________
(1) الجناب لقب من الألقاب الإسلامية الديوانية، ويأتي في الدرجة الثانية بعد «المقرّ». ومرتبة الجناب الكريم مستعملة في السلطانيّات وما يكتب عن النواب. انظر ج 6من هذا الجزء ص 133، 149146.
(2) سورة فاطر 35، الآية 34.
(3) الوطر: الحاجة.(9/67)