نصب الاعتزال من كل مؤانس، ودرأة (1) الألسن الشامتة، وفّقك الله فأحسن.
الأسلوب الثاني (أن يفتتح الكتاب بلفظ «أمّا بعد»)
وهو على ما تقدّم خلا الابتداء والتصدير بالسلام والتحميد، ويكون الافتتاح فيه بالمقصد، كما كتب أمير المؤمنين عثمان بن عفّان إلى عليّ بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، حين خرج عليّ إلى الينبع (2) واختلف الناس على عثمان.
أما بعد، فقد بلغ السّيل (3) الزّبى [وجاوز (4)] الحزام الطّبيين، وطمع فيّ كلّ من كان يضعف [عن الدفع (5)] عن نفسه، ولم يغلبك مثل مغلّب، فأقبل إليّ صديقا كنت أو عدوّا: (طويل) فإن كنت مأكولا، فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولمّا أمزّق (6)
__________
(1) لعله دريئة، وهي الحلقة التي يتعلم عليها الطعن. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) ينبع، بفتح الياء وسكن النون وضم الباء والعين: هي حصن به نخيل وماء وزرع، وبها وقوف لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. قيل: تقع بين مكة والمدينة، أخذ اسمه من الفعل المضارع لكثرة ينابيعه، معجم البلدان (ج 5ص 450449).
(3) بلغ السيل الزبى: مثل يضرب لما جاوز الحدّ. والزبى: ج زبية، وهي حفرة تحفر للأسد إذا أرادوا صيده، وأصلها الرابية لا يعلوها الماء، فإذا بلغها السيل كان جارفا مجحفا، أنظر مجمع الأمثال للميداني (ج 1ص 91) تحت رقم 436.
(4) الزيادة من مجمع الأمثال للميداني (ج 1ص 166) ضمن المثل رقم 871. قال الميداني: إن عثمان بن عفان لما حوصر كتب إلى علي رضي الله عنه: «أما بعد، فإن السيل قد بلغ الزبى، وجاوز الحزام الطبيين وتجاوز الأمر بي قدره، وطمع في من لا يدفع عن نفسه» وجاوز الحزام الطبيين» مثل يضرب عند بلوغ الشدة منتهاها. والطبي للحافر والسباع. كالضرع لغيرها.
(5) الزيادة عن ضوء الصبح للمؤلف انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(6) البيت من أبيات للممزّق العبدي قالها لعمرو بن هند وتمثّل بها عثمان بن عفّان في كتابه إلى علي بن أبي طالب يوم الدار. وقد وردت جميعها في العقد الفريد (ج 2ص 164163) وورد البيت وحده في العقد الفريد (ج 4ص 310).(6/375)
الطرف الثاني (في الكتب الصادرة عن خلفاء بني أميّة)
وهي على ما تقدّم من الكتب عن الخلفاء من الصحابة في التصدير والتعبير، إلا أنه يعبّر عن الخليفة بأمير المؤمنين، وربما عبّر عنه بلفظ الإفراد، مثل: فعلت وأفعل وما أشبه ذلك أما الخطاب للمكتوب له، فبكاف الخطاب وتاء المخاطب مثل، إنك أنت قلت كذا، وفعلت كذا، وما أشبه ذلك.
وعنوانها: «من عبد الله فلان أمير المؤمنين» في الجانب الأيمن، ثم «إلى فلان الفلانيّ» في الجانب الأيسر.
ثم هي على أسلوبين:
الأسلوب الأوّل (أن يفتتح الكتاب بلفظ «من عبد الله فلان أمير المؤمنين إلى فلان»)
كما كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجّاج بن يوسف وقد بلغه تعرّضه لأنس بن مالك رضي الله عنه «من عبد الله عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى الحجّاج بن يوسف.
أما بعد، فإنّك عبد علت (1) بك الأمور فطغيت، وعلوت فيها حتّى جزت حدّ قدرك، وعدوت طورك. وايم (2) الله لأغمزنّك كبعض غمزات اللّيوث الثّعالب، ولأركضنّك ركضة تدخل منها في وجعاء أمّك! أذكر مكاسب آبائك في الطائف، إذا كانوا ينقلون الحجارة على أعناقهم، ويحفرون الآبار والمناهر (3)
بأيديهم، قد نسيت ما كنت عليه أنت وآباؤك من الدّناءة واللّوم والضّراعة. وقد بلغ أمير المؤمنين استطالة منك على أنس بن مالك جرأة منك على أمير
__________
(1) في مفتاح الأفكار ص 181: «طمت» وهي أقرب إلى المعنى. أنظر حاشية الطبعة الأميرية.
(2) أيم الله: بفتح الهمزة وكسرها، قسم.
(3) المناهر: ج منهر، وهو موضع في النهر يحتفره الماء، وشق في الحصن نافذ يجري منه ماء.(6/376)
المؤمنين، وغرّة بمعرفة غيره ونقماته وسطواته على من خالف سبيله، وعمد إلى غير محجّته، ونزل عند سخطته، وأظنّك أردت أن تروزه (1). بها فتعلم ما عنده من التغيير والتنكير فيها، فإن سوّغتها مضيت قدما، وإن غصصت بها ولّيت دبرا أيها (2) العبد الأخفش العينين، الأصكّ الرجلين، الممسوح الجاعرتين (3)، ولن يخفى عن أمير المؤمنين نبؤك، ولكلّ نبأ مستقرّ وسوف تعلمون.
الأسلوب الثاني (أن يفتتح الكتاب بلفظ «أما بعد» ويقع الشروع منه في المقصد)
كما كتب يزيد بن معاوية إلى أهل المدينة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة والسّلام، والتحية والإكرام وقد بلغه خلافهم عليه.
«أما بعد، فإنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مردّ له وما لهم من دونه من وال. إنّي والله قد لبستكم فأخلقتكم! ورفعتكم على رأسي، ثم على عيني، ثم على فمي، ثم على بطني، وايم الله لئن وضعتكم تحت قدمي لأطأنّكم وطأة أقلّ بها عددكم، وأترككم بها أحاديث تنسخ منها أخباركم كأخبار عاد (4) وثمود».
وكما كتب عمر بن عبد العزيز إلى عديّ بن أرطاة، وهو عامله على بعض النواحي:
«أما بعد، فإذا أمكنتك القدرة على المخلوق، فاذكر قدرة الخالق عليك! واعلم أنّ مالك عند الله مثل ما للرّعيّة عندك».
__________
(1) أي أن تختبره لتعلم ما عنده.
(2) في مفتاح الأفكار: «فعليك لعنة الله من عبد أخفش» الخ. أنظر حاشية الطبعة الأميرية.
(3) الجاعرتان: مثنّى الجاعرة، وهي الاست أو حلقة الدبر، والجمع جواعر.
(4) هما قبيلتان أطلق عليهما لفظ الأب فالأول هو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السّلام، والثاني هو ثمود بن جاثر بن ارم بن سام بن نوح عليه السّلام، وهما من العرب العاربة، أنظر جمهرة أنساب العرب ص 9، 462، وقلائد الجمان للقلقشندي ص 13، 19، 22، 37. وقد ورد ذكر عاد وثمود في القرآن الكريم: ({وَإِلى ََ عََادٍ أَخََاهُمْ هُوداً} *) {وَإِلى ََ ثَمُودَ أَخََاهُمْ صََالِحاً} * سورة الأعراف 7، الآيتان 65و 73.(6/377)
وكما كتب يزيد بن الوليد المعروف بالناقص إلى مروان بن محمد وقد بلغه عنه تلكّؤ في بيعته:
«أما بعد، فإنّي أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى، فإذا أتاك كتابي فاعتمد على أيّهما شئت والسّلام».
قلت: ولم يزل الأمر في المكاتبات في الدولة الأمويّة جاريا على سنن السّلف، إلى أن ولي الوليد بن عبد الملك، فجوّد القراطيس، وجلّل الخطوط، وفخّم المكاتبات، وتبعه من بعده من الخلفاء على ذلك، إلا عمر بن عبد العزيز، ويزيد بن الوليد المقدّم ذكره، فإنهما جريا في ذلك على طريقة السلف. ثم جرى الأمر بعدهما على ما سنّه الوليد بن عبد الملك، إلى أن صار الأمر إلى مروان بن محمد آخر خلفائهم، وكتب له عبد الحميد (1) بن يحيى وكان من اللّسن والبلاغة على ما اشتهر ذكره فأطال الكتب وأطنب فيها، حيث اقتضى الحال تطويلها والإطناب فيها، حتّى يقال: إنه كتب كتابا عن الخليفة جاء وقر جمل، واستمر ذلك فيما بعده.
الطرف الثالث (في الكتب الصادرة عن خلفاء بني العبّاس ببغداد وولاة العهد بالخلافة، وفيه ثلاث جمل)
الجملة الأولى (في بيان ترتيب كتبهم في الرسائل على سبيل الإجمال)
كانوا يفتتحون أكثر كتبهم بلفظ «من فلان إلى فلان» وتارة ب «أما بعد»
__________
(1) هو عبد الحميد الكاتب البليغ المشهور، وضرب به المثل في البلاغة حتى قيل: فتحت الرسائل بعبد الحميد وختمت بابن العميد، كان إماما في الكتابة وفي كل فن من العلم والأدب. وهو أول من استعمل التحميدات في فصول الكتب. كان كاتب مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية. قتل مع مروان سنة 132هـ بالديار المصرية. أنظر وفيات الأعيان (ج 3ص 232228) والأعلام (ج 3 ص 290289).(6/378)
وربما افتتحوها بغير ذلك. فأما افتتاحها بلفظ من فلان إلى فلان فكان يكتب عنهم في أوّل دولتهم كما كان يكتب عن خلفاء بني أميّة، وهو «من عبد الله فلان أمير المؤمنين، سلام عليك، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو» ثم يتخلّص إلى المقصود بلفظ أما بعد. إلا أنهم زادوا بعد اسم الخليفة لفظ «الإمام الفلاني» بلقب الخلافة، فكان يقال: «من عبد الله الإمام الفلاني أمير المؤمنين» فلما صارت الخلافة إلى الرشيد زاد بعد التحميد «ويسأله أن يصلّي على محمد عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم» فلما ولّي ابنه الأمين اكتنى في كتبه وتبعه من بعده من الخلفاء على ذلك.
وقد اختلف في تقديم الاسم والكنية واللّقب، والذي رتّبه أبو جعفر النحاس في «صناعة الكتّاب» تقديم الاسم على الكنية وتقديم الكنية على اللقب، مثل أن يقال: «من عبد الله فلان أبي فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين» ثم قال: وهذه المكاتبة هي التي اصطلح عليها في الأمور السلطانية التي تنشأ بها الكتب من الدواوين، إلا أن بعض العلماء قد خالفهم في هذا، وقال: الأولى أن يبدأ باللقب، مثل أن يقال «من الراضي» أو «المتوكل» وما أشبه ذلك، كما قال الله جل وعز: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللََّهِ} [1] وذلك لأن اللقب لا يشاركه فيه غيره، فكان أولى أن يبدأ به.
وترتيب المكاتبة على ما ذكره في «صناعة الكتّاب» أن يكتب: «من عبد الله فلان أبي فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين، سلام عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلّي على محمد عبده ورسوله». ثم يفصل ببياض يسير، ويكتب «أما بعد فإن كذا وكذا» ثم يأتي على المعنى، فإذا فرغ من ذلك وأراد أن يأمر بأمر، فصل ببياض يسير، ثم يكتب: «وقد أمر أمير المؤمنين بكذا ورأى أن يكتب إليك بكذا»، فيؤمر بامتثال ما أمر به والعمل بحسبه، ثم يفصل ببياض ويكتب: فاعلم ذلك من رأي أمير
__________
(1) سورة النساء 4، الآية 171.(6/379)
المؤمنين، واعمل به، إن شاء الله تعالى. «وكتب فلان بن فلان» باسم الوزير واسم أبيه، يوم كذا، من شهر كذا، من سنة كذا. وقد يكتب في أواخر المكاتبة بعد استيفاء المقصد: «هذه مناجاة أمير المؤمنين لك» أو «هذه مفاوضة أمير المؤمنين لك».
ويقال في السّلام على أعلى الطبقات من المكتوب إليهم «والسّلام عليك ورحمة الله» وربما قيل: «ورحمة الله وبركاته».
وأما افتتاحها بلفظ «أما بعد»، فغالب ما يقع في الكتب المطلقة، كالبشرى بالفتوح وغيرها. ثم تارة يعقّب البعدية بالحمد لله، إما مرة أو أكثر، وغالب ما يكون ثلاث، وتارة يعقّب بغير الحمد.
وأما الافتتاح بغير هذين الافتتاحين، فتارة يكون بالدعاء، وتارة يكون بغيره، ويكون التعبير عن الخليفة في كتبه الصادرة عنه «بأمير المؤمنين» على ما تقدّم في خلافة بني أميّة.
ثم إن كان المكتوب إليه معيّنا، فالذي كان عليه الحال في أوّل دولتهم أن يكتب إليه باسمه، ثم لما تغلب بنو بويه على الخلفاء وغلبوا عليهم، وعلت كلمتهم في الدولة وتلقّبوا بفلان الدّولة وفلان الملّة، فكان يكتب إليهم بذلك في الكتب إليهم. ثم لما كانت الدولة السّلجوقيّة في أواخر الدولة العباسية ببغداد، استعملوا كثرة الألقاب للمكتوب إليه عن الخليفة في صدر المكاتبة. قال في «موادّ البيان»: ولا يخاطب أحد عن الخليفة إلا بالكاف. وقد يخاطب الإمام وزيره في المكاتبة الخاصة بما يرفعه فيه عن خطاب المكاتبة العامّة الديوانية، ويتصرّف في ذلك ويزاد وينقص على حسب لطافة محل الوزير ومنزلته من الفضل والجلالة.
قال في «ذخيرة الكتاب»: ويكون الدعاء من الخليفة لمن يكاتبه على
قدر موضعه في خدمته ومحلّه عنده، وقد تقدّم أن أعلى الدعاء كان عندهم بإطالة البقاء ولذلك كان يدعى لملوك بني بويه فمن بعدهم بلفظ: «أطال الله بقاءك». وقد تقدّم في المقالة الثالثة في الكلام على مقادير قطع الورق وما يناسب كلّ قطع من الأقلام أنه إن كانت المكاتبة عن الخليفة ترك الكاتب من رأس الدّرج قدر ذراع بياضا، ثم يكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» ثم يكتب في سطر ثان يلاصقها ويخرج يسيرا، من عبد الله إلى آخر التصدير الذي يليه «أمّا بعد»، وأن التصدير يكون في سطرين بينهما فضاء قدر شبر، لا يزيد عن ذلك ولا ينقص، ثم يترك بعد هذين السطرين فضاء بنصف ما بين الأوّلين فيما ذكره في «موادّ البيان»: وبقدره فيما ذكره في «ذخيرة الكتاب» ثم يقول: أما بعد، ويأتي على المكاتبة إلى آخرها على هذا النحو.(6/380)
قال في «ذخيرة الكتاب»: ويكون الدعاء من الخليفة لمن يكاتبه على
قدر موضعه في خدمته ومحلّه عنده، وقد تقدّم أن أعلى الدعاء كان عندهم بإطالة البقاء ولذلك كان يدعى لملوك بني بويه فمن بعدهم بلفظ: «أطال الله بقاءك». وقد تقدّم في المقالة الثالثة في الكلام على مقادير قطع الورق وما يناسب كلّ قطع من الأقلام أنه إن كانت المكاتبة عن الخليفة ترك الكاتب من رأس الدّرج قدر ذراع بياضا، ثم يكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» ثم يكتب في سطر ثان يلاصقها ويخرج يسيرا، من عبد الله إلى آخر التصدير الذي يليه «أمّا بعد»، وأن التصدير يكون في سطرين بينهما فضاء قدر شبر، لا يزيد عن ذلك ولا ينقص، ثم يترك بعد هذين السطرين فضاء بنصف ما بين الأوّلين فيما ذكره في «موادّ البيان»: وبقدره فيما ذكره في «ذخيرة الكتاب» ثم يقول: أما بعد، ويأتي على المكاتبة إلى آخرها على هذا النحو.
أما عنونة كتبهم، فكانت في أوّل دولتهم: «من عبد الله فلان الإمام الفلانيّ أمير المؤمنين» في الجانب الأيمن، وفي الجانب الأيسر «إلى فلان بن فلان». ثم زاد المأمون في أوّل عنواناته «بسم الله الرحمن الرحيم». ولما تكنّى الأمين في كتبه بعد ذلك زيدت الكنية في العنوان، فكان يكتب في الجانب الأيمن «بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله فلان أبي فلان الإمام الفلاني» وفي الجانب الأيسر، «إلى فلان بن فلان». وقد تقدّم في الكلام على ترتيب المكاتبات أن البسملة بقيت في العنونة إلى زمن النّحاس في خلافة الراضي، وأن صاحب «موادّ البيان» ذكر أنها بطلت منه بعد ذلك.
قال النحاس: فإن كان المكتوب إليه من موالي بني هاشم، نسب إلى ذلك. وإن لم يكن ينسب إليهم ترك.
الجملة الثانية (في الكتب العامّة، وهي على أسلوبين)
الأسلوب الأوّل (أن يفتتح الكتاب بلفظ «من فلان إلى فلان»)(6/381)
بأن يكتب «من عبد الله فلان أبي فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين إلى آخر المكاتبة على ما تقدّم ترتيبه.
وهذه نسخة (1) كتاب من ذلك كتب به أبو إسحاق (2) الصابي عن الطائع (3) لله إلى صمصام (4) الدولة بن عضد الدولة بن بويه بسبب كردويه، الخارج عن الطاعة، وليس فيه تكنية للخليفة وهو:
من عبد الله عبد الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين إلى صمصام الدولة وشمس الملّة أبي كاليجار بن عضد الدولة وتاج الملّة مولى أمير المؤمنين.
سلام عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلّي على محمد عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
أما بعد أطال الله بقاءك فإن أمير المؤمنين وإن كان قد بوّأك المنزلة
__________
(1) سترد نسخة هذا الكتاب في الجزء الثامن من هذا المؤلف ص 341339.
(2) هو إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن هارون الحرّاني، صاحب الرسائل المشهورة، والنظم البديع.
تقلّد ديوان الرسائل سنة 349هـ. وكانت وفاته في سنة 384هـ. وقال النديم: توفي سنة 380هـ.
انظر يتيمة الدهر (ج 2ص 311241)، والفهرست ص 149، ووفيات الأعيان (ج 1ص 52 54).
(3) هو عبد الكريم، بن الفضل المطيع لله بن جعفر المقتدر بالله بن المعتضد بالله، كنيته أبو بكر وأبو الفضل. بايعه والده المطيع لله بالخلافة بعد أن خلع المطيع نفسه طائعا غير مكره، وذلك في سنة 363هـ. وقال ابن الأثير: إنه خلع من قبل سبكتكين، وكان به مرض الفالج، وقد ثقل لسانه وتعذّرت الحركة عليه. تولى الطائع لله الخلافة ببغداد حتى سنة 381هـ، حيث خلعه بهاء الدولة ابن عضد الدولة باشارة الأمراء ومعونتهم وسملوا عينيه. توفي ليلة عيد الفطر سنة 393هـ. انظر تاريخ بغداد (ج 11ص 79)، وفوات الوفيات (ج 2ص 376375) والكامل في التاريخ (ج 8ص 637، 645) و (ج 9ص 79، 80، 175) و (ج 10ص 61)، والأعلام (ج 4ص 53).
(4) هو ابن عضد الدولة صاحب بلاد فارس، خرج عليه ابن عمه أبو نصر بن بختيار وقتله في سنة 388 هـ بعد حكم دام تسع سنين وأشهر. انظر تاريخ ابن خلدون (ج 7ص 709، 997993) والبداية والنهاية (ج 11ص 325).(6/382)
العليا، وأنالك من أثرته الغاية القصوى، وجعل لك ما كان لأبيك عضد الدولة وتاج الملة رحمة الله عليه من القدر والمحلّ، والموضع الأرفع الأجلّ، فإنه يوجب لك عند بذلك (1) أثرا يكون لك في الخدمة، ومقام حمد تقومه في حماية البيضة، إنعاما يظاهره، وإكراما يتابعه ويواتره. والله يؤيّدك (2) من توفيقه وتسديده، ويمدّك بمعونته وتأييده، ويخير لأمير المؤمنين فيما رأيه مستمرّ عليه من مزيدك وتمكينك، والإبقاء بك وتعظيمك، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.
وقد عرفت أدام الله عزّك ما كان من أمر كردويه (3) كافر نعمة أمير المؤمنين ونعمتك، وجاحد صنيعته وصنيعتك، في الوثبة التي وثبها، والكبيرة التي ارتكبها، وتقريره (4) أن ينتهز الفرصة التي لم يمكّنه الله منها، بل كان من وراء [ذلك] دفعه وردّه عنها، ومعاجلتك إيّاه الحرب التي أصلاه الله نارها، وقنّعه عارها وشنارها (5)، حتّى انهزم والأوغاد (6) الذين شركوه في إثارة الفتنة، على أقبح أحوال الذّلة والقلّة، بعد القتل الذّريع، والإثخان الوجيع فالحمد لله على هذه النعمة التي جلّ موقعها، وبان على الخاصّة والعامّة أثرها، ولزم أمير المؤمنين خصوصا والمسلمين عموما نشرها، والحديث بها، وهو المسؤول إقامتها وإدامتها برحمته.
وقد رأى أمير المؤمنين أن يجازيك عن هذا الفتح العظيم، والمقام المجيد الكريم، بخلع (7) تامّة، ودابّتين ومركبين (8) ذهبا من مراكبه، وسيف
__________
(1) في الجزء الثامن من هذا المطبوع: «عند كل أثر».
(2) في المصدر المذكور ص 340: «والله يؤيدك».
(3) «أمر كردويه» ساقطة في المصدر السابق.
(4) في المصدر المذكور: «وتقديره».
(5) الشنار: أقبح العيب والعار.
(6) الأوغاد: ج وغد. وهو الأحمق الدنيء.
(7) الخلع: ج خلعة، وهي الثوب الذي يعطى منحة، أو خيار المال، أو ما يخلع على الانسان.
(8) في الجزء الثامن من هذا المطبوع ص 341: «بمركبين من ذهب».(6/383)
وطوق وسوار مرصّع، فتلقّ ذلك بالشكر (1) عليه، والاعتداد بنعمته فيه، والبس خلع أمير المؤمنين وتكرمته، وسر من بابه على حملاته، وأظهر ما حباك به لأهل حضرته، ليعزّ الله بذلك وليّه ووليّك، ويذلّ عدوّه وعدوّك، إن شاء الله تعالى، والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته. (وكتب أحمد بن محمد لثمان إن بقين من شهر ربيع الأوّل سنة خمس وسبعين وثلاثمائة) أطال الله بقاءك، وأدام عزّك، وأحسن (2) حفظك وحياطتك، وأمتع أمير المؤمنين بك، وبالنعمة فيك وعندك.
وهذه نسخة كتاب آخر من ذلك أيضا، كتب به عن المقتفي لأمر الله إلى السلطان مسعود (3) بن محمد بن ملكشاه السلجوقيّ في تعزية بولد مات له، وفيه تكنية الخليفة وتقديم الكنية على الاسم وكثرة الألقاب للمكتوب إليه وهو.
«من عبد الله أبي عبد الله محمد المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين، إلى شاهنشاه المعظّم مولى الأمم، مالك رقاب العرب والعجم، جلال دين الله، ظهير عباد الله، حافظ بلاد الله، معين خليفة الله، غياث الدنيا والدّين، ناصر الإسلام والمسلمين، محيي الدولة القاهرة، معزّ الملة الزاهرة، عماد الملة الباهرة، أبي الفتح «مسعود بن محمد ملكشاه» قسيم أمير المؤمنين.
سلام عليك، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلّي على محمد عبده ورسوله ويسلّم تسليما.
__________
(1) في الجزء الثامن من هذا المطبوع ص 341: «بشكر الله تعالى عليه».
(2) في المصدر السابق: «وأجزل».
(3) هو أبو الفتح، أحد ملوك السلجوقية المشاهير، يلقّب غياث الدين. استقلّ بالسلطنة سنة 528هـ ودخل بغداد، وخلع الراشد وأقام المقتفي. كان سلطانا عادلا، فرّق مملكته على أصحابه، بحيث لم يكن له من السلطنة غير الاسم، أنظر وفيات الأعيان (ج 5ص 202200) وشذرات الذهب (ج 4 ص 145) وانظر أخباره في تاريخ ابن خلدون (ج 6ص 10561046) وتاريخ ابن الأثير في صفحات متفرقة من الأجزاء العاشر والحادي عشر والثاني عشر.(6/384)
أما بعد، أطال الله بقاءك! وأدام عزّك وتأييدك وسعادتك ونعمتك، وأحسن حفظك وكلاءتك ورعايتك وأمتع أمير المؤمنين بك، وبالنعمة الجليلة والموهبة الجزيلة والمنحة النّفيسة فيك وعندك، ولا أخلاه منك!، فإن أولى من ادّرع للحوادث جبّة الاصطبار، ونظر أحوال الدنيا في تقلّبها بعين الاعتبار، ورجع إلى الله تعالى في قدره وقضائه، وسلّم لأمره الذي لا رادّ له في امتحانه وابتلائه، وعرف أنّ له سبحانه في كلّ ما يجريه على عباده حكمة باطنة، ومصلحة كامنة، من خير عاجل ينشره، وثواب آجل يؤخّره لهم إلى يوم الجزاء ويدّخره، وفائدة هو أدرى بها وأعلم، وفعله فيها أتقن وأحكم، من خصّه بما خصّك الله به من الدين الراجح، والخلق الصالح، والمعتقد الواضح، والنّعم التي جادك في كلّ يوم مقام سحابها، واتسعت بين يديك عند مضايق الأمور رحابها، وأنست إذا استوحشت من العاجزين عن ارتباطها بالشّكر صحابها والمناقب التي فرعت بها صهوات المجد، وتملّكت رقّ الثناء والحمد وعلوت فيها عن المساجل والمطاول، وبعد ما حضر لك منها عن أن تناله يد القائم المحاول. وتأدّى إلى حضرة أمير المؤمنين أمتعه الله ببقائك، ودافع له عن حوبائك (1) نبأ الحادثة بسليلك الذي اختار الله له كريم جواره، فأحبّ له الانتقال إلى محلّ الفوز ومداره، فوجد لذلك وجوما موفّرا، وهمّا للسّكون منفّرا وتوزّعا تقتضيه المشاركة لك فيما ساويته (؟) والمساهمة الحاصلة في كل ما حلا من الأمور وأمرّ، وأمر عند ورود هذا الخبر بالتصدّي للعزاء، وإعلان ما يعلن عن مقاسمتك في الضّرّاء دفعها الله عنك والسّرّاء وندب جمعا من الخدم المطيفين بشريف سدّته، المختصين بعزيز خدمته بتعزّ يتصوّنه لباس التعزية، ويستدني بتقمّصه عازب التسلية، إبانة عن انصراف الهمم الإماميّة إليك فيما خصّ وعمّ من حالك، واستجلابه لك دواعي المسارّ في حلّك
__________
(1) الحوباء: النفس، من الحوب وهو الإثم، كما يقال لها الأمّارة بالسوء، وهو من قوله: {وَمََا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمََّارَةٌ بِالسُّوءِ} سورة يوسف 12، الآية 53.(6/385)
وترحالك، وكون الأفكار الشريفة موكّلة بكل ما حمى من الروائع قلبك، وأعذب شربك، وأنت حقيق بمعرفة هذه الحال من طويّته لك ونيته، ورأيه فيك وشفقته، ورعاية مصلحتك منه بعين كالية، ورجوعه من المحافظة في حقّك إلى ألفة بالصّفاء حالية، وتلقّي الرّزيّة التي أرادها الله وقضاها، وأنفذ مشيئته فيها وأمضاها بالصبر المأمور به والاحتساب، والتسليم الموعود عليه بجزيل الثّواب علما أن الأقدار لا تغالب، وغريمها لا يطالب، وإن الله تعالى إذا قال لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وهو سيد البشر {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (1) فلا سبيل لأحد من خلقه إلى البقاء، ولا وجه للخلود في دار الفناء، ولا دافع لحكمه جلّت عظمته فيما قدّره من الآجال، وسبق في علمه من الرّوائع في دار الابتلاء والأوحال وما يزال التطّع واقعا إلى وصول جوابك الدالّ على السّلوة التي هي الأليق بك، والأدعى إلى حصول بغيتك من قضاء الله وأدبك لتحطّ الأنسة مع وصوله في رحالها، وتؤذن لصرف الغموم الجارية لأجلك بارتحالها.
هذه مناجاة أمير المؤمنين لك، أدام الله تأييدك! وأمتع بك! إن شاء الله تعالى، والسّلام عليك ورحمة الله.
الأسلوب الثاني (أن يكون الافتتاح بلفظ «أما بعد» وهو على نوعين)
النوع الأوّل (أن يعقب البعدية «الحمد لله» وهو على ضربين)
الضرب الأوّل (أن يتعدّد الحمد في أوّل الكتاب)
ويكون ذلك في الكتب المؤذنة بحصول نعمة ظاهرة كالفتوح ونحوها.
__________
(1) سورة الزمر 39، الآية 30.(6/386)
ويقع التعدّد فيها بحسب ما تقتضيه النعمة، وغالب ما يكون ثلاث مرات، وربما وقع التحميد في أوّل الكتاب وآخره.
وهذه نسخة كتاب من هذا النوع كتب بها عن المعتصم (1) إلى ملوك الآفاق من المسلمين عند قبض الأفشين على بابك (2) ملك الروم، وهي:
أما بعد، فالحمد لله الذي جعل العاقبة لدينه، والعصمة لأوليائه، والعزّ لمن نصره، والفلج لمن أطاعه، والحقّ لمن عرف حقّه، وجعل دائرة السّوء على من عصاه وصدف عنه، ورغب عن ربوبيته، وابتغى إلها غيره. لا إله إلا هو وحده لا شريك له. يحمده أمير المؤمنين حمد من لا يعبد غيره، ولا يتوكّل إلا عليه، ولا يفوّض أمره إلّا إليه ولا يرجو الخير إلا من عنده، والمزيد إلا من سعة فضله، ولا يستعين في أحواله كلّها إلا به. ويسأله أن يصلّي على محمد عبده ورسوله، وصفوته من عباده، الذي ارتضاه لنبوته، وابتعثه بوحيه واختصّه بكرامته، فأرسله بالحق شاهدا ومبشّرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. والحمد لله الذي توجّه لأمير المؤمنين بصنعه، فيسّر له أمره، وصدق له ظنّه، وأنجح له طلبته (3)، وأنفذ له حيلته، وبلّغ له محبّته، وأدرك المسلمون بثأرهم على يده، وقتل عدوّهم، وأسكن روعتهم، ورحم فاقتهم، وآنس
__________
(1) هو أمير المؤمنين محمد بن هارون المعتصم بن الرشيد. بويع بعد المأمون سنة 218هـ كان ذا شجاعة وهمة، وكان يقال له «المثمّن» لأنه ثامن خلفاء بني العباس، وملك ثماني سنين وثمانية أشهر، وقتل ثمانية أعداء، منهم بابك والأفشين. أنظر فوات الوفيات (ج 4ص 48).
(2) قبض الأفشين على بابك الخرّميّ سنة 223هـ، وأدخله دار المعتصم، فأمر المعتصم بضرب عنقه، وصلبه في الجانب الشرقي بين الجسرين. وكان الذين أسروا مع بابك، ثلاثة آلاف وثلاثمائة وتسعة أناسي. وفي سنة 225هـ غضب المعتصم على الأفشين فعزله عن الحرس وحبسه، فمات في الحبس سنة 226هـ. فأخرجوه وصلبوه ثم ألقي وأحرق بالنار. أنظر الكامل في التاريخ (ج 6 ص 478477، 510، 516، 518) وتاريخ ابن خلدون (ج 5ص 556548و 568 572).
(3) الطلبة، بفتح الطاء وكسر اللام وفتح الباء: ما طلبته من شيء.(6/387)
وحشتهم، فأصبحوا آمنين مطمئنّين مقيمين في ديارهم، متمكّنين في أوطانهم، بعد القتل والخوف والتشريد وطول العناء، وتتابع البلاء، منّا من الله عز وجلّ على أمير المؤمنين بما خصّه به، وصنعا له فيما وفّقه لطلبه، وكرامة زادها فيما أجرى على يده. فالحمد لله كثيرا كما هو أهله، ونرغب إلى الله في تمام نعمه ودوام صنعه، وسعة ما عنده بمنّه ولطفه. ولا يعلم أمير المؤمنين مع كثرة أعداء المسلمين وتكنّفهم إيّاه من أقطاره، والضغائن (1) التي في قلوبهم على أهله، وما يترصّدونه من العداوة، وينطوون عليه من المكايدة، إذ كان هو الظاهر عليهم، والآخذ منهم عدوّا كان أعظم بليّة، ولا أجلّ خطبا، ولا أشدّ كلبا، ولا أبلغ مكايدة، ولا أرمى بمكروه، من هؤلاء الكفرة الذين يغزوهم المسلمون، فيستعلون عليهم، ويضعون أيديهم حيث شاءوا منهم، ولا يقبلون لهم صلحا، ولا يميلون معهم إلى موادعة، وإن كان لهم على طول الأيّام وتصرّف الحالات وبعض ما لا يزال يكون من فترات ولاة الثّغور أدنى دولة من دولات الظّفر وخلسة من خلس الحرب، كان بما لهم من خوف العاقبة في ذلك منغّصا لما تعجّلوا من سروره، وما يتوقعون من الدوائر بعد، مكدّرا لما وصل إليهم من فرحة.
فأما اللعين بابك وكفرته، فإنهم كانوا يغزون أكثر مما يغزون، وينالون أكثر مما ينال منهم، ومنهم المنحرفون عن الموادعة، المتوحّشون عن المراسلة، ومن أديلوا من تتابع الدول، ولم يخافوا عاقبة تدركهم، ولا دائرة تدور عليهم. وكان مما وطّأ ذلك ومكّنه لهم أنهم قوم ابتدؤا أمرهم على حال تشاغل السلطان، وتتابع من الفتن، واضطراب من الحبل، فاستقبلوا أمرهم بعزّة من أنفسهم، وضعف واستثارة ممّن باراهم، فأجلوا من حولهم لتخلص البلاد لهم، ثم أخربوا البلاد ليعزّ مطلبهم، وتشتدّ المؤونة (2) وتعظم الكلفة، ويقووا
__________
(1) الضغائن: ج ضغينة، وهي الحقد.
(2) المؤونة والمؤنة: الشدّة.(6/388)
في ذات أيديهم فلم يتواف إليهم قوّاد السلطان إلا وقد توافت إليهم القوّة من كل جانب، فاستفحل أمرهم، وعظمت شوكتهم، واشتدّت ضروراتهم واستجمع لهم كيدهم، وكثر عددهم واعتدادهم، وتمكّنت الهيبة في صدور الناس منهم، وتحقّق في نفوسهم أن كلّ ما يعدهم الكافر ويمنّيهم أخذ باليد.
وكان الذي بقي عندهم منه كالذي مضى، وبدون هذا ما يختدع الأريب ويستنزل العاقل ويعتقل الفطن، فكيف بمن لا فكرة له، ولا رويّة عنده؟
هذا مع كل ما يقوم في قلوبهم من حسد أهل النّعم، ومنافستهم على ما في أيديهم، وتقطّعهم حسرات في إثر ما خصّوا به، وأنهم إن لا يكونوا يرون أنفسهم أحقّ بذلك، فإنهم يرون أنّهم فيه سواء.
ولم يزل أمير المؤمنين قبل أن تفضي إليه الخلافة مادّا عنقه، موجّها همته إلى أن يولّيه الله أمر هؤلاء الكفرة ويملّكه حربهم، ويجعله المقارع لهم عن دينه، والمناجز لهم عن حقّه، فلم يكن يألو في ذلك حرصا وطلبا واحتيالا، فكان أمير المؤمنين رضي الله عنه يأبى ذلك لضنّه به، وصيانته بقربه، مع الأمر الذي أعدّه الله له وآثره به ورأى أنّ شيئا لا يفي بقوام الدين وصلاح الأمر.
فلما أفضى الله إلى أمير المؤمنين بخلافته وأطلق الأمر في يده، لم يكن شيء أحبّ إليه ولا آخذ بقلبه من المعاجلة للكافر وكفرته، فأعزه الله وأعانه الله، فلله الحمد على ذلك وتيسّره، فأعدّ من أمواله أخطرها، ومن قوّاد جيشه أعلمهم بالحرب وأنهضهم بالمعضلات، ومن أوليائه وأبناء دعوته ودعوة آبائه صلوات الله عليهم أحسنهم طاعة، وأشدّهم نكاية، وأكثرهم عدّة. ثم أتبع الأموال بالأموال، والرّجال بالرجال، من خاصّة مواليه وعدد غلمانه، وقبل ذلك ما اتكل عليه من صنع الله جلّ وعزّ، ووجه إليه من رعبته. فكيف رأى الكافر اللعين وأصحابه الملاعين؟ ألم يكذب الله ظنونهم، ويشف صدور أوليائه منهم؟
يقتلونهم كيف شاءوا في كل موطن ومعترك، ما دامت عند أنفسهم مقاومة.
فلما ذلّوا وقلّوا وكرهوا الموت، صاروا لا يتراءون إلا في رؤوس الجبال
ومضايق الطّرق وخلف الأودية ومن وراء الأنهار، وحيث لا تنالهم الخيل، حصنا للمطاولة وانتظارا للدوائر، فكادهم الله عند ذلك وهو خير الكائدين، واستدرجهم حتّى جمعهم إلى حصنهم معتصمين فيه عند أنفسهم، فجعلوا اعتصامهم لحين (1) لهم، وصنع لأوليائه وإحاطة منه به تبارك وتعالى، فجمعهم وحصرهم لكي لا تبقى منهم بقيّة ولا ترجى لهم عاقبة، ولا يكون الدين إلا لله، ولا العاقبة إلا لأوليائه، ولا التعس والنّكس (2) إلا لمن خذله.(6/389)
فلما ذلّوا وقلّوا وكرهوا الموت، صاروا لا يتراءون إلا في رؤوس الجبال
ومضايق الطّرق وخلف الأودية ومن وراء الأنهار، وحيث لا تنالهم الخيل، حصنا للمطاولة وانتظارا للدوائر، فكادهم الله عند ذلك وهو خير الكائدين، واستدرجهم حتّى جمعهم إلى حصنهم معتصمين فيه عند أنفسهم، فجعلوا اعتصامهم لحين (1) لهم، وصنع لأوليائه وإحاطة منه به تبارك وتعالى، فجمعهم وحصرهم لكي لا تبقى منهم بقيّة ولا ترجى لهم عاقبة، ولا يكون الدين إلا لله، ولا العاقبة إلا لأوليائه، ولا التعس والنّكس (2) إلا لمن خذله.
فلما حصرهم الله وحبسهم عليهم ودانتهم مصارعهم، سلّطهم الله عليهم كيد واحدة، يختطفونهم بسيوفهم، وينتظمونهم برماحهم، فلا يجدون ملجأ ولا مهربا. ثم أمكنهم من أهاليهم وأولادهم ونسائهم وحرمهم وصيّروا الدار دارهم والمحلة محلّتهم، والأموال قسما بينهم، والأهل إماء (3) وعبيدا. وفوق ذلك كلّه ما فعل بهؤلاء وأعطاهم من الرحمة والثواب، وما أعدّ لأولئك من الخزي والعقاب، وصار الكافر بابك لا فيمن قتل فسلم من ذلّ الغلبة، ولا فيمن نجا فعاين في الحياة بعض العوض، ولا فيمن أصيب، فيشتغل بنفسه عن المصيبة بما سواه، لكنه سبحانه وتعالى أطلقه وسدّ مذاهبه، وتركه ملدّدا (4) بين الذّل والخوف، والغصّة والحسرة، حتّى إذا ذاق طعم ذلك كلّه وفهمه، وعرف موقع المصيبة، وظنّ مع ذلك كلّه أنه على طريق من النجاة، فأضرب الله وجهه، وأعمى بصره، وسدّ سبيله، وأخذ بسمعه وبصره، وحازه إلى من لا يرقّ له، ولا يرثي لمصرعه، فامتثل ما أمر به الأفشين (حيدر بن طاوس (5))
__________
(1) الحين بفتح الحاء: الهلاك.
(2) التعس: الشرّ، يقال: تعسا لفلان ونكسا: دعاء عليه.
(3) الإماء: ج أمة، بالفتح، وهي المملوكة.
(4) ملدّدا: حائرا يقال: لدّد فلانا: حيّره.
(5) في الكامل في التاريخ (ج 6ص 447): «حيدر بن كاوس»، وفي وفيات الأعيان (ج 5ص 123):
«خيدر بن كاوس». قال ابن خلكان: الأفشين بكسر الهمزة وفتحها، واسمه خيذر، بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء وفتح الذال المعجمة. وأضاف: كان الأفشين مقدّم قوّاد المعتصم.(6/390)
مولى أمير المؤمنين في أمره، فبثّ له الحبائل، ووضع عليه الأرصاد، ونصب له الأشراك حتّى أظفره الله به أسيرا ذليلا موثقا في الحديد، يراه في تلك الحالة من كان يراه ربّا، ويرى الدائرة عليه من كان يظنّ أنها ستكون له. فالحمد لله الذي أعزّ دينه، وأظهر حجّته، ونصر أولياءه وأهلك أعداءه، حمدا يقضى به الحقّ، وتتمّ به النّعمة، وتتصل به الزيادة. والحمد لله الذي فتح على أمير المؤمنين وحقّق ظنّه، وأنجح سعيه، وحاز له أجر هذا الفتح وذخره وشرفه، وجعله خالصا لتمامه وكماله بأكمل الصنع وأحسن الكفاية، ولم ير بوسا فيه ما يقذي عينه، ولا خلا من سرور يراه، وبشارة تتجدّد له عنه، فما يدري أمير المؤمنين ما متّع فيه من الأمل، أو ما ختم له من الظفر. فالحمد لله أوّلا! والحمد لله آخرا! والحمد لله على عطاياه التي لا تحصى، ونعمه التي لا تنسى، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة كتاب من هذا الضرب، كتب به أبو سعيد العلاء (1) بن موصلايا عن القائم بالله، إلى عضد الدولة «ألب أرسلان» إلى مسعود بن محمود صاحب غزنة من أوائل بلاد الهند، بالبشارة بالنّصر على البساسيريّ (2) وهو:
أما بعد، فالحمد لله منير الحق ومبديه، ومبير الباطل ومرديه، الكافل بإعزاز حزبه، وإذلال حربه، المؤيّد في نصرة دينه خصب الدّهر بعد إمحاله وجدبه، الناظم شمل الشرع بعد شتاته وتفرّقه، الحاسم داعي الفساد بعد
__________
(1) ترجم له ابن خلكان فقال: أبو سعد العلاء بن الحسن بن وهب بن الموصلايا كاتب بغدادي، كان نصرانيا وأسلم على يد الإمام المقتدي بالله خدم بديوان الانشاء للإمام الخليفة القائم في سنة 432 هـ. توفّي بعد أن كفّ بصره في سنة 497هـ. وفيات الأعيان (ج 3ص 480) ونكت الهميان ص 201، والأعلام (ج 4ص 245).
(2) هو أبو الحارث ارسلان بن عبد الله البساسيري التركي، مقدّم الأتراك ببغداد. قدمه الخليفة القائم بأمر الله على جميع الأتراك ببغداد وقلّده الأمور بأسرها، فعظم أمره وهابته الملوك. ثم خرج على الإمام القائم. قتل سنة 451هـ. أنظر وفيات الأعيان (ج 1ص 193192)، والنجوم الزاهرة (ج 5 ص 2و 64) والأعلام (ج 1ص 288287).(6/391)
استيلائه وتطرّقه، ذي المشيئة النافذة الماضية، والعزّة الكاملة الوافرة والعظمة الظاهرة البادية، والبراهين الرائعة الرائقة، والدلائل الشاهدة بواحدانيّته الناطقة، حمدا لا انتهاء لأمده، ولا إحصاء لعدده. والحمد لله الذي اختص محمدا صلّى الله عليه وسلّم، برسالته وحباه، وأولاه من كرامته ما حاز له به الفضل وحواه، وبعثه على حين فترة من الرّسل، وخلاء من واضح السّبل، فجاهد بمن أطاعه من عصاه، وبلغ في الإرشاد أقصى غايته ومداه، ولم يزل مبديا أعلام الإعجاز، وملحقا الهوادي (1) بالأعجاز، إلى أن دخل الناس في الدين أفواجا، وسلكوا في نصرته جددا (2) واضحا ومنهاجا وغدت أنوار الشرع ضاحكة المباسم، وآثار الشّرك واهية الدعائم، ومناهل الهدى عذبة صافية. فصلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وأصحابه المنتخبين وخلفائه الأئمة الراشدين، وسلّم تسليما.
والحمد لله الذي أصار إلى أمير المؤمنين من تراث النبوّة ما استوجبه واستحقّه، وأنار لديه من مطالع الجلال ما تملك به الفخر واسترقّه، ومنحه من حسن التمكين والإظفار، وإجراء الأقضية على مراده والأقدار ما ردّ صرف الدهر عن حوزته مفلول الحدّ، ومدّ باع مجده إلى أقصى الغاية والحدّ، وحمى سرب (3)
إمامته من دواعي الخوف والحذر، ووقى مشرب خلافته من عوادي الرّنق (4)
والكدر، وجعل معالم العدل في أيامه مشرقة الأوضاح والحجول، مفترّة النواجذ (5) عن الكمال الضافي الأهداب والذّيول، مؤذنة باستقرار أمداد السعادة، واستمرار الأحوال على أفضل الرّسم والعادة، وهو يستديمه من لطيف الصّنع وجميله، ووافي الطّول وجزيله ما يزيد آراءه سدادا ورشادا، وأرومة عزّه
__________
(1) الهوادي: ج الهادي، وهو العنق.
(2) الجدد: الأرض المستوية، وعليها قولهم في المثل: «من سلك الجدد أمن العثار». يضرب في طلب العافية. انظر مجمع الأمثال للميداني (ج 2ص 306) تحت رقم 4039.
(3) السرب: الوجهة والطريق.
(4) الرنق: الكدر والرنق من الماء: الكدر.
(5) النواجذ: مفردها ناجذ أقصى الأضراس، ومنه يقال: عضّ على ناجذه أي بلغ أشدّه.(6/392)
اتساعا وامتدادا، ومجاري الأمور لديه اتساقا على المراد واطّرادا، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب!.
ومعلوم ما اعتمده شاهنشاه المعظّم بعد مسيره إلى العراق، في الجيوش التي يضيق بها الفضاء، ويجري على مرادها القضاء، قاصدا تلبية الدعوة، وخاضدا (1) شوك كلّ من سدّ (2) عن الدين أسباب المضرّة والمعرّة، ومعتمدا ما حمى حوزة أمير المؤمنين من الشوائب المعترضة، وحوى أقسام الفخار في اتباع شروط الخدمة الملتزمة المفترضة، من المبادرة للّكع (3) اللعين البساسيريّ ولفيفه المخاذيل، مدّرعا من الاعتضاد بالله تعالى أقوى الجنن (4) وأسبغ السّرابيل، ليطهّر الأرض من دنس كفرهم، ويوفّر الجدّ (5) في فصم حدّهم وحسم كيدهم، فأطلّ على بلاد الشام متطلبا من ألجأه حذره إلى الإمعان في الهرب، وقطع كلّ أخيّة وسبب، ومعتزما الائتمام إلى مصر لانتزاعها وبقية الأعمال، من أيدي أحلاف الغواية والضّلال، وقرّب الأمر فيما حاوله من ذلك ورامه اعتماده فيه صنوف التجدّد وأقسامه، فاعترضه من عصيان إبراهيم اينال وعقوقه، وخروجه عن زمرة أبناء الطاعة ومروقه، بإفساد اللّعين إيّاه، وإحالته بمكره عن مناهج هداه، ما أحوجه إلى ترك ما هو بصدده واللّحاق بأثره حذارا من استفحال خطبه، وبدارا إلى فلّ حدّه وغربه، فعاد ذلك بتجمّع الأعداء واحتشادهم، وسلوكهم المحجّة التي خصّوا فيها بعدم توفيقهم ورشادهم، وإقدامهم على فضل الإمامة المكرمة بالمحاربة، واطّراحهم في منابذتها حكم الاحتشام والمراقبة، ووقوع التظافر على المجاهرة بخلافها، والتظاهر بشعار أشياع الغواية وأحلافها، جرأة على الله تعالى واستنزالا لعقابه، واطّراحا لما توجبه الجناية العظمى من توقّع العذاب
__________
(1) يقال: خضد العود: كسره أو ثناه من غير كسر.
(2) لعله: «وخاضدا شوك كل من صد عن الدين وأولاه أسباب الخ». حاشية الطبعة الأميرية.
(3) اللكع: الأحمق.
(4) الجنن: ج جنّة، وهي كلّ ما وقى من سلاح، أو السّترة.
(5) الجدّ، بفتح الجيم: البخت والحظّ.(6/393)
وارتقابه، وادّراعا لملابس الخزي في الدنيا والآخرة، واتباعا لداعي الضّلالة المغوية في البدء والخاتمة، فاقتضى حكم الاستظهار الانتقال من دار الخلافة بمدينة السّلام إلى (حديثة عانة (1)) لما هي عليه من امتناع الجانب وشدّة الحصانة، إلى أن أسفر خطب شاهنشاه ركن الدين أمتع الله به عن إدراك المطالب، وتيسّر المصاعب، فعاد بنصرة الدولة العباسيّة الإمامية القائميّة مستنفدا في ذلك أقسام الوسع والاجتهاد، ومستنجدا بمعونة الله تعالى على إبادة الكفر بصنوف القراع والجهاد. ولم يزل ساعيا في إزالة العار، وانتزاع المغتصب وارتجاع المستعار، إلى أن صدّق الله تعالى الأمل وحقّقه، وأصفى منهل العز من كل ما شابه ورنّقه، وأطلع شمس الحقّ بعد غروبها، ومنّ بخضد (2) شوكة الباطل وفلّ غروبها.
وعاد أمير المؤمنين إلى دار ملكه ومقرّ مجده في يوم كذا ضافية على راياته جلابيب النّصر والظّفر، جارية على إرادته تصاريف القضاء والقدر، بيمن نقيبة شاهنشاه الذي أدّى في الطاعة الفرض والواجب، وتمسّك من المشايعة بأفضل ما تضمّ عليه الرّواجب، وغدا للدولة عضدا موفيا على الأمثال، في دفعه عن الإسلام وذبّه، ومتقمّصا للجلال، بحسن إخلاصه في حالتي بعده وقربه. وما زالت ثقة أمير المؤمنين مستحكمة بالله تعالى عند ما ألمّ به من تلك الحال، ودهم من الخطب المحتفّ به سطوة الاشتداد والاستفحال، في إجرائه على ما ألفه من النّصر والإعزاز، وإظهار آلائه في تأييده والإعجاز إذ لم يكن ما عرّاه
__________
(1) ذكرها ابن خلكان في وفيات الأعيان (ج 5ص 350) وقال: تقع على الفرات. وتحدث ياقوت في معجم البلدان (ج 4ص 72) عن عانة فقال: بلد مشهور بين الرقّة وهيت في أعمال الجزيرة.
وأضاف: وهي مشرفة على الفرات، وإليها حمل القائم بأمر الله في توبة البساسيري فمانع مهارش عنه إلى أن جاء طغرلبك وقتل البساسيري وأعاد الخليفة إلى داره. وعامة بغداد يضربون البساسيري مثلا في تفخيم الأمر فيقولون: كأنه قد جاء برأس البساسيري، وإذا كرهوا أمرا من ظلم قالوا: الخيفة إذا في عانة حتى يفعل كذا.
(2) يقال: خضد العود: كسره أو ثناه من غير كسر.(6/394)
استعادة للحقّ المسلّم إليه، والموهبة التي ضفت جلابيبها عليه، بل جعل الله ذاك إلى امتحان صبره سبيلا، وعلى وفور أجره دليلا، وبإبادة كل ناعق في الفتنة كفيلا لتزداد أنوار علاه نضارة وحسنا، وأعلام جلاله سعادة ويمنا، ورباع عزّه سكونا وأمنا، لطفا منه جلّت آلاؤه في ذلك ومنّا. وتلا هذه النعمة التي جدّدت عهود الشرع وافية النّضارة، وأزالت عن الدّين مفاسده العارضة ومصارّه، ما سهّله الله وهنّاه، وأجزل به صنيعه الجزيل وأسناه، من ظفر السّرايا التي تورّدها لاصطلام اللّعناء واجتياحهم، وحسم فسادهم وهدم عراصهم، وإخماد ما أضرموه من نار الشّرك وشبّوه، وإبطال ما أحدثوه من رسم الجور وسنّوه، وأفضى الحال إلى النّصر على الأعداء من كل جانب، وقهر كلّ منحرف عن الرشاد ومجانب، وحلول التأييد على الرايات المنصورة العباسيّة التي لم تزل مكنوفة على صرف الدهر أشياعها وأنصارها، وإجلاء الحرب عن قتل اللعين البساسيري وأخذ راسه، وتكذيب ظنّه في احرازه من طوارق الغير واحتراسه، وإراحة الأرض وأهلها من دنسه وعدوانه وكون من ضامّه من طبقات العرب والأكراد والأتراك البغداديين والعوامّ بين قتيل مرمّل (1) بدمه، وأسير تلقّى المنون بغصة أسفه وندمه، وصريع في بقيّة من ذمائه (2)، وهارب والطلب واقع من ورائه. فأنجز الله وعده في هذا المارق، والعبد الآبق (3) الذي غرّه إمهال الله تعالى إيّاه فنسي عواقب الإهمال في الغواية، والإمهال في الطّغيان إلى أقصى الحدّ والغاية، وحمل رأسه إلى الباب العزيز فتقدّم بالتّطواف به في جانبي مدينة (4) السّلام وشهره، إبانة عن حاله وإيضاحا لجليّة أمره، وكفي
__________
(1) مرمّل بدمه: ملطّخ به يقال: رمّله بالدم فترمّل أي تلطّخ، ورمّل الثوب ونحوه: لطّخه بالدم، ورمّل فلان بالدم: لطّخ به. قال أبو أخزم الطائي (رجز) إنّ بنيّ رمّلوني بالدم ... شنشنة أعرفها من أخزم
أنظر لسان العرب (رمل)
(2) الذماء، بالفتح: بقية الروح في المذبوح وبقية النفس.
(3) الآبق: العبد الهارب، وشرعا مملوك فرّ من مالكه تمرّدا.
(4) هي مدينة بغداد، أم الدنيا وسيدة البلاد، أصلها فارسي ومعناه: بستان رجل، «فباغ» بستان و «داد» اسم رجل سميت مدينة السّلام لأن دجلة يقال لها وادي السّلام، بناها أبو جعفر المنصور ونزلها سنة 149هـ معجم البلدان (ج 1ص 457456).(6/395)
ما يوجبه إقدامه على العظائم التي علم الله تعالى سوء مصيرها ومآلها، وحرم الرّشد في التمسّك والتشبّث بأذيالها، وتلك عاقبة من بغى واعتدى، وأتزر بالغدر وارتدى، وأمعن في الضّلّة واعتدى. والجدّ واقع من بعد في المسير للاحتواء على بلاد المخالفين الدانية والقاصية، والأخذ مع مشيئة الله تعالى بنواصي كل فئة طاغية عاصية.
فالحمد لله على المنحة التي بشّرت الإسلام بجبر كسره، وأنقذت الهدى من ضيق الكفر وأسره، وأبدت نجوم العدل بعد أن أفلت وغارت، وأردت شيعة الباطل بعد أن اعتدت على الحقّ وأغارت. وهو المسؤول صلتها بأمداد لها تقضي إذ ذاك سائر الأغراض وبلوغها، وتقضي بكمال رائق الآلاء وسبوغها.
اقتضى مكانك أمتع الله بك من رأي أمير المؤمنين الذي وطّأ لك معاقد العزّ وهضابه، وكمّل لديك دواعي الفخر وأسبابه، ونحلك من إيجابه الذي وصلت به إلى ذروة العلاء، وصلت على الأمثال والنّظراء، إشعارك بما جدّده الله تعالى من هذه النعمة التي غدت السّعود بها جمّة المناهل، سامية المراتب والمنازل، لتأخذ من حظّه بها، والشكر لله تعالى على ما تفضّل به فيها بالقسم الأوفى، كفاء ما يوجبه ولاءك الذي امتطيت به كاهل المجد، واصطفيت به كامل السعد، وكونك لدولة أمير المؤمنين شهابها المشرق في الحنادس (1)، وصفيّها الرافل من إخلاص مشايعتها في أفخر الحلل والملابس، والله تعالى لا يخليك، من كل ما تستدرّ به أخلاف (2) معاليك، ولا يعدم أمير المؤمنين منك الوليّ الحميد السّيرة، الرشيد العقيدة والسّريرة، الشّديد الشاكلة والوتيرة.
__________
(1) الحنادس: ج حندس، وهو الليل المظلم والظلمة. والحنادس أيضا ثلاث ليال مظلمة من آخر كل شهر.
(2) في الأصل «أعلام» وهو تصحيف. حاشية الطبعة الأميرية.(6/396)
هذه مناجاة أمير المؤمنين لك، أجراك فيها على ما عوّدك من التجمّل والإكرام، وحباك فيها بما هو مبشّر لك بالسعادة الوافية الأصناف والأقسام، فتلقّها بالجذل والاستبشار، وواصل شكر الله تعالى على ما تضمّنته من حسن مجاري الأقضية والأقدار وطالع حضرة أمير المؤمنين بأنبائك، وتابع إنهاء ما يتشوّف نحوه من تلقائك إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني (أن يتّخذ التحميد في أوّل الكتاب، وهو أقلّ وقوعا من الضرب الذي قبله)
وهذه نسخة كتاب من ذلك، كتب به أبو إسحاق الصابي (1) عن «المطيع لله» (2) إلى بعض ولاة الأطراف، عند طاعة عبد (3) الملك بن نوح أحد ملوك بني ساسان، وهي:
أما بعد، فالحمد لله الوليّ بالاستحماد، المستحقّ لكنه الاعتباد، القدير على تأليف الأجساد، البصير بسبل خفايا الأحقاد، ذي الحكمة في تبديل الضّغن (4) والسّخيمة (5) ذمّة، والمنابذة عصمة، والقطيعة وصلة، والشّحناء خلّة، والحرج فرجة، والشّعث نضارة وبهجة. الذي جعل الصّلح فتحا هنيّا، والسّلم منجا بهيّا، والموادعة منّا جزيلا، والإرعاء أمنا جميلا، والإقالة حرما لا
__________
(1) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 2ص 382من هذا الجزء.
(2) هو أبو القاسم الفضل بن جعفر المقتدر بالله ابن المعتضد، بويع له بعد خلع المستكفي سنة 334 هـ. خلع نفسه غير مكره سنة 363هـ فنزل عن الخلافة لولده الطائع لله أبي بكر عبد الكريم، ومات سنة 364هـ وقال ابن الأثير: خلع المطيع لله، وكان به مرض الفالج، وقد ثقل لسانه وتعذّرت الحركة عليه. انظر مروج الذهب (ج 4ص 421، وفوات الوفيات (ج 3ص 182)، والكامل في التاريخ (ج 8ص 421، 452451، 637) والأعلام (ج 5ص 147).
(3) ذكره ابن الأثير وابن خلدون باسم عبد الملك بن نوح بن ساسان وقالا: تولّى امارة خراسان بعد أبيه سنة 343هـ. توفي سنة 350هـ. انظر الكامل في التاريخ (ج 8ص 508507، 535) وتاريخ ابن خلدون (ج 8ص 750، 752، 767، 939) والأعلام (ج 4ص 165).
(4) الضغن: الحقد.
(5) السخيمة: الضغينة، والجمع سخائم.(6/397)
يضلّ هداه، ولا تحلّ قواه، ولا تخيب عواقبه، ولا تخفى مآثره ومناقبه، رأفة منه بالخلق، وصيانة لأهل الحقّ، وإمهالا في العهد، ورخصة في الاختصار دون الحدّ ليقرّب فيئة المتأمل، ويسهّل رجعة المتحصل، وتسرع رفاهية المستبصر، ويخفّ اجتهاد المزاول المشمّر، وقد قال الله عزّ وجلّ {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (1) وهو المسؤول عمارة الإسلام بالسّلامة، والأنام بالاستقامة، والسلطان بالطّاعة، والملك ببخوع (2) الجماعة، حتّى تزال الفتنة مهيضة (3) الجناح، مريشة الاجتياح، فليلة الشّباة (4)، قليلة الأدوات، فتكون النفوس واحدة، والأيدي مترافدة والمودّات صافية، والمآرب متكافية متضاهية، في الشكر الذي يذاد به عن النّفوس، ويحمى به حريم الدّين ويرجى معه التأييد، ويبتغى بوسيلته المزيد، فقد قال الله وقوله الحق: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [5]
والله سميع مجيب. وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل! وقد علمت ما فرط من نوح بن نصر في السّهو، ونقم منه في الهفو، الذي ألهاه عن التقوى، وأنساه شيمة الرّقبى (6)، فعدل عن سنن القصد، وزاغ عنه على عمد، وحال عن آداب آبائه رحمهم الله وهم القدوة، وسجاياهم وبهم الأسوة، وما كان ينتمي به من الولاء، ويعتزي إليه من الوفاء، وصار أدنى معنى ممن يحسده على كرم الأصل، وينافسه في شرف المحل، ويدخل على عقله مدّخل النصيحة، ويطّلع بظاهرها على آرائه الصريحة، وكلّ ذلك إلحاد في أمير
__________
(1) سورة النساء 4، الآية 128.
(2) ببخوع الجماعة: أي بانقيادها، يقال: بخع بالحقّ: أقرّ به وخضع له.
(3) مهيضة الجناح: مكسورة الجناح يقال: هاض فلان العظم: كسره بعد الجبور.
(4) فليلة الشباة: أي كي تهدأ الفتنة والشبا من السيف: القدر الذي يقطع به، والجمع شبا، يقال: سيف فليل أي منثلم.
(5) سورة إبراهيم 14، الآية 7.
(6) الرقبى: أن يعطي الرجل انسانا ملكا فأيّهما مات رجع الملك إلى ورثته، وهي اسم من المراقبة لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه.(6/398)
المؤمنين وعهدته، ومروق عن أزمّته، وعقوق بالبرية يشقى به الباقي، ولن يشقى به النازح الماضي. فإنّ أمير المؤمنين ما زال واعيا لأوامر سلفه، عارفا بمآثر خلفه، متجافيا لأولئك عما ابتدعه، متنوّيا لهذا التّجاوز عمّا صنعه، فقد كان نمي إلى أمير المؤمنين أنّ عبد الملك بن نوح، مولى أمير المؤمنين، سليم السّريرة، سديد البصيرة، يرجع إلى رأيه وتدبيره، ولم يجد وشمكير بن زنار، عاجله بالبوار، مساغا إلى ختله، ولا احتيالا في ليّه وفتله، وكان لعبد الملك ركن الدولة بن مالك مولى أمير المؤمنين ظهير صدق، إن وسن أيقظه، وإن ماد أيّده، خلّة فضل فطره الله عليها، وغريزة تمييز أحسن الله إليه فيها، فإنه لو قال أمير المؤمنين: إنه لا مثل له استحقّ هذا الوصف، ولأمن أمير المؤمنين فيه الخلف. ترك لباس أبيه فنزعه، واعتاض منه وخلعه، وتنصّل مما كان منه منتهكا، فعاد عليه محتنكا، وأتى الأمر من طريقه، ولجأ فيه إلى فريقه، ركن الدولة أبي عليّ مولى أمير المؤمنين، أحسن الله ولايته، ومعزّ الدولة أبي الحسين تولّى الله معونته، واستصلحهما، وكفى، واستخلصهما، وغنى، وراسل في الإنابة وإن لم يكن حائدا، والاستقالة وإن لم يكن جانيا، فما ترك ركن الدولة ومعز الدولة كلأهما الله إكبار قدره، وإجلال أمره، والقيام بخلاصه، والنطق عن أمير المؤمنين بلسان مشاركته، وإذكار أمير المؤمنين بما لم ينسه من تلك الوثائق، التي صدّر بها كتابه، والعلائق، التي وشّح بها خطابه، إلى أن أجلّ أبا محمد نوحا وترحم عليه، وقبل عبد الملك وأحسن إليه، وواصل رسله، واستمع رسائله، وقلّده خراسان ونواحيها، وسائر الأعمال الجارية فيها، وعهد إليه في ذلك عهدا وميّزه باللواء، والخلع (1) والحباء، بعد أن كنّاه بلسانه، ووفّاه حدود إحسانه وألحقه في ذلك بآبائه، ولم يقصّر فيه بشأوه.
وكتاب أمير المؤمنين هذا، وقد اطّردت الحال واستوثقت، وامتزجت الأهواء واتفقت وخلا المشرق من الاضطراب الذي طال أمده، ولم يكد يرى أثره،
__________
(1) الخلع: ج خلعة، وهي خيار المال، أو ما يخلع على الإنسان. والحباء بكسر الحاء: العطاء.(6/399)
وصارت العساكر الدانية والنائية فوضى لا تمتاز، ولا تنفرد وتنحاز، وذلك صنع الله لأمير المؤمنين في جمع الشّتات، وتلافي الهنات (1)، ولمّ خلل التّخاذل، ومداواة نغل الدّخائل لتتمّ الكلمة في ولايته، وتعمّ النّعم في طاعته، ولا يكون للشيطان سبيل على شيعته، ولا طريق إلى مكيدة أبناء دعوته، والله ذو الفضل العظيم.
فاحمد الله على هذا النبإ الذي تطوّع به المقدار، والخبر الذي دلّت عليه الأخبار، من الفتح الذي لم ينغّصه تعب، ولم يكدّره عناء ولا نصب، فإنه تأتّى سهلا، وأتى رسلا وابتدأ عفوا، وانتهى خالصا صفوا، فقد قمع الله به العندة، وجمع بتهيئة العبدة، وآذن عقباه بالسعادة، وبشّر في سيماه باتصال المادة، وأنزل أبا الفوارس عبد الملك بن نوح، مولى أمير المؤمنين، منزلة من رآه أمير المؤمنين أهلا للوديعة، وآمنه على الصّنيعة، ورتّبه مرتبة المسبحة، واستحفظ الله حسن الموهبة به، وما قد تجدّد بين أبي الفوارس وبينهما من الاتحاد، المتولد عن الاغتباط والاعتداد، فقلّ من شاقّهما فلم يندم، وتمرّد عليهما فلم يكلم، وتمسك بهما فلم يسعد، وارتبع أكنافهما فلم يوعد وأجب عن هذا الكتاب بوصوله إليك، وموقع متضمّنه لديك، وما يحدثه لك من الجذل، وانفساح الأمل موفّقا إن شاء الله تعالى.
النوع الثاني (أن لا يعقب البعدية «تحميد»، بل يقع الشروع عقبها في المقصود)
وهذه نسخة كتاب من ذلك، كتب به أبو إسحاق (2) الصابي عن الطائع لله إلى من بصحار (3) وسوادها، وجبال عمان وأعمالها، وحاضرتها وباديتها، بالأمر
__________
(1) الهنات، بالفتح: الشرّ يقال: في فلان هنات، أي خصلات شر، ولا يقال ذلك في الخير.
(2) تقدم الحديث عنه في الحاشية رقم 1من ص 397.
(3) صحار، بضم أوله: قصبة عمان مما يلي الجبل. معجم البلدان (ج 3ص 394393).(6/400)
بالاجتماع على الطاعة، وهي:
أما بعد، فإنّ أمير المؤمنين للذي حمّله الله من أعباء الإمامة، وأهّله له من شرف الخلافة، واستودعه من الأمانة في حياطة المسلمين، والاجتهاد لهم في مصالح الدنيا والدّين، يرى أن يراعي من بعد منهم ونأى، كما يراعي من قرب ودنا، وأن يلاحظ جماعتهم بالعين الكالية، ويطلبهم بالعين الوافية، ويتصفّح ظواهر أمورهم، وبواطن دواخلهم، فيحمد من سلك نهج السلامة، ويرشد من عدل عن الاستقامة، وينظم شمل الجماعة على الألفة التي أمر الله بها وحضّ عليها، ويزيلهم عن الفرقة التي ذمّها وو نهى عنها إذ يقول جلّ من قائل: {وَأَطِيعُوا اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَلََا تَنََازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (1):
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللََّهِ جَمِيعاً وَلََا تَفَرَّقُوا} (2). فلا يزال أمير المؤمنين يعرّفهم ما افترض الله عليهم من طاعة الأئمة وأولي الأمر الذين لا عصمة لمخالفهم، ولا ذمّة لمعاندهم، ولا عذر لمسلم ولا معاهد نأى بجانبه عنهم، وضلّ بوجهه عن سبيلهم، إذ كان الإمام حجة الله على خلقه، وخليفته في أرضه، وكانت الطاعة واجبة له ولمن قلّده أزمّة أموره، واستنابه في حمل الأعباء عنه، فمن آنس منه الهداية أحمده، ومن أنكر منه الغواية أرشده بالوعظ ما اكتفى به، أو بالبسط إن أحوج إليه. وإنّ أمير المؤمنين يسأل الله أن يوفّقه للرأي السّديد، ويمدّه بالصّنع والتأييد، ويتولّاه بالمعونة على كلّ ما لمّ (3) الشعث، وسدّ الخلل، وقوّم الأود وعدل الميل وأحسن العائدة على المسلمين جميعا في شرق الأرض وغربها، وسهلها وحزنها، إنه بذلك جدير، وعليه قدير، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.
وقد علمتم أن أمير المؤمنين أحسن إلى الرعيّة بما كان فوّضه إلى عضد
__________
(1) سورة الأنفال 8، الآية 46.
(2) سورة آل عمران 3، الآية 103.
(3) يقال في الدعاء: لمّ الله شعثكم أي جمع أمركم المنتشر.(6/401)
الدولة وتاج الملّة رحمة الله عليه من سياستهم باديا، ثم أحسن باستخلاف عديله وسليله صمصام الدولة وشمس الملة ثانيا إذ كان خيرة أمير المؤمنين وصفوته، وحسامه ومجنّه (1)، والمورد المصدر عنه بالعهدين المستمرّين من أمير المؤمنين بالنص عليه، ومن الوالد رحمه الله بالوصيّة إليه. وإن هذه العقود المؤكّدة، والعهود المشدّدة، موجبة على الكافّة طاعة من حصلت له، أو استقرّت بوثائقها في يده، إذ لا يصحّ من حاكم حكم، ولا من عاقد عقد، ولا من وال إقامة حدّ، ولا من مسلم تأدية فرض حتّى يكون ذلك مبنيّا على هذا الأصل، ومدارا على هذا القطب، وإن كان خارج عنهما وراض بخلافهما، خرج من دينه، أثم بربه، بريء من عصمته، وأنتم من بين الرعية فقد خصصتم سالفا بحسن النظر لكم، وعرفت الطاعة الحسنة منكم، فتقابلت النعمة والشّكر، تقابلا طاب به الذّكر، وانتظم به الأمر. ثم حدثت الهفوة المعترضة قبيل، فكان أمير المؤمنين موجبا للمعاقبة الموجبة على الجاهل الموضع في الفتنة، والمعاتبة الممضّة على الحكيم منكم القاعد عن النّصرة، إلى أن وردت كتب أستاد هرمز (2) بن الحسن، حاجب صمصام (3) الدولة، باستمراركم على كلمة سواء، في نصرة الأولياء، والمحاماة دونهم، ومدافعة الأعداء والمراماة لهم. فوقع ذلك من أمير المؤمنين أحسن مواقعه، ونزل لديه ألطف منازله، وأوجب لكم به رضاه المقترن برضا الله سبحانه، الموجب للقربة والزّلفى (4)
عنده، وأمير المؤمنين يأمركم بالدوام على ما أنتم، والثبات على ما استأنفتم،
__________
(1) الحسام: السيف. والمجنّ: الترس لأن صاحبه يستتر به والجمع مجانّ.
(2) ذكره ابن خلدون بالذال المعجمة وقال: كان مشرف الدولة استولى على فارس وخطب له بعمان، وولي عليها أستاذ هرمز، فانتفض هذا الأخير عليه وصار مع صمصام الدولة. عندها بعث مشرف الدولة إليه عسكرا فهزموا أستاذ هرمز وأسروه، وطولب بالأموال، وعادت عمان إلى مشرف الدولة انظر تاريخ ابن خلدون (ج 8ص 779).
(3) تقدم الحديث عنه في الحاشية رقم 4من ص 382.
(4) الزلفى: القربة.(6/402)
والمبادرة إلى كلّ ما يأمركم به فلان الوالي عليكم من صمصام الدولة بالاستخلاف والتفويض، ومن أمير المؤمنين، بالإمضاء لما أمضاه، والرضا بما يرضاه، فاعلموا ذلك من رأي أمير المؤمنين وأمره، وانتهوا فيه إلى حدّه ورسمه، وكونوا لفلان الوالي خير رعيّة، يكن لكم خير راع، فقد أمر فيكم بحسن السّيرة، وإجمال المعاملة، وتخفيف الوطأة، ورفع المؤونة (1) وجعل إليه عقاب المسيء، وثواب المحسن، ومسالمة المسالم، ومحاربة المحارب، وأمان المستأمن، وإقالة المستقيل، وحمل الجماعة على سواء السبيل، إن شاء الله تعالى.
الجملة الثالثة (في الكتب الخاصة مما يصدر عن الخلفاء، وهي على ضربين)
الضرب الأوّل (ما يكتب عن الخلفاء إلى وزرائهم)
قال في «صناعة الكتاب»: ويكاتب الإمام الوزير أو من حلّ محله «أمتعني الله بك وبدوام النّعمة عندي بك، وبقاء الموهبة لي فيك» وما جرى هذا المجرى.
وذكر في «ذخيرة الكتاب»: أن الدعاء للوزير «أمتعنا الله بك وبدوام النّعمة لنا فيك وتجديد الموهبة عندنا بك». ثم قال: ودعا «المكتفي بالله» للقاسم بن عبد الله لما أمر بتكنيته، وكان الكتاب بخطه «أمتعني الله بك وبالنعمة فيك» ووقّع المستنصر إلى وزيره أحمد بن الخصيب «مدّ الله في عمرك». وهو قريب مما ذكره في «صناعة الكتاب» في ذلك كله. والذي رأيته في مكاتبات العلاء بن موصلايا (2) عن «القائم بأمر الله» التصدير بما فيه تعظيم
__________
(1) المؤنة، والمؤونة: الشدّة.
(2) تقدم الحديث عنه في الحاشية رقم 1من ص 391.(6/403)
الوزير وتقريظه، من غير ضابط في الابتداء، والدعاء في أثناء ذلك بالحياطة ثم التوصل إلى المقصد.
وهذه نسخة كتاب كتب به العلاء بن موصلايا عن القائم إلى وزيره:
لمّا خص الله تعالى الدولة القاهرة العبّاسية بامتداد الرّواق (1)، في العز واتساع النطاق، وأجرى لها الأقدار بما يجمع شمل الحق ويمنع من نفاق النّفاق، وأفرد أيّامها بالبهاء المنير الأعلام، والانتهاء في قوّة الأمر إلى ما يتأدّى في طاعتها بين اليقظات والأحلام، وجعل الزمان واقفا عند حدّها في النقض والإبرام، ومتصرّفا على حكمها في كل ما حاول من حال ورام، ومكّن لها في الأرض حتّى أذلّت نواصي الأعداء قهرا وقسرا، وحسرت عن قناع القدرة على ردّ الطامعين في إدراك مداها ظلّعا حسرى، فإن الله تعالى لم يخلها كلّ وقت من قائل في نصرتها فاعل، وقائم بإقامة حشمتها من كل حاف من الأنام وناعل، وراغب في الذّبّ عن حوزتها سرّا وجهرا، وخاطب من خدمتها ما يرجى أن يكون رضا الله في المقابلة عنه أغلى مهرا، وناهج جدد الرّشد في المناضلة عنها بسيفه وقلمه، وفارج للكرب الحادثة فيها بنطق فيها بنطق فيه وسعي قدمه.
وقد منح الله أيام أمير المؤمنين من كونك الوليّ بمواصلة المقامات الغرّ فيها، والخليّ من كل ما يباين صحّة الموالاة وينافيها، والضّمين لما عاد عليها باستقامة النظام، والضّنين بما يوجد للغير الطريق إلى وصول الحتف إليها والاهتضام، والمتجرّد في إمداد عزّها بالإحصاف والإمرار، والمتفرّد بإعداد أقسام المناضلة دونها في الإعلان والإسرار، والباذل وسعه فيما ثنى إليها أعنّة السعد ولواها، والخاذل كلّ مستنجد بها فيما يخالف محبتها وهواها ما أوفى (2) على المألوف في أمثالها من قبل، وصار لك به على كل من سلفك من الأعضاء
__________
(1) الرواق، بضم الراء: الفضل.
(2) هذا هو المفعول الثاني لمنح. حاشية الطبعة الأميرية.(6/404)
التقدّم والفضل فهي بآثارك الحميدة فيها، وإكبارك الجدّ في تشييد مبانيها، وكونك كافيا أمر المحاماة من ورائها، كافّا عنها ما يخشى من حدوث أسباب الفساد واعترائها منيعة الجانب مريعة الجناب، سريعة فيها السّعود إلى ما يلبّي نداءها بأحسن التلبية والجواب.
ثم إنه وإن كانت زلفك (1) إلى حضرة أمير المؤمنين بادية الحجول والغرر، غير محتاجة إلى إقامة الدليل عليها بما اتضّح من أمرها واشتهر، فإنّ فلانا يعيد جلاءها دائما في أبهى الملابس وأنضرها، ويجيد الجدّ في الدّلالة على تقابل مخبرها في الجمال ومنظرها، ويكشف من صفاء السرائر فيها والبواطن، وما يطّلع عليه منها في كل المحال والمواطن، ما يسهب في وصفه ويعجب سماع ذكره ويطرب.
وفي هذه النّوبة عاد، وقد زاد، على المعهود من شكرك وجازه، وأبان عن صلته بالوعد في ضمان النّجح منك نجازه، وأوجب على نفسه أن لا يقف عند حدّ فيما يؤدّي إلى نشر محامدك في الأرض، وطيّ الجوانح لك على الإخلاص الصادق المحض.
ولما مثل بحضرة أمير المؤمنين على رسمه الذي وسم بالجمال جبينه، وابتسم ثغر التوفيق فيه عمّا أصبح النّجح أليف سعيه وقرينه، وبحسب فوزه من شرف الحظوة برتبة لم ينلها أحد الأقران له في الزمان، وفوته شأو أبناء جنسه يوم المضمار والرّهان، كفاء ما يستوجبه بغلاء قيمته في الكمال، والغناء به في كل مقام أمن حدّ مضائه فيه الكلال، أشار بذكر مقاصدك التي حزت بها من غنائم الحمد الصّفايا، وشاد مباني محامدك بفضل الإبانة عن السرائر والخفايا، وتابع الثّناء على كلّ من أفعالك التي أمسى هلالك فيها مقمرا، ووضح فيها كونك بشروط الإخلاص محبّا مضمرا، وشرح من توفّرك على كلّ قربة غرّاء تغري
__________
(1) الزلف: ج زلفى، وهي القربة.(6/405)
الألسنة بحمدك، وتنبيء عن حسن مقصدك برفع عماد الحقّ وعمدك، ما قامت عليه الأدلّة، واستقامت به على سنن الرّشد الأهواء المضلّة، وبيّن من إمضائك كلّ عزم في تهيئة القربات إلى حضرة أمير المؤمنين حالا فحالا، وإبطائك خطا الجدّ فيما يراد بزلفك (1) البالغة أقصى الغايات لديه سابقا واتصالا، ما يضاهي المظنون في تلك العقيدة التي طالما ألفيت في نصرة الدولة القاهرة صافية المورد والمنهل، حالية من الحسن بكل حال اتضح فيها ما ألهى عن غيرها من الوصف وأذهل، فقوبلت بما تستحقّه من إحماد أشيع وأذيع، واتّبع فيه الواجب وأطيع، وتضاعف الاعتداد بأفعالك التي أعنت بالعون منها في الجمال والأبكار، وأعدت بها الأمور في الصّلاح إلى ما يؤمّن إيضاحه الجحد والإنكار.
ومن أحقّ منك بكلّ فعال تضيء مصابيح الخير فيه، وينتشر جميل الذّكر من مطاويه وأنت للدولة الوليّ الأمين وبحفظ نظام كلّ أمر يختصّ بها الكفيل الضّمين؟ ومن أولى منك بكلّ حمد يفد إليك إمداده أرسالا، وتجد منه ضالّة نشدت مثلها آمال سواك فآبت بالخيبة عجالا؟ فلك من الحقوق ما لا ينسى، وما يلزم أن يرعى في كل مصبح وممسى. فأحسن الله جزاءك عن كونك في دولته ذابّا عن الجحد حاميا.
فأما ما تحدّد في معنى الأعمال على الوصف الذي قضى بزوال الخلف وانحسامه، واقتضى رأيك إجراء الأمر على ما استصوب من اتّساقه وانتظامه، فقد وقفت عليه، وأجيز ما أشرت إليه. فأعواض الدنيا تهون وتسهل في ضمن ما يلحظ من اعتناقك أحكام مشايعة الدولة التي قمت بأعبائها في كل أوان، وغدت آثارك فيها باقية الذّكر والأجر على تقضّي الأزمان. فأنت المرغوب في الثناء ولاية وإن شانت (2) الأحوال، والمخلص الذي لا عوض عنه في كلّ مقام ومقال، فقد أحاط العلم بتفصيل ذلك وجملته، وتحقّق أن الخيرة في كل ما تشير إلى
__________
(1) الزلف: ز ج زلفة، وهي القربة.
(2) أي ساءت.(6/406)
سلوك طريقه وجدده ولذلك أجيب فلان إلى الحضور والمستخدمون معه، وأذن في المقابلة بالقوانين القديمة والباقي والجرائد، والموافقة على ما رأيته في البوادي والعوائد، والتنزّه عن كل ما شذّ عن الحجة المؤكّدة بتوفيقك وتوفّر الموجود لهذه السّنة فيه عليه، وحسم موادّ استزادته في كلّ ما تمسّك به وأشار إليه، والثّقة من بعد مستحكمة بتوفّرك على ما يرادف إليك إمداد الحمد، وتجديدك كل قربة تنضمّ إلى سوابقها المتجاوزة حدّ الإحصاء والعدّ.
فأما ما تضمّنته إشارتك في حقّ الستر الرفيع، فهل الصّلاح إلا من نتائج أقوالك؟ وهل مساعيك إلا موقوفة على الخير وأفعالك؟، وهل الموافقة إلا لك في جميع آرائك وأبحاثك، وبحكم ابتدائك لاستقامة النّظام فيما قرب وبعد، والسّكون إلى إسعافك في كلّ أمر يحدث ويتجدّد، ويبعث على ما يعيذ رونق الحشمة من الوهن، ويهز طاعتك في كل أمر يحقّق التقدير فيها والظّن؟ فإذا تصفّحت حقوق الوكلاء المجتباة وجدت موفّرة على اقتناء الأجر، مصروفة في وجوه البرّ التي هي أنفع الذّخر في غد. وهل الأعواض إلا عند من يظنّ الدنيا بعينها قيمة تنافس؟ وهل مصيرها إلا إلى انقضاء ولو أسعفت بالرغائب والنفائس؟ غير أن الأحوال إذا كشف مستورها أثبت ما يقتضي إسبال ستر الإشفاق، والبواطن متى أعرب عنها أشمت ذاك كلّ مجانب للدولة من أهل النّفاق.
وأنت المعتمد لتدبير ما يصون حشمة الدولة عن البذلة والخلل، والمرجوع إليه في تحسين الأمر فيما وقع الاجتهاد فيه حتى تيسّر قدره وتسهّل. ولهذا تفصيل قد أوعز إلى فلان باستقصاء شرحه، وإطلاعك على حقيقة الأمر وفصّه. فكن بحيث الظنّ فيك، تجد زند جمالك بذلك أورى، وتجب لك به صنوف الشّكر طورا، إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني (ما يكتب عن الخلفاء إلى وزراء الملوك)
وهي مما يؤتي في صدرها بحرف النداء غالبا. كما كتب عن المسترشد
إلى معزّ الدين الفضل بن محمود، وزير معز الدين سنجر (1) بن ملكشاه.(6/407)
وهي مما يؤتي في صدرها بحرف النداء غالبا. كما كتب عن المسترشد
إلى معزّ الدين الفضل بن محمود، وزير معز الدين سنجر (1) بن ملكشاه.
مقامك يا معزّ الدين، أحسن الله حياطتك وكمّل موهبته عندك في خدمة الدار العزيزة التي ما زلت لجهدك فيها باذلا، وفي جلابيب المناصحة رافلا لا يقبضنّك أن تواصل حالا فحالا بأنبائك، وتستديم ما خصصت به من شريف الآداب الموفية بك على أكفائك. وعرض بحضرة أمير المؤمنين ما ورد منك دالّا على طاعتك المعهودة، وموالاتك الرائقة المشهودة، واستمرارك على الجدد (2) والمهيع (3) فيما حاز المراضي الشريفة الإمامية لك، وحقّق في الفوز بجميل الآراء أملك، وناطقا بحال فلان المارق عن الدين، المجاهر بمعصية الله تعالى في مخالفة أمير المؤمنين، وما اقتضاه الرأي المعزّيّ بحسن سفارتك، وسداد مقصدك في الطاعة وصفاء نيتك. وأحاط علما بمضمونه الذي لا ريب أنه ثمرة مناصحتك، ونتيجة سعيك المضاهي نصيحة عقيدتك. ومن أولى منك بهذه الحال؟ وأنت الحوّل القلّب (4)، ذو الحنكة المجرّب، الذي تفرّد في الأنام (5)
__________
(1) هو السلطان أبو الحارث سنجر ابن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان بن سلجوق. كان سلطان خراسان وغزنة وما وراء النهر. تلقب بالسلطان الأعظم معز الدين وكان من أعظم الملوك همّة وأكثرهم عطاء. سمّي سنجر لولادته بظاهر مدينة سنجار. تولى المملكة في سنة 490هـ، وتوفي سنة 552هـ، وبموته انقطع استبداد الملوك السلجوقية بخراسان، انظر وفيات الأعيان (ج 2ص 428427) ومعجم البلدان (ج 3ص 262) وتاريخ ابن الأثير (ج 10ص 141، 268265) وفي صفحات أخرى متفرقة.
(2) الجدد: الأرض المستوية. وعليها قولهم في المثل: «من سلك الجدد أمن العثار». يضرب في طلب العافية. والمعنى هنا: أي انك ما زلت تسلك الطريق المستقيم. انظر مجمع الأمثال (ج 2ص 306).
. (3) المهيع: الطريق الواسع البيّن، والجمع مهايع.
(4) الحوّل: أصلها الحول أي الشديد الاحتيال، شدّدت الواو للمبالغة. والرجل الحوّل القلّب: أي البصير بتقليب الأمور.
(5) الأنام: الخلق.(6/408)
بكماله، وقصّر أكفاؤه (1) عن درك شأوه في الخير ومثاله. وما زلت حديثا وقديما موسوما، بهذه المزيّة مرقوما، وبغير شكّ أنك تراعي ما بدأت به، وتعضّد مقالك في موارده بما تعمده في مصادره، وتحرس ما قدّمته من الاحتياط بتحرّيك في أواخره، وتمضي العزيمة لإتمام ما شرعت فيه، كفاء ما يوجبه دينك ويقتضيه، جريا على وتيرتك فيما قضى للأحوال بالانتظام والاتّساق، وآذن لشمس الصّلاح بالإضاءة والإشراق.
وبعد، فقد عرفت ما تكرّر إليك في أمر هذه الطائفة الخبيثة، المكاشفة بمذهب الإلحاد، المبارزة بسوء الاعتقاد، بعثا على جهادها، وكفّ ضررها عن الإسلام وفسادها، ورفع ستر المراقبة عنها، والانتقام لله ولرسوله منها. وما يقنع من همة معزّ الدولة والدين أمتع الله ببقائه ومن وافر عقلك ودينك، وصدق يقينك، إلّا بإرهاف العزيمة في مكاشفتها، وخوض الغمار في محاربتها، والقصد لمضايقة من اعتصم منها بالقلاع، وقتل كلّ من يظفر به في سائر البقاع، حميّة وامتعاضا للدين، وأنفا مما استولى عليه بها من الضرر المبين.
فكن من وراء الحبّ لمعزّ الدنيا والدين على تيقّنك هذا المثال، والادّكار بما تفوز به مع الامتثال له في المآل، وانهض في تنفيذ ما يأمرك به في هذا الباب نهضة من أتزر رضا الله وأراده، وبذل في صلاح معاده اجتهاده، فإن الله سبحانه لا يرضى منكما للانتصار لدينه بالتقصير، وأمير المؤمنين أمركما بالجدّ فيه والتشمير.
وقد شرّفك بتحفة أمر بحملها إليك من بين يدي سدّته، وأعرب بها عن مكانك من حضرته، إنافة على الأمثال بقدرك، وإضفاء لملابس فخرك، فاعرف بمكان النعمة في ذلك، واسلك في القيام بشكرها أوضح المسالك، وأدم المواصلة بمطالعتك، وقدّم التوقّع من إجابتك، تفز من المراضي الشريفة بالحظ الأسنى، ويجتمع لك منها الاسم والمعنى، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الأكفاء: ج الكفؤ، وهو المثل.(6/409)
الطرف الرابع (في الكتب الصادرة عن خلفاء بني العباس في الديار المصرية بعد مصير الخلافة إليها)
وهي على ثلاثة أساليب:
الأسلوب الأوّل (أن يفتتح الكتاب بلفظ «من فلان إلى فلان»)
والحكم فيها على ما كان الأمر عليه في خلافتهم ببغداد، إلا أنه زاد فيه لفظ «ووليّه» بعد لفظ «عبد الله» في أوّل الكتاب فيقال في افتتاحه: «من عبد الله ووليّه أبي فلان فلان الإمام الفلاني». ثم يقال: أما بعد حمد الله، ويؤتى على آخر الخطبة، ثم يتخلص منها ويختم بالأمر بامتثال ما أمر به. ويقال بعد ذلك: موفّقا إن شاء الله تعالى. والخطاب فيه بالكاف، وربما افتتح الكتاب بآية من القرآن الكريم مناسبة للمعنى.
وهذه نسخة كتاب كتب به عن الإمام المستكفي بالله «أبي الربيع سليمان ابن الحاكم بأمر الله أحمد» إلى الملك المؤيّد هزبر الدين داود ابن الملك المظفّر صلاح الدين يوسف بن رسول في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون (1)» في سنة سبع وسبعمائة، حين منع صاحب اليمن الهديّة التي جرت العادة بإرسالها إلى الأبواب الشريفة بالديار المصرية، مفتتحا بآية من القرآن وهو:
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللََّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (2).
__________
(1) هو السلطان الملك الناصر ابن السلطان الملك المنصور. كان ملكا عظيما دانت له البلاد وفي مقدمتها مصر والشام. توفي سنة 741هـ. أنظر فوات الوفيات (ج 4ص 3635)، والدرر الكامنة (ج 4ص 144)، والنجوم الزاهرة (ج 8ص 41، 115) و (ج 9ص 3) والأعلام (ج 7ص 11).
(2) سورة النساء 4، الآية 59.(6/410)
من عبد الله ووليّه أبي الربيع سليمان:
أما بعد حمد الله مانح القلوب السليمة هداها، ومرشد العقول إلى أمر معادها ومبداها، وموفّق من اختاره إلى محجّة صواب لا يضلّ سالكها، ولا تظلم عند إخلاف الأمور العظام مسالكها، وملهم من اصطفاه لاقتفاء آثار السّنن النبويّة والعمل بموجبات القواعد الشرعية، والانتظام في سلك من طوّقته الخلافة عقودها وأفاضت على سدّته الجليلة برودها، وملّكته أقاصي البلاد وأناطت بأحكامه السديدة أمور العباد، وسارت تحت خوافق أعلامه أعلام الملوك الأكاسرة، وشيّدت بأحكامه مناجح الدّنيا ومصالح الآخرة، وتبختر كلّ منبر من ذكره في ثوب من السيادة معلم، وتهلّلت من ألقابه الشريفة أسارير كلّ دينار ودرهم.
يحمده أمير المؤمنين على أن جعل أمور الخلافة ببني العبّاس منوطة، وجعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم القيامة محوطة، ويصلّي على ابن عمه محمد الذي أخمد الله بمبعثه ما ثار من الفتن، وأطفأ برسالته ما اضطرم من نار الإحن، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين حموا حمى الخلافة وذادوا عن مواردها، وعمدوا إلى تمهيد المعالم الدينييّة فأقاموها على قواعدها، صلاة دائمة الغدوّ والرّواح، متصلا أوّلها بطرّة الليل وآخرها بجبين الصّباح.
هذا وإنّ الدين الذي فرض الله على الكافّة الانضمام إلى شعبه، وأطلع فيه شموس هداية تشرق من مشرقه ولا تغرب في غربه، جعل الله حكمه بأمرنا منوطا، وفي سلك أحكامنا مخروطا، وقلّدنا في أمر الخلافة المعظّمة سيفا طال نجاده، وكثر أعوانه وأنجاده، وفوّض إلينا أمر الممالك الإسلاميّة وإلى حرمنا تجبى ثمراتها، ويرفع إلى ديواننا العزيز نفيها وإثباتها، يخلف الأسد إن مضى في غابه شبله، ويلفى في الخبر والخبر مثله.
ولما أفاض الله علينا حلّة الخلافة، وجعل محلّنا الشريف محلّ الرحمة والرافة، وأقعدنا على سدّة خلافة أشرقت بالخلائف من آبائنا، وابتهجت بالسادة
الغطاريف من أسلافنا، وألبسنا خلعة هي من سواد السّؤدد مصبوغة، ومن سواد العيون وسويداوات القلوب مصوغة، وأمضينا على سدّتنا الشريفة أمر الخاصّ والعامّ، وقلّدنا كلّ إقليم من عملنا (1) من يصلح سياستها على الدّوام، واستكفينا بالكفاة من عمّالنا على أعمالنا، واتخذنا مصر دار مقامنا وبها سدّة مقامنا لما كانت في هذا العصر قبّة الإسلام، وفيئة الإمام وثانية دار السّلام، تعيّن (2) علينا أن نتصفّح جرائد عمّالنا، ونتأمّل نظام أعمالنا، مكانا فمكانا، وزمانا فزمانا، فتصفّحناها فوجدنا قطر اليمن خاليا من ولايتنا في هذا الزمن. عرّفنا هذا الأمر من اتخذناه للممالك الإسلامية عينا وقلبا، وصدرا ولبّا، وفوّضنا إليه أمر الممالك الإسلامية فقام فيها مقاما أقعد الأضداد، وأحسن في ترتيب ممالكها نهاية الإصدار وغاية الإيراد، وهو السّلطان الأجلّ، السيد الملك الناصر المبجّل، لا زالت أسباب المصالح على يديه جارية، وسحابة الإحسان من أفق راحته سارية، فلم يعد جوابا لما ذكرناه، ولا عذرا عمّا أبديناه، إلا بتجهيز شرذمة من جحافله المشهورة، وتعيين أناس من فوارسه المذكورة، يقتحمون الأهوال، ولا يعبأون بتغيّرات الأحوال، يرون الموت مغنما إن صادفوه، وشبا المرهف مكسبا إن صافحوه، لا يشربون سوى المدام (3) مدامة، ولا يلبسون غير الترانك (4) عمامة، ولا يعرفون طربا إلا ما أصدره صليل الحسام من غنا، ولا ينزلون قفرا إلا ونبت ساعة نزولهم من قنا. ولما وثقنا منه بإنفاذهم راجعنا رأينا الشريف، فاقتضى أن يكاتب من بسط يده في ممالكها، واحتاط على جميع مسالكها، واتخذ أهلها خولا (5)، وأبدى في خلال ديارها من عدم سياسته(6/411)
ولما أفاض الله علينا حلّة الخلافة، وجعل محلّنا الشريف محلّ الرحمة والرافة، وأقعدنا على سدّة خلافة أشرقت بالخلائف من آبائنا، وابتهجت بالسادة
الغطاريف من أسلافنا، وألبسنا خلعة هي من سواد السّؤدد مصبوغة، ومن سواد العيون وسويداوات القلوب مصوغة، وأمضينا على سدّتنا الشريفة أمر الخاصّ والعامّ، وقلّدنا كلّ إقليم من عملنا (1) من يصلح سياستها على الدّوام، واستكفينا بالكفاة من عمّالنا على أعمالنا، واتخذنا مصر دار مقامنا وبها سدّة مقامنا لما كانت في هذا العصر قبّة الإسلام، وفيئة الإمام وثانية دار السّلام، تعيّن (2) علينا أن نتصفّح جرائد عمّالنا، ونتأمّل نظام أعمالنا، مكانا فمكانا، وزمانا فزمانا، فتصفّحناها فوجدنا قطر اليمن خاليا من ولايتنا في هذا الزمن. عرّفنا هذا الأمر من اتخذناه للممالك الإسلامية عينا وقلبا، وصدرا ولبّا، وفوّضنا إليه أمر الممالك الإسلامية فقام فيها مقاما أقعد الأضداد، وأحسن في ترتيب ممالكها نهاية الإصدار وغاية الإيراد، وهو السّلطان الأجلّ، السيد الملك الناصر المبجّل، لا زالت أسباب المصالح على يديه جارية، وسحابة الإحسان من أفق راحته سارية، فلم يعد جوابا لما ذكرناه، ولا عذرا عمّا أبديناه، إلا بتجهيز شرذمة من جحافله المشهورة، وتعيين أناس من فوارسه المذكورة، يقتحمون الأهوال، ولا يعبأون بتغيّرات الأحوال، يرون الموت مغنما إن صادفوه، وشبا المرهف مكسبا إن صافحوه، لا يشربون سوى المدام (3) مدامة، ولا يلبسون غير الترانك (4) عمامة، ولا يعرفون طربا إلا ما أصدره صليل الحسام من غنا، ولا ينزلون قفرا إلا ونبت ساعة نزولهم من قنا. ولما وثقنا منه بإنفاذهم راجعنا رأينا الشريف، فاقتضى أن يكاتب من بسط يده في ممالكها، واحتاط على جميع مسالكها، واتخذ أهلها خولا (5)، وأبدى في خلال ديارها من عدم سياسته
__________
(1) لعله أعمالنا. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) جواب «ولما أفاض الله» حاشية الطبعة الأميرية.
(3) المدام: المطر الدائم. والمدام الثانية دم الأعداء التي شبّهها بالخمر.
(4) في الأصل «الترانك» بالنون، والأصح «الترائك» بالهمز، وهي جمع تريكة، وهي بيضة الحديد للرأس تشبيها بالتريكة التي هي البيضة. لسان العرب مادة (ترك).
(5) الخول، بالفتح: العبيد والإماء، تستعمل للواحد والجمع والمذكر والمؤنث.(6/412)
خللا. برز مرسومنا الشريف النبويّ أن يكاتب من قعد على تخت مملكتها، وتصرّف في جميع أمور دولتها، وطولع بأنّه ولد السلطان الملك المظفر يوسف ابن عمر الذي له شبهة تمسّك بأذيال المواقف المستعصمية وهو مستصحب الحال على زعمه، أو ما علم الفرق بين الأحياء والأموات؟ أو ما تحقّق الحال التي بين النفي والإثبات؟، أصدرناها إلى الرّحاب التّعزّية، والمعالم اليمنية تشعر من تولّى عنها فاستبدّ، وتولى كبره فلم يعرّج على أحد، أن أمر اليمن ما برحت نوّابنا تحكم فيه بالآية الصحيحة، والتّفويضات التي هي غير جريحة، وما زالت تحمل إلى بيت المال المعمور وما تمشي به الجمال مشيا وئيدا، وتقذفه بطون الجواري إلى ظهور اليعملات (1) وليدا، ويطالعنا بأمر مصالحه ومفاسده، وبحال دياره ومعاهده. ولك أسوة بوالدك فلان، هلّا اقتفيت ما سنّه من آثاره، ونقلت ما دوّنته أيدي الزمن من أخباره؟
واتصل بمواقفنا الشريفة أمور صدرت منك.
منها وهي العظمى التي ترتّب عليها ما ترتب قطع الميرة (2) عن البيت الحرام، وقد علمت أنّه واد غير ذي زرع، ولا يحلّ لأحد أن يتطرّق إليه بمنع.
ومنها انصبابك إلى تفريغ مال بيت المال في شراء لهو الحديث، ونقض العهود القديمة بما تبديه من حديث.
ومنها تعطيل أجياد المنابر من عقود اسمنا، وخلوّ تلك الأماكن من أمور عقدنا وحلّنا. ولو أضحنا لك ما اتصل بنا من أمرك لطال، ولاتّسعت فيه دائرة المقال، رسمنا بها والسيف يودّ لو سبق القلم حدّه، والعلم المنصور يودّ لو فات العلم واهتزّ بتلك الرّوابي قدّه، والكتائب المنصورة تختار لو بدرت عنوان الكتاب، وأهل العزم والحزم يودّون إليك إعمال الرّكاب، والجواري المنشآت
__________
(1) اليعملات: ج يعملة، وهي الناقة النجيبة المعتملة المطبوعة على العمل، أو الجمل الذي يعمل.
(2) الميرة: الطعام الذي يدّخره الإنسان، جمعها مير. والمقصود هنا المساعدة الغذائية.(6/413)
قد تكوّنت من ليل ونهار، وبرزت كصور الأفيلة لكنّها على وجه الماء كالأطيار، وما عمدنا إلى مكاتبتك إلّا للإنذار، ولا احتجنا إلى مخاطبتك إلا للإعذار، فأقلع عمّا أنت بصدده من الخيلاء والإعجاب، وانتظم في سلك من استخلفناه فأخذه بيمينه ما أعطي من كتاب، وصن بالطاعة من زعمت أنهم مقيمون تحت لواء علمك، ومنتظمون في سلك أوامر كلمك، وداخلون تحت طاعة قلمك. فلسنا نشنّ الغارات على من نطق بالشهادتين لسانه وقلبه، وامتثل أوامر الله المطاعة عقله ولبّه. ودان بما يجب من الدّيانة، وتقلّد عقود الصّلاح والتحف مطارف الأمانة. ولسنا ممنا يأمر بتجريد سيف إلا على من علمنا أنه خرج عن طاعتنا، ورفض كتاب الله ونزع عن مبايعتنا. فأصدرنا مرسومنا هذا إليه نقصّ عليه من أنباء حلمنا ما أطال مدّة دولته، وشيّد قواعد صولته، ونستدعي منه رسولا إلى مواقفنا الشريفة، ورحاب ممالكنا المنيفة لينوب عنه في قبول الولاية مناب نفسه، وليجن بعد ذلك ثمار شفقاتنا إن غرس شجر طاعتها. ومن سعادة المرء أن يجني ثمار غرسه، بعد أن يصحبه من ذخائر الأموال ما كثر قيمة وخفّ حملا، وتعالى رتبة وحسن مثلا، واشرط على نفسك في كل سنة قطيعة ترفعها إلى بيت المال. وإيّاك ثم إيّاك! أن تكون على هذا الأمر ممن مال، ورتّب جيشا مقيما تحت علم السلطان الأجلّ الملك الناصر للقاء العدوّ المخذول التّتار، ألحق الله أوّلهم بالهلاك وآخرهم بالبوار (1). وقد علمت تفاصيل أحوالهم المشهورة، وتواريخ سيرهم المنكورة، فاحرص على أن يخصّك من هذا المشرب السائغ أوفر نصيب، وأن تكون ممن جهّز جيشا في سبيل الله فرمى بسهم فله أجر كان مصيبا أو [غير] مصيب، ليعود رسولك من دار الخلافة بتقاليدها وتشاريفها حاملا أهلّة أعلامنا المنصورة، شاكرا برّ مواقفنا المبرورة.
وإن أبى حالك إلا أن استمرّيت على غيّك، واستمريت مرعى بغيك، فقد منعناك التصرّف في البلاد، والنظر في أحكام العباد، حتّى تطأ خيلنا العتاق
__________
(1) البوار، بالفتح: الهلاك.(6/414)
مشمخرّات حصونك، وتعجّل حينئذ ساعة منونك. وما علّمناك غير ما علمه قلبك، ولا فهّمناك غير ما حدسه لبّك، ولا تكن كالصغير يزيده كثرة التحريك نوما، ولا ممن غرّه الإمهال يوما فيوما. أعلمناك ذلك فاعمل بمقتضاه، موفّقا إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الثاني (أن يفتتح الكتاب بخطبة إمّا مصدّرة بآية من القرآن الكريم أو دونها)
كما كتب عن الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس «أحمد بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان» إلى السلطان الملك الناصر، أحمد ابن الملك الناصر محمد (1) بن قلاوون، وهو بالكرك (2)، يستدعي حضوره إلى قلعة الجبل بالقاهرة المحروسة لتقليد السلطنة الشريفة، بعد خلع أخيه الملك الأشرف كجك ابن الناصر محمد، وإمساك الأمير قوصون ومن معه من الأمراء.
وقد ذكر صاحب «الدرّ الملتقط» أنه كتبه في قطع البغداديّ الكامل بين يدي الأمير قطلوبغا الفخريّ كافل السلطنة الشريفة. وهذه نسخته:
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللََّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظََاهِرَةً وَبََاطِنَةً وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يُجََادِلُ فِي اللََّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلََا هُدىً وَلََا كِتََابٍ مُنِيرٍ} [3].
فالحمد لله الذي أسبغ نعمه الظاهرة والباطنة، وألّف قلوب أوليائه المتفقة والمتباينة، وأخذ بنواصي أعدائه المراجعة والبائنة، وأعلى جدّ هذه الدولة القاهرة، وأطلع في أسنّة العوالي نجومها الزاهرة، وحرّك لها العزائم فملكت
__________
(1) تقدم الحديث عنه في الحاشية رقم 1من ص 410.
(2) الكرك، بفتح أوله وثانيه: اسم لقلعة حصينة جدا في طرف الشام من نواحى البلقاء، وقيل: قرية كبيرة قرب بعلبك وهي كلمة عجمية. (معجم البلدان (ج 4ص 453).
(3) سورة لقمان 31، الآية 20.(6/415)
والأمور بحمد الله ساكنة، والبلاد والمنة لله آمنة، والرّعايا في مكانها قاطنة، والسيوف في أغمادها مثل النّيران في قلوب حسّادها كامنة، وأقام أهل الطاعة بالفرض واستوفى بهم القرض، وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض، وأعزّ أنصار المقام الشريف العالي وأعزّ نصره، وأعدّ لعدوّه حصره، وأتى بدولته الغراء تسمو شموسها، وتثمر غروسها، وتظهر في حلل الصباح المشرق عروسها وتجيء منه بخير راع للرعية يسوسها، وبشّره بالملك والدّوام وسرّه بما اجتمع له من طاعة الأنام، وأقدمه على كرسيّ ملكه تظلّه الغمام، وأراه يوم أعدائه وكان لا يظنّ أن يرى في المنام، ولا يزال مؤيّد الهمم، مؤكّد الذّمم، مجدّد البيعة على رقاب الأمم، ولا برحت أيامه المقبلة مقبلة بالنّعم، خضر الأكناف على رغم من كاد وغيظ من رغم ولا فتئت عهود سلفه الشريفة تنشأ له كما كانت، ورعاياه تدين له بما دانت، وجنوده تفدّيه من النفوس بأعزّ ما ذخرت وما صانت، وسعادة سلطانه تكشف الغمم وتنشر الذّمم وتعيد إلى أنوف أهل الأنفة الشّمم، وتحفظ ما بقي لأوليائه من بياض الوجوه وسواد اللّمم.
سطّرها وأصدرها وقد حقّقت بعوائد الله الظّنون، وصدّقت الخواطر العيون، وأنجز الله وعده، وأتمّ سعده، وجمع على مقامه الكريم قلوب أوليائه، وفرّق فرق عدوّه وأباته بدائه، ووطّد لرقيّه المنابر، ورجّل لترقّيه العساكر، وهيّأ لمقاتل أعدائه في أيدي أوليائه السّيوف البواتر. وأخذ قوصون وأمسك ونهب ماله واستهلك، وهدمت أبنيته وهدّت أفنيته، وخرّبت دياره وقلعت آثاره، وأخليت خزائنه وأخرجت من بطون الأرض دفائنه، وما مانعت عنه تلك الربائب التي ظنّها قساور ولا ناضلت تلك القسيّ التي طبعها أساور، ولا أغنى عنه ذلك المال الذي ذهب، ولا ذلك الجوهر الذي كان عرضا لمن نهب. وأعيد إلى المهد ذلك الطفل الذي أكل الدّنيا باسمه، وقهر أبناءها بحكمه، وموّه به على الناس وأخلى له الغاب وما خرج من الكناس، وغالب به الغلب حتّى وطيء الرّقاب وداس الأعقاب، وخادع ودلّه الشيطان بغروره ودلّس عليه عاقبة أموره، فاعتدّ
بعتاده واعتزّ بقياده واغترّ بأنّ الأرض له وما علم أنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، فأمسك ومعه رؤوس أشياعه، وحصرت بالخوف نفوس أتباعه ومنهم الطنبغا. وقد أحاط العلم الشريف بكيفية وصوله وحقيقة الخبر وما قاساه في طريقه من العبر، وداس عليه حتّى وصل من وخز الإبر. وكذلك من جاء معه، وخلّف وراءه الحقّ وتبعه، بعد الهزيمة التي ألجأهم إليها خوف العساكر المنصورة التي قعدت لهم على الطريق وأخذت عليهم بمدارج أنفاسهم في فم المضيق، وعبّئت لهم صفوف الرجال، وأعدّت لهم حتوف الآجال، وحيّرتهم في سعة الفجاج، وأرتهم بوارق الموت في سحب العجاج. ثم لم يصلوا إلا وهم أشلاء ممزّقة، وأعضاء مفرّقة قد فني تحتهم الظهر، وقني بيومهم الدّهر، وساقتهم سعادة سلطان المقام العالي إلى شقاوتهم وهم رقود، وعبّئت لهم الخيل والخلع إلا أنها ملابس الذّلّ وهي القيود. فأخذوا جميعا ومن كانوا على موالاته، وفارقوا الجماعة لمواتاته، وحملوا إلى الحبس النائي المكان، وأودعوا أحياء في ملحده إلّا أنهم كالأموات، وقد نالوا المقصد إلا أنهم ما أمنوا الفوات. ووكّل بحفظهم إلى أن يشرّف سرير الملك بقعود مقامه وعقود أيّامه الحوالي، وسعود زمانه الذي لا يحتم بالنجوم إلا خدم الليالي.(6/416)
سطّرها وأصدرها وقد حقّقت بعوائد الله الظّنون، وصدّقت الخواطر العيون، وأنجز الله وعده، وأتمّ سعده، وجمع على مقامه الكريم قلوب أوليائه، وفرّق فرق عدوّه وأباته بدائه، ووطّد لرقيّه المنابر، ورجّل لترقّيه العساكر، وهيّأ لمقاتل أعدائه في أيدي أوليائه السّيوف البواتر. وأخذ قوصون وأمسك ونهب ماله واستهلك، وهدمت أبنيته وهدّت أفنيته، وخرّبت دياره وقلعت آثاره، وأخليت خزائنه وأخرجت من بطون الأرض دفائنه، وما مانعت عنه تلك الربائب التي ظنّها قساور ولا ناضلت تلك القسيّ التي طبعها أساور، ولا أغنى عنه ذلك المال الذي ذهب، ولا ذلك الجوهر الذي كان عرضا لمن نهب. وأعيد إلى المهد ذلك الطفل الذي أكل الدّنيا باسمه، وقهر أبناءها بحكمه، وموّه به على الناس وأخلى له الغاب وما خرج من الكناس، وغالب به الغلب حتّى وطيء الرّقاب وداس الأعقاب، وخادع ودلّه الشيطان بغروره ودلّس عليه عاقبة أموره، فاعتدّ
بعتاده واعتزّ بقياده واغترّ بأنّ الأرض له وما علم أنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، فأمسك ومعه رؤوس أشياعه، وحصرت بالخوف نفوس أتباعه ومنهم الطنبغا. وقد أحاط العلم الشريف بكيفية وصوله وحقيقة الخبر وما قاساه في طريقه من العبر، وداس عليه حتّى وصل من وخز الإبر. وكذلك من جاء معه، وخلّف وراءه الحقّ وتبعه، بعد الهزيمة التي ألجأهم إليها خوف العساكر المنصورة التي قعدت لهم على الطريق وأخذت عليهم بمدارج أنفاسهم في فم المضيق، وعبّئت لهم صفوف الرجال، وأعدّت لهم حتوف الآجال، وحيّرتهم في سعة الفجاج، وأرتهم بوارق الموت في سحب العجاج. ثم لم يصلوا إلا وهم أشلاء ممزّقة، وأعضاء مفرّقة قد فني تحتهم الظهر، وقني بيومهم الدّهر، وساقتهم سعادة سلطان المقام العالي إلى شقاوتهم وهم رقود، وعبّئت لهم الخيل والخلع إلا أنها ملابس الذّلّ وهي القيود. فأخذوا جميعا ومن كانوا على موالاته، وفارقوا الجماعة لمواتاته، وحملوا إلى الحبس النائي المكان، وأودعوا أحياء في ملحده إلّا أنهم كالأموات، وقد نالوا المقصد إلا أنهم ما أمنوا الفوات. ووكّل بحفظهم إلى أن يشرّف سرير الملك بقعود مقامه وعقود أيّامه الحوالي، وسعود زمانه الذي لا يحتم بالنجوم إلا خدم الليالي.
وهذا النصر إنما تهيّأت ولله الحمد أسبابه، وهذا الفتح إنما فتحت بمشيئة الله أبوابه، بمنّة الله ونيّة المقام العالي لا بمنّة أحد، ولا بمنّة بأس من أقدر ولا يأس من حجر، وما قضى الله به من سعادة هذه الأيام، ومضى به القدر السابق وعلى الله التمام، وبمظافرة الجناب الكريم السّيفيّ، قطلوبغا الفخريّ الساقي الناصريّ، أدام الله نصرته لهذه العصابة المؤيّدة. وبمضاء عزائمه التي ماونت، وقضاء قواضبه التي ما انثنت، وبموازرة من التفّ عليه من أكابر الأمراء، وبما أجمعوا عليه من مظافرة الآراء، ونزولهم على النية لا يضرّهم من خذلهم، ولا يهينهم من بذلهم، ولا يبالون بعساكر دمشق المقيمة على حلب ومن مال إليهم، وتمالأ معهم عليهم، ومن انضاف إليهم من جنود البلاد، وجيوش العناد، ولا لواهم ما كان يبعث إليهم ذلك الخائن من وعيده، ولا ولّاهم
ما كاد يخطف أبصارهم من تهديده، ولا بالوا بما ألّب عليهم من جند الشام من كلّ أوب، وصبّ عليهم سيوله من كل صوب، وخادعهم بالرسائل التي ما تزيدهم عليه إلا إباء، ولا تشكّكهم أن السيف أصدق منه إنباء، حتّى ولّى لا تنفعه الخدع، ولا تنصره البدع، فما أسعدته تلك الجموع التي جمعها، ولا أجابته تلك الجنود التي سار عليها إلى مكمن أجله، ولا وقت تلك السيوف التي لم يظهر له من بوارقها إلا حمرة الخجل، حتى أخذ مع طاغيته بل طاغوته بمصر ذلك الأخذ الوبيل، وقذف به إلى مهوى هلكة سيل ذلك السبيل، وقام من بالديار المصرية قيام رجل واحد، وتظافروا على إزالة ذلك الكافر الجاحد، ولم يبق من الأمراء إلا من بذل الجهد، وجمع قلوب الرعية والجند، وفعل في الخدمة الشريفة ما لم يكن منه بدّ، حتّى حمد الأمر وخمد الجمر، وتواترت الكتب بما عمّت به البشرى من إقامة البيعة باسمه الكريم، وأنه لم يبق إلا من أعطى اليمين وأعطى اليمين، وأتمّ الحلف إتماما لا يقدّر معه ثمين، وأقيمت له السّكة والخطبة فرفع على المنابر اسمه وتهلل به وجوه النّقود، وظهر على أسارير الوجود، وضربت البشائر، ونهبت المسرّات السّرائر، وتشوّقت أولياء هذه الدولة القاهرة أدام الله سلطانها إلى حضور ملكها، وسفور الصّباح لإذهاب ما أبقته عقابيل تلك الليلة من حلكها. والمقام العالي ما يزداد علما ولا يزاد عزما، وهو أدرى بما في التأخير، وبما في بعده من الضرر الكبير ومثله لا يعلّم، ومنه يتعلّم فهو أعلم بما يجب من مسابقة قدومه للبشير، وما سيعنّ من معاجلته لامتطاء جواديه ظهر الخمال وبطن السّرير، فالله الله! في تعجيل حفظ هذا السّوام المشرّد، وضمّ هذا الشّمل المشتّت ونظم هذا العقد المبدّد، وجمع كلمة الإسلام التي طالما افترقت، وانتجاع عارض هذه النعمة التي أبرقت، وسرعة المسير فإنّ صبيحة اليوم المبارك الذي يعرف من أوّله قد أشرقت، فما بقي ما به يقتدر، ولا سوى مقدمه السعيد ينتظر.(6/417)
وهذا النصر إنما تهيّأت ولله الحمد أسبابه، وهذا الفتح إنما فتحت بمشيئة الله أبوابه، بمنّة الله ونيّة المقام العالي لا بمنّة أحد، ولا بمنّة بأس من أقدر ولا يأس من حجر، وما قضى الله به من سعادة هذه الأيام، ومضى به القدر السابق وعلى الله التمام، وبمظافرة الجناب الكريم السّيفيّ، قطلوبغا الفخريّ الساقي الناصريّ، أدام الله نصرته لهذه العصابة المؤيّدة. وبمضاء عزائمه التي ماونت، وقضاء قواضبه التي ما انثنت، وبموازرة من التفّ عليه من أكابر الأمراء، وبما أجمعوا عليه من مظافرة الآراء، ونزولهم على النية لا يضرّهم من خذلهم، ولا يهينهم من بذلهم، ولا يبالون بعساكر دمشق المقيمة على حلب ومن مال إليهم، وتمالأ معهم عليهم، ومن انضاف إليهم من جنود البلاد، وجيوش العناد، ولا لواهم ما كان يبعث إليهم ذلك الخائن من وعيده، ولا ولّاهم
ما كاد يخطف أبصارهم من تهديده، ولا بالوا بما ألّب عليهم من جند الشام من كلّ أوب، وصبّ عليهم سيوله من كل صوب، وخادعهم بالرسائل التي ما تزيدهم عليه إلا إباء، ولا تشكّكهم أن السيف أصدق منه إنباء، حتّى ولّى لا تنفعه الخدع، ولا تنصره البدع، فما أسعدته تلك الجموع التي جمعها، ولا أجابته تلك الجنود التي سار عليها إلى مكمن أجله، ولا وقت تلك السيوف التي لم يظهر له من بوارقها إلا حمرة الخجل، حتى أخذ مع طاغيته بل طاغوته بمصر ذلك الأخذ الوبيل، وقذف به إلى مهوى هلكة سيل ذلك السبيل، وقام من بالديار المصرية قيام رجل واحد، وتظافروا على إزالة ذلك الكافر الجاحد، ولم يبق من الأمراء إلا من بذل الجهد، وجمع قلوب الرعية والجند، وفعل في الخدمة الشريفة ما لم يكن منه بدّ، حتّى حمد الأمر وخمد الجمر، وتواترت الكتب بما عمّت به البشرى من إقامة البيعة باسمه الكريم، وأنه لم يبق إلا من أعطى اليمين وأعطى اليمين، وأتمّ الحلف إتماما لا يقدّر معه ثمين، وأقيمت له السّكة والخطبة فرفع على المنابر اسمه وتهلل به وجوه النّقود، وظهر على أسارير الوجود، وضربت البشائر، ونهبت المسرّات السّرائر، وتشوّقت أولياء هذه الدولة القاهرة أدام الله سلطانها إلى حضور ملكها، وسفور الصّباح لإذهاب ما أبقته عقابيل تلك الليلة من حلكها. والمقام العالي ما يزداد علما ولا يزاد عزما، وهو أدرى بما في التأخير، وبما في بعده من الضرر الكبير ومثله لا يعلّم، ومنه يتعلّم فهو أعلم بما يجب من مسابقة قدومه للبشير، وما سيعنّ من معاجلته لامتطاء جواديه ظهر الخمال وبطن السّرير، فالله الله! في تعجيل حفظ هذا السّوام المشرّد، وضمّ هذا الشّمل المشتّت ونظم هذا العقد المبدّد، وجمع كلمة الإسلام التي طالما افترقت، وانتجاع عارض هذه النعمة التي أبرقت، وسرعة المسير فإنّ صبيحة اليوم المبارك الذي يعرف من أوّله قد أشرقت، فما بقي ما به يقتدر، ولا سوى مقدمه السعيد ينتظر.
وقد كتبناها ويدنا ممدودة لمبايعته وقلوب الخلق كلّها مستعدّة لمتابعته، وكرسيّ الملك قد أزلف له مقعده ومؤمّل الظّفر قد أنجز له موعده، والدهر
مطاوعه والزمان مسعده، وطوائف أوليائه ليوم لقائه ترصده والعهد له قد كتب ولواء الملك عليه قد نصب والمنبر باسمه عليه قد خطب، والدينار والدرهم هذا وهذا له قد ضرب ولم يبق إلا أن يقترب وترى العيون منه ما ترتقب، ويجلس على السّرير ويزمع المبشّر ويعزم على المسير، وتزيّن الأقاليم ويبيّن لتسيير شهابه ما كان يقرأ له في التّقاويم، لا زال جيب ملكه على الأقطار مزرورا وذيل فخاره على السماء مجرورا وحبل وليّه متّصلا وقلبه مسرورا، ومقدمه يحوز له من إرث آبائه نعما جمة وملكا كبيرا إن شاء الله تعالى.(6/418)
وقد كتبناها ويدنا ممدودة لمبايعته وقلوب الخلق كلّها مستعدّة لمتابعته، وكرسيّ الملك قد أزلف له مقعده ومؤمّل الظّفر قد أنجز له موعده، والدهر
مطاوعه والزمان مسعده، وطوائف أوليائه ليوم لقائه ترصده والعهد له قد كتب ولواء الملك عليه قد نصب والمنبر باسمه عليه قد خطب، والدينار والدرهم هذا وهذا له قد ضرب ولم يبق إلا أن يقترب وترى العيون منه ما ترتقب، ويجلس على السّرير ويزمع المبشّر ويعزم على المسير، وتزيّن الأقاليم ويبيّن لتسيير شهابه ما كان يقرأ له في التّقاويم، لا زال جيب ملكه على الأقطار مزرورا وذيل فخاره على السماء مجرورا وحبل وليّه متّصلا وقلبه مسرورا، ومقدمه يحوز له من إرث آبائه نعما جمة وملكا كبيرا إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الثالث (ما استقرّ عليه الحال في زماننا إلى خلافة الإمام المتوكل على الله خليفة العصر)
وهو أن تفتتح المكاتبة بالسلام، ويؤتى في ألقاب المكتوب إليه بما يكتب من الألقاب عن السلطان على ما سيأتي ذكره في المكاتبات السلطانيات في الباب الثاني من هذه المقالة، إن شاء الله تعالى.
مثال ذلك أن تكون المكاتبة إلى نائب الشأم مثلا، فالذي يكتب إليه عن السلطان: «أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم العالي» إلى آخر الألقاب الآتي ذكرها هناك، ويكتب عن الخليفة «سلام الله تعالى ورحمته وبركاته يخصّ المقرّ الكريم العالي» إلى آخر الألقاب.
قلت: ولو سلكوا سبيل الخلفاء السابقين في المكاتبات الصادرة عنهم:
من الابتداء بلفظ «من عبد الله ووليّه أبي فلان فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين إلى فلان على ما تقدّم» وأتوا في ألقاب المكتوب إليه بالألقاب المستعملة في [ذلك] الزمان في المكاتبات السلطانية، مثل أن يكتب عن الإمام المتوكّل على الله محمد خليفة العصر إلى نائب الشام «من عبد الله ووليّه أبي عبد الله محمد الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين، إلى المقرّ الكريم العالي الأميريّ
الكبيريّ» إلى آخر الألقاب المقدّم بيانها في المقالة الثالثة. ثم يقال: «وسلام على المقرّ الكريم، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليه الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلّي على محمد عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم». ثم يقال: أمّا بعد، فإنّ كذا وكذا، ويؤتى على المقصد ويختم بالدعاء وغيره لكان أذهب مع الصواب، وأوفق لمكاتبة الخلفاء السابقين، وأقرب إلى اقتفاء سبيلهم.(6/419)
من الابتداء بلفظ «من عبد الله ووليّه أبي فلان فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين إلى فلان على ما تقدّم» وأتوا في ألقاب المكتوب إليه بالألقاب المستعملة في [ذلك] الزمان في المكاتبات السلطانية، مثل أن يكتب عن الإمام المتوكّل على الله محمد خليفة العصر إلى نائب الشام «من عبد الله ووليّه أبي عبد الله محمد الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين، إلى المقرّ الكريم العالي الأميريّ
الكبيريّ» إلى آخر الألقاب المقدّم بيانها في المقالة الثالثة. ثم يقال: «وسلام على المقرّ الكريم، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليه الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلّي على محمد عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم». ثم يقال: أمّا بعد، فإنّ كذا وكذا، ويؤتى على المقصد ويختم بالدعاء وغيره لكان أذهب مع الصواب، وأوفق لمكاتبة الخلفاء السابقين، وأقرب إلى اقتفاء سبيلهم.
الطرف الخامس (في الكتب الصادرة عن الخلفاء الفاطميين بالديار المصرية، وفيه ثلاث جمل)
الجملة الأولى (في الكتب الصادرة عنهم على سبيل الإجمال)
وقد ذكر صاحب «موادّ البيان» وكان من كبار دولتهم في المكاتبات الصادرة عنهم نحو المكاتبات الصادرة عن خلفاء بني العبّاس ببغداد، فقال:
وإن كانت المكاتبة من الخليفة فينبغي للكاتب أن يفضل من الدرج قدر ذراع ثم يستفتح ببسم الله الرحمن الرحيم في سطر أوّل لأنها أولى ما يستفتح به، ثم يكتب في سطر ثان يلاصقها ويخرّج يسيرا «من عبد الله ووليه فلان بن فلان إلى فلان» ويبدأ بذكر نعته إن كان الإمام شرّفه بنعت: «سلام عليك فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلّي على محمد خاتم النبيين وسيّد المرسلين وعلى آله الأئمة المهديّين ويسلّم تسليما». ويكون هذا التصدير في سطرين، يجعل بينهما فضاء قيس شبر، ولا يزيده عن ذلك ولا ينقصه فيخرجه عن حدّه، ثم يترك بعد هذين السطرين فضاء نصف الذي بينهما. ثم يقول: أمّا بعد، ويقتصّ المعاني معنى معنى، فإن كان أمرا أمر به الإمام قال بعد انقضاء الكلام: وأمر أمير المؤمنين بكذا. ثم يقول بعد فصل أوسع من الفصل الأول «فاعلم ذلك من أمير المؤمنين ورسمه واعمل عليه بحسبه». ويقول للمخاطبين من الطبقة العالية: والسّلام عليك ورحمة الله،
ويفرد بالسلام من دونها.(6/420)
وإن كانت المكاتبة من الخليفة فينبغي للكاتب أن يفضل من الدرج قدر ذراع ثم يستفتح ببسم الله الرحمن الرحيم في سطر أوّل لأنها أولى ما يستفتح به، ثم يكتب في سطر ثان يلاصقها ويخرّج يسيرا «من عبد الله ووليه فلان بن فلان إلى فلان» ويبدأ بذكر نعته إن كان الإمام شرّفه بنعت: «سلام عليك فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلّي على محمد خاتم النبيين وسيّد المرسلين وعلى آله الأئمة المهديّين ويسلّم تسليما». ويكون هذا التصدير في سطرين، يجعل بينهما فضاء قيس شبر، ولا يزيده عن ذلك ولا ينقصه فيخرجه عن حدّه، ثم يترك بعد هذين السطرين فضاء نصف الذي بينهما. ثم يقول: أمّا بعد، ويقتصّ المعاني معنى معنى، فإن كان أمرا أمر به الإمام قال بعد انقضاء الكلام: وأمر أمير المؤمنين بكذا. ثم يقول بعد فصل أوسع من الفصل الأول «فاعلم ذلك من أمير المؤمنين ورسمه واعمل عليه بحسبه». ويقول للمخاطبين من الطبقة العالية: والسّلام عليك ورحمة الله،
ويفرد بالسلام من دونها.
وقد كانت العادة جارية أن يقال في آخر الكتب النافذة عن الإمام «وكتب فلان بن فلان» باسم الوزير واسم أبيه، ثم بطل هذا الرسم في الدولة العلويّة ولا يكتب أحد بالتصدير إلا الإمام ووليّ عهده. وهذه المكاتبة عامّة للناس جميعا في الأمور السلطانية التي تنشأ فيها الكتب من الدواوين، ولا يخاطب أحد عن الخليفة إلا بالكاف.
الجملة الثانية (في الكتب العامة وهي على أسلوبين)
الأسلوب الأوّل (أن يفتتح الكتاب بلفظ: «من عبد الله ووليه أبي فلان فلان الإمام الفلاني» على ما تقدّم ترتيبه)
وعلى هذا الأسلوب كان الحال في ابتداء دولتهم وإلى أوساطها.
وهذه نسخة كتاب كتب به الإمام العزيز بالله نزار (1) الفاطميّ إلى عامله بمصر يبشّره بالفتح حين خرج إلى قتال القرمطيّ بالشام في سنة سبع وستين وثلاثمائة، مما أورده المسبّحيّ في تاريخه:
من عبد الله ووليّه نزار أبي المنصور العزيز بالله أمير المؤمنين، إلى حسين بن القاسم.
__________
(1) هو أبو منصور الملقب العزيز بالله، ابن المعز لدين الله بن المنصور بن القائم بن المهدي العبيدي الفاطمي، صاحب مصر وبلاد المغرب، ولي العهد سنة 365هـ. وكانت في أيامه فتن وقلاقل.
كان كريما شجاعا حسن العفو عند المقدرة، وقصته مع أفتكين التركي غلام معزّ الدولة مشهورة، إذ عفا عنه لما ظفر به، وكان قد غرم في محاربته مالا جزيلا. توفي سنة 386هـ لاحدى عشرة سنة ونصف من خلافته. انظر وفيات الأعيان (ج 5ص 376371) وتاريخ ابن الأثير (ج 8ص 659 663) وفي صفحات أخرى متفرقة، وتاريخ ابن خلدون (ج 7ص 114107، 117) وفي صفحات أخرى متفرقة، والأعلام (ج 8ص 16).(6/421)
سلام عليك، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلّي على جده محمد نبيه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وعلى الأئمة من عترته الأبرار، الطاهرين المطهرين وسلّم تسليما.
أما بعد، فالحمد لله الملك العظيم، العليم الحليم، ذي الطّول الكريم، والمنّ الجسيم، والعزّ المديد، والمحال الشّديد، وليّ الحقّ ونصيره وما حق الباطل ومبيره، المتكفّل بالنصر والتمكين، والتأييد والتحصين، لأوليائه المتقين وخلفائه المصطفين الذابّين عن دينه، والقائمين بحقّه، والدالين على توحيده الحاكم بإعلاء كلمتهم، وإفلاج حججهم وظهورهم على أعدائه المشاقّين له، الضالّين عن سبيله، الملحدين في آياته، الجاحدين نعمه، المنزّل رجزه، وقوارع بأسه على من عصاه فحادّه، وصدّ عنه فنادّه، القاضي بالعواقب الحسنى والفوز والنعماء لمن أسلم وجهه له وتوكل عليه في أمره، وفوّض إليه حكمه كلّ ذلك فضلا منه وعدلا، وقضاء فصلا، وهو الحكم العدل الذي لا يظلم الناس شيئا ولكنّ الناس أنفسهم يظلمون. فتبارك الله الغالب على أمره الفرد في ملكه، سبحانه وتعالى علوّا كبيرا. والحمد لله الذي ابتعث عبده المصطفى، وأمينه المرتضى، من أكرم سنخ (1) ونبعة، وأظهر ملّته وشرعه في أفضل دهر وعصر، وأنزل عليه كتابا من وحيه حكيما غير ذي عوج قيّما بديع النظام، داخلا في الأفهام، خارجا عن جميع الكلام، ليس كسجع الكهّان، ولا كتحبير ذوي اللسن والبيان، وقد تفرّقت بالأمم أهواؤهم، وتوزّعتهم آراؤهم، فضلّت أحلامهم وعميت أفهامهم واستحوذ عليهم الشيطان، فعبدوا الأصنام والأوثان، جهلا بعبادة الرحمن، فدعاهم إلى الإقرار بإلههم، وعرّفهم وحدانية ربّهم وكان حريصا على إرشادهم، جادّا في الاجتهاد، هاجرا للدّعة والمهاد، صابرا على تكذيب المشركين، وتفنيد الملحدين، ينصح لهم فيستكبرون، ويهديهم فيضلّون، ويحذّرهم فيستهزئون، حتّى ظهر دين الله فسما، وطمس
__________
(1) السنخ: الأصل.(6/422)
الكفر فانمحق وعفا وعمّت بركته، وفضّلت على الأمم أمّته، وعلت على الملل ملّته، صلّى الله عليه أفضل صلاة المصلّين، وزاده شرفا في العالمين إلى يوم الدين.
والحمد لله الذي حبا أمير المؤمنين وانتخبه لخلافته، وجعله صفيّه من خلقه وأمينه على عباده وهاديا إلى سبيله، قائما بحقه، مقسطا في أرضه، ذابّا عن دينه، محييا ما أماته أهل الكفر من أحكامه، وأيّده بنصره، وأمدّه بقوّته، وتكفّل له بالنّجح في مسعاه، والظّفر بمبتغاه، ونيل طلبته فيما أمّه وارتآه. وحكم بكبت كلّ عدوّ له وخزيهم، وإذلالهم ومحقهم وخذلهم، وإيهان كيدهم. وضرب الذّلّة عليهم حيث كانوا وأين كانوا، فلا ينعق ناعق منهم بطلال، أو يسعى بفسق وخبال، أو يدفع إلى افتراء على الله أو مروق عن دينه أو إذهاب ما فرض الله عز وجل من طاعة إلا اصطلمه وأخزاه، وأكبّه لوجهه وأرداه، وقضى عليه بالشّقوة في دنياه، وعذاب الآخرة في أخراه.
والحمد لله الذي منح فأجمل، وأعطى فأجزل، من نعمه السابغة، وآلائه المتتابعة، التي لا يوازيها شكر، ولا يدرك كنهها ذكر، حمدا يوجب منه المزيد، ويستدعي المنن والتّجديد، وإليه يرغب أمير المؤمنين خاضعا ويسأله راغبا حسن العون على ما بلّغ رضوانه، وامترى فضله وإحسانه. وتقدّم أمير المؤمنين إليك بما هيّأه الله من وصوله إلى مدينة الرملة (1)
على أجمل صنع وألطف كفاية، وأتمّ أمن، وأكمل عزّ وأوطد حال، وأحسن انتظام، وأبسط يد، وأظهر قدرة، وأشمل هيبة وبما أولى الله أمير المؤمنين في حلّه وظعنه، وارتحاله وثوائه، من نعمه العميمة، ومواهبه الجسيمة، ومنحه الجليلة، ومننه الجزيلة، وإنه مما يستغرق الحمد والشّكر، ويفوت الإحصاء والنّشر، وذكر أمير المؤمنين أمر اللعين التركيّ وهربه من بين يديه، وأنه لم يلو
__________
(1) الرملة مدينة عظيمة بفلسطين. بينها وبين البيت المقدس ثمانية عشر يوما وكانت دار ملك داود وسليمان. معجم البلدان (ج 3ص 7069).(6/423)
على شيء إلى أن بلغ طبريّة للذي تداخله من الفرق (1)، واستولى عليه من القلق، ولما سكن قلبه من الرّعب، وحشاه من الرّهب، بقصد أمير المؤمنين إيّاه وإغذاذه (2) السير في طلبه ومواصلته الأسباب، ومتابعته الإدآب. ووصف أمير المؤمنين ما عليه عزمه في تتبّعه واقتفاء أثره، والحلول بعقوته (3) حيث قصد وحلّ، لثقته بالله ربّه، وتوكّله عليه، وتفويضه إليه. ولم يزل جلّ وعز يولي أمير المؤمنين بعد نفوذ كتابه من عزّ يؤيده، وظفر يؤكّده، ونصر يوطّئه وآلاء يجدّدها، ومواهب يتابعها، وعدوّ يذلّه، ومناو يقلّه، وشارد يصرفه إلى طاعته، ومارق يعيده إلى موالاته، إلى أن تمّ له من ذلك ما واصل به حمد الله عليه، وتهيّأ له ما تواتر شكره له جل وعزّ فيه وكان مع ذلك مواصلا إلى.
اللعين الإعذار، ومتابعا الإنذار، ومحذّرا له ما يعذر، ومستدعيه إلى ما يختار ويؤثر، وممنّيا له مما يمنّى به مثله من العفو عنه، وتغمّد ما جرى منه، والإقالة لعثرته، والتجاوز عن هفوته، والامتنان عليه بما رغب فيه من تقليده ناحية من نواحي الشام، وإدرار الأرزاق عليه وعلى رجاله وأصحابه، وإيثارة بالفضل الجليل، واختصاصه بالطّول الجزيل. فما نجح في الفاسق وعد، ولا نجع فيه وعظ، ولا وفّق إلى قبول حظ، ولا أصغى إلى قبول تذكرة، ولا أناب إلى تبصرة. وما زال جادّا في تهوّكه (4)، متماديا على تمهّكه (5)، جاريا على ضلالته، سالكا سبيل عمايته، مترددا في غوايته، متلدّدا في جهالته، مقدّرا أن بأس الله لا يرهقه، وسطوته لا تلحقه، ورجزه لا يمحقه، وذنوبه لا تزهقه، وأجرامه لا توبقه. وما زال اللّعين في خلال ذلك يبسط آمال العرب ويرجّيها، ويرغّبها ويمنّيها بأقوال كاذبة، وآمال خائبة، ومواعيد باطلة، حتّى أصغى أكثرها إلى غروره، وقبول إفكه
__________
(1) الفرق، بالفتح: الفزع.
(2) يقال: أغذّ السير وفي السير: أسرع.
(3) العقوة: ما حول الدار، والساحة والمحلة.
(4) يقال تهوّك: تهوّر وتحيّر ووقع في الشيء في غير مبالاة.
(5) التمهّك: اللجاجة والعناد إلى الفعل المزجور عنه.(6/424)
وزوره، وأجابته طائفة طاغية، ووصلت إليه متتابعة، فتوفّر جمعه، وكثر عدده واشتدّ طعمه، وقوي أمله، وتمكن له باستدراج الله إيّاه وغضبه عليه أن يورّط عصبته ومن اختدعه بغيّه واستفزّه معه جهله، ويوردهم جميعا ونفسه الرّذلة موردا لا صدر له، ولا علل بعده فخرج من طبريّة وحلّ بيسان، محلّ الخزي والهوان، فعندها انتهى إلى أمير المؤمنين خبره وهو يومئذ في المنهل، الذي حصل فيه بعد رحيله من الرملة وهو الموضع المعروف بالطّواحين. فعندما قرب استجرار الفاسق اللعين، واعتمد ما يعود بأطماعه، أقام في الموضع أياما ناظرا فيما يحتاج إليه، متأهّبا لما يريده، وكان ذلك هو السبب الذي أطعمه. فبعد ما طمع قاده الحين (1) الغالب، والقدر الجالب، وما أراد الله عز وجلّ من استدراجه إلى موضع نكاله، ومنهل وباله، ورحل من بيسان (2) رحيل من استعجلته البليّة، واستدعته الرّزيّة، فحلّ بموضع يعرف بكفر (3) سلّام، كافرا بحدود الإسلام، متجرّئا على الله محاربا لنجل نبيّه عليه السّلام، وأقام بها متلدّدا في حيرته، متردّدا في سكرته ثم استجرّه شؤمه، وقاده حينه ولؤمه، إلى أن رحل فنزل بكفر (4) سابا البريد، فأنبأه اسمها بما حلّ به من السّبي المبيد والخزي الشديد ثم لم يلبث أن ضرب مضاربه المأكولة، ونصب أعلامه المخذولة، وأقام صفوفه المفلولة، وأظهر آلة الحرب إقداما، و [أخفى] عن اللقاء إحجاما.
فأمر أمير المؤمنين بتزيين العساكر المنصورة والجيوش المظفّرة وتعبئتها على مراتبها، وترتيبها على مواكبها. وتقدّم إلى قوّادها أن لا يمشوا إلا صفّا، ولا يسيروا إلا زحفا، وعرّفهم أنه سيسير بنفسه، ويقصد اللعين بموكبه وجمهوره
__________
(1) الحين، بفتح الحاء وسكون الياء: الهلاك.
(2) بيسان، بالفتح ثم السكون: مدينة بالأردن بالغور الشامي، بين حوران وفلسطين. معجم البلدان (ج 1 ص 527).
(3) كفر سلام، بالفتح وتشديد اللام: قرية بينها وبين قيسارية أربعة فراسخ، بينها وبين نابلس من نواحي فلسطين. معجم البلدان (ج 4ص 469).
(4) كفر سابا: قرية بين نابلس وقيسارية. معجم البلدان (ج 4ص 469).(6/425)
ومن معه من حماة رجاله، وأنه لا يثنيه عن الفاسق ثان ولا يصرفه عن الاقتحام صارف، فبدا من عزائمهم، وشدّة شكائمهم، وخلوص بصائرهم، وسكون أفئدتهم، وثبات أقدامهم، ما كانت به دلائل النصر واضحة، وشواهد الفلج لائحة، وعلامات الفتح ظاهرة، وآيات النّجح باهرة، فمشوا على ما أمروا، وساروا على ما سيّروا، فعند ما دنوا من عدوّ الله أصابوه للجلاد معدّا، وفي المحاربة مجدّا، واستخاروا الله عز وجل وتدانوا للتّلاق، والأخذ بالنواصي والأعناق وقامت الحرب على ساق، وتجرّع منها أمرّ مذاق، فاستطار شرارها، وتأججّت نارها، وارتفع دخانها، وعظم شانها، والتزم الأقران بالأقران، واشتدّ الضّرب والطّعان، إلى أن مشى أمير المؤمنين بنفسه، وجمهور موكبه، متوكّلا على الله، ماتّا إليه بجدّه محمد صلّى الله عليه وسلّم، متوسّلا بمتقدّم وعده، وسالف إنعامه عنده، وقصد اللعين غير متلوّم عن مصادمته، ولا معرّج عن ملاحمته، فقويت نفوس أوليائه وعبيده، ومن اشتملت عليه عساكره المنصورة، وجيوشه المظفّرة بما تبيّنوه من إقدامه، وشاهدوه من اعتزامه، وحملوا على الفاسق وأحزابه، وقذف الله في قلوبهم الرّعب فتزلزلت أقدامهم، وأرعشت أيديهم ونخبت أفئدتهم، وولّوا الدّبر منهزمين، ومنحوا ظهورهم مولّين، وافترقوا ثلاث فرق:
فرقة قتلت في المعركة، وصرعت في الملحمة فاحتزّت رؤوسهم، وفرقة أحسّت وقع السّيوف وإرهاق الحتوف، فاستأمنت تحت الذّلّة والصّغار، والغلبة والاقتدار، فبقّيت عليهم الأرواح، وحقنت منهم الدّماء. وفرقة أسرت أسرا، وقيّدت قيدا، وهرب التّركيّ اللعين رئيس ضلالتهم، وعميد كفرهم، في شر يذمة من أصحابه، فظنّ أن ذلك من بأس الله ينجيه، ومن الأخذ بكظمه يوقيه، هيهات! كما قال الله عز وجل: {هَيْهََاتَ هَيْهََاتَ لِمََا تُوعَدُونَ} [1]: {إِنْ كََانَتْ إِلََّا صَيْحَةً وََاحِدَةً فَإِذََا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنََا مُحْضَرُونَ} [2] فاتّبعه سرعان الخيل
__________
(1) سورة المؤمنون 23، الآية 36.
(2) سورة يس 36، الآية 53.(6/426)
وخفاف الرّجال، مع مفرّج بن دغفل بن جراح، فأخذه قبضا وأتى به قودا أسيرا من غير عهد، وذليلا من غير عقد، واستولى أهل العساكر المنصورة، والجيوش المظفّرة، على مناخه وسواده، وما كان فيه من مال وأثاث وكراع (1) وقناع (2)، وقليل وكثير، وجليل وحقير، فحازوه واتّسعوا به، وأكثروا من حمد الله، وانصرفوا إلى معسكرهم سالمين، بالمغنم والظّفر آمنين، لم يكلم منهم أحد، ولم ينقص لهم عدد. وكان جملة ما أتوا به معهم من رؤوس الفسقة زائدا على ألف رأس، ومن أسراهم ثمانمائة أسير، غير من استؤمن وقت الإيقاع بهم، ولم يفلت من الفسقة إلا من هرب بحشاشة نفسه مع من لاءم التركيّ اللعين، وصاحب عقده ومورّطه في هلاكه، وقائده إلى نقماته، وسائقه إلى موبقاته (3)، وهو كاتبه المعروف بابن الحمارة. فلحق بطبريّة فقتل هو وجلّ من كان معه واحتزّ رأسه وأتي به، فكملت النعمة، وتمت الموهبة، وتجدّد حمد أمير المؤمنين واتصل شكره، لما أولاه من جليل عطائه، وكريم حبائه، وسنيّ آلائه.
وكان ما آتاه الله من عظيم آياته، وأكبر شواهده، واختصاص الله إيّاه وانتخابه له.
فالحمد لله! ثم الحمد لله! ثم الحمد لله ربّ العالمين على عطائه الهنيّ، وحبائه السّنيّ، وما أيّد أمير المؤمنين، وأعزّ الدين، وقمع المشركين، إذ كان الفاسق اللعين، التركيّ الغويّ المبين، ثلّة من ثللهم وركنا من أركانهم، وحزبا من أحزابهم، ووثنا من أوثانهم، وطاغية من طواغيتهم. ولم يكن لهم في بلد المسلمين يد تصدّ عنهم بأس غيرهم، ولا عضد يدفعون بها سواه. وأمير المؤمنين يرغب إلى الله عز وجلّ أن يوزعه الشّكر على ما أولاه، ويوجده سبيلا إلى بلوغ مبتغاه، من إعزاز الملّة والدّين، وإحياء شريعة جدّه سيد المرسلين، ومجاهدة التّرك والمشركين، وقمع الظالمين والقانطين والمارقين، حتّى يكون الدين كلّه لله، ويجمع القلوب على طاعته بإذن الله.
__________
(1) الكراع: الخيل والبغال والبقر والغنم.
(2) القناع: السلاح، والجمع قنع بالضم.
(3) الموبقات: المهالك.(6/427)
أمر أمير المؤمنين بتعريفك ذلك، وتلخيص الكتاب إليك، لتقف عليه وتذيعه، وتشهّره فيما قبلك، وتحمد الله على ما منح أمير المؤمنين من النصر، ومكّنه من الظّفر. فاعلمه إن شاء الله تعالى، والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وكتب يوم الخميس لخمس ليال بقين من المحرّم سنة سبع وستين وثلاثمائة.
الأسلوب الثاني (أن يفتتح الكتاب بخطبة مفتتحة بالحمد لله)
وعليه كان الحال في أواخر دولتهم. وعليه جرى في «موادّ البيان» في الأمثلة التي ذكرها.
وهذه نسخة (1) كتاب مما أورده في «موادّ البيان» ببشارة بفتح، وهي:
الحمد لله مديل الحقّ ومنيره ومذلّ الباطل ومبيره، مؤيّد الإسلام بباهر الإعجاز وقصم (2) وعده في الإظهار بوشيك الإنجاز. أخمد كلّ دين وأعلاه، ورفض كلّ شرع واجتباه، وجعله نوره اللامع، وظلّه الماتع، وابتعث به السراج المنير، والبشير النّذير، فأوضح مناهجه، وبيّن مدارجه، وأنار أعلامه، وفصّل أحكامه، وسنّ حلاله وحرامه، وبيّن خاصّه وعامّه، ودعا إلى الله بإذنه، وحضّ على التمسّك بعصم دينه، وشمّر في نصره مجاهدا من ندّ عن سبيله، وعند عن دليله، حتّى قصّد الأنصاب (3) والأصنام، وأبطل الميسر والأزلام (4)، وكشف غيابات الإظلام، وانتعلت خيل الله بقبائل (5) الهام.
__________
(1) سترد هذه النسخة في الجزء الثامن من هذا المؤلف ص 281278.
(2) كذا في الأصول، ولعلّه: «ومتمّ وعده» كما يفيده السجع. حاشية الطبعة الأميرية.
(3) الأنصاب: حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهلّ عليها ويذبح لغير الله تعالى، وبمعنى آخر هي الأصنام التي كانت تنصب للعبادة.
(4) الأزلام: قداح الاستقسام في الجاهلية قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصََابُ وَالْأَزْلََامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطََانِ} سورة المائدة 5، الآية 90.
(5) أي برؤوس الأعداء.(6/428)
يحمده أمير المؤمنين أن جعله من ولاة أمره، ووفّقه لاتّباع سنّة رسوله واقتفاء أثره. وأعانه على تمكين الدّين، وتوهين المشركين، وشفاء صدور المؤمنين. وأنهضه بالمراماة عن الملّة، والمحاماة عن الحوزة، وإعزاز أهل الإيمان، وإذلال حزب الكفران. ويسأله الصلاة على خيرته المجتبى، وصفوته المنتصى، محمد أفضل من ذبّ وكافح، وجاهد ونافح، وحمى الذّمار (1)، وغزا الكفّار، صلّى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه (2) عليّ بن أبي طالب سيفه القاطع، ومجنّه (3) الدافع، وسهمه الصارد، وناصره العاضد، فارس الوقائع، ومعنوس (4) (؟) الجمائع، مبيد الأقران، ومبدّد الشّجعان، وعلى الطّهرة من عترته أئمة الأزمان، وخالصة الله من الإنس والجانّ. وإن أولى النّعم بأن يرفل في لباسها، ويتوصّل بالشّكر إلى لباثها (5)، ويتهادى طيب خبرها، ويتفاوض بحسن أثرها، نعمة الله تعالى في التوفيق لمجاهدة أهل الإلحاد والشّرك، وغزو أولي الباطل والإفك، والهجوم عليهم في عقر دارهم، واجتثاث أصلهم وهدم (6) منارهم، واستنزالهم من معاقلهم، وتشريدهم عن منازلهم، وتغميض نواظرهم الشّوس (7)، وإلباسهم لباس البوس لما في ذلك من ظهور التوحيد وعزّه، وخمود الإلحاد وعرّه، وعلوّ ملة المسلمين، وانخفاض دولة المشركين، ووضوح محجّة الحق وحجّته، وفضوح (8) برهانه وآيته.
__________
(1) الذمار، بكسر الذال: ما يلزمك حفظه وحمايته من عرض وحريم وناموس.
(2) في الجزء الثامن من هذا المؤلف ص 279: «وابن عمه أمير المؤمنين عليّ» الخ.
(3) المجنّ: التّرس وفي الجزء الثامن: «المدافع».
(4) في الجزء الثامن: «ومفرّق الجمائع».
(5) في المصدر نفسه: «إلى إيناسها».
(6) في المصدر نفسه: «والجدّ في دمارهم».
(7) النواظر الشوس: أي العيون الصغيرة، يقال: شاس الرجل إذا صغّر عينه وضمّ أجفانه للنظر، أو نظر بمؤخّر عينه تكبّرا.
(8) في الجزء الثامن: «وصدوع».(6/429)
وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك، وقد انكفأ عن ديار الفلانيّين والمشركين (1) إلى دست خلافته، ومقرّ إمامته، بعد أن غزاهم برّا وبحرا، وشرّدهم سهلا ووعرا، وجرّعهم من عواقب كفرهم مرّا، وفرّق جمائهم التي تطبّق سهوب الفضاء خيلا ورجلا، وتضيق بها المهامه حزنا وسهلا، ومزّق كتائبهم التي تلحق الوهاد بالنّجاد، وتختطف الأبصار ببوارق الأغماد، وسبى (2)
الذّراريّ والأطفال، وأسر البطاريق والأقيال، وافتتح المعاقل والأعمال، وحاز الأسلاب والأموال، واستولى من الحصون على حصن كذا وحصن كذا، ومحا منها رسوم الشرك وعفّاها، وأثبت سنن التوحيد بها وأمضاها، وغنم أولياء أمير المؤمنين ومتطوّعة المسلمين من الغنائم ما أقرّ العيون، وحقّق الظّنون، وانفصلوا وقد زادت بصائرهم نفاذا في الدّين، وسرائرهم إخلاصا في طاعة أمير المؤمنين، بما أولاهم الله من النّصر والإظفار، والإعزاز والإظهار، ووضح للمشركين بما أنزله (3) عليهم من الخذلان، وأنالهم إيّاه من الهوان، أنّهم على مضلّة من الغيّ والعمى، وبعد (4) من الرّشد والهدى، فضرعوا إلى أمير المؤمنين في السّلم والموادعة، وتحمّلوا بذلا بذلوه تفاديا من الكفاح والمقارعة، فأجابهم إلى ذلك متوكّلا على الله تعالى، ومتمثّلا (5) بقوله تعالى إذ يقول: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهََا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [6]. وعاقد طاغيتهم على كتاب هدنة كتبه له، وأقرّه في يده، حجّة مضمونة.
أشعرك أمير المؤمنين ذلك لتأخذ من هذه النعمة بنصيب مثلك من المخلصين، وتعرف موقع ما تفضّل الله تعالى به على الإسلام والمسلمين،
__________
(1) في المصدر نفسه: «المشركين» بدون واو العطف.
(2) في المصدر نفسه: «وتجعل رعود سنابكها في السماء وسبى» الخ.
(3) في المصدر نفسه: «بما أنزل الله».
(4) في المصدر نفسه: «ومنحاة».
(5) في المصدر نفسه: «وامتثالا لقوله إذ يقول».
(6) سورة الأنفال 8، الآية 61.(6/430)
فتحسن (1) ظنّك، وتقرّ عينك، وتشكر الله تعالى شكر المستمد من فضله، المعتدّ بطوله، وتتلو كتاب أمير المؤمنين، على كافّة من قبلك من المسلمين ليعلموا ما تولّاهم الله به من نصره وتمكينه، وإذلال عدوّهم وتوهينه فاعلم ذلك واعمل به (2).
الجملة الثالثة (في الكتب الخاصّة، كالمكاتبة إلى الوزير ومن في معناه)
قال في «موادّ البيان» بعد ذكر صورة المكاتبات العامّة عنهم: وقد يخاطب الإمام وزيره في المكاتبة الخاصّة بما يرفعه فيه عن خطاب المكاتبة العامّة الدّيوانيّة، ويتصرّف في ذلك، ويزاد وينقص على حسب لطافة محلّ الوزير ومنزلته من الفضل والجلالة. قال: وليس لهذه المكاتبة الخاصة حدود ينتهي إليها، ولا قوانين يعتمد عليها، وطريقها مستفيضة معلومة. وقد تقدّم في المكاتبات الخاصة عن خلفاء بني العبّاس أن مكاتبة الوزير «أمتعني الله بك» في أدعية أخرى.
الطرف السادس (في الكتب الصادرة عن خلفاء بني أمية بالأندلس)
ولم أقف على شيء من المكاتبات الصادرة عنهم، وإن ظفرت بشيء منها بعد ذلك ألحقته إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في الجزء الثامن: «فيحسن ظنّك».
(2) في المصدر نفسه: «واعمل به ان شاء الله تعالى».(6/431)
الطرف السابع (في الكتب الصادرة عن الخلفاء الموحّدين أتباع المهديّ بن (1) تومرت المستمرّ بقاياهم الآن بتونس وسائر بلاد أفريقيّة، وهي على أسلوبين)
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «من فلان إلى فلان»)
وكان الرسم فيها أن يقال: «من أمير المؤمنين فلان» ويدعى له بما يناسبه «إلى فلان» ويدعى له بما يليق به ثم يؤتى بالسلام ثم يؤتى بالبعدية والتحميد والصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والترضية عن الصحابة، ثم عن إمامهم المهديّ ثم يؤتى على المقصود، ويختم بالسلام. والخطاب فيه بنون الجمع عن الخليفة وميم الجمع عن المكتوب إليه.
كما كتب عن عبد المؤمن (2) خليفة المهديّ إمامهم إلى الشيخ أبي عبد الله محمد بن سعد (3):
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت، المنعوت بالمهدي الهرغي، صاحب دعوة عبد المؤمن بن علي بالمغرب. كان ورعا ناسكا متقشفا. وهو من جبل السوس في أقصى بلاد المغرب، ونشأ هناك ثم رحل إلى المشرق وحج، ثم ناله بمكة شيء من المكروه فخرج منها إلى مصر فالاسكندرية ثم عاد إلى بلاده. توفي سنة 524هـ. انظر وفيات الأعيان (ج 5ص 5545) والأعلام (ج 6ص 229228).
(2) هو عبد المؤمن بن علي القيسي الكوفي الذي قام بأمره محمد بن تومرت المعروف بالمهدي امتد ملكه إلى المغرب الأقصى وبلاد إفريقية وكثير من بلاد الأندلس، وتسمّى أمير المؤمنين كانت مدة ولايته ثلاثا وثلاثين سنة وأشهرا. توفي سنة 558هـ. انظر وفيات الأعيان (ج 3ص 241237)، وتاريخ المن بالامامة (ص 216138)، وتاريخ ابن الأثير (ج 11ص 115، 160156، 247241) وصفحات أخرى متفرقة.
(3) هو المولوي محمد بن سعد المعروف بابن مردنيش خادم عبد الرحمن بن عياض. وكان أهل شرق الأندلس قدّموه على أنفسهم بعد أن قدموا عليهم ابن عياض المذكور. كانت نهايته أن مات قتلا على يد أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، ثاني خلفاء الموحدين وذلك في سنة 567هـ.
انظر تاريخ المن بالامامة ص 112109، 137، 180، 301275وصفحات أخرى متفرقة.(6/432)
«من أمير المؤمنين أيّده الله بنصره، وأمدّه بمعونته، إلى الشيخ أبي عبد الله محمد بن سعد وفّقه الله، ويسّره لما يرضاه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد فالحمد لله الذي له الاقتدار والاختيار، ومنه العون لأوليائه والإقدار، وإليه يرجع الأمر كلّه فلا يمنع منه الاستبداد والاستئثار. والصلاة على محمد نبيّه الذي ابتعثت بمبعثه الأضواء والأنوار، وعمرت بدعوته الأنجاد والأغوار، وخصم بحجّته الكفر والكفّار، وعلى آله وصحبه الذين هم الكرام الأبرار، والمهاجرين والأنصار، والرّضا عن الإمام المعصوم، المهديّ المعلوم، القائم بأمر الله حين غيّرته الأغيار، وتقدّم الامتعاض له والانتصار. وهذا كتابنا كتب الله لكم نظرا يريكم المنهج، ويلفيكم الأبهج فالأبهج، وآتاكم الله من نعمة الإيمان، وعصمة الانقياد له والإذعان، ما تجدون به اليقين والثّلج من حضرة مرّاكش حرسها الله تعالى، ولا استظهار إلا بقوّته وحوله، ولا استكثار إلا من إحسانه وطوله.
ولما جعل الله هذا الأمر العظيم رحمة لخلقه، ومطيّة لرقيه وقرارة لإقامة حقّه، وحمّل حملته الدعاء إليه، والدلالة به عليه، والترغيب في عظيم ما عنده ونعيم ما لديه، وجعل الإنذار والإعذار من فصوله المستوعبة، وأحكامه المرتّبة، ومنجاته المخلّصة من الخطوب المهلكة والأحوال المعطبة رأينا أن نخاطبكم بكتابنا هذا أخذا بأمر الله تعالى لرسوله في المضاء إلى سبيله، والتحريض على اغتنام النجاء وتحصيله، وإقامة الحجّة في تبليغ القول وتوصيله، فأجيبوا رفعكم الله داعي الله تسعدوا، وتمسّكوا بأمر المهديّ رضي الله عنه في اتّباع سبيله تهتدوا، واصرفوا أعنّة العناية إلى النظر في المآل، والتفكّر في نواشيء التغيّر والزوال، وتدبّروا جري هذه الأمور وتصرّف هذه الأحوال، واعلموا أنه لا عزّة إلا بإعزاز الله تعالى فهو ذو العزّة والجلال. {وَلََا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللََّهِ الْغَرُورُ} [1] * فالدّنيا دار الغرور، وسوق المحال، وليس لكم في قبول
__________
(1) سورة لقمان 31، الآية 33. والغرور هنا الشيطان.(6/433)
النصيحة، وابتداء التوبة الصحيحة، والعمل بثبوت الإيمان في هذه العاجلة الفسيحة، إلّا ما تحبّونه في ذات الله تعالى من الأمنة والدّعة، والكرامة المتّسعة والمكانة المرفّعة، والتنعّم بنعيم الراحة المتصلة والنفس الممتنعة. فنحن لا نريد لكم ولسائر من نرجو إنابته، ونستدعي قبوله وإجابته، إلا الصّلاح الأعمّ، والنجاح الأتمّ. وتأملوا سدّدكم الله من كان بتلك الجزيرة حرسها الله من أعيانها، وزعماء شانها، هل تخلّص منهم إلى ما يودّه، وفاز بما يدّخره ويعدّه، إلا من تمسّك بهذه العروة الوثقى، واستبقى لنفسه من هذا الخير الأدوم الأبقى، وتنعّم بما لقي من هذا النعيم المقيم ويلقى؟ وأما من أخلد إلى الأرض واتّبع هواه، ورغب بنفسه عن هذا الأمر العزيز إلى ما سواه، فقد علم بضرورتي المشاهدة والاستفاضة سوء منقلبه، وخسارة مذهبه ومطّلبه، وتنقّل منه حادث الانتقام أخسر ما تنقّل به. وحقّ عليكم وفقكم الله ويسّركم لما يرضاه أن تحسنوا الاختيار، وتصلوا الادّكار والاعتبار، وتبتدروا الابتدار. وما حقّ من انقطع إلى هذا الأمر الموصول الواصل، وأزمع ما يناله من خيره المحوز الحاصل، أن يناله منكم شاغل يشغله عن مقصوده، ويحيط به ما يصرفه عن محبوبه ومودوده، فقد كان منكم في أمر أهل بلنسية (1) حين إعلانهم بكلمة التوحيد، وتعلّقهم بهذا الأمر السعيد ما كان، ثم كان منكم في عقب ذلك ما اعتمدتموه في أمر أهل لورقة (2) وفّقهم الله حين ظهر اختصاصهم، وبان إخلاصهم. وليس لذاك وأمثاله عاقبة تحمد، فالخير خير ما يقصد، والنجاة فيما ينزح عن الشر ويبعد. وإنا لنرجوا أن يكفّكم عن ذلك وأشباهه إن شاء الله تعالى نظر موفّق، ومتاع محقّق، ويجذبكم إلى موالاة هذه الطائفة المباركة جاذب يسعد، وسائق يرشد، والله يمنّ عليكم بما ينجّيكم، ويمكّن لكم في طاعته
__________
(1) بلنسية: مدينة مشهورة بالأندلس، تقع شرقي قرطبة وتدمير، بينها وبين البحر فرسخ.
معجم البلدان (ج 1ص 491490).
(2) لورقة بالضم ثم السكون، والراء مفتوحة، والقاف: مدينة بالأندلس من أعمال تدمير، اشتهرت بالعنب. معجم البلدان (ج 5ص 2625).(6/434)
أسباب تأميلكم وترجّيكم، بمنّه. والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وكتب في السادس عشر من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.
الأسلوب الثاني (أن يفتتح المكاتبة بلفظ «أما بعد»)
والأمر فيه على نحو ما تقدّم في الأسلوب قبله بعد البعدية، كما كتب أبو الميمون عن المستنصر بالله، أحد خلفائهم إلى بعض نوّابه، وقد نقض العهد على بعض المهادنين من النصارى.
«أما بعد حمد الله الآمر بالوفاء بالعهود، والصلاة على سيدنا محمد المصطفى الكريم سيّد الوجود، وعلى آله وصحبه ليوث البأس وغيوث الجود، والرّضا عن الإمام المعصوم، المهديّ المعلوم، الآتي بالنّعت الموجود، في الزّمن المحدود، وعن خلفائه الواصلين بأمره إلى التّهائم والنّجود، والدعاء لسيدنا الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين بسعد تذلّ له النواصي، ويهدّ الأقطار القواصي، فكتبناه كتبكم الله ممّن إذا همّ بأمر تدبّر عواقبه، وإذا عزم على ركوب غرر ألفى معاطبه من فلانة كلأها الله تعالى. وقد بلغنا ما كان منكم من اكتساح النصارى، والزيادة على ذلك باختطاف الأسارى (1)، ونعوذ بالله من شهوة تغلب عقلا، ونخوة تعقب هوانا وذلّا. وقد أخطأتم في فعلتكم الشّنعاء من ثلاثة أوجه أحدها أنه خلاف ما أمر الله تعالى به من الوفاء بالعهد، والوقوف مع العقد. والثاني عصيان الأمر العزيز وفيه التغرير بالمهج، وترك السّعة للحرج.
والثالث أنكم تثيرون على أنفسكم من شرّ عدوّكم قصمه الله شررا يستعر، وضررا يعدم فيه المنتصر، فليتكم إذ تجلّيتم بالعصيان، ورضيتم الغدر المحرّم في سائر الأديان، ثبتّم للعدّو إذا دهمكم، ولقيتموه بالجانب القويّ متى زحمكم، بل تتدرّعون له الفرار، وتتركونه في مخلّفيكم وما اختار. وقد جرّبتم
__________
(1) الأسارى، بضم الهمزة: ج أسير، وهو المأخوذ قهرا.(6/435)
مرّات أنكم لا ترزؤونهم ذرّة، إلا رزؤوكم ألف بدرة، ولا تصيبونهم مرّة، إلا أصابوكم ألف مرّة. وإلى متى تنهون فلا تنتهون؟ وحتّام (1) تنبّهون فلا تنتبهون؟
فإذا وافاكم كتابنا هذا بحول الله وقوّته فأدّوا من أسرتم إلى مأمنه، وردّوا ما انتهبتم إلى مسرحه، ولا تمسكوا من الأسارى بشعرة، ولا من الماشية بوبرة.
ومن سمعنا عنه بعد وصول هذا الكتاب أنه تعدّى هذا الرّسم، وخالف هذا الحكم، أنفذنا عليه الواجب، وحكّمنا فيه المهنّد القاضب، فلتسرع من نومة الغفلة إفاقتكم، ولا تتعرّضوا من الشّر لما تعجز عنه طاقتكم، ونحن متعرّفون ما يكون منكم من تأنّ أو بدار، ومقابلون لكم بما يصدر عنكم من إقرار وإنكار، وهو يرشدكم بمنّه. والسّلام عليكم ورحمة الله».
قلت: ثم طرأ بعد ذلك الإكثار من ألقاب خلفائهم في المكاتبات الصادرة عنهم، والمبالغة في مدحهم، وإطرائهم على ما سيأتي ذكره في الكلام على المكاتبات الواردة من ملوك الأقطار إلى الأبواب السلطانية بالديار المصرية فيما بعد إن شاء الله تعالى.
الطّرف الثامن (في الأجوبة، وهي على ضربين)
الضرب الأوّل (ما يضاهي الأجوبة في الابتداء، وهو على أسلوبين)
(الأسلوب الأوّل (أن يفتتح الجواب بلفظ «من فلان إلى فلان»)
مثل أن يكتب «من عبد الله ووليه أبي فلان فلان الإمام الفلانيّ أمير المؤمنين» إلى آخر الصدر على ما تقدّم في الابتداءات ثم يقال: أما بعد، وينساق
__________
(1) أي حتى متى؟(6/436)
منه إلى ذكر الكتاب الوارد وعرضه على الخليفة، وما اقتضته آراء الخلافة فيه، ويكمّل على نحو الابتداء. كما كتب عن المقتفي لأمر الله، إلى غياث الدين مسعود (1) بن ملكشاه السّلجوقيّ في جواب كتابه الوارد عليه، يخبره بأن بعض من كان خرج عن طاعته دخل فيها، وانحاز إليه، وهو:
«من عبد الله أبي عبد الله محمد الإمام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين، إلى فلان بألقابه.
أما بعد أطال الله بقاءك فإن كتابك عرض بحضرة أمير المؤمنين معربا عن أخبار سعادتك، وجري الأمور على إرادتك، وبلوغ الأغراض من الوجهة التي توجّهت إليها، والأطراف التي أشرقت سعادتك عليها، بميامن ما تثق به من الطاعة الإمامية وتضمره، وتعتقده من الإخلاص وتستشعره وأن ركن الدين محمدا ومن انضمّ إلى جملته وانتظم في سلك موافقته لمّا ظفروا منك بذمام اطمأنّوا إليه وسكنوا، وأمان وثقوا به وركنوا، أبصروا الرّشد فاتّبعوه، واستجابوا الداعي إذ سمعوه، وأذعنوا لطاعتك مسرعين، وانقادوا إلى متابعتك مهطعين، على استقرار مسيرهم تحت لوائك إلى باب همذان ليكون تقرير القواعد الجامعة للمصالح عند وصولها، والتوفّر على تحرّي ما تقرّ به الخواطر مع حلولها، والانفصال إلى من يفد إلى الأبواب العزيزة مؤتنسا بقرب الدار، ومستسعدا بالخدمة الشريفة الإمامية المؤذنة ببلوغ الأوطار. ووقف عليه وعرف مضمونه، وجدّد ذلك لديه من الابتهاج، والاغتباط الواضح المنهاج، ما تقتضيه ثقته بجانبك واعتقاده، وتعويله على جميل معتقدك واعتماده، واعتضاده من طاعتك بحبل لا تنقض الأيّام مبرمه، وسكونه من ولائك إلى وزر (2) لا تروّع المخاوف حرمه وواصل شكر الله تعالى على ما شهدت به هذه النعمة العميمة، والموهبة الجسيمة، من إجابة الأدعية التي ما زالت جنودها نحوك مجهّزة،
__________
(1) تقدم ترجمته في الحاشية رقم 3من ص 384من هذا الجزء.
(2) الوزر، بالفتح: الجبل المنيع والمعقل والملجأ والمعتصم.(6/437)
ووعوده جلّت عظمته بقبول أمثالها منجّزة، وإمدادك منها بأمداد تستدعي لك النصر وتستنزله، وتستكمل الحظّ من كلّ خير وتستجز له، وتبلّغ الأمل منك فيمن هو العدّة للملمّات، والحامي لتقرير الأنس من روائع الشّتات، ومن ببقائه تكفّ عن الامتداد أكفّ الخطوب، وتطلق وجوه المسارّ من عقل القطوب، ويأبى الله العادل في حكمه وحكمته، الرؤوف بعباده وخليقته، إلا إعلاء كلمة الحق بالهمم الإماميّة، والإجراء على عوائد صنيعته الحفية، الكافلة بصلاح العباد والرعيّة، وقد أقيمت أسواق التهنئة بهذه البشرى، وأفادت جذلا تتّابع وفوده تترى لا سيّما مع الإشارة إلى قرب الأوبة التي تدني كلّ صلاح وتجلبه، وتزيل كلّ خلل أتعب القلوب وتذهبه. وإلى الباري جلّ اسمه الرغبة في اختصاصك من عنايته بأحسن ما عهدته وأجمله، وصلة آخر وقتك في نجح المساعي بأوّله وأن لا يخلي الدار العزيزة من إخلاصك في ولائها، ورغبتك في تحصيل مراضيها وشريف آرائها.
هذه مناجاة أمير المؤمنين أدام الله تأييدك ابتغى الله جزاءك فيها على عادة تكرمته، وأعرب بها عن اعتقاده فيك وطويّته، ومكانك الأثيل في شريف حضرته، وابتهاجه بنعمة الله عندك وخيرته فتأمّلها تأمّلا يشاكل طاعتك الصافية من الشّوائب والأقذاء، وتلقّها بصدق الاعتماد عليها وحسن الإصغاء، تفز بالإصابة قداحك، ويقرن بالتوفيق مغداك ومراحك، إن شاء الله تعالى، والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته».
وكما كتب بعض كتّاب الفاطميين عن الحافظ لدين الله، أحد خلفائهم إلى شمس الدولة أبي منصور محمد بن ظهير الدين بن نوري بن طغتكين ببعلبكّ جوابا عن كتابه الوارد عنه على الخليفة، ويذكر أنه حسّن لفخر الملك رواج وروده على الخليفة بالديار المصرية، ويذكر نصرته على الفرنج بطرابلس، وقتله القومص ملكها.
«من عبد الله ووليّه عبد المجيد أبي الميمون الإمام الحافظ لدين الله أمير المؤمنين، إلى الأمير فلان.(6/438)
وكما كتب بعض كتّاب الفاطميين عن الحافظ لدين الله، أحد خلفائهم إلى شمس الدولة أبي منصور محمد بن ظهير الدين بن نوري بن طغتكين ببعلبكّ جوابا عن كتابه الوارد عنه على الخليفة، ويذكر أنه حسّن لفخر الملك رواج وروده على الخليفة بالديار المصرية، ويذكر نصرته على الفرنج بطرابلس، وقتله القومص ملكها.
«من عبد الله ووليّه عبد المجيد أبي الميمون الإمام الحافظ لدين الله أمير المؤمنين، إلى الأمير فلان.
أما بعد، فإنه عرض بحضرة أمير المؤمنين كتابك من يد فتاه ووزيره، وصفيّه وظهيره، السيد الأجل الأفضل، الذي بذل نفسه في نصرة الدين تقى وليانا، وأوضح الله للدولة الحافظيّة بوزارته حجّة وبرهانا، وأسبغ النعمة على أهلها بأن جعله فيهم ناظرا ولهم سلطانا، ووفّقه في حسن التدبير، والعمل بما يقضي بمصالح الصغير والكبير وبما أعاد المملكة إلى أفضل ما كانت عليه من النّضرة والبهجة، ولم يخرج المادحون لها إذا اختلفوا عن التحقيق وصدق اللهجة، فقد ساوت سياسته بين البعيد والقريب، وأخذ كلّ منهما بأجزل حظّ وأوفر نصيب، وسارت سيرته الفاضلة في الآفاق مسير المثل، واستوجب من خالقه أجر من جمع في طاعته بين القول والعمل. وشفع عرضه من وصفك وشكرك، والثناء عليك وإطابة ذكرك، وأنهى ما أنت عليه من الولاء، وشكر الآلاء، بما يضاهي ما ذكرته فيه مما علم عند تلاوته، وأصغي إلى عند قراءته.
وقد استقرّ بحضرة أمير المؤمنين مكانك من المشايعة، وموقعك من المخالصة وكونك من ولاء الدولة على قضية كسبتك (1) شرفا تفيّأت ظلاله، وأفاضت عليك ملبسا جررت أذياله، وسمت بك إلى محلّ لا يباهي من بلغه ولا يطاول من ناله، وكنت في ذلك سالكا للمنهج القويم، ومعتمدا ما أهل بيتك عليه في القديم ولا جرم (2) أنه عاد عليك من حسن رأي أمير المؤمنين بما تقصر عنه كلّ أمنيّة، ويشهد لك بمخالصة جمعت فيها بين عمل ونيّة، والله يضاعف أجرك على اعتصامك من طاعة أمير المؤمنين، بالحبل المتين، ويوزعك شكر
__________
(1) في المصباح في مادة كسب «يتعدّى بنفسه إلى مفعول ثان فيقال كسبت زيدا مالا وعلما أي أنلته.
قال ثعلب وكلهم يقول كسبك فلان خيرا إلا ابن الأعرابي فانه يقول أكسبك بالألف». حاشية الطبعة الأميرية.
(2) لا جرم: أي لا بدّ.(6/439)
ما منحك من الاستضاءة بنور الحق المبين.
فأما الأمير الأسفهسلار فخر الملك رواج وبعثك له على الوصول إلى الباب، وحضّك إيّاه على التعلّق من الخدمة بمحصد الأسباب، فما كان الإذن له في ذلك إلّا لأنّ كتابه وصل بملتمسه، وعرض فيه نفسه وبذل المناصحة والخدمة، ويسأل سؤال من يعرف قدر العارفة بالإجابة إليه وموقع النعمة، فأجيب إلى ذلك إسعافا له بمراده، وعملا برأي الدولة فيمن يرغب إلى التحيّز إليها من أقطاره وبلاده، وإلا فلا حاجة لها إليه ولا إلى غيره لأن الله تعالى وله الحمد وفّر حظّها من الأولياء والأشياع، والأنصار والأتباع، والعساكر والجيوش والأجناد والأنجاد، والأعوان الأقوياء الشّداد، وعبيد الطاعة الذين يتبارون في النّصح ويتنافسون في الاجتهاد والحرص، وسعة الأموال، وعمارة الأعمال، وجمع الرّجال في العزائم بين الأفعال والأقوال ولو وصل المذكور لكانت المنّة للدولة عليه، والحاجة له في ذلك لا إليه، قال الله عز من قائل:
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لََا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلََامَكُمْ بَلِ اللََّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدََاكُمْ لِلْإِيمََانِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (1).
وأمّا توجهه إلى طرابلس وظفره بقومصها وقتله إيّاه مع من بها، وعظيم أمره فيها فالله تعالى يعزّ الإسلام وينشر لواءه، ويعلي مناره ويخذل أعداءه، وينصر عساكره وأجناده، ويبلّغه في أحزاب الكفر والضلال مراده، وهو عز وجلّ يمتّعك من الولاء بما منحك، وينيلك في دينك ودنياك أملك ومقترحك فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى».
الأسلوب الثاني (أن يفتتح الجواب بلفظ «أمّا بعد»)
كما كتب عن المقتفي إلى السلطان محمود (2) بن محمد السّلجوقيّ جوابا
__________
(1) سورة الحجرات 49، الآية 17.
(2) هو أبو القاسم محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي، الملقب مغيث الدين، أحد الملوك السلجوقية المشاهير تولى السلطنة بعد وفاة والده، وخطب له بها بمدينة بغداد، على عادة الملوك السلجوقية، سنة 512هـ. ضعفت السلطنة في أواخر أيامه وقلّت أموالها. توفي سنة 525هـ. انظر وفيات الأعيان (ج 5ص 183182) وصفحات متفرقة من تاريخ ابن خلدون وتاريخ ابن الأثير.(6/440)
عن كتابه الوارد بإخباره باجتماعه مع عمه سنجر، ونسخته (1):
أما بعد، فإنّ كتابك عرض بحضرة أمير المؤمنين ناطقا بدرك الأوطار، وحصول المقاصد على الآثار، وما أنهيته من الاجتماع بعزّ الدنيا والدّين جمع الله في طاعته شملكما ووصل بالألفة والتوادد حبلكما! ومن إكرام الوفادة الذي أنت أهله ووليّه، وحقيق أن يتبع وسميّه لديك وليّه، والموافقة على كل حال آذنت ببلوغ الأغراض وتيسّرها، ونجاز المساعي على أتمّ وفاق وتقرّرها، وانتظام الأمور على أجمل معتاد وأكمل مراد، وأحسن اتّساق واطّراد، واستقرار القواعد على الوصف الجامع أشتات الاتّفاق، الدالّ على صدق المحافظة بينكما وفرط الإشفاق، محفوفا بالسعادة التي لا تزال مآثرك في الطاعة الإمامية تملك قيادها، وتقلّدك على الاتصال نجادها، فتهللت بهذا النّبإ المبهج أسرّة البشرى، وأصبح الجذل بمكانه أفعم عرفا وأذكى نشرا، وقامت لأجله في عراص (2) الدار العزيزة مواسم، أضحت المسرّة بها مفترّة الثغور ضاحكة المباسم وجدير بمن كان له من الهمم الشريفة مدد واف، ومنجد يدفع في صدر كلّ خطب مواف، أن تكتنفه الميامن والسّعود، ويصدق (3) في كل مرمى ينحوه من النّجح الموعود، وتنقاد له المصاعب ذللا، ويعود بيمن نقيبته كلّ عاف من الصلاح جديدا مقتبلا ولا ينفكّ صنع الله جلّ اسمه لطيفا، وبرباعه محدقا مطيفا، والتوفيق مصاحبه أنّى حلّ وثوى، أو ثنى عنانه إلى وجه ولوى، والله يمتّع أمير المؤمنين منك بالعضد الذي يذبّ عن دولته ويحامي، ويناضل دونها بجنود الإخلاص ويرامي،
__________
(1) أي كتب كتاب نسخته هي فنائب فاعل «كتب» محذوف هنا.
(2) العراص، بكسر العين: ج عرصة، وهي ساحة الدار.
(3) لعله: «ويصادف» انظر حاشية الطبعة الأميرية.(6/441)
ولا يخليك من رعايته التي لا يزال يستقر فيها إليك، ويرغب إليه في إسباغ لباسها عليك، حتّى تتسنّى لك المطالب معا، ويغدو الزمان فيما ينشأ متّبعا.
هذه مفاوضة أمير المؤمنين إليك، أدام الله تأييدك، أجراك فيها على مألوف العادة، وجدّد لك بها برود الفخار والسعادة، فاجر على وتيرتك في إتحاف حضرته بطيّب أخبارك، ومجاري الأمور في إيرادك وإصدارك، تهد إليها ابتهاجا وافرا، وابتساما يظلّ لثامه عن حمد الله المسند بها سافرا إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني (أن يكون الافتتاح في الجواب مصدّرا بما فيه معنى وصول المكاتبة إلى الخليفة)
فقد جرت عادة المتقدّمين من الكتّاب في التعبير عن ذلك بلفظ «العرض على الخليفة» ويؤتى فيه على ما تضمنه الكتاب المجاب عنه، ثم يختم كما تختم الابتداآت.
كما كتب العلاء (1) بن موصلايا عن القائم بأمر الله إلى «أتسز» عند ورود كتابه على أبواب الخلافة يتضمّن انتظامه في سلك الطاعة وغلبته الأعداء، وهو:
عرض بحضرة أمير المؤمنين ما ورد منك دالّا على تمسّكك من الطاعة الإمامية بما لا تزال تجدّ فيه ملابس التوفيق حالا بعد حال، وتجد به مرائر السعد محصفة في كل حلّ وترحال، منبئا عن توفّرك على المقامات التي انتقمت بها للهدى من الضّلال، واستقمت فيها حتّى أجلت عن كلّ صلاح ممتدّ الظّلال، شاهدا بما أنت عليه من موالاة لا تألو جهدا في التزام شروطها بادئا عائدا، ولا تخلو فيها من حسن أثر يكون لدعائم الصواب عامدا، وترى فيه قاصدا لاجتلاب
__________
(1) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 2من ص 403من هذا الجزء.(6/442)
الخير عائدا. ووقف عليه وقوف من ارتضى ما يتوالى من قرباتك التي لا تزال في إعذاب ورودها ساعيا. ولما يفضي إلى إعشاب مرعاها في طلب الحمد مراعيا، وانتضى منك للخدمة بتلك الأعمال حساما باترا آجال بقايا الكفر هناك، ماضيا في كل ما يقضي بانفساح مجال آمالك في الدهر ومبارّك، واعتدّ لك بما أنهاه عنك رسول أمير المؤمنين العائد من قبلك، وأوضحه من زلفك (1) التي شفع قولك فيها عملك، وطالع به الرسول الذي نفّذته معه لقصد بابه، والمناب في تأكيد دواعي النّجح وتمهيد أسبابه، وحلّ كلّ ذلك لديه المحلّ الذي ستجني ثمره كلّما يطيب ويحلو، ويسلم من كل (2) الاستزادة ويخلو، ويعزّ مهر الفوز به على غيرك ويغلو، وتأثّل لك من الرّتبة بحضرته ما يدني لك كلّ مطلب إلى مرادك آئل، ويدوي قلب كلّ منحرف عن وفائك مائل وصرت من أعيان الخلصاء الذين وسمت الهدى أفعالهم بالحمد، وسمت بالطاعة آمالهم إلى توقّل هضاب المجد، فما تهمّ بك الغير إلا وتنقطع دونك أعناقها، وترجع في جلباب الخيبة وحيصها إليك وإعناقها، ولا تمتدّ نحوك يد ضدّ إلا ردّها عنك جميل الآراء الشريفة فيك وغلّها، وأوجب نهلها عن موارد القصور وعلّها وكيف لا يكون ذاك ولك في الطاعة كلّ موقف اغتذى بلبان الحمد، واعتنى باشتهاره بلوغ المدى في وصفه والحدّ؟ فأحسن الله توفيقك فيما أنت بإزائه من إخماد لهب الباطل بتلك الشّعاب، وإجهاد النّفس في إخمال المتاعب وإذلال الصّعاب، وأمدّك بالعون على ما بدأت له من جب (3) فيما يليك، وطبّ أدواء الفساد في نواحيك. ومع ما فزت به من هذه المنحة التي قد جاز قدرها التقدير والظّن، وجاد لك الدهر فيها بما كان شحّ به على أمثالك وضنّ فيجب أن تستديمها، وتحصّن من النّغل (4) أديمها، بمزيد من الخدمة تنتهز
__________
(1) الزلف: ج زلفة، وهي القربة.
(2) كذا في الأصول، ولعله: «من خلل الاستزاده» وفي القاموس: استزاده: استقصره. حاشية الطبعة الأميرية.
(3) بياض في الأصل، ولعلّه: من جب أصول العناد» حاشية الطبعة الأميرية.
(4) يقال: نغل الأديم ينغل نغلا: فسد في الدباغ.(6/443)
الفرص بالإسراع إليه والبدار، وتنتهج أقوم الجدد (1) في مقابلة الإيراد منه بالإصدار، وتنفد وسعك في كل مسعى ينثني إليك عنان الثّناء معه، وتنفق عمرك في كل أمر يجمع لك مرأى الرضا عنك ومسمعه، لتجد من جدوى ذلك ما ينظم في السعادة شملك، ويضحى به القياد فيما يصدّق أملك أملك، وأن تحمد السيرة في الرعايا الذين غدوا تحت كنفك، وتجعل الاشتمال على مصالحهم معربا عن فضل شغفك بالخير وكلفك فإنهم ودائع الله تعالى يلزم أن تحمى من ضياع يتسلّط عليها في حال، وتحيا من درّ الإحسان برضاع لا يخطر الفطام عنه ببال فلا تقفنّ عند غاية في إفاضة الفضل عليهم وإسباغ ظلّه، واعتمادهم بتخفيف ثقل الحيف عنهم أو إزالة كلّه، ليكونوا في أفياء الأمن راتعين، ولخرق كل ملمّ بحسن ملاحظتك راقعين فالذي يراه أمير المؤمنين في فرضك حتّى يزداد باعك طولا، ولا يترك لك على الزمان اقتراحا ولا سولا، يقتضي أن يتبع كلّ سابق إليك من الإحسان بلاحق، ويمرع جناب النّعمى لديك عند ذرّ (2) كلّ شارق. وكذلك يرى أن يجدّد لك من تشريفه المنوّر مطالع الفجر، المنوّه بالذّكر في الدهر، الذي لا تزال الهمم العالية تصبو إلى الفوز به وتميل، وتقف عند حدّ الرجاء والتأميل، ما أصحب رسولك المشار إليه لتدّرع من خلاله ما الشّرف الأكبر في مطاويه، وتمتطي من صهوة العزّ فيه ما يبعد على النظراء إدراك مراميه. ويجب أن تتلقى مقدم ذلك عليك بما ينبيء عن اقتران النعمة الغراء فيه، وأقمار أهلّة التوفيق عندك بما تقصد في المعنى وتنتحيه وإذا عاد رسولك إلى باب أمير المؤمنين حسب ما ذكرت، أصدر على يده من ضروب التشريفات ما يقرّ فيك عيون من يودّك، ويقرّ في مغانيك كلّ سعد يوري فيه زندك فاسكن إلى حبائك بالمزيد من كلّ رتبة أهّلت لها، وكن بحيث الظّنّ فيك توقّر عليك أقسام الحمد كلّها، وثق بمترادف آلاء ينضمّ لديك شملها، ويثقل كلّ كاهل حملها، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الجدد، بالضم ثم الفتح، ج جدّة، وهي الطريقة أو الطريق.
(2) أي عند ما يطلع قرن الشمس.(6/444)
الطرف التاسع (في الكتب الصادرة عن ولاة العهد بالخلافة)
لم أقف على مكاتبة صريحة التصوير عن ولاة العهد، غير أن الإمام أبا جعفر النحاس (1) في «صناعة الكتّاب» بعد أن ذكر أن صورة المكاتبة عن الخليفة: «من عبد الله أبي فلان فلان الإمام الفلاني إلى فلان» أتبع ذلك بأن قال: وليس أحد من الرؤساء يكاتب عنه بالتصدير إلا الإمام ووليّ العهد، ولم يزد على ذلك. وقد فسّر ابن حاجب النعمان في «ذخيرة الكتاب» التصدير بأن قال: يكتب «من عبد الله أبي فلان فلان» باسمه وكنيته ونعته. ويقال: أمير المؤمنين أبي فلان.
أما بعد، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو إلى آخره، على ما تقدّم بيانه.
وذكر النحاس في الكلام على العنوان من الرئيس إلى المرؤوس أنه يحذف من الكتاب عن وليّ العهد لفظ الإمام، ولفظ أمير المؤمنين، ويقال فيه:
وليّ العهد. وظاهر ذلك أن المكاتبة عن وليّ العهد مشابهة للمكاتبة عن الخليفة، وأن لفظ وليّ العهد في المكاتبة عنه يقوم مقام أمير المؤمنين في المكاتبة عن الخليفة نفسه، وحينئذ فيتجه أن تكون المكاتبة عنه «من عبد الله أبي فلان فلان المعتضد بالله مثلا وليّ عهد المسلمين. سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلّي على محمد عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. أما بعد: فإن كذا وكذا» ويؤتى على المقصد إلى آخره. وعلى ذلك يدلّ كلام صاحب «ذخيرة الكتّاب». فإنه قال بعد ذكر المكاتبة عن الخليفة: وكذلك المكاتبة عن وليّ العهد. على أنّ المكاتبة عن وليّ العهد قد بطلت في زماننا جملة.
__________
(1) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 1من ص 202من هذا الجزء.(6/445)
الطرف العاشر (من المكاتبات عن الخلفاء المكاتبات إلى أهل الكفر)
وكان الرّسم فيها أن يكتب «من فلان إلى فلان». ويقع التخلّص فيها إلى المقصود ب «أما بعد». ويختم الكتاب بلفظ «والسّلام على من اتّبع الهدى». فقد حكى أبو هلال العسكريّ في كتابه «الأوائل» أنه كان على الروم ملكة، وكانت تلاطف الرشيد ولها ابن صغير، فلمّا نشأ فوّضت الأمر إليه فعاث وأفسد، فخافت أمّه على ملك الروم فقتلته، فخرج عليها تقفور ملك الرّوم فقتلها واستولى على ملكها وكتب إلى الرشيد:
«أما بعد، فإنّ هذه المرأة وضعتك موضع الشاه، ووضعت نفسها موضع الرّخّ (1)، وينبغي أن تعلم أنّي أنا الشاه وأنت الرّخّ. فأدّ إليّ ما كانت المرأة تؤدّي إليك». فلما قرأ الكتاب، قال لكتّابه أجيبوا عنه، فكتبوا ما لم يرتضه، فكتب هو إليه:
«من عبد الله هارون أمير المؤمنين، إلى تقفور كلب الرّوم. أما بعد، فقد فهمت كتابك، والجواب ما تراه لا ما تسمعه، والسّلام على من اتبع الهدى».
ويقال: إنه كتب «الجواب ما تراه لا ما تسمعه، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار». ولا يخفى ما في ذلك من البلاغة مع الإيجاز.
وكما كتب عن الحافظ لدين الله، أحد خلفاء الفاطميين بمصر إلى صاحب صقلّيّة (2) وما معها من ملوك الفرنج:
__________
(1) الرخّ: قطعة من قطع الشطرنج التي يلعب بها، أو نبات هش.
(2) صقليّة، بثلاث كسرات وتشديد اللام والياء أيضا مشدّدة، جزيرة خصيبة من جزائر بحر المغرب، كثيرة البلدان والقرى والأمصار، بها عيون غزيرة وأنهار جارية، وهي أعجوبة من عجائب الدهر.
كانت قليلة العمارة خاملة قبل الاسلام، فتحت في أيام بني الاغلب على يد القاضي أسد بن الفرات سنة 212هـ. وبقيت بأيدي المسلمين مدة وصار أكثر أهلها مسلمين ثم ظهر عليها النورمان فملكوها سنة 449هـ. معجم البلدان (ج 3ص 419416).(6/446)
«من عبد الله ووليّه عبد المجيد أبي الميمون الإمام الحافظ لدين الله أمير المؤمنين، إلى الملك بجزيرة صقلّيّة، وأنكورية وأنطالية وقلّورية وسترلو وملف وما انضاف إلى ذلك، وفّقه الله في مقاصده! وأرشده إلى العمل بطاعته في مصادره وموارده.
سلام على من اتّبع الهدى، وأمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد خاتم النبيّين، وسيد المرسلين، صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الأئمة المهديّين، وسلّم تسليما.
أما بعد، فإنه عرض بحضرة أمير المؤمنين الكتاب الواصل من جهتك، ففضّ ختامه واجتلي، وقريء مضمونه وتلي، ووقعت الإصاخة إلى فصوله، وحصلت الإحاطة بجمله وتفاصيله. والإجابة تأتي على أجمعه، ولا تخلّ بشيء من مستودعه، أما ما افتتحته به من حمد الله تعالى على نعمه، وتوسيعك القول فيما أولاك من إحسانه وكرمه، فإنّ مواهب الله تعالى ومننه التي جعل تواليها اختبار شكر العبد وامتحانه على أنه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور عليم، وهو القائل فيمن أثنى عليهم: {أُولََئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ََ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (1) لا يزال مضاعفها ومرادفها، ومتبعا سالفها آنفها، وهو يوليها كلّا من عبيده بقدر منزلته عنده، ويخصّ أصفياءه بأوفى مما تمنّاه الآمل المبالغ وودّه. والله تبارك وتعالى يمنح أمير المؤمنين، وآباءه الأئمة الراشدين، ما غدت مستقدمات الحمد والشكر عند لوازمه مستأخرة، إذ كان أفردهم دون الخليقة بأن أعطاهم الدنيا ثم أعطاهم معها الآخرة، واختصّهم من حبائه (2) بما لا يحصيه عدد، وخوّلهم من آلائه بما لا يقوم بشكره أحد.
__________
(1) سورة الحجرات 49، الآية 3.
(2) الحباء، بكسر الحاء: العطاء.(6/447)
وأما ما ذكرته من افتتاحك الجزيرة المعروفة بجربة (1) لما شرحته من عدوان أهلها، وعدولهم عن طرق الخيرات وسبلها، واجترائهم في الطّغيان على أسباب لا يجوز التغافل عن مثلها، واستعمالهم الظّلم تمرّدا، وتماديهم في الغيّ تباهيا في الباطل وغلوّا، يأسا من الجزاء لمّا استبطأوه، فإنّ من كانت هذه حالته حقيق أن تكون الرحمة عنه نائية، وخليق أن يأخذه الله من مأمنه أخذة رابية، كما أنه من كان من أهل السلامة، وسالكا سبيل الاستقامة ومقبلا على صلاح شانه، وغير متعدّ للواجب في سرّه وإعلانه تعيّن أن نوفّر من الرعاية سهمه، ونجزل من العناية نصيبه وقسمه، ويؤمّن مما يقلقه ويزعجه، ويقصد بما يسرّه ويبهجه، ويصان عن أن يناله مكروه، ويحمى من أذى يلمّ به ويعروه.
وأما شكرك لوزيرك الأمير تأييد الدولة وعضدها عزّ الملك وفخره نظام الرّياسة، أمير الأمراء، فإنّ من تهذّب بتهذيبك، وتخلّق بأخلاقك وتأدّب بتأديبك، لا ينكر منه إصابة المرامي، ولا يستغرب عنده نجح المساعي.
وواجب عليه أن لا يجعل قلبه إلا مثوى للنصائح، وأن لا يزال عمره بين غاد في المخالصة ورائح.
وأما المركب العروس ووصول كتاب وكيله ذاكرا ما اعتمده مقدّم أسطولك من صونه وحمايته، وحفظه ورعايته، وإعادة ما كان أخذ منه قبل المعرفة بأنه جار في الديوان الخاص الحافظي، ففعل يجمل عنك صدره، ويليق بك أن ينسب إليك ذكره وخبره، ويدلّ على علم أصحابك برأيك وإحكام معاقدة المودّة، ويعرب عن إيثارك إبرازها كلّما تقادم عهدها في ملابس بهجة مستجدّة، وهذا الفعل من خلائقك الرضية غير مستبدع، وقد ذخرت منه عند أمير المؤمنين ما حصل في أعز مقرّ وأكرم مستودع. لا جرم (2) أن أوامره خرجت إلى مقدّمي
__________
(1) جربة، بكسر الجيم وسكون الراء: جزيرة بالمغرب من ناحية إفريقية، على مقربة من قابس، وفيها بساتين كثيرة. معجم البلدان (ج 2ص 118).
(2) لا جرم: لا بدّ.(6/448)
أساطيله المظفّرة بما يجنيك ثمرة ما غرسته، ويعلي منار ثنائك الذي قرّرته على أقوى أصل وأسّسته، وقد نفذت مراسيمه بإجرائك على غلاتك المستمرّة في المسامحة بما وجب للديوان عما وصل برسمك على مراكبك، وبرسم الأمير تأييد الدولة وزيرك، والرسولين الواردين عن حق الورود إلى ثغر الإسكندرية حماه الله تعالى، ثم إلى مصر حرسها الله وحقّ الصدور عنهما، وكلّ ما يصل من جهتك فعلى هذه القضية.
وأما شكرك على الأسرى الذين أمر أمير المؤمنين بإطلاقهم إجابة لرغبتك، ورسم بتسييرهم إليك محافظة على مرادك وبغيتك، فأوزعنا شعارهم أنهم عتقاء شفاعتك، وأرقّاء منّتك، فذلك من الدلائل على ما ينطوي عليه من جميل الرأي وكريم النّية، ومن الشواهد بأنه يوجب لك ما لا يوجبه لأحد من ملوك النّصرانية،.
وأما سؤالك الآن في إطلاق من تجدّد أسره، وإنهاؤك أنّ ذلك مما يهمّك أمره، فقد شفّعك أمير المؤمنين بالإجابة إليك على ما ألف من كريم شيمته، وسيّر إليك مع رسولك من تضمّن الثبت ذكر عدّته، وقد علمت ما كان من أمر بهرام ووصوله إلى الدولة الفاطمية خلّد الله ملكها شريدا طريدا، قد نبت به أوطانه، وقذفته دياره، لا مال له ولا حال، ولا عشيرة ولا رجال، فقبلته أحسن قبول، وبلغت به في الإحسان ما يزيد على السّول، وغمرته من الإنعام ما يقصر عن اقتراحه كلّ أمل، وجعلته فواضلها يقلّب الطّرف بين الخيل والخول. وكانت أموره كلّ يوم في نموّ وزيادة، وأحواله توفي على البغية والإرادة، إلى أن جرت نوبة اقتضى التدبير في وقتها أن عدقت به الوزارة، ونيطت به السّفارة، فوسوس له خاطره ما زخرفه البطر وزيّنه، وصوّره الشيطان وحسّنه، وأظهر ما ظهرت أماراته، ووضحت أدلّته وعلاماته، فاستدعى قبيله وأسرته، وجنسه وعشيرته، بمكاتبات منه سرّيّة، وخطوط عثر عليها بالأرمنية، فكانوا يصلون أوّل أوّل، إلى أن اجتمع منهم عشرون ألف رجل من فارس وراجل، ومن جملتهم ابنا أخيه
وغيرهما من أهله، فدلّوه بالغرور، وحملوه على ما قضى بالاستيحاش منه والنّفور، وقوّوا عزمه فيما يؤدّي إلى اضطراب الأحوال واختلال الأمور، فامتعض العساكر المنصورة مما أساء به سياستهم، وأبوا الصبر على ما غيّر به رسمهم وعادتهم. فلما رأى أمير المؤمنين ذلك استعظم الحال فيه، وتيقّن أن التغافل عنه يقتضي بما يعسر استدراكه وتلافيه، فكاتب وليّه وصفيّه الذي ربّي في حجر الخلافة، وسما به استحقاقه إلى أعلى درج الإنافة، وحصلت له الرياسة باكتسابه وانتسابه، وغدا النظر في أمور المملكة لا يصلح لغيره ولا يليق إلا به، السيد الأجلّ الأفضل، وهو يومئذ والي الأعمال الغربية. وصدرت كتب أمير المؤمنين تشعره بهذا الأمر الصّعب، وتستكشف به ما عرا الدولة من هذا الخطب، فأجاب دعاءه، ولبّى نداءه، وقام قيام مثله ممن أجزل الله حظّه من الإيمان، وجعله جلّ وعز حسنة هذا الزمان، واختصّه بعناية قويّة، وأمدّه بموادّ علويّة، وأيّده بإعانة سماويّة، تخرج عن الاستطاعة البشريّة. فجمع الناس وقام خطيبا فيهم، وباعثا لهم على ما يزلفهم عند الله ويحظيهم وموضّحا لهم ما يخشى على الدولة من الأمر المنكر، فاجتمعوا إليه كاجتماعهم يوم المحشر، وغصّت النّجود والأغوار، وامتلأت السّهول والأوعار، وضاقت الأرض على سعتها بالخلائق، وارتفعت في توجّههم لطلب المذكور الأعذار والعوائق. ولم يبق فضاء إلّا وهو بهم شرق (1)، ولا أحد إلا وهو منزعج بقصده وعلى تأخّر ذلك قلق. وكان بهرام وأصحابه بالإضافة إليهم كالشامة في اللّون البسيط، وكالقطرة في البحر المحيط، وساروا مع السيّد الأجلّ الأفضل نحوه مسارعين، وعلى الانقضاض عليهم متهافتين. فلما شعر بذلك لم يبق له قرار، ولاذ بالهرب والفرار، يهجر المناهل، ويطوي المراحل، ويرى الشّرود غنما، ويعدّ السّلامة حلما. واستقرّت وزارة أمير المؤمنين لهذا السيد الأجلّ الأفضل الذي لم تزل فيه راغبة، وله خاطبة، ونحو تولّيه إيّاها متطلّعة، وإلى نظره فيها مبادرة متسرّعة،(6/449)
وأما سؤالك الآن في إطلاق من تجدّد أسره، وإنهاؤك أنّ ذلك مما يهمّك أمره، فقد شفّعك أمير المؤمنين بالإجابة إليك على ما ألف من كريم شيمته، وسيّر إليك مع رسولك من تضمّن الثبت ذكر عدّته، وقد علمت ما كان من أمر بهرام ووصوله إلى الدولة الفاطمية خلّد الله ملكها شريدا طريدا، قد نبت به أوطانه، وقذفته دياره، لا مال له ولا حال، ولا عشيرة ولا رجال، فقبلته أحسن قبول، وبلغت به في الإحسان ما يزيد على السّول، وغمرته من الإنعام ما يقصر عن اقتراحه كلّ أمل، وجعلته فواضلها يقلّب الطّرف بين الخيل والخول. وكانت أموره كلّ يوم في نموّ وزيادة، وأحواله توفي على البغية والإرادة، إلى أن جرت نوبة اقتضى التدبير في وقتها أن عدقت به الوزارة، ونيطت به السّفارة، فوسوس له خاطره ما زخرفه البطر وزيّنه، وصوّره الشيطان وحسّنه، وأظهر ما ظهرت أماراته، ووضحت أدلّته وعلاماته، فاستدعى قبيله وأسرته، وجنسه وعشيرته، بمكاتبات منه سرّيّة، وخطوط عثر عليها بالأرمنية، فكانوا يصلون أوّل أوّل، إلى أن اجتمع منهم عشرون ألف رجل من فارس وراجل، ومن جملتهم ابنا أخيه
وغيرهما من أهله، فدلّوه بالغرور، وحملوه على ما قضى بالاستيحاش منه والنّفور، وقوّوا عزمه فيما يؤدّي إلى اضطراب الأحوال واختلال الأمور، فامتعض العساكر المنصورة مما أساء به سياستهم، وأبوا الصبر على ما غيّر به رسمهم وعادتهم. فلما رأى أمير المؤمنين ذلك استعظم الحال فيه، وتيقّن أن التغافل عنه يقتضي بما يعسر استدراكه وتلافيه، فكاتب وليّه وصفيّه الذي ربّي في حجر الخلافة، وسما به استحقاقه إلى أعلى درج الإنافة، وحصلت له الرياسة باكتسابه وانتسابه، وغدا النظر في أمور المملكة لا يصلح لغيره ولا يليق إلا به، السيد الأجلّ الأفضل، وهو يومئذ والي الأعمال الغربية. وصدرت كتب أمير المؤمنين تشعره بهذا الأمر الصّعب، وتستكشف به ما عرا الدولة من هذا الخطب، فأجاب دعاءه، ولبّى نداءه، وقام قيام مثله ممن أجزل الله حظّه من الإيمان، وجعله جلّ وعز حسنة هذا الزمان، واختصّه بعناية قويّة، وأمدّه بموادّ علويّة، وأيّده بإعانة سماويّة، تخرج عن الاستطاعة البشريّة. فجمع الناس وقام خطيبا فيهم، وباعثا لهم على ما يزلفهم عند الله ويحظيهم وموضّحا لهم ما يخشى على الدولة من الأمر المنكر، فاجتمعوا إليه كاجتماعهم يوم المحشر، وغصّت النّجود والأغوار، وامتلأت السّهول والأوعار، وضاقت الأرض على سعتها بالخلائق، وارتفعت في توجّههم لطلب المذكور الأعذار والعوائق. ولم يبق فضاء إلّا وهو بهم شرق (1)، ولا أحد إلا وهو منزعج بقصده وعلى تأخّر ذلك قلق. وكان بهرام وأصحابه بالإضافة إليهم كالشامة في اللّون البسيط، وكالقطرة في البحر المحيط، وساروا مع السيّد الأجلّ الأفضل نحوه مسارعين، وعلى الانقضاض عليهم متهافتين. فلما شعر بذلك لم يبق له قرار، ولاذ بالهرب والفرار، يهجر المناهل، ويطوي المراحل، ويرى الشّرود غنما، ويعدّ السّلامة حلما. واستقرّت وزارة أمير المؤمنين لهذا السيد الأجلّ الأفضل الذي لم تزل فيه راغبة، وله خاطبة، ونحو تولّيه إيّاها متطلّعة، وإلى نظره فيها مبادرة متسرّعة،
__________
(1) أي ضاق بهم، يقال: شرقت الأرض إذا امتنعت أن يجري فيها الماء.(6/450)
ولم تنفكّ لزينة دستها مستبطئة، وفي التلهّف على تأخّر ذلك معيدة مبدئة، فأحسن إلى الكافّة قولا وفعلا، وعمل في حقّ الدولة ما لم يجعل له في الوزراء شبها ولا في الملوك العظماء مثلا، وغدا للملّة الحنيفيّة حجّة وبرهانا، وأولى الأولياء إعزازا وتكريما والأعداء إذلالا وإهوانا. وصان الخلافة عن نفاذ حيلة، وتمام غيلة، ومخادعة ماكر، ومخاتلة غادر فلذلك انتضاه أمير المؤمنين حساما باترا ماضي الغرار، واجتباه هماما في المصالح لا يطعم جفنه غير الغرار، واصطفاه خليلا وظهيرا لتساوي باطنه وظاهره في الصّفاء، واستخلصه لنفسه لمفاخره الجمّة التي ليس بها من خفاء. وانتظمت الأمور بكفالته في سلك الوفاق، وعمّت الخيرات بوزارته عموم الشمس بأنوارها جميع الآفاق، فسعدت بنظره الجدود، وتظاهرت ببركاته الميامن والسّعود. وأصبح غصن المعالي بيمنه مورقا، وعلى الملّة من يمن آرائه تمائم من مسّ الحوادث ورقى، فآثاره توفي على ضياء الصّباح، وعزماته تزري بمضاء المهندة الصّفاح، ومآثره تفوت شأو الثناء وغاية الامتداح. فالله تعالى يحفظ النعمة على الخلافة الحافظيّة، ويوزع شكره على سبوغها كافّة البريّة بكرمه وفضله، ومنّه وطوله.
ولما أمعن بهرام في الهرب، وجدّت العساكر المنصورة وراءه في الطّلب، وضاقت عليه المسالك، وتيقّن أنه في كل وجهة يقصدها هالك، عاد لمكارم الدولة وعواطفها، وسأل أمانا على نفسه من متالفها، فشملته الرحمة، وكتب له الأمان فعاودته النّعمة، واختلط برجال العساكر المنصورة، وصار حظّه بعد أن كان مبخوسا من الحظوظ الموفورة.
وأما اعتذار الكاتب عما وجّه إليه بأنّ من الكلام ما إذا نقل من لغة إلى لغة أخرى اضطرب مبناه فاختلّ معناه، ولا سيما إن غرس فيه لفظ ليس في إحدى اللّغتين سواه، فقد أبان فيما نسب إليه السهو فيه عن وضوح سببه، وقد قبل عذره ولم تفكّ يده عن التمسّك به.
وأما ما سيّرته إلى خزائن أمير المؤمنين تحفة وهديّة، وأبنت به عن همّة
بدواعي المجد مليّة، فإنه وصل وتسلّم كلّ صنف منه متولّي الخزائن المختصة به بعد عرضه على الثّبت المعطوف كتابك عليه وموافقته، وقد أجري رسولك في إكرامه وملاحظته على أفضل ما يعتمد مع مثله بمنزلة من ورد من جهته، وعلى قدر من وصل برسالته. وقد سيّر أمير المؤمنين من أمراء دولته، ووجوه المقدّمين بحضرته، الأمير المؤتمن، المنصور، المنتخب، مجد الخلافة، تاج المعالي، فخر الملك، موالي الدولة وشجاعها، ذا النّجابتين، خالصة أمير المؤمنين، أبا منصور جعفرا الحافظيّ رسولا بهذه الإجابة لما هو معروف من سداده، وموصوب من مستوفق قصده ومستصوب اعتماده، وألقي إليه ما يذكره ويشرحه، وعوّل عليه فيما يشافه به ويوضّحه، وأصحبه من سجاياه وألطافه، ما تضمّنه الثبت الواصل على يده، إبانة لمحلّك عنده، وموقفك منه، ومكانك لديه. وأمير المؤمنين متطلّع إلى ورود كتبك متضمنة من سارّ أنبائك وطيب أخبارك ما يسكن إلى معرفته ويثق بعلم حقيقته. فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.(6/451)
وأما ما سيّرته إلى خزائن أمير المؤمنين تحفة وهديّة، وأبنت به عن همّة
بدواعي المجد مليّة، فإنه وصل وتسلّم كلّ صنف منه متولّي الخزائن المختصة به بعد عرضه على الثّبت المعطوف كتابك عليه وموافقته، وقد أجري رسولك في إكرامه وملاحظته على أفضل ما يعتمد مع مثله بمنزلة من ورد من جهته، وعلى قدر من وصل برسالته. وقد سيّر أمير المؤمنين من أمراء دولته، ووجوه المقدّمين بحضرته، الأمير المؤتمن، المنصور، المنتخب، مجد الخلافة، تاج المعالي، فخر الملك، موالي الدولة وشجاعها، ذا النّجابتين، خالصة أمير المؤمنين، أبا منصور جعفرا الحافظيّ رسولا بهذه الإجابة لما هو معروف من سداده، وموصوب من مستوفق قصده ومستصوب اعتماده، وألقي إليه ما يذكره ويشرحه، وعوّل عليه فيما يشافه به ويوضّحه، وأصحبه من سجاياه وألطافه، ما تضمّنه الثبت الواصل على يده، إبانة لمحلّك عنده، وموقفك منه، ومكانك لديه. وأمير المؤمنين متطلّع إلى ورود كتبك متضمنة من سارّ أنبائك وطيب أخبارك ما يسكن إلى معرفته ويثق بعلم حقيقته. فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.(6/452)
الفصل الثالث من باب الثاني من المقالة الرابعة (في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم مما الجاري عليه الحال في زماننا، وهو على قسمين)
القسم الأوّل (المكاتبات الصادرة عن الملوك إلى أهل الإسلام، وفيه أطراف)
الطرف الأوّل (في مكاتباتهم إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وفيه ثلاث جمل)
الجملة الأولى (في ترتيب كتبهم إليه صلّى الله عليه وسلّم على سبيل الإجمال)
كانت أمراء سراياه صلّى الله عليه وسلّم ومن أسلم من الملوك تفتتح المكاتبة إليه صلّى الله عليه وسلّم باسمه صلّى الله عليه وسلّم، ويثنّون بأنفسهم، ويأتون بالتحميد والسّلام عليه صلّى الله عليه وسلّم، ويتخلّصون إلى المقصود «بأما بعد» أو بغيرها، ويختمون بالسلام. وملوك الكفر يبدأون بأنفسهم وربما بدأوا باسمه صلّى الله عليه وسلّم. وكان المكتوب عنه منهم يعبّر عن نفسه بلفظ الإفراد. مثل: أنا، ولي، وقلت، وفعلت. وربما عبّر بعض الملوك عن نفسه بنون الجمع. ثم إن كان المكتوب عنه مسلما، خاطبه صلّى الله عليه وسلّم بلفظ الرّسالة والنّبوّة مع كاف الخطاب وتاء المخاطب وإن كان كافرا، خاطبه بالكاف والتاء المذكورتين، وربما خاطبه باسمه. فإن كان المكتوب عنه مسلما ختم الكتاب بالسلام عليه صلّى الله عليه وسلّم.
أما عنونة هذه الكتب، فيظهر أنها إن افتتحت باسمه صلّى الله عليه وسلّم، وثنّي باسم المكتوب إليه عنونت كذلك، فكتب في الجانب الأيمن «لمحمد رسول الله» أو نحو ذلك، وفي الجانب الأيسر «من فلان» وإن كانت ممن يفتتح المكاتبة باسم نفسه عنونت على العكس من ذلك.(6/453)
كانت أمراء سراياه صلّى الله عليه وسلّم ومن أسلم من الملوك تفتتح المكاتبة إليه صلّى الله عليه وسلّم باسمه صلّى الله عليه وسلّم، ويثنّون بأنفسهم، ويأتون بالتحميد والسّلام عليه صلّى الله عليه وسلّم، ويتخلّصون إلى المقصود «بأما بعد» أو بغيرها، ويختمون بالسلام. وملوك الكفر يبدأون بأنفسهم وربما بدأوا باسمه صلّى الله عليه وسلّم. وكان المكتوب عنه منهم يعبّر عن نفسه بلفظ الإفراد. مثل: أنا، ولي، وقلت، وفعلت. وربما عبّر بعض الملوك عن نفسه بنون الجمع. ثم إن كان المكتوب عنه مسلما، خاطبه صلّى الله عليه وسلّم بلفظ الرّسالة والنّبوّة مع كاف الخطاب وتاء المخاطب وإن كان كافرا، خاطبه بالكاف والتاء المذكورتين، وربما خاطبه باسمه. فإن كان المكتوب عنه مسلما ختم الكتاب بالسلام عليه صلّى الله عليه وسلّم.
أما عنونة هذه الكتب، فيظهر أنها إن افتتحت باسمه صلّى الله عليه وسلّم، وثنّي باسم المكتوب إليه عنونت كذلك، فكتب في الجانب الأيمن «لمحمد رسول الله» أو نحو ذلك، وفي الجانب الأيسر «من فلان» وإن كانت ممن يفتتح المكاتبة باسم نفسه عنونت على العكس من ذلك.
الجملة الثانية (في صورة مكاتبتهم إليه صلّى الله عليه وسلّم)
[وفيه أسلوبان:
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب إليه)
] (1)
كما كتب خالد بن الوليد رضي الله عنه إليه صلّى الله عليه وسلّم بإسلام بني الحارث، بالكتاب الذي تقدّمت إجابته صلّى الله عليه وسلّم عنه، وهو على ما ذكره ابن هشام في «السّيرة».
«لمحمد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رسول الله من خالد بن الوليد:
السّلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد يا رسول الله، صلّى الله عليك فإنّك بعثتني إلى بني الحارث ابن كعب، وأمرتني إذا أتيتهم أن لا أقاتلهم ثلاثة أيّام، وأن أدعوهم إلى الإسلام، فإن أسلموا قبلت منهم (2) وعلّمتهم معالم الإسلام ثلاثة (3) أيام وكتاب الله وسنّة نبيه، وإن لم يسلموا قاتلتهم. وإني قدمت إليهم (4) فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة
__________
(1) الزيادة ساقطة من الأصول، وهي لازمة لانتظام الكلام كما يظهر من الأسلوب الثاني الآتي. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) في مفتاح الأفكار ص 66: «فإن أسلموا أقمت فيهم وقبلت منهم».
(3) عبارة «ثلاثة أيام» ساقطة في مفتاح الأفكار.
(4) في مفتاح الأفكار ص 66: «عليهم».(6/454)
أيّام كما أمر (1) رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعثت فيهم كتابا (2): يا بني الحارث، أسلموا تسلموا. فأسلموا ولم يقاتلوا وأنا مقيم بين أظهرهم، آمرهم بما أمر الله به، وأنهاهم عمّا نهاهم الله عنه، وأعلّمهم معالم الإسلام وسنّة النبيّ حتّى يكتب إليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. والسّلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته!».
وكما كتب النجاشيّ ملك الحبشة إليه صلّى الله عليه وسلّم في جواب كتابه صلّى الله عليه وسلّم إليه.
ونسخته على ما ذكره ابن إسحاق:
«إلى محمد رسول الله، من النجاشيّ أصحمة، سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، الذي لا إله إلا هو، الذي هداني للإسلام.
أما بعد، فقد بلغني كتابك يا رسول الله فما ذكرت من أمر عيسى فوربّ السّماء والأرض إنّ عيسى عليه السّلام ما يزيد على ما ذكرت ثفروقا (3)، إنه لكما قلت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقدم ابن عمّك وأصحابه (وفي رواية:
وقد قرّبنا ابن عمّك وأصحابه) وأشهد أنك رسول الله [صادقا مصدّقا]، وقد بايعتك وبايعت ابن عمّك، وأسلمت على يديه لله ربّ العالمين. وقد بعثت إليك بابني، وإن شئت أتيك [بنفسي] (4) فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أنّ ما تقوله حقّ، والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته».
وكما كتب المقوقس صاحب مصر إليه صلّى الله عليه وسلّم جواب كتابه الوارد عليه منه في
__________
(1) في مفتاح الأفكار ص 66: «أمرني».
(2) في «مفتاح الأفكار» ص 66: «وبعثت فيهم ركبانا قالوا يا بني الحارث». والزيادة التي في آخر الصحيفة منه. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(3) أي ما يزيد أيّ شيء والثفروق في الأصل قمع التمرة.
(4) الزيادة من رواية المواهب (ج 3ص 395) وروايته: «أتيتك». حاشية الطبعة الأميرية.(6/455)
رواية ذكرها ابن عبد الحكم، وهو:
«لمحمد بن عبد الله، من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك.
أما بعد، فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه. وقد علمت أنّ نبيّا قد بقي وكنت أظنّ أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم وكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسّلام عليك».
ولم يزد على هذا. وزاد غيره أنّ في أوّل الكتاب «بسم الله الرحمن الرحيم». وذكر الواقديّ: أن في كتابه إليه:
باسمك اللهم، من المقوقس إلى محمد.
أما بعد، فقد بلغني كتابك وفهمته وأنت تقول إنّ الله أرسلك رسولا، وفضّلك تفضيلا، وأنزل عليك قرآنا مبينا، فكشفنا عن خبرك فوجدناك أقرب داع دعا إلى الله، وأصدق من تكلّم بالصّدق، ولولا أنّي ملكت ملكا عظيما، لكنت أوّل من آمن بك، لعلمي أنك خاتم النبيين وإمام المرسلين. والسّلام عليك منّي إلى يوم الدّين.
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب عنه)
كما كتب مسيلمة (1) الكذّاب إليه صلّى الله عليه وسلّم الكتاب الذي تقدّمت إجابته صلّى الله عليه وسلّم في المكاتبات الصادرة عنه، وهو:
«من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله (2).
أما بعد، فإنّي قد أشركت في الأمر معك، إنّ لنا نصف الأرض ولقريش
__________
(1) تقدم الحديث عنه في الحاشية رقم 1من ص 366.
(2) في مفتاح الأفكار ص 66: «رسول الله سلام عليك».(6/456)
نصف الأرض، ولكنّ قريشا قوم يعتدون».
الجملة الثالثة (في المكاتبات التي كتبت إليه قبل ظهوره صلّى الله عليه وسلّم وبعد وفاته)
أما الكتب التي كتبت إليه صلّى الله عليه وسلّم قبل ظهوره، فقد حكى «صاحب الهناء الدائم بمولد أبي القاسم» أن تبّعا الأوّل حين مرّ بموضع المدينة النبويّة، على ساكنها أفضل الصلاة والسّلام والتحية والإكرام، أخبره من معه من علماء أهل الكتاب أنّ هذا الموضع مهاجر نبيّ يخرج في آخر الزمان، فعمر هناك مدينة وأسكن فيها جماعة من العلماء، وكتب إليه كتابا فيه:
«أما بعد، يا محمد، فإنّي آمنت بك وبربّك وربّ كلّ شيء، وبكتابه الذي ينزله عليك وأنا على دينك، وسنّتك، آمنت بربّك وربّ كلّ شيء، وبكل ما جاء من ربّك من شرائع الإسلام والإيمان، وإني قلت ذلك، فإن أدركتك فبها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع فيّ يوم القيامة ولا تنسني فإني من أمّتك الأوّلين، وتابعتك قبل مجيئك وقبل أن يرسلك الله، وأنا على ملّتك وملّة أبيك إبراهيم» (1).
وختم الكتاب. ونقش عليه «لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله».
وكتب عنوانه: «إلى محمد بن عبد الله خاتم المرسلين ورسول رب العالمين صلّى الله عليه، من تبّع الأوّل حمير، أمانة الله في يد من وقع إليه أن يدفعه إلى صاحبه».
ودفعه إلى رئيس العلماء الذين رتّبهم بالمدينة، فبقي عنده وعند بنيه يتداولونه واحدا بعد واحد، حتّى هاجر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، فلقيه الذي صار
__________
(1) تقدم هذا الكتاب في الجزء الرابع صفحة 287286من هذا المؤلّف.(6/457)
الكتاب إليه يومئذ من بني ذلك العالم في طريق المدينة ودفع إليه الكتاب.
وأما الكتب التي تكتب إليه صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته، فقد جرت عادة الأمّة من الملوك وغيرهم بكتابة الرسائل إليه صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته بالسلام والتحيّة والتوسّل والتشفّع به إلى الله تعالى في المقاصد الدّنيويّة والأخرويّة، وتسييرها إلى تربته صلّى الله عليه وسلّم. وأكثر الناس معاطاة لذلك أهل المغرب لبعد بلادهم، ونزوح أقطارهم.
ومن أحسن ما رأيت في هذا المعنى ما كتب به ابن (1) الخطيب وزير ابن الأحمر بالأندلس وصاحب ديوان إنشائه عن سلطانه يوسف (2) بن فرج بن نصر:
(طويل).
إذا فاتني ظلّ الحمى ونعيمه ... كفاني وحسبي أن يهبّ نسيمه (3)
ويقنعني أنّي به متكيّف ... فزمزمه دمعي، وجسمي حطيمه (4)
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني اللوشي الأصل، الغرناطي المولد والمنشأ، الشهير بلسان الدين ابن الخطيب. أديب ومؤرخ وشاعر مشهور. كان وزير سلطان غرناطة أبي الحجّاج وابنه الغني بالله محمد من بعده. لقّب بذي الوزارتين: القلم والسيف: وكان يقال له: «ذو العمرين» لاشتغاله بالتصنيف في ليله وبتدبير المملكة في نهاره. له مؤلفات تزيد على الستين.
مات قتلا وهو في السجن سنة 776هـ. انظر نفح الطيب (ج 6ص 22013)، والدرر الكامنة (ج 3ص 469)، والأعلام (ج 6ص 235).
(2) هو السلطان أبو الحجاج يوسف بن اسماعيل بن فرج بن إسماعيل النصري، سابع سلاطين بني الأحمر بغرناطة. بويع في أواخر سنة 733هـ. وسنّه آنذاك خمسة عشر عاما وثمانية أشهر مات قتلا في سنة 755هـ. انظر الدرر الكامنة (ج 4ص 450) ومقدمة نثير فرائد الجمان بقلم محققه الدكتور محمد رضوان الداية، والأعلام (ج 8ص 217).
(3) ينقل القلقشندي هنا من قصيدة ابن الخطيب اثنين وثلاثين بيتا. وفي كتابه نفح الطيب (ج 6 ص 356354) ينقل المقري ثلاثة وثلاثين بيتا، ولكن باختلاف يسير في بعض الكلمات. كذلك ينقل ابن الخطيب من هذه القصيدة في كتابه نفاضة الجراب ص 126123تسعة وخمسين بيتا ورواية عجز البيت الأول في نفح الطيب هي:
فحسب فؤادي أن يهبّ نسيمه
(4) في نفح الطيب (ج 6ص 354): «متكنّف» والحطيم: هو ما حطم من الكعبة وكسر، وهو بناء مستدير على شكل نصف دائرة، مغلّف بالرخام، ويقع في شمال الكعبة، وخلفه يقع المطاف الذي يحيط بجدر الكعبة الأربعة. انظر جغرافية شبه جزيرة العرب ص 182.(6/458)
يعود فؤادي ذكر من سكن الغضا (1) ... فيقعده فوق الغضا ويقيمه
ولم أر شيئا كالنّسيم إذا سرى ... شفى سقم القلب المشوق سقيمه
نعلّل بالتّذكار نفسا مشوقة ... ندير عليها كأسه ونديمه (2)
وما شفّني بالغور رند (3) مرنّح ... ولا شاقني من وحش وجرة ريمه
ولا سهرت عيني لبرق ثنيّة ... من الثّغر يبدو موهنا فأشيمه
براني شوق للنّبيّ محمد ... يسوم فؤادي برحه ما يسومه
ألا يا رسول الله ناداك ضارع ... على البعد (4) محفوظ الوداد سليمه
مشوق إذا ما اللّيل مدّ رواقه ... تهمّ به تحت الظّلام همومه
إذا ما حديث عنك جاءت به الصّبا ... شجاه من الشّوق الحديث (5) قديمه
أيجهر بالنّجوى، وأنت سميعها ... ويشرح ما يخفى، وأنت عليمه (6)؟
وتعوزه السّقيا، وأنت غياثه؟ ... وتتلفه البلوى، وأنت رحيمه (7)؟
بنورك نور الله قد أشرق الهدى ... فأقماره وضّاحة ونجومه
بك انهلّ فضل الله في الأرض ساكبا (8) ... فأنواؤه ملتفّة وغيومه
ومن فوق أطباق السماء بك اقتدى ... خليل الّذي أوطاكها وكليمه (9)
__________
(1) الغضا: واد بنجد، وشجر عظيم من الأثل، واحدته غضاة.
(2) هذا البيت والذي قبله غير موجودين في نفاضة الجراب.
(3) في نفح الطيب ونفاضة الجراب: «قدّ» بدل «رند» وهو الأوضح وفي نفاضة الجراب: «وما هاجني بالغور».
(4) في نفح الطيب: «على النأي» بدل «على البعد».
(5) في نفح الطيب، ونفاضة الجراب: «الحثيث».
(6) رواية البيت في نفاضة الجراب ص 124هي: أيجهر بالشكوى وأنت سميعه؟ أيعلن بالنجوى وأنت عليمه؟
(7) في نفح الطيب: «الشكوى» بدل «البلوى» وفي نفاضة الجراب: «أتعوزه أتتلفه».
(8) رواية صدر البيت في نفح الطيب هي: لك انهلّ فضل الله بالأرض ساكبا.
(9) هذا البيت والذي قبله غير موجودين في نفاضة الجراب.(6/459)
لك الخلق الأرضى الّذي بان فضله ... ومجّد في الذّكر العظيم عظيمه (1)
يجلّ مدى علياك عن مدح مادح ... فموسر درّ القول فيك عديمه
ولي يا رسول الله فيك وراثة ... ومجدك لا ينسى الذّمام كريمه (2)
وعندي إلى أنصار دينك نسبة ... هي الفخر لا يخشى انتقالا مقيمه
وكان بودّي أن أزور مبوّءا ... بك افتخرت أطلاله ورسومه
وقد يجهد الإنسان طرف اعتزامه ... ويعوزه من بعد ذاك مرومه
وعذري في تسويف عزمي ظاهر ... إذا ضاق عذر العزم عمّن يلومه (3)
عدتني بأقصى الغرب عن تربك العدا (4) ... جلالقة الثّغر الغريب ورومه
أجاهد منهم في سبيلك أمّة ... هي البحر يعيي أمرها من يرومه (5)
فلولا اعتناء منك يا ملجأ الورى (6) ... لريع حماه واستبيح حريمه
فلا تقطع الحبل الذي قد وصلته ... فمجدك موفور النّوال عميمه
وأنت لنا الغيث الذي نستدرّه ... وأنت لنا الظّلّ الذي نستديمه
ولمّا نأت داري وأعوز مطمعي ... وأقلقني شوق تشبّ جحيمه
بعثت بها جهد المقلّ معوّلا ... على مجدك الأعلى الذي جلّ خيمه (7)
[وكلت بها همّي وصدق قريحتي ... فساعدني هاء الرويّ وميمه (8)]
__________
(1) رواية البيت في نفح الطيب وهي:
لك الخلق الأرضى الذي جلّ ذكره ... ومجدك في الذكر العظيم عظيمه
وفي نفاضة الجراب: «ومجدك» بدل «ومجّد».
(2) هذا البيت والذي قبله غير موجودين في نفاضة الجراب.
(3) هذا البيت والأبيات الثلاثة التي قبله غير موجودة في نفاضة الجراب.
(4) رواية صدر البيت في نفاضة الجراب هي:
وأسد جهاد أذعنت لسيوفهم
(5) هذا البيت غير موجود في نفاضة الجراب.
(6) رواية صدر البيت في نفاضة الجراب هي:
فلولاهم يا خير من سكن الحمى
(7) هذا البيت والأبيات الثلاثة التي قبله غير موجودة في نفاضة الجراب.
(8) ارتأيت أن أضيف فقط هذا البيت لأنه سقط هنا وورد في نفح الطيب وروايته في نفاضة الجراب هي:
وكلت بها همّي وأغريت همّتي ... فساعدها هاء للرويّ وميمه(6/460)
فلا تنسني يا خير من وطيء الثّرى ... فمثلك لا ينسى لديه خديمه
عليك صلاة الله ما ذرّ (1) شارق ... وما راق من وجه الصّباح وسيمه (2)
«إلى رسول الحقّ، إلى كافّة الخلق، وغمام الرحمة الصادق البرق، والحائز (3) في ميدان اصطفاء الرحمن قصب السّبق، خاتم الأنبياء، وإمام ملائكة السماء، ومن وجبت له النبوّة وآدم بين الطّين والماء، شفيع أرباب الذّنوب، وطبيب أدواء القلوب، ووسيلة الخلق إلى (4) علّام الغيوب، نبيّ الهدى الذي طهّر قلبه، وغفر ذنبه، وختم به الرسالة ربّه، وجرى في النّفوس مجرى الأنفاس حبّه، [الشّفيع] (5) المشفّع يوم العرض، المحمود في ملإ السماء والأرض، صاحب اللّواء المنشور يوم النّشور، والمؤتمن على سرّ الكتاب المسطور، ومخرج الناس من الظّلمات إلى النّور، المؤيّد بكفاية الله وعصمته، الموفور حظّه من عنايته وحرمته (6)، الظّلّ الخفّاق على أمّته، من لو حازت الشمس بعض كماله ما عدمت إشراقا، أو كان للآباء رحمة قلبه ذابت نفوسهم إشفاقا، فائدة الكون ومعناه وسرّ الوجود الذي بهر (7) الوجود سناه، وصفيّ حضرة القدس الذي لا ينام قلبه إذا نامت عيناه، البشير الذي سبقت له البشرى، ورأى من آيات ربّه الكبرى، ونزل فيه {سُبْحََانَ الَّذِي أَسْرى ََ} (8) من الأنوار من عنصر نوره مستمدّة، والآثار تخلق وآثاره مستجدّة، من طوي بساط الوحي لفقده، وسدّ باب الرسالة والنّبوّة من بعده، وأوتي جوامع الكلم فوقفت
__________
(1) ما ذرّ شارق: أي عندما يطلع قرن الشمس.
(2) هذا البيت والذي قبله غير موجود في نفاضة الجراب.
(3) في نفح الطيب: «الحائز» بدون واو.
(4) في نفح الطيب: «والوسيلة الى علّام الغيوب».
(5) الزيادة من نفح الطيب (ج 6ص 356).
(6) في نفح الطيب: «ونعمته» بدل «وحرمته».
(7) في نفح الطيب: «الذي يبهر».
(8) سورة الإسراء 17، الآية 1.(6/461)
البلغاء حسرى دون حدّه، الذي انتقل في الغرر الكريمة نوره، وأضاءت لميلاده مصانع الشام وقصوره، وطفقت الملائكة تحيّيه (1) وفودها وتزوره، وأخبرت الكتب المنزّلة على الأنبياء بأسمائه وصفاته، وأخذ عهد الأنبياء (2) به على من اتصلت بمبعثه منهم أيام حياته، المفزع الأمنع يوم الفزع الأكبر، والسند المعتمد عليه في أهوال المحشر، ذي (3) المعجزات التي أثبتتها المشاهدة والحسّ، وأقرّ بها الجنّ والإنس، من جماد يتكلّم، وجذع لفراقه يتألّم، وقمر له ينشقّ وشجر (4) يشهد أنّ ما جاء به هو الحقّ، وشمس بدعائه عن مسيرها تحبس، وماء من بين أصابعه يتبجّس، وغمام باستسقائه يصوب، وطوى بصق في أجاجها (5) فأصبح ماؤها وهو العذب المشروب، المخصوص بمناقب الكمال وكمال المناقب، المسمّى بالحاشر العاقب، ذي (6) المجد البعيد المرامي والمراقب، أكرم من رفعت إليه وسيلة المعترف المغترب، ونجحت لديه قربة البعيد (7) والمقترب، سيد الرّسل محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، الذي فاز بطاعته المحسنون، واستنقذ بشفاعته المذنبون، وسعد باتّباعه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، صلّى الله عليه وسلّم ما لمع برق وهمع (8) ودق، وطلعت شمس، ونسخ اليوم أمس:
«من عتيق شفاعته، وعبد طاعته، المعتصم بسببه، المؤمن بالله ثم به، المستشفي بذكره كلّما تألّم، المفتتح بالصلاة عليه كلّما تكلّم، الذي إن ذكر
__________
(1) في نفح الطيب: «تجيئه».
(2) في نفح الطيب (ج 6ص 357): «عهد الإيمان به».
(3) في نفح الطيب: «ذو المعجزات».
(4) في نفح الطيب: «وحجر».
(5) الأجاج، بضم الهمزة، وكسرها: الستر.
(6) في نفح الطيب: «ذو المجد».
(7) في نفح الطيب (ج 6ص 357): «البعيد المقترب».
(8) همع: سقط يقال: همع الطلّ على الشجرة إذا سال. والودق: المطر.(6/462)
تمثّل طلوعه بين أصحابه وآله، وإن هبّ النّسيم العاطر وجد فيه طيب خلاله، وإن سمع الأذان تذكّر صوت بلاله (1)، وإن ذكر القرآن استشعر تردّد جبريل بين معاهده وحلاله، [لاثم تربه، ومؤمّل قربه، ورهين طاعته وحبّه] (2) المتوسل به إلى رضى ربه، يوسف بن إسماعيل بن نصر:
«كتبته (3) يا رسول الله والدّمع ماح، وخيل الوجد ذات جماح، عن شوق يزداد كلّما نقص الصّبر، وانكسار لا يتاح له إلا بدنوّ مزارك الجبر، وكيف لا يعنى مشوقك بالأمر، ويوطيء (4) على كبده الجمر، وقد مطلت الأيام بالقدوم على تربتك (5) المقدّسة اللّحد. ووعدت الآمال ودانت بإخلاف الوعد، وانصرفت الرّفاق والعين بنور ضريحك ما اكتحلت، والركائب إليك ما رحلت، والعزائم قالت وما فعلت، والنّواظر في تلك المشاهد الكريمة لم تسرح، وطيور الآمال عن وكور العجز لم تبرح فيا لها من معاهد فاز من حيّاها، ومشاهد ما أعطر ريّاها، بلاد نيطت بها عليك التّمائم، وأشرقت بنورك منها النّجود والتّهائم، ونزل في حجراتها عليك الملك، وانجلى بضياء فرقانك فيها الحلك، مدارس الآيات والسّور، ومطالع المعجزات السافرة الغرر، حيث قضيت الفروض وحتمت وافتتحت سورة الوحي وختمت، وابتدئت الملّة الحنيفيّة وتمّمت، ونسخت الآيات وأحكمت. أما والذي بعثك بالحقّ هاديا، وأطلعك للخلق نورا باديا، لا يطفيء غلّتي إلا شربك، ولا يسكّن لوعتي إلا قربك فما أسعد من أفاض من حرم الله إلى حرمك وأصبح بعد أداء ما فرضت
__________
(1) هو أبو عبد الله بلال بن الحبشي، مؤذن سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخازنه على بيت المال. توفي في دمشق سنة 20هـ. انظر جمهرة أنساب العرب ص 264، ولسان العرب (بلل) ومروج الذهب (ج 2 ص 300) والأعلام (ج 2ص 73).
(2) الزيادة من نفح الطيب.
(3) في نفح الطيب: «كتبه إليك».
(4) في نفح الطيب: «وكيف لا يعيي مشوقك الأمر، وتوطأ».
(5) في المصدر السابق: «على تربك المقدسة».(6/463)
عن الله ضيف كرمك، وعفّر الخدّ في معاهدك ومعاهد أسرتك، وتردّد ما بين داري بعثتك وهجرتك! وإنّي لمّا عاقتني عن زيارتك العوائق وإن كان شغلي عنك بك، وعدتني الأعداء فيك عن وصل سببي بسببك وأصبحت ما بين بحر تتلاطم أمواجه، وعدوّ تتكاثف أفواجه، ويحجب الشمس عند الظهيرة عجاجه في طائفة من المؤمنين بك وطّنوا على الصّبر نفوسهم، وجعلوا التوكّل على الله وعليك لبوسهم (1)، ورفعوا إلى مصارختك رؤوسهم، واستعذبوا في مرضاة الله تعالى ومرضاتك بوسهم، يطيرون من هيعة إلى أخرى، ويتلفّتون والمخاوف يمنى (2)
ويسرى، ويقارعون وهم الفئة القليلة جموعا كجموع قيصر وكسرى، لا يبلغون من عدوّ كالذّرّ عند انتشاره معشار معشاره (3)، قد باعوا من الله تعالى الحياة الدّنيا، لأن تكون كلمة الله تعالى هي العليا، فيا له من سرب مروع، وصريخ إلا عنك (4) ممنوع، ودعاء إلى الله وإليك مرفوع وصبية حمر الحواصل، تخفق فوق أوكارها أجنحة المناصل، والصليب قد تمطّى ومدّ (5) ذراعيه، ورفعت الأطماع بضبعيه، وقد حجبت بالقتام السّماء، وتلاطمت أمواج الحديد، والبأس الشديد فالتقى الماء، ولم يبق إلا الذّماء (6)، وعلى ذلك فما ضعفت البصائر ولا ساءت الظّنون، وما وعد به الشهداء تعتقده القلوب حتّى تكاد تراه (7) العيون، إلى أن نلقاك غدا إن شاء الله تعالى وقد أبلينا العذر، وأرغمنا الكفر، وأعملنا في سبيل
__________
(1) اللبوس: الدرع. وفي سورة الأنبياء 21، الآية 80 {وَعَلَّمْنََاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} أي عمل الدرع، سمّيت بذلك لأنها تلبس. أنظر تفسير الجلالين.
(2) في نفح الطيب (ج 6ص 358): «ويلتفتون والمخاوف عن يمنى ويسرى».
(3) في المصدر السابق: «هو الذرّ عند انتشاره، عشر معشاره».
(4) في نفس المصدر: «إلّا منك».
(5) في نفح الطيب (ج 6ص 359): «فمدّ».
(6) الذماء، بفتح الذال: بقية الروح في المذبوح وبقية النفس.
(7) في نفح الطيب: «تشاهده العيون».(6/464)
الله وسبيلك البيض (1) والسّمر.
استنبت (2) رقعتي هذه لتطير إليك [من شوقي (3)] بجناح خافق، وتسعد من نيّتي التي تصحبها برفيق موافق، فتؤدّي عن عبدك وتبلّغ، وتعفّر الخدّ في تربتك (4) وتمرّغ، وتطيب بريّا معاهدك الطاهرة وبيوتك، وتقف وقوف الخشوع (5) والخضوع تجاه تابوتك، وتقول بلسان التملّق، عند التشبّث بأسبابك والتعلّق، منكسرة الطّرف، حذرا بهرجها من عدم الصّرف: يا غياث الأمّة، وغمام الرحمة، إرحم غربتي وانقطاعي، وتغمّد بطولك قصر باعي، وقوّ على هيبتك خور طباعي. فكم جزت من لجّ مهول، وجبت من حزون وسهول، وقابل بالقبول نيابتي، وعجّل بالرّضا إجابتي. ومعلوم من كمال تلك الشّيم، وسجايا تيك الدّيم، أن لا تخيّب (6) قصد من حطّ بفنائها، ولا يظمأ وارد أكبّ على إنائها.
اللهم، يا من جعلته أوّل الأنبياء بالمعنى وآخرهم بالصّورة، وأعطيته لواء الحمد يسير آدم فمن دونه تحت ظلاله المنشورة، وملّكت أمّته ما زوي له من زوايا البسيطة المعمورة، وجعلتني من أمّته المجبولة على حبّه المفطورة، وشوّقتني إلى معاهده المبرورة، ومشاهده المزورة، ووكلت لساني بالصلاة عليه، وقلبي بالحنين إليه، ورغّبتني بالتماس ما لديه، فلا تقطع عنه أسبابي، ولا تحرمني (7) في حبّه أجر ثوابي، وتداركني بشفاعته يوم أخذ كتابي.
__________
(1) أي السيوف والرماح.
(2) استنبت: جواب «لمّا عاقتني عن زيارتك العوائق». «ولما» هذه وقعت قبل سطور عديدة في الصفحة 464.
(3) الزيادة من نفح الطيب.
(4) في نفح الطيب: «في تربك».
(5) في نفح الطيب: «وقوف الخضوع والخشوع».
(6) في المصدر السابق: «أن لا يخيب قصد».
(7) في المصدر السابق: «ولا تحرمني من حبّه ثوابي».(6/465)
هذه، يا رسول الله، وسيلة من بعدت داره، وشطّ مزاره، ولم يجعل بيده اختياره. فإن لم يكن (1) للقبول أهلا فأنت للإغضاء والسّماح أهل، وإن كانت ألفاظها وعرة فجنابك للقاصدين سهل، وإذا (2) كان الحبّ يتوارث كما أخبرت، والعروق تدسّ حسب ما إليه أشرت فلي بانتسابي إلى سعد عميد أنصارك مزيّة، ووسيلة أثيرة خفيّة، وإن (3) لم يكن لي عمل ترتضيه فلي نيّة. فلا تنسني ومن بهذه الجزيرة المفتتحة بسيف كلمتك، على أيدي خيار أمّتك، فإنما نحن بها وديعة تحت بعض أقفالك، نعوذ بوجه ربّك من إغفالك، ونستنشق من ريح عنايتك نفحة، ونرتقب من نور (4) محيّا قبولك لمحة، ندافع بها عدوّا طغى وبغى، وبلغ من مضايقتنا ما ابتغى. فمواقف التمحيص قد أعيت من كتب وورّخ، والبحر قد أصمت من استصرخ، والطاغية في العدوان مستبصر، والعدوّ محلّق والوليّ مقصّر. وبجاهك ندفع ما لا نطيق، وبعنايتك نعالج سقيم الدّين فيفيق، فلا تفردنا ولا تهملنا، وناد ربّك فينا {رَبَّنََا وَلََا تُحَمِّلْنََا} [5]، وطوائف أمتك حيث كانوا عناية منك تكفيهم، وربّك يقول لك وقوله الحقّ: {وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} (6)، والصلاة والسّلام عليك يا خير من طاف وسعى، وأجاب داعيا إذا دعا، وصلّى الله على جميع أحزابك وآلك، صلاة تليق بجلالك، وتحقّ لكمالك، وعلى ضجيعيك وصديقيك، وحبيبيك ورفيقيك، خليفتك في أمتك، وفاروقك المستخلف بعده على جلّتك، وصهرك ذي النّورين المخصوص ببرّك ونحلتك، وابن عمك سيفك المسلول على حلتك،
__________
(1) في المصدر السابق: «فإن لم تكن».
(2) في المصدر السابق: «وإن كان».
(3) في المصدر السابق: «فإن».
(4) في نفح الطيب (ج 6ص 360): «من محيا قبولك».
(5) سورة البقرة 2، الآية 286.
(6) سورة الأنفال 8، الآية 33.(6/466)
بدر سمائك ووالد أهلّتك، والسلام الكريم عليك وعليهم [كثيرا أثيرا (1)] ورحمة الله وبركاته.
من (2) حضرة جزيرة الأندلس غرناطة صانها الله ووقاها، ودفع عنها ببركتك كيد عداها.
الطرف الثاني (في المكاتبات الصادرة عن الأمراء من العمّال وأمراء السّرايا، إلى الخلفاء من الصحابة رضوان الله عليهم، وفيه جملتان)
الجملة الأولى (في ترتيب هذه المكاتبات على سبيل الإجمال)
كانت المكاتبة إليهم تفتتح تارة بلفظ «من فلان إلى فلان» ويؤتى في الصدر بالسلام والتحميد على نحو ما تقدّم في المكاتبة عن الخلفاء. ويقع التخلّص إلى المقصود ب «أما بعد» وتارة يقع الافتتاح ب «أما بعد» ويؤتى بالمقصود تلو ذلك، ويعبّر المكتوب عنه فيها عن نفسه بلفظ الإفراد، وعن الخليفة بأمير المؤمنين، وتختم بالسلام على أمير المؤمنين.
الجملة الثانية (في صورة هذه المكاتبات، وهي على أسلوبين كما تقدّمت الإشارة إليه)
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «لفلان من فلان»)
وكان الرسم فيها أن يكتب: «لعبد الله فلان أمير المؤمنين، سلام عليك
__________
(1) الزيادة من نفح الطيب.
(2) في نفح الطيب: «وكتب بحضرة جزيرة».(6/467)
فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو أما بعد فإنّ كذا».
كما كتب عمرو بن العاص إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في جواب الكتاب منه إليه المقدّم ذكره في المكاتبة عن الخلفاء من الصحابة، وهو:
«لعبد الله عمر أمير المؤمنين، سلام عليك فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإنه أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه فاشية مال فشا لي، وإنه يعرفني قبل ذلك ولا مال لي، وإني أعلم أمير المؤمنين أني ببلد السعر فيه رخيص، وأنّي أعالج من الزّراعة ما يعالجه الناس، وفي رزق أمير المؤمنين سعة. وو الله لو رأيت خيانتك حلالا ما خنتك، فأقصر أيّها الرجل فإنّ لنا أحسابا هي خير من العمل لك، إن رجعنا إليها عشنا بها!. ولعمري إنّ عندك من لا يذمّ معيشة ولا تذمّ له، فإن كان ذلك فلم يفتح قفلك ولم يشركك في عملك؟
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أما بعد» ويتوصّل منه إلى المقصود)
كما كتب المغيرة (1) بن شعبة إلى معاوية وهو على بعض أعماله يستعفيه عن العمل.
أما بعد، فقد كبر سنّي ورقّ عظمي واقترب أجلي وسفّهني سفهاء قريش، فرأي أمير المؤمنين في عمله.
__________
(1) هو أحد دهاة العرب وقادتهم وولاتهم. أسلم سنة 5هـ، وكان من الصحابة، ولّاه عمر بن الخطاب البصرة والكوفة. كان صاحب معاوية في سائر حروبه، وهو أول من أشار عليه بولاية العهد لابنه يزيد. ولّاه معاوية الكوفة، فلم يزل فيها إلى أن مات سنة 50هـ. انظر معجم الشعراء للمرزباني ص 368والأعلام (ج 7ص 277).(6/468)
الطرف الثالث (في المكاتبات الصادرة عن الأمراء من العمّال، وأمراء السّرايا أيضا إلى خلفاء بني أميّة، وهي في ترتيبها على ما تقدّم في المكاتبات إلى الخلفاء من الصحابة رضي الله عنهم. وهي على أسلوبين)
الأسلوب الأول (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «من فلان إلى فلان» على نحو ما تقدّم في المكاتبة عنهم إلى الخلفاء من الصحابة مع زيادة الدّعاء بطول البقاء)
كما كتب الحجاج (1) بن يوسف إلى عبد الملك بن مروان في جواب كتابه (2) الوارد عليه منه، في توبيخه له بسبب تعرّضه لأنس بن مالك رضي الله عنه على ما تقدّم ذكره.
«لعبد (3) الله عبد الملك أمير المؤمنين، [أصلح الله] (4) أمير المؤمنين وأبقاه، وسهّل حظّه وحاطه ولا عدمناه، فقد وصلني كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاه، وجعلني من كل مكروه فداه يذكر شتمي (5) وتوبيخي بآبائي،
__________
(1) الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفي قائد داهية، سفّاك خطيب. قلّده عبد الملك بن مروان أمر عسكره وولاه مكّة والمدينة والطائف والعراق. تعرّض لأنس بن مالك فكتب إليه يشتمه لعدم خروجه معه في خارجة. فكتب أنس إلى عبد الملك يشكوه وأدرج كتاب الحجاج في جوف كتابه.
وتوفي الحجاج سنة 95هـ. انظر أخباره وخطبه في مروج الذهب (ج 3ص 192151)، والعقد الفريد (ج 5ص 3736)، ووفيات الأعيان (ج 2ص 5429)، والأعلام (ج 2ص 168).
(2) انظر كتاب عبد الملك إلى الحجاج كاملا في العقد الفريد (ج 5ص 3938).
(3) في العقد الفريد (ج 5ص 39): «بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، أصلح الله أمير المؤمنين وأبقاه».
(4) في الأصل: «سلام على أمير الخ»، والتصحيح عن العقد الفريد. انظر أيضا حاشية الطبعة الأميرية.
(5) في العقد الفريد: «ولا أعدمنا إياه، فإنّ إسماعيل بن أبي المهاجر قدم عليّ بكتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، وجعلني من مكروه فداءه يذكر شتيمتي».(6/469)
وتعييري بما كان قبل [نزول النّعمة بي (1)] من عند أمير المؤمنين أتمّ الله نعمته عليه، وإحسانه إليه. ويذكر أمير (2) المؤمنين استطالة مني على أنس بن مالك، وأمير المؤمنين أحقّ من أقال عثرتي، وعفا عن ذنبي، وأمهلني (3) ولم يعجلني عند هفوتي، للّذي جبل عليه من كريم طبائعه، وما قلّده الله من أمور عباده. فرأي أمير المؤمنين أصلحه الله في تسكين روعتي، وإفراج كربتي، فقد ملئت رعبا وفرقا من سطواته، وقحمات (4) نقماته. وأمير المؤمنين أقاله الله العثرات، وتجاوز له عن السيّئات، وضاعف له الحسنات، وأعلى له الدّرجات أحقّ من صفح وعفا، وتغمّد وأبقى، ولم يشمت بي عدوّا مكبّا، ولا حسودا مضبّا، ولم يجرّ عني غصصا. والذي وصف أمير المؤمنين من صنيعته (5) إليّ، وتنويهه لي (6) بما أسند إليّ من عمله وأوطأني من رقاب رعيّته، فصادق فيه مجزيّ عليه (7) بالشكر، والتوسّل منّي إليه بالولاية، والتقرّب له بالكفاية. وقد خضعت عند كتاب أمير المؤمنين، فإن رأى (8) [أمير المؤمنين (9)] طوّقني الله
__________
(1) الزيادة من العقد الفريد (ج 5ص 40).
(2) في العقد الفريد: «ويذكر أمير المؤمنين جعلني الله فداه، استطالة مني على أنس بن مالك خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، جراءة مني على أمير المؤمنين وغرّة بمعرفة غيره ونقماته وسطواته على من خالف سبيله وعمد إلى غير محبته، ونزل عند سخطته. وأمير المؤمنين، أصلحه الله، في قرابته من محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إمام الهدى وخاتم الأنبياء، أحقّ من أقال عثرتي».
(3) في المصدر السابق: «فأمهلني».
(4) في المصدر السابق: «وفرقا من سطوته وفجاءة نقمته».
(5) في المصدر السابق: «من صنيعه».
(6) في المصدر السابق: «بي».
(7) في المصدر السابق: «بالشكر عليه».
(8) في العقد الفريد بعد لفظ «بالكفاية» ما نصّه: «وقد عاين إسماعيل بن أبي المهاجر، رسول أمير المؤمنين وحامل كتابه، نزولي عند مسرّة أنس بن مالك، وخضوعي لكتاب أمير المؤمنين، وإقلاقه إيّاي، ودخوله عليّ بالمصيبة، على ما سيعلمه أمير المؤمنين وينهيه إليه. فإن رأى أمير المؤمنين».
(9) الزيادة من العقد الفريد.(6/470)
بشكره (1)، وأعانني على تأدية حقّه، وبلّغني إلى ما فيه موافقة مرضاته، ومدّ لي في أجله أن يأمر بالكتاب إليّ من رضاه (2)، وسلامة صدره، ما (3) يؤمّنني به من سفك دمي، ويردّ ما شرد من نومي، ويطمئنّ به قلبي فعل (4)، فقد ورد عليّ أمر جليل خطبه، عظيم أمره، شديد كربه. أسأل الله أن لا يسخط أمير المؤمنين عليّ، وأن ينيله (5) في حزمه وعزمه، وسياسته وفراسته، ومواليه وحشمه، وعمّاله وصنائعه، ما يحمد به حسن رأيه [وبعد همّته] (6). إنه وليّ أمير المؤمنين، والذابّ عن سلطانه، والصانع له في أمره، والسّلام.
الأسلوب الثاني (أن يفتتح الكتاب بلفظ «أما بعد» ويتوصّل منه إلى المقصود)
كما كتب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إلى عبد الملك بن مروان في خلافته:
أما بعد، لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين من عبد الله بن عمر. سلام عليك فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأمرني بالسمع والطاعة على كتاب الله وسنّة نبيّه فيما استطعت.
__________
(1) في المصدر المذكور: «شكره».
(2) في المصدر المذكور: «أمر لي بكتاب من رضاه».
(3) «ما» غير موجودة في العقد الفريد (ج 5ص 41).
(4) «فعل» غير موجودة في المصدر السابق.
(5) في العقد الفريد (ج 5ص 41): «وأن يبتليه».
(6) الزيادة من المصدر السابق.(6/471)
الطّرف الرابع (في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم إلى خلفاء بني العباس، وفيها جملتان)
الجملة الأولى (في المكاتبات العامّة من الملوك إلى الخلفاء، ولها حالتان)
الحالة الأولى (ما كان الأمر عليه في ابتداء دولة بني العباس وأوساطها)
أما ابتداء دولتهم، فكان الأمر فيه على ما تقدّم في مكاتبات العمّال ونحوهم إلى خلفاء بني أميّة، وقد تقدّم تمثيله. إلا أنه زيد فيه في صدور المكاتبات سؤال الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من حين رتّبه المأمون في صدور الكتب، وتكنية الخليفة من حين أحدثه الأمين في كتبه على ما تقدّم بيانه في المكاتبات عن الخلفاء فيما سلف.
وأما أوساط دولتهم من حين ظهور ملوك بني بويه وغلبتهم على الأمر، فللكتّاب فيه أسلوبان:
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «لفلان من فلان» وتصدّر بالسلام والتحميد وسؤال الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويتخلص إلى المقصود بأما بعد)
والرسم فيه على ما ذكره قدامة في كتاب الخراج أن يكتب: «لعبد الله فلان أبي فلان باسمه وكنيته ونعته أمير المؤمنين، سلام على أمير المؤمنين، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلّي على محمد عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
أما بعد، أطال الله بقاء أمير المؤمنين وأدام عزّه وتأييده وكرامته وحراسته،
وأتم نعمته عليه، وزاد في إحسانه إليه، وفضله عنده وجميل بلائه لديه، وجزيل عطائه له».(6/472)
أما بعد، أطال الله بقاء أمير المؤمنين وأدام عزّه وتأييده وكرامته وحراسته،
وأتم نعمته عليه، وزاد في إحسانه إليه، وفضله عنده وجميل بلائه لديه، وجزيل عطائه له».
وزاد في «صناعة الكتّاب» في السّلام «ورحمة الله وبركاته». قال في «صناعة الكتاب»: ثم يقال: أما بعد فقد كان كذا وكذا، حتّى يأتي على المعاني التي يحتاج إليها. وتكون المكاتبة: وقد فعل عبد أمير المؤمنين كذا فإن زادت حاله لم يقل عبد أمير المؤمنين، فإذا بلغ إلى الدعاء ترك فضاء وكتب: أتمّ الله على أمير المؤمنين نعمته وهناءه وكرامته، وألبسه عفوه وعافيته وأمنه وسلامته، والسّلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. وكتب يوم كذا وكذا من شهر كذا من سنة كذا.
وقال الفضل (1) بن سهل: يدعى للخليفة:
أما بعد، أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وأدام عزّه وتأييده، وأتمّ نعمته وسعادته وتوفيقه، وزاد في إحسانه إليه ومواهبه له. ولا يكتب إليه «وجعلني فداه» ويكون أوّل فصوله: أخبر أمير المؤمنين أطال الله بقاءه أن كذا وكذا.
ثم يوالي الفصول ب «أيده الله وأدام عزه». ونحو هذا.
وإن شئت كتبت: أما بعد، أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وأدام عزّه وتأييده وكرامته، وأتمّ نعمته عليه، وزاد فيها عنده وحاطه وكفاه، وتولّى له ما ولّاه.
وإن شئت كتبت: أطال الله بقاء أمير المؤمنين في العزّ والسّلامة، وأدام كرامته في السّعادة والزّيادة، وأتمّ نعمته في السّبوغ والغبطة، وأصلحه وأصلح
__________
(1) هو أبو العباس الفضل بن سهل بن عبد الله السرخسي الخراساني: أسلم على يد المأمون في سنة 190هـ، ووزر له. كان يلقب بذي الرياستين، لأنه تقلد الوزارة والسيف، وكان يتشيع. قتل في الحمام غيلة بمدينة سرخس من بلاد خراسان في دار المأمون سنة 202هـ. انظر تاريخ بغداد (ج 12ص 343339)، ومروج الذهب (ج 4ص 4، 33) ومعجم الشعراء للمرزباني ص 313، ووفيات الأعيان (ج 4ص 4441) والعقد الفريد (ج 5ص 120) والأعلام (ج 5ص 149).(6/473)
على يديه ونصره، وكان له في الأمور كلّها وليّا وحافظا.
وإن شئت كتبت: أطال الله بقاء أمير المؤمنين في أعزّ العزّ، وأدوم الكرامة والسّرور والغبطة، وأتمّ نعمه في علوّ من الدرجة، وشرف من الفضيلة، ومتابع من العائدة، ووهب له السلامة والعافية في الدنيا والآخرة.
والذي كانت عليه قاعدة ملوك بني بويه فمن بعدهم إن كان الكتاب في معنى حدوث نعمة من فتح ونحوه، أتي بعد ذلك بالتحميد ما بين مرّة واحدة إلى ثلاث مرّات. ويعبّر المكتوب عنه عن نفسه بلفظ الإفراد، وعن الخليفة بأمير المؤمنين، ويختم الكتاب بالإنهاء وما في معناه.
وهذه نسخة كتاب كتب به أبو إسحاق (1) الصابي عن عز الدولة بن بويه إلى المطيع (2) لله عند فتحه الموصل، وهزيمة أبي تغلب بن حمدان صاحب حلب في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، وهي لعبد الله الفضل [الإمام] (3) المطيع لله أمير المؤمنين، من عبده وصنيعته (4) عزّ الدولة ابن معزّ الدولة مولى أمير المؤمنين. سلام على أمير المؤمنين ورحمة الله، فإنّي أحمد إلى أمير المؤمنين الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلّي على محمد عبده ورسوله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم.
أما بعد أطال الله بقاء (5) أمير المؤمنين وأدام له العزّ والتأييد، والتوفيق والتّسديد، والعلوّ والقدرة، والظّهور والنّصرة فالحمد لله العليّ العظيم، الأزليّ
__________
(1) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 1، من ص 397.
(2) انظر أخبار المطيع لله في مروج الذهب (ج 4ص 435421) وتاريخ ابن الأثير (ج 8ص 637) وصفحات أخرى متفرقة.
(3) الزيادة من المختار من رسائل أبي إسحاق الصابي ص 119.
(4) يقال: فلان صنيعة فلان وصنيع فلان إذا اصطنعه وأدّبه وخرّجه وهذّبه.
(5) في المختار من رسائل الصابي ص 120: «بقاء مولانا أمير المؤمنين».(6/474)
القديم، المتفرّد بالكبرياء والملكوت، المتوحّد بالعظمة والجبروت، الذي لا تحدّه الصّفات، ولا تحوزه الجهات، ولا تحصره قرارة مكان، ولا يغيّره مرور زمان، ولا تتمثّله (1) العيون بنواظرها، ولا تتخيّله القلوب بخواطرها، فاطر السموات وما تظلّ، وخالق الأرض وما تقلّ، الذي دلّ بلطيف صنعته، على جليل حكمته، وبيّن بجليّ برهانه، عن خفيّ وجدانه، واستغنى بالقدرة عن الأعوان، واستعلى بالعزّة عن الأقران، البعيد عن كلّ معادل ومضارع، الممتنع على كلّ مطاول ومقارع، الدائم الذي لا يزول ولا يحول، العادل الذي لا يظلم ولا يجور، الكريم الذي لا يضنّ ولا يبخل، الحليم الذي لا يعجل ولا يجهل.
ذلكم الله ربّكم لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدّين، منزل الرحمة على كلّ وليّ توكّل عليه، وفوّض إليه، وأتمر لأوامره، وازدجر بزواجره، ومحلّ النّقمة بكلّ عدوّ صدّ عن سبيله وسننه، وصدف عن فرائضه وسننه، وحادّه في مكسب يده ومسعاة قدمه، وخائنة عينه وخافية صدره، وهو راتع رتعة النّعم السائمة، في أكلاء النّعم السابغة، وجاهل (2) جهلها بشكر آلائها، ذاهل ذهولها عن طرق استبقائها، فلا يلبث أن ينزع سرابيلها صاغرا، ويتعرّى منها حاسرا، ويجعل الله كيده في تضليل، ويورده شرّ المورد الوبيل {إِنَّ اللََّهَ لََا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [3] ولا يهدي كيد الخائنين.
والحمد لله الذي اصطفى للنّبوة أحقّ عباده بحمل أعبائها، وارتداء ردائها، «محمدا» صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وعظّم خطره وكرّم، فصدع بالرسالة، وبالغ في الدّلالة، ودعا إلى الهداية، ونجّى (4) من الغواية، ونقل الناس عن طاعة الشيطان الرجيم، إلى طاعة الرحمن الرحيم، وأعلقهم بحبائل
__________
(1) في المصدر السابق: «ولا تمثله».
(2) في المصدر السابق ص 121: «جاهل» بدون واو العطف.
(3) سورة يونس 10، الآية 81.
(4) في المختار ص 122: «وتجلّى».(6/475)
خالقهم ورازقهم، وعصمة محييهم ومميتهم، بعد انتحال الأكاذيب والأباطيل، واستشعار المحالات والأضاليل، والتهوّك (1) في الاعتقادات الذائدة عن النّعيم، السائقة إلى العذاب الأليم، فصلّى الله عليه من ناطق بالحق، ومنقذ (2) للخلق، وناصح للرّبّ، ومؤدّ للفرض، صلاة زاكية نامية، رائحة غادية، تزيد على اختلاف الليل والنّهار، وتعاقب الأعوام والأدوار.
والحمد لله الذي انتجب (3) أمير المؤمنين [أطال الله بقاءه] (4) من ذلك السّنخ (5) الشريف، والعنصر المنيف، والعترة الثابت أصلها، الممتدّ ظلّها، الطّيب جناها، الممنوع حماها، وحاز له مواريث آبائه الطاهرين، صلوات الله عليهم أجمعين، واختصّه من بينهم بتطاول أمد الخلافة واستحصاف حبلها في يده، ووفّقه لإصابة الغرض من كل مرمى يرميه، ومقصد ينتحيه، وهو جل ثناؤه الحقيق بإتمام ذلك عليه، والزيادة فيه لديه. وأحمده سبحانه حمدا أبتدئه ثم أعيده، وأكرّره وأستزيده، على أن أهّل ركن الدولة أبا عليّ، وعضد الدولة أبا شجاع مولى أمير المؤمنين، وأهّلني للأثرة عنده التي بذذنا (6) فيها الأكفاء، وفتنا فيها القرناء، وتقطّعت دونها أنفاس المنافسين، وتضرّمت عليها أحشاء الحاسدين. وأن أولاني في كل مغزى في خدمة أمير المؤمنين أغزوه، ومنحى أنحوه، وثأي أرأبه، وشعث ألمّه، وعدوّ أرغمه، وزائغ أقوّمه، أفضل ما أولاه عباده السليمة غيوبهم، النقيّة جيوبهم، المأمونة ضمائرهم، المشحوذة بصائرهم، من تمكين يد، وتثبيت قدم، ونصرة راية، وإعلاء كلمة، وتقريب
__________
(1) في المصدر السابق: «والتهور».
(2) في المصدر السابق: «منقذ» بدون واو العطف.
(3) في المصدر السابق: «الذي انتخب».
(4) الزيادة من المصدر السابق.
(5) السنخ: الأصل.
(6) في المختار ص 123: «عنده أيده الله التي بذذنا» وبذذنا: غلبنا، يقال: بذّ فلان فلانا إذا غلبه أو فاقه في عمل أو حسن.(6/476)
بغية، وإنالة أمنيّة، وكذلك يكون من إلى [ولاء] (1) أمير المؤمنين اعتزاؤه، وبشعاره اعتزازه، وعن زناده قدحه، وفي طاعته كدحه، والله وليّ [بإدامة (2)] ما خوّلنيه من هذه المنقبة، وسوّغنيه من هذه الموهبة، وأن يتوجّه أمير المؤمنين في جميع خدمه الذابّين عن حوزته، المنتمين إلى دعوته، بيمن الطائر، وسعادة الطالع، ونجاح المطلب، وإدراك الأرب، وفي أعدائه الغامطين لنعمته، الناقضين مواثيق بيعته، بإضراع الخدّ، وإتعاس الجدّ (3)، وإخفاق الأمل، وإحباط العمل، بقدرته.
ولم يزل مولانا أمير المؤمنين [أطال الله بقاءه (4)] ينكر قديما من فضل الله بن ناصر الدولة أحوالا حقيقا مثلها بالإنكار، مستحقّا من ارتكبها الإعراض، وأنا أذهب في حفظ غيبه، وإجمال محضره، وتمحّل حججه وتلفيقها، وتأليف معاذيره وتنميقها، مذهبي الذي أعمّ به كلّ من جرى مجراه من ناشيء في دولته، ومغتذ بنعمته، ومنتسب إلى ولايته، ومشتهر بصنيعته، وأقدر أن أستصلحه لأمير المؤمنين أطال الله بقاءه وأصلحه لنفسه بالتوقيف على مسالك الرّشاد، ومناهج السّداد، وهو يريني أن قد قبل وارعوى، وأبصر واهتدى، حتّى رغبت إلى أمير المؤمنين (5) فيما شفّعني متفضّلا فيه، من تقليده أعمال أبيه، والقناعة منه في الضّمان بميسور بذله، وإيثاره (6) به على من هو فوقه من كبراء إخوته وأهله.
فلما بلغ هذه الحال، ألطّ (7) بالمال، وخاس بالعهد، وطرّق لفسخ
__________
(1) الزيادة من المختار.
(2) الزيادة من المصدر السابق.
(3) الجدّ: الحظ.
(4) الزيادة من المختار.
(5) في المختار ص 124: «أدام الله عزه فيما شفعني».
(6) في المصدر السابق: «وإشارة به».
(7) أي منعه.(6/477)
العقد، وأجرى إليّ (1) أمورا كرهتها، ونفد (2) الصبر منّي عليها. وخفت أن أستمرّ على الإغضاء عنها والمسامحة فيها، فيطّلع الله مني على إضاعة الاحتياط في أمر قلّدني أمير المؤمنين (3) زمامه، وضمّنني دركه، وإرخاء لبب (4) رجل قبل (5) في الاعتماد عليه رأيي، وعوّل في أخذه بما يلزمه على نظري واستيفائي فتناولته بأطراف العذل ملوّحا، ثمّ بأثباجه (6) مفصحا مصرّحا.
ورسمت لعبد أمير المؤمنين الناصح أبي طاهر أن يجدّ به وبوسطائه وسفرائه في حال، ويدخل عليه من طريق المشورة والرّفق في أخرى، ويتنقّل معه بين الخشونة التي يقفو فيها أثري، واللّين الذي لا يجوز أن يحسّه مني، تقديرا لانثنائه، وزوال التوائه، ففعل ذلك على رسمه في التأنّي لكلّ فاسد حتى يصلح، ولكلّ آب حتّى يسمح، ولم يدع التناهي في وعظه، والتّمادي في نصحه وتعريفه سوء عاقبة اللّجاج، ومغبّة الإحراج، وهو يزيد طمعا في الأموال وشرها، وعمى في الرأي وعمها، إلى أن كاد أمرنا معه يخرج عن حدّ الانتظار، إلى حدّ الرضا بالإصرار، فاستأنفت ادّراع الحزم، وامتطاء العزم، ونهضت إلى أعمال الموصل وعندي أنه يغنيني عن الإتمام، ويتلقّاني بالإعتاب (7) وينقاد إلى المراد، ويتجنّب طرق العناد.
فحين عرف خبر مسيري، وجدّي فيه وتشميري، برز بروز المكاشف، وتجرّد تجرّد المواقع المواقف، وهو مع ذلك إذا ازددت منه قربا، ازداد منّي
__________
(1) في المختار: «وأجرى إلى أمور».
(2) في المصدر السابق: «ونفذ» بالذال المعجمة.
(3) في المصدر السابق: «أطال الله بقاءه زمامه».
(4) اللبب: ما يشدّ على صدر الناقة أو الدابة، ومنه إرخاء اللبب مجازا في إطلاق اليد، ويقال: فلان في لبب رخيّ كما يقال: في بال رخيّ.
(5) في المختار ص 125: «فيّل» أي جعله فائلا أي مخطئا.
(6) الاثباج: ج ثبج، وثبج كل شيء هو معظمه ووسطه وأعلاه.
(7) الاعتاب والعتبى: هو رجوع المعتوب عليه الى ما يرضي العاتب.(6/478)
رعبا، وإذا دلفت إليه ذراعا، نكص عنّي باعا.
وتوافت إلى حضرتي وجوه القبائل من عقيل وشيبان وغيرهما في الجمع الكثيف من صعاليكهما، والعدد الكثير من صناديدهما، داخلين في الطاعة، متصرّفين في عوارض الخدمة.
فلما شارفت الحديثة (1)، انتقضت عزائم صبره، وتقوّضت دعائم أمره، وبطلت أمانيّه ووساوسه، واضمحلّت خواطره وهواجسه، واضطرب عليه من ثقاته وغلمانه من كان بهم يعتضد، وعليهم يعتمد، وبدأوا بخذلانه والأخذ لنفوسهم، ومفارقته والطّلب بحظوظهم، وحصل (2) منهم بحضرتي إلى هذه الغاية زهاء خمسمائة رجل ذوي خيل مختارة، وأسلحة شاكية، فصادفوا عندي ما أمّلوا من فائض الإحسان، وغامر الامتنان، وذكروا عمّن وراءهم من نظرائهم التنزّي (3) إلى الانجذاب، والحرص على الاستئمان، وأنهم يردون ولا يتأخّرون، ويبادرون ولا يتلوّمون.
ولمّا رأى ذلك، لم يملك نفسه أن مضى هاربا على طريق سنجار (4)، منكشفا عن هذه الدّيار، قانعا من تلك الآمال الخائبة، والظّنون الكاذبة، بسلامة حشاشة هي رهينة غيّها، وصريعة بغيها.
وكان انهزامه بعد أن فعل الفعل السّخيف، وكادنا الكيد الضّعيف، بأن
__________
(1) هي حديثة الموصل، وهي بليدة كانت على دجلة، وقيل: كانت قصبة كورة الموصل. معجم البلدان (ج 2ص 230).
(2) في المختار ص 127: «وحصل بحضرتي منهم».
(3) التنزّي: النزوع.
(4) سنجار، بكسر أوله وسكون ثانيه، مدينة مشهورة من نواحي الجزيرة، بينها وبين الموصل ثلاثة أيام.
معجم البلدان (ج 3ص 262).(6/479)
أغرق (1) سفن الموصل وعروبها (2)، وأحرق جسرها (3) واستذمّ (4) إلى أهلها، وتزوّد منهم اللعن المطيف به أين يمّم، الكائن معه حيث خيّم.
ودخلتها يومي هذا أيّد الله أمير المؤمنين دخول الغانم الظافر، المستعلي الظاهر، فسكّنت نفوس سكّانها، وشرحت صدور قطّانها، وأعلمتهم ما أمرني به أمير المؤمنين [أدام الله عزّه] (5) وأعلى الله أمره من تأنيس وحشتهم، ونظم ألفتهم، وضمّ نشرهم، ولمّ شعثهم، وإجمال السّيرة فيهم في ضروب معاملاتهم وعلقهم، وصنوف متصرّفاتهم ومعايشهم، فكثر منهم الثناء والدعاء، والله سامع ما رفعوا، ومجيب ما سألوا.
وأجلت حال هذا الجاهل أيّد الله أمير المؤمنين عن أقبح هزيمة، وأذلّ هضيمة، وأسوإ رأي، وأنكر اختيار لأنه لم يلقني لقاء الباخع بالطاعة، المعتذر من سالف التفريط والإضاعة، ولا لقاء المصدّق لدعواه في الاستقلال بالمقارعة، المحقّق لزعمه في الثبات للمدافعة، ولا كان في هذين الأمرين بالبرّ التّقيّ، ولا الفاجر الغويّ (6)، بل جمع بين نقيصة شقاقه وغدره، وفضيحة جبنه وخوره، متنكّبا (7) للصّلاح، عادلا عن الصّواب، قد ذهب عنه الرّشاد، وضربت بينه وبينه الأسداد، وأنزله الله منزلة مثله ممّن أساء حفظ الوديعة، وجوار الصّنيعة، واستوجب نزعهما منه وتحويلهما عنه.
وتأمّلت أيّد الله مولانا أمير المؤمنين أمره بالتّجريب، وتصفّحته على
__________
(1) في المختار: «غرق».
(2) وهكذا في المختار، والأصح: العربات، بالفتح، وهي سفن رواكد كانت في دجلة، واحدتها عربة بالفتح أيضا. لسان العرب والقاموس، مادة (عرب).
(3) الجسر، بفتح الجيم: العظيم من الابل.
(4) أي فعل ما يذمّونه عليه.
(5) الزيادة من المختار.
(6) في المختار ص 128: «القوي».
(7) تنكبه مثل تنكب عنه.(6/480)
التقليب، فإذا هو الرجل الذي أطاع أبوه فيه هوى أمّه (1)، وعصى دواعي رأيه وحزمه، وقدّمه من ولده على من هو آنس رشدا، وأكبر سنّا، وأثبت جأشا، وأجرأ جنانا، وأشجع قلبا، وأوسع صدرا، وأجدر بمخايل النّجابة، وشمائل اللّبابة.
فلما اجتمعت له أسباب القدرة والثّروة، وأمكنته مناهز الغرّة والفرصة، وثب عليه وثبة السّرحان (2)، في ثلّة (3) الضّان، وجزاه جزاء أمّ عامر (4)
لمجيرها، إذ فرته بأنيابها وأظافيرها واجتمع وأخوه من الأمّ، المرتضع معه لبان الإثم، المكنّى أبا البركات وليس بأب لها، ولا حريّ بشيء منها على أن نشزا عنه وعقّاه، وقبضا عليه وأوثقاه، وأقرّاه من قلعتهما (5) بحيث تقرّ العتاة، وتعاقب الجناة، ثم أتبعا ذلك باستحلال دمه، وإفاضة مهجته، غير راعيين فيه حقّ الأبوّة، ولا حانيين عليه حنوّ البنوّة، ولا متذمّمين من الإقدام على مثله ممن
__________
(1) هي فاطمة بنت أحمد الكردية، وقد ذكرها ابن الأثير في كتابه الكامل (ج 8ص 593) فقال: «فاطمة بنت أحمد الكردية، وكانت مالكة أمر ناصر الدولة، فاتفقت مع ابنها أبي تغلب، وقبضوا على ناصر الدولة» انظر كذلك حاشية الطبعة الأميرية.
(2) السرحان: الذئب.
(3) أي في جماعة الغنم.
(4) أم عامر هي الضبع، يشبّه بها الأحمق. وهي كما زعموا من أحمق الدواب، لأنهم إذا أرادوا صيدها رموا في حجرها بحجر فتحسبه شيئا تصيده، فتخرج لتأخذه فتصاد عند ذلك. ومن أمثالهم «خامري أمّ عامر» أي استتري. انظر مجمع الأمثال للميداني (ج 1ص 238) تحت رقم 1265، ولسان العرب مادة (عمر).
(5) في سنة 356هـ قبض أبو تغلب بن ناصر الدولة أحد ملوك بني حمدان على أبيه، وحبسه في القلعة.
وكان سبب قبضه أنه كان قد كبر وساءت أخلاقه، وضيّق على أولاده وأصحابه، وخالفهم في أغراضهم للمصلحة فضجروا منه. وكان فيما خالفهم فيه أنه لما مات معزّ الدولة عزم أولاده على قصد العراق وأخذه من بختيار، فنهاهم وقال لهم: إنّ معزّ الدولة قد خلف مالا يستظهر به ابنه عليكم، فاصبروا حتى يفرّق ما عنده من المال ثم اقصدوه وفرّقوا الأموال، فوثب عليه أبو تغلب، فقبضه ورفعه إلى القلعة، ووكّل به من يخدمه. ثم مات ناصر الدولة سنة 358هـ. انظر الكامل في التاريخ (ج 8ص 580579، 593) وحاشية الطبعة الأميرية.(6/481)
تقدّمت عند سلطانه قدمه (1)، وتوكّدت أواصره وعصمه، ولا راحمين له من ضعف شيخوخته، وذهل (2) كبرته، ولا مصغيين إلى وصيّة الله إيّاهما به، التي نصّها في محكم كتابه، وكرّرها في آيه وبيناته إذ يقول: {اشْكُرْ لِي وَلِوََالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (3) وإذ يقول: {وَقَضى ََ رَبُّكَ أَلََّا تَعْبُدُوا إِلََّا إِيََّاهُ وَبِالْوََالِدَيْنِ إِحْسََاناً إِمََّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمََا أَوْ كِلََاهُمََا فَلََا تَقُلْ لَهُمََا أُفٍّ وَلََا تَنْهَرْهُمََا وَقُلْ لَهُمََا قَوْلًا كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمََا جَنََاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمََا كَمََا رَبَّيََانِي صَغِيراً} (4).
فبأيّ وجه يلقى الله قاتل والد حدب (5) قد أمر أن لا ينهره؟ وبأيّ لسان ينطق يوم يسأل عما استجازه فيه وفعله؟ وتالله (6)! لو أنّ بمكانه عدوّا لهما قد قارضهما الذّحول (7)، وقارعهما عن النّفوس، لقبح بهما أن يلؤما ذلك اللّؤم عند الظّفر به، وأن يركبا تلك الخطّة الشّنعاء في الأخذ بناصيته، ولم يرض «فضل الله» بما أتاه إليه حتّى استوفى حدود قطع الرّحم، بأن تتبّع (8) أكابر إخوته السالكين خلاف سبيله، المتبرّئين إلى الله من عظيم ما اكتسب، ووخيم ما احتقب، لمّا غضبوا لأبيهم، وامتعضوا من المستحلّ فيه وفيهم، فقبض على محمد بن ناصر الدولة حيلة وغيلة، وغدرا ومكيدة، ونابذ حمدان بن ناصر الدولة منابذة خار (9) الله له فيها، بأن أصاره من فناء أمير المؤمنين (10) إلى
__________
(1) في المختار ص 130: «وقدمه».
(2) في نفس المصدر: «ووهل».
(3) سورة لقمان 31، الآية 14.
(4) سورة الإسراء 17، الآيتان 23، 24.
(5) حدب فلان على فلان وتحدب عليه: حنا وعطف، ومنه ولد حدب.
(6) في المختار: «تالله» بدن الواو.
(7) الذحول: ج ذحل، وهو الثأر.
(8) في المختار: «يتبع».
(9) يقال: خار الله لك أي آتاك الخير.
(10) في المختار ص 131: «أمير المؤمنين أيّده الله».(6/482)
الجانب العزيز، والحرز الحريز، وأن أجرى الله (1) على يده الحرب الواقعة بينه وبين المعروف بكنيته أبي البركات، التي لقّاه الله فيها نحسه، وأتلف نفسه، وصرعه بعقوقه وبغيه، وقنّعه بعاره وخزيه. وهو مع ذلك لا يتّعظ، ولا ينزع (2)
ولا يقلع ولا يزدجر، إصرارا على الجرائر التي الله عنها حسيبه، وبها طليبه، والدّنيا والآخرة مرصدتان له بالجزاء المحقوق عليه، والعقاب المسوق إليه.
وأعظم من هذا كلّه أيد الله أمير المؤمنين خطبا، وأوعر مسلكا ولحبا (3)، أنّ من شرائط العهد الذي كان عهد إليه، والعقد الذي عقد له، والضّمان المخفّف مبلغه عنه، المأخوذ عفوه منه، أن يتناهى في ضبط الثغور وجهاد الرّوم وحفظ الأطارف، ورمّ الأكناف، فما وفى بشيء من ذلك، بل عدل عنه إلى الاستئثار بالأموال واقتطاعها، وإحرازها في مكامنها وقلاعها، والضّنّ بها دون الإخراج في وجوهها، والوضع لها في حقوقها، وأن تراخى في أمر عظيم الرّوم مهملا، واطّرح الفكر فيه مغفلا، حتّى هجم في الديار، وأثّر الآثار، ونكى القلوب، وأبكى العيون، وصدع الأكباد، وأحرّ الصّدور، فما كان عنده فيه ما يكون عند المسلم القاريء لكتاب الله إذ يقول: {إِنَّ اللََّهَ اشْتَرى ََ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوََالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقََاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرََاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى ََ بِعَهْدِهِ مِنَ اللََّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بََايَعْتُمْ بِهِ وَذََلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (4) بل صدف عن ذكر الله لاهيا، وعدل عن كتابه ساهيا، واستفسخه ذلك البيع والعقد، وتنجّزه الوعيد لا الوعد، ولاطف طاغية الرّوم وهاداه، وماره (5) وأعطاه، وصانعه بمال المسلمين الذي
__________
(1) في نفس المصدر: «الله عزّ وجلّ».
(2) في نفس المصدر: «يتزع».
(3) اللحب: الطريق الواضح.
(4) سورة التوبة 9، الآية 111.
(5) أي قدّم له الميرة.(6/483)
يلزمه إن سلّم دينه وصحّ يقينه أن ينفقه في مرابطهم (1)، ويذبّ به عن حريمهم، لا أن يعكسه عن جهته، ويلفته عن وجهته، بالنّقل (2) إلى عدوّهم، وإدخال الوهن بذلك عليهم. وقاد إليه من الخيل العتاق ما هو الآن عون للكفر (3) على الإيمان، ونجدة للطاغية على السّلطان. وكان فيما أتحفه به الخمر التي حظر الله عليه أن يشربها ويسقيها، وتعبّده (4) بأن يجتنبها ويجتويها (5)، وصلبان ذهب صاغها له وتقرّب بها إليه تقرّبا قد باعده الله فيه عن الإصابة والأصالة، وأدناه من الجهالة والضّلالة، حتّى كأنه عامل من عمّاله أو (6)
بطريق من بطارقته.
فأمّا فشله عن مكافحته، ولهجه بملاطفته، فضدّ الذي أمره الله به في قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قََاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفََّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (7).
وأما نقله (8) ما نقل من الخيل من ديار المسلمين إلى ديار أعدائهم، فنقيض قوله عزّ وجلّ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبََاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللََّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (9).
وأما إهداؤه الخمر والصّلبان، فخلاف عليه تبارك (10) اسمه، إذ يقول:
__________
(1) في المختار ص 132: «مرابطيهم».
(2) في المصدر السابق: «بالنفل» بالفاء.
(3) في المصدر السابق: «للكفار».
(4) تعبّد الله الرجل بالطاعة: استعبده.
(5) أي يكرهها.
(6) في المختار ص 133: «وبطريق».
(7) سورة التوبة 9، الآية 123.
(8) في المختار: «وأما ما نقل من الخيل».
(9) سورة الأنفال 8، الآية 60.
(10) في المختار: «تبارك وتعالى».(6/484)
{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصََابُ وَالْأَزْلََامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطََانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1)
كلّ ذلك عنادا لرب العالمين، وطمسا لأعلام الدّين، وضنّا بما يحامي عليه من ذلك الحطام، المجموع من الحرام، المثمّر من الآثام، المقتطع من فيء الإسلام، وقد فعل الآن بي وبالعساكر التي معي ومن نضمّ (2) من أولياء أمير المؤمنين (3) الذين هم إخوته وصحبه إن كان مؤمنا وأنصاره وحزبه إن كان موقنا، من توعير المسالك وتغريق العروب، وتضييق الأقوات، واستهلاك الأزواد، ليوصّل إلينا الضّرّ، ويلحق بنا الجهد، فعل العدوّ المبين، المخالف في الدّين، فهل يجتمع [في أحد من المساوي أيّد الله أمير المؤمنين ما اجتمع] (4) في هذا النادّ العاند، والشاذّ الشارد؟، وهل يطمع من مثله في حق يقضيه، أو فرض يؤدّيه، أو عهد يرعاه، أو ذمام يحفظه، وهو لله عاص، ولإمامه مخالف، ولوالده قاتل، ولرحمه قاطع؟ كلّا والله! بل هو الحقيق بأن تثنى إليه الأعنّة، وتشرع نحوه الأسنّة، وتنصب له الأرصاد، وتشحذ له السّيوف الحداد، ليقطع الله بها دابره، ويجبّ غاربه، ويصرعه مصرع الأثيم المليم، المستحقّ للعذاب الأليم، أو يفيء (5) إلى الحق، إفاءة (6) الداخل فيه بعد خروجه، العائد إليه بعد مروقه، التائب المنيب، النازع المستقيل، فيكون حكمه شبيها بحكم الراجع عن الرّدّة، المحمول على ظاهر الشريعة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فالحمد لله الذي هدانا لمراشدنا، ووقف بنا على السبيل المنجية لنا،
__________
(1) سورة المائدة 5، الآية 90.
(2) في المختار: «يضم».
(3) في المختار: «المؤمنين أطال الله بقاءه».
(4) الزيادة من المختار ص 134.
(5) في المختار: «ويفيء».
(6) فاء: رجع، وعليه قوله تعالى: {فَإِنْ فََاؤُ فَإِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سورة البقرة 2الآية 226.(6/485)
والمقاصد المفضية إلى رضاه، البعيدة من (1) سطاه.
والحمد لله الذي أعز أمير المؤمنين بالنصر، وأعطاه لواء القهر، وجعل أولياءه العالين الظاهرين، وأعداءه السافلين الهابطين، وهنّأه الله هذا الفتح ولا أخلاه من أشكال له تقفوه وتتبعه، وأمثال تتلوه وتشفعه، واصلا فيها إلى ما وصل فيه إليه من حيازته مهنّأ، لم يسفك فيه دم، ولم ينتهك محرم، ولم ينل جهد، ولم يمسس نصب.
أنهيت إلى أمير المؤمنين (2) ذلك، ليضيف صنع الله له فيه، إلى السالف من عوارفه عنده وأياديه، وليجدّد من شكره جلّ وعلا، ما يكون داعيا إلى الإدامة والمزيد، مقتضيا (3) للعون والتأييد، إن شاء الله تعالى.
[وكتب يوم الجمعة لتسع ليال خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وثلاثمائة] (4).
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابي للخليفة والحال على كذا وكذا» ويدعى للخليفة بطول البقاء في أثناء ذلك، ويعبّر الملك المكتوب عنه عن نفسه بلفظ الإفراد مع التصدير بالعبودية، ويخاطب الخليفة بأمير المؤمنين ويختم بالدعاء ونحوه)
كما كتب أبو الفرج (5) الببّغا عن السلطان أبي تغلب بن ناصر الدّولة أحد
__________
(1) في المختار: «عن».
(2) في المختار: «أمير المؤمنين أطال الله بقاءه».
(3) في المختار: «مفضيا».
(4) الزيادة من المختار ص 135.
(5) هو الشاعر الكاتب أبو الفرج عبد الواحد بن نصر بن محمد المخزومي، من أهل نصيبين. لقّب بالببغاء للثغة كانت في لسانه، وقيل: لحسن فصاحته. كان في ريعان شبابه متصلا بسيف الدولة مقيما في جملته. وبعد وفاة سيف الدولة تنقلت به الأحوال فورد الموصل وبغداد ونادم بهما الملوك والرؤساء توفي سنة 398هـ. انظر يتيمة الدهر (ج 1ص 270236)، وتاريخ بغداد (ج 11 ص 1211) ووفيات الأعيان (ج 3ص 202199).(6/486)
ملوك بني حمدان بحلب وما معها، جوابا للكتاب الوارد عليه من الطائع أو المطيع بالكنية والخلع ما صورته:
«كتابي أطال الله بقاء أمير المؤمنين وعبد أمير المؤمنين مستديم بشكر الله تعالى مدد النّعم المتظاهرة عليه، والمنح المتناصرة لديه، بجميع رأيه أدام الله علوّه وتقديمه معترف بما طوّقته به السعادة من عوارف تشريفه، متمسّك من الطاعة بما أحلّه كنف إحسانه، متوصّل بالطّرف إلى الاستزادة من طوله وامتنانه.
والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيد المرسلين، محمد وآله الطاهرين.
ووصل كتاب أمير المؤمنين أدام الله نصره مشتملا على فوائد الإرشاد والتوقيف، مقترنا بخصائص التّكرمة والتشريف، فاقتديت من أوامره أعلاها الله تعالى بأهدى دليل، وسلكت في شكر ما اعتمدني من إيثاره أوضح سبيل، وبرزت لسائر من اختارني أيده الله لسياسته من الخاصّة والعامّة في الحلل الحالية بسمات تشريفه وإكرامه، متدرّعا ثوبي هديه وسكينته، ومختالا منهما بين كنفي دفاعه ومعونته، ومتقلّدا عضبه (1) الذي هزّ النصر غراره، وأطلق المضاء شفاره، وعاليا على عنق الزمان، بامتطاء ما حباني به من الحملان مسترقّ النية بالرّغبة إليه، ومستخدم النّطق بالثناء عليه ومقتصّا أثر أسلافي في خدمته وخدمة آبائه المؤمنين، من الخلفاء الراشدين، صلوات الله عليهم أجمعين، واقتفاء مذهبهم في الذّبّ عن فئة الخلافة والمراماة دون الملّة، والاجتهاد في طاعة الأئمة.
فالحمد لله الذي جعل صنائع أمير المؤمنين مستقرّة عند من يرتبطها
__________
(1) العضب: السيف القاطع.(6/487)
بعلائق الشكر، ويحرسها بالتوفّر على ما أفاد الإحماد وجميل الذّكر، وأدام علوّ أمير المؤمنين! وأيدنا بعزّ دولته، وبسط بالتمكين قدرته، وحرس من الغير سلطانه، وقرن بنفاذ الأمر يده ولسانه، ولا أخلاه من وليّ ينشيه ويصنعه، وشكور يعليه ويرفعه، وعزم يحمد أثره ويرتضيه، ورأي بالتوفيق يبرمه ويمضيه، ووفّقني من القيام بحقوق خدمته، والتمسّك بفرائض طاعته، والمعرفة بمواقع اصطناعه وتفضّله، والاعتداد بمنح إنعامه وتطوّله، لما يستزيدني من أياديه وآلائه، ويحرس عليّ مكاني من جميل آرائه، إنه جواد كريم.
وقد آذنت من بعد وقرب برفع أمير المؤمنين أدام الله بسطته ذكري عن تعريف الاسم بنباهة الكنية، وإصدار ذلك إلى الأسماع من شريف عبارته، والإذن فيه لسائر من يذكرني بحضرته، زاد الله في جلالتها. وتقدّمت بإثبات ذلك على عنوانات الكتب امتثالا لأمره، وأخذا بإذنه، ووقوفا عند رسمه، عارفا قدر النعمة والموهبة فيه. واعتددت بما أعلمنيه أمير المؤمنين من نيابة فلان عبده وما توخّاه من محمود السّفارة، وحسن الوساطة، ووجدت ما يجمعني وإيّاه من الإخلاص في ولاء أمير المؤمنين أقرب الأنساب، وأوكد الأسباب، في تأكّد الألفة، وتثبيت قواعد الطاعة، والله يحرس أمير المؤمنين في كافّة رعيته، وخاصّة أوليائه وصنائع دولته، من اختلاف الآراء، وتشذّب الأهواء، ويعينني من النّهوض بمفترضات أياديه، وواجبات ما يسديه إليّ ويوليه، [على] ما قرّب منه وإليه، وأزلف عنده ولديه، بمنّه ومشيئته، وحوله وقوّته.
الحالة الثانية من مكاتبات الملوك إلى الخلفاء بني العباس ما كان عليه الأمر في آخر دولتهم ببغداد
. والحال فيه مختلف فتارة يفتتح بالدعاء للدّيوان العزيز، وتارة بالدعاء لما يعود عليه، وتارة بالصلاة، وتارة بالسلام. وربما افتتحت المكاتبة بآية من القرآن الكريم مناسبة للحال.
قال المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله في كتابه «التعريف»: والصدر نحو العبد أو المملوك أو الخادم يقبّل الأرض، أو العتبات، أو مواطيء المواقف أو غير ذلك. ويخاطب الخليفة في أثناء الكتاب بالدّيوان العزيز، وبالمواقف المقدّسة أو المشرّفة، والأبواب الشريفة، والباب العزيز، والمقام الأشرف، والجانب الأعلى أو الشريف، وبأمير المؤمنين مجرّدة عن سيدنا ومولانا، ومرة غير مجرّدة مع مراعاة المناسبة والتسديد والمقاربة. ويختم الكتاب تارة بالدعاء، وتارة «بطالع» أو «أنهى» أو غير هما مما فيه معنى الإنهاء.(6/488)
والحال فيه مختلف فتارة يفتتح بالدعاء للدّيوان العزيز، وتارة بالدعاء لما يعود عليه، وتارة بالصلاة، وتارة بالسلام. وربما افتتحت المكاتبة بآية من القرآن الكريم مناسبة للحال.
قال المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله في كتابه «التعريف»: والصدر نحو العبد أو المملوك أو الخادم يقبّل الأرض، أو العتبات، أو مواطيء المواقف أو غير ذلك. ويخاطب الخليفة في أثناء الكتاب بالدّيوان العزيز، وبالمواقف المقدّسة أو المشرّفة، والأبواب الشريفة، والباب العزيز، والمقام الأشرف، والجانب الأعلى أو الشريف، وبأمير المؤمنين مجرّدة عن سيدنا ومولانا، ومرة غير مجرّدة مع مراعاة المناسبة والتسديد والمقاربة. ويختم الكتاب تارة بالدعاء، وتارة «بطالع» أو «أنهى» أو غير هما مما فيه معنى الإنهاء.
قال: واختلف فيما يخاطب به المكتوب عنه عن نفسه فكتب صلاح الدين بن أيوب «الخادم» وكتب بنوه والعادل أخوه «المملوك» وكتب الكامل بن العادل «العبد» وجرى على هذا ابنه الصالح. وكتب الناصر بن العزيز «أقلّ المماليك» وكتب الناصر داود «أقلّ العبيد» وكان علاء الدين خوارزم شاه يكتب «الخادم المطواع» وتبعه على ذلك ابنه جلال الدين، وكانت أمّ جلال الدين تكتب «الأمة الداعية». هذا على شمم أنوف الخوارزمية وعلوّ شأنهم.
وعنوان هذه المكاتبات على اختلافها «الديوان العزيز، العالي، المولويّ، السيديّ، النبويّ، الإماميّ، الفلاني (بلقب الخلافة) أدام الله أيّامه، أو خلد الله أيامه، أو أدام الله سلطانه» على مناسبة ما في صدر الكتاب.
ثم هو على ستة أساليب:
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بالدعاء للديوان العزيز)
قال في «التعريف»: والمراد بالديوان ديوان الإنشاء لأنّ المكاتبات عنه صادرة وإليه واردة. قال: وسبب مخاطبتهم بالديوان الخضعان عن مخاطبة الخليفة نفسه، ويكون الدعاء للدّيوان بما فيه معنى دوام العزّ والسلطان وبسط الظّلّ وما أشبه ذلك، مثل: أدام الله أيام الديوان العزيز، أو أدام الله سلطان
الديوان العزيز، أو خلّد الله أيام الديوان العزيز، أو خلّد الله سلطان الديوان العزيز، وأدام الله ظلّ الديوان العزيز، وخلّد الله ظل الديوان العزيز، وبسط الله ظلّ الديوان العزيز، وما أشبه ذلك.(6/489)
قال في «التعريف»: والمراد بالديوان ديوان الإنشاء لأنّ المكاتبات عنه صادرة وإليه واردة. قال: وسبب مخاطبتهم بالديوان الخضعان عن مخاطبة الخليفة نفسه، ويكون الدعاء للدّيوان بما فيه معنى دوام العزّ والسلطان وبسط الظّلّ وما أشبه ذلك، مثل: أدام الله أيام الديوان العزيز، أو أدام الله سلطان
الديوان العزيز، أو خلّد الله أيام الديوان العزيز، أو خلّد الله سلطان الديوان العزيز، وأدام الله ظلّ الديوان العزيز، وخلّد الله ظل الديوان العزيز، وبسط الله ظلّ الديوان العزيز، وما أشبه ذلك.
وهذه نسخة (1) كتاب كتب به القاضي الفاضل (2) عن السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» صاحب الديار المصرية، إلى الناصر لدين الله الخليفة يومئذ ببغداد، بفتح القدس وما معه، واقتلاع ذلك من أيدي الفرنج وإعادته إلى ما كان عليه من الإسلام، وهي (3):
«أدام الله (4) أيام الديوان العزيز النبويّ الناصريّ (5)، ولا زال مظفّر الجدّ بكلّ جاحد، [غنيّا] (6) بالتوفيق عن رأي كلّ رائد، موقوف المساعي على اقتناء مطلقات المحامد، مستيقظ النّصر والسيف (7) في جفنه راقد، وارد الجود والسحاب على الأرض غير وارد، متعدّد مساعي الفضل وإن كان لا يلقى إلا بشكر واحد، [ماضي حكم العدل بعزم لا يمضي إلا بنبل غويّ وريش
__________
(1) سترد هذه النسخة في الجزء الثامن من هذا المؤلّف ص 289282.
(2) هو أبو علي عبد الرحيم بن علي بن السعيد اللخمي العسقلاني المولد المصري الدار، المعروف بالقاضي الفاضل. وزر للسلطان الناصر صلاح الدين، وتمكّن منه غاية التمكّن برز في صناعة الانشاء وفاق المتقدّمين. توفي بالقاهرة سنة 596هـ. انظر وفيات الأعيان (ج 3ص 163158) والأعلام (ج 3ص 346).
(3) قال ابن خلّكان في وفيات الأعيان (ج 7ص 179): «وإذ قد ذكرنا فتوح القدس يليق أن نذكر الرسالة التي كتبها القاضي الفاضل إلى الإمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد ابن الامام المستضيء بأمر الله ولم أذكرها بكمالها بل اخترت منها أحسنها، وتركت الباقي لأنها طويلة، وهي».
(4) في وفيات الأعيان (ج 7ص 180): «أدام الله تعالى».
(5) «الناصري» غير موجودة في وفيات الأعيان.
(6) الزيادة من المصدر السابق. وفي الطبعة الأميرية: «[غنيّ] التوفيق».
(7) في وفيات الأعيان (ج 7ص 185): «والنصل».(6/490)
راشد] (1) ولا زالت غيوث فضله [إلى الأولياء] (2) أنواء إلى المرابع (3) وأنوارا إلى المساجد، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلا إلى المراقب وخيالا إلى المراقد.
كتب الخادم هذه الخدمة، تلو ما صدر عنه مما كان يجري مجرى التّباشير بصبح (4) هذه الخدمة. والعنوان لكتاب وصف هذه النعمة، فإنها بحر للأقلام فيه سبح طويل، ولطف الحق للشّكر (5) فيه عبء ثقيل، وبشرى للخواطر في شرحها مآرب، ويسرى للأسرار في إظهارها مسارب، ولله (6) في إعادة شكره رضا، وللنعمة الراهنة به دوام لا يقال معه: هذا مضى. وقد (7) صارت أمور الإسلام إلى أحسن مصايرها، واستتبّت (8) عقائد أهله على بصائرها، وتقلّص ظلّ رجاء الكافر المبسوط، وصدق الله أهل دينه، فلمّا وقع الشرط حصل (9)
المشروط، وكان الدّين غريبا فهو الآن في وطنه، والفوز معروضا فقد بذلت الأنفس في ثمنه، وأمر أمر الحق وكان مستضعفا، وأهل ربعه وكان قد عيف حين عفا، [وجاء أمر الله وأنوف أهل الشرك راغمة] (10) فأدلجت (11) السيوف إلى الآجال وهي نائمة، وصدق وعد الله في إظهار دينه على كلّ دين، واستطارت له أنوار أبانت أنّ الصباح عندها حيان (12) الحين، واستردّ المسلمون تراثا كان عنهم
__________
(1) الزيادة من وفيات الأعيان.
(2) الزيادة من المصدر السابق.
(3) في المصدر السابق: «المراتع».
(4) في المصدر السابق: «لصبح هذه العزمة».
(5) في المصدر السابق: «ولطف لحمل الشكر».
(6) في المصدر السابق: «ولله تعالى».
(7) في المصدر السابق: «ولقد».
(8) في المصدر السابق: «وقد استتبّت».
(9) في المصدر السابق: «وقع».
(10) الزيادة من المصدر المذكور.
(11) في المصدر السابق: «وأدلجت».
(12) في المصدر السابق: «جنان الجنين».(6/491)
آبقا، وظفروا يقظة بما لم يصدّقوا أنهم يظفرون به طيفا على النأي طارقا، واستقرّت على الأعلى أقدامهم، وخفقت على الأقصى أعلامهم، وتلاقت على الصّخرة قبلهم، وشفيت بها وإن كانت صخرة كما تشفى بالماء غللهم.
ولما قدم الدين عليها عرف منها سويداء قلبه، وهنّأ كفؤها الحجر الأسود ببتّ (1) عصمتها من الكافر بحربه، وكان الخادم لا يسعى سعيه إلا لهذه العظمى، ولا يقاسي تلك البؤسى إلا رجاء هذه النّعمى، ولا يناجز من استمطله (2) في حربه، ولا يعاتب بأطراف القنا من تمادى (3) في عتبه، إلا لتكون الكلمة مجموعة، والدعوة (4) إلى سامعها مرفوعة، فتكون كلمة الله هي العليا، وليفوز بجوهر الآخرة لا بالعرض الأدنى من الدنيا، وكانت الألسنة (5)
ربما سلقته فأنضج قلوبها بالاحتقار، وكانت الخواطر ربّما غلت عليه مراجلها فأطفأها بالاحتمال والاصطبار، ومن طلب خطيرا خاطر، ومن رام صفقة رايحة تجاسر (6)، ومن سما لأن يجلّي غمرة غامر، وإلا فإنّ القعود يلين تحت نيوب الأعداء المعاجم فتعضّها (7)، ويضعف في أيديها مهر القوائم فتقضّها (8)، هذا إلى كون القعود لا يقضي فرض الله في الجهاد، ولا يرعى به حقّ الله (9) في العباد، ولا يوفى به واجب التقليد الذي تطوّقه (10) الخادم من أئمة قضوا بالحقّ
__________
(1) في وفيات الأعيان: «بيت عصمتها».
(2) في وفيات الأعيان ص 181: «يستمطله».
(3) في المصدر نفسه: «يتعادى».
(4) عبارة «والدعوة إلى سامعها مرفوعة» ساقطة في وفيات الأعيان.
(5) في وفيات الأعيان: «الألسن».
(6) في المصدر نفسه: «جاسر».
(7) في المصدر نفسه: «فيعفّها».
(8) في المصدر نفسه: «فيفضّها».
(9) في المصدر نفسه: «حقّه».
(10) في المصدر نفسه: «يطوّقه».(6/492)
وبه كانوا يعدلون، وخلفاء الله (1) كانوا في مثل هذا اليوم لله (2) يسألون، لا جرم (3) أنهم أورثوا سرورهم (4) وسريرهم خلفهم الأطهر، ونجلهم الأكبر، وبقيّتهم الشّريفة، وطلعتهم (5) المنيفة، وعلوان (6) صحيفة فضلهم لا عدم سواد العلم (7) وبياض الصّحيفة، فما غابوا لمّا حضر، [ولا غضّوا] (8) لمّا نظر، بل وصلهم الأجر لما كان به موصولا، وشاطروه العمل لما كان عنه منقولا ومنه مقبولا، وخلص إليهم إلى المضاجع ما اطمأنّت به جنوبها [وإلى الصحائف ما عبقت به جيوبها] (9) وفاز منها بذكر لا يزال الليل به سميرا، والنهار به بصيرا، والشرق يهتدي بأنواره، بل إن أبدى (10) نورا من ذاته هتف به الغرب بأن واره، فإنّه نور لا تكنّه أغساق (11) السّدف، وذكر لا تواريه (12) أوراق الصّحف.
وكتاب (13) الخادم هذا، وقد أظفر الله بالعدوّ الذي تشظّت قناته شفقا (14)، وطارت فرقه فرقا، وفلّ سيفه فصار عصا، وصدعت حصاته وكان الأكثر عددا
__________
(1) «الله» ساقطة في وفيات الأعيان.
(2) «لله» ساقطة في وفيات الأعيان.
(3) لا جرم: لا بدّ.
(4) في وفيات الأعيان: «سرهم».
(5) في المصدر نفسه: «وطليعتهم».
(6) في المصدر السابق: «وعنوان».
(7) في المصدر نفسه: «القلم».
(8) الزيادة من المصدر السابق.
(9) الزيادة من المصدر السابق.
(10) في المصدر السابق: «بدا نور».
(11) الأغساق: ج غسق، وهو دخول أول الليل حين يختلط الظلام. انظر اساس البلاغة مادة (غسق).
والسدف: ج سدفة، وهي الظلمة والطائفة من الليل، والمقصود هنا الليل.
(12) في وفيات الأعيان: توازيه «بالزاي».
(13) في المصدر السابق: «وكتب».
(14) في المصدر السابق: «شققا» بقافين.(6/493)
وحصى، فكلّت (1) حملاته وكانت قدرة الله تصرّف فيه العنان بالعيان، عقوبة من الله ليس لصاحب يد بها (2) يدان، وعثرت قدمه وكانت الأرض لها حليفة، وغضّت عينه وكانت عيون السيوف دونها كسيفة (3)، ونام جفن سيفه وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه وطالما كانت شامخة بالمنى أو راعفة بالمنون، وأضحت (4) الأرض المقدّسة الطاهرة وكانت الطامث، والربّ المعبود (5) الواحد وكان عندهم الثالث، فبيوت الشّرك (6)
مهدومة، ونيوب الكفر (7) مهتومة، وطوائفه المحامية، مجتمعة (8) على تسليم البلاد الحامية، وشجعانه المتوافية، مذعنة ببذل المطامع (9) الوافية، لا يرون في ماء الحديد لهم عصرة، ولا في فناء الأفنية (10) لهم نصرة، وقد (11) ضربت عليهم الذّلّة والمسكنة، وبدّل الله مكان السيئة الحسنة، ونقل بيت عبادته من أيدي أصحاب المشأمة إلى أيدي أصحاب الميمنة.
وقد كان الخادم لقيهم اللّقاة الأولى فأمدّه الله بمداركته، وأنجده بملائكته، فكسرهم كسرة ما بعدها جبر، وصرعهم صرعة لا يعيش (12) معها بمشيئة الله كفر، وأسر منهم من أسرت به السّلاسل، وقتل منهم من فتكت (13)
__________
(1) في المصدر السابق ص 182: «وكلّت حملاته وكان قدرا يضرب فيه العنان بالعنان، وعقوبة».
(2) في المصدر السابق: «يديها».
(3) في المصدر السابق: «كثيفة».
(4) في المصدر السابق: «وأصبحت».
(5) في المصدر السابق: «الفرد».
(6) في المصدر السابق: «وبيوت الكفر».
(7) في المصدر السابق: «الشرك».
(8) في المصدر السابق: «مجمعة على تسليم القلاع».
(9) في المصدر السابق: «القطائع».
(10) في المصدر السابق: «في نار الأنفة».
(11) في المصدر السابق: «قد» بدون واو.
(12) في المصدر السابق: «لا ينتعش بعدها».
(13) في المصدر السابق: «قتلت». والمناصل: ج منصل، وهو السيف.(6/494)
به المناصل، وأجلت المعركة عن صرعى من الخيل والسّلاح [والكفّار، وعن أصناف يخيّل بأنه قتلهم بالسيوف الأفلاق والرّماح الأكسار، فنيلوا بثأر من السلاح ونالوه أيضا بثار] (1)، فكم أهلّة سيوف تقارضن الضّراب بها حتّى عادت كالعراجين (2)، وكم أنجم رماح (3) تبادلت الطّعان حتّى صارت كالمطاعين، وكم فارسيّة ركض عليها فارسها السّهم (4) إلى أجل فاختلسه، وفغرت تلك القوس فاها فإذا فوها قد نهش القرن على بعد المسافة فافترسه (5)، وكان اليوم مشهودا، وكانت الملائكة شهودا، وكان الكفر (6) مفقودا، والإسلام مولودا، وجعل الله ضلوع الكفّار لنار جهنّم وقودا، وأسر الملك وبيده أوثق وثائقه، وآكد وصله بالدّين وعلائقه، وهو صليب الصّلبوت، وقائد أهل الجبروت، وما (7) دهموا قطّ بأمر إلّا وقام بين دهائمهم يبسط لهم باعه، ويحرّضهم (8) وكان مدّ اليدين في هذه الدّفعة وداعة، لا جرم أنهم تهافت (9)
على نارهم فراشهم، وتجمّع (10) في ظلّ ظلامه خشاشهم، فيقاتلون تحت ذلك الصّليب أصلب قتال وأصدقه ويرونه ميثاقا يبنون عليه أشدّ عقد (11) وأوثقه،
__________
(1) الزيادة من المصدر السابق.
(2) العراجين: ج عرجون، وهو العذق الذي يعوجّ وتقطع منه الشماريخ فيبقى على النخل يابسا، أي هو عود الشماريخ إذا عتق فإنه يرقّ ويتقوّس ويصفرّ. وهذا من قول الله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنََاهُ مَنََازِلَ حَتََّى عََادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} سورة يس 36، الآية 39.
(3) في وفيات الأعيان: «قنا».
(4) في المصدر السابق: «الشهم» بالشين.
(5) في المصدر السابق: «وافترسه، فكان اليوم».
(6) في المصدر السابق ص 183182: «وكان الضلال صارخا وكان الإسلام مولودا، وكانت ضلوع الكفار».
(7) في المصدر السابق: «ما» بدون واو.
(8) كلمة «ويحرّضهم» ساقطة في المصدر السابق.
(9) في المصدر السابق: «يتهافت».
(10) في المصدر السابق: «ويجتمع في ظل ظلاله خشاشهم، فيقاتلون».
(11) في المصدر السابق: «عهد».(6/495)
ويعدّونه سورا تحفر حوافر الخيل خندقه.
وفي هذا اليوم أسرت سراتهم، وذهبت (1) دهاتهم، ولم يفلت معروف إلا القومص، وكان لعنه الله مليّا يوم الظّفر بالقتال، ويوم (2) الخذلان بالاحتيال، فنجا ولكن كيف؟ وطار خوفا من أن يلحقه منسر الرّمح وجناح (3) السّيف، ثم أخذه الله (4) بعد أيام بيده، وأهلكه لموعده، فكان لعدّتهم فذالك، وانتقل من ملك الموت إلى مالك.
وبعد الكسرة مرّ الخادم على البلاد فطواها بما نشر عليها من الراية العبّاسيّة السوداء صبغا، البيضاء صنعا، الخافقة هي وقلوب أعدائها، الغالبة هي [وعزائم أوليائها (5)] المستضاء بأنوارها إذا فتح عينها البشر (6)، وأشارت بأنامل العذبات إلى وجه النّصر، فافتتح بلد (7) كذا وكذا، وهذه (8) أمصار ومدن، وقد تسمّى البلاد بلادا وهي مزارع وفدن (9) وكلّ (10) هذه ذوات معاقل ومعاقر، وبحار وجزائر، وجوامع ومنائر، وجموع وعساكر، يتجاوزها الخادم بعد أن يحرزها، ويتركها وراءه بعد أن ينتهزها ويحصد منها كفرا ويزرع إيمانا، ويحطّ من منائر جوامعها صلبانا (11) ويرفع أذانا، ويبدّل المذابح منابر والكنائس
__________
(1) في المصدر السابق: «ودهيت دهاتهم، ولم يفلت منهم معروف».
(2) في المصدر السابق: «بالقتال ومليا يوم الخذلان».
(3) في المصدر السابق: «أو جناح».
(4) في المصدر السابق: «الله تعالى».
(5) الزيادة من المصدر السابق.
(6) في المصدر السابق: «النشر».
(7) في المصدر السابق: «بلاد».
(8) في المصدر السابق: «وهذه كلها أمصار».
(9) الفدن، بالضم: ج فدان، بالفتح أيضا، وهو الآلة التي يحرث بها، أي ما يجمع أداة الثورين في القران للحرث، وقيل: الفدان، هو الثور، لسان العرب (فدن).
(10) في وفيات الأعيان: «كلّ» بدون واو العطف.
(11) في المصدر السابق: «صلبا».(6/496)
مساجد، ويبوّيء (1) بعد أهل الصّلبان أهل القرآن للذّبّ عن دين الله مقاعد، ويقرّ عينه وعيون أهل الإسلام أن تعلّق (2) النصر منه ومن عسكره بجارّ ومجرور، وأن ظفر (3) بكل سور ما كان يخاف زلزاله وزياله (4) إلى يوم النّفخ في الصّور.
ولمّا لم يبق إلا القدس وقد اجتمع (5) إليها كلّ شريد منهم وطريد، واعتصم بمنعتها كلّ قريب منهم وبعيد، وظنّوا أنّها من الله مانعتهم، وأن كنيستها إلى الله شافعتهم، فلما (6) نازلها (7) الخادم رأى بلدا كبلاد، وجمعا كيوم التّناد، وعزائم قد تألّفت (8) وتألّبت على الموت فنزلت بعرصته، وهان عليها مورد السيف وأن تموت بغصّته، فزاول البلد من جانب (9)، فإذا أودية عميقة، ولجج وعرة (10)
غريقة، وسور قد انعطف عطف السّوار، وأبرجة قد نزلت مكان الواسطة من عقد الدار (11)، فعدل إلى جهة أخرى كان للمطامع (12) عليها معرّج، وللخيل فيها متولّج، فنزل عليها، وأحاط بها وقرب منها، وضربت (13) خيمته بحيث يناله السّلاح بأطرافه، ويزاحمه السّور بأكنافه، وقابلها ثم قاتلها، ونزلها ثم نازلها، وبرز إليها ثم بارزها، وحاجزها ثم ناجزها، فضمّها (14) ضمّة ارتقب بعدها الفتح،
__________
(1) في وفيات الأعيان: «ويبوّىء أهل القرآن بعد أهل الصلبان للقتال عن دين الله».
(2) في المصدر السابق: «يعلّق».
(3) في المصدر السابق: «يظفر».
(4) في المصدر السابق: «ولا زياله».
(5) في المصدر السابق: «وقد اجتمع إليه كلّ طريد منهم وشريد».
(6) كذا في المصدر السابق ص 184أيضا بغير ذكر جواب «لما» في عبارة «لمّا لم يبق» وهو مفهوم من المقام. انظر حاشية الطبعة الأميرية.
(7) في المصدر السابق: «نزلها».
(8) في المصدر السابق: «قد تألّبت وتألّفت».
(9) في المصدر السابق: «من كل جانب».
(10) في المصدر السابق: «وعر غريقه».
(11) في المصدر السابق: «عقر الدار».
(12) في المصدر السابق: «للطالع».
(13) في المصدر السابق: «وضرب».
(14) في المصدر السابق: «وضمّها».(6/497)
وصدع أهلها (1) فإذا هم لا يصبرون على عبودية الخدّ (2) عن عتق الصّفح، فراسلوه ببذل قطيعة إلى مدّة، وقصدوا نظرة من شدّة وانتظارا لنجدة، فعرفهم (3) في لحن القول، وأجابهم بلسان الطّول، وقدّم المنجنيقات (4)، التي تتولّى عقوبات الحصون عصيّها وحبالها، وأوتر لهم قسيّها التي تضرب (5) فلا تفارقها سهامها ولا يفارق سهامها نصالها، فصافحت السّور بأكنافه (6) فإذا سهمها في ثنايا شرفاتها سواك، وقدّم النصر نسرا من المنجنيق يخلد إخلاده إلى الأرض ويعلو علوّه إلى السّماك، فشجّ مرادع أبراجها، وأسمع صوت عجيجها (7)، ورفع مثار عجاجها (8)، فأخلى السّور من السيّارة، والحرب من النّظّارة، فأمكن (9)
الثّقّاب، أن يسفر للحرب النّقاب، وأن يعيد الحجر إلى سيرته (10) من التّراب، فتقدّم إلى الصّخر فمضغ سرده، بأنياب معوله، وحلّ عقده، بضربه الأخرق الدالّ على لطافة أنمله، وأسمع الصخرة الشريفة حنينه (11) واستغاثته إلى أن كادت ترق لمقبّله (12)، وتبرّأ بعض الحجارة من بعض، وأخذ الخراب عليها موثقا فلن تبرح الأرض، وفتح في السور باب (13) سدّ من نجاتهم أبوابا، وأخذ
__________
(1) في المصدر السابق: «جمعها».
(2) في المصدر السابق: «الحدّ عن عنق».
(3) في المصدر السابق: «فعرفهم الخادم في لحن القول».
(4) المنجنيقات: ج منجنيق، وهي آلة ترمى بها الحجارة، مؤنثة.
(5) في وفيات الأعيان: «ترمي ولا تفارقها سهامها ولكن تفارق سهامها».
(6) كلمة «بأكنافه» ساقطة في المصدر السابق.
(7) في المصدر السابق: «عجيجها ضم أعلاجها، ورفع».
(8) العجاج، بالفتح: الغبار.
(9) في وفيات الأعيان: «وأمكن».
(10) في وفيات الأعيان: «سيرته الأولى».
(11) في المصدر السابق: «أنينه».
(12) في المصدر السابق: «لمقتله».
(13) في المصدر السابق: «وفتح من السور بابا».(6/498)
نقب (1) في حجره، قال عنده الكافر {يََا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرََاباً} (2) فحينئذ يئس الكفّار من أصحاب الدّور، كما يئس الكفّار من أصحاب القبور، وجاء أمر الله وغرّهم بالله الغرور (3).
وفي الحال خرج طاغية كفرهم وزمام أمرهم ابن بارزان (4) سائلا أن يؤخذ البلد بالسّلم لا بالعنوة، وبالأمان لا بالسّطوة، وألقى بيده إلى التّهلكة، وعلاه ذلّ الملكة (5) بعد عزّ المملكة، وطرح (6) جبينه في التّراب، وكان حينا لا يتعاطاه طارح، وبذل مبلغا من القطيعة لا يطمح إليه (7) طرف آمل طامح، وقال: ها هنا أسارى مؤمنون (8) يتجاوزون الألوف، وقد تعاقد الفرنج على أنهم إن هجمت عليهم الدار، وحمّلت الحرب على ظهورهم الأوزار، بديء بهم فعجّلوا، وثنّي بنساء الفرنج وأطفالهم فقتّلوا، ثم استقتلوا بعد ذلك فلم (9)
يقتل خصم إلا بعد أن ينتصف، ولم يسلّ (10) سيف من يد إلا بعد أن تنقطع (11) أو ينقصف، وأشار (12) الأمراء بالأخذ بالميسور، من البلد المأسور، فإنه إن أخذ (13) حربا فلا بدّ أن تقتحم الرجال الأنجاد، وتبذل أنفسها في آخر أمر قد
__________
(1) في المصدر السابق ص 185: «ينقب في حجره فقال».
(2) سورة النبأ 78، الآية 40.
(3) الغرور: الدنيا.
(4) يعني هنا انظر حاشية وفيات الأعيان.
(5) في وفيات الأعيان: «الهلكة».
(6) في وفيات الأعيان: «جنبه على التراب وكان جنبا لا».
(7) في وفيات الأعيان: «لا يطمح إليها أمل طامح».
(8) في وفيات الأعيان: «مسلمون».
(9) في وفيات الأعيان: «فلا يقتل».
(10) في وفيات الأعيان: «ولا يفلّ».
(11) في وفيات الأعيان: «تقطع».
(12) في وفيات الأعيان: «فأشار الأمراء بأخذ الميسور».
(13) في وفيات الأعيان: «فإنه لو أخذ حربا فلا بدّ أن يتقحّم الرجال الأنجاد، ويقال: كفّوا عنها في آخر أمر».(6/499)
نيل من أوّله المراد. وكانت الجراح في العساكر قد تقدّم منها ما اعتقل الفتكات، واعتاق (1) الحركات، فقبل منهم المبذول عن يد وهم صاغرون، وانصرف أهل الحرب عن قدرة وهم ظاهرون، وملك الاسلام خطّة كان عهده بها دمنة سكّان، فخدمها الكفر إلى أن صارت روضة جنان، لا جرم أن الله (2)
أخرجهم منها وأهبطهم، وأرضى أهل الحقّ وأسخطهم، فإنّهم خذلهم الله حموها بالأسل والصّفاح [وبنوها بالعمد والصّفّاح] (3) وأودعوا الكنائس بها وبيوت الديوية والاستبارية (4) منها كلّ غريبة من الرّخام الذي يطّرد ماؤه، ولا يطرد (5) لألاؤه، قد لطف الحديد في تجزيعه، وتفنّن في توشيعه، إلى أن صار الحديد الذي فيه بأس شديد، كالذهب الذي فيه نعيم عتيد، فما ترى إلا مقاعد [كالرياض لها من بياض الترخيم رقراق، وعمدا كالأشجار لها من التنبيت أوراق] (6).
وأوزع (7) الخادم بردّ الأقصى إلى عهده المعهود، وأقام له من الأئمة من يوفّيه ورده المورود، وأقيمت الخطبة يوم الجمعة رابع شهر (8) شعبان، فكادت السموات يتفطّرن للسّجوم (9) لا للوجوم، والكواكب ينتثرن (10) للطّرب لا للرّجوم، ورفعت إلى الله كلمة التوحيد وكانت طرائقها (11) مسدودة، وظهرت (12)
__________
(1) في وفيات الأعيان: «وأثقل».
(2) في وفيات الأعيان: «أنّ الله تعالى».
(3) الزيادة من وفيات الأعيان.
(4) في المصدر السابق: «والاسبتارة فيها بكل غريبة».
(5) في المصدر السابق: «ولا ينطرد».
(6) الزيادة من المصدر السابق.
(7) في وفيات الأعيان: «وأوعز».
(8) في وفيات الأعيان ص 186: «رابع شعبان».
(9) في وفيات الأعيان: «للسجود».
(10) في وفيات الأعيان ص 186: «والكواكب منها تنتثر».
(11) في وفيات الأعيان ص 186: «طريقها».
(12) في وفيات الأعيان ص 186: «وطهّرت».(6/500)
قبور الأنبياء وكانت بينهم (1) بالنّجاسات مكدودة، وأقيمت الخمس وكان التثليث يقعدها [وجهرت الألسنة بالله أكبر وكان سحر الكفر يعقدها] (2) وجهر باسم أمير المؤمنين في قطبه (3) الأقرب من المنبر، فرحّب به ترحيب من برّ بمن برّ، وخفق علماه في حفافيه، فلو طار به سرورا لطار بجناحيه.
وكتاب الخادم وهو مجدّ في استفتاح بقيّة الثّغور، واستشراح ما ضاق بتمادي الحرب من الصّدور، فإنّ قوى العساكر قد استنفدت مواردها، وأيّام الشّتاء (4) قد مردت مواردها، والبلاد المأخوذة المشار إليها قد جاست العساكر خلالها، ونهبت ذخائرها وأكلت غلالها. فهي بلاد ترفد ولا تسترفد، وتجمّ ولا تستنفد، وينفق (5) عليها ولا ينفق منها، وتجهّز الأساطيل لبحرها، وتقام المرابط لبرّها (6)، ويدأب في عمارة أسوارها ومرمّات معاقلها، وكلّ مشقّة فهي بالاضافة إلى نعمة الفتح محتملة وأطماع (7) الفرنج فيما بعد ذلك مذاهبها غير مرجئة ولا معتزلة، فلن يدعوا دعوة يرجو الخادم من الله أنها لا تسمع، ولن تزول (8) أيديهم من أطواق البلاد حتّى تقطع.
وهذه البشائر لها تفاصيل لا تكاد من غير الألسنة تتشخّص، ولا بما سوى المشافهة تتلخّص. فلذلك نفّذنا (9) لسانا شارحا، ومبشّرا صادحا، ينشر (10)
__________
(1) في وفيات الأعيان ص 186: «وكانت بالنجاسات».
(2) الزيادة من وفيات الأعيان.
(3) في وفيات الأعيان: «وطنه الأشرف».
(4) في وفيات الأعيان: «الشقاء».
(5) في وفيات الأعيان: «ينفق» بدون واو العطف.
(6) في وفيات الأعيان: «بساحلها».
(7) في وفيات الأعيان: «وأطماع الفرنج بعد ذلك غير مرجئة».
(8) في وفيات الأعيان: «ولن يكفوا أيديهم من أطراف البلاد».
(9) في وفيات الأعيان: «نفّذ الخادم».
(10) في وفيات الأعيان: «يطالع بالخبر».(6/501)
الخبر على سياقته، ويعرض جيش المسرّة من طليعته إلى ساقته (1).
الأسلوب الثاني (أن يفتتح الكتاب بالدعاء لغير الديوان بما فيه تعظيم الخليفة)
كما كتب القاضي الفاضل عن الملك الناصر (صلاح الدين يوسف بن أيوب» إلى ديوان الخلافة ببغداد.
أسعد الله عظماء الأملاك بالانتساب إلى الخدمة الشريفة النبوية، وأوزعهم ما أمرهم به من طاعتها، وخلّد ملك الديوان العزيز النبويّ ما دامت الأفلاك قائمة والنّجوم ناجمة، ونقع بغمائمها (2) غلل الآمال الحائمة، وفسّر بمكارمها حلم الأمانيّ الحالمة، ورتق (3) بتدبيراتها المعصومة فتوق النّوب المتعاظمة، وأظهر على أيدي أوليائها معجزات نصرها، وصرّف الأيّام والليالي بين المرضيّين لله نهيها وأمرها، وأودع بركات السماء والأرض بمودعها ومستقرّها.
المملوك وإن كان قد يسّر الله له مذ أطلقت عذبة لسانه خدمة الدولة العباسية، فتفسح في وسيع مآثرها، وتخيّر من بديع جواهرها، وامتاح من نمير زواخرها، فإنه لا يعتذر عن الحصر الذي اعتراه في وصف المنعم عليه به من
__________
(1) في وفيات الأعيان بعد «إلى ساقته»: «وهو فلان، والله الموفّق». ثم أضاف ابن خلكان: «هذا آخر الرسالة الفاضلية، وكان في عزمي اختصارها والاقتصار على محاسنها، فلمّا شرعت فيها قلت في نفسي: عسى أن يقف عليها من يؤثر الوقوف على جميعها فأكملتها ورجعت عن الرأي الأول، وهي قليلة الوجود في أيدي الناس، وكانت النسخة التي نقلتها منها سقيمة، ولقد اجتهدت في تحريرها حتى صحّت على هذه الصورة حسب الإمكان».
(2) نقع غلل الآمال: قضى عليها، ويقال: نقع الماء العطش إذا سكّنه وقطعه، والغلل: ج غلّة، وهي العطش أو شدته. وغمائمها: ج غمامة وهي السحابة، والهاء فيها عائدة إلى الخدمة الشريفة النبوية.
(3) رتق الفتوق: أصلحها وضمّ بعضها إلى بعض.(6/502)
الخطاب الشريف، الذي لولا أنّ عصمة الموالاة تثبّت فؤاده الخافق، وتسدّد لسانه الناطق، لما تعاطى وصف ما أعطاه من كتابه المرقوم، وسبق إليه من سحابه المركوم، فإنه مما يشفّ عنه الأمل ناكصا وهو كسير، وينقلب دونه البصر خاسئا وهو حسير، ألا أنّ الانعام الشريف يبدأ الأولياء بما لو وكلهم إلى أمانيّهم لتهيّبت أن تتعاطى حظيته، ولو فوّضه إلى راحتهم لنكلت عن أن تترقّى نصيّته، ولا غرو للسّحاب أن يصافح قطره الثّرى، والفجر أن يشرق نوره على عين الكرى والسّرى.
فالحمد لله الذي قرّب على المملوك منال الآمال، وثبّت حصاة فؤاده لما لا تستقلّ بحمله صمّ الجبال، ويستنيب عن جهر الشّكر بسرّ الأدعية، ويقتصر على ما يفضي به إلى المحاريب وإن لم يقصّر عما يقصّه في الأندية، ويطالع بأنّ مملوك الخدمة وابن مملوكها أخذ الكتاب بقوّة، وشمّر لخدمة أشرف خلافة لأشرف نبوّة، وتلقّاه تلقّي أبيه الأوّل الكلمات ورأى إطلاع الله لأمير المؤمنين على ما في ضميره من طاعته إحدى المعجزات والكرامات، وسمع المشافهة خاشعا متصدّعا واشتمل عليها بفهمه ساميا طرفه متطلّعا.
ولقد أشبه هذا الكتاب الكريم بيعة أخذت عليه، مدّ إليها يده آخذا بكلتا يديه. والمملوك يرجو بل يتحقّق أن هذا العبد المشار إليه سيوفي على سابقه من عبيد الدولة العباسية في الزمان، ويكون بمشيئة الله أسبق منهم بالإحسان.
وقد صدرت خدمتان من جهته وبعدهما تصدر الخدم، ولا يألو جهدا في الخدمتين مباشرا بيده السيف ومستنيبا عنها العلم، وله نصرة باقية في الولاء وهو غنيّ بها عن النصير، وسريرة بادية في الطاعة وهو إليها أسكن منها إلى كل مشير. يعود المملوك إلى ما لا يزال يفتتح به الصلوات المفروضة، ويختتم به الختمات المعروضة، من الدعاء الصالح الذي [وإن] أغنى الله وليّه عنه فقد أحوج ذوي العقائد السليمة إليه لأنه مزكّ لأعمالهم بل متمّم لإسلامهم، وكيف لا يدعون لمن يدعون به يوم يدعى كلّ أناس بإمامهم، فيقول: جمع
الله لأمير المؤمنين طاعة خلقه! وأذلّ رقاب الباطل سيف حقه! وجعل الله ما هو قبضته في الأخرى قبضة أمير المؤمنين في الأولى، من الأرض التي هي موطوءة كالسموات العلى، وأدام نعمه على هذه الأمة بإمامته، وأظهر كرامة نبيّه عليه السّلام بما يظاهره من كرامته، وعجّل لمن لا يقوم بفرض ولايته إقامة قيامته، وردّ بسيوفه التي لا تردّ ما الإسلام ممطول به من ظلامته، وأقام به مناهج الدّين لأهله، وأظهره بمظاهرته على الدّين كلّه، حتّى يلقى الله ما خلّف في الدنيا كافرا، ولا ضميرا إلا بالتوحيد عامرا، ولا بلدا إلا وقد بات الإسلام به آهلا وقد أصبح منه الكفر داثرا، إن شاء الله تعالى.(6/503)
وقد صدرت خدمتان من جهته وبعدهما تصدر الخدم، ولا يألو جهدا في الخدمتين مباشرا بيده السيف ومستنيبا عنها العلم، وله نصرة باقية في الولاء وهو غنيّ بها عن النصير، وسريرة بادية في الطاعة وهو إليها أسكن منها إلى كل مشير. يعود المملوك إلى ما لا يزال يفتتح به الصلوات المفروضة، ويختتم به الختمات المعروضة، من الدعاء الصالح الذي [وإن] أغنى الله وليّه عنه فقد أحوج ذوي العقائد السليمة إليه لأنه مزكّ لأعمالهم بل متمّم لإسلامهم، وكيف لا يدعون لمن يدعون به يوم يدعى كلّ أناس بإمامهم، فيقول: جمع
الله لأمير المؤمنين طاعة خلقه! وأذلّ رقاب الباطل سيف حقه! وجعل الله ما هو قبضته في الأخرى قبضة أمير المؤمنين في الأولى، من الأرض التي هي موطوءة كالسموات العلى، وأدام نعمه على هذه الأمة بإمامته، وأظهر كرامة نبيّه عليه السّلام بما يظاهره من كرامته، وعجّل لمن لا يقوم بفرض ولايته إقامة قيامته، وردّ بسيوفه التي لا تردّ ما الإسلام ممطول به من ظلامته، وأقام به مناهج الدّين لأهله، وأظهره بمظاهرته على الدّين كلّه، حتّى يلقى الله ما خلّف في الدنيا كافرا، ولا ضميرا إلا بالتوحيد عامرا، ولا بلدا إلا وقد بات الإسلام به آهلا وقد أصبح منه الكفر داثرا، إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الثالث (أن يبدأ بآية من كتاب الله تعالى تناسب الحال)
كما كتب القاضي الفاضل، عن السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» إلى الخليفة المستضيء (1) ببغداد ببشرى بفتح بلد من بلاد النّوبة والنّصرة عليها:
{وَلَقَدْ كَتَبْنََا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهََا عِبََادِيَ الصََّالِحُونَ} (2): {سَلََامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (3) {فَرَوْحٌ وَرَيْحََانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} (4). وصلاة يتبعها تسليم، وكأس يمزجها تسنيم وذكر من الله سبحانه في
__________
(1) هو الخليفة العباسي الإمام أبو محمد الحسن المستضيء بأمر الله ابن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف ابن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله. تولّى الحكم سنة 566هـ. عند موت أبيه الإمام المستنجد بالله، وكانت خلافته نحو تسع سنين وسبعة أشهر كان عادلا حسن السيرة في الرعية، كثير البذل للأموال، حليما، محبا للعفو والصفح عن المذنبين، كانت وفاته في سنة 575هـ. انظر تاريخ ابن الأثير (ج 11ص 361360، 459) ووفيات الأعيان (ج 4ص 470) و (ج 7ص 157).
(2) سورة الأنبياء 21، الآية 105.
(3) سورة يس 36، الآية 58.
(4) سورة الواقعة 56، الآية 89.(6/504)
الملإ الأعلى ورحمة الله وبركاته معلومة من النشأة الأولى على مولانا الإمام «المستضيء بالله» المستضاء بأنواره، المستضاف بداره، الداعي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم، الراعي للخلق كما يرعى النسيم النّسيم، العامّ فضله، التامّ عدله، المطروق مورد فنائه، المصدوق في مورد ثنائه، المحقوق من كل وليّ بولائه، ابن السادة الغرّ، والقادة الزّهر، والذّادة الحمس، والشادة للحق على الأسّ، سقاة الكوثر وزمزم والسّحاب، وولاة الموسم والموقف والكتاب، والموصول الأنساب [يوم] إذا نفخ في الصور فلا أنساب، والصابرون على حساب أنفسهم فهم الذين يؤتون أجرهم بغير حساب.
مملوك العتبات الشريفة وعبدها، ومن اشتمل على خاطره ولاؤها وودّها، وكانت المشاهدة لأنواره العلية التي يودّها، ومن يقرن بفرض الله سبحانه فرضها، ويسابق بطاعته إلى جنة وصفها الله تعالى بقوله {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا} * (1)، يلثم وجه ترابها، ويرى على بعد دارها الأنوار التي ترى بها، ويقف لديها وقوف الخاضع، ويضع أثقال الآثام عن ظهره منها بأشرف المواضع للواضع، ويخبت إليها إخبات الطائح الطائع، ويرجو فضلها رجاء الطامح الطامع. ولولا أنّ الكتاب حجاب بينه وبين المهابة التي تحول بين المرء وقلبه، والجلالة التي هو في تعظيمها على نور من ربّه، لكان خاطره في قبضة الهلع أسيرا، ولانقلب إليه البصر خاسئا حسيرا، ولكنّ قلمه قد تشاجع، أن كان لسانه عن الإبانة قد راجع.
فيقول:
إنّ الله قد رفع ملّة الإسلام على الملل، وكفل نصرها وكفى ما كفل، وحمى ملكها وحمل، وجعل لها الأرض في أيدي المخالفين ودائع، ومكّن يده من أعناقهم فهي إمّا تعقد الأغلال أو تصوغ الصّنائع، والحقّ بها قائم العمود، والسيف الكفاية لازم الغمود، والبشائر تمسّك الصّباح وتخلّق الدّجى، والخيل
__________
(1) سورة آل عمران 3، الآية 133.(6/505)
على طول ما تشتمل الوحى تنتعل الوجى (1)، والأيام زاهرة، والآيات باهرة، وعزّة أوليائها قاهرة، وذلّة أعدائها ظاهرة، وعنايات الله لديها متوالية متظاهرة، إذا تغرّب اسمها يوما عن منبر أعيد إلى وطنه غدا، وإذا أوقدت نار فتنة في معصيتها أوقدت في طاعتها نار هدى.
وقد كان النيل قدما فرّت عن الفرات أبناؤه، وتحصّنت غلل (2) المؤمنين عنه فلم يتغلغل إليها ماؤه، وكادت السماء لا تعينه بمطرها، والأرض لا توشّيه بزهرها، والأعناق قد تقاصر دون الراجين بدو منعصها (3)، والقلوب قد لاذت بأستار الجدار معضها (4)، والأوثان منصوبه، والآيات مغصوبه، والتّيجان بغير أكفائها من الهامات معصوبه، والّدين أديانا، والمذكّرون بالآيات يخرّون عليها صمّا وعميانا، والعادلون بالله قد وطّنوا ألسنة وصرّحوا عقائد، والمعتدون قد أضلّوا فعالا وضلّوا مقاصد، وكراسيّ خلافة الله قد ألقي عليها أجساد كانت تقعد منها مقاعد، ومنابر كلمات الله قد كاد كيدهم يأتي بنيانها من القواعد، وجرت على بنوة النّبوة أشدّ نبوه، وقصرت الأيدي فلا حدّ سوط ولا حدّ سطوه، ثم قست قلوب {فَهِيَ كَالْحِجََارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (5) وغرّت الأيّام وما وعدت، وأوردت الهمم وما أصدرت، وطغى طوفان الطّغيان ولا عاصم، وسما بناء البهتان ولا هادم، وضاقت الصّدور، ورحلت بغليلها إلى القبور، وظنّ أنّ طيّ دولتهم معدوق بالنّشور، حتّى إذا جلّاها الله لوقتها، وأنجز جموع الضّلال إلى ميعاد شتّها، وأراهم آية معدلته {وَمََا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلََّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهََا} (6)
__________
(1) الوحى: العجلة والإسراع. والوجى: الحفى، وجي الماشي يوجى وجى: حفي.
(2) الغلل: ج غلّة وهي العطش، أو شدّته.
(3) كذا في الأصول بهذا الرسم. حاشية الطبعة الأميرية.
(4) كذا في الأصول بهذا الرسم. حاشية الطبعة الأميرية.
(5) سورة البقرة 2، الآية 74.
(6) سورة الزّخرف 43، الآية 48.(6/506)
{جََاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللََّهِ وَهُمْ كََارِهُونَ} (1): {وَحَبِطَ مََا صَنَعُوا فِيهََا وَبََاطِلٌ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} (2).
كانت نعمة من الله يمنّها على المملوك أن انتجبه من بين أهل أرضه، وانتخبه لإقامة ما أمات الباطل من فرضه، ويسّره لما يسّره من نصرة الحق وأهله، وبشّره بما بشّره من لواء النصر ومدّ من ظلّه، وألهمه الهمّة التي افترع منها بكرا، ومنحه النّصرة فما يستطيع العدوّ صرفا ولا نصرا. مكّنه من صياصيهم (3)
فحلّها، ومن دمائهم فطلّها، ومن سيوفهم ففلّها، ومن أقدامهم فاستزلّها، ومن منابر دعاتهم فعجّل تداعيها، ومن أنفس أعدائهم فأكثر تناعيها، وأبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ويسّر الذين كتب لهم العفو إلى منافعهم، ونثر خرزات الملك من تيجانها، وفضح على يده وبلسانه ما زوّرته من أنسابها، وحاسبها فأظهر زيف حسابها، ونقلها من ظهور أسرّتها إلى بطون ترابها، وعمد إلى أهل دعوتها الذين بسقوا بسوق النخل فأعلاهم على جذوعها، وحملت قلوبهم فوف (4) الحقد فأخرجها من أكمام طلوعها، فهل ترى لهم من باقية، أو تسمع لهم من لاغية، أو تجد إليهم من صاخية، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم أو مساكينهم، وحصدوا حصد الحشيش ثم لا تخاف سيوفهم ولا سكاكينهم.
واستنزلوا من عقاب اللّوح، وسجنوا في الهمّ من طول مداومة عقاب الرّوح، ثم تداركوا إلى الدّرك، واشتركوا في الشّرك، وأقفرت منهم عراص، وزهدت فيهم خواص، وعلم أن ليس لله غالب، وأن ليس يفوته طالب، وأنّ الملك لله وحده، وأنّ الويل لمن تجاوز أمره وحدّه.
__________
(1) سورة التوبة 9، الآية 48. والآية في القرآن الكريم: {حَتََّى جََاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللََّهِ وَهُمْ كََارِهُونَ}
(2) سورة هود 11، الآية 16.
(3) الصياصي: ج صيصة وهي الحصن وكل ما امتنع به.
(4) الفوف: القشرة التي على حبّة القلب.(6/507)
وكان المملوك ممن عطّل من أوثانهم، وأبطل من أديانهم، فائزا بحسنة ينظر إلى حسنات خليل الله صلّى الله عليه وسلّم في كيده الأصنام وتكسيرها، وتضليله عابديها وتكفيرها. وعمد المملوك إلى المحاضر فجمعها، وإلى المنابر فرفعها، والجمعة فأطاع من شرعها، وأسماء صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوصلها باسمه وما قطعها، وعمومته رضوان الله عليهم فتلاها له واتّبعها، وأشاد باسم أمير المؤمنين لتكون الصلاة جامعه، والذّكرى شاملة والإمامة للجماعة شارعه، والهداية للضّلالة صارعه، فعادت للملّة أعياد، واخضرّت للمنبر أعواد، وأنجز للأمّة ميعاد.
وبعد ذلك تحاشدت أولياء الذاهبين وتنادت، وتساعت نحو مستقرّ المملوك وتعادت {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطََانُ أَعْمََالَهُمْ وَقََالَ لََا غََالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النََّاسِ وَإِنِّي جََارٌ لَكُمْ فَلَمََّا تَرََاءَتِ الْفِئَتََانِ نَكَصَ عَلى ََ عَقِبَيْهِ وَقََالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ} (1) وكانوا حميّة حاميّة من بني حام كالجراد أرجلا، إلا أنّ الله أصلاها بنيرانه، وكالماء مدّا إلا أنّ الله أغرقها بطوفانه، وكالنمل لونا وطرقا إلا أنّ الله حطمها بسليمانه (2)، مع من انضمّ إليهم من ألفاف وأطراف، وأوشاب وأوباش، من جنديّ كسبه سيفه ذلّه، وطرده عن مواقف الكرام وبمحالّ الخزي أحلّه، ومن أرمنيّ كانوا يفزعون إلى نصرة نصرانيّته، ويعتمدون منه على ابن معموديّته، ومن عامّيّ أجابهم لفرط عماه وتفريط عامّيّته، فملأ العيون سوادهم الأعظم، ووراءهم بأس الله الذي لا يردّ عمن أجرم، فأمطرتهم السيوف مطرا كانوا غثاء (3) لسيوله الجوارف، وعصفت بهم الأعنّة عصفا كانوا هباء لهوجه
__________
(1) سورة الأنفال 8، الآية 48.
(2) هو سليمان بن داود عليهما السّلام، قال الله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمََانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتََّى إِذََا أَتَوْا عَلى ََ وََادِ النَّمْلِ قََالَتْ نَمْلَةٌ يََا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسََاكِنَكُمْ لََا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمََانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لََا يَشْعُرُونَ} سورة النمل 27، الآيتان 17، 18.
(3) الغثاء: الزبد، والبالي من ورق الشجر المخالط زبد السيل. وهذا قريب من قول محرز الضبيّ (طويل).
لهم أذرع باد نواشر لحمها ... وبعض الرجال في الحروب غثاء
انظر محيط المحيط مادة (غثا).(6/508)
العواصف، {فَظَلَّتْ أَعْنََاقُهُمْ لَهََا خََاضِعِينَ} (1) وعوتبت الأنفس والأرؤس {قََالَتََا أَتَيْنََا طََائِعِينَ} (2). وظلّت قحاف (3) بني حام تحت غربان الفلا غربانا، وشوهدت ظلمات بعضها فوق بعض أفعالا وألوانا، وصفت موارد السلطان من القذى، وطفيء ذلك الفحم فلا يجد النّفاق بعده ما تتعلق به الجذى (4)، وبلغت الغايات في كشف كلّ أذى، لا بضرب بموعد يقال فيه إذا.
وكاتب المملوك، واسم أمير المؤمنين قد كتب سطره على جبين النقدين، وسمع لفظه من فم المنبرين بالبلدين، ومدّ كلّ منبر يدا بل يدين، فحين سمع الناس قالوا حقّا ما قاله ذو اليدين، وصارت تلك الأسماء دبر الآذان ووراء الظّهور، وحصّلت المحبّة العباسية سرّا من أسرار القلوب إذا حصّل ما في الصّدور، والخلائق مبايعة متابعة وافية بعهده متوافية، داخلون في الحق أفواجا، سالكون منه شرعة ومنهاجا.
والحمد لله الذي جعل أمير المؤمنين إماما لخلقه، ووارثا لأرضه ولم يذر فوق الأرض منازعا لحقّه، ولا مناهبا لأرضه، وارتجع له الحقّ الذي كان نادّا، وردّ عليه الأمر الذي لم يكن له غير الله رادّا، وبلّغ كلّ مؤمن من إعلاء كلمة الإيمان به ما كان له وادّا، وأخذ بيد انتقامه من كان عن سبيله صادّا، والإسلام قد استنار كنشأته، والزمان قد استدار كهيئته، والحقّ قد قرّ في نصابه، والأمر قد فرّ عن صوابه، فقد وفي الله القرار له بضمانه، وأخذ بيده ما روى عن ابن عمه صلّى الله عليه وسلّم وأصفى من لسانه.
__________
(1) سورة الشعراء 26، الآية 4.
(2) سورة فصّلت أو سورة السجدة 41، الآية 11.
(3) القحاف: الجماجم، والمقصود هنا الرؤوس.
(4) الجذى، بضم الجيم وكسرها: ج جذوة بكسر الجيم وفتحها، وهي الجمرة أو القبسة من النار.(6/509)
فالحمد لله الذي صدقه وعده، وأورثه الأرض وحده، وجدّد علاه وأعلى جدّه، وأسعد نجمه وأنجم سعده، ووعده نجحه وأنجح وعده، وأورده وصفه وأصفى ورده.
المملوك ينتظر الأمثلة ليتمثّلها، والأمانة ليتحمّلها، والتقليدات المطاعة ليتلوها، والتشريفات الشريفة ليجلوها، والسواد ليجلي الحلك عن ضمائر المبطلين، والسيف الحالي لحكمه في رقاب المعطّلين، وللآراء الشريفة فصل برهانها، وفضل سلطانها وأمرها الذي لا يخرج حين يخرج عن عزّ الملّة وتوطيد بنيانها، وعزمها الذي يرفع حين يرفع ظلمة أدخانها. إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الرابع (أن يبتدأ الكتاب بالصلاة)
كما كتب القاضي الفاضل، عن الملك الناصر «صلاح الدين يوسف بن أيوب» إلى الخليفة ببغداد، في البشرى بفتح بلد من بلاد النّوبة أيضا، وانهزام ملكها بعساكره:
صلوات الله التي أعدّها لأوليائه وذخرها، وتحيّاته التي قذف بشهبها شياطين أعدائه ودحرها، وبركاته التي دعا بها كلّ موحّد فأجاب، وانقشع بها غمام الغمّ وظلام الظّلم فانجاب عن أنجاب، وزكاته التي هي للمؤمنين سكن، وسلامه الذي لا يعتري الموقنين في ترديده حصر ولا لكن (1) على مولانا عاقد ألوية الإيمان، وصاحب دور الزمان، وساحب ذيل الإحسان، وغالب حزب الشيطان، الذي زلزلت إمامته قدم الباطل، وحلّت خلافته ترائب الدّهر العاطل، واقتضت سيوفه ديون الدّين من كل غريم ماطل، وأمضت غرب كل عزم للحقّ مفلول وأطلعت غارب نجم كلّ هدى آفل، وشفعت يقظات استغفاره إلى
__________
(1) اللكن: العيّ وثقل اللسان، وكذلك الحصر.(6/510)
غافر ذنب كلّ غافل،، وعلى آبائه الغاية والمفزع، والملاذ في وقت الفزع، والقائمين بحقوق الله إذ قعد الناس، والحاكمين بعدل الله إذ عدم القسطاس (1)، والمستضيئين بأنوار الإلهام الموروثة من الوحي إذا عجز الاقتباس، والصابرين في البأساء والضّرّاء وحين الباس، خزّان الحكم، وحفّاظها، ومعاني النّعم، وألفاظها، وأعلام العلوم المنشورة إلى يوم القيامة، وكالئي السّروح المنتشرة من كلا (2) سديد الإمامة، ومن لا ينفذ سهم عمل إلا إذا شجذ بموالاتهم، ولا يتألّق صبح هداية إلا إذا استصبح الساري بدلالاتهم.
المملوك يقبّل الأرض بمطالع الشّرف ومنازله، ومرابع المجد ومعاقله، ومجالس الجود، ومحالّ السجود، ومختلف أنباء الرحمة المنزّلة، ومرسى أطواد البسيطة المتزلزلة، ومفترّ مباسم الإمامة، ومجرّ مساحب الكرامة، ومكان جنوح أجنحة الملائك، ومشتجر مناسك المناسك، حيث يدخلون من كل باب مسلّمين، ويتبعهم ملوك الأرض مستسلمين، ومشاهد الإسلام كيوم أنزل فيه اليوم أكملت لكم دينكم وينعقد على الولاية فأما غيره فله قوله: قاتلوا الّذين يلونكم، ويناجيها بلسان جلّى الإخلاص الصادق عقيدته، وأنشط الولاء السابق عقيلته، وأرهف الإيمان الناصع مضاربه، وفسّح المعتقد الناصح مذاهبه، فأعرب عن خاطر لم يخطر فيه لغير الولاء خطره، وقلب أعانه على ورود الولاء [أن] صفاء المصافاة فيه فطره ويخبر أنه ما وهن عمّا أوجبته آلاؤه ولا وهى، ولا انثنى عزمه عن أن يقف حيث أظلّت سدرة المنتهى، ووضحت الآيات لأولي النّهى. والله سبحانه يزيل عنه في شرف المثول عوائق القدر وموانعه، ويكشف له عن قناع الأنوار التي ليست همّته بما دون نظرها قانعة وكان توجّه منصورا بجيش دعائه، قبل جيش لوائه، وبعسكر إقباله، قبل عسكر قتاله، وبنصال
__________
(1) القسطاس بضم القاف وكسرها وسكون السين: ميزان العدل.
(2) كذا في الأصول، وفي ضوء الصبح للمؤلف: «المنتشرة بيد الإمامة». حاشية الطبعة الأميرية.(6/511)
سلطانه، قبل نصال أجفانه، لا جرم (1) أنّ كتائب الرّعب سارت أمام الكتائب، وقواضب الحذر غمّضت في جفونها عيون القواضب وسار أولياء أمير المؤمنين الذين تجمّعوا من كلّ أمّة، وتداعوا بلسان النّعمة، وتصرّفوا بيد الخدمة، وصالوا بسيف العزمة، متواخية نيّاتهم في الإقدام، متآلفة طويّاتهم في طاعة الإمام، كالبنيان المرصوص انتظاما، وكالغاب المشجر أعلاما، وكالنّهار الماتع حديدا وهّاجا، وكالليل الشامل عجاجا عجّاجا، وكالنهر المتدافع أصحابا، وكالمشط المطّرد اصطحابا، والأرض ترجل برجلهم لما ترفعه الحوافر من غيومها، والسماء تنزل نزولهم لما تضعه الذّوابل من نجومها، فما انتشرت رياضها المزهره، وغياضها المشجره، إلا دلّت على أن السّحاب الذي سقاهم كريم، والإنعام الذي غمرهم عظيم، والدّنيا التي وسعتهم من عزمتهم تظعن وتقيم.
ولما علم العدوّ أنّ الخطب المظنون قد صرّح خطابه، والأمل المخدوع قد صفر وطابه، راسل ورأى سلّ السّيوف يغمده، وماكر وماكرّ لعلمه أن الحتف يعمده، واندفع هاربا هائبا، وخضع كائبا كاذبا، فمضى المملوك قدما، وحمّله ظلمه وقد خاب من حمل ظلما، وأجابه بأنه إن وطيء البساط برجله وإلا وطئه برأسه، وإن قدم على المملوك بأمله وإلا أقدمه بيأسه، وإن لم يظهر أثر التوبة وإلّا أقام (2) عليه الحدّ بسكرة الموت من كأسه، فلم يخرج من مراوغة تحتها مغاوره، ومكاسرة وراءها مكاشره، فاستخار الله في طلبه، وانتهز فيه فرصة شغل قلبه بريبه، ولم يغرّه ما أملي له في البلاد من تقلّبه. وسار ولم يزل مقتحما، وتقدّم أوّل العسكر محتدما، وإذا الدار قد ترحّل أهلها منها فبانوا (3)، وظعنوا عن ساحتها فكأنّهم ما كانوا، ولم يبق إلا مواقد نيران رحلت قلوبهم
__________
(1) لا جرم: لا بدّ.
(2) أقام عليه الحدّ: أدّبه بما يمنعه عن ارتكاب الذنب.
(3) بانوا: فارقوا.(6/512)
بضرامها، وأثافيّ (1) دهم أعجلت المهابة ما ردّ سغبهم (2) عن طعامها، وغربان بين كأنها في الديار ما قطع من رؤوس بني حامها، وعوافي طير كانت تنتظر من أشلائهم فطر صيامها، وعادت الرسل المنفّذة لاقتفاء آثارهم وأداء أخبارهم، ذاكرة أنهم لبسوا الليل حدادا على النعمة التي خلعت، وغسلوا بماء الصبح أطماع نفس كانت قد تطلعت، وأنهم طلعوا الأوعار أوعالا والعقاب عقبانا، وكانوا لمهابط الأودية سيولا ولأعالي الشّجر قضبانا فرأى المملوك أن الكتاب فيهم قد بلغ أجله، والعزم منهم قد نال أمله، والفتك بهم قد أعمل منصله (3)، وأن سيوف عساكر أمير المؤمنين منزّهة أن تريق إلا دماء أكفائها من الأبطال، وأن تلقى إلا وجوه أنظارها من الرجال، وأن المذكورين نمل حطمه سليمان عليه السّلام وجنوده، ورمل أطاره العاصف الذي يسحفه (4) ويقوده وأصدر هذه الخدمة والبلاد من معرّتهم عارية، والكلمة بانخفاضهم غالية عالية، ويد الله على أعدائه عادية، وأنفس المخاذيل في وثاق مهابته العالية عانية فرأى المملوك أن يرتّب بعده الأمير فلانا ليبذل الأمانات، لسوقة أهل البلاد ومزارعيها، ويفصل المحاكمات، بين متابعي السلطنة ومطاوعيها، ويفسّح مجال الإحسان لمعاودي المواطن ومراجعيها، فيعمر من البلاد ما قد شغر، ويشعر بالأمنة من لا شعر، فإنّ مقام المملوك ومن معه من عساكر تمنع الشمس من مطلعها، وتردّ جرية البحر عن موقعها، مما يضرّ بالغلال وينسفها، ويجحف بالرّعايا ويعسفها.
فالحمد لله الذي جعل النصر لائذا بأعطاف اعتزامه، وأنامل الرّعب السائر إلى الأعداء محرّكة عذبات أعلامه، والعساكر المناضلة بسلاح ولائه،
__________
(1) الأثافيّ: ج أثفيّة، وهي الحجر يوضع عليه القدر للطبخ. والدهم: السود، ج دهماء وأدهم.
(2) السغب: الجوع.
(3) المنصل والمنصل: السيف، والجمع مناصل.
(4) يسحفه: يذهب به، يقال: سحفت الريح السحاب إذا ذهبت به.(6/513)
تغني بأسمائها عن مرهفاتها، والكتائب المقاتلة بشعار علائه، تقرأ كتب النّصر من حماتها.
الأسلوب الخامس (أن يبتدأ الكتاب بالسلام)
كما كتب القاضي الفاضل عن السلطان «صلاح الدين» أيضا، يعتذر له عن تأخّر الكتب، ويذكر له خبر صاحب قسطنطينيّة وصاحب صقلّيّة من ملوك النصرانية من الروم والفرنج:
سلام الله الأطيب، وبركاته التي يستدرّها الحضّر والغيّب، وزكواته التي ترفع أولياءه إلى الدّرج، ونعمه التي لم تجعل على أهل طاعته في الدين من حرج على مولانا سيّد الخلق، وسادّ الخرق، ومسدّد أهل الحق، ولابس الشّعار الأطهر سوادا، ومستحق الطاعة التي أسعد الله من خصّه بها بدءا ومعادا، ومولى الأمّة، الذي تشابه يوم نداه وبأسه إن ركض جودا أو جوادا، وواحد الدهر الذي لا يثنى، وإليه القلوب تثنى، ولا يقبل الله جمعا لا يكون لولائه جمع سلامة لا جمع تكسير، ولا استقبال قبلة ممن لا تكون محبّته في قلبه تقيم واسمه في عمله إلى الله يسير، مولانا أمير المؤمنين، وعلى آبائه المالئي الأرض عدلا، الملاء أهلا وفضلا، والضاربين فيصلا والقائلين فصلا، ومن تقول الجنة لأهلها بهم أهلا، المخصوصين بالعناية الإلهيّة، الحاكمين فكلّ أمة بطاعتهم مأمورة وعن معصيتهم منهيّة، والمشرّفي الأسارير على أسرّة الشرف فكم ملأت البهو مناظرهم البهيّة.
المملوك يخدم الحرم الشريف باحترامه، والفناء الكريم بإعظامه، والبساط المقبّل بطول استلامه، والسّتر الذي أسبله الله على العباد بتحيّته وسلامه، وينهي أنه آخر الخدم عن أن ينتظم الأوقات المتجدّدة، ويقتضب الحالات المتجرّدة، والرّسل عن أن تتوارد دراكا، وتتوالى وشاكا، والإنهاءات عن أن تثبت بالمقامات الشريفة النبوية، ومجالس العرض العلية، ما انتهت
إليه الأقدار، وما أفضى إليه من كثير المناجح وقليل الأعذار، فإنّ أدب الأمالي عن المطالعة كالصوم لا يفضّ ختامه ولا يحلّ نظامه، إلا بعيد يطلع هلاله مبشّرا، ويبثّ خبره في الآفاق معطّرا، فلو أن متكلّفا أفطر قبل موعده، وورد الماء قبل مورده، لكان مفسدا لعقده، ناكثا لعهده.(6/514)
المملوك يخدم الحرم الشريف باحترامه، والفناء الكريم بإعظامه، والبساط المقبّل بطول استلامه، والسّتر الذي أسبله الله على العباد بتحيّته وسلامه، وينهي أنه آخر الخدم عن أن ينتظم الأوقات المتجدّدة، ويقتضب الحالات المتجرّدة، والرّسل عن أن تتوارد دراكا، وتتوالى وشاكا، والإنهاءات عن أن تثبت بالمقامات الشريفة النبوية، ومجالس العرض العلية، ما انتهت
إليه الأقدار، وما أفضى إليه من كثير المناجح وقليل الأعذار، فإنّ أدب الأمالي عن المطالعة كالصوم لا يفضّ ختامه ولا يحلّ نظامه، إلا بعيد يطلع هلاله مبشّرا، ويبثّ خبره في الآفاق معطّرا، فلو أن متكلّفا أفطر قبل موعده، وورد الماء قبل مورده، لكان مفسدا لعقده، ناكثا لعهده.
كذلك المملوك أمسك حين كانت الأخبار بجانبه مشتبهة، والحقائق لديه غير متوجّهة، فإنّ طاغيتي الكفر بقسطنطينية وصقلّية كانا قد أوقدا للحرب نارا، ورفعا لها أوزارا (1)، واتخذا لها أسطولا جاريا وعسكرا جرّارا، وتباريا ولم يزد الله الظالمين إلّا تبارا، وكتبا إلى الفرنج بعد انهزامهم بالنّجدة والنّصرة، وتضمّنا لهم الخروج والكرّة، ويصفان ما استعدّا به بما لا يعبّر عنه إلا بالكثرة، واستطارت الشّناعة وتداولتها الألسن، وخرجت من الأفواه حتّى لقد كادت تدخل فيما رأته الأعين، وورد إلى المملوك رسول من طاغية القسطنطينيّة وهو أقدم ملوك النصرانية قدما، وأكثرهم ما لا منتمى، فعرض عليه موادعة يكون بها عسكره مودعا، ويكون له بها مفزعا، له ولصاحب صقلّيّة، الذي زعم أنه أصل للشرّ يكون الشرّ منه مفرّعا، فلم يكن ولم يجب إلى السّلم، ولم يزعه أن عسكره خذله الله مبار في البرّ وفي اليمّ، إن شاء الله تعالى.
الأسلوب السادس (أن تفتتح المكاتبة بخطبة مفتتحة بالحمد لله)
وذلك يختصّ بالفتوح وغيرها مما حدث فيه نعمة، وربما بدئت بآية من كتاب الله، كما كتب العماد الأصفهانيّ (2) عن السلطان «صلاح الدين
__________
(1) رفع أوزار الحرب: أشعلها، والاوزار: ج وزر وهو السلاح لثقله على حامله. وقولهم: وضعت الحرب أوزارها: أي انقضت.
(2) هو أبو عبد الله محمد بن صفي الدين بن هبة الله، الملقب عماد الدين، الكاتب الأصفهاني. كان فقيها شافعي المذهب. نشأ بأصبهان وقدم بغداد في حداثته، ثم انتقل إلى دمشق، عرف السلطان صلاح الدين ومدحه بدمشق. أشهر تصانيفه كتاب «خريدة القصر وجريدة العصر» توفي سنة 597 هـ بدمشق. انظر وفيات الأعيان (ج 5ص 152147).(6/515)
يوسف بن أيوب» إلى الناصر لدين الله ببغداد بفتح القدس (1):
{وَلَقَدْ كَتَبْنََا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهََا عِبََادِيَ الصََّالِحُونَ} [2].
الحمد لله على ما أنجز من هذا الوعد، على نصرته لهذا الدّين الحنيف من قبل ومن بعد، وعلى أن أجرى هذا الحسنة التي ما اشتمل على شبهها كرام الصّحائف، ولم يجادل عن مثلها في المواقف، في الأيام الإمامية الناصرية زادها الله غررا وأوضاحا، ووالى البشائر فيها بالفتوح غدوّا ورواحا، ومكّن سيوفها في كلّ مازق، من كل كافر ومارق، ولا أخلاها من سيرة سريّة تجمع بين مصلحة مخلوق وطاعة خالق، وأطال أيدي أوليائها لتحمي بالحقيقة حمى الحقائق، وأنجزها الحقّ وقذف به على الباطل الزاهق، وملّكها هوادي المغارب ومرامي المشارق، ولا زالت آراؤها في الظّلمات مصابح، وسيوفها للبلاد مفاتح، وأطراف أسنّتها لدماء الأعداء نوازح.
والحمد لله الذي نصر سلطان الديوان العزيز وأيّده، وأظفر جنده الغالب وأنجده، وجلا به جلابيب الظلماء وجدّد جدده، وجعل بعد عسر يسرا، وقد أحدث الله بعد ذلك أمرا، وهوّن الأمر الذي ما كان الإسلام يستطيع عليه صبرا، وخوطب الدين بقوله: {وَلَقَدْ مَنَنََّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى ََ} [3]: فالأولى في عصر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والصّحابة، والأخرى هذه التي عتق فيها من رقّ الكآبة، فهو قد أصبح حرّا فالزمان كهيئته استدار، والحقّ بمهجته قد استنار، والكفر قد ردّ ما كان
__________
(1) قال ابن خلكان في وفيات الأعيان (ج 7ص 187): «وقد عمل عماد الدين الأصبهاني الكاتب رسالة في فتح القدس أيضا فلم أر التطويل بكتابتها فتركتها».
(2) سورة الأنبياء 21، الآية 105.
(3) سورة طه 20، الآية 37.(6/516)
عنده من المستعار، وغسل ثوب الليل بما فجّر الفجر من أنهار النّهار، وأتى الله بنيان الكفر من القواعد، وشفى غليل صدور المؤمنين برقراق ماء الموردات البوارد.
أنزل ملائكة لم تظهر للعيون اللاحظة، ولم تخف عن القلوب الحافظة، عزّت سيما الإسلام بمسوّمها، وترادف نصره بمردفها، وأخذت القرى وهي ظالمة فترى مترفيها كأن لم تؤو فيها، فكم أقدم بها حيزوم، وركض فاتّبعه سحاب عجاج مركوم، وضرب فإذا ضربه كتاب جراح مرقوم، وإلا فإنّ الحروب إنما عقدت سجالا، وإنما جمعت رجالا، وإنما دعت خفافا وثقالا، فإمّا سيوف تقاتل سيوفا، أو زحوف تقاتل زحوفا، فيكون حدّ الحديد بيد مذكّرا وبيد مؤنّثّا، ويكون السيف في اليد الموحّدة يغني بالضربة الموحّدة وفي اليد المثلّثة لا يغني بالضّرب مثلّثا، وذلك أنه في فئتين التقتا، وعدوّتين لغير مودّة اعتنقتا. وإن هذه النّصرة إن زويت عن ملائكة الله جحدت كراماتهم، وإن زويت عن البشر فقد عرفت قبلها مقاماتهم، فما كان سيف يتيقّظ من جفنه قبل أن ينبّهه الصّريخ، ولا كان ضرب يطير الهام قبل ضرب يراه الناظر ويسمعه المصيخ، فكم قرية كأنّها هجرة الموت وبها التاريخ، وكم طعنة تخّر لها هضاب الحديد ولها شماريخ.
والحمد لله الذي أعاد الإسلام جديدا ثوبه، بعد أن كان جديدا (1) حبله، مبيضّا نصره، مخضرّا نصله، متّسعا فضله، مجتمعا شمله. والخادم يشرح من نبإ هذا الفتح العظيم، والنصر الكريم ما يشرح صدور المؤمنين، ويمنح الحبور لكافّة المسلمين، ويكرّر البشرى بما أنعم الله به من يوم الخميس الثالث والعشرين من ربيع الآخر إلى يوم الخميس منسلخه وتلك سبع ليال وثمانية أيّام حسوما سخّرها الله على الكفّار {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهََا صَرْعى ََ كَأَنَّهُمْ أَعْجََازُ نَخْلٍ خََاوِيَةٍ} [2] ورايتها إلى الإسلام ضاحكة كما كانت من الكفر باكية، فيوم
__________
(1) حبل جديد: مقطوع، قال الشاعر (وافر) أبى حبّي سليمى أن يبيدا ... وأمسى حبلها خلقا جديدا
انظر لسان العرب مادة (جدد).
(2) سورة الحاقة 69، الآية 7.(6/517)
الخميس الأوّل فتحت طبريّة وفاض ريّ النصر من بحيرتها، وقضت على جسرها الفرنج فقضت نحبها بحيرتها. وفي يوم الجمعة والسبت كسر الفرنج الكسرة التي مالهم بعدها قائمة، وأخذ الله أعداءه بأيدي أوليائه أخذ القرى وهي ظالمة. وفي يوم الخميس منسلخ الشهر فتحت عكّا بالأمان، ورفعت بها أعلام الإيمان وهي أمّ البلاد، وأخت إرم ذات العماد، وقد أصبحت كأن لم تغن بالكفر وكأن لم تفتقر من الإسلام.
وقد أصدر هذه المطالعة وصليب الصّلبوت مأسور، وقلب ملك الكفر الأسير جيشه المكسور مكسور، والحديد الكافر الذي كان في الكفر يضرب وجه الإسلام، قد صار حديدا مسلما يفرّق خطوات الكفر عن الأقدام، وأنصار الصليب وكباره، وكلّ من المعمودية عمدته والدّير داره، قد أحاطت به يد القبضة، وأخذ رهنا فلا تقبل فيه القناطير المقنطرة من الذهب والفضّة، وطبريّة قد رفعت أعلام الإسلام عليها، ونكصت من عكّا ملّة الكفر على عقبيها، وعمّرت إلى أن شهدت يوم الإسلام وهو خير يوميها بل ليس من أيام الكفر يوم فيه خير، وقد غسل عن بلاد الإسلام بدماء الشّرك ما كان يتخلّلها فلا ضرر ولاضير، وقد صارت البيع (1) مساجدهم بها من آمن بالله واليوم الآخر، وصارت المناحر مواقف لخطباء المنابر، واهتزت أرضها لوقوف المسلمين فيها وطالما ارتجّت لمواقف الكافر، والبأس الإماميّ الناصريّ قد أمضى مشكاته (2) على يد الخادم حتّى بالدّنيّ في الكنائس، وإنّ عزّ أوّل الإسلام بحطّ تاج فارس، فكم حطّت سيوفه في هذا اليوم من تاج فارس! فأما القتلى والأسارى (3) فإنها تزيد على ثلاثين ألفا.
وأما فرسان الديوية والاستبارية فقد أمضى الله حكمه فيهم وقطع بهم
__________
(1) البيع: ج بيعة وهي الكنيسة ومتعبّد النصارى.
(2) المشكاة: المصباح، أو فتيلة المصباح المشتعلة أو الانبوبة في وسط القنديل.
(3) الأسارى: بضم الهمزة وفتحها: ج أسير، وهو المأخوذ قهرا.(6/518)
سيوف نار الجحيم، ووصّل الراحل منهم إلى الشقاء المقيم، وفتك بافرنس كافر الكفّار، ومشيّد النار، من يده في الإسلام كما كانت يد الكليم، وافترّت النّصرة عن ثغر عكّا بحمد الله الذي يسّر فتحها، وتسلّمتها الملّة الإسلامية بالأمان وعرفت في هذه الصّفقة ربحها.
وأما طبريّة فافترتها يد الحرب فأنهرت الحرب جرحها.
فالحمد لله حمدا لا تضرب عليه الحدود، ولا تزكّى بأزكى منه العقود، وكأنه بالبيت المقدّس وقد دنا الأقصى من أقصاه، وبلّغ الله فيه الأمل الذي علم أن يحصيه وأحاط بأجلّه وأقصاه، لكلّ أجل كتاب، وأجل العدّو هذه الكتائب الجامعة، ولكلّ عمل ثواب، وثواب من هدى لطاعته جنات نعيمه الواسعة، والله المشكور على ما وهب، والمسؤول في إدامة ما استيقظ من جدّ الإسلام وهبّ.
وقد توجه من جانبه الأمير رشيد الدين دام تأييده في إهداء هذه البشرى نيابة عن الخادم، ووصف ما يسّره الله لأوليائه من العزائم. والبلاد والمعاقل التي فتحت هي: طبريّة، عكّا، الناصرة، صفّوريّة، قيساريّة، نابلس، حيفا، معليا، القزلة، الطّور، الشّقيف، وقلاع بين هذه كثيرة. والولد المظفّر تقيّ الدين بصور وحصن تبنين. والأخ العادل سيف الدين نصره الله قد أوفت (؟) بالوصول من عنده من عنده من العساكر فينزل في طريقه على غزّة وعسقلان، ويجهّز مراكب الأسطول المنصور ويكثر عددها، ويسير بها إلى ثغر عكّا المحروس ويشحنها بالرجال ويوفّر سلاحها وعددها، والنهوض إلى القدس فهذا أوان فتحه ولقد دام عليه ليل الضّلال، وقد آن أن يستقرّ فيه الهدى مشكور الإحسان، إن شاء الله تعالى.(6/519)
الجملة الثانية (في المكاتبات الخاصّة، إلى خلفاء بني العباس)
قال أبو جعفر النحّاس (1): وقد يكاتب الإمام بغير تصدير إذا لم يكن ذلك في شيء من الأمور التي سبيلها أن تنشأ الكتب بها من الدواوين. كما كتب القاسم بن عبد الله إلى المكتفي (2) مهنّئا له بالخلافة:
بسم الله الرحمن الرحيم، والسّلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله أن يعظّم بركة هذا الأمر على أمير المؤمنين وعلى الأمّة كافّة.
قال: والمستعمل في هذا الوقت في مكاتبة الوزير الإمام:
أطال الله بقاء أمير المؤمنين! وأعزّه وأيّده، وأتمّ نعمته عليه، وأدام كرامته له.
ثم قال: وربما استحسنت مكاتبة المرؤوس إلى الرئيس على غير ترتيب الكتاب. كما كتب إبراهيم بن أبي يحيى إلى بعض الخلفاء يعزّيه:
أما بعد، فإنّ أحقّ من عرف حقّ الله عليه فيما أخذ منه، من عظم حقّ الله عليه فيما أبقاه له، واعلم أن أجر الصابرين فيما يصابون أعظم من النّعمة عليهم فيما يعافون فيه.
الطرف الخامس (في المكاتبات الصادرة إلى الخلفاء الفاطميين بالديار المصرية)
قد ذكر في «موادّ البيان» أنّ المستعمل في دولتهم أن يقال بعد البسملة:
أفضل صلوات الله وبركاته، وأشرف رضوانه وتحيّاته، على مولانا وسيدنا الإمام
__________
(1) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 1من ص 202من هذا الجزء.
(2) هو علي بن أحمد المعتضد بالله، الملقب المكتفي بالله، بويع في اليوم الذي كانت فيه وفاة أبيه المعتضد سنة 289هـ، وتوفي سنة 295هـ انظر مروج الذهب (ج 4ص 309) ووفيات الأعيان (ج 6ص 429).(6/520)
الفلاني أمير المؤمنين، وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين إن كان له أبناء فإن لم يكن له أبناء قيل مكان الأكرمين: المنتظرين. ثم يقال بعد فضاء واسع: كتب عبد الموقف النبويّ خلّد الله ملكه، من مقرّ خدمته بناحية كذا، وأمور ما عذق (1) به وردّ إلى نظره منتظمة بسعادة مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى جدّه والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وسلّم تسليما. ثم يقال: العبد ينهي كذا وكذا ينص الأغراض التي بني الكتاب على إنهائها وشرح حالها. قال: فإن كان الكتاب مبنيّا على المطالعة ببعض الأخبار، قيل في آخره بعد فضاء يسير: «أنهى العبد ذلك ليستقرّ علمه بالموقف الأشرف» إن شاء الله تعالى. وإن كان مبنيّا على الاستثمار في بعض الأحوال، قيل في هذا الموضع: «ولمولانا أمير المؤمنين صلّى الله عليه الرأي العالي في ذلك» إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة كتاب من هذا النمط في جواب عن كتاب ورد من الخليفة بالسؤال عن المكتوب عنه في مرضه، وهو:
صلوات الله الزّاكية، وتحيّاته الذّكية الذّاكية، وسلامه الذي يتنزّل على الرّوح بالرّوح، ويؤذن من رضا الله بأشرف موهوب وأكرم ممنوح، وبركاته التي فيها للمؤمنين سكن، وبشفاعتها تتقبّل أعمال المؤمن بقبول حسن على إمام الحقّ المنظور المغني عن المنتظر، وحجّة الله التي أرسلها نذيرا للبشر، وخليفة الله الذي نزلت بمدحه مرتّلات السّور، قبل مرتّبات السّير، وبعثه الله بالنّور الذي لا يمكّن الكافر من إطفائه، وبرهان الله الذي لا يطمع الجاحد في إخفائه، ونائب النبوّة ووارثها، ومحيي القلوب وباعثها، ومفيض أسرار الأنوار ونافثها، سيدنا ومولانا الإمام الفلاني، ولا زالت الأقدار له جنودا وجدودا،
__________
(1) في الأصول: «عدق» بالدال، والصحيح، بالذال والمعنى: ما أنيط به.(6/521)
والجديدان يسوقان إليه من أيّامهما ولياليهما إماء وعبيدا، وعلى آبائه الذين سبقت لهم من ربهم الحسنى، ورغبوا عن عرض هذا الأدنى ولا تتهم ولاتهم على الخيان، ولا يتمّ للثقلين أن ينفذوا ما لم يكونوا منهم بسلطان وعلى أبنائه وجوه الهدى البارزة من الأكنّة، وأيدي النّدى والأعنّة والأسنّة.
كتب عبد الموقف النبويّ خلّد الله ملكه من مقرّ خدمته بالمكان الفلاني، وأمور ما عدق به وردّ إلى نظره على أتمّ حال وأكمله، وأحسن نظام وأجمله بسعادة مولانا أمير المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى جدّه وآبائه الطاهرين.
العبد ينهي أنه لو أخذ في شكر المنن التي ترقّيه في كل يوم لهضاب بعيدة المرتقى، وتورده جمّات قريبة المستقى، وتوجب على لسانه أن يبذل جهد من استرسل وعلى قلبه أن يبذل جهد من اتقى لقصر به الوصف، وأعياه من ورق الجنّة الخصف (1). وكيف يجاري من يده ديمة الله بقلمه؟ أو كيف ينزح بحر الجود الذي يمدّه سبعة أبحر نعمه؟ ولما ورد عليه التشريف بالسؤال الذي أحياه بنسيم روحه، ونفخ فيه من روحه، فوقع له ساجدا، وثاب إلى السجود عائدا، وبذل مع ضراعته الابتهال جاهدا، وأخلص فرض الولاء معتقدا ورفع لواء الحمد عاقدا، وكشف عنه الضّرّ، وأطلعت على وجهه النّعم الغرّ، وتكافت الأنداد في محل عيشه فحلي الحلو ومرّ المرّ، وانتهى من الدعوات إلى ما انتهى به المرض، وتفلل منه الجوهر الذي عزل به العرض، وصافح بمهجته السّهام التي نفذ بها الغرض، وكاد يشاهده مرتفعا به الضّنى والألم، وفعلت أنواره في ظلمته ما لا تفعل الأنوار في الظّلم، ولم يرد قبله حلو الأوّل والآخر، مأمون الموارد والمصادر، مضمون الشّفاء في الباطن والظاهر، عادت القلوب على الأجسام بفضله، وسطت العافية على الأسقام بفضله بل بفضله، والله سبحانه يملّكه أعناق البلاد، كما أجرى على يديه أرزاق العباد، إن شاء الله تعالى. وكتب في يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا.
__________
(1) يقال: خصف العريان الورق على بدنه إذا ألصقه وأطبقه عليه ورقة ورقة ليستر عورته.(6/522)
الطرف السادس (في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم إلى خلفاء بني أمية بالأندلس)
وكانت المكاتبة إليهم بالافتتاح بالدعاء بطول البقاء، مع الإطناب في الإطراء في شأن الخليفة ومدحه والثناء عليه والدعاء له، والخطاب فيه للخليفة بأمير المؤمنين منعوتا بمولاي وسيدي ونحو ذلك، والتعبير عن المكتوب عنه بلفظ الوحدة من تاء المتكلم ونحوها. كما كتب أبو المطرّف بن المثنّى من إنشائه عن المنصور (1) إلى هشام (2) بن الحكم يخبره بجريان الصّلح بينه وبين الموفّق، بعد ما كان بينهما من عداوة:
أطال الله بقاء أمير المؤمنين! مولاي وسيدي وسيد العالمين، وابن الأئمة الراشدين، عزيزا سلطانه منيرا زمانه، سامية أعلامه، ماضية أحكامه، ظاهرا على من ناواه قاهرا لمن عاداه، كما يحبّ أيد الله أمير المؤمنين مولاي وسيّدي على أحسن ما يكون عليه.
العبد المخلص والمولى المتخصّص، الذي حسن مضمره واستوى سرّه
__________
(1) هو محمد بن أبي عامر، استوزره خليفة الأندلس الحكم المستنصر، وفوّض إليه أموره وأصبح حاجبه، فعظم أمره وغلب على المؤيّد، وبنى لنفسه مدينة الزاهرة، وأمر أن يحيّا بتحية الملوك. غزا بلاد الافرنج ستا وخمسين غزوة لم تنتكس له فيها راية فسمّي بالحاجب المنصور. ولم يبق لهشام المؤيد من رسوم الخلافة اكثر من الدعاء على المنابر. توفي المنصور سنة 394هـ. انظر نفح الطيب (ج 1ص 399396، 407، 591). و (ج 3ص 9485) والبيان المغرب (ج 2 ص 272256).
(2) هو خليفة الأندلس أبو الوليد هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر، ابن صبح البشكنسية، ولي الحكم بعد أبيه في سنة 366هـ، وهو ابن إحدى عشرة سنة وثمانية أشهر، وذهب المقري إلى انه ولي الحكم وسنّه تسع سنين، ثم خلع سنة 399هـ فكانت خلافته الأولى، إلى أن قامت الفتنة البربرية المبيرة، ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر وعشرة أيام وفي الخلافة الثانية سنتين وعشرة أشهر، من سنة 400هـ إلى سنة 403هـ حيث كانت وفاته. البيان المغرب (ج 2ص 256253) ونفح الطيب (ج 1ص 396).(6/523)
وجهره، ولاح استبصاره وجدّه، وتناهى سعيه وجهده في مضمار الجري إلى الطاعة، وبذل إذعانه وانقياده، واستعبد إمكانه وإجهاده، فيما يفي بتمكين الإمامة المهديّة، والخلافة المرضيّة، ويشدّ مباني المملكة المصدّقة لتباشير اليمن والبركة، والله سبحانه وليّ العون والتأييد، والمليّ بالتوفيق والتسديد، لا ربّ غيره.
وبعد أبقى الله أمير المؤمنين فإن كتابي إليه سلف معربا عن النّزغة التي كانت بيني وبين الموفّق مملوكه، وقديما نزغ الشيطان بين المرء وصديقه، والأخ وشقيقه، وضرب ساعيا بالتّشتيت والتشغيب، والتبعيد والتقريب بين الأب الحاني الشفيق، والابن البرّ الرفيق، ثم يعود ذوو البصائر والنّهى، وأولوا الأحلام والحجا، إلى ما هو للشّحناء أذهب، وبالتجامل أولى وأوجب.
وكتابي هذا وقد نسخ الله بيننا آية الافتراق، بالاتصال والاتفاق، ومحاسمة التباين والخلاف، وبدوّ التآلف والإنصاف، وعادت النفوس إلى صفائها، وانطوت على وفائها، وخبت نار الفتنة، وامتدّ رواق الهدنة، وثبتت الأسباب الراسخة، والأواصر العاطفة بأزمّة قلوبنا إلى معاهد الخلّة القديمة، ومواطن العشرة الكريمة، والمعروف من الامتزاج في كلّ الأحوال والتشابك وجلاء الشك باليقين، وقرّت بالانتظام العيون، وصرنا في القيام بدعوة أمير المؤمنين مولانا وسيدنا رضيعي لبان، وشريكي عنان، وأليفي تناصر، وحليفي تظافر، فنحن عن قوس واحدة في نصرتها نرمي، ومن ورائها نذود جاهدين ونحمي، قد فتنا الجياد في السّبق إلى الطاعة، وأحرزنا قصب السبق في المظاهرة والمشايعة، فما نفتأ نسعى في تمهيدها ونذهب، ولا ننفكّ نكدح لها وننصب، والله الكفيل بإنجادنا بعزّته وقدرته، وحوله وقوّته لا إله إلّا هو.
وإن الذي عقده الله تعالى لنا، وحسمه من دواعي القطيعة عنّا، ما اطّرد وتأتّى، وسنح وتهيّا إلا بسعد طائر أمير المؤمنين سيدنا ومولانا أعزه الله، ويمن نقيبته، فمن تمسّك بعروته وعاذ بعصمته، فقد فاز قدحه، وتبلّج في ظلم الأمور صبحه، واستدلّ بأوضح الدليل، وعرض بالرأي الأصيل، واستنار بأضوإ
سراج، وسلك على أقصد منهاج ولم يزايل الرّشاد آراءه، وصاحب السّداد أنحاءه. والله، تقدّس اسمه، لا يزال يعرّفنا من سعادة الدعوة الزكية ما يصلح به أحوالنا، ويفسح به آمالنا، بمنّه.(6/524)
وإن الذي عقده الله تعالى لنا، وحسمه من دواعي القطيعة عنّا، ما اطّرد وتأتّى، وسنح وتهيّا إلا بسعد طائر أمير المؤمنين سيدنا ومولانا أعزه الله، ويمن نقيبته، فمن تمسّك بعروته وعاذ بعصمته، فقد فاز قدحه، وتبلّج في ظلم الأمور صبحه، واستدلّ بأوضح الدليل، وعرض بالرأي الأصيل، واستنار بأضوإ
سراج، وسلك على أقصد منهاج ولم يزايل الرّشاد آراءه، وصاحب السّداد أنحاءه. والله، تقدّس اسمه، لا يزال يعرّفنا من سعادة الدعوة الزكية ما يصلح به أحوالنا، ويفسح به آمالنا، بمنّه.
ولما أتاح الله من السّلم ما أتاحه، وأزاح من المكروه ما أزاحه، لم أجد فيّ فسحة ولا غنى ولا سعة، من إطلاع أمير المؤمنين مولاي وسيدي من ذلك على الجليّة، وإعلامه بالصورة، فأنهضت إلى حضرته العالية ذا الوزارتين عبد الرحمن بن مطروح رسولي وعبدي وخاصّتي مملوكه لينهي إليه الحال على حقيقتها، ويوفّيها بكلّيتها، وأقرن به رسول الموفّق، متحملا مثل ما تحمّله رسولي، ومتقلّدا كالذي تقلّده، ولأمير المؤمنين مولاي وسيدي الفضل العميم في الإصغاء إليهما، والوعي عنهما، والسماع منهما جميع ما يوردانه ويوضّحانه، ويستوفيانه ويشرحانه، والتطوّل بالمراجعة فيه، بما يستوجبه ويقتضيه، واصلا لعزّ مننه وأياديه إن شاء الله تعالى.
الطرف السابع (في المكاتبة الصادرة إلى خلفاء الموحّدين بالمغرب، القائم بقاياهم الآن بتونس وما معها من سائر بلاد أفريقيّة. وفيه ثلاثة أساليب)
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بالدعاء، وهي على ضربين)
الضرب الأوّل (أن تكون المكاتبة من ملك آخر)
والرسم فيه أن تفتتح بالدعاء المناسب للحال، ويعبّر المكتوب عنه عن نفسه بنون الجمع ويخاطب المكتوب إليه بأمير المؤمنين. كما كتب القاضي (1)
__________
(1) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 2من ص 490.(6/525)
الفاضل عن السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» إلى المنصور يعقوب (1) بن يوسف بن عبد المؤمن، أحد خلفائهم في سنة خمس وثمانين وخمسمائة، يستجيشه على الروم الفرنج القاصدين بلاد الشام والديار المصرية، وهو:
فتح الله بحضرة سيدنا أمير المؤمنين، وسيد العالمين، وقسيم الدنيا والدّين، أبواب الميامن، وأسباب المحاسن، وأحلّه من كفايته في الحرم الآمن، وأنجزه من نصرة الحق ما الله له ضامن، وأصلح به كلّ رأي عليه الهوى رائن، ومكّن له في هذه البسيطة بسطه، وزاده بالعلم غبطه، حتّى يكون للأنبياء بالعلم وللأرض بالعزم وارثا، وحتّى يشيّد بحادث قديما من مجده الذي لا يزال بغضّ الحديث حادثا.
كان من أوائل عزمنا وفواتح رأينا عند ورودنا الديار المصرية مفاتحة دولة سيدنا، وأن نتيمّن بمكاتبتها، ونتزيّن بمخاطبتها، وننهض إليها أماثل الأصحاب، ونستسقي معرفتها استسقاء السّحاب، وننتجعها بالخواطر ونجعل الكتب رسلها، وأيدي الرسل سبلها، ونمسك طرفا من حبل الجهاد يكون بيد حضرة سيدنا العالية طرفه، ونمسح غرّة سبق وارثها ووارث نورها سلفه، ونتجاذب أعداء الله من الجانبين، لا سيما بعد أن نبنا عنه نيابتين في نوبتين فالأولى تطهير الأرضين المصريّة واليمنيّة من ضلالة أغضت عيون الأيّام على قذاها، وأنامت عيون الأنام بائعة يقظتها بكراها، ونيابة ثانية في تطهير بيت المقدس ممن كان يعارض برجسه تقديسه، ويزعج ببناء ضلاله تأسيسه، وما كان إلا جنّة إسلام فخرج منها المسلمون خروج أبيهم آدم من الجنّة، وأعقبهم فيها
__________
(1) هو صاحب المغرب والأندلس أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، ثالث خلفاء الموحدين. ولي الحكم بعد أبيه يوسف سنة 580هـ، وقام بالأمر أحسن قيام، وأحسن السيرة في الناس. توفي سنة 595هـ. وبذلك تكون ولايته خمس عشرة سنة. انظر تاريخ ابن الأثير (ج 11 ص 505) و (ج 12ص 57، 116113، 145) وصفحات أخرى متفرقة.(6/526)
إبليس الكفر وما أجارته مما أعقبه اللّعنة، وما كانت لنا بذلك قوّة بل لله القوّة، ولا لنا على الخلق منّة بل لله المنّة.
ولما حطّت لدين الكفر تيجان، وحطّمت لذويه صلبان، وأخرس الناقوس الأذان، ونسخ الإنجيل القرآن، وفكّت الصخرة من أسرها، وخفّ ما كان على قلب الحجر الأسود بخفّة ما كان على ظهرها وذلك أن يد الكفر غطّتها وغمرتها، فلله الحمد أن أحرمت الصخرة بذلك البنيان المحيط، وطهّرها ماطر من دم الكفر وما كان ليطهّرها البحر المحيط، فهنالك (1) غلب الشرك وانقلب صاغرا، واستجاش كافر من أهله كافرا، واستغضب أنفاره النافرة، واستصرخ نصرانيّته المتناصرة، وتظاهروا علينا وإنّ الله مولانا، وطاروا إلينا زرافات ووحدانا، فلم يبق طاغية من طواغيهم، ولا أثفيّة (2) من أثافيهم، إلا ألجم وأسرج، وأجلب وأرهج، وخرج وأخرج، وجاد بنفسه أو بولده، وبعدده وبعدده، وبذات صدره وبذات يده، وبكتائبه برّا، وبمراكبه بحرا، وبالأقوات للخيل والرّجال، والأسلحة والجنن لليمين والشّمال، وبالنقدين على اختلاف صنفيهما في الجمع، وائتلاف وصفيهما في النّفع، وأنهض أبطال الباطل، من فارس وراجل، ورامح ونابل، وحاف وناعل، ومواقف ومقاتل، كلّ خرج متطوّعا، وأهطع (3) مسرعا، وأتى متبرّعا، ودعا نفسه قبل أن يستدعى، وسعى إلى حتفها قبل أن يستسعى، حتّى ظننّا [أنّ] في البحر طريقا يبسا، وحتّى تيقّنّا أن ما وراء البحر قد خلا وعسا، وقلنا: كيف نترك، وقد علم أنه يدرك، وزادت هذه الحشود المتوافية، وتجافت عنها الهمم المتجافية، وكثرت إلى أن خرجت من سجن حصرها، ومستقرّ كفرها، وبقيّة ثغرها وهو صور فنازلت ثغر عكّا في أسطول ملك بحره، وجمع سلك برّه فنهضنا إليه، ونزلنا عليهم وعليه،
__________
(1) فهنالك: لعلها جواب شرط «لما» في قوله في أول الفقرة: «ولما حطّت» حاشية الطبعة الأميرية.
(2) الأثفيّة: العدد الكثير أو الجماعة.
(3) يقال: أهطع فلان في عدوه: أسرع.(6/527)
فضرب معنا مصافّ قتّلت فيه فرسانه، وجدّلت شجعانه، وخذلت صلبانه، وساوى الضرب بين حاسر القوم ودارعهم، وبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، فهنالك لاذوا بالخنادق يحفرونها، وإلى الستائر ينصبونها، وأخلدوا إلى الأرض متثاقلين، وحملوا أنفسهم على الموت متحاملين، وظاهروا بين الخنادق، وراوحوا بين المجانق (1)، وكلما يجنّ القتل من عددهم مائة أوصلها البحر ممن يصل وراءه بألف، وكلّما قلّوا في أعيننا في زحف، قد كثروا فيما يليه من الزّحف، ولو أن دربة عساكرنا في البحر كدربتها في البر، لعجّل الله منهم الانتصاف واستقلّ واحدنا بالعشرة ومائتنا بالألف. وقد اشتهر خروج ملوك الكفّار في الجمع الجمّ، والعدد الدّهم، كأنّهم إلى نصب يوفضون، وعلى نار يعرضون، ووصولهم على جهة القسطنطينية يسّر الله فتحها على عزم الائتمام إلى الشام في منسلخ الشتاء ومستهلّ الصيف، والعساكر الإسلامية لهم تستقبل، وإلى حربهم تنتقل، فلا يؤمن على ثغور المسلمين أن يتطرّق العدوّ إليهم وإليها، ويفرغ لها ويتسلّط عليها، والله من ورائهم محيط. وإذا قسمت القوّة على تلقّي القادم وتوقّي المقيم، فربّما أضرّ بالإسلام انقسامها، وثلمه والعياذ بالله انثلامها.
ولما مخض النظر زبده، وأعطى الرأي حقيقة ما عنده، لم نر لمكاثرة البحر إلا بحرا من أساطيله المنصورة فإنّ عددها واف، وشطرها كاف، ويمكنه أدام الله تمكينه أن يمدّ الشام منه بعدّ كثيف، وحدّ رهيف، ويعهد إلى واليه أن يقيم إلى أن يرتبع ويصيف، ويمكنه أن يكفّ شطرا لأسطول طاغية صقلّيّة ليحصّ جناح قلوعه أن تطير، ويعقل عباب بحره أن يغير، ويعتقله في جزيرته، ويجري إليه قبل جريرته، فيذهب سيدنا وعقبه بشرف ذكر لا تردّ به المحامد على عقبها، ويقيم على الكفر قيامة يطلع بها شمس النصر من مغربها، فإذا نفذ طريقه وعلم الناس بموفده، أوردوا وأصدروا في مورده، وشخص
__________
(1) المجانق: ج منجنيق: وهي آلة ترمى بها الحجارة، مؤنثة وقد تذكّر.(6/528)
المسلم والكافر: هذا ينتظر بشرى البدار، وهذا يستطلع لمن تكون عقبى الدار، وخاف وطأة من يصل من رجال الماء من وصل من رجال النار. ولو بزقت عليهم بازقة غربيّة لأغرقهم طوفانها، ولو طلعت عليهم جارية بحريّة لنعقت فيهم بالشّتات غربانها.
وما رأينا أهلا لهذه العزمة إلا حضرة سيدنا أدام الله صدق محبة الخير فيه، إذ كان (1) منحه عادة في الرضى به وقدرة على الإجابة، ورغبة في الإنابة، ولاية لأمر المسلمين، ورياسة للدّنيا والدين، وقياما لسلطان التوحيد القائم بالموحّدين، وغضبا لله ولدينه، وبذلا لمذخوره في الذبّ عنه دون ما عوده، والآن فقد خلا الإسلام بملائكته، لما خلا الكفر بشياطينه، وما أجّلت السوابق إلا لإطلاقها، ولا أثّلت الذخائر إلا لإنفاقها، وقد استشرف المسلمون طلوعها من جهته المحروسة جارا من الأساطيل تغشى البحار، وليالي من المراكب تركب من البحر النّهار، وإذا خفقت قلوعها خفقت للقلاع قلوب، وإذا تجافت جنوبها عن الموج تجافت من الملاعين جنوب، فهي بين ثغر كفر تعتقله وتحصره، وبين ثغر إسلام تفرّج عنه وتنصره، يكون بها مصائب عند المسلمين (؟) وتظل قلائد المشركين لغربان بحره طرائد، ويمضي سيف الله الذي لا يعدم في كل زمان فيعلم معه أنّ سيف الله خالد، أعزّ الله الإسلام بما يزيد حضرة سيدنا من عزّها، فيما مدّ عليها من ظلها، وبما يسكنه من حرزها، فيما يبسط على الأعداء بها من بأسها وينزل بهم من رجزها، وبما يجرّده من سيوفها التي تقطع في الكفر قبل سلّها وهزها.
وقد أوفدناه على باب حضرة سيدنا، وهو الداعي المسمع، والمبلّغ المقنع، والمجمع المستجمع، علمناه أمرا يسرا، وبوأناه الصدر فكان وجها، وأودعناه السّرّ فكان صدرا.
__________
(1) كذا في الأصول. حاشية الطبعة الأميرية.(6/529)
الضرب الثاني (أن تكون المكاتبة صادرة عن بعض الأتباع)
والرسم فيه أن تفتتح المكاتبة بالدعاء بطول البقاء، مثل أن يكتب أحد أتباعه إليه، ويعبّر المكتوب عنه عن نفسه بلفظ الإفراد، وعن الخليفة بأمير المؤمنين. كما كتب أبو الميمون عن بعض أهل دولتهم إلى بعض خلفائهم جواب كتاب ورد بالكشف عن عامل ثغر شقورة (1):
«أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وناصر الدين والدنيا بفضله العميم، ولا برحت مصالح العباد بباله الكريم جائلة ماثلة، وسيرته الحميدة لدانيهم وقاصيهم شاملة كافلة، ولا زال لله في أرضه بالقسط قائما، وعلى ما ينفع الناس محافظا دائما.
كتبته أيّد الله أمره! صدر جمادى الأولى، سنة أربع وعشرين وخمسمائة، بعد امتثال ما حدّه، والانتهاء إلى ما وجب الانتهاء عنده، من أمر ثغر شقورة حرسه الله! على ما أنصّ مناقله، وأعرض مراتبه ومنازله وذلك أن كتابه العزيز وافاني على يد رجل من أهلها فيه فصول رفعها، وأحاديث سطّرها وجمعها، واندرج الكتاب المرفوع بذلك طيّه، لينظر إليه من ادّعى عليهم رفعه، ويستبين حقيقته أو وضعه، وبإبطاء هذا الرافع سبقته الأنباء، واستقرّت عند جمعها الأفراض والأنحاء، فاجتمعوا إلى عاملهم فلان وفّقه الله، وحضرهم حاكم الجهة أبقاه الله، وتتّبعوا تلك الوجوه بالردّ لها، والإنكار على القائم بها، وعقدوا في كل عقد منها عقدا يناقضه، واستظهروا بشهادات تنافيه وتعارضه، واندرجت العقود، ثابتة في كتاب الحاكم على السبيل المعهود في إثبات العقود، فثبتت عندي لثبوتها عنده، وخاطبوني مع ذلك متبرّين من هذا الرافع،
__________
(1) شقورة، بفتح الشين وضم القاف: مدينة بالأندلس شمالي مرسية. وبها كانت دار إمارة ابن همشك الثائر في تلك النواحي. معجم البلدان (ج 3ص 355).(6/530)
واضعين له في عقله ودينه بأحطّ المواضع، وصرّحوا بارتضائهم بسيرة عاملهم واغتباطهم بحمايته وسداد نظره، وعلى تئفّة (1) ذلك وصل هذا الرافع بالكتاب العزيز وما اندرج طيّه على ما قدّمت ذكره، فاستأنفت النظر، وأعدت العمل، وخاطبت الحاكم والأعيان والكافّة هنالك بما ورد في أمرهم، وأردفت الكتاب المرفوع ليقفوا على نصّه، وينظروا إلى شخصه، فراجعوني أنّه لا مزيد عندهم على ما قدّموه، ولا خلاف فيما نقدوه وأحكموه، وأحالوا على ما تثبت به العقود، وهي من الناس المقاطع والحدود، فاقتضى النظر إعلام أمير المؤمنين وناصر الدين أعلى الله أمره، حسب ما حدّه، بما وقعت عليه الحال، ليرتفع الإشكال، ولا يتعلق بهذه الحيبة (2) البال. وقد أدرجت إلى حضرته السامية الكتب المذكورة لتعرض عليها، وتستقرّ الجليّة منها لديها، إن شاء الله.
واندرجت العقود إلى الفقيه فلان قاضي الحضرة وفقه الله، والله يشكر لأمير المؤمنين وناصر الدين تحرّيه واجتهاده، وتوفيقه وسداده، ويوالي من والاه، ويكيد من عاداه. ولو كانت الحال بشقورة على ما صوّره هذا الرافع لما انطوت عنّي أسرارها، ولا [خفيت عليّ] على البعد أخبارها، وسفوف (3) إلى فلانة بيّن، وهو متشرّع متديّن، وعضده على ما هو بسبيله في ذلك الثغر متعيّن، والله ييسّر الجميع إلى ما يقضي حقوق النعمة، ويقيم فروض الخدمة، بعونه وقدرته!.
__________
(1) على تئفّة ذلك: أي على أثره أو على القرب من وقته.
(2) بهذه الحيبة: بهذه الحالة.
(3) كذا في الأصول وعليه علامة توقف، ولعله «وتعفف والي فلانة الخ» والمراد براءته مما نسب إليه.
حاشية الطبعة الأميرية.(6/531)
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة بألقاب الخليفة نفسه ثم يؤتى بالصدر معبّرا عن المكتوب عنه بالعبد، ومخاطبا للخليفة بميم الجمع للتعظيم، ويختم الكتاب بالسلام، وهو على ضربين)
الضرب الأوّل (أن يوصف الخليفة بالمقام)
كما كتب أبو الميمون أيضا عن بعض أهل دولتهم إلى الناصر لدين الله أحد خلفائهم:
المقام الأعلى، المقدّس، المكرّم، الإماميّ، الطاهر، الزّكيّ، مقام الخليفة المؤيّد بنصر الله، الإمام «الناصر لدين الله» كلأ الله جلالهم، وفيّأ ظلالهم، وبوّأ وفود السّعود ووجود الظهور والصّعود مواطئهم المقدّسة وحلالهم، عبدهم المتقلّب في نعمتهم، المتقرّب إلى الله عزّ وجلّ بالمناصحة في خدمتهم، المتسبّب إلى الزّلفى (1) عندهم بالتزام طاعتهم، والاعتصام بعصبتهم، فلان.
كتب عبد المقام الأعلى، والنّديّ الذي أسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان واحتوى على الفضائل واستولى، من موضع كذا حماه الله تعالى، وجنانه لطاعتكم قطب، ولسانه بشكر نعمتكم رطب، فبتلك رجاء الفوز، وبها ابتغاء نيل الآمال والحوز، وكيف لا يطاوعه الجنان، وشكر اللسان مستمدّ لإدرار الإحسان، وللمقام الأسنى عوارف، لا يتقلّص ظلّها الوارف، وقطرات بالرحمة مسطّرات بمدرار سحابها الواكف وقد كانت للعبد سهام، فاضت عليه بها من النعمة رهام، ثم جزر الماء باسترجاعها الآن، وسقي العبد بانتزاعها كأس الحزن ملآن، وردت لك بهذه الجهة انقطاع المواساة، وامتناع الألسن
__________
(1) الزلفى: القربة والمنزلة.(6/532)
بالمكابدة لشظف العيش والمقاساة، وإلى المقام الأعلى الأسنى نفزع حين نفزع، ونذهب حين نرجو ونرهب، ونلجا فلا تؤخر طلباتنا ولا ترجا، وخدمة العبد هذه تنوب عنه في تقبيل ذلك المقام الأسمى، والتعرّض لما عهد لديه من نفحات الرضى، والتضرّع في إدرار ما جزر من تلك المنّة، وغيض من فيض تلك النعمى، وينهي من رغبته في بركة تلك الأدعية، التي هي للخيرات كالأوعية، ما يرجوه بشفاعة تأكّد الامتنان، ومجرّد عوارف الرأفة والحنان، إن شاء الله تعالى.
والرب تعالى يبقي المقام الأعلى، والنصر له مظاهر، والخير لديه متظاهر، والسعد لوليّه ناصر، ولعدوّه قاهر، بحول الله تعالى وقوّته لا ربّ غيره، ولا خير إلا خيره، والسّلام.
الضرب الثاني (أن يعبّر عن الخليفة بالحضرة)
كما كتب أبو المطرّف بن عميرة (1) عن صاحب أرغون (2) من الأندلس إلى المستنصر بالله أحد خلفائهم، يستأذنه في وفادة صاحب أرغون من الأندلس أيضا على أبواب الخلافة مغاضبا لأهل مملكته:
الحضرة الإماميّة المنصورة الأعلام، الناصرة للإسلام، المخصوصة من
__________
(1) هو الإمام الأديب الكاتب القاضي أحمد بن عبد الله بن محمد بن الحسين بن أحمد بن عميرة المخزومي. كان في الكتابة فارسها الذي لا يجارى، وكان قدوة البلغاء وعمدة العلماء. فارق الأندلس وقدم تونس فأحضره أمير المؤمنين المستنصر بالله الحفصي مجالس أنسه حتى تغلب على أكثر أمره. ولد بجزيرة شقر من كورة بلنسية سنة 582هـ، وقيل: سنة 580هـ. وتوفي بتونس سنة 658هـ. انظر الذيل والتكملة (السفر الأول القسم الأول ص 180150) ونفح الطيب (ج 1 ص 321313) و (ج 3ص 488).
(2) أرغون أو أراجون، بفتح الهمزة والراء معا. وقد ذكرها ياقوت «أركون» بفتح الهمزة وسكون الراء وقال: كان حصنا منيعا بالأندلس من أعمال شنتمريه، والمقصود شنتمرية الشرق وليس شنتمرية الغرب. معجم البلدان (ج 1ص 154).(6/533)
العدل والإحسان بما يجلو نوره متراكم الإظلام، حضرة سيدنا ومولانا الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين، أبي يعقوب ابن سادتنا الخلفاء الراشدين، وصل الله لها إسعاد القدر، وإنجاد النصر والظّفر، ولا زال مقامها الأعلى سامي النظر، مبارك الورد والصّدر، ويفيض منه الجود، فيض المطر، ويحيط به السّعود، إحاطة الهالة بالقمر.
نشأة أيامها الغرّ، وربيّ إنعامها المواظب على الحمد والشكر، المشرّف باستخدامها الذي هو نعم العون على التقوى والبر، عبدها وابن عبدها فلان.
سلام الله الطيب المبارك وتحيّاته، تخص المقام الأشرف الأعلى ورحمة الله وبركاته. وبعد، فكتب العبد كتب الله للمقام الأعلى فتوحا يعمّ جميع الأمصار، وسعودا يقضي بفلّ السّمر الطوال والبيض القصار من بلنسية (1)، وبركاته تظهر ظهور النهار، وتفيض على البلاد والعباد فيض الأنهار، فالخلق من وارد في سلسالها المعين، وراج للذي منها وهو من رجائه على أوضح مراتب اليقين، والله يبقي عزّ الإسلام ببقائه، ويعيننا على امتثال أوامره المباركة معشر عبيده وأرقائه! بمنه.
وقد تقرّر له من المقام الكريم أدام الله علوّه، وكبت عدوّه، أمر بالسك (2) وطال ماله في البلاد الأرغونية من زعامة في شأوها برّز، ولغايتها أحرز، وكان قد كفل صاحب أرغون في الزمان المتقدّم كفالة دار أمرها عليه، وألقي زمامها إليه، وتفرّد منها بعبء وحمله، وخطّة بلغ منها أمله، ثم إنه حطّ من رتبته، وتأكدت المبالغة في نكبته لقضيّة عرضت له من أهل أرغون، فلفظته تلك الجنبات، وأزعجه أمر لم يمكنه عليه الثّبات، ورأى أن يلجأ بحاله
__________
(1) بلنسية مدينة مشهورة بالأندلس، تقع شرقي تدمير وشرقي قرطبة، بينها وبين البحر فرسخ. انظر معجم البلدان (ج 1ص 491490).
(2) كذا في الأصول بالإهمال وعليه علامة التوقف، ولم نهتد إليه. حاشية الطبعة الأميرية.(6/534)
إلى المقام الباهر الأنوار، العزيز الجوار، فواصل هذا الموضع قبل مقدم العبد عليه، مقرّرا ما نزل به، ومستأذنا في الوجه الذي تعرّض لطلبه، فأذن له في مقصده، وانصرف عن التأهّب للحركة من بلده. ثم لما وصل العبد هذه الجهة وفرغ هو من شأنه أقبل متوجّها إلى الباب الكريم، ومتوسّلا بأمله إلى فضله العميم، والظاهر من حنقه على أهل أرغون وشدّه عداوته لهم، وما تأكّد من القطيعة بينه وبينهم، أنه إن صادف وقت فتنة معهم ووجد ما يؤمّله من إحسان الأمر العالي، أيّده الله، فينتهي من نكايتهم والإضرار بهم إلى غاية غريبة الآثار، مفضية به إلى درك الثار، وكثير من زعماء أرغون ورجالها أقاربه وفرسانه، وكلّهم في حبله حاطب، ولإنجاده متى أمكنه خاطب، وللمقام الكريم أعلى الرأي فيه أبقاه الله شافيا للعلل، وكافيا طوارق الخطب الجلل، مأمولا من ضروب الأمم وأصناف الملل، وهو سبحانه يديم سعادة جدّه، ويخصّه من البقاء الذي يسرّ أهل الإيمان ويضاعف بهجة الزمان بأطوله وأمدّه، والسّلام.
الأسلوب الثالث (أن تفتتح المكاتبة بأوصاف الخلافة والثناء عليها، والخطاب فيه بأمير المؤمنين وعن المكتوب عنه بنون الجمع)
وهذه المكاتبة من المكاتبات البديعة المسفرة عن صبح البلاغة.
ونسختها بعد البسملة على ما كتب به ابن الخطيب (1) عن سلطانه ابن الأحمر (2) صاحب الأندلس إلى المستنصر بالله أبي إسحاق إبراهيم خليفة (3)
__________
(1) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 1من ص 458.
(2) هو السلطان أبو الحجاج (755734هـ) وقد تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 2من ص 458وقد يكون ولده الغني بالله (793755هـ).
(3) هو أبو إسحاق إبراهيم بن أبي بكر المتوكل على الله، ابن يحيى الحفصي، خليفة الحفصيين بتونس ولي تونس سنة 751هـ، وطال عهده والفتن محيطة به إلى أن توفي سنة 770هـ. وأبو إسحاق هذا ليس خليفة الموحدين كما يذكر هنا القلقشندي لأن الموحدين انقضى أمرهم في الأندلس والمغرب سنة 668هـ، وحلّ محلهم بنو حفص في المغرب وبنو الأحمر في الأندلس. انظر ترجمته في الأعلام (ج 1ص 34).(6/535)
الموحّدين يومئذ بالأندلس. والاستفتاح:
الخلافة التي ارتفع عن (1) عقائد فضلها الأصيل القواعد الخلاف، واستقلّت مباني فخرها الشائع وعزّها الذائع على ما أسّسه الأسلاف، ووجب لحقّها الجازم وفرضها اللازم الاعتراف، ووسعت الآملين لها الجوانب الرحيبة والأكناف، فامتزاجنا بعلائها المنيف، وولائها الشريف، كما امتزج الماء والسّلاف (2)، وثناؤنا على مجدها الكريم، وفضلها العميم، كما تأرّجت الرّياض الأفواف [لمّا زارها الغمام الوكّاف] (3) ودعاؤنا بطول بقائها، واتّصال علائها، يسمو به إلى قرع أبواب السموات العلا (4) الاستشراف، وحرصنا على توفية حقوقها العظيمة، وفواضلها العميمة، لا تحصره الحدود ولا تدركه الأوصاف. وإن عذر في التقصير، عن نيل ذلك المرام الكبير، الحقّ والإنصاف، خلافة وجهة تعظيمنا إذا توجّهت الوجوه، ومن نؤثره إذا همّنا ما نرجوه، ونفدّيه ونبدّيه إذا استمنح المحبوب واستدفع المكروه، السلطان [الخليفة] (5) الجليل، الكبير، الشهير، الإمام، الهمام، الأعلى، الأوحد، الأصعد، الأسعد، الأسمى، الأعدل، الأفضل، الأسنى، الأطهر، الأظهر، الأرضى، الأحفل، الأكمل، أمير المؤمنين أبي إسحاق ابن الخليفة الإمام البطل الهمام، عين الأعيان، وواحد الزمان، الكبير، الشهير، الطاهر، الظاهر، الأوحد، الأعلى، الحسيب، الأصيل، الأسمى، العادل، الحافل، الفاضل، المعظّم، الموقّر، الماجد، الكامل، الأرضى، المقدّس، أمير المؤمنين أبي يحيى أبي بكر، ابن السلطان الكبير، الجليل، الرفيع، الماجد، الظاهر،
__________
(1) في ريحانة الكتاب (المجلد الأول ص 179): «في».
(2) السلاف: الخمر.
(3) الزيادة من ريحانة الكتاب، المجلد الأول ص 179.
(4) كلمة زائدة.
(5) الزيادة من ريحانة الكتاب، المجلد الأول ص 179.(6/536)
الطاهر، المعظّم، الموقّر، الأسمى، المقدّس، المرحوم أبي زكريا، ابن الخليفة الإمام، المجاهد الهمام الإمام ذي الشهرة الجامحة، والمفاخر الواضحة، علم الأعلام، فخر السّيوف والأقلام، المعظّم، الممجّد، المقدّس، الأرضى، أمير المؤمنين، المستنصر بالله أبي عبد الله بن أبي زكريا ابن عبد الواحد بن أبي حفص أبقاه الله. ومقامه مقام إبراهيم رزقا وأمانا، لا يخصّ جلب الثمرات إليه وقتا ولا يعيّن زمانا وكان على من يتخطّف الناس من حوله مؤيّدا بالله معانا، معظّم قدره العالي على الأقدار، ومقابل داعي حقّه بالابتدار، المثني على معاليه المخلّدة الآثار، في أصونة النّظام والنّثار، ثناء الروضة المعطار على الأمطار، الداعي إلى الله بطول بقائه (1) في عصمة (2)
منسدلة الأستار، وعزّة (3) ثابتة المركز مستقيمة المدار، وأن يختم له بعد بلوغ غايات الآجال ونهايات الأعمار، بالزّلفى وعقبى الدار.
سلام كريم كما حملت نسمات الأسحار، أحاديث الأزهار، وروت ثغور الأقاحيّ والبهار، عن مسلسلات الأنهار، وتجلّى على منصّة الاشتهار، وجه عروس النّهار، [يخصّ خلافتكم الكريمة النّجار] (4) العزيزة الجار، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي أخفى حكمته البالغة عن أذهان البشر، فعجزت عن قياسها، وجعل الأرواح كما ورد في الخبر، أجنادا مجنّدة تحنّ إلى أجناسها. منجد هذه الملّة، من أوليائه الجلّة، بمن يروض الآمال بعد شماسها، وييسّر الأغراض قبل التماسها، ويعنى بتجديد المودّات في ذاته وابتغاء مرضاته على حين إخلاق لباسها، الملك الحقّ واصل الأسباب بحوله بعد انتكاث
__________
(1) في ريحانة الكتاب ص 180: «إلى الله ببقائه» وفي الاحاطة في اخبار غرناطة: «بدوام بقائه».
(2) في ريحانة الكتاب: «في عزّه».
(3) في ريحانة الكتاب: «وعصمة».
(4) الزيادة من ريحانة الكتاب.(6/537)
أمراسها، ومغني النّفوس بطوله بعد إفلاسها حمدا يدرّ أخلاف النّعم بعد إبساسها، وينشر رمم الآمال من أرماسها، ويقدّس النفوس بصفات ملائكة السموات بعد إبلاسها (1).
والصلاة والسّلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله سراج الهداية ونبراسها، عند اقتناء الأنوار واقتباسها، مطهّر الأرض من أوضارها وأدناسها، ومصطفى الله من بين ناسها، وسيد الرّسل الكرام ما بين شيثها وإلياسها، الآتي مهيمنا على آثارها في حين فترتها، ومن بعد نضرتها واستئناسها، مرغم الضّراغم (2) في أخياسها (3)، بعد افترارها وافتراسها، ومعفّر أجرام الأصنام ومصمت أجراسها.
والرّضا عن آله وعترته وأحزابه حماة شرعته البيضاء وحرّاسها، وملقحي غراسها، ليوث الوغى عند احتدام مراسها، ورهبان الرجاء تتكفّل بمناجاة السميع العليم، في وحشة الليل البهيم، بإيناسها، وتفاوح نواسم الأسحار عند الاستغفار بطيب أنفاسها.
والدعاء لخلافتكم العلية المستنصريّة بالسعادة التي تشعشع أيدي العزّة القعساء من أكواسها، ولا زالت العصمة الإلهية كفيلة باحترامها واحتراسها، وأنباء الفتوح، المؤيدة بالملائكة والرّوح، ريحان جلّاسها، وآيات المفاخر، التي ترك الأوّل للآخر، مكتتبة الأسطار بأطراسها، وميادين الوجود مجالا لجياد جودها وباسها، والعزّ والعدل منسوبين لفسطاطها وقسطاسها، وصفيحة النصر العزيز تفيض كفّها المؤيدة بالله على رياسها، عند اهتياج أضدادها وشرّة إنكاسها، لانتهاب البلاد وانتهاسها، وهبوب رياح رياحها وتمرّد مرداسها.
__________
(1) في ريحانة الكتاب ص 181: «إيلاسها» بالياء.
(2) الضراغم: ج ضرغم وضرغام، وهو الأسد.
(3) الأخياس: ج خيس، وهو غابة الأسد.(6/538)
فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم من كتائب نصره أمدادا تذعن أعناق الأنام (1)، لطاعة ملككم المنصور الأعلام، عند إحساسها، وآتاكم من آيات العنايات آية تضرب الصخرة الصّماء ممن عصاها بعصاها فتبادر بانبجاسها (2)
من حمراء غرناطة حرسها الله وأيام الإسلام، بعناية الملك العلّام، تحتفل وفود الملائكة الكرام لولائمها وأعراسها، وطواعين الطّعان، في عدوّ الدّين المعان، تجدّد عهدها (3) بعام عمواسها.
والحمد لله حمدا يعيد شوارد النّعم، ويستدرّ مواهب الجود والكرم، ويؤمّن من انتكاب الجدود وانتكاسها، وليّ الآمال ومكاسها. وخلافتكم هي المثابة التي يزهى الوجود بمحاسن مجدها زهوّ الرّياض بوردها وآسها، وتستمدّ أضواء الفضائل من مقباسها، وتروي رواة الإفادة والإجادة غريب الوجادة عن ضحّاكها وعبّاسها، وإلى هذا أعلى الله معارج قدركم وقد فعل، وأنطق بحجج فخركم من احتفى وانتعل، فإنه وصلنا كتابكم الذي حسبناه على صنائع الله لنا تميمة لا تلقع بعدها عين، وجعلناه على حلل مواهبه قلادة لا يحتاج معها زين، ودعوناه من جيب الكناية آية بيضاء الكتابة لم يبق معها شكّ ولا مين (4)، وقرأنا منه وثيقة ودّ هضم فيها عن غريم الزمان دين، ورأينا منه إنشاء، خدم اليراع بين يديه وشّاء، واخترع بهميان عقدته مشّاء، وسئل عن معانيه الاختراع فقال: إنّا أنشأناهنّ إنشاء، فأهلا به من عربيّ أتى يصف السانح وألبانه، ويبين فبحسن الإبانة أدّى الأمانة، وسئل عن حيّه فانتمى إلى كنانة، وأفصح وهو لا ينبس، وتهلّلت قسماته وليل حبره يعبس، وكأنّ خاتمه المقفل على صوانه، المتحف بباكر الورد في غير أوانه، رعف من مسك عنوانه. ولله
__________
(1) الأنام: الخلق. وفي ريحانة الكتاب ص 182: «الأيام».
(2) في ريحانة الكتاب: «بانبحاسها» بالحاء.
(3) في ريحانة الكتاب: «عريدها».
(4) المين: الكذب، والجمع ميون.(6/539)
من قلم دبّج تلك الحلل، ونقع بمجاج الدّواة المستمدّة من عين الحياة الغلل، فلقد تخارق في الجود، مقتديا بالخلافة التي خلّد فخرها في الوجود، فجاد بسرّ البيان ولبابه، وسمح في سبيل الكرم حتّى بماء شبابه، وجمح لفرط بشاشته وفهامته، بعد شهادة السيف بشهامته، فمشى من التّرحيب في الطّرس الرّحيب على أمّ هامته.
وأكرم به من حكيم أفصح بملغوز الإكسير، في اللفظ اليسير، وشرح بلسان الخبير، سرّ صناعة التدبير، كأنما خدم الملكة الساحرة بتلك البلاد، قبل اشتجار (1) الجلاد، فآثرته بالطارف من سحرها والتّلاد، أو عثر بالمعلّقة، وتيك القديمة المطلّقة بدفينة دار، أو كنز تحت جدار، أو ظفر لباني الحنايا، قبل أن تقطع به عن أمانيّه المنايا، ببديعة، أو خلف جرجير الروم، قبل منازلة القدوم (2)، على وديعة، أو أسهمه ابن أبي سرح، في نشب للفتح وسرح، أو حتم (3) له روح بن حاتم ببلوغ المطلب، أو غلب الحظوظ بخدمة آل الأغلب، أو خصّه زيادة الله بمزيد، أو شارك الشّيعة في أمر ابن أبي يزيد أو سار على منهاج، في مناصحة بني صنهاج، وفضح بتخليد أمداحهم كلّ هاج.
وأعجب به! وقد عزّز منه مثنّى البيان بثالث، فجلب سحر الأسماع، واسترقاق الطباع بين مثاني الإبداع ومثالث. كيف اقتدر على هذا المجيد، وناصح مع التثليث مقام التوحيد. نستغفر الله وليّ العون، على الصّمت والصّون، فالقلم هو الموحّد قبل الكون، والمتّصف من صفات السادة، أولي العبادة، بضمور الجسم وصفرة اللون، إنما هي كرامة فاروقيّة، وأثارة من حديث سارية وبقيّة، سفر وجهها في الأعقاب، بعد طول الانتقاب، وتداول الأحقاب، ولسان مناب، عن كريم جناب، وإصابة السّهم لسواه محسوبة،
__________
(1) في ريحانة الكتاب ص 183: «قبل استنجاز الجلاد».
(2) في ريحانة الكتاب ص 183: «القروم» بالراء.
(3) في ريحانة الكتاب ص 183: «أو ختم» بالخاء المعجمة.(6/540)
وإلى الرامي الذي سدّده منسوبة، ولا تنكر على الغمام بارقة، ولا على المتحقّقين بمقام التوحيد كرامة خارقة، فما شاءه الفضل من غرائب برّ وجد، ومحاريب خلق كريم ركع الشّكر فيها وسجد. حديقة بيان استثارت نواسم الإبداع من مهبّها، واستزارت غمائم الطّباع من مصبّها، فآتت أكلها مرتين بإذن ربّها، لا، بل كتيبة عزّ طاعنت بقنا الألفات سطورها، فلا يرومها النقد ولا يطورها، ونزعت عن قسيّ النّونات خطوطها، واصطفّت من بياض الطّرس وسواد النّقس بلق تحوطها.
فما كأس المدير على الغدير، بين الخورنق (1) والسّدير (2)، تقامر بنرد الحباب عقول ذوي الألباب، وتغرق كسرى في العباب، وتهدي وهي الشّمطاء نشاط الشّباب، وقد أسرج ابن سريج وألجم، وأفصح الغريض (3) بعد ما جمجم، وأعرب الناي الأعجم، ووقّع معبد بالقضيب، وشرعت في حساب العقد بنان الكفّ الخضيب، وكأنّ الأنامل فوق مثالث العود ومثانيه، وعند إغراء الثقيل بثانيه، وإجابة صدى الغناء بين مغانيه، المراود تشرع في الوشي، أو العناكب تسرع في المشي، وما الخبر بنيل الرغائب، أو قدوم الحبيب الغائب، لا بل إشارة البشير، بكمّ المشير على العشير بأجلب للسّرور، من زائره المتلقّى بالبرور، وأدعى للحبور، من سفيره المبهج للسّفور، فلم نر مثله من
__________
(1) الخورنق، بفتح أوله وثانيه وراء ساكنة: قصر كان بظهر الحيرة، أمر ببنائه النعمان بن امرىء القيس ابن عمرو بن لخم بن عدي، كان ملك ثمانين سنة وبنى الخورنق في ستين سنة بناه له رجل من الروم يقال له سنمار. معجم البلدان (ج 2ص 401).
(2) السدير، بفتح أوله وكسر ثانيه وسكون الياء: قصر قريب من الخورنق كان النعمان الأكبر اتخذه لبعض ملوك العجم. معجم البلدان (ج 3ص 201).
(3) هو أبو زيد عبد الملك، من مولّدي البربر، ومن أشهر المغنّين في صدر الإسلام سكن مكّة وكان صاحب معبد. كان يضرب بالعود وينقر بالدف. سمي الغريض باسم الطلع، ويقال فيه الغريض والاغريض، وانما سمي به لنقاء لونه، وقيل: سمي به لطراوته. انظر الأغاني (ج 2ص 318) ووفيات الأعيان (ج 3ص 438437) والأعلام (ج 4ص 156).(6/541)
كتيبه كتاب تجنب الجرد [تمرح] (1) في الأرسان، وتتشوّف مجالي ظهورها إلى عرائس الفرسان، وتهزّ معاطف الارتياح، من صهيلها الصّراح، بالنّغمات الحسان، إذا وجدت الصريخ نازعت أثناء الأعنّة، وكاثرت بأسنّة آذانها مشرعة الأسنّة، فإن ادّعى الظليم أشكالها فهو ظالم، أو نازعها الظّبي هواديها وأكفالها فهو هاذ أو حالم، وإن سئل عن عيوب الغرر والأوضاح قال مشيرا إلى وجوهها الصّباح، جلدة بين العين والأنف سالم، من كلّ عبل الشّوى، مسابق للنجم إذا هوى، سامي التّليل، عريض ما تحت الشّليل، ممسوحة أعطافه بمنديل النّسيم البليل، من أحمر كالمدام، تجلى على النّدام عقب الفدام، أتحف لونه بالورد، في زمن البرد، وحيّي أفق محيّاه بكوكب السّعد، وتشوّف الواصفون إلى عدّ محاسنه فأعيت على العدّ، بحر يساجل البحر عند المدّ، وريح تباري الرّيح عند الشدّ، بالذّراع الأشدّ، حكم له مدير فلك الكفل باعتدال فصل القدّ، وميّزه قدره المميّز يوم الاستباق، بقصب السباق، عند اعتبار الحدّ، وولّد مختطّ غرّته أشكال الجمال، على الكمال، بين البياض والحمرة ونقاء الخدّ، وحفظ رواية الخلق الوجيه [عن جدّه الوجيه] (2) ولا تنكر الرواية على الحافظ بن الجدّ وأشقر أبي الخلق والوجه الطّلق أن يحقر كأنّما صيغ من العسجد، وطرّف بالدّرّ وأنعل بالزبرجد، ووسم في الحديث بسمة اليمن والبركة، واختصّ بفلج الخصام، عند اشتجار المعركة، وانفرد بمضاعف السّهام [المنكسرة على الهام] (3) في الفرائض المشتركة، واتصف فلك كفله بحركتي الإرادة والطّبع من أصناف الحركة، أصغى إلى السماء بأذن الملهم، وأعرب لسان الصّهيل، عند التباس معاني الهمز والتسهيل، ببيان المبهم، وفتنت العيون من ذهب جسمه، ولجين نجمه بحبّ الدينار والدّرهم، فإن انقضّ فرجم أو ريح لها هجم، وإن اعترض فشفق لاح به للنّجم نجم وأصفر قيّد الأوابد الحرّة،
__________
(1) الزيادة من ريحانة الكتاب ص 184والإحاطة في اخبار غرناطة.
(2) الزيادة من ريحانة الكتاب ص 185.
(3) الزيادة من ريحانة الكتاب ص 185.(6/542)
وأمسك المحاسن وأطلق الغرّة، وسئل من أنت في قوّاد الكتائب، وأولي الأخبار العجائب، فقال أنا المهلّب بن أبي صفرة نرجس هذه الألوان، في رياض الأكوان، تحيا به وجوه الحرب العوان، أغار بنخوة الصائل، على معصفرات الأصائل فارتداها، وعمد إلى خيوط شعاع الشمس، عند جانحة الأمس، فألحم منها حلّته وأسداها، واستعدت عليه ملك المحاسن فما أعداها، فهو أصيل تمسّك بذيل الليل عرفه وذيله، وكوكب يطلعه من القتام ليله، فيحسده فرقد الأفق وسهيله وأشهب تغشّى من لونه مضاضه، وتسربل منه لأمة (1) فضفاضة، قد احتفل زينه، لما رقم بالنّبال لجينه، فهو الأشمط، الذي حقّه لا يغمط، والذّراع المسارع، والأعزل الدّارع، وراقي الهضاب الفارع، ومكتوب الكتيبة البارع، وأكرم به من مرتاض سالك، ومجتهد على غايات السابقين الأوّلين متهالك، وأشهب يروي من الخليفة، ذي الشّيم المنيفة، عن مالك وحباريّ كلّما سابق وبارى استعار جناح الحبارى (2)، فإذا أعملت هذه الحسبة، قيل من هنا جاءت النّسبة، طرد النّمر، لما عظم أمره وأمر، فنسخ وجوده بعدمه، وابتزّه الفروة ثم لطّخه بدمه، وكأن مضاعف الورد نثر عليه من طبقه، أو الفلك، لما ذهب الحلك، مزج فيه بياض صبحه بحمرة شفقه وقرطاسيّ حقّه لا يجهل، حتّى ما ترقى العين فيه تشهل، إن نزع عنه جلّه، فهو نجم كلّه، انفرد بمادّة الألوان، قبل أن تشوبها يد الأكوان، وتمزجها أقلام الملوان (3)، يتقدّم منه الكتيبة المقبلة لواء ناصع، أو أبيض مماصع (4)، لبس وقار المشيب، في ريعان العمر القشيب، وأنصتت الآذان من صهيله المطيل المطيب، لما ارتدى بالبياض إلى نغمة الخطيب، وإن تعتّب منه للتأخير المتعتّب، قلنا الواو لا
__________
(1) اللأمة: الدرع، والجمع لأم.
(2) الحبارى: طائر يقع على الذكر والأنثى، واحده وجمعه سواء.
(3) الملوان: الليل والنهار أو طرفاهما، الواحد ملا.
(4) يقال: ماصع القوم: قاتلوا وجالدوا، وماصع فلانا: ضربه بالسيف.(6/543)
ترتّب، ما بين فحل وحرّه، وبهرمانة (1) ودرّه، ويالله من ابتسام غرّه، ووضوح يمن في طرّه، وبهجة للعين وقرّه، وإن ولع الناس بامتداح القديم، وخصّوا الحديث بفري الأديم، وأوجب المتعصّب، وإن أبى المنصب مرتبة التقديم، وطمح إلى رتبة المخدوم طرف الخديم، وقرن المثري بالعديم، وبخس في سوق الحسد الكيل، ودجى الليل، وظهر في فلك الإنصاف الميل، لما تذوكرت الخيل، فجيء بالوجيه والخطّار، والذائد وذي الخمار (2)، وداحس والسّكب، والأبجر وزاد الرّكب، والجموح واليحموم (3)، والكميت ومكتوم، والأعوج وحلوان، ولا حق والغضبان، وعفور (؟) والزّعفران، والمحبر، واللعّاب، والأغرّ والغراب، وشعلة والعقاب، والفيّاض واليعبوب [والمذهّب واليعسوب، والصحون والقطيب، وهيدب والصبيب وأهلوب (4)] وهدّاج، والحرون وخرّاج، وجلوى، والجناح والأحوى، ومجاج والعصا، والنّعامة، والبلقاء والحمامة، وسكاب والجرادة، وحوصاء، والعرادة. فكم بين الشاهد والغائب، والفروض والرّغائب، وفرق ما بين الأثر والعيان، غنيّ عن البيان، وشتّان بين الصّريح والمشتبه، ولله القائل في مثلها «خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به» والناسخ يختلف به الحكم، وشرّ الدوابّ عند التفضيل بين هذه الدوابّ الصّمّ البكم، إلا ما ركبه نبي، أو كان له يوم الافتخار برهان خبي ومفضّل ما سمع على ما رأى غبي، فلو أنصفت محاسنها التي وصفت لأقضمت حبّ القلوب علفا، وأوردت ماء الشّنينة نطفا، واتّخذت لها من عذر الخدود الملاح عذر موشيّة، وعلّلت بصفير ألحان القيان كلّ عشية، وأنعلت بالأهلّة، وغطّيت بالرّياض بدل الأجلّة.
__________
(1) البهرمانة: العصفر وقيل: ضرب من العصفر، فارسية معرّبة.
(2) الخمار: اللثام.
(3) اليحموم: طائر.
(4) الزيادة من ريحانة الكتاب ص 187، والأصح: «واليعسوب والصّموت» كما في الطبعة الأميرية.(6/544)
إلى الرقيق، الخليق بالحسن الحقيق، تسوقه إلى مثوى الرعاية روقة الفتيان رعاته ويهدي عقيقها من سبجه (1) أشكالا تشهد للمخترع سبحانه بإحكام مخترعاته، وقّفت ناظر الاستحسان لا يريم، لمّا بهره منظرها الكريم، وتخامل الظليم وتضاءل الرّيم، وأخرس مقوله اللسان وهو بملكات البيان الحفيظ العليم، وناب لسان الحال، عن لسان المقال، عند الاعتقال، فقال يخاطب المقام الذي أطلعت أزهارها غمائم جوده [واقتضت اختيارها بركة وجوده] (2): لو علمنا أيّها الملك الأصيل، الذي كرم منه الإجمال والتفصيل، أنّ الثناء يوازيها لكلنا لك بكيلك، أو الشّكر يعادلها ويجازيها لتعرّضنا بالوشل (3)
إلى نيل نيلك، أو قلنا: هي (4) التي أشار إليها مستصرخ سلفك المستنصر (5)
بقوله: أدرك (6) بخيلك، حين شرق بدفعه الشّرق، وانهزم الجمع واستولى الفرق واتسع فيه والحكم لله الخرق، ورأى أنّ مقام التوحيد بالمظاهرة على التثليث، وحزبه الخبيث، هو الأولى والأحقّ. والآن قد أغنى الله بتلك النّيّة،
__________
(1) السبج: الخرز الأسود، فارسي معرّب.
(2) الزيادة من ريحانة الكتاب ص 188.
(3) الوشل، بالفتح: الماء الكثير، والكثير من الدمع.
(4) أي مدينة بلنسية الأندلسية.
(5) هو صاحب إفريقية السلطان أبو زكريّا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص، استغاث به أمير بلنسية زيّان بن مردنيش أثناء حصار بلنسية من قبل ملك برشلونة، وأوفد عليه كاتبه الشهير أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الله بن أبي بكر القضاعي المعروف بابن الأبّار، مع وفد أهل بلنسية بالبيعة للسلطان المذكور، فقام بين يدي السلطان منشدا قصيدته السينية الفريدة، التي بلغت سبعة وستين بيتا. وبادر السلطان بإعانتهم، ولكن ملك برشلونه تغلب على بلنسية وذلك في سنة 636هـ. انظر نفح الطيب (ج 4ص 460456) وأزهار الرياض (ج 2ص 207.)
(6) هو مطلع سينية ابن الأبّار، التي قالها يستصرخ فيها سلطان تونس ويحضّه فيها على الانجاد السريع.
والمطلع هو (بسيط).
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إنّ السبيل إلى منجاتها درسا
ولقد بلغت قصيدته سبعة وستين بيتا أوردها المقري في كتابه نفح الطيب (ج 4ص 460457) وانظر كذلك أزهار الرياض (ج 2ص 207).(6/545)
عن إنجاد الطّوال الرّدينية، وبالدعاء من تلك المثابة الدينية إلى ربّ البنيّة، عن الأمداد السّنيّة، والأجواد تخوض بحر الماء إلى بحر المنيّة، وعن الجرد العربية في مقاود الليوث الأبيّة، وجدّد برسم هذه الهديّة، مراسيم العهود الودّية، والذّمم الموحّدية، لتكون علامة على الأصل، ومكذّبة لدعوى الوقف والفصل، وإشعارا بالألفة التي لا تزال ألفها ألف الوصل، ولامها حراما على النّصل.
وحضر بين يدينا رسولكم فلان فقرّر من فضلكم، ما لا ينكره من عرف علوّ مقداركم، وأصالة داركم، وفلك إبداركم، وقطب مداركم، وأجبناه عنه بجهد ما كنّا لنقنع من حناه المهتصر، بالمقتضب المختصر، ولا نقابل طول طوله بالقصر، لولا طروء الحصر.
وقد كان بين الأسلاف رحمة الله عليهم ورضوانه ودّ أبرمت من أجل الله معاقده، ووثّرت للخلوص، الجليّ النصوص، مضاجعه القارّة ومراقده، وتعاهد بالجميل توجّع لفقده فاقده، أبى الله إلا أن يكون لكم الفضل في تجديده، والعطف بتوكيده، فنحن الآن لا ندري أيّ مكارمكم نذكر، أو أيّ فواضلكم نشرح أو نشكر، أمفاتحتكم التي هي عندنا في الحقيقة فتح، أم هديّتكم وفي وصفها للأقلام سبح، ولعدوّ الإسلام بحكمة حكمتها كبح، إنما نكل الشكر لمن يوفّي جزاء الأعمال البرّة، ولا يبخس مثقال الذّرة ولا أدنى [من] مثقال الذّرة، ذي الرحمة الثّرّة، والألطاف المتصلة المستمرّة، لا إله إلا هو.
وإن تشوّفتم إلى الأحوال الراهنة، وأسباب الكفر الواهية بقدرة الله الواهنة، فنحن نطرفكم بطرفها، ونطلعكم على سبيل الإجمال بطرفها، وهو أننا لمّا أعاد الله من التمحيص، إلى مثابة التخصيص، من بعد المرام العويص، كحلنا بتوفيق الله بصر البصيرة، ووقفنا على سبيله مساعي الحياة القصيرة، ورأينا كما نقل إلينا، وكرّر على من قبلنا وعلينا، أنّ الدنيا وإن غرّ الغرور، وأنام على سرر الغفلة السّرور، فلم ينفع الخطور على أجداث الأحباب والمرور جسر يعبر، ومتاع لا يغبط من حبي به ولا يحبر، إنما هو خبر يخبر،
وأن الحسرة بمقدارها على تركه تجبر، وأنّ الأعمار أحلام، وأنّ الناس نيام، وربّما رحل الراحل عن الخان، وقد جلّله بالأذى والدّخان، أو ترك به طيبا، وثناء يقوم بعده للآتي خطيبا، فجعلنا العدل في الأمور ملاكا، والتفقّد للثّغور مسواكا، وضجيع المهاد، حديث الجهاد، وأحكامه مناط الاجتهاد، وقوله:(6/546)
وإن تشوّفتم إلى الأحوال الراهنة، وأسباب الكفر الواهية بقدرة الله الواهنة، فنحن نطرفكم بطرفها، ونطلعكم على سبيل الإجمال بطرفها، وهو أننا لمّا أعاد الله من التمحيص، إلى مثابة التخصيص، من بعد المرام العويص، كحلنا بتوفيق الله بصر البصيرة، ووقفنا على سبيله مساعي الحياة القصيرة، ورأينا كما نقل إلينا، وكرّر على من قبلنا وعلينا، أنّ الدنيا وإن غرّ الغرور، وأنام على سرر الغفلة السّرور، فلم ينفع الخطور على أجداث الأحباب والمرور جسر يعبر، ومتاع لا يغبط من حبي به ولا يحبر، إنما هو خبر يخبر،
وأن الحسرة بمقدارها على تركه تجبر، وأنّ الأعمار أحلام، وأنّ الناس نيام، وربّما رحل الراحل عن الخان، وقد جلّله بالأذى والدّخان، أو ترك به طيبا، وثناء يقوم بعده للآتي خطيبا، فجعلنا العدل في الأمور ملاكا، والتفقّد للثّغور مسواكا، وضجيع المهاد، حديث الجهاد، وأحكامه مناط الاجتهاد، وقوله:
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى ََ تِجََارَةٍ} (1) من حجج الاستشهاد، وبادرنا من الحصون المضاعة وجنح التّقيّة دامس، وساكنها بائس، والأعصم في شعفاتها من العصمة يائس، فزيّنّا ببيض الشّرفات ثناياها، وأفعمنا بالعذب الفرات ركاياها، وغشّينا بالصّفيح المضاعف أبوابها، واحتسبنا عند موفّي الأجور ثوابها، وبيّضنا بناصع الكلس أثوابها، فهي اليوم توهم حسّ العيان، أنها قطع من بيض العنان، تكاد تناول قرص البدر بالبنان، متكفّلة للمؤمن من فزع الدنيا والآخرة بالأمان، وأقرضنا الله قرضا، وأوسعنا مدوّنة الجيش عرضا، وفرضنا إنصافه مع الأهلة فرضا، واستندنا من التوكّل على الله الغنيّ الحميد إلى ظلّ لواء، ونبذنا إلى الطاغية عهده على سواء، وقلنا: ربّنا أنت العزيز وكلّ جبّار لعزّك ذليل، وحزبك هو الكثير وما سواه فقليل [أنت الكافي، ووعدك الوعد الوافي، فأفض علينا مدارع الصابرين (2)] واكتبنا من الفائزين بحظوظ رضاك الظافرين، وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
فتحرّكنا أولى الحركات، وفاتحة مصحف البركات، في خفّ من الحشود، واقتصار على ما بحضرتنا من العساكر المظفّرة والجنود، إلى حصن (3)
آش البازي المطل، وركاب العدوّ الضالّ المضل، ومهدي نفثات الصّلّ (4)،
__________
(1) سورة الصفّ 61، الآية 10.
(2) الزيادة من ريحانة الكتاب ص 190.
(3) أغلب الظن حصن آشر،، الذي يقع في الجنوب الشرقي لحصن روطه على ضفة رافد من روافد نهر شنيل بالأندلس، وقد ورد اسم هذا الحصن في كتاب ابن الخطيب، إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، على لسان مخدومه السلطان الغني بالله. انظر نفح الطيب (ج 6ص 368).
(4) الصلّ: حيّة، وقيل: حيّة صفراء تكون في الرمل إذا رآها الإنسان لا يزال يرتعد حتى يموت.(6/547)
على امتناعه وارتفاعه، وسموّ يفاعه، وما بذل العدوّ فيه من استعداده، وتوفير أسلحته وأزواده، وانتخاب أنجاده، فصلينا بنفسنا ناره، وزاحمنا عليه الشهداء نصابر أواره، ونلقى بالجوارح العزيزة سهامه المسمومة، وجلامده الملمومة، وأحجاره، حتّى فرعنا بحول من لا حول ولا قوّة إلا به أبراجه المنيعة وأسواره، وكففنا عن العباد والبلاد أضراره، بعد أن استضفنا إليه حصن (1) السهلة جاره، ورحلنا عنه بعد أن شحنّاه رابطة وحامية، وأزوادا نامية، وعملنا بيدنا في رمّ ما ثلم القتال، وبقر من بطون مسالحه الرجال، واقتدينا بنبينا صلوات الله عليه وسلامه في الخندق لمّا حمى ذلك المجال، ووقع الارتجاز المنقول خبره والارتجال، وما كان ليقرّ للاسلام مع تركه القرار، وقد كتب الجوار، وتداعى الدّعرة وتعاوى الشّرار.
وكنا أغزينا الجهة (2) الغربية من المسلمبن بمدينة برغة (3) التي سدّت بين القاعدتين: مالقة ورندة الطريق، وألبست ذلّ الفراق ذلك الفريق، ومنعتهما أن يسيغا الرّيق، فلا سبيل إلى الإلمام، لطيف المنام في الأحلام، ولا رسالة إلا في أجنحة هديّ الحمام، فيسّر الله فتحها، وعجّل منحها، بعد حرب انبتّت فيها النّحور، وتزيّنت الحور، وتبع هذه الأمّ بنات شهيرة، وبقع للزّرع والضّرع خيرة، فشفي الثّغر من بوسه، وتهلّل وجه الإسلام بتلك الناحية بعد عبوسه.
ثم أعملنا الحركة إلى مدينة الجزيرة (4) على بعد المدى، وتعلّقها على بلاد العدا، واقتحام هول الفلا وغول الرّدا، مدينة بنتها حمص (5) فأوسعت
__________
(1) السهلة وتسمى أيضا شنتمرية الشرق (سهلة بني رزين (بين بلنسية وسرقسطة. لها مدن وحصون. انظر نفح الطيب (ج 1ص 166).
(2) المقصود ما يقع غربي غرناطة.
(3) برغه: مدينة بين مالقة ورنده. انظر نفح الطيب (ج 6ص 367).
(4) هي الجزيرة الخضراء الأندلسية القريبة من جبل طارق والمتصلة بأعمال شذونة، وسورها يضرب به ماء البحر. معجم البلدان (ج 2ص 136).
(5) حمص الأندلس هي مدينة إشبيلية الأندلسية.(6/548)
الدار، وأغلت الشّوار، وراعت الاستكثار، وبسطت الاعتمار، رجّح إلينا قصدها على البعد، والطريق الجعد، ما آسفت به المسلمين، من استئصال طائفة من أسراهم مرّوا بها آمنين، وبطائرها المشؤوم متيمّنين، قد أنهكهم الاعتقال، والقيود الثّقال، وأضرعهم الإسار، وجلّلهم الانكسار، فجدّلوهم في مصرع واحد، وتركوهم عبرة للرائي والمشاهد، وأهدوا بوقيعتهم إلى الإسلام ثكل الواحد، وترة الماجد، فكبسناها كبسا، وفجأناها بإلهام من لا يضلّ ولا ينسى، فصبّحتها الخيل، ثم تلاحق الرّجل (1) كما جنّ الليل، وحاق بها الويل، فأبيح منها الذّمار (2)، وأخذها الدّمار، ومحقت من مصانعها البيض (3) الأهلّة وخسفت الأقمار، وشفيت من دماء أهلها الضّلوع الحرار (4)، وسلطت على هياكلها النار، واستولى على الآلاف العديدة من سبيها الإسار، وانتهى إلى إشبيلية الثّكلى المغار، فجلّل وجوه من بها من كبار النصرانية الصّغار، واستولت الأيدي على ما لا يسعه الوصف ولا تقلّه الأوقار.
وعدنا والأرض تموج سبيا، لم نترك بعفرّين (5) شبلا ولا بوجرة (6) ظبيا، والعقائل حسرى، والعيون تبهرها الصّنع الأسرى، وصبح السّرى قد حمد بعد بعد المسرى، فسبحان الذي أسرى. [ولسان الحميّة ينادي، في تلك الكنائس المخرّبة والنوادي، يا لثارات الأسرى (7)].
ولم يكن إلا أن نفّلت الأنفال، ووسمت بالأرضاخ الأغفال، وتميزت
__________
(1) الرجل: ج راجل، وهو خلاف الفارس.
(2) الذمار: ما يلزمك حفظه وحمايته من عرض وحريم وناموس.
(3) البيض: السيوف.
(4) الضلوع: ج ضلع. والحرار: ج حرّى، أي الشديدة العطش.
(5) عفرّين بكسر أوله وثانيه وتشديد الراء: اسم بلد. معجم البلدان (ج 4ص 132).
(6) وجرة، بالفتح ثم السكون: بين مكة والبصرة، بينها وبين مكة أربعون ميلا. معجم البلدان (ج 5 ص 362).
(7) الزيادة من «ريحانة الكتاب» ص 192.(6/549)
الهوادي والأكفال، وكان إلى غزو مدينة جيّان (1) الاحتفال، قدنا إليها الجرد تلاعب الظّلال نشاطا، والأبطال تقتحم الأخطار رضا بما عند الله واغتباطا، والمهنّدة الزّرق تسبق إلى الرقاب استلالا واختراطا، والرّدينيّة (2) السّمر تسترط حياة النفوس استراطا، وأزحنا العلل عمّن أراد جهادا منجيا غباره من دخان جهنّم ورباطا، ونادينا الجهاد الجهاد، يا أمة الجهاد، راية النبيّ الهاد، الجنّة الجنة تحت ظلال السيوف الحداد، فهزّ النداء إلى الله تعالى كلّ عامر وغامر، وأتمر الجمّ من دعوة الحقّ إلى أمر آمر، وأتى الناس من الفجوج العميقة رجالا وعلى كلّ ضامر، وكاثرت الرايات أزهار البطاح لونا وعدّا، وسدّت الحشود مسالك الطريق العريضة سدّا، ومدّ بحرها الزاخر مدّا، فلا يجد لها الناظر ولا المناظر حدّا.
وهذه المدينة هي الأمّ الولود، والجنة التي في النار لسكّانها من الكفّار الخلود، وكرسيّ الملك ومجنبته الوسطى من الممالك باءت بالمزايا العديدة ونجحت، وعند الوزان بغيرها من أمّات البلدان رجحت، غاب الأسود، وجحر الحيّات السّود، ومنصب التماثيل الهائلة، ومعلق النواقيس الصائلة.
وأدنينا إليها المراحل، وعيّنّا لتجّار المحلات المستقلات منها الساحل، ولما أكثبنا جوارها، وكدنا نلمح نارها، تحرّكنا ووشاح الأفق المرقوم بزهر النجوم، قد دار دائره، والليل من خوف الصّباح، على سرحه المستباح، قد شابت غدائره، والنّسر يرفرف باليمن طائره، والسّماك الرامح يثأر ثغر الإسلام ثائره، والنعائم راعدة فرائص الجسد، من خوف الأسد، والقوس يرسل سهم السعادة، بوتر العادة، إلى أهداف النّعم المعادة، والجوزاء عابرة نهر المجرّه،
__________
(1) جيّان، بالفتح ثم التشديد، مدينة تبعد عن قرطبة سبعة عشر فرسخا، ولها كورة واسعة بالأندلس، معجم البلدان (ج 2ص 195).
(2) أي الرماح المنسوبة إلى ردينة، وهي امرأة في خط هجر كانت وهي وزوجها سمهر يقوّمان الرماح فنسبت إليهما، يقال: رمح ردينيّ وسمهريّ.(6/550)
والزّهرة تغار من الشّعرى العبور بالضّرّة، وعطارد يسدي في حيل الحروب على البلد المحروب ويلحم، ويناظر على أشكالها الهندسيّة فيفحم، والأحمر يبهر، والعلم الأبيض يفري وينهر، والمشتري يبديء في فضل الجهاد ويعيد، ويزاحم في الخلفات على ما للسعادة من الصفات ويزيد، وزحل على الطالع منزحل، وعن العاشر مرتحل، وفي زلق السّقوط وحل، والبدر يطارح حجر المنجنيق، كيف يهوي إلى النّيق، ومطلع الشمس يرقب، وجدار الأفق يكاد بالعيون عنها ينقب.
ولمّا فشا سرّ الصّباح، واهتزّت أعطاف الرايات لتحيّات مبشّرات الرّياح، أطللنا عليها إطلال الأسود على الفرائس، والفحول على العرائس، فنظرنا منظرا يروع بأسا ومنعه، ويروق وضعا وصنعه، تلفّعت معاقله الشمّ للسّحاب ببرود، ووردت من غدير المزن في برود، وأسرعت لاختطاف أزهار النّجوم، والذراع بين النطاق معاصم رود، وبلدا يعيي الماسح والذارع، وينتظم المحاني والأجارع، فقلنا: اللهم نفّله أيدي عبادك، وأرنا فيه آية من آيات جهادك، فنزلنا بساحتها العريضة المتون، نزول الغيث الهتون (1)، وتيمّنّا من فحصها الأفيح بسورة التّين والزيتون، متربة من أمان الرحمان للبلد المفتون، وأعجلنا الناس بحميّة نفوسهم النّفيسه، وسجيّة شجاعتهم البئيسه، عن أن نبوّيء للقتال المقاعد، وندني بإسماع شهير النّفير منهم الأباعد وقبل أن يلتقي الخديم بالمخدوم، ويركع المنجنيق ركعتي القدوم، فدفعوا من أصحر إليهم من الفرسان، وسبق إلى حومة الميدان، حتّى أجحروهم في البلد، وسلبوهم لباس الجلد، في موقف يذهل الوالد عن الولد، صارت السّهام فيه غماما، وطارت كأسراب الحمام تهدي حماما، وأضحت القنا قصدا، بعد أن كانت شهابا رصدا، وماج بحر القتام بأمواج النّصول، وأخذ الأرض الرّجفان لزلزال الصّياح الموصول، فلا ترى إلا شهيدا تظلّل مصرعه الحور، وصريعا تقذف به إلى
__________
(1) الغيث الهتون: المطر المنصبّ يقال: هتنت السماء: انصبّت.(6/551)
الساحل أمواج تلك البحور، ونواشب تبأى بها الوجوه الوجيهة عند الله والنّحور، فالمقضب فوده يخضب، والأسمر غصنه يستثمر، والمغفر حماه يخفر، وظهور القسيّ تقصم، وعصم الجند الكوافر تفصم، وورق اليلب في المنقلب يسقط، والبتّر تكتب والسّمر تنقط فاقتحم الرّبض الأعظم لحينه، وأظهر الله لعيون المبصرين والمستبصرين عزّة دينه، وتبرّأ الشيطان من خدينه (1)، ونهب الكفّار وخذلوا، وبكلّ مرصد جدّلوا، ثم دخل البلد بعده غلابا، وجلّل قتلا واستلابا. فلا تسل، إلا الظّبى والأسل، عن قيام ساعته، وهول يومها وشناعته، وتخريب المبائت والمباني، وغنى الأيدي من خزائن تلك المغاني، ونقل الوجود الأوّل إلى الوجود الثاني، وتخارق السيف فجاء بغير المعتاد، ونهلت القنا الرّدينيّة من الدماء حتّى كادت تورق كالأغصان المغترسة والأوتاد، وهمت أفلاك القسيّ (2) وسحّت، وأرنّت حتّى بحّت، ونفدت موادّها فشحّت بما ألحّت، وسدّت المسالك جثث القتلى فمنعت العابر، واستأصل الله من عدوّه الشأفة (3) وقطع الدابر، وأزلف الشهيد وأحسب الصابر، وسبقت رسل الفتح الذي لم يسمع بمثله في الزمن الغابر، تنقل البشرى من أفواه المحابر، إلى آذان المنابر.
أقمنا بها أيّاما نعقر الأشجار، ونستأصل بالتخريب الوجار (4)، ولسان الانتقام، من عبدة الأصنام، ينادي يالثارات الإسكندرية تشفّيا من الفجّار، ورعيا لحقّ الجار، وقفلنا وأجنحة الرايات، برياح العنايات خافقه، وأوفاق التوفيق الناشئة من خطوط الطريق موافقه، وأسواق العزّ بالله نافقه، وحملاء الرفق مصاحبة والحمد لله مرافقه، وقد ضاقت ذروع الجبال، عن أعناق
__________
(1) الخدين: الخدن، وهو الصاحب والصديق.
(2) القسيّ: ج قوس.
(3) إستأصل الله من عدوّه الشأفة: أي أذهبه وأزاله من أصله، والشأفة: الأصل.
(4) الوجار: بكسر الواو وفتحها: حجر الضبع وغيرها، والجمع أوجرة، ووجر.(6/552)
الصّهب السّبال، ورفعت على الاكفال، ردفاء كرائم الأنفال، وقلقلت من النواقيس أجرام الجبال بالهندام والاحتيال، وهلك بمهلك هذه الأمّ بنات كنّ يرتضعن ثديّها الحوافل ويستوثرن حجرها الكافل، شمل التخريب أسوارها، وعجّلت النار بوارها.
ثم تحرّكنا بعدها حركة الفتح، وأرسلنا دلاء الإدلال قبل المنح، فبشّرت بالمنح، وقصدنا مدينة أبّدة (1) وهي ثانية الجناحين، وكبرى الأختين، ومساهمة جيّان (2) في حين الحين مدينة أخذت عرض الفضاء الأخرق، وتمشّت فيه أرباضها تمشّي الكتابة الجامحة في المهرق (3) المشتملة على المتاجر والمكاسب، والوضع المتناسب، والفلج المعيي ريعه عمل الحاسب، وكوارة الدّبر اللّاسب، المتعدّدة اليعاسب، فأناخ العفاء بربوعها العامرة، ودارت كؤوس عقار الحتوف، ببنان السيوف، على متديّريها المعاقرة، وصبّحتها طلائع الفاقرة، وأغريت ببطون أسوارها عوج المعاول الباقرة، ودخلت مدينتها عنوة السيف، في أسرع من خطرة الطّيف، ولا تسأل عن الكيف، فلم يبلغ العفاء من مدينة حافلة، وعقيلة في حلل المحاسن رافلة، ما بلغ من هذه البائسة التي سجدت لآلهة النّيران أبراجها، وتضاءل بالرّغام معراجها، وضفت على أعطافها ملابس الخذلان، وأقفر من كنائسها كنّاس الغزلان.
ثم تأهّبنا لغزو أمّ القرى الكافرة، وخزائن المزاين الوافرة، وربّة الشّهرة السافرة، [والأنباء المسافرة] (4) قرطبة (5) وما أدراك ماهيه، ذات الأرجاء الحالية
__________
(1) أبّدة بالضم ثم الفتح والتشديد: اسم مدينة بالأندلس، من كورة جيّان، اختطّها عبد الرحمن الثاني وتممها ابنه محمد. معجم البلدان (ج 1ص 64).
(2) تقدم الحديث عنها في الحاشية رقم 1من ص 550.
(3) المهرق: الصحيفة، فارسي معرّب، والجمع مهارق.
(4) الزيادة من ريحانة الكتاب ص 196.
(5) قرطبة، بضم أوله وسكون ثانيه وضم الطاء: مدينة عظيمة بالأندلس، كانت عاصمة بني أمية.
معجم البلدان (ج 4ص 324).(6/553)
الكاسيه، والأطواد الراسخة الراسيه، والمباني المباهية والزهراء (1) الزاهيه، والمحاسن غير المتناهيه، حيث هالة بدر السماء، قد استدارت من السّور المشيد البناء، ونهر المجرّة من نهرها الفيّاض، المسلول حسامه من غمود الغياض، قد لصق بها جارا، وفلك الدّولاب المعتدل الانقلاب قد استقام مدارا، ورجّع الحنين اشتياقا إلى الحبيب الأوّل وادّكارا، حيث الطّود كالتاج، يزدان بلجين العذب المجاج فيزري بتاج كسرى ودارا، حيث قسيّ الجسور المديره، كأنها عوج المطيّ الغريره، تعبر النهر قطارا، حيث آثار العامريّ المجاهد، تعبق بين تلك المعاهد، شذى معطارا، حيث كرائم السّحائب، تزور عرائس الرياض الحبائب، فتحمل لها من الدّرّ نثارا، حيث شمول الشّمال تدار على الأدواح، بالغدوّ والرّواح، فترى الغصون سكارى وما هي بسكارى، حيث أيدي الافتتاح تفتضّ من شقائق البطاح، أبكارا، حيث ثغور الأقاح الباسم، تقبّلها بالسّحر زوّار النّواسم، فتخفق قلوب النّجوم الغيارى، حيث المصلّى العتيق قد رحب مجالا وطال منارا، وأزرى ببلاط الوليد احتقارا، حيث الظّهور المثارة بسلاح الفلاح تجبّ عن مثل أسنمة المهارا، والبطون كأنها لتدميث الغمائم بطون العذارى، والأدواح العالية تخترق أعلامها الهادية بالجداول الخبارا، فما شئت من جوّ صقيل، ومعرّس للحسن ومقيل، ومالك للعقل وعقيل، وخمائل كم فيها للبلابل من قال وقيل، وخفيف يجاوب بثقيل، وسنابل تحكي من فوق سوقها، وقضب بسوقها، الهمزات فوق الألفات، والعصافير البديعة الصّفات، فوق القضب المؤتلفات، تميل بهبوب الصّبا والجنوب، مائلة الجيوب بدرر الحبوب، وبطاح لا تعرف عين المحل، فتطلبه بالذّحل، ولا تصرف في خدمة بيض قباب الأزهار، عند افتتاح السّوسن والبهار، غير العبدان من سودان النّخل، وبحر الفلاحة الذي لا يدرك ساحله، ولا يبلغ
__________
(1) الزهراء: مدينة بناها عبد الرحمن الناصر شمال قرطبة، وكانت مقرا رسميا له ولحاشيته، اندثرت معالمها في فترة الخليفة المهدي. انظر نفح الطيب (ج 1ص 300).(6/554)
الطّيّة البعيدة راحله، إلى الوادي، وسمر النّوادي، وقرار دموع الغوادي، المتجاسر على تخطّيه، عند تمطّيه، الجسر العادي والوطن الذي ليس من عمرو ولا زيد، والفرا الذي في جوفه كلّ صيد، أقلّ كرسيّه خلافة الإسلام، وأعار بالرّصافة والجسر دار السّلام، وما عسى أن تطنب في وصفه ألسنة الأقلام، أو تعبّر به عن ذلك الكمال فنون الكلام.
فأعملنا إليها السّرى والسّير، وقدنا إليها الخيل وقد عقد الله بنواصيها الخير.
ولما وقفنا بظاهرها المبهت المعجب، واصطففنا بخارجها المنبت المنجب، والقلوب تلتمس الإعانة من منعم مجزل، وتستنزل مدد الملائكة من منجد منزل، والركائب واقفة من خلفنا بمعزل، تتناشد في معاهد الإسلام: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (1) برز من حاميتها المحاميه، ووقود النار الحاميه، وبقية السيف الوافرة على الحصاد الناميه، قطع الغمائم الهاميه، وأمواج البحور الطاميه، واستجنّت بظلال أبطال المجال أعداد الرجال الناشبة والراميه، وتصدّى للنّزال، من صناديدها الصّهب السّبال، أمثال الهضاب الراسيه، تجنّها جنن السّوابغ الكاسيه، وقواميسها المفادية للصّلبان يوم بوسها بنفوسها المواسيه، وخنازيرها التي عدتها عن قبول حجج الله ورسوله ستور الظّلم الغاشيه، وصخور القلوب القاسيه، فكان بين الفريقين أمام جسرها الذي فرق البحر، وحلي بلجينه ولآليء زينه منها النّحر، حرب لم تنسج الأزمان على منوالها، ولا أتت الأيّام الحبالى بمثل أجنّة أهوالها، من قاسها بالفجار أفك وفجر، أو مثّلها بجفر الهباءة خرف وهجر ومن شبّهها بحرب داحس والغبراء فما عرف الخبر، فليسأل من جرّب وخبر، ومن نظّرها بيوم شعب جبله، فهو ذو بله، أو عادلها ببطن عاقل، فغير عاقل، أو احتجّ بيوم ذي قار، فهو إلى المعرفة ذو افتقار
__________
(1) هو صدر بيت لا مرىء القيس، وعحزه (طويل): بسقط اللوى بين الدخول وحومل. نظر ديوان امرىء القيس ص 8.(6/555)
أو ناضل بيوم الكديد، فسهمه [غير السّديد،] (1) إنما كان مقاما غير معتاد، ومرعى نفوس لم يف بوصفه لسان مرتاد، وزلزال جبال أوتاد، ومتلف مذخور لسلطان الشيطان وعتاد، أعلم فيه البطل الباسل، وتورّد الأبيض الباتر وتأوّد الأسمر العاسل، ودوّم الجلمد المتكاسل، وانبعث من حدب الحنيّة إلى هدف الرّمية الناشر النّاسل، ورويت لمرسلات السّهام المراسل. ثم أفضى أمر الرّماح إلى التّشاجر والارتباك ونشبت الاسنّة في الدّروع نشب السّمك في الشّباك ثم اختلط المرعى بالهمل، وعزل الرّدينيّ عن العمل، وعادت السّيوف من فوق المفارق تيجانا، بعد أن شقّت غدر السوابغ خلجانا، واتّحدت جداول الدّروع فصارت بحرا، وكان التعانق فلا ترى إلا نحرا، يلازم نحرا، عناق وداع، وموقف شمل ذي انصداع، وإجابة مناد إلى فراق الأبد وداع، واستكشفت مآل الصبر الانفس الشّفّافه، وهبّت بريح النصر الطلائع المبشّرة الهفّافه، ثم أمدّ السيل ذلك العباب، وصقل الاستبصار الألباب، واستخلص العزم صفوة اللّباب، وقال لسان النصر ادخلوا عليهم الباب، فأصبحت طوائف الكفّار، حصائد مناجل الشّفار، فمفارقهم قد رضيت حرماتها بالاعقار، ورؤوسهم محطوطة في غير معالم الاستغفار، وعلت الرايات من فوق تلك الأبراج المستطرفة والأسوار، ورفرف على المدينة جناح البوار (2)، لولا الانتهاء إلى الحدّ والمقدار، والوقوف عند اختفاء سرّ المقدار.
ثم عبرنا نهرها، وشددنا بأيدي الله قهرها، وضيّقنا حصرها، وأقمنا بها أياما تحوم عقبان البنود على فريستها حياما، وترمي الأرواح ببوارها، وتسلّط النيران على أقطارها، فلولا عائق المطر، لحصلنا من فتح ذلك الوطن على الوطر (3)، فرأينا أن نروضها بالاجتثاث والانتساف، ونوالي على زروعها وربوعها
__________
(1) الزيادة من ريحانة الكتاب ص 198.
(2) البوار، بالفتح: الهلاك.
(3) الوطر، بالفتح: الحاجة.(6/556)
كرّات رياح الاعتساف، حتّى يتهيّأ للإسلام لوك طعمتها، ويتهنّأ بفضل الله إرث نعمتها، ثم كانت عن موقفها الإفاضة من بعد نحر النّحور، وقذف جمار الدّمار على العدوّ المدحور، وتدافعت خلفنا السابقات المستقلّات تدافع أمواج البحور.
وبعد أن ألححنا على جنّاتها المصحرة، وكرومها المشتجرة، إلحاح الغريم، وعوّضناها المنظر الكريه من المنظر الكريم، وطاف عليها طائف من ربّنا فأصبحت كالصّريم (1)، وأغرينا حلاق النار بحمم الجحيم، وراكمنا في أجواف أجوائها غمائم الدّخان، تذكّر طيّبة البان، بيوم الغميم، وأرسلنا رياح الغارات لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرّميم، واستقبلنا الوادي يهول مدّا، ويروع سيفه الصّقيل حدّا، فيسّره الله من بعد الإعواز، وانطلقت على الفرضة [بتلك العرضة] (2) أيدي الانتهاز، وسألنا من ساءله أسد بن الفرات فأفتى برجحان الجواز فعمّ الاكتساح والاستباح جميع الأحواز، فأديل المصون، وانتهبت القرى وهدمت الحصون، واجتثّت الأصول وحطّمت الغصون، ولم نرفع عنها إلى اليوم غارة تصافحها بالبوس، وتطلع عليها غررها الضاحكة باليوم العبوس. فهي الآن مجرى السوابق ومجرّ العوالي، على التوالي، والحسرات تتجدّد في أطلالها البوالي، وكأنّ بها قد صرعت، وإلى الدّعوة المحمّديّة قد أسرعت بقدرة من لو أنزل القرآن على الجبال لخشعت من خشية الله وتصدّعت، وعزّة من أذعنت الجبابرة لعزّه وخنعت، وعدنا والبنود لا يعرف اللفّ نشرها، والوجوه المجاهدة لا يخالط التقطيب بشرها، والأيدي بالعروة الوثقى معتلقه، والألسن بشكر نعم الله منطلقه، والسيوف في مضاجع الغمود قلقه، وسرابيل الدّروع خلقه، والجياد من ردّها إلى المرابط والأواري ردّ العواري حنقه، وبعبرات الغيظ المكظوم مختنقه، تنظر إلينا نظر العاتب،
__________
(1) الصريم: الأرض المحصود زرعها.
(2) الزيادة من ريحانة الكتاب ص 200.(6/557)
وتعود من ميادين المراح والاختيال تحت حلل السّلاح عود الصّبيان إلى المكاتب والطّبل بلسان العزّ هادر، والعزم إلى منادي العود الحميد مبادر، ووجود نوع الرّماح، من بعد ذلك الكفاح، نادر، والقاسم ترتّب بين يديه من السبي النّوادر، ووارد منهل الأجور، غير المحلّإ ولا المهجور صادر، ومناظر الفضل الآتي عقبه أخيّه الثاني على المطلوب المواتي مصادر، والله على تيسير الصّعاب وتخويل المنن الرّغاب قادر، لا إله إلا هو، فما أجمل لنا صنعه الخفيّ! وأكرم بنا لطفه الحفيّ! اللهم لا نحصي ثناء عليك، ولا نلجأ منك إلا إليك، ولا نلتمس خير الدّنيا والآخرة إلا لديك، فأعد علينا عوائد نصرك يا مبديء يا معيد، وأعنّا من وسائل شكرك على ما ننال به المزيد، يا حيّ يا قيّوم يا فعّالا لما يريد.
وقارنت رسالتكم الميمونة منه لدينا حدق فتح بعيد صيته، مشرئبّ ليته، وفخر من فوق النّجوم العوائم مبيته، عجبنا من تأتّي أمله الشارد، وقلنا البركة في قدوم الوارد، وهو أنّ ملك النّصارى لا طفنا بجملة من الحصون كانت من مملكة الإسلام قد غصبت، والتماثيل فيها ببيوت الله قد نصبت، أدالها الله بمحاولتنا الطيّب من الخبيث، والتوحيد من التّثليث، وعاد إليها الإسلام عودة الأب الغائب، إلى البنات الحبائب، يسأل عن شؤونها، ويمسح دموع الرّقّة عن جفونها، وهي للرّوم خطّة خسف قلّما ارتكبوها فيما نعلم من العهود، ونادرة من نوادر الوجود، والى الله علينا وعليكم عوارف الجود!، وجعلنا في محاريب الشّكر من الرّكّع السّجود!.
عرّفناكم بمجملات أمور تحتها تفسير، ويمن من الله وتيسير، إذ استيفاء الجزئيّات عسير، لنسرّكم بما منح الله دينكم، ونتوّج بعزّ الملّة الحنيفيّة جبينكم، ونخطب بعده دعاءكم وتأمينكم، فإنّ دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب سلاح ماض، وكفيل بالمواهب المسؤولة من المنعم الوهّاب ميفاض، وأنتم أولى ما ساهم في برّ، وعامل الله بخلوص سرّ وأين يذهب الفضل عن بيتكم، وهو صفة حيّكم وتراث ميتكم، ولكم مزيّة القدم، ورسوخ القدم، والخلافة
مقرّها إيوانكم، وأصحاب الإمام مالك رضي الله عنه مستقرّها قيروانكم وهجير المنابر ذكر إمامكم، والتوحيد أعلام أعلامكم، والوقائع الشهيرة في الكفر منسوبة إلى أيّامكم، والصحابة الكرام فتحة أوطانكم، وسلالة الفاروق عليه السّلام وشائج سلطانكم، ونحن نستكثر من بركة خطابكم، ووصلة جنابكم، ولولا الأعذار لوالينا بالمتزيدات تعريف أبوابكم.(6/558)
عرّفناكم بمجملات أمور تحتها تفسير، ويمن من الله وتيسير، إذ استيفاء الجزئيّات عسير، لنسرّكم بما منح الله دينكم، ونتوّج بعزّ الملّة الحنيفيّة جبينكم، ونخطب بعده دعاءكم وتأمينكم، فإنّ دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب سلاح ماض، وكفيل بالمواهب المسؤولة من المنعم الوهّاب ميفاض، وأنتم أولى ما ساهم في برّ، وعامل الله بخلوص سرّ وأين يذهب الفضل عن بيتكم، وهو صفة حيّكم وتراث ميتكم، ولكم مزيّة القدم، ورسوخ القدم، والخلافة
مقرّها إيوانكم، وأصحاب الإمام مالك رضي الله عنه مستقرّها قيروانكم وهجير المنابر ذكر إمامكم، والتوحيد أعلام أعلامكم، والوقائع الشهيرة في الكفر منسوبة إلى أيّامكم، والصحابة الكرام فتحة أوطانكم، وسلالة الفاروق عليه السّلام وشائج سلطانكم، ونحن نستكثر من بركة خطابكم، ووصلة جنابكم، ولولا الأعذار لوالينا بالمتزيدات تعريف أبوابكم.
والله عز وجل يتولّى عنا من شكركم المحتوم، ما قصّر المكتوب منه عن المكتوم، ويبقيكم لإقامة الرّسوم، ويحلّ محبّتكم من القلوب محلّ الأرواح من الجسوم، وهو سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، ويوالي نعمه عندكم.
والسّلام الكريم، الطّيب البرّ العميم، يخصّكم كثيرا أثيرا، ما أطلع الصبح وجها منيرا، بعد أن أرسل النسيم سفيرا، وكان الوميض الباسم، لأكواس الغمائم على أزهار الكمائم مديرا، ورحمة الله وبركاته، إن شاء الله تعالى.
الطرف الثامن (في المكاتبات الصادرة عن الأمراء من العمّال وأمراء السّرايا في صدر الإسلام إلى من في معناهم)
وكان الغالب في مكاتباتهم الافتتاح بأما بعد والتعبير عن المكتوب عنه بلفظ الوحدة، وخطاب المكتوب إليه بالكاف.
كما كتب الحجّاج (1) بن يوسف إلى المهلّب (2) بن أبي صفرة، وهو يومئذ نائب عن الحجّاج على بعض الأعمال والحروب:
__________
(1) هو أبو محمد الحجّاج بن يوسف بن الحكم بن قسي الثقفي، ولّاه عبد الملك بن مروان العراق، وكان له في القتل وسفك الدماء غرائب لم يسمع بمثلها. بني مدينة واسط، وتوفي سنة 95هـ. انظر أخباره في مروج الذهب (ج 3ص 191151) والكامل في اللغة (ج 1ص 158، 224) و (ج 2 ص 262، 268، 288)، ووفيات الأعيان (ج 3ص 5429) والأعلام (ج 2ص 168).
(2) تقدمت ترجمته في الصحيفة 306من هذا الجزء الحاشية رقم 1.(6/559)
أما بعد، فإنّك تتراخى عن الحرب حتّى تأتيك رسلي ويرجعون (1)
بعذرك، وذلك أنك تمسك حتّى تبرأ الجراح وتنسى القتلى ويجمّ الناس، [ثم تلقاهم فتحتمل منهم مثل ما يحتملون منك من وحشة القتل وألم الجراح] (2)
ولو كنت تلقاهم بذلك الحدّ (3) لكان الداء قد حسم والقرن قد قصم، ولعمري ما أنت والقوم سواء لأنّ من ورائك رجالا وأمامك أموالا، وليس للقوم إلا ما معهم، ولا يدرك الوجيف بالدّبيب، ولا الظّفر بالتعذير.
وكما كتب المهلّب إلى الحجّاج مجيبا له عن ذلك.
أما بعد، فإنّي لم أعط رسلك على قول الحقّ أجرا، ولم أحتج فيهم (4)
مع المشاهدة إلى تلقين. فذكرت (5) أني أجمّ القوم، ولا بدّ من راحة يستريح فيها الغالب ويحتال المغلوب (6). وذكرت أن في الجمام تنسى (7) القتلى وتبرأ الجراح، وهيهات أن ينسى ما بيننا وبينهم. يأبى ذلك قتل من لم يجن، وقروح لم تعرق (8)، ونحن والقوم على حالة، وهم يرقبون منّا حالات، إن طمعوا حاربوا، وإن ملّوا وقفوا [وإن يئسوا انصرفوا، وعلينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا ونتحرّز إذا وقفوا] (9)، ونطلب إذا هربوا، فإن تركتني فالدّاء بإذن الله محسوم (10)، وإن أعجلتني لم أطعك ولم أعص وجعلت وجهي إلى بابك، وأنا أعوذ بالله من سخطه (11) ومقت الناس.
__________
(1) في الكامل في اللغة (ج 2ص 288): «فتتراجع».
(2) الزيادة من الكامل في اللغة.
(3) في المصدر السابق: «الجدّ» بالجيم.
(4) في المصدر السابق: «منهم».
(5) في المصدر السابق: «ذكرت» بدون الفاء.
(6) في المصدر السابق: «ويحتال فيها المغلوب».
(7) في المصدر السابق: «ما ينسي القتلى وتبرأ منه الجراح».
(8) في المصدر السابق: «تأبى ذلك قتلى لم تجنّ وقروح لم تتقرّف».
(9) الزيادة من المصدر السابق ص 289.
(10) في المصدر السابق: «فإن تركتني والرأي كان القرن مقصوما، والداء بإذن الله محسوما.
(11) في المصدر السابق: «من سخط الله».(6/560)
الطرف التاسع (في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم، إلى الملوك ومن في معناهم، على ما كان عليه مصطلح أهل المشرق، وهو على ثلاثة أضرب)
الضرب الأوّل (أن تكون المكاتبة عن ملك إلى غير ملك)
ورسمهم أن يفتتح الكتاب بلفظ «كتابنا إليك في يوم كذا، ومن مكان كذا، والأمر على كذا وكذا» ويذكر الحال التي عليها المكتوب عنه حينئذ أو التي عليها الخليفة إن كان المكتوب عنه من أتباع الخليفة، أو التي عليها الملك إن كان من أتباع الملك ونحو ذلك، ويكون التعبير في هذه المكاتبة عن المكتوب عنه بنون الجمع، والخطاب للمكتوب إليه بالكاف. ولا يقال في المكتوب إليه في هذه الحالة: سيّدي ومولاي، ولا سيدنا ولا مولانا. وبذلك بكتب عن الملوك ومن في معناهم من سائر الرؤساء إلى المرؤوسين.
ثم هو على مرتبتين:
المرتبة الأولى أن يراعى جانب المكتوب إليه في الرّفعة بعض المراعاة.
كما كتب أبو إسحاق (1) الصابي عن صمصام (2) الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه، إلى الصاحب كافي الكفاة إسماعيل بن عبّاد وزير فخر الدولة، في الشفاعة في شخص من بعض ألزامه:
كتابنا أدام الله تأييد الصاحب الجليل كافي الكفاة وإن وثقنا من المسؤولين بالإيجاب والإجابة، ومن المأمورين بالامتثال والطاعة، فإنا نخصّ
__________
(1) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 1من ص 397من هذا الجزء.
(2) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 4من ص 382من هذا الجزء.(6/561)
بكتبنا الصادرة عنا في المآرب العارضة لنا، من خصبت (1) من كلا الفريقين نهضته إليها، وظهرت مثابرته عليها، وإذا انتهينا إليه أدام الله عزّه في ذلك عددنا مع ما قدّم الله عندنا من رتبته في الطبقة الأولى، وميّزنا مع ما وفّر الله علينا من طاعته عن الطبقة الأخرى، وأنسنا منه عادة مشكورة في اتباع محبوبنا، والإسعاف بمطلوبنا ليسلس لنا إلى مخاطبته قياد يتقاعس عمّن سواه، وتنبسط منا في مكاتبته أنامل تتجعّد عمن لا يجري مجراه، ولا سيما إذا كان ذلك في مكرمة يطيب ثناؤها، ومنقبة يشاد بناؤها، والله يمدّه ويمدّنا فيه من طيب السّجايا، وصالح العطايا، بما هو الوليّ به، والحقيق بالشكر عليه.
وكتابنا هذا أدام الله عزّ الصاحب الجليل كافي الكفاة مبنيّ على إذكاره بحقّ لنا رعيناه، وذمام من أجله أوجبناه، وذلك أسدّ لإحكامه وألزم لإيجابه، وأوكد لأسبابه، وقد عرف مكان أبي منصور يزداها دار بن المرزبان من خدمتنا، وموقعه في جملتنا، وتوفّر حظّه من جميل رأينا، وخالص اعتقادنا، ومن أوجه وسائله لدينا، التي أوجبت له ذلك علينا، أنا لانزال عده عليه (2)، من الاعتداد بإحسان الصاحب الجليل كافي الكفاة إليه، وإلى أبيه من قبله، والاعتراف بأنه أيّده الله أبو عذرة صنعه، والسابق إلى الجذب بضبعه، ولمن كان أقرّ له من ذلك معروف لا ينكر، ودخل من الثناء عليه في إجماع لا يخرق، فقد بيّن عن نفسه أنه ممن يطيق حمل المنن ويحسن مصاحبة النّعم، ويستحق أن تقرّ عنده أسلافها، وتدرّ عليه أخلافها، إذ لم يذهله الرّبوع فيها عن التحيد من اصطرافها وانصرافها، ولم يلهه التوسّط لها عن حياطة أطرافها وأكنافها، ومن لنا اليوم بالشّكور الذي لا يغمط، والذّكور الذي لا ينسى؟ والعليم بما يلزمه، والقؤوم بما يحقّ عليه. وأعلمنا حال قريبين له يقال لهما الفركان بن حرزاد، ورستم بن يزد، وأنهما تصرّفا في بعض الخدمة تصرّفا تزايلا فيه عن نهج السّداد، وسنن
__________
(1) لعله حصحصت أو وضحت أو نحو ذلك. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) كذا في الأصول، ولعله أنه «لا يزال يعدّ ما عليه من الاعتداد الخ». حاشية الطبعة الأميرية.(6/562)
الرّشاد، واقتضى ذلك أن طلبا بالتقويم والتهذيب، وولجا مضيق القصاص والتأديب، وأنه قد مضت لهما فيه مدّة طويلة في مثلها ما صلح المعاقب، واكتفى المعاقب، وسؤاله لهما، ومرادنا له فيهما، شفاعة الصاحب الجليل كافي الكفاة إلى مولانا الأمير السيد شاهنشاه فخر الدولة في أن يسعهما العفو، ويدركهما العطف إما باستخدام يتطوّقان به المنن، ويأذن لهما بانصراف إلى الوطن وقد استظهرنا بكتاب كتبناه في أمرهما: هذا الكتاب يشتمل عليه، حتّى إذا وجب أن يجعله الصاحب الجليل كافي الكفاة ذريعة إلى الغرض، ومطيّة إلى المقصد، أمضى في ذلك رأيه، وعقد عليه تدبيره. فإن رأى الصاحب الجليل أن يتوصّل في هذا الأمر إلى ما يشاكل عادته عندنا في الأمور الواردة عليه فعل، وتوخّى في الجواب أن يكون متضمّنا لذكر الفعل دون القول، والإنجاز دون الوعد، إن شاء الله تعالى.
وكما كتب الصابي عن صمصام الدولة المقدّم ذكره، إلى الصاحب (1) بن عباد أيضا في حالة أخرى، بسبب ردّ إقطاع إلى أبي جعفر محمد بن مسعود قرين كتاب إلى فخر الدولة:
كتابنا والسلامة لدينا راهنة، وعادة الله لإقرارها ضامنة، والحمد لله رب العالمين، والصاحب الجليل كافي الكفاة أدام الله تأييده يعلم أنه لم يزل لممالكنا أفنية تقام بها أسواق المكارم، وتحيا بها سنن المحامد، وقد جعله الله بتفضّله الحافظ لجمال ذلك علينا، والضارب بسهمه فيه معنا، فالحمد لله على أن قرن الحظوظ التي خوّلنا، والمنازل التي نوّلنا، بالخلائق الخليقة بها، الداعية إلى استقرارها، والطرائق المطرّقة إلى ثباتها واستمرارها، وأن زان أيامنا هذه الحاضرة، بآثار الصاحب كافي الكفاة أدام الله عزه فيها النّاضرة ومساعيه
__________
(1) تقدمت ترجمته في الصحيفة 17من هذا الجزء، من صبح الأعشى، الحاشية رقم 4.(6/563)
الرّشيدة، وأفعاله المستقيمة، وأحاديثه الجميلة، وإيّاه نسأل أن يجرينا وكلّ ناصح على أفضل ما عوّدنا وأحسن ما أولاه ومنحنا بقدرته.
وإذا كان مولانا الأمير السيد شاهنشاه فخر الدولة، وفلك الأمّة، بالمحلّ الذي أهّله الله له، من استعذاب الإحسان إلى أوليائه، وافتراض الإفضال على نصحائه، وكان الصاحب الجليل بالحال التي هو بها من القيام بما حمل به (1)
المناب فيه عنه، فقد وجب أن تكون الرّعاية لذوي الحرمات مستحكمة الأسباب، ثابتة الأطناب، واضحة الأعلام، ماضية الأحكام، ولا سيما فيمن تعلق منّا بالعناية، وأخذ من ذمامنا بالوثيقة، و «أبو جعفر محمد بن مسعود» أيده الله جامع للمواتّ، التي يستحقّ بها اجتماع العنايات، سالفا صالحا في الخدمة، وسابقة متمكّنة في الجملة، واشتمالا على كلّ ما وجبت به الحقوق، ولزمت به الرعايات. وذكر أنه كانت له بنواحي الجبل تسويغات ومعايش أنعم بها مولانا الأمير السيد فخر الدولة عليه في حال بعد حال، وشرّفه بها في مقام بعد مقام، منها كذا وكذا، وإذا جمع الجميع كان قليلا في جنب ما يفيضه مولانا الأمير السيد شاهنشاه فخر الدولة، وفلك الأمة على خدمه، من جليل عوارفه الجارية على يد الصاحب الجليل كافي الكفاة أدام الله تأييده، والواصلة إلى مستحقّيها بلطيف توصّله، وجميل معتقده. وكان موقعه جليلا عند أبي جعفر محمد بن مسعود أيده الله في جنب ما يصلح من شأنه، ويقيم من جاهه، ويرب من معايشه، ويلمّ من حاله. وقد كتبنا إلى مولانا في ذلك كتابا مجملا قصرناه على الرّغبة إليه، في ردّ هذه المعايش عليه، وعوّلنا على الصاحب الجليل في إخراج أمره العالي بذلك له، وإحكام المناشير والوثائق بجميعه، والتقدّم بمكاتبة العمّال والولاة بتقوية أيدي أصحابه، في استيفاء ما يجب من الأسلاف والبقايا، على الأكرة (2) والمزارعين، والوكلاء والمعاملين، وتأكيد الكتب بغاية ما تؤكّد
__________
(1) في الأصل «من القيام قد كمل له والمناب الخ» وهو تخليط من الناسخ. حاشية الطبعة الأميرية.
(2) الأكرة، بالفتح: ج أكّار، وهو الحرّاث لحفره الأرض.(6/564)
به أمثالها، ويبلغ به أبو جعفر محابّه كلّها. فإن رأى الصاحب الجليل أن يأتي في ذلك كلّه ما يجده ويعده ويرعاه ويحفظه، جاريا على المألوف من مثابرته على ما عاد علينا وعليه معنا بطيب الذّكر والبشر، وثناء اليوم والغد، فقد أنفذنا بهذا الكتاب ركائب لنا دلالة على خصوص متضمّنه في تعلقه بالاهتمام منا، فعل إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني (أن تكون المكاتبة من ملك إلى ملك)
ورسمهم في ذلك أن يفتتح الكتاب بلفظ: كتابي والأمر على كذا وكذا، ويؤتى بالتعبير عن المكتوب عنه في أثناء الكتاب بلفظ الإفراد دون الجمع، وهنا يفخّم شأن المكتوب إليه، فيعبّر عنه بمولاي وسيدي، ومولانا وسيدنا، ونحو ذلك.
ثم هو على مراتب (1):
المرتبة الأولى (أن يكون المكتوب إليه ملكا أيضا)
فيخاطبه على قدر مقامه بالسيادة أو غيرها مع الدعاء بما يناسبه، من طول البقاء ونحوه، ثم تارة يقع التعرّض فيها بذكر الطلب وبرفع الحال التي هو عليها، وتارة لا يقع التعرّض إلى ذلك كما كتب أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة بن معز الدولة، بن بويه، إلى عضد الدولة بن بويه في طلب الصّلح، وقد جرى بينهما اختلاف.
كتابي أطال الله بقاء مولانا الملك الجليل المنصور عضد الدولة من
__________
(1) لم يذكر في الأصول غير الأولى: ويظهر أن التقسيم سهو فإن المقسم هو الكتابة من ملك إلى ملك.
حاشية الطبعة الأميرية.(6/565)
العسكر بظاهر سوق الأهواز، ومولانا أمير المؤمنين مشمول بالكفاية والتأييد، مخصوص بالعز والتمكين، يجري على أفضل ما عوّد الله خلفاءه في أرضه، وأحبّاءه في رعاية خلقه، من التكفّل لهم بالإظهار والإدالة، وتولّيهم بالإعلاء والإنافة، وأنا مستظلّ بكنف طاعته، مستكنّ في حرم مشايعته، شاكر لله على بلائه، مثن عليه بآلائه، راغب إليه أن يعصمني في مولانا الملك الجليل المنصور وفي نفسي من كل مكروه ومستهجن، ويوفّقني وإيّاه لكل مستحبّ ومستحسن، ويعيذنا من المقام على الفرقة، والزّوال عن سنن الألفة، وهو المحمود ربّ العالمين.
والحقوق بين مولانا الملك وبيني فيما قررته منا اللّحمة، وأكّدته العصمة، وأثّلته الأسلاف، ونشأت عليه الأخلاف، حقيقة بأن لا تتسرّع إليها دواعي النّقض، ولا تتمكّن منها ملمّات النّسخ، ولا يتمّ للشيطان عليها ما يحاوله بنزغه، ويتوصّل إليه بكيده، وأن تنزاح العوارض عنها، وتضمحلّ دون التأثير فيها، وأن نعتقد جميعا أنّ بتقارضنا رعايتها ثبات النعم المتصلة بها، فلا يستنكف مستنكف منّا أن يخفض جناحه لأخيه، ويغضّ من جماحه في مقاربة ذويه، إذ كان ذلك حاميا له في أهول الأحوال ممّا هو أشدّ خفضا، وأبلغ رضّا، وأسوأ مغبّة، وأنكر عاقبة.
وقد علم مولانا الملك المنصور بالثاقب من تأمله، والصحيح من تمييزه وتدبّره، أنّ دولتنا حرسها الله مبنيّة على أسّ الترافد والتعاضد، موضوعة على قاعدة التوازر والتظافر، وأنّ مشيختنا وسادتنا رضوان الله عليهم جعلوا الائتلاف رتاجا (1) بين الأعداء وبينها، ثم إن مفتاحه هو الخلاف المتطرّق لهم عليها، ولو حدث التنافر في أيام رياسة أضعفنا منّة، وأوهننا عقدة، وأحدثنا سنّا، وأقلّنا حنكة، لكان ذلك أقلّ في التعجّب من أن يعرض في رياسة أحصفنا رأيا،
__________
(1) الرتاج، بكسر الراء: الباب العظيم.(6/566)
وأسدّنا تدبيرا، وأوفانا حلما، وأكملنا حزما. وقد تكررت أيد الله مولانا على ذات بيننا قوارص احتقرناها حتّى امتلأ الإناء من قطرها، واستقينا منها على العظيمة التي لا ثواء بعدها، وما أعود على نفسي بلوم في ابتداء قبيح ابتدأته، ولا بمركب شنيع ركبته ولا حقّ اطّرحته، ولا استصلاح تركته، ولا أدفع مع ذلك أنني قابلت لما تضاعف بالأقل الأيسر، وجازيت لما ترادف بالأدون الأنزر، إلا أني ما آثرت كثيره ولا قليله، ولا اخترت دقيقه ولا جليله، لكنه لم يصلح في السيرة وقد أشفينا على التزاحف للحرب، والتّدالف للطّعن والضرب أن أستعمل ما كنت عليه من توفية الحقوق، وإقامة الرسوم، فيراني الأولياء الذين بهم تحمى البيضة، وتحاط الحوزة، متناقض الفعلين، متنافي المذهبين، وكنت في ذلك الفعل الذّميم، والرأي الذي ليس بمستقيم، مقتديا لا مبتديا، ومتّبعا لا مبتدعا. ولو وقف بي مولانا الملك الجليل قبل أواخر الجفاء، وعطف معي إلى أوّل شرائع الصّفاء، لكانت عريكتي عليه ألين، وطريقه إلى ارتباط طاعتي وولائي أقصد، لكنه، أيّده الله، أقام على ما لا يليق به من مجانبتي ومغالظتي، وبثّ الحبائل لي ودسّ المكايد إليّ، ومتابعته الجواسيس والكتب إلى الأولياء في عسكري الذين هم أولياؤه، إن أنصف وعدل، ونصحاؤه، إن أحسن وأجمل.
وكان الأشبه بمولانا لو كنت الغالط عليه، والباعث لهذه الأسباب إليه، أن يسوسني سياسة الحكيم، ويستخلصني استخلاص الكريم، إذ كنّا لم نقدّمه معشر أهل البيت علينا، ونولّه أزمّة أمورنا، إلا ليأسو جروحنا، ويجبر كسورنا، ويتعهّد مسيئنا، ويستميل نافرنا، فأما أن يحاول منا استباحة الحريم، وإركاب المركب العظيم، فكيف يجوز أن تدوم على هذا طاعة، أو تصلح عليه جماعة، أو يغضي عليه مغض، أو يصفح عنه صافح؟. وكان من أشدّ هذه الجفوة وأفظعها، وأقساها وأغلظها، أن عاد رسولي من حضرته خاليا من جواب بما كتبت إليه، وما أعرف له أيده الله في ذلك عذرا يبسطه، ولا سلك منه السبيل التي تشبهه، وبالله جهد القسم ومنتهاها، وأجلّها وأوفاها، لقد سار مولانا أمير
المؤمنين أطال الله بقاءه، وسرت إلى هذا الموضع، واعتقادنا لا يجاوز حفظ الحدود والأطراف، وحياطة النهايات والأكناف، والأغلب علينا أنّ مولانا الملك أدام الله تأييده لا يتجاوز معي المعاتبة اللطيفة، والمخاطبة الجميلة، والاستدعاء منّي لما يسوغ له أن يطلبه ولي أن أبذله، من تعفية السالف، وإصلاح المستأنف، وتوفية للحق في رتبة لا أضنّ بها عليه، ولا أستكثر النّزول عنها له، وتقرير أصل بيننا يكون أيده الله به معقلا لي وموئلا، وأكون نائبا له ومظفّرا إلى أن بدأ الأصحاب بالعيث في هذه البلاد، وألحّوا عليها بالغارات، واعتمدوها بالنّكايات، وكان هذا كالرّشاش الذي يؤذن بالانسكاب، والوميض الذي يوعد بالاضطرام وأوجبت قبل المقابلة عليه والشّروع في مثله في حقّ مولانا الملك الجليل، الذي لا أدع أن أحفظ منه ما دعاني إلى إضاعته، وأتمسّك بما اضطّرّني إلى مفارقته، أن أقدّم أمام الالتقاء على الحرب التي هي سجال كما يعلم، إبلاغ نفسي عذرها، وإعطاء المقادة منها، داعيا له إلى طاعة الخالق والإمام، وصلة اللّحم والأرحام، وحقن الدماء والمهج، وتسكين الدّهماء والرّهج، وثني العنان عن المورد الذي لا يدري وارده كيف يصدر عنه، ولا يثق بالسّلامة منه، وتعريفي ما يريده منّي لأتّبعه ما لم يكن ثالما لي، وعائدا بالوهن عليّ، والله الشاهد على شهادة قد علم إخلاصي فيها، وسماحة ضميري بها، وأنني أكره أن أنال منه، كما أكره أن ينال مني، وأتألّم من أن أظهر عليه، كما أتألّم أن يظهر عليّ، وأحبّ أن يرجع عني وأرجع عنه وقد التقت قلوبنا، وتألّف على الجميل شملنا، وطرفت أعين الأعادي عنا، وانحسمت مطامعهم فينا، فإن فعل ذلك فحقيق به الفضل، وهو لعمر الله له أهل، ولا عذر له في أن لا يفعله، وقد وسّع الله ماله، ووفّر حاله، وأغناه عمّا يلتمسه الصّعلوك، ويخاطر له السّبروت (1)، وجعله في جانب الغنى والثّروة، والحزم والحيطة، وإن أبى فكتابي هذا حجّة عند الله الذي تستنزل منه المعونة وعند(6/567)
وكان الأشبه بمولانا لو كنت الغالط عليه، والباعث لهذه الأسباب إليه، أن يسوسني سياسة الحكيم، ويستخلصني استخلاص الكريم، إذ كنّا لم نقدّمه معشر أهل البيت علينا، ونولّه أزمّة أمورنا، إلا ليأسو جروحنا، ويجبر كسورنا، ويتعهّد مسيئنا، ويستميل نافرنا، فأما أن يحاول منا استباحة الحريم، وإركاب المركب العظيم، فكيف يجوز أن تدوم على هذا طاعة، أو تصلح عليه جماعة، أو يغضي عليه مغض، أو يصفح عنه صافح؟. وكان من أشدّ هذه الجفوة وأفظعها، وأقساها وأغلظها، أن عاد رسولي من حضرته خاليا من جواب بما كتبت إليه، وما أعرف له أيده الله في ذلك عذرا يبسطه، ولا سلك منه السبيل التي تشبهه، وبالله جهد القسم ومنتهاها، وأجلّها وأوفاها، لقد سار مولانا أمير
المؤمنين أطال الله بقاءه، وسرت إلى هذا الموضع، واعتقادنا لا يجاوز حفظ الحدود والأطراف، وحياطة النهايات والأكناف، والأغلب علينا أنّ مولانا الملك أدام الله تأييده لا يتجاوز معي المعاتبة اللطيفة، والمخاطبة الجميلة، والاستدعاء منّي لما يسوغ له أن يطلبه ولي أن أبذله، من تعفية السالف، وإصلاح المستأنف، وتوفية للحق في رتبة لا أضنّ بها عليه، ولا أستكثر النّزول عنها له، وتقرير أصل بيننا يكون أيده الله به معقلا لي وموئلا، وأكون نائبا له ومظفّرا إلى أن بدأ الأصحاب بالعيث في هذه البلاد، وألحّوا عليها بالغارات، واعتمدوها بالنّكايات، وكان هذا كالرّشاش الذي يؤذن بالانسكاب، والوميض الذي يوعد بالاضطرام وأوجبت قبل المقابلة عليه والشّروع في مثله في حقّ مولانا الملك الجليل، الذي لا أدع أن أحفظ منه ما دعاني إلى إضاعته، وأتمسّك بما اضطّرّني إلى مفارقته، أن أقدّم أمام الالتقاء على الحرب التي هي سجال كما يعلم، إبلاغ نفسي عذرها، وإعطاء المقادة منها، داعيا له إلى طاعة الخالق والإمام، وصلة اللّحم والأرحام، وحقن الدماء والمهج، وتسكين الدّهماء والرّهج، وثني العنان عن المورد الذي لا يدري وارده كيف يصدر عنه، ولا يثق بالسّلامة منه، وتعريفي ما يريده منّي لأتّبعه ما لم يكن ثالما لي، وعائدا بالوهن عليّ، والله الشاهد على شهادة قد علم إخلاصي فيها، وسماحة ضميري بها، وأنني أكره أن أنال منه، كما أكره أن ينال مني، وأتألّم من أن أظهر عليه، كما أتألّم أن يظهر عليّ، وأحبّ أن يرجع عني وأرجع عنه وقد التقت قلوبنا، وتألّف على الجميل شملنا، وطرفت أعين الأعادي عنا، وانحسمت مطامعهم فينا، فإن فعل ذلك فحقيق به الفضل، وهو لعمر الله له أهل، ولا عذر له في أن لا يفعله، وقد وسّع الله ماله، ووفّر حاله، وأغناه عمّا يلتمسه الصّعلوك، ويخاطر له السّبروت (1)، وجعله في جانب الغنى والثّروة، والحزم والحيطة، وإن أبى فكتابي هذا حجّة عند الله الذي تستنزل منه المعونة وعند
__________
(1) السبروت، بضم أوله وثالثه وسكون ثانيه ورابعه، المسكين المحتاج.(6/568)
الناس الذين تلتمس منهم العصبيّة، وقد أنفذت به إسفندار بن خسرويه وإبراهيم ابن كالي، وهما ثقتاي وأميناي، ليؤدّياه ويشافهاه عنّي بمثل متضمّنه ونجواه، والله يعيذنا في مولانا الملك الجليل من أن يختار إلا أولى الأمرين وأليقهما بدينه ومروءته، وهو وليّ ما يراه في الأمر بتعجيل الإجابة بما أعمل عليه، وأنتهي بالتدبير إليه، إن شاء الله تعالى.
الضرب الثالث (أن تكون المكاتبة عمّن دون الملك إليه)
ورسمهم فيه أن يبتدأ بلفظ كتابي، والدعاء للمكتوب إليه بطول البقاء ونحو ذلك، ويخاطب في أوّل الكتاب بمولانا الملك السيد الأجلّ، وفي أثناء الكتاب بالسيد والملك ونحو ذلك، ويعبّر عن المكتوب عنه بلفظ الإفراد:
كما كتب أبو إسحاق الصابي (1) عن الأمير نصر خوزة فيروز بن عضد الدولة إلى ابن عمه شرف الدولة يذكر له حاله مع أخيه صمصام الدولة.
كتابي أطال الله بقاء مولانا الملك السيد الأجلّ، شرف الدولة، وزين الملّة، والسلامة لي شاملة بما مدّه الله تعالى عليّ من ظلّه الظليل، ورأيه الحسن الجميل، والحمد لله رب العالمين. وقد تأدّى إلى مولانا الملك السيد من أخباري ما أستغني به عن تطويل المفصّل، وأكتفي به عن إجمال المجمل وذلك أن أسفار بن كردويه وعبد العزيز بن برسف الكافرين لنعماء الله ونعمة الملك السعيد عضد الدولة أبينا رحمة الله عليه قبلنا، الغامطين لما نظاهر عليهما من إحساننا وإفضالنا، هجما علينا بخدعة تظافرا عليها، وشبهة جذباني إليها، وأبرما كذبا من القول لم أظنّهما يقدمان على مثله، ولا يتفوّهان باطلا به، فأصغيت إليهما إصغاء الواثق بهما لا المنخدع لهما، فلما أنزلاني على حكمهما، وأوثقاني بحيث لا أستطيع مخالفتهما، ظهرت الحيلة، ووضحت
__________
(1) تقدمت ترجمته في الحاشية رقم 1من ص 397من هذا الجزء.(6/569)
الغيلة، وفاتني الاختبار، وغلبني المقدار، فجرى ما كانت عاقبته خذلان الله إيّاهما، وإنزاله بأسه ونقمته عليهما، وخلاصي بسلامة الصّدر، واتضاح الغدر، من حبائلهما المنصوبة، وأشراكهما المبثوثة. ولما حصلت في كنف الملك السيد صمصام الدولة أقالني العثرة، وقبل منّي المعذرة، وأحلّني من داره وحماه بحيث لم أعدم عادة، ولا انقطعت عنّي مادّة، وكانت الحال توجب مقامي فيها إلى أن تتعفّى آثار الفتنة التي أثارها ذانكما الخبيثان الجانيان.
ثم ورد فلان في الرسالة، وتمّم الله على يده عقد الصلح والمسالمة، فأخرجت عن الاحتجاب إلى الظّهور، وعن الاحتجار إلى البروز، وأنزلت من الدار المعمورة في جانب يصل إليّ منه سيب (1) وصوله على العموم دون الخصوص، وعاملني الملك السيد صمصام الدولة بما يليق بفضله متّبعا في ذلك مقاطعة السيف بينه وبيني، وطاعة مولانا الملك السيد الأجل شرف الدولة في أمري، وجدّد عندي من الإنعام والتوسعة والإيثار والتكرمة آخرا ما شفع تلك الشّفقة أوّلا، ولقيني فلان دفعات، وشافهني مرّات، وتحمّل عني إلى مولانا الملك موالاتي الشكر كثيرا، واعتدادا طويلا عريضا، ودعاء، الله يسمع مرفوعه، ويجيب مسموعه، بمنّه وقدرته، وحوله وقوّته.
والآن فإذ قد جمع الله الكلمة، ووكّد الألفة وحرس النّعمة، وحصّن الدولة وأخرج عنها من كان يشبّ الفتنة، ويسدي وينير في الفرقة، فإنّي واثق بالله جل وعزّ وبما تترقّى الحال إليه في غاية محبوبي، ونهاية مطلوبي، وأقاصي ما تبلغه أمنيّتي، وتسمو إليه همّتي، وتقتضيه أخوّتي وعصمتي، ولله المشيئة، ومنه المعونة، فإن رأى مولانا الملك السيد أن يسكن إلى سكوني، ويطمئن إلى طمأنينتي، ويجري إليّ غاية فضله وطوله في الأمر الذي أحسن فيه وأجمل، ليشملنا إنعامه، ويتظاهر علينا امتنانه، وأستوفي بقيّة حظّي من ثمرة ذلك
__________
(1) السيب: العطاء.(6/570)
وعائدته، وجدواه وفائدته، ويأمر بتشريفي بكتابه، وتأهيلي بجليل خطابه، وتصريفي بين أمره ونهيه، فعل، إن شاء الله تعالى.
تم الجزء السادس. يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء السابع وأوّله الطرف العاشر (في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية) والحمد لله رب العالمين. وصلاته على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه والتابعين وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل.(6/571)
ثبت بأسماء المصادر والمراجع
11 - الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب (41) تحقيق محمد عبد الله عنان.
مكتبة الخانجي بالقاهرة الشركة المصرية للطباعة والنشر، 1973 1977.
2 - إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب المعروف بمعجم الأدباء لياقوت الحموي (71) طبعة مرجليوت بمصر 19251907.
3 - أزهار الرياض في أخبار عياض للمقري التلمساني (31) تحقيق الأساتذة السقا والأبياري وشلبي.
طبعة القاهرة 19421939.
4 - أساس البلاغة للزمخشري.
تحقيق عبد الرحيم محمود دار المعرفة بيروت 1979.
5 - الأعلام للزركلي (81) دار العلم للملايين بيروت 1980.
6 - الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (251) طبعة دار الثقافة ببيروت 19611955.
7 - البداية والنهاية في التاريخ لابن كثير (1 14) مصر 13581351هـ.
82 - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني (21) القاهرة 1348هـ.
9 - بغية الملتمس للضبي.
دار الكتاب العربي 1967.
10 - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي دار المعرفة بيروت لبنان.
11 - البيان والتبيين للجاحظ (41) مصر 13691367هـ المطبعة العلمية بمصر 13131311 هـ.
12 - البيان المغرب لابن عذاري المراكشي (41) تحقيق ج. س. كولان. وإ. ليفي بروفنسال والدكتور احسان عباس دار الثقافة بيروت لبنان.
13 - تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي (101) مصر 13071306هـ.
14 - تاج اللغة وصحاح العربية للجوهري (1 2) مصر 1282هـ.
15 - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (141) دار الكتاب العربي بيروت لبنان.(6/572)
14 - تاج اللغة وصحاح العربية للجوهري (1 2) مصر 1282هـ.
15 - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (141) دار الكتاب العربي بيروت لبنان.
16 - تاريخ ابن خلدون (141) دار الكتاب اللبناني بيروت 1981.
17 - تاريخ الطبري (151) مكتبة خياط بيروت لبنان.
18 - تاريخ المنّ بالإمامة لابن صاحب الصلاة.
تحقيق الدكتور عبد الهادي التازي.
العراق وزارة الثقافة والفنون 1979.
19 - تذكرة الحفاظ للذهبي (41) حيدرآباد 13341333هـ.
20 - تفسير الجلالين دار الفكر بيروت لبنان.
21 - تهذيب الأسماء واللغات لابن شرف النووي الجزء الأول، من القسم الثاني دار الكتب العلمية بيروت.
22 - تهذيب تاريخ ابن عساكر لعبد القادر بدران (71) دمشق 13511329هـ.
23 - تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني (121) حيدرآباد الدكن 13271325هـ.
24 - جذوة المقتبس للحميدي الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966.
25 - جغرافية شبه جزيرة العرب لرضا كحالة دمشق 1944.
26 - جمهرة أنساب العرب لابن حزم الأندلسي 2تحقيق عبد السّلام محمد هارون دار المعارف بمصر 1962.
27 - حماسة أبي تمام (41) بشرح التبريزي طبعة بولاق.
28 - خريدة القصر وجريدة العصر للأصفهاني قسم شعراء مصر (21) تحقيق الدكتور شوقي ضيف القاهرة 1951.
29 - خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب لعبد القادر بن عمر البغدادي (41) مصر 1299هـ.
30 - الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة لابن حجر العسقلاني (41) حيدرآباد 19501945.
31 - دولة سلاطين المماليك (21) مكتبة الانجلو المصرية، سنة 1967.
32 - ديوان امرىء القيس تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم دار المعارف بمصر 1969.
33 - الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسّام الشنتريني تحقيق الدكتور إحسان عباس دار الثقافة ببيروت 19791978.
34 - الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي (61) تحقيق الاستاذين محمد بن شريفة وإحسان عباس دار الثقافة ببيروت 1973.
35 - الرد الوافر لابن ناصر الدين تحقيق زهير الشاويش، بيروت 1393 هـ.
361 - رسائل ابن حزم الأندلسي (41) تحقيق الدكتور إحسان عباس المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت سنة 19831980.(6/573)
35 - الرد الوافر لابن ناصر الدين تحقيق زهير الشاويش، بيروت 1393 هـ.
361 - رسائل ابن حزم الأندلسي (41) تحقيق الدكتور إحسان عباس المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت سنة 19831980.
37 - ريحانة الكتّاب ونجعة المنتاب لابن الخطيب، المجلد الأول تحقيق محمد عبد الله عنان القاهرة مكتبة الخانجي المطبعة العربية الحديثة الطبعة الأولى سنة 1980.
38 - السيرة النبوية لابن هشام (31) مصر 1295هـ.
39 - شرح المقامات الحريرية للشريشي (21) مصر سنة 1300هـ.
40 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب للعماد الحنبلي (81) القاهرة 13511350هـ.
41 - الشعر والشعراء لابن قتيبة (21) دار الثقافة بيروت 1969.
42 - الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي (121) طبع في مصر 13551353هـ.
43 - ضوء الصبح المسفروجنى الدوح المثمر (مختصر صبح الأعشى في كتابة الانشا) للقلقشندي، الجزء الأول.
عني بطبعه وتصحيحه محمود سلامة مطبعة الواعظ بمصر 1906.
44 - الطالع السعيد لكمال الدين أبي الفضل الأدفوي، تحقيق سعد محمد حسن، القاهرة 1966.
452 - طبقات الشعراء لابن سلام.
دار الكتب العلمية بيروت لبنان 1982.
46 - العقد الفريد لابن عبد ربه (71) شرح أحمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم الأبياري القاهرة.
مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، سنة 19651949.
47 - عيون الأخبار لابن قتيبة (21) شرح وضبط الدكتور يوسف طويل (43) شرح وضبط الدكتو مفيد قميحة.
دار الكتب العلمية بيروت 1986.
47 - فتوح البلدان للبلاذري مصر 1319هـ.
48 - الفهرست للنديم تحقيق رضا تجدد طهران 1971.
49 - فوات الوفيات للكتبي (51) تحقيق الدكتور إحسان عباس دار الثقافة بيروت 19741973 50القاموس المحيط للفيروز آبادي (41) مصر سنة 1330هـ.
51 - قرآن كريم دار الفكر بيروت 1403هـ.
52 - قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان للقلقشندي تحقيق إبراهيم الأبياري دار الكتاب اللبناني بيروت 1982.
53 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة (21)، استانبول 19431941.
541 - الكامل في التاريخ لابن الأثير (131) دار صادر بيروت 1982.(6/574)
53 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة (21)، استانبول 19431941.
541 - الكامل في التاريخ لابن الأثير (131) دار صادر بيروت 1982.
55 - الكامل في اللغة والأدب للمبرد (21) مكتبة المعارف بيروت 56لسان العرب لابن منظور (151) دار صادر بيروت.
57 - المثل السائر لابن الأثير (21) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد القاهرة 1939.
58 - مجمع الأمثال للميداني (21) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد مطبعة السنة المحمدية 1955 59محيط المحيط لبطرس البستاني مكتبة لبنان بيروت 1977.
60 - المختار من رسائل أبي إسحاق بن زهرون الصابي.
نقّحه وعلّق حواشيه الأمير شكيب ارسلان دار النهضة الحديثة بيروت لبنان 61المختصر في أخبار البشر (ويعرف بتاريخ أبي الفداء) للملك المؤيّد اسماعيل أبي الفداء صاحب حماة سبعة أجزاء في مجلدين دار الكتاب اللبناني بيروت.
62 - مروج الذهب للمسعودي (41) شرح وتقديم الدكتور مفيد قميحة دار الكتب العلمية بيروت 1986.
63 - معاهد التنصيص على شواهد التلخيص لعبد الرحيم بن أحمد العباسي (41) مصر 1367هـ.
642 - معجم البلدان (51) لياقوت الحموي دار صادر، دار بيروت 1984.
65 - معجم الشعراء للمرزباني، ومعه المؤتلف والمختلف للآمدي تصحيح الدكتور ف. كرنكو دار الكتب العلمية بيروت 1982.
66 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام الانصاري المصري (21) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
القاهرة مطبعة المدني.
67 - مفتاح الأفكار في النثر المختار للشيخ أحمد مفتاح مصر 1314هـ.
68 - نثير فرائد الجمان في نظم فحول الزمان لابن الأحمر دراسة وتحقيق محمد رضوان الداية دار الثقافة بيروت 1967.
69 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي (161) دار الكتب المصرية 70نفاضة الجراب في علالة الاغتراب لابن الخطيب تحقيق الدكتور أحمد مختار العبادي دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة.
71 - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقّري (81) تحقيق الدكتور احسان عباس دار صادر بيروت 1968.
721 - نكت الهميان في نكت العميان لصلاح الدين الصفدي.(6/575)
71 - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقّري (81) تحقيق الدكتور احسان عباس دار صادر بيروت 1968.
721 - نكت الهميان في نكت العميان لصلاح الدين الصفدي.
مصر 1329هـ.
73 - نهاية الارب في فنون الأدب (301) للنويري مصورة عن طبعة دار الكتب بمصر.
742 - وفيات الأعيان لابن خلكان (81) تحقيق الدكتور احسان عباس دار صادر بيروت 19781977 75يتيمة الدهر للثعالبي (41) دار الكتب العلمية بيروت لبنان سنة 1979.(6/576)
فهرس
المهنيع الثاني في ذكر الألقاب والنعوت المستعملة عند كتاب الزمان وبيان معانيها وهي نوعان 3 النوع الأوّل الألقاب الإسلامية وهي صنفان 3 الصنف الأوّل المذكرة وهي ضربان 3 الضرب الأوّل الألقاب المفردة المختصة في اصطلاح الكتاب باسم الألقاب 3 الضرب الثاني المركبة المعبر عنها في اصطلاح الكتاب بالنعوت 35 الصنف الثاني (وكتب خطأ الضرب الثاني) من الألقاب المؤنثة 76 الصنف الثاني (لعل الصواب النوع الثاني كما نبه عليه) من الألقاب المفرّعة على الأصول ألقاب من يكتب إليه من أهل الكفر وهي على ضربين. 78
الضرب الأوّل الألقاب المذكرة وهي نمطان 79 النمط الأوّل المفردة 79 النمط الثاني الألقاب المركبة 83 الضرب الثاني من ألقاب أهل الكفر الألقاب المؤنثة 95 الجملة السابعة في تفاوت الألقاب في المراتب وهي قسمان 96 القسم الأوّل ما يقع التفاوت فيه في الصعود والهبوط وهو نوعان 96 النوع الأوّل ما يقع التفاوت فيه بحسب القلة والكثرة 96 النوع الثاني ما يقع فيه التفاوت في العلوّ والهبوط بحسب ما يقتضيه جوهر اللفظ أو ما وقع الاصطلاح عليه وهو صنفان 97 الصنف الأوّل الألقاب المفردة وهي على أربعة أنماط 97 النمط الأوّل التوابع 97
النمط الثاني ما يقع التفاوت فيه بحسب لحوق ياء النسب وتجرّده منها 99 النمط الثالث ما يقع التفاوت فيه بصيغة مبالغة غير ياء النسب 100 النمط الرابع ما يقع فيه التفاوت بحسب ما في ذلك اللقب من اقتضاء التشريف لعلوّ متعلقه ورفعته 100 الصنف الثاني الألقاب المركبة وهي على ضربين 101 الضرب الأوّل ما يترتب بعضه على بعض لقبا بعد لقب وله اعتباران 101 الاعتبار الأوّل أن يشترك في رعاية الترتيب أرباب السيوف والأقلام وغيرهم وهو على ثلاثة أنماط (صوابه أربعة) 101 النمط الأوّل ما يضاف إلى الإسلام 101 النمط الثاني ما يضاف إلى الأمراء والوزراء ونحوهم 103 النمط الثالث ما يضاف إلى الملوك والسلاطين 105 النمط الرابع ما يضاف لأمير المؤمنين 106 الاعتبار الثاني أن يختص الترتيب في الألقاب بنوع من المكتوب له وهو أربعة أنماط 107 النمط الأوّل ما يختص بأرباب السيوف 107 النمط الثاني ما يختص بالوزراء ومن في معناهم 109 النمط الثالث ما يختص بالقضاة والعلماء 109 النمط الرابع ما يختص بالصلحاء 109 القسم الثاني مما تتفاوت فيه مراتب الألقاب ما يقع التفاوت فيه بالتقديم والتأخير وهو نوعان 113 النوع الأوّل الألقاب المفردة وهي على ستة أنماط 113 النمط الأوّل الألقاب التي تلي الألقاب الأصول 113 النمط الثاني ما يلي العالي أو السامي من الألقاب 113 النمط الثالث ما يلي لقب الوظيفة 114 النمط الرابع ما يقع قبل لقب التعريف 114 النمط الخامس ما يقع فصلا بين الألقاب المفردة والمركبة 115 النمط السادس ما ليس له موضع مخصوص من الألقاب المفردة 115
النوع الثاني مما تتفاوت فيه مراتب الألقاب بالتقديم والتأخير الألقاب المركبة وهي على ثلاثة أنماط 116 النمط الأوّل ما يلي لقب التعريف 116 النمط الثاني ما يقع في آخر الألقاب المركبة 116 النمط الثالث ما بين أوّل الألقاب المركبة وبين آخرها 116 الجملة الثامنة في بيان محل اللقب المضاف إلى الملك ولقب التعريف الخاص به 117 الجملة التاسعة في ترتيب جملة الألقاب الفروع على الألقاب الأصول على قدر طبقاتها وهي قسمان 118 القسم الأوّل الألقاب الإسلامية 118 الضرب الأوّل الألقاب المتعلقة بالخلافة وما يلتحق بها وهي ثلاثة أنواع 118 النوع الأوّل ألقاب الخلفاء 118 النوع الثاني ألقاب ولاة العهد بالخلافة 119 النوع الثالث ألقاب إمام الزيدية باليمن 119 الضرب الثاني الألقاب الملوكية وهي نوعان 120 النوع الأوّل الألقاب التي اصطلح عليها السلطان بالديار المصرية 120 النوع الثاني الألقاب التي يكتب بها عن السلطان لغيره من الملوك وهي على ثلاثة أصناف 121 الصنف الأوّل ألقاب ولاة العهد بالسلطنة 121 الصنف الثاني ألقاب الملوك المستقلين بصغار البلدان 121 الصنف الثالث ألقاب المكتوب إليهم من الملوك عن الأبواب السلطانية وهي نمطان 122 النمط الأوّل ما يصدّر بالألقاب المذكرة 122 النمط الثاني ما يصدّر بالألقاب المؤنثة 125 الضرب الثالث من الألقاب الإسلامية، الألقاب العامّة لسائر الطوائف وهي ثمانية أنواع 126 النوع الأوّل ألقاب أرباب السيوف من أهل المملكة وغيرهم 126
النوع الثاني من الألقاب الإسلامية الألقاب الديوانية 141 النوع الثالث من الألقاب الإسلامية ألقاب أرباب الوظائف الدينية 148 النوع الرابع من الألقاب الإسلامية ألقاب مشايخ الصوفية وأهل الصلاح 154 النوع الخامس ألقاب التجار الخواجكية 158 النوع السادس من الألقاب الإسلامية ألقاب أرباب الصناعات الرئيسية كرياسة الطب 160 النوع السابع من الألقاب الإسلامية ألقاب الحاشية السلطانية 161 النوع الثامن من الألقاب الإسلامية ألقاب النساء 162 القسم الثاني من الألقاب المرتبة ألقاب أهل الكفر وهي على ثلاثة أضرب 164 الضرب الأوّل ألقاب متديّنتهم، وهي نوعان 164 النوع الأوّل ألقاب بطاركة النصارى 164 النوع الثاني ألقاب رؤساء اليهود 165 الضرب الثاني ألقاب ملوكهم وتختص بالنصارى وهي نمطان 165 النمط الأوّل الألقاب المذكرة 165 النمط الثاني الألقاب المؤنثة 170 الضرب الثالث ألقاب نوّاب ملوكهم وكناصلتهم وهي على نوعين 171 النوع الأوّل ألقاب النوّاب 171 النوع الثاني ألقاب الكناصلة 171 الجملة العاشرة في ذكر ألقاب تقع على أشياء متفرقة قد جرت في عرف الكتاب وهي على ضربين 174 الضرب الأوّل فيما يجري من ذلك مجرى التفاؤل ويختلف باختلاف الأحوال والوقائع ويتنوّع إلى أنواع 174 الضرب الثاني ما يجري من ذلك مجرى التشريف، ويختلف أيضا باختلاف الأحوال، ويتنوّع أنواعا 177 الباب الثاني من المقالة الثالثة في(6/577)
الضرب الأوّل الألقاب المذكرة وهي نمطان 79 النمط الأوّل المفردة 79 النمط الثاني الألقاب المركبة 83 الضرب الثاني من ألقاب أهل الكفر الألقاب المؤنثة 95 الجملة السابعة في تفاوت الألقاب في المراتب وهي قسمان 96 القسم الأوّل ما يقع التفاوت فيه في الصعود والهبوط وهو نوعان 96 النوع الأوّل ما يقع التفاوت فيه بحسب القلة والكثرة 96 النوع الثاني ما يقع فيه التفاوت في العلوّ والهبوط بحسب ما يقتضيه جوهر اللفظ أو ما وقع الاصطلاح عليه وهو صنفان 97 الصنف الأوّل الألقاب المفردة وهي على أربعة أنماط 97 النمط الأوّل التوابع 97
النمط الثاني ما يقع التفاوت فيه بحسب لحوق ياء النسب وتجرّده منها 99 النمط الثالث ما يقع التفاوت فيه بصيغة مبالغة غير ياء النسب 100 النمط الرابع ما يقع فيه التفاوت بحسب ما في ذلك اللقب من اقتضاء التشريف لعلوّ متعلقه ورفعته 100 الصنف الثاني الألقاب المركبة وهي على ضربين 101 الضرب الأوّل ما يترتب بعضه على بعض لقبا بعد لقب وله اعتباران 101 الاعتبار الأوّل أن يشترك في رعاية الترتيب أرباب السيوف والأقلام وغيرهم وهو على ثلاثة أنماط (صوابه أربعة) 101 النمط الأوّل ما يضاف إلى الإسلام 101 النمط الثاني ما يضاف إلى الأمراء والوزراء ونحوهم 103 النمط الثالث ما يضاف إلى الملوك والسلاطين 105 النمط الرابع ما يضاف لأمير المؤمنين 106 الاعتبار الثاني أن يختص الترتيب في الألقاب بنوع من المكتوب له وهو أربعة أنماط 107 النمط الأوّل ما يختص بأرباب السيوف 107 النمط الثاني ما يختص بالوزراء ومن في معناهم 109 النمط الثالث ما يختص بالقضاة والعلماء 109 النمط الرابع ما يختص بالصلحاء 109 القسم الثاني مما تتفاوت فيه مراتب الألقاب ما يقع التفاوت فيه بالتقديم والتأخير وهو نوعان 113 النوع الأوّل الألقاب المفردة وهي على ستة أنماط 113 النمط الأوّل الألقاب التي تلي الألقاب الأصول 113 النمط الثاني ما يلي العالي أو السامي من الألقاب 113 النمط الثالث ما يلي لقب الوظيفة 114 النمط الرابع ما يقع قبل لقب التعريف 114 النمط الخامس ما يقع فصلا بين الألقاب المفردة والمركبة 115 النمط السادس ما ليس له موضع مخصوص من الألقاب المفردة 115
النوع الثاني مما تتفاوت فيه مراتب الألقاب بالتقديم والتأخير الألقاب المركبة وهي على ثلاثة أنماط 116 النمط الأوّل ما يلي لقب التعريف 116 النمط الثاني ما يقع في آخر الألقاب المركبة 116 النمط الثالث ما بين أوّل الألقاب المركبة وبين آخرها 116 الجملة الثامنة في بيان محل اللقب المضاف إلى الملك ولقب التعريف الخاص به 117 الجملة التاسعة في ترتيب جملة الألقاب الفروع على الألقاب الأصول على قدر طبقاتها وهي قسمان 118 القسم الأوّل الألقاب الإسلامية 118 الضرب الأوّل الألقاب المتعلقة بالخلافة وما يلتحق بها وهي ثلاثة أنواع 118 النوع الأوّل ألقاب الخلفاء 118 النوع الثاني ألقاب ولاة العهد بالخلافة 119 النوع الثالث ألقاب إمام الزيدية باليمن 119 الضرب الثاني الألقاب الملوكية وهي نوعان 120 النوع الأوّل الألقاب التي اصطلح عليها السلطان بالديار المصرية 120 النوع الثاني الألقاب التي يكتب بها عن السلطان لغيره من الملوك وهي على ثلاثة أصناف 121 الصنف الأوّل ألقاب ولاة العهد بالسلطنة 121 الصنف الثاني ألقاب الملوك المستقلين بصغار البلدان 121 الصنف الثالث ألقاب المكتوب إليهم من الملوك عن الأبواب السلطانية وهي نمطان 122 النمط الأوّل ما يصدّر بالألقاب المذكرة 122 النمط الثاني ما يصدّر بالألقاب المؤنثة 125 الضرب الثالث من الألقاب الإسلامية، الألقاب العامّة لسائر الطوائف وهي ثمانية أنواع 126 النوع الأوّل ألقاب أرباب السيوف من أهل المملكة وغيرهم 126
النوع الثاني من الألقاب الإسلامية الألقاب الديوانية 141 النوع الثالث من الألقاب الإسلامية ألقاب أرباب الوظائف الدينية 148 النوع الرابع من الألقاب الإسلامية ألقاب مشايخ الصوفية وأهل الصلاح 154 النوع الخامس ألقاب التجار الخواجكية 158 النوع السادس من الألقاب الإسلامية ألقاب أرباب الصناعات الرئيسية كرياسة الطب 160 النوع السابع من الألقاب الإسلامية ألقاب الحاشية السلطانية 161 النوع الثامن من الألقاب الإسلامية ألقاب النساء 162 القسم الثاني من الألقاب المرتبة ألقاب أهل الكفر وهي على ثلاثة أضرب 164 الضرب الأوّل ألقاب متديّنتهم، وهي نوعان 164 النوع الأوّل ألقاب بطاركة النصارى 164 النوع الثاني ألقاب رؤساء اليهود 165 الضرب الثاني ألقاب ملوكهم وتختص بالنصارى وهي نمطان 165 النمط الأوّل الألقاب المذكرة 165 النمط الثاني الألقاب المؤنثة 170 الضرب الثالث ألقاب نوّاب ملوكهم وكناصلتهم وهي على نوعين 171 النوع الأوّل ألقاب النوّاب 171 النوع الثاني ألقاب الكناصلة 171 الجملة العاشرة في ذكر ألقاب تقع على أشياء متفرقة قد جرت في عرف الكتاب وهي على ضربين 174 الضرب الأوّل فيما يجري من ذلك مجرى التفاؤل ويختلف باختلاف الأحوال والوقائع ويتنوّع إلى أنواع 174 الضرب الثاني ما يجري من ذلك مجرى التشريف، ويختلف أيضا باختلاف الأحوال، ويتنوّع أنواعا 177 الباب الثاني من المقالة الثالثة في(6/578)
الضرب الأوّل الألقاب المذكرة وهي نمطان 79 النمط الأوّل المفردة 79 النمط الثاني الألقاب المركبة 83 الضرب الثاني من ألقاب أهل الكفر الألقاب المؤنثة 95 الجملة السابعة في تفاوت الألقاب في المراتب وهي قسمان 96 القسم الأوّل ما يقع التفاوت فيه في الصعود والهبوط وهو نوعان 96 النوع الأوّل ما يقع التفاوت فيه بحسب القلة والكثرة 96 النوع الثاني ما يقع فيه التفاوت في العلوّ والهبوط بحسب ما يقتضيه جوهر اللفظ أو ما وقع الاصطلاح عليه وهو صنفان 97 الصنف الأوّل الألقاب المفردة وهي على أربعة أنماط 97 النمط الأوّل التوابع 97
النمط الثاني ما يقع التفاوت فيه بحسب لحوق ياء النسب وتجرّده منها 99 النمط الثالث ما يقع التفاوت فيه بصيغة مبالغة غير ياء النسب 100 النمط الرابع ما يقع فيه التفاوت بحسب ما في ذلك اللقب من اقتضاء التشريف لعلوّ متعلقه ورفعته 100 الصنف الثاني الألقاب المركبة وهي على ضربين 101 الضرب الأوّل ما يترتب بعضه على بعض لقبا بعد لقب وله اعتباران 101 الاعتبار الأوّل أن يشترك في رعاية الترتيب أرباب السيوف والأقلام وغيرهم وهو على ثلاثة أنماط (صوابه أربعة) 101 النمط الأوّل ما يضاف إلى الإسلام 101 النمط الثاني ما يضاف إلى الأمراء والوزراء ونحوهم 103 النمط الثالث ما يضاف إلى الملوك والسلاطين 105 النمط الرابع ما يضاف لأمير المؤمنين 106 الاعتبار الثاني أن يختص الترتيب في الألقاب بنوع من المكتوب له وهو أربعة أنماط 107 النمط الأوّل ما يختص بأرباب السيوف 107 النمط الثاني ما يختص بالوزراء ومن في معناهم 109 النمط الثالث ما يختص بالقضاة والعلماء 109 النمط الرابع ما يختص بالصلحاء 109 القسم الثاني مما تتفاوت فيه مراتب الألقاب ما يقع التفاوت فيه بالتقديم والتأخير وهو نوعان 113 النوع الأوّل الألقاب المفردة وهي على ستة أنماط 113 النمط الأوّل الألقاب التي تلي الألقاب الأصول 113 النمط الثاني ما يلي العالي أو السامي من الألقاب 113 النمط الثالث ما يلي لقب الوظيفة 114 النمط الرابع ما يقع قبل لقب التعريف 114 النمط الخامس ما يقع فصلا بين الألقاب المفردة والمركبة 115 النمط السادس ما ليس له موضع مخصوص من الألقاب المفردة 115
النوع الثاني مما تتفاوت فيه مراتب الألقاب بالتقديم والتأخير الألقاب المركبة وهي على ثلاثة أنماط 116 النمط الأوّل ما يلي لقب التعريف 116 النمط الثاني ما يقع في آخر الألقاب المركبة 116 النمط الثالث ما بين أوّل الألقاب المركبة وبين آخرها 116 الجملة الثامنة في بيان محل اللقب المضاف إلى الملك ولقب التعريف الخاص به 117 الجملة التاسعة في ترتيب جملة الألقاب الفروع على الألقاب الأصول على قدر طبقاتها وهي قسمان 118 القسم الأوّل الألقاب الإسلامية 118 الضرب الأوّل الألقاب المتعلقة بالخلافة وما يلتحق بها وهي ثلاثة أنواع 118 النوع الأوّل ألقاب الخلفاء 118 النوع الثاني ألقاب ولاة العهد بالخلافة 119 النوع الثالث ألقاب إمام الزيدية باليمن 119 الضرب الثاني الألقاب الملوكية وهي نوعان 120 النوع الأوّل الألقاب التي اصطلح عليها السلطان بالديار المصرية 120 النوع الثاني الألقاب التي يكتب بها عن السلطان لغيره من الملوك وهي على ثلاثة أصناف 121 الصنف الأوّل ألقاب ولاة العهد بالسلطنة 121 الصنف الثاني ألقاب الملوك المستقلين بصغار البلدان 121 الصنف الثالث ألقاب المكتوب إليهم من الملوك عن الأبواب السلطانية وهي نمطان 122 النمط الأوّل ما يصدّر بالألقاب المذكرة 122 النمط الثاني ما يصدّر بالألقاب المؤنثة 125 الضرب الثالث من الألقاب الإسلامية، الألقاب العامّة لسائر الطوائف وهي ثمانية أنواع 126 النوع الأوّل ألقاب أرباب السيوف من أهل المملكة وغيرهم 126
النوع الثاني من الألقاب الإسلامية الألقاب الديوانية 141 النوع الثالث من الألقاب الإسلامية ألقاب أرباب الوظائف الدينية 148 النوع الرابع من الألقاب الإسلامية ألقاب مشايخ الصوفية وأهل الصلاح 154 النوع الخامس ألقاب التجار الخواجكية 158 النوع السادس من الألقاب الإسلامية ألقاب أرباب الصناعات الرئيسية كرياسة الطب 160 النوع السابع من الألقاب الإسلامية ألقاب الحاشية السلطانية 161 النوع الثامن من الألقاب الإسلامية ألقاب النساء 162 القسم الثاني من الألقاب المرتبة ألقاب أهل الكفر وهي على ثلاثة أضرب 164 الضرب الأوّل ألقاب متديّنتهم، وهي نوعان 164 النوع الأوّل ألقاب بطاركة النصارى 164 النوع الثاني ألقاب رؤساء اليهود 165 الضرب الثاني ألقاب ملوكهم وتختص بالنصارى وهي نمطان 165 النمط الأوّل الألقاب المذكرة 165 النمط الثاني الألقاب المؤنثة 170 الضرب الثالث ألقاب نوّاب ملوكهم وكناصلتهم وهي على نوعين 171 النوع الأوّل ألقاب النوّاب 171 النوع الثاني ألقاب الكناصلة 171 الجملة العاشرة في ذكر ألقاب تقع على أشياء متفرقة قد جرت في عرف الكتاب وهي على ضربين 174 الضرب الأوّل فيما يجري من ذلك مجرى التفاؤل ويختلف باختلاف الأحوال والوقائع ويتنوّع إلى أنواع 174 الضرب الثاني ما يجري من ذلك مجرى التشريف، ويختلف أيضا باختلاف الأحوال، ويتنوّع أنواعا 177 الباب الثاني من المقالة الثالثة في(6/579)
الضرب الأوّل الألقاب المذكرة وهي نمطان 79 النمط الأوّل المفردة 79 النمط الثاني الألقاب المركبة 83 الضرب الثاني من ألقاب أهل الكفر الألقاب المؤنثة 95 الجملة السابعة في تفاوت الألقاب في المراتب وهي قسمان 96 القسم الأوّل ما يقع التفاوت فيه في الصعود والهبوط وهو نوعان 96 النوع الأوّل ما يقع التفاوت فيه بحسب القلة والكثرة 96 النوع الثاني ما يقع فيه التفاوت في العلوّ والهبوط بحسب ما يقتضيه جوهر اللفظ أو ما وقع الاصطلاح عليه وهو صنفان 97 الصنف الأوّل الألقاب المفردة وهي على أربعة أنماط 97 النمط الأوّل التوابع 97
النمط الثاني ما يقع التفاوت فيه بحسب لحوق ياء النسب وتجرّده منها 99 النمط الثالث ما يقع التفاوت فيه بصيغة مبالغة غير ياء النسب 100 النمط الرابع ما يقع فيه التفاوت بحسب ما في ذلك اللقب من اقتضاء التشريف لعلوّ متعلقه ورفعته 100 الصنف الثاني الألقاب المركبة وهي على ضربين 101 الضرب الأوّل ما يترتب بعضه على بعض لقبا بعد لقب وله اعتباران 101 الاعتبار الأوّل أن يشترك في رعاية الترتيب أرباب السيوف والأقلام وغيرهم وهو على ثلاثة أنماط (صوابه أربعة) 101 النمط الأوّل ما يضاف إلى الإسلام 101 النمط الثاني ما يضاف إلى الأمراء والوزراء ونحوهم 103 النمط الثالث ما يضاف إلى الملوك والسلاطين 105 النمط الرابع ما يضاف لأمير المؤمنين 106 الاعتبار الثاني أن يختص الترتيب في الألقاب بنوع من المكتوب له وهو أربعة أنماط 107 النمط الأوّل ما يختص بأرباب السيوف 107 النمط الثاني ما يختص بالوزراء ومن في معناهم 109 النمط الثالث ما يختص بالقضاة والعلماء 109 النمط الرابع ما يختص بالصلحاء 109 القسم الثاني مما تتفاوت فيه مراتب الألقاب ما يقع التفاوت فيه بالتقديم والتأخير وهو نوعان 113 النوع الأوّل الألقاب المفردة وهي على ستة أنماط 113 النمط الأوّل الألقاب التي تلي الألقاب الأصول 113 النمط الثاني ما يلي العالي أو السامي من الألقاب 113 النمط الثالث ما يلي لقب الوظيفة 114 النمط الرابع ما يقع قبل لقب التعريف 114 النمط الخامس ما يقع فصلا بين الألقاب المفردة والمركبة 115 النمط السادس ما ليس له موضع مخصوص من الألقاب المفردة 115
النوع الثاني مما تتفاوت فيه مراتب الألقاب بالتقديم والتأخير الألقاب المركبة وهي على ثلاثة أنماط 116 النمط الأوّل ما يلي لقب التعريف 116 النمط الثاني ما يقع في آخر الألقاب المركبة 116 النمط الثالث ما بين أوّل الألقاب المركبة وبين آخرها 116 الجملة الثامنة في بيان محل اللقب المضاف إلى الملك ولقب التعريف الخاص به 117 الجملة التاسعة في ترتيب جملة الألقاب الفروع على الألقاب الأصول على قدر طبقاتها وهي قسمان 118 القسم الأوّل الألقاب الإسلامية 118 الضرب الأوّل الألقاب المتعلقة بالخلافة وما يلتحق بها وهي ثلاثة أنواع 118 النوع الأوّل ألقاب الخلفاء 118 النوع الثاني ألقاب ولاة العهد بالخلافة 119 النوع الثالث ألقاب إمام الزيدية باليمن 119 الضرب الثاني الألقاب الملوكية وهي نوعان 120 النوع الأوّل الألقاب التي اصطلح عليها السلطان بالديار المصرية 120 النوع الثاني الألقاب التي يكتب بها عن السلطان لغيره من الملوك وهي على ثلاثة أصناف 121 الصنف الأوّل ألقاب ولاة العهد بالسلطنة 121 الصنف الثاني ألقاب الملوك المستقلين بصغار البلدان 121 الصنف الثالث ألقاب المكتوب إليهم من الملوك عن الأبواب السلطانية وهي نمطان 122 النمط الأوّل ما يصدّر بالألقاب المذكرة 122 النمط الثاني ما يصدّر بالألقاب المؤنثة 125 الضرب الثالث من الألقاب الإسلامية، الألقاب العامّة لسائر الطوائف وهي ثمانية أنواع 126 النوع الأوّل ألقاب أرباب السيوف من أهل المملكة وغيرهم 126
النوع الثاني من الألقاب الإسلامية الألقاب الديوانية 141 النوع الثالث من الألقاب الإسلامية ألقاب أرباب الوظائف الدينية 148 النوع الرابع من الألقاب الإسلامية ألقاب مشايخ الصوفية وأهل الصلاح 154 النوع الخامس ألقاب التجار الخواجكية 158 النوع السادس من الألقاب الإسلامية ألقاب أرباب الصناعات الرئيسية كرياسة الطب 160 النوع السابع من الألقاب الإسلامية ألقاب الحاشية السلطانية 161 النوع الثامن من الألقاب الإسلامية ألقاب النساء 162 القسم الثاني من الألقاب المرتبة ألقاب أهل الكفر وهي على ثلاثة أضرب 164 الضرب الأوّل ألقاب متديّنتهم، وهي نوعان 164 النوع الأوّل ألقاب بطاركة النصارى 164 النوع الثاني ألقاب رؤساء اليهود 165 الضرب الثاني ألقاب ملوكهم وتختص بالنصارى وهي نمطان 165 النمط الأوّل الألقاب المذكرة 165 النمط الثاني الألقاب المؤنثة 170 الضرب الثالث ألقاب نوّاب ملوكهم وكناصلتهم وهي على نوعين 171 النوع الأوّل ألقاب النوّاب 171 النوع الثاني ألقاب الكناصلة 171 الجملة العاشرة في ذكر ألقاب تقع على أشياء متفرقة قد جرت في عرف الكتاب وهي على ضربين 174 الضرب الأوّل فيما يجري من ذلك مجرى التفاؤل ويختلف باختلاف الأحوال والوقائع ويتنوّع إلى أنواع 174 الضرب الثاني ما يجري من ذلك مجرى التشريف، ويختلف أيضا باختلاف الأحوال، ويتنوّع أنواعا 177 الباب الثاني من المقالة الثالثة في
مقادير قطع الورق وما يناسب كل مقدار منها من الأقلام وفيه فصلان 180 الفصل الأوّل في مقادير قطع الورق وفيه طرفان 180
الطرف الأوّل في مقادير قطع الورق، في الزمن القديم 180 الطرف الثاني في بيان مقادير قطع الورق المستعمل في زماننا (زمن المؤلف) وفيه ثلاث جمل 181 الجملة الأولى في مقادير الورق المستعمل بديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية بالديار المصرية 181 الجملة الثانية في مقادير الورق المستعملة بدواوين الإنشاء بالممالك الشامية 183 الجملة الثالثة في مقادير قطع الورق الذي تجري فيه مكاتبات أعيان الدولة 184 الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الثالثة في بيان ما يناسب كلّ مقدار من مقادير قطع الورق المتقدّمة الذكر من الأقلام الخ وفيه طرفان 185 الطرف الأوّل فيما يناسب كل مقدار منها من الأقلام 185 الطرف الثاني في مقادير البياض الواقع في أوّل الدرج وحاشيته وبعد ما بين السطور في الكتابة 186 الباب الثالث من المقالة الثالثة في بيان المستندات وكتابة الملخصات وكيفية التعيين وفيه فصلان 188 الفصل الأوّل في بيان المستندات: وهي التوقيع على القصص وما يجري مجراها وهو على ضربين 188 الضرب الأوّل السلطانيات وهي صنفان 188 الصنف الأوّل ما يصدر عن متولي ديوان الإنشاء 188 الصنف الثاني ما يصدر عن غير صاحب ديوان الإنشاء 191 الضرب الثاني ما يتعلق بالكتب في المظالم والنظر فيه من وجهين 193 الوجه الأوّل فيما يتعلق بالقصص 193 الوجه الثاني فيما يتعلق بالنظر في المظالم وما يكتب على القصص وهو ستة أنواع 195 النوع الأوّل ما يرفع إلى السلطان في آحاد الأيام 196 النوع الثاني ما يرفع لصاحب ديوان الإنشاء 197 النوع الثالث ما يرفع من القصص بدار العدل عند جلوس السلطان للحكم في المواكب 197
النوع الرابع ما يرفع منها للنائب الكافل إذا كان ثمّ نائب 198 النوع الخامس ما يرفع من القصص إلى الأتابك إذا كان في الدولة أتابك عسكر وهو الأمير الكبير 198 النوع السادس ما يرفع منها للدوادار 199 الفصل الثاني في التعيين وكيفية كتابة صاحب ديوان الإنشاء على الرقاع والقصص 201 الطرف الثاني في كتابة الملخصات والإجابة عنها 203 الباب الرابع من المقالة الثالثة في الفواتح والخواتم واللواحق وفيه فصلان 208 الفصل الأوّل في الفواتح وفيه ستة أطراف 208 الطرف الأوّل في البسملة 208 الطرف الثاني في الحمدلة 215 الطرف الثالث في التشهد في الخطب 217 الطرف الرابع في الصلاة والسّلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله وصحبه في أوائل الكتب 218 الطرف الخامس في السّلام في أوّل الكتب 220 الطرف السادس في أما بعد 221 الفصل الثاني في الخواتم واللواحق وفيه سبعة أطراف 223 الطرف الأوّل في الاستثناء بالمشيئة بأن يكتب إن شاء الله تعالى 223 الطرف الثاني في التاريخ 225 الطرف الثالث في المستندات 252 الطرف الرابع في الحمدلة في آخر الكتاب 254 الطرف الخامس في الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في آخر الكتاب وما يلتحق بذلك 256 الطرف السادس في الحسبلة في آخر الكتاب 258 الطرف السابع في اللواحق 260 المقالة الرابعة في المكاتبات وفيها بابان 263 الباب الأوّل في أمور كلية في المكاتبات وفيه فصلان 263 الفصل الأوّل في مقدّمات المكاتبات وفيه ثلاثة أطراف 263
الطرف الأوّل في أصول يعتمدها الكتاب في المكاتبات 263 الطرف الثاني في بيان مقادير المكاتبات وما يناسبها من البسط والإيجاز 303 الطرف الثالث في أمور تختص بالأجوبة 310 الفصل الثاني من الباب الأوّل من المقالة الرابعة، في ذكر أصول المكاتبات وترتيبها وبيان لواحقها ولوازمها، وفيه طرفان 315 الطرف الأوّل في ذكر أصولها وترتيبها 315 الطرف الثاني في ذكر لواحق المكاتبات ولوازمها 332 الباب الثاني من المقالة الرابعة، في مصطلحات المكاتبات الدائرة بين كتاب أهل الشرق والغرب والديار المصرية في كل زمن من صدر الإسلام إلى زمننا (زمن المؤلف) وفيه ستة فصول 351 الفصل الأوّل في الكتب الصادرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفيه ثلاثة أطراف 351 الطرف الأوّل في ذكر ترتيب كتبه صلّى الله عليه وسلّم في الرسائل على سبيل الإجمال 351 الطرف الثاني في كتبه صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل الإسلام 353 الطرف الثالث في كتبه صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل الكفر للدعاية إلى الإسلام 362 الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الرابعة في الكتب الصادرة عن الخلفاء وهي على قسمين 369 القسم الأوّل المكاتبات إلى أهل الإسلام، وفيه تسعة [عشرة] أطراف 369 الطرف الأوّل في الكتب الصادرة عن الخلفاء من الصحابة رضي الله عنهم 369 الطرف الثاني في الكتب الصادرة عن خلفاء بني أمية 376 الطرف الثالث في الكتب الصادرة عن خلفاء بني العباس ببغداد، وولاة العهد بالخلافة، وفيه ثلاث جمل 378 الجملة الأولى في بيان ترتيب(6/580)
مقادير قطع الورق وما يناسب كل مقدار منها من الأقلام وفيه فصلان 180 الفصل الأوّل في مقادير قطع الورق وفيه طرفان 180
الطرف الأوّل في مقادير قطع الورق، في الزمن القديم 180 الطرف الثاني في بيان مقادير قطع الورق المستعمل في زماننا (زمن المؤلف) وفيه ثلاث جمل 181 الجملة الأولى في مقادير الورق المستعمل بديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية بالديار المصرية 181 الجملة الثانية في مقادير الورق المستعملة بدواوين الإنشاء بالممالك الشامية 183 الجملة الثالثة في مقادير قطع الورق الذي تجري فيه مكاتبات أعيان الدولة 184 الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الثالثة في بيان ما يناسب كلّ مقدار من مقادير قطع الورق المتقدّمة الذكر من الأقلام الخ وفيه طرفان 185 الطرف الأوّل فيما يناسب كل مقدار منها من الأقلام 185 الطرف الثاني في مقادير البياض الواقع في أوّل الدرج وحاشيته وبعد ما بين السطور في الكتابة 186 الباب الثالث من المقالة الثالثة في بيان المستندات وكتابة الملخصات وكيفية التعيين وفيه فصلان 188 الفصل الأوّل في بيان المستندات: وهي التوقيع على القصص وما يجري مجراها وهو على ضربين 188 الضرب الأوّل السلطانيات وهي صنفان 188 الصنف الأوّل ما يصدر عن متولي ديوان الإنشاء 188 الصنف الثاني ما يصدر عن غير صاحب ديوان الإنشاء 191 الضرب الثاني ما يتعلق بالكتب في المظالم والنظر فيه من وجهين 193 الوجه الأوّل فيما يتعلق بالقصص 193 الوجه الثاني فيما يتعلق بالنظر في المظالم وما يكتب على القصص وهو ستة أنواع 195 النوع الأوّل ما يرفع إلى السلطان في آحاد الأيام 196 النوع الثاني ما يرفع لصاحب ديوان الإنشاء 197 النوع الثالث ما يرفع من القصص بدار العدل عند جلوس السلطان للحكم في المواكب 197
النوع الرابع ما يرفع منها للنائب الكافل إذا كان ثمّ نائب 198 النوع الخامس ما يرفع من القصص إلى الأتابك إذا كان في الدولة أتابك عسكر وهو الأمير الكبير 198 النوع السادس ما يرفع منها للدوادار 199 الفصل الثاني في التعيين وكيفية كتابة صاحب ديوان الإنشاء على الرقاع والقصص 201 الطرف الثاني في كتابة الملخصات والإجابة عنها 203 الباب الرابع من المقالة الثالثة في الفواتح والخواتم واللواحق وفيه فصلان 208 الفصل الأوّل في الفواتح وفيه ستة أطراف 208 الطرف الأوّل في البسملة 208 الطرف الثاني في الحمدلة 215 الطرف الثالث في التشهد في الخطب 217 الطرف الرابع في الصلاة والسّلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله وصحبه في أوائل الكتب 218 الطرف الخامس في السّلام في أوّل الكتب 220 الطرف السادس في أما بعد 221 الفصل الثاني في الخواتم واللواحق وفيه سبعة أطراف 223 الطرف الأوّل في الاستثناء بالمشيئة بأن يكتب إن شاء الله تعالى 223 الطرف الثاني في التاريخ 225 الطرف الثالث في المستندات 252 الطرف الرابع في الحمدلة في آخر الكتاب 254 الطرف الخامس في الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في آخر الكتاب وما يلتحق بذلك 256 الطرف السادس في الحسبلة في آخر الكتاب 258 الطرف السابع في اللواحق 260 المقالة الرابعة في المكاتبات وفيها بابان 263 الباب الأوّل في أمور كلية في المكاتبات وفيه فصلان 263 الفصل الأوّل في مقدّمات المكاتبات وفيه ثلاثة أطراف 263
الطرف الأوّل في أصول يعتمدها الكتاب في المكاتبات 263 الطرف الثاني في بيان مقادير المكاتبات وما يناسبها من البسط والإيجاز 303 الطرف الثالث في أمور تختص بالأجوبة 310 الفصل الثاني من الباب الأوّل من المقالة الرابعة، في ذكر أصول المكاتبات وترتيبها وبيان لواحقها ولوازمها، وفيه طرفان 315 الطرف الأوّل في ذكر أصولها وترتيبها 315 الطرف الثاني في ذكر لواحق المكاتبات ولوازمها 332 الباب الثاني من المقالة الرابعة، في مصطلحات المكاتبات الدائرة بين كتاب أهل الشرق والغرب والديار المصرية في كل زمن من صدر الإسلام إلى زمننا (زمن المؤلف) وفيه ستة فصول 351 الفصل الأوّل في الكتب الصادرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفيه ثلاثة أطراف 351 الطرف الأوّل في ذكر ترتيب كتبه صلّى الله عليه وسلّم في الرسائل على سبيل الإجمال 351 الطرف الثاني في كتبه صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل الإسلام 353 الطرف الثالث في كتبه صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل الكفر للدعاية إلى الإسلام 362 الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الرابعة في الكتب الصادرة عن الخلفاء وهي على قسمين 369 القسم الأوّل المكاتبات إلى أهل الإسلام، وفيه تسعة [عشرة] أطراف 369 الطرف الأوّل في الكتب الصادرة عن الخلفاء من الصحابة رضي الله عنهم 369 الطرف الثاني في الكتب الصادرة عن خلفاء بني أمية 376 الطرف الثالث في الكتب الصادرة عن خلفاء بني العباس ببغداد، وولاة العهد بالخلافة، وفيه ثلاث جمل 378 الجملة الأولى في بيان ترتيب(6/581)
مقادير قطع الورق وما يناسب كل مقدار منها من الأقلام وفيه فصلان 180 الفصل الأوّل في مقادير قطع الورق وفيه طرفان 180
الطرف الأوّل في مقادير قطع الورق، في الزمن القديم 180 الطرف الثاني في بيان مقادير قطع الورق المستعمل في زماننا (زمن المؤلف) وفيه ثلاث جمل 181 الجملة الأولى في مقادير الورق المستعمل بديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية بالديار المصرية 181 الجملة الثانية في مقادير الورق المستعملة بدواوين الإنشاء بالممالك الشامية 183 الجملة الثالثة في مقادير قطع الورق الذي تجري فيه مكاتبات أعيان الدولة 184 الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الثالثة في بيان ما يناسب كلّ مقدار من مقادير قطع الورق المتقدّمة الذكر من الأقلام الخ وفيه طرفان 185 الطرف الأوّل فيما يناسب كل مقدار منها من الأقلام 185 الطرف الثاني في مقادير البياض الواقع في أوّل الدرج وحاشيته وبعد ما بين السطور في الكتابة 186 الباب الثالث من المقالة الثالثة في بيان المستندات وكتابة الملخصات وكيفية التعيين وفيه فصلان 188 الفصل الأوّل في بيان المستندات: وهي التوقيع على القصص وما يجري مجراها وهو على ضربين 188 الضرب الأوّل السلطانيات وهي صنفان 188 الصنف الأوّل ما يصدر عن متولي ديوان الإنشاء 188 الصنف الثاني ما يصدر عن غير صاحب ديوان الإنشاء 191 الضرب الثاني ما يتعلق بالكتب في المظالم والنظر فيه من وجهين 193 الوجه الأوّل فيما يتعلق بالقصص 193 الوجه الثاني فيما يتعلق بالنظر في المظالم وما يكتب على القصص وهو ستة أنواع 195 النوع الأوّل ما يرفع إلى السلطان في آحاد الأيام 196 النوع الثاني ما يرفع لصاحب ديوان الإنشاء 197 النوع الثالث ما يرفع من القصص بدار العدل عند جلوس السلطان للحكم في المواكب 197
النوع الرابع ما يرفع منها للنائب الكافل إذا كان ثمّ نائب 198 النوع الخامس ما يرفع من القصص إلى الأتابك إذا كان في الدولة أتابك عسكر وهو الأمير الكبير 198 النوع السادس ما يرفع منها للدوادار 199 الفصل الثاني في التعيين وكيفية كتابة صاحب ديوان الإنشاء على الرقاع والقصص 201 الطرف الثاني في كتابة الملخصات والإجابة عنها 203 الباب الرابع من المقالة الثالثة في الفواتح والخواتم واللواحق وفيه فصلان 208 الفصل الأوّل في الفواتح وفيه ستة أطراف 208 الطرف الأوّل في البسملة 208 الطرف الثاني في الحمدلة 215 الطرف الثالث في التشهد في الخطب 217 الطرف الرابع في الصلاة والسّلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله وصحبه في أوائل الكتب 218 الطرف الخامس في السّلام في أوّل الكتب 220 الطرف السادس في أما بعد 221 الفصل الثاني في الخواتم واللواحق وفيه سبعة أطراف 223 الطرف الأوّل في الاستثناء بالمشيئة بأن يكتب إن شاء الله تعالى 223 الطرف الثاني في التاريخ 225 الطرف الثالث في المستندات 252 الطرف الرابع في الحمدلة في آخر الكتاب 254 الطرف الخامس في الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في آخر الكتاب وما يلتحق بذلك 256 الطرف السادس في الحسبلة في آخر الكتاب 258 الطرف السابع في اللواحق 260 المقالة الرابعة في المكاتبات وفيها بابان 263 الباب الأوّل في أمور كلية في المكاتبات وفيه فصلان 263 الفصل الأوّل في مقدّمات المكاتبات وفيه ثلاثة أطراف 263
الطرف الأوّل في أصول يعتمدها الكتاب في المكاتبات 263 الطرف الثاني في بيان مقادير المكاتبات وما يناسبها من البسط والإيجاز 303 الطرف الثالث في أمور تختص بالأجوبة 310 الفصل الثاني من الباب الأوّل من المقالة الرابعة، في ذكر أصول المكاتبات وترتيبها وبيان لواحقها ولوازمها، وفيه طرفان 315 الطرف الأوّل في ذكر أصولها وترتيبها 315 الطرف الثاني في ذكر لواحق المكاتبات ولوازمها 332 الباب الثاني من المقالة الرابعة، في مصطلحات المكاتبات الدائرة بين كتاب أهل الشرق والغرب والديار المصرية في كل زمن من صدر الإسلام إلى زمننا (زمن المؤلف) وفيه ستة فصول 351 الفصل الأوّل في الكتب الصادرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفيه ثلاثة أطراف 351 الطرف الأوّل في ذكر ترتيب كتبه صلّى الله عليه وسلّم في الرسائل على سبيل الإجمال 351 الطرف الثاني في كتبه صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل الإسلام 353 الطرف الثالث في كتبه صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل الكفر للدعاية إلى الإسلام 362 الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الرابعة في الكتب الصادرة عن الخلفاء وهي على قسمين 369 القسم الأوّل المكاتبات إلى أهل الإسلام، وفيه تسعة [عشرة] أطراف 369 الطرف الأوّل في الكتب الصادرة عن الخلفاء من الصحابة رضي الله عنهم 369 الطرف الثاني في الكتب الصادرة عن خلفاء بني أمية 376 الطرف الثالث في الكتب الصادرة عن خلفاء بني العباس ببغداد، وولاة العهد بالخلافة، وفيه ثلاث جمل 378 الجملة الأولى في بيان ترتيب(6/582)
مقادير قطع الورق وما يناسب كل مقدار منها من الأقلام وفيه فصلان 180 الفصل الأوّل في مقادير قطع الورق وفيه طرفان 180
الطرف الأوّل في مقادير قطع الورق، في الزمن القديم 180 الطرف الثاني في بيان مقادير قطع الورق المستعمل في زماننا (زمن المؤلف) وفيه ثلاث جمل 181 الجملة الأولى في مقادير الورق المستعمل بديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية بالديار المصرية 181 الجملة الثانية في مقادير الورق المستعملة بدواوين الإنشاء بالممالك الشامية 183 الجملة الثالثة في مقادير قطع الورق الذي تجري فيه مكاتبات أعيان الدولة 184 الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الثالثة في بيان ما يناسب كلّ مقدار من مقادير قطع الورق المتقدّمة الذكر من الأقلام الخ وفيه طرفان 185 الطرف الأوّل فيما يناسب كل مقدار منها من الأقلام 185 الطرف الثاني في مقادير البياض الواقع في أوّل الدرج وحاشيته وبعد ما بين السطور في الكتابة 186 الباب الثالث من المقالة الثالثة في بيان المستندات وكتابة الملخصات وكيفية التعيين وفيه فصلان 188 الفصل الأوّل في بيان المستندات: وهي التوقيع على القصص وما يجري مجراها وهو على ضربين 188 الضرب الأوّل السلطانيات وهي صنفان 188 الصنف الأوّل ما يصدر عن متولي ديوان الإنشاء 188 الصنف الثاني ما يصدر عن غير صاحب ديوان الإنشاء 191 الضرب الثاني ما يتعلق بالكتب في المظالم والنظر فيه من وجهين 193 الوجه الأوّل فيما يتعلق بالقصص 193 الوجه الثاني فيما يتعلق بالنظر في المظالم وما يكتب على القصص وهو ستة أنواع 195 النوع الأوّل ما يرفع إلى السلطان في آحاد الأيام 196 النوع الثاني ما يرفع لصاحب ديوان الإنشاء 197 النوع الثالث ما يرفع من القصص بدار العدل عند جلوس السلطان للحكم في المواكب 197
النوع الرابع ما يرفع منها للنائب الكافل إذا كان ثمّ نائب 198 النوع الخامس ما يرفع من القصص إلى الأتابك إذا كان في الدولة أتابك عسكر وهو الأمير الكبير 198 النوع السادس ما يرفع منها للدوادار 199 الفصل الثاني في التعيين وكيفية كتابة صاحب ديوان الإنشاء على الرقاع والقصص 201 الطرف الثاني في كتابة الملخصات والإجابة عنها 203 الباب الرابع من المقالة الثالثة في الفواتح والخواتم واللواحق وفيه فصلان 208 الفصل الأوّل في الفواتح وفيه ستة أطراف 208 الطرف الأوّل في البسملة 208 الطرف الثاني في الحمدلة 215 الطرف الثالث في التشهد في الخطب 217 الطرف الرابع في الصلاة والسّلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله وصحبه في أوائل الكتب 218 الطرف الخامس في السّلام في أوّل الكتب 220 الطرف السادس في أما بعد 221 الفصل الثاني في الخواتم واللواحق وفيه سبعة أطراف 223 الطرف الأوّل في الاستثناء بالمشيئة بأن يكتب إن شاء الله تعالى 223 الطرف الثاني في التاريخ 225 الطرف الثالث في المستندات 252 الطرف الرابع في الحمدلة في آخر الكتاب 254 الطرف الخامس في الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في آخر الكتاب وما يلتحق بذلك 256 الطرف السادس في الحسبلة في آخر الكتاب 258 الطرف السابع في اللواحق 260 المقالة الرابعة في المكاتبات وفيها بابان 263 الباب الأوّل في أمور كلية في المكاتبات وفيه فصلان 263 الفصل الأوّل في مقدّمات المكاتبات وفيه ثلاثة أطراف 263
الطرف الأوّل في أصول يعتمدها الكتاب في المكاتبات 263 الطرف الثاني في بيان مقادير المكاتبات وما يناسبها من البسط والإيجاز 303 الطرف الثالث في أمور تختص بالأجوبة 310 الفصل الثاني من الباب الأوّل من المقالة الرابعة، في ذكر أصول المكاتبات وترتيبها وبيان لواحقها ولوازمها، وفيه طرفان 315 الطرف الأوّل في ذكر أصولها وترتيبها 315 الطرف الثاني في ذكر لواحق المكاتبات ولوازمها 332 الباب الثاني من المقالة الرابعة، في مصطلحات المكاتبات الدائرة بين كتاب أهل الشرق والغرب والديار المصرية في كل زمن من صدر الإسلام إلى زمننا (زمن المؤلف) وفيه ستة فصول 351 الفصل الأوّل في الكتب الصادرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفيه ثلاثة أطراف 351 الطرف الأوّل في ذكر ترتيب كتبه صلّى الله عليه وسلّم في الرسائل على سبيل الإجمال 351 الطرف الثاني في كتبه صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل الإسلام 353 الطرف الثالث في كتبه صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل الكفر للدعاية إلى الإسلام 362 الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الرابعة في الكتب الصادرة عن الخلفاء وهي على قسمين 369 القسم الأوّل المكاتبات إلى أهل الإسلام، وفيه تسعة [عشرة] أطراف 369 الطرف الأوّل في الكتب الصادرة عن الخلفاء من الصحابة رضي الله عنهم 369 الطرف الثاني في الكتب الصادرة عن خلفاء بني أمية 376 الطرف الثالث في الكتب الصادرة عن خلفاء بني العباس ببغداد، وولاة العهد بالخلافة، وفيه ثلاث جمل 378 الجملة الأولى في بيان ترتيب
كتبهم في الرسائل على سبيل الإجمال 378 الجملة الثانية في الكتب العامة 381 الجملة الثالثة في الكتب الخاصة مما يصدر عن الخلفاء 403 الطرف الرابع في الكتب الصادرة عن خلفاء بني العباس في الديار المصرية بعد مصير الخلافة إليها 410 الطرف الخامس في الكتب الصادرة عن الخلفاء الفاطميين بالديار المصرية 420
الطرف السادس في الكتب الصادرة عن خلفاء بني أمية بالأندلس 431 الطرف السابع في الكتب الصادرة عن الخلفاء الموحدين 432 الطرف الثامن في الأجوبة 436 الطرف التاسع في الكتب الصادرة عن ولاة العهد بالخلافة 445 الطرف العاشر من المكاتبات عن الخلفاء المكاتبات إلى أهل الكفر 446 الفصل الثالث من الباب الثاني من المقالة الرابعة في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم مما الجاري عليه الحال وهو على قسمين 453 القسم الأوّل المكاتبات الصادرة عن الملوك إلى أهل الإسلام وفيه أطراف 453 الطرف الأوّل في مكاتباتهم إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم 453 الطرف الثاني في المكاتبات الصادرة عن الأمراء من العمال وأمراء السرايا إلى الخلفاء من الصحابة رضوان الله عليهم 467 الطرف الثالث في المكاتبات الصادرة عن الأمراء من العمال وأمراء السرايا أيضا إلى خلفاء بني أمية 469 الطرف الرابع في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم إلى خلفاء بني العباس 472 الطرف الخامس في المكاتبات الصادرة إلى الخلفاء الفاطميين بالديار المصرية 520 الطرف السادس في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم إلى خلفاء بني أمية بالأندلس 523 الطرف السابع في المكاتبات الصادرة إلى خلفاء الموحدين بالمغرب 525 الطرف الثامن في المكاتبات الصادرة عن الأمراء من العمال وأمراء السرايا في صدر الإسلام إلى من في معناهم 559 الطرف التاسع في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم إلى الملوك ومن في معناهم على ما كان عليه مصطلح أهل المشرق 561 (تم فهرس الجزء السادس من كتاب صبح الأعشى)(6/583)
كتبهم في الرسائل على سبيل الإجمال 378 الجملة الثانية في الكتب العامة 381 الجملة الثالثة في الكتب الخاصة مما يصدر عن الخلفاء 403 الطرف الرابع في الكتب الصادرة عن خلفاء بني العباس في الديار المصرية بعد مصير الخلافة إليها 410 الطرف الخامس في الكتب الصادرة عن الخلفاء الفاطميين بالديار المصرية 420
الطرف السادس في الكتب الصادرة عن خلفاء بني أمية بالأندلس 431 الطرف السابع في الكتب الصادرة عن الخلفاء الموحدين 432 الطرف الثامن في الأجوبة 436 الطرف التاسع في الكتب الصادرة عن ولاة العهد بالخلافة 445 الطرف العاشر من المكاتبات عن الخلفاء المكاتبات إلى أهل الكفر 446 الفصل الثالث من الباب الثاني من المقالة الرابعة في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم مما الجاري عليه الحال وهو على قسمين 453 القسم الأوّل المكاتبات الصادرة عن الملوك إلى أهل الإسلام وفيه أطراف 453 الطرف الأوّل في مكاتباتهم إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم 453 الطرف الثاني في المكاتبات الصادرة عن الأمراء من العمال وأمراء السرايا إلى الخلفاء من الصحابة رضوان الله عليهم 467 الطرف الثالث في المكاتبات الصادرة عن الأمراء من العمال وأمراء السرايا أيضا إلى خلفاء بني أمية 469 الطرف الرابع في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم إلى خلفاء بني العباس 472 الطرف الخامس في المكاتبات الصادرة إلى الخلفاء الفاطميين بالديار المصرية 520 الطرف السادس في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم إلى خلفاء بني أمية بالأندلس 523 الطرف السابع في المكاتبات الصادرة إلى خلفاء الموحدين بالمغرب 525 الطرف الثامن في المكاتبات الصادرة عن الأمراء من العمال وأمراء السرايا في صدر الإسلام إلى من في معناهم 559 الطرف التاسع في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم إلى الملوك ومن في معناهم على ما كان عليه مصطلح أهل المشرق 561 (تم فهرس الجزء السادس من كتاب صبح الأعشى)(6/584)
المجلد السابع
بسم الله الرحمن الرحيم وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
تتمة المقالة الرابعة
تتمة الباب الثاني
تتمة الفصل الثالث
تتمة القسم الاول
الطّرف العاشر في المكاتبات (1) الصادرة عن ملوك الديار المصرية (ولها حالتان)
الحالة الأولى (ما كان الأمر عليه قبل دولة الخلفاء الفاطميين بها في الدولة الأخشيدية والطّولونيّة وما قبلهما)
والذي وقفت عليه من رسم المكاتبة عنهم أن تفتتح بلفظ: «من فلان إلى فلان». كما كتب ابن عبد كان (2) عن أحمد بن طولون إلى ابنه العباس حين
__________
(1) تعتبر الرسائل الديوانية الصادرة عن دواوين الإنشاء في حكومات الدولة الإسلامية والتي نسميها «وثائق» من أهم المصادر التاريخية، فهي تقع في المرتبة الثانية من حيث توثيق الخبر أي أن الخبر الخبري الذي يورده المؤرخ في كتابه يؤخذ مأخذ الترجيح لا التعيين، والخبر الذي يرد في الرسائل الديوانية يعتبر أساسا للتعيين أو اليقين أما ما كان أثرا من الآثار فيعتبر تعيينا يقينيا، فالرسالة الديوانية أو الوثيقة، إذا ما صح صدورها عن ديوان الإنشاء، يمكن أن تعتبر الحكم الفصل في صحة خبر المؤرخ من عدمه. وللرسائل التي أوردها القلقشندي قيمة استثنائية، فقد تبين أن من ضمنها رسائل نادرة فقدت أصولها، فلا توجد إلا في كتابه، منها الرسالة التي وجهها الملك الأيوبي «الجواد» إلى «فرانك» ملك بيت المقدس (نصها ص 124من هذا الجزء) ورسالة صلاح الدين الأيوبي الودية إلى «بردويل» ملك بيت المقدس (ص 121من هذا الجزء). والرسالتان الأخريان النادرتان هما رسالة أبى الحسن علي المريني إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون (ص 87من الجزء الثامن) ثم رد السلطان الناصر عليها (ص 416من هذا الجزء). (انظر «القلقشندي وكتابه صبح الأعشى» 119وما بعدها و «مقدمة لدراسة التاريخ الإسلامي» فصل: المصادر).
(2) هو أبو جعفر محمد بن عبد الله بن عبد كان كان على المكاتبات والرسائل في عهد الدولة الطولونية، وكان بليغا مترسلا فصيحا. له ديوان رسائل في عشر مجلدات. (الفهرست: 197والأعلام:
6/ 223).(7/3)
عصى (1) [عليه] (2) بالإسكندرية، منذرا له وموبّخا له على فعله، وهو:
«من أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين (3)، إلى الظالم لنفسه، العاصي لربه، الملمّ بذنبه، المفسد لكسبه العادي لطوره (4)، الجاهل لقدره الناكص على عقبه، المركوس (5) في فتنته، المبخوس [من] (6) حظّ دنياه وآخرته»!.
سلام على كل منيب مستجيب تائب من قريب، قبل الأخذ بالكظم (7)، وحلول الفوت والنّدم.
وأحمد الله الذي لا إله إلا هو حمد معترف له بالبلاء الجميل، والطّول الجليل وأسأله مسألة مخلص في رجائه، مجتهد في دعائه أن يصلي على محمد المصطفى، وأمينه المرتضى ورسوله المجتبى، صلّى الله عليه وسلّم.
أما بعد، فإن مثلك مثل البقرة تثير المدية بقرنيها، والنملة يكون حتفها في جناحيها، وستعلم هبلتك الهوابل (8)! أيّها الأحمق الجاهل الذي ثنى على الغيّ عطفه، واغتر بضجاج المواكب خلفه أيّ موردة هلكة بإذن الله تورّدت، إذ على الله جل وعز تمرّدت وشردت، فإنه تبارك وتعالى قد ضرب لك في كتابه مثلا:
{قَرْيَةً كََانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهََا رِزْقُهََا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكََانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللََّهِ فَأَذََاقَهَا}
__________
(1) استقل ابن طولون بمصر سنة 257هـ على عهد الخليفة المعتمد ثم إنه أغار على الشام سنة 264 هـ ليضمها إلى ملكه وفي اثناء غيابه بها عصى عليه ابنه العباس بعد أن حسّن له جماعة كانوا عنده أخذ الأموال والهرب إلى برقة. وفي أفريقية هزم العباس وجماعته أمام إلياس بن منصور رئيس الأباضية هناك. وبعد هزيمته هذه سير إليه والده العساكر فقاتلوه وأسروه ومن كان معه وذلك سنة 268هـ. (انظر الكامل لابن الأثير: 7/ 107).
(2) الزيادة عن ضوء الصبح للقلقشندي: 467466.
(3) يعني المعتمد على الله.
(4) أي المتجاوز لقدره.
(5) المركوس: المردود والمنكوس.
(6) الزيادة عن ضوء الصبح للقلقشندي: 467466.
(7) الكظم: مخرج النفس. وأخذ بكظمه أي بحلقه.
(8) أي ثكلتك الثواكل. يقال: ثكلتك أمك وهبلتك أمك. وامرأة هابل وهبول.(7/4)
{اللََّهُ لِبََاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمََا كََانُوا يَصْنَعُونَ} (1)
وإنا كنّا نقرّبك إلينا، وننسبك إلى بيوتنا طمعا في إنابتك، وتأميلا لفيئتك (2) فلمّا طال في الغيّ انهماكك، وفي غمرة الجهل ارتباكك ولم نر الموعظة تلين كبدك، ولا التذكير يقيم أودك (3)، لم تكن لهذه النّسبة أهلا، ولا لإضافتك إلينا موضعا ومحلّا بل لا نكنى بأبي العبّاس إلا تكرّها وطمعا بأن يهب الله منك خلفا نقلده اسمك ونكنى به دونك، ونعدّك كنت نسيا منسيّا، ولم تك شيئا مقضيّا فانظر ولا نظر بك إلى عار نسبته تقلّدت، وسخط من قبلنا تعرّضت، واعلم أن البلاء بإذن الله قد أظلّك، والمكروه إن شاء الله قد أحاط بك والعساكر بحمد الله قد أتتك كالسّيل في الليل، تؤذنك بحرب وبويل فإنّا نقسم، ونرجو أن لا نجور ونظلم، أن لا نثني عنك عنانا، ولا نؤثر على شانك شانا ولا تتوقّل (4)
ذروة جبل، ولا تلج بطن واد إلا جعلناك (5) بحول الله وقوته فيهما، وطلبناك حيث أمّمت منهما منفقين فيك كلّ مال خطير، ومستصغرين بسببك كلّ خطب جليل، حتّى تستمرّ من طعم العيش ما استحليت، وتستدفع من البلايا ما استدعيت حين لا دافع بحول الله عنك، ولا مزحزح لنا عن ساحتك وتعرف من قدر الرّخاء ما جهلت، وتودّ أنك هبلت ولم تكن بالمعصية عجلت، ولا رأي من أضلّك من غواتك قبلت فحينئذ يتفرّى (6) لك الليل عن صبحه، ويسفر لك الحقّ عن محضه فتنظر بعينين لا غشاوة عليهما، وتسمع بأذنين لا وقر (7) فيهما وتعلم أنك كنت متمسّكا بحبائل غرور، متماديا في مقابح أمور: من عقوق لا ينام طالبه،
__________
(1) النحل / 112.
(2) الفيئة: الرجوع.
(3) الأود: الاعوجاج.
(4) وقل في الجبل وتوقّل فيه: صعّد فيه. ويقال: توقّل في مصاعد الشرف.
(5) لعله: «تبعناك» والمقصود اقتفاء أثره حيث يمم.
(6) تفرّى وانفرى: انشقّ، والمراد، ينكشف.
(7) الوقر: الصمم.(7/5)
وبغي لا ينجو هاربه وغدر لا ينتعش صريعه، وكفران لا يودى (1) قتيله وتقف على سوء رويّتك، وعظم جريرتك في تركك قبول الأمان إذ هو لك مبذول، وأنت عليه محمول وإذ السيف عنك مغمود، وباب التوبة إليك مفتوح وتتلهّف والتلهّف غير نافعك إلا أن تكون أجبت إليه مسرعا، وانقدت إليه منتصحا.
وإن مما زاد في ذنوبك عندي ما ورد به كتابك عليّ بعد نفوذي على الفسطاط من التّمويهات والأعاليل (2)، والعدات بالأباطيل، من مصيرك بزعمك إلى إصلاح ما ذكرت أنه فسد عليّ، حتى ملت إلى الإسكندرية، فأقمت بها طول هذه المدّة واستظهارا عليك بالحجّة، وقطعا لمن عسى أن يتعلّق به معذرة علم بأن الأناة غير صادّة، ولا أنّه خالجني شكّ ولا عارضني ريب في أنك إنما أردت النّزوح والاحتيال للهرب، والنّزوع إلى بعض المواضع التي لعلّ قصدك إيّاها يوديك (3)، ولعل مصيرك إليها يكفينيك ويبلّغ إليّ أكثر من الإرادة فيك، لأنك إن شاء الله لا تقصد موضعا إلا تلوتك، ولا تأتي بلدا إلا قفوتك ولا تلوذ بعصمة تظنّ أنها تنجيك إلا استعنت بالله عز وجلّ في جدّ (4) حبلها وفصم عروتها فإنّ أحدا لا يؤوي مثلك ولا ينصره إلا لأحد أمرين من دين أو دنيا. فأما الدّين فأنت خارج من جملته لمقامك على العقوق، ومخالفة ربّك وإسخاطه. وأما الدّنيا فما أراه بقي معك من الحطام الذي سرقته وحملت نفسك على الإيثار به، ما يتهيّأ لك مكاثرتنا بمثله، مع ما وهب الله لنا من جزيل النعمة التي نستودعه تبارك وتعالى إيّاها، ونرغب إليه في إنمائها، إلى ما أنت مقيم عليه من البغي الذي هو صارعك، والعقوق الذي هو طالبك.
__________
(1) ودى القتيل كوعى: أعطى ديّته.
(2) لم نجد في كتب اللغة هذا الجمع ولا مفرده. ولعلها من «التعلّة»: ما يتعلّل به، أو من العلالة: ما يتلهّى به. وللإمام عليّ كرّم الله وجهه: «أعاليل بأضاليل».
(3) يوديك: يهلكك. و «لعلّ» هنا بمعنى عسى.
(4) الجدّ: القطع، وكذلك الفصم.(7/6)
وأمّا ما منّيتناه من مصيرك إلينا في حشودك وجموعك، ومن دخل في طاعتك لإصلاح عملنا، ومكافحة أعدائنا بأمر أظهروا فيه الشماتة بنا، فما كان إلا بسببك فأصلح أيها الصبيّ الأخرق أمر نفسك قبل إصلاحك عملنا، واحزم في أمرك قبل استعمالك الحزم لنا فما أحوجنا الله وله الحمد إلى نصرتك وموازرتك، ولا اضطررنا إلى التكثر [بك] على شقاقك ومعصيتك: {وَمََا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} (1)
وليت شعري على من تهوّل بالجنود، وتمخرق (2) بذكر الجيوش ومن هؤلاء المسخّرون لك، الباذلون دماءهم وأموالهم وأديانهم دونك؟ دون رزق ترزقهم إيّاه، ولا عطاء تدرّه عليهم فقد علمت إن كان لك تمييز، أو عندك تحصيل كيف كانت حالك في الوقعة التي كانت بناحية أطرابلس (3)، وكيف خذلك أولياؤك والمرتزقة معك حتّى هزمت، فكيف تغترّ بمن معك من الجنود الذي لا اسم لهم معك ولا رزق يجري لهم على يدك؟ فإن كان يدعوهم إلى نصرتك هيبتك والمداراة لك والخوف من سلطانك، فإنهم ليجذبهم أضعاف ذلك منّا، ووجودهم من البذل الكثير والعطاء الجزيل عندنا ما لا يجدونه عندك، وإنهم لأحرى بخذلك، والميل إلينا دونك. ولو كانوا جميعا معك ومقيمين على نصرتك، لرجونا أن يمكّن الله منك ومنهم، ويجعل دائرة السّوء عليك وعليهم، ويجرينا من عادته في النّصر وإعزاز الأمر على ما لم يزل يتفضّل علينا بأمثاله، ويتطوّل بأشباهه. فما دعاني إلى الإرجاء لك، والتسهيل من خناقك (4) والإطالة من عنانك، طول هذه المدّة إلا أمران: أغلبهما كان عليّ احتقار أمرك واستصغاره
__________
(1) الكهف / 51.
(2) مخرق: هوّل.
(3) تقال بحذف الألف وإثباتها. والمقصود طرابلس الغرب وهو يشير هنا إلى هزيمة ابنه العباس على يد عامل طرابلس وإلياس بن منصور الأباضي. وفي هذه المعركة كاد العباس يؤسر.
(4) الخناق: الحبل يخنق به.(7/7)
وقلة الاحتفال والأكتراث به وإني اقتصرت من عقوبتك على ما أخلقته (1) بنفسك من الإباق (2) إلى أقاصي بلاد المغرب شريدا عن منزلك وبلدك، فريدا من أهلك وولدك والآخر أنّي علمت أن الوحشة دعتك إلى الانحياز إلى حيث انحزت إليه، فأردت التسكين من نفارك، والطمأنينة من جأشك (3)، وعملت على أنك تحنّ إلينا حنين الولد، وتتوق إلى قربنا توقان ذي الرّحم والنّسب فإنّ في رفقنا بك ما يعطفك إلينا، وفي تآخينا إيّاك ما يردّك علينا، ولم يسمع منا سامع في خلاء ولا ملإ انتقاصا بك، ولا غضّا منك ولا قدحا فيك، رقّة عليك، واستتماما لليد عندك، وتأميلا لأن تكون الراجع من تلقاء نفسك، والموفّق بذلك لرشدك وحظّك فأما الآن مع اضطرارك إيّاي إلى ما اضطررتني إليه من الانزعاج نحوك، وحبسك رسلي النافذين بعهد كثير إلى ما قبلك واستعمالك المواربة والخداع فيما يجري عليه تدبيرك. فما أنت بموضع للصّيانة، ولا أهل للإبقاء والمحافظة، بل اللعنة عليك حالّه، والذّمّة منك بريّة، والله طالبك ومؤاخذك بما استعملت من العقوق والقطيعة، والإضاعة لرحم الأبوّة، فعليك من ولد عاقّ شاقّ (4) لعنة الله ولعنة اللاعنين، والملائكة والناس أجمعين ولا قبل الله لك صرفا ولا عدلا (5)، ولا ترك لك منقلبا ترجع إليه، وخذلك خذلان من لا يؤبه له، وأثكلك ولا أمهلك، ولا حاطك ولا حفظك. فو الله لأستعملنّ لعنك في دبر كلّ صلاة، والدعاء عليك في آناء الليل والنهار، والغدوّ والآصال ولأكتبنّ إلى مصر، وأجناد الشامات والثّغور، وقنّسرين، والعواصم، والجزيرة، والحجاز، ومكّة، والمدينة كتبا تقرأ على منابرها فيك، باللّعن لك، والبراءة منك، والدلالة على عقوقك وقطيعتك، يتناقلها
__________
(1) ليس لهذا اللفظ معنى مناسب هنا، ولعل في الأصل تحريفا والأوضح «أحللته». وأحلّ: أخرج نفسه من تبعة أو عهد.
(2) الإباق: الهرب.
(3) الجأش: رواع القلب إذا اضطرب عند الفزع.
(4) لعل فيها تحريفا. والأوضح: «مشاقّ» أي مخالف.
(5) الصرف: التوبة والعدل: الفدية.(7/8)
آخر عن أوّل، ويأثرها (1) غابر عن ماض، وتخلّد في بطون الصحائف، وتحملها الرّكبان، ويتحدّث بها في الآفاق، وتلحق بها وبأعقابك عارا ما أطّرد الليل والنهار، واختلف الظّلام والأنوار.
فحينئذ تعلم أيّها المخالف أمر أبيه، القاطع رحمه، العاصي ربّه أيّ جناية على نفسك جنيت؟ وأيّ كبيرة اقترفت واجتنيت، تتمنّى، لو كانت فيك مسكه (2)، أو فيك فضل إنسانيّة، أنك لم تكن ولدت، ولا في الخلق عرفت، إلا أن تراجع من طاعتنا والإسراع إلى ما قبلنا خاضعا ذليلا كما يلزمك، فنقيم الاستغفار مقام اللعنه، والرّقة مقام الغلظه والسلام على من سمع الموعظة فوعاها، وذكر الله فاتّقاه، إن شاء الله تعالى.
وكما كتب الأخشيد محمد بن طغج [صاحب الديار المصرية] (3) وما معها من البلاد الشامية، والأعمال الحجازيّة، إلى أرمانوس: ملك الروم، وقد أرسل أرمانوس إليه كتابا يذكر من جملته بأنه كاتبه وإن لم تكن عادته أن يكاتب إلا الخليفة، فأمر بكتابة جوابه فكتب له الكتّاب عدّة أجوبة ورفعوا نسخها إليه، فلم يرتض منها إلا ما كتبه إبراهيم بن عبد الله النّجيرميّ (4) وكان عالما بوجوه الكتابة.
__________
(1) أي ينقلها ويرويها.
(2) المسكة: ما يتمسك به.
(3) بياض بالأصل، والزيادة عن ضوء الصبح للمؤلف ص: 467. وقد ولي محمد بن طغج حكم مصر سنة 323هـ في خلافة الراضي بالله وتوفي الأخشيد سنة 335هـ. وهو مؤسس الدولة الإخشيدية بمصر والشام. وقد كان الاخشيد مصدر فزع للامبراطورية البيزنطية حتى أن الأمبراطور «رومانوس» تودد إليه ومدحه. (راجع الأعلام: 6/ 174وتاريخ الإسلام: 3/ 235).
(4) نسبة إلى «نجيرم». قال ياقوت: «بفتح أوله وثانيه وياء ساكنة وراء مفتوحة، ويروى بكسر الجيم، بليدة مما يلي البصرة على جبل هناك على ساحل البحر. وقد نسب إليها قوم من أهل الأدب والحديث، منهم ابراهيم بن عبد الله النجيرمي» وله «ايمان العرب في الجاهلية» و «الأمالي».
(انظر معجم البلدان: 5/ 274والأعلام: 1/ 49).(7/9)
ونسخته على ما ذكره ابن سعيد في كتابه «المغرب في أخبار المغرب» (1):
من محمد بن طغج مولى أمير المؤمنين، إلى أرمانوس عظيم الروم ومن يليه.
سلام بقدر ما أنتم له مستحقّون، فإنا نحمد الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله أن يصلّي على محمد عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
أما بعد، فقد ترجم لنا كتابك الوارد مع نقولا وإسحاق رسوليك، فوجدناه مفتتحا بذكر فضيلة الرّحمة، وما نمي عنا إليك، وصحّ من شيمنا فيها لديك وبما نحن عليه من المعدلة وحسن السّيرة في رعايانا، وما وصلت به هذا القول من الفداء والتوصّل إلى تخليص الأسرى، إلى [غير] ذلك مما اشتمل عليه وتفهّمناه.
فأما ما أطنبت فيه من فضيلة الرحمة فمن سديد القول، الذي يليق بذوي الفضل والنّبل ونحن بحمد الله ونعمه علينا بذلك عارفون، وإليه راغبون، وعليه باعثون، وفيه بتوفيق الله إيّانا مجتهدون، وبه متواصون وعاملون. وإيّاه نسأل التوفيق لمراشد الأمور وجوامع المصالح بمنّه وقدرته.
وأما ما نسبته إلى أخلاقنا من الرحمة والمعدلة، فإنا نرغب إلى الله جلّ
__________
(1) ذكره حاجي خليفة باسم «المغرب في محاسن حلى أهل المغرب» لعلي بن موسى بن سعيد الأندلسي المتوفى سنة 673هـ. وذكره الزركلي باسم «المغرب في حلى المغرب» لعلي بن موسى ابن محمد بن عبد الملك بن سعيد المتوفى سنة 685هـ. ويقول الدكتور عبد القادر طليمات. هذا الكتاب منسوب لابن سعيد وحده، بينما الواقع أن مؤلفي الكتاب ستّة مؤرخين، وقد حقق الجزء الأول من القسم الخاص بمصر من الكتاب الدكتور زكي محمد حسن وآخرون مطبعة جامعة فؤاد الأول 1953م. ويضيف الدكتور طليمات: «وقد قابلنا نص القلقشندي على نص ابن سعيد وخرجنا من المقابلة بملاحظتين: الأولى، وجود اختلافات لفظية كثيرة بين النصين، بعضها أصح واضبط في نص القلقشندي وبعضها الآخر أصح واضبط في نص كتاب «المغرب»، والثانية، وجود نقص في نص القلقشندي، وقد أشرنا إليه وإلى الاختلافات اللفظية في الهامش ولم يذكر القلقشندي تاريخ رسالة الإخشيد، غير أنه يمكن تحديده من كتاب «المغرب» بسنة 324هـ أو بسنة 325. (انظر كشف الظنون: 1747والأعلام: 5/ 26وفوات الوفيات: 3/ 103والقلقشندي وكتابه صبح الأعشى: ص 131وما بعدها).(7/10)
وعلا الذي تفرّد بكمال هذه الفضيلة، ووهبها لأوليائه ثم أثابهم عليها، أن يوفّقنا لها، ويجعلنا من أهلها، وييسّرنا للاجتهاد فيها، والاعتصام من زيغ الهوى عنها، وعرّة (1) القسوة بها، ويجعل ما أودع قلوبنا من ذلك موقوفا على طاعته، وموجبات مرضاته، حتّى نكون أهلا لما وصفتنا به، وأحقّ حقّا بما دعوتنا إليه، وممن يستحقّ الزّلفى من الله تعالى، فإنا فقراء إلى رحمته وحقّ لمن أنزله الله بحيث أنزلنا، وحمّله من جسيم الأمر ما حمّلنا، وجمع له من سعة الممالك ما جمع لنا بمولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، أن يبتهل إلى الله تعالى في معونته لذلك وتوفيقه وإرشاده، فإن ذلك إليه وبيده: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللََّهُ لَهُ نُوراً فَمََا لَهُ مِنْ نُورٍ} (2)
وأما ما وصفته من ارتفاع محلّك عن مرتبة من هو دون الخليفة في المكاتبة لما يقتضيه عظم ملككم، وأنه الملك القديم الموهوب من الله، الباقي على الدّهر، وإنك إنما خصصتنا بالمكاتبة لما تحقّقته من حالنا عندك، فإنّ ذلك لو كان حقّا وكانت منزلتنا كما ذكرته تقصر عن منزلة من تكاتبه، وكان لك في ترك مكاتبتنا غنم ورشد، لكان من الأمر البيّن أن أحظى وأرشد وأولى بمن حلّ محلّك أن يعمل بما فيه صلاح رعيّته، ولا يراه وصمة ولا نقيصة ولا عيبا، ولا يقع في معاناة صغيرة من الأمور تعقبها كبيرة، فإن السائس الفاضل قد يركب الأخطار، ويخوض الغمار، ويعرّض مهجته، فيما ينفع رعيّته والذي تجشّمته من مكاتبتنا إن كان كما وصفته فهو أمر سهل يسير، لأمر عظيم خطير وجلّ نفعه وصلاحه وعائدته تخصّكم، لأن مذهبنا انتظار إحدى الحسنيين، فمن كان منّا في أيديكم فهو على بيّنة من ربه، وعزيمة صادقة من أمره، وبصيرة فيما هو بسبيله وإن في الأسارى من يؤثر مكانه من ضنك الأسر وشدّة البأساء على نعيم الدنيا وخيرها لحسن منقلبه، وحميد عاقبته، ويعلم أن الله تعالى قد أعاذه من أن يفتنه، ولم يعذه من أن يبتليه هذا إلى أوامر الإنجيل الذي هو إمامكم، وما توجبه عليكم عزائم
__________
(1) العرّة بالفتح: الخلّة القبيحة، وبالضم: القذر، وتستعار للمساوي والمعايب. ولم نجدها بالكسر.
(2) النور / 40.(7/11)
سياستكم، والتوصل إلى استنقاذ أسرائكم ولولا أنّ إيضاح القول في الصواب، أولى بنا من المسامحة في الجواب، لأضربنا عن ذلك صفحا إذ رأينا أنّ نفس السبب الذي من أجله سما إلى مكاتبة الخلفاء عليهم السلام من كاتبهم، أو عدا عنهم إلى من حلّ محلّنا في دولتهم، بل إلى من نزل عن مرتبتنا، هو أنه لم يثق من منعه، وردّ ملتمسه ممن جاوره، فرأى أن يقصد به الخلفاء الذين الشّرف كلّه في إجابتهم، ولا عار على أحد وإن جلّ قدره في ردّهم ومن وثق في نفسه ممن جاوره، وجد قصده أسهل السبيلين عليه، وأدناهما إلى إرادته، حسب ما تقدّم لها من تقدّم، وكذلك كاتب من حل محلّك من قصر عن محلنا، ولم يقرب من منزلتنا، فممالكنا عدّة، كان يتقلد في سالف الدهر كلّ مملكة منها ملك عظيم الشأن.
فمنها ملك مصر الذي أطغى فرعون على خطر أمره، حتّى ادّعى الإلهية وافتخر على نبيّ الله موسى بذلك.
ومنها ممالك اليمن التي كانت للتبابعة، والأقيال العباهلة (1): ملوك حمير، على عظم شأنهم، وكثرة عددهم.
ومنها أجناد الشام التي:
منها جند حمص، وكانت دارهم ودار هرقل عظيم الروم ومن قبله من عظمائها.
ومنها جند دمشق على جلالته في القديم والحديث، واختيار الملوك المتقدّمين له.
ومنها جند الأردنّ على جلالة قدره، وأنه دار المسيح صلّى الله عليه وسلّم وغيره من الأنبياء والحواريّين.
__________
(1) الأقيال: جمع قيل (كشمس) وهو الملك من ملوك حمير والعباهلة: الذين أقروا على ملكهم فلم يزالوا عنه. وواحد العباهلة عبهل (كجعفر) والتاء لتأكيد الجمع كقشعم وقشاعمة.(7/12)
ومنها جند فلسطين، وهي الأرض المقدّسة، وبها المسجد الأقصى، وكرسيّ النصرانية، ومعتقد غيرها، ومحجّ النصارى واليهود طرّا، ومقرّ داود وسليمان ومسجدهما. وبها مسجد إبراهيم وقبره وقبر إسحاق ويعقوب ويوسف وإخوته وأزواجهم عليهم السلام، وبها مولد المسيح وأمّه وقبرها.
هذا إلى ما نتقلّده من أمر مكة المحفوفة بالآيات الباهرة، والدلالات الظاهرة فإنا لو لم نتقلّد غيرها لكانت بشرفها، وعظم قدرها، وما حوت من الفضل توفي على كل مملكة، لأنها محجّ آدم ومحجّ إبراهيم وارثه ومهاجره، ومحجّ سائر الأنبياء، وقبلتنا وقبلتهم عليهم السلام وداره وقبره (1)، ومنبت ولده، ومحجّ العرب على مرّ الحقب، ومحلّ أشرافها، وذوي أخطارها، على عظم شأنهم، وفخامة أمرهم. وهو البيت العتيق، المحرّم المحجوج إليه من كل فجّ عميق، الذي يعترف بفضله وقدمه أهل الشرف، من مضى ومن خلف وهو البيت المعمور، وله الفضل المشهور.
ومنها مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم المقدّسة بتربته، وإنّها مهبط الوحي، وبيضة هذا الدّين المستقيم الذي امتدّ ظلّه على البرّ والبحر، والسّهل والوعر والشّرق والغرب، وصحارى العرب على بعد أطرافها، وتنازح أقطارها، وكثرة سكّانها في حاضرتها وباديتها، وعظمها في وفودها وشدّتها، وصدق بأسها ونجدتها، وكبر أحلامها، وبعد مرامها، وانعقاد النصر من عند الله براياتها. وإن الله تعالى أباد خضراء (2) كسرى، وشرّد قيصر عن داره ومحل عزّه ومجده بطائفة منها. هذا إلى ما تعلمه من أعمالنا وتحت أمرنا ونهينا ثلاثة كراسيّ من أعظم كراسيّكم: بيت المقدس، وأنطاكية، والإسكندريّة، مع ما إلينا من البحر وجزائره، واستظهارنا
__________
(1) يظهر أنه مقدم على ما بعده، ويكون الضمير فيه عائدا على «ولده» أي اسماعيل فإن مكة كانت داره ومنبته.
(2) الخضراء: سواد القوم ومعظمهم وفي حديث الفتح «أبيدت خضراء قريش» أي دهماؤهم وسوادهم. (انظر اللسان: 4/ 245).(7/13)
بأتمّ العتاد. وإذا وفّيت النظر حقّه علمت أن الله تعالى قد أصفانا (1) بجلّ الممالك التي ينتفع الأنام بها، وبشرف الأرض المخصوصة بالشّرف كلّه دنيا وآخرة، وتحقّقت أن منزلتنا بما وهبه الله لنا من ذلك فوق كلّ منزلة. والحمد لله وليّ كلّ نعمة.
وسياستنا لهذه الممالك قريبها وبعيدها على عظمها وسعتها بفضل الله علينا وإحسانه إلينا ومعونته لنا وتوفيقه إيّانا كما كتبت إلينا وصحّ عندك من حسن السّيرة، وبما يؤلّف بين قلوب سائر الطّبقات من الأولياء والرعية ويجمعهم على الطاعة واجتماع الكلمة، ويوسعها الأمن والدّعة في المعيشة ويكسبها المودّة والمحبة.
والحمد لله ربّ العالمين أوّلا وآخرا على نعمه التي تفوت عندنا عدد العادّين، وإحصاء المجتهدين، ونشر الناشرين، وقول القائلين، وشكر الشاكرين. ونسأله أن يجعلنا ممن تحدّث بنعمته عليه شكرا لها، ونشرا لما منحه الله منها [ومن رضي اجتهاده في شكرها، ومن أراد الآخرة] (2) وسعى لها سعيها، وكان سعيه مشكورا، إنه حميد مجيد.
وما كنت أحبّ أن أباهيك بشيء من أمر الدنيا، ولا أتجاوز الاستيفاء لما وهبه الله لنا من شرف الدين الذي كرّمه وأظهره، ووعدنا في عواقبه الغلبة الظاهرة، والقدرة القاهرة، ثم الفوز الأكبر يوم الدّين، لكنك سلكت مسلكا لم يحسن أن نعدل عنه، وقلت قولا لم يسعنا التقصير في جوابه، ومع هذا فإنا لم نقصد بما وصفناه من أمرنا مكاثرتك، ولا اعتمدنا تعيين فضل لنا نعوذ به، إذ نحن نكرم عن ذلك، ونرى أن نكرمك عند محلك ومنزلتك، وما يتّصل بها من حسن سياستك ومذهبك في الخير ومحبّتك لأهله، وإحسانك لمن في يدك من أسرى المسلمين، وعطفك عليهم، وتجاوزك في الإحسان إليهم جميع من تقدّمك من سلفك ومن
__________
(1) أصفاه بالشيء: آثره به.
(2) الزيادة من «المغرب في أخبار المغرب» (حاشية الطبعة الأميرية).(7/14)
كان محمودا في أمره، رغب في محبته، لأن الخيّر أهل أن يحبّ حيث كان، فإن كنت إنما تؤهّل لمكاتبتك ومماثلتك من اتسعت مملكته، وعظمت دولته، وحسنت سيرته فهذه ممالك عظيمة، واسعة جمّة، وهي أجل الممالك التي ينتفع بها الأنام، وسرّ الأرض المخصوصة بالشرف، فإنّ الله قد جمع لنا الشرف كلّه، والولاء الذي جعل لنا من مولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، مخصوصين بذلك إلى مالنا بقديمنا وحديثنا وموقعنا. والحمد لله رب العالمين الذي جمع لنا ذلك بمنّه وإحسانه، ومنه نرجو حسن السعي فيما يرضيه بلطفه. ولم ينطو عنك أمرنا فيما اعتمدناه. وإن [كنت] تجري في المكاتبة على رسم من تقدّمك فإنك لو رجعت إلى ديوان بلدك، وجدت من كان تقدّمك قد كاتب من قبلنا من لم يحلّ محلّنا، ولا أغنى غناءنا، ولا ساس في الأمور سياستنا، ولا قلّده مولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ما قلّدنا، ولا فوّض إليه ما فوّض إلينا وقد كوتب أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وآخر من كوتب تكين مولى أمير المؤمنين ولم يكن تقلد سوى مصر وأعمالها.
ونحن نحمد الله كثيرا أوّلا وآخرا على نعمة التي يفوت عندنا عددها عدّ العادّين، ونشر الناشرين. ولم نرد بما ذكرناه المفاخرة، ولكنا قصدنا بما عددنا من ذلك حالات: أوّلها التحدّث بنعمة الله علينا ثم الجواب عما تضمّنه كتابك من ذكر المحلّ والمنزلة في المكاتبة، ولتعلم قدر ما بسطه الله لنا في هذه المسالك، وعندنا قوّة تامة على المكافأة على جميل فعلك بالأسارى، وشكر واف لما توليهم وتتوخّاه من مسرّتهم إن شاء الله تعالى وبه الثقة، وفّقك الله لمواهب خيرات الدنيا والآخرة، والتوفيق للسّداد في الأمور كلها، والتيسير لصلاح القول والعمل الذي يحبه ويرضاه ويثيب عليه، ويرفع في الدنيا والآخرة أهله، بمنّه ورحمته.
وأما الملك الذي ذكرت أنه باق على الدهر لأنه موهوب لكم من الله خاصّة، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. وإن الملك كلّه لله يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء بيده الخير وإليه المصير، وهو على كل شيء قدير. وإن الله عزّ وجل نسخ ملك
الملوك وجبريّة الجبّارين بنبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله أجمعين، وشفع نبوّته بالإمامة وحازها إلى العترة الطاهرة من العنصر الذي منه أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، والشجرة التي منها غصنه، وجعلها خالدة فيهم يتوارثها منهم كابر عن كابر، ويلقيها ماض إلى غابر حتّى نجز أمر الله ووعده، وبهر نصره وكلمته، وأظهر حجته وأضاء عمود الدين بالأئمة المهتدين، وقطع دابر الكافرين ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل ولو كره المشركون حتّى يرث الله الأرض ومن عليها وإليه يرجعون.(7/15)
وأما الملك الذي ذكرت أنه باق على الدهر لأنه موهوب لكم من الله خاصّة، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. وإن الملك كلّه لله يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء بيده الخير وإليه المصير، وهو على كل شيء قدير. وإن الله عزّ وجل نسخ ملك
الملوك وجبريّة الجبّارين بنبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله أجمعين، وشفع نبوّته بالإمامة وحازها إلى العترة الطاهرة من العنصر الذي منه أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، والشجرة التي منها غصنه، وجعلها خالدة فيهم يتوارثها منهم كابر عن كابر، ويلقيها ماض إلى غابر حتّى نجز أمر الله ووعده، وبهر نصره وكلمته، وأظهر حجته وأضاء عمود الدين بالأئمة المهتدين، وقطع دابر الكافرين ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل ولو كره المشركون حتّى يرث الله الأرض ومن عليها وإليه يرجعون.
وإنّ أحقّ ملك أن يكون من عند الله، وأولاه وأخلقه أن يكنفه الله بحراسته وحياطته، ويحفّه بعزّه وأيده (1)، ويجلّله بهاء السكينة في بهجة الكرامة، ويجمّله بالبقاء والنّجاء (2) ما لاح فجر، وكرّ دهر، ملك إمامة عادلة خلفت نبوّة فجرت على رسمها وسننها، وارتسمت أمرها، وأقامت شرائعها، ودعت إلى سبلها، مستنصرة بأيدها، منتجزة لوعدها وإنّ يوما واحدا من إمامة عادلة خير عند الله من عمر الدنيا تملّكا وجبريّة.
ونحن نسأل الله تعالى أن يديم نعمه علينا، وإحسانه إلينا بشرف الولاية، ثم بحسن العاقبة بما وفّر علينا فخره وعلاه، ومجده وإحسانه إن شاء الله، وبه الثقة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وأما الفداء ورأيك في تخليص الأسرى، فإنا وإن كنّا واثقين لمن في أيديكم بإحدى الحسنيين، وعلى بينة لهم من أمرهم، وثبات من حسن العاقبة وعظم المثوبة، عالمين بما لهم، فإن فيهم من يؤثر مكانه من ضنك الأسر وشدّة البأساء على نعيم الدنيا ولذّتها، سكونا إلى ما يتحقّقه من حسن المنقلب وجزيل الثواب. ويعلم أن الله قد أعاذه من أن يفتنه، ولم يعذه من أن يبتليه وقد تبيّنّا مع ذلك في هذا الباب ما شرعه لنا الأئمة الماضون، والسلف الصالحون، فوجدنا ذلك موافقا لما آلتمسته، وغير خارج عما أحببته فسررنا بما تيسّر منه، وبعثنا
__________
(1) الأيد: القوة.
(2) النجاء: النجاة.(7/16)
الكتب والرسل إلى عمّالنا في سائر أعمالنا، وعزمنا عليهم في جمع [كلّ من قبلهم وأتباعهم بما وفر الإيمان في إنفاذهم، وبذلنا في ذلك] (1) كلّ ممكن، وأخّرنا إجابتك عن كتابك ليتقدّم فعلنا قولنا، وإنجازنا وعدنا ويوشك أن يكون قد ظهر لك من ذلك ما وقع أحسن الموقع منك إن شاء الله.
وأما ما ابتدأتنا به من المواصلة، واستشعرته لنا من المودّة والمحبة، فإنّ عندنا من مقابلة ذلك ما توجبه السياسة التي تجمعنا على اختلاف المذاهب، وتقتضيه نسبة الشرف الذي يؤلفنا على تباين النحل، فإن ذلك من الأسباب التي تخصّنا وإيّاك. ورأينا من تحقيق جميل ظنّك بنا إيناس رسلك وبسطهم، والاستماع منهم والإصغاء إليهم والإقبال عليهم وتلقينا انبساطك إلينا، وإلطافك إيّانا بالقبول الذي يحقّ علينا، ليقع ذلك موقعه وزدنا في توكيد ما اعتمدته ما حمّلناه رسلك في هذا الوقت على استقلالنا إيّاه من طرائف بلدنا وما يطرأ من البلاد علينا وإن الله بعدله وحكمته أودع كلّ قرية صنفا ليتشوّف إليه من بعد عنه، فيكون ذلك سببا لعمارة الدنيا ومعايش أهلها. ونحن نفردك بما سلّمناه إلى رسولك لتقف عليه إن شاء الله.
وأما ما أنفذته للتجارة فقد أمكنّا أصحابك منه، وأذنّا لهم في البيع وفي ابتياع ما أرادوه واختاروه لأنا وجدنا جميعه مما لا يحظره علينا دين ولا سياسة. وعندنا من بسطك وبسط من يرد من جهتك، والحرص على عمارة ما بدأتنا به ورعايته، وربّ (2) ما غرسته، أفضل ما يكون عند مثلنا لمثلك. والله يعين على ما ننويه من جميل، ونعتقده من خير، وهو حسبنا ونعم والوكيل.
ومن ابتدأ بجميل لزمه الجري عليه والزيادة، ولا سيما إذا كان من أهله وخليقا به. وقد ابتدأتنا بالمؤانسة والمباسطة، وأنت حقيق بعمارة ما بيننا،
__________
(1) الزيادة من «المغرب في أخبار المغرب» حاشية الطبعة الأميرية.
(2) الربّ: الحفظ والرعاية.(7/17)
وباعتمادنا بحوائجك وعوارضك قبلنا فأبشر بتيسير ذلك إن شاء الله.
والحمد لله أحقّ ما ابتدىء به، وختم بذكره، وصلّى الله على محمد نبيّ الهدى والرحمة، وعلى آله وسلّم تسليما.
الحالة الثانية (من حالات المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية ما كان الحال عليه بعد الدولة الفاطمية في الدولة الأيوبية)
وقد ذكر «عبد الرحيم بن شيث» (1) أحد كتّاب الدولة الأيوبية في أواخر دولتهم مصطلح (2) ما يكتب عن السلطان في خلال كلامه، فقال: إن الناس كانوا لا يكتبون «المجلس» إلا للسّلطان خاصّة، ويكتبون لأعيان الدولة من الوزراء وغيرهم «الحضرة» ثم أفردوا السلطان بالمقام والمقرّ، وصاروا يكتبون «المجلس» لمن دونه، ولم يسوّغوا مكاتبة السلطان بعد ذلك بالمجلس ولا بالحضرة. قال:
ويكتب السلطان إلى ولده المستخلف عنه «بالمجلس» دون المقام. واصطلحوا على الاختصار في نعوت الملوك المكتوب إليهم والدعاء، بخلاف من هو تحت أمر السلطان وتحت حوزته، فإنه كلّما كثرت النعوت والدعاء له في مكاتبة السلطان إليه، كان أبلغ: لأنّ ذلك في معنى التشريف من السلطان، وأنه لا يقال في المقام «السامي» بل «العالي». وأنه إذا كتب السلطان إلى من هو دونه من ذوي الأقدار عبّر «بالمجلس السامي»، ولا يزاد على ذلك، ثم يفرد عن النّسب بعد السامي، فيقال: الأمير الأجل من غير ياء النسب. وأنه لا يقال العالي مكان السامي في الكتابة عن السلطان، وقد يجمع بينهما لذوي الأقدار، وأنه يضاف في نعت كل أمير «عمدة الملوك والسلاطين عزّ الإسلام، أو نصرة الإسلام، أو فارس المسلمين» أو ما شابه ذلك من غير ضبط ولا تخصيص لأحد دون أحد إذا أحرزوا
__________
(1) هو عبد الرحيم (وفي بعض الروايات عبد الرحمن) بن علي بن الحسين بن اسحاق بن شيث، صاحب ديوان الإنشاء للملك المعظم عيسى ثم وزيره. توفي بدمشق سنة 625هـ. له كتاب:
«معالم الكتابة ومغانم الإصابة» في فن الإنشاء وآداب كتاب الملوك. (الأعلام: 3/ 347).
(2) هو عبد الرحيم (وفي بعض الروايات عبد الرحمن) بن علي بن الحسين بن اسحاق بن شيث، صاحب ديوان الإنشاء للملك المعظم عيسى ثم وزيره. توفي بدمشق سنة 625هـ. له كتاب:
«معالم الكتابة ومغانم الإصابة» في فن الإنشاء وآداب كتاب الملوك. (الأعلام: 3/ 347).(7/18)
النعت الذي اشتهر به المكتوب إليه. وأنه يقال: «عمدة الملوك والسلاطين» و «عدّة الملوك والسلاطين» و «ذخر الملوك» ودونها «اختيار الملوك». وللأقارب «فخر الملوك» و «جمال الملوك» و «عزّ الملوك» و «زين الملوك». وللأماثل «معين الملوك» و «نصرة الملوك» وما أشبه ذلك وأنه يكتب للأمراء الأعيان: «حسام أمير المؤمنين» و «سيف أمير المؤمنين». ولكبراء الدولة من الكتّاب: «خاصّة أمير المؤمنين» و «وليّ أمير المؤمنين» و «صفوة أمير المؤمنين». و «ثقة أمير المؤمنين» و «صنيعة أمير المؤمنين» على مقدار مراتبهم. وأن نعت الأجلّ يذكر بعد العلوّ والسّموّ بأن يقال: «المجلس العالي الأجلّ» أو «السامي الأجلّ» وربما كان بعد ذكر الإمرة أو القضاء فيقال «الأمير الأجلّ» أو «القاضي الأجلّ». وأن السلطان لا يبتدىء بالدعاء في كتبه إلى أحد إلا من ماثله في الملك. وأن السلطان لا يكتب إلى أحد ممن هو تحت أمره «بلا زال» «ولا برح» في الدعاء، وإنما يكتب بذلك إلى من ماثله من الملوك، أو إلى ولده المستخلف عنه في الملك. وأن الدعاء للملوك يكون مثل «أدام الله أيّامه» و «خلّد سلطانه وثبّت دولته» وما أشبه ذلك.
وأن التحميد في أوائل الكتب لا يكون إلا في الكتب الصادرة عن السلطان. وأنّ غاية عظمة المكتوب إليه أن يكون الحمد ثانية وثالثة في الكتاب، ثم يؤتى بالشهادتين، ويصلّى على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وأنه يكتب في الكتب السلطانية «صدرت» و «أصدرناها» ولا يكتب «كتبت». وأن الذي تخاطب به الخلافة عن السلطان:
«المواقف المقدّسة الشريفة، والعتبات العالية، ومقرّ الرحمة، ومحلّ الشرف».
والذي يخاطب به الملوك: «المقام العالي، والمقرّ الأشرف» ولا يقال «المقام السامي». والذي يخاطب به الوزراء: «الجناب العالي، والمحلّ السامي». ومن دون ذلك «المجلس السامي» ودونه «مجلس الحضرة». ودونه «الحضرة». وأنه لا يكتب عن السلطان لمن هو تحت أمره إلا بنون الجمع لدلالتها على العظمة، ولا يكتب «تشعر» إلا عن السلطان خاصّة بخلاف «تعلم» وأن الكتب الصادرة عن السلطان تكون طويلة الطرّة (1)، وتكون بقلم جليل غير دقيق. وأنه يوسّع بين
__________
(1) الطرّة هي الهامش الذي يترك في أعلى الكتاب ولها قواعد. وفي المكاتبات الصادرة عن السلطان.
(تكون الطرّة فيها ما بين ثلاثة أوصال إلى وصلين، ومن النواب ومن في معناهم تكون وصلا واحدا.
(انظر الصبح: 6/ 313).(7/19)
السطور حتى يكون بين كل سطرين ثلاث أصابع أو أربع أصابع. وأنه لا يخرج عن سمت البسملة في الكتابة، ولا يحتمل ذلك إلا في الحمدلة. وأنه لا يكثر النقط والشكل في الكتب الصادرة عن السلطان لا سيّما في الألفاظ الظاهرة. وأن الدعاء على العدوّ كان محظورا في الكتب الصادرة عن السلطان إلى من دونه، ثم استعمل ذلك. وأنه لا تترك فضلة في آخر الكتاب بياضا، ولا يكتب في حاشية الكتاب. وأن الترجمة عن السلطان في كتبه لمن تحت أمره أعلاهم وأدناهم، العلامة فإن أراد تمييز أحد منهم كتب له شيئا بخطه في مكان العلامة. وأن العلامة تكون إلى البسملة من السلطان أقرب، وأنه لا حرج على السلطان أن يترجم للقضاة والعلماء والعبّاد بأخيه وولده. وأن عنونة الكتاب وختمه مختصّ بصاحب ديوان الإنشاء ليدلّ ذلك على وقوفه على الكتاب. وأنه لا يجوز عنونة الكتاب قبل أن يكتب عليه السلطان ترجمته أو علامته. وأن الكتب لا تبقى مفتوحة إلا أن تكون بإطلاق مال، لأن كرم الكتاب ختمه، ولا أكرم من كتب السلطان ويكون طيّ الكتاب الصادر عن السلطان عرض ثلاث أصابع.
ثم مشهور مكاتباتهم على أربعة أساليب:
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بالدعاء للمجلس أو الجناب)
مثل: أدام الله أيام المجلس، أو أدام الله سلطان المجلس، أو أدام الله نعمة المجلس، أو أدام الله اقتدار المجلس، أو أدام الله سعادات المجلس، أو خلّد الله أيام المجلس أو سلطان المجلس، أو ثبّت الله دولة المجلس، وما أشبه ذلك مما فيه معنى الدوام وربما أبدل لفظ الدوام وما في معناه بالمضاعفة، مثل: ضاعف الله نعمة المجلس. ويؤتى على الألقاب إلى آخرها، ثم يقال: نشعر المجلس أو
الأمير بكذا ونحو ذلك، ويؤتى على المقصود إلى آخره. ويختم بالدعاء وقد يختم بغيره.(7/20)
مثل: أدام الله أيام المجلس، أو أدام الله سلطان المجلس، أو أدام الله نعمة المجلس، أو أدام الله اقتدار المجلس، أو أدام الله سعادات المجلس، أو خلّد الله أيام المجلس أو سلطان المجلس، أو ثبّت الله دولة المجلس، وما أشبه ذلك مما فيه معنى الدوام وربما أبدل لفظ الدوام وما في معناه بالمضاعفة، مثل: ضاعف الله نعمة المجلس. ويؤتى على الألقاب إلى آخرها، ثم يقال: نشعر المجلس أو
الأمير بكذا ونحو ذلك، ويؤتى على المقصود إلى آخره. ويختم بالدعاء وقد يختم بغيره.
وهذه نسخة مكاتبة من هذا الأسلوب بالإخبار بفتح غزّة واقتلاعها من الفرنج الديوية (1)، الذين كانوا مستولين عليها، وهي:
«أدام الله سعادات المجلس، وأحسن له التدبير، وأصفى عيشة من التكدير، وحقّق له وفيه أحسن الرجاء والتقدير، وجعل وجهه من أهلّة الأكابر والتكبير، وأعاذ تأخير أجله من التقديم وتقديم حظّه من التأخير.
نشعر المجلس بما منّ الله تعالى به من فتح غزّة يوم الجمعة الجامع لشمل النصر، القاطع لحبل الكفر وهذه المدينة قد علم الله أنها من أوسع المدائن، وأملإ الكنائن، وأثرى المعادن وهي كرسيّ الدّيويّة (2) ومهبط رؤوسهم، ومحطّ نفوسهم، وحمى كليبهم بل كلابهم، وظهير صليبهم بل أصلابهم وما كانت الأبصار إليها تطمح، ولا الأقدار بها قبلنا تسمح ولها قلعة أنفها شامخ في الهواء، وعطفها جامح عن عطفة اللواء قد أوغلت في الجوّ مرتفعه، وأو مضت في الليل ملتمعه، وبرداء السّحاب ملتفعه قد صافحتها أيدي الأنام بالسلامة من قوارعها، وهادنتها حوادث الأيام على الأمن من روائعها، إلى أن أتيح لها من أتاح
__________
(1) في حاشية الصفحة 178من الحلة السيراء / 2: «الداويّة» والفرنج الداوية بالأصل طائفة مشهورة من الرهبان المرابطين كان مركزهم الأساسي في قلعة رباح باسبانيا التي كانت حدا فاصلا بين أرض النصارى وأرض المسلمين وقد جاء قسم منهم إلى المشرق مع الحملات الصليبية. ويقال لهم في فرنسا أو فرسان المعبد وجاء في معجم ما ترجمته: هم طائفة متدينة عسكرية تأسست عام 1119م وكان لها دور بارز في الحملات على فلسطين وقد جمعوا ثروات طائلة من غزواتهم أصبحوا بفضلها ممولي البابا وعدد من الأمراء ومنذ العام 1312م ألغى البابا كليمان الخامس شرعية هذه الطائفة بطلب وتحريض من ملك فرنسا. (أنظر دائرة المعارف الاسلامية: 3/ 379وسيرة الملك المنصور: 20ومعجم ص 1727والحلة السيراء: 2/ 178).
(2) في حاشية الصفحة 178من الحلة السيراء / 2: «الداويّة» والفرنج الداوية بالأصل طائفة مشهورة من الرهبان المرابطين كان مركزهم الأساسي في قلعة رباح باسبانيا التي كانت حدا فاصلا بين أرض النصارى وأرض المسلمين وقد جاء قسم منهم إلى المشرق مع الحملات الصليبية. ويقال لهم في فرنسا أو فرسان المعبد وجاء في معجم ما ترجمته: هم طائفة متدينة عسكرية تأسست عام 1119م وكان لها دور بارز في الحملات على فلسطين وقد جمعوا ثروات طائلة من غزواتهم أصبحوا بفضلها ممولي البابا وعدد من الأمراء ومنذ العام 1312م ألغى البابا كليمان الخامس شرعية هذه الطائفة بطلب وتحريض من ملك فرنسا. (أنظر دائرة المعارف الاسلامية: 3/ 379وسيرة الملك المنصور: 20ومعجم ص 1727والحلة السيراء: 2/ 178).(7/21)
لها الحين (1)، وقيّض لها من اقتضى منها الدّين فصبّحها بما ساء به صباحها.
وزعزعها بالزّئير الذي خرس له نباحها. وكان من خبرها أننا لما أطللنا عليها مغيرين، وأطفنا بها دائرين، ولكؤوس الحرب مديرين تغلّبت الأنجاد والأبطال على الزّحف، وأعجل ارتياح النصر عن انتظام عقد الصّف وانقضّوا عليها، انقضاض البزاة على طرائدها، وأسرعوا إليها، إسراع العطاش إلى مواردها ورفعت الألوية خافقة كذوائب الضّرام (2)، طالعة برسائل الحمام، مشيرة بالعذبات (3) إشارة لم يطمئنوا إليها بالسّلام وجاءهم الموت من كلّ مكان، وأمطرت الشّهب من كل سنان فرأوا مثواهم الحبيب، ومحلّهم الخصيب وقد ركضت فيه خيول الغير، واعترضت فيه سيول العبر، وجرّدت فيه نصول القدر والنار قد لعبت فيه مجدّه، واحمرّت فيه خدودها مخدّه (4) وأقواتهم المدّخره، وأموالهم المثمّره نفلا (5) مباحا، وزبدا مطاحا ومغنما مشاعا، ونهبا مضاعا قد ملئت منه الرّحال وأخصبت، واتّسعت به الأيدي وضاقت به الأرض بما رحبت.
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإصدار)
مثل: أصدرنا هذه المكاتبة، أو أصدرت، أو صدرت ويؤتى على المقصود على ما تقدّم.
وهذه نسخة كتاب من هذا الأسلوب كتب به القاضي الفاضل (6)، عن
__________
(1) الحين: الهلاك والمحنة.
(2) أي كألسنة النار.
(3) العذبة: طرف الشيء.
(4) مخدّة: مشقوقة.
(5) النّفل (بالفاء المفتوحة): الغنيمة.
(6) هو عبد الرحيم بن علي بن السعيد اللخمي، المعروف بالقاضي الفاضل. من أئمة الكتاب. كان من وزراء السلطان صلاح الدين ومن مقربيه ولم يخدم بعده أحدا. قال بعض مترجميه: كانت الدولة بأسرها تأتي إلى خدمته. توفي سنة 596هـ. (الأعلام: 3/ 346).(7/22)
السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» إلى أخيه سيف الإسلام سلطان اليمن، يستقدمه إليه معاونا له على قتال الفرنج خذلهم الله! ويبشّره بفتح كوكب (1)، وصفد، والكرك في سنة أربع وثمانين وخمسمائة وهو:
«أصدرنا هذه المكاتبة إلى المجلس، ومما تجدّد بحضرتنا فتوح كوكب:
وهي كرسيّ الاستباريّة (2) ودار كفرهم، ومستقرّ صاحب أمرهم، وموضع سلاحهم وذخرهم وكان بمجمع الطّرق قاعدا، ولملتقى السّبل راصدا فتعلّقت بفتحه بلاد الفتح واستوطنت، وسلكت الطّرق فيها وأمنت وعمرت بلادها وسكنت ولم يبق في هذا الجانب إلا صور، ولولا أن البحر ينجدها، والمراكب تردها لكان قيادها قد أمكن، وجماحها قد أذعن وما هم بحمد الله في حصن يحميهم، بل في سجن يحويهم بل هم أسارى وإن كانوا طلقاء، وأموات وإن كانوا أحياء قال الله عز وجل: {فَلََا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمََا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} (3) ولكلّ امرىء أجل لابدّ أن يصدقه غائبه، وأمل لابدّ أن يكذبه خائبه وكان نزولنا على كوكب بعد أن فتحت صفد بلد الديوية ومعقلهم، ومشتغلهم وعملهم، ومحلّهم الأحصن ومنزلهم وبعد أن فتحنا الكرك وحصونه والمجلس السيفيّ (4) أسماه الله أعلم بما كان على الإسلام من مؤونته المثقلة، وقضيّته المشكلة، وعلّته المعضلة وأن الفرنج لعنهم الله كانوا يقعدون منه مقاعد للسّمع، ويتبوّأون منه مواضع للنّفع، ويحولون بين قات (؟) وراكبها، فيذلّلون الأرض بما كانوا منه ثقلا على مناكبها
__________
(1) اسم قلعة على الجبل المطلّ على مدينة طبرية. (معجم البلدان: 4/ 494).
(2) الأصوب «الإسبتارية» بتقديم الباء الموحدة على التاء المثناة وهم فرنجة (كتالونية أو قطلونية)، وقد عرفوا بكونهم جماعة مقاتلة وكان لرئيس طائفتهم في اسبانيا) ((دور أساسي في التأثير على ملك أرغون خايمة الأول المعروف بالغازي ودفعه للاستيلاء على بلنسية وما بقي للمسلمين في شرقي الاندلس، إذ دخلت جيوشه بلنسية في سبتمبر 1238م كما وصف ابن الأبار في الحلة السيراء.
(انظر الحلة السيراء: 2/ 127و 305، حاشية ومعجم ص 1419).
(3) مريم / 84.
(4) إشارة إلى أخيه سيف الإسلام.(7/23)
والآن ما أمن بلاد الهرمين، بأشدّ من أمن بلاد الحرمين فكلّها كان مشتركا في نصرة المسلمين بهذه القلعة التي كانت ترامي ولا ترام، وتسامي ولا تسام وطالما استفرغنا عليها بيوت الأموال، وأنفقنا فيها أعمار الرجال، وقرعنا الحديد بالحديد إلى أن ضجّت النّصال من النّصال والله المشكور على ما انطوى من كلمة الكفر وانتشر من كلمة الإسلام. وإنّ بلاد الشام اليوم لا تسمع فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما. وكان نزولنا على كوكب والشتاء في كوكبه، وقد طلع بيمن الأنواء في موكبه والثلوج تنشر على البلاد ملاءها الفضيض، وتكسوا الجبال عمائمها البيض والأودية قد عجّت بمائها، وفاضت عند امتلائها وشمخت أنوفها سيولا، فخرقت (1) الأرض وبلغت الجبال طولا والأوحال قد اعتقلت الطّرقات، ومشى المطلق فيها مشية الأسير في الحلقات، فتجشّمنا العناء نحن ورجال العساكر، وكاثرنا العدوّ والزمان وقد يحرز الحظّ المكاثر وعلم الله النية فأنجدنا بفضلها، وضمير الأمانة فأعان على حملها، ونزلنا من رؤوس الجبال بمنازل كان الاستقرار عليها أصعب من ثقلها، والوقوف بساحتها أهون من نقلها {وَأَمََّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (2).
والحمد لله ربّ الذي ألهمنا بنعمته الحديث، ونصر بسيف الإسلام الذي هو سيفه وسيف الإسلام الذي هو أخونا الطيب على الخبيث فمدح السيف ينقسم على حدّيه، ومدح الكريم يتعدّى إلى يديه والآن فالمجلس أسماه الله يعلم أن الفرنج لا يسلون (3) عما فتحنا، ولا يصبرون على ما جرحنا فإنهم خذلهم الله أمم لا تحصى، وجيوش لا تستقصى ووراءهم من ملوك البحر من يأخذ كلّ سفينة غصبا (4)، ويطمع في كل مدينة كسبا ويد الله فوق أيديهم، والله محيط
__________
(1) إشارة إلى الآية الكريمة «إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا». الإسراء / 37.
(2) الضحى / 11.
(3) لا يتغاضون ولا ينسون.
(4) إشارة إلى الآية: 79من سورة الكهف.(7/24)
بأقربيهم وأبعديهم و {سَيَجْعَلُ اللََّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (1)، {لََا تَدْرِي لَعَلَّ اللََّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذََلِكَ أَمْراً} (2)
وما هم إلا كلاب قد تعاوت (3)، وشياطين قد تغاوت (4)، وإن لم يقذفوا من كل جانب دحورا (5)، ويتبعوا بكلّ شهاب ثاقب مدحورا، استأسدوا واستكلبوا، وتألّبوا وجلّبوا وأجلبوا (6)، وحاربوا، وحزّبوا وكانوا لباطلهم الداحض، أنصر منّا لحقّنا الناهض وفي ضلالهم الفاضح، أبصر منا لهدانا الواضح. ولله درّ جرير حيث يقول:
إن الكريمة ينصر الكرم ابنها، ... وابن اللئيمة للّئام نصور!
فالبدار إلى النّجدة البدار! والمسارعة إلى الجنة فإنها لا تنال إلا بإيقاد نار الحرب على أهل النّار والهمّة الهمة! فإن البحار لا تلقى إلا بالبحار، والملوك الكبار لا يقف في وجوهها إلا الملوك الكبار:
وما هي إلا نهضة تورث العلا ... ليومك ما حنّت روازم نيب! (7)
ونحن في هذه السنة إن شاء الله تعالى ننزل على أنطاكية، وينزل ولدنا الملك المظفّر أظفره الله على طرابلس ويستقرّ الركاب العادليّ (8) أعلاه
__________
(1) الطلاق / 7.
(2) الطلاق / 1.
(3) تصايحت.
(4) تغاوى القوم أي تجمعوا وتعاونوا على الشر، أي على الغيّ والغواية.
(5) في الصافات / 9: «ويقذفون من كل جانب دحورا» قال الفراء: قرأ الناس بنصب الدال وبضمها، فمن ضمها جعلها مصدرا كقولك: دحرته دحورا، ومن فتحها جعلها اسما كأنه يقول: يقذفون بداحر، وبما يدحر. (انظر اللسان: 4/ 278).
(6) تألبوا: اجتمعوا وجلّبوا: صوّتوا وأحدثوا جلبة وأجلبوا: اجتمعوا وتألبوا.
(7) يقال: أرزمت الناقة أي حنّت على ولدها أو صوتت حنينا على ولدها. والروازم النيب هي النوق المسنّة التي ليس لها ناب.
(8) نسبة إلى الملك العادل، سيف الدين أبي بكر، أخ صلاح الدين الذي أخذ مصر عام 1199م وتوفي سنة 1218م. (انظر منطلق تاريخ لبنان: 111).(7/25)
الله بمصر فإنها مذكورة عند العدو خذله الله بأنها تطرق، وأن الطلب على الشام ومصر تفرّق ولا غنى عن أن يكون المجلس السيفيّ أسماه الله بحرا في بلاد الساحل يزخر سلاحا، ويجرّد سيفا يكون على ما فتحناه قفلا ولما لم يفتح بعد مفتاحا، فإنه ليس لأحد ما للأخ من سمعة لها في كل مسمع سمعه (1)، وفي كل روع روعه (2) وفي كل محضر محضر (3)، وفي كل مسجد منبر، وفي كل مشهد مخبر فما يدعى العظيم إلا للعظيم (4) و [لا يرجى] (5) لموقف الصبر الكريم إلا الكريم [هذا] (6) والأقدار ماضيه، وبمشيئة الله جاريه فإن يشإ الله ينصر على العدو المضعّف، بالعدد الأضعف ويوصّل إلى الجوهر الأعلى بالعرض الأدنى فإنا لا نرتاب بأن الله ما فتح علينا هذه الفتوح ليغلقها، ولا جمع علينا هذه الأمة ليفرّقها وأن العدوّ إن خرج من داره بطرا (7)، ودخل إلى دارنا كان فيها جزرا (8)
وما بقي إن شاء الله إلا أموال تساق إلى ناهبها، ورقاب تقاد إلى ضاربها، وأسلحة تحمل إلى كاسبها وإنما نؤثر أن لا تنطوي صحائف الحمد خالية من اسمه، ومواقف الرشد خاوية من عزمه ونؤثر أن يساهم آل أيّوب في ميراثهم منه مواقع الصبر، ومطالع النصر فو الله إنا على أن نعطيه عطايا الآخرة الفاخرة، أشدّ منّا حرصا عى أن نعطيه عطايا الدنيا القاصرة وأنا لا يسرّنا أن ينقضى عمره في قتال غير الكافر، ونزال غير الكفء المناظر ولا شكّ أن سيفه لو اتصل بلسان ناطق وفم، لقال ما دمت هناك فلست ثمّ (9) وما هو محمول على خطّة يخافها، ولا
__________
(1) السّمعة، بالضم: الضيت. والسّمعة، بالفتح: ما يسمع به من صيت أو ذكر حسن.
(2) الرّوع: القلب والذهن والعقل والنفس. يقال: أفرخ روعه أي خرج الفزع من قلبه. والرّوعة هنا:
الفزعة.
(3) المحضر الثانية بمعنى الحضور.
(4) أي للعظيم من الأمور.
(5) الزيادة عن حاشية الطبعة الأميرية وقد أخذها المحقق من كتاب الروضتين: 2/ 137.
(6) الزيادة عن حاشية الطبعة الأميرية وقد أخذها المحقق من كتاب الروضتين: 2/ 137.
(7) بطرا: زهوا وكبرياء وطمعا.
(8) يقال: تركوهم جزرا للسباع أي قطعا. ومنه قول عنترة: وتركته جزر السباع ينشنه
(9) أي لست ببعيد.(7/26)
متكّلف قضية بحكمنا يعافها والذي بيده لا نستكثره، بل نستقصره عن حقه ونستصغره وما ناولناه لفتح أرضه السّلاح، ولا أعرناه لملك مركزه النّجاح إلا على سخاء من النفس به وبأمثاله، على علم منّا أنه لا يقعد عنّا إذا قامت [الحرب] بنفسه وماله فلا نكن به ظنّا أحسن منه فعلا، ولا نرضى وقد جعلنا الله أهلا أن لا نراه لنصرنا أهلا وليستشر أهل الرّشاد فإنهم [لا يألونه] (1) حقّا واستنهاضا، وليعص أهل الغواية فانهم إنما يتغالون (2) به لمصالحهم أغراضا ومن بيته يظعن، وإلى بيته يقفل (3) وهو يجيبنا جواب مثله لمثلنا، وينوى في هذه الزيارة جمع شمل الإسلام قبل نيّة جمع شملنا ولا تقعد به في الله نهضة قائم، ولا تخذله عزمة عازم، ولا يستفت فيها فوت طالب ولا تأخذه في الله لومة لائم فإنما هي سفرة قاصدة، وزجرة واحدة فإذا هو قد بيّض الصحيفة والوجه والذّكر والسّمعة، ودان الله أحسن دين فلا حرج عليه إن فاء إلى أرضه بالرّجعة وليتدبّر ما كتبناه، وليتفهّم ما أردناه وليقدّم الاستخارة، فإنها سراج الاستنارة [وليغضب لله ورسوله ولدينه ولأخيه فانها مكان الاستغضاب والاستشارة] (4) وليحضر حتّى يشاهد أولادا لأخيه يستشعرون لفرقته غمّا، وقد عاشوا ما عاشوا لا يعرفون أن لهم مع عمّهم عمّا والله سبحانه يلهمه توفيقا! ويسلك به إليه طريقا وينجدنا به سيفا لرقبة الكفر مرقا (5) ولدمه مريقا ويجعله في مضمار الطاعات سابقا لا مسبوقا.
الأسلوب الثالث (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «هذه المكاتبة إلى المجلس»
وهذه نسخة كتاب من هذا الاسلوب بالإخبار بفتح أيلة التي تحت العقبة في ممّر حجّاج مصر. وهي:
__________
(1) في الأصل: فإنهم يألوه. والتصويب عن حاشية الطبعة الأميرية.
(2) يقال تغالى القوم بالسهام: تراموا بها. والمراد أنهم يجعلونه غرضا لنوال مصالحهم الذاتية.
(3) أي من بيته يرتحل وإليه يعود.
(4) الزيادة مما سيأتي له في المهيع الثالث من هذا الجزء.
(5) المرق: الطعن بالعجلة.(7/27)
هذه المكاتبة إلى المجلس الفلاني أعلى الله سلطانه، وعمر بالنجاح آماله وبالسعادة أوطانه، ولا زالت يد النصر تصرّف يوم اللّقاء عنانه، ويد لطف الله تفيض على الخلق يوم العلياء عنانه (1)، وتمكّن من هام الأعداء ونحورهم سيفه وسنانه (نشعره) أنه لم تزل عوائد (2) الله سبحانه عندنا متكفّلة ما يوجب أن يبدأ الحمد ويعاد، مقرّبة لنا من الآمال كلّ ما كان رهين نأي وبعاد، موافقة لنا بالتوفيق فكأننا وإياه على ميعاد، معينة لنا على ما يعتدّه الغاشّ معاش وعيد معاد. وقد كان ما علم من غزوتنا إلى أيلة التي اتخذها العدو معقلا، وتديّرها (3) منزلا، وعدّها موئلا وغاض بها رونق الجملة (4)، وفاض (5) بها أهل القبلة، وصارت على مدارج الأنفاس، وعلى مراصد الافتراص (6) والافتراس وخصّت الحرمين بأعظم قادح، واشتد عن حادثتها (7) من لطف الله أعظم فاتح ولما توجّهنا إليها، ونزلنا عليها شاهدنا قلعة يحتاج راميها إلى الدّهر المديد، والأمل البعيد، والزاد العتيد، والبأس الشديد تنبو بعطف جامح عن الخطبة (8)، وتعرض بذكر مانع عن الضربة وتعطف بأنف على السّحاب شامخ، وتطلع في الصباح بوجه شادخ (9)، كأنما بينها وبين الأيّام ذمام، وكأنّ نار الحوادث إذا بلغت ماءها برد وسلام فأطفنا بها متبصّرين، ونزلنا من ناحية البرّ بها مفكّرين وبينا نحن نأمر بالحرب أن يشبّ أوارها، وبالخيل أن تسيّر أسرارها (10)، وبنار اللّقاء أن يستطير شرارها، وبقناطير
__________
(1) العنان، بفتح العين: السحاب، وما يبدو لك من السماء.
(2) جمع عائدة وهي المعروف والصّلة.
(3) تديّرها: اتخذها دارا.
(4) أي ذهب بها رونق الكلام. والمراد فسد كلامها باستيلاء الأعاجم عليها.
(5) فاض، هنا، بمعنى: مات. يقال: فاضت نفسه أي خرجت.
(6) فرصه: قطعه وخرقه.
(7) الحادثة: النائبة.
(8) المراد: صعبة المنال. والخطبة: طلب المرأة للزواج.
(9) شدخت الغرّة: اتسعت في الوجه.
(10) يقال: سرّ النسب: محضه وأفضله وهو في سرّ قومه: في أفضلهم، والجمع أسرار وسرار.
وأسرار الخيل: أفضلها.(7/28)
الموت من القسيّ أن تعقّد أوتارها وبالمجانيق أن تعقد حناياها وتحلّ أزرارها، وبالكواكب (1) أن تذيقهم طعم الصّغار كبارها، إذ نادى مناد من أعلى قمّتها، ورأس قلّتها (2) معلنا بالأمان، ناسخا لآية الكفر بآية الإيمان فأعارته الأسماع إنصاتها، واستحقت القلوب حصاتها وعمدت إليه بنت بحر، عادت باب نصر، وساعة بدهر وبشّرني بغلام على كبر، وبظفر في سفر على قدر فأعطى فرنجها ما طلبوا وأتى اللّطف للمسلمين بما لم يحتسبوا وفي الحال رفعت عليها ألوية الإسلام ونشرت، وأوت إليها فئة الحق وحشرت، وتظاهرت عليها أولياء الله وظهرت وقيل الحمد لله ربّ العالمين.
الأسلوب الرابع (أن تفتتح المكاتبة بلفظ: «كتابنا» وباقي الأمر على نحو ما تقدم)
وهذه نسخة كتاب من هذا الأسلوب كتب به القاضي الفاضل عن الملك الناصر «صلاح الدين يوسف بن أيوب» إلى بعض الأمراء بالشام عند وفاة السلطان نور الدين محمود. وهي:
كتابنا هذا إلى الأمير، معزّين بالرّزء الذي كملت أقسامه وتمّت، ورمت أحداثه القلوب فأصمت، وطرقت أحاديثه الأسماع فأصمّت (3)، وأبى أن تعفو كلومه (4)، وكاد لأجله الأفق تنكسف بدوره وتنكدر نجومه، وثلم جانب الدّين لفقد من لولاه لدرست أعلامه ولم تدرس علومه، وفجأ فاستولى على كلّ قلب وجيبه (5)
وعلى كلّ خاطر وجومه بانتقال المولى «نور الدين» إلى سكنى دار السلام، وقدومه على ما أعده الله له من جزاء ذبّه (6) عن الإسلام وبكى أهله على فقد عزائمه
__________
(1) الكوكب: الرجل بسلاحه والكوكب: السيف أيضا.
(2) قلّة كل شيء: قمته وأعلاه.
(3) أصمت: أسكتت وأصمّت: ذهبت بالسمع.
(4) عفت كلومه: التأمت جروحه.
(5) وجب القلب وجيبا ووجبانا: خفق واضطرب ورجف.
(6) الذبّ عن الشيء: الدفاع عنه وحمايته.(7/29)
التي بها حفظت وحرست، وشكت الممالك وحشة بعده وإن ابتهجت الملائكة بقربه وأنست فلله هو! من مصاب أغرى العيون بفيضها، والنفوس بفيظها (1)
ونقل الأولياء من ظل المسرّة ونعيمها إلى هجير المساءة وقيظها وأوجب تناجي الكفّار بالنّجاة من تلك السّطوة التي لم تزل تزيدها غمّا وتردّها بغيظها.
ومهنئين بما أسا الكلم وداواه، وحوى الحقّ إلى الجانب الأمنع وآواه من جلوس ولده «الملك الصالح» (2) ذي التصويب والتسديد مشمولا منّا بالعرف العميم، والطّول الجسيم، جاريا على سننه المعهودة، وعادته المحمودة، في رفع صالح أدعيته عن صفاء سريرته، وخلوص عقيدته، مستمرّا على جميل تحيته، في إمدادنا ببركته، إن شاء الله تعالى.
قلت: والمصطلح الجاري عليه الحال في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية في زماننا مأخوذة من الأساليب الثلاثة: الأول والثاني والثالث المقدّم ذكرها. على أن في الدولة الأيوبية أساليب أخرى لا يسع استيعابها، ويغتنى عنها بما تقدّم ذكره.
الطرف الحادي عشر (في المكاتبات الصادرة عن ملوك أهل الغرب) وقد انفردوا عن كتّاب المشرق وكتّاب الديار المصرية بأمور
: منها أن المخاطبة تقع للمكتوب إليه بميم الجمع مع الانفراد، كما تقع الكتابة عن المكتوب عنه بنون الجمع مع الانفراد.
ومنها أنهم يلتزمون الدعاء بمعنى الكتابة عند قولهم: كتبنا، بأن يقال «كتبنا إليكم كتب الله لكم كذا».
__________
(1) الفيظ: الموت. يقال: حان فيظه وفاظت نفسه.
(2) هو اسماعيل بن نور الدين محمود بن زنكي. بويع له بالشام بعد وفاة أبيه سنة 569هـ وهو ابن إحدى عشرة سنة. وبذلك يتحدد تاريخ هذه الرسالة على وجه التقريب.(7/30)
ومنها أنهم يترضّون عن الخليفة القائمين بدعوته في كتبهم.
ومنها أنهم يذكرون اسم المكتوب إليه في أثناء الكتاب، وباقي مكاتباتهم على نحو من مكاتبات أهل الشرق والديار المصرية وكتبهم تختم بالسلام غالبا، وربما ختمت بالدعاء ونحوه.
ومنها أن الخطاب يقع عندهم بلفظ الرياسة مثل أن يقال: رياستكم الكريمة ونحو ذلك. ولها حالتان:
الحالة الأولى (ما كان الأمر عليه في الزمن المتقدّم، وهو على أربعة أساليب (1))
الأسلوب الأول (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «من فلان إلى فلان» ويدعى للمكتوب إليه ثم يقع التخلّص إلى المقصود بأما بعد، ويؤتى عليه إلى آخره، ويختم بالسلام)
كما كتب أبو بكر بن هشام عن أبي محمد بن هود (2)، في قيامه بالدعوة العباسية ببلاد المغرب إلى أهل بلد من رعيته.
«من فلان إلى أهل فلانة، أدام الله كرامتهم وآثرهم بتقواه، وعرّفهم عوارف نعماه، وكنفهم في حرمه المنيع وحماه، وجعلهم ممن وفّق إلى رضاه، وحفّ بخير ما قدّره وقضاه، بسلام.
أما بعد حمد الله على متتابع واسع فضله، هازم الباطل وأهله، ومورّط الجاهل في مهواة جهله الماليء بدعوة الحق ما اتسّع من حزن (3) المعمور وسهله، والصلاة على سيدنا محمد نبيّه المصطفى خاتم رسله، المؤيد بالقرآن الذي عجزت الجنّ والإنس أن يأتوا بمثله وعلى آله وصحبه الجارين على قويم
__________
(1) لم يذكر سوى ثلاثة أساليب.
(2) لعلّ الصحيح: «أبي عبد الله بن هود» على ما سيأتي في الضرب الأول من الأسلوب الثاني.
(3) الحزن من الأرض: ما غلظ وارتفع.(7/31)
سنّته وواضح سبله والرضا عن الإمام العباسيّ أمير المؤمنين (1)، الذي لا إمام سواه للمسلمين المفرّع من محتده الكريم وأصله، المدافع عن حرم أمره بسديد نظره وحديد نصله والدعاء لمقامه العليّ، ومكانه السنيّ، بالسّعد المصاحب بمصاحبة ظلّه، والعضد الفاتح ما لم يفتح لأحد من قبله، فإنا كتبناه لكم كتبكم الله ممن انتفع بقوله وعمله، وتوجّه إلى رضاه بمبسوط أمله، وجرت له الأقدار بأفضل معتاد وأجمله من فلانة، والتوكل على الله سبحانه نتائج تبرزها الأيّام، ويستنجدها السّعد والحسام، ويستدنيها التفويض إلى الله سبحانه والاستسلام والدعوة العلية أدام الله أيّامها، وأسعد أعلامها الآثار التي تجملت بها المذاهب، والأنوار التي وضحت بها المساري والمسارب، وأضاءت بها المشارق والمغارب. والحمد لله حمدا كثيرا المكان الذي تتجدّد حرمته، وتتأكّد ذمّته، ولا توضع عن يد الاعتناء والاهتمام أزمّته، وإذا أنهضت العزائم لمصالح العباد تقدّمت كلّ العزمات عزمته، لأنه المكان الذي صرف وجوه الأعداء، وصابر مكابدة الإضرار والاعتداء، واحتمل مكروه الدواء، في معالجة الشّفاء ومعاجلة حسم الداء، فكرمت آثاره، وتعيّن تخصيصه بالمزيد وإيثاره، وطابت أخباره، وطالت في مضايق مجال الرجال أسنّته وشفاره، فنحن نوجب تكريمه، ونؤثر تقديمه، ونتبع حديثه في الاعتناء قديمه، والله يتولى تكميل قصدنا الجميل فيه وتتميمه!.
وقد بلغ بلّغكم الله أملكم، وأتم نعمته قبلكم تحرّك ذلكم الخائن (2)
للإضرار بالبلاد، وإيثاره دواعي الشر والفساد ومتى احتيج إلى إعلام جهة من الجهات بأحواله، وما يتصوّره بفاسد خياله، وتغلّب كبره المردي واختياله، وما يصدر عنه من قبيح آثاره وأعماله، فإنما يستعلم تحقيقها منكم، ويتعرّف تصديقها من لدنكم، بصدق جواركم، ودنوّ داركم، وتداخل آثاره مع آثاركم فأنتم أقرب
__________
(1) لعل المقصود المستنصر بالله العباسي.
(2) لعل المقصود ابن الأحمر.(7/32)
اطّلاعا على خبث سرّه، وسوء مكره، وما يضمر للمسلمين من إذايته وضرّه فمتى انصرفت وجوه المسلمين إلى جهادهم واشتغلوا بتأمين بلادهم، انتهز الفرصة في فساد يحدثه، وعقد ينكثه، واستعجال ما يعجّل عليه ولا يلبّثه ونحن نعرض عنه إعراض من يرجو متابه، ويرتقب رجوعه إلى الحق وإيابه وهو متخبّط في أهوائه، مستمرّ على غلوائه، مصرّ على إضراره واعتدائه، لا يكفّ عنه من استطالته، ولا يريه الاستبصار وجهة جهالته، فوجب علينا بحكم النظر للبلاد التي لحقها عدوانه، وأضرّ بها مكانه، وتكرّر عليها امتحانه، أن نعاجل حسم علله، ونسدّ مواقع خلله، ونرد عليه كلّ مضرّة لاحقة من قبله، حتّى يستريح الناس إلى أمن مبسوط، وكنف (1) مضبوط، وحوز (2) بالكفاية والوقاية محوط وقد كنّا عند الفراغ من مصالح البلاد الغريبة، وانتهاء الفتح فيها إلى ما لم يدر بالخاطر ولم يحسب بالنّية، نظرنا في إعداد جموع من أجناد الغرب، وتخيّرنا منهم كلّ من درب بالطّعن والضّرب وسعد لكم (3) من جماهير الأغراب (4) وجزولة (5) وسائر القبائل النازلين بالبلاد، المتأهّبين لما يطلبون به من الغزو والجهاد ورسمنا لهم أن يلحقوا بنا عند الاستدعاء، على ما جدّدنا لهم في الانتخاب والانتقاء، لتأخذ الجموع كلّها من محو أثر هذا الخائن بنصيب، وتضرب فيه، وفي كلّ عمل يعفّيه، بسهم مصيب لكن لما تعجّل حركته التي تعجّل بها الحين (6)، وساقه إليها القدر الذي أعمى البصيرة والعين رأينا أن ننفذ
__________
(1) الكنف: جانب الشيء، والجمع: أكناف.
(2) الحوز من الأرضين: ما يحتازه إنسان لنفسه ويبيّن حدوده ويقيم عليه الحواجز فلا يكون لأحد حق فيه. وحوزة الإسلام: حدوده ونواحيه.
(3) كذا في الأصل. ولعلها: «وأعددنا» بمعنى جهزنا.
(4) المقصود من أهل المغرب.
(5) قبيلة من بلاد السوس الأقصى بالمغرب، كانت تسكن هي وقبيلة لمطة في المنطقة بين وادي ماسة ومدينة نول لمطة. (الروض المعطار: 584522).
(6) الحين: الهلاك.(7/33)
إليه قصدنا، وأن نعاجله بما حضر عندنا، متوافرة الأعداد، غنيّة عن الاستمداد، غير مفتقرة إلى الازدياد ومع هذا فقد أمرنا أهل الجهات كلّها باللّحاق بنا، وأن ينهض جميع أعدادهم من الخيل والبطل والرّماة على سبيلنا ومذهبنا، لتكون الأيدي في هذه المصلحة العامّة واحدة، والعقائد في دفع هذا الضرر عن الكافّة متعاقدة، حتّى يذهب أثر هذه النكّبة وعينها (1)، ويزول عن بهجة الإحقاق والاتّفاق شينها (2) وإذا وجب على أهل هذه الجهات أن ينفروا في هذه الدّعاة خفافا وثقالا، ويبادروا ركبانا ورجالا، كان الوجوب في حقّكم وجوبين، والفرض عليكم فرضين لما يخصّكم من هذه المصلحة التي أنتم أولى من يجتلي صورها، ويجتني ثمرها، ويجدّ في حاله واستقباله إثرها فليكن استعدادكم بحسب ذلكم، واستوعبوا جميع أنجادكم، من خيلكم ورماتكم ورجالكم وكونوا واقفين على قدم التأهّب إلى أن يكون الاجتياز من هنالكم إن شاء الله تعالى والسلام».
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أما بعد» وهو على ضربين)
الضرب الأوّل (أن تعقّب البعدية بالحمد لله، ويؤتى على الخطبة إلى آخرها، ثم يتخلّص إلى المقصود ويختم بالسلام على نحو ما تقدّم)
كما كتب أبو عبد الله بن الجيان (3) عن أبي عبد الله بن هود (4) أيضا إلى أكابر
__________
(1) العين: الحاضر من كل شيء يقال: بعته عينا بعين أي حاضرا بحاضر. وفي المثل: «لا تطلب أثرا بعد عين».
(2) الشّين: العيب والقبح، وهو عكس الزين.
(3) هو محمد بن محمد بن أحمد الأنصاري: محدّث راوية من الكتاب الشعراء، من أهل «مرسية».
توفي في «بجاية» سنة 650هـ. (الأعلام: 7/ 29).
(4) هو محمد بن يوسف بن هود، من أعقاب بني هود الجذاميين من ملوك الطوائف: آخر ملوك هذه الدولة الكبار. تلقب بالمتوكل على الله وخطب باسم المستنصر العباسي الخليفة ببغداد. استطاع أن يحوز شرقي الأندلس كله، ورهبه النصاري وأطلقوا عليه اسم «تافادولا» أي سيف الدولة ثار عليه ابن الأحمر محمد بن يوسف داعيا للحفصيين أصحاب افريقية وأطاعته قرطبة وقد (تحالف ابن الحمر مع ملوك قشتالة ضد ابن هود وكان بينهما صراع طويل أدى إلى انقسام المسلمين في الأندلس. وقد استفاد من هذا الصراع ملوك قشتالة كما كان سببا في قيام مملكة غرناطة بقيادة الغالب بالله محمد بن يوسف بن نصر. وبموته سنة 635هـ انتهت دولة آل هود بالأندلس واستقر قدم ابن الأحمر. (انظر الأعلام: 7/ 149ومقدمة «الحلّة السيراء» للدكتور حسين مؤنس. ص:
282726)).(7/34)
بلده بالرّفق بالرعية عند ورود كتابهم عليه بتحصين البلد، وبلوغه جور المستخدمين بها على الرعية، وهو:
أما بعد حمد الله تعالى معلي منار الحقّ ورافعه، ومولي متوالي الإنعام ومتابعه والصلاة على سيدنا محمد عبده ورسوله مشفّع الحشر وشافعه، المبعوث ببدائع الحكم وجوامعه وعلى آله وصحبه المبادرين إلى مقاصده العلية ومنازعه، والذابّين عن حوزة الإسلام، بمواضي الاعتزام، وقواطعه والرضا عن الخليفة الإمام العباسيّ (1) أمير المؤمنين ذي المجد الذي لا ينال سموّ مطالعه.
فإنا كتبنا إليكم كتب الله لكم عزّة قدحها (2) بالثبوت فائز، وسعادة قسطها للنماء حائز من فلانة (3)، وكلمة الحق منصورة اللواء، منشورة الأضواء والتوكّل على الله في الإعادة والإبداء، والتسليم إليه مناط أمرنا في الانتهاء والابتداء، وحمد الله تعالى وشكره وصّلنا إلى نيل مزيد النّعماء والآلاء ومكانتكم لدينا مكانة السّنيّ المناصب، المنتمي إلى كرام المنتميات والمناسب، المتحلّي في الغناء والاكتفاء، والخلوص والصّفاء، بأكرم السّجيّات والمناقب، المعلوم ما لديه من المصالحة السالكة بأكرم السّجيّات في المناحي الحسان على المهيع الأوضح والسّنن اللاحب (4).
__________
(1) هو المستنصر بالله العباسي.
(2) يقال: له القدح المعلى أي له الحظ الأوفر. والقدح أصلا قطعة من الخشب تعرّض قليلا وتسوّى، وتخط فيها حزوز تميز كل قدح بعدد من الحزوز، وكان يستعمل في الميسر وهو أشبه ما يكون «بالزهر» المعروف في لعبة النرد أو طاولة الزهر.
(3) المقصود البلدة مصدر الرسالة. ولعلها «مرسية» إذ كانت مستقر سلطته.
(4) السّنن اللّاحب: الطريق الواضح.(7/35)
وقد وقفنا على كتابكم معلما بخبر فلانة وما رأيتموه من المصلحة في تحصينها، والاجتهاد في أسباب تأمينها ونحن نعلم أنكم تريدون الإصلاح، وتتوخّون ما تتوسّمون فيه النّجاح لكن أهمّ الأمور عندنا، وأولى ما يوافق غرضنا وقصدنا، الرفق بالرعيّة، وحملها على قوانين الإحسان المرعيّة وعلى أثر وصول كتابكم وصلنا كتاب [أهل] فلانة (1) المذكورة يشكون ضرر الخدمة المتصرّفين فيهم، ويتظلّمون من متحيّفيهم (2) ومتعسّفيهم وفي هذا ما لا يخفى عليكم، ولا ترضون به لو انتهى إليكم فإنه إذا كان الناظر في خدمة ممن لا يحسن سياسة الأمور، ولا يعلم طريقة الرّفق الجارية بوفق الخاصة والجمهور، أعاد التسكين تنفيرا، والتيسير تعسيرا، وتعلمون أنا لا نقدّم على إيثار العدل في عباد الله المسلمين عملا، ولا نبغي لهم باطنة بغير التخفيف عنهم والإحسان إليهم بدلا وأنتم أولى من يعتقد فيه أنه يكمّل هذا المقصد، ويتحرّى في مصالح الرّعايا هذا السّنن الأرشد وقد خاطبنا أهل فلانة بما يذهب وجلهم، ويبسط أملهم، وعرّفناهم بأنكم لو علمتم من جار عليهم من الخدمة لأخذتم على يده وجازيتموه بسوء معتقده، وأشعرناهم بأنّا قد استوصيناكم بهم خيرا، ونبّهناكم على ما يدفع عنه ضيما ويرفع ضيرا وأنتم إن شاء الله تستأنفون نظرا جميلا، وتؤخّرون عنهم الخدمة الذين لا يسلكون من السياسة سبيلا، وتقدّمون عليهم من تحسن فيهم سيرته، وتكرم في تمشيته الرّفق علانيته وسريرته، ومثلكم لا يؤكّد عليه في مذهب تحسن عواقبه، وغرض يوافقه القصد الاحتياطيّ ويصاحبه، إن شاء الله تعالى والسلام.
__________
(1) وهي البلد المتظلم من سياسة المستخدمين به على الرعيّة.
(2) الذين ينتقصونهم حقوقهم.(7/36)
الضرب الثاني (أن تعقّب البعدية بذكر المقصود من غير خطبة ثم يؤتى على المقصود إلى آخره على نحو ما تقدم)
كما كتب أبو عبد الله محمد بن عبد الله القضاعيّ المعروف بالأبار (1)، عن الأمير أبي جميل (2) إلى أهل ناحية بولاية وال عليهم وهي:
أما بعد، فالكتاب كتب الله لكم ملء الجوانب قرارا، وأرسل عليكم سماء المواهب مدرارا من فلانة (3)، وليس إلا الخير الدائم، واليسر الملازم وقد توالى إعلامكم بالغرض الجميل فيكم، والاعتناء المتّصل بتمهيد نواحيكم، وأنتم اليوم بثغر متحيّف (4)، وجناب متطرّف، يتضاعف الاحتياط عليه، ويجب تيسير المير (5) إليه فالنظر له معمل، والتهمّم به لا يهمل وهذه ألسن (6) قد ملك قيادها، وأوثر بوجوه القرابة إمدادها، وفلان قد خاطب يستأذن في القدوم على
__________
(1) الصواب: «ابن الأبّار» المتوفى سنة 658هـ. كان من أعيان المؤرخين قال فيه المستشرق الهولندي دوزي أنه مؤرخ ثبت دقيق جدير بكل ثقة، وأنه حافظ جمع فأوعى، وحفل صدره من العلم بالمغرب والأندلس وبتاريخ الإسلام عامة ما لم يصل إليه إلا القلائل من علماء القرن السابع الهجري، وأن أسلوبه الأدبي قوي جميل فيه فحولة ندرت بين أهل عصره. من أشهر وأهم مؤلفاته: «التكملة» لكتاب الصلة و «الحلة السيراء». (انظر ترجمة حياته مفصّلة في مقدمة الحلة السيراء لمحققها حسين مؤنس، وفي الأعلام: 6/ 233وفوات الوفيات: 3/ 404).
(2) هو زيان بن مدافع بن يوسف بن سعد بن مردنيش، ابو جميل بضم الجيم كانت له بلنسية ودانية، أخرجه الروم من الأولى في أوائل سنة 636هـ فاحتل مرسية وقتل صاحبها ابن خطاب، ولكن أهلها ما عتموا أن ثاروا عليه وقتلوه وكتبوا بيعتهم إلى أبي زكرياء صاحب تونس. (أنظر الأعلام: 3/ 56والحلة السيراء: 2/ 306262127).
(3) المقصود «بلنسية» التي كان مقر حكم أبي جميل، وفيها التحق به ابن الأبار وشغل منصب كاتب رسائله. (مقدمة الحلة السيراء: ص 31).
(4) متحيّف: متطرّف.
(5) المير: جمع ميرة، وهي الطعام يجمع للسفر ونحوه.
(6) لعله: «الأسنّ» جمع أسنية وهي الحبل والعنان.(7/37)
الباب الكريم، ويؤكّد ما عنده في الخدمة والتصميم والخيرات بسبيل الاتصال، والمسرّات واردة مع البكور والآصال.
والحمد لله الجسيم فضله، والعظيم نيله، فاحمدوا الله على ما يسّر لنا ولكم، واستوزعوه (1) شكر ما خوّلنا وخوّلكم واعلموا أنّا نرعاكم كما رعى أوّلنا أولاكم وقد عيّن لموضعكم كذا وكذا فأنفذوا إلينا بعضكم معجلا، واستشعروا إنماء الأثرة واطّراد النّصرة، حالا ومستقبلا والحركة الكبرى يمّنها الله قد شرع في أسبابها، وأتي ما يؤتي بمشيئة الله الفتح القريب من بابها ولا غنى بما يدار في ذلك عن فلان وقد خوطب بالوصول، ووجّه إليكم فلان واليا عليكم، وثاويا (2) لديكم وهو ممن خبرت كفايته، وارتضيت لجبر أحوالكم سياسته، وشكر هنا فأوثرتم به هنالكم وقد فوّض إليكم من نظر (3) لخاصّتكم وجمهوركم، وقلد بما يستقلّ أتمّ الاستقلال من تدبير أموركم وأمضي معه من الأجناد طائفة يحسنون الدفاع والذّياد، ولا يفارقون الجدّ والاجتهاد ووراء هذا من كريم العناية وجميل النظر، ما يقضي لكم بالفلج والظّفر، ويديلكم بالأمانة الشاملة من الذّعر والحذر، إن شاء الله تعالى والسلام.
الأسلوب الثالث (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابنا إليكم من موضع كذا، والأمر على كذا وكذا» ويؤتى على المقصد إلى آخره ويختم بالسلام)
وربما قيل: «هذا كتابنا إليكم» وربما قيل: «كتبنا إليكم» ونحو ذلك.
__________
(1) استوزعه الأمر: استلهمه إياه.
(2) أي مقيما ومستقرّا.
(3) لعله: «اليه النظر».(7/38)
كما كتب أبو المطرّف بن عميرة (1) عن ابن هود في البشارة بفتح حصن، وهو:
كتابنا إليكم أطلع الله عليكم من البشائر أنورها جبينا، وأوضحها صبحا مبينا من فلانة في يوم كذا.
سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي تكفّل بنصر من ينصره، ونصلّي على سيدنا محمد الكريم محتده الزاكي عنصره ونجدّد مشفوع الصلوات، ونردّد مرفوع الدعوات، للإمام الخليفة «المستنصر بالله أمير المؤمنين» ذي المناقب التي لا عادّ يعدّها، ولا حاصر يحصرها.
والحمد لله الذي أنعم علينا بتقليد إمامته، التي لا تعقد معها إمامه، وأقامنا لإقامة دعوته، التي لا تجوز على غيرها إقامه، وجعلنا نرمي الغرض باسمه الأشرف فنصيبه، ونستوهب فضل الله سبحانه فيتوفّر قبلنا نصيبه، ونستنزل بخلافته المباركة جوامع النصر، كما استنزل الفاروق بغرّة (2) جدّه هوامع القطر فتسير أمام رايته السّوداء بالأثر المبيض، وتروى هذه أوام (3) كما أروى ذلك أوام الأرض وما زلنا منذ كان النزول على هذا الحصن نتعرّف فيه من مخايل النّجح، ودلائل الظّفر والفتح، ما أعطانا فثلج اليقين (4) بأنا نفصم عروته، ونفرع ذروته، ولم يزل العزم
__________
(1) هو أحمد بن عبد الله بن محمد بن الحسين بن عميرة المخزومي. كان من أجلاء المغرب ومن فحول كتابه. ولد في بلنسية. وقد رحل إلى المشرق للدراسة ولقاء الشيوخ، وعاد إلى بلده ليتولى القضاء في شاطبة ثم في ميورقة. وقد غادر بلنسية بعد سقوطها سنة 636هـ وتوجه إلى المغرب حيث كتب للرشيد الموحدي وتولى القضاء في بضع نواح، ثم انتقل إلى افريقية حيث كتب للمستنصر الحفصي الى أن توفي سنة 658هـ أي في نفس السنة التي توفي فيها ابن الأبار. (الأعلام: 1/ 159ومقدمة الحلة السيراء: 31).
(2) الغرّة: الوجه.
(3) الأوام: حرارة العطش.
(4) لعل الصواب: «ما أعطانا ثلج اليقين» والمراد الاطمئنان.(7/39)
يذلّل شماسه (1)، ويقلّل ناسه حتّى أذعنوا لما عرّفتم به من النزول لوقت معدود، وأمد محدود. ثم إنهم خامرهم طارق الوجل، فعجّلوا أداء دينه قبل حلول الأجل وأمكن الله من هذا المعقل الفذّ في المعاقل، وقتل الظانين لا متناعهم والحسام إن شاء الله تعالى في يد القاتل وقد صعدت راياتنا على السّور، وسعدت إدارتنا بالعزم المنصور، وشيّد الله من هذا الفتح الجليل أقصى الفتوح بعلوّ، وأشجاها للعدوّ، وأدلّها على نجح عمل مستأنف وبلوغ أمل مرجوّ.
والحمد لله الذي ردّ حقّنا المغتصب، وكفانا في وجهنا هذا التعب والنّصب وعرّفناكم بهذا الخبر الذي هو غذاء للرّوح، والمنبيء عن فتح الفتوح: لتشكروا الله عليه شكرا، وتوفّوه حقّه إذاعة له ونشرا، وتجدّدوا بحمد الله [على] ما أولى من خالص النّعم، ووافر القسم، ما يطيب به المعرّس (2) والمقيل (3)، ويستقصر به الأمد الطويل. واكتبوا من خطابنا هذا نسخا إلى الجهات ليأخذ منها كلّ بحظه، وينعم القريب والبعيد بجلالة معناه وجزالة لفظه أعاننا الله وإيّاكم على شكر إحسانه الجزيل، ولا أخلى من لطفه العميم ونظره الجميل، بمنّه والسلام.
الحالة الثانية (ما الأمر مستقرّ عليه الآن مما كان عليه علّامة متأخرى كتّاب المغرب أبو عبد الله محمد بن الخطيب (4) وزير ابن الأحمر (5): صاحب حمراء غرناطة من الأندلس)
والأمر فيها على نحو ما تقدّم في الحالة الأولى: من التعبير عن المكتوب إليه
__________
(1) الشماس: الإباء والمعاندة.
(2) المعرّس: المكان ينزل فيه المسافر آخر الليل.
(3) المقيل: مكان الراحة والنوم في منتصف النهار ومنها القيلولة.
(4) هو لسان الدين، ابن الخطيب المعروف بذي الوزارتين: وزارة القلم ووزارة السيف ويعرف أيضا بابن الخطيب السلماني. له من المؤلفات ما يناهز الستين في التاريخ والجغرافيا والشعر والأدب والتصوف والفلسفة والطب. وأهم مصنفاته كتابه المطول في تاريخ غرناطة المسمى «الإحاطة في.
(تاريخ غرناطة». توفي مقتولا سنة 776هـ. (انظر دائرة المعارف الإسلامية 1/ 268) والأعلام 6/ 235)).
(5) تولى ابن الخطب الوزارة ثلاث مرات لاثنين من بني الأحمر في المرة الأولى لأبي الحجاج يوسف ابن اسماعيل بن فرج بن اسماعل، سابع ملوك بني نصر، وذلك من سنة 1333م إلى سنة 1354.
وبعد أن قتل هذا السلطان وزّر في المرة الثانية لابنه وخليفته محمد بن أبي الحجاج، من سنة 1354إلى 1359. وخلع محمد هذا وسجن ابن الخطيب ثم عاد إلى الوزارة للمرة الثالثة سنة 1362م عند ما أعاد المرينيون السلطان محمدا إلى العرش. وابن الأحمر المشار إليه في النص أعلاه هو أبو الحجاج وفي ذلك يقول ابن الخطيب في كتابه «أعمال الأعلام»: «ثم اشتمل عليّ، وسني يومئذ قريبة من سنه فأسند إليّ جميع أمره، وفرغ لي من تدبيره، واستراح إليّ بسره وجهره، وسفّرني إلى ملك المغرب في مهم أمره». (انظر دائرة المعارف الاسلامية: 1/ 269 والأعلام: 7/ 153و 8/ 217وتاريخ اسبانيا الإسلامية بتحقيق وشرح بروفنسال: ص 305).(7/40)
بميم الجمع وإن كان واحدا، والتزام الدعاء بمعنى الكتابة عند قولهم كتبنا إليكم ونحو ذلك. وعادتهم أن يكتب كتاب السلطان في طومار كامل، فإن استوعب الكلام جميع الطومار كتب على حاشيته، ويكتب صاحب العلامة علامة السلطان في آخره، ويطوى طيّا عريضا في نحو ثلاث أصابع معترضة، ثم يكسر ويطوى نصفين، ويكتب العنوان بالألقاب التي في الصّدر ويخزم (1) بدسرة من الورق، ثم يختم بخاتم السلطان على شمع أحمر كما تقدّم بيانه.
وهي على ثلاثة أساليب:
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بالّلقب اللائق بالمكتوب إليه، وهو على أضرب)
الضرب الأوّل (أن يبتدأ بلفظ «المقام» وهو مختصّ بالكتابة إلى الملوك)
والرسم فيه عندهم أن يقال: «المقام» وينعت بما يليق به، ثم يقال:
«محلّ أخينا، أو محلّ ولدنا، أو محلّ والدنا السلطان» ويؤتى بألقابه ثم يسمّى
__________
(1) يخزم: يشكّ.(7/41)
ثم يقال: «من فلان» ويفعل فيه كذلك إلى منتهى نسبه، ويدعى له بالبقاء وما يتبعه ثم يقال: معظّم قدره أو معظّم مقامه، وما أشبه ذلك، ويذكر اسم المكتوب عنه ثم يقال: أما بعد حمد الله ويؤتى بالخطبة إلى آخرها ثم يقال: فإنا كتبناه إليكم من موضع كذا، ويؤتى على المقصود إلى آخره، ويختم بالدعاء ثم بالسلام.
كما كتب أبو عبد الله بن الخطيب المقدّم ذكره عن سلطانه ابن الأحمر المذكور أعلاه، إلى السلطان أبي عنان بن أبي الحسن المرينيّ (1) صاحب فاس، عند موت الطاغية ملك قشتالة (2) من إقليم أشبيلية، وطليطلة، وقرطبة وما معها بعد نزوله على جبل الفتح (3) من مملكة المسلمين بالأندلس لمحاربة المسلمين فيه، ورحيل قومه بعد موته به، وهو:
المقام الذي أنارت آيات سعده، في مسطور الوجود، وتبارت جياد مجده، في ميدان البأس والجود، وضمنت إيالته لمن بهذه الأقطار الغربية تجديد السّعود،
__________
(1) هو فارس بن علي بن عثمان بن يعقوب المريني، أبو عنان، المتوكل على الله: اخضع بني عبد الواد ودخل تلمسان. وانتظم له أمر المغرب الأوسط، ثم انتزع تونس وقسنطينة من أيدي الحفصيين.
مرض أياما فدخل عليه وزيره الحسن بن عمر الفودودي فقتله خنقا سنة 759هـ، ولم يكن عمره يتجاوز الثلاثين سنة. (الأعلام: 5/ 127).
(2) وهو ألفونسو بن فرناندو. وفي ذلك يقول ابن الخطيب: «بعد فرّانده ولي الملك ابنه دون الفنش في سابع شتنبر عام 1350وسنة ثلاثة عشر شهرا. وتقدم لتربيته والنيابة عليه عمه دون بطره ثم كبر ألفنش هذا فاستولى على ثغر وبره () عند فتنة الغزاة بأندرش () ثم على بلد أطيبة () وأوقع بالمسلمين الوقيعة العظمى في طريف ثم انتهز الفرصة في الأندلس، ليأس أهلها من نصرة الإسلام، فتحرك الى اشبيلية، ونازل جبل الفتح وشدّ حصاره إلى أن نزل اللطف الخفيّ بهلاكه عليه». (انظر تاريخ اسبانيا الإسلامية: ص 335334).
(3) هو جبل طارق. وكان جبل الفتح () في التقسيم الأندلسي الاداري جزءا من كورة الجزيرة الخضراء التي تشتمل على مدن كثيرة منها اسطبونة وجزيرة طريف. وقد سقطت جزيرة طريف في يد سانشو الرابع ملك قشتالة سنة 692هـ / 1292م، وحاول بنو الأحمر استعادتها مرارا بمعاونة المرينيين والبرتغاليين، وبالفعل استعادوها. (انظر الروض المعطار: 224165والحلة السيراء: 199حاشية).(7/42)
وإعادة العهود، واختلفت كتائب تأييد الله ونصره لوقته المشهور فيها ويومه المشهود، مقام محلّ أخينا الذي نعظّمه ونرفعه، ويوجب له الحقّ العليّ موضعه، السلطان أبي عنان ابن السلطان أبي الحسن، أبن السلطان أبي سعيد، ابن السلطان أبي يوسف، بن عبد الحق أبقاه الله يتهلّل للبشرى جنابه، ويفتح لوارد الفتح الإلهيّ بابه وتعمل في سبيل الله مكارمه وعزائمه وركابه، ويتوفّر بالجهاد فيه مجده وسعده وفخره وثوابه، معظّم قدره الأمير عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر، سلام كريم مشفوع بالبشائر والتّهاني، محفوف [الركاب] (1) ببلوغ الأماني، ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد حمد الله مطلع أنوار الصنائع العجيبة متألّقة الغرر، ومنشيء سحائب الألطاف، الكريمة الأوصاف، هامية الدّرر، الكريم الذي يجيب دعوة المضطرّ إذا دعاه، ويكشف السّوء وما أمره إلا واحدة كلمح بالبصر حجب كامن ألطافه عن قوى الفطن ومدارك الفطر، فما {يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلََّا هُوَ وَمََا هِيَ إِلََّا ذِكْرى ََ لِلْبَشَرِ} (2)
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله ذي المعجزات الباهرة والآيات الكبر، الذي بجاهه الحصين نمتنع عند استشعار الحذر، وبنور هداه نستضيء عند التباس الورد والصّدر، فنحصل على الخير العاجل والمنتظر، والرضا عن آله وأصحابه الكرام الأثر، الذين جنوا من أفنان الصبر في الله ثمار الظّفر، وفازوا من إنجاز الوعد بأقصى الوطر، وانتظموا في سلك الملّة الرفيعة انتظام الدّرر، والدعاء لمقامكم الأعلى باتصال المسرّات وتوالي البشر، والسعد الذي تجري بأحكامه النافذة تصاريف القدر، والصّنع الذي تجلى عجائبه في أجمل الصّور، فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم من حظوظ فضله وإحسانه أجزل
__________
(1) الزيادة من حاشية الطبعة الأميرية عن «ريحانة الكتاب».
(2) المدثر / 31.(7/43)
الأقسام، وعرّفكم عوارف نعمه الثّرّة (1) وآلائه الجسام من حمراء غرناطة حرسها الله واليسر بفضل الله طارد الأزمات بعد ما قعدت، وكاشف الشدائد بعد ما أبرقت وأرعدت. ثم ما عندنا من الاعتداد بإيالتكم (2) التي أنجزت لنا في الله ما وعدت، ومددنا إليها يد الانتصار على أعدائه فأسعدت، إلا الصّنع العجيب، واليسر الذي أتاح ألطافه السميع المجيب واليمن الذي رفع عماده التيسير الغريب، ومدّ رواقه الفرج القريب وإلى هذا أيّدكم الله على أعدائه، وأجزل لديكم مواهب آلائه، وحكم للإسلام على يديكم بظهوره واعتلائه، وعرّفكم من أخبار الهنيّ المدفع (3) وأنبائه كلّ شاهد برحمته واعتنائه. فإنا كتبناه إليكم نحقّق لديكم البشرى التي بمثلها تنضى الرّكاب (4)، ويخاض العباب، ونعرض عليكم ثمرة سعدكم الجديد الأثواب، المفتّح للأبواب، علما بما عندكم من فضل الأخلاق، وكرم الأعراق وأصالة الأحساب، والمعرفة بمواقع نعم الله التي لا تجري لخلقه على حساب، والعناية بأمور هذا القطر الذي تعلّق أذيال ملككم السامي الجناب. [وقد تقرر لدى مقامكم الأسنى ما كانت الحال آلت إليه بهذا الطاغية] (5)
الذي غرّه الإمهال والإملاء (6)، وأقدمه على الإسلام التمحيص المكتوب والابتلاء فتملّأ (7) تيها وعجبا، وارتكب من قهر هذه الأمة المسلمة مركبا صعبا، وسام كلمة الإسلام بأسا وحربا، فكتائب برّه توسع الأرجاء طعنا وضربا، وكتائب بحره تأخذ كلّ سفينة غصبا، والمخاوف قد تجاوبت شرقا وغربا، والقلوب قد بلغت الحناجر
__________
(1) الثرّة: الكثيرة الغزيرة.
(2) الإيالة: قطعة من أرض الدولة يحكمها وال من قبل السلطان والمقصود هنا «فاس».
(3) المدفع، بفتح الميم والفاء: مجرى المياه. والمراد: أخبار الفتح المتوالية المتدافعة كالسيل.
(4) أنضى الدابّة: هزلها وأتعبها. والركاب: المطيّ واحدها راحلة من غير لفظها. والمراد: البشرى التي تستأهل إتعاب الركاب في طريقها اليكم.
(5) ساقط من الأصل، والزيادة من حاشية الطبعة الأميرية عن «ريحانة الكتاب».
(6) الإملاء: الإمهال. يقال: أملى الله له وأملى له في غيه: أطال له وأمهله. وأملى الدابة ولها: وسّع لها في قيدها وأرخى.
(7) تملأ: امتلأ فهو مليء ومملوء.(7/44)
غمّا وكربا، وجبل الفتح الذي هو باب هذه الدار، وسبب الاستعداء على الأعداء والانتصار، ومسلك الملّة الحنيفيّة إلى هذه الأقطار، قد رماه ببوائقه، وصيّر ساحته مجرّ عواليه ومجرى سوابقه واتّخذه دار مقامه، وجعله شغل يقظته وحلم منامه، ويسّر له ما يجاوره من المعاقل إملاء [من الله] لأيامه فاستقرّ به القرار، واطمأنّت الدار، وطال الحصار وعجزت عن نصره الخيل والأنصار، ورجمت الظّنون (1) وساءت الأفكار، وشجر (2) نظّار القلوب الاضطرار، إلى رحمة الله والافتقار، فجبر الله الخواطر لمّا عظم بها الانكسار، ودار بإدالة (3) الإسلام الفلك الدّوّار، وتمخّض عن عجائب صنع الله الليل والنهار، وهبّت نواسم الفرج، عاطرة الأرج، ممن يخلق ما يشاء ويختار، لا إله إلا هو الواحد القهّار.
وبينما نحن نخوض من الشّفقة على ذلك المعقل العزيز على الإسلام لجّة مترامية المعاطب (4)، ونقتعد صعبا لا يليق بالراكب ولولا التعلّق بأسبابكم في أنواء تلك الغياهب، وما خلص إلى هذه البلاد من مواهبكم الهامية المواهب، ومواعيدكم الصادقة ومكارمكم الغرائب، وكتبكم التي تقوم عند العدوّ مقام الكتائب، وإمدادكم المتلاحق تلاحق العظام الجنائب (5)، لما رجع الكفر بصفقة الخائب، إذ تجلّى نور الفرج من خلال تلك الظّلمة، وهمت سحائب الرحمة والنّعمة على هذه الأمّة، ورمى الله العدوّ بجيش من جيوش قدرته أغنى عن العديد والعدّة، وأرانا رأي العيان لطائف الفرج من بعد الشّدّة، وأهلك الطاغية حتف أنفه، وقطع به عن أمله قاطع حتفه، وغالته أيدي المنون في غيله (6)، وانتهى
__________
(1) يقال: رجّمه بالظن: رمى به، ورجّم: تكلّم بالظن، ورجّم بالغيب: تكلم بما لا يعلم، ورجمت الظنون: ذهبت به بعيدا.
(2) يقال: شجر فلانا عن الأمر، أي صرفه.
(3) الإدالة: النصر.
(4) المعاطب: جمع معطب وهو موضع العطب أو الفساد والهلاك.
(5) الجنائب: جمع جنوب، وهي الريح تهب من هذه الجهة.
(6) غالته المنون غولا: أهلكته، والغيل: موضع الأسد والجمع غيول وأغيال. والمراد: أهلكه الموت وهو في عرينه ومتحصّنه.(7/45)
إلى حدود القواطع القويّة والأشعّة المرّيخيّة نصير دليله، فشفى الله منه داء، وأخذه أشدّ ما كان اعتدادا واعتداء، وحمى الجزيرة الغربية (1) وقد صارت نهبة طغاته، وأشرقه بريقه وهي مضغة في لهواته سبحانه لا مبدّل لكلماته.
فانتثر سلكه الذي نظّمه، واختلّ تدبيره الذي أحكمه، ونطقت بتبار (2) محلّاته ألسنة النار، وعاجلت انتظامها أيدي الانتثار، وركدت ريحه الزّعزع من بعد الإعصار، وأصبح من استظهر به من الأشياع والأنصار {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يََا أُولِي الْأَبْصََارِ} (3) وولّوا به يحثون التّراب فوق المفارق والتّرائب (4)، ويخلطون تبر السّبال الصّهب (5) بذوب الذّوائب، قد لبسوا المسوح (6) حزنا، وأرسلوا الدموع مزنا، وشقّوا جيوبهم أسفا، وأضرموا قلوبهم تلهّفا، ورأوا أنّ حصن استطبونة (7) لا يتأتّى لهم به امتناع، ولا يمكنهم لمن يرومه من المسلمين دفاع، فأخلوه من سكّانه، وعاد فيه الإسلام إلى مكانه، وهو ما هو من طيب البقعة، وانفساح الرّقعة ولو تمسّك به العدوّ لكان ذلك الوطن بسوء جواره مكدودا، والمسلك إلى الجبل عصمه الله مسدودا، فكان الصنيع فيه طرازا على عاتق تلك الحلّة الضافية، ومزيدا لحسنى العارفة الوافية، فلمّا استجلينا غرّة هذا الفتح الهنيّ، والمنح السّنيّ، قابلناه بشكر الله تعالى وحمده، وضرعنا إليه في صلة نعمه فلا نعمة إلا من عنده وعلمنا أنه عنوان على مزيد ملككم الأعلى وعلامة على سعده، وأثر نيّته للإسلام وحسن قصده، وفخر ذخره
__________
(1) المقصود: الجزيرة الخضراء. انظر الحاشية 3. ص: 42.
(2) تبر تبرأ وتبارا: هلك، والتّبار: الهلاك.
(3) الحشر / 2.
(4) الترائب: عظام الصدر مما يلي الترقوتين.
(5) يقال: هم صهب السّبال أي أعداء.
(6) المسوح: ثياب الرهبان، وتكون عادة سوداء. ونرجح أن لبسهم المسوح كان دلالة على الدوافع الدينية لديهم اكثر مما هو دليل حزن كما ذهب واضع الرسالة.
(7) في حاشية الصفحة 43من الطبعة الأميرية: «أستبونة» عن الريحانة. والصواب: اسطبونه ولعل التاء زائدة من قلم الناسخ. (انظر الحاشية 3ص 42من هذا الجزء).(7/46)
الله لأيامكم لا نهاية لحدّه، فإنكم صرفتم وجه عنايتكم إلى هذا القطر على نأي المحلّ وبعده، ولم تشغلكم الشواغل عن إصلاح شأنه وإجزال رفده.
وأما البلد المحصور، فظهر فيه من عزمكم الأمضى ما صدّق الآزال والظّنون، وشرح الصّدور بمقامكم وأقرّ العيون: من صلة الإمداد على الخطر، وتردّد السابلة (1) البحرية على بعد الوطن وتعذّر الوطر، واختلاف الشّواني (2) التي تسري إليه سرى الطّيف، وتخلص سهامها إلى غرضه بعد أنّى وكيف، حتّى لم تعدم فيه مرفقة يسوء فقدانها، ولا عدّة يهمّ شأنها فجزاؤكم عند الله موفور القسم، وسعيكم لديه مشكور الذّمم كافأ الله أعمالكم العالية الهمم، وخلالكم الزاكية الشّيم فقد سعد الإسلام والحمد لله بملككم الميمون الطائر، وسرت أنباء عنايتكم بهذه البلاد كالمثل السائر وما هو إلا أن يستتبّ اضطراب الكفّار واختلافهم، ويتنازع الأمر أصنافهم، فتغتنمون إن شاء الله فيهم الغرّة (3) التي ترتقبها العزائم الشريفة، والهمم المنيفة وتجمع شيمكم الغليا، بين فخر الآخرة والدّنيا، وتحصل على الكمال الذي لا شرط فيه ولا ثنيا (4) فاهنأوا بهذه النّعمة التي خبأها الله إلى أيّامكم، والتّحفة التي بعثها السعد إلى مقامكم، فإنما هي بتوفيق الله ثمرة إمدادكم، وعقبى جهادكم أوزعنا الله وإيّاكم شكرها وألهمنا ذكرها.
عرّفناكم بما اتّصل لدينا، وورد من البشائر علينا عملا بما يجب لمقامكم من الإعلام بالمتزيّدات، والأحوال الواردات، ووجّهنا إليكم بكتابنا هذا من ينوب عنّا في هذا الهناء، ويقرّر ما عندنا من الولاء، وما يتزيّد لدينا بالأنباء، خالصة إنعامنا المتميّز بالوسيلة المرعيّة إلى مقامنا، الحظيّ لدينا، المقرّب إلينا، القائد
__________
(1) السابلة: الطريق المسلوك. والسابلة أيضا: الذين يمرون عليه.
(2) الشواني: السفن الحربية.
(3) الغرّة: الغفلة.
(4) الثنيا والثنوى: ما استثنيته، قلبت ياؤه واوا للتصريف وتعويض الواو من كثرة دخول الياء عليها، والفرق أيضا بين الاسم والصفة. والثنيا المنهي عنها في البيع (الحديث): أن يستثنى منه شيء مجهول فيفسد البيع. (انظر لسان العرب: 4/ 125).(7/47)
الفلانيّ أبا الحسن عبادا وصل الله عزّته، ويمّن وجهته ومجدكم ينعم بالإصغاء إليه، فيما أحلنا فيه من ذلك عليه، والله يصل سعدكم ويحرس مجدكم والسلام.
وكما كتب عنه أيضا إلى السلطان (أبي سعيد عثمان بن يغمراسن) (1)
صاحب تلمسان، عند بعثه بطعام إلى الأندلس، شاكرا له على ذلك، ومخبرا بفتح حصن من حصون الأندلس يسمّى حصن قنيط، وهو:
المقام الذي تحدّثت بسعادته دولة أسلافه، واتّفق به قولها من بعد اختلافه، وعاد العقد إلى انتظامه والشّمل إلى ائتلافه مقام وليّنا في الله الذي هيّأ الله له من جميل صنعه أسبابا، وفتح به من [مبهم] (2) السّعد أبوابا وأطلع منه في سماء قومه شهابا. وصفيّنا الذي نسهب القول في شكر جلاله ووصف خلاله إسهابا السلطان أبو سعيد عثمان، ابن الأمير أبي زيد، ابن الأمير أبي زكريّا، ابن السلطان أبي يحيى يغمراسن، بن زيان، مع ذكر ألقاب كل منهم بحسبه أبقاه الله للدولة الزّيّانية يزيّن بالأعمال الصالحة أجيادها، ويملك بالعدل والإحسان قيادها، ويجري في ميدان النّدى والباس، ووضع العرف بين الله والناس، جيادها. سلام كريم كما زحفت للصباح شهب المواكب، وتفتّحت عن نهر المجرّة أزهار الكواكب ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد حمد الله جامع الشّمل بعد انصداعه وشتاته، وواصل الحبل بعد انقطاعه وانبتاته سبحانه لا مبدّل لكلماته، والصلاة على سيدنا ومولانا محمد رسوله الصادع بآياته، المؤيّد ببيّناته، الذي اصطفاه لحمل الأمانة العظمى، وحباه
__________
(1) هو عثمان بن يغمراسن بن زيّان، من بني عبد الواد: صاحب تلمسان في المغرب الأوسط. وليها بعد وفاة أبيه سنة 681هـ وبدأ باخضاع بعض البلاد الخارجة عن نطاق دولته. توفي سنة 703هـ.
(الاعلام: 4/ 215).
(2) الزيادة من حاشية الطبعة الأميرية عن «ريحانة الكتاب».(7/48)
بالقدر الرفيع والمحلّ الأسمى والله أعلم حيث يجعل رسالاته. والرضا عن آله وصحبه وأنصاره وحزبه وحماته، المتواصلين في ذات الله وذاته، القائمين بنصر دينه وقهر عداته. فإنّا كتبناه إليكم كتب الله لكم سعدا ثابت الأركان، وعزّا سامي المكان، ومجدا وثيق البنيان، وصنعا كريم الأثر والعيان من حمراء غرناطة حرسها الله والثقة بالله سبحانه أسبابها وثيقة، وأنسابها عتيقة، والتوكّل عليه لا تلتبس من سالكه طريقه ولا تختلط بالمجاز منه حقيقة وعندنا من الاعتداد بكم في الله عقود مبرمة، وآي في كتاب الإخلاص محكمة ولدينا من السّرور، بما سنّاه الله لكم من أسباب الظّهور، الذي حلله معلمه (1)، وحججه البالغة مسلّمة، ما لا تفي العبارة ببعض حقوقه الملتزمه وإلى هذا أيد الله أمركم فإننا ورد علينا فلان وصل الله كرامته، وسنّى سلامته، صادرا عن جهتكم الرفيعة الجانب، السامية المراقب، طلق اللسان بالثناء بما خصّكم الله به من فضل الشمائل وكرم المذاهب، محدّثا عن بحر مكارمكم بالعجائب، فحضر بين يدينا ملقيا ما شاهده من ازدياد المشاهد، بتلك الإياله، واستبشار المعاهد، بعودة ذلك الملك الرفيع الجلاله، الشهير الأصاله ووصل صحبته ما حمّلتم جفنة (2) من الطعام برسم إعانة هذه البلاد الأندلسيّة، والإمداد الذي افتتحتم به ديوان أعمالكم السنيّة، وأعربتم به عمّا لكم في سبيل الله من خالص النّيّة وأخبر أنّ ذلك إنما هو رشّة من غمام، وطليعة من جيش لهام، ووفد من عدد، وبعض من مدد، وأنّ عزائمكم في الإعانة والإمداد على أوّلها، ومكارمكم ينسى الماضي منها بمستقبلها فأثنينا على قصدكم الذي لله أخلصتموه، وبهذا العمل البرّ خصصتموه، وقلنا: لا ينكر الفضل على أهله، وهذا برّ صدر عن محلّه فليست إعانة هذه البلاد الجهاديّة ببدع من مكارم جنابكم الرفيع، ولا شاذّة فيما أسدى على الأيام من حسن الصّنيع فقد علم الشاهد والغائب، ولو سكتوا أثنت عليها الحقائب، ما تقدّم لسلفكم في
__________
(1) المعلمه: المعروفة بعلامة خاصة بها.
(2) الجفنة في الأصل: القطعة. والمراد هنا سفينة أو نحو ذلك، وهذا المعنى يستقيم مع ما سيأتي.(7/49)
هذه البلاد من الإرفاق والإرفاد، والأخذ بالحظّ الموفور من المدافعة والجهاد وأنتم أولى من جدّد عهود قومه، وكان غده في الفخر أكبر من يومه وقد ظهرت لله في حيّز تلك الإيالة الزّيّانيّة نتيجة تلك المقدّمات، وعرفت بركة ما أسلفته من المكرمات. وسنّى الله سبحانه بين يدي وصول ما به تفضّلتم، وفي سبيله بذلتم، أن فتح جيشنا حصنا من الحصون المجاورة لغربيّ مالقة يعرف بحصن قنيط من الحصون الشهيرة المعروفة، والبقع المذكورة بالخصب الموصوفة ودفع الله مضرّته عن الإسلام وأهله، ويسّره بمعهود فضله فجعلنا من ذلك الطعام الذي وجّهتم طعمة حماته، ونفقات رجاله ورماته اختيارا له في أرضى المرافق في سبل الخير وجهاته. وأما نحن فإن ذهبنا إلى تقرير ما عندنا من الثناء، على معالي ملككم الأصيل البناء، والاعتداد بمقامكم الرفيع العماد، والاستناد إلى ولائكم الثابت الإسناد، لم نبلغ بعض المراد، ولا وفى اللسان بما في الفؤاد فمن الله نسأل أن يجعله في ذاته، وذريعة إلى مرضاته ومرادنا من فضلكم العميم، وودّكم السليم، أن تحسبوا هذه الجهة كجهتكم فيما يعرض من الأغراض: لنعمل في تتميمها بمقتضى الودّ العذب الموارد، الكريم الشّواهد والله يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام.
الضرب الثاني (أن يقع الابتداء بالمقرّ)
والرسم فيه أن يقال: المقرّ، وينعت، ثم يقال: مقرّ فلان، وينعت بالألقاب، ثم يذكر المكتوب عنه. ثم يقال: أما بعد حمد الله، ويؤتى على الخطبة إلى آخرها ثم يقال: فإنا كتبناه لكم من موضع كذا، ويتخلّص إلى المقصد بلفظ: وإلى هذا فإنّ كذا وكذا، ويؤتى على المقصد إلى آخره ويختم بالسلام.
كما كتب ابن الخطيب عن سلطانه ابن الأحمر إلى عجلان (1) سلطان مكة
__________
(1) هو عجلان بن رميثة بن أبي نمي: شريف حسني من أمراء مكة. نزل له أبوه عن امارتها في أواخر حياته سنة 745هـ. استقر الحكم لعجلان مدة طويلة وتوفي سنة 777هـ. (الأعلام: 4/ 216).(7/50)
شرّفها الله تعالى وعظّمها، وهو:
المقرّ الأشرف، الذي فضل المحالّ الدينيّة محلّه، وكرم في بئر زمزم منبط إسماعيل صلّى الله عليه وسلّم نهله وعلّه، وخصّه بإمرة الحرم الشريف الأمين من بيده الأمر كلّه، فأسفر عن صبح النصر العزيز فضله، واشتمل على خواصّ الشّرف الوضّاح جنسه وفصله، وطابت فروعه لما استمدّ من ريحانتي (1) الجنة أصله.
مقرّ السلطان الجليل، الكبير، الشريف، الطاهر، الظاهر، الأمجد، الأسعد، الأوحد، الأسمى الشهير البيت، الكريم الحيّ والميت، الموقّر، المعظّم، ابن الحسين (2)، وحافد (3) سيد الثّقلين تاج المعالي، عزّ الدنيا والدّين، أبي السّبق عجلان، ابن السلطان الكبير، الشهير، الرفيع، الخطير، الجليل، المثيل، الطاهر، الظاهر، الشريف، الأصيل، المعظّم، الأرضى، المقدّس، المنعّم، أسد الدين، أبي الفضل «رميثة» بن محمد بن أبي سعيد الحسني أبقاه الله، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلى قاطنيّ مثواه، على بعد الدار، وتتقرّب فيه إلى الله بالتئام التراب واستلام الجدار، وتجيب أذان نبيّه إبراهيم بالحجّ إجابة الابتدار وهنأه المزيّة التي خصه بها من بين ملوك الأقطار، وأولي المراتب في عباده والأخطار كما رفع قدره على الأقدار، وسجّل له بسقاية الحج وعمارة المسجد الحرام عقد الفخار. وينهي إليه أكرم التحيّات تتأرّج عن شذا الروضة المعطار، عقب الأمطار، معظم ما عظّم الله من شعائر مثواه، وملتمس البركة من أبواب مفاتحته ولكل امرىء ما نواه وموجب حقّه الذي يليق بمن البتول والرّضا أبواه، الشّيّق إلى الوفادة عليه وإن مطله الدهر ولواه فلان. كان الله له في غربته وانفراده، وتولّى عونه على الجهاد فيه حقّ جهاده.
__________
(1) ريحانتا الجنة أو أهل الجنة: هما الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وقد تقدم أن عجلان كان حسنيا.
(2) لعله: «الحسن» إذ لم نجد في نسب عجلان أو والده رميثة تسلسلا يرقى إلى الحسين.
(3) الحافد هو الحفيد.(7/51)
أما بعد حمد الله وليّ الحمد في الأولى والآخرة، ومطمح النّفوس العالية والهمم الفاخرة مؤيّد العزائم المتعاضدة في سبيله المتناصرة، ومعزّ الطائفة المؤمنة ومذلّ الطائفة الكافرة، ومنيل القياصرة الغلب والأكاسرة، وتارك أرضها للآذان السامعة والعيون الباصرة.
والصلاة على سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله نبيّ الرحمة الهامية الهامرة، والبركات الباطنة والظاهرة، المجاهد في سبيل الله بالعزائم الماضية والصّوارم الباترة، مصمت الشّقاشق (1) الهادره، ومرغم الضّلالة المكابره، المنصور بالرّعب من جنود ربّه الناصره، المحروس بحرس الملائكة الوافره، الموعود ملك أمّته بما زوي (2) له من أطراف البسيطة العامره، حسب ما ثبت بالدلائل المتواتره.
والرّضا عن آله وأحزابه، وعترته وأصحابه، المجاهدة الصابره، أولي القلوب المراقبة والألسن الذاكره، والآداب الحريصة على الاهتداء بهداه المثابره، الذين جاهدوا في الله حقّ جهاده يخوضون، لأن تكون كلمة الله هي العليا، بحار الرّوع الزّاخرة ويقدمون بالجموع القليلة على الآلاف المتكاثرة، حتّى قرّت بظهور الإسلام العيون الناظره، وحلّت في العدوّ الفاقره (3)، فكأنوا في الذّبّ عن أمّته كالأسود الكاسره، وفي الهداية بسماء ملّته كالنّجوم الزاهرة.
والدعاء لشرفكم الأصيل المناسب الطاهره، والمكارم الزاهية ببنوّة الزّهراء البتول بضعة الرسول الزّاهرة، بالصّنع الذي يسفر عن الغرر المشرقة السّافره، والعزّ الذي يضفو منه الجناح على الوفود الوافره، والفضلاء من المجاوره، ولا زال ذكركم بالجميل هجّيرى (4) الركائب الواردة والصادره، والثناء على مكارمكم
__________
(1) الشقاشق: جمع شقشقة، وهي شيء يخرجه الجمل من فيه إذا هاج وهدر. ويقال: «شقشقة هدرت ثم قرّت»: ضجة أو فتنة ثارت ثم هدأت. والمراد بالشقاشق هنا: الفتن.
(2) زوى الشيء: جمعه. وزوي له (على المجهول) أي جمع له.
(3) الفاقرة: الداهية والمصيبة.
(4) الهجّيرى: كثرة الكلام.(7/52)
يخجل أنفاس الرّياض العاطره، عقب الغمائم الماطره.
فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم عناية تحجب الأسواء [بجننها] (1) الساتره، ورعاية تجمع الأهواء المختلفة والقلوب المتنافره من حمراء غرناطة دار الملك الإسلاميّ بالأندلس حرسها الله ووفّر جموع حاميتها المثاغرة (2) وسدّ بيد قدرته ما همّ بها من أفواه العدى الفاغره، ولا زالت سحائب رحمة الله الحائطة لها الغامره، تظلّل جموع جهادها الظافره، وتجود رمم شهدائها الناخره، ونعم الله تحطّ ركائب المزيد في نواديها الحامدة الشاكره.
والحمد لله كما هو أهله، فلا فضل إلا فضله. وجانبكم موفّى حقّه من التعظيم الذي أناف وأربى، وقدركم يعرفه من صام وصلّى فضلا عمن حجّ ولبّى، ومستند ودّكم {قُلْ لََا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ََ} (3). وإلى هذا حرس الله مجدكم ومقرّكم الأشرف، كما سحب على البيت العتيق ظلّكم الأورف فإنّ الجهاد والحجّ أخوان، يشهد بذلك الملوان (4) مرتضعان ثدي المناسبه، ويكادان يتكافآن في المحاسبة: سفرا وزادا، ونيّة واستعدادا، وإتلافا لمصون المال وإنفادا، وخروجا إلى الله لا يؤثر أهلا ولا ولدا وإن افترقا محلّا فقد اجتمعا جهادا، ورفعا للملة منارا ساميا وعمادا، ووطننا والحمد لله على هذا العهد المخصوص بكمال هذه المزيّة، والقيام بفرض كفايتها البحرية والبرية عن جميع البريّة، [السليمة من الضلال البرية] (5) وهذا النسب واشجة (6) عروقه،
__________
(1) الزيادة من حاشية الطبعة الاميرية عن «ريحانة الكتاب» والجنن: جمع جنّة وهو ما يستر أو ما يقي.
يقال: الصوم جنّة أي وقاية من الشهوات.
(2) المثاغرة: المرابطة في الثغور.
(3) الشورى / 23.
(4) الملوان: الليل والنهار.
(5) الزيادة عن حاشية طبعة المؤسسة المصرية نقلا عن «ريحانة الكتاب».
(6) واشجة: مشتبكة ومتصلة والأوشاج: ألوان داخلة بعضها في بعض.(7/53)
صادقة بروقه، ومتاته (1) لا يفضله متات ولا يفوقه. ونحن نعرّفكم بأحوال هذا القطر المستمسكة فروعه بتلك الجرثومة الراسية، الممدودة أيديه إلى مثابتها المتصدّقة بالدعاء المواسيه فاعلموا أن الإسلام به مع الحياة في سفط (2) حرج، وفي أمر مرج (3) وطائفة الحق قليل عددها، منقطع إلا من الله مددها، مستغرق يومها في الشّدّة وغدها فالطلائع في قنن الجبال تنوّر، والمصحر من بيته مغرّر (4) والصّيحة مع الأحيان مسموعه، والأعداء لردّ ما استخلصه الفتح الأوّل مجموعه والصبر قد لبست مدارعه، والنصر قد التمست مشارعه، والشّهداء تنوش أشلاءهم القشاعم (5)، وتحتفل منها للعوافي (6) الولائم والمطاعم والصّبيان تدرّب على العمل بالسّلاح، وتعلّم أحكام الجهاد تعلّم القرآن في الألواح وآذان الخيل مستشرفة للصيّاح (7)، ومفارق الطائحين في سبيل الله تعالى تبلى بأيدي الرياح، والمآذن تجيبها النواقيس مناقضه، وتراجعها مغاضبة معارضه وعدد المسلمين لا يبلغ من عدد الكفّار، عشر المعشار، ولا وبرة من جلود العشار (8)
إلا أن الله عز وجلّ حلّ بولايتنا المخنق المشدود، وفتح إلى التيسير المهيع (9)
المسدود، وأضفى ظلال اليمن الممدود، وألهم وله الشكر على الإلهام، وتسديد السّهام. والحمد لله الذي يفوت مدارك الأفهام إلى اجتهاد قرن به التوفيق، وجهاد نهج به إلى النجاة المنجية الطريق سبحانه من كريم يلهم العمل
__________
(1) المتات: ما يتوسل به كالحرمة والقرابة.
(2) السّفط: الوعاء، وهنا بمعنى المقام والوضع.
(3) مرج: ملتبس ومختلط. وفي التنزيل العزيز: «مرج البحرين يلتقيان».
(4) المصحر: من أصحر أي برز في الصحراء، والمغرّر: المعرّض للهلاك. والمراد: من يخرج من بيته معرّض للهلاك.
(5) القشاعم: جمع قشعم وهو النسر الذكر العظيم.
(6) العواف: ما يظفر به الإنسان والحيوان ليلا من صيد.
(7) الصّياح والصّيحة: الغارة يفجأ الناس بها.
(8) العشار من النوق ونحوها: ما مضى على حملها عشرة أشهر.
(9) المهيع: الطريق.(7/54)
ليثيب، ويأمرنا بالدعاء ليجيب فتحرّكنا حركات ساعدها ولله المنة السعد، وتولّى أمرها ونصرتها من له الأمر من قبل ومن بعد.
ففتحنا مدينة برغة (1) الفاصلة كانت بين البلاد المسلمه، والشّجا المعترض في نحر الكلمه وتبعتها بنات كنّ يرتضعن أخلاف درّتها (2)، ويتعلّقن في الحرب والسّلم بأرزتها.
ثم نازلنا حصن آش (3)، ركاب الغارات الكافرة، ومستقرّ الشوكة الوافره، فرفع الله إصره (4) الثقيل، وكان من عثرة الدّين فيه المقيل.
ثم قصدنا مدينة الجزيرة (5) بنت حاضرة الكفر، وعرين الأسود الغلب وكناس الظّباء العفر فاستبحناها عنوة أضرمت البلاد نارا، ودارت بأسوارها المنيعة سوارا، واستأصلنا أهلها قتلا وإسارا، وملأت الأيدي من نقاوة (6) سبي تعدّدت آلافه، وموفور غنم شذّت عن العبارة أوصافه.
ثم كانت الحركة إلى مدينة جيّان (7) وشهرتها في المعمور، وشياع وصفها
__________
(1) لم نعثر على هذه المدينة في معاجم البلدان التي بين أيدينا.
(2) الخلف: حلمة الضرع. والمراد: تبعتها مدن صغيرة كن يعتمدن عليها ويعشن على خيراتها.
(3) المقصود مدينة آش، وكانت مسوّرة تشبه الحصن. وهي وادي آش أو «وادياش»، كانت في التقسيم الإدارى الأندلسي تابعة لكورة «إلبيرة» (وهي غرناطة) وتقع على السفح الشمالي لجبل الثلج الذي يسمى أيضا جبل شلير واسمها معرّب عن اللاتينية، كانت أيام القوط مركزا لأسقفية تسمى كرسى أكشبي، وتقع على نهير كان يسمى باسمها أيام العرب، ويسمى الآن. (الروض المعطار: 614ومعجم البلدان: 1/ 197والحلة السيراء:
2/ 354حاشية).
(4) الإصر: العهد المؤكد، والثقل وهو المقصود.
(5) وهي الجزيرة الخضراء وتسمى أيضا جزيرة أم حكيم. (انظر صفة جزيرة الأندلس: 73).
(6) النقاوة من الشيء: خياره وخلاصته.
(7) مدينة بالاندلس، بينها وبين بيّاسة ستون ميلا. قال بروفنسال عن الحميري: وهي كثيرة الخصب رخيصة الأسعار كثيرة اللحوم والعسل ولها زائد على ثلاثة آلاف قرية، كلها يربى فيها دود الحرير، وبها جنات وبساتين ومزارع وعلى ميل منها نهر بلّون وبها مسجد جامع وعلماء جلّة.
(صفة جزيرة الأندلس: 70).(7/55)
المشهور، تغني عن بسط مالها من الأمور ففتحها الله على يدينا عنوة وجعلت مقاتلتها نهبا للسيوف الرّقاق، وسبيها ملكة للاسترقاق، وأهلّة مبانيها البيض دريئة (1) للمحاق، واستولت على جميعها أيدي الهدم والإحراق ثم دكّت الأسوار، وعقرت الأشجار، واستخلف على خارجها النار، فهي اليوم صفصف ينشأ بها الاعتبار، وتعجب الأبصار.
وغزونا بعدها مدينة أبّدة (2) أختها الكبرى، ولدتها ذات المحل الأسرى وكانت أسوة لها في التدمير، والتّتبير (3) والعفاء المبير.
ثم نازلنا مدينة قرطبة (4) وهي أمّ هذه البلاد الكافرة، ودار النّعم الوافره، وذات المحاسن السافره فكدنا نستبيح حماها المنيع، ونشتّت شملها الجميع، ونحتفل بفتحها الذي [هو للدين أجل] (5) صنيع، لولا عوائق أمطار، وأجل منته إلى مقدار فرحلنا عنها بعد انتهاك زلزل الطّود، ووعدناها العود ونؤمّل من فضل الله إنفاذ البشرى بفتحها على بلاد الإسلام، ومتاحفة (6) من بها من الملوك
__________
(1) الدريئة: ما يستتر به الصائد ليختل الصيد، والدريئة أيضا: حلقة أو دائرة يتعلم عليها الطعن والرمي. والمحاق، بفتح الميم وضمها: ما يرى في القمر من نقص.
(2) في ياقوت أيضا بالدال المهملة. وفي الروض المعطار وتحقيق بروفنسال: بالذال المعجمة. وأبّذة مدينة صغيرة بالأندلس بينها وبين بيّاسة سبعة أميال تقع على مقربة من النهر الكبير. قال في الحلة السيراء: أبدة (بالباء الساكنة المخففة) بناها الوزير أبو خالد، هاشم بن عبد العزيز أحد رجالات الموالي المروانية بالأندلس الذين قتله المنذر بن محمد سنة 273هـ. قال في الروض: وفي سنة 609هـ مالت عليها جموع النصرانية بعد كائنة العقاب وملكوها بالسيف وقتلوا كثيرا وأسروا كثيرا. (انظر معجم البلدان: 1/ 64والروض المعطار: 6وصفة جزيرة الأندلس: 11والحلة السيراء: 1/ 138137).
(3) تبر الشيء: أهلكه. والتتبير: الإهلاك والتدمير.
(4) قال في الروض المعطار: قرطبة قاعدة الأندلس، أم مدائنها ومستقر خلافة الأمويين بها وهي في ذاتها مدن خمس يتلو بعضها بعضا، وبين المدينة والمدينة سور حاجز وفيها المسجد الجامع الذي ليس في مساجد المسلمين مثله تنميقا وطولا وعرضا.
(5) بياض بالأصل. والزيادة من حاشية الطبعة الأميرية عن «الريحانة».
(6) لم نجد هذا اللفظ في معاجم اللغة ولعله لفظ عاميّ ففي البلاد الشامية يقولون بالعامية: تاحفه.
بمعنى لاحقه وألح عليه بالمتابعة، وهو معنى يناسب السياق.(7/56)
الأعلام، بالإخبار به والإعلام. وبلغ [من] (1) صنع الله لنا وهو كاف من توكّل عليه، وفوّض الأمور إليه، أن لا طفنا النصر بحصون أربعة لم نوجف عليها ركابا (2)، ولا تملّكتها غلابا فطهّرنا بيوت الله من دنس الأوثان، وعوّضنا النواقيس بكلمة الإيمان. والحمد لله على مواهب الامتنان، ومنه نستزيد عوائد الإحسان.
وهذه المجملات تحتمل شرحا، تسبح في بحره سنان الأقلام سبحا، من أوصاف مغانم شذّت عن الحصر، ومواقف لتنزّل السكينة وهبوب النّصر، وما ظهر من جدّ المسلمين في افتتاح تلك المعاقل المنيعة المنيفه، ومقارعة الجموع الكثيفة وبركة الحرم الشريف في كل حال موجوده، وأقطار الإسلام بها مجوده، والوسائل إلى الله بأهله في القديم والحديث لا مخيّبة ولا مردوده فهو الأصل، والغمد الذي سلّ منه النّصل حتّى بلغ التخوم القاصية، وذلّل الممالك المتعاصية، وقاد من تقاعد أو تقاعس بالناصية.
وقد ظهر لنا أن نوجّه إلى المدينة المقدّسة صلوات الله على من بها وسلامه رسالة نعرّفه بهذه البركات الهامية من سماء عنايته المعدود خارقها آية من آياته، وكلّنا جناه، وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله بهداه وأصحبناها أشخاصا من نواقيس الفرنج مما تأتّى حمله، وأمكن نقله وما سواه فكانت جبالا، لا يقبل نقلها احتيالا فتناول درعها (3) المسخ والتكسير، وشفي بذهاب رسومها الاقامة والتكبير، والأذان الجهير ومرادنا أن تعرض بمجتمع الوفود تذكرة تستدعي الإمداد بالدعاء، وتقتضي بتلك المعاهد النّصر على الأعداء ثم تصحب ركاب الزّيارة، إلى أبواب النبوّة ومطالع الإنارة وأنتم تعلمون في توفية هذه الأحوال ورعايتها، وإبلاغها إلى غايتها، ما يليق بحسبكم الوضّاح، ومجدكم الصّراح،
__________
(1) راجع الصفحة السابقة، الحاشية: 5.
(2) أوجف دابته: حثها، والشيء: حرّكه. والمراد: فتحت بغير حرب.
(3) الدّرع من النخل: ما ظهر جمّاره: والجمّار: قلب النخل.(7/57)
وشرفكم المتبلّجة أنواره تبلّج الإصباح (فأنتم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح) ولكم بذلك الحظّ الرّغيب في هذه الأعمال البرّة، والله سبحانه لا يضيع مثقال الذّرّة وهو سبحانه يتولّاكم بما تولى به من أعزّ شعاره وعظّمها، ورعى وسائله واحترمها ويصل أسباب سعدكم، وينفعكم بقصدكم.
والسلام الكريم، الطيّب البرّ العميم، يحيّي معاهدكم الكريمة على الله عهودها، النامية بغمائم الرّحمات والبركات عهودها ورحمة الله وبركاته.
وربما قدّم على لفظ المقرّ صلة يعتمد عليها في البداءة.
كما كتب عنه أيضا في معنى ذلك إلى أمير المدينة النبوية على ساكنها سيدنا محمد أفضل الصلاة والسلام.
يعتمد المقرّ (1) الأشرف الذي طاب بطيبة نشره، وجلّ بإمارتها الشريفة أمره، وقدّر في الآفاق شرفه وشرف قدره، وعظم بخدمة ضريح سيد ولد آدم فخره، [أبقاه الله منشرحا بجوار روضة الجنة صدره، مشرقا بذلك الأفق الأعلى بدره،] (2) ذائعا على الألسن المادحة، في الأقطار النازحة، حمده وشكره، مزريا بشذا المسك الأذفر (3) في الجمع الأوفر ذكره تحية معظّم ما عظّم الله من دار الهجرة داره، ومطلع إبداره، الملتمس بركة آثاره، المتقرّب إلى الله بحبّه وإيثاره.
فلان.
أما بعد حمد الله الذي فضّل البقع بخصائصها الكريمة ومزاياها، تفضيل الرياض الوسيمة بريّاها، وجعل منها مثابات رحمة تضرب إليها العباد آباط مطاياها، مؤمّلة من الله غفران زلّاتها وحطّ خطاياها وخصّ المدينة الأمينة بضريح سيد المرسلين فأسعد منها مماتها ومحياها، ورفع علياها.
__________
(1) المقرّ: لقب شرف يمنحه السلطان لكبار أرباب الوظائف الديوانية وكذلك ينعم به السلطان على الامراء. (التعريف بمصطلحات الصبح).
(2) الزيادة من حاشية الطبعة الأميرية نقلا عن «ريحانة الكتاب».
(3) الأذفر: شديد الرائحة. واللفظ يستعمل للطيب الرائحة كالمسك أو للخبيث الرائحة كالصّنان.(7/58)
والصلاة على سيدنا ومولانا محمد ورسوله الكريم، الرؤوف بالمؤمنين الرّحيم مطلع أوجه السعادة ببروق محيّاها، وموضّح أسرار النّجاة ومبيّن خفاياها الذي تدارك الخليفة بهديه وكشف بلاياها، ورعى لسنّة الله رعاياها، وجمع بين صلاح دينها ودنياها.
والرضا عن آله وصحبه، وعترته وحزبه، التي كرمت سجاياها، وعظمت ألطافها الهادية وهداياها، وجاهدت بعده طوائف الكفّار، تشعشع لها في أكواس (1)
الشّفار، مناياها، وتطلع عليها في الليل البهيم، سنا الصبّاح الوسيم، من غرر سراياها، وتسدّ بغمام الأسنّة ورياح ذوات الأعنّة ثناياها.
والدعاء لمقرّ أصالتكم الشريفة حيّاها الله وبيّاها، كما شرّفها بولادة الوصيّ الذي قرّر وصاياها وسلالة النبيّ الذي أعظم مواهب فخرها منه وعطاياها، بالسعادة التي تبرز أكفّ الأقدار على مرور الأعصار خباياها، والعزّ الذي يزاحم فرقد السماء وثريّاها.
فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم من مواهب الصّنع الجميل أغياها، كما طيّب بذكركم أطراف البسيطة وزواياها، وجعل فخر الجوار الكريم في عقبكم كلمة صدق لا تختلف قضاياها، ما مرّضت (2) الرّياض مورّسات (3) عشاياها فجعلت من النواسم مشمومها ومن الأزهار البواسم حشاياها. من حمراء غرناطة حرسها الله ونعم الله يحوك حللها الجهاد، والسيوف الحداد، وتلبسها البلاد والعباد، وتتزيّاها. وفلول الكفر ناكصة على الأعقاب، من بعد شدّ الوثاق وضرب
__________
(1) في معاجم اللغة، الكأس يجمع على أكؤس وكؤوس.
(2) مرّض الحبّ: ذرّاه.
(3) ورّس الثوب: صبغه بالورس والورس: نبت من الفصيلة القرنية ثمرته تحتوي على مادة حمراء تستعمل لتلوين الملابس الحريرية. والورس أيضا: الأحمر المشوب بالصفرة أو الأصفر المشوب بالحمرة، كما في قول المعري:
وقد رنقت شمس الأصيل ووزعت ... على الأفق الغربي ورسا مزعزعا(7/59)
الرقاب، خزاياها وبركات حرم النبيّ الوجيه على الله يستظلّها الإسلام ويتفيّاها، وينقع الغلل من رواياها.
والحمد لله كثيرا كما هو أهله، فلا فضل إلا فضله ولمعاهدكم الكريمة الارتياح، كلّما أومضت البروق وخفقت الرّياح ولسنيّ عنايتها الالتماح، إذا اشتجرت الرّماح وفي تأميل المثول بها تعمل الأفكار وإن هيض الجناح، وبهداها الاستنارة إذا خفي للمراشد الصّباح، وبالاعتمال في مرضاة من ضمّه منها الثّرى الفوّاح، والصّفيح الذي تراث ساكنه العوامل المجاهدة والصّفاح والجهاد الصّراح، يعظم في الصّدر الانشراح، ويعزّ المغدى في سبيل الله والمراح.
وإلى هذا أجزل الله مسرّتكم بظهور الدين، واعتلاء صبحه المبين فاننا نعرّفكم أننا فتح الله علينا وعلى إخوانكم المؤمنين بهذه الثّغور المنقطعة الغربيّة، الماتّة على الآماد البعيدة بالذّمم العربيّة، فتوحا حوّزت من مملكة الكفر البلاد، ونفّلت الطارف والتّلاد حسب ما تنصّه مخاطبتنا إلى نبينا الكريم الذي شرّفكم الله بخدمة لحده، واستخلفكم على دار هجرته من بعده إذ لا حاجة إلى التّكرار بعد ما شرحت به الصّدور من الأخبار، في الإيراد والإصدار ووجّهنا صحبتها من النّواقيس التي كانت تشيع نداء الضّلال، وتعارض الأذان بجلاد الحدال (1)، وتبادر أمر التّمثال بالامتثال، ما يكون تذكرة تحنّ بها القلوب إلى هذه الطائفة المسلمة إذا رأتها، وتنتظر قبول الدعاء لها من الله كلّما نظرتها، وتتصوّر الأيدي المجاهدة التي جنتها من أفنان المستشرفات العالية واهتصرتها (2) إذا أبصرتها.
وهذا كلّه لا يتحصّل على التّمام إلا بمشاركة منكم تسوّغه، وإعانة تؤدّيه وتبلّغه، تشيع لكم عند تعرّفها الثناء الدائم التّرداد، والدعاء بحسن المكافأة من ربّ العباد، وسهمكم في أمر الجهاد وأنتم تعملون في ذلك بما يناسب مثلكم من
__________
(1) حدل حدلا: مال. ويقال: تحادل في مشيته أي تمايل. ولعل في العبارة كناية عن قرع النواقيس وتمايلها.
(2) اهتصر الشيء: هصره أي كسره. واهتصر النخلة: شذّب عذوقها وسواها.(7/60)
الشّرفاء الأمجاد، والله عز وجلّ يواليكم بنعمه الثّرّة العهاد، ويعرّفكم عوارف السعادة في المبدإ والمعاد، ويختم لنا ولكم بسعادة المعاد والسلام الكريم يخصّكم عودا على بدء ورحمة الله تعالى وبركاته.
الضرب الثالث (أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإمارة)
بأن يقال: الإمارة التي نعتها كذا وكذا إمارة محلّ أخينا فلان، ويدعى له.
ثم يقال: معظّم إمارته، أو معظم أخوّته فلان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله، ويؤتى بخطبة ثم يقال: فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم كذا وكذا من موضع كذا ثم يتخلص إلى المقصود بلفظ وإلى هذا، ويؤتى على القصد إلى آخره، ويختم بالسلام على ما تقدّم في غيره من الضروب، وبذلك يكتب إلى الأمراء من أبناء الملوك وغيرهم. كما كتب ابن الخطيب عن ابن الأحمر إلى أبي عليّ الناصر ابن السلطان أبي الحسن المرينيّ بفاس، عند ما أرسله والده إلى ناحية من النّواحي لعمارتها وإصلاح حالها، مهنّئا له بما أجراه الله على يديه من الصّلاح، وهو:
الإمارة التي لها المكارم الراضية، والعزائم الماضية، والجلالة الراقية، والأعمال الصالحة الباقية إمارة محلّ أخينا الذي نعظّم مجده السامي الجلال، ونثني على شيمه الطاهرة الخلال، ونعتدّ بودّه الكريم الأقوال والأعمال، ونسرّ بما يسنّيه الله لعزّه الفسيح المجال، من عوائد اليمن والإقبال.
الأمير الأجلّ الأعزّ، الأسمى، الأطهر، الأظهر، الأسنى، الأسعد، الأرشد، الأرضى، المؤيّد، الأمضى، الأفضل، الأكمل، أبو عليّ الناصر ابن محلّ أبينا الذي نعظّمه ونجلّه، ونوجب له الحقّ الذي هو أهله، السلطان الجليل الكذا أبو الحسن ابن السلطان المؤيّد، المعان المظفّر، صاحب الجود الشهير في الأقطار، والفضل المتألّق الأنوار، والمآثر التي هي أبهى من محيّا النهار، أمير المسلمين، وناصر الدين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين أبي سعيد ابن أمير المسلمين
وناصر الدين، قامع الكافرين، المجاهد في سبيل رب العالمين، أبي يوسف بن عبد الحق. أبقاه الله والسعود إليه مبتدرة مستبقة، والمسرّات لديه منتظمة متّسقة وغرر أيامه واضحة مشرقة، والأهواء على محبته متّفقة. معظّم إمارته الرفيعة الجانب، القائم من إجلالها ونشر خلالها بالحقّ الواجب، المثني على مالها من السّير الفاضلة المذاهب، والأصالة الرفيعة المناسب، والبسالة الماضية المضارب، والمكارم التي تشهد بها مواقف الجهاد، وظهور الجياد، وصحائف الكتب وصفائح الجلاد، الأمير عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين، أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر. سلام كريم، برّ عميم تتأرّج الأرجاء من طيب نفحته، ويشرق نور الودّ الأصيل على صفحته يخصّ أخوّتكم الفاضلة، وإمارتكم الحافلة ورحمة الله وبركاته.(7/61)
الأمير الأجلّ الأعزّ، الأسمى، الأطهر، الأظهر، الأسنى، الأسعد، الأرشد، الأرضى، المؤيّد، الأمضى، الأفضل، الأكمل، أبو عليّ الناصر ابن محلّ أبينا الذي نعظّمه ونجلّه، ونوجب له الحقّ الذي هو أهله، السلطان الجليل الكذا أبو الحسن ابن السلطان المؤيّد، المعان المظفّر، صاحب الجود الشهير في الأقطار، والفضل المتألّق الأنوار، والمآثر التي هي أبهى من محيّا النهار، أمير المسلمين، وناصر الدين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين أبي سعيد ابن أمير المسلمين
وناصر الدين، قامع الكافرين، المجاهد في سبيل رب العالمين، أبي يوسف بن عبد الحق. أبقاه الله والسعود إليه مبتدرة مستبقة، والمسرّات لديه منتظمة متّسقة وغرر أيامه واضحة مشرقة، والأهواء على محبته متّفقة. معظّم إمارته الرفيعة الجانب، القائم من إجلالها ونشر خلالها بالحقّ الواجب، المثني على مالها من السّير الفاضلة المذاهب، والأصالة الرفيعة المناسب، والبسالة الماضية المضارب، والمكارم التي تشهد بها مواقف الجهاد، وظهور الجياد، وصحائف الكتب وصفائح الجلاد، الأمير عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين، أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر. سلام كريم، برّ عميم تتأرّج الأرجاء من طيب نفحته، ويشرق نور الودّ الأصيل على صفحته يخصّ أخوّتكم الفاضلة، وإمارتكم الحافلة ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي شرح بالتوكل عليه صدورا، و [جعل الودّ في ذاته كنزا مذخورا] (1) والأعمال التي تقرّب إليه نورا، والصلاة على سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي بعثه بالحق هاديا وبالرّعب منصورا، ورفع لدعوته العالية لواء من عنايته منشورا، واختاره لإقامة دين الحق والأرض قد ملئت إفكا وزورا، حتّى بلغ ملك أمته ما كان منها معمورا.
والرّضا عن آله وأحزابه الذين اتّسقوا في قلائد ملّته الرفيعة شذورا، وطلعوا في سمائها بدورا، وبذلوا نفوسهم النفيسة في نصره وإعلاء أمره فكانت شفاعته لهم جزاء وكان سعيهم مشكورا.
والدّعاء لإمارتكم العالية بالسعد الذي يصاحب منه ركابها مددا موفورا، والتوفيق الذي يوسع عملها نجحا وأملها سرورا.
فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم سعدا متجدّد الإحكام، وصنعا مشرق القسام وافر الأقسام وعرّفكم ما عوّدكم من عوارف الإنعام، وعوائد النصر
__________
(1) الزيادة عن الطبعة الأميرية نقلا عن «ريحانة الكتاب».(7/62)
الواضح الأعلام [ولا زائد بفضل الله سبحانه، ثم ببركة سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي أوضح برهانه، ثم بما عندنا من التشيّع في مقام محلّ أبينا والدكم السلطان الجليل، أسعد الله سلطانه! ومهّد به أوطانه! إلا ما يرجى من عوائد الله الجميلة، ومننه الجزيلة، وألطافه الكافية الكفيلة] (1) وعندنا من التعظيم لتلك الإمارة الرفيعة ما هو أشهر من الشهير، وأعظم من أن يحتاج إلى التفسير فلا نزال نعتدّ لجانب أخوّتها بالعتاد الكبير، والذّخر الخطير، ونثني على مكارمها بالقلم واللّسان والضّمير. وإلى هذا أيّد الله إمارتكم، وسنّى إرادتكم، وأسعد إدارتكم، فقد علم الغائب والشاهد، والصادر والوارد، ما عندنا لكم من الحبّ الذي صفت منه الموارد، والولاء الذي تضوّعت من طيبه المعاهد وإننا تعرّفنا ما كان من قدومكم السعيد على أحواز المريّة (2) من تلك الأقطار، وطلوعكم عليها بالعزم الماضي والجيش الجرّار. وأن محلّ والدنا وصل الله له علوّ المقدار، قدّم منكم بين يديه مقدّمة اليمن والاستبشار، ورائد السعادة المشرقة الأنوار، بخلال ما يتلاحق بها ركابه العالي قدره على الأقدار وأن مخايل النّجح لإمارتكم الرفيعة قد ظهرت، وأدلّة الصّنع الجميل قد بهرت، ومن بتلك الجهات، من القبائل المختلفات، بالطاعة قد ابتدرت، وبأوامرها الإماريّة قد ائتمرت، وأنكم قد أخذتم في تسكين الأوطان وتمهيدها، واستئناف العزائم وتجديدها، [وإطفاء نار الفتن وإخمادها] (3) وإعلاء أركان تلك الإيالة ورفع عمادها فكتبنا إليكم هذا
__________
(1) الزيادة عن «ريحانة الكتاب».
(2) كذا ضبطها ياقوت معتبرا الألف واللام زائدتين للتعريف، مع تشديد وفتح الياء المثناة وكذلك فعل بروفنسال في صفة جزيرة الأندلس. ويخطيء البعض إذ يعتبر الألف واللام فيها أصليتين قياسا على «إلبيرة» مثلا، أو لوهم ناتج عن اللفظ الأسباني. والمريّة «مدينة عربية إسلامية أمر ببنائها أمير المؤمنين الناصر لدين الله عبد الرحمن بن محمد سنة 344هـ» كما يشير الحميري وهذا ما يؤكد أن اللفظ العربي هو الأصل. ويضيف صاحب الروض المعطار «وهي مدينة كبيرة من كورة «إلبيرة» كانت هي وبجّاية بابي الشرق منها يركب التجار وفيها تحل مراكبهم. قال ياقوت: «دخلها الإفرنج، خذلهم الله، سنة 542هـ ثم استرجعها المسلمون سنة 552هـ».
(انظر معجم البلدان: 5/ 119والروض المعطار: 537وصفة جزيرة الأندلس: 184183).
(3) الزيادة عن «ريحانة الكتاب».(7/63)
الكتاب نهنّئكم بما سنّاه الله لمجدكم الرفيع، من حسن الصّنيع، ونقرّر ما عندنا من الودّ الكريم، والحبّ الصّميم، ونستفهم عن أحوال أخوّتكم لنكون من علمها على السّنن القويم، وحتّى لا تزال الأسباب متّصلة، والمودّة جديدة مقتبلة ولولا العوائق المانعة، والشّقّة البعيدة الشاسعة، والأمواج المترامية المتدافعة، لم نغبّ (1) المخاطبة، ولوصلنا المراسلة والمكاتبة ومجدكم يقبل الأعذار الصحيحة بمقتضى كماله، ومعهود إفضاله والله تعالى يصلح بكم الأحوال، ويسكّن الأهوال، ويبلّغكم من فضله الآمال. وغرضنا أن تعرّفونا بما لديكم من المتزيّدات، والصنائع المتجدّدات، وبما عندكم من أحوال محلّ أبينا وصل الله عوائد النّصر لسلطانه، وتكفّل بإعلاء أمره وتمهيد أوطانه. وقد كتبنا إليه صحبة هذا كتابا غرضنا من أخوّتكم الطاهرة، أن يصل إلى حضرته العلية تحت عنايتكم ووصاتكم، والرعاية التي تليق بذاتكم وهو سبحانه يصل سعدكم ويحرس مجدكم، ويحفظ ولاءكم الكريم وودّكم والسلام الكريم عليكم ورحمة الله وبركاته.
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب إليه أو المكتوب عنه، وهو على ضربين)
الضرب الأول (أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب إليه تعظيما له)
والرسم فيه أن يقال: إلى فلان، وينعت بما يليق به ثم يؤتى بالسلام، ويقال: أما بعد ويؤتى بخطبة، ثم يقال: فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم كذا وكذا، من موضع كذا، ويتخلّص إلى المقصود بلفظ «وإلى هذا» ويؤتى على المقصود إلى آخره ويختم بالسلام.
كما كتب ابن الخطيب عن سلطانه ابن الأحمر إلى الأمير يلبغا العمريّ
__________
(1) أغبّ وغبّب المخاطبة: وصلها حينا وقطعها حينا.(7/64)
الشهير بالخاصكيّ: أتابك (1) العساكر بالديار المصرية في الدولة الأشرفيّة «شعبان بن حسين».
إلى الأمير المؤتمن على أمر سلطان المسلمين، المقلّد بتدبيره السديد قلادة الدّين، المثني على رسوم برّه المقامة لسان الحرم الأمين، الآوي من مرضاة الله تعالى ورسوله إلى ربوة ذات قرار ومعين، المستعين من الله على ما تحمّله وأمّله بالقويّ المعين، سيف الدّعوة، ركن الدولة، قوام الملة، مؤمّل الأمّة، تاج الخواصّ، أسد الجيوش، كافي الكفاة، زين الأمراء، علم الكبراء، عين الأعيان، حسنة الزمان، الأجلّ، المرفّع، الأسنى، الكبير، الأشهر، الأسمى، الحافل، الفاضل، الكامل المعظم، الموقّر، الأمير، الأوحد، «يلبغا الخاصكيّ» وصل الله له سعادة تشرق غرّتها، وصنائع تسحّ فلا تشحّ درّتها، وأبقى تلك المثابة قلادة الله وهو درّتها سلام كريم، طيب عميم، يخص إمارتكم التي جعل الله الفضل على سعادتها أمارة، واليسر لها شارة، فيساعد الفلك الدوّار مهما أعملت إدارة، وتمتثل الرسوم كلّما أشارت إشارة.
أما بعد حمد الله الذي هو بعلمه في كل مكان، من قاص ودان، وإليه توجّه الوجوه وإن اختلفت السّير وتباعدت البلدان، ومنه يلتمس الإحسان، وبذكره ينشرح الصدر ويطمئن القلب ويمرح اللّسان، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله العظيم الشان، ونبيّه الصادق البيان، الواضح البرهان،
__________
(1) ويسمى أيضا «يلبغا السالمي الخاصكي» وعلى أثر مقتله حاول مماليكه الأجلاب خلع الملك الأشرف شعبان سنة 764هـ. غير أنهم فشلوا في ذلك ودارت الدائرة عليهم فنكل بهم الأشرف شعبان وتعرف تلك المعركة بواقعة الأجلاب. والمعروف أن يلبغا الخاصكي استكثر من المماليك الجلبان أو المشتروات وبالغ في الإحسان إليهم وكانوا يخرجون معه في موكب خاص ضخم. والخاصكي: نسبة الى الخاصكية، وهي فرقة من مماليك السلطان الحاكم يكونون في العادة من جماعة المشتروات، وهم يلازمونه في خلواته ويجهزهم في المهمات الشريفة.
والأتابك هو مقدم العساكر، ووظيفته تجعله اكبر الأمراء المقدمين بعد النائب والكفيل. (انظر نزهة النفوس والأبدان 1/ 3433و 35، حاشية والصبح: 4/ 18).(7/65)
والرضا عن آله وأصحابه، وأعمامه وأحزابه، أحلاس (1) الخيل، ورهبان الليل، وأسود الميدان، والدعاء لإمارتكم السعيدة بالعزّ الرائق الخبر والعيان، والتوفيق الوثيق البنيان فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم حظّا من فضله وافرا، وصنيعا عن محيّا السّرور سافرا، وفي جوّ الإعلام بالنّعم الجسام مسافرا. من حمراء غرناطة حرسها الله دار الملك بالأندلس، دافع الله عن حوزتها كيد العداة، وأتحف نصلها ببواكر النّصر المهداة ولا زائد إلا الشوق إلى التّعارف بتلك الأبواب الشريفة التي أنتم عنوان كتابها المرقوم، وبيت قصيدها المنظوم، والتماس بركاتها الثابتة الرّسوم، وتقرير المثول في سبيل زيارتها بالأرواح عند تعذّره بالجسوم.
وإلى هذا فإنّنا كانت بين سلفنا تقبّل الله جهادهم وقدّس نفوسهم وأمّن معادهم وبين تلك الأبواب السلطانية ألقى الله على الإسلام والمسلمين ظلالها، كما عرّفهم عدلها وإفضالها مراسلة ينمّ عرف الخلوص من خلالها، وتسطع أنوار السعادة من آفاق كمالها وتلتمح من أسطار طروسها محاسن تلك المعاهد، الزاكية المشاهد، وتعرب عن فضل المذاهب وكرم المقاصد، اشتقنا إلى أن نجدّدها بحسن منابكم، ونصلها بمواصلة جنابكم، ونغتنم في عودها الحميد مكانكم، ونفضل لها زمانكم فخاطبنا الأبواب الشريفة في هذا الغرض بمخاطبة خجلة من التقصير، وجلة من الناقد البصير ونؤمّل الوصول في خفارة يدكم التي لها الأيادي البيض، والموارد التي لا تغيض ومثلكم من لا تخيب المقاصد في شمائله، ولا تضحى المآمل في ظلّ خمائله فقد اشتهر من عظيم سيرتكم ما طبّق الآفاق، وصحب الرّفاق واستلزم الإصفاق وهذه البلاد مباركة، ما أسلف أحد فيها مشاركة، إلا وجدها في نفسه وماله ودينه وعياله، والله أكرم من وفّى لامرىء بمكياله والله جل جلاله يجمع القلوب على طاعته، وينفع بوسيلة النبيّ الذي نعوّل على شفاعته، ويبقي تلك الأبواب ملجأ للإسلام والمسلمين، وظلّا لله على العالمين، وإقامة لشعائر الحرم الأمين، ويتولى إعانة إمارتكم على
__________
(1) أحلاس الخيل: الذين لا يفارقون ظهورها.(7/66)
وظائف الدّين، ويجعلكم ممن أنعم الله عليه من المجاهدين والسلام الكريم يخصّكم ورحمة الله وبركاته.
الضرب الثاني (أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب عنه، وهو على صنفين)
الصنف الأول (ما يكتب به إلى بعض الملوك)
والرسم فيه أن يقال: من فلان إلى فلان، بألقابه ونعوته ونعوت آبائه على ما تقدّم ثم يؤتى بالسلام، ويقال أما بعد حمد الله، ويؤتى بخطبة ثم يقال فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم كذا ثم يقال: وإلى هذا فإن كذا وكذا، ويؤتى على المقصود إلى آخره، ويختم بالدعاء ثم بالسلام على نحو ما مرّ.
كما كتب ابن الخطيب عن ابن الأحمر إلى بعض ملوك الغرب يهنّئه بدخول مدينة بجاية (1) في طاعته ما صورته:
من أمير المسلمين عبد الله محمد، ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجّاج، ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر أيّد الله أمره، وأعز نصره، إلى محلّ أخينا الذي نصل له أسباب الإعظام والإجلال، ونثني عليه بما له من كريم الشّيم وحميد الخلال، ونسرّ له ببلوغ الآمال، ونجاح الأعمال، في طاعة ذي الجلال، السلطان فلان ابن السلطان فلان، بالألقاب اللائقة بكل منهم، وصل الله له سعدا متصل الدّوام دائم الاتّصال، وصنعا تتجلّى وجوهه من ثنايا القبول والإقبال، وعزّا اتتفيّأ ظلاله عن اليمين والشّمال سلام كريم، برّ عميم، يخصّ
__________
(1) مدينة على ساحل البحر بين افريقية والمغرب. كان أول من اختطها الناصر بن علناس بن حماد بن زيري في حدود سنة 457هـ. (معجم البلدان: 1/ 339).(7/67)
سلطانكم الأسنى، ويعتمد مقامكم المخصوص بالزيادة والحسنى، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الواهب الفاتح، المانع المانح، مظهر عنايته بمن خلّص إليه قصده، وقصر على ما لديه صدره وورده أبدى من محيّا النهار الواضح، الذي وعد من اتّقاه حقّ تقاته، على ألسنة سفرة الوحي وثقاته، بنجح الخواتم والفواتح، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسوله المبتعث لدرء المفاسد ورعي المصالح، وسعادة الغادي والرائح، منقذ الناس يوم الفزع الأكبر وقد طاحت بهم أيدي الطّوائح، وهاديهم إلى سواء السبيل بأزمّة النّصائح، ومظفرهم من السعادة الدائمة بأربح البضائع وأسنى المنائح، والرضا عن آله وأصحابه، وعترته وأحزابه، الذين خلفوه أمتثالا لأمر الصّحائف وإعمالا للصّفائح، وكانوا لأمّته من بعده في الابتداء بسنّته والمحافظة على سننه كالنّجوم اللوائح، والدعاء لسلطانكم الأسمى، بالسّعد الذي يغنى بوثاقة سببه، ووضوح مذهبه، عن زجر البارح والسانح (1)، والعزّ البعيد المطارح، السامي المطامح، والصنع الجميل الباهر الملامح ولا زال توفيق الله عائدا على تدبيركم السعيد بالسّعي الناجح، والتّجر الرابح.
فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم من فضله أوفر الأقسام وأوفاها، وأوردكم من موارد عنايته أعذب الجمام وأصفاها، كما أسبغ عليكم أثواب المواهب وأضفاها. [وأبدى لكم وجوه اللطائف الجميلة وأحفاها] (2) من حمراء غرناطة حرسها الله وفضل الله هامية ديمه، وعوائد اللّطف يصلها فضله وكرمه، والإسلام بهذا الثغر الجهاديّ مرعيّة ذممه، وجاه النبوّة المحمديّة يعمل بين إرغام العدوّ الكافر، وإهداء المسرّات والبشائر، سيفه وقلمه، والسّرور بما يبلغ من
__________
(1) البارح: الظبي أو الطائر يمر من يمين الرائي الى يساره (والعرب تتشاءم به) أما السانح: فهو الذي يمر من اليسار إلى اليمين (والعرب يتيمنون به). وزجر الطير: أثارها ليتيمّن بسنوحها أو يتشاءم ببروحها. والزجر للطير نوع من الكهانة والعيافة. (انظر اللسان: 4/ 319).
(2) الزيادة من «الريحانة».(7/68)
مزيد سعدكم وميضه خافق علمه، وودّكم ثابت في مواقف الخلوص قدمه.
وقد اتصل بنا ما كان من دخول حضرة بجاية حرسها الله في طاعتكم، وانتظامها في سلك جماعتكم، وانقطاعها إلى عصمتكم، وتمسّكها بأزمّتكم، وعقدكم منها ومن أختها السابقة الذّمام، الخليقة بمزيد الاهتمام، على عقيلتي الأقطار التي لا يجمع بينهما إلا ملك همام، وخليفة إمام، ومن وضحت من سعادته أحكام، وشهّرت بعناية الله له أدلّة واضحة وأعلام، ومن جمع الله له بين البرّ المتراكض الخيول، والجيش المتدافع السّيول، والخصب الذي تنضي مواجده (1)
المستنجزة ظهور الخيول، وبين البحر الشهير بنجدة الأسطول، وإنجاز وعد النصر الممطول، ومرسى السّفن التي تخوض أحشاء البحار، وتجلب مرافق الأمطار والأقطار، وتتحف على النّأي بطرف الأخبار.
بجاية وما بجاية دار الملك الأصيل العتيق وكرسيّ العزّ الوثيق، والعدّة، إذا توقّعت الشّدّة، كم ثبتت على الزّلزال، وصابرت مواقف النّزال، أمطاكم السّعد صهوتها، وأحلّكم التوفيق ربوتها، من غير مطاولة حصار، ولا استنفاد ذي وسع واقتدار، ولا تسوّر جدار، فأصبحت دولتكم السعيدة تتفيّأ [جنى الجنّتين، وتختال في حلّتين، وتجمع بفتيا] (2) السيوف المالكيّة بين هاتين الأختين أوزعكم الله شكرها من نعمة جلّت مواهبها، ووضحت مذاهبها، وصنيعة بهرت عجائبها. وإذا كانت عقائل النّعم (3) تخطب أكفاءها، وموارد المنن تعرض على الورّاد صفاءها، فأنتم أهلها الذين لكم تذخر، وبمن دونكم تسخر فإنكم تميزتم بخصال العفاف والبسالة، والحسب والجلالة، وأصبحتم في بيتكم صدرا، وفي هالة قومكم بدرا، مواقفكم شهيرة، وسيرتكم في الفضل لا تفضلها سيرة، ونحن
__________
(1) أنضى الدابة: هزلها وأتعبها. والمواجد: جمع الوجد، وهو اليسار والسعة والكثرة. وفي التنزيل العزيز: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}.
(2) الزيادة من «ريحانة الكتاب».
(3) العقائل: جمع عقيلة، وهي في الأصل السيدة المخدّرة والزوجة الكريمة الحسب والنسب. وعقائل النعم (بالنون المشددة المفتوحة): أي كرام الإبل.(7/69)
نهنّئكم بما منحكم الله من انفساح الإياله، ونموّ الجلاله، والنّعم المنثاله، بسلطان ألقى عنانه إلى مثلكم قد اختار لقياده، وارتاد فسعد في ارتياده وتكفّل الحزم بحفظ بلاده، وصون طارفه وتلاده (1) وكأنّ به قد استولى على آماده، وتطاول لإرث أجداده. ولنا فيكم علم الله ودّ [تأسّس بناؤه، وكرمت أبناؤه] (2) وحبّ وجب بالشرع إنفاذه إليكم وإنهاؤه. وغرضنا الذي نؤثره على الأغراض والمقاصد، ونقدّمه بمقتضى الخلوص الذي زكت منه الشّواهد، أن تتصل بيننا وبينكم المخاطبة، وتتعاقب المواصلة والمكاتبة، والله عزّ وجلّ المعين على ما يجب لودّكم من برّ تكفل واجبه، وتوضّح مذاهبه، واعتقاد جميل يتساوى شاهده وغائبه، وهو سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام الكريم يخصّكم ورحمة الله وبركاته.
الصنف الثاني (ما يكتب به إلى الرّعايا)
والحكم فيه على نحو ما تقدّم في الصّنف الذي قبله، إلا أنه يخاطبهم بأوليائنا.
كما كتب ابن الخطيب عن ابن الأحمر أيضا إلى بعض رعاياه بمدينة المريّة بالأندلس، بالبشارة بموت الطاغية ملك قشتالة بجبل الفتح، ورحيل قومه به إلى بلادهم ما صورته:
من الأمير عبد الله يوسف، ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل ابن فرج بن نصر أيّد الله أمره، وأعز نصره، وأسعد عصره إلى أوليائنا في الله تعالى الذين نبادر إليهم بالبشائر السافرة الغرر، ونجلو عليهم وجوه الصنائع الإلهيّة كريمة الخبر والخبر، ونعلم ما لهم من الودّ الكريم الأثر: القائد بالمريّة، والقاضي بها، والفقهاء، والأشياخ، والوزراء والأمراء والكافّة والدّهماء (3) من
__________
(1) طارفه وتلاده: جديده وقديمه.
(2) الدهماء: عامة الناس وسوادهم.
(3) الدهماء: عامة الناس وسوادهم.(7/70)
أهلها، عرّفهم الله عوارف الأداء، وأوزعهم شكر نعمة هذا الفتح الرّبّانيّ الذي تفتّحت له أبواب السماء، وأنشرت (1) معجزاته ميّت الرجاء في هذه الأرجاء. سلام كريم، طيب برّ عميم، تنشق منه نفحات الفرج، عاطرة الأرج، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله فاتح أبواب الأمل بعد استغلاقها، ومتدارك هذه الأمة المحمديّة بالصّنع الذي تجلّى لها ملء أحداقها، والرحمة التي مدّت على النّفوس والأموال، والحرمات والأحوال، ضافي رواقها، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي دعوته هي العروة الوثقى لمن تمسك باعتلاقها (2)، وأقام على ميثاقها، ذي المعجزات التي بهرت العقول بائتلاقها، الذي لم ترعه في الله الشدائد على اشتداد وثاقها، وفظاعة مذاقها، حتّى بلغت كلمة الله ما شاءت من انتظامها واتّساقها، والرضا عن آله وصحبه، وعترته وحزبه الفائزين في ميدان الدنيا والدين بخصل (3) سباقها. فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم شكرا لنعمه، ومعرفة بمواقع كرمه، من حمراء غرناطة حرسها الله ولا زائد بفضل الله سبحانه إلا ما أمّن الأرجاء ومهّدها، وأنشأ معالم الإسلام وجدّدها، وأسّس أركان الدين الحنيف وأقام أودها، وأنتم الأولياء الذين نعلم منهم خلوص الأهواء، ونتحقّق ما عندهم من الخلوص والصّفاء. وإلى هذا فقد علمتم ما كانت الحال آلت إليه من ضيقة البلاد والعباد بهذا الطاغية الذي جرى في ميدان الأمل جري الجموح، ودارت عليه خمرة النّخوة والخيلاء مع الغبوق والصّبوح، حتّى طفح بسكر اغتراره، ومحّص المسلمون على يديه بالوقائع التي تجاوز منتهى مقداره، وتوجّهت إلى استئصال الكلمة مطامع أفكاره، ووثق بأنّه [يطفيء] (4) نور الله
__________
(1) أنشر الله الموتى، ونشرهم: احياهم بعد موتهم، ومنه النّشور.
(2) اعتلاقها: حبها. من اعتلقه واعتلق به: أحبه حبا شديدا.
(3) خصل الهدف خصلا: أصابه.
(4) الزيادة من «ريحانة الكتاب».(7/71)
بناره، ونازل جبل الفتح فشدّ مخنق حصاره، وأدار أشياعه في البرّ والبحر دور السّوار على أسواره، وانتهز الفرصة بانقطاع الأسباب، وانبهام الأبواب، والأمور التي لم تجر للمسلمين بالعدوتين على مألوف الحساب وتكالب التثليث على التوحيد، وساءت الظّنون في هذا القطر الوحيد، المنقطع بين الأمم الكافرة، والبحور الزاخرة، والمرام البعيد. وإننا صابرنا بالله تيّار سيله، واستضأنا بنور التوكّل عليه في جنح هذا الخطب ودجنّة ليله، ولجأنا إلى من بيده نواصي الخلائق، واعتلقنا من حبله المتين بأوثق العلائق، وفسّحنا مجال الأمل في ذلك الميدان المتضايق وأخلصنا لله مقيل العثار، ومولى أولي الاضطرار، قلوبنا، ورفعنا إليه أمرنا، ووقفنا عليه مطلوبنا، ولم نقصّر ذلك في إبرام العزم واستشعار الحزم، وإمداد الثّغور بأقصى الإمكان، وبعث الجيوش إلى ما يلينا من بلاده على الأحيان فرحم الله انقطاعنا إلى كرمه، حين لجأنا إلى حرمه، فجلا بفضله سبحانه ظلام الشّدّة، ومدّ على الحريم والأطفال ظلال رحمته الممتدّة، وعرّفنا عوارف الصّنع الذي قدم به العهد على طول المدّة، ورماه بجيش من جيوش قدرته أغنى عن إيجاف الرّكاب، واحتشاد الأحزاب، وأظهر فينا قدرة ملكه عند انقطاع الأسباب، واستخلص العباد والبلاد من بين الظّفر والناب فقد كان سدّ المجاز بأساطيله، وكاثر كلمة الحقّ بأباطيله، ورمى الجزيرة الأندلسيّة بشؤبوب شرّه، وصيّرها فريسة بين غربان بحره وعقبان برّه، فلم يخلص إلى المسلمين من إخوانهم مرفقة إلا على الخطر الشديد، والإفلات من يد العدوّ العنيد، مع توفّر العزائم والحمد لله على العمل الحميد، والسعي فيما يعود على الدّين بالتأييد.
وبينما شفقتنا على جبل الفتح تقيم وتقعد، وكلب الأعداء عليه يبرق ويرعد، واليأس والرجاء خصمان هذا يقرّب وهذا يبعد، إذ طلع علينا البشير بانفراج الأزمة، وحلّ تلك العزمة (1)، وموت شاة (2) تلك الرّقعة، وإبقاء الله على
__________
(1) العزمة بفتح العين مثل العزم وهو الصبر والجدّ. ومن معانيها أيضا: الحق والواجب يقال: هذا عزمة من غرمات الله، أي حق من حقوقه. ولا نجد هذه المعاني مناسبة هنا. ولعل المراد «العزمة» بضم العين وهي الجماعة والأسرة والقبيلة.
(2) لعل المراد: «شاه تلك الرقعة» وليس بالتاء المربوطة. والشاه: الملك (فارسية) ومنه الشاه المستعمل في رقعة الشطرنج. والإشارة إلى موت ملك قشتالة في تلك المعركة كما تقدّم.(7/72)
تلك البقعة وأنه سبحانه أخذ الطاغية أكمل ما كان اغترارا، وأعظم أنصارا وزلزل أرض عزّه وقد أصابت قرارا وأنّ شهاب سعده أصبح آفلا، وعلم كبره انقلب سافلا وأن من بيده ملكوت السموات والأرض طرقه بحتفه، وأهلكه برغم أنفه وأن محلّته عاجلها التّباب والتّبار (1)، وعاثت في منازله النار، وتمخّض عن سوء عاقبته الليل والنّهار، وأن حماتها يخربون بيوتهم بأيديهم، وينادي بشتات الشّمل لسان مناديهم، وتلاحق بنا الفرسان من جبل الفتح: المعقل الذي عليه من عناية الله رواق مضروب، والرّباط الذي من حاربه فهو المحروب، فأخبرت بانفراج الضيّق، وارتفاع العائق لها عن الطّريق، وبرء الداء الذي أشرق بالرّيق.
وأن النصارى دمّرهم الله جدّت في ارتحالها، وأسرعت بجيفة طاغيتها إلى سوء مآلها، وسمحت [للسّهب] (2) والنّهب والنار بأسلابها وأموالها فبهرنا هذا الصّنع الإلهيّ الذي مهّد الأقطار بعد رجفانها، وأنام العيون بعد سهاد أجفانها، وسألنا الله أن يعيننا على شكر هذه النّعمة التي إن سلّطت عليها قوى البشر فضحتها ورجحتها، أو قيست بالنعم فضلتها ورأينا سرّ اللطائف الخفيّة كيف سريانه في الوجود، وشاهدنا بالعيان أنوار اللطف الإلهيّ والجود، وقلنا إنما هو الفتح الأوّل شفع بثان، وقواعد الدين الحنيف أيّدت من صنع الله ببيان.
اللهم لك الحمد على نعمك الباطنة والظاهرة، ومننك الوافرة، أنت وليّنا في الدنيا والآخرة وأمرنا للحين فقلّدت لبّات (3) المنابر بهذا الخبر، وجلّيت في جماعات المسلمين وجوه هذا الفتح الرائق بالغرر وعجّلنا تعريفكم به ساعة
__________
(1) التّباب والتّبار: الهلاك.
(2) الزيادة من «ريحانة الكتاب». وسهبه سهبا: أخذه.
(3) اللّبّة في الأصل موضع القلادة من العنق، وقد استعارها للمنابر.(7/73)
استجلائه، وتحقّق أنبائه، لتسحبوا له أثواب الجذل ضافية، وتردوا به موارد الأمل صافية فإنما هو ستر الله شمل أنفسكم وحريمكم، وأمانه كفل ظاعنكم ومقيمكم، فقرّطوا به الآذان [وبشّروا به الإقامة والأذان] (1) وتملّوا بالعيش في ظلّه، وواظبوا حمد الله وليّ الحمد وأهله، وانشروا فوق أعواد المنابر من خطابه راية ميمونة الطائر، واجعلوا هذه البشارة سجلّا في فرقان البشائر فشكر الله سبحانه يستدعي المزيد من نعمه، ويضمن اتّصال كرمه، وعرّفوا بذلك من يليكم من الرعيّة ليأخذ مثل أخذكم، ويلحظ هذا الأمر بمثل لحظكم، فحقيق عليكم أن تشيدوا بهذا الخبر في الحاضر والباد، وتجعلوا يوم عاشوراء الذي تجلّى فيه هذا الصّنع ثالث الأعياد، والله سبحانه يجعله للمسرّات عنوانا ويطلع علينا وعليكم وجوه صنعه غرّا حسانا، والسلام الكريم يخصّكم ورحمة الله وبركاته.
الأسلوب الثالث (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أما بعد»)
والرسم فيه أن يقال أما بعد حمد الله، أو أما بعد فالحمد لله، ويؤتى بخطبة.
ثم يقال: فإنا كتبناه إليكم من موضع كذا كتب الله لكم كذا وكذا ثم يتخلّص إلى المقصود ويؤتى عليه إلى آخره، ويختم بالدعاء ثم بالسلام.
كما كتب ابن الخطيب عن ابن الأحمر من الأندلس.
أما بعد حمد الله محسن العواقب، ومخلّد المناقب، ومعلي المراقي في درج عليّة المراقب، ومسخّر النجم الثاقب، في الغسق الواقب (2)، والكفيل بالحسنى للمتوكّل عليه المراقب، ناسخ التمحيص، بالعناية والتخصيص، لتظهر حكمة المثيب والمعاقب.
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الماحي الحاشر العاقب، ذي القدر المسامي للزّهر المصاقب.
__________
(1) الزيادة من «ريحانة الكتاب».
(2) في التنزيل العزيز {وَمِنْ شَرِّ غََاسِقٍ إِذََا وَقَبَ}: الليل إذا دخل وانتشر.(7/74)
والرضا عن آله الذين كانوا في سماء ملّته لهداية أمته كالشّهب الثّواقب، فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم توالي المواهب، ووضوح المذاهب، ووقوف الدهر لديكم موقف الثائب من القدح النائب، ووالى لديكم مفاتحة الكتب المهنّئة بفتوح الكتائب من حمراء غرناطة حرسها الله وفضل الله بتعرّف صنعه لكم هامي السّحائب، وكفيل بنيل الرغائب والسرور بما سناه الله لكم من استقامة أحوالكم شأن الشاهد والغائب، والرائح والآئب.
والحمد لله على ما توالى من الألطاف والعجائب. وقد وصل كتابكم الذي أكّد السّرور وأصّله، وأجمل مقتضى البشرى وفصّله، ونظّم خبر الفتح ووصّله، وراش سهم السّعادة والسّداد والعناية والإمداد، ونصّله (1)، وأحرز حظّ السعادة وحصّله، تعرفون ما أتاح لكم اللطيف الخبير، والوليّ النصير، من الصّنع الذي اتّسق نظامه، والنصر الذي سنّت في أمّ الكتاب أحكامه، والعز الذي خفقت أعلامه، والتوفيق الذي قرطست الغرض (2) سهامه، وأنكم من بعد الكائنة التي راش (3) لطف الله بها وجبر، وأحسن الخير وأدال الخبر، وجعل العاقبة الحسنى لمن صبر، جهزتم الجيوش المختارة، والعساكر الجرّارة، يقودها الخلصان من الوزراء، وتتقدّم رايتها ميامن الآراء، فكتب الله ثبات أقدامها، وتولّى نصر أعلامها ولم يكن إلا أن حمي وطيس النّزال، ورجفت الأرض لهول الزّلزال، وتعوطيت كؤوس الآجال، في ضنك المجال ودجا القتام (4)، وتوهّم مع فضل الله الاغتنام، وعبس الوجه العبّاس وضحك النّصل البسّام، وأورد الخيل موارد الطّعان الإقدام، فكان لحزبكم الظهور الذي حكّم المهنّدة في الرّقاب، والسّمر الطّوال في الثّغر ثم في الأعقاب، وبشّرت برؤية هلال الفتح عيون الارتقاب، وحطّ عن
__________
(1) راش السهم ونصّله: جعل فيه ريشا وله نصلا.
(2) قرطست الغرض: أصابته. والقرطاس: الصحيفة، وكل ما ينصب للنضال وهو الغرض. يقال: رمى فقرطس.
(3) راش هنا: بمعنى أعان.
(4) القتام: الغبار الأسود.(7/75)
وجه الصنع الجميل ما ران من النّقاب، وأن من بغى عليكم حسب ما قرّرتم، وعلى نحو ما أجملتم وفسّرتم، من شيوخ الغرب المجلبة، ووجوه الخدم المنتمية إلى حسن العهد المنتسبة تحصّل في حكم استرقاقكم، وتحت شدّ وثاقكم وربما أسفر المكروه عن المحبوب، وانجلى المرهوب عن المرغوب، والله مقلّب القلوب وشيمتكم في ائتلاف النافر، والأخذ من فضل العفو بالحظّ الوافر، كفيل لكم بالصّنع السافر والله يحملكم على ما فيه رضاه، ويخير لكم فيما قضاه فسررنا بما اتّصل لكم من الصّنع واطّرد، ورحّبنا بهذا الوارد الكريم الذي ورد، وشكرنا فضلكم في التعريف بخبره المودود، والشرح لمقامه المحمود وكتبنا نهنّئكم به هناء مشفوعا، وبالدعاء لكم متبوعا، والله يطلع من توالي مسرّتكم على ما يبسط الآمال وينجح الأعمال، ويفسح في السد المجال. والذي عندنا من ودّكم أعظم من استيفائه بالمقال، أو نهوض اليراع بوظائفه الثّقال يعلم ذلك عالم الخفيّات، والمجازي بالنّيّات، سبحانه. والله يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الطّرف الثاني عشر (في الكتب الصادرة عن وزراء الخلفاء المنفّذين أمور الخلافة اللاحقين بشأو الملوك، وفيه جملتان)
الجملة الأولى (في الكتب الصادرة عن وزراء خلفاء بني العبّاس ببغداد ووزراء ملوكها يومئذ)
أما وزراء إقطاعاتها، فقد ذكر أبو جعفر النحاس في «صناعة الكتّاب» (1)
__________
(1) أبو جعفر النحاس هو أحمد بن اسماعيل بن يونس المرادي المصري النحوي. المتوفى سنة 338 هـ. وذكر ابن خلكان كتابه باسم: «أدب الكتاب». (وفيات الأعيان: 1/ 10099).(7/76)
أن المكاتبة من الوزير إلى الخليفة في زمانه كانت: «أطال الله بقاء أمير المؤمنين وأعزّه وأيّده وأتمّ نعمته عليه، وأدام كرامته له».
قال ابن حاجب النعمان (1) في «ذخيرة الكتاب»: وإن كانت المكاتبة من الوزير إلى من دونه فدعاؤه له: «أطال الله بقاءك وأدام تأييدك وتمهيدك وكرامتك». ودونه «أطال الله بقاءك وأدام عزّك وحراستك». قال: وعلى مقدار المكاتب يكون الدعاء. وأقسامه كثيرة. ثم ذكر الأدعية العامّة بعد ذلك على الترتيب فقال: إن أعلاها يومئذ «أطال الله بقاءه وأدام تمكينه ورفعته وبسطته وعلوّه وسمّوه، وكبت أعداءه وحسدته». ودونه «أطال الله بقاءه، وأدام تمكينه وارتقاه، ورفعته وسناه، وتمهيده وكبت أعداه». ودونه «أطال الله بقاه وأدام تأييده ونعماه وكبت أعداه». ودونه «أطال الله بقاه وأدام تأييده وحرس حوباه» (2) ودونه «أطال الله بقاه، وأدام تأييده ونعماه». ودونه «أطال الله بقاءه وأدام نعماءه».
ودونه «أطال الله بقاءه وأدام عزّه». ودونه «أطال الله بقاءه وأدام توفيقه وتسديده». ودونه «أطال الله بقاءه وأدام سداده وإرشاده». ودونه «أطال الله بقاءه وأدام حراسته». ودونه «أدام الله تأييده وتمهيده». ودونه «أدام الله توفيقه وتسديده». ودونه «أدام الله عزّه وسناه». ودونه «أدام الله عزّه». ودونه «أدام الله حراسته». ودونه «أدام الله كرامته». ودونه «أدام الله سلامته». ودونه «أدام الله رعايته». ودونه «أدام الله كفايته». ودونه «أبقاه الله». ودونه «حفظه الله» ودونه «أعزّه الله». ودونه «أيده الله». ودونه «حرسه الله».
ودونه «أكرمه الله» ودونه «وفّقه الله». ودونه «سلّمه الله». ودونه «رعاه الله». ودونه «عافاه الله».
__________
(1) هو عبد العزيز بن إبراهيم بن بيان بن داوود، المعروف بابن حاجب النعمان: أديب بغدادي. قال الخطيب في ترجمته: «كان أحد الكتاب الحذاق بصناعة الكتابة وأمور الدواوين» توفي سنة 351 هـ. (الأعلام: 4/ 12).
(2) الحوباء: النفس. والجمع: حوباوات.(7/77)
ثم المكاتبات الصادرة عنهم على أسلوبين:
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابي»)
والرسم فيه أن يقال كتابي أطال الله بقاء سيدي، أو بقاء مولانا والأمر على كذا وكذا، ومولانا أمير المؤمنين، أو والجانب الأشرف ونحو ذلك على حال كذا ثم يتخلّص إلى المقصد بعد ذلك بما يقتضيه المقام ويختم بقوله ورأي حضرة سيدنا أعلى.
كما كتب بعض الكتّاب عن الوزير قوام الدين بن صدقة (1) إلى بعض وزراء ملوك زمانه في معنى أمير مكة المشرّفة، وما كان بينه وبين أمير الحاجّ في بعض السّنين ما صورته:
كتابي أطال الله بقاء حضرة سيدنا ومواهب الله سبحانه في أمر مولانا أمير المؤمنين جارية على الإرادة، مقابلة بالشكر المؤذن لها بالدوام والزّيادة والحمد لله ربّ العالمين. وقد تتابعت المكاتبات في أمر النّوبة (2) المكيّة تتابعا علمه السامي به محيط، والعذر في الإضجار بها مع إنعام النظر بسببها مبسوط وبعد ما صدر آنفا في المعنى المذكور وصل كتاب زعيم مكّة بما نفذ على جهته ليعلم منه ومما لا ريب أنه أصدره إلى الدّيوان العالي السلطاني أعلاه الله حقائق الأحوال بغير شكّ: أنه قد اتضح تفريط من فرط (3) في هذه النوبة وعجل، وتحقّق
__________
(1) لم نعثر على ابن صدقة الوزير الذي لقبه «قوام الدين». وقد جاء في دائرة المعارف الإسلامية أن ابن صدقة اسم يطلق على ثلاثة وزراء، هم: جلال الدين، عميد الدولة، أبو علي الحسن بن علي:
وزير المسترشد. ولي الوزراة عام 513هـ. وتوفي في رجب عام 522هـ. والثاني: جلال الدين، أبو الرضا محمد: ابن أخي صاحب الترجمة السابقة وزير الراشد، ولي الوزارة عام 529هـ وتوفي عام 556هـ. والثالث: مؤتمن الدولة أبو القاسم علي: وزير المقتضي. (انظر دائرة المعارف الإسلامية: 1/ 326والأعلام: 2/ 202و 5/ 317ووفيات الأعيان: 4/ 64).
(2) النوبة: الجماعة من الناس. والمراد هنا مجموع الحجيج يأتون من بلد واحد.
(3) فرط: أسرع.(7/78)
المثل السائر «ربّ واثق خجل» وأسباب ثمرة الهوى الذي ما زال يجمح براكبه، ويريه سوء عواقبه وعلم أنه لم يخط فيما شرع فيه، واستمرّت على الخطأ أواخره ومباديه، إلا بوعد أخلف، ومال أتلف وخطر ارتكب، وصواب تنكّب، وحزم أضيع، وهوّى أطيع، حتّى كان قصاراه، دفع اللائمة عنه، فإنه أوصل الحجيج إلى مقصودهم وأعادهم، وأحسن التواصل حتّى أدركوا من أداء الفريضة مرادهم وهل اعترض دون هذا الأمر مانع، أو كان عنه دافع؟ لولا ما صوّره من الأسباب التي أفسد بها الأمور، وأوغر بمكانها الصّدور، وكفل بعد ما قرّره من ذلك ومهّده، ما عكسه سفه الرأي عليه، وأبعده العجز عن الوصول إليه وأيّ عذر في هذا المقام يستمع؟ أم أيّ لائمة عنه تندفع؟ وقد جرت الحال على ما علم، وتحدّث بانخراق حجاب الهيبة كلّ لسان ناطق وفم، ووقع الاتفاق من كافّة الحاجّ على أن تمسّك نائب مكة بطلب الرّضا، وتكفيل خصمه باستدراك ما تلف من التفريط في معايشه ومضى، ونظره في العاقبة التي ينظر فيها ذوو الألباب، وعمله بما أصدره الديوان العزيز من مكاتبة أمر فيها بالطاعة وخطاب وهو الذي لأم النوبة وشعبها، وسهّل عسيرها ومستصعبها ولو افتقرت إلى سعي أمير الحاجّ واجتهاده وإبراقه بعسكره وإرعاده، لكان الحجّ ممتنعا والخطر العظيم متوقّعا، ولم يحصل الوفد إلا على التغرير بالنفوس، والجود منها بكل مضنون به منفوس ثم عرب الطريق الذي ما زال أمير الحاجّ في حقّهم خاطبا، ولإكرامهم بالقول المتكرّر طالبا، وجاعلا ما لعله يتأخّر من رسم أحدهم من دواعي الخطر في سلوك [الطريق] (1)
المردية، وموجبات الفساد في المناهل والأدوية، يتلو من النّهب والاجتياح، والأذى العائد على فاعله بالاقتراف العظيم الوزر والاجتراح، بما يؤلم شجاعة القلوب ويحرّقها، ويبكي العيون ويؤرّقها ولقد انتهى أن العسكر المنفّذ أمامه كان يتنقّل في هضاب البرّيّة وغيطانها، وينقّب عن منازل العرب وأوطانها، فيستقري أحياءهم حيّا فحيّا، ويتخلّل الفجاج فجّا ففجّا، فإذا شارفوا قبيلة منهم طلب النجاة منهم بالحشاشات (2) رجالها، وأسلمت إليهم نساؤها وأطفالها
__________
(1) الزيادة عن الطبعة الأميرية.
(2) الحشاشة: بقية الروح في المريض.(7/79)
وأموالها فيتحكّمون في ذلك تحكّم من استحلّ موقفه في إباحة محارم الله ومقامه، وأمن مكره الحائق بالظالمين وانتقامه ويستبيحون حريم كلّ بريء غافل لم يقارف ذنبا، وطائع لا يستحقّ غارة ولا نهبا فأين كان [من] (1) النظر عند هذا الفعل في حفظ عرب الطريق؟ وكيف عزب عنه في هذا الرأي منهج التوفيق؟ وهل تتصوّر الثّقة بكل قبائل العرب عن إفساد الآبار والمصانع؟ والعبث بكل مستطاع في المناهل والمشارع، خاصّة إذا علموا أن الذي ظلمهم، واباح حرمهم، هو السالك للطريق آنفا، والمتمكّن فيهم من معاودة الأذى الذي أضحى كلّ به عارفا، واستدراك الفارط في هذا الأمر المهمّ متعين، ووجه الرأي فيه واضح متبيّن، والإشارة في كتاب زعيم مكة، إلى ما جرى من المعاهدة واستقرّت القاعدة عليه [من] (2) إعادة ارتفاعه المأخوذ ورسومه على التمام والكمال إليه، أدلّ الأدلّة على بعد النوبة من الالتئام، ودخول الخلل عليها وانحلال النّظام، وتعذّر الحجّ في المستقبل. على أن من أفسدها، لم يتأمّل لنفسه طريق الصّدر حين أوردها والألمعيّة السامية المعزّيّة حرس الله عزّها اللامحة ببديهتها العواقب، المستشفعة سرائرها بالرأي الثاقب، أهدى إلى تدبيرها بما يستدرك الفارط (3)، ويتلافى غلط الغالط، ويعيد الأحوال إلى جدد (4) الصلاح وسننه، ويجريها على أجمل قانون مألوف وأحسنه، وما أولاه بالتقديم في هذا المهمّ الذي لا أحق منه بالاهتمام والجدّ الصادق التام، بما تطمئنّ به النفوس إلى صلاحه وانتظامه، وارتفاع كلّ مخشيّ من الخلل الداخل عليه وانحسامه، والإعلام في الجواب بما يقع السكون إلى معرفته، ويحصل الأنس والشكر في مقابلته ورأي حضرة سيدنا أعلى إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الزيادة عن الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة عن الطبعة الأميرية.
(3) الفارط: السابق المتقدم.
(4) الجدد: الأرض المستوية. وفي المثل: «من سلك الجدد أمن العثار».(7/80)
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإصدار)
مثل أن يقال: أصدرت هذه المكاتبة، أو هذه الجملة، والأمر على كذا وكذا، بعد أن يدعى للمكتوب إليه بعد لفظ الإصدار، ثم يتخلّص إلى المقصود بما يليق بالمقام، ويؤتى على القصد إلى آخره، ويختم بقوله: ورأي حضرة سيدنا أعلى.
كما كتب عن الوزير قوام الدين بن صدقة أيضا إلى ملك سمرقند جوابا عن كتاب وصل منه إليه:
أصدرت هذه الجملة (1) أطال الله بقاء حضرة مولانا ومواهب الله سبحانه في الجناب الأشرف لا زالت مطالع سعوده منيرة، وأعواد علائه مورقة نضيرة آهلة الرّبوع، عذبة الينبوع، قارّة لا يظعن ركبها، دارّة لا يعز حلبها (2) والحمد لله رب العالمين.
ووصل كتابه، أدام الله علوّه، الصادر على يد الشيخ الأجلّ العالم أبي الحسن بن علبك ووقفت عليه وعرفت فحواه، وتضاعف الشكر لله سبحانه بما حواه، من اطّراد الأمور واتّساقها، وطلوع شمس النّجح في سماء مباغية وإشراقها، وأحدث ابتهاجا بوروده متوفّرا، واغتباطا بما أولاه جلّت آلاؤه من صنعه الذي أصبح ذنب الأيّام معه مغتفرا، وعرضت خدمته المقترنة به على مجالس العرض الشريفة قدّسها الله مشفوعة بذكر ما لبيته الكريم وسلفه الزاكى الأرومة من المآثر التي أضحى بها في الفخر علما، وعلى ناصية المجد محتويا محتكما، في ضمن إيضاح المحاسن التي أصبح أيّد الله سموّه بها منفردا، ولنجاد المحامد بحسبها مقلّدا، والمواقف في الطاعة الإمامية التي أصبحت غرّة في جبهة الزمان،
__________
(1) تارة يعبر بالجملة وتارة بالخدمة.
(2) الحلب: اللبن (تسمية بالمصدر).(7/81)
ولم يسع في مثلها لغيره قدمان، وانتهت في تمكين القواعد وتوطيدها، وتأكيد الأحوال وتمهيدها، والتجرّد في تحصيل الأرب، وتيسير المطلب، إلى ما يوجبه الودّ المحصف (1) الأمراس، والمصافاة الخالصة من الشوائب والأدناس فآنست في مقابلة ذلك من الالتفات إلى ما أوردته مما يبيّن عن لطف مكاتبته بالموقف الأشرف ويعرب، ويصفو مورد الفخار بمثله ويعذب، وجدّد من التشريف والزيادة فيه ما يؤفي على الذي تقدّمه قدرا، ويجلّ طوقه عن أن يرضى عمرا، وشفع ذلك بتنفيذ التشريفات لولده أيّد الله علوّه والمطيفين بحضرته، واللائذين بحوزته، وابتدائهم بالإحسان والإنعام، والتّكرمة الموفية على المرام، إكبارا لشأنه، وإبانة عن محلّه من الآراء الشريفة ومكانه، وإيثارا لإعظام أمره، وإعلاء قدره، ليعلم أيد الله علوّه مكان التجرّد في هذه الحال، وصدق السعي الذي افترّت ثغوره عن نجح الآمال، وأرجو أن يصادف حسن المقام في ذلك عنده موقعه، ويلقى لديه اعترافا يوافق مرآه مسمعه.
فأما الإشارة إلى المشار إليه في التوزّع لتلك الهنات الجارية، التي ما زالت الأيام بمثلها جائية، والاستبشار بزوال ما عرض واضمحلاله، وعود الرأي الأشرف إلى أكمل أحواله، وقد عرفها بمزيد الاعتداد والشكر قائلها، ولم يكن الذي جرى مما يشعّب فكرا، أو يتوزّع سرّا، فإن الاعتداد الأشرف كان بحمد الله محفوظا، والاجتهاد في الخدمة بعين الاعتراف والرضا ملحوظا، لم تحله حال متجدّده، ولا رتعت الحوادث مورده وما زالت ثغور الأيّام في كل وقت عن الزيادة باسمه، وسحبه بنجح اشتطاط (2) الآمال ساجمه، والمندوب لتحمّل المثال وما يقترن به من التشريف فلان، وهو من أعيان العلماء، ومن له في ميدان السبق شأو القرناء وله في الدار العزيزة مجّدها الله الخدمة الوافية، والمكانة الوافرة، وما زالت مذاهبه في خدمه حميدة، ومقاصده على تقلّب الحالات مرضيّة سديدة
__________
(1) استحصف الشيء: جاد واستحكم. يقال: استحصف الحبل، واستحصف الرأي ورأي حصيف.
(2) الشطط والاشتطاط: البعد والمبالغة.(7/82)
وجدير بتلك الألمعيّة الثاقبة أن تتلقّى ما يورده بالإصغاء، وتقابل النّعم المسداة إليه بالشكر الماطر الأنواء، وتوقظ ناظر اهتمامه للنّهوض بأعباء الخدمة الإماميّة، وحيازة المراضي المكرّمة النبويّة، وتمهي (1) عزيمتها فيما يكون بالإحماد الأشرف محظيا، ولأمثال هذا العرف المصنوع مستدعيا، ولرأي حضرة سيدنا في ذلك علوّ رأي إن شاء الله تعالى.
الجملة الثانية (في الكتب الصادرة عن وزراء خلفاء الفاطميين بالديار المصرية)
فقد ذكر عليّ بن خلف من كتّاب دولتهم في كتابه «موادّ البيان» (2) أنه إذا كانت المكاتبة من الوزير إلى من دونه، تكون بغير تصدير إلا أن الخطاب فيها يجب أن يبنى على أقدار المخاطبين في مراتبهم في الدولة، ولم يزد على ذلك.
والذي وقفت عليه منه أسلوب واحد: وهو أن يفتتح الكتاب بلفظ «كتابنا والأمر على كذا» ويتعرّض فيه لذكر حال الخلافة والخليفة، ثم يتخلّص إلى المقصود بما يقتضيه الحال، ويؤتى عليه إلى آخره، ويختم بالدعاء.
كما كتب القاضي الفاضل عن بعض وزراء العاضد: آخر خلفائهم إلى بعض الملوك ما صورته:
كتابنا أطال الله بقاء الملك عن مودّة ظاهرة الأسباب، متظاهرة الأنساب، ضافية جلباب الشّباب، وعوائد عوارف لا يتنكّر معروفها، ووفود فوائد لا يتصدّع تأليفها، ومساعي مساعد لا ينقص معروفها ولا ينفض مسوفها (3)
__________
(1) مهى وأمهى العزيمة: شحذها.
(2) في كشف الظنون: «موارد البيان» لأبي الحسن علي بن خلف بن عبد الوهاب الكاتب».
(3) يقال: نفضوا أحلابهم: أي استقصوا عليها في الحلب فلم يدعوا في ضروعها لبنا. والمسوف:
الهائج من الجمال (واللفظ لم نجده إلا عند الفيروز ابادي). «وسوف» عند ابن فارس أصلان:
أحدهما: الشمّ، والثاني: ذهاب المال ومرضه. والمراد على الأرجح هو: لا ينفد خيرها وعطاؤها.(7/83)
وسعادة بالخلافة التي عدق (1) إليه أمرها وأوضح سرّها، وملأ سرائرها وسريرها، وأطلع شمسها وقمرها. بمولانا وسيدنا أمير المؤمنين تتوالى ميامنها، وتتلألأ محاسنها، وتشرف درجاتها، وتتضاعف سعادتها والكلمة قائمة على أصولها، وأمور الخلق جارية على ما هو لها، ونظام الإسلام بسياستها لا يهي، وسياقة الدوام في سعادتها لا تنتهي، والله الموزع شكر هذه المنن، المسؤول في الإنهاض لما نهضت فيه النيّة وقصرت عنه المنن ولم نزل أدام الله إقبال الملك المعظم معظّمين لأمره، عارفين نبل قدره وجليل فخره، مشيدين بجميل ذكره وجزيل نصره، معيدين لما تتهادى الألسن من مستطاب نشره، قارئين من صفحات الأيام ما أمدّها به من بشره، غير مستيمنين لذكر اسمه الكريم إلا بصيامه وشكره، موردين مما هو يبلغه من بارع ضرائبه بالمقامات الشريفة من آثار سلفه ومآثرهم، ومأثور مكارمهم ومفاخرهم، واستناد المكرمات إلى أوّلهم وآخرهم، ومشهور ذبّهم عن الملّة ودفاعهم عن أهل القبلة، وسدادهم في الأمور، وسدادهم الثّغور، وسيادتهم الجمهور، وإستقلالهم بالمشقّات المتقدّمة، وإخمادهم نيران الخطوب المضطرمة، وكفّهم سيول السيوف العرمة، وموالاتهم أمور الدولة العلويّة التي اشتهر بها منهم الأكابر، وورثها كابر عن كابر، وحافظوا منها على سيرة معروف لا ينسخ، وعقد صفاء لا يفسخ، وسريرة صدق تستقرّ في الضمائر وترسخ، وتتوضّح بها غرّة في جباه السبق وتشدخ (2) وتستهدي عند إيراد هذا الذّكر العطر، والثناء المشتهر، من الدعوات الشريفة العاضديّة المعضودة بالنّجح، المتوضّحة عن مثل فلق الصّبح، ما يتهلّل لمساعيه بالميامن المستهلّة، ولمراميه بالإصابة المتصلة، بينه وبين هذه الدولة العالية، والخلافة الحالية، بكتاب منه نهجنا فيه طريقها اللاحب (3)، واستدعينا به إجابته التي تتلقّى بالمراحب وأعلمناه أنّ تمادى الأيام
__________
(1) لم نجد للفظ «عدق» بالدال المهملة معنى مناسبا هنا. والأرجح أنها بالذال المعجمة. وعذق فلانا إلى كذا: نسبه إليه وعذق به: لصق به. والمراد: أوكل إليه أمرها ونسبت إليه. وقد استعمل القلقشندي هذا اللفظ مرارا في الصبح وجميع تلك الاستعمالات تحمل المعنى الذي أشرنا إليه.
(2) شدخت الغرة شدوخا في الوجه: اتسعت.
(3) اللاحب: الواضح.(7/84)
دون المراسلة وتطاولها، وتنقّل الأحوال والدّول وتناقلها، لا يزيد مودّته إلّا استحكام معاقد، وانتظام عقائد، ووفاء مواعد، وصفاء موارد وأنه لا تباعد بين القلوب بغرض المرمى المتباعد، ولا تفرّق المسافات القواصي ما بين النّيات القواصد. فلما تأخرت الإجابة، تقدّمت الاسترابة، وتناجت الظنون المعتلجة، وتراجعت الآراء المختلجة، بأن الرسول عاقته دون المقصد عوائق، وتقسّمته من الأحداث دون الطريق طرائق فلم ترد المكاتبة إلى جنابه، ولا أسعد السعى بطروق جنابه، الذي تنال السعادة وتجنى به، وإلا فلو أنه أمّ له، بلغ ما أمّله، ولو وصله، لأجاب عما أوصله لأن مكارم خلائقه تبعث على التبرّع بالمسنون فكيف بقضاء المفروض، وشرائف طرائقه تأبى للحقوق الواجبة أن تقف لديه وقف المطّرح المرفوض. فجدّدنا هذه المكاتبة مشتملة على ذلك المراد، وفاوضناه بما يعيره الإصغاء، ويجنّبه الإلغاء، ويحسن له الإنصات، ولا يحتاج فيه إلى الوصات (1) ورسمنا أن يكتمه حتّى من لسانه، وأن يطويه حتّى عن جنانه، وأن يتمسك بالأمر النبويّ في استعانته على أمره بكتمانه فمن حسن الحزم سوء الظن، وهل لأرباب الأسرار فرج إلا ما دامت في السجن، وقد استلزمنا المرتهن لما استعظمنا الرهن، وفوّضنا إلى من لا يعترينا فيه الوهم ولا منه الوهن ونحن تحبّبنا بما يعلم به حسن موقع رسالة الاسترسال، وبما يبيّن به عن دلالة الإدلال، وبما يرحّب بمودّته مجال الجمال والله سبحانه يؤيّد الملك بنصر تستخدم له الأقدار، وسعادة لا تتصرّف في تصريفها أحكام الفلك المدار، وإقبال يقابل آراءه وآدابه في فاتحة الورد وعاقبة الإصدار، وعزّ لا يزال منه متوقّلا (2) في درجات الاقتدار إن شاء الله تعالى.
__________
(1) لعلها: «الوصاة» وهي الوصية.
(2) توقّل في الجبل: صعّد فيه.(7/85)
الطرف الثالث عشر (في المكاتبات الصادرة عن الأتباع، إلى الملوك ومن في معناهم وفيه ثلاث جمل)
الجملة الأولى (في المكاتبات الصادرة عن أتباع ملوك الشرق إليهم في الزمن المتقدّم، وهي على أسلوبين)
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بلفظ: «كتابي»)
ويدعى للمكتوب (1) كذا وكذا، ويتخلّص إلى المقصود بما تقتضيه الحال، ويخاطب السلطان في أثناء الكتاب بمولانا أو بمولانا الملك، ويعبّر المكتوب عنه عن نفسه بتاء المتكلم ولفظ الإفراد، ويختم بقوله:
فإن رأى أن يفعل كذا فعل إن شاء الله تعالى. ويدعى للمكتوب إليه بطول البقاء مع التعرّض لذكر الخليفة في أثناء الكتاب.
وهذه نسخة كتاب من هذا الأسلوب، كتب به أبو إسحاق الصابي (2) عن أبي الفضل الشّيرازي: أحد نوّاب بني بويه إلى عضد الدولة بن بويه (3)، في جواب
__________
(1) في الأصل محو ولعله: «ويدعى للمكتوب إليه ثم يقال والأمر على كذا وكذا».
(2) هو إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون الحرّاني: نابغة كتاب جيله. تقلد دواوين الرسائل والمظالم والمعاون تقليدا سلطانيا في أيام المطيع لله العباسي. قلده معز الدولة الديلمي ديوان رسائله سنة 349هـ فخدمه وخدم ابن عمه عز الدولة [بختيار] فكانت تصدر عنه مكاتبات إلى عضد الدولة بما يؤلمه فحقد عليه. ولما ملك عضد الدولة بغداد قبض على الصابيء سنة 367هـ وسجنه وأمر بأخذ أمواله. ولما ولي صمصام الدولة (ابن عضد الدولة) أطلقه. (انظر الأعلام: 1/ 78وابن خلكان: 1/ 5452).
(3) تولى السلطنة سنة 367هـ وخلع عليه الخليفة الطائع الخلع السلطانية وولاه ما وراء بابه. وهو أول من خوطب بالملك في الإسلام. توفي في الثامن من شوال سنة 372هـ. (تاريخ الإسلام:
3/ 4948).(7/86)
كتاب وصل منه إليه، يخبره بفتح خراسان وطاعة صاحبها، وهو:
كتابي أطال الله بقاء مولانا والأمور التي أخدم فيها جارية على السّداد، مستمرّة على الاطراد والنّعم في ذلك خليفة بالتّمام، مؤذنة بالدّوام.
والحمد لله حقّ حمده، وهو المسؤول إطالة بقاء موالينا الأمراء، وحراسة ما خوّلهم من العز والعلاء وأن لا يخليهم من صلاح الشان، وسموّ السلطان وظهور الوليّ، وثبور (1) العدوّ.
ووصل كتاب مولانا [الأمير أطال الله بقاءه] (2) الصادر من معسكره المنصور بكازرين (3)، بتاريخ كذا، مخبرا بشمول السلامة، مبشّرا بعموم الاستقامة، موجبا لشكر ما منح الله من فضله وأعطى، مقتضيا [نشر] (4) ما أسبغ من طوله وأضفى، مشروحا فيه الحال فيما كان يجري من الخلاف بين مولانا الأمير السيد «ركن الدولة» وبين ولاة خراسان، وجهاده إيّاهم في حياطة الدّين، وحماية حريم المسلمين، والدعاء إلى رضا رب العالمين، وطاعة مولانا أمير المؤمنين وتذمّمه مع ذلك من دماء كانت باتّصال الحروب تسفك، وحرمات باستمرار الوقائع تنتهك، وثغور تهمل بعد أن كانت ملحوظة، وحقوق تضاع بعد أن كانت محفوظة وأنه لما جدّدت العزيمة على قصد جرجان ومنازعة ظهير الدولة أبي منصور بن وشمكير مولى أمير المؤمنين [على تلك الأعمال، ودفعه عما ولاه أمير المؤمنين] (5) بوسيلة موالينا الأمراء أدام الله تمكينهم منها ومنازعته ومجاذبته فيها، نهض مولانا [الأمير الجليل عضد الدولة] (6) إلى كرمان على اتفاق كان بين مولانا الأمير السيد ركن الدولة وبينه في التوجّه إلى حدود خراسان، فحين عرف
__________
(1) الثبور: الهلاك.
(2) الزيادة عن الطبعة الأميرية نقلا عن مختارات الصابيء.
(3) في المختارات: «بدارزين». وفي معجم البلدان: «دار رزين: من نواحي سجستان. وقال الرهني: من نواحي كرمان». (معجم البلدان: 2/ 421).
(4) الزيادة عن الطبعة الأميرية نقلا عن مختارات الصابيء.
(5) الزيادة عن الطبعة الأميرية نقلا عن مختارات الصابيء.
(6) الزيادة عن الطبعة الأميرية نقلا عن مختارات الصابيء.(7/87)
القوم الجدّ في ردّهم، والتجريد في صدّهم، وأنه لا مطمع لهم في جنبة (1) إلى طاعة أمير المؤمنين انتسابها، وبذمام سادتنا الأمراء اعتصامها، اتّعظوا واتّزعوا، وعرّجوا ورجعوا سالكين أقصد مسالكهم، منتهجين أرشد مناهجهم، معتمدين أعود الأمور على المسلمين عموما وعليهم خصوصا باجتماع الشّمل، واتّصال الحبل، وأمن السّرب، وعذوبة الشّرب، وسكون الدّهماء، وشمول النّعماء فخطبوا الصّلح والوصلة، وجنحوا إلى طلب السّلم والألفة وأن مولانا [الأمير عضد الدولة] (2) آثر الأحسن واختار الأجمل: فأجاب إلى المرغوب فيه إليه، وتوسّط ما بين الأمير السيد ركن الدولة وبين تلك الجنبة فيه، وتكفّل بتقريره وتمهيده، وتحقّق بتوطيده وتشييده، وأخرج أبا الحسن عابد بن عليّ إلى خراسان حتّى أحكم ذلك وأبرمه، وأمضاه وتمّمه، بمجمع من الشيوخ والصّلحاء، ومشهد من القضاة والفقهاء وأنّ صاحب خراسان عاد على يد مولانا [الأمير عضد الدولة] (3) إلى طاعة مولانا أمير المؤمنين ومشايعته، والإمساك بعلائق ولائه وعصمته وصار وليّا بعد العداوة، وصديقا بعد الوحشة، ومصافيا بعد العناد، ومخالطا بعد الانفراد، وفهمته. وتأمّلت أيد الله مولانا ما في ذلك من ضروب النعم المتشعّبة، وصنوف المنح المتفرّعة، العائدة على الملك بالجمال، وعلى الرعيّة بصلاح الحال الداعية إلى الائتلاف والاتفاق، المزيلة للخلاف والشّقاق فوجدت النفع بها عظيما، والحظّ فيها جسيما، وحمدت الله حقّ حمده عليها، وشكرته أن أجراها على يد أولى الناس بها، وأحقّهم بالمكارم أجمعها، وأن قرّب الله بيمنه [ما كان بعيدا معضلا، ويسّر ببركته] (4) ما كان ممتنعا مشكلا؟ فأصلح ذات البين بعد فسادها، وأخمد نيران الفتن بعد تلهّبها واتّقادها، ووافق ما بين نيّات القلوب، وطابق بين نخائل (5) الصدور، وتحنّت الضلوع بنجح سعيه على
__________
(1) الجنبة: الناحية والموضع.
(2) الزيادة عن الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة عن الطبعة الأميرية.
(4) الزيادة عن الطبعة الأميرية.
(5) النخائل: جمع نخيلة وهي الشيء المنتخل أو الخالص المصفّى. ويقال: بذل له نخيلة قلبه:
خالصه. وهو نخيلة نفسي: خالصي وخيرتي.(7/88)
التّألف، وانضمّت الجوانح بميمون رأيه على التعاطف وحصل له في ذلك من جزيل الأجر، وجميل الذكر وجليل الفخر، وأريج النّشر، ما لا تزال الرّواة تدرسه، والتواريخ تحرسه، والقرون تتوارثه، والأزمان تتداوله والخاصّة تتحلّى بفضله، والعامّة تأوي إلى ظله.
فالحمد لله كثيرا، والشّكر دائما على هذه الآلاء المتواترة، والعطايا المتناصرة، والمفاخر السامية، والمآثر العالية وإيّاه أسأل أن يعرّف مولانا الملك الخيرة فيما ارتآه وأمضاه، والبركة فيما أولاه وأجراه وأن يهنئه نعمه عنده، ويظاهر مواهبه لديه، ويسهّل عليه أسباب الصلاح، ويفتح أمامه أبواب النجاح، ويعكس إلى طاعته الرقاب الآبية، ويذلل لموافقته النفوس النائية ولا يعدمه وموالينا الأمراء أجمعين المنزلة التي يرى معها ملوك الأرض قاطبة التعلّق بحبلهم أمنا، والإمساك بذمامهم حصنا، والانتماء إلى مخالطتهم عزّا، والاعتزاء إلى مواصلتهم حرزا، إنه جل وعزّ على ذلك قدير، وبإجابة هذا الدعاء جدير.
وقد اجتهدت في القيام بحقّ هذه النعمة التي تلزمني، وتأدية فرضها الذي يجب عليّ: من الإشادة بها والإبانة، والإشاعة والإذاعة حتّى اشتهرت في أعماله التي أنا فيها، واستوى خاصّتها وعامّتها في الوقوف عليها، وانشرحت صدور الأولياء معها، وكبت الله الأعداء بها، واعتددت بالنعمة في المطالعة بها والمكاتبة فيها وأضفتها إلى ما سبق من أخواتها وأمثالها، وسلف من أترابها وأشكالها فإن رأى مولانا الأمير الجليل عضد الدولة أن يأمر أعلى الله أمره بإجرائي على أكرم عاداته فيها، واعتمادي بعوارض أمره ونهيه كلّها، فإن وفور حظّي من الإخلاص، يقتضي لي وفور الحظ من الاستخلاص، فعل. ان شاء الله تعالى.
الأسلوب الثاني (أن يفتتح الكتاب بالإصدار)
مثل: أصدر الخادم أو العبد ونحوه، ويؤتى بالصدر إلى آخره ثم يتخلّص
إلى المقصود بما يقتضيه المقام، ويختم بقوله: وللرأي العالي مزيد العلوّ ونحو ذلك.(7/89)
مثل: أصدر الخادم أو العبد ونحوه، ويؤتى بالصدر إلى آخره ثم يتخلّص
إلى المقصود بما يقتضيه المقام، ويختم بقوله: وللرأي العالي مزيد العلوّ ونحو ذلك.
كما كتب عن بعض وزراء الراشد أو المسترشد إلى السلطان سنجر السّلجوقي (1)، في حق قطب الدين أبي منصور أزدشير العباديّ: وقد ورد إلى أبواب الخلافة ببغداد رسولا، وكان أبوه وخاله وسلفه من أهل العلم والزّهد، وهو من الفصحاء البلغاء ما صورته:
أصدر خادم المجلس العالي هذه الخدمة عن ضمير معمور بالولاء، وإخلاص دواعيه متصلة على الولاء، وعكوف على ما يرجو به حصول المراضي العليّة، والتحقّق لمشايعته الواضحة شواهدها الجليّة، والحمد لله رب العالمين.
وبعد، فما زال الجناب العالي السلطانيّ الشاهنشاهيّ الأعظميّ أعلاه الله لكلّ خير منبعا، وحرمه الآمن للفوائد الجمّة مغاثا ومربعا، والسعادة والتوفيق مقرونين بسامي آرائه، مطيفين به من أمامه وورائه في كل رأي يرتئيه، ومقرّب يصطفيه، وامرىء يتخيّره ويقلّده، وأمر يحلّه ويعقده، وصنع جميل يصيب من الاستحقاق موضعه، ويعيد طيب الذكر مجهّزه ومبضعه مناقب تفوت الإحصاء عدّا، وترد من مفاخر الوصف منهلا عذبا وتسير بذكرها الرّفاق غورا ونجدا، وتجاوز غايات المدح علاء ومجدا، وكفى على ذلك دليلا قاطعا، وبرهانا ساطعا ما اقتضته الآراء العلية من التعويل على فلان العبّاديّ في تحمّل الرسالة الأعظميّة التي عدقت (2) منه بالنقيّ الجيب، البريء من العيب، العاري من دنس الشكّ
__________
(1) وهو سنجر بن ملكشاه السلجوقي. قبض على زمام الحكم في الدولة السلجوقية مدة إحدى وأربعين سنة 511هـ 552هـ. ولد سنجر بسنجار ببلاد الجزيرة، ولذلك سمي باسم هذه المدينة.
وسنجر بالتركية طائر من فصيلة الصقر. وكانت تسمية أولاد السلاجقة باسماء الحيوانات شائعة بينهم وبين غيرهم من الأتراك. من ذلك: أرسلان ومعناه الأسد، وطغرل ومعناه الصقر أو الباز.
(انظر تاريخ الإسلام: 4/ 3534).
(2) أنظر الهامش 1ص 84من هذا الجزء.(7/90)
والرّيب فإن اختياره لهذا الأمر طبّق مفصل الصواب، ولشاكلة (1) رمي الرأي أصاب إذ هو الفذّ في علمه وفضله، السديد في قوله وفعله، البارع في إيجاز الخطاب وفصله، المعرق في الزّهادة والدّيانة المزيّنين لفرعه وأصله.
ولما وصل إلى الأبواب العزيزة الإماميّة ضاعف الله تعالى مجدها مثل بالخدمة مؤدّيا من فرضها ما يلزم أمثاله من ذوي العقائد الصحيحة، والموالاة المحضة الصريحة وصادف من التّكرمة والإنعام ما يوجبه له محلّه من العلم الذي لا تكدّر الدّلاء بحره، ولا تدرك الأرشية (2) بطولها قعره فهو فيه نسيج وحده، وناسج برده، وناشر علمه، ومستغزر ديمه. وألقى من ذلك ما يقتضيه اختبار أحواله الشاهدة بأنه ممن أصحب في يده قياد الفصاحة الأبيّ، وملّكته زمامها الممتنع على من عداه العصيّ، وجمع له من الفضائل ما أصبح في سواه متفرّقا، وخير له منها ما جعل جفن حاسده لفرط الكمد مؤرّقا، إلى ما زان هذه الخصائص التي تفرّد فيها وبرع، وطال مناكب الأقران وفرع: من الإخلاص الدالّ على تمسّكه بحبل الدّين المتين، واستمراره على جدده الواضح المبين، وفصل عن الأبواب العزيزة فائزا من شرف الإرعاء، ما وفّر الحظوظ والأنصباء حاصلا من حميد الآراء، على أنفس العطاء وأجزل الحباء وقد تمهّد له من الوجاهة والمكانة ما يفخر بمكانه، وتنقطع دون بلوغ شأوه أنفاس أقرانه ورسم أعلى الله المراسيم الإمامية وأمضاها مطالعة المجلس العالي السلطانيّ أعلاه الله بهذه الحال، تقريرا لها عند العلم الكريم واستمدادا للطّول والإنعام، باختصاص قطب الدّين بالاحترام الذي هو حقيق بمثله، وخليق أن لا يضحى عن وارف ظله، وما يوعز به من ذلك يصادف من دواعي الاستحقاق أوفاها، ويرد من مناهل الذكر الجميل أعذبها وأصفاها، ويتلقّى من شرف المحامد بألطفها وأحفاها، وللرأي العالي علوّ رأي، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الشاكلة: الخاصرة. ويقال: أصاب شاكلة الصواب. والجمع شواكل.
(2) الأرشية: جمع رشاء، وهو حبل الدلو.(7/91)
الجملة الثانية (في المكاتبات الصادرة عن أتباع ملوك الديار المصرية إليهم، والمختار منه أسلوبان) الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بالدعاء)
مثل أن يدعى بعزّ الأنصار، أو إدامة السلطان، أو تخليده، أو إدامة بسطة السلطان، أو إدامة الأيّام ونحو ذلك. ويخاطب السلطان فيه بمولانا، ويعبّر المكتوب عنه عن نفسه بالمملوك، ويختم بالدعاء. وهي طريقة القاضي الفاضل ومن تلاه من كتاب الدولة الأيوبية بالديار المصرية.
قال ابن شيث في «معالم الكتاب» (1): ولا يقال في مخاطبة السلطان:
سيدنا مكان مولانا، وإن كان السيد من الألقاب السلطانيّة، لأنّ لفظ سيدنا مما أصطلح عليه لأكابر المتعمّمين من الفقهاء والقضاة والكتّاب، فاجتنب في حق السلطان كي لا تقع المشاركة بينه وبين غيره في الخطاب.
وهذه نسخة كتاب من هذا الأسلوب كتب به إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب (2) في جواب كتاب ورد منه بالبشارة بفتح خلاط (3) وهي:
أدام الله سلطان مولانا الملك العادل وزاده من فضله، ومدّ على خلقه وارف ظلّه، وأظهر به دينه على الدّين كلّه، وأوضح إلى مرضاته ما يسلكه من سبله، ولا عدمت يد الإسلام والمسلمين التعلّق بوثيق حبله، وفرّج به الخطط المطبقة، وفتح به البلاد المستغلقة، وأخضع لطاعته الأعناق، وعمّ بفتوحه الآفاق، ودمّر
__________
(1) انظر حاشية الصفحة 18من هذا الجزء.
(2) هو محمد بن أيوب، أخو السلطان صلاح الدين. توفي سنة 615هـ. (الأعلام: 6/ 47).
(3) بكسر أوله، وآخره طاء مهملة: قصبة أرمينيا الوسطى، فيها فواكه كثيرة ومياه غزيرة وببردها يضرب المثل، ولها بحيرة مشهورة. (معجم البلدان: 2/ 280والبكري: 507).(7/92)
الكفر بمقامه، وطوى أيّامهم بما ينشره ويديمه من أيامه، وأنزل النصر في مواقف النّزال بما ترفعه راياته من أعلامه.
وقف المملوك على ما أنعم به مولانا: من كتاب البشارة التي وصلت إلى كلّ قلب وسمع، وأمّل بها كلّ مسلم كلّ خير ونفع، وعلم ما وراءها من جمع شمل كان عزيز الجمع، وعلم ما يتبعها من عواطف مولانا التي عوّدها منه أكرم طبع، وتحقّق أن الله سبحانه قد قلّد الدين منه سيفا خلقه للوصل وخلق السّيوف للقطع.
وبالجملة إن الله سبحانه نظر إلى هذه الملّة بنظر مولانا لها، وكفالته لأهلها، وسياستهم بشرف السجيّة وعدلها، وإن كل ما اختلس الملك الناصر رحمه الله فإن الله يتمّه على يديه، ويجبر به تارة بصفحة وتارة بحدّيه، ويهب له عمرا نوحيّا (1) إلى أن لا يذر على الأرض من الكافرين ديّارا، وإلى أن يورث الإسلام بسيفه منهم أرضا ومالا وديارا وهذه مخايل (2) لا يخلف الله بارقتها بل يردّ إلى جهة الكفر صاعقتها، فما يحسب المملوك أن جانبا يتلوّى على طاعة مولانا ولا ينحرف، ولا أنّ كلمة عليه بعد اليوم تختلف، ولا أنّ ممتنعا بالأمس يكون معه اليوم إلا أن يرضى عنه مولانا وعليه ينعطف.
وعلى هذا فالشام الفرنجيّ (3) متأخذ بجناح إلى الأخذ وبقية عمر المؤمن كما قال صلّى الله عليه وسلّم لا ثمن لها، والفرص تمرّ مرّ السحاب، والمستعاذ بالله من حسرات الفوت بعد الإمكان {وَلَيَنْصُرَنَّ اللََّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (4) وما يشخص (5) لخطاب الله تعالى بالجهاد إلا مولانا: النية خالصة، والبصيرة ثاقبة، والعزيمة ماضية، والشجاعة منحة من الله له موهوبة، والسماحة خليقة من خلائقه الكريمة موجودة،
__________
(1) نسبة إلى نوح عليه السّلام. والمراد: عمرا طويلا.
(2) يقال: ظهرت فيه مخايل النجاية دلائلها وفطنتها. ومفردها: مخيلة.
(3) إشارة إلى احتلال الصليبيين لبعض بلاد الشام ومنها عكا، كما سيأتي له.
(4) الحج / 40.
(5) شخص: خرج. يقال: شخص من بلده وعنه: خرج منه. والعكس شخص إليه: رجع.(7/93)
والرجال تطأ عقبيه، والملوك تطيع أمره والشّجعان تبذل أنفسهم بين يديه، والعدو يعرف منه خصما طالما خاطبه بلسان السيف منه إليه. وليس كلّ من قدر عليه أراده، وعكّا أقرب من خلاط وأنفع للمسلمين فتحا، وأعظم في الكفّار قدحا فوالله لئن انغلق باب الشام في وجه الكفر، لتنقطعنّ آمال أهل البحر والبرّ وما دام في الشام بقية من الكفر فهو يقبل الزّيادة، وينتظر النّجدة ويؤمّل الاستعادة وما كرر المملوك هذا الحديث جهلا بما يجب في خدمة الملوك من الأدب في أن يتكلّم في القضية إلا من استشير فيها، ولا يجتريء على الكلام إلا إذا كان مجيبا بما يؤمر بالإجابة عنه، ولكن المملوك غلب على الصّحبة، وانقطع عن الخدمة، وعلم أنه لو كان حاضرا لكان مولانا يبسطه ولا يقبضه، ويستشفّ ما عنده ويستعرضه، ويشفّع قلبه في لسانه إذا هفا، ويحمله على صفاء ضميره فيما يقوله فلا يقابل بالتكدير من صفا فقد علم الله أن المملوك يتمنّى للمسلمين أن يردّ عليهم حقّهم، وترجع إليهم بلادهم، وأن تكون هذه الأمنيّة جارية على يد مولانا ومستفادة من عزيمته، ومكتوبة في صحيفته، ومغتنمة فيما يمدّه الله في حياته فإن الأمور فيما بعد ملموحة، ولكن أبواب قدرة الله مفتوحة فالله يجعل منها أن يفتح على مولانا فيه بلاد الساحل، وأن يأخذ للإسلام به أهبة المقيم وللمقيم أهبة الراحل وما يخلط المملوك هذا المهمّ بغيره، طالع به، ولمولانا علوّ الرأي.
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة بيقبّل الأرض مصدّرا بالمملوك)
وهي من مصطلحات الدولة الأيّوبية أيضا إذا كان المكتوب عنه دون من تقدّم.
كما كتب القاضي الفاضل عن نفسه إلى السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» يهنئه بمولود ولد له:
المملوك يقبّل الأرض بالمقام العالي الناصريّ نصر الله الإسلام بمقامه، وأهلك أعداء الحقّ بانتقامه، ولا أعدم الأمة المحمدية عقد اعتزائه بكفالتها ومضاء اعتزامه.
يهنّيء المملوك المولى بنعمة الله عنده وعند الإسلام وأهله بمن زاده في ولده، وكثّره في عدده وهو الأمير «أبو سليمان داود» أنشأه الله إنشاء الصالحين، ومنّ الله بكمال خلقه، ووسامة وجهه، وسلامة أعضائه، وتهلّل غرّته، وابتسام أسرّته ودل على أن هذا البيت الكريم فلك الإسلام لا يطلع فيه إلا البدور، كما دلّ على عناية الله بأبيه، فإن الله تعالى قال: {يَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ إِنََاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ الذُّكُورَ} (1) فطريق المولى هذه قد توالت فيها البشائر، ونصر الله فيها بألطاف أغنت بلطف الخواطر عن قوة العساكر، واشتملت عليه في الغائب من أمره والحاضر {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللََّهِ لََا تُحْصُوهََا} (2) وكيف يحصيها المحصي ويحصرها الحاصر، أيحيط ما يفنى بما لا ينفد؟.(7/94)
المملوك يقبّل الأرض بالمقام العالي الناصريّ نصر الله الإسلام بمقامه، وأهلك أعداء الحقّ بانتقامه، ولا أعدم الأمة المحمدية عقد اعتزائه بكفالتها ومضاء اعتزامه.
يهنّيء المملوك المولى بنعمة الله عنده وعند الإسلام وأهله بمن زاده في ولده، وكثّره في عدده وهو الأمير «أبو سليمان داود» أنشأه الله إنشاء الصالحين، ومنّ الله بكمال خلقه، ووسامة وجهه، وسلامة أعضائه، وتهلّل غرّته، وابتسام أسرّته ودل على أن هذا البيت الكريم فلك الإسلام لا يطلع فيه إلا البدور، كما دلّ على عناية الله بأبيه، فإن الله تعالى قال: {يَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ إِنََاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ الذُّكُورَ} (1) فطريق المولى هذه قد توالت فيها البشائر، ونصر الله فيها بألطاف أغنت بلطف الخواطر عن قوة العساكر، واشتملت عليه في الغائب من أمره والحاضر {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللََّهِ لََا تُحْصُوهََا} (2) وكيف يحصيها المحصي ويحصرها الحاصر، أيحيط ما يفنى بما لا ينفد؟.
فالحمد لله الذي جعل كتب المولى إلى أوليائه وكتبهم إليه مبتسمة عن المسارّ، ناطقة بأطيب الأخبار، منكشفة أسرارها عمّا يروّح الأسرار وهذا الولد المبارك هو الموفّى لاثني عشر (3) ولدا، بل اثني عشر نجما متوقّدا. فقد زاد الله في أنجمه عن أنجم يوسف عليه السّلام نجما، ورآهم المولى يقظة ورأى ذلك الأنجم حلما ورآهم ساجدين له ورأينا الخلق له سجودا، وهو سبحانه قادر أن يزيد جدود المولى إلى أن يراهم آباء وجدودا.
الجملة الثالثة (في المكاتبات الصادرة عن أتباع ملوك الغرب إليهم، والمختار منه أربعة أساليب)
الأسلوب الأول (أن تفتتح المكاتبة بلقب المكتوب إليه)
مثل: المقام أو الجناب، وينعت، ثم يقال: مقام فلان، ثم يؤتى بالسلام ثم
__________
(1) الشورى / 49.
(2) النحل / 18.
(3) خلّف صلاح الدين من الأولاد سبعة عشر ذكرا وأنثى واحدة.(7/95)
بالبعديّة، ويؤتى بخطبة، ويتخلّص إلى المقصد، ويؤتى عليه إلى آخره، ويختم بالدعاء ثم بالسلام.
كما كتب ابن البنّاء عن ابن خلاص إلى أمير المسلمين الواثق بالله أبي بكر بن هود، في جواب كتاب ورد عليه منه ما صورته:
المقام العليّ، الواثقيّ المعتصميّ، المبارك السامي السّنيّ، معدن الفضل ومقرّه، ومسحب ذيل الفخر ومجرّه، ومناط حمل أمانة المسلمين التي لا يحملها إلا أبلج الشّرف أغرّه، ولا يتقلّد قلادتها إلا تقيّ المنشإ برّه مقام مولانا جمال الملك وبهائه، والباعث في معطفه أريحيّة النجابة وازدهائه، الأمير الأجلّ المعظم، المكبّر الهمام المكرم، المبارك الميمون السعيد، الموفّق الرشيد، المظفّر المؤيّد، المرفّع الممجّد، وليّ العهد، وواسطة عقد المجد، والملبس سرابيل اليمن والسعد، الواثق بالله، المعتصم به، أبي بكر ابن مولانا مجد الإسلام، وجمال الأنام ومجاهد الدّين، سيف أمير المؤمنين، المتوكّل على الله تعالى أمير المسلمين، أبقاه الله واردا من مشارع التأييد أعذبها، متخوّلا من صنع الله الجميل ما يسدّد أبعد الأمة وأقربها ممتدّا مدّ السعادة ما جلت غرّة الفجر حندس (1) الظلماء وغيهبها. عبد بابه الأشرف، ومملوك إحسانه الأسحّ الأذرف، مسترقّه الآوي إلى ظل سلطانه الأمدّ الأورف، الحسن بن أحمد بن خلاص.
سلام الله الطيب الكريم وتحيّاته، يعتمد الواثقيّ المعتصميّ ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي له الأمر من قبل ومن بعد، والصلاة على سيدنا محمد نبيّه الذي ترتّبت على اجتنابه الشقاوة ووجب باتباعه السعد، وعلى آله وصحبه الذين ناضلوا عن ديانته حتّى وضح السّنن وبان القصد والرضا عن خليفته وابن عمّه الإمام العباسيّ أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور المستنصر بالله، وارث شرفه
__________
(1) الحندس: شدة شواد الليل.(7/96)
النبويّ، ومجده الهاشميّ، بخصائصه التي لا تعفّي أنوارها الأبكار (1)، ولا يطمس آثارها الحجر. وعن مولانا مجد الإسلام، جمال الأنام مجاهد الدّين، سيف أمير المؤمنين، المتوكل على الله تعالى أمير المسلمين ذي العزمات التي لا تغني غناءها الذّبل (2) التي منبتها الخطّ (3)، ولا القضب (4) التي منشؤها الهند. والدعاء لمقام الثّقة والاعتصام، ومقرّ الإحسان والإنعام، بالنصر الذي يؤازره الظّفر، ويظاهره العضد.
فكتبه عبد المقام الواثقيّ المعتصميّ كتب الله له تأييدا يحفظ على الدين نظامه، وتخليدا يرث ليالي الدّهر وأيامه من إشبيلية حرسها الله تعالى، وللبركات المتوكّليّات والواثقيّات بها انثيال كما تتابع القطر، وسطوع كما ابتسم في مطالعه الفجر، وتعهّد لا تزال تقرّ به العين وينشرح له الصدر والخدمة اللازمة للمثابة العلية الواثقية المعتصميّة أعلى الله مكانها، وشيّد بعضده أركانها فرض لا يسع تأخيره، وحقّ لا يعلق به تفريط المتقلّد له ولا تقصيره، ولازم من اللوازم التي لا يشغل بسواها سرّ المملوك ولا ضميره والله ينجد من ذلكم على ما يتسوّغ به صفو المنّ ونميره (5). وإن الخطاب الكريم الواثقيّ شرّف الله منازعه، ونوّر بأنوار السعادة مطالعه، ورد على العبد مشيدا بذكره، معليا من قدره، مسميا لرتبة فخره، متضمّنا من واسع الإنعام وغمره ما لو وزّع على العالم لشملهم بأسره، وأغرقهم بفيض يسير من بحره فتناوله المملوك بيمين إجلاله وإعظامه، ووفّى الواجب من
__________
(1) لعل الصواب: «البكر»، جمع بكرة: وهي أول النهار.
(2) الذبل: جمع ذابل وهو الدقيق، كناية عن الرمح.
(3) الخط، بفتح الخاء المعجمة: وهو خط عمان، منطقة تنسب إليها الرماح الخطّية. وإذا جعلت النسبة اسما لازما قلت: خطية، ولم تذكر الرماح. قال ياقوت: وجميع هذا في سيف البحرين وعمان، وهي مواضع كانت تجلب إليها الرماح القنا من الهند فتقوّم فيه وتباع على العرب. (انظر معجم البلدان: 2/ 378).
(4) القضب: السيوف القاطعة.
(5) النمير من الماء: الطيب الناجع في الريّ. ويقال: له حسب نمير: زاك.(7/97)
لثمه واستلامه، وألفى به ريّا ناقعا لغليل الشوق المبرّح إلى اجتلاء غرّته الكريمة وأوامه (1) وجعل يتتبع سطوره، ويستقري فقره وشذوره، فلا يقف من ذلكم كلّه إلا على ما يملأ حوباءه (2) جذلا، ويخوّله الابتهاج غنما ونفلا (3) ويبوّئه أسنى مراتب التشريف قننا وقللا (4) وهو على ما حكمت به الأقضية من شحطه عن المثابة الواثقيّة شرّفها الله وشسوعه، وإيواء مغاني أنسه لذلكم ورجوعه لا يجد أنسا إلا ما يتوالى قبله من متعهّد اهتمامها، وتهديه إليه ألسنة أقلامها فكلما وفد عليه من صحائفها المكرّمة وافد، وورد من حضرتها المعظّمة وارد فقد جدّد الزمان عنده يدا غرّا، وأطلع عليه بدرا، وأفاده من الابتهاج ما يعمر الخلد، وينشر نسيم الاستبشار إذا سكن وركد وما ينفكّ على نأي المكان، وبعد الأوطان، يحافظ على رسمه من خدمها، ويؤدّي وظائف الشكر بجسيم منحها وعميم نعمها، ويجعل على نفسه المتملّكة رقيبا من أن يخلّ في سرّ أو جهر بعهد من عهودها أو ذمّة من ذممها ومهما تجدّد صنع يتعين إهداؤه، ويجب قضاء الحق بالدلالة عليه وأداؤه لم يصحبه في المطالعة به توان، ولم يعبر في جلائه أوانا إلى أوان. وقد كان قدّم مطالعاته قبل إلى الباب الواثقيّ شرفه الله باسطا لتفاصيل الأحوال، وشارحا لها على الاستيفاء والكمال ولم يتجدّد بعد ذلك إلا تمكّن الرجاء في فتح لبلة (5) يسّر الله مرامها عن دنوّ بحول الله وقرب، وأنطق لسان الحال بتيسير كلّ عصيّ من محاولاتها وصعب. ولو أنّ مكانا عضّه الدهر من أنياب حوادثه
__________
(1) «أوام» معطوفة على غليل الشوق. والأوام هو حرارة العطش. يقال: في جوفه أوام وأوار.
(2) حوباؤه: نفسه.
(3) النفل: الغنيمة. وفي التنزيل العزيز: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفََالِ قُلِ الْأَنْفََالُ لِلََّهِ وَالرَّسُولِ}
الأنفال / 1.
(4) القنن والقلل بمعنى واحد: وهو قمة الشيء.
(5) في التقسيم الإداري الأندلسي كانت لبلة قاعدة كورة تحمل نفس الاسم تقع شمال كورة اكشونبة، وكانت تسمى لبلة الحمراء. ولبلة على خمسين كيلومترا غربي اشبيلية، على الضفة الغربية للنهر الأحمر وهي تابعة لمديرية «ولبة». وقد ذهب بروفنسال إلى أن أصل اسمها لاتيني هو. ويرجح الدكتور حسين مؤنس أن أصله.
بدليل أن النسبة إليها. وقد دخلت لبلة في حوزة الإسلام على يد عبد العزيز بن موسى بن نصير سنة 94هـ / 714م وخرجت عنها نهائيا سنة 655هـ / 1257م على يد الفونسو العاشر. (انظر: الحلة السيراد: 2/ 181حاشية وصفة جزيرة الأندلس: 168ومعجم البلدان:
5/ 10).(7/98)
الجون (1) بما به عضّها، وفضّ الحصار أقفالها التي فضّها منه ما فضّها، لكان قد ذهب شميسه (2)، وخفي عن أن يسمع حسيسه لكن أبى الشقاء الغالب على أهلها إلا أن يمدّ عليهم أمد العذاب، ويرخي لهم طول المهلة المشفية بهم كلّ يوم مهاوي الخسار والتّباب، حتّى يبلغ الكتاب فيهم أجله، ويصل إلى الحدّ الذي شاء الله أن يصله فيأخذهم أخذ من عمي عن إدراك الحق بصره وبصيرته، وخبث في معاندته سرّه وسريرته ويرجّى أن الوقت في ذلكم دان بإمكان، والله تعالى يديم للمقام الواثقيّ ما عوّده من توالي السّعود واطّرادها، وإصحاب الآمال وانقيادها وسلام الله الطيب يراوحها ويغاديها، وتحياته، ورحماته الموصولة وبركاته.
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة بالحضرة)
وتوصف ويدعى لها، ثم يقع التخلّص إلى المقصد، ويختم بالدعاء والسلام.
كما كتب أبو المطرّف بن عميرة (3) إلى المتوكل بن هود (4) القائم بالدعوة العباسية بالأندلس عن بعض أتباعه، عند ورود كتابه عليه بخبره بفتح
(5) من الأندلس وقتل الثائر بها، وهو:
__________
(1) الجون: السوداء. وتعني أيضا البيضاء (من الأضداد).
(2) لعل المقصود: ذهبت شمسه. وتصغير شمس: شميسه، بضم الشين. واكتفى صاحب اللسان بالقول: شمس وشميس وشميس (وهو اللفظ الوارد أعلاه): أسماء.
(3) انظر ترجمته في حاشية الصفحة 39من هذا الجزء.
(4) انظر ترجمته في حاشية الصفحة 34من هذا الجزء.
(5) بياض بالأصل، ولعله: «بفتح المراد وهو حصن بقرطبة من الأندلس الخ» كما يؤخذ من السياق.
فيما يأتي حيث يقول: كيف لا؟ وقد بشر خبره بالمراد في المراد» وفي معجم البلدان: 5/ 92:
«مراد: حصن قريب من قرطبة بالأندلس».(7/99)
الحضرة العلية أبقى الله ظلّ ملكها على العباد، وعرّفها من تأييده وإنجاده أفضل المعتاد، وجعل لها من الملجأ إليه والتوكل عليه أكثر الجموع وأكثف الأعداد، ولا زالت أحاديث نصرها سالمة المتون صحيحة الإسناد، وصحائف فتوحها تجمع صلاح العباد، وتطلع صباح البشائر من ليل المراد عبدها ومملوكها، السالك من الخدمة والنصيحة الطريق التي يجب سلوكها، فلان.
وبعد: فكتب العبد كتب الله للمقام العليّ المجاهديّ المتوكّليّ سعدا يردّ الصّعاب ذللا، ويسدّ من المكاره سبلا وأمدّه بملائكة رسله جاعل الملائكة رسلا من فلانة وبركاته مروية للظماء وحركاته مسكّنة للدّهماء، وآثاره في يومي سلمه وحربه آثار الأشدّاء على الكفّار والرّحماء والأرض بوضوح محيّاه، وفتوح أسنّته وظباه، تهتزّ أعطافا، وتعتزّ مواسط وأطرافا، وتبرز في أثوابها القشب فيزداد حسنها أضعافا والأيّام بالبشائر التي فضّت ختامها عفوا (1) على قدر، وقضت مسامها صفوا بلا كدر لها أنف الشامخ تيها، ووجه الضاحك المتهلّل إشادة بحالها وتنويها، ودلالة على رحب مجالها وتنبيها. والحمد لله حمد من عرف قدر نعمائه فوفّى حقّ أسمائه تقديسا وتنزيها. وإن الخطاب العليّ الكريم ورد راصفا أجلّ الدّرر، واصفا أجمل الفتوح الغرر، رافلا في حلل الأيد (2) والقهر، رافعا منسأة (3) الحوادث بإحدى حسنات الدهر فيا له من كتاب! أودع بدائع الكلم، وجوامع البيان الملتئم المنتظم لو استمدّ سناءه أوّل الفلقين لم يك كاذبا، ولو أعير محيّاه ثاني الشفقين كان عن ضوء النهار نائبا ذكّر بأيّام الله المشهودة بالملائكة والرّوح، ومدّ باع الكلام في فتح الفتوح وأطال ذيول القول مفتاحا منه
__________
(1) العفو: المعروف.
(2) الأيد: القوة.
(3) المنسأة: العصا الغليظة تكون عادة مع الراعي. وفي التنزيل العزيز: «ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته»: سبأ / 14.(7/100)
للصّعب الجموح، فكان الغزير الصيّب، والكثير الطيّب والمتّبع إن مضى بقلوب وأسماع، والمضاعف حسنه إن كرّر إلى غير انقطاع. كيف لا؟ وقد بشّر خبره بالمراد في المراد (1)، وأوقع اليقين بما خرق العادات من الإسعاف والإسعاد، وكان من آحاد الاخبار لا من أخبار الآحاد (2) ومما اقتصّه ما جرى من أوائل الحركة السعيدة، واعترض من المتاعب الشديدة وأن الشتاء كان في ابتدائه، والغيم ساحب لردائه، ساكب فضل أندائه. والمكاره في طيّها النّعم الجسام، والنفوس الكبار تتعب في مرادها الأجسام ولذلك هانت على المقام العلي أيده الله تلك المشاقّ، ورجّى من عمله ونظره ما جنى من ثمرة العاقّ فسار إليه بالجحفل الأحفل، والعزيمة الزعيمة بفضّ المقفل، ورضّ الأعلى والأسفل وقد اعتزّ بأجلّ المدائن شانا، وأوثقها بنيانا، وأبعدها صيتا ومكانا وهي التي أعيت رياضتها كلّ رائض، وسخرت بكلّ قاعد بقنونها (3) رابض وجمع إليها من طرد الآفاق، وأعداد الاجتماع والاتّفاق، أتباع كلّ ناعق، وأشياع كل مارد مارق، فاستحلّوا الدماء، وركبوها مضلّة عمياء، وأدرك كلّ منهم مما شاء للإسلام ما شاء، وعدوّ الله يفتل لهم في الذّروة والغارب (4)، ويضرب لهم سكّان البلد ضرب الغرائب حتّى أباد خضراءهم، وجعلهم شرّ خلف فيمن وراءهم غير مبال بما احتقب من الجرائر (5)، واقترف من إباحة الحرائر، فاجترأ مدّة بالجلاء، وازداد إثما بالإملاء وحينئذ سمت إليه عساكر الإسلام، وناولته بالموت الزّؤام، ورأى عيانا ما كان يطير
__________
(1) لعله الحصن الذي أشرنا إليه سابقا.
(2) آحاد الأخبار: أي الأخبار المتفردة المتميزة بوقعها وأهميتها. أما أخبار الآحاد فهي إشارة إلى نوع من رواية الأحاديث النبوية. والحديث النبوي هو الخبر المرفوع إليه. والحديث الآحادي في الاصطلاح ما لم يجمع شروط التواتر. وقد يتفرد به واحد فيكون غريبا، أو يعزر برواية اثنين فأكثر فيكون عزيزا، أو يستفيض فيكون مشهورا. فلا يفيد وصفه بالآحادي أنه خبر الواحد دائما.
(أنظر: علوم الحديث ومصطلحه: ص 15010).
(3) القنة، بالضم، الجبل الصغير أو الجبل السهل المنبسط على الأرض. والجمع: قنن وقنان وقنون.
(4) الغارب: الكاهل وهو أعلى كل شيء.
(5) احتقب من الجرائر: ارتكب من الذنوب والآثام.(7/101)
إليه قلبه لو رآه في المنام وتداولته المطاولة المستدرجة، والعاجلة المزعجة وفي كلّ ذاق عذاب الهون، فأحسّ بقاصمة المتون وقاضية المنون وانقسمت شدّته إلى المهلكين: خوف وإعدام، واستكملت تسعة أشهر وكان الفتح عندها لتمام وإنه للولد الذي هنّيء به الإسلام، وضنّت بمثله الأيام، واستبشر بوجوده الأنام فما أعلى مقامه! وأبهج يومه وأسعد عامه! ولا غرو أن تكون غرّته أبهى الغرر، ومفتتحه مباركا كالبشر وقد أسفر عن أيمن وجه النّجح، وخرج من عموم الأيام بمخصّص هذا الفتح وانتقم الله فيه من الشقيّ الظالم، العظيم الجرأة على ارتكاب المظالم فطاح بموبق أعماله، وعجّل الله به إلى ما أعدّ لأمثاله وكان دمه شرّ دم أريق، وأديمه أخبث أديم لاقى التمزيق.
والحمد لله الذي نصر الراية العباسيّة وأعلاها، وأظهر آية عنايته وجلّاها، وأسبغ نعمه الجسيمة ووالاها. وحين ورد هذا النبأ العظيم [كان] أندى من قطر النّدى على الأكباد، وسرى في البلاد سريان الأرواح في الأجساد، وكلفت به الأسماع والأسمار، وسمت به وإليه الأمصار والأبصار واستقرّ من ارتجاع البلد، وانتزاع النفس الذاهبة إلى جري الأبد، حكمان مدركهما الفعل والإقرار، وعملان تمّ بهما المراد والاختيار فرفعت الأدعية إلى سامعها، وغصّت الأندية بحاضري مجامعها وذاع بالبشرى فيا حسن ذائعها وشائعها، وأذعنت الآمال لإدناء نازحها وشاسعها، وأخذ العبد من المسرّة بحظّ أخلص العبيد مشهدا ومغيبا، وأجمعهم لمعالي الجدّ تطنيبا، ولمعاني الثناء والحمد تطييبا، وجدّد من شكر الواهب لجزيل هذه الهبة، والفاتح لأعظم المعاقل الأشبة (1) ما يستغرق المدد، ولا يبلغ الأمد وأنّى [لمثلي] أن يصف البشرى الواصلة، أو ينصف المقالة المتطاولة، ولو حلب أشطر الإحسان (2)، وجلب أبحر البيان وكيف والفكر قد قعد حصرا، والمدى لا
__________
(1) يقال: أشب الشجر فهو أشب: أشتد التفافة وكثر حتى لا مجاز فيه. وتأشّب القوم: تجمعوا.
والمراد: القلاع الحصينة التي تستعصي على الأخذ والاختراق.
(2) يقال: حلب الدهر أشطره: خبره وتمرّس بخيره وشرّه. وللناقة شطران: قادمان وآخران، فكل خلفين شطر.(7/102)
يؤاخذه التقدير قسرا، والقول لا يجيب مطوّلا ولا مختصرا؟ فحسبه دعاء هو له رافع، ولأوقات الخلوات به قاطع، وإلى الله سبحانه في قبوله ضارع والله يجيب في المقام العليّ المتوكليّ أفضل دعاء الخلق، ويضاعف له مع السابقين ثواب السّبق، ويجزيه خير الجزاء عما أزاله من الباطل وأداله من الحق وهو تعالى ينصره يوم الباس، ويعصمه من الناس، ويبقي رفده للاكتساب ونوره للاقتباس، ويعرّفه في كل ما يستنبطه من أصل التوكل صحّة القياس، بمنه والسلام.
الأسلوب الثالث (أن تفتتح المكاتبة بأمّا بعد، ويتخلّص إلى المقصد ويختم بما يناسب المقام)
كما كتب أبو المطرّف بن عميرة إلى المتوكّل بن هود المقدّم ذكره، عن نفسه، يهنّئه بوصول هديّة الخليفة العباسيّ إليه من بغداد:
أما بعد، فكتب العبد كتب الله للمقام العليّ الناصريّ المتوكّليّ مجدا يحلّ الكواكب، وجدّا يفلّ الكتائب. من شاطبة (1)، وبركات دعوته السعيدة قد طبّقت البسيطة، وكاثرت البحار المحيطة، وأنجزت للإسلام أفضل مواعده، وجدّدت عهده لأهل بيت النبوّة الرافعة لقواعده، وفسّحت له مجال البشرى، وأطلعت عليه أنوار العناية الكبرى فعاد إلى الوطن، ووجد حال السّهد طعم الوسن، وأورق عوده واتّسقت سعوده، وعاد إلى صحّته بالنظر الإماميّ الذي جاء يعوده. وحين صدور رسول دار السلام، ومثابة أهل الإسلام، ومقعد الجلالة، ومصعد إقرار الرسالة ومعه الكتاب الذي هو غريب، أنس به الدّين الغريب، وبعيد الدار نزل به النصر القريب، وآية بأدلّتها الصادقة لتبطيل الشّبه الآفكة، وسكينة من ربّنا وبقيّة مما ترك آل نبيّنا تحمله الملائكة اطمأنّت القلوب، وحصل المطلوب، ودرّت أخلاف الإيناس، وارتفع الخلاف بين الناس، وعلموا أن السالك قد أضاءت له المحجّة، والحقّ لا يعدو من بيده الحجّة وأن من أمّرته
__________
(1) مدينة في شرقي الأندلس وشرقي قرطبة. وهي مدينة كبيرة قديمة. (انظر الروض المعطار: 337 ومعجم البلدان: 3/ 309).(7/103)
الخلافة العبّاسيّة «فطاعته» تجب قطعا، ومخالفته تحرم شرعا ولم يبق إلا أن يبين للعيان شخصه، ويرد على الآذان نصّه فيكون يومه غرّة الليالي المعتكرات، وعلم الأيام المنكّرات، واليوم الذي به تؤرّخ الأيام المستقبلة، وترفع فيه الأعمال المتقبّلة. وبإقبال الركاب السعيد إلى هذه ينزل به من سماء العلياء محكم وحكمة، ويصل به إلى الأنام فضل من الله ونعمة، ويقتضى دين على الأيام، لا يبقى معه عسرة، ويوجد جبر للإسلام، لا يكون بده كسرة، وشفاء لقلوب الأولياء هو للأعداء حسرة.
الأسلوب الرابع (أن تفتتح المكاتبة بالخطاب بلفظ «سيدي» أو «مولاي» مع حرف النداء أو دونه)
كما كتب أبو عبد الله بن الخطيب وزير ابن الأحمر صاحب الأندلس عن نفسه إلى السلطان أبي عنان ابن السلطان أبي الحسن المرينيّ صاحب فاس، عند ورود كتابه إلى الأندلس بفتح تلمسان (1)، معرّضا بأنّ صدور كتابه من عند قبر والده السلطان أبي الحسن بالأندلس، ما صورته:
مولاي! فاتح الأقطار والأمصار، فائدة الأزمان والأعصار، أثير هبات الله الآمنة من الاعتصار، قدوة أولي الأيدي والأبصار، ناصر الحق عند قعود (2)
الأنصار، مستصرخ الملك الغريب من وراء البحار، مصداق دعاء الأب المولى في الآصال والأسحار. أبقاكم الله! لا تقف إيالتكم عند حدّ، ولا تحصى فتوحات الله عليكم بعدّ، ولا يفيق أعداؤكم من كدّ، ميسّرا على مقامكم الكريم ما عسر على كل أب كريم وجدّ.
__________
(1) تلمسان: بالمغرب. قال ياقوت: وهما مدينتان متجاورتان مسورتان، بينهما رمية حجر، إحداهما قديمة والأخرى حديثة، والحديثة اختطها الملثمون ملوك المغرب، واسمها «تافرزت»، فيها يسكن الجند وأصحاب السلطان وأصناف من الناس واسم القديمة «أقادير»، يسكنها الرعية، فهما كالفسطاط والقاهرة من أرض مصر. (معجم البلدان: 2/ 44).
(2) في الأصل: «قصور» والتصحيح عن الطبعة الأميرية.(7/104)
عبدكم الذي خلص إبريز عبوديّته لملك ملككم المنصور، المعترف لأدنى رحمة من رحماتكم بالعجز عن شكرها والقصور، الداعي إلى الله سبحانه أن يقصر عليكم سعادة القصور، ويذلّل بعز طاعتكم أنف الأسد الهصور، ويبقي الملك في عقبكم إلى يوم ينفخ في الصّور. فلان.
من الضّريح المقدّس (1): وهو الذي تعدّدت على المسلمين حقوقه، وسطع نوره وتلألأ شروقه، وبلغ مجده السماء لمّا بسقت فروعه ورسخت عروقه، وعظم بتبوّئكم فخره فما فوق البسيطة فخر يفوقه، حيث الجلال قد رست هضابه، والملك قد سترت بأستار الكعبة الشريفة قبابه، والبيت العتيق قد ألحفت الملاحد الإمامية أثوابه، والقرآن العزيز ترتّل أحزابه، والعمل الصالح يرتفع إلى الله ثوابه، والمستجير يخفي باطنه سؤاله فيجهر بنعرة العزّ جوابه وقد تفيّأ من أوراق الذكر الحكيم حديقة، وخميلة أنيقة، وحطّ بجوديّ (2) الحقّ نفسا في طوفان الضّرّ غريقة، والتحف برق الهيبة الذي لا تهتدي للنفس فيها إلا بهداية الله طريقة، واعتزّ بعزّ الله وقد توسّط جيش الحرمة المرينيّة حقيقة، إذ جعل المولى المقدّس المرحوم أبا الحسن مقدّمه وأباه وجدّه سقاه المولى الكريم بهذا المجد سيب رحماه، وطنّب عليه من الرّضا فسطاطا، وأعلى به يد العناية المرينيّة اهتماما واغتباطا، وحرّر له أحكام الحرمة نصّا جليّا واستنباطا، وضمن له حسن العقبى التزاما واشتراطا وقد عقد البصر بطريق رحمتكم المنتظرة المرتقبة، ومدّ اليد إلى اللطائف بشفاعتكم التي تتكفّل بعتق المال كما تكفّلت بعتق الرّقبة، وشرع في
__________
(1) ويقصد ضريح أبي الحسن المريني والد السلطان أبي عنان، كما سبقت الإشارة. وربما يفهم من نص ابن الخطيب ومن مقدمة القلقشندي أن صدور الكتاب من بلاد الأندلس. هذا وقد ذكر صاحب الأعلام أن ابن المنصور المريني، أبا عنان، قد دفن والده في مراكش ثم نقله إلى مقابرهم بفاس ومنها إلى ضريحه بشالة. وشالة هذه أو سلا مدينة بأقصى المغرب ليس بعدها معمور إلا مدينة صغيرة يقال لها غرنيطوف. (انظر الأعلام 4/ 311ومعجم البلدان: 3/ 231).
(2) الجوديّ جبل مطلّ على جزيرة ابن عمر في الجانب الشرقي من دجلة من أعمال الموصل، ويقال أن عليه استوت سفينة نوح عليه السّلام. والاستعمال هنا على سبيل الاستعارة.(7/105)
المراح بميدان نعمكم بعد اقتحام هذه العقبة لما شنفت الآذان البشرى التي لم يبق طائر إلا سجع بها وصدح، ولا شهاب دجنّة إلا اقتبس من نورها واقتدح، ولا صدر إلا انشرح، ولا غصن عطف إلا مرح بشرى الفتح القريب، وخبر النّصر الصحيح الحسن الغريب، ونبأ الصّنع العجيب، وهداية السميع المجيب: فتح تلمسان (1) الذي قلّد المنابر عقود الابتهاج، ووهب الإسلام منيحة النصر غنيّة عن الهياج، وألحف الخلق ظلّا ممدودا، وفتح باب الحجّ وكان مسدودا، وأقرّ عيون أولياء الله الذين يذكرون الله قياما وقعودا، وأضرع بسيف الحقّ جباها أبيّة وخدودا، وملّككم حقّ أبيكم الذي أهان عليه الأموال، وخاض من دونه الأهوال، وأخلص في الضّراعة والسّؤال، من غير كدّ يغمز عطف المسرّة، ولا جهد يكدّر صفو النعم الثّرّة، ولا حصر ينفض به المنجنيق ذؤابته، ويظهر بتكرّر الركوع إنابته.
فالحمد لله الذي أقال العثار، ونظم بدعوتكم الانتشار، وجعل ملككم يجدّد الآثار ويأخذ الثار (2) والعبد يهنيء مولاه، بما أنعم الله عليه وأولاه وما أجدره بالشّكر وأولاه! فإذا أجال العبيد السّرور فللعبد المعلّى والرّقيب (3)، وإذا استهموا (4) حظوظ الجذل فلي القسم الوافرة والنصيب وإذا اقتسموا فريضة شكر
__________
(1) كان والده، أبو الحسن المريني، قد فتح تلمسان وانتزعها من بني زيان سنة 735هـ. ولكن بني زيان استعادوها منه مستغلين انشغاله في حروبه مع قبائل العرب بإفريقية (قبائل زناتة) وفي حربه مع ابنه أبي عنان الذي انقلب عليه. ولما مات أبو الحسن سنة 752هـ استتبّ الأمر لأبي عنان وبدأ باخضاع بني عبد الواد، أمراء زناته بتلمسان، فقاتلوه فظفر بهم ودخل تلمسان وانتظم له أمر المغرب الأوسط. (انظر الأعلام: 4/ 311و 5/ 127).
(2) أي ثأر لأبيه. انظر الحاشية السابقة.
(3) القداح: من ألعاب الميسر ويقال لها أيضا الأزلام والأقلام. والقدح المعلى: الحظ الأوفر، وهو سابع سهام الميسر، له سبعة انصباء عند الفوز وعليه مثلها إن لم يفز. والرقيب: ثالث سهام الميسر، له غنم ثلاثة أنصباء إن فاز وعليه غرم مثلها إن لم يفز. والرقيب أيضا هو المشرف على لعبة القداح يضبط حدودها ويراعي قوانينها. (انظر: بلوغ الأرب للآلوسي: 3/ 53وما بعدها).
(4) استهموا وتساهموا الشيء: تقاسموه.(7/106)
الله تعالى فلي الحظّ والتعصيب (1)، لتضاعف أسباب العبودية قبلي، وترادف النّعم التي عجز عنها قولي وعملي، وتقاصر في ابتغاء مكافأتها وجدي وإن تطاول أملي فمقامكم المقام الذي نفّس الكربة، وآنس الغربة، ورعى الوسيلة والقربة، وأنعش الأرماق، وفكّ الوثاق، [وأدّر الأرزاق، وأخذ على الدّهر بالاستقالة بالعهد والميثاق] (2) وإن لم يباشر العبد اليد العالية بهذا الهناء، ويتمثّل بين يدي الخلافة العظيمة السّنا والسّناء، ويمدّ بسبب البدار إلى تلك السماء فقد باشر به اليد التي يحنّ مولاي لتذكّر تقبيلها، ويكمّل فروض المجد بتوفية حقوقها الأبويّة وتكميلها ووقفت بين يدي ملك الملوك الذي أجال عليها القداح، ووصل في طلب وصالها المساء بالصّباح، وكأن فتحه إيّاها أبا عذرة (3) الافتتاح وقلت يهنيك يا مولاي ردّ ضالّتك المنشودة، وخبر لقطتك المعرّفة المشهودة [ودالتك المودودة] (4) فقد استحقّها وارثك الأرضى، وسيفك الأمضى، وقاضي دينك، وقرّة عينك، مستنقذ دارك من يد غاصبها، ورادّ رتبتك إلى مناصبها، وعامر المثوى الكريم، وستر الأهل والحريم.
مولاي! هذه تلمسان قد أطاعت، وأخبار الفتح على ولدك الحبيب إليك قد شاعت، والأمم إلى هنائه قد تداعت وعدوّك وعدوّه قد شرّدته المخافة، وانضاف إلى عرب الصحراء فخفضته الإضافة وعن قريب تتحكّم فيه يد احتكامه، وتسلمه السلامة إلى حمامه فلتطب يا مولاي نفسك، وليستبشر رمسك، فقد نمت بركتك وزكى غرسك. نسأل الله أن يورد على ضريحك من أنباء نصره ما
__________
(1) التعصيب: هو أخذ حظ العصبة والعصبة: كل من ليست له فريضة مسماة في الميراث وإنما يأخذ ما يبقى بعد ذوي الفروض. والعصبة أنواع، جعلها الجرجاني ثلاثة، وجعلها الكفوي أربعة:
والمراد: لي النصيب المفروض، ولي زيادة على ذلك ما يبقى بعد القسمة. (انظر في ذلك:
التعريفات للجرجاني: ص 150. والكليات للكفوي: 3/ 183).
(2) الزيادة عن الطبعة الأميرية.
(3) أبو عذرتها: صاحبها. والعذرة في الأصل: البكارة يقال: فلان أبو عذرة فلانة: زوجها الذي افتضها.
(4) الزيادة عن الطبعة الأميرية.(7/107)
تفتّح له أبواب السماء قبولا، ويرادف إليك مددا موصولا، وعددا آخرته خير لك من الأولى، ويعتريه بركة رضاك ظعنا وحلولا، ويضفي عليه منه سترا مسدولا.
ولم يقنع العبد بخدمة النّثر، حتّى أجهد القريحة التي ركضها الدهر وأنضاها، واستشفّها الحادث الجلل وتقاضاها فلفّق من خدمة المنظوم ما يتغمّد حلمكم تقصيره، ويكون إغضاؤكم إذا لقي معرّة العتب وليّه ونصيره وإحالة يا مولاي على الله في نفس جبرها، ووسيلة عرفها مجده فما أنكرها، وحرمة بضريح مولاي والده شكرها ويطّلع العبد منه على كمال أمله، ونجح عمله، وتسويغ مقترحه، وتتميم مطمحه، إن شاء الله تعالى:
[يا ابن الخلائف يا سميّ محمد ... يا من علاه ليس يحصر حاصر!
أبشر فأنت مجدّد الملك الذي ... لولاك أصبح وهو رسم داثر!
من ذا يعاند منك وارثه الذي ... بسعوده فلك المشيئة دائر!
ألقت إليك يد الخلافة أمرها ... إذ كنت أنت لها الوليّ الناصر!
هذا وبينك للصريح وبينها ... حرب مضرّسة وبحر زاخر!
من كان هذا الصّنع أوّل أمره ... حسنت له العقبى وعزّ الآخر!
مولاي عندي في علاك محبّة ... والله يعلم ما تكنّ ضمائر!
قلبي يحدّثني بأنّك جابر ... كسري وحظّي منك حظّ وافر!
بثرى وجودك قد حططت قريحتي ... ووسيلتي لعلاك نور باهر!
وبذلت سعيي واجتهادي مثل ما ... يلقى لملك سيف أمرك عامر!
وهو المواليّ الذي اقتحم الرّدى ... وقضى العزيمة وهو سيف باتر!
ووليّ جدّك في الشّدائد عندما ... خذلت علاه قبائل وعشائر!
فاستهد منه النّجح واعلم أنّه ... في كلّ معضلة طبيب ماهر
إن كنت قد عجّلت بعض مدائحي ... فهي الرّياض وللّرياض بواكر] (1)
__________
(1) لم ينقل في الأصل ما أشار إليه من النظم. وقد أخذنا الشعر عن الطبعة الأميرية حيث يذكر المحقق أنه نقله عن «ريحانة الكتاب» وأثبته استيفاء للفائدة.(7/108)
الطرف الرابع عشر (فيما يختص بالأجوبة الصادرة عن الملوك وإليهم)
والرسم فيه أنه إن كان الجواب صادرا عن ملك، فالتعبير عن الملك بنون الجمع، وخطاب المكتوب إليه بالكاف. وإن كان عن بعض أتباع الملك إليه، فالتعبير عن المكتوب عنه بالخادم، أو العبد، أو المملوك ونحو ذلك، ومخاطبة الملك بما تليق به مخاطبة الملوك. ثم الجواب تارة يكون الابتداء [فيه] بنفس ورود المكاتبة، وقد تقدّم في مثل ذلك في الكتب الصادرة عن الخلفاء أن المكاتبة يبتدأ فيها بلفظ عرض. أما الأجوبة المتعلّقة بالملوك فإنه يقال فيها بدل عرض:
وصل، أو ورد، أو نحو ذلك.
ثم هى على ضربين:
الضرب الأوّل (الأجوبة الصادرة عن الملوك إلى غيرهم، وفيه ثلاث جمل)
الجملة الأولى (في الأجوبة الصادرة عن ملوك المشرق، وفيه أسلوبان)
الأسلوب الأول (أن تفتتح المكاتبة بلفظ: «كتابنا» و «وصل كتابك»)
ويذكر تاريخ الكتاب، ويشار إلى ما فيه، ثم يؤتى بالجواب إلى آخره، ويختم باستماحة الرأي في ذلك الأمر كما كتب أبو إسحاق الصابي (1) عن صمصام الدولة (2) إلى حاجب الحجّاب أبي القاسم سعد بن محمد، وهو مقيم
__________
(1) راجع الحاشية: 2ص: 86من هذا الجزء.
(2) هو أبو كاليجار المرزبان، ابن عضد الدولة البويهي. بايعه الأمراء والقواد بعد موت أبيه ولقبوه صمصام الدولة ولقبه الخليفة الطائع شمس الملّة وقلده جميع الأمور فيما بلغت الدولة العباسية من.
جميع الممالك. ولم يلبث أن قام النزاع بين أكبر أخوته شرف الدولة، انتهى بانتصار الأخير وسجن صمصام الدولة. وقد حكم صمصام الدولة حوالي أربع سنوات (376372هـ) (انظر تاريخ الإسلام: 3/ 49وما بعدها).(7/109)
بنصيبين (1) على محاربة باد الكرديّ (2)
كتابنا، ووصل كتابك مؤرّخا بيوم كذا، تذكر فيه ما جرى عليه أمرك في الخدمة التي نيطت بكفايتك وغنائك، ووكلت إلى تدبيرك ورأيك: من رد باد الكرديّ عن الأعمال التي تطرّقها، وحدّث نفسه بالتغلّب عليها، وتصرّفك في ذلك على موجبات الأوقات، والتردّد بين أخينا وعدّتنا أبي حرب زياد بن شهرا كويه وبينك من المكاتبات، وحسن بلائك في تحيّفه (3)، ومقاماتك في حصّ (4) جناحه، وآثارك في الانقضاض على فريق بعد فريق من أصحابه، واضطرارك إيّاه بذلك وبضروب الرياضات التي استعملتها، والسياسات التي سست أمره بها، إلى أن نزل عن وعورة المعصية إلى سهولة الطاعة، وانصرف عن مجاهل الغواية إلى معالم الهداية، وتراجع عن السّوم (5) إلى الاقتصار وعن السّرف إلى الاقتصاد، وعن الإباء إلى الانقياد، وعن الاعتياص (6) إلى الإذعان. وأن الأمر استقرّ على أن قبلت منه الإنابة، وبذلت له فيما طلب الاستجابة واستعيد إلى الطاعة، واستضيف إلى الجماعة، وتصرّف على أحكام الخدمة، وجرى مجرى من تضمّه الجملة وأخذت عليه بذلك العهود المستحكمة والأيمان المغلّظة، وجدّدت له الولاية على الأعمال التي دخلت في تقليده، وضربت عليها حدوده وفهمناه.
__________
(1) مدينة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل إلى الشام بينها وبين سنجار تسعة فراسخ، وبينها وبين الموصل ستة أيام. (معجم البلدان: 5/ 288).
(2) تمرد على صمصام الدولة لصالح أخيه شرف الدولة.
(3) تحيّف الشيء: أخذ من حافته. والمراد: في مواجهته واللحاق به. والضمير في «تحيفه» يرجع إلى «باد الكردي».
(4) حصّ الشعر: حلقه. والريش: نتفه.
(5) سام سوما: ذهب على وجهه حيث شاء.
(6) الاعتياص: الاستعصاء والمعاندة.(7/110)
وقد كانت كتب أخينا وعدّتنا أبي حرب [زياد بن شهراكويه] (1) مولى أمير المؤمنين ترد علينا، وتصل إلينا، مشتملة على كتبك إليه، ومطالعاتك إيّاه فنعرف من ذلك حسن أثرك وحزم رأيك، وسداد قولك، وصواب اعتمادك، ووقوع مضاربك في مفاصلها، وإصابة مراميك أغراضها وما عدوت في مذاهبك كلّها، ومتقلّباتك بأسرها، المطابقة لإيثارنا، والموافقة لما أمرت به عنّا ولا خلت كتب أخينا وعدّتنا أبي حرب من شكر لسعيك، وإحماد لأثرك، وثناء جميل عليك، وتلويح وإفصاح بالمناصحة الحقيقة بك، والموالاة اللازمة لك، والوفاء الذي لا يستغرب من مثلك، ولا يستكثر ممن حلّ في المعرفة محلّك ولئن كنت قصدت في كل نهج استمررت عليه، ومعدل عدلت إليه، مكافحة هذا الرجل ومراغمته، ومصابرته ومنازلته، والتماس الظهور عليه في جميع ما تراجعتماه من قول، وتنازعتماه من حدّ، فقد اجتمع لك إلى إحمادنا إيّاك، وارتضائنا ما كان منك، المنّة عليه إذ سكّنت جاشه، وأزلت استيحاشه واستللته من دنس [لباس] المخالفة، وكسوته من حسن شعار الطاعة، وأطلت يده بالولاية، وبسطت لسانه بالحجّة، وأوفيت به على مراتب نظرائه، ومنازل قرنائه حتّى هابوه هيبة الولاة، وارتفع بينهم عن مطارح العصاة.
فالحمد لله على أن جعلك عندنا محمودا وعند أخينا وعدّتنا أبي حرب مشكورا، وعلى هذا الرجل مانّا، وفي إصلاح ما أصلحت من الأمر مثابا مأجورا وإيّاه نسأل أن يجري علينا عادته الجارية في إظهار راياتنا، ونصرة أوليائنا، والحكم لنا على أعدائنا، وإنزالهم على إرادتنا، طوعا أو كرها، وسلما أو حربا فلا يخلو أحد منهم أن تحيط لنا بعنقه ربقة أسر، أو منّة عفو إنه جلّ ثناؤه بذلك جدير، وعليه قدير. ويجب أن تنفذ إلى حضرتنا الوثيقة المكتتبة على باد الكرديّ إن كنت لم تنفذها إلى أوان وصول هذا الكتاب: لتكون في خزائننا محفوظة، وفي
__________
(1) الزيادة عن الطبعة الأميرية نقلا عن مختارات الصابيء.(7/111)
دواويننا منسوخة وأن تتصرّف في أمر رسله وفي بقية [إن كانت بقيت من أمره] على ما يرسمه لك عنا أخونا وعدّتنا أبو حرب، فرأيك في العمل على ذلك، وعلى مطالعته بأخبارك وأحوالك وما يحتاج إلى عمله من جهتك موفقا، إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة بلفظ: «وصل كتابك»)
والأمر في ترتيبه على نحو ما تقدّم في الأسلوب الذي قبله.
كما كتب أبو إسحاق الصابي عن صمصام الدولة أيضا إلى أبي العلاء عبيد الله بن الفضل في جواب كتابه الوارد عليه بالظّفر بأهل الاقتباس ما صورته:
وصل كتابك أدام الله عزك المؤرّخ بوقت الظهر من أمسنا وهو يوم كذا، تذكر ما سهّله الله لك، وأجراه على يدك، وبيمن تدبيرك، وبركة خدمتك: من الإيقاع بالعصاة أهل الاقتباس، وإذاقتهم وبال ما كانوا عليه: من خلع الطاعة، وشنّ الغارة واستباحة المحارم، وارتكاب العظائم وإثخانك فيهم قتلا وأسرا، وتشريدا وتشتيتا وفهمناه وحمدنا الله عليه، وشكرنا ما أولى فيه، وحسن منا موقع أثرك، وتضاعف فيه جميل معتقدنا فيك ولك، وارتضينا فعل الأولياء في الخفوف إليه، والمناصحة فيه وسبيلك أن تبحث عن أموال هؤلاء القوم وتثمّرها، وتستدركها وتحصّلها، وتكتب بما يصح منها وتتقدّم بقصّ أثر الهاربين حتّى تلحقهم بالهالكين، وتشيع الرهبة في سائر شقّي الفرات، وتتوخّى طوائف الأشرار والخرّاب، ومخيفي السبل والساعين في الفساد بالتتبّع لهم ووضع اليد عليهم فإنّ بحسب النّكاية في أهل الجهل والدّعارة سكون أهل السلامة والاستقامة فرأيك في العمل بذلك والمطالعة بما يوفّقك الله له مستأنفا من مثل هذا الفعل الرشيد، والمقام الحميد وبسائر الأمور التي ترى عينها وتحتاج إلى معرفة مجاريها، موفّقا إن شاء الله تعالى والسلام.(7/112)
الجملة الثانية (في الأجوبة الصادرة عن ملوك الديار المصرية من وزراء الخلفاء الفاطميين القائمين مقام الملوك الآن فمن بعدهم)
والذي وقفت عليه منه أسلوب واحد، وهو الافتتاح بلفظ: «وصل».
كما كتب بعض كتّاب الدولة الفاطمية عن بعض وزراء الحافظ (1) إلى أمين الدولة زنكي كشنكين ما صورته:
وصل كتابك أيها الأمير الأجلّ الدالّ على مصالحته، المعرب عن مناصحته، الشاهد له بمؤثّل (2) الخطوة والأثرة، والموضّح من أفعاله وخلاله ما لم تزل قضيته مرتسمة في النفوس مصوّرة وعرضنا ما اقترن به من مطالعة المقام المقدّس النبويّ الحافظيّ ضاعف الله أنواره، وشاد مناره، وأعز أشياعه وأنصاره وشفعناه من الثناء على الأمير الاسفهسلار (3) بما لم تزل عادتنا جارية به مع من نعلم طاعته، ونتحقّق مشايعته، ونرى باطنه يضاهي ظاهره، وسرّه يوافق علانيته ووقفنا على ما أنهاه من حال الفرنج المشركين الملعونين، وما كان من نعم الله تعالى من الظّفر بهم، والإدالة منهم، والخفض من منارهم، والتقويض لغمارهم، والإبادة لفارسهم وراجلهم، وإرشاد السيوف والسّهام إلى مقاتلهم، وتطهير الأرض منهم بدمائهم، والإحاطة بهم عن أيمانهم وشمائلهم، ومن أمامهم
__________
(1) هو الحافظ لدين الله العبيدي، عبد المجيد بن محمد بن المستنصر بالله. تملك الديار المصرية سنة 524هـ بعد موت الآمر بأحكام الله. كان كثير الفتك بوزرائه. توفي سنة 544هـ. (الأعلام:
4/ 150).
(2) أثّل: كثر ماله والشيء: أصّله. قال امرؤ القيس:
ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
(3) اسم لوظيفة من وظائف أرباب السيوف وعامة الجند، وصاحبها زمام كل زمام، وإليه أمر الأجناد والتحدث فيهم، وفي خدمته وخدمة صاحب الباب تقف الحجاب على اختلاف طبقاتهم. وهي كلمة أعجمية معناها قائد الجيش. وكانت العامة تقول: اسباسلار. (التعريف بمصطلحات الصبح: 33).(7/113)
وورائهم فابتهجنا بذلك الابتهاج الذي يوجبه التوحيد، وانتهى بنا السّرور إلى الحدّ الذي ما عليه مزيد. على أننا كنا نودّ أن يكون ذلك بصفاحنا وأسنّتنا، وأن يثبته الله لنا في صحيفتنا وإنا لراجون من نعم الله عندنا، وإحسانه إلينا كما عوّدنا، أن يكون من بقي من المذكورين بنا مستأصلا، ويكون أجر هذه الخاتمة لنا حاصلا. وقد عزم الله لنا عند وقوفنا على كتابه، بما خرج به أمرنا إلى جميع من بأعمال الدولة الحافظيّة خلّد الله ملكها، بعيدها ودانيها، وقصيّها ونائيها، من العساكر المظفّرة المؤيّدة، وقبائل العربان المستخلصة، وكافّة الطوائف على اختلاف أنواعها، وتباين أجناسها، وتفاوت منازلها، وتغاير مراتبها، بأن ينفروا خفافا وثقالا، وركبانا ورجالا، بقوّتهم ونجدتهم، ووفور عددهم وعدّتهم، وكثرة آلاتهم وأسلحتهم، وبالعزمات الماضية، والضمائر الخالصة، والنّيّات المستبقة، والعقائد المتّفقة، وفسّحنا للمتطوّعة أن يختلطوا بالمرتزقة، وأمرناهم بمسيرهم متتابعين، وتوجّههم مترادفين وأن يكونوا كتائب متناصرة، وجحافل متواترة وعساكر متوالية، لا ترى الأرض منها إلى العدوّ خالية ومن الله نطلب مادّة العون والإسعاد، ونسأله توفيقا لما يقض بتضاعف أجرنا في العاجلة والمعاد. وقد شكرنا الأمير الاسفهسلار كون ما أنهاه سببا لهذه الغنيمة المتوقّعة من فضل الله وإحسانه، والنّصرة لدينه التي نؤملها من جزيل كرمه وامتنانه، وأضفنا ما اقتضته مطالعته من جذلنا وغبطتنا، إلى المستقرّ عندنا من محبته لنا، وإيثاره الذي لا يحتاج فيه إلى زيادة على معرفتنا فليعلم هذا وليعمل به. إن شاء الله تعالى.
وكما كتب القاضي الفاضل عن السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» إلى صاحب مكة المشرّفة، جوابا عن كتاب ورد منه عليه في معنى وصول غلال بعث بها إلى مكة ما صورته:
وصل كتابك، أيّها الشريف معربا عن المشايعة الشائعة أنباؤها، والمخالصة الخالصة أسرارها الوافرة أنصباؤها، وحسان الخلال، التي اقتسم طرفي الحمد إعادتها وإبداؤها، ومكرمات الآل، التي تساوى في اقتناء المجد أبناؤها وفضائل الإفضال، التي لا تخفّ على غير أهل العباء صلوات الله عليهم
أعباؤها. ونشر كتابك من محاسنك ما انطوى، ووردنا منه منهلا أروى وارده وارتوى ووقفنا منه على أثر فضل اشتمل على عين الكرم واحتوى، ووفقنا وإياه من الحمد ما لا نخلفه نحن ولا هو مكانا سوى (1) فاقتضانا مزيدا في رفع قدره، واختصاصه من الإنعام بكلّ غريب الموقع ندره، وأصرنا كتابه إلى مستقرّ كاتبه من قلب الودّ وصدره وكيف لا يكون ذلك وقد اشمخرّت لبيته الأنساب، وخرّت الأنصاب، وسجدت الرّقاب، وردّت له بعد ما توارت بالحجاب، وشهد بفضل توقيعهم الحرب وبفضل ليلهم المحراب.(7/114)
وصل كتابك، أيّها الشريف معربا عن المشايعة الشائعة أنباؤها، والمخالصة الخالصة أسرارها الوافرة أنصباؤها، وحسان الخلال، التي اقتسم طرفي الحمد إعادتها وإبداؤها، ومكرمات الآل، التي تساوى في اقتناء المجد أبناؤها وفضائل الإفضال، التي لا تخفّ على غير أهل العباء صلوات الله عليهم
أعباؤها. ونشر كتابك من محاسنك ما انطوى، ووردنا منه منهلا أروى وارده وارتوى ووقفنا منه على أثر فضل اشتمل على عين الكرم واحتوى، ووفقنا وإياه من الحمد ما لا نخلفه نحن ولا هو مكانا سوى (1) فاقتضانا مزيدا في رفع قدره، واختصاصه من الإنعام بكلّ غريب الموقع ندره، وأصرنا كتابه إلى مستقرّ كاتبه من قلب الودّ وصدره وكيف لا يكون ذلك وقد اشمخرّت لبيته الأنساب، وخرّت الأنصاب، وسجدت الرّقاب، وردّت له بعد ما توارت بالحجاب، وشهد بفضل توقيعهم الحرب وبفضل ليلهم المحراب.
فأمّا ما أشار إليه من الشّكر على ما سيّر من الغلّات التي كان الوعد بها علينا نذرا، وروّحنا بإرسالها قلبا وشرحنا بتسييرها صدرا وأنّها حلّت ربقة الجدب وفكّتها، وجلت هبوة القحط وكفّتها وهوّنت مصاعب المساغب، وخلفت سواحب السحائب، وأطفأت ولله الحمد بوار (2) النّوائب، فقد سررنا بحسنتنا جعله الله ممن تسرّه الحسنة، وقد نبّهنا من سنتنا لأن نستقبل بالحمد لولي السنة وقد قوّى النية وقوّمها، واستزاد لهم بلسان الشكر الفصيح، وتناول لهم بباع التلطّف الفسيح، وألقح لهم سحائب محلّه منها محلّ ملقحها من الرّيح واقتضى ما يعرضه أن خرج الأمر بأن يضاعف المحمول في كل عام، ولا يخصّ به خاصّ دون عام وأمرنا أن يوفّر جلب الجلّاب، وتوقر ظهور الرّكاب، ليجمع للحرم الشريف بين برّ البر والبحر، وبين حمل البطن والظّهر فتظلّ السنة ودودا ولودا، ويشاهد المحلّ الشريف وقد نأى عنه المحل شريدا وتحطّ القلوع عما يحطّ عنه أمثالها من السحائب، وتستريح الأنفس اللواغب (3)، فأما ما ألقاه إلى رسوله، فقد أسمع ما أسنده إليه، وأعيد بما يعيده عليه وقد تكاثرت بولاء الشريف الأشهاد، فغني عن الاستشهاد، وأغنته الحظوة بجميل رأينا عما نأى أخذه لشفعة العطاء بل لشفاعة الاجتهاد، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) السّوى: العدل. وسوى الشيء: وسطه.
(2) لعله: «أوار».
(3) لغب لغبا ولغوبا فهو لاغب وهن لواغب: تعب وأعيا. يقال: ألغبه السير: أتعبه.(7/115)
الجملة الثالثة (في الأجوبة الصادرة عن ملوك الغرب)
وهي على النحو المتقدّم، وربما صدّر بلفظ: «قد» ونحوها.
كما كتب أبو المطرف بن عميرة عن بعض ملوكهم (1) في جواب كتاب ورد عليه بطاعة بلد.
قد وصل كتابكم وصل الله معونتكم وكلاءتكم تذكرون ما تقرّر عندكم هنالك من أحوال تلك الجهة، وباشرتموه من أمورها وأنتم عندنا بمحلّ الصّدق، ومكان الإيثار للحقّ. وقد رسمنا لكم أن تثبتوا في أهل تلكم الجهات كلّها حميد الرأي فيهم، وحسن القبول لإنابتهم، وقصد الرّفق بخاصّتهم وعامّتهم وأنّا قد تقبّلنا أوبتهم، واغتفرنا زلّتهم وأولئكم المتشبّثون بسبب الذّمام، عرّفوهم أنكم رغبتم في شمول الصّفح عنهم، والإقالة لما كان منهم فأسعفنا رغبتكم فيهم، وأدخلناهم في العفو مع غيرهم، وبذلنا لهم الأمان، وأغضينا عن جميع ما كان فعرّفوهم بهذا كلّه، وأخبروهم عنّا بإعطاء التأمين لجميعهم وبذله وإن كان أطيب لنفوسهم أن يصلهم مكتوب بذلك عرفتمونا، ووجّهناه إليكم. وأقيموا أنتم هنالكم أيّاما خلال ما يصلكم من متثاقل الأحوال ما تطالعون به، وتخاطبون بما تعتمدونه إن شاء الله تعالى. أدام الله كرامتكم.
__________
(1) المراد به «طاغية الإفرنج» خايمه الأول، ملك أرغون الذي استولى على «ميورقة» قبل أن يستولي على «بلنسية». وقد كان ابن عميرة حاضرا في ميورقة عند تسليمها لملك أرغون سنة 627هـ / 1230م. والغالب أن ابن عميرة وهو المعروف بعلمه وجلال قدره قد اضطر للعمل في الكتابة للملك «خايمه» بعد سقوط ميورقه وهو فيها ليحقن دمه، حتى إذا أتيحت له فرصة الخروج منها والعودة إلى دار الإسلام فعل. وبالفعل غادر بلنسية بعد سقوطها سنة 636هـ وتوجه إلى المغرب حيث كتب للرشيد الموحدي. والحكاية رغم ذلك تبقى مستغربة مستنكرة من رجل في مكانة أبي المطرف بن عميرة، على حد تعبير الدكتور حسين مؤنس في مقدمته «للحلة السيراء».
(انظر مقدمة الحلة السيراء: ص 31وما بعدها. وانظر ترجمة ابن عميرة في حاشية ص 37من هذا الجزء).(7/116)
أشرتم في خطابكم إلى أنّ عندكم من تلك الأحوال ما تذكرونه مشافهة، وربما يكون ذلك أمدا يبنى عليه نظر، أو يتوجّه بحسبه عمل فمن الجيّد ان تكتبوا بشرحه، إن شاء الله تعالى والسلام.
الضرب الثاني (الأجوبة الواردة على الملوك)
وهي على نحو ما تقدّم في الأجوبة الصادرة عن الملوك من الابتداء بلفظ:
«وصل» إلا في الخطاب، فإن المكتوب عنه يقع الخطاب منه ب «الخادم أو المملوك أو العبد». ويخاطب الملك المكتوب إليه بمولانا أو مولانا الملك أو نحو ذلك وربما كتب بدل وصل: ورد.
كما كتب القاضي الفاضل عن السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» في جواب كتاب ورد عليه مخبرا فيه بالحركة للقاء العدوّ ما صورته:
ورد على المملوك أدام الله أيام المجلس العالي الملكيّ الناصريّ، ونصره على أعدائه، وملّكه أرضه بعدل حكم سمائه، ولا أخلى من نعمتي خيره ونظره قلوب وعيون أوليائه، وأعزّ الإسلام ورفع عن أهله البلوى بلوائه. الكتب القديمة التي تسرّ الناظرين من شعارها الأصفر، وتبشّر الأولياء إن كانوا غائبين مع الغيّب بأنّ حظّهم حاضر مع الحضّر وقد كانت الفترة قد طالت أيامها، واستطالت آلامها، والطّرقات قد سبق إلى الأنفس إبهامها.
فالحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن، وأولى من النعمة ما اشترى الحمد ثمن ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. ووعد [الله] سبحانه منتظر، إذ يقول في كتابه: {وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى ََ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} (1) وصدق صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «إنّ اختيار الله
__________
(1) النور / 55.(7/117)
للمؤمن خير من اختياره، وإنّ مواضع الأمل للعبد خير منها مواقع أقضية الله وأقداره». فقد كانت حركة احتاجت إليها البلاد التي انفصل عنها، والبلاد التي قدم عليها. أما المصرية منها فبكونها على عدة من نجدته آجلا، وأما الشامية فبكونها على ثقة من نصره عاجلا فقد تماسكت من المسلمين الأرماق، وقد انقطعت من المشركين الأعناق:
تهاب بك البلاد تحلّ فيها ... ولولا اللّيث ما هيب العرين!
وعرض المملوك ما وصل إليه من مكاتبات المولى على العلم العادليّ وأدركها تحصيلا، وأحاط بها جملة وتفصيلا والمولى خلّد الله ملكه فكلّ ما أشار إليه من عزيمة أبداها، ونية أمضاها، فهو الصواب الذي أوضح الله له مسالكه، والتوفيق الذي قرّب الله عليه مداركه ومن أطاع الله أطاعه كلّ شيّ، ومن استخاره بيّن له الرّشد من الغيّ والله تعالى يجعل له من كلّ حادثة نخوة (1)، ويكتب أجره في كلّ حركة ونفس وخطوة. إن شاء الله تعالى.
القسم الثاني (المكاتبات الصادرة عنهم إلى ملوك الكفر، وفيه طرفان)
الطرف الأول (في الابتداءات، وفيه ثلاث جمل)
الجملة الأولى (في المكاتبات الصادرة إليهم عن ملوك بلاد الشرق من بني بويه فمن بعدهم)
وقد كان الرسم فيها أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابي أو كتابنا إلى فلان» ويخاطب المكتوب إليه بملك الروم أو نحو ذلك، ويختم بقوله: فإن رأى ذلك فعل إن شاء الله تعالى.
__________
(1) من معاني النخوة: العظمة.(7/118)
كما كتب أبو إسحاق الصابي عن القائد أبي الفوارس ختور التركي المعزي، إلى وردس بن قنبر المعروف بعسقلاروس (1)
[كتابي إلى] ملك الروم الفاضل، الجليل، النبيل، الخطير، أدام الله كفايته وسلامته، ونعمته وسعادته، وعافيته وحراسته. من الحضرة الجليلة بمدينة السلام لثمان ليال خلون من ذي الحجة سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، وهو اليوم التاسع من أدار، عن شمول السلامة، وعموم الاستقامة وصلاح حالي في ظل
__________
(1) إن مضمون هذه الرسالة واللهجة التي يعتمدها أبو الفوارس التركي في مخاطبة ملك الروم تعطينا فكرة عن الحالة المزرية التي وصلت إليها الدولة العباسية في ذلك الوقت إزاء أطماع الروم البيزنطيين بها وهي لهجة مناقضة تماما لما رأيناه في رسالة الإخشيد إلى أرمانوس ملك الروم (راجع نص رسالة الإخشيد ص: 1810من هذا الجزء). والحقيقة أن فترة الطولونيين والإخشيديين تشكل نقطة مضيئة في تاريخ الدولة الإسلامية من حيث حمايتهم للثغور وتصديقهم للغزو البيزنطي. أما في عهد بني بويه فلم تكن الدولة العباسية أحسن حالا منها في عهد نفوذ الأتراك وعهد إمرة الأمراء فقد استبدوا بالسلطة دون الخلفاء، وقامت المنافسة بين أفراد البيت البويهي، مما أطمع البيزنطيين في الدولة العباسية، فاستولى القائد نقفور فوكاس الرومي على جزيرة كريت سنة 350هـ. ثم انتصر على سيف الدولة الحمداني ثم على كثير من مدائن الأناضول مثل مرعش ودبيق. وبالقرب من منبج أسر أمير هذه المدينة أبو فراس الحمداني الشاعر المشهور. ثم استولى نقفور على حلب حاضرة الحمدانيين. وكان لسقوط حلب في يد الروم أثر بالغ في نفوس المسلمين عامة وفي نفوس أهل بغداد خاصة. وبعد موت رومانوس، رابع أباطرة الدولة البيزنطية من سلالة باسيل (352هـ / 963م) تزوجت أرملته «تيوفونيا» من نقفور فوكاس (969963م)، ثم من قاتله «جون زيمسكيس»، ويسميه مؤرخو العرب ابن الشمشقيق (976969م) وامتدت غزوات هذين الامبراطورين من تلال كبادوكيا إلى صحراء بغداد. وقد تفاقم رعب الناس بما كان يذاع عن زيمسكيس وما كان يصحب ذكر اسمه من خوف وهلع. على أن مخاوف أهل بغداد قد تبددت بانسحاب البيزنطيين الذين لم يقووا على تحمل العطش والجوع في حربهم في الصحراء وتبع ذلك قيام «ورد بن قنبر السقلاروس» وهو ما يسميه القلقشندي: وردس ابن قنبر المعروف بعسقلاروس في الجهات الشرقية للامبراطورية البيزنطية ابتغاء الجلوس على العرش ومسيره بعد إخفاقه إلى بغداد طالبا النجدة من الخليفة العباسي الذي رحب به، وما تبع ذلك من توافد رسل الأمبراطور باسيل الثاني يطلبون تسليم برداس. (انظر: تاريخ الإسلام: 3/ 236 238237).(7/119)
الدولة المنصورة. والحمد لله رب العالمين وحده لا شريك له، وصلّى الله على محمد وآله وسلّم تسليما.
ووصل كتاب مولانا ملك الروم الفاضل الجليل الصادر عن العسكر بمرج لارضة بتاريخ التاسع من حزيران، وفهمته وجلّ عندي موقعه، وعظم في نفسي خطره وحمدت الله على ما شهد به من انتظام أحواله، واطّراد أموره وسألته أن يتمّم النعمة عليه، ويزيد فيها لديه، ويواصل إحسانه إليه، ويطيل مدّته، في أتمّ رشد وهداية، وأرفع قدم ومنزلة، وأعلى خطر ورتبة، بمنّه وطوله، وجوده ومجده.
فأما ما ذكره سيدنا الملك الجليل: من مقامه على العهد، وافتقاره إلى الميل والودّ، فذاك يوجب فضله البارع، وكرمه الشائع، وخلال الخير التي أهلّه الله لها، وخصّه الله بها، وبالله أحلف إنّني ما خلوت منذ افترقنا من مطالعة أخباره، وتتبّع آثاره، واستعلام مجاري شؤونه، والسرور بكل ما تمّ له ووصل إليه حتّى كأنني حاضر له، وضارب بأوفر سهم فيه، بل مخصوص بجميعه. والله يجريه على أحسن ما أولاه وعوّده، ولا يخليه من الصّنع الجميل فيما أعطاه وقلّده، برحمته.
وكنت قبل ذلك عند ورود رسولي في الدّفعة الأولى على غاية الغمّ وشغل القلب بسبب الغدر الذي لحقه من عدوّه الذي أظفره الله به وأنهيت ذلك في وقته إلى الملك السعيد الماضي، شرف الدولة (1)، وزين الملة رضي الله عنه.
فاشتغل قلبه رحمه الله به، وعمل على إنفاذ العساكر لنصرته ثم أتى من قضاء الله في أمره ما قد عرفه.
ولما انتصب في المملكة مولانا السيد بهاء الدولة (2)، وضياء الملة أطال
__________
(1) تمكن شرف الدولة البويهي من الحكم بعد انتصاره على أخيه صمصام الدولة بمساعدة الأتراك والديلم. وقد تلقاه الخليفة الطائع ببغداد وكتب له عهدا ولقبه شاهنشاه. وقد حكم شرف الدولة ببغداد مدة سنتين وثمانية أشهر ومات في جمادى الآخرة سنة 379هـ ولما يتجاوز الثمانية والعشرين من عمره. (تاريخ الإسلام: 5150).
(2) بعد خمسة أيام من وفاة شرف الدولة، ركب أخوه أبو نصر إلى دار الخلافة، فخلع عليه الخليفة.
الطائع الخلع السلطانية ولقبه بهاء الدولة وضياء الملة وقريء عهده بين يديه بالتقليد. وسرعان ما ساءت العلاقة بين بهاء الدولة والخليفة الطائع، فقبض بهاء الدولة على الخليفة وخلعه وبايع للقادر بالله سنة 381هـ. وازداد نفوئذ بهاء الدولة واستبد بالسلطة دون الخليفة وقد توفي في الخامس من شهر جمادى الآخرة من سنة 403هـ / 1012م بعد أن حكم أربعا وعشرين سنة (379 403هـ) وتسعة أشهر. (المرجع السابق.).(7/120)
الله بقاءه شرحت له ما جرى قديما على سياقته، ومهّدت الحال عنده، ووجدته أدام الله سلطانه معتقدا لسيدنا ملك الروم الجليل أدام الله عزّه أفضل اعتقاد، وسر بما انتهت إليه أموره، وتنجّزت الكتب إلى موصلها الرسول حفظه الله، وسمعت منه ما كان تحمّله عن سيدنا ملك الروم أدام الله تأييده، وأخرجت معه صاحبي أبا القاسم الحسين بن القاسم، وحمّلتهما جميعا ما ينهيانه إليه في سائر الأمور التي يرى عرضها ويحتاج إلى معرفتها.
وأنا أسأل سيدنا الملك الجليل أدام الله بركته تعجيل ردّه إليّ، فإنه ثقتي، ومن أسكن إليه في أموري وأن يتفضّل ويكلّفني حوائجه ومهمّاته، وأمره ونهيه لأقوم في ذلك بالحق الواجب له، فان رأى سيدنا ملك الروم الفاضل الجليل، الخطير النبيل، أن يعتمدني من ذلك بما يتضاعف عليه شكري، وتجلّ النعمة فيه عندي، ويشاكل الحال بينه وبيني، فعل إن شاء الله تعالى.
الجملة الثانية (في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية إليهم)
والذي وقفت عليه من ذلك أسلوب واحد: وهو الابتداء ب «أما بعد» والخطاب فيه بالملك، والاختتام بالدعاء.
كما كتب القاضي الفاضل عن السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» إلى بردويل أحد ملوك الفرنج، وهو يومئذ مستول على بيت المقدس وما معه،
معزّيا له في أبيه ومهنّئا له بجلوسه في الملك بعده، ما صورته: (1)
أما بعد خصّ الله الملك المعظّم حافظ بيت المقدس بالجدّ الصاعد، والسّعد الساعد والحظّ الزائد، والتوفيق الوارد وهنأه من ملك قومه ما ورّثه، وأحسن من هداه فيما أتى به الدهر وأحدثه فإن كتابنا صادر إليه عند ورود الخبر بما ساء قلوب الأصادق (2)، والنّعي الذي وددنا أنّ قائله غير صادق، بالملك العادل الأعزّ الذي لقّاه الله خير ما لقّى مثله، وبلّغ الأرض سعادته كما بلّغه محلّه معزّ بما يجب فيه العزاء، ومتأسّف لفقده الذي عظمت به الأرزاء إلا أنّ الله سبحانه قد هوّن الحادث، بأن جعل ولده الوارث وأنسى المصاب، بأن حفظ به النّصاب، ووهبه النعمتين: الملك والشّباب فهنيئا له ما حاز، وسقيا لقبر والده الذي حقّ له(7/121)
كما كتب القاضي الفاضل عن السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» إلى بردويل أحد ملوك الفرنج، وهو يومئذ مستول على بيت المقدس وما معه،
معزّيا له في أبيه ومهنّئا له بجلوسه في الملك بعده، ما صورته: (1)
أما بعد خصّ الله الملك المعظّم حافظ بيت المقدس بالجدّ الصاعد، والسّعد الساعد والحظّ الزائد، والتوفيق الوارد وهنأه من ملك قومه ما ورّثه، وأحسن من هداه فيما أتى به الدهر وأحدثه فإن كتابنا صادر إليه عند ورود الخبر بما ساء قلوب الأصادق (2)، والنّعي الذي وددنا أنّ قائله غير صادق، بالملك العادل الأعزّ الذي لقّاه الله خير ما لقّى مثله، وبلّغ الأرض سعادته كما بلّغه محلّه معزّ بما يجب فيه العزاء، ومتأسّف لفقده الذي عظمت به الأرزاء إلا أنّ الله سبحانه قد هوّن الحادث، بأن جعل ولده الوارث وأنسى المصاب، بأن حفظ به النّصاب، ووهبه النعمتين: الملك والشّباب فهنيئا له ما حاز، وسقيا لقبر والده الذي حقّ له
__________
(1) يقول الدكتور عبد القادر أحمد طليمات في دراسته عن وثائق القلقشندي في صبح الأعشى:
«والرسائل الديوانية كثيرا ما تغير مفهوم الدارس الحديث للأحداث في ضوء أخبار المؤرخ، أو في ضوء رسائل ديوانية أخرى. من ذلك الصورة المرسومة في الأذهان بأن سياسة صلاح الدين الأيوبي مع الصليبيين كانت سياسة عداء بحت، وكانت بالتالي سياسة خصومة وجفاء وبخاصة مع الحكام منهم ولكن الرسالة التي أرسلها صلاح الدين إلى «بلدوين الخامس» ملك بيت المقدس يعزيه فيها بوفاة والده، ويهنئه باستخلافه على مملكة بيت المقدس بعده وغبطة صلاح الدين باستخلافه وتمنياته الطيبة له بالتوفيق، تغير معالم هذه الصورة تغييرا تاما، وتكشف عن وجود أصول للعلاقات الدبلوماسية شبيهة بالعلاقات الدبلوماسية الحديثة. وأهمية هذه الرسالة ترجع إلى أنها أوقفتنا على سياسة صلاح الدين مع الصليبيين والتي لم ترد عند أي مؤرخ آخر ولا حتى عند المؤرخين المعاصرين لصلاح الدين كابن الأثير، والعماد الكاتب، وابن شداد، وهي سياسة التودد إلى الصليبيين عندما يكون مشغولا بغيرهم. ففي الفترة ما بين سنة 570هـ وسنة 581هـ كان صلاح الدين مشغولا بحروبه مع بني زنكي للاستيلاء على دولتهم في الشام والجزيرة، فأخذ يتودد إلى الصليبيين حتى ينال بغيته من الزنكيين، ثم اتجه بعد ذلك إلى الصليبيين يقاتلهم. والرسالة وإن كانت موجهة إلى بردويل وهو بلدوين الخامس ملك بيت المقدس الذي خلف أباه بلدوين الرابع إلا أنه يفهم من مضمونها، كما سنرى، أن الرسائل كانت متبادلة بين صلاح الدين وبين بلدوين الرابع الذي يصفه صلاح الدين بالصديق ويتأسف لفقده. وتاريخ هذه الرسالة يعود إلى سنة 581هـ هذا وقد استولى صلاح الدين على بيت المقدس سنة 583هـ. (انظر: القلقشندي وكتابه صبح الأعشى ص 144119).
(2) الأصادق: جمع جمع لصديق.(7/122)
الفداء لو جاز ورسولنا الرئيس العميد مختار الدين أدام الله سلامته قائم عنا بإقامة العزاء من لسانه، ووصف ما نالنا من الوحشة لفراق ذلك الصديق وخلوّ مكانه وكيف لا يستوحش ربّ الدار لفرقة جيرانه. وقد استفتحنا الملك بكتابنا وارتيادنا، وودّنا الذي هو ميراثه عن والده من ودادنا فليلق التحيّة بمثلها، وليأت الحسنة ليكون من أهلها وليعلم أنّا له كما كنا لأبيه: مودّة صافية، وعقيدة وافية، ومحبّة ثبت عقدها في الحياة والوفاة، وسريرة حكمت في الدنيا بالموافاة مع ما في الدّين من المخالفات. فليسترسل إلينا استرسال الواثق الذي لا يخجل، وليعتمد علينا اعتماد الولد الذي لا يحمل عن والده ما تحمّل والله يديم تعميره، ويحرس تأميره، ويقضي له بموافقة التوفيق، ويلهمه تصديق ظنّ الصديق.
الجملة الثالثة (في الأجوبة الصادرة إليهم عن ملوك الغرب)
والرسم فيه أن تفتتح المكاتبة بلفظ: «كتابنا» والمخاطبة بنون الجمع عن المكتوب عنه وميم الجمع عن المكتوب إليه، والاختتام بالسلام مع الدعاء بما يليق.
كما كتب أبو المطرّف بن عميرة عن أبي جميل زيّان (1)، إلى ملك قشتالة من بلاد الأندلس في مراودة الصّلح:
كتابنا إليكم أسعدكم الله برضاه، وأدام عزّتكم وكرامتكم بتقواه من مرسية (2)، ونحن نحمد الله الذي لا شيء كمثله، ونلجأ إليه في أمرنا كلّه، ونسأله
__________
(1) راجع الحاشية: 2ص: 37.
(2) مدينة وكورة من بلاد الأندلس، على البحر المتوسط، منها إلى بلنسية خمس مراحل، ومنها إلى قرطبة عشر مراحل. واسمها القديم «تدمير» نسبة إلى «تيودومير» حاكم هذه الناحية أيام فتح العرب للأندلس وقد استبد بأمر مرسية وكورتها الموليان العامريان خيران وزهير بعد انتثار عقد الخلافة، ثم ضمت الكورة الى بلنسية، وانفصلت عنها بعد ذلك. وفي أواخر أيام الموحدين استقل بها.
محمد بن يوسف بن هود الملقب بالمتوكل واصبحت تسمى في النصوص الإسبانية مملكة مرسية. وقد خرجت مرسية عن يد المسلمين نهائيا في جمادى الأول سنة 664 هـ / فبراير 1266م على يد خايمه الأول ملك أرغون الملقب بالفاتح. (انظر الحلة السيراء:
1/ 63حاشية والروض المعطار: 540539).(7/123)
أن يوزعنا شكر إحسانه وفضله وعندنا لجنابكم المرفّع تكرمة نستوفيها، ومبرّة ننتهي إلى الغاية فيها، وعلمنا بمحلّكم الشهير، وكتابكم الخطير، يستدعي الزيادة من ذلكم ويقتضيها وقد كان من فضل الله المعتاد، وجميل صنعه في انتظام الكلمة في هذه البلاد، ما اكتنفته العصمة، وكملت به النّعمة والمنّة وتيسّر بمعونة الله فتح أقرّ العيون، ورضيه الإسلام والمسلمون، وكانت مطالعتكم به مما آثرنا تقديمه، ورأينا أن نحفظ من الأسباب المرعيّة على التفصيل والجملة [حديثه وقديمه] (1) وحين ترجّحت مخاطبتكم من هذا المكان، ومفاوضتكم في هذا الشان، رأينا من تكملة المبرّة، وتوفية العناية البرّة، أن ننفذ إليكم من يشافهكم في هذا المعنى، ويذكر من قصدنا ما نولع به ونعنى، وهو فلان في ذكر السّلم ومحاولتها، ما يتأدّى من قبله على الكمال بحول الله تعالى. وإن رأيتم إذا انصرف من عندكم، أن توجّهوا زيادة إلى ما تلقونه إليه من رجالكم وخاصّتكم، في معنى هذا العهد وإحكامه، ومحاولته وإبرامه، فعلتم من ذلك ما نرقب أثره، ونصرف إليه من الشكر أوفاه وأوفره، إن شاء الله تعالى: وهو الموفّق لا ربّ سواه، والسلام الأتمّ عليكم كثيرا.
الطّرف الخامس عشر (المكاتبات الصادرة إلى ملوك الكفر في الأجوبة [وهي] (2) إما أن تصدّر بما يصدّر به الابتداء وقد تقدّم، وإما أن تصدّر بلفظ وصل أو ورد)
كما كتب بعض كتّاب الدولة الأيوبية عن الملك الجواد (3): أحد ملوكهم،
__________
(1) الزيادة لانتظام السياق.
(2) الزيادة لانتظام السياق.
(3) الملك الجواد هذا هو يونس بن مودود بن محمد الملك العادل «وفرانك» هو فردريك الثاني الذي.
تنازل له الملك الكامل الأيوبي عن عدة بلاد، ومنها بيت المقدس، وذلك بموجب معاهدة الصلح التي عقدت بينهما في سنة 626هـ / 1229م وبذلك أصبح فردريك ملكا على بيت المقدس. أما كتاب فرانك فلم يذكره القلقشندي ولا غيره من الكتاب أو المؤرخين. وقد ذكر ابن الجوزي في كتابه «مرآة الزمان» عن الملك الجواد أنه لما تقلبت به الأحوال بسبب خلافه مع أبناء أسرته قصد الصليبيين وأقام معهم، وحضر معهم غزوة «قلنسوة» وأنهم قتلوا ألفا من أهلها المسلمين وهو لا يحرك ساكنا. ومن المعروف عن الجواد أنه كان فيه طيش وحمق وتبذير، وكان يقول: «ما لي وللملك؟ باز وكلب أحب إليّ منه!». (انظر الأعلام: 8/ 236والقلقشندي وكتابه صبح الأعشى:
119).(7/124)
في أيام الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر، جواب كتاب ورد عليه من فرانك: أحد ملوك الفرنج في شعبان سنة ثلاثين وستمائة:
وردت المكاتبة الكريمة الصادرة عن المجلس العالي، الملك، الأجل، الأعز الكبير، المؤيّد، الخطير، العالم العامل، الظّهير، العادل، الأوحد، المجتبى، شمس الملة النّصرانية، جلال الطائفة الصليبية، عضد الأمة الفرنجية، فخر أبناء المعموديّة عمدة الممالك ضابط العساكر المسيحية، قيصر المعظّم فلان معزّ إمام رومية ثبّت الله لديه نعمه، وعزّز موارد جوده وديمه، وأمضى صوارم عزائمه وأعلى هممه، ولا برحت أنوار سعده، تتلالا، وأخبار مجده، تبسط وتتعالى، وسحائب الألسنة الناطقة بحمده تستهلّ (1) وتتوالى، إلى أن يتحلّى جيد الضّحى بعقود الليل، وتطلع الشعرى من مطالع سهيل (2) فجدّد الثناء على جلاله، وأكّد المديح لإحسانه وإفضاله وأنفس أسباب المودّة والحصافة، وشدّد أواخي الإخلاص والموافاة فاستبشرت النفوس بوروده، وسرّت القلوب بوفوده ووقف منه على الإحسان الذي نعرفه، ووجد عقده مشتملا على جواهر الوداد الذي نألفه فشكر الله على هذه الألفة المنتظمة، والمحبّة الصادقة المكرّمة.
والمجلس العالي الملك الأجلّ أعلى الله قدره، ونشر بالخير ذكره، أولى من
__________
(1) لعله: تنهمل.
(2) الشعرى: كوكب نيّر يطلع عند شدة الحرّ. وسهيل: نجم، قيل: عند طلوعه تنضج الفواكه وينقضي القيظ.(7/125)
أهدى المسرّات، بورود المراسم والحاجات، ووصل الأنس بكريم المكاتبات، مضمّنة السوانح والمهمّات.
فأما ما ذكره المقام العالي السلطانيّ الملكيّ الكامليّ الناصريّ زاده الله شرفا وعلوّا من أنه لا فرق بين المملكتين، فهذا هو المعتقد في صدق عهده، وخالص ودّه ولا زال ملكه عاليا، وشرفه ناميا، إن شاء الله تعالى.(7/126)
الفصل الرابع من الباب الثاني من المقالة الرابعة (في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية
، على ما استقر عليه الحال في ابتداء الدولة التركية وإلى زماننا على رأس الثمانمائة مما أكثره مأخوذ من ترتيب الدّولة الأيوبية التي هي أصل الدّولة التركية، وفيه [ثلاثة] (1) أطراف)
الطرف الأول (في المكاتبات الصادرة عنهم إلى الخلفاء من بني العبّاس)
قد تقدّم في الكلام على المكاتبات الصادرة عن الملوك إلى خلفاء بني العباس أنها على أساليب في ابتداء المكاتبات: منها ما يفتتح بآية من القرآن الكريم ثم بالسلام ومنها ما يفتتح بالسلام ابتداء ومنها ما يفتتح بالصلاة على الخليفة على مذهب من يرى جواز إفراد غير الأنبياء بالصلاة ومنها ما يفتتح بالدعاء لديوان الخلافة.
ولكن الذي ذكره المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله في كتابه «التعريف بالمصطلح الشريف» (2) مما الحال مستقرّ به أن المكاتبة إلى ديوان الخلافة الشريفة: «أدام الله أيام الدّيوان العزيز، المولويّ، السيّدي، النبويّ، الإماميّ، الفلانيّ» ثم الدعاء المعطوف، والصدر بالتعظيم المألوف وأنها قد تفتتح بغير هذا الدعاء نحو: «أدام الله سلطان» و «خلد الله سلطان» أو «أيام» أو غير ذلك
__________
(1) الزيادة لما يناسب المعدود على ما سيأتي.
(2) «التعريف بالمصطلح الشريف» لشهاب الدين، أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري المتوفى سنة 749هـ وقد رتبه على سبعة أقسام: 1في رتب المكاتبات 2في عادات العهود 3في نسخ الأيمان 4في الأمانات، 5في نطاق كل مملكة 6في مراكز البريد والقلاع 7في أصناف ما تدعو الحاجة إليه. (كشف الظنون: 420والأعلام: 1/ 268).(7/127)
مما يقتضي العزّ والدّوام. وأن الصدر نحو: «العبد، أو المملوك، أو الخادم، يقبّل الأرض أو العتبات أو مواطيء المواقف» أو غير ذلك. وأنّ ختم الكتاب يكون تارة بالدعاء، وتارة ب «يطالع أو أنهى» أو غيرهما مما فيه معنى الإنهاء. ويخاطب الخليفة في أثناء الكتاب بالديوان العزيز، وبالمواقف المقدّسة أو المشرّفة، والأبواب الشريفة، والباب العزيز، والمقام الأشرف، والجانب الأعلى أو الشريف. وبأمير المؤمنين مجرّدة عن سيدنا ومولانا، ومرّة غير مجرّدة، مع مراعاة المناسبة، والتسديد والمقاربة. وأن خطاب المكاتب عنه بحسب من كتب عنه:
فكتب بعض ملوك بني أيوب بالديار الشامية «الخادم». وبعضهم «المملوك» وبعضهم «العبد» وبعضهم «أقل المماليك» وبعضهم «أقلّ العبيد». وأن علاء الدين خوارزم شاه (1): صاحب بلاد خوارزم وما معها، وابنه جلال الدين (2) كانا يكتبان «الخادم المطواع»، وأن أمّ جلال الدين كانت تكتب «الأمة الداعية». قال:
في «التثقيف» (3): وعنوانه «الديوان العزيز» إلى آخر الألقاب، ثم الدعاء يعني من
__________
(1) هو علاء الدين محمد خوارزم شاه بن علاء الدين تكش (بضم التاء والكاف) سابع شاهات خوارزم من أتراك بلاد ما وراء النهر. حكم من سنة 596هـ إلى سنة 617هـ في عهد الخليفة العباسي الناصر (622575هـ). وقد امتدت الدولة الخوارزمية في عهده من حدود العراق غربا إلى حدود الهند شرقا، ومن شمالي بحر قزوين وبحر آرال شمالا إلى الخليج العربي والمحيط الهندي جنوبا. (انظر تاريخ الإسلام: 4/ 98وما بعدها).
(2) وهو جلال الدين منكبرتي (بفتح الميم والكاف والباء وسكون النون)، تصدى ببسالة لغزوات المغول بالرغم من ضعف إمكانات المواجهة لديه. وعندما بلغ جيشه الصغير نهر السند وجد نفسه وقد أحاطت به جموع كبيرة من المغول فهجم على أعدائه هجوم اليائس، ثم يمم بوجهه شطر النهر وألقى بدرعه عن جسده ثم امتطى صهوة جواده وعبر النهر، وتبعه قوم من أتباعه، ولكن أكثرهم غرقوا أو أغرقهم سهام المغول وغرقت أم جلال الدين وبعض نساء حرمه. وقد قيل إنهن سألن جلال الدين أن يأمر بإغراقهن خشية أن يقعن بأيدي المغول، ورأى جلال الدين استحالة العبور بهن فأمر بإغراقهن. وقد قتل سنة 629هـ. (تاريخ الإسلام: 4/ 103.
(3) «تثقيف التعريف بالمصطلح الشريف» لأحمد بن محمد المصري الحلبي الأصل المعروف بابن ناظر الجيش. كان كاتب الدرج الشريفة الناصرية. توفي سنة 786هـ. (ذيل كشف الظنون:
226 - ومعجم المؤلفين: 5/ 193).(7/128)
نسبة الصدر، نحو «أدام الله أيامه وخلّد الله سلطانه» وما أشبه ذلك. قال: وعادة العلامة إليه «الخادم» أو «المملوك» أو «العبد». وكتب بعضهم «أقلّ المماليك» وبعضهم «أقلّ العبيد». يريد أنّ العلامة تكون مطابقة لما يقع في أثناء المكاتبة عن المكتوب إليه من الخادم وغيره مما تقدّم ذكره، بحسب ما يؤثر الملك المكتوب عنه الخطاب به عن نفسه.
وهذه عدّة صدور مختلفات الابتداءات منقولة من التعريف وغيره.
أما قطع الورق الذي يكتب فيه إلى الخليفة، فقد تقدّم في الكلام على مقادير قطع الورق في المقالة الثالثة، نقلا عن ابن عمر المدائنيّ في «كتاب القلم والدواة» أنه يكتب للخلفاء في قرطاس من ثلثي طومار، وأن المراد بالطّومار الفرخة الكاملة، وأن المراد الورق البغدادي (1) وحينئذ فينبغي أن يجرى الأمر على ذلك تعظيما للخلافة.
صدر: أدام الله أيام الديوان العزيز، ولا زالت سيوف أوليائه في رقاب أعدائه محكّمة، وصنوف الكفّار، في أيدي عسكره الجرّار، بالنّهاب مقسّمة، وصفوف أهل الشرك مزلزلة بخوافق أعلامه المطهّرة وسنابك جياده المطهّمة ولا برحت ملائكة النصر من أمداده، وملوك العصر بيض الوجوه بتعظيم شعار سواده.
الخادم ينتهب ثرى العتبات الشريفة بالتقبيل، وينتهي في قصارى الطّلبات، على الوقوف في تلك الرّبوع، ويكلّل ربى تلك الساحات، هو وكلّ ابن سبيل بلآليء الدّموع، خضوعا في ذلك الموقف الذي تنكر القلوب فيه الصّدور، وتلصق منه الترائب بالنّحور (2) ويظهر سيما (3) الجلالة في الوجود، ويغدق على الأولياء فيعرفون بسيماهم من أثر السّجود. وينهي أن ولاءه القديم، وبلاءه
__________
(1) راجع في ذلك الجزء الثالث من الصبح: مقادير قطع الورق وأنواعه.
(2) الترائب: عظام الصدر مما يلي الترقوة والنحر: أعلى الصدر.
(3) السيما والسيماء: العلامة.(7/129)
العظيم، وأيّامه السالفة، وأفعاله التالدة والطارفة، وسوابق خدمه في امتثال الأوامر الشريفة التي لم يزل يتسارع إليها، ويقارع عليها، ويصارع غلب الأسود على تنفيذ مراسمها، وإقامة مواسمها، وإطارة صيتها، ودوام تثبيتها، تحمل الخادم على الاسترسال، وتجمل له السؤال، والذي ينهيه كذا وكذا.
صدر آخر: من «التعريف»: أدام الله سلطان الديوان العزيز، ولا زالت الخلائق بكرمه مضيّفة [والكتائب في هجير وطيسه مصيّفة] (1)، والأبصار في نصر أنصاره مصنّفة، والمواضي بأوامره في قبضات عساكره مصرّفة، والنقود إلا ما تشرّف باسمه مزيّفة، والقلوب في صدور الأعداء بخواطف رعبه مسيّفة (2)، والوعود إلا بما تنجزه مواهبه مسوّفة، والوغى لا ترى إلا برماحه مثقّفة، والسماء وإن علت لا تكون إلا لأذيال سيوفه مسجّفة (3)، والمهابة بسطاه إما للمعاقل فاتحة وإما عمّا يطمع أن تناله الأيدي منها مجحفة، والأمم على اختلافها تحت راياته المنصورة مقاتلة وأخرى له محالفة، والأعلام التي يأوي إليها الإسلام به جوار الجوزاء مخلّفة، والأبطال لقتال الكفر ببوارق سيوفه، قبل مضايق صفوفه، ومخانق زحوفه مخوّفة.
الخادم يقبل بولائه إلى ذلك الجناب، ويقبّل الأرض وكتابه يحسن المناب، ويقيل عثراته إذ كان به قد لاذ، ويقيم معاذيره إذ كان به قد عاذ، ويتسربل بطاعته سرابيل تقيه إذا خاف من سهام الدهر إلى مهجته النّفاذ، ويصول بانضمامه إلى تلك العصابة المنصورة لا بما يطبع من الفولاذ، ويجلّ تلك المواقف المقدّسة أن يبلّ مواطئها بدمعه، وأن يحلّ مواطنها بقلبه قبل أن يعاجل كلّ عدوّ بقمعه ويعدّ ما هدي إليه من الاعتصام بسببها سببا لفوزه، وموجبا لملك رقّ عنق كلّ عاص وحوزه وينهي كذا وكذا.
__________
(1) الزيادة عن الطبعة الأميرية، من «التعريف».
(2) مسيّفة: مضروبة بالسيوف، أو مشفّقة.
(3) مسجّفة: ساترة من السّجف والسّجاف: السّتر.(7/130)
صدر آخر: خلّد الله سلطان الديوان العزيز! ولا زالت أيامه شامخة الذّوائب، شارخة الصبّا [حتى] حيث يلحق الشّيب الشوائب، راسخة الفخار في الظّهور بالعجائب، نافخة في فحم الليل جمر الكتائب، صارخة والرعد ترتعد فرائضة بين السّحائب، ناسخة دولة كلّ علياء بما تأتي به من الغرائب، وتبذله من الرّغائب، فاسخة عقد كلّ خالع يردّه الله إليها ردّة خائب، باذخة على ماضي كلّ زمان ذاهب من عصور الخلفاء الشرفاء وآئب، سالخة لجلدة كلّ أيّم (1) ظنّ أنّ في أنياب رمحه النّوائب.
الخادم يقبّل العتبات الشريفة ساجدا بجبينه، وشاهدا يستأديه له على يمينه، وجاحدا كلّ ولاء سوى ولائه المعقود بيمينه، وعاقدا بشرف الانتساب إليه عقد دينه، وحامدا الله الذي جعله [من] (2) طاعة أمير المؤمنين عند حسن يقينه وعائدا بأمله إلى كرم تثمر به الآمال، وتقمر به اللّيالي لأنها شعاره الذي تضرب به الأمثال، وتمطر به السّحب الجهام (3) فتمحى بها آية الإمحال. وينهي ورود المثال الشريف الذي طلع نيّره فأنار، وسطع متضادّه فألّف بين الليل والنهار وأقبل فما رآه إلا كتابه الذي أوتيه باليمين، وسحابه الذي أعطيه يندى منه الجبين ونصره أكثر من الألوف، وأنصفه أعجل من السيوف، وزاحم به الدهر فضلا عن الصّفوف، وزار به الوغى لا يهابها وخطّيّات القنا وقوف فتشرّف به وطار بغير جناح، وقاتل بغير سلاح، وقرأه وبات قرّى له في السّماح، وتسلّمه كأنما تسنم به المعاقل وتسلّم منه المفتاح.
صدر آخر: خلّد الله أيام الديوان العزيز! ولا زالت سطواته تجمد برعبها
__________
(1) الأيّم، في جميع المعاجم: من لا زوج لها وهذا المعنى غير مناسب هنا. وفي القاموس: الأيّم (بتشديد الياء وكسرها): الحيّة. في اللسان والوسيط: الأيم (بتسكين الياء): الحيّة. قال أبو خيرة:
الأيم والأين والثعبان: الذكران من الحيّات، وهي التي لا تضر أحدا. ونحن نرجّح المعنى الأخير بضبط لفظه.
(2) زيادة «من» عن التعريف، وهي لازمة لوضوح المعنى.
(3) الجهام: السحاب لا ماء فيه. ويقال: جاءني من هذا الأمر بجهام: بما لا خير فيه.(7/131)
الأبطال المدجّحة، وتخمد بفيضها النّيران المؤججة، وتخمل بركز نفاذها إلى القلوب الرّماح المزجّجة (1)، وتبخّل معها بعوائد كرمها السحب المثجّجة (2)، وتخفّ لديها أوقار (3) الجبال المفجّجة (4)، وتخرّ بل تخور خوفا أن تترقّى إليها الأصوات المضجّجة، وتخصّ بالغرق من خاطر في بحارها الملجّجة، وتحلف بسلطانها للموت أشهى من البقاء إلى طرائد سيوفها المهجّجة (5)، وتخلّد النصر بحججها القائمة على الخصماء المتحجّجة.
الخادم يقلّب وجهه في سماء الفخار بتقبيل الأرض التي طالت السماء، فأطالت النّعماء، وفضلت النّجوم اللّوامع، وأوتيت بمالكها أعزّ الله سلطانه كلم الفضل الجوامع، وأحلّت شوامخ المجد من حلّها، وأجلّت قدر من جدّ فأجلّها، وأعطت مفاتيح الكنوز كنوز الشّرف لمن قبّلها كما يقبّل الحجيج الحجر، أو أمّلها كما يؤمّل الساري طلوع القمر وينهي كذا وكذا.
صدر آخر: قال في «التعريف»: وهو غريب الأسلوب.
أدام الله أيام العدل والإحسان، النّعم الحسان، والفضل المشكور بكلّ لسان الأيّام التي أشرق صباحها السّافر، وعمّ سماحها الوافر، وآمن بيمنها كلّ مسلم ضرب عليه سرادق الليل الكافر وعلت شموسها وقد جنحت العصور الذّواهب، وقدحت أشعّتها فأضاءت بين لابتي الغياهب (6) أيّام الديوان [العزيز
__________
(1) أزجّ الرمح: جعل له زجّا. والزجّ: الحديدة في أسفل الرمح.
(2) السحب المثجّجة: كثيرة الماء الشديد الانصباب. وفي التنزيل العزيز: «وأنزلنا من المعصرات ماء ثجّاجا».
(3) الأوقار: جمع وقر، وهو الحمل الثقيل.
(4) ذات الفجاج. والفجّ: الطريق الواسع البعيد. وفجّ الأرض: شقها شقا بالغا.
(5) يقال: هجّج البعير، إذا غارت عينه في رأسه من جوع أو عطش أو إعياء غير خلقة.
(6) اللّابة: الإبل المجتمعة السود والأرض ذات الحجارة السود. والمراد: أضاءت بين جناحي سوادها وظلماتها. والغياهب: الظلمات.(7/132)
المولوي، السيديّ، النبويّ، الإماميّ، الحاكميّ] (1)، لا برحت أيامه مفنّنة، (2)
وأحكامه مقنّنة، وسحبه على الظّماء محنّنة، وقربه بفقد ما حوته مجنّنة (3)، وحقائقه غير مظنّنة، وطرائقه للخير مسنّنة، والخلائق تحت جناح رأفته ورحماه مكنّنة ولا زال ولاؤه ضمير من اعتقد، وممير (4) من أخذ من الدهر ما نقد، ومبير الأسود المتضائلة لديه كالنّقد (5)، وسمير من تنبّه وضجيع من رقد، ومعير البرق ندى كرمه وقد وقد، ومغير متعالي الصّباح من راياته العالية بما عقد، ومجير من لاذبه حتّى لا يضرّه من فقد ومبير عداه برداه الذي إن تأخّر إلى حين فقد (6)
الخادم يخدم تلك العتبات الشريفة التي إن تاهت على السماء فما (7)، وإن دنت للتقبيل فإن الثّريّا تودّ أن تكون فما وينهب تراب تلك الأرض التي هي مساجد، ويقبّل ذلك البساط الذي لا موضع فيه إلا مكان لاثم أو ساجد وينزّهها عن سواكب دمعه: لأنّ ذلك الحرم [الآمن] (8) لا تطلّ فيه الدماء، ويجلّها عن مواقع لثمه لأنها لا تلثم السماء ويرفع صالح الدعاء وإنما إلى سمائها يرفعه، وينهي صادق الولاء وماثمّ من يدفعه، ويدّخر من صحيح العبوديّة ما يرجو أنه ينفعه ويطالع العلوم الشريفة بكذا وكذا.
صدر آخر: أدام الله النعمة على الدين والدنيا بإيالة الديوان العزيز! وأسبغ نعمه فالنّعم في ضمنها، وملأ الآمال منها وأفاض من أنوارها التي علم قرن
__________
(1) الزيادة عن الطبعة الأميرية، من «التعريف».
(2) مفنّنة: مزينة.
(3) القرب: جمع قربة، وهي ما يتقرب به إلى الله. ومجنّنة: مستورة محفوظة.
(4) الممير: المطعم من الميرة: الطعام يجمع للسفر ونحوه.
(5) النّقد: صغار الغنم، أو جنس منها صغير الأرجل قبيح الشكل يوجد بالبحرين.
(6) حذف جواب الشرط هنا ضرب من ضروب البلاغة. والمراد: فقد أمهل ولم يهمل.
(7) هنا أيضا حذف جواب الشرط. ولعل المراد: فما ذاك ببعيد عنها، أو نحو ذلك. وربما كان هذا الاستعمال والذي سبقه من دواعي إشارة صاحب «التعريف» إلى غرابة الأسلوب، إذ يستشف منه نوع من تجاوز الحد في مدح الملك أو الخليفة.
(8) الزيادة عن الطبعة الأميرية، من «التعريف».(7/133)
الشمس أنّه غير قرنها، وأدال دولته التي نزل الخلق من جنّات عدلها جنّات عدنها وأمضى سيوفها التي تعرب فيعرف ضمير النصر في لحنها (1)، وأعلى آراءها التي تلقى العداة بدروع يقينها، وتلقى الغيوب بسهم ظنّها ولا زالت البشائر تتبارى إليه بردها، ويضفو على أعطاف الإسلام بردها ولا برحت راياته سويدات (2)
قلوب العساكر، وأجنحة الدعاء المحلّق إلى أفق السماء من أفق المنابر، وولاؤها السّرّ المبهم الذي هو مما تبلى به السرائر (3) الخادم
صدر آخر: أعلى الله الموحّدين على الملحدين، وثبّت كلمة المتّقين على اليقين، بدوام أيّام الديوان العزيز، وروّض بولاته كل ديوان، ووسم بولائه كلّ أوان، وأنطق بحمده كلّ لسان، وألهم الخلق أن يعنونوا بطاعته صحائف الإيمان، وأسعدهم بما يتناولونه في الدنيا من كتب المنن وفي الآخرة من كتب الأمان فكلّها طائر في العنق يكون بالطاعة قلائد برّ في الأطواق، وبالمعصية جوامع أسر في الأعناق.
ورد على المملوك كتاب إن لم يكن أنزل من السماء، فهو من الذين أنزل عليهم كتاب من السماء، وإن لم تنزل ألفاظه بالماء، فهو من الذين أنزلت ألفاظ دعواتهم الماء وإن لم يكن كتاب العمل: لأنه ليس بيوم الكتاب، فإنه قطّ (4)
عجّل له قبل يوم الحساب ولولا أن أمّ الكتاب أعقمت (5) لكان ابن أمّ الكتاب، وإن هو إلا طائر ألزم في عنقه وما وكر طائره إلا المحراب.
صدر آخر: أتمّ الله ما أنعم به على الديوان العزيز وعلى الخلق، وأشرك في هذه النّعمة أهل الغرب والشّرق، وميّز الحظوظ فيها بحسب درجات السّبق. فإنه
__________
(1) اللحن هنا بمعنى اللغة والصوت. وليس في الأمر طباق، كما قد توحي به الجملة.
(2) السويدات: جمع سويداء. والسويداء من القلب: سواده.
(3) تبلى به السرائر: تختبر به الضمائر ومكنونات النفوس.
(4) القطّ: كتاب المحاسبة وهو أيضا الصكّ والنصيب.
(5) المراد: لولا أن الوحي قد انقطع بوفاة خاتم النبيين. عليه الصلاة والسلام(7/134)
{لََا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقََاتَلَ أُولََئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقََاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللََّهُ الْحُسْنى ََ} (1) والله لا يخلف موعده والديوان العزيز لا يكدّر مورده، ولا رفع عن أيدي الخلق يده، بل يجري عليها ما ضمّنه، ويمكّنها بما بسط لها في الأرض ومكّنه، ويرسل عليها سحائب رحمته، وينشيء منها ناشئة نعمته، ويوجّه إلى قلبها وجه كلّ أمل، ويفيض طوفانها فلا يكون به للغليل قبل، ولا يأوي إلى حصاة قلب (2) فيعصمها ولو أنه جبل.
قلت: ولم أقف على مكاتبة عن أحد من ملوك الديار المصرية إلى أبواب الخلافة مذ صارت دار الخلافة بالديار المصرية. والظاهر أنه لم تجر مكاتبة عن السلطان إلى الخليفة، لأن الخليفة لا يكاد يفارق السلطان سفرا ولا حضرا مفارقة توجب المكاتبة إليه، كما أشار إليه صاحب «التثقيف». وقد لوّح في «التعريف» إلى ذلك فقال: وأوّل ما نبدأ بما يكتب به إلى الأبواب الشريفة الخليفتية (كذا) زادها الله شرفا، جريا على قديم العادة، ورجاء لملاحظة السّعادة.
وهذه نسخة مكاتبة من هذا النوع مما كتب به القاضي الفاضل عن السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» رحمه الله إلى ديوان الخلافة ببغداد في أيام الناصر لدين الله بخبر ملك الألمان (3) من الفرنجة والقتال معه، في جواب كتاب ورد عليه، يوضّح في هذا الموضع بيان هذا الأسلوب، ويغني عن مراجعة [كثير] من الأمثلة المذكورة في المكاتبات إلى الخلفاء على ما تقدّم، وهو:
أدام الله ظلّ الديوان العزيز النبويّ، الإماميّ، الشريف الناصريّ، ومدّه على الأمة ظليلا، وجعل الأنوار عليه دليلا، وحاطه بلطفه وتقبّل أعماله بقبول
__________
(1) الحديد / 10.
(2) حصاة اللسان: طلاقته، وحصاة القلب: العقل والرزانة.
(3) لعل المقصود فريدريك برباروسا امبراطور المانيا الذي جاء على رأس مائة ألف جندي لاسترجاع بيت المقدس من صلاح الدين. وقد جاء في تلك الحملة، بالإضافة إلى فريدريك، كل من فيليب الثاني ملك فرنسا وريتشارد قلب الأسد ملك انكلترا. (انظر تاريخ الإسلام: 4/ 110).(7/135)
حسن وأنبتها، وأرغم أعداءه وكبتها، ومسّها بعذاب من عنده وسحتها ولا زالت رايته السوداء بيضاء الخبر، محمرّة المخبر في العداة مسودّة الأثر.
ورد على الخادم ما كوتب به من الديوان العزيز رائدا في استخلاصه، مبرهنا عن اختصاصه، مطلقا في الشّكر للسانه، وفي الحرب لعنانه ومقتضيا لأمنيّة كان يتهيّبها، ومفيضا لمكرمة لو سمت نفسه إليها كان يتهمها فلله هو! من كتاب كأنّه سورة وكلّ آية منه سجدة، قابله بالخشوع كأنما قلم الكتاب القضيب وطرسه البردة (1) وتلاه على من قبله من الأولياء مسترفها به لعزائمهم، مستجزلا به لمغانمهم، مستثبتا به للازمهم، مستدعيا به الخدمة للوازمهم، مرهفا به ظباهم في القتال، فاسحا به خطاهم يوم النّزال فأثّر فيه كالاقتداح في الزّند (2) وكالانبجاس من الصّلد، وكالاستلال من الغمد فشمّر من كان قد أسبل، وانتهى من كان قد أجبل (3) وكأنّما أعطوا كتابا من الدّهر بالأمان، أو سمعوا مناديا ينادي للإيمان وقالوا: سمعنا وأطعنا، وعلينا من الخدمة ما استطعنا هذا مع كونهم أنضاء زحوف (4)، وأشلاء حتوف، وضرائب سيوف قد وسمت وجوههم علامات الكفاح، وأحالت عرضهم أقلام الرّماح صابرين مصابرين، مكاثرين مكابرين، مناضلين مناظرين قد قاموا عن المسلمين بما قعد عنه سائرهم، ونزلوا بقارعة القراع فلا يسير عنها سائرهم وسدّست (5) كعوب الرّماح أنملهم، وأثبتوا في معترك الموت أرجلهم كلّ ذلك طاعة لله ولرسوله ولخليفتهما، وإذا رموا فأصابوا قالوا ولكنّ الله رمى.
__________
(1) الإشارة إلى قضيب وبردة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(2) الزّند: العود الأعلى الذي تقدح به النار؟ والعود الأسفل هو الزندة.
(3) أجبل فلان: بخل وامتنع عن العطاء وأخفف وصار إلى الجبل.
(4) يقال: فلان نضو سفر: مجهد من السفر وسهم نضو: فاسدة من كثرة ما رمي بها وجمع نضو:
أنضاء. والمراد: مع كونهم قد أجهدوا وهزلت أجسامهم من الزحف والجهاد.
(5) سدست أناملهم: كانت سادسة الأنامل الخمس. والمراد: كانت الرماح تلازم أيديهم، فهم على استعداد دائم للطعن والرمي.(7/136)
ومن خبر الكفّار أنهم إلى الآن على عكّا يمدّهم البحر بمراكب أكثر عدّة من أمواجه، ويخرج للمسلمين منهم أمر من أجاجه (1) قد تعاضدت ملوك الكفر (2)
على أن ينهضوا إليهم من كلّ فرقة منهم طائفة، ويقلّدوا لهم من كل قرن يعجز بالكرّة واصفه فإذا قتل المسلمون واحدا في البرّ بعث البحر عوضه ألفا، وإذا ذهب بالقتل صنف منهم أخلف بدله صنفا فالزّرع أكثر من الجداد (3)، والثمرة أنمى من الحصاد. وهذا العدو المقاتل قاتله الله قد زرّ عليه من الخنادق أدراعا متينة، واستجنّ من الجنويات (4) بحصون حصينة مصحرا ومتمنّعا، وحاسرا ومتدرّعا ومواصلا ومنقطعا وكلّما أخرج رأسا قد قطعت منه رؤوس، وكلّما كشف وجها كشف من غطاء أجسادها نفوس فكم من يوم أرسلوا أعنّة السوابق فذمّوا عقبى إرسالها، وكم من ساعة فضّوا فيها أقفال الخنادق فأفضى إليهم البلاء عند فضّ أقفالها إلا أنّ عددهم الجمّ قد كاثر القتل، ورقابهم الغلب قد قطعت النّصل لشدّة ما قطعها النصل. ومن قبل الخادم من الأولياء قد آثّرت المدّة الطويلة، والكلف الثقيلة، في استطاعتهم لا في طاعتهم، وفي أجوالهم (5) لا في شجاعتهم فالبرك (6) قد أنضوه، والسّلاح قد أحفوه، والدّرهم قد أفنوه وكلّ من يعرفهم من أهل المعرفة، ويراهم بالعين فما هم مثل من يراهم بالصّفة يناشد الله المناشدة النبويّة، في الصّيحة البدرية اللهم إن تهلك هذه العصابة، ويخلص الدعاء ويرجو على يد أمير المؤمنين الإجابة. هذا والساحل قد تماسك، وما تهالك وتجلّد، ما تبلّد وشجّعته مواعد النّجدة الخارجة، وأسلته عن مصارع العدّة الدّارجة فكيف به إذا خرج داعية الألمان، وملوك للصّلبان، وجموع ما
__________
(1) الأجاج: ما يلذع الفم بمرارته أو ملوحته.
(2) والإشارة هنا إلى الحملة الصليبية الثالثة.
(3) الجداد، بفتح الجيم وكسرها: أوان قطع ثمر النخل.
(4) لعل المراد: احتمى بالسفن الكبيرة الجنويّة (نسبة إلى جنوه بإيطاليا) كأنها الحصون الحصينة.
(5) الأجوال: جمع جول وهي الكتيبة الضخمة. والمراد: أثرت في أعدادهم لا في شجاعتهم.
(6) البرك: الصدر.(7/137)
وراء البحر، وحشود أجناس الكفر؟ وقد حرّم باباهم (1) لعنة الله عليهم وعليه كلّ مباح واستخرج منهم كلّ مذخور، وأغلق دونهم الكنائس، ولبس وألبسهم الحداد، وحكم عليهم أن لا يزالوا كذلك أو يستخلصوا المقبرة، ويعيدوا القمامة (2) {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطََانُ أَعْمََالَهُمْ وَقََالَ لََا غََالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النََّاسِ وَإِنِّي جََارٌ لَكُمْ} (3)
اللهم أخفر جواره، واصرف جوره، وأخلف وعده، واكسر ضمانه، وأنكصه على عقبه، وعجّل في الدنيا والآخرة منهم تبابه. وما بدأتنا به من نعمتك فلا تقطعه، وما وهبتنا من نصرك فلا تسلبه، وما سترته من عجزنا فلا تهتكه. [و] في دون ما الدّين مستقبله، وعدوّه خذله الله يؤمّله ما يستغرغ عزائم الرجال، ويستنفد خزائن الأموال، ويوجب لإمام هذه الأمة أن يحفظ عليها قبلتها، ويزيح في قتل عدوّها علّتها ولولا أنّ في التصريح، ما يعود على عدالته بالتّجريح، لقال ما يبكي العين وينكي القلوب، وتنشقّ له المرائر وتشقّ له الجيوب ولكنّه صابر محتسب، منتظر لنصر الله مرتقب، قائم في نفسه بما يجب ربّ إني لا أملك إلا نفسي وأخي، وها هو قد هاجر إليك هجرة يرجوها عندك مقبولة، وولدي وقد أبرزت لعدوّك صفحات وجوههم، وهان عليّ محبوبك بمكروهي فيهم ومكروههم. ونقف عند هذا الحدّ، ولله الأمر من قبل ومن بعد وإن لم يشتك الدّين إلى «ناصره» والحقّ إلى من قام بأوّله وإلى اليوم الآخر يقوم بآخره فإلى من
__________
(1) المقصود البابا رئيس الكنيسة النصرانية.
(2) المقصود: كنيسة بيعة القمامة. وهي كنيسة لها مكانة عظيمة عند النصارى، كانوا يحجون إليها.
وقد هدمت هذه الكنيسة سنة 400هـ (1009م) بأمر الحاكم بأمر الله، وظلت خربة حتى سنة 429 (1037م) حين عقد الامبراطور ميشيل هدنة مع والى بيت المقدس من قبل المستنصر بالله. وقد تعهد بتحرير خمسة آلاف أسير مسلم ومنح الحق بإعادة بناء الكنيسة، فأرسل المهندسين والمعماريين فورا من القسطنطينية وبنيت الكنيسة من جديد. (انظر: سفر نامة:
47 - وما بعدها).
(3) الأنفال / 48.(7/138)
يشتكى البثّ، وعند من يتفرج بالنّفث؟ ومنفعة الغوث قبل العطب، والنّجاء قبل أن يصل الحزام الطّبيين (1) والبلاغ قبل أن يصل السيل الزّبى.
فيا عصبة محمد صلّى الله عليه وسلّم اخلفه في أمّته بما تطمئن به مضاجعه، ووفّه الحقّ فينا فإنّا وإنّ المسلمين عندك ودائعه، وما مثّل الخادم نفسه في هذا القول إلا بحالة من وقف بالباب ضارعا، وناجى بالقول صادعا ولو رفعت عنه العوائق لهاجر، وشافه طبيب الإسلام بل مسيحه بالداء خامر ولو أمن عدوّ الله أن يقول فرّ لسافر، وبعد ففيه وإن عضّ الزمان بقيّة، وقبله وإن تدارأت الشّهّاد دريّة (2) فلا يزال قائما حتّى ينصر أو يعذر، فلا يصل إلى حرم ذرّية أحمد صلّى الله عليه وسلّم ومن ذريّة أيوب واحد يذكر.
أنجز الله لأمير المؤمنين مواعد نصره! وتمم مساعدة دهره! وأصفى موارد إحسانه! وأرسى قواعد سلطانه! وحفظه وحفظ به فهو خير حافظا (3)، ونصره ونصر على يديه فهو أقوى ناصرا، إن شاء الله تعالى.
ثم اعلم أن المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله قد ذكر في «تعريفه» أيضا أنّ المكاتبة إلى أبواب الخلافة من الملوك والسّوقة لا تختلف، بل تكون على الأنموذج المقدّم ذكره، واستلزم ذلك: فجرى على هذا المصطلح فيما كتب به إلى الديوان العزيز الحاكميّ، أحمد بن أبي الربيع سليمان (4) أحد الخلفاء
__________
(1) الطّبي: حلمة الضرع التي فيها اللبن والتي يرضع منها الرضيع، وقد يطلق على الضرع. الجمع:
أطباء. وهي لغير الإنسان. والنجاء: الإسراع.
(2) تدارأت: تدافعت. والدريّة: الدرئية، وهي ما يستتر به.
(3) من قوله تعالى في سورة يوسف / 64: «فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين» قال الطبري: وفيها قراءتان قراءة عامة أهل المدينة وبعض الكوفيين والبصريين: «فالله خير حفظا» بمعنى: والله خيركم حفظا. وقراءة عامة الكوفيين وبعض أهل مكة: «فالله خير حافظا» بالألف، على توجيه الحافظ إلى أنه تفسير للخير، والمعنى: خيركم حافظا. (انظر تفسير الطبري لسورة يوسف:
16/ 160).
(4) هو أحمد بن المستكفي بالله سليمان بن الحاكم بأمر الله الأول، أبو القاسم، الحاكم بأمر الله الثاني.
من خلفاء الدولة العباسية الثانية بمصر. بويع سنة 742هـ. وفوض الأمور للمنصور القلاووني واستمر إلى أن مات سنة 753في القاهرة. ولم يكن له من الأمر شيء. (الأعلام: 1/ 132).(7/139)
العباسيّين بالديار المصرية، عن رماة البندق (1) بالشام، جوابا عمّا ورد عليه من كتابهم، وهو متكلّم على رماة البندق يومئذ في أمر ناصر الدين بن الحمصيّ وهو أحد الرّماة.
أدام الله تعالى أيام الديوان العزيز، المولويّ، السيديّ، النبويّ، الإماميّ، الحاكميّ، ونصر به جمع الإيمان، وبشّر بأيّامه الزمان، ومتّعه بالملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده بما ورثه من سليمان ولا زال يخضع لمقامه كلّ جليل، ويعرف لأيامه كلّ وجه جميل، ويعترف لشرفه كلّ معترف بالتفضيل، ويشهد بنفاذ أوامره من ذوي نسبه الشريف كلّ أخ وخليل ولا كان إلّا كرمه المأمول، ودعاءه المقبول، وعدوّه المصروع ووليّه المحمول ولا برحت طاعته يعقد عليها كلّ جمع، ومراسمه ينصت إليها كلّ سمع، وطوائف الذين كذبوا عليه لا تتلى عليهم آياته إلا تولّوا وأعينهم تفيض من الدّمع.
المماليك يقبّلون الأرض بالأبواب العالية التي هي خطّة شرفهم، ومكان تعبّد القدماء منهم ومن سلفهم، ويلوذون بذلك المقام، ويعوذون بذلك الحرم الذي لا يبعد نسبه من البيت الحرام ويؤمّلون ذلك الكرم الذي ما منهم إلا من سعد به طائره، وجاءته به في وجه الصّباح أشائره وفي وجه العشاء بشائره فنالوا به أقصى المرام، وقضوا به من العمر ما إذا قالوا: يا سعد! لا يعنون به إلا ذلك الإمام وينتهون إلى ما ورد به المرسوم الشريف الذي ما من المماليك إلا من متّ لديه بتقديم عبوديّته ورقّه، وسارع إلى طائره الميمون وحمله بسبقه، وفتح له عينه وظنّ أنّه حاكم، وامتثلوا أمره وكيف لا تمتثل الرماة أمر الحاكم؟ ولا سيّما ابن عمّ
__________
(1) البندق: ويسمى أيضا «الجلاهق»، وسميت به أيضا قوس البندق. استعملت أيام المماليك بمصر لاطلاق كرات الرصاص. وهي قوس يتخذ من القنا ويلف عليه الحرير ويغرى، وفي وسط وتره قطعة دائرة تسمى الجوزة توضع فيها البندقة عند الرمي. وقد كان للبندق سوق خاص في مصر عرف باسم: البندقانيين. (التعريف بمصطلحات الصبح: 68).(7/140)
سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الامام الحاكم وأجلّوه عن رفعه على العين إذ كانت تلك بمنزلة الحاجب، وقدّموا إليه خفوق قلوبهم الطائرة وما علموا إن كانوا قاموا بالواجب ووقفوا على أحكام حاكمه فما شكّوا أنّ زمان هذا الفنّ بحياة ناصره في بغداد قد عاد، وأنّ مثاله المتمثّل في سواد الحدق مما حكته أيامه العبّاسيّة من شعار السّواد وعلموا ما رسم به في معني محمد بن الحمصيّ الذي ما نوّرت الليلة أكاريخه، ولا بعدت في الإقعاد له تواريخه بل أخمدت دموع ندمه نيرانه المشتعلة، وأصبح به لا يحمل القوس في يده إلا أنه مشغلة وما كان أنهاه الدّيوان العزيز مما لم تذكر الخواطر الشريفة بأنه قبة المفترى، وأنه صاحب القوس إلا أن ماله سعادة المشتري وأنه موّه تمويه الجاحد، وتلوّن مثل قوس قزح وإلا فقوس البندق لون واحد وأدلى بغروره، وعرض المحضر الذي حمله على تغريره وذلك في غيبة الأمير بهاء الدين أرسلان البندقدار الحاكمي، الذي لو كان حاضرا لكان حجّة عليه، ومؤكّدا لإبطال رميه وقوسه وبندقه في يديه لما تضمّنه الخطّ الشريف المقيّد اللفظ المكتتب على المصطلح، الساحب ذيل فخاره على المقترح، الذي هدى إلى الخير، وبدا به ما وهب من الملك السليمانيّ الذي أوتي من كلّ شيء وعلّم منطق الطير (1) فإنّه لم يكتب له إلا بأن يرمي على الوجه المرضيّ واستيفاء شروط البندق، والخروج من جميع الأشكال عملا بقواعده ويعلم بأنه ما رعى حقّ قدمته، ولا فعل في الباب العزيز ما يجب من التحلّي بشعار الصّدق في خدمته وأنه خالف عادة الأدب، وأخطأ في الكلّ لكنه ندب (2) وذلك بعد أن عمل له جميع رماة البندق، وسئل فأجاب: بأنه سالم من كل إشكال
__________
(1) النطق والمنطق هو اللفظ المعبر عما في الضمير. وقد يطلق لكل ما يصوت به على التشبيه أو التبع كقولهم: نطقت الحمامة. وفي قوله تعالى: {عُلِّمْنََا مَنْطِقَ الطَّيْرِ}: النمل / 16، سمي أصوات الطير نطقا اعتبارا لسليمان النبي فإنه يفهمه، فمن فهم من شيء معنى فإن ذلك الشيء بالإضافة إليه ناطق وإن كان صائتا. (الكليات: 4/ 18).
(2) ندبه للأمر فانتدب له أي دعاه له فأجاب. ورمينا ندبا أي رشقا. والندب: الخطر. وانتدب الشيء:
ظهر. والنّدب أيضا: القوس السريعة السهم فتأمل.(7/141)
يشكل، وأنه بعد أن أقعد رمى وحمل وحمل فشهد عليه السادة الأمراء ولاة العهد إخوة أمير المؤمنين ومن حضر، وكتبوا خطوطهم في المحضر وما حصل الآن عند عرض قصة المماليك بالمواقف المقدّسة، ووضوح قضيته المدنّسة: من التعجّب من اعتراف المماليك، لكونهم رموا معه بعد أن رأوا الخطّ الشريف وهو لفظ مقيّد، وأمر أيّد به رأي الإمام الحاكم بأمر الله المسترشد بالله والمؤيّد وكلّ ما أمر به أمير المؤمنين لا معدل عن طرقه، ولا جدال إلا به إذا ألزم كلّ أحد طائره (1)
في عنقه، وأمير المؤمنين بحر لا يرد إلا من علمه، وهو الحاكم ولا رادّ لحكمه.
وإنما ابن الحمصيّ المذكور عدم السّداد، وخالف جاري العادة في الحمّص فإنه هو الذي سلق في الافتراء بألسنة حداد ولم يوقف المماليك من الخط الشريف إلا على بعضه، ولا أراهم من برقه المتهلّل غير ومضه والذي أوقفهم عليه منه أن يرمي محمد بن الحمصيّ ويرمى معه، وكلمة أمير المؤمنين مستمعة، ومراسيمه متّبعة وإذا تقدّم كان الناس تبعه. غير أن المذكور بدت منه أمور قطع بها الأمير صارم الدين صاروجا الحاكم البندقدار (2) في حقه، وأقعده عن قدمته التي كان يمتّ فيها بسبقه وانتقل عنه غلمانه، وثقل عليه زمانه ونودي عليه في جمع كبير يزيد على تسعين قوسا، وجرح بخطإ بندقه جرحا لا يوسى ثم بعد مدّة سنين توسّل بولد الأمير المرحوم سيف الدين تنكز إلى أبيه، وتوصّل به إلى مراميه فأمر أن يرمى معه وهدّد المخالف بالضرب، ولم يرم معه أحد برضاه إلا خوف أن توقد نار الحرب، فلما مضت تلك الأيّام، وانقضت تلك الأحلام، جمع مملوك الأبواب العالية الأمير علاء الدين بن الأبو بكري الحاكم في البندق الآن من رماة البندق
__________
(1) قال تعالى: الإسراء / 13 «وكلّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا» والطائر هنا عمل الإنسان شبه بالطائر الذي يسنح ويتبرك به والطائر الذي يبرح فيتشاءم به. والسانح هو الذي طار إذا زجرته جاعلا ميامنه إلى مياسرك، والبارح يجعل مياسره إلى ميامنك.
(انظر: الميزان في تفسير القرآن: 13/ 53واللسان: مادة: ز. ج ر).
(2) البندقدار هو الذي يحمل قوس البندق خلف السلطان أو الأمير. والكلمة مركبة من لفظتين فارسيتين:
«بندق» و «دار». (انظر تأصيل الدخيل: 45والصبح: 5/ 458).(7/142)
جمعا كبيرا، واهتّم به اهتماما كثيرا وذكر أمر المذكور، وأحضر محضره المسطور ولم يكن عليه تعويل، ولا في حكم الحاكم المتقدّم تعليل، ولا عند هذا الحاكم الذي ادّعى له وادّعى عنده تجوز الأباطيل وتحقّق أنّ الحقّ فيما حكم به عليه فتبع، وترجّح أن لا يقام منه من أقعد ولا يوصل منه ما قطع فنّفذ حكم الحاكم المتقدّم، واستمرّ بقعوده المتحتّم ووافقه على هذا سائر الرّماة بالبلاد الشامية وحكّامها، ومن يرجع إليه في الرّماية وإحكامها وبطلت قدمة لمذكور التي ذهب فيها عمره ضائعا، وزمانه الذي لو اشتريت منه ساعة بالعمر لم يكن نافعا.
ولما ورد الآن هذا المرسوم الشريف زاده الله شرفا قبلوا الأرض لديه، وأوقفوا عليه حاكمهم المسمّى فوقف له وعليه وجمع له جمعا لم يدع فيه من الرّماة معتبرا، ولا من يلقم القوس وترا، ولا من إذا قعد كالعين جرى ما جرى، ثم قرأ عليهم ما تضمّن، ودعو الأمير المؤمنين ولم يبق منهم إلا من دعا أو أمّن وتضاعف سرورهم بحكمه الذي رفع الخلل، وقطع الجدل، وقالوا: لا عدمنا أيام هذا الحاكم الذي أنصف والإمام الذي عدل وبقى ابن الحمصى مثله، ونودى عليه إنّه من رمى معه كان مخطئا مثله ووقرت هذه المناداة في كلّ مسمع، وقرّت استقرار الفضل عليه المجمع، وذلك بما فهم من أمير المؤمنين وبنص كتابه المبين، وبما قضى الله به على لسان خليفته الحاكم والله أحكم الحاكمين وطالعوا بها وأنهوا صورة الحال، وجمعوا في إمضائه الآمال. لا زالت سعادة أمير المؤمنين منزّهة عن الشّبه، آخذة من خير الدارين كل اثنين في وجه، حتّى تحصل كلّ رمية من كثب، ولا يرمى في كل أمنة إلا كلّ مصطحب، ما غبّ في السماء المرزم (1)، ووقع العقاب على ثنيّة يقرع سنّه ويتندّم، وعلا النّسر الطائر والواقع على آثاره وسائر طيور النّجوم والحوّم إن شاء الله تعالى.
__________
(1) غبّ: بمعنى بعد. والمرزم: اسم لعدد من النجوم أشهرها مرزمان: هما الشعريان: العبور والغميصاء.(7/143)
قلت: وقد اعترض في «التثقيف» كلام المقرّ الشهابيّ بن فضل الله في «التعريف» فقال: وفيما ذكره في «التعريف» من التسوية في المكاتبة بين الملوك والسّوقة نظر. وما أشار إليه من النظر ظاهر: فإن الذي تجب مكاتبتهم به ما يكاتب به المرؤوس رئيسه بحسب ما تقتضيه الحال في ابتداء المكاتبات من يقبّل الأرض، كما تكاتب الملوك، بل هم بذلك أحقّ وأجدر. ويكون الخطاب لهم في أثناء المكاتبة بما أشار إليه في «التعريف» بالديوان العزيز، والمواقف المقدّسة أو المشرّفة، والأبواب الشريفة، والباب العزيز، والمقام الأشرف، والجانب الأعلى، ومولانا أمير المؤمنين، ونحو ذلك بحسب ما تقتضيه الحال على ما تقدّم ذكره.
الطرف الثاني (في المكاتبة إلى ولاة العهد بالخلافة)
أما على المصطلح القديم حين كانت المكاتبة إلى الخلفاء «لفلان من فلان» فقال في «صناعة الكتّاب»: ويكون التصدير في المكاتبة إلى وليّ العهد على ما تقدّم في المكاتبة إلى الخلفاء مع تغيير الأسماء، غير أنه جعل الفرق بين الإمام وغيره ممن يكاتب بالتصدير أن يقال للإمام في التصدير مع السلام: وبركاته، في أوّل الكتاب وآخره. ومن سوى الإمام تحذف وبركاته من التصدير وتثبت في آخر الكتاب.
وقد تقدّم أنّ التصدير إلى الخليفة حينئذ كان «لعبد الله أبي فلان فلان أمير المؤمنين، سلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فإني أحمد إلى أمير المؤمنين الله الذي لا إله إلّا هو، وأسأله أن يصلّي على محمد عبده ورسوله. أما بعد، أطال الله بقاء أمير المؤمنين إلى آخره، ويختم بقوله: والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته».
وحينئذ فتكون المكاتبة إلى وليّ العهد على ما أشار إليه في «صناعة الكتّاب» من الابتداء بالتصدير مع تغيير الأسماء: «لعبد الله أبي فلان فلان وليّ
عهد المسلمين، سلام على وليّ عهد المسلمين فإني أحمد إليه الله الذي لا إله إلّا هو، وأسأله أن يصلّي على رسوله صلّى الله عليه وسلّم. أما بعد: أطال الله بقاء وليّ العهد، ويختمه بقوله: والسلام على وليّ عهد المسلمين ورحمة الله وبركاته» أو نحو ذلك.(7/144)
وحينئذ فتكون المكاتبة إلى وليّ العهد على ما أشار إليه في «صناعة الكتّاب» من الابتداء بالتصدير مع تغيير الأسماء: «لعبد الله أبي فلان فلان وليّ
عهد المسلمين، سلام على وليّ عهد المسلمين فإني أحمد إليه الله الذي لا إله إلّا هو، وأسأله أن يصلّي على رسوله صلّى الله عليه وسلّم. أما بعد: أطال الله بقاء وليّ العهد، ويختمه بقوله: والسلام على وليّ عهد المسلمين ورحمة الله وبركاته» أو نحو ذلك.
وأما على المصطلح الذي حدث بعد ذلك، فقد ذكر المقرّ الشهابيّ بن فضل الله في كتابه «التعريف» أن رسم المكاتبة إلى وليّ العهد بالخلافة: ضاعف الله تعالى جلال الجانب الشريف، المولويّ، السيديّ، النّبويّ، الفلانيّ ثم الدعاء المعطوف. وأبدل في «التثقيف» لفظ الجانب بالجناب. والخطاب له بمولانا وسيدنا وليّ العهد ونحو ذلك. والتعبير عن المكتوب عنه ب «الخادم يقبل العتبات الشريفة أو اليد الشريفة» أو نحو ذلك. قال في «التثقيف»: والعلامة إليه «الخادم» والعنوان «الجناب الشريف» وبقية الألقاب المذكورة إلى آخرها.
قال: وهو (1) أحسن من الجناب: لعدم اشتراك غيره معه فيه بخلاف الجناب. قال: وهذا أيضا على عادة من تقدّم من الملوك، أما في زماننا وقبله بمدّة مديدة، فلم يتفق وجود وليّ عهد للخلافة وبتقدير وجوده فإذا لم يكن الخليفة يكاتب في هذا الأيام فكيف بوليّ عهده.
وهذه صدور مكاتبات إليه أوردها في «التعريف».
صدر: ضاعف الله تعالى جلال الجانب وأطلع مع وجود الشمس بدره التّمام، وأحوج مع زاخر الحبر منه إلى مدد الغمام، وقدّمه إماما على الناس وأطال بقاء سيدنا أبيه الإمام ولا عدم منه مع نظر والده الشريف جميل النظر، ولا برح صدر دسته (2) العليّ إذا غاب وثانيه إذا حضر ولا زال الزمان مختالا من جود
__________
(1) أي «الجانب» المذكور في عبارة التعريف.
(2) المراد: المقام الحاكميّ. والدست في الأصل: صدر المجلس، ودست الوزارة: منصبها.(7/145)
وجودهما لا عرّف الله الأنام قدره إلا بالزّهر والثّمر، ولا زاد فيض كرم إلا وهو من كفّ أبيه فاض أو من وبله العميم انهمر.
الخادم يخدم تلك العتبات الباذخة الشرف، الناسخة بما وجده من الخير في تقبيلها قول من قال: لا خير في السّرف. وينهي ولاء ما عقد على مثله ضمير، ولا انعقد شبيهه لولّي عهد ولا أمير وإخلاصه في انتماء أشرق منه على الجبين، وأشرف فرآه فرضا عليه فيما نطق به القرآن ورقم في الكتاب المبين.
صدر آخر: أعز الله أنصار الجانب الشريف، ولا حجب منه سرّ ذلك الجلال، ولا معنى ذلك البدر المشرق منه في صورة الهلال، ولا فيض ذلك السحاب المشرع منه هذا المورد الزّلال، ولا تلك المآثر التي دلّ عليها منه كرم الخلال، ولا تلك الشجرة المفرّعة ولا ما امتد منها به من الغصن الممتدّ الظلال، ولا ذلك الإمام الذي هو وليّ عهده وهو أعظم من الاستقلال.
الخادم يقبّل تلك اليد موفيا لها بعهده [ومصفيا منها لورده] (1) ومضفيا منها جلابيب الشرف على عطفه، وحسبه فخارا أن يدعى في ذلك المقام بعبده ويترامى على تلك الأبواب، ويلثم ذلك الثرى ويرجو الثواب.
صدر آخر: ولا زالت عهود ولايته منصوصة، وإيالته بعموم المصالح مخصوصة، وصفوف جيوشه كالبنيان مرصوصة، وقوادم أعدائه بالحوالق محصوصة (2)، وبدائع أنبائه فيما حلّقت إليه دعوته الشريفة مقصوصة [والوفود في أبوابه أجنحتها بالنّدى مبلولة مقصوصة] (3)
الخادم يجدّد بتلك الأعتاب خدمه، ويزاحم في تلك الرّحاب خدمه، ويقف في تلك الصّفوف لا تنقل عن الطاعة قدمه، ويتمثّل بين تلك الوقوف ويتميز عليهم
__________
(1) الزيادة عن الطبعة الأميرية، من «التعريف».
(2) القادم من الإنسان: رأسه، جمعه: قوادم. الحالقة والحالوق: الموت، ويقال: هوى من حالق:
هلك. أحصّه: أعطاه نصيبه وحصته. والمراد: لا زال نصيب أعدائه منه الموت والهلاك.
(3) الزيادة عن الطبعة الأميرية، من «التعريف».(7/146)
إذا ذكر في السوابق قدمه ويدلي بحجج سيوفه [التي أشهرها، وصروفه التي لاقى أشهرها، ومواقفه] (1) التي ما أنكرها الديوان العزيز مذ أثبتها، ولا حطّ رماحها مذ أنبتها، ولا محا سطورها، مذ كتبها، ليغيظ الأعداء ولا يشفي صدورها، منذ كبتها وينهي كذا وكذا.
صدر آخر: ولا زالت مواعيد الظّفر له منصوصة، ورؤوس من كفر بطوارقه (2) مرضوضة، وصحائف الأيام عما يسرّ به الزمان فيه مفضوضة، وجفون عداه ولو اتصلت بمقل النجوم مغضوضة، وطوارق (3) الأعداء التي تجنّهم منه بسيوفه معضوضة.
الخادم يخدم أرضه المقدّسة بترامي قبله، وتقليب وجهه إلى قبله ويتطوّف بذلك الحرم، ويتطوّل من فواضل ذلك الكرم ويتطوّق بقلائد تلك المنن، وفرائد تلك المواهب التي إن لم تكن له وإلا فمن فإنه، والله يشهد له، لا يعتقد بعد ولاء سيدنا ومولانا أمير المؤمنين، والقيم بأمور الدنيا والدّين، عليه الصلاة والسلام، إلّا ولاءها، ولا يؤمّل بعد تلك الآلاء إلّا آلاءها ولا يرجو من غير هذه الشجرة المباركة لأمله إثمارا، ولا لليله إقمارا ولا لأيّامه حافظا، ولا لحال إقدامه في قدم صدق ولائه لافظا قائما في خدم هذه الدولة القاهرة يجهد في منافعها [ويجدّ في كبت مدافعها] (4) ويدّخر شفاعتها العظمى إذا جاءت كلّ أمة بشافعها، وينهي كذا وكذا.
__________
(1) الزيادة من «التعريف».
(2) الطوارق: جمع طارقة، وهي الضاربة بالحصى للتكهن.
(3) الطوارق هنا جمع طارقة وهي عشيرة الرجل.
(4) الزيادة من «التعريف».(7/147)
الطرف الثالث (من المصطلح المستقر عليه الحال
، في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية إلى أهل المملكة: من مصر والشام والحجاز، وفيه ثلاثة مقاصد)
المقصد الأول (في المكاتبات المفردة، وفيه مسلكان)
المسلك الأول (في بيان رتب المكاتبات ورتب أهلها، وهي على ضربين)
الضرب الأول (المكاتبات إلى الملوك على ما كان عليه الحال في الزمن المتقدّم مما لعلّه يعود مثله، وهي الدعاء للمقام، وفيه مكاتبتان)
الأولى المكاتبة إلى وليّ العهد بالسلطنة
[وهي] (1) على ما ذكره في «التثقيف»:
أعزّ الله تعالى أنصار المقام العالي، الملكيّ، الفلانيّ، الأخويّ، أو الولديّ، إن كان أخا أو ولدا. ثم الدعاء اللائق به، ثم يقال: «أصدرناها إلى المقام العالي ويطالع علمه الشريف» والعلامة «أخوه» سواء كان أخا أو غير أخ، و «والده» إن كان والدا. ولم يذكر تعريفه، والذي يظهر أنه يكتب له «وليّ العهد بالسلطنة الشريفة». ولم يذكر قطع الورق لهذه المكاتبة، والذي يظهر أنه في قطع العادة على قاعدة المكاتبات إلى أهل المملكة. قال في «التثقيف»: ولعل هذه المكاتبة نظير ما كتب به إلى الملك الصالح علاء الدين عليّ ولد المنصور قلاوون: فإنه كان وليّ عهد أبيه المذكور، توفّي في حياته (2) ثم قال: ورأيت
__________
(1) الزيادة لانتظام السياق.
(2) توفي المنصور قلاوون في سادس ذي القعدة سنة 689هـ. وكان قد استلم الحكم في رجب سنة 678هـ. (انظر فوات الوفيات: 3/ 203).(7/148)
أمثلة كثيرة صدرت عنه بخلاص الحقوق، وعلامته عليها «علي بن قلاوون».
الثانية المكاتبة إلى صاحب حماة من بقايا الملوك الأيوبية
قبل مصيرها نيابة (1)، وآخر من كان منهم في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» الملك الأفضل ناصر الدين محمد بن الملك المؤيّد عماد الدين إسماعيل (2)، لمّا صارت إليه بعد أبيه المذكور.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التثقيف» في قطع العادة: «أعز الله تعالى أنصار المقام الشريف، العالي، السلطاني، الملكيّ، الأفضليّ، الناصريّ، ونحوهما». ثم الدعاء، وبعده «أصدرناها إلى المقام الشريف» والعلامة «أخوه» وتعريفه «صاحب حماة». قال في «التثقيف»: ولم يزل الحال على ذلك إلى أن عزل عنها الأفضل المشار إليه بعد الأيام الشّهيدية الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن السلطان الشهيد الناصر محمد بن قلاوون، واستقرّ بها بعده نائبا الأمير طغاي الحمويّ أمير مجلس (3) كان، فبقيت نيابة بعده إلى الآن.
__________
(1) كان المماليك قد قسموا بلاد الشام، بعد أن تمت لهم السيطرة عليها، إلى ست ممالك تضاف إليها بعض النيابات المستقلة. والممالك الشامية العادية هي دمشق وحلب وطرابلس وحماه وصفد والكرك. وجعل المماليك على رأس كل من هذه الممالك «نائب سلطنة» قابلا للعزل، يعينه السلطان من بين الأمراء الكبار بالقاهرة. وكانت الممالك تقسم إلى مناطق إدراية عرفت ب «الصفقات»، وكل صفقة تقسم إلى «نيابات» «وولايات». «والنيابة» وعلى رأسها النائب أكبر شأنا من «الولاية» وعلى رأسها الوالي أو المتولي (انظر منطلق تاريخ لبنان:
ص 131129).
(2) إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، الملك المؤيد، صاحب حماة: مؤرخ جغرافي، قرأ التاريخ والأدب وأصول الدين. له «المختصر في تاريخ البشر» ويعرف بتاريخ أبي الفداء، وله «تقويم البلدان». و «تاريخ الدولة الخوارزمية» وغيرها. توفي سنة 732هـ. (انظر الأعلام: 1/ 319وفوات الوفيات: 1/ 183ودائرة المعارف الإسلامية:
1/ 565).
(3) كانت وظيفة «أمير مجلس» من الوظائف الكبرى في الدولة المملوكية، بل إنها صارت في فترة من الفترات تلي وظيفة «الأمير الكبير» كما بين ذلك. وقد ذكر القلقشندي أن هذا.
اللقب كان يطلق على من يتولى أمر مجلس السلطان أو الأمير في الترتيب وغيره وهو الذي يتحدث على الأطباء والكحالين ومن شاكلهم، ولا يكون إلا واحدا. وأضاف القلقشندي قوله «والأفضل أن يقال فيه «أمير المجلس». (انظر التعريف بمصطلحات الصبح: 50والصبح: 5/ 455ونزهة النفوس: 1/ 46حاشية).(7/149)
الضرب الثاني (المكاتبات إلى من عدا الملوك من أرباب السيوف والأقلام وغيرهم ممن جرت العادة بمكاتبته، وفيه مهيعان)
المهيع الأول (في رتب المكاتبات، وهي على عشر (1) درجات)
الدرجة الأولى (الدعاء للمقرّ)
(2)
وصورته على ما ذكره في «التثقيف»: «أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم (3)، العالي (4)، المولويّ (5)، الأميريّ، الكبيريّ (6)، العالميّ (7)،
__________
(1) لم يذكر سوى ثمان درجات فتنبه.
(2) المقرّ: لقب شرف يمنحه السلطان لكبار أرباب الوظائف الديوانية وكذلك ينعم به على الامراء.
(التعريف بمصطلحات الصبح: 322).
(3) من أعلا الألقاب التي تصدر «بالمقر». واللقب من ألقاب صاحب هراة، وأورده شهاب الدين الفارقي في دستوره عن نائب الشام، كما أورده الصلاح الصفدي في دستوره عن نائب الشام أيضا، وورد في بعض الدساتير عن نائب حلب. (انظر الصبح: 6/ 148132131127).
(4) العالي: من الألقاب الفروع في عصر المماليك، وكان من الجائز أن يصف الألقاب الأصول جميعها، وكانت رتبته أعلى من السامي الذي كان يشترك معه في وصف «المجلس». وكان «العالي» أيضا من الألقاب التي تجري مجرى التشريف، فكان يوصف به بعض أشياء على سبيل التشريف.
ففي عصر المماليك البحرية أطلق على متعلقات النائب الكافل أو النواب بالممالك الشامية، في حين كان «الشريف» لقبا على متعلقات السلطان. فإذا كان الأمر صادرا من نائب السلطنة كان يكتب ما صورته «بالإشارة العالية الكافلية الفلانية أعلاها الله تعالى». وكذلك في حالة التوقيع عن النواب بالممالك الشامية كان الأمر يوصف «بالعالي» لا «بالشريف» فيقال «رسم بالامر العالي المولويّ السلطاني الملكي الفلاني». ولكن في عصر المماليك البرجية استقر الحال على استعمال.
«الشريف» و «العالي» لكل من السلطان ونوابه، فكان يقال في حالة التوقيع عن النائب «رسم بالأمر الشريف العالي» كما كان يكتب عن السلطان وكان اللقب يستعمل أيضا في مستند عهد السلطان وولاة العهد بالخلافة عن الخليفة، فكان يكتب «بالإذن العالي المولوي الإمامي النبوي الفلاني (بلقب الخلافة) اعلاه الله تعالى». كما كان يوصف به أمر السلطان إذا كان الوزير يكتب على المراسيم ونحوها «امتثل الأمر العالي». وفضلا عن ذلك كان اللقب يأتي على صيغة التفضيل «الأعلى» ضمن ألقاب ملوك المغرب حسب عادتهم في التلقيب بالتفضيل من الصفات. (الألقاب الإسلامية: 392391).
(5) تطور استعمال هذا اللفظ فأتي به كلقب على سبيل التواضع مما حدا ببعض الكتاب إلى الدعوة إلى صرف النظر عن استعماله للأعلى حتى لا يكون موضعا للتأويل غير أنه استعمل كلقب رفيع بمعنى السيد فأطلق على الحاكم وكذلك على رؤساء الحشيشية (وهم الباطنية الذين أطلق عليهم فيما بعد الحشيشية نسبة إلى حشيشة الكيف من باب التحقير. ومن الحشيشية لفظة التي تطلقها عليهم المصادر الفرنجية المعاصرة لدورهم) وكذلك استعمل اللقب في القرن السادس الهجري ثم في عصر المماليك فأطلق على السلطان ومن ذلك أن صلاح الدين أطلق لقب «المولى» على نور الدين حين أشار إليه في بعض مكاتباته بتاريخ سنة 559هـ. كما أطلقه القاضي الفاضل بدوره على صلاح الدين عندما كتب إليه يستأذنه في أداء فريضة الحج. وكان يطلق أيضا على الخلفاء ومن ذلك ما كتبه ابن الأثير بشأن بعض المكاتبات التي صدرت الى صلاح الدين من الخلافة بخصوص اللقب وقد جاء فيها «وما يستصلحه المولى فعلى عبده حرام». وفضلا عن ذلك فقد أطلق لقب «المولى» على الأمراء وكبار رجال الدولة. (انظر صبح الأعشى: 6/ 32والألقاب الإسلامية: 516ومنطلق تاريخ لبنان: 97حاشية).
(6) من الألقاب المشتركة بين العسكريين والمدنيين، وهو في الأصل خلاف الصغير والمراد به الرفيع الرتبة. (الصبح: 6/ 24).
(7) هو أصلا من ألقاب العلماء، إلا أنه كان من الألقاب المشتركة في الاصطلاح بين رجال الحرب والإدارة. وكان من الألقاب التي يعتز بها الملوك، وفي هذه الحالة كان يردف غالبا «بالعامل» و «بالعادل». وقد أطلق على معز الدولة أرسلان تكين أبي الفضل العباسي وعلى الخاقان تنغج خان إبراهيم وكذلك على المدرس المفتي الشيخ أمين ابن الشيخ أحمد. وفي عصر المماليك كان اللقب يأتي غالبا ضمن ألقاب السلاطين مجردا من ياء النسبة أما في حالة غيرهم من رجال الدولة فكان بصيغة النسبة. وكان يأتي أحيانا على صيغة التفضيل «الأعلم» وفي هذه الحالة كان يطلق على ملوك المغرب كعادتهم في ألقاب التفضيل. (الألقاب الإسلامية: ص 390والصبح: 6/ 9619 118).(7/150)
العادليّ (8)، المؤيّديّ (9)، الزّعيميّ (10)، العونيّ (11)، الغياثيّ (12)، المثاغريّ (13)،
__________
(8) العادل: من ألقاب الملوك ونحوهم من ولاة الأمور، وهو من أعلى الصفات لهم. واطلق اللقب على الوزراء أيضا فنعت به بعض الوزراء الفاطميين مثل المغربي الذي جاء بعد البابلي خليفة.
اليازوري، وكذلك الوزير أبي الفضل بن المدبّر، كما ورد ضمن ألقاب الوزير نظام الملك.
وعرف اللقب في عصر المماليك فأطلق مجردا من ياء النسب على السلاطين بينما استعملت النسبة «العادلي» لأكابر العسكريين من النواب ونحوهم. وقد دخلت صفة التفضيل منه «أعدل» في تكوين بعض الألقاب المركبة مثل «أعدل الملوك والسلاطين» الذي أطلق على السلطان سنجر بن أبي الفتح محمد. وكان مؤنث اللقب «العادلة» يطلق على بعض الملكات غير المسلمات، وكانت صورة ما يكتب لهن «المكرمة المبجلة الموقرة العالمة في ملتها العادلة في رعيتها». (الألقاب الإسلامية: ص 389388).
(9) وكان من ألقاب الأمراء في رتبة «السامي» فما دونه في عصر المماليك، وفي هذه الحالة كان بدون ياء النسب. وفي حالة إطلاقه على أكابر الأمراء يضاف إليه النسب «المؤيدي». (الصبح: 6/ 32).
(10) النسبة إلى الزعيم. والزعيم في اللغة بمعنى السيد والكافل، وكأنه بولايته على القوم سادهم أو كفلهم وتولاهم، ولذلك استعملت الزعيمي في ألقاب أرباب السيوف دون من هم دونهم، فاختص اللقب بكبار رجال الدولة لأهمية الملقب به. (الصبح: 6/ 15).
(11) من الألقاب المختصة بأكابر العسكريين. ولم يستعمل مجردا عن ياء النسب لوقوع العون على الواحد من أعوان صاحب الشرطة ونحوه. (الصبح: 6/ 21).
(12) من ألقاب العسكريين، وأكثر استعماله للملوك، وهو في اللغة اسم من استغاثني فغثته. وأصله «الغواثي» بالواو، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. (الصبح: 6/ 21).
(13) المثاغر: من ألقاب السلطان. والمراد القائم بسد الثغور. و «المثاغري» نسبة إليه للمبالغة، وهو من ألقاب كبار العسكريين كنواب السلطنة ونحوهم. (الصبح: 6/ 26).(7/151)
المرابطيّ (14)، الممهّديّ (15)، المشيّديّ (16)، الظّهيريّ (17)، العابديّ (18)،
__________
(14) اللقب ظهر صدى لبعض مظاهر النهضة السنية التي قامت على أكتاف السلاجقة وتعهدها من بعدهم الأتابكة، ثم أشعل جذوتها الحربية الجهاد ضد الصليبيين في عصر الأتابكة والأيوبيين والمماليك. ولقد كانت هذه النهضة تستمد حيويتها من تعاليم الإسلام الأولى في جانبي السلم والحرب. واللقب خاص بكبار العسكريين كنواب السلطنة. (التعريف بمصطلحات الصبح:
307).
(15) نسبة إلى الممهّد وهو الذي يمهد الممالك ويدوّخها. واللقب لكبار العسكريين. (الصبح:
6/ 71).
(16) نسبة إلى الفاعل من التشييد. والمراد أنه يشيد قواعد المملكة ويرفعها، وهو من ألقاب الوزراء ومن في معناهم وقد كتب به للنائب الكافل وورد في ألقاب نائب الشام. (الصبح: 6/ 70 134).
(17) استعملت النسبة «الظهيري» كلقب فرعي في عصر المماليك ولذا لم يستعمل مجردا من ياء النسب لاختصاص المظاهرة بأكابر أرباب السيوف. (الصبح: 6/ 18).
(18) كان من ألقاب الصوفية ورجال الدين، وقد يستعمل لغيرهم من العسكريين ورجال الإدارة إذا اتصف أحدهم بالصلاح أو إذا سبق إطلاقه على موظف في نفس وظيفته لاتصافه بالعبادة ومن امثلة هذه الأخيرة أن اللقب اطلق على بيدمر الخوارزمي من حين تولى نيابة الشام وذلك لما عرف عنه من الصلاح، وقد لزم من جاء بعده من نواب الشام على سبيل التقليد والوراثة وبعد ذلك اطلق على النائب الكافل بحجة إطلاقه على من هو أدنى منه رتبة وهو نائب الشام. (الصبح: 6/ 19).(7/152)
الناسكيّ (1)، الأتابكيّ (2)، الكفيليّ (3)، الفلانيّ معزّ الإسلام والمسلمين، سيد أمراء العالمين، ناصر الغزاة والمجاهدين، ملجإ الفقراء والمساكين، زعيم جيوش الموحّدين، أتابك العساكر، ممهّد الدّول، مشيّد الممالك، عماد الملة، عون الأمة، ظهير الملوك والسلاطين، عضد أمير المؤمنين». ثم الدعاء المعطوف والتصدير المناسب: مثل أن يقال: «ولا زال عزمه مؤيّدا، وعزّه مؤبّدا، وسعده على ممرّ الجديدين مجدّدا أصدرناها إلى المقرّ الكريم تهدي إليه من السلام أتمّه، ومن الثناء أعمّه». ثم يقال: «وتبدي لعلمه الكريم كذا وكذا، ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره الكريم بكذا وكذا، فيحيط علمه الكريم بذلك، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه».
الدرجة الثانية (الدعاء للجناب الكريم)
(4)
وصورته على ما أورده في «التثقيف» عما استقر عليه الحال «أعزّ الله تعالى نصرة الجناب الكريم، العالى، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ،
__________
(1) أحواله قريبة جدا من أحوال «العابدي».
(2) هذه صيغة تدل على المبالغة. وهي من ألقاب أمير الجيوش ومن في معناه كالنائب الكافل، ولو أنها بالأتابك أخص إلا أن بعض المؤلفين المحدثين يرى أن استعمال هذه الصيغة يدخل ضمن عادة الكتاب في أواخر العصر المملوكي حيث كانوا يستعملون ألقاب الوظائف التي من أصل غير عربي بياء النسبة في غالب الأحيان. ومهما يكن من شيء فإن النقوش المعروفة من عصر المماليك تتفق مع الرأي الأخير. (الصبح: 6/ 65والألقاب الإسلامية: 125).
(3) «الكفيلي» أرفع رتبة من «الكافلي»، واللقب يطلق على نائب السلطنة. وعلو رتبته عن الكافل لأنه على صيغة فعيل وهو أبلغ من صيغة فاعل. (الصبح: 6/ 25).
(4) قال القلقشندي في الصبح: 12/ 288 «ويكتب به للطبقة الثالثة من أرباب الوظائف الديوانية، وبإضافة «العالي» إلى البعض من كتاب الإنشاء والجيش بحلب».(7/153)
المؤيّديّ، الزعيميّ، العونيّ، الغياثيّ، المثاغريّ، المرابطيّ، الممهّديّ، المشيّديّ، الظهيريّ، الكافليّ، الفلانيّ عزّ الإسلام والمسلمين، سيف الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة (1) والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين، سيف أمير المؤمنين». ثم الدعاء والتصدير المناسب، مثل أن يقال: «ولا زالت عزائمه مؤيّدة، وأوامره السعيدة مسدّدة صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما طيّبا، وثناء مطنبا وتوضّح لعلمه الكريم كذا. ومرسومنا للجناب الكريم أن يتقدّم أمره الكريم بكذا وكذا فيحيط علمه الكريم بذلك، والله تعالى يؤيده بمنّه وكرمه».
قلت: والذي في «التعريف»: «أعز الله تعالى أنصار الجناب الكريم، بإبدال نصرة بأنصار واختلاف بعض الألقاب المتقدّمة».
الدرجة الثالثة (الدعاء للجناب العالي بمضاعفة النعمة)
وصورته على ما في «التثقيف»: «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، العونيّ، الزّعيميّ، الممهّديّ، المشيّديّ، الظهيريّ، الكافليّ، الفلانيّ عزّ الإسلام والمسلمين، سيف الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحدين، مقدّم العساكر، ممهّد الدّول، مشيّد الممالك، عماد الملة، عون الأمّة، ظهير الملوك والسلاطين، سيف أمير المؤمنين». ثم الدعاء والتصدير المناسب، مثل:
__________
(1) من الواضح أن استعمال هذه الكلمة هنا ليس بالمعنى الاصطلاحي الحديث حيث يرتبط الغزو بمفهوم العدوان والقرصنة، وانما هو إحياء للمفهوم الجهاديّ من الغزو وما يرافق ذلك من المرابطة والمثاغرة واستنقاذ الحقوق المستلبة أو المبادرة إلى الهجوم على أهل الكفر المتربصين بالإسلام إذا هي عودة إحيائية لمفاهيم «المغازي» و «الفتوح» و «السّير» (السّير بمعنى المغازي كما رأينا في كتاب السّير الكبير للشيباني والصغير للعراقي). (راجع الحاشية: 14الصفحة 152).(7/154)
«ولا زال قدره عاليا، ومدحه متواليا، وجيد الدّهر بمحاسنه حاليا وتوضّح لعلمه الكريم كذا ومرسومنا للجناب العالي أن يتقدّم أمره الكريم بكذا فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه».
الدرجة الرابعة (الدعاء للجناب العالي بدوام النعمة)
وصورتها على ما أورده في «التثقيف»: «أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيديّ، الأوحديّ، النّصيريّ، العونيّ، الهماميّ، المقدّميّ، الظّهيريّ، الفلانيّ، عزّ الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، مقدّم العساكر، كهف الملّة، ذخر الدّولة، عماد المملكة، ظهير الملوك والسلاطين، حسام أمير المؤمنين» والدعاء والتصدير المناسب، مثل أن يقال: «ولا زال قدرة رفيعا، وعزّه منيعا، و (1) مريعا. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما طيبا، وثناء صيبّا» ثم يقال: «وتوضّح لعلمه المبارك كذا، فيحيط علمه الكريم بذلك والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه».
الدرجة الخامسة (الدعاء للمجلس (2) بدوام النعمة)
ورسمها: «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، العونيّ، الأوحديّ (3)، النّصيريّ، الهماميّ (4)،
__________
(1) بياض بالأصل. واقترح مصحح الطبعة الأميرية أن تكون «وجنابه مريعا».
(2) المجلس: من القاب أرباب السيوف والأقلام ممن لم يؤهل لرتبة الجناب، وربما لقب به بعض الملوك في المكاتبات السلطانية، وهو من الألقاب التي كانت مستعملة في الدولة العباسية والدولة الفاطمية وقد كثر تلقيب صلاح الدين الأيوبي بالمجلس في مكاتبات القاضي الفاضل والعماد الأصفهاني وهما من كتاب الدولة الأيوبية. (راجع الصبح: 5/ 497496).
(3) يشير اللقب إلى أن صاحبه في درجة رفيعة بالنسبة لأفراد الطائفة التي ينتمي إليها. لذلك فقد كان.
يطلق على العديد من أرباب الوظائف على اختلاف طوائف وظائفهم. أما إذا أطلق على صغار الكتاب فلا تثبت «الياء» في ألقابهم. (انظر الصبح: 6/ 1110).
(4) وكان يلقب به أيضا الملوك الأجانب.(7/155)
المقدّميّ، الظهيريّ، الفلانيّ عزّ الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، مقدم العساكر، كهف الملة (1)، ظهير الملوك والسلاطين، حسام أمير المؤمنين» ثم الدعاء والتصدير المناسب، مثل:
«ولا زال عاليا قدره، نافذا أمره، جاريا على الألسنة حمده وشكره. صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي تهدي له سلاما، وثناء بسّاما» ثم يقال: «وتوضح لعلمه المبارك كذا. ومرسومنا للمجلس العالي أن يتقدّم أمره المبارك بكذا، فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يؤيده بمنّه وكرمه».
الدرجة السادسة (صدرت والعالي، ويعبّر عنها بالساميّ بالياء)
وصورتها على ما في «التثقيف»: «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العضديّ، الذّخري، النّصيريّ، الأوحديّ، العونيّ، الهماميّ، المقدّميّ، الظهيريّ، الفلانيّ مجد الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء المقدّمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، مقدّم العساكر، ذخر الدولة، كهف الملة ظهير الملوك والسلاطين» ثم الدعاء المناسب، مثل: «أدام الله سعادته، وأجزل من الخير برّه وإفادته، موضّحة لعلمه المبارك كذا ومرسومنا للمجلس العالي أن يتقدّم بكذا، فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يؤيده بمنّه وكرمه».
__________
(1) ورد اللقب في ألقاب قطلوبغا ايناق أحد امراء الألوس ببلاد أزبك، وورد أيضا في ألقاب نائب الكرك وورد كذلك في ألقاب أمير آل فضل من عرب الشام. (الصبح: 6/ 13913767 140).(7/156)
الدرجة السابعة (صدرت والسامي (1)، ويعبر عنها بالساميّ بغير ياء)
وصورتها: «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، الأميريّ، الأجليّ، الكبيريّ، العضديّ، الذّخريّ، النّصيريّ، الأوحديّ، الفلانيّ مجد الإسلام، بهاء الأنام، شرف الأمراء، زين المجاهدين، عضد الملوك والسلاطين» ثم الدعاء مثل: «أدام الله سعادته، وأجزل من الخير عادته تتضمّن إعلامه كذا، ومرسومنا للمجلس السامي أن يتقدّم بكذا، فليعلم ذلك ويعتمده، والله الموفّق بمنّه وكرمه».
الدرجة الثامنة
«يعلم مجلس الأمير، الأجلّ، الكبير، الغازي، المجاهد، المؤيّد فلان الدين، مجد الإسلام، بهاء الأنام، شرف الأمراء، زين المجاهدين، عدّة الملوك والسلاطين» والدعاء، مثل: «أدام الله سعده، وأنجح قصده أنّ الأمر كذا ومرسومنا له أن يتقدّم بكذا، فليعلم ذلك ويعتمده، والله الموفّق بمنّه وكرمه».
قلت: وقد تقدّم في أول المكاتبات أنه يتعين أن يكون الدّعاء للمكتوب إليه مناسبا للحال، مثل أن يكون موافقا لاسم المكتوب إليه أو لقبه أو وظيفته، أو محلّ نيابته، أو الأمر المكتوب بسببه: من استطلاع أمر، واسترهاف عزم، وفتح وظفر وبشارة وغيرها وما يجري مجرى ذلك، وتقدّم هناك ذكر جملة من الأدعية في الأمور المختلفة المعاني.
__________
(1) من ألقاب المجلس. وهو أدنى تابعي اللقب الأصل «المجلس» في عصر المماليك وهما «العالي» و «السامي». و «السامي» على درجتين: أعلاهما مع ياء النسبة، وأدنى من ذلك من غير ياء، وتتبعه الألقاب المفردة بحسب حاله (أي بياء أو بدونها). وكان يأتي مباشرة بعد «السامي» في سلسلة الألقاب في عصر المماليك ما يميز نوع المكتوب إليه: فإذا كان من الصوفية وأهل الصلاح جاء بعده لقب «الشيخي» أو «الشيخ»، وإذا كان من التجار لحق به لقب «الصدري» أو «الصدر».
(الألقاب الإسلامية: 316).(7/157)
ونحن نذكر هنا نبذة من الأدعية والتصديرات اللائقة المتقدّمة، مما يدعى به للنوّاب ومن في معناهم ليقرب تناوله باقترانه بصور المكاتبات».
الأدعية والصدور لنوّاب السلطنة (أدعية تصلح للنائب الكافل) (1)
ولا زالت كفالته تبسط المعدلة، وعزائمه على الإنصاف والإسعاف مشتملة، وتقدماته تبلّغ كلّ ذي قصد أمله. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تهدي إليه من السلام أكمله، ومن الثناء الحسن أجزله، وتبدي.
آخر: ولا زالت الممالك كلّها في كفالته، والمسالك على اختلاف طرقها آئلة إلى إيالته، والملائك محوّمة على بنوده محتفّة بهالته، والأرائك لا تثنى إلا على دست فخاره ولا تعدّ إلا لجلالته. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تخصّه بأفضل السلام، وأطيب الثناء المرقوم على أعلى الأعلام وتبدي.
آخر: ولا زالت كفاية كفالته تزيد على الآمال، وتتقرّب إلى الله بصلاح الأعمال، وتكفل ما بين الجنوب وأقصى الشّمال. أصدرناها إلى المقرّ الكريم وصدرها بذكره منشرح، وببرّه فرح، وبعلوّ قدره في أيامنا الزاهرة يسرّ ويؤمّل منه ما يزيد على أمل المقترح، وتبدي.
أدعية تصلح لنائب الشام المحروس
و [لا زالت] (2) الممالك [تؤيد] (3) بعزمه ورأيه تأييدا، والدول [تسدّد] (4)
بكفالته تسديدا و [تشيد] (5) تشييدا. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تهدي إليه سلاما
__________
(1) يحكم النائب الكافل في كل ما يحكم فيه السلطان ويعلم في التقاليد والتواقيع والمناشير. وجميع نواب الممالك تكاتبه فيما تكاتب فيه السلطان ويراجعونه فيه كما يراجع السلطان ويعين أرباب الوظائف الجليلة كالوزارة وكتابة السر بعد مشاورته، وقل ألايجاب فيما يعينه. وهو، كما يقول القلقشندي، سلطان مختصر، بل هو السلطان الثاني. (التعريف بمصطلحات الصبح: 346راجع أيضا الصبح: 4/ 16و 5/ 454453).
(2) الزيادة يقتضيها انتظام الكلام.
(3) الزيادة يقتضيها انتظام الكلام.
(4) الزيادة يقتضيها انتظام الكلام.
(5) الزيادة يقتضيها انتظام الكلام.(7/158)
تضاعف أجزاؤه، وثناء يبهج الخواطر سناؤه، وتبدي لعلمه.
آخر: ولا زالت النفوس بيمن كفالته فائقه، والخواطر في محبته متوافقة، والألسن بشكر محاسنه ناطقة، وقلوب الأعداء من بأسه ومهابته خافقة. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تهدي إليه أنواع السلام المتناسبة وأجناسه المتناسقة، وتثني على أوصافه التي أصبحت الأفواه في ذكرها صادقة، وتبدي لعلمه.
آخر: ولا زالت عزائمه مرهفة الحدّ، وكفالته كفيلة بنجح القصد، ومغانمه في سبيل الله تعرب عن الاجتهاد في قهر الأعداء والجدّ. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تهدي إليه سلاما يفوق شذاه العنبر والنّدّ، وثناء مجاوزا أبدا الحصر وأمدا العدّ وتبدي لعلمه.
آخر: ولا زالت قلوب أهل الإيمان من كفالته مؤتلفة، وفرق أهل (1)
من بأسه وخوفه مختلفة، وأحوال أهل العناد بجميل تدبيره في استطلاعها واضحة منكشفة. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تثني على همّته التي لم تزل على المصالح معتكفة، وتهدي إليه تحية شموسها مشرقة غير منكسفة وتبدي لعلمه.
آخر: ولا زالت سعادته بحكم الأقدار دائمة، والمعدلة بجميل حلمه وصائب رأيه قائمة، والعيون بيمن كفالته في مهاد أمنه نائمة. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تهدي إليه تحية طيّبة المسرى، وثناء حسن وصفا وطاب ذكرا، وتبدي لعلمه.
آخر: ولا زال النصر حلية أيامه، وشامة شامه وغمامة ما يحلّق على بلده المحضرّ من غمامه. أصدرناها إلى المقرّ الكريم بسلام لا يرضى حافر جواده الهلال نعلا، ولا يحظى به إلا بلده ونخص منه الشرف الأعلى وتبدي لعلمه.
آخر: وسقى عهده العهاد (2)، وشفى بعدله العباد، وزان به حسن بلده التي
__________
(1) بياض بالأصل، ولعله «الكفر».
(2) العهاد: مطر أول السنة مفرده: عهدة. والعهاد أيضا: مكان نزول المطر، وهو المراد.(7/159)
لم يخلق مثلها في البلاد، وهي إرم ذات العماد. أصدرناها إلى المقرّ الكريم بسلام تسرّ به النفوس، ويطوّق به فضله الجامع وتتحلّى به العروس وتبدي لعلمه.
آخر: ووقى بسور جيوشه الممتنعة ضرر الضّرّاء، وكسر بأسود جنوده ذئاب الأعداء الضّراء، وسبق دهماء الليل وشهباء النهار [وحمراء الشفق] (1) وصفراء الأصيل وشقراء البرق بسابقته الخضراء. أصدرناها إلى المقرّ الكريم بسلام يملأ حدق حدائقه نورا، وقلب عساكره سرورا.
أدعية وصدور (تصلح لكلّ من النائب الكافل، ونائب الشام، ومن في معناهما كالأتابك ونحوه)
دعاء من ذلك: ووصل المسارّ بعلمه الذي لا ينكر، وحلمه الذي يشكر، وحكمه الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. أصدرناها إلى المقرّ الكريم بسلام يسرع إليه، وثناء يرد منّا عليه وتبدي لعلمه.
آخر: ولا زالت الدّول برأيه مقبلة السّعود، مترقّية في الصّعود، مملوءة الرّحاب: تارة تبعث البعوث وتارة تفد عليه الوفود. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تهدي إليه من السلام أشرقه نجوما، ومن الثناء أغدقه غيوما وتبدي لعلمه.
آخر: ولا زالت الممالك بآرائه منيرة، وبراياته لأعدائها وأعداء الله مبيرة، وبرؤياه تتضاءل الشموس المشرقة وتخجل السّحب المطيرة. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تهدي إليه من السلام درره، ومن الثناء غرره، وتبدي لعلمه.
آخر: ولا برحت آراؤه كالنّجوم بعيدة المدى، قريبة الهدى، متهلّلة كالغمام: للأعداء منها الصّواعق وللأولياء منها النّدى. أصدرناها إلى المقرّ
__________
(1) الزيادة عن الطبعة الأميرية، من «التعريف».(7/160)
الكريم بسلام حسن الافتتاح، وثناء كما نظم الوشاح وتبدي لعلمه الكريم.
آخر: ولا برحت آراؤه تنير غياهب الخطوب، وعزائمه تثير سنابك الجياد للجهاد فتظفر من التأييد بكلّ مطلوب، وصوارمه تفتك بالأعداء فتهتك منهم كلّ ستر محجوب. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تهدي إليه سلاما أزهى من الزّهر، وأبهى من روض وافى نضارته النظر، وتبدي لعلمه.
آخر: ولا برح التأييد يصحب رايته، والعزم يخدم عزمته، والرّعب يؤمّ طليعته، والظّفر يحكّم في العدو سيفه فلا يستطيع عاصي الحصون عصمته.
أصدرناها إلى المقرّ الكريم تكافي بمزيد الشّكر همّته، وتوافي إليه بثناء واف يحسد المسك نفحته وتنهي لعلمه.
آخر: ولا برحت سيوفه تسيل يوم الرّوع جداولها، وعزائمه تنصر كتائبها وجحافلها، ومنزلته على ممرّ الزمان بين السّماكين منازلها. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تثني على محاسنه التي بهرت أوصافها، واختالت في ملابس الحمد أعطافها وتبدي لعلمه.
أدعية وصدور (تصلح لنائب حلب المحروسة)
دعاء من ذلك: ولا زال يعدّ ليوم تشيب منه الولدان، ويعدّ دونه [كلّ محارب] (1) بينه وبين الشّهباء والميدان، ويعمّ حلب من حلى أيامه ما لا يفقد معه إلا اسم ابن حمدان.
فإن كان لقبه سيف الدين، قيل «ويعمّ حلب من حلى أيامه ما لا يفقد معه سيف الدّين إن فقد سيف الدولة بن حمدان. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب
__________
(1) الزيادة من «التعريف».(7/161)
الكريم تهدي إليه سلاما ما مرّ على روض إلا انتهب طيبه نهبا، وثناء تعقد له أعلامه على كتيبته الشّهبا وتوضّح لعلمه».
آخر: وفتح بسيوفه الفتح الوجيز (1)، وأحلّ عقائل المعاقل منه في الكنف الحريز، وأعاد به رونق بلد ما جفّت بها زبدة حلب وهو فيها العزيز. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب الكريم بسلام ذهبه لا يذهب، وثناء لا تصلح لغير عقيلة الشهباء قلادة عنبره الأشهب، وتوضّح لعلمه الكريم.
آخر: ولا زالت هممه مطلّة على النّجوم في منازلها، مطاولة للبروق بمناصلها، قائمة في مصالح الدول مقام جحافلها. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب الكريم تهدي إليه سلاما كالدّرر، وثناء طويل الأوضاح والغرر وتبدي لعلمه.
آخر: وأمدّه بعونه، وجمّله بصونه، ولا زال رأيه في النقيضين: لهذا سبب فنانه ولهذا علّة كونه. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب الكريم تهدي إليه سلاما رطيبا، وشكرا يكون على ما تخفي الصدور رقيبا وتوضح لعلمه.
آخر: وأعلى له من الأقدار قدرا، وضاعف لديه من لدنه سرورا وبشرا، ولا أعدم الممالك من عزائمه تأييدا ونصرا. صدرت هذه المكاتبة إلى الباب الكريم تهدي إليه سلاما يفوق الزّهر، ويسابق في سيره الشمس والقمر، وتبدي لعلمه.
آخر: وخصّه بجميل المناقب، ومنحه من المزيد علوّ المراتب، وضاعف لديه من الإيثار شريف المواهب. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب الكريم تهدي إليه سلاما كرم وفوده، وثناء حسن وصفه وعذب وروده وتوضّح لعلمه.
آخر: ولازالت الخواطر تشهد منه صدق المحبّة، والنفوس تتحقّق أنه قد جعل النصيحة لأيامنا الشريفة دأبه. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب الكريم
__________
(1) الوجيز: السريع.(7/162)
تهدي إليه سلاما زاكية أقسامه، وثناء كمل عقده واتّسق نظامه وتوضح لعلمه الكريم.
آخر: وزاد عزمه المبارك تأييدا، ومنح نعمه على ممرّ الأوقات مزيدا، وجعل حظّه من كلّ خير سعيدا، وسعده بتجديد الأيام جديدا. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب الكريم تهدى إليه تحية حسن إهداؤها إليه، وثناء يبهج الخواطر وروده عليه وتوضح لعلمه.
آخر: وجعل السعد المؤبّد من مغانمه، وأقامه لإبقاء الخير في معادنه وإثبات العزّ في معالمه. صدرت هذه المكاتبة إلى الباب الكريم تهدي إليه تحية طاب نشرها العاطر، وثناء أبهج ذكره الخاطر وتوضح لعلمه.
آخر: ولا زال بالملائكة منصورا، وبمزيد النّعم مسرورا، وبكلّ لسان موصوفا مشكورا. صدرت هذه المكاتبة إلى الباب الكريم تهدي إليه سلاما يضوع نشره، وثناء يفوح عطره، وتوضح لعلمه.
دعاء وصدر (يصلح لنائب السلطنة بطرابلس)
[(1) وهو من هذه النّسبة وما يبعد منها.
والدعاء مثل قولنا: وأطاب أيّامه التي ما رقّت على مثلها أسحار، وعدّد في مناقبه العقول التي تحار، وأخذ بنواصي الأعداء بيده لا تنأى بهم البراري المقفرة ولا تحصّنهم البحار.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي بسلام وفرت منه أسهمه التي يدرأ بها العدا في نحرها، وثناء مطرب ترقص به الخيل في أعنّتها والسّفن في بحرها.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من قلم الناسخ وقد أثبته محقق الطبعة الأميرية نقلا عن التعريف.(7/163)
دعاء آخر وصدر
ولا زالت صفوفه تشدّ بنيان الحرب، وسيوفه تعدّ للقتل وإن قيل للضرب، وسجوفه تجرّ على بلد ما مثله في شرق ولا حصل على غير المسمّى منه غرب.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما يزيد أفقه تزيينا، وثناء يأتيه من فائق الدّرّ بما يستهون معه بالمينا.
دعاء وصدر (يصلح لنائب السلطنة بحماة)
وأتمّ بخدمه كلّ مبرّة، وبهممه كلّ مسرّة، وصان ما وليه أن يكون به غير النهر «العاصي» أو ينسب إليه سوى البلد المعروف «معرّة».
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما تمسح أنديته بالسّحائب، وثناء يأتي به حما حماة وقرونها المنشورة بألويته معقودة الذّوائب.
[(1)
دعاء آخر وصدر
وحمى حماه، وزان موكبه بأحسن حماه، وحسّن كنائن سهامه التي لا يصلح لها غير بلده حماه].
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما تحمله إليه الركائب السائرة، وثناء تشرق منه الكواكب أضعاف ما تريه أفلاك الدواليب الدائرة وتوضح لعلمه.
دعاء وصدر (يصلح لنائب صفد)
وشكر هممه التي وفت، وعزائمه التي كفت، وأعلى به بلدا مذ وليه قيل:
__________
(1) ما بين قوسين [] من الطبعة الأميرية نقلا عن «التعريف».(7/164)
صفد قد صفت. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما لا تزال شعائره تقام، وثناء مذ هبّ على بلد قيل: إنّ هواءها يشفي الأسقام وتوضح لعلمه.
آخر: ولا زالت مساعيه تسوق إليه الحظوظ [البطيّة] (1) وتقدّم له العلياء مثل المطيّة، وتهنّيه بما خصّ به من صفد وهي العطية [صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما يحيّيه في محلّه، وثناء يودع في معقله الذي لا تصل أعلى الشوامخ إلا إلى ما سفل من ظلّه] (2) وتوضح لعلمه.
أدعية وصدور (تصلح لكلّ من نوّاب طرابلس وحماة وصفد ومن في معناهم)
دعاء وصدر من ذلك: ولا برح منصور العزمات، مسدّدا في الآراء والحركات، مشيّدا قواعد الممالك بما له من جميل التقدمات. صدرت هذه المكاتبة إلى الباب العالي تهدي إليه سلاما أرجا، وثناء بهجا وتوضح لعلمه.
آخر: ولا زال سيفه ماضيا، وجيده حاليا، وضدّه خاسيا. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما، وتسدّد لرأيه الصائب سهاما، وتوضح لعلمه.
آخر: ولا زالت آراؤه سعيدة، وتأثيراته حميدة، وسيوفه لرقاب العدا مبيدة.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما يتأرّج، وثناء نشره نشر الثوب المدبّج وتوضح لعلمه.
آخر: ولا زالت آراؤه عالية، وأجياده حالية، ونعم الله عليه متوالية. صدرت
__________
(1) الزيادة من التعريف. وفي اللسان والقاموس عن ابن سيدة: «لا علم لي بالبطية إلا أن يكون أبطيت لغة في أبطأت، كاحبنطيت في احبنطأت» وأكد على ذلك الهوريني في هامش القاموس وأضاف:
بطا، يبطو: إذا اتسع». ولا نعتقد أن هذا المعنى الأخير مناسب هنا، فيكون المراد: البطيّة بمعنى البطيئة. هذا مع العلم أن صاحبي اللسان والقاموس قد أوردا اللفظة بياء غير مشدّدة، ولعل التشديد لتناسب اللفظ مع «المطيّة» (انظر اللسان: 14/ 74والقاموس: 4/ 305).
(2) الزيادة من التعريف. وفي اللسان والقاموس عن ابن سيدة: «لا علم لي بالبطية إلا أن يكون أبطيت لغة في أبطأت، كاحبنطيت في احبنطأت» وأكد على ذلك الهوريني في هامش القاموس وأضاف:
بطا، يبطو: إذا اتسع». ولا نعتقد أن هذا المعنى الأخير مناسب هنا، فيكون المراد: البطيّة بمعنى البطيئة. هذا مع العلم أن صاحبي اللسان والقاموس قد أوردا اللفظة بياء غير مشدّدة، ولعل التشديد لتناسب اللفظ مع «المطيّة» (انظر اللسان: 14/ 74والقاموس: 4/ 305).(7/165)
هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه السلام التامّ، والثناء الوافر الأقسام وتوضح لعلمه.
أدعية وصدور (تصلح لنائب الكرك (1) ومن في معناه ممن رتبته المجلس العالي مع الدعاء)
دعاء من ذلك: وأيّد عزمه، وأبّد حزمه، وفوّق (2) إلى نحر العدا سهمه.
صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي تهدي إليه سلاما، وتسدّد لرأيه الصائب سهاما، وتوضح لعلمه.
آخر: ولا زال عاليا قدره، نافذا أمره، جاريا على الألسنة حمده وشكره.
صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي تهدي إليه سلاما، وثناء بسّاما، وتوضح لعلمه.
المهيع الثاني (في بيان مراتب المكتوب إليهم من أهل المملكة، وما يستحقه كلّ منهم من المكاتبات. وهم ثلاثة أنواع)
النوع الأول (أرباب السيوف، وهم على ثلاثة أقسام)
القسم الأول (من هو منهم بالديار المصرية، وهم ستة أصناف)
الصنف الأول (نوّاب السلطنة الشريفة، وهم أربعة نوّاب)
الأول النائب الكافل
: وهو نائب السلطنة الشريفة بالحضرة. وقد تقدّم في
__________
(1) راجع الصفحة 149من هذا الجزء، حاشية (1).
(2) فوّق السهم: عمل له فوقا. والفوق والفوقة من السهم: حيث يثبت الوتر منه. والمراد: سدّد.(7/166)
الكلام على المسالك والممالك في المقالة الثانية أنه أعلى نوّاب السلطان رتبة.
قال في «التثقيف»: وقلّ أن يكاتب إلا إذا كان السلطان مسافرا في غزاة أو سرحة للصيد.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف»: أعزّ الله تعالى أنصار الجناب الكريم على ما تقدّم في الدرجة الثانية من الدّرجات العشر (1) قال في «التعريف»: وقد رأيت بعض الكتّاب قد كتب في ألقابه بعد الأميريّ «الآمريّ».
قال: والكاتب المذكور كاتب صالح في المعرفة وليس بحجّة، وكتابته الآمريّ ليست بشيء، وإنما حمله عليها كثرة الملق. وقد نقل في «التعريف» عن هذا الكاتب أنه كتب في تعريفه «نائب السلطنة وكافل الممالك الشريفة الإسلامية».
قال: وهو مقبول منه. ثم قال: والذي أراه أن يجمع ذكر النيابة والكفالة في تقليده، فيقال: «أن يقلّد نيابة السلطنة المعظّمة، وكفالة الممالك الشريفة الإسلامية» أو ما هذا معناه، نحو: «وكفالة الممالك الشريفة: مصرا وشاما وسائر البلاد الإسلامية أو الممالك الإسلامية» ونحو ذلك.
فأما في تعريف الكتب، فقد جرت عادة نوّاب الشام أن تقتصر في كتبها إليه على «كافل الممالك الإسلامية المحروسة». قال: ولعمري في ذلك مقنع وإنّ في الاقتصار عليها ما هو أكثر فخامة. وعليه عمل أكثر الكتّاب بديوان مصر أيضا، ويؤيّده أنهم مقتصرون فيما يكتب باشارته على هذا التعريف، فاعلم ذلك.
ورسم المكاتبة إليه على ما استقر عليه الحال، على ما ذكره في «التثقيف»:
أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم، كما في الدرجة الأولى من الدرجات العشر، والعلامة إليه «أخوه». وتعريفه: «كافل الممالك الشريفة الإسلامية أعلاها الله تعالى». قال في «التثقيف»: وإنما كتب له أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ، وزيدت ألقابه على ما كانت عليه لمّا كتب بذلك لنائب الشام في ولاية بيدمر الخوارزميّ (2)،
__________
(1) لم يتقدم إلا ثمان.
(2) هو الأمير بيدمر الخوارزمي، سيف الدين، تولى نيابة السلطنة في دمشق ما بين 13861360م (منطلق تاريخ لبنان: ص: 146).(7/167)
وكافل المملكة يومئذ الأمير منجك، فلزم أن يكتب له مثله لئلا يكون نائب الشام مميّزا على كافل السلطنة، على ما سيأتي في الكلام على مكاتبة نائب الشام.
قال في «التعريف»: أما نائب الغيبة، وهو الذي يترك إذا غاب السلطان والنائب الكافل وليس إلّا لإخماد النّوائر (1) وخلاص الحقوق، فحكمه كحكمه في المكاتبة إليه.
الثاني نائب ثغر الإسكندرية المحروس
: وهو ممن استحدثت نيابته في الدولة الأشرفية «شعبان بن حسين» عند طروق (2) العدوّ المخذول، في سنة سبع وستين وسبعمائة من الفرنج المخذولين.
ورسم المكاتبة إليه: ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي، على ما تقدّم ذكره، إلا أنه لا يقال في ألقابه «الكافليّ» والعلامة الشريفة له «والده» وتعريفه «نائب السلطنة الشريفة بثغر الإسكندرية المحروس».
واعلم أن بالإسكندرية حاجبا (3) يكاتب عن الأبواب السلطانية. قال في
__________
(1) النوائر: جمع نائرة وهي العداوة والشحناء.
(2) في تلك السنة وردت مراكب صاحب قبرس على ثغر الإسكندرية، وكانت سبعين سفينة حربية مشحونة بمقاتلين، فطرقوا المدينة على حين غفلة، فقام عليهم نائب الإسكندرية بمن جمعهم من العسكر والعرب وقاتلهم فهزموه، ودخلوا المدينة فنهبوها وقتلوا كثيرا من أهلها، ورحلوا عنها قبل وصول عساكر السلطان إليهم. ولهذا السبب، وكثرة إفساد مراكب الإفرنج في البحر وقطعهم طرق التجارة، شرع السلطان شعبان بن حسين في إنشاء مائة مركب من المراكب الحربية بالجزيرة الوسطى، المعروفة بجزيرة العبيط، لأجل ردعهم ومنعهم، كما همّ نائب السلطنة في دمشق، وهو آنذاك بيدمر الخوارزمي، إلى اتخاذ التدابير اللازمة في بيروت لبناء «الحمالات والشواني» أي السفن الحربية لهذه الغاية. (انظر الخطط التوفيقية: 1/ 106ومنطلق تاريخ لبنان: 146وسيرة الملك المنصور: ص 47حاشية).
(3) كانت مهمة الحاجب في الأصل هي الفصل في المنازعات التي قد تنشب بين الأمراء وبين الجند، ويكون ذلك إما برأيه هو ذاته أو باستشارة السلطان، فإن لم يكن السلطان موجودا راجع في الأمر نائبه. وذكر القلقشندي في الصبح: 4/ 19نقلا عن مسالك الأبصار أن العادة جرت أن يكون هناك خمسة حجاب، إثنان منهم من مقدمي الألوف، وواحد يكون حاجب الحجّاب. ولما كان القرن.
التاسع الهجري أصبح لقب «الحاجب» يطلق على «من يقف بين يدي السلطان ونحوه في المواكب ليبلغ ضرورات الرعية إليه ويركب بعصا في يده، ويتصدى لفصل المظالم بين المتداعيين خصوصا فيما لا تسوغ الدعوى فيه من الأمور الديوانية ونحوها». (انظر الصبح: 5/ 540ونزهة النفوس:
1/ 47حاشية).(7/168)
«التثقيف»: ورسم المكاتبة إليه: «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» إن كان طبلخاناه، (1) و «يعلم مجلس الأمير» إن كان عشرة، والعلامة الشريفة (2) له الاسم بكل حال. وتعريفه «الحاجب بثغر الإسكندرية المحروس».
الثالث نائب الوجه القبلي
: وقد تقدّم أن مقرّ ولايته مدينة أسيوط (3)، وأنّ استحداث نيابته كان في الدولة الظاهريّة «برقوق» في سنة ثمانين وسبعمائة.
ورسم المكاتبة إليه: «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي» على ما تقدّم ذكره. ولا يقال فيه «الكافليّ» أيضا، والعلامة الشريفة «والده» وتعريفه «نائب السلطنة الشريفة بالوجه القبليّ».
__________
(1) أشار القلقشندي في الصبح: 4/ 8و 15و 50إلى أن «الطبلخاناه» لفظ يطلق على طبول متعددة وزمارات تختلف أصواتها على ايقاع مخصوص، وجرت العادة أن تدق كل ليلة بالقلعة بعد صلاة المغرب، كما أنها تكون صحبة الجيوش ومع السلطان في سفره. وللطبلخاناه أمير يكون له من المماليك ما بين أربعين وثمانين مملوكا هذا ويبلغ إقطاع أمير الطبلخاناه ثلاثين ألف دينار. وقال كمال الصليبي في منطلق تاريخ لبنان: 127 «وكانت إمارة الجند في العصر المملوكي على ثلاث رتب: أرفعها رتبة «أمير مئة» أو أمير كبير وأوسطها أمير أربعين أو أمير طبلخاناه، وادناها رتبة أمير عشرة. والعدد المذكور في كل من الرتب يشير إلى عدد الفرسان التابعين للأمير، دون المشاة.
وكان للأمراء من الرتبة الأولى والثانية دون الثالثة، الحق ب «طبلخاناه»، أي بتنظيم فرقة موسيقية ملحقة بجندهم ولذلك سمي أمير الأربعين بالطبلخاناه لتمييزه عن أمير العشرة. (انظر أيضا:
التعريف بمصطلحات الصبح: 228).
(2) العلامة الشريفة أو السلطانية هي ما يكتبه السلطان بخطه على صورة اصطلاحية. وكان لكل سلطان علامة وتوقيع.
(3) قال ابن دقماق: «هذه المدينة هي مدينة الإقليم وبها سكن نائب الوجه القبلي وبها قاض مستقل، وهي بين بحر النيل والجبل، وبها عدة مدارس وجامع قديم وبها قياسر وفنادق. قال المؤيد في كتابة تقويم البلدان: رأيت شعرا لابن الساعاتي ذكر فيه «سيوط» بغير ألف». (انظر الانتصار:
5/ 22وما بعدها).(7/169)
الرابع نائب الوجه البحريّ
: وقد تقدّم أن مقرّ ولايته مدينة دمنهور الوحش (1) من أعمال البحيرة، وأن نيابته استحدثت بعد نيابة نائب الوجه القبليّ، ولذلك لم يتعرض له في «التثقيف».
ورسم المكاتبة إليه: «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي» كما في نائب الوجه القبليّ. والعلامة الشريفة له «أخوه» وتعريفه «نائب السلطنة الشريفة بالوجه البحريّ».
الصنف الثاني (الكشّاف) (2)
وقد تقدّم أنه كان قبل استقرار نيابتي الوجهين: القبليّ والبحريّ كاشفان بالوجهين المذكورين: كاشف (3) بالوجه القبليّ، وكاشف (4) بالوجه البحريّ. فلما استقر النيابتان، استقرّ بالفيّوم والبهنساوية (5) كاشف، وبالشرقية وما قاربها كاشف وكل منهما أمير طبلخاناه.
ورسم المكاتبة إلى كلّ منهما: «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس
__________
(1) ذكرها ابن دقماق باسم «دمنهور وحشي» وقال: وهي مقطعة للأجناد وهي مدينة قديمة عامرة وبها جامع ومدارس وحمامات وفنادق وقياسر وغير ذلك وهي قاعدة البحيرة وبها مقام نائب الوجه البحري ويطلق عليه «ملك الأمراء» ولها خليج من خليج الإسكندرية وتعرف «بدمنهور المدينة». ولما جرت فتنة عربان البحيرة في سنة بضع وثمانين وسبعمائة رسم السلطان الملك الظاهر برقوق بعمارة سور عليها فعمل عليها سور من اللّبن. (الانتصار: 5/ 101).
(2) ومفردها «كاشف» وهو الذي يشرف على أحوال الأراضي والجسور ولذلك سمي «كاشف الجسور» أو «كاشف التراب». وهو بالمصطلح الحديث «جابي الضرائب». وجاء في «التعريف بمصطلحات صبح الأعشى» أنه كان بالوجه القبلي ثلاثة كشاف مقرهم الفيوم والصعيد الأدنى والصعيد الأعلى وبالوجه البحري اثنان مقرهما الشرقية والغربية. وقد كان لجميع الكشاف رئيس يسمى «كاشف الكشاف» وكانت وظيفته بدمشق ورتبته مقدم ألف. (التعريف بمصطلحات الصبح: 283والصبح: 4/ 2016525ومنطلق تاريخ لبنان: 158).
(3) ومفردها «كاشف» وهو الذي يشرف على أحوال الأراضي والجسور ولذلك سمي «كاشف الجسور» أو «كاشف التراب». وهو بالمصطلح الحديث «جابي الضرائب». وجاء في «التعريف بمصطلحات صبح الأعشى» أنه كان بالوجه القبلي ثلاثة كشاف مقرهم الفيوم والصعيد الأدنى والصعيد الأعلى وبالوجه البحري اثنان مقرهما الشرقية والغربية. وقد كان لجميع الكشاف رئيس يسمى «كاشف الكشاف» وكانت وظيفته بدمشق ورتبته مقدم ألف. (التعريف بمصطلحات الصبح: 283والصبح: 4/ 2016525ومنطلق تاريخ لبنان: 158).
(4) ومفردها «كاشف» وهو الذي يشرف على أحوال الأراضي والجسور ولذلك سمي «كاشف الجسور» أو «كاشف التراب». وهو بالمصطلح الحديث «جابي الضرائب». وجاء في «التعريف بمصطلحات صبح الأعشى» أنه كان بالوجه القبلي ثلاثة كشاف مقرهم الفيوم والصعيد الأدنى والصعيد الأعلى وبالوجه البحري اثنان مقرهما الشرقية والغربية. وقد كان لجميع الكشاف رئيس يسمى «كاشف الكشاف» وكانت وظيفته بدمشق ورتبته مقدم ألف. (التعريف بمصطلحات الصبح: 283والصبح: 4/ 2016525ومنطلق تاريخ لبنان: 158).
(5) ويقال لها «بهنسى» وهي مدينة بصعيد مصر في الجهة الغربية من الخليج الخارج من معظم النيل.
(انظر الروض المعطار: 114ومعجم البلدان: 1/ 516).(7/170)
السامي» والعلامة لكلّ منهما الاسم الشريف، وتعريف كاشف الفيوم «الكاشف بالفيّوم والبهنساوية» وتعريف الآخر «الكاشف بالوجه البحريّ».
الصنف الثالث (الولاة بالوجهين: القبلي والبحريّ)
وكلّ من ولاة الوجهين لا يخرج عن طبلخاناه أو عشرة وما في معناها كالعشرين ونحوها.
فأما الوجه القبلي، ففيه ستة ولاة، منهم ثلاثة طبلخاناه: وهم والي قوص (1)
وإخميم (2) ووالي الأشمونين (3) ووالي البهنسا.
ومنهم ثلاثة عشرات: وهم والي الجيزيّة، وكان قبل ذلك طبلخاناه. ووالي إطفيح. ووالي منفلوط، وكان قبل ذلك طبلخاناه، وهو اليوم إمرة عشرين.
وأما الوجه البحري، ففيه سبعة ولاة: منهم ثلاثة طبلخاناه. وهم والي الغربيّة. ووالي المنوفيّة (4). ووالي الشّرقيّة. وكان بدمنهور وال طبلخاناه قبل استقرارها نيابة.
__________
(1) قال ابن دقماق (809750هـ 14071349م): «قوص مدينة قديمة تعرف بقوص العالية، بنيت في زمن شدات بن عديم سادس ملوك مصر بعد الطوفان، وهي على ضفة النيل الشرقية وهي الآن مدينة الإقليم بعد أن كانت قفط مدينة الإقليم، وبها الآن متولي الحرب السعيد وقاضي قضاة وواليها تكاتبه ستة ملوك، وبهذه المدينة ستة عشر مكانا للتدريس وإخميم بلدة في شرقي النيل قديمة وكان مقام الوالي بها لأنها مفردة بالولاية والآن يسكنها نائب نائب الوجه القبلي وبها قاض وبرباها من عجائب الدنيا مبني بالحجارة محكم الصنعة ويضيف: وهذا «البربا» هو إخميم نفسها». انتهى كلام ابن دقماق. والأشمونين: مدينة كبيرة قديمة بين بحر يوسف والنيل، وبجوار أطلالها اليوم قرية الأشمونين إحدى قرى مركز ملوي بمديرية أسيوط، وكانت عاصمة إقليم الأشمونين المسمى باسمها والذي كان يشمل البلاد والقرى من سمالوط وديروط الشريف. (انظر الانتصار: 5/ 25و 28وولاة مصر: 294حاشية).
(2) قال ابن دقماق (809750هـ 14071349م): «قوص مدينة قديمة تعرف بقوص العالية، بنيت في زمن شدات بن عديم سادس ملوك مصر بعد الطوفان، وهي على ضفة النيل الشرقية وهي الآن مدينة الإقليم بعد أن كانت قفط مدينة الإقليم، وبها الآن متولي الحرب السعيد وقاضي قضاة وواليها تكاتبه ستة ملوك، وبهذه المدينة ستة عشر مكانا للتدريس وإخميم بلدة في شرقي النيل قديمة وكان مقام الوالي بها لأنها مفردة بالولاية والآن يسكنها نائب نائب الوجه القبلي وبها قاض وبرباها من عجائب الدنيا مبني بالحجارة محكم الصنعة ويضيف: وهذا «البربا» هو إخميم نفسها». انتهى كلام ابن دقماق. والأشمونين: مدينة كبيرة قديمة بين بحر يوسف والنيل، وبجوار أطلالها اليوم قرية الأشمونين إحدى قرى مركز ملوي بمديرية أسيوط، وكانت عاصمة إقليم الأشمونين المسمى باسمها والذي كان يشمل البلاد والقرى من سمالوط وديروط الشريف. (انظر الانتصار: 5/ 25و 28وولاة مصر: 294حاشية).
(3) قال ابن دقماق (809750هـ 14071349م): «قوص مدينة قديمة تعرف بقوص العالية، بنيت في زمن شدات بن عديم سادس ملوك مصر بعد الطوفان، وهي على ضفة النيل الشرقية وهي الآن مدينة الإقليم بعد أن كانت قفط مدينة الإقليم، وبها الآن متولي الحرب السعيد وقاضي قضاة وواليها تكاتبه ستة ملوك، وبهذه المدينة ستة عشر مكانا للتدريس وإخميم بلدة في شرقي النيل قديمة وكان مقام الوالي بها لأنها مفردة بالولاية والآن يسكنها نائب نائب الوجه القبلي وبها قاض وبرباها من عجائب الدنيا مبني بالحجارة محكم الصنعة ويضيف: وهذا «البربا» هو إخميم نفسها». انتهى كلام ابن دقماق. والأشمونين: مدينة كبيرة قديمة بين بحر يوسف والنيل، وبجوار أطلالها اليوم قرية الأشمونين إحدى قرى مركز ملوي بمديرية أسيوط، وكانت عاصمة إقليم الأشمونين المسمى باسمها والذي كان يشمل البلاد والقرى من سمالوط وديروط الشريف. (انظر الانتصار: 5/ 25و 28وولاة مصر: 294حاشية).
(4) نسبة إلى منوف. ويضاف إليها كورة فيقال كورة رمسيس ومنوف، وهي من بطن الريف المصري ويقال لكورتها المنوفية. (معجم البلدان: 5/ 216).(7/171)
ومنهم أربعة عشرات، وهم: والي قليوب. ووالي أشموم (1): وهي الدقهليّة والمرتاحيّة. ووالي دمياط. ووالي قطيا.
ورسم المكاتبة إلى كلّ من ولاة الطبلخاناه منهم: «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» وإلى كلّ من ولاة العشرات منهم «يعلم مجلس الأمير» والعلامة لكل من الطبلخاناه والعشرات الاسم الشريف، وتعريف كل منهم «والي فلانة».
الصنف الرابع (من يتوجه من الأبواب السلطانية من الأمراء لبعض الأعمال المتقدّمة الذكر: لكشف الجسور وعمارتها أو لتخضير البلاد أو لقبض الغلال)
قال في «التثقيف»: فمن كان منهم طبلخاناه، فرسم المكاتبة إليه الساميّ بالياء. ومن كان منهم عشرة، فرسم المكاتبة إليه السامي بغير ياء (2) والعلامة للجميع الاسم الشريف. قال: ولا تذكر الوظيفة التي توجّه بسببها، ولا الإقليم الذي هو به.
الصنف الخامس (باقي الأمراء بالديار المصريّة)
وقد رتّبهم في «التعريف» على أربع مراتب:
المرتبة الأولى مقدّمو الألوف، وقد ذكر أنّ لكبارهم أسوة كبار النّواب بالممالك الشامية، كالشام وحلب. ولأوسطهم [أسوة أوسطهم] (3) كحماة
__________
(1) قال ابن دقماق: «اشموم طناح وهي بضم الألف وسكون الشين المعجمة وضم الميم وسكون الواو وفي آخرها ميم، وقيل نون، قاله السمعاني. قال المؤيد: وصواب ذلك أن يقال وفي آخرها ميم وتعرف أيضا بأشموم الرمان، وهي قصبة كورة الدقهلية وقصبة البشمور. وهي جارية في إقطاع الأمراء المقدمي الألوف». (الانتصار: 5/ 68).
(2) أي بغير ياء النسب.
(3) الزيادة عن الطبعة الأميرية من «التعريف»، وهي ساقطة من قلم الناسخ.(7/172)
وطرابلس وصفد. ولأصغرهم أسوة أصغرهم، كغزّة وحمص. ثم قال: فاعلم ذلك وقس عليه. ثم قال بعد ذلك: والذي نقوله أن لكبار المقدّمين بالأبواب السلطانية «الجناب الكريم» [ثم الجناب العالي] (1) ثم «المجلس العالي».
وهذا على ما كان في زمانه أما على ما استقرّ عليه الحال آخرا، فإنه يكون لكبارهم «المقرّ الكريم» كما يكتب للأتابك الآن، ثم «الجناب الكريم» ثم «الجناب العالي» ثم «المجلس العالي».
المرتبة الثانية الطّبلخانات. قد ذكر أن منهم من يكتب له «المجلس العالي» كمن يكون معيّنا للتّقدمة، وله عدّة ثمانين فارسا أو سبعين فارسا أو نحو ذلك، وكالمقرّبين من الخاصكيّة (2)، أو من له عراقة نسب كبقايا الملوك، أو أرباب وظائف جليلة: كحاجب كبير، أو إستدّار (3) جليل، أو مدبّر دولة (4) لم
__________
(1) الزيادة من «التعريف».
(2) الخاصكية فرقة من مماليك السلطان الحاكم يكونون عادة من جماعة المشتروات، وهم يلازمونه في خلواته ويجهزهم في المهمات الشريفة. وكان عدتهم في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون أربعين خاصكيا ثم ازدادوا على ذلك حتى صاروا في أيام الملك الأشرف برسباي نحو ألف ومنهم من هو صاحب وظيفة، ومنهم من لا وظيفة له. (انظر نزهة النفوس: 1/ 35حاشية والتعريف بمصطلحات الصبح: 114وسيرة الملك المنصور مقدمة ص: 40وما بعدها).
(3) يشرف الاستادار على الواردات الخاصة بالسلطان المملوكي، ويشرف على كل من بالقصر من خدم المطبخ والشرابخاناه والغلمان، وهو الذي يسلمهم رواتبهم وكل ما يحتاجون إليه لعملهم أو لأنفسهم ويدخل الجاشنكير في جملة هؤلاء الخدم من حيث خضوعه ماليا للاستادار مع أن الجاشنكير من امراء الألوف، والاستادار هو المسؤول عن فتح باب القصر وإغلاقه. وقد زادت أهمية الاستادار في منتصف القرن الرابع عشر في حكم الملك الظاهر برقوق وخاصة عندما عين الأمير جمال الدين محمود بن علي استادارا، فقد فوّض إليه النظر في أمور الدولة المالية، فكان اختصاصه كاختصاص الوزير وناظر الخاص جميعا. وفي ضبط الاسم يقول القلقشندي أن الأصل هو كسر الألف وتشديد الدال المفتوحة. وللدكتور أحمد السعيد سليمان رأي قيم في ضبط وتأصيل هذا اللفظ يخالف فيه القلقشندي. (انظر: تأصيل الدخيل: 151413والصبح: 5/ 457).
(4) قال القلقشندي في الصبح: 6/ 14669 «مدبر الدولة من ألقاب الوزراء وكتاب السر، ومرتبته المقر الشريف».(7/173)
يصرّح له بالوزارة، أودوادار (1) متصرّف. ثم قال: وهؤلاء وإن كتب لهم بالمجلس العالي، فإنه يكتب لهم بغير افتتاح بالدعاء، والكتابة لهم بالعالي على سبيل العرض لا الاستحقاق، وإلا فأجلّ رسم مكاتبة أمراء الطبلخاناه «الساميّ» بالياء ولجمهورهم «السامي» بغير ياء.
المرتبة الثالثة العشرات. وذكر أن لكل منهم «مجلس الأمير»، ثم قال:
فإنّ زيد قدر أحد لسبب ما، كتب له «المجلس السامي» بغير الياء.
المرتبة الرابعة مقدّمو الجند. وقد ذكر أن لهم أسوة أمراء العشرات في المكاتبة. ثم قال: وأما الجند، فالأمير الأجلّ. وأما جند الأمراء فالطّواشي (2)
وكأنه يريد ما إذا كتب بسببهم مكاتبة أو كتب لأحد منهم توقيع، وإلا فالجند لا يكاتب أحد منهم عن الأبواب السلطانية حتّى ولا نوّاب القلاع بالشام، كما سيأتي ذكره هناك إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الدوادار والدواتدار والدويندار والدوالدار: من الكلمة العربية «دواة» ومن اللاحقة الفارسية «دار» بمعنى الصاحب والقيم، ويكون المقصود: صاحب الدواة. وهي وظيفة أنشأها السلاجقة فيما يظن. ففي النجوم الزاهرة: 7/ 185 «وأول من أحدث هذه الوظيفة ملوك السلاجقة» ولقد كانت الدواة عند السلاجقة من علامات الوزارة. وكانت الدوادارية في دولة المماليك وظيفة صغيرة.
يقول ابن تغري بردي: «وأما الدوادارية فكانت وظيفة سافلة، وكانت نوعا من أنواع المباشرة.
ولكن هذه الوظيفة عظمت في منتصف القرن الرابع عشر، فبعد أن كان يليها أمراء العشرات أو الطبلخانات، وليها أمراء الألوف أي أمراء الدرجة الأولى، وكان ذلك في عهد الناصر حسن في فترتي حكمه من 1347م إلى 1351م ثم من 1354إلى 1361. وفي عهد الملك الأشرف ناصر الدين شعبان الثاني 13771363عظم شأنها حتى صارت كنيابة السلطنة. وفي عهد برقوق وفرج ابن برقوق والملك المؤيد ازداد المنصب خطورة واصبح الدوادارية يشرفون على البريد والمالية وعلى العزل والنصب والقضاء. وباتساع اختصاصات الدوادار كثر عدد الدوادارية وعرف اكبرهم باسم «الدوادار الكبير». (انظر: تأصيل الدخيل: ص 109وما بعدها وخطط المقريزي: 2/ 222 والصبح: 4/ 19و 5/ 462).
(2) الطواشي: الخصيّ، والجمع: طواشية.(7/174)
الصنف السادس (العربان بالديار المصرية وبرقة)
وقد تقدّم الكلام عليه مستوفى في الكلام على أنساب العرب، فيما يحتاج إليه الكاتب في المقالة الأولى. وقد ذكر في «التعريف» أن العرب بمصر في الوجهين القبليّ والبحريّ جماعات كثيرة وشعوب وقبائل. ثم قال: ولكنهم على كثرة أموالهم (1) واتساع نطق جماعاتهم، ليسوا عند السلطان في الذّروة ولا السّنام، إذ كانوا أهل حاضرة وزرع، ليس منهم من ينجد ولايتهم، ولا يعرق ولا يشئم، ولا يخرجون عن حدود الجدران، وعلى كل حال فالمندل (2) الرطب في أرجائه حطب.
ثم قد قسّم منازلهم إلى الوجه القبليّ والوجه البحري، وذكر أن بكل من الوجهين من يكاتب عن الأبواب السلطانية.
الضرب الأوّل (عرب البحيرة)
قال في «التعريف»: وأمراؤهم (3) عرب الديار المصرية. قال: وهم أشبه
__________
(1) في الأصل: «ابدالهم» وهو تصحيف والتصحيح من الطبعة الأميرية عن «التعريف».
(2) المندل: العود الطيب الرائحة.
(3) ذكر المقريزي في «اتعاظ الحنفا»: 2/ 218أن البحيرة كانت حتى العام 443هـ / 1051م إقطاعا لبني قرّة، أحد بطون قبيلة جذام. لكن في العام المذكور هزمتهم حملة فاطمية وأخرجتهم من ديارهم مما اضطرهم للهرب باتجاه برقة أو التجوّل هنا وهناك دون استقرار بناحية معينة. وقد أحل الفاطميون محلهم بالبحيرة بني سنبس من طيء الذين كانوا حتى ذلك الحين ينتشرون بفلسطين حتى غزة. وقد كان بنو قرّة الفريق القبلي الذي حاول حسان بن الجراح عام 415414هـ التصال به لإثارته على الفاطميين، لكن الخطة فشلت إذ قبض الفاطميون على رسول حسان إلى بنى قرّة وهو الشاعر التهامي وقتلوه. (مقدمة مسالك الأبصار لدوروتيا كرافولسكي. ص 47 48).(7/175)
القوم بالتخلّق بخلائق العرب في الحلّ والتّرحال، يغربون إلى القيروان وقابس (1)، ويفدون على الحضرة السلطانية وفود أمثالهم من أمراء العرب. وذكر أن الإمرة فيهم في زمانه، كانت في محمد بن أبي سليمان وفائد بن مقدّم (2) وقال:
إنّ رسم المكاتبة إلى كلّ منهما: «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، الأمير» والعلامة السلطانية «أخوه» ولم يتعرّض لتعريفهما، والذي يظهر أن تعريف كلّ منهما اسمه.
أما بعده، فقد تغيّرت تلك الأحوال، وتناقصت رتبة عرب البحيرة، وزالت الإمرة عنهم، ولم يبق فيهم إلا مشاع عربان ذو وأموال جمّة، كان منهم في الدولة الأشرفية «شعبان بن حسين» رحاب، وموسى بن خضر، وأولاد بدران الغريني، ومن جرى مجراهم، ثم صار اليوم بها (3) بن رحاب، وخضر بن موسى.
الضرب الثاني (عرب الشّرقية)
وقد ذكر في «التعريف»: أنه كان في زمانه منهم نجم بن هجل شيخ عائد (4) وذكر أنه دون محمّد بن أبي سليمان وفائد بن مقدّم (5): أميري عرب
__________
(1) القيروان وقابس مدينتان بتونس (انظر معجم البلدان: 4/ 289و 420).
(2) قال في مسالك الأبصار: «وكان آخر عهدي أن الإمرة على عربان البحيرة لقائد (بالقاف المثناة) ابن مقدّم وخالد (وليس محمد) بن أبي سليمان وكانا أميرين سيدين جليلين ذوي كرم وأمن يلاذ به ثم لم أعلم ما حالت به الأحوال وجرت بعدي به تصاريف الدهور». (مسالك الأبصار:
ص 18).
(3) بياض بالأصل.
(4) قال في مسالك الأبصار: «وأما العائذ (بالذال المعجمة) فكثير في العرب، والمشهور منها بمصر عائذ جذام». وقال القلقشندي في نهاية الأرب: «بنو عائد (بالدال المهملة) بطن من جذام من القحطانية، قال في العبر: ومساكنهم فيما بين بلبيس من الديار المصرية إلى عقية إيلة إلى الكرك من ناحية فلسطين» وأوردها صاحب معجم قبائل العرب: «بنو عايد من جذام». وذكر مساكنهم نقلا عن ابن خلدون كما فعل القلقشندي في نهاية الأرب. (انظر: مسالك الأبصار: 175بتحقيق دوروتيا كرافولسكي ونهاية الأرب: 304ومعجم قبائل العرب: 2/ 715).
(5) راجع الحاشية السابقة.(7/176)
البحيرة. ثم قال: ورسم المكاتبة إليه: «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي الأمير».
قلت: ثم تغيرت الأحوال بعد ذلك وصارت رياسة عرب الشرقية متداولة في جماعة، إلى أن كان منهم في الدلة الظاهرية «برقوق» محمد بن عيسى أمير (1) وأولادهم، وكانت الإمرة فيهم أوّلا في (2) ثم قتل بسيف السلطان في الدولة الناصرية «فرج بن برقوق» واستقرّ مكانه (3)
وأما عرب الوجه القبليّ، فقد ذكر في «التعريف» أنه كان منهم في زمانه نفران: أحدهما ناصر الدين عمر بن فضل. وذكر أنّ رسم المكاتبة إليه «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» أيضا. وثانيهما سمرة بن مالك (4) قال: وهو ذو عدد جمّ، وشوكة منكية، يغزو الحبشة وأمم السّودان، ويأتي بالنّهاب والسّبايا وله أثر محمود، وفعل مأثور. وفد على السلطان وأكرم مثواه، وعقد له لواء وشرّف بالتشريف، وقلّد ذلك، وكتب إلى ولاة الوجه القبليّ عن آخرهم وسائر العربان به بمساعدته ومعاضدته، والركوب للغزو معه متى أراد. وكتب له منشور بما يفتح من البلاد، وتقليد بإمرة العربان القبلية مما يلي قوص إلى حيث تصل غايته (5) ثم قال: ورسم المكاتبة إليه «السامي الأمير» كمن تقدّم.
قلت: ثم كان بعد ذلك عدد من أمراء العربان، كان آخرهم أبو بكر بن الأحدب. ثم لما انتقلت هوّارة (6) إلى الوجه القبلي، صارت الإمرة فيهم في
__________
(1) بياض بالأصل.
(2) بياض بالأصل.
(3) بياض بالأصل مقدار سطرين.
(4) في نهاية الأرب للقلقشندي، عن «التعريف» أيضا: سمرة بن سالك.
(5) عبارته في نهاية الأرب، عن التعريف: «مما يلي قوص ومنشور له بما يفتحه من البلاد».
(6) قال في نهاية الأرب: بنو هوارة: «بطن من أوزيغ (اوزيفة) من البرنس من البربر، وبالمغرب منهم الجمّ الكثير». ونقل عن مسالك الأبصار: «أن منازلهم بالديار المصرية وبالبحيرة، ومن الإسكندرية غربا إلى العقبة الكبيرة من برقة». ثم قال: والإمرة فيهم لأولاد عمر، وفي أعمال البهنساوية وما معها لأولاد غريب، والأمر على ذلك الى الآن. (نهاية الأرب: 391390).(7/177)
الصعيد الأدنى، في بني غريب، وأميرهم الآن (1) وفي الصعيد الأعلى في بني عمر، وأميرهم محمد بن عمر، ورسم المكاتبة إلى كل منهما (2)
وأما عرب برقة، فقد ذكر في «التعريف» أنه لم يبق منهم في زمانه من يكاتب إلا جعفر بن عمر (3)، وأنه كان لا يزال بين طاعة وعصيان، ومخاشنة وليان وأن أمراء عرب البحيرة كانت تغري به، وتغيّر خاطر السلطان عليه، وأنّ الجيوش كانت تمتدّ إليه، وقلّ أن ظفرت منه بطائل، أو رجعت بمغنم إن أصابته نوبة من الدّهر. وكان آخر أمره أنه ركب طريق الواح (4) حتّى خرج من الفيّوم، وطرق باب السلطان لائذا بالعفو، ولم يسبق به خبر، ولم يعلم السلطان به حتّى استأذن المستأذن عليه وهو في جملة الوقوف بالباب فأكرم أتمّ الكرامة، وشرّف بأجل التشاريف، وأقام مدّة في قرى الإحسان وإحسان القرى. وأهله لا يعلمون بما جرى، ولا يعرفون أين يمّم، ولا أيّ جهة نحا، حتّى أتتهم وافدات البشائر. وقال له السلطان: لأيّ شيء ما أعلمت أهلك بقصدك إلينا؟ قال: خفت أن يقولوا:
يفتك بك السلطان، فأتثبّط. فاستحسن قوله، وأفاض عليه طوله ثم أعيد إلى
__________
(1) بياض بالأصل.
(2) بياض بالأصل مقدار سطرين. قال محقق الطبعة الأميرية: والظاهر أنه بيض لهذا كما بيض لما قبله انتظارا لوضع مثال المكاتبة الجارية في زمانه، فاخترمته المنية قبل أن يثبت مرغوبه ويدرك مطلوبه.
(3) قال في مسالك الأبصار في خلال كلامه على «قبائل العربان من مصر إلى أقصى المغرب»: «
جماعة جعفر بن عمر وهم: قتيل، المثانية، الباسة، عرعرة، العظمة، العكمة، المزابيل، العزة ومنهم البداري أيضا والسهاونة والجلدة. وكذلك منهم أولاد أحمد. ومنازلهم من سوسة الى بئر السّدرة وهي آخر حدود الديار المصرية، ومسافتها عن الإسكندرية نحو شهر بسير القوافل وانتهاؤهم الى قصر ابن أحمد في طرف مسراتة من الساحل، ومن القبلة أرض فزّان وودّان.
(مسالك الأبصار: 181).
(4) قال في الانتصار: «وهي ثلاث واحات: الأولى واح الخاص وفيها مدينتان: القصر وهند، والثانية واح الخارجة، وقصبتها تسمى المدينة، والثالثة واح الداخلة وفيها مدينتان إحداهما أريس وهي الكبرى والثانية ميمون وبها عيون حامضة وأهلها يشربون منها ويسقون بها أراضيهم. ويقال إن عدة بلاد الواحات أربعة وعشرون بلدا». (انظر الانتصار: 5/ 131211).(7/178)
أهله، فانقلب بنعمة من الله وفضل لم يمسسه سوء، ولا رثى له صاحب، ولا شمت به عدوّ.
النوع الثاني (ممن يكاتب عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية أرباب الأقلام، وهم على ضربين:)
الضرب الأوّل (أرباب الدّواوين من الوزراء ومن في معناهم)
قال في «التعريف» ولم تزل مكاتبة أجلاء الوزراء ب «المجلس العالي». ثم كتب لآخرهم بالديار المصرية «الجناب العالي». وكتبت بالشام للصاحب عزّ الدين أبي يعلى، حمزة بن القلاقسيّ (1) رحمه الله، لجلالة قدره، وسابقة خدمه، وعناية من كتب إليه بها. ثم قال: والذي استقر عليه الحال للوزير بمصر «الجناب». أما من يجري مجرى الوزراء ولا صريح له بها: مثل ناظر الخاصّ (2)، وكاتب السّر، وناظر الجيش، وناظر الدّولة، وكتّاب الدّست، ف «الساميّ» بالياء، ومن دون هؤلاء فبغير ياء ثم «مجلس القاضي أو الصّدر».
قلت: وكأنه يريد ألقاب هؤلاء في الجملة، إما في مكاتبة تكتب بسبب أحد منهم، وإما في توقيع ونحوه يكتب لأحدهم وإلا فمن ذكره من الأصاغر لا
__________
(1) في «التعريف»: القلانسي. وهو الصواب. وابن القلانسي هو حمزة بن أسعد بن مظفر بن أسعد بن حمزة التميمي الدمشقي، الصاحب عز الدين أبو يعلى: عاش بين 649و 729هـ / 1251 1329م. كان رئيس الشام في عصره، ولي وكالة السلطان والوزارة بها، وأنشأ دار الحديث القلانسية، وإليه نسبتها. (الأعلام: 2/ 277).
(2) وهو الذي ينظر في خاص أموال السلطان. ويشير إلى أن عمله في دمشق كان النظر في خاص أموال السلطان وغيره من كبار الأمراء. (راجع الصبح: 5/ 465ونزهة النفوس: 1/ 48 حاشية).(7/179)
يكاتب عن الأبواب السلطانية عادة. والذي صرح في «التثقيف» بذكر المكاتبة إليه من هذا الضرب نفران:
الأوّل كاتب السرّ إذا تخلّف عن الرّكاب السلطانيّ لعارض. وذكر أن رسم المكاتبة إليه: «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي» على ما تقدّم ذكره، والعلامة «أخوه» وتعريفه «صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة».
الثاني ناظر الخاصّ الشريف. وذكر أن رسم المكاتبة إليه على ما استقرّ عليه الحال في أيّام ابن نقولا «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي» على ما تقدّم ذكره، والعلامة «الاسم» وتعريفه «ناظر الخواصّ الشريفة».
قلت: ولم يتعرّض لمكاتبة الوزير، إنما ذكر ألقابه في الألقاب العامّة مما يكتب في الولايات وغيرها، ولا يستغنى عن ذكر المكاتبة إليه وقد تقدّم في كلام صاحب «التعريف» أن الذي استقر عليه الحال في المكاتبة إليه «الجناب العالي» ولم يعيّن صورة الدعاء له. والذي ذكره في «التثقيف» في ألقابه أن الدعاء له «ضاعف الله تعالى نعمته» وحينئذ فتكون المكاتبة إليه إن كتب إليه «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي» بالألقاب السابقة.
الضرب الثاني (أرباب الوظائف الدينية والعلماء)
قد ذكر في «التعريف» أن كلّا من قضاة القضاة بمصر يكتب له «المجلس العالي» والمحتسب بها (1) يكتب له ب «الساميّ» بالياء، ومن دونهم
__________
(1) كانت يد المحتسب مطلقة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على قاعدة «الحسبة»، ويتحدث في أمر المكاييل والموازين، ولا يحال بينه وبين مصلحة إذ رآها. وقد كان بالقاهرة محتسب له التصرف بها وبالوجه البحري عامة ما عدا الإسكندرية فإن لها محتسبا يخصها. وبالفسطاط محتسب ثالث مرتبته أقل أهمية من الأول ودائرة اختصاصه الفسطاط والوجه القبلي بأكمله. وقد أفاض.
المقريزي في شرح وظيفة المحتسب، ذلك أنه تولاها بنفسه. (انظر خطط المقريزي: 1/ 463 464والصبح: 3/ 483والتعريف بمصطلحات الصبح: 302).(7/180)
من أرباب الوظائف الدينية وبقية العلماء وأكابرهم: «السامي» بغير ياء، ومن دونهم «مجلس القاضي» أو «الشيخ» بحسب ما يليق به. وكأنه يريد مطلق الألقاب كما تقدّم في غيره، وإلا فهؤلاء لا يكاتبون عن الأبواب السلطانية. ولم يذكر في «التثقيف» مكاتبة لأحد من أرباب الوظائف الدينية سوى قاضي القضاة تاج الدين الإخنائي (1) المالكي، وقد حجّ في سنة سبع وستين (2) وسبعمائة في الدولة الناصرية «حسن» (3)، جوابا عما ورد منه، وكتب له الدعاء و «المجلس العالي». والعلامة الاسم. قال: وأما قاضي القضاة عزّ الدين بن جماعة (4) فإنه كان يحجّ ويجاور كثيرا، ولكني لم أره كتب له قطّ، وأنا شاكّ في أمره.
قلت: رأيت في «إيقاظ المتغفّل» (5) لابن المتوّج، أنه كتب إليه وهو
__________
(1) لعل في عبارة القلقشندي التباسا مردّه إلى سببين: الأول: ان قاضي القضاة الاخنائي المالكي (محمد بن أبي بكر بن عيسى) قد توفي سنة 750هـ، وبالتالي فإنه يمكن أن يكون قد حج في الدولة الناصرية حسن، ولكن قبل سنة 750هـ وبالتحديد بين 748و 750هـ وليس في سنة 767 هـ كما ذكر القلقشندى، ذلك أن سلطنة الناصر حسن كانت على مرحلتين: من 748إلى 752هـ ومن 755الى 762هـ في 9جمادى الأول. الثاني: إذا كان المقصود بالإخنائي ابراهيم بن محمد ابن أبي بكر بن عيسى (ابن الإخنائي السابق وقاضي الديار المصرية المتوفى سنة 777هـ كان شافعيا وتحول مالكيا) وإذا صح تاريخ حجه المذكور فيكون هذا الحج في الدولة الأشرفية شعبان وليس الناصرية حسن، ذلك أن سلطنة شعبان امتدت من سنة 764الى 778هـ. وربما كان الصواب أن تكون العبارة على النحو التالى: وقد حجّ في سنة 767هـ في الدولة الأشرفية «حسين». فتأمل. (انظر الخطط التوفيقية: 1/ 101الى 108والأعلام: 1/ 63و 6/ 56).
(2) لعل في عبارة القلقشندي التباسا مردّه إلى سببين: الأول: ان قاضي القضاة الاخنائي المالكي (محمد بن أبي بكر بن عيسى) قد توفي سنة 750هـ، وبالتالي فإنه يمكن أن يكون قد حج في الدولة الناصرية حسن، ولكن قبل سنة 750هـ وبالتحديد بين 748و 750هـ وليس في سنة 767 هـ كما ذكر القلقشندى، ذلك أن سلطنة الناصر حسن كانت على مرحلتين: من 748إلى 752هـ ومن 755الى 762هـ في 9جمادى الأول. الثاني: إذا كان المقصود بالإخنائي ابراهيم بن محمد ابن أبي بكر بن عيسى (ابن الإخنائي السابق وقاضي الديار المصرية المتوفى سنة 777هـ كان شافعيا وتحول مالكيا) وإذا صح تاريخ حجه المذكور فيكون هذا الحج في الدولة الأشرفية شعبان وليس الناصرية حسن، ذلك أن سلطنة شعبان امتدت من سنة 764الى 778هـ. وربما كان الصواب أن تكون العبارة على النحو التالى: وقد حجّ في سنة 767هـ في الدولة الأشرفية «حسين». فتأمل. (انظر الخطط التوفيقية: 1/ 101الى 108والأعلام: 1/ 63و 6/ 56).
(3) لعل في عبارة القلقشندي التباسا مردّه إلى سببين: الأول: ان قاضي القضاة الاخنائي المالكي (محمد بن أبي بكر بن عيسى) قد توفي سنة 750هـ، وبالتالي فإنه يمكن أن يكون قد حج في الدولة الناصرية حسن، ولكن قبل سنة 750هـ وبالتحديد بين 748و 750هـ وليس في سنة 767 هـ كما ذكر القلقشندى، ذلك أن سلطنة الناصر حسن كانت على مرحلتين: من 748إلى 752هـ ومن 755الى 762هـ في 9جمادى الأول. الثاني: إذا كان المقصود بالإخنائي ابراهيم بن محمد ابن أبي بكر بن عيسى (ابن الإخنائي السابق وقاضي الديار المصرية المتوفى سنة 777هـ كان شافعيا وتحول مالكيا) وإذا صح تاريخ حجه المذكور فيكون هذا الحج في الدولة الأشرفية شعبان وليس الناصرية حسن، ذلك أن سلطنة شعبان امتدت من سنة 764الى 778هـ. وربما كان الصواب أن تكون العبارة على النحو التالى: وقد حجّ في سنة 767هـ في الدولة الأشرفية «حسين». فتأمل. (انظر الخطط التوفيقية: 1/ 101الى 108والأعلام: 1/ 63و 6/ 56).
(4) هو محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز بن محمد، أبو عبد الله عز الدين الكناني الحموي ثم المصري، الشافعي المعروف بابن جماعة: عالم بالأصول والجدل واللغة والبيان. تتلمذ لابن خلدون وتوفي بالقاهرة مصابا بالطاعون سنة 819هـ. كان مكثرا في التصنيف، جمعت اسماء كتبه في كراسين.
قال السخاوي: «ونظر في كل فن حتى في الأشياء الصناعية، كلعب الرمح ورمي النشاب» هذا وفي تاريخ مولده ووفاته اختلاف كبير بين المؤرخين. ففي «الأعلام» نجده قد عاش بين 749 و 819هـ. وفي دائرة المعارف الاسلامية: مولده سنة 639هـ ووفاته 733هـ. (انظر دائرة المعارف الإسلامية: 1/ 241والأعلام: 6/ 56).
(5) «ايقاظ المتغفل واتعاظ المتوسل» في أخبار مصر لتاج الدين محمد بن عبد الوهاب المعروف بابن المتوج الزبيري المتوفى سنة 730هـ. بين فيه أحوال مصر وخططها إلى سنة 725هـ. (كشف الظنون: 214).(7/181)
مجاور بمكة: «أعز الله تعالى أحكام المجلس العالي» ولم يتعرّض للعلامة، والظاهر أن العلامة له «أخوه»، ويكون التعريف «قاضي القضاة الشافعية أو المالكية بالديار المصرية».
النوع الثالث (ممن يكاتب عن الأبواب السلطانية ممّن بالديار المصريّة الخوندات (1)
السلطانية: من زوجات السلطان وأقاربه ممن تدعو الضرورة إلى مكاتبته لسفره أو لسفر السلطان)
وقد ذكر في «التثقيف» منهنّ جماعة، نذكرهنّ ليكنّ أنموذجا لمن يكون في معناهنّ.
الأولى ابنة المقام الشريف الشهيد الناصريّ «محمد بن قلاوون» لمّا كانت بحلب مع زوجها أبي بكر بن أرغون، كتب إليها ما صورته: «الذي يحيط به علم الحرمة الشريفة، العالية، المصونة، الولدية، عصمة الدين، جلال النساء، شرف الخواتين (2)، سليلة الملوك والسلاطين، ضاعف الله تعالى جلالها» والعلامة «والدها» وتعريفها «الدار السيفيّة بحلب» والأسطر متقاربة كالملطف.
الثانية طغاي زوجة المقام الشريف الناصريّ المشار إليه، المعروفة بأمّ أنوك، كتب إليها لما توجّهت إلى الحجاز الشريف: «ضاعف الله تعالى جلال
__________
(1) الخوند: بفتح الخاء وضمها، كلمة فارسية بمعنى السيد العظيم والأمير. استعملت في العربية لقبا بمعنى السيد والسيدة: وربما ادخلت عليها التاء للتأنيث فيقال: خوندة. وقد استعمل لفظ «خوند» في النجوم الزاهرة: 8/ 20للسيد والسيدة. (تأصيل الدخيل: 9291والمقريزي: 2/ 426).
(2) خاتون: لقب للسيدات. واللفظ تركي، جمعه خواتين أو خاتونات. وهو يشير إلى الجليلات من النساء. (راجع الصبح: 6/ 171).(7/182)
الجهة الشريفة، العالية، المعظّمة، المحجّبة، المصونة الكبرى خوند خاتون جلال النساء في العالمين، سيدة الخواتين، قرينة الملوك والسلاطين». ثم الدعاء، والعلامة الاسم الشريف، وتعريفها «والدة المقرّ الكريم الولديّ السيفيّ أنوك»: والأسطر على ما تقدّم في المكاتبة السابقة.
الثالثة أخت المقام الشريف الناصر حسن جهة الأمير طاز، كتب لها لما كانت بالحجاز الشريف: «ضاعف الله تعالى جلال الجهة الشريفة العالية الكريمة المحجّبة المصونة الكبرى الخاتون، جلال النساء في العالمين، جميلة المحجّبات، جليلة المصونات، كريمة الملوك والسلاطين، والعلامة «أخوها».
الرابعة الحاجّة السّتّ حدق. كتب لها وهي بالحجاز الشريف عن الناصر حسن: «ضاعف الله تعالى جلال الجهة الشريفة العالية الكبيرية المحجّبية المصونية الحاجّيّة الوالدية، جلال النساء في العالمين، بركة الدولة، والدة الملوك والسلاطين». ثم الدعاء والعلامة الاسم الشريف وتعريفها «الحاجّة ست حدق».
الخامسة والدة السلطان الملك الأشرف «شعبان بن حسين». كتب إليها عند توجّهها للحجاز الشريف: «ضاعف الله تعالى جلال الجهة الشريفة». ثم قال: وقد كنت أنكرت ذلك: لأنه كان يعظمها كثيرا ويقبل يديها غالبا، فكان يمكن أن يكتب لها بتقبيل اليد.
قلت: وصورة المكاتبة على ما رأيته في بعض الدساتير (1): «ضاعف الله
__________
(1) في الفارسية، دستور بفتح الدال من الفهلوية بمعنى القاضي والحكم وكبير الزرادشتيين، وما زالت مستعملة بهذا المعنى عند الزرادشتيين في ايران والهند. وهي في الفارسية الحديثة بمعنى الوزير النافذ الحكم، ودخلت التركية بلفظها ومعناها. وقد عربت الكلمة بضم الدال، وتستعمل في الفارسية والتركية بمعنى القواعد الأساسية لعلم من العلوم أو صناعة من الصناعات. والدساتير عند القلقشندي تستعمل بمعنى الكتب التي تتناول قواعد فن الترسل وتحرير الديباجات على مقادير المرسل إليهم. (انظر: تأصيل الدخيل: 96).(7/183)
تعالى جلال حجاب الجهة الشريفة العالية الكبرى، المعظّمة المحجّبة العصميّ الخاتونيّ، جلال النساء في العالمين، سيدة الخواتين، جميلة المحجّبات، جليلة المصونات، والدة الملوك والسلاطين» ثم الدعاء، وكانت الكتابة لها في ورق دمشقيّ في قطع الفرخة بالطول كاملة بقلم الثلث الخفيف أو التوقيع.
القسم الثاني (من يكاتب بالممالك الشامية، وهم أربعة أنواع)
النوع الأوّل (أرباب السيوف من النّواب الكفّال وأتباعهم، وهي ثمان نيابات)
النيابة الأولى (نيابة دمشق، المعبّر عنها في عرف الزمان بالمملكة الشامية) والمكاتبون بها عن الأبواب السلطانية ضربان:
الضرب الأوّل (من بمدينة دمشق، وهم ثلاثة)
الأوّل كافل السلطنة بها
، وهو من أكابر مقدّمي الألوف. وكان رسم المكاتبة إليه على ما أورده المقر الشّهابيّ بن فضل الله في «التعريف»: «أعز الله تعالى نصرة الجناب الكريم». قال في «التثقيف»: ولم تزل المكاتبة إليه كذلك من بعد الدولة الشّهيدية الناصرية محمد بن قلاوون إلى آخر سنة خمس وسبعين وسبعمائة، واستقرّ الأمير بيدمر الخوارزمي نائب السلطنة بها في ولايته الثالثة، في الدولة الأشرفية «شعبان بن حسين» فاستقرّ رسم المكاتبة إليه: «أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم» على الرسم المتقدّم، والعلامة الشريفة إليه «أخوه» وتعريفه «نائب السلطنة الشريفة بالشام المحروس». قال في «التثقيف»: «أو كافل المملكة الشامية المحروسة» ولا يقال في نعوته: كافل السلطنة.
الثاني نائب قلعة دمشق
. ورسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى
المجلس العالي» على ما تقدّم رسمه. والعلامة «والده». قال في «التثقيف»:(7/184)
ورسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى
المجلس العالي» على ما تقدّم رسمه. والعلامة «والده». قال في «التثقيف»:
ثم استقرّت المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء: لأنه طبلخاناه، والعلامة الشريفة له الاسم. وتعريفه «نائب القلعة المنصورة بدمشق المحروسة».
الثالث حاجب الحجّاب (1) بها
. ورسم المكاتبة إليه. «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي» على ما تقدّم رسمه، والعلامة الشريفة له «والده» وتعريفه «أمير حاجب بالشام المحروس».
الضرب الثاني (من بأعمال دمشق (2) من نوّاب المدن والقلاع، وهم خمسة نوّاب)
الأوّل نائب حمص، قال في «التثقيف»: كان يكتب إليه نظير نائب الكرك، يعني «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي» والعلامة الشريفة له «والده» لمّا كان من مقدّمي الألوف بالشام، ثم استقرّ من أمراء الطبلخاناه، واستقرّت مكاتبته «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» فيما أظن وقد
__________
(1) راجع الصفحة 168من هذا الجزء، حاشية: 3.
(2) كانت مملكة دمشق كبرى الممالك الشامية وأوسعها رقعة في العهد المملوكي. وقد قسمها المماليك لهذا السبب الى أربع مناطق إدارية عرفت «بالصفقات». فجعلوا «الصفقة الساحلية والجبلية» تشمل المرتفعات والساحل من بلاد فلسطين الى المغرب من نهر الأردن، وقاعدتها غزة. وجعلوا «الصفقة القبلية» تشمل حوران ومرتفعات الجولان وعجلون والبقاء بالإضافة الى غور الأردن، وقاعدتها بلدة أذرعات وهي اليوم درعا وجعلوا «الصفقة الشرقية» تشمل المنطقة الممتدة من جبل القلمون الى الشمال من دمشق حتى بلاد حماه وسلمية، وقاعدة هذه الصفقة مدينة حمص. أما «الصفقة الشمالية» فكانت قاعدتها بعلبك، وكانت تشمل نيابة «البقاع البعلبكي» وقاعدتها بعلبك ونيابة «البقاع العزيزي» وقاعدتها كرك نوح، وهي اليوم الكرك وولاية صيدا، بما فيها جبل الشوف وولاية بيروت بما فيها جبل الغرب والمتن والجزء الأكبر من جبل كسروان.
وكانت تلك الصفقات الأربع من مملكة دمشق تقسم إلى «نيابات» و «ولايات»، والنيابة وعلى رأسها النائب أكبر شأنا من الولاية وعلى رأسها الوالي أو المتولي وكان «برّ دمشق» المشتمل على الغوطة وجوارها تابعا مباشرة لنائب السلطنة في دمشق. (انظر منطلق تاريخ لبنان: ص 131).(7/185)
تقدّم رسمها. والعلامة الشريفة له الاسم الشريف، وتعريفه «النائب بحمص المحروسة».
الثاني نائب الرّحبة (1) وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أنه كان من حقّها أن تكون من مضافات حلب. ورسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي» على ما تقدّم رسمه. والعلامة الشريفة له «والده» وتعريفه «النائب بالرحبة».
الثالث نائب بعلبك (2) قال في «التثقيف» إن كان من أمراء الطبلخاناه فمكاتبته «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» والعلامة له الاسم الشريف. وإن كان من العشرات، فالمكاتبة إليه «يعلم مجلس الأمير» والعلامة له الاسم الشريف وتعريفه «النائب ببعلبكّ المحروسة».
الرابع نائب مصياف (3) وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أنها كانت مضافة إلى طرابلس في جملة قلاع الدّعوة (4)، ثم استقرّت في مضافات الشام. ورسم المكاتبة إليه «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» والعلامة الشريفة له الاسم الشريف.
الخامس نائب القدس الشريف. وهو ممن استحدثت نيابته في الدولة الأشرفية «شعبان بن حسين» في سنة سبع وسبعين وسبعمائة، وكانت قبل ذلك
__________
(1) وتسمى «رحبة دمشق» لتمييزها عن بلدات وأماكن كثيرة معروفة بهذا الاسم «الرحبة». كان بينها وبين دمشق مسافة يوم واحد. (معجم البلدان: 3/ 33).
(2) راجع الحاشية: 2من الصفحة 185من هذا الجزء.
(3) على الساحل الشامي، قرب طرابلس. ويقال فيها أيضا: «مصياب» و «مصيات». قال ياقوت: وهي حصن حصين مشهور للإسماعيلية. (معجم البلدان: 5/ 144مادة: مصياب).
(4) وهي قلاع الدعوة الإسماعيلية، كان منها: حصن بانياس وحصن مصياف وحصن قدموس، وكان هذا الأخير مقرّ زعيم طائفة الإسماعيلية. وكان للإسماعيلية ما لا يقل عن ستة حصون في الشام، أو عشرة كما يقول وليم الصوري. (انظر دائرة المعارف الإسلامية: 3/ 379وسيرة الملك المنصور:
21 - وص 196من هذا الجزء).(7/186)
ولاية وهو طبلخاناه، وربما أضيف إليه نظر الحرمين: حرم القدس، وحرم الخليل عليه السّلام. ورسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي».
والعلامة «والده» وتعريفه «النائب بالقدس الشريف».
قال في «التثقيف»: وكان قد استقرّ بأماكن تذكر من البلاد الشامية نوّاب، واستقرّت مكاتبة كلّ منهم: إن كان مقدّما «صدرت» و «العالي» والعلامة «والده». وإن كان طبلخاناه «الساميّ» بالياء والعلامة الاسم الشريف. وهي تدمر، والسّخنة، والقريتان، وسلمية (1) قال: ثم بطل ذلك. ثم قال: ومن النّوّاب بالقلاع الشاميّة جماعة لم تجر لهم عادة بمكاتبة عن المواقف الشريفة، ولا تصدر ولايتهم من الأبواب الشريفة، بل نائب الشام مستقلّ بذلك. وهم، نائب عجلون، ونائب صرخد، ونائب الصّبيبة، ونائب شقيف أرنون (2)
قال: وممن كتب إليه أيضا وليس بنائب ولا وال جمال الدين يوسف شاه الأتابك بمصياف في سنة أربع وسبعين وسبعمائة على يد نافع بن بدران. ورسم ما كتب به إليه «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي» وكتب في ألقابه «الأتابكيّ» وكتب تعريفه «يوسف شاه الأتابك». قال: والظاهر أن العلامة «والده».
__________
(1) تدمر والسخنة والقريتان وسلمية: جميعها في بر الشام. قال ياقوت: بين تدمر وحلب خمسة أيام.
والسخنة: تقع بين تدمر وعرض وأرك. والقريتان: قرية كبيرة من أعمال حمص في طريق البرية بينها وبين السخنة وأرك، وأهلها كلهم نصارى. وسلمية: بينها وبين حماة مسيرة يومين، ولا يعرفها أهل الشام إلا بسلميّة (بتشديد الياء المثناة). (معجم البلدان: 2/ 17و 3/ 169و 240 و 4/ 336).
(2) عجلون وصرخد في سوريا اليوم. وقد كانتا حصنان منيعان، وقد مر معنا أنهما من الصفقة القبلية من مملكة دمشق حسب التقسيم الإداري المملوكي. أما نيابة شقيف أرنون فقد كانت من ضمن ولاية شقيف أرنون التابعة لمملكة صفد. وشقيف أرنون اليوم في منطقة جبال عامل من لبنان قرب مدينة النبطية، وقد اطلق الفرنجة على قلعتها اسم «بوفور». ولم نعثر على مكان باسم «الصّبيّة». وذكر ياقوت «الصبيرة»: موضع بالشام. (انظر معجم البلدان: 3/ 392و 401ومنطلق تاريخ لبنان: 132131117).(7/187)
النيابة الثانية (نيابة حلب)
والمكاتبون بها عن الأبواب السلطانية أيضا على ضربين
الضرب الأوّل (من بمدينة حلب، وهم ثلاثة)
الأوّل النائب بها
. وهو من أكابر مقدّمي الألوف. ورسم المكاتبة إليه «أعزّ الله تعالى نصرة الجناب الكريم» على ما تقدّم رسمه. والعلامة الشريفة له «أخوه» وتعريفه «نائب السّلطنة الشريفة بحلب المحروسة».
الثاني نائب القلعة بها
. ورسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» على ما تقدّم رسمه. والعلامة له الاسم الشريف. وتعريفه «نائب القلعة المنصورة بحلب المحروسة».
الثالث حاجب الحجّاب بها
. ورسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي». والعلامة «والده» وتعريفه «أمير حاجب بحلب المحروسة».
الضرب الثاني (من بأعمال حلب من النوّاب، وهم أحد وعشرون نائبا)
الأوّل نائب البيرة
(1) ورسم المكاتبة إليه «المجلس العالي». والعلامة الشريفة «والده» وتعريفه «النائب بالبيرة المحروسة».
__________
(1) بلد قرب سميساط بين حلب والثغور الرومية، وهي قلعة حصينة ولها رستاق واسع. والاسم ترجمة للفظ الآرامي «ببرتا» أي القلعة والحصن. (معجم البلدان: 1/ 526ودائرة المعارف الإسلامية:
8/ 554).(7/188)
الثاني نائب قلعة المسلمين المعروفة بقلعة الرّوم
(1) ورسم المكاتبة إليه والعلامة كذلك (2) وتعريفه «النائب بقلعة المسلمين المحروسة».
الثالث نائب ملطية
(3)، ورسم المكاتبة إليه والعلامة الشريفة كذلك، وتعريفه «النائب بملطية المحروسة».
الرابع نائب طرسوس
(4) ورسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي» والعلامة «والده» وتعريفه «النائب بطرسوس».
الخامس نائب أذنة
(5) ورسم المكاتبة إليه والعلامة له كذلك، وتعريفه «النائب بأذنة المحروسة».
__________
(1) وهي قلعة حصينة في غربي الفرات مقابل البيرة بينها وبين سميساط. كان فيها مقام بطرك الأرمن، ويسمونه بالأرمنية كتاعنيكوس. قال ياقوت: «وهذه القلعة في وسط بلاد المسلمين، وما أظن بقاءها بيد الأرمن مع أخذ جميع ما حولها من البلاد إلا لقلة جدواها ولأجل مقام رب الملة عندهم، كأنهم يتركونها كما يتركون البيع والكنائس في بلاد الإسلام». وقوله: «والعلامة كذلك» أي:
«المجلس العالي» و «والده» مثل الذي قبله. (معجم البلدان: 4/ 390).
(2) وهي قلعة حصينة في غربي الفرات مقابل البيرة بينها وبين سميساط. كان فيها مقام بطرك الأرمن، ويسمونه بالأرمنية كتاعنيكوس. قال ياقوت: «وهذه القلعة في وسط بلاد المسلمين، وما أظن بقاءها بيد الأرمن مع أخذ جميع ما حولها من البلاد إلا لقلة جدواها ولأجل مقام رب الملة عندهم، كأنهم يتركونها كما يتركون البيع والكنائس في بلاد الإسلام». وقوله: «والعلامة كذلك» أي:
«المجلس العالي» و «والده» مثل الذي قبله. (معجم البلدان: 4/ 390).
(3) قال ياقوت: بفتح أوله وثانيه، وسكون الطاء، وتخفيف الياء، والعامة تقوله بتشديد الياء وكسر الطاء. قال صاحب القاموس: وتشديده لحن. وهي بلدة من بلاد الروم تتاخم الشام. (معجم البلدان: 5/ 192).
(4) قال ياقوت: بفتح أوله وثانيه. وهي كلمة عجمية رومية ولا يجوز سكون الراء إلا في ضرورة الشعر لأن فعلول ليس من أبنيتهم. وهي مدينة بثغور الشام بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم. (معجم البلدان: 4/ 28).
(5) وهي أطنة، واسمها بالعربية أذنة. وتقع مدينة أذنة وسط سهل فسيح بالقرب من نهر سيحان، ويصلها بثغر مرسين خط حديدي. وبها جسر قديم بناه يوستنيانوس. أما قلعتها البيزنطية القديمة فقد دمرها محمد علي باشا عام 1836م. أحتلها المماليك سنة 1359م وجعلوها قصبة «نيابة». وكان واليها سنة 1378يوركر أوغلي رمضان التركماني الذي اعترف بسلطان المماليك ومد في رقعة أملاكه وأنشأ الدولة الحاجزة رمضان أوغلي. وكان هو وخلفاؤه يناصرون المماليك حينا ويناهضونهم حينا محققين لأذنة فترة تتسم بالهدوء النسبي. (انظر دائرة المعارف الإسلامية: 3/ 530وما بعدها.
ومعجم البلدان: 1/ 133).(7/189)
السادس نائب الأبلستين
(1) ورسم المكاتبة إليه والعلامة الشريفة له كذلك، وتعريفه «النائب بالأبلستين المحروسة».
السابع نائب بهسنى
(2) ورسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» والعلامة له «والده» وتعريفه «النائب ببهسنى المحروسة».
قال في «التثقيف»: ولم يعلّم لأحد من أرباب السيوف قديما «والده» مع «الساميّ» بالياء غيره.
الثامن نائب آياس
(3) وهو المعبّر عنه بنائب الفتوحات الجاهانيّة. قال في «التثقيف»: إن كان مقدّما فالمكاتبة إليه بنسبة مكاتبة نائب البيرة، فيكون رسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي» والعلامة «والده».
وإن كان طبلخاناه فيكون «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» والعلامة
__________
(1) أبلستين: كانت قصبة قضاء في سنجق مرعش من ولاية حلب على نهر جيحان عند سفح جبل «كرد داغ». وقد اختلفت الروايات في ضبط اسم البلدة بحسب الاشتقاق الشائع، فقيل:
أبلستين وآبلستان وأبلستين، على أن هذه الصيغ جميعا يجب إرجاعها الى الصيغة القديمة: آبلسثا وكانت البلدة في حوزة الصليبيين من سنة 1097الى 1105م ثم انتقلت إلى يد السلاجقة. وفي سهل البستان أحرز السلطان بيبرس المملوكي نصرا عظيما على جنود «أبقا» سنة 1277م. وفي سنة 1515م غزا السلطان سليم الأول البلدة. (انظر دائرة المعارف الاسلامية: 1/ 182ومعجم البلدان: 1/ 75).
(2) الاسم مأخوذ من السريانية «بيت حسنا» أو بهسنا. وكانت قضاء ومدينة في سنجق ملطية من أعمال معمورة العزيز. وكانت بهسنا في عهد مماليك مصر من أهم القلاع التي تصد غارات «بلاد الدروب» عبر طوروس. (دائرة المعارف الإسلامية: 8/ 279ومعجم البلدان: 1/ 516).
(3) بلدة على ساحل قيليقية وعلى الشاطيء الغربي لخليج اسكندرونة الى الشرق من نهر جيحان (بيراموس) وتقع على خط عرض 53036شمالا وخط طول 035و 36شرقا. وكان الملاحون والتجار الايطاليون في القرون الوسطى يعرفونها باسم «أجاتزو» أو «لاجاتزو» وقد نهبت الجيوش الإسلامية آياس سنة 665هـ وسنة 674هـ، وغزاها السلطان الناصر محمد المملوكي سنة 722 هـ. وأعاد النصارى بناءها بعد معاهدة الصلح التي عقدت سنة 1325م، ووقعت في أيدي سلاطين مصر المماليك سنة 748هـ / 1347م. (دائرة المعارف الإسلامية: 1/ 115).(7/190)
الاسم، وتعريفه بكل حال «النائب بآياس» أو «النائب بالفتوحات الجاهانيّة المحروسة».
التاسع نائب جعبر
(1) ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التثقيف» «وهذه المكاتبة إلى المجلس السامي» والعلامة الاسم، وتعريفه «النائب بقلعة جعبر المحروسة».
العاشر نائب عينتاب
(2) ورسم المكاتبة إليه على ما في «التثقيف» «يعلم مجلس الأمير» والعلامة الاسم، وتعريفه «النائب بعينتاب المحروسة».
قال في «التثقيف»: ورأيت بخطّ القاضي ناصر الدين بن النّشائي أن مكاتبته الاسم و «السامي» بغير ياء. ثم قال: وما تقدّم هو ما استقرّ عليه الحال آخرا. قال: وقد يكون ذلك لأنه كان بها أمير طبلخاناه، وتعريفه «النائب بعينتاب».
الحادي عشر نائب درندة
. قال في «التثقيف»: إن كان طبلخاناه ف «السامي» بغير ياء، وإن كان عشرة ف «مجلس الأمير» والعلامة الاسم بكل حال، وتعريفه «النائب بدرندة».
الثاني عشر ناب القصير
(3). قال في «التثقيف»: ورسم المكاتبة إليه «يعلم مجلس الأمير» والعلامة الاسم، وتعريفه «النائب بالقصير».
__________
(1) ويقال أيضا «قلعة جعبر»، وهي اليوم قلعة خربة على الضفة اليسرى للمجرى الأوسط لنهر الفرات، وهي تكاد تكون قبال صفين. وقد تغير نظام جعبر الإداري في عهد المماليك إذ الحقت بدمشق فترة من الزمن ثم بحلب فيما بعد. ويقول أبو الفداء إن القلعة كانت في عهده خرابا يبابا وقد أعيد بناؤها في أواخر عهد محمد الناصر بن قلاوون. (معجم البلدان: 4/ 390ودائرة المعارف الإسلامية:
12/ 45والصبح: 4/ 138).
(2) في ياقوت: عين تاب: قلعة حصينة ورستاق بين حلب وانطاكية، وكانت تعرف «بدلوك». قال: وهي الآن من أعمال حلب. (معجم البلدان: 4/ 176).
(3) قال ياقوت: القصير ضيغة أول منزل لمن يريد حمص من دمشق. (معجم البلدان: 4/ 367).(7/191)
الثالث عشر نائب الرّاوندان
(1) ورسم المكاتبة إليه كمثل نائب القصير، وتعريفه «النائب بالرّاوندان».
الرابع عشر نائب الرّها
(2). قال في «التثقيف»: جرت العادة أن يكون نائبها طبلخاناه، فتكون مكاتبته «السامي» بغير ياء، والعلامة الاسم. ثم قال:
وقد استقرّ في الأيام المنصوريّة في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة مقدّم ألف، فقد يكتب إليه نظير نائب البيرة وقلعة المسلمين، يعنى فتكون مكاتبته «صدرت» و «العالي». والعلامة «والده» وتعريفه بكل حال «النائب بالرّها».
الخامس عشر نائب شيزر
(3) وقد ذكر في «التثقيف» أن مكاتبته «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» فتكون العلامة الاسم، وتعريفه «النائب بشيزر».
السادس عشر نائب كركر
(4) ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التثقيف» «يعلم مجلس الأمير» فتكون العلامة الاسم، وتعريفه «النائب بكركر».
السابع عشر نائب الكختا
(5) ورسم المكاتبة إليه كذلك، وتعريفه «النائب بالكختا».
__________
(1) قال ياقوت: الراوندان قلعة حصينة وكورة طيبة مشعبة مشجرة من نواحي حلب. (معجم البلدان:
3/ 19).
(2) قال ياقوت: «الرها مدينة بالجزيرة بين الموصل والشام بينهما ستة فراسخ». والرها هي اليوم «أورفة» في الجزيرة الفراتية. (معجم البلدان: 3/ 106ومنطلق تاريخ لبنان: 85).
(3) هي اليوم أطلال بلدة في شمالي سوريا، تقع على نهر العاصي. كانت قاعدة بني منقذ فترة طويلة وهي مسقط رأس الأمير أسامة بن منقذ صاحب كتاب الاعتبار. تبادلها العرب والفرنجة مرارا وانتزعها نور الدين منهم ورمّمها. أصابت شيزر عدة زلازل خربت جزءا كبيرا منها. (الموسوعة العربية الميسرة: 1106).
(4) في ياقوت: كركر حصن بين سميساط وحصن زياد وهو قلعة، وقد خربت. (معجم البلدان:
4/ 453).
(5) لم نعثر على هذا الاسم في معاجم البلدان التي بين أيدينا.(7/192)
الثامن عشر نائب بغراس
(1) ورسم المكاتبة إليه كذلك، وتعريفه «النائب ببغراس».
التاسع عشر نائب الشّغر وبكاس
(2). ورسم المكاتبة إليه كذلك، وتعريفه «النائب بالشّغر وبكاس».
العشرون نائب الدّربساك
(3). ورسم المكاتبة إليه كذلك، وتعريفه «النائب بالدّربساك».
الحادي والعشرون نائب إسفندكار
(4). ذكر في «التثقيف» أن رسم المكاتبة إليه كذلك. ثم قال في «التثقيف» لكنّي رأيت بخط القاضي ناصر الدين ابن النّشائي أن مكاتبته الاسم و «السامي» بغير ياء، يعني «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي». قال: وما يبعد أنه كان إذ ذاك طبلخاناه. والمستقرّ عليه الحال ما تقدّم.
قلت: وقد ذكر في «التثقيف» ستّ قلاع استجدّت مكاتبة نوّابها بعد ذلك، ولم يذكر رسم المكاتبة إليه: وهم نائب حجر شغلان، ونائب كومي، ونائب قلعة كولاك، ونائب قلعة باري كروك، استجدّت مكاتبته في سنة ستين وسبعمائة، ونائب قلعة كاورّا، استجدّت مكاتبته في سنة تسع وستين وسبعمائة، ونائب كرزال، استجدّت مكاتبته في سنة سبع وسبعين وسبعمائة. ولم يذكر رسم
__________
(1) مدينة في لحف جبل اللكام، بينها وبين انطاكية أربعة فراسخ، على يمين القاصد الى انطاكية من حلب، في البلاد المطلة على نواحي طرسوس. (معجم البلدان: 1/ 467).
(2) الشّغر وبكاس: قلعتان متقابلتان قرب انطاكية بينهما واد كالخندق. والاسمان غالبا ما يستعملان متلازمان. (معجم البلدان: 1/ 474و 3/ 352).
(3) وهي قلعة من جند قنسرين وهي حصينة ذات أعين وبساتين وبها مسجد جامع، ولها من شرقيها مروج متسعة حسنة المنظر كثيرة العشب يمر بها النهر الأسود. (راجع الصبح: 4/ 122وسيرة الملك المنصور: 39و 97).
(4) لم نعثر على هذا الاسم. ووجدنا: أسفونا: اسم حصن كان قرب معرّة النعمان بالشام. (معجم البلدان: 1/ 179).(7/193)
المكاتبة إليهم. والذي يظهر أن رسم المكاتبة إلى كل منهم «يعلم مجلس الأمير» والعلامة الاسم، والتعريف «النائب بفلانة». وحينئذ فيكون المكاتبون من نوّاب أعمال حلب سبعة وعشرين نائبا.
النيابة الثالثة (نيابة طرابلس) (1)
والمكاتبون بها عن الأبواب السلطانية أيضا على ضربين:
الضرب الأوّل (من بمدينة طرابلس، وهم اثنان)
الأوّل نائب السلطنة بها
ورسم المكاتبة إليه: «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي» على الرسم المتقدّم. والعلامة «والده» وتعريفه «نائب السلطنة الشريفة بطرابلس المحروسة».
الثاني الحاجب بطرابلس
. ورسم المكاتبة إليه «صدرت» و «العالي». والعلامة «والده» وتعريفه «أمير حاجب بطرابلس المحروسة».
وليس بطرابلس قلعة (2) فيكتب إلى نائبها.
__________
(1) شملت مملكة طرابلس الشام في عهد المماليك كامل الرقعة التي كانت ل «قومسية» طرابلس في زمن الفرنجة وهي شمال لبنان وجبل بهراء وثغور الساحل من جبيل إلى اللاذقية. (منطلق تاريخ لبنان: 131).
(2) في ذلك الوقت كان حصن عكار (عكار العتيقة اليوم) إلى الشمال من ولاية الضنيّة يصنّف من القلاع الهامة التابعة لطرابلس، وقد جعل في زمن المماليك البرجية قاعدة لنيابة حصن عكار من نيابات المملكة. (انظر منطلق تاريخ لبنان: 132والصبح: 4/ 235).(7/194)
الضرب الثاني (من بأعمال طرابلس من النوّاب، وهم صنفان)
الصنف الأوّل (نوّاب قلاع نفس طرابلس، وهم سبعة نوّاب)
الأوّل نائب اللاذقيّة
(1) ورسم المكاتبة إليه «السامي» بغير ياء.
والعلامة الاسم، وتعريفه «النائب باللاذقيّة».
الثاني نائب صهيون
(2) ورسم المكاتبة إليه «يعلم مجلس الأمير».
والعلامة الاسم، وتعريفه «النائب بصهيون».
الثالث نائب حصن الأكراد
(3) ورسم المكاتبة إليه كذلك، وتعريفه «النائب بحصن الأكراد».
الرابع نائب بلاطنس
(4). ورسم المكاتبة إليه كذلك، وتعريفه «النائب ببلاطنس».
الخامس نائب المرقب
(5). ورسم المكاتبة إليه كذلك.
__________
(1) على الساحل السوري اليوم. وهي أهم ميناء سوري على المتوسط.
(2) قال ياقوت: «صهيون: حصن حصين من أعمال سواحل بحر الشام من أعمال حمص لكنه ليس بمشرف على البحر. وهي قلعة حصينة مكينة في طرف جبل، خنادقها أودية واسعة هائلة ولها ثلاثة أسوار». (معجم البلدان: 3/ 436).
(3) قال في الصبح: 4/ 144: «بإضافة حصن واحد الحصون الى الأكراد الطائفة المشهورة، وهي قلعة من جند حمص موقعها في الإقليم الرابع، حصينة مقابل حمص من غربيها على الجبل المتصل بجبل لبنان نحو مرحلة من حمص. وهي حصن جليل وقلعة شماء لا تبعد منها السماء وكانت محل النيابة ومقر العسكر قبل فتح طرابلس».
(4) حصن منيع بسواحل الشام مقابل اللاذقية بالقرب من مدينة مصياف في جهة الغرب منها على نصف مرحلة، وفي جهة الشمال من طرابلس على نحو ميلين. (معجم البلدان 1/ 478والصبح:
4/ 145).
(5) المرقب: بلد وقلعة حصينة تشرف على ساحل بحر الشام وعلى مدينة بلنياس. وقد بنى المسلمون هذا الحصن سنة 454هـ. (معجم البلدان: 5/ 108).(7/195)
السادس نائب حصن عكّار
(1). ورسم المكاتبة إليه كذلك، وتعريفه «النائب بحصن عكّار».
الصّنف الثاني (نوّاب قلاع الدّعوة المضافة إلى طرابلس)
وهي: قلاع الإسماعيلية الذين يسمّون أنفسهم بأصحاب الدعوة الهاديّة.
وكانت سبع قلاع فأضيفت مصياف منها إلى دمشق على ما تقدّم في الكلام على المسالك والممالك وبقي من مضافات طرابلس ستّ قلاع، وهي الكهف، والمينقة، والعلّيقة، والقدموس، والخوابي، والرّصافة. ومكاتبة كلّ منهم «يعلم مجلس الأمير» والعلامة الاسم. وتعريف كلّ منهم «النائب بفلانة».
النيابة الرابعة (نيابة حماة)
والمكاتبون بها ضرب واحد بمدينة حماة خاصّة، وهما اثنان:
الأوّل نائب السلطنة بها
. وقد تقدّم في أول هذا الطّرف أنها كانت بيد بقايا بني أيّوب، يطلق عليهم فيها لفظ السلطنة، يتولّونها من ملوك مصر إلى أن كان آخرهم الأفضل محمد بن المؤيّد عماد الدين إسماعيل في الدولة الناصرية محمد ابن قلاوون، ثم صارت نيابة بعد ذلك يتداولها النوّاب نائبا بعد نائب. ورسم المكاتبة إلى نائبها «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي» والعلامة «والده» وتعريفه «نائب السلطنة الشريفة بحماة المحروسة».
الثاني الحاجب بها
. ورسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي». والعلامة الاسم، وتعريفه «الحاجب بحماة المحروسة».
__________
(1) راجع الحاشية: 2صفحة 194.(7/196)
قال في «التثقيف»: ولم يكن بها قلعة فيكتب إلى نائبها. قلت: وليس بأعمالها نوّاب فيكتب إليها إنما بها ولاة يكاتبون عن نوّابها.
النيابة الخامسة (نيابة صفد) (1)
والمكاتبون بها ضرب واحد أيضا، وهم من بالمدينة خاصّة وهم ثلاثة:
الأوّل نائب السلطنة بها
. ورسم المكاتبة إليه «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي». والعلامة «والده». وتعريفه «نائب السلطنة الشريفة بصفد المحروسة».
الثاني الحاجب بها
. ورسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي». والعلامة الاسم. وتعريفه «الحاجب بصفد المحروسة».
الثالث نائب القلعة بها
. ورسم المكاتبة إليه «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي». والعلامة الاسم. وتعريفه «نائب القلعة المنصورة بصفد المحروسة».
قلت: ولم يكن بأعمالها نوّاب فيكاتبون عن الأبواب السلطانية، بل بها ولاة يكاتبون عن نائبها خاصّة كما تقدّم في حماة.
النيابة السادسة (نيابة غزّة)
والمكاتبون بها أيضا ضرب واحد، وهم من بالمدينة خاصّة، وهما اثنان:
__________
(1) كانت مملكة صفد في العهد المملوكي وقاعدتها مدينة صفد في الجليل الأسفل تشمل كامل الجليل، من غور الأردن الى البحر، ومن مجرى نهر «ليطا» (الليطاني) الى مرتفعات فلسطين. ومن ولايات هذه المملكة في الجليل الأعلى (وهو جبل عاملة) ولاية شقيف أرنون وولاية صور. (منطلق تاريخ لبنان: 132).(7/197)
الأول النائب بها
. وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أنه إن اجتمع له البلاد الساحليّة والجبليّة، عبّر عنه بنائب السلطنة وإن قصر أمره على البلاد الساحلية فقط، عبّر عنه بمقدّم العسكر وكان تحت أمر نائب دمشق. وبكل حال فإنّ رسم المكاتبة إليه «أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي» والعلامة «والده». ثم إن أضيف له الجهتان قيل في تعريفه «مقدّم العسكر المنصور بغزّة».
الثاني الحاجب بها
. ورسم المكاتبة إليه «يعلم مجلس الأمير».
والعلامة الاسم، وتعريفه «الحاجب بغزّة المحروسة».
قلت: وليس بعملها نوّاب، بل ولاة يكاتبون عن نائبها أو مقدّم العسكر بها. إلا أنه قد استحدث في أواخر الدولة الظاهرية «برقوق» مكاتبة كاشف الرّملة، واستقرّت مكاتبته «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي». والعلامة الاسم، وتعريفه «الكاشف بالرّملة».
النيابة السابعة (نيابة الكرك) (1)
والمكاتبون بها من بالمدينة خاصّة، وهما اثنان:
الأول نائب السلطنة بها
. ورسم المكاتبة إليه «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي». والعلامة والده، وتعريفه «نائب السلطنة الشريفة بالكرك».
الثاني والى القلعة بها
. ورسم المكاتبة إليه «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي». والعلامة الاسم، وتعريفه «والي القلعة المنصورة بالكرك المحروس».
__________
(1) راجع الحاشية: 1ص: 149من هذا الجزء.(7/198)
قلت: ولم يكن بها حاجب يكاتب ولا بأعمالها نوّاب، بل ولاة يكاتبون عن النائب بها خاصّة.
النيابة الثامنة (نيابة سيس) (1)
وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أنها مما استجدّ فتحه في الدولة الأشرفية «شعبان بن حسين». وقد ذكر في «التثقيف» أن مكاتبة النائب بها كانت «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي» كنائب طرابلس ومن في معناه. ثم قال: وقد صحّ لي بعد هذا أنه استقرّت مكاتبته نظير غزّة. وهي «أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي». والعلامة حينئذ «والده»، وتعريفه «مقدّم العسكر المنصور بغزة» (2) وما ذكره آخرا هو المستقرّ عليه الحال إلى آخر وقت. قال في «التثقيف»: ولم أطّلع على مكاتبة الحاجب بها. ثم قال: وما يبعد أن يكون «مجلس الأمير» لأنه فيما أظنّ أمير عشرة. قال: وإن كان طبلخاناه، فالاسم و «السامي» بغير ياء إن كتب إليه. ولم يكن بها نائب قلعة كما ذكره في الكلام على نوّاب القلاع.
قلت: وهنا أمران أشار إليهما في «التثقيف» ينبغي التّنبّه لهما.
أحدهما أن القاعدة فيمن عدا أكابر النواب: كنوّاب القلاع والحجاب ونحوهم أنّ المكتوب إليه إن كان مقدّما ف «والده» و «صدرت» و «العالي».
وإن كان طبلخاناه فالاسم و «السامي» بغير ياء. وإن كان عشرة، فالاسم و «مجلس الأمير». وحينئذ فلا يتوقف مع المكاتبات السابقة، بل ينظر من هو
__________
(1) ذكرها ياقوت «سيسة» وعامة أهلها يسقطون الهاء. وهي حصن من أكبر حصون بلد الأرمن وهو بين انطاكية وطرسوس على عين زرية، بها مسكن الأرمن ولا تزال قائمة حتى اليوم مركزا لأحد الألوية، وللأرمن بها دير عظيم يقيم بها بطريركهم. وسيس هي أرمينية الصغرى. (سيرة الملك المنصور. ص: 1حاشية).
(2) كذا بالأصل. ولعلها «بسيس» لأن الكلام فيها.(7/199)
مستقرّ في ذلك الوقت ويكتب إليه بما تقتضيه رتبته، فإنه تارة تكون عادة تلك النيابة طبلخاناه ثم تستقرّ عشرة وبالعكس، وتارة تكون طبلخاناه يستقرّ فيها مقدّم ألف وبالعكس. والعبرة في ذلك بحال من هو مستقرّ حال الكتابة، خلا ما هو مستقرّ من قديم الزمان لا يتغيّر مثل مكاتبة نائب بهسنى ونحوه.
وثانيهما أنّ نائب السلطنة بدمشق، ونائب السلطنة بحلب، ونائب السلطنة بطرابلس، ونائب السلطنة بحماة، ونائب السلطنة بصفد، ونائب السلطنة أو مقدّم العسكر بغزّة، ونائب السلطنة بالكرك، ونائب السلطنة بالقدس الشريف يكتب إليهم في جليل كلّ أمر وحقيره من المهمات السلطانية وخلاص الحقوق وغيرها.
أما من عداهم من نوّاب القلاع والنوّاب الصغار الذين بأعمال هذه الممالك والحجّاب، فإنه لا يكتب إليهم في المهمّات والأمور السلطانية: إما في مثال (1)
شريف مفرد لأحدهم، أو في مطلق (2) شريف عامّ لجميعهم أو لبعضهم، وكذلك
__________
(1) المثال: أمر دون الفرمان والمنشور، استعمله سلاجقة الروم، وكان للوزير عندهم الحق في إصدار المثالات، واستعماله أيضا الإيلخانيون، فقد كانت المثالات من المحررات التي تعد في ديوان الرسائل. وكان المثال في العصر المملوكي أمرا يصدر عن ديوان الجيش بمنح إقطاع أو بتحويله أو بإعادته أو بزيادته. والظاهر في أصل التسمية أنه كان يحرر بترتيب خاص فمثلا: كان يعبر عن الإقطاع بكلمة «خبز» وتكتب في سطر واحد، ثم تكتب بقية الكلام في سطر ثان ثم تكتب تحته عبارة كذا وكذا دينار، وتكون هذه العبارة بالقلم القبطي ويوقع السلطان على المثال بكلمة (يكتب) ثم يوقع ناظر الجيش بعبارة (يمتثل الخط الشريف). وهكذا صار المثال كالورقة التي نسميها اليوم أنموذجا أو أورنيكا. وأما عند العثمانيين فلم يكن يفرق بين المثال والفرمان والتوقيع والنشان، بل ربما جمع بين الفرمان والمثال في عبارة واحدة. (انظر تأصيل الدخيل: 183 184).
(2) المطلق عبارة عن رسالة. ويقال فيها: مثال شريف مطلق إلى الولاة والنواب أو غير ذلك. ومن قاعدتها أن يصرح بذكر المكتوب إليهم في المطلق بخلاف غيرها من المكاتبات المفردة. ثم بعد التعريف في المطلقات الدعاء ثم الإفضاء إلى الكلام. وفي آخرها يتعين أن يقال «فليعلموا ذلك ويعتمدوه». (التعريف بمصطلحات الصبح: 314. وانظر ص: 239238من هذا الجزء.(7/200)
في البشرى بوفاء النيل، فإنه يكتب إلى كلّ واحد منهم مثال بمفرده، خلا الحجّاب فإنه لا يكتب إليهم بذلك.
النوع الثاني (ممّن يكاتب بالممالك الشاميّة أرباب الأقلام، وهم صنفان)
الصنف الأول (أرباب الوظائف الدّيوانية)
والذي يكاتب منهم بالبلاد الشامية الوزير بدمشق، أو ناظر النّظّار (1) القائم مقامه، حيث لم يصرّح له بالوزارة.
أما الوزير بدمشق، فقد ذكر في «التعريف» أنه كتب للصاحب عزّ الدين أبي يعلى حمزة بن القلاقسيّ (2) «الجناب» لجلالة قدره، وسابقة خدمه، وعناية من كتب إليه بذلك، وأن الذي استقرّ عليه الحال للوزير بالشام «المجلس العالي» بالدعاء. كما كتب للصاحب «أمين الدين» (3) أمين الملك في وزارته في الأيام الناصرية «محمد بن قلاوون» «ضاعف الله تعالى نعمة المجلس العالي، القاضي، الوزيريّ، الأجلّيّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، الأوحديّ، القواميّ، النظاميّ، المدبّريّ، الملجديّ، الأثيريّ، المشيريّ، الفلانيّ صلاح الإسلام والمسلمين، سيّد الوزراء في العالمين، رئيس الأمراء كبير الرؤساء، بقيّة الأصحاب، ملاذ الكتّاب، عماد الملّة، خالصة الدولة، مشير الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين». والدعاء، ثم «صدرت». والعلامة «أخوه». وتعريفه «مدبّر الممالك الشريفة بالشام المحروس».
قال: ولم يكتب لأحد بذلك بعده ولا قبله. ثم قال: واستقرّ في الدولة الناصرية حسن، الصاحب فخر الدين بن قروينة وزيرا بالشام أيضا على قاعدة
__________
(1) راجع الصبح: 5/ 465و 4/ 2928.
(2) الصواب: ابن القلانسي. راجع ص 179من هذا الجزء.
(3) ساقط من «التعريف». ولعله من الناسخ. (الطبعة الأميرية. ص 182حاشية).(7/201)
جدّه لأمّه، أمين الدين المذكور. ولم أعلم ما كوتب به: هل كما كتب لجدّه المذكور أو دونه؟.
وأما ناظر النظار، فقد ذكر في «التثقيف» أن المكاتبة إليه «حرس الله تعالى مجد المجلس العالي، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، الكامليّ الأوحديّ، الرئيسيّ، الأثيريّ، القواميّ، النّظاميّ، المنفّذيّ، المتصرّفيّ، العلّاميّ مجد الإسلام والمسلمين، سيّد الرؤساء في العالمين، أوحد الفضلاء، جلال الكبراء، حجّة الكتّاب، صفوة الملوك والسلاطين، خالصة أمير المؤمنين». والدعاء ثم «صدرت». والعلامة الاسم، وتعريفه «ناظر النّظّار بالشام المحروس».
قال في «التثقيف»: وهذا هو الذي استقرّ عليه الحال إلى آخر وقت.
الصنف الثاني (القضاة والعلماء)
قد ذكر في «التعريف»: أن المكاتبة لقاضي القضاة الشافعيّ بالشام ب «المجلس العالي» ولم يذكر صورتها. قال في «التثقيف»: والذي كوتب به الشيخ تقيّ الدين السّبكيّ (1) رحمه الله وهو قاضي القضاة بالشام: «أعزّ الله تعالى أحكام المجلس العالي، القاضويّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، الأفضليّ، الأكمليّ، الأوحديّ، البليغيّ، الفريديّ، المفيديّ، النّجيديّ، القدويّ، الحجّيّ، المحققيّ، الإماميّ، الأصيليّ، الموفّقيّ، الحاكميّ، الفلانيّ جمال الإسلام والمسلمين، شرف العلماء العاملين، أوحد الفضلاء المفيدين، قدوة
__________
(1) هو علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي الأنصاري الخزرجي، أبو الحسن، تقي الدين:
شيخ الإسلام في عصره وأحد الحفاظ المفسرين المناظرين. وهو والد التاج السبكي صاحب الطبقات. ولي قضاء الشام سنة 739هـ واعتلّ فعاد إلى القاهرة فتوفي فيها سنة 756هـ.
(الأعلام: 4/ 302).(7/202)
البلغاء، حجّة الأمة، عمدة المحدّثين، فخر المدرّسين، مفتي المسلمين، جلال الحكّام، حكم الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين». والدعاء ثم «صدرت هذه المكاتبة». والعلامة «أخوه». وتعريفه «قاضي القضاة بالشام المحروس».
ثم ذكر فيما بعد أنه كان يكتب في نعوته: «صدر الشام، معزّ السنة، مؤيّد الملّة» قال في «التثقيف» وكانت مكاتبته «شمس الشريعة، رئيس الأصحاب، لسان المتكلمين»، ولم يعيّن مكانها. قال: وكتب بذلك إلى ولده قاضي القضاة تاج الدين السبكيّ (1)، وهو قاضي القضاة بالشام غير مرّة. ثم زيد في ألقاب أخيه الشيخ بهاء الدين (2) عند استقراره في القضاء بالشام مكانه بعد القاضويّ «الشّيخيّ» وبعد المحقّقيّ «الورعيّ، الخاشعيّ، الناسكيّ، الإماميّ، العلّاميّ، الأصيليّ، العريقيّ». وزيد في تعريفه بعد جلال الحكام «بركة الدولة».
النوع الثالث (ممن يكاتب بالبلاد الشامية العربان)
قد تقدم في الكلام على أنساب العرب في المقالة الأولى، فيما يحتاج إليه الكاتب أنّ عرب الشام عدّة بطون من عدّة قبائل. وقد قال في «التعريف»: إنهم جلّ القوم وعين الناس، لا عناية للملوك إلا بهم، ولا مبالاة بغيرهم.
ونحن نذكر هنا ما يتعلّق بالمكاتبات إلى أمرائهم ومشايخهم خاصّة.
البطن الأول (آل فضل من آل ربيعة)
وقد تقدّم أنهم من طيّء، من كهلان، من العاربة. قال في «التعريف»:
__________
(1) وهو تاج الدين، عبد الوهاب بن علي تقي الدين، المتوفى سنة 771هـ. وأخوه: بهاء الدين، أحمد بن علي المتوفى سنة 763هـ. وكان بهاء الدين قد استقر في القضاء سنة 762هـ مكان أخيه (الأعلام: 1/ 176و 4/ 184).
(2) وهو تاج الدين، عبد الوهاب بن علي تقي الدين، المتوفى سنة 771هـ. وأخوه: بهاء الدين، أحمد بن علي المتوفى سنة 763هـ. وكان بهاء الدين قد استقر في القضاء سنة 762هـ مكان أخيه (الأعلام: 1/ 176و 4/ 184).(7/203)
وآل فضل منهم هم الذين في نحر العدوّ، ولهم العديد الأكثر، والمال الأوفر.
قال: وقد صاروا الآن أهل بيتين: بيت مهنّا بن عيسى، وبيت فضل بن عيسى (1)
قال: وهم في جوار الفرات. ولذلك يضاعف إكرامهم، وتوفّر لهم الإقطاعات وتسنى. والإمرة الآن منهم في بيت مهنّا بن عيسى. وهو المعبّر عنه بأمير آل فضل.
وقد ذكر في «التثقيف» أنه كان في زمانه قارا بن مهنا، ثم كان في الدولة الظاهرية «برقوق» محمد نعير بن حيار بن مهنّا بن [عيسى بن مهنّا بن ماتع (2) بن حديثة (3)
ابن عقبة (4) بن فضل بن ربيعة]، ثم استقرّ بعده في الدولة الناصرية «فرج» ابنه العجل، وهو المستقرّ إلى الآن.
قال في «التعريف»: ورسم المكاتبة إلى الأمير منهم «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي الأميريّ» بألقاب جليلة معظّمة مفخّمة. وذكر في «التثقيف» أن رسم المكاتبة إليه «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، الأوحديّ، النصيريّ، العونيّ، الهماميّ، المقدّميّ، الظهيريّ، الأصيليّ، الفلانيّ، عزّ الإسلام والمسلمين، شرف أمراء العربان في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين مقدّم العساكر، كهف الملّة، ذخر الدولة، عماد العرب، ظهير الملوك والسلاطين، حسام أمير المؤمنين». ثم الدعاء و «صدرت هذه المكاتبة». والعلامة «أخوه». وتعريفه «فلان بن فلان».
__________
(1) قال في مسالك الأبصار عن الحمداني: «ولد ربيعة أربعة وهم: فضل، ومرا، وثابت، ودغفل.
وفضل منهم آل عيسى وقد صاروا بيوتا: بيت مهنا بن عيسى، وأميرهم وأمير سائر آل فضل أحمد بن مهنا. وبيت فضل بن عيسى، وأميرهم سيف بن فضل. وبيت حارث بن عيسى، وأميرهم قناة بن حارث. وأما أولاد محمد بن عيسى وأولاد حديثة بن عيسى، وآل هبة بن عيسى فأتباع. وهذا البيت أسعد بيت في العرب في وقتنا الذي أشرقت منه طوالع سعودهم». (مسالك الأبصار: 114).
(2) بياض بالأصل. والزيادة مما تقدم للمؤلف في الجزء الرابع من هذا الكتاب ص 208. وفي مسالك الأبصار، بتحقيق كرافولسكي، ص: 116اختلاف في ضبط الاسم. وقد ورد على النحو التالي:
عيسى بن مهنا بن مانع (بالنون الموحدة) ابن حديثة بالحاء المضمومة والدال المفتوحة) ابن عصيّة (وليس عقبة) ابن فضل بن ربيعة.
(3) بياض بالأصل. والزيادة مما تقدم للمؤلف في الجزء الرابع من هذا الكتاب ص 208. وفي مسالك الأبصار، بتحقيق كرافولسكي، ص: 116اختلاف في ضبط الاسم. وقد ورد على النحو التالي:
عيسى بن مهنا بن مانع (بالنون الموحدة) ابن حديثة بالحاء المضمومة والدال المفتوحة) ابن عصيّة (وليس عقبة) ابن فضل بن ربيعة.
(4) بياض بالأصل. والزيادة مما تقدم للمؤلف في الجزء الرابع من هذا الكتاب ص 208. وفي مسالك الأبصار، بتحقيق كرافولسكي، ص: 116اختلاف في ضبط الاسم. وقد ورد على النحو التالي:
عيسى بن مهنا بن مانع (بالنون الموحدة) ابن حديثة بالحاء المضمومة والدال المفتوحة) ابن عصيّة (وليس عقبة) ابن فضل بن ربيعة.(7/204)
قال في «التعريف» أما من هو نظيره أو مدانيه وعدته الإمرة، فرسم المكاتبة إليه: «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي» ومن دونه «الساميّ الأميريّ». قال: ولكلّ هؤلاء العلامة الشريفة «أخوه» ولمن دون هؤلاء «السامي الأمير» والعلامة الشريفة الاسم الشريف.
وقد ذكر في «التثقيف» أسماء جماعة من أكابر بيت مهنّا بن عيسى، وبيت فضل بن عيسى وذكر لكل منهم رسم مكاتبة.
فأما بيت مهنا المذكور، فهم خمسة:
الأول منهم عسّاف بن مهنّا. ورسم المكاتبة إليه: «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، الأمير، الأجلّ، الكبير، الغازي، المجاهد، المؤيّد، الأوحد، الأصيل فلان الدين، مجد الإسلام، بهاء الأنام، فخر القبائل، زين العشائر، عماد الملوك والسلاطين» والدعاء ثم «صدرت» والعلامة «والده» وتعريفه اسمه.
الثاني عنقاء بن مهنّا أخو عسّاف. مثله في المكاتبة على السواء.
الثالث زامل بن موسى بن مهنّا، «صدرت» و «السامي». والعلامة «والده» وتعريفه اسمه.
الرابع محمد بن حيار بن مهنا: وهو نعير، مثل عمّيه: عسّاف وعنقاء.
الخامس عليّ بن سليمان بن مهنّا. ذكر أنه كان يكاتب ب «الساميّ» بالياء. والعلامة الاسم. وذكر أنّ أخاه عوّادا لم يعلم أنه كوتب عن الأبواب السلطانية.
وأما بيت فضل، فذكر منهم معيقل بن فضل، وقال: إن رسم المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. والعلامة «والده». ثم قال: ولم يكاتب الآن من بني فضل غيره، فإن أخويه: سيفا وأبا بكر كانا يكاتبان عن الأبواب الشريفة، ثم توفّيا إلى رحمة الله تعالى، ولم يبق من أكابر بني فضل غيره هو وأولاد أخويه، لكنهم لم يكاتبوا
بشيء. فإن اتفق أن يكاتب أحد من أولاد أخويه المذكورين أو من أولاد مهنّا، مثل أولاد فيّاض، وبقية أولاد حيار ورميثة بن عمر بن موسى ونحوهم، فأعلاهم الاسم و «السامي» بغير ياء، وأدناهم الاسم و «مجلس الأمير».(7/205)
وأما بيت فضل، فذكر منهم معيقل بن فضل، وقال: إن رسم المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. والعلامة «والده». ثم قال: ولم يكاتب الآن من بني فضل غيره، فإن أخويه: سيفا وأبا بكر كانا يكاتبان عن الأبواب الشريفة، ثم توفّيا إلى رحمة الله تعالى، ولم يبق من أكابر بني فضل غيره هو وأولاد أخويه، لكنهم لم يكاتبوا
بشيء. فإن اتفق أن يكاتب أحد من أولاد أخويه المذكورين أو من أولاد مهنّا، مثل أولاد فيّاض، وبقية أولاد حيار ورميثة بن عمر بن موسى ونحوهم، فأعلاهم الاسم و «السامي» بغير ياء، وأدناهم الاسم و «مجلس الأمير».
البطن الثاني (آل مرا) (1)
قد تقدّم في الكلام على أنساب العرب فيما يحتاج إليه الكاتب، في المقالة الأولى، أنّ مرا وفضلا أخوان. قال في «التعريف»: ومنازلهم بلاد حوران. وقد ذكر في «التثقيف» أن الإمرة في زمانه كانت مقسومة نصفين بين عنقاء بن شطى (2)
ابن عمرو بن نونة (3)، وعمّه فضل بن عمرو بن نونة (4) ثم قال: ومكاتبة كلّ منهما «صدرت» و «السامي». والعلامة «والده» وتعريفه «فلان بن فلان».
البطن الثالث (آل عليّ)
وقد تقدّم في الكلام على الأنساب أنهم من (5) آل فضل. قال في «التعريف»: وإنما نزلوا غوطة دمشق حيث صارت الإمرة إلى عيسى بن مهنّا، وبقي عيسى جار الفرات في تلابيب التّتار. قال في «التعريف»: ورسم المكاتبة إلى أميرهم «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس الساميّ الأميريّ». والعلامة الشريفة «أخوه». وقد ذكر في «التثقيف» أن أميرهم في زمانه كان (6) عيسى بن رملة
__________
(1) راجع الصفحة 204من هذا الجزء، الحاشية: 1.
(2) في مسالك الأبصار، ص: 137، «شطّي» (بتشديد الطاء) ابن عمرو بن توبة (بالتاء المثناة المفتوحة ثم واو ساكنة ثم ياء موحدة مفتوحة).
(3) في مسالك الأبصار، ص: 137، «شطّي» (بتشديد الطاء) ابن عمرو بن توبة (بالتاء المثناة المفتوحة ثم واو ساكنة ثم ياء موحدة مفتوحة).
(4) في مسالك الأبصار، ص: 137، «شطّي» (بتشديد الطاء) ابن عمرو بن توبة (بالتاء المثناة المفتوحة ثم واو ساكنة ثم ياء موحدة مفتوحة).
(5) وقال في مسالك الأبصار ص: 114 «أما آل علي فهم وإن كانوا من ضئضىء آل فضل فقد انفردوا منهم واعتزلوا عنهم حتى صاروا طائفة أخرى».
(6) وفي مسالك الأبصار ص 136 «وأميرهم رملة بن جمّاز».(7/206)
ابن جمّاز. وقال: إن رسم المكاتبة إليه كما ذكر في «التعريف» وهي: «صدرت» و «السامي» لكنه ذكر أن العلامة «والده» وتعريفه «فلان بن فلان».
البطن الرابع (بنو مهديّ) (1)
وقد تقدّم في الكلام على الأنساب أنّ منازلهم البلقاء من مضافات دمشق.
قال في «التعريف»: والإمرة فيهم في أربعة، رسم المكاتبة إلى كلّ منهم «مجلس الأمير». وذكر في «التثقيف» أنها كانت في زمانه باسم ببرو بن ذؤيب (2) بن سعيد ابن محفوظ القيسي (3)، وسعيد بن نجري (4) بن حسن العقيسي، وزامل بن عبيد بن محفوظ العقيسي، ومحمد بن عبّاس بن قاسم بن محمد بن راشد العسري. وأن مكاتبة كل منهم «مجلس الأمير» كما تقدّم في «التعريف». ثم قال: ومن كان معه نصف الإمرة منهم، كانت مكاتبته الاسم و «السامي» بغير ياء وتعريف كلّ منهم «فلان بن فلان».
البطن الخامس (بنو عقبة) (5)
وقد تقدّم في الكلام على الأنساب أن مرجعهم إلى جذام، وأنّ منازلهم الكرك والشّوبك. قال في «التعريف»: ورسم المكاتبة إلى أميرهم مثل أمير آل مرا. وكذلك رسم المكاتبة إلى أقاربه كرسم المكاتبة إلى أقارب أمير آل مرا أيضا فتكون مكاتبة أميرهم «صدرت» و «السامي». ومكاتبة أعيان أقاربه «السامي
__________
(1) بنو مهدي، من جذام. قال في مسالك الأبصار: «ومنهم المشاطبة وأولاد ابن عسكر والعناترة وأولاد راشد والسرات واليعاقبة والمطارنة» (انظر مسالك الأبصار: 110109. ونهاية الأرب للقلقشندي ص 381مع اختلاف عن مسالك الأبصار في ضبط بعض الأسماء).
(2) في الجزء الرابع ص: 213من الصبح أورده: «ابن ذئب بن محفوظ العنبسي».
(3) في الجزء الرابع ص: 213من الصبح أورده: «ابن ذئب بن محفوظ العنبسي».
(4) في المرجع السابق: «بحري» بالباء والحاء.
(5) من جذام أيضا.(7/207)
الأمير» ولمن دونهم «مجلس الأمير». وقد ذكر في «التثقيف» أن إمرتهم في زمانه كانت باسم خاطر بن أحمد بن شطى بن عبيد (1) وذكر أن رسم المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ» بالياء، وتعريفه «فلان بن فلان» ولم يتعرّض لأقربائه.
البطن السادس (جرم) (2)
وقد تقدّم في الأنساب أن مرجعهم إلى طيّىء، وأن منازلهم ببلاد غزّة. وقد ذكر في «التعريف» أن إمرتهم في زمانه كانت باسم فضل بن حجيّ (3) وذكر أن رسم المكاتبة إليه «مجلس الأمير». والذي ذكره في «التثقيف» أنّ لهم مقدّما لا أميرا، وأنه كان في زمانه عليّ بن فضل. وذكر أن رسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء. وهذا عجب فإنه إذا كان أميرا ورسم المكاتبة إليه «مجلس الأمير» فكيف يكون رسم المكاتبة إليه «السامي» بغير ياء وهو مقدّم، والإمارة فوق التّقدمة بلا ريب.
قال في «التعريف»: وأما بقيّة عرب الشام، نحو زبيد المرج، وزبيد حوران، وخالد حمص، والمشارقة، وغزيّة إذا أطاعوا، وزبيد الأحلاف، فأجلّ كبرائهم وأشياخهم من يكتب له «مجلس الأمير». وذكر في «التثقيف» نحوه، ثم قال: هذا إن انفرد أحد منهم بالمكاتبة، وإلا فالعادة أن يكتب لكلّ طائفة من هؤلاء مطلق شريف. ثم قال: على أنه لم تجر العادة بمكاتبة أحد من هؤلاء القبائل، لا على الانفراد ولا على الاجتماع. وهذا كلام متناقض حيث يقول: إنّ
__________
(1) في مسالك الأبصار: شطيّ بن عبيّة.
(2) قال في مسالك الأبصار عن الحمداني: «جرم: واسمه ثعلبة، واسم أمه جرم، فحضنته فسمي بها. وهو جرم بن عمرو بن الغوث بن طيّىء. وكانت جرم متفقة بالشام مع ثعلبة يدا مع الإفرنج على المسلمين فلما فتح السلطان صلاح الدين البلاد جاءت ثعلبة وطائفة من جرم مصر، وبقيت بقايا جرم مكانها.». (مسالك الأبصار: 107).
(3) في حاشية الطبعة الأميرية عن «التعريف»: «حمى».(7/208)
العادة أن يكتب لكل طائفة منهم مطلق شريف، ثم يقول: إن العادة لم تجر بمكاتبة أحد منهم لا على الانفراد ولا على الاجتماع.
قلت: وقد تقدّم الكلام على أنساب جميع هذه البطون وأماكنها مستوفى في الكلام على الأنساب في المقالة الأولى (1) ووقع بسط الكلام على ذلك وغيره في كتابنا المسمّى «نهاية الأرب في معرفة قبائل العرب» (2)
النوع الثالث (ممن يكاتب بالممالك الشاميّة، التّركمان)
قد تقدّم ذكر نسب التركمان في الكلام على أنساب الأمم في المقالة الأولى.
وقد ذكر في «التثقيف» أن التركمان بهذه المملكة طوائف كثيرة، وجماعة كبيرة.
ثم قال: وغالبهم لا يكتب إليه إلا إذا ضمّهم مطلق شريف. فإن كتب إلى أحد من أعيانهم، كتب إليه الاسم و «السامي» بغير ياء إن كان طبلخاناه وإن كان عشرة أو عشرين، كتب إليه الاسم و «مجلس الأمير» لا غير، ثم أخلى بياضا متّسعا ولم يصرّح باسم أحد منهم. ثم ذكر في الكلام على تركمان البلاد الشرقية عدّة طوائف، عدّ منهم الأوسرية، وقال: هم تركمان حلب، والورسق. وقال: وهم تركمان طرسوس، ولم يتعرّض لمواضع غيرهم. وسيأتي كلامه مستوفى عند الكلام على تركمان البلاد الشرقية إن شاء الله تعالى.
النوع الرابع (ممن يكاتب بالممالك الشامية الأكراد)
وقد تقدّم ذكر نسبهم في الكلام على أنساب الأمم في المقالة الأولى. وقد ذكر في «التثقيف» أن بهذه المملكة منهم طوائف كثيرة كالتّركمان، وأنّ غالبهم
__________
(1) الجزء الرابع من الصبح.
(2) انظر في المرجع المذكور للقلقشندي: ص: 349348347226.(7/209)
لا يكتب إليه إلا إذا ضمّهم مطلق شريف، وأنه إن كتب لأحد من أعيانهم، كتب له الاسم و «السامي» بغير ياء، إن كان طبلخاناه. وإن كان أمير عشرة أو عشرين، كتب إليه الاسم و «مجلس الأمير» كما تقدّم في التّركمان من غير فرق.
القسم الثالث (من يكاتب بالبلاد الحجازية، والمعتبر في المكاتبين منهم ثلاثة)
الأوّل أمير مكّة المعظّمة
. وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك ذكر أمرائها من ابتداء الإمرة وهلمّ جرّا إلى زماننا، والقائم بها الآن [حسن بن أحمد] (1) بن عجلان.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف»: «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، العضديّ، النّصيريّ، الذّخريّ، الغوثيّ، المفيديّ، الأوحديّ، الظهيريّ، الزّعيميّ، الكافليّ، الشريفيّ، الحسيبيّ، النّسيبيّ، الأصيليّ، الفلانيّ عزّ الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، جلال العترة الطاهرة، كوكب الأسرة الزاهرة فرع الشجرة الزّكيّة، طراز العصابة العلويّة ظهير الملوك والسلاطين، نسيب أمير المؤمنين» ثم الدعاء المعطوف. وبعده «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي بالسلام والثناء وتوضح لعلمه الكريم كذا وكذا».
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التثقيف»: «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، الشريفيّ، الحسيبيّ، النّسيبيّ، العالميّ، المجاهديّ، المفيديّ، الأوحديّ، النصيريّ، العونيّ، الهماميّ، المقدّميّ، الظّهيريّ، الأصيليّ، العريقيّ، الفلانيّ عزّ الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء الأشراف في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، كهف الملّة، عون الأمة، فخر
__________
(1) بياض بالأصل. والزيادة مما تقدم للمؤلف في الجزء الرابع من هذا الكتاب ص 275عند ذكر أمراء مكة المكرمة.(7/210)
السّلالة الزاهرة، زين العترة الطاهرة، بهاء العصابة العلويّة، جمال الطائفة الهاشميّة، ظهير الملوك والسلاطين، نسيب أمير المؤمنين» ثم الدعاء و «صدرت».
وهذا دعاء وصدر يليق به ذكره في «التعريف»: «ولا زال حرمه أمينا، ومكانه مكينا، وشرفه يبيّض له بمجاورة الحجر الأسود عند الله وجها ويضيء جبينا. صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي تحمل إليه سلاما تميل به الرّكائب، وثناء تثني على مسكه الحقائب (1)، وشوقا أوسق قلبه لمن نسكه مع الحبائب (2)، وتوضّح لعلمه الكريم».
صدر آخر: ومتّعه بجوار بيته الكريم، وزاد بجميل مساعيه شرف نسبه الصّميم، وآنسه بقرب الحجر الأسود والرّكن والحطيم (3) صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي تهدي إليه سلاما، وثناء تطيب به الصّبا قبل أن تحمل شيحا أو خزامى، وتوضح لعلمه الكريم.
صدر آخر: وأراه مناسكه، وآنس بالتقوى مسالكه، وأشهد على عمله الصالح بطحاءه وما ينزله من الملائكة. صدرت هذه المكاتبة بتحيّاتها المباركة، وأثنيتها التي لا تزال إليه بها أفئدة من الناس سالكة، وتوضّح لعلمه الكريم.
__________
(1) الحقائب: جمع حقيبة وهي كل ما يحمل وراء الرحل.
(2) الحبائب: جمع حبيبة.
(3) قال ياقوت: «بالفتح ثم الكسر: بمكة. قال مالك بن أنس: هو ما بين المقام إلى الباب. وقال ابن جريج: هو ما بين الركن والمقام وزمزم والحجر. وقال ابن دريد: كانت الجاهلية تتحالف هناك يتحطمون بالايمان، فكل من دعا على ظالم وحلف إثما عجّلت عقوبته. وقال النضر: وإنما سمي حطيما لأن البيت ربّع وترك محطوما. (انظر معجم البلدان: 2/ 273واللسان: 12/ 139وما بعدها).(7/211)
الثاني أمير المدينة النبوية
على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
وقد تقدّم في الكلام على أمرائها في المسالك والممالك من المقالة الثالثة أن إمارتها مستقرّة في بني الحسين، وأنّها الآن في بني جمّاز بن شيحة، وأن جدّهم كان فقيها بالعراق، فقدم على السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» رحمه الله، فولّاه المدينة فاستقرّت فيها قدمه ثم قدم بنيه، وأنّ القائم بها الآن (1)
[ثابت بن جمّاز بن هبة بن جماز بن منصور بن جماز بن شيحة بن نعير].
ورسم المكاتبة إليه كرسم المكاتبة إلى أمير مكة على الاختلاف السابق في النقل عن «التعريف، والتثقيف». فقد ذكر كلّ منهما رسم المكاتبة إلى أمير مكة. ثم قال: ورسم المكاتبة إلى أمير المدينة كذلك.
وهذا صدر مكاتبة يليق به، وهو: ولا زال في جوار الله ورسوله، ومهبط الوحي ونزوله، ومكان يردّد فيه من أبويه الطاهرين بين حيدره وبتوله. صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي بسلام يحدو ركابها، وثناء يزين في قبا قبابها، وشوق إلى رؤيته في الروضة التي طالما استسقى فيها برسول الله صلّى الله عليه وسلّم سحابها، توضح لعلمه الكريم كذا وكذا.
صدر آخر: وزاده من الله ورسوله قربا، وأكّد له بحماية حرمه حبّا، وأبهجه كلّما رأى جدّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد جاور آلا وجالس صحبا. صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي مطربة بالسلام، مطنبة في ثنائه المفصّل النّظام، وتوضح لعلمه الكريم.
الثالث النائب بالينبع
(2)
__________
(1) بياض بالأصل. والزيادة مما تقدم في الجزء الرابع ص 301عند الكلام على أمراء المدينة المنورة.
(2) ينبع: بين مكة والمدينة. قال ياقوت: وهي عن يمين رضوى لمن كان منحدرا من المدينة إلى البحر. (معجم ما استعجم 1402ومعجم البلدان: 5/ 449).(7/212)
وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أنها في بني حسن أيضا (1)
قال في «التثقيف»: ورسم المكاتبة إليه «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي الأمير». والعلامة الاسم، وتعريفه «النائب بالينبع».
أما سائر العربان بالحجاز فقد ذكر في «التثقيف» أن لبني حسن القوّام بمكة «مجالس الأمراء». والعلامة الاسم. ومن عدا بني حسن فقد ذكر في «التعريف» أنهم على ضربين:
الضرب الأوّل أهل الدّربين: المصريّ والشاميّ (2) قال: وليس فيهم من هو في عير ولا نفير، ولا يحلّ في ذروة ولا غارب وأجلّ من فيهم إذا كتب له «مجلس الأمير» كان كمن سوّر وطوّق، لا بل طيلس وتوّج.
الضرب الثاني شيوخ لام، وخالد، والمنيفق، وعائذ الحجاز (3) قال:
__________
(1) المقصود: كإمرة مكة. وذكر في مسالك الأبصار عن عرب الطرق المسلوكة التي تتوجه فيها المحامل إلى مكة أن الطريق من «نما» إلى نهاية «بدر» على الفرعاء وإلى نهاية الصفراء على نقب عليّ لبني حسن أصحاب الينبع ويليهم أقاربهم من بني حسن أصحاب بدر إلى رملة عالج في طرف قاع البزوة (البزواء). (مسالك الأبصار: 187).
(2) ذكر ابن فضل الله العمري أن الطرق إلى مكة أربعة، ولا تقصد مكة غالبا إلا منها وهي: طريق مصر وطريق دمشق، وطريق بغداد وطريق تعزّ. أما طريق الركب المصري فهي: من القاهرة إلى عقبة أيلة، ومن العقبة إلى الدأماء إلى أكدى إلى نما إلى بدر إلى الصفراء إلى الجحفة ورابغ إلى الثنيّة إلى الفجّ وهو المسمى بالمحاطب ومن المحاطب إلى مكة المعظمة. ولم يذكر شيئا عن بقية الطرق إذ توقف عندما كان يتهيأ للكلام على طريق الركب الشامي. ويظهر أن الموت فاجاه قبل اتمام فصله.
وقد توفي العمري في التاسع من ذي الحجة سنة 749هـ / 1مارس 1349م. (مقدمة مسالك الأبصار: 5756وص 187).
(3) بنو لأم، وينتسبون إلى لأم بن عمرو بن طريف بن ثمامة بن خارجة بن فطرة بن طيّيء، وديارهم جبلا طيّىء: أجأ وسلمى. وأما خالد فيدّعون بنوّة خالد بن الوليد. قال في مسالك الأبصار: وقد أجمع أهل العلم بالنسب على انقراض عقبة، وهم وغيرهم كثيرون يدعون هذه النبوّة. أما عائذ الحجاز فهم من ربيعة مقابل عائذ جذام بمصر. ولم نعثر على أصل «المنيفق»، ولعل المقصود:
«منيف» وهم فرع من الجحادلة إحدى قبائل الحجاز، أو «منيف» وهم فخذ من آل شريف من سفيان، من ثقيف بالحجاز. (مسالك الأبصار: 175163153ومعجم قبائل العرب: 715 و 1007و 1149).(7/213)
وهؤلاء من كان منهم المشار إليه كتب إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس الساميّ الأميريّ» والعلامة «أخوه». ثم من يليهم بالسامي بغير ياء. ثم الأعيان من بقيتهم «مجلس الأمير».
المسلك الثاني (في معرفة ترتيب المكاتبات المقدّمة الذكر، وكيفية أوضاعها. وفيه مأخذان)
المأخذ الأوّل في ترتيب متون المكاتبات
، ولا يكون إلا ابتداء. أما الجواب فإنه لا يتأتّى فيها.
ثم هي على ضربين:
الضرب الأوّل ما يكتب في خلاص الحقوق
. وهو ما يكتب فيه لنوّاب الإسكندرية، ونائبي الوجهين: القبليّ والبحريّ من الديار المصرية، وولاتهما، ونوّاب الشام، وحلب، وطرابلس، وحماة، وصفد، والكرك، ومقدّم العسكر بغزّة، من الممالك الشامية على ما تقدّم ذكره في الكلام على مكاتبة أهل المملكة.
والرسم في ذلك إذا كانت المكاتبة إلى نائب الشام مثلا، بسبب قضيّة تتعلّق بالأمير الدّوادار أن يكتب: «أعزّ الله تعالى المقرّ الكريم» إلى آخر الألقاب والصدر ثم يكتب: «وتبدي لعلمه الكريم أن الجناب العالي» ويذكر ألقابه إلى آخرها «ضاعف الله تعالى نعمته عرّفنا كذا وكذا». ويذكر ما في قصته برمّته. ثم يكتب: «ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بكذا وكذا» ويأتي بما رسم له به إلى آخره ثم يقول: «فيحيط علمه بذلك» ويكمّل على ما تقدّم.
وإن كان المكتوب بسببه أمير عشرة مثلا، كتب بدل «عرّفنا»: «ذكر».
وإن كان من آحاد الناس كتب بدل ذلك: «إن فلانا أنهى» ويكمل على ما تقدّم.
وهذه نسخة مكاتبة إلى نائب الشام بسبب خلاص حقّ:
أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ،
العادليّ، المؤيّديّ، العونيّ، المثاغريّ، المرابطيّ، الممهّديّ، المشيّديّ، الزّعيمي، الظّهيريّ، العابديّ، الناسكيّ، الأتابكيّ، الكفيليّ، الفلانيّ معزّ الإسلام والمسلمين، سيد أمراء العالمين، ناصر الغزاة والمجاهدين، ملجإ الفقراء والمساكين، أتابك العساكر، زعيم الموحّدين، ممهّد الدول، مشيّد الممالك، عون الأمة، كهف الملّة، عماد الدولة، ظهير الملوك والسلاطين، عضد أمير المؤمنين، ولا زال عاليا قدره، نافذا أمره، جاريا على الألسنة حمده وشكره.(7/214)
أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ،
العادليّ، المؤيّديّ، العونيّ، المثاغريّ، المرابطيّ، الممهّديّ، المشيّديّ، الزّعيمي، الظّهيريّ، العابديّ، الناسكيّ، الأتابكيّ، الكفيليّ، الفلانيّ معزّ الإسلام والمسلمين، سيد أمراء العالمين، ناصر الغزاة والمجاهدين، ملجإ الفقراء والمساكين، أتابك العساكر، زعيم الموحّدين، ممهّد الدول، مشيّد الممالك، عون الأمة، كهف الملّة، عماد الدولة، ظهير الملوك والسلاطين، عضد أمير المؤمنين، ولا زال عاليا قدره، نافذا أمره، جاريا على الألسنة حمده وشكره.
أصدرناها إلى المقرّ العالي تهدي إليه من السلام أتمّه، ومن الثناء أعمّه وتبدي لعلمه الكريم أنّ الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، الغوثيّ، الغياثيّ، المرابطيّ، الممهّديّ، المشيّديّ، الظّهيريّ، الزّعيميّ، المقدّمى، الفلانيّ ظهير الملوك والسلاطين، سيف أمير المؤمنين فلان رأس نوبة (1) الظاهريّ ضاعف الله تعالى نعمته عرّفنا أنّ له دعوى شرعية على أقوام بدمشق المحروسة، وهم فلان وفلان. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بحملهم صحبة فلان قاصد المشار إليه، إلى الأبواب الشريفة، محتفظا بهم، قولا واحدا، وأمرا جازما، ليصل كلّ ذي حقّ إلى حقه، فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه.
آخر: وتبدي لعلمه الكريم أن المجلس الساميّ، الأميريّ، الكبيريّ، العضديّ، الذّخريّ، الأوحديّ، الفلانيّ عمدة الملوك والسلاطين: فلان أدام الله سعادته، ذكر لنا أن الصّدقات الشريفة شملته بخلاص حقّه من فلان. وقد وكّل
__________
(1) وظيفة رأس نوبة: كان لصاحبها الحكم على المماليك السلطانية والأخذ على أيديهم. وفي هذه الوظيفة أربعة من الأمراء: واحد مقدم ألف وثلاثة طبلخانات. ولكل أمير من أمراء المئين أو الطبلخاناه رأس نوبة. (التعريف بمصطلحات الصبح: 155ونزهة النفوس 1/ 37حاشية).(7/215)
في ذلك المجلس الساميّ القضائيّ الأجلّيّ فلان الدين. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بطلب الغريم المذكور، وخلاص الحقّ منه بتمامه وكماله.
وإن امتنع عن ذلك يحمل للأبواب الشريفة مع الوصيّة بوكيله في ذلك، فيحيط علمه بذلك.
آخر: وتبدي لعلمه الكريم أن الأمير، الأجلّ، الكبير، فلان الدين، فلان الفلاني أنهى أنّ بيده إقطاعا بالحلقة الشامية، وأن الوزير بالشام المحروس في كلّ وقت يتعرّض إلى إقطاعه، ويأخذ الموجب المقرّر له بغير طريق. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بطلب المباشرين، والارتجاع عليهم بما التمسوه من إقطاعه، على ما يشهد به الدّيوان المعمور، بتمامه وكماله، ويستقرّ هذا المثال الشريف بيده بعد العمل به، فيحيط علمه الكريم بذلك، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه.
آخر: وتبدي لعلمه الكريم أن فلانا الفلانيّ أنهى أنّ شخصا يسمّى فلانا تزوّج بأخته، وهو مقيم بالشام المحروس، وتوفيت أخته إلى رحمة الله تعالى، ووضع الزوج المذكور يده على جميع مالها. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بخلاص الحق على حكم الشرع الشريف مع الوصيّة به، فيحيط علمه بذلك.
آخر: وتبدي لعلمه الكريم أن قصّة (1) رفعت إلى أبوابنا الشريفة باسم
__________
(1) القصة هي الطلب أو الالتماس، ويرفعها صاحب الحاجة أو الشكوى إلى حضرة السلطان عن طريق موظف خاص اسمه «قصقة دار». (راجع الصبح: 3/ 487و 13/ 154).(7/216)
تجّار الفرنج، أنهوا فيها أنهم يبيعون ويبتاعون البضائع، ويقومون بما عليهم من الموجب السلطانيّ. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره بخلاص حقوقهم ممن تتعيّن في جهته على حكم الحق، وكفّ أسباب الضرر عنهم، ومنع من يتعرّض إليهم بغير حقّ ولا مستند شرعيّ، والوصية بهم ورعايتهم وملاحظتهم، فيحيط علمه بذلك.
الضرب الثاني (ما يكتب من متعلقات البريد في الأمور السلطانية، وهي صنفان)
الصنف الأوّل (ما يكتب به ابتداء)
ويختلف الحال فيه باختلاف مقتضيه: فإن كان مقتضية بروز أمر السلطان بفعل شيء أو تركه أو الحركة في شيء، كتب: «إنّ المراسيم الشريفة اقتضت كذا وكذا». أو «إن مراسيمنا الشريفة اقتضت كذا». أو «إن المرسوم الشريف اقتضى كذا». أو «إن مرسومنا الشريف اقتضى كذا»: فإن كان ذلك الأمر مما يحتاج إلى إدارة الرأي فيه، كتب: «إنّ الرأي الشريف اقتضى كذا». أو «إنّ آراءنا الشريفة اقتضت كذا»، وما يجري هذا المجرى. وإن كان مقتضيه بلوغ خبر من حركة عدوّ أو اطّلاع على أمر خفيّ، كتب: «إنه اتّصل بالمسامع الشريفة كذا وكذا». أو «إنه اتصل بمسامعنا الشريفة كذا وكذا». وإن كان بسبب طلب مال أو جباية خراج ونحو ذلك، كتب: «إنّ لديوان خاصّنا (1) الشريف في الجهة الفلانية كذا». أو «إنّ لنا في الجهة الفلانية كذا» ونحو ذلك مما ينخرط في هذا السّلك، ثم يكتب: «ومرسومنا للمقرّ الكريم، أو للجناب الكريم، أو الجناب
__________
(1) وظيفة الديوان الخاص هي النظر في خاص أموال السلطان والتحدث في جهاته ومضافاته. وكانت أموال هذه الجهات والمضافات تحمل إلى «خزانة الخاص». وديوان الخاص أحدثه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون (741693هـ) على أن ذلك لا ينفي وجود إدارة من شأنها النظر في خاص أموال السلطان أيام الدولة الأيوبية. (التعريف بمصطلحات الصبح: 145).(7/217)
العالي» على حسب المكاتبة «أن يتقدّم أمره بكذا وكذا» على ما تبرز به المراسيم السلطانية.
وهذه مكاتبات من ذلك إلى نائب الشام، ينسج على منوالها.
مكاتبة باستقرار نائب في نيابة بعض القلاع: وتبدي لعلمه الكريم أن المراسيم الشريفة اقتضت استقرار الأمير فلان الدين في النيابة الشريفة وجهزنا مرسومه (1) الشريفين على يد المتوجّه بهذا المثال الشريف الأمير الأجلّ فلان الدين فلان، أعزه الله تعالى. فيتقدّم المقرّ الكريم بتجهيزه إلى جهة قصده بما على يده من ذلك، وإذا عاد، يعيده إلى الأبواب الشريفة مكرما مرعيّا على عوائد همّته العليّة، فيحيط علمه بذلك.
مكاتبة بنقل نائب سلطنة من نيابة إلى نيابة: وتبدي لعلمه الكريم أن مرسومنا الشريف اقتضى نقل الجناب الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، الغوثي، الغياثيّ، المقدّميّ، الكافليّ، الفلانيّ ظهير الملوك والسلاطين، سيف أمير المؤمنين فلان الظاهريّ، أعزّ الله نصرته من نيابة السلطنة الشريفة بطرابلس، إلى نيابة السلطنة الشريفة بحلب المحروسة. والجناب العالي الأميريّ الكبيريّ الفلانيّ، ظهير الملوك والسلاطين فلان الظاهريّ من نيابة السلطنة بصفد المحروسة، إلى نيابة السلطنة الشريفة بطرابلس المحروسة. والجناب العالي الفلانيّ الظاهريّ من تقدمة العسكر المنصور بغزّة المحروسة، إلى نيابة السلطنة الشريفة بصفد المحروسة. وكتبنا لهم تقاليد شريفة بذلك، وجهّزنا إليهم تشاريفهم وهي واصلة عقيبها على يد متسفّريهم (2) وجهّزنا الأمير الأجلّ الأعز فلان الدين، مؤتمن الملوك
__________
(1) بياض بالأصل. ولعله «وجهزنا مرسومه وتشريفه الشريفين» الخ.
(2) في القاموس: أسفر وتسفّر: دخل في سفر الصبح. والمراد: المسافرين إليهم أو البريديّ الذي يذهب إليهم بالبريد.(7/218)
والسلاطين، فلان الخاصكيّ الظاهريّ أعزه الله تعالى للبشارة للمشار إليهم بذلك: ليأخذوا حظّهم من هذه البشرى، وتضاعف أدعيتهم بدوام أيامنا الشريفة، وآثرنا إعلام المقرّ الكريم بذلك: ليكون على خاطرة والله تعالى يويّده بمنّه وكرمه.
مكاتبة بحمل شخص للأبواب السلطانية: وتبدي لعلمه الكريم أن مرسومنا الشريف اقتضى تقدّم المقرّ الكريم حال وقوفه عليها، وقبل وضعها من يده بطلب فلان الفلانيّ وفلان الفلانيّ، وتجهيزهما إلى الأبواب الشريفة في أسرع وقت وأقربه، من غير فترة ولا توان. ونحن نؤكد عليه غاية التأكيد في سرعة تجهيزهما إلى الأبواب الشريفة صحبة الأمير الأجل، فلان الدين فلان، إلى الأبواب الشريفة محتفظا بهما، محترزا عليهما ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي باعتماد ما اقتضاه مرسومنا الشريف، والاهتمام بذلك، والاحتفال به، فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يؤيده بمنّه وكرمه.
مكاتبة باستقرار بعض الأمراء بالقدس الشريف بطّالا (1): وتبدي لعلمه الكريم أن مرسومنا الشريف اقتضى استقرار الأمير فلان أحسن الله تعالى عاقبته بالقدس الشريف مقيما بها، وشملته الصّدقات الشريفة أن (2) فلانة وفلانة باسمه، بمقتضى مرسوم شريف مجهّز صحبة متسفّره الأمير الأجلّ الكبير الأوحد، فلان الدين فلان، البريديّ (3) بالأبواب الشريفة، أعزّه الله تعالى، المتوجّه بهذا
__________
(1) الأمير البطّال أو الطرخان وهو اصطلاح مملوكي يقصد به الذي يعيش من إقطاعه فقط. وكانت الطرخانية تكتب للأمراء تارة وللأجناد أخرى، وأكثر ما تكتب لمن كبرت سنّه وضعفت قدرته وعجز عن الخدمة السلطانية وقد جرت العادة أن يسمى ما يكتب فيها مراسيم يعدد فيها من مزاياهم واستحقاقهم. (انظر الصبح: 13/ 525148ونزهة النفوس: 1/ 16249).
(2) بياض بالأصل. ولعله: «أن تقطع له جهة فلانة الخ.».
(3) هو الذي يحمل البريد، وله رؤساء يسمون مقدمي البريدية. ويفهم من عبارة القلقشندي هنا ومما سبق في الجزء الأول ص 116أن صاحب هذه الوظيفة ليس مجرد «بوسطجي» وإنما هي وظيفة دبلوماسية جليلة أشبه بوظائف السفراء في أيامنا الحاضرة.(7/219)
المثال الشريف. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بإثبات المرسوم الشريف المذكور بديوان الجيوش المنصورة بالشام المحروس على العادة وتجهيز البريديّ المذكور إلى حدود الديار المصرية، مكرما مرعيا على العادة فيحيط علمه الكريم بذلك.
مكاتبة ببيع غلّة للديوان السلطاني: وتبدي لعلمه الكريم أنّ آراءنا الشريفة اقتضت تجهيز كذا وكذا إردبّا (1) من القمح من ديواننا المفرد (2) صحبة فلان. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بطلب فلان الحاجب بالشام المحروس: ليتولّى بيع ذلك بسعر الله تعالى بما فيه الغبطة والمصلحة وتجهيز الثمن إلى الأبواب الشريفة برسالة دالّة على ذلك في أسرع وقت وأقربه، مع مضاعفة الوصيّة بذلك والاحتفال به، فيحيط علمه بذلك.
مكاتبة وتبدي لعلمه الكريم أنّ آراءنا الشريفة اقتضت توجّه الأمير الأجلّ الكبير، الأوحد، فلان الدين فلان إستادار الأمير المرحوم فلان كان، بسبب استخراج الأموال وبيع الغلال والأصناف الدّيوانية المتحصّلة من القرى المستأجرة، المرتجعة للورثة عن المشار إليه بمقتضى التذكرة المسطّرة على يده. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره بمساعدة المذكور وتقوية يده على ما تضمّنته فصول التذكرة ومراعاة أحواله، وإزالة ضروراته، وخلاص الحق منه ممن يتعيّن في جهته، ويشمله بنظره الكريم فيما تعلق بفصول التذكرة. فإنّ تعلّقات الورثة المذكورين تحت نظرنا الشريف. فيبادر المقرّ الشريف إلى ذلك وسرعة عوده بعد قضاء شغله، وتجهيز المتحدّث والمباشرين للأبواب الشريفة، وصحبتهم حسابهم عند نهاية فصول التّذكرة المذكورة. ويقيم عنهم من يعوضهم
__________
(1) الإردبّ: مكيال يسع أربعة وعشرين صناعا أو ست ويبات.
(2) يرجع تأسيس هذا الديوان إلى أيام الفاطميين وأفرد له السلطان برقوق بلادا وأقام له مباشرين وجعل الحديث فيه لاستاداره الكبير، ورتب عليه نفقة مماليكه من جامكيات (رواتب) وكسوة وغير ذلك.
(التعريف بمصطلحات الصبح: 149).(7/220)
إلى حين عودهم من الأبواب الشريفة على ما هو المعهود من همّته الكريمة وأحتفاله، فيحيط علمه الكريم بذلك.
مكاتبة بسبب طلب عصيّ الجواكين (1) والكرابيج والأكر: وتبدي لعلمه الكريم أن المرسوم الشريف اقتضى تجهيز عصيّ الجواكين والكرابيج والأكر إلى السّلاح خاناه من الشام المحروس، على العادة في كل سنة سريعا، وآثرنا علمه الكريم بذلك. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي باعتماد ما اقتضاه مرسومنا الشريف من ذلك كلّه على جاري العادة في كلّ سنة، والاهتمام بذلك، والاحتفال به، بحث لا يتأخّر ذلك غير مسافة الطريق فإن الانتظار واقع لذلك، وفي همّته الكريمة ما يغني عن بسط القول في ذلك، فيحيط علمه الكريم بذلك.
مكاتبة بسبب استقرار قاض بدمشق عوض من كان بها: وتبدي لعلمه الكريم أنّ الصدقات الشريفة شملت المجلس العالي، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، العلّاميّ، الإماميّ، الفلانيّ، الفريديّ، المفيديّ، المجيديّ، الأصيليّ، العريقيّ، الأثيليّ، الأثيريّ، الأوحديّ، الخطيبيّ، الشّيخيّ، الحاكميّ، الفلانيّ، جلال الإسلام والمسلمين، شرف العلماء العاملين، إمام البلغاء، خطيب الخطباء، شيخ مشايخ العارفين، ملاذ المريدين، مفتي الفرق، موضّح الطّرق، لسان المتكلمين، مفيد الطالبين، حكم الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين، فلان الفلانيّ الشافعيّ. أعز الله تعالى أحكامه بتفويض قضاء قضاة الشافعية بالشام المحروس إليه عوضا عمّن به، بحكم عزله مضافا إلى خطابة الجامع الأمويّ، ومشيخة الشّيوخ بالشام المحروس. وكتبنا توقيعا شريفا له بذلك، وجهّزناه إليه قرين تشريف شريف على يد فلان المتوجّه بهذا المثال الشريف. وآثرنا علمه الكريم بذلك، ليكون ذلك على خاطره الكريم. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره الكريم بتقرير القاضي فلان الدين فلان الفلاني فيما
__________
(1) الجواكين: جمع جو كان، وهو المحجن الذي تضرب به الكرة، ويعبر عنه بالصولجان أيضا. واللفظ فارسي. (التعريف بمصطلحات الصبح: 94).(7/221)
شملته به الصدقات الشريفة من ذلك كلّه، وتقوية يده في مباشرة ذلك والشّدّ منه، وتأييد أحكامه الشرعية، وتنفيذ كلمته، ورعاية جانبه، وإكرامه واحترامه، على عادة هممه الكريمة، وتقدماته السعيدة، فيحيط علمه بذلك.
مكاتبة بسبب حمل الثّلج إلى الأبواب السلطانية: وتبدي لعلمه الكريم أنّ المرسوم الشريف اقتضى تجهيز نقلات الثلج إلى الشّراب خاناه (1) الشريفة على العادة. ومرسومنا للمقر الكريم أن يتقدّم أمره العالي بسرعة تجهيز النّقلة الأولى، بحيث لا تتأخر أكثر من مسافة الطريق على ما هو المعهود من همّته العالية، وتقدماته السعيدة. وقد جهّزنا هذا المثال الشريف على يد الأمير الأجلّ فلان الدين فلان الفلانيّ، أعزه الله تعالى، فيحيط علمه الكريم بذلك.
مكاتبة بتمكين شخص من الحضور للأبواب السلطانية. وتبدي لعلمه الكريم أنّ فلانا كان قصد الاجتماع بأهله وأقاربه بالقاهرة المحروسة. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بتمكينه من الحضور إلى القاهرة المحروسة على خيله: ليجتمع بأهله وأقاربه. وقد جهّزنا بهذا المثال الشريف فلانا البريديّ بالأبواب الشريفة، فيحيط علمه الكريم بذلك.
__________
(1) ومعناها مخزن الشراب. وتحتوي على أدوات الشراب النفيسة من أنواع الصيني الفاخرة والشوك والكيزان والطاسات النحاسية وغير ذلك. وتحتوي كذلك على أنواع مختلفة من المشروبات والحلوى والسكر والفواكه والعطريات وحتى الأدوية والعقاقير إذ كانت أشبه بالصيدلية الملكية، فكان لذلك يطلق عليها أيضا «الدواء خاناه» وكان يخزن فيها الثلج الذي يجلب من بلاد الشام إلى مصر بالطريق البحري إلى دمياط ثم تنقل في النيل إلى بولاق ثم تحمل على البغال إلى الشراب خاناه حيث تخزن في صهريج. وكان يشرف على نقل الثلج وتخزينه عمال يسمون الثلاجين. وكان هناك طريق آخر لنقل الثلج من الشام وهو طريق البر من الشام إلى العريش فتحمله دواب البريد الحكومي. وكان عدد المرات التي ينقل فيها بطريق البر إحدى وسبعين مرّة في العام. (التعريف بمصطلحات الصبح: 196).(7/222)
مكاتبة بمنع العربان من الدخول إلى البلاد قبل فراغ الزّرع. وتبدي لعلمه الكريم أنّ المراسيم الشريفة اقتضت أنه لا يدخل أحد من العربان إلى البلاد الشامية المحروسة: كبيرهم وصغيرهم، جليلهم وحقيرهم، إلى أن يشال الزرع على العادة. ومتى والعياذ بالله حصل منهم مخالفة لذلك، حلّ بهم من الانتقام الشريف ما لا مزيد عليه. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي باعتماد ما اقتضته المراسيم الشريفة من ذلك، مع الاهتمام به، والاحتفال والاجتهاد فيه، قولا واحدا، وأمرا جازما، على عادة همّته العالية، وتقدماته المرضيّة، فيحيط علمه بذلك.
مكاتبة بحفظ السواحل: وتبدي لعلمه الكريم أن مرسومنا الشريف اقتضى الاجتهاد في حفظ السواحل والمواني، والاهتمام بأمرها، وإقامة الأيزاك (1)
والأبدال (2) في أوقاتها على العادة، وإلزام أربابها بمواظبتها، وكذلك المنوّرون (3)
__________
(1) الأيزاك: جمع يزك. ومعناها الطلائع. وقد استعملها القلقشندي في الجزء العاشر من هذا الكتاب ص: 110 «وتحريض الجند على تخير واقتفاء جيادها وبذل الجهد في قيامهم من الكراع واليزك والسلاح بما يلزمهم.» واستعمله: «كان يزكه وطلايعه لا تنقطع عن الفرنج» ويورد الدكتور أحمد السعيد سليمان لفظا مغوليا نعتقد أنه الأقرب إلى المعنى المراد في عبارة القلقشندي أعلاه فيقول: «ياساق: في المغولية معناها القانون وفي التركية معناها المنع، ومنها اليسقي واليسقجي وهو القواس الذي يحرس القناصل والسفراء ويحميهم. ويقول فانيان: اليسق الحرس والسجن الحربي.». (انظر التعريف بمصطلحات الصبح: 365وتأصيل الدخيل: 20).
(2) يفهم من سياق عبارة القلقشندي أن الأبدال مجموعة عسكرية تقوم في معسكر على السواحل والموانيء لفترة معينة ثم تعود ويحل محلها غيرها بدلا منها، ومن هنا جاءت التسمية. (انظر التعريف بمصطلحات الصبح: 12).
(3) هم الذين يرفعون النار في الليل والدخان في النهار في المناور للإعلام بحركات العدو إذا قصد البلاد لحرب أو إغارة. ولما يرفع من هذه النيران أو يدخن من هذا الدخان أدلة تعرف فيها اختلاف حالات رؤية العدو والمخبر به باختلاف حالاتها تارة في العدد وتارة في غير ذلك وقد أرصد في كل منور الديادب (الذين يرصدون العدو) والنظارة لرؤية ما وراءهم وكشف ما أمامهم ولهم على ذلك جوامك مقررة. وهذه المناور تكون فوق أبنية عالية أو جبال شاهقة. (التعريف بمصطلحات الصبح ص 331عن التعريف للعمري).(7/223)
بالدّيدبانات والمناظر والمناور، في الأماكن المعروفة، وتعهّد أحوالها: بحيث تقوم أحوالها على أحسن العوائد وأكملها ولا يقع على أحد درك (1) بسببها.
ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي باعتماد ما اقتضاه مرسومنا الشريف من ذلك، مع مضاعفة الاحتفال بذلك والمبادرة إليه، حسب ما اقتضته المراسيم الشريفة. وقد جهّزنا بهذا المثال الشريف مجلس الأمير الأجلّ: فلان الدين فلان البريديّ، المقدّم بالأبواب الشريفة فيتقدّم أمر المقرّ العالي بتجهيزه إلى جهة قصده بما على يده، وإعادته عند عوده إلى الأبواب الشريفة، على ما هو المعهود من همّته، فيحيط علمه الكريم بذلك.
مكاتبة باستعمال قماش. وتبدي لعلمه الكريم أنّ آراءنا الشريفة اقتضت استعمال القماش الجاري به العادة برسم الركابخاناه (2)، والإصطبلات الشريفة، على ما استقرّ عليه الحال إلى آخر السنة الخالية والتي قبلها. وقد كتبت تذكرة شريفة من ديوان استيفاء الصّحبة (3) الشريفة مفصّلة بذلك، وجهّزناها قرين هذه المفاوضة لتقرأ على مسامعه الكريمة. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بتأمّلها، وبروز أمره بطلب وزير المملكة الشريفة، وناظر المهمّات الشريفة، واستعمال القماش الذي تضمّنته التذكرة الشريفة، والاهتمام بذلك، والاحتفال بسرعته. وقد أكتفينا بهمّة المقرّ الكريم عن تجهيز أميراخورية (4) وأوجاقية (5) من
__________
(1) الدرك: التبعة.
(2) الركابخاناه هو المكان الذي به معدات ركوب الخيل ومنها السروج واللجم والكنابيش والعبي والأجلال والمخالي وغير ذلك. ويشرف عليها المهتار وله مساعدون. (انظر الصبح: 4/ 12).
(3) هذا الديوان هو أرفع دواوين الأموال، وفيه تثبت التواقيع والمراسيم السلطانية. وصاحبه جليل القدر ويستطيع التحدث في جميع المملكة مصر والشام ويكتب مراسيم يعلم عليها السلطان. (راجع الصبح: 4/ 29).
(4) هي وظيفة الأمير آخور، وهو المتحدث على اسطبل السلطان أو الأمير. وأخور بالفارسية:
المعلف وقد عرف صاحب هذه الوظيفة عند السلاجقة باسم «كند إصطبل» إلى جانب.
التسمية السابقة. (التعريف بمصطلحات الصبح: 47وتأصيل الدخيل: 11).
(5) الأوجاقية والأوشاقية واحدها أوجاقي وأوشاقي وهو الذي يتولى ركوب الخيل للتسيير والرياضة.
(الصبح: 5/ 454).(7/224)
إصطبلاتنا الشريفة لاستعمال ذلك، لأنّ المهمات الشريفة تحت نظره الكريم، فيصرف همّته العالية إلى الإسراع في ذلك، والاحتفال به والاهتمام. وفي اهتمامه وتنفيذه لمراسمنا الشريفة ما يغني عن التأكيد في ذلك، فيحيط علمه بذلك.
مكاتبة بجواز. وتبدي لعلمه الكريم أنّ مرسومنا الشريف اقتضى تجهيز فلان البريديّ بالأبواب الشريفة، أعزّه الله تعالى، إلى جهة فلان بما على يده وما صحبته. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بإزاحة أعذاره، وتجهيزه إلى المشار إليه في أسرع وقت وأقربه. وإذا عاد يتقدّم بتجهيزه إلى خدمة الأبواب الشريفة على العادة في ذلك، على عادة همّته العليّة، وشيمه المرضيّة، فيحيط علمه بذلك.
مكاتبة وتبدي لعلمه الشريف أن مرسومنا الشريف اقتضى أن لا يمكّن أحد من نقل سلاح ولا عدّة حرب إلى جهة البلاد الرّوميّة. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بأن لا يمكّن أحد من نقل سلاح ولا عدّة إلى جهة البلاد المذكورة، والاحتراز على ذلك كلّ الاحتراز، فيحيط علمه بذلك.
مكاتبة وتبدي لعلمه الكريم أنه اتصل بالمسامع الشريفة أنّ غالب البلاد بالصّفقة الفلانية محميّة متجاهية (1) على الكشّاف والرّعايا، ويؤوون المفسدين.
وأنّ يد الكشّاف لا تصل إلى هذه البلاد، ولا إلى النّصفة ممن بها من المفسدين.
__________
(1) تجوّه وتجاهى: تكلف الجاه والقدر. والمراد: مترفعة وممتنعة.(7/225)
وحصل بذلك الضرر للبلاد والعباد. واقتضى الرأي الشريف الكشف عن هذه البلاد وسائر الأعمال، والمناداة في البلاد بإبطال الحماية والرّعاية، والمساواة بين العباد في سائر البلاد بالعدل والإنصاف، وكفّ أكفّ الظلم والعدوان. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره الكريم بالمناداة في سائر البلاد بإبطال الحماية والرّعاية، والمساواة بين الخاصّ والعامّ، وتطهير الأرض من المفسدين وأن لا يحمى أحد ببلد من البلاد. ومن تظاهر بحماية أو إيواء مفسد ببلد من البلاد، حلّ ماله وروحه. والتأكيد على أهل البلاد في ذلك، والتشديد والفحص عمّن يتجاهر بذلك وردعه ونشر العدل والإنصاف بتلك الأقطار، والاهتمام في ذلك كلّه، على عادة هممه الكريمة، وتقدماته السعيدة، فيحيط علمه الكريم بذلك، والله تعالى يؤيّده بالملائك.
مكاتبة وتبدي لعلمه الكريم أنه اتّصل بمسامعنا الشريفة أن فلانا تعرّض للجهة الفلانيّة الجارية في ديوان خاصّنا الشريف، وأخذ منها مبلغ كذا وكذا.
ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بطلب الغريم المذكور، وتجهيزه إلى الأبواب الشريفة، وإلزامه بما استأداه من ذلك، محترزا عليه مع مضاعفة الوصيّة بمباشري الجهة المذكورة والإحسان إليهم، فيحيط علمه بذلك.
الصنف الثاني (ما يكتب في الجواب عمّا يرد من النوّاب وغيرهم)
والرسم فيه أن يكتب بعد التصدير: «إن مكاتبته الكريمة» أو «مكاتبته» على قدر رتبته من ذلك «وردت على يد فلان فوقفنا عليها وعلمنا ما تضمّنته على الصّورة التي شرحها» ثم يذكر ما يناسب الجواب في ذلك من شكر الاهتمام أو غيره. ثم إن اشتملت على مقصد واحد، أجاب عنه.
وهذه مكاتبة ينسج على منوالها، وهي: وتبدي لعلمه الكريم أنّ مكاتبته
الكريمة وردت على يد فلان فوقفنا عليها، وعلمنا ما أصدرته من تجهيزه إلى خدمة أبوابنا الشريفة بما على يده من كتاب مخدومه. وقد وصل، وأحاطت علومنا الشريفة بما تضمّنه، وأعدناه الآن بجوابه وبهذا الجواب الشريف. فيحيط علمه الكريم بذلك.(7/226)
وهذه مكاتبة ينسج على منوالها، وهي: وتبدي لعلمه الكريم أنّ مكاتبته
الكريمة وردت على يد فلان فوقفنا عليها، وعلمنا ما أصدرته من تجهيزه إلى خدمة أبوابنا الشريفة بما على يده من كتاب مخدومه. وقد وصل، وأحاطت علومنا الشريفة بما تضمّنه، وأعدناه الآن بجوابه وبهذا الجواب الشريف. فيحيط علمه الكريم بذلك.
وإن اشتملت المكاتبة المجاب عنها على عدّة فصول، أتى على فصولها فصلا فصلا. وربما قال: «فأما ما أشار إليه من كذا» إذا كان عليّ الرتبة، كنائب الشام ونحوه، «فقد علمناه» وصار على خاطرنا الشريف أو «فقد رسمنا به» أو «فلم نرسم به». ونحو ذلك على ما يقع به الجواب السلطانيّ في الملخّص المكتوب عن مكاتبة المكتوب إليه بالجواب.
وهذه مكاتبة من هذا النمط ينسج على منوالها، وهي: وتبدي لعلمه الكريم، أنّ مكاتبته الكريمة وردت على يد مملوكه الأمير الأجلّ فلان الدين فلان، أعزّه الله تعالى، فوقفنا عليها، وعلمنا ما تضمّنته على الصورة التي شرحها، وشكرنا همّته العالية، وتقدماته السعيدة، ورأيه السعيد، واعتماده الحميد.
فأما ما أشار إليه من وصوله ومن صحبته، ونائبي السلطنة الشريفة بطرابلس وصفد المحروستين، إلى ملطية المحروسة في التاريخ الفلاني، وتلقّي نائبي السلطنة الشريفة بحلب وحماة المحروستين، المقرّ الكريم ومن معه على ظاهر المدينة المذكورة، واستمرار إقامتهم جميعا بالمنزلة المذكورة إلى تسطير مكاتبته المشار إليها في انتظار من رسم له بالحضور إليهم من عساكر القلاع المنصورة وغيرهم، من أمراء التّركمان والأكراد ومن معهم من أتباعهم وألزامهم، حسب ما اقتضته المراسيم الشريفة في المهمّ الشريف وما كتب به إلى نائب طرابلس، وإلى قرا يوسف النائب بالرّها المحروسة: من الحضور إلى المهمّ الشريف، وإجابتهما إلى ذلك وكذلك ما كتب به إلى الحاكم بسيواس، وإلى أحمد بن طرغلي، وما أجابا به من الحضور إلى المهمّ الشريف، والملتقى في المكان الذي عيّنه حاكم
سيواس، إلى غير ذلك مما بسط القول فيه [فقد علمناه] (1) على الصّورة التي شرحها، وتضاعف شكرنا لهمّته العلية وتقدماته السعيدة.(7/227)
فأما ما أشار إليه من وصوله ومن صحبته، ونائبي السلطنة الشريفة بطرابلس وصفد المحروستين، إلى ملطية المحروسة في التاريخ الفلاني، وتلقّي نائبي السلطنة الشريفة بحلب وحماة المحروستين، المقرّ الكريم ومن معه على ظاهر المدينة المذكورة، واستمرار إقامتهم جميعا بالمنزلة المذكورة إلى تسطير مكاتبته المشار إليها في انتظار من رسم له بالحضور إليهم من عساكر القلاع المنصورة وغيرهم، من أمراء التّركمان والأكراد ومن معهم من أتباعهم وألزامهم، حسب ما اقتضته المراسيم الشريفة في المهمّ الشريف وما كتب به إلى نائب طرابلس، وإلى قرا يوسف النائب بالرّها المحروسة: من الحضور إلى المهمّ الشريف، وإجابتهما إلى ذلك وكذلك ما كتب به إلى الحاكم بسيواس، وإلى أحمد بن طرغلي، وما أجابا به من الحضور إلى المهمّ الشريف، والملتقى في المكان الذي عيّنه حاكم
سيواس، إلى غير ذلك مما بسط القول فيه [فقد علمناه] (1) على الصّورة التي شرحها، وتضاعف شكرنا لهمّته العلية وتقدماته السعيدة.
وأمّا ما أشار إليه من اعتماده ما برزت به المراسيم الشريفة في الجواز الشريف الوارد إليه على يد مجلس الأمير الأجلّ فلان الدين فلان، والمطلق الشريف المجهّز على يده، وامتثال ما تحمّله من المشافهة الشريفة، وتقدّمه بجميع نوّاب السلطنة الشريفة المكتوب إليهم، وعقد المشورة معهم على اعتماد ما اقتضته المراسيم الشريفة وتعيين جاليش (2) العساكر المنصورة ونائب السلطنة الشريفة بطرابلس المحروسة ومن معه من الأمراء المقدّمين وأتباعهم من دمشق وحلب المحروستين، ونائب السلطنة الشريفة بحماة المحروسة، ومن معه من العساكر المنصورة، وسيرهم في التاريخ الفلاني، وسيره في أثرهم بمن بقي معه من العساكر المنصورة الشامية الحلبية وأن سيرهم على جهة بلد كذا على الصّورة التي شرحها لما قصده من ذلك من المصلحة فقد علمنا ذلك على الصّورة التي شرحها وشكرنا همته العالية، وحسن فكرته الصحيحة.
وأمّا ما أشار إليه من أن نائب ملطية جهّز الكتاب الوارد عليه من ابن تمرلنك، على يد قاصد من جهة تلمان (3) باللسان الأعجميّ، وأنه عرّبه وفهم مضمونه وجهّزه ليحيط العلوم الشريفة بمضمونه، وهي على الخواطر الشريفة، فيكون ذلك على الخاطر الكريم، وشكرنا همته العلية.
وأمّا ما أشار إليه من ورود كتاب تلمان (4) عليه، وهديّته على يد قاصده، وأنه لم يقبل هديّته وأعاد جوابه، فإنه إن كان مناصحا في الخدمة الشريفة وهو صادق
__________
(1) الزيادة اقترحها مصحح الطبعة الأميرية.
(2) جاليش: في الفارسية بمعنى الحرب والمعركة. والجاليش في المصادر العربية علم كبير في أعلاه خصلة من شعر الخيل. وقد كان من التقاليد المملوكية إذا عزم السلطان على الخروج للقتال أن يرفع هذا العلم أربعين يوما قبل يوم الخروج فوق مبنى الطبلخانة. وقد ذكرها المقريزي بشينين:
شاليش. (تأصيل الدخيل: 5857).
(3) كذا في الأصل غير واضح.
(4) كذا في الأصل غير واضح.(7/228)
في كلامه، فيحضر إلى المهمّ الشريف، وما شرح في هذا المعنى فقد علمناه على الصورة التي شرحها، وشكرنا جميل اعتماده وسعيد رأيه. وكذلك أحاطت العلوم الشريفة بما ذكره في أمر حاكم عريركبر (1) وما شرحه في ذلك، فقد علمناه على الصّورة التي شرحها.
وأما ما أشار إليه من أمر ملطية المحروسة، وأنها تحتاج إلى الفكر الشريف، والنظر في أحوالها وترتيب مصالحها، وإقامة عسكر لرجال يحمونها من طوارق الأعداء المخذولين: إلى غير ذلك مما شرحه في هذا المعنى، فقد علمناه على الصّورة التي شرحها، وبقي ذلك على خواطرنا الشريفة. وعقيبها إن شاء الله تعالى تبرز المراسيم الشريفة بما فيه المصلحة للبلد المذكور على أكمل ما يكون.
وقد استصوبوا رأي المقرّ الكريم في هذا الفكر الحسن، فإنه أمر ضروريّ. وقد شكرنا للمقرّ الكريم جميل اعتماده، وحسن رأيه، وبذل همته واجتهاده في هذا المهمّ الشريف. والقصد منه الاستمرار على ما هو فيه من بذل الاجتهاد في المهمّات الشريفة بقلبه وقالبه، والعمل على بياض وجهه عند الله تعالى، من الذّبّ عن عباده وبلاده، وبذل المال والرّوح في رضا الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك، واستقرار خواطرنا الشريفة بذلك. فإن المقرّ الكريم يعلم ما نحن مثابرون عليه، ومنقادون إليه، من محبّة رضا الله تعالى في النصيحة بصلاح العباد، وعمارة البلاد، وتسطير ذلك في صحائف حسنات الدهر بين يدي الله تعالى. والمقرّ الكريم يعلم أن جلّ اعتمادنا عليه في أكابر دولتنا الشريفة. ونحن واثقون برأيه السديد في حركاته وسكناته في المهمّات الشريفة والأشغال السلطانية. ولأجل ذلك قرّبناه، ورضينا به لنا وعلينا، وكلّما بلغنا عنه اعتماد حسن تتضاعف منزلته عندنا. والآن فإنّ نوّاب السلطنة الشريفة وأمراء دولتنا كبيرهم وصغيرهم تحت أمره
__________
(1) كذا في الأصل غير واضح.(7/229)
ومشورته، وما بقي مثل هذه الأيام المباركة والأوقات السعيدة، ولم يبق سوى انتهاز الفرص، واغتنام أوقات السعادة، وهو الحاضر والنائب عنّا في كل ما يحصل من المصالح العائد نفعها على البلاد والعباد. والمبادرة إلى عملها من غير معاودة الآراء الشريفة في كل قضيّة تتّفق له، فإن المسافة بيننا وبينه بعيدة، وتضيع المصلحة في وصول الخطاب وعود الجواب. وقد فوّضنا إليه الرأي في ذلك، والعمل بما تقتضيه المصلحة الحاضرة، في جليل الأمور ودقيقها، فيكون ذلك على خاطره الكريم، ويعمل بمقتضاه. وقد أعدنا مملوكه بهذا الجواب، فيحيط علمه بذلك.
وهذه نسخة مكاتبة في معنى الرضا عن ابن دلغادر (1) التّركماني وغير ذلك:
وتبدى لعلمه الكريم أن مكاتبته الكريمة وردت على يد فلان الدين فلان مملوكه، فوقفنا عليها وعلمنا ما تضمّنته.
فأما ما ذكره في معنى ابن دلغادر، وتكرار كتبه بالتصريح والتّرامي عليه في سؤال الصدقات الشريفة في الرّضا والعفو عنه، فقد علمنا ذلك والذي نعرّف به المقرّ الكريم أنا كنا رسمنا بأن لا يكتب له جواب وردّ كتابه وقاصده ولما تكرر استشفاعه بالمقرّ الكريم، ودخل دخول الحريم، وعرفنا أنه ضاقت عليه الأرض برحبها وأخلص في النّدم، عطفت عليه الصدقات الشريفة بالحنوّ والعفو كرامة
__________
(1) لا نستطيع تحديد ابن دلغادر التركماني هذا بالضبط، فالمعروفون بهذا الاسم كثر، خاصة أن القلقشندي لم يذكر الخليفة الذي صدرت عنه المكاتبة. على كل حال المعروف عن ابناء دلغادر التركمان هؤلاء كثرة عصيانهم على السلطنة. ولعل المقصود هو زين الدين قراجا أو ابنه خليل بن قراجا. وعن هذه العائلة التركمانية قال الخطيب الصيرفي في أحداث سنة 827هـ: «وفي العاشر من رمضان قدم الأمير عليباك بن الأمير خليل بن الأمير زين الدين قراجا بن ذلغادر (بالذال المعجمة) صاحب مدينة أبلستين ومرعش كبير التركمان إلى القاهرة وتمثل بين يديّ المواقف الشريفة ثم نزل في بيت الأمير جمال الدين الأستادار البيري وأنعم السلطان عليه بقماش كثير وأجرى عليه مرتبات، وكان حضوره المقام الشريف من العجائب، لأنه وأخاه الأمير ناصر الدين محمد وأباهما الأمير خليل وجدهما زين الدين قراجا وأعمامهم وسائر أقربائهم عاصون ديدنا على السلطنة». (نزهة النفوس: 3/ 54).(7/230)
للمقرّ الكريم، وإعلاء لشأنه، ورفعا لمكانته ومكانه. ورسمنا للمقرّ الكريم أن يكاتب المذكور بهذا المعنى، ويلتزم على نفسه العفو الشريف، والصّفح المنيف وإيصال أنواع الخير وفوق ما في خاطره من الأمان على نفسه وماله، وغير ذلك. والذي نعرّفه أنه كان جرى على اللسان الشريف الحلف أنه لا بدّ من حضوره إلى الأبواب الشريفة ودوس البساط الشريف، ولا بدّ من تحقيق ذلك لحصول البرّ والخلاص من الحلف الشريف، وقيام الناموس عند القريب والبعيد: ليعلموا أنّ سلطاننا غالب على من تمرّد، ومراحمنا شاملة لمن يلتجيء إلى حرم عفونا الشريف، وأنه قريب منه.
وأما ما ذكره في معنى كشف الصّفقة الفلانية، ووقوع الاختيار على فلان الدين فلان، وما عرضه على الآراء الشريفة من تقريره في ذلك، وبروز المراسيم الشريفة بكتابة مرسومه وتقرير غيره (1)، فقد علمنا ذلك ورسمنا بتقريره، وكتبنا مرسومه الشريف، وجهّزناه على يد فلان العائد بهذا الجواب الشريف.
وأما ما ذكره من جهة الزاوية المستجدّة بشقحب (2) وتجهيز قائمة متضمّنة بما تدعو الضرورة إليه من تقرير السّماط وأرباب الوظائف، وما عرضه على الآراء الشريفة من كتابة مرسوم شريف مربّع (3) على حكمها، أو بما تقتضيه الآراء الشريفة من زيادة أو نقص، فقد علمنا ذلك ورسمنا به حسب ما اقتضته الآراء الشريفة: من استقرار فلان الدين فلان في الولاية في الثّغر المذكور، فقد علمنا ذلك ورسمنا به، وكتبنا مرسومه الشريف، وجهّزناه على يد العائد بهذا الجواب
__________
(1) لعله «وتقريره»
(2) في نزهة النفوس: 1/ 260: شقحب بالقرب من الشام. وفي الحاشية: واقعة في الشمال الغربي من غباغب، وتسمى أيضا بتل شقحب.
(3) المربع: مرسوم مربّع الشكل يكتب في ورق شامي ويصدر عن ديوان الخاص. (راجع الصبح:
6/ 202201).(7/231)
الشريف. فالمقرّ الكريم يوصيه بحسن السّيرة وترك ما كان عليه.
وأما ما ذكره من جهة خفارة الجهة الفلانية، وما عرضه على الآراء الشريفة:
من إمضاء القائمة المجهّزة بأسماء من قرّره في الخفر المذكور، فقد علمنا ذلك ورسمنا بإمضائه حسب ما قصده المقرّ الكريم.
وأما ما ذكره من جهة فلان المعتقل بقلعة دمشق، ووقوف أولاده وعياله وشكواهم حالهم بعد كشف ما نقل عنه وعدم صحّته وما عرضه على الآراء الشريفة من الإفراج عنه، فقد علمنا ذلك ورسمنا به فيتقدّم أمر المقرّ الكريم بالإفراج عنه.
وأما ما ذكره في معنى ما ورد به كتاب النائب بالرّحبة (1) المحروسة: من الأخبار والمتجدّدات، فقد علمناه وصار على خواطرنا الشريفة.
وأما ما ذكره من وصول قاصدي حاكم الدّربند (2) وحاكم القنيطرة (3) بما على أيديهما وتجهيز ما ورد معهما من الكتب واستئذان الآراء الشريفة على ما نعتمده في أمرهما وفيمن يحضر بعدهما، فقد علمنا ذلك، وكتبنا الجواب عن ذلك، وجهّزناه قرين هذا الجواب الشريف، فيتقدّم باعادتهما إلى مرسلهما. وكذلك يفعل في كلّ من حضر من تلك النواحي إلا في مهمّ شريف على عوائد هممه. وقد أعدنا مملوكه إليه بهذا الجواب الشريف، فيحيط علم المقرّ الكريم بذلك.
__________
(1) وهي رحبة خالد بدمشق، تنسب إلى خالد بن أسيد بن أبي العيص الأموي. ذكر ذلك الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق. (معجم البلدان: 3/ 33).
(2) وهي باب الأبواب، وفي النصوص القديمة: الباب والأبواب، وفي الفارسية «دربند»، وقد تحول الاسم تحت التأثير التركي إلى «الباب الحديدي». والعرب يطلقون الاسم على ممر وحصن في الطرف الشرقي من القوقاز. (انظر دائرة المعارف الإسلامية: 5/ 512ومعجم البلدان: 1/ 303 وما بعدها).
(3) تقدم له في المسالك والممالك أنها بلدة بالقرب من مرسى الحلّة.(7/232)
مكاتبة أخرى من هذا النمط في معنى أمور مختلفة. وتبدي لعلمه الكريم أنّ مكاتبته الكريمة وردت على يد المجلس الساميّ الأميريّ فلان. فوقفنا عليها وعلمنا ما تضمّنته على الصّورة التي شرحها.
فأما ما أشار إليه: من وصوله إلى دمشق المحروسة عائدا من الأغوار السعيدة، وأنه وجدها وسائر أعمالها وضواحيها والسواحل والمواني في حرز الأمن والسلامة، فقد علمنا ذلك وحمدنا الله تعالى وشكرناه على ذلك.
وأما ما أشار إليه: من أنه جهّز من متحصّل دار الضرب (1) السعيدة بدمشق المحروسة كذا وكذا مثقالا بمقتضى رسالة وما قصد من إعادة رجعة شريفة بذلك، فقد علمناه ووصل المبلغ المذكور، وكتب به رجعة شريفة على العادة في مثل ذلك، وجهّزت على يد فلان المشار إليه، فيكون ذلك على خاطرة الكريم.
وأما ما ذكره: من أمر النّحاس وقلّته من عدم وصول شيء منه، وأنه لم يوجد منه بعد الجهد سوى مبلغ عشرين قنطارا عند الفرنج، وأمر الفلوس العتق (2)
وبقائها، وكثرة الفلوس الجدد (3)، وقلّة وجود الدّرهم والدّينار، وتوقّف المعايش بسبب ذلك، وما عرضه على الآراء الشريفة إن اقتضت الآراء الشريفة إبطال دار
__________
(1) كانت دار الضرب من منشآت الفاطميين، بناها المأمون البطائحي وزير الآمر سنة 515هـ بجهة القشاشين وسميت بالدار الآمرية نسبة إلى الخليفة الآمر بالله. وقرر المأمون البطائحي دور الضرب بالإسكندرية وقوص وعسقلان. (التعريف بمصطلحات الصبح: 129).
(2) كانت الفلوس في مصر على نوعين، أحدهما المطبوع بالسكة، وثانيهما غير المطبوع. وكان الصنف الثاني عبارة عن قطع مكسرة من النحاس الأحمر أو الأصفر ويعبر عنها بالعتق، والفلس لفظ يوناني معرّب، وقد أخذته اليونانية قبلا عن اللاتينية ومعناه: كيس النقود، وكذلك يقال عن الدراهم فقد أخذها العرب عن الفارسية: وهو يوناني في الأصل. (التعريف بمصطلحات الصبح: 263).
(3) أحدثت الفلوس الجدد سنة 759هـ في سلطنة الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، وزنة كل فلس منها مثقال مطبوعة بالسكة السلطانية، ثم تناقض مقدارها حتى كادت تفسد. (راجع الصبح:
3/ 464463440).(7/233)
الضرب نحو شهرين إلى أن يحضر نحاس يستعمل، وتخفّ الفلوس ويستصرف ما في أيدي الناس، فقد علمنا ذلك وأجبنا سؤاله فيه. ومرسومنا أن يعمل فيه بما تكون [به] المصلحة عامّة للرعية، وتبطيل دار الضرب مدّة يراها المقرّ الكريم.
وأما ما أشار إليه: من أمر الأمير فلان وما قصده من حسن النظر الشريف في حاله، وما شرحه من ذلك، فقد علمناه على الصّورة التي شرحها، وصار ذلك على الخواطر الشريفة.
وأما ما أشار إليه: من أمر فلان، وما اتّفق من الكشف عليه حسب ما اقتضته المراسيم الشريفة، وما ادّعي عليه من كذا وكذا، وما كتب عليه من المحاضر وتجهيزها إلى الأبواب الشريفة، وتجهيز المشار إليه إلى الأبواب الشريفة صحبة البريديّ المجهّز في طلبه في أثناء ذلك، فقد علمنا ذلك على الصّورة التي شرحها، وأحاطت العلوم الشريفة به جملة وتفصيلا، وبما اشتملت عليه المحاضر المذكورة، وبقي ذلك على الخواطر الشريفة واقتضت الآراء الشريفة إعادته ومن معه للخلاص من شكاته عند المقرّ الكريم، وقد أعدناهم صحبة من يحضر بهم إلى المقرّ الكريم ليكشف عليه وتنظّم المحاضر وتجهّز.
وأما ما أشار إليه من تجهيز (1) وتعريف الحسبة بالأسعار عن البرّ الفلاني على العادة في ذلك إلى الأبواب الشريفة، فقد علمنا ذلك ووصل ما جهّزة من ذلك، وأحاطت العلوم الشريفة بما اشتمل عليه، وشكرنا همة المقرّ الكريم وسعيد تقدماته، وجميل اعتماداته. وقد أعدنا الأمير فلانا بالجواب الشريف، فيحيط علمه بذلك.
قلت: وعلى ذلك يقاس ما يكتب به إلى سائر النّوّاب بالشام والديار المصرية
__________
(1) بياض بالأصل.(7/234)
فمن دونهم ممن جرت العادة بمكاتبته من الأبواب السلطانية في الابتداء والجواب.
المأخذ الثاني (في معرفة أوضاع هذه المكاتبات)
أوّل ما يجب من ذلك معرفة قطع الورق الذي يكتب فيه. وقد سبق في المقالة الثالثة في الكلام على قطع الورق بيان مقادير قطعه، وأنّ من جملتها قطع العادة: وهو القطع الصغير. وفي هذا القطع تكتب عامّة المكاتبات المتقدّمة، مما يكتب به لأرباب السّيوف والأقلام بمصر والشام على اختلاف مقاديرهم، وتباين مراتبهم في الرّفعة والضّعة خلا ما تقدّم ذكره: من أنه كتب إلى والدة السلطان الأشرف «شعبان بن حسين» في قطع الشاميّ الكامل. وقد تقدّم هناك أنّ الكتابة في قطع العادة جملة تكون بقلم الرّقاع. فتكون كتابة جميع هذه المكاتبات به.
ثم أوّل ما يكتب الكاتب في المكاتبة التعريف بالمكتوب إليه: وهو أن يكتب في رأس الدّرج، من وجه الوصل، من أوّله، من الجانب الأيمن «إلى فلان».
ويكتب على سمته في الجانب الأيسر «بسبب كذا وكذا». ويكتب في وسطهما على سمتهما التعريف بالعلامة التي تكتب. فإن كانت العلامة الاسم، كتب «الاسم الشريف». وإن كانت بالأخوّة، كتب «أخوه». وإن كانت بالوالدية، كتب «والده». ثم يقلب الدّرج فيكتب على ظاهره عنوان المكاتبة في أسفل ما كتب عليه في رأس الورق باطنا من أوّل عرض الدّرج إلى آخر ألقاب المكتوب إليه. ويقلب الدعاء المبتدأ به في المكاتبة، فيدعو له به في آخر الألقاب. ثم يخلي بياضا ويكتب تعريف المكتوب إليه: من نيابة سلطنة أو ولاية أو اسم أو غير ذلك وتكون الأسطر متقاربة متلاصقة.
فإن كان المكتوب إليه النائب الكافل مثلا، كتب في العنوان: «المقرّ، الكريم، العالي الأميريّ، الكبيريّ» إلى آخر ألقابه. فإذا انتهى إلى آخر الألقاب، كتب «أعز الله تعالى أنصاره». ثم يترك بياضا ويكتب: «كافل الممالك الشريفة الإسلامية أعلاها الله تعالى» بحيث ينتهي آخر كتابة ذلك إلى آخر السطر.
وإن كان المكتوب إليه كافل السلطنة بالشام، كتب: «المقرّ الكريم» إلى آخر الألقاب «أعز الله تعالى أنصاره» ثم يترك البياض المذكور ثم يكتب:(7/235)
فإن كان المكتوب إليه النائب الكافل مثلا، كتب في العنوان: «المقرّ، الكريم، العالي الأميريّ، الكبيريّ» إلى آخر ألقابه. فإذا انتهى إلى آخر الألقاب، كتب «أعز الله تعالى أنصاره». ثم يترك بياضا ويكتب: «كافل الممالك الشريفة الإسلامية أعلاها الله تعالى» بحيث ينتهي آخر كتابة ذلك إلى آخر السطر.
وإن كان المكتوب إليه كافل السلطنة بالشام، كتب: «المقرّ الكريم» إلى آخر الألقاب «أعز الله تعالى أنصاره» ثم يترك البياض المذكور ثم يكتب:
«كافل السلطنة الشريفة بالشام المحروس».
وإن كان المكتوب إليه نائب السلطنة بحلب، كتب: «الجناب الكريم» إلى آخر ألقابه «أعز الله تعالى نصرته»، ثم يترك بياضا ويكتب: «نائب السلطنة الشريفة بحلب المحروسة».
وإن كان المكتوب إليه نائب الإسكندرية، أو نائب طرابلس، أو نائب حماة، أو نائب صفد، كتب: «الجناب العالي» إلى آخر ألقابهم «ضاعف الله تعالى نعمته»، ثم يترك بياضا ويكتب: «نائب السلطنة الشريفة بثغر الإسكندرية المحروس»، أو «نائب السلطنة الشريفة بطرابلس المحروسة»، أو «نائب السلطنة الشريفة بحماة المحروسة»، أو «نائب السلطنة الشريفة بصفد المحروسة». وكذا في البواقي بحسب تعريف كلّ من المكتوب إليهم على ما مر ذكره في مواضعه.
ثم إذا كتب العنوان: فإن كان المكتوب إليه ممن يكتب له «المقرّ الكريم»، أو «الجناب العالي»، أو «المجلس العالي» مع الدعاء، ترك من أعلى الدرج ثلاثة أوصال بياضا بالوصل المكتوب في ظاهره العنوان، ثم تكتب البسملة في رأس الوصل الرابع بهامش من الجانب الأيمن.
وإن كان المكتوب إليه ممن يكتب له «المجلس العالي» مع «صدرت» فما دون ذلك، ترك في أعلى الدرج وصلان بياضا فقط. وتكتب البسملة في رأس الوصل الثالث ثم يكتب سطران من أوّل المكاتبة تحت البسملة على سمتها ملاصقا لها ثم يخلى بيت العلامة بياضا ويكتب السطر الثاني على رأس (1) إصبع
__________
(1) المراد على قدر إصبع.(7/236)
أو نحوه من أسفل ذلك الوصل ثم يكتب السطر الثالث في الوصل الذي يليه على بعد ثلاثة أصابع معترضات من السطر الثاني، ويؤتى على ذلك إلى آخر المكاتبة.
وقد كانت أوصال الورق في الزمن المتقدّم طويلة: فكان يكتب في كلّ وصل ثلاثة أسطر، وبين كلّ سطرين أكثر من عرض ثلاثة أصابع. أما الآن، فقصرت الأوصال، وصار كلّ وصل لا يسع في الغالب أكثر من سطرين. فإذا انتهى إلى آخر المكاتبة، أخلى بياضا يسيرا، ثم كتب في وسط الوصل: «إن شاء الله تعالى» ثم يكتب: «كتب في كذا من شهر كذا» في سطر، وتحته سنة كذا وكذا في سطر تحته، بينهما قدر إصبعين ثم يكتب المستند بعد تقدير إصبعين. فإن كان بتلقّي كاتب السرّ كتب «حسب المرسوم الشريف». وعلى ذلك يجري الحكم في جميع ما يكتب في البريد، وهو المختصّ بالأمور السلطانية.
وإن كان من دار العدل بتلقّي كاتب السّرّ أو أحد من كتّاب الدّست، كتب:
«حسب المرسوم الشريف» في سطر، وتحته «من دار العدل الشريف» في سطر آخر. وإن كان بقصّة (1) مشمولة بخطّ السلطان، كتب: «حسب الخطّ الشريف» بمقتضى أعلى ذلك. وإن كان بخطّ النائب الكافل، كتب: «بالإشارة العالية الأميريّة العالميّة الفلانية» في سطر، وتحته في سطر آخر «كافل الممالك الشريفة الإسلامية أعلاها الله تعالى». وإن كان بأمر الوزير، كتب: «بالإشارة العالية الأميريّة الوزيرية الفلانية» في سطر، وتحته في سطر آخر «مدبّر الممالك الشريفة الإسلامية أعلاها الله تعالى». وإن كان الوزير صاحب قلم، كتب «بالإشارة العالية الوزيريّة الصاحبيّة الفلانية، مدبّر الممالك الشريفة الإسلامية، أعلاها الله تعالى» سطرين على نحو ما تقدّم. وإن كان برسالة الدّوادار: فإن كان مقدّم ألف، كتب «برسالة الجناب العالي الأميريّ الكبيريّ الفلانيّ» في سطر، وفي سطر آخر تحته «الدّوادار الناصريّ أو الظاهريّ» ونحو ذلك «ضاعف الله
__________
(1) راجع حاشية الصفحة 216من هذا الجزء.(7/237)
تعالى نعمته». وإن كان طبلخاناه، كتب بدل الجناب «المجلس» ويدعو له «أدام الله تعالى نعمته». وإن كان بأمر الإستادار، كتب «بالإشارة العالية الأميريّة الفلانية إستادار الفلانية أعلاها الله تعالى». وإن كان من ديوان الجيوش المنصورة، كتب «حسب المرسوم الشريف» في سطر، وتحته «من ديوان الجيوش المنصورة» في سطر آخر. وإن كان من ديوان الخواصّ الشريفة، كتب «حسب المرسوم الشريف من ديوان الخواص الشريفة» على ما تقدّم. وإن كان من الدولة الشريفة: بأن يكون بخط ناظر الدواوين وهو قليل، كتب «حسب المرسوم الشريف من الدولة الشريفة» على نحو ما تقدّم. وقد تقدّم الكلام على المستندات في الجملة، في مقدّمة الكتاب عند الكلام على ديوان الإنشاء.
المقصد الثاني (في المكاتبات العامّة إلى أهل هذه المملكة: وهي المطلقات) (1)
قال في «التعريف»: وأقسامها لا تخرج عن ثمانية أقسام: إلى الوجه القبليّ، وإلى الوجه البحريّ، وإلى عامّة الدّيار المصرية، وإلى بعض البلاد الشامية، وإلى البلاد المصرية والشامية، وإلى الممالك الإسلاميّة وما جاورها، وإلى بعض أولياء الدولة كالأمراء بدمشق أو حلب، وإلى قبائل العرب، أو التّركمان، أو الأكراد أو بعضهم.
قلت: والقاعدة في المطلقات أنه إذا اجتمع في المطلق كبار وصغار، يغلّب حكم الأكبر منهم على الأصغر: تعظيما لأمر الأكابر. فإن كان في المطلق من الألقاب ما تختصّ به الأكابر دون غيرهم، استوفي للكبير ما يختصّ به من الألقاب وأتي بالقدر المشترك فيه بعد ذلك.
ثم المطلقات منها ما يختم. قال في «التعريف»: وهو ما كان لبعض أولياء
__________
(1) راجع الحاشية: 2ص 200من هذا الجزء.(7/238)
الدولة إذا كان في سرّ يكتم ولا يراد إظهاره إلا عند الوقوف عليه، فيختم على عادة الكتب. وهذا يكون عنوانه بظاهره كما في غيره من المكاتبات المفردة.
ومنها ما لا يختم، وهو سائر المطلقات. قال في «التعريف»: وعنوانها (مخالف لعنوان) (1) الكتب المفردة للآحاد: فإنّ تلك في ظاهر الورق، وهذه في باطن الورق، فوق وصلين أو ثلاثة، فوق البسملة. ويقال فيها: مثال شريف مطلق إلى الولاة والنّوّاب، أو غير ذلك من نحو ما في الصدر، فيضمّن العنوان ملخّص ما فيه. ثم يقال: على ما شرح فيه، أو حسب ما شرح فيه. ومن قاعدتها أن يصرّح بذكر المكتوب إليهم في المطلق، بخلاف غيرها من المكاتبات المفردة. قال في «التعريف»: ثم بعد التعريف في المطلقات الدعاء، ثم الإفضاء إلى الكلام وفي آخرها يتعيّن أن يقال: «فليعلموا ذلك ويعتمدوه».
وحاصل مرجوعها إلى ثلاثة أضرب:
الضرب الأوّل (المطلقات المكبّرة)
قال في «التعريف»: وهي ما يكتب إلى سائر النّوّاب بالممالك الشريفة، خلا سيس فإنها مستجدّة، غير أنه إن رسم بإضافته إليهم، فيحتاج إلى تحرير الحال في أمره: هل يكتب له بعد نائب طرابلس أو بعد نائب صفد؟ ولا يمكن أن يكون بعد مقدّم العسكر بغزّة، ولا نائب الكرك، لأن رتبتة في المكاتبة أعلى منهما. فإنها نظير مكاتبة نائب طرابلس وحماة وصفد.
قلت: هذا على ما كان الأمر استقر عليه من كونها نيابة في أوّل الأمر، أما بعد استقرارها تقدمة عسكر، فإنه يكون بعد مقدّم العسكر بغزّة: لأن كلّا منهما مقدّم عسكر، ومقدّم العسكر بغزّة أقدم من مقدّم العسكر بسيس. وأيضا فإن غزّة
__________
(1) في الأصل «وعنوانها كعنوان» وهو خطأ، والتصحيح من «التعريف» ص 82.(7/239)
مضافة إلى دمشق وسيس مضافة إلى حلب، ودمشق أكبر من حلب.
قال في «التثقيف»: وصورة هذا المطلق أن يكتب في الطّرّة (1): «مثال شريف مطلق إلى الجنابين الكريمين، العاليين، الأميريّين، الكافليّين، الفلانيين، نائبي السلطنة الشريفة بالشام وحلب المحروستين، أعزّ الله تعالى نصرتهما، وإلى الجنابات العالية الأميريّة الفلانية أو الفلانيّ والفلانيّ» على الترتيب. ثم يقال: «نوّاب السلطنة الشريفة بطرابلس وصفد وحماة المحروسات. وإلى الجناب العالي والمجلس العالي الأميريّ الأميريّين الفلانيين أو الفلاني والفلاني، مقدّم العسكر المنصور بغزّة المحروسة، ونائب السلطنة الشريفة بالكرك المحروس، أدام الله تعالى نعمتهما، بما رسم لهم به أن يتقدّم أمرهم الكريم بكذا وكذا ويشرح ما رسم به إلى آخره. ثم يخلي بياضا يسيرا. ثم يكتب «على ما شرح فيه» ويترك ثلاثة أوصال بياضا بالوصل الذي تكتب فيه الطرّة. ثم تكتب البسملة في أعلى الوصل الرابع. ثم يكتب قبل آخره بإصبعين ما صورته: «أعزّ الله تعالى نصرة الجنابين الكريمين! وضاعف وأدام نعمة الجناب العالي، والمجلس العالي، الأميريّة، الكبيرية، العالية، العادلية، المؤيّدية، الزعيمية، الغوثية، الغياثية، المثاغريّة، المرابطيّة، المشيّدية، الظهيرية، الكافلية، الفلانية أو الفلانيّ والفلاني» إلى آخرهم: «أعزّاء الإسلام والمسلمين، سادات الأمراء في العالمين، أنصار الغزاة والمجاهدين، زعماء الجيوش، مقدّمي العساكر، ممهّدي الدّول، مشيّدي الممالك، عمادات الملّة، أعوان الأمة، ظهيري الملوك والسلاطين، سيوف أمير المؤمنين، نوّاب السلطنة الشريفة بالشام وحلب وطرابلس وحماة وصفد المحروسات، ومقدّم العسكر المنصور بغزّة المحروسة، ونائب السلطنة الشريفة بالكرك المحروس» ثم الدعاء لهم بصيغة الجمع. ثم يقال: «صدرت هذه المكاتبة إلى الجنابين
__________
(1) راجع الحاشية ص 19من هذا الجزء.(7/240)
الكريمين والجنابات العالية، والمجلس العالي، تهدي إليهم من السلام كذا، وتوضّح لعلمهم الكريم كذا وكذا، فيحيط علمهم الكريم بذلك، والله تعالى يؤيّدهم بمنّه وكرمه». وتكمّل بالمشيئة وما بعدها. والعلامة «أخوهم». قال:
في «التثقيف»: وإن أضيف إليهم نائب سيس (1) في الطرّة والصدر حسب ما تقدّم ذكره.
قال في «التثقيف»: ومما ينبّه عليه أنه قد يكتب تارة إلى بعض هؤلاء النواب ويختصر البعض، بحسب ما تدعو الحاجة إليه، فيكتب كذلك ويختصر منه من رسم باختصاره، ويذكر كلّ واحد منهم في محلّه ومرتبته على الصّورة المتقدّمة من غير تقديم ولا تأخير، ولا زيادة ولا نقص. ثم قال: وهذا هو الذي لم يزل الحال مستقرّا عليه حين كانت مكاتبة نائب الشام «الجناب الكريم» نظير نائب حلب. أما الآن حيث استقرت مكاتبته «المقرّ الكريم». فإنه لا يليق أن يكتب لغيره بألقابه الخاصّة به. وإن اختصرت الألقاب الخاصّة به كان فيه نقص لرتبته فيلزم من ذلك أن يكتب إليه على انفراده، ويكتب المطلق لمن رسم به ممّن عداه من النوّاب المذكورين.
قلت: وقد رأيت في بعض الدساتير كتابة المطلق الشامل لكافل الشام وغيره من النوّاب بعد استقرار مكاتبة نائب الشام بالمقرّ الكريم على صورتين:
الصورة الأولى أن تستوفى ألقاب المقرّ الكريم بدعائه، ويؤتى بألقابه الخاصّة به، ثم يعطف عليه الجناب الكريم، والجنابات العالية، والمجلس العالي، بالألقاب المشتركة ويميّز ما يمكن تمييزه منها، ويكمّل على نحو ما تقدّم: وذلك بأن يكتب في الطرّة «مثال شريف مطلق إلى كافل السلطنة الشريفة بالشام المحروس، أعز الله تعالى أنصاره، ونوّاب السلطنة الشريفة بحلب،
__________
(1) بياض بالأصل. ولعله «أضيف في الطرة الخ».(7/241)
وطرابلس، وحماة، وصفد، ضاعف الله تعالى نعمتهم، ومقدّم العسكر المنصور بغزّة وسيس المحروستين، أدام الله تعالى نعمتهما بما رسم لهم به» إلى آخره. ثم يخلي ثلاثة أوصال، على ما تقدّم ويكتب تلو البسملة في أول الوصل الرابع:
«أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم العالي، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، العابديّ، الناسكيّ، الأتابكيّ ونصرة الجناب الكريم، وضاعف وأدام نعمة الجنابات، والمجالس العالية، الأميريّة، الكبيريّة، العالمية، العادلية، المثاغريّة، المرابطية، العونية، الذّخرية، الغياثيّة، الممهّدية، المشيّدية، المقدّمية، الظهيرية، الكافلية، الفلاني والفلاني» إلى آخرهم: «معزّ وعزّ الإسلام والمسلمين، سيّدي الأمراء في العالمين، ناصر ونصرة الغزاة والمجاهدين، زعماء الجيوش أتابك ومقدّمي العساكر، ممهّدي الدول، مشيّدي الممالك، أعوان الأمة، كهوف الملة، ظهراء الملوك والسلاطين، عضد وسيوف أمير المؤمنين، كافل السلطنة الشريفة بالشام المحروس، ونوّاب السلطنة الشريفة بحلب، وطرابلس، وحماة، ومقدّم العسكر بغزّة وسيس ونائب السلطنة الشريفة بالكرك المحروس» ولا زال إلى آخره. «أصدرناها إلى المقرّ والجناب الكريم والجنابات والمجالس العالية، تهدي إليهم من السلام كذا، ومن الثّناء كذا، وتبدي لعلمهم الكريم كذا وكذا. ومرسومنا للمقرّ والجناب الكريم والجنابات والمجالس العالية أن يتقدّموا بكذا وكذا، فيحيط علمهم بذلك».
الصورة الثانية أن تكتب الطرّة على ما تقدّم ثم تكتب ألقاب المقرّ إلى آخرها. ثم يقال: «وتبدي لعلمه الكريم وعلم الجناب الكريم والجنابات العالية والمجلس العالي الأميرية الكبيرية» إلى آخر الألقاب «أن الأمر كذا وكذا.
ومرسومنا للمقرّ والجناب الكريمين والجنابات العالية والمجلس العالي أن يتقدّموا بكذا وكذا، فيحيط علمهم بذلك» والعلامة في هذا المطلق «أخوهم» اعتبارا بالعلامة إلى كافل الشام ونائب السلطنة بحلب.(7/242)
الضرب الثاني
الضرب الثاني (المطلقات المصغّرة)
وقد ذكر لها في «التعريف» قواعد كليّة، وأشار إلى اختلاف مقاصدها في ضمن الكلام الجمليّ، فقال: وفي كلّها يكتب: «مثالنا هذا إلى كلّ واقف عليه من المجالس السامية، الأمراء، الأجلّاء، الأكابر، المجاهدين، المؤيدين، الأنصار، الغزاة، الأنجاد، الأمجاد، أمجاد الإسلام، أشراف الأمراء، أعوان الدولة، عدد الملوك والسلاطين: الولاة، والنوّاب، والشادّين (1)، والمتصرّفين، بالوجه الفلاني، أو بالديار المصرية، أو بالبلاد الشامية، [أو بالبلاد الفلانية، أو بالديار المصرية والبلاد الشامية] (2) وسائر الممالك الاسلامية». قال: وقد يزاد في هذا لمقتضيه: «والثّغور والحصون والأطراف المحروسة». قال: فإذا كان إلى الممالك الاسلامية، قيل «بالديار المصرية، والبلاد الشامية، وسائر الممالك المحروسة، وما جاورها من البلاد الشّرقية، والممالك القانيّة». وقد تكون إلى جهة الرّوم. فيقال: «وما جاورها من البلاد الروميّة وما يليها». ثم عقّب ذلك بأن قال: فأما إذا كان إلى بعض أولياء الدولة نظر: فإن كان إلى عامّة أمراء دمشق، قيل: «صدرت هذه المكاتبة إلى المجالس العالية الأمراء». وبقية الألقاب من نسبة ما يكتب للمجلس العالي. فإذا انتهى إلى أعضاد الملوك والسلاطين، [أو عضد الملوك والسلاطين ويجوز إطلاق هذا الافراد على الجمع] (3) قال: جماعة الأمراء مقدّمي الألوف، وأمراء الطبلخاناه، وسائر [مجالس الأمراء] (4) أمراء العشرات، ومقدّمي الحلقة (5) المنصورة. وإن كان يكتب إلى حلب أو غيرها من
__________
(1) الشادّون: جمع شادّ ووظيفته الشدّ، وهي وظيفة تعادل التفتيش. ويضاف إلى الشاد جهة الاختصاص فيقال: شاد الجوالي وشاد الاوقاف وشاد الزكاة وشاد الدواوين وغير ذلك. (التعريف بمصطلحات الصبح: 193).
(2) ساقط من قلم الناسخ والتصحيح من «التعريف».
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف».
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف».
(5) وهم أمراء جند الحلقة. وجند الحلقة في عرف دولة المماليك هم رديف من الفرسان الأحرار (أي.
من غير المماليك) تنتقيهم الدولة من بين العناصر المحلية في مختلف المناطق للمساعدة في الحفاظ عليها. وكان لجند الحلقة «أمراء أربعين» و «أمراء خمسة» ولم يكن منهم «أمراء مئة» وأمراء الأربعين بينهم قلائل وقد أبطلت «الحلقة» في أواخر دولة المماليك البحرية لم يبق منها بعد ذلك إلا بعض التعيينات العسكرية في المناطق الجبلية النائية من الشام وبين عرب البادية. (انظر منطلق تاريخ لبنان: 129119).(7/243)
الممالك فبالسامية. وإن كان لأمراء العربان أو التّركمان أو الأكراد، كتب على عادة المطلقات بالسامية، وكتب بعد عدد الملوك والسلاطين «الجماعة الفلانية» أو غير ذلك مما يقتضي التعريف بمن كتب إليه.
أما في «التثقيف» فقد رتّب المطلقات المصغّرة على ستة أصناف:
الصنف الأوّل المطلقات إلى جميع نوّاب القلاع بالمملكة الشامية، أو بالمملكة الحلبيّة.
وصورة ما يكتب إليهم في الطرّة: «مثال شريف مطلق إلى المجالس العالية والسامية الأميريّة، ومجالس الأمراء النوّاب بالقلاع الفلانية المحروسة، أدام الله تعالى نعمتهم بما رسم لهم به من كذا وكذا» إلى آخره. ثم يقال: على ما شرح فيه ثم يخلى وصلان بياضا بوصل الطرّة ثم تكتب البسملة في أعلى الوصل الثالث ثم يكتب بعد البسملة: «صدرت هذه المكاتبة إلى المجالس العالية والسامية الأميريّة» وبقية ألقابهم. «ومجالس الأمراء الأجلّاء، الأكابر، المجاهدين، المؤيّدين، الأنصار، أمجاد الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء في العالمين، أنصار الغزاة والمجاهدين، مقدّمي العساكر، كهوف الملّة، أعوان الأمّة، ظهيري الملوك والسلاطين، النوّاب بالقلاع المنصورة بالمملكة الفلانية المحروسة». والدعاء إلى آخره «موضحة لعلمهم كذا وكذا. ومرسومنا للمجالس العالية والسامية، ومجالس الأمراء أن يتقدّموا بكذا وكذا، فيحيط علمهم بذلك. والله تعالى يؤيّدهم بمنّه وكرمه». والعلامة «والدهم».
الصنف الثاني المطلقات إلى أصاغر نواب القلاع، ممن يكتب إليه بالساميّ بالياء، أو بالسامي بغير ياء، أو بمجلس الأمير.(7/244)
الصنف الثاني المطلقات إلى أصاغر نواب القلاع، ممن يكتب إليه بالساميّ بالياء، أو بالسامي بغير ياء، أو بمجلس الأمير.
وصورة ما يكتب إليهم في الطرّة: «مثال شريف مطلق إلى المجالس الساميّة، ومجالس الأمراء النوّاب بالقلاع الفلانية، أو بولاية فلانة وفلانة، أدام الله تعالى علوّهم» بما رسم لهم به نظير ما تقدّم. وبعد البسملة: «مثالنا هذا إلى كلّ واقف عليه من المجالس الساميّة، ومجالس الأمراء، الأجلّاء، الأكابر، الغزاة، المجاهدين، المؤيّدين، الأنصار، أمجاد الإسلام، أشراف الأمراء، زيون (1)
المجاهدين، عمد الملوك والسلاطين، أو عدد الملوك والسلاطين، النّواب بالقلاع الفلانية المحروسة» حسب ما كتب في الطرّة، والدعاء «يتضمن إعلامهم أن الأمر كذا وكذا ومرسومنا للمجالس الساميّة ومجالس الأمراء أن يتقدّموا بكذا وكذا، فليعلموا ذلك ويعتمدوه ويعلموا بحسبه، والله الموفق بمنّه وكرمه» والعلامة الاسم الشريف.
الصنف الثالث المطلقات إلى عربان الطاعة (2) بالممالك الشاميّة.
والأمر فيه كما في الصنف الذي قبله. قال في «التثقيف»: فإن كان المطلق إلى طائفة من العربان ممن له عادة بمكاتبة جليلة: بأن تكون العلامة «والده» أو نحو ذلك: كآل مهنّا، وآل فضل، وآل عليّ، وآل مرا، ونحوهم، فإنه تكون صورة ما يكتب في الطرّة: «مثال شريف مطلق إلى جماعة العربان، آل فلان» إلى آخره. وفي الصدر بعد البسملة: «مثالنا هذا إلى كلّ واقف عليه من المجالس السامية ومجالس الأمراء» وبقية الألقاب «الكشّاف (3) والولاة والنوّاب بالوجهين
__________
(1) جمع زين وهو عكس الشّين.
(2) المقصود عربان الممالك الشامية.
(3) من هنا إلى قوله بعد «قال في التثقيف ومما جرت العادة به» الخ لا يتعلق بالكلام على مطلقات عربان الطاعة بالممالك الشامية الذي هو موضوع الصنف الثالث كما لا يخفى، ولعله مقدّم مما يأتي بعد في الكلام على المطلقات بالديار المصرية.(7/245)
القبلي والبحريّ». ثم الدعاء. ثم يقال: «يتضمّن إعلامهم كذا وكذا». ثم البقية من نسبة ما تقدّم.
قال في «التثقيف»: وغالبا يفرد الوجه القبليّ بمطلق شريف، والوجه البحريّ بمطلق شريف. قال: وقد تضاف إلى الوجه البحريّ الثّغور. فيقال:
«الكشّاف والولاة والنّواب بالوجه البحريّ والثّغور المحروسة». قال: وإضافة الثّغور لا تقع إلا نادرا، لا سيما وقد صار ثغر الإسكندرية نيابة لا ولاية. ثم قال:
وفي هذا الوقت قد يتعذّر إضافة نائب الوجه القبليّ مع الولاة في المطلق لارتفاع مكاتبته عنهم بدرجات فيفرد بمثال شريف، ويكتب المطلق إلى بقية الكشّاف والولاة. ثم قال: هذا الذي يظهر.
قلت: ويمكن أن يجمع معهم، بأن يكتب: «أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي» إلى آخره. ثم يقال: «صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي» إلى آخره «وتوضّح لعلمه الكريم وعلم المجالس السامية ومجالس الأمراء» إلى آخر ألقابهم «الولاة بالوجه القبلي» أن الأمر كذا وكذا: ويكمل على ما تقدّم.
قال في «التثقيف»: ومما جرت العادة به أن يكتب مطلق شريف إلى الأمراء بالمملكة الطرابلسيّة، أو الحموية، أو الصّفدية وغيرها، عند ولاية نائب السلطنة بتلك المملكة بإعلامهم بذلك فيكتب على هذا الحكم، ولكنه بعنوان بغير طرّة.
قال: وصورته في الصدر بعد البسملة: «مثالنا هذا إلى كلّ واقف عليه من المجالس الساميّة، ومجالس الأمراء الأجلّاء الأكابر» إلى آخر الألقاب، والدعاء «يتضمن إعلامهم كذا وكذا» إلى آخره كما تقدّم، ولكنه لا يصرّح بذكر الولاة والنّواب كما يصرّح بذكر من يكتب إليه المطلق في غير هذه الحالة. والعنوان:
«المجالس السامية ومجالس الأمراء الأجلّاء الأكابر» إلى آخر الألقاب والنّعوت جميعها، والدعاء، والتعريف «أمراء الطبلخانات والعشرات بطرابلس المحروسة، أو بحماة، أو بصفد، أو بغزّة. قال: أما مملكتا الشام وحلب، فإنه
لم تجر العادة بكتابة مطلق بولاية نائبهما، بل يكتب إلى أمير حاجب (1) بتلك المملكة بإعلامه بذلك. وأما الكرك: فإنه يكتب إلى والي القلعة به بمثل ذلك.(7/246)
«المجالس السامية ومجالس الأمراء الأجلّاء الأكابر» إلى آخر الألقاب والنّعوت جميعها، والدعاء، والتعريف «أمراء الطبلخانات والعشرات بطرابلس المحروسة، أو بحماة، أو بصفد، أو بغزّة. قال: أما مملكتا الشام وحلب، فإنه
لم تجر العادة بكتابة مطلق بولاية نائبهما، بل يكتب إلى أمير حاجب (1) بتلك المملكة بإعلامه بذلك. وأما الكرك: فإنه يكتب إلى والي القلعة به بمثل ذلك.
وكذلك يكتب إلى الحاجب بالإسكندرية مثل ذلك.
وهذان شيئان يجب التنبه لهما.
أحدهما كلّ ما كان من ألقاب المطلقات بصيغة الجمع وهو (2)
كأعضاد، فإنه يجوز فيه الإفراد فيقال فيه عضد، وهذا مما نبّه عليه في «التعريف» في الكلام على المطلقات.
الثاني. قال في «التثقيف»: فإن قلت: لأيّ شيء تذكر أسماء الولاة والنّواب والعربان وغيرهم في الصّدر بعد تمام النّعوت وقبل الدعاء، ولا تكتب في صدر المطلقات إلى الأمراء المتقدّمة الذكر عند ولاية النائب بها أو غيره؟ فالجواب أن ذلك في صدر المثال الشريف هو التعريف الذي من عادته أن يكون في العنوان ولا يستغنى عنه فهو قائم مقامه، حيث لا عنوان لذلك المطلق، إنما هو بطرّة لا غير، ولها عنوانات، والتعريف مذكور فيها فلا حاجة إلى ذكره في الصدر. ثم قال: ومن الجماعة (3) من ينازع في ذلك، ويدّعى أنّ ذلك في الطرّة كاف ومغن عن ذكره في الصدر، وقائم مقام التعريف في العنوان. ثم قال: وهو خطأ، وليس بشيء. والأصح ما قلناه.
[الصنف] (4) الرابع قال في «التثقيف»: إذا كان المطلق في أمر يتعلّق بالديار المصرية والبلاد الشامية، تكون صورته «إلى الكشّاف والولاة والنوّاب
__________
(1) المقصود «حاجب الحجاب». راجع الحاشية: 3ص: 168من هذا الجزء.
(2) بياض بالأصل. ولعله «وهو في الأصل مصدر كأعضاد الخ» كما تقدم مثله للمؤلف في الألقاب مرارا. (الطبعة الأميرية ص 227حاشية المحقق).
(3) المراد جماعة المهتمين بهذه المصطلحات والمشتغلين بها أو الكتاب وأصحاب الدساتير.
(4) هذا اللفظ غير موجود في الأصل، وقد زدناه توضيحا لتقسيم الكلام.(7/247)
والشّادين والمتصرفين بالطّرقات المصرية والبلاد الشامية. وإن كان يتعلق بالبلاد الشامية خاصة، اختصر منه ذكر الطرقات المصرية».
[الصنف] الخامس ذكر في «التعريف» أنه يقال في آخر المطلقات بعد فليعلموا ذلك ويعتمدوه: «بعد الخط الشريف». قال في «التثقيف» ولعل هذا كان في الزمن الذي كان هو مباشرا فيه، أما الآن فإنه لم تجر بذلك عادة، ولم يكتب ذلك في مطلق شريف مكبّر ولا غيره أصلا.
[الصنف] السادس ذكر في «التثقيف» أنه رأى بخط القاضي ناصر الدين ابن النّشائي أنه كتب مطلقا إلى المجاهدين بمصياف يعني الفداوية (1) صورته:
«يعلم كلّ واقف على مثالنا هذا من المقدّمين الأجلاء الغزاة المجاهدين المؤيّدين الأنصار، الأتابك فلان والأتابك فلان جماعة المجاهدين» ثم الدعاء.
الضرب الثاني (من المطلقات، البرالغ) (2)
بالباء (3) الموحدة والراء المهملة والألف واللام والغين المعجمة جمع برلغ، وهي لفظة تركية معناها المرسوم وعليها جرى عرف كتّاب بلاد الشرق، وقلّ أن
__________
(1) وهم الإسماعيلية أو الحشيشية وذكرهم ابن خلدون باسم الحشيشة بدون ياء ثانية قال: «وأما جبل اللكام المعترض بين البحر وآخر الجزء بحافاته فيصاقبه من بلاد الشام من أعلى الجزء جنوبا من غربيّه حصن الحواني وهو للحشيشة الإسماعيلية، ويعرفون لهذا العهد بالفداوية، ويسمى الحصن مصياف وهو قبالة أنطرطوس». (انظر مقدمة ابن خلدون: 117ونزهة النفوس: 2/ 209)
(2) لعله الضرب الثالث.
(3) نقل محقق الطبعة الأميرية عن هامش بالأصل ما نصه: «لو لم يقيده بالباء الموحدة لكان أولى على ما لا يخفى» ومراده أنه بالمثناة التحتية. وفي حاشية كتاب «في التراث العربى» للدكتور مصطفى جواد: «اليرليغ هو المرسوم والجمع اليراليغ ويجوز يرليغات» وقد نقل الدكتور جواد نصا لأبن الفوطي في «معجم الألقاب» هو التالي: «سنة 659، وفيها وصل صاحب الديوان شمس الدين الجويني إلى بغداد ومعه يرليغ يتضمن براءة أخيه علاء الدين مما نسب إليه الخ».
(انظر في التراث العربي لمصطفى جواد: ص 493492).(7/248)
تكتب بالديار المصرية، ولذلك لم يتعرّض لها في «التعريف» ولا في «التثقيف»:
وهذه صورة برلغ شريف رأيتها في تذكرة المقرّ الشهابيّ بن فضل الله في الجزء السادس والأربعين منها، بخط أخيه المقرّ العلائيّ بن فضل الله رحمهما الله تعالى كتب في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون». في عاشر شهر رجب الفرد سنة تسع وعشرين وسبعمائة لتمربغا، الرسول الواصل إلى الديار المصرية، عن القان أبي سعيد صاحب مملكة إيران بالإكرام والمسامحة بما يلزمه. وصورته في أوّل الدرج.
مثال شريف مطلق إلى كافّة من يصل إليه، ويقف عليه، للمجلس الساميّ الأميريّ السيفيّ تمربغا؟؟؟ الرسول، بالطّرخانيّة، وتمكين أصحابه من التردّد إلى الممالك الشريفة الإسلامية، وإكرام حاشيتهم وتسهيل مطلبهم، ومسامحتهم في البيع والشّراء بما طلب من الحقوق على اختلافها، وتحذير من سمع هذه المراسيم المطاعة ثم أقدم على خلافها. وبعد البسملة:
الحمد لله الذي بسط أيدينا الشريفة بالجود، ونصب أبوابنا الشريفة كعبة تهوي إليها أفئدة الوفود، وأطاب مناهلها لكافّة الأمم لتنتابها في الصّدور والورود.
نحمده على نعمة التي كم بلّغت راجيا ما يرجوه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبيضّ بها الوجوه، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي ندب إلى مكارم الأخلاق بقوله: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» صلّى الله عليه صلاة تزيد من يقرن الثناء بها تكريما، ثم على آله وصحبه وسلّم تسليما.
وبعد: فإنه لما حضر المجلس الساميّ الأميريّ، الاسفهسلاريّ (1)، السّيفيّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء المقدّمين ناصح الدولتين، ثقة المملكتين فخر الخواصّ المقرّبين، عضد الملوك والسلاطين تمربغا الرسول أنجح الله تعالى مساعيه، وأوجب الرعاية لمن يراعيه إلى أبوابنا
__________
(1) راجع ص: 113حاشية: 3من هذا الجزء.(7/249)
الشريفة ونور ولائه يسعى بين يديه، وإخلاص نيّته يظهر عليه بلّغ إلينا ما أرسل فيه عن الحضرة الشريفة العالية، السلطانية، العالميّة، العادليّة، الشاهنشاهية، القانيّة، الأوحدية، الولدية، العزيزية، المعظّمية، الملكية، العلائية أبي سعيد بهادر خان (1) زيدت عظمته وظهر لنا من كمال صفاته ما رمى البدر التمام بنقصه، ومن حسن تأتّيه في خدمة من أرسله ما يعرف به أنه أرسل حكيما ولم يوصّه وعرض على نظرنا الشريف البرلغ الشريف المكتتب له عن الحضرة الشريفة، السلطان الأعظم، الولد العزيز المعظّم الملك بو سعيد، أعز الله تعالى شأنه بالطّرخانيّة، وما نبّه عليه من مكانته العلية، ورفّه مطالبه من تأكيد الوصيّة ثم رغب إلينا في الكتابة على حكمه إلى كافّة الممالك، وأن يسطّر له منها صحائف حسنات تقضي بها الملوك وترضى بها الملائك فأجرته مراحمنا الشريفة على كرمها المعتاد وأجارته نعمنا الجزيلة وجاورته حيث سار من الأرض أو أقام من البلاد وأجابت صدقاتنا الشريفة بتحقيق المأمول، وأكرمت كتابه بما يستحق أن يكرم به كتاب الرّسول. ومرسومنا إلى كلّ واقف عليه من النّواب والولاة والشادّين والمتصرفين والمباشرين (2) والمتحدّثين وبقية الحكام أجمعين إلى كافة الممالك
__________
(1) وهو سلطان المغول، أبو سعيد، بهادرخان بن خربندة، وبهادر (بالدال المضمومة) كلمة تركية مغولية الأصل مأخوذة من «بخاتر». والمعنى الأصلي لبهادر هو الشجاع أو المقدام، ثم أصبحت لقبا يطلق للتشريف في بلاد المغول. يقول مصطفى جواد: «كانت دولة المماليك بمصر والشام مضادة ومنازعة للدولة الايلخانية في العراق وبلاد الروم، والحروب المستدامة بينهما تؤيد ذلك منذ وقعة عين جالوت حتى استيلاء غازان بن أرغون بن هولاكو على بلاد الشام ثم عودها إلى حكم المماليك. وقد استمر النزاع السياسي حتى سنة 722هـ فاصطلح السلطانان سلطان المغول أبو سعيد بهادر بن خربندة وسلطان المماليك العظيم الملك الناصر محمد بن قلاوون، وبسط السلام جناحية على الدولتين تحت ظل الإسلام. قال ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار: وملوك هذا البيت وإن كانوا أعداء ملوكنا من قديم الزمان وبينهم ما يكون بين الملوك من الشنآن فإنهم أهل همم تذل لها الجبال». وقد حكم أبو سعيد من سنة 717هـ إلى سنة 736هـ. (انظر دائرة المعارف الإسلامية: 8/ 219، و 7/ 433وفي التراث العربي: 497).
(2) المباشرون هم موظفون في الدواوين كديوان الخاص أو في الأعمال كعمل الجيزة والبحيرة وغير قطية، ذلك كالإقطاع ومنهم الناظر والمستوفي والشادّ ويعينهم ناظر الخاص، وكان ذلك في سلطنة الناصر محمد بن قلاوون. (راجع الصبح: 3/ 460451و 4/ 29).(7/250)
الشريفة الإسلامية شرقا وغربا، وبعدا وقربا، أيّدهم الله بالتوفيق، ويسّر لهم الطريق، وجعل حسن تلقّيهم الوفود يأتي بهم من كلّ فجّ عميق أن يجرى الأمير الكبير المقرّب تمربغا الرسول على ما ألفه في أبوابنا الشريفة من كرم إكرامه، وفارقنا عليه من توقير جانبه وتوفير احترامه ويفسح لكلّ من يصل من جهته في التردّد إلى هذه الممالك الشريفة، والتردّي بملابس النّعم المطيفة وأن تضاعف له الإعانة والعناية، والمراعاة والرّعاية ولا يطلب أحد منهم في البيع والشّراء، والأخذ والعطاء، بشيء من المقرّرات الدّيوانية، والموجبات السلطانية ولا يؤخذ منهم عليها شيء سواء كان قليلا أو كثيرا، جليلا أو حقيرا ولا يتأوّل عليهم أحد في هذا المرسوم الشريف، ولا يتعدّى حكمه في تصرّف ولا تصريف، بل يقف كلّ واقف عليه عنده، ويعمل به في اليوم وما بعده، ويلحظ منه على من خالفه سيفا مسلولا وعلى من تجاوز حدّه فنحن نحذّر وننذر من سطواتنا الشريفة من سمعه ثم زاغ قلبه عنه، أو من بلغه من لا يفهم مضمونه ثم لا يسأل عمّا هو فربّ حامل كلام إلى من هو أوعى منه فلتكن عيونهم له مراعية ومسامعهم منصتة إلى سماعه بإذن واعية والاعتماد على الخطّ الشريف أعلاه الله تعالى وشرّفه.
المقصد الثالث (من المكاتبات، في أوراق الجواز وبطائق الحمام، وفيه جملتان)
الجملة الأولى (في أوراق الجواز)
وهي المعبّر عنه في زماننا بأوراق الطّريق. قال في «التثقيف»: تكون ورقة الطريق في ثلاثة أوصال في قطع العادة، يكتب في أعلاها سطر واحد، صورته:
«ورقة طريق على يد فلان بن فلان الفلانيّ» لا غير. ثم يخلى بيت العلامة تقدير شبر، ويكتب في بقية ذلك الوصل قبل الوصل الثاني بأربعة أصابع مطبوقة بغير بسملة: «رسم بالأمر الشريف العالي المولويّ السلطانيّ الملكيّ الفلانيّ أعلاه الله تعالى وشرّفه، وأنفذه وصرّفه أن يمكّن فلان الفلانيّ». وتذكر ألقابه إن
كان أميرا، أو معتمّما كبيرا، أو ممن له قدر، أو له ألقاب معهودة أو غير ذلك بحسب ما يقتضيه الحال «من التوجه إلى جهة قصده والعود. ويحمل على فرس واحد أو أكثر من خيل البريد المنصور من مركز إلى مركز على العادة متوجّها وعائدا» فإن كان متميز المقدار كتب: «ويعامل بالاكرام والاحترام، والرّعاية الوافرة الأقسام فليعتمد ذلك ويعمل بحسبه، من غير عدول عنه بعد الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه». قال: وما تقدّم من كتابة أنه يمكّن من التوجّه والعود، هو فيما إذا كان عائدا ورسم بتمكينه من العود، وإلا فيكتب «أن يمكّن من التوجّه إلى جهة قصده». فإن كان قد حضر إلى الأبواب وهو عائد، فالأحسن أن يكتب فيه «أن يمكّن من العود إلى جهة قصده». وكذا «ويعامل بالإكرام والاحترام» لا يكتب إلا الأمير، أو ذى قدر كبير. فإن كان غيره، كتب [بد] له «مع الوصيّة به ورعايته» ونحو ذلك. وإن رسم له بنفقة، كتب بعد ذكر خيل البريد:(7/251)
«ورقة طريق على يد فلان بن فلان الفلانيّ» لا غير. ثم يخلى بيت العلامة تقدير شبر، ويكتب في بقية ذلك الوصل قبل الوصل الثاني بأربعة أصابع مطبوقة بغير بسملة: «رسم بالأمر الشريف العالي المولويّ السلطانيّ الملكيّ الفلانيّ أعلاه الله تعالى وشرّفه، وأنفذه وصرّفه أن يمكّن فلان الفلانيّ». وتذكر ألقابه إن
كان أميرا، أو معتمّما كبيرا، أو ممن له قدر، أو له ألقاب معهودة أو غير ذلك بحسب ما يقتضيه الحال «من التوجه إلى جهة قصده والعود. ويحمل على فرس واحد أو أكثر من خيل البريد المنصور من مركز إلى مركز على العادة متوجّها وعائدا» فإن كان متميز المقدار كتب: «ويعامل بالاكرام والاحترام، والرّعاية الوافرة الأقسام فليعتمد ذلك ويعمل بحسبه، من غير عدول عنه بعد الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه». قال: وما تقدّم من كتابة أنه يمكّن من التوجّه والعود، هو فيما إذا كان عائدا ورسم بتمكينه من العود، وإلا فيكتب «أن يمكّن من التوجّه إلى جهة قصده». فإن كان قد حضر إلى الأبواب وهو عائد، فالأحسن أن يكتب فيه «أن يمكّن من العود إلى جهة قصده». وكذا «ويعامل بالإكرام والاحترام» لا يكتب إلا الأمير، أو ذى قدر كبير. فإن كان غيره، كتب [بد] له «مع الوصيّة به ورعايته» ونحو ذلك. وإن رسم له بنفقة، كتب بعد ذكر خيل البريد:
«ويصرف له من النّفقة في كلّ يوم كذا وكذا درهما» خلا الأماكن المرسوم بإبطالها. وذلك أن الطّرقات أماكن لا يصرف فيها شيء الآن، فيحتاج إلى أن تستثنى، وكانت قبل ذلك تعيّن! وهي: بلبيس، وطفيس، وأربد (1) وغيرها. ثم كثرت عن التّعداد، فصار يكتب كذلك. ثم قال: ومما ينبّه عليه أن صاحب ورقة الطريق إن كان من مماليك النوّاب أو رسل أحد من أكابر البلاد، ذكر فيه بعد ذكر ما يليق به من الألقاب: «فلان مملوك فلان أو رسول فلان». وتذكر ألقاب مخدومة التي كوتب بها اختصارا. وإلا (2) تذكر نعوته على يد من رسم بنفيه،
__________
(1) أربد: قرية بالأردن، قرب طبرية. وبلبيس: مدينة بينها وبين فسطاط مصر عشرة فراسخ على طريق الشام. ضبطها ياقوت بكسر الباءين وضبطها المؤيد في تقويم البلدان بكسر الباء الأولى وفتح الباء الثانية وضبطها البكري بفتح الباء الأولى. قال صاحب الانتصار: «وبها والي الحرب، ويمر بها نهر من النيل أيام زيادته». وطفيس ذكرها صاحب الانتصار من بين الأعمال الشرقية، قال: وهي مقطعة لجماعة من المماليك السلطانية والحلقة المنصورة. (معجم البلدان: 1/ 479136 والانتصار: 5/ 6451والبكري: 272).
(2) كذا في الأصل. ولعله «ولا تذكر نعوته وعلى يد من، وإن رسم بنفيه كتب الخ.».(7/252)
كتب: «أن يمكّن الأمير فلان الدين فلان من التوجّه صحبة فلان البريديّ بالأبواب الشريفة، أو أحد النقباء بالباب الشريف ليوصّله إلى المكان الفلانيّ، ويحمل على كذا وكذا فرسا من خيل البريد المنصور» إن كان قد رسم له بشيء من خيل البريد «ويحمل البريدي على كذا من خيل البريد المنصور» أو «ويحمل النقيب على فرس واحد من خيل الكراء (1) من ولاية إلى ولاية على العادة في ذلك، ويمكّن البريديّ إن كان بريديّا أو النقيب إن كان نقيبا من العود إلى الباب الشريف». ثم يكمل بنسبة ما تقدّم. وإذا فرغ من صورته، كتب بعد ذلك «إن شاء الله تعالى»، ثم التاريخ والمستند على العادة.
قال: في «التثقيف»: والمستند (2) في أوراق الطريق أحد ثلاثة أمور: إما خطّ كاتب السر، وهو الغالب. أو رسالة الدّوادار، وهو كثير أيضا. أو إشارة نائب السلطان إن كان ثمّ نائب، وهو نادر. فإن كان بخطّ كاتب السر، كتب على الهامش من الجانب الأيمن سطر واحد يكون آخره يقابل السطر الأول الذي هو رسم بالأمر الشريف، وهو «حسب المرسوم الشريف». وكذا إن كان بإشارة النائب، كتب سطران على الهامش المذكور آخرهما أيضا يقابل أوّل السطر الأول «بالإشارة العالية» كما تقدّم في الكلام على المستندات في المقالة الثانية (3) قال: وفي هاتين لا يكتب في ذيلهما بعد التاريخ سوى الحسبلة لا غير. وإن كان برسالة الدّوادار، كتب على الهامش «حسب المرسوم الشريف» فقط، وكتب تحت
__________
(1) خيل الكراء: هي الخيول المستأجرة. (معجم عبد النور: 2/ 1545).
(2) وقال ابن فضل الله العمري في «التعريف بالمصطلح الشريف»: المستند هو بيان سبب ما كتب به الكتاب، ولم تكن المناشير تحمل مستندات بعكس التواقيع والمراسيم والمربعات والكتب وكان يكتب في مستند تلقي نائب السلطنة الشريفة «بالإشارة العالية الكاملة الفلانية أعلاها الله تعالى».
(3) الصواب: المقالة الثالثة. والذي تقدم في الجزء السادس ص 264: فيكتب «بالإشارة العالية الأميرية الكبيرية الكافلية، كافل الممالك الشريفة الإسلامية أعلاها الله تعالى سطرين ويكون آخر السطر الأول الكافلية الفلانية.(7/253)
التاريخ سطران هما «رسالة المجلس العالي الأميريّ الفلانيّ فلان الدّوادار المنصوريّ أدام الله تعالى نعمته» ثم الحسبلة.
الجملة الثانية (في نسخ البطائق (1)، وهي على ضربين)
الضرب الأول (أن تكون البطاقة بعلامة شريفة)
قال في «التثقيف»: وتكون نحو ثلثي وصل من ورق البطائق. قال:
وصورتها أن يكتب في رأس الورق المذكور في الوسط سواء «الاسم الشريف» وتحته ملصقا به من غير بياض سطر واحد كامل من يمين الورق بغير هامش بما يأتي ذكره. ثم يخلى بيت العلامة تقدير أربعة أصابع مطبوقة، ثم تكتب تتمة الكلام أسطرا متلاصقة بنسبة الأوّل، بغير هامش أصلا إلى آخره. والذي يكتب من يمين الورق: «الله الهادي. سرّح الطائر الميمون ورفيقه، هداهما الله تعالى في الساعة الفلانية من اليوم الفلانيّ من الشهر الفلانيّ من سنة كذا وكذا، إلى المجلس الكريم، أو السامي، الأمير فلان والي فلانة، أو نحو ذلك، يعلمه أنّ الأمر كذا وكذا. ومرسومنا له أن يتقدّم بكذا وكذا. فليعلم ذلك ويعتمده، والله الموفّق بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى، حسبنا الله ونعم الوكيل». والمستند لها «حسب المرسوم الشريف».
الضرب الثاني (أن تكون بغير علامة)
وصورتها أن يكتب في رأس الورقة في الوسط موضع الاسم: «الله الهادي بكرمه»، والأسطر متلاصقة بغير هامش، ولا يخلى فيها بيت علامة. وصورة ما
__________
(1) البطائق: نوع من المكاتبات تحمل على أجنحة الحمام (انظر الصبح: 14/ 124).(7/254)
يكتب فيها: «المرسوم بالأمر الشريف، العالي، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ، الفلاني، أعلاه الله تعالى وصرّفه أنّ يسرّح هذا الطائر الميمون ورفيقه، هداهما الله تعالى في وقت كذا وكذا». ويكمّل على حسب ما تقدّم «والله الموفق، حسب المرسوم الشريف، إن شاء الله تعالى». قال في «التثقيف»: وقد يقتضي الحال نقلها من مكان إلى مكان آخر، مثل أن تنقل من بلبيس إلى قطيا (1)، فيكتب بعد ذكر المرسوم به: «ويتقدّم بنقل هذه البطاقة إلى فلان الفلانيّ ليعتمد مضمونها ويعمل بحسبها». فإن كانت منقولة إلى مكان ثالث، كتب بعد ذلك: «ثم ينقلها إلى فلان ليعتمد مضمونها أيضا ويعمل بمقتضاها فيعلم ذلك ويعتمده». والتتمة حسب ما تقدّم.
الطرف الثالث (في المكاتبات إلى عظماء ملوك الإسلام
، ومن انطوت عليه ممالكهم ممّن دونهم من الملوك والحكّام المنفردين ببعض البلدان، والأمراء والوزراء وسائر من ضمّه نطاق كلّ مملكة من تلك الممالك، ممّن جرت العادة بمكاتبته عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية، ممن هو مستمرّ المكاتبة أو زالت مكاتبته بزواله: ليقاس عليه من لعله يظهر مظهره) واعلم أن كتّاب الديار المصرية يراعون في المكاتبة إلى كلّ مملكة صورة المكاتبة الواردة عن تلك المملكة في غالب حالها: في الابتداء والخطاب والاختتام وغير ذلك.
وفيه أربعة مقاصد:
__________
(1) وتقع بين مصر والشام، وترجع أهميتها إلى أنه لا يمكن لأحد الجواز بين البلدين إلا منها، وهي مكان أخذ المكس من القادمين إلى مصر. وسماها مراصد الاطلاع: قطبة، وقال إنها وسط الرمل قرب الفرما. وقال في الانتصار: «وقطيا من الجفار وبها والي أمير طبلخاناه مقيم بها لأخذ العشر من التجار». (الانتصار: 5/ 5352ونزهة النفوس: 1/ 107).(7/255)
المقصد الأول (في المكاتبات إلى عظماء ملوك الشّرق
، ومن انطوت عليه كلّ مملكة من ممالكهم، ممن جرت العادة بمكاتبته، وفيه أربعة مهايع)
المهيع الأول (في المكاتبة إلى الملوك والحكّام، ومن جرى مجراهم بمملكة إيران
، وهي مملكة الأكاسرة الصائرة إلى بيت هولاكو من بني جنكزخان) وقد تقدّم في المقالة الثالثة في الكلام على المسالك والممالك ذكر حدود هذه المملكة وقواعدها ومدنها، وإلى من تنسب، ومن ملكها جاهليّة وإسلاما إلى زماننا. والمقصود هنا ذكر المكاتبات فقط، ويشتمل المقصود منها على ثلاث جمل.
الجملة الأولى (في رسم المكاتبة إلى قانها الأعظم الجامع لحدودها
، على ما كان الأمر عليه من مبدإ ملك بيت هولاكو وإلى آخر دولة أبي سعيد، وله حالتان)
الحالة الأولى ما كان الأمر عليه في رسم المكاتبة في أوائل الدولة التّركية
، والعداوة بعد قائمة بين ملوك الديار المصرية وبين ملوكها (1) وفيه أسلوبان:
الأسلوب الأوّل أن يكتب تحت البسملة من الجانب الأيمن
«بقوّة الله تعالى» ويكون «بقوة الله» سطرا و «تعالى» سطرا ثم يكتب من الجانب الأيسر: «بإقبال دولة السلطان الملك الفلاني». ويكون «بإقبال دولة» سطرا، وباقي الكلام سطرا ثانيا. ثم يكتب تحت ذلك «كلام فلان» سطرا ثانيا «إلى السلطان فلان» سطرا ثالثا. ثم يؤتى ببعديّة وخطبة، ويؤتى بالمقصود.
__________
(1) راجع الحاشية: 1/ ص: 250من هذا الجزء.(7/256)
وطريقهم فيه على التكلّم عن لسان صاحب مصر بنون الجمع، والخطاب لسلطان إيران بميم الجمع الغائب، مضاهاة لمكاتبتهم الواردة عنهم في جميع ذلك.
وهذه نسخة كتاب، كتب به عن السلطان الملك المنصور قلاوون، صاحب الديار المصرية، في جواب كتاب ورد عن السلطان أحمد (1) القان بإيران في زمانه. يذكر فيه أنّه أسلم (2)، إذ كان أوّل من أسلم من ملوكهم، ويذكر فيه أن أخاه الكبير (3) كان قد عزم على دخول ممالك الديار المصرية قبل موته، وأنه منع ذلك وأنه لا يحب المسارعة إلى القتال، وأن المشير بذلك الشيخ عبد الرحمن (4): أحد صلحاء بلادهم، وأنه حرّم على عساكره الغارات على البلاد، وتعرّض فيه إلى أمر الجواسيس، وأشار إلى أنّ الاتّفاق فيه صلاح العالم، وأشار إلى أشياء حمّلها لرسله (5) يذكرونها مشافهة، ووقع الجواب عن جميع ذلك على ما
__________
(1) قال ابن عبد الظاهر: «ولما مات أبغا بن هلاون وقع الاختلاف فيمن يقعد في التخت فتعصب جماعة لأحمد بن هلاون، واسمه الحقيقي تكدار، واسم أمه قتوخاتون، وهي نصرانية واتفقوا على إقعاده في تخت الملك. وما هان على بعض المغل قعود أحمد، لأنه ادعى أنه مسلم. فحضر أخوه قنغزطاي، وقال لأرغون بن هلاون: إن أبغا شرط في الياسة [وهي قانون التتار] أنه إذا مات ملك ما يقعد عوضه إلا الأكبر من أولاده. وقد رتبنا أحمد، ومن خالف يموت. فأطاعوه وسيروا الألجية [السفراء. وبالتركية السفير] لإحضار الملوك ليكتبوا خطوطهم بالارتضاء بالملك أحمد». (سيرة الملك المنصور: 4).
(2) وعبارة السلطان أحمد في رسالته: «أما بعد، فإن الله سبحانه وتعالى بسابق عنايته، ونور هدايته قد أرشدنا في عنفوان الصبا وريعان الحداثة، إلى الإقرار بربوبيته، والاعتراف بوحدانيته، والشهادة بمحمد عليه أفضل الصلوات والسلام، بصدق نبوته». (المرجع السابق: ص 6).
(3) وهو أرغون بن هلاون، كما تقدم في الحاشية الأولى.
(4) قال السلطان أحمد في جملة رسالته: «وقوي عزمنا على ما رأيناه إذكار شيخ الإسلام قدوة العارفين، كمال الدين، عبد الرحمن الذي هو نعم العون لنا في أمور الدين».
(5) قال ابن عبد الظاهر: «وشرع الملك أحمد في تجهيز رسل إلى أبواب مولانا السلطان. فسيّر قاضي القضاة قطب الدين محمودا الشيرازي قاضي سيواس، والأمير بهاء الدين أتابك السلطان مسعود صاحب الروم، والأمير شمس الدين بن الصاحب [وهو شمس الدين محمد بن الصاحب.
شرف الدين التيتي المعروف بابن الصاحب وزير ماردين] خاص صاحب ماردين، ومعهم جماعة كبيرة من اتباع وأشياع وغلمان ومماليك خواص وتجمّل عظيم». وأضاف ابن عبد الظاهر:
«ونسخة الكتاب المذكور الوارد على يد رسله هو بغير عنوان ولا ختم، وفيه طمغات حمر ثلاث عشرة طمغة: بسم الله الرحمن الرحيم، بقوة الله تعالى، بإقبال قاآن [قآن خان]، فرمان أحمد، إلى سلطان مصر». وقد اختتمت الرسالة بالعبارة التالية: «كتب في أواسط جمادى الأول سنة إحدي وثمانين وستماية بمقام الإطاق» والأطاق وتكتب أيضا أوطاق، كلمة تركية بمعنى غرفة خيمة أو مجموعة خيام أو معسكر. والمعنى هنا: بمعسكر السلطان. (انظر نص الرسالة كاملة في سيرة الملك المنصور: 106).(7/257)
سيأتي ذكره في الكتب الواردة على الديار المصرية. وكتب بخط ناصر الدين شافع ابن عليّ بن عباس (1): أحد كتّاب الإنشاء، في رمضان سنة إحدى وثمانين وستمائة. والتكلّم بنون الجمع، والخطاب بالجمع الغائب كما تقدّم في الأسلوب الأوّل، وهي:
بسم الله الرّحمن الرّحيم بقوة الله بإقبال دولة تعالى السلطان الملك المنصور كلام قلاوون إلى السلطان أحمد أما بعد حمد الله الذي أوضح بنا ولنا الحقّ منهاجا، وجاء فجاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا، والصلاة على سيدنا ونبيّنا محمد الذي فضّله الله على كلّ نبيّ نجّى به أمته وعلى كل نبيّ ناجا، صلاة تنير مادجا فقد وصل الكتاب الكريم، المتلقّى بالتكريم، المشتمل على النّبإ العظيم، من دخوله
__________
(1) هو شافع بن علي بن عباس الكناني العسقلاني ثم المصري: كاتب مؤرخ، له شعر جيد. باشر ديوان الإنشاء بمصر زمانا، وأصابه سهم في صدغه في وقعة حمص بين الجيش المصري والجيش المغولي سنة 680هـ فعمي. ذكر صاحب الأعلام أنه توفي سنة 730هـ، وذكر صاحب فوات الوفيات أنه توفي سنة 733هـ. (فوات الوفيات: 2/ 9593. والأعلام: 3/ 152).(7/258)
في الدّين، وخروجه عمن سلف من العشيرة الأقربين ولما فتح هذا الكتاب بهذا الخبر العلم المعلم، والحديث الذي صحّح عند أهل الإسلام إسلامه وأصحّ الحديث ما روي عن مسلم، توجّهت الوجوه بالدعاء إلى الله سبحانه في أن يثبّته على ذلك بالقول الثابت، وأن ينبت حبّ حبّ هذا الدين في قلبه كما أنبت أحسن النّبت من أخشن المنابت وحصل التأمّل للفصل المبتدإ بذكره من حديث إخلاصه في أوّل عنفوان الصّبا إلى الإقرار بالوحدانية، ودخوله في الملّة المحمدية، بالقول والعمل والنيّة فالحمد لله على أن شرح صدره للإسلام، وألهمه شريف هذا الإلهام فحمدنا الله على أن جعلنا من السابقين إلى هذا المقال والمقام، وثبّت أقدامنا في كلّ موقف اجتهاد وجهاد تتزلزل دونه الأقدام.
وأمّا إفضاء النّوبة في الملك وميراثه بعد والده وأخيه الكبير إليه، وإفاضة جلابيب هذه النعمة العظيمة عليه وتوقّله (1) للأسرّة التي طهّرها الله بإيمانه، وأظهرها بسلطانه فلقد أورثها الله من اصطفاه من عباده، وصدّق المبشّرات من كرامة أولياء الله وعبّاده.
وأمّا حكاية الإخوان والأمراء الكبار ومقدّمي العساكر وزعماء البلاد في مجمع فوريلياي (2) الذي ينقدح فيه زند الآراء، وأن كلمتهم اتفقت على ما سبقت به كلمة أخيه الكبير في إنفاذ العساكر إلى هذا الجانب، وأنه قد فكّر فيما اجتمعت عليه آراؤهم، وانتهت إليه أهواؤهم فوجده مخالفا لما في ضميره: إذ قصده الصّلاح، ورأيه الإصلاح وأنه أطفأ تلك النائرة، وسكّن تلك الثائرة فهذا فعل
__________
(1) توقّل في الجبل: صعّد فيه. ويقال: توقّل في مصاعد الشرف.
(2) الصواب: «قوريلتاي». وعبارة رسالة السلطان أحمد إلى المنصور قلاوون: «فاجتمع عندنا في قوريلتاي المبارك وهو المجمع الذي تنقدح فيه الآراء جميع الإخوان والأولاد والأمراء الكبار ومقدمو العساكر وزعماء البلاد». وقوريلتاي في التركية هو الاسم المغولي لمجلس السلطنة الذي يختار الحكام ويدرس المسائل العويصة التي لا يريد الحاكم أن يفصل فيها وحده.
(انظر سيرة الملك المنصور: ص 7ودائرة المعارف الإسلامية: 12/ 383).(7/259)
الملك المتّقي، المشفق من قومه على من بقي المفكّر في العواقب، بالرأي الثاقب وإلا فلو تركوا وآراءهم حتّى تحملهم الغرّة، لكانت تكون هذه هي الكرّة لكن هو كمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فلم يوافق قول من ضلّ ولا فعل من غوى.
وأما القول منه إنه لا يحبّ المسارعة، إلى المقارعة، إلا بعد إيضاح المحجّة، وتركيب الحجّة فبانتظامه في سلك الإيمان صارت حجّتنا وحجته متركّبة، على من غدت طواغيته عن سلوك هذه المحجّة متنكّبة، فإن الله سبحانه وتعالى والناس كافّة قد علموا أنّ قيامنا إنما هو لنصرة هذه الملة، وجهادنا واجتهادنا إنما هو لله وحيث قد دخل معنا في الدّين هذا الدّخول، فقد ذهبت الأحقاد وزالت الذّحول (1) وبارتفاع المنافرة، تحصل المظافرة فالإيمان كالبنيان يشدّ بعضه ببعض، ومن أقام مناره فله أهل بأهل في كل مكان وجيران بجيران بكلّ أرض.
وأما ترتيب هذه الفوائد الجمّة على إذكار شيخ الإسلام قدوة العارفين كمال الدين عبد الرحمن، أعاد الله تعالى من بركاته، فلم ير لوليّ قبله كرامة كهذه الكرامة، والرّجاء ببركته وبركة الصالحين أن تصبح كلّ دار إسلام دار إقامة، حتّى تتمّ شرائط الإيمان، ويعود شمل الإسلام مجتمعا كأحسن ما كان ولا ينكر لمن بكرامته ابتداء هذا التمكين في الوجود، أنّ كلّ حقّ ببركته إلى نصابه يعود.
وأما إنفاذ أقضى القضاة قطب الملة والدين، والأتابك بهاء الدين الموثوق بنقلهما في إبلاغ رسائل هذه البلاغة، فقد حضرا وأعادا كلّ قول حسن من أحوال (2) أحواله، وخطرات خاطره، ومسطّرات (3) ناظره، ومن كلّ ما يشكر
__________
(1) الذحول: جمع الذّحل وهو الحقد والثأر.
(2) في سيرة الملك المنصور: «من حوالي أحواله» والمراد: من نفائس أحواله.
(3) في المرجع السابق: «ومنتظرات».(7/260)
ويحمد، ويعنعن حديثهما فيه عن مسند أحمد.
وأما الإشارة إلى أنّ النّفوس إن (1) كانت تتطلّع في إقامة دليل، تستحكم [به] دواعي الودّ الجميل فلينظر إلى ما ظهر من مآثره، في موارد الأمر ومصادره: من العدل والإحسان، بالقلب واللسان، والتقدّم بإصلاح الأوقات (2)، فهذه صفات من يريد لملكه الدوام فلما ملك عدل، ولم يلتفت إلى لؤم من عدا ولا لوم من عذل.
على أنها وإن كانت من الأفعال الحسنة، والمثوبات التي تستنطق بالدعاء الألسنة فهي واجبات تؤدّى، وهو أكبر من أنه يؤخر غيره أو عليه يقتصر، أوله يدّخر إنما يفتخر الملك العظيم بأن يعطي ممالك وأقاليم وحصون، أو يبذل في تشييد ملكه أعزّ مصون.
وأما تحريمه على العساكر والقراغولات (3) والشحاني (4) بالأطراف التعرّض إلى أحد بالأذى، و [تحتيم] إصفاء موارد الواردين والصادرين من شوائب القذى فمن حين بلغنا تقدّمه بذلك تقدّمنا أيضا بمثله إلى سائر النّوّاب، بالرّحبة وحلب (5)
وعينتاب وتقدّمنا إلى مقدّم (6) العساكر بأطراف تلك الممالك، بمثل ذلك وإذا اتحد الإيمان، وانعقدت الأيمان تحتّم إحكام هذه الأحكام، وترتب عليه جميع الأحكام.
__________
(1) لعل زيادة «إن» من الناسخ.
(2) الصواب: «الأوقاف».
(3) القراغولات (مفردها قراغول) وهي عند المغول جماعة من العسكر يناط بهم حراسة الطرق. وقد وردت عبارة مشابهة للقلقشندي في الجزء الثامن ص: 67.
(4) الشحاني والشحنة والشحنكية وظيفة يسمى متوليها صاحب الشحنة وهو رئيس الشرطة والموكل بالأمن في بلد من البلاد. وقد أوضح القلقشندي ذلك في الجزء الخامس من الصبح ص: 362 بقوله «وبقي مسعود بن كيخسرو في الملك وليس له منه سوى الاسم والمتحدث هو الشحنة الذي من جهة التتر إلى أن مات سنة 718هـ واستقل الشحنة بالمملكة. وبقي أمراء التتر يتغالبون على الشحنكية واحدا بعد واحد».
(5) في ابن عبد الظاهر: «بالرحبة والبيرة وعينتاب».
(6) في المرجع السابق: «وإلى مقدمي العساكر».(7/261)
وأما الجاسوس الفقير الذي أمسك وأطلق وأنّ بسبب من تزيّا من الجواسيس بزيّ الفقراء قتل جماعة من الفقراء الصّلحاء رجما بالظن، فهذا باب من ذلك الجانب (ستروه، وإلى الاطّلاع على الأمور صوّروه فظفر النوّاب منهم بجماعة فرفع عنهم السيف، ولم يكشف ما غطّته خرقة الفقر ولا كيف) (1)
وأما الإشارة إلى أن في اتفاق الكلمة (يكون صلاح العالم، وينتظم شمل بني آدم فلا رادّ لمن طرق باب الاتّحاد، ومن جنح للسلّم فما جار ولا حاد ومن ثنى عنانه عن المكافحة، كمن يريد المصافحة للمصالحة) (2) والصّلح وإن كان سيد الأحكام فلا بدّ من أمور تبنى عليها قواعده، وتعلم من مدلولها فوائده فإن الأمور المسطورة في كتابه (عن كلّيّات لازمة ينعم بها كلّ معنى معلوم) (3) إن تهيأ صلح أو لم، وثمّ أمور لا بدّ أن (4) تحكم، وفي سلكها عقود العهود تنظم قدّ تحمّلها لسان (5) المشافهة التي إذا أوردت أقبلت من (6) معنى دخوله في الدين، وانتظام عقده بسلك المؤمنين وما بسطه من عدل وإحسان، وسيرة مشهورة بكلّ لسان، فالمنّة لله في ذلك فلا يشيبها منه بامتنان وقد أنزل الله تعالى على
__________
(1) ما بين هلالين نقله ابن عبد الظاهر عن رسالة السلطان قلاوون إلى أحمد بصورة مختلفة وهي التالية: «فهذا باب من تلقاء ذلك الجانب كان فتحه، وزند من ذلك الطّرف كان قدحه. وكم من متزيّ بفقير من ذلك الجانب سيّروه وإلى الاطلاع على الأمور سوّروه. وأظفر الله منهم بجماعة كبيرة فرفع عنهم السيف، ولم يكشف ما غطوه بخرقة الفقر بلم ولا كيف».
(2) عبارة القاضي ابن عبد الظاهر في سيرة الملك المنصور: «باتفاق الكلمة تنجلي ظلم الاختلاف، وتدرّ بها من الخيرات الأخلاف، ويكون بها صلاح العالم، وانتظام شمل بني آدم، فلا رادّ لمن فتح أبواب الاتحاد، وجنح إلى السلم وما حاد ولا حادّ. ومن ثنى عنانه عن المكافحة، كان كمن مدّ يد المصالحة للمصافحة.». وحول عبارة «ما حاد ولا حادّ» نقل محقق سيرة الملك المنصور عن أبي الفضائل: «فقد جاد ولا حاد» (سيرة الملك المنصور: ص 14).
(3) في المرجع السابق: «هي كليات لازمة يعمر بها كل مغنى ومعلم».
(4) في المرجع السابق: «وأن».
(5) في المرجع السابق: «بلسان».
(6) بالمقارنة مع النص الذي أورده ابن عبد الظاهر اتضح لنا أن القلقشندي أو ربما الناسخ قد اسقط سبعة أسطر، فليراجع ذلك في سيرة الملك المنصور.(7/262)
رسوله صلّى الله عليه وسلّم في حقّ من امتنّ بإسلامه: {قُلْ لََا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلََامَكُمْ بَلِ اللََّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدََاكُمْ لِلْإِيمََانِ} (1)
ومن المشافهة أنه قد أعطاه الله من العطاء ما أغناه به عن امتداد الطّرف إلى ما في يد غيره من أرض ومال، فإن حصلت الرغبة في الاتفاق على ذلك فالأمن (2)
حاصل فالجواب أنّ ثمّ أمورا متى حصلت عليها الموافقة، تمّت المصاحبة والمصادقة ورأى الله تعالى والناس كيف يكون (إذلال معادينا، وإعزاز مصافينا) (3) فكم من صاحب وجد حيث لا يوجد الأب والأخ والقرابة، وما تمّ أمر الدين المحمديّ واستحكم في صدر الإسلام إلا بمظافرة الصّحابة فإن كانت له رغبة مصروفة إلى الاتحاد، وحسن الوداد، وجميل الاعتضاد، وكبت الأعداء والأضداد، والاستناد إلى من يشتدّ به الأزر (4) عند الاستناد، فقد فهم المراد (5)
ومن المشافهة إذا كانت رغبتنا غير ممتدّة إلى ما في يده من أرض ومال، فلا حاجة إلى إنفاذ المغيرين الذين يؤذون المسلمين بغير فائدة تعود فالجواب أنه لو كفّ كفّ العدوان من هنالك، وخلّي لملوك المسلمين ما لهم من ممالك سكنت الدّهماء، وحقنت الدّماء وما أحقّه بأن لا ينهى عن خلق ويأتي مثله، ولا يأمر بشيء (6) وينسى فعله وقنغرطاب (7) بالرّوم الآن، وبين (8) بلاد في أيديكم خراجها يجبى إليكم، فقد سفك فيها وفتك، وسبى وهتك وباع الأحرار، وأبي إلا التمادي على ذلك (9) والإصرار.
__________
(1) الحجرات / 17.
(2) في ابن عبد الظاهر: «فالأمر».
(3) في المرجع السابق: «كيف يكون تصافينا، وإذلال عدونا وإعزاز مصافينا».
(4) في المرجع السابق: «يشتد الأمر به عند الاستناد فالرأي إليه في ذلك».
(5) في المرجع السابق: «يشتد الأمر به عند الاستناد فالرأي إليه في ذلك».
(6) في المرجع السابق: «ببرّ».
(7) في المرجع السابق: «قنغرطاي». وبالتركية.
(8) في المرجع السابق: «وهي».
(9) في المرجع السابق: «على الإضرار».(7/263)
ومن المشافهة أنه إن حصل التصميم على أن لا تبطل هذه الإغارات، ولا يقتصر (1) عن هذه الإثارات فتعيّن مكانا يكون فيه اللّقاء، ويعطي الله النصر لمن يشاء فالجواب عن ذلك أن الأماكن التي اتّفق فيها ملتقى الجمعين مرّة ومرّة ومرة قد عاف مواردها من سلف (2) من أولئك القوم، وخاف أن يعادوها فيعادوه مصرع ذلك اليوم ووقت اللّقاء علمه عند الله لا يقدر، وما النصر إلا من عند الله لمن أقدر لا لمن قدر وما (3) نحن ممن ينتظر فلته، ولا ممّن له إلى غير ذلك لفته، وما أمر ساعة النصر إلا كالساعة التي لا تأتي إلا بغته والله تعالى الموفّق لما فيه صلاح هذه الأمة، والقادر على إتمام كلّ خير ونعمه إن شاء الله تعالى. مستهلّ شهر رمضان المعظم قدره، سنة إحدى وثمانين وستمائة. الحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه. حسبنا الله ونعم الوكيل.
الأسلوب الثاني (أن يكتب تحت البسملة على حيال وسطها «بقوّة الله تعالى وميامين الملة المحمدية»)
ويكون «بقوّة الله تعالى» سطرا. و «ميامين الملة المحمدية» سطرا ثانيا. ثم يؤتى ببعديّة وخطبة مختصرة ثم يكتب سطران ببياض من الجانبين، فيهما: «بإقبال دولة السلطان الملك» وباقي الكلام في السطر الثاني. ثم يقال:
«فليعلم السلطان فلان». ويؤتى على المقصود إلى آخره.
وهذه نسخة كتاب من إنشاء القاضي علاء الدين عليّ بن فتح الدين محمد ابن محيي الدين بن عبد الظاهر (4)، صاحب ديوان الإنشاء بالديار المصرية في
__________
(1) في المرجع السابق: «ولا تفتر» وفي الحاشية: المناسب «يفتر».
(2) في ابن عبد الظاهر: «من سلّم».
(3) في ابن عبد الظاهر: «ولا نحن».
(4) ابناء عبد الظاهر الثلاثة هؤلاء: علاء الدين عليّ، وفتح الدين محمد، ومحيي الدين أبو الفضل عبد الله كانوا واحدا بعد الآخر أصحاب دواوين الإنشاء في الديار المصرية. فمحي الدين كان صاحب ديوان الإنشاء لكل من الملك الظاهر بيبرس، والملك المنصور قلاوون، والملك الأشرف خليل وقد توفي سنة 692هـ / 1292م. أما ابنه فتح الدين محمد، الذي توفي في حياة والده الأحيان على وزيره فخر الدين بن لقمان. ويقول صاحب النجوم الزاهرة إن فتح الدين هذا كان أول كاتب سرّ في الدولة التركية وغيرها. (انظر مقدمة سيرة الملك المنصور: ص: 11109 12). والخطط التوفيقية: 1/ 31.(7/264)
جواب كتاب ورد عن السلطان محمود غازان، القان بمملكة إيران، يذكر فيه أنّ جماعة من عساكر البلاد الشاميّة أغاروا على ماردين، وأن الحميّة اقتضت الرّكوب في مقابلة ذلك. وذكر أنه قدّم الرسل بالإنذار. ويذكر فيه أنهم صبروا على تماديهم في غيّهم ويذكر فيه نصرته على العساكر الإسلامية في المرّة السابقة. ويذكر فيه أنه أقام بأطراف البلاد. ولم يدخلها خوف التخريب والفساد. ويذكر فيه جمع العساكر وتهيئة المجانيق وغير ذلك من آلة القتال. ويذكر أنه إذا لم تجر موجبات الصلح كانت دماء المسلمين مطلولة ويذكر إرسال رسله بكتابه ويلتمس التّحف والهدايا، مما كتب به عن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، في المحرّم سنة إحدى وسبعمائة وهي:
بسم الله الرّحمن الرّحيم بقوّة الله تعالى وميامين الملّة المحمدية أمّا بعد حمد الله الذي جعلنا من السابقين الأوّلين، الهادين المهتدين التابعين لسنّة سيد المرسلين، بإحسان إلى يوم الدين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الذين فضّل الله من سبق منهم إلى الإيمان في كتابه المكنون. فقال سبحانه وتعالى: {وَالسََّابِقُونَ السََّابِقُونَ أُولََئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} (1)
بإقبال دولة السلطان الملك الناصر كلام محمد بن قلاوون.
__________
(1) الواقعة / 10.(7/265)
فليعلم السلطان المعظّم محمود غازان (1) أنّ كتابه ورد، فقابلناه بما يليق بمثلنا لمثله من الإكرام، ورعينا له حقّ القصد فتلقيناه منّا بسلام وتأمّلناه تأمّل المتفهّم لدقائقه، المستكشف عن حقائقه فألفيناه قد تضمّن مؤاخذات بأمورهم بالمؤاخذة عليها أحرى، معتذرا في التعدّي بما جعله ذنوبا لبعض طالب بها الكلّ، والله تعالى يقول: {وَلََا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ} * (2)
أمّا حديث من أغار على ماردين من رجالة بلادنا المتطرّفة وما نسبوه إليهم من الأمور البديعة، والآثام الشّنيعة وقولهم: إنهم أنفوا من تهجّمهم، وغاروا من تقحّمهم واقتضت الحميّة ركوبهم في مقابلة ذلك، فقد تلمّحنا هذه الصورة التي أقاموها عذرا في العدوان، وجعلوها سببا إلى ما ارتكبوه من طغيان والجواب عن ذلك أنّ الغارات من الطّرفين [و] لم يحصل من المهادنة والموادعة ما يكفّ يدنا الممتدّة، ولا يفترّ هممها المستعدّة وقد كان آباؤكم وأجدادكم على ما علمتم من الكفر والشّقاق، وعدم المصافاة للإسلام والوفاق ولم يزل ملك ماردين ورعيّته منفّذين ما يصدر من الأذى للبلاد والعباد عنهم، متولّين كبر نكرهم والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (3) وحيث جعلتم هذا ذنبا للحميّة الجاهليّة، وحاملا على الانتصار الذي زعمتم أنّ همّتكم به مليّة فقد كان هذا القصد الذي ادّعيتموه يتمّ بالانتقام من أهل تلك الأطراف التي أوجب ذلك فعلها، والاقتصار على أخذ الثار ممن ثار، اتباعا لقوله تعالى: {وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا} (4) لا أن تقصدوا الإسلام بالجموع الملفّقة على اختلاف الأديان، وتطأوا البقاع الطاهرة بعبدة الصّلبان وتنتهكوا حرمة البيت المقدّس الذي هو ثاني بيت
__________
(1) هو محمود بن أرغون المغلي الجنكزخاني صاحب العراقين وخراسان وفارس وأذربيجان والروم.
ملك سنة 693هـ وحسّن له نائبه توزون الإسلام فأسلم سنة 694هـ. توفي سنة 703هـ.
(فوات الوفيات: 4/ 97).
(2) الأنعام / 164. واللفظ في الإسراء: 15وفاطر: 18والزمر: 7والنجم 38.
(3) المائدة / 51.
(4) الشورى / 40.(7/266)
الله الحرام، وشقيق مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام وإن احتججتم بأنّ زمام تلك الغارة بيدنا، وسبب تعدّيهم من سنّتنا فقد أوضحنا الجواب عن ذلك، وأنّ عدم الصّلح والموادعة أوجب سلوك هذه المسالك.
وأما ما ادّعوه من سلوك سنن المرسلين، واقتفاء آثار المتقدّمين، في إنفاذ الرّسل أوّلا، فقد تلمحنا هذه الصّورة، وفهمنا ما أوردوه من الآيات المسطورة والجواب عن ذلك أنّ هؤلاء الرّسل ما وصلوا إلينا إلا وقد دنت الخيام من الخيام، وناضلت السهام السّهام، وشارف القوم، ولم يبق للّقاء إلا يوم أو بعض يوم وأشرعت الأسنّة من الجانبين، ورأى كلّ خصمه رأى العين وما نحن ممن لاحت له رغبة راغب فتشاغل عنها، ولا ممن يسالم فيقابل ذلك بجفوة النّفار، والله تعالى يقول: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهََا} (1) كيف والكتاب بعنوانه! وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: «ما أضمر إنسان شيئا إلا ظهر في صفحات وجهه وفلتات لسانه». ولو كان حضور هؤلاء الرسل والسّيوف وادعة في أغمادها، والأسنّة مستكنّة في أعوادها والسّهام غير مفوّقة، والأعنّة غير مطلقة لسمعنا خطابهم، وأعدنا جوابهم.
وأما ما أطلقوا به لسان قلمهم، وأبدوه من غليظ كلمهم في قولهم: فصبرنا على تماديكم في غيّكم، وإخلادكم إلى بغيكم فأيّ صبر ممن أرسل عنانه إلى المكافحة، قبل إرسال رسل المصالحة وجاس خلال الدّيار، قبل ما زعمه من الإعذار والإنذار؟ وإذا فكّروا في هذه الأسباب، ونظروا ما صدر عنهم من خطاب، علموا العذر في تأخير الجواب، وما يتذكّر إلا أولوا الألباب.
وأمّا ما تبجّحوا به مما اعتقدوه من نصرة، وظنّوه من أنّ الله جعل لهم على حزبه الغالب في كلّ كرة الكرّة فلو تأمّلوا ما ظنّوه ربحا لوجدوه هو الخسران المبين، ولو أنعموا النظر في ذلك لما كانوا به مفتخرين ولتحققوا أنّ الذي اتّفق
__________
(1) الأنفال / 6.(7/267)
لهم كان غرما لا غنما، وتدبّروا معنى قوله تعالى: {إِنَّمََا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدََادُوا إِثْماً} (1) ولم يخف عنهم ما نالته السيوف الإسلامية منهم، وقد رأوا عزم من حضر من عساكرنا التي لو كانت مجتمعة عند اللّقاء ما ظهر خبر عنهم فإنا كنّا في مفتتح ملكنا، ومبتدإ أمرنا، حللنا بالشام للنظر في أمور البلاد والعباد فلما تحقّقنا خبركم، وقفونا أثركم بادرنا نقدّ أديم الأرض سيرا، وأسرعنا لندفع عن المسلمين ضررا وضيرا، ونؤدّي من الجهاد السنّة والفرض، ونعمل بقوله تعالى:
{وَسََارِعُوا إِلى ََ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ} (2) فاتفق اللّقاء بمن حضر من عساكرنا المنصورة، وثوقا بقوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} (3) وإلا فأكابركم يعلمون وقائع الجيوش الإسلاميّة التي كم وطئت موطئا يغيظ الكفّار فكتب لها عمل صالح، وسارت في سبيل الله ففتح عليها أبواب المناجح وتعدّدت أيام نصرتها التي لو دقّقتم الفكر فيها لأزالت ما حصل عندكم من لبس، ولما قدرتم أن تنكروها وفي تعب من ينكر ضوء الشمس، وما زال الله نعم المولى ونعم النصير، وإذا راجعتموهم قصّوا عليكم نبأ الاستظهار {وَلََا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (4) وما زالت تتّفق الوقائع بين الملوك والحروب، وتجري المواقف التي هي بتقدير الله فلا فخر فيها للغالب ولا عار على المغلوب وكم من ملك استظهر عليه ثم نصر، وعاوده التأييد فجبر بعد ما كسر خصوصا ملوك هذا الدّين، فإنّ الله تعالى تكفّل لهم بحسن العقبى فقال تعالى: {وَالْعََاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} * (5)
وأما إقامتهم الحجة علينا، ونسبتهم التفريط إلينا في كوننا لم نسيّر إليهم رسولا عند ما حلّوا بدمشق، فنحن عندما وصلنا إلى الديار المصرية لم نزد على أن
__________
(1) آل عمران / 178.
(2) آل عمران / 133.
(3) البقرة / 249.
(4) فاطر / 14.
(5) الأعراف / 128.(7/268)
اعتدّينا وجمعنا جيوشنا من كل مكان، وبذلنا في الاستعداد غاية الجهد والإمكان وأنفقنا جزيل الأموال في العساكر والجحافل، ووثقنا بحسن الخلف لقوله تعالى:
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوََالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنََابِلَ} (1)
ولمّا خرجنا من الديار المصرية، بلغنا خروج الملك من البلاد، لأمر حال بينه وبين المراد فتوقّفنا عن المسير توقّف من أغنى رعبه عن حثّ الركاب، وتثبّتنا تثبّت الراسيات {وَتَرَى الْجِبََالَ تَحْسَبُهََا جََامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحََابِ} (2) وبعثنا طائفة من العساكر لمقاتلة من أقام بالبلاد فما لاح لنا منهم بارق ولا ظهر، وتقدّمت فتخطّفت من حمله على التأخّر الغرر، ووصلت إلى الفرات فما وقفت للقوم على أثر.
وأما قولهم: إننا ألقينا في قلوب العساكر والعوامّ أنهم فيما بعد يتلقّونا على حلب أو الفرات، وأنهم جمعوا العساكر ورحلوا إلى الفرات وإلى حلب مرتقبين فالجواب عن ذلك أنهم من حين بلغنا حركتهم جزمنا، وعلى لقائهم عزمنا وخرجنا وخرج أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ابن عم سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الواجب الطاعة على كلّ مسلم، المفترض المبايعة والمتابعة على كل منازع ومسلّم طائعين لله ولرسوله في أداء مفترض الجهاد، باذلين في القيام بما أمرنا الله تعالى غاية الاجتهاد عالمين بأنه لا يتمّ أمر دين ولا دنيا إلا بمشايعته، ومن والاه فقد حفظه الله تعالى وتولّاه، ومن عانده أو عاند من أقامه فقد أذلّه الله فحين وصلنا إلى البلاد الشامية تقدّمت عساكرنا تملأ السّهل والجبل، وتبلّغ بقوّة الله تعالى في النصر الرّجاء والأمل ووصلت أوائلها إلى أطراف حماة وتلك النواحي فلم يقدم أحد منهم عليها، ولا جسر أن يمدّ حتّى ولا الطّرف إليها فلم نزل مقيمين حتّى بلغنا رجوع الملك إلى البلاد، وإخلافه موعد اللقاء والله لا يخلف الميعاد فعدنا لاستعداد جيوشنا التي لم تزل تندفع في طاعتنا اندفاع السيل،
__________
(1) البقرة / 261.
(2) النمل / 88.(7/269)
عاملين بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبََاطِ الْخَيْلِ} (1).
وأمّا ما جعلوه عذرا في الإقامة بأطراف البلاد وعدم الإقدام عليها، وأنهم لو فعلوا ذلك ودخلوا بجيوشهم ربما أخرب البلاد مرورها، وبإقامتهم فسدت أمورها فقد فهم هذا المقصود، ومتى ألفت العباد والبلاد منهم هذا الإشفاق؟
ومتى اتّصفت جيوشهم بهذه الأخلاق؟ وها آثارهم موجودة على ملك آل سلجوق وما تعرّضوا لدار ولا جار، ولا عفّوا أثرا من الآثار ولا حصل لمسلم منهم ضرر، ولا أوذي في ورد ولا صدر وكان أحدهم يشتري قوته بدرهمه وديناره، ويأبى أن تمتدّ إلى أحد من المسلمين يد إضراره هذه سنّة أهل الإسلام، وفعل من يريد لملكه الدوام.
وأما ما أرعدوا به وأبرقوا، وأرسلوا به عنان قلمهم وأطلقوا وما أبدوا من الاهتمام بجمع عساكرهم وتهيئة المجانيق إلى غير ذلك مما ذكره من التهويل، فالله تعالى يقول: {الَّذِينَ قََالَ لَهُمُ النََّاسُ إِنَّ النََّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزََادَهُمْ إِيمََاناً وَقََالُوا حَسْبُنَا اللََّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (2).
وأما قولهم: وإلا فدماء المسلمين مطلولة، فما كان أغناهم عن هذا الخطاب، وأولاهم بأن لا يصدر إليهم عن ذلك جواب ومن قصد الصّلح والإصلاح، كيف يقول هذا القول الذي عليه فيه من جهة الله تعالى ومن جهة رسوله أيّ جناح؟ وكيف يضمر هذه النية، ويتبجّج بهذه الطويّة؟ ولم يخف مواقع زلل هذا القول وخلله، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «نيّة المرء أبلغ من عمله» وبأيّ طريق تهدر دماء المسلمين التي من تعرّض إليها يكون الله له في الدنيا والآخرة مطالبا وغريما، ومؤاخذا بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزََاؤُهُ جَهَنَّمُ خََالِداً فِيهََا وَغَضِبَ اللََّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذََاباً عَظِيماً} (3)؟ وإذا كان الأمر كذلك
__________
(1) الأنفال / 60.
(2) آل عمران / 173.
(3) النساء / 93.(7/270)
فالبشرى لأهل الإسلام بما نحن عليه من الهمم المصروفة إلى الاستعداد، وجمع العساكر التي تكون لها الملائكة الكرام إن شاء الله تعالى من الأنجاد والاستكثار من الجيوش الإسلامية المتوفّرة العدد، المتكاثرة المدد الموعودة بالنصر الذي يحفّها في الظّعن والإقامة، الواثقة [به] (1) من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على عدوّهم إلى يوم القيامة». المبلّغة في نصر دين الله آمالا، المستعدة لإجابة داعي الله إذا قال: {انْفِرُوا خِفََافاً وَثِقََالًا} (2).
وأما رسلهم فلان وفلان فقد وصلوا إلينا، ووفدوا علينا وأكرمنا وفادتهم، وغزّرنا لأجل مرسلهم من الإقبال مادّتهم، وسمعنا خطابهم، وأعدنا عليهم جوابهم هذا مع كوننا لم يخف علينا انحطاط قدرهم، ولا ضعف أمرهم وأنهم ما دفعوا لأفواه الخطوب، إلا لما ارتكبوه من ذنوب وما كان ينبغي أن يرسل مثل هؤلاء لمثلنا من مثله، ولا ينتدب لمثل هذا الأمر المهمّ إلا من يجمع على فصل خطابه وفضله.
وأما ما التمسوه من الهدايا والتّحف، فلو قدّموا من هداياهم حسنة لعوّضناهم بأحسن منها، ولو أتحفونا بتحفة، لقابلناها بأجلّ عوض عنها. وقد كان عمّهم الملك أحمد راسل والدنا الشهيد، وناجى بالهدايا والتّحف من مكان بعيد وتقرّب إلى قلبه بحسن الخطاب، فأحسن له الجواب وأتى البيوت من أبوابها بحسن الأدب، وتمسّك من الملاطفة بأقوى سبب.
والآن فحيث انتهت الأجوبة إلى حدّها، وأدركت الأنفة من مقابلة ذلك الخطاب غاية قصدها فنقول: إذا جنح الملك للسّلم جنحنا لها، وإذا دخل في الملّة المحمدية ممتثلا ما أمر الله تعالى به مجتنبا ما عنه نهى، وانتظم في سلك الإيمان، وتمسك بموجباته تمسّك المتشرف بدخوله فيه لا المنّان، وتجنّب التشبّه بمن قال
__________
(1) أي بالنصر. والزيادة لاقتضاء الكلام.
(2) التوبة / 41.(7/271)
الله تعالى في حقهم: {قُلْ لََا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلََامَكُمْ بَلِ اللََّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدََاكُمْ لِلْإِيمََانِ} (1). وطابق فعله قوله، ورفض الكفّار الذين لا يحلّ له أن يتّخذهم حوله وأرسل إلينا رسولا من جهته يرتّل آيات الصلح ترتيلا، ويروق خطابه وجوابه حتّى يتلو كلّ أحد عند عوده: {يََا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} (2).
صارت حجّتنا وحجّته مركبة على من خالف ذلك، وكلمتنا وكلمته قامعة أهل الشرك في سائر الممالك ومظافرتنا له تكسب الكافرين هوانا، والشاهد لمصافاتنا مفاد قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدََاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوََاناً} (3). وينتظم إن شاء الله تعالى شمل المصالح أحسن انتظام، ويحصل التمسك من الموادعة والمظافرة بعروة لا انفصال لها ولا انفصام، وتستقرّ قواعد الصّلح على ما يرضي الله تعالى ورسوله عليه أفضل الصلاة والسلام.
الحالة الثانية (ما كان عليه رسم المكاتبة في الدولة الناصرية
«محمد بن قلاوون» إلى أبي سعيد بهادرخان بن خدابندا (4): آخر ملوك بني هولاكو، ملك إيران) قال في «التعريف»: وهو كتاب يكتب في قطع البغداديّ الكامل يبتدأ فيه بعد البسملة وسطر من الخطبة الغراء المكتتبة بالذهب المزمّك (5)، بألقاب سلطاننا على عادة الطغراوات (6) ثم تكمّل الخطبة وتفتتح ببعديّة إلى أن تساق الألقاب،
__________
(1) الحجرات / 17.
(2) الفرقان / 27.
(3) آل عمران / 103
(4) راجع حاشيتنا في الصفحة 250من هذا الجزء.
(5) أي الذهب غير الخالص، المختلط بغيره. والزّمك: إدخال الشيء بعضه في بعض.
(6) مفردها طغراة: وهي عبارة عن وصل كان يوضع في عصر المماليك البحرية في مناشير الإقطاعات بين وصل الطرة والبسملة وترد فيه ألقاب السلطان. (انظر الصبح: 13/ 162).(7/272)
وهي: «الحضرة الشريفة، العالية، السلطانية الأعظميّة، الشاهنشاهيّة، الأوحدية، الأخويّة، القانية، الفلانية» من غير أن يخلط فيها «الملكيّة» لهوانها عليهم وانحطاطها لديهم ثم يدعى له بالأدعية المعظّمة المفخّمة الملوكية: من إعزاز السلطان ونصر الأعوان، وخلود الأيام، ونشر الأعلام، وتأييد الجنود، وتكثير الوفود. وغير ذلك مما يجري هذا المجرى. ثم يقال ما فيه التلويح والتصريح بدوام الوداد، وصفاء الاعتقاد، ووصف الأشواق، وكثرة الأتواق، وما هو من هذه النسبة. ثم يؤتى على المقاصد، ويختم بدعاء جليل، وتستعرض المراسيم (1)
والخدم، ويوصف التطلع إليها، ويظهر التهافت عليها.
وهذا الكتاب تكتب جميع خطبته وطغراه [وعنوانه] (2) بالذهب المزمّك، وكذلك كلّ ما وقع في أثنائه من اسم جليل، وكلّ ذي شأن نبيل: من اسم لله تعالى، أو لنبينا صلّى الله عليه وسلّم، أو لأحد من الأنبياء، أو الملائكة عليهم السلام، أو ذكر دين الإسلام، أو ذكر سلطاننا، أو السلطان المكتوب إليه، أو ما هو متعلّق بهما. مثاله «عندنا وعندكم» و «لنا ولكم» و «كتابنا وكتابكم». كلّ هذا يكتب بالذهب وما سواه يكتب بالسّواد.
فأما العنوان، فهو بهذه الألقاب إلى أن ينتهي إلى اللّقب الخاص، ثم يدعى له بدعوة أو اثنتين، نحو: «أعزّ الله سلطانها، وأعلى شانها» أو نحو ذلك. ثم يسمّى اسم السلطان المكتوب إليه ثم يقال «خان» كما كنا نكتب، فنقول: «بو سعيد بهادرخان» فقط. ويطمغ بالذهب بطمغات (3) عليها ألقاب سلطاننا، تكون على الأوصال، يبدأ بالطّمغة على اليمين في أوّل وصل، ثم على اليسار في ثاني
__________
(1) في التعريف ص: 45 «الحوايج».
(2) الزيادة من التعريف.
(3) الطمغة من الكلمة المغولية «تمغ» ومعناها الخاتم، وقد دخلت التركية بصيغة «تمغة» ومنها أخذت العربية تمغة أو دمغة أو طمغة، وتطبع في رؤوس المحررات الرسمية. (تأصيل الدخيل: 107 وسيرة الملك المنصور: 6حاشية).(7/273)
وصل، ثم على هذا النمط إلى أن ينتهي في الآخر إلى اليمين. ولا يطمّغ على الطرّة البيضاء. والكاتب يخلي لمواضع الطمغة مواضع الكتابة، تارة يمنة، وتارة يسرة.
وأوضح ذلك في «التثقيف» وبيّنه، فقال: والمكاتبة إليه في عرض البغداديّ الكامل، والطرّة ثلاثة أوصال، والبسملة ذهب مزمّك بألفات طوال بالمسطرة بخطّ الذهب ثم الخطبة، وأولها «الحمد لله» والسطر الذي يلي البسملة الشريفة وثانية من أوائل الورق زائدان عن بقيّة السطور التي من أول السطر الثالث إلى آخر الكتاب. وبين هذين السطرين المذكورين، (وهو موضع بيت العلامة الشريفة) طرّة ذهب بالألقاب الشريفة ثم بعد هذين السطرين الملاصقين للطرّة المذكورة بقيّة السطور بهامش جيّد في يمين الورق على العادة. وجميع السطور مكملة إلى آخر الورق، لا يخلى فيها للطّمغة مكان. وبعد الخطبة ما يناسب الابتداء إن كان، أو الجواب إلى أن يتصل الكلام بالألقاب، وهي: «الحضرة، الشريفة، العالية، السلطانية، الأعظميّة، العالمية، العادلية، الأكمليّة، القانيّة، الشاهنشاهية، الولديّة، العزيزية، الملكية، الفلانية». ثم الدعاء. وفي أثناء خطابه «الحضرة الشريفة» تارة، وتارة «الحضرة العالية» والدعاء في أوساطه نحو «زيدت عظمته، ودامت معدلته، وأعلى الله مقامه، وأعزّ الله شانه». والخطبة جميعها بالذهب المزمّك. وبعدها بالأسود خلا ذكر الله تعالى أو رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أو ما أضيف إليهما، أو ما يعظّم ذكره: كالحق والعدل وأمثالهما، أو كلّ لقب أو نعت، أو كلمة مضافة إلى المكتوب عنه أو المكتوب إليه، أو ضمير فيهما، فإنه بالذّهب.
والعنوان بألقابه كاملة، وفي آخرها الدعاء له من غير توقّف.
قال: وكان قد استقر من أمر العلامة الشريفة أن يكتب على جانب يمين السطرين: الثاني والثالث، وهو مما يلي بيت العلامة «المشتاق محمد». ثم قال: ورأيت بخط القاضي المرحوم ناصر الدين بن النّشائيّ أنّ ذلك نظير الكتاب الوارد منه في رجب سنة تسع وعشرين وسبعمائة. ثم قال: وقد ذكر في «التعريف»
ثلاثة أمور زائدة (1) التنبيه عليها.(7/274)
قال: وكان قد استقر من أمر العلامة الشريفة أن يكتب على جانب يمين السطرين: الثاني والثالث، وهو مما يلي بيت العلامة «المشتاق محمد». ثم قال: ورأيت بخط القاضي المرحوم ناصر الدين بن النّشائيّ أنّ ذلك نظير الكتاب الوارد منه في رجب سنة تسع وعشرين وسبعمائة. ثم قال: وقد ذكر في «التعريف»
ثلاثة أمور زائدة (1) التنبيه عليها.
أحدها أنه يذكر تعريفه في العنوان. فيكتب بعد ذكر الاسم «خان».
فيقال: «بو سعيد بهادرخان».
ثانيها أنه تستعمل الطّمغات على الأوصال.
ثالثها أنه لا يكتب في ألقابه «الملكية». وذكر أنه لم يكتب لأحد بهذه المكاتبة بعد السلطان أبي سعيد، خلا ما ذكر القاضي ناصر الدين بن النّشائي أنه كتب نظير ذلك بعد أبي سعيد لطغاي تمرخان. قال: ولو كتب بالمغلية كتب في القطع المذكور. أما الملطفات (2)، ففي قطع الثلث.
وهذه نسخة مكاتبة كتب بها المقرّ الشهابيّ بن فضل الله عن السلطان الملك الناصر «محمد بن قلاوون» إلى السلطان أبي سعيد بهادرخان المقدّم ذكره، وهي:
الحمد لله الذي جعلنا بنعمته إخوانا، وجمعنا على طاعته أصولا لا تتفرّق أغصانا نحمده على ما أولانا ونشكره على ما ولّانا، ونرغب إليه في مزيد ألطافه التي شملت أقصانا وأدنانا ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة كالشمس لا تدع في الأرض مكانا ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي شيّد بنا لشريعته أركانا، وشدّ بعضنا ببعض لنكون كما شبّهنا به بنانا أو بنيانا صلى الله عليه وعلى آله صلاة لا تتوانى، ورضي الله عن أصحابه والتابعين لهم بإحسان وزادهم إحسانا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد: فإن من أعظم المبهجات لدينا، المنهجات لطريق السّرور إلينا،
__________
(1) بياض بالأصل. ولعله «لا بد من التنبيه عليها».
(2) الملطفات هي الرسائل وكانت تكتب عادة إلى الأمراء للترضية والمدح أو التغرير والتأمين تمهيدا لما يزعمه لهم السلطان من عقوبة أو قتل. وكانت الملطفات تكتب بقلم الغبار. (التعريف بمصطلحات الصبح: 327).(7/275)
الملهجات بوصف أكرم وارد علينا، هو الكتاب الشريف، بل السّحاب المطيف، بل البحر الذي يقذف دررا، ويقصّ عن السحاب أثرا، ويرفع سررا (1)، ويطلع قمرا ويطوّل أوضاحا وغررا، ويحدّث عن العجائب خبرا بل ينشر الروض حبرا، ويهبّ الرياح سحرا، ويبرق ذهبه المموّة آصالا وبكرا الصادر عن الحضرة الشريفة العالية السلطانية، الأعظمية، العالميّة، العادلية، الشاهنشاهية، الأخويّة، القانيّة، زادها الله شرفا، وأدام بها تحفا، وصاغ بها لكلّ سمع شنفا، وأيّدها بزائد مزيده حتّى تقول: حسبي وكفى فإنه وصل صحبة المجلس السامي الأمير، الكبير، المقرّب، المجتبى، المرتضى، المختار، شرف الدين، مجد الإسلام، زين الأنام، جمال المقرّبين، مرتضى الملوك والسلاطين، الحاجّ أحمد الأشقر، والشوق إليه شديد، والتطلّع إليه كمثل العيد فقرّبناه إلينا نجيّا، وتلقّينا منه مهديّا وكأنّ السماء ألقت منه حليّا، أو أقلّت كوكبا درّيّا، أو مدّت من المجرّة درجا، وعطفت من مهنّدات البروق خلجا وقدّت من سواد القلوب شطر كلّ سطر فيها، وأغارت مقلة كلّ ريم قام بسواد ناظره يفدّيها وسرّحنا منه الحدق في حدائق، ونفحنا به للحقائب حقائق، واستطلعنا به شموس الافتقاد، واطّلعنا منه على نفوس نفائس الوداد وصادف منّا قلبا صاديا إلى ما يروق من أخباره، وشوقا إلى ما يهبّ من نسيم دياره وتطلّعنا إلى من يرد من رسله الكرام، ويقصّ علينا ما لا يستقصى من مواقع الغمام وعلمنا منه ومما ذكره المقرّب الحاجّ شرف الدين أحمد ما للحضرة الشريفة عليه من نعمة يلتحف بملابسها، ويقتطف من مغارسها وتجري في السّيف رونقا، وتزيّن بالكواكب أفقا، وتجرّ على الكثبان من الشّموس رداء مخلّقا (2). وأحضرنا الحاجّ شرف الدين أحمد بين أيدينا الشريفة، وشملناه بحسن ملاحظتنا التي زادت تشريفه وكان حضوره وركابنا الشريف يهيجان الصيد المحمود، ونحن نلهج بذكره عند انتهاز كل فرصة في الصّيود وما
__________
(1) يقال السّرر والسّرار. سرار الحسب: محضه وأفضله وسرار الوادي: أوسطه وأكرمه.
(2) الرداء المخلّق: المطيّب بالخلوق وهو ضرب من الطيب أعظم أجزائه الزعفران.(7/276)
حصلنا فيه على لذّة ظفر إلا وتمنّينا أن يكون له فيها مشاركة شهود، أو أن يكون حاضرا يرى كيف يسهّل الله لنا بلوغ كلّ مقصود وخرج معنا إلى المصايد، وتفرّج على الصائد ورأى ما حفّ بموكبنا المنصور من ذوات الوبر والجناح، وما سخّر لنا من جياد الخيول من الرّياح فشاهد ما أوتينا من الملك السّليمانيّ في سرعة السير، واختلاف ما جمع لنا من الإنس والوحش والطّير واستغرقت أوقاتنا الشريفة في السؤال عن مزاجه الكريم، وما هو عليه من السّرور المستديم والتأييد الذي انقلب به أولياؤه بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتّبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم وتجدّدت المسرّات، بهذه البشائر المسرّات (1) وأضفنا هذه النعمة إلى ما نحمد الله عليه مما أيّدنا به من النصر والظّفر والتأييد، والنعم التي توالت إلينا ونحن نرجو المزيد ونضاعف الحمد والشكر لله على هذه المواهب التي أطافت بنا بطاقاتها الثمينة، وأنارت في آفاقنا أقمارها المبينة وشملت ملوك الإسلام نعمها من كل جانب، وأشرقت شموسها حتّى ملأت بأنوارها المشارق والمغارب.
وأما ما أتحفت به من البلكات (2) الشريفة فقد وصلت، وتقبّلت وقبّلت وأكرمت لأن مهديها كريم، وأعظمت لأنها تحفة من عظيم وأثنينا عليه بما طاب، وشكر بحرنا الزاخر جود أخيه السّحاب.
وأما الإشارة العالية إلى تقاضي تجهيزة من الملاكمين والسوقات فقد رسمنا بالانتهاء إليه، لأنه لا فرق بيننا وبين أخينا فيما يخصّ مراسمنا جميعا عليه وقد
__________
(1) الصواب: السّارات. وقد أتى بهذه الصيغة على توهم أسرّه بمعنى أمزحه، في حين أن السرور والسّار من «سرّ». (انظر ملاحظة ابن سيده في تفسير المثل: «كل مجر بالخلاء مسرّ» اللسان:
4/ 361).
(2) البلكات جمع «بلك» وفي التركية «بولوك» من المصدر: «بولمك».
والبلكات والبولوكات هي الأقسام والأفواج. قال في تأصيل الدخيل: وبولوكات النظام كانت معروفة في مصر إلى عهد قريب. وأورد عن الجبرتي عبارة: «اجتمعت طائفة الجاويشية مع طائفة المتفرقة والثلاث بلكات الأسباهية». قال: أي فرق الفرسان الثلاث». (انظر تأصيل الدخيل: 44).(7/277)
جهّز من الملاكمين والطين المختوم ما أمكن الآن، ومنه ما كنّا رسمنا باستعماله من البلكات باسمه الشريف وتأخر فلما فرغ جهّز معه، وبعد هذا نجهّز من يتوجّه إلى حضرته العالية ليجدّد عهدا، ويؤدّي إليه ودّا وما يتأخر إلا ريثما تنجلي السّحب المتوالية، ويمكن التوصّل سالما إلى حضرته العالية.
وأما غير هذا: فهو أنّ الحاج أحمد أحضر إلينا ورقة كريمة، بل درّة يتيمة بخط يد الحضرة الشريفة فأعجبنا بها، ووجدناها في غاية الحسن التي لا يعدّ زهر الرياض لها مشبها وما رأينا مثل ما كتب فيها، كأن السماء قد نظّمت في سطورها النجوم الزّهر من دراريها فأكرم بيد كتبت سطورا اعترف بها الرّمح للقلم! واستمدّ السّحاب من طروسها الكرم! وجرت بجامد ذهب وسائل دم، وتنافست على إثباتها صحائفه وأقلامه ودويّه والجوّ والبروق والدّيم وطلعت منها تباشير النّجاح، وتحاسد عليها مسك الليل وكافور الصّباح (1) واتفقت على معنى واحد وقد تنوّعت قسما، وأشرقت فتمنّت السماء أن تكون لها صحيفة والبرق قلما فأرخصت قدر ياقوت (2) في التقليب، وحسّنت بمحاسنها هجران حبيب (3) لقد أوتيت من الخطّ غاية الكمال، وبسطت يد ابن هلال (4) فيه عن فم ابن هلال فأما الوليّ فإنّه من أوليائها، وأنواؤه مما فاض من إنائها طالما حدّق إليه أبو عليّ (5)
فاختطف برقه أباه مقله، وفطن ابن أسد أنه لو أدركه أبوه لنسي شبله فسبحان من صرّف في يمينه القلم بل الأقاليم، ووهبه من أفضل كلّ شيء {ذََلِكَ فَضْلُ اللََّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشََاءُ وَاللََّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} * (6).
__________
(1) مسك الليل: سواده إشارة إلى سواد المسك وكافور الصباح: بياضه البلوري. إشارة إلى المادة الشفافة البلورية التي تتخذ من الكافور ويميل لونها إلى البياض.
(2) إشارة إلى ياقوت المستعصمي الخطاط.
(3) إشارة إلى حبيب بن أوس الطائي، أبي تمام.
(4) إشارة إلى ابن هلال الخطاط.
(5) إشارة إلى أبي علي بن مقلة الخطاط.
(6) الحديد / 21.(7/278)
وقد أعيد المقرّب شرف الدين أحمد، وحمل من المشافهات الشريفة ما تفضّ على أخينا عقوده، وتفاض بروده والحضرة الشريفة لا نقطع أخبارها عنّا التي تسرّ بأنبائه، وتسيّر بنجوم سمائه لا زالت مناقبه مسموعة، والقلوب على ما يجمع كلمة الإيمان مجموعة. إن شاء الله تعالى.
تنبيه أما الملطّفات التي كانت تكتب إلى هذا القان، فقد ذكر في «التثقيف» أنها في قطع الثلث، وكذا ما يكتب به بالمغليّ، فإنه يكون في القطع المذكور أيضا.
الجملة الثانية (في المكاتبات إلى من ملك توريز (1) وبغداد بعد موت أبي سعيد)
قد تقدّم أنه ملك توريز وبغداد بعد السلطان أبي سعيد (موسى خان) ثم محمد بن عبدجي (2)، ثم الشيخ حسن الكبير، ثم ابنه الشيخ أويس، ثم ابنه حسن، ثم أخوه أحمد. ومنه انتزعها تمرلنك. وذكر في «التثقيف» أنّه ملك بعد أبي سعيد أرفاخان، ثم موسى خان، ثم طغاي تمرخان بعد أن ذكر أنه لم يكتب إلى أحد بعد أبي سعيد بالمكاتبة المتقدّمة. ثم قال: ورأيت بخط القاضي ناصر الدّين بن النّشائي أن مكاتبة طغاي تمرخان كانت نظير مكاتبة أبي سعيد. ثم قال:
وهذا يدل على أنه لم يكاتب بذلك بعد أبي سعيد غير طغاي تمرخان المذكور.
قلت: وقد وقفت على مكاتبة عن الملك الناصر «محمد بن قلاوون» إلى
__________
(1) قال القلقشندي في الجزء الرابع من الصبح ص 357: «وهي «تبريز» بكسر المثناة من فوق وسكون الباء الموحدة وكسر الراء المهملة. والجاري على ألسنة العامة «توريز» بالواو بدل الموحدة، وموقعها في الإقليم الخامس من الأقاليم السبعة. وقال ابن سعيد: وهي قاعدة اذربيجان في عصرنا وهي أشهر بلدة بها». وقد فتحها نعيم بن مقرن المزني في خلافة عمر بن الخطاب. توفي فيها ناصر الدين البيضاوي صاحب التفسير سنة 685هـ وإليها ينسب أبو زكريا التبريزي إمام اللغة والأدب المتوفى سنة 502هـ. (سيرة الملك المنصور: 62حاشية).
(2) كذا في الأصل هنا. وتقدم في الجزء الرابع ص: 424من الصبح: «غبرجى».(7/279)
موسى خان المقدّم ذكره من إنشاء المقرّ الشهابيّ بن فضل الله، فيما ذكره صاحب «الدّرّ الملتقط» (1) جوابا عن كتاب ورد منه يذكر فيه النّصرة على عدوّ له والقائم بتدبير دولته يومئذ علي باشا. بدأ فيها بعد الافتتاح بآية من القرآن الكريم في معنى النصر بقوله:
«إلى الحضرة الشريفة» إلى آخر الألقاب المناسبة «من أخيه ومحبه» ثم خطبة بعد ذلك مفتتحة ب «الحمد لله». ثم «وبعد، فقد ورد الكتاب الشريف». والخطاب ب «الحضرة الشريفة». والاختتام بالدعاء. ولا خفاء في أن هذه نحو المكاتبة إلى أبي سعيد، لكني لم أقف على مقدار قطع الورق فيها، ولا صورة الكتاب. وهذه نسختها:
{وَقََالُوا الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنََا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} (2).
{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللََّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشََاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (3).
إلى الحضرة الشريفة العالية، السلطانيّة، الأعظميّة، العالميّة، العادليّة، الأوحديّة، الشاهنشاهيّة، القانيّة، الأخوية، الأخ العزيز، الكبير، المعظّم، موسى خان، أعزّ الله سلطانه، وثبّت بسعادة ملكه أوطانه. من أخيه ومحبّه، المخلص في حبّه، الصادق المودّة له في بعده وقربه.
الحمد لله الذي أيّد الإسلام بنصره، وضيّق على أعدائه مجال حصره، وجدّد بتأييده في زمانه ما تتحلّى به أعطاف عصره. نحمده عن الدّين الحنيف على نصرة أضاء لها الوجود بأسره، وأوقعت كلّ خارجيّ على الدّين والملك في قبضة أسره ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة يخلص قائلها غاية اجتهاده،
__________
(1) «الدرّ الملتقط في تبيين الغلط» للإمام حسن بن محمد الصاغاني (ويقال الصغاني، بفتحتين) المتوفى سنة 650هـ ذكر فيه ما في كتابي الشهاب والنجم من الموضوع. (كشف الظنون: 733 والأعلام: 2/ 214).
(2) فاطر / 34.
(3) الروم / 5.(7/280)
ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي جاهد في الله حقّ جهاده، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تستقلّ ببشائرها أعباء عباده وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فقد ورد الكتاب الشريف من الحضرة الشريفة العالية، السلطانيّة، القانيّة، أخينا وولدنا العزيز، المؤيّد بالنصر على الأعداء والفتح الوجيز لا زالت دولته الشريفة دائمة الإقبال، متزيّدة تزيّد الهلال، على يد المجلسين الساميين، الأميرين، الكبيرين، عضدي الملوك والسلاطين: «دلنجي، وكراي» أدام الله تعالى عزّتهما بالبشائر بنصرة الإسلام، وتأييد أخينا على عدوّه الخارجيّ على الدّين والملك. وحمدنا الله تعالى على هذه النّصرة، وتضاعفت بها المسرّة ونحن كنّا خارجين بجميع العساكر والجيوش المنصورة الإسلاميّة، لنتساعد كلّنا على نصرة الإسلام. وما تأخّرنا إلا لمّا جاءت إلينا ممارى (1) الأخبار وما كنا تحقّقناها ثم تحقّقنا بحمد الله تعالى هذه الأخبار وضربنا لها البشائر في سائر الأقطار، وعرفنا بها عناية الله تعالى بأخذ المسلمين بنواصي الكفّار وقيام الجناب الكريم العالي الأمير الكبير النّوين (2) العادل المعظّم علي باشا، أعزّ الله تعالى نصرته في إعادة الحقّ إلى أهله، وصبره على ما سبق به كلّ أحد إلى جميل فعله، واجتهاده في هذا الأمر الاجتهاد الذي ما كان يطلب إلا من مثله وكذلك الجنابات العالية الأمراء النّوينات الأكابر، زيدت سعادتهم! فإنّهم سارعوا إلى ما كان يجب ويتعين عليهم في خدمة سلطانه، ومن هو أحقّ بهم وأولى من عظيم عظم قانهم وما من الأمير النّوين العادل علي باشا وبقية الأمراء الأكابر إلا من قام بما كان عليه من العهود، وبذل اجتهاده حتّى حصل بحمد الله المقصود وما قصّروا في قيامهم حتّى تسلم المستحقّ حقّه وميراثه وما هو أحقّ به وأولى. وهم جزاهم الله الخير
__________
(1) كذا بالأصل.
(2) قال القلقشندي إن هذا اللفظ فارسي ويقرن باسماء قواد التتر ومن ألقاب كفال الممالك القانية كتائب السلطنة وأمراء الألوس ونحوهم، وهو أمير عشرة آلاف، وهو أيضا بمثابة الكافلي في ألقاب النواب.
(انظر الصبح: 4/ 423و 6/ 33).(7/281)
قد عملوا ما يجب عليهم، وبقي ما يجب على الحضرة الشريفة من الإحسان إليهم.
وأما قول الحضرة الشريفة: إنه مثل ولدنا فهو هكذا مثل الولد وأعزّ من الولد، وكلّ أحد منّا لأخيه في الاتّفاق على المصالح الإسلامية عضد ويد، وذخر وسند وقد سبق من تآلف القلوب ما اشتدّت به الآن أواخيه، وأضحى له منّا شفقة الوالد على الولد وتوقير الأخ لأخيه وقد أعدنا رسله الكرام وحمّلناهم مشافهة ووصية للحضرة الشريفة في أمور تقتضيها مصلحته، فإنه عندنا أعزّ من الولد. وما القصد إلّا الاتفاق على مصالح الإسلام، وما فيه نظام كلمة الوفاق [والوثام]، فيديم المواصلة بكتبه وأخباره السارّة، والله تعالى يديم مسارّه ويضاعف مبارّه إن شاء الله تعالى.
ولم أقف لهذه المكاتبة على قطع ورق، والظاهر أنها في قطع النصف لما سيأتي أنه الذي عليه الحال في مكاتبة صاحب بغداد وتوريز، فيما بعد إن شاء الله تعالى.
واعلم أن صاحب «التثقيف» قد ذكر أن المكاتبة إلى الشيخ أويس (1):
صاحب بغداد وتوريز، وابنه حسن بعده في ورق قطع النصف. ورسمها: «أعزّ الله تعالى أنصار المقام الشريف العالي، الكبيريّ، السلطانيّ، العالميّ، العادليّ، المجاهديّ، المؤيديّ، المرابطيّ، المنصوريّ، الملكيّ، الفلانيّ» بلقب السلطنة «الفلانيّ» بلقبه الخاص. والدعاء بما يناسبه «أصدرناها إلى المقام الشريف تهدي وتبدي» و «القصد من المقام الشريف». ويختم بدعاء يناسب، مثل: «أعز الله أنصاره» ونحو ذلك. ومخاطبته ب «المقام الشريف». والعنوان «المقام الشريف» إلى آخر الألقاب المذكورة. والدعاء «أعز الله تعالى أنصاره». وتعريفه «فلان بهادرخان» مثل أن يقال: «الشيخ حسن
__________
(1) وهو مؤسس الدولة الجلايرية في العراق وأذربيجان.(7/282)
بهادرخان». والعلامة إليه «أخوه». قال في «التثقيف»: وكان الشيخ أويس المذكور عند استقراره بتوريز وبغداد يكتب له «المقام العالي»، ثم كتب له بعد ذلك «المقام الشريف».
وهذه نسخة مكاتبة كتب بها إلى الشيخ أويس المقدّم ذكره، جوابا عن كتاب ورد منه، من إنشاء القاضي تقيّ الدين ابن ناظر الجيش (1)، حين كان يكتب إليه «المقام العالي» لابتداء أمره، على ما تقدّم، وهي:
أعزّ الله تعالى أنصار المقام العالي، إلى آخر ألقابه، ولا زال الملك زاهرا زاهيا بشرف سلطانه، والفلك يجري بإعزاز قدره، وإحراز نصره، مدى زمانه والفتك منه بالأعداء يسرّ الأولياء من أهل مودّته وإخوانه، وسلك جواهر عقد ولائه منظّما من الإخلاص بجمانه ولا برح مؤيّدا بأنصار الإسلام وأعوانه، مجدّدا سعده الذي يبلّغه جميل أوطاره في جميع أوطانه.
أصدرناها إلى المقام العالي تصف ما لدينا من المحبّة التي ظهر دليلها بواضح برهانه، وتبثّ إلينا مكنون المودّة التي تغنى عن صريح القول وتبيانه وتبدي لعلمه الكريم أن كتابه الكريم ورد على يد فلان رسوله فأقبلنا عليه، وصرفنا وجه الكرامة إليه وعلمنا ما تضمّنه من محبّته وموالاته، ومخالصته ومصافاته وما اشتمل عليه ضميره من صحيح الوداد، وصريح الاتّحاد وجميل الاعتقاد، وجزيل المخالصة التي يتم بها الأمل والمراد. وأن المقام العالي جهز رسوله المشار إليه ليوضّح إلينا ما هو عليه من ذلك، وينهي إلينا أسباب الائتلاف التي عمرت أرجاء الجهتين هنا وهنالك ويبدي ما تحمّله عنه من المشافهات، وتفهّمه من الرسائل والإشارات وقد أحطنا علما بذلك ووصل رسوله المذكور، وتمثّل
__________
(1) هو عبد الرحمن بن محمد بن يوسف الحلبي الأصل، ابن ناظر الجيش، تقي الدين: باشر كتابة الدست في حياة أبيه وولي نظر الجيش استقلالا بعد أبيه وتوفي سنة 786هـ (معجم المؤلفين:
5/ 193).(7/283)
بمواقف سلطاننا المنصور وشمله إقبالنا الشريف، وإنعامنا المطيف وسمعنا جميع كلامه، وما تحمّله من المشافهة الكريمة من عالي مقامه وشكرنا محبّة المقام العالي وودّه الجميل، وأثنينا على موالاته التي لا نميد عنها ولا نميل، وابتهجنا بسلامة مقامه الجليل. وقد أعدنا فلانا رسوله المذكور بهذا الجواب الشريف، إلى المقام العالي أعزّ الله أنصاره، فيتحف بمكاتباته ومهمّاته، والله تعالى يمدّه بالتأييد في حركاته وسكناته، ويعزّ نصره ويزيد في حياته.
أما المنفرد بتوريز خاصّة، فقد ذكر في «التثقيف» أنّ المكاتبة إلى الأشرف (ابن علاء الدين تمرتاش) الذي كان قد وثب على تبريز خاصّة فملكها، في قطع الثلث بقلم التوقيعات «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي الأميريّ الكبيريّ» وبقية الألقاب والنّعوت، ومنها النّوينيّ. ثم الدعاء. «صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي وتوضّح» والعلامة «أخوه». وتعريفه «الأشرف بن تمرتاش».
ثم ذكر أنّ أخي حق الذي وثب عليه وقتله واستولى على تبريز بعده استقرّت مكاتبته كذلك، وأنه كان يكتب في تعريفه «أخي» لا غير. ثم قال: وقد ماتا وبطل ذلك.
(أبو بكر بن خواجا على شاه) وزير صاحب تبريز «الاسم» و «السامي» وتعريفه أبو بكر ابن الخواجا المرحوم علي شاه. قال في «التثقيف»: ولم أعلم وزّر في زمن من من المتولّين.
(عمر بك) أحد أمراء الأشرف بن تمرتاش صاحب تبريز في قطع الثلث، الدعاء (1) و «العالي» والعلامة «أخوه» وتعريفه «عمر بك». قال في «التثقيف»: وهذا ممن بطل حكمه بزوال مخدومه.
__________
(1) يرى محقق الطبعة الأميرية أن هنالك سقطا من قلم الناسخ، قياسا على ما قبله. والسقط نحو:
«والمكاتبة ضاعف الله الخ ثم الدعاء والعالي الخ».(7/284)
الجملة الثالثة (في رسم المكاتبة إلى من انطوت عليه مملكة إيران
، ممن جرت عادته بالمكاتبة عن الأبواب السلطانية، في أيام السلطان أبي سعيد فمن بعده، وهم ثمانية أصناف)
الصنف الأوّل (كفّال المملكة بحضرة القان، وهم على ضربين)
الضرب الأوّل (كفّال المملكة بالحضرة في زمن القانات العظام كأبي سعيد ومن قبله من ملوكهم حين كانت المملكة على أتم الأبّهة وأعلى الترتيب)
قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك في المقالة الثالثة أنّ القائم بتدبير العسكر لهذه الدولة حين كانت قائمة على نمط القانيّة المتقدّم إلى آخر زمن أبي سعيد أربعة أمراء، يعبّر عنهم بأمراء الألوس (1)، ويعبّر عن أكبرهم ببكلاري بك بمعنى أمير الأمراء (2). وربما أطلق عليه أمير الألوس أيضا. والقائم بتدبير الأمور العامّة هو الوزير.
فأما الأمراء المذكورون، فقد كان كلّ من الأمراء الأربعة والوزير يكاتب عن الأبواب الشريفة السلطانية. وقد ذكر في «التعريف» أن المكاتبة إلى بكلاري بك في قطع النصف: «أعزّ الله تعالى نصر المقرّ الكريم». وإلى الثلاثة الذين دونه في قطع الثلث: «أدام الله تعالى نصر الجناب الكريم». وأنّه يقال لكلّ من الأربعة «النّوينيّ». ثم قال: ومثل هذا مكاتبة أرتنا (3) بالرّوم، وأمير
__________
(1) أي أمراء الألوف. وأمير الأمراء لقب أطلق على من يستأثر بالسلطان ويستبد بالدولة في مقر الخلافة.
وكان ابن رائق أول من لقب بهذا اللقب سنة 324واستمر هذا اللقب مستعملا في بني بويه بعد استيلائهم على الحكم. (الألقاب الإسلامية: 626).
(2) أي أمراء الألوف. وأمير الأمراء لقب أطلق على من يستأثر بالسلطان ويستبد بالدولة في مقر الخلافة.
وكان ابن رائق أول من لقب بهذا اللقب سنة 324واستمر هذا اللقب مستعملا في بني بويه بعد استيلائهم على الحكم. (الألقاب الإسلامية: 626).
(3) جاء في دائرة المعارف الإسلامية: 2/ 536: «أرتنا: دولة مغولية في شرقي آسيا الصغرى، استطاع مؤسسها الملقب بلقب التشريف علاء الدين أن يستقل بالحكم عام 736هـ بعد وفاة أبي سعيد.
الإيلخاني، وحكم في اقسرأي وقيسارية وسيواس وأماسية حتى عام 753هـ ويظهر أن ابنه غياث الدين محمدا وحفيده علاء الدين حكما بعده حتى عام 782هـ / 1380م.(7/285)
التّومان (1) بديار بكر: من سوناي وبنيه وكذلك سائر الأمراء النّوينات: وهم أمراء التّوامين (2).
والذي ذكره في «التثقيف» أن المكاتبة إلى الشيخ حسن الكبير أمير الألوس كانت على ما استقرّ عليه الحال إلى حين وفاته ببغداد في قطع الثّلث بقلم التوقيعات: «أعزّ الله تعالى أنصار الجناب الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، الزّعيميّ، العونيّ، الغياثيّ، المثاغريّ، المرابطيّ، الممهّديّ، المشيّديّ، الظّهيريّ، النّوينيّ، الفلانيّ: عون الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، ناصر الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين ممهّد الدّول، عماد الملة، عون الأمة كافي الدولة القانيّة، كافل المملكة الشّرقية آمر التّوامين، أمير الألوس، ظهير الملوك والسلاطين، عضد أمير المؤمنين». والدعاء أربع قرائن أو أكثر: «أصدرناها إلى الجناب الكريم» و «تبدي» و «القصد من الجناب الكريم». والعلامة «أخوه». وتعريفه «الشّيخ حسن ألوس بك».
قال في «التثقيف»: ولما توفي الشيخ حسن المذكور إلى رحمة الله تعالى لم يقم غيره مكانه فيما أظن، ولا كوتب أحد بعده بهذه المكاتبة. قال: والنّوينيّ في ألقاب هؤلاء بدل «الكافليّ» في ألقاب النّوّاب، يعني بالمملكة المصريّة والشاميّة. ثم قال: وهو نعت يستعمل دائما لأهل تلك البلاد، ولا يستعمل الكافليّ أصلا. وهذا عجيب منه! فقد أثبت هو «الكافليّ» في الألقاب التي أوردها في المكاتبة إلى الشيخ حسن الكبير.
وأما الوزير بهذه المملكة فقد ذكر في «التعريف» أن رسم المكاتبة إليه
__________
(1) التومان: الجمع توامين، وهي فرقة من الجند يبلغ عددها عشرة آلاف مقاتل، وكانت تطلق على جيش بلاد الفرس. (التعريف بمصطلحات الصبح: 79)
(2) التومان: الجمع توامين، وهي فرقة من الجند يبلغ عددها عشرة آلاف مقاتل، وكانت تطلق على جيش بلاد الفرس. (التعريف بمصطلحات الصبح: 79)(7/286)
في قطع الثلث «ضاعف الله تعالى نعمة المجلس العالي الأميريّ الوزيريّ» على عادة المكاتبات إلى الوزراء بألقاب الوزارة. قال: فإن لم تكن له إمرة، فيقال له «الوزيريّ» ولا يقال له «الصاحبيّ» لهوانها لديهم. ولم يتعرّض في «التثقيف» إلى المكاتبة إلى وزير هذه المملكة، ولا إلى الأمراء الثلاثة الباقين من أمراء الألوس، بل عدل عن ذلك إلى المكاتبة إلى الوزير ببلاد أزبك (1).
وسيأتي ذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى.
قلت: وقد محيت رسوم تلك المملكة، وعفت آثارها بزوال ترتيب المملكة بموت السلطان أبي سعيد: آخر ملوك بني جنكزخان بهذه المملكة. وإنما ذكرنا ذلك حفظا لما كان الأمر عليه: لاحتمال طروّ مثل ذلك فيما بعد، فينسج ما يأتي على منوال ما مضى، ويجري في المستقبل على منهاج الماضي فالأمور ترتفع ثم تنخفض، وربما انخفضت ثم ارتفعت. والله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الْأَيََّامُ نُدََاوِلُهََا بَيْنَ النََّاسِ} (2).
الضرب الثاني (كفّال المملكة بالحضرة بعد موت أبي سعيد)
قد ذكر في «التثقيف» منهم جماعة: منهم محمد الكازرونيّ وزكريّا وزيرا الشيخ أويس. وقد ذكر أنّ رسم المكاتبة إلى كلّ منهما في قطع العادة «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس الشاميّ، الأجلّيّ، الكبيريّ، الأوحديّ، المقدّميّ، المنتخبيّ، الفلانيّ مجد الإسلام، بهاء الأنام شرف الرؤساء، أوحد الأعيان صفوة الملوك والسلاطين». ثم الدعاء. والعلامة «الاسم الشريف» وتعريفه «فلان وزير الشيخ أويس بهادرخان».
__________
(1) وهي مملكة توران أو مملكة الخاقانية، وكان صاحبها أزبك خان في الأيام الناصرية (محمد بن قلاوون) على ما سيأتي في الصفحة 316من هذا الجزء.
(2) آل عمران / 14(7/287)
ومنهم: الطّواشي مرجان، نائب القان أويس ببغداد، ولقبه أمين الدين بالس. ورسم المكاتبة إليه «والده» و «الساميّ» بالياء. وتعريفه «خواجا مرجان».
ومنهم: محمد فلتان، نائب الشيخ أويس أيضا. وذكر أنّ رسم المكاتبة إليه مثل المكاتبة إلى مرجان. والعلامة «الاسم الشريف». وتعريفه: «فلتان نائب الشيخ أويس».
قلت: فإن اتفق أن أقيم لصاحب بغداد: كأحمد بن أويس ومن في معناه مثل هؤلاء، كانت المكاتبة إلى كلّ منهم نظير مثله من المذكورين بحسب ما يقتضيه الحال.
الصنف الثاني (ممّن جرت العادة بمكاتبته بمملكة إيران عن الأبواب السلطانية، صغار الملوك المنفردين ببعض البلدان، والحكّام بها ممن هو بمملكة إيران)
قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أنّ مملكة إيران تشتمل على عدّة من الأقاليم داخلة في حدودها، منتظمة في سلكها. وقد ذكر في «التعريف» جملة من المكاتبات عن الأبواب السّلطانية إلى بعض هؤلاء الملوك. وخالفة في «التثقيف» في بعض المواضع وزاد عليه عدّة مكاتبات. وها أنا أذكر ما ذكراه من ذلك، وأزيد ما اتّفق زيادته مميّزا لكلّ إقليم من أقاليم هذه المملكة بمن فيه من الملوك والحكّام ومن جرى مجراهم.
فممّن جرت العادة بمكاتبته من الملوك والحكّام بالجزيرة الفراتيّة، مما بين دجلة والفرات من ديار بكر وربيعة ومضر وغيرها على ما تقدّم ذكره في المسالك والممالك في المقالة الثالثة.
صاحب ماردين وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها مدينة ذات قلعة
حصينة بديار بكر من هذه الجزيرة، وأنها بيد بقايا بني أرتق (1) المستقلّين بملكها من قديم الزمان وإلى الآن.(7/288)
صاحب ماردين وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها مدينة ذات قلعة
حصينة بديار بكر من هذه الجزيرة، وأنها بيد بقايا بني أرتق (1) المستقلّين بملكها من قديم الزمان وإلى الآن.
ورسم المكاتبة إليه فيما ذكره في «التعريف»: «أعزّ الله تعالى نصرة المقرّ الكريم العالي، الكبيريّ الملكي الفلانيّ الفلاني» يعني باللّقب الملوكي، واللّقب المضاف إلى الدين مثل «الصّالحي الشّمسي» وما أشبه ذلك. ثم الدعاء. قال في «التثقيف»: ثم يقال: «أصدرناها إلى المقرّ الكريم»، «وتبدي لعلمه الكريم». «فيتقدّم أمره الكريم». ويختم بما صورته «فيحيط علمه الكريم بذلك». والدعاء. والعلامة «أخوه». وتعريفه «صاحب ماردين». وورقه قطع العادة. ثم قال: ويتعيّن أن تكون ألقابه إلى آخر اللقب الملوكيّ سطرين سواء، وأن يكون لقبه العاديّ كالفخريّ مثلا أوّل السطر الثالث.
وقد ذكر في «التعريف» ثلاثة صدور لمكاتبة تتعلّق بصاحبها في زمانه، وهو «الصالح شمس الدّين صالح».
أحدها ولا زال ملكا تاجه المدائح، ومنهاجه المنائح، وطريقته إذا وصفت قيل: هذه طريقه الملك الصالح. أصدرناها إليه وشكرها تسوقه إليه حداة الركائب، وتشوق منه إلى لقاء الحبائب وتثني على مكارمه التي كلّما أقلعت منها سحائب أعقبت بسحائب وتوضّح للعلم الكريم.
الثاني ولا زالت شمسه في قبّة فلكها، وسماء ممالكه مملوءة حرسا شديدا وشهبا بملكها ونعمه تتعب البحار إذا وقفت في طريقها، والغمائم إذا جازت في مسلكها. أصدرناها إليه والسلام متنوّع على كرمه، متضوّع بأطيب من أنفاس
__________
(1) قال محقق الطبعة الأميرية هو بهذا الضبط كما في ص 86ج 1من تاريخ ابن خلكان» وفي دائرة المعارف الإسلامية: 2/ 526: «يقال: أرتق، بفتح الألف ولا يقال أرتق بضمها» وبنو أرتق أسرة تركية حكمت ديار بكر كلها أو جزءا منها إما مستقلة بأمر نفسها وإما تحت حماية المغول، وذلك من نهاية القرن الخامس إلى بداية القرن التاسع الهجري.(7/289)
المسك في نعمه، متسرّع إليه تسرّع مواهبه إلى وفود حرمه. وتوضّح للعلم الكريم.
الثالث ولا زالت العفاة تلتحف بنعمائه، وتنتجع مساقط أنوائه، وتستضيء منه بأشرق شمس طلعت من الملك في سمائه أصدرناها وثناؤها يسابق عجلا، ومدائحها تجيد متروّيا ومرتجلا وشكرها لو رصّع مع الجواهر لأقام عذر الياقوت إذا اكتسى خدّه الحمرة خجلا، وتوضّح للعلم الكريم.
قلت: وعلى نمط هذه الصدور يجري الكاتب فيما يكتبه إلى صاحبها مناسبا لحاله ولقبه بحسب ما يقتضيه الحال من المناسبات.
وهذه نسخة كتاب، كتب به إلى الملك «الصالح شرف الدّين محمود بن (1)
الصالح صالح»، جوابا عمّا ورد به كتابه: من وفاة والده المنصور أحمد. نقلتها من مجموع بخطّ القاضي تقيّ الدين ابن ناظر الجيش وهو:
أعزّ الله تعالى نصرة المقرّ الكريم، إلى آخر ألقابه ولا زال الملك باقيا في بيته الكريم، والفلك جاريا بإظهار شرفه العميم وأعظم له الأجر في أكرم ملك انتقل إلى جنّات النعيم، وهنّأه بما أورثه من ذلك المحلّ الأسنى الذي هو الأولى فيه بالتقديم وضاعف لسلطانه الصالح علوّ جدّه، بما منحه من ملكه الموروث عن المنصور أبيه والصالح جدّه، وبما خصّه من إقبالنا الشريف وإحساننا المستديم. أصدرناها معربة عن الودّ الثابت الصّميم مهنّئة له بقيامه بأمور مملكته التي تجمّلت بمحمود صفاته ومن سلف من أسلافه في الحديث والقديم، مبدية لعلمه الكريم أنّ مكاتبته الكريمه، ومخاطبته التي فضحت من الدّرّ نظيمه، وردت على أبوابنا الشريفة على يد فلان فأقبلنا عليها، وألفتنا وجه الكرامة إليها، وعلمنا ما تضمّنته من استمساك المقرّ الكريم بأسباب الوداد، وإقتفائه في ذلك سبيل الآباء والأجداد وما شرحه في معنى ما قدّره الله تعالى من وفاة والده طاب ثراه، مستمرّا
__________
(1) الظاهر أنه نسبه إلى جده ويفهم من نسخة الجواب على ما سيأتي أنه: محمود بن أحمد بن صالح.(7/290)
على الإخلاص في الطاعة الذي لم يكن شانه شين ولا اعتراه وأنه مضى إن شاء الله تعالى إلى الجنة وقد خلّف من خلّفه، وارتضى بما نال من الرّضا عما قدّمه من العمل الصالح وأسلفه وما أبداه: من أنه إن اقتضت مراسمنا الشريفة وآراؤنا العالية أن يقوم مقامه، ويرعى في حقوقه ومصالح تلك المملكة ذمامه فنرسم بإجرائه على السّنّة المعتاده، من إحسان بيتنا الشريف الذي بدأ به وأعاده وإلا فتبرز الأوامر الشريفة بمن يسدّ اختلالها، ويسدّد أحوالها، ويشيّد مبانيها ويصلح أعمالها ليقصد المقام الشريف بأبوابنا الشريفة سالكا سبيل الطاعة المبين، منتظما في سلك أوليائنا المقرّبين إلى غير ذلك مما حمّله لأستاد داره من مشافهته، وجميل مقاصده ووافر محبّته وطاعته وقد أحطنا علما بذلك وسمعنا المشافهة المذكورة، وشكرنا محبّته المأثورة، وإخلاصه في الخدمة الشريفة، وجميل الموالاة التي تمنحه تكريمه وتشريفه، واستمساكه بسنّة آبائه الكرام، واجتهاده في المناصحة والطاعة التي لا تسامى من مثله ولا تسام ونحن نعرّف المقرّ الكريم أنّ محلّه ومحلّ بيته الكريم لم يزل لدينا رفيعا مقداره، عاليا مناره وأن مكانته من خواطرنا الشريفة متمكّنة، ومنزلته قد صحّت أحاديثها المعنعنة وهو الأحقّ بمحلّ ملكه، والأولى بأن يكون من نظام عقود ملوكه واسطة سلكه وقد اقتضت آراؤنا العالية أن يقوم مقام والده المرحوم، ويحلّ محلّ هذه السلطنة ليعلو قدره بإقبالنا الشريف على زهر النّجوم، وليجلس بمكانه، وليبسط المعدلة لتكون حلية زمانه، وليستنصر على أعدائنا وأعدائه بأنصار الملك وأعوانه، وليستقرّ على ما هو عليه من المحافظة على الوداد، وليستمسك بعرى الإخلاص المبرّإ من شوائب الانتقاد، وليقتف في ذلك سبيل سلفه الكريم، وليواصل بمكاتباته وأخباره على سننهم القويم وقد أعدنا إستاد داره بهذا الجواب الشريف إليه.
واعلم أنه قد ذكر في «التثقيف» أنّ ممن يكتب إليه عن الأبواب السلطانية من أتباع صاحب ماردين نائبه، وذكر أنه كان اسمه في زمنه «بهادر». وأن رسم المكاتبة إليه الاسم والسامي بغير ياء وكذلك نائب الصالحيّة من عمل ماردين
وأنّ رسم المكاتبة إليه الاسم و «مجلس الأمير». فليجر الكاتب على سنن ذلك إن احتيج إلى مكاتبتهما.(7/291)
واعلم أنه قد ذكر في «التثقيف» أنّ ممن يكتب إليه عن الأبواب السلطانية من أتباع صاحب ماردين نائبه، وذكر أنه كان اسمه في زمنه «بهادر». وأن رسم المكاتبة إليه الاسم والسامي بغير ياء وكذلك نائب الصالحيّة من عمل ماردين
وأنّ رسم المكاتبة إليه الاسم و «مجلس الأمير». فليجر الكاتب على سنن ذلك إن احتيج إلى مكاتبتهما.
صاحب حصن كيفا وهي مدينة من ديار بكر من بلاد الجزيرة، بين دجلة والفرات. وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك نقلا عن «التعريف» أن صاحبها من بقايا الملوك الأيّوبيّة، وممن تنظر إليه ملوك مصر بعين الإجلال:
لمكان ولائهم القديم لهم، واستمرار الوداد الآن بينهم.
ورسم المكاتبة إليه فيما ذكره في «التعريف»: «أدام الله نعمة المجلس العالي، الملكي، الفلاني» باللّقب الملوكي «العالميّ، العادليّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، المرابطيّ، المثاغريّ، الأوحديّ، الأصيليّ، الفلاني» باللقب المتعارف «عزّ الإسلام والمسلمين، بقيّة الملوك والسلاطين، نصرة الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين، شرف الدّول، ذخر الممالك، خليل أمير المؤمنين». وربّما قيل: «عضد أمير المؤمنين» إذا صغّر.
وذكر في «التثقيف» ما يخالف في بعض ذلك، فقال: إنّ مكاتبته: «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، الكبيريّ، العالميّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، المرابطيّ، المثاغريّ، الأوحديّ، الفلانيّ» باللّقب الملوكي واللّقب المتعارف.
«عزّ الإسلام والمسلمين، زعيم جيوش الموحّدين. ذخر الملة، سليل الملوك والسلاطين، عضد أمير المؤمنين». ثم الدعاء. «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي. «والعلامة» أخوه. وتعريفه «صاحب حصن كيفا». قال:
والكتابة إليه في قطع العادة.
قد ذكر في «التعريف» صدورا لمكاتبته.
صدر: واستعاد به من الدّهر من عهود سلفه ما تسلّف وحاز له من مواريث الملك أكثر مما خلّى له أوّله وما خلّف، وحطّ للرحال في حصن كيفا به على ملك:
أما المستجير به فيتحصّن وأما فضله فلا يكيّف وأعان السحاب الذي كلّ عن مجاراته ويجري هو ولا يتكلف. أصدرت هذه المكاتبة إليه ونوءها يصوب،
ولألاؤها تشقّ به الظلماء الجيوب، وثناؤها على حسن بلائه في طاعة ربّه يقول له:(7/292)
أما المستجير به فيتحصّن وأما فضله فلا يكيّف وأعان السحاب الذي كلّ عن مجاراته ويجري هو ولا يتكلف. أصدرت هذه المكاتبة إليه ونوءها يصوب،
ولألاؤها تشقّ به الظلماء الجيوب، وثناؤها على حسن بلائه في طاعة ربّه يقول له:
صبرا صبرا كما تعوّدتم يا آل أيّوب.
صدر آخر: وشدّ به بقيّة البيت، وحيّا طلله البالي وأحيا رسمه الميت وذكر به من زمان سلفه القديم ما لا يعرف فيه هيت، وأبقى منه ملكا من بني أيّوب لا يثني وعده اللّيّ ولا يقال فيه ليت ونوّر الملك بغرّته لا بما قرع السمع عن الشّمع وورد المصابيح من الزّيت، وحفظ منه جوادا لو عينه (1) أخوه السّحاب على السّبق، لقال له: هيهات كم خلّفت مثلك خلفي وخلّيت. أصدرت هذه المكاتبة إليه، أعزّ الله جانبه والتحيّات موشّحة بنطقها (2)، مصبّحة لسجاياه الكريمة بخلقها، ساحبة إليه ذيل خيلائها: لأنها إذا اختالت به تختال، وبسببه على السّرور تحتال.
ملوك كيلان (3) قال في «التعريف: وهم جماعة كلّ منهم مستقلّ بنفسه، منفرد بملكه، على ضيق بلادهم وقرب مجاورة بعضهم من بعض. وقد تقدّم الكلام على بلادهم في المسالك والممالك. قال في «التعريف»: ورسلهم قليلة، وكتبهم أقلّ من القليل.
ورسم المكاتبة إلى كلّ منهم على ما ذكره في «التعريف» نحو ما يكتب إلى صاحب حصن كيفا. يعني يكتب لكلّ منهم: «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي الملكي الفلاني» إلى آخر ما تقدّم هناك. قال في «التعريف»: إلا صاحب يومن (4) فإنه يكتب له ب «الجناب». وهو مثلهم في بقيّة الألقاب. قال في
__________
(1) كذا بالأصل. وفي التعريف: «عتبه» وفي حاشية الطبعة الأميرية: الأولى: «عاتبه».
(2) جمع نطاق وهو حزام يشدّ به الوسط. ونطاق الجوزاء: ثلاثة كواكب في وسطها.
(3) قال ياقوت: جيلان، والعجم يقولون: كيلان. وهي اسم لبلاد كثيرة من وراء بلاد طبرستان. وهي اليوم «جمهورية جيلان السوفيتية». (معجم البلدان: 2/ 201ودائرة المعارف الإسلامية:
13/ 153).
(4) في دائرة المعارف الإسلامية: «فومن». وكانت ولاية جيلان في السابق مقسمة إلى خمس نواح هي: رانكو لاهجان رشت فومن وكسكر. وكانت فومن تعد قصبة هذه الولاية. (دائرة المعارف الإسلامية: 13/ 151).(7/293)
«التثقيف»: ولم أر لهم مكاتبة، ولا كتب لهم في مدّة مباشرتي بديوان الإنشاء الشريف شيء غير أني رأيت بخطّ المولى القاضي المرحوم زين الدين خضر، أنه كتب أمثلة شريفة إلى جماعة، منهم «حرم الدين». بيومن، ثم قال: وهذا هو الذي ذكر القاضي شهاب الدين أنّ مكاتبته أعلى مكاتباتهم وأنه يكتب إليه «الجناب». قال: وما يبعد أن الجماعة الذين كتب إليهم على ما ذكر القاضي زين الدين المشار إليه هم من جملة ملوك كيلان. ثم عدّد من كتب إليه منهم فقال: وهم نوباذ شاه، وسالوك ولده، في قطع العادة.
ورسم المكاتبة إليهما: «خلّد الله تعالى سعادة الجنابين الكريمين، العاليين، الكبيريّين، العادليّين، المجاهديّين، المرابطيين، الملكيين: الشّرفيّ والسّيفيّ». والدعاء والعلامة «أخوهما». والعنوان سطران. وتعريفهما: نوباذ شاه وسالوك ولده صاحبا كوحسفا (1).
ناصر الدّين بهلوان، وشرف الدين شرف الدولة صاحبا لاهجان مثل ذلك سواء.
فلك الدين صاحب دشت كذلك.
حسام الدين صاحب بومن كذلك. ثم قال نقلا عن ابن الزّينيّ خضر أيضا:
وقيل إنّ حسام الدين هذا كان صاحب بومن، وصاحبها الآن أخوه على ما ذكره محمود بن إبراهيم بن اسفندار الكيلاني حين كتب إليهم.
قلت: وهؤلاء هم ملوك كيلان، وهذه مدنهم على ما تقدّم في المسالك والممالك. والعجب كيف وقع الشّك في ذلك من صاحب «التثقيف» حتّى قال:
وما يبعد. وأما التسوية في الآخر بين صاحب بومن وغيره، فيجوز أنّ قدره انحطّ بعد زمن صاحب «التعريف» أو جهل الكاتب الثاني مقداره.
__________
(1) كذا بالأصل، ولم نعثر عليها.(7/294)
صاحب هراة (1) وهي مدينة من خراسان. قال في «التعريف»: ولا يجري على الألسن الآن إلا صاحب هرى. قال: وكان ملكها الملك غياث الدين. ولم أسمع أعجميّا يقول إلا قياس الدين. وكان ملكا جليلا نبيلا مفخّما معظّما، له مكانة عند الملوك الهولاكوهيّة، ومنزلة رفيعة عليّة. وكان بينه وبين النّوين جوبان مودّة أكيدة وصداقة عظيمة فلما دارت به دوائر الزمان وأفضت به الحال إلى الهرب، لجأ إلى صاحب هرى هذا، على أنه يسهّل له الوصول إلى صاحب الهند أو إلى ملك ما وراء النهر، فأجابه وأنزله، وبسط أمله وأسرّ له الخداع حتّى اطمأنّ إليه، فأصعده إلى قلعته ليضيفه، فصعد ومعه ابنه جلوقان، وهو ابنه من خوندة بنت السلطان خدابندا وجلوقان هذا هو الذي أجيب إلى تزويجه ببنت السلطان الملك الناصر، وعلى هذا تمّت قواعد الصّلح. وبنى جوبان أمره على أنه بعد التزويج يأخذ له ملك بيت هولاكو بشبهة أنه ابن بنت خدابندا وأنه لم يبق بعد أبي سعيد من يرث الملك سواه. ثم يستضيف له ملك مصر والشام بشبهة أنّ بنت صاحب مصر هي التي ترث الملك من أبيها فحالت المنايا دون الأماني.
وحال صعود جوبان وابنه جلوقان القلعة أمسكهما غياث الدّين وخنقهما ليتّخذ وجها بذلك عند أبي سعيد وبعث بذلك إلى أبي سعيد، فشكر له إمساكهما، وأنكر عليه التعجيل في قتلهما فاعتذر بأنّني لو لم أقتلهما لم آمن استعداد من معهما لمحاصرتي فقبل عذره، وطلب منه إبهام (2) جوبان ليعرف أنه قد قتله، وكان فيه زيادة سلعة ظاهرة يعرف بها فجهّزه إليه فأكرم رسله وبعث إليه بالخلع وأمر بإصبع جوبان فطيف بها في الممالك. ثم سألت بغداد خاتون بنت
__________
(1) قال ياقوت: «هراة من أمهات مدن خراسان لم أر بخراسان عند كوني بها في سنة 607هـ مدينة أجل ولا أعظم ولا أفخم ولا أكثر أهلا منها. وهي محشوّة بالعلماء وبأهل الفضل والثراء. وقد جاءها الكفار من التتر فخربوها حتى أدخلوها في خبر كان، وذلك في سنة 618هـ. (معجم البلدان:
5/ 396).
(2) أي إصبعه الإبهام.(7/295)
جوبان (1) امرأة أبي سعيد، وكان شديد الكلف بها، في نقل أجسادهما فنقلت فعقدت لهما المآتم ثم أمرت بحملهما إلى مكّة المعظّمة، ثم إلى المدينة المشرّفة ليدفنا في التربة الجوبانيّة التي كان جوبان أعدّها لدفنه في حال حياته فمكّنت من ذلك إلا من الدّفن فإنهما دفنا بالبقيع. ثم حضر غياث الدين حضرة أبي سعيد، فأكرم وأعطي العطايا السنيّة ثم لم يلبث أن مات وولي ابنه. قال: ولم يكن صاحب هذه المملكة ممن يكاتب عن السلطان حتّى كانت واقعة جوبان فكتب إليه.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف»: «أعزّ الله تعالى نصر المقرّ الكريم، العالي، العالميّ، العادليّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، المرابطيّ، المثاغريّ، الأوحديّ الملك الفلانيّ، شرف الملوك والسلاطين، خليل أمير المؤمنين». قال في «التثقيف»: ولم أطّلع على ما يكتب إليه سوى ما ذكره القاضي شهاب الدّين بعد واقعة جوبان. قال: والذي يظهر لي أنه لم يكاتب بعد ذلك هو ولا من قام مقامه: لأنه لم تكن له مكاتبة مشهورة متداولة بين الموالي الجماعة، ولا كتب إليه في مدّة مباشرتي شيء. على أنّ القاضي شهاب الدين لم يذكر تعريفه.
__________
(1) بغداد خاتون: ابنة أخت أبي سعيد، وكانت زوجة الأمير حسن الجلايري الذي اشتهر بالشيخ حسن بزرك، تزوجته سنة 723هـ / 1323م. وفي سنة 1325م حاول أبو سعيد أن يجبر الشيخ حسن على تطليق بغداد خاتون حتى يتزوجها هو نفسه مستندا إلى بعض ما جاء في «ياسة» جنكزخان ولكن والدها الأمير جوبان أحبط هذا المسعى. وفي اكتوبر أو نوفمبر سنة 1327م قتل الأمير جوبان غيلة في هراة على يد غياث الدين الكرتى السابق الذكر، وكان ذلك بتحريض من أبي سعيد، وهناك استطاع أبو سعيد أن يحقق مسعاه بالزواج من بغداد خاتون وأصبحت لهذه السيدة مكانة عظيمة وسلطان كبير ومنحت لقب «خداوند كار» ومعنى اللقب سلطان وفي سنة 732هـ اتهم الشيخ حسن بالتآمر مع زوجته السابقة على قتل أبي سعيد، ثم استعادت مكانتها عنده في العام التالي حين ثبت أن هذه التهمة كانت باطلة. وفي سنة 734هـ تزوج أبو سعيد «دلشاد خاتون» ابنة أخت بغداد خاتون، فأثار ذلك غيرة بغداد. ولما توفي أبو سعيد فجأة في الثالث عشر من ربيع الثاني سنة 736 هـ اشتبه في أن تكون بغداد خاتون قد سمّته فقتلها الأمراء. (دائرة المعارف الإسلامية: 7/ 433 434).(7/296)
الحكام بهذه المملكة (من جرت العادة بمكاتبته من الحكّام بالجزيرة الفراتيّة من هذه المملكة)
الحاكم بشمشاط وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أنّها بلدة من ديار مضر بين آمد وخرت برت. قال في «التثقيف»: ورسم المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. والعلامة الاسم. وتعريفه «الحاكم بشمشاط».
الحاكم بميّافارقين وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها قاعدة ديار بكر.
قال في «التثقيف»: ورسم المكاتبة إليه «السامي» بغير ياء. والعلامة الاسم. وتعريفه «الحاكم بميّافارقين».
الحاكم بجيزان وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها مدينة من ديار بكر.
قال في «التثقيف»: ورسم المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. والعلامة الاسم.
وتعريفه «الحاكم بجيزان» وهو معدود في «التثقيف» في جملة الأكراد.
الحاكم بجزيرة ابن عمر وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها مدينة صغيرة على دجلة من غربيّها. قال في «التثقيف»: ورسم المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. والعلامة له الاسم. وتعريفه «الحاكم بجزيرة ابن عمر».
وذكره في «التثقيف» في جملة الأكراد، وقال: كان بها عزّ الدين أحمد اليخشي.
وذكر أن رسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء. وتعريفه «أحمد بن سيف الدين اليخشي الحاكم». واستقرّ بعد وفاته ولده عيسى، وورد كتابه في صفر سنة أربع وستين وسبعمائة، أخبر فيه بوفاة والده استقراره مكانه. على أنه قد ذكر معبّرا عنه بصاحب الجزيرة، وسماه بكلمش. وذكر أن المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء.
الحاكم بسنجار وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها مدينة من ديار ربيعة. قال في «التثقيف»: وكان قد كتب لشيخو الحاكم بها مرسوم شريف بأن يكون نائبا بها حسب سؤاله في سنة ثلاث وستين وسبعمائة. قال: وكانت المكاتبة اليه أوّلا الاسم و «مجلس الأمير» وكتب له حينئذ «السامي» بغير ياء.
الحاكم بتلّ أعفر وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها قلعة بين سنجار والموصل. قال في «التثقيف»: ورسم المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. والعلامة له الاسم وتعريفه «الحاكم بتلّ أعفر».(7/297)
الحاكم بسنجار وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها مدينة من ديار ربيعة. قال في «التثقيف»: وكان قد كتب لشيخو الحاكم بها مرسوم شريف بأن يكون نائبا بها حسب سؤاله في سنة ثلاث وستين وسبعمائة. قال: وكانت المكاتبة اليه أوّلا الاسم و «مجلس الأمير» وكتب له حينئذ «السامي» بغير ياء.
الحاكم بتلّ أعفر وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها قلعة بين سنجار والموصل. قال في «التثقيف»: ورسم المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. والعلامة له الاسم وتعريفه «الحاكم بتلّ أعفر».
الحاكم بالموصل وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها قاعدة بلاد الجزيرة كلّها في القديم حيث كانت بيد الجرامقة. قال في «التثقيف»:
والمكاتبة إليه في قطع العادة الاسم، و «صدرت» و «السامي». وتعريفه «الحاكم بالموصل». ورأيت في بعض الدساتير أن العلامة استقرّت له «والده» عند استقراره نائب السلطنة بها.
الحاكم بالحديثة وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها بلدة على الفرات.
قال في «التثقيف»: ورسم المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ» بالياء. وتعريفه «الحاكم بالحديثة». وهي غير حديثة الموصل. وهي بلدة شرقيّ دجلة تعدّ في بلاد العراق.
الحاكم بعانة وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها بلدة صغيرة على جزيرة في وسط الفرات. قال في «التثقيف»: ورسم المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ» بالياء. وتعريفه «الحاكم بعانة». ورأيت في بعض الدساتير أنّ المكاتبة إليه «السامي» بغير ياء.
الحاكم بتكريت (1) وفي «التثقيف» صاحب تكريت. وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها مدينة من آخر مدن الجزيرة بين دجلة والفرات. قال في «التثقيف»: ورسم المكاتبة إليه مثل الحاكم بالموصل، فتكون في قطع العادة.
والعلامة الاسم. وتعريفه «الحاكم بتكريت».
الحاكم بقلعة كشاف وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها في الجنوب
__________
(1) في معجم ياقوت وفي البكري: بفتح التاء المثناة. قال ياقوت: والعامة يكسرونها.(7/298)
عن الموصل بين الزّاب والشّطّ، وأنه عدّها في «تقويم البلدان» من بلاد الجزيرة مرّة، ومن عراق العجم أخرى. وأنه أوردها في «التثقيف» بإثبات الألف واللام.
قال في «التثقيف»: ورسم المكاتبة إليه مثل حاكمي عانة والحديثة، فتكون المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. ورأيت في بعض الدساتير أن المكاتبة إليه «السامي» بغير ياء. وتعريفه «الحاكم بقلعة كشاف».
الحاكم بإسعرد وهي سعرت. قد تقدّم في المسالك والممالك أنها مدينة من ديار ربيعة. قال في «التثقيف»: ورسم المكاتبة إليه «مجلس الأمير».
وحينئذ فتكون في قطع العادة. والعلامة الاسم. وتعريفه «الحاكم بإسعرد».
صاحب حاني ويقال لها حنا. وهي مدينة من ديار بكر. وقد ذكر في «التثقيف» أنّ صاحبها تاج الدين. ورسم المكاتبة إليه الاسم «والسامي» بغير ياء.
من جرت العادة بالمكاتبة إليه بالجانب المختصّ ببني جنكزخان من بلاد الرّوم من مارية وما معها
أرتنا (1)، الذي كان قائما بهذه البلاد عن بني هولاكو من التّتر. ورسم المكاتبة إليه في قطع الثلث: «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، العونيّ، الزّعيميّ، الممهّديّ، المشيّديّ، الظّهيريّ، النّوينيّ، الفلانيّ عزّ الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، زعيم الجيوش، مقدّم العساكر، كهف الملّة، ذخر الدولة، ظهير الملوك والسلاطين، سيف أمير المؤمنين». والدعاء والسلام. والعلامة «أخوه».
وذكر في «التثقيف» أنه كتب إلى ولده محمد بعده كذلك في قطع الورق
__________
(1) في دائرة المعارف الإسلامية: بكسر التاء المثناة. راجع حاشيتنا في الصفحة 285من هذا الجزء.(7/299)
والمكاتبة والعلامة. وأنه كتب إلى على بك بن محمد المذكور بعده كذلك، إلا في العلامة فإنه استقرّت له «والده» وكتب تعريفه: «علي بك ابن أرتنا».
من جرت العادة بمكاتبته من الحكّام ببلاد العراق
الحاكم بهيت وعبّر عنه في «التعريف» بصاحب هيت. وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها شماليّ الفرات من أعمال بغداد. قال في «التثقيف»:
ورسم المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ» بالياء وتعريفه «الحاكم بهيت».
الحاكم بالقنيطرة وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها بلدة بالقرب من مرسى الحلّة. قال في «التثقيف»: والمكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. والعلامة الاسم. وتعريفه «الحاكم بالقنيطرة». ثم قال: وآخر ما استقرّت مكاتبته عليه «السامي» بغير ياء. وعبّر عنه في موضع آخر «بإبراهيم صاحب القنيطرة».
وذكر أن المكاتبة إليه الاسم و «السامي». وأن تعريفه اسمه خاصّة.
من جرت العادة بمكاتبته من الحكّام ببلاد الجبل (وهي عراق العجم)
الحاكم بإربل (1) وعبّر عنه في «التثقيف» بصاحب إربل. قال في «التثقيف»: كان بها الشريف علاء الدين علي الدلقندي ثم استقرّ بها الشريف يحيى ثم استقرّ بها عليّ ولده. قال: والمستقرّ بها الآن على ما تحرّر في سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة أسد الدين أسد. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء. وتعريفه «الحاكم بإربل».
__________
(1) وهي «أربلا» القديمة اشتهرت بوقعة الإسكندر التي نشبت فيها. وتقع بين الزابين على الطريق الممتد من الموصل إلى بغداد. وأربل (باللغة الدارجة إربيل) هي «أربه إيلو» المذكورة في النقوش البابلية الأشورية. المكتوبة بالخط المسماري، وهي أيضا «أربيرا» في النقوش الفارسية القديمة المسمارية. (انظر دائرة المعارف الإسلامية: 2/ 516515).(7/300)
صاحب قاشان (1) وسمّاها في «التثقيف» قيشان. ورسم المكاتبة إليه «السامي» بغير ياء.
صاحب باب الحديد (2) المعروفة عند الترك بتمر قابو. وهي باب الأبواب. قال في «التثقيف»: كان بها كاووس، وكتب إليه جواب في ثاني عشر ربيع الأوّل سنة اثنتين وستين وسبعمائة أويس (3) في قطع الثلث، والدعاء والعالي. وتعريفه اسمه لا غير.
من جرت العادة بمكاتبته من الحكّام، ببلاد فارس
الحاكم بشيراز وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها قاعدة بلاد فارس.
قال في «التثقيف»: والمستقرّ بها على ما تحرّر في سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، شاه شجاع، أخو شاه ولي. وذكر أنه لم يكتب إليه في مدّة مباشرته من ديوان الإنشاء، ولا وقف على مكاتبة إليه. ثم قال: غير أنه يمكن أن تكون المكاتبة إليه نظير المكاتبة إلى الأشرف تمرتاش المستولي على تبريز فإنه قال:
إنّ شيراز قدر تبريز ونظيرها. فعلى هذا يكون رسم المكاتبة إليه في قطع الثلث:
«ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي الأميريّ، الكبيريّ» وبقيّة الألقاب والنّعوت. ويكون فيها «النّوينيّ» كما في مكاتبة المستولي على تبريز.
من جرت العادة بمكاتبته ببلاد كرمان
صاحب هرمز قد تقدّم في المسالك والممالك أنّ قاعدة كرمان القديمة السّيرجان وأن هرمز فرضة كرمان، وأنها خرّبها التتر عند خروجهم على تلك البلاد بكثرة الغارات، وانتقل معظم أهلها إلى جزيرة ببحيرة بحر فارس على القرب منها
__________
(1) في ياقوت: مدينة قرب أصبهان تذكر مع قمّ. ومنها تجلب الغضائر القاشاني، والعامة تقول القاشيّ.
(معجم البلدان: 4/ 296).
(2) راجع ص 232من هذا الجزء حاشية «الدربند».
(3) كذا في الأصل. ولعله زائد من قلم الناسخ.(7/301)
تسمّى وزرون (1). وقد كتب إلى صاحبها عن سلطان العصر «الملك الناصر فرج» ابن الظاهر برقوق في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة مفاتحة في قطع (2).
من جرت العادة بمكاتبته من بلاد أرمينية وأرّان وأذربيجان
النائب بخلاط من أرمينية قد تقدّم في المسالك والممالك أنها كانت قاعدة بلاد الكرج. قال في «التثقيف»: ويقال إن حاكمها من الأكراد، واسمه أبو بكر ابن أحمد بن أزبك. ثم قال: ورسم المكاتبة إليه الأسم و «الساميّ» بالياء فيكون في قطع العادة. وتعريفه «النائب بخلاط».
الحاكم بحصن أرزن وهي أرزن الرّوم. قال في «التثقيف»: وهو على ما اتّضح آخرا في رمضان سنة ستّ وسبعين وسبعمائة علاء الدين عليّ بن قرا. وردت مكاتبته أن صاحب حصن كيفا ابن خاله. ورسم المكاتبة إليه على ما في «التثقيف» مثل صاحب حصن كيفا من غير زيادة ولا نقص. على أنه في «التعريف» قد ذكر أنّ المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. قال في «التثقيف»:
والصحيح ما تقدّم، فإني كتبت إليه بهذه المكاتبة مرّات، وهو المتداول بين الموالي الجماعة إلى آخر وقت. وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها في آخر بلاد الرّوم من جهة الشرق.
صاحب بدليس (3) قد ذكر في «التعريف» أنه كان في زمانه الأمير شرف الدين أبو بكر. وقال: إنه يتّهم بمذهب النّصيريّة. ثم قال: وبلده صغير، ودخله
__________
(1) في حاشية الطبعة الأميرية: هي بهذا الضبط في الأصل ولم تذكر في المعجم ولا في التقويم.
(2) بياض في الأصل مقدار أربعة سطور.
(3) ضبطها ياقوت بفتح الباء الموحدة. وقال: هي بلدة من نواحي أرمينية قرب خلاط ذات بساتين كثيرة.
وفي دائرة المعارف الإسلامية: العرب ينطقونها «بدليس» بفتح الباء، والترك بكسرها ويقولون أيضا «بتليس»، وأما الأرمن فينطقونها «بتليش». وهي قصبة ولاية تحمل الاسم نفسه في شرقي الأناضول، على مسيرة 14ميلا من بحيرة «وان» و 35ميلا شرق «سعرد». (معجم البلدان:
1/ 358ودائرة المعارف الإسلامية: 6/ 422).(7/302)
يسير، وعمله ضيّق. وهو طريق المارّة وقصّاد الأبواب السلطانية إلى الأردو إذا لم يكن بالعراق وله خدمة مشكورة. وعدّه في «التثقيف» في جملة الأكراد. قال في «التعريف»: ورسم المكاتبة إليه: «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس الساميّ الأميريّ» أسوة الأمراء. وذكر في «التثقيف» أنه كان بها ضياء الدين أبو الفوارس الروشكي أخو الغرس بالو وأن المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ» بالياء. وتعريفه «صاحب بدليس». وأنّه استقرّ بعده ولده الرحاح، وكوتب بمثل ذلك سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة.
صاحب موقان (1) وهي موغان. وسمّاها في «التثقيف» ميوغان. قال في «التثقيف»: وكان بها محمد شاه بن أمير شاه، وكتب إليه مستجدّا في سنة سبع وستين وسبعمائة «السامي» بغير ياء.
النائب بخرت برت (2) وهي حصن زياد. ذكره في «التثقيف» من جملة تركمان البلاد الشرقية، وذكر أنّ اسمه يومئذ باليس، وأن رسم المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ» بالياء. وتعريفه اسمه، ثم قال: وهكذا كان يكتب إلى صاحب خرت برت قبله. ثم ذكر أنه رأى بخط القاضي شهاب الدين بن الصّفديّ أنه استقرّ بها علاء الدين بن خالد المليشكي بعد حسام الدين خربندة، وأن مكاتبته «الساميّ» بالياء.
__________
(1) قال ياقوت: وأهلها يسمونها «موغان»، وهي ولاية فيها قرى ومروج كثيرة تحتلها التركمان للرعي، فأكثر أهلها منهم، وهي باذربيجان يمر القاصد من أردبيل الى تبريز في الجبال (معجم البلدان:
5/ 225).
(2) وتكتب أيضا: خرتبرت، بنفس الضبط. قال ياقوت: وهو الحصن المعروف بحصن زياد الذي يجيء في أخبار بنى حمدان في أقصى ديار بكر من بلاد الروم، بينه وبين ملطية مسيرة يومين، وبينهما الفرات. وذكره أسامة بن منقذ في شعر له لكنه اسقط التاء لضرورة الشعر. (معجم البلدان:
2/ 355)
.
الصنف الثالث (ممن يكاتب بهذه المملكة العربان، وهم: عبادة وخفاجة)(7/303)
الصنف الثالث (ممن يكاتب بهذه المملكة العربان، وهم: عبادة وخفاجة)
وقد تقدّم في الكلام على أنساب العرب أن نسبهما في عامر بن صعصعة من قيس عيلان. وأجلّ من يكتب إليه منهم رسمه «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي الأمير». على أنّ صاحب التثقيف قد ذكر أنه لم يطّلع على مكاتبة إليهم.
الصنف الرابع (ممن يكاتب بهذه المملكة التّركمان)
قال في «التثقيف»: والأكابر في البلاد الشرقية الذين يكتب إليهم من هذه الطائفة مفردا قليل. أما بقيّتهم من تركمان الطاعة الشريفة، فقد يكتب إليهم عند المهمّات مطلقات شريفة، ثم ذكر جماعة ممن يكتب إليه على انفراد، ولم يعيّن لأحد منهم بلدا ولا رياسة قوم معروفين. وها أنا أذكرهم على ما ذكرهم: ليقاس عليهم لدى تحقّق مقامهم.
منهم: مراد خواجا. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء.
وتعريفه اسمه.
ومنهم: باكيش الكبير ابن أخي توزطوغان. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء. وتعريفه اسمه.
ومنهم: زين الملك توزطوغان. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء. وتعريفه «مقدّم التّركمان بالبلاد الشرقية».
ومنهم: علي بن إينال التّركمانيّ من الطائفة البوزقية (1). ورسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء وتعريفه اسمه.
ومنهم: يعقوب بن علي شار. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ»
__________
(1) وهم «البوزوق». (راجع حاشية الصفحة 230من هذا الجزء).(7/304)
بالياء وتعريفه اسمه. قال في «التثقيف»: وقد ذكر القاضي ناصر الدين بن النّشائي أنه كتب إليه كذلك في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة.
ومنهم: سالم الدّلكريّ، ورسم المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ» بالياء، وتعريفه اسمه.
واعلم أنه قد تقدّم في الكلام على تركمان البلاد الشامية نقلا عن «التثقيف» أن من طوائف التّركمان الذين هم تحت الطاعة من لم يكتب إليه بعد بل إذا كتب في مهمّ شريف، كتب إلى كلّ طائفة منهم أو إلى سائر الطوائف مطلق شريف. وعدّ منهم طوائف:
الأولى البوزقية: جماعة ابن دلغادر وابن إينال المقدّم ذكره.
الثانية أولاد رمضان: الأمريّة.
الثالثة الأوشريّة: تركمان حلب.
الرابعة الدلكرية: جماعة سالم الدلكريّ.
الخامسة الخربندليّة: جماعة مصطفى.
السادسة الأغاجريّة.
السابعة الورسق: تركمان طرسوس.
الثامنة القنقيّة.
التاسعة البابندريّة: وهم النقيبيّة (1).
العاشرة البكرلية (2): أولاد طشحون.
الحادية عشرة البياضيّة.
ثم قال: وثمّ جمائع كثيرة لا يمكن استيعابهم.
قلت: فإن كان من هذه الطوائف شيء بهذه البلاد، فحكمه ما تقدّم في الكلام على تركمان البلاد الشامية.
__________
(1) في ضوء الصبح ص 327: وهم من القنيعبة.
(2) في ضوء الصبح ص 327: البلولية وأولاد طسحون.(7/305)
الصنف الخامس (ممن يكاتب بهذه المملكة الأكراد)
وقد تقدّم الكلام على طوائفهم ومنازلهم من بلاد الجبال من عراق العجم.
قال في «التعريف»: وهم خلائق لا يحصون، ولولا أن سيف الفتنة بينهم يستحصد قائمهم، وينبّه نائمهم، لفاضوا على البلاد، واستضافوا إليهم الطارف والتّلاد ولكنهم رموا بشتات الرأي وتفرّق الكلمة، لا يزال بينهم سيف مسلول، ودم مطلول، وعقد نظام محلول، وطرف باكية بالدماء مبلول. وهم على ضربين:
الضرب الأوّل (المنسوب منهم إلى بلاد ومقرّات معروفة)
قال في «التعريف»: ولهم رأسان كلّ منهما رجل جليل، ولكلّ منهما عدد غير قليل.
أحدهما صاحب جولمرك (1)، من جبال الأكراد من عراق العجم. قال في «التعريف»: وهو الكبير منهما الذي تتّفق طوائف الأكراد مع اختلافها على تعظيمه، والإشارة بأنّه فيهم الملك المطاع والقائد المتّبع. وهو صاحب مملكة متسعة ومدن وقلاع وحصون، وله قبائل وعشائر وأنفار. قال: وهم ينسبون إلى عتبة بن أبي سفيان بن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف. ثم قال:
وكانت الإمرة قد انتهت فيهم إلى أسد الدّين موسى بن مجلّي بن موسى بن منكلان. وكان رجلا كريما عظيما نهّابا وهّابا، تجلّه ملوك الممالك الجليلة، وتعظّمه حكّام الأردو وصاحب مصر. وإشارته مقبولة عند الجميع. وإذا اقتتلت
__________
(1) في دائرة المعارف الإسلامية: 13/ 51 «جولمريك، والرسم القديم: جولمارك: بلدة صغيرة في شرقي الأناضول في الطرف الجنوبي الشرقي للإقليم الحالي لتركيا. ترتفع عن البحر 1605مترا وتحيطها جبال يبلغ ارتفاعها ما يربى على 9840قدما / 3000متر وهي على مسافة ثلاثة كيلومترات من الزاب الأكبر الذي هو فرع من دجلة. وقد نسب إلى جولمريك فرع من الأكرادهم الجولمركية.(7/306)
طائفتان من الأكراد فتقدّم إليهما بالكفّ كفّوا، وسمعوا له سمع [مراع لا سمع] (1)
مطيع. وذكر أن القائم فيهم إذ ذاك من بنيه الملك عماد الدين مجلّي: وهو رجل يحبّ أهل العلم والفضل، ويحلّ منهم عنده من أتاه أعظم محل. وقد مضى القول على ذلك مستوفى في الكلام على الأكراد عند ذكر عراق العجم من المسالك والممالك، من المقالة الثانية. قال في «التعريف»: ورسم المكاتبة إليه «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي الأميريّ» والألقاب التامة الكاملة.
الثاني صاحب عقرشوش من بلاد الجزيرة. قال في «التعريف»:
وملوكها الآن من أولاد المبارزكك. قال: وكان مبارز الدين كك هذا رجلا شجاعا كريما تغلب عليه [غرائب من] (2) الهوس. فيدّعي أنّه وليّ من الأولياء يقبل النّذور. وكانت تنذر له النذور تقرّبا إليه (3) فإذا أتاه النذر أضاف إليه مثله [من ماله] (4) وتصدّق بهما جميعا. قال: وأهل هذا البيت يدّعون عراقة الأصل في الإمرة وقدم السّودد والحشمة. ويقولون إنهم عقدت لهم ألوية الإمارة وتسلّموا أزمّة هذه البلاد وتسنّموا صهوات الصيّاصي بمناشير الخلفاء وأنهم كانوا لهم أهل وفاء. ولهم في هذا حكايات كثيرة، وأخبار مأثورة وهم أهل تنعّم ورفاهية ونعمة ظاهرة، وبزّة فاخرة وآدر مزخرفة، ورياض مفوّقة وخيول مسوّمة، وجوارح معلّمة وخدم وغلمان، وجوار حسان ومعازف وقيان، وسماط ممدود وخوان (5). قال: وموقع بلادهم من أطراف بلادنا قريب، والمدعوّ منهم من الرّحبة وما جاورها يكاد يجيب. ثم قال: وملوكنا تشكر لهم إخلاص نصيحة، وصفاء سريرة صحيحة. وذكر أن القائم فيهم في زمانه شجاع الدين ابن الأمير نجم الدين خضر بن المبارزكك، إلا أنه لم يبلغ مبلغ أبيه، بل (6) لا يقاربه، ولا يدانيه على
__________
(1) الزيادة عن الطبعة الأميرية من التعريف ص: 38.
(2) الزيادة عن الطبعة الأميرية من التعريف ص: 38.
(3) ذكر محقق الطبعة الأميرية أن في التعريف زيادة: (بما تنفق عليه لا اعتقادا فيه فيسر بذلك).
(4) الزيادة عن الطبعة الأميرية من التعريف ص: 38.
(5) في التعريف ص 39زيادة: (وأهل عشرة واخوان).
(6) في التعريف: ولا أظنه يقاربه الخ.(7/307)
أنه قد ملك ملكه، ونظّم سلكه. وقد تقدّم الكلام على ذلك أيضا في الكلام على المسالك والممالك في المقالة الثانية.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف» مثل صاحب جولمرك، وهي: «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي الأميريّ». وذكر في «التثقيف» أن المكاتبة كانت إلى خضر بن المبارزكك «صدرت» و «العالي». والعلامة «أخوه». وتعريفه «خضر بن المبارزكك». مع عدم تعريجه على ما في «التعريف» جملة. وقد ذكر في «التثقيف» منهم جماعة سوى من تقدّم ممن هم منهم بالجزيرة، كالحاكم بجزيرة ابن عمر، والحاكم بحاني، وصاحب عقرشوش. ولم يذكر بلاد من ذكره منهم ممن يأتي ذكره منهم ومن كان بكل بلد منهم من أكابرهم وحكّامهم ورسم المكاتبة إليهم على ما ذكره، وهم قسمان:
القسم الأوّل من علمت المكاتبة إليهم، وهم:
صاحب برخو وهو يومئذ أمير حسين بن الملك أسد. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ» بالياء.
صاحب البلهتيّة قال: وكان بها شمس الدين بن البيليق، ثم استقرّ بعده أخوه أحمد. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ» بالياء أيضا.
صاحب الدّربنده وهو سيف الدين أصبر بن أزشير الحسيناني. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء. وتعريفه «أمير أزشير الحسيناني صاحب الدّربنده».
صاحب كرمليس وهو سحب (1) مسعود. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء.
__________
(1) في حاشية هذه الصفحة من الطبعة الأميرية: «لعله وهو المعروف بيخت مسعود» بالياء المثناة.
ولعلها: «بخت مسعود» على ما يستفاد من ياقوت في معجم البلدان.(7/308)
صاحب العماديّة عماد الدين إسماعيل بن عليّ بن موسى. ورسم المكاتبة إليه «السامي» بغير ياء. وتعريفه «صاحب قلعة العمادية». وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أنهم بالقرب من طائفة الجولمركية. قال في «التثقيف» وكان بها أولاد الحاجّي بن عمر، وردت مطالعته كذلك «الحاجّي بن عمر صاحب العمادية» في سنة أربعين وسبعمائة.
صاحب مازكرد حسن بن إسماعيل. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء.
صاحب رندشت بجبال همذان وشهرزور. وهو عبد الله بن حسام الدين رسلان. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء.
صاحب جرذقيل (1) بهاء الدين عمر بن إبراهيم الهكّاريّ. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء.
صاحب سكراك كرجي بك. ورسم المكاتبة إليه «مجلس الأمير».
والعلامة الاسم.
صاحب فيلبس (2) سلطان شاه. ورسم المكاتبة إليه «مجلس الأمير».
والعلامة الاسم.
صاحب شكوش أمير أحمد. ورسم المكاتبة إليه «مجلس الأمير» والعلامة الاسم.
صاحب جرموك «مجلس الأمير». والعلامة الاسم الشريف.
__________
(1) بهذا الضبط في ياقوت. قال: «قلعة من نواحي الزوزان، وهي كرسي مملكة الأكراد البختية، أفاد منها الإمام أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم بن الأثير الجزري». (معجم البلدان:
2/ 124).
(2) بهذا الرسم في الأصل. ولم نعثر عليها.(7/309)
صاحب بهرمان عبد الصمد. ورسم المكاتبة إليه «مجلس الأمير».
والعلامة الاسم.
صاحب حصن أرّان وهو حصن الملك شجاع الدين خضر بن عيسى الشهريّ. ورسم المكاتبة إليه «مجلس الأمير» والعلامة الاسم.
القسم الثاني من ذكره في التثقيف ولم يذكر مكاتبته وقال: إنه وقف عليه كذلك وهم:
صاحب خفتيان تاج الدين أخو باشاك.
صاحب سوبخ أمير عيسى بن باشاك.
صاحب أكريسنا ملك بن باشاك.
صاحب يزاكرد بهاء الدين الزّرزاريّ.
صاحب زاب فخر الدّين عثمان الزّابي.
صاحب الرسه (1) شمس الدين بن بهاء الدّين.
صاحب الدّربندات القرابلية عليّ بن كراقي، تعريفه «صاحب دربند القرابليّ».
صاحب قلعة الجبلين حسام الدين بن تاج الدين العامليّ.
صاحب سيدكان أمير عليّ بن حسام الدين الزّرزاريّ.
صاحب هرور بهاء الدّين حسن بن عماد الدين.
صاحب رمادان أمير عبد الله الكركانيّ.
صاحب الشّعبانيّة حسام الدين أمير مري السبيني.
صاحب نمرية بهاء الدين.
صاحب سياح سنقر.
__________
(1) في الأصل بهذا الرسم بدون نقط.(7/310)
صاحب المحمدية الشيخ محمد.
صاحب كزليك.
الضرب الثاني (من لم يصرّح له بمكان)
وقد ذكر في «التثقيف» منهم جماعة ممن كان في الزمن المتقدّم، وصرّح بذكر المكاتبة إليهم، فذكر منهم أبو بكر بن المبارزكك الاسم و «السامي» بغير ياء، وتعريفه اسمه.
مبارز الدين عبد العزيز أخوه مثله.
عليّ وعمر ولدا ابن بروحى (1) خليل بن بروحى (2). ورسم المكاتبة إلى كلّ منهما الاسم و «السامي» بغير ياء.
خالد المليكشي كذلك.
أولاده: محمود وأحمد «مجلس الأمير».
بهاء الدين بن الغرس بالو الاسم و «السامي» بغير ياء.
عبد الله الشّهريّ الاسم و «السامي» بغير ياء.
شجاع الدين خضر بن عيسى الشّهري أخو عبد الله الشّهريّ الاسم و «السامي» بغير ياء.
مبارز بن عيسى بن حسن السّلاري الاسم و «السامي» بغير ياء. قال في «التثقيف»: ومكاتبته مستجدّة في العشر الأول من شعبان سنة ثلاث وستين وسبعمائة.
خضر بن محمد الهكّاريّ الاسم و «السامي» بغير ياء. قال: وهو مستجدّ
__________
(1) كذا في الأصل بالإهمال.
(2) كذا في الأصل بالإهمال.(7/311)
المكاتبة أيضا في العشر الآخر من صفر سنة تسع وستين وسبعمائة.
قلت: فإن اتّفق المكاتبة إلى احد من هؤلاء المجهولي الكتابة أو غيرهم من الأكراد كتب له على قدر مقداره بالنسبة إلى من عملت المكاتبة إليه.
قال في «التعريف» هنا: ومما ينبّه عليه أنّ طرق المارّين، ومسالك المسافرين، من بلادنا إلى خراسان ومنها إلينا يظهر في بعض الأحيان أهل فساد يعمدون إلى عميد يقدّمونه عليهم فيقطعون السّبل، ويخيفون الطّرق، وتطير سمعة عميدهم، وتنتشر في قريبهم وبعيدهم فيكاتب ذلك العميد من أبواب الملوك، ويضطرّ إليه لفتح الطريق بالسّلوك ويكون من غير بيت الإمرة، وربّما هوى نجمه، فانقطع بانقطاع عمره اسمه مثل الجملوك الخارج بطريق خراسان، والغرس بالو الخارج فيما يقارب بلاد شهرزور، ومثل الخارجين على دربند القرابلي. قال: وهؤلاء وأمثالهم يطلعون طلوع الكمأة لا أصل ممتدّ، ولا فرع مشتدّ فهؤلاء لا يعرف لأحد منهم رتبة محفوظة، ولا قانون في رسم المكاتبة معروف وإنما الشأن فيما يكتب إلى هؤلاء بحسب الاحتياج وقدر ما يعرف لهم من اشتداد الساعد، وعدد المساعد. قال: ولقد كتبنا إلى كلّ من الجملوك والغرس بالو، بالساميّ بالياء، وجهّزت إليهما الخلع وأتحفا بالتّحف.
الصنف السادس (ممن يكاتب بمملكة إيران أرباب الأقلام)
ذكر في «التثقيف» أنه كتب إلى مجد الدين أخي الوزير غياث الدين: «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، الصاحبيّ، الأجليّ، الكبيريّ، العالميّ، الكافليّ، الماجدّي، الزّيني، الأميريّ، الأوحديّ، المعظّميّ، الذّخريّ، المجاهديّ». قال في «التثقيف»: هذا ما وجدته بخطّ القاضي ناصر الدين بن النشائي ولم يذكر تعريفه ولا العلامة إليه. وكتب إلى علاء الدين صاحب الديوان مثله. والعلامة إليه «أخوه». قال في «التثقيف»: هكذا وجدته في خطّ ابن النّشائيّ ولم يذكر تعريفه.
الوزير شمس الدين قال في «التثقيف»: نقلت من خطّ القاضي شهاب الدين بن الخضر أن مكاتبته في قطع العادة الاسم و «الساميّ الأميريّ الشريفيّ الحسيبيّ النسيبيّ». وبقية الألقاب. ولم يكتب له «الصحابيّ» ولا «الوزيريّ».(7/312)
ذكر في «التثقيف» أنه كتب إلى مجد الدين أخي الوزير غياث الدين: «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، الصاحبيّ، الأجليّ، الكبيريّ، العالميّ، الكافليّ، الماجدّي، الزّيني، الأميريّ، الأوحديّ، المعظّميّ، الذّخريّ، المجاهديّ». قال في «التثقيف»: هذا ما وجدته بخطّ القاضي ناصر الدين بن النشائي ولم يذكر تعريفه ولا العلامة إليه. وكتب إلى علاء الدين صاحب الديوان مثله. والعلامة إليه «أخوه». قال في «التثقيف»: هكذا وجدته في خطّ ابن النّشائيّ ولم يذكر تعريفه.
الوزير شمس الدين قال في «التثقيف»: نقلت من خطّ القاضي شهاب الدين بن الخضر أن مكاتبته في قطع العادة الاسم و «الساميّ الأميريّ الشريفيّ الحسيبيّ النسيبيّ». وبقية الألقاب. ولم يكتب له «الصحابيّ» ولا «الوزيريّ».
قال: ولم يذكر شيئا غير هذا. ثم قال: ولا أعلم لمن وزّر المذكور، ولا من أيّ بلاد الشرق.
ضاء الدين صاحب الديوان المكاتبة إليه حسب ما نقله في «التثقيف» عن خط ابن الخضر أيضا الاسم و «السامي الأمير الأجلّ». وذكر أنه كتب إليه على يد سراج الدين قاضي قيساريّة. قال في «التثقيف»: وعلى هذا أنّ ضياء الدين هذا من من أهل المملكة الرّومية.
معين الدين صاحب الديوان مثله.
الصنف السابع (ممن يكاتب بمملكة إيران أكابر المشايخ والصّلحاء)
قد ذكر في «التثقيف» ممن كوتب من مشايخ هذه البلاد ثلاثة مشايخ. فنحن نذكرهم ليقاس عليهم، ولئلّا يهمل شيء مما أورده في التثقيف.
الأول شمس الدين الطّوطيّ. قال في «التثقيف»: وهو فيما أظنّ ممن كان يكتب إليه قديما، ولم يكتب إليه بعد ذلك. قال: ورسم المكاتبة إليه حسب ما نقلته من خط القاضي ناصر الدين بن النّشائيّ: «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس الساميّ الشّيخيّ، الأجلّيّ، العالميّ، العامليّ، الكامليّ، الفاضليّ، الزاهديّ، الورعيّ، العابديّ، الخاشعيّ، الناسكيّ، القدويّ، الأوحديّ، الفلانيّ، مجد الإسلام، صدر الأنام، بقيّة السّلف الكرام فخر العلماء، أوحد الكبراء، زين الزّهّاد، عماد العبّاد قدوة المتورّعين، ذخر الدّول، ركن الملوك والسلاطين». والدعاء «وتصف لعلمه المبارك». والعلامة الاسم. قال في «التثقيف»: هذا صورة ما وجدته من غير زيادة. ولم يذكر تعريفه ولا محلّه من
البلاد. قال: وقد كتب في نعوته: «ركن الملوك والسلاطين». وهو غريب لأنه خلاف ما جرت به العادة.(7/313)
الأول شمس الدين الطّوطيّ. قال في «التثقيف»: وهو فيما أظنّ ممن كان يكتب إليه قديما، ولم يكتب إليه بعد ذلك. قال: ورسم المكاتبة إليه حسب ما نقلته من خط القاضي ناصر الدين بن النّشائيّ: «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس الساميّ الشّيخيّ، الأجلّيّ، العالميّ، العامليّ، الكامليّ، الفاضليّ، الزاهديّ، الورعيّ، العابديّ، الخاشعيّ، الناسكيّ، القدويّ، الأوحديّ، الفلانيّ، مجد الإسلام، صدر الأنام، بقيّة السّلف الكرام فخر العلماء، أوحد الكبراء، زين الزّهّاد، عماد العبّاد قدوة المتورّعين، ذخر الدّول، ركن الملوك والسلاطين». والدعاء «وتصف لعلمه المبارك». والعلامة الاسم. قال في «التثقيف»: هذا صورة ما وجدته من غير زيادة. ولم يذكر تعريفه ولا محلّه من
البلاد. قال: وقد كتب في نعوته: «ركن الملوك والسلاطين». وهو غريب لأنه خلاف ما جرت به العادة.
الثاني الشيخ غياث الدين الكججي بتبريز. ورسم المكاتبة إليه فيما ذكره المشار إليه: «أعاد الله تعالى من بركة المجلس الساميّ الشيخيّ». وبقية الألقاب «الغياثي» وتكملة النعوت بما يناسب. والعلامة الاسم، وتعريفه «محمد الكججانيّ».
الثالث الشيخ حسن بن عبد القادر الجيلانيّ. وكان من المناصحين الذين يكتب إليهم قديما. قال في «التثقيف»: ورسم المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ» بالياء. ثم قال: ومن ألقابه: «الشيخ العالم العامل القدوة المرشد فلان الدين».
قلت: هذا ذهول منه، وإلا فمقتضى هذه الألقاب المجرّدة عن الياء أن تكون الكتابة إليه «السامي» بغير ياء.
الصنف الثامن (ممن يكاتب بمملكة إيران النّساء)
وقد ذكر في «التثقيف» المكاتبة إلى أربع (1) منهنّ:
الأولى دلّ شاد زوج الشيخ حسن الكبير
. كتب إليها في قطع العادة:
«أدام الله تعالى صون الجهة المحجّبة، المصونة، العصميّة، الخاتونيّة، المعظّميّة، سيدة الخواتين، زينة نساء العالمين، جميلة المحجّبات، جليلة المصونات، قرينة نوين الملوك والسلاطين». والدعاء، والعلامة «أخوها».
وتعريفها «الخاتون المعظمة دل شاد».
الثانية كلمش والدة بولاد مثلها
، غير أنّ العلامة الاسم، وتعريفها اسمها المذكور.
__________
(1) لم يذكر إلا ثلاثا في الأصل.(7/314)
الثالثة زوجة أملكان ابن الشيخ حسن الكبير
على ما استقرّ عليه الحال عند ما كتب جوابها على يد رسولها في ذي القعدة سنة أربعين وسبعمائة مثل دلشاد، والعلامة «والدها». وتعريفها سلطان نختي.
المهيع الثاني من المكاتبة إلى الملوك (مملكة توران، وهي مملكة الخاقانيّة)
قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك في المقالة الثانية نقلا عن المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله في كتابه «التعريف» أنّ هذه المملكة من نهر بلخ إلى مطلع الشمس على سمت الوسط فما أخذ عنها جنوبا كان بلاد السّند، ثم الهند وما أخذ عنها شمالا كان بلاد الخفجاج (1) وهي طائفة القبجاق (2) وبلاد الصّقلب، والجهاركس، والرّوس، والماجار، وما جاورهم من طوائف الأمم المختلفة سكّان الشّمال. فيدخل في هذه المملكة ممالك كثيرة وبلاد واسعة، وأعمال شاسعة، وأمم مختلفة لا تكاد تحصى تشتمل على بلاد غزنة، والباميان، والغور، وخوارزم، ودشت القبجاق وما وراء النهر: نحو بخارا، وسمرقند، والصّغد، والخوجند. وبلاد تركستان، وأشروسنة، وفرغانة. وبلاد صاغون، وطراز، وصريوم. وبلاد الخطا نحو بشمالق والمالق إلى قراقوم، وما وراء ذلك من بلاد الصّين وصين الصّين فإنها كانت في القديم بيد فراسياب، بن شنك، بن رستم، ابن ترك، بن كومر، بن يافث، بن نوح عليه السّلام. وهو ملك الترك في زمان موسى عليه السّلام، على خلاف في نسبه سبق هناك. وأنها الآن بيد بني جنكزخان من ولد طوجي (3) خان ابن جنكزخان.
__________
(1) ذكرها ابن خلدون باسم «بلاد خفشاخ من الترك وهم قفجاق» وكذلك وردت على لسان ابن عبد الظاهر. (مقدمة ابن خلدون: 136وسيرة الملك المنصور: 46).
(2) ذكرها ابن خلدون باسم «بلاد خفشاخ من الترك وهم قفجاق» وكذلك وردت على لسان ابن عبد الظاهر. (مقدمة ابن خلدون: 136وسيرة الملك المنصور: 46).
(3) ترك جنكزخان أربعة أولادهم: جوجي (وهو طوجي المذكور) وجغتاي وأكداي وتولي. (تاريخ الإسلام: 4/ 148ودائرة المعارف الإسلامية: 12/ 393).(7/315)
ثم هذه المملكة بيد ثلاثة ملوك عظام من بني جنكزخان.
الأوّل صاحب خوارزم ودشت القبجاق. وتعرف في القديم بمملكة صاحب السّرير، ثم عرفت في الدولة الجنكزخانيّة ببيت بركة (1)، نسبة إلى بركة بن طوجي خان بن جنكزخان. وقاعدتها مدينة السّراي (2) وهي مدينة على نهر إتل (3)، بناها بركة بن طوجي خان المقدّم ذكره. وقد تقدّم الكلام على ذلك مستوفى في الكلام على المسالك والممالك.
ثم فيها جملتان:
الجملة الأولى (في رسم المكاتبة إلى قانها القائم بها)
قال في «التعريف»: وكان صاحبها في الأيام الناصريّة (4) (يعني محمد بن قلاوون) «أزبك خان». وقد خطب إليه السلطان فزوّجه بنتا تقرّبا إليه. قال: وما زال بين ملوك هذه المملكة وبين ملوكنا قديم اتّحاد، وصدق وداد من أوّل أيام الظاهر بيبرس وإلى آخر وقت. ثم قال: والملك الآن فيهم [في أولاد أزبك] (5):
إماتني بك، وإما جاني بك، وأظّنّها في تني بك. وقد تقدّم أن الملك بعد أزبك كان جاني بك لا تني بك، على خلاف ما ظنه في التعريف.
ورسم المكاتبة إلى قانها الجامع لحدودها قال في «التعريف»: والأغلب أن يكتب إليه بالمغليّ. وذلك مما كان يتولّاه ايتمش المحمّدي، وطايربغا الناصري،
__________
(1) توفي بركة سنة 680هـ وجاء بعده تدان منكو الذي استمر حكمه إلى سنة 686هـ. (سيرة الملك المنصور: 46حاشية).
(2) في الجزء الرابع ص: 457تقدم أن اسمها «الصراي».
(3) وهو نهر الفولجا أو الفولغا.
(4) تولى السلطنة ثلاث مرات: الأولى من 1293إلى 1294م. وكان عمره تسع سنين. والثانية من 1298إلى 1308م والثالثة من 1309إلى 1341م.
(5) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف».(7/316)
وإرغدلق التّرجمان. ثم صار يتولّاه قوصون الساقي. ورأيت في بعض الدساتير نقلا عن القاضي علاء الدين بن فضل الله أنه كتب له مسودّة على أن تكتب له بالعربيّ ثم بطل وكتب بالمغلي. قال: فإن كتب له بالعربيّ، فرسم المكاتبة إليه ما يكتب إلى صاحب إيران.
وقد تقدّم نقلا عن «التعريف» أنه يكتب في قطع البغداديّ الكامل، يبتدأ فيه بعد البسملة وسطر من الخطبة المكتتبة بالذهب المزمّك بألقاب سلطاننا على عادة الطّغراوات ثم تكمل الخطبة، ويفتتح ببعدية إلى أن تساق الألقاب، وهي:
«الحضرة الشريفة، العالية، السلطانية، الأعظميّة، الشاهنشاهيّة، الأوحدية، الأخوية، القانية. ولا يخلط فيها «الملكيّة» لهوانها عليهم. ثم يدعى له بالأدعية المعظّمة المفخّمة الملوكية: من إعزاز السلطان، ونصر الأعوان، وخلود الأيام، ورفع الأعلام، وتأييد الجنود، وتكثير البنود، وما يجري هذا المجرى. ثم يؤتى بذكر دوام الوداد والشّوق ثم يذكر القصد ثم يختم بدعاء جليل وتستعرض المراسيم ويوصف التطلّع إليها والتهافت عليها.
قال في «التثقيف»: وكان يكتب إلى أزبك في الأيام الناصرية «محمد بن قلاوون» في ورق عرض البغداديّ الكامل. وبعد البسملة الشريفة سطران هكذا:
بقوّة الله تعالى وميامن الملّة المحمدية ثم يخلى موضع بيت العلامة ثم تكتب الألقاب السلطانية، وهي:
«السلطان الأعظم» وبقية الألقاب الشريفة على العادة حسب ما يأتي ذكره. ثم بعد الحمدلة وخطبة مختصرة جدّا: «فقد صدرت هذه [المكاتبة] إلى الحضرة الشريفة العالية، حضرة السلطان الكبير، الاخ، الشّفيق، العالم، العادل، القان الأعظم، الأوحد، شاهنشاه، الملك، أزبك إل خان سلطان الإسلام والمسلمين، أوحد الملوك والسلاطين، عمدة الملك، سلطان المغل والقبجاق والتّرك، جمال ملوك الزمان، ركن بيت جنكزخان، معز طغاج، صاحب التّخت
والتاج، عضد المتقين، ذخر المؤمنين. والدعاء بما يناسبه. «فإننا نخصّه بالسلام واستعلام أخباره ونفاوض علمه الشريف». قال: والكتابة بالذهب والأسود حسب ما تقدّم في المكاتبة إلى أبي سعيد، وكذا العنوان. ثم قال: ولم يكاتب أحد بعده بنظير ذلك. وكان قد ورد على الأبواب الشريفة في سنة ست وخمسين وسبعمائة كتاب جاني بك ابن أزبك، وكتب إليه الجواب الشريف بنظير الكتاب الوارد من عنده، وهو في ورق دون البغداديّ بثلاث أصابع مطبوقة، والافتتاح بخطبة مناسبة مكتتبة بالذهب جميعها، ثم أما بعد بالأسود خلا ما تقدّم ذكره في مكاتبة أبي سعيد. والعنوان بالذهب. والذي كتب إليه من الألقاب: «الحضرة الشريفة، العالية، السلطانيّة، الأعظميّة، العالمية، العادليّة، الأكملية، القانيّة، الأخويّة، العزيزية، الملكيّة، الشرفيّة زيدت عظمتها». قال: ولما كان في العشر الآخر من ربيع الأوّل سنة ست وسبعين وسبعمائة، رسم لي بالكتابة إلى القان محمد ببلاد أزبك، وهو القائم مقام أزبك على ما قيل، على يد رسل الأبواب الشريفة، بالسلام والمودّة واستعلام الأخبار ونحو ذلك فكتبت إليه في عرض البغداديّ الكامل حسب ما رسم به، بخطبة مختصرة بالذهب، والبقيّة بالأسود والذهب على ما تقدّم ذكره في مكاتبة القان أبي سعيد. وكتب له من الألقاب بعد المراجعة: «المقام العالي، السلطانيّ، الكبيريّ، الملكيّ، الأكرميّ، الأعدليّ، الشمسيّ، شمس الدنيا والدين، مؤيّد الغزاة والمجاهدين، قاتل الكفرة والمشركين، وليّ أمير المؤمنين خلّدت سلطنته». والعنوان بالذهب بغير تعريف. وعلم له في بيت العلامة الشريفة بالمغرة (1) العراقيّة «المشتاق شعبان».(7/317)
«السلطان الأعظم» وبقية الألقاب الشريفة على العادة حسب ما يأتي ذكره. ثم بعد الحمدلة وخطبة مختصرة جدّا: «فقد صدرت هذه [المكاتبة] إلى الحضرة الشريفة العالية، حضرة السلطان الكبير، الاخ، الشّفيق، العالم، العادل، القان الأعظم، الأوحد، شاهنشاه، الملك، أزبك إل خان سلطان الإسلام والمسلمين، أوحد الملوك والسلاطين، عمدة الملك، سلطان المغل والقبجاق والتّرك، جمال ملوك الزمان، ركن بيت جنكزخان، معز طغاج، صاحب التّخت
والتاج، عضد المتقين، ذخر المؤمنين. والدعاء بما يناسبه. «فإننا نخصّه بالسلام واستعلام أخباره ونفاوض علمه الشريف». قال: والكتابة بالذهب والأسود حسب ما تقدّم في المكاتبة إلى أبي سعيد، وكذا العنوان. ثم قال: ولم يكاتب أحد بعده بنظير ذلك. وكان قد ورد على الأبواب الشريفة في سنة ست وخمسين وسبعمائة كتاب جاني بك ابن أزبك، وكتب إليه الجواب الشريف بنظير الكتاب الوارد من عنده، وهو في ورق دون البغداديّ بثلاث أصابع مطبوقة، والافتتاح بخطبة مناسبة مكتتبة بالذهب جميعها، ثم أما بعد بالأسود خلا ما تقدّم ذكره في مكاتبة أبي سعيد. والعنوان بالذهب. والذي كتب إليه من الألقاب: «الحضرة الشريفة، العالية، السلطانيّة، الأعظميّة، العالمية، العادليّة، الأكملية، القانيّة، الأخويّة، العزيزية، الملكيّة، الشرفيّة زيدت عظمتها». قال: ولما كان في العشر الآخر من ربيع الأوّل سنة ست وسبعين وسبعمائة، رسم لي بالكتابة إلى القان محمد ببلاد أزبك، وهو القائم مقام أزبك على ما قيل، على يد رسل الأبواب الشريفة، بالسلام والمودّة واستعلام الأخبار ونحو ذلك فكتبت إليه في عرض البغداديّ الكامل حسب ما رسم به، بخطبة مختصرة بالذهب، والبقيّة بالأسود والذهب على ما تقدّم ذكره في مكاتبة القان أبي سعيد. وكتب له من الألقاب بعد المراجعة: «المقام العالي، السلطانيّ، الكبيريّ، الملكيّ، الأكرميّ، الأعدليّ، الشمسيّ، شمس الدنيا والدين، مؤيّد الغزاة والمجاهدين، قاتل الكفرة والمشركين، وليّ أمير المؤمنين خلّدت سلطنته». والعنوان بالذهب بغير تعريف. وعلم له في بيت العلامة الشريفة بالمغرة (1) العراقيّة «المشتاق شعبان».
وهذه نسخة ما كتب إليه بعد البسملة الشريفة.
الحمد لله الذي وهبنا ملكا دانت له ملوك الأقطار وازدانت الأسرّة والتّيجان بما له من عظمة وفخار وأذعنت العظماء لعزّة سلطانه الذي شمل الأولياء وقصم
__________
(1) المغرة: الطين الأحمر يصبغ به.(7/318)
الأعداء ببرّه الجابر وقهره الجبّار وقاد الجيوش إلى أن فتح الله على يديه الشريفتين معاقل الكفّار، بأمره الجاري على الرّقاب وعسكره الجرّار ومنحه خدمة الحرمين الشريفين اللذين لم يزل لهما منه الانتصاب وبهما له الانتصار.
نحمده على أن جعل مملكتنا الشريفة هي محلّ الإمامة العباسية فلا جحود ولا إنكار، ومرتبتنا المنيفة بما عهد به إلينا أمير المؤمنين إلى قيام الساعة عليّة المقدار ونشكره على أن أورثنا ملك أسلافنا الشّهداء فأقرّ العيون وسرّ الأسرار، وجعل السلطنة المعظمة في بيتنا المكرّم تنتقل تنقّل البدور في بروجها إلا أنها آمنة من السّرار (1). ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لم نزل قائمين بنصرتها، قانتين بالإخلاص في كلمتها. لنعدّ بذلك من الأبرار، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله المؤيّد بملائكته، المخصوص بنبوّته ورسالته، الذي عظّم الله قدره على سائر الرّسل كما جاءت النصوص والأخبار، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل الدّار، صلاة دائمة باقية بدوام الليل والنهار، وسلّم.
أما بعد، فإنّ قلوب الأولياء وإن تناءت الأجسام متعارفة بالائتلاف، متقاربة على بعد الديار حيث لا تناكر بينها ولا اختلاف، لا سيّما ملوك الإسلام، الذين هم متّحدون بالمصافة والاستسلام فإن سرائرهم لم تزل متدانية، وضمائرهم متكافية هذا والمحبّة لبيته (2) الكريم قديمة، والمودّة بين الأسلاف لم تزل مستديمة فلم نكن ورثنا ذلك عن كلالة (3)، بل تبعنا فيه سبيل السلف الصالح على أحسن حالة: لما هو محكم من عقود الاتّحاد والولاء، حيث المحبة في الآباء صلة في الأبناء وكان لنا مدّة مديدة وقد تأخرت رسلنا عن حضرته ولم تصدر من جهتنا الشريفة، كذلك ولا وردت رسل من جهته ولم يشغلنا عن ذلك إلا
__________
(1) السّرار، بكسر السين وفتحها. وسرار الشهر: آخر ليلة فيه. والمراد: آمنة من الأفول والانتهاء.
(2) ليس من الواضح على من يعود الضمير. ولعله القان محمد ببلاد أزبك.
(3) الكلالة: أن يموت المرء وليس له والد أو ولد يرثه، بل يرثه ذو وقرابته. وفي التنزيل العزيز:
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللََّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلََالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهََا نِصْفُ مََا تَرَكَ}:
النساء / 17612. (انظر الكليات: 4/ 121واللسان 11/ 594).(7/319)
مواقعة الفرنج المخذولين أعداء الدين، ومقارعتهم في سائر السّواحل بشدّة البأس والتّمكين إلى أن امكن الله عز وجلّ من نواصيهم وصياصيهم بنصر من عنده، كما قال تعالى: {وَكََانَ حَقًّا عَلَيْنََا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (1).
والآن فقد صدرت هذه المكاتبة إلى المقام العالي السلطاني وبقية الألقاب والنّعوت إلى آخرها حسب ما تقدّم ذكره تخصّ مقامه بسلام أرقّ من النّسيم، وألطف مزاجا من التّسنيم (2) وثناء قد ازرى نشره بالعبير، وسرى بشره فغدت تتهلّل به الأسارير. وتبدي لعلم المقام العالي زيدت معدلته أنه لما يبلغنا من عدل الحضرة الشريفة، وإنصافة للرّعايا وتأمين سبل الجور المخيفة وسلوكه سنن الإحسان، وتأكّد عقود المحبة على عادة من سلف في سالف الزمان قصدنا مفاتحته بهذه المكاتبة، وأردنا بداءته بهذه المخاطبة ليعلم ما نحن عليه من صحيح الوداد، وأكيد الاتّحاد، وجميل الاعتقاد، وحسن الموالاة الخالصة من شوائب الانتقاد وجهّزنا بها رسلنا فلان وفلان ومن معهما نستدعي ودّه، ونستدني ولاءه الذي أحكم عقده، لتأكّد المصافاة بين هاتين الدّولتين، والمخالصة من كلتا الجهتين، والموالاة بين المملكتين ويأمر المقام العالي لا زال عاليا بتردّد التّجّار من تلكم الديار، والمواصلة بالأخبار على حسب الاختيار ومتابعة الرّسل والقصّاد، على أجمل وجه معتاد.
وقد وجّهنا إلى المقام العالي أعلى الله شأنه صحبة رسلنا المذكورين من الأقمشة السّكندريّ وغيرها على سبيل الهديّة، والمواهب السنيّة، ما تضمّنته الورقة المجهّزة طيّها فليأمر المقام العالي دامت معدلته بتسليم ذلك، ويتيقّن وفور المحبة من سلطاننا المالك، وتأكّد أسباب المودّة على أجمل المسالك والله تعالى يجمّل ببقاء سلطانه ملك الممالك، ويديم عدله المبسوط على الأولياء
__________
(1) الروم / 47.
(2) التسنيم: ماء في الجنّة. وفي التنزيل العزيز: {وَمِزََاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ. عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}.(7/320)
ويرمي ببأسه الأعداء في مهاوي المهالك، ويخلّد ملكه الذي تفتخر بالملك من مقامه العالي السّرور والأرائك بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
واعلم أنّ صاحب «التثقيف» قد ذكر أن المكتوب إليه بهذه المكاتبة هو القائم مقام أزبك، وأن اسمه محمد، وأن المكاتبة إليه كانت في سنة ستّ وسبعين وسبعمائة. وقد تقدّم ذكر من ولي هذه المملكة بعد أزبك ولم يكن فيهم من اسمه محمد. وقد كان القائم بهذه المملكة في سنة ستّ وسبعين المذكورة اسمه «أرص» وهو الذي انتزع المملكة من أيبك خان المقدّم ذكره وأصله من خوارزم على ما مرّ ذكره في الكلام على المسالك والممالك، فيحتمل أن يكون اسمه محمد وأرص لقب عليه، كما كان خدابندا والد أبي سعيد من ملوك إيران، اسمه محمد، ولقبه خدابندا. والأمر في ذلك راجع إلى النقل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قلت: وقد كتب في الدولة الناصرية «فرج» (1) بن الظاهر برقوق، للقان القائم بها في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة في قطع البغداديّ الكامل من الورق المصريّ المعمول على هيئة البغداديّ، ابتديء فيه بعد خمسة أوصال بياض بالبسملة في أعلى الوصل السادس، ببياض من جانبيها عرض إصبعين من كل جهة، والسطر الثاني على سمته في آخر الوصل، بخلوّ بياض من الجانبين بقدر السطر الأوّل، والطّغراة بينهما بألقاب سلطاننا على العادة، مكتوبة بالذهب بالقلم المحقّق مزمّك بالسواد، بأعلى الطّغراة قدر عرض ثلاثة أصابع بياضا، ومثل ذلك من أسفلها، وباقي السّطور بهامش من الجانب الأيمن على العادة، وبين كلّ سطرين قدر نصف ذراع القماش القاهريّ، والأسماء المعظّمة: من اسم الله
__________
(1) تولى السلطنة مرتين: الأولى من سنة 1398إلى 1405م والثانية من 1405إلى 1412م. وبين الولايتين كانت ولاية أخيه عبد العزيز بن برقوق لمدة شهرين فقط. (الخطط التوفيقية: 1/ 114 115والدولة المملوكية: 379).(7/321)
تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، واسم سلطاننا والسلطان المكتوب إليه، والضمير العائد على واحد منهما بالذّهب المزمّك كما تقدّم تقريره في الكلام على مكاتبة صاحب إيران في القديم.
وهذه نسخة مما أنشأته، كتبت بإشارة المقر العالي الفتحيّ: صاحب ديوان الإنشاء الشريف وهي:
الحمد لله مؤيّد سلطاننا «الناصر» بعزيز نصره، ورافع قدر مقامنا الشريف بإعلاء مناره وإعظام ذكره، ومشيّد أركان ملكنا الشامخ بإسعاد جدّه العالي والله غالب على أمره. نحمده على ما جنّب من مواقع الحرج، وجعل أمور رعايانا بمعدلتنا الشريفة بعد الضّيق إلى فرج ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يتوارثها عظماء الملوك كابرا عن كابر، ويتناقلها منهم الخلف بعد السّلف فيسندها الناصر عن الظاهر ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل نبيّ جمع بعموم دعوته مفترق الأمم، ووفّق بحنيفيّ ملّته بين أقيال العرب وأساورة العجم (1) صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين آخى بينهم فسنّ المؤاخاة، ونقّى من نغل (2) الضّغائن صدورهم ففازوا بأكمل المصافاة وأتمّ الموافاة صلاة تسير بفضلها الرّكائب، وتترنّم بذكرها الحداة فتعمّ نفحاتها المشارق والمغارب، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإنّ الأرواح إذا تمازجت تناجت بالضّمائر، والقلوب إذا تآلفت اغتنت بشواهد الحال عن إبراز ما في السّرائر، والأجساد إذا تباعدت تعلّلت
__________
(1) الأقيال والأقوال: جمع قيل، وهم ملوك اليمن في الجاهلية. والقيل دون الملك الأعظم.
والأساورة: صيغة جمع الجمع. والأسوار والإسوار هو قائد الفرس، وهو أيضا الفارس من فرسانهم المقاتل. قال في اللسان: والهاء في «أساوره» عوض من الياء، وكأن أصله «أساوير» وكذلك الزنادقة أصله زناديق عن الأخفش.
(2) النغل، بالتحريك: فساد الأديم في دباغه. وفي الحديث: «ربما نظر الرجل نظرة فنغل قلبه كما ينغل الأديم في الدباغ فيتثقّب».(7/322)
بالمكاتبات في بلوغ الأوطار، والدّيار إذا تناءت اكتفت بالمراسلة عن تقارب الدّار، والمودّة إذا صفت لا يؤثّر فيها البعاد، والمحبّة إذا صدقت لا تزال كلّ يوم في ازدياد (والأذن تعشق قبل العين أحيانا)، والوصف يحرّك من الشّوق أغصانا وأفنانا.
هذا وإنّ أحقّ ما اتّخذته الملوك ذريعة لدواعي الابتهاج، وأهمّ ما اهتمّ به متخّت بتخت أو متوّج بتاج إحياء مذاهب الملوك السالفة في الوداد، واقتفاء آثارهم الجميلة في موارد المكاتبات على التّنائي والبعاد ومن ثم صدرت هذه المكاتبة إلى المقام العالي، السلطانيّ، الكبيريّ، الأخويّ، الفلانيّ، ركن الملّة الإسلامية، عماد المملكة الجنكزخانيّة، ذخيرة الدين، خليل أمير المؤمنين زيدت عظمته، ودامت معدلته تخصّه بسلام تهبّ به الجنوب فتؤثّر به في الشّمال القبول (1)، وتخصّ به إلى السّراى سراها ليكون لها ببيت بركة أشرف قدم وأكرم وصول وتمدّ على خوارزم والدّشت فضل رواقه المديد وتنشر على مملكة السّرير (2) لواءه فيعم ما بين جيحون وطرنا (3) ويشمل ما بين الخطا (4) والباب الحديد. وتناجي علمه الشريف بأنه غير خاف عن شريف مقامه أن من سلف من ملوك مملكتنا العالية الذّرى، والمملكة القانيّة المرفوعة الذّكر رفع نار القرى لم تزل ملوكهم مجتمعة مع تنائي الدّيار، مؤتلفة على المحبّة وإن شطّ المزار، محافظين على تتابع الرّسل وإن حال دونهم الصّفاح (5)، مثابرين على توارد الكتب
__________
(1) القبول: ريح الصّبا.
(2) قال ياقوت: ومملكة السرير بلاد واسعة بين اللان وباب الأبواب وليس إليها إلا مسلكين: مسلك إلى بلاد الخزر ومسلك إلى بلاد أرمينية وهي ثمانية عشر ألف قرية في جبال. واسمها من سرير ذهبي كان لبعض ملوك الفرس. (معجم البلدان: 3/ 218ومقدمة ابن خلدون: 130129).
(3) في حاشية الطبعة الأميرية: «لعله طنا. أو طرلو».
(4) بكسر الخاء المعجمة وفتح الطاء المهملة وألف في الآخر، كما تقدم ضبطه في الجزء الرابع ص 483.
(5) يقال: لقيه صفاحا أي مواجهة.(7/323)
ولو على أجنحة الطير ومتون الرّياح وقد مضت مدّة مديدة لم يقدم علينا من المقام الشريف عظّم الله تعالى شأنه رسول يطفيء لواعج الاشتياق، ولا ورد عنه كتاب يتعلّل المحبّ بتلقّيه عن حقيقة التّلاق بل سدّ باب المكاتبة حتّى كأنّ المكاتبة لم تخلق وأغلق باب المراسلة وإن كان باب المحبّة بحمد الله لم يغلق فطمح بخاطرنا الشريف طامح الشوق المتزايد، وحملنا موصول المحبّة المستغني بمواصلته عن الصّلة والعائد، أن نفاتح المقام العالي دامت معدلته بهذه المفاوضة: لتجدّد من العهود القديمة رسومها، وتطلع من مشارق المخاطبة نجومها وتنسخ آية الهجران وتمحوها، وتصقل مرآة المصافاة وتجلوها، وتستجلب الأنس وإن صحّ الميثاق، وتذكّر الخواطر الوداد وإن ثبتت منه الأصول ورسخت الأعراق، وتنوب عن نظرنا الشريف في مشاهدة محيّاه الكريم، ومصافحة كفّه التي حديث ودّها قديم، وتستطلع أخباره، وتستعرض على تعاقب الأزمان أوطاره.
وقد اخترنا لتبليغ رسالتها، وأداء أمانتها، المجلس السامي المقرّب الأمين خواجا فلان أعزّه الله تعالى، وحمّلناه من السلام ما يهتدي بضوئه الساري، ويفوق بعرفه العنبر الشّحريّ (1) والمسك الدّاري (2): ليحكم بحسن السّفارة من المخالصة مبانيها، ويعقد منها بمتابعة الرّسل والقصّاد أواخيها وجهّزنا صحبته كذا وكذا على سبيل الهديّة المندوب بذلها وقبولها، والحاكم بصحة عقد المحبّة كثيرها وقليلها والله تعالى يزيد في ارتفاع قدره الخطير، ويحوط به من ملكه الجنكزخاني ما يحقّق أنه صاحب التاج والسّرير.
__________
(1) نسبة إلى «الشّحر»، بكسر أوله وسكون ثانيه. والشّحر هو صقع على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن. قال الأصمعي: هو بين عدن وعمان، وإليه ينسب العنبر الشحريّ لأنه يوجد في سواحله.
(معجم البلدان: 3/ 327).
(2) نسبة إلى دارين. قال ياقوت: وهي فرضة بالبحرين يجلب إليها المسك من الهند. والنسبة إليها داريّ. (معجم البلدان: 2/ 432).(7/324)
الجملة الثالثة (1)
(في رسم المكاتبة إلى من انطوت عليه هذه المملكة من الأتباع والحكّام وهم على (2) أصناف)
الصّنف الأوّل (كفّال المملكة)
قد تقدّم أن ترتيب هذه المملكة في أمراء الألوس والوزير نحو مملكة إيران، وإن لم يكن لأمير الألوس ولوزير بهذه المملكة من نفاذ الأمر نظير ما هنالك. ومقتضى ذلك أن يكونا منحطّين في الرتبة عن أمراء الألوس بإيران والوزير بها وهذه الرسوم التي وقعت في مكاتباتهم على ما أورده في «التثقيف».
وأمراء الألوس أربعة، أكبرهم يسمّى بكلاري بك بمعنى أمير الأمراء كما تقدم في مملكة إيران. فقد ذكر في «التثقيف» أنه كان منهم في سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة قطلوبغا إيناق، وأنه كتب إليه في عاشر جمادى الآخرة منها ما صورته:
«ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، العونيّ، الزّعيميّ، الممهّديّ، المشيّديّ، الظهيريّ، النّوينيّ، السّيفيّ عزّ الإسلام والمسلمين، سيف الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، زعيم الجيوش، مقدّم العساكر، كهف الملة، ذخر الدولة، ظهير الملوك والسلاطين، سيف أمير المؤمنين». ثم الدعاء والعلامة «أخوه» وتعريفه «قطلوبغا إيناق نائب القان جاني بك».
ثم ذكر أنّ الأمر كان عند القان محمد بمثابة الأمير يلبغا العمريّ (3)، يعني
__________
(1) لم يذكر الجملة الثانية.
(2) بياض في الأصل. ومع ذلك لم يذكر إلا صنفين.
(3) هو الأمير يلبغا الخاصكي الناصري الذي توفي سنة 1366م. وكان متكلما على الأبواب السلطانية في أيام الناصر حسن بن محمد بن قلاوون. (الخطط التوفيقية: 1/ 104103ومنطلق تاريخ لبنان: 146).(7/325)
الخاصكيّ بالأبواب السلطانية بالديار المصرية، وأنه استحدثت المكاتبة إليه في سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، وأنه كتب إليه في قطع الثّلث ما صورته:
«أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، المجاهديّ، المؤيّدي، الذّخريّ، النّصيريّ، الهماميّ، المقدّميّ، النّوينيّ، السيفيّ عزّ الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، مقدّم العساكر، ذخر الدولة، عضد الملوك والسلاطين، حسام أمير المؤمنين». والدعاء المناسب. والعلامة «والده». وتعريفه «مماي». وفي هذا نظر: لأنّه إذا كان بمثابة ما كان عليه يلبغا بالديار المصرية، فمقتضاه أن يكون أكبر أمرائه. وإذا كان كذلك، فكيف يكتب إليه دون أمراء الألوس؟ فقد تقدّم أنه يكتب إليهم: «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي».
الوزير بهذه المملكة. قد ذكر في «التثقيف» أن الوزير بها كان اسمه محمودا، ولقبه حسام الدين، وكان يعرف بمحمود الدّيوان. وذكر أن رسم المكاتبة إليه في قطع الثلث ما صورته:
أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، الآمريّ، الكبيريّ، الذّخريّ، الأوحديّ، الاكمليّ، المتصرّفيّ، العونيّ، الوزيريّ، الحساميّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء والوزراء في العالمين جمال المتصرّفين، أوحد الأولياء المقرّبين، ذخر الدولة، مشير الملوك والسلاطين. ثم الدعاء والعلامة «والده». وتعريفه «خواجا (1) محمود وزير المملكة القانيّة».
قلت: وقد علمت أنّ المكاتبة إلى أمراء الألوس والوزير بهذه المملكة دون المكاتبة إلى أمراء الألوس والوزير بمملكة إيران، فقد تقدّم أن المكاتبة إلى
__________
(1) في الفارسية «خواجه» بواو معدلة أي لا تنطق فهي على ألسنة عجم ايران «خاجه» ومعناها السيد ورب البيت والتاجر الغني والحاكم والخصيّ. وفي الصبح: 6/ 13: «الخواجا من ألقاب أكابر التجار الأعاجم من الفرس ونحوهم» والخواجكي نسبة إليه. (تأصيل الدخيل: 91).(7/326)
بكلاري بك أكبر أمراء الألوس بمملكة إيران: «أعزّ الله تعالى نصر المقرّ الكريم». وإلى الثلاثة الذين دونه: «أدام الله تعالى نصر الجناب الكريم»، ثم استقر «أعز الله تعالى أنصار الجناب الكريم». وأن المكاتبة إلى الوزير:
«ضاعف الله تعالى نعمة المجلس العالي». والمعنى في ذلك ما تقدّم من أنه ليس لأمراء الألوس والوزير بهذه المملكة من التصرّف ما لأمراء الألوس والوزير من التّصرّف بتلك المملكة.
قجا علي بك بهذه المملكة. قال في «التثقيف»: وهو ممن استحدثت المكاتبة إليه في سنة خمس وستين وسبعمائة.
ورسم المكاتبة إليه فيما ذكره في «التثقيف» الاسم و «الساميّ» بالياء وتعريفه اسمه.
الصنف الثاني (الحكّام بالبلاد بهذه المملكة)
وها أنا أذكر من ذكر المكاتبة إليه منهم في «التثقيف».
الحاكم بالقرم (1): وهو إقليم شماليّ بحر نيطش (2). وقاعدته مدينة صلغات، وهي مدينة على نصف يوم من البحر، وقد غلب عليها اسم القرم. وقد ذكر في «التثقيف» أن الحاكم بها في سنة خمسين وسبعمائة كان اسمه زين الدين رمضان ثم استقرّ بعده علي بك ابن عيسى بن تلكتمر. وقد رأيت في بعض
__________
(1) القرم: شبه جزيرة بجنوب روسيا الأوروبية على الساحل الشمالي للبحر الأسود. سقطت القرم في يد التتار سنة 1475م الذين أصبح خاناتهم (قاناتهم) تابعين للسلاطين العثمانيين منذ 1478م.
وقد غزا القانات من عاصمتهم «بخشيسراي» مواني جنوبي روسيا وامتدت إغاراتهم حتى موسكو وبولندا. (الموسوعة العربية الميسرة: 1377).
(2) وهو البحر الأسود. وقد أطلق العرب على البحر الأسود اسماء أخرى مثل: طرابزندة وبحر القرم وبحر الروس. كذلك أطلقوا عليه أحيانا اسم بحر الخزر، وهو في الأصل اسم بحر قزوين. (انظر دائرة المعارف الاسلامية: 6/ 271).(7/327)
التواريخ أن الحاكم بها في حدود ستّ وسبعين وسبعمائة كان ماماي (1) المقدّم ذكره.
وقد ذكر في «التثقيف» أن رسم المكاتبة إلى الحاكم بها في قطع العادة، والعلامة «أخوه» و «صدرت» و «العالي». والذي رأيته في دستور يعزى في الأصل للمقرّ العلائيّ بن فضل الله أنه يكتب إليه في قطع الثلث وأن المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. وتعريفه «الحاكم بالقرم».
الحاكم بأوزاق: وهي مدينة على بحر مانيطش (2) المقدّم ذكره في الكلام على المسالك والممالك. وهو المعروف الآن ببحر الأزق (3) وهي عن القرم في جهة الجنوب والشرق، وبينهما نحو خمس عشرة مرحلة. قال في «التثقيف»:
ورسم المكاتبة إلى الحاكم بها مثل الحاكم بالقرم على السواء. والذي رأيته في الدّستور المقدّم ذكره أنه في قطع الثلث «السامي» بالياء كما في الحاكم بالقرم.
الثاني (من ملوك توران من بني جنكزخان صاحب ماوراء النهر) وقاعدة ملكه في القديم بخارا، والآن سمرقند. ومن مضافاتها غزنة (4) وما والاها من متاخم الهند. وقد تقدّم الكلام عليها مستوفى في الكلام على المسالك والممالك. وقد ذكر في «التعريف» أنّ آخر ما استقرّت لترماشيرين، وكان حسن الإسلام عادل السّيرة، طاهر الذّيل، مؤثرا للخير، محبّا لأهله، مكرما لمن يرد من العلماء والصّلحاء، وطوائف الفقهاء والفقراء.
قال: وكتب إليه على رسم المكاتبة إلى صاحب إيران. وقد تقدّم في الكلام على المكاتبة إلى صاحب إيران نقلا عن «التعريف» أنه يكتب إليه في قطع
__________
(1) الذي تقدم ذكره هو «مماي».
(2) وهو بحر آزوف. ويقال أيضا: مايطس، من النونانية: (مايوتيس).
(3) وهو بحر آزوف. ويقال أيضا: مايطس، من النونانية: (مايوتيس).
(4) قال ياقوت: يقول العامة غزنة والصحيح عند العلماء «غزنين» ويعربونها فيقولون: جزنة، ويقال لمجموع بلادها: زابلستان، وغزنة قصبتها، وهي مدينة عظيمة وولاية واسعة في طرف خراسان، وهي الحد بين خراسان والهند. (معجم البلدان: 4/ 201).(7/328)
البغداديّ الكامل، يبتدأ فيه بعد البسملة وسطر من الخطبة الغراء المكتتبة بالذهب المزمّك بألقاب سلطاننا على عادة الطّغراوات ثم تكمّل الخطبة ويفتتح ببعدية إلى أن تساق الألقاب، وهي: «الحضرة العالية، السلطانيّة، الأعظميّة، الشاهنشاهيّة، الأوحدية، الأخوية، القانيّة، الفلانية». ولا يخلط بها «الملكية» لهوانها عليهم ثم يدعى له بالأدعية المفخّمة الملوكية: من إعزاز السّلطان، ونصر الأعوان، وخلود الأيام، ونشر الأعلام، وتأييد الجنود، وتكثير البنود، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى. ثم يقال ما فيه التصريح والتلويح بدوام الوداد، وصفاء الاعتقاد، ووصف الأشواق، وكثرة الأتواق، وما هو من هذه النسبة ثم يؤتى على المقاصد، ويختم بدعاء جليل وتستعرض المراسيم والخدم، ويوصف التطلّع إليها، ويظهر التهافت عليها وأنه تكتب جميع خطبة الكتاب وطغراة بالذهب المزمّك، وكذلك كلّ ما وقع في أثنائه من اسم جليل، وكل ذي شأن نبيل: من اسم الله تعالى أو لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أو ذكر الإسلام، أو ذكر سلطاننا أو السلطان المكتوب إليه، أو ما هو متعلّق بهما، مثل لنا ولكم، وكتابنا وكتابكم، جميع ذلك يكتب بالذهب وما سواه بالسّواد. وأن العنوان يكون بالألقاب إلى أن ينتهي إلى اللقب الخاص ثم يدعى له بدعوة أو اثنتين نحو أعزّ الله تعالى سلطانها، وأعلى شانها ونحو ذلك. ثم يسمّى اسم السلطان المكتوب إليه ثم «يقال» خان: مثل أن يقال: ترماشيرين خان، ويطمغ بالذهب طمغات عليها ألقاب سلطاننا تكون على الأوصال، يبدأ بالطّمغة على اليمين في أوّل وصل، وعلى اليسار في ثاني وصل، ثم على هذا النمط إلى أن ينتهي في الآخر إلى اليمين، ولا يطمغ على الطرّة البيضاء. والكاتب يخلي لمواضع الطّمغة مواضع الكتابة تارة يمنة، وتارة يسرة، إلى غير ذلك مما سبق القول عليه.
قلت: وآخر ما استقرّت هذه المملكة لتمرلنك (1) وتمر اسمه الذي هو علم
__________
(1) ولد تيمورلنك بالقرب من «كش» من أعمال ما وراء النهر في الخامس والعشرين من شعبان 736 هـ / 8أبريل 1336م وأبوه الأمير تاراغاي أو تورغاي والي كش ونواحيها قبل حاجي برلاس وتكينه خاتون. وتزعم أسرته أنها انحدرت من صلب جنكزخان. وعرف تيمورلنك باسماء متعددة منها:
«كوركان» أي زوج ابنة الخاقان، و «الأمير الكبير» و «صاحب قران». ولقب أخيرا «بالسطان» عام 790هـ / 1388م كما لقب بعد وفاته ب «جنّت مكان» أي ساكن الجنة وتوفي في 17يناير من سنة 1405م / 807هـ بالغا من العمر إحدى وسبعين سنة. (دائرة المعارف الإسلامية:
10/ 301300).(7/329)
عليه، ومعناه بالتركية حديد. ولنك لقب عليه، ومعناه بالفارسية أعرج: لأنّه كان به عرج ظاهر ولذلك تسمّيه التّرك تمر أقصق، إذ أقصق عندهم بمعنى أعرج. وهو يتسمّى في كتبه تيمور كوركان. ومن هذه المملكة انساب على بلاد إيران حتّى استولى على جميعها، وسار إلى بلاد الهند فاستولى عليها ثم طاح إلى الشام في سنة ستّ (1) وثمانمائة وعاث فسادا، وخرّب وأفسد ولقيه السلطان «الملك الناصر» فرج ابن الظاهر برقوق صاحب مصر والشام على دمشق وجرت بينهما مراسلة ثم طرأ للسلطان الملك الناصر ما أوجب عوده إلى مصر لأمر عرض له من جهة
__________
(1) في «نزهة النفوس» للخطيب الصيرفي وفي «دائرة المعارف الإسلامية» كان اجتياح تيمورلنك لبلاد الشام سنة 803هـ. قال الخطيب الصيرفي: «وفي سنة 803هـ خربت على أيدي التمرلنكية من البلاد الشمالية ملطية وأبلستين ودرنده وزبطرا وكختا وكركر وحصن منصور وبهسنا وقلعة الروم وعينتاب وتل باشر وكلت وأعزاز وحلب الشهباء والباب والرها ومعرة النعمان وحماة وبعلبك، وأعظمها دمشق التي لم يكن مثلها في البلاد. وأما التي أخذ منها الأموال ووقع فيها الشتات والنكال:
صفد وبيروت وحمص والبيرة وأما التي وقع فيها الحوادث وأخلي أهلها منها: راوندان وتبريز وبيسه وحارم وسرمين وشيزر وكرك نوح وطرابلس، وكل ذلك بمقدور الله تعالى وصغر سن المقام الشريف». وأضاف في «ذكر ما وقع من الحوادث بعد قدوم السلطان من الشام» أن غالب أهل الرملة وغزة والقدس ودمشق وصفد وحماة وطرابلس قدموا إلى الديار المصرية وتركوا أولادهم وأوطانهم وأموالهم خوفا من تمرلنك، فمنهم من جاء حافيا عاريا، ومنهم من جاء عليه قميص واحد على بدنه في البرد الشديد وحين دخل السلطان في التاريخ المذكور أصبحت اسواق البلد خرابا خالية عن الخبز خمسة أيام، وما كان شراؤهم ذلك إلا من الأفران بعد مشقة زائدة ويجتمع وقت الصبح على كل فرن اكثر من خمسمائة نفر» وجاء في دائرة المعارف الإسلامية:
«ودخل تيمور بلاد الشام واستولى على حلب وأباحها ثلاثة أيام بعد أن طلب من علمائها أن يفتوا باستشهاد كل من قتل من جنده أو جند أعدائه، ثم استولى على حمص وحماة وبعلبك وأوقع الهزيمة بالسلطان فرج، وسقطت مدينة دمشق فأعمل فيها السلب واستعبد أهلها واغتصب من علمائها فتوى تؤيد مسلكه». (انظر دائرة المعارف الاسلامية: 10/ 301ونزهة النفوس:
2/ 9793والخطط التوفيقية: 1/ 115114).(7/330)
بعض أمرائه (1)، وبقى تمرلنك نازلا بالشام محاصرا لدمشق، إلى أن خدع أهلها وفتحها صلحا، ثم غدر بهم ونهبها وسبى حريمها، ثم حرّقها بعد ذلك بعد أن أسرف في القتل وأثخن في الجراج، وأمعن في الأسر.
وللمكاتبة إليه حالتان:
الحالة الأولى حين كان السلطان الملك الناصر فرج عزّ نصره بالشام محاربا له، وكتبه حينئذ ترد في القطع الصغير على ما سيأتي ذكره، وكان يكتب إليه حينئذ في قطع (2)
مما فات المؤلف رحمه الله تعالى ما كتب عن مولانا الشهيد الملك الظاهر أبي سعيد برقوق، تغمّده الله تعالى برحمته ورضوانه، في جواب الأمير تمرلنك المدعو تيمور، عن الكتب الواردة منه قبل ذلك من إنشاء المرحوم المقرّ البدريّ محمد، ابن المرحوم المقرّ العلائيّ عليّ ابن المرحوم المقرّ المحيوي يحيى، بن فضل الله العمري العدويّ القرشيّ
__________
(1) يشير الخطيب الصيرفي إلى أن عودة الملك الناصر إلى مصر كانت بعد أن «وقع بين العساكر المصرية هرج عظيم لما قيل إن بعض الأمراء الخاصكية قد هربوا من دمشق طالبين الديار المصرية، وكثر الكلام والقيل والقال حتى وقع في قلوب الناس رعب عظيم وخوف جسيم» ويضيف أنه «لما كان نصف الليل ليلة الجمعة الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة 803 هـ خرج السلطان وصحبته بعض المماليك وأخذوا طريق بعلبك وساقوا من فوق جبل الثلج على طريق عكا ولم يلتفقوا وراءهم» وتشير رواية النجوم الزاهرة أنه في هذه الليلة ركب الأمراء «وأخذوا السلطان الناصر على حين غفلة وساروا به من غير أن يعلم العسكر به يريدون الديار المصرية» ومن ثم بقي الجنود وعامة الناس بلا سلطان يدبر أمرهم مما أوقع الفوضى في الصفوف، فكان من ذلك تتابع العسكر والأمراء الباقين في اللحاق بالسلطان وقصدهم مصر متخفّفين من سلاحهم وكراعهم». وسوف يشير الناصر الى هذا الأمر في رسالته إلى صاحب فاس فيما بعد:
ص 410من هذا الجزء (نزهة النفوس: 2/ 82وما بعدها. والخطط التوفيقية: 1/ 115114).
(2) يشير محقق الطبعة الأميرية إلى أن المؤلف بيّض لبقية الكلام وقد استدرك بعضهم له بقية وأثبتها في النسخة الخطية بخط مغاير لخط الأصل وعنوانها هكذا «مما فات المؤلف» ونصه على ما سيأتي في الصفحات التالية.(7/331)
رحمهم (1) الله تعالى في سنة ست وتسعين وسبعمائة، عند سفر مولانا السلطان المشار إليه إلى حلب المحروسة لملتقى المذكور، في قطع الثلث بغير علامة وسعة ما بين السطور قدر عرض الإصبعين. والطرّة وصلان، طولهما نحو الذّراع الهاشميّ، وكان عنوان كتاب تمرلنك الذي ورد آخرا وهو الذي اقتضى الحركة الشريفة والجواب المشار إليه.
سلام وإهداء السّلام من البعد ... دليل على حسن المودّة والعهد
فكتب العنوان الشريف:
طويل حياة المرء كاليوم في العدّ ... فخيرته أن لا يزيد عن الحدّ!
فلا بدّ من نقص لكلّ زيادة ... لأنّ شديد البطش يقتصّ للعبد!
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله العليّ الشان، العظيم السلطان، العميم الإحسان، العليم بما
__________
(1) بدر الدين محمد بن محيي الدين بن فضل الله هو أحد أفراد أسرة فضل الله العمري التي تولت لأكثر من قرن من الزمان وظيفة صاحب ديوان الإنشاء، أو كاتب السرّ في دولتي المماليك البحرية والبرجية. وقد شغل أفراد هذه الأسرة هذه الوظيفة عن جدارة أدبية، وإلى أحد افرادها وهو القاضي شهاب الدين أحمد بن محيي الدين يرجع الفضل في وضع المصطلح الشريف الخاص بأصول المكاتبات والمراسلات وغيرها من أعمال ديوان الإنشاء وكان بدر الدين محمد صاحب فضل كبير على القلقشندي نفسه، فهو الذي ألحقه بالعمل بديوان الإنشاء. وقد تولى رئاسة ديوان الإنشاء من بين أفراد الأسرة خمسة اشخاص وهم:
1 - القاضي شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله.
2 - القاضي محيي الدين بن فضل الله، ومعه ابنه القاضي شهاب الدين أحمد وكان يقرأ البريد على السلطان وينفذ المهمات.
3 - القاضي محيي الدين بن فضل الله ومعه ابنه القاضي علاء الدين، وكان كأخيه شهاب الدين أحمد يقرأ البريد على السلطان وينفذ المهمات.
4 - القاضي علاء الدين بن محيي الدين بن فضل الله استقلالا.
5 - القاضي بدر الدين محمد بن محيي الدين بن فضل الله. (انظر القلقشندي وكتابه صبح الأعشى: ص 107106).(7/332)
كان وما يكون في كل زمان ومكان تاهت في ميادين فلوات معرفته سوابق جياد الأفهام، وتدكدكت لهيبة جلاله جبال العقول والأوهام وصلّى الله على سيدنا محمد حبيب الرحمن، وسيد الأكوان، وصاحب المعجزات والبرهان، المبعوث إلى الخلق أجمعين من الإنس والجانّ، والمنعوت بالفضل العميم، والخلق العظيم، في التّوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وعلى آله وصحبه الغرّ الكرام الحسان، وعلى التابعين لهم بإحسان، وسلّم تسليما كثيرا ما تعاقب الحدثان.
وبعد، فقد وصل إلى أبوابنا الشريفة العالية كلّ ما جهّزته أوّلا وآخرا يا أمير تيمور من كتاب، وأحاطت علومنا الشريفة بما فيها من كلام وخطاب وقصد وعتاب، وإرعاد وإرغاب وإرعاب.
فأما ما ذكرته في أوّل كتبك من ألقابنا الشريفة بالتعظيم، والتّبجيل والتفخيم فقد علمناه وعرفناه، ولكن وجدنا الكلمتين اللتين في الطمغات آخر الكتب وهما راستي رستي منافيتين لذلك التعظيم، وهذا غير مستقيم لأنه متناقض غير متناسب، فعجبنا من هذا التناقض الواضح، والتخالف الفاضح وفي المثل السائر: «أصلح وقابل وأفسد وقابل».
وأمّا إرسالك السيف والتّركاش (1) لنا، فقد تعجّبنا منه إلى الغاية، وأنكرناه إلى النّهاية: لأنك لم تزل في كتبك كلّها تستشهد بتاريخ جنكزخان وأخباره وأحواله، وتقتدي به في أقواله وأفعاله وما سمعنا في التواريخ ولا أتّفق قطّ من جنكزخان، ولا ممن تقدّمه وتأخّره من ملوك مملكته في زمن من الأزمان، أنّه أهدى إلى خادم الحرمين الشريفين سيفا ولا تركاشا ما اختلف في ذلك اثنان.
فإرسالهما منك إلينا هل هو من باب المحبة أو لا، وإن كان تخويفا، فنحن ما نخاف من سيفك وتركاشك بعناية الله العظيم الأعلى.
__________
(1) التركاش: لفظ فارسي الأصل ومعناه الكنانة أو الجعبة التي توضع فيها النشاب. (التعريف بمصطلحات الصبح: 76ونزهة النفوس: 3/ 251).(7/333)
السّيف والرّمح والنّشّاب قد علمت ... منّا الحروب فسلها فهي تنبيكا!
إذا التقينا تجد هذا مشاهدة ... في الحرب، فاثبت فأمر الله آتيكا!
بخدمة الحرمين الله شرّفنا ... فضلا وملّكنا الأمصار تمليكا!
وبالجميل وحلو النّصر عوّدنا، ... خذ التّواريخ واقرأها تلبّيكا!
والأنبياء لنا الرّكن الشّديد فكم ... بجاههم من عدوّ راح مفلوكا (1)!
ومن يكن ربه الفتّاح ناصره، ... ممّن يخاف؟ وهذا القول يكفيكا!
وقد أجبناك عن السيف والتّركاش فيما مضى قبل هذا الوقت وتقدّم، فاعرف ذلك واعلم.
وأما ما ذكرته من قولك: إنك فتحت معنا باب المحبة والوداد، والصّحبة والاتّحاد، لا باب المخاصمة والمشاورة والعناد فقد علمنا ذلك وفهمناه. والذي نعرّفك به أنّ الذي وقع منك بخلاف ما قلت: لأنك لو كنت صادقا في قولك، كنت لمّا حضر إليك شكر أحمد وأرغون السلامي (2) اللذان هما من بعض ممالكينا ومن جملة رعايانا أمسكتهما وجهّزتهما إلينا بعد أن قيّدتهما فما فعلت ذلك بل عملت بالضدّ منه لأنّك آويتهما، وحميتهما وعظّمتهما وأكرمتهما وجعلتهما من خواصّك وأحبابك، وأوليائك وأصحابك. وأيضا توجّه إليه صولة بن حيار (3) الذي هو قطعة هجّان (4) من هجّانتنا فأكرمته، وألبسته التاج وعظّمته وبعثت معه خلعة إلى نعير (5)
__________
(1) فلك فلكا فهو مفلوك: يبست مفاصله.
(2) كانا ممن شارك أيتمش البجاسي أتابك العساكر في تمرده على السلطان فرج سنة 802هـ. (نزهة النفوس: 2/ 35).
(3) هذا الضبط من الأصل ورسم فيه تحتها حاء صغيرة إشارة إلى الإهمال، ولكن الذي سبق في الأجزاء المتقدمة «جبار» بالجيم والباء تبعا للأصل والضوء والتعريف. (انظر حاشية الطبعة الأميرية:
7/ 310).
(4) الهجّان من العساكر هو راكب الهجين. والهجين من الخيل هو ما تلده برذونة من حصان عربي، ومن النوق الخفيف الجسم السريع الجري. وقوله: قطعة هجان أي مجرد عسكري نفر.
(5) وهو محمد بن حيار بن مهنا بن عيسى أمير آل فضل بالشام. وكان قد تواطأ مع منطاش ضد برقوق.
وكان مقتله سنة 808هـ. (نزهة النفوس: 2/ 9حاشية).(7/334)
المذكور وإلى غيره من عربانه، ووعدته بالتّقدمة والإمارة، بالتصريح العظيم لا بالتلويح والإشارة وكتبت إليه كتابا ما تركت فيه ولا خلّيت، وأظهرت كلّ ما كان عندك وما أبقيت فجهّزه إلينا وقريء على مسامعنا الشريفة كلمة كلمة، وعرفنا واضح معناه ومبهمه وها نحن نشرحه لك لتعلم وتتحقّق أنه وصل إلينا، واطّلعنا عليه وما خفي أمره علينا. وهذا نصه:
دام دولته الأمير الكبير، المعظّم أمير نعير، أدام [الله] دولته شمسا. نعرض لعلوّ علومه المحروسة أنه قد اتّصل بنا طردك عن الشام، ومعاملتهم معك غير الواجب.
حال وقوفك على هذا المثال تسرع في الوصول إلينا بحيث نعطيك ما أعطي المرحوم عمك أمير سليمان طاب ثراه، ونجعلك مقدّم العساكر المنصورة وبهذا برز الحكم المطاع من الحضرة العالية ففي عزم العساكر والجيوش المعظّمة الوصول إلى أطراف البلاد شرقا وغربا وروميّا من سائر النواحي والأمصار، والبلاد والأقطار وإن أبطأ ركابك عن الوصول، فنحن واصلون إليكم في طريقنا إلى مصر وغيره، ولا يبقى لطاعتك مزيّة ولا منّة، فيكون ذلك على الخاطر المبارك.
فينبغي أن لا يكون جواب الكتاب، إلا قدوم الركاب ففيه لكم الفوائد العظيمة، والعطايا الجسيمة ومع [ذلك] إصابة الرأي منكم، تغني عن تأكيد الوصية إليكم ومهما عرض من المهامّ يقضى حسب المراد، ومنهج السّداد والله الموفق.
وبحاشية الكتاب المذكور ما نصّه:
وقد كتبنا إلى السلطان أحمد أن يصل إلينا، فانظر كيف كان عاقبة أمره؟
فينبغي أن تتوجّه أو يتوجّه بعض أولادك إلينا لأجل مصالحك كافّة.
فيا أمير تيمور لو كنت صادقا، وكلامك بالحق ناطقا، ما وقع منك مثل هذا ولا صدر، ولا اتّفق بل ولا ببالك خطر ولكن كلّ ما يكون في خاطر الإنسان يظهر من الكلام الذي يخرج من فيه، وكلّ وعاء ما ينضح إلا بما فيه.
يا فاعلا بالضّدّ من قوله ... فعل الفتى دال على باطنه
والمرء مجزيّ بأعماله ... إذا أظهرت ما كان في كامنه
وأما طلبك منّا السلطان أحمد الحلايري غير مرّة، فقد علمناه. ولكن عرّفنا يا أمير تيمور إيش عمل بك؟ حتّى حلفت له عدّة مرار بأيمان الله تعالى العظيمة وأعطيته العهود والمواثيق بأنك ما تتعرض إليه ولا إلى مملكته ولا توافيه ولا تشوّش عليه، حتّى اطمأنّ بأيمانك، وركن إليك، وأحسن ظنّه فيك، ووثق بك، واعتمد عليك فخنته وغدرته، وأتيته بغتة على حين غفلة وبدرته وأخذت مملكته وبلاده، وأمواله وأولاده. وأعظم من ذلك أنّك أخذت أيضا حريمه وهنّ في عقد نكاحه وعصمته وأعطيتهنّ لغيره، وقد نطق الكتاب والسنة بتحريم ذلك وعظم ذنب فاعله وقبيح جرمه ففي أيّ مذهب من المذاهب يحلّ لك أخذ حريم المسلمين، وإعطاؤهنّ لغير أزواجهنّ من المفسدين الظالمين؟ وهنّ في عصمة أزواجهنّ وعقد نكاحهنّ إنّ هذا لهو البلاء المبين وكيف تدّعي أنك مسلم وتفعل هذه الفعال؟ عرّفنا في أيّ مذهب لك هذا حلال؟ فأعمالك هذه كلّها منافية لدعواك، بل منافية لدين الإسلام، وشرع سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الْكََافِرُونَ} (1) وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ} (2) وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الْفََاسِقُونَ} (3) وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللََّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (4) وقد بيّن لنا الخير والشر، والحلال والحرام وأهلها فقال: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسََانِ وَإِيتََاءِ ذِي الْقُرْبى ََ وَيَنْهى ََ عَنِ الْفَحْشََاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} (5) وقال تعالى: {وَلََا تَقْرَبُوا الزِّنى ََ إِنَّهُ كََانَ فََاحِشَةً وَسََاءَ سَبِيلًا} (6)(7/335)
فيا أمير تيمور لو كنت صادقا، وكلامك بالحق ناطقا، ما وقع منك مثل هذا ولا صدر، ولا اتّفق بل ولا ببالك خطر ولكن كلّ ما يكون في خاطر الإنسان يظهر من الكلام الذي يخرج من فيه، وكلّ وعاء ما ينضح إلا بما فيه.
يا فاعلا بالضّدّ من قوله ... فعل الفتى دال على باطنه
والمرء مجزيّ بأعماله ... إذا أظهرت ما كان في كامنه
وأما طلبك منّا السلطان أحمد الحلايري غير مرّة، فقد علمناه. ولكن عرّفنا يا أمير تيمور إيش عمل بك؟ حتّى حلفت له عدّة مرار بأيمان الله تعالى العظيمة وأعطيته العهود والمواثيق بأنك ما تتعرض إليه ولا إلى مملكته ولا توافيه ولا تشوّش عليه، حتّى اطمأنّ بأيمانك، وركن إليك، وأحسن ظنّه فيك، ووثق بك، واعتمد عليك فخنته وغدرته، وأتيته بغتة على حين غفلة وبدرته وأخذت مملكته وبلاده، وأمواله وأولاده. وأعظم من ذلك أنّك أخذت أيضا حريمه وهنّ في عقد نكاحه وعصمته وأعطيتهنّ لغيره، وقد نطق الكتاب والسنة بتحريم ذلك وعظم ذنب فاعله وقبيح جرمه ففي أيّ مذهب من المذاهب يحلّ لك أخذ حريم المسلمين، وإعطاؤهنّ لغير أزواجهنّ من المفسدين الظالمين؟ وهنّ في عصمة أزواجهنّ وعقد نكاحهنّ إنّ هذا لهو البلاء المبين وكيف تدّعي أنك مسلم وتفعل هذه الفعال؟ عرّفنا في أيّ مذهب لك هذا حلال؟ فأعمالك هذه كلّها منافية لدعواك، بل منافية لدين الإسلام، وشرع سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الْكََافِرُونَ} (1) وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ} (2) وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الْفََاسِقُونَ} (3) وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللََّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (4) وقد بيّن لنا الخير والشر، والحلال والحرام وأهلها فقال: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسََانِ وَإِيتََاءِ ذِي الْقُرْبى ََ وَيَنْهى ََ عَنِ الْفَحْشََاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} (5) وقال تعالى: {وَلََا تَقْرَبُوا الزِّنى ََ إِنَّهُ كََانَ فََاحِشَةً وَسََاءَ سَبِيلًا} (6)
__________
(1) المائدة / 44.
(2) المائدة / 45.
(3) المائدة / 47.
(4) الطلاق / 1.
(5) النحل / 90.
(6) الإسراء / 32.(7/336)
وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلََاتِهِمْ خََاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكََاةِ فََاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حََافِظُونَ إِلََّا عَلى ََ أَزْوََاجِهِمْ أَوْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى ََ وَرََاءَ ذََلِكَ فَأُولََئِكَ هُمُ العََادُونَ} (1) وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه». وقال عليه السّلام: «المسلم من سلّم المسلمون من يده ولسانه».
ففي أيّ مذهب من دين الإسلام تستحلّ هذه المحرّمات العظيمة، والمنكرات القبيحة الشنيعة الجسيمة، التي يهتزّ لها العرش ويغضب الله عز وجلّ لها ورسله والملائكة والناس أجمعون؟ وما كفى ما فعلت مع القان أحمد المشار إليه حتّى تطلبه منا؟. اعلم أنّ القان أحمد (2) المشار إليه قد استجار بنا وقصدنا، وصار ضيفنا وقد ورد: من قصدنا وجب حقّه علينا. وقال تعالى لسيد الخلق أجمعين في حقّ الكفار الذين هم أنحس الناس: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجََارَكَ فَأَجِرْهُ حَتََّى يَسْمَعَ كَلََامَ اللََّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (3) فكيف بالمسلمين إذا استجاروا بالمسلمين؟ وكيف بالملوك أبناء ملوك المسلمين، الذين لأسلافهم الكرام معنا ومع ملوك الإسلام خدّام الحرمين الشريفين صحبة ومحبة وأخوّة في الله تعالى؟
ولو لم يكن ذلك كيف يجوز في شرع المروءة والنّخوة الوفاء أن نسلّم ضيفنا ونزيلنا والمستجير بنا؟ خصوصا وجنسنا جركس جنس ملوك الإسلام السالفين، خدّام
__________
(1) المؤمنون / 21.
(2) وهو السلطان أحمد بن أويس صاحب بغداد. وتفسير خروج السلطان أحمد من بغداد عند أبي المحاسن في النجوم الزاهرة أنه كان قد أساء السيرة في رعيته وامرائه فتآمروا عليه وحاربوه مما حمله على التوجه إلى قرا يوسف التركماني على أن هناك من يرجع هذا إلى أن تيمور لنك بعث إلى أحمد ابن أويس رسولا من قبله متظاهرا بالفرار منه إليه ولكنه كان في الواقع جاسوسا حيث اتصل بأمرائه وأمدهم بالأموال ليستميل قلوبهم ويسلموا ابن أويس الى تيمور. ولم يدرك أبن أويس حقيقة هذا المبعوث المسمى بشر وان لولا وقوع ورقة في يده بها أسماء من اتصل بهم وما دفعه من رشوة لكل منهم، فما كان منه إلا أن قتل كل من تضمنت الورقة اسمه، وبعد ستة أيام اسرج الخيل سرا وركب في نفر قليل من خدمه إلى قرا يوسف داعيا إياه لنهب بغداد ذكر ذلك العزاوي في العراق بين احتلالين. (انظر نزهة النفوس: 2/ 60والحاشية: 2).
(3) التوبة / 6.(7/337)
الحرمين الشريفين الذين اتّفق لهم مع التّتار ما تشهد به التواريخ، ومن عادتنا وشأننا وطباع جنسنا أننا لا نسلّم ضيفنا ولا نزيلنا ولا من استجار بنا لأحد. وإن كنت ما تصدّق ذلك فعندك من هم من جنسنا، سلهم يعرّفوك، فنحن لا يضام لنا نزيل، ونقري الضيف ونعامله بالجميل، وهذه جبلّتنا الغريزيّة وعادة أصلنا الأصيل فإرسال القان أحمد إليك أمر مستحيل.
إنّا ذوو الفضل الغزير الوارف ... أبوابنا هي ملجأ للخائف!
نقري الضّيوف ولا يضام نزيلنا، ... شيم ورثنا فضلها عن سالف!
وكليمة تكفي الذي هو عاقل، ... والرّمز تصريحا غدا للعارف!
وقولك: إن العادة كانت جارية بين من سلف من ملوك الإسلام وملوك التتار، أنّه من هرب من جهة إلى أخرى يمسكه الملك الذي يهرب إليه ويقيّده ويجهّزه إلى الملك الذي هرب من عنده، وأن دمرداش بن جوبان لما هرب في الزمن الماضى من ملكه وجاء إلى سلطان مملكتنا المعظّمة المشرّفة، أمسكه وقيّده وأرسله إليه، فقد علمناه، وليس هذا الذي قلته وحكيته بصحيح، لأن الذي وقع واتّفق بخلافه: وهو أنّ أميرا من أمراء السلطان الملك الناصر كان يسمّى قراسنقر، هرب من عنده وراح إلى أبي سعيد فقطع رأسه، وجهّزه إلى الملك الناصر. وأما دمرداش المذكور فالملك الناصر ما أرسله إلى أبي سعيد مثل ما قلت وما مات دمرداش المذكور إلا في مصر المحروسة، فليكن ذلك في علمك ثابتا وعلى كلّ حال فكلامك حجة عليك لا لك: لأنّك قد آويت شكر أحمد وأرغون السلامي وأكرمتهما وقرّبتهما، وكذلك كلّ من حضر إليك من مماليكنا ورعايانا وخدمنا من أهل مملكتنا، فلو أمسكتهم وقيّدتهم وجهّزتهم إلينا، كنت تكون صادقا في قولك، وكنت إذا طلبت منا أحدا ما تلام على طلبه، فكيف وأنت البادي والمعتمدي؟ فهذا الكلام كلّه شاهد عليك لا لك.
وأما قولك: إنّ صاحب تكريت كان حراميّا قاطع طريق، ففعلت معه ما فعلت مقابلة له على نجسه وحرامه وقطعه الطّرقات، فقد علمناه وسلّمنا لك هذا الأمر، بيّض الله وجهك، وما قصّرت فيه، فحبّذا ما عملت، ونعم ما فعلت في حقّه من إعطائه جزاءه. أفأهل بغداد كانوا حراميّة قطّاع طريق حتّى فعلت بهم ما فعلت، وقتلت منهم من التّجّار خاصّة ثمانمائة نفس في المصادرة بالعقوبة والعذاب. ففي أيّ مذهب يجوز هذا؟ وهل يحلّ لمن يدّعي الإسلام أن يعمل بخلق الله تعالى الذين أمر بالشفقة عليهم والإحسان إليهم ونشر العدل فيهم هذه الفعال؟ وقد تعجّبنا منك يا أمير تيمور إلى الغاية! كيف تدّعي أنّك عادل، وتعمل بأهل بغداد المسلمين الموحّدين وبغيرهم من المسلمين هذه العمائل؟ أما تعلم أنّ الشفقة على خلق الله تعظيم لأمر الله! وأنّ الله رحيم يحبّ من عباده الرّحماء، وأن الظّلم حرام في جميع الملل؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله تعالى يقول: يا عبادي إنّي حرّمت الظّلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما فلا تظّالموا». وقال عليه السلام: «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن». وورد: «إن فاتني ظلم ظالم فأنا الظّالم» وحسب الظالمين ربّ العالمين الذي قال في حقهم {أَلََا لَعْنَةُ اللََّهِ عَلَى الظََّالِمِينَ} (1) وقال {إِنَّهُ لََا يُفْلِحُ الظََّالِمُونَ} * (2). والباغي له مصرع. ولما جاء هولاكو ومنكوتمر وغازان وقصدوا ملوك الإسلام خدّام الحرمين الشريفين، الذين كانوا من جنسنا كما ذكرنا لك أعلاه، اتّفق لهم ما اتّفق مما هو مشروح في التواريخ ومعلوم عند الناس فمهما أخذه أولئك تأخذه إذا جئت.(7/338)
إنّا ذوو الفضل الغزير الوارف ... أبوابنا هي ملجأ للخائف!
نقري الضّيوف ولا يضام نزيلنا، ... شيم ورثنا فضلها عن سالف!
وكليمة تكفي الذي هو عاقل، ... والرّمز تصريحا غدا للعارف!
وقولك: إن العادة كانت جارية بين من سلف من ملوك الإسلام وملوك التتار، أنّه من هرب من جهة إلى أخرى يمسكه الملك الذي يهرب إليه ويقيّده ويجهّزه إلى الملك الذي هرب من عنده، وأن دمرداش بن جوبان لما هرب في الزمن الماضى من ملكه وجاء إلى سلطان مملكتنا المعظّمة المشرّفة، أمسكه وقيّده وأرسله إليه، فقد علمناه، وليس هذا الذي قلته وحكيته بصحيح، لأن الذي وقع واتّفق بخلافه: وهو أنّ أميرا من أمراء السلطان الملك الناصر كان يسمّى قراسنقر، هرب من عنده وراح إلى أبي سعيد فقطع رأسه، وجهّزه إلى الملك الناصر. وأما دمرداش المذكور فالملك الناصر ما أرسله إلى أبي سعيد مثل ما قلت وما مات دمرداش المذكور إلا في مصر المحروسة، فليكن ذلك في علمك ثابتا وعلى كلّ حال فكلامك حجة عليك لا لك: لأنّك قد آويت شكر أحمد وأرغون السلامي وأكرمتهما وقرّبتهما، وكذلك كلّ من حضر إليك من مماليكنا ورعايانا وخدمنا من أهل مملكتنا، فلو أمسكتهم وقيّدتهم وجهّزتهم إلينا، كنت تكون صادقا في قولك، وكنت إذا طلبت منا أحدا ما تلام على طلبه، فكيف وأنت البادي والمعتمدي؟ فهذا الكلام كلّه شاهد عليك لا لك.
وأما قولك: إنّ صاحب تكريت كان حراميّا قاطع طريق، ففعلت معه ما فعلت مقابلة له على نجسه وحرامه وقطعه الطّرقات، فقد علمناه وسلّمنا لك هذا الأمر، بيّض الله وجهك، وما قصّرت فيه، فحبّذا ما عملت، ونعم ما فعلت في حقّه من إعطائه جزاءه. أفأهل بغداد كانوا حراميّة قطّاع طريق حتّى فعلت بهم ما فعلت، وقتلت منهم من التّجّار خاصّة ثمانمائة نفس في المصادرة بالعقوبة والعذاب. ففي أيّ مذهب يجوز هذا؟ وهل يحلّ لمن يدّعي الإسلام أن يعمل بخلق الله تعالى الذين أمر بالشفقة عليهم والإحسان إليهم ونشر العدل فيهم هذه الفعال؟ وقد تعجّبنا منك يا أمير تيمور إلى الغاية! كيف تدّعي أنّك عادل، وتعمل بأهل بغداد المسلمين الموحّدين وبغيرهم من المسلمين هذه العمائل؟ أما تعلم أنّ الشفقة على خلق الله تعظيم لأمر الله! وأنّ الله رحيم يحبّ من عباده الرّحماء، وأن الظّلم حرام في جميع الملل؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله تعالى يقول: يا عبادي إنّي حرّمت الظّلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما فلا تظّالموا». وقال عليه السلام: «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن». وورد: «إن فاتني ظلم ظالم فأنا الظّالم» وحسب الظالمين ربّ العالمين الذي قال في حقهم {أَلََا لَعْنَةُ اللََّهِ عَلَى الظََّالِمِينَ} (1) وقال {إِنَّهُ لََا يُفْلِحُ الظََّالِمُونَ} * (2). والباغي له مصرع. ولما جاء هولاكو ومنكوتمر وغازان وقصدوا ملوك الإسلام خدّام الحرمين الشريفين، الذين كانوا من جنسنا كما ذكرنا لك أعلاه، اتّفق لهم ما اتّفق مما هو مشروح في التواريخ ومعلوم عند الناس فمهما أخذه أولئك تأخذه إذا جئت.
وأما قولك في كتبك: إنه إن لم نجهّز إليك السلطان أحمد الحلايري مقيّدا تجيء في أوّل فصل الربيع إذا نزلت الشمس برج الحمل، أو لمّا تنزل الميزان، وإن جهّزناه إليك مقيدا، تتأكد المحبة والصّحبة بيننا وبينك، فقد علمناه والذي
__________
(1) هود / 18، والعبارة هي الجزء الأخير من الآية المذكورة.
(2) الأنعام / 135.(7/339)
نعرّفك به هو أننا كنا نتوقّع أنك تجيء قبل هذا الوقت، فقد أبطأت كثيرا، وملوك الإسلام خدّام الحرمين الشريفين الذين كانوا قبلنا ما تصالحوا مع مثل هولاكو وغيره إلا حتّى تزاوروا وتقابلو واجتمعوا، ونحن أيضا كذلك، ما نصطلح إلا بعد أن نتزاور ونتقابل ونجتمع. وأنت طلبت أحمد الحلايري، وها نحن واصلون إليك به، نطلب منك أن تشفّعنا فيه، وتهبنا ذنبه الذي صدر منه، وندخل عليك بسببه، ونسأل إحسانك أن تعيّن لنا موضعا نلتقي معك فيه، حتّى نأتيك بأحمد الحلايري المذكور فيه، ونشفع فيه عندك. فعيّن لنا الموضع المذكور على حسب ما تختار: إما من ذاك الجانب من الفرات، أو من هذا الجانب. وأيّ موضع عينته وسمّيته لنا جئناك بالمشار إليه فيه، وندخل عليك في أمره، ونستوهب ذنبه منك.
وأما ما ذكرته من أمر الرسول، فقد علمناه. والذي نعرّفك به هو أن الرسول المذكور كان يكتب المنازل منزلة منزلة إلى بلادنا المحروسة، واطلع عليه في ذلك جماعة من جهتنا ولما وصل إلى الرّحبة المحروسة، قال للنائب بها: بس الأرض للأمير تيمور واقرأ الخطبة باسمه. فلو كان رسولا مصلحا ما كان كتب المنازل، ولا أكثر فضوله، وتحدّث بما لا ينبغي له، وتكلّم فيما لا يعنيه، وتعدّى طوره: لأنه لا ينبغي للرسول أن يكون إلا أعمى أخرس غزير العقل، ثقيل الرأس، كما قال بعضهم:
إذا قصدت الملوك فالبس ... من التّقى والعفاف ملبس!
أدخل إذا ما دخلت أعمى، ... واخرج إذا ما خرجت أخرس!
وكيف يمكن نائبا الذي هو من جملة مماليكنا، وجبل لحمه ودمه على أنعمنا وصدقاتنا، وغذّي وربّي بلبان فضلنا وجودنا [أن] يبوس الأرض لغيرنا، أو يخطب باسم غيرنا؟ وكيف يترك اسم خادم الحرمين الشريفين أستاذه ويذكر اسم غيره؟. فقد تكرّرت منك الفعال القبيحة، الموجبة لما يقدّره الله تعالى؟ ونحن نقسم بالله تعالى لولا قلت لنعير تعال حتّى أعملك مقدّم العساكر، ونمشي على الشام ومصر وقرّبت مماليكنا وآويتهم، وبدأت بهذا كلّه وحصل منك التعدّي، ما
كان يتفق لرسلك ما اتّفق. ولكنّ الجزاء من جنس العمل، والخير بالخير والبادي أكرم، والشّرّ بالشر والبادي أظلم.(7/340)
إذا قصدت الملوك فالبس ... من التّقى والعفاف ملبس!
أدخل إذا ما دخلت أعمى، ... واخرج إذا ما خرجت أخرس!
وكيف يمكن نائبا الذي هو من جملة مماليكنا، وجبل لحمه ودمه على أنعمنا وصدقاتنا، وغذّي وربّي بلبان فضلنا وجودنا [أن] يبوس الأرض لغيرنا، أو يخطب باسم غيرنا؟ وكيف يترك اسم خادم الحرمين الشريفين أستاذه ويذكر اسم غيره؟. فقد تكرّرت منك الفعال القبيحة، الموجبة لما يقدّره الله تعالى؟ ونحن نقسم بالله تعالى لولا قلت لنعير تعال حتّى أعملك مقدّم العساكر، ونمشي على الشام ومصر وقرّبت مماليكنا وآويتهم، وبدأت بهذا كلّه وحصل منك التعدّي، ما
كان يتفق لرسلك ما اتّفق. ولكنّ الجزاء من جنس العمل، والخير بالخير والبادي أكرم، والشّرّ بالشر والبادي أظلم.
وأيضا كلّ وقت تسأل عن ممالكنا المصونة، وكثرة عساكرنا المنصورة من قلّتها. فلو كنت طالبا المحبة والصحبة والمصادقة، ما وقع منك هذا.
وأما قولك إنّ هولاكو أخذ من كلّ مائة رجل رجلين وجاء بهم، وأنت قد جئت بالرجلين وبالمائة، واعتمادك على كثرة عسكرك على قولك فقد علمناه، وإن كان اعتمادك على كثرة عسكرك فاعتمادنا نحن على الله تعالى واستمدادنا من الحرمين الشريفين، ومددنا ممّن بهما من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والصحابة والصالحين رضي الله عنهم. فإذا تلاقينا يكون ما يقدّره الله تعالى ويعطي الله النصر لمن يشاء، وتعلم ذاك الوقت لمن العاقبة ويظهر فعل الربّ القادر تعالى، وعوائده الجميلة بنا التي لا شكّ عندنا فيها ولا ريب، وقطّ ملوك التتار ما انتصروا على ملوك الإسلام، بل ملوك الإسلام خدّام الحرمين الشريفين، هم المؤيّدون المنصورون المظفّرون بعون الله تعالى، وببركة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، معوّدون من الله الكريم بالفضل والإحسان والغنائم والفتوحات:
لأنهم أهل الكتاب والسّنّة والعدل والخير والخوف من الله تعالى، لا يقعون في محارمه، ولا يقدمون على ارتكاب ما ينهى عنه، فهم المؤمنون المتّقون. وقال الله تعالى: {وَكََانَ حَقًّا عَلَيْنََا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) وقال تعالى: {إِنََّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنََا وَالَّذِينَ آمَنُوا} (2) وقال: {وَالْعََاقِبَةُ لِلتَّقْوى ََ} (3) وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنََا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهََا عِبََادِيَ الصََّالِحُونَ} (4) وسوف ينجز الله تعالى وعده، لأنه لا يخلف الميعاد.
__________
(1) الروم / 47.
(2) غافر / 41.
(3) طه / 132.
(4) الأنبياء / 105.(7/341)
وأما ما ذكرته من أمر قرا يوسف وبير حسن وغيرهما، وأنّ في معاشهم زغلا، وأنّهم مفسدون. وجعلك لكل واحد منهم ذنبا، وأنك أنت العادل الخيّر المفلح، والناس كلّهم مناحيس وأنت الصالح والله يعلم المفسد من المصلح، فقد علمناه. والذي نعرّفك به هو أنّ النّور لا يجتمع مع الظلام، ولا اليقظة والمنام، ولا الخير والشّرّ في حيز واحد: لأنها متضادّة، ليس بينها اتّفاق ولا التئام، وفعل المرء دالّ على نيته وطويّته، قال الله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى ََ شََاكِلَتِهِ} (1) وقال: {وَمََا يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمََاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمََا يَسْتَوِي الْأَحْيََاءُ وَلَا الْأَمْوََاتُ} (2) وقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللََّهِ أَتْقََاكُمْ} (3) وشتّان ما بين أهل الخير والفساد، وأهل العدل وأهل البغي والعناد فالخيّر هو المتّقي، ومن يرتكب ما حرّم الله ويعتقد أنه على الحق فهو الشّقي.
إذا المرء لم يعرف قبيح خطيّته ... ولا الذّنب منه مع عظيم بليّته
فذلك عين الجهل منه مع الخطا ... وسوف يرى عقباه عند منيّته
وليس يجازى المرء إلا بفعله ... وما يرجع الصّيّاد إلا بنيّته!
وأما قولك إنّ نعير العرب أرسل بالخفية يطلب السلطان أحمد، وأننا نرسم لنوّابنا أن يحترزوا من توجّهه إليه ولا يمكّنوه من ذلك، فإنه إن اتّفق توجهه إليه يكن ذلك سببا لخراب الدّيار، فقد علمناه. والذي نعرّفك به هو أننا نتحقّق أن ما يحصل خراب الديار والدّمار ومحو الآثار إلا لمن يسعى ويتكلّم بخراب الديار {وَلََا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلََّا بِأَهْلِهِ} (4). وستعلم ديار من تخرّب، وعمر من يذهب، وعلى من تكون دائرة السّوء دائرة، وسطوات المنايا قاهرة؟ {وَسَيَعْلَمُ}
__________
(1) الإسراء / 84.
(2) فاطر / 19.
(3) الحجرات / 13.
(4) فاطر / 43.(7/342)
{الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (1) وها نحن واصلون بجيوش وجنود وعساكر مؤيّدة من السّباع أسبع، لا تروى أسلحتهم من دماء البغاة ولا تشبع، والجواب ما ترى لا ما تسمع:
قل للّذي في الورى أضحى يعادينا: ... احذر فأمرك ربّ العرش يكفينا!
ما زال يمنحنا فضلا ويكلؤنا ... وفي العدا بعظيم النّصر يشفينا!
أقامنا رحمة للناس أجمعهم، ... ولم يزل من جزيل الجود يعطينا!
بالعزّ والنّصر والتأييد عوّدنا، ... وزادنا في مديد الأرض تمكينا!
وللجميل وفعل الخير وفّقنا، ... شكرا له ستره الأعلى يغطّينا!
قد أسكن الرحمة الحسنى التي أمنت ... بها الأنام بأقصى ملكنا فينا!
فكلّما بالدّعاء المرتضى نطقت ... لنا الرّعايا، أجاب الكون آمينا!
الله حافظنا، الله ناصرنا، ... من ذا يعاندنا؟ من ذا يقاوينا؟
والله الموفّق بفضله العميم، والهادي إلى الصراط المستقيم بمنّه وكرمه، وجوده ونعمه، إن شاء الله تعالى.
كتب في من جمادي الأولى سنة ست وتسعين وسبعمائة (2).
الحالة الثانية حين عاد السلطان من الشأم إلى الديار المصرية وخرّب هو دمشق وحرّقها، ثم انتقل عنها، وتردّدت رسله بطلب أطلمش: أحد أمرائه الذي كان قد أسر في أيام السلطان الملك الظاهر «برقوق».
وفي هذه الحالة كان يكتب له في قطع الثلثين، والعنوان بقلم جليل الثّلث بحلّ الذهب سطران، مضمونهما «المقام الشريف العالي، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، المظفّريّ، الملجئيّ، الملاذيّ، الوالديّ، القطبيّ، نصرة الدين، ملجأ القاصدين، ملاذ العائذين، قطب الإسلام والمسلمين، دامت
__________
(1) الشعراء / 227.
(2) هنا ينتهي ما أضيف إلى الأصل.(7/343)
معدلته تيمور كوركان». والبسملة في أوّل الوصل الرابع، والخطبة جميعها بالذهب، وكذلك البعدية وما يتعلّق بالمكتوب إليه على عادة القانات، والعلامة بجليل الثّلث بحلّ الذهب بالهامش ما صورته: «المشتاق فرج بن برقوق» إلا أنه اختلف مكانها في المكاتبات على ما سيأتي ذكره. إلا أن افتتاح المكاتبة إليه في هذه الحالة كان على ضربين بحسب ما اقتضاه الحال.
الضرب الأوّل (الافتتاح ب «أما بعد» وذلك عند أوّل عقد الصلح)
وهذه نسخة مكاتبة كتبت إليه جوابا عما ورد منه بطلب أطلمش المذكور والتماس الصّلح: جهّزت صحبة الأمير شهاب الدين أحمد بن غلبك، والأمير قاني (1) بيه صحبة رسوله خواجا مسعود الكججانيّ رسوله الوارد بكتابه، في جمادى الأولى سنة خمس وثمانمائة. وعلّم له فيها في الهامش بين السطرين الثاني والثالث بقلم جليل الثلث بحلّ الذهب «المشتاق فرج بن برقوق» على ما تقدّم ذكره والورق قطع الثلثين وهي:
أمّا بعد حمد الله الذي جعل الأرواح أجنادا مجنّدة، ووصل أسباب الرّشد والفلاح بمن افتتح باب الإصلاح ولم يخلف موعده، وكفل لمن توكّل عليه في أموره النجاح يومه وغده. والشهادة له بأنه الله القاهر فوق عباده بقدرته المؤيّدة، والصلاة والسلام على أشرف نبيّ طيّب الله عنصره ومحتده وأصلح ببعض نسله الشريف بين فئتين عظيمتين بلغ كلّ منهما من الخير مقصده. وعلى آله الطاهرين، وذرّيته الظاهرين بالمصالح المرشدة، وأصحابه الذين كانت غالب قضاياهم صلحا بين الناس ورسلهم بالاتّفاق مردّدة ومن عدم الشّقاق غير متردّدة صلاة وسلاما نصل بهما حبل البنوّة بالأبوّة المتجدّدة، ونخمد بهما نار الحرب المتوقّدة.
__________
(1) سيأتي قريبا: قاني باي الخاصكي. وفي نزهة النفوس «الأمير قنباي».(7/344)
فقد أصدرنا هذه المفاوضة إلى المقام الشريف، العالي، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، المظفّريّ، الملجئيّ، الملاذيّ، الوالديّ، القطبيّ، نصرة الدين، ملجإ القاصدين، ملاذ العائذين، قطب الإسلام والمسلمين، تيمور كوركان، دامت معدلته. تهدي إليه سلاما تتلى سوره وآياته، وثناء تتوالى غدواته وروحاته ولا تتناهى غاياته وتبدي لشريف علمه أنّ مفاوضته العالية [التي] وردت أوّلا وآخرا، تضمنت رموزها باطنا وظاهرا، تجهيز الأمير أطلمش لزم المقام الشريف إلى حضرته العليّة: لتنحسم مادّة الحركات، وتسكن القلوب والخواطر في سائر الجهات وتتّحد المملكتان في الصّداقة والوفاء، والمحبّة والصّفاء، على الصّورة التي شرحها، وبيّن مناهجها ووضّحها خصوصا ما أشار إليه من أنّ لجواب الكتاب حقّا لا يضيع فوقفنا عليها وقوف إجلال، وفهمنا ما تضمّنته على التفصيل والإجمال.
والذي نبديه إلى علومه الشريفة أنّ سبب تأخير أطلمش أنّه قدم المقام الشريف إلى حدود الممالك الشاميّة، وتوجّهنا من الديار المصرية، عرض لنا ما أوجب العود إليها سريعا، وكان الحزم فيما فعلناه بمشيئة الله تعالى. ثم تحقّقنا من المفاوضة الواردة على يد سودون، وسودون (1) والنمر، والحاج بيسق (2) أحد أمراء أخورية، قسمه بالله الطالب الغالب، المدرك المهلك، الحيّ الذي لا ينام ولا يموت أنه إن جهّز إليه أطلمش المشار إليه، رجع المقام الشريف إلى بلاده، وأنه متوقّع حضوره إليه بقارة (3) أو سلمية (4)، أو حمص، أو حماة. فأخذنا في تجهيزه
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) وهو الأمير بيسق الشيخي، أمير آخور صغير، كما جاء في نزهة النفوس في ما جريات سنة 802هـ.
«وفيها حج بالناس الأمير بيسق الشيخي أمير آخور صغير، والله أعلم». (نزهة النفوس: 2/ 48 61).
(3) في ياقوت: قارة قرية كبيرة على قارعة الطريق وهي المنزل الأول من حمص للقاصد الى دمشق، وهي كانت آخر حدود حمص وما عداها من أعمال دمشق. (معجم البلدان: 4/ 295).
(4) راجع الحاشية: 1ص 187من هذا الجزء.(7/345)
إلى حضرته الشريفة على أجمل ما يكون.
فبينا نحن على ذلك إذ وردت علينا الاخبار بما اتفق لدمشق وأهلها: من أنواع العذاب وتخريب قلعتها وديارها وإحراق جامعها الذي هو الجامع الفرد في الممالك الإسلاميّة، وغيره من المساجد والمدارس والمعاهد والمعابد. فلمّا تواترت هذه الأخبار، وتحقّقت هذه المضارّ، لمحنا من عدم ترحّلكم عن دمشق وهي عامرة نقض ما تقرّر، وعدم التفاتكم إلى الأمير أطلمش المذكور وتجهيزه.
فلما وردت مفاوضته الشريفة المجهّزة إلى صاحب ماردين، أرسلها إلينا [وهي] الواصلة على يد المجلس الساميّ، الشيخي، الكبيريّ، العالميّ، الناسكيّ، الحسيبيّ، النّسيبيّ، الشّرفيّ، عبد المؤمن، شيخ الجبال، ابن (1) وليّ الله، إمام العارفين، عبد القادر الكيلانيّ (2)، أعاد الله تعالى من بركاته، والصّدر الأجلّ فخر الدّين التاجر السّفّار، المؤرّخة بثاني عشر ذي القعدة الحرام من سنة أربع وثمانمائة، المتضمّنة وصول المقام الشريف إلى أرزنكان (3) وكماخ (4) قاصدا للبلاد الرّومية، والقصد فيها تجهيز الأمير أطلمش وأن يفتح باب المصالحة، ويسلك طريق المصادقة رعاية لصلاح المملكتين، ونظرا إلى إصلاح ذات البين وأنّه لا مطمع إلا في صحة المودّة، وإرسال أطلمش صحبة شخص من مقرّبي حضرتنا الشريفة: لينظر ما يصدر بعد وصولهما من تمهيد قواعد المجاملة، وتشييد مبانيّ المحبة. وأنّ المقام الشريف زيدت عظمته أقسم بالله الذي هو في السّماء إله وفي الأرض إله، أن يكون في هذه الحياة محبّا لمن يحبّنا، مبغضا
__________
(1) المراد أنه من ذريته لأن عبد القادر الكيلاني توفي سنة 561هـ. ويقال له: الجيلاني أو الجيلي وهو مؤسس الطريقة القادرية، من كبار الزهاد والمتصوفين. (الأعلام: 4/ 47).
(2) المراد أنه من ذريته لأن عبد القادر الكيلاني توفي سنة 561هـ. ويقال له: الجيلاني أو الجيلي وهو مؤسس الطريقة القادرية، من كبار الزهاد والمتصوفين. (الأعلام: 4/ 47).
(3) قال ياقوت: «وهي ارزنجان (بالجيم المعجمة) وأهلها يقولون أرزنكان، بالكاف» وتقوم في سهل خصيب على الشاطيء الشمالي لنهر قرة صو بين أرضروم وسيواس. (معجم البلدان: 1/ 150 ودائرة المعارف الإسلامية: 2/ 577).
(4) قال ياقوت: «هي كمخ، بالفتح ثم السكون: مدينة بالروم. وسألت واحدا من تلك النواحي فقال هي كماخ، بالألف، لا شك فيها. وبين كماخ وأرزنجان يوم واحد». (معجم البلدان: 4/ 479).(7/346)
لمن يبغضنا، وأنّا نتلفّظ بحضور الأمير أطلمش كما تلفّظتم. فعند ذلك اجتمعنا مع مولانا أمير المؤمنين، المتوكل على الله، أدام الله تعالى أيّامه، والشيخ الإمام الفرد، شيخ الإسلام سراج الملّة والدّين عمر البلقينيّ (1) أعاد الله تعالى من بركته وقضاة القضاة ومشايخ العلم والصّلاح، وأركان الدولة الشريفة، وقرئت المفاوضة بحضورهم. فلما سمعوا ما تضمّنته من عظيم القسم، والحلف بباريء النّسم، وعلموا أنّ جلّ القصد فيها تطّلع المقام الشريف إلى تجهيز الأمير أطلمش المذكور، فاجتمعت الآراء على إرساله إلى حضرته الشريفة صحبة من اقتضته الآراء الشريفة. ثم وردت بعد ذلك المفاوضة من المقام الشريف زيدت عظمته على يد شخص من أهل أزمير مؤرّخة بثاني عشر شهر صفر المبارك سنة تاريخه، متضمّنة ما حصل من النصر على ابن عثمان، والظّفر به، والاستيلاء على غالب قلاعه. وزبدة الكلام فيها الإسراع بتجهيز أطلمش المذكور، ليجتمع شمله بأولاده بالحضرة الشريفة. ثم بعد ذلك وردت علينا مفاوضة شريفة على يد المجلس الساميّ، الشيخيّ، الكبيريّ، الأوحديّ، العارفيّ، السالكيّ، المقرّبيّ، مسعود الكججانيّ، رسول المقام الشريف. وصحبته المجلس الساميّ، الشيخيّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، الأماميّ، القدويّ، الشّمسيّ، شيخ القرّاء، إمام أئمة الكبراء، محمد بن الجزريّ (2) أدام الله النفع به. مؤرّخة بغرّة ربيع الأوّل سنة تاريخه، متضمنة معنى الكتابين المجهّزين من ماردين (3)
__________
(1) هو عمر بن رسلان بن نصير بن صالح البلقيني المصري الشافعي. نسبته إلى «بلقينة» من غريبة مصر. كان مجتهدا حافظا للحديث. ولي قضاء الشام سنة 769هـ وتوفي سنة 805هـ. (الأعلام:
5/ 46).
(2) هو محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف، أبو الخير، شمس الدين العمري الدمشقي الشهير بابن الجزري: شيخ الإقراء في زمانه ومن حفاظ الحديث. ولد ونشأ في دمشق وابتنى فيها مدرسة سماها «دار القرآن» ورحل إلى مصر مرارا، ودخل بلاد الروم وسافر مع تيمورلنك إلى ما وراء النهر، ثم رحل إلى شيراز فولي قضاءها، ومات فيها سنة 833هـ. نسبته إلى «جزيرة ابن عمر». له مصنفات عديدة منها: النشر في القراءات العشر. وغاية النهاية في طبقات القراء وملخص تاريخ الإسلام وغيرها. (الأعلام: 7/ 45).
(3) قال ياقوت: ماردين قلعة على قلة جبل الجزيرة مشرفة على دنيسر ودارا ونصيبين» ومدينة ماردين قائمة في جهة الشرق من الرها (أرفة) على رأس جبل مسمى باسمها يصعد إليها بدرج منقور في الصخر. (معجم البلدان: 5/ 39وسيرة الملك المنصور: 5حاشية).(7/347)
وأزمير (1). وجلّ القصد فيها تجهيز الأمير أطلمش لتحصل طمأنينة قلوب العالمين، وإخماد باب الفتن، وأنّ العمدة على المشافهة التي تحمّلها الخواجا نظام الدين مسعود المشار إليه، وأن قوله قول المقام الشريف. ومهما عقد الصلح عليه والتزم به، كان من رأي المقام الشريف وشوره (2)، لا يخرج عنه ولا يميل إلى غيره بقول ولا فعل. فلما أحضرناه وأصغينا إلى ما تحمّله من المشافهة، فإذا هي مشتملة على خالص المحبّة، وأن يكون المقام الشريف والدنا عوضا عمن قدّس الله تربه، وأن نجهز الأمير أطلمش إليه، وتكون عمدتنا بعد الله عز وجلّ عليه فقابلنا ذلك بالقبول والاستبشار، ومحونا آية ليل الجفاء، وأثبتنا آية نهار الوفاء، في الإعلان والإسرار وقبلنا أبوّته الكريمة على مدى الأزمان وتوالي الأعصار، وشاهد الخواجا مسعود حال أطلمش، وعلم اهتمامنا بتجهيزه قبل وصوله بمدّة اعتمادا على أليّته (3)
السابقة، ووثوقا بما صرح به من الاتّحاد والمصادقة، وعقدنا الصّلح مع الشيخ نظام الدين مسعود المذكور بطريق الوكالة الشرعية عن المقام الشريف، وحلفنا نظير ما حلف عليه، بموافقة مولانا أمير المؤمنين أدام الله أيامه على ذلك بمحضر من شيخ الإسلام، وقضاة القضاة، ومشايخ العلم والصّلاح، وأركان الدولة الكبار، مع حضور الأمير أطلمش، لزم المقام الشريف، وشهادة من يضع خطه على نسخ الصّلح التي كتبت، وجهّزنا منها نسختين مثبوتتين إلى حضرته
__________
(1) الصواب بكسر الميم. وإزمير أهم مدن تركية الآسيوية من الوجهة التجارية. وسماها ابن بطوطة «يزمير» وقد فتحت قوات الفرنجة برعاية البابا أزمير عنوة سنة 1344م وابتنى فرسان جزيرة رودس، الذين نيط بهم حماية المدينة، قلعة القديس بطرس. وظل فرسان جزيرة رودس في مدينة أزمير إلى أن جاء تيمورلنك وأخذ قلعة الفرنجة عنوة وأجلاهم عنها عام 1403م. وبعد انسحاب تيمورلنك من آسيا الصغرى احتل المغامر «جنيد» المدينة ولما غلب على أمره حوالي 1425م انتقلت المدينة نهائيا إلى يد العثمانيين. (دائرة المعارف الإسلامية: 3/ 179).
(2) من الكلمات العامية ومراده: المشورة.
(3) الأليّة: اليمين، والجمع: ألايا.(7/348)
الشريفة قرين هذا الجواب الشريف، لتحيط العلوم الشريفة بمضمونها، وبأحدهما خطّنا الشريف لتخلّد بخزانته الشريفة، والأخرى يشملها بخطه الشريف وتعاد إلينا صحبة رسولنا: المجلس العالي الأميريّ، الكبيريّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، المقرّبيّ، الأعزّيّ، الأخصّيّ، الأصيليّ، الشّهابيّ، أحمد بن أغلبك الناصري مقرّبنا ومقرّب والدنا الشهيد أدام الله تعالى نعمته وجهّزنا صحبته المجلس الساميّ، الأمير، الأجلّ، الكبير، المقرّب، المرتضى، الأخصّ، الأكمل، سيف الدين، قاني باي الخاصكيّ الناصريّ، أدام الله سعادته، المتوجهين بهذا الجواب الشريف، المجهّزين صحبة الأمير أطلمش، وبقية قصّاد المقام الشريف ورسله.
ومما نبديه لعلومه الشريفة أنه مما تضمنه الملخّص الشريف المجهّز عطف الكتاب الواصل على يد الشيخ مسعود الكججاني مضاعفة الوصية بأولاد الشيخ شمس الدين الجزريّ ورعاية أحوالهم وتعلّقاتهم. وقد قابلنا ذلك بالإقبال والقبول وقرّرنا لهم بالأبواب الشريفة. ونحن بشهادة الله وكفى به شهيدا قد أخلصنا النية للمقام الشريف، وعاهدنا الله عز وجلّ في التعاضد والتناصر والاجتهاد، في عمل المصالح للعباد والبلاد، وعدم التّقاصر والعمل بما فيه بياض الوجه عند الله في الدنيا والآخرة، وإجراء الأمور على السّداد. بتوفيق الله عز وجلّ، وطلبا لرحمته الباطنة والظاهرة. ثم استقبل لسان الحال ينشدنا:
يا أوّل الصّفو هذا آخر الكدر
فيكون ذلك في علومه الشريفة، والله تعالى يديم عوارفه الوريفة، بمنّه وكرمه.
والمستند «حسب المرسوم الشريف».(7/349)
الضرب الثاني (ما صار إليه الأمر بعد وصول أطلمش إليه)
وهذه نسخة جواب والعنوان سطران بقلم الثلث بماء الذهب ما صورته:
«المقام الشريف، العالي، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، المظفّريّ، الملجئيّ، الملاذيّ، الوالديّ، القطبيّ، نصرة الدين، ملجأ القاصدين، ملاذ العائذين، قطب الإسلام والمسلمين تيمور كوركان زيدت عظمته.
والطرّة ثلاثة أوصال، والبسملة الشريفة في أوّل الوصل الرابع. ثم «الحمد لله» وتتمة الخطبة بالذّهب، وبيت العلامة عرض أربعة أصابع مضمومة، وما يليها من الأسطر سعة ثلاثة أصابع، والعلامة الشريفة بين السطر العاشر والحادي عشر من سطور الكتابة، موافقا لانتهاء الخطبة عند «أما بعد فقد صدرت هذه المفاوضة». والعلامة الشريفة بجليل الثلث بماء الذهب «المشتاق فرج بن برقوق». وهامش الكتاب أربعة أصابع مطبوقة، والخطبة وما يليها من البعدية وألقاب المقام القطبي المركبة والمفردة الجميع بالذهب. ومضمونه بعد البسملة:
الحمد لله الذي شيّد قواعد الإصلاح، ومهّد مواطن الرّشد والنّجاح، وجعل أذان المؤمن يجيب داعي الفلاح.
نحمده على أن ألفّ بين القلوب بلطيف الارتياح، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله زمّ نفوس المؤمنين بحبل التقوى من حميّة الجماح، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي وضح من نور رسالته فجر الإيمان ولاح، ونفح من نور معجزاته زهر الدين الحنيفيّ وفاح صلّى الله عليه وعلى آله الذين شدّوا ظهور كلمهم من الصّدق بأتقن وشاح، وعلى صحابته الذين بينوا من عهودهم بفقههم في الدين الواجب والمندوب والمحظور والمباح وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فقد صدرت هذه المفاوضة إلى المقام الشريف، العالي، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، المظفّريّ، الملجئيّ، الملاذيّ، الوالديّ، القطبيّ، نصرة الدين، ملجإ القاصدين، ملاذ العائذين، قطب الإسلام والمسلمين:(7/350)
نحمده على أن ألفّ بين القلوب بلطيف الارتياح، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله زمّ نفوس المؤمنين بحبل التقوى من حميّة الجماح، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي وضح من نور رسالته فجر الإيمان ولاح، ونفح من نور معجزاته زهر الدين الحنيفيّ وفاح صلّى الله عليه وعلى آله الذين شدّوا ظهور كلمهم من الصّدق بأتقن وشاح، وعلى صحابته الذين بينوا من عهودهم بفقههم في الدين الواجب والمندوب والمحظور والمباح وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فقد صدرت هذه المفاوضة إلى المقام الشريف، العالي، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، المظفّريّ، الملجئيّ، الملاذيّ، الوالديّ، القطبيّ، نصرة الدين، ملجإ القاصدين، ملاذ العائذين، قطب الإسلام والمسلمين:
ملك يفوق الخلق طرّا هيبة ... فبه نهاية غاية التّأميل!
تيمور كوركان زيدت عظمته، ودامت معدلته ولا زالت رايات نصره خافقة البنود، وآيات فضله متلوّة في التهائم (1) والنّجود وسحب فضائله هامية بالكرم والجود، ومهابة سطوته تملأ الوجود تهدي إليه من السلام ما حلا في حالتى الصّدور والورود، ومن الإخلاص ما صفا وضفت منه البرود.
وتبدي لعلمه الشريف أن مفاوضته الشريفة وردت علينا جوابا عما كتبناه إلى حضرته الشريفة، على يد المجلس العالي الأميريّ الشهابي، أحمد بن غلبك وسيف الدين، قاني بيه الناصري، المجهّزين صحبة المجلس العالي، الأميريّ، الجلاليّ أطلمش، لزم المقام الشريف، بوصول الأمير جلال الدين أطلمش إلى حضرته الشريفة طيّبا، مبديا بين يديه ما حمّلناه من رسائل الأشواق، مبيّنا ما هو اللائق بخلاله الحسنة عن حضرتنا ما دبّج به الأوراق، شاكرا لإنعاماتنا التي هي في الحقيقة من شيم فضلكم الخفّاق، مثبتا منه ومن فحوى الخطاب في نظم الكتاب صدق المقال وصحّة العهد ورسوخ الميثاق، وأنه قد ثبت بما بثّ من غرائب المعاني حصول الأمانيّ، وسرى بعد ما يكون من هدايا التّهاني، وأن الذي اتفق الآن هو المطلوب، والمكتوب به إلى والدنا الشهيد الطاهر أوّلا هو المرغوب وخلافه كان موجبا لنقل الحركات الشريفة إلى جهة البلاد، وما اتفق فيه للعباد، ولكن كلّ بقضاء وقدر. ولما حصل قبول الإشارة بتجهيز الرّسل والأمير أطلمش، صارت القلوب متّفقة، والعيون قارّة وصفت موارد الصّفاء، وضفت برود الوفاء
__________
(1) التهائم: جمع تهامة وهي الأرض المنخفضة.(7/351)
وقطعت حبال المنافاة والجفاء. وأنّ المقام الشريف كان أقسم في كتبه قسما وأعاده، ثم فصّل مجمله وأفاده وهو والله الطالب الغالب، المدرك المهلك، الحيّ الذي لا ينام ولا يموت من يومه هذا لا يخالف ما صدر من عقد الصّلح المسطور، ولا يرجع عن حكمه للعهد المزبور (1) ويحبّ من يحبّنا ويبعض من يبغضنا ويكون سلما لمسالمينا، حربا لمحاربينا ومتى استنصرنا به على أحد من مخالفينا أمدّنا بما شئنا من العساكر، وأنه أمر ما ناله أحد من الناس غيرنا، وإنه لو كان القسم على الوجه الذي ذكره مصرّحا مذكورا في لفظ الكتاب، وعبارة الخطاب، لكان أوضح والتبيين أملح وأنه حيث كان بأطراف ممالكه المجاورة لممالكنا أحد من المفسدين يجهّزه إلينا مقيّدا. وحيث كان أحد من المفسدين بممالكنا المجاورة لممالكه يعرّفنا به لنجهّزه إليه: لاتفاق الكلمتين، واتحاد المملكتين، وطمأنينة لقلوب الرعايا والسالكين من الجهتين وما تفضّل به: من سؤال المقام الشريف الله عزّ وجل زيادة أسباب دولتنا، ونموّ إيالتنا، وأن الهلال إذا رأيت نموّه، أيقنت أن سيصير بدرا كاملا. وأنّا سنرى ما يصنعه المقام الشريف، من الفضل المنيف، ومن تلافي الأمور، ما يظهر للخاصّة والجمهور، مما يزيد بدرنا نموّا، وقدرنا بين الملوك سموّا: لأنه لنا أكفى كفيل، وأشفق من الولد والصاحب والخليل وإن من علامة الصفا، إظهار ما خفى، وهو أن في أطراف ممالكنا الآن بلادا كانت داخلة في ممالكه، وهي أبلستين، وملطية، وكركر، وكختا، وقلعة الرّوم، والبيرة وأنه كان حمل معناها على لسان المجلس السامي، النظامي، مسعود الكججاني أوّلا، المجهّز الآن صحبة الأمير شهاب الدين بن غلبك وسيف الدين قاني بيه، وأن القصد أن نأمر من بها من النوّاب أن تسلّمها لنوّابه، والمعوّل في انتظام الأمور على ما تحمّله المشار إليه وعوّل عليه وأنه شاكر لمرافقنا، موافق لموافقنا وأنه يصغى إلى ما نبديه، ونتحف به ونهديه، على الصورة التي أبداها، والتحيّة التي بكريم الشّيم أهداها فقد علمنا ذلك
__________
(1) زبر الكتاب: كتبه أو أتقن كتابته، فهو مزبور وزبور.(7/352)
جملة وتفصيلا، وشكرنا حسن صنيعه إقامة ورحيلا وتضاعف سرورنا بوصول الأمير أطلمش إلى الحضرة الشريفة. ووصل إلينا الأمير شهاب الدين بن غلبك وسيف الدين قاني بيه مرتّلين من ذكر محاسنكم ترتيلا، وعرضا ما تفضلتم به في حقّنا إكراما وتوقيرا وتبجيلا، وأنهيا بين أيدينا ما عوملا به من الفضل الذي ما عليه مزيد، والبرّ الذي تعجز الفصحاء أن تبديء بعض محاسنه أو تعيد وأنهما كانا كلّ يوم من توفّر الفضل في يوم عيد، وحصل لهما من الإقبال ما لا يحصى بالحصر والتحديد فحمدنا للمقام الشريف الوالديّ حسن هذا الفضل العام، وشكرنا جميل تفضّله ألذي أخجل الغمام وتزايد شوقنا وحبّنا حيث زمزمت (1) ألفاظ المفاوضة الشريفة إلى ذلك المقام.
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد!
وهذا هو اللائق بالخلال الشريفة، والمؤمّل في جلال صفاته المنيفة ووصل الخواجا نظام الدين صحبتهما مبديا عن جنابكم من رسائل المحبّة والصّفاء، والمودّة والوفاء، ما يعجر عن وصفه الناظم والناثر، مظهرا من حسن المودّة وغزير المعرفة ما يفخر به الموالي والمؤاثر سالكا من تأكيد أسباب الصّلح ما تتجمّل به مفارق المفاخر، معتذرا عما تقدّم فما قدّر ربما يكون سببا لإصلاح الآخر متكفّلا عن صفاء طويّتكم لنا بما يسرّ السرائر فضاعفنا إكرامه، ورادفنا إنعامه، ووفّرنا من العزّ أقسامه، وأنزلناه منزلا يليق به، ووصلنا كلّ خير بسببه وما هو إلا مستحقّ لكل ما يراد به من فيض فضل وفضل.
وأمّا ما أشار إليه من إعادة القسم تأكيدا للصّلح، وتوضيحا للنّجح ولو كان القسم الذي أقسمنا به مصرّحا لكان أولى، فقد علمنا ذلك وكتبنا ألفاظ القسم في كتاب الصّلح مصرّحة، وأعدناه إلى حضرته ليقرأ على مسامعه الشريفة ويشمله
__________
(1) زمزم: صوّت من بعيد تصويتا له دويّ غير واضح. وزمزم المغني: ترنّم ودندن. وزمزم المجوسيّ عند الأكل أو الشرب: رطن وهو مطبق فاه.(7/353)
الخط الشريف ويعاد إلينا، ونحن نكرّر القسم، بباريء النّسم الذي لا إله إلا هو، الطالب الغالب، المدرك المهلك، الحيّ الذي لا ينام ولا يموت، أنّا من يومنا هذا لا نخالف ما انتظم من عقد الصّلح المسطور، إلى يوم البعث والنّشور ولا تحلّ عراه الوثيقة المشار إليها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ونكون حربا لمن حاربه، وسلما لمن سالمه، ومبغضين لمبغضيه، ومحبّين لمحبّيه ومن أشار بإشاره، أو شنّ على أحد من [رعاياه] غاره، رادفنا إسعافه وضاعفنا استظهاره، وأخلصنا القول والعمل في مصافاة المقام الشريف: لأن الصلح بحمد الله قد تمّ وكمل، فيكون ذلك في شريف علمه.
وأمّا ما أشار إليه من أمر القرى التي قصد تسليمها لنوّابه، وأنّها داخلة في حدود مملكته: كأبلستين، وملطية، وكركر، وكختا، وقلعة الرّوم، والبيرة، فقد علمنا ذلك. ونحن نبدي إلى علومه الشريفة أنّ هذه البلاد لا يحصل لنا منها خراج، ولا ينال ملكنا ونوّابنا منها في كلّ وقت إلا الانزعاج وإذا جهّزنا إليها أحدا من النّوّاب، نتكفّل له غالبا بالخيل والرّجل والرّكاب وبضواحيها من سرّاق التّركمان، وقطّاع الطريق من العربان، ما لا يخفى عن مقامه. ولو كانت دمشق أو حلب، أو أكبر من ذلك مماله (1) عن الطّلب ما توقّفنا فيها عن قبول إشارته لتأكيد المحبّة، واتّحاد الكلمتين من الجانبين في أعلى رتبة غير أنّ لتسليمها من الوهن لمملكتنا منافاة لما تفضّل به المقام الشريف من سؤال الله تعالى في زيادة سلطنتنا. خصوصا وقد وعد المقام الشريف الوالديّ بما سنرى، وسوف تظهر نتيجته مما يتفضّل به بين الورى وأنّ الذي سمح لنا به من الاستظهار ما ناله أحد من الناس، وما حصل لنا بما أبداه الخواجا مسعود بين أمراء دولتنا من المشافهة عن مقامه الشريف من قوّة الجاش والإيناس ونحن نترقّب بيمن حركاته، وسديد إشاراته، زيادة الخبر في النّفس والملك والمال، ونتوقّع من جميل كفالته السعادة الأبديّة في الحال والمآل فيكون ذلك في شريف علمه.
__________
(1) كذا في الأصل.(7/354)
وقد جهّزنا بهذه المفاوضة المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، الأعزيّ، الأخصّيّ، المقرّبيّ، المؤتمنيّ، الأوحديّ، النّصيريّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء الخواصّ في العالمين، منتخب الملوك والسلاطين، منكلي بغا الناصري أمير حاجب (1)، أدام الله تعالى سعده، وأنجح قصده وعلى يده من الهديّة المصرية ما تهيّأ تجهيزه بمقتضى القائمة الملصقة بذيلها، وأعدنا المجلس العالي النّظاميّ: مسعودا ومن معه إلى المقام الشريف، متحمّلين من رسائل الأشواق والاتّحاد، ما لا يقع عليه الحصر والتّعداد وما أخرنا الخواجا نظام الدين مسعودا هذه المدّة بالباب الشريف إلا لأمر عرض من قضيّة السلطان أحمد بن أويس، وهربه (2) من بغداد إلى حلب، وجهّزنا من الباب الشريف من يحضره إلى دمشق ليحصل منه الأرب ثم بعد ذلك بأيّام ورد الخبر من كافل الشام المحروس، بوصول قرا يوسف (3) بن قرا محمد إلى دمشق في نفر قليل. فجهّزنا أحد الأمراء إلى كافل الشام بمثال شريف، يتضمّن القبض على السلطان أحمد بن أويس وقرا يوسف المذكورين، وإيداعهما الاعتقال بقلعة دمشق المحروسة، وفاء للعهد وتأكيدا. وحمّلنا الأمير سيف الدين منكلي بغا المذكور، مشافهة في معناهما. والقصد من جميل محبّته، وجزيل أبوّته، قبول المجهّز من ذلك، وبسط العذر فيه إذا وصل إلى حضرته هنالك: لأن الديار المصرية وأعمالها حلّ بها من المحل لعدم طلوع النّيل في هذه السنة ما لا يحصر ولا يحصى، ولا سمع بمثله.
وشمول نسخة الصلح المعادة بالخط الشريف، ومضاعفة إكرام حاملها الأمير منكلي بغا بالبرّ الوريف والإصغاء إلى ما تحمّله من المشافهة في معنى أحمد بن أويس وقرا يوسف، والله تعالى يشيّد بتمهيده قواعد الدين الحنيف، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) وهو حاجب الحجاب. وقد سبق التعريف به.
(2) راجع حاشية الصفحة 337من هذا الجزء.
(3) راجع حاشية الصفحة 337من هذا الجزء.(7/355)
الثالث (من ملوك توران من بني جنكزخان القان الكبير، صاحب التّخت، وهو صاحب الصّين والخطا) قال في «التعريف»: وهو أكبر الثلاثة، ووارث تخت جنكزخان. قال:
ولم يكن يكاتب لترفّعه وإبائه، وطيرانه بسمعة آبائه ثم تواترت [الآن] الأخبار بأنه قد أسلم ودان دين الإسلام، ورقم كلمة التوحيد على ذوائب الأعلام. قال: وإن صحّ ذلك وهو المؤمّل فقد ملأت الأمة المحمدية الخافقين، وعمّت المشرق والمغرب، وامتدّت بين ضفّتي المحيط. ثم قال: فإن صحّ إسلامه وقدّرت المكاتبة إليه، تكون المكاتبة إليه كالمكاتبة إلى صاحب إيران ومن في معناه من سائر القانات المقدّم ذكرهم، أو أجلّ من ذلك.
قلت: ولم يتعرّض إلى المكاتبة إليه على تقدير بقائه على الكفر، ويشبه أن تكون المكاتبة إليه على ذلك (1) وشدّة سطوته، فيعطى من قطع الورق بقدر رتبته.
ثم يجوز أن تبتدأ المكاتبة إليه كصاحب القسطنطينية ومن في معناه، مع مراعاة معتقده في ديانته بالنسبة إلى (2) كما يرعى مثل ذلك في المكاتبة إلى ملوك النّصرانية، والوقوف في الخطاب وما ينخرط في سلكه عند الحدّ اللائق به. والأمر في ذلك موكول إلى اجتهاد الكاتب ونظره.
__________
(1) لعله: «على ذلك بنسبة قدرته وشدّة الخ».
(2) بياض بالأصل ولعله «النعوت والألقاب» كما يفهم مما تقدم.(7/356)
المهيع الثالث (في المكاتبات إلى من بجزيرة العرب مما هو خارج عن مضافات الديار المصرية، وفيه جملتان)
الجملة الأولى (في المكاتبات إلى ملوك اليمن، وهم فرقتان)
الفرقة الأولى (أئمة الزيدية)
قال المقرّ الشهابيّ بن فضل الله في «التعريف»: وهو من بقايا الحسنيّين القائيمن بآمل الشّطّ (1) من بلاد طبرستان، وقد كان سلفهم جاذب الدولة العباسية حتّى كاد يطيح رداءها، ويشمت بها أعداءها. وهذه البقية الآن بصنعاء وبلاد حضر موت وما والاها من بلاد اليمن. قال: والإمامة الآن فيهم في بني المطهّر، وتقدّم في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك أن أوّل من قام من هذه الأئمة باليمن الإمام (يحيى الهادي) بن الحسين الزاهد، بن أبي محمد القاسم الرّسّيّ، بن إبراهيم طباطبا، بن إسماعيل الدّيباج، بن إبراهيم (2) الغمر، بن الحسين المثنّى، بن الحسن السّبط، ابن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي
__________
(1) قال ياقوت: «ويقال لها آمل زمّ، وآمل جيحون وآمل الشطّ، وآمل المفازة، لأن بينها وبين مرو رمالا صعبة المسالك ومفازة أشبه بالمهالك. وتسمى أيضا آمو، وأموية، وربما ظن قوم أن هذه الأسامي لعدة مسميات وليس الأمر كذلك». وآمل هذه بلدة تقع على مسيرة ثلاثة أميال من الضفة اليسرى لنهر جيحون (آموداريا) وهي الآن باسم جارجو أو جارجوي في جمهورة التركمان السوفيتية الإشتراكية. وهي غير آمل البلدة التي تقع في الركن الجنوبي الغربي للسهل الشرقي لمازندران، والتي تقوم على الضفة الغربية لنهر «هرهاز» على مسيرة اثني عشر ميلا جنوبي بحر قزوين. (معجم البلدان: 1/ 58ودائرة المعارف الإسلامية: 1/ 106105).
(2) ذكره في الجزء الخامس ص: 47باسم «عبد الله» وفي الكامل لابن الأثير «بن ابراهيم» كما أثبتناه هنا.(7/357)
الله عنه، في سنة ثمان وثمانين ومائتين في خلافة [المعتضد] (1) وأنه كان فقيها عالما مجتهدا في الأحكام، حتّى قال فيه ابن حزم (2): إنه لم يبعد عن الجماعة في الفقة كلّ البعد. ثم [ولي بعده ابنه محمد المرتضى وتمّت له البيعة فاضطرب الناس عليه واضطرّ إلى تجريد السيف فجرده ومات سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة لثنتين وعشرين سنة من ولايته و] (3) ولي بعده أخوه (أحمد الناصر) ثم أخوه (القاسم المختار) (4) ثم (الحسين المنتجب). واطّرد أمرهم بصنعاء إلى أن غلب عليهم السّليمانيّون أمراء مكة عند خروجهم منها، فاستقرّت بأيديهم إلى أن ملك اليمن من جهة الساحل (أحمد الموطّيء) بن الحسين المنتجب المقدّم ذكره، وذلك في أيام سيف الإسلام ابن أيوب سنة خمس وأربعين وستمائة. وبقي أمر الزيديّة هناك في عقبه.
وقد ذكر المقرّ الشهابيّ بن فضل الله أن الإمامة في زمانه، في الدولة الناصرية ابن قلاوون كانت في (حمزة) وذكر في «مسالك الأبصار» أنّ يحيى بن حمزة ولّي بعد أبيه، وكان في زمن المؤيّد داود بن يوسف صاحب اليمن. وذكر قاضي القضاة ابن خلدون أن الإمام قبل الثمانين والسبعمائة كان (عليّ بن محمد) من أعقابهم، وتوفّي قبل الثمانين. وولي ابنه (صلاح) وتابعه الزيدية، وكان بعضهم ينكر إمامته لعدم استكمال الشروط فيه فيقول: «أنا لكم ما شئتم إمام أو سلطان». ثم مات سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، وقام بعده ابنه (نجاح) فامتنع الزيديّة من بيعته فقال: أنا «محتسب لله تعالى». قال في «التعريف»: وأمراء
__________
(1) في الأصل «المأمون» وهو خطأ لأن المأمون توفي سنة 218هـ. وقد تقدم الكلام على هذه الدولة في الجزء الخامس ص: 47وما بعدها فانظره.
(2) هو الامام علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري الأندلسي: عالم الأندلس في عصره وأحد أئمة الإسلام. كان في الأندلس خلق كثير ينتسبون إلى مذهبه الفقهي يقال لهم الحزمية أو الظاهرية.
توفي سنة 456هـ. (الأعلام 4/ 254).
(3) الزيادة من الجزء الخامس ص: 48وهي لازمة هنا لأن أحمد الناصر هو ابن يحيى الزاهد لا أخوه.
(4) أخره فيما تقدم عما بعده.(7/358)
مكة تسرّ طاعته، ولا تفارق جماعته. قال: ويكون بين هذا الإمام وبين الملك الرّسوليّ باليمن مهادنات، ومفاسخات تارة وتارة. قال: وهذا الإمام وكلّ من كان قبله على طريقة ما غيّروها. وهي إمارة أعرابية لا كبر في صدورها، ولا شمم في عرانينها (1) وهم على مسكة من التقوى، وتردّ بشعار الزّهد يجلس في نديّ قومه كواحد منهم، ويتحدّث فيهم ويحكم بينهم، سواء عنده المشروف والشريف، والقويّ والضعيف وربما اشترى سلعته بيده، ومشى في أسواق بلده، لا يغلّط الحجاب، ولا يكل الأمور إلى الوزراء والحجّاب، يأخذ من بيت المال قدر بلغته من غير توسّع، ولا تكثّر غير مشبع هكذا هو وكل من سلف قبله مع عدل شامل، وفضل كامل. قال: في «مسالك الأبصار»: ولشيعة هذا الإمام فيه حسن الاعتقاد، حتّى إنهم يستشفون بدعائه، ويمرّون يده على مرضاهم، ويستسقون به المطر إذا أجدبوا، ويبالغون في ذلك كلّ المبالغة. ثم قال: ولا يكبر لإمام هذه سيرته في التواضع لله، وحسن المعاملة لخلقه، وهو من ذلك الأصل الطاهر والعنصر الطّيّب أن يجاب دعاؤه ويتقبّل منه. قال: وزيّ هذا الإمام وأتباعه زيّ العرب في لباسهم والعمامة والحنك، وينادى عندهم بالأذان «حيّ على خير العمل».
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف»: أدام الله تعالى أو ضاعف الله تعالى نعمة، أو جلال الجانب الكريم، العالي، السّيديّ، الإماميّ، الشريفيّ، النّسيبيّ، الحسيبيّ، العلّاميّ، سليل الأطهار، جلال الإسلام، شرف الأنام، بقيّة البيت النبويّ، فخر النّسب العلويّ، مؤيّد أمور الدّين، خليفة الأئمة، رأس العلياء، صالح الأولياء، علم الهداة، زعيم المؤمنين، ذخر المسلمين، منجد الملوك والسلاطين. ولا زال زمانه مربعا، وغيله مسبعا، وقراه مشبعا، وكرمه لفيض نداه منبعا، وهداه حيث أمّ بالصّفوف متّبعا، وملكه المجتمع باليمن لو أدركه
__________
(1) العرنين: ما صلب من عظم الأنف حيث يكون الشمم. والجمع عرانين. وشمّ العرانين: أعزّة أباة.(7/359)
سيف بن ذي يزن (1) لم يكن إلا لديه منتضى وتبّع (2) لم يكن له إلا تبعا. ولا فتئت معاقد شرفه بالجوزاء، وعقائد حبّه تعدّ لحسن الجزاء، ومعاهد وطنه آهلة بكثرة الأعزّاء، ومياسم أهل ولائه تعزّ إليه بالاعتزاء، ومباسم ثغور أودّائه (3) ضاحكة السّيوف في وجوه الأرزاء هذه النّجوى إلى روضه الممرع وإلا فما تزمّ (4)
الرّكائب، وإلى حوضه المترع وإلا فما الحاجة إلى السّحائب وإلى حماه المخصب وإلا ففيم يسري الرائد، وإلى مرماه المطنّب فوق السماء وإلّا إلى أين يريد الصاعد تسري ولها من هادي وجهه دليل، وفي نادي كرمه مقيل، وإلى بادي حرمه وما فيه للعاكف، وإلى عالي ضرمه ما لا ينكره العارف، وفي آثار قدمه ما يحكم به كل عائف وفي بدار خدمه ما يذر عداه كرماد اشتدّت به الرّيح في يوم عاصف. مبدية وأوّل ما تبدأ بسلام يقدّمه على قول كيت وكيت، وثناء ولا مثل
__________
(1) هو سيف بن ذي يزن بن ذي أصبح بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو الحميري: من ملوك العرب اليمانيين ودهاتهم. ولد ونشأ بصنعاء، وكان الحبشة قد ملكوا اليمن في أوائل القرن السادس للميلاد وقتلوا أكثر ملوكها من آل حمير فنهض سيف وقصد انطاكية وفيها قيصر ملك الروم، فشكا إليه ما أصاب اليمن فلم يلتفت إليه فقصد النعمان بن المنذر عامل كسرى على الحيرة والعراق فأوصله إلى كسرى أنوشروان فأعانه ملك الفرس على قتل ملك الحبشة ثم الحقت اليمن ببلاد الفرس على أن يكون ملكها والمتصرف في شؤونها سيف بن ذي يزن. توفي الملك سيف سنة 50 ق. هـ. (الأعلام: 3/ 149).
(2) تبّع لقب ملوك اليمن القدماء من الحميريين كما كان الفرس يلقبون من ملك منهم كسرى والروم قيصر والترك خاقان والحبشة النجاشي والمصريون القدماء الفرعون والبربر يلقبون ملوكهم بالجواليت. وهناك اثنان مشهوران باسم «تبّع» هما: حسان بن أسعد أبي كرب الحميري، الملك الأكبر من ملوك الدولة الحميرية الثانية في بلاد اليمن، ولعله أكثرهم غارات وأظفرهم كتائب.
والثاني شمّر يرعش بن ناشر النعم مالك بن عمرو بن يعفر الحميري القحطاني، ويعرف بتّبع الأكبر: آخر تبابعة اليمن في الجاهلية. ويقول ابن حزم إن في انساب التبابعة اختلاط وتخليط، وتقديم وتأخير، ولا يصح من كتب أخبار التبابعة وأنسابهم إلى طرف يسير لاضطراب رواتهم وبعد العهد. (الأعلام: 2/ 83حاشية و 175و 3/ 176).
(3) الوديد: المحبّ. جمعها أودّاء وأوداد وودداء وأودّة.
(4) تزم الركائب: تشد الرحال.(7/360)
قوله: {إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} (1)
صدر آخر ولا عطّل محراب هو إمامه، ولا بطل عمل هو تمامه، ولا جفّ ثرى نبات هو غمامه، ولا خفّ وقار امريء بيده المصرّفة زمامه، ولا ارتدّ مضرب سيف رؤوس أعاديه كمامه ولا ارتأى في حصول الخيرة له من كان إلى كنفه انضمامه. وأطال الله باع عليائه، وأطاب بأنبائه سماع أوليائه، وأدام إجماع السّرور عليه، ومصافاته لأصفيائه وتراميه إليه. صدرت بها الركائب إليه مخفّة، وسرت بها النجائب لتقف عليه والقلوب بها محفّة (2) وأهوت لديه يشمخ بها لوصولها إليه الكبر، وطوت إليه البيد طيّ الشّقّة تقيسها المطايا بالأذرع والثّريّا بالشّبر تأتي بالعجب إذ تجلب إليه المسك الأذفر (3)، وتجلو له الصّباح وما لاح والليل وما أسفر وتحلّ في مقرّ إمامته، وتحلّي العاطل بما نثره من الطّلّ صوب غمامته موصّلة لعلمه ما لا يقطع، ومضوّعة عنده من عنبر الشّحر (4) ما يستبضع، ومعلمة له كيت وكيت.
قلت: هذا ما أصّله في «التعريف» وحاصله أنه يأتي بالصّدر المقدّم ذكره إلى قوله: «منجد الملوك والسلاطين»، ثم يأتي بالدعاء المناسب ثم يقول:
«هذه النجوى» إلى آخره «مبدية لعلمه» أو «معلمة» أو «صدرت بها الركائب» ونحو ذلك.
ثم لم يتعرّض في «التعريف» لقطع الورق الذي يكتب إليه فيه، ولا للعلامة له، ولا لعنوان كتابه، ولا لتعريفه، ونبّه على ذلك في «التثقيف» وأنه
__________
(1) الأحزاب / 33.
(2) الصواب «محتفّة» إذ ليس في كتب اللغة «أحف به» وإنما «حفّ به» و «احتف به».
(3) المسك الأذفر: الشديد الرائحة الطيبة. ولفظ «الأذفر» من الأضداد يستعمل للطيب الرائحة وللخبيث الرائحة.
(4) راجع الحاشية: 1ص 324من هذا الجزء.(7/361)
أهمل ذلك ثم لم ينبّه هو عليه. وقد رأيت في دستور منسوب للمقرّ العلائيّ بن فضل الله بيان ما أهملاه من ذلك فقال: والخطاب له بمولانا الإمام، والطلب منه «والمسؤول» وختم الكتاب بالإنهاء، والعنوان بالألقاب والدعاء المقدّم ذكره، والعلامة «الخادم».
وقد ذكر في «التعريف» أنه وصل إلى الديار المصرية، في الأيام الناصرية «محمد بن قلاوون» سقى الله عهده رسول من هذا الإمام [ابن مطهّر إمام الزيدية] (1) من صنعاء، بكتاب منه يقتضي الاستدعاء. أطال فيه الشّكوى من صاحب اليمن، وعدّد قبائحه، ونشر على عيون الناس فضائحه، واستنصر بمدد يأتي تحت الأعلام المنصورة لإجلائه عن دياره، وإجرائه مجرى الذين ظلموا في تعجيل دماره وقال: إنه إذا حضرت الجيوش المؤيّدة قام معها، وقاد إليها الأشراف والعرب أجمعها ثم إذا استنقذ منه ما بيده أنعم عليه ببعضه، وأعطي منه ما هو إلى جانب أرضه. ثم قال: فكتبت إليه مؤذنا بالإجابة، مؤدّيا إليه ما يقتضي إعجابه وضمن الجواب أنه لا رغبة [لنا] (2) في السلب، وأنّ النّصرة تكون لله خالصة وله كلّ البلاد لا قدر ما طلب.
وهذه نسخته:
ضاعف الله تعالى جلال الجانب بالألقاب والنعوت وأعزّ جانبه عزّا تعقد فواضله بنواصي الخيل، وصياصي (3) المعاقل التي لم يطلع على مثلها سهيل (4)
وأقاصي الشرف الذي طلع منه في الطّوق وتمسّك سواه بالذّيل وقدّمه للمتقين إماما، وجعله للمستقين غماما، وشرّفه على المرتقين في علا النسب العلويّ ونوّره وصوّره تماما، ومنّ على اليمن بيمنه، وأعلم بصنعاء حسن صنيعه وبحضر موت
__________
(1) الزيادة عن الطبعة الأميرية من «التعريف» ص: 15.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 15.
(3) الصياصي: القلاع والحصون.
(4) سهيل: من النجوم.(7/362)
[حضور] (1) موت أعدائه، وبعدن أنّها مقدّمة لجنّات عدنه ولا زالت الآفاق تؤمّل من فيضه سحابا دانيا، وتتهلّل إذا شامت له برقا يمانيا، وتتنقّل في رتب محامده ولا تبلغ من المجد ما كان بانيا.
هذه النجوى وكفى بها فيما يقدّم بين يديها، ويقوّم ولا يقوم من كلّ غالي الثمن ما عليها تطوي المراحل (2)، وتجوب البرّ والبلد الماحل، وتثب إليه البحار وتقذف منها العنبر إلى الساحل وترسي به سفنها، وتحط إليه بل تخط لديه مدنها وتؤذن علمه سره الله بما لم يحل إليه من نظر، ولم يخل منه من سبب ألف به النّوم أو نفر، ورود وارد رسوله فقال: يا بشراي ولم يقل هذا غلام، ووصوله بالسلامة والسلام وما تضمّنه ما استصحب منه من صحيفة كلّها كرم، وأخبار صحيحة كلّها مما لو قذف به الماء لاضطرم، ذكر فيها أمر المتغلّب العادي، [والصاحب الذي يفعل فعل الأعادي] (3)، والجار الذي جار والظالم البادي، وما مدّ الأيدي إليه من النّهاب وما اختطف به القلوب من الإرهاب وتحدّث عن أخباره وعندنا علمه، وأخبر عن أفعاله مما له أجر الصبر عليه وعليه ظلمه، وقصّ رسوله القصص، وزاد الشّجى وضيّق مجال الغصص، وأطار من وكر هذا العدوان طائرا كأنما كان في صدره، وحرّك منه لأمر كان يتجرّع له كأس صبره وقد أسمع الدّاعي، وأسرع الساعي وبلّغ الأمانة حاملها، وأوصل الكلمة قائلها ومرحبا مرحبا بداعي القيام من قبله، وأهلا أهلا بما بلّغ على ألسنة رسله وهلمّ هلمّ إلى قلع هذه الشجرة التي لم ينجب ظنّ غارسها، وقطع هذه الصّخرة التي لم تنصب إلا مزلفة لدائسها والتعاضد التعاضد لما هتف به هاتفه الصارخ، وسمعه حتّى الرمح الأصمّ والسيف المتصاوخ (4)، فليأخذ لهذا الأمر الأهبة، وليشدّ عليه فقد
__________
(1) الزيادة من «التعريف» ص: 16.
(2) المراحل: المسافات. والمرحلة: المسافة يقطعها المسافر في نحو يوم.
(3) بياض بالأصل والزيادة من الطبعة الأميرية عن التعريف ص: 17.
(4) ليس في المعاجم التي بين يدينا لفظ «صاخ» «يصوخ» بألف أصلها واو وانما هناك «صيخ» ومنها.
أصاخ يصيخ إصاخة: استمع وأنصت لصوت. وصخخ ومنها الصخّ وهو الضرب بالحديد على شيء مصمت أو الطعن، فتأمل. (انظر اللسان: 3/ 3533والقاموس 1/ 237والوسيط: 528).(7/363)
آنت الوثبة فقد سطّرت وقد نهض إلى الخيل ملجمها، وبادر وضع السهام في الكنائن مزحمها وكأنّه بأوّل الأعنّة، وآذان الجياد تفوّق بين شطري وجهها الأسنّة وكأنه برسوله القائد وفي أعقابه الجيش المطلّ، والألوية وكلّ بطل باسل يبتدر الوغى ولا يستذل ولا أرب لنا في استزادة بلاد وسّع الله لنا نطاقها، وكثّر بنا موادّ أموالها وقدّر على أيدينا إنفاقها وإنما القصد كلّه والأرب جميعه كشف تلك الكرب، وتدارك [ذلك الذّماء (1) الذي] (2) أوشك أو كرب، وإن قدّر فتوح، وتيسّر ما طرف سوانا إليه طموح، كان هو أحقّ بسقبه (3): لأنه جار الدار، والأوّل الذي كان له البدار ويقلّ له لعظيم شرفه ما نسمح به وإن جلّ، وما نهبه منه وإن عظم شأن كلّ تبع وهو ببعضه ما استقلّ وكأنّه والخيل قد وافته تجدّ في الإحضار، وتسرع إليه وتكفيه مؤونة الانتظار إن شاء الله تعالى.
الفرقة الثانية (أولاد رسول)
وهم المعروفون بملوك اليمن عند الإطلاق، ومقرّ مملكتهم حصن تعزّ.
ورسول هذا الذي كان ينسب إليه ملوك هذا النّسب من اليمن هو رسول أمير اخور الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيّوب. قال في «التعريف»: ولما بعث الملك الكامل ولده الملك المسعود أطسز، وهو الذي تسمّيه العامّة أقسيس، بعث معه رسولا أمير اخور في جملة من بعثه معه. قال: ثم تنقّلت الأحوال حتّى استقلّ رسول بملك اليمن، وصار الملك في عقبه إلى الآن. والذي ذكره المؤيّد
__________
(1) الذّماء: بقية الروح في المذبوح وغيره.
(2) بياض بالأصل والزيادة من الطبعة الأميرية عن التعريف ص: 17.
(3) في الأصل «بسبقه» والسّقب: القرب. وفي الحديث: «الجار أحقّ بسقبه».(7/364)
صاحب حماة، وقاضي القضاة وليّ الدين بن خلدون في تاريخيهما (1) وهو الصواب أنّ أوّل من ملك اليمن عليّ بن رسول، ثم ابنه المنصور عمر، ثم ابنه المظفّر يوسف، ثم ابنه الأشرف عمر، ثم أخوه المؤيّد هزبر الدين داود، ثم ابنه المجاهد سيف الدين عليّ، وهو الذي قال المقرّ الشهابيّ بن فضل الله في «التعريف» إنه كان في زمنه، ثم المنصور أيوب، ثم المجاهد عليّ المقدّم ذكره ثانيا، ثم ابنه الأفضل سيف الدين عبّاس. وهو الذي قال في «التثقيف» إنه كان في زمنه في الدّولة الأشرفية «شعبان بن حسين» ثم ابنه المنصور محمد، ثم أخوه الأشرف إسماعيل، وهو الذي كان في الدولة الظاهرية برقوق. ثم ابنه [الملك الناصر أحمد] (2) وهو القائم بها الآن.
واعلم أنّ المكاتبات بين صاحب مصر وصاحب اليمن من حين استقرّت مملكة اليمن مع بني أيّوب ملوك مصر وصارت المملكتان كالمملكة الواحدة، ثم تواصلت المكاتبات بين ملوكهما وتأكّدت المودّة إلى زماننا هذا، خلا ما وقع في خلال ذلك من حصول تباين وقع بين أهل المملكتين في بعض الأزمان، وهو على ضربين:
الضرب الأوّل (ما كان الأمر عليه في الدولة الأيوبية
، وهو أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أصدرناها») وهذه نسخة كتاب عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر والشام، إلى أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن يستقدمه إليه، معاونا له على قتال
__________
(1) وهما «تقويم البلدان» للملك المؤيد اسماعيل بن الأفضل علي الأيوبي الشهير بصاحب حماة المتوفى سنة 732هـ. «وكتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» المعروف بتاريخ ابن خلدون أو اختصارا «العبر».
(2) بياض بالأصل، وكذلك بيض له في الجزء الخامس ص: 33عند الكلام على ملوك اليمن من أولاد رسول. والتصحيح من الطبعة الأميرية عن «بغية المستفيد» لابن الديبع.(7/365)
الفرنج، ويخبره بما وقع له من الفتوحات في سنة أربع وثمانين وخمسمائة.
وهي (1):
أصدرنا هذه المكاتبة إلى المجلس، ومما تجدّد بحضرتنا فتوح «كوكب» وهي كرسيّ الاستباريّة ودار كفرهم، ومستقرّ صاحب أمرهم، وموضع سلاحهم وذخرهم وكان بمجمع الطّرق قاعدا، ولملتقى السّبل راصدا فتعلّقت بفتحه بلاد الفتح واستوطنت، وسلكت الطرق فيها وأمّنت، وعمّرت بلادها وسكنت ولم يبق في هذا الجانب إلا «صور» ولولا أنّ البحر ينجدها والمراكب تردها، لكان قيادها قد أمكن، وجماحها قد أذعن وما هم بحمد الله في حصن يحميهم، بل في سجن يحويهم، بل هم أسارى وإن كانو طلقاء، وأموات وإن كانوا أحياء قال الله عز وجلّ: {فَلََا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمََا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} (2) ولكل امريء أجل لا بدّ أن يصدقه غائبه، وأمل لا بدّ أن يكذبه خائبه.
وكان نزولنا على «كوكب» بعد أن فتحنا «صفد» بلد الدّيويّة ومعقلهم، ومشتغلهم وعملهم ومحلّهم الأحصن ومنزلهم وبعد أن فتحنا «الكرك» وحصونه، والمجلس السيفي أسماه الله أعلم بما كان على الإسلام من مؤونته المثقلة، وقضيّته المشكلة وعلّته المعضلة وأن الفرنج لعنهم الله كانوا يقعدون منه مقاعد للسّمع، ويتبوّأون منه مواضع للنّفع ويحولون بين قات (؟) وراكبها، فيذلّلون الأرض بما كان منه ثقلا على مناكبها. والآن ما أمن بلاد الهرمين، بأشدّ من بلاد الحرمين فكلّها كان مشتركا في نصرة المسلمين بهذه القلعة التي كانت ترامي ولا ترام، وتسامي ولا تسام وطالما استفرغنا عليها بيوت الأموال، وأنفقنا فيها أعمار الرجال، وقرعنا الحديد بالحديد إلى أن ضجّت النّصال من النّصال والله المشكور على ما انطوى من كلمة الكفر وانتشر من كلمة
__________
(1) سبق له وأثبت نص هذا الكتاب في الصفحة: 23وما يليها من هذا الجزء، وقد علقنا حواشيه هناك فليراجع.
(2) مريم / 84.(7/366)
الإسلام. وإنّ بلاد الشام اليوم لا تسمع فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما [فادخلوها بسلام] (1) وكان نزولنا على «كوكب» والشتاء في كوكبه، وقد طلع بيمن الأنواء في موكبه والثلوج تنشر على البلاد ملاءها الفضيض، وتكسو الجبال عمائمها البيض والأودية قد عجّت بمائها، وفاضت عند امتلائها وشمخت أنوفها سيولا، فخرقت الأرض وبلغت الجبال طولا والأوحال قد اعتقلت الطّرقات، ومشى المطلق فيها مشية الأسير في الحلقات فتجشّمنا العناء نحن ورجال العساكر، وكاثرنا العدوّ والزّمان وقد يحرز الحظّ المكاثر وعلم الله النيّة فأنجدنا بفضلها، وضمير الأمانة فأعان على حملها ونزلنا من رؤوس الجبال بمنازل كان الاستقرار عليها أصعب من نقلها، والوقوف بساحتها أهون من نقلها {وَأَمََّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.
والحمد لله الذي ألهمنا بنعمته الحديث، ونصر بسيف الإسلام الذي هو سيفه وسيف الإسلام الذي هو أخونا الطّيّب على الخبيث فمدح السيف ينقسم على حدّيه، ومدح الكريم يتعدّى إلى يديه والآن فالمجلس أسماه الله يعلم أنّ الفرنج لا يسلون عما فتحنا، ولا يصبرون على ما جرحنا فإنهم خذلهم الله أمم لا تحصى، وجيوش لا تستقصى ووراءهم من ملوك البحر من يأخذ كلّ سفينة غصبا، ويطمع في كلّ مدينة كسبا ويد الله فوق أيديهم، والله محيط بأقربيهم وأبعديهم و {سَيَجْعَلُ اللََّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً}. {لََا تَدْرِي لَعَلَّ اللََّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذََلِكَ أَمْراً}.
وما هم إلا كلاب قد تعاوت، وشياطين قد تغاوت. وإن لم يقذفوا من كلّ جانب دحورا، ويتبعوا بكلّ شهاب ثاقب مدحورا استأسدوا واستكلبوا، وتألّبوا وجلّبوا وأجلبوا، وحاربوا وخرّبوا وكانوا لباطلهم الدّاحض، أنصر منّا لحقّنا
__________
(1) الزيادة عن الطبعة الأميرية من «كتاب الروضتين في أخبار الدولتين» 2/ 136.(7/367)
الناهض وفي ضلالهم الفاضح أبصر منّا لهدانا الواضح ولله درّ جرير حيث يقول:
إنّ الكريمة ينصر الكرم ابنها ... وابن اللّئيمة للّئام نصور!
فالبدار إلى النّجدة البدار! والمسارعة إلى الجنة فإنها لن تنال إلا بإيقاد نار الحرب على أهل النّار، والهمّة الهمة! فإن البحار لا تلقى إلا بالبحار، والملوك الكبار لا يقف في وجوهها إلا الملوك الكبار:
وما هي إلّا نهضة تورث العلا ... ليومك ما حنّت روازم نيب!
ونحن في هذه السنة إن شاء الله تعالى ننزل على أنطاكية، وينزل ولدنا الملك المظفّر أظفره الله على طرابلس ويستقرّ الرّكاب العادليّ أعلاه الله بمصر فإنها مذكورة عند العدوّ خذله الله بأنها تطرق، وأنّ الطلب على الشام ومصر تفرّق ولا غنى عن أن يكون المجلس السيفي أسماه الله بحرا في بلاد الساحل يزخر سلاحا، ويجرّد سيفا يكون على ما فتحناه قفلا ولما لم يفتح بعد مفتاحا فإنه ليس لأحد ما للأخ من سمعة لها في كل مسمع سمعه، وفي كلّ روع روعه وفي كل محضر محضر، وفي كل مسجد منبر، وفي كل مشهد مخبر فما يدعى العظيم إلا للعظيم، ولا يرجى لموقف الصبر الكريم إلا الكريم والأقدار ماضية، وبمشية الله جارية فإن يشإ الله ينصر على العدوّ المضعّف، بالعدد الأضعف ويوصّل إلى الجوهر الأعلى، بالعرض الأدنى فإنّا لا نرتاب بأنّ الله ما فتح علينا هذه الفتوح ليغلقها، ولا جمع علينا هذه الأمة ليفرّقها وأنّ العدوّ إن خرج من داره بطرا، ودخل إلى دارنا كان فيها جزرا وما بقي إن شاء الله تعالى إلا أموال تساق إلى ناهبها، ورقاب تقاد إلى ضاربها، وأسلحة تحمل إلى كاسبها وإنما نؤثر أن لا تنطوي صحائف الحمد خالية من اسمه، ومواقف الرّشد خاوية من عزمه ونؤثر أن يساهم آل أيوب في ميراثهم منه مواقع الصبر، ومطالع النصر فو الله إنّا على أن نعطيه عطايا الآخرة الفاخرة، أشدّ منّا حرصا على أن نعطيه عطايا الدنيا القاصرة، وإنّا لا يسرّنا أن ينقضي عمره في قتال غير الكافر، ونزال غير
الكفء المناظر ولا شكّ أنّ سيفه لو اتّصل بلسان ناطق وفم، لقال: ما دمت هناك فلست ثمّ وما هو محمول على خطّة يخافها، ولا متكلّف قضية بحكمنا يعافها والذي بيده لا نستكثره، بل نستقصره عن حقّه ونستصغره وما ناولناه لفتح أرضه السّلاح، ولا أعرناه لملك مركزه النّجاح إلا على سخاء من النفس به وبأمثاله، على علم منّا أنه لا يقعد عنا إذا قامت [الحرب] بنفسه وماله فلا نكن به ظنّا أحسن منه فعلا، ولا نرضى وقد جعلنا الله أهلا أن لا نراه لنصرنا أهلا وليستشر أهل الرشاد فإنهم [لا يألونه] حقّا واستنهاضا، وليعص أهل الغواية فإنهم إنما يتغالبون به لمصالحهم أغراضا ومن بيته يظعن وإلى بيته يقفل، وهو يجيبنا جواب مثله لمثلنا، وينوي في هذه الزيارة جمع شمل الإسلام قبل نيّة جمع شملنا، ولا تقعد به في الله نهضة قائم، ولا تخذله عزمة عازم ولا يستفت فيها فوت طالب ولا تأخذه في الله لومة لائم فإنما هي سفرة قاصدة، وزجرة واحدة فإذا هو قد بيّض الصحيفة والوجه والذّكر والسّمعة، ودان الله أحسن دين ولا حرج عليه إن فاء إلى أرضه بالرّجعة وليتدبّر ما كتبناه، وليتفهّم ما أردناه وليقدّم الاستخارة، فإنها سراج الاستنارة، وليغضب لله ولرسوله ولدينه ولأخيه فإنها مكان الاستغضاب والاستثارة. وليحضر حتّى يشاهد أولاد أخيه يستشعرون لفرقته غمّا، وقد عاشوا ما عاشوا لا يعرفون أنّ لهم مع عمّهم عمّا والله سبحانه يلهمه توفيقا، ويسلك به إليه طريقا وينجدنا به سيفا لرقبة الكفر ممزقا ولدمه مريقا، ويجعله في مضمار الطاعات سابقا لا مسبوقا. إن شاء الله تعالى.(7/368)
وما هي إلّا نهضة تورث العلا ... ليومك ما حنّت روازم نيب!
ونحن في هذه السنة إن شاء الله تعالى ننزل على أنطاكية، وينزل ولدنا الملك المظفّر أظفره الله على طرابلس ويستقرّ الرّكاب العادليّ أعلاه الله بمصر فإنها مذكورة عند العدوّ خذله الله بأنها تطرق، وأنّ الطلب على الشام ومصر تفرّق ولا غنى عن أن يكون المجلس السيفي أسماه الله بحرا في بلاد الساحل يزخر سلاحا، ويجرّد سيفا يكون على ما فتحناه قفلا ولما لم يفتح بعد مفتاحا فإنه ليس لأحد ما للأخ من سمعة لها في كل مسمع سمعه، وفي كلّ روع روعه وفي كل محضر محضر، وفي كل مسجد منبر، وفي كل مشهد مخبر فما يدعى العظيم إلا للعظيم، ولا يرجى لموقف الصبر الكريم إلا الكريم والأقدار ماضية، وبمشية الله جارية فإن يشإ الله ينصر على العدوّ المضعّف، بالعدد الأضعف ويوصّل إلى الجوهر الأعلى، بالعرض الأدنى فإنّا لا نرتاب بأنّ الله ما فتح علينا هذه الفتوح ليغلقها، ولا جمع علينا هذه الأمة ليفرّقها وأنّ العدوّ إن خرج من داره بطرا، ودخل إلى دارنا كان فيها جزرا وما بقي إن شاء الله تعالى إلا أموال تساق إلى ناهبها، ورقاب تقاد إلى ضاربها، وأسلحة تحمل إلى كاسبها وإنما نؤثر أن لا تنطوي صحائف الحمد خالية من اسمه، ومواقف الرّشد خاوية من عزمه ونؤثر أن يساهم آل أيوب في ميراثهم منه مواقع الصبر، ومطالع النصر فو الله إنّا على أن نعطيه عطايا الآخرة الفاخرة، أشدّ منّا حرصا على أن نعطيه عطايا الدنيا القاصرة، وإنّا لا يسرّنا أن ينقضي عمره في قتال غير الكافر، ونزال غير
الكفء المناظر ولا شكّ أنّ سيفه لو اتّصل بلسان ناطق وفم، لقال: ما دمت هناك فلست ثمّ وما هو محمول على خطّة يخافها، ولا متكلّف قضية بحكمنا يعافها والذي بيده لا نستكثره، بل نستقصره عن حقّه ونستصغره وما ناولناه لفتح أرضه السّلاح، ولا أعرناه لملك مركزه النّجاح إلا على سخاء من النفس به وبأمثاله، على علم منّا أنه لا يقعد عنا إذا قامت [الحرب] بنفسه وماله فلا نكن به ظنّا أحسن منه فعلا، ولا نرضى وقد جعلنا الله أهلا أن لا نراه لنصرنا أهلا وليستشر أهل الرشاد فإنهم [لا يألونه] حقّا واستنهاضا، وليعص أهل الغواية فإنهم إنما يتغالبون به لمصالحهم أغراضا ومن بيته يظعن وإلى بيته يقفل، وهو يجيبنا جواب مثله لمثلنا، وينوي في هذه الزيارة جمع شمل الإسلام قبل نيّة جمع شملنا، ولا تقعد به في الله نهضة قائم، ولا تخذله عزمة عازم ولا يستفت فيها فوت طالب ولا تأخذه في الله لومة لائم فإنما هي سفرة قاصدة، وزجرة واحدة فإذا هو قد بيّض الصحيفة والوجه والذّكر والسّمعة، ودان الله أحسن دين ولا حرج عليه إن فاء إلى أرضه بالرّجعة وليتدبّر ما كتبناه، وليتفهّم ما أردناه وليقدّم الاستخارة، فإنها سراج الاستنارة، وليغضب لله ولرسوله ولدينه ولأخيه فإنها مكان الاستغضاب والاستثارة. وليحضر حتّى يشاهد أولاد أخيه يستشعرون لفرقته غمّا، وقد عاشوا ما عاشوا لا يعرفون أنّ لهم مع عمّهم عمّا والله سبحانه يلهمه توفيقا، ويسلك به إليه طريقا وينجدنا به سيفا لرقبة الكفر ممزقا ولدمه مريقا، ويجعله في مضمار الطاعات سابقا لا مسبوقا. إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني (من المكاتبات إلى صاحب اليمن ما الأمر عليه من ابتداء الدولة التركية
وهلمّ جرّا إلى زماننا، وهو على ثلاثة أساليب)
الأسلوب الأوّل
(أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أدام الله تعالى نعمة [أيام] المقام العالي») وهذه نسخة كتاب كتب عن الملك الناصر محمد بن قلاوون، جواب كتاب
ورد من صاحب اليمن في مقابلة البشرى بدخول العساكر المنصورة إلى بلاد الأرمن، وطلب سلامش نائب التتار بالرّوم الدخول في الطاعة وذكر (1) أنّ نائبا كان لأبيه في قلعة طمع وعصى عليه فظفر به فبشّر بذلك ويحرّضه على الجهاد وإنفاذ الأموال، ويهدّده، ويوجّه به قصّاده إليه. من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي (2) رحمه الله، وهي:(7/369)
(أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أدام الله تعالى نعمة [أيام] المقام العالي») وهذه نسخة كتاب كتب عن الملك الناصر محمد بن قلاوون، جواب كتاب
ورد من صاحب اليمن في مقابلة البشرى بدخول العساكر المنصورة إلى بلاد الأرمن، وطلب سلامش نائب التتار بالرّوم الدخول في الطاعة وذكر (1) أنّ نائبا كان لأبيه في قلعة طمع وعصى عليه فظفر به فبشّر بذلك ويحرّضه على الجهاد وإنفاذ الأموال، ويهدّده، ويوجّه به قصّاده إليه. من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي (2) رحمه الله، وهي:
أدام الله تعالى نعمة أيام المقام العالي! وأنهضه بفرض الجهاد الذي بمثله ينتهج، وأيقظه لمتعيّن الغزو الذي ما (3) له تدرك الرّتب وترتفع الدّرج وأشهده في سبيل الله مواقف النصر التي إذا أودعنا نشر بشرها الطروس عبقت بما فيها من الأرج وأراه مشاهد فتوحنا التي إذا حدّثت الأحلام عن عجائبها حدّثت عن البحر ولا حرج وصان مجده عن إضاعة الوقت في غير حديث الجهاد الذي هو أولى ما بذلت له الذّخائر وابتذلت فيه المهج.
صدرت هذه المكاتبة تخصّه بتحية تتضوّع نشرا، وتتحفه من متجدّدات الظّفر بشرا، يملأ الوجود مسرّة وبشرى، وتقصّ عليه من متجدّدات فتح يأتي على ما أتعبت فيه الأفكار قرائحها من مشتهى التّهاني فلا يدع له ذكرا وتتلو على من ظنّ بعد ما سمع من البلاغ بلاغ العدا أنّ إزالة وال عن مركزه فتح كبير: لقد جئت شيئا نكرا. وتوضّح لعلمه الكريم أنّ مكاتبته الكريمة وردت مقصورة على نبإ لا يعتدّ بذكره، محصورة على خبر لا ينبغي لمثل مجده أن يمرّه على فكره، مطلقة
__________
(1) أي صاحب اليمن في كتابه.
(2) هو محمود بن سلمان بن فهد بن محمود الحنبلي الحلبي، أبو الثناء شهاب الدين: أديب كبير.
استمر في دواوين الإنشاء بالشام ومصر نحو خمسين عاما. ولد بحلب وتنقل بين دمشق ومصر وكان شيخ صناعة الإنشاء في عصره، ويقال: لم يكن بعد القاضي الفاضل مثله. وهو إلى ذلك شاعر مكثر وله تصانيف عديدة منها: «ذيل على الكامل لابن الأثير» و «حسن التوسل الى صناعة الترسل». وكان يكتب التقاليد الكبيرة والتواقيع بديهة من غير مسودة. (الأعلام: 7/ 172وفوات الوفيات 4/ 9682).
(3) بياض في الأصل. ولعله «ما بغير القيام له الخ».(7/370)
عنان القلم فيما كان ينبغي طيّ خبره وتعفّي أثره، وإخفاء سببه وتركه نسيا منسيّا فضلا عن التبجّح بذكره، والتهنئة به، إذ في ذلك مقابلة البحر بالثّماد (1)، والرّوح بالجماد والشّمس بالذّبال، والهدى بالضّلال فلم يكمل له في ذلك المراد، وأتى بما قالت له التهاني: (نحن في واد وأنت في واد) وقابلناها مع ذلك بالقبول الذي اجتلى غررها، وأحمدت لديه وردها وصدرها، فأحطنا علما بما تضمّنته من الأحوال التي أبداها، والمتجدّدات التي عظم موقع نشرها عنده فأهداها.
وأما ما ذكره من أمر القلعة التي كان [النائب بها] لوالده شخصا اعتمد عليه، وولّاه مستحفظا ظنّه مع تغاير الأحوال مؤتمنا على ما في يديه وأن ذلك الشخص بعد انتقال والده رحمه الله طمع فيما استودع فجحد الوديعة والموادعة، ورام المنازعة والمقاطعة، وخالف وحالف، وقارب العصيان وقارف (2) وأنه في هذا الوقت قلع ذلك النائب، من تلك القلعة المغتصبة، وأراح من همّه الناصب، وأفكاره ووصبه (3) إلى غير ذلك مما أورده على وجه البشرى لهذا السبب الضّعيف، وأبرزه في معرض التهنئة من هذا الأمر الطفيف وأراد أن يتكثّر فيه بما لا مدخل له في كثرة وقلّه، فذكر بروزه بجمعه إلى شخص واحد في قبالة ما اتصل به من نبإكل موطن برز فيه الإسلام كلّه إلى الشّرك كلّه وظاهر الأمر أنّ ذلك الشخص ما عصى بالمكان الذي كان فيه إلا لما رأى بالمملكة اليمنيّة من اضطراب الأحوال، وأسباب الاختلاف والاختلال، والوهن الذي حسّن له الاحتراز والاختزال، والخلوة التي حملته على أن (طلب الطّعن وحده والنّزال)، وامتداد الأيدي العادية بكلّ جهة إلى ما يليها، وضياع رعايا كلّ ناحية بالاشتغال عن افتقاد أحوال من يباشرها وانتقاد تصرّف من يليها فهو الذي أوجب طمعه، وقوّى ضلعه (4)، وحمله من مركب العناد، وأراه نظراءه بتلك الجهة ممّن سلك الفساد.
__________
(1) الثّمد: الماء القليل الذي ليس له مدد، والجمع: أثماد وثماد.
(2) قارف وقارب بمعنى واحد.
(3) الوصب: الوجع والمرض والتعب والفتور في البدن.
(4) يقال: الضّلع والضّلع، بالتسكين والتحريك، وهما واحد.(7/371)
وهذا الأمر ما خفي علينا خبره، ولا توارى عنّا ورده ولا صدره فإن أخبار مملكة اليمن ما زالت متواصلة إلينا بما هي عليه من اضطراب واف، واختلاف غير خاف، وهيج لا يرجع الأمر فيه إلى كاف كافّ وما أخّرنا لحق جيوشنا المنصورة، وعساكرنا التي ممالك العدا بمهابتها محصورة، عن الوصول إلى المملكة اليمنية لتقويم أودها، وتمكين شدّها وإقامة أمر الملك فيها، وحسم مادّة الفساد عن نواحيها، وتطمين البلاد، وإنامة الرّعايا من الأمن في أوطإ مهاد، والاحتراز على الخزائن والأموال، وصونها عن الإنفاق في غير جند الله الذين منعوا دعوة الشرك أن تقام وكلمة الكفر أن تقال إلّا لأنّ عساكرنا كانت الآن في الممالك والأقاليم التي بيد الكفر: من التّتار المخذولين، ومن يقول بقولهم من أعداء الدين، تقتل وتأسر، وتلقى الجيوش الكافرة فتكسب وتكسر، وتصحبهم حيث حلّوا طلائع رعبها، وتصبّحهم منها أين طلّوا ريح عاد التي تدمّر كلّ شيء بأمر ربّها.
وما سطّرنا هذه المكاتبة إلا وجيوشنا المنصورة قد وطئت عقر بلادهم فأذلّتها وأذالتها (1)، وغيّرت أحوالها وحالتها وقاسمتهم شرّ قسمة فلها منها الحصون والمصون، والجنّات الوارفة الغصون، ولهم منها الخراب والتّباب، والدارس الذي لا يحصل بكفّ دارس بيته إلا التّراب وها هي قادمة إلينا يقدمها النصر، ويتقدّمها من أسر العدا وغنائمهم ما يربي عن الحصر وما بينها وبين ركوب هذا البحر لملك تمهّده، وعدل تجدّده، وبغاة تكفّ غربها، ورعاة تؤمّن بالمهابة سربها، وتصفّي من أكدار الفتن شربها وخزائن لها عن غير الإنفاق في سبيل الله تصونها إلا بمقدار ما تستقرّ بها المنازل استقرار السّنة (2) بالجفون لا النوم (3)، وأضرمت نواحيها، واستاقت أهلها ومواشيها، وجعلت
__________
(1) أذاله وأذلّه بمعنى واحد.
(2) السّنة، بكسر السين: النعاس، وهو مبدأ النوم. من فعل: وسن.
(3) بياض في الأصل. ولعله «لا النوم بالعيون فما من جهة للعدا إلا وأضرمت الخ».(7/372)
قصورها صعيدا (1)، وزرعها حصيدا، وعقائلها (2) إماء، ومعاقلها هباء وابتذلت مصونها الذي جعله الله لها أثقالا، واختارت من حصونها لملكنا ما كانت سيوفنا له مفاتح فلمّا فتح عدن له أقفالا واقتلعت من القلاع التي كانت بيد الكفر كلّ معقل أشب (3)، وحصن شابت نواصي اللّيل وهو لم يشب قد صفّح بالصّفاح، وشرّف بأسنّة الرّماح، واستدار بقنّة قلة ينهب الترقّي إليها هوج الرّياح فطهّرته من النّجس، وعوضّته بصوت الأذان عن صوت الجرس، وأخرست الناقوس بسورة الفتح الذي عوذّته نوب الدهر بآيات الحرس مع ما أضيف إلى تلك القلاع من بلاد وتلاد، وأغوار ونجاد وجنّات وعيون، وأموال ارتجع بها ما كان للإسلام في ذمّة الكفر من بقايا الدّيون. وكلّ تلك الغنائم منحناها جيوشنا المنصورة وأبحناها، وقوّيناهم على أمثالها من الفتوح برفع العوائق التي أزلناها، بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة وأزحناها وما وصل الآن قصّاده إلى أبوابنا العالية إلا والبشائر تنطق بألسنة التّهاني، وتخفق بمجدّدات هذه الفتوح في الأقاصي من ممالكنا والأداني وقد شاهدوا ذلك وشهدوه، ورأوا ما رأى غيرهم من نوادر الفتوح التي أربت على ما ألفوه من قبل وعهدوه. هذا وما وضعت الحرب إلى الآن أوزارها، ولا خمدت نار الوغى التي أعدّت جيوشنا المنصورة للأعداء أوراها وما يمضي وقت إلا والبشائر متواردة علينا بفتح جديد، ونصر له في كلّ يوم مخلّق تخلّق وفي كل برّ بريد. وقصارى أمر العدوّ الآن أنهم ليس لهم بلد، إلا وقد (أخنى عليه الذي أخنى على لبد) (4) ولا دار إلا وقد أضحت كدار ميّة التي (أقوت وطال
__________
(1) الصعيد: وجه الأرض والتراب.
(2) العقائل: جمع عقيلة وهي السيدة المخدرة والزوجة الكريمة.
(3) أشب الشجر أشبا: اشتد التفافه وكثر حتى لا مجاز فيه، فهو أشب. ويقال: مكان أشب وبلدة أشبة.
(4) إشارة إلى بيت النابغة الذبياني:
أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا
أخنى عليها الذي أخنى على لبد.
ولبداسم آخر نسور لقمان بن عاد وتزعم العرب أن لقمان هو الذي بعثته عاد في وفدها إلى الحرم يستسفي لها، فلما أهلكوا خيّر لقمان بين بقاء سبع بعرات سمر من أظب عفر في جبل وعر لا يمسها القطر، أو بقاء سبعة أنسر كلما أهلك نسر خلف بعده نسر، فاختار النسور فكان آخر نسوره يمسى لبدا. (انظر اللسان: 3/ 385).(7/373)