ثم قرأ بعد أساطير تلاها، وزخارف جلاها، وقال: اركبوا فيها باسم الله
مجراها ومرساها. ثمّ تنفّس تنفّس المغرمين، أو عباد الله المكرمين.
وقال: أمّا أنا فقد قمت فيكم مقام المبلّغين، ونصحت لكم نصح المبالغين، وسلكت بكم محجّة الرّاشدين، فاشهد اللهمّ وأنت خير الشاهدين.
* * * ابن سبيل: هو المسافر الذي انقطع به، وهو يريد الرجوع إلى بلده، ولا يجد ما يتبلّغ به، فله سهم في الصدقات. زبيل: قفّه من جلود، وألغز به بعضهم فقال: [الوافر]
وذي أذنين لا يقتات قوتا ... وجوف للحوائج واحتمال
يكلّف شغل أهل البيت طرّا ... وتحمل فيه أقوات العيال
تسرّ إليه في الأسواق سرّا ... فلا يفشيه إلا في الرّحال
ظله غير ثقيل، أي هو خفيف الروح، وقد تقدّم معنى استثقال ظلّه في الثانية والعشرين، ويريد بظلّه شخصه، كما يسمّى الشخص سوادا، لأنه يسوّد الأرض بظلّه.
قال زياد بن عبد الله: قيل للشافعي رضي الله عنه: هل تمرض الرّوح؟ قال: نعم من ظلّ الثقلاء قال: فمررت به يوما وهو بين ثقيلين، فقلت كيف الروح؟ قال: في النّزع.
وقال الهيثم بن عديّ: النّظر إلى الثقيل حمّى الروح. مقيل: موضع جلوس في القائلة. الجنوح: الميل، والماعون اسم للمطر. وأنشد أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه:
[الوافر]
يمجّ صبيره الماعون مجّا ... إذا نسم من الهيف اعتراه (1)
والماعون الزكاة، قال الرّاعي: [الكامل]
قوم على الإسلام لمّا يمنعوا ... ماعونهم ويضيّعوا التّهليلا (2)
مسالك: طرق ابن عباس رضي الله عنهما، قال رسول صلى الله عليه وسلم: «أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن أن يقولوا: بسم الله الملك، {وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:
91]، الآية {بِسْمِ اللََّهِ مَجْرََاهََا وَمُرْسََاهََا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}» [هود: 41].
__________
(1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (معن)، وتهذيب اللغة 3/ 17، والمخصص 9/ 121، وتاج العروس (معن).
(2) البيت للراعي النميري في ديوانه ص 230، وفيه «قومي» بدل «قوم»، ولسان العرب (معن) وفيه «التنزيلا» بدل «التهليلا»، وتاج العروس (معن)، وبلا نسبة في لسان العرب (هلل)، وتهذيب اللغة 5/ 368، وتاج العروس (هلل).(3/130)
وقوله: إن الله تعالى ما أخذ على الجهّال أن يتعّلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلّموا، قيل: معنى أخذ: أوجب، وأراد قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللََّهُ مِيثََاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنََّاسِ وَلََا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].
أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما آتى الله تعالى عالما علما إلا أخذ عليه الميثاق ألّا يكتمه» قال الحسن بن عمر: أتيت الزّهريّ بعد أن ترك الحديث، فألقيته على بابه، فقلت: إمّا أن تحدّثني وإما أن أحدثك، قال: حدّثني، فقلت: حدّثني الحكم ابن عيينة، عن يحيى بن الجزار، قال: سمعت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول:
ما أخذ الله على الجهال أن يتعلّموا حتى أخذ على العلماء أن يعلمّوا، قال: فحدّثني بأربعين حديثا.
قوله: عوذة، أي ما يتعوّذ به الإنسان من الحرز وشبهه. براهينها: حججها خيمي:
طبعي. الحرمان: منع الفوائد. المباهي: المفاخر الكثير الإعجاب السّفر: المسافرون.
الجنّة، الستر. جاش: تحرّك وهاج. اليمّ: البحر. استعصم: امتنع. الطوفان: الماء العامّ.
صدعت: نطقت آي: جمع آية، وتقدمت الأساطير، هي الأباطيل. زخارف: أشياء مزيّنة المغرمين: المعذبين، والمغرم المولع بالحب وغيره. الرّاشدين: الهادين للطريق.
* * * قال الحارث بن همّام: فأعجبنا بيانه البادي الطّلاوة، وعجّت له أصواتنا بالتّلاوة، وأنس قلبي من جرسه، معرفة عين شمسه فقلت له: بالّذي سخّر البحر اللّجّىّ ألست السّروجيّ! فقال لي: بلى، وهل يخفى ابن جلا! فأحمدت حينئذ السّفر، وسفرت عن نفسي إذ سفر، ولم نزل نسير والبحر رهو، والجوّ صحو، والعيش صفو، والزّمان لهو، وأنا أجد للقيانه، وجد المثري بعقيانه، وأفرح بمناجاته، فرح الغريق بمنجاته، إلى أن عصفت الجنوب، وعسفت الخنوب، ونسي السّفر ما كان وجاءكم الموج من كلّ مكان فملنا لهذا الحدث السّائر، إلى إحدى الجزائر لنريح ونستريح، ريثما تواتي الرّيح.
فتمادى اعتياص المسير حتى نفد الزّاد غير اليسير فقال لي أبو زيد: إنّه لن يحرز جنى العود بالقعود، فهل لك في استثارة السّعود بالصعود! فقلت له: إنّي لأتبع لك من ظلّك، وأطوع من نعلك.
* * * الطّلاوة: الحسن والقبول. عجت: ارتفعت. آنس: أحسّ وأدرك. جرسه: صوته الخفيّ. عين شمسه: حقيقة نفسه ومعرفته اللجي: وهي معظم الماء.(3/131)
[طوفان نوح عليه السلام]
ونذكر هنا بعد ما حدث من طوفان نوح عليه السلام:
ذكر أهل الأخبار أن نوحا عليه السلام أوّل نبيّ بعث، وأنّ قومه كانوا أهل أوثان، يعبدونها من دون الله، فبعث لهم نوح فدعاهم إلى الله، فكانوا يبطشون به، ويستخفّون به، وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. فلمّا كثر استخفافهم به، قال:
{رَبِّ لََا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكََافِرِينَ دَيََّاراً} [نوح: 26]، فأوحى الله إليه أن اصنع الفلك فإنهم مغرقون. فأقبل على قطع الخشب وضرب الحديد وتهيئة العود بالفار وغيره، فصنعه من خشب السّاج، وجعل طوله ثمانين ذراعا وعرضه خمسين ذراعا، وطوله في السماء ثلاثين ذراعا. وكان قومه في خلال صنعة السفينة يأتونه أفواجا، يستخفّون عقله، ويعدّون فعله من جنونه، ويقولون له: عملت سفينة في البرّ، فيقول لهم: سوف تعلمون. فلما اطمأنوا في الفلك فار التّنور من الهند، وقال الشعبي رحمه الله من الكوفة.
وفتحت أبواب السماء بماء منهمر، وتفجّرت الأرض عيونا، فكان بين إرسال الماء وارتفاعه أربعون يوما، فلما بلغ الماء إليهم أووا إلى الجبال، فكانت الجبال تستقبلهم بالحجارة، وتغرقهم في الماء، فماتوا غرقى، وارتفع الفلك، وجعل يجري في موج كالجبال، ودار الأرض كلها في ستة أشهر وعشر ليال. ويقال: إنهم ركبوها لعشر ليال مضين من رجب، ونزلوا يوم عاشوراء من المحرّم، فلذلك صام الناس يوم عاشوراء، وأتت السفينة الحرم فدارت به أسبوعا، ولم يبق شيء الخلائق ولا من الشجر إلّا هلك، إلا نوح ومن معه، وإلّا عوج بن عنق فيما يزعم أهل الكتاب وانتهت آخرا إلى الجوديّ، وهو جبل بالحصنين من أرض الموصل فنزلت عليه.
* * * قوله: ابن جلا، أي المشهور المعروف، يقال للرجل إذا كان عالي الشرف واضح الأمر لا يخفى مكانه: هو ابن جلا، أي هو الذى الأمور بنفسه، وأوضحها، قال سحيم ابن وثيل: [الوافر]
أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني (1)
وكان صاحب غارات، يطلع فيها من ثنيّة الجبل على قومه قال ثعلب: العمامة تلبس في الحرب وتوضع في السّلم قال ابن الأعرابيّ: يقال للسّيد: ابن جلا، قال سيبويه رحمه الله: جلا فعل ماض، كأنه يعني الذي جلا، أي أوضح وكشف.
__________
(1) البيت لسحيم بن وثيل الرياحي في الأصمعيات ص 17، والشعر والشعراء 2/ 647، والكتاب 3/ 207، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ص 456، وشرح قطر الندى ص 86، ولسان العرب (ثنى)، (جلا)، ومجالس ثعلب 1/ 212.(3/132)
قوله: أحمدت، أي وجدته محمودا. سفرت: كشفت وأزلت الهم سفر: عرّفنا بنفسه، ويقال: سفرت عن نفسي كما سفر، أي عرّفته شخصي كما عرفني هو شخصه ونفسه. وهو: ساكن، ويقال: فعل ذلك رهوا، أي ساكنا من غير تشدّد، قال تعالى:
{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً} [الدخان: 24] والرّهو عند العرب الساكن، يقال: جاءت الريح رهوا، أي ساكنة، ويجوز أن يكون رهوا من نعت موسى عليه السلام، أي أتركه على هينتك، أو يكون من نعت البحر، أي دعه يا موسى ساكنا واقفا ماؤه واعبره. الجوّ:
ناحية. السماء صحو: نقيّ من السحاب المثري: الغني. والعقيان: الذهب ينبت نباتا.
عصفت الريح: اشتدّت الجنوب: الريح القبلية. عسفت: جاءت من كلّ جانب، والعسف ركوب الأمر على جهالة. والخبوب، بخاء معجمة، جمع خبّ، وهي الرواية الصحيحة عن ابن جهور وغيره، وهو هيج البحر واضطراب الماء، وهو الذي صحّحه الفنجديهيّ كأن أبا عمرو القسطليّ شاهد هذه الحالة من هول البحر فوصفه بقوله:
[الطويل]
إليك شحنّا الفلك تهوي كأنّها ... وقد ذعرت من مغرب الشّمس غربان
على لجح خضر إذا هبت الصبّا ... ترامى بنا فيها ثبير وثهلان
مواثل يرعى في ذراها مواثل ... كما عبدت في الجاهلية أوثان
تقاتل موج البحر واليم والدّجى ... تموج بنا فيها عيون وآذان
ألا هل إلى الدنيا معاد وهل لنا ... سوى البحر قبر أو سوى الماء أكفان
وقال آخر: [الرمل]
وسماء في الثّرى مخضلّة ... لا زوردّية ما فيها صفا
غطّت الأرض فلم تترك لنا ... من فضاء الأرض إلّا طرفا
فكأنّ الأرض فيها عائم ... غاب إلّا هامة أو كتفا
وكأنّ الموج فيها عسكر ... لبسوا لأما وغالوا حجفا
خافق راجفة أحشاؤه ... كحشا المهجور يهفو أسفا
قوله: نسي السّفر ما كان، أي نسوا ما كان من طيب العيش بصفو الصحو قوله:
الحدث الثائر، أي الأمر الطارىء. لنريح، أي لنريح أنفسنا من تعب الهول والخوف، وأراح الرجل: استراح وأراح غيره، وأراح الريح وأروحها واستروحها: وجدها. ريث:
قدر، والرّيث اللّبث والبطء. تواتي: توافق اعتياص: التواء وتصعّب. نفد: فني استثارة:
استخراج، يقول: هل لك فى إدراك الحظّ بالخروج من السفينة إلى البريّة.
* * * فنهدنا إلى الجزيرة، على ضعف من المريرة لنركض في امتراء الميرة
وكلانا لا يملك فتيلا ولا يهتدي فيها سبيلا فأقبلنا نجوس خلالها، ونتفيّأ ظلالها، حتّى أفضينا إلى قصر مشيد، له باب من حديد، ودونه زمرة من عبيد. فناسمناهم لنتّخذهم سلما إلى الارتقاء، وأرشية للاستقاء فألفينا كلّا منهم كئيبا حسيرا حتّى خلناه كسيرا أو أسيرا. فقلنا: أيّتها الغلمة، ما هذه الغمّة؟ قلم يجيبوا النّداء، ولا فاهوا ببيضاء ولا سوداء، فلمّا رأينا نارهم نار الحباحب، وخبرهم كسراب السّباسب، قلنا: شاهت الوجوه، وقح الّلكع ومن يرجوه فابتدر خادم قد علته كبرة، وعرتّه عبرة، وقال: يا قوم، لا توسعونا سبّا، ولا توجعونا عتبا فإنا لفي حزن شامل وشغل عن الحديث شاغل، فقال له أبو زيد: نفّسّ خناق البثّ، وانفثّ إن قدرت على النّفث، فإنك ستجد منّي عرّافا كافيا، ووصّافا شافيا.(3/133)
* * * فنهدنا إلى الجزيرة، على ضعف من المريرة لنركض في امتراء الميرة
وكلانا لا يملك فتيلا ولا يهتدي فيها سبيلا فأقبلنا نجوس خلالها، ونتفيّأ ظلالها، حتّى أفضينا إلى قصر مشيد، له باب من حديد، ودونه زمرة من عبيد. فناسمناهم لنتّخذهم سلما إلى الارتقاء، وأرشية للاستقاء فألفينا كلّا منهم كئيبا حسيرا حتّى خلناه كسيرا أو أسيرا. فقلنا: أيّتها الغلمة، ما هذه الغمّة؟ قلم يجيبوا النّداء، ولا فاهوا ببيضاء ولا سوداء، فلمّا رأينا نارهم نار الحباحب، وخبرهم كسراب السّباسب، قلنا: شاهت الوجوه، وقح الّلكع ومن يرجوه فابتدر خادم قد علته كبرة، وعرتّه عبرة، وقال: يا قوم، لا توسعونا سبّا، ولا توجعونا عتبا فإنا لفي حزن شامل وشغل عن الحديث شاغل، فقال له أبو زيد: نفّسّ خناق البثّ، وانفثّ إن قدرت على النّفث، فإنك ستجد منّي عرّافا كافيا، ووصّافا شافيا.
* * * نهدنا: تقدّمنا المريرة: قوّ النفس. نركض، بفتح أوّلها، وأصل الرّكض، تحريك القوائم، ومنه {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42]، ولهذا قيل للجنين إذا اضطرب في بطن أمه: قد ارتكض، ومن مشكل أبيات المعاني: [الرجز]
قد سبق الحلبة وهو راكض ... فكيف لا يسبق وهو رابض (1)
المراد: أنّ أمه سبقت الجياد وهي حامل به، فأضاف السّبق إليه لاتصاله بها، وأراد براكض تحريكه قوائمه في مقرّه، والرّكض يستعمل في الخيل وغيرها فيقال: ركض البعير برجله، والطائر بجناحه.
قوله: امتراء، أي استخراج. الميرة: جلب الرزق، ومار الرجل على أهله ميرا:
جلب لهم القوت.
نجوس خلالها نطوف في طرقها، قال الليث وابن سيده: الجوس والجوسان:
التردّد في خلال الدّور والبيوت، وقال الأصمعيّ والأزهريّ وأبو عبيدة: جاسوا الموضع:
وطئوه، وفلان يجوس بني فلان، أي يطؤهم يطلب فيهم وقال الطّبري والنّقّاش والزّجاج والثعالبي: {فَجََاسُوا خِلََالَ الدِّيََارِ} [الإسراء: 5]، أي طافوا بين بيوتهم، يقتلونهم ويطلبونهم، ذاهبين وجائين. والخلل: الفرجة بين الشيئين، والجمع خلال. تتفيّأ:
نستظلّ، وتفيّأ به: استظلّ به، وتفيّأ: تقلّب أفضينا: وصلنا. مشيد: مرتفع البناء،
__________
(1) يروى الرجز:
قد سبق الجياد وهو رابض ... فكيف لا يسبق وهو راكض
وهو بلا نسبة في تاج العروس (ركض)، وجمهرة اللغة ص 751.(3/134)
والشّيد: الجصّ. زمرة: جماعة ناسمناهم: قربنا منهم، وناسمه: سارّه وشامة، وناسمت الرجل: قرّبت نسمتك من نسمته، وتحدّثت معه سرّا: أرشية: حبالا. الارتقاء: الصعود.
المسك: الجلد، يريد أنه شديد التوجّع، وهذا كما تقول: لقيت فلانا في ثوب نمر، أو في جلد أسد، أي لقيته بادي الشرّ، قال الشاعر: [الطويل]
فطورا ترانا في مسوك جيادنا ... وطورا ترانا في مسوك الثّعالب (1)
قال البكريّ: الخيل توصف بالإقدام والثعالب بالرّوغان، فيريد أنهم مقدمون على أعدائهم يوما، ورائغون عنهم يوما. وقال الأستاذ: أي أسروا فكتفوا بجلود خيلهم المعقورة وفي جلود الثعالب، كناية عن خبث الأسير فاهوا: نطقوا. سوداء: كلمة رديئة نار الحباحب: ما تطاير من الشّرر في الهواء بتصادم حجرين أو بضرب حافر في حجر، وتلك نار لا منفعة فيها، وقيل: الحباحب رجل بخيل كان يوقد نارا ضعيفة لئلا يقصد، فإن أحسّ بإنسان أطفأها لئلا يقتبس أحد من ناره، وقيل: نار الحباحب نار سراجة، ولبخله كان إذا جاء أحد يوقد منه أطفأها، وقال عبد الصمد بن المعذّل في أخيه: [مجزوء الخفيف]
ليت لي منك يا أخي ... جارة من محارب
نارها كلّ شتوة ... مثل نار الحباحب (2)
يريد جارة القطاميّ التي يقول فيها: [الطويل]
إلى حيزبون توقد النّار بعدما ... تلفّقت الظّلماء من كلّ جانب
فلمّا تنازعنا الحديث سألتها ... عن الحيّ قالت: معشر من محارب
ألا إنما نيران قومي إذا شتوا ... لطارق ليل مثل نار الحباحب
وقيل: الحباحبّ ذباب يطير بالليل، له شعاع كالسراج. قوله: خبرهم، الخبر بضم الخاء، مصدر خبرت أخبر إذا امتحنت، والسباسب والبسابس: الأرض المستوية، واحدها سبسب وبسبس. شاهت الوجوه: قبحت الوجوه وفي الحديث: «أخذ عليه الصلاة والسلام قبضة من تراب يوم بدر فحثاها في وجوه المشركين، وقال: شاهت
__________
(1) يروى البيت:
فيوما ترانا في مسوك جيادنا ... ويوما ترانا في مسوك الثعالب
وهو بلا نسبة في لسان العرب (مسك)، وتهذيب اللغة 10/ 86، وتاج العروس (مسك).
(2) البيت الأول للقطامي في ديوانه ص 46، ولسان العرب (حزبن)، والشعر والشعراء ص 727، والأغاني 24/ 23، ومعاهد التنصيص 1/ 181، والبيت الثالث للنابغة الذبياني في ملحق ديوانه ص 228، ولسان العرب (حبحب)، وتاج العروس (حبحب)، وبلا نسبة في المخصص 11/ 26، ويروى «نيران قيس» بدل «نيران قومي».(3/135)
الوجوه» (1)، ويقال شاه وجه الرجل يشوه شوها وشوهة، قبح، ووجه مشوّه، أي مقبّح، ورجل أشوه وامرأة شوهاء. واللّكع اللئيم، وقد لكع لكعا فهو ألكع، ولكيع، إذا لؤم وحمق وامرأة لكاع ولكيعة. قوله: علته كبرة، أي أسن وكبر. وعرته عبرة، أي غشيته دمعة والخادم: الخصيّ، موصوف بطول العمر وسرعة العبرة، قال الهيثم بن عديّ: في الخصيّ عشر خصال لا تجتمع في غيره: التّهمة، والنميمة، والشّره، وسرعة الدمعة، وطول العمر، وكبر القدم، والتبرّي من الصلع، والإجارة في الصغر، والقيادة في الكبر، والاسترخاء في المقعدة وسعة الحجر. لا توسعون سبّا، أي لا تكثروا شتمنا عتبا لوما وموجدة، وعتبت عليه أعتب عتبا وعتابا، وأعتبه: أرضاه، والعتبى الرضا، واستعتبته طلبت إليه أن يعتب، وقال النابغة: [الطويل]
* وإن تك ذا عتبي فمثلك يعتب (2) *
وقال حبيب: [الطويل]
سرت تحمل العتبي إلى العتب والرّضا ... إلى السّخط والعذر الجميل إلى الحقد (3)
الخناق: الحبل يخنق به كالعقال للجمل يعقل به. نفّس: روّح وحلي عن المخنوق. والبثّ: الحزن. انفث: تكلّم، وأصله ابصق، عرّافا: كثير المعرفة، والعرّاف: العالم بالشيء، وأصله الكاهن.
* * * فقال له: اعلم أنّ ربّ هذا القصر هو قطب هذه البقعة، وشاه هذه الرّقعة إلّا أنّه لم يخل من كمد، لخلوّه من ولد ولم يزل يستكرم المغارس، ويتخيّر من المفارش النّفائس إلى أن بشّر بحمل عقيلة، وآذنت وقلته بفسيلة، فنذرت له النّذور، وأحصيت الأيّام والشّهور. ولمّا حان النّتاج، وصيغ الطّوق والتّاج، عسر مخاض الوضع، حتّى خيف على الأصل والفرع فما فينا من يعرف قرارا، ولا يطعم النّوم إلّا غرارا. ثمّ أجهش بالبكاء وأعول، وردّد الاسترجاع وطوّل. فقال له أبو زيد: اسكن يا هذا واستبشر، وأبشر بالفرج وبشّر فعندي عزيمة الطّلق، الّتي
__________
(1) أخرجه مسلم في الجهاد حديث 81، والدارمي في السير باب 15، وأحمد في المسند 1/ 308، 368، 5/ 286، 310.
(2) صدره:
فإن أك مظلوما فهد ظلمته
والبيت في ديوان النابغة الذبياني ص 14.
(3) البيت في ديوان أبي تمام ص 215.(3/136)
انتشر سمعها في الخلق. فتبادرت الغلمة إلى مولاهم، متباشرين بانكشاف بلواهم، فلم يكن إلّا كلا ولا، حتى برز من هلمم بنا إليه فلمّا دخلنا عليه، ومثلنا بين يديه، قال أبو زيد: ليهنك منالك، إن صدق مقالك، ولم يفل فالك.
* * * قطب هذه البقعة، أي رئيس هذه الأرض، وقطب القوم: سيّدهم الذي يلجؤون إليه.
وشاه هذه الرقعة: ملك هذه الجزيرة، وأراد بالرقّعة سفرة الشطرنج، وشاهها:
ملك جيشها الذي يتصرّف في بيوتها كيف شاه، وقد أحسن من قال فيها: [البسيط]
أرض مربعّة حمراء من أدم ... ما بين خلّين موصوفين بالكرم
تذاكرا الحرب فاحتالا لها شبها ... من غير أن يسعيا فيها لسفك دم
هذا يغير على هذا وذاك على ... هذا يغير وعين الحرب لم تنم
فانظر إلى فطن جاشت بمعرفة ... في عسكرين بلا طبل ولا علم
قوله: كمد، أي حزن. المغارس والمفارش: النساء، كأنّ النّطف تغرس فيهنّ فيكثر الولد منها النّفائس: الكرائم. عقيلة: خيّرة، والعقيلة درّة البحر، وبه سمّيت المرأة لكرمها وشرفها، وكل كريمة من النساء والإبل والخيل فهي عقيلة. الرّقلة: النّخلة الطويلة. الفسيلة: نخيلة تكبّر في أصل النخل، أراد أنّ المرأة حملت بولد. نذرت النذور، أي وعدت بفعل خير إن سلم الحمل. أحصيت: عددت، وعلم ما بقي منها.
حان النّتاج: قرب وقت الولادة صبغ: صنع. الطّوق: الثوب يلبسه المولود بغير جيب، ولمّا سبق إلى جذيمة ابن أخته عمرو، وكان له طوق يلبسه في الصّغر، فقال له: البسه فلم يسعه، فقال: شبّ عمرو عن الطوق، فذهبت مثلا، قال ابن القبطرنة في الحكم بن حزم، وكّلفه ذلك ابن سراج: [الطويل]
رأى صاحبي عمرا فكلّف وصفه ... وحّملني من ذاك ما ليس في الطّوق
فقلت له: عمرو كعمرو فقال لي ... صدقت ولكن شبّ هذا عن الطّوق
عسر: صعب. مخاض: تحرّك الولد عند الولادة، وقيل: وجع الولادة القرار:
السكون. الغرار: النوم القليل وهو من غرّ الطائر فرخه يغرّه، إذا أطعمه شيئا بعد شيء، وأخذه من قول الشاعر: [الرمل]
لا أذوق النّوم إلّا غرارا ... مثل حسو الطّير ماء الثّماد
ولا يطعم النّوم، أي لا يذوقه، ويقال: طعمه وتطعمه: ذاقه، وفي المثل: تطعّم تطعم، أي ذق تشته. أجهش: أي تهيّأ للبكاء، والإجهاش: تغيّر الوجه عند إرادة البكاء.
أعول: رفع صوته بالبكاء. الاسترجاع، قد تقدّم الطّلق: وجع الولادة، سمّي طلّقا على التفاؤل للمرأة بالانطلاق بالولد. سمعها: ذكرها الجميل. تبادرت: تسابقت.(3/137)
لا أذوق النّوم إلّا غرارا ... مثل حسو الطّير ماء الثّماد
ولا يطعم النّوم، أي لا يذوقه، ويقال: طعمه وتطعمه: ذاقه، وفي المثل: تطعّم تطعم، أي ذق تشته. أجهش: أي تهيّأ للبكاء، والإجهاش: تغيّر الوجه عند إرادة البكاء.
أعول: رفع صوته بالبكاء. الاسترجاع، قد تقدّم الطّلق: وجع الولادة، سمّي طلّقا على التفاؤل للمرأة بالانطلاق بالولد. سمعها: ذكرها الجميل. تبادرت: تسابقت.
وجمع غلام غلمة وغلمان. البلوى: البلاء. كلا ولا، أي كاللفظ بها، وهي كناية عن قلة اللّبث وسرعة الأمر، ويضرب بلا المثل، فيقال: أخف من لا على اللسان، وأقل من لا في اللفظ، وقال جرير: [الطويل]
يكون نزول القوم فيها كلا ولا ... غشاشا ولا يدنون رجلا إلى رجل (1)
غشاشا، أي قليلا. ويقال: لقيه على غشاش، أي على عجلة، وقال الكميت: [الطويل]
كلا وكذا تغميضهم ثم هجتم ... لدى حين أن كانوا إلى النّوم أفقرا (2)
يقول: كان نومهم في القلة والسرعة، كقول القائل: لا وذا.
وقال الحسن رحمه الله: [الخفيف]
يا عاقد القلب منّي ... هلّا تذكّرت خلّا
تركت منّي قليلا ... من القليل أقلّا
يكاد لا يتجزّى ... أقلّ في اللفظ من لا
وفي أبيات البديع: [الطويل]
وأروع أهداه لي اللّيل والفلا ... وخمس تمسّ الأرض لكن كلا ولا
جعل قوائم فرسه وهي الخمس تمسّ الأرض في المشي كلا ولا على اللسان قوله:
برز، أي خرج. هلمم: دعا، وقال لنا هلمّ مثلنا: وقفنا، ومثل بين يديه: انتصب قائما.
منالك: عطاؤك ولم يفل فالك: لم يخطىء رأيك، وفال رأيه فيولة: ضعف وأخطأ
* * * فاستحضر قلما مبريّا، وزبدا بحريّا، وزعفرانا قد ديف، في ماء ورد نظيف فما إن رجع النّفس، حتّى أحضر ما التمس، فسجد أبو زيد وعفّر، وسبّح واستغفر، وأبعد الحاضرين ونفّر ثمّ أخذ القلم واسحنفر، وكتب على الزّبد بالمزعفر: [الخفيف]
أيّها الجنين إنّي نصيح ... لك، والنّصح من شروط الدّين
أنت مستعصم بكنّ كنين ... وقرار من السّكون مكين
__________
(1) البيت في ديوان جرير ص 461، وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (غشش)، ويروى «رجلا إلى رحل» بدل «رجلا إلى رجل».
(2) البيت في ديوان الكميت 1/ 299، ولسان العرب (لا)، وتاج العروس (لا).(3/138)
ما ترى فيه ما يروعك من إل ... ف مداج ولا عدوّ مبين
فمتى ما برزت منه تحوّل ... ت إلى منزل الأذى والهون
وتراءى لك الشّقاء الّذي تل ... قى فتبكي له بدمع هتون
فاستدم عيشك الرغيد وحاذر ... أن تبيع المحقوق بالمظنون
واحترس من مخادع لك يرقي ... ك ليلقيك في العذاب المهين
ولعمري لقد نصحت ولكن ... كم نصيح مشبّه بظنين
* * *
والزّبد: حجر معروف، وهو شديد البياض دقيق الثقب جدّا، يوجد عائما على وجه الماء يصرف في الأكحال. وقالت الحكماء: من خصائص الزّبد البحريّ أنه إذا علّق على امرأة ماخض سهل عليها الولادة، ويكون في بحر اليمن. ديفّ: خلط. التمس:
طلب غفّر: جعل وجهه على الأرض، والعفر التراب. اسحنفر: جدّ وشمر للكتابة، ويقال: اسحنفر في الأمر، إذا تحفز فيه. وقالت جارية من العرب. [السريع]
يا أمّتا أبصرني راكب ... مسحنفر في مسرب لاحب (1)
ما زلت أحثو التّرب في وجهه ... عمدا وأحمي حوزة الغائب
فأجابتها أمها: [السريع]
الحصن أولى لو تأبّيته ... من حثيك التّرب على الراكب (2)
مسرب طريق لاحب بيّن. الغائب: زوجها. الحصن: العفّة. تأبّيته: تعمّدته وقصدته. المزعفر: المداد من الزّعفران. الجنين: الولد في بطن أمه. النّصح: ضدّ الغش قال الخّطابي: النّصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظّ للمنصوح، وقيل: أصلها من نصح الرجل ثوبه، أي خاطه، والنّصاح: الخيط، شبّهوا فعل النّاصح بالخيط الذي يلائم الخلل والفتوق، والتوبة النصوح (3)، كأنها ترقّع ما خرقته المعصية. مستعصم:
__________
(1) البيت الأول لصبية من بنات العرب في المقاصد النحوية 4/ 226، ولسان العرب (أيا)، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص 97، والمحتسب 2/ 239، والبيت الثاني لامرأة من العرب في مجمل اللغة 2/ 120، 152، وتهذيب اللغة 5/ 180، ولسان العرب (حوز)، (أيا)، ومقاييس اللغة 2/ 118، وتاج العروس (أيا).
(2) البيت لامرأة قالته لابنتها في ديوان الأدب 1/ 160، 4/ 82، ومجمل اللغة 2/ 120، 138، ولسان العرب (أيا)، وبلا نسبة في لسان العرب (حصن)، (حثا)، والمستقصى 1/ 312، ومجمع الأمثال 1/ 211، ومقاييس اللغة 2/ 137، والمخصص 4/ 4، 10/ 64، 14/ 23، وتهذيب اللغة 5/ 209، وتاج العروس (حصن)، (حثا)، (أيا).
(3) أي قوله تعالى: {وَلَقَدْ رََاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32].(3/139)
مستمسك ممتنع، واستعصم في ذكر يوسف: امتنع وتأبّى. كنّ: موضع يكنّ فيه. كنين:
ساتر، والكنين: المستور. والقرار: المكان المطمئنّ الذي يستقرّ فيه الماء، وأراد به الرّحم. يروعك: يفزعك. إلف: صاحب. مداح: يظهر الحبّ، ويضمر خلافه، وداجاه: ساتره بالعداوة. برزت: خرجت. الأذى: الضرر. الهون: الهوان. تراءى:
تظاهر. هتون: كثير السّيلان. وهتنت السّماء: صبّت. الرّغيد: الواسع. المحقوق: الّذي لا يشكّ فيه. المظنون: المشكوك فيه فهو يشير على الصبيّ أن يقيم في بطن أمه ولا يخرج للدّنيا. ظنين: متّهم.
* * * ثمّ إنّه طمس المكتوب على غفلة، وتفل عليه مائة تفلة، وشدّ الزّبد في خرقة حرير، بعدما ضمّخها بعبير، وأمر بتعليقها على فخذ الماخض، وألّا تعلق بها يد حائض، فلم يكن إلّا كذواق شارب أو فواق حالب، حتّى اندلق شخص الولد، لخصّيصي الزّبد، بقدرة الواحد الصّمد.
فامتلأ القصر حبورا، واستطير عميده وعبيده سرورا، وأحاطت الجماعة بأبي زيد تثني عليه، وتقبّل يديه، وتتبرّك بمساس طمريه حتّى خيّل إليّ أنّه القربيّ أويس، أو الأسديّ دبيس.
* * * طمس: غطّى، وطمست الدار إذا غطّى التراب آثارها ومحاها. والتّفل: نفخ يخرج معه بصاق متفرّق، وأوله البزق ثم التّفل، ثم النّفث، ثم النفخ.
ضمّخها: لطّخها عبير: أخلاط من الطّيب الماخض: الحامل. ولا تعلق بها يد حائض، تمويه بأن مكتوبه من القرآن والحائض لا تمسّه. الذّواق: مسّ الطعام أو الشراب بلسانك. الفواق: ما بين الحلبتين من الوقت، لأنّ الناقة تخلب ثم تترك ساعة يرضعها فصيلها لتدرّ ثم تحلب. اندلق: خرج بسرعة، وكلّ شيء يدرّ خارجا بسرعة فقد اندلق، واندلق السّيف من غمده إذا سقط من غير أن يسلّ. خصّيصي الزّبد، أي خاصيته التي ينفرد بها عن الأحجار، واختصصت بالشيء: انفردت به، وجاءني خصيّصي القوم، مقصورا، أي خاصّتهم، وخصصته بالشيء خصوصا وخصوصيّة وخصّيصي.
ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما ولد في أهل بيت غلام إلا أصبح فيهم عزّ لم يكن».
وقال صلى الله عليه وسلم: «من ولد له مولود فأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى، دفعت عنه أم الصبيان».(3/140)
حبورا سرورا، واستطير: داخله السرور. عميده: سيّده طمريه: ثوبيه.
وذكر ابن قتيبة بسند متصل بابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: مرّ عيسى ابن مريم عليه السلام على بقرة قد اعترض ولدها في بطنها، فقالت: يا كلمة الله، ادع الله أن يخلّصني، فقال: يا خالق النّفس من النّفس، ويا مخرج النّفس من النّفس، ويا مخّلّص النّفس من النّفس خلّصها، فألقت ما في بطنها، فإذا عسرت على المرأة ولادتها فيكتب على مكيال، ثم تعطاه المرأة.
وذكر الفنجديهيّ بسند متصل بأبي هريرة رضي الله عنه، قال: بينا عيسى ويحيى عليهما السلام في البرية إذ رأيا وحشيّة ماخضا، فقال عيسى ليحيى: قل تلك الكلمات: جنّة ولدت مريم، مريم ولدت عيسى، الأرض تدعوك يا ولد، اخرج يا ولد، اخرج.
قال حمّاد بن زيد: فما يكون في الحيّ امرأة ماخض، فيقال هذا عندها إلّا ولدت، حتّى الشاة التي يتعسّر وضعها، فيقال هذا عندها، فلا تبرح حتى تضع.
يونس بن عبيد الله: اللهمّ أنت عدّتي عند شدّتي، وأنت صاحبي عند كربتي، وأنت وليّ نعمتي، من قالها عند النّفساء إذا عسر عليها ولدها، أو على بهيمة، أذن الله تعالى في خروجه.
وذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إذا عسر على المرأة ولادتها، فليكتب لها بسم الله لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهََا لَمْ يَلْبَثُوا إِلََّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحََاهََا} [النازعات: 46] {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مََا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلََّا سََاعَةً مِنْ نَهََارٍ بَلََاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفََاسِقُونَ} [الأحقاف: 35].
قال سفيان: يكتب هذا في جام وتسقاه.
وذكر عن أبي الزّناد قال: كنت مئناثا، فقيل لي استغفر الله إذا جامعت، ففعلت فوضع لي بضعة عشر ذكرا.
قوله خيّل: أي شبّه.
[أويس القرني]
وأويس القرنيّ بشّر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من التّابعين.
وفي صحيح مسلم: إنّ أهل الكوفة وفدوا على عمر رضي الله عنه، وفيهم رجل ممّن كان يسخر بأويس، فقال عمر رضي الله عنه: هل ها هنا أحد من قرن؟ فجاء ذلك الرجل، فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجلا يأتيكم من اليمن يقال له أويس، لا يدع باليمن غير أمّ له، وقد كان فيه بياض، فدعا الله، فأذهبه الله عنه إلا
موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر لكم» (1).(3/141)
وفي صحيح مسلم: إنّ أهل الكوفة وفدوا على عمر رضي الله عنه، وفيهم رجل ممّن كان يسخر بأويس، فقال عمر رضي الله عنه: هل ها هنا أحد من قرن؟ فجاء ذلك الرجل، فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجلا يأتيكم من اليمن يقال له أويس، لا يدع باليمن غير أمّ له، وقد كان فيه بياض، فدعا الله، فأذهبه الله عنه إلا
موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر لكم» (1).
وفيه عن أسيد بن جابر، قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتاه أمداد أهل اليمن سأل: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس، فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد، ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرئت منه إلّا موضع الدرهم؟ قال: نعم، قال: ألك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يأتي إليكم أويس بن عامر، مع أمداد أهل اليمن، من مراد ثم من قرن، وكان به بياض فبرىء منه إلا موضع الدرهم، له والدة هو بها بارّ لو أقسم على الله لأبّره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل» (2)، فاستغفر لي فاستغفر له، فقال عمر رضي الله عنه أين تريد؟ فقال: الكوفة، قال ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غير النّاس أحبّ إليّ. قال: فلما كان في العام القابل حج رجل من أشرافهم، فوافى عمر رضي الله عنه، فسأله عن أويس، فقال: تركته رثّ البيت، قليل المتاع. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، وكان به برص فبرىء منه إلا موضع درّهم، له والدة بها بارّ، لو أقسم على الله لأبّره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل» فأتى أويسا فقال: استغفر لي، فقال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح؟ قال: نعم، قال له: لقيت عمر؟ قال: نعم، فاستغفر له، ففطن له الناس، فانطلق على وجهه، قال أسيد: وكسوته بردة، فكان كلما رآه إنسان قال: من أين لأويس هذه البردة!.
وفي كتاب الإحياء: أنّه لما ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: أيّها الناس، من كان من أهل العراق فليقم، فقاموا، فقال: اجلسوا إلّا من كان من قرن؟ فجلسوا إلا رجلا واحدا، فقال له عمر رضي الله عنه قرنيّ أنت؟ قال: نعم، قال: أتعرف أويسا؟
قال: نعم، وما تسأل عن ذلك يا أمير المؤمنين؟ والله ما فينا أحمق ولا أجنّ ولا أحوج منه! فبكى عمر رضي الله، ثم قال: ما قلت، إلّا أنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر». ولمّا كان عند أهله كالمجنون بنوا له بيتا على باب دارهم، فكان تأتي عليهم السّنة لا يرون وجهه، كان يخرج أوّل الأذان ويأتي بعد العشاء الآخرة، وكان طعامه أن يلقط النّوى، فكلّما أصاب حشفة خبأها لإفطاره، فإن أصاب ما بقوته باع النّوى، وتصدّق به، وإلّا اشترى منه ما يقوته. وكان لباسه قطع الأكسية من المزابل، يلفق بعضها إلى بعض، ثمّ يلبسها، وإذا مرّ بالصبيان رجموه، يظنّون أنه مجنون، ولهذا أعظّم النبي صلى الله عليه وسلم حرمته، فقال: «إني لأجد نفس الرحمة من قبل اليمن».
إشارة إليه.
__________
(1) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث 223.
(2) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث 224، 225، وأحمد في المسند 1/ 38، 3/ 480.(3/142)
[الأمير دبيس بن صدقة]
وأما دبيس فهو الأمير سيف الدولة بن مزيد الأسديّ، وقيل: دبيس بن صدقة بن مزيد، وذكر أبو الحسن عليّ بن الحسين بن أبي طالب الباخرزيّ الأمير أبا الأعز دبيس ابن عليّ فقال: خدمته ببغداد، وعبرت إليه أخت يده الجواد يعني دجلة وهي زاخرة الأمداد، فإذا باحة للطارقين مباحة، وراحة في كفّها للعفاة راحة، وقباب التفّت بها غاب القنا، واشترك مع أسودها الناس في فرائس الغنى.
قال الفنجديهيّ: سمعت بعض أهل الفضل يقول ببغداد: لما سمع الأمير دبيس، أن الرئيس أبا محمد الحريري ذكره في مقاماته، وأورد فيها بعض صفاته، أنفذ إليه من الخلع السنيّة، والجوائز الهنيّة ومزية العطية، ما عجز عنه الوصف، وكلّ عنه الطرف، واقتضاه علوّ همته، وسموّ قدرته. ثم عصى دبيس على الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين أبي منصور الفضل بن المستظهر بالله، وسعى في إراقة دمه، وجمع العساكر وحشد، وقصد بغداد في عسكر عظيم، وعاث في أطرافها، وأفسد في أكنافها، فخرج المسترشد بالله أمير المؤمنين من دار الخلافة، واجتمعت إليه الأجناد، وظهر إليه وحمل عليه، فهزم دبيس وعسكره، وانتهى إلى الحلّة المزيدية، فانتهبها، وذلك في المحرّم في سنة سبع عشرة وخمسمائة. وانهزم دبيس في خواصّ من أصحابه وغلمانه خوفا من الخليفة، ومرّ نحو الشام ثم قتل الأمير دبيس بن صدقة بن مزيد في سنة ثلاثين أو في سنة تسع وعشرين، قتله السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه لأمور أنكرها وأسباب امتعض لها، نسبت إليه.
ثمّ انثال عليه من جوائز المجازاة، ووصائل الصّلات، ما قيض له الغنى، وبيّض وجه المنى، ولم يزل ينتابه الدّخل، مذ نتج السّخل إلى أن أعطي البحر الأمان وتسنّى الإتمام إلى عمان فاكتفى أبو زيد بالنّحلة، وتأهّب للرّحلة فلم يسمح الوالي بحركته، بعد تجربة بركته، بل أوعز بضمّه إلى حزانته، وأن تطلق يده في خزانته.
قال الحارث بن همّام: فلمّا رأيته قد مال، إلى حيث يكتسب المال، أنحيت عليه بالتّعنيف، وهجنت له مفارقة المألف والأليف، فقال: إليك عنّي، واسمع منّي.
* * * قوله: انثال، أي انصبّ. جوائز: عطايا وصائل: متّصلات غير منقطة، والوصائل:
ثياب حمر محّططة تصنع باليمن يلبسها النساء، قال الشاعر: [الطويل]
* لها حبك كأنها من وصائل *
فيّض: قدّر وساق ينتابه، أي يقصده ويأتيه مرّة بعد أخرى.(3/143)
* لها حبك كأنها من وصائل *
فيّض: قدّر وساق ينتابه، أي يقصده ويأتيه مرّة بعد أخرى.
الدخل: العطايا التي تدخل إليه من قبل الأمير وغيره، ورجل كثير الدخل: إذا كثر دخول الرزق عليه. والسّخل: الولد.
ومما يستحسن في التهنئة بمولود قول الحلوانيّ: [البسيط]
نجم تولّد من شمس ومن قمر ... وأين من أبواه الشّمس والقمر
شمس العفاف ومجد البدر بينهما ... تولّد النور إلّا أنه بشر
أخذه من قول ابن الرومي: [السريع]
شمس وبدر ولدا كوكبا ... أقسمت بالله لقد أنجها
وجاء الرّمادي يهنّىء الفقيه ابن العطار بمولود، فقال: [البسيط]
يهنيك ما زادت الأيام في عددك ... من فلذة برزت بالسّعد من كبدك
كأنما الدهر دهر كان مكتئبا ... من انفرادك حتى زاد في عددك
لا خلّفتك الليالي تحت ظلّ ردى ... حتى ترى ولدا قد شبّ من ولدك
قوله: «تسنّى الإتمام، أي تيسّر إتمام المشيء والإقلاع. اكتفى: اقتنع. النّحلة العطية. أوعز ووعز، تقدم، يعقوب: لا يقال. وعز بالتّخفيف. حزانته: جماعته، وعياله الذين يتحزّنون لنكبته ولفقده، ويحزن هو لضيعتهم. أنحيت: ملت عليه وقصدته به.
التعنيف: اللوم والأخذ باللسان. المألف: البلدة وموضع الألفة. الأليف: الصّاحب.
إليك عني: تباعد عني: [الكامل]
* * * لا تصبونّ إلى وطن ... فيه تضام وتمتهن
وارحل عن الدار الّتي ... تعلي الوهاد على القنن
واهرب إلى كنّ يقي ... ولو أنّه حضنا حضن
واربأ بنفسك أن تقي ... م بحيث يغشاك الدّرن
وجب البلاد فأيّها ... أرضاك فاختره وطن
ودع التذكّر للمعا ... هد والحنين إلى السّكن
واعلم بأنّ الحرّ في ... أوطانه يلقى الغبن
كالدرّ في الأصداف يس ... تزرى ويبخس في الثّمن
* * *
تصبونّ: تمهلنّ، وصبوت إليه ملت بالمحبّة. تضام: تذل. تمتهن: تحتقر، وقال محمد بن بشر في هذا المعنى: [الوافر](3/144)
إنّما أزرى بقدري أنني ... لست من بابة أهل البلد
ليس منهم غير ذي مقلية ... لذوي الألباب أو ذي حسد
يتحامون لقائي مثل ما ... يتحامون لقاء الأسد
مطلعي أثقل في أعينهم ... وعلى أنفسهم من أحد
لو رأوني وسط بحر لم يكن ... أحد يأخذ منهم بيدي
وقال البحتريّ: [الوافر]
أشرّق أم أغرّب يا سعيد ... وأنقص من زماعي أم أزيد (1)
عدتني عن نصيبين العوادي ... فبختي أبله فيها بليد
وأخلفني الزمان على رجال ... وجوههم وأيديهم حديد
لهم حلل حسنّ فهنّ بيض ... وأخلاق سمجن فهنّ سود
وممن نبا به بلده القاضي أبو محمد عبد الوهاب، خرج من بغداد يريد مصر، فشيّعه أكابرها، ومن أصحاب محابرها جملة موفورة، فقال لهم: والله لو وجدت بين أظهركم رغيفين كلّ يوم، ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية، والخبز عندهم يومئذ ثلاثمائة رطل بدينار، وقال: [الطويل]
سلام على بغداد منّي تحيّة ... وحقّ لها مني السّلام المضاعف
لعمرك ما فارقتها قاليا لها ... وإني بشطّي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت عليّ برحبها ... ولم تكن الأقدار ممّن يساعف
فكانت كخلّ كنت أهوى دنوّه ... وتأبى به أخلاقه فيخالف
وقال أيضا: [البسيط]
بغداد دار لأهل المال واسعة ... وللمفاليس دار الضّنك والضيّق
قد صرت أمشي مهانا في أزقّتها ... كأنني مصحف في كفّ زنديق
قوله: الوهاد والقنن: الانخفاض والارتفاع، والقّنة: أعلى الجبل، والوهدة القعدة من الأرض تجري إليها مياه جهاتها. حضنا: جانبا حصينا مانعا. أربأ، أي ارتفع.
يغشاك: يغطيّك. الدّرن: الوسخ المعاهد: منازل سكناء. الحنين: الشوق. السّكن:
الأهل. الأصداف: محالّ الجوهر. يستزرى: يستحقر. يبخس: ينقص، ومعنى هذه الأبيات يقول: أرحل عن بلد يعلو فيه قدر أصاغر الناس قدر أكابرهم، ولا تقم فيه على الهوان، وارفع قدر نفسك من أن تقيم بموضع توسّخك فيه الإهانة، فإنّ المرء حيث يضع
__________
(1) الأبيات في ديوان البحتري ص 580.(3/145)
نفسه، وطف بالبلاد، واختر وطنا ما أرضاك، فإنّ الحرّ يضيع في وطنه، ولا يعرف قدره.
الأصمعيّ: سمعت بعض العرب يقول: الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن.
ونظر أبو الحسن إلى برذون يستقي عليه، فقال: المرء حيث يضع نفسه، لو هملج هذا لم يبل بما ترون.
الزبير رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن العباد عباد الله، والبلاد بلاد الله، فحيثما وجدت خيرا فأقم، وأحمد الله» (1).
وقال هلال بن العلاء الرّقيّ: [مجزوء الكامل]
لا تجزعنّ وإن نأت ... أرض تنال بها المحبّه
وطن الغريب يساره ... والفقر في الأوطان غربه
وقال آخر: [مخلع البسيط]
أشدّ من فاقة الزّمان ... مقام حرّ على الهوان
فاسترزق الله واستغنه ... فإنه خير مستعان
فإن نبا منزل بحرّ ... فمن مكان إلى مكان
وقال آخر: [البسيط]
من ضاق عنك فأرض الله واسعة ... عن وجه كلّ مضيق وجه منفرج
خير المذاهب في الحاجات أنجحها ... وأضيق الأمر أدناه من الفرج
* * *
ثمّ قال: حسبك ما استمعت، وحبّذا أنت لو اتبّعت. فأوضحت له معاذيري، وقلت له: كن عذيري. فعذر واعتذر، وزوّد حتّى لم يذر، ثمّ شيّعني تشييع الأقارب، إلى أن ركبت في القارب فودّعته وأنا أشكر الفراق وأذمّه، وأودّ لو كان هلك الجنين وأمّه.
* * * __________
(1) أخرجه أحمد في المسند 1/ 166، بلفظ: «البلاد بلاد الله والعباد عباد الله».(3/146)
حسبك: يكفيك. أوضحت: بيّنت. معاذيري: أعذاري، والعذيرة: العذر، ويقال: عذيرك من كذا، بمعنى هلمّ معذرتك منه، وقيل: العذير بمعنى عاذر، فعيل بمعنى فاعل، أي هلمّ لمن يعذرك منه.
ثعلب: العذير، مصدر بمعنى النّكير، ومعنى عذيري منه، أي من يعذرني منه! وعذر: قبل العذر. والله أعلم.(3/147)
المقامة الأربعون وهي التّبريزيّة
أخبر الحارث بن همّام، قال: أزمعت التبريز من تبريز، حين نبت بالذّليل والعزيز، وخلت من المجير والمجيز فبينما أنا في إعداد الأهبة، وارتياد الصّحبة، ألفيت بها أبا زيد السّروجيّ ملتفّا بكساء، ومحتفّا بنساء، فسألته عن خطبه، وإلى أين يسرب مع سربه فأومأ إلى امرأة منهنّ باهرة السّفور ظاهرة النّفور، وقال:
تزوّجت هذه لتؤنسني في الغربة، وترحض عنّي قشف العزبة، فلقيت منها عرق القربة، تمطلني بحقّي، وتكلّفني فوق طوقي، فأنا منها نضو وجى، وحلف شجو وشجى. وها نحن قد تساعينا إلى الحاكم، ليضرب على يد الظّالم فإن انتظم بيننا الوفاق، وإلّا فالطّلاق والانطلاق.
قال: فملت إلى أن أخبر لمن الغلب، وكيف يكون المنقلب! فجعلت شغلي دبر أذني، وصحبتهما وإن كنت لا أغني.
* * * أزمعت: عزمت، والزّماع العزم، والتّبريز: الخروج إلى البراري، وهي الأرض الفضاء بلا شجر. تبريز: قرية من كور أذربيجان من عمل خراسان، بينهما وبين المراغة عشرون فرسخا.
نبت: قلعت وارتفعت المجير: الذي يجيرك من النّاس ويكفيك شرّهم، والمجيز:
الواهب الجائزة وهي الصّلة ارتياد: طلب محلّقا. محّلقا. خطبه: أمره يسرب: يذهب، وسربه: جماعة نسائه. أومأ: أشار. باهرة: ظاهرة. والسّفور: كشف النّقاب عن الوجه.
ترحض: تغسل، ورحض الثوب يرحضه غسله قشف: تغيّر، ورجل متقشّف: لا يتعهد الغسل والنظافة. والقشف: سوء العيش. ومطله حقّه، كناية عن جماعه لها، والمطل في الأصل:
والمدّ، يقال: مطل القين الحديد يمطله مطلا إذا، مدّه وطوّله، فمعنى يمطلني: تطوّل عليّ.
والطّوق: الطاقة. نضو وجى: هزيل من الجفاء، وأراد به شرّها وما يلقاه منها. حلف شجو:
صاحب حزن. والشّجا: الاختناق بالعظم وهو شيء صعب: ليضرب على يده: ليكفّه ويمنعه * * *(3/148)
فلمّا حضرا القاضي وكان ممّن يرى فضل الإمساك، ويضنّ بنفاثة السّواك، جثا أبو زيد بين يديه، وقال: أيّدّ الله القاضي وأحسن إليه، إن مطيّتي هذه أبيّة القياد، كثيرة الشّراد مع أنّي أطوع لها من بنانها، وأحنى عليها من جنانها. فقال لها القاضي: ويحك! أما علمت أنّ النّشوز يغضب الرّبّ، ويوجب الضّرب! فقالت: إنّه ممّن يدور خلف الدّار، ويأخذ الجار بالجار، فقال له القاضي: تبّا لك! أتبذر في السّباخ، وتستفرخ حيث لا إفراخ! اعزب عنّي، لا نعم عوفك، ولا أمن خوفك، فقال أبو زيد: إنّها ومرسل الرّياح، لأكذب من سجاح!
فقالت: بل هو ومن طوّق الحمامة، وجنّح النّعامة، لأكذب من أبي ثمامة، حين مخرق باليمامة!
* * * لا أغني، أي لا أنفع، الإمساك: الشح، يضنّ: يبخل، والنفاثة: ما تطرحه من فيك من السّواك بعد الانتفاع به، وهذا وإن كان في غاية البخل منتزع من قول الشاعر:
[الطويل]
لقد بخلت حتى لو أنّي سألتها ... قذى العين من ضاحي التراب لضنّت
وقال آخر في معناه: [السريع]
يبخل بالماء ولو أنه ... منغمس في وسط النّيل
شجّا فلا تطمع في خيره ... ولو توسّلت بجبريل
وقال آخر: [البسيط]
ما كنت أحسب أن الخبز فاكهة ... حتى نزلت على أوفى بن منصور
يا حابس الرّوث في أعقاب بغلته ... خوفا على الحبّ من لقط العصافير
وهذا الباب مستوفى في الرابعة والأربعين:
ومما يستظرف من لفظ السوّاك، قول بعض الظرفاء: [الخفيف]
قد هجرت السّواك من أجل أنّي ... إن ذكرت السّواك قلت سواكا
وأحبّ الأراك من أجل أنّي ... إن ذكرت الأراك قلت أراكا
جثا: برك، أيّد: قوّى مطيّتي: زوجتي، أبيّة: صعبة ممتنعة على قائدها. الشّراد:
النّفور، أحنى: أعطف وأرحم. جنانها: قلبها.
النّشوز: عصيان الزوج ومخالفته، والنّشوز أصله الارتفاع. وويح، معناها التوبيخ والتقبيح، وتستعمل أيضا للترحّم، وقوله: ويوجب الضرب من قوله تعالى: {وَاللََّاتِي
تَخََافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضََاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] فنشوزهنّ: عصيانهنّ. الأزهريّ: النّشوز: كراهة كلّ واحد من الزوجين صاحبه، ونشزت تنشز فهي ناشز.(3/149)
النّشوز: عصيان الزوج ومخالفته، والنّشوز أصله الارتفاع. وويح، معناها التوبيخ والتقبيح، وتستعمل أيضا للترحّم، وقوله: ويوجب الضرب من قوله تعالى: {وَاللََّاتِي
تَخََافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضََاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] فنشوزهنّ: عصيانهنّ. الأزهريّ: النّشوز: كراهة كلّ واحد من الزوجين صاحبه، ونشزت تنشز فهي ناشز.
ابن عمر رضي الله عنهما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تسكنوا النّساء الغرف فيشرفن، ولا تعلّموهنّ الكتابة، واستعينوا عليهنّ بالضرب».
ابن عباس رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علقوا السوط حيث يراه أهل البيت».
ووصّى بعض أهله فقال: «أنفق على أهلك من طولك، ولا ترفع عصاك عنهم، وأخفهم في الله» فمعنى لا ترفع عصاك، أي لا تترك تأديبهم في الله تعالى. قوله:
ويأخذ الجار بالجار، العرب تسمي فرج المرأة بالجار، ودبرها جار الجار، وأخذه الحريري من قول أعرابي جاء لامرأته وقد اغتلم واشتدّت شهوته، فأنعظ، فلما قرب منها وهجم عليها قالت له: إني حائض، قال لها: فأين الهنة الأخرى؟ ثم حمل عليها وهي تدافعه وتسبّه، وهو ماض في شغله ينشدها: [الرجز]
كلّا وربّ البيت ذي الأستار ... لأهتكنّ حلق الحتّار
* قد يؤخذ الجار بذنب الجار (1) *
قال الخليل: الحتّار: ما استدار من طوق الجفن، وكذلك حتّار الظّفر والدبر، ومما يبيّن هذا المعنى قول الشاعر: [الكامل]
جارك قد يجني عليك وقد ... تعدي الصّحاح مبارك الجرب (2)
ولربّ مأخوذ بذنب قرينه ... ونجا المقارف صاحب الذّنب
أتبذر: أتزرع، والبذر الحبوب تزرع: السّباخ: الأرض ذات الملح والرّشح، وهي لا تنبت شيئا لملوحتها وقلة جفافها، وأراد: أتزرع نطفتك في موضع لا يقبل الولد، تستفرخ: تلتمس عمل الفرخ. اعزب: غب.
طوّق الحمامة: جعل لها طوقا، والحمام عند العرب ذوات الأطواق نحو الفواخت والوراشين والقماريّ، ودخلت الهاء على أنه واحد للجنس لا للتأنيث.
__________
(1) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (حتر)، وتاج العروس (حتر)، وكتاب العين 3/ 190.
(2) يروى صدر البيت الأول:
جانيك من يجني عليك وقد
وهو لذؤيب بن كعب بن عمرو في الاشتقاق ص 202، ونسبه بعضهم لعوف بن عطية، وهو بلا نسبة في لسان العرب (جنى)، وتهذيب اللغة 11/ 196، وجمهرة اللغة ص 266.(3/150)
الليث: تقول العرب: حمامة ذكر، وحمامة أنثى، والجميع الحمام.
الشافعي: كلّ ما عبّ وهدر فهو حمام، يدخل فيه القماري والوراشين سواء كانت مطوّقة أو غير مطوّقة، آلفة أو وحشية، وهذا القول كأنّه الأكثر لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يأمر بأخذ الحمام التي تستفرخ في البيوت، وليست ذوات أطواق، وكان يسمّيها حماما، وكان في منزله حمام أحمر، اسمه وردان، وقد قدّمنا فصلا في الحمام في الصدر.
مخرق الرجل: أوهم أنه على حق وصواب، وهو على خلافه.
[قصة مسيلمة الكذاب وسجاح التميمية]
وأورد هنا في شرح تزويج مسيلمة بسجاح ما يبيّن سخف نبوتهما، وإن كان الحريري قد أشار إلى ذلك في هذه المقامة.
كان مسيلمة بن حبيب الحنفيّ، ثم أحد بني الدّبل، قد تسمّى بالرحمن في الجاهلية، وكان من المعمّرين.
ذكر وثيمة بن موسى أن مسيلمة تسمّى بالرحمن قبل أن يولد عبد الله أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمّا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت قريش تقول: إنّما يعلّم محمدا رجل يقال له الرحمن، فنزلت {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمََنِ} [الرعد: 30] وكانت بنو تميم قد تخاذلت في أمر الرّدة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم واختلفوا في ذلك اختلافا شديدا، فبينما هم على ذلك إذ فاجأتهم سجاح بنت الحارث مقبلة من الجزيرة، تقود بني ربيعة. فأتاهم أمر كان أعظم ممّا هم فيه من الاختلاف، وكانت سجاح تميميّة وبنو أبيها في تغلب، وادّعت النبوّة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في الجزيرة، فاجتمعت عليهابنو تميم ورؤساء تغلب، فأدّعت أنّها أنزل عليها. «يا أيّها المؤمنون المتقون، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكنّ قريشا قوم يبغون». فاجتمعت تميم كلها تنصرها، فكان فيهم الأحنف وحارثة بن بدر ووجوه بني تميم، وكان مؤدّبها شبيب بن ربعيّ الرياحيّ، فقالت: «أعدّوا الركاب، واستعدوا للنّهاب، ثم اغدوا على الرّباب، فليس من دونهم حجاب». فصمدت إليهم، وقتلت فيهم قتلا كثيرا، ثم قالت لأجنادها: اقصدوا اليمامة، فقيل لها إن شوكة أهل اليمامة قويّة شديدة وقد غلظ أمر مسيلمة، فقالت: «يا معاشر تميم، اقصدوا اليمامة، فاضربوا فيها كل هامة، وأضرموا نارا ملهامة، حتى تتركوها سوداء كالحمامة»، وإنّ الله تعالى لم يجعل هذا الأمر في ربيعة تعني نبوّة مسيلمة وإنما جعلها في مضر، واقصدوا هذا الجمع، فإذا قصدتموه عكّرتم على قريش.
فسارت في قومها، وهم عدد لا يحصى، وبلغ مسيلمة الخبر، فضاق به ذرعا، وتحصّن في حجر حصن اليمامة، وأحاطت به جيوشها، فأرسل في وجوه قومه، وقال: ما ترون؟ قالوا: نسلّم هذا الأمر لها، فإن لم نفعل فهو البوار. فقال لهم بدهائه:
سننظر. ثم بعث إليها، وقال: إنّ الله قد أنزل عليك وحيا وعليّ، فهلمّي نجتمع فنتدارس ما أنزل الله، فمن عرف الحق تبعه، واجتمعنا، فأكلنا العرب أكلا بقومي وقومك.(3/151)
فسارت في قومها، وهم عدد لا يحصى، وبلغ مسيلمة الخبر، فضاق به ذرعا، وتحصّن في حجر حصن اليمامة، وأحاطت به جيوشها، فأرسل في وجوه قومه، وقال: ما ترون؟ قالوا: نسلّم هذا الأمر لها، فإن لم نفعل فهو البوار. فقال لهم بدهائه:
سننظر. ثم بعث إليها، وقال: إنّ الله قد أنزل عليك وحيا وعليّ، فهلمّي نجتمع فنتدارس ما أنزل الله، فمن عرف الحق تبعه، واجتمعنا، فأكلنا العرب أكلا بقومي وقومك.
فأنعمت له، فأمر بضرب قبّة من أدم، فضربت وأمر بالعود المندليّ فبخّرت به، وقال أكثروا من الطيب، فإن المرأة إذا شمّت رائحته ذكرت الباه. وأتته إلى القبة، وقالت:
هات ما أنزل عليك ربك، فقال: «ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، ومن بين صفاق وحشى، من بين ذكر وأنثى، وأمات وأحيا، إلى ربكم يكون المنتهى». قالت: وما ذاك قال: «ألم تر أن الله خلقنا أفراجا، وجعل لنا النساء أزواجا، فنولج فيهنّ قعسا إيلاجا، ونخرجه منهنّ إذا شئنا إخراجا»، قالت فبأيّ شيء أمر ربك؟
قال: [الهزج]
ألا هبّي إلى المخدع ... فقد هيّي لك المضجع (1)
فإن شئت ففي البيت ... وإن شئت ففي المخدع
وإن شئت سلقناك ... وإن شئت على أربع
وإن شئت بثلثيه ... وإن شئت به أجمع
قالت: بل به أجمع. قال: كذلك أوحى إليّ. فواقعها فلمّا قام عنها قالت: إنّ مثلي لا ينكح هكذا، فيكون وصمة على قومي، ولكنّي مسلمّة لك النبوّة، فاخطبني إلى أوليائي يزوّجوك، ثم أقود معك تميما. فخرج وخرجت معه، واجتمع الحيّان: حنيفة وتميم، فقالت:
سجاح: إنّه قرأ عليّ ما أنزل عليه، فوجدته حقا، فتبعته، ثم خطبها فزوّجوه منها.
وقال الأغلب العجلي في ذلك: [الرجز]
قد لقيت سجاح من بعد العمى ... ملوّحا في العين مشدود القوى
كأنّ عرق أيره إذا بدا ... حبل عجوز ضفرت سبعا قوى
ما زال عنها بالحديث والمنى ... والخلق السّفساف يردى في الرّدى
قال: ألا أدخله؟ قالت: بلى ... فشام فيها مثل محراب العصا
تقول لمّا غاب فيها واستوى ... لمثل هذا كنت أحسيك الحسى
واليمامة بلد الزرقاء وسيأتي ذكرها في الخمسين، فعلى نحو ما ذكرنا من أمر سجاح، ذكرها أكثر أهل الأخبار.
وقال الفنجديهيّ: سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقيان، من بني يربوع، كنيتها
__________
(1) يروى صدر البيت الأول:
ألا قومي إلى المخدع
والأبيات لمسيلمة الكذاب في تاج العروس (خدع)، (سلق)، وجمهرة اللغة ص 894، والأغاني 21/ 39.(3/152)
أم صادر، ادّعت النبوّة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في الجزيرة في بني تغلب، فاستجابوا لها، وتبعها قوم من تميم، وظهر أمرها حتى هابتها العرب وصالحتها، لتجوز في بلادهم حيث شاءت. فسمعت بمسيلمة في اليمامة، فقالت لقومها «عليكم باليمامة، دفّوا إليها دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا تلحقكم بعدها ملامة».
وبلغ مسيلمة خبرها فهابها، وخاف إن هو شغل بها غلبه ثمامة بن أثال وشرحبيل على حجر اليمامة إذ هما من قبل أبي بكر رضي الله عنه، فأرسل إليها يستأمنها على نفسه، فأمّنته فجاءها في أربعين من بني حنيفة، فقال لها: نصف الأرض لي، والنصف الذي كان لقريش صار لك، فقالت: لا يردّ النصف إلا من جنف، فاحمل النّصف.
فصالحها على أن يحمل إليها نصف غلّات اليمامة من تلك السنة، وعلى أن يسلفها ثمن غلات السنة المقبلة. فقبلت منه، وقدم لها مغلّ تلك السنة، ورجعت إلى الجزيرة، فلم تزل في بني تغلب حتى نقلهم معاوية عام انفراده بالملك إلى الكوفة، فانتقلت معهم، وحسن إسلامها.
[أبو الأسود الدؤلي وامرأته]
وأظن أن الحريريّ صوّر تخاصم زوجة أبي زيد معه على تخاصم أبي الأسود الدؤليّ مع زوجته عند معاوية.
حدث أهل الأخبار قالوا: كان أبو الأسود كبيرا عند معاوية، وكان معاوية يجالسه ويدنيه، ويسأله فيجيبه فيما يعلم، فبينما هو ذات يوم عند معاوية وقد قدم المدينة إذ دخلت عليه امرأة برزة فقالت: أصلح الله أمير المؤمنين وأمتع به! إنّ الله جعلك خليفة في البلاد، ورقيبا على العباد، يستسقى بك المطر، ويستنبت بك الشجر، ويؤمّن بك الخائف، ويردع بك الجانف. أنت الخليفة المصطفى، والأمير المرتضى فنسأل الله لك النعمة في غير تغيير، والبركة من غير تقتير فقد ألجأني إليك يا أمير المؤمنين أمر ضاق بي عنه المخرج، من أمر كرهت عاره، لمّا أردت إظهاره، فليكشف عني أمير المؤمنين، ولينصفني من الخصم، وليكن ذلك على يديه، فإني أعوذ بك وبحقويك من العار الوبيل، والأمر الجليل الذي يشتدّ على الحرائر، ذوات البيوت الأخاير.
فقال لها معاوية: من هذا الذي أشعرك شناره؟ قالت: أمر طلاق جائر، من بعل غادر، لا تأخذه من الله مخافة، ولا يجد بأحد رأفة: قال: ومن بعلك؟ قالت: هو أبو الأسود. فالتفت معاوية إليه فقال: أحقّ ما تقول هذه المرأة؟ فقال: إنّها تقول من الحق بعضا، وليس أحد يطيق عليها نقضا. أما ما ذكرت من أمر طلاقها فحق، وسأخبرك عن ذلك بصدق، أنا والله ما طلقتها لريبة ظهرت، ولا من هفوة حضرت ولكن كرهت شمائلها، فقطعت حبائلها. قال: فأيّ شمائلها كرهت؟ قال: إنك تهيّجها عليّ جواب
عتيد، ولسان شديد. قال: لا بدّ من جوابها، قال: هي يا أمير المؤمنين كثيرة الصّخب، دائمة الذّرب، مهينة للأهل، ومؤذية للبعل إن ذكر خيرا دفنته، وإن ذكر شرّا أذاعته، تخبر بالباطل، وتطير مع الهازل، لا تنكل عن عتب، ولا يزال زوجها معها في تعب فقالت: أما والله لولا حضور أمير المؤمنين، ومن حضر من المسلمين، لرددت عليك بوادر كلامك بنوادر تردع كلّ سهامك. فقال معاوية: عزمت عليك لما أجبته! فقالت:(3/153)
فقال لها معاوية: من هذا الذي أشعرك شناره؟ قالت: أمر طلاق جائر، من بعل غادر، لا تأخذه من الله مخافة، ولا يجد بأحد رأفة: قال: ومن بعلك؟ قالت: هو أبو الأسود. فالتفت معاوية إليه فقال: أحقّ ما تقول هذه المرأة؟ فقال: إنّها تقول من الحق بعضا، وليس أحد يطيق عليها نقضا. أما ما ذكرت من أمر طلاقها فحق، وسأخبرك عن ذلك بصدق، أنا والله ما طلقتها لريبة ظهرت، ولا من هفوة حضرت ولكن كرهت شمائلها، فقطعت حبائلها. قال: فأيّ شمائلها كرهت؟ قال: إنك تهيّجها عليّ جواب
عتيد، ولسان شديد. قال: لا بدّ من جوابها، قال: هي يا أمير المؤمنين كثيرة الصّخب، دائمة الذّرب، مهينة للأهل، ومؤذية للبعل إن ذكر خيرا دفنته، وإن ذكر شرّا أذاعته، تخبر بالباطل، وتطير مع الهازل، لا تنكل عن عتب، ولا يزال زوجها معها في تعب فقالت: أما والله لولا حضور أمير المؤمنين، ومن حضر من المسلمين، لرددت عليك بوادر كلامك بنوادر تردع كلّ سهامك. فقال معاوية: عزمت عليك لما أجبته! فقالت:
هو والله يا أمير المؤمنين سؤول جهول، ملحاح بخيل، إن قال فشرّ قائل، وإن سكت فقدم غاثل، ليث حين يأمن، ثعلب حين يخاف، شحيح حين يستضاف، إن التمس الجود عنده انقمع، لما يعلم من لؤم آبائه، وقصر رشائه، ضيفه جائع، وجاره ضائع، لا يحمي ذمارا، ولا يضرم نارا، ولا يرعى جوارا، أهون الناس عليه من أكرمه، وأكرمهم عليه من أهانه.
فقال معاوية: ما رأيت أعجب منها. انصرفي رواحا، فلمّا كان العشي جاءت، فلما رآها أبو الأسود قال: اللهمّ اكفني شرّها، فقالت: كفاك الله شرّي، وأرجو ألّا يعيذك من شرّ نفسك. قال: ناوليني هذا الصبيّ حتى أحمله، قالت: ما جعلك الله بأحقّ من يحمل ابني مني. فوثب فانتزعه منها، فقال معاوية: مهلا يا أبا الأسود. قال: يا أمير المؤمنين حملته قبل أن تحمله ووضعته قبل أن تضعه، وأنا أقوم عليه في أدبه، وانظر في أوده، أمنحه علمي، وألهمه حلمي حتى يكمل عقله، ويستحكم قبله، قالت: كلّا أصلحك الله! حمله خفّا، وحملته ثقلا، ووضعه شهوة، ووضعته كرها. حجري فناؤه، وبطني وعاؤه، وثديي سقاؤه، أكلؤه إذا نام، وأحفظه إذا قام.
فقال معاوية: ما رأيت أعجب من هذه المرأة! فقال أبو الأسود: يا أمير المؤمنين، إنها تقول من الشعر أبياتا فتجيدها، قال: فتكلّف أنت لها أبياتا لعلك أن تقهرها بالشعر، فقال أبو الأسود: [الخفيف]
مرحبا بالّتي تجور علينا ... ثمّ أهلا بالحامل المحمول
أغلقت بابها عليّ وقالت ... إن خير النّسا ذوات البعول
شغلت قلبها عليّ فراغا ... هل سمعتم بفارغ مشغول!
فقالت: [الخفيف]
ليس من قال بالصواب وبالح ... قّ كمن حاد عن منار السبيل
كان حجري فناءه حين يضحي ... ثم ثديي سقاؤه بالأصيل
لست أبغي بواحدي يا بن حرب ... بدلا ما رأيته والجليل
فقال معاوية رضي الله عنه: [الخفيف]
ليس من قد غذاه طفلا صغيرا ... وسقاه من ثديه بالجدول
هي أولى به وأقرب رحما ... من أبيه وفي قضاء الرّسول
ثم دفعه معاوية إليها.(3/154)
ليس من قد غذاه طفلا صغيرا ... وسقاه من ثديه بالجدول
هي أولى به وأقرب رحما ... من أبيه وفي قضاء الرّسول
ثم دفعه معاوية إليها.
* * * فزفر أبو زيد زفير الشّواظ، واستشاط استشاطة المغتاظ، وقال لها: ويلك يا درفار يا فجار، يا غصّة البعل والجار، أتعمدين في الخلوة لتعذيبي، وتبدين في الحفلة تكذيبي!
وقد علمت أنّي حين بنيت عليك، ورنوت إليك، ألفيتك أقبح من قردة، وأيبس من قدّة، وأخشن من ليفة، وأنتن من جيفة، وأثقل من هيضة، وأقذر من حيضة، وأبرز من قشرة، وأبرد من قرّة، وأحمق من رجلة، وأوسع من دجلة فسترت عوارك، ولم أبد عارك. على أنّه لو حبتك شيرين بجمالها، وزبيدة بمالها، وبلقيس بعرشها، وبوران بفرشها، والزّبّاء بملكها، ورابعة بنسكها، وخندف بفخرها، والخنساء بشعرها في صخرها، لأنفت أن تكوني قعيدة رحلي، وطروقة فحلي.
* * * قوله: زفر: أي تنفّس بغيظ، والزّفر والزّفير ردّ النفس في جوفه حتى تنتفخ عروقه قال ابن عرفة: الزّفير من الصدر والشّهيق من الحلق. الشّواظ: النار بغير دخان وزفيره:
صوت اتقّاده. استشاط: اشتدّ غيظه وانتشر في جسده.
يا فجار: ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قذف امرأته جلد يوم القيامة مائة جلدة بسياط من نار» (1).
والغصّة: ما يختنق به. والبعل: الزوج، وأراد أنّها مؤذية يشقي بها زوجها وجارها، كما يشقى صاحب الغصّة. تعمدين: تقصدين. الخلوة. الانفراد. والحفلة:
الاجتماع. بنيت عليك، أي تزوّجتك، وكانت العرب إذا تزوّج الرجل بنى على أهله قبّة، فيسمّى دخول الزوج بغاء لذلك. رنوت: نظرت ألفيتك: وجدتك. قدّة: شراكة تقدّ من جلد غير مدبوغ. واللّيفة، واحدة ليف النخل، وهي التي تكون بين الجرائد. هيضة: هي التخمة تؤول إلى القيء والإسهال وقشرة الشيء: ما علا عليه.
ودجلة: نهر العراق، وعليه بغداد والبصرة، وواسط على جرفها، ويجري على وجه الأرض أربعمائة فرسخ. ولم يحمل الحريريّ مبالغة السعة على هذه وإنما أراد
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 5/ 155.(3/155)
دجلة العوراء وهي التي انتشر ماؤها في البطاح، حتى صارت سعتها هنالك ثلاثين فرسخا في مثلها.
وقال ابن سكّرة يهجو امرأة بالسّعة: [البسيط]
لا تعذليني على ما كان من ملل ... من ذا يراك ولا يصبو إلى الملل
إن كنت أبصرت أشنى منك في بصري ... فلا بلغت الّذي أهواه من أملي
البحر أنت، وأيرى ليس من سمك ... وليس بيني وبين البحر من عمل
قال هشام بن عبد الملك للأبرش الكلبيّ: زوّجني امرأة من كلب، فزوّجه، فقال له ذات يوم يهزل معه: تزوّجنا إلى كلب، فوجدنا في نسائهم سعة، فقال الأبرش: يا أمير المؤمنين، إن نساء كلب خلقن لرجال كلب.
وسمع رجل من كندة رجلا يقول: وجدنا في نساء كندة سعة، فقال: إنّ نساء كندة مكاحل فقدت مراودها.
قيل: لامرأة تطلّق كثيرا: ما بالك تطلّقين أبدا؟ قالت: يريدون الضّيق: ضيّق الله عليهم.
قوله: فسترت عوارك، ابن عباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم اطّلع على عورة مسلم فأذاعها عليه شماتة وعدوانا إلا كان حقا على الله أن يفضحه عاجلا أو آجلا، ومن سترها عليه كان حقّا على الله أن يدخله في ستره وحجابه يوم تبلى السرائر وتخرج المخبآت». حبتك: أي خصّتك.
وشيرين هي بنت أبرويز بن هرمز، وكانت آية في الجمال، وغاية في الحسن والكمال، فاقت نساء زمانها صيانة وظرفا، وبهرتهنّ ملاحة ولطفا، وخلّفت في العراق آثارا منها قصر شيرين، ولها قصة منظومة مشهورة بالعجمية.
[امرأة هارون الرشيد]
وزبيدة: هي بنت جعفر بن عبد الله بن أبي جعفر المنصور، زوجها هارون الرشيد، وجدّها المنصور، وعمّها المهدي، وابنها الأمين فكانت الخلافة قد اكتنفّها، وليس في بني هاشم عباسيّة ولدت خليفة إلا هي. ولدت في حياة المنصور، فسمّيت أمة العزيز.
وكان المنصور يرقّصها ويقول: يا زبيدة أنت زبيدة! فغلب ذلك على اسمها، وكانت أموالها لا تحصى، وأنفقت في سبيل الله وفي الحج وفي بناء المساجد والقناطر ما لم ينفقه أحد قبلها فمن ذلك ما أنفقت في حفرها للعين المعروفة بعين المشاش بالحجاز، فإنّها حفرتها، ومهّدت الطريق لها في كلّ رفع وخفض، حتى أجرتها من مسافة اثني عشر ميلا، فأحصى ما أنفقت فيها فوجد ألف ألف وسبعمائة ألف دينار، دون ما كان في وقت الشغل بها في البذل، وما عمّ أهل الفاقة، ولها في طريق مكة من العراق آثار
كثيرة في مصانع حفرتها، وبرك أحدثتها، تنزل وفود الحج عليها، فلا تجد ماء إلى فيها، فيشربون ويسقون إبلهم، ويتزوّدون وهم في الكثرة أعداد لا يحصيهم إلا خالقهم، والكل داعون لزبيدة إلى زماننا هذا.(3/156)
وكان المنصور يرقّصها ويقول: يا زبيدة أنت زبيدة! فغلب ذلك على اسمها، وكانت أموالها لا تحصى، وأنفقت في سبيل الله وفي الحج وفي بناء المساجد والقناطر ما لم ينفقه أحد قبلها فمن ذلك ما أنفقت في حفرها للعين المعروفة بعين المشاش بالحجاز، فإنّها حفرتها، ومهّدت الطريق لها في كلّ رفع وخفض، حتى أجرتها من مسافة اثني عشر ميلا، فأحصى ما أنفقت فيها فوجد ألف ألف وسبعمائة ألف دينار، دون ما كان في وقت الشغل بها في البذل، وما عمّ أهل الفاقة، ولها في طريق مكة من العراق آثار
كثيرة في مصانع حفرتها، وبرك أحدثتها، تنزل وفود الحج عليها، فلا تجد ماء إلى فيها، فيشربون ويسقون إبلهم، ويتزوّدون وهم في الكثرة أعداد لا يحصيهم إلا خالقهم، والكل داعون لزبيدة إلى زماننا هذا.
وأما آثارها الملوكية، فإنّها أوّل من اتّخذت الآلات من الذهب والفضة المكلّلة بالجوهر. وبلغ ثوب وشى اتّخذ للباسها خمسين ألف دينار.
وهي أول من اتخذ القباب من الفضة والأبنوس، وكلاليبها من الذهب، ملبسة بالوشي والديباج، وأنواع الحرير الملوّن، وهي أوّل من اتخذ الخفاف المرصّعة بالجوهر، وشماع العنبر. ولما أفضي الأمر إلى ابنها الأمين رفع منازل الخدم ككوثر وغيره، فلمّا رأت حبّه فيهم اتخذت له الجواري المقدودات الحسان الوجوه، وعمّمت رؤوسهنّ، وجعلت لهن الطّرر والأصداغ والأقفية، وألبستهن الأقبية والقراطق والمناطق، فبالت قدودهنّ، وبرزت خصورهن، وبعثت بهنّ إليه، فاستحسنهنّ وأبرزهنّ للناس، فسمّوهنّ الغلاميات.
وأخبارها كثيرة، وعندما قتل الأمين دخل عليها بعض خدمها، فقال لها: ما يجلسك وقد قتل أمير المؤمنين؟ فقالت: ويلك وما أصنع؟ قال: تخرجين وتأخذين بدمه، كما خرجت عائشة تطلب بدم عثمان، فقالت: اخسأ لا أمّ لك! ما للنساء وطلب الدماء! ثمّ أمرت بثيابها فسوّدت ودعت بدواة، فكتبت إلى المأمون: [الطويل]
أخير إمام قام من خير عنصر ... وأفضل راق فوق أعواد منبر
ووارث علم الأوّلين وفخرهم ... إلى الملك المأمون من أمّ جعفر
كتبت وعيني تستهلّ دموعها ... إليك ابن عمي من جفوني ومحجري
أصبت بأدنى الناس منك قرابة ... ومن زال عن عيني فقلّ تصبّري
أتى طاهر، لا طهّر الله طاهرا، ... فما طاهر في فعله بمطهّر
فأبرزني مكشوفة الوجه حاسرا ... وأنهب أموالي وحرّق أدؤري
يعزّ على هارون ما قد لقيته ... وما نالني من ناقص الخلق أعور
تذكّر أمير المؤمنين قرابتي ... فديتك من ذي قربة متذكّر
فإن كان ما أبدى لأمر أمرته ... صبرت لأمر من قدير مقدّر
وإن كان ما قد كان منه تعدّيا ... عليّ أمير المؤمنين فغيّر
فلمّا قرأها المأمون، بكى بكاء شديدا، ثم قال: إنّي لأقول كما قال عليّ أمير المؤمنين حين بلغه قتل عثمان رضي الله عنهما: والله ما أمرت، ولا رضيت، اللهمّ جلّل قلب طاهر حزنا.
قال إبراهيم الحربي: رأيتها في المنام، فقلت لها: ما فعل الله بك؟ فقالت: غفر
لي، فقلت: بما أنفقت في طريق مكة؟ فقالت: أما النفقات فرجعت أجورها إلى أربابها، وغفر لي بنيّتي.(3/157)
قال إبراهيم الحربي: رأيتها في المنام، فقلت لها: ما فعل الله بك؟ فقالت: غفر
لي، فقلت: بما أنفقت في طريق مكة؟ فقالت: أما النفقات فرجعت أجورها إلى أربابها، وغفر لي بنيّتي.
[بوران بنت الحسن بن سهل وامرأة بالمأمون]
وأما بوران فهي خديجة بنت الحسن بن الحسن بن سهل، تزوّجها المأمون على يد إسحاق الموصليّ، وفي هذا التزويج قصّة الزّبيل وهي طويلة ظريفة، نذكرها على جهة الاختصار، حدّث إسحاق الموصليّ قال:
بينا أنا ذات يوم عند المأمون، وقد خلا وجهه، وطابت نفسه، فقال: يا إسحاق، هذا يوم خلوة وطيب، فقلت: طيب الله عيش أمير المؤمنين، وأدام سروره وفرحه. فأخذ بيدي، وأدخلني في مجالس غير التي كنّا فيها، فأخذنا من لذاتنا وشرابنا حتى غربت الشمس، فقال: قد عزمت على دخلة إلى دار الحرم، فلا ترم حتى آتيك، فنهض وبقيت إلى عامة الليل، وكان المأمون أشغف خلق الله بالنساء، وأشدّهم ميلا إليهنّ، فقلت في نفسي: هو في لذة وأنا في غير شيء، وتذكرت صبيّة اشتريتها، وكنت عزمت على افتضاضها فنهضت إلى الباب، فقال الحاجب: أين تريد؟ فقلت: الانصراف، قال فإن طلبك، قلت هو من لذة السرور في شغل عن طلبي، فقيل لي: إن غلمانك استبطؤوك وانصرفوا. فجيء بدابة، فركبتها ومشيت، فأحسست بالبول، فعمدت إلى زقاق لأبول، فبلت وقمت لأتمسح بالحيطان إذا أنا بشيء معلّق من تلك الدور، فنهضت فإذا بزبيل (1)
كبير بأربع آذان، ملبس ديباجا، فقلت: إنّ لهذا سببا، وبقيت أتروّى في أمره، ثم قلت:
والله لأجلسنّ فيه كائنا ما كان، فجلست، فلمّا أحسّ بي الذين يرقبونه، جذبوه إلى رأس الحائط، فإذا أربع جوار يقلن لي: انزل بالرّحب والسعة، فمشت بين يديّ جارية بشمعة، حتى نزلت إلى دار نظيفة إلى مجالس مفروشة، لم أر مثلها إلّا في دار ملك، فجلست فما شعرت إلّا بعد ساعة، حتى أزيلت ستور كانت في ناحية الدار، وإذا وصائف يتماشين، في أيديهنّ الشمع، وبعضهنّ بمجامر يحرق فيها العود، وبينهنّ جارية تتهادى كأنّها البدر الطالع، فنهضت قائما، فقالت: مرحبا بك من زائر! وجلست. ثم استطردت إلى سؤالي أبدع استطراد، فقلت: انصرفت من عند بعض إخواني، وغرنّي الوقت، وحرّكني البول، فعدلت إلى هذا الزقاق، فوجدت زبيلا معلّقا، فحملني النبيذ أن جلست فيه، فإن كان خطأ فالنبيذ أكسبنيه، قالت: لا ضير، أرجو أن تحمد عاقبة أمرك، قالت:
فما صناعتك؟ قلت: بزّاز من بغداد، قالت: فهل رويت من الأشعار شيئا؟ قلت: شيئا ضعيفا، قالت: فذاكرنا، قلت: إن للداخل حشمة ولكن تبدئين، قالت: صدقت، فأنشدتني لجماعة من القدماء والمحدثين من أجود أقاويلهم، وأنا مستمع لا أدري ممّ
__________
(1) الزبيل: وعاء أو قفة.(3/158)
أعجب! أمن حسنها، أم من حسن روايتها وجودة ضبطها للغريب، أم من اقتدارها على النّحو ومعرفة أوزان الشعر! ثم قالت: أذهب ما كان عندك من الحصر؟ قلت: إي والله، قالت: فإن رأيت أن تنشدنا، فأنشدتها لجماعة من القدماء ما فيه مقنع، فاستحسنت ذلك ثم قالت: والله ما ظننت أن يوجد في أبناء السوقة هذا!
ثم أمرت بالطعام فأحضر، وقالت: الممالجة أول الرضاع، فدونك. وجعلت تقطّع وتضع بين يديّ، وفي المجلس من صنوف الرياحين، وغرائب الفواكه ما لا يكون إلا عند سلطان، ودعت بالشّراب، فشربت قدحا، ثم سكبت لي قدحا، فشربت، ثم قالت:
هذا أوان المذاكرة بالأخبار وأيام الناس، فاندفعت فقلت: بلغني أنه كان كذا، وكان رجل يقال له كذا، حتى أتيت على عدة أخبار حسان، فسرّت بذلك، وقالت: كثر تعجّبي أن يكون أحد من التجار يحفظ مثل هذا، وإنّما هذه أحاديث ملوك، فقلت: كان لي جار ينادم الملوك، فإذا تعطّل حضرت معه، فربّما حدّث بما سمعت، فأخذتها عنه. فقالت:
لعمري لقد أحسنت الحفظ، وما هذا إلا لقريحة جيّدة، وأخذنا في المذاكرة إذا سكتّ ابتدأت هي، وإذا سكتت ابتدأت أنا، حتى قطعنا عامة الليل، وبخور العود يعبق، وأنا في حالة لو توهمها المأمون لطار فرحا. فقالت: إنك من الرجال وضيء الوجه، بارع الأدب، وما بقي عليك إلا شيء واحد. قلت: وما هو؟ فقالت: لو كنت تترنّم ببعض الأشعار! فقلت: والله لقديما كلفت به ولم أرزقه، فأعرضت عنه، وفي قلبي منه حزازة، وكنت أحبّ أن أسمع في مجلسي هذا منه شيئا لتكمل ليلتي، قالت: كأنّك عرّضت بنا! قلت: والله ما هو تعريض، قد بدأت بالفضل وأنت جديرة باستتمامه. فأحضر عود بأمرها، فغنّت بصوت ما سمعت كحسنه، مع حسن أدائه، وجودة الضرب. فقلت: والله لقد أكمل الله فيك خلال الفضل وحباك بالكمال الراجح، والعقل الوافر، والأخلاق الرضيّة والأفعال السنية. قالت: هل تعرف هذا الصوت ومن غنّى فيه؟ قلت: لا والله، قالت الشعر: لفلان، وكان سببه كذا والغناء لإسحاق، قلت: وإسحاق هذا جعلت فداك في هذا الحال! قالت: بخ بخ! إسحاق بارع هذا الشأن، قلت: سبحان الله! لقد أعطى هذا ما لم يعطه أحد، قالت: فكيف لو سمعت هذا الصوت منه! فلم نزل كذلك حتى إذا انشقّ الفجر أقبلت عجوز كأنها داية، لها، قالت: أي بنيّة، إن الوقت قد حضر، فنهضت عند قولها، فقالت: مصاحبا، لتستر ما كنا فيه، فإن المجالس بالأمانات، فقلت: جعلت فداك، أفأحتاج إلى وصية في ذلك! وودعتها وجارية بين يديّ إلى باب الدار، ففتح لي، وخرجت إلى داري فصلّيت الصبح، ونمت.
فأنبهني رسول المأمون فسرت إليه، فلما رآني، قال: يا إسحاق، تشاغلنا عنك، فما كان حالك؟ قلت: اشتريت صبيّة وكنت معلّق القلب بها، فمضيت لها، وشربت معها ونمت، فقال: يتهيّأ مثل هذا، فهل لك فيما كنا فيه أمس! فقلت: وما يمنع من ذلك؟
فنهضت إلى مجلس أمس فلما كان العشاء قال: لا ترم، فإني أجيئك ونهض، فتأمّلت
ما كنت فيه البارحة، فإذا هو شيء لا يصبر عنه إلا جاهل فخرجت. فقال الغلمان: الله الله، فإنه أنكر علينا تخليتك، فوعدتهم أن آتي قبل أن يجيء، وأن خروجي لعذر، وفي الحين أرجع.(3/159)
فنهضت إلى مجلس أمس فلما كان العشاء قال: لا ترم، فإني أجيئك ونهض، فتأمّلت
ما كنت فيه البارحة، فإذا هو شيء لا يصبر عنه إلا جاهل فخرجت. فقال الغلمان: الله الله، فإنه أنكر علينا تخليتك، فوعدتهم أن آتي قبل أن يجيء، وأن خروجي لعذر، وفي الحين أرجع.
فنهضت إلى الزّبيل فجلست فيه، فرفع بي إلى موضع البارحة، فإذا هي قد طلعت، فقالت: لقد عاودت، فقلت: ولا أظنّ إلّا أني قد ثقّلت، فقالت: مادح نفسه يقرئك السلام، قلت: فهفوة فمنّي بالفضل. قالت: قد فعلنا، ولا تعد، فأخذنا في مثل الليلة السالفة من المذاكرة والمناشدة وغريب الغناء منها إلى الفجر.
فانصرفت إلى منزلي وصليت ونمت، فأنبهني رسول المأمون، فلمّا رآني قال:
أبيت إلا مكافأة لنا! فقلت: والله يا أمير المؤمنين ما ذهبت إلى ذلك، ولكن ظننت أن أمير المؤمنين قد تشاغل عني بلذّته، وأغفل أمري، وجاء الشيطان، فذكّرني أمر تلك الملعونة، فبادرت قال: فما كان منك؟ قلت: قضيت الحاجة منها، قال: فقد انقضى ما كان بقلبك منها، وواحدة بواحدة، والبادي أظلم. قلت: بل أنا أظلم، وإليك المعذرة، قال: لا تثريب عليك، فهل لنا في مثل حالنا أمس؟ قلت: إي والله، فقمنا إلى موضعنا إلى الوقت، فقال: يا إسحاق ما عزمك؟ قلت: لا عذر لي، قال: فعزمت عليك لنجلس حتى أجيء، فإني عازم على الصّبوح، وقد نغّصت عليّ منذ يومين، قلت: فالليلة إن شاء الله، فما هو إلا أن غاب وجالت وساوسي، فلمّا تذكّرت ما كنت فيه البارحة هان عليّ ما يلحقني من سخطه فوثبت مبادرا، فوثب إليّ جند الدار، وحبست، فقلت: الله الله! إني معلّق البال ببعض ما في منزلي، فقالوا: ما إلى تركك من سبيل، فلم أزل أرغّب هذا وأقبّل يد هذا، ووهبت خاتمي لهذا، وردائي لهذا، وخرجت أعد وحاسرا حتى وافيت الزّبيل، فقعدت فيه، فرفعت إلى موضعي، وأقبلت، فقالت: صديقنا! قلت: إي والله، قالت: أجعلتها دار مقام؟ فقلت: جعلت فداك! حتى الضيافة ثلاث، فإن رجعت فأنتم في حلّ من دمي. قالت: والله لقد أتيت بحجّة، ثم جلسنا في مثل تلك الحال، فلمّا قرب الوقت علمت أن المأمون لا بدّ أن يسألني، ولا يقنع مني إلا بشرح القصّة، فقلت لها: أراك ممّن يعجب بالغناء، ولي ابن عمّ أحسن منّي وجها، وأظرف قدّا، وأكثر أدبا، وأنا حسنة من حسناته، وهو أعرف خلق الله بغناء إسحاق الموصلي، قالت: طفيليّ وتقترح؟ قلت لها: أنت المحكمّة، قالت: إن كان ابن عمك على ما تصف فما نكره معرفته، ثم جاء الوقت فنهضت فلم أصل إلى داري إلّا ورسل المأمون قد هجموا عليّ، وحملوني حملا عنيفا، فوجدته على كرسيّ وهو مغتاظ، فقال: يا إسحاق أخروجا عن الطاعة! قلت: لا والله قال: فما قصّتك وما هذا الانحراف؟ فأصدقني، قلت: في خلوة، فأومأ إلى من بين يديه فتنحّوا فحدثته الحديث وقلت له: قد وعدتها في أمرك، قال: قد أحسنت، ولولا ذلك لنكّلت بك، فقلت: قد سلّم الله، فأخذنا في لذتنا في ذلك اليوم، وهو لا يسمع مني غير حديثها، فلم يتمّ النهار إلا والمأمون معلّق القلب، فلما جاء
الوقت سرنا وأنا أوصيه وأقول: تجنّب أن تظهرني بحضرتها، ودعني من نخوة الملك، وكن لي تبعا، وهو يقول: نعم ويلك! وإن قالت: غنّ كيف أصنع؟ قلت: أنا أدفعها عنك.(3/160)
أبيت إلا مكافأة لنا! فقلت: والله يا أمير المؤمنين ما ذهبت إلى ذلك، ولكن ظننت أن أمير المؤمنين قد تشاغل عني بلذّته، وأغفل أمري، وجاء الشيطان، فذكّرني أمر تلك الملعونة، فبادرت قال: فما كان منك؟ قلت: قضيت الحاجة منها، قال: فقد انقضى ما كان بقلبك منها، وواحدة بواحدة، والبادي أظلم. قلت: بل أنا أظلم، وإليك المعذرة، قال: لا تثريب عليك، فهل لنا في مثل حالنا أمس؟ قلت: إي والله، فقمنا إلى موضعنا إلى الوقت، فقال: يا إسحاق ما عزمك؟ قلت: لا عذر لي، قال: فعزمت عليك لنجلس حتى أجيء، فإني عازم على الصّبوح، وقد نغّصت عليّ منذ يومين، قلت: فالليلة إن شاء الله، فما هو إلا أن غاب وجالت وساوسي، فلمّا تذكّرت ما كنت فيه البارحة هان عليّ ما يلحقني من سخطه فوثبت مبادرا، فوثب إليّ جند الدار، وحبست، فقلت: الله الله! إني معلّق البال ببعض ما في منزلي، فقالوا: ما إلى تركك من سبيل، فلم أزل أرغّب هذا وأقبّل يد هذا، ووهبت خاتمي لهذا، وردائي لهذا، وخرجت أعد وحاسرا حتى وافيت الزّبيل، فقعدت فيه، فرفعت إلى موضعي، وأقبلت، فقالت: صديقنا! قلت: إي والله، قالت: أجعلتها دار مقام؟ فقلت: جعلت فداك! حتى الضيافة ثلاث، فإن رجعت فأنتم في حلّ من دمي. قالت: والله لقد أتيت بحجّة، ثم جلسنا في مثل تلك الحال، فلمّا قرب الوقت علمت أن المأمون لا بدّ أن يسألني، ولا يقنع مني إلا بشرح القصّة، فقلت لها: أراك ممّن يعجب بالغناء، ولي ابن عمّ أحسن منّي وجها، وأظرف قدّا، وأكثر أدبا، وأنا حسنة من حسناته، وهو أعرف خلق الله بغناء إسحاق الموصلي، قالت: طفيليّ وتقترح؟ قلت لها: أنت المحكمّة، قالت: إن كان ابن عمك على ما تصف فما نكره معرفته، ثم جاء الوقت فنهضت فلم أصل إلى داري إلّا ورسل المأمون قد هجموا عليّ، وحملوني حملا عنيفا، فوجدته على كرسيّ وهو مغتاظ، فقال: يا إسحاق أخروجا عن الطاعة! قلت: لا والله قال: فما قصّتك وما هذا الانحراف؟ فأصدقني، قلت: في خلوة، فأومأ إلى من بين يديه فتنحّوا فحدثته الحديث وقلت له: قد وعدتها في أمرك، قال: قد أحسنت، ولولا ذلك لنكّلت بك، فقلت: قد سلّم الله، فأخذنا في لذتنا في ذلك اليوم، وهو لا يسمع مني غير حديثها، فلم يتمّ النهار إلا والمأمون معلّق القلب، فلما جاء
الوقت سرنا وأنا أوصيه وأقول: تجنّب أن تظهرني بحضرتها، ودعني من نخوة الملك، وكن لي تبعا، وهو يقول: نعم ويلك! وإن قالت: غنّ كيف أصنع؟ قلت: أنا أدفعها عنك.
ثم سرنا إلى زبيلين فقعدنا فيهما، فرفعنا إلى الموضع، فأقبلت فسلّمت، فما تمالك إذ رآها أن بهت في حسنها، وقالت لي: والله ما أنصفت ابن عمك إذ لم ترفع منزلته، وكان قد قعد دوني، فقالت: ارتفع فديتك، أنت جديد، وهذا قد صار من أهل البيت، فنهض إلى صدر البيت، وأقبلت تذاكره وتناشده وتمازحه، وهو يظهر عليها في كل فن.
ثم أحضر النّبيذ فشربنا، وهي مقبلة عليه ومسرورة به، وهو أكثر، وأخذت العود فغنّت صوتا، وقالت: وابن عمك هذا من التجار؟ قلت: نعم، قالت: إنّكما لغريبان. فلما شرب المأمون ثلاثة أرطال داخله الفرح والطرب، ثم رأيته ينظر إليّ نظر الأسد إلى فريسته، فصاح: يا إسحاق، فنهضت وقلت: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: غنّ هذا الصوت، فلمّا علمت أنه الخليفة نهضت إلى كلّة مضروبة، فدخلتها، فلما فرغت من الصوت، قال: انظر من ربّ هذه الدار؟ فسألت عجوزا، فقالت: هو الحسن بن سهل، فقال عليّ به، فغابت العجوز ساعة وإذا الحسن قد حضر، فقال له: ألك ابنة؟ قال:
نعم بوران، قال: فزوّجتها! قال: لا والله، قال: فأني أخطبها إليك، قال: هي أمتك، وأمرها إليك، قال: قد تزوّجتها على نقد ثلاثين ألفا نحملها إليك صبيحة يومنا، فإذا قبضت المال فاحملها إلينا، قال: نعم، ثم خرجنا.
فقال: يا إسحاق لا يقف على ما وقفت عليه أحد، فسترت الحديث إلى أن مات المأمون: فما اجتمع لأحد ما اجتمع لي في تلك الأربعة الأيام مجالسة المأمون بالنهار، ومجالسة بوران بالليل، وو الله ما رأيت أحدا من الرجال في ملوكهم مثل المأمون، ولا شاهدت امرأة تقارب بوران فهما وعقلا، وما أظن أحدا وقف من العلوم على ما وقفت عليه.
وفي المسعودي: انحدر المأمون إلى فم الصّلح في شعبان سنة تسع ومائتين، وأملك بخديجة بنت الحسن بن سهل، ونثر الحسن في ذلك الإملاك ما لم ينثره قطّ ملك في جاهلية ولا إسلام، نثر على الهاشميين والقواد والكتّاب بنادق مسك، فيها رقاع بأسماء ضياع، وجوار وأسماء ديار ودوابّ وغير ذلك، فإذا وقعت البندقة بيد الرجل، فتحها فيجدها على قدر سعده، ثم ينثر بعد ذلك الدنانير والدراهم ونوافج المسك على عامة الناس، وأنفق على المأمون وعلى جميع قواده، فلما أراد المأمون الانصراف إلى مدينة السلام قال له: يا أبا محمد، سل حوائجك، قال: نعم يا أمير المؤمنين، أسألك أن تحفظ عليّ مكاني من قبلك، فأمر المأمون أن يحمل له خراج فارس والأهواز لسنة.
وذكر الحريريّ في الدّرة أن المأمون لمّا بنى على بوران، فرش له حصير منسوج
بالذهب ما مسّه أحد، وعليه در منثور، فوجّه الحسن إلى المأمون أن هذا نثار يجب أن يلتقط، فقال المأمون لمن حوله من بنات الخلفاء: شرّفن أبا محمد، فمدّت كل واحدة منهنّ يدها، فأخذت درّة وبقي باقي الدرّ يلوح على الحصير المذهب، فقال: قاتل الله أبا نواس، لقد شبّه بشيء ما رآه قط، فأحسن، في وصف الخمرة والحباب الذي فوقها فقال! [البسيط](3/161)
وذكر الحريريّ في الدّرة أن المأمون لمّا بنى على بوران، فرش له حصير منسوج
بالذهب ما مسّه أحد، وعليه در منثور، فوجّه الحسن إلى المأمون أن هذا نثار يجب أن يلتقط، فقال المأمون لمن حوله من بنات الخلفاء: شرّفن أبا محمد، فمدّت كل واحدة منهنّ يدها، فأخذت درّة وبقي باقي الدرّ يلوح على الحصير المذهب، فقال: قاتل الله أبا نواس، لقد شبّه بشيء ما رآه قط، فأحسن، في وصف الخمرة والحباب الذي فوقها فقال! [البسيط]
كأنّ صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء درّ على أرض من الذّهب
فكيف لو رأى هذا معاينة!
ويقال: إن الحسن بن سهل نثر في ذلك العرس على المأمون ألف حبّة جوهر، وأشعل بين يديه شمعة عنبر، وزنها مائة رطل، فأمر له المأمون بمائة ألف ألف درهم، وأقطعه مدينة فم الصّلح، وهي قريبة من واسط، وكان العرس بها.
وذكر المبرّد أن الملاحين الذين تصرّفوا في هذا العرس نيّفوا على السبعين ألفا، وكانت جراية السلطان عليهم، ولما بنى المأمون على بوران وأراد غشيانها حاضت، فقالت: أتى أمر الله فلا تستعجلوه! فنام في فراش آخر، فلمّا أصبح دخل عليه أفضل ندمائه يهنؤونه ويدعون له فأنشدهم بديها: [المديد]
فارس في الحرب منغمس ... عارف بالطّعن في الظّلم
رام أن يدمي فريسته ... فاتّقته من دم بدم
وأكثر الشعراء في ذلك الإملاك، وأستظرف منها قول ابن أبي حازم الباهليّ:
[مجزوء الخفيف]
بارك الله للحسن ... ولبوران في الختن
يا بن هارون قد ظفر ... ت ولكن ببنت من!
فلما وصلت إلى المأمون قال: لا والله ما ندري أخيرا أراد أم شرّا.
ويشبه هذا أن رجلا أتى رجلا خياطا بثوب ليقطع له منه قميصا، فقال: والله لأفصلنّه لك تفصيلا، لا يدرى أقميص هو أم قباء؟ ففعل ذلك، فقال له صاحب الثوب:
وأنا والله لأدعونّ لك دعاء لا يدرى ألك هو أم عليك؟ وكان الخياط يسمّى بشرا، وكان أعور، فقال: [الرمل]
خاط لي بشر قباء ... ليت عينيه سواء
وأتت المأمون بجهاز لم يسمع بمثله قطّ كان فيه الفرش منسوجة بالذهب.
وقال إبراهيم بن العباس الصّوليّ يهنئ الحسن بمصاهرة المأمون: [البسيط]
هنّتك أكرومة جلّلت نعمتها ... أعلت وليّك واجتثّت أعاديكا
ما كان يحبى بها إلا إلإمام ولا ... كانت إذا قرنت بالخلق تعدوكا
وماتت بوران في سنة إحدى وسبعين ومائتين، وقد بلغت ثمانين سنة.(3/162)
هنّتك أكرومة جلّلت نعمتها ... أعلت وليّك واجتثّت أعاديكا
ما كان يحبى بها إلا إلإمام ولا ... كانت إذا قرنت بالخلق تعدوكا
وماتت بوران في سنة إحدى وسبعين ومائتين، وقد بلغت ثمانين سنة.
وثمّ بوران أخرى وهي بنت كسرى، وأمها مريم بنت قيصر، ملكت سنة ونصفا، وليست المعنيّة في المقامة.
* * * [بلقيس وعرشها]
وأما بلقيس فهي ابنة شراحبيل بن أبي سرح بن الحارث بن قيس بن صيّفي بن سبأ، وكان سبب مراسلة سليمان إليها أنه فقد الهدهد، وبه يعرف قرب الماء من بعده، فنزل سليمان عليه السلام بمفازة، فدعا بالهدهد فلم يوجد، فقال وهو غاضب {مََا لِيَ لََا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20] الآيات. وكان الهدهد قد مرّ بعرش بلقيس وبساتينها، فلمّا رجع تلقّته الطير، فقالوا: توعّدك رسول الله بنتف ريشك أو بذبحك، فينقطع نسلك، فقال:
وما استثنى؟ قالوا: بلى، قال: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطََانٍ مُبِينٍ} [النمل: 21]، أي بعذر مبين فأتى سليمان فقال: ما غيّبك عني؟ قال: {أَحَطْتُ بِمََا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] حتى بلغ {فَانْظُرْ مََا ذََا يَرْجِعُونَ} {قََالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ} [النمل: 28] الآيات فوجّهه بالكتاب، فوافقها في قصرها، فسدّ عليها بالكتاب ضوء طاق، فالتفتت فألقى إليها الكتاب، فأخذته وغطّته بثوب، ونادت في قومها فقالت: {يََا أَيُّهَا الْمَلَأُ} [النمل: 29] الآيات، فقالوا لها:
{نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ} [النمل: 33] الآيات. ثم قالت: إن قبل الهدية فهو ملك من ملوك الدنيا وأنا أعزّ منه، وإن لم يقبلها فهو نبيّ من عند الله.
فلما رجع بالهدية قال سليمان: {أَتُمِدُّونَنِ بِمََالٍ} إلى {وَهُمْ صََاغِرُونَ} [النمل:
37]. فلما رجع إليها رسلها بالخبر، خرجت فزعة في قومها قال ابن عباس رضي الله عنهما: ومعها ألف قيل، وأهل اليمن يسمون القائد القيل مع كل قيل عشرة آلاف.
وكان سليمان مهيبا لا يبدؤه أحد بشيء حتى يسأل عنه، فخرج فرأى رهجا قريبا منه، فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس، قال: وقد نزلت منّا بهذا المكان. ثم قال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهََا} [النمل: 38] فأتاه به الذي عنده علم الكتاب قبل ما قطع كلامه، وصرف بصره، فرآه مستقرّا عنده، فقال: هذا من فضل ربي. ثم جاءت بلقيس وقعدت إلى سليمان، فقيل لها: {أَهََكَذََا عَرْشُكِ} [النمل: 42] فنظرت إليه وقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ}
[النمل: 42] ثم قالت: تركته في قصري والجنود محيطة به، فكيف جيء به! وكانت شعراء الساقين، فقالت الجن: إن نكحها سليمان فولدت له غلاما ما ننفكّ من العبودية أبدا، فهلمّ نبني له بنيانا، فيرى شعرها فيه فلا يتزوّجها، فبنوا له صرحا أخضر من قوارير كأنه الماء، وجعلوا في باطن طرائقه كلّ شيء من الدواب والسمك وغيره، وألقي لسليمان كرسي في أقصاه، فلما رأى منه ما رأى قعد عليه، ودعا بها، فلما رأت صور
السمك فيه حسبته لجّة، وكشفت عن ساقيها. فأبصر شعرها سليمان، فصرف بصره عنها، وقال إنه صرح ممرّد من قوارير، فقالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل: 44] الآية. فقال سليمان للجن: ما يذهب الشعر؟ فقالوا: له النّورة، فاستنكحها سليمان عليه السلام.(3/163)
وكان سليمان مهيبا لا يبدؤه أحد بشيء حتى يسأل عنه، فخرج فرأى رهجا قريبا منه، فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس، قال: وقد نزلت منّا بهذا المكان. ثم قال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهََا} [النمل: 38] فأتاه به الذي عنده علم الكتاب قبل ما قطع كلامه، وصرف بصره، فرآه مستقرّا عنده، فقال: هذا من فضل ربي. ثم جاءت بلقيس وقعدت إلى سليمان، فقيل لها: {أَهََكَذََا عَرْشُكِ} [النمل: 42] فنظرت إليه وقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ}
[النمل: 42] ثم قالت: تركته في قصري والجنود محيطة به، فكيف جيء به! وكانت شعراء الساقين، فقالت الجن: إن نكحها سليمان فولدت له غلاما ما ننفكّ من العبودية أبدا، فهلمّ نبني له بنيانا، فيرى شعرها فيه فلا يتزوّجها، فبنوا له صرحا أخضر من قوارير كأنه الماء، وجعلوا في باطن طرائقه كلّ شيء من الدواب والسمك وغيره، وألقي لسليمان كرسي في أقصاه، فلما رأى منه ما رأى قعد عليه، ودعا بها، فلما رأت صور
السمك فيه حسبته لجّة، وكشفت عن ساقيها. فأبصر شعرها سليمان، فصرف بصره عنها، وقال إنه صرح ممرّد من قوارير، فقالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل: 44] الآية. فقال سليمان للجن: ما يذهب الشعر؟ فقالوا: له النّورة، فاستنكحها سليمان عليه السلام.
وذكر ابن إسحاق أنّها لمّا أسلمت، قال لها سليمان: اختاري رجلا من قومك أزوّجكه، فقالت: ومثلي ينكح، وقد كان لي من الملك والسلطان ما كان! فقال لها: ما ينبغي أن تحرّمي ما أحّل الله لك، فزوّجها ذا تّبع ملك همدان، ومّلكه اليمن، وردّها معه، فلم يزل ملك اليمن حتى مات سليمان. وكانت بلقيس من بيت المملكة، قيل: إنها ولدها أربعون ملكا، واختلف في أمها فقيل: إنسيّة وقيل جنّية.
وأما عرشها، وهو سريرها، فقيل: كان طوله ثمانين ذراعا، وعرضه كذلك. وكان عرشها صفائح من ذهب وفضة قد ركبت فيه فصوص الياقوت الأحمر والزّبرجد الأخضر والدرّ واللؤلؤ، وكان له قائمتان من ياقوت وقائمتان من زبرجد، والملك لله وحده، الذي سخر لسليمان هذا الملك العظيم ومن أحضر له هذا العرش العظيم قبل رجع الطرف!
وذكر الحريري في الدرّة: أن صواب لفظ «بلقيس» أن تكسر باؤه لأن كل أعجمي يعرّب فقياسه أن يلحق بأمثلة كلام العرب، قال: وعلى ذلك بلقيس.
وقرأت في أخبار سيف الدولة أن الخالديّين مدحاه، فبعث إليهما وصيفا ووصيفة، مع كلّ واحد منها بدرة وتخت من ثياب مصر والشام، فكتبا إليه: [الكامل]
لم يغد شكرك في الخلائق مطلقا ... إلا ومالك في النّوال حبيس
خوّلتنا شمسا وبدرا أشرقت ... بهما لدينا الظلمة الحنديس
رشأ أتانا وهو حسنا «يوسف» ... وغزالة هي بهجة «بلقيس»
هذا ولم تقنع بذاك وهذه ... حتى بعثت المال وهو نفيس
أتت الوصيفة وهي تحمل بدرة ... وأتى على ظهر الوصيف الكيس
وكسوننا مما أجادت حوكه ... مصر وزادت حسنه تنّيس
فغدا لنا من جودك المأكول والم ... شروب والمنكوح والملبوس
فلما قرأها سيف الدولة قال: أحسنا، إلا في لفظ «المنكوح»، إذ ليست مما يخاطب بها الملوك.
وهذا من بديع نقده المليح وشواهد ذكائه الصريح.
وأما الزّبّاء: فقد تقدّم ملكها في الرابعة والعشرين.
* * *
[رابعة العدوية](3/164)
* * *
[رابعة العدوية]
وأما رابعة فهي بنت إسماعيل العدويّة، وكانت قد بلغت من النّسك والفضل والزهد منزلة شريفة، وكانت منوّرة البصيرة، مطهّرة السريرة، حظيت بالمكاشفات الربانية، وكان سفيان الثوريّ يذهب إليها ويسألها عن مسائل دينية، ويعتمد عليها، وخطبها عبد الواحد ابن زيد، فقالت له بعد أن حجبته أياما ثم أذنت له: يا شهوان، أي شيء رأيته فيّ من آية الشهوة! ألا خطبت شهوانية مثلك!
وقال أبو سليمان الداراني: بتّ ليلة عند رابعة العدوية، فقامت إلى محراب لها، وقمت إلى ناحية من البيت فلم تزل قائمة إلى السّحر، فقلت: ما جزاء من قوّانا على قيام هذه الليلة؟ قالت: جزاؤه أن نصوم له غدا.
وزارها أصحابها، فذكروا الدنيا وأقبلوا على ذمّها، فقالت: اسكتوا عن ذمّها، فلولا موضعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها! ألا من أحبّ شيئا أكثر من ذكره.
واحتاجت رابعة إلى شيء فقيل لها: لو بعثت إلى فلان؟ قريب لها فقالت: والله لا أطلب الدنيا ممّن يملكها، فكيف ممّن لا يملكها!
وحدّث جعفر بن سليمان قال: أخذ بيدي سفيان الثوريّ فقال لي: سربي إلى المؤدّبة التي لا أجدني أستريح إذا فارقتها يعني رابعة قال: فلما دخلت عليها، رفع سفيان يديه، وقال: اللهمّ إنّي أسألك السلامة! فبكت رابعة، فقال لها: ما يبكيك؟
فقالت: أنت عرّضتني للبكاء، فقال لها وكيف ذلك؟ فقالت: أما علمت أن السّلامة من الدنيا ترك ما فيها، فكيف وأنت متلطّخ بها!
وقال سفيان الثوري لرابعة رحمة الله عليهما: ما حقيقة إيمانك؟ قالت: ما عبدته خوف النار، ولا رجاء الجنة، فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حبّا له وشوقا إليه، وقالت في معنى ذلك: [المتقارب]
أحبّك حبتين: حبّ الهوى ... وحبّا لأنّك أهل لذاك
فأمّا الذي هو حبّ الهوى ... فشغلي بذكرك عمّن سواك
وأمّا الذي أنت أهل له ... فكشفك لي الحجب حتى أراك
فلا الحمد في ذا ولا ذا ليا ... ولكن لك الحمد في ذا وذاك
وقيل لها: كيف حبّك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: شغلني حبّ الخالق عن حبّ المخلوقين.
ودخل سفيان عليها وهي قائمة تصلّي، فلم تعرّج عليه، ودخل جعفر وكان يخدمها فقال لسفيان: أيّ شيء درا بينك وبينها؟ قال: ما كلّمتني. فقال لها: يا سبحان الله! الشيخ جاء إليك فما كلّمته، فقالت: إن العبد إذا كان مقبلا على الله عزّ وجلّ كان
الله مقبلا عليه، وقد كنت مقبلة على الله عزّ وجلّ، ولست أشكّ في إقباله عليّ، فأيما أحبّ إليك أن أكون مقبلة على الله ويكون مقبلا عليّ، أو أقبل على هذا؟ ثم قالت: الله أكبر.(3/165)
ودخل سفيان عليها وهي قائمة تصلّي، فلم تعرّج عليه، ودخل جعفر وكان يخدمها فقال لسفيان: أيّ شيء درا بينك وبينها؟ قال: ما كلّمتني. فقال لها: يا سبحان الله! الشيخ جاء إليك فما كلّمته، فقالت: إن العبد إذا كان مقبلا على الله عزّ وجلّ كان
الله مقبلا عليه، وقد كنت مقبلة على الله عزّ وجلّ، ولست أشكّ في إقباله عليّ، فأيما أحبّ إليك أن أكون مقبلة على الله ويكون مقبلا عليّ، أو أقبل على هذا؟ ثم قالت: الله أكبر.
وقال لها رجل: إني أحبك في الله، فقالت: فلا تعصي الذي أحببتني له وأنشدت:
[الوافر]
أتضمن يا فتى ترك المعاصي ... وأرهنه الكفالة بالخلاص
أطاع الله قوم فاستراحوا ... ولم يتجرّعوا غصصّ المعاصي
* * *
[خندف]
وأما خندف، فهي ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وهي امرأة إلياس ابن مضر، ولدت منه عمرا وهو مدركة، وعامرا وهو طابخة، وعميرا وهو قمعة، فندّت لهم إبل، فخرجوا في طلبها فأدركها عمرو، فسمّي مدركة، واقتنص عامر أرنبا فطبخها، فسمّي طابخة، وانقمع عمير في بيته فسمّي قمعة، فلما أبطؤوا عليها خرجت في إثرهم، فقالت: ما زلت أخندف في إثركم؟ فلقّبت خندف، والخندفة بالهرولة، وهي أمّ عرب الحجاز، وجميع ولد إلياس من خندف، ولخندف ينسبون، وجميع ولد مضر من إلياس وخندف، فمن مدركة كنانة وأسد ابنا خزيمة، ومن طابخة ضبّة بن طابخة، ومزينة والرّباب، وهم عديّ وتميم بن مرّ بن أد بن طابخة، وثور وعكل بن مدركة، وقريش وهو في كنانة.
ومنها سيد ولد آدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى ما في كنانة من الشجعان المشاهير في الجاهلية.
ومن طابخة تميم، وهي أكبر قبيلة في العرب وأشجعها، وهي عدد لا يحصى، وعزّ لا يدرك.
وقال المنذر بن ماء السماء ذات يوم وعنده وفود قبائل العرب ودعا ببردين فقال:
ليلبس هذين البردين أكرم العرب وأشرفهم حسبا وأعزّهم قبيلة، فأحجم الناس، فقام الأحمر بن خلف بن بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، فلبس أحدهما وارتدى الآخر، فقال له المنذر: ما حجتك فيما ادعيت؟ قال: الشرف من نزار في مضر، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في بهدلة، قال: هذا أنت في أصلك، فكيف أنت في عشيرتك؟ قال: أنا أبو عشرة وعم عشرة وخال عشرة قال: هذا أنت في عشيرتك، فكيف أنت في نفسك؟ فقال: شاهد العين شاهدي، ثم قام فوضع قدمه في الأرض، وقال: من أزالها فله مائة من الإبل، فلم يقم إليه أحد، وفي ذلك يقول الفرزدق: [الطويل](3/166)
فما تمّ في سعد ولا آل مالك ... غلام إذا ما قيل لم يتبهدل (1)
لهم وهب النّعمان بردى محرّق ... بمجد معدّ والعديد المحصّل
فلخندف هذا الفخر في الجاهلية ثم النبوّة، ثم الملك إلى يوم القيامة وفيها يقول الراجز: [الرجز]
* وخندف هامة هذا العالم (2) *
* * *
[الخنساء]
وأما الخنساء فهي تماضر بنت عمرو بن الشريد، من سراة قبائل سليم بن منصور ابن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان، قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومها بني سليم، ولسليم في الإسلام سابقة حسنة، حضر منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحرب حنين ألف رجل.
وذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستنشد الخنساء ويعجبه شعرها، فكانت تنشده وهو يقول: هيه يا خنساء! ونظرتها عائشة رضي الله عنهما، وعليها صدار من شعر، فقالت: يا خنساء، أتلبسين الصّدار وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: لم أعلم بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان للصّدار سبب، كان زوجي رجلا متلافا فأملق، وأراد أن يسافر، فقلت له: أقم حتى آتي أخي صخرا، فأتيته فشاطرني، ماله فأتلفه زوجي، فعدت إليه فعاد بمثل ذلك، فأتلفه زوجي، فعدت إليه في الثالثة والرابعة، فقالت له زوجته: إن هذا المال متلف، فامنحها شرار مالك، فقال: [الرجز]
والله لا أمنحها شرارها ... وهي حصان وقد كفتني عارها (3)
ولو هلكت خرّقت خمارها ... واتّخذت من شعرها صدارها
فلما هلك اتّخذت هذا الصّدار.
وقيل لجرير: من أشعر الناس؟ قال: أنا، لولا هذه الفاعلة يعني الخنساء قيل له: فبم فضلتك؟ قال بقولها: [البسيط]
__________
(1) البيتان في ديوان الفرزدق ص 744.
(2) الرجز للعجاج في ديوانه 1/ 462، ورصف المباني ص 56، وسر صناعة الإعراب 1/ 90، وشرح المفصل 10/ 12، 13، وشرح شواهد الشافية ص 428، ولسان العرب (بيت)، (علم)، وجمهرة اللغة ص 649، وبلا نسبة في رصف المباني ص 447، وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 205، والممتع في التصريف 1/ 324، ومقاييس اللغة 4/ 110.
(3) الرجز لصخر بن عمرو السلمي في الشعر والشعراء ص 353، والكامل ص 1397، وخزانة الأدب 1/ 435، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 629.(3/167)
إنّ الزمان وما تفنى عجائبه ... أبقى لنا ذنبا واستؤصل الرّاس (1)
أبقى لنا كلّ مجهول وفجّعنا ... بالحالين فهم هام وأرماس
إن الجديدين في طول اختلافهما ... لا يفسدان ولكن يفسد الناس
فأجمع علماء الشعر أنه لم تكن قطّ امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها.
وكان النابغة الذبياني يجلس لشعراء العرب بعكاظ على كرسيّ، ينشدونه فيفضل من يرى تفضيله، فأنشدته في بعض المواسم فأعجب بشعرها، وقال لها: والله لولا أنّ هذا الأعمى أنشدني قبلك يعني الأعشى لفضّلنك على شعراء هذا الموسم.
وكان بشار يقول: لم تقل امرأة شعرا إلّا ظهر الضعف فيه، فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ فقال: تلك كان لها أربع خصى.
ومن جيّد ما رثت به صخرا قولها: [الوافر]
ألا يا صخر إن أبكيت عيني ... لقد أضحكتني دهرا طويلا (2)
بكيتك في نساء معولات ... وكنت أحقّ من أبدى العويلا
دفعت بك الجليل وأنت حيّ ... فمن ذا يدفع الخطب الجليلا
إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا
ومنه: [الوافر]
يؤرّقني التذكّر حين أمسي ... ويردعني عن الأحزان نكسي (3)
على صخر وأيّ فتى كصخر ... ليوم كريهة وطعان خلس
ولم أر مثله رزءا لجن ... ولم أر مثله رزءا لإنس
يذكّرني طلوع الشمس صخرا ... وأبكيه لكلّ غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزّى النّفس عنه بالتأسي
ومنه أيضا: [السريع]
أبعد ابن عمرو من ال الشّري ... د حلّت به الأرض أثقالها (4)
لعمر أبيه لنعم الفتى ... إذا النفس أعجبها مالها
__________
(1) الأبيات في ديوان الخنساء ص 155.
(2) الأبيات في ديوان الخنساء ص 225، 226، والبيتان الثالث والرابع في لسان العرب (بكا)، وتاج العروس (بكى).
(3) الأبيات في ديوان الخنساء ص 150.
(4) ديوان الخنساء ص 201.(3/168)
فإن تك مرّة أودت به ... فقد كان يكثر تقتالها
فخرّ الشوامخ من فقده ... وزلزلت الأرض زلزالها
ومنه أيضا: [المتقارب]
أعينّي جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر النّدى (1)
ألا تبكيان الجريء الجميل ... ألا تبكيان الفتى السيّدا
طويل النجاد رفيع العما ... دساد عشيرته امردا
ومنه أيضا: [المتقارب]
تعرّفني الدهر نهشا وحزا ... وأوجعني الدّهر قرعا وغمزا (2)
وأفنى رجالي فبادوا معا ... فأصبحت من بينهم مستفزّا
كأن لم يكونوا حمى يتّقى ... إذ الناس إذا ذك من عزّبزا
وكانوا سراة بني مالك ... وفخر العشيرة مجدا وعزّا
جززنا نواصي فرسانها ... وكانوا يظنّون ألّا تجزّا
ومن ظنّ ممّن يلاقي الحرو ... ب ألّا يصاب فقد ظنّ عجزا
ومنه أيضا: [البسيط]
يا صخر ورّاد ماء قد تبادره ... أهل الموارد وما في ورده عار (3)
مشى السّبنتي إلى هوجاء معضلة ... له سلاحان أنياب وأظفار
وما عجول على بو تحنّ له ... لها حنينان إعلان وإسرار
ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
يوما بأوجع مني حين فارقني ... صخر فللدهر إحلاء وإمرار
وإنّ صخرا لوالينا وسيّدنا ... وإنّ صخرا إذا نشتو لنحّار
وإن صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
وحدث المفضل قال: كنت جالسا يوما على باب منزلي، أحتاج إلى درهم واحد، وعليّ دين عشرة آلاف درهم، إذا جاءني رسول المهديّ، فقال: أجب أمير المؤمنين، فقلت في نفسي: وما بعثه إلي! لعلّ ساعيا سعى بي عنده، ثم دخلت منزلي، ولبست ثيابي، وسرت إليه فلما مثلت بين يديه أومأ إليّ بالجلوس، فلما سكن جأشي، قال لي:
يا مفضّل، ما أفخر بيت قالته العرب؟ فأرتج عليّ ساعة، ثم قلت: يا أمير المؤمنين قول الخنساء، فاستوى جالسا وكان متكئا، فقال: أيّ، [بيت هو؟] فقلت قولها: [البسيط]
__________
(1) ديوان الخنساء ص 41.
(2) ديوان الخنساء ص 143.
(3) ديوان الخنساء ص 75.(3/169)
وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
فقال: قد قلت له فأبى عليّ وأومأ إلي إسحاق بن بزيع قلت: الصواب مع أمير المؤمنين، ثم قال: يا مفضل، حدّثني فحدّثته حتى انتصف النهار، قال: أنشدني، فأنشدته قول الحسين بن مطير الأسديّ: [الطويل]
وقد تغدر الدنيا فيضحى غنيّها ... فقيرا ويثرى بعد بؤس فقيرها (1)
وكم قد رأينا من تغيّر عيشة ... وأخرى صفا بعد كد غديرها
فلا تقرب الأمر الحرام فإنه ... حلاوته تفنى ويبقى مريرها
وكان المهدي رقيقا فبكى، وقال: يا مفضّل، كيف حالك؟ فقلت: كيف يكون حال من عليه عشرة آلاف درهم، وليس معه منها درهم واحد، قال: يا إسحاق، أعطه عشرة آلاف درهم قضاء لدينه، وعشرة آلاف درهم يستعين بها على حاله، وعشرة آلاف درهم يصلح بها من شأنه.
ورأى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الخنساء، تطوف بالبيت محلوقة الرأس، تبكي وتلطم خدها، وقد علّقت نعل صخر في خمارها، فوعظها فقالت: إني رزئت فارسا لم يرزأ أحد مثله، فقال: إن في الناس من هو أعظم مرزأة منك، وإنّ الإسلام قد غطّى ما كان قبله، وإنه لا يحلّ لك لطم وجهك ولا كشف رأسك، فكفّت عن ذلك وقالت: [الوافر]
هريقي من دموعك واستفيقي ... وصبرا إن أطقت ولن تطيقي (2)
وقولي إنّ خير بني سليم ... وأكرمهم بصحراء العقيق
ألا هل ترجعنّ لنا الليالي ... وأيام لنا بلوى الشّقيق
وإذ فينا معاوية بن عمرو ... على أدماء كالجمل الفنيق
فنبكيه فقد أودى حميدا ... أمين الرأي محمود الصّديق
فلا والله لا تسلوك نفسي ... لفاحشة أتيت ولا عقوق
ولكنّي رأيت الصبر خيرا ... من النّعلين والرأس الحليق
وأما أبو العباس المبردّ فقال: وقالت الخنساء ترثي أخاها معاوية بن عمرو، وكان أخاها لأبيها وأمها، [وكان صخر أخاها لأبيها] وكان أحبّهما إليها.
__________
(1) يروى البيت الثاني:
وكائن ترى من حال دنيا تغيّرت ... وحال صفا بعد اكدرار غديرها
وهو لابن المطير الأسدي في لسان العرب (كدر)، وتاج العروس (كدر).
(2) الأبيات في ديوان الخنساء ص 173.(3/170)
واستحق ذلك الأمور: منها أنه كان موصوفا بالحلم مشهورا بالجود، معروفا بالتقدم والشجاعة، محظوظا في العشيرة، ثم أنشد الأبيات المتقدّمة.
وكان صخر أجمل رجل في العرب، وكان سبب قتله أنه جمع جمعا، أغار على بني أسد بن خزيمة، فنذروا به والتقوا، واقتتلوا قتالا شديدا، فارفضّ أصحاب صخر عنه، فطعنه ربيعة بن ثور الأسديّ، فأدخل جوفه حلقا من الدّرع، فاستقلّ منها وسار إلى أهله فاندمل عليه الجرح، ونتأ منه مثل اليد، فأضناه ذلك حولا، فسمع سائلا يقول لامرأته: كيف صخر اليوم؟ فقالت: لا حيّ فيرجى، ولا ميت فينعى، ولقد لقينا منه الأمرّين وامرأته بديلة الأسدية وكان سباها من بني أسد، واتخذها لنفسه فلما سمع قولها علم أنها برمت منه، ورأى تحزّن أمه عليه، فقال: [الطويل]
أرى أمّ صخر لا تجفّ دموعها ... وملّت سليمى مضجعي ومكاني (1)
وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك، ومن يغترّ بالحدثان
أهّم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنّزوان
لعمري قد نبّهت من كان نائما ... وأسمعت من كانت له أذنان
فأي امرئ ساوى بأمّ حليلة ... فلا عاش إلا في شقى وهوان
ثم عزم على قطع ذلك الموضع، فلما قطعه يئس من نفسه، فقال: [الطويل]
أجارتنا إنّ الخطوب قريب ... على الناس، كلّ المخطئين تصيب
أجارتنا إنّا غريبان هاهنا ... وكلّ غريب للغريب نسيب
فلما مات دفن في أرض بني سليم بقرب عسيب.
وحضرت الخنساء القادسية مع بنيها وهم أربعة رجال، فقالت لهم من أوّل الليل:
يا بني إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما أنّكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجّنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم، وقد تعملون ما أعدّ الله تعالى للمؤمنين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أنّ الدار الآخرة خير من الدار الفانية، يقول الله عز وجل: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصََابِرُوا وَرََابِطُوا وَاتَّقُوا اللََّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:
200]، فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا لقتال عدوّكم مستبصرين، وبالله على
__________
(1) البيت الثاني لصخر بن عمرو في الأغاني 15/ 76، وبلا نسبة في لسان العرب (جنز)، وتهذيب اللغة 10/ 622، وكتاب العين 6/ 70، ومقاييس اللغة 1/ 485، والبيت الثالث لصخر أيضا في الأصمعيات ص 146، وخزانة الأدب 1/ 438، والشعر والشعراء 1/ 352، ولسان العرب (نزا)، وبلا نسبة في مغني اللبيب 2/ 516، والمنصف 3/ 60، والبيت الرابع بلا نسبة في كتاب العين 4/ 60.(3/171)
أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمّرت عن ساقها، وجلّلت نارا على أوراقها، فتيمموا وطيسها وجالدوا رسيسها، تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة، فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم فتقدموا واحدا بعد واحد ينشدون أراجيز يذكرون فيها وصية العجوز لهم، حتى قتلوا عن آخرهم، فبلغها الخبر، فقالت: الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة.
وكان عمر بن الخطاب يعطيها أرزاق بنيها الأربعة، وكان لكلّ منهم مائتا درهم، حتى قبض رضي الله تعالى عنه.
وقوله: قعيدة رحلي، أي امرأة بيتي، وناقة طروقة: بلغت أن يطرقها الفحل. وأنفت. استنكفت وكرهت.
* * * قال: فتذمرّت المرأة وتنمّرت، عن ساعدها وشمّرت، وقالت له: يا ألأم من مادر، وأشام من قاشر، وأجبن من صافر، وأطيش من طامر أترميني بشنارك، وتفري عرضي بشفارك، وأنت تعلم أنّك أحقر من قلامة، وأعيب من بغلة أبي دلامة، وأفضح من حبقة، في حلقة، وأحير من بقّة في حقّة.
وهبك الحسن في وعظه ولفظه، والشعبيّ في علمه وحفظه، والخليل في عروضه ونحوه، وجريرا في غزله وهجوه، وقسّا في فصاحته وخطابته، وعبد الحميد في بلاغته وكتابته، وأبا عمرو في قراءته وإعرابه، وابن قريب في روايته عن أعرابه أتظّنني أرضاك إماما لمحرابي، وحساما لقرابي، لا والله ولا بوّابا لبابي، ولا عصا لجرابي.
* * * تذمرت: غضبت، وتذمّر الرجل، إذا رأى ما يكرهه فغضب وتهدد، والذّمر: اللوم والحضّ، وذمر قائد الجيش أصحابه يذمرهم، إذا لامهم وأسمعهم ما يكرهون ليجدّوا في القتال، تنمّرت: تغيّرت وتشبهّت بالنمر، ولا يوجد النّمر إلا مستنكرا غضبان، ونمر الرجل وتنمر: تنكّر وتغيّر. حسرت عن ساعدها: شمّرت عن ذراعها. أطيش: أخفّ والطيش: خفّة العقل.
والطامر: البرغوت، يقال له طامر بن طامر، قال الأصمعيّ: كنت بالبادية فرأيت أعرابيا قد بسط كساءه ليفلّيه في الشمس، فوقفت أنظر إليه، فجعل يأخذ البراغيث، ويدع القمل، فقلت له: لم تأخذ بعضا وتدع بعضا؟ فقال: أبدأ بالفرسان ثم أعكّر على الرجّالة.(3/172)
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يسبّ برغوثا، فقال: «لا تسبه فإنّه نبّه نبيّا من الأنبياء لصلاة الفجر».
أبو الدرداء رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا آذاك البراغيث، فخذ قدحا من الماء، واقرأ عليه سبع مرات، {وَمََا لَنََا أَلََّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللََّهِ وَقَدْ هَدََانََا سُبُلَنََا} [إبراهيم:
12] إلى قوله: {الْمُتَوَكِّلُونَ}، فكفّوا شركّم وأذاكم عنّا، ثم ترشّ الماء حول فراشك، فإنك تبيت الليلة آمنا من شرّها».
شنارك: عيبك وعارك: تفري: تقطع، وفرى، يستعمل في القطع على جهة الإصلاح، وقد جاء هنا في الإفساد، ومنه قوله الشاعر: [الطويل]
فرى نائبات الدهر بيني وبينها ... وصرف الليالي مثل ما فري الجلد
ابن سيده: فرى الشيء يفريه فريا وفرّاه تفريةّ، كلاهما شقه وأفسده وأفراه أصلحه، والمتقنون من أهل اللغة، يقولون: فرى: شق الإفساد وأفرى للإصلاح وقيل: أفراه أفسده، وفراه: قطعه للإصلاح قال الأصمعيّ رحمه الله أفرى الجلد مزقه وأفسده، يفريه إفراء، وفرى المزادة يفريها فريا: خرزها، القلامة: ما يقص من الظّفر، وبها يتعلق وسخه، فهي مع حقارتها مستقذرة.
[أبو دلامة]
وأما أبو دلامة، فاسمه زند بالنون ابن الجون، وهو كوفي أسود، مولى لبني أسد، أدرك آخر أيام بني أميّة، ونبغ في أيام بني العباس، ومدح السّفاح والمنصور والمهدي، وكان صاحب نوارد وملح، وكان خليعا فاسد الدين، رديء المذهب، وقد تقدّم له شيء من ذلك في الصّلاة والحجّ، ونذكر له هاهنا شيئا في الصيام، ونضيف له فنونا من سائر ملحه.
وأما بغلته فكانت جامعة لعيوب الدوابّ كلها، وكانت أشوه الدّوابّ خلقة في منظر العين وأسوأها خلقا في مخبرها، فكان إذا ركبها تبعه الصبيان يتضاحكون به، وكان يقصد ركوبها في مواكب الخلفاء والكبراء، ليضحكهم بشماسها حتى نظم فيها قصيدته المشهورة وهي: [الوافر]
أبعد الخيل أركبها كراما ... وبعد الفره من من حضر البغال
رزقت بغيلة فيها وكال ... وليته لم يكن غير الوكال
رأيت عيوبها كثرت وغالت ... وإن أكثرت ثمّ من المقال
ليحصي منطقي وكلام غيري ... عشير خصالها، شرّ الخصال
فأهون عيبها أنّي إذا ما ... نزلت وقلت: أمشي لا تبالي
تقوم فما تبتّ هناك شبرا ... وترمحني وتأخذ في قتالي
وحين ركبتها آذيت نفسي ... بضرب باليمين وبالشّمال
وبالرّجلين أركضها جمعا ... فيالك في الشقاء وفي الكلال
أتاني خائب يستام منيّ ... عريق في الخسارة والضّلال
وقال تبيعها؟ قلت ارتبطها ... بحكمك إنّ بيعي غير غال
فأقبل ضاحكا نحوي سرورا ... وقال أراك سهلا ذا جمال
هلمّ إليّ يخلو بي خداعا ... وما يدري الشّقيّ بمن يخالي
فقلت بأربعين فقال أحسن ... إليّ فإن مثلك ذو سجال
فأترك خمسة منها لعلمي ... بما فيه يصير من الخبال
فلمّا ابتاعها مني وبتّت ... له في البيع غير المستقال
أخذت بثوبه وبرئت ممّا ... أعدّ عليه من سوء الخلال
برئت إليك من مشش قديم ... ومن جرد ومن بلل المخالي
ومن فتق بها في البطن ضخم ... ومن عقالها ومن انفتال
ومن قطع اللسان ومن بياض ... بعينيها ومن قرض الحبال
ومن عضّ الغلام ومن خراط ... إذا ما همّ صحبك بارتحال
وأقطى من فريخ الذّر مشيا ... بها عرن وداء من سلال
وتكسر سراجها أبدا شماسا ... وتقمص للإكاف على اغتيال
ويدبر ظهرها من مسّ كف ... وتهزم في الجمام وفي الجلال
تظلّ لركية منها وقيذا ... يخاف عليك من ورم الطّحال
ومثفار تقدّم كلّ سرج ... تصيّر دفيه على القذال
وتحفى لو تسير على الحشايا ... ولو تمشي على دمث الرّمال
إذا استعجلتها عثرت وبالت ... وقامت ساعة عند المبال
وتضرط أربعين إذا وقفنا ... على أهل المجالس للسّؤال
فتقطع منطقي وتحول بيني ... وبين حديثهم فيما توالي
وتذعر للدّجاجة إذ تراها ... وتنفر للصّفير، وللخيال
فأمّا الاعتلاف فأذن منها ... من الأتبان أمثال الجبال
وأما القتّ فأت بألف وقر ... بأعظم حمل أحمال الجمال
فلست بعالف منها ثلاثا ... وعندك منه عود للخلال
وإن عطشت فأوردها دجيلا ... وإذا أوردت أو نهري بلال
فذاك لريّها سقيت حميما ... وإن مدّ الفرات فللنّهال
وكانت قارحا أيّام كسرى ... وتذكر تبّعا عند الفعال
وقد دبرت ونعمان صبيّ ... وقبل فصاله تلك الليالي
وتذكر إذ نشا بهرام جور ... وعامله على خرج الجوالي
وقد مرّت بقرن بعد قرن ... وآخر عهدها لهلاك مالي
فأبدلني بها يا ربّ طرفا ... يزين جمال مشيته جمالي
وأنشدها المهدي: فقال: لقد أقلت من بلاء عظيم، فقال: والله يا أمير المؤمنين لقد مكثت شهرا أتوقع صاحبها أن يردّها، فقال المهديّ لصاحب دوابه: خيّره بين مركبين في الإصطبل، فقال: إن كان الاختيار إليّ فقد وقعت في شرّ من البغلة، ولكن مره يختر لي، ففعل.(3/173)
أبعد الخيل أركبها كراما ... وبعد الفره من من حضر البغال
رزقت بغيلة فيها وكال ... وليته لم يكن غير الوكال
رأيت عيوبها كثرت وغالت ... وإن أكثرت ثمّ من المقال
ليحصي منطقي وكلام غيري ... عشير خصالها، شرّ الخصال
فأهون عيبها أنّي إذا ما ... نزلت وقلت: أمشي لا تبالي
تقوم فما تبتّ هناك شبرا ... وترمحني وتأخذ في قتالي
وحين ركبتها آذيت نفسي ... بضرب باليمين وبالشّمال
وبالرّجلين أركضها جمعا ... فيالك في الشقاء وفي الكلال
أتاني خائب يستام منيّ ... عريق في الخسارة والضّلال
وقال تبيعها؟ قلت ارتبطها ... بحكمك إنّ بيعي غير غال
فأقبل ضاحكا نحوي سرورا ... وقال أراك سهلا ذا جمال
هلمّ إليّ يخلو بي خداعا ... وما يدري الشّقيّ بمن يخالي
فقلت بأربعين فقال أحسن ... إليّ فإن مثلك ذو سجال
فأترك خمسة منها لعلمي ... بما فيه يصير من الخبال
فلمّا ابتاعها مني وبتّت ... له في البيع غير المستقال
أخذت بثوبه وبرئت ممّا ... أعدّ عليه من سوء الخلال
برئت إليك من مشش قديم ... ومن جرد ومن بلل المخالي
ومن فتق بها في البطن ضخم ... ومن عقالها ومن انفتال
ومن قطع اللسان ومن بياض ... بعينيها ومن قرض الحبال
ومن عضّ الغلام ومن خراط ... إذا ما همّ صحبك بارتحال
وأقطى من فريخ الذّر مشيا ... بها عرن وداء من سلال
وتكسر سراجها أبدا شماسا ... وتقمص للإكاف على اغتيال
ويدبر ظهرها من مسّ كف ... وتهزم في الجمام وفي الجلال
تظلّ لركية منها وقيذا ... يخاف عليك من ورم الطّحال
ومثفار تقدّم كلّ سرج ... تصيّر دفيه على القذال
وتحفى لو تسير على الحشايا ... ولو تمشي على دمث الرّمال
إذا استعجلتها عثرت وبالت ... وقامت ساعة عند المبال
وتضرط أربعين إذا وقفنا ... على أهل المجالس للسّؤال
فتقطع منطقي وتحول بيني ... وبين حديثهم فيما توالي
وتذعر للدّجاجة إذ تراها ... وتنفر للصّفير، وللخيال
فأمّا الاعتلاف فأذن منها ... من الأتبان أمثال الجبال
وأما القتّ فأت بألف وقر ... بأعظم حمل أحمال الجمال
فلست بعالف منها ثلاثا ... وعندك منه عود للخلال
وإن عطشت فأوردها دجيلا ... وإذا أوردت أو نهري بلال
فذاك لريّها سقيت حميما ... وإن مدّ الفرات فللنّهال
وكانت قارحا أيّام كسرى ... وتذكر تبّعا عند الفعال
وقد دبرت ونعمان صبيّ ... وقبل فصاله تلك الليالي
وتذكر إذ نشا بهرام جور ... وعامله على خرج الجوالي
وقد مرّت بقرن بعد قرن ... وآخر عهدها لهلاك مالي
فأبدلني بها يا ربّ طرفا ... يزين جمال مشيته جمالي
وأنشدها المهدي: فقال: لقد أقلت من بلاء عظيم، فقال: والله يا أمير المؤمنين لقد مكثت شهرا أتوقع صاحبها أن يردّها، فقال المهديّ لصاحب دوابه: خيّره بين مركبين في الإصطبل، فقال: إن كان الاختيار إليّ فقد وقعت في شرّ من البغلة، ولكن مره يختر لي، ففعل.(3/174)
أبعد الخيل أركبها كراما ... وبعد الفره من من حضر البغال
رزقت بغيلة فيها وكال ... وليته لم يكن غير الوكال
رأيت عيوبها كثرت وغالت ... وإن أكثرت ثمّ من المقال
ليحصي منطقي وكلام غيري ... عشير خصالها، شرّ الخصال
فأهون عيبها أنّي إذا ما ... نزلت وقلت: أمشي لا تبالي
تقوم فما تبتّ هناك شبرا ... وترمحني وتأخذ في قتالي
وحين ركبتها آذيت نفسي ... بضرب باليمين وبالشّمال
وبالرّجلين أركضها جمعا ... فيالك في الشقاء وفي الكلال
أتاني خائب يستام منيّ ... عريق في الخسارة والضّلال
وقال تبيعها؟ قلت ارتبطها ... بحكمك إنّ بيعي غير غال
فأقبل ضاحكا نحوي سرورا ... وقال أراك سهلا ذا جمال
هلمّ إليّ يخلو بي خداعا ... وما يدري الشّقيّ بمن يخالي
فقلت بأربعين فقال أحسن ... إليّ فإن مثلك ذو سجال
فأترك خمسة منها لعلمي ... بما فيه يصير من الخبال
فلمّا ابتاعها مني وبتّت ... له في البيع غير المستقال
أخذت بثوبه وبرئت ممّا ... أعدّ عليه من سوء الخلال
برئت إليك من مشش قديم ... ومن جرد ومن بلل المخالي
ومن فتق بها في البطن ضخم ... ومن عقالها ومن انفتال
ومن قطع اللسان ومن بياض ... بعينيها ومن قرض الحبال
ومن عضّ الغلام ومن خراط ... إذا ما همّ صحبك بارتحال
وأقطى من فريخ الذّر مشيا ... بها عرن وداء من سلال
وتكسر سراجها أبدا شماسا ... وتقمص للإكاف على اغتيال
ويدبر ظهرها من مسّ كف ... وتهزم في الجمام وفي الجلال
تظلّ لركية منها وقيذا ... يخاف عليك من ورم الطّحال
ومثفار تقدّم كلّ سرج ... تصيّر دفيه على القذال
وتحفى لو تسير على الحشايا ... ولو تمشي على دمث الرّمال
إذا استعجلتها عثرت وبالت ... وقامت ساعة عند المبال
وتضرط أربعين إذا وقفنا ... على أهل المجالس للسّؤال
فتقطع منطقي وتحول بيني ... وبين حديثهم فيما توالي
وتذعر للدّجاجة إذ تراها ... وتنفر للصّفير، وللخيال
فأمّا الاعتلاف فأذن منها ... من الأتبان أمثال الجبال
وأما القتّ فأت بألف وقر ... بأعظم حمل أحمال الجمال
فلست بعالف منها ثلاثا ... وعندك منه عود للخلال
وإن عطشت فأوردها دجيلا ... وإذا أوردت أو نهري بلال
فذاك لريّها سقيت حميما ... وإن مدّ الفرات فللنّهال
وكانت قارحا أيّام كسرى ... وتذكر تبّعا عند الفعال
وقد دبرت ونعمان صبيّ ... وقبل فصاله تلك الليالي
وتذكر إذ نشا بهرام جور ... وعامله على خرج الجوالي
وقد مرّت بقرن بعد قرن ... وآخر عهدها لهلاك مالي
فأبدلني بها يا ربّ طرفا ... يزين جمال مشيته جمالي
وأنشدها المهدي: فقال: لقد أقلت من بلاء عظيم، فقال: والله يا أمير المؤمنين لقد مكثت شهرا أتوقع صاحبها أن يردّها، فقال المهديّ لصاحب دوابه: خيّره بين مركبين في الإصطبل، فقال: إن كان الاختيار إليّ فقد وقعت في شرّ من البغلة، ولكن مره يختر لي، ففعل.
وفي القصيدة ألفاظ من الغريب أبينها، فمنها يقال: واكلت الدابة وكالا: أساءت السير. ورمحت ترمح: ضربت برجليها والمشش: داء في قوائمها. والجرد استرخاء العصب، والعقّال: أن تنقبض القوائم ولا تنبعث، والخراط: الجماح، والعرن: حكة وشقاق في القوائم، وقد عرن عرنا، وقمص يقمص ويقمص قمصا وقماصا: رفع يديه معا وطرحهما معا، وعجن بيديه، وقطا بقطو: قارب الخطو.
وكان لأبي دلامة برذون أعجف محطم هرم، فدخل على المهدي يوما وبين يديه سلمة الوصيف، فقال: يا أمير المؤمنين، إني جلبت لبابك مهرا ليس لأحد مثله، وأحببت أن أهديه لك، فإن أحببت أن تشرّفني بقبوله! فأمر بإدخاله، فخرج وأدخل برذونه، فقال له المهدي: أيّ شيء هذا ويلك! ألم تزعم أنه مهر، فقال له أبو دلامة: أو ليس هذا سلمة الوصيف قائم بين يديك تسميه الوصيف وله ثمانون سنة! فإن كان سلمة وصيفا فهذا مهر، فجعل المهديّ يضحك وسلمة يشتمه، فقال له المهديّ: ويلك! إن لهذه أخوات، والله ليضحكنّ بك في المحافل، فقال: والله يا أمير المؤمنين لأفضحنه، فليس في مواليك أحد إلا وقد وصلني غيره، فما شربت الماء له قطّ فحكم عليه المهديّ أن يشتري نفسه بثلاثة آلاف درهم، فقال له سلمة، على ألا تعاود، فقال أبو دلامة:
أفعل، فحملها إليه.
ومما ينتظم بهذا النّمط أن محمد بن عبيد الله بن خاقان حمل أبا العيناء على فرس، فكتب إلى أبيه: أعلم الأمير أعزه الله أن أبا محمد أراد أن يبرّني فعقّني، وأن يركبني فأرجلني، وأمر لي بدابة تقف للنّبرة، وتعثر بالبعرة، كالقضيب اليابس عجفاء، وكالمهجور البائس دنفاء، قد أذكر الرواة عروة العذريّ والمجنون العامريّ، مباعدا أعلاه لأسفله، حباقه مقرون بسعاله، فلو أمسك لترجيّت، ولو أفرد لتعزيت، ولكنه يجمعها في الطريق المعمور، والمجلس المشهور، كأنه خطيب مرشد، أو شاعر منشد، يضحك من فعله النّسوان، ويتناعى من أجله الصبيان، فمن صائح يصيح: داوه بالطباشير، ومن قائل
يقول: نقّ له الشعير، قد حفظ الأخبار وروى الأشعار، ولحق العلماء في الأمصار، فلو أعين بنطق لروى بحق وصدق، عن جابر الجعفيّ وعامر الشعبي، ولم أوت من أمر الأمير أعزه الله وإنما أتيت من كاتبه الأعور الذي إذا اختار لنفسه أصاب وأكثر، وإذا اختار لغيره أخبث وأنزر، فإن رأى الأمير أن يبدلني ويريحني بمركوب يضحكني كما أضحك منّي، يمحو بحسنه وفراهته، ما سّطره العيب بقبحه ودناءته، ولست أذكر سرجه ولجامه، لأن الأمير أكرم من أن يسلب ما يهديه، وينقص ما يمضيه. فوجّه إليه ببرذون بسرجه ولجامه، ثم اجتمع بابنه محمد عنده، فقال له عبيد الله: شكوت دابة محمد، وقد أخبرني أنه يشتريه الآن منك بمائة دينار، وهذا ثمنه لا يؤخّر عنك، فقال: أعز الله الوزير! لو لم أكذب مستزيدا، لم أذهب مستفيدا، وإني وإياه لكما قالت امرأة العزيز:(3/175)
ومما ينتظم بهذا النّمط أن محمد بن عبيد الله بن خاقان حمل أبا العيناء على فرس، فكتب إلى أبيه: أعلم الأمير أعزه الله أن أبا محمد أراد أن يبرّني فعقّني، وأن يركبني فأرجلني، وأمر لي بدابة تقف للنّبرة، وتعثر بالبعرة، كالقضيب اليابس عجفاء، وكالمهجور البائس دنفاء، قد أذكر الرواة عروة العذريّ والمجنون العامريّ، مباعدا أعلاه لأسفله، حباقه مقرون بسعاله، فلو أمسك لترجيّت، ولو أفرد لتعزيت، ولكنه يجمعها في الطريق المعمور، والمجلس المشهور، كأنه خطيب مرشد، أو شاعر منشد، يضحك من فعله النّسوان، ويتناعى من أجله الصبيان، فمن صائح يصيح: داوه بالطباشير، ومن قائل
يقول: نقّ له الشعير، قد حفظ الأخبار وروى الأشعار، ولحق العلماء في الأمصار، فلو أعين بنطق لروى بحق وصدق، عن جابر الجعفيّ وعامر الشعبي، ولم أوت من أمر الأمير أعزه الله وإنما أتيت من كاتبه الأعور الذي إذا اختار لنفسه أصاب وأكثر، وإذا اختار لغيره أخبث وأنزر، فإن رأى الأمير أن يبدلني ويريحني بمركوب يضحكني كما أضحك منّي، يمحو بحسنه وفراهته، ما سّطره العيب بقبحه ودناءته، ولست أذكر سرجه ولجامه، لأن الأمير أكرم من أن يسلب ما يهديه، وينقص ما يمضيه. فوجّه إليه ببرذون بسرجه ولجامه، ثم اجتمع بابنه محمد عنده، فقال له عبيد الله: شكوت دابة محمد، وقد أخبرني أنه يشتريه الآن منك بمائة دينار، وهذا ثمنه لا يؤخّر عنك، فقال: أعز الله الوزير! لو لم أكذب مستزيدا، لم أذهب مستفيدا، وإني وإياه لكما قالت امرأة العزيز:
{أَنَا رََاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصََّادِقِينَ} [يوسف: 51].
وقال ابن رشيق في بغل: [الرجز]
أوصيك بالبغل شرّا ... فإنه ابن الحمار
لا يصلح البغل إلا ... للكدّ والأسفار
كالعبد إن لم تهنه ... جنى على الأحرار
ما اعتاض بغلا بطرف ... إلّا أخو إدبار
وله أيضا فيه: [الطويل]
فأوصيكمو بالبغل شرّا فإنّه ... من العير في سوء الطّباع قريب
وكيف يجيء البغل يوما بحاجة ... تسرّ وفيه للحمار نصيب!
وله من قصيدة: [الكامل]
أو بغلة سفواء تعرض للفتى ... فتخال تحت السّرج أمّ غزال
سألت إلى الأم النجابة من أب ... وزهت على الأعمام والأخوال
وكأنها قد أفرغت في قالب ... لا أنها خلقت على تمثال
وله من قصيدة أيضا: [المتقارب]
كأنّي بعض نجوم السّماء ... تصعّد في الجوّ ثم انحدر
على رسلة من هبات الملو ... ك سفواء ملمومة كالحجر
تعاون في جدل أعضائها ... بنو أخدر وبنات الأغر
ولمحمد بن يسير الخارجيّ في بغلة: [الكامل]
نزعت عن الخيل العتاق نجاءها ... منها وعتق سوالف ولبان
ولها من الأعيار عند مسيرها ... قحة وطول صبارة ومران
رجعنا إلى أخبار أبي دلامة.(3/176)
نزعت عن الخيل العتاق نجاءها ... منها وعتق سوالف ولبان
ولها من الأعيار عند مسيرها ... قحة وطول صبارة ومران
رجعنا إلى أخبار أبي دلامة.
يحكى أنّ المهديّ أو المنصور أنشده ما أعجبه، فكساه طيلسانا وأمر له بمال، وعاهده ألّا يشرب الخمر، فحلف له وخرج إلى بني داود بن عليّ فضحكوا به. وقصّ عليهم خبره فسقوه حتى أسكروه وأخرجوه، فأعلم المهديّ الخبر، فأرسل فيه، وأمر الرّسول بسجنه وتخريق ساجه، وألّا يمكن من قرطاس ولا مداد، ففعل به الرسول ذلك، فانتبه في جوف الليل فنادى جاريته فقال له السجان: طعنة في كبدك فقال له: ويلك! من أنت، وأين أنا؟ فقال له: سل نفسك أين كنت عشاء أمس؟ فاستحلفه من أنت؟ فقال: أنا السّجان، بعث بك أمير المؤمنين وأنت سكران، فأمرني أن أحبسك مع الدجاج، فقال:
أحبّ أن تسرج لي سراجا، وتأتيني بداوة وقرطاس، ولك عندي صلة، فقال له أما السّراج فنعم، وأما القرطاس والدواة، فقد أمرت ألّا أمكّنك منهما. فلما أتاه بالسّراج وجد ساجه مخرّقا ملّطخا بإزبال الدجاج، ورأى نفسه جالسا بينها، فقال له: ادع لي ابني دلامة، فدعاه، فأمره أن يجيد حلاقة رأسه، وأن يأتيه بفحمة، ففعل، فكتب على رأس ابنه: [الوافر]
أمن صهباء صافية المزاج ... كأنّ شعاعها لهب السّراج
تهشّ لها القلوب وتشتهيها ... إذا برزت ترقرق في الزّجاج
أقاد إلى السجون بغير جرم ... كأني بعض عمّال الخراج
ولو معهم حبست لكان خير ... ولكنّي حبست مع الدّجاج
أمير المؤمنين فدتك نفسي ... ففيم حبستني وخرقت ساجي
على أني وإن لاقيت شرّا ... لخيرك بعد ذاك الشرّ راجي
ثم قال: يا أمير المؤمنين، هذه أمانة، فإذا قرأتها فمزّق الرقعة. ثم أمر دلامة أن يدخل على أمير المؤمنين ويقرئه ما في رأسه، فأتى الباب وصاح: دعوة المظلوم، فعلم أمير المؤمنين بمكانه فأمر بإدخاله، فكشف رأسه، وقال: إن ظلامتي مكتوبة في رأسي، فأدني منه حتى قرأها فاشتدّ ضحكه، وعجب من حيلته وأمر بإخراجه، وقال: ما كان أحوج هذه الرقعة أن تمزّق، ثم وصله بصلة، ونهاه أن يوجد سكران.
وخرج المهديّ يتصيّد ومعه عليّ بن سليمان، فسنح له قطيع من الظّباء، فأرسلت الكلاب وأجريت الخيل، فرمى المهديّ سهما فصرع ظبيا، ورمى عليّ بن سليمان سهما فصرع كلبا، فقال أبو دلامة: [الرمل]
قد رمى المهديّ ظبيا ... شقّ بالسّهم فؤاده
وعليّ بن سليما ... ن رمى كلبا فصاده
فهنيئا لهما كلّ امر ... ىء يأكل زاده
فضحك المهديّ حتى كاد يسقط.(3/177)
قد رمى المهديّ ظبيا ... شقّ بالسّهم فؤاده
وعليّ بن سليما ... ن رمى كلبا فصاده
فهنيئا لهما كلّ امر ... ىء يأكل زاده
فضحك المهديّ حتى كاد يسقط.
ومن ملحه، أنه دخل على المهديّ، وعنده وجوه بني هاشم، فقال: أنا أعطى الله عهدا لئن لم تهج واحدا ممّن في البيت لأقطعنّ لسانك، فنظر إلى القوم، فكلمّا نظر إلى واحد غمزه بأن عليه رضاه، قال: فعلمت أني وقعت، وأنها عزمة من عزماته لا بدّ منها، فلم أر أدعى إلى السّلامة من هجاء نفسي، فقلت: [الوافر]
ألا أبلغ لديك أبا دلامه ... فليس من الكرام ولا كرامه
إذا لبس العمامة كان قردا ... وخنزيرا يكون بلا عمامه
جمعت دمامة وجمعت لؤما ... كذاك اللؤم تتبعه الدّمامه
فإن تك قد أصبت نعيم دنيا ... فلا تفرح فقد دنت القيامه
فضحكوا، ولم يبق أحد إلّا أجازه.
وخرجت له صبيّة فأخذها على كتفه، فبالت عليه فرمى بها، وقال: [الوافر]
بللت عليّ لا حيّيت ثوبي ... فبال عليك شيطان رجيم
فما ولدتك مريم أمّ عيسى ... ولا ربّاك لقمان الحكيم
ولكن قد تضمّك أم سوء ... إلى لبّاتها وأب لئيم
ولمّا خرجت الخيزران إلى الحج تلقّاها، فصاح: الله الله في أمري! فسألته عن أمره فقال: إني شيخ كبير، وأجرك فيّ عظيم، تهبين لي جارية تؤنسني وترفق بي، وتريحني من عجوز عندي، قد أكلت رفدي، وأطالت كدّي، وقد عزف جلدها جلدي، وتمنّيت بعدها، وتشوقت فقدها، فوعدته بها، فلمّا جاءت من الحجّ دخل على أم عبيدة حاضنة موسى وهارون، فدفع إليها رقعة، فدفعتها إلى الخيزران وفيها: [مجزوء الرمل]
أبلغي سيّدتي إن ... شئت يا أمّ عبيده
أنّها أرشدها الله ... وإن كانت رشيده
وعدتني قبل أن تخر ... ج للحجّ وليده
إنّني شيخ كبير ... ليس في بيتي قعيده
غير عجفاء عجوز ... ساقها مقل القديده
وجهها أقبح من حو ... ت طريّ في عصيده
ما حياتي مع أنثى ... مثل عرسي بحميده
فضحكت واستعادت «حوتا في عصيده» وهي تضحك، ثم قالت لجارية: خذي ما عندك في قصري وأمشي إليه. فلمّا بّلغها الرسول منزله لم يجده، فدفعها إلى امرأته، ودخل دلامة وأمّة تبكي، فسألها فأخبرته وقالت: إن أردت بري يوما من الدّهر، فاليوم.
قال لها: قولي ما شئت أفعله، قالت: تدخل إليها، وتعلمها أنّك مالكها، فتطؤها فتحرم عليه، وإلّا شغلته فجفاني وجفاك. ففعل، وجاء أبو دلامة فسألها عنها، فقالت: هي في ذلك البيت، فدخل ومدّ يده إليها، وذهب ليقبّلها، فرأت شيخا محطّما قبيح الوجه، فقالت: تنحّ وإلّا لطمتك لطمة دققت بها أنفك. فقال: وبهذا أوصتك سيدتك؟ فقالت:(3/178)
أبلغي سيّدتي إن ... شئت يا أمّ عبيده
أنّها أرشدها الله ... وإن كانت رشيده
وعدتني قبل أن تخر ... ج للحجّ وليده
إنّني شيخ كبير ... ليس في بيتي قعيده
غير عجفاء عجوز ... ساقها مقل القديده
وجهها أقبح من حو ... ت طريّ في عصيده
ما حياتي مع أنثى ... مثل عرسي بحميده
فضحكت واستعادت «حوتا في عصيده» وهي تضحك، ثم قالت لجارية: خذي ما عندك في قصري وأمشي إليه. فلمّا بّلغها الرسول منزله لم يجده، فدفعها إلى امرأته، ودخل دلامة وأمّة تبكي، فسألها فأخبرته وقالت: إن أردت بري يوما من الدّهر، فاليوم.
قال لها: قولي ما شئت أفعله، قالت: تدخل إليها، وتعلمها أنّك مالكها، فتطؤها فتحرم عليه، وإلّا شغلته فجفاني وجفاك. ففعل، وجاء أبو دلامة فسألها عنها، فقالت: هي في ذلك البيت، فدخل ومدّ يده إليها، وذهب ليقبّلها، فرأت شيخا محطّما قبيح الوجه، فقالت: تنحّ وإلّا لطمتك لطمة دققت بها أنفك. فقال: وبهذا أوصتك سيدتك؟ فقالت:
إنها بعثتني إلى فتى من صفته كذا وكذا، وقد نال حاجته مني آنفا. فعلم أنه دهاء من دلامة وأمه، فخرج ولطمه ولبّبه. وحلف ألّا يفارقه إلّا إلى المهديّ، فمضى على تلك الحالة حتى دخل إلى المهديّ، فقال له: ما بالك ويحك! فقال له: عمل بي هذا ابن الخبيثة ما لم يعمله أحد بأبيه، ولا يرضيني إلا أن تقتله، وأخبره الخبر. فضحك المهديّ حتى استلقى، وأبو دلامة يقول: يعجبك فعله، فتضحك منه! فقال: عليّ بالسيف والنّطع، فقال دلامة: اسمع حجتي يا أمير المؤمنين، كما سمعت حجّته، فقال: هات، فقال: هذا الشيخ أصفق الناس وجها، وهو ينيك أمي منذ أربعين سنة فما غضبت، ونكت جاريته مرة واحدة فغضب. فضحك المهديّ أشد من ضحكه الأوّل، فقال: دعها له [يا أبا دلامة]، وأنا أعطيك خيرا منها، فقال: على أن تخبأها بين السماء والأرض، وإلّا ناكها كما ناك هذه، وحلف لدلامة إن عاد ليقتلّنه.
وجاء دلامة لأبيه في محفل، وجلس بين يديه، وقال للجماعة: إنّ شيخي كما ترون قد كبر سنّة، ورقّ جلده ودقّ عظمه، وبنا إلى حياته حاجة، وأنا لا أزال أشير عليه بشيء يمسك رمقه، ويبقي قوّته فيخالفني. وأرغب إليكم أن تسألوه قضاء حاجة فيها صلاح جسمه، فقالوا: حبّا وكرامة، فأخذوا أبا دلامة بألسنتهم، فقال: قولوا له الخبيث فليقل ما يريد، فستعملون أنه لم يأت إلّا ببليّة. فقال: إنما يقتله كثرة النّيك، ولا يدفعه عنه إلا الخصاء، فتعاونوني عليه حتى أخصيه، فضحكوا منه كثيرا، وقالوا لأبيه: قد سمعت فما عندك؟ فقال: قد عرّفتكم أنّه لم يأت بخير، وقد جعلت أمه حكما بيني وبينه، فقوموا إليها، فدخلوا عليها وقصّوا القصّة عليها، فأقبلت على الجماعة وقالت: إن ابني أبقاه الله، قد نصح أباه وبرّه، وأنا إلى بقاء أبيه أحوج منه إليه إلّا أنّ هذا الأمر لم تقع فيه تجربة عندنا، ولا جرت به عادة، وهو قد ادّعى معرفة ذلك، فليبدأ بنفسه فليخصها، فإذا عوفي ورأينا ذلك قد أبقي عليه أثرا محمودا، استعمله أبوه على علم، فجعل القوم يضحكون ويعجبون من اتفّاقهم في الخبث.
وأمره المهديّ أن يلزم المسجد في رمضان، وقال له: إن تأخّرت فلشرب الخمر، ولئن علمت ذلك لأقتلنّك، فشق عليه ذلك، وتشفّع إليه بكل إنسان، فلم يشفعه، فأدخل إلى ريطه رقعة، وكان المهديّ لا يخالفها وفيها: [الوافر]
أبلغا ريطة أنّي ... كنت عبدا لأبيها
فمضى يرحمه الل ... هـ وأوصى بي إليها
جاء شهر الصوم يمشي ... مشية لا أشتهيها
قائدا القلة ليد ... ر كأنيّ أبتغيها
تنطح القبلة شهرا ... جبهتي لا تأتليها
فاطلبي لي فرجا من ... ها وأجري لك فيها
فضحكت، وقالت: يصبر حتى تمضي ليلة القدر، فقال: إذا مضت ليلة القدر فني الشهر. وكتب إليها: [الرمل](3/179)
أبلغا ريطة أنّي ... كنت عبدا لأبيها
فمضى يرحمه الل ... هـ وأوصى بي إليها
جاء شهر الصوم يمشي ... مشية لا أشتهيها
قائدا القلة ليد ... ر كأنيّ أبتغيها
تنطح القبلة شهرا ... جبهتي لا تأتليها
فاطلبي لي فرجا من ... ها وأجري لك فيها
فضحكت، وقالت: يصبر حتى تمضي ليلة القدر، فقال: إذا مضت ليلة القدر فني الشهر. وكتب إليها: [الرمل]
خافي إلهك في نفس قد احتضرت ... قامت قيامتها بين المصلّينا
ما ليلة القدر من همّي فأطلبها ... إني أخاف المنايا قبل عشرينا
لا بارك الله في خير أؤمّله ... في ليلة بعد ما قمنا ثلاثينا
يا ليلة القدر قد كسّرت أرجلنا ... يا ليلة القدر حقّا ما تمنينّا!
فلما قرأتها ضحكت، ودخلت إلى المهديّ فشفّعها فيه. وأخباره كثيرة.
* * * وعلى قوله: جاء شهر الصوم قال أبو القاسم الثعالبيّ: أنشدنيه الفقيه أبو الحسن بن زرقون: [الهزج]
أشهر الصّوم ما مثلك ... عند الله من شهر
على أنك حرّمت ... علينا لذّة السّكر
وقرع الكأس بالكأس ... ورشف الثّغر بالثّغر
وإنّي والّذي شرّ ... ف أوقاتك بالذّكر
وما أمسى يصلّي في ... ك من شفع ومن وتر
لمسرور بأن تفنى ... على أنّك من عمري
وقال ابن المعتز: [المتقارب]
تجلّى عشاء هلال الصّيام ... بنحس على الكأس والبربط
وكم من فتى راح بين القيا ... ن نشوان ذا فرح مفرط
وكان نشيطا فلمّا رآ ... هـ همّ بهمّ ولم ينشط
فأعرض عنه كما أعرضت ... فتاة عن الجانب الأشمط
وقال ابن رشيق: [الخفيف]
لاح لي حاجب الهلاك عشاء ... فتمنّيت أنّني من سحاب
قلت أهلا وليس أهلا لما قل ... ت ولكن أسمعتها أصحابي
مظهر حبّه وعندي بغض ... لعدوّ الكؤوس والأكواب
الحبقة: الضّرطة، والحلقة جماعة الناس، وربما تؤدّي فضيحتها أمام القوم إلى أن يموت صاحبها غمّا، وقد وجد ذلك.(3/180)
لاح لي حاجب الهلاك عشاء ... فتمنّيت أنّني من سحاب
قلت أهلا وليس أهلا لما قل ... ت ولكن أسمعتها أصحابي
مظهر حبّه وعندي بغض ... لعدوّ الكؤوس والأكواب
الحبقة: الضّرطة، والحلقة جماعة الناس، وربما تؤدّي فضيحتها أمام القوم إلى أن يموت صاحبها غمّا، وقد وجد ذلك.
* * * [طرائف متفرقة]
وحبق أعرابيّ في جماعة فاستحيا، فأشار نحو استه، وقال: إنها خلف نطقت خلفا.
وذكر الحريريّ أن مطيع بن إياس ويحيى بن زياد وحماد الراوية كانوا يشربون ذات يوم، ومعهم نديم لهم، فبرزت منه فلتة، فخجل وغاب عنهم أياما، فكتب إليه مطيع:
[البسيط]
أمن قلوص غدت لم يؤذها أحد ... إلّا تذكّرها بالرّمل أوطانا
خان العقال لها فانبتّ إذ نفرت ... وإنّما الذنب فيه للذي خانا
أظهرت منك لنا هجرا ومعتبة ... وغبت عنا ثلاثا لست تغشانا
هوّن عليك فما في الناس ذو إبل ... إلّا وأينقه يشردن أحيانا
دخل أبو الفضل بديع الزمان على الصّاحب بن عبّاد، ففرح به، وأجلسه معه على سريرة فحبق البديع حبقة منكرة، ثم أراد أن ينفي عن نفسه التّهمة، فقال: يا مولانا هذا صرير التخت، فقال له: بل صفير «التّحت»، فخرج البديع خجلا، وانقطع عن الوصول إليه فكتب إليه الصاحب: [البسيط]
قل للصفيري لا تذهب على خجل ... من ضرطة أشبهت نايا على عود
فإنّها الريح لا تسطيع تدفعها ... إذ لست أنت سليمان بن داود
تزوّج أعرابيّ امرأة، فلما دخل عليها عابثها، فضرطت، فخرجت غضبي إلى أهلها، وقالت: والله لا أرجع إليه أو يفعل ما فعلت، فقال لها: عودي لأفعل، فعادت، فعابثها فضرطت أخرى، فقال: [السريع]
طالبتني دينا قديما فلم ... أقضيك حتى زدت في قرضك
فلا تلوميني على مطله ... إن كان ذا دأبك لم أقضك
قيل لأعرابّي: ما تقول في الضرطة؟ فقال: لا بأس بها، وربما سببت الضرطة وأنا راكع في الصلاة.
قدم أبو علقمة الأزديّ على الفضل بن عبد الرحمن الهاشميّ بالبصرة، فقال:
الفضل لجلسائه: إذا جلسنا على المائدة وأبو علقمة معنا فليضرط أحدكم ثم الآخر ثم
الآخر، وليكن بين كلّ ضرطتين فرجة، فلما وضعت المائدة فعلوا ذلك، فأخذ أبو علقمة المائدة، وقام بها، فقيل له: إلى أين يا أبا علقمة؟ قال: إلى الكنيف، فمن أراد منكم أن يخرأ كان قريبا.(3/181)
الفضل لجلسائه: إذا جلسنا على المائدة وأبو علقمة معنا فليضرط أحدكم ثم الآخر ثم
الآخر، وليكن بين كلّ ضرطتين فرجة، فلما وضعت المائدة فعلوا ذلك، فأخذ أبو علقمة المائدة، وقام بها، فقيل له: إلى أين يا أبا علقمة؟ قال: إلى الكنيف، فمن أراد منكم أن يخرأ كان قريبا.
وجلس ثقيل إلى بشار، فضرط بشار ضرطة منكرة، فظن الرّجل أنها فلتة، فمشى في حديثه، فضرط بشار ثانية وثالثة، فقال له: ما هذا يا أبا معاذ؟ قال: رأيت أو سمعت؟
قال: قال: بل سمعت، كلّ ما سمعت ريح لا تصدق حتى ترى.
* * * قوله: حقّه، أي وعاء الطّيب، ويقال له: حقّ والجمع حقاق، وتبدل عامتنا من قافه كافا، والروائح العطرة مضرّة بهذه الهوام المنتنة، وقد قال المتنبي: [البسيط]
بذي الغباوة من إنشادها ضرر ... تضرّ كما تضرّ رياح الورد بالجعل (1)
قوله هبك، أي حسبك.
* * * [الحسن بن أبي الحسن البصري]
وأما الحسن فهو أبو سعيد بن أبي الحسن البصريّ، وهو من التابعين. ولد بالمدينة لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وأمّه اسمها خيرة، وكانت مولاة لأمّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت تعطيه ثديها إذا اشتغلت أمه، فدرّ ثديها له باللبن، فأظهر الله تعالى بركة ذلك اللبن عليه. وأبوه مولى لامرأة من الأنصار، وقيل إن أبويه كانا مملوكين لرجل من بني النّجّار، فتزوج امرأة في بني سلمة من الأنصار، فساقهما إليها من مهرها فأعتقتهما، وكان أحسن النّاس لفظا، وأبلغهم وعظا، وكان زاهدا عالما مقدّما في العلم والدين على نظرائه من التابعين.
وكان الحجّاج له معظّما ومتعجّبا من فصاحته، ولم ينفكّ من مجلس وعظ أو تدريس علم، إلى أن مات رحمه الله تعالى.
وقال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت قطّ أوعظ ولا أفصح من الحسن البصريّ.
وقال أبو أيوب السّختيانيّ: ما سمع أحد كلام الحسن البصريّ إلّا ثقل عليه كلام الرجال.
قال حميد: قال لي الشعبيّ ونحن بمكة: أحبّ أن اختلي بالحسن، فقلت: ذلك للحسن، فقال: إذا شاء، فجاء الشعبيّ، فقلت له: ادخل عليه، فإنه في البيت وحده،
__________
(1) البيت في ديوان المتنبي 3/ 40.(3/182)
فقال: أحبّ أن تدخل معي، فدخلنا فإذا الحسن قبالة القبلة يقول: يا بن آدم، لم تكن فكوّنت، وسألت فأعطيت، وسئلت فمنعت، فبئس ما صنعت! ثم يذهب فيرجع بعيد ذلك حتى أعادها مرارا، فقال لي الشعبيّ: يا هذا انصرف فإن الشيخ في غير ما نحن فيه.
ولما دخل على الحجّاج فقال له: ما تقول في عليّ وعثمان؟ قال: أقول فيهما ما قال من هو خير مني بين يدي من هو شرّ منك، قال: ومن ذلك؟ قال: موسى وفرعون حيث قال له فرعون: {فَمََا بََالُ الْقُرُونِ الْأُولى ََ قََالَ عِلْمُهََا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتََابٍ} [طه: 51].
الشعبي قال: قدمنا على الحجاج في البصرة في جماعة من قرّاء الشام والعراق في يوم صائف شديد الحرّ، وهو في آخر ثلاثة أبيات، فدخلنا الأوّل فإذا فيه الثلج والماء قد أرسل فيه، وفي الثاني أكثر وفي الثالث أكثر، والحجاج قاعد على سريره وعنبسة بن سعيد إلى جانبه فجلسنا على الكراسيّ، ودخل الحسن آخر من دخل، فقال الحجاج:
مرحبا بأبي سعيد! خلع قميصك، فجعل الحسن يعالج زرّ القميص فأبطأ به، فطأطأ له الحجاج رأسه تلّطفا به حتى حلّه، وجاءت جارية بدهن فوضعته على رأس الحسن وحده، فقال له الحجاج: يا أبا سعيد، ما لي أراك منهوك الجسم، لعلّ ذلك من قلة نفقة وسوء ولاية! ألا نأمر لك بنفقة توسّع بها على نفسك، وخادم لطيف! فقال: إني من الله تعالى لفي سعة ونعمة وإني منه لفي عافية، ولكن الكبر والحرّ، فأقبل الحجاج على عنبسة، وقال: لا والله، بل العلم بالله والزهد فيما نحن فيه، فلم يسمعها الحسن، وسمعتها أنا لقربي من عنبسة، وجعل الحجاج يسأله حتى ذكر عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فنال منه ونلنا منه مرضاة له، وفرقا من شرّه، والحسن عاضّ على إبهامه، فقال له: ما لي أراك ساكتا؟ فقال: وما عسى أن أقول: فقال: أخبرنا برأيك في أبي تراب، قال: إني سمعت الله عز وجل يقول: {وَمََا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهََا إِلََّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى ََ عَقِبَيْهِ وَإِنْ كََانَتْ لَكَبِيرَةً إِلََّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللََّهُ وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُضِيعَ إِيمََانَكُمْ إِنَّ اللََّهَ بِالنََّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143] فعليّ ممّن هدى الله، ومن أهل الإيمان وابن عمّ نبي الله صلى الله عليه وسلم وختنه على بنته، أحبّ الناس إليه، وصاحب سوابق مباركات سبقت له من الله عز وجل، لن تستطيع أنت ولا أحد من الناس يحظرها عليه، ولا يحول بينه وبينها. فتغيّر وجه الحجاج وقام مغضبا عن سريره، ودخل بيتا خلفه وخرجنا وأخذت بيد الحسن، فقلت: يا أبا سعيد، أغضبت الأمير، وأوغرت صدره، فقال: إليك عني يا عامر، ألست شيطانا من الشياطين إذ توافقه في رأيه! ألا صدقت إذ سئلت أو سكتّ فسلمت! فقلت: قلتها والله، وأنا أعلم بما فيها، قال الحسن: فذلك أعظم في الحجّة عليك، وأشدّ في التّبعة. ثم خرجت إلى الحسن التّحف والطّرفّ، وكانت له المنزلة والستخفّ بنا وجفانا، فكان أهلا لما أتى إليه، وكنّا أهلا لما أتى إلينا، فما رأيت مثل الحسن بين العلماء إلا مثل الفرس العربيّ فيما بين المقارف، وما شهدنا بط مشهدا إلّا برز علينا بفضله، وقال لله، وقلنا موافقة للولاة، وكان يقول: جدّدوا هذه الأنفس فإنها
سريعة الدثور، واقدعوها فإنها طامحة وإنكم إن لم تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية.(3/183)
مرحبا بأبي سعيد! خلع قميصك، فجعل الحسن يعالج زرّ القميص فأبطأ به، فطأطأ له الحجاج رأسه تلّطفا به حتى حلّه، وجاءت جارية بدهن فوضعته على رأس الحسن وحده، فقال له الحجاج: يا أبا سعيد، ما لي أراك منهوك الجسم، لعلّ ذلك من قلة نفقة وسوء ولاية! ألا نأمر لك بنفقة توسّع بها على نفسك، وخادم لطيف! فقال: إني من الله تعالى لفي سعة ونعمة وإني منه لفي عافية، ولكن الكبر والحرّ، فأقبل الحجاج على عنبسة، وقال: لا والله، بل العلم بالله والزهد فيما نحن فيه، فلم يسمعها الحسن، وسمعتها أنا لقربي من عنبسة، وجعل الحجاج يسأله حتى ذكر عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فنال منه ونلنا منه مرضاة له، وفرقا من شرّه، والحسن عاضّ على إبهامه، فقال له: ما لي أراك ساكتا؟ فقال: وما عسى أن أقول: فقال: أخبرنا برأيك في أبي تراب، قال: إني سمعت الله عز وجل يقول: {وَمََا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهََا إِلََّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى ََ عَقِبَيْهِ وَإِنْ كََانَتْ لَكَبِيرَةً إِلََّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللََّهُ وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُضِيعَ إِيمََانَكُمْ إِنَّ اللََّهَ بِالنََّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143] فعليّ ممّن هدى الله، ومن أهل الإيمان وابن عمّ نبي الله صلى الله عليه وسلم وختنه على بنته، أحبّ الناس إليه، وصاحب سوابق مباركات سبقت له من الله عز وجل، لن تستطيع أنت ولا أحد من الناس يحظرها عليه، ولا يحول بينه وبينها. فتغيّر وجه الحجاج وقام مغضبا عن سريره، ودخل بيتا خلفه وخرجنا وأخذت بيد الحسن، فقلت: يا أبا سعيد، أغضبت الأمير، وأوغرت صدره، فقال: إليك عني يا عامر، ألست شيطانا من الشياطين إذ توافقه في رأيه! ألا صدقت إذ سئلت أو سكتّ فسلمت! فقلت: قلتها والله، وأنا أعلم بما فيها، قال الحسن: فذلك أعظم في الحجّة عليك، وأشدّ في التّبعة. ثم خرجت إلى الحسن التّحف والطّرفّ، وكانت له المنزلة والستخفّ بنا وجفانا، فكان أهلا لما أتى إليه، وكنّا أهلا لما أتى إلينا، فما رأيت مثل الحسن بين العلماء إلا مثل الفرس العربيّ فيما بين المقارف، وما شهدنا بط مشهدا إلّا برز علينا بفضله، وقال لله، وقلنا موافقة للولاة، وكان يقول: جدّدوا هذه الأنفس فإنها
سريعة الدثور، واقدعوها فإنها طامحة وإنكم إن لم تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية.
وقال لمطرّف بن عبد الله بن الشّخير: عظ أصحابك، فقال له: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل، فقال له: يرحمك الله، وأيّنا يقول ما يفعل! يودّ الشيطان أنه ظفر بهذه منكم، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر.
ونظر إلى الناس في مصلّى البصرة يضحكون ويلعبون في يوم عيد، فقال: إن الله تعالى جعل الصوم مضمارا لعبيده، ليستبقوا إلى طاعته، ولعمري لو كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه، ومسيء بإساءته عن تجديد ثوب أو ترجيل شعر.
ومات في سنة عشرة ومائة وله تسعون وتقدم موت ابن سيرين بمائة يوم، ومات في رجب ليلة الجمعة.
وقال عبد الواحد بن زيد: رأيت ليلة مات الحسن في النّوم أبواب السماء كأنها مفتّحة، وكأنّ الملائكة صفوف، فقلت: أن هذا لأمر عظيم، فقال لي قائل: ألا إنّ الحسن البصريّ قدم على الله وهو عنه راض!.
وسمع بعض أصحابه في منامه ليلة مات كأنّ مناديا ينادي في السماء: {إِنَّ اللََّهَ اصْطَفى ََ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرََاهِيمَ وَآلَ عِمْرََانَ عَلَى الْعََالَمِينَ} [آل عمران: 33]، واصطفى الحسن البصري على أهل زمانه
[عامر بن شراحيل الشعبي]
والشعبيّ، اسمه عامر بن عبد الله بن شراحيل بن عبيد بن ذي كبار الشعبيّ من شعب همدان، وكنيته أبو عمرو، منسوب إلى شعبان بن عمرو، وهو من حمير، فمن كان منهم باليمن فهو حميريّ، ويقال: له شعبانيّ، ومن كان بالعراق فهو همداني، ويقال له شعبيّ. وولد لستّ سنين من خلافة عمر رضي الله عنه سمع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن والحسين وجماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وهو كوفيّ، وبه يضرب المثل في الحفظ، فيقال: أحفظ من الشعبيّ.
وقال الزّهريّ: العلماء أربعة: سعيد بن المسيّب بالمدينة، وعامر الشعبيّ بالكوفة، والحسن البصريّ بالبصرة، ومكحول بالشأم.
وقال ابن شبرمة: سمعت الشعبيّ يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا، ولا حدّثني رجل قطّ بحديث إلا حفظته، ولا أحببت أن يعيده عليّ.
وقال الشعبيّ لأصحابه: ما أروى شيئا أقلّ من الشعر، ولو شئت لأنشدتكم شهرا لا أعيد.
وكان الشعبيّ فقيها عالما حافظا أديبا، وقال: لولا ما زوجت في الرحم ما قامت لأحد معي قائمة.(3/184)
وكتب عبد الملك إلى الحجاج أن ابعث إليّ رجلا يصلح للدين والدنيا، أتّخذه سميرا وجليسا، فبعث إليه بالشعبيّ، فلما دخل عليه وجده مغتمّا، فقال: ما بال أمير المؤمنين؟ قال ذكرت قول زهير: [الطويل]
كأني وقد جاوزت تسعين حجّة ... خلعت بها عنّي عذار لجامي
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يرمي وليس برام (1)
فلو أنني أرمى بنبل رميتها ... ولكنّني أرمى بغير سهامي
على الراحتين تارة وعلى العصا ... أنوء ثلاثا بعدهنّ قيامي
فقال له الشعبي: ليس كذلك، ولكن كما قال لبيد بن ربيعة: [الطويل]
كأنّي وقد جاوزت سبعين حجة ... خلعت بها عن منكبيّ ردائيا (2)
فلما بلغ سبعا وسبعين، قال: [البسيط]
باتت تشكيّ إليّ الموت مجهشة ... وقد حملتك سبعا بعد سبعينا (3)
فإن تراخت ثلاثا تبلغي أملا ... وفي الثلاث وفاء للثمانينا (4)
فلما بلغ التسعين، قال: [الكامل]
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذي النّاس كيف لبيد
وغنيت سبتا قبل مجرى داحس ... لو كان للنّفس اللّجوج خلود
فلما بلغ عشرين ومائة، قال: [الطويل]
أليس ورائي إن تراخت منيّتي ... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع (5)
__________
(1) البيت الثاني لعمرو بن قميئة الضبعي في ديوانه ص 45، ومقاييس اللغة 2/ 306، والأبيات ليست في ديوان زهير بن أبي سلمى.
(2) البيت في ملحق ديوان لبيد بن ربيعة ص 361.
(3) البيتان في ديوان لبيد بن ربيعة ص 352، والبيت الأول في لسان العرب (جهش)، وجمهرة اللغة ص 479، وتاج العروس (جهش)، وكتاب العين 3/ 383، ومجمل اللغة 1/ 467، وهو بلا نسبة في مقاييس اللغة 1/ 489.
(4) البيتان في ديوان لبيد ص 35، والبيت الأول في خزانة الأدب 2/ 251، ولسان العرب (نصب)، والبيت الثاني في لسان العرب (سبت)، (عمر)، (جرا)، وكتاب العين 7/ 239، والمخصص 2/ 64، وتاج العروس (سبت)، (عمر)، (جرى).
(5) يروى عجز البيت الأول:
لزوم العصا تثنى عليها الأصابع
وهو في ديوان لبيد ص 170، ولسان العرب (ورأ)، (وري)، وتهذيب اللغة 15/ 304، والبيت الثاني في ديوان لبيد ص 171، ولسان العرب (ركع)، ومقاييس اللغة 2/ 345، وكتاب العين 1/ 200، والمخصص 13/ 87، وتاج العروس (ركع)، وفي الديوان «أدبّ» بدل «أنوء».(3/185)
أخبّر أخبار القرون الّتي مضت ... أنوء كأنّي كلّما قمت راكع
فلما بلغ ثلاثين ومائة حضرته الوفاة، فقال: [الطويل]
تمنّى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلّا من ربيعة أو مضر (1)
فقوما فقولا بالّذي أنا أهله ... ولا تخمشا خدّا ولا تحلفا شعر
وقولا هو المرء الّذي لا صديقة ... أضاع ولا خان الخليل ولا غدر
إلى الحول ثم اسم السّلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
قال الشعبيّ: فلقد رأيت السرور في وجه عبد الملك طمعا أن يعيشها.
وقال الحريري في الدّرّة: حدثني أحد شيوخي أن ليلى الأخيليّة كانت تتكلم بلغة بهراء، فتكسر حرف المضارعة، فتقول: «أنت تعلم» فاستأذنت يوما على عبد الملك بن مروان وبحضرته الشعبيّ، فقال: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في الغضّ منها؟ فقال: افعل، فلما استقرّ بها المجلس قال لها الشعبيّ: يا ليلى، ما بال قومك لا يكتنون! فقالت:
ويحك أما نكتني بكسر النون فقال: لا والله ولو فعلت لاغتسلت، فخجلت عند ذلك، واستغرق عبد الملك في الضحك.
الأصمعي: وجّه عبد الملك الشعبيّ إلى ملك الروم في بعض الأمور، فاستكبر الشعبيّ، فقال له: من أهل بيت الملك أنت؟ قال: لا فلما أراد الرجوع إلى عبد الملك حمّله رقعة لطيفة، وقال له: إذا بلّغت صاحبك جميع ما يحتاج إلى معرفته من ناحيتنا فادفع إليه هذه الرقعة، فلمّا رجع إلى عبد الملك ذكر له ما احتاج إلى ذكره، ونهض.
فلما خرج ذكر الرقعة، فرجع فقال: يا أمير المؤمنين إنّه حمّلني إليك رقعة أنسيتها، فدفعها إليه ونهض فقرأها عبد الملك، وأمر بردّه فقال: أعلمت ما في الرقعة؟ قال: لا، قال: فيها عجبت من العرب كيف ملّكت غير هذا! أفتدري لم كتب إليّ بهذا؟ قال: لا، قال: حسدني عليك، فأراد أن يغريني بقتلك، فقال الشّعبيّ: لو رآك يا أمير المؤمنين ما استكبرني. فبلغ ذلك ملك الروم، فذكر عبد الملك وقال: لله أبوه! والله ما أردت إلا ذلك.
وكان الشعبيّ خرج مع عبد الرحمن بن الأشعث على الحجّاج، فلما هزم عبد الرحمن أتي به موثقا مع الأسرى، وكان حكم الحجاج فيهم: من أقرّ أنه كافر أبقاه، ومن أقرّ أنه مسلم قتله. قال: فلما جئت باب القصر لقيني يزيد بن مسلم كاتبه، فقال: إنا لله
__________
(1) الأبيات في ديوان لبيد ص 213، والبيت الأول في الأغاني 15/ 305، وأمالي المرتضى 1/ 171، 2/ 55، والبيتان الثاني والثالث في لسان العرب (عذر)، وتهذيب اللغة 2/ 306، وتاج العروس (عذر)، والبيت الرابع في الأشباه والنظائر 7/ 96، والأغاني 13/ 40، والخصائص 3/ 29، والعقد الفريد 2/ 78.(3/186)
يا شعبيّ، لما بين دفتيك من العلم! وليس بيوم شفاعة، فقلت له: وما المخرج؟ فقال بؤ للأمير بالشّرك والنفاق، وبالحرى أن تنجو، فلمّا دخلت على الحجاج قال لي: وأنت يا شعبيّ ممن حرج علينا! قلت: أصلح الله الأمير! أحزن بنا المنزل، وأجدب بنا الجناب، واستحلسنا الخوف، وضاق الملك، وخبطتنا قتنة، لم نكن فيها بررة أولياء، ولا فجرة أقوياء، قال: لله أبوك! لقد صدقت والله ما بررتم بخروجكم علينا، ولا قويتم خلّوا سبيله.
وكلم ابن هبيرة في قوم حبسهم، فقال: إن كنت حبستهم بباطل، فالحقّ يطلقهم، وإن كنت حبستهم بحقّ فالعفو يسعهم.
ودخل عليه رجل من النّوكى، وهو جالس مع امرأة، فقال: أيّكما الشعبي؟ فقال له: هذا، فقال: ما تقول أصلحك الله في رجل شتمني في أوّل يوم من رمضان هل يؤجر؟ فقال له الشعبيّ: أما إن كان قال لك: يا أحمق، فأرجو له الأجر.
وسأله آخر، فقال: ما تقول في رجل أدخل إصبعه في أنفه في الصلاة، فخرج عليها دم، أترى له أن يحتجم؟ فقال: الحمد لله الذي نقلنا من الفقه إلى الحجامة.
وسأله آخر، كيف كانت تسمى امرأة إبليس؟ قال ذلك نكاح لم نشهده.
ودخل الحمّام فرأى داود الأوديّ بلا مئزز، فغمّض عينيه، فقال له داود: متى عميت يا أبا عمرو؟ فقال: مذ هتك الله سترك. ومات في سنة أربع ومائة وهو ابن اثنتين وثمانين سنة.
[الخليل بن أحمد الفراهيدي]
والخليل رحمه الله هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد البصريّ الفراهيديّ ينسب إلى فراهيد بن مالك بن فهم بن عبد الله بن مالك بن نصر الأزدي ويقال: اليحمديّ.
واليحمد بطن من الأزد.
وكان الخليل من أزهد الناس وأعلاهم نفسا، وأشدّهم تعفّفا، ولقد كان الملوك يقصدونه ويتعرّفون إليه لينال منهم، فلم يفعل، وكان يعيش من بستان له خلّفه عليه والده، وكان يغزو سنة ويحج أخرى، حتى جاءه الموت.
محمد بن حميد، قال: تزوّجت إلى جيران الخليل، فنزلت عليهم، فكنت أسمع قرآن الخليل طول الليل، فقالوا لي: ما عرفنا من هذا الرجل إلا ما ترى، وإنه ليغيب عنّا في غزو وحجّ فنتوحّش إليه، وقالوا: لا يجوز الصراط بعد الأنبياء والصحابة أدقّ ذهنا من الخليل. وكانت تلك الفضيلة فيه ببركة اسم أبيه، لأنه أوّل من تسمّى بأحمد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أبو عاصم: دخلت عليه قبل وفاته بأيام، فقال: والله ما فعلت قطّ فعلا أخاف على
نفسي منه وكان لي فضل فكر، صرفته إلى جهة وددت أني كنت صرفته إلى غيرها. وما علمت أني كذبت متعمّدا قطّ، وأرجو أن يغفر الله لي التأوّل.(3/187)
أبو عاصم: دخلت عليه قبل وفاته بأيام، فقال: والله ما فعلت قطّ فعلا أخاف على
نفسي منه وكان لي فضل فكر، صرفته إلى جهة وددت أني كنت صرفته إلى غيرها. وما علمت أني كذبت متعمّدا قطّ، وأرجو أن يغفر الله لي التأوّل.
واجتمع أدباء من كلّ أفق، فجعل أهل بلد يرفعون علماءهم، ويقدّمونهم حتى جرى ذكر الخليل، فلم يبق أحد إلا قال: الخليل أذكى العرب، وهو مفتاح العلوم ومصرّفها.
النّضر: ما رأى الراؤون مثل الخليل، ولا رأى الخليل مثل نفسه. وكان أشعث الرأس، شاحب اللون، قشف الهيئة، متخرّق الثياب، متقلّع القدمين، مغمورا في الناس لا يعرف.
محمد بن الفضل: كان بالبصرة رجل يعطي دواء لظلمة البصر، فينتفع به الناس، فمات فأضرّ ذلك بمن كان يستعمله، فذكر للخليل فقال: أله نسخة؟ فقالوا: لم نجدها، قال: فهل كان له آنية يعمله فيها؟ قالوا: نعم، إناء يجمع فيه أخلاطا، قال: فجيئوني به، فجعل يتشمّمه، ويخرج نوعا نوعا حتى أخرج خمسة عشر نوعا، ثم سأل عن جمعها ومقاديرها فعرفه من كان يعالج مثله فعمله، وأعطاه الناس، فانتفعوا به مثل تلك المنفعة.
ثم وجدت النسخة في كتب الرجل، فإذا فيها ستة عشر خلطا، فلم يغفل إلا عن خلّط واحد.
وكتب إليه ملك اليونان كتابا باليونانية، فخلا به شهرا حتى فهمه، فقيل له في ذلك، قال: قلت: لا بدّ أن يفتتح الكتاب باسم الله تعالى وما أشبهه، فبنيت أوّل الحروف على ذلك حتى انقاست لي.
النّضر بن شميل. جاء رجل من حلقه يونس، فسأل الخليل عن شيء، فأطرق يفكّر، فقالوا له: ما هذا مما يحتاج إلى فكر يفكّر فيه! فقال لهم: فما الجواب عندكم؟
قالوا: كذا، قال: فإنه يزيدكم في الجواب كذا، قالوا: يقول كذا، يقول: كذا، فانقطعوا، فقال: ما أجبت بجواب قطّ إلا وأنا أعرف آخر ما عليّ فيه.
وكان يخرج من منزله فلم يشعر إلا وهو في الصحراء، ولم يردها لشغله بالفكر.
وقال النضر: سمعت الخليل يقول: الأيام ثلاثة: فمعهود وهو أمس، ومشهود وهو اليوم، وموعود وهو غد.
وقال الخليل: إذا نسخ الكتاب ثلاث نسخ ولم يعارض به تحوّل بالفارسية.
ورأى مع رجل دفترا وفيه خطّ دقيق، فقال لصاحبه: أيست يا هذا من طول عمرك!.
وقال: إن لم تعلّم الناس ثوبا فعلّمهم لتدرس بتعليمهم علمك، ولا تجزع من تفرّع السؤال، فإنّه ينبّهك على علم ما لم تعلم.(3/188)
وقال: أكثر من العلم لتفهم، واختر قليلا منه لتحفظ.
وكان يقول: إذا خرجت من منزلي لقيت أحد ثلاثة، إمّا رجلا أعلم بشيء مني، فذلك يوم فائدة، أو مثلي فذلك يوم مذاكرة، أو دوني فذلك يوم ثواب.
وقال: من الناس من يدري ويدري أنه يدري، فذلك عالم فاتّبعوه، ومنهم من لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فذلك جاهل فاحذروه، ومنهم من يدري ولا يدري أنه يدري، فذلك ضالّ فأرشدوه.
وكان يقول: إذا أردت أن تعلم خطأ معلمّك من صوابه فجالس غيره.
وقال: أنا أول من سمّى الأوعية ظروفا لأنّها جعلت ظرفا للأدب والنظافة.
وقال: أدركت بعض ما أنا فيه باطّراح الحشمة بيني وبين المعلّمين، ومن رقّ وجهه في طلب العلم رقّ علمه.
وقال: إذا أخطأ بحضرتك من تعلم أنه يأنف بإرشادك فلا تردّ عليه خطأه، فإنك إذا نبّهته على خطئه أسرعت إفادته، واكتسبت عداوته.
وقال: اجعل ما تكتب بيت مال، وما في صدرك للنفقة.
وقال: العلوم أقفال والسؤالات مفاتيحها.
وقال: النّاس في سجن ما لم يتمازحوا.
وقال: الرجل بلا صديق، كاليمين بلا شمال.
وقيل له: إن استفساد الصديق أهون من استصلاح العدو، فقال: نعم، كما أن تخريق الثوب أهون من نسجه.
وقيل له: ما الجود؟ فقال: بذل المجهود، قيل له: فما الزهد؟ قال: ألّا تطلب المفقود، حتى تفقد الموجود.
وقال: الدنيا أمد، والآخرة أبد.
وقال: حسب امرىء من الشرّ أن يرى في نفّسه فسادا لا يصلحه، ومن علم بفساد نفسه علم بصلاحها، وأقبح التحوّل أن يتحوّل المرء من ذنب إلى غير توبة ولا إقلاع عنه.
وقال: الدنيا أضداد متجاورة وأشباه متباينة، وأقارب متباعدة، وأباعد متقاربة.
وقال: ثلاثة أشياء أنا أحبّها لنفسي ولمن أحبّ رشده: أحبّ أن أكون بيني وبين ربي من أفضل عباده، وأكون بيني وبين الخليقة من أوسطهم، وأكون بيني وبين نفسي من شرّهم. وقال عبد الله بن داود: لو كتب شيء بالذهب لكتب هذا.
ونظر في فقه لأبي حنيفة، فقيل له: كيف ترى؟ فقال: أرى جدّا وطريق جدّ، ونحن في هزل وطريق هزل.(3/189)
وقال عبد الله بن داود: لقد نال الناس بالخليل وعلمه الرّغائب، وإنه لبين أخصاص البصرة، يزهد فيما يرغب فيه.
وقال: ثلاث ينسين المصائب: مرّ الليالي، والمرأة الحسناء، ومحادثة الرجال.
النّضر: سمعت الخليل يقول التواني إضاعة، والحزم بضاعة، والإنصاف راحة، واللجاج وقاحة.
وكان له غلام كثير الخلاف عليه، فقال له يوما: قم، فقال: لا أقوم، فقال: اقعد:
فقال: لا أقعد، قال: فأيّ شيء تصنع؟ قال: لا أصنع شيئا ويشبه هذا قول الشاعر في امرأته: [الطويل]
سكتّ فقالت لم سكتّ عن الحقّ ... وقلت فقالت: ما دعاك إلى النّطق
فأومأت هل من حال بين ذاوذا ... فقالت وذا الإيماء أيضا من الحمق
فلم أر لي إذ حلّت الغرب راحة ... من الشرّ إلا في الهروب إلى الشّرق
فلما أتيت الشّرق ألفيتها به ... وقد قعدت لي منه في ضيّق الطّرق
وإنما أكثرنا من أخباره لأنّها آداب، وحكم من اقتدى بها اهتدى، وما تركناه من أخباره أكثر، وذكر النحو والعروض مؤخّر إلى الخمسين إن شاء الله تعالى:
ولتقدّمه في العلم ضربت الشعراء به المثل، فمن ذلك قول أبي تمام يهجو عياش ابن لهيعة: [الوافر]
ولو نشر الخليل له لعمّت ... بلادته على فطن الخليل (1)
فما أدري عمائي عن رشادي ... دهاني أم عماك عن الجميل
وقال آخر: [مجزوء الكامل]
يا من يزيد تمقّتا ... وتباغضا في كل لحظه
والله لو كنت الخلي ... ل لما روينا عنك لفظه
وأنشد المبرد: [الكامل]
لم تدر ما علم الخليل فتقتدي ... ببيان ذاك ولا حدود المنطق
وقال المعرّي: [الطويل]
إذا قيل نسك فالخليل ابن آزر ... وإن قيل فهم فالخليل أخو الفهم
ابن مزاحم الشاعر: كان الخليل صديقا لي، فدخلت عليه يوما فقال: أجز [الطويل]
* رأيت غنى الإنسان نفسا زكية *
__________
(1) البيتان في ديوان أبي تمام ص 305.(3/190)
فقلت: [الطويل]
* مطهّرة من كلّ رجس وباطل *
فقال: [الطويل]
* ففي عاجل الدنيا مديح ورفعة *
فقلت: [الطويل]
* وخير عظيم عاجل بعد آجل *
فقال: والله جئت بما في نفسي، ثم قال: [الوافر]
كأنّك كنت قد خامرت قلبي ... فجئت بما شفيت به الغليلا
رأيت براعة الإيجاز أشفى ... فصار كثير غيرك لي قليلا
وله: [البسيط]
العلم يذكي عقولا حين يصحبها ... وقد يزيدهما طولّ التجاريب
وذو التأدّب في الجهّال مغترب ... يرى ويسمع ألوان التّعاجيب
وكان صديق سليمان بن حبيب، وأنشده الشعراء، فتشاغل عنهم سليمان، فذكروا ذلك للخليل فكتب إليه: [الكامل]
لا تقبلنّ الشّعر ثم تعقّه ... وتنام والشّعراء غير نيام
واعلم بأنّهم إذا لم ينصفوا ... حكموا لأنفسهم على الحكّام
وجناية الجاني عليهم تنقضي ... وكلومهم تبقى على الأيّام
* * *
[جرير بن عطية الخطفي]
وأما جرير فهو ابن عطيّة بن الخطفي. شاعر من فحول العرب، واتفّقت العلماء على أنّ أشعر الإسلاميين جرير والفرزدق والأخطل، وأكثرهم على تفضيله عليهما.
وسأذكر لك شيئا من غزله وهجوه، نستدلّ به على منزلة شرفه في الشعر: ورأت أمه وهي حامل به كأنها ولدت حبلا من شعر أسود، فلما سقط جعل ينزو فيقع في عنق هذا فيخنقه حتى فعل ذلك برجال كثيرة، فانتبهت فازعة فأوّلت الرؤيا، فقيل لها: تلدين غلاما شاعرا ذا أسر وشدة وشكيمة وبلاء على الناس، فلما ولدته سمته جريرا، باسم الحبل الذي رأته، فهاجاه ثمانون شاعرا، فغلبهم.
وقال جرير: ما عشقت ولو عشقت لنسبت نسيبا تسمعه العجوز فتبكي على ما فاتها من شبابها. قالوا: وأرقّ ما جاء في النسيب قوله: [البسيط](3/191)
إنّ العيون الّتي في طرفها حور ... قتلّننا ثم لم يحيين قتلانا (1)
يصرعن ذا اللّبّ حتى لا حراك له ... وهنّ أضعف خلق الله أركانا
أتبعتهم مقلة إنسانها غرق ... هل ما ترى تارك للعين إنسانا!
ومثل هذا أوجب على الحريري أن يذكر جريرا بالغزل، وإلا فقد أخذ عليه في ذكر جرير بالغزل، وإنما الذي اشتهر في زمانه بالغزل مثل عمر بن أبي ربيعة وكثيّر عزة وجميل وقيس بن ذريج وأمثال هؤلاء، وإنما اشتهر جرير بالمدح والهجو، ولانطباعه قد جاء في شعره من الغزل الرقيق كثير، وإن كان تكلّفا إذ لم يعشق. قال الجاحظ: كان الفرزدق مشتهرا بالنساء، ومع ذلك فليس له بيت واحد في النّسيب، وكان جرير عفيفا لم يعشق امرأة قط، ومع ذلك فهو أغزل الناس شعرا.
وسئل الفرزدق عنه فتنفّس حتى كادت حيازيمه تنشق، ثم قال: قاتلة الله! فما أحسن ناحيته وأشرد قافيته، والله لو تركوه لأبكى الشابّة على أحبابها، والعجوز على شبابها، ولسكنهم هزّوه فوجدوه عند الهراش نابحا، وعند الجراء قارحا، ولقد قال بيتا، لأن أكون قلته أحّبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس، وهو: [الوافر]
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت النّاس كلّهم غضابا
وقال مسعود بن بشر: قلت لابن مناذر: من أشعر الناس؟ قال: من إذا شئت جدّ، وإذا شئت لعب، وإذا شئت أطمعك لعبه، وإذا رمته بعد عليك، وإذا جدّ فيما قصد له آيسك من نفسه. قلت: مثل من، قال: مثل جرير إذ يقول حين لعب: [الكامل]
إنّ الذين غدوا بلبّك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا (2)
غيّضن من عبراتهنّ وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا!
ثم قال حين جدّ: [الكامل]
إنّ الذي حرم المكارم تغلبا ... جعل الخلافة والنبوّة فينا (3)
مضر أبي وأبو الملوك فهل لكم ... يا خزر تغلب من أب كأبينا
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت قادكم إليّ قطينا
__________
(1) الأبيات في ديوان جرير ص 163، والبيت الأول في شرح شواهد المغني 2/ 712، والمقاصد النحوية 3/ 364، والمقتضب 2/ 173.
(2) البيت الأول بلا نسبة في لسان العرب (وشل)، وتاج العروس (وشل)، والبيت الثاني في ديوان جرير ص 386، وتاج العروس (غيض)، وهو بلا نسبة في لسان العرب (غيض).
(3) البيت الأول في ديوان جرير ص 387، ولسان العرب (أذن)، والبيتان الثاني والثالث في ديوان جرير ص 388.(3/192)
فلما بلغ عبد الملك هذا، قال: ما زاد ابن المراغة أن جعلني شرطيّا له! أما إنه وقال: «لو شاء ساقكم» لسقتهم إليه كما قال.
ونزل الفرزدق حين قدم على الأحوص فقال: ما تشتهي؟ قال شواء وظلّا وغناء، قال: ذلك لك، ومضى به إلى قينة فغنّته: [الوافر]
ألا حيّ الديار بسعد إنّي ... أحبّ لحبّ فاطمة الدّيارا (1)
إذا ما حلّ أهلك يا سليمى ... بدارة صلصل شحطوا مزارا
أراد الظاعنون ليحرموني ... فهاجوا صدع قلبي فاستطارا
فقال: ما أرقّ أشعاركم يا أهل الحجاز! قال: أو تدري لمن هذا؟ قال: هو لجرير يهجوك، قال: ويل لابن المراغة! ما كان أحوجه مع عفافه إلى صلابة شعري، وأحوجني مع فسوقي إلى رقة شعره، وفي الفرزدق منها: [الوافر]
وكنت إذا نزلت بدار قوم ... رحلت بخزية وتركت عارا (2)
وقال جرير: [الطويل]
لقد طال كتماني أمامة حبّها ... فهذا أوان الحبّ تبدو شواكله (3)
وإني وإن لام العواذل مولع ... بحبّ الغضا من حبّ من لا يزايله
ولما استقرّ الحبّ القت بي العصا ... ومات الهوى لمّا أصيبت مقاتله
وقلن تزوّج لا يكن لك حاجة ... وقلبك لا تشغل وهنّ شواغله
وقال أيضا: [الكامل]
يا أخت ناجية السّلام عليكم ... قبل الرّحيل وقبل لوم العذّل (4)
لو كنت أعلم أنّ آخر عهدكم ... يوم الفراق فعلت ما لم يفعل
__________
(1) الأبيات في ديوان جرير ص 886، والبيت الأول في جمهرة اللغة ص 645، ومجمل اللغة 3/ 68، وتاج العروس (سعد)، وهو بلا نسبة في مقاييس اللغة 3/ 75.
(2) البيت لجرير في ديوانه ص 887، ولسان العرب (خزا)، وتاج العروس (خزي).
(3) الأبيات في ديوان جرير ص 964، ويروى صدر البيت الرابع:
وقلن تروّح لا يكن لك ضيعة
وهو في لسان العرب (ضيع)، وتهذيب اللغة 3/ 72، وتاج العروس (ضيع).
(4) يروى البيت الأول في ديوان جرير ص 443:
يا أم ناجية السلام عليكم ... قبل الرواح وقبل لوم العذّل
ديوان جرير ص 279، والبيت الثالث في لسان العرب (عرض)، (بشم)، وتهذيب اللغة 1/ 467.(3/193)
وقال أيضا: [الوافر]
بنفسي من تجنّبه عزيز ... عليّ ومن زيارته لمام (1)
ومن أمسي وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النّيام
أتذكر إذ تودّعنا سليمى ... بفرع بشامة سقي البشام
وقال أيضا: [الكامل]
لا تكثرنّ إذا جعلت تلومني ... لا يذهبنّ بفعلك الإكثار (2)
كان الخليط هم الخليط فزايلوا ... ولقد تبدّل بالديار ديار
لا يلبث القرناء أن يتفرّقوا ... ليل يكرّ عليهم ونهار
ومن هجوه في الراعي: [الوافر]
فغضّ الطرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا (3)
وعندما قال هذا البيت وثب قائما حتى أصاب السقف رأسه، وقال: أخريته والله وغصصته، وقدّمت أخويه عليه، والله لا يفلح بعدها، وكان كما قال، ما أفلح بعدها هو ولا نمير.
وقال في جندل بن الراعي: [الوافر]
أجندل ما تقول بنو نمير ... إذا ما الأير في است أبيك غابا (4)
وأنشد القصيدة والفرزدق واقف، فلما بلغ إلى قوله: [الوافر]
* ترى برصا بأجمع إسكتيها *
وضع الفرزدق يده على فيه، وغطى عنفقته فقال: [الوافر]
* كعنفقة الفرزدق حين شابا *
فانصرف الفرزدق وهو يقول: اللهمّ أخزه، ولقد علمت حين بدأ البيت ألّا يقول غيرها، ولكن طمعت ألّا تأتيه.
وقال في ابن لجا: [البسيط]
__________
(1) ديوان جرير ص 864، والبيت الثالث بلا نسبة في لسان العرب (لبث).
(2) البيت في ديوان جرير ص 821، وجمهرة اللغة ص 1096، ولسان العرب (حدد)، وهو بلا نسبة في الكتاب 3/ 533.
(3) البيت في ديوان جرير ص 821، وخزانة الأدب 1/ 72، وهو بلا نسبة في سر صناعة الإعراب 2/ 677.
(4) البيت في ديوان جرير ص 817، ولسان العرب (أسك)، وتاج العروس (أسك)، وهو بلا نسبة في المخصص 2/ 38.(3/194)
تعرّضت تيم لي عمدا لأشتمها ... كما تعرّض لاست الخارىء الحجر (1)
يا تيم تيم عديّ لا أبا لكم ... لا يلقينّكم في سوءة عمر
وقال يذكر أمه: [البسيط]
تقول والعبد مسكين يزحّرها ... رفقا فدا لك أتت النّاكح الذكر (2)
وبينا جرير ينشد في زوجته: [الكامل]
لولا الحياء لعادني استعبار ... ولزرت قبرك والحبيب يزار (3)
كانت إذا هجر الضجيع فراشها ... كتم الحديث وعفّت الأسرار
لا يلبث القرناء أن يتصدّعوا ... ليل يكرّ عليهم ونهار
إذ طلع الأحوص فقطع إنشاده، ورفع صوته، يقول: [الوافر]
عوى الشعراء بعضهم لبعض ... عليّ فقد أصابهم انتقام (4)
إذا أرسلت صاعقة عليهم ... رأوا أخرى تحرّق فاستداموا
فمصطلم المسامع أو خصيّ ... وآخر عظم هامتيه حطام
ثم عاد. فقيل: لم فعلت هذا؟ قال: إني نهيت الأحوص أن يعين الفرزدق [عليّ] وإني والله يا بني عمرو بن عوف ما تعّوذت من شاعر قط، ولولا حقكم ما تعوذت منه.
الأصمعيّ: حدثني أبي قال: رأى رجل جريرا في المنام، فقال: ما فعل الله بك؟
قال: غفر لي، قال: بماذا قال بتكبيرة كبّرت الله في الخمر وهو ماء بالبادية قال: فما فعل أخوك الفرزدق؟ قال: هيهات أهلكه قذف المحصنات.
قال الأصمعيّ: لم يدعه في الحياة ولا في الممات، وتوفّي سنة أربع عشرة ومائة.
* * * [قس بن ساعدة الإيادي]
وأما قسّ بن ساعدة الإياديّ، فيضرب به المثل في الفصاحة والخطابة، فيقال: أبلغ من قسّ، وهو أسقفّ نجران، وهو من حكماء العرب، وكان مؤمنا بالله ومبشّرا برسوله، وهو أول من خطب متوكّئا على عصا، وأوّلّ من كتب: من فلان إلى فلان، وفيه يقول الأعشى: [الطويل]
__________
(1) البيت في ديوان جرير ص 210، ولسان العرب (خور).
(2) ديوان جرير ص 226.
(3) الأبيات في ديوان جرير ص 862، والبيت الأول في لسان العرب (حيا).
(4) الأبيات في ديوان جرير ص 280.(3/195)
وأفصح من قس وأجرى من الذي ... بذى العين من خفّان أصبح خادرا (1)
ولمّا قدم وفد بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، سألهم عن رجل كان فيهم نازلا، يقال له:
قسّ بن ساعدة الإياديّ، قالوا: هلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيته بعكاظ يخطب على جمل له أورق وهو يقول: أيّها الناس الجتمعوا، واسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكلّ ما هو آت آت، ليل موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تغور، وبحر يمور. أمّا بعد، فإنّ في السماء لخبرا، وإنّ في الأرض لعبرا، ما لي أرى الناس يموتون ولا يرجعون، أرضوا بالإقامة فأقاموا، أم تركوا كما هم فناموا أقسم بالله قسّ قسما حقا، فما حنث ولا أثم، إنّ لله دينا هو أرضى من ديننا، هذا الذي نحن عليه، ثم قال أبياتا ما أحفظها»، فقال رجل من الأنصار: أنا شاهد يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! قال:
فأنشدنا، قال: سمعته يقول: [مجزوء الكامل]
في الذّاهبين الأوّلي ... ن من القرون لنا بصائر (2)
لمّا رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... تمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين عابر
أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر
وقال صاحب الأغاني فيه هو قسّ بن ساعدة بن عمرو بن عدي بن مالك بن أيدعان ابن النّمر بن واثلة بن الطّمثان بن عبد مناة بن يقدم بن أفصى بن دعميّ بن إياد.
وكان يفد على قيصر زائرا فيكرمه ويعظّمه، فقال له قيصر: ما أفضل العلم؟ قال:
معرفة الرجل بنفسه، قال: فما أفضل العقل؟ قال: وقوف المرء عند علمه، قال: فما أفضل الأدب؟ قال: استبقاء الرجل ماء وجهه: قال: فما أفضل المروءة؟ قال: قلة رغبة المرء في إخلاف وعده، قال: فما أفضل المال؟ قال: ما قضي به الحقّ.
ابن عباس رضي الله عنهما: وفد الجارود بن عبد الله في وفد عبد القيس، وكان سيّدا في قومه معظّما في عشيرته، فآمن وآمن قومه، فسرّ النبي صلى الله عليه وسلم بهم، ثم قال: «يا جارود، هل في جماعة عبد القيس من يعرف لنا قسّا»؟ قال: كلنا نعرفه يا رسول الله، وأنا كنت من بينهم، أقفو أثره، وأطلع خبره، كان قسّ سبطا من أسباط العرب، صحيح
__________
(1) لم أجد البيت في ديوان الأعشى.
(2) البيت الأول لقس بن ساعدة في تاج العروس (بصر)، وأساس البلاغة (بصر)، وبلا نسبة في لسان العرب (بصر)، وتهذيب اللغة 12/ 177، وكتاب العين 7/ 118، والبيت الرابع لقس بن ساعدة أيضا في الأغاني 5/ 193، وحماسة البحتري ص 99، وخزانة الأدب 9/ 188، ولسان العرب (محل).(3/196)
النسب، فصيحا، ذا شيمة حسنة، عمّر سبعمائة سنة، يتقفّر القفار، ولا تكنّه دار، ولا يقّره قرار، يتحسّى في تقفّره بعض الطعام، ويأنس بالوحوش والهوامّ، يلبس المسوح ويتبع السياح على منهاج المسيح، لا يغيّر الرّهبانية، مقرّ بالوحدانية، تضرب بحكمته الأمثال وتكشف به الأهوال، وتتبعه الأبدال، أدرك رأس الحواربيّن سمعان، فهو أول من تألّه من العرب وأعبد من تعبّد في الحقب، وأيقن بالبعث والحساب، وحذّر سوء المنقلب والمآب، ووعظ بذكر الموت، وأمر بالعمل قبل الفوت، الحسن الألفاظ، الخاطب بسوق عكاظ، العارف بشرق وغرب، ويابس ورطب، وأجاج وعذب، كأنّي أنظر إليه، والعرب بين يديه، يقسم بالربّ الذي هو له: ليبلغنّ الكتاب أجله، وليوفّينّ كلّ عامل عمله، ثم أنشأ يقول: [الخفيف]
هاج للقلب من هواه ادّكار ... وليال خلالهنّ نهار
ونجوم يحثّها قمر اللّي ... ل وشمس في كلّ يوم تدار
ضوءها يطمس العيون وإرعا ... د شديد في الخافقين مثار
وغلام وأشمط ورضيع ... كلّهم في التراب يوما يزار
وقصور مشيّدة حوت الخي ... ر وأخرى خوت فهنّ قفار
وكثير ممّا تقصر عنه ... حدسة النّاظر الذي لا يحار
والّذي قد ذكرت دل على الله نفوسا لها هدى واعتبار.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «على رسلك يا جارود، فلست أنساه بسوق عكاظ، على جمل له أورق، وهو يتكلّم بكلام مونق، ما أظنّ أحفظه، فهل فيكم يا معشر المهاجرين والأنصار من يحفظ لنا منه شيئا»؟ فوثب أبو بكر قائما، وقال: يا رسول الله، أنا أحفظه وكنت حاضرا بعكاظ حين خطب فأطنب، ورهّب ورغّب، وحذّر وأنذر، وقال في خطبته: أيّها الناس اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكلّ ما هو آت آت، مطر ونبات، وأرزاق وأقوات، وآباء وأمهات، وأحياء وأموات، وجمع وشتات، وآيات بعد آيات، إنّ في السماء لخبرا، وإنّ في الأرض لعبرا. ليل داج، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات رتاج، وبحار ذات أمواج، مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون! أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا هناك فناموا! أقسم قسّ بالله قسما حقّا لا آثما فيه ولا حانثا، إنّ لله دينا هو أحبّ إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ونبيّا قد حان حينه، وأظّلكم أو أنه وأدرككم إبّانه، فطوبى لمن آمن به فهداه، وويل لمن خالفه وعصاه! ثم قال: تبّا لأرباب الغفلة من الأمم الخالية، والقرون الماضية! يا معشر إياد، أين الآباء، والأجداد، وأين المريض والعوّاد، وأين الفراعنة الشّداد؟ أين من بنى وشيد، وزخرف ونجّد، وغرّه المال والولد! أين من بغى وطغى، وجمع فأوعى، وقال: أنا ربّكم الأعلى
ألم يكونوا أكثر منكم أموالا، وأطول منكم آجالا، طحنهم الثّرى بكلكله، ومزّقهم بتطاوله، فتلك عظامهم بالية، وبيوتهم خاوية، عمّرتها الذئاب العاوية كلّا بل هو المعبود، ليس بوالد ولا مولود، ثم أنشأ يقول:(3/197)
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «على رسلك يا جارود، فلست أنساه بسوق عكاظ، على جمل له أورق، وهو يتكلّم بكلام مونق، ما أظنّ أحفظه، فهل فيكم يا معشر المهاجرين والأنصار من يحفظ لنا منه شيئا»؟ فوثب أبو بكر قائما، وقال: يا رسول الله، أنا أحفظه وكنت حاضرا بعكاظ حين خطب فأطنب، ورهّب ورغّب، وحذّر وأنذر، وقال في خطبته: أيّها الناس اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكلّ ما هو آت آت، مطر ونبات، وأرزاق وأقوات، وآباء وأمهات، وأحياء وأموات، وجمع وشتات، وآيات بعد آيات، إنّ في السماء لخبرا، وإنّ في الأرض لعبرا. ليل داج، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات رتاج، وبحار ذات أمواج، مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون! أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا هناك فناموا! أقسم قسّ بالله قسما حقّا لا آثما فيه ولا حانثا، إنّ لله دينا هو أحبّ إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ونبيّا قد حان حينه، وأظّلكم أو أنه وأدرككم إبّانه، فطوبى لمن آمن به فهداه، وويل لمن خالفه وعصاه! ثم قال: تبّا لأرباب الغفلة من الأمم الخالية، والقرون الماضية! يا معشر إياد، أين الآباء، والأجداد، وأين المريض والعوّاد، وأين الفراعنة الشّداد؟ أين من بنى وشيد، وزخرف ونجّد، وغرّه المال والولد! أين من بغى وطغى، وجمع فأوعى، وقال: أنا ربّكم الأعلى
ألم يكونوا أكثر منكم أموالا، وأطول منكم آجالا، طحنهم الثّرى بكلكله، ومزّقهم بتطاوله، فتلك عظامهم بالية، وبيوتهم خاوية، عمّرتها الذئاب العاوية كلّا بل هو المعبود، ليس بوالد ولا مولود، ثم أنشأ يقول:
في الذاهبين الأولين الأبيات المتقدمة. قال: ثم جلس أبو بكر رضي الله عنه، وقام رجل ذو هامة عظيمة، وقامة جسيمة، فقال: يا سيّد المرسلين، وصفوة ربّ العالمين، لقد رأيت من قسّ عجبا أشرف بي جملي على واد، وشجر من شجر عاد، مورقة مونقة، وقد تهدّل أغصانها. قال: فدنوت منه، فإذا بقسّ في ظل شجرة، بيده قضيب من أراك ينكت به الأرض وهو يترنّم، ويقول: [البسيط]
يا ناعي الموت والملحود في جدث ... عليهم من بقايا خزّهم خرق
دعهم فإنّ لهم يوما يطاح بهم ... فهم إذا انتبهوا من نومهم فرق
حتى يعودوا بحال غير حالهم ... خلفا جديدا كما من قبلها خلقوا
منهم عراة ومنهم في ثيابهم ... منها الجديد ومنها المنهج الخلق
قال: فدنوت منه، وسلّمت عليه، فردّ عليّ السلام، وإذا بعين خرارة، في أرض خوارة، ومسجد بين قبرين، وأسدين عظيمين، يلوذان به، ويتمسّحان بأثوابه، فأراد أحدهما أن يسبق إلى الماء، وتبعه الآخر يطلب الماء، فضربه قسّ بالقضيب، وقال: ارجع ثكلتك أمّك! حتى يشرب الذي ورد قبلك. فرجع ثم ورد بعده، فقلت له: ما هذان القبران؟ قال: هذان قبر أخوين لي كانا يعهدان الله معي في هذا المكان، لا يشركان بالله شيئا، فأدركهما الموت فقبرتهما، وها أنا بين قبريهما، حتى ألحق بهما. ثم نظر إلى السماء فتغرغرت عيناه بالدموع، وانكبّ عليهما، وجعل يقول: [الطويل]
خليليّ هبّا طالما قد رقدتما ... أجدّ كما لا تقضيان كراكما
ألم تعلما أني بسمعان مفرد ... وما لي فيها من خليل سواكما
مقيم على قبريكما لست بارحا ... طول اللّيالي أو يجيب صداكما
أبكيكما طول الحياة وما الّذي ... يردّ على ذي عولة إن بكاكما ... كأنكما والموت أقرب غاية ... بروحي في قبريكما قد أتاكما
أمن طول نوم لا تجيبان داعيا ... كأنّ الذي يسقي العقار سقاكما
فلو جعلت نفس لنفس وقاية ... لجدتّ بنفسي أن تكون فداكما
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله قسّا، إني لأرجو أن يبعثه الله أمة وحده».
* * *
[عبد الحميد الكاتب](3/198)
* * *
[عبد الحميد الكاتب]
وأما عبد الحميد، فهو ابن يحيى بن سعيد، كاتب مروان بن محمد، آخر ملوك في أمية، وكتب أيضا للمنصور. وقيل إنه قتل مع مروان.
وكان رأسا في الكتابة، ومقدما في الفصاحة والخطابة، بليغا مرسلا، وقال فيه ابن عبد ربه: كتب عبد الحميد بن يحيى لعبد الملك بن مروان، وكتب لسليمان بن عبد الملك، وليزيد بن عبد الملك، ثم لم يزل كاتبا لخلفاء بني أمية حتى انقضت دولتهم.
وعبد الحميد أوّل من فتق أكمام البلاغة، وسهّل طرقها، وفكّ رقاب الشعر.
وقال له مروان حين أيقن بزوال ملكه: قد احتجت أن تصير مع عدوّي، وتظهر الغدر بي فإنّ إعجابهم بآدابك يدعوهم إلى حسن الظنّ بك، فإن استطعت أن تنفعني في حياتي، وإلّا لم تعجز عن حفظ حرمتي بعد وفاتي. فقال له عبد الحميد: إنّ الذي أشرت به عليّ أنفع الأمرين لك، وأقبحهما لي، وما عندي إلا الصبر حتى يفتح الله لي ولك، أو أقتل معك. ثم قال: [الطويل]
أسرّ وفاء ثم أظهر غدرة ... فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره
وعبد الحميد هو صاحب الرسائل والبلاغات، وهو أوّل من أطال الرسائل، واستعمل التحميدات في فصول الكتب، واستعملت بعده، وهو القائل: البلاغة تقرير المعنى في الأفهام، من أقرب وجوه الكلام.
ولم يزل الشّعراء ومهرة الكتبة يضربون ببلاغته وكتابته الأمثال في كتبهم وأشعارهم في القديم والحديث، كفضل الصاحب وقرنائه، مع طبع سمح ولفظ عذب، وصلة نثر ينظم، فإن شاء قال: أنا الوليد، وإن شاء قال: أنا عبيد، وإن شاء قال: أنا عبد الحميد، وإن شاء قال: أنا سعيد.
وقيل: بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد.
* * * [أبو عمرو بن العلاء]
وأما أبو عمرو فهو ابن العلاء بن عمار بن عبد الله بن الحصين بن الحارث بن جلهم بن خزاعيّ بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم: واسمه وكنيته واحد في الأشهر.
الفنجديهيّ: اختلف في اسمه على تسعة عشرة قولا، فقيل: اسمه محمد أو حميد أو حمّاد أو عثمان أو سفيان أو غير ذلك، وأصحّها زبّان.
واختلف في مولده. فقيل: ولد سنة خمس وستين بمكة في أيام عبد الملك بن مروان: وقيل: سنة سبعين.(3/199)
أبو عبيدة: كان أبو عمرو أسمر طويلا ضرب اليدين، حادّ النظر، ما رأيت مثله قبله ولا بعده في فهمه ولا علمه، وكان صاحب غريب ونحو وعلم، وهو أحد الأئمة في القراءة، وعنه أخذ يونس والأصمعيّ وأبو عبيدة. وفيه يقول الفرزدق: [البسيط]
ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها ... حتى أتيت أبا عمرو بن عمّار (1)
وقال ابن مجاهد: كان أبو عمرو مقدّما في عصره، عالما بالقراءة ووجوهها، قدوة في العلم باللّغة، إمام الناس في العربية.
وكان مع ذلك متمسكا بالآثار، ولا يكاد يخالف في اختياره ما جاء من الأئمة قبله، متواضعا في علمه.
وقال أبو عبيدة: كان أبو عمرو أعلّم النّاس بالقرآن والعربية وأيّام العرب وأنسابها وشعرها، وكانت دفاتره ملء بيت، فلمّا تنسّك أحرقها، وجعل على نفسه أن يختم القرآن في كلّ ثلاث ليال، فلما أسنّ اختلط بالناس، واحتاجوا إليه فعوّل على حفظه، فأملى من حفظه كتب الناس ووقع عليه الإجماع.
روى الأصمعيّ عن أبي عمرو قال: كنت اسمر مع مسلم بن قتيبة الباهليّ وكان يعجبه الرّويّ على السين، فأنشدته ليلة ستين قصيدة على السين لستيّن شاعرا، اسمهم عمرو.
الأصمعيّ: كان لأبي عمرو كلّ يوم من غلّة داره فلسان: فلس يشتري به كوزا، وفلس يشتري به ريحانا، يشرب في الكوز يومه، ويشمّ الريحان يومه، فإذا أمسى تصدّق بالكوز، وأمر الجارية أن تجفّف الريحان وتدقّه في الأشنان.
الأصمعيّ: قال أبو عمرو: كنت في ضيعتي، فاشتدّ عليّ الحرّ، فكنت أدور في سدر فيها نصف النهار، فسمعت قائلا يقول: [الطويل]
وإنّ امرءا دنياه أكبر همه ... لمستمسك منها بحبل غرور (2)
فقلت: إنسيّ أم جنّي؟ فما أجابني، فنقشته في خاتمي، فكان نقش خاتمه.
الأصمعيّ: كنت واقفا بالمربد، وإذا أنا بأبي عمرو، فلما بصر بي مال إليّ، فقال:
ما وقوفك هنا يا أصمعيّ؟ قلت: إني أحبّ المربد وأكثر الجلوس فيه، فقال: الزمه، فإنه
__________
(1) البيت للفرزدق في أدب الكاتب ص 461، وسر صناعة الإعراب 2/ 456، 528، وشرح أبيات سيبويه 2/ 261، والكتاب 3/ 506، 4/ 63، 65، ولسان العرب (غلق)، والبيت ليس في ديوان الفرزدق، وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 118.
(2) يروى البيت:
وإنّ الذي يمسي ودنياه همّه ... لمستمسك منها بحبل غرور
وهو لهاني بن توبة الشيباني (الشويعر) في لسان العرب (حمد)، (شعر).(3/200)
يشدّ النظر ويجلو البصر، ويجمع بين ربيعة ومضر. ثم أردت الانصراف، فقال: إلى أين يا أصمعيّ؟ فقلت: إلى صديق لي، فقال: إمّا لفائدة أو لعائدة أو لمائدة وإلّا فلا. ثم قال لي: مالي أراك بلا عمامة؟ قلت: لا عمامة لي، فنزع عمامته عن رأسه فدفعها إليّ، فكبر ذلك عليّ، فقال لي: إنّ لي بدلها إحدى عشرة عمامة، ثم قال لي: الزم العمامة، فإنّها تشد الّلامة، وتحفظ الهامة، وتزيد في القامة، ثم استخرج من كمّة كيسا فدفعه إليّ ثم قال: يا أصمعيّ، لا زلتم بخير ما دمتم تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، فإذا تركتم ذلّك سلّط الله عليكم أقواما غلاظا فظاظا، خبرتكم على قدر معرفتكم.
وأما قراءته وإعرابه المذكوران في المقامة، فإن شجاع بن نصر، قال: قلت لأبي عمرو: كيف طلبت قراءة القرآن؟ قال: لم أزل أطلب أن أقرأه كما قرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما أنزل عليه، فقلت له: وكيف ذلك؟ قال: هرب أبي من الحجّاج، وأنا شابّ، فقدمنا مكة، فلقيت بها عدّة من التابعين ممّن قرأ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وغيرهم، فقرأت عليهم القرآن، وأخذت العربية عن العرب الّذين سبقونا باللحن، فهذه التي أخذت بها قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشدد يدك بها.
وقال: خرج أبي هاربا من الحجّاج إلى اليمن، فإنّا لنسير في الصحراء باليمن إذ لحقنا لا حق ينشد: [الخفيف]
ربّما تجزع النّفوس من الأم ... ر له فرجة كحلّ العقال (1)
فقال له أبي: ما الخبر؟ فقال: مات الحجاج، فأنا بقوله: «فرجة» بفتح الفاء أشدّ سرورا مني بموت الحجاج، فقال أبي: اصرف ركبانا إلى البصرة.
الفنجديهيّ: رأيت في بعض الفوائد أنّ الحجاج قال لأبي عمرو: ما وجه قراءتك:
{إِلََّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً} [البقرة: 249] بفتح الغين؟ فقال: ابلعي ريقي، فقال: قد أبلعتك الفرات. وقال: قاتل الله ابن أم الحجاج، لئن لم تأتني بالجواب إلى خمسة عشر يوما لأقتلنّك شرّ قتلة، ووكلّ به موكلين، فخرج أبو عمرو يطوف في أحياء العرب، فلم يجد له حجّة إلى يوم وعده، فجرّه الموكّلون به ليرجعوه إلى الحجاج، فسمع راعيا ينشد:
ربّما تجزع النفوس البيت، فقال له أبو عمرو: كيف تنشد هذا البيت: له فرجة أو فرجة، فقال: فرجة وفرجة، وكذلك كلّ ما جاء على فعلة، فلنا فيه ثلاث لغات، فقال له أبو عمرو: فما سبب إنشادك هذا البيت في هذا الوقت؟ فقال: إنّا كنّا خائفين من
__________
(1) البيت لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص 50، وحماسة البحتري ص 223، والكتاب 2/ 109، ولسان العرب (فرج)، وله أو لحنيف بن عمير أو نهار ابن أخت مسيلمة الكذاب في شرح شواهد المغني 2/ 707، 708، والمقاصد النحوية 1/ 484، وله أو لأبي قيس صرمة بن أبي أنس أو لحنيف في خزانة الأدب 6/ 115، ولعبيد بن الأبرص في ديوانه ص 128، وبلا نسبة في أساس البلاغة (فرج)، والبيان والتبيين 3/ 260.(3/201)
الحجاج، وقد بلغنا نعيه، قال: والله لا أدري بأيهما كنت أشدّ فرحا، بوجداني الجواب والحجّة لقولي واختياري، أم بموت الحجّاج!.
سفيان بن عيينة: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت له: يا رسول الله، قد اختلفت عليّ القراءات، فبقراءة من تأمرني أن أقرأ؟ قال: بقراءة أبي عمرو بن العلاء.
وقال أبو العباس بن سريج: من أراد أن يتظرّف فعليه بمذهب الشافعي، وقراءة أبي عمرو بن العلاء وشعر ابن المعتز، فقيل له: قد عرفنا مذهب الشافعيّ وقراءة أبي عمرو ابن العلاء، فأنشدنا من شعر ابن المعتزّ ما يوجب الظّرف فأنشد: [المنسرح]
كنت صباحي قرير عين ... فصرت أمسي صريع بين
بعين نفسي أصبت نفسي ... فالله بيني وبين عيني
وكان يقول: إنّما نحن فيمن مضى، كبقل في أصول نخل طوال.
وقال أبو عمرو: ناظرت عمرو بن عبيد في الوعيد، فقال: إن الله تعالى لا يوعدنا بشيء فيخلفه، فقلت له: يا أبا عثمان، ليس لك علم باللغة، إنّ خلف الوعيد عند العرب ليس بخلف، وأنشد: [الطويل]
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... ليكذب إبعادي ويصدق موعدي (1)
وقال أبو عمرو: كنت رأسا والحسن حيّ. وتوفّي بالكوفة سنة أربع وخمسين ومائة، وهو ابن ست وثمانين سنة، وعلى قبره مكتوب «هذا أبو عمرو بن العلاء مولى بني حنيفة».
وإنما قيل هذا لأن أمه كانت من بني حنيفة.
أبو عبيدة: دخل أبو عمرو على سليمان بن عبد الملك، فسأله عن شيء فصدقه فيه، فلم يعجبه ما قال، فخرج أبو عمرو وهو يقول: [المتقارب]
أنفت من الذلّ عند الملوك ... وإن أكرموني وإن قرّبوا
إذا ما صدقت لهم خفتهم ... ويرضون منّي بأن يكذبوا
وقال أبو بكر بن مجاهد: رأيت أبا عمرو في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال لي: دعني مما فعل الله بي، من أقام ببغداد على السنّة والجماعة ومات، نقل من جنة إلى جنة.
* * * __________
(1) يروى عجز البيت:
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وهو لعامر بن الطفيل في ديوانه ص 58، ولسان العرب (وعد)، (ختا)، وتاج العروس (ختأ).(3/202)
[الأصمعي]
وأما ابن قريب، فهو أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عليّ بن أصمع، وإلى أصمع هذا ينسب. وأصمع فخذ من بني قتيبة بن معن بن أعصر بن سعيد بن قيس بن عيلان، وبنو معن هم بنو باهلة وباهلة، امرأة من همدان تزوّجت معنا فنسب ولده إليها.
والأصمع في اللغة الضّامر الذي ليس بمنتفخ، ومنه الصّومعه لضمرها، وتدقيق رأسها، ومثله قولهم: جاء بثريدة مصمّعة إذا رققها وأحد رأسها، وسهم متصمّع: متلطّخ بالدم، فانضّمّت قذذه.
وكان الأصمعيّ حافظا عالما عارفا بأشعار العرب وأخبارها، كثير التطوّف بالبوادي لاقتباس علومها وتلقّي أخبارها، فهو صاحب غرائب الأشعار، وعجائب الأخبار، وقدوة الفضلاء، وقبلة الأدباء، قد استولى على الغايات، في حفظ اللغات، وضبط العلوم الأدبيّات، صاحب دين متين، وعقل رصين، وكان خاصّا بالرشيد، آخذا لصلاته كثيرا، وقد تقدّم في هذا الكتاب من الحكايات المسندة إلى الأصمعيّ، ما يدل على تبحّره وحفظه.
ومن حكاياته عن أعرابه على ما أشار له الحريريّ هنا: حدّث الأصمعي رحمه الله، قال: أعرابي: حسن التدبير مع الكفاف، أكفى من الكثير مع الإسراف.
الأصمعي: سمعت أعرابيّا يقول: من كساه الحياء ثوبه، أخفى على الناس عيبه، الأصمعيّ: قال أعرابيّ: من اقتصد في الغنى والفقر، فقد استعدّ لنائبات الدهر.
قال: وقال أعرابيّ: عداوة الحكيم أقلّ عليك ضررا من مودّة الجاهل منهم.
قال: وقال أعرابيّ: أعجز النّاس من قّصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم.
وقال: تزوّج أعرابيّ إلى بعض الحاضرة، فلمّا كان ليلة دخوله بها، إذا هي أدماء مجدورة، فخرج من البيت وهو ينشد ويقول: [السريع]
زوّجتني أدماء مجدورة ... كأنها من خشب البيت
قبيحة الوجه لها منظر ... يفرّ منه ملك الموت
قال: وجرى بين أعرابيّ وبين امرأته كلام بالمربد، فشتمته، فقال لها: اسكتي، فو الله ما شعرك بوارد، وما فوك ببارد، ولا ثديك بناهد، ولا بطنك بوالد، ولا الخير فيك بزائد، ولا الشرّ فيك بواحد، وما أنا لك بحامد، ولا بعد موتك بواجد.
ونذكر بعد ذلك حكايته المشهورة مع الرشيد ووزرائه، ويحتمل طولها لما احتوت عليه من غرائب الآداب، وكان مجلس مذاكرة بين أفراد، فأظهر كلّ رجل منهم أفضل ما يذكر.(3/203)
حدث الأصمعيّ قال: استدعاني الرّشيد في بعض الليالي، وقد تصرّمت قطعة من الليل، فراعتني رسله، ولم أفتأ أن مثلت بين يديه، وإذا في المجلس يحيى بن خالد وجعفر والفضل، فلمّا لحظني الرشيد استدناني، فدنوت منه فتبيّن ما لبسني من الوجل، فقال لي: ليفرخ روعك، فما أردناك إلا لما يراد له مثلك، فمكثت هنيهة إلى أن ثابت إليّ نفسي بعد أن كادت تطير شعاعا، فقال: إني نازعت هؤلاء القوم في أشعر بيت قالته العرب في التّشبيه، ولم يقع إجماعنا على بيت، فأردناك لفصل هذه القضية، واجتناء ثمرة الخطار فيها فقلت: يا أمير المؤمنين، إن التعبين على بيت واحد في نوع واحد قد وسعت العرب فيه، وجعلته معلما لأفكارها، ومستراحا لخواطرها لبعيد أن يقع النص عليه، ولكن أحسن الناس تشبيها امرؤ القيس في قوله: [الطويل]
كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا ... لذى وكرها العنّاب والخشف البالي (1)
وفي قوله: [الطويل]
كأنّ عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الّذي لم يثقّب (2)
وفي قوله: [المتقارب]
ولو عن نثا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد (3)
وفي قوله: [الطويل]
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سموّ حباب الماء حالا على حال (4)
فالتفت إليّ يحيى، وقال: هذه واحدة، قد نصّ على امرىء القيس أنّه أبدعهم تشبيها. قال يحيى: هي لك يا أمير المؤمنين، ثم قال لي الرشيد: فما أبدع تشبيهاته عندك؟ قلت: قوله يصف فرسا: [المتقارب]
كأن تشوّفه بالضّحى ... تشوّف أزرق ذي مخلب
إذا قرعته حلال له ... تقول سلبت ولم تسلب
فقال: هذا حسن، وأحسن منه قوله: [الطويل]
فرحنا بكابن الماء يجنب وسطنا ... تصوّب فيه العين طورا وترتقي (5)
__________
(1) البيت في ديوان امرىء القيس ص 38، والصاحبي في فقه اللغة ص 244، ولسان العرب (أدب).
(2) البيت في ديوان امرىء القيس ص 53، ولسان العرب (جزع)، وكتاب العين 1/ 216.
(3) البيت في ديوان امرىء القيس ص 185، ولعمرو بن معديكرب في ملحق ديوانه ص 200، ولامرىء القيس أو لعمر بن معديكرب في سمط اللآلي ص 531.
(4) البيت في ديوان امرىء القيس ص 31، وبلا نسبة في لسان العرب (حبب)، وتهذيب اللغة 4/ 10.
(5) البيت في ديوان امرىء القيس ص 176، وأدب الكاتب ص 505، ولسان العرب (كوف).(3/204)
فقال جعفر: يا أمير المؤمنين، ما هذا التحكّم؟ قال الرشيد: وكيف؟ قال: يذكر أمير المؤمنين ما وقع اختياره عليه، ونذكر ما اخترناه، ويكون الحكم واقعا بعد، فقال الرشيد: أمرضت، فاستحسنها يقال: أمرض الرجل: إذا قارب الصواب ثم قال الرشيد: بل تبدأ يا يحيى، فقال يحيى: أحسن الناس تشبيها النابغة في قوله: [الكامل]
نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر السّقيم إلى وجوه العوّد (1)
وفي قوله: [الطويل]
فإنّك كاللّيل الّذي هو مدركي ... وإن خلت أنّ المنتأى منك واسع (2)
وفي قوله: [البسيط]
من وحش وجرة موشىّ أكارعه ... طاوي المصير كسيف الصّقيل الفرد (3)
فقال الأصمعيّ: أما تشبيهه مرض الطّرف فحسن، إلّا أنه هجّنه بذكره العلة، وتشبيهه المرأة بالعليل. وأحسن منه قول عدي بن الرقاع العامليّ: [الكامل]
وكأنّها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم (4)
وسنان أقصده النعاس فرنّقت ... في عينه سنة وليس بنائم
وأما تشبيه الإدراك بالليل، فقد تساوى الليل والنهار فيما يدركانه، وإنما كان سبيله أن يأتي بما ليس له قسيم، حتى يأتي بمعنى ينفرد به، ولو قال قائل: إنّ قول النمري في هذا أحسن، لوجد مساغا إلى ذلك حيث يقول: [الطويل]
فلو كنت بالعنقاء أو بسنامها ... لخلتك إلّا أن تصدّ تراني
وأما قوله: [البسيط]
* طاوي المصير كسيف الصّيقل الفرد *
فالطرّماح أحق بهذا المعنى، لأنه أخذه فجوّده وزاد عليه، وإن كان النابغة اخترعه، وقول الطرماح: [الطويل]
يبدو وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسلّ ويغمد (5)
__________
(1) البيت في ديوان النابغة الذبياني ص 91.
(2) البيت في ديوان النابغة الذبياني ص 38، ولسان العرب (طور)، (نأى)، وكتاب العين 8/ 393.
(3) البيت في ديوان النابغة الذبياني ص 17، وبلا نسبة في لسان العرب (فرد)، وتهذيب اللغة 14/ 99.
(4) البيت الأول لعدي بن الرقاع في ديوانه ص 99، ولسان العرب (جسم)، والبيت الثاني في ديوان عدي ص 100، ولسان العرب (نعس)، (رنق)، (وسن).
(5) البيت في ديوان الطرماح ص 146، وأساس البلاغة (ضمر)، والحيوان 3/ 465، وكتاب الصناعتين ص 85، 253.(3/205)
فقد جمع في هذا البيت استعارة لطيفة بقوله: «وتضمره البلاد» وتشبيهه اثنين بقوله: «يبدو وتضمر» «ويسلّ ويغمد»، وجمع حسن التقسيم وصحة المقابلة.
قال الأصمعيّ: فاستبشر الرشيد وبرقت أسارير وجهه، حتى خلت برقا يومض منها، وقال ليحيى: فضلتك ورب الكعبة، فانتقع يحيى، فكأنّ الرّماد ذرّ على وجهه، قال الفضل: لا تعجل يا أمير المؤمنين، حتى أمرّ ما قلته بسمعه، فقال: قل، قال:
أحسن الناس تشبيها طرفة في قوله: [الطويل]
ووجه كأنّ الشمس ألقت رداءها ... عليه نقيّ اللون لم يتخدّد (1)
وفي قوله: [الطويل]
يشقّ حباب الماء حيزومها بها ... كما قسم التّرب المقايل باليد (2)
قال: فقلت: هذا حسن وغيره أحسن منه، قد شركه في هذا المعنى جماعة من الشعراء، وبعد فطرفة صاحب واحدة، لا يقطع بقوله مع التجوّز، وإنما يعدّ من أصحاب الواحدة قال: ومن أصحاب الواحدة؟ قلت: الحارث بن حلّزة في قوله: [الخفيف]
آذنتنا بينها أسماء ... ربّ ثاو يملّ منه الثّواء (3)
والأسعر الجعفي في قوله: [الطويل]
هل دان قلبك من سليمى فأشتفي ... ولقد عنيت بحبّها فيما مضى
والأفوه الأوديّ في قوله: [الرمل]
إن ترى رأسي فيه قذع ... وشواتي خلة فيها دوار (4)
وعلقمة في قوله: [الطويل]
* طحا بك قلب في الحسان طروب (5) *
وسويد بن أبي كاهل في قوله: [الرمل]
__________
(1) البيت في ديوان طرفة بن العبد ص 21، ولسان العرب (ردى).
(2) البيت في ديوان طرفة بن العبد ص 21، ولسان العرب (حبب)، (فيل)، وكتاب العين 3/ 32، 8/ 335.
(3) البيت للحارث بن حلزة في ديوانه ص 19، والأغاني 11/ 36، وشرح القصائد السبع ص 432، وشرح القصائد العشر ص 370، وشرح المعلقات السبع ص 216، وشرح المعلقات العشر ص 119، ولسان العرب (أذن)، (قفا)، (قوا).
(4) البيت في ديوان الأشعر الجعفي ص 11.
(5) عجزه:
بعيد الشباب عصر حان مشيب
والبيت لعلقمة الفحل في ديوانه ص 33، ولسان العرب (طحا).(3/206)
بسطت رابعة الحبل لنا ... فوصلنا الحبل منها فاتّسع
وعمرو بن كلثوم في قوله: [الوافر]
ألا هبّي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرينا (1)
وعمرو بن معد يكرب في قوله: [الوافر]
أمن ريحانة الدّاعي السميع ... يؤرّقني وأصحابي هجوع (2)
فاستخفّت الرشيد الأريحيّة، وقال: ادنه، فإنّك جحيش وحدك، وزدت في عيني نبلا، فقال جعفر: [الرجز]
* لبّث قليلا يدرك الهيجا حمل (3) *
يعرّض بأنه قد يجوز أن يدرك ما يحاوله، فقال له الرشيد: فاتتك والله السوابق، وجئت سكينا ذا زوائد أربع، قال: ورأيت الحميّة في وجهه، فقال جعفر: على شريطة حلمك. قال: أتراه يسع غيرك ويضيق عنك؟ فقال جعفر: لست أنصّ على شاعر واحد أنّه أحسن الناس في بيت تشبيها، ولكن قول امرىء القيس: [الطويل]
كأنّ غلامي إذ علا حال متنه ... على ظهر باز في السّماء محلّق (4)
وقول عديّ بن الرقاع: [الكامل]
يتعاوران من الغبار ملاءة ... غبراء محكمة هما نسجاها (5)
تطوى إذا وردا مكانا جاسيا ... وإذا السّنابك أسهلت نشراها
وقول النابغة: [الطويل]
بأنّك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب (6)
قال الأصمعيّ: قلت: هذا حسن كلّه بارع، وغيره أحسن منه، وإنما يجب أن يقع
__________
(1) البيت في ديوان عمرو بن كلثوم ص 64، وخزانة الأدب 3/ 178، ولسان العرب (مدر)، (ندر)، (صحن).
(2) البيت في ديوان عمرو بن معديكرب ص 140، والأصمعيات ص 172، والأغاني 10/ 4، ولسان العرب (سمع).
(3) الرجز لحمل بن سعدانة بن عليم العليمي في تاج العروس (حمل)، وبلا نسبة في لسان العرب (حمل).
(4) البيت في ديوان امرىء القيس ص 173، والمخصص 14/ 233، وبلا نسبة في لسان العرب (حول).
(5) البيتان في ديوان عدي بن الرقاع ص 50، وأساس البلاغة (جسأ)، والطرائف الأدبية ص 96.
(6) البيت في ديوان النابغة الذبياني ص 13.(3/207)
التعيين على ما اخترعه قائله فلم يتعرّض له، أو تعرّض له شاعر، فوقع دونه، فأمّا قول امرىء القيس: [الطويل]
* على ظهر باز في السّماء محّلق *
فمن قول أبي دواد: [الطويل]
إذا شاء راكبه ضمّه ... كما ضمّ بازي السماء الجناح (1)
وأما قول عدي: [الكامل]
* يتعاوران من الغبار ملاءة *
فمن قول الخنساء: [الكامل]
جاري أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الحضر (2)
وأول من نطق به جاهلي من بني عقيل، قال: [الطويل]
ألا يا ديار الحيّ بالبردان ... عفت حجج بعدي لهنّ ثماني (3)
فلم يبق منها غير نؤى مهدّم ... وغير أثاف كالرّكي دفان
وآثار هاب أورق اللون سافرت ... به الرّيح والأمطار كلّ مكان
قفار مروراة يحار بها القطا ... ويضحي بها الجابان يعتركان
يثيران من نسج الغبار عليهما ... قميصين أسمالا ويرتديان
وشارك عديّا أبو النجم، وأورده في أحسن لفظ، قال يصف عيرا وأتانا وما أثاراه من الغبار بعدوهما: [الرجز]
القى بجنب القاع من حيالها ... سرباله وانشام في سربالها
وأما قول النابغة: [الطويل]
* بأنّك شمس والملوك كواكب *
فقد تقدّمه فيه شاعر قديم من شعراء كندة يمدح عمرو بن هند، وهو أحقّ به من النابغة إذ كان أبا عذرته، فقال: [الطويل]
__________
(1) يروى البيت:
إذا شاء فارسه ضمّه ... كما ضمّ بازي السماء الجناحا
وهو في ديوان أبي دؤاد الإيادي ص 13.
(2) البيت في ديوان الخنساء ص 259.
(3) الأبيات في خزانة الأدب 3/ 276، ومعجم البلدان 5/ 3.(3/208)
كادت تميد الأرض بالناس إذ رأوا ... لعمرو بن هند غضبة وهو عاتب
هو الشمس وافت يوم سعد فأفضلت ... على كلّ ضوء والملوك كواكب
قال: فكأنّي والله ألقمت جعفرا حجرا. فاهتّز الرشيد فوق سريره، وكاد يطير عجبا وطربا، وقال: والله، لله درّك يا أصمعيّ، اسمع الآن ما كان وقع عليه اختياري، فقال:
ليقل أمير المؤمنين أحسن الله توفيقه، فقال: عيّنت على ثلاثة أشعار، أقسم بالله إني أملك السبق بأحدها، فقال يحيى: خفّض على هينتك، فأبى الله إلا أن يكون لك الفضل، ثم قال الرشيد: أتعرف يا أصمعيّ تشبيها أفخر وأعظم في أحقر مشّبه وأصغره في أحسن معرض، من قول عنترة الذي لم يسبقه إليه سابق، ولا نازعه منازع، ولا طمع في مجاراته طامع، حين شبّه ذباب الرّوض العازب في قوله: [الكامل]
وخلا الذباب بها فليس ببارح ... غردا كفعل الشّارب المترنّم (1)
هزجا يحكّ ذراعه بذراعه ... فعل المكبّ على الزنّاد الأجذم
ثم قال: يا أصمعيّ هذا من التشبيهات العقم التي لا تنتج، شبهّت بالريح العقيم التي لا تنتج ثمرة، ولا تلقح شجرة، فقلت: كذلك هو يا أمير المؤمنين، وبمجدك آليت ما سمعت قطّ أحدا يصف شعرا بأحسن من هذه الصفة، ولا استطاع بلوغ هذه الغاية، فقال: مهلا، لا تعجل أتعرف أحسن من قول الحطيئة يصف لغام ناقته، أو تعلم قبله أو بعده شّبه تشبيهه حيث يقول: [الطويل]
ترى بين لحييها إذا ما ترغّمت ... لغاما كنسج العنكبوت الممدّد (2)
فقلت: والله ما علمت أحدا تقدّمه إلى هذا التشبيه، أو أشار إليه بعده ولا قبله، قال: أتعرف بيتا أبدع وأوقع من تشبيه الشّماخ لنعامة سقط ريشها، وبقي أثره في قوله:
[البسيط]
كأنّما منثنى أقماع ما مرطت ... من العفاء بليتيها الثّآليل (3)
فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين، فالتفت إلى يحيى، فقال: أوجب، فقال:
وجب، فقال: أأزيدك؟ فقال: وأيّ خبر لم يزدني منه أمير المؤمنين! قال: وقول النابغة الجعديّ: [الطويل]
رمى ضرع ناب فاستهلّ بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهّم (4)
__________
(1) البيتان في ديوان عنترة ص 197، والبيت الأول في أساس البلاغة (هزج)، والبيت الثاني في لسان العرب (قدح).
(2) البيت في ديوان الحطيئة ص 49، ولسان العرب (رغم)، وتاج العروس (رغم).
(3) البيت في ديوان الشماخ ص 278.
(4) البيت في ديوان النابغة الجعدي ص 143.(3/209)
ثم التفت إلى الفضل، فقال: أوجب؟ قال: وجب، قال: أزيدك، قال ذلك لأمير المؤمنين، قال: قول الأعرابيّ: [الطويل]
به ضرب أنداد العطايا كأنّه ... ملاعب ولدان تحطّ وتمضغ
ثم التفت إلى جعفر، فقال: أوجب؟ قال: وجب، قال: أزيدك، قال: لأمير المؤمنين علوّ الرأي، قال: قول عديّ بن الرقاع: [الكامل]
تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه ... قلم أصاب من الدّواة مدادها (1)
فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا بيت حسد عديّا عليه جرير، قال: وكيف ذلك؟
قلت: زعم أبو عمرو بن العلاء أن جريرا قال: لما ابتدأ عديّ ينشد: [الكامل]
* عرف الدّيار توهّما فاعتادها (2) *
فقلت في نفسي: ركب والله مركبا صعبا، سيبدع فيه، فما زال يتخلّص من حسن إلى حسن، إلى أن قال: [الكامل]
* تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه *
فرحمته، وظننت أن مادته تقصر به، فلما قال: [الكامل]
* فلم أصاب من الدّواة مدادها *
حالت الرحمة حسدا، فقال: لله أبوك يا أصمعيّ؟ ثم أطرق ورفع رأسه، وقال:
أتراك تعينني في انحطاطك في هواي؟ فقلت: كلا يا أمير المؤمنين، إنّك لتجل عن ذلك، قال: انظر خمسا، قلت: قد نظرت، قال: فالسّبق لمن؟ قلت: لأمير المؤمنين، قال: فقد أسهمت لك في العشر والعشر كثير، ثم رمى بطرفه إلى يحيى، وقال: المال الساعة، وأولى لك! فما كان ساعة حتى حضرت البدر بيني وبينه، ورأيت ضوء الصبح قد غلب على ضوء الشمع، فأشار إلى خادم على رأسه، كم هي؟ فقال: ثلاثة آلاف ألف درهم، فقال: دونك احتمل ثلاثين ألفا إلى منزلك، ونهض عن مجلسه، وأمر الخدم، بمعاونتي على حمله، فكانت أسعد ليلة ابتسم فيها الصباح عن أحد بالغنى.
فهذه الحكاية تدلّك على تبحره في علوم العربية وسعة حفظه.
* * * تبع ابن الرّمادي عنترة في قوله: «وخلا الذباب» بقوله: [الطويل]
__________
(1) البيت في ديوان عدي بن الرقاع ص 35، ولسان العرب (بلد)، (قرش)، (زجا).
(2) عجزه:
من بعد شمل البلى أبلادها
والبيت في ديوان عدي بن الرقاع ص 33، ولسان العرب (بلد)، والأغاني 1/ 290.(3/210)
وكأس كريق الإلف شعشعها به ... وعيشي من هذا الشّراب المشعشع
إذا ما شربنا كأسنا صبّ فضلها ... على روضنا للمسمع المتخّلع
وقال ابن الرومي: [الطويل]
وأذّكى نسيم الروض ريعان ظلّه ... وغنّي مغنّي الطير فيه فرجّعا
وكانت أهازيج الذباب هنا كم ... على شدوات الطير صوتا موقّعا
وكان أبوه قريب بخلافه، كان نذلا خسيسا، وكان عطاء الملك أتى بجماعة من البصرة إلى قريب فوجدوه ملتفّا بكساء، نائما للشمس، فوكزه برجله، وصاح به: قم يا قريب ويلك! قال: ألقيت أحدا من أهل العلم قطّ أو من أهل اللغة أو الفقهاء أو من المحدّثين؟ قال: لا والله، قال لمن حضر: اشهدوا على ما سمعتم، لا يقول لكم غدا الأصمعيّ أو بعد غد: أنشدني والدي أو حدّثني ففضحه.
* * * ومن حكاياته عن أبيه قال الأصمعيّ: حدثني أبي قال: أتي عبد الملك بن مروان برجل مع بعض من خرج عليه، فقال: اضربوا عنقه، فقال: يا أمير المؤمنين، ما هذا جزائي منك، قال: وما جزاؤك؟ قال: والله ما خرجت مع فلان إلّا بالتطيّر لك، وذلك أتى رجل مشؤوم، ما كنت مع رجل قط إلا غلب وهزم، وقد بان لك صحة ما ادّعيت به، وكنت عليك خيرا لك من مائة ألف معك. فضحك منه وخلّى سبيله.
وكان للأصمعيّ بن ظريف، فقيل له يوما: أين أبوك؟ فقال: في بيته يكذب على الأعراب.
ومرض الأصمعيّ فعاده أبو ربيعة وكان يحب أهل الأدب فقال له: أقرضني خمسة آلاف درهم، ففعل، وقال: أتشتهي غير هذا؟ فقال: نعم، فصّا حسنا، وسيفا قاطعا، وبرذونا حسنا وسرجا محلّى، فبعث بذلك إليه.
وكان إسحاق الموصلّي يعظّمه ويقرأ عليه، فدخل الأصمعيّ يوما على الفضل بن يحيى وإسحاق ينشده في صفة فرس: [الرجز]
كأنّه في الجلّ وهو سام ... مشتمل جاء من الحمام
يسور بين السّرج واللجام ... سور القطامي إلى الحمّام
فقال الأصمعيّ: هات بقيّتها، فقال له إسحاق: ألم تقل لي: ما بقي منها شيء فقال: ما بقي إلّا عيونها. ثم أنشد بعد ذلك ثلاثين بيتا، فغضب إسحاق وعرّف الفضل قلّة شكره لعارفة، وبخله بما عنده، وأخذ يصف فضل أبي عبيدة ونزاهته، وبذله لما عنده، واشتماله على علوم العرب، فأنفذ إليه الفضل مالا جليلا، واستقدمه من البصرة، وسعى بالأصمعيّ عند الرشيد حتى حطّ منزلته. وقال إسحاق يهجوه: [الوافر](3/211)
أليس من العجائب أن قردا ... أصيمع باهليّا يستطيل
ويزعم أنه قد كان يفتى ... أبا عمرو ويسأله الخليل
إذا ما قال: «قال أبي» عجبنا ... لما يأتي به ولما يقول
وجّلله عطاء الملك عارا ... تزول الرّاسيات ولا يزول
فقل لأبي ربيعة إذ عصاني ... وحاد به عن القصد السبيل
لقد ضاعت برودك فاحتسبها ... وضاع الفصّ والسّيف الصّقيل
فأما الخمسة الآلاف فاعلم ... بأنك غبنها لا تستقبل
والأصمعيّ لا يقدح هذا القدر في جانبه، لأنّ بعض محاسنه يغطّي على كل مساوئه.
وكان منشؤه بالبصرة، وبها توفّي سنة تسع عشرة ومائتين وبلغ ثمانيا وثمانين سنة.
قوله: محرابي، وما بعده في معناه، يعني فرجها. والإمام وما بعده، يعني به ذكره. وسمّي محراب المسجد محرابا لأنه يباعد من ليس من أهله أن يقربه، إذ هو أرفع ما في المسجد، وفلان حرب لفلان، أي مباعد له. والقراب: وعاء من جلد يجعل فيه السيف مع غمده. والقراب: وعاء الزاد.
* * * فقال لهما القاضي: أراكما شنّا وطبقة، وحدأة وبندقة، فاترك أيّها الرّجل اللّدد، واسلك في سيرك الجدد. وأمّا أنت فكفّي عن سبابه، وقرّي إذا أتى البيت من بابه.
فقالت المرأة: والله ما أسجن عنه لساني، إلا إذا كساني، ولا أرفع له شراعي، دون إشباعي. فحلف أبو زيد بالمحرّجات الثّلاث، إنّه لا يملك سوى أطماره الرّثاث.
فنظر القاضي في قصصهما نظر الألمعيّ، وأفكر فكرة اللّوذعيّ. ثمّ أقبل عليهما بوجه قد قطّبه، ومجنّ قد قلبه، وقال: ألم يكفكما التّسافه في مجلس الحكم، والإقدام على هذا الجرم، حتّى تراقيتما في فحش المقاذعة، إلى خبث المخادعة! وايم الله لقد أخطأت استكما الحفرة، ولم يصب سهمكما الثّغرة فإنّ أمير المؤمنين، أعزّ الله ببقائه الدّين، نصبني لأقضي بين الخصماء لا لأقضي دين الغرماء. ووحقّ نعمته الّتي أحلّتني هذا المحلّ، وملّكتني العقد والحلّ، لئن لم
توضّحا لي جليّة خطبكما، وخبيئة خبّكما، لأندّدنّ بكما في الأمصار، ولأجعلنّكما عبرة لأولي الأبصار.(3/212)
فنظر القاضي في قصصهما نظر الألمعيّ، وأفكر فكرة اللّوذعيّ. ثمّ أقبل عليهما بوجه قد قطّبه، ومجنّ قد قلبه، وقال: ألم يكفكما التّسافه في مجلس الحكم، والإقدام على هذا الجرم، حتّى تراقيتما في فحش المقاذعة، إلى خبث المخادعة! وايم الله لقد أخطأت استكما الحفرة، ولم يصب سهمكما الثّغرة فإنّ أمير المؤمنين، أعزّ الله ببقائه الدّين، نصبني لأقضي بين الخصماء لا لأقضي دين الغرماء. ووحقّ نعمته الّتي أحلّتني هذا المحلّ، وملّكتني العقد والحلّ، لئن لم
توضّحا لي جليّة خطبكما، وخبيئة خبّكما، لأندّدنّ بكما في الأمصار، ولأجعلنّكما عبرة لأولي الأبصار.
* * * واللّدد: شدّة الخصومة. الجدد: الأرض الصّلبة، والمعنى في قوله: أسلك في سيرك الجدد، جامعها في الفرج لا غيره، وفي المثل: من سلك الجدد أمن العثار.
قرّي: اسكني. البيت، كناية عن فرجها. من بابه، يريد ألّا يأخذ الجار بالجار.
وقولها: إلا إذا كساني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اعروا النّساء يلزمن الحجال» (1).
والشّراع: قلع السفينة، وأرادت برفعه كشف ثيابها ورفع رجليها حين يطؤها، وقال أبو نواس في معناه: [المتقارب]
ترفّق قليلا قد أوجعتني ... وألحقت قرطي بخلخاليه
والقرط في الأذن، والخلخال في الرجل، فانظر متى يجتمعان. وقال ابن الرومي في ذلك: [البسيط]
يا أحمد بن سعيد لو بصرت بها ... إذا الأكفّ لساقيها خلاخيل
وقال البحتريّ: [المنسرح]
لم تخط باب الدّهليز خارجة ... إلا وخلخالها مع الشّنف (2)
وقال ابن الروميّ: [الكامل]
لو أنّ رجلي عرسنا يداها ... ما أخطأتها رحمة تغشاها
قد خلقت مرفوعة رجلاها ... كأنّما يستغفران الله
وله أيضا: [الرجز]
شيخ لنا يكنى أبا حفصل ... أقرن مثل الأيّل الأثول
تبيت في منزله نسوة ... يلبسن ثوب الليل كالمنزل
يعملن فيه عملا صالحا ... يرفعه الله إلى أسفل
يستغفر النّاس بأيديهم ... وهنّ يستغفرن بالأرجل
قال الأصمعيّ: قلت لأمة ظريفة: يا جارية هل في يديك عمل؟ قالت: لا، ولكن في رجلي.
__________
(1) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 1/ 346.
(2) البيت في ديوان البحتري ص 1411.(3/213)
والمحرّجات الثلاث: هي الطّلاق والعتق والمشي إلى مكة، وقيل: هي الطّلاق الثلاث ومحرّجات: فيها حرج، أي إثم وضيق.
وحدّث أبو حاتم، عن الأصمعيّ عن عيسى بن عمر، قال: اشتكى رجل امرأته، فقال له شيخ من بني نصر، كان أسنّ منه: ألا نكشفها بالمحرّجات يعني الطلاق قال:
قاتلك الله! فما أغرّك، وعليّ الطلاق ثلاثا.
حدثنا أبو بكر محمد بن أسد الدبليّ قال: سمعت أبا فتان الدارع يقول: الطلاق الثلاث البتّ لازم لي، لقد سمعت أبا عبيدة معمر بن المثنى يقول: الطلاق الثلاث، البتّ لازم لي، لقد سمعت أبا عمرو بن العلاء، يقول الطلاق الثلاث البتّ لازم لي، إن كانت العرب قالت أحكم من هذه الأبيات: [الكامل]
كن للمكاره بالعزاء مقنّعا ... فلعلّ يوما لا ترى ما تكره
فلربّما استتر الفتى فتنافست ... فيه العيون وإنه لمموّه
ولربّما خزن الكريم لسانه ... حذر الجواب وإنّه لمفوّه
ولربما ابتسم الكريم من الأذى ... وفؤاده من حرّه يتأوّه
قوله: أطماره الرّثاث، أي ثيابه الخلقة. الألمعيّ: المتوقد الحاضر الذّهن.
ابن الأعرابي: الألمعيّ: الذي إذا لمع له أوّل الأمر عرف آخره، فيكتفي بظنّه دون تعيينه. واللوذعيّ: الفطن الذّكيّ الظريف الحديد الفؤاد. قطّبه: عبسّه. مجنّ: ترس.
وقلبه، كناية عن إبداء الشرّ بعد الخير، وقد تقدّم. التّسافه: الإفحاش. والشمّ. الجرم:
الذنب. المقاذعة: المشاتمة بما فحش. الثّغرة: الحفيرة في أصل العنق. خبّكما:
خداعكما وغشّكما. أندّدنّ: أسمع الناس بما ينالكما عندي من المكروه، وندّد به: شتمه وأسمعه القبيح. الأمصار: البلاد. عبرة: موعظة. أولي الأبصار: أهل العقول.
* * * فأطرق أبو زيد إطراق الشّجاع، ثم قال له: سماع سماع: [الرجز]
أنا السّروجيّ وهذي عرسي ... وليس كفأ البدر غير الشّمس
وما تنافى أنسها وأنسي ... ولا تناءى ديرها عن قسّي
ولا عدت سقياي أرض غرسي ... لكنّا منذ ليال خمس
نصبح في ثوب الطّوى ونمسي ... لا نعرف المضغ ولا التّحسّي
حتى كأنّا لخفوت النّفس ... أشباح موتى نشروا من رمس
فحين عزّ الصّبر والتّأسّي ... وشفّنا الضّرّ الأليم المسّ
قمنا لسعد الجدّ أو للنّحس ... هذا المقام لاجتلاب فلس
والفقر يلجي الحرّ حين يرسي ... إلى التّجلّي في لباس اللّبس
فهذه حالي وهذا درسي ... فانظر إلى يومي وسل عن أمسي
وأمر بجبري إن تشا أو حبسي ... ففي يديك صحتّي ونكسي
* * *(3/214)
أنا السّروجيّ وهذي عرسي ... وليس كفأ البدر غير الشّمس
وما تنافى أنسها وأنسي ... ولا تناءى ديرها عن قسّي
ولا عدت سقياي أرض غرسي ... لكنّا منذ ليال خمس
نصبح في ثوب الطّوى ونمسي ... لا نعرف المضغ ولا التّحسّي
حتى كأنّا لخفوت النّفس ... أشباح موتى نشروا من رمس
فحين عزّ الصّبر والتّأسّي ... وشفّنا الضّرّ الأليم المسّ
قمنا لسعد الجدّ أو للنّحس ... هذا المقام لاجتلاب فلس
والفقر يلجي الحرّ حين يرسي ... إلى التّجلّي في لباس اللّبس
فهذه حالي وهذا درسي ... فانظر إلى يومي وسل عن أمسي
وأمر بجبري إن تشا أو حبسي ... ففي يديك صحتّي ونكسي
* * *
أطرق: أمال رأسه ساكنا. الشّجاع: الحيّة. سماع سماع، أي اسمع منّي، كفء البدر: أي نظيره، والكفء: النّظير والمثل. دبرها: فرجها. قسّي: ذكري. وأصل الدّير للنصارى، والقسّ والقسيس: عالمهم وعابدهم. عدت: جارت وخرجت عن طريقها.
والسّقيا: الشرب، وهي هنا مصدر بمعنى السّقي. والتحسّي: شرب الحسوة، وأراد بالمضغ والتحسّي أكل الخبز واللحم، وحسو مرقه. وقيل: المضغ في الرّخاء والحسو في الشدّة، كاستعمالهم فيها حسو السّخينة وغيرها. وعزّ: قلّ. التأسّي: الاقتداء بالغير، وقد تأسّى تأسّيا إذا اقتدى بفعل غيره وتصبّر، وهذا باب غلبت عليه الخنساء بقولها:
[الوافر]
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي (1)
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزّي النّفس عنه بالتأسيّ
فزاد عليه ابن العباس الروميّ، في المعنى وبيّنه حتى استحقّه حيث قال: [الوافر]
رأيت الدّهر يجرح ثم يأسو ... يؤسّي أو يعوّض أو ينسّي
أبت نفسي الهلاع لرزء شيء ... كفى رزءا لنفسي رزء نفسي
أتجزع وحشة لفراق إلف ... وقد وطنتها لحلول رمسي
فذهب في هذه الأبيات كلّ مذهب، ثم أراد أن يظهر ما عنده من فضل المنّة وحسن التّصرف، فقال: [الخفيف]
يا شبابي وأين منّي شبابي ... آذنتني أيامه بانقضاب
ومعزّ عن الشّباب مؤسّ ... بمشيب اللّذّات والأصحاب
قلت لما انتحى يعدّ أساه ... بمصاب شبابه بمصاب
ليس تأسو كلوم غيري كلومي ... ما به ما به وما بي ما بي
وكرّر هذا المعنى فأحسن ما شاء، وذهب فيه مذاهب أخرى، فقال: [الطويل]
خليليّ قد علّلتماني بالمنى ... وأنعمتما لو أنّني أتعلّل
أللناس إيثاري وإلّا فما الأسى ... وعيشكما إلّا ضلال مضلّل
__________
(1) البيتان في ديوان الخنساء ص 153.(3/215)
وما راحة المرزوء في رزء غيره ... أيحمل عنه بعض ما يتحمّل!
كلا حاملي أو في الرزية مثقل ... وليس معينا مثقل الظّهر مثقل
وضرب من الظلم الخفيّ مكانه ... تعزّيك بالمرزوء حين تأمّل
ولابن رشيق: [المتقارب]
رأيت التّعزّي مما يهيج ... على المرء ساكن أوصابه
وما نال ذو أسوة سلوة ... ولكن أتى الحزن من بابه
تفكّر في مثل أرزائه ... فذكرّه ما به ما به
وقال ابن رشيق: أخذته من قول عمر بن أبي ربيعة: [الوافر]
وذو الشّوق القديم وإن تعزّى ... مشوق حين يلقى العاشقينا
وأخذه عمر من قول متمم بن نويرة: [الطويل]
وقالوا أتبكي كلّ قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللّوى والدّكادك
فقلت لهم إنّ الأسى يبعث البكا ... دعوني فهذا كلّه قبر مالك
* * *
خفوت: ضعف النفس من شدة الجوع، وخفت خفوتا: ضعف وسكن ومات.
والأشباح: الأشخاص، وأصل الشّبح الشخص تبصره على بعد، فلا تعرف ما هو، ويقع الشّبح على كلّ شخص مرئيّ. نشروا: أحيوا. رمس: قبر، والمسّ: لصوق جارحة بأخرى. الجدّ: الحظ والنصيب. يرسي: يثبت ويقيم. التجلّي: البروز والظهور.
اللّبس: التخليط. درسي: ثوبي الخلق الجبر: أن تغني الرّجل من فقر، أو تصلح عظمه من كسر، وجبره الله: سدّ مفاقره. والنّكس: بضم النون: عود المرض بعد القوّة، ونكس نكسا.
* * * فقال له القاضي: ليثب أنسك، ولتطب نفسك، فقد حقّ لك أن تغفر خطيّتك، وتوفّر عطيّتك. فثارت الزّوجة عند ذلك واستطالت، وأشارت إلى الحاضرين وقالت: [السريع]
يا أهل تبريز لكم حاكم ... أوفى على الحكّام تبريزا
ما فيه من عيب سوى أنّه ... يوم النّدى قسمته ضيزى
قصدته والشيخ نبغي جنى ... عود له ما زال مهزوزا
فسرّح الشّيخ وقد نال من ... جدواه تخصيصا وتمييزا
وردّني أخيب من شائم ... برقا خفا في شهر تموّزا
كأنّه لم يدر أنّي الّتي ... لقنت ذا الشّيخ الأراجيزا
وأنّني إن شئت غادرته ... أضحوكة في أهل تبريزا
* * *(3/216)
يا أهل تبريز لكم حاكم ... أوفى على الحكّام تبريزا
ما فيه من عيب سوى أنّه ... يوم النّدى قسمته ضيزى
قصدته والشيخ نبغي جنى ... عود له ما زال مهزوزا
فسرّح الشّيخ وقد نال من ... جدواه تخصيصا وتمييزا
وردّني أخيب من شائم ... برقا خفا في شهر تموّزا
كأنّه لم يدر أنّي الّتي ... لقنت ذا الشّيخ الأراجيزا
وأنّني إن شئت غادرته ... أضحوكة في أهل تبريزا
* * *
ليثب: أي ليرجع. توفّر: تكثر. ثارت: ظهرت، وأفشت سرّها. واستطالت:
جرحت بلسانها، وأعلت كلامها. أوفى: أشرف عليهم وزاد. تبريزا: ظهورا وسبقا.
ضيزى: غير مستوية، فيها بخس ونقصان، وقد ضاز الحاكم، إذا جار، وضازه يضيزه ضيزا، إذا نقصه ومنعه حقه. ويحكى أن مزيدا المدني ويكنى أبا إسحاق صلّى يوما، فلمّا فرغ من صلاته قالت امرأته: اللهم أشركني في دعائه، فقال مزيد اللهمّ اصلبني، فقالت امرأته: أمّا على هذا فلا، فقال يا ضرّاطة، تلك إذا قسمة ضيزى.
قوله والشيخ: منصوب على المفعول معه. نبغي: نطلب. النّدى: الكرم. وجنى العود: ما يجنى من ثمره، وأرادات كرم القاضي. ما زال مهزوزا، أي ما زال القاصدون يهزّون عوده فيتساقط عليهم جناه، فمعنى ما زال مهزوزا، أي مطلوب منه العطايا.
جدواه: عطاياه تخصيصا: ترفيعا. تمييزا: تعيينا، وقد تخصّص الرجل: تشبّه بالخواصّ، وتعيّن: تشبّه بالأعيان. شائم: ناظر للبرق. خفي: لمع. تمّوز: يوليه بالسريانية، وهو أشدّ الشهور حرّا. لقنت: فهمت وحفظت. غادرته: تركته. أضحوكة: يضحك به من رآه.
* * * قال: فلمّا رأى القاضي اجتراء جنانهما، وانصلات لسانهما، علم أنّه قد مني منهما بالدّاء العياء، والدّاهية الدّهياء وأنّه متى منح أحد الزّوجين، وصرف الآخر صفر اليدين، كان كمن قضى الدّين بالدّين، أو صلّى المغرب ركعين. فطلسم وطرسم، واخرنطم وبرطم، وهمهم وغمغم، ثمّ التفت يمنة وشامة وتململ كآبة وندامة، وأخذ يذمّ القضاء ومتاعبه، ويعدّد شوائبه ونوائبه، ويفنّد طالبه وخاطبه.
ثمّ تنفّس كما يتنفّس الحريب، وانتحب حتّى كاد يفضحه النّحيب، وقال: إن هذا لشيء عجيب! أأرشق في موقف بسهمين! أألزم في قضيّة بمغرمين! أأطيق أن أرضي الخصمين، ومن أين ومن أين!
* * * اجتراء: إقدام وتشجّع جنانهما: قلبهما، يريد أنهما لم يهاباه. انصلات لسانهما:
خروجه بالكلام وطاقته بالشرّ، وانصلت السيف تسلل من غمده وخرج. مني: بلي.
الدّاء العياء: الذي يعيي الطبيب. والدّاهية: كل أمر فظيع لا يطاق. الدهياء: مبالغة وتأكيد لمعنى الدّاهية، أي الداهية الشديدة. منح: إعطاء. صقر: فارغ. ومن قضى الدّين بالدّين، فكأنّه ما قضاه وأنشدوا:(3/217)
خروجه بالكلام وطاقته بالشرّ، وانصلت السيف تسلل من غمده وخرج. مني: بلي.
الدّاء العياء: الذي يعيي الطبيب. والدّاهية: كل أمر فظيع لا يطاق. الدهياء: مبالغة وتأكيد لمعنى الدّاهية، أي الداهية الشديدة. منح: إعطاء. صقر: فارغ. ومن قضى الدّين بالدّين، فكأنّه ما قضاه وأنشدوا:
إذا كنت تقضي الدّين بالدّين لم يكن ... قضاء ولكن كان غرما على غرم
تململ: توجّع وتقلّب. كآبة: حزن وهمّ. شوائب: ما يكره ويختلط به. نوائبه:
نوازله. يفنّد: يخطّىء. الحريب: المحزون المسلوب ماله، وقد حربه، إذا سلبه «فعيل» بمعنى «مفعول». انتحب: بكى. يفضحه: يشهره. أرشق: أرمي، والرّشق جملة السهام ترمى مجتمعة، وقال لبيد: [الرمل]
فرميت القوم رشقا صائبا ... ليس بالطّيش ولا بالمفتعل (1)
وإذا وقعت السهام مجتمعة عند الغرض سمّيت رشقا، القضية: القضاء والحكومة.
المغرم والغرامة واحد.
* * * ثمّ عطف إلى حاجبه، المنفذ لمآربه، وقال: ما هذا يوم حكم وقضاء، وفصل وإمضاء هذا يوم الاعتمام، هذا يوم الاغترام، هذا يوم البحران، هذا يوم الخسران، هذا يوم عصيب، هذا يوم نصاب فيه ولا نصيب فأرحني من هذين المهذارين، واقطع لسانهما بدينارين. ثمّ فرّق الأصحاب، وأغلق الباب، وأشع أنّه يوم مذموم، وأنّ القاضي فيه مهموم، لئلّا يحضرني خصوم.
قال: فأمّن الحاجب على دعائه، وتباكى لبكائه ثم نقد أبا زيد وعرسه المثقالين، وقال: أشهد إنّكما لأحيل الثّقلين ولكن احترما مجالس الحكّام، واجتنبا فيها فحش الكلام فما كلّ قاض قاضي تبريز، ولا كلّ وقت تسمع الأراجيز، فقالا له: مثلك من حجب، وشكرك قد وجب، ونهضا وقد حظيا بدينارين، وأصليا قلب القاضي نارين.
* * * __________
(1) يروى عجز البيت:
ليس بالعصل ولا بالمقتعل
وهو في ديوان لبيد ص 194، ولسان العرب (روق)، (عصل)، (فعل)، (رقم)، ويروى أيضا:
ليس بالعصل ولا بالمقتعل(3/218)
مآربه حوائجه. البحران: كاليوم السابع من المرض، والبحران عند الأطباء: مدافعة عظيمة تقع بين الطبيعة والعلّة، وبحر الرجل بحرا، إذا اجتهد في العدو طالبا أو مطلوبا، فانقطع وضعف. ورجل بحر: مسلول ذاهب اللحم. عصيب: شديد. المهذارين:
الكثيرين الكلام بلا فائدة. اقطع لسانهما، أي صلهما حتى ينقطع بالدينارين كلامهما، وهذا اللّفظ الذي هو قطع اللسان بالصّلة قد نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أعطى المؤلّفة قلوبهم من نفل حنين، مائة مائة، وأعطى العباس بن مرداس أباعر، فسخطها وقال:
[المتقارب]
أتجعل نهبي ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع (1)
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع
وما أنا دون امرىء منهما ... ومن يخفض اليوم لم يرفع
فقال صلى الله عليه وسلم: «اقطعوا عني لسانه». فأعطي حتى رضي وقد جاء في النوادر في حكاية ليلى الأخيلية حين قال الحجاج: يا غلام اذهب إلى فلان، فقل له يقطع لسانها، فأمر بإحضار الحجام، فقالت: ثكلتك أمك! إنما أمرك أن تقطع لساني بالصّلة، وهي لفظة مستعملة عند من له أمر ونهي.
قوله: أمّن، قال: آمين، ومعناه الرغبة في الإجابة. تباكى: استعمل البكاء.
الثّقلين: الإنس والجن، والواحد ثقل وثقل كمثل ومثل، وأصله ما يحمل من الشيء الثقيل، فقيل لهما: ثقلان، لأنهما كالثّقل على الأرض. والفحش في القول كالفاحشة في الفعل. نهضا: تقدما. شكرك قد وجب: يقال: وجب البيع والحقّ، معناه وقع، وعنه قوله تعالى: {فَإِذََا وَجَبَتْ جُنُوبُهََا} [الحج: 36] أي وقعت على الأرض وسقطت.
ووجب الحائط: سقط، ووجب قلبه: فزع وخفق. حظيا: سيّدا. أصليا: أوقدا وألصقا به.
تفسير ما أودع هذه المقامة من الألفاظ اللغوية والأمثال العربية
قوله: «لقيت منها عرق القربة»، هذا مثل يضرب لمن يلقى شدّة من الأمر الّذي يزاوله، كما أن حامل القربة يلقى جهدا حتّى يعرق.
وقوله: «جعلته دبر أذني»، يعني طرحته، وهو كقوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرََاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187].
__________
(1) الأبيات في ديوان العباس بن مرداس ص 84، والبيت الأول في لسان العرب (نهب)، (عبد)، والبيت الثاني في الأغاني 14/ 291، والإنصاف 2/ 499، ولسان العرب (ردس).(3/219)
وقوله: «أكذب من سجاح» يعني الّتي تنبّأت في عهد مسيلمة الكذاب، وسارت إليه لتناظره وتختبره ثم آمنت به، ووهبت نفسها له وهذا الاسم، مبنيّ على الكسر، مثل حذام وقطام، لكونه من الأسماء المعدولة، واشتقاقه من السّجاحة، وهي السّهولة، ومن قولهم: ملكت فأسجع.
وقولها: «أكذب من أبي ثمامة»، هذه كنية مسيلمة الكذاب، وكان تنبّأ باليمامة.
ومخرق بها، إلى أن سار إليه خالد بن الوليد رضي الله عنه فقتله.
وقوله: «لا نعم عوفك». العوف: الحال، والعوف أيضا الذّكر، ويدعى للباني على أهله فيقال له: «نعم عوفك».
وقوله: «يا دفار يا فجار». هذان الاسمان معدولان من دافرة وفاجرة، والدّفر:
النّتن وبه سمّيت الدّنيا أم دفر وكلّ ما سمّي بصفة غالبة، ثم عدل بها إلى «فعال»، بني على الكسر عند النداء، كقولك: يا لكاع يا خباث، يا دفار يا فجار، ولا يجوز استعمال ذلك في غير النداء إلّا في ضرورة الشعر، كقول الحطيئة: [الوافر]
أطوّف ما أطوّف ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لكاع (1)
وأما قوله: «أحمق من رجلة»، فهي ضرب من الحمض تنبت في جاري السّيل فيجرفها.
وأمّا قولها: «الأم من مادر»، فهو رجل من بني هلال بن عامر كان اتّخذ حوضا لسقي إبله، فلمّا رويت سلح فيه، ومدره بسلحه لئلا ينتفع به من بعده.
وأما قولها: «أشأم من قاشر» فإنّه فحل كان في قبائل سعد بن زيد بن مناة بن تميم، ما طرق إبلا إلّا ماتت. وقيل: المراد به العام المجدب، وسمّي قاشرا لقشره ما على وجه الأرض من النبات.
وأما قولها: «أجبن من صافر»، فقد اختلف في تفسيره، فقال بعضهم: عنّى به كل ما يصفر من الطير، وخصّ بالجبن لكثرة ما يتّقيه من جوارح الجوّ ومصايد الأرض. وقيل: إنّه طائر بعينه إذا جنّه الليل تعلّق ببعض الأغصان، ولم يزل يصفر طول ليلته خوفا على نفسه من أن ينام فيؤخذ. وقيل: إنه الذي يصفر بالمرأة لريبة وهو يجبن وقت صغيره مخافة أن يظهر على أمره. وقيل: إنّ المراد به في المثل المصفور به وهو الذّي ينذر بالصّفير ليهرب، فعلى هذا القول فاعل هنا بمعنى مفعول، كقوله تعالى: {مِنْ مََاءٍ دََافِقٍ} [الطارق: 6] أي مدفوق وكقولهم: راحلة بمعنى مرحولة، وهو كثير في كلامهم، وقد جاء «مفعول» بمعنى «فاعل»، كقوله
__________
(1) البيت في ملحق ديوان الحطيئة ص 156، والدرر 1/ 254، وهو لأبي الغريب النصري في لسان العرب (لكع)، وبلا نسبة في شرح ابن عقيل ص 76.(3/220)
تعالى: {حِجََاباً مَسْتُوراً} [الإسراء: 45]، أي ساترا. وكقوله تعالى: {إِنَّهُ كََانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم: 61].
وأما قوله: «أطيش من طامر»، فالمراد به البرغوث ويسمّى طامر بن طامر لكثرة وثوبه.
وأما قوله القاضي: «أراكما شنّا وطبقة، وحدأة وبندقة»، فإنه أراد به أن كلّا منكما كفء لصاحبه وقاوم له. ولكل من المثلين تفسير مختلف فيه. أما شنّ وطبقة فإن العلماء مختلفون في معنى قولهم: «وافق شنّ طبقة»، فقال الأكثرون: إنّهما قبيلتان فشنّ هو ابن أفضى بن دعميّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. وطبقة حيّ من إياد وكانت طبقة لا تطاق، فأوقعت بها شنّ، فانقصفت منها.
وقال بعضهم: كان شنّ رجلا من دهاة العرب، وكان ألزم نفسه ألّا يتزوّج إلّا بامرأة تلائمه، فكان يجوب البلاد في ارتياد طلبته، فصاحبه رجل في بعض أسفاره، فلمّا أخذ منهما السيّر، قال له شنّ: أتحملني أم أحملك؟ فقال له الرجل: يا جاهل وعلى يحمل الرّاكب الراكب! فأمسك وسارا حتى أتيا على زرع، فقال له شنّ: أترى هذا الزّرع أكل أم لا؟ فقال له: يا جاهل، أما تراه في سنبله! فأمسك إلى أن استقبلتهما جنازة، فقال له شنّ: أترى صاحبها حيّا أم لا؟ فقال: ما رأيت أجهل منك، أتراهم حملوا إلى القبر حيّا! ثمّ إنهما وصلا إلى قرية الرجل، فصار به إلى منزله، وكانت له بنت تسمّى طبقة، فأخذ يطرفها بحديث رفيقه، فقالت له: ما نطق إلا بالصواب، ولا أستفهمك إلا عما يستفهم عن مثله ذوو الألباب. أما قوله: أتحملني أم أحملك، فإن أراد: أتحدّثني أم أحدّثك، حتّى نقطع الطريق بالحديث. وأما قوله: أترى هذا الزرع أكل أم لا؟ فإنه أراد: هل استسلف أربابه ثمنه أم لا! وأمّا استفهامه عن حياة صاحب الجنازة، فإنّه أراد به: فخلّف عقبا يحيا ذكره به أم لا. فلمّا خرج إلى الرّجل حدّثه بتأويل ابنته كلامه، فخطبها إليه، فزوّجه إياها، فلمّا سار بها إلى قومه وخبروا ما فيها من الدّهاء والفطنة قالوا: وافق شنّ طبقة، فسار مثلا.
وحكي عن الأصمعيّ، سئل عن تفسير هذا المثل فقال: أظنّ أنّ الشّن وعاء من أدم كان قد استشنّ، فلمّا اتّخذ له غطاء وافقه، ضرب فيه هذا المثل.
وأمّا حدأة وبندقة فإنّه يقال في المثل المضروب لمن يفزع بعدوّه أو يبلى بنظيره:
حدأ حدأ أو وراءك بندقة وكان الأصل حدأة بإثبات الهاء، فرخّم في النداء وقد اختلف في المراد بهما، فقيل: الحدأة هو الطائر المعروف، وبندقة الرامي.
وقيل: إنهما قبيلتان من سعد العشيرة، فأغارت حدأة وكانت تنزل بالكوفة على بندقة، وكانت تنزل باليمن، فنالت منهم، ثمّ كرت بندقة على حدأة فأنحت عليهم.
وروى بعضهم هذا المثل: حدا حدا، غير مهموز، على مثال عصا وقفا، وزعم أنّه اسم القبيلة.(3/221)
وأما قوله: «أخطأت استكما الحفرة» فإنّه مثل يضرب لمن يخطىء في مقصده ويضع الشيء في غير موضعه.
وأمّا قوله: «طلسم وطرسم»، فمعنى طلسم كره وجهه، ومعنى طرسم أطرق.
وقوله: «اخرنطم وبرطم» أي غضب وقطّب وجهه.
وقيل: معنى اخرنطم غضب مع تكبّر. ومعنى برطم غضب مع تعبّس.
وأما قوله: «همهم وغمغم» أي لم يبيّن الكلام.(3/222)
المقامة الحادية والأربعون وهي التّنّيسيّة
حدّث الحارث بن همّام قال: أطعت دواعي التّصابي، في غلواء شبابي فلم أزل زيرا للغيد، وأذنا للأغاريد إلى أن وافى النّذير، وولّى العيش النّضير فقرمت إلى رشد الانتباه، وندمت على ما فرّطت في جنب الله، ثمّ أخذت في كسح الهنات بالحسنات، وتلافي الهفوات قبل الفوات فملت عن مغاداة الغادات، إلى ملاقاة التّقاة، وعن مقاناة القينات، إلى مداناة أهل الدّيانات، وآليت ألّا أصحب إلّا من نزع عن الغيّ، وفاء منشره إلى الطّي، وإن ألفيت من هو خليع الرّسن، مديد الوسن، أنأيت داري عن داره، وفررت عن عرّه وعاره.
* * * أطلعت دواعي التّصابي، يقال: أطعت كذا، وطعت له، أي انقدت. والمطيع:
المنقاد، والتّصابي: التّظاهر بالصّبا والتشاغل به. ودواعيه: ما يدعوه إليه، وغلواء الشباب: أوله وسرعته، أراد: ملت إلى اللهو واللعب في أوّل شبابي، فلمّا أتى الشيب أحببت الرجوع إلى الخير. زيرا: كثير الزيارة. والغيد: جمع غيداء، وهي اللّينة العنق والمفاصل من النّعمة. أذنا للأغاريد، أي كثير الاستماع للغناء، وفلان أذن، إذا كان يستمع من كلّ قائل، ويقبل منه. وافى: أتى، والنّذير: الشيب، لأنه منذر الإنسان بتمام العمر، أي يعلمه. ولّى: رجع وزال. النّضير: الناعم، يريد زمن الشّباب.
ونؤخّر ذكر الشيب، فإنه يؤدّي إلى تغيير شرح المقامة، ونتكلم هنا على ذهاب الشّباب.
[البكاء على ذهاب الشباب]
قال أبو عمرو بن العلاء: ما بكت العرب شيئا ما بكت الشباب، وما بلغت به ما يستحقّه.
الأصمعيّ: من أحسن ألفاظ الشعر المراثي والبكاء على الشباب، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الدنيا العافية، والشباب الصحة.(3/223)
ومن ألفاظ أهل العصر: الشّباب باكورة الحياة، وروائح الجنة في الشباب. أطيب العيش أوائله كما أنّ أطيب الثمار بواكرها.
قال الصوليّ: قد أكثر في ذكر الشّباب القدماء وأهل الإسلام. وأجمع الحذّاق بالشعر وتمييز الكلام وألفاظه أنه لم يقل فيه أحسن من قول منصور النّمريّ، ووقع الإجماع عليه، فما ضرّ تأخّره، وهو: [البسيط]
ما تنقضي عبرة منّي ولا جزع ... إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع (1)
بان الشباب وفاتتني مسرّته ... صروف دهر وأيام لها خدع
ما كنت أوفي شبابي كنه غرّته ... حتّى انقضى فإذا الدّنيا له تبع
إن كنت لم تطعمي ثكل الشّباب ولم ... تشجى بغصّته الدّنيا ولا تسع
أبكي شبابا سلبناه وكان ولا ... توفي بقيمته الدّنيا ولا تسع
ما واجه الشّيب من عين وإن رمقت ... إلّا لها نبوة عنه ومرتدع
وقال أبو نواس: [الكامل]
كان الشّباب مطيّة الجهل ... ومحسّن الضّحكات والهزل (2)
كان الجمال إذا ارتديت به ... وخرجت أخطر صيّت النعل
كان البليغ إذا نطقت به ... وأصاخت الآذان للمملي
كان المشفّع في مآربه ... عند الحسان ومدرك التّبل
والباعثي والنّاس قد رقدوا ... حتى أكون خليفة البعل
وقال جحظة: [السريع]
واها لأيّام الشبا ... ب وما لبسن من الزخارف
وزوالهنّ بما عرف ... ت من المناكر والمعارف
أيام ذكرك في دوا ... وين الصّبا صدر الصحائف
وقال ابن أبي حارثة: [البسيط]
ولّى الشّباب فخلّي العين تنهمل ... فقد الشّباب بفقد الرّوح متّصل
لا تكذبنّ فما الدّنيا بأجمعها ... من الشّباب بيوم واحد بدل
وقال آخر: [الكامل]
شيئان لو بكت الدّماء عليهما ... عيناي حتى تؤذنا بذهاب
__________
(1) الأبيات في الأغاني 13/ 145، وأمالي المرتضى 2/ 606.
(2) الأبيات في ديوان أبي نواس ص 311.(3/224)
لم أبلغ المعشار من حقّيهما: ... فقد الشّباب وفرقة الأحباب
أعرابي: [الكامل]
يا طيب أيّام الشّباب وعصره ... لو يستعار جديده فيعار
ما كان أقصر ليله ونهاره ... وكذاك أيام السّرور قصار
وقال ابن عبد ربه: [الكامل]
قالوا شبابك قد مضت أيّامه ... بالعيش قلت وقد مضت أيامي
لله أية نعمة كان الصّبا ... لو أنها وصلت بطول دوام
حسر الشّباب قناعه عن رأسه ... وصحا العواذل بعد طول ملام
فكأنّ ذاك العيش ظلّ غمامة ... وكأنّ ذاك اللهو طول منام
وقال أيضا: [الوافر]
صبائي كيف صرت إلى نفاد ... وبدّلت البياض من السّواد
فما أبقى الحوادث منك إلا ... كما أبقت من القمر الدّآدي
فراقك عرّف الأحزان قلبي ... وفرّق بين عيني والرّقاد
زمان كان فيه الرّشد غيّا ... وكان الغيّ فيه من الرّشاد
يقبّلني بدلّ من قتول ... ويسعدني بوصل من سعاد
وأجنبه فيعطيني قيادا ... ويجنبني فأعطيه قيادي
قال الفرزدق: [الكامل]
إنّ الملامة مثل ما بكرت بها ... من تحت ليلتها عليك نوار (1)
قالت: وكيف يميل مثلك للصّبا ... وعليك من سمة الحليم عذار
والشّيب ينهض في الشّباب كأنّه ... ليل يصيح بجانبيه نهار
إنّ الشباب لرابح مبتاعه ... والشّيب ليس لبائعيه تجار
قال إسحاق الموصليّ: قال لي المعتصم: لقد فضحك الشيب في عارضيك، فقلت: نعم يا سيّدي، وبكيت ثم قلت: [المتقارب]
تولّى شبابك إلا قليلا ... وحلّ المشيب فصبرا جميلا
كفى حزنا بفراق الصّبا ... وإن أصبح الشّيب منه بديلا
__________
(1) الأبيات في ديوان الفرزدق 1/ 372، والبيت الثالث في لسان العرب (نهر)، (ليل)، والتنبيه والإيضاح 2/ 220.(3/225)
فلمّا رأى الغانيات المشي ... ب أغضين دوني طرفا كحيلا
سأندب عهد انقضاء الصّبا ... وأبكي الشّباب بكاء طويلا
وغنّيتها. فبكى المعتصم، وقال: لو قدرت على ردّ شبابك لفعلت ولو بشطر ملكي فلم يكن لكلامه عندي جواب إلّا أنّ قبّلت البساط بين يديه.
وأبكى بيت ورد في فقد الشباب قول أبي الغصن الأسديّ: [الوافر]
أتأمل رجعة الدّنيا سفاها ... وقد صار الشّباب إلى ذهاب
فليت الباكيات بكلّ أرض ... جمعن لنا فنحن على الشّباب
وقال سلامة بن جندل، وهو جاهليّ: [البسيط]
أودى الشّباب حميدا ذو التّعاجيب ... أودى وذلك شأو غير مطلوب (1)
ولّى حثيثا وهذا الشّيب يطلبه ... لو كان يدركه ركض اليعاقيب
أودى الشّباب الّذي مجد عواقبه ... فيه نلذّ ولا لذّات للشيب
وقال سلامة أيضا: [البسيط]
يا خدّ أمسى سواد الرأس خالطه ... شيب القذال اختلاط الصّفو بالكدر (2)
يا خدّ أمست لبانات الصبا ذهبت ... فلست منها على عين ولا أثر
كان الشباب لحاجات وكنّ له ... فقد فرغت إلى حاجاتي الأخر
وأنشد أبو العيناء: [الكامل]
ما في يديّ من الصّبا ... إلّا الصّبابة والأسف
جاء الشباب فما أقا ... م ولا ألمّ ولا وقف
كان الشّباب كزائر ... ملّ الزيارة وانصرف
والباب لا يحصى كثرة.
قوله: قرمت لكذا، أي اشتدّت شهوتي إليه، وأصله شدّة الشهوة إلى اللحم.
والرّشد والرّشد واحد. فرّطت: ضيّعت، وفرّط في الشيء: قدّم فيه التقصير والعجز، وهو من قولهم: فرط الفارط في طلب الماء، أي تقدّم القوم إليه. وقرىء: {يََا حَسْرَتَنََا}
__________
(1) الأبيات في ديوان سلامة بن جندل ص 88، 89والبيت الأول في المخصص 12/ 147، 16/ 113، وشرح اختيارات المفضل ص 566، والبيت الثاني في لسان العرب (عقب)، (ركض)، ومقاييس اللغة 2/ 29، والمخصص 16/ 113، والبيت الثالث في تخليص الشواهد ص 400، والشعر والشعراء ص 278.
(2) الأبيات في ديوان ابن مقبل ص 73، وجمهرة اللغة ص 346، وفي الديوان «يا حرّ» بدل «يا خدّ»، والبيت الثاني في أساس البلاغة (تلو)، ومقاييس اللغة 1/ 351.(3/226)
{عَلى ََ مََا فَرَّطْنََا فِيهََا} [الأنعام: 31]، بتخفيف الراء، ومثله: {يََا حَسْرَتى ََ عَلى ََ مََا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللََّهِ} [الزمر: 56]، ومعنى القراءتين التقصير في جنب الله، أي في حقه، وقيل: في أمر الله، وقيل في طاعته.
ابن الأعرابيّ: في قرب الله. الفراء: الجنب: القرب، والجنب معظم الشيء وأكثره، ومنه: هذا قليل في جنب مودّتك. الزجّاج: أي على ما فرّطت في الطريق الذي هو طريق الله الّذي دعاني إليه.
وكسع الهنات، أي طرد القبائح والقاذورات، والهنات، كناية عن الفواحش والأفعال القبيحة، مأخوذ من الهن، وهو الفرج، وكسعها: دفعها وإزالتها، والكسع أي أن تضرب بيدك على دبر الشيء، وكسعتهم بالسيف، إذا اتّبعت أدبارهم، فكأنه أزال القبائح عن نفسه ثم أتبعها بالدّفع والضّرب حتى نفاها بحسناته، والكسع أيضا: أن تضرب الشيء بصدر قدمك وقد كسعته. الأصمعيّ: الكسع: سرعة المرّ، وكسعته بكذا:
جعلته تابعا له.
تلافي: تدارك. الهفوات: السّقطات والزّلّات، وقد هفا الرّجل، إذا فعل المنكر وما يكره. الفوات: الموت. مغاداة: مباكرة، وقد غاداه: أتاه بالغدوّ، والغادات:
النّواعم من النساء، الواحدة غادة، والتقاة: الخائفون، الواحد تقيّ، وقوله تعالى: {إِلََّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقََاةً} [آل عمران: 28]، يجوز أن يكون الأتقياء، ويجوز أن يكون مصدرا، وهو أجود القولين: تقيته، واتّقيته تقى وتقيّة وتقا وتقاء، أي حذرته، والاسم التقوى. مقاناة: مخالطة وملازمة، وهي مفاعلة من القينة، وهي الجارية المغنّية، والجمع قينات. مداناة: مقاربة ديانات، هي من الدّين، أراد بها الطاعة. آليت: حلفت. نزع:
زال وكفّ. الغيّ: الضلال. فاء: رجع. منشره: انتشاره في الصّبا واللهو. ألفيت:
وجدت. خليع الرّسن: مسيّب في المعاصي، لا يكفّه عن إتيانها عقل ولا دين، وخلعت رسن الدّابة: تركتها ترعى حيث شاءت سائبة، ومثله خالع العذار، وخلع عذاره، أصله في الدّابّة إذا خلع عذارها فسيّبت، فإن انفلت رسنها الذي تمسكها به ففرّت، قيل: جرّت رسنها، وفلان يجرّ رسنه، وبابه في الاستعارة أنه مسيّب في الشهوات مجاهر بها. مديد الوسن: طويل النّوم، أي فارغ البال من ذكر أو صلاة بالليل أو قراءة. أنأيت: أبعدت.
عرّه: جربه ودائه، يريد أنه حلف ألّا يصاحب إلّا من كفّ عن الصّبا واللهو والنساء، ومتى وجد أهل اللهو والغزل فرّ عنهم وتركهم، وقال الألبيريّ فأحسن: [مجزوء الكامل]
من حاد عن نهج الهدى ... فأضلّ قصد سبيله
فتوقّ خلّته فدي ... ن المرء دين خليله
وله أيضا: [الوافر]
ألا خبر بمنتزح النّواحي ... أطير إليه مقصوص الجناح
وأسأله وألطفه عساه ... سيأسو ما بديني من جراح
ويجلو ما دجى من ليل جهلي ... بنور هدى كمنبلج الصّباح
فأبصق في محيّا أم دفر ... وأهجرها وأدفعها براحي
وأصحو من حميّاها وأسلو ... عفافا عن جآذرها الملاح
وأصرف همّتي بالكفّ عنها ... إلى دار السّعادة والنّجاح
* * *(3/227)
ألا خبر بمنتزح النّواحي ... أطير إليه مقصوص الجناح
وأسأله وألطفه عساه ... سيأسو ما بديني من جراح
ويجلو ما دجى من ليل جهلي ... بنور هدى كمنبلج الصّباح
فأبصق في محيّا أم دفر ... وأهجرها وأدفعها براحي
وأصحو من حميّاها وأسلو ... عفافا عن جآذرها الملاح
وأصرف همّتي بالكفّ عنها ... إلى دار السّعادة والنّجاح
* * *
فلمّا ألقتني الغربة بتنّيس، وأحلّتني مسجدها الأنيس، رأيت ذا حلقة ملتحمة، ونظّارة مزدحمة وهو يقول بجأش مكين، ولسان مبين: مسكين ابن آدم وأيّ مسكين! ركن من الدّنيا إلى غير ركين، واستعصم منها بغير مكين، وذبح من حبّها بغير سكّين، يكلف بها لغباوته، ويكلب عليها لشقاوته، ويعتدّ فيها لمفاخرته، ولا يتزوّد منها لآخرته.
أقسم بمن مرج البحرين، ونوّر القمرين، ورفع قدر الحجرين: لو عقل ابن آدم، لما نادم، ولو فكّر فيما قدّم، لبكى الدّم، ولو ذكر المكافآت، لاستدرك ما فات. ولو نظر في المآل، لحسّن قبح الأعمال.
يا عجبا كلّ العجب، لمن يقتحم ذات اللهب، في اكتناز الذّهب، وخزن النّشب، لذوي النّسب. ثمّ من البدع العجيب، أن يعظك وخط المشيب، وتؤذن شمسك بالمغيب، ولست ترى أن تنيب، وتهذّب المعيب.
* * * [تنّيس]
تنّيس بلدة كبيرة، وهي جزيرة أحدقت بها بحيرة يتّصل بها النيل، فتعذب عند زيادته ستة أشهر، وتملح ستّة أشهر، ويتّصل بها خليج دمياط، وخليجها ينقسم على شرقيها غربيّها، ويلتقيان فى البحيرة، فيسيرون بسفنهم من دمياط إلى تنّيس دخولهم لها وخروجهم بريح واحدة محكمة. وأهل تنّيس ذوو يسار، وأكثرهم حاكة. وثياب الشروب التي تصنع بها وبدمياط لا يصنع مثلها في الدنيا، وليس في الدنيا طراز كتّان يبلغ الثوب منها دون أن يعين بذهب مائة دينار، غير طراز تنّيس ودمياط، ويكتفي ثوبها بقصّارة يوم واحد في البحيرة فيبيضّ. قال اليعقوبي: مدينة تنّيس يحيط بها البحر الأعظم الملح ولها بحيرة يأتي ماؤها من النّيل، وهي مدينة قديمة بها تعمل الثياب الرفيعة الصّفاق والعصب والبرود والوشي، وبها مرسى المراكب الواردة من الشام والمغرب.(3/228)
قوله: ملتحمة، أي منضمة ملتصقة. ذا حلقة: يريد واعظا قد حلّقه الناس والنّظّارة: النّاظرون إليه. جاش: تنفّس. مكين: شديد. مبين: مفصح. أيّ مسكين:
ترحّم عليه لكثرة مسكنته وتعجّب منه. ركن: سكن ولجأ. ركين شديد: قويّ يركن إليه، ورجل ركين، أي وقور بيّن الركانة، والركين: الثابت. مكين: عزيز له مكانة، أي منزلة رفيعة. ذبح من حبّها بغير سكين: إشارة لعذابه فيها ومحنته، لأنّ السّكين تذبح المذبوح من ساعته، ومن يذبح بحجر أو عود أو غير ذلك، فهو في تعذيب.
أبو موسى: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحبّ دنياه أضرّ بآخرته، ومن أحبّ آخرته أضر بدنياه، فآثر ما يبقى على ما يفنى» (1).
وقال سفيان بن عيينة: ويلكم يا علماء السوء، لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب فيمرّ ويمسك النّخالة، فكذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم، ويبقى الغلّ في صدوركم، ويحكم! إنّ الذي يخوض النّهر لا بدّ أن يصيب ثوبه الماء وإن جهد ألّا يصيبه، كذلك من يحبّ الدنيا لا ينجو من الخطايا.
يكلف، أي يولع بها ويشتدّ حبّه فيها. غباوته: جهله. يكلب: يشتدّ حرصه، وكلب على الشيء: ألحّ في طلبه، وأصله من الكلب وهو السعر في الكلاب. يعتدّ:
يستعدّ. مرج: خلط، وقيل: أرسلهما وخلّاهما كما تسرح الدابة في مرعاها. والقمرين:
الشمس والقمر، غلّب لفظ القمر لخفّته بالتذكير وإن كانت الشمس أنور، وهي أصل لنور القمر، ولهذا قال المتنبي: [الوافر]
وما التّأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التّذكير فخر للهلال (2)
أراد أنّ الشمس أنور وأضوأ، فما يضرّها تأنيث اسمها، وما ينفع الهلال تذكير اسمه، وهو ناقص عنها، فلخفّة لفظ القمر غلّب، كما قالوا: العمران لأبي بكر وعمر، وأبو بكر أفضل من عمر باتّفاق من أهل السنّة، فغلّب لفظ عمر لخفّنه بإفراده وقلة حروفه.
[القمر ومما قيل منه]
ومما يحسن موقعه مع قوله: ونوّر القمرين أنّ أعرابيّا أضلّ الطريق فمات جزعا، وأيقن بالهلاك، فلما طلع القمر اهتدى، ووجد الطريق، فرفع إليه رأسه ليشكره، فقال له: والله ما أدري ما أقول لك، ولا ما أقول فيك! أقول: رفعك الله، فالله قد رفعك، أم أقول: نوّرك الله، فالله قد نوّرك، أم أقول: حسّنك الله، فالله قد حسّنك، ولكن ما بقي إلّا الدعاء أن ينسىء الله في أجلك، وأن يجعلني من السوء فداءك.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 4/ 412.
(2) البيت في ديوان المتنبي 3/ 18.(3/229)
وضلّت ناقة لأعرابيّ في ليلة مظلمة، فأكثر في طلبها، فلم يجدها، فلما طلع القمر وانبسط نوره وجدها إلى جانبه ببعض الأودية، وقد كان اجتاز بموضعها مرارا فلم يرها لشدّة الظلام، فرفع رأسه إلى القمر، وقال: [البسيط]
ماذا أقول وقولي فيك ذو خطر ... وقد كفيتني التّفصيل والجملا
إن قلت لا زلت مرفوعا فأنت كذا ... أو قلت زانك ربّي، فهو قد فعلا
ومما قيل في ذمّه: عربد بعض المجّان على القمر، فقال: والله إنك لتفتّت الكتّان، وتغير الألوان، وتصفّر الأسنان، وتخثّر الأبدان، وتسدّد الآذان، وتفضح السّكران، وتظهر الكتمان وتقلق الصبيان، وتبيض الأرجوان، وتلحس الزعفران، وتهزل الحيتان، وتمحق الأدمغة بالنقصان.
وقال ابن المعتز يذمه: [الكامل]
يا سارق الأنوار من شمس الضّحى ... يا مثكلي طيب الكرى ومنغصي
أمّا ضياء الشمس فيك فناقص ... وأرى حرارة نارها لم تنقص
لم يظفر التّشبيه فيك بطائل ... متسلخ لونا كلون الأبرص
قوله: الحجرين، أي الذهب والفضة. وقيل الحجر الأسود ومقام إبراهيم عليه السلام.
نادم: صاحب، والنّديم الصاحب على الخمر. المكافآت: المجازاة. المآل: المرجع. ذات اللهب: صاحبة النار، يعني جهّنم. يقتحم: يترامى فيها، وهذا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي لأخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقتحمون فيها، كما تقتحم الفراش والجنادب» (1).
الخزن: الجمع. البدع: الحدث لم يكن ثم كان، وقد ابتدعت الشيء: أحدثته، وسقت الناس إلى فعله. وخط: اختلط، وقد وخط الشيب الشّعر، إذا خالطه وفشا فيه.
وتؤذن: تعلم. شمسك بالمغيب: نفسك بالذهاب. تنيب: ترجع وتتوب. تهذب:
تخلّصه من العيب. والمعيب: الكثير العيب. يرشد: يهدي ويدلّ الطريق.
[الدنيا ومما قيل فيها]
ونذكر هنا شيئا مما قيل في الدّنيا موافقة للحريريّ، ثم نعود إلى ذكر الشيب:
ومن خطبة قطريّ بن الفجاءة في ذم الدنيا:
ألستم في مساكن من كان أطول منكم أعمارا، وأعدّ عديدا، وأوضح آثارا، وأكثر جنودا، وأعدّ عتادا، وأطول عمادا تعبّدوا للدّنيا أيّ تعبّد، وآثروها أيّ إيثار، وظعنوا
__________
(1) روي بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الرقاق باب 26، ومسلم في الفضائل حديث 17، 18، والترمذي في الأدب باب 82، وأحمد في المسند 1/ 390، 424، 2/ 244، 312، 540، 3/ 361، 392، 5/ 40.(3/230)
عنها بالكره والصّغار، فهل بلغكم أنّ الدنيا أسمحت لهم نفسا، وأغنت عنهم بحيلة، بل أرهقتهم بالحوادث، وضعضعتهم بالنوائب، ودهمتهم بالمصائب، أرأيتم مكرها بمن دان لها وآثرها، وأخلد إليها، يقول الله تعالى: {مَنْ كََانَ يُرِيدُ الْحَيََاةَ الدُّنْيََا وَزِينَتَهََا} [هود:
15]، إلى قوله: {وَبََاطِلٌ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه: «ألا أريك الدنيا جمعاء بما فيها؟
قال: قلت: بلى، فأخذ بيدي، وأتى واديا من أودية المدينة، فإذا مزبلة فيها رؤوس الناس وعذرات وخرق، فقال: يا أبا هريرة، هذه الرؤوس كانت تحرص حرصكم، وتأمل أملكم، ثم هي اليوم عظام، ثمّ غدا رماد، وهذه العذرات ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبوها فقذفوها في بطونهم، فأصبحت والنّاس يتحامونها، والريح تصفقها، وهذه عظام دوابّهم التي كانوا بها ينتجعون أطراف البلاد، فمن كان باكيا على الدنيا فليبك» فما برحنا، حتى اشتدّ بكاؤنا.
مرّ أبو عثمان الدّباغ، برجل على كنيف، فقال له: إلى هذا انتهت دنيا القوم
وقال الشاعر: [الكامل]
ولقد سألت الدار عن أخبارهم ... فتبسّمت عجبا ولم تبدي
حتى مررت على الكنيف فقال لي ... أموالهم ونوالهم عندي
ويروى أنّ عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام مرّ بجمجمة فضربها برجله، وقال: تكلّمي بإذن الله، فقالت: يا روح الله، أنا ملك زمن كذا، فبينما أنا جالس في ملكي، عليّ تاجي، وحولي حشمي وجنودي على سريري، إذ بدا لي ملك الموت وظهر، فزال عنيّ كلّ عضو من موضعه، ثم خرجت إليه نفسي.
ولبعض الزّهاد: [الكامل]
دنيا تخادعني كأ ... نّي لست أعرف حالها
مدّت إليّ يمينها ... فقطعتها، وشمالها
منع الإله حرامها ... وأنا اجتنبت حلالها
ورأيتها محتاجة ... فوهبت جملتها لها
ولبعضهم: [الوافر]
هب الدّنيا تساق إليك عفوا ... أليس مصير ذاك إلى انتقال
وما دنياك إلّا مثل فيء ... أظلّك ثمّ آذن بالزّوال
أبو العتاهية: [البسيط]
يا من ترفّع بالدّنيا وزينتها ... ليس التّرفّع رفع الطّين بالطّين
إذا أردت شريف القوم كلّهم ... فانظر إلى ملك في زيّ مسكين
أرى أناسا بأدنى الدّين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدّون
فاستغن بالله عن دنيا الملوك كما اس ... تغنى الملوك بدنياهم عن الدّين
وقال التّهاميّ: [الكامل](3/231)
يا من ترفّع بالدّنيا وزينتها ... ليس التّرفّع رفع الطّين بالطّين
إذا أردت شريف القوم كلّهم ... فانظر إلى ملك في زيّ مسكين
أرى أناسا بأدنى الدّين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدّون
فاستغن بالله عن دنيا الملوك كما اس ... تغنى الملوك بدنياهم عن الدّين
وقال التّهاميّ: [الكامل]
حكم المنيّة في البريّة جاري ... ما هذه الدّنيا بدار قرار (1)
بينا يرى الإنسان فيها مخبرا ... حتى يرى خبرا من الأخبار
طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفوا من الأقذار والأكدار
ومكلّف الأيّام ضدّ طباعها ... متطلّب في الماء جذوة نار
وقال أبو حاتم: إنّما بيني وبين الملوك واحدة أمّا أمس فلا يجدون لذته، وأنا وإيّاهم في غد على وجل، وإنما هو اليوم، فما عسى أن يكون اليوم! أخذه أبو العتاهية فقال: [البسيط]
حتّى متى نحن في الأيّام نحسبها ... وإنما نحن فيها بين يومين (2)
يوم تولى ويوم نحن نأمله ... لعلّه أجلب الأيام للحين
ولحاتم: [الطويل]
هل الدّهر إلا اليوم أو أمس أو غد ... كذا الدّهر فيما بيننا يتردد
تردّ علينا ليلة بعد يومها ... فلا عمرنا يبقى ولا الدّهر ينفد
وللفقيه الباجي: [المتقارب]
إذا كنت أعلم علما يقينا ... بأنّ جميع حياتي كساعه
فلم لا أكون ضنينا بها ... وأجعلها في صلاح وطاعه!
وله أيضا: [الطويل]
تبلغ من الدّنيا بأيسر زاد ... فإنك عنها راحل لمعاد
وغضّ عن الدّنيا وزخرف أهلها ... جفونك واكحلها بطيب سهاد
وجاهد عن اللّذات نفسك جاهدا ... فإنّ جهاد النّفس خير جهاد
وما هي إلا دار لهو وفتنة ... وإنّ قصارى أهلها لنفاد
وقال آخر: [الوافر]
وما أهل الحياة لنا بأهل ... ولا دار الفناء لنا بدار
__________
(1) الأبيات في ديوان علي بن محمد التهامي في ديوانه ص 47، والبيت الأول في تاج العروس (تهم).
(2) البيتان في ديوان أبي العتاهية ص 272.(3/232)
وما أموالنا إلّا عوار ... سيأخذها المعير من المعار
ولأبي العتاهية: [الكامل]
قطعت منك حبائل الآمال ... وحططت عن ظهر المطيّ رحالي
ووجدت برد اليأس بين جوانحي ... فأرحت من حطّي ومن ترحالي
فالآن يا دنيا عرفتك فاذهبي ... يا دار كلّ تنقّل وزوال
والآن صار لي الزمان مؤدّبا ... فغدا وراح عليّ بالأمثال
يأيّها البطل الّذي هو من غد ... في قبره متفرّق الأوصال
حيل ابن آدم في الأمور كثيرة ... والموت يقطع حيلة المحتال
وللقاضي أبي حفص بن عمران: [المديد]
أيها المغترّ بالزّمن ... في هواه خالع الرّسن
حبّك الدنيا وزينتها ... فتنة عمّتك بالفتن
ظلت والحالات شاهدة ... عاكفا منها على وثن
فاهجرنها إنّ زينتها ... زينة شانت ولم تزن
خدعتك إنها قبحت ... باطنا في ظاهر حسن
واسل عن حرص وعن طمع ... أملا يردي وعن وعن
ولتقدّم ما تسرّ به ... قبل طول البثّ والحزن
فكأنّ أخراك ما برحت ... وكأنّ دنياك لم تكن
* * *
ثمّ اندفع ينشد، إنشاد من يرشد: [السريع]
يا ويح من أنذره شيبه ... وهو على غيّ الصّبا منكمش
يعشو إلى نار الهوى بعدما ... أصبح من ضعف القوى يرتعش
ويمتطي اللهو ويعتدّه ... أو طأما يفترش المفترش
لم يهب الشّيب الذي ما رأى ... نجومه ذو اللّبّ إلّا دهش
ولا انتهى عمّا ما نهاه النّهى ... عنه ولا بالى بعرض خدش
فذاك إن مات فسحقا له ... وإن يعش عدّ كأن لم يعش
لا خير في محيا امرىء نشره ... كنشر ميت بعد عشر نبش * * *
قوله: يا ويح من أنذره شيبه، ويح كلمة ترحم أنذره: أبلغه وحذّره. غيّ:(3/233)
يا ويح من أنذره شيبه ... وهو على غيّ الصّبا منكمش
يعشو إلى نار الهوى بعدما ... أصبح من ضعف القوى يرتعش
ويمتطي اللهو ويعتدّه ... أو طأما يفترش المفترش
لم يهب الشّيب الذي ما رأى ... نجومه ذو اللّبّ إلّا دهش
ولا انتهى عمّا ما نهاه النّهى ... عنه ولا بالى بعرض خدش
فذاك إن مات فسحقا له ... وإن يعش عدّ كأن لم يعش
لا خير في محيا امرىء نشره ... كنشر ميت بعد عشر نبش * * *
قوله: يا ويح من أنذره شيبه، ويح كلمة ترحم أنذره: أبلغه وحذّره. غيّ:
ضلال. منكمش: مسرع إليه ملازم له، وقد كمش الرّجل وانكمش في أمره: استمرّ ومضى فيه مسرعا.
ومن قولهم في الشيب
في هذا المعنى ما قال أكثم بن صيفيّ: الشيب عنوان الموت.
وقال العتابيّ: الشّيب نذير الموت.
وقال النّميريّ: هو عنوان الكبر.
قيس بن عاصم: هو خطام المنيّة.
محمود الوراق: الشّيب إحدى الميتتين.
المعتز بن سليمان: الشيب موت الشّعر، وموت الشّعر علّة لموت البشر.
أعرابيّ: كنت أنكر السوداء، فيا خير مبدول ويا شرّ بدل! أخذه حبيب فقال:
[الخفيف]
شاب رأسي وما رأيت مشيب الرّأ ... س إلّا من فضل شيب الفؤاد (1)
وكذاك الرؤوس من كلّ بؤس ... ونعيم طلائع الأجساد
طال إنكاري البياض وإن عمّ ... رت شيئا أنكرت لون السّواد
زارني شخصه بطلعة ضيم ... عمّرت مجلسي من العوّاد
قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: عجّل عليك الشيب يا رسول الله، فقال: «شيّبتني هود وأخواتها» (2).
وقيل لعبد الملك: عجّل عليك الشيب يا أمير المؤمنين، فقال شيّبني ارتقاء المنابر وتوقّع اللحن.
وقيل لشاعر: عجّل عليك الشيب فقال: كيف لا، وأنا أعصر قلبي في عمل لا يرجى ثوابه، ولا يؤمن عقابه.
وقال محمود الوراق رحمه الله: [المتقارب]
بكيت لقرب الأجل ... وبعد فوات الأمل
ووافد شيب طرا ... بعقب شباب رحل
شباب كأن لم يكن ... وشبب كأن لم يزل
__________
(1) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 75.
(2) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 56، باب 6، بلفظ: «شيبتني هود والواقعة».(3/234)
وقال حبيب: [الطويل]
غدا الشّيب مختطّا بفوديّ خطّة ... طريق الرّدى منها إلى النّفس مهيع (1)
هو الزور يجفى والمعاشر يجتوى ... وذو الإلف يقلى والجديد يرقّع
له منظر في العين أبيض ناصع ... ولكنّه في القلب أسود أسفع
ونحن نرجّيه على السخط والرضا ... وأنف الفتى من وجهه وهو أجدع
وقال ابن عبد ربه: [الوافر]
شباب المرء تنفده اللّيالي ... وإن كانت تصير إلى نفاد
فأسوده يعود إلى بياض ... وأبيضه يعود إلى سواد
أخذ هذا من قول المستوغر بن ربيعة حين دخل على معاوية، وهو ابن ثلاثمائة سنة، فقال: كيف تجدك يا مستوغر؟ قال: أجدني قد لان منّي ما كنت أحبّ أن يشتدّ، وابيضّ منّي ما كنت أحبّ أن يسودّ.
وقال ابن عبد ربه: [البسيط]
أطلال لهوك قد أقوت مغانيها ... لم يبق من رسمها إلا أثافيها
هذي المفارق قد قامت شواهدها ... على فنائك والدّنيا تزكّيها
للموت سفتجة فيها معنونة ... لم يبق للموت إلا أن يسحّيها
* * *
قوله: يعشو، أي ينظر ببصر ضعيف. يمتطي: يركب. يعتدّه: يحسبه. المفترش:
المضطجع على الفراش، يريد أنه يركب اللهو فيلتذّه ويجده وطيئا. يهب: يخف. اللّب:
العقل: دهش: تحيّر. النّهى: جمع نهية، وهي العقل ينهى عن القبيح، وينتهي به إلى حسن الرأي في الأمور، ويقال: نهاه عن ذلك نهاه، أي عقله.
وأنشد أبو طاهر السّلفيّ، قال: أنشدني القاضي أبو محمد بن الحسن بن نصر بن مرهف النّهاونديّ، قال: أنشدني الأديب المدنيّ لنفسه في نفسه: [الخفيف]
لي على النّاس فضل نظم ونثر ... من أباه هجوته وأباه
وإذا ما أتى صفعت قفاه ... وقفا من أعانه وقفاه
رحم الله من أراد محالا ... فنهاه عن المحال نهاه
قوله: خدش، أي ذمّ وسبّ، وأصل الخدش الأثر في الجلد، ثم اتّسع فيه، فجعل للعرض. سحقا: بعدا، والنّشر: الرّيح طيّبة كانت أو خبيثة. نبش: أخرج، وكل مدفون
__________
(1) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 190.(3/235)
أخرجته فقد نبشته. وأخذ هذا البيت من قول ابن المعتز: [الطويل]
تبحّثت عن آثاره فكأنّما ... نبشت عليه بعد ثالثة الدّفن
وله: [الكامل]
أثني عليك بمثل ريحك ميّتا ... في عقب يوم تزفّك الأعواد
وأخذ هذا وهذا من قول عمر بن عبد العزيز: لو رأيتني بعد ثالثة! وتقدّم في الحادية عشرة [السريع]
وحبّذا من عرضه طيّب ... يروق حسنا مثل برد رقش
فقل لمن قد شاكه ذنبه: ... هلكت يا مسكين أو تنتقش
فأخلص التّوبة تطمس بها ... من الخطايا السّود ما قد نقش
وعاشر النّاس بخلق رضا ... ودار من طاش ومن لم يطش
ورش جناح الحرّ إن حصّه ... زمانه، لا كان من لم يرش
وأنجد الموتور ظلما فإن ... عجزت عن إنجاده فاستجش
وانعش إذا ناداك ذو كبوة ... عساك في الحشر به تنتعش
وهاك كأس النّصح فاشرب وجد ... بفضلة الكأس على من عطش
* * *
يروق: يعجب: برد: ثوب. رقش: رقم وزيّن، تقول: رقشت يد المرأة بالحنّاء والحائط بالأصباغ والقرطاس بالمداد، وشبه هذا شاكه ذنبه، يقال: شاكه يشوكه، إذا دخل فيه شوكة، قال الشاعر: [الكامل]
لا تنقشنّ برجل غيرك شوكة ... فتقي برجلك رجل من قد شاكها (1)
فشاكها، أدخل فيها الشوك، وشاكته الشوكة: دخلت فيه، وشكته أنا، إذا أدخلت الشوكة في جسمه، فإن أصابك الشّوك قلت: شاكني الشّوك يشوكني شوكا. وانتقشت حقّي من فلان، إذا استخرجته ولم تترك منه شيئا.
وقال صلى الله عليه وسلم: «وإن شيك فلا انتقش» (2)، فشيك أصابه الشوك ومعناه إذا وقع في شرّ فلا يخلص منه.
تنتقش: تخرج الشّوكة وتبحث عليها، وأو بمعنى إلّا. والمناقشة: البحث والاستقصاء، ومنه مناقشة الحساب، وبذلك سمي المنقاش، وقال ابن الرومي: [الطويل]
__________
(1) البيت ليزيد بن مقسم الثقفي في تاج العروس (شوك)، وبلا نسبة في لسان العرب (نقش)، (شوك).
(2) أخرجه ابن ماجه في الزهد باب 8.(3/236)
إذا رمت بالمنقاش نتف أشاهبي ... أتيح لها من بينهنّ الأباهم
يراوغ منقاشي نجوم مسايحي ... وهنّ بعيني طالعات نواجم
تطمس: تمحو. ونقش: كتب، والنّقش يستعمل في مثل الخشب والحائط والصّخر، والنّقش: الفتح والتأثير في نفس المنقوش. وقال الألبيريّ في معنى هذا البيت: [الكامل]
من ليس يسعى في الخلاص لنفسه ... كانت سعايته عليها، لا لها
إنّ الذنوب بتوبة تمحى كما ... يمحو سجود السّهو غفلة من سها
قوله: عاشر، أي صاحب. دار: عامله بما يحبّ، وامش على غرضه طاش: خفّ عقله، ورجل طيّاش غير مقتصد في قوله، وهو من طاش السهم، إذا لم يصب ووقع على غير قصد، ومثله قول أعرابيّ لبنيه: عاشروا النّاس معاشرة إذا غبتم حنّوا إليكم، وإن متّم بكوا عليكم وهذا من قول الشاعر: [الطويل]
وأكرم كريما إن أتاك لحاجة ... لفاقته إن العضاة تروح (1)
وقال الأضبط بن قريع: [المنسرح]
لا تهين الفقير علّك أن ... تركع يوما والدّهر قد رفعه (2)
رش الجناح: اكسه الريش، والمعنى أصلح حال الحرّ إذا افتقر. حصّه: نتفه.
أنجد: قوّ وأعن، والموتور: المظلوم الّذي قتل له أخ أو ولد أو نسيب. استجش: اجمع جيشا، والمعنى: إذا لم تقدر على إعانة مظلوم، فتوسّط لمن يعينه. انعش: ارفع. كبوة:
سقطة وعثرة. تنتعش: ترتفع وتقوم من عثرتك. هاك: خذ، والمعنى خذ كأس النصيحة فاشربها فإذا رويت فاسق غيرك. ولا يقال كأس إلّا إذا كان فيها شراب.
* * * قال: فلمّا فرغ من مبكياته، وقضى إنشاد أبياته، نهض صبيّ قد شدن، وأعرى البدن، وقال: يا ذوي الحصاة، والإنصات إلى الوصاة، قد وعيتم الإنشاد، وفقهتم الإرشاد، فمن نوى منكم أن يقبل، ويصلح المستقبل، فليبن ببرّي عن نيّته، ولا يعدل عنّي بعطيّته فو الذي يعلم الأسرار، ويغفر الإصرار إنّ سرّي لكما
__________
(1) البيت بلا نسبة في أساس البلاغة روح.
(2) البيت للأضبط بن قريع في الأغاني 18/ 68، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1151، وبلا نسبة في الإنصاف 1/ 221، وشرح ابن عقيل ص 550، ولسان العرب (قنس)، (ركع)، (هون)، واللمع ص 278.(3/237)
ترون، وإنّ وجهي ليستوجب الصّون فأعينوني رزقتم العون.
قال: فأخذ الشّيخ فيما يعطف عليه القلوب ويسنّي له المطلوب حتّى أنبط حفره، واعشوشب قفره. فلمّا أن ترع الكيس انصلت يميس، ويحمد تنّيس، ولم يحل للشّيخ المقام، بعدما انصاع الغلام. فاسترفع الأيدي بالدّعاء، ثمّ نحا نحو الانكفاء.
* * * قوله: قضى، أي أتمّ. نهض: قام وتقدّم. شدن: اشتدّ وقوي، وأصله في الظّبي والصبيّ، تقول: شدن الظبيّ، إذا اشتدّ وترعرع، وكذلك الصبيّ قال عمر بن أبي ربيعة:
[البسيط]
إذ تستبيك بمصقول عوارضه ... ومقلتي جؤذر لم يعد أن شدنا (1)
أراد أنّه ترعرع للمشي والرّعي. أعرى البدن: تركه عريانا. ذوي الحصاة: أهل العقول: والإنصات: السكوت وحسن الاستماع، والوصاة، بمعنى الوصيّة كالتقاة بمعنى التقيّة، وأصلها «وقيّة» قلبت الواو تاء والياء ألفا، والواو إذا انضمّت في أول الكلمة كنت بالخيار، إن شئت تركتها، وإن شئت قلبتها، ولهذا تركت في الوصاة. وقيل الوصاة بفتح الواو في الوصيّة، وبضمّها جمع واص كراع ورعاة، وعيتم: حفظتم. فقهتم: فهمتم الإرشاد: الهداية: أي قد فهمتم ما دللتم عليه من الخير فافعلوا. نوى: قصد وأضمر، وهو من النيّة، وأراد بالمستقبل، ما يستقبله من أفعاله. فليبن: فليفصح ويبيّن. ببرّي:
بإكرامي. عن نيّته: عن قصده وصدق باطنه. يعدل: يمل. الإصرار: الإقامة على الذنب، سرّي لكما ترون، أي هو ظاهر لكم غير مستتر. الصّون: الحوطة فيما يعطف عليه القلوب، يريد أنه أخذ في كلام تحنّ به للصبيّ قلوب الناس. يسنّي: يسهل وييسّر.
أنبط: أخرج الماء. القفر: ما لا نبات فيه. اعشوشب تغطّى بالعشب، يريد أنه استغنى بعد الفقر، وضرب بأنبط واعشوشب المثل. ترع: امتلأ، والكيس: وعاء الدراهم انصلت: تسلّل وخرج بسهولة. يميس: يتمايل ويتبختر. انصاع: ذهب مسرعا وانفتل راجعا. استرفع: طلب رفعها. نحا نحو الانكفاء، أي قصد قصد الانصراف.
* * * قال الرّاوي: فارتحت إلى أن أعجمه، وأحلّ مترجمه، فتبعته وهو يشتدّ في سمته، ولا يفتق رتق صمته فلمّا أمن المفاجي، وأمكن التناجي، لفت جيده إليّ،
__________
(1) البيت في ديوان عمر بن أبي ربيعة ص 307.(3/238)
وسلّم تسليم البشاشة عليّ، ثم قال: أراقك ذكاء ذاك الشّويدن؟ فقلت: إي والمؤمن المهيمن قال: إنّه فتى السّروجيّ، ومخرج الدّرّ من اللجّيّ. فقلت: إنّك لشجرة ثمرته، وشواظ شررته. فصدّق كهانتي، واستحسن إبانتي. ثمّ قال: هل لك في ابتدار البيت لنتنازع كأس الكميت؟ فقلت له: ويحك! {أَتَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44]، فافترّ افترار متضاحك، ومرّ غير مماحك.
ثمّ بدا له أن تراجع إليّ، وقال: احفظها عنّي وعليّ: [السريع]
اصرف بصرف الرّاح عنك الأسى ... وروّح القلب ولا تكتئب
وقل لمن لامك فيما به ... تدفع عنك الهمّ: قدك اتّئب
قوله: ارتحت، أي اشتهيت وطربت. أعجمه: أخبره. مترجمه: ملتبسه. يشتد:
يجري. سمته: طريقه. يفتق رتق: يشقّ غلق. صمته: مبهم أمره والفتق: الخرق، والرّتق: الإغلاق، وهو ضدّه، وذلك أن يضمّ المتخرّق بعضه إلى بعض. التّناجي:
التّحادث. لفت جيده: عطف عنقه. البشاشة: الخفّة وإبداء السرور. أراقك؟: أأعجبك؟
ذكاء: حذق، والذّكاء: توقّد الذهن. الشّويدن: تصغير شادن، وأراد ابنه. والمؤمن المهيمن، هو الله تعالى، والإيمان: التصديق. وقال أبو بكر بن العربي: البارىء تعالى مؤمن بتصديقه لنفسه بقوله، وذلك حقيقته، قال الله تعالى: {شَهِدَ اللََّهُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ}
[آل عمران: 18]، أو بتصديقه لرسله بإظهار المعجزة، أو لأوليائه بإظهار الكرامة، وهما مجازان، والمهيمن: الرقيب الحافظ.
الكسائي: المهيمن: الشهيد. أبو عبيدة: الرقيب، وقد هيمن هيمنة. ابن الأنباري:
القائم على خلقه، قال الشاعر: [الطويل]
ألا إنّ خير الناس بعد نبيهم ... مهيمنه التّاليه في العرف والنّكر (1)
أي القائم على الناس بعده، وأصله «مؤيمن» فأبدلوا من الهمزة هاء كما قالوا:
أرقت وهرقت. وفي مثل مدح هذا الغلام بالذكاء قال الفضل بن جعفر: [الطويل]
فإن خلّفته السنّ فالعقل بالغ ... به رتبة الكهل المرشّح للمجد
فقد كان يحيى أوتي الحكم قبله ... صبيّا وعيسى كلم النّاس في المهد
وقال البحتريّ: [البسيط]
لا تنظرنّ إلى العبّاس من صغر ... في السنّ وانظر إلى المجد الّذي شادا (2)
__________
(1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (همن)، وتهذيب اللغة 6/ 334.
(2) البيتان في ديوان البحتري ص 610، وفيه «لا تنظرنّ إلى الفياض» بدل «لا تنظرنّ إلى العباس».(3/239)
إنّ النّجوم نجوم الجوّ أحقرها ... في العين أكثرها في الجوّ إصعادا
[من نوادر الولدان]
ولمّا ذكر لهذا الصبيّ من فصاحة اللسان وبراعة البيان ما ذكر، وجب علينا أن نذكر من نوادر الولدان فصلا كافيا يؤنس بما ذكر، لئلا نخلّ بما شرطناه، فقد تروى للولدان نوادر، ربما عجزت عنها الكهول ذوو البصائر.
حكى الخطّابيّ أنه قدم على عمر بن عبد العزيز وفد فيهم شاب، فتحوّس للكلام، فقال عمر: كبّروا كبّروا، أي ليتكلّم الكبراء منكم، فقال: الغلام يا أمير المؤمنين، لو كان [الأمر] بالسنّ لكان في المسلمين من هو أسنّ منك.
قال عمر: صدقت! تكلّم.
فتحوّس: فتهيّأ للكلام.
وفي رواية: قدم وفد الحجاز على عمر فقدّموا غلاما منهم للكلام، فقال عمر:
مهلا، ليتكلّم من هو أسنّ منك، فقال الغلام: مهلا يا أمير المؤمنين، إنّما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا منح الله العبد لسانا لافظا وقلبا حافظا فقد أجاد له الحلية.
قال: تكلّم، قال: نحن وفود الشكر، لا وفود المرزئة، لم تقدمنا إليك رغبة ولا رهبة، لأنّا أمنّا في زمانك ما خفنا، وأدركنا ما طلبنا.
ودخل محمد بن عبد الملك بن صالح على المأمون حين قبضت ضياعهم وهو غلام صغير، فقال: السّلام عليك يا أمير المؤمنين، محمد بن عبد الملك، سليل نعمتك وابن دولتك، وغصن من أغصان دوحتك أفتأذن لي في الكلام؟ قال: نعم. فحمد الله تعالى وصلّى على نبيه، ثم قال: أمتعنا الله بحياطة ديننا ودنيانا، ورعاية أقصانا وأدنانا، ببقائك يا أمير المؤمنين، ونسأله أن يزيد في عمرك من أعمارنا، وفي أثرك من آثارنا، ويقيك الأذى بأسماعنا وأبصارنا، هذا مقام العائذ بظلّك، الهارب إلى كنفك وفضلك، الفقير إلى رحمتك وعدلك. ثم سأل حوائجه فقضاها.
وقحطت البادية أيام هشام بن عبد الملك فوفد عليه رؤوس القبائل فجلس لهم، وفيهم صبيّ، ابن أربع عشرة سنة، يسمّى درواس بن حبيب، في رأسه ذؤابة، وعليه بردة يمانية. فاستصغره هشام وقال لحاجبه: ما يشاء أحد أن يصل إلينا إلا وصل، حتى الصبيان! فقال درواس: يا أمير المؤمنين، إنّ دخولي لم يخلّ بك ولا انتقصك، ولكنّه شرّفني، وإن هؤلاء قدموا لأمر فهابوك دونه، وإن الكلام نشر، والسكوت طيّ لا يعرف إلا بنشره فأعجبه كلامه، وقال: انشر لا أمّ لك! فقال: إنا أصابتنا سنون ثلاثة، فسنة أكلت اللحم، وسنة أذابت الشحم، وسنة أنقت العظم (1)، وفي أيديكم فضول أموال،
__________
(1) النقى: منح العظم، وأنقت العظم: أي أخرجت النقى منه.(3/240)
فإن كانت لله عز وجل ففرّقوها على عباده، وإن كانت لهم فلا تحتبسوها عنهم، وإن كانت لكم فتصدّقوا بها عليهم فإن الله يجزي المتصدّقين، ولا يضيع أجر المحسنين وإنّ الوالي من الرعيّة كالروح من الجسد، لا حياة له إلا به.
فقال هشام: ما ترك الغلام في واحدة من الثلاث عذرا، وأمر بمائة ألف دينار ففرّقت في أهل البادية، وأمر له بمائة ألف درهم: فقال: ارددها في جائزة العرب، فما لي حاجة في خاصّة نفسي دون عامّة المسلمين.
أحمد بن يحيى: حدّثني السدريّ أن نميرا غزت حنيفة فغنمت، وتبعتهم حنيفة فهزموهم، وردّوا غنائمهم، فلقيت غلاما منهم، فقلت: كيف صنع قومك؟ فقال:
تبعوهم والله، وقد أحقبوا كل جمالية خيفانة، فما زالوا يخصفون أخفاف المطيّ بحوافر الخيل حتى لحقوهم بعد ثالثة. فجعلوا المرّان أرشية الموت، فاستقوا بها أرواحهم.
وهذا كلام فصيح كثير الاستعارة. أحقبوا: أردفوا بموضع الحقيبة، والجمالية المرأة الجميلة: وخصف: خرز، وتشبيه المرّان وهي الأرماح بالأرشية وهي الحبال حسن.
وجلس خالد القسريّ يوما للشعراء على الفرات، فأنشدوه وأخذوا الجوائز وانصرفوا، ولم يبق إلّا غلام، فقال خالد: يا غلام، أشاعر أنت؟ قال: لا ولكني متعلّم، وقد قلت شيئا، قال: هات، فأنشأ يقول: [الطويل]
ألا هل ترى موج الفرات كأنّه ... جبال سرور قد أتينك عوّما
وما ذاك من عاداته غير أنه ... رأى شيمة من جاره فتعلّما
وكان بقي على البساط فضلة مال، فقال له خالد: اطو البساط بما عليه، فأخذه الغلام بما عليه.
ورأى بعض الملوك غلاما يسوق حمارا، وهو يعنف عليه، فقال: ارفق يا غلام، فقال: أيها الملك، في الرفق مضرّة عليه، قال: وما مضرّته؟ قال: يطول طريقه، ويشتدّ جوعه، وفي العنف عليه إحسان إليه، يخفّ حمله، ويطول أكله. فأعجب به، وقال: قد أمرت لك بألف درهم، قال: رزق مقدور، وواهب مأجور. قال: وقد أمرت بإثبات اسمك في حشمي، قال: كفيت مؤونة، ورزقت بها معونة، قال: لولا صغرك لاستوزرتك، قال: لم يعدم الفضل من رزق العقل، قال: أفتصلح لذلك؟ قال: إنما يكون الحمد أو الذمّ بعد التجربة، ولا يعرف الإنسان نفسه حتى يبلوها، فاستوزره فوجده ذا رأي صائب.
دخل الفرزدق وهو غلام يافع على سعيد بن العاص، وقد أنشد أشعارا والحطيئة حاضر فأنشده: [الوافر](3/241)
ترى الغرّ الجحاجح من قريش ... إذا ما الأمر في الحدثان عالا (1)
قياما ينظرون إلى سعيد ... كأنهم يرون به الهلالا
فقال الحطيئة: هذا والله الشعر، لا ما تعلّل به نفسك هذا اليوم، يا غلام أدركت من قبلك، وسبقت من بعدك، وإن طال عمرك لتبرّزن، ثم قال له: هل أنجدت أمّك يا غلام، قال: لا بل أنجد أبي، فوجده لقنا حاضر الجواب فأعجبه.
وكان للفرزدق نديم يسمى زيادا الأقطع، فأتى بابه، فخرجت له بنيّة له صغيرة اسمها مكية، فقال لها: ابنة من أنت؟ قالت: ابنة الفرزدق، قال: فما بالك حبشيّة؟
قالت: فما بال يدك مقطوعة؟ قال: قطعت في حرب الحرورية، قالت: بل قطعت في اللصوصية، فقال: عليك وعلى أبيك لعنة الله، ثم أخبر الفرزدق بالخبر، فقال: أشهد أنها ابنتي حقا، ثم قال: [الرجز]
سام إذا ما كنت محميّه ... بدارميّ أمّه ضبّيّه
* صمحمح مثل أبي مكّيّه (2) *
وقرع باب عديّ بن الرقاع جماعة من الشعراء، فخرجت إليهم بنيّة له صغيرة فقالت: ما تريدون من أبي؟ فقالوا: جئنا لنهاجيه، فقالت: [الطويل]
تجمّعتم من كلّ أوب ووجهة ... على واحد لا زلتم قرن واحد (3)
فأفحمتهم، ورجعوا بأخزى حالة.
وقال معاوية لعمرو بن سعيد وهو صغير: إلى من أوصى بك أبوك؟ فقال: إنّ أبي أوصى إليّ ولم يوص بي. أخذه بعضهم فقال: [المتقارب]
وكنت النجيب لدى ناجلي ... فأوصى إليّ ولم يوص بي
قال يحيى بن يزيد: استنشدت غلاما، فأنشدني أرجوزة، فقلت: لمن هذه؟ فقال:
لي. فزجزته فأنشأ يقول: [الرجز]
إني وإن كنت صغير السّنّ ... وكان في العين نبوّ عنّي
__________
(1) البيتان في ديوان الفرزدق ص 618.
(2) يروى الرجز:
شاهد إذا ما كنت ذا محميّه ... برجل مثل أبي مكيّه
وهو للفرزدق في أساس البلاغة (حمي).
(3) يروى صدر البيت:
تجمعتم من كل أوب وحاضر
وهو لابنة عدي بن الرقاع في الشعر والشعراء ص 622، وذيل الأمالي 3/ 70، والكامل ص 343، والأغاني 9/ 354، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 1029.(3/242)
فإنّ شيطاني أمير الجنّ ... يذهب بي في القول كلّ فنّ
الأصمعيّ رحمه الله: قال وقف عليّ غلام بحمى ضريّة، ما ظننته يجمع بين كلمتين، فقلت: له: ما اسمك؟ قال: حريقيص، فقلت له: ما كفى أهلك أن سمّوك حرقوصا حتى صغروا اسمك! فقال: إن السّقط ليحرق الحرجة، فعجبت من جوابه.
فقلت: أتنشد شيئا من أشعار قومك؟ قال: نعم أنشد لمرّارنا: [الكامل]
سكنوا شبيثا والأحصّ فأصبحت ... نزلت منازلهم بنو ذبيان
وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا ... حتى تقيم الخيل سوق طعان
وإذا فلان مات عن أكرومة ... رفعوا معاوز فقره لفلان
قال: فكادت الأرض تسوخ لحسن إنشاده وجودة الشعر، فحدّثت الرشيد الحديث فقال: وددت يا أصمعيّ لو رأيت هذا الغلام، فكنت أبلغه أعلى المراتب. فهذا الغلام سمّي بحقير مصغّر، وهو في معناه جليل معظّم.
وينظر إلى هذا من باب الضدّ ما حدّث أبو العباس عن الرياشيّ عن الأصمعيّ، قال: مرّ بنا أعرابيّ، وهو ينشد ابنا له، فقلت له: صفه، فقال: ديمري، فقلنا: لم نره، فلم نلبث أن جاء بجعل على عنقه، فقلنا له: لو سألت عن هذا لأرشدناك، ما زال هذا اليوم بين أيدينا.
الأصمعيّ: قيل لأبي المخشّ: أما كان لك ابن؟ فقال: المخشّ، قيل: وما كان المخشّ؟ قال: أشدق خرطمانيّا، إذا تكلّم سال لعابه، كأنما ينظر من فلسين، وكأنّ ترقوته بوان أو خالفة، وكأن مشاش منكبيه كركرة جمل فقأ الله عينيّ هاتين إن كنت رأيت أحسن منه قبله أو بعده، وأنشد: [المنسرح]
نعم ضجيع الفتى إذا برد اللي ... ل سحيرا وقرقف الصّرد
زيّنها الله في الفؤاد كما ... زيّن في عين والد ولد
وقال أبو المخشّ: كانت لي ابنة تجلس معي على المائدة فتبرز كفّا كأنها طلعة، في ذراع كأنّها جمارة، فلا تقع عينها على أكلة نفيسة إلّا خصّتني بها، فزوّجتها، وصار يجلس معي على المائدة ابن لي، فيبرز كفّا كأنّها الكرنافة، في ذراع كأنها سباطة، فلا تقع عيني على أكلة نفيسة إلا سبقت يده إليها قبلي.
المخشّ: الذي ينخشّ في القوم، يدخل معهم وهم يأكلون، وأراد بمثل الفلسين عور عينيه. وقيل حفرتهما. خرطمانيّا: طويل الأنف، وسيلان اللعاب يدلّ على قوة النفس. البوان: عمود في مقدّم البيت، والكرنافة: طرف الكرب العريض المتّصل بالنخلة كأنها كتف.
اليزيديّ: أوّل ما ظهر من نجابة المأمون وسداده أني كنت أؤدّبه فوجّهت إليه يوما
ليخرج، فأبطأ، فقلت لسعيد الجوهريّ وهو في حجرة: إن هذا الفتى قد اشتغل بالبطالة، فقال سعيد: قوّمه بالأدب، فلما خرج ضربته ثلاث درر، فإنه ليبكي إذا بجعفر بن يحيى قد استأذن عليه، فوثب إلى فراشه مسرعا، وهو يمسح عينيه، فجلس ثم قال: ليدخل، فدخل، فقمت من المجلس وخشيت أن يشكوني إلى جعفر، فألقى منه ما أكره، فأقبل عليه بوجه طلق وحادثه وضاحكه، فلما هّم بالحركة قال: يا غلام، دابّته، ورجعت.(3/243)
اليزيديّ: أوّل ما ظهر من نجابة المأمون وسداده أني كنت أؤدّبه فوجّهت إليه يوما
ليخرج، فأبطأ، فقلت لسعيد الجوهريّ وهو في حجرة: إن هذا الفتى قد اشتغل بالبطالة، فقال سعيد: قوّمه بالأدب، فلما خرج ضربته ثلاث درر، فإنه ليبكي إذا بجعفر بن يحيى قد استأذن عليه، فوثب إلى فراشه مسرعا، وهو يمسح عينيه، فجلس ثم قال: ليدخل، فدخل، فقمت من المجلس وخشيت أن يشكوني إلى جعفر، فألقى منه ما أكره، فأقبل عليه بوجه طلق وحادثه وضاحكه، فلما هّم بالحركة قال: يا غلام، دابّته، ورجعت.
فقال: ما حملك أن قمت عنا! فقلت: خفت أن تشكوني إليه فيوبّخني، فقال: إنا لله يا أبا محمد! ما كنت أطلع الرشيد على هذا، فكيف أطلع جعفرا على أني أحتاج إلى أدب! يغفر الله لك. فكنت أهابه بعد ذلك.
وشكي إلى معلم عبد الرحمن بن حسان بصبيان، فضربهم حتى انتهى إلى عبد الرحمن، فهدّده فقال: [البسيط]
الله يعلم أنّي كنت معتزلا ... في دار حسّان أصطاد اليعاسيبا
فتركه. وبلغ حسان، فضمّه إليه وقال: أنت والله ابني حقّا فداك أبي وأمي!.
ودخل عليه يوما يبكي من لسعة زنبور، فقال له: ما يبكيك؟ فقال: لسعني طائر كأنه ملتفّ في بردى حبرة، فقال: قلت والله يا بنيّ الشعر.
وجاءت سكينة بنت الحسين أمّها الرباب وهي تبكي، فقالت: ما لك؟ فقالت:
سربت بي طويرة فلسعتني بأبيرة.
ويروى: مرّت بي دبيرة، تصغير دبرة وهي النحلة.
* * * قوله: اللجيّ: البحر. شواظ: لهب النار. والكهانة: بالكسر: حرفة الكاهن، وبالفتح فعل الكاهن، وهو المصدر، والكاهن: المخبر بالغيب.
وافترّ: تبسّم. متضاحك: مستعمل الضحك. مماحك: لجوج، أي مشى غير غاضب.
احفظها عني، أي حصّلها وعها. وعليّ، أي اكتمها واسترها، وقامت الواو مقام تكرير الفعل. اصرف: أزل ونحّ. صرف الراح: خالص الخمر الأسى: الحزن. تكتئب:
تهتم وتحزن. قدك: حسبك. اتّئب: ارتجع وكفّ وقيل: معناه استحي، يقال منه: وأب واتّأب، أي خزي واستحيا والأبة والمؤبة: الخزي والحياء والانقباض، وأوأبه واستآبه:
ردّه بخزي وعار، والتاء فيها مبدلة من واو، فأصل اتّأب أوتأب فأبدلت الواو تاء وأدغمت في التاء بعدها، وهي من وأب الحافر يئب وأبا إذا انضم. وحافر وأب، أي خفيف، والتؤبة مأخوذة من أتأب: وقال حبيب: [الكامل]
قدك اتّئب أربيت في الغلوا ... كم تعذلون وأنتم شجوى
فهذا يبيّن لك موقعها في المقامة.(3/244)
قدك اتّئب أربيت في الغلوا ... كم تعذلون وأنتم شجوى
فهذا يبيّن لك موقعها في المقامة.
وعلى قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44]، قال:
أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مررت برجال ليلة أسري بي، تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الخطباء من أمّتك الذين يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم» (1).
أبو أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الذين يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم يجرون قصبهم في نار جهنم، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن الّذين كنا نأمر بالبر وننسى أنفسنا» (2).
قال أبو العتاهية في منصور بن عمار وكأنّه يخاطب واعظ المقامة: [البسيط]
يا واعظ النّاس قد أصبحت متّهما ... إذ عبت منهم أمورا كنت تأتيها
كالملبس الثوب من عري وعورته ... للنّاس بادية ما إن يواريها
وأعظم الأمر بعد الشّرك تعلمه ... في كلّ نفس عماها عن مساويها
عرفانها بعيوب الناس تبصرها ... منهم ولا تبصر العيب الّذي فيها
ومن لزوميات المعري: [الوافر]
رويدك قد خدعت وأنت كهل ... بصاحب حيلة يعظ النّساء (3)
يحرّم فيكم الصهباء صبحا ... ويشربها على عمد مساء
يقول لكم: غدوت بلا كساء ... وفي لذّاتها رهن الكساء
إذا فعل الفتى ما عنه ينهى ... فمن جهتين لا جهة أساء
[الخمريات]
ونذكر هنا من الأبيات الخمريات ما يأتي على معنى البيتين اللذين أنشد، قال الحسن: [السريع]
ما مثل هذا اليوم في حسنه ... عطّل من لهو ولا ضيّعا (4)
هل لك أن تغدو على قهوة ... تسرع في المرء إذا أسرعا
ما وجد النّاس ولا جربوا ... للهمّ شيئا مثلها مدفعا
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 3/ 120، 231، 239.
(2) أخرجه البخاري في المناقب باب 9، وتفسير سورة 5، باب 13، ومسلم في الجنة حديث 50، 51.
(3) اللزوميات ص 51.
(4) الأبيات في ديوان أبي نواس ص 303.(3/245)
وله أيضا: [الطويل]
حلبت لأصحابي بها درّة الصّبا ... بصفراء من ماء الكروم شمول (1)
إذ ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همّه من صدره برحيل
وله: [البسيط]
دع ذا فديتك واشربها معتّقة ... صفراء تعبق بين الماء والزّبد
من كفّ مختصر الزّنّار معتدل ... كغصن بان تثنّى غير ذي أود
لو كان لومك نصحا كنت أقبله ... لكنّ لومك محمول على الحسد
وقال الصابي: [الوافر]
كوكب الإصباح لاحا ... طالعا والدّيك صاحا
فاسقنيها قهوة تأ ... سو من الهمّ جراحا
ذات نشر كنسيم الرّو ... ض غبّ القطر فاحا
يا غلامي ما أرى في ... ك ولا فيها جناحا
وله من أبيات يصف فيها مجلس شراب: [المتقارب]
كأنّ الكؤوس بأيدي السّقاة ... سيوف لها بالدّماء احمرار
كأن تسكابها في الزّجاج ... حريق لها من حباب شرار
فلمّا برزن إلى الهمّ في ... هـ ولي بالسّرور عليه اقتدار
جرى الضرب مختلفا بيننا ... فمات وعشت وقد نيل ثار
وقال أبو بكر البلوي: [مجزوء الرمل]
ومدام كست الكأ ... س من النّور وشاحا
ظهرت في جنح ليل ... فكأنّ الفجر لاحا
لم يكن وقت صباح ... فحسبناه صباحا
وقال أبو بكر الخالديّ: [الكامل]
ما عذرنا في تركنا الأعنابا ... سقط النّدى وصفا الهواء وطابا
فأدم لذاذة عيشنا بمدامة ... زادت على هرم الزّمان شبابا
سفرت وغاب حبابها من لحظها ... فعلا محاسنها فصار نقابا
ولا بن المعتزّ: [الطويل]
ونار قدحناها سراعا بسحرة ... متى ما يرق ماء عليها توقّد
__________
(1) ديوان أبي نواس ص 310.(3/246)
يجول حباب الماء في جنباتها ... كما جال دمع فوق خدّ مورّد
* * *
ثم قال: أما أنا فسأنطلق، إلى حيث أصطبح وأغتبق وإذا كنت لا تصحب، ولا تلائم من يطرب فلست لي برفيق، ولا طريقك لي بطريق فخلّ سبيلي ونكّب، ولا تنقّر عنّي ولا تنقّب ثم ولّى مدبرا ولم يعقّب.
قال الحارث بن همام: فالتهبت وجد عند انطلاقه، ووددت لو لم ألاقه.
* * * قوله: أصطبح، أشرب صبوحا وهو شرب الغدوّ. وأغتبق: أشرب غبوقا، وهو شرب العشيّ، تلائم: توافق. نكّب: تنحّ عن طريقي واجعله لجهة منكبك. تنقّر وتنقّب:
تبحث وتفتش، وقد نقّرت عن الأمر إذا طلبت علم باطنه ونقّبت عنه، إذا بحثت عليه بظنّك حتى تستخرج سرّه، وفلان نقّاب، أي فطن ذكيّ يحدّث بالغائب، والتّنقيب في البلاد: تطلّع أحوال أهلها وتجريب أمورهم. ولّى: أدبر، وترك طريقه الذي كان يستقبله. يعقّب: ينظر. والوجد: الحزن. والتهبت. اشتعلت. وددت: تمنّيت.
ومما قيل في ترك الوداع: [الخفيف]
صدّني عن حلاوة التّشييع ... اجتنابي مرارة التّوديع
لا يفي أنس ذا بوحشة هذا ... فرأيت الصّواب ترك الجميع(3/247)
صدّني عن حلاوة التّشييع ... اجتنابي مرارة التّوديع
لا يفي أنس ذا بوحشة هذا ... فرأيت الصّواب ترك الجميع
المقامة الثانية والأربعون وهي النّجرانيّة
حكى الحارث بن همام قال: ترامت بي مرامي النّوى، ومساري الهوى إلى أن صرت ابن كلّ تربة، وأخا كلّ غربة إلا أنّي لم أكن أقطع واديا، ولا أشهد ناديا إلّا لاقتباس الأدب المسلي عن الأشجان، المغلي قيمة الإنسان حتى عرفت لي هذه الشّنشنة، وتناقلتها عنّي الألسنة، وصارت أعلق بي من الهوى ببني عذرة، والشجاعة بآل صفرة.
* * * ترامت بي: رمتني هذه إلى هذه وهذه إلى هذه. والمرامي: المواضع التي ترميه.
والمساري: مواضع السّرى، وهو سير اللّيل، وهو جمع مرمى ومسرى، ويكون المرمى والمسرى مصدرين. والنّوى: الغربة والبعد عن الأهل، أراد أنّ البلاد والجهات ترميه بلدة إلى بلدة، وجهة إلى جهة، فهو أبدا في الجولان. وابن كلّ تربة، أي ينسب لكل بلدة لكثرة ما يظهر فيها. ناديا: مجلسا. الاقتباس: الاكتساب. المسلي: المذهب للهمّ، وتسلّيت عن الهّم: نسيته. والأشجان: الأحزان، وقد تقدم شرح هذه المعاني وتكرّر.
الشّنشنة: الطبيعية. أعلق: ألصق.
[بنو عذرة]
وبنو عذرة: قبيلة معروفة من قبائل العرب، وهم أولاد عذرة بن سعد بن هذيم بن زيد بن ليث بن سويد بن أسلم بن الحاف بن قضاعة.
الفنجديهيّ: عذرة قبيلة من العرب، يستلذّون مرارة العشق مثل الضرب، جبلت المحبة في طينتهم، وجنيت المودّة من لينتهم، وصار الهوى وصفهم الذي لا ينفك، ورهائن قلوبهم من حرارات الشوق لا تفكّ، استأرهم العشق أسرا، واستأصلهم الحب قهرا وقسرا فمنهم من يموت من أوام غرامه، ومنهم من يموت بهيام سقامه.
ومن مشاهيرهم جميل بن عبد الله بن معمر العذريّ صاحب بثينة بنت عبد الله العذريّة، وعروة بن حزام صاحب عفراء بنت مالك العذريّين.
وقال: سعيد بن عتبة الهمدانيّ: قلت لأعرابيّ: ممن أنت؟ قال: من قوم إذا عشقوا
ماتوا، قلت: عذريّ؟ قال: عذريّ وربّ الكعبة، قلت: وممّ ذاك؟ قال: لأنّ في نسائنا صباحة، وفي فتياننا عفّة.(3/248)
وقال: سعيد بن عتبة الهمدانيّ: قلت لأعرابيّ: ممن أنت؟ قال: من قوم إذا عشقوا
ماتوا، قلت: عذريّ؟ قال: عذريّ وربّ الكعبة، قلت: وممّ ذاك؟ قال: لأنّ في نسائنا صباحة، وفي فتياننا عفّة.
وسئل أعرابي منهم فقيل له: ما حدّ الحب عندكم؟ فقال: أعين تتلاحظ وألسن تتلافظ، وعدات تتقضّى، وإشارات تدل على السخط والرّضا. قيل له: فالمباضعة؟ قال:
ذلك طلب الولد، الحبّ إذا نكح فسد.
سفيان بن زياد: قلت لامرأة من عذرة ورأيت بها هوى غالبا حتى خفت عليها الموت: ما بال العشق يقتلكم معاشر عذرة من بين أحياء العرب؟ قالت: فينا جمال وتعفّف، فالجمال يحملنا على العفاف به، والعفاف يورثنا رقّة القلب، والعشق يفني آجالنا وإنا نرى محاجر لا ترونها.
أبو عمر بن العلاء: حدّثني رجل من تميم، قال: خرجت في طلب ضالّة لي، فبينما أنا أدور في أرض بني عذرة أنشدها، إذا ببيت منعزل عن البيوت، وفي كسره شابّ مغمى عليه، وعند رأسه عجوز بها بقّية جمال، ساهمة تنظر إليه، فسلّمت عليها، فردّت السلام، فسألتها عن ضالّتي فلم تعلم بها، فقلت: من هذا الفتى؟ فقالت: ابني، فهل لك في أجر لا مؤنة فيه؟ فقلت: والله إني أحبّ الأجر وإن رزئت، فقالت: إن ابني هذا يهوى ابنة عمّ له، علقها وهما صغيران، فلما كبرت خطبها غيره، فأخذه شبيه الجنون، فخطبها إلى أبيها، فمنعه وزوّجها غيره، فنحل جسمه واصفرّ لونه، وذهب عقله، فلما كان منذ خمس زفّت إلى زوجها، فهو كما ترى مغمى عليه، لا يأكل ولا يشرب، فلو نزلت إليه فوعظته! قال: فنزلت إليه فلم أدع موعظة إلا وعظته بها، حتى قلت له: إنهنّ الغواني صاحبات يوسف، الناقضات العهد، وقد قال فيهن كثيّر: [البسيط]
هل وصل عزّة إلا وصل غانية ... في وصل غانية من وصلها خلف (1)
قال: فرفع رأسه محمرّة عيناه كالمغضب، وهو يقول: لست ككثير، إن كثيّرا رجل مائق، وأنا وامق، ولكني كأخي تميم حيث يقول: [الطويل]
ألا لا يضرّ الحبّ من كان صابرا ... ولكنّ ما اجتاب الفؤاد يضير
ألا قاتل الله الهوى كيف قادني ... كما قيد مغلول اليدين أسير
فقلت له: فإنه قد جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أصيب منكم بمصيبة فليذكر مصابه بي» (2) فأنشأ يقول: [الوافر]
ألا ما للمليحة لم تعدني ... أبخل بالمليحة أم صدود!
مرضت فعادني أهلي جميعا ... فما لك لم ترى فيمن يعود!
__________
(1) البيت في ملحق ديوان كثير عزة ص 505.
(2) أخرجه الدارمي في المقدمة باب 14.(3/249)
فقدتك بينهم فبكيت شوقا ... وفقد الإلف يا أملي شديد
وما استبطأت غيرك فاعلميه ... وحولي من ذوي رحمي عديد
ولو كنت المريض لكنت أسعى ... إليك وما يهدّدني الوعيد
ثم شهق شهقة، وخفت خفته، فداخلني أمر ما داخلني مثله قطّ، والعجوز تبكي، فلما رأت ما حلّ بي قالت: يا فتى، لا ترع مات والله ولدي بأجله، واستراح من تباريحه وغصصه، فهل لك في استكمال الصّنيعة؟ قلت: قولي.
ما أحببت، قالت: تأتي البيوت فتنعاه إليهم، ليعاونوني على رمسه، فإني وحيدة، فركبت فرسي، وأتيت البيوت، رافعا صوتي بنعيه، فلم ألبث أن خرجت لي جارية، أجمل ما رأيت من النساء، ناشرة شعرها، حديثة عهد بعرس، تقول: بفيك الحجر المصمت! من تنعى؟ قلت: أنعى فلانا، قالت: أو قد مات! قلت: إي والله قد مات.
قالت: فهل سمعت له قولا؟ قلت: اللهمّ شعرا، قالت: وما هو؟ فأنشدتها أبياته، فاستعبرت وأنشأت تقول: [الوافر]
عدابي أن أزورك يا مرادي ... معاشر كلّهم واش حسود
أشاعوا ما علمت من الدّواهي ... وعابونا وما فيهم رشيد
فأمّا إذ ثويت اليوم لحدا ... وكلّ الناس دورهم لحود
فلا طابت لي الدنيا فواقا ... ولا لهم ولا أثرى العديد
ثم شهقت شهقة، فوقعت مغشيّا عليها، وخرجت النساء من البيوت فاضطربت ساعة، وماتت.
فو الله ما برحت حتى دفنتهما جميعا.
هشام بن عروة: أذن معاوية للنّاس يوما فكان فيمن دخل عليه فتى من بني عذرة، فقام بين السّماطين وأنشأ يقول: [الطويل]
أتيتك لمّا ضاق في الأرض مسلكي ... وأنكرت ممّا قد أصبت به عقلي
ففرّج كلاك الله عنّي فإنّني ... لقيت الذي لم يلقه أحد قبلي
وخذ لي هداك الله حقّي من الذي ... رماني بسهم كان أهونه قتلي
وكنت أرجّي عدله إذا أتيته ... فأكثر تردادي مع الحبس والكبل
فطلقتها من جهد ما قد أصابني ... فهل ذا أمير المؤمنين من العدل!
فقال له معاوية: ادن بارك الله عليك، ما خطبك؟ قال: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، إني رجل من بني عذرة،. تزوّجت ابنة عمّ لي. وكانت لي صرمة (1) من الإبل
__________
(1) الصرمة: الجماعة من الإبل ما بين العشرين والثلاثين.(3/250)
وشويهات، فأنفقت ذلك عليها، فلما أصابتني نائبات الزمان وحادثات الدهر رغب عنّي أبوها وكانت جارية منها الحياء والكرم، فكرهت مخالفة أبيها فأتيت عاملك عبد الرحمن ابن أم الحكم فذكرت ذلك له. وبلغه جمالها، فأعطى أباها عشرة آلاف درهم وتزوّجها، وأخذني فحبسني، وضيّق عليّ، فلمّا أصابني مسّ الحديد وألم العذاب طلقتها، وقد أتيتك يا أمير المؤمنين، وأنت غياث المحروب، ومعيد المسلوب، فهل من فرج؟ ثم بكى وهو يقول: [مجزوء الرمل]
في القلب منّي نار ... والنّار فيها شرار
وفي فؤادي جمر ... والجمر فيه احمرار
والجسم منّي نحيل ... واللّون فيه اصفرار
والعين تبكي بشجو ... فدمعها مدرار
والحبّ داء عسير ... فيه الطبيب يحار
حملت منه عظيما ... فما عليه اصطبار
فليس ليلي ليلا ... ولا نهاري نهار
فرق معاوية له وكتب إلى ابن أم الحكم كتابا غليظا وفي آخره: [البسيط]
ركبت أمرا عظيما لست أعرفه ... أستغفر الله من جور امرىء زاني
قد كنت تشبه صوفيا له كتب ... من الفرائض أو آيات فرقان
حتى آتاني الفتى العذريّ منتحبا ... يشكو إليّ بحقّ غير بهتان
أعطي الإله عهودا لا أخيس بها ... أو لا فبرّئت من ديني وأيماني
إن أنت راجعتني فيما كتبت به ... لأجعلنّك لحما بين عقبان
طلّق سعاد وفارقها بمجتمع ... وأشهد على ذاك نصرا وابن ظبيان
فما سمعت كما حدّثت من عجب ... ولا فعالك حقّا فعل إنسان
فلما ورد الكتاب على ابن أم الحكم، تنفّس الصّعداء، وقال: وددت لو أن أمير المؤمنين خلّى بيني وبينها سنة، ثم عرض عليّ السيف، وجعل يؤامر نفسه في طلاقها فلم يقدر، فلما أزعجه الوفد طلّقها ثم قال: يا سعاد اخرجي، فخرجت شكلة غنجة ذات هيئة وجمال، فلمّا رآها الوفد قالوا: ما تصلح هذه إلا لأمير المؤمنين لا لأعرابيّ، وكتب الجواب: [البسيط]
لا تحنثنّ أمير المؤمنين فقد ... أوفي بعهدك في رفق وإحسان
فما ركبت حراما حين أعجبني ... فكيف سمّيت باسم الخائن الزاني!
فسوف تأتيك شمس لا خفاء بها ... أبهى البرية من أنس ومن جان
حوراء يقصر عنها الوصف إذ وصفت ... أقول ذلك في سرّ وإعلان
فلما وردت على معاوية، قال: إن كانت أعطيت حسن النغمة مع هذه الصفة، فهي أكمل البريّة، فاستنطقها، فإذا هي أحسن الناس كلاما، وأكملهم شكلا ودلّا، فقال: يا أعرابّي، هل من سلوّ عنها بأفضل الرغبة؟ قال: نعم إذا فرّقت بين رأسي وجسدي، ثم أنشأ يقول: [البسيط](3/251)
لا تحنثنّ أمير المؤمنين فقد ... أوفي بعهدك في رفق وإحسان
فما ركبت حراما حين أعجبني ... فكيف سمّيت باسم الخائن الزاني!
فسوف تأتيك شمس لا خفاء بها ... أبهى البرية من أنس ومن جان
حوراء يقصر عنها الوصف إذ وصفت ... أقول ذلك في سرّ وإعلان
فلما وردت على معاوية، قال: إن كانت أعطيت حسن النغمة مع هذه الصفة، فهي أكمل البريّة، فاستنطقها، فإذا هي أحسن الناس كلاما، وأكملهم شكلا ودلّا، فقال: يا أعرابّي، هل من سلوّ عنها بأفضل الرغبة؟ قال: نعم إذا فرّقت بين رأسي وجسدي، ثم أنشأ يقول: [البسيط]
لا تجعلنّي والأمثال تضرب بي ... كالمستجير من الرّمضاء بالنار
اردد سعاد على حيران مكتئب ... يمسي ويصبح في همّ وتذكار
قد شفّه قلق ما مثله قلق ... وأسعر القلب منه أيّ إسعار
والله والله لا أنسى محبّتها ... حتى أغيّب في رمس وأحجار
كيف السلوّ وقد هام الفؤاد بها ... وأصبح القلب عنها غير صبّار
فغضب معاوية غضبا شديدا، ثم قال لها: اختاري من شئت، أنا أو ابن أم الحكم أو الأعرابيّ فأنشأت تقول: [الرجز]
هذا وإن أصبح في أطمار ... أو كان في بعض من اليسار
أكبر عندي من أبي وجاري ... وصاحب الدّرهم والدينار
* أخشى إذا غدرت حرّ النار *
فقال له معاوية: خذها لا بارك الله لك فيها، فأخذها وأنشأ يقول: [الرجز]
خلّوا عن الطّريق للأعرابي ... ألم ترقّوا ويحكم لمابي!
فضحك معاوية وأمر له بعشرة آلاف درهم، وأدخلت لبعض قصوره حتى انقضت عدّتها من ابن أمّ الحكم، ثم دفعها للأعرابيّ.
وقال بعضهم: كنت سائرا في بلاد عذرة فولجت بعض أوديتهم وإذا شابّ حسن الوجه، بيده زمام ناقة، عليها هودج مسجّف، به جارية، ومن وراء الناقة خمس قلائص، وقد رفع عقيرته ينشد ويقول: [الكامل]
ته كيف شئت وسر على مهل ... كلّ الجمال عليك يا جمل
عليّ أنّك لا ترى كللا ... ما دام فوقك هذه الكلل
فسلّمت عليه، فردّ، وسألته وسألني وتناشدنا، واتصل الأنس بيننا، وسرنا غير قليل، فرأى قانصا في أحبولته ظبي، فلما رآه يضطرب في الأحبولة أجهش بالبكاء، وأنشأ يقول: [الطويل]
وذكّرني من لا أبوح بحبّه ... محاجر ظبي في حبالة قانص
فقلت وجفن العين يجري بعبرة ... ولحظي إلى عينيه لحظة شاخص
ألا أيّهذا القانص الظبي خلّه ... وخذ عوضا منه جياد قلائصي
خف الله لا تحبسه إنّ شبيهه ... حياتي قد أرعدت منه فرائصي
فقال القانص: الله إن فعلت؟ قال: الله، فأرسل الظبي، واستاق القلائص.(3/252)
وذكّرني من لا أبوح بحبّه ... محاجر ظبي في حبالة قانص
فقلت وجفن العين يجري بعبرة ... ولحظي إلى عينيه لحظة شاخص
ألا أيّهذا القانص الظبي خلّه ... وخذ عوضا منه جياد قلائصي
خف الله لا تحبسه إنّ شبيهه ... حياتي قد أرعدت منه فرائصي
فقال القانص: الله إن فعلت؟ قال: الله، فأرسل الظبي، واستاق القلائص.
وحدث رجل من بني عذرة قال: كان فينا فتى ظريف غزل، كثيرا ما يتحدّث إلى النساء، فهوي جارية من الحيّ، فراسلها فأظهرت له جفوة، فوقع مضنى مدنفا وظهر أمره، وتبيّن دنفه، ولم يزل النساء من أهلها وأهله يكّلمنها فيه، حتى أجابت، فسارت إليه عائدة ومسلّمة، فلما نظر إليها تحدّرت عيناه بالدموع، وأنشأ يقول: [الطويل]
أريتك إن مرّت عليك جنازتي ... تروح بها أيد طوال وتسرع
أما تتبعين النّعش حتى تسلّمي ... على رمس ميت بالحفيرة يودع!
فبكت رحمة، وقالت: والله ما ظننت أن الأمر بلغ بك هذا، فو الله لأساعدنّك ولأداومنّ على وصالك، فهملت عيناه بالدموع، وأنشأ يقول: [الطويل]
دنت وظلال الموت بيني وبينها ... ومنّت بوصل حيث لا ينفع الوصل
ثم شهق شهقة فخرجت نفسه، قال: فوقعت عليه تلثمه، ثم رجعت عنه مغشيّا عليها، فما مكثت بعده إلّا أياما حتى ماتت.
قال حماد الراوية: انصرفت من جنازة لبعض السّكاسك، فإذا بصبيّ من عذرة ظريف، حسن الوجه، صغير السّنّ، موصوف بقول الشعر، فوقفنا فسلّمنا، فقام إعظاما لنا، فقلت: أنشدنا شيئا، فكأنه استحيا، فقلت له: لا بدّ، فأنشدنا: [مجزوء الرمل]
هل من الحبّ مجير ... من ملاح يعتدونا
قد شكونا بخضوع ... عذل قوم يعذلونا
في جوى نلقاه ممنّ ... لا يبالي ما لقينا
وبكينا بدموع ... أغرقت منّا الجفونا
قال حماد: فكدت أرقص طربا وقلت: فداؤك عمّك! وجلسنا إليه تعجّبا من رقته وجماله وفصاحته، فأنشدنا: [الرمل]
ولقد أرسلت دمعي شاهدا ... ثم صيّرت إليها المشتكى
فتولت، ثم قالت شغلي ... كلّ من شاء تبكي! فبكى
قال حماد: قلت له: فديتك، تحبّ هذه الجارية؟ قال: يا عمّ، والحبّ عيب! إن كان عيبا تركته. ثم قال: يا عمّ إذا قرأت أو بلغني أحاديث قومي مثل عروة وجميل، أفلا أشتهي أن أكون واحدا منهم! فانصرفنا عنه متعجبين.(3/253)
[آل أبي صفرة]
قوله: والشجاعة بآل أبي صفرة، أبو صفرة هو ظالم بن سراقة بن كنديّ بن عمرو ابن عدي، ويتّصل بعمرو مزيقيا، ثم بأزددبا، وأزددبا ما بين عمان والبحرين، وكانوا أسلموا ثم ارتدوا في خلافة أبي بكر، فبعث إليهم أبو بكر عكرمة بن أبي جهل، فقاتلهم وسبى ذراريّهم وبعث بهم إلى أبي بكر، وأبو صفرة غلام، فحبسهم أبو بكر، فلما توفي أطلقهم عمر، فنزل أبو صفرة البصرة، فشرف بها.
وروى بعضهم أنّ أبا صفرة طلب من عمر أن يولّيه عملا، فسأله عن اسمه فقال:
ظالم بن سرّاق، فقال: تظلم أنت ويسرق أبوك! ولم يولّه عملا تطيّرا باسمه.
والمهلّبية تزعم أنّ أبا صفرة قدم على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعليه حلّة صفراء يسحبها خلفه ذراعين. وله طول ومنظر وفصاحة، فأعجب النبيّ صلى الله عليه وسلم ما رأى من جماله وخلقه، فقال له: «من أنت؟» قال: أنا قاطع بن سارق بن ظالم بن عمرو بن شهاب بن مرة بن الهلقام ابن الجلندي بن المستكبر بن الجلندي، الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أنت أبو صفرة، ودع عنك ظالما وسارقا»، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله حقّا، إنّ لي لثمانية عشر ذكرا، ورزقت بآخرهم بنتا سميتها صفرة.
وأما أولاد أبي صفرة، فكانوا كتّابا شجعانا أبطالا حماة، منهم أبو سعيد المهلّب.
وذكروا أنّ أبا صفرة وفد على عمر رضي الله عنه ومعه عشرة من ولده والمهلّب أصغرهم فتوسّمهم عمر، ثم قال: هذا سيّد ولدك المهلّب، والمهلّب هو صاحب حروب الأزارقة، وولّاه عبد الملك خراسان بعد الأزارقة سنة تسع وسبعين، ومات سنة ثلاث وثمانين، واستخلف يزيد ابنه عليها، فأقرّه عبد الملك عليها سنتين أو ثلاثا. وغزا يزيد جرجان في خلافة سليمان بن عبد الملك سنة سبع وتسعين، في ثلاثين ألف مقاتل، فقاتلهم أشهرا، ثم صالحهم على أن يعطوا خمسمائة ألف درهم كلّ عام، يؤدونها إليه، ثم غزا سنة ثمان وتسعين طبرستان، فصالحهم على سبعمائة ألف درهم وأربعمائة وقر زعفران وأربعمائة رجل مع كلّ رجل برنس وطيلسان وخاتم فضة، وسرقة حرير وكسوة، فقبل ذلك وانصرف عنهم. ثم غدر أهل جرجان بمن خلّف عليهم من المسلمين فقتلوهم، فلما فرغ من طبرستان سار إليهم، فقاتلهم شهرا، ثم نزلوا على حكمه، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريّهم وصلبهم فرسخين، وقاد منهم اثني عشر ألفا إلى وادي جرجان، فقتلهم وأجري الماء في الوادي على الدّم، وعليه أرحاء بدمائهم تطحن، واختبز وأكل، وكان قد حلف على ذلك.
الأصمعيّ: قبض الحجاج على يزيد، وأخذه بسوء العذاب، فسأله أن يخفّف عنه العذاب على أن يعطيه كلّ يوم مائة ألف درهم، فكان دأبه أنه إذا أدّاها تركه، وإلّا عذّبه إلى الليل، فجمع يوما مائة ألف درهم، يشتري بها عذابه، فدخل عليه الأخطل فأنشده: [الطويل]
أبا خالد بادت خراسان بعدكم ... وقال ذوو الحاجات أين يزيد؟
فما سقي المروان بعدك قطرة ... ولا اخضرّ بالمروين بعدك عود
وما لسرير بعد ملكك بهجة ... ولا لجواد بعد جودك جود
فأعطاه المائة الألف. فبلغ ذلك الحجاج، فدعا به، وقال: يا مروزيّ، أكل هذا الكرم وأنت بهذه الحالة؟ قد وهبت لك عذاب اليوم وما بعده.(3/254)
الأصمعيّ: قبض الحجاج على يزيد، وأخذه بسوء العذاب، فسأله أن يخفّف عنه العذاب على أن يعطيه كلّ يوم مائة ألف درهم، فكان دأبه أنه إذا أدّاها تركه، وإلّا عذّبه إلى الليل، فجمع يوما مائة ألف درهم، يشتري بها عذابه، فدخل عليه الأخطل فأنشده: [الطويل]
أبا خالد بادت خراسان بعدكم ... وقال ذوو الحاجات أين يزيد؟
فما سقي المروان بعدك قطرة ... ولا اخضرّ بالمروين بعدك عود
وما لسرير بعد ملكك بهجة ... ولا لجواد بعد جودك جود
فأعطاه المائة الألف. فبلغ ذلك الحجاج، فدعا به، وقال: يا مروزيّ، أكل هذا الكرم وأنت بهذه الحالة؟ قد وهبت لك عذاب اليوم وما بعده.
ابن عبد الحكم: أخبرنا الشافعيّ قال: طعن يزيد بن المهلّب رجلا من الخوارج، فصرعه فوثب الخارجيّ بالسيف، وهو يقول: [الطويل]
وإنّا لقوم لا نعوّد خيلنا ... إذا ما التقينا أن تحيد وتنفرا
وننكر يوم الروع ألوان خيلنا ... من الدم حتى نحسب الورد أشقرا
وليس بمعروف لنا أن نردّها ... صحاحا ولا مستنكر أن تعقّرا
قال يزيد: فكرهت أن أقتل مثله، فانصرفت عنه. وقتل يزيد يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت من صفر سنة اثنتين ومائة، وهو ابن سبع وأربعين سنة.
وقيل للمهلّب: بم نلت ما نلت؟ قال: بطاعة الحزم، وعصيان الهوى. وقيل لأبي إسحاق الهمدانيّ: لم رويت عن المهلّب؟ قال: لأني لم أر أميرا أبين منه تقيّة ولا أشجع منه، ولا أبعد ممّا يكره، ولا أقرب ممّا يحبّ.
ومرّ المهلّب بقوم فعظّموه وسوّدوه، فقال رجل: ألهذا الأعور تسوّدون! والله لو خرج إلى السوق ما زادت قيمته على ألفي درهم، فسمعه المهلّب، فقال لبعض من معه:
أتعرف الرجل؟ قال: نعم، فلما انتهى إلى مجلسه أرسل إليه بألفي درهم. فقال له: لو زدتنا في القيمة لزدناك في العطيّة، فخجل الرجل، وعرف منزلته.
وللمهلّب وبنيه وإخوته في حروب الأزارقة مشاهد ما شوهدت قطّ في جاهلية ولا إسلام.
وقتل المهلّب وأولاده وإخوته ومن معه من الأزارقة في ليلة واحدة أربعة آلاف وثمانمائة، وانهزم بقيّتهم مع قطريّ، فنفاهم إلى أقاصي البلاد حتى قتل قطريّ ومن معه.
وسئل المهلب عن ابنيه: أيّهما أشجع أيزيد أم حبيب؟ فقال: إن الولد ربّما سبق رأي أبيه فيه، وقطريّ قد مارسهما، فسلوه عنهما. فلمّا كان من الغد واصطفّوا للقتال صاح رجل: يا أبا نعامة، فقال: أفرجوا له، ثم قال: قد سمعت فقل فقال: إنّا سألنا الأمير عن ابنيه يزيد وحبيب: أيّهما أشجع، فقال: سلوا أبا نعامة، فقال: على الخبير سقطت، أمّا صاحب الكرّ والفرّ والإقدام والإحجام، وصحّة التدبير ومبارزة الكميّ المدجّج فالحرون يزيد، وأمّا إذا التقت غياطيل الليل، وخفتت الأصوات إلّا الغماغم، وقرع الحديد بالحديد فالخيار حبيب.(3/255)
الغيطلة التباس الظلام، وخفتت: سكنت. والغمغمة: أصوات الأبطال في القتال.
وسأل الحجاج كعب بن معدان الأشقريّ حين وفد عليه بالفتح، فقال له: أخبرني عن بني المهلّب، فقال: المغيرة فارسهم وسيدهم، وكفى بيزيد فارسا وشجاعا، وجوادهم وسخيّهم قبيصة، وما يستحي الشّجاع أن يفرّ من مدرك، وعبد الملك سمّ ناقع، وحبيب موت ذعاف، ومحمد ليث غاب. وكفاك بالمفضّل نجدة. فقال: كيف كانوا في البأس؟ قال حماة السّرح نهارا، فإذا أليلوا ففرسان البيات. قال: فأيّهم كان أنجد، قال: كانوا كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفها.
وحين وفد المهلّب على الحجاج أجلسه إلى جانبه، وأظهر إكرامه، وقال: يا أهل العراق، أنتم عبيد المهلب، ثم قال له: أنت والله كما قال لقيط الإياديّ: [البسيط]
وقلّدوا أمركم لله درّكم ... رحب الذّراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفا إن رخا في الأمر ساعده ... ولا إذا عضّ مكروه به خشعا
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متّبعا طورا ومتّبعا
حتّى استمرّت على شزر مرارته ... مستحكم الرأي لا قحما ولا ضرعا
فقام رجل وقال: أصلح الله الأمير! والله لكأنّي أسمع الساعة قطريّا يقول للمهلّب كما قال لقيط الإياديّ وأنشد الأبيات، فامتلأ الحجاج سرورا
وقال له الحجاج: اذكر لي الذين أبلوا وصف لي بلاءهم، فقدّم بنيه، وقال: والله لو تقدّمهم أحد في البلاء لقدّمته عليهم، ولولا أن أظلمهم لأخّرتهم. فقال له الحجاج:
نعم إنهم لسيوف من سيوف الله تعالى في الأرض.
وقال يوما عبد الملك للشعراء: تشبّهونني مرة بالأسد الأبخر، والجبل الأوعر، والبحر الأجاج وبالصقر والباز، ألا قلتم كما قال كعب الأشقريّ في المهلب وبنيه:
[الوافر]
براك الله حين براك بحرا ... وفجّر منك أنهارا غزارا
بنوك السّابقون إلى المعالي ... إذا ما أعظم النّاس الفخارا
كأنهم نجوم حول بدر ... دجوجيّ تكمّل واستدارا
ملوك ينزلون بكلّ ثغر ... إذا ما الهام يوم الرّوع طارا
رزان في الأمور ترى عليهم ... من الشيخ الشمائل والنّجارا
نجوم يهتدى بهم إذا ما ... أخو الغمرات في الظلماء حارا
وفي ديوان الحماسة: [البسيط]
آل المهلّب قوم خوّلوا شرفا ... ما ناله عربيّ لا ولا كادا
لو قيل للمجد حد عنهم وخلّهم ... بما احتكمت من الدّنيا لما حادا
إنّ المكارم أرواح يكون لها ... آل المهلّب دون الناس أجسادا
ولبعضهم: [الوافر](3/256)
آل المهلّب قوم خوّلوا شرفا ... ما ناله عربيّ لا ولا كادا
لو قيل للمجد حد عنهم وخلّهم ... بما احتكمت من الدّنيا لما حادا
إنّ المكارم أرواح يكون لها ... آل المهلّب دون الناس أجسادا
ولبعضهم: [الوافر]
إذا كان المهلّب من ورائي ... هدا ليلي وقرّ له فؤادي
ولم أخش الدنيّة من أناس ... ولو صالوا بقوّة قوم عاد
وتوفّي المهلب بفنجديّه بصحراء راغول سنة ثلاث وثمانين فبعد أربعمائة وثلاثين من وفاته، رأى بعض علماء فنجديّه في المنام كأنّ المهلّب يقول: الله، الحقني قبل أن يأخذني روذمرو وهو نهر عظيم يعبر عليه بالسفن وانقلني إلى بعض مقابر المسلمين، وأنا مدفون على شاطىء هذا النهر الكبير في الموضع الفلاني، وقد حفر الماء تحت قبري، وقرب أن يأخذني، فلما أصبح الرجل أخذ جماعة من أصحابه معهم المساحي والفؤوس فمضوا إلى ذلك الموضع، وحفروا حتى وصلوا إلى قالبه فكشفوا التراب عنه، فكانت عظامه ما بليت بعد، فدفنوه بمقبرة مذونة.
قال الفنجديهي: وهي محلتنا وسمعت معنى هذه الحكاية من والدي رحمه الله.
* * * فلمّا ألقيت الجران بنجران، واصطفيت بها الخلّان والجيران، اتخذت أنديتها معتمري، وموسم فكاهتي وسمري فكنت أتعهّدها صباح مساء، وأظهر فيها على ما سرّ وساء فبينما أنا في ناد محشود، ومحفل مشهود، إذ جثم لدينا همّ، عليه هدم فحيّا تحيّة ملق، بلسان ذلق ثم قال: يا بدور المحافل، وبحور النّوافل، قد بيّن الصّبح لذي عينين، وناب العيان مناب عدلين، فماذا ترون؟ فيما ترون أتحسنون العون، أم تنأون إذ تدعون! فقالوا: تالله لقد غظت، ورمت أن تنبط فغضت.
* * * قوله: بنجران: بلد من كور نجد ممّا يلي بلاد اليمن، سمّيت بنجران بن زيد بن سبأ. اصطفيت: اخترت. الخلّان: الأصحاب. تخذت، بمعنى اتّخذت. أنديتها:
مجالسها ومجتمع أهلها. معتمري: موضع زيارتي، واعتمرت الموضع: قصدته وزرته.
موسم: عيد. فكاهتي: ممازحتي. سمري: حديثي بالليل. أتعهّدها: أتفقّدها صباح مساء: اسمان مركّبان جعلا كخمسة عشر، وأراد يزورها في الصباح والمساء. ناد محشود: مجلس مجموع الأهل، ومثله المحفل المشهود. جثم: برك. همّ: شيخ هرم، قد أذهب الكبر قوّته، ولحمه، وتقول: هممت الشّحم: أذبته، ومنه قولهم: هذا الأمر لا
يهمني، بفتح الياء وكسر الهاء، أي لا يذيبني، ومن قال بضمّ الياء فمعناه لا يقلقني.(3/257)
موسم: عيد. فكاهتي: ممازحتي. سمري: حديثي بالليل. أتعهّدها: أتفقّدها صباح مساء: اسمان مركّبان جعلا كخمسة عشر، وأراد يزورها في الصباح والمساء. ناد محشود: مجلس مجموع الأهل، ومثله المحفل المشهود. جثم: برك. همّ: شيخ هرم، قد أذهب الكبر قوّته، ولحمه، وتقول: هممت الشّحم: أذبته، ومنه قولهم: هذا الأمر لا
يهمني، بفتح الياء وكسر الهاء، أي لا يذيبني، ومن قال بضمّ الياء فمعناه لا يقلقني.
هدم: ثوب خلق كأنّه هدمه البلى. ملق: متلطّف في كلامه. ذلق: حديد. النّوافل:
العطايا. بيّن الصبح لذي عينين، مثل، ويريد أنّ الليل يتساوى في ظلمته الأعمى والصحيح، فإذا ظهر ضوء الصبح أبصر الأشياء من له بصر، وقيل معنى بيّن الصبح، أي تبيّن، والعيان: المشاهدة، وعاينته: شاهدته، أي أنتم ممّن لا يخفى عليكم حالي، يريد أنّ المعاينة تغني عن الشهود العدول. فماذا ترون: فما رأيكم؟ وهي من رؤية القلب.
فيما ترون، أي فيما تنظرون وتبصرون، وهو من رؤية البصر. وقال الفنجديهي في شرحه: فما ترون؟ أي فما تظنّون فيما ترون؟ أي فيما تبصرون. تنأون: تبعدون. غظت، من الغيظ، أي لقد حرّكت غيظا. رمت أن تنبط أردت أن تخرج ماء. غضت. غيّبته وجففته، والغيض نقيض الفيض، وغاض الماء: ذهب في الأرض.
* * * فناشدهم الله عمّا ذا صدّهم حتّى استوجب ردّهم فقالوا: كنّا نتناضل بالألغاز كما يتناضل يوم البراز فما تمالك أن شعّث من المنضول، وألحق هذا الفضل بنمط الفضول.
فلسنته لسن القوم، ووخزوه بأسنّة اللوم، وأخذ هو يتنصّل من هفوته، ويتندّم على فوهته، وهم مضبّون على مؤاخذته وملبّون داعي منابذته، إلى أن قال لهم:
يا قوم إن الاحتمال من كرم الطّبع، فعدّوا عن اللذع والقذع، ثم هلمّ إلى أن نلغز، ونحكّم المبرّز.
* * * ناشدهم: حلّفهم. صدّهم: صرفهم وأزالهم. نتناضل: نترامى. البراز: القتال والألغاز: جمع لغز، وهو الكلام المعمّى، وألغز، إذا عمّى كلامه فلم يفهم ما يقصده، وأصله من اللّغز وهو الحجر الملويّ. ما تمالك: ما أبطأ ولا ملك نفسه.
شعّث: غبّر، ويروى «شعّب». من المنضول أي نقصه وفرقه، والمنضول:
المرميّ، أي قبّح فعلهم ومراماتهم. الفنجديهيّ: شعّث الدهر ماله، أي أخذه، والمنضول: المغلوب في النّضال، والمعنى فما صبر عن تشعيث همّ المغلوب ونصره وتخليصه عمّا أرتج عليه من اللّغز، ويقال: شعّث منه، أي عابه وتنقّصه، وكأنه عاب المنضول كيف أرتج عليه شيء سهل! وهذا تفسير حسن، إلّا أنّ مساق كلام الحريري أدلّ على التفسير الأوّل.
نمط: نوع. لسنه: أخذه بلسانه. لسن القوم: فصحاؤهم. وخزوه: طعنوه.
يتنصّل: يتبرّأ ويعتذر. هفوته: سقطته. فوهته: كلمته الّتي فاه بها، أي نطق. مضبّون:(3/258)
نمط: نوع. لسنه: أخذه بلسانه. لسن القوم: فصحاؤهم. وخزوه: طعنوه.
يتنصّل: يتبرّأ ويعتذر. هفوته: سقطته. فوهته: كلمته الّتي فاه بها، أي نطق. مضبّون:
مقيمون ملتزمون، وأضبّ على الشيء: لازمه. مؤاخذته: إنشاب الشرّ معه، وتواخذ الرجلان: آخذ كلّ واحد منهما صاحبه بضرب أو شتم. ملبّون. مجيبون. منابذته:
متاركته ومهاجرته، وقد نبذت الشيء إذا رميته من يدك. الاحتمال: الصبر على الجفاء.
عدّوا: انصرفوا وتنحّوا. اللذع: إحراق القلب باللوم والعتب. والقذع: السّبّ. نلغز:
نعمّي الكلام ونلبسه على السامع. المبرّز: الغالب.
* * * فسكن عند ذلك توقّدهم، وانحلّت عقدهم، ورضوا بما بها شرط عليهم ولهم، واقترحوا أن يكون أوّلهم، فأمسك ريثما يعقد شسع، أو يشدّ نسع، ثم قال: اسمعوا وقيتم الطّيش، وملّيتم العيش، وأنشد ملغزا في مروحة الخيش:
[الطويل]
وجارية في سيرها مشمعلّة ... ولكن على إثر المسير قفولها
لها سائق من جنسها يستحثّها ... على أنّه في الاحتثاث رسيلها
ترى في ألوان القيظ تنطف بالنّدى ... ويبدو إذا ولّى المصيف قحولها
* * *
ريث، أي بطء. شسع: شراكة النعل. أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لن ينقطع شسع أحدكم إلا من ذنب عليه، فليستغفر الله وليرجع فإنها مصيبة عرضت عليه».
والنّسع: شراكة مضفورة على هيئة النعال، ويشدّ بها الرّحل وغيره.
وقيتم: كفيتم. الطيش: خفة العقل. ملّيتم: طوّل لكم. الخيش. ثياب خشنة من الكتان، وهذه المروحة تستعمل ببلاد العراق تكون شبه الشراع للسفينة، وتعلق من سقف البيت، يشدّ فيها حبل ويدار بها مشيها، وتبلّ بالماء وترشّ بماء الورد، فإذا أراد الرجل في القائلة أو الليل أن ينام جذبها بحبلها، فتذهب بطول البيت وتجيء فيهبّ على الرجل منها نسيم طيّب الريح بارد فيذهب عنه أذى الحرّ ويستطيب به النوم وهي فوقه ذاهبة وجائية، ولذلك سمّاها جارية. ومشمعلّة: سريعة الذهاب. قفولها: رجوعها. والسائق:
الشريط الذي يسوقها إذا جذبت به. يستحثّها: يستعجلها، ومن جنسها، أي هو من كتان مثلها أو من قنّب. والاحتثاث: التّعجيل. رسيلها، أي مرسلها، ويرسل معها لزاوية البيت ويرجع معها، والرّسيل: الفرس يرسل مع آخر في السباق. أوان القيظ: وقت الصيف. تنطف: تقطر، ونطف الماء: سال وقطر، والندى: الرشّ الضعيف. وقحولها:
يبسها. ولّى: أدبر، وإذا ولّى الحرّ لم يحتج إليها، فلا ترشّ ولا تستعمل فتيبس.
وللسريّ الموصليّ فيها: [الطويل](3/259)
ومبثوثة في كلّ غرب ومشرق ... لها أمّهات بالعراق بواطن
يحرّك أنفاس الرّياح حراكها ... كأنّ نسيم الروض فيهنّ كامن
وله أيضا: [الطويل]
وخيش كما انجرّت ذيول غلائل ... مصندلة يختال فيها الكواعب
وقد أطلعت فيها الشمال وانثنت ... مقيّدة عن جانبيها الجوانب
وممّا يكتب على مروحة الكفّ: [مجزوء الرمل]
أنا في الكفّ لطيفه ... مسكني قصر الخليفه
أنا لا أصلح إلا ... لظريف أو ظريفه
أو وصيف حسن الق ... دّ شبيه بالوصيفه
وفيها أيضا: [الرجز]
إنني أجلب الرّيا ... ح وبي يدفع الخجل
وحجاب إذا الحبيب ... ثنى الرّأس للقبل
* * *
ثمّ قال: وهاكم يا أولي الفضل، ومراكز العقل، وأنشد ملغزا في حابول النّخل:
[مجزوء الوافر]
ومنتسب إلى أمّ ... تنشّأ أصله منها
يعانقها وقد كانت ... نفته برهة عنها
به يتوصّل الجاني ... ولا يلحى ولا ينهى
* * *
قوله: هاكم، أي خذوا. مراكز العقل: مواضعه ومحالّه، كأنّ العقل ركّز فيهم.
والحابول: حبل يصعد به على النخل يعمل من ليفها، وهو حبل يعقد حلقة، ويدخل فيها الرجل ويدرّجه على النّخلة شيئا شيئا عند طلوعه حتى يصير بأعلاها، وحبل النخل ليس فيه شيء من الملاسة ولا في النخلة ذلك، فله بها استمساك، ولذلك جعله معانقا لها، لأنه استدار بها، وقيل له: حابول لأنه لا يستعمل إلا للصّعود على النخيل، فرقا بينه وبين الحبل المستعمل لكلّ شيء، ولمّا كان يصنع من ليف النخل، جعل النّخلة أمه.
برهة: زمانا. والجاني: الذي يجني الثّمر، ألغز به وأوهم أنه الذي يجني جناية. يلحى:
يلام ويسبّ.
ثم قال: ودونكم الخفيّة العلم، المعتكرة الظّلم، وأنشد ملغزا في القلم: [الوافر]
ومأموم به عرف الإمام ... كما باهت بصحبته الكرام
له إذ يرتوي طيشان صاد ... ويسكن حين يعروه الأوام
ويذري حين يستسعى دموعا ... يرقن كما يروق الابتسام
* * *(3/260)
ومأموم به عرف الإمام ... كما باهت بصحبته الكرام
له إذ يرتوي طيشان صاد ... ويسكن حين يعروه الأوام
ويذري حين يستسعى دموعا ... يرقن كما يروق الابتسام
* * *
قوله: العلم، أي الرّقم في الثوب، فأراد أنها خفيّة في اللغز، فعلمها الذي تعرف به خفي. والمعتكرة: الشّديدة السواد. ومأموم: برأسه آمة، أي شجّة، يريد الشقّ برأسه، والإمام: أمير المؤمنين، وجعله معروفا بالقلم، لأنّ القلم يبدي أسرار الملك وأخباره في كتبه. وقيل: الإمام الكتاب، من قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنََاسٍ بِإِمََامِهِمْ} [الإسراء:
71]، أي بكتابهم، وقيل بنبيهم، ولا يمتنع أن يريد بالمأموم المتّبع، وإمامه. الذّهن الذي يملي عليه، أو يد الكاتب به، وقيل: سمّاه مأموما، لأنه يؤم القرطاس، أي يقصده ويتبعه والإمام كتاب الله سبحانه وتعالى لأنه يتّبع ويؤتّم به، ويقتدى بما فيه. باهت:
افتخرت. والكرام: الكتبة لقوله تعالى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرََامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 16 17]. ولا مرتبة أشرف من مرتبتهم بعد الإمرة، ولذلك قال الصابي: [الطويل]
وقد علم السّلطان أنّي لسانه ... وكاتبه الكافي السّديد الموفّق
أوازره فيما عرا وأمدّه ... برأي يريه الشّمس والّليل أغسق
فيمناي يمناه ولفظي لفظه ... وعيني له عين بها الدّهر يرمق
طيشان صاد، أي جولان عاطش، وطاش: خفّ. يعروه: يقصده. والأوام:
العطش، يريد أن القلم إذا ارتوى بالمداد أسرع في الكتابة وإذا جفّ توقف وأمسك.
يرقن: يعجبن. ونظر المأمون إلى جارية تكتب، فقال: [الطويل]
وزادت لدينا حظوة حين أطرقت ... وفي إصبعيها أسمر اللون أهيف
أصمّ سميع ساكن متحرّك ... ينال جسيمات العلا وهو أعجف
وقال العلويّ: [الطويل]
إذا ما التقينا وانتضينا صوارما ... يكاد يصمّ السامعين صريرها
تساقط في القرطاس منها بدائع ... كمثل اللآلي نظمها ونثيرها
ثم قال: وعليكم بالواضحة الدّليل، الفاضحة ما قيل، وأنشد ملغزا في الميل: [الطويل]
وما ناكح أختين جهرا وخفية ... وليس عليه في النّكاح سبيل
متى يغش هذي يغش في الحال هذه ... وإن مال بعل لم تجده يميل
يزيدها عند المشيب تعهّدا ... وبرّا وهذا في البعول قليل
* * *(3/261)
قوله: الواضحة، أي البينة. الفاضحة، أي المبدية لعيب ما قيل قبلها من اللغز.
والميل: المرود. والأختين: العينين. ليس عليه سبيل، مع أنّ الجمع بين الأختين. لا يجوز. يغش: يدخل لها. مال: عدل وزال عنها. والبعل: الزوج. تعهّدا: تفقّدا. برّا:
إكراما. يريد أنّ الأبصار عند الكبر يضعف نظرها فتحتاج إلى الكحل. وقيل: عبّر بالمشيب عن مره العين وهو فسادها من ترك الكحل.
* * * ثمّ قال: وهذه يا أولي الألباب، معيار الآداب، وأنشد ملغزا في الدّولاب: [الوافر]
وجاف وهو موصول ... وصول ليس بالجافي
غريق بارز فاعجب ... له من راسب طافي
يسحّ دموع مهضموم ... ويهضم هضم متلاف
وتخشى منه حدّته ... ولكن قلبه صافي
* * *
أولي الألباب، أي أهل العقول. معيار: مقياس يعبّر به، وتقول: عايرت المكاييل، إذا قست بعضها ببعض، وساويت بينها. والدّولاب: الناعورة. والجافي: الثقيل، يريد أنّ الدولاب جاف في نفسه وخلقته، وليس بجاف لسرعة حركته ودورانه. وموصول:
ليس من عود واحد. وصول، يعني للرياض بمائة ولهذه المنفعة صنع. قوله: ليس بالجافي، يعني إذا فارق الماء عاد إليه لا يجفوه، والجفاء يكون في الخلقة والخلق، يقال: رجل جافي الخلقة، أي غليظ، وجافي الخلق إذا كان كزّا غليظ العشرة، وجفا الشيء يجفو جفاء: لم يلزم مكانه، وجفا جنبه عن الفراش: لم يطمئنّ، ويجفوه، ضدّ يصله، جفوة: مرة واحدة، وجفاء مصدر عام، ورجل وصول: كثير الوصل.
وقال الرّصافي في هذا المعنى فأحسن: [مخلع البسيط]
وذي حنين يكاد شوقا ... يختلس الأنفس اختلاسا
إذا غدا للرياض جارا ... قال له المحل: لا مساسا
يبتسم الرّوض حين يبكي ... بأعين ما رأين باسا
من كلّ جفن يسلّ سيفا ... صار له غمده رئاسا
ولأبي الفضل بن الأعلم في قواديس الساقية: [السريع]
ونسّك كعبتهم حفرة ... من فارق الحفرة يبكيها
حتى إذا ما أنفدوا دمعهم ... خرّوا على رؤوسهم فيها
وقال أعرابي في ساقية: [الكامل]
باتت تحنّ وما بها وجدي ... وأحنّ مشتاقا إلى نجد
فدموعها تحيا الرّياض بها ... ودموع عيني أحرقت خدّي
قوله: غريق بارز، يريد أن بعضه يغرق في الماء وبعضه يبرز منه، وهو معنى راسب طافي، لأنك تقول: رسب الشيء في الماء، إذا هبط في قعره وسفل فيه، وطفا، إذا ارتفع على وجه الماء. يسحّ: يصبّ. مهضوم ويهضم: ينقص. متلاف: مبذّر للمال، يريد كثرة أخذه للماء وإراقته له. حدّته: سرعة جريه، لأنه إن نشب بأحد في جريه أهلكه. وقلبه صافي، لأنه ليس من الحيوان فيعتقد شرّا إن أحرج. ولابن سعد الخير البلنسيّ بن دولاب: [البسيط](3/262)
باتت تحنّ وما بها وجدي ... وأحنّ مشتاقا إلى نجد
فدموعها تحيا الرّياض بها ... ودموع عيني أحرقت خدّي
قوله: غريق بارز، يريد أن بعضه يغرق في الماء وبعضه يبرز منه، وهو معنى راسب طافي، لأنك تقول: رسب الشيء في الماء، إذا هبط في قعره وسفل فيه، وطفا، إذا ارتفع على وجه الماء. يسحّ: يصبّ. مهضوم ويهضم: ينقص. متلاف: مبذّر للمال، يريد كثرة أخذه للماء وإراقته له. حدّته: سرعة جريه، لأنه إن نشب بأحد في جريه أهلكه. وقلبه صافي، لأنه ليس من الحيوان فيعتقد شرّا إن أحرج. ولابن سعد الخير البلنسيّ بن دولاب: [البسيط]
لله دولاب يفيض بسلسل ... في روضة قد أينعت أفنانا
قد طارحته بها الحمائم شجوها ... فيجيبها ويراجع الألحانا
وكأنه دنف يدور بمعهد ... يبكي ويسأل فيه عمّن بانا
ضاقت مجاري دمعه عن جفنه ... فتفتّحت أضلاعه أجفانا
ولبعض أصحابنا: [المنسرح]
وقدّه الحسن في محاسنها ... للعين قيد وللحجا شرك
تبكي فتبدي حنين ذي نسك ... بعد التّصابي وما بها نسك
إذا بكت في الرّياض من طرب ... بدا بوجه الأزاهر الضّحك
كأنّ ما انهلّ من مدامعها ... رجوم شهب يقلّها فلك
* * *
قال: فلمّا رشق، بالخمس الّتي نسق، قال: يا قوم تدبّروا هذه الخمس، واعقدوا عليها الخمس، ثمّ رأيكم وضمّ الذّيل، أو الازدياد من هذا الكيل. قال: فاستفزّت القوم شهوة الزّيادة، على ما أشربوا من البلادة، فقالوا: إنّ وقوفنا دون حدّك، ليفحمنا عن استيراء زندك، واستشفاف فرندك، فإن أتممت عشرا فمن عندك فاهتزّ اهتزاز من فلج سهمه، وانخزل خصمه. قوله: رشق، أي رمى، مأخوذ من رشق السهام، يقال: رشقت رشقا، أي رميت، والرّشق بالكسر: اسم للسهام، وهو اسم للهدف الّذي يرمونه. نسق:
تابع واحدا بعد واحد، وكلّ شيء تبع بعضه بعضا على السواء فهو نسق. ضمّ الذيل:
التشمير. الفنجديهي: ضمّ الذيل كناية عن الاكتفاء بهذه الأحاجي الخمس، والسكوت عن طلب الزيادة، يريد بالازدياد من الكيل، أن يزيدهم من حسن الأحاجي.
واستفزّتهم: استدعتهم واستخفّتهم، الزّجّاج في قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64] أي استدعه لتستخفّ به إلى إجابتك، واستفزّه:
ختله حتى ألقاه في مهلكة. أشربوا: سقوا ودوخلوا وخولطوا، وكلّ لون خالط لونا آخر فقد أشربه.(3/263)
والبلادة: التّحير في الأمر، والبليد المتحيّر: الذي لا يدري أين يتوجه، الأصمعيّ:
البليد: الذي يضرب بإحدى بلدتيه على الأخرى من الغمّ عند المصيبة. والبلدة هي الرّاحة، يقال: تبلّد الرجل، إذا تحيّر وضرب بإحدى يديه على الأخرى، يريد أنّ البلادة مشت فيهم وأشربتهم.
* * * ثم افتتح النّطق بالبسملة، وأنشد ملغزا في المزمّلة: [الطويل]
ومسرورة مغمومة طول دهرها ... وما تدري ما السرور ولا الغمّ
تقرّب أحيانا لأجل جنينها ... وكم ولد لولاه طلّقت الأمّ
وتبعد أحيانا وما حال عهدها ... وإبعاد من لم يستحل عهده ظلم
إذا قصر اللّيل استلذّ وصالها ... وإن طال فالإعراض عن وصلها نعم
لها ملبس باد أنيق مبطّن ... بما يزدرى لكن لما يزدرى الحكم
* * *
قوله: المزمّلة، أي الملففة، وقد زمّلت، إذا لفّفت، وهي آنية يبرّد فيها الماء، شبه الخابية، تستعمل بأرض العراق وتوضع عليها لفائف ثياب خشنة، وتغشّى بجلد أو ثوب مزيّن، حسن لنظر العين، ومن تحته تلك الأغشية الخشنة الّتي لها السرّ والحكم في تبريد الماء. ومسرورة، أي محمولة على سرير، وهم يجعلون تحتها مرفعا من عود أو حديد، ترتفع به عن الأرض فهو سريرها، وكذلك رأيت خوابي الماء بسجلماسة، كلها على أسرّة عود. وقيل مسرورة: مغمومة مغطاة، وسرير الكمأة: ما غطاها من التراب. والغم:
ضدّ السرور. جنينها: ولدها، أراد به الماء. وحال: تغيّر. عهدها: التقاؤها وقربها.
غنم: غنيمة. أنيق: معجب. يزدرى: يحتقر، وأراد بالحكم معنى تبريد الماء، وأراد أن ما بدا منها للناظر فهو غشاء حين يعجب من رآه، وهو قد بطّن بلفائف غلاظ مستحقرة، ولها معنى تبريد الماء، وقال السريّ الموصليّ في المزمّلة: [الطويل]
وحافظة ماء الحياة لفتية ... حياتهم أن تستلذّ المشارب
تسربلها أجفى اللباس وإنّما ... يليق بها أفوافه والسباسب
على جسد مثل الزّبرجد لم يزل ... يشاكله في لونه ويناسب
إذا استودعت حرّ اللجين سبائكا ... تصوّب في أحشائها وهو ذائب
فهذه القطعة وقطعة المقامة تدل على تفسيرنا، وبه كان يفسر شيخنا ابن جهور رحمه الله، حدّثنا بذلك شيخنا أبو بكر بن أزهر عنه. وأما الفنجديهي ففسر المزمّلة بتفسير غير مرضيّ، وذلك أنه قال: المزمّلة موضع يغطّى ويحشى تبنا، ويوضع في وسط التّبن وعاء في القيظ يبقي الماء باردا، ويترك ثقبه في وسط الموضع لدخول الجرة
فيها، ولهذا قال: «مسرورة» أي مقطوعة السرّة، وهو من سرّ الصبي، إذا قطعت القابلة سرّته.(3/264)
وحافظة ماء الحياة لفتية ... حياتهم أن تستلذّ المشارب
تسربلها أجفى اللباس وإنّما ... يليق بها أفوافه والسباسب
على جسد مثل الزّبرجد لم يزل ... يشاكله في لونه ويناسب
إذا استودعت حرّ اللجين سبائكا ... تصوّب في أحشائها وهو ذائب
فهذه القطعة وقطعة المقامة تدل على تفسيرنا، وبه كان يفسر شيخنا ابن جهور رحمه الله، حدّثنا بذلك شيخنا أبو بكر بن أزهر عنه. وأما الفنجديهي ففسر المزمّلة بتفسير غير مرضيّ، وذلك أنه قال: المزمّلة موضع يغطّى ويحشى تبنا، ويوضع في وسط التّبن وعاء في القيظ يبقي الماء باردا، ويترك ثقبه في وسط الموضع لدخول الجرة
فيها، ولهذا قال: «مسرورة» أي مقطوعة السرّة، وهو من سرّ الصبي، إذا قطعت القابلة سرّته.
* * * ثمّ كشر عن أنيابه الصّفر، وأنشد ملغزا في الظّفر: [الوافر]
ومرهوب الشّبا نام ... وما يرعى ولا يشرب
يرى في العشر دون النّح ... ر فاسمع وصفه واعجب
كشر: كشف. أنيابه: أضراسه. الصّفر، يريد أنه لا يتعهدها بالسّواك، فلذلك اصفرّت وتلك الصفرة تسمى القلح، وقد قال في السادسة والعشرين: «بحسن ملحه وقبح قلحه». مرهوب: مخوف. الشّبا: الحدّ. نام: زائد، والظفر إذا ترك بغير تقليم طال.
وما يرعى، يريد أن نمو الخلق وزيادته إنما هو بما يتغذى به من الأكل والشرب، وهذا يكبر ويزيد من غير غذاء. والعشر في الظاهر: عشر ذي الحجة. والنّحر: يوم النحر أي يوم العيد فأراد أن هذا المرهوب الشّبا إنما يظهر في العشر خاصّة، فإذا جاء يوم العيد وطول السنة بعده لم يظهر، وإنما يعني بالعشر الأصابع. والنّحر: العنق، أي أنّ الأظفار خلقت في الأصابع لا في العنق، أو يريد أن الظفر يرى في الأصابع العشر في عشر النّحر من ذي الحجة.
* * * ثمّ تخازر تخازر العفريت، وأنشد ملغزا في طاقة الكبريت. [الوافر]
وما محقورة تدنى وتقصى ... وما منها إذا فكّرت بدّ
لها رأسان مشتبهان جدّا ... وكلّ منهما لأخيه ضدّ
تعذّب إن هما خضبا وتلغى ... إذا عدما الخضاب ولا تعدّ
* * *
قوله: تخازر، أي نظر بمؤخر عينيه مستقلا لذلك، وهو نظر المحتقر لمن ينظر المنكر عليه. والعفريت: الشيطان المؤذي، وهو الرئيس من الجن، والكبريت، معروف فارسيّ معرّب. وطاقاته: قضبانه التي تجعل شيئا على شيء وهو الوقود الذي يشعل به المصباح. تقصى: تبعد. جدّا، أي كثيرا، ويريد بالرأسين طرفي قضيب الوقيد اللذين ينغمسان في الكبريت، وجعلهما ضدّين لأن هذا في طرف وهذا في طرف، فقد تباعدا وضدّ الشيء بعيد عنه، وجعلهما متشبهين لأن شكل الطرفين وهما الرأسان شكل واحد. وخضبا: غمسا في الكبريت. وتلغى: تهجر وتترك، وقال ابن رشيق: [البسيط]
إن كنت تنكر ما منك ابتليت به ... فإنّ برء سقامي عزّ مطلبه
أشر بعود من الكبريت نحو فمي ... وانظر إلى زفراتي كيف تلهبه
* * *(3/265)
إن كنت تنكر ما منك ابتليت به ... فإنّ برء سقامي عزّ مطلبه
أشر بعود من الكبريت نحو فمي ... وانظر إلى زفراتي كيف تلهبه
* * *
ثمّ تخمّط تخمّط القرم، وأنشد ملغزا في حلب الكرم: [مجزوء الوافر]
وما شيء إذا فسدا ... تحوّل غيّه رشدا
وإن هو راق أوصافا ... أثار الشّرّ حيث بدا
زكيّ العرق والده ... ولكن بئس ما ولدا
* * *
قوله: تخمّط، أي تكبّر وتهيّأ للقول، وأصل التّخمّط للقرم، وهو فحل الإبل، وتخمّط: تهيّأ للهدير وأخذ في الصّياح والهجوم على الإبل. وحلب الكرم، أراد الخمر، لأنها تحلب من العنب. والحلب: اللبن المحلوب، يقول: الخمر إذا فسدت صارت خلا، فحلّ استعمالها، فقد صار غيّها وهو فسادها رشدا، أي صلاحا، وقال أبو بكر بن القبطرنة في خمر له فسدت فصارت خلّا: [الطويل]
أبا حسن إني فجعت بصاحب ... أنيس يسلّي الهمّ عند احتلاله
غدت بنت بسطام بن قيس بدنّها ... وأمست كجسم الشّنفرى بعد خاله
قوله: «غدت بنت بسطام بن قيس»، أي صهباء، لأن بسطام بن قيس يكنى أبا الصهباء. وقوله: «وأمست كجسم الشنفرى»، أي خلّا، لأنه يريد قول الشّنفرى: [المديد] * إنّ جسمي من بعد خالي خلّ (1) *
أي مختلّ.
وقال آخر في ذلك: [البسيط]
حسبتها بنت بسطام لها أرج ... ثم افتضضت ختاما من أبي سلمه
عرّض بأبي سلمة الخلّال.
ومن التعريض المركّب على هذا المعنى قول الشاعر: [المتقارب]
شربت مداما تسرّ التريفا ... فأصبحت تجرّع خلا ثقيفا
__________
(1) يروى البيت:
فاسقنيها يا سواد بن عمرو ... إنّ جسمي بعد خالي لخلّ
والبيت للشنفرى في ديوانه ص 84، وملحق ديوانه ص 89، ولسان العرب (سلع)، (خلل)، ولتأبط شرا في ديوان الحماسة للتبريزي 2/ 163، وتاج العروس (خلل)، ولابن أخت تأبط شرا في العقد الفريد 3/ 300، والحيوان 3/ 70، ولخلف الأحمر في شرح ديوان الحماسة للتبريزي 2/ 838، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 2/ 156.(3/266)
وصرت حجازا جديب المحلّ ... وقد كنت للطالب الخصب ريفا
وقال آخر: [الرمل]
يا عقارا صار خلّا ... وملاذا للبعوض
سر فما لي فيك حظّ ... كان ذا قبل الحموض
ما أبالي بعد أكل الزّب ... د من طرح المخيض
قوله: راق أوصافا، أي حسنت أوصافه وحسنها أن توصف بالرّقة والصفاء والحمرة والقدم وقوة الفعل، يقول: فإذا كانت أوصافه معجبة أوقد الشر حيثما حضر فإذا فسدت أوصافه صلح. زكيّ العرق: كريم الأصل، والزكاء: النماء والزيادة، أي كثير الفضل والخير، وأراد أنها شجرة مباركة يكون منها العنب والزبيب والرّبّ، ولكنها تلد ولد سوء، وهو الخمر، وأخذ هذا المعنى من قول الشاعر: [البسيط]
فإن فخرت بآباء لهم شرف ... قلنا صدقت، ولكن بئس ما ولدوا
أو يريد لذّة العنب.
* * * ثمّ اعتضد عصا التّسيار، وأنشد ملغزا في الطّيّار: [المتقارب]
وذي طيشة شقّه مائل ... وما عابه بهما عاقل
يرى أبدا فوق علّيّة ... كما يعتلي الملك العادل
تساوى لديه الحصا والنّضار ... وما يستوي الحقّ والباطل
وأعجب أوصافه إن نظرت ... كما ينظر الكيّس الفاضل
تراضى الخصوم به حاكما ... وقد عرفوا أنّه مائل
* * *
قوله: اعتضد، جعلها تحت عضده. التّسيار: السّير. والطّيّار: ميزان معروف عندهم، يرجّحه أيسر شيء فلخفّته سمّي الطيّار. وقيل: الطّيّار. ميزان الدراهم المعروف عندهم بالقارسطون. الفنجديهي: الطيّار: لسان الميزان.
طيشة خفة. شقّه: نصفه وجانبه، فيريد بالظاهر: وذي حمق وخفة أصابه خدر وفالج، فيبس جنبه فمال على الجانب الصحيح، ومع ذلك لا يرى أبدا إلا في مكان مرتفع عاليا كما يفعل الملك، والحجارة والذهب عنده سواء. والنّضار: الذهب، ثم قال: وإذا نظرت إليه نظر كيّس حاذق رأيت في وصفه عجبا حين كان الناس يتراضون بحكمه مع معرفتهم بأنه ناقص الخلقة، لا يعدل في حكمه إنما هو ميّال مع أحد الخصمين. والعلّية: اليد التي يمسك عليها الميزان.(3/267)
[من الألغاز]
وقال أبو نواس يلغز: [السريع]
واسم عليه جنن للصبا ... وضمّه للوصف دوّار
فضحت عنه سرّ كتمانه ... وكان من شأني إظهار
يحذف أول مبتدا لاسمه ... ثم يكون الوصف إضمار
فذاك عل في لعلّ وفي ... قولك في حارث: يا حار
فهو بحذف ذا وترخيم ذا ... أح لمن تلذعه النار
الاسم راحة، يحذف أوّل حرف وآخر حرف، ويبقى أح، وهو من لذعته النار.
وقال آخر: [السريع]
ويلي من الحبّ وويلاه ... ملّك قلبي وتناساه
من ثالث العنبر بعض اسمه ... ورابع العنبر أولاه
وقوله عند سؤالي له: ... ما في اسمه والحافظ الله؟
الاسم رعبلان. وأنشد ابن إسحاق النحويّ: [الكامل]
حلف الحبيب عليّ لا سميته ... فكنّيته وأطعت خوف تغاضبه
ظبي إذا ما زارني حلّ اسمه ... قلبي وذاك من عجيب عجائبه
ويكون إن رخّمته وجزمته ... وقلبته ما تشتهي من صاحبه
ويكون بعد الجزم إن فكرت في ... التّصحيف مقلوبا أشدّ معايبه
الاسم فرجة. وأشدّ معايبه فرج، وهو ما يشتهي من صاحبه، إذا حذفت الهاء.
وقال ابن شرف: [السريع]
ما آكل يعطى على أكلة ... إعطاء إقلال وإكثار
لقمته قيمتها وحدها ... من غير خلف ألف دينار
هو فرج المرأة.
وله في المرآة: [الرمل]
ما يقول الشيخ في شي ... ء تراه ويراكا
ثم لا تلقاه إلا ... حين لا يلقى سواكا
وله أيضا في الإبرة: [الرجز]
ضئيلة الجسم لها ... فعل متين السّبب
حافرها في رأسها ... وعينها في الذّنب
ولغيره في الميزان: [الوافر](3/268)
ضئيلة الجسم لها ... فعل متين السّبب
حافرها في رأسها ... وعينها في الذّنب
ولغيره في الميزان: [الوافر]
وقاض قد قضى في الأرض عدل ... له كفّ وليس له بنان
رأيت الناس قد قبلوا قضاه ... ولا نطق لديه ولا بيان
وقال العلويّ الأصبهاني يلغز في النّسر الواقع: [الطويل]
وركب ثلاث كالأثافي تعاوروا ... دجا الليل حتى أومضت سنة الفجر
إذا اجتمعوا سميتهم باسم واحد ... وإن فرّقوا لم يعرفوا آخر الدّهر
وأنشد الحاتمي في الخفاش وهو طائر الليل: [الطويل]
أرى علماء النّاس لا يعرفونني ... وقد ذهبوا للعلم في كلّ مذهب
بجلدة إنسان وصورة طائر ... وأظفار يربوع وأنياب ثعلب
وأنشد في الطائر وظله: [الوافر]
عجبت لطائر في الحوم طارا ... وكانا واحدا فاثنين صارا
فهذا طائر في الجوّ يهوي ... وذا مستأنس لزم القرارا
وأنشدوا في مصراع الباب: [الطويل]
عجبت لمحرومين من كلّ لذّة ... يبيتان طول اللّيل يعتنقان
إذا أمسيا كانا على الناس مرصدا ... وعند طلوع الشمس يفترقان
وأنشدوا: [الطويل]
فما ميت أحيا به الله ميتا ... ليخبر قوما أنذروا ببيان
وعجفاء قد قامت لتنذر قومها ... وأهل قراها رهبة الحدثان
الميت الأوّل بقرة بني إسرائيل، والميت الثاني الذي ضرب ببعضها والعجفاء نملة سليمان عليه السلام.
والألغاز أكثر من أن يأتي عليها الحصر.
* * * قال: فظلّت الأفكار تهيم في أودية الأوهام، وتجول جولان المستهام، إلى أن طال الأمد، وحصحص الكمد. فلمّا رآهم يزندون ولاسنا، ويقضون النّهار بالمنى، قال: يا قوم إلام تنظرون، وحتّام تنظرون! ألم يأن لكم استخراج الخبيّ، أو استسلام الغبيّ! فقالوا: تالله لقد أعوصت، ونصبت الشّرك فقنصت فتحكّم كيف شيت، وحز الغنم والصّيت، ففرض عن كلّ معمّى فرضا، واستخلصه
منه نضّا. ثم فتح الأقفال، ووسم الأغفال، وحاول الإجفال. فاعتلق مدرة القوم، وقال له: لا لبسة بعد اليوم. فاستنسب قبل الانطلاق وهبها متعة المطلاق، فأطرق إطراق مريب، ثم أنشد والدّمع مجيب.(3/269)
* * * قال: فظلّت الأفكار تهيم في أودية الأوهام، وتجول جولان المستهام، إلى أن طال الأمد، وحصحص الكمد. فلمّا رآهم يزندون ولاسنا، ويقضون النّهار بالمنى، قال: يا قوم إلام تنظرون، وحتّام تنظرون! ألم يأن لكم استخراج الخبيّ، أو استسلام الغبيّ! فقالوا: تالله لقد أعوصت، ونصبت الشّرك فقنصت فتحكّم كيف شيت، وحز الغنم والصّيت، ففرض عن كلّ معمّى فرضا، واستخلصه
منه نضّا. ثم فتح الأقفال، ووسم الأغفال، وحاول الإجفال. فاعتلق مدرة القوم، وقال له: لا لبسة بعد اليوم. فاستنسب قبل الانطلاق وهبها متعة المطلاق، فأطرق إطراق مريب، ثم أنشد والدّمع مجيب.
* * * قوله: تهيم أي تتحيّر والهائم: الذي يركب رأسه ويمشي على غير هداية. الأوهام:
جمع وهم وهو ما تتوهمه وتتصوره في نظر مسألة مشكلة، إما خطأ وإما صوابا، وأراد أن أفكارهم كانت تتحيّر في نظر ألغازه ولا تهتدي. تجول: تتصرّف. المستهام: العاشق الذي ذهب به الحبّ كلّ مذهب. حصحص: تبيّن الكمد: الحزن والهمّ: يزندون ولاسنا: يقدحون الزّند، ولا يظهر لهم ضوء، أي تضرب أذهانهم الألغاز، فترجع بلا فهم. ويقضون: يقطعون يومهم بأمانيّ لا محصول لها.
[مما قيل في التمني]
قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: إيّاك والمنى فإنها بضائع النّوكى، وتثبّط عن الآخرة والأولى، وأشرف الغنى ترك المنى.
عليّ بن عبيدة الزنجاني: الأمانيّ مخايل الجهل.
وقال غيره: الأمانيّ تخدعك وعند الحقائق تدعك.
وفي ضدّه: أفلاطون: التمني حلم المستيقظ وسلوة المحروم.
غيره: الأمل رفيق مؤنس إن لم يبلّغك فقد ألهاك.
قيل لأعرابيّ: ما أمتع لذات الدنيا؟ قال: ممازحة الحبيب، ومحادثة الصديق، وأمانيّ تقطع بها أيامك. وأنشد الثعالبيّ: [السريع]
ولا تكن عبد المنى ... رؤوس أموال المفاليس
وقال مسلم بن الوليد: [الطويل]
وأكثر أفعال الغواني إساءة ... وأكثر ما تلقى الأماني كواذبا
وأنشد أبو تمام في ضدّه: [الطويل]
منى إن تكن حقّا تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
أمانيّ من ليلى حسانا كأنما ... سقتني بها ليلى على ظمأ بردا
ابن المعتزّ يصف ساقيا: [البسيط]
فظلّ يناجينى يقلّب طرفه ... بأطيب من نجوى الأماني وألطفا
غيره:
علّليني بموعد ... وامطلي ما حييت به
ودعيني أفوز من ... ك بنجوى تطلّبه
فعسى يعثر الزّما ... ن بخطّي فينتبه
قوله: تنظرون، أي تؤخّرون. يأن: يحن ويقرب. الخبيّ، أي المخبوء المستور، يريد ما خبّأ لهم في الشعر من اللّغز. استسلام: انقياد. الغبيّ، أي الجاهل بالشيء.(3/270)
علّليني بموعد ... وامطلي ما حييت به
ودعيني أفوز من ... ك بنجوى تطلّبه
فعسى يعثر الزّما ... ن بخطّي فينتبه
قوله: تنظرون، أي تؤخّرون. يأن: يحن ويقرب. الخبيّ، أي المخبوء المستور، يريد ما خبّأ لهم في الشعر من اللّغز. استسلام: انقياد. الغبيّ، أي الجاهل بالشيء.
أعوصت: أتيت بعويص وهو الصّعب. الشّرك: آلة يصاد بها. قنصت: صدت. الغنم:
الغنيمة والجائزة. الصّيت: الذّكر الحسن. ينشر في الناس ويشيع. فرض: قسط.
وأوجب: وألزم. والفرض: العطية واستخلصه: جعله خالصا. نضّا: حاضرا. فتح الأقفال، أي حلّ ألفاظ الألغاز وإلباسها وكأنّها لتعميتها كأنّ عليها أقفالا، فحلّها بتفسير.
والأغفال: جمع غفل، وهو الشيء المهمل ليس له علامة يعرف بها. وسمها: جعل لها علامة حاول الإجفال، أراد الفرار، وأجفل القوم: انهزموا. ومدرة القوم: لسانهم وفصيحهم المتكلّم عنهم، وأصل المدرة المدفاع، وقد درهته، إذا دفعته: لبسة: شبهة، وقد التبس الأمر إذا أشكل، ومتعة الطلاق، أن يهب الرجل لامرأته شيئا من ماله إذا طلّقها يسلّيها بذلك عن فراقه لها، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أكثر المتعة خادم، وأقلها ثلاثون درهما، وقيل: أكثرها خادم وأوسطها ثوب وأقلها ماله ثمن.
وهبها: احسبها، يقول: احسب انتسابك لنا متعة وتسلية لفراقك عنا. أطرق: أمال رأسه وسكت مريب: صاحب ريبة. والدّمع مجيب، يريد أن إنشاده دعا دمعه فأجابه وقد قال أبو الطيب: [البسيط]
* أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل (1) *
يريد أنه لمّا وقف على الطلل وهو أثر دار أحبابه هيّجه لهم فبكى، فالطلل لمّا دعاه للتذكّر أجابه بدموعه. [المجتث]
* * * سروج مطلع شمسي ... وربع لهوي وأنسي
لكن حرمت نعيمي ... بها ولذّة نفسي
واعتضت عنها اغترابا ... أمرّ يومي وأمسي
مالي مقرّ بأرض ... ولا قرار لعنسي
يوما بنجد ويوما ... بالشّأم أضحي وأمسي
__________
(1) عجزه:
دعا فلبّاه قبل الركب والإبل
والبيت في ديوان المتنبي 4/ 74.(3/271)
أزجي الزمان بقوت ... منغّص مستخسّ
ولا أبيت وعندي ... فلس، ومن لي بفلس!
ومن يعش مثل عيشي ... باع الحياة ببخس
ثمّ إنّه اختبن خلاصة النّضّ، وندر ضاربا في الأرض، فناشدناه أن يعود، وأسنينا له الوعود فلا وأبيك ما رجع، ولا الترغيب له نجع.
* * * قوله: مطلع شمسي، يريد أن سروج هي بلده التي نشأ فيها. ربع: منزل.
اعتضت: استبدلت. أمرّ: جعله مرّا. مقرّ: إقامة. قرار: سكون وإقامة عنسي: ناقتي الوثيقة، نجد: ما ارتفع من الأرض، وأنجد: أتى نجدا. والشأم: أخذ من اليد الشؤمى.
أزجي: أسوق. منغّص: مكدّر، ويقال: نغّص علينا فلان، أي قطع علينا ما كنا نحبّ الاستكثار منه، وكلّ من قطع شيئا يحبّ الازدياد منه فهو منغّص. مستخسّ: مستهجن.
بخس: نقصان.
اختبن: جعله في خبنته، وهو طرف ثوبه، والخبنة كالحجزة للإزرار، والخلاصة:
ما خلص له منه وصفا. وندر: سبق، وذهب يضرب في الأرض إذا سار فيها، وأصل ندر، خرج وطار، مثل النّواة إذا طارت من تحت المرضخ وشبهها. فناشدناه: حلّفناه.
يعود: يرجع. أسنينا: عظّمنا وجعلناها سنيّة أي رفيعة. والوعود: جمع وعد، وهو ما وعدوه به من المال. الترغيب: التطميع، وقد رغّبته في الشيء إذا زيّنته له وطمّعته فيه.
ونجع: نفع، وقد نجع عليه الطعام، إذا أصلح عليه جسمه.(3/272)
المقامة الثالثة والأربعون وهي البكريّة
حكى الحارث بن همام قال: هفا بي البين المطوّح، والسّير المبرّح، إلى أرض يضلّ بها الخرّيت، وتفرق فيها المصاليت، فوجدت ما يجد الحائر الوحيد، ورأيت ما كنت منه أحيد إلا أنّي، شجّعت قلبي المزءود، ونسأت نضوي المجهود، وسرت سير الضّارب بقدحين، المستسلم للحين ولم أزل بين وخد وذميل، وإجازة ميل بعد ميل إلى أن كادت الشّمس تجب، والضّياء يحتجب فارتعت لإظلال الظّلام، واقتحام جيش حام، ولم أدر أأكفت الذّيل وأرتبط، أم أغتمد اللّيل وأختبط!.
* * * هفا، أي طار وخفّ. المطوّح: المبعد المشفي على الهلاك، وقد طوّحت الشيء، إذا رميت به وألقيته إلقاء منكرا. المبرّح: الشاقّ المتعب، وقد برّح الأمر، إذا عظم واشتدّ. يضلّ: يتحيّر ويتلف. الخرّيت: الدليل، وقيل: هو من خرت الإبرة كأنه من حسن دلالته يهتدي على مثال خرت الإبرة وهو ثقبها. تفرق: تفزع المصاليت: الشجعان الماضون في الحروب، واحدهم مصلات، قال الفرّاء: المنصلّت: المسرع من كلّ شيء، وجمعه مصالت ومصاليت. أحيد: أخاف وأميل عنه. المزءود: المفزّع، وزئد الرجل: فزع نسأت: ضربت بالمنسأة، وهي العصا. نضوي: بعيري. المجهود: المتعب قدحين: سهمين.
[قداح الميسر]
وكان الرجل في الجاهلية يمسك ثلاثة أقداح، على أحدها مكتوب: «أمرني ربي»، وعلى الثاني «نهاني ربي»، والثالث غفل لا شيء عليه وهو المنيح، فإذا أراد سفرا أو أمرا ضرب بها، فإن خرج له «أمرني ربي» مضى آمنا، وإن خرج له «نهاني ربي» ترك ذلك الأمر وإن خرج له غفل أعاد الضّرب.
وقيل: كان يمسك قدحين مكتوب على أحدهما «افعل» وعلى الثاني «لا تفعل»، فإن خرج «أفعل» مضى، وإن خرج «لا تفعل» ترك.(3/273)
وقيل: كان لا يمضي حتى يخرج له «افعل» ثلاث مرات، ولا يترك المضيّ حتى يخرج له «لا تفعل» ثلاث مرات، فإن خرج له مرة «افعل» ومرة «لا تفعل» ولم يخلص له أحدهما، فإن مضى في ذلك الأمر مضى وهو يرجو ويخاف، وهذا هو الذي أراد الحريري لأنه كان بين الرجاء والخوف.
ولما قتل حجر أبو امرىء القيس، أخذ امرؤ القيس أزلامه وهي القداح، وأتى ذا الخلصة وهو صنم لدوس وخثعم وبجيلة فاستقسم عندها بالأزلام فخرج له القدح الذي يكره، فأخذ الأزلام وكسرها وضرب بها وجه صنمها، وقال: [الرجز]
لو كنت يا ذا الخلص الموتورا (1)
مثلي وكان شيخك المقبورا
لم تنه عن قتل العداة زورا
وحكى الفنجديهيّ، قال: الضارب بقدحين، يعني به قول الناس: إمّا الغنم، وإمّا الغرم، وإمّا الملك وإمّا الهلك قال الشاعر: [المتقارب]
ضربت بها البيت ضرب القدا ... ح إما لهذا وإمّا لذا
والقدح: السهم قبل أن يراش ويركّب نصله.
وحكى ابن ظفر أن الأزلام سبعة قداح، مكتوب على أحدها «نعم» وعلى الآخر «لا» وعلى قدح «منكم» وعلى قدح «من غيركم» وعلى قدح «ملصق» وعلى قدح «العقل»، وعلى قدح «فضل العقل». وكانت بيد سادن الأصنام، فيأتيه ذو الحاجة بدراهم، فيسأل الصنم أن يوضّح له ما سأل عنه، ثم يضرب بالقداح، فإن أتى سائل عن تزويج أو سفر أو شبه ذلك مما يستشار في مثله ضرب له بالقدحين اللذين عليهما نعم ولا، فإن خرج «نعم» مضى على فعله وإن خرج «لا» ترك ذلك. فإن انتسب رجل إلى قبيلة ضرب له بالأقداح الثلاثة التي فيها «منكم» «من غيركم» «ملصق» فإن خرج «منكم» أضافوا نسبه إلى أنفسهم، وإن خرج «من غيركم» كان حليفا وإن خرج «ملصق» لم يكن له حلف ولا نسب. فإن أتى سائل عن قتيل أو جناية ضرب بالقدحين اللذين عليهما العقل، فإن خرج على قوم «العقل» برىء منه الآخرون، وإن عقلوا ففضل شيء، فإن اختلفوا فيه ضرب بالقدح الذي عليه فضل العقل، فإن خرج عليه أدّاه.
ومعنى الاستقسام بها الرّضا بالقسمة بينهم من الأمر والنهي والبراءة والوجوب.
وسهام الميسر عشرة: ثلاثة يتكثّر بها لا أنصباء لها، وسبعة لها أنصباء، فأوّلها الفذّ، وفيه فرضة واحدة وله نصيب واحد، والثاني التوأم وفيه فرضتان وله نصيبان، ثم
__________
(1) الرجز بلا نسبة في معجم البلدان 3/ 458.(3/274)
الرقيب وفيه ثلاث فرض، وله ثلاثة أنصباء، ثم الحلس بأربع، والنافس بخمس، والمسبل بست، والمعلى، وهو أعلاها بسبع فرض وعلى عدد الفرض هي الأنصباء وقال ابن لبّال فجمعها في بيت: [الكامل]
فذّ وتوأم والرقيب ونافس ... والحلس ثمّت مسبل ثم المعلّ
واسم الثلاثة الّتي يتكثّر بها: الفسيح والمنيح والوغد فإذا أرادوا الضّرب بها طلبوا أوّل رجل يلقونه، فشدّوا عينيه، ويسمونه الحرضة، وأقاموا له الرقيب وضرب، فكلّما خرج له قدح دفعه إلى الرقيب، والرقيب هو الأمين على الضّرب بالقداح، قال الشاعر:
[المتقارب]
لها خلف أذنابها أزمل ... مكان الرقيب من الياسر
وكان أهل اليسار والجود من الجاهليّة عند شدّة الزمان، ينحرون الجزور ويقتسمونها ويضربون عليها بالقداح، فمن قمر جعل نصيبه لأهل الميسر، والقمار يكنى عنه بالميسر، وأصل الميسر موضع تنحر به الجزور، والياسر: الجازر، وتقسم الجزور عشرة أجزاء: العضدان في الكتفين جزآن، وهما ابنا ملاط، والعجز والزّور جزآن، والكاهل واللحاء عليهما الجنب بنصفين جزآن، والوركان عليهما الذّراعان جزآن، والفخذان وعليهما العنق مقسوما جزآن. وبقي جنب، وهم يستثنونه وقد لا يستثنونه، فيردّ منه على جزء الكاهل ضلعان وعلى سائرها ضلع ضلع، فإن فضلت قطعة أو عظم سمّي الزّيم، قال الشاعر: [الطويل]
وكنت كعظم الريم لم يدر جازر ... على أيّ أدنى مقسم اللّحم يجعل (1)
وقال الأصمعيّ في الميسر: إنّه شيء كانت الجاهلية تفعله، فليس عندنا منه حقيقة.
قوله: المستسلم للحين، أي المنقاد للهلاك. الوخد: نوع من السّير وهو أن ترجم الأرض بقوائمها لسرعة سيرها. والذّميل: سير ليّن. تجب: تسقط للمغيب ارتعت:
فزعت لإظلال: لقرب ودنوّ. اقتحام: دخول الشيء على غرر وحام، هو ابن نوح وقد تقدّم في الحادية والعشرين، وأراد بجيش حام ظلام الليل، لأنّ حاما أبو السّودان، أكفت: أقبضه وأشمّره. أرتبط: أربط بعيري أعتمد: أقصد. أختبط: أمشي على غير هداية، وأراد أنه لا يدري ما يفعل، أينزل ويبيت، أم يسير في الليل على غرر.
* * * __________
(1) البيت لأوس بن حجر في ديوانه ص 60، وفيه «يوضع» بدل «يجعل»، وبلا نسبة في لسان العرب (بدأ)، (ريم).(3/275)
وبينما أنا أقلّب العزم، وأمتخض الحزم، تراءى لي شبح جمل، مستذر بجبل، فترجّيته قعدة مريح، وقصدته قصد مشيح فإذا الظّنّ كهانة، والقعدة عيرانة، والمريح قد ازدمل ببجاده، واكتحل برقاده، فجلست عند رأسه حتّى هبّ من نعاسه فلمّا ازدهر سراجاه، وأحسّ بمن فاجاه، نفر كما ينفر المريب. وقال:
أخوك أم الذّيب! فقلت: بل خابط ليل ضلّ المسلك، فأضىء لي أقدح لك فقال:
ليسر عنك همّك، فربّ أخ لك لم تلده أمّك. فانسرى عند ذلك إشفاقي، وسرى الوسن إلى آماقي، فقال: عند الصّباح يحمد القوم السّرى، فهل ترى كما أرى!
* * * العزم والحزم: اجتماع رأي الرجل على ما يريد أن يفعله فلا يتردّد فيه. أمتخض:
أحرّك وأحلب، وأراد أنه أخذ يحدّث نفسه ويدبّر رأيه: هل يسري أو يقعد. تراءى، أي ظهر. مستذر: مستعل، والذروة أعلى الشيء، أراد أنه ظهر له شبح جمل، أي شخصه في أعلى جبل. قعدة: بعير يقعد عليه عند الركوب. مريح: مستريح، قد نزل يريح نفسه وبعيره. مشيح: مجدّ. والقعدة: المركوب. والعيرانة: الناقة الصلبة تشبّه بالعير، وهو حمار الوحش.
وازدمل: التفّ. ببجاده: بكسائه. هبّ: انتبه. ازدهر: انفتح وأضاء سراجاه:
عيناه. فأجاه: أتاه على غفلة. المريب: الذي أتى ريبة. أخوك أم الذيب، مثل، كأنه خاطب نفسه، فقال: أأخوك هو الذي رأيت أتى لمؤانستك أم ذئب لإذايتك، وتضمّن الكلام أن الاستفهام وقع بالذي رآه، فكأنه قال له: يا هذا، أأخ أنت أم صاحب فأركن إليك أم عدوّ فأحذرك؟ فأجابه بأن قال له: بل خابط ليل، أي ماش فيه على جهالة. ضلّ المسلك: أخطأ الطريق. أضىء لي: اكشف لي عن حالك. أقدح لك: أكشف لك عن حالي، وهذا أيضا مثل، وفي هذا التباس لأنه إذا أضاء له، أي أعطاه ضوءه أو أظهره له، فأيّ حاجة له في القدح، وهو الضرب بالزّند ليخرج ناره، وإنما معناه أن رجلا كان طلب لآخر ضوءا مثل فتيل يوقده، فتخيّل من صاحبه أنه لا يعطيه، فقال له: أضىء لي، أي أعطني ضوءا فليس عليك فيه تكلّف فإنك إن أتيتني في مثلها فلم تجد لي ضوءا قدحت لك زندي، وتكلفت لك ذلك، ثم استعمل فيمن يطلعك على أمره فتطلعه من أمرك على ما هو أفيد ممّا أطلعك عليه، فمعناه أطلعني على ظاهر أمرك أطلعك على باطن أمري ويروى: «أكدح لك» قال أبو زيد: إذا طلب الرّجل إلى الرجل حاجة فلم يعرف وجهها، قال: أضىء لي أكدح لك، أي بيّن لي فأكدح لك، أي أسعى لك، وكدح لمعيشته: سعى واكتسب، وأضىء: أسرج.
الفنجديهيّ: أضىء لي أكدح لك، مثل يضرب في المساواة بالأفعال، والمعنى:
كن لي أكن لك، واسع لي أسع لك، والمراد به كن لي أكثر مما أكون لك لأن الإضاءة أكثر نفعا من القدح، ويقال: معناه: تولّ الأمر الهيّن أتولّ الأمر الصعب. ليسر: ليزل وليذهب. سرى عرق الشجرة يسري: دبّ تحت الأرض، وسرى يسري سار.(3/276)
الفنجديهيّ: أضىء لي أكدح لك، مثل يضرب في المساواة بالأفعال، والمعنى:
كن لي أكن لك، واسع لي أسع لك، والمراد به كن لي أكثر مما أكون لك لأن الإضاءة أكثر نفعا من القدح، ويقال: معناه: تولّ الأمر الهيّن أتولّ الأمر الصعب. ليسر: ليزل وليذهب. سرى عرق الشجرة يسري: دبّ تحت الأرض، وسرى يسري سار.
[قصة المثل: رب أخ لم تلده أمك]
ربّ أخ لك لم تلده أمك، معناه قد وجدت مني صديقا يقوم لك مقام شقيقك، وأصل المثل أن لقمان بن عاد رأى امرأته قد خلا بها رجل وهي تلاعبه ويلاعبها، ومعها صبيّ صغير يبكي، وهما قد أقبلا على شأنهما لا يكترثان به، فسألها عن الرّجل، فقالت:
هو أخي، فقال ربّ أخ لك لم تلده أمك، يكذّبها في قصدها أي هو أخوك بالمحبّة والصداقة لا بالولادة. وقال في الدرّة: حكى ابن نصر الكاتب أن أبا العباس بن ياسر دخل عليه، رجل نصرانيّ ومعه فتى من أهل ملّته حسن الوجه، فقال له: من هذا الفتى؟
فقال له: بعض أخواني، فأنشد أبو العباس: [الطويل]
دعتني أخاها أمّ عمرو ولم أكن ... أخاها ولم أرضع لها بلبان (1)
دعتني أخاها بعد ما كان بيننا ... من الأمر مالا يصنع الأخوان
وقالوا في هذا المعنى: ربّ بعيد أقرب من قريب، وقالوا: القريب من قرب نفعه، وقال أبو تمام: [الكامل]
ولقد سبرت الناس ثم خبرتهم ... وبلوت ما وصفوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرّب قاطعا ... وإذ المودّة أقرب الأنساب
وقال ابن ميادة: [الطويل]
وإنّي لزوّار لمن لا يزورني ... إذا لم يكن في ودّه بمريب
تقرّب لي دار الحبيب وإن نأت ... وما دار من أبغضته بقريب
فلا تطلبنّ القرب والبعد بعدها ... إلى غير نيّات وغير قلوب
وقال آخر: [الطويل]
أخو ثقة يسرّ ببعض شأني ... وإن لم تدنه منّي قرابه
أحبّ إليّ من ألفي قريب ... بنات قلوبهم لي مسترابه
وقال ابن هرمة: [الكامل]
هشّ إذا وقف الوفود ببابه ... سهل الحجاب مؤدّب الخدّام
__________
(1) البيت الأول لعبد الرحمن بن الحكم في معجم شواهد العربية ص 397، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص 440، وشرح شذور الذهب ص 482، وشرح المفصل 6/ 27، والمقرب 1/ 121.(3/277)
فإذا رأيت صديقه وشقيقه ... لم تدر أيّهما أخو الأرحام
انسرى: زال وذهب، وسروت الثوب عني إذا جردته. إشفاقي: خوفي. سرى الوسن: أقبل النوم. آماقي: آخر عيني، والموق طرف العين من جهة الأنف.
[قصة المثل: عند الصباح يحمد القوم السري]
قوله: عند الصباح يحمد القوم السري مثل ومعناه إذا سرى القوم بالليل قطعوا أرضا كثيرة والأرض تطوى بالليل لمن يمشيها فإذا أصبحوا حمدوا سيرهم.
وهذا المثل بيت من رجز وقع في شعر الشّماخ، وذلك أنه سافر في قوم من بني ثعلبة، فمشوا حتى إذا كانوا قريبا من تيماء، قال الشماخ لابن أخيه: انزل فاحد بنا، فنزل فحدا بهم ثم نزل القوم للحداء واحدا بعد واحد، فوقعت أرجيزهم في ديوان الشّماخ، فنسبت إليه، وأول الرجز: [الرجز]
طاف خيال من سليمى فاعترى
بنجد أو تيماء أو وادي القرى
فمنع النّوم ومنّى بالمنى
وفي آخره: [الرجز]
عند الصّباح يحمد القوم السّرى
وتنجلي عنهم غيابات الكرى (1)
قال المفضّل الضبيّ: أوّل من قال ذلك خالد بن الوليد، لما بعث إليه أبو بكر رضي الله عنه وهو باليمامة أن ينزل إلى العراق، فأراد سلوك المفازة، فقال له رافع الطائيّ: قد سلكتها في الجاهليّة، وهي خمس للإبل الواردة، وما أظنك تقدر عليها إلّا أن تحمل من الماء، فاشترى مائة شارف فعطّشها ثم سقاها الماء حتى إذا مضى يومان خاف العطش على النّاس والخيل، وخشي أن يذهب ما في بطون الإبل، نحرها، واستخرج ما في بطونها. فسقى النّاس والخيل ومضى، فلما كان في الليلة الرابعة قال رافع: انظروا، هل ترون سدرا عظيما؟ فإن رأيتموها وإلا فهو الهلاك، فنظر الناس فرأوها فأخبروه فكبّر وكبّر الناس ثم هجموا على الماء فقال خالد: [الرجز]
لله درّ رافع أنّى اهتدى
فوّز من قراقر أنّى سرى
خمسا إذا سار بها الخيس بكى
__________
(1) الرجز لخالد بن الوليد في لسان العرب (سرى)، وتاج العروس (جبس)، ولحسان في أساس البلاغة (فوز)، وبلا نسبة في كتاب العين 4/ 349، و 7/ 389، ومقاييس اللغة 4/ 459.(3/278)
ما سارها من قبله إنس سرى
عند الصّباح يحمد القوم السّرى
ويقال: فوّز إذا ركب المفازة. وقراقر: اسم قرية من اليمن. والخيس: الجبان الضعيف، وقيل: الثّقيل. قال أبو عبيدة: والخمس أن تشرب الإبل يوم وردها وتصدر يومها فتظلّ بعد ذلك اليوم من الماء ثلاثة أيام سوى يوم الصدر، وترد اليوم الرابع فذلك الخمس.
* * * فقلت إنّي لك لأطوع من حذائك، وأوفق من غذائك، فصدع بمحبّتي، وبخبخ بصحبتي، ثمّ احتملنا مجدّين، وارتحلنا مدلجين، ولم نزل نعاني السّرى، ونعاصي الكرى إلى أن بلغ اللّيل غايته، ورفع الفجر رايته.
فلمّا أسفر الفاضح، ولم يبق إلّا واضح، توسّمت رفيق رحلتي، وسمير ليلتي، فإذا هو أبو زيد مطلب النّاشد، ومعلم الرّاشد، فتهادينا تحيّة المحبّين إذ التقينا بعد البين، ثمّ تباثثنا الأسرار، وتناثثنا الأخبار، وبعيري ينحط من الكلال، وراحلته تزفّ زفيف الرّال فأعجبني اشتداد أسرها، وامتداد صبرها فأخذت أستشفّ جوهرها، وأسأله من أين تخيّرها.
فقال: إنّ لهذه النّاقة خبرا حلو المذاقة، مليح السّياقة. فإن أحببت استماعه فأنخ، وإن لم تشأ فلا تصخ.
* * * قوله: حذائك، أي نعلك. صدع: كشف وأظهر. وبخبخ: قال: بخ بخ، وهي كلمة تقال عند الإعجاب. مجدّين: مجتهدين. مدلجين: ماشيين باللّيل. نعاني: نقاسي.
الكرى: النوم. رايته، أراد ضوءه. أسفر: أضاء الفاضح: من أسماء الصبح سمّي بذلك لأنه يفضح الأشياء، أي لا يظهرها. واضح: بيّن، يريد أنّ الصبح كشف ما ستره الليل فاستبان كل شيء. توسمت: نظرت. الفنجديهي: واضح: نجم، والنجم الّذي يرى بعد الصّبح مضيئا في كثير من الأوقات وهو الزّهرة. ابن سيده: الواضح: الكواكب الخمس، إذا اجتمعت مع الكواكب المضيئة من كواكب المنازل. والخنّس: الراجعة والمتأخرة والمنقبضة. رحلتي: ارتحالي. والسمير: محادثك باللّيل. مطلب الناشد، أي حاجة الطلاب التي تلفت له، فجعل يطلبها. معلم الرّاشد: دليل الهادي، والمعلم: الجبل يعلم به الطريق. فتهادينا تحية المحبين، أي أهديته سلام محبّ أهدى لي مثل ذلك. تباثثنا:
تكاشفنا، أي كشفت له سرّي وكشف لي سرّه. تناثثنا: تفاشينا، أي أفشيت له خبري وأفشى لي خبره، والبثّ أصله التّفريق، والنّث بالنون: أصله نشر الحديث وإفشاؤه الفنجديهي: تناثثنا: تذاكرنا، والنّثّ: الذّكر ونثوت الذّكر ونثوت الحديث، أنثوه، إذا أذعته وأفشيته. ابن الأعرابيّ النثاء في الحسن والقبيح من الكلام، وقيل: النّثّ: نشر الحديث الذي كتمه أولى من نشره، وفي معنى هذا اللقاء قال المعريّ: [الوافر](3/279)
الكرى: النوم. رايته، أراد ضوءه. أسفر: أضاء الفاضح: من أسماء الصبح سمّي بذلك لأنه يفضح الأشياء، أي لا يظهرها. واضح: بيّن، يريد أنّ الصبح كشف ما ستره الليل فاستبان كل شيء. توسمت: نظرت. الفنجديهي: واضح: نجم، والنجم الّذي يرى بعد الصّبح مضيئا في كثير من الأوقات وهو الزّهرة. ابن سيده: الواضح: الكواكب الخمس، إذا اجتمعت مع الكواكب المضيئة من كواكب المنازل. والخنّس: الراجعة والمتأخرة والمنقبضة. رحلتي: ارتحالي. والسمير: محادثك باللّيل. مطلب الناشد، أي حاجة الطلاب التي تلفت له، فجعل يطلبها. معلم الرّاشد: دليل الهادي، والمعلم: الجبل يعلم به الطريق. فتهادينا تحية المحبين، أي أهديته سلام محبّ أهدى لي مثل ذلك. تباثثنا:
تكاشفنا، أي كشفت له سرّي وكشف لي سرّه. تناثثنا: تفاشينا، أي أفشيت له خبري وأفشى لي خبره، والبثّ أصله التّفريق، والنّث بالنون: أصله نشر الحديث وإفشاؤه الفنجديهي: تناثثنا: تذاكرنا، والنّثّ: الذّكر ونثوت الذّكر ونثوت الحديث، أنثوه، إذا أذعته وأفشيته. ابن الأعرابيّ النثاء في الحسن والقبيح من الكلام، وقيل: النّثّ: نشر الحديث الذي كتمه أولى من نشره، وفي معنى هذا اللقاء قال المعريّ: [الوافر]
ولو لم ألق غيرك في اغترابي ... لكان لقاؤك الحظّ الجزيلا (1)
ستحمل ناجبات العيس منّي ... صديقا عن ودادك لن يحولا
يؤمّل فيك إسعاف الليالي ... وينتظر العواقب أن تديلا
ينحط: يزفر ويتنفّس من شدّة التعب، والنّحط: خروج النّفس بصوت، وهو صوت يعتري المهموم والمتعوب من صدره بتوجع، وقد نحط ينحط نحطا ونحيطا، والنّحيط يعتري الدّابة إذا كلّت أو زيد في حملها، فتسمع لها زفيرا بصوت، فذلك هو النّحيط، وقد نحط القصّار إذا ضرب بالثوب على الحجر وتنفّس ليكون أروح له. تزفّ: تسرع.
والزفيف: مشى في سكون متتابع والرأل: فرخ النّعامة والجمع الرّئال. أسرها: قوّتها وشدّة خلقها. امتداد: طول. أستشف: أنظر. جوهرها: خلقها وجوهر كلّ شيء: ما وضعت عليه جبلّته. أنخ: حطّ بعيرك وانزل. تصخ: تستمع.
* * * فأنخت لقوله نضوي، وأهدفت السّمع لما يروي، فقال: اعلم أنّي استعرضتها بحضرموت، وكابدت في تحصيلها الموت، وما زلت أجوب عليها البلدان، وأطس بأخفافها الظّرّان إلى أن وجدتها عبر أسفار، وعدّة قرار، لا يلحقها العناء، ولا تراهقها وجناء، ولا تدري ما الهناء. فأرصدتها للخير والشرّ، وأحللتها محلّ البرّ السّرّ، فاتّفق أن ندّت منذ مدّة، وما لي سواها قعدة، فاستشعرت الأسف، واستشرفت التّلف، ونسيت كلّ رزء سلف، ومكثت ثلاثا، لا أستطيع انبعاثا، ولا أطعم النّوم إلا جثاثا، ثمّ أخذت في استقراء المسالك، وتفقّد المسارح والمبارك، وأنا لا أستنشي منها ريحا، ولا أستغشي يأسا مريحا وكلما ادّكرت مضاءها في السّير، وانبراءها لمباراة الطير، لا عني الادكار، واستهوتني الأفكار.
* * * __________
(1) الأبيات في سقط الزند ص 1401.(3/280)
نضوي: بعيري المهزول. أهدفت: جعلته غرضا يقع فيه كلامه. والسّمع: الأذن.
والهدف: الغرض ترمي عليه، استعرضتها: طلبت أن تعرض عليّ للبيع. حضرموت:
كورة من كور اليمن فيها مدائن، وتعمل بها النعال الحضرميّة وهي غاية في الجودة.
كابدت: قاسيت. أجوب: أقطع أطس: أكسر. والوطس: الوطء الشديد المؤثر.
الظرّان: واحدها ظرر، بظاء منقوطة وراءين، وهي الحجارة العريضة، وقيل المحدّدة.
عبر أسفار: أي قويّة على السّفر كأنها تعبر بها المراحل، أي تقطع، وأصله عبرت في النهر إذا جزته من جهة إلى جهة أخرى. فرار، أي قد استعدّت للفرار والهرب. العناء:
التعب. تراهقها: تدانيها وتقاربها، وقد أرهقت الرّجل، إذا دانيته، وذلك أن يذهب أمامك فتتبعه، فإذا قربت منه قلت: رهقته، فإذا أدركته قلت: أرهقته: ورواية ابن جهور «تواهقها» بالواو، ومعناها تواظب على المشي معها، والمواهقة: المعارضة في السير.
وجناء: ناقة قويّة غليظة. والوجين: ما صلب من الأرض، وقيل: الوجناء: العظيمة الوجنات. والهناء: القطران، أي ليس بها داء فتحتاج إليه فهي لا تعرفه. أرصدتها:
أعددتها. البرّ: الذي يبرّك ويكرمك. والسّرّ: ما يسرّك: ندّت: فرّت وشردت.
استشعرت: لبست. الأسف: الحزن. استشرفت التلف: عاينت الهلاك ونظرته، واستشرفت فلانا إذا رفعت رأسك لتنظر إليه ويدك على حاجبك. والرّزء: فقد الشيء.
سلف: مضى. مكثت: أقمت. انبعاثا: نهوضا وخروجا إلى السفر. حثاثا: قليلا، والحثاث: أن يصيبك النّوم ثم يزول عنك في الحال، ويوصف به فيقال: يوم حثاث، أي قليل. والطعم: الذوق. استقراء: تتبّع. والمسالك: الطّرق. المسارح: المراعي وحيث تسرح الإبل. والمبارك: مراقد الإبل حول الماء. استنشاء الريح: شمّها، مهموز وغير مهموز. استغشى ثوبه: تغطّى به اليأس: قطع الرّجاء. مريحا: يدخل على صاحبه الراحة. ادّكرت: تذكّرت. مضاءها: نفادها وإسراعها. انبراءها: نهوضها، وقد انبرى لك فلان إذا عرض لك. مباراة: معارضة لاعني: أحرقني، اللوعة: حرقة القلب من شدّة الوجد. استهوتني: هوت بي في كلّ طريق. الأفكار: تذكر الهموم.
* * * فبينما أنا في حواء، بعض الأحياء، إذ سمعت من شخص متبعّد، وصوت متجرّد: من ضلّت له مطيّة، حضرميّة وطيّة، جلدها قد وسم، وعرّها قد حسم، وزمامها قد ضفر، وظهرها كأن قد كسر ثمّ جبر، تزين الماشية، وتعين النّاشية، وتقطع المسافة النائية، وتظلّ أبدا لك مدانية، لا يعتورها الونى، ولا يعترضها الوجى، ولا تحوج إلى العصا، ولا تعصي فيمن عصى؟.
قال أبو زيد: فجذبني الصّوت إلى الصّائت، وبشّرني بدرك الفائت فلمّا
أفضيت إليه، وسلّمت عليه، قلت له: سلّم المطيّة، وتسلّم العطيّة، فقال: وما مطيتك، غفرت خطيّتك؟ قلت له: ناقة جثّتها كالهضبة، وذروتها كالقبّة، وحلبها ملء العلبة، وكنت أعطيت بها عشرين، إذ حللت يبرين، فاستزدت الّذي أعطى، ودريت أنه أخطا.(3/281)
قال أبو زيد: فجذبني الصّوت إلى الصّائت، وبشّرني بدرك الفائت فلمّا
أفضيت إليه، وسلّمت عليه، قلت له: سلّم المطيّة، وتسلّم العطيّة، فقال: وما مطيتك، غفرت خطيّتك؟ قلت له: ناقة جثّتها كالهضبة، وذروتها كالقبّة، وحلبها ملء العلبة، وكنت أعطيت بها عشرين، إذ حللت يبرين، فاستزدت الّذي أعطى، ودريت أنه أخطا.
* * * قوله: حواء: بيوت مجتمعة مائتان أو نحوها. الأحياء: القبائل. متجرّد. ماض ظاهر، وقيل ضعيف لبعده. ضلّت: تلفت وضاعت. مطية، يعني بها نعلا في المعنى وناقة في اللفظ، وقد تقدّمت أشعار اللّغز بهما. وطيّة: لا تحرّك الراكب، وهي الذّلول، وفراش وطيء: وثير لا يؤذي جنب النائم عليه، وعلى من ضلّت له مطية [أن يقول ما] في حديث عتبة بن غزوان عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا ضل أحدكم شيئا وأراد غوثا وهو بأرض ليس بها أحد فليقل: يا عباد الله المسلمين أعينوني، يا عباد الله المسلمين أعينوني، فإنّ لله عبّادا لا نراهم»، وقد جرّب ذلك. وسم: خرز، أي جعل الخرز فيها كالعلامة.
عرّها: جربها. حسم: استؤصل بالقطع، يريد أنّ آثار الجرب الّتي كانت في الجلد الذي صنعت منه هذه النعل قد قطعت وأزيلت. وزمامها: شركها. كسر ثم جبر، يريد أنّ ظهرها يبس فتكسّر، فوصل بجلد آخر فصحّ.
والماشية: الرّجل التي تمشي فيها، وكذلك النّاشية، ويقال: نشأ الرجل، إذا نهض لحاجته وتنشّأ أيضا. وسهل الناشية لأجل الماشية وأصلها الهمز الفنجديهي: تعين الناشية، أي تعين على السّير في ناشئة الليل، قال ابن عرفة: كلّ ساعة قامها قائم من الليل ناشئة. الأزهريّ: ناشئة الليل قيام الليل مصدر جاء على «فاعلة» بمعنى النّشء كالعافية والخاتمة بمعنى العفو والختم، وقيل: الناشية والنّشيئة أن تنام أوّل الليل ثم تقوم. وقيل: النّاشئة أوّل النهار أول الليل، وأكثر المفسرين على أنّ ناشئة الليل أوّله، عاصم: يهمزه والباقون لا يهمزون. جذبني، ساقني بعنف. الصّائت: صاحب الصوت الذي سمع، وقد أصات إذا رفع صوته، درك الفائت: لحوق التّالف. أفضيت: وصلت تسلّم: خذ. جثّتها: جسدها، والجثّة: شخص القائم والقاعد والراكب والهضبة:
الصخرة العظيمة، وقيل الجبل المنبسط الأملس. ذروتها: أعلى ظهرها. والعلبة: إناء من جلود. يبرين: أرض فيها رمل.
* * * قال: فأعرض عنّي، حين سمع صفتي، وقال: لست بصاحب لقطتي.
فأخذت بتلابيبه، وأصررت على تكذيبه، وهممت بتمزيق جلابيبه، وهو يقول: يا هذا ما مطيّتي بطلبك، فاكفف عنّي من غربك، وعدّ عن سبّك وإلّا فقاضني إلى
حكم هذا الحيّ، البريء من الغيّ، فإنّ أوجبها لك فتسلّم، وإن زواها عنك فلا تتكلّم، فلم أر دواء قصّتي، ولا مساغ غصّتي، إلّا أن آتي الحكم، ولو لكم.(3/282)
فأخذت بتلابيبه، وأصررت على تكذيبه، وهممت بتمزيق جلابيبه، وهو يقول: يا هذا ما مطيّتي بطلبك، فاكفف عنّي من غربك، وعدّ عن سبّك وإلّا فقاضني إلى
حكم هذا الحيّ، البريء من الغيّ، فإنّ أوجبها لك فتسلّم، وإن زواها عنك فلا تتكلّم، فلم أر دواء قصّتي، ولا مساغ غصّتي، إلّا أن آتي الحكم، ولو لكم.
فانخرطنا إلى شيخ ركين النّصبة، أنيق العصبة، يؤنس منه سكون الطّائر، وأن ليس بالجائر، فاندرأت أتظلّم وأتألّم، وصاحبي مرمّ لا يترمرم، حتّى إذا نثلت كنانتي، وقضيت من القصص لبانتي، أبرز نعلا رزينة الوزن، محذوّة لمسلك الحزن، وقال: هذه الّتي عرّفت، وإيّاها وصفت، فإن كانت هي الّتي أعطي بها عشرين، وها هو من المبصرين، فقد كذب في دعواه، وكبر ما افتراه اللهمّ إلّا أن يمدّ قذاله، ويبين مصداق ما قاله.
* * * أعرض: نحّى وجهه. واللّقطة: ما تجده قد سقط من غيرك فتلتقطه، وعامة أهل اللغة على فتح قافها مثل أبي عبيدة ويعقوب والمفضّل وثعلب وابن قتيبة وغيرهم.
وحكى ابن خالويه أن تسكينها لغة تميم، وفتحها لغة أهل الحجاز، فهما لغتان، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من التقط لقطة فليشهد ذا عدل ثم لا يكتم ولا يغيب، فإن جاء صاحبها فهو أحقّ بها، وإلا فهو ما الله يؤتيه من يشاء» (1). تلابيبه: أطواق ثوبه، والتلبيب الجيب، وأخذت بتلبيب فلان، إذا جمعت ثوبه الذي حوالي صدره وقبضت على نحره، والجلباب: الملحفة والرّداء. أصررت: أقمت. تمزيق جلابيبه: تخريق ثيابه. بطلبك:
بما تطلب. والطّلب: اسم ما تطلب. ابن دريد فلانة طلب فلان، إذا كان يطلبها ويهواها. عدّ: كفّ واصرف. سبّك: شتمك. قاضني: حاكمني الحيّ: القبيلة. الغيّ:
الضّلال والفساد. زواها: نحّاها.
قوله: مساغ غصتي، أي بلع ما أختنق به، وساغ الطعام والشراب في الحلق: سهل نزوله فيه. لكمه، يلكمه: ضربه بجمع كفّه.
انخرطنا: سرنا مسرعين. ركين النّصبة: وقور الهيئة، وفلان ركين بيّن الرّكانة، أي ثقيل المجلس ثابت قويّ. الأزهريّ. يقال للرجل إذا كان وقورا ساكنا: إنه لركين، وقد ركن ركانة. الجوهريّ. يقال جبل ركين، أي له أركان عالية، فيحتمل على هذا المعنى أن يكون ركين النّصبة، عالي الانتصاب حسن القامة، والنّصبة الفعلة من الانتصاب، وأراد بها هيئة انتصابه في جلوسه وحالته. أنيق: معجب. العصبة: هيئة العمامة على رأسه، تقول: عصبت رأسي بالعمامة إذا شددته بها، والعصبة هيئة التعمّم، يقول: إن
__________
(1) أخرجه أبو داود في اللقطة باب 9، وابن ماجه في اللقطة باب 2، وأحمد في المسند 4/ 162، 266.(3/283)
هذا الشيخ الحاكم رزين في جلوسه حسن التعمّم والهيئة. يؤنس: يبصر. سكون الطائر، كناية عن الوقار والحلم، وإنما ذكّر الطائر لأنه لا ينزل إلا على ساكن، وإذا نزل عليه سكن هو، فإذا كان عند الرجل هوج وطيش، قيل: طارت عصافيره، فإذا كان القوم أهل وقار قيل: كأنّ على رؤوسهم الطير. اندرأت: اندفعت. اتظلّم: أتشكّى الظلم. أتألم:
أتوجع. مرمّ: ساكت. لا يترمرم: لا يجيب ولا يتحرك، وتكلّم فما ترمرم، أي ما أجاب، وأصل ترمرم تحرّك. نثلت كنانتي: أخرجت ما فيها من السّهام، وأراد أتممت كلامي وقضيت: أتممت. والقصص: ذكر الخبر. لبانتي: حاجتي. أبرز: أظهر رزينة:
ثقيلة.
محذوّة، جعل عليها الحذاء وهو الجلد الّذي تنعل به. مسالك: طرق. والحزن:
ما غلظ من الأرض. عرفت: صحت بها ليعرفها صاحبها. ما افتراه: ما جاء به من الادعّاء والكذب. قذالة: عنقه، والقذال: ما بين نقرة القفا إلى الأذن، وجمعه قذل، يقول: فإن كانت هذه النعل تساوي عشرين وها هو يبصر أنّ هذا باطل فقد صارت دعواه باطلة، اللهمّ إلا أن يمدّ عنقه ويأتي ببيان أنّها تساوي عشرين، إلى هذا التفسير رأيت أكثر من لقيت يذهب، وهو ضعيف ولا يكون لمدّ قذا له معنى ولا لما بعده.
والتفسير الحسن الّذي فيه جلاء للمعنى ما كان يفسّره به شيخي أبو بكر بن أزهر عن ابن جهور، وذلك أنه كان يفسّر أعطى بمعنى صفع وضرب، وكذلك كتب عليه في طرة كتابه، أنّ أعطى بمعنى ضرب، لغة أهل الشرق، وقد حدّثت أنا عنهم أنّ الرجل إذا كلم الآخر بما لا يرضيه ثم انصرف عنه صاح الآخر في أثره: أعطه، بمعنى اصفعه، فهي لفظة متعارفة بينهم لهذا المعنى وبيان موقعها هنا أنه لما ادّعى السّروجي أنه أعطي بناقته عشرين، فوصفها بما يصحّ معناه في حقها من أنها تساوي عشرين. ثم قال: إن المعرّف أبرز نعلا رزينة الوزن، أي ثقيلة في الميزان. محذوة لمسلك الحزن، أي قد جعل عليها حذاء، أي رقع من الجلد طرقت بها ليسلك بها الحزن، أي ليمشي بها في أرض ذات حجارة فلا تؤثّر فيها لتلك الأطراف، وبتلك الأطراف صارت ثقيلة في الوزن، فلمّا أبرز هذه النّعل التي وصفتها رفعها بيده إلى الحاكم قائلا له: هذه النّعل التي عرّفت، وإيّاها وصفت، فإن كانت هذه التي أعطي بها عشرين، أي صفع بها عشرين. فقلت: الإعطاء للنعل بمعنى يوافقها إذ عدّ عشرين دينار في ثمنها بعيد، ثم بينه بقوله: وها هو من المبصرين. والضّرب الجافي في العنق تدمع له العينان، وإذا أفرط فيه عمي له المصفوع، فيقول المعرّف: هذه النعل لو صفع بها إنسان صفعة واحدة لعمي وهذا يقول إنه صفع بها عشرين وهو سالم البصر، فقد كذب في ادّعائه أنه صفع بها عشرين، وكبرت فريته، اللهمّ إلا أن يمدّ قفاه فيرينا فيها أثر الصفع، وأثره احمراره وتعجيره، فيتبيّن بذلك الأثر صدق قوله. فهكذا تفسير هذا الموضع ومعناه، وابن جهور الذي شافه الحريري بمشكلات كتابه كان أضبط لها ممّن يتحكم فيها بنظره، فيكون تخليص المعنى إنّ
المعرّف يقول: هذه النعل يدّعي هذا أنه أعطي بها عشرين، وأنتم ترونه سالم البصر، ومحال أن يصفع بها إنسان لخشنها وثقلها عشرين صفعة إلا ويعمى، فقد صارت دعواه كاذبة إلا أن يمدّ لنا عنقه فنرى فيها أثر الصفع والرّزء فنصدّقه في دعواه. وفي رواية غير ابن جهور «بعد المبصرين» فقال: كذّب دعواه وهو داخل في قول المعرّف الأوّل فلا يحتاج إلى ادعائه، ولو جاء هنا بثمّ مكان الفاء لكان أبين فكان بمعنى قوله، قال: ثم يمشي في كلامه ثم ينسّق عليه قال: لكلام ثان، وإنما وضع الفاء موضع ثمّ لأن جواب الشرط الذي هو «فإن كان» مضمّن في قوله «وها هو من المبصرين» فإنه يتضمّن قوله:(3/284)
والتفسير الحسن الّذي فيه جلاء للمعنى ما كان يفسّره به شيخي أبو بكر بن أزهر عن ابن جهور، وذلك أنه كان يفسّر أعطى بمعنى صفع وضرب، وكذلك كتب عليه في طرة كتابه، أنّ أعطى بمعنى ضرب، لغة أهل الشرق، وقد حدّثت أنا عنهم أنّ الرجل إذا كلم الآخر بما لا يرضيه ثم انصرف عنه صاح الآخر في أثره: أعطه، بمعنى اصفعه، فهي لفظة متعارفة بينهم لهذا المعنى وبيان موقعها هنا أنه لما ادّعى السّروجي أنه أعطي بناقته عشرين، فوصفها بما يصحّ معناه في حقها من أنها تساوي عشرين. ثم قال: إن المعرّف أبرز نعلا رزينة الوزن، أي ثقيلة في الميزان. محذوة لمسلك الحزن، أي قد جعل عليها حذاء، أي رقع من الجلد طرقت بها ليسلك بها الحزن، أي ليمشي بها في أرض ذات حجارة فلا تؤثّر فيها لتلك الأطراف، وبتلك الأطراف صارت ثقيلة في الوزن، فلمّا أبرز هذه النّعل التي وصفتها رفعها بيده إلى الحاكم قائلا له: هذه النّعل التي عرّفت، وإيّاها وصفت، فإن كانت هذه التي أعطي بها عشرين، أي صفع بها عشرين. فقلت: الإعطاء للنعل بمعنى يوافقها إذ عدّ عشرين دينار في ثمنها بعيد، ثم بينه بقوله: وها هو من المبصرين. والضّرب الجافي في العنق تدمع له العينان، وإذا أفرط فيه عمي له المصفوع، فيقول المعرّف: هذه النعل لو صفع بها إنسان صفعة واحدة لعمي وهذا يقول إنه صفع بها عشرين وهو سالم البصر، فقد كذب في ادّعائه أنه صفع بها عشرين، وكبرت فريته، اللهمّ إلا أن يمدّ قفاه فيرينا فيها أثر الصفع، وأثره احمراره وتعجيره، فيتبيّن بذلك الأثر صدق قوله. فهكذا تفسير هذا الموضع ومعناه، وابن جهور الذي شافه الحريري بمشكلات كتابه كان أضبط لها ممّن يتحكم فيها بنظره، فيكون تخليص المعنى إنّ
المعرّف يقول: هذه النعل يدّعي هذا أنه أعطي بها عشرين، وأنتم ترونه سالم البصر، ومحال أن يصفع بها إنسان لخشنها وثقلها عشرين صفعة إلا ويعمى، فقد صارت دعواه كاذبة إلا أن يمدّ لنا عنقه فنرى فيها أثر الصفع والرّزء فنصدّقه في دعواه. وفي رواية غير ابن جهور «بعد المبصرين» فقال: كذّب دعواه وهو داخل في قول المعرّف الأوّل فلا يحتاج إلى ادعائه، ولو جاء هنا بثمّ مكان الفاء لكان أبين فكان بمعنى قوله، قال: ثم يمشي في كلامه ثم ينسّق عليه قال: لكلام ثان، وإنما وضع الفاء موضع ثمّ لأن جواب الشرط الذي هو «فإن كان» مضمّن في قوله «وها هو من المبصرين» فإنه يتضمّن قوله:
«وها هو من المبصرين» معنى فقد كذب، وليس فيه لفظ الجواب، فجاءت الفاء كأنها جواب لفظي، ووقعت قال: موطّئة لقال الأولى، ألا ترى أن في رواية ابن جهور مكان فقال فقد، والكلام بها متّصل حسن، قال أبو الرقعمق يصف العمى من الصفع: [مجزوء الرمل]
ولقد بتنا على زمن ... ورؤوس القوم تسلب
وكؤوس الصفع دائرة ... وبها اللّذات والطّرب
وكأن الصفع بينهم ... شعل النّيران تلهب
والعمى منهم وإن شغلوا ... عنه باللّذات مقترب
وله: [مجزوء الكامل]
إنّ الذين تصافعوا ... بالقرع في زمن القشور
أسفوا عليّ لأنهم ... حضروا ولم أك في الحضور
لو كنت ثم لقيل هل ... من آخذ بيد الضرير
يا للرّجال تصافعوا ... والصّفع مفتاح السرور
لا تغفلوه فإنّه ... يستلّ أحقاد الصّدور
وقال يصف أثر الصّفع في قفاه: [البسيط]
ففيّ ما شئت من حمق ومن هوس ... قليله لكثير الحمق إكسير
كم رام إدراكه قوم فأعجزهم ... وقد حضرت يرى في الرأس تعجير
والأخدعان فما زالا يرى لهما ... لكثرة المزح توريم وتحمير
ففي هذه الأشعار تتبين لك تلك الأغراض التي قدمنا ذكرها.
[ابن المغازلي]
وتنتظم في سلكها حكاية ابن المغازليّ، وكان رجلا يتكلّم ببغداد على الطّرق
بأخبار ونوادر منوّعة، وكان نهاية في الحذق لا يستطيع من سمعه ألّا يضحك قال: وقفت يوما على باب الخاصّة أضحك النّاس وأتنادر، فحضر خلفي بعض خدّام المعتضد، فأخذت في نوادر الخدم، فأعجب بذلك وانصرف، ثم عاد فأخذ بيدي وقال: دخلت فوقفت بين يدي سيّدي فتذكرت حكايتك فضحكت، فأنكر عليّ، وقال: ما لك ويلك! فقلت: على الباب رجل يعرف بابن المغازلي يتكلّم بحكايات ونوادر تضحك الثّكول، فأمر بإحضارك ولي نصف جائزتك، فطمعت في الجائزة، وقلت: يا سيّدي أنا ضعيف وعليّ عيلة، فلو أخذت سدسها أو ربعها! فأبى وأدخلني فسلّمت فردّ السّلام، وهو ينظر في كتاب، فنظر في أكثره، وأنا واقف، ثم أطبقه ورفع رأسه إليّ، وقال: أنت ابن المغازلي؟ قلت: نعم يا مولاي، قال: بلغني أنّك تحكي وتضحك بنوادر عجيبة، فقلت:(3/285)
وتنتظم في سلكها حكاية ابن المغازليّ، وكان رجلا يتكلّم ببغداد على الطّرق
بأخبار ونوادر منوّعة، وكان نهاية في الحذق لا يستطيع من سمعه ألّا يضحك قال: وقفت يوما على باب الخاصّة أضحك النّاس وأتنادر، فحضر خلفي بعض خدّام المعتضد، فأخذت في نوادر الخدم، فأعجب بذلك وانصرف، ثم عاد فأخذ بيدي وقال: دخلت فوقفت بين يدي سيّدي فتذكرت حكايتك فضحكت، فأنكر عليّ، وقال: ما لك ويلك! فقلت: على الباب رجل يعرف بابن المغازلي يتكلّم بحكايات ونوادر تضحك الثّكول، فأمر بإحضارك ولي نصف جائزتك، فطمعت في الجائزة، وقلت: يا سيّدي أنا ضعيف وعليّ عيلة، فلو أخذت سدسها أو ربعها! فأبى وأدخلني فسلّمت فردّ السّلام، وهو ينظر في كتاب، فنظر في أكثره، وأنا واقف، ثم أطبقه ورفع رأسه إليّ، وقال: أنت ابن المغازلي؟ قلت: نعم يا مولاي، قال: بلغني أنّك تحكي وتضحك بنوادر عجيبة، فقلت:
يا أمير المؤمنين الحاجة تفتق الحيلة، أجمع النّاس حكايات أتقرّب بها إلى قلوبهم فألتمس برّهم، فقال: هات ما عندك، فإن أضحكتني أجزتك بخمسمائة درهم، وإن أنا لم أضحك فما لي عليك؟ فقلت للحين: ما معي إلّا قفاي، فاسأل ما أحببت، قال:
أنصفت إن لم تضحكني أصفعك بذلك الجراب عشر صفعات، فقلت في نفسي: ملك لا يصفع إلا بشيء ليّن خفيف، والتفتّ فإذا بجراب من أدم معلّق في زاوية البيت، فقلت:
ما أخطأ ظنّي، عسى فيه ربح إن أضحكته ربحت، وأخذت الجائزة، وإلّا فعشر صفعات بجراب منفوخ شيء هيّن، ثم أخذت في النّوادر والحكايات والنّعاشة والعبارة، فلم أدع حكاية أعرابيّ، ولا نحويّ، ولا مخنّث، ولا قاض، ولا نبطيّ، ولا سنديّ، ولا زنجيّ ولا خادم، ولا تركيّ، ولا شاطر، ولا عيّار، ولا نادرة، ولا حكاية إلا وأحضرتها حتى نفد كلّ ما عندي، وتصدّع رأسي، وفترت وبردت، ولم يبق ورائي خادم، ولا غلام إلا وقد ماتوا من الضحك، وهو مقطّب لا يتبسم، فقلت: قد نفد ما عندي، وو الله ما رأيت مثلك قطّ، فقال لي: هيه، ما عندك؟ فقلت: ما بقي لي سوى نادرة واحدة، قال:
هاتها، قلت: وعدتني أن تجعل جائزتي عشر صفعات وأسألك أن تضعفها لي وتضيف إليها عشر صفعات أخرى. فأراد أن يضحك ثم تماسك، قال: نفعل يا غلام خذ بيده ثم مددت قفاي فصفعت بالجراب صفعة، فكأنّما سقطت على قفاي قطعة من جبل، وإذا هو مملوء حصا مدوّرا فصفعت عشرا، فكادت أن تنفصل رقبتي، وطنّت أذناي وانقدح الشّعاع من عيني، فصحت يا سيّدي، نصيحة، فرفع الصّفع بعد أن عزم على العشرين، فقال: قل نصيحتك، فقلت: يا سيّدي إنّه ليس في الديانة أحسن من الأمانة، وأقبح من الخيانة، وقد ضمنت للخادم الذي أدخلني نصف الجائزة على قلّها وكثرها، وأمير المؤمنين بفضله وكرمه قد أضعفها وقد استوفيت نصفي، وبقي نصفه. فضحك حتى استلقى، واستفزّه ما كان سمع، فتحامل له، فما زال يضرب بيديه الأرض ويفحص برجليه ويمسك بمراقّ بطنه، حتى إذا سكن قال: عليّ به، فأتي به، وأمر بصفعه، وكان طويلا، فقال: وايش جنايتي؟ فقلت له: هذه جائزتي وأنت شريكي فيها، وقد استوفيت
نصيبي منها، وبقي نصيبك، فلما أخذه الصّفع وطرق قفاه الوقع، أقبلت ألومه وأقول له:(3/286)
هاتها، قلت: وعدتني أن تجعل جائزتي عشر صفعات وأسألك أن تضعفها لي وتضيف إليها عشر صفعات أخرى. فأراد أن يضحك ثم تماسك، قال: نفعل يا غلام خذ بيده ثم مددت قفاي فصفعت بالجراب صفعة، فكأنّما سقطت على قفاي قطعة من جبل، وإذا هو مملوء حصا مدوّرا فصفعت عشرا، فكادت أن تنفصل رقبتي، وطنّت أذناي وانقدح الشّعاع من عيني، فصحت يا سيّدي، نصيحة، فرفع الصّفع بعد أن عزم على العشرين، فقال: قل نصيحتك، فقلت: يا سيّدي إنّه ليس في الديانة أحسن من الأمانة، وأقبح من الخيانة، وقد ضمنت للخادم الذي أدخلني نصف الجائزة على قلّها وكثرها، وأمير المؤمنين بفضله وكرمه قد أضعفها وقد استوفيت نصفي، وبقي نصفه. فضحك حتى استلقى، واستفزّه ما كان سمع، فتحامل له، فما زال يضرب بيديه الأرض ويفحص برجليه ويمسك بمراقّ بطنه، حتى إذا سكن قال: عليّ به، فأتي به، وأمر بصفعه، وكان طويلا، فقال: وايش جنايتي؟ فقلت له: هذه جائزتي وأنت شريكي فيها، وقد استوفيت
نصيبي منها، وبقي نصيبك، فلما أخذه الصّفع وطرق قفاه الوقع، أقبلت ألومه وأقول له:
قلت لك إني ضعيف معيل، وشكوت إليك الحاجة والمسكنة، وأقول لك خذ ربعها أو سدسها، وأنت تقول: لا آخذ إلا نصفها، ولو علمت أن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه جائزته الصفع وهبتها لك كلّها. فعاد إلى الضحك من عتابي للخادم، فلما استوفى نصيبه أخرج صرّة فيها خمسمائة درهم، وقال: هذه كنت أعددتها لك فلم يدعك فضولك حتى أحضرت شريكا لك، فقلت: وأين الأمانة؟ فقسمها بيننا وانصرفت.
* * * فقال الحكم: اللهمّ غفرا، وجعل يقلّب النّعل بطنا وظهرا ثم قال: أمّا هذه النّعل فنعلي وامّا مطيّتك ففي رحلي، فانهض لتسلّم ناقتك، وافعل الخير بحسب طاقتك، فقمت وقلت: [الرجز]
أقسم بالبيت العتيق ذي الحرم
والطائفين العاكفين في الحرم
إنّك نعم من إليه يحتكم
وخير قاض في الأعاريب حكم
فاسلم ودم دوم النّعام والنّعم
فأجاب من غير رويّة، ولا عقد نيّة، وقال: [الرجز]
جزيت عن شكرك خيرا يا بن عمّ
إذ لست أستوجب شكرا يلتزم
شرّ الأنام من إذا استقضي ظلم
ثمّ من استرعي فلم يرع الحرم
فذان والكلب سواء في القيم
ثم إنّه نفّذ بين يديّ، من سلّم النّاقة إليّ، ولم يمتنّ عليّ، فرحت نجيح الأرب، أجرّ ذيل الطّرب، وأقول يا للعجب!
* * * قوله: اللهم غفرا، أي اغفر غفرا، والغفر: السّتر والتغطية. انهض: تقدّم لتسلّم:
لقبض العتيق: القديم. الحرم: جمع حرمة. والعاكفين: المقيمين فيه للعبادة، والعكوف: الإقامة، والحرم حرم مكة. اسلم: دعاء، معناه سلّمك الله والنّعام: طير معروف. الأعاريب: الأعراب وهم سكان البادية. والنّعم: جمع نعمة، والدّوم والدوام
واحد. رويّة، أي فكرة. عقد نيّة: أي تدبير. استرعي: جعل راعيا، أي حكما على الناس. يرعى: يحفظ فذان، أي فهذان القيم: جمع قيمة. يمتنّ: يعتدّها منّة، وامتنّ فلان عليك، إذا فعل معك معروفا فمتى أنكر عليك شيئا ذكر لك معروفه وجبهّك به، وقالت الحكماء: أحي المعروف بإماتة ذكره، وعظّمه بالتصغير له.(3/287)
لقبض العتيق: القديم. الحرم: جمع حرمة. والعاكفين: المقيمين فيه للعبادة، والعكوف: الإقامة، والحرم حرم مكة. اسلم: دعاء، معناه سلّمك الله والنّعام: طير معروف. الأعاريب: الأعراب وهم سكان البادية. والنّعم: جمع نعمة، والدّوم والدوام
واحد. رويّة، أي فكرة. عقد نيّة: أي تدبير. استرعي: جعل راعيا، أي حكما على الناس. يرعى: يحفظ فذان، أي فهذان القيم: جمع قيمة. يمتنّ: يعتدّها منّة، وامتنّ فلان عليك، إذا فعل معك معروفا فمتى أنكر عليك شيئا ذكر لك معروفه وجبهّك به، وقالت الحكماء: أحي المعروف بإماتة ذكره، وعظّمه بالتصغير له.
* * * قال الحارث بن همام: فقلت له تالله لقد أطرفت، وهرفت بما عرفت، فناشدتك الله: هل ألقيت أسحر منك بلاغة، وأحسن للّفظ صياغة؟ فقال: اللهمّ نعم، فاستمع وانعم كنت عزمت حين أتهمت، على أن أتّخذ ظعينة، لتكون لي معينة فحين تعيّن الخطب الملبّ، وكاد الأمر يستتبّ، أفكرت فكر المتحرز من الوهم، المتأمّل كيف مسقط السّهم، وبتّ ليلتي أناجي القلب المعذّب، وأقلّب العزم المذبذاب، إلى أن أجمعت على أن أسحر، وأشاور أوّل من أبصر. فلمّا قوّضت الظّلمة أبوابها، وولّت الشّهب أذنابها، غدوت غدوّ المتعرّف، وابتكرت ابتكار المتعيف فانبرى لي يافع في وجهه شافع، فتيمّنت بمنظره البهيج، واستقدحت رأيه في التزويج فقال: أو تبغيها عوانا، أم بكرا تعاني؟ فقلت: اختر لي ما ترى، فقد ألقيت إليك العرى.
* * * أطرفت: أتيت بطرفة، يريد بأمرّ عجيب غريب. هرفت بما عرفت، أي تكلّمت بشيء غريب، والهرف: الإطناب في المدح، ومن كلام العرب لا تهرف بما لا تعرف.
ناشدتك: حلّفتك: صياغة: صنعة وسبك. أتهمت: أتيت تهامة، وهي ما انخفض من أرض العرب ظعينة: زوجة. الخطب: النكاح. وتعيّن: تحقّق. يستتبّ: يتم. الوهم:
الغلط المتأمل: الناظر المذبذب: المضطرب، الذي لا يعتمد على رأي، أزمعت:
عزمت. أسحر: أخرج في السّحر. قوّضت: هدمت. والأطناب: حبال الخباء وتقويضها: إزالتها. الشّهب: النجوم، وجعل لها أذنابا مجازا، وأراد أنّ الفجر إذا طلع وانتشر غابت النّجوم، فكأنها قد ولّت أذنابها وقال التّهامي في ذلك: [البسيط]
فظلت أعثر في ثوب الدّجى ولها ... والجوّ روض وزهر الشّهب كالزّهر
وللمجرّة فوق الأرض معترك ... كأنها حبب يعلو على نهر
وللثريّا ركود فوق أرحلنا ... كأنها قطعة من فروة النمر
كأنّ أنجمها والصّبح يغمضها ... قسرا عيون غفت من شدّة السّهر
المتعرّف: المكتسب لأنه يعرف ما جهل. المتعيّف: الزّاجر، من عاف الشيء إذا كرهه. يافع: فتى شاب وقد أيفع إذا شبّ. في وجهه شافع، أي هو حسن الوجه يشفع حسن وجهه إذا أذنب أو أخطأ.(3/288)
فظلت أعثر في ثوب الدّجى ولها ... والجوّ روض وزهر الشّهب كالزّهر
وللمجرّة فوق الأرض معترك ... كأنها حبب يعلو على نهر
وللثريّا ركود فوق أرحلنا ... كأنها قطعة من فروة النمر
كأنّ أنجمها والصّبح يغمضها ... قسرا عيون غفت من شدّة السّهر
المتعرّف: المكتسب لأنه يعرف ما جهل. المتعيّف: الزّاجر، من عاف الشيء إذا كرهه. يافع: فتى شاب وقد أيفع إذا شبّ. في وجهه شافع، أي هو حسن الوجه يشفع حسن وجهه إذا أذنب أو أخطأ.
* * * [مما قيل في الوجه الحسن]
وفي وجهه شافع صدر بيت للحكم بن قنبر.
وقال يحيى بن عليّ المنجم: كنت يوما بين يدي المعتضد، وهو مقطّب، فأقبل بدر مولاه، فلمّا رآه من بعيد ضحك وقال: يا يحيى من الذي يقول: «في وجهه شافع»؟
فقلت: يقوله ابن قنبر المازني البصريّ، فقال لله: درّه، فأنشد هذا الشعر، فأنشدته:
[البسيط]
ويلي على من أطار النوم فامتنعا ... وزاد قلبي على أوجاعه وجعا
كأنما الشمس في أعطافه لمعت ... حسنا أو البدر من أزراره طلعا
مستقبل بالّذي يهوى وإن كثرت ... منه الذنوب ومعذور بما صنعا
في وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب وجيه حيثما شفعا
أنس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حسن الوجه مال».
وقال صلى الله عليه وسلم: «اطلبوا الخير عند حسان الوجوه».
وقال الشاعر: [الخفيف]
أنت شرط النبيّ إذ قال يوما ... اطلبوا الخير من حسان الوجوه
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله وجها حسنا واسما حسنا، وجعله في موضع غير شائن، فهو من صفوة الله من خلقه».
ابن عمر رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة تجلو البصر: النظر إلى الخضرة، والنّظر إلى الماء الجاري، والنّظر إلى الوجه الحسن»، نظمها الشاعر فقال: [السريع]
ثلاثة يذهبن للمرء الحزن ... الماء والخضرة والوجه الحسن
قوله تيمنت: تبرّكت. البهيج. الحسن. استقدحت: طلبت، وأصلها، في قدح النار. تبغيها: تطلبها. عوانا: ثيّبا. تعاني: تعالج وتراضي. العرا: جمع عروة.
* * * فقال: إليّ التّبيين، وعليك التّعيين، فاسمع أنا أفديك، بعد دفن أعاديك أمّا البكر فالدّرّة المخزونة، والبيضة المكنونة، والباكورة الجنيّة، والسّلافة الهنيّة،
والرّوضة الأنف، والطّوق الّذي ثمن وشرف لم يدنّسها لامس، ولا استغشاها لابس، ولا مارسها عابث، ولا وكسها طامث، ولها الوجه الحيّ، والطّرف الخفيّ، واللّسان العيّ، والقلب النّقيّ. ثم هي الدّمية الملاعبة، واللّعبة المداعبة، والغزالة المغازلة، والملحة الكاملة، والوشاح الطّاهر القشيب، والضّجيع الذّي يشبّ ولا يشيب أمّا الثيّب فالمطيّة المذلّلة، واللهنة المعجّلة. والبغية المسهّلة، والطّبّة المعلّلة، والفرينة المتحبّبة، والخليلة المتقرّبة، والصّناع المدبّرة، والفطنة المختبرة. ثمّ إنّها عجالة الرّاكب، وأنشوطة الخاطب، وقعده العاجز، ونهزة المبارز، عريكتها ليّنة، وعقلتها هيّنة، ودخلتها متبيّنة، وخدمتها مزيّنة، وأقسم لقد صدقت في النّعتين، وجلوت المهاتين، فبأيّتهما هام قلبك، وعلى أيّتهما قام ربّك؟.(3/289)
* * * فقال: إليّ التّبيين، وعليك التّعيين، فاسمع أنا أفديك، بعد دفن أعاديك أمّا البكر فالدّرّة المخزونة، والبيضة المكنونة، والباكورة الجنيّة، والسّلافة الهنيّة،
والرّوضة الأنف، والطّوق الّذي ثمن وشرف لم يدنّسها لامس، ولا استغشاها لابس، ولا مارسها عابث، ولا وكسها طامث، ولها الوجه الحيّ، والطّرف الخفيّ، واللّسان العيّ، والقلب النّقيّ. ثم هي الدّمية الملاعبة، واللّعبة المداعبة، والغزالة المغازلة، والملحة الكاملة، والوشاح الطّاهر القشيب، والضّجيع الذّي يشبّ ولا يشيب أمّا الثيّب فالمطيّة المذلّلة، واللهنة المعجّلة. والبغية المسهّلة، والطّبّة المعلّلة، والفرينة المتحبّبة، والخليلة المتقرّبة، والصّناع المدبّرة، والفطنة المختبرة. ثمّ إنّها عجالة الرّاكب، وأنشوطة الخاطب، وقعده العاجز، ونهزة المبارز، عريكتها ليّنة، وعقلتها هيّنة، ودخلتها متبيّنة، وخدمتها مزيّنة، وأقسم لقد صدقت في النّعتين، وجلوت المهاتين، فبأيّتهما هام قلبك، وعلى أيّتهما قام ربّك؟.
* * * الدّرّة: الجوهرة. المخزونة: التي جعلت في الخزانة لرفعتها، يريد أنّ البكر تحجب وتصان: البيضة المكنونة، أراد بيضة النعام، ويشبّه بها النساء لبياضها والصّفرة التي تضرب فيها، وقد تقدمت هذه الصفة في العاشرة، وقال امرؤ القيس: [الطويل]
كبكر مقاناة البياض بصفرة ... غذاها نمير الماء غير المحلّل (1)
وقال ذو الرّمة: [البسيط]
* كأنّها فضة قد مسها ذهب (2) *
والمكنونة: المصونة، والنعامة تكنّ بيضتها بريشها، ولا تبديها للشمس والريح لئلا تتغيّر، وقال الله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 49]، الباكورة: أوّل ما يباكر من الثمر. والسلافة: الخمر، والمدخورة: المحجوبة في آنيتها الأنف: التي لم تدخل ولا رعيت. والطّوق: ثوب رفيع. ثمن: كثر ثمنه اللامس: الذي يلمس الشيء بيده ويدنّسه، وأراد به الذي يلاعبها ويعضّها ابن عباس: اللمس والملامسة واللّماس، كناية
__________
(1) البيت في ديوان امرىء القيس ص 16، وشرح المفصل 6/ 91، ولسان العرب (نمر)، (حلل)، (قنا)، وتاج العروس (حلل)، (قنا).
(2) صدره:
كحلاء في برج صفراء في دعج
والبيت في ديوان ذي الرمة ص 33، وجمهر اللغة ص 1331، وجمهرة أشعار العرب ص 945، والكامل ص 934، والبيت بلا نسبة في المخصص 1/ 98.(3/290)
عن الجماع، وفلانة لا تردّ يد اللامس، أي لا تمنع مجامعتها من أرادها. استغشاها:
جامعها، وغشيان النّساء: مجامعتهنّ. واللابس: الذي لابسها واختلط بها، يريد نكحها.
مارسها: عالجها وعاناها. عابث: مفسد، وأراد من يعبث بها عند الجماع. وكسها:
نقصها، ووضع منها، والوكس: الخسارة في البيع، طامث: ناكح. والطامث: المفتضّ للبكر. العيّ: الّذي لا يعرف تصرّفات الكلام: والدّمية صورة الرخام. واللّعبة: ما يلعب به، وتقول: لمن اللعبة؟ أي لمن الغلب في لعب الشطرنج وشبّهه. عليّ رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «المرأة لعبة زوجها، فإن استطاع أن يحسن لعبته فليفعل» والمداعبة:
الممازحة والمغازلة: تقول غازلتني المرأة إذا تماجنت عليك في كلامها، وأشارت لك بعينها وغمزتك بحاجبها حتى إذا طمعت فيها صدّت عنك. والملحة: الصورة المستملحة كالدّمى وكالصورة التي تلعب بها البنات والشطّار، وهي اللعبة وجاء بملحة أي بكلمة طيبة مليحة. والوشاح: الحزام. والقشيب: الجديد جعلها كالوشاح عند عناقها وجماعها. والضجيع: المراقد. يشبّ: يردّك شابّا. يشيب: يكسبك الشّيب. اللهنة: ما يعجّل للضّيف قبل القرى والطّبّة: الحاذقة بمصالحها. المعلّلة: التي تعطيك ما تريد منها مرّة بعد مرّة، وهي بكسر اللام، والمعلّلة: التي تعلّل مرتشفها بالريق، قال امرؤ القيس [الطويل]:
* ولا تمنعينا من جناك المعلّل (1) *
ابن الأعرابيّ: المعلّل: المعين بالبرّ بعد البرّ، ومن نصب اللّام فمعناه المطيّب مرّة بعد مرة، والتعليل سقي بعد سقي. والقرينة: الصّاحبة. والحليلة: الزّوجة. والصّناع:
الحاذقة بالصّنعة. وعجالة الراكب: ما يعجّل له من الطعام والشراب، مثل التمر والسويق، وما لا يتعب بمعالجته، وكانت العرب لكرمها يمر عليها الرجل، وهو راكب فتعرض عليه النزول للقرى، فيمتنع لأعذار له فيمسك حتّى يخرج له من البيوت أيسر ما يوجد، يأكله وهو راكب، فجعل الثّيّب لسهولتها كالعجالة التي لا يتكلّف لها، وقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: البكر كالبرّة تطحنها وتعجنها وتخبزها وتأكلها، والثّيّب عجالة الراكب تمر وسويق. والأنشوطة: عقدة تحلّ بسهولة. نهزة: فرصة وغنيمة سهلة.
عريكتها: طبيعتها، ورجل ليّن العريكة إذا كان سهلا سلس القياد، وأصل العريكة سنام البعير، وكانوا يعمدون للبعير إذا كان فيه شماس وامتناع، فيقطعون في حدبته وهي مرتفعة يصعب الرّكوب عليها، فإذا قطع فيها سكن البعير ولان، وتوطّأ موضع الرّكوب منه فيقال: قد لانت عريكته وقال الشاعر: [الطويل]
__________
(1) يروى البيت:
فقلت لها سيري وأرخي زمامه ... ولا تبعديني من جناك المعلّل
وهو في ديوان امرىء القيس ص 12، وبلا نسبة في لسان العرب (علل)، وتهذيب اللغة 1/ 105.(3/291)
من اللّواتي إذا أودت عريكتها ... يبقى لها بعدها ألّ ومحهود
قوله: أودت، أي زالت وذهبت، فهذا يدلّ على ما ذكرنا. عقلتها: حبستها، يريد أن ما يعقلها به صاحبها شيء هيّن، والعقلة مثل العقدة، ولفلان عقلة يعقل بها الناس فيغلبهم ويصرعهم. دخلتها: باطن أمرها، وفلان عفيف الدّخلة وخبيثها، أي الباطنة والسّريرة. متبينة: مكتشفة ظاهرة، أي سرّها ظاهر. المهاتين: البكر والثيّب، والبقرة الوحشية هي المهاة. هام: تحيّر من شدة الحبّ.
* * * قال أبو زيد: فرأيته جندلة يتّقيها المراجم، وتدمى منها المحاجم إلّا أنّي قلت له: كنت سمعت أنّ البكر أشدّ حبّا، وأقلّ خبّا، فقال: لعمري قد قيل هذا، ولكن كم قول أذى، ويحك! أما هي المهرة الأبيّة العنان، والمطيّة البطيّة الإذعان، والزّندة المتعسّرة الاقتداح، والقلعة المستصعبة الافتتاح. ثم إنّ مؤنتها كثيرة، ومعونتها يسيرة، وعشرتها صلفة، ودالّتها مكلّفة، ويدها خرقاء، وفتنتها صمّاء، وعريكتها خشناء، وليلتها ليلاء، وفي رياضتها عناء، وعلى خمرتها غشاء، وطالما أخزت المنازل، وفركت المغازل، وأحنقت الهازل، وأضرعت الفنيق البازل. ثمّ إنّها التي تقول: أنا ألبس وأجلس، فأطلب من يطلق ويحبس.
فقلت له: فما ترى في الثّيّب، يا أبا الطّيب؟ فقال: ويحك! أترغب في فضالة المآكل، وثمالة المناهل، واللّباس المستبذل، والوعاء المستعمل، والذّوّاقة المتطرّفة والخرّاجة المتصرّفة، والوقاح المتسلّطة، والمحتكرة المتسخّطة. ثم كلمتها: كنت وصرت، وطالما بغي عليّ فنصرت وشتّان بين اليوم والأمس، وأين القمر من الشمس! وإن كانت الحنّانة البروك، والطّمّاحة الهلوك، فهي الغلّ القمل، والجرح الّذي لا يندمل.
* * * قوله: المراجم، أي الذي ترجمه ويرجمك. خبّا: مكرا وخديعة، ورجل خبّ:
غاشّ فاجر. الأبيّة العنان: الممتنعة القياد. الإذعان: الخضوع والذلة الزّندة: ما تزند منه النار. المتعسرة الاقتداح: التي يعسر إخراج النار منها القلعة: الحصن والمكان المرتفع.
عشرتها: صحبتها. صلفة: مجاوزة حدّ الطّوق، وأصل الصّلف الإعراض عن الشيء كأنه إذا استقبلك أبديت له صليفك، وهو صفحة عنقك، ودالّتها: انبساطها، يريد انبساطها إذا أرادت أن تدلّ عليك تتكلّف ذلك. خرقاء: لا تحسن العمل. صمّاء: شديدة، كأنها لا
تسمع النّهي والعذل. وفتنتها: شرها. خشناء: خشنة صعبة. ليلاء: شديدة السّواد طويلة. خمرتها: لبستها الخمار. غشاء: غطاء وستر. فضالة: بقية، وكذلك ثمالة المنهل: موضع الماء. والنّهل: الشرب الأوّل. والذّوّاقة المتطرفة، أي التي تذوق طرف الشيء وتتركه أو تذوق بطرف لسانها ثم تبصقه، وتطرّفت الناقة: رعت بأطراف المرعى، فيريد أنها لا تبقى على زوج واحد، إنما هي تذوق كلّ زوج وتجرّب لذة مباشرتهم، وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني قد طلّقت زوجتي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يحبّ الذوّاقين ولا الذوّاقات» (1). الخرّاجة: الكثيرة الخروج. المتصرّفة: الجوّالة الوقاح: الصّلبة الوجه التي ليس عندها حياء. المتسلطة: المستطيلة اللسان والمحتكرة: التي تسرق رزق زوجها، ثم تحتكره، أي تدّخره وترفعه، فإذا احتاج زوجها لشرائه أخذت منه ثمن ما عندها محتكرا. كنت وصرت: تخاطب به زوجها أي كنت في نعمة مع الزوج الأوّل وأنا معك على شقاء بغي عليّ، أي اجتمع عليّ بالظلم، والبغي: الظلم. وشتّان: بعد.(3/292)
عشرتها: صحبتها. صلفة: مجاوزة حدّ الطّوق، وأصل الصّلف الإعراض عن الشيء كأنه إذا استقبلك أبديت له صليفك، وهو صفحة عنقك، ودالّتها: انبساطها، يريد انبساطها إذا أرادت أن تدلّ عليك تتكلّف ذلك. خرقاء: لا تحسن العمل. صمّاء: شديدة، كأنها لا
تسمع النّهي والعذل. وفتنتها: شرها. خشناء: خشنة صعبة. ليلاء: شديدة السّواد طويلة. خمرتها: لبستها الخمار. غشاء: غطاء وستر. فضالة: بقية، وكذلك ثمالة المنهل: موضع الماء. والنّهل: الشرب الأوّل. والذّوّاقة المتطرفة، أي التي تذوق طرف الشيء وتتركه أو تذوق بطرف لسانها ثم تبصقه، وتطرّفت الناقة: رعت بأطراف المرعى، فيريد أنها لا تبقى على زوج واحد، إنما هي تذوق كلّ زوج وتجرّب لذة مباشرتهم، وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني قد طلّقت زوجتي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يحبّ الذوّاقين ولا الذوّاقات» (1). الخرّاجة: الكثيرة الخروج. المتصرّفة: الجوّالة الوقاح: الصّلبة الوجه التي ليس عندها حياء. المتسلطة: المستطيلة اللسان والمحتكرة: التي تسرق رزق زوجها، ثم تحتكره، أي تدّخره وترفعه، فإذا احتاج زوجها لشرائه أخذت منه ثمن ما عندها محتكرا. كنت وصرت: تخاطب به زوجها أي كنت في نعمة مع الزوج الأوّل وأنا معك على شقاء بغي عليّ، أي اجتمع عليّ بالظلم، والبغي: الظلم. وشتّان: بعد.
واليوم وأمس: الزوج الحاضر معها والزوج المفقود، وهو الذي أراد بالقمر والشمس، ويقال: شتان زيد وعمر وترفعهما بشتّان، وتفتح نونها للالتقاء الساكنين تشبيها بالأدوات ويقال: شتان ما زيد وعمرو، فتجعل ما صلة أو تنصبها على التمييز على حد نعم رجلا زيد والتقدير: شتان شبها زيد وعمرو، وبرفعهما بشتّان بمعنى بعد شبها زيد وعمرو، ويجوز كسر نون شتان على أنها تثنية شتّ، وهو التفرّق، وجمعه أشتان، ويقال: شتان ما بين زيد وعمرو، فترفع «ما» بشتّان على أنها بمعنى الّذي، وبين صلتها، ولا يجوز كسر نون شتان لأنها اسم واحد، ومعنى هيهات بعد الحنّانة: صاحبة الولد الذي من غير الزّوج الذي هي معه، فمتى رأت ولدها حنّت لوالده، والبروك: التي تتزوّج ولها ولد كبير، ويسمى ولدها الحوبند. والطماحة الهلوك: هي التي فارقها زوجها فتطمح له أبدا وتتهالك في محبّته. وقيل: الطماحة التي تطمح إلى كلّ شهوة، والهلوك الفاجرة.
والغلّ: الشّرك التي يغلّ بها الأسير أي يربطها في عنقه ويديه. والقمل: الذي كثرت فيه القمل ويضرب بالغلّ القمل المثل للمرأة السيئة الخلق. لا يندمل: لا يبرأ.
أبو موسى رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث يدعون الله فلا يستجيب لهم:
رجل كانت عنده امرأة سيّئة الخلق فلم يطلّقها، ورجل أعطى ماله سفيها، وقد قال الله تعالى {وَلََا تُؤْتُوا السُّفَهََاءَ أَمْوََالَكُمُ} [النساء: 5]، ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه».
المقدمي: قال بعض الحكماء: أربعة أشياء يمنعن النّوم والقرار: المرأة السوء، والولد الجاهل، والعشير المخالف، والعبد اللئيم. قال الأصمعيّ: قال لي زائدة البندار:
قيل لي بالشأم: هل لك أن ترى العجب؟ فذهبت فإذا سبعة في شق، جدّ وستة من ولده
__________
(1) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 2/ 172.(3/293)
وولد ولده، وإذا الجدّ السابع أشب من الابن السابع، فسألت عنه فقيل: كان للجدّ امرأة موافقة وللابن السابع امرأة سليطة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «أربعة لا يشبعن من أربعة: عين من نظر، وأرض من مطر، وأنثى من ذكر، وعالم من علم».
قال الأصمعي: تزوّج رجل من عذرة امرأة من بليّ حمقاء، فغاب عنها غيبة ثم قدم عليها، فلما جمعهما المضجع أنشأت تقول: [الرجز]
ما مسّني بعدك من إنسيّ ... غير غلام واحد جعديّ
ورجل أحمق من بليّ ... ورجلين من بني عديّ
وتسعة كانوا مع المطيّ ... وسبعة كانوا على الطّويّ
وخمسة وافوا مع العشيّ ... من بين جدّيّ إلى مكيّ
* ومن تهاميّ إلى نجديّ *
فقام إليها بالسوط فضربها، فاجتمع لذلك من حوله يلومونه، فقال: والله لولا ما قمت لضربها لعدّت عليّ أهل عرفات ومنى.
وقيل ليحيى المديني: ما الجرح الذي لا يندمل؟ قال: حاجة الكريم إلى اللئيم.
* * * فقلت له: فهل ترى أن أترهّب، وأسلك هذا المذهب؟ فانتهرني انتهار المؤدّب، عند زلّة المتأدّب، ثمّ قال: ويلك! أتقتدي بالرّهبان، والحقّ قد استبان! أفّ لك ولوهن رأيك، وتبّا لك ولأولئك أتراك ما سمعت بأن لا رهبانيّة في الإسلام، أو ما حدّثت بمناكح نبيّك عليه أزكى السلام. ثمّ أما تعلم أن القرينة الصالحة تربّ بيتك، وتلبّي صوتك وتغضّ طرفك، وتطيّب عرفك، وبها ترى قرّة عينك، وريحانة أنفك، وفرحة قلبك، وخلد ذكرك، وتعلّة يومك وغدك! فكيف رغبت عن سنّة المرسلين، ومتعة المتأهّلين، وشرعة المحصنين ومجلبة المال والبنين: والله لقد ساءني فيك، ما سمعت من فيك. ثمّ أعرض إعراض المغضب، ونزا نزوان العنظب، فقلت له: قاتلك الله! أتنطلق متبخترا، وتدعني متحيّرا! فقال أظنّك تدّعي الحيرة، لتجلد عميرة، وتستغني عن المهيرة. فقلت له: قبّح الله ظنّك، ولا أشبّ قرنك. ثم رحت عنه مراح الخزيان، وتبت من مشاورة الصبيان.
* * * قوله: أترهّب، أي أترك التزويج، والتّرهب ترك النساء، انتهزني: زجرني وأخذني
بلسانه. زلّة: سقطة. استبان: ظهر. الأفّ وسخ الأذنين، والوهن: الضعف والخسران، ولأولئك، إشارة للرهبان. السّكن: الزوجة يسكن إليها تربّ: تصلح. تلبّي: تجيب.(3/294)
* * * قوله: أترهّب، أي أترك التزويج، والتّرهب ترك النساء، انتهزني: زجرني وأخذني
بلسانه. زلّة: سقطة. استبان: ظهر. الأفّ وسخ الأذنين، والوهن: الضعف والخسران، ولأولئك، إشارة للرهبان. السّكن: الزوجة يسكن إليها تربّ: تصلح. تلبّي: تجيب.
تغضّ طرفك، أي تحصّنك وتمنعك من نظر النساء. عرفك: ريحك الطيب، وقرّة العين: ما يتمنى وتقرّ به العين.
ريحانة: شجرة طيّبة الريح، وريحانة من صفة المرأة. قال عليّ رضي الله عنه في وصيته لابنه محمد ابن الحنفية: «لا تملّكن المرأة من الأمر ما يتجاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، وإن ذلك أدوم لحالها وأرضى لبالها» وما أحسن ما قال ابن اللّبانة يرثي أخت المرتضى صاحب ميورقة، وماتت بعد أخيها: [الطويل]
أبنت العلا جدّدت منعي على منعي ... مضى المرتضى أصلا وأتبعته فرعا
جرى الموت جري الريح في منبتيكما ... فأذواك ريحانا وكسّره نبعا
تعلة: أي تتعلّل وتنتفع بما عندها من القيام بمؤنتك. ومتعة: ما يتمتّع به ويتلذذ.
المتأهلين: المتزوّجين الذين لهم أهل. شرعة: طريقة، المحصنين: المتزوجين. نزا:
وثب وارتفع. العنظب: ذكر الجراد.
[الزواج والترغيب فيه]
ونذكر هنا فصلا يليق بهذا الموضع.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعطاف بن وداعة الملالي: «يا عطّاف ألك امرأة؟ قال: لا قال:
فأنت إذا من إخوان الشياطين، إن كنت من رهبان النصارى فالحق بهم، وإن كنت منّا فسنّتنا النكاح» (1).
أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ركعتان من المتأهّل خير من اثنتين وثمانين ركعة من العزب».
وقال صلى الله عليه وسلم: «تزوّجوا الولود الودود من النّساء فإني مكاثر بكم الأمم» (2).
وقال صلى الله عليه وسلم: «النّساء ثلاث: صنف كالرحّى تحمل وتضع، وصنف كالعرّ وهو الجرب، وصنف ودود ولود تعين زوجها على إيمانه فهي خير له من الكنز» (3).
ابن عمرو رضي الله عنهما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا أتى على أمتي مائة وثلاثون سنة فقد حلّت لهم العزبة والترهّب في رؤوس الجبال».
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 5/ 163، وابن ماجه في النكاح باب 1، بلفظ: «النكاح من سنتي».
(2) أخرجه أبو داود في النكاح باب 3، والنسائي في النكاح باب 11، وأحمد في المسند 3/ 158، 245.
(3) أخرجه البخاري في الشروط باب 15.(3/295)
وقال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة» (1).
وقال خالد بن صفوان لرجل: أتزوجت؟ قال: لا، قال: فتزوج، ثم قال بعد ساعة: لا تتزوج، فقال: لم؟ قال: إنك إن تزوّجت واحدة فتطهر إن طهرت وتحيض إن حاضت وتغضب إن غضبت، فإن تزوّجت باثنتين تقع بين ضرّتين، فإن تزوجت ثلاثا تقع بين أثاف، وإن تزوجت بأربع يغلّسنك ويهرمنك. قال: أفتحرّم ما أحلّ الله لك؟ قال:
لا، ولكن كوزان وخماران وعباءة وقرصان.
وقال رجل: أردت النّكاح فقلت: لأستشيرن أوّل من يطلع عليّ، فأعمل برأيه، فأول من طلع عليّ هبنّقة القيسيّ الأحمق وتحته قصبة، فقلت له: إني لأستشيرك في النّكاح، فقال: البكر لك والثّيّب عليك، وذات الولد لا تقربها، واحذر جوادي لا ينفحك.
وقال رجل لولده: يا بنيّ لا تتخذها حنّانة ولا أنّانة ولا منّانة ولا عشبة الدار ولا كية القفا، فالحنّانة التي لها ولد من غيره فهي تحنّ إليه، والأنانة: التي مات زوجها فهي إذا رأت الثاني أنّت للأوّل وقالت: يرحم الله فلانا، والمنّانة التي لها مال، فهي تمنّ به على زوجها متى احتاج إليه، وعشبة الدار: خضراء الدّمن، وقد تقدّمت، وكية القفا:
التي انصرف ابنها أو زوجها من بين القوم قال رجل قد كان بيني وبين أمّ هذا أو زوجته شيء.
وسئل أعرابيّ عن النساء، وكان ذا تجربة لهنّ فقال: أفضلهنّ أطولهنّ إذا قامت، وأكظمهن إذا قعدت وأصدقهن إذا قالت، التي إذا غضبت حلمت وإذا ضحكت تبسّمت، وإذا صنعت شيئا جوّدت، التي تلزم بيتها ولا تعصي زوجها العزيزة في قومها، الذليلة في نفسها، الودود الولود، وكلّ أمرها محمود.
نظر خالد بن صفوان إلى جماعة في مسجد البصرة فقال: ما هذه الجماعة قالوا:
امرأة تدلّ على النساء، فأتاها فقال لها: أبغي امرأة، قالت: فصفها، قال: أريدها بكرا كثيّب، أو ثيّبا كبكر، حلوة من قريب، ضخمة من بعيد، كانت في نعمة، وأصابتها حاجة، ففيها أدب النّعمة وذلّة الحاجة، إذا اجتمعنا كنّا أهل دنيا، وإذا افترقنا كنا أهل آخرة، قالت: قد أصبتها لك، قال: فأين هي؟ قالت: في الرفيق الأعلى من الجنّة فاعمل لها.
[خالد بن صفوان والسفاح]
وقال خالد لأبي العباس السّفّاح وكانت عنده أمّ سلمة بنت يعقوب بن سلمة المخزوميّ، وكان تزوّجها قبل الخلافة، وحلف ألّا يتزوج عليها، ولا يتسرّى: يا أمير
__________
(1) أخرجه مسلم في الرضاع حديث 59، وابن ماجه في النكاح باب 5، وأحمد في المسند 2/ 166.(3/296)
المؤمنين، إنّي تفكّرت في أمرك، مع سعة ملكك، وقد ملكتك امرأة واحدة، إن مرضت مرضت لمرضها، وإن غابت غبت، وحرمت نفسك التلذّذ بالجواري ومعرفة جلالتهنّ، فإنّ منهنّ الطويلة الغيداء، والفضة البيضاء، والعقيقة الأدماء، والرقيقة السّمراء، والبربرية العجزاء، يفتنّ بمحادثتهنّ. ونأتك عن بنات الأحرار والنّظر إليهنّ، ولو رأت الطويلة البيضاء، والسمراء العيناء، والبيضاء العجزاء، والمولدات من البصريات والكوفيات ذوات الألسن العذبة والقدود المهفهفة، والأوساط المخصّرة والأصداغ المزرنقة، والعيون المكحلة، والثديّ المحقّقة، وحسن زينتهنّ وشكلهنّ، لرأيت شكلا حسنا، فقال له:
ويحك يا خالد! ما سلك مسامعي والله كلام أحسن مما سمعت منك. فانصرف وبقي أبو العباس متفكّرا. فدخلت عليه أم سلمة فرأته، مغموما فقالت له: إني لأنكرك يا أمير المؤمنين، هل أتاك خبر فارتعت له؟ قال: لا، قال: فما قصّتك، فزوى وجهه عنها، فلم تزل به حتى أخبرها، قالت: فما قلت لابن الفاعلة؟ قال: سبحان الله! ينصحني وتشتمينه! فخرجت مغضبة، وأرسلت إليه جماعة من العبيد، وبأيديهم مقامع من حديد، وأمرتهم ألّا يتركوا من خالد عضوا صحيحا. قال خالد: فانصرفت مسرورا لما رأيت من إعجابه بما ألقيت عليه، ولم أشكّ أنّ صلتي ستأتيني.
فإنّي لقاعد على باب داري، وإذا بالعبيد قد أقبلوا نحوي فلم أشكّ في الجائزة، فسألوا عنّي فقلت: أنا خالد، فأهوى أحدهم إليّ بهراوة فوثبت إلى منزلي، وعلمت أني أتيت من أم سلمة. وطلبني أبو العباس طلبا شديدا، وأنا مستخف، فهجم عليّ في الثالث، فقالوا: أجب أمير المؤمنين. فأيقنت بالموت، فدخلت عليه وليس في وجهي دم، فسلّمت وجلست، وإذا خلف ظهري ستر خلفه حركة فقال لي: يا خالد أين كنت منذ ثلاثة أيام؟ قلت: عليلا، قال: إنّك وصفت لي من أخبار النساء والجواري ما لم يخرق مسامعي قطّ شيء أحسن منه، فأعده عليّ، قلت: نعم أعلمتك يا أمير المؤمنين أنّ العرب اشتقت اسم الضرّة من الضّر، وإن أحدهم لم يكن عنده أكثر من واحدة إلا كان في جهد قال: ويحك لم يكن هذا في الحديث! قلت:
بلى والله، وأعلمتك أنّ الثلاث من النساء كأثافيّ القدر يغلى عليهنّ. قال أبو العباس:
برئت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت سمعت هذا منك في حديثك، قلت:
وأخبرتك أنّ الأربع شؤم مجتمع لصاحبهنّ، يسقمنه ويهرمنه ويشيّبنه قال: والله ما سمعت هذا منك قطّ! قلت: بلى والله يا أمير المؤمنين، قال: ويحك! وتكذّبني! قلت: وتريد أن تقتلني! قال: مرّ في حديثك، قلت: وأخبرتك أنّ أبكار النساء رجال ولكن لا خصى لهنّ، قال: وسمعت الضّحك من وراء الستر، قلت: وأخبرتك أن بني مخزوم ريحانة قريش وعندك ريحانة من الريّاحين، وأنت تطمح إلى غيرها من الإماء! فقيل لي من وراء الستر: صدقت والله يا عمّاه وبررت، وبهذا حدّثته، ولكنه غيّر وبدّل. فقال لي أبو العباس: ما لك قاتلك الله وأخزاك! وفعل وفعل! فتركته
وخرجت، فما شعرت إلا برسل أم سلمة، ومعهم عشرة آلاف درهم، وتخت وبرذون وغلام، فقبضتها.(3/297)
وأخبرتك أنّ الأربع شؤم مجتمع لصاحبهنّ، يسقمنه ويهرمنه ويشيّبنه قال: والله ما سمعت هذا منك قطّ! قلت: بلى والله يا أمير المؤمنين، قال: ويحك! وتكذّبني! قلت: وتريد أن تقتلني! قال: مرّ في حديثك، قلت: وأخبرتك أنّ أبكار النساء رجال ولكن لا خصى لهنّ، قال: وسمعت الضّحك من وراء الستر، قلت: وأخبرتك أن بني مخزوم ريحانة قريش وعندك ريحانة من الريّاحين، وأنت تطمح إلى غيرها من الإماء! فقيل لي من وراء الستر: صدقت والله يا عمّاه وبررت، وبهذا حدّثته، ولكنه غيّر وبدّل. فقال لي أبو العباس: ما لك قاتلك الله وأخزاك! وفعل وفعل! فتركته
وخرجت، فما شعرت إلا برسل أم سلمة، ومعهم عشرة آلاف درهم، وتخت وبرذون وغلام، فقبضتها.
وفي هذا الحديث المليح تعلّق بما ذكر الحريريّ من مدح النّساء وذمهنّ، وخالد بن صفوان لفصاحته أقدر الناس على مدح الشّيء وذمه، وقد تقدّم في الثالثة هذا الفنّ.
وقال أبو العباس السفاح لخالد وعنده أخواله الحارثيّون: كيف علمك بأخوالي يا خالد؟ قال: يا أمير المؤمنين، هم هامة الشّرف وعرنين الكرم، وغرس الجود، وفيهم خصال ليست لغيرهم، إنّهم لأصونهم أمّا، وأحسنهم أمما، وأكرمهم شيما، وأطيبهم طعما، وأوفاهم ذمما، وأبعدهم همما، الجمرة في الحرب، والوقد عند الجدب، وهم الرأس في كل خطب، وغيرهم بمنزلة العجب. فقال: لقد وصفت يا بن صفوان فأحسنت، فزاد أخواله في الفخر، فغضب أبو العباس لأعمامه فقال: افخر يا خالد، فقال: أعلى أخوال أمير المؤمنين؟ قال: فأين أنت من أعمامه! قال: كيف أفاخر قوما هم بين ناسج برد وسائس قرد، ودابغ جلد، دلّ عليهم هدهد، وغرّقتهم فأرة، وملكتهم امرأة!.
ودخل خالد على أبي الجهم العدويّ وهو يريد ركوب حمار، فقال خالد: أما علمت أنّ العير عار، وأنّ الحمار شنار، منكر الصوت، قبيح الفوت، مترنّح في المحل، مرتطم في الوحل، ليس بركوبة فحل، ولا مطية رحل، راكبه مقرف، ومسايره مشرف.
فاستوحش العدويّ من ركوبه، فركب فرسا وركب خالد الحمار، فقال: ويحك يا خالد! أتنهى عن شيء وتأتي مثله! قال: أصلحك الله عير من بنات الكداد، أسحم السربال، مدمج الأوصال، محملج القوائم، يحمل الرّحلة، ويبلغ العقبة، ويمنعني من أن أكون جبّارا عنيدا، أو ملكا شديدا، فقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين! ذلك لك، وهذا لي.
فتبسم العدويّ.
[مما قيل في وصف النساء]
ثم نرجع إلى جملة مقاطيع من أوصاف النساء تتبين بها أوصافهنّ، قال العديل بن الفرخ: [الكامل]
لعب النّسيم بهنّ في أظلاله ... حتّى لبسن زمان عيش غافل
يأخذن زينتهنّ أحسن ما يرى ... وإذا عطّلن فهنّ غير عواطل
وإذا أرين خدودهن أرينها ... حدق المهى وأخذن سهم القاتل
ورمينني لا يستترن بجنّة ... إلّا الصّبا وعرفن أين مقاتلي
وقال العباس بن طرخان: [الطويل]
تقسّمن قلبا كان مجتمع الشّمل ... وفرقنه بين المسالك والسّبل
زرعن الهوى في القلب ثم سقينه ... صبابات ماء الشوق بالأعين النّجل
رمين فلما أن أصبن مقاتلي ... تولّين وانضمّت جراحي على النّبل
وقال البحتري: [الكامل](3/298)
تقسّمن قلبا كان مجتمع الشّمل ... وفرقنه بين المسالك والسّبل
زرعن الهوى في القلب ثم سقينه ... صبابات ماء الشوق بالأعين النّجل
رمين فلما أن أصبن مقاتلي ... تولّين وانضمّت جراحي على النّبل
وقال البحتري: [الكامل]
لمّا مشين بذي الأراك تشابهت ... أعطاف قضبان به وقدود (1)
في يمنتي حبر وروض فالتقى ... وشيان: وشي ربا ووشي برود
وسفرن فامتلأت عيون راقها ... وردان: ورد جنى وورد خدود
ومتى يساعدنا الوصال ودهرنا ... يومان: يوم منى ويوم صدود!
وقال التهامي: [الكامل]
ماتت لفقد الظّاعنين ديارهم ... فكأنهم كانوا لها أرواحا
لا عيب فيهم غير شحّ نسائهم ... ومن السماحة أن يكنّ شحاحا
طرقته في أترابها فجلت له ... وهنا من الغرر الصّباح صباحا
وأنشد الأصمعي: [الطويل]
خزاعيّة الأطراف مرّية الحشى ... نزارية العينين طائيّة الفم
لها حكم لقمان وصورة يوسف ... ونغمة داود وعفّة مريم
وقال الأسعد بن نبيط: [الطويل]
غلاميّة جاءت وقد جعل الدّجى ... لخاتم فيها فصّ غانية خطّا
فقلت: أحاجيها بما في جفونها ... وما بالشفاه اللّعس من حسنها المعطى
محبّرة العينين من غير سكرة ... متى شربت ألحاظ عينيك إسفنطا
أرى صفرة المسواك من حمرة اللّمى ... وشاربك المخضرّ بالمسك قد خطا
عسى قدح قبّلته فإخاله ... على الشفة اللّمياء قد جاء منحطّا
فتصور في البيتين قبل هذا أحسن مقابلة، وتصوّر في البيتين من آخر هذه القطعة ثلاث تشبيهات شبّهت بشيء واحد يتضمنها جمعيا!.
وقال ابن شرف: [البسيط]
قامت تجر ذيول العصب والحبر ... ضعيفة الخطو والميثاق والنّظر
تخطو فتولي الحصا من حليها نبذا ... وتخلط العنبر الورديّ بالعفر
تلّفتت عن طلا وسنان وابتسمت ... عن واضح مثل نور الرّوضة العطر
__________
(1) الأبيات في ديوان البحتري ص 698.(3/299)
ما لذّ للعين نوم بعد ما ذكرت ... ليلا سمرناه بين الضّال والسّمر
تساقط الطلّ من فوق النّحور به ... تساقط الدّر في اللّبّات والثّغر
وقال الرمادي: [البسيط]
شطّت نواهم بشمس في هوادجهم ... لولا تلألوها في ليلهنّ عشوا
شكت محاسنها عيني وقد عذرت ... لأنها بضمير القلب تنخمش
شعر ووجه تبارى في افتخارهما ... لحسن هذا وذاك الرّوم والحبش
شككت في سقمي منها، أفي فرشي ... إذا تأمّلت إلّا الطيف والفرش؟
ولبعض أصحابنا: [الكامل]
سائل سقاة الحيّ عن نجدية ... ورد الحجيج بها سقاية زمزم
صفراء كالدّينار علّ تريبها ... بالزّعفران وخدّها بالعندم
لبست برود السابريّ فأفضلت ... من ذيلها ولبست جلد الأرقم
يا ليت شعري وهي أنسك ناسك ... لم تستحلّ دم المحبّ المسلم!
نبّئت أنّ الظاعنين بها سعوا ... للأجر فانقلبوا بكبر المأثم
سفكوا دماء الرائحين إلى منى ... بجفونها ونجوا بسافكة الدم
وهذا القدر في هذا الموضع كاف، وقد تضمن هذا الديوان مقطعات بديعة في أوصاف النساء.
[ما جاء في الاستمناء]
قوله: لتجلد عميرة، يقال لهذا الفعل الخضخضة والتدليك والاستمناء والاعتمار، واعتمر الرجل: جمع يديه وضمّهما لذلك، والإلطاف للنساء مثل الخضخضة للرّجال، يقال منه: ألطفت المرأة، وقال القتيبي بيتا ما سمعناه على وجه الدهر [الطويل]:
إذا مررت بواد لا أنيس به ... فاضرب عميرة لا عار ولا حرج
آخر: [الكامل]
بيدي ورجلي لا عدمت كليهما ... أصبحت أغني من يروح ويغتدي
أمشي على هذي وأنكح هذه ... فمطيتي رجلي وجاريتي يدي
آخر: [الرجز]
تسألني عن عتدي وعندي ... فإنني يا بنة آل مرثد
* راحلتي رجلاي وامرأتي يدي *
وقال أعرابيّ: [الرجز]
إن تبخلي بالمركب المحلوق ... فإن عندي راحتي وريقي
ودلكات لسن للتّمزيق ... أشهى من التصبيح والتغبيق
وقال الخزاميّ: [المتقارب](3/300)
إن تبخلي بالمركب المحلوق ... فإن عندي راحتي وريقي
ودلكات لسن للتّمزيق ... أشهى من التصبيح والتغبيق
وقال الخزاميّ: [المتقارب]
خطبت إلى ساعدي راحتي ... وما كنت من شرّ خطّابها
وما إن تكلّفت من مهرها ... سوى ريقة أتجرّى بها
فإن شئت أوتى بها ثيّبا ... وبكرا إذا شئت أوتى بها
ونزّهت نفسي عن الغانيات ... وعن ذكر سلمى وأترابها
وقال الحسن: [الطويل]
إذا أنت أنكحت الكريمة كفؤها ... فأنكح حسيبا راحة لابن ساعدي
وقل بالرّفا ما نلت من وصل حرّة ... لها ساحة حفت بخمس ولائد
وقال ابن الرقعمق: [مخلع البسيط]
ومن بلائي أبو عمير ... معرّض بي إلى المنون
منتصبا ما ينام وقتا ... وليس يهدا من الزّنين
من يك ذا زوجة فإني ... لشقوتي زوجتي يميني
عميرة قد جلدت حتى ... خشيت والله تجلدوني
فراقبوا الله في يميني ... وخلّصوها وزوّجوني
وقال آخر يشتكي غلظ يده: [البسيط]
لو أنها لدنة قضيت من وطري ... لكنه خشن أربى على السّفن
أشكو إلى الله نعظا قد منيت به ... وما ألاقي من الإملاق والحزن
آخر: [مجزوء الوافر]
ومغتاب إذا نبحا ... يظنّ سواه قد جرحا
ومن لم يدر لم يألم ... فعاد عليه ما اجترحا
كناكح كفّه ينوي ... فتاة كان قد لمحا
وما نكح الفتى أحدا ... ولكن نفسه نكحا
فنكاح الكفّ هو جلد العميرة.
قال ابن أبي الأزهر: مررت على برذعة الموسوس، وقد أدخل يده في جيبه، وهو يخضخض، فضربته برجلي، فانكشف، فإذا هو منعظ، فقلت: ما هذا؟ فقال:
أما ترى تلك! وأشار بيده إلى جارية جميلة في علّيّة متطلعة، فقال: إني دعوتها إلى نفسي فلمّا لم تجبني أجبتها، فقلت: قبّحك الله! وولّيت عنه. فلم يلبث أن لحق بي،
وقال: قضيت الحاجة على رغم أنفك، ثم أنشدني: [الطويل](3/301)
أما ترى تلك! وأشار بيده إلى جارية جميلة في علّيّة متطلعة، فقال: إني دعوتها إلى نفسي فلمّا لم تجبني أجبتها، فقلت: قبّحك الله! وولّيت عنه. فلم يلبث أن لحق بي،
وقال: قضيت الحاجة على رغم أنفك، ثم أنشدني: [الطويل]
أأنكرت ما عاينت من كفّ دالك ... وهل ينكر التدليك في قول مالك
لقد أمن الدّلّاك من أن تنالهم ... حدود الزّنا في واضحات المسالك
وإنّي قد سكّنت عزمة عملتي ... بحسن عيون والثديّ العواتك
كذب على مالك والشافعي، وعامة العلماء يحرّمون الاستمناء، وحجتهم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حََافِظُونَ إِلََّا عَلى ََ أَزْوََاجِهِمْ أَوْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 65].
الفنجديهي: وقد جاء في تحريم الخضخضة حديث مشهور، وسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكّيهم ولا يجمعهم مع العالمين، ويدخلهم النار مع الداخلين إلا أن يتوبوا، فمن تاب تاب الله عليه: الناكح يده، والفاعل والمفعول به، ومدمن الخمر، والضّارب أبويه حتى يستغيثا، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه، والناكح حليلة جاره». وإنّما رويت الرخصة في ذلك عن عمرو بن دينار.
وروي عن ابن عباس أنه سئل عن الخضخضة فقال: نكاح الأمة خير منها وهي خير من الزنا.
الأزهري: أبو عمير ذكر الرجل.
الفنجديهي: سمعت الحافظ أبا العلاء يقول: الخضخضة على مذهب الإمام أحمد ابن حنبل جائزة لمن استولت عليه الشّهوة حتى خاف على نفسه إتيان الفواحش.
أبو الفرج محمد بن أبي جعفر الطائيّ بهمذان، قال: أنشدنا الإمام أبو المظفّر المعاوي لنفسه، وكان من أروع الفضلاء وأزهدهم: [الطويل]
خليليّ لا بغداد تدنو فتنقضي ... همومي ولا الريّ البغيضة تبعد
فليس من الأنصاف والعدل أنكم ... تنيكون ربّات الحجال ونجلد
وترضون بالحرمان للفيشة الّتي ... على غضب باتت تقوم وتقعد
فلا تحسبوا جلدي عميرة وصمة ... عليّ فقد أفتى بها الشّيخ أحمد
ولو وسعتها راحتي لا حتملتها ... فما حيلتي إذ ضاق ذرعا بها اليد
وذكر بيتين آخرين.
قال: وأنشدني إمام أهل اللغة أبو المعالي إسماعيل بن الحسن البديع لبعضهم:
[مجزوء الرمل]
إنّما همّي كسيره ... نشفت ماء قديره
وخميرة في ذكيره ... بلغتي منها سكيره
وغلام أو فتاة ... قد كفي جلد عميره
من رأى عيشي هذا ... عاش لا يؤثر غيره
قال: وأنشدني البديع أيضا لبعضهم: [مخلع البسيط](3/302)
إنّما همّي كسيره ... نشفت ماء قديره
وخميرة في ذكيره ... بلغتي منها سكيره
وغلام أو فتاة ... قد كفي جلد عميره
من رأى عيشي هذا ... عاش لا يؤثر غيره
قال: وأنشدني البديع أيضا لبعضهم: [مخلع البسيط]
يا سيدي نحن في زمان ... أبدلنا الله منه غيره
فكل ذي خسّة وذلّ ... متّع بالطّيبات أيره
وكل ذي فطنة وكيس ... يجلد في بيته عميره
* * *
قوله: أشبّ قرنك: يدعى بذلك للصبيّ أن يكبر وتطول قامته، كما تقول للصبيّ في ضدّ ذلك: لا كبرك الله. ويقال: شبّ الصبيّ يشبّ بكسر الشين شبابا بفتح الشين وكسرها، إذا طال ونما جسمه والصبيّ شاب، وأشبّ الله قرنه، أي جعله شابا أسود الذؤابة، والقرن الضفيرة، وهي الذؤابة وقيل: القرن جانب الرأس. المراح كالرّواح.
الخزيان: المهان والمستحيي، وخزي يخزى خزيا: أهين، وخزاية استحيا، فهو خزيان أي مستحي، وقوم خزايا.
وتبت من مشاورة الصبيان، قال عمر رضي الله عنه: خصلتان من علامة الجهل:
مشاورة النّساء والصبيان، واستكتام السرّ النساء والصبيان.
* * * قال الحارث بن همام: فقلت له: أقسم بمن أنبت الأيك، أنّ الجدل منك وإليك فأغرب في الضّحك، وطرب طربة المنهمك، ثم قال: العق العسل، ولا تسل، فأخذت أسهب في مدح الأدب، وأفضّل ربّه على ذي النّشب، وهو ينظر إليّ نظر المستجهل، ويغضي عنّي إغضاء المتمهّل. فلما أفرطت في العصبيّة، للعصبة الأدبيّة، قال لي: صه، واستمع منّي وافقه: [المتقارب]
يقولون إنّ جمال الفتى ... وزينته أدب راسخ
وما إن يزين سوى المكثرين ... ومن طود سودده شامخ
وأمّا الفقير فخير له ... من الأدب القرص والكامخ
وأيّ جمال أن يقال ... أديب يعلّم أو ناسخ!
ثم قال: سيضح لك صدق لهجتي، واستنارة حجّتي.
* * *
الأيك: شجر. الجدل منك وإليك، أي إنّما كان هذا الخصام بينك وبين نفسك، ولم يكن ثمّ صبي تحاوره، أي أن حديثك مصنوع لا أصل له.(3/303)
* * *
الأيك: شجر. الجدل منك وإليك، أي إنّما كان هذا الخصام بينك وبين نفسك، ولم يكن ثمّ صبي تحاوره، أي أن حديثك مصنوع لا أصل له.
[الأخبار المصنوعة]
ومن مستعمل الأخبار المصنوعة ما يحكى أن حبيب بن أوس، قال: لقينا أعرابيّ، وقد خرجت في أيام الواثق إلى سرّ من رأى، فقلت له: ممنّ؟ قال: من بني عامر، قلت: كيف علمك بعسكر أمير المؤمنين؟ قال: قتل أرضا عالمها، قلت: ما تقول في أمير المؤمنين؟ قال: وثق بالله فكفاه، أشجى العاصية، وقمع العادية، وعدل في الرعيّة. قلت: فما تقول في أحمد بن أبي دؤاد؟ قال: هضبة لا ثرام، وجبل لا يضام، تشحذ له المدى، وتنصب له الحبائل، حتى إذا قيّد وثب وثبة الذئب، وختل ختل الضّب. قلت: فحمد بن عبد الملك؟ قال: وسع الداني شرّه، ووصل البعيد ضرّه، له في كل يوم صريع، لا يرى فيه أثر ناب، ولا ندب مخلب، قلت: فما تقول في الفضل بن مروان؟ قال: ذلك الرجل نشر بعد ما قبر، فعليه حياة الأحياء، وخفته الموتى. قلت: فابن الخصيب؟ قال: أكل أكلة نهم، وذرق ذرقة بشم، قلت: فأخوه إبراهيم؟ قال: أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون، قلت فأحمد بن إبراهيم؟
قال: لله درّه! أيّ رجل هو! اتّخذ الصّبر دثارا، والحق شعارا، وإن هوّن عليه يهمّ، قلت: فسليمان بن وهب؟ قال: ذلك رجل السلطان، وبهاء الدّيوان، قلت: فأخوه الحسن؟ قال: عود نضير، غرس في منابت الكرم حتى إذا اهتز لهم حصدوه، قلت:
فإبراهيم بن نجاح؟ قال: ذلك رجل أوثقه كرمه، وأسلمه حسبه، وله دعاء لا يسلمه، وربّ لا يخذله، وخليفة لا يظلمه، قلت: فنجاح بن سلمة؟ قال: لله درّه أيّ طالب وتر ومدرك ثأر! يلتهب كأنه شعلة نار، له من الخليفة في الأنام جلسة تزيل نعما، وتحلّ نقما، قلت: يا أعرابيّ أين منزلك؟ قال: اللهمّ غفرا إذا اشتمل الظّلام، ألتحف الليل، فحيثما أدركني الرّقاد رقدت، ولا أخلق وجهي بمسألتهم؟ أما سمعت هذا الطائيّ يقول: [البسيط]
وما أبالي وخير القوم أصدقه ... حقنت لي ماء وجهي أو حقنت دمي
فقلت له: أنا قائل هذا الشعر، قال: أئنّك لأنت الطائي! قلت: نعم، قال: لله أبوك، أنت الذي تقول: [البسيط]
ما جود كفّك إن جادت وإن بخلت ... من ماء وجهي إذا أخلقته عوض
قلت: نعم، قال: أنت أشعر أهل زمانك.
ونمي خبره إلى ابن أبي داود فأوصله إلى الواثق، فأعطاه ألف دينار، وأخذ له من أهل الدولة ما غني به عقبه بعده.(3/304)
وهذا الخبر خرج عن أبي تمام، فإن كان صادقا وما أراده، فقد أحسن الأعرابيّ الوصف، وإن كان صنعه فقد قصّر إذ منزلته أكبر من هذا.
* * * قوله: أغرب، أي أكثر الضحك حتى دمعت عيناه. المنهمك: المبالغ الطرب.
العق العسل ولا تسل، معناه إن طاب لك الكلام فاحفظه ولا تسل عن صدقه ولا باطله، كما إذا وجدت العسل حلوا فلا يلزمك السؤال عن نحله وقد قال فيما مضى: [المتقارب]
* ولا تسأل الشّهد عن نحله *
فهذا هو ذلك أسهب: أبالغ وأكثر. ذي النّشب: صاحب المال يغضي: يتغافل.
المستجهل: الذي يحسبني جاهلا. الممهل: المؤخّر، وقد أمهله أي أخّره. صه: معناه اسكت. القرص: الخبز، وتسمّى الخبزة قرصة لأن الخابز يقرصها من العجين، أي يقطعها.
[الكامخ]
والكامخ: شيء يصنع من اللّبن الحامض، وهو أنواع.
وقد قدّم لأعرابيّ كامخ، فقال: ما هذا؟ قالوا: كامخ، فقال: قد علمت فأيّكم كمخ به؟ يقال: كمخ البعير إذا أخرج ثلطه رقيقا.
وقدّم لأعرابيّين كامخ، فذاقه أحدهما، فلم يستطبه، فقال: هذا خرء، وذاقه الآخر فاستطابه، فقال: يوشك أن يكون خرء الأمير!.
وقدّم لأعرابيّ كامخ فلم يستطبه قال: ما هذا؟ قالوا كامخ، قال: ومن أيّ شيء صنع هذا؟ قالوا: من الحنطة واللّبن قال: أبوان كريمان: وما أنجبا.
وقدّم لأعرابيّ كامخ، فلم يستطبه، وأكل منه شيئا وخرج، ودخل المسجد والإمام في الصلاة يقرأ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، فقال الأعرابيّ: والكامخ لا تنسه أصلحك الله!.
وقيل: هو طعام يؤتدم به.
وقيل: هو البقل في الطعام مثل الكبر والزّيتون والمريء والعنّاب إذا غلب طخاء الشحم على المعدة، أخذ الرّجل منه شيئا، فانجلى عن معدته، وتنشّط للأكل.
وقال أعرابي يصف إبطيه بالنّتن: [الرجز]
كأن إبطيّ وقد طال المدى ... نفحة خرء من كواميخ القرى
الأصمعيّ: قدم علينا أبو طيبة الأعرابيّ بعد ما خرج إلى البادية، وتفقّه، فقلنا له:
ما قولك في البيض؟ قال: حرام، فقلنا: ولم؟ قال: لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هََادُوا}
{حَرَّمْنََا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] والدجاج عندي من ذوي الأظفار. قلنا: فما قولك في الكامخ؟ قال: حرام، قلنا: ولم؟ قال: لقوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ صَلْصََالٍ كَالْفَخََّارِ} [الرحمن: 14]، والكامخ يتخذ من الفخار، فأظنّ بينه وبين الجلد نسبا.(3/305)
ما قولك في البيض؟ قال: حرام، فقلنا: ولم؟ قال: لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هََادُوا}
{حَرَّمْنََا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] والدجاج عندي من ذوي الأظفار. قلنا: فما قولك في الكامخ؟ قال: حرام، قلنا: ولم؟ قال: لقوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ صَلْصََالٍ كَالْفَخََّارِ} [الرحمن: 14]، والكامخ يتخذ من الفخار، فأظنّ بينه وبين الجلد نسبا.
قوله: وافقه، معناه افهم. راسخ: ثابت. المكثرين: الأغنياء طود سودده: ارتفاع سيادته. والطّود: الجبل. شامخ، أي ثابت مرتفع وقال النبي صلى الله عليه وسلم «يأتي على النّاس زمان من لم يكن معه فيه أصفر وأبيض لم يتمن العيش» يعني الذهب والفضة.
وقال مهيار الديلميّ: [المتقارب]
تشرف بحظّ فإن الحظوظ ... حلى كلّ ذي نسب يفضل
وما الحظّ في أدب مفصح ... ومن دونه نسب مجهل
تراضي الفتى رتبة وهو حي ... ث يجعله ماله يجعل
وقال ابن قاضي ميلة: [الكامل]
أسعد بجدّك لا تكون أديبا ... أو أن يرى فيك الورى تهذيبا
إن كنت مستويا ففعلك كلّه ... عوج، وإن أخطأت كنت مصيبا
كالنّقش ليس يصحّ معنى ختمه ... حتّى يكون بناؤه مقلوبا
قوله: لهجتي، أي منطقي، وقيل: هي جرس الكلام، وقيل: هي طرف اللسان، وفلان فصيح اللهجة، وهي لغته التي جبل عليها فاعتادها ونشأ عليها. استنارة: ظهر نورها.
* * * وسرنا لا نألو جهدا، ولا نستفيق جهدا حتّى أدّانا السّير، إلى قرية عزب عنها الخير، فدخلناها للارتياد، وكلانا منفض من الزّاد فما إن بلغنا المحطّ، والمناخ المختطّ، أو لقينا غلام لم يبلغ الحنث وعلى عاتقه ضعث. فحيّاه أبو زيد تحيّة المسلم، وسأله وقفة المفهم، فقال: وعمّ تسأل وفّقك الله؟ قال: أيباع ها هنا الرّطب بالخطب؟ قال: لا والله. قال: ولا البلح بالملح؟ قال: كلّا والله، قال.
ولا الثّمر بالسّمر؟ قال: هيهات والله. قال: ولا العصائد بالقصائد؟ قال: اسكت عافاك الله. قال: ولا الثّرائد بالفرائد؟ قال: أين يذهب بك أرشدك الله! قال: ولا الدّقيق بالمعنى الدّقيق؟ قال: عدّ عن هذا أصلحك الله!.
* * * نألو: نقصّر. جهدا: طاقة واجتهادا. نستفيق جهدا: نستريح من المشقة أدّانا:
أوصلنا. والقرية: في كلامهم: الموضع الّذي يجتمع الناس فيه، وقريت الماء في الحوض جمعته فيه. وعزب: بعد للارتياد: لطلب ما يؤكل منفض: فارغ، وأنفض: فني زاده فنفض مزوده من الفتات. المحطّ: المنزل الّذي تحطّ فيه الأحمال. والمناخ: مثله في المعنى. والمختطّ: المعلم عليه بخطّ، وكلّ موضع أردت حمايته ومنعه خططت عليه بخطّ، فمن رآه علم أنه محميّ فاجتنبه. الحنث: الإثم، أي لم يبلغ حدّ التكليف، وهو الحلم فيكتب عليه إثم. على عاتقه ضغث، أي على عنقه حزمة حشيش، والعاتق: ما بين المنكب والعنق، والضّغث قبضة من أخلاط النبات أو من قضبان مختلفة المفهم:(3/306)
* * * نألو: نقصّر. جهدا: طاقة واجتهادا. نستفيق جهدا: نستريح من المشقة أدّانا:
أوصلنا. والقرية: في كلامهم: الموضع الّذي يجتمع الناس فيه، وقريت الماء في الحوض جمعته فيه. وعزب: بعد للارتياد: لطلب ما يؤكل منفض: فارغ، وأنفض: فني زاده فنفض مزوده من الفتات. المحطّ: المنزل الّذي تحطّ فيه الأحمال. والمناخ: مثله في المعنى. والمختطّ: المعلم عليه بخطّ، وكلّ موضع أردت حمايته ومنعه خططت عليه بخطّ، فمن رآه علم أنه محميّ فاجتنبه. الحنث: الإثم، أي لم يبلغ حدّ التكليف، وهو الحلم فيكتب عليه إثم. على عاتقه ضغث، أي على عنقه حزمة حشيش، والعاتق: ما بين المنكب والعنق، والضّغث قبضة من أخلاط النبات أو من قضبان مختلفة المفهم:
المخبر المبين. أيباع هاهنا الرّطب بالخطب؟ الرّطب والبلح نوعان من التّمر. والسّمر:
السهر باللّيل على الحديث. هيهات، أي بعد.
ابن عباس رضي الله عنهما: ما باع الدقيق برّ ولا فاجر إلّا اصفرّ لونه وقسا قلبه، ونزعت الرّحمة من قلبه.
الفرائد: جواهر الكلام. أين يذهب بك: أين تتلف وتضلّ! ولذلك دعا له، فقال:
أرشدك الله، أي هداك الطريق. عدّ: كفّ واصرف.
* * * واستحلى أبو زيد تراجع السّؤال والجواب، والتّكايل من هذا الجراب.
ولمح الغلام أن الشّوط بطين، والشّيخ شويطين، فقال له: حسبك يا شيخ قد عرفت فنّك، واستبنت أنّك، فخذ الجواب صبرة، واكتف به خبرة أمّا بهذا المكان فلا يشترى الشّعر بشعيرة، ولا النّثر بنثارة، ولا القصص بقصاصة، ولا الرّسالة بغسالة، ولا حكم لقمان بلقمة، ولا أخبار الملاحم بلحمة. وأما جيل هذا الزمان، فما منهم من يميح، إذا صيغ له المديح، ولا من يجيز، إذا أنشد له الأراجيز، ولا من يغيث، إذا أطربه الحديث، ولا من يمير، ولو أنّه أمير وعندهم أن مثل الأديب، كالرّبع الجديب، إن لم تجد الرّبع ديمة، لم تكن له قيمة، ولا دانته بهيمة. وكذلك الأدب، إنّ لم يعضده نشب، فدرسه نصب، وخزنه حصب.
ثم انسدر يعدو، وولّى يحدو.
* * * لمح: نظر. الشّوط: الطلق والجري إلى الغاية: الأخفش الشّوط أن تأتي إلى موضع تريده، ثم ترجع وإن رجعت إليه مرّة أخرى، فذلك شوط آخر، ومن الحجر إلى الحجر شوط: وجرى الفرس شوطا إذا بلغ مجراه ثم عاد. بطين: متّسع، ومعناه: علم أن كلام الشيخ كثير، ورجل بطين: عظيم البطن، وكيس بطين، أي ملآن، وأخذه من قول كعب بن زهير: [المتقارب](3/307)
وزحزحن بين أداني الغضى ... وبين عنيزة شوطا بطينا (1)
شويطين، أي دويهية لا تقاوم، وتصغيره بمعنى التعظيم. حسبك: يكفيك. فنّك:
نوعك وطريقك. استبنت أنّك، أي تحققت أنك داهية: صبرة: أي جملة بغير كيل، وكدس القمح، وما يكال يسمّى صبرة. أكتف: اقتنع خبرة: اختبار النثر: ضد النظم مثل التراسل والخطب. والنّثار: ما تناثر من الشيء، أي تفتّت، تقول: نثرت الشيء أي رميت به مفترقا، واسم ما يتساقط منه النّثارة. والقصص: أخبار المتقدمين. والقصاصة: ما تساقط من الشّعر إذا قصّ. والغسالة: الماء الذي قد غسل به بقيّة الطعام أو غير ذلك ويروى: «بفضالة»، مكان غسالة، والفضالة من الزرع إذا غربل تبقّى في الغربال فتدرس بعد ذلك، ويخرج ما فيها من الزّرع.
وأنشد الفنجديهيّ في هذه المعاني: [الطويل]
عرضت على الخبّاز نحو المبرّد ... وكتبا حسانا للخليل بن أحمد
ورؤيا ابن سيرين وخطّ مهلهل ... وتجويد عمر وبعد فقه محّمد
وأنشدته شعر الكميت وجرول ... وغنّيته لحن الغريض ومعبد
فما نفعتني دون أن قلت هاكها ... مدوّرة صفرا تطنّ على اليد
وقال أخبرني أبو المحاسن بن أبي العلاء بن محمد الأديب، قال: أنشدنيه لنفسه أبو يوسف بن محمد يعقوب الأديب.
[لقمان عليه السلام]
قوله: ولا حكم لقمان بلقمة، في لقمان سبعة أقوال:
قال قتادة: خيّره الله بين النبوّة والحكمة، فاختار الحكمة، فقذفها عليه جبريل، وهو نائم، فأصبح ينطق بالحكمة، فسئل عن ذلك، فقال: لو أرسل الله إليّ النّبوّة عزمة، لرجوت الفوز بها، ولكنّه خيّرني فخفت أن أضعف عن النبوّة.
وقيل: كان من النّوبة قصيرا أفطس الأنف.
وقيل: كان حبشيّا.
سعيد بن المسيّب: كان أسود من سودان مصر، ذا مشفر، حكمته حكمة الأنبياء.
__________
(1) يروى البيت:
وبصبصن بين أداني الغضا ... وبين عنيزة شأوا بطينا
وهو لكعب بن زهير في ديوانه ص 102، ولزهير بن أبي سلمى في أساس البلاغة (بطن)، وليس في ديوانه وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 361، وتاج العروس (بصص)، (بطن)، ولسان العرب (بصص)، (بطن).(3/308)
وقيل: كان خياطا.
وقيل: كان راعيا فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك، فقال: ألست عبد بني فلان كنت ترعى بالأمس؟ قال: بلى؟ قال: فما بلغ بك ما أرى، قال: وما يعجبك من أمري؟
قال: وطء النّاس بساطك، وغشيهم بابك؟ ورضاهم بقولك قال يا بن أخي، إن صنعت ما أقول لك كنت كذلك، قال: وما تصنع؟ قال غضّ بصري، وكفّ لساني، وعفّة طمعي، وحفظ فرجي، وقيامي بعهدي، ووفائي بوعدي، وتكرمة ضيفي، وحفظ جاري وترك ما لا يعنيني فذلك الّذي صيّرني كما ترى.
ويروى أنه قال: قدر الله وأداء الأمانة وصدق الحديث وترك ما لا يعنيني.
أنس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحكمة تزيد الشريف شرفا، وترفع المملوك حتى يجلس مجالس الملوك، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنََا لُقْمََانَ الْحِكْمَةَ}» [لقمان: 12].
وقال الإمام أبو إسحاق أحمد بن محمد إبراهيم الثعالبيّ المفسّر: اتفق العلماء على أنّ لقمان كان حكيما، ولم يكن نبيا، إلا عكرمة فإنّه تفرّد بأنه نبيّ.
ابن عمر رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «حقا أقول، لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا صمصامة، كثير التفكّر، حسن اليقين، أحبّ الله فأحبّه، ومنّ الله عليه الحكمة».
وهب بن منبّه: كان لقمان ابن أخت داود عليه السلام، وقيل: ابن خالته، وكان في زمنه، وكان داود يقول له: طوبى لك! أوتيت الحكمة، وصرفت عنك البلوى، وأوتي داود الخلافة وبلي بالبليّة، وكان داود يغشاه ويقول: انظروا إلى رجل أوتي الحكمة، ووقي الفتنة.
عبد الوارث: أوتي لقمان الحكمة في قالة قالها، فقيل: وهل لك أن تكون خليفة فتعمل بالحقّ؟ فقال: إن تختر لي فسمعا وطاعة، وإن تخيّرني أختار العافية فقيل: وما عليك أن تكون خليفة فتعمل بالحق؟ قال: فإن أعمل بالحقّ فبالحري أن أنجو، وإن أخطىء الحق أخطىء طريق الجنّة، وإنه من يبع الآخرة بالدنيا يخسرهما جميعا، وأن أعيش حقيرا ذليلا أحبّ إلي من أن أعيش قويّا عزيزا. فشكر الله تعالى مقالته، فغطّه في الحكمة غطّة فأصبح وهو أحكم الناس.
وقيل: كان عبدا نجّارا فقال له سيّده: اذبح شاة وأتني بأطيب مضغتين، فأتاه بالقلب واللسان، ثم أمره بمثل ذلك، وأن يخرج أخبث مضغتين، فأخرج القلب واللسان، فقال له: ما هذا؟ فقال: ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا.(3/309)
وأما حكمته فقد ذكر الله تعالى منها في كتابه ما علم، وذكر مالك في موطّئه منها كلاما كثيرا، وذكر منها فصلا في كتاب الجامع من الموطأ.
ومن حكمته: يا بنيّ إنّ الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون، وهم إلى الآخرة سراعا يذهبون، وإنّك قد استدبرت الدنيا منذ كنت، واستقبلت الآخرة، وإن دارا تسير إليها أقرب من دار تخرج منها. يا بنيّ ليس غنى كصحّة، ولا نعيم كطيب نفس. يا بني لا تجالس الفجّار ولا تماشهم اتّق أن ينزل عليهم عذاب من السّماء فيصيبك معهم، وجالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله تعالى يحيي القلوب الميّتة بالعلم، كما يحيي الأرض بوابل المطر.
أبو إسحاق الثعالبي بإسناد له عن عكرمة. قال: كان لقمان من أهون مماليك سيّده عليه، فبعثه مولاه مع عبيد له إلى بستانه يأتونه بشيء من ثمر فجاؤوه وما معهم شيء، وقد أكلوا الثمر، وأحالوا على لقمان، فقال لقمان لمولاه: ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها، فاسقني، وإياهم ماء حميما ثم أرسلنا لنعدو ففعل فجعلوا يتقيؤون تلك الفاكهة ولقمان يتقيّأ ماء، فعرف مولاه صدقه وكذبهم.
قال: وأوّل ما عرف من حكمته أنه كان مع مولاه فدخل مولاه المبرّز فأطال فيه الجلوس، فناداه لقمان: إنّ طول الجلوس مع الحاجة ليجع منه الكبد، ويورث الباسور، ويصعد الحرارة إلى الرأس، فاجلس هوينى، قال: فخرج وكتب حكمته على باب الحش.
قال: وسكر مولاه يوما فخاطر قوما أن يشرب ماء بحيرة، فلمّا أفاق عرف ما وقع فيه، فدعا لقمان فقال له: لمثل هذا كنت اختبأتك، فقال لمولاه: أخرج أباريقك ثم اجمعهم فلما اجتمعوا قال: على أيّ شيء خاطرتموه؟ قالوا: على أن يشرب ماء هذه البحيرة. قال: فإن لها موادّ فاحبسوا عنها موادّها، قالوا وكيف نستطيع ذلك! قال لقمان:
كيف يستطيع هو أن يشربها ولها موادّ!.
وأراد مولاه بيعه. فقال: يا مولاي إن لي عليك حقا فلا تبعني إلّا ممّن أحبّ، قال: لك ذلك، فكان الرّجل إذا جاء يستامه قال: لأيّ شيء تريدني؟ فقال أحدهم:
تحفظ عليّ بابي. قال: اشترني، فلما جنّه الليل أغلق الباب، وقام يصلّي في الدهليز.
وكان لبنات الرجل أخلّاء فجاؤوا فضربوا الباب، فقلن: يا لقمان، افتح الباب، فقال:
بأبي أنتنّ وأميّ! ليس لهذا اشتراني أبوكّن، فضربنه ضربا كدن أن يأتين منه على نفسه، فلما أصبح لم يخبر أباهنّ، فلما كانت الليلة الثانية عاودنه بمثل ذلك، فلما أصبح لم يخبر أباهنّ، فلما كانت الليلة الثالثة عاودنه بمثل ذلك. فلما أصبح لم يخبر أباهنّ فأقبل بعضهنّ على بعض فقلن: ما جعل الله هذا العبد الأسود أولى بهذا الخير منا، قال:
فنسكن نسكا لم يكن في بني إسرائيل أفضل منهنّ.
عبد الله بن دينار، قال: قدم لقمان من سفر، فاستقبله غلام له في الطريق، فقال له
لقمان: ما فعل أبي؟ قال: مات، قال: الحمد لله ملكت أمري، قال: ما فعلت أمي؟(3/310)
عبد الله بن دينار، قال: قدم لقمان من سفر، فاستقبله غلام له في الطريق، فقال له
لقمان: ما فعل أبي؟ قال: مات، قال: الحمد لله ملكت أمري، قال: ما فعلت أمي؟
قال: ماتت، قال الحمد لله، ذهب همّي. قال: ما فعلت امرأتي؟ قال: ماتت، قال الحمد لله جدّد فراشي، قال: ما فعلت ابنتي؟ قال ماتت، قال: الحمد لله سترت عورتي، قال:
ما فعل ابني؟ قال مات، قال: إنا لله وإنّا إليه راجعون، انقطع ظهري!.
وقيل له: ما أقبح وجهك! قال: أتعيب عليّ هذا النّقش أم على النقاش!.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سادة السودان أربعة: لقمان والنجاشي وبلال ومهجع».
وثمّ لقمان آخر وهو لقمان بن عاد، وهو تذكره العرب في أخبارها، وكان أيضا حكيما، وكانت له أخت محمّقة فقالت لامرأته: هذه ليلة طهوري، فهبي لي ليلتك، طمعا في أن تعلق من أخيها ينجيب، ففعلت فولدت لقيم بن لقمان، وفيه يقول النّمر بن تولب: [المتقارب]
لقيم بن لقمان من أخته ... فكان ابن أخت له وابنما (1)
وقال المسيّب يذكره: [الكامل]
أنت الرّئيس إذا هم نزلوا ... وتواجهوا كالأسد والنّمر
ولأنت أبين حين تنطق من ... لقمان لمّا عيّ بالفكر
وقالت بنت عثمان بن وثيمة ترثي أباها: [مجزوء الكامل]
الواهب المائة التّلا ... دلنا ويكفينا العظيمه
والدّافع الخصم الأل ... دّ إذا تفوضح في الخصومه
بلسان لقمان بن عا ... د وفصل خطبته الحكيمه
ألجمتهم بعد التجا ... ذب والتّدافع في الحكومه
* * *
قوله الملاحم: مواضع الحروب التي تلتحم فيها الجموع، وتختلط عند القتال وتسمّى أخبار الوقائع والحروب ملاحم. جيلك: أهل عصرك. الأوان: الحين والعصر.
يميح: يعطي معروفا ويحتمل أن يريد يسقيك ماء، والمائح: النازل في قعر البئر، يخرج ماءها، وقد ماح الماء، إذا استقاه. صيغ: صنع. يجيز: يعطي الجائزة. يغيث:
يتكرّم ويجود، وهو من الغيث. يمير: يعطي الميرة، والميرة: الطعام المجلوب.
والرّبع: المنزل. الجديب: الذي لا يمطر، ديمة: مطر دائم. دانته: قاربته. يعضّده:
__________
(1) البيت في ديوان النمر بن تولب ص 383، والبيان والتبيين 1/ 184، وتخليص الشواهد ص 213، 222، والحيوان 1/ 22، ولسان العرب (حمق)، (قلم)، والمقاصد النحوية 1/ 575، وهو بلا نسبة في سمط الآلي ص 743.(3/311)
يقوّيه. نشب: مال نصب: تعب. حزبه: أهله، والحصب: وهو الحطب الملقى في النار، وكلّ ما تطعمه النار فهو حصب، وهو من حصبته بالحصباء، أي رميته بها، انسدر: جرى وانصبّ في جريه، وانسدر البازي، إذا انحطّ. يعدو: يسرع. يحدو: يتابع الجري، وكل شيء اتبعته فقد حدوته.
* * * فقال لي أبو زيد: أعلمت أنّ الأدب قد بار، وولّت أنصاره الأدبار فبؤت له بحسن البصيرة، وسلّمت بحكم الضّرورة، فقال دعنا الآن من المصاع، وخض في حديث القصاع، واعلم أنّ الأسجاع، لا تشبع من جاع فما التدبير فيما يمسك الرّمق، ويطفىء الحرق؟ فقلت: الأمر إليك، والزّمام بيديك، فقال: أرى أن ترهن سيفك، لتشبع جوفك وضيفك، فناولنيه وأقم، لأنقلب إليك بما تلتقم.
فأحسنت به الظّنّ، وقلّدته السّيف والرّهن، فما لبث أن ركب النّاقة. ورفض الصّدق والصّداقة فمكثت مليّا أترقّبه، ثمّ نهضت أتعقّبه فكنت كمن ضيّع اللّبن في الصّيف، ولم ألقه ولا السّيف.
* * * بار: هلك. ومنه بار الطعام إذا كسد، وفي الحديث: «نعوذ بالله من بور الأيّم» (1)، أي من كسادها، وقال الله تعالى: {يَرْجُونَ تِجََارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29]، أي لن تكسد، وقال تعالى: {وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} [الفتح: 12] أي هالكين. قال الفرّاء: البور يكون للمذكر والمؤنث والاثنين والجمع بلفظ واحد، أبو عبيدة رحمه الله: هو جمع بائر كعائذ وعوذ، ويدلّ على صحة قول الفراء قوله ابن الزّبعرى: [الخفيف]
يا رسول المليك إنّ لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور (2)
بؤت: رجعت. البصيرة: اليقين والاعتماد الصحيح، المصاع: مراجعة الكلام.
والمصاع فى الأصل: القتال والدفاع وكلّ ما عانيته بشدّة وجدّ فقد ماصعته، القصاع في الأصل: صحاف الطعام، الأسجاع: الكلام المفقّر. الرّمق: بقية النفس. والحرق: جمع حرقة، وأراد بطفء الحرق تسكين ألم الجوع، ما لبث: ما أقام ولا استقرّ. رفض:
__________
(1) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 1/ 161.
(2) البيت لعبد الله بن الزبعرى السهمي في ديوانه ص 36، ولسان العرب (بور)، والمخصص 3/ 48، 7/ 30، 311، 14/ 33، ومقاييس اللغة 1/ 316، ولعبد الله بن رواحة في ديوانه ص 95، ولأحد الاثنين في تاج العروس (بور)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 330، وتهذيب اللغة 15/ 267.(3/312)
ترك. الصدق: قول الحقّ، والصّداقة: الصحبة، مكثت مليّا: أقمت زمانا. أترقبه: أنتظر مجيئه. أتعقّبه: أمشي في أثره وأطلبه.
[قصة المثل: ضيّع اللبن في الصيف]
وضيّع اللبن في الصيف، مثل يضرب لكل من ضيّع أمره، ثم تعرّض لاستدراكه بعد فوته، قاله عمرو بن عدس التّميميّ، وكان تزوّج دختنوس بنت لقيط بن زرارة وكان شيخا مسنّا ذا مال كثير فأبغضته بسبب كبره وسألته طلاقها، فطلّقها وتزوجها عمير بن معبد بن زرارة وكان شابا معدما فبينما هو معها جالس إذ مرّت بهما إبل عمرو بن عمرو بن عدس كالليل لكثرتها، فقال لها عمير: ابعثي إلى عمرو يعطيك لبنا أو حلوبة، فأرسلت إليه رسولا بذلك، فقال لرسولها قل لها: الصّيف ضيّعت اللبن، فلما بلغها ذلك ضربت على كتف ابن عمها، وقالت: هذا ومذقه خير، فيريد أنه طلقها في الصّيف فضاع لبنها في ذلك الوقت، وقال في الدرّة: خصّ الصّيف بالذّكر لأنها كانت سألته الطّلاق فيه، فكأنها يومئذ ضيّعت اللبن. والله أعلم.(3/313)
المقامة الرابعة والأربعون وتعرف بالشّتوية
حكى الحارث بن همام قال: عشوت في ليلة داجية الظّلم، فاحمة اللّمم، إلى نار تضرم على علم، وتخبر عن كرم، وكانت ليلة جوّها مقرور وجيبها مزرور، ونجمها مغموم، وغيمها مركوم وأنا فيها أصرد من عين الحرباء، والعنز الجرباء، فلم أزل أنصّ عنسي، وأقول: طوبى لك ولنفسي، إلى أن تبصّر الموقد آلي، وتبيّن إرقالي، فانحدر يعدو الجمزى، وينشد مرتجزا!.
* * * داجية وفاحمة: شديدة السّواد. واللّمم: جمع لمة، وهي جمّة الشعر التي ألمّت بالمنكب، أي قاربته. وجعل للّيلة لمّة مجازا، وهو يريد شدّة سوادها، تضرم: توقد.
علم: جبل. جوّها: ناحية سمائها. مقرور: بارد. وأراد أنّ ما يجيء من جوّها من الريح والهواء بارد جدا. مزرور: مشدود بالأزرار، وهي أطواق الثّياب، وهذا يكون في طوق الصّغير يشقّ في صدر الثّوب عوضا عن الجيب، ويترك من الطّوق طرفان على ذلك الشق، فإذا لبس الثوب شدّ الطرفين، فيقال عند ذلك: قد زرّرت الثوب، يريد أن السحاب قد تكاثف في تلك الليلة، فلا تبصر العين فيها لشدة ظلامها، لأن الثوب إذا شددت أزراره، لم يجد رأس الإنسان من أين يخرج، فلما جعل لليلته ثوبا من الظلام والسحاب جعله مربوطا مشدودا مغموما مستورا، غيمها: سحابها، مركوم، أي متراكب بعضه على بعض، أنصّ عنسي، أي أجهد ناقتي وأتعبها، والنّصّ رفع السير، وقالت أم سلمة لعائشة رضي الله عنهما: ما كنت قائلة لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عارضك ببعض الفلوات ناصّة قلوصا من منهل إلى آخر، ومنه نصّ الحديث إلى فلان، أي رفعه إلى شخص.
وإرقالي: سرعتي. يعدو: يسرع. الجمزى: عدو شديد. [الرجز]
* * * حيّيت من خابط ليل ساري ... هداه بل أهداه ضوء النّار
إلى رحيب الباع رحب الدار ... مرحّب بالطّارق الممتار
ترحاب جعد الكفّ بالدّينار ... ليس بمزورّ عن الزّوار
ولا بمعتام القرى مئخار ... إذا اقشعرّت ترب الأقطار
وضنّت الأنواء بالأمطار ... فهو على بؤس الزّمان الضاري
جمّ الرّماد مرهف الشّفار ... لم يخل في ليل ولا نهار
* من نحر وار واقتداح واري *
* * *(3/314)
* * * حيّيت من خابط ليل ساري ... هداه بل أهداه ضوء النّار
إلى رحيب الباع رحب الدار ... مرحّب بالطّارق الممتار
ترحاب جعد الكفّ بالدّينار ... ليس بمزورّ عن الزّوار
ولا بمعتام القرى مئخار ... إذا اقشعرّت ترب الأقطار
وضنّت الأنواء بالأمطار ... فهو على بؤس الزّمان الضاري
جمّ الرّماد مرهف الشّفار ... لم يخل في ليل ولا نهار
* من نحر وار واقتداح واري *
* * *
قوله: ساري، أي آت بالليل. والخابط: الماشي على غير علم بالطريق. هداه، من الهداية. وأهداه، من الهدية. رحيب الباع: كثير البرّ. واسع العطاء: واسع البرّ.
والرّحب: المتسع. مرحب يقول: مرحبا بك. والطّارق: الآتي بالليل. الممتار: طالب الميرة، وهي الطعام يجلب من بلد إلى بلد. جعد الكفّ، هو البخيل أي يرحّب بالضيف كما يرحّب البخيل بالدّينار إذا وقع في كفّه.
نظر أعرابيّ إلى درهم في يد رجل، وأدام النّظر إليه، فقال له الرجل: لو كان لك ما كنت صانعا؟ قال: كنت أنظر إليه نظرة ثم تكون آخر عهده باليد.
وكان بعض البخلاء إذا وقع الدرهم في يده يخاطبه ويقول له: أنت عقلي وديني وصلاتي وصيامي وجامع شملي وقرة عيني وأنسي، وقوتي وعدّتي وعمادي ثم يقول له:
[السريع]
أهلا وسهلا بك من زائر ... كنت إلى وجهك مشتاقا
ثم يقول: يا نور عيني وحبيب قلبي، قد صرت إلى من يصونك، ويعرف قدرك، ويعظّم حقّك، ويراعي قيمتك، ويشفق عليك، وكيف لا تكون كذلك وأنت تعظّم الأقدار وتعمر الدّيار، وتفتضّ بك الأبكار، وتسمو على الأشراف، وترفع الذكر، وتعلي القدر وتؤنس من الوحشة، ثم يطرحه في الكيس، ويقول: [الطويل]
بنفسي محجوب عن العين شخصه ... ومن ليس يخلو من لساني ولا قلبي
ومن ذكره حظيّ من الناس كلهم ... وأوّل حظّي منه في البعد والقرب
مزورّ: منقبض. معتام: مؤخر مبطىء. والقرى: طعام الضيف، معناه أنه لا يؤخر طعامه، ويقال: أعتم بإبله إذا أخّر حلبها، ومنه العتمة لتأخر وقتها. مئخار: كثير التأخّر.
اقشعرّت: انقبضت من شدة البرد.
ترب: جمع تربة وهي وجه الأرض. والأقطار: البلاد والنواحي. ضنّت الأنواء:
بخلت النجوم. وكانوا يستمطرون بها. بؤس: شدة. الضّاري: المعتاد، أي الذي عادته ألّا يكون فيه غير بؤس. جمّ: كثير، وإذا كثر الرماد كان عن كثرة النار، وكثرة ما يطبخ عليها، مرهف: قاطع. اقتداح: ضرب بالزّند. وار: بعير سمين، ووري المخّ: اكتنز فهو وار، ووري الزّند فهو وار، أي مبد للنار.
* * *
ثمّ تلقاني بمحيّا حييّ، وصافحني براحة أريحيّ، واقتادني إلى بيت عشاره تخور، وأعشاره تفور، وولائده تمور، وموائده تدور، وبأكساره أضياف قد جلبهم جالبي، وقلّبوا في قالبي، وهم يجتنون فاكهة الشّتاء، ويمرحون مرح ذي الفتاء، فأخذت مأخذهم في الاصطلاء، ووجدت بهم وجد الثّمل بالطّلاء.(3/315)
* * *
ثمّ تلقاني بمحيّا حييّ، وصافحني براحة أريحيّ، واقتادني إلى بيت عشاره تخور، وأعشاره تفور، وولائده تمور، وموائده تدور، وبأكساره أضياف قد جلبهم جالبي، وقلّبوا في قالبي، وهم يجتنون فاكهة الشّتاء، ويمرحون مرح ذي الفتاء، فأخذت مأخذهم في الاصطلاء، ووجدت بهم وجد الثّمل بالطّلاء.
* * * محيّا: وجه. صافحني: واجهني وقابلني. براحة: بكفّ. أريحيّ: كريم يهتزّ للكرم. اقتادني: ساقني. ولائده: خدمه. تمور: تسير وتختلف. بالطعام موائده: جمع مائدة.
أبو عبيد: سمّيت مائدة لأنها ميد بها صاحبها، أي أعطيها وتفضّل عليه بها والعرب تقول: مادني فلان يميدني، إذا أحسن إليّ، فكأن المائدة تميد من حواليها مما أحضر عليها، قال رؤبة: [الرجز]
* إلى أمير المؤمنين الممتاد (1) *
أي المستعطي غيره، سميت مائدة لأنها تميد بها عليها، أي تتحرّك، وماد الغصن يميد: مال، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنََا فِي الْأَرْضِ رَوََاسِيَ أَنْ تَمِيدَ} [الأنبياء: 31]، الجرمي يقال: مائدة وميدة وأنشد: [الرجز]
وميدة كثيرة الألوان ... تصنع للإخوان والجيران (2)
وذكر القولين أبو محمد في درة الغوّاص وزاد أنه لا يقال لها مائدة إلا أن يحضر عليها طعام، وإلّا فهي خوان، واستدلّ بأن الحواريين لما اقترحوا على عيسى عليه السلام أن ينزل عليهم مائدة، قالوا نريد أن نأكل منها.
قال: وحكى الأصمعيّ قال: غدوت ذات يوم إلى زيارة صديق لي، فلقيني أبو عمرو بن العلاء فقال لي: إلى أين يا أصمعي؟ فقلت: إلى صديق لي، فقال: إن كان لفائدة أو لعائدة أو لمائدة، وإلّا فلا، وهذا باب يتسع كثيرا، وسأسوق جملة تأتي على أكثره.
[الكرم وقرى الضيف]
وهذه الحالة التي وصف من إيقاد النار هي التي كان يفعل حاتم، وكان إذا اشتدّ
__________
(1) الرجز في ديوان رؤبة بن العجاج ص 40، ولسان العرب (ميد)، وتهذيب اللغة 14/ 219، وتاج العروس (ميد).
(2) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (ميد)، وتاج العروس (ميد)، وتهذيب اللغة 14/ 219.(3/316)
البرد وكلب الشتاء أمر غلامه، فأوقد نارا في يفاع من الأرض، لينظر إليها من أضلّ الطريق ليلا فيهتدي إليها، وقال في ذلك: [الرجز]
أوقد فإنّ الليل ليل قرّ ... والريح يا موقد ريح صرّ (1)
علّ يرى نارك من يمرّ ... إن جلبت ضيفا فأنت حر
ولابن هرمة في هذا أشعار مستحسنة منها: [الكامل]
أغشى الطريق بقبّتي ورواقها ... وأحلّ في قلل الرّبا وأقيم (2)
إنّ امرأ جعل الطّريق لبيته ... طنبا وأنكر حقّه للئيم
وقال مهيار: [الكامل]
ضربوا بمدرجة الطّريق قبابهم ... يتقارعون على قرى الضّيفان
ويكاد موقدها يجود بنفسه ... حبّ القرى حطبا على النّيران
ولابن هرمة أيضا: [الطويل]
ومستنبح تستكشط الرّيح ثوبه ... ليسقط عنه وهو بالرّمل معصم (3)
عوى في سواد اللّيل بعد اعتساقه ... لينبح كلب أو ليفزع نوّم
فجاوبه مستسمع الصّوت للقرى ... له عند إتيان الملبين مطعم
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا ... يكلّمه من حبّه وهو أعجم
وقال بعض المحدثين: [الكامل]
ويدل ضيفي في الظّلام على القرى ... إشراق ناري أو نباح كلابي
حتى إذا واجهنه ولقينه ... حيّينه ببصائص الأذناب
وتكاد من عرفان ما عوّدنه ... من ذاك أن يفصحن بالتّرحاب
ولابن هرمة في ذلك أيضا: [البسيط]
كيف احتيالي لبسط الضّيف من حصر ... عند الطعام فقد ضاقت به حيلي (4)
أخاف ترداد قولي: «كل» فأقطعه ... والسّكت ينزله منّي على البخل
وقال حاتم: [الطويل]
سلي الطّارق الممتار يا أمّ مالك ... إذا ما اعتراني بين قدري ومجزري (5)
__________
(1) الرجز في ديوان حاتم الطائي ص 60.
(2) البيتان في ديوان ابن هرمة ص 194.
(3) ديوان ابن هرمة ص 49.
(4) ديوان ابن هرمة ص 182.
(5) البيتان ليسا في ديوان حاتم الطائي، وهما لعروة بن الورد في ديوانه ص 73.(3/317)
أيسفر وجهي إنه أوّل القرى ... وأبذل معروفي له دون منكري
وقال أيضا: [الطويل]
أما والّذي لا يعرف السرّ غيره ... ويحيي العظام البيض وهي رميم (1)
لقد كنت أختار القرى طاوي الحشى ... محافظة من أن يقال لئيم
وإنّي لأستحيي يميني وبينها ... وبين فمي داجي الظلام بهيم
وقال أيضا: [الطويل]
أكفّ يدي من أن تنال التماسها ... أكفّ صحابي حين حاجاتنا معا (2)
أبيت هضيم الكشح مضطرم الحشى ... من الجوع أخشى الذمّ أن أتضلّعا
وإني لأستحيي رفيقي أن يرى ... مكان يدي من جانب الزّاد أقرعا
وإنّك إن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
وقال أبو زياد الأعرابي: [الوافر]
له نار تشبّ على يفاع ... إذا النيران ألبست القناعا
فلم يك أكثر الفتيان مالا ... ولكن كان أرحبهم ذراعا
وقال آخر: [البسيط]
لعلّ عارا إذا ضيف تأوّبني ... ما كان عندي إذا أعطيت مجهودي
جهد المقلّ إذا أعطاك نائله ... ومكثر في الغنى سيّان في الجود
وقال آخر: [البسيط]
تركت ضأني تودّ الذئب راعيها ... وأنها لا تراني آخر الأبد
الذئب يطرقها في الدهر واحدة ... وكلّ يوم تراني مدية بيدي
وقال آخر: [البسيط]
وسّع بمدّك ماء اللحم تقسمه ... وأكثر الشّوب إن لم يكثر اللّبن
وسّع به وتلفّت نحو حاضره ... إنّ الكريم الّذي لم يخله الفطن
__________
(1) الأبيات في ديوان حاتم الطائي ص 87، والبيت الأول في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1715، ولسان العرب (رمم)، والبيت الثاني في لسان العرب (قوا)، وتاج العروس (قوي).
(2) الأبيات في ديوان حاتم الطائي ص 69، والبيت الأول في أمالي القالي 2/ 318، والدرر 3/ 144، وشرح شواهد المغني 2/ 744، والبيت الثالث في أساس البلاغة (قرع)، والبيت الرابع في الجنى الداني ص 610، وخزانة الأدب 9/ 27، والدرر 5/ 71، وشرح شواهد المغني ص 744.(3/318)
وقال الغنوي: [الطويل]
لحافي لحاف الضّيف والبيت بيته ... ولم يلهني عنه غزال مقنّع
أحدّثه إن الحديث من القرى ... وتكلأ عيني عينه حين يهجع
وقال آخر: [الطويل]
وإنّا لمشّاؤون بين رحالنا ... إلى الضيف منّا لاحف ومنيم
فذو الحلم منّا جاهل دون ضيفه ... وذو الجهل منّا عن أذاه حليم
وقال آخر: [الطويل]
سأقدح من قدري نصيبا لجارتي ... وإن كان ما فيها كفافا على أهلي
إذا أنت لم تشرك رفيقك في الذي ... يكون قليلا لم يشاركه في الفضل
ولبعض أصحابنا: [الطويل]
وسار تحلّى أنجم اللّيل زينة ... ويلبس من ظلمائها ثوب ثاكل
رفعت له ناري فآنس ضوءها ... كما آنس الظمآن برد المناهل
أتانا فحيّانا فكان جوابه ... صليل شفار السّيف في ساق بازل
وما أنا من سؤاله ممّن الفتى ... وتلك سحابا كلّ أطلس بالي
فداك الذي أودى بما اكتسبت يدي ... وإن عاد وفري عدت غير مواكل
[مما قيل في البخل]
وقال آخر في ضد ما قلناه: [الوافر]
أراني من بني حكم غريبا ... على قتر أزور ولا أزار
أناس يأكلون اللّحم دوني ... ويأتيني المعاذر والقتار
القتر والقطر: الجانب.
وقال آخر: [مجزوء الرمل]
مات في عرس سليما ... ن من الجوع جماعه
مات أقوام وقوم ... حملوا فيه القناعه
لم يكن يوجد فيه الخبز ... إلّا بشفاعه
آخر: [الطويل]
وما تنسني الأيام لا أنس جوعنا ... بدار بني بدر وطول التّلدّد
ظللنا كأنا بينهم أهل مأتم ... على ميّت مستودع بطن ملحد
يحدّث بعض بعضنا عن مصابه ... ويأمر بعض بعضنا بالتجلّد
وفي هذا طرف من قول الآخر: [الطويل](3/319)
وما تنسني الأيام لا أنس جوعنا ... بدار بني بدر وطول التّلدّد
ظللنا كأنا بينهم أهل مأتم ... على ميّت مستودع بطن ملحد
يحدّث بعض بعضنا عن مصابه ... ويأمر بعض بعضنا بالتجلّد
وفي هذا طرف من قول الآخر: [الطويل]
إذا ما عراكم حادث فتحدثوا ... فإنّ حديث القوم ينسي المصائبا
وأهل الحزن يستعملون الحديث اشتغالا عن المصيبة.
وقال بشار: [البسيط]
أبناء عمرو لفي خفض وفي دعة ... وفي عطاء لعمري غير ممنوع
وضيف عمرو وعمرو ساهران معا ... عمرو لبطنته والضيف للجوع
وآخر: [البسيط]
ما كنت أحسب أن الخبز فاكهة ... حتى نزلت على قوم بميسان
قوم إذا حلّ ضيف بين أظهرهم ... لم ينزلوه ودلّوه على الخان
آخر:
والناس في فطر سوى شهرهم ... ودهر أضيافك شهر الصيام
آخر:
كتبت له صيفا فظنّ بأنني ... كتبت له ضيفا فقام إلى السيف
فقلت خيرا فظنّ بأنّني ... ذكرت له خبزا فمات من الخوف
وإن ابن هرمة ألأم الناس مع ادّعائه في شعره الكرم، قال رجل: أتيناه في جماعة من قريش أحببنا أن يتنزه عندنا، ومشينا بزاد كثير فخرج علينا، وقال: ما جاء بكم؟ قلنا:
شعرك حيث قلت: إن امرأ جعل الطريق لبيته، وقولك أيضا [الكامل]
وإذا تنوّر راكبا مستنبح ... نبحت فدلّته عليّ كلابي
وعوين يستعجلنه فلقينه ... يضربنه بشراسف الأذناب
وسمعناك تقول: [المنسرح]
كم ناقة قد وجأت منحرها ... بمستهلّ الشؤبوب أو جمل
لا أمتع العوذ بالفصال ولا ... أبتاع إلّا قريبة الأجل
فنظر إلينا وقال: ما على وجه الأرض عصبة أسخف عقولا منكم، أما سمعتم قول الله عز وجل: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مََا لََا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 226] في الشعراء، والله أني لأقول ما لا أفعل، وأنتم تريدون أن أفعل ما أقول، والله لا أغضب ربّي في رضاكم، فضحكنا منه وأخرجناه معنا يتنزه حتى فني الزّاد.
أتى الحطيئة رجل وهو في غنمه، وقال: يا صاحب الغنم، سلام عليك فرفع
الحطيئة العصا، وقال: إنها عجراء من سلم، فقال الرجل: إنّي ضيف، فقال: للضيفان أعددتها، فأعاد السّلام، فقال: إن شئت قمت بها إليك.(3/320)
أتى الحطيئة رجل وهو في غنمه، وقال: يا صاحب الغنم، سلام عليك فرفع
الحطيئة العصا، وقال: إنها عجراء من سلم، فقال الرجل: إنّي ضيف، فقال: للضيفان أعددتها، فأعاد السّلام، فقال: إن شئت قمت بها إليك.
ومرّ به ابن حمامة وهو جالس بفناء بيته، فقال: السلام عليكم، فقال: قد قلت ما لا ينكر.
وقال: خرجت من أهلي بغير زاد، قال: ما ضمنت لأهلك قراك، قال: أفتأذن لي أن آتي ظلّ بيتك؟ قال: دونك الجبل يفيء عليك، قال: أنا ابن حمامة، قال: انصرف وكن ابن أيّ طائر شئت. يروى هذا عن أبي الأسود الدؤلي.
ونزل الغضبان بن القبعثري خارج كرمان وهي قرية كثيرة الرّمضاء، فضرب قبّته، فورد عليه أعرابيّ، من بكر، فقال: السلام عليك، قال: السلام عليك كثير، وهي كلمة مقولة، قال الأعرابيّ: ما اسمك؟ قال: آخذ، قال أو تعطي؟ قال: ما أحبّ أن يكون لي اسمان، قال: ومن أين جئت؟ قال: من الذّلول، قال: وأين تريد؟ قال: أرضنا أمشي في مناكبها، قال: ومن عرض اليوم؟ قال آل فرعون على النّار، قال: فمن بشّر؟ قال:
الصّابرون، قال: فمن غلب؟ قال: حزب الله قال: أفتقرض؟ قال: إنما تقرض الفأرة، قال: أفتسمع قال: إنّما تسمع القينة، قال: أتنشد؟ قال: إنما تنشد الضالة، قال:
أفتقول؟ قال: إنما يقول الأمير، قال: أفتسجع؟ قال: إنما تسجع الحمامة، قال: أفتنطق:
قال: كتاب الله ينطق، قال: إنك لمنكر، قال: إني لمعروف، قال: ذلك أريد. قال: وما إرادتك؟ قال: الدّخول عليك، قال: وراءك أوسع، قال: قد أضرّتني الشّمس، قال:
الساعة يأتيك الفيء، قال: الرّمضاء أحرقت قدميّ، قال: بل عليهما تبردا، قال قد أوجعني الحرّ، قال: ليس لي عليه سلطان، قال: إني لا أريد طعامك ولا شرابك، قال:
أتعرّض بهما؟ والله لا تذوقهما عندي، قال: سبحان الله! قال: قبل كونك، قال: ما أرى عندك: قال: هراوة أرزن، أدقّ بها رأسك. فتركه وانصرف.
الأصمعيّ: عذلت اعرابية أباها في إتلاف ماله، فقالت: يا أبت، حبس المال أنفع للعيال من بذل الوجه للسؤال، وقد أتلفت التلاد، وبقيت ترقب ما بأيدي العباد، ومن لم يحفظ ما ينفعه يوشك أن يقع فيما يضرّه، أخذه ابن المعتز فقال: [السريع]
يا ربّ جود جرّ فقر امرىء ... فقام للناس مقام الذّليل
فاشدد عرا مالك واستبقه ... فالبخل خير من سؤال البخيل
وقال بعض البخلاء: [الكامل]
أعددت للأضياف كلبا ضاريا ... عندي وفضل هراوة من أرزن
ومعاذرا كذبا ووجها باسرا ... وتشكّيا عضّ الزمان الألزن
الألزن: المضيق.(3/321)
محمد بن الجهم: وددت أنّ عشرة من الفقهاء، وعشرة من الشعراء، وعشرة من الخطباء، وعشرة من الأدباء، تواطؤوا على ذمي حتى ينتشر ذلك عنهم في الآفاق، فلا يمتدّ إلى أمل آمل، ولا ينبسط نحوي رجاء لراج.
وكان يقول: من وهب في عمله فهو مخدوع، ومن وهب بعد العزل فهو أحمق، ومن وهب في جوائز سلطانه، أو عمل لم يتعب فيه فهو مخذول، ومن وهب من كسبه وما استفاد بحيلته فهو المطبوع على قلبه، المختوم على سمعه وبصره.
وقال: منع الجميع، أرضى للجميع، وهذا كقول الأصمعي! لو قسمت في الناس ألف ألف لكان أكثر للأئمى من لو أخذتها منهم، قالوا: ولم يرد البخل ولكن إذا تعذر عليه أن يعمّ فلا يخصّ.
وقال آخر: قول «لا» يدفع البلاء وقوله «نعم» يزيل النّعم.
دعبل كنّا يوما عند سهل بن هارون وأطلنا الحديث حتى أضرّ به الجوع، فدعا بغدائه، فإذا بصحفة فيها مرق ولحم ديك، قد هرم، لا تحزّ فيه سكين ولا يؤثر فيه ضرس، فأخذ قطعة من خبز فقلع بها جميع المرق، وفقد الرأس فبقي مطرقا ساعة ثم رفع رأسه إلى الغلام وقال: أين الرأس؟ قال: رميت به. قال: ولم؟ قال: لم أظنك تأكله، قال: ولم ظننت ذلك؟ فو الله إنّي لأمقت من يرمي برجله فضلا عن رأسه، والرأس رئيس الأعضاء وفيه الحواس الخمس، ومنه يصيح الديك، وفيه عيناه اللتان يضرب بهما المثل في الصفاء، فيقال: شراب مثل عين الديك، ودماغه عجيب لوجع الكلية، فإن كان بلغ من جهلك أنني لا آكله، فإنّ عندنا من يأكله، انظر أين هو؟ قال: والله لا أدري أين رميت به، قال: لكني والله أدري، رميت به في بطنك.
ولسهل هذا رسالة مدح فيها البخل وفضّله على السخاء، ليرى في ذلك بلاغته، وأهداها إلى الحسن بن سهل في وزارته للمأمون فوقع عليها: لقد مدحت ما ذمّه الله، وحسنت ما قبّح، وما يقوم صلاح لفظك بفساد معناك، وقد جعلنا ثوابك عليها قبول ما فضلت فيها، ونتأدّب فيها بأدبك. ولم يعطه شيئا.
وقيل: إنّ الذي أهدي إليه كتاب ألّفه، مدح فيه البخل، وذمّ الجود فوقّع عليه بما تقدم، قال دعبل: [البسيط]
صدّق أليته إن قال مجتهدا ... لا والرغيف فذاك البرّ من قسمه
فإن هممت به فافتك بخبزته ... فإن موقعها من لحمه ودمه
قد كان يعجبني لو أن غيرته ... على جرادقه كانت على حرمه
أبو نواس في البؤبؤ الزنديق: [السريع]
لقيت في آل زياد فتى ... يلقّب البؤبؤ حلو ظريف
ينزل للضيف بنيّاته ... صيانة منه لعرض الرغيف
وإن في النّيك لمستمتعا ... عند اعتياض الخبز للمستضيف
آخر: [مجزوء الكامل](3/322)
لقيت في آل زياد فتى ... يلقّب البؤبؤ حلو ظريف
ينزل للضيف بنيّاته ... صيانة منه لعرض الرغيف
وإن في النّيك لمستمتعا ... عند اعتياض الخبز للمستضيف
آخر: [مجزوء الكامل]
أمات الرغيف لدى الخوا ... ن فمن حمامات الحرم
ما إن يحسّ ولا يمسّ ... ولا يذاق ولا يشمّ
فتراه أخضر يابسا ... بالي النّقوش من الهرم
آخر: [الوافر]
أبو نوح دخلت عليه يوما ... فغدّاني برائحة الطّعام
وقدم بيننا لحما سمينا ... أكلناه على طبق الكلام
فلما أن رفعت يدي سقاني ... كؤوسا خمرها ريح المدام
فكان كمن سقى الظمآن آلا ... وكنت كمن تغذّى في المنام
وقال في أبي نوح أيضا: [مجزوء الرمل]
لأبي نوح رغيف ... أبدا في حجر دايه
فهي تحميه مدى الده ... ر بكمّ ووقايه
وله كاتب صدق ... خطّ فيه بعنايه
فسيكفيكهم الله ... إلى آخر الآيه
آخر: [مجزوء الكامل]
استبق ودّ أبي المقا ... تل حين تأكل من طعامه
سيّان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عظامه
فارفق بكسر رغيفه ... إن كنت ترغب في كلامه
وتراه من خوف النّزو ... ل به يروّع في منامه
آخر: [الطويل]
خان عهدي عمرو وما خنت عهده ... وجفاني وما تغيّرت بعده
ليس لي مذ حييت ذنب إليه ... غير أنّي يوما تغدّيت عنده
آخر: [المتقارب]
أبو جعفر رجل عالم ... بما يصلح المعدة الفاسده
تخوّف تخمة أضيافه ... فعوّدهم أكلة واحده
أبو نواس: [الوافر](3/323)
أبو جعفر رجل عالم ... بما يصلح المعدة الفاسده
تخوّف تخمة أضيافه ... فعوّدهم أكلة واحده
أبو نواس: [الوافر]
فتى لرغيفه قرط وشنف ... ولؤلؤتان من خرز وشذر
ودون رغيفه قلع الثّنايا ... وحرب مثل وقعة يوم بدر
وإن كسر الرّغيف بكى عليه ... بكا الخنساء إذ فجعت بصخر
آخر: [الوافر]
رغيف أبى عليّ حلّ خوفا ... من الأضياف منزلة السّماك
إذا كسروا رغيف أبي عليّ ... بكى يبكي بكاء فهو باك
آخر: [الخفيف]
إنّ هذا الفتى يصون رغيفا ... ما إليه لناظر من سبيل
هو في قفتين من أدم الطا ... ئف في سلّتين في منديل
في جراب في جوف تابوت موسى ... والمفاتيح عند ميكائيل
ابن بسام: [المتقارب]
أتانا بخبز له يابس ... كمثل الدّراهم في خلقته
إذا ما تنفّست عند الخوان ... تطاير في البيت من خفّته
وقال عباس الخياط: [السريع]
رغيفه النّجم لمن رامه ... يرى ولا يطمع في لمسه
كأنه في جوف مرآته ... يبد ولا يطمع في جسّه
وفلسه الأمس الذي قد مضى ... بل أمسه أوجد من فلسه
آخر: [الوافر]
رغيف في الحجال عليه قفل ... وخزّان وأبواب منيعه
رأى في بيته يوما رغيفا ... فقال لضيفه هذا وديعه
اعتلّ أبو هفّان في منزل ابن أبي طاهر فأبطؤوا عليه بالغداء فقال: [مجزوء الرمل]
أنا في منزل خلّ ... مشفق بي ورفيقي
رجل أعمر من منز ... له ظهر الطريق
ليس لي أكل سوى لحم ... مي وشرب غير ريقي
ولجحظة يهجو رجلا: [الكامل]
لا تعذلوني إن هجرت طعامه ... خوفا على نفسي من المأكول
فمتى أكلت قتلته من بخله ... ومتى قتلت قتلت بالمقتول
وله أيضا يذم بخيلا: [المتقارب](3/324)
لا تعذلوني إن هجرت طعامه ... خوفا على نفسي من المأكول
فمتى أكلت قتلته من بخله ... ومتى قتلت قتلت بالمقتول
وله أيضا يذم بخيلا: [المتقارب]
تبرّم إذ جئته للسّلام ... وأبدى لي الكره لمّا دخلت
فقلت له: لا يرعك الدّخول ... فو الله ما جئت إلا أكلت
أين هذا من قول إبراهيم بن العباس الصوليّ: [الطويل]
لنا إبل كوم يضيق بها الفضا ... وتفترّ عنها أرضها وسماؤها
فمن دونها أن تستباح دماؤنا ... ومن دوننا أن تستذمّ دماؤها
حمّى وقرى فالموت دون مرامها ... وأهون خطب في الحقوق بناؤها
وقوله: [الخفيف]
لا تلومي فإنّ همّك أن تث ... ري وهمّي مكارم الأخلاق
كيف يستطيع حفظ ما جمعت كفّا ... هـ من ذاق لذة الإنفاق
وقوله: [الكامل]
تلج الضّيوف بيوتهم وترى لها ... عن جار بيتهم ازورار مناكب
وتراهم بسيوفهم وشفارهم ... مستشرفين لراغب أو راهب
حامين أو قارين حيث لقيتهم ... نهب العفاة ونهزة للرّاغب
وجلس هارون بن محمد بن الزيات في مجلس عبد الله بن سليمان، فجعل هارون ينشد من شعر أبيه محاسنه، فقال له ابن برد الخباز: إن كان لأبيك مثل قول إبراهيم:
[الرمل]
أسد ضار إذا ما هجته ... وأب برّ إذا ما قدرا
يعرف الأبعد إن أثرى ولا ... يعرف الأدنى إذا ما افتقرا
أو مثل قوله: «تلج الضيوف» البيتين فاذكره وفاخر به، وإلا فأقلل من الفخار والتطاول بما لا طائل فيه، فخجل هارون. وإبراهيم هذا أشعر الكتّاب بلا خلاف.
[مما قيل في القدور]
وذكر الحريريّ القدور، وممن وصفها فأحسن الفرزدق حين قال: [الطويل]
وقد علم الجيران أنّ قدورنا ... ضوامن للأرزاق والريح زفزف (1)
تفرّغ في شيزي كأنّ جفانهم ... حياض الملا منها ملاء ونصّف
__________
(1) الأبيات في ديوان الفرزدق ص 560.(3/325)
ترى حولهنّ المعتفين كأنّهم ... على صنم في الجاهليّة عكّف
وقال أمية بن أبي الصّلت: [مجزوء الكامل]
وكأنها بفنائه ... للضيف مترعة زواخر (1)
وكأنّهنّ بما شحنّ ... وما حمين به ضرائر
زبد وقرقرة كقر ... قرة الفحول إذا تخاطر
وقال النابغة في مثله: [الطويل]
له بفناء البيت سوداء فحمة ... تلقّم أعضاء الجزور العراعر (2)
بقية قدر من قدور تورّثت ... لآل جلاح كابرا بعد كابر
يظلّ الإماء يبتدرن قديحها ... كما ابتدرت سعد مياه قراقر
قديحها: مرقها لأنه يقدح، أي يؤخذ بالمقدحة، وهي المغرفة وقال آخر:
[الطويل]
وسوداء لا تكسي الرقاع نبيلة ... لها عند قرّات العشيات أزمل
إذا ما قريناه قراها تضمّنت ... قرى من عرانا أو تزيد فتفضل
وقال مسكين الدارمي: [الوافر]
كأنّ قدور قومي كلّ يوم ... قباب التّرك ملبسة الجلال
بأيديهم مغارف من حديد ... أشبّهها مقيّرة الدّوالي
الدالية: الخطّارة.
وفي ضدّ ذلك لأبي نواس: [الطويل]
رأيت قدور النّاس تبلى على الصّلى ... وقدر الرّقاشيّين بيضاء كالبدر
يضيق بحيزوم البعوضة صدرها ... ويخرج ما فيها على طرف الظّفر
__________
(1) يروى صدر البيت الأول:
فقدوره بفنائه
وهو في ديوان أمية بن أبي الصلت ص 31، ولسان العرب (زخر)، وتاج العروس (زخر).
(2) يروى صدر البيت الأول:
له بفناء البيت جوفاء جونة
والأبيات في ديوان النابغة الذبياني ص 175، والبيت الأول في مقاييس اللغة 4/ 37، وكتاب الجيم 2/ 303، والبيت الثاني في لسان العرب (قدح)، (طبق)، وتاج العروس (قدح). والبيت الثالث في التنبيه والإيضاح 1/ 262، وتهذيب اللغة 4/ 32، وأساس البلاغة (قدح)، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 5/ 68.(3/326)
إذا ما تنادوا للرّحيل سعى بها ... أمامهم الحوليّ من ولد الذّرّ
وقال الفرزدق: [البسيط]
لو أن قدرا بكت من طول ما جهشت ... على الجفوف بكت قدر ابن عمّار
ما مسّها دسم مذ فضّ معدنها ... ولا رأت بعد نار القين من نار
وتسمّى النار فاكهة الشتاء لما يجتنى من تسخينها:
وقد أحسن ابن قتادة في وصفها حيث قال: [الكامل]
هات الّتي للأيك أصل ولادها ... ولها جبين الشّمس في الأشماس
يتقشّع الياقوت من لبّاتها ... بوساوس تشفي من الوسواس
أنس الوحيد وصبح عين المجتلي ... ولباس من أمسى بغير لباس
حمراء ترفل في السواد كأنها ... ضربت بعرق من بني العبّاس
وقال آخر: [الخفيف]
لابنة الزّند في الكوانين جمر ... كالدّاراري في اللّيلة الظّلماء
خبّروني عنها ولا تكذبوني ... ألديها صناعة الكيمياء
سبكت فحمها سبائك تبر ... رصّعتها بالفضة البيضاء
كلّما ولول النّسيم عليها ... رقصت في غلالة حمراء
سفرت عن جبينها فأرتنا ... حاجب الشمس طالعا في العشاء
لو ترانا من حولها قلت شرب ... يتعاطون أكؤوس الصّهباء
وقال الفقيه الأديب ابن لبّال رحمه الله: [السريع]
فحم ذكت في حشاه نار ... فقلت مسك وجلّنار
أو خدّ من قد هويت لمّا ... أظلّ من فوقه العذار
وقال البحتريّ يصف كانونا: [المتقارب]
وذي أربع لا يطيق النهو ... ض ولا يألف السّير فيمن سرى (1)
تحمله سبجا أسودا ... فيقلبه ذهبا أحمرا
* * *
قوله: قلّبوا في قالبي، أي هم أمثالي لأن قالب الشيء كلّ ما يجعل فيه ليجيء مثله وقلّبوا: جعلوا في القالب. يمرحون: ينشطون ويطربون. ذوي الفتاء: أهل الفتوّة.
والفتاء: الحداثة والشباب، يقال منه: فتؤ يفتأ فتاء، ويقال أيضا: بكر فتيّ بيّن الفتاء،
__________
(1) البيتان في ملحق ديوان البحتري ص 2567.(3/327)
وفتيّ من الناس: بين الفتوة، والفتى والفتية: الشاب والشابة. الاصطلاء: التسخن بالنار، الثّمل: السكران، والطّلاء: الخمر، وأصل الطّلاء الرّبّ الثّخين الأسود، فسميت الخمر الصافية طلاء بضد صفتها، كما سمّي اللديغ سليما، والأسود أبا البيضاء، والذئب أبا جعدة، وجعدة اسم الشاة.
* * * ولما أن سرى الحصر، وانسرى الخصر، أتينا بموائد كالهالات دورا، والروضات نورا، وقد شحنّ بأطعمة الولائم، وحمين من العائب واللائم، فرفضنا ما قيل في البطنة، ورأينا الإمعان فيها من الفطنة، حتّى إذا اكتلنا بصاع الحطم، وأشفينا على خطر التّخم، تعاورنا مشوش الغمر، ثم تبوأنا مقاعد السّمر، وأخذ كلّ واحد منّا يشول بلسانه، وينشر ما في صوانه، ما عدا شيخا مشتبها فوداه مخلولقا برداه فإنّه ربض حجرة، وأوسعنا هجرة، فغاظنا تجنّبه، الملتبس موجبه، المعذور فيه مؤنّبه، إلا أنا ألنا له القول، وخشينا في المسألة العول، وكلما رمنا أن يفيض كما فضنا، أو يفيض فيما أفضنا أعرض إعراض العلية الأرذلين، وتلا {إِنْ هََذََا إِلََّا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 31]. ثم كأن الحمية هاجته، والنّفس الأبية ناجته، فدلف، وازدلف، وخلع الصّلف، وبدل أن يتلافى ما سلف، ثمّ استرعى سمع السّامر. واندفع كالسيل الهامر وقال:
* * * سرى الحصر، أي زال السكوت، والحصر: انقطاع الكلام، وهو العيّ، وحصر يحصر: عيّ، والحصر أيضا: ضيق الصدر. انسرى الخصر: ذهب البرد، والخصر:
البارد، وخصر الرجل: إذا آذاه البرد وآلمه في أطرافه. والروضات نورا، أي هي فاعمة بكثرة الطعام وأنواع الألوان. شحنّ: ملئن. الولائم: الأعراس. حمين: منعن. العائب:
الذي يعيب الطعام. واللائم: الذي يقف على رؤوس أضيافه، فيقول: ما أكلتم، استعملوا، زد يا فلان، فيخجل أضيافه لذلك، فلا يتمكّنون من الطعام. رفضنا: تركنا.
[البطنة]
البطنة: الامتلاء من الطعام، والذي قيل في البطنة: البطنة تذهب الفطنة، فقال تركنا هذا المعنى وخالفناه، ورأينا أنّ البطنة وهي امتلاء البطن من الطعام والإمعان فيه، أي المبالغة في الأكل يقوي الفطنة، ويولدها لا أنّه يذهبها، والفطنة: الذكاء وحدّة الذهن.
معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أحل الله حلالا أبغض إليه من بطن ملىء طعاما، فقصّروا من الطعام تملؤوا من الحكمة».
المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما ملأ آدمي وعاء شرا من
بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه».(3/328)
المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما ملأ آدمي وعاء شرا من
بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه».
عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أيها الناس، إياكم والبطنة فإنها مكسلة عن الصلاة، مفسدة للجسد، مورثة للسقم.
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إياكم والبطنة فإنها مفسدة للقلب.
الأصمعيّ قال أعرابيّ: إذا كنت بطينا فعد نفسك زمنا.
وقال الحارث بن كلدة: أربعة أشياء يهرمن البدن: الغشيان على البطنة، ودخول الحمّام على الامتلاء، وأكل القديد، ومجامعة العجوز.
وقال الأصمعي: كنت عند هارون الرشيد فقدّمت إليه فالوذجة فقال: يا أصمعي، حدثني بحديث مزرد أخي الشماخ، قلت: إنّ مزرّدا كان رجلا جسيما، وكانت أمه تؤثر عيالها بالزاد، وكان يحفظه ذلك منها، فذهبت يوما في بعض حقوق أهلها، وخلّفته في بيتها فدخل خيمتها فأخذ صاعين من دقيق، وصاعا من عجوة، وصاعا من سمن، فضرب بعضه ببعض وأكله ثم أنشأ يقول: [الطويل]
ولمّا مضت أمي تزور عيالها ... أغرت على العكّ الذي كان يمنع
خلطت بصاعي حنطة صاع عجوة ... إلى صاع سمن فوقها يتربّع
ودلّيت أمثال الأثافي كأنّها ... رؤوس لعاد قطّعت لا تجمّع
وقلت لبطني أبشر اليوم إنّه ... حمّى آمن مما يغير ويفزع
فإن مصفورا فهذا داؤه ... وإن كنت غرثانا فذا اليوم تشبع
فاستضحك منه حتى أمسك بطنه، واستلقى على ظهره، ثم قدّم يده بمال، وقال:
خذ، فهذا يوم تشبع يا أصمعي:
قوله الحطم، أي الذي يحطم ويكسر، ورجل محطّم وحطمة، إذا كان قليل الرحمة للماشية، وفي المثل: شرّ الرّعاء الحطمة، وقال الزاجر: [الرجز]
قد لفّها الليل بسواق حطم (1)
فمعنى اكتلنا بصاع الحطم، أي أكلنا أكل أكول لا يشفق على نفسه من السقم،
__________
(1) الرجز لرشيد بن رميض العنزي في الأغاني 15/ 199، 200، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 355، وللأغلب العجلي في الحماسة الشجرية 1/ 144، وللحطم القيسي في شرح المفصل 1/ 62، والكتاب 3/ 223، وله أو لأبي زغيبة الأنصاري في شرح أبيات سيبويه 2/ 286، وللحطم القيسي أو لأبي زغبة، الخزرجي في لسان العرب (خفف) (سوق)، ولهما أو لرشيد بن رميض العنزي في لسان المعرب (حطم)، وبلا نسبة في أساس البلاغة (حطم)، ومقاييس اللغة 2/ 78، والمخصص 5/ 22.(3/329)
وأشفينا: أشرفنا. خطر: غرر التّخم: جمع تخمة بفتح الخاء، وهو أن يثقل الطعام على المعدة ويتغيّر. والعامة تسكّن الخاء، وقد يجيء ذلك في الشعر قال أعرابيّ: [مجزوء الوافر]
وإذا المعدة جاشت ... فارمها بالمنجنيق
بثلاث من نبيذ ... ليس بالحلو الرقيق
تهضم التّخمة هضما ... حين تجري في العروق
وتعاورنا الشيء: تداولناه، وأخذه بعضنا من بعض، وأزلناه من موضع إلى موضع، وعور العين: زوالها. والغمر: ريح اللحم وزهمه. تبوّأنا: أخذنا ونزلنا. السّمر:
الحديث يسمر عليه. يشول بلسانه، أي يضرب به في كلّ كلام، وشال: رفع. والصّوان:
وعاء يصان فيه الشيء. فواده: ناحيتا رأسه، والفود: ما بين طرف الجبهة والأذن.
مخلولقا: كثير البلى. برداه: ثوباه. ربض: جلس، وفي المثل: فلان يربض حجرة، ويرتقي وسطا، يضرب مثلا لمن يساعدك ما دمت في خير، فربض حجرة، أي جلس ناحية وبرك. أوسعنا: كثّر لنا. الهجرة: المباعدة والمقاطعة، يريد أنه اعتزلهم وجلس ناحية ولم يكلّمهم بكلمة. تجنّبه: تباعده، يقال: تجنّبتك وتجانبتك، أي تباعدت عنك، والجار الجنب: البعيد. وما زاره إلا عن جنابة، أي عن بعد. المتلبّس موجبه، أي الذي التبس علينا ما أوجبه. مؤنّبه: لائمه. العول: الزيادة. رمنا: طلبنا، يفيض كما فضنا:
يتكلّم كما تكلّمنا والفيض زيادة الماء، ويفيض فيما أفضنا، أي يأخذ معنا في النوع الذي أخذنا فيه. أعرض: لوى وجهه. العلية: الأشراف. الأرذلين: الأدنياء. أساطير: تآليف وكتب. الحميّة: عزة النفس. هاجته: حركته. الأبية: العزيزة. ناجته: حدّثته. دلف:
مشى إلينا، وازدلف: تقرّب. خلع: أزال. الصلف: مجاوزة قدر الظّرف حتى يفضي به ذلك إلى أن تأخذ به بابا ما فيخالفك ولا يعبأ بك. يتلاقى: يتدارك. سلف: مضى.
استرعى: دعاهم للاستماع يقال: أرعني سمعك أي اسمع مني، الهامر: الكثير الانصباب. [البسيط]
* * * عندي أعاجيب أرويها بلا كذب ... عن العيان فكنّوني أبا العجب
رأيت يا قوم أقواما غذاؤهم ... بول العجوز وما أعني ابنة العنب
بول العجوز: لبن البقرة، والعجوز أيضا من أسماء الخمر
ومسنتين من الأعراب قوتهم ... أن يشتووا خرقة تغني من السّغب
الخرقة: القطعة من الجراد
وقادرين متى ما ساء صنعهم ... أو قصّروا فيه قالوا الذّنب للحطب
القادر: الطّابخ في القدر، والقدير: المطبوخ فيها.(3/330)
وقادرين متى ما ساء صنعهم ... أو قصّروا فيه قالوا الذّنب للحطب
القادر: الطّابخ في القدر، والقدير: المطبوخ فيها.
وكاتبين وما خطّت أناملهم ... حرفا ولا قرؤوا ما خطّ في الكتب
الكاتبون الخرّازون يقال: كتب السقاء والمزادة إذا خرزهما وكتب البغلة أو الناقة، إذا جمع بين شفريها وخاطهما، قال الشاعر: [البسيط]
لا تأمننّ فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار
وتابعين عقابا في مسيرهم ... على تكمّيهم في البيض واليلب
العقاب: الراية. كانت راية النبي صلى الله عليه وسلم تسمّى العقاب (1).
* * * العيان، أي المشاهدة بالعين. مسنتين: أصابتهم السنّة، أي اشتدّ عليهم. يشتووا:
يتخذوا شواء. السّغب: الجوع. تكمّيهم: تستّرهم. البيض: ما يجعل في الرؤوس في الحرب.
ومنتدين ذوي نبل بدت لهم ... نبيلة فانثنوا منها إلى الهرب
النّبيلة: الجيفة، ومنه تنبّل الأمير إذا مات وأروح، يعني نتن.
وعصبة لم تر البيت العتيق وقد ... حجّت جثيا بلا شكّ على الرّكب
معنى حجّت جثيّا، أي غلبت بالحجة مجادلين جاثين على الرّكب، وجثيّ: جمع جاث.
ونسوة بعدما أدلجن من حلب ... صبّحن كاظمة من غير ما تعب
كاظمة في هذا الموضع من كظم الغيظ
ومدلجين سروا من أرض كاظمة ... فأصبحوا حين لاح الصّبح في حلب
في حلب، أي أصبحوا يحلبون اللبن
ويافعا لم يلامس قطّ غانية ... شاهدته وله نسل من العقب
النّسل هاهنا: العدوّ قال تعالى: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96].
والعقب: مؤخّر القدم.
* * * منتدين: مجتمعين. انثنوا: رجعوا. والنّبيلة: الحاذقة في فعلها. عصبة:
جماعة. أدلجن: سرن بالليل، ومثله سروا. لاح: ظهر، يافعا: شابا. يلامس:
__________
(1) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية 3/ 269. بلفظ: «أنه كان اسم رايته عليه السلام العقاب».(3/331)
يلاعب، ويمّسها بيده. غانية: امرأة جميلة غنيت بحسنها عن الزينة. صبحن كاظمة، أي سقين الصّبوح كاظمة غيظها. وصبحه. سقاه صبوحا، وكظم غيظه:
تجرعه، وهو قادر على الإيقاع بعدوّه ولم يمضه، وكظم خصمه: أجابه بالمسكت فأفحمه، وأصل الكظم للبعير، وهو أن يردّد جرته في حلقه ولا يجترها: وكاظمة:
موضع على سيف البحر، أي على ساحله على مرحلتين من البصرة، وفيه ركايا كثيرة، وماؤها شروب.
* * * وشائبا غير مخف للمشيب بدا ... في البدو وهو فتيّ السّنّ لم يشب
الشائب هاهنا: مازج اللبن، والمشيب: اللبن الممزوج، ويقال فيه مشيب ومشوب. [البسيط]
ومرضعا بلبان لم يفه فمه ... رأيته في شجار بيّن السّبب
الشّجار: المحفّة ما لم تكن مظلّلة فإن ظلّلت فهو الهودج. والسّبب هاهنا:
الحبل، ومنه قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمََاءِ} [الحج: 15] [البسيط]
وزارعا ذرة حتّى إذا حصدت ... صارت غبيراء يهواها أخو الطّرب
الغبيراء: المسكر المتّخذ من الذّرة ويسمى أيضا السّكركه، وفي الحديث: «إياكم والغبيراء فإنّها خمر العالم» (1).
وراكبا وهو مغلول على فرس ... قد غلّ أيضا وما ينفك عن خبب
المغلول هاهنا العطشان، وغلّ، أي عطش. [البسيط]
وذا يد طلق يقتاد راحلة ... مستعجلا وهو مأسور أخو كرب
المأسور: الّذي يجد الأسر، وهو احتباس البول.
* * * اللّبان: لبن الآدميات. يفه: ينطق، يهواها: يحبّها. أخو الطّرب: صاحبه المولع به. ينفك: يزول. خبب: نوع من السير. طلق. سارح. كرب: همّ.
* * * وجالسا ماشيا تهوي مطيّته ... به وما في الّذي أوردت من ريب
الجالس: الآتي نجدا، والماشي: الذي كثرت ماشيته، وعليه فسّر بعضهم قوله تعالى: {أَنِ امْشُوا} [ص: 6] كأنه دعاء عليهم بكثرة الماشية والنماء والبركة.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 3/ 422.(3/332)
وحائكا أجدم الكفّين ذا خرس ... فإن عجبتم فكم في الخلق من عجب
الحائك هاهنا: الذي إذا مشى حرّك منكبيه وفجج بين ركبتيه.
وذا شطاط كصدر الرّمح قامته ... صادفته بمنى يشكو من الحدب
الحدب: ما ارتفع من الأرض
ساعيا في مسرّات الأنام يرى ... إفراحهم كالظّلم والكذب
إفراحهم: إثقالهم بالدّين، ومنه قوله عليه السلام: «لا يترك في الإسلام مفرج» (1)
أي مثقل من الدّين أو يقضى عنه دينه
ومغرما بمناجاة الرّجال له ... وما له في حديث الخلق من أرب
الخلق هاهنا: الكذب، ومنه قوله تعالى: {إِنْ هََذََا إِلََّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ}
[الشعراء: 137]
وذا زمام وفت بالعهد ذمّته ... ولا ذمام له في مذهب العرب
الذمام الثاني: جمع ذمّة، وهي البئر القليلة الماء. وعنى بالمذهب المسلك، أي ما له آبار قليلة الماء في البدو.
* * * تهوي: تسقط وتسرع. ريب: شكوك. أجذم: مقطوع. خرس: بكم. شطط:
طول. مغرما: شديد الحب. مناجاة: محادثة. أرب: حاجة.
وذا قوى ما استبانت قطّ لينته ... ولبنه مستبين غير محتجب
اللّين: نخيل الدّفل، ومنه قوله تعالى: {مََا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5].
وساجدا فوق فحل غير مكترث ... بما أتى بل يراه أفضل القرب
الفحل: الحصير المتّخذ من فحال النخل.
وعاذرا من ظلّ يعذره ... مع التلطّف والمعذور في صخب
العاذر: الخائن. والمعذور: المختون.
وبلدة ما بها ماء لمغترف ... والماء يجري عليها جري منسرب
البلدة: الفرجة بين الحاجبين، وتسمّى أيضا البلجة
وقرية دون أفحوص القطا شحنت ... بديلم عيشهم من خلسة السّلب
__________
(1) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية 3/ 423بلفظ: «العقل على المسلمين عامة فلا يترك في الإسلام مفرج».(3/333)
القرية: بيت النمل. والديلم النمل الكثير. وخلسة السّلب: لحاء الشّجر.
وكوكبا يتوارى عند رؤيته ال ... إنسان حتى يرى في أمنع الحجب
الكوكب: النّكتة البيضاء التي تحدث في العين. والإنسان هاهنا: إنسان العين.
* * * مكترث: منكسر من الهمّ. القرب: جمع قربة، وهي ما يتقرّب به إلى الله تعالى من الأعمال البرّ. عاذر: قابل العذر. مؤلما: موجعا، التلطف: الرفق واللين. الصّخب:
الصياح، وتفسير ظاهر البيت أن تقول: رأيت عاذرا يوجع الذي يعتذر له مع تلطّف العاذر للمعتذر وتليينه القول له، والمعتذر في صياح من شدة ضررا لعاذرا له، فتتقابل هذه الأضداد، فإذا فسّرت بتفسير الحريريّ صحّ المعنى. ومنسرب: داخل في السّرب وهو الحفير في الأرض قرية: مدينة، وأفحوص القطا: مرقدها وهي تفحصه: برجليها توسّعه.
شحنت: ملئت. والدّيلم: أمة من العجم. خلسة: سرقة. والسّلب: المال المسلوب.
يتوارى: يتغطّى، وقال الحسن بن هانىء في صفة الكواكب الذي هو النكتة على إنسان العين: [الرمل]
أعور المقلة من غير عوج ... لو عداه عور العين انسمج
تحسب النكتة في ناظره ... درة بيضاء في فصّ سبج
* * * وروثة قوّمت مالا له خطر ... ونفس صاحبها بالمال لم تطب
الرّوثة: مقدّم الأنف
وصحفة من نضار خالص شريت ... بعد المكاس بقيراط من الذّهب
النّضار هاهنا: شجر النّبع، ومنه قول بعض التابعين: لا بأس أن يشرب في قدح النضار عنى به هذا.
ومستجيشا بخشخاش ليدفع ما ... أظلّه من أعاديه فلم يخب
الخشخاش: الجماعة عليهم دروع وأسلحة
وطالما مرّ بي كلب وفي فمه ... ثور، ولكنّه ثور بلا ذنب
الثّور: القطعة من الأقط، وهو نوع من الجبن.
وكم رأى ناظري فيلا على جمل ... وقد تورّك فوق الرّحل والقتب
الفيل: الرجل الفائل الرأي.
وكم لقيت بعرض البيد مشتكيا ... وما اشتكى قطّ في جدّ ولا تعب
المشتكي: المتخذ شكوة وهي القربة الصغيرة.(3/334)
وكم لقيت بعرض البيد مشتكيا ... وما اشتكى قطّ في جدّ ولا تعب
المشتكي: المتخذ شكوة وهي القربة الصغيرة.
* * * قوله: خطر، أي حظ كثير، والخطير: الرفيع القدر، نضار: ذهب أحمر.
المكاس: المماكسة بين المتبايعين، وهو أن يطلب صاحب السّلعة من المشتري سوما، فلا يزال المشتري يراجعه وينقص له ممّا طلب شيئا حتى يتفقا على ما يتراضيان عليه.
والمستجيش: الجامع للجيش. والخشخاش: بنت معروف، وقال ابن وكيع يصفه:
[الوافر]
وخشخاش كأنّا منه نفري ... قميص زبرجد عن جسم درّ
كأقداح من البلور صيغت ... وأغشية من الدّيباج خضر
أظلّه: قرب منه، وكأنه أغشاه ظلّه. القتب: خشب الرّحل، والرّحل برذعة البعير.
بعرض البيد: بجانب القفار. [البسيط]
وكنت أبصرت كرّازا لراعية ... بالدّوّ ينظر من عينين كالشّهب
الكرّاز: كبش يحمل عليه الرّاعي أداته.
وكم رأت مقلتي عينين ماؤهما ... يجري من الغرب والعينان في حلب
الغرب: مجرى الدمع، والعينان: المقلتان.
وصادعا بالقنا من غير أن علقت ... كفّاه يوما برمح لا ولم يثب
القنا: ارتفاع الأنف وتحدّب وسطه، وصدع به، أي كشفه.
وكم نزلت بأرض لا نخيل بها ... وبعد يوم رأيت البسر في القلب
البسر: جمع بسرة، وهو الماء الحديث العهد بالمطر، والقلب: جمع قليب وكم رأيت بأقطار الفلا طبقا ... يطير في الجوّ منصبّا إلى صبب
الطّبق: القطعة من الجراد.
وكم من مشايخ في الدّنيا رأيتهم ... مخلّدين، ومن ينجو من العطب
المخلد: الذي أبطأ شيبه.
وكم بدا لي وحش يشتكي سغبا ... بمنطق ذلق أمضى من القضب
الوحش: الرّجل الجائع.
وكم دعاني مستنج فحادثني ... وما أخلّ ولا أخللت بالأدب
المستنجي: الجالس على نجوة، وهر المكان المرتفع.
كرّاز: إناء. والدّوّ: الصحراء، والغرب: الدّلو العظيمة، في حلب: في سيلان
وجري. البسر: التمر الذي لم يطب. القليب البئر، والجمع القلب. أقطار الفلا: نواحي القفار. والصّبب: الانحدار. العطب: الهلاك. السّغب: الجوع. ذلق: حادّ. أمضى:(3/335)
كرّاز: إناء. والدّوّ: الصحراء، والغرب: الدّلو العظيمة، في حلب: في سيلان
وجري. البسر: التمر الذي لم يطب. القليب البئر، والجمع القلب. أقطار الفلا: نواحي القفار. والصّبب: الانحدار. العطب: الهلاك. السّغب: الجوع. ذلق: حادّ. أمضى:
أقطع. القضب: السيوف. أخلّ: نقص. المستنجي: الجالس لقضاء حاجة الإنسان.
* * * وكم أنخت قلوصي تحت جنبذة ... تظلّ ما شئت من عجم ومن عرب
الجنبذة: القبة، والعرب: جمع عروب وهي المتحبّبة إلى زوجها، من قوله تعالى: {عُرُباً أَتْرََاباً} [الواقعة: 37].
وكم نظرت إلى من سرّ ساعته ... ودمعه مستهلّ القطر كالسّحب
سرّ، أي قطع سرره، ويسمى ما يبقى بعد القطع السّرة
وكم رأيت قميصا ضرّ صاحبه ... حتّى انثنى واهي الأعضاء والعصب
القميص: الدّابة الكثيرة القماص، وهو الوثوب والقفز.
وكم إزار لو أنّ الدّهر أتلفه ... لجفّ لبد حثيث السّير مضطرب
الإزار: المرأة، ومنه قول الشاعر: [الوافر]
* فدى لك من أخي ثقة إزاري (1) *
[البسيط]
هذا وكم من أفانين معجبة ... عندي ومن ملح تلهي ومن نخب
فإن فطنتم للحن القول بان لكم ... صدقي ودلّكم طلعي على رطبي
وإن شدهتم فإن العار فيه على ... من لا يميّز بين العود والخشب
* * * أنخت: أبركت. قلوصي: ناقتي الفتية. تظلّ: تستر، سرّ: أدخل عليه السرور، وقد بيّن هو أنه المقطوع السرة، وقال في الدّرة فيما يكنى في المعاريض. المقلول: الذي ضربت قلّته، أي أعلاه، والمركوب: الذي ضربت ركبته، والمذكور: الذي قطع ذكره، والمسرور: الذي قطعت سرّته، قال: ومن الأحاجي بأبيات المعاني:
__________
(1) صدره:
ألا أبلغ أبا حفص رسولا
والبيت لبقيلة الأشجعي (أبي المنهال)، في لسان العرب (أزر)، والمؤتلف والمختلف ص 63، وعجزه لجعده بن عبد الله السلمي في لسان العرب (أزر)، والبيت بلا نسبة في شرح اختيارات المفضل ص 250.(3/336)
نسرّهم وإن هم أقبلوا ... وإن أدبروا فهم من سبب
أي نطعنهم إذا أقبلوا في السّرة، وإذا أدبروا في السّبة وهو الإست، وأنشد أيضا:
[الطويل]
ذكرت أبا عمرو فمات مكانه ... فوا عجبا هل يهلك المرء من ذكر
وزرت عليّا بعده فرأيته ... ففارق دنياه ومات على صبر
ذكرته: قطعت ذكره، ورأيته: قطعت رئته. مستهل: سائل. القطر: مصدر قطر.
إذا سقط، ولا يقال استهلّ حتى يكون مع انصبابه صوت. واهي: ضعيف. العصب:
حبال الجسد. الإزار، وهو المئزر الذي يجعل عوضا من السراويل، حثيث: مسرع أراد به ذكر الإنسان في حال نكاحه المرأة إنه مضطرب سريع السير والدفع فيقول: إن المرأة التي كانت تبلّ الذّكر عند الجماع لو هلكت لبقي جافا وأراد باللّبد موضع اللبد وهو الظهر، الفنجديهي يقول: كم من امرأة لو ماتت لترك زوجها كثرة الحركة في طلب المعاش مرضاة لها، وجفوف العرق قد يكون من السكون، والتفسير الأوّل أبين، وهذا الثاني يحتمل إما وصفه بالسرعة والاضطراب، وهو صفة فرس جعل له لبدا فألغز بذلك، وقال أعرابي ماتت امرأته: [الوافر]
وكنت فريستي وغلاف بضعي ... فأمسى البضع ليس له غلاف
ومن اللغز فيه قول الآخر: [البسيط]
وصاحب معجب في طول صحبته ... ولا ينفع الدّهر إلّا وهو محموم
تأتيك في نافض الحميّ منافعه ... وإن أفاق يرى في وجهه اللّوم
وقال الأقيشر: وكان عنّينا، فغالط في شعره بالضدّ: [الكامل]
ولقد عدوت بمشرف يافوخه ... عسر المكرّة ماؤه يتدفّق
أرنّ يسيل من النشاط لعابه ... ويكاد جلد إهابه يتمزّق
حتى علوت به مشق ثنية ... طورا يفور بها وطورا يغرق
قوله: أفانين، أي ضروب وأنواع، والأفانين: الأساليب وهي أجناس الكلام وطرقه، والأزهريّ: أفانين: جمع أفنان: جمع فنن، وهو الغصن والخصلة من الشّعر، وقيل: الأفنون الفنّ، وهو ضرب من الشجر، والحبال، والجمع أفانين. ملح: ما يتكلم به من حلو الكلام وألغازه. تلهي: تشغل نخب: مختارة. لحن القول: معناه ومذهبه، واللحن التّورية، وهي أن تظهر خلاف ما تضمر. الطّلع: أوّل ما يخرج من الثمر، والرّطب: الطّيب منه. شدهتم: تحيرتم.
* * *
قال الحارث بن همام: فطفقنا نخبط في تقليب قريضه، وتأويل معاريضه وهو يلهو بنا لهو الخليّ بالشّجي، ويقول: ليس بعشّك فادرجي، إلى أن تعسّر النّتاج، واستحكم الارتتاج فألقينا إليه المقادة، وخطبنا منه الإفادة فوقفنا بين المطمع واليأس، وقال:(3/337)
* * *
قال الحارث بن همام: فطفقنا نخبط في تقليب قريضه، وتأويل معاريضه وهو يلهو بنا لهو الخليّ بالشّجي، ويقول: ليس بعشّك فادرجي، إلى أن تعسّر النّتاج، واستحكم الارتتاج فألقينا إليه المقادة، وخطبنا منه الإفادة فوقفنا بين المطمع واليأس، وقال:
الإيناس قبل الإبساس فعلمنا أنّه ممن يرغب في الشّكم، ويرتشي في الحكم، وساء أبا مثوانا أن نعرّض للغرم، أو نخيّب بالرّغم فأحضر صاحب المنزل ناقة عيديّة، وحلّة سعيديّة، وقال له: خذهما حلالا ولا ترزأ أضيافي زبالا، فقال: أشهد أنّها شنشنة أخزميّة. وأريحية حاتميّة.
* * * طفقنا: أخذنا نخبط: نتكلم بالزائد والناقص. تأويل: تفسير. معاريضه: ما عرض به ولم يتمّه. الخليّ: الذي لا هم له، والشجي: الحزين وياء الخليّ مشددة وياء الشجيّ مخففة. وقد شدّدت ياء الشّجي في الشعر إتباعا لياء الخلي، وقالوا: إني لآتيه بالغدايا والعشايا، فحملوا الغدايا على العشايا، وحكى ثعلب في غير الفصيح عن الأصمعي تثقيل الياء فيهما، ومن جعل شجي فعل كحذر خفف، ومن جعله فعيل مثل غنّى شدّد، وفعل بغير ياء أقيس، والتشديد في المثل أحسن للازدواج. تعسّر: صعب. النّتاج: ما ينتج لهم من المعاني. استحكم: توثّق الارتتاج: الانغلاق، وأرتج على القارىء وارتجج، إذا لم يقدر على القراءة كأنه أطبق عليه. ويرتشي: يأخذ الرّشوة، وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله الراشي والمرتشي والرائش»، فقيل: وما الرائش؟ قال: الذي يمشي بينهما.
ألقينا إليه المقادة: أي انقدنا له، ورزأت الرّجل أرزؤه إذا أصبت منه خيرا، وزرأته ماله: نقصته والزّبال بالكسر: ما تحمله النّملة بفيها، والأريحية: الاهتزاز للجود.
ساء حزن. والرّغم: الذلة والهوان. شنشنة: طبيعة حاتمية منسوبة إلى حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج أحد بني ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيىء.
[حاتم الطائي]
يكنى أبا سفّانة وأبا عديّ. فارس شاعر جاهليّ، أحد الأجواد الذين يضرب بهم المثل، بل هو أشهر منهم، وهم: كعب بن مامة، وهرم بن سنان، وحاتم، وكان إذا قاتل غلب، وإذا غنم نهب، وإذا سئل وهب، وإذا قامر سبق، وإذا أسر أطلق، وإذا أثرى أنفق. ويقال: أنه لا يعرف ميّت قرى أضيافه إلّا هو، وذلك أن ركبا من العرب نزلوا بموضع قبره، وقد نفد زادهم، وفيهم رجل يكنى أبا خيبريّ، فجعل يقول: أبا سفّانة، أما تقري أضيافك أبا سفّانة، إن أضيافك جياع، يعيدها، فلما نام ثار من نومه،. وهو يقول: واراحلتاه! عقرت والله ناقتي، فقال له أصحابه: وكيف؟ قال: رأيت أبا سفّانة قد انشق عنه قبره فاستوى قائما ينشدني: [المتقارب](3/338)
أبا خيبريّ لأنت امرؤ ... ظلوم العشيرة لوّامها
وماذا تريد إلى رمّة ... بدوية صخب هامها
تبغي أذاها وإسعارها ... ودونك طيّ وأنعامها
ثم عمد إلى سيفي، فانتضاه من غمده، وعقر ناقتي، وقال: دونكم فما أيقظني إلا رغاؤها وإذا بالناقة ترغو ما تنبعث، فقالوا: قد والله قراك حاتم فنحروها، وأكلوا وتزودوا واقتسموا متاع أبي خيبريّ، واستمرّوا لوجهتهم، فلمّا صاروا في الظهيرة وضح لهم: راكب يجنب بعيرا يؤمّ سمتهم، حتى التقوا فقال لهم: أفيكم أبو خيبريّ؟ قالوا نعم، فقال: فإن عديّ بن حاتم رأى أباه البارحة، وهو يقول: إنّ أبا خيبريّ وأصحابه استقروني، فقريتهم ناقته، فعوّضه منها، وزده بكرا يحمل عليه متاعه وهذه الناقة وهذا البكر، فارتحل أبو خيبريّ الناقة، وتخفّف هو وأصحابه من أزوادهم، على البكر، ومضوا بأتمّ قرى.
وأدرك عدي ابنه النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه، وكان يحدّث أصحابه بهذا الحديث بعد إسلامه وقال الشاعر في عديّ: [الطويل]
أبوك أبو سفّانة الخير لم يزل ... لدن شبّ حتى مات في الخير راغبا
قرى قبره الأضياف إذ نزلوا به ... ولم يقر قبر قبله الدّهر راكبا
وكانت سفّانة بنته من أجود نساء العرب، وكان أبوها يعطيها الصّرمة من إبله فتهبها وتعطيها الناس، فقال لها أبوها: يا بنيّة إن الغويّين إذا اجتمعا في المال أتلفاه، فإما أن أعطي وتمسكي، وإما أن أمسك وتعطي أنت فإنه لا يبقى على هذا شيء، فقالت: والله لا أمسك أبدا، قال: وأنا لا أمسك أبدا قالت: فلا نتجاور، فقاسمها ماله وتباينا.
وحكي أن أمّه كانت من أسخى النّاس، وأقراهم للضيف وكانت لا تحبس شيئا تملكه، وهي عتبة بنت عفيف بن عمرو بن عبد القيس، فلما رأى إخوتها إتلافها، حجروا عليها ومنعوها مالها حتى إذا ظنوا أنها قد وجدت ألم ذلك أعطوها صرمة من إبلها، فجاءتها امرأة من هوازن تسألها، فقالت: دونك الصّرمة، فخذيها، فو الله لقد عضّني من الجوع ما لا أمنع بعده سائلا أبدا، ثم أنشأت تقول: [الطويل]
لعمري لقدما عضّني الجوع عضّة ... فآليت ألّا أمنع الدّهر جائعا
فقولا لهذا اللائم: اليوم أعفني ... فإن أنت لم تفعل فعضّ الأصابعا
فإذا عسيتم أن تقولوا لأختكم ... سوى عذلكم أو عدل من كان مانعا
وهل ما ترون اليوم إلا طبيعة ... وكيف بتركي يا بن أمّ الطّبائعا
فقد اكتنفه الجود من أمه وأبيه.
وقالت امرأته النّوار: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض واغبّر أفق السماء، وضنّت
المراضع عن أولادها فما تبضّ بقطرة، فأيقنا بالهلاك، فو الله إني لفي ليله صبيرة (1) بعيدة الطرفين، إذ تضاغى صبيتنا جوعا: عبد الله وعديّ وسفانة، فقام إلى الصبيّين وقمت إلى الصبية، فو الله ما سكتوا إلّا بعد هدأة من الليل، وأقبل يعلّلني بالحديث، فعرفت ما يريد، فتناومت، فلما تغوّرت النجوم إذا شيء قد رفع كسر البيت، فقال: من هذا؟(3/339)
وقالت امرأته النّوار: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض واغبّر أفق السماء، وضنّت
المراضع عن أولادها فما تبضّ بقطرة، فأيقنا بالهلاك، فو الله إني لفي ليله صبيرة (1) بعيدة الطرفين، إذ تضاغى صبيتنا جوعا: عبد الله وعديّ وسفانة، فقام إلى الصبيّين وقمت إلى الصبية، فو الله ما سكتوا إلّا بعد هدأة من الليل، وأقبل يعلّلني بالحديث، فعرفت ما يريد، فتناومت، فلما تغوّرت النجوم إذا شيء قد رفع كسر البيت، فقال: من هذا؟
فقالت: جاريتك فلانة أتيتك من عند صبية يتعاوون من الجوع عواء الذئاب، فما وجدت معوّلا إلّا عليك أبا عديّ فقال: أعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم، فأقبلت تحمل اثنين، ويمشي إلى جانبها أربعة، كأنها نعامة حولها رئالها، فقام إلى فرسه فوجأ لبّتها بمدية، فخرّت، ثم كشط الجلد، ودفع المدية إلى المرأة وقال شأنك، فاجتمعنا على اللّحم نشوي ونأكل، ثم جعل يأتيهم بيتا بيتا، ويقول: هبوا أيّها القوم، عليكم بالنار، فاجتمعوا والتفّ في ثوبه ناحية ينظر إلينا، والله إن ذاق منها مزعة، وإنه لأحوج إليها منا، فأصبحنا وما على الأرض منها إلا عظم وحافر، فأنشأ يقول: [البسيط]
مهلا نوار أقلّي اللوم والعذلا ... ولا تقولي لشيء فات ما فعلا (2)
ولا تقولي لشيء كنت مهلكه ... مهلا وإن كنت معطي العنس والجملا
يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا
ولم يكن يمسك شيئا ما عدا فرسه وسلاحه، فإنه كان لا يجود به.
وذكر الحريري أن عقيلا تمثّل بقول حاتم: [الرجز]
* شنشنة أعرفها من أخزم (3) *
وكان عقيل بن علّفة المريّ غيورا فخورا وكانت الخلفاء تصاهره، فخطب إليه عبد الملك ابنته لبعض ولده، فقال: أمّا إن كان ولا بدّ، فجنّبني هجناء ولدك، وخرج يمتار ومعه ابنه وابنته الجرباء فنزلوا بالشأم بدير سعد فلما ارتحلوا قال عقيل: [الطويل]
قضت وطرا من دير سعد وربّما ... على عرض ناطحنه بالجماجم
ثم قال لابنه أجزيا عملّس، فقال: [الطويل]
فأصبحن بالموماة يحملن فتية ... نشاوى من الإدلاج ميل العمائم
__________
(1) ليلة صبيرة: أي ليلة شديدة البرد.
(2) الأبيات في ديوان حاتم الطائي ص 74.
(3) الرجز لأبي أخزم الطائي في لسان العرب (خزم)، (شنن)، ومجمل اللغة 2/ 183، ولعقيل بن علّفة في جمهرة اللغة ص 596، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 7/ 218، 11/ 281، وكتاب العين 6/ 220، والمخصص 6/ 194، وديوان الأدب 3/ 106.(3/340)
ثم قال لابنته الجرباء: أجيزي، فقالت: [الطويل]
كأنّ الكرى أسقاهم صرخديّة ... عقارا تمشّت في المطا والقوائم
فقال لها: وما يدريك ما نعت الخمر؟ ثم سل السيف، فاستغاثت بأخيها فاختبل فخذيه بسهم، فبرك ومضوا وتركوه حتى بلغوا المياه الدانية إليهم، فقالوا لأهل المياه: إنّا أسقطنا جزورا، فأدركوها فوجدوا عقيلا باركا، وهو يقول الأبيات: [الرجز]
* إنّ بنيّ ضرجوني بالدم (1) *
* * * ثمّ قابلنا بوجه بشره يشفّ، ونضرته ترفّ وقال: يا قوم إنّ اللّيل قد اجلوّذ، والنّعاس قد استحوذ، فافزعوا إلى المراقد، واغتنموا راحة الّرّاقد، لتشربوا نشاطا، وتبعثوا نشاطا، فتعوا ما أفسّر، وبتسهّل لكم المتعسر، فاستصوب كلّ ما رآه، وتوسّد وسادة كراه. فلما وسنت الأجفان وأغفت الضّيفان، وثب إلى النّاقة فرحلها ثمّ ارتحلها، وقال مخاطبا لها: [الرجز]
سروج يا ناق سيري وخدي ... وأدلجي وأوّبي وأسئدي
حتّى تطا خفّاك مرعاها النّدي ... فتنعمي حينئذ وتسعدي
وتأمني أن تتهمي وتنجدي ... إيه فدتك النّوق جدّي واجهدي
وافري أديم فدفد ففدفد ... واقتنعي بالنّشج عند المورد
ولا تحطّي دون ذاك المقصد ... فقد حلفت حلفة المجتهد
بحرمة البيت الرّفيع العمد ... إنّك إن أحللتني في بلدي
* حللت منّي بمحلّ الولد *
* * * قوله: بشره، أي طلاقته. يشفّ: يتلألأ ويرقّ حتى يكاد يصف ما وراءه من السّرور. نضرته: نعمته ورونقه. ترفّ: تندى. استحوذ: غلب واستولى، افزعوا:
الجؤوا، لتشربوا نشاطا، أي يتمشى النشاط في أجسادكم حتى ترووا به، تبعثوا: تنتبهوا.
نشاطا: جمع نشيط ككريم وكرام، ونشط ينشط فهو نشيط، إذا كان طيّب النفس للعمل.
تعوا: تحفظوا. المتعسّر: الصعب. كراه: نومه. سنت: خالطها الوسن، وهو النوم.
أغفت: نامت.
قوله: خدي، أي أسرعي. تتهمي وتنجدي: تقصدي تهامة ونجدا. إيه، معناه
__________
(1) راجع تخريج الرجز قبل قليل.(3/341)
زيدي في سيرك، اجهدي: اتعبي. افري: أقطعي، أديم: جلد فدفد: أرض صلبة. وقيل مستوية، وقيل فلاة، وأراد بالأديم وجه الأرض. ونشح ينشح نشحا: شرب قليلا قليلا.
تحطّي: تنزلي، العمد، والعمود: ما يقوم عليه الخباء.
وقوله يخاطب ناقته: [الرجز]
إنك إن أحللتني في بلدي ... حللت منّي بمحلّ الولد
قد جاء في كلامهم نظيره وضدّه، وكلاهما في بابه حسن، قال الشماخ في ضدّه من مجازاة الناقة على إحسانها بالسوء: [الوافر]
إذ بلّغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين (1)
وناقضه الآخر فقال: [الوافر]
أقول لناقتي إذ بلغتني ... لقد أصبحت مني باليمين
فلم أجعلك للقربان طعما ... ولا قلت اشرقي بدم الوتين
وتبعه ذو الرّمة فقال: [الطويل]
أقول لها إذ شمّر الليل واستوت ... بها البيد واستنّت عليها الحزاور (2)
إذا ابن أبي موسى بلالا بلغته ... فقام بفأس بين رجليك جازر
وتوجيه الحسن في هذا المذهب على شنعة ظاهرة أنّه لا يبالي بفقدها، لأن الممدوح يحمله، ويعطيه فهو في غنى عنها، ومن يعيب هذا يقول مجازاة الحسن بالسوء قبيح، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي قالت وقد نجت على ناقته: نذرت إن نجّاني الله عليها أن أنحرها: «بئس ما جازيتها، ولا نذر لك في مال غيرك» (3) والمذهب الأحمد في ذلك قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه حين خرج في جيش مؤتة يخاطب ناقته:
[الوافر]
إذا بلّغتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء (4)
__________
(1) البيت في ديوان الشماخ ص 323، ومقاييس اللغة 2/ 236.
(2) البيتان في ديوان ذي الرمة ص 1042، والبيت الثاني في خزانة الأدب 3/ 32، 37، وسمط اللآلي ص 218، والكتاب 1/ 82، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 296، ومغني اللبيب 1/ 269، وفي الديوان «بين وصليك» بدل «بين رجليك».
(3) أخرجه أبو داود في الأيمان باب 21، والدارمي في السير باب 1، وأحمد في المسند 4/ 429، 430، 432، 434.
(4) البيت في ديوان عبد الله بن رواحة الأنصاري ص 79، والبيت الأول في لسان العرب (حسا)، والكامل ص 168، وسمط اللآلي ص 219، والبيت الثاني في لسان العرب (خلا)، وتهذيب اللغة 7/ 569، وخزانة الأدب 2/ 303، 3/ 39.(3/342)
فشأنك فانعمي وخلاك ذمّ ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي
ولهذا تبعه الحريري في شعره.
وقال الحسن: [الكامل]
وإذا المطيّ بنا بلغن محمدا ... فظهورهنّ على الرّجال حرام (1)
قرّبننا من خير من وطىء الثرى ... فلها علينا حرمة وذمام
وقال داود بن أسلم يمدح قثم بن العباس رضي الله عنهما: [السريع]
نجوت من حلّ ومن رحلة ... يا ناق إن بلّغتني من قثم (2)
إنّك إن بلّغتنيه غدا ... عاش لنا الخير ومات العدم
* * * قال: فعلمت أنّه السّروجي الّذي إذا باع انباع، وإذا ملأ الصاع انصاع.
ولمّا انبلج صباح اليوم، وهبّ النوّام من النوم، أعلمتهم أن الشيخ حين أغشاهم السّبات، طلّقهم البتات، وركب الناقة وفات فأخذهم ما قدم وما حدث، ونسوا ما طاب منه بما خبث ثمّ انشعبنا في كلّ مشعب، وذهبنا تحت كلّ كوكب.
* * * قوله: انباع، أي جرى ومدّ باعه، ومعناه هرب منه في سيره. يقال: صعت الشيء فانصاع، أي فرقته فتفرّق، ومعناه إذا ملأ كيسه من عطاء قوم راح عنهم. انبلج: أضاء، هبّ: انتبه، أغشاهم: غطّاهم. السّبات: النوم الخفيّ كالغاشية: ثعلب: السّبات ابتداء النوم في الرأس حتى يبلغ القلب، وسبت الرجل فهو مسبوت: نعس. والبتات: القطع البائن. فات. أي فرّ فلا يلحق.
وذكر الحريري في درّة الغواص: أن قولهم: حدث أمر بضم الدال قياسا على أخذهم ما قدم وما حدث خطأ، وإنما ضمّت الدال من حدث حين قرن بقدم للمحافظة على الموازنة، فإذا أفردت لفظة حدث زال موجب الضم، ووجب الردّ إلى الأصل. قال:
وأنشدني بعض أدباء خراسان لأبي الفتح البستي: [الرجز]
جزعت من أمر فظيع قد حدث ... أبو تميم وهو شيخ لا حدث
* قد حبس الأصلع في بيت الحدث *
* * *
__________
(1) البيتان في ديوان أبي نواس ص 64.
(2) البيتان لسليمان بن قنة في الكامل 2/ 229.(3/343)
لم نتعرض في شرح هذه المقامة، لما ثبت في كتاب المقامات من شرح منشيها، بل نعقب ما أهمله، وكان الأولى إثبات ما شرح بنصه إذ هو وفق لغرضه.
قال الشيخ الرئيس أبو محمد القاسم بن عليّ رحمه الله تعالى:
قد فسّرت سرّ كل لغز تحته، ولم أبعد على من يقرؤه كشفه، وقد بقيت ألفاظ اشتملت عليها هذه المقامة ربما التبس تفسيرها على بعض من تقع إليه فأحببت إيضاحها له ليكفى حيرة الشبهة وكلفة الفكرة، ووصمة البحث والمسألة، وبالله تعالى الاستعانة والقوة.
قوله: «عشوت إلى نار» يعني تنوّرتها فقصدتها فإن لم تقصدها قلت: عشوت عنها، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمََنِ} [الزخرف: 36]، أي يعرض.
وقوله: «وأنا أصرد من عين الحرباء والعنز الحرباء»، هذان مثلان يضربان لمن يبلغ منه البرد، وذلك لأنّ الحرباء تدور أبدا مع الشمس وتستقبلها بعينها، ولذلك شبّه ابن الرومي الرّقيب بالحرباء في قوله: [الكامل]
ما بالها قد حسّنت ورقيبها ... أبدا قبيح، قبّح الرّقباء
ما ذاك إلّا أنّها شمس الضّحا ... أبدا يكون رقيبها الحرباء
والعنز الجرباء لا تدفأ في الشتاء لقلة شعرها، وذكر بعضهم أن العنز الجرباء تصحيف المثل الأول.
وقوله: «من نحر وار» يعني الجمل المكتنز شحما، الكثير مخّا.
وقوله: «عشاره تخور وأعشاره تفور» العشار: النوق الحوامل والأعشار: البرمة العظيمة. كأنها شعبت لعظمها، يقال: برمة أعشار وجفنة أكسار وثوب أسمال وبرد أخلاق وحبل أرمام، ووصف الجماعة منها كوصف الواحد.
وقوله: «فاكهة الشتاء» كنى بها عن النار، ومنه قول بعض المحدثين: [الكامل]
النّار فاكهة الشتاء فمن يرد ... أكل الفواكه شاتيا فليصطل
إنّ الفواكه في الشتاء شهية ... والنّار للمقرور أفضل مأكل
وقوله: «موائد كالهالات» يعني دارات القمر، ودارة الشمس تسمّى الطّفاوة.
وقوله: «مشوش الغمر» يعني المنديل، يقال: مشّ يده بالمنديل، أي مسحها، ومنه قول امرىء القيس: [الطويل]
نمشّ بأعراف الجياد أكفّنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهّب (1)
__________
(1) البيت في ديوان امرىء القيس ص 54.(3/344)
وقوله: «مشتبها فوداه أي صارا من الشّيب في لون الأشهب، ومنه قول امرىء القيس:
قالت الخنساء لمّا جئتها ... شاب بعدي رأس هذا واشتهب (1)
وقوله: «ربض حجرة» يعني ناحية، ويقال في المثل لمن يشارك في الرّخاء ويجانب عند البلاء: يرتع وسطا ويربض حجرة.
وقوله: «فاسترعى سمع السّامر» يعني السّمار لأن السامر اسم للجمع كالحاضر اسم للحيّ النازلين على الماء، وكالباقر: اسم لجماعة البقر.
وقال بعض أهل اللغة: هو اسم للبقر مع رعاتها، واشتقاق السّامر من السّمر، وهو ظل القمر مأخوذ من السمرة فلمّا كان غالب أحوال السّمّار أنهم يتحدثون في ظل القمر اشتقّ لهم اسم منه، وإلى هذا يرجع قولهم: «لا أكلّمه القمر والسّمر».
وقوله: «ليس بعشّك فادرجي» هذا مثل يضرب لمن يتعاطى ما لا ينبغي له، والعشّ: ما يكون في شجرة، فإذا كان في حائط أو كهف جبل فهو وكر.
وقوله: «الإيناس قبل الإبساس» هذا مثل أيضا، ومعناه أنه ينبغي أن يؤنس الإنسان ثم يكلّف، وأصله أنّ حالب الناقة يؤنسها حين يروم حلبها، ثم يبسّ بها للحلب، والإبساس أن تقول لها: بس بس، لتسكن وتدرّ وتسمّى الناقة التي تدرّ على الإبساس:
البسوس.
وقوله: «يرغب في الشّكم» الشكم ما أعطيته على سبيل المجازاة، فإن أعطيته مبتدئا فهو الشّكد.
وقوله: «ساء أبا مثوانا» يعني المضيف الذي أووا إليه وثووا عنده.
وقوله: «ناقة عيديّة» قيل إنها منسوبة إلى فحل منجب اسمه عيد، وقيل: هي منسوبة إلى فخذ من مهرة اسمه عيد بن مهرة وكانت مهرة وعيد تتخذان نجائب الإبل، فنسبت إليهما.
وقوله: «حلّة سعيدية» هي منسوبة إلى سعيد بن العاص، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كساه وهو غلام حلّة فنسب جنسها إليه.
وقوله: «لا ترزأ أضيافي زبالا» أي لا ترزؤهم شيئا وإن قل، والأصل في الزّبال ما تحمله النملة بفيها.
وقوله: «شنشنة أخزمية» أشار به إلى المثل الذي ضربه جدّ حاتم بن عبد الله بن
__________
(1) البيت في ديوان امرىء القيس ص 293، ولسان العرب (شهب)، والمخصص 1/ 78، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 6/ 87، وديوان الأدب 2/ 394.(3/345)
سعد بن الحشرج بن أخزم الطائي، حين نشأ حاتم وتقبّل أخلاق خدّه أخزم في الجود.
فقال: «شنشنة أعرفها من أخزم» وتمثّل عقيل بن علّفة به حين قال: [الرجز]
إن بني ضرّجوني بالدم ... من يلق آساد الرجال يكلم
* شنشنة أعرفها من أخزم (1) *
ومن ادّعى أن المثل له فقدسها فيه.
وقوله: «اجلوّذ» أي أسرع في الذّهاب ومثله اخروّط.
وقوله: «وثب إلى النّاقة فرحلها» يعني شدّ عليها الرّحل، وبه سمّيت الراحلة لأنها فاعلة بمعنى مفعولة كقوله تعالى: {فِي عِيشَةٍ رََاضِيَةٍ} [الحاقة: 21]، أي مرضية.
وكقوله تعالى: {مِنْ مََاءٍ دََافِقٍ} [الطارق: 6]، أي مدفوق، والرّاحلة تقع على الناقة والجمل ودخولها الهاء فيها للمبالغة، مثل داهية وراوية.
وقوله: «ارتحلها» أي ركبها، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد، فركبه الحسن فأبطأ في سجوده، فلمّا قضى صلاته قال: «إنّ ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله (2)».
وقوله: «ورحلها» أي أزعجها وأشخصها وأجدّ بها في الرحيل، ومنه الخبر:
«تخرج عند اقتراب الساعة نار من قعر عدن ترحل الناس» (3).
وقوله: «فأدلجي وأوّبي وأسئدي». الإدلاج: أن تسير الليل كلّه والاسم منه الدّلجة بفتح الدال والادّلاج بالتشديد: أن تسير من آخره والاسم منه الدّلجة، بضم الدال. وقيل فتحها وضمها بمعنى واحد. والتأويب: سير النّهار وحده، والإسئاد: أن تسير ليلا ونهارا. والنّشح: أن تشرب دون الرّيّ.
وقوله: «ما قدم وما حدث» يقال ذلك لمن تستولي الهموم عليه وتتلاعب به.
وتضمّ الدال من «حدث» في هذا الموضوع وحده، ليوافق لفظها لفظ «قدم» فإن أفردت «حدث» عن قدم وجب فتح الدال من «حدث». ومثله قولهم: هنأني ومرأني بحذف الألف من أمرأني إذ ذكر مع «هنأني» فإن أفردته قلت: أمرأني الشيء.
وقوله: «ذهبنا تحت كلّ كوكب» هذا المثل يضرب لمن تختلف في السفر طرقهم وتتباين سبلهم.
__________
(1) الرجز لأبي أخزم الطائي في لسان العرب (رمل) (خزم)، (شنن)، ومجمل اللغة 3/ 183، ولعقيل بن علفة في جمهرة اللغة ص 596، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 7/ 218، 11/ 281، وتاجر العروس (نشش)، وجمهرة اللغة ص 801، وكتاب العين 6/ 220، والمخصص 6/ 94، وديوان الأدب 3/ 106.
(2) أخرجه النسائي في التطبيق باب 82، وأحمد في المسند 3/ 494، 6/ 99.
(3) أخرجه مسلم في الفتن حديث 40، وأحمد في المسند 4/ 7.(3/346)
المقامة الخامسة والأربعون وهي الرّمليّة
حكى الحارث بن همام قال: كنت أخذت عن أولي التّجاريب، أن السّفر مرآة الأعاجيب، فلم أزل أجوب كلّ تنوفة، وأقتحم كلّ مخوفة، حتى اجتلبت كلّ أطروفة:
فمن أحسن ما لمحته، وأغرب ما استملحته، أن حضرت قاضي الرّملة، وكان من أرباب الدّولة والصّولة، وقد ترافع إليه بال في بال، وذات جمال في أسمال، فهمّ الشّيخ بالكلام، وتبيان المرام فمنعته الفتاة من الإفصاح، وخسأته عن النّباح، ثمّ نضت عنها فضلة الوشاح، وأنشدته بلسان السّليطة الوقاح.
* * * أولي التجاريب، أي أصحابها وأهلها. أجوب: أقطع، تنوفة: قفرة. أقتحم:
أدخل. اجتليت: رأيت. أطروفة: عجيبة. لمحته: نظرته. استملحته: وجدته مليحا.
الصولة: الاستطالة. وقد صال إذا استطال وهدّد. ترافع، أي تداعى للحكومة، ورفع كلّ واحد صاحبه. بال: شيخ كبير. في بال: في ثوب خلق. وأسمال، ثياب خلقة، واحدها سمل، وسمل الثوب وأسمل، ويقال أيضا: ثوب أسمال، فيوصف بالجمع، كما يقال:
رمح أقصاد، وبرمة أعشار. تبيان المرام: تبيين مراده. وإظهار حجته. الإفصاح: التبيين.
خسأته: أبعدته وطردته، النّباح: الكلام هنا. وخسأ ونبح أصلهما في الكلب، ويقال:
خسأت الكلب خسئا: طردته وأبعدته، وخسأ الكلب بنفسه، أي انخسأ، يتعدى ولا يتعدّى، قال تعالى: {اخْسَؤُا فِيهََا} [المؤمنون: 108] أي تباعدوا تباعد سخط. نضت:
جردت. الوشاح: الحزام، وهو المنطقة، الفنجديهي: الوشاح شبه قلادة تنسج من أدم عريضة وترصّع بالجواهر وغيرها، السّليطة: المستطيلة بلسانها، الوقاح: التي ليس في وجهها حياء، فهي تقول ما شاءت. [السريع]
* * * يا قاضي الرّملة يا ذا الذيّ ... في يده التّمرة والجمره
إليك أشكو جور بعلي الّذي ... لم يحجج البيت سوى مرّه
وليته لمّا قضى نسكه ... وخفّ ظهرا إذ رمى الجمره
كان على رأي أبي يوسف ... في صلة الحجّة بالعمره
هذا على أنى مذ ضمّني ... إليه لم أعص له أمره
فمره إمّا ألفة حلوة ... ترضي وإمّا فرقة مرّه
من قبل أن أخلع ثوب الحيا ... في طاعة الشيخ أبي مرّه
* * * الرّملة: قرية بالشأم، وقسم الشأم خمسة أقسام، فخمس منه فلسطين ومدينته العظمى الرّملة، والرملة أربعة آلاف ضيعة، ومن مدن فلسطين إيلياء مدينة بيت المقدس، وبينها وبين الرملة ثمانية عشر ميلا، وقال ابن ظفر: عشرون فرسخا، التّمرة والجمرة: الخير والشر، والنفع والضّر، ويضرب بهما المثل في هذا المعنى، ومن قضى له بشيء فكأنه قد أعطاه.(3/347)
* * * يا قاضي الرّملة يا ذا الذيّ ... في يده التّمرة والجمره
إليك أشكو جور بعلي الّذي ... لم يحجج البيت سوى مرّه
وليته لمّا قضى نسكه ... وخفّ ظهرا إذ رمى الجمره
كان على رأي أبي يوسف ... في صلة الحجّة بالعمره
هذا على أنى مذ ضمّني ... إليه لم أعص له أمره
فمره إمّا ألفة حلوة ... ترضي وإمّا فرقة مرّه
من قبل أن أخلع ثوب الحيا ... في طاعة الشيخ أبي مرّه
* * * الرّملة: قرية بالشأم، وقسم الشأم خمسة أقسام، فخمس منه فلسطين ومدينته العظمى الرّملة، والرملة أربعة آلاف ضيعة، ومن مدن فلسطين إيلياء مدينة بيت المقدس، وبينها وبين الرملة ثمانية عشر ميلا، وقال ابن ظفر: عشرون فرسخا، التّمرة والجمرة: الخير والشر، والنفع والضّر، ويضرب بهما المثل في هذا المعنى، ومن قضى له بشيء فكأنه قد أعطاه.
والبيت، وغنت به فرجها يحجج: يقصد إليه بالجماع، وقولها سوى مرّة، تريد أوّل مرّة وطئها وافترعها ولم يعد لها بعد تلك المرة، وتعني بالنسك افتراعها وما هناك من الدم.
وعنت برمي الجمرة إتيانه لها، وجمع الجمر جمار، وهي الحجارة الصغار عند العرب، وجمر الرجل تجميرا: رمى جمار مكة، قال عمر بن أبي ربيعة: [الطويل]
فلم أر كالتجمير منظر ناظر ... ولا كليالي الحج أفلتن ذا هوى
ومنه الحديث: «وإذا استجمرت فأوتر» (1). معناه تمسّحت بالحجارة.
[أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم]
أبو يوسف، هو يعقوب بن إبراهيم بن حسين بن سعد بن حبيب الأنصاريّ.
وأبو يوسف كوفيّ صاحب أبا حنيفة فغلب عليه حتى قالوا: أبو يوسف أبو حنيفة. أي يسدّ مسدّه ويغني عنه، وروي عن أبي حنيفة والمطرّف والمغيرة وهشام بن عروة الشيباني. وكان صدوقا من أهل الدين والعلم، وكان قاضي القضاة ببغداد لثلاثة خلفاء: المهدي والهادي والرشيد، وكانت أم جعفر قد استفتته في مسألة، فأفتاها بما أوجبه العلم عنده، فوافق بذلك مرادها، فأهدت له حقّا من فضة فيه طيب وجام فضة فيه دنانير، فقال له بعض من حضره: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أهديت له هدية فجلساؤه شركاؤه فيها»، فقال أبو يوسف تأوّلت الخبر على ظاهره، والاستحسان قد منع من إمضائه، فإن ذلك إذ كان هدايا الناس التّمر واللبن، لا في هذا الوقت، والهدايا ذهب وورق، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
__________
(1) روي بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الوضوء باب 25، 26، ومسلم في الطهارة حديث 20، 22، 24، وأبو داود في الطهارة باب 19، والترمذي في الطهارة باب 21، والنسائي في الطهارة باب 38، 71، وابن ماجه في الطهارة باب 23، 44، والدارمي في الوضوء باب 5، 32، ومالك في الطهارة حديث 4، وأحمد في المسند 2/ 236، 254، 277، 308، 315، 351، 356، 360، 371، 387، 401، 463، 482، 3/ 294، 400، 4/ 156.(3/348)
قال أبو جعفر الطحاوي: ولد أبو يوسف سنة ثلاث عشرة ومائة.
حمّاد: رأيت أبا حنيفة يوما وعن يمينه أبو يوسف وعن يساره زفر، وهما يتجادلان في مسألة، فلا يقول أبو يوسف قولا إلّا أفسده عليه زفر، ولا يقول زفر قولا إلّا أفسده عليه أبو يوسف إلى وقت الظهر، فلمّا أذّن المؤذن رفع أبو حنيفة يده، فضرب بها فخذ زفر، وقال: لا تطمع في رياسة في بلد فيها أبو يوسف، فقضى لأبي يوسف.
عليّ بن حرملة التيميّ: قال أبو يوسف: كنت أطلب الحديث والفقه، وأنا مقلّ رثّ الحال، فجاء أبي يوما وأنا عند أبي حنيفة، فانصرفت معه، فقال: يا بنيّ لا تمدّنّ رجليك مع أبي حنيفة، فإن خير أبي حنيفة مستو، وأنت محتاج إلى المعاش، فقصّرت عن كثير من الطّلب، وآثرت طاعة والدي فتفقّدني أبو حنيفة، وسأل عني، فجعلت أتعهّد مجلسه، فلمّا كان أوّل يوم أتيته بعد تأخّري عنه، قال لي: ما يشغلك عنا؟ قلت: الشّغل بالمعاش، وطاعة والدي، فلمّا انصرف الناس دفع إليّ صرّة، وقال: استمتع بهذه، وإذا فيها مائة درهم، وقال لي: الزم الجماعة، فإذا نفدت فأعلمني، فلزمت الحلقة، فلمّا مضت مدّة يسيرة دفع إليّ مائة أخرى، ثم كان يتعهّدني كذلك، وما أعلمته بنفادها قطّ، وكأنه كان يخبر بنفادها حتى استغنيت وتموّلت.
عليّ بن الجعد: حدثني أبو يوسف، قال: توفّي أبي إبراهيم، وخلّفني صغيرا في حجر أمي فأسلمتني، إلى قصّار أخدمه، فكنت أدع القصّار وأمرّ على حلقة أبي حنيفة فأجلس وأستمع، فتجيء أمي فتأخذ بيدي وتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يعنى بي لما كان يرى من حرصي على التعلّم، فلما طال ذلك على أمي وكثر عليها هربي، قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبيّ فساد غيرك، هذا صبيّ يتيم لا شيء له، وإنما أطعمه من مغزلي، وآمل أن يكتسب دانقا يعود به على نفسه، فقال لها أبو حنيفة: مرّي يا رعناء، ها هو ذا يتعلّم أكل الفالوذج بدهن الفستق، فانصرفت عنه وهي تقول: أنت شيخ قد خرفت وذهب عقلك. قال: ثم لزمته ونفعني الله تعالى بالعلم ورفعني حتى تقلّدت القضاء، فكنت أجالس الرشيد، وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدّم إليه فالوذجة. فقال لي: كل يا يعقوب، فليس في كلّ يوم يعمل لنا مثلها، فقلت: وما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذه فالوذجة بدهن فستق، فضحكت فقال لي: ممّ تضحك؟
فقلت: خيرا، وأبقى الله أمير المؤمنين، فقال: لتخبرنّي وألحّ عليّ، فحدّثته بالقصّة من أولها إلى آخرها. فعجب من ذلك، وقال: لعمري إنّ العلم لينفع ويرفع دينا ودنيا، وترحّم على أبي حنيفة، وقال: إنه كان ينظر بعين عقله ما لا ينظره غيره بعين رأسه. وأبو يوسف أوّل من دعي بقاضي القضاة في الإسلام.
إسحاق الموصليّ: حدّثني بشر بن الوليد، وسألته: من أين جاء؟ فقال: كنت عند أبي يوسف القاضي، وكنت في حديث ظريف. فقلت: حدثني به، فقال: قال لي أبو
يوسف: كنت البارحة قد أويت إلى فراشي، فإذا داق يدقّ الباب بشدّة، فأخذت عليّ إزاري، وخرجت، فإذا هو ابن أعين يقول: أجب أمير المؤمنين، فقلت: يا أبا حارثة لي بك حرمة، وهذا وقت كما ترى، ولست آمن أن يكون أمير المؤمنين دعاني لمكروه، فإن أمكنك أن تدع الأمير إلى غد فلعله أن يحدث له رأي! فقال: ما لي إلى ذلك من سبيل، قلت: كيف كان السبب؟ قال: خرج إليّ مسرور الخادم، فأمرني أن آتي بك أمير المؤمنين، فقلت: أتأذن لي أن أصبّ عليّ ماء وأتحنّط فإن كان أمر كنت قد أحكمت شأني، وإن رزق الله العافية فلن يضرّ، فدخلت ففعلت ذلك، وتطيبت ثم خرجنا إلى دار الرشيد ومسرور واقف، فقلت: يا أبا هاشم خدمتي وحرمتي، وهذا وقت ضيّق، أفتدري لم طلبني؟ قال: لا، قلت: فمن عنده؟ قال: عيسى بن جعفر وحده، ثم قال: مرّ فإذا صرت في الصّحن فحرّك رجليك، فإنه في الرواق ففعلت، فقال: من هذا؟ قلت:(3/349)
إسحاق الموصليّ: حدّثني بشر بن الوليد، وسألته: من أين جاء؟ فقال: كنت عند أبي يوسف القاضي، وكنت في حديث ظريف. فقلت: حدثني به، فقال: قال لي أبو
يوسف: كنت البارحة قد أويت إلى فراشي، فإذا داق يدقّ الباب بشدّة، فأخذت عليّ إزاري، وخرجت، فإذا هو ابن أعين يقول: أجب أمير المؤمنين، فقلت: يا أبا حارثة لي بك حرمة، وهذا وقت كما ترى، ولست آمن أن يكون أمير المؤمنين دعاني لمكروه، فإن أمكنك أن تدع الأمير إلى غد فلعله أن يحدث له رأي! فقال: ما لي إلى ذلك من سبيل، قلت: كيف كان السبب؟ قال: خرج إليّ مسرور الخادم، فأمرني أن آتي بك أمير المؤمنين، فقلت: أتأذن لي أن أصبّ عليّ ماء وأتحنّط فإن كان أمر كنت قد أحكمت شأني، وإن رزق الله العافية فلن يضرّ، فدخلت ففعلت ذلك، وتطيبت ثم خرجنا إلى دار الرشيد ومسرور واقف، فقلت: يا أبا هاشم خدمتي وحرمتي، وهذا وقت ضيّق، أفتدري لم طلبني؟ قال: لا، قلت: فمن عنده؟ قال: عيسى بن جعفر وحده، ثم قال: مرّ فإذا صرت في الصّحن فحرّك رجليك، فإنه في الرواق ففعلت، فقال: من هذا؟ قلت:
يعقوب، قال: ادخل، فدخلت فسلّمت فردّ عليّ السلام، وقال: أظنّنا روّعناك؟ قلت:
إي والله ومن خلفي، قال اجلس، فلما سكن روعى، قال: يا يعقوب هل تدري لم دعوتك؟ قلت: لا، قال: لأشهدك على هذا إنّ عنده جارية، فسألته أن يهبها أو يبيعها لي فأبى، وو الله لئن لم يفعل لأقتلنه. فالتفتّ إلى عيسى وقلت: وما بلغ قدر الجارية؟
أتمنعها أمير المؤمنين وتنزّل نفسك هذه المنزلة؟ فقال لي: عجّلت القول قبل أن تعرف ما عندي، إن عليّ يمينا بالطلاق والعتاق وصدقة ما أملك ألّا أبيعها لأحد ولا أهبها، فالتفت إليّ الرشيد، فقال لي: هل لك في ذلك مخرج؟ فقلت: نعم، قال: وما هو؟ قلت:
يهب لك نصفها ويبيعك نصفها، فيكون لم يبع ولم يهب، قال عيسى: ويجوز ذلك؟
قلت: نعم، قال: فأشهدك أني قد وهبت له نصفها، وبعت منه نصفها بمائة ألف دينار، وأتي بالجارية، فقال: خذها يا أمير المؤمنين بارك الله لك فيها، قال: يا يعقوب، وبقيت واحدة، قلت: يا أمير المؤمنين، وما هي؟ قال: هي مملوكة ولا بدّ أن تستبرأ، وو الله إنّ نفسي لتخرج إن لم أبت معها. فقلت: يا أمير المؤمنين تعتقها وتتزوجها، فإن الحرّة لا تستبرأ، قال: فإني قد أعتقتها، فدعا بمسرور وحسن، وخطبت وحمدت الله ثم زوجت على عشرين ألف دينار، ودفع المال إليها، ثم قال: يا يعقوب انصرف، ثم قال: يا مسرور احمل إلى أبي يوسف مائتي ألف درهم وعشرين تختا ثيابا، فحمل معي ذلك، قال بشر: فالتفت إلي يعقوب، فقال: هل رأيت بأسا فيما فعلت؟ قلت: لا قال: فحقّك منها العشر فشكرته، وذهبت: لأقوم وإذا بعجوز دخلت، فقالت: يا أبا يوسف، بنتك تقرئك السلام، وتقول: والله ما وصلني من أمير المؤمنين في ليلتي هذه إلّا المهر الذي قد عرفت، وقد جعلت إليك النصف منه، وخلّفت الباقي لما أحتاج إليه، فقال: ردّيه، فو الله لا قبلته، أخرجتها من الرّق وزوّجتها من أمير المؤمنين وترضيني بهذا، فلم نزل نتلطف إليه أنا وعمومتي يقبلها فقبلها وأمر لي بألف دينار.
وأما صلة الحج بالعمرة التي ذكر الحريري، فإن أبا يوسف في ذلك مخالف لمالك
رضي الله عنهما في أن القران في الحج أفضل من الإفراد، وهو مذهب عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وقوله: خفّ ظهرا، أي حطّ عن ظهره بعض الذنوب، والذي أرادت أنه لم يأتها ولا جامعها غير مرّة واحدة خفّف بها ظهره وبعض شهوته وليته فعل ذلك مرّتين فورّت بظاهر كلامها عن هذا المعنى.(3/350)
وأما صلة الحج بالعمرة التي ذكر الحريري، فإن أبا يوسف في ذلك مخالف لمالك
رضي الله عنهما في أن القران في الحج أفضل من الإفراد، وهو مذهب عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وقوله: خفّ ظهرا، أي حطّ عن ظهره بعض الذنوب، والذي أرادت أنه لم يأتها ولا جامعها غير مرّة واحدة خفّف بها ظهره وبعض شهوته وليته فعل ذلك مرّتين فورّت بظاهر كلامها عن هذا المعنى.
وجاءت امرأة إلى المغيرة بن شعبة بزوجها تستعديه عليه، وتذكر أنه عنّين فقال الرجل: [الكامل]
الله يعلم يا مغيرة أنني ... قد دستها دوس الحصان المرسل (1)
وأخذتها أخذ المعنّف شاته ... عجلان يذبحها لقوم نزّل
فقال له المغيرة: إنّي لأرى ذلك في شمائلك.
وخاصمت الدّهناء بنت مسحل أحد بني مالك بن سعد بن زيد مناة العجّاج، وكان من بني عمها إلى والي اليمامة، فكان أبوها يعينها على ذلك، فقال له أهل اليمامة: ألا تستحي، تطلب العسب لابنتك! فقال: إني أحبّ أن يكون لها ولد، فإن أفرطتهم أجرت، وإن بقوا دعوا الله لها، فدخلت على الوالي، فقالت: إني منه بجمع، فقال:
لعلّك تغارين الشيخ؟ فقالت: إنّي لأرخي له بادّي، وأقيم صلبي، فقال العجاج: [الرجز] أظنت الدهنا وظنّ مسحل ... أن الأمير بالقضاء يعجل (2)
عن كسلاتي والحصان يكسل ... عن السّفاد وهو طرف هيكل
فقالت هي: [الرجز]
والله لولا خشية الأمير ... وخشية الشّرطيّ والمثير (3)
لجلت من شيخ بني الفقير ... كجولان صعبة عسير
فأخذها وضمها إليه يقبّلها فقالت: [الرجز]
تا لله لا تخدعني بالضّمّ ... إليك والتّقبيل بعد الشّمّ (4)
__________
(1) البيتان للعجاج في ملحق ديوانه 2/ 312، وتاج العروس (فتخ) ولسان العرب (فتخ).
(2) الرجز للعجاج في ملحق ديوانه 2/ 311، ولسان العرب (كسل)، (هكل)، (دهن)، وتهذيب اللغة 10/ 60، وتاج العروس (كسل)، (دهن).
(3) الرجز للدهناء بنت مسحل (امرأة العجاج) في لسان العرب (ترر)، وتاج العروس (تأر)، (ترر)، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 1/ 338، ومجمل اللغة 1/ 318.
(4) يروى الرجز:
إلّا بزعزاع يسلّي همّي ... تسقط منه فتحني في كمّي
وهو للدهناء بنت مسحل في لسان العرب (فتخ)، (زعع)، والتنبيه والإيضاح 1/ 288، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 4/ 470.(3/351)
إلّا بهزهاز يسلّي همّي ... ينزع عنّي فتجي في كميّ
فذهب بها إلى أهلها، فطلّقها في تلك الليلة سرا، ولو استقبلها العجاج بما وصف ابن الرومي حيث يقول: [الوافر]
ألا يا هند هل لك في ممدّ ... غليظ تفرحين به متين
يشدّ به حشاك غلام نيك ... من الفتيان منقطع القرين
فمن يره يبول يقول: أنثى ... بدا من فرجها ثلثا جنين
لرضيته، ولم تحاكمه.
قوله: ألفة: صحبة. أخلع: أزيل. وأبو مرّة. كنية إبليس لعنه الله، وكني بذلك لما تقدّم أنّ أبغض الأسماء إلى الله مرّة وحرب. تقول: إما يصاحبني صحبة يرضيني فيها بكثرة الجماع، وإلا أزلت عني الحياء وخرجت أزني وأفسق في طاعة إبليس، ولو عالجها بما كان يعالج به رجل زوجته، وكان إذا وقع بينهما شرّ انحنى عليها بالجماع، فكانت تقول: لعنك الله! كلمّا وقع بيننا شرّ جئتني بشفيع لا أقدر على ردّه! فلو جاءها بهذا الشفيع لما رفعته إلى الوالي.
محمد بن يحيى بن حيّان: عاتبت جدّتي جدّي في قلة الباه، فقال لها: أنا وأنت على قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قالت: وما قضاء عمر؟ قال: قال: إن الرجل إذا أتى امرأته في كلّ طهر مرّة فقد أدّى حقها، قالت: فكلّ الناس تركوا قضاء عمر، وأقمت أنا وأنت عليه!.
وقال أعرابي كبر وعجز: [الرجز]
عجبت من أيري كيف يصنع ... أدفعه بإصبعي فيرجع
* يقوم بعد الشدّ ثم يركع *
دخل عيسى بن موسى على جارية له فعجز، فقال: [البسيط]
النّفس تطمع والأسباب عاجزة ... والنّفس تهلك بين العجز والطمع
خلا ثمامة بن أشرس بجارية له فعجز، فقال: ويحك! ما أوسع حرك! فقالت: [البسيط]
أنت الفداء لمن قد كان يملؤه ... ويشتكي الضّيق منه حين يلقاه
وكان عروة بن شييم أوفر الناس أيرا وأشدّهم نكاحا، وكان إذا أنعظ يستلقي على قفاه فيأتي الفصيل الجرب فيحتك بأيره يظنّه الجذل، وهو عود في العطن ينصب لتحتك به الإبل الجربى.
ويزعمون أنه أصاب أيره جنب عروس زفّت إليه، فقالت له: أتهددني بالركبة! وهو القائل: [الطويل](3/352)
ألا ربّما أنعظت حتى إخاله ... سينقدّ للإنعاظ أو يتمزق
فأعمله حتى إذا قلت: قدوني ... أبى وتمطّى جامحا يتمطق
وأقبل رجل على عليّ رضي الله عنه فقال: إن لي امرأة كلما غشيتها، تقول: قتلتني قتلتني! فقال: اقتلها وعليّ إثمها.
وقع أعشى همدان أسيرا عند الدّيلم، ثم إن ابنة العلج الذي أسره عشقته، فمكنته ليلة من نفسها، فأصبح وقد واقعها ثمان مرات، فقالت له: يا معشر المسلمين، أهكذا تفعلون بنسائكم! قال: هكذا نفعل كلّنا، فقالت: بهذا العمل نصرتم، أفرأيت إن خلّصتك تصطفيني؟ فعاهدها، فحلت قيوده بالليل، وأخذت به في طرق تعرفها حتى تخلّص، فقال أسير شاعر فيه: [الطويل]
فمن كان يفديه من الأسر ماله ... فهمدان تفديها الغداة أيورها
كان عبد الله بن عمر من أنزه النّاس نفسا، وأبعدهم عن المزاح وذكر الفاحشة، فجاءه ابن أبي عتيق يوما، وكان صاحب مزاح وفكاهة، وفي يده رقعة فيها: [الطويل]
ذهب الإله بما تعيش به ... وقمرت مالك أيّما قمر
أنفقت مالك غير مكترث ... في كلّ زانية وفي الخمر
وكانت هجته بهما امرأته عاتكة بنت عبد الرحمن المخزوميّ، فقال: يا أبا عبد الرحمن، انظر هذه الرقعة وأشر عليّ برأيك فيها، فلما قرأها عبد الله استرجع فقال: ما ترى فيمن هجاني بهذا الشعر؟ قال: أرى أن تعفو وتصفح، فقال: يا أبا عبد الرحمن، لئن لقيت صاحبه لأنيكنّه نيكا جيدا، فأخذ ابن عمر من قوله وأرعد وأزبد، قال: ما لك؟
غضب الله عليك! فقال: ما هو إلا ما قلت لك، وافترقا، فلمّا كان بعد أيام لقيه ابن عمر، فأعرض عنه، فصاح: يا أبا عبد الرحمن، إني لقيت صاحب البيتين فنكته والله نيكا شافيا، وأقسم على ذلك، فصعق ابن عمر، فلما رأى ابن أبي عتيق ما حلّ به دنا منه، وقال له في أذنه: إنها والله امرأتي، فقام ابن عمر وقد سرّي عنه، وهو يضحك، فقبله بين عينيه، وقال أحسنت، زده من هذا الأدب،، فلن يهجوك بعدها أبدا.
* * * فقال له القاضي: قد سمعت ما عزتك إليه، وتوعّدتك عليه، فجانب ما عرّك، وحاذر أن تفرك، وتعرك، فجثا الشيخ على ثفناته، وفجّر ينبوع نفثاته، وقال: [الرجز]
اسمع عداك الذّمّ قول امرىء ... يوضح فيما رابها عذره
والله ما أعرضت عنها قلى ... ولا هوى قلبي قضى نذره
وإنّما الدّهر عدا صرفه ... فابتزّنا الدّرّة والذّرّه
فمنزلي قفر كما جيدها ... عطل من الجزعة والشّذره
وكنت من قبل أرى في الهوى ... ودينه رأى بني عذره
فمذنبا الدّهر هجرت الدّمى ... هجران عفّ آخذ حذره
وملت عن حرثي لا رغبة ... عنه ولكن أتّقي بذره
فلا تلم من هذه حاله ... واعطف عليه واحتمل هذره
قوله: عزتك، أي نسبتك. توعّدتك: هدّدتك. عرّك: شانك، وعابك ولطّخك بشرّ وساءك، وعرّ فلان قومه بشرّ: لطّخهم به. حاذر خف. تفرك: تبغض، وفركت المرأة زوجها: أبغضته. وتعرك: تدلك دلكا شديدا مثل دلك الأديم، وعركت القوم في الحرب قاتلتهم. جثا يجثو جثوا وجثيّا: جلس على ركبتيه. الثّفنات: ما ولي الأرض من أعضاء البعير وغلظ إذا برك على الرّكبتين والكركرة، ينبوع: ماؤها النابع. نفثاته:(3/353)
اسمع عداك الذّمّ قول امرىء ... يوضح فيما رابها عذره
والله ما أعرضت عنها قلى ... ولا هوى قلبي قضى نذره
وإنّما الدّهر عدا صرفه ... فابتزّنا الدّرّة والذّرّه
فمنزلي قفر كما جيدها ... عطل من الجزعة والشّذره
وكنت من قبل أرى في الهوى ... ودينه رأى بني عذره
فمذنبا الدّهر هجرت الدّمى ... هجران عفّ آخذ حذره
وملت عن حرثي لا رغبة ... عنه ولكن أتّقي بذره
فلا تلم من هذه حاله ... واعطف عليه واحتمل هذره
قوله: عزتك، أي نسبتك. توعّدتك: هدّدتك. عرّك: شانك، وعابك ولطّخك بشرّ وساءك، وعرّ فلان قومه بشرّ: لطّخهم به. حاذر خف. تفرك: تبغض، وفركت المرأة زوجها: أبغضته. وتعرك: تدلك دلكا شديدا مثل دلك الأديم، وعركت القوم في الحرب قاتلتهم. جثا يجثو جثوا وجثيّا: جلس على ركبتيه. الثّفنات: ما ولي الأرض من أعضاء البعير وغلظ إذا برك على الرّكبتين والكركرة، ينبوع: ماؤها النابع. نفثاته:
كلماته. عداك: تجاوزك. يوضح: يبيّن. رابها: شكّكها وأدخل عليها الرّيبة.
أعرضت: صددت. قلّى: بغض. هوى: حبّ. النذر: أن ينذر الإنسان على نفسه شيئا يفعله، وقضى نحبه: استوفى غرضه، عدا: ظلم. صرفه: تصرّفه بالإنكاد، ابتزّنا:
سلبنا، الدّرّة: اللؤلؤة، والذرّة: اللبن، ومال العرب الإبل، وعشهم من لبنها، فلهذا جنّس بالذّرّة مع الدرّة. جيدها: عنقها. عطل: خال الجزعة: خرز يماني، وهي التي فيها بياض وسواد. والشّذر: قطع من ذهب، يفصل بها بين الجواهر، وقيل: الجزع:
خرز ملوّن، والشّذر: خرز أخضر، وقيل: الشّذرة: القطعة من الذهب تلتقط من المعدن من غير إذابة الحجارة.
بني عذرة. قبيلة يغلب على قلوبهم حب النساء، فكلّ من أفرط في حبهن قيل له:
عذريّ، فنسب إليهم. وسئل أعرابيّ، فقيل له: من أين أنت؟ فقال: من قبيلة إذا أحبّوا ماتوا، فسمعته جارية، فقالت: عذريّ وربّ الكعبة.
قوله: نبا، أي ارتفع وزال خيره، الدّمى: النّساء المشبهات في بياضهن وصفائهن بصور الرّخام.، وكان العاشق من العرب إذا غلب عليه العاشق والهجر ذهب إلى الأمصار فاشترى صورة من رخام على صورة محبوبته، فإذا ركب بعيره أجلس الصّورة بين يديه يحدثها، ويستريح إليها، فسمّوا النساء دمى تشبيها بصور الرخام. عفّ: عفيف.
البذر: ما يزرع في الأرض من الحبوب، وحرثه نكاحه، وأراد بالبذر ما يزرعه فيها من النّطفة هذره: هذيانه، وكلامه الفارغ.
* * * قال: فالتظت المرأة من مقاله، وانتضت الحجج لجداله وقالت له: ويلك يا مرقعان! يا من هو لا طعام ولا طعان أتضيق بالولد ذرعا، ولكلّ أكولة مرعى لقد ضلّ فهمك، وأخطأ سهمك، وسفهت نفسك، وشقيت بك عرسك.(3/354)
فقال لها القاضي: أمّا أنت فلو جادلت الخنساء، لا نثنت عنك خرساء، وأمّا هو فإن كان صدق في زعمه، ودعوى عدمه، فله في همّ قبقبه، ما يشغله عن ذبذبه، فأطرقت تنظر ازورارا، ولا ترجع حوارا. حتى قلنا قد راجعها الخفر، أو حاق بها الظفر، فقال لها الشيخ: تعسا لك إن زخرفت، أو كتمت ما عرفت. فقالت: ويحك! وهل بعد المنافرة كتم، أو بقي لنا على سرّ ختم! وما فينا إلّا من صدق، وهتك صونه إذ نطق، فليتنا لاقينا البكم، ولم نلق الحكم، ثم التفعت بوشاحها، وتباكت لافتضاحها، وجعل القاضي يعجب من خطبهما ويعجّب، ويلوم لهما الدّهر ويؤنّب، ثم أحضر من الورق ألفين، وقال: أرضيا بهما الأجوفين، وعاصيا النازع بين الإلفين، فشكراه على حسن السّراح، وانطلقا وهما كالماء والراح.
* * * التظت: حقدت والتهبت غيظا، وانتضت: جرّدت: جداله: خصامه.
مرقعان: كثير الرّقاعة، والرّقاعة كالحماقة، كأن عقله تخرّق فرقّع، وضقت بالشيء ذرعا، إذا لم تقدر عليه، ضلّ: تحير. عرسك: زوجك. جادلت: خاصمت. انثنت:
رجعت. خرساء: بكماء. زعمه: ما ادّعاه. قوله: قبقبه، القبقب: البطن، والقبقبة:
الصوت الّذي يدور فيه، فسمّي به.
والذّبذب: الذّكر، وأصل الذّبذبة الاهتزاز والاضطراب، فسمي الذّبذب لحركته، ونظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شابّ، فقال: يا شابّ إن وقيت شرّ ثلاث، وقيت شرّ الشّباب: لقلقك، وذبذبك، وقبقبك، الأصمعيّ: اللقلق: اللسان، والقبقب البطن، والذبذب: الذكر.
قوله: أطرقت، أي سكنت مميلة إلى الأرض رأسها حياء. ازورارا: ميلانا.
والحوار: مراجعة الكلام. الخفر: الحياء. حاق: لحق، والظّفر هنا: غلبة حجّتها وظفرها به. تعسا: هلاكا، زخرفت هنا: زيّنت الباطل، المنافرة: المحاكمة. ختم:
ربط، أي قد أظهرنا جميع أسرارنا، هتك: خرق. صونه: صيانته. لاقينا البكم، أي أصابنا البكم وخلقنا خرسا، فلم نبد ما أبديناه من القبائح، والبكم: الخرس مع عيّ.
وقال ثعلب: البكم: أن يولد الإنسان لا ينطق ولا يسمع ولا يبصر، وبكم بكما وبكاما، والحكم: الحاكم. التفعت: التفّت. والوشاح: الثوب، وقد توشحت بثوبها، جعلته موضع وشاحها. لافتضاحها: لاشتهارها بالقبائح. خطبهما: أمرهما. يعجّب: يجعل غيره يعجب منه، يؤنّب: يوبّخ ويلوم. الورق: الدراهم. الأجوفين: البطن والفرج.
النازع: الماشي بالشّر المفسد، ونزغ الشيطان بينهم ينزغ نزغا، أغوى وأفسد، والإلفين:
الصاحبين، السّراح: الانصراف. والرّاح: الخمر، وهي سريعة الامتزاج مع الماء، فيضرب بهما المثل في امتزاج نفوس المتحابين.(3/355)
وقد جاء من ذلك في الشّعر ما يستحسن، قال ابن أبي فنن: أحسن ما قيل فيه قول العباس بن الأحنف: [البسيط]
ما أنس ما أنس يمناها معطّفة ... على فؤادي ويسراها على راسي (1)
وقولها: ليته ثوب على جسدي ... وليتني كنت سربالا لعباس
أو ليته كان لي خمرا وكنت له ... من ماء مزن فكنا الدّهر في كاس
قال الحاتمي: وأحسن دعبل كل الإحسان في قوله: [البسيط]
الله يعلم والأيام دائرة ... والمرء ما بين إيحاش وإيناس (2)
أني أحبّك حبّا لو تضمّنه ... سلمى سميّك دكّ الشاهق الرّاسي
حبّا تلبّس بالأحشاء وامتزجا ... تمازج الماء بالصّهباء في الكاس
وقال البحتري فأحسن: [البسيط]
تهتزّ مثل اهتزاز الغصن حرّكه ... مرور غيث من الوسميّ سحّاح (3)
إني وجدتك من قلبي بمنزلة ... هي المصافاة بين الماء والرّاح.
* * * وطفق القاضي بعد مسرحهما، وتنائى شبحهما، يثني على أدبهما. ويقول: هل من عارف بهما؟ فقال له عين أعوانه، وخالصة خلصانه: أما الشيخ فالسّروجيّ المشهود بفضلة، وأمّا المرأة فقعيدة رحله، وأمّا تحاكمهما فمكيدة من فعله، وأحبولة من حبائل ختله، فأحفظ القاضي ما سمع، وتلهب كيف خدع، ثم قال للواشي بها: قم فردّهما، ثم اقصدهما وصدهما، فنهض ينفض مذرويه، ثم عاد يضرب أصدريه، فقال له القاضي:
أظهرنا على ما نبثت، ولا تخف عنّا ما استخبثت، فقال: وما زلت أستقري الطرق، وأستفتح الغلق، إلى أن أدركتهما مصحرين، وقد زمّا مطيّ البين، فرغّبتهما في العلل، وكلفت لهما بنيل الأمل، فأشرب قلب الشيخ أن ييأس، وقال: الفرار بقراب أكيس، وقالت هي: بل العود أحمد، والفروقة يكمد.
* * * قوله: طفق، أي جعل. مسرحهما: انصرافهما. تنائى شبحهما: بعد شخصهما، وعين الأعوان: مقدّمهم. والخلصان: الأحباب وخالصة: خيار، فكأنه خيار خيارهم.
قعيدة رحله: زوجته وصاحبة بيته. مكيدة: مكر أحبولة: شبكة. ختله: خداعه. أحفظ:
__________
(1) الأبيات في ديوان العباس بن الأحنف ص 156.
(2) الأبيات في ديوان دعبل بن علي الخزاعي ص 94.
(3) البيتان في ديوان البحتري ص 442.(3/356)
أغضب. تلهف: تندّم فصاح: يا لهفي! ردّهما: اطلبهما. مذرويه: أطراف أليتيه.
والأصدران: عرقان في الصّدغين، وقيل: هما المنكبان، وقيل: العطفان، ويقال: أتى فلان ينفض مدرويه، إذا جاء غاضبا يتهدد، ويضرب أصدريه، إذا جاء فارغا بلا حاجة، فإذا قضى حاجته قيل: جاء ثانيا من عنانه، وقال الحسن البصريّ، ورأى الناس يوم عيد يضحكون، فقال: تلقى أحدهم أبيض بضّا يملخ في الباطل ملخا، ينفض مذرويه، ويضرب أصدريه، يقول: ها أنا ذا فاعرفوني، قد عرفناك، مقتك الله، ومقتك الصالحون. يملخ: يلجّ، وقيل ينثني ويتكسر. استخبثت: أصبته خبيثا، أستقري: أتتبع، الغلق: جمع غلقة. وهي المغالق التي تسدّ بها الطرق وغيرها، وباب غلق، أي مغلق.
مصحرين: ذاهبين في الصحراء. زمّا: شدّا، والبين: الفراق. والعلل هنا: العطاء.
كفلت: ضمنت، نيل الأمل: درك الحاجة. أشرب: دوخل وألقي في نفسه، والفرار بقراب أكيس، مثل، وقراب الشيء ما يقاربه وأراد الهروب باليسير والقريب أكيس من الرّجوع إلى الطمع، ويروى: الفرار بقراب، بكسر القاف، وهو مصدر بمعنى المقاربة، والمثل لجابر بن عمر المازني، وكان سائرا في الطريق ومعه أوفى بن مطر وشهاب بن قيس، فتراءى آثار رجلين معهما فرسان وبعيران وكان قائفا فقال: أرى آثار رجلين شديد كلبهما، عزيز سلبهما، والفرار بقراب أكيس، ثم مضى هاربا، والمعنى: فرارنا ونحن بقرب السّلامة خير لنا من أن نتورط في المكروه. والعود أحمد، أي أوفق وأحق أن يوجد محمودا، والعود أحمد مثل، أي الرجوع أحسن، وقال المرقش: [الطويل]
وأحسن فيما كان بيني وبينه ... فإن عاد بالإحسان فالعود أحمد (1)
وأنشد أبو الحسن لعمارة: [الطويل]
بني دارم إن يفن عمري فقد مضى ... حياتي لكم مني ثناء مخلّد
بدأتم فأحسنتم وأثنيت جاهدا ... وإن عدتم أحسنت والعود أحمد
قوله: الفروقة، أي الفزّاع الكثير الفرق وهو الخوف، يكمد: يحزن حزنا لا يستطيع إمضاءه. تبيّن: علم. غرر: خطر.
* * * فلمّا تبيّن الشيخ سفه رأيها، وغرر اجترائها، أمسك ذلاذلها ثم أنشأ يقول لها:
[الرجز]
دونك نصحي فاقتفي سبله ... واغنى عن التفصيل بالجمله
__________
(1) يروى صدر البيت:
قد أحسن سعد في الذي كان بيننا
وهو بلا نسبة في كتاب العين 2/ 217، والمخصص 12/ 231.(3/357)
طيري متى نقرت عن نخلة ... وطلّقيها بتّة بتله
وحاذري العود إليها ولو ... سبّلها ناطورها الأبله
فخير ما للّص ألّا يرى ... ببقعة فيها له عمله
* * * سفه: خفة. والسفيه: الخفيف العقل. اجترائها: جسارتها وجرأتها. ذلاذلها:
أطراف ثوبها، وذلاذل القميص: ما يلي الأرض من أسافله، الواحد ذلذل مثل قمقم وقماقم. دونك: معناه قاربك ما تطلب فتناوله. اقتفي: اتبعي. سبله: طرقه، نقّرت:
أكلت ثمرتها بمنقارك، وهو مثل، ونقّرت أيضا: بحثت، والتّنقير: البحث عن الشيء، يقول: متى ما أخذت من ثمر نخلة بنصيب ففارقها ولا ترجع إليها، وفي حديث أبي سعيد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خلقت النّخلة والرّمانة والعنب من فضل طينة آدم عليه السلام»، والبتّة البتلة: التي لا رجعة فيها، والبتّ: القطع، سبّلها: طرقها وأصله لا بن السبيل، الناطور: حارس النّخل خاصة، بطاء غير معجمة، وقيل: هو حافظ الكرم، والجمع النواطير. الأبله: الكثير الغفلة. اللّص: السارق. وعملة: سرقة وفعلة قبيحة.
* * * ثم قال لي: لقد عنّيت، فيما ولّيت، فارجع من حيث جئت، وقل لمرسلك إن شئت: [الطويل]
رويدك لا تعقب جميلك بالأذى ... فتضحي وشمل المال والحمد منصدع
ولا تتغضّب من تزيّد سائل ... فما هو في صوغ اللسان بمبتدع
وإن تك قد ساءتك منّي خديعة ... فقبلك شيخ الأشعريّين قد خدع
فقال له القاضي: قاتله الله! فما أحسن شجونه، وأملح فنونه! ثم إنه أصحب رائده بردين، وصرّة من العين، وقال له: سر سير من لا يرى الالتفات، إلى أن ترى الشيخ والفتاة، قبّل يديهما بهذا الحباء، وبيّن لهما انخداعي للأدباء.
قال الرّاوي: فلم أر في الاغتراب، كهذا العجاب، ولا سمعت بمثله ممّن جال وجاب.
* * * عنّيت: تعبت. ولّيت: كلفت. رويدك: رفقك. أي أولنا منك الرّفق والمهل. لا تعقب: لا تتبع. الأذى: الضّرر، وشمل: جمع. منصدع: متفرّق. صوغ اللسان: كذبه وحيله، وفي الحديث «هذه كذبة صاغها الصوّاغ» (1)، أي اختلقها الكذّاب. مبتدع: أوّل
__________
(1) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية 3/ 61، بلفظ: «من حديث أبي هريرة وقيل له خرج الدجّال فقال: كذبة كذبها الصوّاغون».(3/358)
فاعل. ساءتك: أحزنتك. شيخ الأشعريين، هو أبو موسى الأشعري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد الله بن قيس، من ولد الأشعر بن أدد بن زيد بن يشجب بن يعرب بن كهلان بن سبأ، قدم مكة وأسلم بها، ثم هاجر إلى أرض الحبشة، ثم قدم مع جعفر بن أبي طالب إلى المدينة، والذي خدعه هو عمرو بن العاص في قصّة التحكيم بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما، وهي قصّة مشهورة في كتاب العقد وفي كتاب المسعودي وغيرهما من كتب الأدب، وفيهما أشياء مناكير في حق الصحابة رضي الله عنهم، فلذلك أضربنا عن ذكرها.
رائده: طالبه أصحبه: جعله في صحبته. بردين: ثوبين: صرّة: خرقة تشدّ فيها الدراهم. العين: الذهب والفضة سير من لا يرى الالتفات، أي سيرا سريعا لا يلتفت معه إلى مهمّ. قوله: بلّ أيديهما، يقال: بللت به أبلّ إذا ظفرت به، وبلّك الله بابن، أي رزقكه، وفي الحديث: «بلّوا أرحامكم ولو بالسلام» (1)، أي صلوها، وبللت رحمي أبلها بللا وبلالا، إذا نديتها ووصلتها. الحباء: العطاء جال: تصرّف وقطع البلاد بالمشي.
__________
(1) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية 1/ 153.(3/359)
المقامة السّادسة والأربعون وهي الحلبيّة
روى الحارث بن همام قال: نزع بي إلى حلب، شوق غلب، وطلب يا له من طلب! وكنت يومئذ خفيف الحاذ، حديث النفاذ، فأخذت أهبة السّير، وخفقت نحوها خفوق الطّير ولم أزل مذ حللت ربوعها، وارتبعت ربيعها، أفاني الأيام، فيما يشفي الغرام، ويروى الأوام إلى أن أقصر القلب عن ولوعه، واستطار غراب البين بعد وقوعه.
* * * نزع بي، أي شوّقني وحملني.
[مدينة حلب]
حلب: مدينة عظيمة بالشام وقنّسرين، خمس من أخماس الشام، ومدينته العظمى حلب وساحلها أنطاكية. وذكرها شيخنا ابن جبير فقال: حلب بلدة قدرها خطير، وذكرها في كلّ زمان يطير، خطابها من الملوك كثير كانت في القديم ربوة فيما يقال، كان يأوي إليها إبراهيم الخليل عليه السلام بغنمه، فيحلبها هناك ويتصدّق بلبنها، فسميت حلب، وبها مشهد كريم منسوب إليه، يتبرّك الناس بالصلاة فيه، ولها قلعة شهيرة الامتناع، بائنة الارتفاع، معدومة الشبه والنظير في القلاع، تنزهت حصانة أن ترام أو تستطاع، قاعدة كبيرة، ومائدة من الأرض مستديرة، منحوتة الأرجاء، موضوعة على نسبة اعتدال واستواء، فسبحان من أحكم تدبيرها وتقديرها، وأبدع كيف شاء تصويرها وتدويرها، ومن كمال جمالها الزائد على المشترط لحصانة القلع أنّ الماء بها نابع وقد صنع عليها جفان، والطعام يصير فيها الدهر كله، وليس من شروط الحصانة أهمّ من هاتين الخلّتين، ويطيف بجبلها سوران حصينان، يعترض دونهما خندق بالماء، فلا يكاد البصر يبلغ مدى عمقه، وسورها الأعلى مجلّل، كله أبراج منتظمة فيها القلالى المنيعة، وقد تفتحت كلّها طبقات، وكل برج منها مسكون، والبلد ضخم جدا، جميل الترتيب، أسواقه متصلة الانتظام، تخرج من سماط صفّة إلى سماط أخرى، وقيساريتها وجامعها ومدارسها ما سمع بمثل وصفها في بلد من بلاد الله تعالى كل سوق من أسواقها مسقّف بالخشب، يقيد البصر حسنا ويستوقف المستوفز تعجبا. وقيساريتها حديقة بستان نظافة وجمالا،
مطيفة بجامعها، وأكثر حوانيتها خزائن من الخشب البديع الصنعة، قد اتّصل السماط كله خزانة واحدة، وتخللتها شرف حسنة، بديعة النقش وتفتّحت كلها حوانيت، فجاءت في أجمل منظر، وكلّ سماط منها يتصل بباب من أبواب الجامع.(3/360)
حلب: مدينة عظيمة بالشام وقنّسرين، خمس من أخماس الشام، ومدينته العظمى حلب وساحلها أنطاكية. وذكرها شيخنا ابن جبير فقال: حلب بلدة قدرها خطير، وذكرها في كلّ زمان يطير، خطابها من الملوك كثير كانت في القديم ربوة فيما يقال، كان يأوي إليها إبراهيم الخليل عليه السلام بغنمه، فيحلبها هناك ويتصدّق بلبنها، فسميت حلب، وبها مشهد كريم منسوب إليه، يتبرّك الناس بالصلاة فيه، ولها قلعة شهيرة الامتناع، بائنة الارتفاع، معدومة الشبه والنظير في القلاع، تنزهت حصانة أن ترام أو تستطاع، قاعدة كبيرة، ومائدة من الأرض مستديرة، منحوتة الأرجاء، موضوعة على نسبة اعتدال واستواء، فسبحان من أحكم تدبيرها وتقديرها، وأبدع كيف شاء تصويرها وتدويرها، ومن كمال جمالها الزائد على المشترط لحصانة القلع أنّ الماء بها نابع وقد صنع عليها جفان، والطعام يصير فيها الدهر كله، وليس من شروط الحصانة أهمّ من هاتين الخلّتين، ويطيف بجبلها سوران حصينان، يعترض دونهما خندق بالماء، فلا يكاد البصر يبلغ مدى عمقه، وسورها الأعلى مجلّل، كله أبراج منتظمة فيها القلالى المنيعة، وقد تفتحت كلّها طبقات، وكل برج منها مسكون، والبلد ضخم جدا، جميل الترتيب، أسواقه متصلة الانتظام، تخرج من سماط صفّة إلى سماط أخرى، وقيساريتها وجامعها ومدارسها ما سمع بمثل وصفها في بلد من بلاد الله تعالى كل سوق من أسواقها مسقّف بالخشب، يقيد البصر حسنا ويستوقف المستوفز تعجبا. وقيساريتها حديقة بستان نظافة وجمالا،
مطيفة بجامعها، وأكثر حوانيتها خزائن من الخشب البديع الصنعة، قد اتّصل السماط كله خزانة واحدة، وتخللتها شرف حسنة، بديعة النقش وتفتّحت كلها حوانيت، فجاءت في أجمل منظر، وكلّ سماط منها يتصل بباب من أبواب الجامع.
ثم أخذ ابن جبير في وصف الجامع والمدارس والبيمارستان بأنواع من الأوصاف الحسان.
* * * قوله: يا له! معناه التّعجب كأنه قال: ما أعجبه من طلب: خفيف الحاذ، أي قليل العيال. وتقدّم الحاذ في السادسة. حثيث النفاذ: سريع المضيّ في أموره، ورجل نافذ ونفوذ ونفّاذ: ماض في جميع أموره. أهبة: عدّة. خففت: ارتحلت بسرعة. حللت ربوعها: نزلت في بيوتها. ارتبعت ربيعها: التمست خيرها. أفاني: أقاطع، وفني الشيء تم وانقطع. والغرام: عذاب الحب. والأوام: العطش. وأقصر: كف، وأقصرت عن الشيء: تركته، وأنت عليه قادر. ولوعه: مصدر ولع به إذا أحبه ولزمه. استطار، بمعنى انتشر. وقوعه: نزوله، وهم يتشاءمون بالغراب لأنه يؤذن عندهم بالفراق، وذلك أنهم لا يرون الغراب عند منازلهم إلّا إذا حطّوا بيوتهم للرحيل، ينزل يلتمس ما يتركون مما يلقط، ولذلك سمّوه غراب البين، واشتقوا من اسمه الغريب والغربة.
* * * فأغراني البال الخلو، والمرح الحلو بأن أقصد حمص لأصطاف ببقعتها، وأسبر رقاعة أهل رقعتها فأسرعت إليها إسراع النّجم إذا انقضّ للرّجم، فحين خيّمت برسومها، ووجدت روح نسيمها، لمح طرفي شيخا قد أقبل هريره، وأدبر غريره، وعند عشرة صبيان، صنوان وغير صنوان، فطاوعت في قصده الحرص لأخبر به أدباء حمص فبشّ بي حين وافيته، وحيّا بأحسن ممّا حيّيته، فجلست إليه لأبلو جنى نطقه، وأكتنه كنه حمقه، فما لبث أن أشار بعصيّته، إلى كبر أصيبيته، وقال له: أنشد الأبيات العواطل، واحذر أن تماطل، فجثا جثوة ليث، وأنشد من غير ريث.
* * * أغراني: حرضني وسلّطني. الخلو: الفارغ. المرح: النشاط وخفّة النفس من الطرب.
[مدينة حمص]
حمص مدينة عظيمة، بينها وبين دمشق مائة ميل، وأرض حمص خمس من أخماس الشام، وهي مدينة يقال إن لها سورا وفي وسطها حصنها، ولا تدخلها حيّة ولا عقرب، وأول من ابتدع الحساب أهلها، لأنهم كانوا تجّارا بإشبيلية وأحوازها، نزل أهل
حمص عند افتتاح الأندلس، فلذلك سميت حمص، وأخذت من قولهم: حمص الجرح يحمص حموصا، وانحمص ينحمص انحماصا. إذا ذهب ورمه.(3/361)
حمص مدينة عظيمة، بينها وبين دمشق مائة ميل، وأرض حمص خمس من أخماس الشام، وهي مدينة يقال إن لها سورا وفي وسطها حصنها، ولا تدخلها حيّة ولا عقرب، وأول من ابتدع الحساب أهلها، لأنهم كانوا تجّارا بإشبيلية وأحوازها، نزل أهل
حمص عند افتتاح الأندلس، فلذلك سميت حمص، وأخذت من قولهم: حمص الجرح يحمص حموصا، وانحمص ينحمص انحماصا. إذا ذهب ورمه.
قال اليعقوبي: مدينة حمص من أوسع مباني الشام، ولها نهر عظيم، منه يشرب أهلها، وافتتحها أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. وفي حديث عمر رضي الله عنه:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليبعثنّ الله تعالى من مدينة بالشام يقال لها حمص سبعين ألفا يوم القيامة لا حساب عليهم».
ودخلها شيخنا ابن جبير سنة ثمانين وخمسمائة وقال: هي فسيحة الساحة، مستطيلة المساحة، نزهة لعين مبصرها من النّظافة والملاحة، موضوعة في بسيط من الأرض، عريض مداه، لا يتخرّقه النسيم بمسراه، ويكاد البصر يقف دون منتهاه، وماؤها يجلب لها من نهرها العاصي، وهو منها بنحو ميل، ومنبعه في مغارة بسفح جبل بمرحلة منها، بموصل يقابل بعلبكّ، وأهل حمص موصوفون بالنجدة لمجاورتهم العدوّ، وأسوارها في غاية العتاقة والوثاقة، مرصوص بناؤها بالحجارة السود، وأما داخلها فما شئت من بادية شعثاء، خلقة الأرجاء لا إشراق لآفاقها، ولا رونق لأسواقها، وما ظنّك ببلد حصن الأكراد منه على أميال يسيرة. وتجد فيها عند اطّلاعك عليها بعض شبه من مدينة إشبيلية يقع للحين في نفسك حبّها، ولذلك سميت باسمها في القديم، ولهذا نزل إشبيلية بعض أعراب حمص.
وقال الفنجديهي: بأهل حمص يضرب المثل في الحماقة، وكثرة الرقاعة، وتنسب إليهم حكايات مضحكة، حكي عن بعضهم أنه قال: دخلتها وفي فمي درهم لأشتري به بعض ما اشتهيه، فإذا برجل بباب الجامع جالس على كرسيّ، وعلى رأسه عمامة محنّك بها على قلنسوة، وقد لبس فروة مقلوبة بلا سراويل، وقد تقلّد بسيف، وفي حجره مصحف يقرأ فيه، وعنده كلب رابض يمسكه بمقوده، فسلّمت عليه، فرّد السلام، وقلت له: أترى القوم صلّوا؟ فقال لي: أو أنت أعمى! أما تراني قاعدا! قلت: من أنت؟ قال:
أنا أبو خالد إمام الجامع، فقلت: ما هذه الحلية؟ قال: ورد رجل زنديق يقرأ السبع الطوال، ويشتم أبا بكر الصّناديقي وعمر القواريريّ وعثمان بن أبي سفيان ومعاوية بن أبي غسّان الذي هو من حملة العرش، وزوّجه النبي ابنته عائشة في زمن الحجّاج بن يوسف، فاستولدها الحسن والحسين، فقلت: ما أعرفك بالمقالة والأنساب! قال: وما خفي عنك أكثر، قلت: أتحفظ القرآن؟ قال: نعم، قلت: فاقرأ شيئا منه، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم {وَإِذْ قََالَ لُقْمََانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} {يََا بُنَيَّ لََا تَقْصُصْ رُؤْيََاكَ عَلى ََ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} {وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكََافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [يوسف: 5]، فصفعته صفعة سقطت عمامته، وبقي التحنّك في عنقه، فصاح بالناس: قلنسوتي! وقال: احملوه إلى المحتسب، فأوصلوني إلى رجل حاسر حاف، قد لبس درّاعة بلا سراويل، فقال: ما
صنع هذا؟ قالوا: صفع إمام الجامع، قال: يا مسكين، أهلكت نفسك، قلت: هذا حكم الله فصبرا عليه؟ قال: أيّما أحبّ إليك سمل عينيك، أو قطع يديك، أو تدفع نصف درهم؟ قال: فرفعت يدي وصفعت المحتسب صفعة، ثم أخرجت الدرهم من فمي وقلت: يا سيدي خذ نصف درهم لك، ونصف درهم لإمامك.(3/362)
أنا أبو خالد إمام الجامع، فقلت: ما هذه الحلية؟ قال: ورد رجل زنديق يقرأ السبع الطوال، ويشتم أبا بكر الصّناديقي وعمر القواريريّ وعثمان بن أبي سفيان ومعاوية بن أبي غسّان الذي هو من حملة العرش، وزوّجه النبي ابنته عائشة في زمن الحجّاج بن يوسف، فاستولدها الحسن والحسين، فقلت: ما أعرفك بالمقالة والأنساب! قال: وما خفي عنك أكثر، قلت: أتحفظ القرآن؟ قال: نعم، قلت: فاقرأ شيئا منه، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم {وَإِذْ قََالَ لُقْمََانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} {يََا بُنَيَّ لََا تَقْصُصْ رُؤْيََاكَ عَلى ََ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} {وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكََافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [يوسف: 5]، فصفعته صفعة سقطت عمامته، وبقي التحنّك في عنقه، فصاح بالناس: قلنسوتي! وقال: احملوه إلى المحتسب، فأوصلوني إلى رجل حاسر حاف، قد لبس درّاعة بلا سراويل، فقال: ما
صنع هذا؟ قالوا: صفع إمام الجامع، قال: يا مسكين، أهلكت نفسك، قلت: هذا حكم الله فصبرا عليه؟ قال: أيّما أحبّ إليك سمل عينيك، أو قطع يديك، أو تدفع نصف درهم؟ قال: فرفعت يدي وصفعت المحتسب صفعة، ثم أخرجت الدرهم من فمي وقلت: يا سيدي خذ نصف درهم لك، ونصف درهم لإمامك.
وقال فيهم بعض الشعراء: [البسيط]
لأنهم أهل حمص لا عقول لهم ... بهائم غير معدودين في النّاس
ونزلها في القديم أهل اليمن، ولم يكن فيها من مصر إلا ثلاثة أبيات، وكان لهم إمام من مصر، فغضبوا عليه وعزلوه، فقال فيهم ديك الجن يهجوهم: [الكامل]
سمعوا الصلاة على النبيّ توالى ... فتفرّقوا شيعا وقالوا: لا، لا (1)
ثم استمرّ على الصّلاة إمامهم ... فتحزّبوا ورمى الرّجال رجالا
يا أهل حمص توقّعوا من عارها ... خزيا يحلّ عليكم ووبالا
شاهت وجوهكم وجوها طالما ... رغمت معاطسها وساءت حالا
* * * قوله: أصطاف، أي أسكن في الصّيف. وأسبر: وأختبر، والرّقاعة تجاوز الحدّ في الوقاحة وصلابة الوجه. والبقعة: القطعة من الأرض، وكذلك الرقعة. وانقضّ النجم للرجم، إذا استطار لرجم الشياطين، وأراد أنه أسرع إليها بسرعة الخيل كسرعة النجم المنقضّ، قال خلف الأحمر: [الكامل]
كالكوكب الدّريّ مبتهلا ... سيرا يفوت الطرف أسرعه
وكأنما جهدت أليّته ... ألّا تمس الأرض أربعه
وقال ابن الرومي: [البسيط]
خذها تبوعا لمن أولى مسوّمة ... كأنها كوكب في إثر عفريت (2)
وما أحسن قول ابن المعتز في هذا المعنى:
كأنما النجم والعفريت مسترقا ... للسمع ينقضّ يلقي خلفه لهبه
كفارس حلّ من عجب عمامته ... فرّدها كلّها من خلفه عذبه
قوله: خيّمت أي أقمت، وأصله ضربت خيمة. رسومها: آثارها. روح نسيمها:
لذة ريحها: لمح طرفي: أبصرت عيني. هريره: صياحه، وقد هرّ الكلب هريرا، إذا نبح
__________
(1) الأبيات في ديوان ديك الجن الحمصي ص 110.
(2) البيت في ديوان ابن الرومي 1/ 379.(3/363)
وحمل على من أنكره، وغريره: شبابه، والغرّة: صغر السن، ومعناه أقبل شرّه وسوء خلقه، وأدبر صباه وحسن خلقه، ولما كانت خليقته في هذه المقامة منبسطة مع صبيانه صار هذا التفسير فيه بعد. وقال بعضهم: أقبل هريره، أقبل هرمه ويبسه، من هرّ الشوك إذا اشتدّ يبسه حتى صار كأنياب الهرّ، وهذا يوافق الغرض، فمعناه أقبل هرمه وكبره وأدبر صباه وصغره، ومثله كالبت الإبل شجر الشّوك، إذا رعته كأنها رعت فيه أنياب الكلاب لصعوبته، والغرير أيضا: الضامن، ويكنى به هنا عن الشباب كأنه ضمن لصاحبه طول الحياة المفقود معناها في الهرم. والصّنو: الأخ الشقيق، وأصل الصّنو في النخيل والشجر، وهي التي تجتمع أصولها وتفترق أجسادها، الحرص: الرغبة والطمع.
أخبر: أجرّب. بشّ: استبشر. والبشاشة إظهار السرور وبسط الوجه. وافيته، اتيته. جنى نطقه: ما يجني من كلامه ويحصل منه. أكتنه: أتعرّف وأتحقّق. كنه قدر وحقيقة، ابن الأنباريّ: الحمق عند العرب الخمر، ثم أخذ منه الأحمق وهو المتغيّر العقل.
[المعلمون ونوادرهم]
فممّا يحكى من حماقتهم: كان حمزة المعلم متقلنسا فأشد فيه أبو جعفر الحاكم: [البسيط]
أرى على حمزة المقري قلنسوة ... عساكر القمل تجري في حواشيها
إن المعلّم لا تخفى حماقته ... ولو تقلنس بالدّنيا وما فيها
تقلنس: لبس القلنسوة.
الجاحظ: عقل مائة معلّم عقل امرأة، وعقل مائة امرأة عقل حائك، وعقل مائة حائك عقل خصيّ وعقل مائة خصي عقل صبيّ، قال الشاعر: [الطويل]
معلّم صبيان وصاحب درّه ... وليس له عقل بمقدار ذرّه
الفنجديهي: قال أبو طاهر: عقل امرأتين كاملتين عقل رجل، وعقل أربعة خصيان عقل امرأة، وعقل أربعين حائكا عقل خصيّ، وعقل أربعين معلما عقل حائك.
الزبير بن عبد الملك الهاشميّ قال: مررت ببعض المعلّمين ويعرف بكسرى، فرأيته يصلّي بالصبيان صلاة العصر، فلم أزل واقفا أفكّر فيه، فلما أن ركع أدخل رأسه بين رجليه، لينظر ما يصنع الصبيان خلفه، فرأى صبيّا يلعب فقال له وهو راكع: يا بن البقال هو ذا؟ أتدري ما تصنع!.
الجاحظ: مررت بمعلم وقد كتب على لوح صبي: «وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه، {يََا بُنَيَّ لََا تَقْصُصْ رُؤْيََاكَ عَلى ََ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} {وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكََافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [يوسف 5]، فقلت: ويحك! أتدخل سورة في سورة؟ فقال:
نعم عافاك الله، إن أبا العاضّ بظر أمه يدخل أجرة شهر في شهر، وأنا أيضا أدخل آية في آية، فلا أنا آخذ شيئا ولا الصبيّ يتعلم شيئا.(3/364)
الجاحظ: مررت بمعلم وقد كتب على لوح صبي: «وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه، {يََا بُنَيَّ لََا تَقْصُصْ رُؤْيََاكَ عَلى ََ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} {وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكََافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [يوسف 5]، فقلت: ويحك! أتدخل سورة في سورة؟ فقال:
نعم عافاك الله، إن أبا العاضّ بظر أمه يدخل أجرة شهر في شهر، وأنا أيضا أدخل آية في آية، فلا أنا آخذ شيئا ولا الصبيّ يتعلم شيئا.
أبو بكر القبطيّ: عبرت على معلم وهو يملي على غلام بين يديه: «فريق في الجنة وفريق في السعيد»، فقلت: يا هذا ما قال الله من هذا شيئا إنما هو في السعير، فقال:
أنت تقرأ على حرف أبي عاصم بن العلاء الكسائي، وأنا أقرأ على حرف أبي حمزة بن عاصم المدني فقلت: معرفتك بالقراء أعجب إليّ وانصرفت وروى بعض الفضلاء قال:
مررت في بعض قرى السّواد، وإذا معلم صبيان يقول: ويحكم يا صبيان، تفسون! فصاح به واحد منهم، وقال: إنّما فسا أخي، فقال المعلم: أني لأعلم فسوته الخبيثة، ولكن أعلّل نفسي بالأباطيل، ثم قال: أني لأعرف فساءكم كما أعرف أصواتكم، وحلف على ذلك ثم أنشد: [الطويل]
معلم صبيان يروح ويغتدي ... على أنفه ألوان ريح فسائهم
وقد أفسدوا منه الدّماغ بفسوهم ... ورفعهم أصواتهم في سحائهم
الجاحظ: كان في المدينة رجل معلّم صبيان، يفرط في ضربهم، فلاموه على ذلك، فساءني حاله معهم، فاستفتح صبيّ، وقال: يا معلم، وإنّ عليك اللعنة إلى يوم الدين ما بعده؟ فقال: بل عليك وعلى والديك لعائن الله تترى.
وجاء آخر فقال: يا معلم، اخرج منها فإنك رجيم، ما بعده؟ قال: ذاك أبوك الكشخان، وجاء آخر، فقال: يا معلّم ما لنا في بناتك من حقّ، ما بعده؟ فقال: لا ولا رأيتهنّ، فقال: على هذا أضربهم، أتعذرونني؟ قلت: نعم.
العتبي: كان ببغداد معلّم يشتم الصبيان فأخذت بيد المشايخ فدخلنا عليه، فقلنا: يا شيخ ما يحلّ لك أن تشتم هؤلاء الصبيان؟ فقال: أنا مبتلى بهم، ما أشتم إلا من يستحقّ الشتم، فاحضروا حتى تسمعوا بعض ما أنا فيه، فحضرنا معه، فقرأ عليه صبيّ: «عليها ملائكة غلاظ شداد يعصون الله ما أمرهم ولا يفعلون ما يؤمرون»، فقال: يا ماصّ بظر أمه، فليس هؤلاء ملائكة ولا أعراب ولا أكراد شهرزور، قال: فضحكنا والله حتى بال أحدنا في سراويله، فقرأ عليه آخر: «لا تنفقوا إلّا من عند رسول الله»، وتردّد فقال: من عند أبيك القرنان أولى، فإنه أكثر مالا يا بن الفاعلة. أتلزم النبي صلى الله عليه وسلم نفقة لا تجب عليه؟
أأعجبك كثير ماله؟ فقال: فكنت بعد ذلك أترك أشغالي، وأجلس عنده أتعجّب.
الجاحظ: سرق صبي عثمانيّ مصحفا، فقال له المعلم: ماذا لقيت المصاحف منكم يا آل عثمان! أبوك أحرقها وأنت تسرقها!.
قال أفلح التركي: خرجنا مرّة إلى حرب لنا، ومعنا معلم كان يقول: أنا أتمنى أن أرى الحرب كيف هي؟ فأخرجناه معنا، فأوّل سهم جاء وقع في رأسه، فلما انصرفنا دعونا له معالجا فنظر إليه، وقال: إن خرج الزّج وفيه شيء من دماغه مات، وإن لم
يخرج عليه شيء من دماغه لم يكن عليه بأس، فسبق إليه المعلم فقبّل رأسه، وقال: بشرك الله بخير، أنزعه فما في رأسي دماغ، فقال الطبيب: كيف ذلك؟ قال لأني معلّم كتاب الله تعالى، وما في رؤوس المعلمين ذرّة من دماغ، ولو كان فيه ذرّة من دماغ ما كنت هاهنا.(3/365)
قال أفلح التركي: خرجنا مرّة إلى حرب لنا، ومعنا معلم كان يقول: أنا أتمنى أن أرى الحرب كيف هي؟ فأخرجناه معنا، فأوّل سهم جاء وقع في رأسه، فلما انصرفنا دعونا له معالجا فنظر إليه، وقال: إن خرج الزّج وفيه شيء من دماغه مات، وإن لم
يخرج عليه شيء من دماغه لم يكن عليه بأس، فسبق إليه المعلم فقبّل رأسه، وقال: بشرك الله بخير، أنزعه فما في رأسي دماغ، فقال الطبيب: كيف ذلك؟ قال لأني معلّم كتاب الله تعالى، وما في رؤوس المعلمين ذرّة من دماغ، ولو كان فيه ذرّة من دماغ ما كنت هاهنا.
وقال موسى بن حسّان الكاتب: رأيت بالبصرة معلّما قد أجلس أولاد الأغنياء للظلّ وأولاد المساكين للشمس، وهو يقول لأولاد الأغنياء: يا أهل الجنة، ابزقوا على أهل النار يعني أولاد المساكين فقلت: يا هذا، ما بال هؤلاء يبخسون؟ فقال: هؤلاء يبخسون الأخطار.
أحمد بن دليل: مررت بمعلّم يضرب صبيا، ويقول: والله لأضربنّك حتى تقول لي: من حفر البحر؟ فقلت: أعزّك الله، والله لا أدري أنا من حفر البحر، فقل لي حتى أتعلّم أنا، فقال: حفر البحر كردم أبو آدم عليه السلام.
أبو العنبس: كان في دربنا معلّم طويل اللحية، فكنت أجلس إليه كثيرا وأتلهّى به، فجئته يوما وبين يديه صبيّ يقول له: ويلك! الدجلة من حفرها! قال: عيسى ابن مريم، قال: فالجبل من خلقه؟ قال: موسى بن عمران قال: فالبعر، من دوّره في است الجمل، قال: شيطان يقال له الحيّ، قال: أحسنت، فآدم من أبوه قال: بخ بخ، نجوت والله! فقلت: يا سبحان الله أليس آدم أبا البشر. قال: نعم. قلت: فكيف يكون نوح أباه! قال: ويلك أتعرّفني بآدم وأنا أبو عبد الله المعلم، يا صبيان كرفسوه فكرفسوني، حتى صيّروني مقيدا، فحلفت ألّا أقف على معلم أبدا.
الجاحظ: أتت امرأة إلى معلّم بابن لها، وكان المعلّم طويل للحية، فقالت: إن هذا الصبي عاقّ لا يطيعني فأحب أن تفزّعه، فأخذ المعلم لحيته وألقاها في فمه وحرّك رأسه، وصاح صيحة، فضرطت المرأة من الفزع، وقالت: إنما قلت لك: فزّع الصبي، ليس إياي، فقال: لها: مرّي يا حمقاء إن العذاب إذا نزل هلك الصّالح والطالح.
الأصمعي: مررت بمعلّم بالبصرة يضرب صبيا، ثم أقام الصبيان صفا وجعل يدور عليهم، ويقول: اقرؤوا، فلما بلغ الصبيّ المضروب قال لآخر إلى جنبه: قل له: يقرأ فإني لا أكلمه!.
[الأدباء والمؤدبون]
ونذكر هنا في التأديب والأدباء ما يكون من شكل هذا الموضع، ثم نتبع عند ذكر الغلمان الحسان من الأشعار ما يجري كالبيان والتفسير لأحوالهم بعون الله تعالى.
قالت الحكماء: من أدّب ولده صغيرا سرّ به كبيرا، ومن أدّب ولده أرغم حاسده.
وقال ابن عباس من لم يجلس في الصغر حيث يكره لم يجلس في الكبر حيث يحبّ.
وقالوا: أطبع الطّين ما كان رطبا، وأغرز العود ما دام لدنا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«مثل الذي يتعلم في صغره كالنقش على الصخر، والذي يتعلم في كبره كالذي يكتب على الماء».(3/366)
وقالوا: أطبع الطّين ما كان رطبا، وأغرز العود ما دام لدنا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«مثل الذي يتعلم في صغره كالنقش على الصخر، والذي يتعلم في كبره كالذي يكتب على الماء».
وسمع الأحنف: التعلم في الصغر كالنقش على الحجر، فقال: الكبير أكبر عقلا، ولكنه أشغل قلبا.
وقال عليّ رضي الله تعالى عنه: قلب الحدث كالأرض الخالية إذا ألقي فيها شيء قبلته.
وقالوا: نشاط الألباب في عصر الشباب، والسودد مع السواد، وشواظ النار قبل الرّماد.
وقال الشاعر: [البسيط]
إنّ الغصون إذا قوّمتها اعتدلت ... ولن تلين إذا قوّمتها الخشب
وقال آخر: [الكامل]
إنّ الكبير إذا تناهى سنّه ... أعيت رياضته على الرّوّاض
فإذا دفعت إلى الصغير فإنما ... تكفيك منه إشارة الإيماض
وقال آخر: [الكامل]
* ومن العناء رياضة الهرم *
وأنشدوا: [البسيط]
* أبعد شيبك هذا تبتغي الأدبا *
وقال الشاعر في تدريج الصبي برفق: [السريع]
سدّد مرامي الطفل في شأنه ... بلفظة تشدد بها أزره
واغتنم اللمحة من فهمه ... إن المبادي أبدا نزره
كما تربّى النار من شعلة ... والدّوحة الغناء من بذره
وهذا ضدّ ما قال المعري: [البسيط]
لا يستوي ابناك في خلق ولا خلق ... إن الحديدة أمّ السّيف والجلم
فاضرب وليدك وادلله على رشد ... ولا تقل هو طفل غير محتلم
فربّ شق برأس جرّ منفعة ... وقسى على نفع شق الرأس بالقلم
أشار إلى قوله تعالى: {يََا يَحْيى ََ خُذِ الْكِتََابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12].
وقال صالح بن عبد القدوس: [السريع]
وإنّ من أدّبته في الصّبا ... كالعود يسقى الماء من غرسه
حتى تراه مورقا ناضرا ... بعد الذي أبصرت من يبسه
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه
إذا ارعوى عاوده جهله ... كذي الضنى عاد إلى نكسه
ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه
وقال عتبة بن أبي سفيان لمعلم ولده: ليكن أوّل إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيوبهم معقودة بعيبك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت، علّمهم كتاب الله ولا تمهلهم فيه فيتركوه، ولا تتركهم فيه فيهجروه، وروّهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفّه، ولا تنقلهم من علم إلى آخر حتى يحكموه، فإنّ ازدحام الكلام في السّمع مشغلة في الفهم، وعلّمهم سير الحكماء، وأخلاق الأدباء، وهددهم في أدبهم دوني، وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدّواء قبل معرفة الداء، وجنبهم محادثة النساء، واستزدني بزيادتك إيّاهم ازدك في برّي، وإيّاك أن تتّكل على عذر منّي، فقد اتّكلت على كفاية منك لي.(3/367)
وإنّ من أدّبته في الصّبا ... كالعود يسقى الماء من غرسه
حتى تراه مورقا ناضرا ... بعد الذي أبصرت من يبسه
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه
إذا ارعوى عاوده جهله ... كذي الضنى عاد إلى نكسه
ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه
وقال عتبة بن أبي سفيان لمعلم ولده: ليكن أوّل إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيوبهم معقودة بعيبك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت، علّمهم كتاب الله ولا تمهلهم فيه فيتركوه، ولا تتركهم فيه فيهجروه، وروّهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفّه، ولا تنقلهم من علم إلى آخر حتى يحكموه، فإنّ ازدحام الكلام في السّمع مشغلة في الفهم، وعلّمهم سير الحكماء، وأخلاق الأدباء، وهددهم في أدبهم دوني، وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدّواء قبل معرفة الداء، وجنبهم محادثة النساء، واستزدني بزيادتك إيّاهم ازدك في برّي، وإيّاك أن تتّكل على عذر منّي، فقد اتّكلت على كفاية منك لي.
وأوصى الرّشيد مؤدب ولده الأمين، فقال: إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصيّر يدك عليه مبسوطة، وطاعتك عليه واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، أقرئه القرآن، وعرفه الآثار، وروّه الأشعار، وعلمه السنن، وبصّره مواقع الكلام، وامنعه الضحك إلا في أوقاته، ولا تمرر بك ساعة إلّا وأنت مغتنم فيها فائدة تفيدها له من غير أن تخرق به فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته، فيستحلي الفراغ ويألفه، وقوّمه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة، وبالله توفيقكما.
وقال للأصمعيّ: يا عبد الملك، أنت أعلم منّا، ونحن أعقل منك، لا تعلّمنا في ملا، ولا تسرع بتذكيرنا في خلا، واتركنا حتى نبتدئك بالسؤال فإذا بلغت الجواب حسب الاستحقاق، فلا تزد إلّا أن نستدعي ذلك منك.
الماوردي: إذا كان لبعض الملوك رغبة في العلم، فلا تجعل ذلك ذريعة للانبساط عليه والإدلال، وكتب شريح إلى معلم ولده: [الكامل]
ترك العلاة لأكلب يسعى بها ... يبغي الهراش مع الغواة الرّجّس
فإذا هممت بضربه فبدرّة ... وإذا بلغت به ثلاثا فاحبس
وإذا أتاك فعضّه بملامة ... وعظنه موعظة الأديب الأكيس
واعلم بأنّك ما أتيت فنفسه ... مع ما يجرّعني أعزّ الأنفس
اتصل حمّاد عجرد بالربيع يعلم ولده، فكتب إليه بشار: [مجزوء الخفيف]
يا أبا الفضل لا تنم ... وقع الذئب في الغنم
إنّ حماد عجرد ... إن رأى غفلة هجم
بين فخذيه حربة ... في غلاف من الأدم
إن خلا البيت ساعة ... تجمّع الميم بالقلم
فطرده الربيع.(3/368)
يا أبا الفضل لا تنم ... وقع الذئب في الغنم
إنّ حماد عجرد ... إن رأى غفلة هجم
بين فخذيه حربة ... في غلاف من الأدم
إن خلا البيت ساعة ... تجمّع الميم بالقلم
فطرده الربيع.
واتخذ المهديّ قطربا لتأديب بعض ولده، وكان حماد يطمع في ذلك، فلم يتم له لتهتّكه وشهرته في الناس بما قال بشار، فلما تمكن قطرب من موضعه، صار حماد كالملغى، فجعل يقوم ويقعد قلقا، ثم دسّ إلى المهدي رقعة فيها: [البسيط]
قل للإمام جزاك الله صالحة ... لا تجمع الدهر بين السّخل والذّيب
السخل غرّ وهمّ الذئب فرصته ... والذئب يعلم ما في السّخل من طيب
فقال المهديّ: انظروا لا يكون هذا المؤدب لوطيا، ثم أخرجوه من الدار، فبعث الضجر حمادا حيث حرمه بشّار هذه المراتب إلى أن قال فيه: [الطويل]
لقد صار بشار بصيرا بدبره ... وناظره بين الأنام ضرير
له مقلة عمياء وأست بصيرة ... إلى الأير من تحت الثياب تشير
على ودّه أن الحمير تنيكه ... وأنّ جميع العالمين حمير
وقال فيه: [الهزج]
ألا من مبلغ عنى ال ... ذي والده برد
إذا ما ذكر الناس ... فلا قبل ولا بعد
وأعمى يشبه القرد ... إذا ما عمي القرد
قال فيه: [الطويل]
دعيت إلى برد وأنت لغيره ... وهبك ابن برد نكت أمّك من برد
وكان عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدّب الوليد لوطيّا زنديقا، وكان سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت جميل الوجه شاعرا، فدخل على عبد الصمد فراوده في نفسه فسبّه، وخرج مغضبا، فدخل على هشام بن عبد الملك، وهو يقول: [الرمل]
إنّه والله لولا أنت لم ... ينج مني سالما عبد الصّمد
فقال هشام: ولم؟ قال: [الرمل]
إنه قد رام مني خطّة ... لم يرمها قبله مني أحد
قال: وما هي؟ قال: [الرمل]
رام جهلا بي وجهلا بأبي ... يدخل الأفعى إلى غيل الأسد
فضحك هشام، وقال: لو فعلت به شيئا لم أنكر عليك.(3/369)
رام جهلا بي وجهلا بأبي ... يدخل الأفعى إلى غيل الأسد
فضحك هشام، وقال: لو فعلت به شيئا لم أنكر عليك.
وكان سعيد يومئذ صغيرا في المكتب ومؤدّبه عبد الصمد هذا، فلما راوده عن نفسه شكاه إلى هشام وأبدع في الكناية، ورقّق هذا المنكر الأكبر بلفظ يقابل به خليفة، وغاية ذوي الحنكة من الخطباء محاكاة براعته واستعارته، وليس ببدع، فهو من بيت ثلاثة شعراء في نسق، وكان هذا الشعر سبب إبعاد عبد الصمد من تأديب أولاد الخلفاء.
قوله: ما لبث، أي ما أقام ولا تأخّر. كبر أصيبيته، أي أكبرهم، وكبر ولد الرجل أكبرهم من الذّكور، وكبر قومه: أقعدهم في النّسب، أي أقربهم إلى الجدّ الأكبر، ومنه قيل: الولاء للكبر. أصيبية تصغير أصبية. قال الجوهري: الصبيّ: الغلام، وجمعه صبية وصبيان وهو من الواو، ولمّا لم يقولوا: أصبية ولا أغلمة استغنوا عنهما بصبية وغلمة، وجاء في الشعر أصيبية. وقال سيبويه: تصغير صبية أصيبية، وتصغير أصبية صبية وكلاهما على غير قياس.
ابن سيده: عندي أن صبية تصغير صبيّة وأصيبية تصغير أصبية، ليكون كل شيء منهما على بناء مكبره.
العواطل: التي لا نقط فيها. تماطل: تؤخر إنشادها. جثا: برك. ليث: أسد.
ريث: بطء وتأخير.
* * * [السريع]
أعدد لحسّادك حدّ السّلاح ... وأورد الآمل ورد السّماح
وصارم اللهو ووصل المها ... وأعمل الكوم وسمر الرّماح
واسع لإدراك محلّ سما ... عماده لا لادّراع المراح
والله ما السؤدد حسو الطّلا ... ولا مراد الحمد رؤد رداح
واها لحرّ واسع صدره ... وهمّه ما سرّ أهل الصّلاح
مورده حلو لسؤّاله ... وما له ما سألوه مطاح
ما أسمع الآمل ردا ولا ... ما طله والمطل لؤم صراح
ولا أطاع اللهو لمّا دعا ... ولا كسا راحا له كأس راح
سوّده إصلاحه سرّه ... وردعه أهواءه والطّماح
وحصّل المدح له علمه ... ما مهر العور مهور الصّحاح
* * * أورد الآمل، أي أعط الراجي. ورد السماح: ماء الكرم. صارم: قاطع. المها:
جمع مهاة وهي البقرة الوحشية، وأراد النساء. الكوم: جمع كوماء، وهي الناقة العظيمة السنام. اسع: اجر مسرعا. محلّ سما: منزل ارتفع. والعماد: قائمة الخباء وإذا علت علا البيت. ادّراع: لبس الدّروع. والمراح: الطرب والنشاط، كأنه يقول: لا تشتغل باللهو واشتغل بكسب الشرف. حسو الطّلا: شرب الخمر. السّودد: الفعل الذي يرجع به فاعله سيّدا. مراد، بفتح الميم: مذهب وطريق، وأصله موضع اختلاف الإبل مقبلة ومدبرة وهو المرعى. رود: جارية ناعمة شابة. والرّداح: العظيمة العجز، وهو كما قال أبو نواس: [الوافر](3/370)
أعدد لحسّادك حدّ السّلاح ... وأورد الآمل ورد السّماح
وصارم اللهو ووصل المها ... وأعمل الكوم وسمر الرّماح
واسع لإدراك محلّ سما ... عماده لا لادّراع المراح
والله ما السؤدد حسو الطّلا ... ولا مراد الحمد رؤد رداح
واها لحرّ واسع صدره ... وهمّه ما سرّ أهل الصّلاح
مورده حلو لسؤّاله ... وما له ما سألوه مطاح
ما أسمع الآمل ردا ولا ... ما طله والمطل لؤم صراح
ولا أطاع اللهو لمّا دعا ... ولا كسا راحا له كأس راح
سوّده إصلاحه سرّه ... وردعه أهواءه والطّماح
وحصّل المدح له علمه ... ما مهر العور مهور الصّحاح
* * * أورد الآمل، أي أعط الراجي. ورد السماح: ماء الكرم. صارم: قاطع. المها:
جمع مهاة وهي البقرة الوحشية، وأراد النساء. الكوم: جمع كوماء، وهي الناقة العظيمة السنام. اسع: اجر مسرعا. محلّ سما: منزل ارتفع. والعماد: قائمة الخباء وإذا علت علا البيت. ادّراع: لبس الدّروع. والمراح: الطرب والنشاط، كأنه يقول: لا تشتغل باللهو واشتغل بكسب الشرف. حسو الطّلا: شرب الخمر. السّودد: الفعل الذي يرجع به فاعله سيّدا. مراد، بفتح الميم: مذهب وطريق، وأصله موضع اختلاف الإبل مقبلة ومدبرة وهو المرعى. رود: جارية ناعمة شابة. والرّداح: العظيمة العجز، وهو كما قال أبو نواس: [الوافر]
لئن خلق الأنام لحب كأس ... ومزمار وطنبور وعود
فلم يخلق بنو حمدان إلّا ... لبأس أو لمجد أو لجود
واها: عجبا. ما: بمعنى الذي. مطاح: هالك بالعطاء. صراح: ظاهر. راحا:
كفّا. راح الثاني: خمر. سؤدده: شرفه، وجعله سيّدا. سرّه: باطنه. ردعه: كفه.
أهواءه: شهواته. والطماح: ارتفاع النظر. العور: جمع عوراء وهي الفاقدة إحدى عينيها. مهور: جمع مهر، وهو الصداق، وأعمل علمه فيما بعده من الكلام، وضرب العور والصحاح مثلا للأفعال الجميلة والذميمة، فأراد أن تمييزه بين الأشياء المتضادة وعلمه أن مهر القبيحة العوراء لا يبلغ مهر المليحة الحسناء، جعل ممدوحا سيدا. ومثل هذا الشعر الذي لم ينقط ما أنشد أبو القاسم الزجاجي لأحمد بن الورد:
علم العدوّ ملامة اللوّام ... ودوام صدّك وهو صدّ حمام
لولاك ما حدر السهاد دموعه ... ولما أطار كراه حرّ أوام
هل ما أسرّ وما أؤمّل رادع ... هول الهموم وروعة الأحلام
ردّ السلام وما أراك مسلّما ... ورآك أهل هواك سرّ كلام
كم حاسد لك أو مسرّ وداده ... ومعلّل أهواه طول ملامي
وهي قصيدة نحو الثمانين بيتا وما زال المحدثون يظهرون اقتدارهم في هذا الفن، إلّا أنه قلّما يقع في ذلك بيت مستحسن، فلذلك تركنا أن نمشي مع أشعار هذه المقامة فيما يماثلها، وقد أكثر الناس القول في ذلك، وفائدته أن يقال: قدر على لزوم ما لا يلزم لا أن يقال: قد أحسن فيما قال، وقد أنشد أبو القاسم أيضا، أبياتا لا تنطبق عليها الشفاه، منها: [الطويل]
أتيناك يا جزل العطية إننا ... رأيناك أهلا للعطايا الجزائل
عقيل النّدى يا حار عدنا عقيلة ... نعدك انتجاعا للحسان العقائل
* * * فقال له: أحسنت يا بدير، يا رأس الدّير، ثمّ قال لتلوه، المشتبه بصنوه: ادن
يا نويرة، يا قمر الدّويرة، فدنا ولم يتباطا، حتّى حلّ منه مقعد المعاطى، فقال له:(3/371)
أتيناك يا جزل العطية إننا ... رأيناك أهلا للعطايا الجزائل
عقيل النّدى يا حار عدنا عقيلة ... نعدك انتجاعا للحسان العقائل
* * * فقال له: أحسنت يا بدير، يا رأس الدّير، ثمّ قال لتلوه، المشتبه بصنوه: ادن
يا نويرة، يا قمر الدّويرة، فدنا ولم يتباطا، حتّى حلّ منه مقعد المعاطى، فقال له:
اجل الأبيات العرائس، وإن لم يكنّ نفائس، فبرى القلم وقط، ثمّ احتجر اللوح وخطّ: [الخفيف]
فتنتني فجنّنتني تجنّي ... بتجنّ يفتنّ غبّ تجنّي
شغفتني بجفن ظبي غضيض ... غنج يقتضي تغيّض جفني
غشيتني بزينتين فشفّت ... ني بزيّ يشفّ بين تثنّي
فتظنّيت تجتبي فتجز ... ني بنفث يشفي فخيّب ظنّي
ثبّتت فيّ غشّ جيب بتزيي ... ن خبيث يبغي تشفّي ضغن
فزت في تجنّبي فثنتني ... بنشيج يشجي بفنّ ففننّ
* * * قوله: أحسنت يا بدير: تصغير بدر، صغّره لصغر سنه، على أنه قد زعم أنه كبير صبيانه. وفي مثل هذا البدر الذي قد نثر هذه الدرر قال الشاعر:
درّان من فمه شفّا محدّثه ... للنّثر والنّظم مسموع وملتثم
قد قلت لو قبل الوعظ المبين له ... خف المهيمين فينا إننا نسم
فقال من ضرّجت خدي نظرته ... فإن سيف جفوني منه ينتقم
يا رأس الدير: يا عظيم القوم، والدير، موضع القسّيسين، أراد به حلقة أصحابه.
تلوه: التابع له، أو الجالس إلى جانبه. صنوه: أخوه الّذي على قدر سنّه. ادن: اقرب.
نويرة: تصغير نار، شبّه في حدته وذكائه بها، أو في حسنه وبهائه. والدويرة: تصغير دارة، وهي حلقتهم التي اجتمعوا فيها، فكأنه قال: يا قمرا في أصحابه.
[الغلمان والكتاب]
ومما قيل في غلام كاتب: سأل الثعالبيّ أبا الفضل الدارميّ أن يصف له غلاما كاتبا حسن الخطّين: خطّي اليد والوجه، فقال: [السريع]
وكاتب أهديت نفسي له ... فهي من السّوء فدى نفسه
سلّط خدّيه على مهجتي ... فاستأصلاها وهي من غرسه
فلست أدري بعد ما حلّ بي ... بمسكه أتلف أم نفسه
وقال في ذلك: [السريع]
وشادن أسرف في صدّه ... وزاد في التيه على عبده
الحسن قد بثّ على خدّه ... بنفسجا يربو على ورده
رأيته يكتب في طرسه ... خطّا يباري الدّرّ في عقده
فخلت ما قد خطّه كفّه ... للحسن قد خطّ على خدّه
ولابن رشيق: [المتقارب](3/372)
وشادن أسرف في صدّه ... وزاد في التيه على عبده
الحسن قد بثّ على خدّه ... بنفسجا يربو على ورده
رأيته يكتب في طرسه ... خطّا يباري الدّرّ في عقده
فخلت ما قد خطّه كفّه ... للحسن قد خطّ على خدّه
ولابن رشيق: [المتقارب]
كتبت ولو أنني أستطيع ... لإجلال قدرك دون البشر
قددت البراعة من أنملي ... وكان المداد سواد البصر
وله أيضا: [الطويل]
عزيز يباري الصّبح إشراق خدّه ... وفي مفرق الظّلماء منه نسيب
يزفّ إليه ضاحكا أقحوانه ... ويهتزّ في برديه منه قضيب
ولابن المعتز في العذار المشبه بالحروف: [الوافر]
بليت بشادن كالبدر حسنا ... يعذّبني بأنواع الدّلال
غلالة خدّه ورد جنيّ ... ونون الصّدغ معجمة بخال
وله أيضا: [البسيط]
كأن خطّ عذار فوق وجنته ... ميدان آس على ورد ونسرين
وخطّ فوق حباب الدّر شاربه ... بنصف صاد ودار الصّدغ بالنون
وله أيضا: [الطويل]
له من عيون الوحش عين مريضة ... ومن خضرة البستان خضرة شارب
كأن غلاما حاذقا خطّه له ... فجاء كنصف الصّاد من خط كاتب
وقال آخر: [البسيط]
تعلّم العطف من صدغيه فانعطفا ... وكان عادته ألّا يفي فوفى
دبّ العذار على ميدان صفحته ... حتى إذا همّ أن يسعى به وقفا
كأنه كاتب عزّ المداد به ... أراد يكتب لا ما فابتدى ألفا
وقال أبو القاسم بن المغربي: [الطويل]
ولمّا احتوى بدر الدّجى صحن خدّه ... تحيّر حتى ما درى أين يذهب
كأن انعطاف الصّدغ لام أمالها ... أديب يجيد الخطّ أيّان يكتب
فهذه الأشعار المستعذبة الّتي بها تعلّق بالغلمان الذين يذكر أنهم كتّاب من جهة حسنهم واعتدال قدودهم وتوريد خدودهم، وتطريزها بالعذار أحسن من ذكر شعر لزوميّ ليس فيه شيء من الأنس للنفس.(3/373)
قوله تباطا: أي تأخر وأصله الهمز. المعاطى: الّذي تعطيه كأس الخمر ويعطيها لك، وقد عاطيته وعاطاني وقد تعاطى فلان كذا، أي تناوله وأخذه، من قولهم: عطوت أعطو عطوا، أي تناولت. العرائس: جمع عروس، وسمّاها عرائس لما فيها من التزيين بالنقط، وكانت زينة العروس عند العرب أن تنقط في خديها نقط صغار بالزعفران، فلذلك سمّى هذه عرائس لنقطها، وسمّى التي قبلها عواطل لعدم نقطها. نفائس: جمع نفيس، وهو الرفيع القدر، يريد أنه لما لزمها ما لم يلزم ضعفت، وقد ذكرنا أن الغرض بمثل هذه الأشعار إظهار الاقتدار، وعلى ما ذكر أنها غير نفائس فهي أحسن مما عمل في بابها، وما أحسن ما قال ديك الجن في جاريته: [الكامل]
انظر إلى شمس القصور وبدرها ... وإلى خزاماها ونفحة زهرها (1)
لم تبل عينك أبيضا في أسود ... جمع الجمال كوجهها في شعرها
وردية الوجنات يختبر اسمها ... من ريقها من لا يحيط بخبرها
وتمايلت فضحكت من أردافها ... عجبا ولكني بكيت لخصرها
تسقيك كأس مدامة من كفّها ... وردية ومدامة من ثغرها
ولابن الزّقاق: [الطويل]
تضوّعن إشراقا وأشرقن أوجها ... فهن منيرات الصّباح بواسم (2)
لئن كنّ زهرا فالجوانح أبرج ... وإن كن زهرا فالقلوب كمائم
قوله: قط: قطع، وقيل: القطّ القطع عرضا، والقدّ: القطع طولا. احتجر: جعله في حجره. خط: كتب. فتنتني، أي عذبت قلبي. جنّنتني: أي صيرتني مجنونا. تجني:
اسم امرأة، والتجنّي الدلال والتيه.
وللبحتريّ: [الوافر]
إذا خطرت تأرّج جانباها ... كما خطرت على الأرض القبول (3)
ويحسن دلّها والموت فيه ... وقد يستحسن السّيف الصّقيل
شغفتني: بلغ حبّها شغاف قلبي، والشّغاف حجاب القلب. ظبي: غزال. غضيض:
منكسر الطرف فاتر العينين. والغنج: تكسير الكلام وتخنيثه وهو المجانة. يقتضي:
يتضمن. تغيّض جفني: سيلان عيني.
ومما قيل في مرض العينين وحسن فيه التشبيه قول البحتريّ: [الطويل]
__________
(1) الأبيات في ديوان ديك الجن الحمصي ص 168.
(2) الأبيات في ديوان ابن الزقاق ص 297.
(3) البيتان في ديوان البحتري ص 822.(3/374)
غداة تثنّت للوداع وسلّمت ... بعينين موصول بجفنيهما السّحر (1)
توهّمتها ألوي بأجفانها الكرى ... كرى النّوم، أو مالت بأعطافها الخمر
وقال ذو الرّمة: [الطويل]
لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر (2)
وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولان بالألباب ما تفعل الخمر
وقد تقدّم جملة من هذا.
غشيتني: أتتني على غفلة. شفّتني: أنحلت جسمي. والزّي: الهيئة الحسنة من اللباس. يشفّ: يفضل. تثنّ: اهتزاز وانعطاف. تظنّيت: حسبت. تجتبيني: تختارني.
بنفث: بلفظ وكلام. والجيب: القلب. يبغي: يطلب. تشفّي ضغني: إزالة عداوتي.
نزت: وثبت. تجنّبي: بعدي. ثنتني: ردّتني. نشيج: صوت البكاء. يشجي: يحزن.
بفنّ ففنّ: بنوع فنوع.
* * * فلمّا نظر الشيخ إلى ما حبّره، وتصفّح ما زبره، قال له: بورك فيك من طلا، كما بورك في لا ولا. ثم هتف: اقرب، يا قطرب، فاقترب منه فتى يحكي نجم دجية، أو تمثال دمية، فقال له: ارقم الأبيات الأخياف، وتجنّب الخلاف، فأخذ القلم، ورقم: [مخلع البسيط]
اسمح فبثّ السّماح زين ... ولا تخب آملا تضيّف
ولا تجز ردّ ذي سؤال ... فنّن أم في السؤال خفّف
ولا تظنّ الدّهور تبقي ... مال ضنين ولو تقشّف
واحلم فجفن الكرام يغضي ... وصدرهم في العطاء نفنف
ولا تخن عهد ذي وداد ... ثبت ولا تبغ ما تزيّف
حبّره: زينه. زبره: كتبه. طلا: غزال. لا ولا، يعني الزيتون، ومن كلام العامة، بورك فيك كما بورك في الزّيت، وأراد بلا ولا قوله تعالى: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبََارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لََا شَرْقِيَّةٍ وَلََا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35]، فأخذ من الآية لا ولا واكتفى بهما.
الفنجديهي: يحكى أن بعض الناس ظهرت به علة مزمنة شديدة أعيا الأطباء
__________
(1) البيتان في ديوان البحتري ص 844.
(2) البيتان في ديوان ذي الرمة ص 577، والبيت الأول في الخصائص 1/ 29، 3/ 302، ولسان العرب (هرأ)، (نزر).(3/375)
علاجها، فلما أيس رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النّوم فشكا إليه علّته المزمنة، فقال له: عليك بلا ولا، فقصّ رؤياه على ابن سيرين، فقال له: إن صدقت رؤياك فإنه صلى الله عليه وسلم أمرك بتناول الزيتون، فتناولها الرجل فبرىء من علّته، فقال لابن سيرين: من أين قلتها؟
قال: من قوله تعالى: {زَيْتُونَةٍ لََا شَرْقِيَّةٍ وَلََا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35]، المعنى من زيت شجرة مباركة زيتونة لا شرقية، أي ليست تطلع عليها الشمس أوّل النهار فقط، ولا غربيّة أي عند الغروب فقط، أي لا يسترها من الشمس في وقب من النهار شيء، فهو أنضر لها وأجود لزيتها، وقال صلى الله عليه وسلم: «كلوا الزيت وادّهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة» (1).
قوله: هتف: صاح. قطرب: خفيف النوم، والقطرب: دويبة تمشي بالليل. وجنّية:
تبرك على الإنسان فيجد لها ثقلا، والعامة تبدل طاءها تاء، والعرب تسميها النّئدلان، والكابوس والجاثوم، ويسميها أهل بغداد البحت. دجية: ظلمة. دمية: صورة رخام، وجمعها دجى ودمى وكأنّ صورة هذا الغلام الذي ذكر الشاعر: [الطويل]
بدا فبدا من وجهه البدر طالعا ... لدى الروض يستعلي قضيبا منعّما
وقد أرسلت أيدي العذارى بخدّه ... عذارا من الكافور والمسك أسحما
وأحسب هاروتا أطاف بطرفه ... يعلّمه من سحره فتعلّما
ألم بنا في دامس الليل فانجلى ... فلما انثنى عنّا وودّع أظلما
والأبيات للأمير أبي الحسن أحمد بن عضد الدولة.
وقال أبو إسحاق الحصري مؤلف كتاب الزهر: [مجزوء الكامل]
عليل طرف سقيت خمرا ... من مقلتيه فمتّ سكرا
ترقرقت وجنتاه ماء ... مازج فيه العتيق درّا
يحرّك الدلّ منه غصنا ... ويطلع الحسن منه بدرا
قد نمّ مسك بعارضيه ... خلّف للعاشقين عذرا
قوله: الأخياف، أي المختلفة. وقوله: فأخذ القلم ورقم، كأنّ أبا إسحاق الحصري إيّاه عنى بهذه الأبيات: [البسيط]
إذا بدا القلم الأعلى براحته ... مطرّزا لرداء الفجر بالظّلم
رأيت أسود في الأبصار أبيض في ... بصائر لحظها للفهم غير عمي
كروضة خطرت في وشي زهرتها ... وافتر نوّارها عن ثغر مبتسم
__________
(1) أخرجه الترمذي في الأطعمة باب 43، وابن ماجه في الأطعمة باب 43، والدارمي في الأطعمة باب 20، وأحمد في المسند 3/ 497.(3/376)
وكأن الحسن استعار منه الدواة والقلم حيث قال: [المنسرح]
يا ريم هات الدواة والقلما ... أكتب شوقي إلى الّذي ظلما
غضبان قد غرّني رضاه ولو ... يسأل فيما غضبت ما علما
لو نظرت عينه إلى حجر ... ولّد فيه فتورها سقما
فليس ينفكّ منه عاشقه ... في جمع عذر لغير ما اجترما
علقت من لو أوى إلى أنفس ال ... ماضين والغابرين ما ندما
قوله: اسمح: جد. بث: نشر. آملا: راجيا. تضيّف: طلب منك أن تضيفه. فنّن:
أتى بفنون من السؤال. ضنين: بخيل. تقشّف: ترك النظافة. يغضي: يتغافل. نفنف.
واسع، والنفنف متسع الأرض. ثبت: صادق الودّ، ويروى: نثّ أي نشر. تبغ: تطلب.
تزيّف: تنقص، وصار زائفا، وهو الدرهم الرديء.
* * * فقال له: لا شلّت يداك، ولا كلّت مداك، ثم نادى: يا غشمشم، يا عطر منشم، فلبّاه غلام كدرّه غوّاص، أو جؤذر قنّاص، فقال له: اكتب الأبيات المتائيم، ولا تكن من المشائيم، فتناول القلم المثقف، وكتب ولم يتوقّف: [الخفيف]
زيّنت زينب بقدّ يقدّ ... وتلاه ويلاه نهد يهدّ
جندها جيدها وظرف وطرف ... ناعس تاعس بحدّ يحدّ
قدرها قد زها وتاهت وباهت ... واعتدت واغتدت بخدّ يخدّ
فارقتني فأرّقتني وشطّت ... وسطت ثمّ نمّ وجد وجدّ
فدنت فدّيت وحنّت وحيّت ... مغضبا مغضيا يودّ يودّ
* * * قوله كلّت، أي حفيت. مداك: سكاكينك، جمع مدية. الغشمشم: الذي لا يردّه شيء عن مراده.
[قصة المثل: دقّوا بينهم عطر منشم]
عطر منشم، قيل: كانت منشم جارية عطّرت رجالها حين خرجوا للقتال، فقتلوا عن آخرهم، فضرب بها المثل في الشؤم. وقيل: بل الإشارة إلى عطارة، أغار عليها قوم فأخذوا عطرها فتطيّبوا فاستغاثت بقومها، فخرجوا في طلبهم، فمن شمّوا عليه رائحة الطيب قتلوه، ومن أوّله على هذا قال: عطر من شمّ، فجعلوه من كلمتين. وقيل: الكناية عن قرون السنبل الّذي يقال إنه سمّ ساعة.(3/377)
وذكر ابن الكلبيّ أنها امرأة من خزاعة كانت تبيع العطر فتطيّب بعطرها قوم وتحالفوا على الموت، فماتوا.
وقال غيره: بل هي صاحبة يسار الكواعب، وكان عبدا أسود مشوّه الخلقة راعي إبل، فمتى رأته النساء ضحكن منه، فتوهّم أنهنّ يضحكن من إعجابهنّ بحسنه، فقال يوما لرفيق له: أنا يسار الكواعب، ما رأتني جارية كاعب إلا وعشقتني، فقال له رفيقه: يا يسار، اشرب لبن العشار، وكل لحم الحوار، وإياك وبنات الأحرار، فأبى وراود مولاته عن نفسها، فقالت له: مكانك حتى آتيك بطيب أشمك إياه، فأتته بموسى، فلما أدنى أنفه ليشمّ الطيب جدعته.
ويقال إنه لما راودها قالت له: أهكذا تأتيني بذفرك ووسخك! ادن حتى أعطّرك، فأدخلت يدها تحته وفيها موسى لطيفة قد أعدّتها له، فقبضت على ذكره وخصيته، فاقتطعت الجميع، فخرج فمن رآه على تلك الحالة قال له: ما هذا؟ فيقول: عطر من شمّ. وقيل: كانت تبيع الحنوط وهو عطر الموتى. وقيل: المنشم: الشر نفسه، وقيل:
المنشم ثمرة سوداء منتنة. وقيل فيها غير ما ذكر.
وذكر الحريري في الدرة أكثر هذه الوجوه، وذكر أن كسر شين منشم أكثر وأشهر ويروى بفتحها.
قوله المتائيم: جمع متئم، وهي التي من عادتها أن تلد توأمين، ولما كانت أبياته لا يوجد فيها إلا الألفاظ المزدوجة، سمّيت متائيم، وقيل: المتائيم: جمع توأم على غير قياس. المشائيم: جمع مشآم، وهو الكثير الشؤم، وشبّه بدرّة غواص في بياضه ورقة ديباجه. وجؤذر قناص، هو الظبي الفاتر العينين، والقنّاص: الصياد، فكأنه يصطاد بعينيه من نظر، وإن أضفت جؤذر إلى القناص فمعناه مستقيم، فيصفه بالخوف وكثرة التلفّت خشية أن يصاد. وما أحسن ما قال صاحبنا الوزير الحسيب أبو المطرّف الزّهري في هذا المعنى وكان جالسا في باب داره مع زائر له، فخرجت عليهما من زقاق جارية سافرة الوجه كالشمس الطالعة، فحين نظرتهما على غفلة نفرت خجلة فزعة، فرأى الزائر ما أبهته، فكلّفه وصفها، فقال مرتجلا: [البسيط]
يا ظبية نفرت والقلب مسكنها ... خوفا لختلي أو عمدا لتعذيبي
لتأمني فابن عبد الحيّ ألحقنا ... عدلا يؤلف بين الظبي والذيب
وكأن ابن رشيق وصف هذا الغلام الكاتب حيث قال: [السريع]
وفاتر الأجفان ذي وجنة ... كأنها في الحسن ورد الرّياض
قلت له: يا ظبي خذ مهجتي ... داوي بها تلك الجفون المراض
فجاوبت من خدّه خجلة ... كيف ترى الحمرة فوق البياض
وقال أيضا: [مجزوء الرمل](3/378)
وفاتر الأجفان ذي وجنة ... كأنها في الحسن ورد الرّياض
قلت له: يا ظبي خذ مهجتي ... داوي بها تلك الجفون المراض
فجاوبت من خدّه خجلة ... كيف ترى الحمرة فوق البياض
وقال أيضا: [مجزوء الرمل]
بين أجفانك سحر ... ولأغصانك بدر
جرّدت عيناك سيفي ... ن لذا أمرك أمر
فعلى خدّيك من نز ... ف دما العشّاق أثر
ومن الكثبان شطر ... لك والأغصان شطر
وسواء قلت درّ ... ما أرى أو قلت ثغر
وبماذا أصف الخص ... ر وما إن لك خصر
بك شغلي واشتغالي ... ومضى زيد وعمرو
وقال خالد الكاتب: [الكامل]
قد قلت لمّا أن بدا متبخترا ... والرّدف يجذب خصره من خلفه
يا من يسلّم خصره من ردفه ... سلّم فؤاد محبّه من طرفه
وله مما يتعلق بالكتابة: [المتقارب]
كتبت إليك بماء الجفون ... وقلبي بماء الهوى مشرب
فكيف تخطّ وقلبي يملّ ... وعيني تمحو الّذي أكتب
فليس يتم كتابي إليك ... بشوقي فمن هاهنا أعجب
قوله: زينت زينب بقدّ يقدّ، إنما أراد بقدّ يقدّ، أي ينقطع لرقة خصره، فعوّض منه يقدّ لقرب ما بين اللفظين ولضرورة الازدواج. وقال البحتريّ في القدود: [الوافر]
من السّمر اللدان إذا اسبكرّت ... وصرف الموت في السّمر اللدان
شبيهات الرّماح قنى جفون ... وكلم في القلوب بلا سنان
فهل من ضربة أو من سنان ... كعين أو كثغر أو بنان
وقال السريّ: [الكامل]
قامت وخوط البانة ال ... ميّاس في أثوابها
تسقي بصهباءين من ... ألحاظها وشرابها
ويهزّها سكران سكر ... شرابها وشبابها
وكأنّ كأس مدامها ... لما ارتدت بحبابها
توريد وجنتها إذا ... ما لاح تحت نقابها
وقال القاضي أبو حفص بن عمر: [الكامل]
هذا فؤادي أقصدته الأسهم ... من ذا يرى تلك الجفون ويسلم
يا غرّة حكم الجمال لها على ... شمس الضحى وأصاب فيما يحكم
يحكي الجآذر جيدها ولحاظها ... هيهات دون العالم المتعلّم
وكأنّ قامتها ونغمة لفظها ... غصن عليه بلبل يترنّم
يضحي الخليّ إذا رآها عاشقا ... والعقل توقظه اللحاظ النوّم
وما أحسن ما قال أبو الحسن بن القبطرنة: [المتقارب](3/379)
هذا فؤادي أقصدته الأسهم ... من ذا يرى تلك الجفون ويسلم
يا غرّة حكم الجمال لها على ... شمس الضحى وأصاب فيما يحكم
يحكي الجآذر جيدها ولحاظها ... هيهات دون العالم المتعلّم
وكأنّ قامتها ونغمة لفظها ... غصن عليه بلبل يترنّم
يضحي الخليّ إذا رآها عاشقا ... والعقل توقظه اللحاظ النوّم
وما أحسن ما قال أبو الحسن بن القبطرنة: [المتقارب]
ذكرت سليمى وحرّ الوغى ... كقلبي ساعة ودّعتها
وأبصرت بين القنا قدّها ... وقد ملن نحوي فعانقتها
قوله: تلاه، أي تبعه. ويلاه: دعا لنفسه بالويل والخسران حين رأى نهدا لا يصبر عنه.
[مما قيل في النهود]
ومما جاء من التشبيهات الحسان في أوصاف النّهود قول عمرو بن كلثوم: [الوافر] وثديا مثل حقّ العاج رخصا ... مصانا من أكفّ اللامسينا (1)
بشار: [البسيط]
والنهد تحسبه وسنان أو كسلا ... وقد تمايل ميلا غير منكسر
ابن الرومي: [الوافر]
صدور فوقهنّ حقاق عاج ... ودرّ زانه حسن اتّساق
يقول القائلون إذا رأوه ... أهذا الدّرّ من هذي الحقاق!
وأخذه من قول عبد الله بن السبط: [المتقارب]
كأنّ الثّدي إذا ما بدت ... وزان العقود بهنّ النّحورا
حقاق من العاج مكنونة ... يسعن من الدرّ شيئا يسيرا
ولإدريس اليماني: [الطويل]
أيا ربّة النّهد الذي بسنانه ... يحطّ فتى الهيجاء عن فرس نهد
أحقان من عاج بصدرك أم هما ... رقيبان قد قاما على جنّة الخلد
__________
(1) البيت في ديوان عمرو بن كلثوم ص 68، ولسان العرب (حقق)، وجمهرة اللغة ص 101، وجمهرة أشعار العرب 1/ 393، وشرح ديوان امرىء القيس ص 322، وشرح القصائد السبع ص 381، وشرح القصائد العشر ص 327، وشرح المعلقات السبع ص 169، وشرح المعلقات العشر ص 89.(3/380)
ومن البدائع الروائع قول الآخر: [المتقارب]
وذات دلال سبت مهجتي ... بمستشرفين على مئزر
كأنهما خوط كافورة ... بأعلاهما نقطتا عنبر
وللقاضي عبد الوهاب، ويروي لغيره: [الكامل]
يا صاحبيّ قبالتي خمصانة ... مالت فمال الدّعص من أعطافها
في الصّدر منها للطّعان أسنّة ... ما أشرعت إلا لجني قطافها
إن تنكرا قتلي بها فتبيّنا ... تجدا دمي قد جفّ في أطرافها
علي بن الجهم: [الرمل]
كنت مشتاقا وما يحجزني ... عنك إلا مانع يمنعني
شاخص في الصدر غضبان على ... قبب البطن وطيّ العكن
يملأ الكفّ ولا يفضلها ... فإذا أثنيته لا ينثني
* * * قوله جيدها: أي عنقها، وكأنّ حبيبا وصف هذه الجارية وجيدها بقوله: [الكامل] كالخوط في القدّ والغزالة في ال ... بهجة وابن الغزال في غيده
وما حكاه ولا نعيم له ... في حسنه بل حكاه في جيده
وإن كان هذا الجيد عاطلا حلّيناه بقول ابن العباس الأعمى: [الطويل]
ونبّئت ذاك الجيد أصبح عاطلا ... خذي أدمعي إن كنت غضبى على الدّرّ
خذي فانظميها أو كليني لنظمها ... حليّا على تلك التّرائب والنّحر
خذي اللؤلؤ الرطب الذي لهجوا به ... محارته جفني ولجته صدري
ولا تخبري حور الجنان فربّما ... غصبنكه بين الخديعة والمكر
طرف: عين. ظرف: حلاوة ورشاقة، وجعل الطّرف والعنق جندا لها، لأنها لما حسنت معنى هذه الصفات انقاد لها عشاقها أذلّاء، فكأنها أغارت على قلوبهم فاستلبتها، وقد قال فيما تقدّم: [المتقارب]
* وأحوى حوى رقّي لفظه *
فجعله قد ملكه بحلاوته. وقال حبيب: [الكامل]
وحشيّة ترمي القلوب إذا اغتدت ... وسنى فما تصطاد غير الصّيد
فجعلها تصطاد السادات بفتور عينيها، وهذا المعنى لا يحصى كثرة.
وأراد بالنّاعس الفاتر النّظر وينعش من كان له منه نصيب وتمكن. يحدّ: يمنع من
رآه من التسلي والتصبّر. زها: تكبّر. والتّيه: ضرب من الزّهو، وهو الكبر. باهت:(3/381)
وأراد بالنّاعس الفاتر النّظر وينعش من كان له منه نصيب وتمكن. يحدّ: يمنع من
رآه من التسلي والتصبّر. زها: تكبّر. والتّيه: ضرب من الزّهو، وهو الكبر. باهت:
فاخرت وعظمت. واعتدت: ظلمت. يخدّ: يقطع، أي أن خدّها يقطع في القلوب لا سيما إن كان كما قال من أحسن: [المتقارب]
وبيضاء تحسبها درّة ... تضيء الدّجى إن بدت أو تكاد
تنمّم بالمسك كافورتي ... محيّا حوى الحسن طرّا وزاد
فقلت: أوصلك هذا البياض ... وبعض صدودك هذا السواد
فقالت: أبي كاتب للملوك ... دنوت إليه بحسن الوداد
فخاف اطلاعي على سرّه ... فلم يعد أن رشّني بالمداد
فوصفها بأنّ في خدّيها خيلانا.
قوله: أرّقتني، أي منعتني النوم. شطّت: بعدت. سطت: بطشت. نمّ: أفشى السرّ، أي أفشى ما بي من الحب. وجد: حزن من الحبّ وهمّ. جدّ: اجتهاد. فدنت:
قربت. حنّت: أشفقت. مغضيا: متغافلا عمّا ينال منه. يودّ: يتمنى. يودّ: يحبّ، يقول: لما نمّ لها وجدي بما أجنّه من حبّها وأبصرت ما فعل هجرها بي دنت عند ذلك منّي شفقة، وحيّتني بسلامها وأنا في حال غضبان، لما حلّ بي من الهجر متمنّيا أن تجيئني، فلمّا سلمت عليّ أزالت غضبي، وأغضيت عما سلف من الفعل القبيح.
[مما قيل في وصف الجواري شعرا]
ونذكر هاهنا من الأشعار الحسان مما يوافق وصف هذه الجارية جملة مستظرفة، قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: [المتقارب]
يزيدني البعد شوقا إليك ... وطول صدودك حرصا عليك
ولو كنت أملك ما تملكين ... من الصّبر ما طال شوقي إليك
وقال آخر: [المتقارب]
وما أنس لا أنس ذاك الخضوع ... وفيض الدموع وغمز اليد
وخدّي مضاف إلى خدّها ... قياما إلى الصّبح لم نرقد
وقال أبو مطرف الزهريّ: [البسيط]
مرّت بنا وبدت كالبدر وانفلتت ... كالغصن والتفتت كالشادن الخرق
تسربلت ببرود الحسن والتحفت ... بالغنج واشتملت مرطا من الغسق
وقال السّري: [الكامل]
لبست مصندلة الثياب فمن رأى ... قمرا تسربل قبلها أثوابا
وحكت من الظبي الغرير ثلاثة ... جيدا وطرفا فاترا وإهابا
وله أيضا: [الوافر](3/382)
لبست مصندلة الثياب فمن رأى ... قمرا تسربل قبلها أثوابا
وحكت من الظبي الغرير ثلاثة ... جيدا وطرفا فاترا وإهابا
وله أيضا: [الوافر]
مذهبّة الخدود بجلنار ... مفضّضة الثّغور بأقحوان
سقانا الله من ريّاك ريّا ... وحيّانا بأوجهك الحسان
وللقاضي أبي حفص: [الوافر]
هم نظروا لواحظها فهاموا ... وتشرّب عقل شاربها المدام
سما طرفي إليها وهو باك ... وتحت الشّمس ينسكب الغمام
يخاف النّاس مقلتها سواها ... أيذعر قلب حامله الحسام!
وأذكر قدّها فأنوح شوقا ... على الأغصان تنتدب الحمام
وأعقب همّها في الصّدر غمّا ... إذا غربت ذكاء أتى الظّلام
وله أيضا: [الوافر]
أعيذك يا سليمى من سليم ... قتلت فتاهم وهو الكريم
فما لك طالب بترات نفسي ... إذا قتل الغرام فلا غريم
فؤادي سار نحوك عن ضلوع ... بها يا ريم حبّك لا يريم
ودادك صحّ في قلب سليم ... كطرفك صحّ ناظره السقيم
إذا أعرضت تسود الأماني ... وإن أقبلت تبيضّ الهموم
* * * فطفق الشيخ يتأمّل ما سطره، ويقلّب فيه نظره، فلمّا استحسن خطّه، واستصحّ ضبطه، قال له: لا شلّ عشرك، ولا استخبث نشرك. ثمّ أهاب بفتى فتّان، يسفر عن أزهار بستان، فقال له: أنشد البيتين المطرّفين، المشتبهي الطّرفين، اللّذين أسكتا كلّ نافث، وأمنا أن يعزّزا بثالث، فقال له: اسمع لا وقر سمعك، ولا هزم جمعك، وأنشد من غير تلبّث، ولا تريّث: [السريع]
سم سمة تحسن آثارها ... واشكر لمن أعطى ولو سمسمه
والمكر مهما اسطعت لا تأته ... لتقتني السّؤدد والمكرمه
* * * قوله: طفق، أي أخذ. يتأمّل: ينظر. سطره: كتبه. استصحّ: وجده صحيحا، والضّبط: الشكل والنقط: لا شلّ عشرك، دعاء، أي لا يبست أصابعك، ويروى: لا ثلّ
عرشك، أي لا هدم عزك، والرّواية الأولى هي الصحيحة. استخبث: فسد وصار خبيثا.(3/383)
سم سمة تحسن آثارها ... واشكر لمن أعطى ولو سمسمه
والمكر مهما اسطعت لا تأته ... لتقتني السّؤدد والمكرمه
* * * قوله: طفق، أي أخذ. يتأمّل: ينظر. سطره: كتبه. استصحّ: وجده صحيحا، والضّبط: الشكل والنقط: لا شلّ عشرك، دعاء، أي لا يبست أصابعك، ويروى: لا ثلّ
عرشك، أي لا هدم عزك، والرّواية الأولى هي الصحيحة. استخبث: فسد وصار خبيثا.
نشرك: رائحتك العطرة. أهاب: دعا وصاح. يسفر: يكشف عن وجهه لثامه. عن أزهار بستان: عن بياض الوجه وحمرة الخدّين والشّفتين وسواد العينين والأشفار وخضرة الشارب والعذار ومحاسن لا تفي بها ناضرات الأنوار، وقد يكون يسفر بمعنى يتبسّم عن بياض شقيق وأقحوان واحمرار عقيق ومرجان، وكأنّ هذا الغلام هو الذي ذكر أبو الرقعمق بقوله: [البسيط]
إذا جرت يده في الطرس كاتبة ... تبلّج الطّرس عن درّ ومرجان
وإن تكلّم جاءته براعته ... بكلّ ما شاء من فهم وتبيان
وقال بعضهم يصف غلاما كاتبا: [الكامل]
انظر إلى أثر المداد بطرسه ... كبنفسج الرّوض المشوب بورده
ما أخطأت نوناته من صدغه ... شيئا ولا ألفاته من قدّه
وكأنما ألفاته من شعره ... وكأنما قرطاسه من خدّه
ولعمر بن فتح: [الكامل]
فنوناته من حاجبيه استعارها ... ولا ماته من صدغه المتعاطف
ومن صدّه المؤذي اسوداد مداده ... ومن وصله المحيي ابيضاض الصحائف
ولأبي إسحاق الحصري في وصف هذا الغلام: [الوافر]
أيا من تمسك الأوصاف عنه ... أعنّة وصفنا نظما ونثرا
ومن يدعو القلوب إلى مناها ... بعينيه فلا تأتيه قسرا
ومن يجري اللآلىء في أقاح ... يمازج ظلمه بردا وخمرا
ويعرض في رياض الدّلّ غصنا ... ويطلع في سماء الحسن بدرا
كأن بخدّه ذهبا صقيلا ... أذاب عليه ياقوتا ودرّا
ومنها في وصف الكتاب: [الوافر]
قرأت كتابك الأعلى محلّا ... لديّ وموقعا شرفا وقدرا
فأحياني وقد غودرت ميتا ... وأنشرني وقد ضمّنت قبرا
نقشت بحالك الأنقاش نورا ... جلا لعيوننا نورا وزهرا
فدبج من بسيط الفكر روضا ... أنيقا مشرق الجنبات نضرا
لو استسقى العليل به لأروي ... أو استشفي العليل به لأبرى
هفا عطر الجنوب له نسيم ... أقول إذا أناسم منه نشرا
نثرت لنا على الكافور مسكا ... ولم تنثر على القرطاس حبرا
وله في العذار: [الكامل](3/384)
قرأت كتابك الأعلى محلّا ... لديّ وموقعا شرفا وقدرا
فأحياني وقد غودرت ميتا ... وأنشرني وقد ضمّنت قبرا
نقشت بحالك الأنقاش نورا ... جلا لعيوننا نورا وزهرا
فدبج من بسيط الفكر روضا ... أنيقا مشرق الجنبات نضرا
لو استسقى العليل به لأروي ... أو استشفي العليل به لأبرى
هفا عطر الجنوب له نسيم ... أقول إذا أناسم منه نشرا
نثرت لنا على الكافور مسكا ... ولم تنثر على القرطاس حبرا
وله في العذار: [الكامل]
سلبت محاسنه سواد عيوننا ... وقلوبنا وكست أديم عذاره
فبدا طرازا في أسيل مشرق ... ماء الحياة يجول في أسراره
علم الذي استلبت له يد حسنه ... منا فمازج أمنه بحذاره
فله توقّف مستريب تائب ... ولنا تلهّب عاجز عن ثاره
وقال أبو الفضل الدارمي: [الكامل]
ظبي إذا حرّك أصداغه ... لم يلتفت خلق إلى العطر
غنى بشعري منشدا ليتني الل ... فظ الذي ضمنته شعري
فكلما كرر إنشاده ... قبلته فيه ولا يدري
ولمهيار: [الرجز]
مشتبه أعرفه وإنما ... مغالطا قلت لصحبي دار من
وحاملي على السّرور حامل ... في كفّه وطرفه سيف الفتن
قد كتب الحسن على عارضه ... ما أقبح الهجران بالوجه الحسن
ولأبي إسحاق الطليطلي: [الكامل]
ومعذّر رقّت له خمر الصبا ... حيث العذار حبابها المترقّق
ديباج حسن تاه عقلا ناقصا ... فأتمها علم الشّباب المونق
وشكا الجمال مقيله في ورده ... فأظله آس العذار المشفق
عامت بماء الصّقل شامة خدّه ... وحما العذار زويرقا لا يغرق
إن كان يمحو نقشه من خده ... فطلا الغزال بمسكها يتفتّق
قوله: المطرفين، أي الغريبين، وقد أطرفته، جئته بطرفة، أي بشيء معجب، نافث: متكلم. يعزّزا: يقويا ويشدّدا، وإذا صلب الشيء قيل: تعزّز وأصله من العزاز وهي الأرض الصلبة.
وقال في الدّرة: ويقولون شفّعت الرّسولين بثالث فيوهمون فيه، والعرب تقول:
شفعت الرّسول بآخر، أي جعلتهما اثنين ليطابق معنى الشفع في كلامهم، وهو اثنان، فأما إذا بلغت ثلاثا فوجهه أن يقال: عززت بثالث، قال تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنََا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمََا فَعَزَّزْنََا بِثََالِثٍ} [يس: 14]، والمعنى في عزّزته قوّيته، وأعززته: جعلته عزيزا، فإن واترت الرّسل فالأحسن أن تقول قفّيت بالرسل، قال تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنََا عَلى ََ آثََارِهِمْ بِرُسُلِنََا} [الحديد: 27].(3/385)
وما أحسن ما قال ابن شرف في العذار وذكر التعزيز بثالث: [الكامل]
قد كنت في وعد العذار فأنجزا ... وقضى لحسنك بالكمال فأوجزا
وافي لنصر الحسن إلا أنه ... ولّى إلى فئة الهوى متحيّزا
عطف تعلّم منه قلبي عطفه ... وجد الفؤاد به السّبيل إلى العزا
لم يكف وجهك حسنه وبهاؤه ... حتى اكتسى ثوب الجمال مطرّزا
سبحان من أعطاك حسنا ثانيا ... وبثالث من حسن فعلك عزّرا
الوقر: الثقل في الأذن. تلبّث: طويل إقامة. تريّث، إذا احتبس ومكث، ويقال:
تريّث بنقطتين وتربّث تربّثا بواحدة، والمعنى فيهما واحد، سم: علّم. سمة: علامة سمسمة: حبة جلجلان. المكر: الخداع، تقتني: تكتسب. السودد: الشرف. والمكرمة:
الكرامة.
وممن اشترط أن بيتيه لا يعززان بثالث قبل الحريري أبو دلف حين قال: [البسيط]
أنا أبو دلف المهدي بقافية ... جوابها يهلك الزّاهي من الغيظ
من زاد فيها له رحلي وراحلتي ... وخاتمي والمدي فيها إلى القيظ
وذكر الحصري الأعمى المكرمة في تجنيس قوافيه، فسمع قوما يقدحون فيه وفي أبي خلصة فقصده وقال: [مجزوء الرمل]
يا أديبا ملكتني ... في يديه المكرمات
ليت قوما دأبهم ف ... يّ وفيك المكر ماتوا
وله: [مجزوء الخفيف]
رب ظبي هويته ... ينتمي للهوازنه
قلت: ما أثقل الهوى ... قال: ما للهوى زنه
وله أيضا: [مجزوء الخفيف]
إن كتمت الهوى فقد ... صار سرّي علانيه
بسقام أذابني ... وشحوب علانيه
* * * فقال له: أجدت يا زغلول، يا أبا الغلول، ثم نادى: أوضح يا ياسين، ما يشكل من ذوات السّين، فنهض ولم يتأنّ، وأنشد بصوت أغنّ: [البسيط]
نقس الدّواة ورسغ الكفّ مثبتة ... سينا هما إن هما خطّا وإن درسا
وهكذا السّين في قسب وباسقة ... والسّفح والبخس واقسر واقتبس قبسا
وفي تقسّست بالليل الكلام وفي ... مسيطر وشموس واتخذ جرسا
وفي قريس وبرد قارس فخذ ال ... صّواب منّي وكن للعلم مقتبسا
فقال له: أحسنت يا نغيش، يا صنّاجة الجيش، ثم قال: ثب يا عنبسة، وبين الصادات المتلبسة، فوثب وثب شبل مثار، ثمّ أنشد من غير عثار:(3/386)
نقس الدّواة ورسغ الكفّ مثبتة ... سينا هما إن هما خطّا وإن درسا
وهكذا السّين في قسب وباسقة ... والسّفح والبخس واقسر واقتبس قبسا
وفي تقسّست بالليل الكلام وفي ... مسيطر وشموس واتخذ جرسا
وفي قريس وبرد قارس فخذ ال ... صّواب منّي وكن للعلم مقتبسا
فقال له: أحسنت يا نغيش، يا صنّاجة الجيش، ثم قال: ثب يا عنبسة، وبين الصادات المتلبسة، فوثب وثب شبل مثار، ثمّ أنشد من غير عثار:
بالصاد يكتب قد قبضت دراهما ... بأناملي وأصخ لتستمع الخبر
وبصقت أبصق والصماخ وصنجة ... والقصّ وهو الصّدر واقتصّ الأثر
وبخصت مقلته وهذي فرصة ... قد أرعدت منه الفريصة للخور
وقصرت هندا أي حبست وقد دنا ... فصح النّصارى وهو عيد منتظر
وقرصته والخمر قارصة إذا ... حذت اللّسان وكلّ هذا مستطر
* * * أجدت: أتيت بجيّد، الزّغلول: الخفيف، وزغلول الرجل: ولده، والغلول: لخيانة في المغنم، وأصله الستر والتغطية، تقول: غلّ الشّيء غلّا وغلولا، إذا ستره، وصفه كأنه يغلّ العقول، أي يمسكها ويخون أصحابها فيها، وقالت عليّة:
* يا غلّ ألباب الرجال *
أوضح: بيّن. يتأنّى يتباطأ ويفتر، والتأني: التّثبت، وفي الحديث أنه نظر صلى الله عليه وسلم إلى رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، فقال: «آنيت وآذيت» (1)، أي أخّرت المجيء، ويكون يتأنّى من قولهم: فلان ذو أناة من ونى يني، وتكون الهمزة مبدلة عن واو، وهو الأظهر، أغنّ: فيه غنّة، وهو البحح الخفيف، والأغنّ: الذي يتكلم من قبل خياشيمه، نقس: مداد، رسغ الكف: موصلها من الذراع، والقسب: نوى التمر، باسقة: نخلة طويلة. السّفح: أسفل الجبل، البخس: النقص، اقسر: اقهر واغلب. اقتبس قبسا:
اطلب شعلة من نار. وتقسست: تتبّعت والشموس: الدابة التي تمنع أن تسرج وأن تركب. جرسا: الذي يضرب به فيصوّت. قريس: حوت. قارس: شديد. مقتبسا: طالبا حريصا على كسبه.
قوله: نغيش، أي كثير الحركة، وقيل: نغيش تصغير النّغاش من الرجال الحقير الخلقة، الغاية في القصر، فصفة هذا الغلام أنه حقير الخلقة كثير الحركة، وقلّما تكون تلك الخلقة إلا ومعها الحركة والحدّة. ورواه الفنجديهي «نفيش» بالفاء، أي قصير.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الإقامة باب 88، وأحمد في المسند 4/ 188، 190.(3/387)
ثعلب: النّفّاشون، هم القصار الضعاف الحركة، ومنه الخبر أنه رأى نفّاشا فسجد شكرا، قال: والنّفش: تحرّك الشيء في مكانه، يقال: دار تنتفش صبيانا، والتنفّش: دخول الشيء بعضه في بعض، وصنّاجة الجيش: التي يضرب بها المثل في الحروب، وقيل:
الصّنّاجة الضرّابة بالدفوف والطنابير وعود الغناء ونحوه من آلات اللهو، قال الهذلي وهو ساعدة بن جؤيّة: [الطويل]
وعاودني ديني فبت كأنما ... خلال ضلوع الصدر شرع ممدّد (1)
بأوب يدي صنّاجة عند مدمن ... غويّ إذا ما ينتشي يتغرّد
يصف ما في صدره من الحرق، ودينه: حالته التي تعتاده من الهمّ، والشّرع: الوتر يقول: كأنما في صدري عود، لأوتاره رنّة مما أحدّث به نفسي من الهموم. وأوب يديها:
رجعهما بضرب الصّنج، أي بتحريك يديها حين تمرّ أوتارها، وينتشي: يسكر. ويتغرد:
يتغنّى، وفلان صنّاجة قومه، أي المقدّم عليهم في الفضل، وقيل: صنّاجة الجيش هو البطل المعروف، ويقال: ليلة قمراء صنّاجة وصيّاجة، إذا كانت مضيئة، وصنج فلان بفلان إذا صرعه، وكان أعشى قيس يدعى صنّاجة العرب لفصاحته، وقيل: لرقة شعره، وقيل: الصّنّاجة الغناء، ويريد بالجيش الصبية الذين جيشوا حوله، فنغيش صنّاجتهم، أي أنبلهم وأحذقهم أو كالصنجة في خلقته وقصره. ثب: اقفز، عنبسة: اسم أسد، والشبل:
ولده مثار: مفزع، وقد أثير: استخرج من مكانه بالبحث عليه. قبصت: أخذت بأطراف أصابعي، والقبصة أقل من القبضة. أصخ: استمع. الصّماخ: ثقب الأذن. صنجة، وهي التي يوزن بها، والمقلة، شحمة العين. بخصتها: فقأتها. واستلبتها فرصة: نهزة وغنيمة.
والفريصة: بضعة عند الكتف ترعد عند الفزع. الخور: الضّعف. قرصته: عضضته بظفري. حذت اللسان: قرصته بحدّتها. مستطر: مكتوب.
* * * فقال له: رعيا لك يا بنيّ، فقد أقررت عينيّ، ثم استنهض ذا جثّة كالبيذق، ونغشة كالسوذق، وأمره أن يقف بالمرصاد، ويسرد ما يجري على السين والصاد، فنهض يسحب برديه، ثمّ أنشد مشيرا بيديه: [الطويل]
إن شئت بالسّين فاكتب ما أبيّنه ... وإن تشأ فهو بالصادات يكتتب
مغس وفقس ومسطار وممّلس ... وسالغ وسراط الحق والسّقب
والسامغان وسقر والسوبق ومس ... لاق وعن كلّ هذا تفصح الكتب
__________
(1) البيتان لساعدة بن جؤية الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 1165، والبيت الأول في لسان العرب (شرع)، وجمهرة اللغة ص 727، وتاج العروس (شرع)، والكتاب 3/ 225، والمقاصد النحوية 4/ 350.(3/388)
فقال له: أحسنت يا حبقة، يا عين بقّة. ثم نادى: يا دغفل، يا أبا زنفل، فلباه فتى أحسن من بيضة، في روضة: فقال له: ما عقد هجاء الأفعال، التي آخرها حرف اعتلال، فقال اسمع، لا صمّ صداك، ولا سمعت عداك، ثم أنشد، وما استرشد: [الطويل]
إذا الفعل يوما غمّ عنك هجاؤه ... فألحق به تاء الخطاب ولا تقف
فإن تر قبل التاء ياء فكتبه ... بياء وإلا فهو يكتب بالألف
ولا تحسب الفعل الثلاثيّ والذي ... تعدّاه والمهموز في ذاك يختلف
* * * رعيا: حفظا، أي رعاك الله رعيا. استنهض: أمره بالنهوض. جثّة: جسد. وبيذق الشطرنج، معروف يشبّه به الخفيف الروح الحاذق. نغشة: حركة. والسّوذق، هو السّذانق من الطير التي يصطاد بها. بالمرصاد، أي قريب منه حيث ينظره. يسرد: يقرؤها بسرعة. يسحب برديه: يجرّ ثوبيه. وقال الحسن يصف مثل هذا الغلام: [المنسرح]
يأيها المبطلون معذرتي ... أراكم الله وجه تحقيق
نمّ بما كنت لا أبوح به ... على لسان بالدمع منطيق
شوقا إلى حسن صورة ظفرت ... من سلسبيل الجنان بالرّيق
وصيف كأس محدّث ملك ... تيه مغنّ وظرف زنديق
يشوب عزّا بذلة فله ... ذلّ محبّ وزهو معشوق
أمشي إلى جنبه أزاحمه ... عمدا وما بالطريق من ضيق
ومن مدحها: [المنسرح]
وإن عبّاسا مثل والده ... ليس إلى غاية بمسبوق
تأنّق الحسن حين زانكما ... ففقتما النّاس أيّ تأنيق
فصوّر الفضل من حجا وندى ... وأنت من حكمة وتوفيق
وله أيضا: [الوافر]
ترى للحسن والحركات فيه ... سواما لا تذاد عن القلوب
فيا من صيغ من حسن وطيب ... جلّ عن المشاكل والضّريب
أصبني منك يا أملي بذنب ... تتيه على الذّنوب به ذنوبي
قوله: سراط، أي طريق. والسّقر من الجوارح: التي يصطاد بها، السّويق: الشعير إذا قلي وطحن، حبقة: ضرطة، عين بقّة، يقال: ذلك للصغير. دغفل: اسم رجل كان نسّابة، والدّغفل، ولد الفيل، والدغفل: الزمن الخصيب، فسمّي الصبي بأحدهما.
والزّنفل، من أسماء الداهية، والبيضة: بيضة النّعام، وجعلها في روضة، يريد أنها مصونة
منعمة، وتشبيههم للنساء بهذه البيضة مشهور في شعر امرىء القيس وغيره، وقيل للأوسيّة وهي امرأة حكيمة من العرب بحضرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أي منظر أحسن؟ فقالت: قصور بيض في حدائق خضر، فأنشد رضي الله تعالى عنه لعديّ بن زيد:(3/389)
والزّنفل، من أسماء الداهية، والبيضة: بيضة النّعام، وجعلها في روضة، يريد أنها مصونة
منعمة، وتشبيههم للنساء بهذه البيضة مشهور في شعر امرىء القيس وغيره، وقيل للأوسيّة وهي امرأة حكيمة من العرب بحضرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أي منظر أحسن؟ فقالت: قصور بيض في حدائق خضر، فأنشد رضي الله تعالى عنه لعديّ بن زيد:
كدمى العاج في المحارب أو ... كالبيض في الروض زهره مستنير
قوله: لا صمّ صداك، أي لا هلكت، فلا يكون لك صوت.
وقال امرؤ القيس في الدار الخالية: [السريع]
صمّ صداها وعفا رسمها ... واستعجمت عن منطق السّائل (1)
والصّدى: الصوت الذي يجيبك من الجبل، أو من الموضع الخالي، والصّدى:
طائر يخرج من رأس المقتول، فلا يزال يصيح: اسقوني اسقوني، حتى يقتل قاتله على زعمهم، ولا صمّ صداك، دعاء بطول العمر، لأن الصدى تابع للصوت، فإذا مات الإنسان انقطع صوته، فلا يسمع له صدى، فكأنّ صداه بعد موته أصمّ لا يسمع ولا يجيب، ما استرشد، أي ما طلب من يرشده ويدلّه.
* * * فطرب الشيخ لما أدّاه، ثمّ عوذه وفدّاه، ثمّ قال: هلمّ يا قعقاع، يا باقعة البقاع.
فأقبل فتى أحسن من نار القرى، في عين ابن السّرى، فقال له: اصدع بتمييز الظّاء من الضّاد، لتصدع به أكباد الأضداد فاهتزّ لقوله واهتشّ ثم أنشد بصوت أجشّ: [الخفيف]
أيها السّائلي عن الضّاد والظّا ... ء لكيلا تضلّه الألفاظ
إن حفظ الظاءات يغنيك فاسمع ... ها استماع امرىء له استيقاظ
هي ظمياء والمظالم والإظ ... لام والظّلم والظّبي واللّحاظ
والعظا والظّليم والظّبي والشّيّ ... ظم والظّلّ واللّظى والشّواظ
والتّظنيّ واللفظ والنّظم والتّق ... ريظ والقيظ والظّما واللّماظ
والحظا والنّظير والظّئر والجا ... حظ والناظرون والأيقاظ
والتّشظّي والظّلف والعظم والظّن ... بوب والظّهر والشّظا والشّظاظ
والأظافير والمظفّر والمح ... ظور والحافظون والإحفاظ
والحظيرات والمظنّة والظّنّ ... ة والكاظمون والمغتاظ
والوظيفات والمواظب والكظّ ... ة والانتظار والإلظاظ
__________
(1) البيت في ديوان امرىء القيس ص 255، ولسان العرب (صمم)، (عجم)، (صدى)، وتهذيب اللغة 12/ 126، 215، ومقاييس اللغة 3/ 341، 4/ 24، وأساس البلاغة (عجم)، وكتاب العين 7/ 139، والبيت بلا نسبة في المخصص 1/ 87، 13/ 7.(3/390)
ووظيف وظالع وعظيم ... وظهير والفظّ والإغلاظ
ونظيف والظّرف والظلف الظّا ... هر ثم الفظيع والوعّاظ
وعكاظ والظّعن والمظّ والحن ... ظل والقارظان والأوشاظ
وظراب الظّرّان والسّظف البا ... هظ والجعظريّ والجوّاظ
والظّرابين والحناظب والعن ... ظب ثمّ الظّيّان والأرعاظ
والشّناظي والدّلظ والظّأب والظّب ... ظاب والعنظوان والجنعاظ
والشّناظير والتّعاظل والعظ ... لم والبظر بعد والانعاظ
هي هذي سوى النّوادر فاحفظها ... لتقفو آثارك الحفّاظ
واقض فيما صرفت منها كما تق ... ضيه في أصله كقيظ وقاظوا
* * * أدّاه: أبلغه، تقول: أدّيت الأمانة، إذا بلّغتها صاحبها، عوّذه: قرأ عليه المعوّذتين، وفدّاه: قال: نفسي فداؤك. قعقاع: شديد الصوت، والقعقعة، صوت متتابع، والباقعة:
الداهية. والبقاع: جمع بقعة، قطعة من الأرض، لقرى: طعام الضيف. ابن السّرى، هو الطارق بالليل، وقد تقدّم ذكر هذه النار عند قوله: [الرجز]
فلم أزل أنصّ عنسي ... وأقول: طوبى لك ولنفسي
وهم يضربون المثل بها وحدها في الحسن فيقولون: هو أحسن من النار، فكيف إذا كان إنسان مع ظلام الليل في ريح وبرد وجوع، لا يدري أين يتوجّه، فرأى نارا قد أوقدت لقري الأضياف، فلا يقدر قدر حسنها إلا من جرّبها.
وقالت اعرابية: كنت في شبيبتي أحسن من النار.
وأنشد التوزي ملغزا في النار: [الطويل]
وشعثاء غبراء الفروع كأنّما ... بها توصف الحسناء بل هي أجمل
دعوت بها صحبي بليل كأنّهم ... وقد أبصروها يعطشون فأنهلوا
فهذا مثل الذي ذكره الحريري.
وقال الآخر يصف نارا: [الطويل]
ومشبوبة لا يقبس الجار ريّها ... ولا طارق الظلماء منها يؤنس
متى ما يزرها زائر يلف دونها ... عقيلة داريّ من المسك تغرس
وأنشد أبو زيد فيها ملغزا: [الطويل]
وزهراء إن كفّنتها فهو عيشها ... وإن لم تكفّنها فموت معجّل
وكان الحسن بن وهب أشدّ الناس عشقا لنبات جارية محمد بن حماد وكانت تغنّي في مجلسه، وبين يديها كانون فحم، فتأذّت بالنار، وأمرت بإبعادها، فقال الحسن مرتجلا: [الكامل](3/391)
وزهراء إن كفّنتها فهو عيشها ... وإن لم تكفّنها فموت معجّل
وكان الحسن بن وهب أشدّ الناس عشقا لنبات جارية محمد بن حماد وكانت تغنّي في مجلسه، وبين يديها كانون فحم، فتأذّت بالنار، وأمرت بإبعادها، فقال الحسن مرتجلا: [الكامل]
بأبي كرهت النّار لمّا أوقدت ... فعرفت ما معناك في إبعادها
هي ضرّة لك بالتماع ضيائها ... وبحسن صورتها لدى إيقادها
وأرى صنيعك في القلوب صنيعها ... بأراكمها وسيالها وقتادها
شركتك في تلك الجهات بحسنها ... وضيائها وصلاحها وفسادها
وكان مع أصحابه يوما. فقال: لو ساعدنا الزمان لجاءتنا نبات، فما تكلموا بشيء حتى دخلت، فقال: إني وإياك لكما قال عليّ بن أمية: [الطويل]
وفاجأتني والقلب نحوك شاخص ... وذكراك ما بين اللّسان إلى القلب
فيا فرحة جاءت على إثر ترحة ... ويا غفلتي عنها وقد نزلت قربي
ودخلت عليه يوما وهو محموم، فسلمت وقبّلت يده، فأراد تقبيل يدها فأرعش وقال: [الطويل]
أقول وقد حاولت تقبيل كفّها ... ولي رعدة أهتزّ منها وأسكن
فديتك إني أشجع الناس كلّهم ... لدى الحرب إلّا أنني عنك أجبن
قوله: اصدع، أي بيّن وأظهر. تصدع: تشق، الأضداد: الأعداء. أجشّ: أبح.
تضلّه: تضيّعه وتتلفه، استيقاظ: انتباه، ظمياء: عطشى.
الأزهري: شفة ظمياء، ليست بوارمة كثيرة الدم ويحمد ظمؤها، ولثة ظمياء، ورجل أظمى، وامرأة ظمياء، وقيل: شفة ظمياء، إذا كانت فيها سمرة وساق ظمياء:
قليلة اللحم. والظلم، بالفتح: ماء الأسنان، وقيل: بريقها وصفاؤها، والجمع ظلوم، واللحاظ: طرف العين الذي يلي الصّدغ. العظاء: جمع عظاية، وهي دويبّة حمراء إلى الغبرة، ذات قوائم أربع. الظّليم: ذكر النعام. الشّيظم: الطويل، اللّظى: النار والشواظ:
لهبها بغير دخان. التّظني: مصدر تظنّيت أي حسبت، والأصل تظنّنت بالنون، فأبدلت ياء. والتقريظ: مدح الرجل حيّا. والقيظ: فصل الحر. والظّمأ: العطش، واللّماظ:
الشيء اليسير من الطعام وقد تلمّظت، إذا تتبعت بلسانك بقيّة الطعام بعد الأكل، واسم تلك البقية اللّماظة، وقيل: التّلمظ هو لعق الشفتين باللسان من عطش أو غيظ. الحظا:
انتفاخ اللحم. النّظير: المثل، الظّئر: المرضع بالأجرة، الجاحظ: الذي برزت عيناه.
الأيقاظ: ضدّ النّيام، الواحد يقظ بضم القاف وكسرها، قوله التّشظّي: أن تصيّر العود فلقا، والشّظية: الفلقة منه. والشّظى: عظم لاصق بالركبة. وقيل هو تشقّق عصب الذراع، والظّلف للغنم والبقر بمنزلة الحافر للدّواب، وكل حافر مشقوق ظلف،
الظّنبوب: مقدّم عظم الساق، والشظاظ: عود الشّداد، الذي يشدّ به المتاع، وقيل: هو عود يدخل في عرا الغرارتين فيحملان به على ظهر البعير. المظفّر: المؤيد. المحظور:(3/392)
الأيقاظ: ضدّ النّيام، الواحد يقظ بضم القاف وكسرها، قوله التّشظّي: أن تصيّر العود فلقا، والشّظية: الفلقة منه. والشّظى: عظم لاصق بالركبة. وقيل هو تشقّق عصب الذراع، والظّلف للغنم والبقر بمنزلة الحافر للدّواب، وكل حافر مشقوق ظلف،
الظّنبوب: مقدّم عظم الساق، والشظاظ: عود الشّداد، الذي يشدّ به المتاع، وقيل: هو عود يدخل في عرا الغرارتين فيحملان به على ظهر البعير. المظفّر: المؤيد. المحظور:
الممنوع. الإحفاظ: الإغضاب. الحظيرات: جمع حظيرة، وهي الزّرب يعمل منه شبه الدار، تسكنها الغنم والإبل، وقد يكون من حائط، وأصل الحظر المنع، وكلّ مانع بين شيئين حظير. والمظنّة: الموضع ترمي فيه بظنّك، وفلان مظنّة خير، أي يظنّ فيه الخير، والظنة: التهمة، الكاظمون: المتجرّعون غيظهم، وقد كظم غيظه، تجرعه ورده.
الوظيفات: جمع وظيفة وهي ما يلزمك من المغرم، المواظب: الملازم، وقد واظبت على الشيء، داومت عليه. الكظّة: الامتلاء من الطعام، والإلظاظ: اللزوم. الوظيف لكل ذي أربع: ما فوق الرّسغ إلى الساق. والظالع: الأعرج. والظّهير: القويّ الظهر، وهو أيضا المعين، والفظّ: الغليظ، والفظاظة: الجفاء والغلظة، والإغلاظ: الجفاء.
والنّظيف: النّقيّ الحسن. والظّلف المنع والردّ، وقد ظلفت أثري ظلفا، إذا مشيت في حزونة الأرض وصلابتها فمنعت أثرك أن يؤثر فيها والفظيع: الكريه المطعم، وقد فظع الشيء اشتدت كراهيته ومرارته. عكاظ: موسم للعرب، الظعن: السفر. الحنظل: شجر مرّ، والباهظ: الغالب. والبظر: زيادة في فرج المرأة، ورجل أبظر: في شفته العليا نتوء، وامرأة بظراء، والأول راجع إلى هذا المعنى، الانعاظ: قيام الذكر. النوادر: الغرائب والشواذ. تقفو: تتبع. قيظ: شدة الحرّ، وقاظوا: دخلوا في زمن القيظ.
* * * فقال له الشيخ: أحسنت لأفضّ فوك، ولأبرّ من يجفوك، فو الله إنّك مع الصّبا الغضّ، لأحفظ من الأرض، وأجمع من يوم العرض، ولقد أوردتك ورفقتك زلالي، وثقفتكم تثقيف العوالي، فاذكروني أذكركم، واشكروا لي ولا تكفرون.
قال الحارث بن همام: فعجبت لما أبدى من براعه، معجونة برقاعة، وأظهر من حذاقة، ممزوجة بحماقة ولم يزل بصري يصعّد فيه ويصوّب، وينقّر عنه وينقّب، وكنت كمن ينظر في ظلماء، أو يسري في بهماء فلمّا استراث تنبّهي، واستبان تدلّهي، حملق إليّ وتبّسم، وقال: لم يبق من يتوسم، فبهت لفحوى كلامه، ووجدته أبا زيد عند ابتسامه، فأخذت ألومه على تديّر بقعة النوكى، وتخيّر حرفة الحمقى، فكأن وجهه أسفّ رمادا، أو أشرب سوادا، إلا أنه أنشد وما تمادى: [الوافر]
تخيرّت وحمص وهذي الصّناعه ... لأرزق حظوة أهل الرّقاعه
فما يصطفي الدهر غير الرقيع ... ولا يوطن المال إلّا بقاعه
ولا لأخي اللّبّ من دهره ... سوى ما لعير ربيط بقاعه
* * * فضّ: كسر، يجفوك: يغلظ لك في الكلام، الغضّ: الطريّ، يوم العرض: يوم
القيامة، ولما أشار من أوّل على أكبرهم، انحطّ في أسنانهم إلى أصغرهم، فختم به كما بدأ بأكبرهم، فلذلك قال: مع الصبا الغضّ.(3/393)
تخيرّت وحمص وهذي الصّناعه ... لأرزق حظوة أهل الرّقاعه
فما يصطفي الدهر غير الرقيع ... ولا يوطن المال إلّا بقاعه
ولا لأخي اللّبّ من دهره ... سوى ما لعير ربيط بقاعه
* * * فضّ: كسر، يجفوك: يغلظ لك في الكلام، الغضّ: الطريّ، يوم العرض: يوم
القيامة، ولما أشار من أوّل على أكبرهم، انحطّ في أسنانهم إلى أصغرهم، فختم به كما بدأ بأكبرهم، فلذلك قال: مع الصبا الغضّ.
[مما قيل في الغلمان الصغار]
ومما قيل في الصغار من الشعر المستحسن، قال أبو الفضل الدارمي وقد سأله الثعالبي أن يصف له غلاما صغيرا، بديع الحسن ليثبت ذلك في كتابه المترجم بألف غلام، فأنشد: [المجتث]
إنّي عشقت صغيرا ... قد دبّ فيه الجمال
وكاد يفشي حديث ال ... فضول فيه الدّلال
لو مرّ في طرق الوص ... ل ما اعتراه الضّلال
يريك بدرا منيرا ... في الحسن وهو هلال
قال الحسن: [الخفيف]
حين أوفى على ثلاث وعشر ... يطل عهد أذنه بالشّنوف
غنة فيه للصبا تعتليه ... بحّة الاحتلام للتشريف
حين رام النّساء منه بعين ... وطوى أختها على التخويف
وقال آخر: [البسيط]
لئن يزيد على عشر بواحدة ... وزاد أخرى وشاب الحبّ بالجزع
وجاوب اللّحظ منه لحظ عاشقه ... وجوّز الوعد بين اليأس والطمع
قد كان غرّا بقتلي ليس يحسنه ... فاليوم يبدع في قتلي على البدع
وقال آخر: [مخلع البسيط]
قالوا أتبكي على صغير ... خصصته بالوداد طفلا
فقلت إن البنان خمس ... أصغر ما بينها يحلى
ولابن إدريس اليماني: [مخلع البسيط]
عشقته شادنا صغيرا ... وكنت لا أعشق الصّغارا
أعارني سقم ناظريه ... فاشتشرفت نفسه حذارا
يسفر عن وجه مستنير ... يردّ جنح الدّجى نهارا
لم أر من قبل ذاك نورا ... أضرم فيه الحياء نارا
ولابن شهيد: [الرمل]
راقني من شيمه برق بدا ... أم سنا المحبوب أورى أزندا
هبّ من نعسته منكسرا ... مسبل الكمّين مرخ للرّدا
يمسح النّعسة من عيني رشا ... صائد في كلّ يوم أسدا
قلت هب لي يا حبيبي قبلة ... تشف من حبّك تبريح الصدى
فانثنى يهتز من منكبه ... قائلا: لا، ثم أعطاني اليدا
قال لي يلعب: صد لي طائرا ... فتراني الدّهر أجري بالكدى
وإذا استنجزت يوما وعده ... قال لي يمطل: ذكّرني غدا
شربت أعطافه خمر الصبا ... وسقاه الحسن حتى عربدا
ورأى الحسن غلاما في المكتب فأشار إلى تقبيل يده فقبّله فقال: [مجزوء الوافر] ظفرت بقبلة منه ... على عيني معلّمه
أشرت بها إلى يده ... فأوصلها إلى فمه
وقال الحلواني: [الوافر](3/394)
راقني من شيمه برق بدا ... أم سنا المحبوب أورى أزندا
هبّ من نعسته منكسرا ... مسبل الكمّين مرخ للرّدا
يمسح النّعسة من عيني رشا ... صائد في كلّ يوم أسدا
قلت هب لي يا حبيبي قبلة ... تشف من حبّك تبريح الصدى
فانثنى يهتز من منكبه ... قائلا: لا، ثم أعطاني اليدا
قال لي يلعب: صد لي طائرا ... فتراني الدّهر أجري بالكدى
وإذا استنجزت يوما وعده ... قال لي يمطل: ذكّرني غدا
شربت أعطافه خمر الصبا ... وسقاه الحسن حتى عربدا
ورأى الحسن غلاما في المكتب فأشار إلى تقبيل يده فقبّله فقال: [مجزوء الوافر] ظفرت بقبلة منه ... على عيني معلّمه
أشرت بها إلى يده ... فأوصلها إلى فمه
وقال الحلواني: [الوافر]
تعرّضت من شفّني هجره ... ببدء سلام عليه شفاها
وقلت عساه يردّ السّلام ... فتبلغ نفسي منه مناها
فجاد عليّ بتقبيلة ... وقد كان أعرض عنّي وتاها
وكنت كموسى أتى للضياء ... لقبس نار فناجى إلها
وكتب الحسن لغلام كاتب يستعطفه، فوقع الغلام في كتابه: «تزاد هجرا إلى يوم الحساب» فقال الحسن: [الوافر]
كتبت إلى الحبيب يبيت شعر ... أعاتبه فأغضبه كتابي
أجبني يا ملول على كتابي ... فإنّ النّفس تسكن بالجواب
فوقع في الكتاب: يزاد هجرا ... وإبعادا إلى يوم الحساب
وقال ابن رشيق في محبوبه الصائغ: [الوافر]
وظبي من بني الكتاب يسبي ... قلوب العاشقين بمقلتيه
رفعت إليه أستقضي رضاه ... وأسأله خلاصا من يديه
فوقّع: قد رددت فؤاد هذا ... مسامحة فلا يعدى عليه
وناوله يوما تفاحة فقال: [الطويل]
وتفاحة من كفّ ظبي أخذتها ... جناها من الغصن الّذي مثل قدّه
لها لمس ردفيه وطيب نسيمه ... وطعم ثناياه وحمرة خدّه
ولابن فرج: [الوافر]
ومن ينظر إلى خديك يحكم ... على ورد الحدائق للخدود
وما اهتزّت غصون الرّوض إلا ... تمنّت حسن قدّك في القدود
وقال مسلم بن الوليد: [مجزوء الرجز](3/395)
ومن ينظر إلى خديك يحكم ... على ورد الحدائق للخدود
وما اهتزّت غصون الرّوض إلا ... تمنّت حسن قدّك في القدود
وقال مسلم بن الوليد: [مجزوء الرجز]
تفاحة شامية ... من كفّ ظبي غزل
ما خلقت مذ خلقت ... تلك لغير القبل
كأنّما حمرتها ... حمرة خدّ خجل
وقال آخر في ضدّ ما تقدّم: [الوافر]
فديتك لا تخف منّي سلوّا ... إذا ما غيّر الشعر الصّغارا
أدين بدنّ خلّ كان خمرا ... وأهوى لحية كانت عذارا
وقال ابن المعتز في مثله: [مجزوء الخفيف]
من معيني على السّهر ... وعلى الحبّ والفكر
ويل ما بي من شادن ... كبر الحبّ إذ كبر
قوله: زلالي، أي خالص عليّ، والزلال: الماء العذب الصافي. ثقّفتكم: قوّمتكم العوالي: صدور الرّماح. براعة: فصاحة. الحذاقة: المهارة في كلّ عمل، وهي الحذق، وأصله القطع، كأنّ الحاذق يقطع الأمور المشكلة بعقله، وحذق الصبيّ القرآن: قطعه حفظا. الرقاعة: الحماقة، رقع رقاعة فهو رقيع. يصعّد: يرفع نظره. يصوب: ينظر في اعتدال واستواء. ينقّر: وينقّب: يفتش، بهماء: أرض مجهولة. استراث: استبطأ.
تدلّهي: تحيري، ودلهه الحب: حيّره وأدهشه، حملق: نظر بحملاقه، وهو باطن جفنه، وهو نظر المغضب. يتوسّم: يحسن النّظر والميز. بهت: فطنت، وفي الحديث «ربّ ذي طمرين لا يؤبه له»، أي لا يفطن له لذلّته، وتأبّه فلان: تكبّر، وإنه لذو أبّهة، أي ذو كبر ونحوه. الفنجديهي: رأيت بخط الحريري: يقال: أبّهت له وأبهت ووبهت له بمعنى قال يعقوب، تقول: ما بهت له، وما بهت به وما أو بهت له، وما بهأت له: ما فطنت له، فحوى: معنى. عند ابتسامته، قد تقدّم وصفه بالقلح، يريد لمّا ابتسم ورأى قلحه عرفه.
تديّر بقعة النوكى، أي اتخاذه حمص دارا، وجعلهم نوكى لرقاعتهم، والنّوك: الحمق.
حرفة: صنعة أسفّ رمادا، أي تغيّر فكأنه ذرّ عليه الرماد. وأسف الجرح الدواء أي حشاه به. ما تمادى، أي ما دام ولا بقي على غضبه، وتمادى في الشيء: لجّ فيه. حظوة، أي منزلة. يصطفي: يختار. يوطن: يسكن. بقاعه: منازله. وهي جمع بقعة. أخي اللّب:
صاحب العقل. عير: حمار. قاعة: انخفاض، أي ليس للإنسان من دهره إلّا ما أكله.
* * * ثمّ قال: أما إنّ التعليم أشرف صناعة، وأربح بضاعة، وأنجح شفاعة وأفضل براعة، وربّه ذو إمرة مطاعة، وهيبة مشاعة، ورعية مطواعة، يتسيطر تسيطر أمير، ويرتّب
ترتيب وزير، ويتحكم تحكم قدير، ويتشبّه بذي ملك كبير، إلّا أنه يخرف في أمد يسير، ويتسم بحمق شهير، ويتقلّب بعقل صغير ولا ينبئّك مثل خبير فقلت له: تالله إنّك لابن الأيام، وعلم الأعلام، والساحر اللاعب بالأفهام، المذلّل له سبل الكلام. ثمّ لم أزل معتكفا بناديه، ومغترفا من سيل واديه، إلى أن غابت الأيام الغرّ، ونابت الأحداث الغبر، ففارقته ولعيني العبر.(3/396)
* * * ثمّ قال: أما إنّ التعليم أشرف صناعة، وأربح بضاعة، وأنجح شفاعة وأفضل براعة، وربّه ذو إمرة مطاعة، وهيبة مشاعة، ورعية مطواعة، يتسيطر تسيطر أمير، ويرتّب
ترتيب وزير، ويتحكم تحكم قدير، ويتشبّه بذي ملك كبير، إلّا أنه يخرف في أمد يسير، ويتسم بحمق شهير، ويتقلّب بعقل صغير ولا ينبئّك مثل خبير فقلت له: تالله إنّك لابن الأيام، وعلم الأعلام، والساحر اللاعب بالأفهام، المذلّل له سبل الكلام. ثمّ لم أزل معتكفا بناديه، ومغترفا من سيل واديه، إلى أن غابت الأيام الغرّ، ونابت الأحداث الغبر، ففارقته ولعيني العبر.
* * * قوله: أنجح، أي أنفع وأسرع لقضاء الحاجة. أمرة مطاعة، العرب تقول: لك عليّ أمرة مطاعة، بفتح الألف، أي أمرة أطيعك فيها، وحكى الفرّاء كسرها على ضعف، والفتح أفصح، والأمرة بالفتح: المرة الواحدة من الأمر، وبالكسر الإمارة والولاية، مشاعة: فاشية. يتسيطر: يتسلط يخرف: يهرم. يتّسم: يجعل لنفسه سمة، أي علامة الحمق.
ومما قيل في المعلم وتفضيله على الوالد، أنشد الماوردي: [المنسرح]
يا فاخرا للسّفاه بالسّلف ... وتاركا للعلاء والشرف
آباء أجسادنا هم سبب ... لأن جعلنا عوارض التلف
من علّم الناس كان خير أب ... ذاك أبو الروح لا أبو النّطف
أخذه من قول الإسكندر، وقيل له: ما بال تعظيمك لمعلمك أشدّ من تعظيمك لوالدك؟ فقال: إن أبي سبب حياتي الفانية، ومعلمي سبب حياتي الباقية.
ولبعضهم: [الكامل]
إنّ المعلم والطبيب كلاهما ... لا ينصحان إذا هما لم يكرما
فاصبر لدائك إن جفوت طبيبه ... واصبر لجهلك إن جفوت معلما
جاء في الحديث «يجاء بالمعلم يوم القيامة ووجهه عظم لا لحم عليه». قال عطاء:
الذين يأخذون على القرآن أجرا. ابن الأيام: الخبير بها والبصير بحوادثها، علم الأعلام:
أشهر المشاهير، الأفهام، جمع فهم، أراد اللّاعب بالأذهان والعقول. سبل: طرق.
معتكفا بناديه: ملازما لمجلسه. مغترفا من سيل واديه: آخذا من بحر علمه. الغرّ: البيض الحسان نابت الأحداث الغبر: رجعت النوازل الشداد التي تغبّر الأرض من شدّة قحطها، لعيني العبر، أي سخنة الدمع لحزنه. واستعبر: بكى. والله تعالى أعلم.(3/397)
المقامة السّابعة والأربعون وهي الحجريّة
حكى الحارث بن همّام قال: احتجت إلى الحجامة، وأنا بحجر اليمامة، فأرشدت إلى شيخ يحجم بلطافة، ويسفر عن نظافة فبعثت غلامي لإحضاره، وأرصدت نفسي لانتظاره، فأبطأ بعد ما انطلق. حتى خلته قد أبق، أو ركب طبقا عن طبق. ثم عاد عود المخفق، مسعاه، الكلّ على مولاه، فقلت له: ويلك! أبطء فند. وصلود زند! فزعم أن الشّيخ أشغل من ذات النّحيين، وفي حرب كحرب حنين، فعفت الممشى إلى حجّام، وحرت بين إقدام واحجام: ثمّ رأيت ألّا تعنيف. على من يأتي الكنيف.
* * * قوله: احتجت للحجامة، وأنا بحجر اليمامة. أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «خير ما تداويتم به الحجامة والشّونيز والقسط» (1).
القسط: عود يجاء به من الهند، يجعل في الدّواء والبخور.
وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير يوم يحتجم فيه سبعة عشر وتسعة عشر وأحد وعشرون، وما مررت بملأ من الملائكة ليلة أسري بي إلّا قالوا:
عليك بالحجامة يا محمد» (2).
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: لقد تبيّغ بي الدّم يا نافع، ادع لي حجّاما، ولا يجعله شيخا كبيرا، ولا صبيا، ثم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحجامة على الرّيق أمثل، فيها شفاء وبركة، تزيد في العقل والحفظ، وتزيد الحافظ حفظا، فمن احتجم فيوم الخميس والأحد والاثنين والثلاثاء، فإنه يوم رفع الله فيه البلاء» (3).
عن أيوب عليه السلام، وأصابه [مرض] يوم الأربعاء: لا يبدأ جذام أو برص إلا في يوم الأربعاء أو ليلته.
__________
(1) أخرجه البخاري في الطب باب 13، ومسلم في المساقاة حديث 63، وأحمد في المسند 3/ 107، 182.
(2) أخرجه بنحوه الترمذي في الطب باب 12، وأحمد في المسند 1/ 354بلفظ: «إنّ خير ما تحتجمون فيه يوم سبع عشرة».
(3) أخرجه ابن ماجه في الطب باب 22.(3/398)
حجر: قصبة. اليمامة. يأتي ذكرها في الخمسين إن شاء الله تعالى، وهي بلدة كبيرة كثيرة النخل، وسكنتها حنيفة، وهي بلدة مسيلمة الكذاب الحنفيّ، وبها تنبّأ وآمن به أهلها، وهي «فعالة» من اليمم، وهو طائر، أو من يمّمت الشيء إذا تعمّدته، من الأمام، بمعنى قدّام وأبدلت الهمزة ياء لمّا دخلتها الهاء، وأقرب المدن منها البصرة.
يسفر: يكشف. نظافة: صقالة وحسن. أرصدت: أعددت أبق: هرب. طبقا عن طبق: حالا عن حال، وأمرا عن أمر. المخفق: الخائب مسعاه: سعيه. الكلّ على مولاه: الذي لا ينفعه بشيء، ولا يكفيه أمر نفسه، والكلّ: الثقيل الروح. قوله: صلود زند، هو ألّا يسمح الزّند بالنار. حنين: موضع وقعة مشهورة، كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين هوازن، هزمت فيها هوازن، وسبيت أموالهم وعيالهم، وقتل فيها دريد بن الصّمة كافرا.
عفت: كرهت. الإقدام: الجرأة والترامي. والإحجام: الرجوع إلى خلف أراد أنه ردّد رأيه: هل يأتيه أم لا؟ والتّعنيف: العتب. والكنيف: المرحاض.
[من أسماء المرحاض]
ونذكر هنا حكاية ظريفة تجمع أسماءه. رحل رجل من الكوفة إلى ابن عمّ له من بني هاشم بالمدينة، فأقام حولا عنده، لا يدخل مستراحا، فلما أراد الرجوع إلى الكوفة، قال: ابن عمّه لقينتين له: أما رأيتما ظرف ابن عمّي، أقام حولا عندنا لم يدخل الخلاء، قالتا: فعلينا أن نصنع له شيئا لا يجد معه بدّا من الخلاء، قال: شأنكما، فعمدتا إلى خشب العشر، وطرحتاه في شرابه وهو مستهلّ فلما حضر وقت شرابهما قرّبتاه له وسقتا مولاهما: من غيره، فلما أخذ الشراب منهما تناوم مولاهما، ومغص الفتى من بعده، فقال لإحداهما: يا سيدتي، أين الخلاء؟ فقالت لها صاحبتها: ما يقول لك؟ قالت: يسألك أن تغنّيه: [الوافر]
عفا من آل فاطمة الجواء ... فمنزل أهلها منها خلاء
فغنّته، فقال: أظنّهما كوفيتين، فقال للأخرى: يا سيدتي أين الحشّ؟ فقالت لها صاحبتها: ما يقول لك؟ قالت: يسألك أن تغنيه:
* لقد أوحش الرّيان فالدّير منهما *
فغنّته، فقال الفتى: أظنّهما عراقيّتين، وما فهمتا عني، فقال للأخرى: يا سيدتي، أين المتوضّأ؟ فقالت لها صاحبتها: ما يقول لك؟ قالت: يسأل أن تغنّيه: [الوافر]
توضّأ للصّلاة وصلّ خمسا ... وأذّن بالصّلاة على النبيّ
فقال: أظنّهما حجازيّتين، وما فهمتا عني، فقال لإحداهما: يا سيدتي، أين الكنيف؟ فقالت لها صاحبتها: ما يقول لك؟ قالت: إنه يسألك أن تغنيه:
تكنّفني الواشون من كلّ جانب ... ولو كان واش واحد لكفاني
فغنّته، فقال: أظنّهما تهاميّين، فقال للأخرى: يا سيدتي أين المستراح؟ فقالت لصاحبتها: ما يقول لك؟ قالت: يسألك أن تغنّيه: [الكامل](3/399)
تكنّفني الواشون من كلّ جانب ... ولو كان واش واحد لكفاني
فغنّته، فقال: أظنّهما تهاميّين، فقال للأخرى: يا سيدتي أين المستراح؟ فقالت لصاحبتها: ما يقول لك؟ قالت: يسألك أن تغنّيه: [الكامل]
ترك الفكاهة والمزاحا ... وقلّى الصّبابة فاستراحا
فغنّته، والمولى يسمع، فلما كربه الأمر أنشأ يقول: [الوافر]
تكنّفني الملاح وأضجروني ... على ما بي بتكرير الأغاني
فلمّا ضاق عن ذاك اصطباري ... ذرفت به على وجه الزواني
ثم حلّ سراويله، وسلح عليهما، فتركهما آية للناظرين. وانتبه مولاهما، فلمّا رأى ما نزل بهما، قال له: يا أخي ما حملك على هذا؟ قال له: يا بن الزانية، لك جوار يرين المخرج صراطا مستقيما فلا يدللنني عليه، فلم يكن لهنّ جزاء عندي غير هذا، ثم رحل عنه.
فيقول أبو محمد: لا بأس للإنسان أن يأتي المواضع الخسيسة عند الضرورة، وأصل الكنيف الساتر.
* * * فلمّا شهدت موسمه، وشاهدت ميسمه، رأيت شيخا هيئته نظيفة، وحركته خفيفة. وعليه من النّظارة أطواق، ومن الزّحام طباق، وبين يديه فتى كالصّمصامة، مستهدف للحجامة، والشيخ يقول له: أراك قد أبرزت رأسك، قبل أن تبرز قرطاسك، وولّيتني قذالك، ولم تقل: لي ذالك، ولست ممّن يبيع نقدا بدين، ولا يطلب أثرا بعد عين، فإن أنت رضخت بالعين، حجمت في الأخدعين. وإن كنت ترى الشّحّ أولى، وخزن الفلس في النّفس أحلى، فاقرأ {عَبَسَ وَتَوَلََّى} [عبس:
1]، واغرب عنّي وإلّا فقال الفتى: والّذي حرّم صوغ المين كما حرّم صيد الحرمين إني لأفلس من ابن يومين، فثق بسيل تلعتي، وأنظرني إلى سعتي.
* * * موسمه: مجتمعه وسوقه. ميسمه: علامته. النظارة: الناس الناظرون أطواق: أي حلقة خلف حلقة، قد استداروا حوله. والطّباق: الذي طوبق، فجعل بعضه على بعض، شبّه به ركوب بعض النّاس بعضا.
[الصمصامة]
والصّمصامة: سيف عمرو بن معد يكرب، وكانت تقطع الحديد كما يقطع الحديد الخشب. وبعث ملك الهند إلى الرّشيد بسيوف قلعيّة، وكلاب سلوقيّة، وثياب هندية،
فأمر الأتراك فصفّوا بين يديه صفّين، قد لبسوا الحديد، ودخل الرشيد فقال لهم: ما جئتم به؟ قالوا: هذه أشرف كسوة بلادنا، فأمر فقطّعت جلالا وبراقع لخيله، فكبّوا على وجوههم، وتذمّموا، ثم قال: ما عندكم؟ قالوا: هذه سيوف قلعية، لا نظير لها فدعا بالصّمصامة، فقطعت بها السيوف سيفا سيفا، كما يقطع الفجل من غير أن تنثني لها شفرة. ثم عرض عليهم حدّ السّيف فإذا هو لا فلّ فيه، ثم قال: ما عندكم؟ قالوا: كلاب سلوقيّة، لا يبقى لها كلب ولا سبع إلّا عقرته، فأمر بالأسد فأخرج إليهم، فلما نظروا إليه هالهم، وقالوا: ليس عندنا مثل سبعكم، ثم أرسلوا عليه الأكلب وكانت ثلاثة فمزّقته، فقال: تمنّوا في هذه الأكلب ما شئتم، قالوا: السّيف الذي قطع سيوفنا، قال: لا يجوز في ديننا أن نهاديكم بالسلاح فانقلبوا خائبين.(3/400)
والصّمصامة: سيف عمرو بن معد يكرب، وكانت تقطع الحديد كما يقطع الحديد الخشب. وبعث ملك الهند إلى الرّشيد بسيوف قلعيّة، وكلاب سلوقيّة، وثياب هندية،
فأمر الأتراك فصفّوا بين يديه صفّين، قد لبسوا الحديد، ودخل الرشيد فقال لهم: ما جئتم به؟ قالوا: هذه أشرف كسوة بلادنا، فأمر فقطّعت جلالا وبراقع لخيله، فكبّوا على وجوههم، وتذمّموا، ثم قال: ما عندكم؟ قالوا: هذه سيوف قلعية، لا نظير لها فدعا بالصّمصامة، فقطعت بها السيوف سيفا سيفا، كما يقطع الفجل من غير أن تنثني لها شفرة. ثم عرض عليهم حدّ السّيف فإذا هو لا فلّ فيه، ثم قال: ما عندكم؟ قالوا: كلاب سلوقيّة، لا يبقى لها كلب ولا سبع إلّا عقرته، فأمر بالأسد فأخرج إليهم، فلما نظروا إليه هالهم، وقالوا: ليس عندنا مثل سبعكم، ثم أرسلوا عليه الأكلب وكانت ثلاثة فمزّقته، فقال: تمنّوا في هذه الأكلب ما شئتم، قالوا: السّيف الذي قطع سيوفنا، قال: لا يجوز في ديننا أن نهاديكم بالسلاح فانقلبوا خائبين.
وكانت الصمصامة عند الهادي، فدعا بها يوما وبمكتل مملوء دنانير، وأمر الشعراء أن يقولوا فيه، فبدأهم ابن يامين فقال: [الخفيف]
حاز صمصامة الزّبيديّ عمرو من بي ... ن جميع الأنام موسى الأمين
سيف عمرو، وكان فيما سمعنا ... خير ما أغمدت عليه الجفون
أو قدت فوقه الصّواعق نارا ... ثم شابت به الزّعاف القيون
وإذا ما شهرته بهر الشّم ... س ضياء فلم تكد تستبين
يستطير الأبصار كالقبس المش ... عل ما تستقرّ فيه العيون
وكأن الفرند والجوهر الجا ... ري على صفحتيه ماء معين
ما يبالي إذا الضريبة حانت ... أشمال سطت به أم يمين
وكأنّ المنون نيطت إليه ... فهو من كلّ جانبيه منون
فقال له: لك السيف والمكتل، ففرّق، المكتل على الشعراء، وقال: حرمتهم بسببي، وأخذ من المهديّ في السيف خمسين ألف دينار.
وممن أفرط في وصف قطع السّيف النمر بن تولب حين قال: [البسيط]
أبقى الحوادث والأيام من نمر ... أسباد سيف كريم أثره بادي
تظلّ تحفر عنه الأرض مندفنا ... بعد الذّراعين والساقين والهادي
ويروى: [البسيط]
* تظلّ تحفر عنه إن ضربت به *
والأسباد: البقايا، واحدها سبد، وقال أبو الهول: [الطويل]
حسام غداة الرّوع ماض كأنّه ... من الله في قبض النّفوس دليل
كأنّ جنود الذرّ كسّرن فوقه ... قرون جراد بينهنّ دخول
كأن على إفرنده موج لجّة ... تقاصر في ضحضاحه وتطول
وقال ابن الرومي: [الوافر](3/401)
حسام غداة الرّوع ماض كأنّه ... من الله في قبض النّفوس دليل
كأنّ جنود الذرّ كسّرن فوقه ... قرون جراد بينهنّ دخول
كأن على إفرنده موج لجّة ... تقاصر في ضحضاحه وتطول
وقال ابن الرومي: [الوافر]
يقول القائلون إذا رأوه ... لأمر ما تغوليت الدّروع
والشعر في وصف السيف كثير مشهور فلذلك اقتصرنا على هذه النبذة.
قوله: مستهدف، أي منتصف، والهدف: الغرض، وأراد بالقرطاس قطعة من كاغد توضع فيها الدرهم. الفنجديهي: القرطاس: درهم من نحاس، وفيه شيء من الفضة، يتعاملون به في الشأم. قذالك: مؤخّر عنقك وهو ما بين نقرة القفا إلى الأذن وجمعه قذل. ذا، إشارة إلى الدرهم نقدا: حاضرا.
أثرا بعد عين، قد تقدّم، والعين: نفس الشيء، وقيل: العين المعاينة، فمعناه لا أترك شيئا وأنا أعاينه، وأطلب أثره إذا غاب. وقال الفنجديهيّ: سمعت بعض الفضلاء بفنجديهة، يقول: حكي أنّ رجلا سرق منه شيء، فخرج يطلب السّارق، فلما ظفر به أخذ يضربه ويشدّ وثاقه، فقال له أحد أهل البلد: خلّ سبيله، حتى يخرج فإن هنا أثر قدميه، فضحك الرجل منه وقال: لا أطلب أثرا بعد عين، فصار مثلا لمن ترك شيئا حاصلا ثم تبع أثره بعد فوت عينه.
رضخت: أعطيت. والعين: الدراهم والدنانير. الأخدعان: عرقان يقع عليهما المحجمتان، وقيل: هما في صفحتي العنق قد خفيا وبطنا فلخفائهما يخدعان الحاجم.
خزن: إمساك وحبس. اغرب: غب. وإلّا، معناه وإلّا صفعت عنقك. المين: الكذب.
الحرمين: مكّة والمدينة، حرم الله تعالى بمكة وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. التّلعة:
مجرى الماء من أعلى الوادي أنظرني: أخّرني، سعتي: غناي.
* * * فقال له الشيخ: ويحك! إن مثل الوعود، كغرس العود، هو بين أن يدركه العطب، أو يدرك منه الرّطب، فما يدريني: أيحصل من عودك جنى، أم أحصل منه على ضنى، ثم ما الثّقة بأنّك حين تبتعد، ستفي بما تعد! وقد صار الغدر كالتحجيل، في حلية هذا الجيل، فأرحني بالله من التّعذيب، وارحل إلى حيث يعوي الذّيب. فاستوى الغلام إليه، وقد استولى الخجل عليه، وقال: والله ما يخيس بالعهد، غير الخسيس الوغد، ولا يرد غدير الغدر، إلّا الوضيع القدر ولو عرفت من أنا، لما أسمعتني الخنا لكنّك جهلت فقلت، وحيث وجب أن تسجد بلت، وما أقبح الغربة والإقلال، وأحسن قول من قال:
* * *
جنى: ما يجنى منه. ضنّى: مرض. التّحجيل: بياض في قوائم الفرس حلية: صفة وزينة. الجيل: أهل العصر. استوى: اعتدل قائما استولى: غلب عليه الخجل. يخيس:(3/402)
* * *
جنى: ما يجنى منه. ضنّى: مرض. التّحجيل: بياض في قوائم الفرس حلية: صفة وزينة. الجيل: أهل العصر. استوى: اعتدل قائما استولى: غلب عليه الخجل. يخيس:
يغدر، وخاس الشيء تغيّر. الوغد: الرّذل الساقط الخسيس الدنيء. الخنا: الفحش.
[البسيط]
إن الغريب الطّويل الذّيل ممتهن ... فكيف حال غريب ما له قوت!
لكنّه ما تشين الحرّ موجعة ... فالمسك يسحق والكافور مفتوت
وطالما أصلي الياقوت جمر غضى ... ثمّ انطفى الجمر والياقوت ياقوت
فقال له الشيخ: يا ويلة أبيك، وعولة أهليك! أأنت في موقف فخر يظهر، وحسب يشهر، أم موقف جلد يكشط، وقفا يشرط وهب أنّ لك البيت، كما ادّعيت، أيحصل بذلك، حجم قذالك لا والله ولو أنّ أباك أناف، على عبد مناف، أو لخالك دان، عبد المدان.
* * * الطويل الذيل: الكثير المال. تشين: تعيب. أصلي: أدخل النار الياقوت: حجارة يتزين بها والنار لا تغيره.
ومما جاء في معنى هذا الشعر: [البسيط]
إن الغريب ذليل حيثما سلكا ... لو أنه ملّك كلّ الورى ملكا
إذا تغنّى حمام الأيك في غصن ... حنّ الغريب إلى أوطانه فبكى
آخر: [الكامل]
وإذا حللت بدار قوم دارهم ... فلهم عليك تعزّز الأوطان
فالشّمس تشرق في محلّة كبشها ... وتكون منحطّا مع الميزان
وقال الفقيه الحافظ أبو محمد بن حزم: [البسيط]
لا يشمتن حاسد إن نكبة عرضت ... فالدّهر ليس على حال بمترك
فالحرّ كالتّبر يلفى تحت منقعة ... طورا وطورا يرى تاجا على ملك
وقال البحتريّ في سعيد وقد حبس: [الكامل]
وما هذه الأيّام إلّا مراحل ... فمن منزل رحب ومن منزل ضنك
وقد هذّبتك النائبات وإنّما ... صفا الذهب الإبريز قبلك بالسّبك
وقال أبو بكر بن دريد: [المنسرح]
لا تحقرن عالما وإن خلقت ... أثوابه في عيون رامقه
وانظر إليه بعين ذي خطر ... مهذّب الرأي في طرائقه
فالمسك إذ ما تراه ممتهنا ... بفهر عطّاره وساحقه
سوف تراه بعارضي ملك ... وموضع التّاج من مفارقه
وقال ابن شماخ: [الطويل](3/403)
لا تحقرن عالما وإن خلقت ... أثوابه في عيون رامقه
وانظر إليه بعين ذي خطر ... مهذّب الرأي في طرائقه
فالمسك إذ ما تراه ممتهنا ... بفهر عطّاره وساحقه
سوف تراه بعارضي ملك ... وموضع التّاج من مفارقه
وقال ابن شماخ: [الطويل]
نوائب غالتني فأبدت فضائلي ... فكانت وكنت النّار والعنبر الورد
وعلى لسان عود الطيب: [المجتث]
إن مسّت النّار جسمي ... أبديت طيب نسيمي
كالدّهر إن عضّ يوما ... أبان فضل كريم
وسخط المتوكلّ على عليّ بن الجهم، فنفاه إلى خراسان، وكتب أن يصلب إذا وردها يوما إلى الليل، فلمّا وصل إلى الشاذياخ حبسه طاهر بن عبد الله، ثم أخرجه فصلبه إلى الليل مجرّدا فقال: [الكامل]
لم يصلبوا بالشاذياخ عشية الاثني ... ن مسبوقا ولا مجهولا
نصبوا بحمد الله ملء عيونهم ... شرفا وملء صدورهم تبجيلا
ما ازداد إلا رفعة وسعادة ... وازدادت الأعداء عنه نكولا
هل كان إلا الليث فارق غيله ... فرأيته في محمل محمولا
ما عابه أن بزّ عنه لباسه ... كالسّيف أفضل ما يرى مسلولا
وقال في الحبس: [الكامل]
قالت حبست فقلت ليس بضائر ... حبسي وأيّ مهنّد لا يغمد
أو ما رأيت اللّيث يألف غيله ... كبرا وأوباش السّباع تصيّد
فالشمس لولا أنها محجوبة ... عن ناظريك لما أضاء الفرقد
والنّار في أحجارها مخبوءة ... لا تصطلى إن لم تثرها الأزند
والحبس إن لم تغشه لدنية ... شنعاء نعم المنزل المتورّد
بيت يجدّد للكريم كرامة ... ويزار فيه ولا يزور ويحمد
لو لم يكن في الحبس إلا أنه ... لا تستذلك بالحجاب الأعبد
أخذ الأحوص أحد الأمراء بأمر الوليد بن عبد الملك لأنّه كان يراود غلمانه، فضربه مائة سوط وصبّ عليه الزيت، وأوقفه في الشمس، وهو مع ذلك يقول: [الكامل]
ما تعتريني من خطوب ملمة ... إلا تشرّفني وترفع شاني (1)
__________
(1) الأبيات في ديوان الأحوص ص 203.(3/404)
إنّي على ما قد علمت مجسّد ... أنمى على البغضاء والشنآن
فإذا تزول تزول عن متخمّط ... تخشى بوادره على الأقران
إني إذا خفي اللئيم وجدتني ... كالشّمس لا تخفى بكلّ مكان
* * * قوله: يا ويلة أبيك. الويلة: الفضيحة. والويل: الحزن. والعولة: البكاء الشديد، وأعول يعول إعوالا، إذا رفع صوته وصاح. أهليك: جمع أهل يكشط: يحلق شعره.
هب، أي احسب. وذكر في الدرة أن خواصّ العراق يقولون: هب أني فعلت، وهبه فعل، كقول أبي دهبل: [الطويل]
هبوني امرأ منكم أضل بعيره ... له ذمّة إنّ الذمام كبير (1)
قال: وهبني، أي عدّني واحسبني، فكأنّ فيه معنى الأمر من وهب انتهى ما قاله في الدرة.
وقال هنا: وهب أن لك البيت، وبيت القبيلة: أشرف فخذ فيها أناف:
أشرف.
[عبد مناف بن قصي]
عبد مناف بن قصيّ، هو بيت قريش وشريفها، وهو جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه المغيرة، وكان يقال لعبد مناف: القمر لجماله وبهائه ورفعه منزلته، وسمّي عبد مناف لأنه شرف وعلا، وأناف على أشراف العرب، وكانت الرّكاب تضرب إليه من أطراف الأرض يتحفونه تحف الملوك، فيكرمهم، وكان عنده لواء نزار، وقوس إسماعيل، وسقاية الحاج والمفاتيح ولما قسم والده المجدبين أولاده جعل السّقاية والرّياسة لعبد مناف، والدّار لعبد الدار، والرفادة لعبد العزّى، وجانبي الوادي لعبد بن قصيّ قال الشاعر: [الكامل]
كانت قريش بيضة فتفلّقت ... فالمحّ خالصه لعبد مناف (2)
ولما مات قصيّ رأس ابنه عبد مناف، وجلّ قدره، فأتته خزاعة وبنو الحارث بن كنانة يسألونه الحلف ليعزّوا به، فعقد معهم.
__________
(1) البيت لعروة بن أذينة في تخليص الشواهد ص 442، ولأبي دهبل الجمحي في ديوانه ص 77، والأغاني 7/ 140.
(2) البيت لعبد الله بن الزبعرى في ديوانه ص 53، ولسان العرب (محح)، والتنبيه والإيضاح 1/ 267، وتهذيب اللغة 4/ 21، وتاج العروس (محح)، (نوف)، وبلا نسبة في ديوان الأدب 3/ 18، وكتاب العين 3/ 35.(3/405)
وأمّا شرف عقبه فلأن منه بني هاشم، الذين فيهم النبوّة والخلافة، ومنه بنو أميّة القادة في الجاهلية، وأهل الخلافة في صدر الإسلام، وقد قدّمنا في أخبار الشافعيّ أن عبد مناف، يجتمع بنو هاشم وبنو أمية فيه، فلهؤلاء انتهى شرف مضر.
[بنو عبد المدان]
وأما بنو عبد المدان فأشراف اليمن، وبهم يضرب المثل في الشرف والعزة، وهو عبد المدان بن الديان بن قطن بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن مالك بن كعب ابن الحارث بن كعب بن خالد بن بجيلة بن مذحج وقال لقيط بن زرارة: [الوافر]
شربت الخمر حتى خلت أني ... أبو قابوس أو عبد المدان
أمشي في بني عدس بن زيد ... رخيّ البال منطلق اللّسان
وقال حسان رضي الله عنه: [الوافر]
وقد كنا نقول إذا رأينا ... لذي جسم يعدّ وذي بيان
كأنك أيّها المعطي بيانا ... وجسما من بني عبد المدان
وقالوا لحسّان: كنّا يا أبا الوليد، ونحن نطول بأجسامنا على العرب نرى لأنفسنا بذلك فضلا، حتى قلت: [البسيط]
دعوا التخاجؤ وامشوا مشية سحجا ... إنّ الرجال أولو قدّ وتذكير
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير
فتركتنا لا نرى لأجسامنا فضلا.
وحكى الأصمعيّ: أنه اجتمع يزيد بن عبد المدان وعامر بن الطّفيل بسوق عكاظ، وقدم أميّة بن الأسكر الكناني ومعه ابنة له، من أجمل أهل زمانها، فخطبها يزيد وعامر، فقالت أمّ كلاب (امرأة أمية): من هذان الرجلان؟ فعرّفها أمية، فقالت:
أعرف بني الديان ولا أعرف عامرا، قال: هل سمعت بملاعب الأسنّة؟ قالت: نعم، فقال: هذا ابن أخته، فقال يزيد: يا أمية أنا ابن الديان، صاحب الكثيب ورئيس مذحج ومكلّم العقاب، ومن كان يصوّب أصابعه فتنظف دما، وراحته فتخرج ذهبا، فقال أميّة: بخ بخ، فقال عامر: جدّي الأجذم، وعمّي الأصم، وخالي ملاعب الأسنة، وأبي فارس قرزل، فقال أمية: بخ بخ، مرعّى ولا كالسّعدان، فأرسلها مثلا، فقال يزيد: يا عامر، هل تعلم شاعرا من قومي رحل بمدحة إلى رجل من قومك؟
قال: لا، قال: فهل تعلم أن شعراء قومك يرحلون بمدائحهم إلى قومي؟ قال: اللهم نعم، فنهض يزيد وهو يقول: [الكامل]
أميّ يا ابن الأسكر بن مدلج ... لا تجعلن هوزانا كمذحج
لا النبع في مغرسه كالعوسج ... ولا الصريح المحض كالممزج
* * * فلا تضرب في حديد بارد، ولا تطلب ما لست له بواجد، وباه إذا باهيت بموجودك لا يجدودك، وبمحصولك، لا بأصولك، وبصفاتك، لا برفاتك، وبأعلاقك، لا بأعراقك ولا تطع الطّمع فيذلّك، ولا تتّبع الهوى فيضلّك، ولله القائل لابنه: [الطويل](3/406)
أميّ يا ابن الأسكر بن مدلج ... لا تجعلن هوزانا كمذحج
لا النبع في مغرسه كالعوسج ... ولا الصريح المحض كالممزج
* * * فلا تضرب في حديد بارد، ولا تطلب ما لست له بواجد، وباه إذا باهيت بموجودك لا يجدودك، وبمحصولك، لا بأصولك، وبصفاتك، لا برفاتك، وبأعلاقك، لا بأعراقك ولا تطع الطّمع فيذلّك، ولا تتّبع الهوى فيضلّك، ولله القائل لابنه: [الطويل]
بنيّ استقم فالعود تنمي عروقه ... قويما ويغشاه إذ ما التوى التّوى
ولا تطع الحرص المذلّ وكن فتى ... إذا التهبت أحشاؤه بالطّوى طوى
وعاص الهوى المردي فكم من محلّق ... إلى النّجم لما أن أطاع الهوى هوى
وأسعف ذوي القربى فيقبح أن يرى ... على من إلى الحرّ اللّباب انضوى ضوى
وحافظ على من لا يخون إذا نبا ... زمان ومن يرعى إذا ما النّوى نوى
وإن تقتدر فاصفح فلا خير في امرىء ... إذا اعتلقت أظفاره بالشّوى شوى
وإياك والشّكوى فلم تر ذا نهى ... شكا بل أخو الجهل الّذي ما ارعوى عوى
قوله: لا تضرب في حديد بارد، هو مثل لمن يحاول الانتفاع بمن ليس عنده نفع، وقال أبو الشمقمق يهجو سعيد بن سلم: [الطويل]
هيهات تضرب في حديد بارد ... إن كنت تطمع في نوال سعيد
تالله لو ملك البحار بأسرها ... وأتاه سلم في زمان مدود
يبغيه منها شربة لطهوره ... لأبى وقال: تيمما بصعيد
وكذب عليه، كان سعيد بن سلم من أجود الناس. قوله: باه، أي فاخر موجودك ومحصولك: ما تجده من المال ويحصل لك. رفاتك: عظام أجدادك البالية. الأعلاق:
جمع علق، وهو النّفيس الرفيع من الذّخائر. أعراقك: أصولك. قوله: ولا تطع الطّمع فيذلّك، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ إني أعوذ بك من طمع حيث لا طمع، وأعوذ بك من طمع يهدي إلى الّطبع» (1)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خيار المؤمنين القانع، وشرارهم الطامع». وقال الحسن البصريّ لبعض ولد عليّ رضي الله عنهما: ما ملاك الدّين؟ قال:
الورع، قال: ما آفته؟ قال: الطمع. قوله: ولا تتّبع الهوى فيضلّك، ابن عباس رضي الله
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 5/ 232، 247.(3/407)
عنهما، قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث مهلكات، شحّ مطاع، وهوى متّبع، وعجب كلّ ذي رأي برأيه» (1). وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل، أمّا الهوى فيصدّ عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة» (2). وقال بعضهم: أفضل النّاس من عصى هواه، وأفضل منه من رفض دنياه. تنمي: تزيد. التوى: اعوجّ. التّوى: الهلاك.
القويم: المعتدل. التهبت: اشتعلت الطّوى: الجوع. طوى، أي طوى عليه ضلوعه وستره. وقال أبو فراس: [الكامل]
لا أرتضي ودّا إذا هو لم يدم ... عند الجفاء وقلة الإنصاف (3)
تعس الحريص وقلّ ما يأتي به ... عوضا من الإلحاح والإلحاف
إنّ الغنيّ هو الغنيّ بنفسه ... ولو أنه عاري المناكب حافي
ما كلّ ما فوق البسيطة كافيا ... فإذا قنعت فكلّ شيء كافي
ويعاف لي طمع الحريص فتوّتي ... ومروءتي وقناعتي وعفافي
شيم عرفت بهنّ مذ أنا يافع ... ولقد عرفت بمثلها أسلافي
قوله: المردي، أي المهلك المحلّق: الطائر يستدير في طيرانه. هوى: سقط.
أسعف: اقض حوائجهم. اللّباب: الخالص. انطوى، انقطع إلى جودك وتعلّق به. نبا:
ارتفع ولم يوافق. يرعى: يحفظ. النّوى: البعد نوى: أراده وقصده، وقد قالوا: خير الإخوان، من أقبل عليك إذا أدبر الزمان. الشّوى: القوائم، ويقال لجلدة الرأس: شوى.
وقوله: شوى، أي صنع شواء وأولاها النار. يقول: من اعتذر إليك من الإخوان فاعذره، ولا تكن ممّن إذا وقع على ذنب لصاحبه أخذه به، ونزع جلدة رأسه فشواها.
[مما جاء في قبول العذر]
وقال صلى الله عليه وسلم: «من لم يقبل من متنصّل عذرا، صادقا كان أو كاذبا، لم يرد عليّ الحوض».
وقالوا: المعترف بالذنب كمن لا ذنب له.
واعتذر رجل إلى إبراهيم بن المهديّ، فقال: قد أغناك الله بالعذر عن الاعتذار، وأغنانا بحسن النية عن سوء الظن.
وقال الحسن بن وهب: [السريع]
ما أحسن العفو من القادر ... لا سيما عن غير ذي ناصر
__________
(1) أخرجه بمعناه أبو داود في الملاحم باب 17، والترمذي في تفسير سورة 5، باب 18، وابن ماجه في الفتن باب 21، بلفظ: «وإعجاب كل ذي رأي برأيه».
(2) أخرجه بنحوه البخاري في الرقاق باب 5.
(3) الأبيات في ديوان أبي فراس الحمداني ص 81.(3/408)
إن كان لي ذنب ولا ذنب لي ... فما له غيرك من غافر
أعوذ بالودّ الذي بيننا ... أن تفسد الأوّل بالآخر
وقالوا: ليس من العدل، سرعة العذل.
وقال آخر: [البسيط]
أقبل معاذير من وافاك معتذرا ... أبرّ فيما أتى من ذاك أو فجرا
فقد أطاعك من يرضيك ظاهره ... وقد أجلّك من يعصيك مستترا
آخر: [الطويل]
وهبني مسيئا كالذي قلت ظالما ... فعفوا جميلا كي يكون لك الفضل
فإن لم أكن للعفو عندك للّذي ... أتيت به أهلا فأنت له أهل
الأحنف: ربّ ملوم لا ذنب له.
آخر: [الطويل]
* لعل له عذرا وأنت تلوم *
آخر: [الطويل]
إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه ... وكلّ امرىء لا يقبل العذر مذنب
وقال محمد بن سليم لا بن السمّاك: بلغني عنك شيء كرهته، فقال: إذا لا أبالي، قال: لم؟ قال: لأنه إن كان حقّا غفرته، وإن كان باطلا لم تقبله.
وقالوا في ترك الاعتذار: [الطويل]
إذا كان وجه العذر ليس ببيّن ... فإنّ اطّراح العذر خيرا من العذر
قوله: الشّكوى، أي المشتكي إلى الناس بالضر. نهى: عقل. ارعوى: رجع.
وارعوى عن القبيح: كفّ عنه وحسن رجوعه ونزوعه عنه من الرّعوى، وهي حسن المراجعة والنزوع عن الجهل.
الفراء وابن سيده: عوى الفصيل والكلب، إذا صاح فمدّ صوته، قال الشاعر:
[الطويل]
بها الذّئب محزونا كأنّ عواءه ... عواء فصيل آخر الليل محثل
المحثل: السيىء الغذاء، وإذا دعا الرّجل النّاس إلى الفتنة فقد عوى واستعوى، وسمعت عوّة القوم، أي أصواتهم وجلبتهم، قاله الأصمعيّ وأبو زيد: بل أخو الجهل الّذي عوى بالشكاية وقت ارعوائه أي رجوعه عنك، والمعنى كلما غاب عنك: تشكّى، وما مع الفعل مصدرية وظرف الزمان محذوف، أي وقت ارعوائه كقوله تعالى: {مََا
دََامَتِ السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ} [هود: 107] أي مدة دوامهما، يريد أن العاقل يحتمل ضرّ الزمان ولا يشتكي والجاهل الّذي متى رجع عن التشكّي لم يرجع رجوعا حسنا، بل يعوي بالتّشكي عواء الذئب.(3/409)
بها الذّئب محزونا كأنّ عواءه ... عواء فصيل آخر الليل محثل
المحثل: السيىء الغذاء، وإذا دعا الرّجل النّاس إلى الفتنة فقد عوى واستعوى، وسمعت عوّة القوم، أي أصواتهم وجلبتهم، قاله الأصمعيّ وأبو زيد: بل أخو الجهل الّذي عوى بالشكاية وقت ارعوائه أي رجوعه عنك، والمعنى كلما غاب عنك: تشكّى، وما مع الفعل مصدرية وظرف الزمان محذوف، أي وقت ارعوائه كقوله تعالى: {مََا
دََامَتِ السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ} [هود: 107] أي مدة دوامهما، يريد أن العاقل يحتمل ضرّ الزمان ولا يشتكي والجاهل الّذي متى رجع عن التشكّي لم يرجع رجوعا حسنا، بل يعوي بالتّشكي عواء الذئب.
* * * فقال الغلام للنّظارة: يا للعجيبة، والطرفة الغريبة! أنف في السّماء، واست في الماء، ولفظ كالصّهباء، وفعل كالحصباء. ثمّ أقبل على الشّيخ بلسان سليط، وغيظ مستشيط، وقال: أفّ لك من صوّاغ باللّسان، روّاغ عن الإحسان: تأمر بالبرّ، وتعقّ عقوق الهرّ، فإن يكن سبب تعنّتك، نفاق صنعتك، فرماها الله بالكساد، وإفساد الحسّاد حتّى ترى أفرغ من حجّام ساباط، وأضيق رزقا من سم الخياط فقال له الشيخ: بل سلّط الله عليك بثر الفم، وتبيّغ الدّم حتّى تلجأ إلى حجّام عظيم الاشتطاط، ثقيل الاشتراط، كليل المشراط، كثير المخاط والضّراط.
* * * قوله: الطّرفة الغريبة، أي التي لم ير مثلها. الصّبهاء: الخمر. الحصباء: الحجارة.
سليط، أي متسلط. مستشيط: منتشر في الشرّ ملتهب في الغضب صوّاغ: كذّاب، وصاغ الكذب: صنعه. راغ: مال إليه من حيث لا يعلم، وراغ إلى أهله: رجع في إخفاء.
روّاغ: ميّال وفرّار في خفية. تعقّ: تقطع وعقوق الهرة، أنّها تأكل أولادها.
وحكى الأصمعي في كتاب «أفعل من كذا»، يقال: أعقّ من ضبّ، قال: أرادوا ضبّة، فكثر الكلام بها فقالوا: ضبّ، وعقوقها أنها تأكل أولادها، وذلك أن الضّبّة، إذا باضت حرست بيضتها من كلّ ما قدرت عليه من ورل وحيّة وغير ذلك، فإذا خرجت أولادها من بيضتها ظنتها شيئا يريد بيضها، فوثبت عليه تقتله، فلا ينجو منها إلا الشديد.
قال: وهذا موضوع قد وضعته العرب في موضعه، وأتت بعلّته، ثم جاءت إلى ما هو في العقوق مثل الضّبّة، فضربت به المثل على الضدّ، فقالوا: أبرّ من هرّة، وهي أيضا تأكل أولادها، فحين سئلوا عن الفرق وجّهوا أكل الهرة أولادها إلى شدة الحبّ، فلم يأتوا بحجّة مقنعة. وقال الشاعر:
أما ترى الدّهر وهذا الورى ... كهرّة تأكل أولادها
واختصم إلى شريح، في ولد هرّة، فقال شريح: ألقه مع هذه، فإن هي قرّت ودرّت واسبطرّت، فهو لها، وإن هي هرّت وفرّت واقشعرّت، فليس لها. اسبطرّت:
اضطجعت وهرّت كهرت، من هرير الكلب، واقشعرّ الجلد: قامت شعوره.
قوله: تعنتك: طلب مشقتك، والتّعنّت: طلب الزّلّة، وتعنّته أدخل عليه الأذى إذا
سأله عن شيء، أراد به اللّبس والمشقّة عليه. سمّ الخياط: ثقب الإبرة. بثر: خرّاج صغار، ويقال بثر الجرح، إذا خرجت به أورام صغار فيزيد به سيلان الدم عن الأكل وغيره. تبيّغ: هيجان وتبيّغ دمه: هاج عليه تلجأ: تحوج. الاشتطاط: مجاوزة القدر.(3/410)
قوله: تعنتك: طلب مشقتك، والتّعنّت: طلب الزّلّة، وتعنّته أدخل عليه الأذى إذا
سأله عن شيء، أراد به اللّبس والمشقّة عليه. سمّ الخياط: ثقب الإبرة. بثر: خرّاج صغار، ويقال بثر الجرح، إذا خرجت به أورام صغار فيزيد به سيلان الدم عن الأكل وغيره. تبيّغ: هيجان وتبيّغ دمه: هاج عليه تلجأ: تحوج. الاشتطاط: مجاوزة القدر.
كليل: حاف.
* * * قال: فلمّا تبيّن الفتى أنه يشكو إلى غير مصمّت، ويراود استفتاح باب مصمت، أضرب عن رجع الكلام، واحتفز للقيام، وعلم الشيخ أنه قد ألام، بما أسمع الغلام، فجنح إلى سلمه، وبذل أن يذعن لحكمه، ولا يبغي أجرا على حجمه، وأبى الغلام إلّا المشي بدائه، والهرب من لقائه، وما زالا في حجاج وسباب، ولزاز وجذاب، إلى أن ضجّ الفتى من الشّقاق، وتلا ردنه سورة الانشقاق، فأعول حينئذ لوفارة خسره، وانعطاط عرضه وطمره. وأخذ الشّيخ يعتذر من فرطاته، ويغيّض من عبراته، وهو لا يصغي إلى اعتذاره، ولا يقصر عن استعباره، إلى أن قال له: فذاك عمّك، وعداك ما يغمّك، أما تسأم الإعوال، أما تعرف الاحتمال، أما سمعت بمن أقال، وأخذ بقول من قال: [السريع]
أخمد بحلمك ما يذكيه ذو سفه ... من نار غيظك واصفح إن جنى جاني
فالحلم أفضل ما ازدان اللّبيب به ... والأخذ بالعفو أحلى ما جنى جاني
* * * يراود: يعالج. مصمّت: مغلق. احتفز: تهيّأ وتشمّر. ألام: أتى بما يلام عليه.
قال الشاعر:
* ومن يخذل أخاه فقد ألاما *
جنح: مال سلمه: صلحه. بذل أن يذعن، أي أعطى الانقياد من نفسه يبغي أجرا: يطلب أجرة، في حجاج وسباب، أي في لحة وشتم. لزاز: ملازمة للخصومة.
وخصم لزّاز ملزّ، أي لا يفارق الخصومة. جذاب: مضاربة وجذب كلّ واحد منهما بثوب صاحبه. ضجّ: صاح. وتلا ردنه، أي قرأ كمه، وجعل صوب التّخريق كأنه قراءة. أعول: بكى. وفارة خسره، أي كمال خسرانه. انعطاط عرضه وطمره، أي تمزيق عرضه بالشّتم، وثوبه بالتخريق، والطّمر: الثوب الخلق. فرطاته: بوادره، وما سبق من إذايته. يغيّض: يذهب وينقص. عبراته: دموعه. يصغي: يستمع، يقصّر:
يكفّ. استعباره: بكائه عداك: تجاوزك. يغمّك: يغطّي قلبك بالهمّ. تسأم: تملّ.
الإعوال: البكاء الاحتمال: التسامح والصّبر على الأذيّة: أقال: غفر الذنب. أخمد:
أطفىء وسكّن. يذكيه: يوقده. سفه: جهل، اصفح: أظهر كرمك. جنى: أوقع بك جناية. والجاني: فاعلها. الحلم: العقل والصّبر على المضرّات. ازدان: افتعل من الزّين، أي تزيّن به. اللبيب: العاقل. العفو: غفر الذنب. جنى: قطف الثمر. وهذان البيتان من بدائع مزدوجاته التي نبّهنا على أنها من فائق شعره، وسبقه سابق البربريّ إلى معناهما بقوله: [البسيط](3/411)
الإعوال: البكاء الاحتمال: التسامح والصّبر على الأذيّة: أقال: غفر الذنب. أخمد:
أطفىء وسكّن. يذكيه: يوقده. سفه: جهل، اصفح: أظهر كرمك. جنى: أوقع بك جناية. والجاني: فاعلها. الحلم: العقل والصّبر على المضرّات. ازدان: افتعل من الزّين، أي تزيّن به. اللبيب: العاقل. العفو: غفر الذنب. جنى: قطف الثمر. وهذان البيتان من بدائع مزدوجاته التي نبّهنا على أنها من فائق شعره، وسبقه سابق البربريّ إلى معناهما بقوله: [البسيط]
لا تظهرنّ لذي جهل معاتبة ... فربّما هيّجت بالشيء أشياء
فالماء يخمد حرّ النار يطفئها ... وليس للجهل غير الحلم إطفاء
ترى السّفيه له عن كلّ محلمة ... زيغ، وفيه إلى التسفه إصغاء
وقال أبو فراس: [البسيط]
ما كنت مذ كنت إلّا طوع إخواني ... ليست مؤاخذة الأخوان من شاني
يجني الصّديق فأستحلي جنايته ... حتى أدلّ على عفوي وإحساني
ويتبع الذنب ذنبا حين يعرفني ... عمدا فأتبع غفرانا بغفران
يجني عليّ فأعفو صافحا أبدا ... لا شيء أحسن من حان على جاني
وذكر الحريري هذين البيتين والمقطوعة قبلهما، وجنّس فيهما بين لفظ القافية واللفظ قبله.
ومما جاء من ذلك وهو أضبط مما ذكر قول الشاعر: [المجتث]
قدّم لنفسك زادا ... وأنت مالك مالك
من قبل أن تتفانى ... ولون حالك حالك
ولست تعلم يوما ... أيّ المسالك سالك
إمّا لجنّة عدن ... أو في المهالك هالك
وقال آخر: [الرجز]
ما لك من مالك إلّا الذي ... قدّمت فابذل طائعا مالكا
تقول أعمالي ولو فتّشوا ... وجدت أعمالك أعمى لكا
وقالت للمعتمد جارية له: لقد هنّا هنا، فقال: [الرجز]
قالت لقد هنّا هنا ... مولاي أين جاهنا
قلت لها إلى هنا ... صيّرنا إلا هنا
* * * فقال له الغلام: أما إنّك لو ظهرت على عيشي المنكدر، لعذرت في
دمعي المنهمر، ولكن هان على الأملس ما لاقى الدّبر. ثمّ كأنه نزع إلى الاستحياء، فأقلع عن البكاء، وفاء إلى الارعواء، وقال للشيخ: قد صرت إلى ما اشتهيت، فارقع ما أوهيت، فقال: هيهات شغلت شعابي جدواي، فشم بارق سواي.(3/412)
قالت لقد هنّا هنا ... مولاي أين جاهنا
قلت لها إلى هنا ... صيّرنا إلا هنا
* * * فقال له الغلام: أما إنّك لو ظهرت على عيشي المنكدر، لعذرت في
دمعي المنهمر، ولكن هان على الأملس ما لاقى الدّبر. ثمّ كأنه نزع إلى الاستحياء، فأقلع عن البكاء، وفاء إلى الارعواء، وقال للشيخ: قد صرت إلى ما اشتهيت، فارقع ما أوهيت، فقال: هيهات شغلت شعابي جدواي، فشم بارق سواي.
ثمّ إنّه نهض يستقري الصّفوف، ويستجدي الوقوف، وينشد في ضمن ما هو يطوف: [الرجز]
أقسم بالبيت الحرام الّذي ... تهوي إليه الزّمر المحرمه
لو أنّ عندي قوت يوم لما ... مسّت يدي المشراط والمحجمه
ولا ارتضت نفسي الّتي لم تزل ... تسمو إلى المجد بهذي السّمه
ولا اشتكي هذا الفتى غلظة ... منّي ولا شاكته منّي حمه
لكن صروف الدّهر غادرنني ... كخابط في اللّيلة المظلمه
واضطرني الفقر إلى موقف ... من دونه خوض اللّظى المضرمه
فهل فتى تدركه رقّة ... عليّ أو تعطفه مرحمه!
* * * قوله: المنكدر، أي المتغيّر والكدرة ضدّ الصفاء. المنهمر: السائل أقلع: ارتفع وزال. فاء: رجع. الارعواء: الاستحياء والرّجوع الحسن أوهيت: أفسدت. شم: انظر يستقري: يتتبع يستجدي: يطلب الجدا، وهو العطيّة. في ضمن: في أثناء وفي خلال تهوي: تسرع المشي وتتساقط إليه. الزّمر: الجماعات. المحرمة: الداخلة في الحرم.
تسمو: ترتفع المجد: الشرف. السّمة: العلامة. غلظة: جفاء شاكته: ضربته حمة:
شوكة العقرب التي تلسع بها، والحمة: السّمّ فسمي ما يخرج عنه السّمّ باسمه صروف:
نوائب. غادرنني: تركنني. خابط: ماش على جهالة. اضطرني: ألجاني. خوض اللّظى:
دخول النار. المضرمة: الموقدة. رقّة: شفقة. تعطفه: تلينه. مرحمة: رحمة.
* * * قال الحارث بن همام: فكنت أوّل من أوى لبلواه، ورقّ لشكواه، فنفحته بدرهمين، وقلت: لا كانا ولو كان ذامين، فابتهج بباكورة جناه وتفاءل بهما لغناه، ولم تزل الدّراهم تنهال عليه، وتنثال لديه حتى آل ذا عيشة خضراء، وحقيبة بجراء، فازدهاه الفرح عند ذلك، وهنّأ نفسه بما هنالك، وقال للغلام: هذا ريع
أنت بذره، وحلب لك شطره فهلمّ لنقتسم، ولا نحتشم،. فتقاسماه بينهما شقّ الأبلمة، ونهضا متّفقي الكلمة ولمّا انتظم بينهما عقد الاصطلاح، وهمّ الشيخ بالرّواح، قلت له: قد تبوّغ دمي، ونقلت إليك قدمي، فهل لك أن تحجمني، وتكفكف ما دهمني، فصوّب طرفه فيّ وصعّد، ثم ازدلف إليّ وأنشد.(3/413)
* * * قال الحارث بن همام: فكنت أوّل من أوى لبلواه، ورقّ لشكواه، فنفحته بدرهمين، وقلت: لا كانا ولو كان ذامين، فابتهج بباكورة جناه وتفاءل بهما لغناه، ولم تزل الدّراهم تنهال عليه، وتنثال لديه حتى آل ذا عيشة خضراء، وحقيبة بجراء، فازدهاه الفرح عند ذلك، وهنّأ نفسه بما هنالك، وقال للغلام: هذا ريع
أنت بذره، وحلب لك شطره فهلمّ لنقتسم، ولا نحتشم،. فتقاسماه بينهما شقّ الأبلمة، ونهضا متّفقي الكلمة ولمّا انتظم بينهما عقد الاصطلاح، وهمّ الشيخ بالرّواح، قلت له: قد تبوّغ دمي، ونقلت إليك قدمي، فهل لك أن تحجمني، وتكفكف ما دهمني، فصوّب طرفه فيّ وصعّد، ثم ازدلف إليّ وأنشد.
* * * أوى: أشفق. نفحته: رميته ونبذته. ذامين: صاحب كذب ابتهج: فرح. باكورة:
أول ما يطيب من الشجر، فجعل الدرهمين باكورة لأنهما أول ما أخذ تفاءل: جعلهما فألا، أي لمّا كان أوّل ما حصل بأيديهما درهمين، استكثرهما فرجا أن تتمشى عطايا الحاضرين على هذا المثال، وقد كررت ذكر الفأل.
[مما قيل في الطيرة والفأل الحسن]
ونذكر هنا منه فصلا على ما أجرينا العادة في غيره.
كان صلى الله عليه وسلم يكره الطّيرة ويعجبه الفأل الحسن (1).
ولما قدم المدينة نزل على رجل من الأنصار، فصاح الرجل بغلمانه: يا سالم يا يسار، فقال صلى الله عليه وسلم: «سلمت لنا الدار في يسر».
وقيل لرجل من العرب: ما لكم تسمّون أبناءكم بأسماء السباع والكلاب، وتسمون مواليكم بأسماء حسان، مثل عطاء ونجاح؟ فقال: لأنّا أعددنا أبناءنا لأعدائنا، وموالينا لأنفسنا.
وسأل عمر رضي الله عنه رجلا عن اسمه واسم أبيه، فقال: ظالم بن سرّاق، قال:
تظلم أنت ويسرق أبوك!.
وجاءه رجل فقال له: ما اسمك؟ قال: جمرة، قال: ابن من؟ قال: ابن شهاب، قال: ممّن؟ قال: من الحرقة، قال: وأيّا تسكن؟ قال: بحرّة النار. قال: بأيّها؟ قال:
بذات لظى، قال: أدرك أهلك، فقد احترقوا، فرجع فوجدهم قد احترقوا، فكان كما قال.
الفنجديهي بسنده، حدثني أحمد بن عليّ، حدثني أبو مسعود، قال: قال لي أبو داود السّنجّي: ما اسمك؟ قلت: سعد، قال: ابن من؟ قلت: ابن مسعدة، قال: أبو من؟
قلت: أبو مسعود، قال لي: مسألتك مثل أعرابي لقي آخر، فقال: ما اسمك؟ قال: قيض فقال: ابن من؟ قال: ابن الفرات، قال: أبو من؟ قال: أبو بحر، قال: ليس لنا أن نكلّمك إلا في زورق.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الطب باب 43، وأحمد في المسند 2/ 332.(3/414)
وقال عليّ بن الجهم: دخلت يوما على المتوكل، وهو جالس في صحن داره، وبيده غصن آس، وهو يتمثل بهذا الشعر [البسيط]
بالشّطّ لي سكن أفديه من سكن ... أهدي من الآس لي غصنين في غصن
فقلت إذ نظما إلفين وانتسقا ... سقيا ورعيا لفأل منكما حسن
فالآس لا شكّ آس من تشوّقنا ... شاف وآس تبقى لي على الزّمن
بشّر تماني بأسباب ستجمعنا ... إن شاء ربّي ومهما يقضه يكن
ثم قال لي وكدت أنشقّ حسدا: لمن هذا الشعر يا عليّ؟ فقلت: للحسين بن الضحّاك يا سيّدي، فقال: هو والله عندي أشعرهم وأحسنهم مذهبا وأظرفهم نمطا، فقلت: وقد زاد غيظي: في هذا النمط يا سيدي؟ قال: وفي غيره، وإن رغم أنفك ومتّ حسدا، وأردت إنشاده قصيدة، فقلت: إني لا أنتفع بها مع ما جرى، فأخّرتها إلى وقت آخر.
قوله: تنهال، أي تنصبّ متفرقة. آل: رجع. خضراء: ناعمة لكثرة الرزق. حقيبة بجراء، أي وعاء ممتلىء، والأبجر: الذي خرجت سرّته ازدهاه: هزّه وأعجبه الرّيع:
الزيادة والفضل والبذر: ما يزرع من الحبوب حلب: لبن شطره: نصفه. نحتشم: نستحي أو نغضب. الأبلمة: الدّومة تشق ورقتها فتخرج أبدا معتدلة. تكفكف: تدفع وتكفّ.
دهمني: أصابني ازدلف: قرب.
* * * [الرجز]
كيف رأيت خدعتي وختلي ... وما جرى بيني وبين سخلي
حتّى انثنيت فائزا بالخصل ... أرعى رياض الخصب بعد المحل
بالله يا مهجة قلبي قل لي ... هل أبصرت عيناك قطّ مثلي
يفتح بالرّقية كلّ قفل ... ويستبي بالسّحر كلّ عقلي
ويعجن الجدّ بماء الهزل ... إن يكن الإسكندريّ قبلي
فالطّلّ قد يبدو أمام الوبل ... والفضل للوابل لا للطّلّ
قال: فنبّهتني أرجوزته عليه، وأرتني أنّه شيخنا المشار إليه، فقرّعته على الابتذال، والالتحاق بالأرذال، فأعرض عمّا سمع، ولم يبلّ بما قرع، وقال: كلّ الحذاء يحتذي الحافي الوقع. ثم قاصاني مقاصة المهان، وانطلق هو وابنه كفرسي رهان.
* * *
ختلي: مكري. سخلي: ولدي. الخصل: الغلب في القمار، وفي مسابقة الخيل، وفي مراماة السهام. يستبي: يأخذ ويسبي، وقد تقدّم في شرح الصدر التنبيه على هذا الموضع. الطّلّ: أضعف المطر. والوبل: أشدّه قرّعته: أقلقته بكثرة اللّوم، وبأخذي له بلساني. الابتذال: امتهان نفسه في الصّنعة الهجينة. الأرذال: الأدنياء، فأراد عنّفته ولمته أشدّ اللوم على حرفة الحجامة، فإنّها صنعة أرذال الناس وسفلتهم.(3/415)
* * *
ختلي: مكري. سخلي: ولدي. الخصل: الغلب في القمار، وفي مسابقة الخيل، وفي مراماة السهام. يستبي: يأخذ ويسبي، وقد تقدّم في شرح الصدر التنبيه على هذا الموضع. الطّلّ: أضعف المطر. والوبل: أشدّه قرّعته: أقلقته بكثرة اللّوم، وبأخذي له بلساني. الابتذال: امتهان نفسه في الصّنعة الهجينة. الأرذال: الأدنياء، فأراد عنّفته ولمته أشدّ اللوم على حرفة الحجامة، فإنّها صنعة أرذال الناس وسفلتهم.
ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العرب بعضها لبعض أكفاء، قبيلة لقبيلة، وحيّ لحيّ، ورجل لرجل. والموالي أكفاء إلا حائكا أو حجّاما».
وقال عليّ بن الحسين: أربعة أعمال كانت في سفل بني إسرائيل، وصارت في سفل العبيد وستكون في سفل الأحرار: الحياكة، والحجامة، والدّباغة والكناسة.
رفاعة بن موسى: سمعت الصادق يقول: ستّ لا ينجبون: الملّاح، والمكاري، والحمامي، والحجام، والبيطار، والحائك.
وممّن شهر من الأدباء بصنعة هجينة نصر بن محمد الخابزرزيّ، كانت صنعته خبز خبز الأرزّ في دكانه بمربد البصرة، فكان ينشد أشعاره على الغزل، والنّاس يزدحمون عليه، وأحداث البصرة يتنافسون في ميله إليهم.
وكان ابن لنكك على ارتفاع قدره ينتاب دكانه، فحضره يوما وعليه ثياب بيض فاخرة، فتأذّى بالدكان من الدخان وسوء أثره على ثيابه، فانصرف وكتب إليه:
[الوافر]
لنصر في فؤادي فرط حبّ ... ينيف به على كلّ الصّحاب
أتيناه فبخّرنا بخورا ... من السّعف المدخّن بالتهاب
فقمت مبادرا وحسبت نصرا ... يريد بذاك طردي أو ذهابي
وقال: متى أراك أبا حسين؟ ... فقلت له إذا اتسخت ثيابي
فلما قرئت عليه أملى على من قرأها، وكتب على ظاهرها: [الوافر]
منحت أبا الحسين صميم ودّي ... فخاطبني بألفاظ عذاب
أتى وثيابه كالشيب لونا ... فعدن له كريعان الشّباب
وبغضي للمشيب أعدّ عندي ... سوادا لونه لون الخضاب
فإن يكن المعطّر فيه فخرا ... فلم يكن الوصيّ أبا تراب
ومن شعره: [الطويل]
خليليّ هل أبصرتما أو سمعتما ... بأحسن من مولى تمشّى إلى العبد
أتى زائرا من غير وعد وقال لي: ... أصونك عن تعذيب قلبك بالوعد
فما زال نجم الكأس بيني وبينه ... يدور بأفلاك السعادة والسّعد
وله: [البسيط](3/416)
خليليّ هل أبصرتما أو سمعتما ... بأحسن من مولى تمشّى إلى العبد
أتى زائرا من غير وعد وقال لي: ... أصونك عن تعذيب قلبك بالوعد
فما زال نجم الكأس بيني وبينه ... يدور بأفلاك السعادة والسّعد
وله: [البسيط]
ورد الخدود ورمّان النهود وأغ ... صان القدود تصيد السّادة الصّيدا
من لي إذا ما رأيت الخصر مختصرا ... والرّدف مرتدفا والقدّ مقدودا
وكان يحيى السّرقسطيّ أديبا فرجع إلى الجزّارين، فأمر الحاجب بن هود أبا الفضل ابن حميد أن يوبّخه على ذلك فكتب إليه: [الوافر]
تركت الشّعر من عدم الإصابه ... وملت إلى الجزارة والقصابه
فأجابه يحيى: [الوافر]
تعيب عليّ مألوف القصابه ... ومن لم يدر قدر الشيء عابه
ولو أحكمت منها بعض فنّ ... لما استبدلت عنها بالحجابه
وإنّك لو طلعت عليّ يوما ... وحولي من بني كلب عضابه
لهالك ما رأيت وقلت هذا ... هزبر صيّر الأوضام غابه
فتكنا في بني العنزيّ فتكا ... أقرّ الذّعر فيهم والمهابه
ولم نقلع عن الثّوريّ حتّى ... مزجنا بالدّم القاني لعابه
ومن يعتزّ منهم بامتناع ... فإنّ إلى صوارمنا إيابه
ويبرز واحد منّا لألف ... فيغلبهم وتلك من الغرابه
وحقّك ما تركت الشّعر حتّى ... رأيت البخل قد أمضى شهابه
وحتّى زرت مشتاقا حميمي ... فأبدى لي التجهّم والكآبه
وظنّ زيارتي لطلاب شيء ... فأقصاني وأغلظ لي حجابه
قوله: ولم يبل: أصله يبالي، حذفت ياؤه للجزم، فصار يبال، فلما كثر استعماله صار بمنزلة ما لم يحذف منه شيء فقدّروا تكرير الجازم عليه مرة أخرى فحذفت حركة اللام للجزم، فسكنت اللّام، وقبلها ألف ساكنة فحذفت الألف لالتقاء الساكنين.
ولأبي عليّ في هذه المسألة عبارة استوحش منها أكثر العلماء، فمن مخطّىء ومن مصوّب، وتحقيقها غائب إلا عن أهل التحقيق، وقد أوضحناها في شرحنا لكتاب الإيضاح، والإكثار من مسائل الإعراب في كتب الآداب مما يستبرد ويعاب.
أعرض، أي نحى وجهه لجهة قاصاني: فارقني، وقال الفرّاء: كل شيء أبنته من شيء فقد قصّيته منه، وتقصّى الرجل من الرجل: بان عنه، وكلّ رجل باين شيئا فقد تقصّى عنه. الليث رحمه الله: كلّ شيء لازم خلّصته فقد تقصّى، وتقصّيت من الديون:
خرجت منها. فرسي رهان: هما اللذان يجريان ويجعل معهما جعل، فمن سبق أخذه.(3/417)
ومما أستحسن من أبيات اللغز في هذا الباب قولهم في المشارط: [المتقارب] وخضراء لا من بنات الهديل ... يلفّف بالسّير منقارها
كأنّ مشق عيون القطا ... إذا هنّ هوّمن آثارها
آخر: [البسيط]
وكان جدّي هراش في كتابته ... من أكتب الناس يا هرون بالألف
يعني آثار التشريط تبقى كصور الألفات.
وقال آخر: [مجزوء الرمل]
يا بن من يكتب في الأر ... قاب من غير دواة
لم يكن يكتب فيها ... غير خطّ الألفات
وقال ابن كناسة يخاطب إبراهيم بن سيابة: [المنسرح]
يا بن الذي عاش غير مضطهد ... يرحمه الله أيّما رجل
له رقاب الملوك خاضعة ... من بين حاف منهم ومنتعل
أبوك أوهى النّجاد كاهله ... كم من كميّ أدمى ومن بطل
يأخذ من ماله ومن دمه ... لم يمس من ثأره على وجل
في كفّه صارم يقلّبه ... يقدّ أعناق سادة نبل
وأخذ صاحب الشرطة رجلا في ريبة، فقال: أصلحك الله: احفظ فيّ الأبوّة، وقال: [الكامل]
أنا الذي لا تنزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوما فسوف تعود
ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره ... فمنهم قيام حولها وقعود
فأمر بتركه، ثم أخبر أنّ أباه باقلانيّ، فقال: لو لم نتركه إلّا لأدبه وحسن تخلّصه من الكذب لكان فعلنا سدادا.
وكان بالمدينة فتى أبوه مغنّ وأمّه نائحة، فأغضبه إنسان، فقال: أتغضبني وأنا ابن الطّرب والحرب!.
وقال ابن عباس المصري يذكر غلاما جميلا، والحجام يأخذ من شعره في الحمام:
[مخلع البسيط]
مزين انبرى لظبي ... كأنه البدر في سجوفه
كأنّ موساه وهو لمّا ... نضى بها الشّعر في وقوفه
كيوان في كفّه حسام ... يخلّص البدر من كسوفه
ولبعضهم يمدح حجاما: [البسيط](3/418)
مزين انبرى لظبي ... كأنه البدر في سجوفه
كأنّ موساه وهو لمّا ... نضى بها الشّعر في وقوفه
كيوان في كفّه حسام ... يخلّص البدر من كسوفه
ولبعضهم يمدح حجاما: [البسيط]
إن المزين إنسان صناعته ... تعلو الصّنائع إذ ما مثلها صنعت
ألا ترى أنه لا يستراب به ... وآله الموت في صندوقه جمعت
يخلو مع الملك المرهوب جانبه ... فيما إليه ضرورات الأمور دعت
تعلو أنامله في حين خلوته ... مواضعا لو علتها غيرها قطعت
وقال السّري في مزين محسن: [المتقارب]
هل الحذق إلا لعبد الكريم ... حوى فضله حادثا عن قديم
إذا لمع البرق في كفّه ... أفاض على الرأس ماء النّعيم
جهول الحسام ولكنّه ... يروح ويغدو بكّفي عليم
له راحة سيرها راحة ... تمرّ على الرأس مرّ النسيم
نعمنا بخدمته مذ نشا ... فنحن به في نعيم مقيم
وله في طبيب: [السريع]
أوضح نهج الطبّ في معشر ... ما زال فيهم دارس الرّسم
كأنّه من لطف أفكاره ... يجول بين الدّم واللّحم
إن غضبت روح على جسمها ... ألّف بين الرّوح والجسم
وفي ضده لأبي نصر كشاجم: [المجتث]
عيسى الطبيب ترفّق ... فأنت طوفان نوح
يأبى علاجك إلا ... فراق جسمي وروحي
شتان ما بين عيسى ... وبين عيسى المسيح
فذاك محيي ممات ... وذا مميت الصحيح
وللخوارزمي: [السريع]
أبو سعيد راحل للكرام ... ومنسف ينسف عمر الأنام
لم أره إلا خشيت الردى ... وقلت: يا روحي عليك السلام
يبقى ويفنى الناس من شؤمه ... قوموا انظروا كيف نحاة اللئام
ثم تراه آمنا سالما ... يا ملك الموت إلى كم تنام
وللسّريّ: [الكامل]
هل للعليل سوى ابن قرّة شاف ... بعد الإله وهل له من كاف
فكأنه عيسى ابن مريم ناطقا ... يهب الحياة بأيسر الأوصاف
مثلت له قارورتي فرأى بها ... ما اكتن بين جوانحي وشغافي
يبدو له الدواء الحفيّ كما بدا ... للعين رضراض الغدير الصافي
وكثرة الكلام وقف على أهل الحجامة، ولذلك صرف الحريريّ بين الشيخ وابنه ما تقدّم في هذه المقامة. وكان الفقيه الأعمش أكثر الناس تبرّما إن أعاد أحد عليه سؤالا انتهره، وأخطأ يوما على قوم، فقالت لهم امرأته من وراء الستر: احملوا عنه فو الله ما يمنعه من الحج منذ ثلاثين سنة إلا مخافة أن يظلم كريّه أو يشتم رفيقه، وكثر عليه الشّعر فقال له تلامذته: لو أخذت من شعرك؟ فقال: لا نجد حجاما يسكت، قالوا له: نأتيك به، ونأخذ عليه أن يسكت حتى يفرغ، قال: افعلوا. فأتي بحجام ووصّي ألا يكلمه، فبدأ بحلقه، فلما أمعن سأله في مسألة فنفض ثيابه، وقام بنصف رأسه محلوقا، حتى دخل بيته، فأخرج الحجّام، وأتي بغيره، فقال: والله لا أخرج إليه حتى توصّوه، وتحلّفوه، فحلف ألّا يسأله في شيء، وحينئذ خرج إليه.(3/419)
هل للعليل سوى ابن قرّة شاف ... بعد الإله وهل له من كاف
فكأنه عيسى ابن مريم ناطقا ... يهب الحياة بأيسر الأوصاف
مثلت له قارورتي فرأى بها ... ما اكتن بين جوانحي وشغافي
يبدو له الدواء الحفيّ كما بدا ... للعين رضراض الغدير الصافي
وكثرة الكلام وقف على أهل الحجامة، ولذلك صرف الحريريّ بين الشيخ وابنه ما تقدّم في هذه المقامة. وكان الفقيه الأعمش أكثر الناس تبرّما إن أعاد أحد عليه سؤالا انتهره، وأخطأ يوما على قوم، فقالت لهم امرأته من وراء الستر: احملوا عنه فو الله ما يمنعه من الحج منذ ثلاثين سنة إلا مخافة أن يظلم كريّه أو يشتم رفيقه، وكثر عليه الشّعر فقال له تلامذته: لو أخذت من شعرك؟ فقال: لا نجد حجاما يسكت، قالوا له: نأتيك به، ونأخذ عليه أن يسكت حتى يفرغ، قال: افعلوا. فأتي بحجام ووصّي ألا يكلمه، فبدأ بحلقه، فلما أمعن سأله في مسألة فنفض ثيابه، وقام بنصف رأسه محلوقا، حتى دخل بيته، فأخرج الحجّام، وأتي بغيره، فقال: والله لا أخرج إليه حتى توصّوه، وتحلّفوه، فحلف ألّا يسأله في شيء، وحينئذ خرج إليه.
ومقامة الحجام في البديعية، منها قال عيسى بن هشام: فطلبت حجاما فجاؤوا برجل نظيف، ظريف لطيف، فارتحت إليه، وسلّمت عليه، فقال لي: السلام عليك، من أيّ بلد أنت؟ فقلت: من مصر، فقال لي: حيّاك الله، من أرض النعمة والرفاهة، وبلد السنة والجماعة، ولقد حضرت في رمضان جامعها، وقد اشتعلت المصابيح، وأقيمت التراويح، فما شعرنا إلا بمدّ النيل، قد أتى على تلك القناديل، ولكن صنع الله لي بخف، كنت لبسته رطبا فلم يحصل طرازه على كمّه، وعاد الصبيّ إلى أمّه، بعد أن صلّيت العتمة، واعتدل الظلّ، ولكن كيف كان حجّك، هل قضيت مناسكه كما وجب، وصاح الصبيان: العجب العجب، فنظرت إلى المنارة، وما أهون الحرب عند النّظّارة ووجدت الهريسة على حالها، فعلمت أنّ الأمر بقضاء من الله وقدر، وإلى متى هذا الضجر، واليوم وغد، والسبت والأحد، ولم أكثر وأطيل، وما أكثر القال والقيل، وإن أردت أن تعلم المبرّد حديد الموسى في النّحو فلا تشتغل بقول العامة، فلو كانت الاستطاعة قبل الفعل لحلقت رأسك، فهل ترى يا سيدي أن ابتدىء؟.
قال عيسى: فبقيت والله متعجّبا من هذيانه، وسألت عنه فإذا هو أبو الفتح قد غلب السّواد عليه، فتركته وانصرفت فهذه غرارة حجام على الحقيقة.
قال الشيخ الإمام الرئيس أبو محمد القاسم بن علي رضي الله عنه:
قد أودعت هذه المقامة بضعة عشر مثلا من أمثال العرب، وها أنا أفسّر منها ما إخاله يلتبس، على من يقتبس.
أما قوله: بطء فعد، فهو مولى عائشة بنت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكانت بعثته بالمدينة ليقتبس لها نارا، فقصد من فوره مصر، وأقام بها سنة، ثم جاءها بعد السّنة وهو يشتدّ ومعه جمر، فتبدّد منه فقال: تعست العجلة!.(3/420)
وأمّا ذات النّحيين فهي امرأة من تيم الله بن ثعلبة، حضرت سوق عكاظ ومعها نحيا سمن، فاستخلى بها خوّات بن جبير الأنصاري ليبتاعهما منها، ففتح أحدهما وذاقه ودفعه إليها، فأخذته بإحدى يديها، ثم فتح الآخر وذاقه ودفعه إليها، فأمسكته بيدها الأخرى ثم غشيها، وهي لا تقدر على الدّفع عن نفسها لحفظها فم النّحيين وشحّها على السمن. فلما قام عنها قالت له: لا هنأك، فضرب بها المثل فيمن شغل، وهي في هذا المثل مفعولة، لأنها شغلت. وأكثر الأفعال التي على أفعل تأتي من فعل الفاعل.
وأما قوله: أنف في السّماء واست في الماء، فيضرب هذا المثل لمن يكبر مقالا، ويصغر فعالا.
وأما قوله: أفرغ من حجّام ساباط، فذكر أنّه كان حجّاما ملازما ساباط المدائن يحجم الجنديّ بدانق نسيئة، وربّما مرّت عليه برهة لا يقربه فيها أحد فكان يبرز أمّه عند تمادي عطلنه، فيحجمها لكيلا يقرّع بالبطالة، فما زال يحجمها حتى نزف دمها وماتت.
وأما قوله: يشكو إلى غير مصمت، فهو مثل يضرب لمن لا يكترث بشأن صاحبه، ولا يعبأ باستمرار شكايته، لأنه لو أشكاه لصمت. وأمسك عن الكلام، ومنه قول الراجز يخاطب جملا له: [الرجز]
إنّك لا تشكو إلى مصمّت (1)
فاصبر على الحمل الثقيل أو مت
ونحو هذا المثل: هان على الأملس ما لا قى الدّبر.
وأمّا قوله: شغلت شعابي جدواي، فالمراد به أنه ليس يفضل عنّي ما أصرفه إلى غيري. والشّعاب: هي النّواحي، واحدها شعب.
وقوله: كلّ الحذاء يحتذي الحافي الوقع، معناه أن المجهود يقنع بما يجد، والواقع أن تصيب الحجارة القدم فتوهنها. فأما البعير الموقّع فهو الذي يكثر آثار الدبر بظهره.
__________
(1) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (صمت)، وأساس البلاغة (صمت)، تاج العروس (صمت)، وجمهرة اللغة ص 400.(3/421)
المقامة الثامنة والأربعون وتعرف بالحراميّة
روى الحارث بن همام عن أبي زيد السّروجيّ قال: ما زلت مذ رحلت عنسي، وارتحلت عن عرسي وغرسي، أحنّ إلى عيان البصرة، حنين المظلوم إلى النّصرة، لما أجمع عليه أرباب الدّراية، وأصحاب الرّواية من خصائص معالمها، وعلمائها، ومآثر مشاهدها وشهدائها، وأسأل الله أن يوطئني ثراها، لأفوز بمراها، وأن يمطيني قراها، لأفتري قراها. فلمّا أحلّنيها الحظّ، وسرح لي فيها اللّحظ، رأيت بها ما يملأ العين قرّة، ويسلي عن الأوطان كلّ غريب، فغلّست في بعض الأيام، حين نصل خضاب الظّلام، وهتف أبو المنذر بالنّوّام لأخطو في خططها، وأقضي الوطر من توسّطها، فأدّاني الاختراق في مسالكها، والانصلات في سككها، إلى محلّة موسومة بالاحترام، منسوبة إلى بني حرام، ذات مساجد مشهودة، وحياض مورودة، ومبان وثيقة، ومغان أنيقة، وخصائص أثيرة، ومزايا كثيرة.
* * * رحلت، أي شددت عليها الرّحل، والرّحل: سرج النّاقة، والعنس: الناقة القوية، شبّهت بالعنس وهي الصّخرة لصلابتها، قال الليث: إذا تمّ سنّ الناقة، واشتدّت قوّتها وصلبت عظامها وأعضاؤها فهي عنس. عرسي: زوجتي غرسي: أولادي. أحنّ: اشتاق.
عيان: معاينة ومشاهدة. خصائص: ما يختصّ به من الفضائل. معالمها: مواضعها المشهورة. والمآثر: الفضائل والمكارم، والمأثرة: الفضيلة يخصّ بها. مشاهدها:
مواضع اجتماع أهلها يوطئني ثراها: يجعلني أطؤها وأمشي عليها، وأوطأه الشيء: أمكنه من أن يطأه. الثرى: التّراب النديّ. ومرآها: منظرها. يمطيني قراها: يركبني ظهرها.
اقتري: أتتبّع. أحلّنيها: أنزلنيها. الحظّ: السعد. اللّحظ: العين قرة: سرور. يسلي:
يشغل. غلّست: خرجت في الغلس، وهي ظلمة آخر الليل. نصل: زال. هتف: صاح.
أبو المنذر: كنية الديك، ويكنى أبا سليمان. أبو هريرة: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبّوا الديك فإنّه يوقظ للصلاة».(3/422)
أبو هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم الدّيكة تصيح فإنها رأت ملكا فاسألوا الله من فضله، وإذا سمعتم نهيق الحمير، فإنها رأت شيطانا فاستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم» (1).
قال صلى الله عليه وسلم: «الديك الأبيض صديقي وإنه يحرس دار صاحبه وسبع دور وكأنّ مستمعه في البيت».
وقال ابن المعتز ويصف ديكا: [المنسرح]
بشّر بالصبح طائر هتفا ... هاج من اللّيل بعد ما انتصفا
مذكّر بالصباح صاح بنا ... كخاطب فوق منبر وقفا
صفق إمّا ارتياحه لسنا الف ... جر وإما على الدّجا أسفا
وله: [المنسرح]
وصاح فوق الجدار مشترفا ... كمثل طرف علاه أسوار
ثم غدا يسأل الفرات عن ال ... أرزاق منه ثغر ومنقار
رافع رأسه طورا وخافضه ... كأنّما العرف منه منشار
وقال الأسعد بن بليط: [البسيط]
وقام بها ينعى الدّجى ذو شقشقة ... يدير الينا بين أجفانه سقطا
إذا صاح أصغى سمعه لأذانه ... وبادر ضربا من قوادمه الإبطا
ومهما اطمأنت نفسه قام صارخا ... على خير ازن نيط من صفره خرطا
كأن أنو شروان أعلاه تاجه ... وناطت عليه كفّ مارية القرطا
سبى حلّة الطاوس حسن لباسه ... ولم يكفه حتى سبى مشية البطا
قوله: أخطو، أي أمشي. خططها: طرقها. الوطر: الحاجة. توسّطها: المشي في وسطها. أدّاني: أوصلني. الاختراق: المشي، واخترقت البلدة، إذا قطعت أرضها بالمشي. والاختراق: المرور والسلوك. والمسالك: الطرق والانصلات: الخروج بسرعة من زقاق إلى آخر، وانصلت السيف: خرج بسرعة. سككها: أزقتها الواحدة سكّة، وسمّيت سكّة لا صطفاف الدور فيها، ويقال للطريق المستوية المصطفة من النّخل: سكّة.
محلّة: منزلة. موسومة: معلمة. الاحترام: الامتناع. حياض: جمع حوض. مورودة:
مقصودة للشّرب. مغان: منازل. أنيقة: معجبة حسنة. أثيرة: منتشرة لكثرتها مزايا: جمع مزيّة وهي الفضيلة يختصّ بها الشيء: [الوافر]
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب 15، ومسلم في الذكر حديث 82، والترمذي في الدعوات باب 56، وأحمد في المسند 2/ 306، 321، 364.(3/423)
بها ما شئت من دين ودنيا ... وجيران تنافوا في المعاني
فمشغوف بآيات المثاني ... ومفتون برنّات المثاني
ومضطلع بتلخيص المعاني ... ومطّلع إلى تلخيص عاني
وكم من قارىء فيها وقار ... أضرّا بالجفون وبالجفان
وكم من معلم للعلم فيها ... وناد للنّدى حلو المجاني
ومغنى لا تزال تغن فيه ... أغاريد الغواني والأغاني
فصل إن شئت فيها تصل ... وإمّا شئت فادن من الدّنان
ودونك صحبة الأكياس فيها ... أو الكاسات منطلق العنان
* * * تنافوا: تباعدوا. مشغوف: مولع شديد الحبّ. المثاني: أمّ القرآن، وقيل السّبع الطوال من أوّل القرآن. ورنات: أصوات. المثاني: أوتار عود الغناء. مضطلع: قويّ التلخيص: تهذيب الشيء وتخليص فوائده، وكأنه مقلوب التّخليص. وتخليص عان:
افتكاك أسير. قارىء: عابد مكثر لقراءة القرآن، قار: مطعم للضيف. الجفون: العيون.
الجفان: صحاف الطّعام، يريد أن هذا أضرّ بجفونه بكثرة النّظر في الورق قارئا ما فيها وهذا بجفانه لإطعام ما فيها. مغنى: منزل. تغنّ: تصوّت. أغاريد: أصوات. الغواني:
جمع غانية، وهي المرأة الجميلة. الأغاني: جمع أغنية، وهي ما يتغنّى به. الدّنان:
خوابي الخمر. دونك، أي الزم. الأكياس: أهل الفطنة والتدبير. منطلق العنان: مسيب مسرّح.
* * * قال: فبينما أنا أنفض طرقها، وأستشفّ رونقها إذ لمحت عند دلوك براح، وإظلال الرّواح، مسجدا مشتهرا بطرائفه، مزدهرا بطوائفه، وقد أجرى أهله ذكر حروف البدل، وجروا في حلبة الجدل، فعجت نحوهم، لأستمطر نوءهم، لا لأقتبس نحوهم، فلم يك إلّا كقبسه العجلان، حتّى ارتفعت الأصوات بالأذان، ثم ردف التأذين بروز الإمام، فأغمدت ظبى الكلام، وحلّت الحبى للقيام، وشغلنا بالقنوت، عن استمداد القوت، وبالسّجود، عن استنزال الجود ولمّا قضي الفرض، وكاد الجمع ينفضّ، انبرى من الجماعة، كهل حلو البراعة، له مع السّمت الحسن، ذلاقة اللّسن، وفصاحة الحسن. وقال: يا جيرتي، الذين اصطفيتهم على أغصان شجرتي، وجعلت خطّتهم دار هجرتي، واتّخذتهم كرشي وعيبتي،
وأعددتهم لمحضري وغيبتي، أما تعلمون أنّ لبوس الصّدق أبهى الملابس الفاخرة، وأنّ فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وأنّ الدّين إمحاض النّصيحة، والإرشاد عنوان العقيدة الصحيحة، وأن المستشار مؤتمن، والمسترشد بالنّصح قمن.(3/424)
* * * قال: فبينما أنا أنفض طرقها، وأستشفّ رونقها إذ لمحت عند دلوك براح، وإظلال الرّواح، مسجدا مشتهرا بطرائفه، مزدهرا بطوائفه، وقد أجرى أهله ذكر حروف البدل، وجروا في حلبة الجدل، فعجت نحوهم، لأستمطر نوءهم، لا لأقتبس نحوهم، فلم يك إلّا كقبسه العجلان، حتّى ارتفعت الأصوات بالأذان، ثم ردف التأذين بروز الإمام، فأغمدت ظبى الكلام، وحلّت الحبى للقيام، وشغلنا بالقنوت، عن استمداد القوت، وبالسّجود، عن استنزال الجود ولمّا قضي الفرض، وكاد الجمع ينفضّ، انبرى من الجماعة، كهل حلو البراعة، له مع السّمت الحسن، ذلاقة اللّسن، وفصاحة الحسن. وقال: يا جيرتي، الذين اصطفيتهم على أغصان شجرتي، وجعلت خطّتهم دار هجرتي، واتّخذتهم كرشي وعيبتي،
وأعددتهم لمحضري وغيبتي، أما تعلمون أنّ لبوس الصّدق أبهى الملابس الفاخرة، وأنّ فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وأنّ الدّين إمحاض النّصيحة، والإرشاد عنوان العقيدة الصحيحة، وأن المستشار مؤتمن، والمسترشد بالنّصح قمن.
* * * انفض طرقها، أي أمشي بها وحدي، يقال: جاء فلان ينفض الطّريق إذا جاء وحده وقالت الجهنيّة: [الكامل]
يرد المياه حضيرة ونفيضة ... ورد القطاة إذا اسمألّ التّبّع (1)
الحضيرة: الذي يحضر معه غيره، وجمعه الحضائر. والتّبّع: الظلّ واسمألّ:
نقص، ويقال أيضا: نفض المكان واستنفضه، إذا نظر جميع ما فيه حتى يعرفه.
استشف: استقصى النظر. رونقها: حسنها، لمحت: نظرت. دلوك براح: زوال الشمس، وبراح من أسمائها مبني على الكسر. عبد الله بن مسعود دلوكها: غروبها. أبو عبيدة: دلوك الشمس زوالها وميلها، وهو قول ابن عباس الأزهريّ هذا القول أصحّ عندي، وقيل: دلوكها، من زوالها إلى غروبها.
ويدلّك هذا الوصف على أنّ البصرة من نهاية العظم والكبر على جانب عظيم، لأنه زعم أنّه خرج في الغلس، وبقي يمشي في أزقّتها إلى الظهر. ويقال إنها في آخر الدولة الأمويّة كسرت فوجد في طولها فرسخان، وفي عرضها فرسخ وخمسة أسداس فرسخ.
قوله: إظلال، أي دنوّ وقرب. طرائفه: عجائبه وغرائبه. مزدهرا: مضيئا بحلق الفضلاء والعلماء. طوائفه: جماعاته، وحروف الإبدال يجمعها طال يوم أنجدته.
والحلبة: جماعة الخيل في الطّلق تجرى ليختبر عتيقها من هجنها الجدل: الخصام.
عجت: ملت. أستمطر نوءهم: أطلب معروفهم، والنّوء طلوع نجم من المنازل وسقوط آخر يقابله. أقتبس: آخذ، وقبسة العجلان أخذه القبس، وهو شعلة من نار يقتبسها من معظم النار. ردف: تبع وجاء بعده قال تعالى: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل:
72]، أي جاء بعدكم، وأردفت الرجل جئت بعده ابن الأعرابي: ردفت الرجل وأردفته ولحقته وألحقته بمعنى واحد. القنوت: الطاعة، وهو أيضا طول القيام في
__________
(1) البيت لسعدى الجهنية في لسان العرب (حضر)، (نفض)، (تبع)، (سمأل)، وتهذيب اللغة 2/ 483، 4/ 202، 12/ 45، 455، ولسلمى الجهنية في التنبيه والإيضاح 2/ 108، وجمهرة اللغة ص 254، 515، 908، وللفرزدق في كتاب العين 2/ 79، وليس في ديوانه، وللهذلي في المخصص 9/ 55، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 1089، ومقاييس اللغة 1/ 363، 2/ 76، 5/ 462، وكتاب العين 7/ 47.(3/425)
الصلاة. ابن الأنباري: القنوت أربعة أقسام: الصّلاة وطول القيام وإقامة الطاعة والسكوت. استمداد: طلب أن يمدّوه بالقوت وهو الاستنزال. ينفض: يتفرق.
انبرى: ظهر وقام بسرعة. كهل: تامّ الخلق. السّمت: الوقار. ذلاقة: حدّه. اللّسن:
حدّة اللسان، وتقدم الحسن في الأربعين. اصطفيتهم: اخترتهم. أغصان شجرتي:
بني عمّي وقرابتي وأولادي. خطّتهم: بلدتهم، والمهاجر عند العرب: المستقبل من البادية إلى الحاضرة. ودار هجرتي: موضع سكناي الذي هاجرت إليه. كرشي: أهلي عيبتي: خاصّتي الذين أنفرد بهم. وعيبة الرجل: موضع سرّه. وكرشه: عياله والعيبة: وعاء يجعل فيه المتاع، والكرش مثلها، والكرش الجماعة من النّاس، والكرش أيضا لكل مجترّ من البهائم بمنزلة المعدة من الإنسان، فساق الكرش والعيبة على جهة المثل وإنهم موضع سرّه، وقال صلى الله عليه وسلم: «الأنصار كرشي وعيبتي» (1)، قيل:
موضع سرّي، وقيل مدادي لأنّ ذات الكرش تستمد من كرشها الفضوح والفضيحة:
الشّهرة. إمحاض: إخلاص. الإرشاد: الهداية. عنوان العقيدة: دليل البواطن والمعتقدات. والمستشار: الذي تستشيره في رأيك. مؤتمن: قد أمن على الأسرار والنفوس، لا يخون فيها، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما ندم من استشار، ولا شقي من استخار» وقال بشار: [الطويل]
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيح أو مشورة حازم
ولا تجعل الشّورى عليك غضاضة ... فإنّ الخوافي رافدات القوادم
وما خير كفّ أمسك الغلّ أختها ... وما خير سيف لم يؤيّد بقائم
وخلّ الهوينى للضعيف ولا تكن ... نؤوما فإنّ الدهر ليس بنائم
وحارب إذا لم تعط إلّا ظلامة ... شبا الحرب خير من قبول المظالم
وهي قصيدة طويلة، قالها في إبراهيم بن عبد الله، فلمّا قتل صرفها إلى المنصور في أبي مسلم، وكان بشّار يقول: المشاور على إحدى الحسنيين: صواب يفوز بثمرته، وخطأ يشارك في مكروهه وقال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَشََاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، لما في ذلك من الائتلاف، وهو أغنى الناس عن المشورة وقال ابن المعتز: [الوافر]
تجاوز عن إساءة كل دهر ... وصاحب يوم حادثة بصبر
وإن نابتك نائبة فشاور ... فكم حمد المشاور غبّ أمر
وقسّم همّ نفسك في نفوس ... ولا تنفردن بطول فكر
__________
(1) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب 11، ومسلم في فضائل الصحابة حديث 176، والترمذي في المناقب باب 65، وأحمد في المسند 3/ 156، 176، 188، 201، 246، 272.(3/426)
إذا كظّ الفرات بماء مدّ ... أغصّ به حلاقم كلّ نهر
قال عيسى بن عليّ: ما زال المنصور يشاور في أمره، حتى قال فيه ابن هرمة:
[الطويل]
إذا ما أراد الأمر ناجى ضميره ... فناجى ضميرا غير مختلف العقل
ولم يترك الأدنين في كلّ أمره ... إذا اختلفت بالأضعفين قوى الحبل
وأنشد الجاحظ: [الرمل]
ليت هندا أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا ممّا تجد (1)
واستبدّت مرّة واحدة ... إنّما العاجز من لا يستبد
ثم قال: ولا أعلم الموصوف بالاستبداد إلا مجهّلا مذموما، والمثل السائر على الأفواه: [الطويل]
وما العجز إلا أن تشاور عاجزا ... وما العزم إلّا أن تهمّ وتفعلا
وقال سعد بن ناشب: [الطويل]
إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه ... ونكّب عن ذكر العواقب جانبا (2)
ولم يستشر في رأيه غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السّيف صاحبا
وقال ابن رشيق في أدب قوله تعالى: {وَشََاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]:
[الطويل]
أشاور أقواما لآخذ رأيهم ... فليوون عنّي أعينا وخدودا
وليس برأيي حاجة غير أنّني ... أؤنّسه كي لا يكون وحيدا
ولا أنا ممن يبعث السّهم راميا ... إلى غرض حتى يكون سديدا
فلا يتّهم عقلي الرّجال فإنني ... أعرّفهم أنّي خلقت ودودا
وأنشد الحريري بيتي بشار في درّة الغواص على أن قول الخواص مشورة بوزن مفعلة خطأ وإنما هي مشورة بوزن معونة ومثوبة مثل مكرمة من الصّحيح، فنقلت حركة الواو إلى ما قبلها فسكنت، واختلف في اشتقاقها فقيل: هو من شرت العسل أشوره إذا جنيته، فكأن المستشير يجني الرأي من المشير، وقيل من شرت الدابّة إذا أجريتها مقبلة ومدبرة لتختبرها، والاشتقاقان متقاربان. المسترشد: السّائل أن يرشد.
قمن: حقيق.
* * * __________
(1) البيتان لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص 30.
(2) البيتان في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 69.(3/427)
وأنّ أخاك هو الّذي عذلك، لا الّذي عذرك، وصديقك من صدّقك، لا من صدّقك، فقال له الحاضرون: أيّها الخلّ الودود، والخدن المودود، ما سرّ كلامك الملغز، وما شرح خطابك الموجز؟ وما الّذي نبغيه منّا لينجز، فو الّذي حبانا بمحبّتك، وجعلنا من صفوة أحبّتك، ما نألوك نصحا، ولا ندّخر عنك نضحا، فقال: جزيتم خيرا، ووقيتم ضيرا، فإنّكم ممّن لا يشقى بهم جليس، ولا يصدر عنهم تلبيس، ولا يخيّب فيهم مظنون، ولا يطوى دونهم مكنون، وسأبثّكم ما حاك في صدري، وأستفتيكم فيما عيل فيه صبري.
* * * عذلك: لامك. صدقك: قال الصدق، كأنه أراد أن الصديق إنما سمّي صديقا لصدقه لصاحبه، يريد أنّ أخاك هو الذي يلومك ويقبّح لك سوء فعلك ومن حسّن عذرك في ذلك، فليس بصديق ولا أخ، مثل ما حكى الأصمعيّ، قال: سمعت أعرابيا يقول لأخ له: اعلم أنّ الناصح لك المشفق عليك، من طالع لك ما وراء العواقب برويّته ونظره، ومثّل لك الأحوال المخوفة، وخلط لك الوعر بالسّهل من كلامه ومشورته، ليكون خوفك كفء رجائك، وشكرك إزاء النعمة عليك، وأنّ الغاشّ لهواك والحاطب عليك من مدّلك في الاغترار، ووطّأ لك مهاد الظلم، تابعا لمرضاتك منقادا لهواك، وقال الشاعر فيمن لا يقبل النصح: [المتقارب]
إذا ما هديت امرأ مخطئا ... أضل السّبيل إلى قصده
فلم تلفه سامعا قابلا ... فحس له المشي في ضدّه
الخلّ: الخليل. الودود: الصاحب الكثير الودّ: الخدن المودود: الصديق لمحبوب. الملغز: المبهم الخفيّ الموجز: المختصر. تبغيه: تطلبه لينجز: ليفعل في الحين. حبانا: اختصّنا صفوة: خيار. نألوك نصحا: نقصّر في نصيحتك ندخر: نرفع ونخبأ نضحا: عطية ندفعها لك، مأخوذ من النّضح وهو الشرب القليل دون الريّ.
والنّضح أيضا: الرشّ بالماء. وقيتم ضيرا: كفيتم الضّر يصدر: يرجع. تلبيس: التباس وتخليط. لا يخيّب فيهم مظنون، أي ما ظن فيهم من النّصح والمعاونة موجودة فيهم غير مفقودة. مكنون: مستور يطوى: يحجب ويستتر. أبثّكم: أنشر لكم وأظهر. حاك في صدري: أثّر فيه واحتكّ به. عيل: غلب وعالني الشيء عولا: غلبني وثقل عليّ.
* * * اعلموا أنّي كنت عند صلود الزّند، وصدود الجدّ، أخصلت مع الله نيّة العقد، وأعطيته صفقة العهد، على ألّا أسبأ مداما، ولا أعاقر ندامى. ولا أحتسي
قهوة، ولا أكتسي نشوة، فسوّلت لي النّفس المضلّة، والشّهوة المذلّة المزلّة، أن نادمت الأبطال، وعاطيت الأوطال، وأضعت الوقار، وارتضعت العقار، وامتطيت مطا الكميت، وتناسيت التّوبة تناسي الميت، ثم لم أقنع بها تيكم المرّة، في طاعة أبي مرّة، حتى عكفت على الخندريس، في يوم الخميس، وبتّ صريع الصّهباء، في اللّيلة الغرّاء، وها أنا بادي الكآبة، لرفض الإنابة، نامي النّدامة، لوصل المدامة، شديد الإشفاق، من نقض الميثاق، معترف بالإسراف، في عبّ السّلاف: [الطويل](3/428)
* * * اعلموا أنّي كنت عند صلود الزّند، وصدود الجدّ، أخصلت مع الله نيّة العقد، وأعطيته صفقة العهد، على ألّا أسبأ مداما، ولا أعاقر ندامى. ولا أحتسي
قهوة، ولا أكتسي نشوة، فسوّلت لي النّفس المضلّة، والشّهوة المذلّة المزلّة، أن نادمت الأبطال، وعاطيت الأوطال، وأضعت الوقار، وارتضعت العقار، وامتطيت مطا الكميت، وتناسيت التّوبة تناسي الميت، ثم لم أقنع بها تيكم المرّة، في طاعة أبي مرّة، حتى عكفت على الخندريس، في يوم الخميس، وبتّ صريع الصّهباء، في اللّيلة الغرّاء، وها أنا بادي الكآبة، لرفض الإنابة، نامي النّدامة، لوصل المدامة، شديد الإشفاق، من نقض الميثاق، معترف بالإسراف، في عبّ السّلاف: [الطويل]
فيا قوم هل كفّارة تعرفونها ... تباعد من ذنبي وتدني إلى ربّي
* * * قوله: صلود الزّند، هو ألّا يسمح بالنّار صدود الجدّ: إعراض السعد، يريد الأيام التي كنت فيها فقيرا. والعقد، كانت العرب إذا عاهد الرجل صاحبه عقد أصابعه، ثم صارت المعاهدة باللسان تسمّى عقدا، وكان أحدهم يربط رسن بعيره بخباء من يستجير به أو يرسل حبله في البئر مع حبله، فيشبكه به، وكان هذا كله عندهم عقدا لا يسلّم المستجار به المستجير إلا لما يسلم ولده، وقال حبيب: [البسيط]
بلى لقد سلفت في جاهليتهم ... للحق ليس كحقي حرمة عجب
أن يعلق الدّلو بالدّلو الغريبة أو ... يلامس الطنب المستحصد الطّنب
الصّفقة: ضربة يد المشتري على يد البائع. أسبأ: أشتري. مداما: خمرا. أكتسي نشوة: أظهر سكرة. سوّلت: زيّنت وحسّنت. المضلّة: المحيّرة. الأبطال: فرسان الخلاعة للسنّ. الأرطال: وهي أربعة، وقال في ذلك: [مجزوء الوافر]
سألت أخي أبا عيسى ... وجبريل له فضل
فقلت: الخمر تعجبني ... فقال كثيرها قتل
فقلت له فقدّر لي ... فقال وقوله فصل
وجدت طبائع الإنسا ... ن أربعة هي الأصل
فأربعة لأربعة ... لكلّ طبيعة رطل
يذكر هذا الرجل أنه تاب من شرب المسكر، وعاهد الله، ألّا يشرب خمرا، ثم ارتدّ ورجع لخلاعته.
ومثل حالته هذه حالة أبي محمد البصريّ، كان تاب وحجّ، فلما قفل راجعا بدا له في شرب الخمر، فقال: [الوافر](3/429)
ألا يا هند قد قضّيت حجّي ... فهات شرابك العطر العجيبا
فقد ذهبت ذنوبي بالليالي ... فقومي الآن نقترف الذّنوبا
خلطنا ماء زمزم في حشانا ... بماء المزن فامتزجا قريبا
وكان أبو القاسم المغربي قد نسك زمانا، ولبس الصّوف وترهّب وحجّ، فعشق غلاما تركيّا وهام به، وتقلّد الوزارة ببغداد وغيرها، وانتهى في الجاه إلى الغاية وتملّك الأحرار، واشترى الغلام التركيّ وقال: [الوافر]
تبدّل من مرقعة ونسك ... بأنواع الممسك والشّفوف
وعنّ له غلام ليس يحوي ... هواه ولا رضاه بلبس صوف
فعاد أشدّ ما كان انتهاكا ... كذاك الدهر مختلف الصّروف
وقال أيضا: [المنسرح]
يا أهل مصر قد عاد ناسككم ... بالكرخ بعد التّقى إلى الفتك
خمّش قلبي مقرطق غنج ... قد بدّ قلبي به من النّسك
رمى فؤادي بسهم مقلته ... وكيف يخطي مولد التّرك!
وقال كشاجم: [الطويل]
يقولون تب والكأس في كفّ شادن ... وصوت المثاني والمثالث عالي
فقلت لهم: لو كنت أزمعت توبة ... وأبصرت هذا كلّه لبدا لي
وقال الحسن: [الكامل]
كيف النّزوع عن الصّبا والكأس ... قل ذا لنا يا صاحبي بقياس
قالوا كبرت فقلت ما كبرت يدي ... عن أن تسير إلى فمي بالكأس
والرّاح طيّبة وليس تمامها ... إلا بطيب خلائق الجلّاس
وكأنّ شاربها لفرط شعاعها ... بالليل يكرع في سنا مقباس
وإذا نزعت من الغواية فليكن ... لله ذاك النّزع لا للنّاس
قوله: أضعت الوقار، يريد أنه ضيّع وقاره في مجلس اللهو، وقد تقدّم قوله:
وأصفى السرور إذا ما الوقور ... أماط ستور الحيا واطّرح
العقار: الخمر، لأنها عاقرت الدنّ، أي لازمته، أو لأنّها تعقر شاربها بثقل السّكر.
امتطيت: ركبت. مطا الكميت: ظهر الخمر، وورّى بفرس، أراد أنّه اعتكف على شربها، وسمّيت كميتا لأنها حمراء إلى الكمتة، وأبو مرة كنية إبليس، وقد تقدّم، وقال الحسن: [السريع](3/430)
نمت وإبليس إلى الصّبح في ... كلّ الّذي يؤثمني خصم
رأيته في الجوّ مستعليا ... ثم هوى يتبعه نجم
فقال لي لمّا هوى مرحبا ... بتائب يتبعه وهم
هل لك في غيداء ممكورة ... يرتجّ منها كفل ضخم!
فقلت: لا، قال: ففي أغيد ... ذي غنّة يجرجه اللّثم
لست أبا مرّة إن لم تعد ... فإن ذا من فعلك الغشم
وقال فيه وذكر أنه قاد له غلاما: [السريع]
دبّ له إبليس فاقتاده ... والشيخ نفّاع على لعنته
عجبت من إبليس في كبره ... وخبث ما أضمر من نيّته
تاه على آدم في سجدة ... وصار قوّادا لذرّيته
وقال سليمان بن الأعمى في الوليد، أخو صريع الغواني: [البسيط]
يأبى السجود له من فرط نخوته ... وقد تحوّل في مسلاخ قوّاد
وقال ابن رشيق يشكر إبليس: [المنسرح]
رأيت إبليس من مروءته ... لكلّ ما لا يطاق محتملا
إذا هويت امرأ وأعجزني ... جاء به في الظلام معتقلا
تبذّلا منه في حوائجنا ... ولا يزال الكريم مبتذلا
وقال أيضا يلعنه: [المتقارب]
أرى الشّيخ إبليس ذا علّة ... فلا برىء الشيخ من علّته
يقود على الحب مستيقظا ... ويأتيك في الليل في صورته
فيؤتيك ما شاء من نفسه ... ويبلغ ما شاء من لذّته
ومن كان ذا حيلة هكذا ... تمثّل للمرء في يقظته
فلا تدّخروا دونه لعنة ... لأنّ رضا الله في لعنته
قوله: عكفت، أي أقمت ولازمت: الخندريس: الخمر القديمة، وإنما ذكر يوم الخميس لأنه يوم تعرض فيه الأعمال على الله تعالى وإقدام العبد على الذنوب وقت العرض على الله تعالى أكبر خطرا. الصّهباء: التي عصرت من عنب أبيض. الأصمعيّ:
هي التي تضرب إلى البياض، من أبيض عصرت أو من غيره. صريعها: الذي صرعته بالسّكر، يريد أنه بات سكران مطروحا وقال أبو العلاء بن زهر في سكارى: [الكامل]
وموسّدين على الأكفّ خدودهم ... قد غالهم شرب الصّبوح وغالني
ما زالت أسقيهم وأشرب فضلهم ... حتى سكرت ونالهم ما نالني
والخمر تعرف كيف تأخذ ثأرها ... إني أملت إناءها فأمالني
الغرّاء: ليلة الجمعة. رفض الإنابة: طرح التّوبة والرجوع. نامي الندامة: كثير الندم. بادي الكآبة: ظاهر الانكسار والحزن وسوء الحال. المدام والمدامة: الخمر، سمّيت بذلك لأنها أديمت في ظرفها. الإشفاق: الخوف نفض الميثاق: حلّ العهد الإسراف: الإكثار. عبّ: حسو، والعبّ أن يتابع الرجل الجرعة بعد الجرعة بغير تنفّس.(3/431)
وموسّدين على الأكفّ خدودهم ... قد غالهم شرب الصّبوح وغالني
ما زالت أسقيهم وأشرب فضلهم ... حتى سكرت ونالهم ما نالني
والخمر تعرف كيف تأخذ ثأرها ... إني أملت إناءها فأمالني
الغرّاء: ليلة الجمعة. رفض الإنابة: طرح التّوبة والرجوع. نامي الندامة: كثير الندم. بادي الكآبة: ظاهر الانكسار والحزن وسوء الحال. المدام والمدامة: الخمر، سمّيت بذلك لأنها أديمت في ظرفها. الإشفاق: الخوف نفض الميثاق: حلّ العهد الإسراف: الإكثار. عبّ: حسو، والعبّ أن يتابع الرجل الجرعة بعد الجرعة بغير تنفّس.
السّلاف: الخمر العتيقة، والسّلاف والسّلافة: ما سال منها من غير أن تعصر، وهي أفضل الخمر قال الأعشى: [الطويل]
ببابل لم تعصر فجاءت سلافة ... تخالط قنديدا ومسكا مختّما (1)
القنديد: الخمر تطبخ ويجعل فيها أفاويه طيب
[من الخمريّات]
ونذكر هنا جملة من المقاطيع الخمريّات، نجعلها خاتمة ما قيل في الخمر.
عزم الواثق على الصّبوح فقال للحسين بن الضحاك: اكتب إلى الفتح بن خاقان تدعوه إلى الصّبوح، وكان قد برىء من مرض، فكتب إليه: [البسيط]
لمّا اصطبحت وعين اللهو ترمقني ... قد لاح لي باكرا في ثوب لذّته (2)
ناديت «فتحا» وبشرت المدام به ... لمّا تخلّص من مكروه علّته
ذبّ الفتى عن حريم الرّاح مكرمة ... إذا رآها امرؤ ضدّا لخلقته
فاعجل إلينا وعجّل بالسرور لنا ... وخالس الدهر في أوقات غفلته
فسار واصطبح معه.
وقال الحسين بن الضحاك: دخلت على الحسن بن سهل، في فصل الخريف وقد جاد الوسميّ من المطر برشّ حسن، واليوم في أحسن منظر وأطيبه، وهو جالس على سرير أبنوس، وعليه قبّة فوقها طارفة ديباج أصفر، تشرف على بستان، وعلى رأسه غلام كالدينار، فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام، ونظر إليّ كالمستنطق، فقلت: [المتقارب]
ألست ترى ديمة تهطل ... وهذا صباحك مستقبل (3)
وهذا المدام وقد راعنا ... بطلعته الشّادن الأكحل
__________
(1) البيت في ديوان الأعشى ص 343، ولسان العرب (قند)، (ببل)، وديوان الأدب 2/ 77، وتاج العروس (قند).
(2) الأبيات في ديوان الحسين بن الضحاك الخليع ص 33.
(3) الأبيات في ديوان ابن الضحاك ص 91، 92.(3/432)
فعاد بنا وبه سكرة ... تهوّن مكروه ما تسأل
فإنّي رأيت له طرّة ... تخبرني أنّه يفعل
وقد أشكل العيش في يومنا ... فيا حبذا عيشنا المشكل
فقال: العيش مشكل، فما ترى؟ قلت: مبادرة القصف، وتقريب الإلف، قال:
على شرط أن تبيت، قلت: لك الوفاء على أن يكون هذا الواقف على رأسك يسقيني، فضحك، وقال: ذلك لك على ما فيه، ثم دعا بالطّعام والشراب، ففقدت الغلام ساعة ثم جاء من الحمّام، فقلت: [السريع]
جرّده الحمام عن درّة ... تلوح فيها عكن بضّه (1)
كأنّما الرّشّ على خدّه ... طلّ على تفّاحة غضّه
يا ليته زوّدني قبلة ... أولا فمن وجنته عضّه
فقال الحسن: قد عمل فيك النبيذ، فقلت: [الرجز]
اسقياني وصرّفا ... بنت حولين قرقفا (2)
واسقيا الأهيف الغري ... ر سقى الله أهيفا
بأبي ما جن السري ... رة يبدي تعطّفا
فإذا رمت منه ذا ... ك تأبّى وعنّفا
فإذا همّ للمنا ... م فقوما وخفّفا
فتغاضب الغلام فذهب، ثم عاد وقال: أقبل على شرابك، ثم ناولني قدحا، والحسن قد خرج، فشربت وأعطاني نقلا، فقلت: اجعل بدله قبلة، فأبى، فقال له فرج غلام الحسن: بحياتي يا بنيّ، أسعفه بما طلب، فضحك ثم دنا منّي كأنه يعطيني نقلا وتغافل، فاختلست منه قبلة، فقال: هي حرام، فقلت: [الرمل]
هوّن الأمر عليه لي فرج ... بتأتّيه فسقيا لفرج (3)
وبنفسي نفس من قال وقد ... كان ما كان: حرام وحرج
ثم اشتهر الصبح، فخرجت ثم عدت للحسن من غد، فقال: كيف كان مبيتك يا حسين؟ فقلت: [المتقارب]
تألفت طيف غزال الحرم ... فواصلني بعد ما قد صرم (4)
فغضّ الجفون على خجلة ... وأعرض إعراضة المحتشم
__________
(1) الأبيات في ديوان ابن الضحاك ص 70، 71.
(2) ديوان ابن الضحاك ص 81.
(3) ديوان ابن الضحاك ص 81، 82.
(4) ديوان ابن الضحاك ص 94.(3/433)
فما زلت أبسطه مازحا ... وأفرط في اللهو حتّى ابتسم
وحكّمني الرّيم في نفسه ... بشيء ولكنّه مكتتم
فقال: يا فاسق، أظنّ ما ادّعيته في النوم وكان في اليقظة؟ وأصلح الأشياء بنا أن نرحض العار عن أنفسنا بهبته لك، فخذه لا بارك الله لك فيه، فأخذته وانصرفت.
وقد تقدّم في هذا الكتاب من كلام الحسين ما يفوق به كلّ شاعر، وهو القائل:
[الطويل]
أجرني فإنّي قد ظمئت إلى الوعد ... متى ينجز الوعد المؤكّد بالعهد! (1)
أعيذك من خلف الملوك وقد ترى ... تقطّع أنفاسي عليك من الوجد
أيبخل فرد الحسن عنّي بنائل ... قليل وقد أفردته بهوى فرد!
وهذا منتهى ما أوردته للحسين من العجائب.
دخل عليّ بن الجهم على عبد الله بن طاهر في غدوة الربيع، وفي السماء غيم رقيق، والمطر يجيء قليلا، ويسكن قليلا، فغاضبته جارية له، فانتقض عزمه فخبّر ابن الجهم بذلك، فأراد تنشيطه فدخل عليه فأنشده: [البسيط]
أما ترى اليوم ما أحلى شمائله ... صحو وغيم وإبراق وإرعاد (2)
كأنه أنت يا من لا شبيه له ... وصل وهجر وتقريب وإبعاد
فباكر الرّاح واشربها معتّقة ... لم يدّخر مثلها كسرى ولا عاد
واشرب على الرّوض إذ لاحت زخارفه ... زهر ونور وأوراق وأوراد
كأنما يومنا فعل الحبيب بنا ... بذل وبخل وإبعاد وميعاد
وليس يذهب عني كلّ فعلكم ... غيّ ورشد وإصلاح وإفساد
فاستحسنها وأمر له بثلاثمائة دينار وحمله وخلع عليه وقال علي أيضا: [البسيط]
الورد يضحك والأوتار تصطخب ... والناي يندب أحيانا وينتحب (3)
والراح تعرض في يوم الربيع كما ... تجلى العروس عليها الدرّ والذهب
وكلما انسكبت في الكأس آونة ... حسبت أن شعاع الشّمس ينسكب
وقد مرّ من كلام ابن الجهم كلّ بديع، في نظمه رفيع، وآخر شعر قاله وهو أحسن ما قيل في معناه: [المنسرح]
__________
(1) ديوان ابن الضحاك ص 46.
(2) الأبيات في ديوان علي بن الجهم ص 122.
(3) ديوان ابن الجهم ص 105.(3/434)
يا رحمة للغريب في البلد النّ ... ازح ماذا بنفسه صنعا (1)
فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا
يقول في نأيه وغربته: ... عدل من الله كل ما صنعا
وكان هجاء لعلي بن أبي طالب، وسمعه يوما أبو العيناء يطعن على عليّ فقال له:
أنا أدري لم تطعن على أمير المؤمنين، قال: أتعني قصّة بيعة أهلي، قال: لا، أنت أوضع من ذلك ولكن لأنه قتل الفاعل [فعل] قوم لوط وأنت أسفلهما. وقال البحتري فيه:
[الوافر]
إذا ما حصّلت عليا قريش ... فلا في العير أنت ولا النفير (2)
ولو أعطاك ربّك ما تمنّى ... لزاد الخلق في عظم الأيور
علام هجوت مجتهدا عليّا ... بما لفّقت من كذب وزور
أما لك في استك الوجعاء شغل ... يكف أذاك عن أهل القبور
وقال ابن القناص كاتب سيف الدولة: [البسيط]
قم فاسقني بين خفق النّاي والعود ... ولا تبع طيب موجود بمفقود
كأسا إذا أبصرت في القوم محتشما ... قال السرور له قم غير مطرود
نحن الشّهود وخفق النّاي خاطبنا ... يزوّج ابن سحاب بنت عنقود
وقال المصحفي: [الرجز]
صفراء تطرق في الزّجاج فإن سرت ... في الجسم دبّت مثل صلّ اللّادغ
خفيت على شرّابها فكأنّهم ... يجدون ريّا في إناء فارغ
إدريس بن اليماني: [الكامل]
ثقلت زجاجات أتتنا فرّغا ... حتى إذا ملئت بصرف الرّاح
خفّت فكادت أن تطير بما حوت ... إن الجسوم تخفّ بالأرواح
ابن المعتز: [الوافر]
وندمان سقين الرّاح صرفا ... وأفق اللّيل مرتفع السّجوف
صفت وصفت زجاجتها فأضحت ... كمعنى دقّ في ذهن لطيف
وله، وهو مما يتصل بأبيات الديك المتقدمة: [المنسرح]
فاشرب عقارا كأنّها قبس ... قد سبك الدّهر تبرها فصفا
__________
(1) ديوان ابن الجهم ص 154.
(2) الأبيات في ديوان البحتري ص 1038.(3/435)
ترى النّدامى الإبريق من دمها ... كأنه راعف وما رعفا
ولبعضهم: [الكامل]
ما زال يشربها وتشرب عقله ... خبلا وتؤذن روحة برواح
حتى انثنى متوسّدا بيمينه ... سكرا وأسلم روحه للراح
وقال النظام: [البسيط]
ما زلت آخذ روح الزّق في لطف ... وأستبيح دما من غير مجروح
حتى انثنيت ولي روحان في جسدي ... والزّقّ مطّرح، جسم بلا روح
أخذه أحسن أخذ من بشّار حيث قال: [الوافر]
شربنا من فؤاد الزّق حتّى ... تركنا الزّق ليس له فؤاد
وقال ديك الجن: [الطويل]
وقم أنت فاحثث كأسنا غير صاغر ... ولا تسق إلّا خمرها وعقارها (1)
فقام تكاد الكأس تخضب كفّه ... وتحسبه من وجنتيه استعارها
مورّدة من كفّ ظبي كأنّما ... تناولها من خدّه فأدارها
ظللنا بأيدينا نتعتع روحها ... فتأخذ من أقدامنا الرّاح ثارها
وقال حبيب: [الطويل]
وكأس كمعسول اللّماء شربتها ... ولكنّها أجلت وقد شربت عقلي (2)
إذا عوتبت بالماء كان اعتذارها ... لهيبا كوقع النّار بالحطب الجزل
إذا اليد نالتها بوتر توقّرت ... على ضغنها ثم استقادت من الرّجل
وقال الحسن: [الطويل]
وصفراء قبل المزج بيضاء بعده ... كأنّ شعاع الشّمس يلقاك دونها
ترعى العين تستعفيك من لمعانها ... وتحمرّ حتى ما تقلّ جفونها
كأن يواقيتا رواكد حولها ... وزرق سنانير تدير عيونها
وللخوارزمي: [الطويل]
وصفراء كالدّينار بنت ثلاثة ... شمال وأنهار ودهر محرّم
مسرة محزون، ورعد معربد ... وكنز مجوسيّ وفتنة مسلم
يطوف بها ظبي يريد عيوننا ... على عينه، من شرط يحيى بن أكثم
__________
(1) الأبيات في ديوان ديك الجن الحمصي ص 107.
(2) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 419.(3/436)
وقال مسلم بن الوليد: [الكامل]
إبريقنا سلب الغزالة جيدها ... وحكى المدير بمقلتيه غزالا (1)
يسقيك من عينيه كأس صبابة ... ويعيدها من كفّه جريالا
وقال أبو دلامة: [الطويل]
سقاني أبو بشر من الرّاح شربة ... لها لذّة ما ذقتها بشراب
وما طبخوها غير أنّ غلامهم ... مشى في نواحي كرمها بشهاب
ولما أنشدها علي بن الخليل صاح: أحرقها العبد أحرقه الله!.
كان ابن لنكك أسرع الناس سكرا، فقال في ذلك: [الوافر]
فديتك لو علمت ببعض ما بي ... لما جرّعتني إلّا بمسعط
فحسبك أن كرما في جواري ... أمرّ ببابه فأكاد أسقط
قوله: فيا قوم هل كفارة تعرفونها، إنما غيّر بيت أعرابيّ، أنشد أبو العباس أبياته، وهي: [الطويل]
فيا قوم هل كفارة تعرفونها ... تباعد من ذنبي وتدني إلى ربّي
شكوت فقالت كلّ هذا تبرّما ... بحبّي أراح الله قلبك من حبّي
فلما كتمت الحبّ قالت: لشدّ ما ... صبرت وما هذا بفعل شجي القلب
وأدنو فتقصيني وأبعد طالبا ... رضاها فتعتدّ التّباعد من ذنبي
فشكواي يؤذيها وصبري يسوءها ... وتجزع من بعدي وتنفر من قربي
فيا قوم هل من حيلة تعرفونها ... أشيروا بها واستوجبوا الشكر من ربّي!
وقال أبو العبر الهاشمي المتحامق: [البسيط]
أبكي إذا غضبت حتى إذا رضيت ... بكيت عند الرضا خوفا من الغضب
فالموت إن غضبت والموت إن رضيت ... إن لم يرحني سلوّ عشت في تعب
وأبو العبر على تحامقه جيّد الشعر، ومن ذلك قوله: [الطويل]
وفي ساعدي ممن تعلقت عضّة ... تذكّرني ذاك الشّنيب المفلّجا
وآثار خدش في يدي مليحة ... أقام عليها القلب مني وعرّجا
أما والذي أمسيت أرجو ثوابه ... لقد حلّ ما أخشاه وانقطع الرجا
وله: [السريع]
__________
(1) البيتان في ديوان مسلم بن الوليد ص 204.(3/437)
داء دفين وهوى بادي ... أظلم مجازيك بمرصاد
يا واحد الأمة في حسنه ... أشمتّ في صدّك حسّادي
عبدك تحيي موته قبلة ... يجعلها خاتمة الزّاد
ولأعرابي في نحو ما أنشده أبو العباس: [الطويل]
سكتّ فقالت: لم سكتّ عن الحقّ ... وفهت فقالت: ما دعاك إلى النّطق
فأومأت هل من حالة بين ذا وذا ... فقالت وذا الإيماء أيضا من الحمق
فلم أر لي إذ حلّت الغرب مخلصا ... من الشرّ إلا في المسير إلى الشرق
فلمّا أتيت الشّرق ألفيتها به ... وقد قعدت لي منه في أضيق الطّرق
* * * وعلى ما تقدّم في وصف الخمر من النظم المستحسن المرغب في شربها، فإنه جاء من التحذير فيها ما يوجب تركها على أهل التخصيص والفضل.
من حديث أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين ليلة فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الثانية لم تقبل له صلاة أربعين ليلة، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الثالثة لم تقبل له صلاة أربعين ليلة، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقّا على الله أن يسقيه من طينة الخبال» (1).
ابن الأعرابي: طينة الخبال عصارة أهل النار في النار. وعن ابن عمر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مدمن الخمر كعابد وثن» (2).
قال أبو زيد: فلمّا حلّ أنشوطة نفثه، وقضى الوطر من اشتكاء بثّه، ناجتني نفسي: يا أبا زيد، هذه نهزة صيد، فشمّر عن يد وأيد فانتهضت من مجثمي انتهاض الشّهم، وانخرطت من الصّفّ انخراط السّهم، وقلت: [مجزوء الخفيف]
أيّها الأروع الّذي ... فاق مجدا وسؤددا
والّذي يبتغي الرّشا ... دلينجو به غدا
إنّ عندي علاج ما ... بتّ منه مسهّدا
فاستمعها عجيبة ... غادرتني ملدّدا
أنا من ساكني سرو ... ج ذوي الدّين والهدى
* * *
__________
(1) أخرجه أبو داود في الأشربة باب 5، والترمذي في الأشربة باب 1، وابن ماجه في الأشربة باب 4، والدارمي في الأشربة باب 3، وأحمد في المسند 2/ 189.
(2) أخرجه ابن ماجه في الأشربة باب 3.(3/438)
قوله: أنشوطة، عقدة سهلة تسمّيها العامة اللّجّ. نفثه: لفظه. الوطر: الحاجة. بثّه:
حزنه. ناجتني: حدّثتني. النّهزة: الفرصة وما أخذ بلا تعب أيد: قوّة: انتهضت:
تقدّمت. مجثمي: موضع قعودي. الشّهم: الشّديد النفس. انخرطت: اندفعت بسرعة والانخراط التصميم وركوب الرأس. الأروع: السّيّد. فاق: زاد على غيره في الفضل.
علاج: معاناة وطبّ مسهّدا: ممتنع النوم. ملدّدا: ملتفتا يمينا وشمالا من شدة الخوف.
[مجزوء الخفيف]
* * * كنت ذا ثروة بها ... ومطاعا مسوّدا
مربعي مألف الضّيو ... ف ومالي لهم سدى
أشتري الحمد باللها ... وأقي العرض بالجدا
لا أبالي بمنفس ... طاح في البذل والنّدى
أوقد النّار باليفا ... ع إذا النّكس أخمدا
ويراني المؤمّلو ... ن ملاذا ومقصدا
لم يشم بارقي صد ... فانثنى يشتكي الصّدى
لا ولا رام قابس ... قدح زندي فأصلدا
طالما ساعد الزّما ... ن فأصبحت مسعدا
فقضى الله إن يغيّر ... ما كان عوّدا
بوّأ الرّوم أرضنا ... بعد ضغن تولّدا
فاستباحوا حريم من ... صادفوه موحّدا
وحووا كل ما استسرّ ... بها لي وما بدا
* * * ثروة: غنى. مسوّدا: مقدّما للسّيادة. مربعي: منزلي. مألف: موضع الاجتماع.
سدى: مهمل. اللها: العطايا. اليفاع: ما ارتفع من الأرض. النّكس: الدنيء. أخمد:
أطفأ. المؤمّلون: الرّاجون. ملاذ: ملجأ، المقصد: الموضع تقصده يشم بارقي: ينظر برقي. صد: عطش. انثنى: رجع. رام: طلب. قابس: طالب النّار. قدح زندي:
استخراج ناره. أصلد: وجده صلدا أي شحيحا ساعد: وافق. بوّأ، أي أنزل. ضغن:
حقد وعداوة. استباحوا: صيّروه مباحا حريم: عيال. موحّد: مسلم. حووا: ضموا، استسرّ: خفي. بدا: ظهر.
تطوّحت: تراميت على جهالة وألقيت بنفسي للهلاك. طريدا: منفيّا. مشرّدا مفزّعا عند الهرب فارا. [مجزوء الخفيف](3/439)
أجتدي النّاس بعد ما ... كنت من قبل مجتدى
وترى بي خصاصة ... أتمنّى لها الرّدى
والبلاء الّذي به ... شمل أنسي تبدّدا
استباء ابنتي الّتي ... أسروها لتفتدى
فاستبن محنتي وم ... دّ إلى نصرتي يدا
وأجرني من الزما ... ن فقد جار واعتدى
وأعنّي على فكا ... ك ابنتي من يدي العدى
فبذا تنمحي المآ ... ثم عمّن تمرّدا
وبه تقبل الإنا ... بة ممّن تزهّدا
وهو كفّارة لمن ... زاغ من بعد ما اهتدى
ولئن قمت منشدا ... فلقد فهت مرشدا
فاقبل النّصح والهدا ... ية واشكر لمن هدى
واسمح الآن بالّذي ... يتسنّى لتحمدا
* * * أجتدي: أسأل، خصاصة: فقر، الردّى: الهلاك، شمل: مجتمع، تبدّد:
تفرّق، استباء ابنتي: أخذها أسيرة. استبن: تحقّق وتبين. محنتي: بليتي. جار واعتدى: مال وظلم، وفكّ الرقبة وفكاكها: تخليصها من أسر الرّق وكذلك الرهن، وفي الحديث «اعتق النّسمة وفكّ الرّقبة» (1) قيل أو ليسا واحدا؟ قال: لا، عتق النسمة: أن تنفرد في عتقها، وفكّ الرقبة: أن تعين في عتقها، ابن عباس رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من فدى أسيرا من أيدي العدّو، فأنا ذلك الأسير». تنمحي، أي تذهب، تمرّد: أكثر الفساد، الإنابة: الرجوع إلى الله تعالى، تزهّد: ترك الرّغبة في الدنيا زاغ: مال فهت: نطقت، مرشدا: دالا على الخير. اسمح: جد. يتسنّى:
يتيسر، الفنجديهي: كان ابن قطريّ قاضي ناحية المزار، بلد عند البصرة قد تاب من الشرب، ثم نقض التوبة، وعاد يشرب، ثم بعد المعاودة حضر مسجد بني حرام يوما بالبصرة، وتاب ورجع إلى الله تعالى بصدق النّية، وسأل عن كفارة ذنبه، وكان في المسجد رجل يزعم أنّه من أهل سروج، وله بنت مأسورة في أيدي الكفّار، فقال لابن قطري: كفارة ذنبك أن تتصدق عليّ بشيء أفكّها به فأعطاه عشرة دنانير، فلمّا أخذها منه دخل الحانة.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 4/ 299.(3/440)
ثم إن الحريري أنشأ هذه المقامة الحراميّة في ذلك فقيل له: هي أحسن من مقامات البديع، فأنشأ أربعين مقامة، ثم استزادوه فكمّلها خمسين.
* * * قال أبو زيد: فلمّا أتممت هذرمتي، وأوهم المسؤول صدق كلمتي أغراه القرم إلى الكرم بمواساتي، ورغّبه الكلف بحمل الكلف في مقاساتي، فرضخ لي على الحافرة، ونضخ لي بالعدة الوافرة.
فانقلبت إلى وكري، فرحا بنجح مكري، وقد حصلت من صوغ المكيدة، على سوغ الثّريدة، ووصلت من حوك القصيدة، إلى لوك العصيدة.
قوله: هذرمتي، أي كثرة كلامي، أوهم: أي خيّل له. كلمتي، أي قصيدتي، أغراه، أي حرّضه القرم: الشّهوة. مواساتي: إعطائي، الكلف: الحبّ، والكلف: جمع كلفة وهي ما يتكلّف من العمل. رضخ: أعطى، على الحافرة، أي عندما أكملت كلامي، والحافرة: أوّل الأمر، وقيل إنّ أصلها في بيع الفرس، ولرفعة الخيل عندهم كان لا يفارق البائع حافر فرسه، حتى يأخذ ثمنه، نضخ: رفع، ونضخ الماء فورانه من منبعه، الوافرة: الكثيرة، وكري: بيتي، وأصله للطائر، صوغ المكيدة: صنعة الكيد. سوّغ: بلع بسهولة، لوك: مضغ.
قال الحارث بن همام: فقلت له: سبحان من أبدعك، فما أعظم خدعك، وأخبث بدعك! فاستغرب في الضّحك، ثم أنشد غير مرتبك: [مجزوء الكامل]
عش بالخداع فأنت في ... دهر بنوه كأسد بيشه
وأدر قناة المكر حتّ ... ى تستدير رحا المعيشه
وصد النّسور فإن تعذّ ... رصيدها فاقنع بريشه
واجن الثمار فإن تفت ... ك فرضّ نفسك بالحشيشه
وأرح فؤادك إن نبا ... دهر من الفكر المطيشه
فتغاير الأحداث يؤ ... ذن باستحالة كلّ عيشه
* * * أبدعك، أي أوجدك وخلقك. استغرب: أكثر الضحك. مرتبك: مختلط في كلامه، بيشة: موضع كثير الأسد، المكر: الخديعة. نبا: ارتفع، المطيشة: المدهشة للعقل.
تغاير: اختلاف، الأحداث: النوازل يؤذن: يعلم. استحالة: تغيّر.(3/441)
المقامة التاسعة والأربعون وهي السّاسانيّة
حكى الحارث بن همام قال: بلغني أنّ أبا زيد حين ناهز القبضة، وابتزّه قيد الهرم النّهضة، أحضر ابنه، بعد ما استجاش ذهنه، وقال له: يا بني إنّه قد دنا ارتحالي من الفناء، واكتحالي بمرود الفناء، وأنت بحمد الله وليّ عهدي، وكبش الكتيبة السّاسانيّة من بعدي. ومثلك لا تقرع له العصا، ولا ينبّه بطرق الحصا ولكن قد ندب إلى الإذكار، وجعل صيقلا للأفكار، وإنّي أوصيك بما لم يوص به شيث الأنباط، ولا يعقوب الأسباط فاحفظ وصيّتي، وجانب معصيتي، واحذ مثالي، وافقه أمثالي، فإنّك إن استرشدت بنصحي، واستصبحت بصبحي، أمرع خانك، وارتفع دخانك، وإن تناسيت سورتي، ونبذت مشورتي، قلّ رماد أثافيك، وزهد أهلك ورهطك فيك.
* * * ناهز: قارب. القبضة، أراد بها ثلاثا وتسعين سنة، لأنك إذا قيل لك: اعقد في يديك ثلاثا وتسعين قبضت أصابعك كلها وشددت عليها الإبهام، والمعنى أنه قارب المائة الّتي ليس في العيش بعدها منفعة، والشعراء يضمّنونها أشعارهم إذا وصفوا البخيل بقبض الكف، قال الخليل بن أحمد: [المتقارب]
وكفّ عن الخير مقبوضة ... كما قبضت مائة سبعه (1)
وقال: [الوافر]
فما تسعون تخفرها ثلاث ... يضمّ حسابها رجل شديد
بكفّ خرقة جمعت لوجء ... بأنكد من عطائك يا يزيد
وابتزّه: سلبه. الهرم: كبر السّن. النهضة: القيام إلى ما يريد.
ودخل هشام بن عبد مناف وقد أسنّ على فتية من قومه فقاموا إليه إجلالا، وأجلسوه في أرفع موضع، فقال: بارك الله فيكم، إن بني مرّة كانوا إذا شاخ عندهم الرجل قيّدوه وقالوا له: ثب، أحبّوه. وقالوا: فيك بقية، وإن لم يثب قالوا:
ليس في هذا منفعة فقتلوه، وقال ابن الرومي: [السريع]
__________
(1) البيت للخليل بن أحمد الفراهيدي في لسان العرب (شرع)، وتهذيب اللغة 1/ 427، وتاج العروس (شرع)، وكتاب العين 1/ 253.(3/442)
لو أنّ عمري مائة هدّني ... تذكّري أنّي تنصّفتها (1)
لهفي على خمسين عاما مضت ... كانت أمامي ثم خلّفتها
استجاش: استجمع وحشد. والفناء: ما حول الدار، والفناء بالفتح: الموت.
الكتيبة: الجيش. وكبشها: رئيسها وحاميها، والّذي كانت العصا تقرع له عامر بن الظّرب العدوانيّ حكيم العرب في الجاهليّة، ولما أسنّ كان يزلّ في حكمه، وكانت له بنت حكيمة، فأمرها أن تقعد وراء ستر لتنظر حكمه، فإذا أنكرت منه شيئا قرعت له العصا، فمتى سمع صوت قرعها علم أنه زلّ، فرجع. وقيل قرعت لأكثم بن صيفيّ، وقيل لسعد ابن مالك الكنانيّ، وقيل لعمرو بن حممة الدّوسي.
وخطب صعصعة بن معاوية إلى عامر بن الظّرب بنته عمرة، وهي أم عامر بن صعصعة، فقال: يا صعصعة إنك تشتري منّي كبدي، فارحم ولدي قبلتك أو رددتك.
والحسيب: الرجل الصالح أبا بعد أب، وقد أنكحتك خشية ألّا أجد مثلك، أفرّ من السرّ إلى العلانية، يا معشر عدوان أخرجت من بين أظهركم كريمتكم من غير رهبة، أقسم لولا قسمة الحظوظ على الجدود ما ترك الأوّل للآخر ما يعيش به، وفيه يقول المتلمس:
[الطويل]
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علّم الإنسان إلا ليعلما (2)
وهو أوّل من جلس على المنبر وتكلّم، وفيه يقول الأسود بن يعفر: [الكامل]
ولقد علمت لو أنّ علمي نافع ... أنّ السبيل سبيل ذي الأعواد (3)
قال الأصمعيّ: نزلت عدوان ماء، فأحصى عليه سبعون ألف غلام أغرل، سوى من كان مختونا لكثرتهم، ثم وقع بأسهم بينهم، فتفانوا، فقال ذو الإصبع العدوانيّ:
[مجزوء الوافر]
عذير الحيّ من عدوا ... ن كانوا حيّة الأرض (4)
__________
(1) البيتان في ديوان ابن الرومي 1/ 361.
(2) البيت في ديوان المتلمس الهذلي ص 26، ولسان العرب (قرع)، وجمهرة اللغة ص 667، 769، وتاج العروس (قرع)، وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 1/ 232.
(3) يروى صدر البيت:
ولقد علمت سوى الذي نبّأتني
وهو للأسود بن يعفر في ديوانه ص 26، ولسان العرب (عود)، وجمهرة اللغة ص 667، وتهذيب اللغة 3/ 126، وتاج العروس (عود)، وشرح اختيارات المفضل ص 966، ومعجم البلدان (أنقرة).
(4) الأبيات في ديوان ذي الإصبع العدواني ص 46، 47، والبيت الأول في الاشتقاق ص 269، والأغاني 3/ 85، وأمالي الزجاجي 1/ 221، والحيوان 4/ 233، وخزانة الأدب 5/ 286، وشرح أبيات سيبويه 1/ 298، والشعر والشعراء 2/ 712، والكتاب 1/ 277ولسان العرب (عذر)، (حيا)،(3/443)
بغى بعض على بعض ... فلم يبقوا على بعض
ومنهم من يجيز النا ... س بالسّنّة والفرض
ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي
الحكم: عامر بن الظرب، والذي كان يجيز النّاس في الحجّ منهم رجل كان يسمى أبا سيارة، أجاز الناس على حمار له أسود، من المزدلفة إلى منى أربعين عاما. فقيل في المثل: أصحّ من عير أبي سيارة، وكانت إجازته أن يقول: اللهمّ حبّب بين نسائنا وبغّض بين رعائنا، واجعل المال في سمحائنا. وأوفوا بعهدكم، وأكرموا جاركم واقروا ضيفكم ثم يدفع فيقول: [الرجز]
خلّوا الطريق عن أبي سيّاره ... وعن مواليه بني فزاره
* حتى يجيز سالما حماره (1) *
ثم يقف فيقول: أشرق ثبير. كيما نغير، وكانت الإجازة قبلهم في خزاعة، فغلبتهم عليها عدوان. ولا تقرع له العصا مثل، يضرب لمن وافق صاحبه وساواه.
ولما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها قال عمّها: مثل محمد لا تقرع له العصا (2)، وأصل ذلك أن الناقة الكريمة إذا أتاها فحل غير كريم منعوه عنها، وقرعوه بالعصا على أنفه. وفي المثل: إن العصا قرعت لذي الحلم.
قوله: ولا ينبّه بطرق الحصا، كانت العرب إذا أرادت اختبار الرجل: هل يصلح للسفر والغارة: ترك الرجل صاحبه حتى ينام، فيأخذ حصاة فيرمي بها إلى جانبه، فإن انتبه توثق به.
وخرج أبو كبير الهذلي ومعه تأبط شرا للغارة، فلما جنّ الليل أووا إلى موضع ليناموا فيه، فتركه أبو كبير حتى نام، فرمى إلى جانبه بحصاة، فساعة مسّت الأرض وثب ثم عاد إلى نومه، ففعلها ثلاثا فكان ينتبه لوقوعها ويثب ويجول يطلب لها راميا، فلا يجد إلا أبا كبير نائما، فقال له عند الثالة: والله لئن عدت لأقتلنّك، فإنه ليس هنا من يفعل هذا غيرك، فضحك أبو كبير وقال: أردت اختبارك، ثم ذكر القصة في قصيدته التي يقول فيها: [الكامل]
__________
والبيت الثاني في لسان العرب (رعى)، وتهذيب اللغة 3/ 163، ومجمل اللغة 2/ 392، وتاج العروس (عذر)، والحماسة البصرية 1/ 269، وأمالي المرتضى 1/ 250.
(1) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (سير)، (جوز) وتاج العروس (سير)، (جوز)، ومعجم البلدان (ثبير).
(2) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية 4/ 43، بلفظ: «حديث خطبة خديجة، قال ورقة بن نوفل: هو الفحل لا يقرع أنفه».(3/444)
وإذا رميت له الحصاة رأيته ... ينزو لوقعتها طمور الأخيل (1)
يريد أن ابنه كان فوق هذا في ذكاء القلب فهو كأنه منتبه أبدا.
وطرق الحصا أيضا من فعل الكهان يأخذ الكاهن حصيات، فيضرب بها الأرض وينظر فيها فيخبر بالمغيّبات.
قوله: ندب، أي دعي وحرّض. الإذكار: التذكير بما يفعل الأفكار: الأذهان.
شيث هو ولد آدم عليه السلام، وكان أجمل بنيه وأحبّهم إليه، وهو وصيّ أبيه وإليه ترجع الأنساب، وقال صلى الله عليه وسلم: «أربعة من الأنبياء سريانيون: آدم وشيث وإدريس وهو أخنوخ ونوح، وأنزل الله تعالى على شيث خمسين صحيفة»، وقال بقية بن أرطأة: بلغني أن حوّاء حملت بشيث الرّضا حتى نبتت أسنانه، وكانت تنظر إلى وجهه من صفائه في بطنها، وهو الثالث من ولد آدم، وإنه لمّا حضرها الطّلق أخذها عليه شدّة، فانتبذت به، فلما وضعته أخذته الملائكة، فمكث معهم أربعين يوما، فعلموه المهن، ثم ردّوه إليها معلما، والمهن جمع مهنة، وهي الخدمة.
الأنباط، قيل سمّوا أنباطا لاستنباطهم البناء، واستخراجهم المياه، والنسابون يزعمون أنهم ولد يافث بن نوح ولا يصحّ على هذا أن يوصيهم شيث، لأنّ بين زمن شيث وزمن يافث آلافا من السنين. الجوهريّ: النبيط والنّبط: قوم كانوا ينزلون بين البصرة والكوفة والجمع أنباط، والرجل نبطيّ. ابن دريد: النّبط. جيل من الناس معروف وهم النّبط والأنباط والأسباط: بنو يعقوب عليه السلام، ومنهم تشعّبت قبائل بني إسرائيل، والأسباط في ولد يعقوب كالقبائل في ولد إسماعيل.
احذ مثالي، أي امش على طريقي وافعل بفعلي، استرشدت:
استدللت. استصبحت: استضأت، أمرع: أخصب، الخان: الفندق، وهذا مثل لرفاهة العيش. نبذت: طرحت. الأثافيّ: أحجار القدر. زهد: لم يرغب.
يا بنيّ إنّي جرّبت حقائق الأمور، وبلوت تصاريف الدّهور فرأيت المرء بنشبه، لا بنسبه. والفحص عن مكسبه، لا عن حسبه، وكنت سمعت أن المعايش:
إمارة، وتجارة، وزراعة، وصناعة، فمارست هذه الأربع، لأنظر أيّها أوفق وأنفع، فما أحمدت منها معيشة، ولا استرغدت فيها عيشة، أما فرص الولايات، وخلس الإمارات فكأضغاث أحلام. والفيء المنتسخ بالظّلام وناهيك غصّة بمرارة الفطام.
__________
(1) البيت لأبي كبير الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 1074، ولسان العرب (طمر)، (نزا)، وتاج العروس (طمر). (خيل)، وللهذلي في جمهرة اللغة ص 759، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 13/ 343.(3/445)
وأما بضائع التّجارات، فعرضة للمخاطرات، وطعمة للغارات، وما اشبهها بالطّيور الطّيارات، وأما اتخاذ الضّياع، والتّصدّي للازدراع، فمنهكة للأعراض، وقيود عائقة عن الارتكاض، وقلّما خلا ربّها عن إذلال، أو رزق روح بال، وأما حرف أولي الصّناعات، فغير فاضلة عن الأقوات، ولا نافقة في جميع الأوقات، ومعظمها معصوب بشبيبة الحياة، ولم أر ما هو بارد المغنم، لذيذ المطعم، وافي المكسب، صافي المشرب، إلّا الحرفة التي وضع ساسان أساسها، ونوّع أجناسها.
* * * بلوت: اختبرت. نشبه: ماله، الفحص: البحث، والأربع التي ذكر نسبها الثعالبي للمأمون قال: قال لي المأمون: النّاس أربع طبقات بين إمارة وتجارة، وزراعة، وصناعة، فمن لم يكن منهم كان كلا علينا، مارست: خالطت، أحمدت: صادفتها محمودة، استرغدت: استكثرت، فرص: نهز، والنّهزة والفرصة ما يحضرك من الفوائد من غير أن تتعنّى في طلبها، فإن فوّتها ولم تغتنم أخذها ففاتتك، فربما تتعنّى غاية التعنّي في طلبها، فلا تظفر بها، الجوهري: الفرصة، النوبة والشرب، يقال: وجد فلان فرصة، أي نهزة، وجاءت فرصتك من الشيء، أي نوبتك. خلس: جمع خلسة، وهي كالخطف وشبهه، يريد أن الأمير كأنه اختلس أيامه، أي اختطفها لقصر مدتها، ويقال: الخلسة. فرصة.
وأضغاث الأحلام: أباطيلها التي لا يصحّ تغويلها لاختلاطها والضّغث: كلّ ما كان مختلطا لا حقيقة له، والحلم: الرؤيا والجمع أحلام. ويقال: هذا رجل ناهيك من رجل! ونهيك من رجل، أي أنه نجدة وعناية ينهاك عن تطلب غيره، فناهيك: كافيك. الغصّة:
ما يختنق به، الفطام: قطع الرّضاعة عن الصبيّ، وفي الكلام معنى التعجب كأنه قال: ما أنكد غصة العزل على أهل الولايات، والعزل للولاة كالحيض للنساء. والبضائع: الأموال يتّجر فيها عرضة للمخاطرات، أي معرضة للضّرر والسلب، وفلان عرضة لكذا، أي نصب، وهو له عرضة، أي يتعرّض له دونه، وهذا عرضة لك، أي عدة. وقال النقاش في قوله تعالى: {عُرْضَةً لِأَيْمََانِكُمْ} [البقرة: 224]، أي علة لها وسببا ومتّخذا لذلك، وأصل العرضة: الدابة تتّخذ للسفر لقوّتها، ثم جعل كل ما صلح لشيء عرضة له حتى قيل: المرأة عرضة للزوج، والطعمة: المأكلة، وهذه الضّيعة طعمة لفلان، والطعمة أيضا: وجه المكتسب، فطعمة للغارات، يريد أن قطاع الطرق يسلبون أموال التّجار أبدا فأرزاقهم معرّضة للتلف، التصدّي: التعرض، منهكة: مذلة وسبب نهك، وهو الجهد والضّعف، ونهكته الحمى وأنهكته، إذا جهدته وأضنته ونقصت لحمه، ونهكه السلطان عقوبة: بالغ في عقوبته، روح بال: راحة قلب. عائقة: حابسة، الارتكاض: الجري والتصرّف وهذه مشاهدة من أحوال أهل الحرث وقال صلى الله عليه وسلم حين رأى السكة: «ما دخلت
قطّ دار قوم إلا ذلّوا». وقال صلى الله عليه وسلم في الإمارة: «ستحرصون على الإمارة ثم تكون حسرة وندامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة» (1).(3/446)
ما يختنق به، الفطام: قطع الرّضاعة عن الصبيّ، وفي الكلام معنى التعجب كأنه قال: ما أنكد غصة العزل على أهل الولايات، والعزل للولاة كالحيض للنساء. والبضائع: الأموال يتّجر فيها عرضة للمخاطرات، أي معرضة للضّرر والسلب، وفلان عرضة لكذا، أي نصب، وهو له عرضة، أي يتعرّض له دونه، وهذا عرضة لك، أي عدة. وقال النقاش في قوله تعالى: {عُرْضَةً لِأَيْمََانِكُمْ} [البقرة: 224]، أي علة لها وسببا ومتّخذا لذلك، وأصل العرضة: الدابة تتّخذ للسفر لقوّتها، ثم جعل كل ما صلح لشيء عرضة له حتى قيل: المرأة عرضة للزوج، والطعمة: المأكلة، وهذه الضّيعة طعمة لفلان، والطعمة أيضا: وجه المكتسب، فطعمة للغارات، يريد أن قطاع الطرق يسلبون أموال التّجار أبدا فأرزاقهم معرّضة للتلف، التصدّي: التعرض، منهكة: مذلة وسبب نهك، وهو الجهد والضّعف، ونهكته الحمى وأنهكته، إذا جهدته وأضنته ونقصت لحمه، ونهكه السلطان عقوبة: بالغ في عقوبته، روح بال: راحة قلب. عائقة: حابسة، الارتكاض: الجري والتصرّف وهذه مشاهدة من أحوال أهل الحرث وقال صلى الله عليه وسلم حين رأى السكة: «ما دخلت
قطّ دار قوم إلا ذلّوا». وقال صلى الله عليه وسلم في الإمارة: «ستحرصون على الإمارة ثم تكون حسرة وندامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة» (1).
والحرفة: الصنعة: فاضلة: زائدة، معصوب: مربوط، والعصب الفتل الشديد، يريد أنّ الصنعة ينتفع بها ما دام صاحبها شابّا قويّا فإذا شاخ لم يقدر على الانتفاع بها، قوله: بارد المغنم، أي السهل منه، وهو الذي يؤخذ بغير قتال.
ساسان: شيخ المكدين والغرباء، وهم بنو غبراء، والغبراء: الأرض، وسمّوا بني غبراء لقطعهم جهات الأرض وجولانهم في البلدان، فكأنهم ليس لهم أصل ينسبون إليه إلا الأرض، وقيل: سمّوا بذلك للزومهم لغبراء الأرض وهو وجهها وترابها والرقاد فيها فيعيرون بذلك ويتغيّرون.
وكان الأحنف العكبري، وهو أبو الحسن عقيل بن العكبريّ، كان فصيحا شاعرا وذكر الصاحب فيه فصلا وهو: ولو أنشدتك ما أنشدنيه الأحنف العكبري، وهو فرد بني ساسان اليوم في مدينة السلام في الفصاحة وحسن الطريقة في الشعر لا متلأت تعجّبا من ظرفه وإعجابا بنظمه، ومن افتخاره قوله: [مجزوء الوافر]
على أني بحمد الله ... في بيت من المجد
وإخواني بنو ساسا ... ن أهل الجدّ والجدّ
لهم أرض خراسا ... ن فغسّان مع اللّدّ
إذا ما أعوز الطّرق ... على الطّرّاق والجند
حذارا من أعاديهم ... من الأعراب والكرد
قطعنا ذلك النهج ... بلا سيف ولا غمد
ومن خاف أعاديه ... بنا في الرّوع يستعدي
ففي هذا البيت معنى بديع، يريد أن ذوي الثروة وأهل الفضل إذا وقع أحدهم في أيدي العداة وأراد التخلّص قال: أنا مكد، فبنى الحريري هذا الموضع من مقامته على شعر الأحنف، وأكثر هذه المقامة مأخوذ من ملحه، ومن هذا الشعر: [الهزج]
وقالوا قد سلا عن ... ك وقد حال عن العهد
ولا والله ما حلت ... ولكن قلّ ما عندي
ومن شعره: [الخفيف]
عشت في ذلة وقلّة مال ... واغتراب في معشر أنذال
__________
(1) أخرجه البخاري في الأحكام باب 7، والنسائي في البيعة باب 39، والقضاة باب 5، وأحمد في المسند 2/ 448، 476.(3/447)
بالأماني أقول لا بالمعاني ... فغذائي حلاوة الأمال
لي رزق يقول بالوقف في ال ... رّأي ورجل تقول بالاعتزال
وله: [البسيط]
العنكبوت بنت بيتا على وهن ... تأوي إليه وما لي مثله وطن
والخنفساء لها من جنسها سكن ... وليس لي مثلها إلف ولا سكن
وله: [الوافر]
نرى العقيان كالذهب المصفى ... يركب فوق أثفار الدّواب
وكيسي منه خلو مثل كفي ... أما هذا من العجب العجاب!
وله: [البسيط]
رأيت في النّوم دنيانا مزخرفة ... مثل العروس تراءت في المقاصير
فقلت جودي فقالت لي على عجل ... إذا تخلّصت من أيدي الخنازير
* * *
وأضرم في الخافقين نارها، وأوضح لبني غبراء منارها، فشهدت وقائعها معلما، واخترت سيماها لي ميسما إذ كانت المتجر الّذي لا يبور، والمنهل الّذي لا يغور، والمصباح الذي يعشو إليه الجمهور، ويستصبح به العمي والعور. وكان أهلها أعزّ قبيل، وأسعد جيل، لا يرهقهم مسّ حيف، ولا يقلقهم سلّ سيف، ولا يخشون حمة لاسع، ولا يدينون لدان ولا شاسع ولا يرهبون ممّن برق ورعد، ولا يحفلون بمن قام وقعد أنديتهم منزّهة، وقلوبهم مرفّهة، وطعمهم معجّلة، وأوقاتهم غرّ محجّلة، أينما سقطوا لقطوا، وحيثما انخرطوا خرطوا، لا يتّخذون أوطانا، ولا يتّقون سلطانا، ولا يمتازون عمّا تغدو خماصا وتروح بطانا.
قوله: أضرم. أي أوقد، الخافقين: المشرق والمغرب، أوضح: بيّن منارها:
سراجها، معلما: مشهورا. سماها: علامتها، يريد أنه اختار علامتهم لنفسه، يبور:
يكسد ويهلك أهله: المنهل: موضع الماء، يغور: يغوص في الأرض، يعشو: ينظر، الجمهور: معظم الشيء، العور: جمع أعور. الجيل: أهل العصر، يرهقهم: يدركهم ويغشاهم حيف: جور وظلم. حمة: سم. لاسع: ضارب. واللسع: الضرب بمؤخره، مثل العقرب، واللدغ لما كان بالفم. ولسعه بلسانه: عابه وآذاه، ورجل لسعة ولسّاعة ولسّاع، أي عيّاب مؤذ، يدينون: يطيعون، دان وشاسع: قريب وبعيد يرهبون: يخافون.
برق ورعد: هدّد وخوّف، يحفلون: يبالون. من قام وقعد: من غيظه وشره. انخرطوا:
ركبوا رؤوسهم، واندفعوا بشدة، وخرطت الغصن، إذا وضعت يدك عليه ثم تجرّه عليك، فيسقط ما فيه من ورق وثمر. أنديتهم: مجالسهم. مرفّهة: الرفاهية: العيش اللّين. غرّ: بيض. محجلة: مشهورة. سقطوا: وقعوا لقطوا: جمعوا الرزق. وأصله للطير، يمتازون: يفترقون. خماصا: جياعا، بطانا: شباعا وهي للطير، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أنكم توكلتم على الله حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» (1).(3/448)
برق ورعد: هدّد وخوّف، يحفلون: يبالون. من قام وقعد: من غيظه وشره. انخرطوا:
ركبوا رؤوسهم، واندفعوا بشدة، وخرطت الغصن، إذا وضعت يدك عليه ثم تجرّه عليك، فيسقط ما فيه من ورق وثمر. أنديتهم: مجالسهم. مرفّهة: الرفاهية: العيش اللّين. غرّ: بيض. محجلة: مشهورة. سقطوا: وقعوا لقطوا: جمعوا الرزق. وأصله للطير، يمتازون: يفترقون. خماصا: جياعا، بطانا: شباعا وهي للطير، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أنكم توكلتم على الله حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» (1).
* * * فقال له ابنه: يا أبت لقد صدقت، فيما نطقت ولكنّك رتقت، وما فتقت فبيّن لي كيف أقتطف، ومن أين تؤكل الكتف، فقال: يا بنيّ إنّ الارتكاض بابها، والنّشاط جلبابها، والفطنة مصباحها، والقحة سلاحها، فكن أجول من قطرب، وأسرى من جندب، وأنشط من ظبي مقمر، وأسلط من ذئب متنمّر، واقدح زند جدّك بجدك، واقرع باب رعيك بسعيك، وجب كلّ فجّ، ولج كلّ لجّ، وانتجع كلّ روض، وألق دلوك في كلّ حوض، ولا تسأم الطّلب، ولا تملّ الدّأب، فقد كان مكتوبا على عصا شيخنا ساسان: من طلب، جلب، ومن جال، نال. وإيّاك والكسل، فإنه عنوان النّحوس، ولبوس ذوي البوس، ومفتاح المتربة، ولقاح المتعبة، وشيمة العجزة الجهلة، وشنشنة الوكلة التّكلة، وما اشتار العسل، من اختار الكسل، ولا ملأ الرّاحة من استوطأ الرّاحة.
* * * قوله: رتقت، أي ألحمت وسدّيت، وهو ضد فتقت، تقول: رتقت الشيء، إذا ضممت بعضه إلى بعض، وفتقته: نقضته، أقتطف: أجني الثمر، وهذا مثل قوله: من أين تؤكل الكتف، قالوا: تؤكل من أسفلها، لأن المرقة تدخل بين عظامها ولحمها، فمن أكلها من أعلاها جرت المرقة عليه، ولفظ المثل على ذكره أبو عبيد: فلان أعلم من حيث تؤكل الكتف، يضرب مثلا لمن جرّب الأمور ودرى تصرّفها، قال البكري: إن لحم الكتف إذا أكل من أعلاه تناثر، وإذا أكل من قبل الغضروف، لم يتأتّ لآكله.
والغضروف: اللحم الرخص المتّصل بأسفل الكتف المتّسع، وقيل: أكل الكتف، إذا أمسك فيها بطرف الغضروف ربما سقطت فتربت، وإذا أمسكها بالطرف الآخر أمن من ذلك.
الفنجديهي: لحم الكتف إذا جذب من الجانب الأسفل انقطع بكليته، وإذا جذب
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الزهد باب 14.(3/449)
من الجانب الأعلى تقطّع اللحم ولم ينقطع، لأنّ المرقة تجري بين لحم الكتف والعظم، فإذا أخذته من أعلاه تصببت المرقة عليك بسرعة، وإذا أخذت اللحم من أسفله تقشّر من عظمها فلم تنصبّ المرقة بالسرعة، وهو مثل يضرب للبصير بالأمور، وقال أوس بن حجر: [البسيط]
أم دلّكم بعض من يرتاد مشتمتي ... بأيّ أكلة لحم تؤكل الكتف (1)
يقول: أنا أعلم كيف أنا لكم.
وقال آخر: [المنسرح]
إنّي على ما ترون من كبري ... أعلم من أين تؤكل الكتف (2)
قطرب: دويبّة تجول اللّيل كله ولا تنام، ويقال فيه أيضا: أسهر من قطرب، وهذا قول أبي عمرو، وغيره يرويه: أسعى من قطرب، لا أسهر، ويقول: هو دويبة لا تستقرّ بالنهار ويحتجّ بقول ابن مسعود: لا أعرفنّ أحدكم جيفة ليل قطرب نهار، وقطرب اسم رجل مشهور، وهو ابن المستنير صاحب المثلّث وكان من أهل العربية فجلس لسيبويه يناظره، فلما رآه سيبويه قد احتدّ بالسؤال قال: إنك لقطرب ليل، فسمّي بذلك، والقطرب أيضا ذكر الغيلان، ابن ظفر ذكر من يعوّل عليه أنه حيوان يكون بالصعيد من أرض مصر، يظهر للمنفرد من الناس، فربما صده عن نفسه إذا كان شجاعا وإلّا لم ينته حتى ينكحه، فإذا أنكحه تدوّد دبره وهلك، قال: وهم إذا رأوا من ظهر له القطرب قالوا: أمنكوح أم مروّع، فإن قال: منكوح يئسوا منه. وإن قال: مروّع سكنوه وعالجوه، قال: فقد رأيت أهل مصر وما بين يديها وما خلفها، وتحققت أهل صعيدها والعربان، وهم مستوون في الجهل بهذا الحيوان، ومختلفون الاختلاف الشديد في فعله وصورته، إلا أن أهل مصر أكثر لهجا به. والقطارب أيضا: صغار الكلاب.
قوله: أسري، أي أمشي بالليل، الجندب: ذكر الجراد، وقيل: هي دويبّة تشبه الجراد ذات جناحين، فلا تزال ترمح. ولفظ المثل: أسرى من جراد. مقمر: لاعب في القمر، وأنشط: أخفّ، والظبي يأخذه النشاط في الليلة المقمرة فيلعب، متنمر: متشبه بالنّمر وهو سبع مؤذ، جدّك: حظّك، اقرع: اضرب. رعيك: أكلك. وأراد بباب رعيك الذي يجيئك منه الرزق، ألق دلوك إلى كل حوض: لفظ المثل «ألق دلوك في الدلاء»، يضرب في بذل الجهد في اكتساب المال والبحث عليه، وهو كما قال الشاعر: [الوافر]
وليس الرزق عن طلب حثيث ... ولكن ألق دلوك في الدلاء (3)
__________
(1) البيت في ديوان أوس بن حجر ص 76.
(2) البيت لقيس بن الخطيم في ديوانه ص 239، وفيه «على ما ترين» بدل «على ما ترون».
(3) البيتان لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص 160، 304، 425، وجمهرة الأمثال 1/ 74، وبلا نسبة(3/450)
تجئك بملئها طورا وطورا ... تجئك بحمأة وقليل ماء
قوله: فقد كان مكتوبا على عصا شيخنا ساسان، الفنجديهي قرأت في بعض الفوائد أنه كان مكتوبا على عصا ساسان المكدى: الكسل شؤم، والتمييز مذموم، والحركة بركة والتواني هلكة، وكلب طائف: خير من أسد رابض، ومن لم يغترف: لم يعتلف جال:
تصرّف ومشى في البلاد، نال: أدرك حاجته، عنوان: دليل، النحوس: جمع نحس، وهو ضد السعد، وذوي البؤس: أهل الفقر: لقاح المتعبة، أي أصلها وسببها، شيمة:
طبيعة، وكذلك الشنشنة، الوكلة التّكلة: هو العاجز الذي يكل أمره لغيره ويتّكل عليه فيه. أشتار: حرّك واستخرج، الراحة الأولى: الكفّ، والثانية ضدّ التعب.
وعليك بالإقدام، ولو على الضّرغام، فإن جراءة الجنان، تنطق اللّسان، وتطلق العنان، وبها تدرك الحظوة، وتملك الثّروة، كما أن الخور صنو الكسل، وسبب الفشل، ومبطأة للعمل، ومخيبة للأمل، ولهذا قيل في المثل: من جسر، أيس، ومن هاب، خاب. ثمّ ابرز يا بني في بكور أبي زاجر، وجراءة أبي الحارث، وحزامة أبي قرّة، وختل أبي جعدة، وحرص أبي عقبة، ونشاط أبي وثّاب، ومكر أبي الحصين، وصبر أبي أيّوب، وتلطّف أبي غزوان، وتلوّن أبي براقش، وحيلة قصير، ودهاء عمرو، ولطف الشعبيّ، واحتمال الأحنف، وفطنة إياس، ومجانة أبي نواس، وطمع أشعب، وعارضة أبي العيناء.
* * * الإقدام: الجراءة، الضرغام: الأسد. والجراءة: الشجاعة. والجنان: القلب.
والحظوة: المنزلة الرفيعة، والثروة: الغنى. صنو: أخ. الفشل: الضعف والحيرة، يريد أن فزع النفس وضعيفها يخيّب الأمل والرجاء، وقال معاوية: الهيبة مقرون بها الخيبة.
أبو زاجر: هو الغراب، سمّي بذلك، لأن العرب تزجر به وتتشاءم، وتقدّم ذلك، ومن وصيته لولده على ألسنتهم، قالوا: قال الغراب لابنه: يا بنيّ إذا رميت فتلوّص أي تلوّ، قال: يا أبت أنا أتلوّص قبل أن أرمي، وقال لابنه قد رأى رجلا فوّق سهما: يا بني اتّئد، حتى تعلم ما يريد الرّجل، فقال: يا أبت، الحذر قبل إرسال السهم.
وأبو الحارث: الأسد كنّي بذلك لاحتراثه، أي لاكتسابه بقوته.
وأبو قرّة: الحرباء كنّي بذلك لأن البرد لا يفارقه. فالحرباء تدور لذلك مع الشمس حيثما دارت، وتقدّم حزامتها، ومرّ أنها لا تفارق ساق الشجرة حتى تمسك ساق الأخرى.
__________
في أساس البلاغة (دلي)، وفصل المقال ص 293، وكتاب الأمثال ص 199، والمستقصى 1/ 338، ومجمع الأمثال 2/ 90، والمخصص 16/ 31.(3/451)
وأبو جعدة: كنية الذئب، وهي كنية بالضدّ لأن جعدة عندهم الشّاة، ولما كان الذئب يقتلها حيث وجدها جعلوه أباها بضدّ ما يفعل الأب الذي لا يقال له أب إلا لوجود الرحمة عنده على بنيه، ونحوها قولهم للأسود: أبو البيضاء، والختل: المكر.
وأبو عقبة الخنزير، ومن حرصه أنه يمشي بالليل وبالأسحار لطلب ما يأكل، ويستتر بالنهار حرصا على السّلامة.
وأبو وثاب: الظّبي وكني بذلك لسرعة وثبه.
وأبو الحصين: الثعلب، وهو أكثر الحيوان مكرا، ومن بعض مكره أنّه إذا رأى الغلبة تماوت فلا تشكّ في أنه ميّت، فإذا وقع له غير عارف تركه فما يمرّ يسيرا حتى يقوم فارّا أو تحصينه يبصل العنصل من الذئب، لأن الذئب لا يطؤه في زعم قوم، وقالوا: إنّ الضبع صادت ثعلبا، فقالت: أخيّرك يا ثعلب بين خصلتين، فقال: ما هما؟ فقالت: إما أن آكلك وإما أن أكلمك، فقال لها الثعلب، أما تذكرين يوم نكحتك؟ فقالت: متى؟ فانفتح فوها وانفلت الثعلب، فذكروا ذلك مثلا، وقالوا: ضرب عليه خصلتي الثعلب، وقالوا: إن الثعلب اطّلع في بئر وهو عاطش وعليها رشاء في طرفيه دلوان، فقعد في الدلو العليا فانحدرت، فشرب، فجاء الضبع فاطلعت في البئر، فأبصرت القمر في الماء منتصفا والثعلب قاعد في قعر البئر فقالت له: ما تصنع هنا؟ فقال لها: إني أكلت نصف هذه الجبنة وبقي نصفها لك فانزلي فكليها، فقالت: وكيف أنزل؟ قال: تقعدين في الدلو فقعدت فيها، فانحدرت وارتفع الثعلب في الدلو الأخرى فلمّا التقيا في وسط البئر قالت له: ما هذا؟ قال: كذا التّجار، نختلف، فضربت بها العرب المثل في المختلفين، وأوصاف مكره كثيرة.
وأبو أيوب: الجمل سمّي بذلك لأنه أصبر الدوابّ على العطش والجوع وقطع الأشهر بالسير المتصل ونقل الأوقار، ومهما كان به شيء من قوّة تجلّد، فإذا وقف علم أنه ليس فيه بقية ينتفع بها.
وأبو غزوان الهرّ لغزوه الفئران وخشاش الأرض وتلطّفه يظهر في محاولاته لتصيد الفأر فإذا قدمت المائدة: قرب منها وأخذ يتلطف في صياحه ويتضرّع ويحتكّ بالمائدة أو بالأكل حتى يعطى.
وأبو براقش: طائر أغبر أوسطه أحمر، إذا انتفض تلوّن ألوانا. أخذ الحريريّ هذا الفصل من كلام العلماء، قالوا: ابن آدم هو العالم الكبير الذي جمع الله تعالى العالم كلّه فيه فكان فيه بسالة الأسد وصبر الجمل وحرص الخنزير وحذر الغراب وروغان الثعلب وضرع السّنّور، وحكاية القرد وجبن الصقر.
قيل لرجل من كبار العلماء وكان بليدا سريع النّسيان في ابتداء تعلّمه: بم أدركت العلم مع بلادتك وكلل خاطرك؟ قال: ببكور كبكور الغراب وصبر كصبر الجمل وحرص كحرص الخنزير.(3/452)
واخلب بصوغ اللّسان، واخدع بسحر البيان، وارتد السّوق قبل الجلب وامتر الضّرع قبل الحلب، وسائل الرّكبان قبل المنتجع، ودمّث لجنبك قبل المضطجع، واشحذ بصيرتك للعيافة، وأنعم نظرك للقيافة، فإنّ من صدق توسّمه، طال تبسّمه، ومن أخطأت فراسته أبطأت فريسته.
وكن يا بنيّ خفيف الكلّ، قليل الدّل، راغبا عن العلّ، قانعا من الوبل بالطّلّ.
وعظّم وقع الحقير واشكر على النّقير، ولا تقنط عند الرّدّ. ولا تستبعد رشح الصّلد، ولا تيئس من روح الله، إنه لا ييئس من روح الله إلّا القوم الكافرون.
وإذا خيّرت بين ذرّة منقودة، ودرّة موعودة، فمل إلى النّقد وفضّل اليوم على الغد، فإنّ للتأخير آفات وللعزائم بدوات، وللعدات معقّبات، وبينها وبين النّجاز عقبات وأيّ عقبات.
* * * قوله: اخلب بصوغ اللسان، أي بعذوبة الكلام، قال ابن كناسة الشاعر: كنت أتكلم بكلام فلو لم يجد سامعه إلا القطن الذي في وجه أمه في القبر، لتغلغل إليه حتى يخرجه ويهديه إليّ. وأنا اليوم أتحدث بذلك الحديث بعينه فما أفرغ منه حتى أهيّىء له اعتذاري وارتد، أي اطلب. والجلب: ما يجلب إلى السوق للبيع، امتر: امسح، ويفعل ذلك بالضرع لأنه يدرّ لبنه. المنتجع: موضع العشب، أراد به موضع طلب الرزق، دمث: ليّن، اشحذ: اجل واصقل، وقال في الدّرة: ويقولون: شحّات بالتاء، وصوابه.
بالذال لأن اشتقاقه من شحذت السيف، إذا بالغت في إحداده فكأنّ الشحاذ هو الملحّ في المسألة المبالغ في طلب الصّدقة، بصيرتك: ذهنك، العيافة: زجر الطير، أنعم: بالغ، القيافة: الاستدلال على الولد، وذلك أن ينظر خلقته وصفته، فيشبّهه بأبيه. توسمه:
نظره، الفراسة: الحكم بحالات الشيء على ما يكون منه في المستقبل. الكلّ: الثقيل، والدّلّ والدّلال بمعنى واحد، العلّ: الشّرب بعد الشّرب وراغبا عنه: تاركا له: النقير:
حفرة في ظهر نوى التّمر، ومنها تنبت النخلة، تقنط: تيأس، روح الله: رزقه. ولبعضهم في هذا المعنى: [المتقارب]
سيفتح باب إذا سدّ باب ... نعم وتلين الأمور الصّعاب
ويتّسع الحال من بعدما ... تضيق المذاهب فيه الرّحاب
مع العسر يسران هوّن عليك ... فلا اليسر دام ولا الاكتئاب
إذا احتجب الناس من سائل ... فما دون سائل ربّي حجاب
آخر: [الطويل](3/453)
عسى فرج يأتي به الله إنه ... له كلّ يوم في خليقته أمر
إذا اشتدّ عسر فارج يسرا فإنه ... قضى الله أن العسر يتبعه يسر
آخر: [الوافر]
فلا تجزع إذا أعسرت يوما ... فقد أيسرت في الزّمن الطويل
ولا تيأس فإن اليأس كفر ... لعل الله يغني عن قليل
وإن العسر يتبعه يسار ... وقول الله أصدق كلّ قيل
ولا تظنن بربّك ظنّ سوء ... فإن الله أولى بالجميل
قوله: ذرّه، كناية عن الشيء القليل: درّة: جوهرة. آفات: جوائح. وللعزائم بدوات، يريد أنّ الإنسان يعزم على فعل الشيء في وقت ثم يبدو له ألّا يفعله. النّجز:
تعجيل قضاء الحاجة، وقد قدّم مثل هذا المعنى عند قوله: [الطويل]
* وبع آجلا منك بالعاجل *
* * * وعليك بصبر أولي العزم، ورفق ذوي الحزم، وجانب خرق المشتط، وتخلّق بالخلق السّبط، وقيّد الدّرهم بالرّبط، وشب البذل بالضّبط، ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كلّ البسط، ومتى نبا بك بلد، أو نابك فيه كمد، فبتّ منه أملك، واسرح عنه جملك، فخير البلاد ما جمّلك، ولا تستثقلنّ الرّحلة، ولا تكرهنّ النّقلة، فإنّ أعلام شريعتنا، وأشياخ عشيرتنا، أجمعوا على أنّ الحركة بركة، والطّراوة سفتجه، وزروا على من زعم أنّ الغربة كربة، والنّقلة مثلة، وقالوا: هي تعلّة من اقتنع بالرّذيلة، ورضي بالحشف وسوء الكيلة. وإذا أزمعت على الاغتراب، وأعددت له العصا والجراب، فتخيّر الرّفيق المسعد، من قبل أن تصعد فإن الجار قبل الدار، والرّفيق قبل الطريق. [مجزوء الكامل]
خذها إليك وصيّة ... لم يوصها قبلي أحد
غرّاء حاوية خلا ... صات المعاني والزّبد
نقّحتها تنقيح من ... محض النّصيحة واجتهد
فاعمل بما مثّلته ... عمل اللّبيب أخي الرّشد
حتّى يقول الناس هـ ... ذا الشّبل من ذاك الأسد
* * *(3/454)
المشتطّ: المتجاوز القدر في محاولته. والخرق ضدّ الرتق. السّبط: السهل. شب:
أخلط. البذل: العطاء. والضّبط: الحبس. قال أبو حاتم الداري: دخلت مع أبي مدينة السلام فرأيت رجلا واقفا على الطريق يلعب بحيّة ويقول: من يهب لي درهما حتى أبتلع هذه الحية؟ فالتفت إليّ أبي وقال: يا بني احفظ دراهمك فمن أجلها تبلع الحيات.
مغلولة: محبوسة، أي لا تكن شحيحا ممسكا ولا كريما متلفا. نابك: نزل بك. كمد:
حزن. بتّ: اقطع. أملك، أي رجاءك: أسرح عنه، أي أزله وسرحه بالمشي إلى غيره.
الرّحلة: الارتحال. النّقلة: الانتقال. أعلام شريعتنا: مشايخ طريقتنا. الطّراوة: أن يطرأ على بلد لم يره. السّفتجة: ما أتاك بغير تكلّف ولا مشقّة، وهي عند أهل المشرق أن يأخذ الرجل الدراهم والدّنانير، فيعطيها صاحبه، ويقول: احملها لي معك لأمن طريقك، ولمنعتك إلى بلد كذا فادفعها إليّ، ثم فإن طريقي غير آمن من اللصوص. قال مالك رضي الله تعالى عنه: إن قصد بها المنفعة لم يجز لأنه سلف جرّ منفعة، فيقول: الطراوة على الناس كالسّفتجة، ترغب لك في أخذ الدراهم، وقد يكون منك تمنّع عن أخذها.
زروا: عابوا. كربة: همّ، وقال: من ذمّ السفر: الغربة كربة والنّقلة مثلة، والغريب كالغرس الّذي زايل أصله وفقد شربه، فهو ذاو لا يثمر وذابل لا ينضر. إذا كنت في غير بلدك فلا تنس نصيبك من الذل. تعلّة: عذر. الرذيلة: الدون من كلّ شيء. الحشف:
الرديء من التمر. الكيلة الهيئة، ومعناه أنه اجتمع عليه عيبان: تمر فاسد وكيل ناقص.
أزمعت: عزمت. الاغتراب: الجولان والغربة. الجراب: الوعاء للزاد. المسعد: الموافق القليل الخلاف. تصعد: ترتفع وتخرج، الجار قبل الدار، يقول: لا تشتر دارا حتى تعلم من جيرانك، وكفى الجار أن قال صلى الله عليه وسلم في حقه: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى خفت أن يورّثه» (1)، وقال الزاهد ابن عمران: [البسيط]
لتعن بالجار قبل الدار تسكنها ... لا خير في الدار ما لم يحمد الجار
الجار إن غبت عن أهل وعن وطن ... نعم الخليفة هم أهل وأنصار
والجار المساعد أحسن من القرابة. ويروى أن رجلا كان جارا لأبي دلف ببغداد، فأدركته حاجة، وركبه دين فادح حتى احتاج إلى بيع داره، فساوموه فيها، فسمّى لهم ألف دينار، فقالوا له: إنّ دارك تساوي خمسمائة دينار، فقال: أبيع داري بخمسمائة وجوار أبي دلف بخمسمائة، فبلغ أبا دلف الخبر، فأمر بقضاء دينه ووصله، وقال: لا تنتقل من جوارنا، فانظر كيف صار الجوار يباع كما يباع العقار، وقال الشاعر: [الطويل]
__________
(1) روي بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الأدب باب 28، ومسلم في البر حديث 140، وأبو داود في الأدب باب 123، والترمذي في البر باب 28، وابن ماجه في الأدب باب 4، وأحمد في المسند 2/ 85، 160، 259، 305، 445، 458، 514، 5/ 32، 267، 365، 6/ 52، 91، 125، 238.(3/455)
يلومونني إن بعت بالرّخص منزلي ... ولم يعلموا جارا هناك ينغّص
فقلت لهم كفّوا الملام فإنما ... بجيرانها تغلو الديار وترخص
غراء: ظاهرة حسنة. حاوية: جامعة. خلاصات: جمع خلاصة، وهو الذي يتخلّص من الشيء ويصفو منه، والزّبد: جمع زبدة اللبن. نقّحتها: هذّبتها. محض:
أخلص. اللبيب: العاقل. أخي الرّشد: صاحب الرّشد. الشّبل: ولد الأسد.
* * * ثم قال: يا بنيّ، قد أوصيت واستقصيت، فإن اقتديت فواها لك، وإن اعتديت فآها منك، والله خليفتي عليك، وأرجو ألّا تخلف ظنّي فيك. فقال له ابنه: يا أبت لا وضع عرشك، ولا رفع نعشك، فلقد قلت سددا، وعلّمت رشدا، ونحلت ما لم ينحل والد ولدا، ولئن أمهلت بعدك لا ذقت فقدك فلأ تأدّبنّ بآدابك الصّالحة، ولأقتدينّ بآثارك الواضحة حتى يقال: ما أشبه اللّيلة بالبارحة والغادية بالرّائحة! فاهتزّ أبو زيد لجوا به وابتسم، وقال: من أشبه أباه فما ظلم.
قال الحارث بن همام: فأخبرت بأن بني ساسان، حين سمعوا هذي الوصايا الحسان، فضّلوها على وصايا لقمان، وحفظوها كما تحفظ أمّ القرآن حتّى أنّهم ليرونها إلى الآن، أولى ما لقّنوه الصّبيان، وأنفع لهم من نحلة العقيان.
* * * غرّاء: ظاهرة حسنة. حاوية: جامعة. خلاصات: جمع خلاصة وهو الذي يصفو منه، والزبد: جمع زبدة اللبن. اقتديت: اتّبعت وصيتي. واها: عجبا. اعتديت:
ظلمت. آها: كلمة معناها التوجّع. عرشك: سريرك، والمعنى أنه يدعو له بالبقاء.
سددا: صوابا. نحلت: أعطيت. الواضحة: البينة. الغادية: السحابة تأتي بالغدو.
والرّائحة بالعشيّ، قال الفراء النحويّ: من أشبه أباه فما ظلم مثل أخذه الناس من قول كعب بن زهير: [الطويل]
أنا ابن الذي لم يخزني في حياته ... قديما ومن يشبه أباه فما ظلم (1)
لقّنوه: علّموه. أولى: أحق. نحلة: عطية. العقيان: الذّهب.
__________
(1) البيت في ديوان كعب بن زهير ص 65، ومقاييس اللغة 3/ 468، وهو بلا نسبة في مقاييس اللغة 3/ 244.(3/456)
المقامة الخمسون وهي البصرية
حكى الحارث بن همام قال: أشعرت في بعض الأيام همّا برّح به استعاره، ولاح عليّ شعاره، وكنت سمعت أن غشيان مجالس الذّكر، يسرو غواشي الفكر، فلم أر لإطفاء ما بي من الجمرة، إلّا قصد الجامع بالبصرة، وكان إذ ذاك مأهول المساند، مشفوه الموارد، يجتنى من رياضه أزاهير الكلام، ويسمع في أرجائه صرير الأقلام، فانطلقت إليه غير وان، ولا لاو على شان، فلمّا وطئت حصاه، واستشرفت أقصاه، تراءى لي ذو أطمار بالية، فوق صخرة عالية، وقد عصبت به عصب لا يحصى عديدهم، ولا ينادى وليدهم، فابتدرت قصده، وتورّدت ورده، ورجوت أن أجد شفائي عنده، فلم أزل أتنقّل في المراكز، وأغضي للاكز والواكز، إلى أن جلست تجاهه، بحيث أمنت اشتباهه، فإذا هو شيخنا السّروجيّ لا ريب فيه، ولا لبس يخفيه، فانسرى بمرآه همّي، وارفضّت كتيبة غمّي.
* * * أشعرت: ألبست. برّح: شق واشتدّ. استعاره: توقّده في القلب. لاح: ظهر، يريد أنه لبس الهمّ كالشّعار. والشّعار: ثوب يلي الجسد، والشّعار علامة القوم في الحرب، فمعناه عبس وجهه من شدة الهم. يسرو: يزيل. غواشي الفكر: ما يغشاه ويدخل عليه من الهمّ. مأهول: كثير الأهل. المساند: جمع مسند، وهو ما يسند إليه ظهره، أراد مواضع العلماء المتصدّرين للإقراء. والموارد: مواضع المياه. مشفوه: كثيرة الشفاه عليه للشّرب، وأراد ازدحام الطلبة على الأشياخ لأخذ العلم. أزاهير: أنوار. أرجائه: نواحيه.
صرير: أصوات. وان: مقصّر. لاو على شان: معرّج على أمر. استشرفت أقصاه:
اطّلعت بنظري عليه كله. تراءى: ظهر. أطمار: ثياب خلقة. عصبت: أحدقت وحلّقت.
عصب: جماعات. لا ينادى وليدهم، هذا مثل يستعمل في الأمر المعجب المبالغ في وصفه المعجب منه، وقد يؤوّل على تأويلات، وهو يستعمل في الخير والشر. والرخاوة والشدة. ابتدرت قصده، أي عجلت المشي إلى جهته. توردت ورده، أي طلبت منفعته.
والمراكز: مواضع الجلوس، ومركز الرجل: موضعه، وركزت الشيء غرسته. أغضي:
أغمض على المكروه. اللاكز: الضارب في الصدر. الواكز: الضارب في ناحية الفم، والوكز واللّكز بجمع اليد. تجاهه: قبالة وجهه. اشتباهه: التباسه بغيره. يخفيه: يستره.(3/457)
والمراكز: مواضع الجلوس، ومركز الرجل: موضعه، وركزت الشيء غرسته. أغضي:
أغمض على المكروه. اللاكز: الضارب في الصدر. الواكز: الضارب في ناحية الفم، والوكز واللّكز بجمع اليد. تجاهه: قبالة وجهه. اشتباهه: التباسه بغيره. يخفيه: يستره.
انسرى: زال وانكشف. ارفضّت: تفرّقت. كتيبة غمي، أي عسكره.
* * * وحين رآني، وبصر بمكاني، قال: يا أهل البصرة، رعاكم الله ووقاكم، وقوّى تقاكم، فما أضوع ريّاكم، وأفضل مزاياكم، بلدكم أوفى البلاد طهرة، وأزكاها فطرة، وأفسحها رقعة، وأمرعها نجعة وأقومها قبلة، وأوسعها دجلة، وأكثرها نهرا ونخلة، وأحسنها تفصيلا وجملة، دهليز البلد الحرام وقبالة الباب والمقام، وأحد جناحي الدّنيا، والمصر المؤسّس على التّقوى، لم يتدنّس ببيوت النّيران، ولا طيف فيه بالأوثان، ولا سجد على أديمه لغير الرّحمن، ذو المشاهد المشهودة، والمساجد المقصودة، والمعالم المشهورة، والمقابر المزورة، والآثار المحمودة، والخطط المحدودة، به تلتقي الفلك والرّكاب، والحيتان والضّباب، والحادي والملّاح، والقانص والفلّاح، والنّاشب والرّامح، والسّارح والسّابح، وله آية المدّ الفائض، والجزر الغائض.
* * * وقوله: وحين رآني، يريد أنّ السّروجي علم أنّ ابن همّام يعرف مكره الناس في كل بلد، فخشي ألّا يسمح له بخداع أهل بلده، فأخذ يمدح البصرة وأهلها ليرضيه بذلك.
رعاكم الله: حفظكم. وقاكم: كفاكم ما يحذر. تقاكم: خوفكم لله. أضوع ريّاكم: أفوح رائحتكم. مزاياكم: فضائلكم الّتي خصصتم بها. أوفى: أكمل. أفسحها: أوسعها.
الرقعة: القطعة من الأرض. أمرعها: أخصبها. النّجعة: موضع العشب ينتجعه النّاس.
دجلة: نهر البصرة. تفصيلا وجملة، يقول: إن جزئت مواضعها وتناظر كل جزء منها مع كل جزء من غيرها كان لها الفضل، فإن قيل: أي البلاد أحسن على الجملة؟ قيل البصرة. الدّهليز: أسطوان الدار ومدخله، والمقام: موضع قيام إبراهيم عليه السلام عند الكعبة للدّعاء. أحد جناحي الدنيا: من قول أبي هريرة: «الدنيا على مثال الطائر، فالبصرة ومصر الجناحان فإذا خربا وقع الأمر». المؤسس على التقوى: الذي بني أساسه في الإسلام. يتدنس: يتوسّخ. الأوثان: الأصنام. أديمه: جلده، أراد به أرضه. الخطط:
الدور والأزقّة. المختطة: الموسومة ليبني فيها. الفلك: السفن. الركاب: الإبل، يريد أنها بحرية برية. الضّباب: جمع ضبّ. الحادي: سائق الإبل فإذا كان الحادي حسن الصوت بلغت الإبل جهدها في المشي. الملاح: خادم السفينة. القانص: صائد الحوت.
الفلاح: الحرّاث. الناشب: الرامي النشّاب. الرامح: الطّاعن بالرمح، أراد الإغزاز لأنهم
رماة والعرب لأنهم أصحاب رماح. والسّارح: راعي الإبل، والسابح: العائم في الماء.(3/458)
الفلاح: الحرّاث. الناشب: الرامي النشّاب. الرامح: الطّاعن بالرمح، أراد الإغزاز لأنهم
رماة والعرب لأنهم أصحاب رماح. والسّارح: راعي الإبل، والسابح: العائم في الماء.
آية: علامة. المدّ والجزر، أي زيادة البحر ونقصانه وهما الملء والحصر، ونهر البصرة يركض فيه البحر.
* * * وأمّا أنتم فمّمن لا يختلف في خصائصهم اثنان، ولا ينكرها ذو شنآن دهماؤكم أطوع رعيّة لسلطان، وأشكرهم لإحسان، وزاهدكم أورع الخليقة، وأحسنهم طريقة على الحقيقة، وعالمكم علامة كلّ زمان، والحجّة البالغة في كلّ أوان، ومنكم من استنبط علم النّحو ووضعه، والّذي ابتدع ميزان الشّعر واخترعه، وما من فخر إلّا ولكم فيه اليد الطولى، والقدح المعلّى، ولا صبت إلّا وأنتم أحقّ به وأولى. ثمّ إنّكم أكثر أهل مصر مؤذّنين، وأحسنهم في النّسك قوانين، وبكم اقتدي في التّعريف، وعرف التّسحير في الشّهر الشّريف، ولكم إذا قرّت المضاجع، وهجع الهاجع، تذكار يوقظ النّائم، ويؤنس القائم، وما ابتسم ثغر فجر، ولا بزغ نوره في برد ولا حرّ، إلّا ولتأذينكم بالأسحار، دويّ كدويّ الرّيح في البحار. وبهذا صدع عنكم النّقل، وأخبر النبيّ عليه السلام من قبل، وبيّن أنّ دويّكم بالأسحار، كدويّ النّحل في القفار، فشرفا لكم ببشارة المصطفى وواها لمصركم وإن كان قد عفا، ولم يبق منه إلّا شفا.
* * * خصائصهم: ما يختصون به من الفضائل، أراد أن البصرة اجتمعت فيها الأشياء المتنافرة والمتضادة الّتي لا تجتمع ببلد، فهي أجمع بلاد الله فائدة، قال ابن أبي عيينة في نحوه: [البسيط]
زر وادي القصر نعم القصر والوادي ... لا بدّ من زورة من غير ميعاد
زره فليس له شبه يقاربه ... من منزل حاضر إن شئت أو باد
ترى قراقره والعيس واقفة ... والضّبّ والنون والملّاح والحادي
[البصرة]
والبصرة اختطّها عتبة بن غزوان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعتبة بدريّ مهاجريّ، بناها سنة أربع عشرة من الهجرة فمرّ بموضع منها فوجد الكذّان، وهي الحجارة الرّخوة فقال: هذه البصرة، انزلوها بسم الله، فسمّيت لذلك البصرة، واختطّت الكوفة سنة سبع عشرة من الهجرة في المحرّم، وكسرت البصرة في
أيام خالد القسري فوجد طولها فرسخين في مثلهما والكوفة ثلثاها. وأمّا في أيام المنصور فقسم على من يستوجب العطاء من أهل البصرة ألف ألف درهم، فأصاب كلّ رأس درهمين.(3/459)
والبصرة اختطّها عتبة بن غزوان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعتبة بدريّ مهاجريّ، بناها سنة أربع عشرة من الهجرة فمرّ بموضع منها فوجد الكذّان، وهي الحجارة الرّخوة فقال: هذه البصرة، انزلوها بسم الله، فسمّيت لذلك البصرة، واختطّت الكوفة سنة سبع عشرة من الهجرة في المحرّم، وكسرت البصرة في
أيام خالد القسري فوجد طولها فرسخين في مثلهما والكوفة ثلثاها. وأمّا في أيام المنصور فقسم على من يستوجب العطاء من أهل البصرة ألف ألف درهم، فأصاب كلّ رأس درهمين.
ولأهل البصرة ثلاثة أشياء ليس لأحد من أهل البلدان أن يدّعيها عليهم: النّخل والشّاء والحمام، أما النخل فهم أعلم خلق الله به وأحذقهم بإصلاحه، وفيها من أصناف النخل ما ليس في بلد من البلدان، وأما الشاء المعبدية فقد وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عبد القيس، فقال: يا رسول الله إني رجل أحبّ الشاء، فدفع له فحلا من المعز فقبض بيده على أصل أذنه، حتى استدارت أصابعه، فصار في أذنه كالسّمة فسار إلى بلده فأطرقه شاءه، فحملت إلى البحرين، فتناسلت هناك فليس في البحرين شاة كريمة إلا وفي أذنها سمة كالحلقة، فيغالى بها لتلك العلامة حتى تبلغ الشاة منها خمسين دينارا، وتعقد بالبصرة عقودها، وفيها شاة لبني فلان أمّها فلانة، وأبوها تيس بني فلان، مقدار حلبها بالغداة والعشيّ كذا. وحمامهم بلغت في الهداية أن جاءت من أقاصي بلاد الروم ومن مصر إلى البصرة وينتهي ثمن الطائر منها إلى تسعمائة دينار، وتباع بيضتها بعشرين دينارا، وكلّ ما وصف في المقامة موجود في البصرة، ولمّا صعد عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه منبرها خطب وقال في آخر خطبته: يا أهل البصرة، يا بقايا ثمود ويا جند المرأة، ويا أتباع البهيمة، دعا فاتّبعتم، وعقر فانهزمتم، أما إني أقول لا رغبة فيكم ولا رهبة منكم، غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أرض يقال لها البصرة، أقوم الأرضين قبلة، قارئها أقرأ الناس، وعابدها أعبد الناس، ومتصدقها أكثر الناس صدقة، وتاجرها أعظم الناس تجارة منها إلى قرية يقال لها الأبلّة أربع فراسخ، يستشهد عند مسجدها سبعون ألفا، الشهيد منهم كالشهيد في يوم بدر». فبنى الحريري في مدح البصرة على هذا الحديث، وإنما ختم كتابه بذكر البصرة وأهلها لتقوى مفاخرهم، ومفاخر بلدهم في البلدان فيلهجون بالمقامات ويقدمونها على غيرها.
قوله: شنآن، أي عداوة. دهماؤكم: جماعاتكم، والدهماء معظم الناس وأكثرهم.
والدّهم: العدد الكثير. عابدكم: زاهدكم كالحسن البصري ومحمد بن سيرين وغيرهما.
الخليقة، أي أخوف النّاس من الله تعالى. علّامة: كثير العلم.
[أبو الأسود الدؤلي]
ومستنبط علم النحو هو أبو الأسود الدؤلي، واسمه ظالم بن عمرو بن جندل بن سفيان أحد بني الديل من كنانة، وهو يعدّ في التابعين والمحدّثين والشعراء والبخلاء والنّحويين، ويعدّ في العرج والمفاليج والبخر، شهد مع علي رضي الله عنه صفّين، وولى البصرة لابن عباس رضي الله عنهما، وكان من شيعة عليّ وكانت امرأته عثمانية، وكان أصهاره لا يزالوا أن يردّون عليه قوله في عليّ، فقال فيهم: [الوافر](3/460)
يقول الأرذلون بنو قشير ... طوال الدّهر لا تنسى عليّا
فقلت لهم وكيف يكون تركي ... من الأعمال ما يعصي عليّا
أحبّ محمدا حبا شديدا ... وعباسا وحمزة والوصيّا
بنو عمّ النبي وأقربوه ... أحبّ النّاس كلّهم إليّا
فإن يك حبهم رشدا أصبه ... ولست بمخطىء إن كان غيّا
ولم يشكّ أبو الأسود أنه رشد، وعلى هذا تأويل قوله تعالى: {وَإِنََّا أَوْ إِيََّاكُمْ لَعَلى ََ هُدىً أَوْ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].
ومن بخله أنه كان يقول: لا تجاودوا الله فإن الله أجود وأمجد، ولو شاء الله أن يوسّع على خلقه حتى لا يكون فيهم محتاج لفعل. وكان يقول لولده: إذا بسط الله لك في الرزق فانبسط، وإن قبضه فانقبض.
ومرّ برجل وهو يقول: من يعشّي هذا الجائع؟ فأدخله وعشّاه حتى شبع، ثم ذهب السائل ليخرج، فقال له: أين تذهب؟ فقال: لأهلي فقال: لا أدعك تؤذي المسلمين بسؤلك، اطرحوه في الأدهم، فبات عنده مكبولا حتى أصبح.
وكتب إلى رجل يستسلفه فكتب إليه الرجل: المؤنة كثيرة، والفائدة قليلة، والمال مكذوب، فراجعه أبو الأسود: إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا، وإن كنت صادقا فجعلك الله كاذبا.
وقال الخليل: كان أبو الأسود ضنينا بما أخذه من عليّ رضي الله عنه، وذلك أنه سمع لحنا فقال لأبي الأسود: اجعل للناس حروفا، فأشار إلى الرفع والنصب والخفض.
وقال له زياد: قد فسدت ألسنة الناس، لأنه سمع رجلا يقول: سقطت عصاتي، فدافعه أبو الأسود.
وسمع رجلا يقرأ {أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] فخفص، فقال: ما بعد هذا شيء، فقال له: ابغني كاتبا يفهم، فجيء برجل من عبد القيس، فلم يرضه فهمه، فأتي بآخر من قريش، فقال له: إذا رأيتني قد فتحت فيّ بالحرف فانقط نقطة على أعلاه، وإذا ضممت فيّ فانقط نقطة بين يديه، وإذا كسرت فيّ، فاجعل النقطة تحت الحرف، فإذا أشربت ذلك غنّة، فاجعل النقطة نقطتين، فهذا نقط أبي الأسود.
واختلف الناس إليه يتعلمون العربية، وفرّع لهم ما أصّله فأخذه جماعة كان أبرعهم عنبسة بن معدان المهري يقال له الفيل، فأقبل الناس عليه بعد موت أبي الأسود، فبرع من أصحابه ميمون الأقرن، فرأس في الناس وزاد في الشرح، فبرع من أصحابه عبد الله ابن أبي إسحاق الحضرمي، فبرع في النّحو وتكلم في الهمز، وأملى فيه كتابا، وأخذ أبو عمرو بن العلاء عمّن أخذ عنه، ثم نجم من أصحاب أبي عمرو عيسى بن عمر، ويونس
ابن حبيب وأبو الخطاب الأخفش، فألّف عيسى كتابين سمى أحدهما الكامل والآخر الجامع، قال المبرد: فأخذ الخليل عن عيسى، فلم يكن قبله ولا بعده مثله، وهو القائل يمدح كتابي عيسى: [الرمل](3/461)
واختلف الناس إليه يتعلمون العربية، وفرّع لهم ما أصّله فأخذه جماعة كان أبرعهم عنبسة بن معدان المهري يقال له الفيل، فأقبل الناس عليه بعد موت أبي الأسود، فبرع من أصحابه ميمون الأقرن، فرأس في الناس وزاد في الشرح، فبرع من أصحابه عبد الله ابن أبي إسحاق الحضرمي، فبرع في النّحو وتكلم في الهمز، وأملى فيه كتابا، وأخذ أبو عمرو بن العلاء عمّن أخذ عنه، ثم نجم من أصحاب أبي عمرو عيسى بن عمر، ويونس
ابن حبيب وأبو الخطاب الأخفش، فألّف عيسى كتابين سمى أحدهما الكامل والآخر الجامع، قال المبرد: فأخذ الخليل عن عيسى، فلم يكن قبله ولا بعده مثله، وهو القائل يمدح كتابي عيسى: [الرمل]
بطل النحو الّذي جمّعتم ... غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع ... وهما للنّاس شمس وقمر
قال أبو العباس: وقد قرأت أوراقا من أحدهما فكان كالإشارة إلى الأصول، ثم أخذ عن الخليل جماعة لم يكن فيهم مثل عمرو بن قنبر سيبويه، ويكنى أبا بشر وأبا الحسن، وهو من موالي بني الحارث بن كعب فألف كتابه الذي سماه قرآن النحو، وعقد أبوابه بلفظه ولفظ الخليل.
وأبو الأسود من سكان البصرة.
ومستنبط: مستخرج، والّذي استنبط العروض هو الخليل، وذكره بعض العروضيين فقال: للخليل في العروض حكمة مخترعة، وسابقة مبتدعة، تبيّن بذلك فضله، وظهر تقدمه لأنه لم يتّبع فيما وضعه أثرا موجودا، ولا اقتفى فيه رسما مرسوما، واهتدى إلى ما لم يهتد إليه المتقدمون ولا أوجد مزيدا عليه المتأخرون. ولولا الخليل لم يعلم صحيح الشعر من كسيره، ولا سقيمه من عليله، وفي حصره لجميع أوزان العرب في خمس دوائر أعظم العجب لمن تدبر ما صنع وفهم.
وكان الخليل يحب أن يرى عبد الله بن المقفع، وكان ابن المقفع يحب ذلك، فجمعهما عبّاد المهلبي، فتحادثا ثلاثة أيام ولياليهن ثم افترقا، فقيل للخليل: كيف رأيت عبد الله؟ فقال: ما رأيت مثله قطّ وعلمه أكثر من عقله. وقيل لابن المقفع: كيف رأيت الخليل؟ فقال: ما رأيت مثله قطّ وعقله أكثر من علمه، وصدقا في ذلك، أدّى عقل الخليل إلى أن مات وهو أزهد الناس، وجهل بن المقفع أرداه، فكتب كتابا لعبد الله بن عليّ على المنصور، فقال فيه ما كان مستغنيا أن يقوله، ولا يحتمل الأمراء دون الخلفاء مثله، فقال فيه: ومتى غدر أمير المؤمنين بعمّه عبد الله بن عليّ، فنساؤه طوالق ودوابة حوابس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حلّ من بيعته، فاشتد ذلك على المنصور وكتب إلى أمير البصرة أن اقتل عبد الله بن المقفع فقتله.
وقال ابن المقفع إن أكرمك الناس لمال أو لسلطان فلا يعجبنّك ذلك، فإن زوال الكرامة بزوالهما، ولكن ليعجبك إن أكرموك لأدب أو دين.
واتخذ عباد المهلبي أرضا فأراد غرسها، فلامه أصحابه وقالوا: هي سبخة فأشار عليه الخيل بغرسها فغرسها، فجاءت بكل شيء حسن، فحمل إليها الخيل فاستحسنها، وقال: [البسيط](3/462)
ترفعت عن ندى الأعماق وانخفضت ... عن المعاطش واستغنت بسقياها
فمال بالخوخ والرمان أسفلها ... واعتمّ بالنخل والزيتون أعلاها
وصار يغبطه من كان يعذله ... ولائم لامه فيها تمنّاها
أبا معاوية اشكر فضل واهبها ... وكلما جئتها فاعمر مصلّاها
وله: [الكامل]
عش ما بدا لك قصرك الموت ... لا مهرب منه ولا فوت
بينا غنى بيت وبهجته ... زال الغنى وتقوّض البيت
وتوفي الخليل سنة سبعين ومائة وهو ابن خمس وسبعين سنة وتقدمت أخباره في الأربعين فلتنظر هناك.
قوله: اخترعه، أي أوجده قبل أن يكون. مصر، أي بلد. وقوانين: طرق مستقيمة. التعريف: حلق الرأس بعد يوم عرفة. قرت المضاجع: نام الناس فيها. هجع:
نام. ثغر: سنّ وأراد به بياض الصبح. بزغ: صدع وظهر. النّقل: الحديث: المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم. واها: عجبا. عفا: درس. شفا: طرف وشيء قليل، وشفا كلّ شيء حدّه وطرفه.
* * * ثمّ إنّه خزن لسانه، وخطم بيانه حتّى حدج بالأبصار، وقرف بالإقصار، ووسم بالاستقصار، فتنفّس تنفّس من قيد لقود، أو ضبثت به براثن أسد، ثم قال:
أمّا أنتم يا أهل البصرة، فما منكم إلّا العلم المعروف، ومن له المعرفة والمعروف.
وأمّا أنا فمن عرفني.
فأنا ذاك، وشرّ المعارف من آذاك، ومن لم يثبت عرفتي، فسأ صدقه صفتي.
أنا الّذي أنجد وأتهم، وأيمن وأشأم، وأصحر وأبحر، وأدلج وأسحر، نشأت بسروج، وربيت على السّروج.
ثم ولجت المضايق، وفتحت المغالق، وشهدت المعارك وألنت العرائك، واقتدت الشّوامس، وأرغمت المعاطس، وأذبت الجوامد، وأمعت الجلامد.
* * * خزن: حبس. خطم: زمّ، والخطام حبل: يشد على أنف البعير. حدج: نظر إليه بحدّة. قرف: اتّهم، وقرفته بشرّ رميته به. الإقصار العجز. قود: قتل نفس بنفس.
ضبثت: علقت. براثن: أظافير. العلم المشهور بالفضائل، والمعروف الثاني: العطاء.(3/463)
* * * خزن: حبس. خطم: زمّ، والخطام حبل: يشد على أنف البعير. حدج: نظر إليه بحدّة. قرف: اتّهم، وقرفته بشرّ رميته به. الإقصار العجز. قود: قتل نفس بنفس.
ضبثت: علقت. براثن: أظافير. العلم المشهور بالفضائل، والمعروف الثاني: العطاء.
أنجد وأتهم: أتى نجدا وتهامة. أيمن وأشام: أتى اليمن والشأم. أصحر وأبحر: مشى في الصحراء والبحر. أدلج وأسحر: مشى باللّيل والسّحر. نشأت: كبرت. ولجت: دخلت.
المعارك: مواضع القتال. العرائك: الطبائع الصعبة. الشوامس: الشّوارد التي تأبى الانقياد. ارغمت المعاطس: أذللت الأنوف أمعت الجلامد: أسلت المياه من الجنادل الصمّ.
* * * سلوا عنّي المشارق والمغارب، والمناسم والغوارب، والمحافل والجحافل، والقبائل والقنابل، واستوضحوني من نقلة الأخبار، ورواة الأسمار، وحداة الرّكبان، وحذّاق الكهّان، لتعلموا كم فجّ سلكت، وحجاب هتكت، ومهلكة اقتحمت، وملحمة ألحمت، وكم ألباب خدعت، وبدع ابتدعت، وفرص اختلست، وأسد افترست وكم محلّق غادرته لقى، وكامن استخرجته بالرّقى، وحجر شحذته حتّى انصدع، واستنبطت زلاله بالخدع، ولكن فرط ما فرط، والغصن رطيب، والفود غربيب، وبرد الشّباب قشيب فأمّا الآن وقد استشنّ الأديم، وتأوّد القويم، واستنار اللّيل البهيم فليس إلّا الندم إن نفع، وترقيع الخرق الّذي قد اتّسع.
* * * المناسم: أخفاف الإبل. الغوارب: مقادم ظهورها. المحافل: الجموع الجحافل:
الجيوش. القنابل: جماعة الخيل واحدها قنبلة. استوضحوني: اطلبوا بيان أمري.
الأسمار: الأحاديث باللّيل يسمر عليها. الحداة، خدام الإبل. فجّ: طريق في الجبل.
سلكت: دخلت. هتكت: خرقت مهلكة: موضع خوف يهلك فيه الناس. اقتحمته:
تراميت فيه. ملحمة: مواضع الحرب الشديدة يلتحم فيها أهل العسكرين ويلتصق بعضهم ببعض. ألحمت، أي أوقدت النار بينهم حتى التصقوا وصاروا لحمة واحدة، وذلك أشدّ ما يكون الحرب. ألباب: عقول. بدع: جمع بدعة، وهو الشيء المبدع اختلستها:
أخذتها بسرعة واختطفتها. محلّق: طائر في الهواء. لقى: مطروحا على الأرض.
وكامن: مستور. شحذته: صقلته. انصدع: انشق، وأراد بالحجر بخيلا لا يرشح بشيء كالحجر، فتحيّل عليه حتى أخذ ماله. استنبطت: استخرجت. زلاله: ماءه العذب الصافي، أراد أخذت ماله. فرط ما فرط، أي سبق ما سبق. رطيب: ناعم، وغصنه:
قامته. والفود: ناحية الرأس غربيب: أسود. برد: ثوب. قشيب: جديد. استشنّ الأديم:
يبس الجلد، والشنّ: القربة البالية اليابسة. تأوّد القويم: اعوجّ المعتدل. استنار: أضاء وشاب. الليل البهيم: الشعر الأسود. وقال الشاعر في معنى استشنّ الأديم: [الكامل](3/464)
قامته. والفود: ناحية الرأس غربيب: أسود. برد: ثوب. قشيب: جديد. استشنّ الأديم:
يبس الجلد، والشنّ: القربة البالية اليابسة. تأوّد القويم: اعوجّ المعتدل. استنار: أضاء وشاب. الليل البهيم: الشعر الأسود. وقال الشاعر في معنى استشنّ الأديم: [الكامل]
يا من لشيخ قد تخدّد لحمة ... أفنى ثلاث عمائم الوانا
سوداء حالكة وسحق مفوّف ... وأجدّ لونا بعد ذاك هجانا
قصر اللّيالي خطوه فتدانى ... وحنون قائم صلبه فتحانى
والموت يأتي بعد هذا كلّه ... وكأنما يعني بذاك سوانا
وقال ابن الرومي في استنارة الليل: [الطويل]
فجار على ليل الشباب فضامه ... نهار مشيب سرمد ليس ينفد
وعزّاك عن ليل الشباب معاشر ... وقالوا نهار الشيب أهدى وأرشد
وكان نهار المرء أهدى لرشده ... ولكنّ طلّ الليل أندى وأبرد
وأنشد الزاهد ابن عمران قول الشاعر: [الخفيف]
لم أقل للشباب في كنف الله ... ولا حفظه غداة استقلّا
فزاد بعد استقلا: [الخفيف]
لا ولا للمشبّب لمّا بدا لي ... مرحبا بالمشيب أهلا وسهلا
مؤذن بالحمام هذا وذاكم ... سوّد الصحف بالذنوب وولّى
وأحسن ما قيل في ذم خضابه قول ابن الرومي: [الطويل]
رأيت خضاب المرء بعد مشيبه ... حدادا على فقد الشبيبة يلبس
وإلا فما يغري الفتى بخضابه ... أيطمع أن يخفي شباب مدلّس
وكيف بأن يخفى المشيب لناظر ... وكلّ ثلاث صبحه يتنفس
وهبه يوارى شيبه أين ماؤه ... وأين أديم للشبيبة أملس
وقال محمود الوراق: [الرجز]
يا خاضب الشيبة نح فقدها ... فإنما تدرجها في كفن
أما تراها منذ عاينتها ... تزيد في الرأس بنقص البدن
قوله: ليس إلّا النّدم. ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أذنب ذنبا أو أخطأ خطيئة فندم كان كفّارة لما صنع».
وقال صلى الله عليه وسلم: «الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين ونور السموات والأرض وإن لكم من الله نظرة».
كتب عبد الملك إلى الحجاج يتوعّد عليّ بن الحسين ويكتب إليه بما يقول ففعل،
فقال: إن لله لوحا محفوظا يلحظه في كلّ يوم مائة لحظة، ليس منها لحظة إلا يحيي فيها ويميت، ويعزّ ويذلّ ويفعل ما يشاء، وإني لأرجو أن يكفيك الله منها بلحظة واحدة، فكتب بها الحجاج إلى عبد الملك.(3/465)
كتب عبد الملك إلى الحجاج يتوعّد عليّ بن الحسين ويكتب إليه بما يقول ففعل،
فقال: إن لله لوحا محفوظا يلحظه في كلّ يوم مائة لحظة، ليس منها لحظة إلا يحيي فيها ويميت، ويعزّ ويذلّ ويفعل ما يشاء، وإني لأرجو أن يكفيك الله منها بلحظة واحدة، فكتب بها الحجاج إلى عبد الملك.
وكتب ملك الروم إلى عبد الملك: أكلت الجمل الذي ركب عليه أبوك من المدينة لأغزينّك جنودا مائة ألف ومائة ألف، فكتب إليه عبد الملك بكلام عليّ فقال ملك الروم:
ما خرج هذا إلا من كلام النّبوة.
* * * وكنت روّيت من الأخبار المسندة، والآثار المعتمدة، أنّ لكم من الله تعالى في كلّ يوم نظرة، وأنّ سلاح النّاس كلّهم الحديد، وسلاحكم الأدعية والتّوحيد، فقصدتكم أنضي الرّواحل، وأطوي المراحل حتى قمت هذا المقام لديكم، ولا منّ لي عليكم إذ ما سعيت إلّا في حاجتي، ولا تعبت إلّا لراحتي، ولست أبغي أعطيتكم، بل أستدعي أدعيتكم، ولا أسألكم أموالكم بل أستنزل سؤالكم، فادعوا الله بتوفيقي للمتاب، والإعداد للمآب، فإنّه رفيع الدّرجات، مجيب الدعوات، وهو الذي يقبل التّوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ثم أنشد: [الرجز]
استغفر الله من ذنوب ... أفرطت فيهنّ واعتديت
كم خضت بحر الضّلال جهلا ... ورحت في الغيّ واغتديت
وكم أطعت الهوى اغترارا ... واختلت واغتلت وافتريت
وكم خلعت العذار ركضا ... إلى المعاصي وما ونيت
وكم تناهيت في التخطّي ... إلى الخطايا وما انتهيت
فليتني كنت قبل هذا ... نسيا ولم أجن ما جنيت
فالموت للمجرمين خير ... من المساعي التي سعيت
يا ربّ عفوا فأنت أهل ... للعفو عنّي وإن عصيت
* * * أنضى الرواحل: أهزل الإبل. أطوي المراحل: أقطع الأرض مجتهدا، وأردّ المرحلتين والثلاث مرحلة واحدة. منّ: إحسان. أبغي: أطلب. الأعطية والأدعية: اسم لما يعطى ولما يدعى. استنزل: أطلب بتلطّف. سؤالكم: طلبكم التوبة لي من الله تعالى. والمآب: الرجوع. يعفو: يمحو، وعفا الله عنك: درس ذنوبك ومحاها، من عفا المنزل: درس وانمحت آثاره. وقال ابن المعتز: [الخفيف](3/466)
كنت في سفرة البطالة والغ ... يّ زمانا فحان مني قدوم
تبت عن كلّ مأثم فعسى يم ... حى بهذا الحديث ذاك القديم
وله: [البسيط]
الله يعلم ما إثم هممت به ... إلّا ونغّصه خوفي من النّار
وإنّ نفسي ما همّت بمعصية ... إلا وقلبي عليها عائب زاري
آخر: [الطويل]
تطالبني نفسي بما فيه صونها ... فأغضي ويسطو توقها فأطيعها
وو الله ما يخفى عليّ ضلالها ... ولكنّها تأبى فلا أستطيعها
قوله: أفرطت، أي ضيّعت. اعتديت: ظلمت نفسي، قال داود الطائي: ما أخرج الله عبدا من ذل المعصية إلى عز الطاعة إلا وأغناه بغير مال، وآنسه بغير أهل، وأعزّه بلا عشيرة. خضت: جزت الغيّ الضلال. اغترار: انخداع. اختلت: تكبرت ومشيت تخيّلا، واغتلت: أهلكت، والغيلة: القتل بالخداع، وغالهم: قتلهم غيلة. افتريت: كذبت.
خلعت العذار: أزلت لجام الدّين الذي يمسكني، وتسيّبت في المعاصي. ركضا: جريا ووثبا ونيت: فترت وقصّرت في الجري إليها. تناهيت: أي بلغت النّهاية، وهي آخر الشيء: التخطي. الجواز والقطع، وتخطّيت الشيء: جزته، والخطايا: الذنوب، وهي من الخطأ لأنّ فاعلها مخطىء بفعلها. والنسيّ: الشيء المنسيّ لحقارته لا يخطر ببالك فتنساه. أجن: أكتسب. المساعي: جمع مسعاة، وهي السعي والمشي الكديد، والمساعي أيضا: المواضع التي يسعى فيها، أي يمشى بكدّ، وقال حبيب: [الطويل]
أخاف إلهي ثم أرجو نواله ... ولكنّ خوفي غالب لرجائيا
ولولا رجائي واتّكالي على الذي ... تكفّل لي بالصنع كهلا وناشيا
لما ساغ لي عذب من الماء بارد ... ولا لذّلي نوم ولا زلت باكيا
على أنه قد كان مني جهالة ... ليالي فيها كنت لله عاصيا
أخذه من قول الحسن البصريّ: ينبغي أن يكون الخوف أغلب من الرجاء فإن الرّجاء إذا غلب الخوف فسد القلب.
* * * قال الرّاوي: فطفقت الجماعة تمدّه بالدّعاء، وهو يقلّب وجهه في السّماء إلى أن دمعت أجفانه، وبدا رجفانه، فصاح: الله أكبر بانت أمارة الاستجابة، وانجابت غشاوة الاسترابة. فجزيتم يا أهل البصيرة، جزاء من هدى من الحيرة.(3/467)
فلم يبق من القوم إلّا من سرّ لسروره ورضخ له بميسوره فقبل عفو برّهم، وأقبل يغرق في شكرهم.
ثمّ انحدر من الصّخرة، يؤمّ شاطىء البصرة، واعتقبته إلى حيث تخالينا، وأمنّا التجسّس والتّحسّس علينا، فقلت له: لقد أغربت في هذه النّوبة، فما رأيك في التّوبة، فقال: أقسم بعلّام الخفيّات، وغفّار الخطيّات، إن شأني لعجاب، وإنّ دعاء قومك لمجاب، فقلت زدني إفصاحا، زادك الله صلاحا فقال: وأبيك لقد قمت فيهم مقام المريب الخادع، ثمّ انقلبت منهم بقلب المنيب الخاشع، فطوبى لمن صغت قلوبهم إليه وويل لمن بات يدعون عليه. ثمّ ودّعني وانطلق، وأودعني القلق.
قوله: فطفقت، أي أخذت وجعلت. تمدّه بالدعاء، أي تصل دعاءها بدعائه، وتقول: أمددته بالمال، إذا قوّيته به، ومددته بالجيش. رجفانه: اهتزازه، ورجف الشيء:
تحرّك، والرجفة: اهتزاز الأرض. بانت: ظهرت. انجابت: انكشفت وزالت. غشاوة الاسترابة: غطاء الشكّ. رضخ: أعطى. ميسوره: ما تيسر له. وعفو برهم: فضل إحسانهم. يهرف: يكثر الكلام ويطنب في الشكر. انحدر: انصبّ. يؤمّ: يقصد.
شاطىء: ساحل. اعتقبيه: تبعته تخالينا: صرنا في خلوة من الناس. التّجسّس: طلب الشيء باليد، وقيل: التجسّس: طلب الشيء بالكلام. والتّحسس: طلبه باليد، ثم قد يقع كلّ واحد منهما موقع صاحبه. ابن الأنباريّ: تجسس الرجل وتحسّس بمعنى واحد، هذا إجماع أهل اللغة. وفرّق بينهما يحيى بن أبي كثير، فقال: التحسّس البحث عن عورات الناس والتجسّس الاستماع لحديث القوم. ابن الأنباري: الجاسوس: الباحث على أمور الناس. النّوبة: الدولة. إيضاحا: بيانا. المريب: صاحب الريبة. المنيب: الرّاجع إلى الله بتوبته. الخاشع: هو الخاضع. صغت: مالت.
* * * فلم أزل أعاني لأجله الفكر، وأتشوّف إلى خبرة ما ذكر وكلّما استنشيت خبره من الرّكبان، وجوّابة البلدان، كنت كمن حاور عجماء، أو نادى صخرة صمّاء، إلى أن لقيت بعد تراخي الأمد، وتراقي الكمد ركبا قافلين من سفر، فقلت: هل من مغرّبة خبر؟ فقالوا. إنّ عندنا لخبرا أغرب من العنفاء، وأعجب من نظر الزّرقاء.
* * *
أعاني: أقاسي. أتشوف: أتطلع. خبرة: اختبار. استنشيت: استطلعت، وأصل معناه شممت. جوّابة: قطّاعة. وجوّالة أي الذين عادتهم الجولان في البلاد. حاور:(3/468)
* * *
أعاني: أقاسي. أتشوف: أتطلع. خبرة: اختبار. استنشيت: استطلعت، وأصل معناه شممت. جوّابة: قطّاعة. وجوّالة أي الذين عادتهم الجولان في البلاد. حاور:
كلّم. عجماء: بهيمة، والمحاورة: المراجعة في الكلام. تراخي. طول المدة. الكمد:
مصاحبة الهمّ والحزن. ركبا: أصحاب الإبل. قافلين: راجعين من سفر. مغرّبة، أي هل عندكم من حديث غريب. والعنقاء، قال ابن عباس رضي الله عنه: هو طائر فضّل به بنو إسرائيل، فانتقل بعد يوشع إلى بلاد قيس عيلان بنجد والحجاز، فآذى الولدان، فشكوا ذلك إلى خالد بن سنان وكان نبيّا بين عيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام فدعا الله أن يقطع نسلها فبقيت صورتها تصوّر في البسط، وكان أجمل طائر وأعظمه، ووجهه على هيئة وجوه الناس. وقال أهل الرواية: عنقاء مغرب، إنما هو الأمر العجيب. والعنق:
السرعة، وذكرت عجائب البلدان بمجلس الراضي، فقال قائل: أعجب ما في الدنيا طائر بأرض طبرستان على شاطىء الأنهار شبيه بالباشق، يسمّى الكلم، وهو يصيح في فصل الربيع فتجتمع إليه العصافير، وصغار الطير، فتزقّه فإذا كان آخر النهار أخذ واحدا مما قرب من الطير فيأكله، فذلك فعله إلى أن ينقضي فصل الربيع، فتجتمع إليه العصافير وصغار الطّير فتطرده وتضربه، فيفرّ منها فلا يسمع له صوت إلى الفصل الربيعي. وهو طائر حسن، موشّى العينين.
وذكر الجاحظ أنه من عجائب الدنيا، وذلك أنّه لا يطأ الأرض بقدميه، بل بإحداهما خوفا على الأرض أن تنخسف من تحته، والثاني دودة تضيء بالليل كالشمع، وتصير بالنهار لها أجنحة خضر، وبالليل لا جناحين لها، غذاؤها التراب، لم تشبع قط منه خوفا أن يفنى التّراب فتموت جوعا، والثالث أعجب من الطّائر، والدودة من يكري نفسه للقتال، يعني المسترزقة من الجند، فاستحسن الخبر من حضر، فقال الرّاضي معارضا لما ذكر الجاحظ أنّ أعجب ما في الدنيا ثلاث: البوم، لا تظهر بالنهار خوفا أن تصيبها العين لحسنها وجمالها، فتظهر بالليل، الثاني الكركيّ لا يطأ الأرض بقدميه معا بل بإحداهما فإذا وطئها لم يعتمد عليها اعتمادا قويا خوفا من أن تنخسف الأرض بثقله، الثالث الطائر الذي يقعد في مشارق الماء من الأنهار الذي عرف بمالك الحزين، يشبه الكركيّ لا يشبع من الماء خشية أن يفنى فيموت عطشا، فافترق أهل المجلس والكلّ متعجبون من الرّاضي كيف تأتي منه مثل هذه المذاكرة مع من حضره من أهل السنّ والمعرفة مع صغر سنه. والحكاية بكاملها في كتاب المسعودي.
[زرقاء اليمامة]
وأما الزرقاء فكانت تبصر على مسيرة ثلاث ليال، وكانت من جديس بن عامر بن إرم بن سام بن نوح، وكان مع جديس طسم بن لاوذ بن إرم، وكانت مملكتهم في طسم، وكانوا يسكنون اليمامة، وهما من العرب العاربة فأقاموا برهة، وبلادهم أفضل
البلاد، حدائق ملتفّة، وقصور مصطفة، فكفروا بأنعم الله فأهلكهم، وذلك لأنهم ملكهم عملوق بن طسم، وكان غشوما لا يملك نفسه في هواه، فاختصمت إليه امرأة من جديس اسمها هزيلة مع زوجها في ابن لها، فأمر بالولد فجعل في غلمانه، وأمر بالزوج أن يباع وتعطى المرأة عشر ثمنه، وبالمرأة أن تباع ويعطى الزوج خمس ثمنها، فقالت هزيلة:(3/469)
وأما الزرقاء فكانت تبصر على مسيرة ثلاث ليال، وكانت من جديس بن عامر بن إرم بن سام بن نوح، وكان مع جديس طسم بن لاوذ بن إرم، وكانت مملكتهم في طسم، وكانوا يسكنون اليمامة، وهما من العرب العاربة فأقاموا برهة، وبلادهم أفضل
البلاد، حدائق ملتفّة، وقصور مصطفة، فكفروا بأنعم الله فأهلكهم، وذلك لأنهم ملكهم عملوق بن طسم، وكان غشوما لا يملك نفسه في هواه، فاختصمت إليه امرأة من جديس اسمها هزيلة مع زوجها في ابن لها، فأمر بالولد فجعل في غلمانه، وأمر بالزوج أن يباع وتعطى المرأة عشر ثمنه، وبالمرأة أن تباع ويعطى الزوج خمس ثمنها، فقالت هزيلة:
[الطويل]
أتينا أخا طسم ليحكم بيننا ... فأبدع حكما في هزيلة ظالما
وهي أبيات، فبلغه قولها، فأمر ألّا تتزوّج امرأة من جديس حتى تحمل إليه قبل زوجها فيعتذرها، فلقوا منه ذلّا طويلا إلى أن تزوّجت الشموس بنت غفار أخت الأسود ابن غفار، وكان سيّد جديس فلمّا كانت ليلة إهدائها حملت إليه، والقيان معها يقلن:
[الرجز]
ابدأ بعملوق إليه فاركب ... وبادر الصّبح بأمر معجب
فما لبكر بعدكم من مذهب
فلما افتضّها، خرجت على قومها في دمائها شاقة جيبها من دبر ومن قبل وهي تقول: [الطويل]
أيصلح ما يؤتى على فتياتكم ... وأنتم رجال فيكم عدد الرّمل
فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساء لا تفرّ من الفحل
فلو أننا كنّا رجالا وكنتم ... نساء لكنا لا نقيم على الذلّ
فأنفت جديس عند ذلك، واجتمعت إلى أخيها الأسود، وأجمعوا على أن يصنعوا لها طعاما، فيدعو عملوقا مع قومه فإذا جاؤوا في الخيل والبغال عمّوهم بالقتل، فقالت الشموس لأخيها: الغدر عار وعاقبته بوار، صبّحوا القوم في ديارهم تظفروا أو تموتوا كراما، فقالوا لها: المكر أمكن من نواصيهم، ثم صنع لهم الطعام ودفنوا سيوفهم في الرمل، فلما استكملوا في المدعاة أتوا عليهم أجمعين، وهرب من طسم رياح بن مرة، فأتى حسان بن تبّع لينصره، فاستبعدوا أرضهم، وكان قد تبّع لرياح كلبة، فضربها في رجلها حتى عرجت، فقال: أبعيدة أرض قطعتها كلبة عرجاء! فتجهز معه بجيش فلما صاروا من جديس على ثلاثة أيام، صعدت الزرقاء على منار كان لها لتنظر الجيش، وكان رياح قد قال لهم: إنّ الزرقاء تبصر على ثلاث ليال، ولكن ليقطع كل رجل منكم غصنا من شجر، فيحمله لنشبّه عليها، فلمّا رأتهم، قالت: يا قوم أتتكم الشجر أو أتتكم حمير، فلم يصدقوها فقالت: [الرمل]
أقسم بالله دبّ الشّجر ... أو حمير قد أقبلت شيئا تجرّ
فكذّبوها، وقالوا، كلّ بصرك وضعف، فقالت: أقسم بالله لقد أرى رجلا ينهش
كتفا، أو يخصف نعلا، فتهاونوا بحديثها، حتى صبّحهم حسان فاجتاحهم فأخذت الزّرقاء، فشق عيناها فإذا فيها عروق سود من الإثمد، وكانت أول من اكتحل به، وهرب الأسود، فنزل بطيىء، فنسله فيهم، وتسمى زرقاء اليمامة، واسم البلد جوّ، فلما صلبت على بابها، سمّيت اليمامة، وقيل اليمامة اسم البلد، واسم الزرقاء عنز، وقيل إن حسّانا لم يصلبها، ولكن حملها في السّبي، وقالت عندما قرّب لها البعير لتركبه، ولم تكن اعتادت ركوبه: [الخفيف](3/470)
أقسم بالله دبّ الشّجر ... أو حمير قد أقبلت شيئا تجرّ
فكذّبوها، وقالوا، كلّ بصرك وضعف، فقالت: أقسم بالله لقد أرى رجلا ينهش
كتفا، أو يخصف نعلا، فتهاونوا بحديثها، حتى صبّحهم حسان فاجتاحهم فأخذت الزّرقاء، فشق عيناها فإذا فيها عروق سود من الإثمد، وكانت أول من اكتحل به، وهرب الأسود، فنزل بطيىء، فنسله فيهم، وتسمى زرقاء اليمامة، واسم البلد جوّ، فلما صلبت على بابها، سمّيت اليمامة، وقيل اليمامة اسم البلد، واسم الزرقاء عنز، وقيل إن حسّانا لم يصلبها، ولكن حملها في السّبي، وقالت عندما قرّب لها البعير لتركبه، ولم تكن اعتادت ركوبه: [الخفيف]
شرّ يوميها وأغواه لها ... ركبت عنز بجدج جملا
وقيل إن عنزا هي أخت الزرقاء، وقال الشاعر: [البسيط]
ما نظرت ذات أجفان كنظرتها ... حقا كما صدع الدّين الّذي صدعا
قالت أرى رجلا في كفّه كتف ... أو يخصف النّعل لهفي أية صنعا
فكذّبوها فوافتها على عجل ... أقيال حمير تزجي الموت والشّرعا
فاستنزلوا أهل جوّ من معاقلهم ... وهدّموا شامخ البنيان فاتّضعا
* * * فسألتهم إيضاح ما قالوا، وأن يكيلوا لي بما اكتالوا، فحكوا أنّهم ألمّوا بسروح، بعد أن فارقها العلوج، فرأوا أبا زيدها المعروف، قد لبس الصّوف، وأمّ الصّفوف وصار بها الزّاهد الموصوف، فقلت: أتعنون ذا المقامات. فقالوا: إنّه الآن ذو الكرامات، فحفزني إليه النّزاع، ورأيتها فرصة لا تضاع، فارتحلت رحلة المعدّ، وسرت نحوه سير المجدّ، حتى حللت بمسجده، وقرارة متعبّده، فإذا هو قد نبذ صحبة أصحابه، وانتصب في محرابه، وهو ذو عباءة مخلولة، وشملة موصولة فهبته مهابة من ولج على الأسود، وألفيته ممّن سيماههم في وجوههم من أثر السّجود. ولّما فرغ من سبحته، حيّاني بمسبّحته، من غير أن نغم بحديث، ولا استخبر عن قديم ولا حديث، ثمّ أقبل على أوراده، وتركني أعجب من اجتهاده، وأغبط من يهدي الله من عباده، ولم يزل في قنوت وخشوع، وسجود وركوع، وإخبات وخضوع، إلى أن أكمل إقامة الخمس، وصار اليوم أمس، فحينئذ انكفأ بي إلى بيته، وأسهمني في قرصه وزيته، ثم نهض إلى مصلّاه، وتخلّى بمناجاة مولاه حتى إذا التمع الفجر، وحقّ للمجتهدّ الأجر، عقّب تهجّده بالتسبيح، ثم اضطجع ضجعة المستريح، وجعل يرجّع بصوت فصيح.
* * *
قوله: يكيلوا لي ما اكتالوا، أي يعطوني ما أعطوا من العلم. ألموّا: نزلوا، العلوج: الروم، أمّ: صار إماما. حفزني: عجّلني. النزاع: الشوق. فرصة: غنيمة.(3/471)
* * *
قوله: يكيلوا لي ما اكتالوا، أي يعطوني ما أعطوا من العلم. ألموّا: نزلوا، العلوج: الروم، أمّ: صار إماما. حفزني: عجّلني. النزاع: الشوق. فرصة: غنيمة.
المعدّ: الكامل العدّة في السفر. قرارة: الموضع الذي يقرّ فيه متعبّده: موضع عبادته، نبذ: ترك. انتصب: قام ووقف. المحراب عند العرب: سيد المجالس ومقدّمها وأشرفها، وقيل للقبلة محراب لأنه أشرف موضع في المسجد، وقيل للقصر محراب لأنه سيّد المنازل، الأصمعيّ المحراب عندهم: الغرفة.
أحمد بن عبيد: المحراب: مجلس الملك، سمي بذلك لانفراد الملك به لا يقربه أحد، وسمي محراب المسجد لانفراد الإمام به ويقال فلان: حرب لفلان، إذا كان بينهما مباعدة، عباءة: كساء، مخلولة بالية مشدودة بالخلال والشّملة: الكساء يشمل به.
موصولة، يريد أنها خلفه قد تقطّعت فوصلت ولج: دخل. ألفيته: وجدته. سيماهم:
علامتهم حيّاني بمسبّحته، أي بسبّابته وقد تقدّم ذكرها. نغم: تكلم بكلام خفيّ والأوراد: جمع ورد، وهو النصيب من القرآن يقوم به الإنسان كلّ ليلة. أغبط: أحسد وأتمنّى أن أكون مثله. وسجود وركوع: سجد الرجل إذا انحنى ومال إلى الأرض، من قول العرب: سجدت الدابة وأسجدت، إذا خفضت رأسها لتركيب، ويقال: قنت الرجل، إذا أخذ في التّعظيم والدعاء لله تعالى، والقنوت على أربعة أقسام: الطاعة كقوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قََانِتُونَ} [البقرة: 166]، والصّلاة كقوله تعالى: {اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي} [آل عمران: 43]، وطول القيام، كقوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل: أيّ الصلاة أفضل؟
فقال: «طول القنوت والسكوت» (1)، كقول زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة يكلّم أحدنا الذي يليه حتى نزل {وَقُومُوا لِلََّهِ قََانِتِينَ} [البقرة: 238]، فأمسكنا عن الكلام، قال أبو عبيدة: نرى أنّ القنوت في الصّبح سمّي قنوتا لأن الإنسان قائم في الدّعاء من غير أن يقرأ القرآن، فكأنه في سكوت. إخبات، أي تذلل، انكفأ: انقلب، أسهمني، أي أعطاني سهما، أي نصيبا، تهجّده: قيامه للصلاة. [الرجز]
خلّ ادّكار الأربع ... والمعهد المرتبع
والظّاعن المودّع ... وعدّ عنه ودع
واندب زمانا سلفا ... سوّدت فيه الصّحفا
ولم تزل معتكفا ... على القبيح الشّنع
كم ليلة أودعتها ... مآثما أبدعتها
لشهوة أطعتها ... في مرقد ومضجع
__________
(1) أخرجه بنحوه، مسلم في المسافرين حديث 164، 165، والترمذي في الصلاة باب 168، والنسائي في الزكاة باب 49، وابن ماجه في الإقامة باب 200، وأحمد في المسند 3/ 302، 391، 412.(3/472)
وكم خطا حثثتها ... في خزية أحدثتها
وتوبة نكثتها ... لملعب ومرتع
وكم تجرّأت على ... ربّ السّموات العلا
ولم تراقبه ولا ... صدقت فيما تدّعي
وكم غمضت برّه ... وكم أمنت مكره
وكم نبذت أمره ... نبذ الحذا المرقع
ولم ركضت في اللّعب ... وفهت عمدا بالكذب
ولم تراع ما يجب ... من عهده المتّبع
فالبس شعار النّدم ... واسكب شآبيب الدّم
قبل زوال القدم ... وقبل سوء المصرع
واخضع خضوع المعترف ... ولذ ملاذ المقترف
واعص هواك وانحرف ... عنه انحراف المقلع
إلام تسهو وتني ... ومعظم العمر فني!
فيما يضرّ المقتني ... ولست بالمرتدع
أما ترى الشّيب وخط ... وخطّ في الرّأس خطط
ومن يلح وخط الشّمط ... بفوده فقد نعي
* * * ادّكار: تذكر. الأربع: المنازل. عدّ: كفّ. دع: اترك. اندب: ابك. سلف:
ذهب وتقدم. الصحف: الكتب. المعتكف: المقيم. الشنع: الذي يتحدث يقبحه.
أودعتها: أي ضمنتها وجعلتها فيه. المآثم: الذّنوب. أبدعتها: اخترعتها. خطا:
جمع خطوة وهي الباع، حثثتها: عجلتها، خزي: هوان. ونكثتها: نقضتها. مرتع:
أكل رغد. تجرأت: تشجّعت وأقدمت. تراقبه: تحارسه وتخشى منه. غمضت:
نقصت. بره: إحسانه. نبذت: تركت، الحذاء: النعل، ركضت: جريت. فهت:
نطقت. تراع: تحفظ. والعهد: الميثاق، شعار: ثوب يلصق بالجسد، اسكب:
صبّ. شآبيب: دفع المطر، واحدها شؤبوب، فاستعارها للدم كما استعار الدم للدمع. المصرع: موضع السّقطة وصرعت: أسقطت، لذ: الجأ. ملاذ: ملجأ.
المقترف: المذنب، انحرف: مل. المقلع: الذي يقلع: عن المعاصي ويفارقها.
تسهو: تخطىء. تني: تفتر. فنى: تمّ. سكّن الياء ضرورة. المقتني: المكتسب.
المرتدع: المنتهي الكافّ عن شهواته. وخط: فشا وانتشر، والوخط: مخالطة بياض شيب الرأس بسواده، والوخط في غير هذا الطّعن غير النافذ، خطّ كتب. خطط:
طرائق. والشّمط: اختلاط بياض الشيب بسواد الشعر. بفوده: بجانب رأسه. نعى:(3/473)
المرتدع: المنتهي الكافّ عن شهواته. وخط: فشا وانتشر، والوخط: مخالطة بياض شيب الرأس بسواده، والوخط في غير هذا الطّعن غير النافذ، خطّ كتب. خطط:
طرائق. والشّمط: اختلاط بياض الشيب بسواد الشعر. بفوده: بجانب رأسه. نعى:
تحدّث بموته، وقال الألبيري: [الكامل]
الشّيب نبه ذا النّهى فتنبّها ... ونهى الجهول فلا استفاق ولا انتهى
بل زاد غيّا نفسه فتهافتت ... تبغي اللها وكأنّها بين اللها
فإلى متى ألهو وأفرح بالمنى ... والشيخ أقبح ما يكون إذا لها
ما حسنه إلا التّقى لا أن يرى ... صبّا بألحاظ الجآذر والمها
أنّى يقاتل وهو مغلول الظّبا ... كأبي الجريّ إذا استقلّ تأوّها
محق الزمان هلاله فكأنما ... أبقى له منه على قدر السّها
فغدا حسيرا يشتهي أن يشتهى ... ولكم جرى طلق الجموح كما اشتهى
إن أنّ أوّاه وأجهش بالبكا ... لذنوبه ضحك العدوّ وقهقها
ليست تنهنه العظات ومثله ... في سنّه قد آن أن يتنهنها
فقد اللذات وزاد غيّا بعدهم ... هلّا تيقّظ بعدهم وتنبّها
يا ويحه ما باله لا ينتهي ... عن غيّه والعمر منه قد انتهى!
* * * [الرجز]
ويحك يا نفس احرصي ... على ارتياد المخلص
وطاوعي وأخلصي ... واستمعي النّصح وعي
واعتبري بمن مضى ... من القرون وانقضى
واخشي مفاجاة القضا ... وحاذري أن تخدعي
وانتهجي سبل الهدى ... وادّكري وشك الرّدى
وأنّ مثواك غدا ... في قعر لحد بلقع
آها له بيت البلى ... والمنزل القفر الخلا
ومورد السّفر الأولى ... واللّاحق المتبع
بيت يرى من أودعه ... قد ضمّه واستودعه
بعد الفضاء والسّعه ... قيد ثلاث أذرع
لا فرق أن يحلّه ... داهية أو أبله
أو معسر أو من له ... ملك كملك تبّع
* * * قوله: ارتياد، أي طلب. المخلص: المنجى، عي: احفظي، وهو أمر للمؤنث من
وعى يعي، اعتبري: اتعظي. القرون: الأمم السابقة: انقضى: فرغ وتم. والقضاء هنا:(3/474)
ويحك يا نفس احرصي ... على ارتياد المخلص
وطاوعي وأخلصي ... واستمعي النّصح وعي
واعتبري بمن مضى ... من القرون وانقضى
واخشي مفاجاة القضا ... وحاذري أن تخدعي
وانتهجي سبل الهدى ... وادّكري وشك الرّدى
وأنّ مثواك غدا ... في قعر لحد بلقع
آها له بيت البلى ... والمنزل القفر الخلا
ومورد السّفر الأولى ... واللّاحق المتبع
بيت يرى من أودعه ... قد ضمّه واستودعه
بعد الفضاء والسّعه ... قيد ثلاث أذرع
لا فرق أن يحلّه ... داهية أو أبله
أو معسر أو من له ... ملك كملك تبّع
* * * قوله: ارتياد، أي طلب. المخلص: المنجى، عي: احفظي، وهو أمر للمؤنث من
وعى يعي، اعتبري: اتعظي. القرون: الأمم السابقة: انقضى: فرغ وتم. والقضاء هنا:
الموت. ومفاجأته: إتيانه على غفلة. حاذري: خافي. انتهجي: اسلكي وامشي في نهج، وهو الطريق البين. سبل الهدى: طرق الرشاد. ادّكري: تذكّري. وشك الردى:
سرعة الموت. مثواك: موضع إقامتك، لأنّ المثوى والثّواء: الإقامة، والمثوى:
الموضع الذي تقيم فيه، لحد: شق في جانب القبر. بلقع: خال. آها: كلمة توجع.
مورد: موضع الماء. السّفر: المسافرون، الأولى: الأولون المتقدمون، والألى: مقلوب الأول. تقول: أولى وأوّل ككبرى وكبر، وأخرى وأخر، ثم قلبوا الأول فقالوا: الأولى، وتأتي الأولى في كلامهم بمعنى الذين موصولة وهي كثيرة، يريد أن القبر مورد للأولين والآخرين، وسماهم سفرا، لأن الإنسان في الدنيا مسافر لا يقيم إنما يقطع أيامه، وقال التّهامي: [الكامل]
العيش نوم والمنيّة يقظة ... والمرء بينهما خيال ساري (1)
فاقضوا مآربكم عجالا إنما ... أعماركم سفر من الأسفار
قيد: قدر. فإن قيل: كيف جعل القبر ثلاثة أذرع، والذراع شبران، والقدر قدره ما بين تسعة أشبار إلى ثمانية؟ فأخبرني الحاج ابن السقاط أن عندهم بالمشرق ذراعا يسمونه المالكي، يذرعون به ثيابهم، وغيرها فيه من ذراع اليد ذراع ونصف.
وقال أبو القاسم الزجاجي: الذّراع الهاشمي ذراع وثلث، ففي ثلاثة أذرع بالهاشمي ثمانية ففي ثلاثة أذرع بالهاشمي ثمانية أشبار، وبالمالكي تسعة أشبار، فإحدى الذراعين أراد.
وإنما نقل لفظ ثلاثة أذرع من قول عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: «كيف بك إذا أنت مت؟ فانطلق بك قومك، فقاسوا لك ثلاثة أذرع في ذراع وشبر، ثم رجعوا بك فغسلوك وكفنوك وحنّطوك ثم حملوك حتى يضعوك فيه، ثم يهيلوا عليك التراب ويدفنوك، فإذا انصرفوا عنك أتاك فتّانا القبر منكر ونكير أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، يجرّان أشعارهما، ويحثيان التراب بأنيابهما فتلتلاك وترتراك، كيف بك عند ذلك يا عمر؟» قال عمر: يكون معي مثل عقلي هذا؟ قال: نعم، قال: «فإذن أكفيكهما».
داهية: مجرب للأمور حاذق بها. أبله: عي كثير الغفلة. معسر: فقير. تبع، أراد به تبّعا الأكبر، وهو الذي ذكر الله في كتابه.
[تبع الأكبر]
قال صاحب التيجان، اسمه شمو رعش بن ناشر النّعم، وسمي أبوه ناشر النعم لأنه
__________
(1) البيت الأول للتهامي في تاج العروس (يقظ).(3/475)
أحيا ملك حمير بعد أربعين عاما، وهي أيام ملك سليمان وسمي شمغورش تبّعا الأكبر، وإن كانت العرب لم تسمّ قبله تبعّا لأن العرب لم يقم لها أحفظ منه، وكان يتجاوز عن مسيئهم ويحسن إلى محسنهم، وكان جميع أهل الأرض شاكرين لأيامه، وكان أعقل من رأوا من الملوك وأعلاهم همة، وأبعدهم غورا، وأشدهم مكرا لمن حارب، وغزا جمع ملوك الآفاق، وقطع بجيوشه الأرض كلّها شرقا وغربا، ثم رجع إلى قصر غمدان يريد ملك الأرض وذلّت له ملوكها وعمّر زمانا طويلا، وهو أوّل من أمر بصنعة الدروع السوابغ، جعل على أهل فارس ألف درع، وعلى الروم ألف درع، وعلى اليمن كذلك، وعلى ممالكه كلها مثل ذلك فكانوا يغدون عليه كل سنة بذلك العدد، ولذلك قال أبو ذؤيب: [الكامل]
وعليه مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبّع (1)
وقال ابن الكلبي: لم يملك الأرض كلّها إلا ثلاثة أبرار، وهم سليمان عليه السلام وذو القرنين وتبّع، وهو أسعد وأبو كرب. وثلاثة كفّار، وهم النمروذ وبختنصر والضّحاك. وأبو كرب الذي ذكر هو تبع، وكان ملكا عظيما، فتح البلاد، وملك العباد، وأقبل من اليمن يريد العراق فنزل الحيرة وحفر لهم نهرا، وهو نهر الحيرة إلى سوقها، وبعث إليه حسان في جنده ليطوف الأرض، فمضى به حسان في عسكر عظيم جرار، لا يمرّ بمدينة إلا فتحها ولا ملك إلا قهره. وقيل في تسمية ملوك اليمن تبابعة أنه لكثرة ما يتبع الملك منهم من الجنود، وقيل سمّي تبّعا لأنه تبع من قبله، ولابن سكّرة في معنى بيت المقامة [الكامل]
الجوع يطرد بالرغيف اليابس ... فعلام تكثر حسرتي ووساوسي
والموت أنصف حين عدّل قسمة ... بين الخليفة والفقير البائس
* * * وبعده العرض الّذي ... يحوي الحييّ والبذي
والمبتدي والمحتذي ... ومن رعى ومن رعي
فيا مفاز المتّقي ... وربح عبد قد وقي
سوء الحساب الموبق ... وهول يوم الفزع
ويا خسار من بغى ... ومن تعدّى وطغى
وشبّ نيران الوغى ... لمطعم أو مطمع
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين 1/ 39، وسر صناعة الإعراب 2/ 760، وشرح المفصل 3/ 59، ولسان العرب (تبع)، (صنع)، (قضى)، والمعاني الكبير ص 1039، وتاج العروس (صنع)، (قضى)، وبلا نسبة في شرح المفصل 3/ 58.(3/476)
يا من عليه المتّكل ... قد زاد ما بي من وجل
لما اجترحت من زلل ... في عمري المضيّع
فاغفر لعبد مجترم ... وارحم بكاء المنسجم
فأنت أولى من رحم ... وخير مدعوّ دعي
* * * قوله: وبعد العرض، يريد عرض الناس للحساب. يحوي: يضمّ. الحيي:
المستحيي. البذيّ: المتكلم بالفواحش. المحتذي: المتبع: الحاذي حذوه. رعى:
ملك. يريد أن العرض يعمّ الناس، فيحتوي على العفيف والبذي، وعلى الأغنياء والفقراء والملوك ورعيتهم ولا يتميز فيه أحد ولا يشرف إلا بعمل صالح، قوله: فيا مفاز المتقي، المفاز: الخلاص، وقي: كفي، الموبق: المهلك. هول: خوف. بغى: ظلم. وتعدّى:
جاوز الحد في جوره، طغى: جاوز الحد في تكبره. شبّ: أوقد. الوغى: الحرب.
وجل. خوف. اجترحت: اكتسبت. زلل: خطأ. زفير: نفخ. والشهيق: رد النّفس مع البكاء بصوت. ردفه: خلفه.
* * * قال الحارث بن همّام: فلم يزل يردّدها بصوت رقيق، ويصلها بزفير وشهيق، حتى بكيت لبكاء عينيه، كما كنت من قبل أبكي عليه، ثم برز إلى مسجده، بوضوء تهجّده، فانطقت ردفه، وصلّيت مع من صلّى خلفه. ولما انفضّ من حضر، وتفرّقوا شغر بغر، أخذ يهينم بدرسه، ويسبك يومه في قالب أمسه، وفي ضمن ذلك يرنّ إرنان الرّقوب. ويبكي ولا بكاء يعقوب، حتى استبنت أنّه التحق بالأفراد، وأشرب قلبه هوى الانفراد، فأخطرت بقلبي عزمه الارتحال، وتخيلته والتّخلي بتلك الحال، فكأنّه تفرّس ما نويت أو كوشف بما أخفيت، فزفر زفير الأواه ثم قرأ: {فَإِذََا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ} [آل عمران: 159] فأسجلت عند ذلك بصدق المحدّثين، وأيقنت أنّ في الأمّة محدّثين. ثم دنوت إليه كما يدنو المصافح، وقلت: أوصني أيّها العبد الصّالح، فقال: اجعل الموت نصب عينك، وهذا فراق بيني وبينك. فودّعته وعبراتي، يتحدّرن من المآقي، وزفراتي يتصعّدن من التّراقي وكانت هذه خاتمة التّلاقي.
* * * انفض: تفرق. شغر بغر، أي في كل طريق وعلى كل جهة، يهيم: يرد كلامه خفيا
لا يفهم. يسبك يومه في قالب أمسه: استعارة، أي يفعل في اليوم ما فعل في الأمس، وفي ضمن ذلك، أي في أثنائه، يرنّ: يصوت. الرّقوب: المرأة التي لا يعيش لها ولد.(3/477)
* * * انفض: تفرق. شغر بغر، أي في كل طريق وعلى كل جهة، يهيم: يرد كلامه خفيا
لا يفهم. يسبك يومه في قالب أمسه: استعارة، أي يفعل في اليوم ما فعل في الأمس، وفي ضمن ذلك، أي في أثنائه، يرنّ: يصوت. الرّقوب: المرأة التي لا يعيش لها ولد.
ولا بكاء يعقوب: يجوز رفع بكاء ونصبه والرفع أكثر، وبكاء يعقوب على يوسف عليهما السلام حتى عمي، وهو قوله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنََاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:
84]، استبنت: تحققت. الأفراد: العباد، يقال: فلان فرد فضله، أي ليس له نظير، والأفراد سبعة من العباد لا تخلو الدنيا منهم حتى إذا مات واحد خلف الله تعالى في موضعه آخر. أشرب: خولط وغلب عليه. هوى الانفراد: حب الوحدة، قال ابن الرومي: [مجزوء الوافر]
إلى الزّهاد في الدّنيا ... جنان الخلد تشتاق
عبيد من خطاياهم ... إلى الرحمن أبّاق
حدتهم نحوه الرّغب ... ة مع الرّهبان فاستاقوا
عليهم حين تلقاهم ... سكينات وإطراق
يضجون إلى الله ... ودمع العين مهراق
مليك الملك هل مما ... تطوّقناه إطلاق
ففي أعناقنا طرّا ... من الآثام أطواق
وللفقيه أبي العباس بن خليل: [الكامل]
فهموا إشارات الحبيب فهاموا ... وأقام أمرهم الرّشاد ففاموا
وتوسّلوا بمدامع منهلّة ... تحت الدياجي والأنام نيام
وتلوا من الذكر الحكيم جوامعا ... جمعت لها الألباب والأفهام
يا صاح لو أبصرت ليلهم وقد ... صغت القلوب وصفّت الأقدام
لرأيت نور هداية قد حفّهم ... فسرى السّرور وأشرق الإظلام
فهم العبيد الخادمون مليكهم ... نعم العبيد وأفلح الخدّام
سلموا من الآفات لما استسلموا ... فعليهم حتى الممات سلام
وقالوا في هوى الانفراد: الوحدة خير من القرين السوء، وأنشدوا: [السريع]
أنست بالوحدة علما بها ... فإنها خير من الجمع
ألا ترى الواحد أصلا لما ... يحسب من أصل ومن فرع
أترك من لا أرتجي نفعه ... رجاء ربّ الضر والنفع
آخر: [الوافر]
أنست بوحدتي حتى لو أني ... أتاني الأنس لاستوحشت منه
ولم تدع التجارب لي صديقا ... أميل إليه إلّا ملت عنه
وقال آخر: [البسيط](3/478)
أنست بوحدتي حتى لو أني ... أتاني الأنس لاستوحشت منه
ولم تدع التجارب لي صديقا ... أميل إليه إلّا ملت عنه
وقال آخر: [البسيط]
اهرب بنفسك تستأنس بوحدتها ... تلق الرّشاد إذا ما كنت منفردا
إن السّباع لتهدأ في مرابضها ... والناس ليس بهاد شرّهم أبدا
قوله: تفرّس، أي علم بفراسته وجودة نظره. نويت: أضمرت في نيتي كوشف:
اطلع عليه. زفر: نفخ. الأواه: الحزين الذي يصيح: آه آه. أسجلت: صدقت.
المحدثين: الذين حدثوه بتوبة السروجي. محدّثين، هم المكاشفون من الزهاد الذين يحدثون بالغيوب، كأن المكاشف قد حدث بما يقول. وقيل: المحدثون الصّادقون ظنا وفراسة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «قد كان فيمن قبلكم، محدثون، فإن يكن من أمتي هذه فهو عمر بن الخطاب» (1). وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه المعيّا وهو الصادق الظنّ، ودليله ما ذكره صلى الله عليه وسلم في عمر حديث سارية بن زنيم، وكان عمر رضي الله تعالى عنه قد أرسله في جيش للمسلمين، فألقى الله في روح عمر رضي الله تعالى عنه وهو يخطب الناس بالمدينة إن العدوّ قد نهز المسلمين واشتد الخطب عليهم، وكانوا بحضرة جبل، فقطع عمر الخطبة وقال: يا سارية الجبل، فأسمع الله تعالى سارية من مسافة شهر نداء عمر، فانحاز بالمسلمين إلى الجبل، فتخلصوا، قوله: المصافح، أي المعانق عند الوداع، نصيب عينك، أي غرضها وقدامها، وأول من قال: اجعل الموت نصب عينك أمية بن أبي الصلت في قوله: [الخفيف]
كلّ عيش وإن تطاول يوما ... صائر أمره إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعى الوعولا
فاجعل الموت نصب عينك واحذر ... غولة الموت إن للموت غولا
عبراتي: دموعي. يتصعدن: يترفعن. التراقي: العظمان المعوجان أعلى الصدر.
خاتمة التلاقي: آخر لقائه.
[مما قيل في الوداع شعرا]
ونذكر هنا جملة من الشعر في ذكر الوداع الذي كان بينهما ونجعلها كالتوديع لما سلف لهما في هذا الكتاب من رياض الآداب فإنها كانت أنس الوحيد. ومسلاة الطريد، فمن ذلك قول بعضهم: [المتقارب]
وداعك مثل وداع الرّبيع ... وفقدك مثل افتقاد الدّيم
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب 6، والأنبياء باب 54، ومسلم في فضائل الصحابة باب 23، والترمذي في المناقب باب 17، وأحمد في المسند 6/ 55.(3/479)
عليك سلام فكم من ندى ... فقدناه منك وكم من كرم
وقال آخر:
أقول له يوم ودعته ... وكلّ بعبرته مبلس
لئن رجعت عنك أجسامنا ... لقد سافرت معك الأنفس
وقال أبو سعيد الهمذاني: أنشدني هلال بن الغلاء حين ودّعني: [الكامل]
لأودعنّك ثم تدمع مقلتي ... إن الدموع هي الوداع الثاني
وأصوم بعدك عن سواك فأغتدي ... متقلدا صومين في رمضان
في فرقة الأحباب شغل شاغل ... والموت صدقا فرقة الإخوان
(وأنشدني أبو محمد بن حزم) [الوافر]
لئن أصبحت مرتحلا بشخصي ... فقلبي عندكم أبدا مقيم
ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المعاينة الكليم
وكرر هذا المعنى فقال: [الوافر]
يقول أخي شجاك رحيل جسم ... وروحك ما لها عنه رحيل
فقلت له المعاين مطمئن ... لذا طلب المعاينة الخليل
وقال آخر: [السريع]
بانوا فأضحى الجسم من بعدهم ... ما تبصر العين له فيّا
ووا أسفي منه ومن قولهم ... ما ضرّك الفقد لنا شيا
بأي وجه أتلقاهم ... إن وجدوني بعدهم حيّا
وقال آخر: [مخلع البسيط]
لا كان يوم الفراق يوما ... لم يبق للمقلتين نوما
شتّت مني ومنك شملا ... فسر قوما وساء قوما
يا قوم من لي بفقد خل ... يسومني في العذاب سوما
ما لا مني الناس فيه إلا ... بكيت كيما أزاد لوما
وقال صاعد اللغوي: [المنسرح]
قلت له والرقيب يعجله ... مستعجلا للفراق: أين أنا
فمدّ كفا إلى ترائبه ... وقال: سر آمنا فأنت هنا
* * *(3/480)
قال الشيخ الرئيس أبو محمد القاسم بن عليّ، برّد الله مضجعه: هذا آخر المقامات التي أنشأتها بالاغتراز، وأمليتها بلسان الاضطرار، وقد ألجئت أن أرصدها للاستعراض، وناديت عليها في سوق الاعتراض، هذا مع معرفتي بأنّها من سقط المتاع، وممّا يستوجب أن يباع ولا يبتاع، ولو غشيني نور التوفيق، ونظرت لنفسي نظر الشّفيق، لسترت عواري الّذي لم يزل مستورا، ولكن كان ذلك في الكتاب مسطورا، وأنا أستغفر الله تعالى ممّا أودعتها من أباطيل اللّغو، وأضاليل اللهو، وأسترشده إلى ما يعصم من السّهو، ويحظي بالعفو إنّه هو أهل التّقوى وأهل المغفرة، ووليّ الخيرات في الدّنيا والآخرة.
* * * قوله: أنشأتها، أي صنعتها، الاغترار: الجهل والانخداع، أمليتها: ألقيتها لمن يكتبها. واضطر اضطرارا إذا لم يجد بدا من فعله أرصدتها: أعددتها. الاستعراض: أن تعرض على الناس حتى يروها، سقط المتاع: هجينة. يبتاع: يشتري. غشيني: غطاني.
أودعتها: ضمنتها. اللّغو: سقط الكلام. الأضاليل: جمع أضلولة، وهي ما يضل به من ركبه، استرشده: أستهديه، يعصم: يمنع. السهو: الخطأ، يحظي: يسعد. العفو:
المغفرة.
وقوله: هو أهل التقوى، عن أنس رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول ربّكم عز وجل: أنا أهل التقوى فلا يشرك بي غيري، وأنا أهل لمن اتقى أن يشرك بي أن أغفر له» (1).
* * * انتهى الشرح بحمد الله وتوفيقه وحسن عونه، وكان من توفيق الله تعالى أن أوّل حرف شرحت من اللغة في هذا الكتاب حمد الله، وآخر حرف ختمت به عفو الله، وما وقع بين حمد الله سبحانه وتعالى، والثناء عليه، وبين عفوه عن عبيده مرجوّ من جميل صنعه الامتنان بالصفح عن جميع هذره، وملتمس من جلاله تعالى وكرمه جزيل الأجر على ما ضمنته من حكم الآداب وغيره.
[في العفو عن المذنبين]
واذكر فصلا أدبيا في العفو عن المذنبين، أختم به الديوان، فمن وقف عليه، ووجد في نفسه لذته، واستشعر؟ لرجاء وطمع في العفو، فرغبتنا إليه أن يسأل لنا العفو مع نفسه.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الزهد باب 35.(3/481)
فمن ذلك أنه كان للمأمون خادم لوضوئه، فبينما هو يصب الماء على يديه إذ سقط الإناء، فغضب المأمون فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول:
{وَالْكََاظِمِينَ الْغَيْظَ}، [آل عمران: 134] قال: كظمت غيظي، قال: {وَالْعََافِينَ عَنِ النََّاسِ} [آل عمران: 134]، قال عفوت عنك، قال: {اللََّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:
13]، قال: اذهب فأنت حرّ.
وأمر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعقوبة رجل، فقال له رجاء بن حيوة: إن الله تعالى قد فعل ما تحبّ من الظفر، فافعل ما يحبّ من العفو، فعفا عنه.
العتبي: وقعت دماء بين حيّين من قريش، فأقبل أبو سفيان فما بقي أحد واضع رأسه إلا رفعه، فقال: يا معشر قريش، هل لكم في الحق أو فيما هو أفضل من الحق؟
قالوا: وهل شيء أفضل من الحق؟ قال: نعم العفو، فتبادر القوم فاصطلحوا.
قال المبارك بن فضالة: كنت جالسا في السمّاط عند أبي جعفر إذ أمر برجل أن يقتل فقلت: يا أمير المؤمنين، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة ينادي مناد بين يدي الله عز وجل: من كانت له يد عند الله فليقم، فليتقدم فلا يتقدّم إلا من عفا عن مذنب». فأمر بإطلاقه.
وكان رجل شرّيب جمع قوما من ندمائه ودفع إلى غلام له أربعة دراهم أن يشتري بها من الفواكه للمجلس، فمرّ الغلام بباب مجلس منصور بن عمار وهو يسأل الفقير شيئا، ويقول: من دفع له أربعة دراهم دعوت له أربع دعوات، فدفع له الغلام الدراهم، فقال له منصور: ما الذي تريد أن أدعو لك؟ قال: أن يعتقني الله من رقّ العبودية، فدعا له منصور وأمّن الناس. قال: والثانية؟ قال: أن يخلف الله عليّ الدّراهم، فدعا له وأمّن الناس، قال:
والثالثة يا غلام؟ قال: أن يتوب الله على مولاي، فدعا له وأمّن الناس. قال: والرابعة يا غلام؟ قال: أن يغفر الله لي ولمولاي ولك يا منصور وللحاضرين، فدعا منصور وأمّن الناس، فرجع الغلام، فقال له مولاه لم أبطأت؟ فقص عليه القصة، قال: وبم دعا؟ قال:
سألت لنفسي العتق، قال: اذهب فأنت حرّ، قال: والثانية؟ قال: أن يخلف الله عليّ الدراهم، قال: لك أربعة آلاف درهم، قال: الثالثة؟ قال: أن يتوب الله عليك، قال تبت إلى الله عز وجل، قال والرابعة؟ قال: أن يغفر لي ولك، وللواعظ وللحاضرين، وقال:
هذه الواحدة ليست إليّ، فلما بات رأى في المنام كأن قائلا يقول: أنت فعلت ما كان إليك أتراني لا أفعل ما كان إلي! قد غفرت لك وللغلام ولمنصور وللحاضرين.
قال يحيى بن معاذ: يكاد رجائي لك مع الذنوب يغلب رجائي لك مع الإخلاص، لأني أعتمد في الإخلاص على الأعمال، وفي الذنوب أعتمد على عفوك، وقال السّلامي: [الوافر]
تبسطنا على الآمال إنا ... رأينا العفو من ثمر الذنوب
وقال بكر بن سليمان الصواف: دخلنا على مالك بن أنس في العشيّة التي قبض فيها، فقلت: يا أبا عبد الله، كيف تجدك؟ قال: لا أدري ما أقول لكم، ستعاينون من عفو الله تعالى ما لم يكن في حسابكم. ثم ما خرجنا حتى أغمضنا عينيه.(3/482)
تبسطنا على الآمال إنا ... رأينا العفو من ثمر الذنوب
وقال بكر بن سليمان الصواف: دخلنا على مالك بن أنس في العشيّة التي قبض فيها، فقلت: يا أبا عبد الله، كيف تجدك؟ قال: لا أدري ما أقول لكم، ستعاينون من عفو الله تعالى ما لم يكن في حسابكم. ثم ما خرجنا حتى أغمضنا عينيه.
وفي الحديث: «لو لم تذنبوا لجاء الله بأمة يذنبون فيغفر لهم»، وقال أبو نواس:
[مجزوء الوافر]
يا نواسي توقر ... وتعزى وتصبّر
ساءك الدهر بشيء ... ولما سرك أكثر
يا كبير الذنب عفو الله ... من ذنبك أكبر
أكبر الأشياء في أصغ ... ر عفو الله أصغر
ليس للإنسان إلا ... ما قضى الله وقدّر
ليس للمخلوق تدبي ... ر بل الخالق دبّر
وقال أبو العتاهية: [الوافر]
إلهي لا تعذّبني فإني ... مقر بالذي قد كان منّي
فما لي حيلة إلا رجائي ... لعفوك إن عفوت وحسن ظني
يظن الناس بي خيرا وإني ... لشرّ الناس إن لم تعف عني
وكم من زلة في الخطايا ... وأنت عليّ ذو فضل ومنّ
وإذا فكرت في ندمي عليها ... عضضت أناملي وقرعت سنيّ
وهذا آخر شعر قاله أبو العتاهية، وآخر شعر ختمت به هذا الشرح، راجيا من ربي صفحه وعفوه، والحمد لله أولا وآخرا كما يجب لجلاله غفرانك. اللهم تباركت وتعاليت. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، ورضي الله تعالى عن أصحاب رسول الله أجمعين وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.(3/483)
فهرس المحتويات
المقامة الثالثة والثلاثون التّفليسيّة 3
فضل الصلاة في وقتها 3
مدينة تفليس 6
المقامة الرّابعة والثلاثون الزّبيديّة 15
الغلمان وعشّاقهم 20
العرجي 25
التضمين 28
قصة النضر بن شميل مع المأمون 28
أبو حنيفة والإسكاف 31
من أخبار الجواري والغلمان 31
يوسف بن يعقوب عليه السلام 39
المقامة الخامسة والثلاثون الشيرازيّة 43
مسألة نحويّة 47
وأد البنات 50
مما قيل في الخمرة 56
مما قيل في الغناء 61
المقامة السّادسة والثلاثون الملطيّة 62
ملطية 62
المودة بين الشعراء 65(3/484)
مما قيل في الحرباء شعرا 68
حكم سليمان في صاحب الحرث وصاحب الغنم 70
مما قيل في الخمر شعرا 71
في تفسير الأحاجي 78
تفسير الأحاجي المودعة هذه المقامة 79
المقامة السّابعة والثلاثون الصّعديّة 81
سلمان الفارسيّ 83
عقوق الوالدين 85
أبو تمام وعبد الصمد بن المعذل 89
ذل السؤال 90
فضل المال 93
المقامة الثامنة والثلاثون المرويّه 103
مرو 105
الزجر والعيافة 106
المروءة 114
ذم البخل ومدح الكرم 116
مما قيل في الشيب 117
مما قيل في الليل شعرا 122
مما قيل في الأدب والأديب 125
المقامة التاسعة والثلاثون العمانيّة 127
مما قيل في العذار 127
صحار 128
طوفان نوح عليه السلام 132
أويس القرني 141
الأمير دبيس بن صدقة 143
المقامة الأربعون التّبريزيّة 148
قصة مسيلمة الكذاب وسجاح التميمية 151(3/485)
أبو الأسود الدؤلي وامرأته 153
امرأة هارون الرشيد 156
بوران بنت الحسن بن سهل وامرأة بالمأمون 158
بلقيس وعرشها 163
رابعة العدوية 165
خندف 166
الخنساء 167
أبو دلامة 173
طرائف متفرقة 181
الحسن بن أبي الحسن البصري 182
عامر بن شراحيل الشعبي 184
الخليل بن أحمد الفراهيدي 187
جرير بن عطية الخطفي 191
قس بن ساعدة الإيادي 195
عبد الحميد الكاتب 199
أبو عمرو بن العلاء 199
الأصمعي 203
تفسير ما أودع هذه المقامة من الألفاظ اللغوية والأمثال العربية 219
المقامة الحادية والأربعون وهي التّنيسيّة 223
البكاء على ذهاب الشباب 223
تنّيس 228
القمر ومما قيل منه 229
الدنيا ومما قيل فيها 230
ومن قولهم في الشيب 234
من نوادر الولدان 240
الخمريات 245
المقامة الثانية والأربعون النّجرانيّة 248
بنو عذرة 248
آل أبي صفرة 254(3/486)
من الألغاز 268
مما قيل في التمني 270
المقامة الثالثة والأربعون وهي البكريّة 273
قداح الميسر 273
قصة المثل: رب أخ لم تلده أمك 277
قصة المثل: عند الصباح يحمد القوم السري 278
ابن المغازلي 285
مما قيل في الوجه الحسن 289
الزواج والترغيب فيه 295
خالد بن صفوان والسفاح 296
مما قيل في وصف النساء 298
ما جاء في الاستمناء 300
الأخبار المصنوعة 304
الكامخ 305
لقمان عليه السلام 308
قصة المثل: ضيّع اللبن في الصيف 313
المقامة الرابعة والأربعون الشّتوية 314
الكرم وقرى الضيف 316
مما قيل في البخل 319
مما قيل في القدور 325
البطنة 328
حاتم الطائي 338
المقامة الخامسة والأربعون الرّمليّة 347
أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم 348
المقامة السّادسة والأربعون الحلبيّة 360
مدينة حلب 360(3/487)
مدينة حمص 361
المعلمون ونوادرهم 364
الأدباء والمؤدبون 366
الغلمان والكتاب 372
قصة المثل: دقّوا بينهم عطر منشم 377
مما قيل في النهود 380
مما قيل في وصف الجواري شعرا 382
مما قيل في الغلمان الصغار 394
المقامة السّابعة والأربعون الحجريّة 398
من أسماء المرحاض 399
الصمصامة 400
عبد مناف بن قصي 405
بنو عبد المدان 406
مما جاء في قبول العذر 408
مما قيل في الطيرة والفأل الحسن 414
المقامة الثامنة والأربعون الحراميّة 422
من الخمريّات 432
المقامة التاسعة والأربعون السّاسانيّة 442
المقامة الخمسون البصرية 457
البصرة 459
أبو الأسود الدؤلي 460
زرقاء اليمامة 469
تبع الأكبر 475
مما قيل في الوداع شعرا 479
في العفو عن المذنبين 481
فهرس المحتويات 484(3/488)