طريحا. طلقا: فصيحا. محدقين: محلّقين، وأحدق القوم بالشيء إذا أحاطوا به واحتفّوا
حوله. وحدّقوا، أي نظروا إليه نظرا شديدا، فهم محدقون إليه، أي ناظرون، والحدقة:
سواد العين الأعظم. والأسارير: تكاسير جلد الوجه.
* * * أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من عاد مريضا فجلس عنده قدر ساعة، أعطاه الله تعالى أجر عمل سنة لا يعصيه فيها طرفة عين» (1).
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «عيادة المريض إذا دخلت عليه، أن تضع يدك على رأسه وتقول: كيف أصبحت؟ أو كيف أمسيت؟ وإذا دخلت عليه تغمّدتك الرحمة، وإذا خرجت من عنده حضتها مقبلا ومدبرا» وأومأ بيديه إلى حقويه (2).
أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من عاد المريض خاض الرحمة، فإذا جلس عنده انغمس فيها» (3).
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا دخلتم على مريض فنفّسوا عليه في أجله، فإنّ ذلك لا يردّ شيئا وهو يطيّب نفس المريض» (4).
نفّسوا: وسّعوا عليه بطول عمره.
ودخل كثيّر على عبد العزيز بن مروان يعوده فقال له: لولا أن سرورك ما يتمّ بأن تسلم وأسقم أنا، لدعوت ربي أن يصرف ما بك إليّ ولكن أسأل الله لك أيها الأمير العافية، ولي في كنفك النعمة. فضحك وأمر له بمال فخرج وهو يقول:
[الكامل]
ونعود سيّدنا وسيّد غيرنا ... ليت التّشكي كان بالعوّاد
لو كان يقبل فدية لفديته ... بالمصطفى من طار في وتلادي
وكتب آخر إلى عليل: [البسيط]
نبّئت أنك معتلّ فقلت لهم ... نفسي الفداء له من كلّ محذور
يا ليت علّته بي غير أنّ له ... أجر العليل وأنّي غير مأجور
* * *
__________
(1) روي بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه مسلم في البر حديث 40، 42، وأبو داود في الجنائز باب 8، والترمذي في البر باب 64، وابن ماجه في الجنائز باب 2، وأحمد في المسند 1/ 121، 138، 239، 3/ 304، 460، 5/ 241، 277، 281.
(2) أخرجه البخاري في المرض باب 15، والترمذي في الجنائز باب 2.
(3) أخرجه مالك في العين حديث 17.
(4) أخرجه الترمذي في الطب باب 25، وابن ماجه في الجنائز باب 1.(2/72)
فقلّب طرفه في الجماعة، ثمّ قال: اجتلوها بنت السّاعة، وأنشد: [الكامل]
عافاني الله وشكرا له ... من علّة كادت تعفّيني
ومنّ بالبرء على أنّه ... لا بدّ من حتف سيبريني
ما يتناساني، ولكنّه ... إلى تقضّي الأكل ينسيني
إن حمّ لم يغن حميم ولا ... حمى كليب منه يحميني
وما أبالي إن دنا يومه ... أم أخّر الحين إلى حين
فأيّ فخر في حياة أرى ... فيها البلايا ثمّ تبليني
* * * قوله: قلّب طرفه، أي حوّل عينيه بنظرهم. اجتلوا: انظروا، ونسب الشعر للساعة لمّا قيل فيها. عافاني: أي سلّمني. تعفّيني: تهلكني. منّ: أنعم. حتف: هلاك. تقضّي الأكل: تمامه وآخره. ينسيني: يؤخّرني، والأصل الهمزة فسهّله للشعر. حمّ: قدّر.
حميم: صاحب.
[حمى كليب]
حمى كليب هو ابن ربيعة أخو مهلهل الشاعر وخال امرئ القيس، وكان أعزّ الناس في العرب. وبلغ من عزه فيهم أنه اتخذ جرو كلب، فإذا نزل بمنزل فيه كلأ قذف ذلك الجرو فيه، فعوى فحيثما بلغ عواؤه لا يرعى أحد عشب ذلك الموضع إلا بإذنه، وإذا جلس لا يمرّ أحد بين يديه إجلالا له، ولا يخشى أحد في مجلسه غيره، ولا توقد نار غير ناره، ولا يجير تغلبيّ ولا يكريّ رجلا، ولا يحمي حمأ ولا يغير إلا بإذنه.
وكان يحمي الصيد فيقول: صيد كذا في جواري، فلا يصيب أحد منه شيئا، وكان قد حمي حمى لا يطؤه إنسان ولا بهيمة، فدخل فيه يوما فطارت قنبرة بين يديه من على بيضها، فقال لها: [الرجز]
يا لك من قنبرة بمعمر ... خلا لك الجوّ فبيضي واصفري
* ونقري ما شئت أن تنقّري * (1)
__________
(1) الرجز لطرفة بن العبد في ديوانه ص 46، ولسان العرب (عمر)، (قبر). (نقر)، (جوا)، وجمهرة اللغة ص 795، والحيوان 3/ 66، 5/ 227، والشعر والشعراء 1/ 194، وتاج العروس (عمر)، (نقر)، (جوا)، (الياء)، وتهذيب اللغة 2/ 384، 11/ 228، ولكليب بن ربيعة في لسان العرب (قبر)، (يا)، والتنبيه والإيضاح 2/ 184، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 772، والخصائص 3/ 230، ورصف المباني ص 221، والعقد الفريد 3/ 127، 4/ 34، والمنصف 1/ 138، 3/ 21، والمخصص 12/ 39.(2/73)
وكانت امرأته جليلة بنت مرّة بن شيبان، وكان لمرّة وهو من بني بكر عشرة من الولد، منهم الحارث وجسّاس ونضله وهمّام، فجاءت جساسا خالة له اسمها البسوس، التي يقال فيها: أشأم من البسوس، فنزلت عليه، ولها ابن وناقة تسمّى سراب، بفصيل لها، فدخل الحمى يوما، فوجد بيض القنبرة قد وطئته سراب فكسرته، فسأل عنها فأخبر أنها لخالة جساس، فقال: أو قد بلغ من قدره أن يجير دون إذني! يا غلام، ارم ضرعها، فخرقه بسهم، وقتل فصيلها، ثم طرد إبل جساس، ونفاها عن المياه، عن شبيث والأحصّ (غديرين) حتى بلغ غدير الذّئاب. فجاء جساس، فقال: نفيت عن المياه مالي، حتى كدت تهلكه! فقال: إنّا للمياه شاغلون، فقال: هذا كفعلك بناقة خالتي وفصيلها، فقال: أو قد ذكرتها! أما إنّي لو وجدتها في غير إبلي مرّة استحللت تلك الإبل لها، فعطف عليه جسّاس فرسه، فطعنه، فلمّا أحسّ الموت، قال: يا جساس، اسقني ماء.
فقال: تجاوزت شبيثا والأحصّ، واحتزّ رأسه، وأمال يديه، وجاء. فقالت أخته لأبيها:
إنّ جسّاسا جاء خارجة ركبتاه، قال أبوها: والله ما خرجتا إلا لأمر. فلما وصله قال: ما وراءك يا بنيّ؟ قال: طعنت طعنة لتشغلنّ شيوخ وائل رقصا. قال: قتلت كليبا؟ قال:
نعم، قال: وددت أنّك وأخوتك متمّ قبل هذا، ما بنا إلا أن تتشاءم بنا وائل، ثم لقي أخاه نضلة فقال: [الوافر]
وإني قد جنيت عليك حربا ... تغصّ الشّيخ بالماء القراح
فأجابه أخوه نضلة:
فإن تك قد جنيت عليّ حربا ... فلا وان ولا رثّ السّلاح
وكان أخوه همّام قد آخى مهلهلا أخا كليب، وعاهده ألّا يكتمه شيئا، فجاءته أمة له، وعنده مهلهل، فأسرّت إليه الخبر، فقال له مهلهل: ما قالت لك أمتك؟ فقال:
زعمت أنّ أخي جساسا قتل كليبا، فقال: است أخيك أضيق من ذلك. وتحمّل القوم، وغدا مهلهل في ثأر أخيه بالخيل، واجتمعت أشراف تغلب، وأتوا مرّة، فتكلموا معه في القصاص من جسّاس وإخوته، فذهب مرّة إلى الدية، فغضبت تغلب ووقعت في الحرب، فدامت بينهم أربعين عاما.
وكان فيما بينهم خمس وقائع: أوّلها يوم عنيزة وآخرها قتل جسّاس، وذلك أنه لما اجتمع نساء تغلب للمأتم قالوا لأخته: رحّلي جليلة عن مأتمك، فإنّ قيامها شماتة بنا، وعار علينا، فقالت لها: اخرجي يا هذه من مأتمنا، فإنك شقيقة قاتلنا، فلما رحلت قالت أخت كليب: رحلة المعتدي، وفراق الشامت! ويل غدا لآل مرّة، من الكرّة بعد الكرّة.
فلما بلغ ذلك جليلة قالت: وكيف تشمت الحرّة بهتك سترها، وترقّب وترها! أسعد الله جدّ أختي، أفلا قالت: نقرة الحياء، وخوف الاعتداء!
وجاءت وهي حامل، فولدت غلاما وسمّته بالهجرس، وربّاه جسّاس، فكان لا
يعرف أبا غيره، فزوّجه ابنته، فوقع بينه وبين بكريّ كلام، فقال له البكريّ: ما أنت بمنته حتى ألحقك بأبيك. فأمسك عنه، ودخل إلى أمه فسألها فأخبرته، فلما أوى إلى فراشه، وضع أنفه بين ثدي زوجته، وتنفّس تنفيسة تنفّط ما بين ثدييها من حرارتها، فقامت الجارية فزعة، فدخلت إلى أبيها فأعلمته، فقال: ثائر وربّ الكعبة.(2/74)
وجاءت وهي حامل، فولدت غلاما وسمّته بالهجرس، وربّاه جسّاس، فكان لا
يعرف أبا غيره، فزوّجه ابنته، فوقع بينه وبين بكريّ كلام، فقال له البكريّ: ما أنت بمنته حتى ألحقك بأبيك. فأمسك عنه، ودخل إلى أمه فسألها فأخبرته، فلما أوى إلى فراشه، وضع أنفه بين ثدي زوجته، وتنفّس تنفيسة تنفّط ما بين ثدييها من حرارتها، فقامت الجارية فزعة، فدخلت إلى أبيها فأعلمته، فقال: ثائر وربّ الكعبة.
فلما أصبح أرسل وراء الهجرس، فأتاه فقال له: إنما أنت ولدي ومعي، وقد كانت الحرب في أبيك زمانا طويلا حتى كدنا نتفانى، وقد اصطلحنا الآن، فانطلق معي حتى نأخذ عليك ما أخذ علينا، قال: نعم، ولكن مثلي لا يأتي قومه إلا بسلاحه، فأتيا جمعا من قومهما، فقصّ عليهم جسّاس ما كانوا فيه من البلاء، وما صاروا إليه من العافية، ثم قال: وهذا ابن أختي قد جاء ليدخل فيما دخلتم فيه، فلما قدّموا للعقد أخذ بوسط رمحه، وقال: وفرسي وأذنيه، ورمحي ونصليه، وسيفي وغراريه، لا يترك الرجل قاتل أبيه وهو ناظر إليه. ثم طعن جساسا فقتله، ولحق بقومه وكان آخر قتيل فيهم.
وقد قيل في صورة قتل كليب غير ما ذكرنا، وحكايات الجاهلية كثيرة الاضطراب، وقد نسب شعر القنبرة لطرفة.
وقال النابغة الجعديّ وذكر قتل كليب وحذّر به عقالا العقيلي: [الطويل]
كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأبصر حزما منك ضرّج بالدّم (1)
رمى ضرع ناب فاستمرّ بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهّم
فقال لجساس: أغثني بشربة ... تدارك بها منّا عليّ وأنعم
فقال: تجاوزت الأحصّ وماءه ... وبطن شبيث وهو ذو مترسّم
الترسّم: اتباع الماء في قعر البئر، يقول: أيّ افتخار في حياة تعرض عليّ فيها الامتحانات، ثم بعد هذه المشقات تردّني إلى الكبر والشيخوخة فلم أبال، أدنا الموت أم تأخّر، إذ المآل إلى الهرم القائد إلى الموت. وأشار بهذا إلى قول النمر بن تولب:
[الطويل]
يودّ الفتى طول السلامة جاهدا ... فكيف ترى طول السلامة يفعل!
وإلى قول حميد بن ثور: [الطويل]
أرى بصري قد رابني بعد صحّة ... وحسبك داء أن تصحّ وتسلما
وجاء: كفي بالسلامة داء.
وجاء في أجر البلايا قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس ما له خطيئة».
__________
(1) الأبيات في ديوان النابغة الجعدي ص 143.(2/75)
أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الهوى والبلاء والشهوة معجونة بطينة آدم».
* * * قال: فدعونا له بامتداد الأجل، وارتداد الوجل، ثمّ تداعينا إلى القيام، لاتقاء الإبرام، فقال: كلّا بل البثوا بياض يومكم عندي، لتشفوا بالمفاكهة وجدي، فإنّ مناجاتكم قوت نفسي، ومغناطيس أنسي. فتحرّينا مرضاته، وتحامينا معاصاته، وأقبلنا على الحديث نمخض زبده، ونلغي زبده، إلى أن حان وقت المقيل، وكلّت الألسن من القال والقيل. وكان يوما حامي الوديقة، يانع الحديقة، فقال: إنّ النّعاس قد أمال الأعناق، وراود الآماق، وهو خصم ألدّ، وخطب لا يردّ وفصلوا حبله بالقيلولة، واقتدوا فيه بالآثار المنقولة.
* * * قوله ارتداد الوجل، أي إزالة الخوف. واتقاء الإبرام: خشية التثقيل.
* * * [تخفيف العيادة]
قال بعضهم: [الوافر]
إذا ما عدت محموما فخّفف ... فتخفيف العيادة خير عاده
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أخفّوا العيادة، وأقلّوا الجلوس والتعزية يوم».
أبو القاسم الوزير بن عيسى، قال: أنشدني أبو بكر أحمد بن موسى بن مجاهد، وقد جئته عائدا، وأطال قوم عنده الجلوس، فقال لي: يا أبا القاسم، عيادة ثم ماذا؟
فصرفت من حضر، ثم هممت بالانصراف معهم، فأمرني بالرجوع، ثم أنشدني عن محمّد بن الجهم: [البسيط]
لا تضجرنّ مريضا جئت عائده ... إن العيادة يوم إثر يومين
وسله عن حاله، وادع إلاله له ... واقعد بقدر فواق بين حلبين
من زار غبّا إذا دامت مودّته ... وكان ذاك صلاحا للخليلين
وقال آخر: [البسيط]
عيادة المرء يوم بعد يومين ... وجلسة لك مثل اللّحظ بالعين
لا تبرمن مريضا في مساءلة ... يكفيك من ذاك تسآل بحرفين
مرض يحيى بن خالد، فكان إسماعيل بن صبيح إذا دخل عليه يعوده وقف عند رأسه، ودعا له، ثم يخرج ويسأل الحاجب عن منامه وطعامه وشرابه. فلما أفاق قال: ما عادني إلا إسماعيل بن صبيح، ودعا له.(2/76)
عيادة المرء يوم بعد يومين ... وجلسة لك مثل اللّحظ بالعين
لا تبرمن مريضا في مساءلة ... يكفيك من ذاك تسآل بحرفين
مرض يحيى بن خالد، فكان إسماعيل بن صبيح إذا دخل عليه يعوده وقف عند رأسه، ودعا له، ثم يخرج ويسأل الحاجب عن منامه وطعامه وشرابه. فلما أفاق قال: ما عادني إلا إسماعيل بن صبيح، ودعا له.
وممّن زاد على التخفيف فقطع الزيارة عبيد الله بن عبد الله بن ظاهر، مرض أخوه محمد بن عبد الله فلم يعده عبيد الله، فكتب له محمد: [الكامل]
إني وجدت على جفا ... ئك من فعالك شاهدا
إنّي اعتللت فما وجد ... ت سوى رسولك عائدا
ولو اعتللت فلم أجد ... سببا إليك مساعدا
لاستشعرت عيني الكرى ... حتى أعودك راقدا
فأجابه عبيد الله أخوه: [الخفيف]
كحلت مقلتي بشوك القتاد ... لم أذق مذ حممت طعم الرّقاد
يا أخي الحافظ المودّة والنّا ... زل من مقلتي مكان السّواد
منعتني عليك رقّة قلبي ... من دخولي عليك في العوّاد
لو بأذني سمعت منك أنينا ... لتفرّى من الأنين فؤادي
ومرض حماد عجرد، فعاده أصحابه إلا مطيع بن إياس، وكان خاصّا به، فكتب إليه يقول: [الوافر]
كفاك عيادتي من كان يرجو ... ثواب الله في صلة المريض
فإن تحدث لك الأيام سقما ... يحول جريضه دون القريض
يكن طول التأوّه منك عندي ... بمنزلة الطّنين من البعوض
فما نفسي عليك تذوب حزنا ... وما دمعي عليك بمستفيض
ولمحمد بن عبد الله في محبوب له مرض: [المنسرح]
ألبسك الله منه عافية ... تغنيك عن دعوتي وعن جلدك
سقمك ذا لا لعلة عرضت ... بل سقم عينيك دبّ في جسدك
فيا مريض الجفون أحي فتى ... قتلته بالجفون لا بيدك
وقال آخر في محبوب له تركت الحمّى على فيه أثرا: [المنسرح]
يا أملي كيف أنت من أملك ... وكيف ما تشتكيه من سقمك
هذان يومان لي أعدّهما ... مذ لم تلح لي بروق مبتسمك
حسدت حماك حين قيل لنا ... بأنها قبّلتك فوق فمك
وقال العباس بن الأحنف: [الكامل](2/77)
يا أملي كيف أنت من أملك ... وكيف ما تشتكيه من سقمك
هذان يومان لي أعدّهما ... مذ لم تلح لي بروق مبتسمك
حسدت حماك حين قيل لنا ... بأنها قبّلتك فوق فمك
وقال العباس بن الأحنف: [الكامل]
قالت: مرضت فعدتها فتبرّمت ... وهي الصحيحة والمريض العائد (1)
والله لو أنّ القلوب كقلبها ... ما رقّ للولد الضعيف الوالد
قوله: «البثوا»، أي أقيموا. بياض يومكم، أي طوله، وبياض النهار: ضوءه:
مناجاتكم: محادثتكم.
مغناطيس، حجر يجلب الحديد تقول له العامة حجر المسّ. تحرّينا، أي قصدنا.
تحامينا: تباعدنا. نمخض زبده: نحرّك ونجعع فوائده، وكني بالزبد، وهو جمع زبدة عن خيار الكلام. نلغي زبّده: نترك ما لا خير فيه، وزبد الماء: ما يعلوه من الرغوة. المقيل:
النوم في وقت القائلة. حامي الوديقة: شديد الحرّ. يانع الحديقة: ناعم الرّوضة، والحديقة كلّ بستان محلّق بحائط أو زرب. راود: طالب. الآماق: العيون، وأصله طرف العين من جهة الأنف. والخطب: من يخطب المرأة. والقيلولة: الرقاد في القائلة.
والآثار: الأحاديث.
* * * [مما قيل في القيلولة]
قلنا وقال: يقال: قال يقيل قيلولة ومقيلا: نام نصف النهار.
أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه وسلم «ثلاث من ضبطهن ضبط الصوم: من تسحّر، وقال: وشرب بعد ما يأكل».
وعنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «قيلوا فإن الشياطين لا تقيل». ودخل العباس على ابنه وهو مضطجع، فضربه برجله، وقال: قم لا نامت عيناك! تنام في ساعة يقسّم فيها الرزق! وإنّما النوم على إحدى خصال: خرق أو حمق، أو خلق، فنومة الحمق بعد العصر، لا ينامها إلا سكران أو شيطان، ونومة الخرق نومة الصبح، ونومة الخلق نصف النهار».
ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «استعينوا بقيلولة النهار على قيام الليل، وبالسّحور على صيام النهار».
قال الراوي: فاتّبعنا ما قال، وقلنا وقال: فضرب الله على الآذان، وأفرغ السّنة في الأجفان حتى خرجنا من حكم الوجود، وصرفنا بالهجود عن السّجود، فما استيقظنا إلّا والحرّ قد باخ، واليوم قد شاخ، فتكرّعنا لصلاة العجماوين، وأدّينا ما حلّ من الدّين.
__________
(1) البيتان في ديوان العباس بن الأخنف ص 81.(2/78)
ثم تحثحثنا للارتحال، إلى ملقى الرّحال، فالتفت أبو زيد إلى شبله، وكان على شاكلته وشكله، وقال: إنّي لإخال أبا عمرة، قد أضرم في أحشائهم الجمرة، فاستدع أبا جامع، فإنّه بشرى كلّ جائع، وأردفه بأبي نعيم، الصّابر على كلّ ضيم، ثمّ عزّز بأبي حبيب المحبّب إلى كلّ حبيب، المقّلب بين إحراق وتعذيب، وأهب بأبي ثقيف، فحبّذا هو من أليف، وهلمّ بأبي عون، فما مثله من عون، ولو استحضرت أبا جميل، لجمّل أيّ تجميل.
* * * قوله: «السّنة»، النوم، الهجود: الرقاد. باخ: سكن حرّه. تحثحثنا، أي تحرّكنا.
ملقى الرحال: موضعها. شبله: ولده. شاكلته: طريقته. شكله: مثله، وتكون الشاكلة والشكل واحدا وجمع الشكل أشكال وشكول.
إخال: أحسب، وكنّى الجوع أبا عمرة، لأنه يعمر كلّ جوف قيل لمدني: أتعرف أبا عمرة؟ قال: كيف لا أعرفه وقد تربع في كبدي.
وقال الراجز: [الرجز]
حلّ أبو عمرة وسط حجزتي ... وحلّ نسج العنكبوت برمتي (1)
أضرم: أوقد، وكنّى الخوان وهو المائدة أبا جامع للاجتماع حوله للأكل.
وأردفه: جيء به خلفه، وكنى الحوّاري، وهو الدرمك أبا نعيم، لأن خبزه أنعم الأخباز وأصفاها.
الضيّم: الذلّ، وجعله صابرا على كل ذلّ، لأنه لا يصل من صورة البر إلى الخبز إلا بعد علاج شديد، وتغير له من حال إلى حال.
وفسر معنى أبي حبيب بقوله: المحّبب إلى كل لبيب. وقوله: المقلّب بين إحراق وتعذيب، يريد أنّ ما ولي من الجدي النار وقت شبّه احترق، وما لم يلها أدركه حرّها فأنضجه وأسال ودكه، فذلك تعذيبه.
أهب: ادع به وصح به.
وكنّى الخل أبا ثقيف لأنه يثقف الطعام، أي يحذقه فيطيب للأكل.
أليف: صاحب، وإنما قال: حبذا هو من صاحب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «نعم الإدام الخل» (2).
__________
(1) الشطر الثاني من الرجز بلا نسبة في المخصص 12/ 288.
(2) أخرجه أبو داود في الأطعمة باب 39، والنسائي في الأيمان باب 21، وابن ماجه في الأطعمة باب 33، والدارمي في الأطعمة باب 18.(2/79)
وكنّى الملح أبا عون، لأنه يستعان به على أكل الطعام، وطعام بلا ملح لا يؤكل، وقد أشار إلى هذا بقوله: فما مثله من عون.
وكنى البقل أبا جميل لأنه يحسّن بحضرته الإدام ويزيّنه، أو لأنه يذهب الجميل، وهو ودك اللحم فيخفّ للأكل وقوله: لجمّل أي تجميل، أليق بالتفسير الأول، ولا يمتنع من الثاني وحدث واثلة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أحضروا موائدكم البقل فإنه مطردة للشيطان مع تسمية الله تعالى».
أبو الفضل بن مالك: يعجبني البقل على المائدة فإذا رأيت السّكباج نسيت البقل.
السكباج: لحم بخلّ، والسّكّ بالفارسية، الخلّ، والباج اللحم، وسمي السكباج بأمّ القرى لأنه من أجلّ أطعمتهم.
* * * وحيّ هل بأمّ القرى، المذكّرة بكسرى، ولا تتناس أم جابر، فكم لها من ذاكر، وناد أمّ الفرج، ثم افتك بها ولا حرج، واختم بأبي رزين، فهو مسلاة كلّ حزين، وإن تقرن به أبا العلاء، تمح اسمك من البخلاء. وإيّاك واستدناء المرجفين، قبل استقلال حمول البين، وإذا نزع القوم عن المراس، وصافحوا أبا إياس، فأطف عليهم أبا السّرو، فإنّه عنوان السّرو.
* * * وأمّ الشيء: معظمه وجليله، ومنه أمّ القرآن الحمد لله، وأمّ القرى لمكة المشرّفة، وأمّ الشيء أجلّه، والقرى: طعام الضيف، فكأنه قال: عجّل بطعام فاضل يقدّم للضيف.
وكسرى ملك الفرس، وجعلها تذكّرته، لأنه أوّل من صنعت له، فاستعملها، وأمر بإجادة الصنعة في طبخها، وقيل: إن غيره طبخها واستعملها في زمن كسرى فنسبت إليه.
وكنى الجوزابة بأم الفرخ، وهي خبزة توضع في التنّور ويعلّق عليها طير أو لحم، فيسيل ودكه فيها ما دامت تطبخ، فتفرج عنك همّ الإدام فلا تحتاج إليه فهي خبز بإدامه.
افتكّ بها ولا حرج، أي كلها ولا إثم عليك، وإن كان اللفظ يعطيك معنى آخر، فالمراد به هذا.
وكنى الخبيص أبا رزين لفضله في الطعام وشرفه ورجحان ثمنه، وجعله آخر ما يؤكل، والرزين من الرّجال: الكثير الوقار، وقرن به الفالوذج، لأنه نوع منه قال بعض الطفيلية: الحلواء مثل الملك، يدخل بيتا فيه قوم جلوس ليس فيه متسع لأحد، فإذا نظروا إلى الملك تضايقوا وأوسعوا له.
وكان عبد الله بن جدعان سيّدا شريفا في قريش، فوفد على كسرى وأكل عنده
الفالوذج، فسأله عنه فقيل له: هو الفالوذج، قال: وما هو؟ قيل لباب البرّ مع عسل النّحل، فقال: ابغوا لي غلاما يصنعه فأتوه به فابتاعه، وقدم مكة فصنع بها الفالوذج، فوضع الموائد بالأبطح إلى باب المسجد، ثم نادى: ألا من أراد الفالوذج، فليحضر! فكان فيمن حضر أمية بن أبي الصلت، وكان يمتدحه كثيرا فقال فيه: [الوافر](2/80)
وكان عبد الله بن جدعان سيّدا شريفا في قريش، فوفد على كسرى وأكل عنده
الفالوذج، فسأله عنه فقيل له: هو الفالوذج، قال: وما هو؟ قيل لباب البرّ مع عسل النّحل، فقال: ابغوا لي غلاما يصنعه فأتوه به فابتاعه، وقدم مكة فصنع بها الفالوذج، فوضع الموائد بالأبطح إلى باب المسجد، ثم نادى: ألا من أراد الفالوذج، فليحضر! فكان فيمن حضر أمية بن أبي الصلت، وكان يمتدحه كثيرا فقال فيه: [الوافر]
لكلّ قبيلة رأس وهاد ... وأنت الرأس تقدم كلّ هادي (1)
له داع بمكة مشمعلّ ... وآخر فوق دارته ينادي
إلى ردح من الشّيزى ملاء ... لباب البرّ يلبك بالشهاد
ولباب البرّ: خالص القمح، ويسمى النّشا. يلبك: يخلط، والشهاد: العسل، والفالوذج: الذي رأيت يسجلماسة هو العسل والسمن يوضعان على النار، ثم يعقدان بالنشا، ثم يلوّن الكلّ بالزعفران فيجيء متعقّق الحمرة، فيقطع قطعا على قدر أكبر التمر، وفي شكله، ويؤتى به في الأعراس بعد الشواء، ويؤتى بالخبيص آخرا، وخبيصهم في غاية البياض ليس كخبيص الأندلس، ويقرّص قرصا على قدر صغار الجبن، فمن رآها على بعد لم يشكّ أنها جبن. ويعدّ رجال المائدة، ويؤتى بطبق كبير فيوضع بين أيديهم، وأمام كل رجل قرصته، فلا يكاد يكملها بالإكل لإفراط حلاوتها. وأكثر أطعمة أهل القبلة مستملاة من أطعمة أهل المشرق وكذا أكثر أحوالهم من مبانيهم وأشكال ديارهم وسطوحها، واستعمال الإبل في السواقي والطواحين، ودقّ النوى لعلفها نعم، وعلى أنّ البربرية غالبة على ألسنة أهل القبلة فهم يستعملون كثيرا من ألفاظ أهل العراق، يقولون لفرق الناس الشّماسك، وكذا تسمية أهل سجلماسة، ويسمون البرّادة التي لشرب الماء بوقالا، وكذا تسمية أهل سجلماسة، وجمع البوقال بواقيل، قال الحسن بن هانىء: [البسيط]
أضمرت للنيل هجرانا ومقلية ... إذ قيل لي إنما التّمساح في النّيل
فمن رأى النيل رأى العين من كثب ... فلا أرى النيل إلا في البواقيل
وكان رأى التمساح أخذ رجلا، فهجا النيل. والبرّادة عندهم آنية من صفر، فيها مخاطيف يعّلق فيها البواقيل، وترفع للهواء فيبرد فيها الماء.
__________
(1) الأبيات في ديوان أمية بن أبي الصلت ص 27، والبيت الثاني لأمية في لسان العرب (دور)، (شمعل)، (رذم)، وديوان الأدب 3/ 340، ومجمل اللغة 4/ 263، وجمهرة اللغة ص 502، وتاج العروس (دور)، (جدع)، (شمعل)، ولعبد الله بن الزبعري في ملحق ديوانه ص 55، وتهذيب اللغة 14/ 154، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 2/ 312، والبيت الثالث لأمية بن أبي الصلت في أساس البلاغة (ردح)، وجمهرة اللغة ص 502، وسمط الآلي ص 363، ولسان العرب (رجح)، (ردح)، (شهد)، (لبك)، (رذم)، والمعاني الكبير 1/ 380، ولأبي الصلت في المستقصى 1/ 281، ولأمية أو لأبي الصلت في الدرر 1/ 249، ولابن الزبعري في لسان العرب (شيز)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 812، والمقرب 1/ 163.(2/81)
قوله: المرجفين، الطست والإبريق، لأنّ لهما عند أخذهما صوتا، بنقر أحدهما في الآخر، فكأنّ ذلك الصوت يرجف، أي يخبر بتمام الطعام والحث على القيام.
أبو بكر الصفار: حضر مجنون بالكوفة طعام قوم، فجلس يأكل، فجعل الغلام يحرّك الطشت والإبريق، فقال: من هذا الذي يرجف بنا قبل انقضاء عملنا؟
بينما طفيلي يأكل، سمع صوت دقّ الأسنان، فامتنع من الأكل فقيل له: ألا تأكل؟
قال: حتى يسكن هذا الإرجاف الذي أسمع.
وقيل لطفيليّ: ممّ اصفرّ وجهك؟ قال: من فترة بين قصعتين، مخافة أن تكون قد فنيت.
استقلال: ارتفاع. حمول البين، أي إبل الفراق، ويريد بها الموائد لأنها إذا ارتفعت يفرق أهل المجلس، فيقول: إياك أن تقربهما قبل أن ترتفع الموائد، فيتهيأ الناس للغسل والانصراف، فإن غسلت الأيدي والموائد باقية توّهم أن ثمّ طعاما يستأنف أكله.
نزع: زال وتنحّى. المراس: غسل الأيدي وذلك بعضها ببعض.
صافحوا: باشروا، والغسول قد تقدّم في السابعة.
أطف: اجعله يطوف وقد بيّن لما كناه أبا السرو، أنه من فعل السرىّ من الرجال، وعنوان السرو: دليل المروءة.
* * * قال: ففقه ابنه لطائف رموزه، بلطافة تمييزه، فطاف علينا بالطيبات والطيب، إلى أن آذنت الشمس بالمغيب. فلمّا أجمعنا على التّوديع، قلنا له: ألم تر إلى هذا اليوم البديع، كيف بدا صبحه قمطريرا، ومسيه مستنيرا! فسجد ثم رفع رأسه، وقال [مجزوء الكامل]
لا تيأسن عند النّوب ... من فرجة تجلو الكرب
فكلم سموم هبّ ث ... مّ جرى نسيما وانقلب
وسحاب مكروه تنشّى ... فاضمحلّ وما سكب
ودخان خطب خيف من ... هـ فما استبان له لهب
ولطالما طلع الأسى ... وعلى تفيئته غرب
فاصبر إذا ما ناب رو ... ع فالزّمان أبو العجب
وترجّ من روح الإل ... هـ لطائفا لا تحتسب
قال: فاستملينا منه أبياته الغرّ، ووالينا لله تعالى الشكر، وودّعناه مسرورين ببرئه، مغمورين ببرّه:
* * *
قوله: «فقه»، أي فهم لطائف: دقائق. رموزه: إشاراته الخفية، والرّمز: الإشارة بالشفتين أو العينين. آذنت: أعلمت. أجمعنا: عزمنا. البديع: العجيب. قمطريرا:(2/82)
* * *
قوله: «فقه»، أي فهم لطائف: دقائق. رموزه: إشاراته الخفية، والرّمز: الإشارة بالشفتين أو العينين. آذنت: أعلمت. أجمعنا: عزمنا. البديع: العجيب. قمطريرا:
مظلما، ورجل قمطرير: شديد العبوس، واقمطرّ القوم: اشتدوا. الصّبح والمسّى: اسمان لوقت زوال الظلام والضياء مستنيرا: كثير الضوء.
والنّوب: النوازل. فرجة: راحة. تجلو الكرب: تزيل الهموم، وأنشدوا في هذا المعنى: [الخفيف]
لا تضيقن في الأمور فقد تك ... شف غمّاؤها بغير احتيال (1)
ربّما تكره النّفوس من الأم ... ر له فرجة كحل العقال
كذا أنشدوه فرجة بالفتح، والفرجة بالضم في الحائط وشبهه، وبالفتح في الأمر، وانظر هذا البيت في الأربعين في أخبار [أبي] عمرو بن العلاء.
سموم: ريح حارة. نسيما: ريحا ليّته. تنشىّ: ابتدأ وظهر. اضمحل: زال.
سكب: أمطر خطب: أمر شديد. لهب النار: اشتعالها بغير دخان، وفي هذا المعنى قال أبو نواس: [الكامل]
خفّض عليك ولا تكن قلق الحشا ... ممّا يكون وعلّه وعساه
فالدّهر أقصر مدّة مما ترى ... وعساك أن تكفى الّذي تخشاه
وقال أيضا: [الرمل]
حسّن الظنّ بمن قد عوّدك ... كلّ إحسان وقوّي أودك
إن ربا كان يكفيك الدي ... كان بالأمس، سيكفيك غدك
الأسى: الحزن. تفيئته، أي حينه، وقال الزّبيدي في الأبنية: جاء على تفيئة ذلك، وتفئته حينه ووقته. والرّوح. الرزق: والرّوح: السرور والفرح، والروح: برد نسيم الراحة.
اللطائف: جمع لطيفة، وهي رفق الله تعالى بعباده وإحسانه إليهم، واللطيف:
الرفيق والمحسن، وأراد في البيت: ارج في شدائدك الله، فله الطاف كثيرة لا تحصى بالعدّة، فبعد العسر يسر.
* * * __________
(1) البيت الأول لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص 49، ولسان العرب (فرج)، وتاج العروس (فرج)، والبيت الثاني لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص 50، والأزهية ص 95، وحماسة البحتري ص 223، وخزانة الأدب 6/ 108، 113، 10/ 9، والدرر 1/ 77، وشرح أبيات سيبويه 2/ 3، والكتاب 2/ 109، ولسان العرب (خرج)، وله أو لحنيف بن عمير أو لنهار ابن أخت مسيلمة الكذاب في شرح شواهد المغني 2/ 707، 708، والمقاصد النحوية 1/ 484، وله أو لأبي قيس(2/83)
[في الفرج بعد الشدّة]
وأنشد أبو حاتم في معنى أبيات المقامة: [الوافر]
إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق لما به الصّدر الرّحيب
ووطّنت المكاره واطمأنّت ... وأرست في مكامنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضّرّ وجها ... ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منه غوث ... يمنّ به اللّطيف المستجيب
وكلّ الحادثات إذا تناهت ... فمقرون بها الفرج القريب
قال أبو بكر بن الأنباري: أنشدني إسماعيل القاضي: [مجزوء الكامل]
لا تعتبنّ على النّوائب ... فالدّهر يرغم كلّ عاتب
واصبر على حدثانه ... إن الأمور لها عواقب
ولكلّ صافية قذى ... ولكلّ خالصة شوائب
كم فرجة مطوّية ... لك بين أثناء النّوائب
ومسرّة قد أقبلت ... من حيث تنتظر المصائب
قال القاضي رحمه الله: ما عرض لي همّ فادح، فذكرت تلك الأبيات، إلا رجوت من الله الفرج، ثم تؤول عاقبة ما أحذره إلى فاتحة ما أوثر.
قال عليّ الكاتب: أصبحت يوما مغموما غمّا لا أعرف سببه، فجاءني رحل بظهر حوار وإذا فيه: [مجزوء الكامل]
روّح فؤادك بالضّحى ... ترجع إلى روح وطيب
لا تيأسن وإن أل ... حّ الدهر من فرج قريب
قال: فزال عني الهمّ، ووجدت طعم الفرج.
وحكى الأصمعيّ رحمه الله تعالى قال: بتّ ليلة بالبادية وحيدا مغموما، فلما انتهى الليل سمعت قائلا يقول ولم أر شخصه: [الكامل]
فرج القضاء بكفّ من ... بقضائه نزل البلاء
واصبر فكلّ شديدة ... لابدّ يتبعها رخاء
وقال آخر: [الرمل]
سوف تبلى كلّ جدّة ... وستقضى كلّ مدّة
__________
صرمة بن أبي أنس أو لحنيف في خزانة الأدب 6/ 115، ولعبيد بن الأبصر في ديوانه ص 128، وبلا نسبة في أساس البلاغة (فرج)، وأمالي المرتضى 1/ 486، والبيان والتبيين 3/ 260.(2/84)
إنما الدهر عناء ... وعوار مستردّه
شدّة بعد رخاء ... ورخاء بعد شدة
وقال آخر: [الرمل]
خف إذا أصبحت ترجو ... وارج إن أصبحت خائف
ربّ مكروه مخوّف ... فيه لله لطائف
* * * قوله: استملينا: كتبنا. الغرّ: الحسان. والينا. تابعنا. مغمورين: مغطين. برئه.
إفاقته. برّه: إحسانه وإكرامه.
وحبّهل: قال ابن الأنباري: فيها ست لغات.
قال عبد الله بن مسعود. إذا ذكر الصالحون فحيّهلا بعمر، ومعناه أقبلوا على ذكر عمر، فتنوّن هلّا وتنصبه على المصدر، كأنه قال: مرحبا به.
الثاني: تفتح حيّ وهل وتبنيها كخمسة عشر.
الثالث: تسكن هاء «هلا» هذه الشبهة لكثرة الحركات.
الرابع: حيّهل بتسكينهما جميعا كبخ بخ.
الخامس، حيّهل إلى عمر: أي هلموا إلى ذكره.
السادس: حيهلي على عمر: أي أقبلوا على ذكره.
تفسير ألفاظ ما تضمنته هذه المقامة من كلمات لغوية وكنى طفيلية وكنايات صوفية
قوله: ذات العويم، يعني به الزمان المتقادم، ومثله ذات الزمن.
والسمهرية: الرماح، وفي تسميتها بذلك قولان: أحدهما أنها سميت بذلك لصلابتها، من قولهم: اسمهرّ الشيء، إذا اشتدّ وقيل إنّها منسوبة إلى سمهر زوج ردينة، وكانا جميعا يقوّمان الرماح بسوق هجر فنسبت إليهما.
وقوله: نقضا على نقض: أي مهزولا على مهزول.
و «الجران» باطن العنق، وقيل منه يعمل السباط.
وقوله: فضرب الله على الآذان، أي أنامنا، ومنه قوله عز وجل {فَضَرَبْنََا عَلَى آذََانِهِمْ فِي الْكَهْفِ} [الكهف: 11]، أي أثمناهم. وقيل في تفسيره منعناهم السمع.
وقوله: تكرّعنا لصلاة العجماوين، أي غسلنا أكارعنا، وهو كناية عن الضوء،
والعجماوان: صلاتا الظهر والعصر، سمّيتا بذلك لإسرار القراءة فيهما، ومنه الحديث:(2/85)
وقوله: تكرّعنا لصلاة العجماوين، أي غسلنا أكارعنا، وهو كناية عن الضوء،
والعجماوان: صلاتا الظهر والعصر، سمّيتا بذلك لإسرار القراءة فيهما، ومنه الحديث:
«صلاة النهار عجماء» (1).
وقوله: هلمّ، أي قل هلّم، وهي تأتي بمعنى هات وبمعنى أقبل، والأفصح أن يوحد لفظهما مع المذكر والمؤنث والاثنين والجمع، وبه نطق القرآن في قوله تعالى:
{وَالْقََائِلِينَ لِإِخْوََانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنََا} [الأحزاب: 18]، ومن العرب من يقول للمذكر الواحد هلمّ، وللاثنين هلمّا، وللجمع: هلمّوا، وللمؤنث الواحدة هلمّي وللاثنتين هلمّا، وللجمع هلّممن.
وقوله: حيّهل: أي عجّل وأسرع، يقال: حيّ هل بفلان بتسكين اللام وفتحها، وتنوينها وبإثبات النون معها، ومعه قول ابن مسعود في عمر رضي الله عنه: إذا ذكر الصالحون فحيّ هلا بعمر، وفي حيّهل لغات أخر أضربنا عن ذكرها، إذا ليس هذا موضع استيفاء شرحها.
فهذا تفسير الألفاظ اللغوية.
وأمّا تفسير الكنى الطفيلية والكنايات الصوفية:
فأبو يحيى، كنية الموت.
وأبو عمرة: كنية الجوع، ويكنى أيضا أبا مالك.
وأبو جامع: الخوان.
وأبو نعيم: الخبز الحوّاري.
وأبو حبيب: الجدي.
وأبو ثقيف: الخل.
وأبو عون: الملح.
وأبو جميل: البقل.
وأمّ القرى: السّكباج.
وأم جابر: الهريسة.
وأم الفرج: الجوذاب.
وأبو رزين: الخبيص.
وأبو القلاء: الفالوذق «كذا في الأصل».
وأبو إياس: الغسول.
والمرجفان: الطست والإبريق. وأبو السرو: البخور.
__________
(1) رواه ابن الأثير الجزي في النهاية في غريب الحديث 3/ 187، من حديث الحسن.(2/86)
المقامة العشرون وهي الفارقيّة
حكى الحارث بن همّام قال: يمّمت ميافارقين، مع رفقة موافقين، لا يمارون في المناجاة، ولا يدرون ما طعم المداجاة، فكنت بهم كمن لم يرم عن وجاره، ولا ظعن عن أليفه وجاره. فلمّا أنخنا بها مطايا التّسيار، وانتقلنا عن الأكوار إلى الأوكار، تواصينا بتذكار الصّحبة، وتناهينا عن التّقاطع في الغربة، واتّخذنا ناديا نعتمره طرفي النّهار، ونتهادى فيه طرف الأخبار، فبينا نحن به في بعض الأيام، وقد انتظمنا في سلك الالتئام، وقف علينا ذو مقول جريّ، وجرس جهوريّ، فحيّا تحيّة نفّاث في العقد، قنّاص للأسد والنّقد، ثم قال:
* * * يمّمت: أي قصدت.
[ميافارقين]
ميّافارقين، بلدة منها إلى نصيبين ثلاثون فرسخا، وميافارقين بديار بكر، وهي من كور الجزيرة، وكان تملّكها سيف الدولة، وذكرها المتنبي، فقال:
نجانف عن ذات اليمين كأنّها ... ترقّ لميّافارقين ونرحم
الفنجديهي: سمعت بعض الأدباء يقول: سمّيت ميافارقين، لأنّ ذا الرمّة أو غيره من العشاق، لو وصل إليها بالاتّفاق، وشاهد وجوه أهلها الملاح، والعيون السقيمة الصحاح، وعاين رشاقة القدود، ولباقة الخدود، وسواد الطّرر، وبياض الغرر، وسمرة الشّفاه اللعس، وحمرة الوجنات والجباه الملس، لقال لصاحبته: ميّافارقيني، ولا ترافقيني، فلا يجوز التيمم مع وجود الماء، ولا حاجة إلى الدواء بعد البرء والشفاء.
* * * قوله: «يمارون» أي يجادلون ولا يخالفون. المناجاة: المحادثة المداجاة: المساترة بالعداوة. لم يرم: لم يزل. يقال ما رامني ولا يريمني، أي لم يبرح عني ولا زال، ولا يقال إلّا منفيّا وجاره: بلده، وأصله الجحر: ظعن: رحل. أليفه: صاحبه. الأكوار:
الرحال. الأوكار: البيوت، يريد أنهم أتموّا سفرهم وبلغوا الوطن، فتركوا النقلة وأقاموا في البيوت. تناهينا: نهى بعضنا بعضا. ناديا: مجلسا. نعتمره طرفي النهار، أي نجلس فيه بالغدوّ والعشيّ طرف: غرائب. السّلك: خيط النظام. وانتظمنا: اجتمعنا فيه.(2/87)
* * * قوله: «يمارون» أي يجادلون ولا يخالفون. المناجاة: المحادثة المداجاة: المساترة بالعداوة. لم يرم: لم يزل. يقال ما رامني ولا يريمني، أي لم يبرح عني ولا زال، ولا يقال إلّا منفيّا وجاره: بلده، وأصله الجحر: ظعن: رحل. أليفه: صاحبه. الأكوار:
الرحال. الأوكار: البيوت، يريد أنهم أتموّا سفرهم وبلغوا الوطن، فتركوا النقلة وأقاموا في البيوت. تناهينا: نهى بعضنا بعضا. ناديا: مجلسا. نعتمره طرفي النهار، أي نجلس فيه بالغدوّ والعشيّ طرف: غرائب. السّلك: خيط النظام. وانتظمنا: اجتمعنا فيه.
الالتئام: الاتفاق، يقال: لسان جريء مقدم على الكلام. جرس: صوت. جهوريّ:
عال. نفّاث: ساحر، والعقد: ما يعقدها السّحرة وينفثون عليها بالبصاق قنّاص: صائد.
النّقد: غنم صغار. [السريع]
* * * عندي يا قوم حديث عجيب ... فيه اعتبار للّبيب الأريب
رأيت في ريعان عمري أخا ... بأس له حدّ الحسام القضيب
يقدم في المعرك إقدام من ... يوقن بالفتك ولا يستريب
فيفرج الضّيق بكرّاته ... حتّى يرى ما كان ضنكا رحيب
ما بارز الأقران إلا أنثنى ... عن موقف الطّعن برمح خضيب
ولا سما يفتح مستصعبا ... مستغلق الباب منيعا مهيب
إلا ونودي حين يسمو له ... نصر من الله وفتح قريب
هذا وكم من ليلة باتها ... يميس في برد الشّباب القشيب
يرتشف الغيد ويرشفنه ... وهو لدى الكلّ المفدّى الحبيب
فلم يزل يبتزّه دهره ... ما فيه من بطش وعود صليب
حتّى أصارته اللّيالي لقى ... يعافه من كان منه قريب
قد أعجز الرّاقي تحليل ما ... به من الدّاء وأعيا الطّبيب
وصارم البيض وصار منه ... من بعد ما كان المجاب المجيب
وآض كالمنكوس في خلقه ... ومن يعش يلق دواهي المشيب
وها هو اليوم مسجّى فمن ... يرغب في تكفين ميت غريب
* * * واللبيب والأريب: كلاهما بمعنى العاقل. ريعان: أول. أخا بأس: صاحب شدة الحسام القضيب: السيف القاطع. المعرك: موضع القتال، وأراد به فروج الأبكار.
الفتك: سفك الدم، وهو أيضا ركوب الرجل ما همّ به. كرّات: دفعات ورجعات.
ضنكا: ضيقا. رحيب: واسع. بارز: قاتل الأفران: الأمثال في الشدّة وغيرها. انثنى:
رجع. خضيب: مخضوب، يريد أيضا افتضاض الأبكار. سما: ارتفع وقام. منيع، أي صعب ممنوع مهيب: مخوف. يميس: يتبختر. يرتشف: يقبّل ويمصّ ريقهنّ.
والترشّف: المصّ الكثير. والغيد: جمع غيداء، وهي اللينة المفاصل من النّعمة، وقيل:
المائلة العنق في نعمة. يبتزّه: بجرّده. والبطش: القوة والتناول الشديد. صليب: قويّ شديد. لقى: طريحا. يعافه: يستثقله ويكرهه. تحليل: إذهاب وإزالة، وتحّلل الداء:(2/88)
والترشّف: المصّ الكثير. والغيد: جمع غيداء، وهي اللينة المفاصل من النّعمة، وقيل:
المائلة العنق في نعمة. يبتزّه: بجرّده. والبطش: القوة والتناول الشديد. صليب: قويّ شديد. لقى: طريحا. يعافه: يستثقله ويكرهه. تحليل: إذهاب وإزالة، وتحّلل الداء:
ذهب شيئا فشيئا. أعيا: غلب. صارم: قاطع. البيض: النساء الحسان. المجاب: الذي تجيبه النساء لحاجته منهنّ. والمجيب: الذي يجيبهن لحاجتهنّ منه. آض: رجع:
المنكوس: المردود إلى حالته الأولى من الضعف، وأشار إلى قوله تعالى: {اللََّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً}
[الروم: 54]، فردّه إلى الحالة الأولى، وهذا هو النّكس في الخلق، والنّكس في المرض أن يمرض، ثم يبرأ ثم يمرض والنّكس في السهام: أن ينكسر السهم، فيجعل في الجعبة محوّلا الكسر إلى فوق، فإذا أدخل الرامي يده في الجعبة ليأخذ سهما فوجده محوّلا تركه وأخذ غيره. دواهي المشيب: حوائج الشيخ من الضعف والعلل وغير ذلك.
ونذكر هنا من الأدب ما يليق بالموضع.
* * * [الضعف والكبر]
دخل المستوغر بن ربيعة على معاوية وهو ابن ثلاثمائة سنة، فقال: كيف تجدك يا مستوغر؟ فقال: أجدني قد لان منّي ما كنت أحبّ أن يشتدّ، واشتدّ مني ما كنت أحبّ أن يلين، وابيضّ مني ما كنت أحبّ أن يسوّد، واسودّ مني ما كنت أحبّ أن يبيض، ثم أنشأ يقول: [الرجز]
سلني أنبئك بآيات الكبر ... نوم العشاء وسعال بالسّحر
وقلة الطعم إذا الزاد حضر ... وتركك الحسناء من قبل الظّهر
* والناس يبلون كما تبلى الشّجر *
ثم قال: ألا أخبركم بجيّد العنب؟ هو ما زوي عموده، واخضر عوده، وتفرّق عنقوده. ألا أخبرك بجيّد الرّطب؟ هو ما كبر لحاه، وصغر نواه، ورقّ سحاه.
وفي الزبور: من بلع السبعين اشتكى من غير علة.
وقال ابن أبي معن: [البسيط]
من عاش أخلقت الأيام جدّته ... وخانه ثقتاه السّمع والبصر
* * * قوله مسجّى: أي مغطى.
ووصف في أوّل الشعر ذكره بالشدة وفي آخره باللين، وأذكر من الصفتين ما يكون من شرط ما ذكر.(2/89)
حكى أبو زياد الكلابي، قال: كان عندنا أبو الغريب شيخا فتزوّج ولم يولم، فاجتمعنا على باب خبائه فصحنا: أولم ولو بيربوع، أو بقرد مجذوع، قتلتنا من الجوع:
فأولم، فلما عرّس غدونا عليه فقلنا: [الرجز]
يا ليت شعري عن أبي الغريب ... إذ بات في مجاسد وطيب
معانقا للرشأ الرّبيبّ ... أأخمد المحفار في القليب
* أم كان رخوا يابس القضيب *
فصاح: يابس القضيب والله! ثم أنشأ يقول: [البسيط]
سقيا لعهد خليل كان يأدم لي ... زادي ويذهب عن زوجاتي الغضب
كان الخليل فأضحى قد تخوّنه ... مرّ الزمان وتطعاني به الثّقب
يا صاح أبلغ ذوي الزوجات كلّهم ... أن ليس وصل إذا انحلّت عرا الذّنب
والقوافي وقعت في لفظ يعقوب موقوفة. وعرا الذنب: عروق الذكر.
وكان أبو البيداء الأعرابيّ عنّينا، وكان يتجلّد ويقول لقومه: زوّجوني امرأتين، فيقولون: أما واحدة كفاية! فيقول: أمّا لي فلا، فزوّجوه أعرابيّة، وقالوا له: إن كفتك وإلا زوّجناك الأخرى، فدخل بها، وأقام عليها أسبوعا فزاره إخوانه في اليوم السابع، فقالوا له: يا أبا البيداء، ما كان من أمرك في الأوّل؟ فقال: عظيم جدا، فقالوا: ففي اليوم الثاني، فقال أعظم وأجلّ، قالوا: ففي اليوم الثالث، قال لا تسألوا، فقالت امرأته من وراء السّتر: [الكامل]
كان أبو البيداء ينزو في الوهق ... حتى إذا ما حلّ في بيت أفق
فيه غزال حسن الدّل خرق ... مارسه حتى إذا ارفضّ العرق
* تكّسر المفتاح وانسدّ الغلق *
الوهق: حبل يفتح فيه عين واسعة تؤخذ بها الدابة، والأفق الجيد. وينزو: يمتدّ ويقصر.
وتزوّج الفرزذق بامرأة من مجاشع، فعجز عنها فقال: [البسيط]
يا لهف نفسي على نعظ فجعت به ... حين التقى الرّكب المحلوق والرّكب (1)
ما أبعد ما بين حالته هذه وبينها وقد لقيته جارية، فنظرها نظرا شديدا، فقالت له:
ما لك تنظر، فو الله لو كان لي ألف حر ما طمعت في واحد، قال: ولم يا لخناء؟ قالت:
لقبح منظرك وسوء مخيرك فيما أرى، فقال لها: أما والله لو خبرتني لغفر مخبري على
__________
(1) البيت للفرزدق في تاج العروس (ركب) وليس في ديوانه، وفي التاج «بالركب» بدل «والركب».(2/90)
منظري، ثم كشف لها وأراها مثل ذراع البكر، فكشفت له عن مثل سنام البعير، فتسنّمها، وقال: [السريع]
أدخلت فيها كذراع البكر ... مدملج الرأس شديد الأسر
زاد على شبر ونصف شبر ... كأنما أولجته في جمر
وسمع بشار كلام امرأة، فأحبّها وأرسل لها أن تواصله، وألحّ عليها، فقالت لرسوله أي معنى له فيّ أولي فيه، وهو أعمى لا يراني، فيعرف جمالي، وهو قبيح الوجه لا حظّ لي فيه! فليت شعري لأيّ شيء يطلب وصال مثلي! فأدّى إليه الرسول كلامها، فقال عد إليها فقل لها: [الكامل]
أيري له فضل على آيارهم ... وإذا أشطّ سجدن غير أوابي (1)
تلقاه بعد ثلاث عشرة قائما ... نظر المؤذن شكّ يوم سحاب
وكأنّ هامة رأسه بطّيخة ... حملت إلى ملك بدجلة جابي
وعشق امرأة وتردّد رسوله إليها حتى أبرمها، فشكته إلى زوجها، فقال: أجيبيه وعديه إلى هنا، ففعلت ووجّهت له، فجاء ولم يعرف بزوجها، فقال لها: ما اسمك بأبي أنت وأمي! فقالت: أمامة، فقال: [الكامل]
أمامة قد وصفت لنا بحسن ... وإنا لا نراك فألمسينا
فوضعت يده على أير زوجها، وقد أنعظ لحسن حديثها معه، ففزع ووثب قائما وقال: [الوافر]
عليّ ألّية ما عشت حيّا ... أمسك طائعا إلّا بعود
ولا أهدي لأرض أنت فيها ... سلام الله إلا من بعيد
طلبت غنيمة فوضعت كفّي ... على أير أشدّ من الحديد
فخير منك من لا خير فيه ... وخير من زيارتكم قعودي
فقبض زوجها عليه، وقال: هممت أن أفضحك، فقال: كفاني فديتك ما فعلت بي، والله لا أعود لمثلها أبدا.
سمع الحكم بن عبدل امرأة تتمثل بقوله: [الطويل]
وأعسر أحيانا فتشتدّ عسرتي ... فأدرك ميسور الغنى ومعي عرضي
فقال لها: يا أخيّة، أتعرفين قائل هذا الكلام؟ قالت: هو ابن عبدل، قال: أفتعرفينه عينا؟ فقالت: لا، والله، فقال: أنا هو، والذي أقول: [الطويل]
__________
(1) الأبيات في الأغاني 3/ 202.(2/91)
وأنعظ أحيانا فينقد جلده ... وأعذله جهدي فلا ينفع العذل
وأزداد نعظا حين أسمع جارتي ... فأوثقه كل ما يثوب له عقل
ورّبتما لم أدر ما حيلتي بهن ... إذا هو آذاني وغرّبه الجهل
فآويته في بطن جاري وجارتي ... مكابرة قدما وإن رغم الفحل
فقالت المرأة: بئس الجار والله للمغيّبة أنت، قال: إي والله وللتي معها زوجها وابنها وأخوها، أين قول هذا على إسلامه من قول عنترة على جاهليته: [الكامل]
وأغضّ طرفي ما بدت لي جارتي ... حتى يوارى جارتي مأواها (1)
إني امرؤ سمح الخليقة ماجد ... لا أتبع النفس اللجوج هواها
وقال أبو الرقعمق: [الرمل]
كل يوم أنا من أيري ... في أمر عجاب
ليس يخليني من همّ ... وحزن واكتئاب
عينه في كلّ من دبّ ... على وجه التّراب
لم يدع لي ذهبا إلّا ... رماه بالذّهاب
وابتدى المشؤم أن يع ... مل في بيع الثّياب
لعنة الله علي ... هـ وبراغيث الكلاب
وللمفجع البصري في ضد ما تقدم، والمفجّع صاحب ابن دريد، والقائم مقامه بالبصرة في الإملاء: [الخفيف]
لي أير أراحني الله منه ... صار همي به عريضا طويلا
نام إذ زارني الحبيب عنادا ... ولعهدي به ينيك الرّسولا
حسبت زورة عليّ لحيين ... وانصرفنا وما شفينا غليلا
ولراشد بن إسحاق: [الخفيف]
طالمنا قمنت كالمنارة نهتز ... اهتزازا تسمو إليه العيون
ربّ يوم رفعت فيه ثيابي ... فكأنّي في مشيتي مختون
فحنت قوسك الخطوب وأفنت ... ك فتون تفنى عليها الفنون
لم يدع منك حادث الدهر إلا ... جلدة كالرّشاء فيها غضون
تتثنّى كأنّها صولجان ... أو كما حرّفت من الخطّ نون
__________
(1) البيتان في ديوان عنترة ص 91.(2/92)
وله أيضا فيه: [البسيط]
كأنه حين أطويه وأنشره ... سير يلفّ على دوّامة الزّيق
وإن يقم قلت قثاة معنفقة ... أو عروة ركّبت في رأس إبريق
وله أيضا فيه: [البسيط]
أير ضعيف المتن رثّ القوى ... لو شئت أن أعقده لا نعقد
إن يمس كالبقلة في لينها ... فطالما أصبح مثل الوتد
وله أيضا فيه: [الطويل]
ينام على كفّ الفتاة وتارة ... له حركات ما يحسّ بها الكفّ
كما يرفع الفرخ ابن يومين رأسه ... إلى أبويه ثم يدركه الضّعف
الفنجديهي: سمعت الحافظ أبا جعفر المروزيّ يقول: مازحت شيخنا نجيب بن ميمون الواسطيّ يوما وكان شيخا دمثا ظريفا فقلت له: أخبرني هل بقي من سلطان الهوى شيء؟ وهل نقوم للخدمة العكازة الميمونية؟ فقال: آه آه، ثم أنشد: [الطويل]
تعقّف فوق الخصيتين كأنّه ... رشأ على رأس الركيّة ملتفّ
كفرخ ابن ذي يومين يرفع رأسه ... إلى أبويه ثم يدركه الضعف
وأنشد أيضا: [البسيط]
يقوم في الليل عند البول منحنيا ... كأنه قوس ندّاف بلا وتر
ولا يقوم إذا نبّهته سحرا ... كما تقوم أيور الناس في السّحر
ثم بكى بكاء شديدا، وذكّرنا ووعظنا.
وهذه الأبيات المنسوبة لراشد بن إسحاق كلها من قصائد له مطوّلة في هذا الفنّ، وأكثر شعره فيه، وله فيه شعر كثير ومنه انتزع الحريري قصيدته في هذه المقامة.
* * * ثمّ إنه أعلن بالنحيب، وبكى بكاء المحبّ على الحبيب. ولمّا رقأت دمعته، وانفثأت لوعته، قال: يا نجعة الرّوّاد، وقدوة الأجواد، والله ما نطقت ببهتان، ولا أخبرتكم إلّا عن عيان، ولو كان في عصاي سير، ولغيمي مطير لاستأثرت بما دعوتكم إليه، ولما وقفت موقف الدّالّ عليه، ولكن كيف الطّيران بلا جناح، وهل على من لا يجد من جناح!
* * *
قوله: «أعلن» أي رفع صوته. والنحيب: البكاء. وفي بكاء المحب على الحبيب يقول الشاعر وزاد معنى: [المتقارب](2/93)
* * *
قوله: «أعلن» أي رفع صوته. والنحيب: البكاء. وفي بكاء المحب على الحبيب يقول الشاعر وزاد معنى: [المتقارب]
أتتني تؤنّبني في البكاء ... فأهلا بها وبتأنيبها
تقول وفي قولها حكمة ... أتبكي بعين تراني بها!
فقلت: إذا استحسنت غيركم ... أمرت البكاء بتأديبها
قوله: رقأت، أي انقطعت. انفثأت: انكسرت وسكنت. لوعته: حرقته. النجعة:
المرعى. الروّاد: الطالبون لها. بهتان: باطل. عيان: معاينة.
قوله: «في عصاي سير» مثل يضرب لمن ليس عنده منفعة ولا له قوّة. والسير:
الشراك يدخل في ثقب في رأس العصا ويعقد منه حلقة، يدخل فيها يده التي تمسك العصا، فتكون أشدّ لاعتماده عليها، وضربه بها، فجعل عصاه عاطلة من سيرها، وهو يريد أن لا منفعة عنده.
وأنشدوا: [الرجز]
يا لك من همّة وخير ... لو كان لي في عصاي سير
صبرا على النائبات صبرا ... ما يصنع الله فهو خير
فمن قليل بدا كثير ... كم مطر بدؤه مطير
* * *
[مما قيل في العصا]
وذكر الجاحظ فوائد العصا، فمنها: سئل يونس عن قول الله عز وجل: {وَلِيَ فِيهََا مَآرِبُ أُخْرى ََ} [طه: 18] فقال: لست أحيط بجميع مآرب موسى، لكني أذكر جملة تدخل في باب الحاجة إليها:
من ذلك أنها تحسل للحيّة والعقرب والذئب والفحل الهائج، ويتوكأ عليها الكبير والسقيم والأقطع والخطيب والأعرج، فتنوب للأعرج عن ساق أخرى [وتنوب] للأعمى عن قائده. وهي للقصّار والدّباغ وهي المفأد للملّة ومحراك للتّنّور، ولدقّ الجصّ والسمسم، ولخبط الشجر، وللشرطيّ والمكاريّ، وللراعي غنمه، وللراكب مركبه، ووتد في الحائط، وتركزها فتجعلها قبلة، وإن شئت مظلّة، وتدخلها في عروة المزود وطرفها في يدك، والثاني في يد صاحبك، وإن كان فيها زجّ كانت عنزة، فإن زدت شيئا، كانت عكّازا، فإن زدت شيئا كانت مطردا، وإن زدت شيئا كانت رمحا.
وكانت آيات موسى صلوات الله وسلامه عليه في عصاه، وكانت لا تفارق يد سليمان عليه الصلاة والسلام في مقاماته، حتى سلّط الله الأرضة وهو ميت فسقط، فكانت للجنّ آية.(2/94)
وكان الحكم بن عبدل أعرج أحدب هجّاء خبيث الهجاء، وكان الشعراء يقفون بأبواب الملوك فلا يؤذن لهم، وكان يكتب على عصاه حاجته ويبعث بها، فلا تؤخّر له حاجة، فقال يحيى بن نوفل: [الطويل]
عصا حكم في الباب أوّل داخل ... ونحن على الأبواب نقصى وتحجب
وكانت عصا موسى لفرعون آية ... وهذي لعمر الله أدهى وأعجب
تطاع فلا تعصى ويحذر أمرها ... ويرغب في المرضاة منها وترهب
فضحك الناس منها وشاعت بالكوفة، وصارت ضحكة، فاجتنب أن يكتب عليها.
وكان لابن عبدل صديق أعمى يقال له يحيى ابن عليّة، وكان ابن عبدل قد أقعد، فخرجا ليلة إلى منزل بعض إخوانهما، وابن عبدل يحمل والأعمى يقاد، فلقيهما صاحب العسس، فأخذهما وحبسهما. فنظر ابن عبدل إلى عصا ابن علية في الحبس إلى جانب عصاه، فضحك وقال: [مجزوء الكامل]
حبسي وحبس أبي عليّ ... ة من أعاجيب الزّمان
أعمى يقاد ومقعد ... لا الرّجل منه ولا اليدان
يا من رأى ضبّ الفلا ... ة قعيد موت في مكان
طرفي وطرف أبي عليّ ... ة دهرنا متوافقان
من يفتخر بجواده ... فجيادنا عكّازتان
وقال أيضا: [الطويل]
أقول ليحيى ليلة السجن سادرا ... ونومي به نوم الأسير المقيّد
أعنّي على حفظ النّجوم ورعيها ... أعنك على تحبير شعر مقصّد
ففي حالتينا عبرة وتفكّر ... وأعجب من ذا حبس أعمى ومقعد
كلانا إذا العكاز فارق كفّه ... ينيخ صريعا أو على الكفّ يسجد
فعكّازة تهدى إلى السّبل أكمها ... وأخرى مقام الرّجل قامت مع اليد
وولي إمرة الكوفة أعرج وولي شرطتها أعرج، فقصد الأمير ابن عبدل وهو أعرج، ووجد سائلا أعرج فقال: [الكامل]
ألق العصا ودع التخامع والتمس ... عملا فهذي دولة العرجان
لأميرنا وأمير شرطتنا معا ... يا قومنا لكليهما رجلان
فإذا يكون أميرنا ووزيرنا ... وأنا فإنّ الرابع الشيطان
فبعث إليه الأمير بمائتي درهم فضة وسأله أن يكفّ.(2/95)
وكثيرا ما تصرّف الشعراء في ذكر عصا موسى عليه السلام على أغراضهم، فمنها ما يحسن ومنها ما يقبح. وقال ابن سارة: [البسيط]
ولي عصا من طريق الذمّ أحمدها ... بها أقدّم في تأخيرها قدمي
كأنّها وهي في كفّي أهشّ بها ... على ثمانين عاما لا على غنمي
كأنني قوس رام وهي لي وتر ... أرمي عليها سهام الشّيب والهرم
وقال أبو بكر البلويّ: [الطويل]
كأنّ يميني حين حاولت بسطها ... لتوديع إلفي والهوى يصرف الدّمعا
يمين ابن عمران وقد حاول العصا ... وقد جعلت تلك العصا حيّة تسعى
قال ابن رشيق: كنت أميل إلى قينة اسمها ليلى، فعشقها بعض خدّام الحصون، وكان يحسب خدمتها وكنسها منزله لا يثلم جاه متوليها فنهيته عنها فلم ينته، فقلت فيه: [الخفيف]
ظنّ أنّ الحصون ملك سليما ... ن وليلى بجهله بلقيسا
وله في العصا مآرب أخرى ... حاش لله أن تكون لموسى
وقال الصابي: [الكامل]
يبدي اللّواط مغالطا وعجانه ... أبدا لأغراض الورى يستهدف
فكأنه ثعبان موسى إذ غدا ... لحبالهم وعصيّهم يتلقّف
وقال الصاحب: [السريع]
هذا ابن متّوية له آية ... يبتلع الأير وأقصى الخصى
يكفر بالرسل جميعا سوى ... موسى بن عمران لأجل العصا
وقال أبو الفرج الأصبهاني في القاضي الأندنجي، والشمس منه عكازة فلم يعطها إيّاه: [البسيط]
اسمع حديثي تسمع آية عجبا ... لا شيء أعجب منه يبهر القصصا
طلبت عكازة للرّجل تحملني ... ورمتها عند من يخفي العصا فعصى
وكنت أحسبه يهوى عصا عصب ... ولم أكن خلته صبّا بكل عصا
ولما قدم قتيبة بن مسلم واليا على خراسان سقطت المخصرة من يده، فتطيّر به أهل خراسان، فقال: يا أهل خراسان ليس كما ظننتم، ولكن كما قال الشاعر: [الطويل]
فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر
وأما قول الشاعر: [الطويل]
وبكفيك ألّا يرحل الضيف لائما ... عصا العبد والبئر الّتي لا تميهها
فقال يعقوب: البئر هنا حفرة تجعل فيها الملّة وتجعل عليها الخبزة، والعصا تقلّب بها الخبزة على الملّة، وينفض بها الرماد.(2/96)
وبكفيك ألّا يرحل الضيف لائما ... عصا العبد والبئر الّتي لا تميهها
فقال يعقوب: البئر هنا حفرة تجعل فيها الملّة وتجعل عليها الخبزة، والعصا تقلّب بها الخبزة على الملّة، وينفض بها الرماد.
وقال آخر: [الطويل]
إذا جاء ثقاف يجرّ قناته ... طويل العصا نكّبته عن شياهنا
فالثّقاف الرسول بين المريب والمريبة، يأتي كالسائل، فإذا وقف ثقف الأرض بعصاه، فإذا سمعت المرأة ذلك خرجت إليه، فأبلغها الرسالة، فثقفه علامة بينهما وأراد بالشياه النساء.
قوله: «غيمي»، أي سحابي. مطير: تصغير مطر، أي لو كان لي قوة ومال لآثرت بذلك نفسي. استأثرت: اختصصت. جناح: إثم.
* * * قال الرّاوي: فطفق القوم يأتمرون فيما يأمرون، ويتخافتون فيه يأتون، فتوهّم أنّهم يتمالؤون على صرفه بحرمان، أو مطالبته ببرهان، ففرط منه أن قال: يا يلامع القاع، ويرامع البقاع، ما هذا الارتياء، الّذي يأباه الحياء، حتى كأنكم كلفّتم مشقّة لا شقّة، أو استوهبتم بلدة لا بردة، أو هززتم لكسوة البيت، لا لتكفين الميت، أفّ لمن لا تندى صفاته، ولا ترشح حصاته!
فلمّا بصرت الجماعة بذلاقته، ومرارة مذاقته، رفأه كلّ منهم بنيله، واحتمل طلّه خوف سيله.
* * * يأتمرون: يتشاورون. يتخافتون: يتكلمون سرا. فيما يأتون، أي فيما يفعلون معه.
توهم ظنّ. صرفه. ردّه.
حرمان: خيبة. برهان: حجّة. فرط: سبق: يلامع: جمع يلمع وهو السراب. القاع:
منخفض الأرض. يرامع: جمع يرمع وهي الحصى البيض، وقيل الحجارة الرخوة.
البقاع: جمع بقعة، وأراد أن لهم ظاهرا وليس لهم خبرة، كالسراب يخيّل أنه ماء ولا حقيقة له، واليرمع تظنه فضة وهو حجر.
الارتياء: تدبير الرأي، وأصله الهمز لأنه من الرأي. استوهبتم: طلبت منكم هبة.
بردة: ثوب يلبس. هززتم: حرّكتم. البيت: الكعبة.
أف: خيبة، وقد تقدم أن الصخرة والحصاة يكنى بهما عن يد البخيل ذلاقته: حدّة لسانه. رفأه: وصله. والطل والسّيل هنا: القليل والكثير.
* * *
قال الحارث بن همام: وكان هذا السائل واقفا خلفي، ومحتجبا بظهري عن طرفي. فلمّا أرضاه القوم بسيبهم، وحقّ عليّ التّأسّي بهم خلجت خاتمي من خنصري، ولفتّ بصري، فإذا هو شيخنا السّروجيّ بلا فرية ولا مرية، فأيقنت أنها أكذوبة تكذّبها، وأحبولة نصبها، إلا أنّني طويته على غرّه، وصنت شغاه عن فرّه، فحصبته بالخاتم، وقلت: أرصده لنفقة المآتم، فقال: واها لك فما أضرم شعلتك، وأكثر فعلتك، ثم انطلق يسعى قدما، ويهرول هرولته قدما.(2/97)
* * *
قال الحارث بن همام: وكان هذا السائل واقفا خلفي، ومحتجبا بظهري عن طرفي. فلمّا أرضاه القوم بسيبهم، وحقّ عليّ التّأسّي بهم خلجت خاتمي من خنصري، ولفتّ بصري، فإذا هو شيخنا السّروجيّ بلا فرية ولا مرية، فأيقنت أنها أكذوبة تكذّبها، وأحبولة نصبها، إلا أنّني طويته على غرّه، وصنت شغاه عن فرّه، فحصبته بالخاتم، وقلت: أرصده لنفقة المآتم، فقال: واها لك فما أضرم شعلتك، وأكثر فعلتك، ثم انطلق يسعى قدما، ويهرول هرولته قدما.
* * * سيبهم: عطاؤهم. وحق: وجب. التأسّي: الاقتداء. خلجت: جذبت وأخرجت.
الخنصر: الأصغر من الأصابع، ويليها البنصر ثم الوسطى ثم السبابة وتسمى المسبّحة والمشيرة، ثم الإبهام، وقال أبو العلاء المعرّي: [المتقارب]
شغلت عن المرء من خمسة اث ... نيتن فخصّهما المفخر
يشار إليك بسبّابة ... وتثني على فضلك المخنصر
فمن أجل ذا رفعت هذه ... إلى خالق الخلق تستغفر
ومن أجل ذا كسيت خاتما ... يزين وعرّيت البنصر
وقال صريع الغواني يلغز بخاتم: [الطويل]
وأبيض أمّا رأسه فمدوّر ... نقيّ وأمّا جسمه فمعار
ولم يتّخذ إلا لتسكن وسطه ... خضيبة رأس ما عليه خمار
لها أخوات أربع هنّ مثلها ... ولكنها الصغرى وهن كبار
لفتّ: رددت. فرية: كذب. مرية: شكّ، وتقول: بين القوم أكذوبة يتكاذبون بها، أي أحاديث كذب. تكذّبها: استفعلها. أحبولة: آلة يصاد بها. وطويته على غرّه، أي سترت عليه طريقته الملتزمة من الحيل، والغرّ بالنقط: كسور الثوب، يقال: اطو الثوب على غرّه، أي على كسور طيّه الأولى.
جابر: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «طيّ الثوب راحته».
صنت: حفظت وكتمت: شغاه: عيبه. فرّه. كشفه. والشّغا: بروز سنّ على أخواتها، وخروج الحنك الأعلى على الأسفل.
وحصبته: رميته، والحصباء: الحصى الصغار، وحصبته: رميته بالحصباء، فاستعاره للخاتم.
أرصده: أعده. واها: عجبا. ما أضرم شعلتك، أي ما أكبر توقّد ذهنك، والشعلة
لسان النّار، وإنما تعجبّب منه لأنه قد عرفه وأعلمه أنه قد عرف مكره حين قال له:(2/98)
أرصده: أعده. واها: عجبا. ما أضرم شعلتك، أي ما أكبر توقّد ذهنك، والشعلة
لسان النّار، وإنما تعجبّب منه لأنه قد عرفه وأعلمه أنه قد عرف مكره حين قال له:
أرصده، ثم ستر عليه، وأهل الشرق يتختّمون ويتصدقون بخواتمهم. وفي البديعية بعد تشك تقدم من أبي الفتح: قال ابن هشام: فو الله ما أنسني عن وحدتي إلا خاتم ختمت به خنصره، فلما تناوله أنشأ يقول: [الكامل]
وممنطق من نفسه ... بقلادة الجوزاء حسنا
متألف من غير أس ... رته على الأيام خدنا
كمتيّم لقي الحبي ... ب فضمّه شغفا وحزنا
علق سنيّ قدره ... لكنّ من أهداه أسنى
أقسمت لو كان الورى ... في المجد لفظا كنت معنى
قال: فتبعته حتى سفرت الخلوة وجهها، فإذا والله أبو الفتح، والطلا زغلوله، فقلت أبا الفتح، شبت وشبّ الغلام، فأين الكلام، وأين السلام؟ فقال: [المتقارب]
غريبا إذا جمعتنا الطريق ... ألوفا إذا نظمتنا الخيام
قوله، يسعى، أي يسرع المشي. قدما: أي قدامه وقبالته. يهرول: يسرع، والهرولة جري بين المشي والعدو. قدما، أي قديما وأوّلا، ومعناها كما فعل في أول مرة حين سعى قدما.
* * * فنزعت إلى عرفان ميّته، وامتحان دعوى حميّته، فقرعت ظنبوبي، وألهبت ألهوبي، حتى أدركته على غلوة، واجتليته في خلوة، فأخذت بجمع أردانه، وعقته عن سنن ميدانه، وقلت له: والله ما لك منّي ملجأ ولا منجى، أو ترينّي ميّتك المسجّى، فكشف عن سراويله، وأشار إلى غرموله. فقلت له: قاتلك الله! فما ألعبك بالنّهي، وأحيلك على اللهي! ثم عدت إلى أصحابي عود الرّائد الذي لا يكذب أهله، ولا يبرقش قوله، فأخبرتهم بالذي رأيت وما ورّيت ولا راءيت، فقهقهوا من كيت وكيت، ولعنوا ذلك الميت!
* * * نزعت: اشتقت. امتحان: تجربة. قرعت: ضربت. ظنبوب: مقدّم عظم الساق، ويقال: قرع لهذا الأمر ظنبوبه، إذا أسرع وجدّ فيه، ويبيّنه قول سلامة بن جندل: [البسيط]
كنا إذا أتانا صارخ فزع ... كان للصّراخ له قرع الظنابيب (1)
__________
(1) البيت لسلامة بن جندل في ديوانه ص 123، ولسان العرب (ظنب)، (فزع)، ومجمل اللغة 3/(2/99)
أي كانت إغاثتنا له إسراعنا في نصرته. ألهبت: أشعلت. ألهوبي: شدة جربي.
والغلوة: مقدار رمية السهم. اجتليته: نظرته. بجمع أردانه، أي بجميع أطراف ثوبه.
عقته: صرفته عن وجهه. سنن: طريق. ميدانه: موضع جرية وطلقه. ملجأ: موضع يلجأ إليه. منجى: موضع تنجو فيه. غرموله: ذكره. قاتلك الله، أي قتلك الله وأكثر ما يقع فاعلت على الاثنين، وقد يكون عن الواحد، نحو ناولت وسافرت وقيل: معنى قاتله، لعنه، وقيل عاداه. النّهي: العقول، واحدها نهية، ومنه نهيته عن كذا فانتهى. واللها:
العطايا، واحدها لهوة، وأصله القبضة من الطعام، تجعل في فم الرّحا. يكذب: يحدّث بالكذب: يبرقش: يزيّن، والبرقشة التّزيين بألوان شتى. ورّيت، يقال: روّيت الخبر أورّيه تورية: سترته وأظهرت غيره، وفي الحديث الشريف، أنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا، ورّى بغيره، وهو مأخوذ من الوراء، كأنه جعل الخبر وراءه ولم يظهره. راءيت: استعملت الرياء، يريد أنّه صرّح لهم بذكر العورة، ولم يكنّ عنها. فقهقهوا: أكثروا الضحك.
أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب» (1). والقهقهة من الشيطان والتبسم من الله من كيت وكيت، أي من هذه القصّة التي أسمعهم وكيت وكيت، كناية عن الحديث المدمج المتداخل. والله أعلم.
__________
365، وأساس البلاغة (صرخ)، وتاج العروس (ظنب)، (فزع)، وكتاب العين 8/ 165، وتهذيب اللغة 14/ 390، والكامل ص 3، وشرح اختيارات المفضل ص 588، وسمط اللآلي ص 47، والبيان والتبيين 3/ 45، 84، ومجمع الأمثال 2/ 93، والمستقصى 2/ 196، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 3/ 470، 4/ 502، والمخصص 2/ 53، وجمهرة اللغة ص 586، 814.
(1) أخرجه الترمذي في الزهد باب 2، وابن ماجه في الزهد باب 19، وأحمد في المسند 2/ 310.(2/100)
المقامة الحادية والعشرون وهي الرازيّة
حدث الحارث بن همّام قال: عنيت مذ أحكمت تدبيري، وعرفت قبيلي من دبيري، بأن أصغي إلى العظات، وألغي الكلم المحفظات، لأتحلّى بمحاسن الأخلاق، وأتخلّى ممّا يسم بالأخلاق. وما زلت آخذ نفسي بهذا الأدب، وأخمد به جمرة الغضب حتى صار التّطبّع فيه طباعا، والتّكلّف له هوى مطاعا.
عنيت، أي شغلت. أحكمت: أتقنت. قبيلي من دبيري، أي ما أقبل عليه من أمري وما أدبر عنه. ابن الأنباري: ما يعرف قبيلا من دبير، أي ما يعرف الإقبال من الإدبار، أي ما يعرف ما أقبل به من القبل إلى الصدر ممّا أدبر عنه. وقيل: معناه: ما يعرف الشاة المقابلة من المدابرة، والمقابلة التي شقّ أذنها إلى قدّام، والمدابرة التي شق أذنها من مؤخّرها، وترك ما قطع معلقا إلى خلف لا يبين.
أصغي: أميل. العظات: هي المواعظ. ألغي: أترك. الكلم: جمع كلمة المحفظات: المغضبات. أتحلّى: أتزينّ وأتصف. وأتخلى: أزول وأتفرغ، وتخليت من كذا: تركته. يسم: يجعل سمة. الإخلاق: العيوب وتمزيق العرض وأصله في الثوب.
أخمد: أسكن.
[الطبع والتطبّع]
والتطّبع له في الطبيعة أثر، وإن لم تذهب الطبيعة بالجملة، لأنه اتفقت العرب والعجم على قولهم: الطبع أملك. وكان ملك من ملوك الفرس، له وزير مجرّب حازم، فكان يعرف اليمن في مشورته، فهلك وقام ابنه بعده، فلم يرفع به رأسا، فذكر له مكانته من أبيه، قال: كان أبي يغلط فيه، وسأريكم ذلك فأحضره، وقال له: أيّهما أغلب على الرجل؟ الأدب أو الطبيعة؟ فقال: الطبيعة لأنها أصل والأدب فرع، وكلّ فرع يرجع إلى أصله. فدعا الملك بسفرة، فوضعت، وأقبلت سنانير بأيديها الشمع، فوقفت حول السفرة، فقال له: اعتبر خطأك وضعف مذهبك، متى كان أبو هذه السنانير شمّاعا؟ فقال له:
أمهلني في الجواب إلى الليلة المقبلة، فقال: لك ذلك، فخرج الوزير، وأمر غلامه أن يسوق له فأرة فساقها حيّة فربطها بخيط وعقدها في سينيّة. فلما راح إلى الملك وضعها
في كمّه، ودخل فأحضر السفرة والسنانير فألقى لها الوزير الفأرة، فاستبقت السنانير إليها، وتطاير الشمع حتى كاد البيت يضطرم عليهم نارا، فقال للملك: كيف رأيت غلبه الطبع للأدب! قال: صدقت ورجع له ما كان عليه أبوه. وقال ذو الإصبع: [البسيط](2/101)
أمهلني في الجواب إلى الليلة المقبلة، فقال: لك ذلك، فخرج الوزير، وأمر غلامه أن يسوق له فأرة فساقها حيّة فربطها بخيط وعقدها في سينيّة. فلما راح إلى الملك وضعها
في كمّه، ودخل فأحضر السفرة والسنانير فألقى لها الوزير الفأرة، فاستبقت السنانير إليها، وتطاير الشمع حتى كاد البيت يضطرم عليهم نارا، فقال للملك: كيف رأيت غلبه الطبع للأدب! قال: صدقت ورجع له ما كان عليه أبوه. وقال ذو الإصبع: [البسيط]
كلّ امرئ راجع يوما لشيمته ... وإن تخلّق أخلاقا إلى حين
وقال المتنبي: [الطويل]
أبي خلق الدنيا حبيبا تديمه ... فما طلبي منها حبيبا تردّه؟ (1)
وأيسر مفعول فعلت تغيّرا ... تكلّف شيء في طباعك ضدّه
وقال العرجيّ: [البسيط]
يأيّها المتحلّي غير شيمته ... ومن شمائله التبديل والملق (2)
ارجع إلى خلقك المعروف ديدنه ... إنّ التخلّق يأتي دونه الخلق
وقال المتنبي أيضا: [المتقارب]
يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل (3)
وقال الشريف: [الكامل]
هيهات لا تتكلفنّ لي الهوى ... فضح التطبّع شيمة المطبوع (4)
وقال ابن طاهر الأندلسي: [البسيط]
نقل الطباع من الإنسان ممتنع ... صعب إذا رامه من ليس من أربه
يريد شيئا وتأباه طبائعه ... والطّبع أملك للإنسان من أدبه
فيريد أنه راض نفسه على اتباع الخير وبعد الشرّ، حتى انقادت له إلى ما يريد، والتطبّع استعمال غير ما في طبعك، والتكلّف استعمال ما لا تقدر عليه إلا بمشقة.
* * * __________
(1) البيتان في ديوان المتنبي 2/ 19.
(2) يروى البيت:
يا أيها المتحلّي غير شيمته ... إنّ التخلّف يأتي دونه الخلق
وهو لسالم بن وابصة في لسان العرب (خلق)، وتاج العروس (خلق)، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 710، ورواية صدر البيت فيه:
عليك بالقصد فيما أنت فاعله
والبيت بلا نسبة في ديوان الأدب 2/ 456، وزهر الأكم 1/ 148.
(3) البيت في ديوان المتنبي 3/ 22.
(4) البيت في ديوان الشريف الرضي 1/ 496.(2/102)
فلمّا حللت بالرّيّ، وقد حللت حبا الغيّ، وعرفت الحيّ من اللّيّ، رأيت بها ذات بكرة، زمرة في إثر زمرة، وهم منتشرون انتشار الجراد، ومستنّون استنان الجياد، ومتواصفون واعظا يقصدونه، ويحلّون ابن سمعون دونه.
[الرّيّ]
قوله: «فلما حللت بالريّ»:
الريّ: أرض على جادّة خراسان، واسم مدينة الريّ المهديّة، سمّيت بهذا الاسم، لأنّ المهدي تولّاها في خلافة المنصور لما توجّه إلى خراسان لمحاربة عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزديّ، وبها ولد الرشيد، والمهديّ أقام بها عدة سنين فشيّد بناءها وأتقنه، وأرضع نساء الوجوه من أهلها الرشيد. وأهل الريّ أخلاط من العرب، والعجم قليل فيها. وافتتحها قرط بن كعب الأنصاريّ في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ويشرب أهلها من عيون كثيرة وأودية عظيمة، وبها واد عظيم يأتي من بلاد الديلم يقال له نهر عيسى، ولكثرة مياه البلد كثرت ثماره وجنّاته وأشجاره، وله رساتيق (1) وأقاليم.
ونسب إليها الرازيّ، وهو من شاذّ النسب.
وكتب الحجّاج إلى قتيبة بن مسلم: ما يقيمك بأرض الفراعنة والجبابرة! سر إلى خراسان، أرض الفضّة والعقيان، والجواري الحسان.
* * * وتقدّم الحبا. والغيّ: الضلال، والعرب تقول: ما يعرف الحيّ من الليّ، والحوّ من اللوّ، تقوله لمن تستجهله وتنفي عنه الفطنة، وتصريفها أنّ الحيّ مصدر حويت الشيء حزته وجمعته، ولويت الرجل: مطلته ومنعته حقّه لوّا وليّا وليانا، فالحيّ مدح والليّ ذم، فكأنه إذا قال: عرفت الحيّ من الليّ إنما قال: عرفت الخير من الشرّ، وما يضرّ مما ينفع، وعرفت الحيّ من الليّ. وقبيلي من دبيري، إنما يستعملان في النفي. وتجوّز أبو محمد في استعمالهما في الإيجاب حيث كان أصلا للنفي.
الزّمرة: الجماعة، وتقول: فلان إثر فلان أي خلفه وقريبا منه، كأنه يتبع أثره إذا رفع هذا قدمه وضع الآخر قدمه في الموضع. منتشرون: متفرقون مستنّون: جارون.
متواصفون: يصفه بعضهم لبعض.
* * * [ابن سمعون الواعظ]
ابن سمعون: هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن إسماعيل بن عيسى بن إسماعيل
__________
(1) الرساتيق: القرى، معرب.(2/103)
المعروف بابن سمعون، الواعظ. وكان وحيد عصره وفريد دهره في الإخبار عمّا هجس في الأفكار، وليّا من الأولياء الأخيار، كلامه في الوعظ نافع، ونصحه في القلوب ناجع، ومجاله في تصاريف الكلام على الخواطر رحب واسع. وكان يقال له: الشيخ المنطق بالحكمة.
وحدّث أبو الطاهر محمد بن عليّ العلاف قال: حضرت ابن سمعون يوما وهو في مجلس الوعظ على كرسيّه، وكان أبو الفتح القوّاس جالسا إلى جنب الكرسيّ، فغشيه النعاس فنام، فأمسك أبو الحسن عن الكلام ساعة حتى استيقظ أبو الفتح ورفع رأسه، فقال له: رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلم في نومك؟ فقال نعم، فقال أبو الحسن: لذلك أمسكت عن الكلام خوفا أن تنزعج وتنقطع عن الكلام الذي كنت فيه.
وذكر أبو عليّ الهاشميّ، قال: حكى لي مولى الطائع لله تعالى، قال: أمرني الطائع أن أوجّه إلى ابن سمعون فأحضره دار الخلافة، ورأيت الطائع على صفة من الغضب وكان يتّقى في تلك الحال، لأنّه كان ذا حدّة فبعثت إلى ابن سمعون وأنا مشغول القلب لأجله، فلما حضر، أعلمت الطائع حضوره فجلس مجلسه، وأذن له في الدخول فسلّم عليه بالخلافة، ثم أخذ في وعظه فأوّل ما ابتدأ به أن قال: روي عن أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه وذكر خبرا، ولم يزل يجري في ميدان الوعظ حتى بكى الطائع وسمع شهيقه، وابتلّ منديله بين يديه بدموعه، فأمسك ابن سمعون حينئذ، ودفع إليّ درجا فيه طيب وغيره، فدفعته إليه وانصرف. وعدت إلى الطائع، وقلت: يا مولاي، رأيتك على صفة من الغضب على ابن سمعون، ثم انتقلت عنها عند حضوره، فما السبب؟ فقال: رفع إليّ أنه ينتقص عليّا رضي الله عنه، وأحببت أن أتيقّن ذلك، فإن صح منه قلته، فلمّا حضر بين يديّ افتتح كلامه بذكره والصلاة عليه، وأعاد في ذلك وأبدى، وقد كان له مندوحة في الرواية عن غيره وترك الابتداء به، فعلمت أنه وفّق لما تزول به عنه الظنّة، وتبرأ ساحته عندي، ولعله كوشف بذلك.
وله كتاب المجالس وهو كله أحاديث متصلة الأسانيد.
ومن كلامه أن القلب بمنزلة المرآة فإذا أصابتها لطخة عولجت بالزّيت، فإذا زادت زيد فيها من حتات الآجرّ، فإذا زادت جليت بالحديد، فإذا زادت على ذلك حتى ركبها الصدأ لم يكن لها بدّ من عرضها على النار حتى يتم جلاؤها.
توفّي ابن سمعون في ذي القعدة سنة سبع وثمانين وثلثمائة، ودفن بداره بشارع العباسي، فلم يزل هناك حتى نقل يوم الخميس الحادي عشر من رجب سنة ست وعشرين وأربعمائة ودفن بباب حرب ببغداد. وقيل: إن أكفانه لم تكن بليت بعد.
* * * فلم يتكاءدني لاستماع المواعظ، واختبار الواعظ أن أقاصي اللّاغط،
وأحتمل الضّاغط. فأصحبت إصحاب المطواعة، وانخرطت في سلك الجماعة حتّى أفضينا إلى تاد جمع الأمير والمأمور، وحشد النّبية والمغمور، وفي وسط هالته، ووسط أهلّته، شيح قد تقوّس واقعنسس، وتقلنس وتطلّس وهو يصدع بوعظ يشفي الصّدور، ويلين الصّخور فسمعته يقول، وقد افتتنت به العقول.(2/104)
* * * فلم يتكاءدني لاستماع المواعظ، واختبار الواعظ أن أقاصي اللّاغط،
وأحتمل الضّاغط. فأصحبت إصحاب المطواعة، وانخرطت في سلك الجماعة حتّى أفضينا إلى تاد جمع الأمير والمأمور، وحشد النّبية والمغمور، وفي وسط هالته، ووسط أهلّته، شيح قد تقوّس واقعنسس، وتقلنس وتطلّس وهو يصدع بوعظ يشفي الصّدور، ويلين الصّخور فسمعته يقول، وقد افتتنت به العقول.
* * * قوله: يتكاءدني، أي يشقّ علي أقاصي: أباعد. اللاغط: الصائح بكلام لا يفهم، والضاغط: الذي إذا زاحمك ضغطك لحائط أو غيره حتى ينقطع نفسك، يريد أنه لم يمنعه ما أصابه من السبّ والصياح به والضغط واللكز من مزاحمة الناس حتى قرب من الواعظ.
ويبين هذا قوله في الخمسين: «ولم أزل أتنقل في المراكز، وأغضى لّلاكز والواكز» أصحبت: انقدت. المطواعة: المنقادين المطاوعين. والانخراط: دخول الإنسان في الأمر بغير علم. وتقدّم السلك.
أفضينا: وصلنا، وأراد أنّ هذا المجلس جمع العامة والأمير، ومن له ذكر رفيع وشهرة. ومن هو مجهول مخمول. وأراد بالهالة حلقة الناس، وبالأهلّة أشراف الناس والعلماء. وحرّك السين من «وسط»، مع الهالة لأنها دارة وساحة العرب تقول: فلان جلس وسط الدار واحتجم وسط الرأس بالتحريك، وسكّن مع الأهلة لأنه أراد معنى بين، والعرب تقول: جلس وسط القوم، فحملوه على بين، لمّا حلّ محلّها وكان في معناها، ولا يجوز جلس بين الدار، فلهذا لا يقال جلس وسطها بالتسكين.
تقوّس: انحنى. اقعنسس: تقبّض واحدودب. والقعس: دخول الظهر وخروج الصدر، والحدب ضدّه وبيّنه الراجز بقوله [الرجز]
* أقعس يمشي مشية التقاعس *.
تقلنس: لبس القلنسوة. تطلس: لبس الطيلسان وهو كساء أخضر يلبسه الخواص.
يصدع: يشقّ.
* * * ابن آدم، ما أغراك بما يغرّك، وأضراك بما يضرّك، وألهجك بما يطغيك، وأبهجك بمن يطريك. تعني بما يعنّيك، وتهمل ما يعنيك، وتنزع في قوس تعدّيك، وترتدي الحرص الّذي يرديك لا بالكفاف تقتنع، ولا من الحرام تمتنع، ولا للعظات تستمع، ولا بالوعيد ترتدع. دأبك أن تتقلّب مع الأهواء، وتخبط خبط العشواء، وهمّك أن تدأب في الاحتراث، وتجمع التّراث للورّاث يعجبك التّكاثر
بما لديك ولا تذكر ما بين يديك، وتسعى أبدا لغاريك، ولا تبالي ألك أم عليك أتظنّ أن ستترك سدّى، وألّا تحاسب غدا أم تحسب أنّ الموت يقبل الرّشا، أو يميّز بين الأسد والرّشا. كلّا والله لن يدفع المنون، مال ولا بنون ولا ينفع أهل القبور سوى العمل المبرور، فطوبى لمن سمع ووعى وحقّق ما ادّعى ونهى النّفس عن الهوى، وعلم أنّ الفائز من ارعوى، وأن ليس للإنسان إلّا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى. ثمّ أنشد إنشاد وجل، بصوت زجل:(2/105)
* * * ابن آدم، ما أغراك بما يغرّك، وأضراك بما يضرّك، وألهجك بما يطغيك، وأبهجك بمن يطريك. تعني بما يعنّيك، وتهمل ما يعنيك، وتنزع في قوس تعدّيك، وترتدي الحرص الّذي يرديك لا بالكفاف تقتنع، ولا من الحرام تمتنع، ولا للعظات تستمع، ولا بالوعيد ترتدع. دأبك أن تتقلّب مع الأهواء، وتخبط خبط العشواء، وهمّك أن تدأب في الاحتراث، وتجمع التّراث للورّاث يعجبك التّكاثر
بما لديك ولا تذكر ما بين يديك، وتسعى أبدا لغاريك، ولا تبالي ألك أم عليك أتظنّ أن ستترك سدّى، وألّا تحاسب غدا أم تحسب أنّ الموت يقبل الرّشا، أو يميّز بين الأسد والرّشا. كلّا والله لن يدفع المنون، مال ولا بنون ولا ينفع أهل القبور سوى العمل المبرور، فطوبى لمن سمع ووعى وحقّق ما ادّعى ونهى النّفس عن الهوى، وعلم أنّ الفائز من ارعوى، وأن ليس للإنسان إلّا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى. ثمّ أنشد إنشاد وجل، بصوت زجل:
* * * قوله: «ما أغراك»: ما أكثر لصوقك. يغرّك: يدلّك على الغرر. أضراك: أشدّ ملازمتك. ألهجك: أشدّ حبك.
يطغيك: يردك طاغيا متجاوزا قدرك. أبهجك: أشدّ سرورك. يطريك: يمدحك في وجهك، والنفس ميالة كثيرة الانخداع بمن يعظّم شأنها ويثني عليها، فرّارة ممن يحقرها ويذمها، ولذا قال صلّى الله عليه وسلم: «احثوا التراب في وجوه المداحين» تذليلا لهم بذلك حيث أكسبوا غيرهم عزة النفس والكبر. قال الشاعر: [الكامل]
وخدعته بخديعة لمّا أبى ... والحرّ يخدع بالكلام الطيّب
تعني: تشتغل. يعنّيك: يتعبك. تنزع: ترمي. تعدّيك: ظلمك الحرص: أسوأ الطمع. يرديك: يهلكك.
* * * [بعض الحكم والمواعظ]
كعب بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والسّرف لدينه» (1).
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اقتربت الساعة ولا يزداد الناس إلا حرصا على الدنيا ولا تزداد منهم إلا بعدا».
وقال محمود الوراق: [الرمل]
كم إلى كم أنت للحر ... ص وللآمال عبد
ليس يجدي الحرص والسع ... ي إذا لم يك جدّ
__________
(1) أخرجه الترمذي في الزهد باب 43، والدارمي في الرقاق باب 21، وأحمد في المسند 3/ 456، 460.(2/106)
ما لما قدره الل ... هـ من الأمر مردّ
وفي كتاب للهند: لا ينبغي للملتمس من عيشه إلا الكفاف الذي يدفع به الحاجة عن نفسه، وما سوى ذلك فإنما هو زيادة في غمّه.
وقالت الحكماء: أقل الدنيا يكفي، وأكثرها لا يكفي.
وقال أبو ذؤيب: [الكامل]
والنّفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع (1)
وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لابنه: يا بنيّ، إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة، فإنها مال لا ينفد، وإياك والطّمع فإنما هو فقر حاضر. وعليك باليأس فإنك لم تيأس من شيء قطّ إلا أغناك الله عنه.
وقال: الغنيّ من استغنى بالله والفقير من افتقر إلى الناس.
قال ابن أبي حازم رحمه الله تعالى: [البسيط]
استغن بالله لا تضرع إلى النّاس ... واقنع بيأس فإن العزّ في الياس
واستغن عن كلّ ذي قربى وذي رحم ... إنّ الغنيّ من استغنى عن الناس
ومن دعاء عمر رضي الله عنه: اللهم، لا تكثر لي من الدنيا فأطغى، ولا تقلّل لي منها فأنسى، فإنّه ما قلّ وكفى، خير ممّا كثر وألهى.
وقالوا: ثمرة القناعة الراحة، وثمرة الحرص التعب.
وقالوا: لا غنى إلا غنى النفس.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «عندك ما يكفيك وأنت تطلب ما يطغيك! لا بقليل تقنع، ولا بكثير تشبع. يا بن آدم، إذا أصبحت آمنا في سربك معافى في بدنك، عندك قوت يومك فعلى الدنيا العفاء» (2).
وقيل لأبي حازم: ما مالك؟ فقال: مالان: الغنى بما في أيدي، واليأس مما في أيدي الناس.
وقيل لآخر: ما مالك؟ فقال: التجمّل في الظاهر والقصد في الباطن.
ومما قيل من الشعر في معنى ما تقدّم، قال محمود الورّاق: [السريع]
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في الدر 3/ 102، وشرح اختيارات المفصل ص 1693، وشرح أشعار الهذليين 1/ 7، وشرح شواهد المغني 1/ 262، ومغني اللبيب 1/ 93، وبلا نسبة في همع الهوامع 1/ 206.
(2) أخرجه الأخير من الحديث، الترمذي في الزهد باب 34، وابن ماجه في الزهد باب 9، بلفظ: «إذا أصبح آمنا في سربه معافى في جسده».(2/107)
يا عائب الفقر ألا تزدجر ... عيب الغنى أكبر لو تعتبر
من شرف الفقر ومن فضله ... على الغنى لو صحّ منك النظر
أنك تعصي الله تبغي الغنى ... وليس تعصي الله كي تفتقر
وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: [الطويل]
ومن سرّه أن لا يرى ما يسوءه ... فلا يتّخذ شيئا يخاف له فقدا
فإنّ صلاح المرء يرجع كلّه ... فسادا إذا الإنسان جاز به الحدّا
وقال البحتري: [الوافر]
إذا ما كان عندي قوت يوم ... طرحت الهمّ عني يا سعيد
ولم تخطر هموم غد ببالي ... لأن غدا له رزق جديد
وقال ابن طباطبا: [الرمل]
إنّ في نيل المنى وشك الرّدى ... وقياس القصد ضدّ السّرف
كسراج دهنه غمر له ... فإذا غرّقته فيه طفي
وقال آخر: [الكامل]
وإذا نبا بي منزل جاوزته ... واعتضت منه غيره لي منزلا
وإذا غلا شيء عليّ تركته ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
* * * قوله: «ولا بالوعيد ترتدع» أي لا تكفّ عن غيّك ولا ضلالك بما تخوّف به من أهوال الآخرة. دأبك، أي عادتك. الأهواء: جمع هوى، وهو ما تحبّه النفس وتميل إليه. تخبط: تمشي على عماية. العشواء: الناقة التي لا تبصر. تدأب: تداوم الاحتراث:
الكسب. التراث: المال الموروث.
وفي معناه أنه وجد على حائط مكتوبا: ابن آدم غافص (1) الفرصة عند إمكانها، وكل الأمور إلى وليّها، ولا تحلّ في قلبك همّ يوم لم يأت إن يكن من أجلك، يأتك الله برزقك فيه، ولا تجعل سعيك في طلب المال أسوة المغرورين، فربّ جامع لبعل حليلته.
واعلم أن تقتير المرء على نفسه توفير منه على غيره، فالسعيد من اتّعظ بهذه الكلمات.
قال بديع الزمان: [المتقارب]
أيا جامع المال من حلّه ... يبيت ويصبح في ظلّه
سيؤخذ منك غدا كلّه ... وتسأل من بعد عن كلّه
__________
(1) غافص الرجل مغافصة: أخذه على حين غرة.(2/108)
وله أيضا: [مجزوء الخفيف]
يا حريصا على الغنى ... قاعدا بالمراصد
لست في سعيك الّذي ... خضت فيه بقاصد
إن دنياك هذه ... لست فيها بخالد
بعد هذا فإنما ... أنت ساع لقاعد
وقال سابق البربري: [الطويل]
فحتى متى تلهو بمنزل باطل ... كأنك فيه ثابت الأصل قاطن
وتجمع مالا تأكل الدهر دائبا ... كأنك في الدنيا لغيرك خازن
وقال رجال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن فلانا جمع مالا، قال: فهل جمع له أياما! أخذه الشاعر فقال: [البسيط]
ارفه يعيش فتى يغدو على ثقة ... إنّ الذي قسم الأرزاق يرزقه
فالعرض منه مصون لا يدنّسه ... والوجه منه جديد ليس يخلقه
جمعت مالا ففكّر هل جمعت له ... يا جامع المال أياما تفرّقه
المال عندك مخزون لوارثه ... ما المال مالك إلا حين تنفقه
قوله: «التكاثر» أي كثرة المال، تقول: تكاثر المال تكاثرا: جاز الحدّ في الكثرة.
أبو سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أمسى وأصبح وهمّه الدينار والدرهم تكاثرا حشر مع اليهود والنصارى، والذين قالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر».
تسعى لغاريك: تجهد في كسبك لتدرك شهوة بطنك وفرجك، وهما الغاران، قيل:
هما الفرج والفم. وقيل: الحنكان: الأعلى والأسفل وأخذ اللفظ من قول الشاعر:
[الطويل]
ألم تر أنّ الدهر يوم وليلة ... وأن الفتى يسعى لغاريه دائبا (1)
قوله سدى، أي مهمل مسيّب. الرّشا بالضم: جمع رشوة وهي العطية تدفع بها مضرّة من يقدر عليك. الرّشا، بالفتح: الغزال. كلّا: زجر. المنون: هي المنيّة، المبرور: المتقبّل. وعى: حفظ الوصية. ما ادعى، أي ما ادعاه من أنه قبل الوصية.
__________
(1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (غور)، والمخصص 13/ 224، وديوان الأدب 3/ 334، ومجمل اللغة 4/ 29، وأساس البلاغة (غور) وتاج العروس (غور)، ويروى البيت:
ألم ترى أنّ الدهر يوم وليلة ... وأنّ الفتى يمسي بحبليه عانيا
وهو بهذه الرواية لمعروف بن ظالم في لسان العرب (حبل).(2/109)
وحققه: داوم عليه بعمله. ارعوى: رجع وتاب. ما سعى: أي ما عمل وتعب فيه.
الفائز: الظافر بحاجته. وجل: خائف. زجل: شديد، وزجل الصوت زجلا: ارتفع وأيضا طرّب.
وقال أبو العتاهية فيما تقدّم من ذكر الموت: [مجزوء الرمل]
بين عيني كلّ حين ... علم الموت يلوح
كلنا في غفلة وال ... موت يغدو ويروح
وقال البديع: [مجزوء الرمل]
إنما الدّنيا غرور ... ولمن أصغى نصيح
ولسان الدهر بالوع ... ظ لواعيه فصيح
نحن لاهون وآجا ... ل المنايا لا تريح
* * * [الطويل]
لعمرك ما تغني المغاني ولا الغنى ... إذا سكن المثري الثرى وثوى به
فجد في مراضي الله راضيا ... بما تقتني من أجره وثوابه
وبادر به صرف الزّمان فإنّه ... بمخلبه الأشغى يغول ونابه
ولا تأمن الدّهر الخؤون ومكره ... فكم خامل أخنى عليه ونابه
وعاص هوى النّفس الّذي ما أطاعه ... أخو ضلّة إلّا هوى من عقابه
وحافظ على تقوى الإله وخوفه ... لتنجو ممّا يتّقى من عقابه
ولا تله عن تذكار ذنبك وابكه ... بدمع يضاهي المزن حال مصابه
ومثل لعنيك الحمام ووقعه ... وروعه ملقاه ومطعم صابه
وإنّ قصارى منزل الحيّ حفرة ... ستنزلها مستنزلا عن قبابه
فواها لعبد ساءه سوء فعله ... وأبدى التّلافي قبل إغلاق بابه
* * * قوله: لعمرك، العمر البقاء، فأقسم به كأنه قال: وحق بقائك الكريم عليّ المحبّب إليّ.
المغاني: المنازل الشريفة. المثري: الكثير المال. الثّرى: التراب النديّ، وأثرى صار له كثير من المال كالثري في كثرته. ثوى: أقام. جد: تكرّم بمالك. تقتني:
تكتسب، أي لا تنفع المنازل الرفيعة البناء ولا المال الكثيرة إذا آل الحال إلى الموت.
بادر: سابق. صرف: تقلّب.(2/110)
الأشغى: المعوجّ. يغول: يهلك. نابه: ضرسه. الخؤون: الكثير الخيانة. النابه والنبيه، من النباهة وهي الجلالة والرفعة، والخامل ضدّه. وأخنى عليّ: أخذ مالي.
ضلّة، أي ضلالة، وهوى: سقط. عقابه الأول جباله، والثاني عذابه تله: تشتغل.
يضاهي: يشابه. الوبل: أكثر المطر. حال مصابه، أي حال وقوعه، والمصاب: مصدر صاب يصوب صوبا ومصابا. الحمام: الموت. روعة: فزع صاحبه حين يلقاه. صابه:
مرّه، والصاب شجر مرّ. وقصارى: آخر ونهاية، كأنه قصر عندها أي جلس فلم يجاوزها. واها: عجبا. التلافي: التدارك لما فات إغلاق بابه، أي موته.
[لقاء ملك الموت]
وفي روعة ملقاه يحكى أنّ إبراهيم عليه السلام، قال لملك الموت: هل تستطيع أن تريني صورتك التي تقبض عليها روح الفاجر، قال: لا تستطيع ذلك، قال: بلى، قال:
فأعرض عني، ثم التفت، فإذا هو برجل أسود قائم الشعر منتن الريح، أسود الثياب، يخرج من فيه ومن منخريه لهيب النار والدخان. فغشي على إبراهيم عليه السلام، ثم أفاق وقد عاد إلى صورته: فقال إبراهيم: لو لم يكن للفاجر عند موته إلا صورتك لكان حسبه.
وفي مطعم صابه، يحكى أنّ إبراهيم عليه السلام قال له الله تعالى: كيف وجدت الموت يا خليلي؟ قال: كسفّود جعل في صوف رطب، قال: أما إنّا هونّا عليك. وقال لموسى عليه السلام: كيف وجدت الموت؟ قال كعصفور يقلى على المقلى، لا يموت فيستريح، ولا يطير فينجو. وفي رواية: كشاة تسلخ من جلدها وهي حية.
وقال كعب الأحبار لعمر رضي الله عنهما، وقد سأله أن يحدّثه عن الموت، قال:
الموت يا أمير المؤمنين كغصن كثير الشّوك، أدخل جوف رجل، فأخذت كلّ شوكة بعرق، ثم جذبه رجل شديد الجذب، فأخذ الغصن ما أخذ، وأبقى ما أبقى.
وكان النبي صلّى الله عليه وسلم عند موته يقول: «إن للموت لسكرات، اللهم هوّن عليّ سكرات الموت» (1).
وقالت عائشة رضي الله عنها: «لا أغبط أحدا يهون عليه الموت بعد الذي رأيته من موته صلّى الله عليه وسلم» (2).
فهذه حال أحبابه فكيف بمن غمر في بحار المعاصي! اللهم عفوك.
وشعر المقامة مزدوج القوافي، وعارضه الزاهد بن عمران فقال: [السريع]
__________
(1) أخرجه بلفظ: «اللهم أعني على سكرات الموت»: ابن ماجه في الجنائز باب 64، والترمذي في الجنائز باب 7، وأحمد في المسند 6/ 64، 70، 77، 151.
(2) أخرجه الترمذي في الجنائز باب 8.(2/111)
ما لي وللدنيا وعلمي بها ... غرّارة خدّاعة ما لي
تغرني حتّى إذا مكّنت ... تعبث في نفسي وفي مالي
همت بها حبا فقد أفسدت ... ما كان من صالح أعمالي
أعمى الهوى قلبي وحبّي، لها ... رأس خطاياي وأعمالي
تبكي على الفائت من حظّها ... عيني بتسكاب وإهمالي
يا ربّ زهّدني في حبها ... ولا تؤاخذني بإهمالي
وله في مثله: [السريع]
ارغب عن الدنيا وأوصافها ... مشوبة جاءتك أوصافيه
قتل أولي الألباب من فعلها ... فاصغ إلى نصحي وأوصافيه
ما بالغنى يغترّ ذو فطنة ... كلّا ولا يغترّ بالعافيه
كم من غنى قد عاد فقرا وكم ... عافية قد أصبحت عافيه
وله أيضا: [السريع]
ما الزهد يا قوم فلا تجهلوا ... بلبس أسمال وأخلاق
لكنه لبس ثياب التقى ... في حسن آداب وأخلاق
وله أيضا: [الطويل]
خليليّ لا يغررك منّي ظاهري ... ومهما سألت الله فاسأله لي صفحا
فلو كنت ذا علم كعلمي بباطني ... لأضربت عن ذكري أيادي النهى صفحا
ولكن أرى الله الجميل بفضله ... فلم يفش لي سرّا ولم يبد لي صفحا
وقال بعض الزهاد لصاحبه: إني أحبك في الله، فقال له: لو علمت مني ما أعلم من نفسي لأبغضتني في الله.
وله أيضا: [المتقارب]
تحفظ بدينك لا تبتذله ... ولا تلف عرضك عرضا كليما
وعدّ عن الذنب لا تأته ... وبادر بإصلاح ما منك ليما
فأنت ابن عمران موسى المسيء ... ولست ابن عمران موسى الكليما
وقال غيره: [مجزوء الكامل]
لا تأمن الدهر الخؤو ... ن وخف بوادر بغتته
فالموت سهم مرسل ... والعمر قدر مسافته
* * *
قال: فظلّ القوم بين عبرة يذرونها، وتوبة يظهرونها حتّى كادت الشّمس تزول، والفريضة تعول. فلمّا خشعت الأصوات، والتأم الإنصات، واستكنّت العبرات والعبارات استصرخ مستصرخ بالأمير الحاضر، وجعل يجأر إليه من عامله الجائر، والأمير صاغ إلى خصمه، لاه عن كشف ظلمه.(2/112)
لا تأمن الدهر الخؤو ... ن وخف بوادر بغتته
فالموت سهم مرسل ... والعمر قدر مسافته
* * *
قال: فظلّ القوم بين عبرة يذرونها، وتوبة يظهرونها حتّى كادت الشّمس تزول، والفريضة تعول. فلمّا خشعت الأصوات، والتأم الإنصات، واستكنّت العبرات والعبارات استصرخ مستصرخ بالأمير الحاضر، وجعل يجأر إليه من عامله الجائر، والأمير صاغ إلى خصمه، لاه عن كشف ظلمه.
فلما يئس من روحه، استنهض الواعظ لنصحه فنهض نهضة الشّمّير، وأنشد معرّضا بالأمير.
* * * قوله: «عبرة يذرونها»، أي دمعة يصبّونها. وتعول: تزيد وتضيق، يريد يضيق وقتها، ويدخل عليها وقت غيرها فترجع صلاتين. خشعت: ذلّت. التأم الإنصات: اتّصل السكوت. استكنّت العبرات والعبارات، أي سكن البكاء والكلام. استصرخ مستصرخ، أي استغاث مستغيث. يجأر: يصيح. يريد أنّ رجلا تشكّى للأمير من عامل له ولّاه عليهم، فجار، فمال الأمير مع الوالي، وترك المشتكي. وقوله: صاغ، أي مائل. ولاه:
أي تارك ومشتغل. يئس: قطع رجاءه. روحه: نصرته وعدله الذي يريح المشتكي، والرّوح: الفرح والسرور. استنهض: سأله النهوض لينصح الأمير.
عائشة رضي الله عنها: قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كان ذا وصلة لأخيه المسلم إلى السلطان في مبلغ برّ، وتيسير عسير، أعانه الله على إجازة الصراط: يوم دحض الأقدام».
الشّمّير: الماضي في أموره: معرّضا: من التعريض وهو أن تخاطب غيره وأنت تريده.
* * * [الكامل]
عجبا لراج أن ينال ولاية ... حتّى إذا ما نال بغيته بغى
يسدي ويلحم في المظالم والغا ... في وردها طورا وطورا مولغا
ما إن يبالي حين يتّبع الهوى ... فيها أأصلح دينه أم أوتغا
يا ويحه لو كان يوقن أنّه ... ما حالة ألّا تحول، لما طغى
أو لو تبيّن ما ندامة من صغا ... سمعا إلى إفك الوشاة لما صغا
فانقد لمن أضحى الزمام بكفّه ... وتغاض إن ألغى الرّعاية أولغا
وارع المرار إذا دعاك لرعيه ... ورد الأجاج إذا حماك السّيّغا
واحمل أذاه ولو أمضك مسّه ... وأسال غرب الدّمع منك وأفرغا
فليضحكنك الدّهر منه إذا نبا ... عنه وشبّ لكيده نار الوغى
ولينزلنّ به الشّمات إذا بدا ... متخلّيا من شغله متفرّغا
ولتأوينّ له إذا ما خدّه ... أضحى على ترب الهوان ممرّغا
نال بغيته: أي أدرك ما طلب. بغى: جار وظلم. يسدي ويلحم، أي متصرّف في المظالم طولا وعرضا، ومقبلا ومدبرا. والسّدي: خيوط الثوب طولا، واللحمة خيوطه عرضا: والغا: شاربا. وردها: ماؤها. مولغا: مسقيا غيره، ويريد أنه يباشر الظلم بنفسه تارة، ويوليه غيره أخرى. أوتغ: أفسد وأهلك.(2/113)
عجبا لراج أن ينال ولاية ... حتّى إذا ما نال بغيته بغى
يسدي ويلحم في المظالم والغا ... في وردها طورا وطورا مولغا
ما إن يبالي حين يتّبع الهوى ... فيها أأصلح دينه أم أوتغا
يا ويحه لو كان يوقن أنّه ... ما حالة ألّا تحول، لما طغى
أو لو تبيّن ما ندامة من صغا ... سمعا إلى إفك الوشاة لما صغا
فانقد لمن أضحى الزمام بكفّه ... وتغاض إن ألغى الرّعاية أولغا
وارع المرار إذا دعاك لرعيه ... ورد الأجاج إذا حماك السّيّغا
واحمل أذاه ولو أمضك مسّه ... وأسال غرب الدّمع منك وأفرغا
فليضحكنك الدّهر منه إذا نبا ... عنه وشبّ لكيده نار الوغى
ولينزلنّ به الشّمات إذا بدا ... متخلّيا من شغله متفرّغا
ولتأوينّ له إذا ما خدّه ... أضحى على ترب الهوان ممرّغا
نال بغيته: أي أدرك ما طلب. بغى: جار وظلم. يسدي ويلحم، أي متصرّف في المظالم طولا وعرضا، ومقبلا ومدبرا. والسّدي: خيوط الثوب طولا، واللحمة خيوطه عرضا: والغا: شاربا. وردها: ماؤها. مولغا: مسقيا غيره، ويريد أنه يباشر الظلم بنفسه تارة، ويوليه غيره أخرى. أوتغ: أفسد وأهلك.
يا ويحه، قال الأزهري رحمه الله تعالى: ويح كلمة رحمة، وويل كلمة عذاب، والفرق بين ويح وويل أنّ ويح تقال لمن وقع في بليّة، يرحم ويدعى له بالتخلص منها.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ويحك»، فجزعت فقال لي: «يا حميراء، إن ويح كلمة رحمة فلا تجزعي منها ولكن اجزعي من الويل».
يوقن: يحقق. تحول: تتغير. طغى: ارتفع وجاز الحدّ في الجور. صغى: مال.
إفك. كذب. الوشاة: جمع واش، وقد تقدم. انقد: أطع، يقول: من أصبح حاكمك فاتبعه وأطع له. تغاض: تغافل. ألغى: ترك. الرعاية: المحافظة للحقوق. لغا: أخطأ وقال قبيحا، ثم قال: إن حملك على الذل فاحتمله، وكنّي برعي المرار عنه. رد الأجاج: اشرب الماء المّر والملح. حماك السّيّغا: منعك العذب السهل للشرب.
أمضّك: أحرقك وصيّرك مهموما، والمضّ التوجع من قول أو جرح. مسّه: وقعه بجسمك. والغرب: فيض الدمع، والغرب: الدلو.
* * * [الكامل]
هذا له ولسوف يوقف موقفا ... فيه يرى ربّ الفصاحة ألثغا
وليحشرنّ أذلّ من فقع الفلا ... ويحاسبنّ على النقيصة والشّغا
ويؤاخذنّ بما اجتنى ومن اجتبى ... ويطالبنّ بما احتسى وبما ارتغى
ويناقشنّ على الدقائق مثل ما ... قد كان يصنع بالورى بل أبلغا
حتّى يعضّ على الولاية كفّه ... ويودّ لو لم يبغ منها ما بغى
* * * هذا له، إشارة إلى ذل العزل. الألثغ: الأخرس المحبوس اللسان، وهو أيضا الذي يبدل الباء والراء غينا. وربّها: صاحبها. والفقع: ضرب من الكمأة من وطئه كسره لضعفه، وهو الفقّاع، وبه يضرب المثل، فيقال: أذلّ من فقع بقرقر.
الشّغا: الزيادة. اجتنى: جمع أموال الناس وضبطها لنفسه. اجتبى: اختار، يريد أنه يطالب بما أخذ من الدنيا ويحاسب على الوالي الذي اختاره وولّاه.(2/114)
احتسى: شرب الحسوة من اللبن بعد الحسوة. ارتغى: شرب الرّغوة، أي يؤاخذ بالقليل والكثير والظاهر والباطن. يناقش: يبحث عليه ويخرج ما عنده. أبلغ: أزيد.
يبغ، يدرك ويطلب.
[الولاية والولاة]
ونذكر هنا فصلا من الآداب يحتوي على الولاية والعزل والتشكّي من الولاة، حسبما تضمّن هذا الموضع في المقامة.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ستحرصون على الإمارة، وتكون حسرة وندامة فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة» (1).
أراد عمر رضي الله عنه أن يستعمل رجلا فبدر الرجل يطلب العمل فقال: قد كنّا أردنا لذلك، ولكن من طلب هذا العمل لم يعن عليه.
ولقي عمر رضي الله عنه أبا هريرة رضي الله عنه فقال: ألا تعمل؟ فقال: ما أريد العمل، قال: قد طلبه من هو خير منك، يوسف الصديق عليه السلام قال: {اجْعَلْنِي عَلى ََ خَزََائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].
قال المغيرة بن شعبة: أحبّ الإمرة لثلاث: لرفع الأولياء، ووضع الأعداء ولستر خاص الأشياء. وأكرهها لثلاث: لروعة البريد، وذلّ العزل وشماتة الأعداء.
وقال أمير لأعرابيّ: قل الحق وإلّا أوجعتك ضربا، قال: وأنت فاعمل به، فو الله لما وعدك الله على تركه أعظم مما توعّدتني به.
وذكر أهل السلطان عند أعرابيّ، فقال أما والله إن اعتزّوا في الدنيا بالجور لقد ذلوا في الآخرة بالعدل، ولقد رضوا بقليل، فإن عوضا من كثير باق، وإنما تزلّ القدم حيث لا ينفع الندم.
تظلم رجل للمأمون من عامل له، فقال له: يا أمير المؤمنين، ما ترك لنا فضة إلا فضّها، ولا ذهبا إلا ذهب به، ولا ماشية إلا مشى بها، ولا غلّة إلا غلّها، ولا ضيعة إلا أضاعها، ولا علقا إلا علقه، ولا عرضا إلا عرض له، ولا جليلا إلا أجلّه، ولا دقيقا إلا دقه. فعجب المأمون من فصاحته، وقضى حاجته.
قحطبة بن حميد: إني لواقف على رأس المأمون يوما، وقد جلس للمظالم فكان آخر من دخل عليه وتقدم إليه امرأة وقد همّ بالقيام، عليها أهبة السفر وثياب رثّة. فوقفت بين يديه، وقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فنظر المأمون إلى
__________
(1) أخرجه البخاري في الأحكام باب 7، والنسائي في البيعة باب 39، والقضاة باب 5، وأحمد في المسند 2/ 448، 476.(2/115)
يحيى بن أكثم، فقال يحيى: وعليك السلام يا أمة الله، تكلمي في حاجتك، فقالت: [البسيط]
يا خير منتصف يرجى له الرّشد ... ويا إماما به قد أشرق البلد
تشكو إليك عميد الملك أرملة ... عدا عليها فلم يترك لها سبد
وابتزّ مني ضياعي بعد منعتها ... ظلما وفرّق منّي الأهل والولد
فأطرق المأمون حينا ثم رفع رأسه فقال: [البسيط]
في دون ما قلت زال الصّبر والجلد ... عنّي وأقرح منّي القلب والكبد
هذا أوان صلاة العصر فانصرفي ... واحضري الخصم في الوقت الذي أعد
والمجلس السبت أن يقض الجلوس لنا ... ننصفك منه وإلا المجلس الأحد
فجلس يوم الأحد، فكانت أوّل من تقدم إليه، فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: وعليك السّلام، أين الخصم؟ فقالت: واقف على رأسك، وأشارت إلى ابنه العباس، فقال: يا أحمد بن أبي خالد، خذ بيده فأجلسه معها للخصومة. ففعل.
فجلس، فجعل كلامها يعلو كلامه فقال لها: أحمد يا أمة الله، أنت بين يدي أمير المؤمنين وتكلّمين الأمير، فاخفضي من صوتك، فقال له المأمون: دعها يا أحمد فالحقّ أنطقها والباطل أخرسه. ثم قضى لها بردّ ضباعها وظلم العباس. وأمر لها بنفقة وبكتاب إلى عامل بلدها أن يحسن معاونتها.
قال أبو العيناء: كان عيسى بن فرخان شاه يتيه عليّ في وزارته، فلما صرف رهبني، فلما لقيني سلّم عليّ فدنوت منه وقلت له: والله لقد كنت أقنع بإيمائك دون بيانك، وبلحظك دون لفظك، والحمد لله على ما آلت إليه حالتك، فلئن أخطأت فيك النعمة فلقد أصابت فيك النقمة، وإن كانت الدنيا أبدت مقابحها بالإقبال عليك، فلقد أظهرت محاسنها بالانصراف عنك، ولله المنة إذ أغنانا عن الكذب عليك، ونزّهنا عن قول الزور فيك، فقد والله أسأت حمل النّعم، وما شكرت حقّ المنعم. فقيل له: يا أبا عبد الله، لقد أبلغت في السّب، فما كان الذنب؟ فقال: سألته حاجة أقلّ من قيمته، فردّني عنها بأقبح من صورته.
وقال ابن الروميّ في أبي الصقر، وكان قد مدحه فلم يرفع به رأسا: [الكامل]
فلئن نكبت لطالما نكبت ... بك همة لجأت إلى سندك
لو تسجد الأيام ما سجدت ... إلا ليوم فتّ في عضدك
يا نعمة ولّت غضارتها ... ما كان أقبح حسنها بيدك
فلقد غدت بردا على كبدي ... لما غدت حرّا على كبدك
وقال فيه: [السريع]
خفّض أبا الصقر فكم طائر ... خرّ صريعا بعد تحليق
زوّجت نعمى لم تكن كفؤها ... فصانها الله بتطليق
لا قدّست نعمى تسربلتها ... كم حجّة فيها لزنديق
وقال فيه قبل النكبة: [الوافر](2/116)
خفّض أبا الصقر فكم طائر ... خرّ صريعا بعد تحليق
زوّجت نعمى لم تكن كفؤها ... فصانها الله بتطليق
لا قدّست نعمى تسربلتها ... كم حجّة فيها لزنديق
وقال فيه قبل النكبة: [الوافر]
غدا يعلو الجياد وكان يعلو ... إذا ما استفره السبت الطّراقا
أعنّتها الشّسوع فإن عراها ... حفاء الكدّ أنعلها طراقا
فزوّج بعد فقر منه نعمى ... أراني الله صبحتها طلاقا
ومن غرائب التكاتب في العزل، ما كتب به أحمد بن مهران إلى معزول: بلغني أعزّك الله انصرافك عن عملك، فسررت بذلك، ولم أستفظعه لعلمي بأن قدرك أجلّ وأعلى من أن يرفعك عمل تتولاه، أو يضعك عزل عنه، والله لو لم تختر الانصراف، وترد الانعزال، لكان في لطف تدبيرك، وثقوب رويّتك، وحسن تأتّيك، ما تزيل به السبب الداعي إلى عزلك والباعث على صرفك، ونحن إلى أن نهنّئك بهذا الحال، أولى بنا من أن نعزّيك إذ أردت الصرف فأوتيته، وأحببت الاعتزال فأعطيته، فبارك الله لك في منقلبك وهنّأك النعم بدوامها، ورزقك الشكر الموجب المزيد لك فيها.
كان أبو شراعة لا يسأل ابن المدبّر حاجة إلا قضاها، ولا يشفع لأحد إلا شفّعه، فلما عزل إبراهيم بن المدبر عن البصرة شيّعه الناس، فردّهم حتى لم يبق إلا أبو شراعة، فقال يا أبا شراعة، غاية كلّ مودّع الفراق. فانصرف راشدا مكلوءا من غير قلى والله ولا ملل. وأمر له بعشرة آلاف درهم. فعانقه أبو شراعة وبكى وأطال، ثم قال وهو أحسن ما قيل في التهنئة بالعزل: [الرمل]
يا أبا إسحق سر في دعة ... وامض مكلوءا فما منك خلف
ليت شعري أيّ أرض أجدبت ... فأريحت بك من جهد العجف
نزل اللطف من الله بهم ... وحرمناك بذنب قد سلف
إنما انت ربيع باكر ... حيثما صرّفه الله انصرف
ومن ملح هذا الباب أنّ بعض الوزراء قلّد ابن حجاج عملا، فخرج إليه يوم الخميس، وتبعه كتاب عزله يوم الأحد، فقال فيه: [مجزوء الكامل]
يا من إذا نظر الهلا ... ل إلى محاسنه سجد
وإذا رأته الشمس كا ... دت أن تموت من الحسد
يوم الخميس بعثتني ... وصرفتني يوم الأحد
والناس قد غنوا ع ... ليّ لمّا خرجت من البلد
ما قام عمرو في الولا ... ية قائما حتى قعد
* * *
ثم قال: أيّها المتوشّح بالولاية، المترشّح للرّعاية دع الإدلال بدولتك، والاغترار بصولتك فإنّ الدّولة ريح قلّب، والإمرة برق خلّب. وإن أسعد الرّعاة، من سعدت به رعيّته، وأشقاهم في الدّارين من ساءت رعايته فلا تك ممّن يذر الآخرة ويلغيها، ويحبّ العاجلة ويبتغيها، ويظلم الرّعيّة ويؤذيها وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها فو الله ما يغفل الدّيان، ولا تهمل يا إنسان، ولا تلغى الإساءة ولا الإحسان بل سيوضع لك الميزان، وكما تدين تدان.(2/117)
يا من إذا نظر الهلا ... ل إلى محاسنه سجد
وإذا رأته الشمس كا ... دت أن تموت من الحسد
يوم الخميس بعثتني ... وصرفتني يوم الأحد
والناس قد غنوا ع ... ليّ لمّا خرجت من البلد
ما قام عمرو في الولا ... ية قائما حتى قعد
* * *
ثم قال: أيّها المتوشّح بالولاية، المترشّح للرّعاية دع الإدلال بدولتك، والاغترار بصولتك فإنّ الدّولة ريح قلّب، والإمرة برق خلّب. وإن أسعد الرّعاة، من سعدت به رعيّته، وأشقاهم في الدّارين من ساءت رعايته فلا تك ممّن يذر الآخرة ويلغيها، ويحبّ العاجلة ويبتغيها، ويظلم الرّعيّة ويؤذيها وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها فو الله ما يغفل الدّيان، ولا تهمل يا إنسان، ولا تلغى الإساءة ولا الإحسان بل سيوضع لك الميزان، وكما تدين تدان.
قال: فوجم الوالي لما سمع، وامتقع لونه وانتقع، وجعل يتأفّف من الإمرة، ويردف الزّفرة.
[اللثغ من الشعر]
وذكر اللثغ، وللشعراء في اللثغ ما يستحسن، قال ابن شهيد: [الكامل]
مرض الجفون ولثغة في المنطق ... شيآن جرّا عشق من لم يعشق
ينبي فينبو في الكلام لسانه ... فكأنه من خمر عينيه سقي
لا ينعش الألفاظ من عثراتها ... ولو أنها كتبت له في مهرق
وأحسن ما في وصفه قول الرماديّ: [الكامل]
لا الراء تطمع في الوصال ولا أنا ... الهجر يجمعنا فنحن سواء
فإذا خلوت كتبتها في راحتي ... فبكيت منتحبا أنا والراء
اخذه أبو القاسم بن العريف، فقال: [الخفيف]
أيها الألثغ الذي شفّ قلبي ... جد بحرف ولو نطقت بسبّي
هجرك الراء مثل هجري سواء ... فكلانا معذّب دون ذنب
فإذا شئت أن أرى لي مثالا ... في غرامي خططت راء بجنبي
* * * قوله: «المتوشّح» أي المحتزم. والمترشح: المهيىء للرعاية أي لحفظ الناس.
الاغترار الانخداع. صولتك: عزّك وقهرك، يقال: صال الرجل على قرنه، والفحل على إبله، أي قهر وعلا، والفحل أيضا عض، وربما همز فعل الفعل. قلّب، أي متقلّب.
خلّب: خادع لا ماء فيه، يريد أنّ الولاية تنقل من إنسان إلى آخر. تلغى: تهمل.
العاجلة: الدنيا لأن خيرها معجّل. تولّى: صار واليا. سعى: مشى مسرعا.
ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من ولي من أمر أمتي شيئا
فحسنت سريرته رزق الهيبة في قلوبهم، وإذا بسطت يده لهم بالمعروف رزق المحبة منهم، وإذا أنصف الضعيف من القويّ قوّى الله سلطانه وإذا عدل مدّ في عمره» (1): وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم. «آفة الدين ولاة السوء، أيّما وال ولي شيئا من أمور المسلمين فلم ينصح لهم، ولم يجتهد كنصيحته وجهده لنفسه، كبّه الله تعالى على وجهه يوم القيامة».(2/118)
ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من ولي من أمر أمتي شيئا
فحسنت سريرته رزق الهيبة في قلوبهم، وإذا بسطت يده لهم بالمعروف رزق المحبة منهم، وإذا أنصف الضعيف من القويّ قوّى الله سلطانه وإذا عدل مدّ في عمره» (1): وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم. «آفة الدين ولاة السوء، أيّما وال ولي شيئا من أمور المسلمين فلم ينصح لهم، ولم يجتهد كنصيحته وجهده لنفسه، كبّه الله تعالى على وجهه يوم القيامة».
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ولا الآخرة للدنيا، ولكن من أخذ من هذه وهذه».
الديان: المجازي وهو الله سبحانه وتعالى، لأنه يجزي العباد على أعمالهم.
وقال الألبيريّ: [الكامل]
كل امرئ فيما يدين يدان ... سبحان من لم يخل منه مكان
يا عامر الدنيا ليسلكنها وما ... هي بالتي يبقى بها سكان
تفنى وتبقى الأرض بعدك مثل ما ... يبقى المناخ وترحل الركبان
أأسرّ في الدنيا بكلّ زيادة ... وزيادتي فيها هي النقصان
تهمل: تترك هملا. وجم: سكت غاضبا وامتقع وانتقع: تغيّر وذهب الدم من وجهه، ويقال في معناهما: انتقع واهتقع.
يتأفف: يقول: أف أف، وذلك فعل النادم المهموم. الزفرة: النفخة من الهمّ.
* * * ثم عمد إلى الشّاكي فأشكاه، وإلى المشكوّ منه فأشجاه، وألطف الواعظ وحباه، واستدعى منه أن يغشاه، فانقلب عنه المظلوم منصورا، والظّالم محصورا، وبرز الواعظ يتهادى بين رفقته، ويتباهى بفوز صفقته. واعتقبته أخطو متقاصرا، وأريه لمحا باصرا.
فلمّا استشفّ ما أخفيه، وفطن لتقلّب طرفي فيه، قال: خير دليليك من أرشد، ثم اقترب منّي وأنشد: [الرجز]
أنا الذي تعرفه يا حارث ... حدث ملوك فكه منافث
أطرب ما لا تطرب المثالث ... طورا أخو جدّ، وطورا عابث
ما غيّرتني بعدك الحوادث ... ولا التحى عودي خطب كارث
ولا فرى حدّي ناب فارث ... بل مخلبي بكل صيد ضابث
وكل سرح فيه ذئبي عائث ... حتّى كأني للأنام وارث
* سامهم وحامهم ويافث *
* * *
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 1/ 143.(2/119)
أشكاه: أنصفه ورفع عنه شكواه، وفي الحديث: «شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حرّ الرمضاء فلم يشكنا» (1). أي لم يزل شكوانا، أي شكوا إليه ما يصيب أقدامهم من شدّة الحر في صلاة الظهر، وسألوه تأخيرها إلى الإبراد، فلم يجبهم إلى ذلك، وأنشد يعقوب: [الرجز]
* ونشتكي لو أنها تشكينا *
* * * والمشكو إليه الوالي الذي اشتكى إليه. أشجاه: آذاه وأبكاه. ألطف: برّه وأكرمه.
حباه: أعطاه الحباء. يغشاه: يزوره. محصورا: محبوسا. يتهادى: يمشي متثاقلا مشي الوقار. يتباهى: يتعاظم بفوز صفقته، بظفر قصته مع الوالي، وفاز فوزا: ظفر بخير دنياه وأخراه، وأصل الصفقة في البيع هو أن تضرب بيدك على يد مبايعك. اعتقبته: مشيت خلفه، كأنك تطأ بصدور قدميك مواطىء عقبيه. أخطو متقاصرا: أي أمشي مستخفيا متشبّها بالقصار. لمحا باصرا: أي نظرا شديدا. استشفّ: استقصى. فطن: تنبّه وشعر.
أرشد: دلّ، يقول: إذا كان لك دليلان، فخيرهما من هداك الطريق، فلما رآه ينظر وتشكك فيه. قال: خير دليليك من دلّك عليّ. اقترب: قرب.
حدث ملوك، أي يحدّثهم بما يطربون. فكه: طيب الحديث، والفكه المزّاح الحسن الخلق، وفكه فكها وفكاهة: طابت نفسه وكثر ضحكه، قال الشاعر: [الكامل]
فكه إلى جنب الخوان إذا غدت ... نكباء تقطع ثابت الأطناب (2)
أبو عبيدة: رجل فكه: يأكل الفاكهة، وفاكه: عنده فاكهة.
وقال الشاعر أيضا: [الكامل]
فكه العشيّ إذا تأوّب رحله ... صيف الشتاء مسامح بالميسر (3)
أي يأكل الفاكهة وقرئ «فاكهين وفكهين»: قال الفراء رحمه الله تعالى: معناهما واحد أي معجبين بما آتاهم ربهم، كطمع وطامع، وفكه وتفكه إذا تعجّب ومنه: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65] وقيل: معناه تندمون.
قوله: منافث، أي محادث. المثالث: من أوتار العود. طورا: حينا. عابث: لاعب.
الحوادث: ما يحدثه الدهر من خير أو شر. التحى: قشر. خطب كارث: أمر ثقيل صعب.
فرى: قطع. نابي: ضرسي. فارث: مفتّت للكبد، قال الشاعر: [مجزوء الوافر]
__________
(1) أخرجه بنحوه، مسلم في المساجد حديث 189، 190، والنسائي في المواقيت باب 2، وابن ماجه في الصلاة باب 3، وأحمد في المسند 5/ 108، 110.
(2) البيت بلا نسبة في لسان العرب (فكه)، وأساس البلاغة (فكه)، وتهذيب اللغة 6/ 26.
(3) البيت لصخر بن عمرو بن الشريد في أساس البلاغة (فكه).(2/120)
هوى من صخرة صلد ... ففرث تحتها كبده
وفرثت الكرش: أخرجت ما فيها من الزبل. ضابث: قابض عليه. السرح:
لمواشي تغدو راعية في المسرح وتروح منه. عائث: مفسد آكل لها.
* * * [سام وحام ويافث]
وسام وحام ويافث، أولاد نوح عليه الصلاة والسلام، وفيهم نزلت: {وَجَعَلْنََا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبََاقِينَ} [الصافات: 77] وبذلك جاءت الأخبار، وهم لأمّ واحدة. وأصاب حام امرأته في السفينة. فدعا نوح عليه السلام أن يغيّر الله نطقته، فجاءت بالسودان.
وذكر أهل التوراة أنّ نوحا عليه السلام شرب وانتشى وتعرّى، فأبصر حام عورته، فاطّلع عليه أخواه، فأخذا رداءه فألقياه على عواتقهما، ومشيا على أعقابهما، فوارياه، فعلم نوح عليه السلام بذلك، فقال: ملعون كنعان بن حام، عبد العبيد يكون لأخويه، ومبارك سام، ويكثر الله يافث.
وفي تفسير النّقاش أن نوحا لما أهبط من السفينة، نام فبدت عورته فنظر إليها حام فضحك، ولم يغيّر عليه يافث ونظر ذلك سام، فزجره وغطّى عورة أبيه، فلما استيقظ أخبره، فدعا نوح ابنه حاما فقال: يا بنيّ غيّر الله ماء صلبك، فلا تلد إلا السودان. وقال ليافث: جعل الله ذريتك عبيدا لأولاد سام، وقال لسام: جعل الله منك الأنبياء والصالحين والملوك. فكان سام القيّم بعد أبيه في الأرض، ونزل وسطها، نزل الحرم إلى اليمن إلى الشام. ومن ولده الأنبياء كلهم عربيها وعجميها. ومن ولده عاد وثمود وطسم وجديس والعماليق ويعرب وجرهم، وهم العرب العاربة، لأن العربيّة لسانهم التي جبلوا عليها، ويقولون لبني إسماعيل العرب المتعرّبة، لأنهم إنما تكلموا بها حين سكنوا بين أظهرهم، ومن العماليق الجبابرة بالشأم والفراعنة بمصر.
سعيد بن المسيّب: سام ولده العرب وفارس والروم وفي كلّ خير، وأما يافث فمن ولده الصقالبة وبرجان والأسبان والترك والخزر ويأجوج ومأجوج.
ابن المسيب: وليس في واحد من هؤلاء خير وأما حام فمن ولده السند والهند وأجناس السودان كلّها مثل كوش والزّبح والزغاوة والحبشة والزطّ والقبط بن كنعان بن حام، والخلاف كثير.
* * * قال الحارث بن همام: فقلت له: تالله إنك لأبو زيد، ولقد قمت لله ولا عمرو بن عبيد. فهشّ هشاشة الكريم إذا أمّ، وقال: اسمع يابن أمّ ثم أنشأ يقول: [السريع]
عليك بالصّدق ولو أنّه ... أحرقك الصّدق بنار الوعيد
وابغ رضا الله، فأغبى الورى ... من أسخط المولى وأرضى العبيد
ثم إنه ودّع أخدانه، وانطلق يسحب أردانه. فطلبناه من بعد بالرّيّ، واستنشرنا خبره من مدارج الطيّ فما فينا من عرف قراره، ولا درى أيّ الجراد عاره.(2/121)
عليك بالصّدق ولو أنّه ... أحرقك الصّدق بنار الوعيد
وابغ رضا الله، فأغبى الورى ... من أسخط المولى وأرضى العبيد
ثم إنه ودّع أخدانه، وانطلق يسحب أردانه. فطلبناه من بعد بالرّيّ، واستنشرنا خبره من مدارج الطيّ فما فينا من عرف قراره، ولا درى أيّ الجراد عاره.
* * * [عمرو بن عبيد الزاهد]
قوله: «ولا عمرو بن عبيد»، هو الزاهد الذي كان يسكن بالبصرة ويجالس الحسن البصري حتى حفظ عنه شيئا كثيرا من علومه، واشتهر فضله بصحبته، وكان له سمت وإظهار زهد.
ورآه الحسن يوما فقال: هذا سيد شباب أهل البصرة إن لم يحدّث. ثم اعتزله ونهى عنه، فقال بالعزل ودعا إليه، وترك مذهب أهل السنة، واعتزل الحسن البصريّ، ونسبت إليه المعتزلة.
فأما قيامه الذي ذكره فهو دخوله على المنصور في جماعة من أهل العلم، فاستشارهم في أمر، فكلهم أشار عليه بمراده إلا عمرا فإنه لم يصحبهم ونصحه، فقال: يا أمير المؤمنين إنّ هذا الأمر لو كان باقيا لأحد قبلك لما وصلك، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعََادٍ إِرَمَ ذََاتِ الْعِمََادِ} [الفجر: 7]، قال: فبكى المنصور حتى بلّ ثوبه، فقال الربيع: يا عمرو، غممت أمير المؤمنين، فقال عمرو: إن هذا يعني الربيع صحبك عشرين سنة، ما نصحك يوما واحدا، وما عمل وزراؤك بشيء من كتاب الله تعالى. فقال له المنصور: فماذا أصنع؟ هذا خاتمي في يدك، فخذه أنت وأصحابك، فاكفوني فقال عمرو: ادعنا بعدلك تسمح أنفسنا بعونك، ببابك ألف مظلمة، اردد منها واحدة حتى نعلم أنك صادق.
ويروى أنه قال له المنصور: أعنّي بأصحابك، فقال: ارفع علم الحقّ يتبعك أهله.
ثم قال له المنصور: ما حاجتك يا أبا عثمان؟ فقال له: تأمر برفع هذا الطيلسان عني، فرفع. وكان أمر المنصور أن يطرح عليه عند دخوله. فقال له: لا تدع إتياننا، قال: نعم، لا يضمّني وإياك بلد إلا أتيتك، وإن بدت لي حاجة إليك سألتك، ولكن لا تعطني حتى أسألك، ولا تدعني حتى آتيك، قال: إذا لا تأتينا أبدا، فلما ولّوا للخروج، أتبعهم المنصور بصره، ثم قال: [مجزوء الرمل]
كلّكم يمشي رويد ... كلكّم حابل صيد
* غير عمرو بن عبيد *
وكان جدّه باب من سبي فارس، وكان أبوه عبيد بن باب نسّاجا، ثم تحوّل فصار للحجّاج شرطيّا بالبصرة. وكان فظّا غليظا خسيسا، وبلغه أن الناس إذا رأوا ابنه قالوا:
هذا خير الناس، ابن شرّ الناس، فقال: صدقوا، أنا كآزر وابني كإبراهيم.
وقال إسحاق بن الفضل: بينما أنا واقف إلى جنب عمارة بن حمزة بباب المنصور، إذ
طلع عمرو بن عبيد على حمار، فنزل ونحّى البساط برجله، وجلس دونه، فقال لي عمارة:(2/122)
وقال إسحاق بن الفضل: بينما أنا واقف إلى جنب عمارة بن حمزة بباب المنصور، إذ
طلع عمرو بن عبيد على حمار، فنزل ونحّى البساط برجله، وجلس دونه، فقال لي عمارة:
لا تزال بصرتكم ترمينا بأحمق، فما فصل كلامه من فيه حتى خرج الربيع، وهو يقول: أين أبو عثمان عمرو بن عبيد؟ فو الله ما دلّ على نفسه حتى أرشد إليه. فأتكأه يده، ثم قال: أجب أمير المؤمنين جعلني الله فداءك! فمرّ متوكئا عليه، فقلت لعمارة الذي استحمقه: قد دعي وتركنا، فقال: كثيرا ما يكون مثل هذا، فأطال اللّبث، ثم خرج الربيع، وعمرو متوكىء عليه، وهو يقول: يا غلام، حمار أبي عثمان. فما برح حتى أقرّه على سرجه وضمّ إليه ثوبه، واستودعه الله عز وجل. فأقبل عمارة على الربيع، فقال: لقد فعلتم اليوم بهذا الرجل فعلا لو فعلتموه بوليّ عهدكم لكنتم قد قضيتم حقه. قال: فما غاب والله عنك مما فعله أمير المؤمنين أكثر وأعجب.
قال: فإن اتّسع لك الحديث فحدّثنا، فقال: ما هو إلا أن سمع أمير المؤمنين بمكانه، فما أمهل حتى أمر بمجلس ففرش لبودا، ثم انتقل هو والمهديّ إليه، وعلى المهديّ سواده وسيفه، ثم أذن له. فلما دخل عليه سلّم بالخلافة، فرد عليه، وما زال يدنيه حتى أتكأه فخذه وتحّفى، ثم سأله عن نفسه وعن عياله يسمّيهم رجلا رجلا وامرأة امرأة، ثم قال: يا أبا عثمان عظني، فقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم * بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْفَجْرِ وَلَيََالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذََا يَسْرِ هَلْ فِي ذََلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} إلى قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصََادِ} [الفجر: 14] يا أبا جعفر، فبكى المنصور رحمه الله تعالى بكاء شديدا، وكأنه لم يسمع تلك الآية الشريفة إلا تلك الساعة، فقال: زدني، قال إن الله سبحانه وتعالى أعطاك الدّنيا بأسرها فاشتر نفسك منه ببعضها، وإن هذا الأمر الذي صار إليك إنما كان في يد من كان قبلك ثم أفضى إليك، وكذلك يخرج منك إلى من هو بعدك، وإني أحذّرك ليلة تتمخّص صبيحتها عن يوم القيامة. قال: فبكى والله أشدّ من بكائه الأوّل حتى رجف جنباه، فقال له سليمان بن مالك: رفقا بأمير المؤمنين لقد أتعبته في هذا اليوم، فقال له عمرو: بمثلك ضاع الأمر وانتشر، لا أبالك! وماذا خفت على أمير المؤمنين إن بكى من خشية الله تعالى. قال: فأنت والله الصادق البرّ، قد أمرت لك بعشرة آلاف درهم تستعين بها على سفرك وزمانك، فقال:
لا حاجة لي بها، قال: والله لتأخذنّها، قال: والله لا آخذها، فقال له المهديّ: يحلف أمير المؤمنين وتحلف! فأقبل على المنصور فقال: من هذا الفتى؟ فقال: هذا ابني محمد، وهو وليّ عهد المؤمنين، فقال: والله لقد سمّيته اسما ما استحقّه عمله، وألبسته لبوسا ما هو من لبوس الأبرار، ولقد ملّكته أمرا، أمتع ما يكون به أشغل ما يكون عنه. ثم التفت إلى المهديّ وقال: يابن أخي، إذا حلف أبوك حلف عمك، لأن أباك أقدر على الكفّارة من عمك. ثم قال: يا أبا عثمان، هل من حاجة؟ قال: نعم، قال: ما هي؟ قال: لا تبعث إلي حتى آتيك، قال: إذا لا نلتقي. قال: عن حاجتي سألتني، ثم استحفظه الله عز وجل وودّعه، وانصرف.
فلما ولّي أتبعه المنصور بصره وهو يقول: [مجزوء الرمل]
* كلكم يمشي رويد *
الأبيات.(2/123)
وقال إسماعيل بن مسلمة أخو القعنبيّ: رأيت الحسين بن أبي جعفر بعبّادان في المنام، فقال لي: يعقوب ويونس بن أبي عبيد في الجنّة، فقلت: فعمرو بن عبيد، فقال:
في النار، ثم رأيته في الليلة الثانية والثالثة كذلك، فقلت له في الليلة الثالثة: فعمرو بن عبيد؟ فقال: في النار، كم أقول لك!
* * * قوله: «هش» أي فرح. أمّ: قصد. الوعيد: التهديد. أغبى الورى: أجهل الناس به، قال المنصور: والله ما عزّ ذو باطل، ولو طلع في جبينه القمر، ولا ذلّ ذو حق ولو أصفق العالم عليه.
وفي معنى قوله: «وابغ رضا الله» البيت. أنّ ابن هبيرة شاور الحسن البصريّ، فقال: يا أبا سعيد، ما تقول في كتب تأتينا من عند يزيد بن عبد الملك، فيها بعض ما فيها، فإن أنفذتها خفت سخط الله، وإن لم أنفذها خفت على دمي. فقال الحسن: يا بن هبيرة، خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، فإن الله مانعك من يزيد، ولا يمنعك يزيد من الله.
يا بن هبيرة، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فاعرض كتاب يزيد على كتاب الله سبحانه وتعالى، فما وافقه فنّفذه، وما خالفه فلا تنفذه. فقال: صدقتني ورب الكعبة.
وشاور معاوية الأحنف في استخلاف يزيد، فسكت، فقال: ما لك لا تقول؟ فقال:
إن صدقناك أسخطناك، وإن كذبناك أسخطنا الله عز وجل، فسخطك أهون علينا من سخط الله تعالى. قال: صدقت.
وكتب أبو الدرداء إلى معاوية: أمّا بعد، فإنه من يلتمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن يلتمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس.
وكتبت إليه عائشة رضي الله تعالى عنها: أما بعد فإنه من يعمل بسخط الله تعالى يصير حامده من الناس ذامّا له. والسلام.
قوله: «أخدانه» أصحابه. ويسحب أردانه: يجرّ أذياله. استنشرنا: طلبنا أن ينشر لنا. والمدرجة: الورقة تكتب فيها الرسالة، ويدرج فيها الكتاب، وأضافها إلى الطيّ لأنّها تطوى على ما فيها من الكتاب، فكأنه قال مما أدرج في الورق من الكتاب وطوي عليه، يريد أنه أرسل فيه الرسائل إلى البلاد، فلم يعرف له موضع قرّ فيه وثبت. عاره: ذهب به وأتلفه.
ويكنون بالجراد عن الناس، فكأنه قال: ما يدري أيّ الناس ذهب به. ويقال:
عارت عينه، صارت عوراء، ووعرتها أنا: فقأتها فكأنه ذهب كما تذهب العين وهذا بضعف. والله أعلم بالصواب.(2/124)
المقامة الثانية والعشرون وهي الفراتيّة
حكى الحارث بن همام قال: أويت في بعض الفترات، إلى سقي الفرات، فلقيت بها كتّابا أبرع من بني الفرات، وأعذب أخلاقا من الماء الفرات. فأطفت بهم لتهذّبهم، لا لذهبهم، وكاثرتهم لأدبهم، لا لمآدبهم. فجالست منهم أضراب قعقاع بن شور، ووصلت بهم إلى الكور بعد الحور حتّى إنّهم أشركوني في المربع والمرتع، وأحلّوني محلّ الأنملة من الإصبع. واتخذوني ابن أنسهم عند الولاية والعزل، وخازن سرّهم في الجدّ والهزل.
* * * أويت، أي ملت وانضممت. الفترات: جمع فترة، وهي الهدنة والسكون فكأنه قال: مشيت في بعض السنين الآمنة. والفترة أيضا: ضعف الأعضاء، والفترة أيضا ما بين نبيّ ونبيّ.
* * * [سقي الفرات]
وسقي الفرات بلاد يسقيها الفرات، والفرات نهر يشقّ بلاد الروم وبلاد العراق، ويقع في البحر الحبشيّ، وجريانه خمسمائة فرسخ.
وقال الرّشاطيّ: ابتداء الفرات وفوّهته من قاليقلا من بلاد إرمينيّة، ثم يسير إلى منبج من كور قنّسرين إلى سميساط، ثم إلى ملطية، ثم إلى كيسوم من أرض الرّقة، ثم إلى الرّقة وقرقيسيا والرحبة وكور الفرات، ثم إلى الأنبار، ثم إلى الكوفة، ويلتقي مع الدّجلة ما بين واسط والبصرة، ومنها انصبابها إلى البحر، وجريانهما من الشمال إلى الجنوب.
وقال شيخنا ابن جبير: هذا النهر كاسمه فرات، وهو من أعذب المياه وأخفّها، وهو نهر كبير زخّار، تصعد فيه السفن وتنحدر. وأما سقيه في أحواز بغداد فنبين لك قدره. فذكر أنه عاينه في طريقه من الكوفة إلى بغداد، وأنه رحل مع أمير الحاجّ من الكوفة يوم السبت.(2/125)
قال: ونزلنا قريب الظهر على نهر منسرب من الفرات، ورحلنا من ذلك الموقع، وبتنا ليلة الأحد سلخ محرّم بقرية من الحلّة، ثم جئناها يوم الأحد وهي مدينة عتيقة الموضع، مستطيلة متّصلة بالفرات من جانبها الشرقي، وهي على شاطئه، ويمتد بطولها.
ولها أسواق حفيلة جامعة للمزافق، قوية العمارة وديارها بين حدائق النخيل، وألفينا بها جسرا معقودا على مراكب كبار متصلة من الشطّ إلى الشطّ، أمر الأمير بعقدها اهتماما بالحاجّ، فعبرناها، ونزلنا على الفرات على فرسخ من البلد، والطريق من الحلّة إلى بغداد أحسن طريق وأجملها في بسائط وعمائر تتصل بها القرى يمينا وشمالا، ويشق هذه البسائط أغصان من [ماء] الفرات تسقيها، فللعين في هذه الطريق مسرح انشراح، وللنفس مزاد انبساط وانفساح.
ومن مدينة الحلّة يتسلسل الحاجّ أرسالا وأفواجا، لا يعرج المتأخر على المتقدم، فحيثما شاؤوا نزلوا، ومن جملة الدواعي لافتراقهم كثرة القناطر المعترضة في طريقهم إلى بغداد لا تكاد تمشي ميلا إلا ونجد قنطرة على نهر متفرّع عن الفرات، فلو زاحم ذلك البشر تلك القناطر دفعة، لتراكموا وقوعا بعضا على بعض.
فرحلنا من الحلّة ضحوة يوم الاثنين أوّل يوم من صفر، ونزلنا بعصره بقرية تعرف بالقنطرة، كثيرة الخصب، كبيرة المساحة، متدفقة فيها جداول الماء، وارفة الظلال بشجرات الفواكه، من أحسن القرى وأجملها، بها قنطرة محدودة تصعد إليها وتنحدر عنها على فرع من فروع الفرات، فعرفت القرية بها.
ثم رحلنا عنها بسحر الثلاثاء، ونزلنا ضحوة بالفراش قرية كثيرة العمارة يشقها الماء وحولها بسيط أخضر جميل المنظر، والقرى من الحلّة إلى بغداد على صفة الفراش في الحسن والاتساع.
ثم رحلنا منها ونزلنا عشيّ النهار بزريران، وهي قرية من أجمل قرى الأرض وأحسنها منظرا، وأفسحها ساحة وأوسعها اختطاطا، وأكثرها بساتين ورياحين وحدائق من نخيل، ولها سوق تقصر عنه أسواق المدن. وحسبك من شرفها أن دجلة تسقي شرقيّها والفرات يسقي غربيّها، وهي كالعروس بينهما.
ومن شرفها أن بإزائها إيوان كسرى، وهو بناء عال في الهواء على مقدار الميل منها وأمامها بيسير مدائنه. واجتزنا سحرا على المدائن، فعاينّا من طولها واتباعها مرأى عجيبا.
ونزلنا قافلين بصرصر، وهي أخت زريران حسنا، يمرّ بجانبها القبلي نهر متفرع من الفرات وهي من القرى التي تملأ النفوس حسنا وجمالا، لها أسواق حفيلة، وجامع وجسر معقود على مراكب من الشطّ إلى الشطّ وهي من بغداد على ثلاثة فراسخ، ورحلنا منها قبل الظهر وجئنا بغداد قبل العصر، على بساتين وبسائط يقصر الوصف عنها، فمن
أراد أن يعرف قدر سقي الفرات فليقف على هذا الفصل الذي ذكرناه.(2/126)
ونزلنا قافلين بصرصر، وهي أخت زريران حسنا، يمرّ بجانبها القبلي نهر متفرع من الفرات وهي من القرى التي تملأ النفوس حسنا وجمالا، لها أسواق حفيلة، وجامع وجسر معقود على مراكب من الشطّ إلى الشطّ وهي من بغداد على ثلاثة فراسخ، ورحلنا منها قبل الظهر وجئنا بغداد قبل العصر، على بساتين وبسائط يقصر الوصف عنها، فمن
أراد أن يعرف قدر سقي الفرات فليقف على هذا الفصل الذي ذكرناه.
وقوله: «كتابا أبرع من بني الفرات»، أي أحذق وأزيد فضيلة.
[بني الفرات]
والفرات رجل من عجل كان له أبناء مشاهير بالكتابة والحذاقة والبراعة، وتقلّد الوزارة، قال في بعضهم صالح بن موسى رحمه الله: [المجتث]
آل الفرات نداهم ... على الفرات يزيد
وأنت فضلك فيهم ... وعليك منه شهود
وقال ابن المعتز في علي بن محمد بن الفرات: [الطويل]
أبا حسن ثبّت في الأمر وطأتي ... وأدركتني في المعضلات الهزاهز
وألبستني درعا عليّ حصينة ... فناديت صرف الدهر: هل من مبارز!
وقال عليّ بن بسام: [الطويل]
وقفت شهورا للوزير أعدّها ... فلم تثنه نحوي الحقوق السوالف
فلا هو يرعاني رعاية مثله ... ولا أنا أستحيي الوقوف وآنف
وكان موسى بن الفرات عاملا لأحمد بن الخصيب وزير المنتصر بن المتوكل، واستوزر المقتدر أبا الحسن عليّ بن محمد بن الفرات ثلاث مرات، يعزله ثم يردّه وقتل المقتدر وأبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات وزيره.
وتولّى بعض دواوين المقتدر أبو طالب بن جعفر بن الفرات والحسن بن أبي الحسين بن الفرات. فكان محل آل الفرات، الوزارة والكتابة والبراعة والحذاقة.
وحكي أن بعض الأدباء جوّز بحضرة الوزير أبي الحسن بن الفرات أنّ السين تقام مقام الصاد في كلّ موضع فقال له الوزير: أتقرأ: {جَنََّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهََا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبََائِهِمْ} [الرعد: 23]، أو «ومن سلح؟» فخجل الرجل وانقطع.
ومثل هذه النادرة أن النضر بن شميل مرض، فدخل عليه قوم يعودونه، فقال له رجل منهم: يكنى أبا صالح: مسح الله ما بك، فقال له: لا تقل مسح بالسين ولكن بالصاد بمعنى أذهب، وهو كلام العرب. فقال أبو صالح إن السين تبدل من الصاد كالصراط والسراط وصقر وسقر، فقال له النضر: فأنت إذا أبو سالح! فخجل الرجل.
قوله: «أعذب من الماء الفرات» أي أحلى، والماء الفرات: العذب الحلو أطفت:
أي ألممت ونزلت. لتهذّبهم: لظرفهم وتخلصهم من عيوب الجفاء كاثرتهم: صاحبتهم فكثّرت عددهم بي. مآدبهم: طعامهم. أضراب: أمثال.
* * *
[القعقاع بن شور](2/127)
* * *
[القعقاع بن شور]
القعقاع بن شور، قال المبرّد: هو رجل سيد من عبد الله بن دارم، وكان إذا جالسه جليس فعرفه بالقصد إليه جعل له نصيبا في ماله، وأعانه على عدوّه، وشفع له في حاجته، وغدا إليه بعد المجالسة شاكرا له حتى شهر بذلك.
قال الفنجديهيّ: هو القعقاع بن شور بن عمرو بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل الشيباني، وهو من الأجواد والأسخياء، يضرب به المثل في حسن المجالسة والمعاشرة وإتيان الجليس بالشيء النفيس.
قال أبو عبيد: وكان من جلساء معاوية، فأهدى إلى معاوية هدايا يوم المهرجان فيها جامات ذهب وفضة، فدفعها إلى جلسائه ودفع إلى القعقاع جام ذهب، وفي القوم أعرابيّ إلى جنب القعقاع، فدفع إليه لجام فأخذه الأعرابي ونهض ينشد: [الوافر]
وكنت جليس قعقاع بن شور ... ولا يشقى بقعقاع جليس (1)
ضحوك السن إن نطقوا بخير ... وعند الشرّ مطراق عبوس
[مما قيل في البر في الجليس شعرا]
ومما يستحسن في البر بالجليس قول صاعد اللغويّ: [مجزوء الوافر]
لي من سرّ بني العبا ... س خلّ وجليس
شهد المجد عليه ... أنه العلق النفيس
فإذا جالسته لم ... تدر من منّا الجليس
وقال كشاجم: [مجزوء الوافر]
جليس لي أخو ثقة ... كأنّ حديثه حبره (2)
يسرك حسن ظاهره ... وتحمد منه مختبره
ويستر عيب صاحبه ... ويستر أنه ستره
وقال آخر: [مجزوء الوافر]
جليس لي له أدب ... رعاية مثله تجب
لو انتقدت خلائقه ... تبهرج عندها الذهب
__________
(1) البيت الأول بلا نسبة في لسان العرب (قعع) وتاج العروس (شور)، (قعع)، ومجمع الأمثال 2/ 241، والبيت الثاني بلا نسبة في تاج العروس (قعع)، وفيه «إن أمروا» بدل «إن نطقوا».
(2) الأبيات في ديوان كشاجم ص 71.(2/128)
وقال آخر: [الخفيف]
لي صديق غلطت بل لي مولى ... من لمثلي بأن يكون صديقي
نتلاقى التقاء روح بروح ... بضروب التقبيل والتعنيق
ليس في الأرض من يميز منا ... عاشقا في اللقاء من معشوق
أين ما وصف به القعقاع من قول والبة المشهور: [السريع]
قلت لندماني على خلوة ... أدن كذا رأسك من راسيا
ونم على وجهك لي ساعة ... إني امرؤ أنكح جلّاسيا
والبة بن الحباب شيخ الحسن بن هاني أدّبه صغيرا، فتخلّق بخلقه. وقال الحسن:
[الخفيف]
وجليس كأنّ في وجنتيه ... كلّ شيء تسمو إليه النفوس
قد أصبنا منه فتستغفر الله كثيرا ... وقد يصاب الجليس
[الحور والكور]
قوله: الكور والحور، أي الزيادة والنقصان، وكلام العرب: نعوذ بالله من الحور بعد الكور، أي من النقصان بعد الزيادة، فقلب اللفظ على مراده، وهو من كور العمامة، وهو استعارة من نقض الأمر، كنقض العمامة بعد كورها وهو شدّها، وكار عمامته: شدّها على رأسه وجمعها وحاربها فنقضها وأفسدها.
وأمر الحجاج رجلا على جيش، ثم بعثه مرة أخرى تحت لواء أمير آخر، فقال:
هذا الحور بعد الكور، فقال له الحجاج: وما الحور بعد الكور؟ قال: النقصان بعد الزيادة، فعلى هذا أكثر أهل اللغة.
وقيل معناها: نعوذ بالله من الخروج عن الجماعة بعد كوننا في الكور، وهو الاجتماع، من كار عمامته جمعها في رأسه. وحارها: أفسدها.
ويروى «بعد الكون»، من قولهم: حار بعد ما كان، أي كان على حالة جميلة فرجع عنها. وقيل: معناه نعوذ بك من خروجنا عن الجماعة بعد الكون على الاستقامة فحذف للعلم به.
* * * في المرتع والمربع، يعني المأكل والمنزل، والمرتع الاتساع في الأكل الكثير والشرب، والمربع: المنزل في الربيع، من ربعت في الموضع أقمت فيه. الأنملة: طرف الأصبع أي عظموه ورفعوه فوق رؤوسهم.(2/129)
ابن أنسهم، أي الذي يأنسون به. عند الولاية والعزل: أي زمن العمل والعطل.
خازن: كاتم وحابس.
* * * فاتّفق أن ندبوا في بعض الأوقات، لاستقراء مزارع الرّزداقات، فاختاروا من الجواري المنشآت، جارية حالكة الشّيات، تحسبها جارية وهي تمرّ مرّ السّحاب، وتنساب في الحباب كالحباب. ثمّ دعوني إلى المرافقة، فلبّيت بلسان الموافقة.
* * * ندبوا، أي دعوا. استقراء، أن تتبّع. الرزداقات: العمالات والأنظار، وأراد أنهم خرجوا عمالا على الزرع، وكل موضع أو قرية انفصل عن المدينة بعمله فهو رزداق ورستاق ومخلاف وكورة، فالرزداق بخراسان وهو فارسيّ عربيّ، والمخلاف لليمن، والكورة لغيرهما من الأرضين.
الجواري: السفن. المنشآت: المصنوعات. حالكة الشيات: مسودّة اللون، والشية في الفرس لون يخالف لونه كالغرّة والتحجيل وغير ذلك، فأراد أن موضع البياض في غير السفينة هو منها أسود فهي كلها سوداء جامدة: ساكنة.
[وصف السفن]
وركب السّلاميّ دجلة في زورق، ولم يكن رأى دجلة قبل ذلك فقال: [الوافر]
وميدان تجول به خيول ... تقود الدّراعين ولا تقاد
ركبت به إلى اللذات طرفا ... له جسم وليس له فؤاد
جرى فحسبت أن الأرض وجه ... ودجلة ناظر وهو السّواد
وقال القاضي التنوخيّ يصف دجلة في الظلام: والقمر يلمع عليها، وينتظم في سلك أبيات السّلاميّ رحمه الله تعالى: [الكامل]
أحسن بدجله والدّجى متصوّب ... والبدر في أفق السماء مغرّب
فكأنها فيه بساط أزرق ... وكأنه فيها طراز مذهب
وقال منصور بن كيغلغ: [الكامل]
كم ليلة سامرت فيها بدرها ... من فوق دجلة قبل أن يتغيّبا
والبدر يجنح للأفول كأنه ... قد سلّ فروق سيفا مذهبا
وتسميته للسفينة جارية، لجريانها على الماء، قال تعالى في السفن العظام: {وَمِنْ آيََاتِهِ الْجَوََارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلََامِ} [الشورى: 32].(2/130)
ولبعضهم: [الكامل]
يا من تأهّب مزمعا لرواح ... متيّمما بغداد غير ملاح
في بطن جارية كفتك بسيرها ... رقلان كل شناحة وشناح
فكأنها والماء ينطح صدرها ... والخيزرانة في يد الملّاح
جون من العقبان يبتدر الدّجى ... يهوى بصوت واصطفاق جناح
الشّناح: الجمل التامّ الخلق.
وقال عبد الجليل بن وهبون يصف الأصطول: [الكامل]
يا حسنها يوما شهدت زفافها ... بنت الفضاء إلى الخليج الأزرق
من كلّ لابسة الشباب ملاءة ... حسب اقتدار الصّانع المتأنّق
ومجاذف تحكي أراقم ربوة ... نزلت لتكرع في غدير متأق
والماء في شكل الهواء فلا ترى ... في شكلها إلّا جوارح تلتقي
ولابن حريق: [الكامل]
وكأنما سكن الأراقم جوفها ... من عهد نوح صاحب الطوفان
فإذا رأين الماء يطفح نضنضت ... من كلّ خرق حيّة بلسان
* * * قوله: ينساب، أي تمشي بسلاسة. الحباب: طرائق الماء. والحباب، بالضم:
الحيّة. وتشبيهه المشي السهل بحباب الماء أفشى وأعرف من تشبيهه بمشي الحية، وتشبيهه بمشي الحية قد استعمل، وهو متمكن في المعنى، وبه وقع التشبيه هنا في المقامة، وقال امرؤ القيس في تشبيهه بحباب الماء: [الطويل]
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سموّ حباب الماء حالا على حال (1)
وقال ابن الروميّ: [البسيط]
فصغت ذلك من قولي إلى قمر ... يلهو بمكتحل طورا ومختضب
جرت تدافع من وشي لها حسن ... تدافع الماء في وشني من الحبب
وقال عمر بن أبي ربيعة في مشي الحية: [الطويل]
فلمّا فقدت الصوت منهم وأطفئت ... مصابيح شبّت بالعشاء وأنور (2)
__________
(1) البيت لامرىء القيس في ديوانه ص 31، وتاج العروس (حبب)، وبلا نسبة في لسان العرب (حبب)، وتهذيب اللغة 4/ 10.
(2) الأبيات في ديوان عمر بن أبي ربيعة ص 66.(2/131)
وغاب قمير كنت أرجو غيوبه ... وروّح رعيان وهوّم سمّر
وخفّض عني الصوت أقبلت مشية ال ... حباب وركنى خيفة القوم أزور
ثبت في الكتب الصحاح ضم الحاء وقول الأعرابيّ: [الوافر]
من المتصدّيات لغير سوء ... تسيل إذا مشت سيل الحباب
يروى بالفتح والضم. وابن الإفليلي يأبى إلا الضم.
وقال أبو القاسم بن هانىء فجمع بين التشبيهين: [الكامل]
قامت تميس كما تدافع جدول ... وانساب أيم في نقا يتهيّل
وأتت تزجّي ردفها بقوامها ... فتأطّر الأعلى وماج الأسفل
وقال آخر ورفع الاحتمال: [السريع]
لما دنا الليل بأرواقه ... ولاحت الجوزاء والمرزم
أقبلت والوطء خفيف كما ... ينساب في مكمنه الأرقم
وما أحسن قول ابن شهيد في معناه: [المتقارب]
ولمّا تمكن من سكره ... ونام ونامت عيون العسس
دنوت إليه على رقبة ... دنوّ محبّ درى ما التمس
أدبّ إليه دبيب الكرى ... وأسمو إليه سموّ النّفس
أقبّل منه بياض الطّلى ... وأرشف منه اللّمى واللّعس
* * * فلمّا تورّكنا على المطيّة الدهماء، وتبطنّا الوليّة الماشية على الماء، ألفينا بها شيخا عليه سحق سربال، وسبّ بال، فعافت الجماعة محضره. وعنّفت من أحضره، وهمّت بإبرازه من السّفينة، لولا ما ثاب إليها من السّكينة فلمّا لمح منّا استثقال ظلّة، واستبراد طلّه، تعرّض للمنافثة فصمّت، وحمدل بعد أن عطس فما شمّت.
* * * قوله: المطية الدهماء، هي السفينة السوداء. وتورّكناها: قعدنا عليها متكئين.
وتبطّنا: دخلنا بطنها. الوليّة المطيعة. وأوهم لقول الناس: فلان وليّ يمشي على الماء، فلما كانت مطيعة لخدامها ماشية على الماء سماها وليّة. ألفينا: وجدنا. سحق سربال، أي قميص خلق. والسّب: الخمار. فيريد أنّ عليه مئزرا أو خمارا باليا، والمئزر كالخمار
للمرأة. عافت: كرهت. عنّفت: لامت وأغلظت له القول، والعنف ضدّ الرفق. ثاب:(2/132)
وتبطّنا: دخلنا بطنها. الوليّة المطيعة. وأوهم لقول الناس: فلان وليّ يمشي على الماء، فلما كانت مطيعة لخدامها ماشية على الماء سماها وليّة. ألفينا: وجدنا. سحق سربال، أي قميص خلق. والسّب: الخمار. فيريد أنّ عليه مئزرا أو خمارا باليا، والمئزر كالخمار
للمرأة. عافت: كرهت. عنّفت: لامت وأغلظت له القول، والعنف ضدّ الرفق. ثاب:
رجع.
قال الفرّاء رحمه الله تعالى: معنى السكينة الطمأنينة.
أبو عبيدة: هي فعيلة من السّكون. وتشبه حالة أبي زيد هنا في إهانته أوّلا وإكرامه آخرا حالة معبد في دخول السفينة، وقد تقدّمت في الثامنة عشرة.
لمح: رأى. والظلّ، يوصف بالثقل مبالغة في ثقل صاحبه، يقال للمستثقل: ظلك عليّ ثقيل، أي أخف ما يمكن أن يوجد منك الظلّ السريع الانتقال يثقل علينا، فيصوّر شخصك أي منزلته من الثقل، وإنما يتصور ثقل الظل حقيقة إذا أخذ عليك إنسان عين الشمس في زمن البرد أو ضوءها وأنت تنظر ما يدفىء.
[مما قيل في الثقلاء]
ومما قيل في ثقيل: [مجزوء الرمل]
أنت يا هذا ثقيل ... وثقيل وثقيل
أنت في المنظر إنسا ... ن وفي المخبر فيل
لو تعرضت لظلّ ... فسد الظلّ الظليل
وكان الأعمش إذا حضر مجلسه ثقيل ينشد: [المتقارب]
فما الفيل تحمله ميّتا ... بأثقل من بعض جلّاسيا
وذكر ثقيلا كان يجلس إلى جانبه، فقال: والله إني لأبغض شقّي الذي يليه منّي.
وكان حماد بن سلمة إذا أري من يستثقله قرأ: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذََابَ إِنََّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان: 12].
عائشة رضي الله عنها: نزلت آية في الثّقلاء: {فَإِذََا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلََا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب: 53].
الشعبي: من فاتته ركعتا الفجر فليعلن الثقلاء.
وكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا رأى ثقيلا قال: اللهمّ اغفر له وأرحنا منه.
قيل لجالينوس: لم صار الرجل الثقيل أثقل من الحمل الثقيل؟ قال: لأن ثقله على القلب دون الجوارح، والحمل الثقيل يستعين القلب بالجوارح عليه.
وقال طبيب للحجاج: إياك ومجالسة الثقلاء، فإنا نجد في الطبّ أن مجالستهم حمّى الروح.
وقال حكيم لآخر: لا تصحبنّ ثقيلا، فمن يصحبه فإنما يعذّب روحه.
وقيل: سخنة العين النظر إلى الثقلاء.(2/133)
وكان بعضهم إذا رأى ثقيلا غشي عليه. وكان آخر إذا رأى ثقيلا غمّض عينيه.
وكان بعض الظرفاء إذا رأى ثقيلا قال: قد جاءكم الجبل، فإن جلس عندهم قال:
قد وقع عليكم.
وسمع الأعمش كلام ثقيل فقال: من هذا الذي يتكلّم وقلبي يتألم.
قال رجل لخالد بن صفوان: أتستثقل فلانا؟ قال: أوّه كدت والله أن تصدع قلبي بذكره، والله لهو أثقل من شراب الترنجبيل بماء التين في أيام الحكاك بعقب التخمة وأوان الحجامة.
سلّم ثقيل على بعض الظرفاء فقال: وعليك السّلام شهرا.
قعد ثقيل عند ظريف، فسئل عن ذلك، فقال: كانت نفسي قد شمخت عليّ فأردت أن أهينها بذلك.
وقال رجل لغلام هاشمي: يا بغيض، فشكاه إلى أبيه، فقال: قد علمت أنك بغيض، فكرهت أن أقوله لك حتى يكون بغضك بإسنادك.
وسئل إنسان له ثلاث بنين ثقلاء: أيّ بنيك أثقل؟ فقال: ليس بعد الكبير أثقل من الصغير إلا الأوسط.
كان أبو العتاهية يقول لابنه محمد: أنت والله يا محمد ثقيل الظلّ، مظلم الهواء جامد النسيم، بارد حامض منتن.
قال سهل بن هارون: من ثقّل عليك نفسه، وغمك سؤاله فأعره أذنا صماء، وعينا عمياء.
وأنشدوا: [السريع]
مشتمل بالبغض لا تنثني ... إليه لحظا مقلة الرامق (1)
يظلّ في مجلسنا قاعدا ... أثقل من واش على عاشق
وقال بعضهم: [الكامل]
يا من تبرّمت الدنيا بطلعته ... كما تبرّمت الأجفان بالسّهد
إني لأذكره حينا فأحسبه ... من ثقله جالسا مني على كبدي
ولبعضهم: [مجزوء الخفيف]
نظر العين نحوه ... علم الله يمرض
فإذا ما أردتم ... أن تروه فغمّضوا
__________
(1) البيتان بلا نسبة في زهر الآداب ص 442.(2/134)
لا تصبكم ملمّة ... والملمّات تعرض
وقال بعضهم: [مخلع البسيط]
شخصك في مقلة النّديم ... أوحش من نحسة النجوم
يا رجلا وجهه علينا ... أثقل من منّة اللئيم
إني لأرجو بما أقاسي ... منك خلاصي من الجحيم
وقال بعضهم أيضا: [المتقارب]
ولي خلّتان على هامتي ... جلوسهما مثل حدّ الوتد
ثقيلان لم يعرفا حفّة ... فهذا الصّداع وذاك الرمد
والأشعار في الثقلاء كثيرة وفي كتب الآداب مشهورة، فلنقتصر على هذه النبذة.
قوله: استبراد طلّه. الطّل: أضعف المطر، وهو الرذاذ، وأكثر نزوله ساكنا بغير ريح، ولا برد في الغالب يكون معه، فكنى هنا بالطّل عن كلامه القليل، وإنه عندهم بارد الحديث، وإن كان ما جاء منه ثقيل مؤذ.
وقد جاء في ذلك: [المتقارب]
ولو مازج النار في حرّها ... حديثك أطفأ منها اللهب
وقال آخر في شعر الصولي: [السريع]
داري بلا خيش ولكنّني ... عقدت من خيشي طاقين
دار متى ما اشتد بي حرّها ... أنشدت للصّوليّ بيتين
وكلامه: [الطويل]
ويوم كتنور الطهاة سجرته ... على أنه منه أحرّ وأوقد
ظللت به عند المبرّد جالسا ... فما زلت في ألفاظه أتبرّد
لقي برد الخيار المغني أبا العباس المبرد في يوم ثلج بالجسر، فقال له: أنت المبرّد وأنا برد الخيار، واليوم كما ترى: اعبر بنا لا يهلك الناس من الفالج بسببنا. وقال كشاجم رحمه الله تعالى: [المتقارب]
غناء مديح بأرض الحجاز ... يطيب وأما بحمص فلا
لبرد الغناء وبرد الهواء ... فإن جمعا خفت أن يقتلا
قوله: تعرّض، أي تهيأ. المنافثة: الكلام معهم. صمّت: سكّت. ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «موقع حديث الرجل من القوم كموقعه من قلوبهم».(2/135)
حمدل: قال الحمد لله. ما شمّت: ما أدخل عليه السرور بقولهم: يرحمك الله تعالى.
ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من عطس أو تجشأ فقال الحمد لله على كل حال دفع بها عنه سبعون داء أهونها الجذام».
[في تشميت العاطس]
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله، والذي يشمّت: يرحمك الله، وليقل هو: يهديكم الله، ويصلح بالكم» (1).
ومما يستظرف من حديث العطاس أن صوفيّا في بلدنا كان حافظا للشعر، فلا يعرض في مجلسه معنى إلا وينشد عليه شعرا، فاتفق أن عطس رجل بمحضره، فشمّته الحاضرون، فدعا لهم، فرأى الصوفيّ أن تشميته قطع إنشاده بما لا يشاكله من النظم، وإن لم يشمته كان تقصيرا في البر. فأصبح للطلبة راغبا أن ينظم له هذا المعنى، فقال الوزير الحسيب أبو عمرو بن محمد: [السريع]
يا عاطسا يرحمك الله إن ... أعلنت بالحمد على عطستك
ادع لنا ربّك يغفر لنا ... وأخلص النية في دعوتك
وقل له يا سيّدي رغبتي ... حضور هذا الجمع في حضرتك
وأنت يا ربّ النداء والندى ... بارك ربّ الناس في ليلتك
فإن يكن منك لنا دعوة ... فأنت محمود على عودتك
وهذا الوزير الشريف إنما يصرف شعره في أوصاف الغزلان، ومخاطبات الإخوان.
وكتب إليّ يستهديني كتاب العقد: [الطويل]
أيا من غدا سلكا بجيد معارفه ... ومن لفظه زهر أنيق لقاطفه
محبّك أضحى عاطل الجيد فلتجد ... بعقد على لبّاته وسولفه
وتوعّك في بعض الأعياد فعاده من أعيان الطلبة جملة، فلما همّوا بالانصراف أنشدهم ارتجالا: [الكامل]
لله درّ عصابة أمجاد ... شرف النداء بقصدهم والنّادي
لما أشاروا بالسّلام وأربعوا ... أنشدتهم وصدقت في الإنشاد
في العيد عدتم وهو يوم عروبة ... يا فرحتي بثلاثة الأعياد
* * *
__________
(1) أخرجه الدارمي في الاستئذان باب 30، وليس فيه لفظ «تجشأ».(2/136)
فأخرد ينظر فيما آلت حاله إليه، وينتظر نصرة المبغيّ عليه. وجلنا نحن في شجون، من جدّ ومجون إلى أن اعترض ذكر الكتابتين وفضلهما، وتبيان أفضلهما، فقال قائل: إن كتبة الإنشاء أنبل الكتّاب ومال مائل إلى تفضيل الحسّاب. واحتدّ الحجاج، وامتدّ اللّجاج حتّى إذا لم يبق للجدال مطرح، ولا للمراء مسرح قال الشيخ: لقد أكثرتم يا قوم اللّغط، وأثرتم الصّواب والغلط، وإنّ جليّة الحكم عندي، فارتضوا بنقدي، ولا تستفتوا أحدا بعدي.
* * * قوله: أخرد: أي سكت ذلّا، ويروى: خرد، أي سكت حياء واستتر، تقول:
أخردت وخردت من حرّ الشمس. أي استترت، وأقرد من لفظ القرد أو القراد، وأخرد من لفظ الخريدة. آلت: رجعت. المبغيّ عليه أي المظلوم، وأراد أن ينظر النّصرة على أعدائه، من قوله تعالى: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللََّهُ} [الحج: 60] جلنا: تصرّفنا.
شجون: ضروب من الكلام، ومنه: الحديث شجون، أي فنون، ومشتبك بعضه ببعض.
وفي الحديث: «الرحم شجنة من الله»، معناه القرابة مشتبك بعضها ببعض، كاشتباك العروق. اعترض: تصلّب وظهر. الإنشاء: الكتابة. وكتبة الإنشاء هم كتبة بين يدي السلطان وهم المترسّلون. أنبل: أعظم قدرا. والحسّاب. كتبة الزمام.
احتدّ: اشتدّ. والحجاج: المحاجّة واللجاج: ركوب الرجل على الباطل، مطرح:
موضع يطرح فيه. المراد قد تقدّم. آثرتم: فضلتم. جليّة: بيان. نقدي: تمييزي.
* * * اعلموا أنّ صناعة الإنشاء أرفع، وصناعة الحساب أنفع، وقلم المكاتبة خاطب، وقلم المحاسبة حاطب، وأساطير البلاغة تنسخ لتدرس، ودساتير الحسبانات تنسخ وتدرس. والمنشىء جهينة الأخبار، وحقيبة الأسرار، ونجيّ العظماء، وكبير الندماء، وقلمه لسان الدّولة، وفارس الجولة، ولقمان الحكمة، وترجمان الهمّة. وهو البشير والنّذير، والشّفيع والسّفير. به تستخلص الصّياصي، وتملك النّواصي، ويقتاد العاصي، ويستدنى القاصي، وصاحبه بريء من التّبعات، آمن كيد السّعاة، مقرّظ بين الجماعات، غير معرّض لنظم الجماعات.
* * * قوله: خاطب، أي جامع للكلام. حاطب: جامع للحطب، يريد أنّ المنشىء كالخطيب يختار من الكلام النفيس فيسرقه، ولا يبالي كاتب الحساب بما كتب، ويكون
حاطب بمعنى مجمع للمال. أساطير: أحاديث، وهي جمع أسطار، وأسطار: جمع سطر. وقيل: الأساطير: جمع أسطورة وإسطارة. دساتير: أزمّة. تدرس: تمحى أو تترك حتى تتغيّر.(2/137)
* * * قوله: خاطب، أي جامع للكلام. حاطب: جامع للحطب، يريد أنّ المنشىء كالخطيب يختار من الكلام النفيس فيسرقه، ولا يبالي كاتب الحساب بما كتب، ويكون
حاطب بمعنى مجمع للمال. أساطير: أحاديث، وهي جمع أسطار، وأسطار: جمع سطر. وقيل: الأساطير: جمع أسطورة وإسطارة. دساتير: أزمّة. تدرس: تمحى أو تترك حتى تتغيّر.
[قصة المثل: عند جهينة الخبر اليقين]
جهينة الأخبار، أي العارف بها. واختلفوا في المثل، قال الأصمعي رحمه الله تعالى: جفينة بالجيم والفاء.
وقال أبو عبيدة رحمه الله تعالى: حفينة، بحاء غير معجمة.
وقال ابن الكلبي: جهينة بالجيم والهاء، وهو الصحيح.
وأصله أنّ حصين بن عمرو بن معاوية بن كلاب خرج يطلب فرصة فاجتمع برجل من جهينة يقال له الأخنس بن كعب، فنزلا في بعض منازلهما. وتعاقدا ألّا يلقيا أحدا إلا سلباه، وكلاهما فاتك يحذر صاحبه، فلقيا رجلا، فسلباه كلّ ما معه فقال لهما: هل لكما أن تردّا عليّ بعض ما أخذتما منّي وأدلّكما على مغنم؟ فقالا: نعم، قال هذا رجل لخميّ قدم من بعض الملوك بمغنم كثير، وهو خلفي في موضع كذا، فردّا عليه بعض ماله، وطلبا اللخميّ، فوجداه نازلا في ظل شجرة وقدّامه طعامه وشرابه، فحيّاه وحيّاهما، وعرض عليهما الطعام، فنزلا وأكلا، وشربا مع اللخميّ. ثم إن الأخنس ذهب لبعض شأنه، فلما رجع أبصر سيف صاحبه مسلولا، واللخميّ يتشحّط في دمه، فسلّ سيفه، وقال: ويحك! قتلت رجلا قد تحرّمنا بطعامه وشرابه! فقال: اقعد يا أخا جهينة، فلهذا وشبهه خرجنا. ثم إنّ الجهنيّ شغل صاحبه بشيء، ثم وثب عليه فقتله، وأخذ متاعه ومتاع اللخميّ. ثم انصرف إلى قومه راجعا بماله، وكانت لحصين أخت تسمّى صخرة، فكانت تبكيه في المواسم وتسأل عنه فلا تجد من يخبرها بخبره، فقال الأخنس حين أبصرها: [الوافر]
وكم من فارس لا تزدريه ... إذا شخصت لرؤيته العيون
علوت بياض مفرقه بعضب ... فأضحى في الفلاة له سكون
يذلّ له العزيز وكلّ ليث ... من العقبان مسكنه العرين
فأضحت عرسه ولها عليه ... بعيد هدوء رقدتها أنين
كصخرة إذ تسائل في مراح ... وفى جرم وعلمهما ظنون
تسائل عن حصين كلّ ركب ... وعند جهينة الخبر اليقين (1)
__________
(1) البيت للأخنس الجهني في لسان العرب (جفن)، وتاج العروس (جفن)، ولغصين في لسان العرب (جفن)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 890، وتاج العروس (جهن).(2/138)
فمن يك سائلا عنه فعندي ... لسائله الحديث المستبين
مراح وجرم: قبيلتان.
حقيبة: وعاء. نجيّ: متكلم. النّدماء: الجلساء على الخمر، يريد أن أصحابه أعيان وأشراف. النذير: المخوّف. السفير: الرسول بين القوم. تستخلص: تملك وتحصل. الصّياصي: الحصون. النواصي: الرؤوس، وأصل الناصية شعر مقدّم الرأس.
القاصي: البعيد. التّبعات: المطالبات. السّعاة جمع ساع، وهو جابي الصدفة. مقرّظ:
ممدوح. نظم الجماعات: تجميل الحساب، والجماع: الأخلاط وضروب من الناس، والجماع: كل شيء انضم بعضه إلى بعض وتجمّع أراد أنّ كاتب التراسيل قد أمن من مكر عمّال الزّكوات الذين يسرقون مال الرعيّة والسلطان ولا يعرّض لأن يؤلف ما افترق من الخراج حتى يصير جماعات.
* * * فلمّا انتهى في الفصل، إلى هذا الفصل، لحظ من لمحات القوم أنّه ازدرع حبّا وبغضا، وأرضى بعضا وأحفظ بعضا. فعقّب كلامه بأن قال: إلّا أنّ صناعة الحساب موضوعة على التّحقيق، وصناعة الإنشاء مبنيّة على التّلفيق، وقلم الحاسب ضابط، وقلم المنشىء خابط. وبين إتاوة توظيف المعاملات، وتلاوة طوامير السّجلّات، بون لا يدركه قياس، ولا يعتوره التباس، إذ الإتاوة تملأ الأكياس، والتّلاوة تفرّغ الرّاس، وخراج الأوارج، يغني النّاظر، واستخراج المدارج يعنّي النّاظر.
* * * الفصل، أي القضاء والحكم، وأراد أنه فصل في القضاء بين الصنفين من الكتاب.
إلى هذا الفصل، أي إلى هذا الحدّ. والفرق، فالأول من فصل الحاكم بين الخصمين فصلا: قضى، والثاني من فصلت بين الشيئين فصلا وفصولا: فرقت، يريد أنه فصل بين الكلام المتقدّم والكلام المستأنف، وأراد أنه ازدرع في قلوب كتبة الإنشاء حبّه لمدحه لهم، وفي قلوب كتبة الحساب بغضه لمّا قصّر بهم، فأخذ يستأنف مدحهم.
أحفظ: أغضب. عقّب: أتبع، وأراد بالتحقيق أن صنعة الحساب برهانية محققة.
والتلفيق: ضمّ شيء لطيف إلى مثله، ولفقت الشيء تلفيقا ضممت بعض أجزائه إلى بعض. ضابط: محقق، والضبط الأخذ بشدة، ورجل ضابط للشيء، إذا قوي عليه فلم يفلت منه. خابط: مغرّر، وخبط: مشى على غير هداية.
الإتاوة: الخراج والجباية إلى بيت المال. توظيف: تقسيط. ووظّف على الناس
الغرم: قسّطه عليهم، والوظيفة: نصيبك الذي تغرمه. المعاملات: أنواع من علم الحساب، وأصلها مصدر عاملت الرجل معاملة إذا وافقته على بيع أو كراء أو إجازة أو غير ذلك مما يتعامل به الناس بعضهم مع بعض. تلاوة: قراءة. طوامير السجلات: بطائق التّرسيل، والطّومار: الكتاب. بون: بعد. يعتوره: يتداوله ويقصده. التباس: شك.(2/139)
الإتاوة: الخراج والجباية إلى بيت المال. توظيف: تقسيط. ووظّف على الناس
الغرم: قسّطه عليهم، والوظيفة: نصيبك الذي تغرمه. المعاملات: أنواع من علم الحساب، وأصلها مصدر عاملت الرجل معاملة إذا وافقته على بيع أو كراء أو إجازة أو غير ذلك مما يتعامل به الناس بعضهم مع بعض. تلاوة: قراءة. طوامير السجلات: بطائق التّرسيل، والطّومار: الكتاب. بون: بعد. يعتوره: يتداوله ويقصده. التباس: شك.
الأكياس: أوعية الدراهم. والإتاوة: رشوة العمّال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «هدايا العمال رشوة». تغرّغ الرأس: تهوّسه بكثرة الدروس والسهر. الأوارج: أزمّة الخراج. وقيل:
صنف من الخراج. الناظر: العامل فيها، وأورجها، إذا تولى عملها والقيام بها.
المدراج: الرسائل، سمّيت بذلك لأنها تدرج، أي تطوى على ما فيها، واستخراجها:
تتبع معانيها بجودة النظر ودرس ألفاظها. يعنّي: يتعب. الناظر: سواد العين، يريد أنّ كاتب الزمام في راحة وهو يملي على أكياسه بالدراهم. وكاتب الرسالة متعوب قليل المال.
* * * ثمّ إن الحسبة حفظة الأموال، وحملة الأثقال، والنّقلة الأثبات، والسّفرة الثّقات، وأعلام الإنصاف والانتصاف، والشّهود المقانع في الإخلاف، ومنهم المستوفي الذي هو يد السّلطان، وقطب الدّيوان، وقسطاس الأعمال، والمهيمن على العمّال، وإليه المآب في السّلم والهرج، وعليه المدار في الدّخل والخرج، وبه مناط الضّرّ والنّفع، وفي يده رباط الإعطاء والمنع.
ولولا قلم الحسّاب، لأودت ثمرة الاكتساب، ولا تّصل التّغابن إلى يوم الحساب. ولكان نظام المعاملات محلولا، وجرح الظّلامات مطلولا، وجيد التّناصف مغلولا، وسيف التّظالم مسلولا. على أنّ يراع الإنشاء متقوّل، ويراع الحساب متأوّل. والمحاسب مناقش، والمنشىء أبو براقش، ولكليهما حمة حين يرقى، إلى أن يلقى ويرقى، وإعنات فيما ينشا، حتّى يغشى ويرشى إلّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم.
* * * النّقلة: الأثبات، أي هم على يقين وثبات فيما ينقلون. السّفرة: الكتبة. الثّقات:
الأمناء. أعلام الإنصاف: يريد المشاهير بإنصاف السلطان من الناس والناس منه، وتقول:
أنصفت الرجل: أعطيته حقّه، وانتصفت منه: أخذت حقك. والمقانع: الذين يقنع بفعلهم، أي يرضى. والإخلاف: جودة الزرع، تقول: أخلف الزرع، إذا طاب وردّ على أصحابه أضعاف ما نفق عليه. المستوفي: رأس المشارب. قطب: أصل. وقطب
القوم سيّدهم الذي يدبر أمرهم ويدورون على رأيه، بمنزلة قطب الرحى الذي تدور عليه.(2/140)
أنصفت الرجل: أعطيته حقّه، وانتصفت منه: أخذت حقك. والمقانع: الذين يقنع بفعلهم، أي يرضى. والإخلاف: جودة الزرع، تقول: أخلف الزرع، إذا طاب وردّ على أصحابه أضعاف ما نفق عليه. المستوفي: رأس المشارب. قطب: أصل. وقطب
القوم سيّدهم الذي يدبر أمرهم ويدورون على رأيه، بمنزلة قطب الرحى الذي تدور عليه.
الديون: دار كتاب الخراج، وهو فارسيّ معرّب. قسطاس: ميزان يريد أنه ميزان العمل الذي يعتدل به.
المهيمن: الشاهد. المآب: الرجوع. السّلم والهرج: الصلح والحرب. المدار:
المعوّل، أي عليه أن يعول في إدارة ما يدخل على السلطان من المال من رعيته، وما يخرج عنه من لوازم الأجناد وغيرهم، وفلان كثير الدخل والخرج، إذا كثر ما يدخل عليه من الفوائد وما يخرج عنه من الإنفاق.
مناط: تعلّق. أودت: هلكت. نظام: خيط. مطلولا: هدرا أي باطلا لا حق فيه.
التناصف: أخذ الحق وإعطاؤه، واستعار له عنقا، وجعله مغلولا أي محبوسا بغلّ.
التظالم: ضدّ التناصف. يراع: أقلام. متقوّل: منحول ما يقوله. متأوّل: مدبّر يريد أنّ الملك يلقي للكاتب مقصده، فيحسن الكاتب الألفاظ ويرتّب الفقر، فيزيد في كتابته ألفاظا على ما حدّ له بالضرورة، فتلك الزيادات ضرب من التقوّل وهو أن يقول على الرجل ما لم يقل، وكاتب الحساب لا يحتاج إلى تقوّل. مناقش: مباحث. أبو براقش:
أي يأتي بأنواع مختلفة، وأبو براقش: طائر فيه ألوان شتّى، مشتق من البرقشة، وهي النقش والرقم، يقال: برقشت الثوب. وأنشد سيبويه وعزاه أبو عمرو بن العلاء لبعض بني أسد: [مجزوء الكامل]
إن يبخلوا أو يحسنوا ... أو يعذروا لا يحفلوا (1)
يغدوا عليك مرجّلي ... ن كأنهم لم يفعلوا
كأبي براقش كل حي ... ن لونه يتخيّل
وأبو براقش وأبو قلمون، كنية للرجل الكثير التلوّن، القليل الارتباط، وأصل أبي قلمون كنية لثياب إبريسم تنسج بمصر والروم، تتلوّن للعيون ألوانا شتى. وفي البديعية:
[المجتث]
أنا أبو قلمون ... في كل لون أكون
__________
(1) يروى البيت الأول:
إن ينجلوا أو يجبنوا ... أو يغدروا لا يحفلوا
والبيتان الأول والثاني، لبعض بني أسد في خزانة الأدب 9/ 91، والكتاب 3/ 87، ولسان العرب (برقش)، وبلا نسبة في الإنصاف 2/ 584، والبيان والتبيين 3/ 333، وديوان المعاني 1/ 182، وذيل الأمالي ص 83، وشرح أبيات سيبويه 2/ 206، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 515، وشرح المفصل 1/ 36، وكتاب الصناعتين ص 601، والبيت الثالث للأسدي في لسان العرب (برقش)، والتنبيه والإيضاح 2/ 312، وتاج العروس (برقش)، وبلا نسبة في أساس البلاغة (برقش)، (خيل).(2/141)
حمة بالتخفيف: سمّ وشرّ. يرقى: يصعد في منزله، ويرتفع في أصابع الكاتب حين يكتب به. يرقى: إشارة للرشوة لأنها تسكن شرّة، كما تسكن الرقية الوجع، إعنات: مشقّة. ينشى: يكتب. يغشى: يقصد ويدخل عليه.
[حائك الكلام]
هذه المقامة بناها أبو محمد على حكاية حائك الكلام المشهور، لأنهم حقروه أولا في السفينة ثم عظموه آخرا بعد الاختبار.
ونذكر الحكاية وإن طالت لموافقتها المقامة: حدّث عمرو بن مسعدة (1) أنّ المعتصم لمّا رجع من الثغر، وصار بناحية الرّقة قال لي: ما زلت تسألني في الرخّجي (2)
حتى ولّيته الأهواز، وقعد في سرّة الدنيا يأكلها خضما وقضما، ولم يوجّه إلينا بدرهم واحد، اخرج إليه من ساعتك، واحلف ألّا تقيم ببغداد إلّا يوما واحدا، فحلفت له، وقلت في نفسي: أبعد الوزارة أصير مستحثّا لعالم خراج! ولم أجد بدّا من طاعته.
فخرجت إلى بغداد، ففرش لي زورق، وغشّي بالسّلخ (3)، فلما صرت عند دير هزقل، وإذا رجل يصيح: يا ملاح، رجل منقطع، فقلت للملاح: قرب إلى الشطّ، فقال: هذا شحاذ، وإن قعد معك، آذاك فأمرت الغلمان فأدخلوه في كوثل الزّورق (4)، فلما حضر الغداء دعوته فأكل أكل جائع، إلّا أنه نظيف، فلما رفع الطعام، أردت أن يستعمل معي ما يستعمل العوامّ مع الخاصة أن يقوم فيغسل يده في ناحية، فلم يفعل، فغمزه الغلمان فلم يفعل، فقلت: يا هذا، ما صناعتك؟ فقال: حائك، فقلت في نفسي: هذه شرّ من الأولى، ثم قال لي: جعلت فداك! سألتني عن صناعتي فأخبرتك، فما صناعتك؟ فقلت:
هذه والله أعظم، فكرهت ذكر الوزارة فقلت: كاتب.
فقال: الكاتب على خمسة أصناف: كاتب رسائل ويحتاج أن يعرف الفصل من الوصل، والتهاني والتعازي والصدور وجملا من الإعراب. وكاتب خراج يحتاج إلى أن يعرف الزرع والمساحة والتقسيط والحساب. وكاتب جند، يحتاج إلى أن يعرف شيات الخيل وحلى الناس وكاتب شرطة يحتاج إلى أن يعرف الجراح والقصاص والدّيات، وكاتب قاض يحتاج إلى أن يعرف الفقه والوثائق وما يتعلق بذلك، فأيهم أنت أعزك الله تعالى؟
قلت: كاتب رسائل، قال: فأخبرني إن كان لك صديق تكتب له في المحبوب
__________
(1) من المعروف أن عمرو بن مسعدة بن سعيد هو أحد وزراء المأمون، وقد توفي سنة 217هـ في حياة المأمون، وأن المعتصم ولي الخلافة في رجب سنة 218هـ. ولعل هنا خطأ.
(2) هو عمر بن فرج الرخجي من كتاب المأمون.
(3) السلخ: الجلد.
(4) كوثل الزورق: مؤخره.(2/142)
والمكروه، فتزوّجت أمه، كيف تكتب إليه؟ تهنيه أو تعزيه؟ قلت: والله لا أدري، وهو بالتعزية أولى، قال: صدقت، فكيف تعزيه؟ قلت: والله لا أدري وهو بالتعزية أولى، قال: صدقت، فكيف تعزيه؟ قلت: والله لا أدري.
قال: فلست بكاتب رسائل: فأيهم أنت؟ قلت: كاتب خراج، قال: فما تقول وقد ولّاك السلطان عملا، فجاء قوم يتظلّمون من بعض عمالك، فأردت أن تنصفهم، وكنت تحب العدل وتؤثر حسن الأحدوثة، وكان لأحدهم قراح (1) فأردت مساحته؟ قلت:
أضرب العطوف في العمود. قال: إذن تظلم الرجل، قلت: فأمسح العمود على حدة، والعطوف على حدة، قال: إذن تظلم الناس، قلت: والله فما أدري؟ قال: فلست بكاتب خراج، فأيهم أنت؟ قلت: كاتب جند.
فقال: فما تقول في رجلين اسم كل واحد منهما أحمد، أحدهما مقطوع الشفة العليا، والآخر مقطوع السفلى كيف تكتب عليهما؟ قلت: أكتب أحمد الأعلم وأحمد الأعلم. قال: وكيف ورزق هذا مائة درهم ورزق الآخر ألف درهم، فيقبض هذا على دعوة هذا، فتظلم صاحب الألف، قلت: والله ما أدري! قال: فلست بكاتب جند، فأيهم أنت؟ قلت: كاتب قاض.
قال: فما تقول في رجل توفّي وخلّف زوجة وسرّية، وللزوجة بنت وللسّريّة (2)
ابن، فتنازعتا فيه، فقالت كلّ واحدة منهما هذا ابني وقالت واحدة هذا ابني، كيف تحكم بينهما وأنت خليفة القاضي! قلت: والله ما أدري؟ قال: فلست بكاتب قاض، قال: فأيّهم أنت؟ قلت: كاتب شرطة.
قال: فما تقول في رجل وثب على رجل، فشجّه شجّة موضحة (3)، فوثب عليه المشجوج فشجّه شجّة مأمومة (4)، فقلت: لا أعلم، وقد سألت ففسّر لي ما ذكرت.
قال: أما الرجل الذي تزوّجت أمه، فتكتب إليه: أما بعد فإنّ أحكام الله تعالى تجري بغير محابّ المخلوقين، والله يختار للمخلوق، فخار الله لك في قبضها إليه، فإن القبر أكرم لها، والسلام.
قال: وأما القراح فتضرب واحدا في واحد في مساحة العظوف، فتمّ بابه.
قال: وأما المقطوع العليا فتكتب عليه أحمد الأعلم، وعلى المقطوع السفلى أحمد الأشرم، وأما المرأتان فيوزن لبنهما، فأيتهما كان لبنها أخفّ فهي صاحبة البنت. وفي الموضحة خمس من الإبل، وفي المأمومة ثمانية وعشرون.
__________
(1) القراح: المزرعة ليس فيها بناء ولا شجر.
(2) السرية: المملوكة يتسراها صاحبها.
(3) الموضحة: الضربة التي بلغت العظم.
(4) المأمومة: الضربة التي بلغت أم الرأس.(2/143)
قلت: فما نزع بك إلى هنا؟ قال: ابن عم لي كان عاملا على ناحية فخرجت إليه فلقيته معزولا، فخرجت إلى بعض النواحي اضطرب في المعاش، قلت: أليس قد ذكرت أنك حائك! قال: أنا أحوك الكلام، ولست بحائك الثياب. فلما بلغنا الأهواز أمرت الحجام فأحفي من شعره، وأدخل الحمام، فكسوته من ثيابي، وكلمت الرخّجّي فيه في الأهواز فأعطاه خمسة آلاف درهم، ورجع معي.
فقال لي المعتصم: ما كان من خبرك في طريقك؟ فأخبرته خبري، ثم خبر الرجل، فقال: هذا لا يستغنى عنه، فلأيّ شيء يصلح؟ قلت: هو والله يا أمير المؤمنين أعلم الناس بالمساحة والهندسة، فولّاه البناء، فكنت ألقاه في الموكب النّبيل فينزل عن دابته فأمنعه، فيقول: يا سبحان الله! إنما هذه نعمتك، وبك أفدتها.
ومثل إيهامه هنا أنه حائك إيهام أبي زيد في التاسعة أنه نظام.
* * * قال الحارث بن همام: فلمّا أمتع الأسماع، بما راق وراع، استنسبناه فاستراب، وأبى الانتساب، ولو وجد منسابا لأنساب. فحصلت من لبسه على غمّة حتّى ادّكرت بعد أمّة. فقلت: والّذي سخّر الفلك الدّوّار، والفلك السّيّار، إنّي لأجد ريح أبي زيد، وإن كنت أعهده ذا رواء وأيد.
فتبسّم ضاحكا من قولي، وقال: أنا هو على استحالة حالي وحولي فقلت لأصحابي: هذا الّذي لا يفرى فريّه، ولا يبارى عبقريّه. فخطبوا منه الودّ، ويذلوا له الوجد فرغب عن الألفة، ولم يرغب في التّحفة، وقال: أمّا بعد إن سحقتم حقّي، لأجل سحقي، وكسفتم بالي، لإخلاق سربالي، فما أراكم إلّا بالعين السّخينة، ولا لكم منّي إلا صحبة السفينة.
* * * قوله: «أمتع الأسماع» أي متّع الآذان ولذّذها، ومنه يقال في الكتابة: أبقاك الله وأمتع بك، ومعناه: أطال الله عمره، من الماتع وهو الطويل عند العرب، ومنه متع النهار، أي علا، وقال الأنصاريّ. [الكامل]
واها لأيام الصّبا وزمانه ... لو كان أمتع بالمقام قليلا!
ونبلاء الكتاب يكتبون بها إلى الأتباع والأدنياء، ولا يكتبون بها إلى الأكفاء والأعلون.
* * *
[من أخبار الأدباء والشعراء](2/144)
* * *
[من أخبار الأدباء والشعراء]
وكتب محمد بن عبد الملك الزيات إلى عبد الله بن طاهر كتابا في صدره: وأمتع بك، فكتب إليه ابن طاهر: [المنسرح]
أحلت عما عهدت من أديك ... أم نلت ملكا فتهت في كتبك
أم قد ترى أنّ في ملاطفة ال ... إخوان نقصا عليك في أدبك
إن جفا كتاب ذي مقة ... يكون في صدره: وأمتع بك
أتعبت كفّيك في مخاطبتي ... حسبك ممّا لقيت من تعبك
فأجابه ابن الزيات: [المنسرح]
كيف أخون الإخاء يا أملي ... وكلّ شيء أنال من سببك
إن يك جهل أتاك من قبلي ... فعد بفضل عليّ من حسبك
أنكرت شيئا ولست فاعله ... ولن تراه يخطّ في كتبك
فاعف فدتك النفوس عن رجل ... يعيش حتى الممات في أدبك
ومن ملح أجوبة ابن الزيات أن الحسن بن وهب مرض فلم يعده، ولا تعرف خبره، فكتب إليه الحسن: [الخفيف]
أيّهذا الوزير أيدك الله ... وأبقاك لي زمانا طويلا
أجميلا تراه يا أكرم النا ... س لكيما أراه أيضا جميلا
إنني قد أقمت عشرا عليلا ... ما ترى مرسلا إليّ رسولا
إن يكن يوجب التعهد في الصح ... بة منّا عليّ منك طويلا
فهو أولى يا سيّد الناس برّا ... وافتقادا لمن يكون عليلا
فأجابه ابن الزيات: [الخفيف]
دفع الله عنك نائبة الدّه ... ر وحاشاك أن تكون عليلا
أشهد الله ما علمت وماذا ... ك من العذر جائزا مقبولا
ولعمري أن لو علمت فلا رم ... تك حولا لكان عندي قليلا
فاجعلن لي وإلى التعلّق بالعذ ... ر سبيلا إن لم أجد لي سبيلا
فقديما ما جاد بالصّفح والعف ... وو ما سامح الخليل خليلا
وكتب بعض الكتاب إلى صديق له يعاتبه على ترك عيادته: [الكامل]
يا جافيا ترك السؤال بعبده ... نفسي فداؤك من ملول قاطع
اعتلّ عبدك من تشكّى رأسه ... ستّا وأردفها بيوم سابع
فحبست رسلك عن تعهد علتّي ... وقطعت من سبب الوصال مطامعي
وعلمت منك تماديا في جفوتي ... فرجعت في عفوي كأحسن راجع
فأجابه الآخر: [الكامل](2/145)
يا جافيا ترك السؤال بعبده ... نفسي فداؤك من ملول قاطع
اعتلّ عبدك من تشكّى رأسه ... ستّا وأردفها بيوم سابع
فحبست رسلك عن تعهد علتّي ... وقطعت من سبب الوصال مطامعي
وعلمت منك تماديا في جفوتي ... فرجعت في عفوي كأحسن راجع
فأجابه الآخر: [الكامل]
لا والّذي قسم الجمال بفضله ... فحباك منه بالضّياء اللامع
ما إن علمت بعلّة لك سيدي ... إلا بخطّك في القريض البارع
وإذا أتتك رسالتي فقرأتها ... فأقبل فديتك من مقرّ خاضع
وكان الحسن بن وهب يتعشّق غلاما لأبي تمام روميّا، وكان أبو تمام يتعشق غلاما للحسن خزريّا، فرآه أبو تمام يعبث بغلامه، فقال: والله لئن أعنقت في الرّوم لأركضنّ إلى الخزر، وما أشبّهك إلّا بداود وأشبّه نفسي بخصمه، فقال الحسن: لو كان هذا منظوما خفناه، والمنثور عارض لا حقيقة له، فقال أبو تمام: [البسيط]
أبا عليّ لصرف الدهر والغير ... وللحوادث والأيام والعبر
أذكرتني أمر داود وكنت فتى ... مصرّف القلب في الأهواء والذّكر
أعندك الشمس لم يحظ المغيب بها ... وأنت مضطرب الأحشاء بالقمر
إن أنت لم تترك السير الحثيث إلى ... جآذر الروم أعنقنا إلى الخزر
وكان الحسن يكتب لابن الزيات، فلما وقف على ما بينهما من أمر الغلامين، تقدّم إلى بعض ولده، وكانوا يجلسون عند ابن وهب أن يعلموه ما يدور بينهما، فعزم غلام أبي تمام على الحجامة، فكتب إلى الحسن يعلمه بذلك، ويسأله توجيه نبيذ مطبوخ فوجّه إليه مائة دنّ ومائة دينار وخلعة وبخورا وكتب إليه: [الخفيف]
ليت شعري يا أملح النّاس عندي ... هل تداويت بالحجامة بعدي!
دفع الله عنك لي كلّ سوء ... باكر رائح وإن خنت عهدي
قد كتمت الهوى بمبلغ جهدي ... فبدا منه غير ما كنت أبدي
وخلعت العذار فليعلم النا ... س بأنّي إليك أصفي بودّي
وليقولوا بما أحبوا إذا كن ... ت وصولا ولم ترعني بصدّ
من عذيري من مقلتيك ومن إش ... راق وجه من تحت حمرة حدّ
ووضع الرقعة تحت مصلّاه، وأعلم ابن الزيات خبرها، فأرسل في الحين، وشغله بشيء، ووجّه من جاءه بها. فلما قرأها كتب فيها على لسان أبي تمام: [الخفيف]
ليت شعري عن ليت شعرك هذا ... أبهزل تقوله أم بجدّ
فلئن كنت في المقال محقّا ... يا بن وهب لقد تطرّفت بعدي
وتشبّهت بي وكنت أرى أنّ ... ي أنا العاشق المتيمّ وحدي
إن مولاي عبد غيري ولولا ... شؤم جدّي لكان مولاي عبدي
ثم قال: ضعوا الرقعة مكانها، فلما قرأها الحسن قال: إنا لله افتضحنا عند الوزير.(2/146)
ليت شعري عن ليت شعرك هذا ... أبهزل تقوله أم بجدّ
فلئن كنت في المقال محقّا ... يا بن وهب لقد تطرّفت بعدي
وتشبّهت بي وكنت أرى أنّ ... ي أنا العاشق المتيمّ وحدي
إن مولاي عبد غيري ولولا ... شؤم جدّي لكان مولاي عبدي
ثم قال: ضعوا الرقعة مكانها، فلما قرأها الحسن قال: إنا لله افتضحنا عند الوزير.
وأعلم أبا تمام، فتلقّياه فقالا: إنا جعلنا هذين الغلامين سببا لتكاتبنا بالأشعار، فقال لهما: ومن يظن بكما غير هذا! فكان قوله عليهما أشدّ.
محمد بن إسحاق: قلت لأبي تمام: غلامك أطوع للحسن من غلامه لك، قال:
إني أعطي غلامه قيلا وقالا، ويعطي غلامي ثيابا ومالا، وقال أبو تمام في غلامه:
[السريع]
يا عمرو قل للقمر الطالع ... اتّسع الخرق على الراقع
يا طول فكري فيك من حامل ... لرقعة مفكوكة الطابع
ما أنت إلا رشا جؤذر ... حلّ بمغنى أسد جائع
قوله: راق، أي أعجب. راع: أفزع لإفراط حسنه. استنسبناه: سألناه عن نفسه، وهذا من قول النبي صلّى الله عليه وسلم «إذا جاء الرجل الرجل، فليسأله عن اسمه واسم أبيه وممن هو، فإن ذلك أوصل للمودة» (1). استراب: دخلته الريبة. منسابا: موضعا يدخل فيه. لبسه:
تخليطه. وغمة القلب: ما يعطيه من الشك أو الهمّ، فأراد أنّه لبّس عليه فلم يعرفه.
ادّكرت، أي ذكرت. أمّة: حين. الفلك: مدار النجوم. والفلك السيّار: أي السفينة السريعة. والفلك لفظ يقع للواحد والجمع. أعهده: أعرفه. رواء: فتوّة وحسن هيئة.
أيد: قوّة. استحالة: تغير. الحول: القوة، وأيضا الحيلة. ولو خاطبه ابن همام بشعر لكان للشريف الرضي في جوابه للصابي، وقد شكا إليه الهرم والجلوس في المحفّة وامتناعه من التصرف، فقال: [الطويل]
لئن رام قبضا من بنانك حادث ... لقد عاضنا منك انبساط جنان (2)
وإن أقعدتك النائبات فطالما ... سرى موقرا من مجدك الملوان
وإن هدّمت منك الخطوب بمرّها ... فثمّ لسان للمناقب بان
قوله: «لا يفري فريّه»، أي لا يقطع قطعه ولا يعمل عمله، قال الحوافزان:
وما ارتعشت كفّي ولا طاش ضربها ... إذا طرحوا بالفارس المتهلّل
ولكنها إذ ذاك تفري فريّها ... وتقرع رأس الفارس المتقتّل
يباري عبقريّه: يجاري جنيّه، ولفظ الحريري كله منتزع من الحديث الصحيح قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «رأيت فيما يرى النائم كأني على بئر وأرى جميع الناس، فجاء أبو بكر
__________
(1) أخرجه الترمذي في الزهد باب 54.
(2) الأبيات في ديوان الشريف الرضي ص 944.(2/147)
فنزل ذنوبا أو ذنوبين. وفيه ضعف، والله يغفر له. ثم جاء عمر رضي الله عنه فاستحالت بيده غربا، فلم أر عبقريا من الرجال يفري فريّه، حتى ضرب الناس بأعطانهم» (1). يقال رجل عبقريّ، أي كامل قويّ، والعبقريّ أيضا الحسن من كل شيء. الوجد: المال.
رغب عن الألفة، أي تباعد عن الصحبة. ولم يرغب في التحفة، أي لم يطمع في العطيّة، أي لم يقبل عطيّتهم ولا صحبتهم. سحقتم: نقضتم وغيّرتم. سحقي: ثوبي البالي. وكسفتم بالي: تنقّصتم حالي وغيرتموها. سربالي: قميصي. السخينة: الساخطة الحارة الدمع.
* * * ثم أنشد: [الكامل]
اسمع أخيّ وصيّة من ناصح ... ما شاب محض النّصح منه بغشّه
لا تعجلن بقضيّة مبتوتة ... في مدح من لم تبله أو خدشه
وقف القضيّة فيه حتّى تجتلي ... وصفيه في حالي رضاه وبطشه
ويبين خلّب برقه من صدقه ... للشائمين، ووبله من طشّه
فهناك إن تر ما يشين فواره ... كرما وإن تر ما يزين فأفشه
ومن استحقّ الارتقاء فرقّه ... ومن استحطّ فحطّه في حشّه
واعلم بأنّ التّبر في عرق الثّرى ... خاف إلى أن يستثار بنبشه
وفضيلة الدينار يظهر سرّها ... من حكّه لا من ملاحة نقشه
ومن الغباوة أن تعظّم جاهلا ... لصقال ملبسه ورونق رقشه
أو أن تهين مهذّبا في نفسه ... لدروس بزّته ورثّة فرشه
ولكم أخي طمرين هين لفضله ... ومفوّف البردين عيب لفحشه
وإذا الفتى لم يغش عارا لم تكن ... أسماله إلّا مراقي عرشه
ما إن يضرّ العضب كون قرابه ... خلقا ولا البازي حقارة عشّه
* * * شاب: أي خلط، ومحضه: خالصه. وغشه: عيبه وفساده.
وللزاهد بن عمران في النصيحة: [مجزوء الكامل]
__________
(1) روي بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم باب 5، 6، والتعبير باب 28، 29، والتوحيد باب 31، والمناقب باب 25، ومسلم في فضائل الصحابة حديث 17، 19، والترمذي في الرؤيا باب 10، وأحمد في المسند 2/ 28، 39، 45، 89، 102، 107، 368، 5/ 455.(2/148)
اسمع أخيّ نصيحتي ... والنّصح من أصل الديانه
لا تعرضنّ إلى الشها ... دة والوساطة والأمانه
تسلم من أن تعزى لزو ... ر أو فضول أو خيانه
وقال آخر فيمن لا يقبل النصيحة: [المتقارب]
إذا ما هديت امرأ مخطئا ... أضلّ السبيل إلى قصده
ولم تلفه سامعا قابلا ... فحسّن له المشي في ضدّه
وقوله: «لا تعجلن»، وما بعده من قول الشاعر: [البسيط]
لا تمدحن امرأ حتى تجرّبه ... ولا تذّمنّه من غير تجريب
ولابن عمران أيضا: [الكامل]
تحرّ سبيل القصد في الناس ولتكن ... على حذر منهم ولا تسيء الظّنّا
ولا تمدحنّ من لم تجرّب ولا تقل ... على غير علم ذاك من ذاكم أسنى
فما كلّ من يرضيك ظاهر حاله ... لدى الخبر محمودا وقد يحمد الأدنى
القضية: الحكم. مبتوتة: مقطوعة. تبله: تجرّبه. خدشه: عيبه وإذايته. تجتلي:
تنظر. بطشه: صولته عند الغضب، يقول: لا تحكم بشيء على أحد حتى تجرّبه في الشدة والرخاء. وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إن فلانا لرجل صدق، قال: أسافرت معه؟ قال لا، قال: فهل كانت بينك وبينه خصومة؟ قال: لا.
قال: فهل ائتمنته على شيء؟ قال لا. قال: فأنت الذي لا علم لك به، وإنما أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد. يبين: يظهر. خلّب: كاذب. الشائمين: الناظرين إلى البرق. وبله: مطره الكثير. طشه: مطره القليل. يشين: يعيب. واره: استره. كرما: أي تكرّما منك عليه. أفشه: حدّث به وانشره. الارتقاء: الترفيع. رقّه: ارفعه. استحطّ:
اتّضع. حشّه: كنيفه وهو المستراح. التّبر: الذهب قبل السّبك. يستثار: يستخرج.
النّبش: البحث عليه. الغباوة: الجهالة. رونق رقشه: حسن زينته. مهذّبا: مخلصا.
دروس: إخلاق. بزّته: لبسته. رثّة: ضعف. طمرين: ثوبين خلقين. هيب: حيف.
مفوّف: مزين. لفحشه: لقبح كلامه. يغش عارا: يدخله. أسماله: ثيابه البالية. مراقي:
سلالم ومدارج. عرشه: سريره ومنزلته. العضب: السيف. قرابه: جفنه.
ومما ينتظم في هذا السلك أن النجّاد العدويّ دخل على معاوية في عباءة فاحتقره، فقال: يا أمير المؤمنين إن العباءة لا تكلمّك، إنمّا يكلمك من فيها، ثم تكلّم فملأ سمعه بيانا، ثم خرج ولم يسأله شيئا، فقال معاوية: ما رأيت رجلا أحقر أوّلا، ولا أجلّ آخرا منه.(2/149)
وقال بعضهم: [البسيط]
إني وإن كنت أثوابي ملفّقة ... ليست بخزّ ولا من نسج كتّان
فإن في المجد همّاتي وفي لغتي ... فصاحة، ولساني غير لحّان
وقال آخر: [الكامل]
هل ينفعنك بعد شيبك في الهوى ... توقير مكتسب ولبس ثياب
هيهات ما فخر المهنّد في الوغي ... بحلى غمد فوقه وقراب
وقال الخابزرزي: [البسيط]
لا تنظرنّ إلى أثواب مغترب ... نائي المحلّ بعيد الأهل والدّار
وانظر إليه إذا ما قام في ملأ ... بمنطق لذوي الألباب سحّار
وقال المعري: [الطويل]
وإن كان في لبس الفتى شرف له ... فما السيف إلا غمده والحمائل (1)
وقال أبو هفّان: [الطويل]
لعمري لئن بيعت في دار غربة ... ثيابي إن ضاقت عليّ المآكل
فما أنا إلا السيف أخلق جفنه ... له حلية من نفسه وهو عاطل
وقال لبيد: [الطويل]
أصبحت مثل السيف أخلق جفنه ... تقادم عهد القين والسيف قاطع (2)
وقال النّمري: [الطويل]
فإن تك أثوابي تمزّقن عن بلى ... فإني كنصل السّيف في خلق الغمد
كان بالكوفة رجل يعرف بأبي ذؤيب، وكان مقصدا للشعراء، فدخل مجلسه محمد ابن حازم الباهليّ، وعليه ثياب رثّة، وهم يتكلمون في معاني الشعر، فسأله ابن حازم عن بيت للطرّماح، فردّ أبو ذؤيب جوابا محالا، وهو في ذلك كالمزدري لابن حازم، فوثب مغضبا فقيل له: ماذا فتحت على نفسك الشرّ؟ أتدري من احتقرت؟ قال: لا قيل: هو أخبث الناس لسانا، وأهجاهم، هذا ابن حازم، فوثب حافيا حتى لقيه وحلف أنه لم يعرفه واستقاله فأقاله، وقال: [الكامل]
أخطا عليّ وردّ غير جوابي ... وزري عليّ وقال غير صواب
__________
(1) البيت في سقط الزند ص 526.
(2) البيت في ديوان لبيد بن ربيعة ص 171.(2/150)
وسكتّ من عجب لذاك فزادني ... فيما كرهت بظنّه المرتاب
وقضى عليّ بظاهر من كسوة ... لم يدر ما اشتملت عليه ثيابي
من عفّة وتكرّم وتجمل ... وتجلد لمصيبة وعقاب
لكنه رجعت عليه ندامة ... لما يسبّ وحاف مضّ عتابي
فأقلته لمّا أقرّ بذنبه ... ليس الكريم على الكريم بناب
وكان ابن حازم ساقط الهمة، يرضيه اليسير على انطباعه في شعره.
وقال حماد بن يحيى: قال لي ابن حازم يوما: ما بقي عليّ شيء من اللذات إلّا بيع السنانير: فقلت له: ويحك! وأيّ في ذلك من اللذة؟ قال: يعجبني أن تجيء العجوز الرّعناء تخاصمني، وتقول: هذا سنّوري سرق، فأخاصمها، فتشتمني، فأشتمها وأغيظها ثم أنشد: [المجتث]
صل خمرة بخمّار ... وصل خمارا بخمر
وخذ نصيبك من ذا ... وذا إلى حيث تدري
فقلت: إلى أين ويحك! فقال: إلى النار يا أحمق.
* * * ثمّ ما عتّم أن استوقف الملّاح، وصعد من السّفينة وساح، فندم كلّ منّا على ما فرّط في ذاته، وأغضى جفنه على قذاته، وتعاهدنا على ألّا نحتقر شخصا لرثاثة برده، وألّا نزدري سيفا مخبوءا في غمده.
* * * قوله «ما عتّم»، أي ما أبطأ ولا تأخّر، ويقال: عتّم القرى، إذا تأخر، وأعتم حاجته: أخّرها، ومنه صلاة العتمة لتأخرّ وقتها. استوقف الملّاح: أمر خادم السفينة بالوقوف. صعد: ارتقي وارتفع. ساح: ذهب في الأرض. في ذاته: أي في نفسه.
أغضى جفنه: سدّ عينه. قذاته: عاره وعيبه الذي تلقّى به السروجيّ عند الدخول في السفينة. والقذاة: ما يسقط في العين فيوجعها. نزدري: نحتقر. لرثاثة برده: لإخلاق ثوبه. الله تعالى الموفق.(2/151)
المقامة الثالثة والعشرون وهي الشّعريّة
حكى الحارث بن همّام، قال: نبا بي مألف الوطن، في شرخ الزّمن لخطب خشي، وخوف غشي فأرقت كأس الكرى، ونصصت ركاب السّرى، وجبت في سيري وعورا لم تدمّثها الخطا، ولا اهتدت إليها القطا حتّى وردت حمى الخلافة، والحرم العاصم من المخافة، فسروت إيجاس الرّوع واستشعاره، وتسربلت لباس الأمن وشعاره. وقصرت همّي على لذّة أجتنيها، وملحة أجتليها.
فبرزت يوما إلى الحريم لأروض طرفي، وأجيل في طرقه طرفي فإذا فرسان متتالون، ورجال منثالون، وشيخ طويل اللّسان، قصير الطّيلسان، قد لبّب فتى جديد الشباب، خلق الجلباب فركضت في إثر النّظارة حتّى وافينا باب الإمارة، وهناك صاحب المعونة متربّعا في دسته، ومروّعا بسمته.
* * * قوله «نبا بي» أي قلق ولم يوافقني. الوطن: المنزل. ومألفه. موضع الاجتماع به والتأليف فيه.
شرخ: أوّل، أراد في أول زمانه وشبابه. خطب: أمر مخوّف. خشي: خيف.
وغشي: نزل وغطّى.
أرقت: هرقت، وجعل للكرى وهو النوم كأسا مجازا، وكنى بهرقها عن إزالة النوم عن عينه. نصصت: رفعت وحرّكت ركاب السرى: إبل السّير. جبت: قطعت. وعورا:
طرقا صعبة. تدّمثها: تسهّلها وتليّنها. الخطا هنا: الأقدام، وقوائم الحيوان. والقطا:
طائر وقد تقدم. وهدايتها: فيما زعموا أنها تترك فراخها بالصحراء، وتذهب عند طلوع الشمس لطلب الماء من مسيرة عشرين ليلة فما دونها، فيردنه ضحوة يومهنّ فيحملن الماء لفراخهنّ فينهلنهن ثم يرجعن بعد الزوال إلى تلك المسافة، فيشربن ويأتين فراخهنّ في عشية يومهنّ فيسقينهنّ عللا بعد نهل، ولا يخطئن مواضع فراخهنّ، فيقال لذلك: أهدى من القطا، قال الشاعر: [الطويل](2/152)
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلّت (1)
ولو أنّ برغوثا على ظهر قملة ... رأته تميم يوم زحف لولّت
وقال حميد بن ثور: [الطويل]
كما اتصلت كدراء تسقي فراخها ... بعردة رفها والمياه شعوب (2)
فجاءت ومسقاها الذي وردت به ... إلى الصدر مشدود العصام كئيب
تبادر أطفالا مساكين دونها ... فلا لا تخطاه الرقاب رغيب
وصفن لها غوثا بأرض تنوفة ... فما هي إلّا نهلة وتؤوب
قوله: «حمى الخلافة»، هي بغداد. الحرم: موضع الأمن. العاصم: المانع.
سروت: أزلت. إيجاس الروع: إحساس الفزع والخوف. واستشعاره، استفعال من شعرت بالشيء. تسربلت: لبست سربالا. قصرت همي: حبست همتي وإرادتي. ملحه:
طرفة وشيء عجب. أجتليها: أنظرها. الحريم: موضع متسع حول قصر الملك يجتمع فيه أجناده وغيرهم. أروض: أعلّم وأسوس. طرفي: فرسي. أجيل: أمشي. متتالون:
متتابعون. منثالون: منصبون لكثرة جريهم. الطيلسان: ثوب خزّ أخضر. لبّب: جعل في عنقه ثوبا وقاده به، وأخذ بتلابيبه وهي أطوق ثوبه، والتلابيب مأخوذة من اللبّة وهي وسط الصدر. جديد الشباب، أي فتّي السن، وتقدم الجلباب.
ركضت في أثر النظارة، أي خلف الناظرين لما يفعل به، ومن شأن الغوغاء والعامة إذا رأوا محبوسا أو مضروبا أن يتبعوه ويتكاثروا عليه. ونظر عمر رضي الله عنه إلى قوم يتبعون رجلا مريبا، فقال: لا مرحبا بهذه الوجوه التي لا ترى إلّا عند الشرّ. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما اجتمعوا قطّ إلا ضرّوا ولا تفرقوا إلّا نفعوا، قيل له: قد علمنا ضرّ اجتماعهم. فما نفع افتراقهم قال: يذهب الحجّام إلى دكانه، والحدّاد إلى كياره، وكلّ صانع إلى صنعته. وقال دعبل: [البسيط]
ما أكثر الناس لا بل ما أقلّهم ... والله يعلم أنّي لم أقل فندا (3)
إني لأفتح عيني حين أفتحها ... على كثير، ولكن لا أرى أحدا
ومرّ علي بن الجهم بمبرسم، والناس قد تجمّعوا حوله، وحلّقوا به، فلما رآهم المبرسم أخذ بعنان فرسه وأنشأ يقول: [الكامل]
__________
(1) البيتان للطرماح في عيون الأخبار 1/ 311، وهما ليسا في ديوانه.
(2) البيت الأول في ديوان حميد بن ثور ص 53، ولسان العرب (شمظ)، وتاج العروس (شمظ)، وتهذيب اللغة 11/ 333، وهو بلا نسبة في المخصص 9/ 154، وجمهرة اللغة ص 1303.
(3) البيتان في ديوان دعبل ص 63.(2/153)
لا تحفلن بمعشر اله ... مج الذين تراهم
فبحق من أبلي بهم ... نفسي ومن عافاهم
لو قيس مولاهم بهم ... كانوا إذا مولاهم
ثم نظر حوله، فرأى غلاما جميل الوجه، حسن اللبسة، فهجم عليه وشقّ ثيابه وهو يقول: [الكامل]
هذا السعيد لديهم ... قد صار بي أشقاهم
وافينا: وصلنا. صاحب المعونة: والي الجنايات، وقال الرستميّ: ولي فلان المعونة، أي ولي العون، أي ولّاه السلطان عونه على حفظ المدينة ولفظها مفعولة وهي بتأويل المصدر بمنزلة قولهم: ماله معقول، أي عقل ولا مجلود أي جلد.
مروّعا بسمته، أي مفزعا بهيئته ووقاره.
* * * فقال له الشّيخ: أعزّ الله الوالي، وجعل كعبه العالي، إنّي كفلت هذا الغلام فطيما، وربّيته يتيما ثمّ لم آله تعليما. فلمّا مهر وبهر، جرّد سيف العدوان وشهر، ولم أخله يلتوي عليّ ويتّقح، حين يرتوي منّي ويلتقح. فقال له الفتى: علام عثرت منّي حتّى تنشر هذا الخزي عنّي، فو الله ما سترت وجه برّك، ولا هتكت حجاب سترك، ولا شققت عصا أمرك، ولا ألغيت تلاوة شكرك.
فقال له الشيخ: ويلك وأيّ ريب أخزى من ريبك، وهل عيب أفحش من عيبك، وقد ادّعيت سحري واستلحقته، وانتحلت شعري واسترقته، واستراق الشّعر عند الشعراء، أفظع من سرقة البيضاء والصّفراء، وغيرتهم على بنات الأفكار، كغيرتهم على البنات الأبكار. فقال الوالي للشّيخ: وهل حين سرق سلخ، أم مسخ أم نسخ!
* * * جعل كعبه العالي، أي جعل أسفل شيء منه يعلو أرفع شيء في غيره. كفلته:
ضممته وقمت بمؤنته.
أبو هريرة رضي الله عنه، قال النبي صلّى الله عليه وسلم «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وهو يشير بإصبعيه وخير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشرها يتيم يساء إليه» (1).
__________
(1) أخرجه البخاري في الطلاق باب 25، والأدب باب 24، ومسلم في الزهد حديث 42، وأبو داود في الأدب باب 123، والترمذي في البر باب 14، ومالك في الشعر حديث 5، وأحمد في المسند 2/ 375، 5/ 333.(2/154)
أبو أسامة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من مسح على رأس يتيم لم يمسحه إلا لله، كانت له بكل شعرة مرّت عليها يده حسنة، ومن أحسن إلى يتيم أو يتيمة كنت أنا وإيّاه في الجنة كهاتين وفرّق بين إصبعيه» (1).
فطيما: أي صغيرا كما منع الرضاع. لم آله: أي لم أقصر في تعليمه. مهر: ظهر وصار ماهرا أي حاذقا. بهر: غلب أمثاله. العدوان: الظلم. يلتوي: ينعطف، لضرّي وهو من فعل الحيّة إذا أتبعها الرجل التوت عليه لتلسعه. يتّقح: يسقط حياؤه. يلتقح:
يشرب لبن لقحتي، واللقحة: الناقة ذات اللبن. عثرت: اطلعت. الخزي: العار والشرّ، والخزي: الهوان. هتكت: خرقت. حجاب سترك: أي ثوب طاعتك. ولا شققت عصا أمرك، أي ما خالفت حكمك، وشقّ فلان العصا: خرج عن الأمر مخالفا. وشقّ عصا المسلمين: فرّق جماعتهم، والأصل في العصا الائتلاف والاجتماع، ومنه قولهم للمطمئن: ألقى العصا، وقيل شقّ العصا: صار منها في شقّ وخرج عن الجماعة، وفسر قوله تعالى: {شَاقُّوا اللََّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] بالمباينة، لأن من صار في شق عن شق صاحبه فقد باينه، وقيل: معنى شقّ العصا رهب إلى شقّها أي كسرها، فجيء بالشقّ الذي هو من صفة العصا وفي ضمنه المجاهرة بالخروج عن الجماعة قال الشماخ: [الطويل]
تصدّع شعب الحيّ وانشقّت العصا ... كذاك النوى بين الخليط شقوق (2)
ألغيت: تركت. تلاوة: قراءة، والريب: الريبة والتهمة. أخزى: أضرّ، وأكثر هوانا. أفحش: أقبح. ادّعيته: نسبته لنفسك وليس لك. سحري: بديع كلامي.
استلحقته: ألحقته بنفسك. انتحلت: ادّعيت. أفظع: أمرّ. البيضاء والصفراء: الفضة والذهب. بنات الأفكار: هي الأشعار. سلخ: أخذ المعنى. مسخ: قلب الكلام وغيّره.
نسخ: نقله بعينه.
والقائلون بالتناسخ لهم ألفاظ تشبه هذه، وهي النسخ والمسخ والرسخ والفسخ فالفسخ عندهم أن يحوّل الأدنى إلى الأعلى، والمسخ أن يحوّل الأعلى من الحيوان إلى الأدنى، والرسخ ردّ الحيوان جمادا، والفسخ أن يتلاشى فلا يكون شيئا، وقال شاعرهم:
[الوافر]
تعوّذ بالإله من المسوخ ... وسله أن تكون من النّسوخ (3)
لقد خاب الذي أضحى وأمسى ... ينقّل في فسوخ أو رسوخ
وقال المعري: [الطويل]
وقال بأحكام التناسخ معشر ... غلوا فأجازوا الفسخ في ذاك والرّسخا (4)
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 5/ 250.
(2) البيت في ديوان الشماخ ص 242.
(3) البيتان بلا نسبة في شرح اللزوميات 1/ 224.
(4) البيت في اللزوميات ص 225.(2/155)
[السرقات الشعرية]
وتقسيم الحريريّ السرقة في قوله: سلخ ومسخ ونسخ، يدخل تحت أحكام السرقات التي عدّها أبو محمد الحسين بن علي بن وكيع رحمه الله تعالى في كتابه المترجم بالمنصف في الدلالات على سرقات المتنبي، فإنه جعلها عشرين وجها عشرة أوجه يغفر في سرقتها ذنب الشاعر للدلالة على فطنته.
الأول منها استيفاء اللفظ الطويل في الموجز القصير، كقول طرفة: [الطويل]
أرى قبر نحّام بخيل بماله ... كقبر غويّ في البطالة مفسد (1)
اختصره ابن الزّبعرى، فقال: [الوافر]
والعطيّات خساس بينهم ... وسواء قبر مثر ومقل (2)
ففضل صدر بيته وجاء ببيت طرفة في عجز بيت أقصر منه بمعنى لائح ولفظ واضح.
الثاني: نقل اللفظ الرذل إلى الرشيق الجزل، كقول العباس بن الأحنف: [الرمل]
زعموا لي أنها باتت تحمّ ... ابتلى الله بهذا من زعم (3)
اشتكت أكمل ما كانت كما ... يكسف البدر إذ ما قيل تم
فهذا معنى لطيف أخذه ابن المعتز فقال: [الطويل]
طوى عارض الحمّى سناه فحالا ... وألبس ثوبا للسّقام هزالا
كذا البدر محتوم عليه إذا انتهى ... إلى غاية في الحسن عاد هلالا
الثالث: ما قبح مبناه دون معناه إلى ما حسن مبناه ومعناه، كقول أبي نواس:
[الرمل]
بحّ صوت المال ممّا ... منك يدعو أو يصيح (4)
ما لهذا آخذ فو ... ق يديه من يصيح
معناه صحيح ولفظه قبيح، أخذه مسلم فقال: [البسيط]
تظلم المال والأعداء من يده ... لا زال للمال والأعداء ظلّاما
فجوّد الصنعة وجمع بين تظلمين كريمين، ودعا للممدوح بدوام ظلمه للمال
__________
(1) البيت في ديوان طرفة بن العبد ص 33، ولسان العرب (نحم)، وتهذيب اللغة 4/ 381، وتاج العروس (نحم)، وهو بلا نسبة في كتاب العين 3/ 252.
(2) البيت في ديوان عبد الله بن الزبعرى ص 41، وتاج العروس (لبط)، وهو بلا نسبة في المخصص 3/ 93.
(3) البيتان في ديوان العباس بن الأحنف ص 252، وديوان المعاني 2/ 165.
(4) البيتان في ديوان أبي نواس ص 70.(2/156)
والأعداء، وكلّ ذلك مليح جزل نقل عن ضعيف المبنى.
الرابع: عكس ما يصير بالعكس ثناء بعد ما كان هجاء، كقول البلاذري: [الكامل]
قد يرفع المرء اللئيم حجابه ... ضعة ودون الرف منه حجاب
معكوسه: [الكامل]
ملك أغرّ محجّب ... معروفه لا يحجب
الخامس: استخراج معنى من معنى احتذى عليه وإن فارق ما قصد إليه، كقول أبي نواس في الخمر: [مخلع البسيط]
لا ينزل الليل حيث حلّت ... فدهر شرّابها نهار (1)
احتذاه البحتري وفارق مقصده، فجعله في محبوب، فقال: [مخلع البسيط]
غاب دجاها وأيّ ليل ... يدجو علينا وأنت بدر
السادس: توليد كلام من كلام لفظهما مفترق، ومعناهما متفق، كقول أبي تمام:
[الطويل]
لأمر عليهم أن تتمّ صدوره ... وليس عليهم أن تتمّ عواقبه (2)
أخذه من قول الأعرابيّ، أنشده الأصمعيّ رحمه الله تعالى: [الوافر]
فكان على الفتى الإقدام فيها ... وليس عليه ما جنت المنون (3)
فجرد لفظه من أخذ منه، وهو في معناه متفق معه وهذا من أدل الأقسام على فطنة الشاعر.
السابع: في توليد معان مستحسنات في ألفاظ مختلفات، وهذا من أشذّ باب وأقلّه وجودا، وإنمّا قلّ لأنّه من أحق ما استعمل فيه الشاعر فطنته كقول أبي نواس: [الرمل]
واسقنيها من كميت ... تدع اللّيل نهارا (4)
ثم قال أيضا: [مخلع البسيط]
لا ينزل الليل حيث حلّت ... فدهر شرّابها نهار (5)
__________
(1) البيت في ديوان أبي نواس ص 274.
(2) البيت في ديوان أبي تمام ص 44.
(3) يروى صدر البيت:
فإن على الفتى الإقدام فيها
وهو بلا نسبة في لسان العرب (منن)، وأساس البلاغة (منن)، وتاج العروس (منن).
(4) البيت في ديوان أبي نواس ص 274.
(5) ديوانه ص 274.(2/157)
ثم قال أيضا: [الكامل]
قال ابغني المصباح قلت له اتئّد ... حسبي وحسبك ضوءها مصباحا (1)
فكل هذه معان متقاربات وألفاظ متشابهات، مولّد بعضها من بعض.
الثامن: مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام حتى لا يزيد نظام على نظام، وإن كان الأوّل أحقّ به لأنه ابتدع، والثاني اتّبع، من ذلك قول العكوّك في فرس: [الرجز]
مطّرد يرتجّ من أقطاره ... كالماء جالت فيه ريح فاضطرب
فذكر ارتجاجه، ولم يذكر سكونه، فأخذه ابن المعتزّ فقال: [الكامل]
فكأنه موج يذوب إذا ... أطلقته، فإذا حبست جمد
فجمع بين الصفتين.
التاسع: مماثلة السارق المسروق بزيادته في المعنى ما هو من تمامه كقول أبي حيّة: [الطويل]
فألقت قناعا دونه الشّمس واتّقت ... بأحسن موصولين: كفّ ومعصم
أخذه من قول النابغة: [الكامل]
سقط النّصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتّقتنا باليد (2)
فلم يزد النابغة على اتقائها باليد، وزاد عليه أبو حيّة بقوله: «دونه الشمس» وخبّر عن المتّقي بأحسن خبر فاستحقّه.
العاشر: رجحان السّارق على المسروق منه بزيادة لفظ على لفظ من أخذ عنه، كقول حسان: [الكامل]
يغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السّواد المقبل (3)
وقال أبو نواس رحمه الله تعالى: [الطويل]
إلى بيت حان لا تهرّ كلابهم ... عليّ ولا يخشون طول ثوائي
ولا فرق بين المعنيين.
__________
(1) ديوانه ص 256.
(2) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 93، والشعر والشعراء 1/ 176، والمقاصد النحوية 3/ 102، ولسان العرب (نصف)، وبلا نسبة في شرح الأشموني 1/ 259.
(3) البيت في ديوان حسان بن ثابت ص 123، وخزانة الأدب 2/ 412، والدرر 4/ 76، وشرح أبيات سيبويه 1/ 69، وشرح شواهد المغني 1/ 378، 2/ 964، والكتاب 3/ 19، ومغني اللبيب 1/ 129، وهمع الهوامع 2/ 9، وتاج العروس (جبن)، وبلا نسبة في شرح الأشموني 3/ 562.(2/158)
والسرقات المحمودة أكثر من أن تحصر.
ونريك وجه السرقات المذمومة، وهي كالمحمودة عشرة أقسام:
الأول: نقل اللفظ القصير إلى الطويل الكثير، كقول سالم الخاسر: [السريع]
أقبلن في رأد الضحى بنا ... يسترن وجه الشّمس بالشّمس
أخذه الثاني فقال: [الكامل]
وإذا الغزالة في السماء تعرّضت ... وبدا النهار لوقته يترحّل
أبدت لعين الشمس عينا مثلها ... تلقى السماء بمثل ما تستقبل
المعنى صحيح والكلام مليح غير أنه تطويل تضييق، والبيتان جميعا نصف بيت سالم.
الثاني: نقل الرشيق الجزل إلى المستضعف الرذل، كقول القائل: [المنسرح]
كأنّ ليلى صبير غادية ... أو دمية زيّنت بها البيع
أخذه أبو العتاهية فقال: [السريع]
كأنّ عتّابة من حسنها ... دمية قسّ فتنت قسّها
فقصر لفظه عن الفصاحة، ومعناه عن الرجاحة.
الثالث: نقل ما حسن معناه ومبناه إلى ما قبح مبناه ومعناه، كقول امرئ القيس: [الطويل]
ألم ترياني كلّما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب (1)
فأتي بمالا يعلم وجوده في البشر من وجود طيب ممّن لم يمسّ طيبا، وجاء ببيت في مراده، حسن النظام مستوفي التمام، أخذه كثير، فقال:
فما روضة بالحسن طيبة الثّرى ... يمجّ النّدى جثجاثها وعرارها (2)
بأطيب من أردان عزّة موهنا ... إذا أوقدت بالمندل الرطب نارها
فطوّل وحسّن، وقصّر غاية التقصير، وأخبر أنها إذا تطيّبت كالروضة في طيبها، وذلك مما لا يعدم في أقل البشر تنظيفا.
__________
(1) البيت في ديوان امرئ القيس ص 41، والأشباه والنظائر 8/ 85، ولسان العرب (ندل)، (محل)، ويروى «الم تر أنّي» بدل «الم ترياني».
(2) البيتان لكثير عزة في ديوانه ص 429، 430، وجمهرة اللغة ص 1118، والخصائص 3/ 281، والأغاني 15/ 274، وبلا نسبة في لسان العرب (جثث)، وتاج العروس (جثث)، ويروى البيت الثاني:
بأطيب من فيها إذا جئت طارقا ... وقد أوقدت بالمجمر اللّدن نارها
وهو بلا نسبة في لسان العرب (جثث)، وتاج العروس (جثث).(2/159)
الرابع: عكس ما يصير بالعكس هجاء بعد أن كان ثناء، كقول أبي نواس رحمه الله تعالى: [مجزوء الرمل]
فهو بالمال جواد ... وهو بالعرض شحيح (1)
عكسه ابن الرومي فقال:
ما شئت من مال حمى ... يأوي إلى عرض مباح
الخامس: نقل ما حسنت أوزانه وقوافيه إلى ما قبح وثقل على لسان راويه، كقول مسلم رحمه الله تعالى: [الكامل]
أمّا الهجاء فدقّ عرضك دونه ... والمدح عنك كما علمت جليل
فاذهب فأنت طليق عرضك إنّه ... عرض عززت به وأنت ذليل
أخذه أبو تمام فقال: [الخفيف]
قال لي النّاصحون وهو مقال ... ذمّ من كان جاهلا إطراء
صدقوا في الهجاء رفعة أقوا ... م طغام فليس عندي هجاء
فبين الكلامين فرق بعيد.
الثامن: نقل العذب من القوافي إلى المستكره الجافي، كقول أبي نواس: [المديد]
فتمشّت في مفاصلهم ... كتمشّي البرء في السّقم
فهذا الكلام أتم بهاء من قول مسلم: [البسيط]
تجري محبّتها في قلب عاشقها ... جري المعافاة في أعضاء منتكس
التاسع: نقل ما يصير على التفتيش والانتقاد إلى تقصير وإفساد، كقول القائل:
[الكامل]
ولقد أروح إلى النجار مرجّلا ... مدلي بما لي لينا أجيادي (2)
وإنما له جيد واحد، وهذا وإن جاز عند بعض العرب، فهو عند الآخرين غير حميد ولا سديد.
__________
(1) البيت في ديوان أبي نواس ص 70.
(2) يروى البيت:
ولقد أروح إلى التّجار مرجّلا ... مذلا بما لي ليّنا أجيادي
وهو للأسود بن يعفر في ديوانه ص 29، ولسان العرب (تجر)، (مذل)، والمخصص 13/ 234، وتهذيب اللغة 14/ 435، وشرح اختيارات المفضل ص 974، وتاج العروس (مذل)، وأساس البلاغة (مذل)، وبلا نسبة في لسان العرب (جيد)، وجمهرة اللغة ص 701.(2/160)
العاشر: أخذ اللفظ والمعنى وهو أقبح السرقات وأدناها وأوضعها.
وقد أكثر الشعراء ذم السرقة والسارق، وأول من ذمّ ذلك طرفة حين قال: [البسيط]
ولا أغير على الأشعار أسرقها ... عنها غنيت وشرّ الناس من سرقا (1)
وقال الأعشى: [المتقارب]
فكيف أنا وانتحالي القوا ... في بعد المشيب، كفى ذاك عارا (2)
ومن سرقة اللفظ والمعنى، ما يحكى عن أبي المعافى أنه لما مدح أبا العباس محمد بن إبراهيم الإمام بقوله: [الوافر]
إليك بمدحتي يا خير أبنا ... رسول الله من تلد النّساء
ستأتيك المدائح من رجال ... وما كفّ أصابعها سواء
فأخذه آخر وغيّره بأن وضع الرجال موضع النساء، وغيّر عجز البيت الآخر فقال:
[الوافر]
* كما اختلفت إلى الغرض النّبال *
فاستعدي عليه أبا المعالي صالح بن إسماعيل، وهو على شرطة محمد بن إبراهيم بالمدينة، فقال: [البسيط]
ما سارق الشعر فيه وسم صاحبه ... إلّا كسارق بيت دونه غلق
بل سارق البيت أخفى حين يسرقه ... والبيت يستره من ظلمة غسق
من جيّد الشعر أن يخفى لسارقه ... وجيّد الشعر قد سارت به الرفق
فقال صالح: فما تحب أن أفعل به؟ فقال: تحلّفه عند منبر النبيّ صلّى الله عليه وسلم ألّا ينشد هذا الشعر إلا لي.
وكان محمد بن زهير يشرب، فإذا سكر لا يفيق إلا بإنشاد الشعر، فأمر يوما جبّار ابن محمد الكاتب أن ينشده، فأنشده أبياتا لأبي نواس ادعى أنه قائلها وهي: [الخفيف]
صاح ما لي وللرسوم القفار ... ولنعت المطيّ والأكوار
شغلتني المدام والقصف عنها ... وسماع الغناء والمزمار
ومضى في الشعر، وأبو نواس قاعد، فوثب وتعلّق به قدّام محمد بن زهير، وأنشأ يقول: [الخفيف]
__________
(1) البيت في ديوان طرفة بن العبد ص 216.
(2) البيت في ديوان الأعشى ص 103، وتخليص الشواهد ص 103، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 709، وشرح شواهد الإيضاح ص 273، ولسان العرب (نحل)، وهو بلا نسبة في رصف المباني ص 14، 403، وشرح المفصل 4/ 45، والمعرب 2/ 35.(2/161)
أعدني يا محمد بن زهير ... يا عذاب اللّصوص والذّعار
يسرق السارقون ليلا وهذا ... يسرق الشعر جهرة بالنّهار
صار شعري قطيعة لجبار ... أفهذا لقلة الأشعار!
قل له فليغر على شعر حمّا ... د أخي الفتك أو على بشّار
وسرق محمد بن يزيد الأموي شعرا لحبيب، فقال حبيب: [الخفيف]
من بنو مجدل من ابن الحباب ... من بنو تغلب غداة الكلاب
من طفيل وعامر ومن الح ... ارث أو من عتيبة بن شهاب
إنما الضيغم الهصور أبو الأشب ... ال جبّار كل جيش وغاب
من عدت خيله على سرح شعري ... وهو للحين راتع في كتابي
غارة أسخنت عيون المعاني ... واستباحت محارم الآداب
لو ترى منطقي أسيرا ولأص ... بحت أسيرا لعبرة وانتحاب
يا عذارى الأشعار صرتنّ من بع ... دي سبايا تبعن في الأعراب
طال رهبي إليك يا رب يا ربّ و ... رغبي إليك فاحفظ ثيابي
وعارض أبو أحمد عبد الله بن عبد الله بن طاهر قصيدة البحتريّ، فاستعار من ألفاظها ومعانيها ما أوجب أن قال البحتري: [المنسرح]
ما الدّهر مستنفد ولا عجبه ... تسومنا الخسف كلّه نوبه (1)
نال الرضا مادح وممتدح ... فقل لهذا الأمير ما غضبه
أجلى لصوص البلاد يطردهم ... وظلّ لصّ القريض ينتهبه
اردد علينا الذي استعرت وقل ... قولك يعرف لغالب غلبه
واستعدى ابن الرومي العلاء بن عيسى على البحتريّ، فقال: [البسيط]
قل للعلاء بن عيسى والذي نصلت ... به الدواهي نصول الآل في رجب (2)
أيسرق البحتريّ الناس شعرهم ... جهرا وأنت نكال اللّص ذي الرّيب
وتارة يترز الأرواح منطقه ... فالقوم ما بين مقتول ومغتصب
نكّله إنّ أناسا قبله ركبوا ... بدون ما قد أتاه باسق الخشب
إذا أجاد فأوجب قطع مقوله ... فقد دها شعراء الناس بالحرب
وإن أساء فأوجب قتله قودا ... بمن أمات إذا أبقى على السلب
__________
(1) الأبيات في ديوان البحتري 1/ 207.
(2) الأبيات في ديوان ابن الرومي ص 414.(2/162)
يسيء عفّا فإن أكدت وسائله ... أجاد لصّا شديد البأس والكلب
حيّ يغير على الموتى فيسلبهم ... حرّ الكلام بجيش غير ذي لجب
وقال فيه ابن الحاجب: [الخفيف]
والفتى البحتريّ يسرق ما قا ... ل ابن أوس في المدح والتّشبيب
كلّ بيت له يجوّد معنا ... هـ فمعناه لابن أوس حبيب
ولابن الحاجب أيضا: [الخفيف]
هل إلى محنة تخبر من فا ... ضلنا في القريض والمفضول
محنة تفضح اللصوص وتقضي ... بالّذي فيهم قضى التنزيل
سارق المال تقطع الكفّ منه ... واللسان السروق منها بديل
ليسود الذي يحق له السو ... د دمنّا ويرذل المرذول
وبلغ الصاحب بن عبّاد أن بعضهم سرق شعره، فقال أبلغوه عني: [مجزوء الخفيف]
سرقت شعري وغيري ... يضام فيه ويخدع
فسوف أجزيك صفعا ... يكلّ رأسا وأخدع
فسارق المال يقطع ... وسارق الشّعر يصفع
فاتخذ السارق لذلك جملا وهرب من الرّيّ.
وبين السريّ الموصليّ والخالديين مستظرفات في هذه السرقات، اشتهرت في كتب الآداب، فلنلمّ ببعض ما قال السري فيهما وفيه يقول الثعالبيّ: السريّ وما أدراك ما السريّ، صاحب الشّعر الجامع بين عقود الدرّ، والنافث في عقد السّحر ولله درّه! ما أعذب بحره، وأصفى قطره، وأعجب أمره! وقد أخرجت من شعره ما يكتب على جبهة الدّهر، ويعلّق في كعبة الظرف. وكتبت منه محاسن وملحا، وبدائع وطرفا، كأنها أطواق الحمام وصدور البزاة البيض، وأجنحة الطواويس وسوالف الغزلان، ونهود العذارى الحسان، وغمزات الحدق الملاح.
قال يتظلّم إلى سلامة بن فهد من الخالديين: [الطويل]
تحيّف شعري يا بن فهد مصالت ... عليه فقد أعدمت منه وقد أثرى
وفي كل يوم للغبيّين غارة ... تروّع ألفاظي المحجّلة الغرّا
إذا عنّ لي معنى تضاحك لفظه ... كما ضاحك النوّار في روضه الغدرا
غريب كنشر الرّوض لمّا تبسمت ... مخائله للفكر أودعته سطرا
فوجه من الفتيان يمسح وجهه ... وصدر من الأقوام يسكنه الصّدرا
تناوله مثر من الجهل معدم ... من العلم معذور متى خلع العذرا
لأطفأتما تلك النجوم بأسرها ... وأدنستما تلك المطارف والأزرا
فويحكما هلّا بشطر قنعتما ... وأبقيتما لي في محاسنه الشّطرا
وقال يخاطب أبا الخطاب، وقد سمع أن الخالديّين يرجعان إلى بغداد: [الكامل](2/163)
تحيّف شعري يا بن فهد مصالت ... عليه فقد أعدمت منه وقد أثرى
وفي كل يوم للغبيّين غارة ... تروّع ألفاظي المحجّلة الغرّا
إذا عنّ لي معنى تضاحك لفظه ... كما ضاحك النوّار في روضه الغدرا
غريب كنشر الرّوض لمّا تبسمت ... مخائله للفكر أودعته سطرا
فوجه من الفتيان يمسح وجهه ... وصدر من الأقوام يسكنه الصّدرا
تناوله مثر من الجهل معدم ... من العلم معذور متى خلع العذرا
لأطفأتما تلك النجوم بأسرها ... وأدنستما تلك المطارف والأزرا
فويحكما هلّا بشطر قنعتما ... وأبقيتما لي في محاسنه الشّطرا
وقال يخاطب أبا الخطاب، وقد سمع أن الخالديّين يرجعان إلى بغداد: [الكامل]
بكرت عليك معرّة الأعراب ... فاحفظ ثيابك يا أبا الخطاب
ورد العراق ربيعة بن مكدّم ... وعتيبة بن الحارث بن شهاب
أفعندنا شكّ بأنّهما هما ... في الفتك لا في صحة الأنساب
جلبا إليك الشعر من أوطانه ... جلب التّجار طرائف الأجلاب
شنّا على الآداب أقبح غارة ... جرحت قلوب محاسن الآداب
فحذار من حركات صلّي غارة ... وحذار من فتكات ليثي غاب
تركت غرائب منطقي في غربة ... مسبيّة لا تهتدي لإياب
أعزز عليّ بأن أرى أشلاءها ... تدمي بظفر للعدوّ وناب
جرحي وما ضربت بحدّ مهنّد ... أسرى وما حملت على الأقتاب
إن عزّ موجود الكلام عليهما ... فأنا الذي وقف الكلام ببابي
كم حاولا أمري فطال عليهما ... أن يدركا إلّا مثار ترابي
والقصيدة طويلة جمعت منها ما وافق الغرض، وسنلمّ بشيء منها في الثالثة والثلاثين بعون الله تعالى.
وقال يتظلم منهما لأبي البركات: [البسيط]
يا أكرم الناس إلا أن تعدّ أبا ... فات الكرام بآيات وآثار
أشكو إليك حليفي غارة شهرا ... سيف العقوق على ديباج أشعاري
ذئبين لو ظفرا بالشّعر في حرم ... لمزّقاه بأنياب وأظفار
سلّا عليه سيوف البغي مصلتة ... في جحفل من شنيع الظّلم جرّار
وأرخصاه فظل العطر متّهما ... لديهما يشترى من غير عطّار
إن قلّداك بدرّ فهو من نخبي ... أو ختّماك فياقوتي وأحجاري
كأنه جنة راقت حدائقها ... بين الغبيّين في نار وإعصار
عار من النسب الوضاح منتسب ... في الخالديين بين الخزي والعار
وشتّان بين قول السريّ في أبي بكر وأبي عثمان ابني هشام الخالديين، وبين قول الثعالبي فيهما حين قال: إنّ هذين لساحران، يغربان فيما يجلبان، ويبدعان فيما يصنعان،
وكان ما يجمعهما من أخوّة الأدب مثل ما ينظمهما من أخوّة النسب، وهما في الموافقة والمساعدة يجيئان بروح واحدة، ويشتركان في قول الشاعر وينفردان، ولا يكادان في السفر والحضر يفترقان، وكانا في التساوي، كما قال أبو تمام: [المتقارب](2/164)
يا أكرم الناس إلا أن تعدّ أبا ... فات الكرام بآيات وآثار
أشكو إليك حليفي غارة شهرا ... سيف العقوق على ديباج أشعاري
ذئبين لو ظفرا بالشّعر في حرم ... لمزّقاه بأنياب وأظفار
سلّا عليه سيوف البغي مصلتة ... في جحفل من شنيع الظّلم جرّار
وأرخصاه فظل العطر متّهما ... لديهما يشترى من غير عطّار
إن قلّداك بدرّ فهو من نخبي ... أو ختّماك فياقوتي وأحجاري
كأنه جنة راقت حدائقها ... بين الغبيّين في نار وإعصار
عار من النسب الوضاح منتسب ... في الخالديين بين الخزي والعار
وشتّان بين قول السريّ في أبي بكر وأبي عثمان ابني هشام الخالديين، وبين قول الثعالبي فيهما حين قال: إنّ هذين لساحران، يغربان فيما يجلبان، ويبدعان فيما يصنعان،
وكان ما يجمعهما من أخوّة الأدب مثل ما ينظمهما من أخوّة النسب، وهما في الموافقة والمساعدة يجيئان بروح واحدة، ويشتركان في قول الشاعر وينفردان، ولا يكادان في السفر والحضر يفترقان، وكانا في التساوي، كما قال أبو تمام: [المتقارب]
رضيعي لبان شريكي عنان ... عتيقي رهان حليفي صفاء
بل، كما قال البحتري: [الكامل]
كالفرقدين إذا تأمّل ناظر ... لم يعل موضع فرقد عن فرقد
بل كما قال الصابي: [الطويل]
أرى الشاعرين الخالديّين نشرا ... قصائد يفني الدهر وهي تخلد
جواهر من أبكار لفظ وعونه ... يقصّر عنها راجز ومقصّد
تنازع قوم فيهما وتناقضوا ... ومرّ جدال بينهم يتردّد
فطائفة قالت سعيد مقدّم ... وطائفة قالت لهم بل محمد
وصاروا إلى حكمي فأصلحت بينهم ... وما قلت إلّا بالتي هي أرشد
هما لاجتماع الفضل زوج مؤلف ... ومعناهما من حيث ألفت مفرد
كذا فرقدا الظلماء لمّا تشاكلا ... علا أشكلا ذاك أم ذاك أمجد
فزوجهما ما مثله في اتفاقه ... وفردهما بين الكواكب أسعد
فقاموا على صلح وقال جميعهم ... رضينا وساوى فرقد الأرض فرقد
وأفاضل الشأم والعراق، بعضهم يفضل السريّ عليهما، وبعضهم يفضلهما.
فهذا كله فصل في السرقات مستظرف، احتوى على فوائد من علم الأدب، وهي عشرون وجها والعشرون وجها في السرقة جلبتها من كتاب الوكيعي على اختصار.
* * * فقال: والذي جعل الشّعر ديوان العرب، وترجمان الأدب، ما أحدث سوى أن بتر شمل شرحه، وأغار على ثلثي سرحه. فقال له: أنشدنا أبياتك برمّتها ليتّضح ما اختاره من جملتها فأنشد: [الكامل]
يا خاطب الدّنيا الدّنيّة إنّها ... شرك الرّدى وقرارة الأكدار
دار متى ما أضحكت في يومها ... أبكت غدا بعدا لها من دار
وإذا أظلّ سحابها لم ينتفع ... منه صدى لجهامه الغرّار
غاراتها ما تنقضي وأسيرها ... لا يفتدى بجلالة الأخطار
كم مزده بغرورها حتّى بدا ... متمرّدا متجاوز المقدار
قلبت له ظهر المجنّ وأولغت ... فيه المدى ونزت لأخذ الثّار
فاربأ بعمرك أن يمرّ مضيّعا ... فيها سدى من غير ما استظهار
واقطع علائق حبّها وطلابها ... تلق الهدى ورفاهة الأسرار
وارقب إذا ما سالمت من كيدها ... حرب العدا وتوثّب القدّار
واعلم بأنّ خطوبها تفجا ولو ... طال المدى وونت سرى الأقدار
* * * قوله: «والذي جعل الشعر ديوان العرب»، أي كتابا تدوّن فيه أخبارهم، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إن هذا الشعر جزل من كلام العرب به يعطى السائل ويكظم الغيظ وبه يؤتى القوم في ناديهم». وعنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ من الشعر لحكمة» (1) رواه ابن عمر رضي الله عنه قال: تعلّموا الشعر فإن فيه محاسن تبتغى ومساوي تتّقى. وحكمة للحكماء ويدلّ على مكارم الأخلاق.(2/165)
يا خاطب الدّنيا الدّنيّة إنّها ... شرك الرّدى وقرارة الأكدار
دار متى ما أضحكت في يومها ... أبكت غدا بعدا لها من دار
وإذا أظلّ سحابها لم ينتفع ... منه صدى لجهامه الغرّار
غاراتها ما تنقضي وأسيرها ... لا يفتدى بجلالة الأخطار
كم مزده بغرورها حتّى بدا ... متمرّدا متجاوز المقدار
قلبت له ظهر المجنّ وأولغت ... فيه المدى ونزت لأخذ الثّار
فاربأ بعمرك أن يمرّ مضيّعا ... فيها سدى من غير ما استظهار
واقطع علائق حبّها وطلابها ... تلق الهدى ورفاهة الأسرار
وارقب إذا ما سالمت من كيدها ... حرب العدا وتوثّب القدّار
واعلم بأنّ خطوبها تفجا ولو ... طال المدى وونت سرى الأقدار
* * * قوله: «والذي جعل الشعر ديوان العرب»، أي كتابا تدوّن فيه أخبارهم، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إن هذا الشعر جزل من كلام العرب به يعطى السائل ويكظم الغيظ وبه يؤتى القوم في ناديهم». وعنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ من الشعر لحكمة» (1) رواه ابن عمر رضي الله عنه قال: تعلّموا الشعر فإن فيه محاسن تبتغى ومساوي تتّقى. وحكمة للحكماء ويدلّ على مكارم الأخلاق.
قوله: «يا خاطب الدنيا الدنية»، أي التي لا خير فيها، شرك: مصائد. الردى:
الهلاك. قرارة: موضع يستقرّ فيه الماء. الأكدار: ما يتكدر به الماء الصافي.
أظلّ: دنا وقرب. ينتقع: يرتوي. صدى: عطش. جهامه: سحابه الذي لا ماء فيه. الغرّار: الخدّاع. تنقضي: تنقطع وتتم، أراد أن الدنيا تهلك من فيها، فكنى بالأسير عن ذلك وأسير الموت لا يفدى. الجلائل: جمع جليلة وهي الشيء الرفيع، وتقدمت الأخطار. مزده: معجب. غرورها: خداعها. متمردا: متجاوزا الحد في الفساد.
المجنّ: التّرس. أولغت: جعلتها تلغ الدم. المدى، جمع مدية: السكين. نزت:
وثبت عليه. الثأر: طلب الدم، وأراد أنها لما بسطت الأرزاق للإنسان فأعجب بها، وركب رأسه في الفساد تحوّلت عليه، وسقت سكّينها من دمه، والعرب تقول: قلبت له ظهر المجنّ، أي غيّرت له حالي، وهو مثل يضرب للمحاربة بعد المسالمة، وأصله في الحرب، لأن الرجل إذا صالح صاحبه جعل بطن مجنّه مما يلي صاحبه المصالح، فإذا حاربه قلب له ظهره للقتال. ومن جواب رسالة المهلب إلى الحجاج: وزعمت أني إن لم ألقهم في موضع كذا أسرعت إلى صدر الرمح، فلو فعلت لقلبت إليك ظهر المجن، ثم إذا كانت الواقعة، فهذا يبيّن ما ذكرناه.
اربأ بعمرك، أي ارفع عنها نفسك واحتفظ فيها بعمرك، وتقول: ربأت القوم أي صرت لهم ربيئة، وهو الحارس لهم، والمربأ: الموضع المشرف الذي يقعد فيه الناظر،
__________
(1) روي بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الأدب باب 90، والترمذي في الأدب باب 69، وابن ماجه في الأدب باب 41، والدارمي في الاستئذان باب 68، وأحمد في المسند 1/ 269، 273، 303، 309، 313، 327، 332، 3/ 456، 5/ 125.(2/166)
فمعنى اربأ بنفسك: أي ارتفع بموضع ممتنع واحترس فيه لتنجو. سدى: مهملا.
استظهار: استعداد، وقد استظهرت بالشيء فظهرت به وأظهرته إذا جعلته خلف ظهرك حماية ووقاية، والظهير المعاون. والعلائق: كلّ ما يعلق القلب بحب الدنيا. والرفاهة:
الخفض والعيش الهنيء. الأسرار: البواطن، يريد أنّ سرّ الإنسان وخاطره إذا قطع علائق الدنيا كان مترفّها خالي السر والبال. أرقب: أحرس. سالمت: صالحت. كيدها:
مكرها. الغدار: الذي يؤمّنك فإذا أمنته خانك. وتوثبه: تهيّؤه للوثب عليك. خطوبها:
أمورها ونوازلها. تفجأ: تأتي على غفلة. ونت: فترت: والسري: مشي الليل. الأقدار:
ما يقدره الله على العبد من خير أو شر، فيقول: إذا أمنتك الدنيا من مكرها، فلا تأمنها فخطوبها تأتي على غفلة بعد أمد طويل، وضمّن هذا الشعر وصايا في التحذير من الدنيا.
* * * [التحذير من الدنيا وغرورها]
ونسوق هنا من النظم والنثر ما ينتظم في سلك ما نظم، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» (1).
وقال: «الدنيا حلوة خضرة، فمن أخذها بحقها بورك له فيها، ومن أخذها بغير حقها كان كالآكل الذي لا يشبع» (2).
وقيل لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: صف لنا الدنيا، فقال: ما أصف من دار أوّلها عناء وآخرها فناء، حلالها حساب، وحرامها عذاب من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن.
وقال ابنه محمد ابن الحنفيّة: من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا.
وقيل لبعض الحكماء: صف لنا الدنيا، فقال: أمل بين يديك وأجل مطلّ عليك، وشيطان فتّان، وأمانيّ جرّارة العنان، تدعوك فتستجيب، وتزجرها فتخيب.
وقيل لآخر: صف لنا الدنيا، فقال: ناقضة للعزيمة، مرتجعة للعطية، كل من فيها يجري إلى ما لا يدري.
وقال هارون الرشيد: لو قيل للدنيا: صفي نفسك، ما وصفت نفسها بأكثر من قول أبي نواس: [الطويل]
__________
(1) أخرجه مسلم في الزهد حديث 1، والترمذي في الزهد باب 16، وابن ماجه في الزهد باب 3، وأحمد في المسند 2/ 197، 323، 389، 485.
(2) أخرجه الترمذي في الفتن باب 26، والزهد باب 41، وابن ماجه في الفتن باب 19، والدارمي في الرقاق باب 37، وأحمد في المسند 3/ 7، 19، 22، 46، 61، 6/ 68.(2/167)
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدوّ في ثياب صديق (1)
وقال آخر: [السريع]
يا خاطب الدنيا إلى نفسه ... تنحّ عن خطبتها تسلم
إن الذي تخطب غدّارة ... قريبة العرس من المأتم
وقال أبو العرب الصقلي: [الوافر]
ولا يغررك منها حسن برد ... له علمان من علم الذّهاب
فأوّله رجاء من سراب ... وآخره رداء من تراب
وقال أبو العتاهية: [الرجز]
أصبحت الدنيا لنا فتنة ... والحمد لله على ذلكا (2)
قد أجمع الناس على ذمّها ... وما أرى منهم لها تاركا
وله أيضا: [الوافر]
هي الدنيا إذا كملت ... وتمّ سرورها خذلت
وتفعل في الذين بقوا ... كما فيمن مضى فعلت
وقال المتنبي: [الخفيف]
أبدا تستردّ ما تهب الدّن ... يا فيا ليت جودها كان بخلا (3)
وهي معشوقة على الغدر لا تح ... فظ عهدا ولا تتمّم وصلا
كلّ دمع يسيل منها عليها ... وبفك اليدين عنها تخلّي
شيم الغانيات فيها فلا أد ... ري لذا أنّث اسمها الناس أم لا
وله أيضا: [المتقارب]
فذي الدار أخون من مومس ... وأخدع من كفّة الحابل (4)
تفانى الرجال على حبّها ... وما يحصلون على طائل
وقال المعري: [الطويل]
وجدنا أذى الدنيا لذيذا كأنما ... جنى النحل أصناف الشقاء الذي نجني
على أم دفر غضبة الله إنّها ... لأجدر أنثى أن تخون وأن تخني
كعاب دجاها فرعها ونهارها ... محيّا لها قامت له الشّمس بالحسن
__________
(1) البيت في ديوان أبي نواس ص 192.
(2) البيتان في ديوان أبي العتاهية ص 186.
(3) الأبيات في ديوان المتنبي 3/ 131.
(4) البيتان في ديوان المتنبي 3/ 33.(2/168)
كأنّ بنيها يولدون وما لها ... حليل فتخشى العار إن سمحت بابن
وقال ابن عبد ربه: [الطويل]
ألا إنّما الدّنيا غضارة أيكة ... إذا اخضرّ منها جانب جفّ جانب
هي الدار ما الآمال إلا فجائع ... عليها ولا اللذات إلا مصائب
فلا تكتحل عيناك فيها بعبرة ... على ذاهب منها فإنّك ذاهب
وقال أبو العتاهية: [الطويل]
رضيت بذي الدنيا ككل مكاثر ... ملحّ على الدنيا وكل مفاخر
ألم ترها ترقيه حتى إذا سما ... فرت حلقه منها بشفرة جازر
وقال أبو بكر البلويّ: [السريع]
إنّ الذي أصبح لا والد ... له على الأرض ولا والده
قد مات من قبلهما آدم ... فأيّ نفس بعده خالده
إن جئت أرضا أهلها كلّهم ... عور فغمّض عينك الواحده
وقال ابن عمران: [السريع]
أفّ لدنيا قد شغفنا بها ... جهلا وعقل للهوى متبع
فتّانة تخدع طلّابها ... فلا تكن ممّن بها ينخدع
أضغاث أحلام إذا حصّلت ... أو كوميض البرق منها لمع
وقال ابن قاضي ميلة: [المتقارب]
لدنياك نور ولكنه ... ظلام يحار به المبصر
فإن عشت فيها على أنها ... كما قيل قنطرة تعبر
فلا تعمرنّ بها منزلا ... فإن الخراب لما تعمر
ولا تذخرنّ خلاف التقى ... فتفنى ويبقى الذي تذخر
ابن عمران: واعلم أن الإنسان لا يحب شيئا إلا أن يجانسه في بعض طباعه، وإن الدنيا جانست الإنسان في بعض طبائعه فأحبّها بكله.
وقال: [الطويل]
نراع لذكر الموت في حال ذكره ... وتعترض الدنيا فنلهو ونلعب
ونحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها ... وما كنت منه فهو شيء محبّب
وقال إبراهيم بن أدهم: [الطويل]
نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقّع
فطوبى لعبد آثر الله ربه ... وجاد بدنياه لما يتوقّع
وهذا مثل قول أعرابيّ وقد قيل له: كيف أنت في دينك؟ فقال: أخرقه بالمعاصي، ولا أرقّعه بالاستغفار.(2/169)
نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقّع
فطوبى لعبد آثر الله ربه ... وجاد بدنياه لما يتوقّع
وهذا مثل قول أعرابيّ وقد قيل له: كيف أنت في دينك؟ فقال: أخرقه بالمعاصي، ولا أرقّعه بالاستغفار.
وللأعمى التطيليّ: [البسيط]
تنافس الناس في الدّنيا وقد علموا ... أن سوف تقتلهم لذاتهم بددا
قل للمحدّث عن لقمان أو لبد ... لم يترك الدهر لقمانا ولا لبدا
وللذي همّه البنيان يرفعه ... إن الردى لم يغادر في الثّرى أحدا
ما لابن آدم لا تفنى مطالبه ... يرجو غدا وعسى ألّا يعيش غدا
تأمل هذه المقاطع فإنها تضمنت حكما وآدابا وكل قطعة منها لها تعلّق بشعر الحريري إما باللّفظ أو بالمعنى.
* * * فقال الوالي: ثمّ ماذا، صنع هذا؟ فقال: أقدم للؤمة في الجزاء، على أبياتي السّداسيّة الأجزاء، فحذف منها جزأين، ونقص من أوزانها وزنين حتّى صار الرّزء فيها رزأين. فقال له: بيّن ما أخذ، ومن أين فلذ؟ فقال: أرعني سمعك، وأخل للتّفّهم عنّي ذرعك حتّى تتبيّن كيف أصلت عليّ، وتقدّر قدر اجترامه إليّ، ثم أنشد، وأنفاسه تتصعّد: [مجزوء الكامل]
يا خاطب الدنيا الدنيّ ... ة إنّها شرك الرّدى
دار متى ما أضحكت ... في يومها أبكت غدا
وإذا أطلّ سحابها ... لم ينتفع منه صدى
غاراتها ما تنقضي ... وأسيرها لا يفتدى
كم مزده بغرورها ... حتّى بدا متمرّدا
قلبت له ظهر المجنّ ... وأولغت فيه المدى
فاربأ بعمرك أن يمرّ ... مضيّعا فيها سدى
واقطع علائق حبّها ... وطلابها تلق الهدى
وارقب إذا ما سالمت ... من كيدها حرب العدا
واعلم بأنّ خطوبها ... تفجا ولو طال المدى
فالتفت الوالي إلى الغلام وقال: تبّا لك من خرّيج مارق، وتلميذ سارق! فقال الفتى: برئت من الأدب وبنيه، ولحقت بمن يناويه، ويقوّض مبانيه إن كانت أبياته نمت إلى علمي، قبل أن ألّفت نظمي وإنما اتّفق توارد الخاطر، كما قد يقع الحافر على الحافر.(2/170)
يا خاطب الدنيا الدنيّ ... ة إنّها شرك الرّدى
دار متى ما أضحكت ... في يومها أبكت غدا
وإذا أطلّ سحابها ... لم ينتفع منه صدى
غاراتها ما تنقضي ... وأسيرها لا يفتدى
كم مزده بغرورها ... حتّى بدا متمرّدا
قلبت له ظهر المجنّ ... وأولغت فيه المدى
فاربأ بعمرك أن يمرّ ... مضيّعا فيها سدى
واقطع علائق حبّها ... وطلابها تلق الهدى
وارقب إذا ما سالمت ... من كيدها حرب العدا
واعلم بأنّ خطوبها ... تفجا ولو طال المدى
فالتفت الوالي إلى الغلام وقال: تبّا لك من خرّيج مارق، وتلميذ سارق! فقال الفتى: برئت من الأدب وبنيه، ولحقت بمن يناويه، ويقوّض مبانيه إن كانت أبياته نمت إلى علمي، قبل أن ألّفت نظمي وإنما اتّفق توارد الخاطر، كما قد يقع الحافر على الحافر.
* * * قوله: أقدم أي تقدم. لؤمه في الجزاء: يريد أنه جازاه على ما فعل معه من الخير مجازاة لئيم، فسرق شعره. السداسية الأجزاء، لأن عروضها من الكامل، وأجزاؤها متفاعلن ست مرات. الرّزء: المصاب. فلذ: قطع. أرعني سمعك: أي اسمع مني.
ذرعك: بالك وقلبك. أصلت: جرد سيفه. تتصعّد: تتطلع إلى فوق. الخرّيج: الذي خرّجه معلمه، وفلان خرّيجك، أي الذي خرج بتهذيبك وتعليمك. مارق: خارج عن الطاعة. وتلميذ: طالب متعلم. برئت: زلت وانفصلت. يناويه: يعاديه. يقوّض: يهدم.
نمت: اتصلت. ونميت الحديث: أسندته. ألّفت نظمي: جمعت شعري.
توارد الخواطر: تواطؤ الأذهان، أي وقع لذهن الفتى من الكلام ما وقع لذهن الشيخ، مثل الحافر الذي وقع على الحافر.
وهذا الكلام يعزى لأبي الطيب المتنبي، وسئل عن اتفاقات الخواطر، فقال: الشعر ميدان، والشعراء فرسان، فربّما اتفق توارد الخواطر، كما قد يقع الحافر على الحافر.
قال الأصمعي رحمه الله تعالى: قلت عمرو بن العلاء: أرأيت الشاعرين يتفقان في المعنى ويتواردان في اللفظ لم يلق أحدهما صاحبه، ولا سمع شعره؟ فقال لي: تلك عقول رجال توافقت على ألسنتها.
[توارد الخواطر]
ومن مشهور ذلك ما وقع في القصيدتين البائيتين لامرئ القيس وعلقمة، وكذلك اتفاقه مع طرفة في قوله: [الطويل]
وقوفا بها صحبي على مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلّد (1)
وقال امرؤ القيس وتجمّل (2).
__________
(1) البيت في ديوان طرفة بن العبد ص 30.
(2) أي قول امرئ القيس:
وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمّل
والبيت من الطويل، وهو في ديوان امرئ القيس ص 9، وبلا نسبة في رصف المباني ص 268.(2/171)
ومن توارد الخواطر قول ربيعة بن مقروم. [الكامل]
لو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبد الإله صرورة متبتل (1)
وقال النابغة: «صرورة متعبد» (2).
وقال: [الكامل]
لرنا لرؤيتها وحسن حديثها ... ولهمّ من تاموره يتنزّل (3)
وقال النابغة: [الكامل]
لرنا لرؤيتها وحسن حديثها ... ولخاله رشدا وإن لم يرشد (4)
تاموره: صومعته.
ومن ذلك ما حكى أبو عليّ أنه خرج جرير والفرزدق مردفين إلى هشام بن عبد الملك، فنزل جرير يبول، فتلفّتت الناقة فضربها الفرزدق وقال: [الوافر]
إلام تلفّتين وأنت تحتي ... وخير النّاس كلّهم أمامي (5)
متى تردى الرّصافة تستريحي ... من التّهجير والدّبر الدّوامي
ثم قال: الآن يجيء جرير، فأنشده البيتين فيردّ عليّ: [الوافر]
تلفت أنها تحت ابن قين ... إلى الكيرين والفأس الكهام
متى تأت الرصافة تخز فيها ... كخزيك في المواسم كلّ عام
قال: فجاء جرير والفرزدق يضحك، فقال: ما يضحكك يا أبا فراس؟ فأنشده البيتين، فقال جرير: تلفت أنها البيتين كما قال الفرزدق سواء، فقال: والله لقد قلت
__________
(1) البيت لربيعة بن مقروم الضبي في ديوانه ص 267، ولسان العرب (بتل). وتهذيب اللغة 14/ 291، والحيوان 1/ 347، وبلا نسبة في كتاب العين 8/ 124.
(2) أي قول النابغة الذبياني:
لو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبد الإله صرورة متعبّد
والبيت من الكامل، وهو في ديوان النابغة ص 95، ولسان العرب (صرر)، ومقاييس اللغة 3/ 285، ومجمل اللغة 3/ 225، وجمهرة اللغة ص 1253، وتهذيب التهذيب 12/ 109، وتاج العروس (صرر).
(3) يروى صدر البيت:
لدنا بهجتها وحسن حديثها
وهو لربيعة بن مقروم الضبي في ديوانه ص 267، ولسان العرب (تمر).
(4) البيت في ديوان النابغة الذبياني ص 96، وفيه «لدنا» بدل «لرنا».
(5) البيتان في الأغاني 9/ 169.(2/172)
هذين البيتين، فقال جرير: أما علمت أن شيطاننا واحد.
ومرّ رجل بالفرزدق بالمربد فقال: من أين أقبلت؟ قال: من اليمامة، قال: فأيّ شيء أحدث ابن المراغة؟ فأنشده: [الكامل]
* هاج الهوى لفؤادك المهتاج *
فقال الفرزدق: [الكامل]
* فانظر بتوضح باكر الأحداج *
فقال الرجل: [الكامل]
* هذا هوى شغف الفؤاد مبرّح *
فقال الفرزدق: [الكامل]
* ونوى تقاذف غير ذات حلاج *
فقال الرجل: [الكامل]
* إنّ الغراب بما كرهت لمولع *
فقال الفرزدق: [الكامل]
* بنوى الأحبّة دائم التشحاج *
فقال الرجل: هكذا والله قال: أفسمعتها من غيري؟ قال: لا ولكن هكذا ينبغي أن يقال، فقال: أما علمت أن شيطاننا واحد.
ودخل الفرزدق على امرأة من عقيل فحدّثها، وأقبل فتى من قومها كانت تألفه، فدخل فأقبلت عليه تحدّثه، وتركت الفرزدق، فغاظه ذلك، وقال للفتى: أتصارعني؟
قال: ذلك إليك فقام الفرزدق فلم يلبث أن أخذه الفتى مثل الكرة فصرعه، وجلس على صدره، فضرط الفرزدق، فوثب الفتى عنه وقال: هذا مقام العائذ بك، والله ما أردت ما جرى، فقال: والله ما بي ذلك، ولكن كأني بابن المراغة جرير قد بلغه الخبر، فقال:
[الطويل]
جلست إلى ليلى لتحظى بقربها ... فخانك دهر لا يزال خؤون
فلو كنت ذا حزم شددت وكاءها ... كما شدّ خرقا بالدلاص قيون
فلما بلغ الخبر جريرا قال البيتين.
وأمر سليمان بن عبد الملك الفرزدق أن يضرب رقاب أسرى فاستعفاه، فلم يفعل، وأعطاه سيفا لا يقطع فضرب به عنق روميّ فنبا السيف، فضحك سليمان ومن حوله، فجلس وهو يقول: [البسيط](2/173)
أيعجب النّاس أن أضحكت سيّدهم ... خليفة الله يستسقى به المطر
لم ينب سيفي عن رعب ولا دهش ... عن الأسير ولكن أخر القدر
ثم قال: ما إن يعاب فرس إذا كبا، ولا يعاب صارم إذ نبا، ثم جلس وهو يقول:
كأني بابن المراغة قد بلغه الخبر فقال: [الطويل]
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع ... ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
ضربت به عند الإماء فأرعشت ... يداك وقالوا محدث غير صارم
ثم قال: كأني يا أمير المؤمنين بابن القين قد أجابني فقال: [الطويل]
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكّهم ... إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
فأخبر الفرزدق القصة، فقال: [الطويل]
كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها ... وتقطع أحيانا مناط التّمائم
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكّهم ... إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
وهل ضربة الروميّ جاعلة لكم ... أبا عن كليب أو أبا مثل دارم
فهذا إن صح من أعجب اتفاق الخواطر.
وقال الأقيشر: [الوافر]
جريت مع الهوى طلق العتيق ... وهان عليّ مأثور الفسوق
وجدت ألذّ عارية الليالي ... قران النّغم بالوتر الخفوق
ومسمعة إذا ما شئت غنّت ... متى نزل الأحبّة بالعقيق
تمتّع من شباب ليس يبقى ... وصل بعرا الصّبوح عرا الغبوق
وقال أبو نواس رحمه الله تعالى: [الوافر]
جريت مع الهوى طلق الجموح ... وهل عليّ مأثور القبيح (1)
وجدت ألذّ عارية الليالي ... قران النغم بالوتر الفصيح
ومسمعة إذا ما شئت غنّت ... متى كان الخيام بذي طلوح
تمتّع من شباب ليس يبقى ... وصل بعرا الغبوق عرا الصّبوح
ومن ذلك ما نسب السري للخالدي فيما قدّمناه من سرقة شعره، قال السريّ:
[الكامل]
وكأنّ كأس مدامها ... لما ارتدت بحبابها
__________
(1) الأبيات في ديوان أبي نواس ص 257.(2/174)
توريد وجنتها إذا ... ما لاح تحت نقابها
وقال أبو بكر الخالدي: [مجزوء الرمل]
فكأن الكأس لمّا ... ضحكت تحت الحباب
وجنة حمراء لاحت ... لك من تحت النقاب
وقال السري في وصف جام فيه فالوذج: [الطويل]
بأحمر مبيضّ الزجاج كأنه ... رداء عروس مشرب بخلوق
له في الحشا برد الوصال وطيبه ... وإن كان تلقاه بلون حريق
كأنّ بياض اللّوز في جنباته ... كواكب درّ في سماء عقيق
وقال أبو بكر الخالدي: [الطويل]
مداما كأنّ الكفّ من طيب نشرها ... وصفرتها قد خلّقت بخلوق
نعاينها نورا علاه تجسّد ... ونشربها نادرا بغير حريق
كأنّ حباب الماء في جنباتها ... كواكب لاحت في سماء عقيق
وقال السري رحمه الله تعالى: [الوافر]
رأت شيبا يصاحبني فصدّت ... وكان جزاؤه منها العبوسا
وقالت إذ رأت للمشط فيه ... سوادا لا يشاكله نفيسا
تلقّ العاج منه بمشط عاج ... ودع للآبنوس الآبنوسا
وقال أبو عثمان أيضا: [الخفيف]
وقفتني ما بين هجر وبؤس ... وانثنت بعد ضحكة بعبوس
ورأتني مشطت عاجا بعاج ... وهي الآبنوس بالآبنوس
وهذا إما توارد أو تسابق، والتسابق أشبه بهم.
* * * قال: فكأن الوالي جوزّ صدق زعمه، فندم على بادرة ذمّه فظلّ يفكر فيما يكشف له عن الحقائق، ويميزّ به الفائق من المائق، فلم ير إلا أخذهما بالمناضلة، ولزّهما في قرن المساجلة، فقال لهما: إن أردتما افتضاح العاطل، واتضاح الحقّ من الباطل، فتراسلا في النّظم وتباريا، وتجاولا في حلبة الإجازة وتجاريا ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بيّنة فقالا له بلسان واحد، وجوابا متوارد: قد رضينا بسبرك، فمرنا بأمرك.
فقال: إنّي مولع من أنواع البلاغة بالتجنيس، وأراه لها كالرئيس فانظما الآن عشرة
أبيات تلحمانها بوشيه، وترصّعانها بحيله، وضمّناها شرح حالي مع إلف لي بديع الصّفة، ألمى الشّفه، مليح التثنّي، كثير التّيه والتجنّي، مغرى بتناسي العهد، وإطالة الصدّ، واختلاف الوعد وأنا له كالعبد.(2/175)
فقال: إنّي مولع من أنواع البلاغة بالتجنيس، وأراه لها كالرئيس فانظما الآن عشرة
أبيات تلحمانها بوشيه، وترصّعانها بحيله، وضمّناها شرح حالي مع إلف لي بديع الصّفة، ألمى الشّفه، مليح التثنّي، كثير التّيه والتجنّي، مغرى بتناسي العهد، وإطالة الصدّ، واختلاف الوعد وأنا له كالعبد.
* * * قوله: زعمه، الزعم قول معه اعتقاد، بادرة: سابقة وهي الكلمة الرديئة تبدر من المتكلم. الفائق: الفاضل، وفاق الناس، فضلهم وعلاهم بقول أو علم. المائق: الأحمق الضعيف التدبير. المناضلة: المراماة. لزّهما: ضمهما وشدّهما. فرن: حبل يقرن بين الشيئين.
[المساجلة]
المساجلة: أن يستقي ساقيان فيخرج كلّ واحد منهما من الماء مثل ما يخرج الآخر، فأيهما نكل فقد غلب، وقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب: [الرمل]
من يساجلني يساجل ماجد ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب (1)
وأنا الأخضر مّن يعرفني ... أخضر الجلدة من بيت العرب
ومرّ الفرزدق بالفضل، وهو يستقي وينشد البيتين، فشمّر ثيابه عن نفسه، وقال: أنا أساجلك، ثقة بنسبه، فقيل له: هذا الفضل بن العباس، فردّ ثيابه وقال: ما يساجله إلا من عضّ أير أبيه. ثم صارت المساجلة يقصد بها قصد المفاخرة، وأراد هنا بالمناضلة والمساجلة، أن يقول هذا بيتا، وهذا بيتا حتى يعلم لمن الغلب. وأكثر ما جرت به العادة فيها بأنصاف الأبيات كما شهر في قصة امرئ القيس والتوأم حين قال امرؤ القيس:
[الوافر]
* أحار ترى بريقا هبّ وهنا *
فقال التوأم:
كنار مجوس تستعر استعارا (2)
__________
(1) البيت الأول للفضل بن عباس بن عتبة في لسان العرب (سجل)، وتهذيب اللغة 10/ 586، وتاج العروس (كرب)، (خضر)، (سجل)، وجمهرة اللغة ص 475، وبلا نسبة في كتاب العين 5/ 360، وديوان الأدب 2/ 390، والبيت الثاني لعتبة بن أبي لهب في لسان العرب (خضر)، وللفضل بن العباس اللهبي في التنبيه والإيضاح 2/ 117، وسمط اللآلي ص 701، والفاخر ص 53، والمؤتلف والمختلف ص 35، وتهذيب اللغة 7/ 106، وأساس البلاغة (خضر)، وتاج العروس (خضر)، وجمهرة اللغة ص 587، 685، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 2/ 195، ومجمل اللغة 2/ 198، وتهذيب اللغة 7/ 103.
(2) يروى البيت:
أحار أريك برقا هبّ وهنا ... كنار مجوس تستعر استعارا(2/176)
ثم مضيا على القطعة بالأنصاف حتى كملت، وهي مشهورة.
قال أبو العيناء: وقف علي غلام يسألني ما أحسبه بلغ الحلم ولا قاربه وخرج غلام لي أسود قد اغتسل، وهو يرعد، وكان خبيثا، فأومأت إلى الأسود فقلت: [الرجز]
كأنه ذئب غضى أزلّ
فقال الغلام: [الرجز]
باب النّدى يضربه والطّلّ
فوصلته بدارهم وانصرف.
واجتاز ابن أبي الخصال من بلده شقورة بآبدة، وهو صبيّ صغير يطلب الأدب، فأضافه بها القاضي ابن مالك، ثم خرج معه إلى حديقة معروشة، فقطف لهم منها عنقودا أسود، فقال القاضي: [مجزوء الرجز]
انظر إليه في العصا
فقال ابن أبي الخصال: [مجزوء الرجز]
كرأس زنجيّ عصا
فعلموا أنه سيكون له شأن في البيان.
ومثل ذلك ما حدّثني به الشيخ الفقيه أبو الحسين بن زرقون عن أبيه أبي عبد الله أن أبا بكر بن المبجل وأبا بكر بن الملاح الشبليين، كانا متواخيين متصافيين، وكان لهما ابنان قد برعا في الطلب، وحازا قصب السبق في حلبة الأدب، فتهاجى الابنان بأقذع هجاء، فركب ابن المبجل في سحر من الأسحار مع ابنه عبد الله فجعل يعتبه على هجاء ابن الملاح، ويقول له: قطعت ما بيني وما بين صفّيي أبي بكر بإقذاعك في ابنه، فقال له ابنه: إنه بدأني، والبادىء أظلم، وإنما يجب أن يلحى من بالشّر تقدّم، فعذره أبوه فبينما هما على ذلك إذ أقبل على واد تنقّ فيه ضفادع، فقال أبو بكر لابنه أجز: [الوافر]
تنقّ ضفادع الوادي
فقال ابنه:
بصوت غير معتاد
__________
وهو مملط، صدره لامرئ القيس، وعجزه للتوأم اليشكري في ديوان امرئ القيس ص 147، ولسان العرب (مجس) وتاج العروس (ملط)، وهو لامرئ القيس في شرح شواهد الإيضاح ص 438، والكتاب 3/ 254، وبلا نسبة في لسان العرب (مجس)، وما ينصرف وما لا ينصرف ص 60، والمقرب 2/ 81.(2/177)
فقال الشيخ:
كأنّ نقيق مقولها
فقال ابنه:
بنو الملاح في النادي
فلما أحست الضفادع بهما صمتت، فقال أبو بكر:
وتصمت مثل صمتهم
فقال ابنه:
إذا اجتمعوا على زاد
فقال أبو بكر:
ولا غوث لملهوف
فقال ابنه:
ولا غيث لمرتاد
والإجازة بالأبيات بكمالها كثيرة مشهورة.
وحكى الماورديّ أنّ الناس تذاكروا حفظ السّر بمجلس عبد الله بن طاهر فقال عبد الله: [الطويل]
ومستودعي سرّا تضمّنت ستره ... فأودعته من مستقرّ الحشى قبرا
فقال ابنه عبيد الله، وهو صبيّ: [الطويل]
وما السرّ في قلبي كثاو بحفرة ... لأني أرى المدفون ينتظر الحشرا
ولكنني أخفيه حتى كأنه ... من الدهر يوما ما أحطت به خبرا
وحكى الفقيه أبو الحسن أنّ أباه حدثه أن الأديب أبا الطاهر بن أبي ركب، حضر عنده بسبتة بقرية شنان في عقب شعبان لاستقبال رمضان، فأكل مع من حضر ضروبا من الأطعمة والألوان، فقال أبو الطاهر رحمه الله تعالى لأبي عبد الله بن زرقون أجز:
[الطويل]
حمدت لشعبان المبارك شعبة ... تسهّل عنيّ الجوع في رمضان
فقال أبو عبد الله رحمه الله تعالى: [الطويل]
كما حمد الصبّ المتيّم زورة ... أطاق لها الهجران طول زمان
فقال أبو الطاهر: [الطويل]
دعوها بشبعانية فلو أنهم ... دعوها بشعبانية لكفاني
وحدثني أيضا أن أباه شيخنا الفقيه أبا عبد الله المذكور قعد مع صهره أبي الحسن عبد الملك بن عياش الكاتب على بحر المجاز، وهو مضطرب الأمواج، فقال له أبو الحسن: أجز: [الوافر](2/178)
دعوها بشبعانية فلو أنهم ... دعوها بشعبانية لكفاني
وحدثني أيضا أن أباه شيخنا الفقيه أبا عبد الله المذكور قعد مع صهره أبي الحسن عبد الملك بن عياش الكاتب على بحر المجاز، وهو مضطرب الأمواج، فقال له أبو الحسن: أجز: [الوافر]
وملتطم الغوارب موجته ... بوارح في مناكبها غيوم
فقال أبو عبد الله [الطويل]
تمنّع لا تعوم به سفين ... ولو حدقت به الزهر النجوم
* * * قوله: «افتضاح العاطل»، أي شهرة الفارغ من قول الشعر، تراسلا: تجاريا، والتّراسل في الغناء والنشيد، أن يتجاذب الصوت المغنّيان، والترسل في الخيل، أن ترسل فرسين في الطلق.
تباريا: تجاريا، وتجاولا: تصرّفا. والحلبة يأتي ذكرها في المقامة، وأراد تجاريا في العشر كما يتجارى خيل الحلبة في الميدان، بسبرك: قياسك وتجربتك لنا. متوارد:
متسابق متتابع. والتجنيس: أن تكون الألفاظ متناسبة والمعاني متباينة. تلحمانها:
تنسجانها. وشيه: رقمه. ترصّعانها: تزينانها. وكلّ ما خرزته أو عقدته فهو مرصع.
إلف: معشوق يألف ويؤنس به. بديع: غريب. ألمى: أسمر، واللّمى أن تتعتّق حمرة الشفة حتى تضرب إلى السواد. والتثني: الانعطاف. التيه: الإعجاب والاحتقار بغيره، التجنيّ: ادعاء الجناية على عاشقه، وذلك أن المعشوق يحسب كل ما يفعله عاشقه ذنبا عليه وجناية ليتوصّل بذلك إلى هجره ثم سمّى الصدّ والإعراض تجنيا. مغرى: مولع.
والتناسي: استعمال النسيان. أراد أنه يعد عاشقه بالزيارة وغيرها فإذا ذكر بها قال:
نسيت. والصدّ: الإعراض.
* * * قال: فبرز الشيخ مجليّا، وتلاه الفتى مصليّا وتجاريا بيتا فبيتا على هذا النّسق، إلى أن أكمل نظم الأبيات واتسق، وهي: [الطويل]
وأحوى حوى رقّي برقّة ثغره ... وغادرني إلف السّهاد بغدره
تصدّى لقتلي بالصدود وإننّي ... لفي أسره مذ حاز قلبي بأسره
أصدّق منه الزّور خوف ازوراره ... وأرضى استماع الهجر خشية هجره
وأستعذب التّعذيب منه وكلّما ... أجدّ عذابي جدّ بي حبّ برّه
تناسى ذمامي والتناسي مذمّة ... وأحفظ قلبي وهو حافظ سرّه
وأعجب ما فيه التّباهي بعجبه ... وأكبره عن أن أفوه بكبره
له منّي المدح الّذي طاب نشره ... ولي منه طي الودّ من بعد نشره
ولو كان عدلا ما تجنّى وقد جنى ... عليّ وغيري يجتني رشف ثغره
ولولا تثنيه ثنيت أعنّتي ... بادرا إلى من أجتلي نور بدره
وإني على تصريف أمري وأمره ... أرى المرّ حلوا في انقيادي لأمره
* * * على هذا النسق، أي على هذا التتابع والانضمام، اتّسق: انضمّ واجتمع. ونسقت الشيء بالشيء ضممته إليه، أحوى: أسمر الشفة، والحوّة: حمرة تضرب إلى السواد، يقال:(2/179)
وأحوى حوى رقّي برقّة ثغره ... وغادرني إلف السّهاد بغدره
تصدّى لقتلي بالصدود وإننّي ... لفي أسره مذ حاز قلبي بأسره
أصدّق منه الزّور خوف ازوراره ... وأرضى استماع الهجر خشية هجره
وأستعذب التّعذيب منه وكلّما ... أجدّ عذابي جدّ بي حبّ برّه
تناسى ذمامي والتناسي مذمّة ... وأحفظ قلبي وهو حافظ سرّه
وأعجب ما فيه التّباهي بعجبه ... وأكبره عن أن أفوه بكبره
له منّي المدح الّذي طاب نشره ... ولي منه طي الودّ من بعد نشره
ولو كان عدلا ما تجنّى وقد جنى ... عليّ وغيري يجتني رشف ثغره
ولولا تثنيه ثنيت أعنّتي ... بادرا إلى من أجتلي نور بدره
وإني على تصريف أمري وأمره ... أرى المرّ حلوا في انقيادي لأمره
* * * على هذا النسق، أي على هذا التتابع والانضمام، اتّسق: انضمّ واجتمع. ونسقت الشيء بالشيء ضممته إليه، أحوى: أسمر الشفة، والحوّة: حمرة تضرب إلى السواد، يقال:
شفة حوّاء حمراء. رقّي، أي ملكي، والرّق الملك، ورقّ الرجل رقّا: صار عبدا، برقّة لفظه:
بحلاوة كلامه. غادرني إلف السهاد: تركني صاحب سهر. بغدره: بقلة وفائه. تصدّى:
تعرّض. أسره: حبسه. بأسره: بجملته. والزور: الكذب. ازوراره: انقباضه، والهجر:
الفحش. أستعذب: أستطيب. أجدّ عذابي: جدّد عذابي. جدّ: زاد واجتهد. برّه: إكرامه.
يريد متى زادني عذابا وهجرانا زدت فيه حبّا وبرّا. ذمامي: عهدي. مذمّة: عيب. أحفظ:
أغضب. التباهي: التفاخر. أكبره: أعظمه وأراه كبيرا، أفوه: أنطق. نشره: تحرّك رائحته.
رشف ثغره: تقبيل أسنانه، ثنيت: عطفت. أعنّتي: جمع عنان. أجتلي: أنظر. نور بدره:
حسن وجهه يقول: لولا حسن تثنيه لتركته وملت إلى غيره. ثم قال: وإني على ما يلقاني به من الهجر والجفاء وألقاه به من البرّ والصفاء. ليرجع عندي المرّ من أفعاله حلوا في اتباعي لما يحبّ ويأمر به. وقد أنشدوا في ذلك: [الطويل]
لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرّني أني خطرت ببالك
وقال في مثله: [الكامل]
وأهنتني فأهنت نفسي صاغرا ... ما من يهون عليك ممن يكرم
فهذه غاية الانقياد لمراعاة مراد الحبيب.
وقال الشاعر: [الكامل]
ولقد منحتكم المودّة محضة ... وكتمت ما اشتملت عليه ضلوعي
جازيتموني بالوصال قطيعة ... شتّان بين صنيعكم وصنيعي
فإذا أتيتك زائرا متشوقا ... قصر الطريق وطال عند رجوعي
وفي معنى قوله: «له منّي المدح»، يقول ابن رشيق، وزاد معنى مستظرفا:
أراك اتّهمت أخاك الثّقه ... وعندك مقت وعندي مقه
وأثني عليك وقد سؤتني ... كما طيّب العود من أحرقه
وقال ابن زيدون: [الطويل]
بني جهور أحرقتم بجفائكم ... جناني فما بال المدائح تعبق
تعدّونني كالعنبر الندّ إنّما ... تطيب لكم أنفاسه حين يحرق
وهما وإن تواردا على هذا المعنى، فإنما أخذاه من قول حبيب: [الرجز](2/180)
بني جهور أحرقتم بجفائكم ... جناني فما بال المدائح تعبق
تعدّونني كالعنبر الندّ إنّما ... تطيب لكم أنفاسه حين يحرق
وهما وإن تواردا على هذا المعنى، فإنما أخذاه من قول حبيب: [الرجز]
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
* * * ونذكر هنا جملة من الشعر الرائق المستظرف الفائق، تنسحب على أوصاف الغلام المذكور، وتتعلق بشعر الحريريّ من جهة التجنيس، أو من جهة الانقياد للمحبوب وإن جفا وصدّ.
ونبدأ بذكر حكاية أبي إسحاق الحصري لتعلقها بما انبنت عليه المقامة من توارد الخواطر.
وكان أبو إسحاق يختلف إلى بعض مشيخة القيروان، وكان الشيخ كلفا بالمعذّرين وهو القائل: [الكامل]
ومعذّرين كأنّ نبت خدودهم ... أقلام مسك تستمدّ خلوقا
قرنوا البنفسج بالشقيق ونظّموا ... تحت الزبرجد لؤلؤا وعقيقا
فهم الذين إذا الخلّي رآهم ... وجد الهوى بهم إليه طريقا
وكان يختلف إليه غلام من أعيان أشراف القيروان، وكان به كلفا، فبينما هو عنده والحصري قد أخذ في الحديث إذ أقبل الغلام وهو يقول: [الكامل]
في صورة كملت فخلت بأنّها ... بدر السماء لستة وثمان
يعشى العيون ضياؤها فكأنّها ... شمس الضحى تعشى بها العينان
فقال الشيخ: يا حصري، ما تقول فيمن هام بهذا القدّ، وصبا لهذا الخدّ؟ فقال الحصري: الهيمان والله بهذا غاية الظرف، لا سيما إذا شام كافورة خدّه ذلك المسك الفتيت، وهجم على صبحه ذلك الليل البهيم، والله ما خلت سواده في بياضه إلا بياض الإيمان في سواد الكفر، أو غيهبا في ضوء الفجر، فقال للحصري: صفه، فقال: من ملك رقّ القول حتى انقاد له صعابه فذل له جموحه حتى سطع له شهابه، أقعد مني في ذلك، فقال: صفه، فإني معمل في ذلك فكري، فأطرق ساعة، فقال الحصريّ: [مجزوء الرجز]
أورد قلبي الرّدى ... لام عذار بدا
أسود كالكفر في ... أبيض مثل الهدى
فقال له الشيخ: أراك اطّلعت على ضميري، أو خضت بين جوانحي، فقال له الحصري: ولم ذاك؟ قال: لأني قلت: [مجزوء الرجز](2/181)
حرّك قلبي فطار ... صولج لام العذار
أسود كالليل في ... أبيض مثل النهار
فهذه غاية في بابه.
وقال السّريّ: [الوافر]
بلاني الحبّ فيك بما بلاني ... فشأني أن تفيض غروب شاني
أبيت الليل مرتقبا أناجي ... بصدق الوجد كاذبة الأماني
ويشهد لي على الأرق الثريّا ... ويعلم ما أقاسي الفرقدان
ستصرف طاعتي عمّن نهاني ... دموع فيك تلحى من لحاني
ولم أجهل نصيحته ولكن ... جنون الحب أحلى في جناني
فيا ولع العواذل خلّ عني ... ويا كفّ الغرام خذي عناني
وهذا مما يأخذ بمجامع القلوب، ويحتوي على النوعين من المعنى المطلوب.
وقال السّلامي: [البسيط]
ما ضنّ عنك بموجود ولا بخلا ... أعزّ ما عنده النّفس التي بذلا
يحكي المطايا حنينا والهجير جوى ... والمزن دمعا وأطلال الديار بلى
وقال أيضا: [الوافر]
منيت بمن إذا منيت أفضت ... مناي إلى بنفسج عارضيه
وفاضت رحمة لي حين ولّى ... مدامع كاتبيّ وكاتبيه
وله في غلام بدويّ: [الخفيف]
تعلّقته بدويّ للّسان ... والوجه والزّيّ ثبت الجنان
أعانق من قدّه صعدة ... ترى اللحظ منها مكان السّنان
أدار اللثام على خدّه ... فأهدى الشقيق إلى الأقحوان
ومسك ذوائبه سائل ... على آس ديباجه الخسرواني
أحيّيه بالورد والياسم ... ين فيصبو إلى الشّيخ والأيهقان
وله في غلام غزّيّ رام: [الكامل]
قمر من الأتراك تحسب أنه ال ... خود الحصان على أقبّ حصان
يرمي بلحظيه القلوب وسهمه ... فعجبت كيف تشابه السهمان
بطل حمائله كعارضه وحا ... جبه الأزحّ كقوسه المرنان
حيّيته فدنا فأمطر راحتي ... قبلا فليت فمي مكان بناني
وللشريف الرضي: [الكامل](2/182)
قمر من الأتراك تحسب أنه ال ... خود الحصان على أقبّ حصان
يرمي بلحظيه القلوب وسهمه ... فعجبت كيف تشابه السهمان
بطل حمائله كعارضه وحا ... جبه الأزحّ كقوسه المرنان
حيّيته فدنا فأمطر راحتي ... قبلا فليت فمي مكان بناني
وللشريف الرضي: [الكامل]
يا صاحب القلب الصحيح أما اشتفي ... ألم الهوى من قلبي المصدوع (1)
أأسأت بالمشتاق حين ملكته ... وجزيت فرط نزاعه بنزوع
وتركتني ظمآن أرشف غلّتي ... وأسفي على ذاك اللّمى الممنوع
قلبي وطرفي منك هذا في حمى ... قيظ وهذا في رياض ربيع
كم ليلة جرّعته في طولها ... مضض الملام ومؤلم التقريع
تفلي أنامله التراب تعلّلا ... وأناملي في سّني المقروع
أبكي ويبسم والدّجى ما بيننا ... حتى أضاء بثغره ودموعي
قمر إذا استعجلته بعتابه ... لبس الغروب فلم يعد لطلوع
لو حيث يستمع السرار وقفتما ... لعجبتما من عزّه وخضوعي
أعزز عليّ إذا امتلأت من الكرى ... أنّي أبيت بليلة الملسوع
وللوزير ابن المغربي: [الكامل]
دنف بمصر وبالعراق طبيبه ... يضنيه طول بعاده ويذيبه
ما ناله إلا الذي هو أهله ... إذ غاب عن بلد وفيه حبيبه
لزم السّهاد تحيّرا وتلدّدا ... وتأسفا إذ أوبقته ذنوبه
زعم الفراق دعا به فأجابه ... ونعم دعاه فلا أراه يجيبه
وله أيضا: [مجزوء الكامل]
ولقد أراه في الغدي ... ر يشقه من جانبيه
والماء مثل السيف وهـ ... وفرنده في صفحتيه
صبغت بياض النيل حم ... رة وردة في وجنتيه
ولابن الزقاق: [الطويل]
تمنّيت من أهوى به وهو قاتلي ... وربّ منى للمرء فيها مناياه
قسا فرماني عن قسيّ حواجب ... تنوب لها دأبا عن الرشق عيناه
أذلنا دماء في هواه وأدمعا ... وضنّ لنا ظلما بظلم ثناياه
فما برح الشّوق المبرّح ساميا ... لأحوى حوى كلّ المحاسن مرآه
فمنظره والثّغر منه وعرفه ... وقامته والرّدف منه وخدّاه
__________
(1) الأبيات في ديوان الشريف الرضي 1/ 497.(2/183)
لشمس الضحى والدّرّ والمسك نفحة ... وغصن النقا والدّعص والورد أشباه
وقال أيضا رحمه الله تعالى: [الكامل]
ومهفهف نبت الشّقيق بخدّه ... واهتزّ أملود النّقا في برده
ماء الشبيبة والجمال أرقّ من ... صقل الحسام المنتضى وفرنده
يحيي الأنام بلمحة من وصله ... من بعد ما وردوا الحمام بصدّه
إن كنت أهديت الفؤاد له فقل ... أيّ الجوى لجوانحي لم يهده
وقال أيضا: [المتقارب]
أرقّ نسيم الصّبا عرفه ... وراق قضيب النقا عطفه
ومرّ بنا يتهادى وقد ... نضا سيف أجفانه طرفه
ومدّ لمبسمه راحة ... فخلت الأقاح دنا قطفه
أشار لتقبيلها في السّلام ... فقال فمي ليتني كفّه
ولإدريس بن اليماني: [الطويل]
وذي لعس للأقحوان ثناياه ... وللورد خدّاه وللآس صدغاه
وللسّوسن الريّان صفحة خدّه ... وللظّبي عيناه وللمسك ريّاه
فريد جمال تمّ لي توأم الهوى ... به ولكلّ العاشقين فرداه
ولبعض أصحابنا: [الخفيف]
كفّ عني الملام يا من يلوم ... إنّ لوم الشجيّ في الحبّ لوم
جلّ همي بأن أهيم حياتي ... صغرت همة امرىء لا يهيم
أبدا أطلب الغرام مجدّا ... فكأني إلى الغرام غريم
إن ربما رمت برامة قلبي ... مقلتاه حبّي له لا يريم
صحّ حبّي واعتلّ جسمي فحسبي ... أنّ كلّي إلى هواه سقيم
وكلّ ما تضمنت هذه الجملة مع قطعة الحريري من التذللّ والخضوع إلى المجبوب، فهو حكم الباب، والمجمع عليه عند ذوي الألباب. إلا قوله: «وغيري يجتني رشف ثغره»، فإن أكثر أهل هذا الشأن يأبون أن يكون المحبوب بين عاشقين، وينسبون محبّة إلى خساسة الهمة، ويعتدونها على المحبوب من أكبر التهمة، قال امرؤ القيس:
[الكامل]
إني بحبلك واصل حبلي ... وبريش نبلك رائش نبلي (1)
__________
(1) البيتان لامرئ القيس في ديوانه ص 239، والبيت الأول لامرئ القيس في شرح أبيات سيبويه 1/(2/184)
ما لم أجدك على هدى أثر ... يقرو مقصّك قائف قبلي
يقول: أنا أديم من مواصلتك ما لم أجد غيري يتبعك طمعا في مواصلتك. وقال أبو ذؤيب: [الطويل]
تريدين كيما تجمعيني وخالدا ... وهل يجمع السّيفان ويحك في غمد (1)
فهذا قد أبى الشركة على التساوي، فكيف الإقامة على الجور الذي ذكر الحريري.
وقد قدمنا في العشرة للمولدين فنّا غير هذا، على أن المحبوب إذا كان حسن الخلق حسن القبول زاد في أبّهة جماله، كما أنّ الجفاء في المحبوب والخلق الذميم يطمس نور حسنه وينقص من كماله، وأنشدوا: [الطويل]
أيا حسنا أزرت قبائح فعله ... عليه كما أزرى الكسوف على البدر
وقال عبد الصمد المصري: [المتقارب]
فلو زيّن الحسن من وجهه ... بهجر الصّدود ووصل الوصال
لتمّ ولكنّ ما إن أرى ... جميل المحيا جميل الفعال
وقال آخر: [الوافر]
صحا عن حبّك القلب المشوق ... فما يصبو إليك ولا يتوق
جفاؤك كان عنك لنا عزاء ... وقد يسلي عن الولد العقوق
فهذه جملة كافة.
[أنواع البلاغة في صناعة الشعر]
ونرجع إلى ذكر أنواع البلاغة في صناعة الشعر التي سّماها المحدثون صنعة البديع، والشعراء يتفاضلون في سياقها والاقتدار عليها، وهي في أشعار العرب موجودة، وفي الشعر المولّد أكثر، وأنا آتي منها بما للناظر فيه كفاية بعون الله سبحانه وتعالى، ونبدأ منها بالتجنيس الذي أولع به الحاكم في المقامة.
التجنيس
هو اتفاق اللفظ أو أكثره واختلاف الحكم، قال أبو بكر حازم بن حازم: التجنيس أن تجيء الكلمة تجانس آخرى في بيت شعر أو كلام، وهو من أضيق أنواع البديع، فمنه
__________
406، ولسان العرب (حبل)، وللنمر بن تولب في ملحق ديوانه ص 405، وبلا نسبة في رصف المباني ص 447، والكتاب 1/ 164.
(1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في خزانة الأدب 5/ 84، 8/ 514، والدرر 4/ 68، وشرح أشعار الهذليين 1/ 219، ولسان العرب (ضمد)، وللهذلي في إصلاح المنطق ص 50، وبلا نسبة في همع الهوامع 2/ 5.(2/185)
قوله تعالى: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمََانَ} [النحل: 44]، {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} [الروم:
43] وفي الحديث «عصيّة عصت الله ورسوله، وغفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، والظلم ظلمات يوم القيامة».
وقال خالد بن صفوان لرجل من بني عبد الدار: هشمتك هاشم، وأمّتك أمية، وخزمتك مخزوم، وأنت من عبد دارها، ومنتهى عارها، فتح لها الأبواب إذا أقبلت، وتغلقها إذا أدبرت.
والتجنيس أنواع، فمنه تجنيس اللفظ وهو ما تقدم، ومنه تجنيس الخطّ وهو ما يصح تصحيفه، كقوله تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104].
وفي حديث سعد بن أبي وقاص: لما أسلمت راغمتني أمي، فهي مرة تلقاني بالبشر، ومرة تلقاني بالبسر.
البحتري: من سعادة جدّك، وقوفك عند حدّك.
وفي رسالة: عاد إلى المسامحة والمحاسنة، بعد المشامخة والمخاشنة، وقال البحتريّ: [الطويل]
ولم يكن المغترّ بالله إذ سرى ... ليعجز والمعتزّ بالله طالبه (1)
وقال البحتريّ أيضا: [الطويل]
وحالا كريش النّسر مهما رأيته ... جناحا لشهم عاد ريشا على سهم
ومنه تجنيس السمع كقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} [القيامة:
22] ومن رسالة: لم يكن لأمره مضيعا، ولا لسرّه مديعا.
البستي: من لم يكن لك نسيبا، فلا ترج منه نصيبا. ومن لم يكن لك صدره بالحاجات فسيحا، فلا تسمع له بها لسانا فصيحا. وقال: [الطويل]
أبوك كريم غير أنك سابق ... مداه فلا ضيم عليك ولا ذمّ
فلا يعجبنّ الناس مما أقوله ... وأقضي به فالغيث يقدمه الغيم
وقال المعرّي رحمه الله تعالى: [البسيط]
أعوذ بالله من قوم إذا سمعوا ... خيرا أسرّوه أو شرّا أذاعوه
وخالد بن سنان ليس ينقصه ... من قدره الكون في حيّ أضاعوه
ومنه تجنيس المضارعة، فمنه من رسالة: أنابه بين احتفاء واحتفال، وبين ذكر مطر مطرب. وثنا مغر مغرب.
__________
(1) البيت في ديوان البحتري ص 215.(2/186)
وقال أبو تمام: [الطويل]
يمدّون من أيد عواص عواصم ... تطول بأسياف قواض قواضب (1)
وقال المعرّي: من اتقى الله فهو السالم الساري.
وقال ابن عمار: [الطويل]
إذا ركبوا فانظره أوّل طاعن ... وإن نزلوا فانظره آخر طاعم
وباب التجنيس فاق الناس فيه حبيب، والناس له تبع، كما انفرد بحسن القطع في آخر قصائده، فلا يكاد الشاعر الماهر يزيد بيتا في آخر قصائده في الغالب.
كما انفرد الحسن بحسن الابتداء فله ابتداءات لا يجاري فيها، كما انفرد ابن المعتز بجودة التشبيه يكاد على كثرته في شعره ألا يسقط له تشبيه واحد، كما انفرد المتنبي بلطف التخلص من التغزّل إلى المدح، ومن تجنيس حبيب قوله: [الطويل]
عداك حرّ الثغور المستضامة عن ... برد الثغور وعن سلسالها الحصب (2)
السلسال العذب والحصب: الجاري على الحصباء شبه الريق به، ففي هذا البيت من صنع البديع التجنيس والطباق والتتميم والترديد والتبليغ، وتأتي هذه الأنواع في هذا الفصل، وحبيب أكثر الناس استعمالا لصنع البديع، ومن شعره يتعلّم، وقال أيضا:
[البسيط]
كم نيل تحت سناها من سنا قمر ... وتحت عارضها من عارض شنب (3)
وقال أيضا: [الكامل]
يا من تدمّي عينه تلك الدمى ... فيه ويقمر ليلة الإقمار
أخذه البحتري فقال: [البسيط]
جافي المضاجع لا ينفكّ في لجب ... يكاد يقمر من لألائه القمر (4)
وأنشد أبو علي الفارسي في نوادره لأبي الغول الطهوي يصف سحابا: [الخفيف]
وقري كلّ قرية كان يقرو ... ها قرى لا يجفّ منه القرى
وفي المقامات من التجنيس كثير، وفي هذا الشرح منه ما يستظرف ويستبدع، فمما يستحسن منه قول السريّ يمدح سيف الدولة: [الوافر]
أغرّتك الشّهاب أم النهار ... وراحتك السحاب أم البحار
خلقت منيّة ومنى فأضحت ... نمور بك البسيطة أو تمار
__________
(1) البيت في ديوان أبي تمام ص 42.
(2) البيت في ديوان أبي تمام ص 10.
(3) ديوان أبي تمام ص 11.
(4) البيت في ديوان البحتري ص 958.(2/187)
تحلّي الدين أو تحمى حماه ... فأنت عليه سور أو سوار
سيوفك من شكاة الثغر برء ... ولكن للعدى فيها بوار
وكفّاك الغمام الجود يسري ... وفي أحشائه ماء ونار
فيمنى من سجيتها المنايا ... ويسرى من عطيّتها اليسار
ومن الشعر الذي جمع إلى التجنيس حسن التقسيم والطباق جواب الصابي أبا أحمد الشيرازي، من شعر يشتكي له نقرسا أصابه وأوله: [المتقارب]
إلى الله أشكو ضنى شفّني ... وكم قبله من ضنى قد شفاني
فأجابه الصابي: [المتقارب]
عناني من الهم ما قد عناني ... فأعطيت صرف الليالي عناني
ألفت الدموع وعفت الهجوع ... فعيناي عينان نضّاختان
لسقم ألحّ على سيّد ... به قد غفرت ذنوب الزّمان
وكيف سطا بهما واستطا ... ل وأرض بساطهما النّيران
وهلّا تجاوزه قاصدا ... إلى عصبة عصبت بالهوان
إذا ما سعى لطلاب العلا ... فكلّ أوان همّ في توان
أتتني بالأمس أبياته ... تعللّ روحي بروح الجنان
كبرد الشباب وبرد الشرا ... ب وطلّ الأمان ونيل الأماني
وعهد الصّبا ونسيم الصّبا ... وصفو الزمان ورجع القيان
أجبت عن الشّعر مسترسلا ... بطبع شجاع وقلب جبان
ولولا سكوني إلى فضله ... قبضت بناني بقبض اللّسان
وقال أبو الفتح البستي: [المتقارب]
إنّ أسيافنا العضاب الدوامي ... صيّرت ملكنا قرين الدّوام
باقتسام الأموال من وقت سام ... واقتحام الأموال من وقت حام
التشبيه
وقد أوردنا في هذا الكتاب منه كل غريب، والتشبيهات على ضروب مختلفة، فمنها تشبيه الشيء بالشيء صورة وهيئة، ومنها تشبيهه به معنى، ومنها تشبيهه به لونا، ومنها تشبيهه به صوتا، ومنها تشبيهه به حركة وسرعة، فالأول كقوله: [الطويل]
كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالي (1)
__________
(1) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 38، وشرح التصريح 1/ 382، وشرح شواهد المغني 1/ 342،(2/188)
أجمع أهل العلم بالشعر كأبي عمرو بن العلاء والأصمعي، أن أحسن التشبيه ما يقابل به تشبيهان في بيت واحد، وأن أحدا لم يقل ذلك كبيت امرئ القيس، كأن قلوب الطير. وقال بشار: ما زلت مذ سمعت قوله: كأن قلوب الطير أراود نفسي أن أشبه شيئين بشيئين ولا أستطيع ذلك إلى أن قلت: [الطويل]
كأنّ مثار النّقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
ويا بعد ما بين البيتين على أن بيت بشار غريب، ولا أحفظ للبيتين ثالثا، إلا أن بشارا قد قال أيضا: [البسيط]
من كل مشتهر في كف مشتهر ... كأن غرّته والسيف نجمان
وأما تشبيه المعنى فكتشبيه الشجاع بالأسد والجميل بالقمر، وكقوله: [الطويل]
وكالسيف إن لا ينته لان متنه ... وحدّاه إن خاشنته خشنان
واللون كقول ابن هرمة: [الطويل]
وليل كسربال الغراب ادّرعته ... إليك كما أختّ اليمانيّ أجدل
والصوت كقول النابغة: [البسيط]
له صريف صريف القعو بالمسد (1)
والحركة والسرعة، كقول امرئ القيس: [الطويل]
كجلمود صخر حطّه السيل من عل (2)
وربما امتزجت هذه المعاني بعضها ببعض، فإذا اتفق في الشيء المشبه معنيان أو ثلاثة معان من هذه الأوصاف قوي التشبيه، وتأكد الصدق فيه، وأصدق التشبيهات ما إذا
__________
2/ 595، 819، والصاحبي في فقه اللغة ص 244، ولسان العرب (أدب)، والمقاصد النحوية 3/ 216، والمنصف 2/ 117، وتاج العروس (بال)، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 7/ 64، وأوضح المسالك 2/ 329، ومغني اللبيب 1/ 218، 2/ 392، 439.
(1) صدره:
مقذوفة بدخيس النحض بازلها
وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص 16، وجمهرة اللغة ص 578، 741، 944، والدرر 3/ 76، وشرح أبيات سيبويه 1/ 31، وشرح الأشموني 2/ 507، والكتاب 1/ 355، ولسان العرب (صرف)، (قذف)، (بزل)، (قعا)، وبلا نسبة في مجالس ثعلب ص 320، وهمع الهوامع 1/ 193.
(2) صدره:
مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا
والبيت في ديوان امرئ القيس ص 19، ولسان العرب (علا)، وكتاب العين 7/ 174، والكتاب 4/ 228، وبلا نسبة في المخصص 13/ 202، وأوضح المسالك 3/ 165.(2/189)
عكس لم ينتقض، بل يكون كل مشبه بصاحبه مثل صاحبه، ويكون صاحبه مشبها به صورة ومعنى، كقول امرئ القيس: [الطويل]
نظرت إليها والنجوم كأنّها ... مصابيح رهبان تشبّ لقفّال (1)
فتشبيه النجوم بالمصابيح لفرط ضيائها صحيح، وتشبيه المصابيح بالنجوم صحيح، وربما أشبه الشيء صورة، وخالفه معنى. وقد تقدّم ذكر ذلك في الثانية، وربما قاربه وداناه وشابهه مجازا لا حقيقة.
وأدوات التشبيه كأنّ والكاف ومثل، وتسقط الكاف مع المصدر فيشبّه بالمصدر، وقد يشبّه بقولهم: تخاله وتحسبه، فما كان منه صادقا قيل فيه «كأنه» أو كذا، وما قارب الصدق قيل فيه: تراه أو تخاله فإذا حققت هذا الفصل انكشفت لك أسرار التشبيه، وقد تقدّم نوع من التشبيه في الثانية، وسيأتي في الأربعين تشبيهات الغريب العقم في حكاية الأصمعي.
الاستعارة
هي من العارية لأنّ الشاعر يعير المعنى ألفاظا غير لفظه الموضوع له، وهي على ثلاثة أوجه: أحدهما يستعيره الشاعر من الألفاظ على سبيل التمثيل وتتميم المعاني، وهذا الضرب يعدّ في البديع ومحاسن الشعر، وهو كثير في كلامهم، وعليه انبنى كتاب المقامات، وقلّما يوجد بيت يخلو منه، وما جاء منه في القرآن سماه بعضهم مجازا وأباه بعضهم، نحو قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمََا جَنََاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]، {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً}
[مريم: 4] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «دبّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء» (2).
وقال امرؤ القيس: [الطويل]
* وليل كموج البحر أرخى سدوله (3) *
وقال علقمة وهو بديع: [البسيط]
* والصبح بالكوكب الدريّ منحور (4) *
__________
(1) البيت في ديوان امرئ القيس ص 31، وخزانة الأدب 1/ 328، والدرر 4/ 13، وهو بلا نسبة في همع الهوامع 1/ 246.
(2) أخرجه الترمذي في القيامة باب 56، وأحمد في المسند 1/ 165، 167.
(3) عجزه:
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
والبيت لامرئ القيس في ديوانه ص 18، وخزانة الأدب 2/ 326، 3/ 271، وشرح شواهد المغني 2/ 574، 782، وشرح عمدة الحافظ ص 272، والمقاصد النحوية 3/ 338، وبلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 75، وشرح الأشموني 2/ 300، وشرح شذور الذهب ص 415.
(4) صدره:
أوردتهم وصدور العيس مسفة(2/190)
وقال زهير في الحرب: [الطويل]
* ضروس تهرّ الناس أنيابها عصل (1) *
وقال عمرو بن كلثوم: [الطويل]
ألا أبلغ النعمان عني رسالة ... فمجدك حولي ولومك قارح
وقال الحسن: [الكامل]
في مجلس ضحك السّرور به ... عن ناجذيه وحلّت الخمر
وقال العباس بن الأحنف: [البسيط]
قد سحب الناس أذيال الحديث بنا ... وفرّق الناس فينا قولهم فرقا (2)
فكاذب قد رمى بالظنّ غيركم ... وصادق ليس يدري أنه صدقا
الثاني: أن ينتحل الشاعر قولا لغيره فيدخله في شعره، وهذا هو الاجتلاب الذي نفاه جرير عن نفسه بقوله: [الوافر]
ألم تعلم مسرّحي القوافي ... فلا عيّا بهنّ ولا اجتلابا (3)
الثالث: أنه يستعير الشاعر ألفاظا كان غنيا عنها، والمعنى غير مفتقر إليها، ويسمى الحشو والاستعانة، ويحسن بقدر ما يتحمل من الفوائد ويقبح إذا فرغ منها.
الإشارة
قال قدامة: الإشارة هي اشتمال اللفظ القليل على المعاني الكثيرة باللمحة الدالة، ولم يأت أحد منها بمثل قول زهير: [الوافر]
وإني لو لقيتك فاجتمعنا ... لكان لكلّ منكرة كفاء (4)
وقال امرؤ القيس: [الطويل]
على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جري غير كزّ ولا وان (5)
__________
والبيت لعلقمة الفحل في ديوانه ص 113، وأساس البلاغة (نحر)، وبلا نسبة في لسان العرب (نحر)، وتاج العروس (نحر).
(1) صدره:
إذا لقحت حرب عوان مضرّة
والبيت في ديوان زهير بن أبي سلمى ص 103.
(2) البيتان في ديوان العباس بن الأحنف ص 169.
(3) البيت لجرير في ديوانه ص 651، وشرح أبيات سيبويه 1/ 97، والكتاب 1/ 233، 336، ولسان العرب (جلب)، (سحج)، وبلا نسبة في لسان العرب (يسر)، والمقتضب 1/ 75، 2/ 121.
(4) البيت في ديوان زهير بن أبي سلمى ص 81.
(5) البيت في ديوان امرئ القيس ص 91.(2/191)
فتأمل ما اشتملت عليه لفظة «أفانين» مما لو عدّ كان كثيرا، وما اقترن به من جميع أصناف الجودة طوعا من غير طلب ولا مسألة، ثم نفى عنه الكزازة والونى، وهما أكبر عيوب الخيل.
والإشارة من غرائب الشعر وملحه ولا يأتي بها إلا شاعر مبرز، وتسمّى اللمحة الدالة، وأصلها الاختصار، وهي أنواع، فمنها الوحي، كقول جاهلي في يزيد بن الصّعق: [المتقارب]
تركت الركاب لأربابها ... وألزمت نفسي على ابن الصعق (1)
جعلت يديّ وشاحا له ... وبعض الفوارس لا تعتنق
فقوله: «جعلت يدي وشاحا له» إشارة بديعية دالة على الاعتناق بغير لفظة.
الإيماء
ومنها الإيماء، فمن ملحه قول قيس بن ذريح: [الطويل]
أقول إذا نفسي من الوجد أصعدت ... لها زفرة تعتادني هي ماهيا (2)
وقول كثير: [الطويل]
تجافيت عنّي حين لا لي حيلة ... وغادرت ما غادرت بين الجوانح (3)
فقوله: «غادرت ما غادرت» إيماء مليح.
التلويح
ومنها: التلويح، ومن أجوده قول النابغة في طول الليل: [الطويل]
تطاول حتّى قلت ليس بمنقض ... وليس الذي يرعى النّجوم بآيب (4)
فالذي يرعى النجوم هنا الصبح، أقامه مقام الراعي، يغدو فتذهب الإبل والماشية، فتلويحه هذا عجب في الجودة، ومنه قول المجنون: [الطويل]
لقد كنت أعلو حبّ ليلى فلم يزل ... بي النقض والإبرام حتى علانيا (5)
فلوّح بالصحة والكتمان، ثم بالسقم والاشتهار تلويحا عجيبا.
التعريض
ومنها التعريض، كقول عمرو بن معديكرب: [الطويل]
__________
(1) البيتان بلا نسبة في كتاب الصناعتين ص 367.
(2) البيت في ديوان قيس بن ذريح ص 160.
(3) البيت في ديوان كثير عزة ص 515.
(4) البيت في ديوان النابغة الذبياني ص 40، وفيه «تقاعس» بدل «تطاول»، وأساس البلاغة (قعس).
(5) البيت في ديوان قيس بن الملوح ص 294.(2/192)
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكنّ الرماح أجرّت (1)
أي لو أن قومي صدقوا في القتال وطعنوا برماحهم أعداءهم لنطقت بمدحهم، ولكنهم صرفوها عن أعدائهم منهزمين، فكأنها أجرّت لساني، أي شقته كما يجرّ لسان الفصيل، فكأنها أسكتتني. فهذا تعريض ينوب عن التصريح، وأخذه أبو بكر بن دريد فقال: [الخفيف]
يا بني مالك عقلتم لساني ... كيف يجري المقيّد المعقول (2)
إن سلكتم إلى الفعال سبيلا ... وضحت لي إلى المقال سبيل
ومن التعريض قوله: [الطويل]
بني عمّنا لا تذكروا الشّعر بعدما ... دفنتم بصحراء الغمير القوافيا (3)
ومنه قول حميد بن ثور وقد تقدّم: [الطويل]
أرى بصري قد خانني بعد صحّة ... وحسبك داء أن تصحّ وتسلما (4)
التفخيم
ومنها: التفخيم، كقول الغنوي: [الطويل]
أخي ما أخي لا فاحش عند بيته ... ولا ورع عند اللّقاء هيوب
ونحو هذا حكاية الأعرابي في نوادر أبي عليّ حين سئل: أله بنون؟ فقال: نعم، وخالقهم لم تقم عن مثلهم منجبة فلمّا ذكر أسماءهم قال: جهم وما جهم، غشمشم وما غشمشم، عشرب وما عشرب.
ومن هذا التفخيم ما يجيء على التهويل والتعظيم نحو قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1] و {الْقََارِعَةُ مَا الْقََارِعَةُ} [القارعة: 1] وهو كثير في كلام العرب.
ومما جاء في الإشارة على معنى التشبيه قول الأعرابي يصف لبنا ممذوقا: [الرجز]
* جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط (5) *
__________
(1) البيت في ديوان عمرو بن معديكرب في ديوانه ص 73، ولسان العرب (جرر)، ومقاييس اللغة 1/ 411، ومجمل اللغة 1/ 389، وتهذيب اللغة 10/ 476، وتاج العروس (جرر)، وهو بلا نسبة في كتاب العين 6/ 114.
(2) البيتان في ديوان ابن دريد ص 102.
(3) البيت لسويد الحارثي في البيان والتبيين 2/ 186.
(4) البيت في ديوان حميد بن ثور ص 7.
(5) قبله:
حتى إذا جنّ الظلام واختلط
والرجز للعجاج في ملحق ديوانه 2/ 304، وخزانة الأدب 2/ 109، والدرر 6/ 10، وشرح التصريح(2/193)
فأشار إلى تشبيه لونه إذا غلب عليه المذق بلون الذئب كما صرح به الآخر حين قال: [الطويل]
فيشربه مذقا ويسقى عياله ... سحابا كأقراب الثعالب أورقا (1)
المطابقة
أبو الفرج عليّ بن الحسين، قلت لأبي الحسن عليّ بن سليمان الأخفش وكان أعلم من شاهدته بالشعر: طائفة وهم الأكثرون تزعم أن الطباق ذكر الشيء وضدّه، فيجمعهما اللفظ لا المعنى، وطائفة تقول: هو اشتراك المعنيين في لفظ واحد، مثل قول زياد الأعجم: [الطويل]
ونبّئتهم يستنصرون بكاهل ... وللؤم فيهم كاهل وسنام (2)
فكاهل قبيلة وكاهل للعضو، فقال: من ذا الذّي يقول هذا؟ قلت: قدامة وغيره، فقال: هذا يا بني هو التجنيس، ومن ادعى أنه طباق فقد ادعى خلافا على الخليل والأصمعيّ، قلت: أفكانا يعرفان هذا! فقال: سبحان الله، وهل غيرهما في علم الشعر وتمييز خبيثه من طيبه! قلت: فأنشدني أحسن طباق للعرب، فقال: قول عبد الله بن الزّبير الأسديّ: [الوافر]
فردّ شعورهن السّود بيضا ... وردّ وجوههنّ البيض سودا (3)
وقال أبو الفرج: وأنا أقول إن أحسن بيت قيل فيه: [البسيط]
للسّود في السود آثار تركن بها ... لمعا من البيض يثني أعين البيض
يعني أن اللّيالي بمرورهنّ تبيّض سواد الشعر.
قال أبو حاتم: سألت الأصمعي عن صنعة الشعر، فذكر في بعض قوله المطابقة، وقال: أصلها وضع الرجل في موضع اليد، فقلت: أنشدني أحسن ما قالت العرب في ذلك فقال: قول زهير [البسيط]
__________
2/ 112، والمقاصد النحوية 4/ 61، وبلا نسبة في الإنصاف 1/ 115، وشرح ابن عقيل ص 477، ولسان العرب (خضر)، (مذق)، والمخصص 13/ 177، وأساس البلاغة (ضيح).
(1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (سجج)، (مذق)، (ورق)، وتهذيب اللغة 9/ 77، 10/ 449، والمخصص 5/ 46، وتاج العروس (سجج)، (ورق). ويروى «يشربه محضا» بدل «فيشربه مذقا».
(2) البيت لزياد الأعجم في كتاب الصناعتين ص 316.
(3) البيت لعبد الله بن الزبير في ملحق ديوانه ص 144، وتخليص الشواهد ص 443، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 941، والمقاصد النحوية 2/ 417، ولأيمن بن خريم في ديوانه ص 126، ولفضالة بن شريك في عيون الأخبار 3/ 76، ومعجم الشعراء ص 309، وللكميت بن معروف في ديوانه ص 191، وذيل الأمالي ص 115، وبلا نسبة في شرح الأشموني 1/ 159، وشرح ابن عقيل ص 217.(2/194)
ليث بعثّر يصطاد الرجال إذا ... ما كذب الليث عن أقرانه صدقا (1)
وقيل: المطابقة أن يأتي الشاعر بلفظتين مختلفتين في المعنى واللفظ في بيت واحد أو في كلام، نحو قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصََاصِ حَيََاةٌ} [البقرة: 179]. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للأنصار: «إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلّون عند الطمع» (2).
وقال عليّ رضي الله عنه: من رضي عن نفسه كثر من يتسخّط عليه.
وقال: أعظم الذنوب ما صغر عند صاحبه.
وقال الحسن: كثرة النظر إلى الباطل تذهب بمعروف الحق.
وقال الفرزدق: [الكامل]
لعن الإله بني كليب إنّهم ... لا يغدرون ولا يفون لجار (3)
يستيقظون إلى نهيق حميرهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار
وقال حبيب: [الطويل]
يرى العلقم المأدوم بالعزّ أرية ... يمانية والأري بالضّيم علقما (4)
التقسيم
ومنها التقسيم. قال أبو الحسن عليّ بن هارون بن علي بن حماد بن إسحاق الموصلي: هو أن يستقصي الشاعر تفصيل ما ابتدأ به فيستوفيه، فلا يغادر قسما يقتضيه إلا أورده، وإلى هذا كان يذهب أهلنا، وأحسن ما قيل في ذلك قول زهير: [البسيط]
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعّنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا (5)
وقول عنترة: [الكامل]
إن يلحقوا أكرر وإن يستلحموا ... أشدد وإن يرموا بضنك أنزل (6)
__________
(1) يروى عجز البيت:
ما الليل كذّب عن أقرانه صدقا
وهو في ديوان زهير بن أبي سلمى ص 54، ولسان العرب (كذب)، (عثر)، والتنبيه الإيضاح 2/ 161، وتهذيب اللغة 10/ 174، وجمهرة اللغة ص 421، وتاج العروس (كذب)، (عثر)، والبيت بلا نسبة في ديوان الأدب 1/ 84.
(2) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 3/ 443.
(3) البيت الثاني في ديوان الفرزدق ص 1/ 360، وأساس البلاغة (يقظ).
(4) البيت في ديوان أبي تمام ص 294.
(5) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 54، ولسان العرب (وصل)، وتهذيب اللغة 1/ 253، وكتاب العين 1/ 168، ومقاييس اللغة 4/ 160، وبلا نسبة في لسان العرب (عنق).
(6) البيت في ديوان عنترة ص 65.(2/195)
أبو العيناء: أجمع علماء الشعر أن أحسن تقسيم أتى به متقدم قول عمر بن أبي ربيعة: [الطويل]
تهيم إلى نعم فلا الشّمل جامع ... ولا الحبل موصول ولا أنت تصبر (1)
ولا قرب نعم إن دنت لك نافع ... ولا بعدها يسلي ولا أنت مقصر
المبرد: لم أسمع أحسن من تقسيم لقيس بن ذريح، وهو:
وقد كان فيها للأمانة موضع ... وللكفّ مرتاد وللعين منظر (2)
وقد تقدم في شرح الثانية بيت المتنبي في التقسيم وهو: بدت قمرا البيت.
ونسج على منواله الزاهر فقال: [الطويل]
سفرن بدورا وانتقبن أهلّة ... ومسن غصونا والتفتن جآذرا
وأطلعن في الأجياد بالدر أنجما ... جعلن لحبّاب القلوب ضرائرا
وقال الناشي: [الطويل]
رأيت على أكوارنا كلّ ماجد ... يرى كلّ ما يفنى من المال مغنما
ندوّم أسيافا ونعلو قواضبا ... وننقضّ عقبانا ونطلع أنجما
وقال السّلاميّ: [البسيط]
ما ضنّ عنك بموجود ولا بخلا ... أعزّ ما عنده النفس التي بذلا
يحكي المطايا حنينا والهجير جوى ... والمزن دمعا وأطلال الديار بلى
والتقسيم في الشعر كثير.
التسهيم
قال عليّ بن هارون: هذا لقب نحن اخترعناه، وصفة الشعر المسهّم أن يسبق المستمع إلى قوافيه قبل أن ينتهي إليها راويه، حتى لو سمع الشطر الأوّل استخرج الآخر قبل أن يسمعه، وأحسن ما قيل في ذلك قول جندب أخت عمرو ذي الكلب ترثي أخاها: [المتقارب]
فأقسمت يا عمرو لو نبّهاك ... إذا نبها منك داء عضالا (3)
إذا نبّها ليث عرّيسة ... مفيتا مفيدا نفوسا ومالا
وخرق تجاوزت مجهولة ... بوجناء حرف تشكّى الكلالا
فكنت النهار به شمسهم ... وكنت دجى اللّيل فيه الهلالا
__________
(1) البيتان في ديوان عمر بن أبي ربيعة ص 92.
(2) البيت في ديوان قيس بن ذريح ص 87، وفيه «وللقلب» بدل «وللكف».
(3) الأبيات في كتاب الصناعتين ص 142، وأمالي المرتضى 2/ 243.(2/196)
قال الحاتميّ: فانظر إلى ديباجة هذا الكلام، ما أصفاها، وإلى تقسيماته ما أوفاها، وانظر إلى قوله: مفيتا مفيدا، ووصفها إياه بالشمس بالنهار والهلال بالليل، تجد المطيع الممتنع القريب البعيد.
التتميم
هو أن يذكر الشاعر معنى فلا يترك شيئا يتم ويتكامل الإحسان معه فيه إلا أتى به، وأحسن ما قيل في ذلك قول طرفة: [الكامل]
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الرّبيع وديمة تهمي (1)
فقد تم الإحسان في المعنى الذي ذهب إليه بقوله: «غير مفسدها» ويتلوه قول خليفة بن نافع العنزي: [الطويل]
رجال إذا لم يقبل الحق منهم ... ويعطوه عادوا بالسّيوف القواطع
فالمعنى تم بقوله «ويعطوه»، ولولاه كان ناقصا.
وقال حبيب: [الكامل]
حتّى لقد ظنّ الغواة وباطل ... أنى تجسّم فيّ روح السّيّد (2)
فتمّ الإحسان في المعنى الذي أراد بقوله: «وباطل»، والسيد الحميري له في الشيعية مذهب رديء، والغواة هنا القائلون بالتناسخ. يقول: لإفراط حبهم في أهل البيت، توهّم الغواة أن روح السّيد تجسم فيّ، وتوهّمهم باطل.
الترديد
هو تعليق الشاعر لفظة في البيت بمعنى، ثم يرددها فيه بعينها ويعلقها بمعنى آخر، وأكثر ما يستعمله المحدثون، وأجمعوا أن أباحيّة النميريّ سبق إلى الإحسان جميع من تقدّمه وتأخّر عنه في قوله: [الطويل]
ألا حيّ من أجل الحبيب المغانيا ... لبسن البلى ممّا لبسن اللّياليا (3)
إذا ما انقضى للمرء يوم وليلة ... تقاضاه شيء لا يملّ التقاضيا
ابتدأ بالمصراع الأول فأحسن الابتداء، وردّد في المصراع الثاني فأحسن في
__________
(1) البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 88، وتخليص الشواهد ص 231، والدرر 4/ 9، ومعاهد التنصيص 1/ 362، وبلا نسبة في لسان العرب (همي)، وهمع الهوامع 1/ 241.
(2) البيت في ديوان أبي تمام ص 114.
(3) يروى صدر البيت الثاني:
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة
وهو بلا نسبة في لسان العرب (قضى)، وتاج العروس (قضى).(2/197)
الترديد، ثم ابتدع في البيت الثاني ما ليس لأحد مثله.
أبو تمام: لا أعلم أحدا أحسن صنعة في الترديد من زهير في قوله: [البسيط]
من يلق يوما على علّاته هرما ... يلق السّماحة منه والنّدى خلقا (1)
الحاتمي: وأحسن الخليع الباهلي في الترديد بقوله: [الطويل]
لقد ملأت عيني بحسن محاسن ... ملأن فؤادي لوعة وهموما
التجريد
وهو أن يجرّد الشاعر موصوفه من صفته، ويسندها لأجنبي في الظاهر، وهو يريد الأول في المعنى، مثل قول الأعشى: [المنسرح]
يا خير من يركب المطيّ ولا ... يشرب كأسا بكفّ من بخلا (2)
فظاهره أنه لا يشرب كأسا بكفّ رجل ينسب إلى البخل إنما يشربها بكف كريم، وذلك الكريم هو الممدوح في المعنى، فجرّده في الظاهر، وهو يريد بكفّ بخيل من نفسه. وأبو عليّ الفارسي اختار لهذه الصنعة اسم التجريد، ومنه قول طرفة: [الرمل]
جازت البيد إلى أرحلنا ... آخر الليل بيعفور حذر (3)
يعني بيعفور حذر، من نفسها. وقال الأخطل: [الطويل]
ربيع حيا ما يستقّل بحمله ... سؤوم ولا مستنكش البحر ناضبه
أي ما يستقل بحمله سؤوم من نفسه، أي ليس بملول، وقال النابغة. [الكامل]
لم يحرموا حسن الغذاء وأمّهم ... طفحت عليك بتائق مذكار (4)
ومما يتعلق بنوع من التجريد قول امرئ القيس: [السريع]
«على لاحب لا يهتدي بمناره» (5)
__________
(1) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 53، والإنصاف 1/ 68، وخزانة الأدب 2/ 335، وسر صناعة الإعراب 2/ 831، وبلا نسبة في المقتضب 4/ 103.
(2) البيت في ديوان الأعشى ص 225.
(3) البيت لطرفة في ديوانه ص 50، ولسان العرب (خدر)، (عفر)، (رحل)، وتهذيب اللغة 7/ 265، ومقاييس اللغة 2/ 160، 4/ 372، ومجمل اللغة 2/ 163، وديوان الأدب 2/ 232، وكتاب العين 2/ 342. ويروى «خدر» بدل «حذر».
(4) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 58، ولسان العرب (دحق)، (نتق)، وتهذيب اللغة 4/ 35، وكتاب العين 3/ 42، وأساس البلاغة (طفح)، وتاج العروس (نتق)، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 5/ 387، والمخصص 4/ 30، ويروى «بناتق» بدل «بتائق».
(5) عجزه:
إذا سافه العود الديافيّ جرجرا(2/198)
فظاهره أن المنار الذي يهتدي به إلى الطريق لا يهتدي به. وهو في المعنى قد جرّد الطريق من المنار، وإنما أراد: ليس به منار أصلا، فليس ثمّ اهتداء، فنفي المسبب الذي هو الاهتداء، وأثبت السبب الذي هو المنار في اللفظ، واتكل على قوّة دلالة المعنى، وأن مراده نفي سبب الهداية الذي هو المنار فتنتفي الهداية، ومثله قول النابغة: [البسيط]
يحفّه جانبا نيق ويتبعه ... مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد (1)
أي ليس بها رمد فتحتاج إلى كحل.
وقال الراجز: [الرجز]
* ولم يقلّب أرضها البيطار (2) *
وقال الله عز وجل {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111] وهو كثير في الكلام.
التتبيع
وهو أن يريد الشاعر معنى فلا يأتي باللفظ الدال عليه، بل بلفظ تابع له، فإذا قال التابع أبان عن المتبوع، وأبدع ما في ذلك قول عمر بن أبي ربيعة: [الطويل]
بعيدة مهوى القرط إمّا لنوفل ... أبوها وإمّا عبد شمس وهاشم
ذهب إلى طول العنق، فلم يذكره بلفظ خاص به أتى بمعنى دلّ به على طوله، وهو قوله: «بعيدة مهوى القرط». ومثله قول الآخر: [الطويل]
نعلّق في مثل السّواري سيوفنا ... وما بينها والكفّ مهوى نفانف (3)
فأراد نعلّق سيوفنا في أعناق مثل السواري في الطول والاعتدال، وما بين العنق
__________
والبيت لامرئ القيس في ديوانه ص 66، ولسان العرب (ديف)، (سوف)، (لحف)، وتهذيب التهذيب 5/ 70، 13/ 92، 14/ 198، وأساس البلاغة (سوف)، وتاج العروس (ديف)، (لحف)، (سوف)، وبلا نسبة في لسان العرب (نسا)، ومقاييس اللغة 2/ 318، ومجمل اللغة 2/ 304.
(1) البيت في ديوان النابغة الذبياني ص 34.
(2) الرجز لحميد الأرقط في جمهرة اللغة ص 97، وسمط اللآلي ص 915، وشرح شواهد الإيضاح ص 489، ولسان العرب (قلب)، (حبر)، (أرض)، والمعاني الكبير ص 155، وتاج العروس (قلب)، (حبر)، وبلا نسبة في إصلاح المنطق ص 73، وجمهرة اللغة ص 275، 349، 1029، ولسان العرب (رجح)، وتهذيب اللغة 9/ 175، 12/ 62، وتاج العروس (رجح)، ومجمل اللغة 2/ 130، ومقاييس اللغة 2/ 127، 5/ 17، والمخصص 7/ 167، وكتاب العين 7/ 56.
(3) البيت لمسكين الدارمي في ديوانه ص 53، وفيه «تنائف» بدل «نفانف»، والحيوان 6/ 494، والمقاصد النحوية 4/ 164، وبلا نسبة في الإنصاف 2/ 465، وشرح الأشموني 2/ 430، وشرح عمدة الحافظ ص 663، وشرح المفصل 3/ 79، ولسان العرب (غوط)، وتاج العروس (غوط).(2/199)
والكفّ طول كثير، فكنى عن طول القامة بغير لفظه الخاص به، وأبدع ما في التتبيع قول امرئ القيس: [الطويل]
* نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضّل (1) *
فدلّ على ترفهها، وأن لها من يكفيها المؤنة باللفظ التابع لذلك.
التبليغ
وسمّاه قوم الإيغال، وهو أن يأتي الشاعر بالمعنى في البيت تاما قبل انتهائه إلى القافية، ثم يبلغ القافية بزيادة مفيدة تزيد معنى البيت براعة.
قيل للأصمعيّ رحمه الله تعالى: من أشعر الناس؟ قال: من يأتي إلى اللفظ الخسيس فيجعله بلفظ حسنا أو ينقضي كلامه قبل القافية فإذا احتاج إليها أفاد بها معنى، مثل قول ذي الرّمة: [الطويل]
أظن الذي يجدي عليك سؤالها ... دموعا كتبديد الجمان المفصّل (2)
فتم كلامه، ثم احتاج إلى القافية فقال: المفصّل فزاد شيئا.
ومن التبليغ قول امرئ القيس: [الطويل]
كأنّ عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الّذي لم يثقّب (3)
فقد أتى على التشبيه قبل القافية، وزاد بقوله: «الذي لم يثقّب» بلوغا إلى الغاية القصوى في الجودة، وكذلك قوله: [الطويل]
إذا ما جرى شأوين وابتلّ عطفه ... تقول هزيز الريح مرّت بأثأب (4)
فمرّت بأثأب زيادة على التشبيه التام، والأثأب شجر يكون للريح في أغصانه حفيف شديد، فأفادت الزيادة في التشبيه معنى بديعا. وقال زهير: [الطويل]
كأنّ فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حبّ الفنا لم يحطّم (5)
__________
(1) صدره:
وتضحي فتيت المسك فوق فراشها
والبيت لامرئ القيس في ديوانه ص 17، وسر صناعة الإعراب 2/ 575، ولسان العرب (عنن)، وتاج العروس (فضل)، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص 513، ورصف المباني ص 367.
(2) البيت في ديوان ذي الرمة ص 501، وفيه «كتبذير» بدل «كتبدير».
(3) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 53، ولسان العرب (جزع)، وأساس البلاغة (جزع)، وكتاب العين 1/ 216، وتاج العروس (جزع).
(4) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 49، وشرح التصريح 1/ 262، ولسان العرب (هزز)، والمقاصد النحوية 2/ 431، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 5/ 220، وأوضح المسالك 2/ 71.
(5) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 12، ولسان العرب (فتت)، (فنى)، والمقاصد النحوية 3/ 194، وبلا نسبة في شرح الأشموني 1/ 159.(2/200)
وسمى أصحاب البديع هذه الزيادة في آخر البيت الإيغال والتبليغ، وفي حشوه المبالغة والتتميم.
التصدير
هو أن يبدأ الشاعر بكلمة في البيت ثم يعيدها في عجزه، أو في النصف منه، ثم يردّدها في النصف الآخر عنه، فإذا نظم الشعر على هذه الصنعة أمكن استخراج قوافيه قبل أن يطرق أسماع مستمعيه، وأحسن ما فيه قول عامر بن الطفيل: [الطويل]
وكنت سناما في فزارة تامكا ... وفي كلّ قوم ذروة وسنام (1)
التامك: الشديد، وقال الآخر: [الطويل]
سريع إلى ابن العمّ يلطم وجهه ... وليس إلى داعي الندى بسريع
وقال آخر: [الطويل]
جهول إذا أزرى التحلّم بالفتى ... حليم إذا لم يزر بالحسب الجهل
والتصدير والترديد المتقدم يسميه كثير من البلغاء ردّ الإعجاز إلى الصدر.
الاستثناء
قيل إن أول من بدأ به النابغة، وأحسن كل الإحسان في قوله: [الطويل]
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب (2)
وهذا كقول الجعدي: [الطويل]
فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقى من المال باقيا (3)
فتى تمّ فيه ما يسرّ صديقه ... على أنّ فيه ما يسوء الأعاديا
ويستحسن قول أبي هفان: [الطويل]
فإن تسألي عنّا فنحن حلى العلا ... بني دارم والأرض ذات المناكب
__________
(1) البيت في ديوان عامر بن الطفيل ص 126.
(2) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 44، والأزهية ص 180، وإصلاح المنطق ص 24، وخزانة الأدب 3/ 327، 331، 334، والدرر 3/ 173، وشرح شواهد المغني ص 349، والكتاب 2/ 326، ومعاهد التنصيص 3/ 107، وهمع الهوامع 1/ 232، وبلا نسبة في الصاحبي في فقه اللغة ص 267، ولسان العرب (قرع)، (فلل)، ومغني اللبيب ص 114.
(3) البيتان للنابغة الجعدي في ديوانه ص 173، والبيت الأول في الأزهية ص 181، وأمالي المرتضى 1/ 268، وخزانة الأدب 3/ 334، 336، والدرر 3/ 182، وديوان المعاني 1/ 36، وشرح أبيات سيبويه 2/ 162، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1062، وشرح شواهد المغني 2/ 614، والشعر والشعراء 1/ 299، والكتاب 2/ 327، ولسان العرب (وحح)، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 193، والصاحبي في فقه اللغة ص 267، وهمع الهوامع 1/ 234.(2/201)
ولا عيب فينا غير أنّ سماحنا ... أضرّ بنا والبأس في كل جانب
فأفنى الردى أعمارنا غير ظالم ... وأفنى النّدى أموالنا غير غائب
ويسمى هذا تأكيد المدح بما يشبه الذم.
الالتفات
إسحاق الموصلي قال: قال لي الأصمعي رحمه الله تعالى: أتعرف التفات جرير؟
قلت: لا، فأنشدني: [الوافر]
أتنسى إذ تودّعني سليمى ... ببطن بشامة سقي البشام (1)
ألا تراه مقبلا على شعره، ثم التفت إلى البشام فدعا له!
الاعتراض
ويسمى الالتفات، وهو أن يكون الشاعر آخذا في معنى، فيعدل عنه آخذا في غيره قبل أن يتم الأول، ثم يعود إليه فيتمه، فيكون فيما عدل إليه مبالغة في الأولّ وزيادة في حسنه.
قال ابن المعتز: الالتفات انصراف المتكلم عن الإخبار إلى المخاطبة، وعن المخاطبة إلى الإخبار، ومن أحسن ما في قول ذلك قول النابغة: [الوافر]
ألا زعمت بنو عبس بأني ... ألا كذبت كبير السنّ فان
وقيل: بل قول كثير: [الوافر]
لونّ الباخلين وأنت منهم ... رأوك تعلّموا منك العطايا (2)
فقوله: «ألا كذبت» وقوله: «وأنت منهم» اعتراض بيّن أول الكلام وآخره، وفيه زيادة حسنة، ويستحسن قول الآخر: [الوافر]
فإني إن أفتك يفتك منّي ... فلا يسبق به علق نفيس
فقوله: «فلا تسبق به» اعتراض لطيف في معناه وموضعه، ويسمى هذا أيضا وما تقدم من قول طرفة الحشو المفيد.
ومنه قول الأخطل: [البسيط]
وأقسم المجد حقّا لا يحالفهم ... حتى يحالف بطن الراحة الشّعر (3)
__________
(1) يروى البيت:
أتذكر يوم تصقل عارضيها ... بفرع بشامة سقي البشام
وهو لجرير في ديوانه ص 279، ولسان العرب (عرض)، (بشم)، وتهذيب اللغة 1/ 467، 11/ 384، وتاج العروس (عرض)، (بشم)، وديوان الأدب 1/ 353.
(2) البيت في ملحق ديوان كثير عزة ص 507.
(3) البيت في ديوان الأخطل ص 112.(2/202)
فقوله: «حقا» حشو أفاد معنى حسنا، وكذلك قول امرئ القيس: [الطويل]
كأنّ عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقّب (1)
فحول خبائنا وأرحلنا لو سقط لكان التشبيه تاما والوزن ناقصا، فأورده حشوا، وفيه زيادة بارعة رائعة، وهي الإخبار عن كثرة الصيد والتمدّح بأنه مرزوق في صيده، وما أحسن قول ابن المعتزّ رحمه الله تعالى: [الطويل]
وخيل طواها السّير حتّى كأنها ... أنابيب سمر من قنا الخطّ ذبّل (2)
صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد خفاف وأرجل
فوقع «ظالمين» أحسن موقع لأنه نفى بذلك عنها هجنة البطء، وأخذه من قول أعرابي: [الطويل]
وعود قليل الذنب عاودت ضربه ... إذا هاج شوقي من معاهدها ذكر
وقلت له ذلفاء ويحك سبّبت ... لك الضرب، فاصبر إن عادتك الصّبر
فحسّنه ابن المعتز ما شاء. وأما الحشو القبيح، فكقول أوس بن حجر: [الطويل]
وهم لمقلّ المال أولاد علّة ... وإن كان محضا في العمومة مخولا (3)
فذكره للمال مع قوله: «مقلّ» حشو لا فائدة فيه، وكذلك قول الهذلي رحمه لله:
[مجزوء الوافر]
ذكرت أخي فعاودني ... صداع الرأس والوصب (4)
فذكر الرأس مع الصداع حشو لا فائدة فيه، وأهجن منه قول الأعشى: [الكامل]
فرميت غفلة قلبه عن شأنه ... فأصبت حبّة قلبها وطحالها (5)
__________
(1) البيت في ديوان امرئ القيس ص 53، ولسان العرب (جزع)، وأساس البلاغة (جزع)، وكتاب العين 1/ 216، وتاج العروس (جزع).
(2) البيتان في نهاية الأرب 11/ 59، وديوان المعاني 2/ 107.
(3) البيت لأوس بن حجر في ديوانه ص 91، وجمهرة اللغة ص 156، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 296، ومعاهد التنصيص 1/ 135، وكتاب الصناعتين ص 35، 108، وبلا نسبة في لسان العرب (علل) وتاج العروس (علل).
(4) يروى البيت:
ذكرت أخي فعاودني ... رداع السّقم والوصب
والبيت لأبي العيال الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 424، وتهذيب اللغة 2/ 204، ولسان العرب (ردع)، وفيه «والوصب» بدل «والوصب» وهذا خطأ، والبيت من قصيدة مضمومة الروي.
(5) يروى صدر البيت:
فرميت غفلة عينه عن شاته(2/203)
فتكريره ذكر القلب لا فائدة فيه، وهجّنه بذكر «طحالها». ودون هذا قول ديك الجنّ: [الكامل]
فتنفّست في البيت إذ مزجت ... بالماء واستلّت سنا الذهب (1)
كتنفّس الريحان مازجه ... ما ورد جور ناضر الشّعب
فذكر الماء مع المزج حشو لا فائدة فيه، وأخذه من قول أبي نواس: [الكامل]
سلبوا قناع الطين عن رمق ... حيّ الحياة مشارف الحتف (2)
فتنفّست في البيت إذ مزجت ... كتنفّس الرّيحان في الأنف
فلم يذكر أبو نواس الماء مع المزج، وذكره ديك الجنّ فقصّر عنه، وزاد الحسن عليه بذكر الأنف حسنا. وذكر ديك الجنّ ماء الورد مع الريحان ولم يذكره الحسن، لأن ذكاء الريحان أكثر ما يكون إذا أصابه بلل، لكنه في ذكره ماء الورد زيادة الورد معنى بلا شك، إلّا أنه قد انضاف إليها العيوب المتقدّمة. ومع هذا فالحسن قد استوفى المعنى في بيت واحد، وديك الجنّ في بيتين، وصاحب بيت أبدا عندهم باتفاق أشعر، كقول امرئ القيس: [الطويل]
أراهنّ لا يحببن من قلّ ماله ... ولا من رأين الشّيب فيه وقوّسا (3)
فما احتوى عليه هذا البيت، أتى به علقمة في ثلاثة أبيات مشهورة، وإن كان المعنى أبسط وأجلّ فالفضل لصاحب البيت، والزمان واحد، لأنّ من قال علقمة سرقه فقد أخطأ، فأما إذا كان السابق مستوفي المعنى في بيت واحد، ويسوقه المتأخر في أبيات فالكلام في هذا، كقول امرئ القيس: [الطويل]
نمشّ بأعراف الجياد أكفّنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهّب (4)
أخذه عبدة بن الطبيب فقال: [البسيط]
لمّا نزلنا نصبنا ظلّ أخبية ... وفار باللّحم للقوم المراجيل (5)
__________
وهو للأعشى في ديوانه ص 77، ولسان العرب (حبب)، (شوه)، وكتاب العين 3/ 31، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 4/ 8، وتاج العروس (حبب)، وأساس البلاغة (حبب).
(1) البيتان في ديوان ديك الجن الحمصي ص 209.
(2) البيتان في ديوان أبي نواس ص 303.
(3) البيت في ديوان امرئ القيس ص 107، ولسان العرب (قوس)، وكتاب العين 5/ 188، ومقاييس اللغة 5/ 40، وتهذيب اللغة 9/ 223، وأساس البلاغة (قوس)، وتاج العروس (قوس).
(4) البيت في ديوان امرئ القيس ص 51، ولسان العرب (ضهب)، (مثث)، (مشش)، ومقاييس اللغة 3/ 374، والتنبيه والإيضاح 2/ 325، وكتاب العين 6/ 225، 8/ 217، وجمهرة اللغة ص 140، 356، وتاج العروس (ضهب)، (مثث)، (مشش)، (عرف)، ويروى «نمثّ» بدل «نمشّ».
(5) الأبيات في ديوان عبدة بن الطبيب ص 73، والبيت الأول بلا نسبة في الإنصاف 1/ 29.(2/204)
ورد وأشقر لم ينهئه طابخه ... ما غيّر الغلي منه فهو مأكول
ثمّت قمنا إلى جرد مسوّمة ... أعرافهنّ لأيدينا مناديل
وقال عبد الملك يوما لجلسائه، وكان يجتنب غير الأدباء: ما خير المناديل؟ فقال قائل: مناديل مصر كأنها قيض البيض، وقال آخر: مناديل اليمن، كأنها أنوار الربيع، فقال عبد الملك: ما صنعتما شيئا، أفضل المناديل ما قال أخو تميم يعني عبدة وأنشد الأبيات، وهي مع جودتها قصّرت عن بيت امرئ القيس. وكذلك قول طرفة: [الرمل]
تطرد القرّ بحرّ صادق ... وعليك القيظ إن جاء بقر (1)
وقال الأعشى: [المتقارب]
وتبرد برد رداء العرو ... س بالصّيف رقرقت فيه العبيرا (2)
وتسخن ليلة لا يستطيع ... نباحا بها الكلب إلا هريرا
الاستطراد
البحتري: أنشد أبو تمام لنفسه يهجو عثمان بن إدريس الشامي: [البسيط]
وسابح هطل التّعداء هتّان ... على الجراء أمين غير خوّان (3)
أظمى الفصوص ولم تظمأ قوائمه ... فخلّ عينيك في ظمآن ريّان
فلو تراه مشيحا والحصى فلق ... بين السنابك من مثنى ووحدان
أيقنت إن لم تثبّت أن حافره ... من صخر تدمر أو من وجه عثمان
ثم قال: ما هذا من الشعر! قلت: لا أدري، فقال: هذا هو الاستطراد، فقلت: فما معنى ذلك؟ فقال: يريك وصف الفرس، وهو يريد هجاء عثمان، فأخذه البحتري، فقال في فرس: [الكامل]
يهوي كما تهوي العقاب وقد رأت ... صيدا وينقضّ انقضاض الأجدل (4)
ما إن يعاف قذى ولو أوردته ... يوما خلائق حمدويه الأحول
وكان حمدويه عدوّا لممدوحه، فاستطرد به. ويقال: إن البحتري لما عيّر بسرقة هذا البيت أزاله من شعره. وقال دعبل: [الطويل]
__________
(1) البيت في ديوان طرفة ص 53، ولسان العرب (عكك)، وجمهرة اللغة ص 125، وكتاب العين 1/ 66، وتاج العروس (عكك).
(2) البيتان في ديوان الأعشى ص 145، والبيت الأول في الأنصاف 2/ 289، ولسان العرب (عبر)، (رقق)، (ردى)، وأدب الكاتب ص 38، والبيت الثاني في خزانة الأدب 1/ 66، والدرر 3/ 152، وهو بلا نسبة في مغني اللبيب 2/ 592، وهمع الهوامع 1/ 219.
(3) الأبيات في ديوان أبي تمام 4/ 434 (طبعة المعارف).
(4) الأبيات في ديوان البحتري ص 1745.(2/205)
فلو أنني أصبحت في جود مالك ... وعزّته ما نال ذلك مطلبي (1)
فتى شقيت أمواله بسماحه ... كما شقيت قيس بأرماح تغلب
فخرج في استطراده من مدح إلى ذم، وهو مقلوب استطراد زهير في قوله:
[البسيط]
إن البخيل ملوم حيث كان ول ... كنّ الجواد على علّاته هرم (2)
فخرج من ذم إلى مدح. وقال جرير: [الوافر]
ترى برصا بمجمع أسكتيه ... كعنفقة الفرزدق حين شابا (3)
والسابق إلى هذا المعنى والناس له تبع السموأل حيث قال: [الطويل]
وإنّا أناس لا نرى القتل سبّة ... إذا ما رأته عامر وسلول (4)
ومما يستحسن، قول بشار: [الطويل]
خليليّ من كعب أعينا أخاكما ... على دهره، إنّ الكريم معين (5)
ولا تبخلا بخل ابن قذعة إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين
إذا جئته في حاجة سدّ بابه ... فلا تلقه إلّا وأنت كمين
فقف على هذه الجملة من صناعة البديع، ففيها كفاية بعون الله سبحانه وتعالى.
* * * وأما قوله: فبرز الشيخ مجلّيا، وتلاه الفتى مصلّيا، فأصل ذلك في الخيل. ونذكر من ذلك جملة تليق بهذا الموضع، وينتظم المجلّي والمصليّ في حكاية الرشيد مع المأمون.
[قصة فرسي الرشيد والمأمون]
وذلك أن الرشيد أجرى الخيل يوما بالرّقة فوقف متلوّما حتى طلعت، فإذا في أولها
__________
(1) البيتان في ديوان دعبل بن علي ص 26.
(2) البيت في ديوان زهير بن أبي سلمى ص 152، ولسان العرب (علل)، (هرم)، وتاج العروس (علل)، (هرم)، ويروى «إنّ النجيل» بدل «إنّ البخيل».
(3) يروى صدر البيت:
ترى برصا يلوح بإسكتيها
وهو لجرير في ديوانه ص 817، ولسان العرب (أسك)، وتاج العروس (أسك)، وبلا نسبة في المخصص 38.
(4) البيت للمسوأل بن عادياء في ديوانه ص 91، وبلا نسبة في لسان العرب (سلل)، والمخصص 17/ 41، وتاج العروس (سلل).
(5) الأبيات في ديوان بشار بن برد ص 97.(2/206)
فرسان في عنان واحد، فتأملهما، فقال: فرسي والله. ثم تأمل وقال: وفرس ابني عبد الله، فجاء الفرسان أمام الخيل فرسه السابق وفرس المأمون المصلّي، فسرّ بذلك الرشيد سرورا عظيما، قال الأصمعيّ: فقلت للفضل: يا أبا العباس، هذا من أيامي، فاحتل حتى توصلني، فقال الفضل: يا أمير المؤمنين، إن الأصمعي قد أعدّ في أمر الفرسين شيئا يريد به سرور أمير المؤمنين، فقال: هات يا أصمعيّ، فقلت: يا أمير المؤمنين، كنت وابنك اليوم وفرساكما، كما قالت الخنساء وقد قيل لها: كيف تفضلين أخاك على أبيك؟
فقالت: [الكامل]
جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الحضر (1)
وهما كأنهما وقد برزا ... صقران قد حطّا إلى وكر
حتى إذا جدّ الجراء وقد ... ساوت هناك الغدر بالغدر
وعلا هتاف الناس: أيهما؟ ... قال المجيب هناك: لا أدري
برقت صحيفة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري
أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السنّ والكبر
قيل لأبي عبيد: ليس هذا في مجموع شعرها، فقال: العامة أسقط من أن يجودوا عليها بمثل هذا. فقولها: «ملاءة الحضر» تعني بها غبرة الفرسين التي أثاراها جعلتهما كملحفة يرتديانها ويتجاذبانها، وسيأتي من أخذ منها هذا المعنى ومن سبق إليه في الأربعين.
[مراتب الخيل]
ومراتب الخيل في الحلبة: السابق منها يسمى المجلّي ثم المصلّي ثم المسلّي، ثم التالي ثم المرتاح ثم العاطف ثم الحظيّ، ثم المؤمّل، ثم اللطيم، ثم السّكيت.
قال الأصمعيّ وأبو عبيدة: لم نسمع في سوابق الخيل اسما لشيء منها ممّن يوثق بعلمه إلا الثاني واسمه المصلّي، قال الأصمعي: هو من الصّلا وهو جانب ذنبه، والعاشر واسمه السّكيت، وما سواهما فإنما يسمى الثالث والرابع إلى التاسع.
وكان عند المتقي العباسي فتى راوية للخبر والشعر يأنس به، فقال ليلة لجلسائه:
عودوا إلى ذكر الخيل، فقال الفتى: يا أمير المؤمنين، حدّثني كلاب بن حمزة العقيليّ:
قال: كانت العرب ترسل خيلها أراسيل، عشرة عشرة، والقصب سبعة سبعة، فلا يدخل الحجرة من الخيل إلا ثمانية: الأول السابق المجلي لأنه جلى عن وجه صاحبه الكرب.
والثاني المصلّي لأنه وضع جحفلته على قطاة المجلّي، وهو صلاه، والصّلا عجب الذنب.
__________
(1) الأبيات في ديوان الخنساء ص 138.(2/207)
والثالث المسلّي لأنه كان شريكا في السبق فسلّى عن صاحبه بعض همّه، والرابع التالي، لأنه تلا المسلّي دون غيره، والخامس المرتاح وهو المفتعل من الراحة، لأن في الراحة خمس أصابع، فلما كان الخامس على خامسة الأصابع سمي مرتاحا، والسادس حظيّ، لأنه نال حظا فحظي به وإن قلّ، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أعطى السادس نصيبا وهو آخر حظوظ الحلبة، وسمي السابع العاطف لدخوله الحجرة لأنه قد عطف بشيء وإن خسّ إذ كان قد دخل الحجرة، الثامن المؤمّل، على القلب والتفاؤل، كما سمّي اللّديغ سليما فسمي مؤمّلا لقربه من ذوات الحظوظ. التّاسع اللطيم، لأنه لو رام الحجرة لطم دونها، لأنه أعظم جرما من السابع والثامن. العاشر السّكيت، لأن صاحبه يعلوه خشوع وذلة ويسكت خزيا وعيّا، وكانوا يجعلون في عنقه حبلا، ويحملون عليه قردا يركضه ليعيّر بذلك صاحبه.
أبو عبيدة يشدد السّكّيت، وسمي سكّيتا لأنه آخر العدد الذي يقف عليه العادّ والسّكت الوقوف، وسمّيت حلبة، لأن العرب تحلب إليها خيولها أي تضمّرها.
وأنشد ابن الأنباري أبياتا تجمعها وهي قوله: [الكامل].
جاء المجلّي والمصلّي بعده ... ثم المسلّي بعده والتّالي
والخامس المرتاح ينقص عدوه ... والعاطف الصهّال كالرّئبال
نسقا وقاد حظيّها في صهوة ... ذاك المؤمل غير ذي الأشكال
ثم اللطيم يقودها بجميعها ... قبل السّكيت العاشر الذّيّال
[في وصف الخيل]
ونذكر هنا جملة مقاطيع في أوصاف الخيل يكمل بها الغرض المقصود، قال امرؤ القيس: [الطويل]
إذا ما ركبنا قال ولدان أهلنا ... تعالوا إلى إن يأتنا الصيد نحطب (1)
وقال عمارة بن عقيل: [الخفيف]
وأرى الوحش في يميني إذا ما ... كان يوما عنانه بشمالي
وقال حبيب: [الخفيف]
مخلّق وجهه على السّبق تخ ... ليق عروس الأبناء للعرس (2)
__________
(1) البيت لامرئ القيس في ملحق ديوانه ص 389، وخزانة الأدب 4/ 292، وسمط اللآلي ص 67، وشرح شواهد المغني ص 91، والمحتسب 2/ 295، وبلا نسبة في أمالي المرتضى 2/ 191، والجنى الداني ص 227، وجواهر الأدب ص 192، وشرح الأشموني 3/ 552، ومغني اللبيب ص 30.
(2) البيتان في ديوان أبي تمام ص 169، 170.(2/208)
تقتل عشرا من النّعام به ... بواحد الشدّ واحد النّفس
وقال أيضا: [السريع]
إن زار ميدانا مضى سابقا ... أو ناديا قام إليه الجلوس (1)
نرى رزان القوم قد أسمجت ... أعينهم في حسنه وهي شوس
كأنما لاح لهم بارق ... في المحل أو زفّت إليهم عروس
سام إذا استعرضته زانه ... أعلى، رطيب وقرار يبيس
كأنما خامره أولق ... أو عارضت هامته الخندريس
عوّده الحاسد بخلا به ... ورفرفت خوفا عليه النّفوس
وقال البحتري: [الكامل]
وأغرّ في الزمن البهيم محجّل ... قد رحت منه على أغرّ محجّل (2)
كالهيكل المبنيّ إلا أنه ... في الحسن جاء كصورة في هيكل
ذنب كما سحب الرداء يذبّ عن ... عرف، وعرف كالرداء المسبل
تتوهّم الجوزاء في أرساغه ... والبدر غرة وجهه المتهلّل
وتراه يسطع في الغبار لهيبه ... لونا وشدّا كالحريق المشعل
هزج الصّهيل كأن في نغماته ... هزّات معبد في الثّقيل الأوّل
ملك العيون فإن بدا أعطينه ... نظر المحبّ إلى الحبيب المقبل
وقال عبد الله بن المعتز: [الكامل]
ولقد وطئت الغيث يحملني ... طرف كلون الصّبح حين وقد
يمشي ويعرض في العنان كما ... صدف المعشّق ذو الدلال وصدّ
جماع أطراف الصّوار فما ال ... أخرى عليه إذا جرى بأشدّ
بلّ المها بدمائهنّ ولم ... يبتلّ منه بالحميم جسد
وكأنه موج يذوب إذا ... أطلقته وإذا حسبت جمد
وقال المتنبي: [الطويل]
وعيني إلى أذني أغرّ كأنّه ... من الليل باق بين عينيه كوكب (3)
له فضلة عن جسمه في إهابه ... تجيء على صدر رحيب وتذهب
__________
(1) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 179.
(2) الأبيات في ديوان البحتري ص 1744.
(3) الأبيات في ديوان المتنبي 1/ 179.(2/209)
شققت به الظلماء أدني عنانه ... فيطغى وأرخيه مرارا فيلعب
وأصرع أيّ الوحوش قفّيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب
وما الخيل إلّا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرّب
إذا لم تعاين غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيّب
وقال ابن نباتة يصف فرسا أغرّ حمله سيف الدولة عليه: [الكامل]
قد جاءنا الطّرف الذي أهديته ... هاديه يعقد أرضه بسمائه (1)
تختال منه على أغرّ محجل ... ماء الدياجي قطرة من مائه
وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتصّ منه فخاض في أحشائه
لا تعلق الألحاظ في أعطافه ... إلا إذا كفكفت من غلوائه
وقال أيضا: [الوافر]
وأدهم يستمدّ الليل منه ... وتطلع بين عينيه الثريا
سرى خلف الصباح يطير مشيا ... ويطوي خلفه الأفلاك طيّا
فلما خاف وشك الفوت منه ... تشبّث بالقوائم والمحيّا
وقال أبو منصور، يخاطب أبا الفضل الميكالي: [الكامل]
يا مهدي الطّرف الجواد كأنما ... قد أنعلوه بالرياح الأربع
لا شيء أسرع منه إلا خاطري ... في شكر نائلك اللطيف الموقع
ولو أنني أنصفت في إكرامه ... لجلال مهديه الكريم الأروع
أقضمته حبّ القلوب لحبّه ... وجعلت مربطه سواد الأدمع
وخلعت ثم قطعت غير مضيّق ... برد الشباب لجلّه والبرقع
وقال القسطلي: [الكامل]
سامي التّليل كأنّ عقد عذاره ... في رأس غصن البانة الميّاد
يهدي بمثل الفرقدين وناب عن ... رعي السّماك بقلبه الوقاد
فكأنما أطأ الأباطح والرّبا ... بعقاب شاهقة وحيّة واد
وكأنما من تحت سوطي خارجا ... في الرّوع شعلة قادح بزناد
ولأبي تمام الأندلسي: [الكامل].
وأقبّ تتّقد البروق إذا جرى ... من غيظها حسدا بأن لم تلحق
__________
(1) الأبيات لابن نباتة السعيدي في نهاية الأرب 10/ 64.(2/210)
ملك الرياح قوائما فجرى بها ... فيكاد يأخذ مغربا من مشرق
وقال فيه أيضا: [الطويل]
وتحتي ريح تسبق الريح إن جرت ... وما خلت أن الرّيح ذات قوائم
وله في المدى سبق إلى كلّ غاية ... كأنّ لنا فيه نفوذ عزائم
وهمّة نفس نزهتها عن الونى ... فيا عجبا، حتى العلا في البهائم!
وكان للمتوكل ببطليوس فرس أخضر أغرّ محجل على كفله ست نقط بيض، فبذل كل شاعر في وصفه جهده، فما سبق الغاية إلا البّجليّ بقوله: [الرمل]
حمل البدر جواد سابح ... تقف الريح لأدنى مهله
وكأنّ الصبح قد خاض به ... فبدا تحجيله من بلله
لبس اللّيل قميصا سابغا ... فالثريّا نقط في كفله
كلّ مطلوب وإن طالت به ... رجله من أجله في أجله
والباب لا يدخل تحت الحصر، فلنكتف بهذا القدر.
* * * فلّما أنشداها الوالي متراسلين، بهت لذكاءيهما المتعادلين.
وقال: أشهد بالله أنّكما فرقدا سماء وكزندين في وعاء، وأن هذا الحدث لينفق ممّا أتاه الله، ويستغني بوجده عمّن سواه. فتب أيّها الشّيخ من اتّهامه، وثب إلى إكرامه.
فقال الشيخ: هيهات أن تراجعه مقتي، أو تعلق به ثقتي وقد بلوت كفرانه للصّنيع ومنيت منه بالعقوق الشّنيع. فاعترضه الفتى وقال: يا هذا، إن اللّجاج شؤم، والحنق لؤم، وتحقيق الظّنة إثم، وإعنات البريء ظلم. وهبني اقترفت جريرة، أو اجترحت كبيرة أما تذكر ما أنشدتني لنفسك، في إبّان أنسك.
* * * قوله: «بهت»، أي تحير. المتعادلين: المتماثلين، وشبّههما بالفرقدين لرفعتهما وتوقدهما، وأخذ الحريري هذا التشبيه من البحتري في قوله: [الكامل]
كالفرقدين إذا تأمّل ناظر
وتقدّم في الثانية، وبالزّندين لما فيهما من النار، وفي هذين من الذكاء وجعلهما في وعاء، يريد: متى التمسهما الإنسان وجد فيما وقعت عليه يده حاجته.(2/211)
وجده: غناه وما عنده من العلم. ثب: ارجع، هيهات، معناها بعد، مقتي:
محبتي، تعلق به ثقتي، يريد: لا أثق به بعد ما جربته، وبلوت كفرانه للصنيع، أي جرّبت قلة شكره لفعل الجميل معه منيت: بليت. العقوق: المقاطعة. الشنيع: المشتهر بالقبيح.
[كفران الصنيع]
ونسوق هنا في كفران الصنيع فصلا يليق بهذا الموضع، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من عباد الله عباد لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم» قلنا: من أولئك يا رسول الله؟ قال: «المتبرئ من والديه رغبة عنهما، والمتبرئ من ولده، ورجل أنعم الله عليه نعمة فكفرها» (1).
وفي التوراة: من صنع معروفا إلى أحمق فهى خطيئة تكتب عليه.
وقال الحجاج لابن الكلبي: أخبرني عن خمسة أشياء أضيعت في الدنيا. قال: نعم أصلح الله الأمير! سراج يوقد في شمس، ومطر جود في أرض سبخة، وامرأة حسناء تزفّ إلى عنّين، وطعام اجتهد صاحبه في صنعته فقدمه إلى سكران أو شبعان، ومعروف تصنعه إلى رجل لا يشكرك عليه.
عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تنفع الصنيعة إلا عند ذي حسب ودين، كما لا تنفع الرياضة إلا في نجيب».
المدائني: خرج فتيان في صيد لهم فأثاروا ضبعة فنفرت ومرّت، فاتبعوها، فلجأت إلى بيت رجل، فخرج إليهم بالسيف مسلولا، فقالوا له: يا عبد الله، لم تمنعنا من صيدنا؟ فقال: إنها استجارت بي. فخلّوا بينها وبينه، فنظر إليها فإذا هي مهزولة مضرورة، فجعل يسقيها اللبن صبوحا ومقيلا وغبوقا، حتى سمنت وحسنت حالها، فبينما هو ذات يوم متجرد عدت عليه فشقت بطنه وشربت دمه، فقال ابن عمّ له: [الطويل]
ومن يصنع المعروف في غير أهله ... يلاقي الذي لاقى مجير أمّ عامر
أعد لها لمّا استجارت بقربه ... مع الأمن ألبان اللّقاح الدرائر
فأشبعها حتى إذا ما تمكّنت ... فرته بأنياب لها وأظافر
فقل لذوي المعروف، هذا جزاء من ... يوجّه معروفا إلى غير شاكر
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبد خيرا جعل صنائعه ومعروفه في أهل الحفاظ، وإذا أراد به سوءا جعلها في أهل المضائع» وقال حسان: [الكامل]
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 3/ 440، بلفظ: «متبرّ من والديه راغب عنهما».(2/212)
إنّ الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى يصاب بها طريق المصنع (1)
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «صدقت»، وأنشد عبد الله بن جعفر هذا البيت فقال: هذا رجل يريد أن يبخّل الناس أمطر المعروف مطرا، فإن صدفت موضعه فهو الذي قصدت، وإلّا فكنت أحقّ به.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا يزهّدنك في المعروف كفر من كفره، فإنه يشكرك عليه من لم تصنعه إليه.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اصنع المعروف إلى من هو أهله، وإلى من ليس أهله، فإن أصبت أهله فقد أصبت أهله، وإن لم تصب أهله فأنت أهله». وقد قال الحريري بعد هذا: [مجزوء الكامل]
واحفظ صنيعك عنده ... شكر الصنيعة أم غمط
أي لا تفسد معروفك بالمنّ شكره من أنعمت عليه أم كفره. وغمط: ستر. وهو ضد شكر.
قوله اعترضه، أي واجهه وقابله: شؤم: نحس وطيرة، الحنق: الغضب. الظّنة:
التهمة، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث لازمات أمتي: سوء الظن، والحسد والطيرة». قيل:
ما يذهبهنّ؟ قال: «إذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فاستغفر، وإذا تطيرت فامض» (2).
إعنات: مشقة. هبني: احسبني، اقترفت واجترحت، معناهما اكتسبت. جريرة: جناية.
إبّان أنسك، أي وقت أنسي بك. [مجزوء الكامل]
سامح أخاك إذا خلط ... منه الإساءة بالغلط
وتجاف عن تعنيفه ... إن زاغ يوما أو قسط
واحفظ صنيعك عنده ... شكر الصنيعة أم غمط
وأطعه إن عاصى وهن ... إن عزّ وادن إذا شحط
واقن الوفاء ولو أخلّ ... بما اشترطت وما اشترط
واعلم بأنّك إن طلب ... ت مهذبا رمت الشّطط
من ذا الذي ما ساء قطّ ... ومن له الحسنى فقط
أو ما ترى المحبوب وال ... مكروه لزّا في نمط
__________
(1) البيت ليس في ديوان حسان بن ثابت، وهو بلا نسبة في لسان العرب (صنع)، وتهذيب اللغة 2/ 39، وتاج العروس (صنع)، وكتاب العين 1/ 305.
(2) رواه ابن الأثير الجزري في الفائق في غريب الحديث 3/ 153، بلفظ: «ثلاث لا يسلم أحد منهن: الطيرة والحسد والظن. قيل: فما نصنع؟ قال: إذا تطيّرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقّق».(2/213)
كالشوك يبدو في الغصو ... ن مع الجنيّ الملتقط
ولذاذة العمر الطّو ... يل يشوبها نغص الشّمط
ولو انتقدت بني الزّما ... ن وجدت أكثرهم سقط
رضت البلاغة والبرا ... عة والشجاعة والخطط
فوجدت أحسن ما يرى ... سير العلوم معا فقط
تجاف: تباعد. تعنيفه: لومه. زاغ: مال. قسط: جار.
قوله: وهن إن عزّ، لفظ المثل: إذا عز أخوك فهن، يروى بضم الهاء وكسرها، فالضم من هان يهون، قال ابن أحمر: [الوافر]
ذببت لها الضّراء وقلت أبقى ... إذا هزّ ابن عمك أن تهونا (1)
ورواه بالكسر أبو عبيد وثعلب، وقال أبو عبيد: معناه أن مياسرتك صديقك ليست بضيم يركبك، فتدخلك منه حميّة. إنما هو حسن خلق وتفضّل منك، فإذا عاسرك فياسره، فالضيم الّذي ذكر هو الهوان بعينه. قال ابن درستويه: معناه إذا صار أخوك عزيزا قويا عليك فأطعه واخضع له، تسلم من ظلمه. رواية الكسر من هان يهين، ويكون معنى عزّ تصعّب واشتدّ لا من العزة، ومعناه إذا صعب أخوك فلن له، والمثل لهذيل بن هبيرة وسببه أنه أغار على ضبّة فغنم، وأقبل بالمغانم، فقال له أصحابه: اقسمها بيننا، فقال:
أخاف أن يدرككم الطلب، فأبوا، فعندها قال المثل. ونزل فقسّمها.
قوله شحط، أي بعد، واقن الوفاه: أي الزمه، وقنيت الحياء بكسر النون أقنيه قنيانا، ألزمته. أخلّ: نقص. بما اشترطت وما اشترط، أي بما جعلتما بينكما من علامة، ومنه أشراط الساعة أي علاماتها ومنه الشّرط لأن لهم علامة يعرفون بها. مهذبا: مخلصا.
والشّطط: محاوزة القدر، قال الفضيل بن عياض: من طلب أخا بلا عيب بقي بلا أخ.
قال الحارث المحاسبي: ثلاثة أشياء عزيزة أو معدومة: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن الخلق مع الدّيانة، وحسن الإخاء مع الأمانة. وقال النابغة: [الطويل]
ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث، أيّ الرجال المهذب! (2)
__________
(1) يروى البيت:
دببت لها الضرّاء وقلت أبقى ... إذا عزّ ابن عمك أن تهونا
وهو في ديوان ابن أحمر ص 165، ولسان العرب (عزز)، وتاج العروس (عزز).
(2) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 28، ولسان العرب (شعث)، (بقى)، وتهذيب اللغة 1/ 406، 6/ 266، 9/ 348، وكتاب العين 5/ 230، وجمهرة اللغة ص 307، وجمهرة الأمثال 1/ 188، وفصل المقال ص 44، والمسنقصى 1/ 450، ومجمع الأمثال 1/ 23، ومقاييس اللغة 1/ 277، وأساس البلاغة (بقي)، وتاج العروس (بقي).(2/214)
وقال يزيد بن محمد المهلّبي: [الطويل]
ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها ... كفى المرء فضلا أن تعدّ معايبه (1)
قوله: «قطّ» بمعنى الدهر والأبد، والحسنى: الفعل الحسن. فقط: حسب. لزا:
ربطا النمط: ثوب من الصوف المصبوغ، والنّمط الطريق، تقول: الزم هذا النمط، والنمط النوع من العلم والخير، فيريد أن الخير والشر قد نظما في سلك واحد، فإذا أتى يوم يرضي أتى بعده يوم يسخط.
الجنّي: الطريّ مما يجنى، فعيل بمعنى مفعول، وأصل مجنىّ مجنوي فأعلّ.
والملتقط: من قولك لقطت هذه الفاكهة واحدة واحدة، أي اخترتها وانتخبتها.
أبو أمامة، قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الناس اليوم كشجرة ذات جنى، ويوشك الناس أن يعودوا كشجرة ذات شوك إن ناقدتهم ناقدوك، وإن تركتهم لم يتركوك، وإن هربت منهم طلبوك»، قيل فكيف المخرج من ذلك؟ قال: «تقرضهم من عرضك ليوم فقرك» (2)، وأنشد عمر بن الجعد: [مجزوء الرمل]
طب عن الأمّة نفسا ... وارض بالواحدة أنسا
لست بالواجد حسّا ... أو تردّ اليوم أمسا
ما وجدنا أحدا يس ... وى على الخبرة فلسا
قوله: «نغص» تكدير العيش، ونغص الرجل إذا لم يتم له أمره وتكدّر عيشه. يشوبها:
يخالطها. الشّمط: اختلاط الشيب بالسواد وانتقدت: فتشت. والسّقط: من لا خير فيه.
وللزاهد بن عمران في معنى الأبيات الحريري رحمه الله: [الوافر]
إذا وغد جفاك فلا تلمه ... لأنّك إن فعلت أثرت جيفه
وإن يصل الكريم عليك فاصفح ... ستعطفه أصالته الشريفه
ومن يك بين ذاك فأغض عنه ... تنل مجدا ومرتبة منيفه
وسل الضغن إن آنست ضغنا ... ببسط الوجه والحيل اللّطيفة
أخذ البيتين الأولين من قول حاتم: [الطويل]
وأغفر عوراء الكريم ادّخاره ... وأعرض عن شتم اللّئيم تكرّما (3)
* * *
__________
(1) البيت في تاج العروس (حبر).
(2) رواه بنحوه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 5/ 104، بلفظ: «إن نقدت الناس نقدوك».
(3) البيت لحاتم الطائي في ديوانه ص 224، وخزانة الأدب 3/ 122، 123، 124، وشرح أبيات(2/215)
قال: فجعل الشّيخ ينضنض نضنضة الصّلّ، ويحملق حملقة البازي المطلّ، ثم قال: والّذي زيّن السّماء بالشّهب، وأنزل الماء من السّحب، ما روغي عن الإصطلاح إلا لتواقّي الافتضاح، فإنّ هذا الفتى اعتاد أن أمونه، وأراعي شؤونه، وقد كان الدّهر يسحّ، فلم أكن أشحّ فأمّا الآن فالوقت عبوس، وحشو العيش بؤس حتّى إن بزّتي هذه عارة، وبيتي لا تطور به فارة.
قال: فرقّ لمقالهما قلب الوالي، وأوى لهما من غير اللّيالي، وصبا إلى اختصاصهما بالإسعاف، وأمر النّظارة بالانصراف.
* * * قوله: «ينضنض» يحرك لسانه. الصّلّ: الحية. يحملق: ينظر بحملاقه وهو باطن جفنه، وذلك نظر الغضبان. المطلّ: المشرف على فريسته، الشهب: النجوم. روغي:
فراري. توقّي: خشية. الافتضاح: الشهرة. أمونه: أتكلف لوازمه. أراعي: أحفظ.
شؤونه: أموره. يسحّ: يصب الرزق. الحشو: ما حشي به. بؤس: ضر. بزّتي: ثوبي.
عارة، أي عارية. تطوره: تقرب منه يريد أن الفأرة ليس لها فيه ما تأكل، وأخذ هذا المعنى من قول امرأة وقفت على قيس بن سعد بن عبادة، فقالت: أشكو إليك قلة الجرذان، فقال: ما أحسن هذه الكناية! املؤوا بيتها خبزا ولحما وسمنا. وقد أعاد هذا المعنى منظوما في الثالثة والثلاثين، فقال: [السريع]
وأملحت ربعي حتى خلت ... من ربعي الممحل جرذانه
وحكى الفنجديهيّ بسنده إلى أبي محمد الحسن بن إسماعيل الضرّاب، قال: كنت قاعدا أنسخ في السراج، وبين يديّ قدح فيه ماء، وظرف فيه كعك وزبيب ولوز، فجاءت فأرة فأخذت لوزة فمضت، ثم عادت فأخذت أخرى فبدّدت الماء الذي كان في القدح، فعادت الفأرة فكببت القدح عليها واشتغلت بشغلي ساعة، فإذا فأرة أخرى قد جاءت فشقشقت وبقيت ساعة على ذلك، والفأرة الأخرى تشقشق من داخل القدح، فلم تجد حيلة في خلاصها، فمضت أختها، فأتت بدينار فوضعته ووقفت، ولم أرفع القدح عن الفأرة، فمضت وأتت بدينار آخر، ووقفت ولم أرفع القدح، ففعلت ذلك إلى أن أتت بسبعة دنانير، ووقفت ساعة، ولم أخلّ عن الفأرة، فمضت وأتت بقرطاس فارغ فعلمت أنها لم يبق عندها شيء فخلّيت عن الفأرة.
__________
سيبويه 1/ 45، وشرح شواهد المغني 2/ 952، وشرح المفصل 2/ 54، والكتاب 1/ 368، ولسان العرب (عور)، واللمع ص 141، والمقاصد النحوية 3/ 75، ونوادر أبي زيد ص 110، وبلا نسبة في أسرار العربية ص 187، وخزانة الأدب 3/ 115، وشرح ابن عقيل ص 296، والكتاب 3/ 126، ولسان العرب (خصص)، والمقتضب 2/ 348.(2/216)
قال الفنجديهيّ: رويت هذه الحكاية عن أشخاص وأشياخ ثقات.
وعلى ذكر الفأرة والجرذان كتب أبو حفص الورّاق رقعة إلى الصاحب، منها:
وحال عبد مولانا في الحنطة مختلفة، وجرذان دارة عنها منصرفة، فإن رأى أن يخلط عبده بما أخصب عنده فعل إن شاء الله تعالى. فوقّع فيها: «أحسنت يا أبا حفص قولا، وسنحسن إليك فعلا، فبشّر جرذان دارك بالخصب، وأمنها من الجدب، فالحنطة تأتيك في الأسبوع، وليست عن غيرها من النفقة بممنوع. إن شاء الله تعالى».
قوله: «أوى»: أشفق. غير: تغيّر وهو من تغيّر الحال، وهو اسم واحد بمنزلة الجمع، والغير مذكّر وجمعه أغيار. هذا قول الكسائي. ويجوز أن يكون جمعا، واحدته غيرة وهذا قول ابن عمرو، يقال للدية: غيرة لأنها تغير الفؤاد إلى الرّضا به. صبا: مال.
الإسعاف: قضاء الحاجة. النّظّارة: الناس الناظرون إليه.
* * * قال الراوي: وكنت متشوقا إلى مرأى الشّيخ لعلّي أعلم علمه، إذا عاينت وسمه، ولم يكن الزّحام يسفر عنه. ولا يفرج لي فأدنو منه، فلما تقوّضت الصّفوف، وأجفل الوقوف، توسّمته فإذا هو أبو زيد والفتى فتاه، فعرفت حينئذ مغزاه فيما أتاه، وكدت أنقضّ عليه، لأستعرف إليه. فزجرني بإيماء طرفه، واستوقفني بإيماء كفّه.
* * * متشوقا: متطلعا. وسمه: علامته. يسفر: يكشف، يفرج: يفتح لي فرجة.
تقوّضت: تفرّقت، وأصلها الهدم. أجفل: أسرع المشي. توسمّته: نظرته. مغزاه: مذهبه ومقصده. انقضّ: انحط وانصبّ أستعرف إليه: أعرفه بنفسي. زجرني: انتهرني.
إيماض: إشارة بالعين خفية، وكثيرا ما يصرف الحريري في المقامات تنبيه أبي زيد لابن همام على نفسه بخفيّ الإشارة المغنية عن تصريح العبارة، وهو مذهب للعرب، ونبلاء أهل الأدب، وقد قالوا: ربّ كناية تغني عن إيضاح، ربّ لحظ يدل على ضمير.
[في إشارة اللحظ]
وفي إشارة اللحظ يقول الشاعر: [الطويل]
أشارت بطرف العين خيفة أهلها ... إشارة محزون ولم تتكلم (1)
فأيقنت أن اللحظ قد قال مرحبا ... وأهلا وسهلا بالحبيب المتيّم
وقال أبو نواس: [مجزوء الكامل]
لهفي على النّجل العيون ... النّهد القبّ البطون
__________
(1) البيتان لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص 2، 4، وبلا نسبة في شرح شذور الذهب ص 36.(2/217)
الناطقات عن الضمي ... ر لنا بألسنة الجفون
وقال المهدي بن المنصور: [الطويل]
ومطلع من نفسه ما يسرّه ... عليه من اللحظ الخفيّ دليل
إذا هو لم يبد الذي في ضميره ... ففي اللحظ والإيماء منه رسول
وقال تميم بن المعتز: [مجزوء الكامل]
سبحان من خلق الخدو ... د شقائقا تتنسّم
وأعارها الألحاظ فه ... ي بلحظها تتكلّم
وقال آخر: [البسيط]
العين تبدي الذي في نفس صاحبها ... من المحبّة أو بغض إذا كانا
والعين تنطق والأفواه صامتة ... حتى ترى من ضمير القلب تبيانا
وقال أعرابي: [الوافر]
وليل لم يقصّره رقاد ... وقصّر طوله وصل الحبيب
بمجلس لذة لم نقو فيه ... على شكوى ولا عدّ الذنوب
بخلنا أن نقطّعه بلفظ ... فترجمت العيون عن القلوب
وقال الحسن بن بشير: [السريع]
أما ترى لي ناظرا شاهدا ... بالحبّ، والأعين رسل القلوب
ودون إلحاح جفوني هوى ... يخبّر عمّا في ضمير الكئيب
وأنت لا شك به عالم ... لأنّ عند اللحظ علم الغيوب
وقال الأحوص: [البسيط]
ودّعتهنّ ولا شيء يراجعني ... إلا البنان وإلّا الأعين السّجم (1)
إذا أردن كلامي عنده عرضت ... من دونه عبرات فارعوى الكلم
مسنّدات وقد مالت سوالفها ... وما بهنّ سوى مسّ الهوى ألم
وقال ماني الموسوس: [الوافر]
بنان يد تشير إلى بنان ... تجاوبتا وما تتكلّمان
جرى الإيماء بينهما رسولا ... فأحكم وحيه المتناجيان
فلو أبصرتنا لغضضت طرفا ... عن المتحدّثين بلا لسان
__________
(1) الأبيات في ديوان الأحوص ص 222.(2/218)
والباب لا يحصى كثرة فلنقتصر على هذه اللمعة.
وقوله: «واستوقفني بإيماء كفه»: أي أمرني بالوقوف، والإيماء: الإشارة.
* * * فلزمت موقفي، وأخّرت منصرفي، فقال الوالي: ما مرامك، ولأيّ سبب مقامك؟ فابتدره الشيخ وقال: إنّه أنيسي، وصاحب ملبوسي. فتسمّح عند هذا القول بتأنيسي، ورخّص في جلوسي، ثمّ أفاض عليهما خلعتين، ووصلهما بنصاب من العين، واستعهدهما أن يتعاشرا بالمعروف، إلى إظلال اليوم المخوف. فنهضا من ناديه، مشيدين بشكر أياديه، وتبعتهما لأعرف مثواهما، وأتزوّد من فحواهما.
فلمّا أجزنا حمى الوالي، وأفضينا إلى الفضاء الخالي، أدركني أحد جلاوزته، مهيبا بي إلى حوزته، فقلت لأبي زيد: ما أظنّه استحضرني إلّا ليستخبرني، فماذا أقول؟
وفي أيّ واد معه أجول؟ فقال: بيّن له غباوة قلبه، وتلعابي بلبّه ليعلم أنّ ريحه لاقت إعصارا، وجدوله صادف تيارا، فقلت: أخاف أن يتّقد غضبه فيلفحك لهبه، أو يستشري طيشه، فيسري إليك بطشه، فقال: إني أرحل الآن إلى الرّها، وأنى يلتقي سهيل والسها!.
* * * مرامك: مرادك، مقامك: تلبّثك ووقوفك. أنيسي: صاحبي الذي أتأنس به.
فتسمّح بتأنيسي، أي أولاني منه المؤانسة، رخّص: ليّن وسهل. أفاض: صبّ. خلعتين:
كسوتين. والنصاب: عشرون دينارا، والعين: الذهب. استعهدهما: استحلفهما.
يتعاشرا: يتصاحبا. إظلال: قرب ودنو. اليوم المخوف: يوم موته. ناديه: مجلسه.
مشيدين: رافعين بشكره أصواتهما. أياديه: نعمه. مثواهما: مسكنهما. فحواهما: معنى كلامهما، ويروى: «نجواهما» أي سرّهما. أجزنا: خلّفنا، أفضينا: وصلنا. الفضاء:
المتّسع من الأرض. جلاوزته: شرطه، واحدهم جلواز والجلاز عقب ملويّ على القوس، وجلزت القوس والسوط والسكين: عصبتهما بالعقب، فسمّوا جلاوزة، لأنهم يعصبون بالسياط الناس عند الضرب، أو لأن السياط لا تفارق أيديهم، والجلز: السّدّ، وهم يربطون الناس ويشدّونهم، مهيبا: داعيا. حوزته موضعه الذي يحميه ويحوزه، استحضرني: طلب حضوري، ويستخبرني: يسألني خبره. أجول: أتصرف وأمشي، أي علّمني في أي عرض من الحديث آخذ معه، غباوة: جهل، ورجل غبيّ غير فطن. تلعابي بلبّه، أي لعبي بعقله، والتّلعاب بنية للمبالغة. يستشري: ينتشر. طيشه: خفته من الغضب. يسري: يسير. بطشه: إيقاعه وتناوله بما يكره.
الرّها: بلد من كورة الجزيرة تجاورها الرّقة وحرّان، سميت باسم صاحبها الرها بن
البلوي بن مالك بن ذعر، وهو أوّل من نزلها. وقال اليعقوبيّ: الرّها من ديار مضر، وهي مدينة رومية ذات عيون كثيرة منها عجيبة، تجري الأنهار وبها الكنيسة التي للنصارى، وهي إحدى عجائب الدّنيا الموصوفة، وكان بالرّها رجل ضعيف الحال متجمّل بين الناس، فخرج ذات يوم من منزله وعليه جبّة له، فلقيه سائل، فسأله شيئا يدفئه، فقال:(2/219)
الرّها: بلد من كورة الجزيرة تجاورها الرّقة وحرّان، سميت باسم صاحبها الرها بن
البلوي بن مالك بن ذعر، وهو أوّل من نزلها. وقال اليعقوبيّ: الرّها من ديار مضر، وهي مدينة رومية ذات عيون كثيرة منها عجيبة، تجري الأنهار وبها الكنيسة التي للنصارى، وهي إحدى عجائب الدّنيا الموصوفة، وكان بالرّها رجل ضعيف الحال متجمّل بين الناس، فخرج ذات يوم من منزله وعليه جبّة له، فلقيه سائل، فسأله شيئا يدفئه، فقال:
والله ما أملك غير جبّتي هذه فقال السائل: ألا تحب أن تكون من الذين قال الله تعالى في حقهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كََانَ بِهِمْ خَصََاصَةٌ} [الحشر: 9]، فدفعها إليه.
أنّى: كيف. سهيل والسها: كوكبان لا يلتقيان، لأن السها نجم خفيّ في بنات نعش، وبنات نعش لا تغرب أبدا في بلاد أرمينية وفي سمتها بلاد الشام والمغرب والأندلس، وسهيل لا يرى في شيء من هذه البلاد إلا رؤية لا يعتدّ بها في أيام قلائل، فلا يلتقي سهيل والسها بوجه، وإنما أخذ هذا من لفظ عمر بن أبي ربيعة حيث قال: [الخفيف]
أيّها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان (1)
هي شامية إذا ما استقلّت ... وسهيل إذا استقلّ يمان
والثريا هذه بنت عليّ بن عبد الله بن الحارث، وكانت موصوفة بالجمال وكان عمر يشبّب بها، فتزوجها سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري فنقلها إلى مصر فضرب لها عمر المثل بالكوكبين، وأبدل الحريري لفظ الثريا بالسها، وأفاد عدم الالتقاء، وسهيل هو كوكب أحمر يخيّل إليك لشدة اضطرابه به أنه يستدير، وقال المعرّي في صفته فأحسن: [الخفيف]
وسهيل كوجنة الحبّ في اللو ... ن وقلب المحبّ في الخفقان (2)
مستبدّا كأنه الفارس المع ... لم يبدو معارض الفرسان
يسرع اللمح في احمرار كما تس ... رع باللمح مقلة الغضبان
ضرّجته دما سيوف الأعادي ... فبكت رحمة له الشّعريان
قدماه وراءه وهو في العج ... ز كساع ليست له قدمان
قالو: ولا تقنع عين بعير على سهيل إلا مات من حينه.
وقد أشار المعري إلى هذا في قوله:
لا تحسبن إبلي سهيلا طالعا ... بالشأم فالمرئيّ شعلة مقبس
__________
(1) البيت الأول لعمر بن أبي ربيعة في ملحق ديوانه ص 503، والأغاني 1/ 219، وأمالي المرتضى 1/ 348، وخزانة الأدب 2/ 28، والشعر والشعراء 2/ 562، ولسان العرب (عمر)، والمقاصد النحوية 3/ 413، وللنعمان بن بشير في ديوانه ص 14، وبلا نسبة في المقتضب 2/ 329، ويروى «يجتمعان» بدل «يلتقيان»، والبيت الثاني بلا نسبة في تاج العروس (شأم).
(2) الأبيات في سقط الزند ص 433.(2/220)
ومتى طلع صرفت الإبل كلها وجوهها عن مطلعه وقابلته بأعجازها: وقال المتنبي:
[الوافر]
وتنكر قتلهم وأنا سهيل ... طلعت بموت أولاد الزناء (1)
وفي معنى تخويف ابن همام للسروجي بعقاب الوالي ما حدّث أن أبا الحسن العباس بن حيون، دخل عليه في السجن من أعلمه أن إبراهيم بن الأغلب يريد قتله، فلم يجد مفرا، فقال لمعلمه بالخبر، وأحسن في قوله: [الوافر]
تخوّفني بمخلوق ضعيف ... يهاب من المنية ما أهاب
له أجل ولي أجل وكلّ ... سيبلغ حيث بلّغه الكتاب
* * * فلمّا حضرت الوالي وقد خلا مجلسه، وانجلى تعبسه، أخذ يصف أبا زيد وفضله. ويذمّ الدّهر له، ثمّ قال: نشدتك الله، ألست الّذي أعاره الدّست؟ فقلت:
لا والّذي أحلّك في هذا الدّست، ما أنا بصاحب ذلك الدّست بل أنت الّذي تمّ عليه الدّست، فازورّت مقلتاه، واحمرّت وجنتاه، وقال: والله ما أعجزني قطّ فضح مريب، لا تكشيف معيب ولكن ما سمعت بأنّ شيخا دلّس، بعد ما تطلّس وتقلّس، فبهذا تم له أن لبس، أفتدري أين سكع، ذلك اللّكع؟ قلت: أشفق منك لتعدي طوره فظعن عن بغداد من فوره. فقال: لا قرّب الله له نوي، ولا كلأه أين ثوى فما زاولت أشدّ من نكره، ولا ذقت أمرّ من مكره، ولولا حزمة أدبه، لأوغلت في طلبه، إلى أن يقع في يدي فأوقع به، وإني لأكره أن تشيع فعلته بمدينة السّلام، فافتضح بين الأنام، وتحبط مكانتي عند الإمام وأصير ضحكة بين الخاصّ والعامّ، فعاهدني على ألا أفوه بما اعتمد، ما دمت حلا بهذا البلد.
قال الحارث بن همام: فعاهدته معاهدة من لا يتأوّل، ووفيت له كما وفى السّموأل.
* * * قوله: «انجلى»، أي زال وانكشف. نشدتك: حلّفتك. الدّست الأول هو الثوب، والثاني: المجلس، والثالث هو الأول، والرابع هو الخداع والحيلة، وقدمه في الحادية عشرة حيث قال: متى مادسته تمّ. ازورّت مقلتاه: اعوجّت عيناه وتغيّر نظرهما.
والوجنتان: ما أحاط بالعين من أسفل. أعجزني: غلبني. فضح مريب: كشف متهم.
تطّلس: لبس الطيلسان، وهو من لباس الخواص، وهو كساء خزّ. لبّس: خلط. سكع:
__________
(1) البيت في ديوان المتنبي 1/ 12.(2/221)
ذهب اللّكع: اللئيم العاجز، قال بعض أهل العلم: كان يقال: خمس خصال، من أقبح شيء فيمن كنّ فيه: الحدّة في السلطان، والكبر في ذي الحسب، والبخل في الغنيّ، والحرص في العالم، والفسق في الشيخ، وثلاث هن أحسن شيء فيمن كنّ فيه: تؤدة لغير ذلّ، وجود لغير ثواب، ونصب لغير الدنيا.
أشفق: خاف. تعدّى طوره: تجاوز قدره. ظعن: رحل. فوره: حينه. نوى: بعد وسفر. كلأه: حفظه. ثوى: أقام. زاولت: حاولت. نكره: منكره. مكره: خداعه.
أوغلت: أبعدت. أوقع به: أتناوله بالشرّ والمكروه والضّرب.
وقال أبو حازم في معنى دعاء الوالي على السّروجيّ: [مخلع البسيط]
إذا استقلت بك الرّكاب ... فحيث لا درّت السّحاب
زالت سراعا، وزلت تجري ... ببينك الظّبي والغراب
بحيث لا يرتجى إياب ... وحيث لا يبلغ الكتاب
والذي استعمل الناس في الدعاء على الغائب ألّا يرجع قول زهير: [الطويل]
* لدى حيث ألقت رحلها أمّ قشعم (1) *
وقال آخر: [الوافر]
كما سار الحمار بأمّ عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار
ومثل هذا رقية المرأة إذا سافر زوجها، قالت: نافرك القمر، وظل الشجر، شمال تشمله، ودبور تدبره، ونكباء تنكبه: شبك ولا انتقس، وتعس ولا انتعش. ثم ترمى أثره بحصاة ونواة وروثة وبعرة وتقول: حصاة حصّ أثره، ونواة نأت داره، وروثة راث خبره، وبعرة تبعره، ولو أوغل في طلبه كما ذكر فأدركه لأنشده السّروجي: [الطويل]
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع
وقال المعري: [الطويل]
إذا ما أخفت المرء جنّ مخافة ... وأيقن أنّ الأرض كفّة حابل (2)
يرى نفسه في ظل سيفك قائما ... وبينكما بعد المدى المتطاول
__________
(1) يروى البيت:
فشدّوا ولم تفزع بيوت كثيرة ... إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم
وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 22، وخزانة الأدب 3/ 15، 7/ 8، 9، 13، 17، والدرر 3/ 127، وشرح شواهد المغني 1/ 384، ولسان العرب (قشعم)، وبلا نسبة في مغني اللبيب 1/ 131، وهمع الهوامع 1/ 212.
(2) البيتان في سقط الزند ص 1075.(2/222)
وقال محمد بن هانىء رحمه الله تعالى: [الطويل]
فلا مهجة في الأرض منك منيعة ... ولو قطرت من ريق أرقط شجعم (1)
ولو أنها نيطت بمخلب طائر ... ولو أنها باتت على قرن أعصم
وقال أشجع السّلمي في الرشيد، حين بعث لإدريس بن عبد الله العلويّ من اغتاله بالمغرب: [الكامل]
أتظنّ يا إدريس أنك مفلت ... كيد الخلافة أو يقيك حذار
إن السيوف إذا انتضاها عزمه ... طالت وتقصر دونه الأعمار
هيهات ألّا أن تكون ببلدة ... لا يهتدى فيها إليك نهار
ولأبي العرب الصقلي: [الطويل]
كأنّ بلاد الله كفّك إن يسر ... بها هارب تجمع عليه الأناملا
فأين يفرّ المرء عنك بجرمه ... إذا كان يطوي في يديك المراحلا
قوله: تشيع، أي تتصل، يقال: شاع الخبر في الناس، أي اتصل بكل واحد، فاستوى علم الناس به، ويقال: سهم شائع ومشاع، إذا كان في جميع الدار فاتصل كل جزء منه بكلّ جزء منها، وأصله في الناقة، يقال: أوزعت الناقة ببولها إيزاعا، إذا فرّقته، فإذا أرسلته متصلا، قيل: أشاعت به. تحبط: تسقط وتبطل مكانتي: منزلتي. ضحكة:
يضحك الناس به وتسكين عينها للمفعول، وتحريكها للفاعل. أفوه: أنطق. اعتمد، أي قصد من الخداع. حلّا: مقيما. يتأول: يحتال ليمينه فيحملها في الباطن على غير ما أوقعها في الظاهر عليه، فيريد أنه ثبت له اليمين.
* * * [قصّة السموأل]
السموأل، هو ابن عاديا، يضرب به المثل في الوفاء، وقصة وفائه أن امرأ القيس، لما ألحّ المنذر في طلبه لحق بعمرو بن جابر بن مازن يستجير به، فقال له: يابن حجر، إني أراك في خلل من قومك، وأنا أنفس بك، أفلا أدلك على رجل لم أر أحسن جوارا منه؟ فدلّه على السموأل بتيماء، ووصف له حسبه وحصنه، فقال: ومن لي به؟ فقال:
أصحبك من يوصلك إليه، فأصحبه الربيع بن ضبع وكان الربيع يأتي السموأل ويمدحه فيحمله ويعطيه فمشوا حتى قدموا على السموأل، فأنشدوه أشعارا فعرف حقّهم، وأنزل هندا بنت امرئ القيس في قبة من أدم، وأنزل القوم في مجلس له براح، فكان عنده ما شاء، ثم طلب أن يكتب له للحارث بن أبي شمر الغسانيّ بالشّام ليوصّله إلى قيصر،
__________
(1) البيتان في ديوان ابن هانىء ص 125.(2/223)
ففعل، فاستودعه بنته وأدراعه الخمس، وهي الفضفاضة، والصافية، والمحصنة، والحريق، وأم الذيول، وكنّ لبني آكل المرار، وهم أجداده يتوارثن ملكا عن ملك.
فمضى إلى قيصر، وأقام عنده حتى جهزه بجيوش، ثم بعث له بالحلّة المسمومة، فلما لبسها تقطع لحمه، ومات. فلما بلغ خبر موته المنذر قصد تيماء حصن السموأل، فبعث إليه أن يعطيه أدراع امرئ القيس وما ترك عنده من المال، فقال له: إنما أدفع ذلك لابنته ولورثته، فحاصره في الحصن، حتى أخذ ابنا له صغيرا، فقال للسموأل إما أن تعطيني ما ترك امرؤ القيس أو أقتل ابنك وأنت تنظر إليه، فقال له: والله لا وفيت له في حياته، وأغدره بعد وفاته! اذهب، فشأنك يا بني فافعل به ما شئت، فذبحه وهو ينظر إليه، ولم يرض بالغدر، فلما جاء الموسم ذهب بالدروع فدفعها لابنته وورثته، وقال: [الوافر]
وفيت بأدرع الكنديّ إني ... إذا ما خان أقوام وفيت
وقالوا إنه كنز عظيم ... ولا والله أغدر ما حييت
بنى لي عاديا حصنا حصينا ... وبئرا كلّما شئت استقيت
فضرب به المثل في الوفاء. وانظر في الثلاثين ابتداء الحكاية.(2/224)
المقامة الرابعة والعشرون النّحويّة
حكى الحارث بن همام قال: عاشرت بقطيعة الرّبيع، في إبّان الرّبيع، فتية وجوههم أبلج من أنواره، وأخلاقهم أبهج من أزهاره، وألفاظهم أرقّ من نسيم أسحاره.
فاجتليت منهم ما يزري على الرّبيع الزّاهر، ويغني عن رنّات المزاهر وكنّا تقاسمنا على حفظ الوداد، وحظر الاستبداد، وألّا يتفرّد أحدنا بالتذاذ، ولا يستأثر ولو برذاذ. فأجمعنا في يوم سما دجنه، ونما حسنه، وحكم بالاصطباح مزنه، على أن نلتهي بالخروج، إلى بعض المروج لنسرّح النّواظر، في الرّياض النّواضر، ونصقل الخواطر، بشيم المواطر فبرزنا ونحن كالشّهور عدّه وكنّا كندمانى جذيمة مودّة.
* * * عاشرت: صاحبت.
قطيعة الربيع: بلد معروف، والربيع حاجب المنصور ومولاه، وهو [والد] الفضل ابن الربيع بن يونس بن محمد بن عبد الله بن أبي فروة، وكان أقطعه المنصور بلدا بالعراق فبناه، وبنى الناس معه، حتى صار فيه عمارات كثيرة، وهي محلّة قريبة من كوخ بغداد في أعلى غربية بغداد، فنسبت إلى الربيع.
إبّان: وقت. فصل الرّبيع: النّوار. أبلج: أحسن لونا وأنعم. أنواره: أزهاره، ونوّر النبات وأنور صار فيه النّور، وأبهج: أحسن لونا، والبهجة: حسن اللون ونسيم السّحر ريحه اللينة الباردة، وفي حديث عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى للجنّة كلّ يوم: طيبي لأهلك فتزداد طيبا»، فذلك البرد الذي تجده الناس بسحر ذلك اليوم.
وقال ابن عمّار في نسيم السّحر على الرياض فأحسن: [الطويل]
ويوم لنا بالسّدّ بين معاطف ... من النّهر تنساب انسياب الأراقم
بحيث اتخذنا الروض جارا تزورنا ... هداياه في أيدي الرّياح النّواسم
يبلّغنا أنفاسه فيردّها ... بأعطر أنفاس وأذكى لناسم
تسير علينا ثم عنّا كأنّها ... حواسد تمشي بيننا بالتّمائم
اجتليت: نظرت. يزري: يقصر، وتقول: زريت عليه إذا عبت عليه ما فعل، وأزريت به قصّرت. الزاهر: الناعم. رنات: أصوات. المزاهر: عيدان الغناء. تقاسمنا:(2/225)
ويوم لنا بالسّدّ بين معاطف ... من النّهر تنساب انسياب الأراقم
بحيث اتخذنا الروض جارا تزورنا ... هداياه في أيدي الرّياح النّواسم
يبلّغنا أنفاسه فيردّها ... بأعطر أنفاس وأذكى لناسم
تسير علينا ثم عنّا كأنّها ... حواسد تمشي بيننا بالتّمائم
اجتليت: نظرت. يزري: يقصر، وتقول: زريت عليه إذا عبت عليه ما فعل، وأزريت به قصّرت. الزاهر: الناعم. رنات: أصوات. المزاهر: عيدان الغناء. تقاسمنا:
تحالفنا. حظر: منع. الاستبداد: الانفراد بالشيء. يستأثر: يختص. رذاذ: أقل المطر، أي اتفقوا ألّا ينفرد واحد بشيء دون أصحابه. أجمعنا: عزمنا. سما دجنه: ارتفع سحابه. نما: زاد. الاصطباح: شرب الخمر بالسّحر. مزنه: مطره، وفي مثل بكورهم يقول عبد الجبار الصّقلي: [السريع]
بادر إلى اللّذات واركب لها ... سوابق اللهو ذوات المراح
من قبل أن ترشف شمس الضّحى ... ريق الغوادي من ثغور الأقاح
نلتهي: نتسلى ونتفرج. والمروج: المواضع المنخفضة الخصيبة، واحدها مرج، وسمي مرجا، لأنّ البهائم تمرج فيه أي تسيب. نسرّح: نسيب. النواظر: العيون، وبالضّاد واعم الأزهار. والخواطر: الأذهان. شيم المواطر: نظر السحاب. برزنا:
خرجنا، وجعل خروجهم في السّحر، لأن أول النهار أحمد أوقات الشرب، فقال: أوّل النهار، ألا ترى الدّواء يبكّر به، والمسافر يدلج لحاجته، لأن العقول أوّل النهار أزكى، والفطن أصحّ، وقال العطويّ: [الخفيف]
قبّح الله أوّل الناس سنّ الشرب ... ظهرا ماذا أتى من خسار!
مجلس مونق وكأس وندما ... ن وتأخيرها إلى الإظهار
نكتة في السرور بادية الشّ ... ين لأهل العقول والأبصار
إنّ شرب النبيذ سير إلى الله ... وو خير المسير صدر النّهار
ما رأينا لنشوة الصبح شكلا ... كنديم مساعد وعقار
وغناء يفتّ في عضد الحل ... م ويزري على النّهى والوقار
وأحاديث في خلال الأغاني ... كانفتاح الرّياض غبّ النّهار
وبعضهم يمدح الغبوق، ويذم الصبوح، وابن المعتز ممّن يذهب إلى ذلك.
[نديما جذيمة]
قوله: كندمانى جذيمة، أي صاحبيه على الخمر، واسمهما مالك وعقيل، وجذيمة ابن مالك بن تيم الأزديّ، وكان ملك أيام الطوائف بشاطئ الفرات وما والى ذلك إلى السواد ستين سنة.
قال ابن الكلبي: جذيمة: أول من ملك قضاعة بالحيرة، وأوّل من حذا النعال
وأدلج من الملوك، ورفع له الشمع، وكان من أفضل ملوك العرب رأيا، وأظهرهم حزما، وهو أوّل من استجمع الملك له بأرض العراق، وغزا بالجيوش، وكان به برص، فكنّت العرب عن البرص إعظاما فقالت له: جذيمة الوضّاح، وجذيمة الأبرش.(2/226)
قال ابن الكلبي: جذيمة: أول من ملك قضاعة بالحيرة، وأوّل من حذا النعال
وأدلج من الملوك، ورفع له الشمع، وكان من أفضل ملوك العرب رأيا، وأظهرهم حزما، وهو أوّل من استجمع الملك له بأرض العراق، وغزا بالجيوش، وكان به برص، فكنّت العرب عن البرص إعظاما فقالت له: جذيمة الوضّاح، وجذيمة الأبرش.
وكان عزا طسما وجديسا في منازلهم، فصادف حسان بن تبّع، قد أغار عليهما، فانصرف جذيمة. وصادفت خيول تبع سرّية له فقتلوهم، فبلغ الخبر جذيمة فقال: [المديد]
ربّما أوفيت في علم ... ترفعن ثوبي شمالات (1)
في فتوّ أنا كالئهم ... من بلايا غزوة ماتوا
ليت شعري ما أماتهم ... نحن أسرينا وهم باتوا
وكان جذيمة قد تنبّأ وتكهّن، واتخذ صنمين، وسماهما الضيزنين، ومكانهما بالحيرة معروف.
وغزا إيادا بعين أباغ، فبعثوا قوما منهم سرقوا منهم الضيزنين، وأصبحوا بهما في إياد، فأرسلوا إليه: إن صنميك أصبحا عندنا، زهدا فيك ورغبة فينا، فأعطنا عهدا ألا تغزونا، ونردهما إليك. ففعل.
وكان بلغه أن غلاما من لخم يسمى عديّ بن نصر مقيم في أخواله من إياد، وله ظرف ولبّ وأنه لحسن أن ينادم الملك، ويقوم بمجلسه. فاشترط على إياد أن يبعثوا مع الصنمين بعديّ بن نصر، وكان له جمال وظرف، فدفعوه إليه معهما فضمّه إلى نفسه.
وكان ينادمه ويسقيه فتعشّقته رقاش أخت جذيمة، فبعثت إليه: إذا سقيت أخي واستنشى، فاخطبني لك، وأشهد عليه، ففعل فلما طرب جذيمة خطبها، فأنعم عليه، وأشهد عليه، فقال له: عرّس بأهلك، ففعل، فلما أصبح غدا على جذيمة مضرّجا بالطّيب، فقال له:
ما هذه الآثار؟ فقال: آثار العرس، قال: وأيّ عرس؟ قال: عرس رقاش، فأكبّ جذيمة على الأرض، وفرّ عديّ، وطلبه جذيمة فلم يدركه. وقيل: ظفر به. وقال لرقاش:
[الخفيف]
__________
(1) البيت الأول لجذيمة الأبرش في الأزهية ص 94، 265، والأغاني 15/ 257، وخزانة الأدب 11/ 404، والدرر 4/ 204، وشرح أبيات سيبويه 2/ 281، وشرح التصريح 2/ 22، وشرح شواهد الإيضاح ص 219، وشرح شواهد المغني ص 393، والكتاب 3/ 518، ولسان العرب (شيخ)، (شمل)، والمقاصد النحوية 3/ 344، 4/ 328، وأوضح المسالك 3/ 70، ورصف المباني ص 335، وشرح الأشموني 2/ 299، وشرح التصريح 2/ 206، وشرح المفصل 9/ 40، وكتاب اللامات ص 111، ومغني اللبيب ص 135، 137، 309، والمقتضب 3/ 15، والمقرب 2/ 74، وهمع الهوامع 2/ 38، 78، والبيت الثاني لجذيمة الأبرش في طبقات فحول الشعراء ص 38، ولسان العرب (فتا)، وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب ص 588، وكتاب اللامات ص 112، والممتع في التصريف ص 551.(2/227)
حدّثيني رقاش لا تكذبيني ... أبحرّ زنيت أم بهجين
أم بعبد فأنت أهل لعبد ... أم بدون فأنت أهل لدون
فقالت له: [الخفيف]
أنت زوّجتني وما كنت أدري ... فأتاني النّساء للتزيين
ذاك من شربك المدامة صرفا ... وتماديك في الصّبا والمجون
فحبسها في قصرها، فاشتملت على حمل فأتت بغلام، وسمته عمرا، وربّته حتى ترعرع، فجمّلته وعطّرته وألبسته كسوة مثله، ثم أزارته خاله فأعجب به، وألقيت عليه محبّته، وخرج جذيمة في سنة قد أكمأت، وبسط له في روضة، وعمرو مع غلمة يجتنون الكمأة، فكانوا إذا أصابوا كمأة طيبة أكلوها، وإذا أصابها عمرو، خبأها ثم أقبلوا يتعادون وعمرو يقدمهم، ويقول: [الرجز]
هذا جناي وخياره فيه ... إذ كلّ جان يده إلى فيه (1)
فالتزمه جذيمة، وحلّ منه بمكان. ثم إن الجنّ استهوته، فطلب زمانا، وأرسل فيه في الآفاق، فلم يجد له خبرا. ثم إن عمرا أوفى على مالك وعقيل ابني فارج بن مالك بن كعب بن القيس بن حمير بن قضاعة، وقد نزلا منزلا، وهما متوجّهان إلى خاله جذيمة، ومعهما قينة، يقال له أم عمر، وهي تغنّيهما وتسقيهما، فرأت عمرا وقد تلبّد شعره وطالت أظفاره، وساءت حاله، فاحتقرته فرمت إليه بكراع من طعامها، وناولتهما، وأوكأت زقّها ولم تناول عمرا شيئا، فقال عمرو: [الوافر]
صددت الكأس عنّا أمّ عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا (2)
وما شرّ الثلاثة أمّ عمرو ... بصاحبك الّذي لا تصبحينا
فما شرب الشّراب كمثل عمرو ... وما نال المكارم فاصبحينا
فإلّا تنكري عمرا فإني ... أنا ابن عديّ حقا فاعرفينا
__________
(1) الرجز لعلي بن أبي طالب في ديوانه ص 213، والمخصص 17/ 33، ولسان العرب (جني)، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 6/ 59، 11/ 195، وديوان الأدب 4/ 89.
(2) البيت الأول لعمرو بن كلثوم في ديوانه ص 65، وشرح شواهد الإيضاح ص 172، والكتاب 1/ 222، 405، ولسان العرب (صبن)، ولعمرو بن معديكرب في ملحق ديوانه ص 213، ولعمرو بن عدي أو لعمرو بن كلثوم في خزانة الأدب 8/ 272، والدرر 3/ 87، وبلا نسبة في شرح شذور الذهب ص 302، وهمع الهوامع 1/ 201، والبيت الثاني لعمرو بن كلثوم في ديوانه ص 66، والأغاني 25/ 252، وبهجة المجالس 1/ 281، وجمهرة أشعار العرب 1/ 390، والخزانة 3/ 178، 8/ 272، وشرح ديوان امرئ القيس ص 321، وشرح القصائد العشر ص 323، وشرح المعلقات السبع ص 166، وشرح المعلقات العشر ص 88، وبلا نسبة في الإمتاع والمؤانسة 1/ 143، ولسان العرب (وبل).(2/228)
وخالي لا أبالك ذو المعالي ... جذيمة كيف ويحك تنكرينا!
فقالا له: من أنت يا فتى؟ أنا عمرو بن عديّ، فضمّاه إليهما، وغسلا رأسه، وأخذا من شعره. وقلّما أظفاره، وألبساه بعض الثياب التي كانت معهما، وقالا: ما كنا نهدي جذيمة أنفس من ابن أخته، ثم وردا به على جذيمة فسرّ به سرورا شديدا وقال: لهما تمنّيا، فسألاه أن يكونا نديميه ما عاش وعاشا، فنادماه أربعين سنة، ما أعادا عليه حديثا، فضرب بهما المثل في تأكيد الألفة، ونال مالك بن نويرة في مالك: [الطويل]
وكنّا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدّهر حتى قيل لن يتصدّعا (1)
فلمّا تفرقنا كأنيّ ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وتمثلت بهما عائشة رضي الله عنها عند قبر أخيها عبد الرحمن.
وقال أبو خراش الهذلي يرثي أخاه: [الطويل]
تقول أراه بعد عروة لاهيا ... وذلك رزء لو علمت جليل (2)
فلا تحسبي أن قد تناسيت عهده ... ولكنّ صبري يا أميم جميل
ألم تعلمي أن قد تفرّق قبلنا ... خليلا صفاء: مالك وعقيل
وغزا جذيمة عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة السميذع العمليقي من العماليق، ومنهم قوم من حمير. وكان ملك الجزيرة وملك الحضر، وهي مدينة قديمة بين دجلة والفرات، فهزم جذيمة جيوش عمرو وقتله وفرّق جموعه، وقال في ذلك شاعرهم:
[البسيط]
كأنّ عمرو بن برقا لم يكن ملكا ... ولم تكن حوله الرّايات تختفق
لاقي جذيمة في شعواء مشعلة ... فيها حراشف بالنيران ترتشق
[الزباء]
فملكت بعده الزّباء ابنته واسمها نائلة.
قال ابن الكلبيّ: ولم يكن في عصر الزباء أجمل منها جمالا، وأكمل منها كمالا،
__________
(1) البيت الأول لمتمم بن نويرة في ديوانه ص 111، وتاج العروس (حبر)، (صدع)، والبيت الثاني لمتمم بن نويرة في ديوانه ص 122، وتاج العروس (فرق)، وأدب الكاتب ص 519، والأزهية ص 289، والأغاني 15/ 238، وجمهرة اللغة ص 1316، وخزانة الأدب 8/ 272، والدرر 4/ 166، وشرح اختيارات المفضّل ص 1177، وشرح شواهد المغني 2/ 565، والشعر والشعراء 1/ 345، وبلا نسبة في الجنى الداني ص 102، ورصف المباني ص 223، وشرح الأشموني 2/ 219، وشرح التصريح 2/ 48، ولسان العرب (لوم)، ومغني اللبيب 1/ 212، وهمع الهوامع 2/ 32، وتاج العروس (لوم).
(2) الأبيات لأبي خراش الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 1192.(2/229)
وكان لها شعر إذا مشت يتدلّى وراءها، وإذا نشرته جلّلها، فسمّيت الزباء، لكثرة شعرها، فجمعت خيل أبيها وغزت بالجيوش من حواليها من الملوك، فذّللتهم، فضرب بها المثل فقيل: أعزّ من الزباء، واشتهر عنها علوّ الهمة، وسموّ القدرة، وقوّة المنعة، ومضاء العزم، وبذل الأموال. فلما استحكم ملكها أرادت أن تغزو جذيمة لتدرك فيه ثأر أبيها، فنهتها أختها زبيبة عن ذلك وقالت: لا طاقة لك به، ولكن ابني أمرك فيه على المكر والحيل. فبعثت إلى جذيمة تخطبه على نفسها، ليتّصل ملكه بملكها، فيصيرا بذلك أعزّ الملوك وكان بلغه عن جمالها ما أطمعه في الظّفر بها فأخبر أرباب دولته بمخاطبتها إيّاه، فكلّهم أشار عليه أن يتزوّجها، إلا قصير بن سعد بن عمرو وكان لبيبا عاقلا له عزم وحزم، وكان خازنه وعميد دولته فإنه قال له: هذا رأي فاتر، لأن الزباء قتلت أباها والدم لا ينام، ولك في بنات الملوك الأكفاء متّسع، فقال له الملك: إنّ النفس إلى ما تحبّ توّاقة، وإن كان القدر قد جرى بشيء فلا مفرّ عنه.
وكتبت إليه الزباء تطلب منه قدومه عليها للنكاح، وقالت له: لولا أنّ السعي في مثل هذا للرّجال أجمل، ولهم ألزم، لسرت إليك. وأهدت مع كتابها من العبيد والسلاح والأموال والذهب هديّة سنية فلما وصلت أبهجته، وحسب أن ذلك لفرط رغبتها فيه، فشاور قومه وابن أخته عمرا، فشجعوه على المسير إليها، واستخلف عمرا على ملكه، وسار في خواصّه حتى نزلوا بالفرضة، فشاور خواصّه وقصيرا في الجملة، فأشاروا عليه بالمسير إلا قصيرا، فإنه قال: أيّها الملك كلّ عزم لا يؤيّد بحزم فآخره إلى فساد ولولا أن الأمور تجري على المقدور، لعزمت على الملك ألّا يفعل، فقال جذيمة: الرأي مع الجماعة، فقال قصير: أرى القدر سابق الحذر، ولا يطاع لقصير رأي. فلما قرب من ديارها أرسل إليها يعلمها بموضعه، فأظهرت السرور به، وأخرجت له هدايا وأنواعا من الأطعمة والأشربة، فقال لقصير: كيف ترى؟ فقال قصير: من لم ينظر في العواقب لم يأمن المصائب، فاستدرك الأمر قبل فوته، وارجع فإنّ في يديك بقية تستدرك بها الصّواب، وإن كنت لا بدّ فاعلا فإن القوم إنّ تلقّوك غدا يجيء قوم ويذهب قوم، فالأمر في يديك، وإن تلقّوك صفّين فإذا توسطتهم وأحدقوا بك، فقد ملكوك، وهذه العصا وهي فرس لجذيمة تستبق الطير فسأعرضها لك فاركبها لتسلم عليها، فإنه لا يشقّ غبارها، فأرسلها مثلا.
فلما كان غد لقوه صفين، فلمّا توسطهم انقضّوا عليه، فقال لقصير: صدقت فما الرأى: فقال له: بقّة تركت الرأي، وهذه العصا، اركبها، فشغله الأمر عنها فلما رأى قصير الجيوش تسير بجذيمة أعطى العصا عنانها، فهوت به هويّ الرّيح، فتطاول إليه جذيمة ينظره، فقال: ويل له جذيمة فجرت به إلى غروب الشمس.
قال الأصمعي رحمه الله تعالى: لم تقف حتى جرت ثلاثين ميلا، ثم وقفت
فبالت، فبني على الموضع برج يسمى برج العصا وأشرفت الزباء من قصرها تنظر إلى جذيمة، وهو يساق، فقالت: ما أحسنك من عروس يزف إليّ! فدخلوا به إليها، وحولها ألف وصيفة، لا تشبه واحدة صاحبتها في خلق ولا زيّ، وهي بينهنّ كالقمر حفت به النجوم، فأمرت بالأنطاع فبسطت، وقالت للوصائف: خذن بيد سيدكنّ وبعل مولاتكنّ، فأجلسنه على الأنطاع، ففعلن به ذلك، ثم كشفت له عن شعرتها، فرأى شعرها قد طال حتى عقدته من وراء ظهرها، فقالت له: يا جذيمة أشوار ذات عروس؟ قال: بل شوار بظراء تفلة، وأمر غدر قد بلغ المدى، فقالت: والله ما ذاك من عدم المواس، ولكنها شيمة أناس.(2/230)
قال الأصمعي رحمه الله تعالى: لم تقف حتى جرت ثلاثين ميلا، ثم وقفت
فبالت، فبني على الموضع برج يسمى برج العصا وأشرفت الزباء من قصرها تنظر إلى جذيمة، وهو يساق، فقالت: ما أحسنك من عروس يزف إليّ! فدخلوا به إليها، وحولها ألف وصيفة، لا تشبه واحدة صاحبتها في خلق ولا زيّ، وهي بينهنّ كالقمر حفت به النجوم، فأمرت بالأنطاع فبسطت، وقالت للوصائف: خذن بيد سيدكنّ وبعل مولاتكنّ، فأجلسنه على الأنطاع، ففعلن به ذلك، ثم كشفت له عن شعرتها، فرأى شعرها قد طال حتى عقدته من وراء ظهرها، فقالت له: يا جذيمة أشوار ذات عروس؟ قال: بل شوار بظراء تفلة، وأمر غدر قد بلغ المدى، فقالت: والله ما ذاك من عدم المواس، ولكنها شيمة أناس.
ثم أمرت به فسقي بالخمر حتى أخذت فيه، وكانت الملوك لا تضرب أعناقها إلّا في الحرب، ثم أمرت أن تقطع رواهشه (1)، وقالت: تحفّظن بدمه، لأنه إن قطرت من دمه قطرة في غير الطشت طلب بدمه، فجرى دمه في طشت ذهب، فلما ضعفت يداه سقطتا، فقطرت على النّطع من دمه قطرات، فقالت: لا تضيّعوا دم الملوك، فقال لها «لا يحزنك دم ضيّعه أهله»، فذهبت مثلا، فقالت: إن دماء الملوك شفاء من الكلب، ووالله ما وفّي دمك ولا شفي قتلك، ثم أمرت به فدفن.
وكان عمرو بن عدي يخرج كلّ يوم لبعض الحيرة، يستطلع أمر خاله، فنظر يوما إلى فارس قد أقبل، فأشرف عليه قصير، فقال له: ما وراءك؟ فقال له: سعى القدر بالملك إلى حتفه، فاطلب بثأره، فقال عمرو: وأيّ ثأر يطلب من الزّباء، وهي أمنع من عقاب الجوّ! فقال قصير: والله لا أنام عن طلب دمه ما لاح نجم، فاجدع أنفي واضرب ظهري، ودعني وإياها. فقال عمرو: ما أنت لذلك بأهل، وقد علمت نصحك لخالي.
فقال: خلّ عني إذا، فجدع أنفه ولحق بالزباء، فقالت: ما جاء بك؟ فأشار بظهره وأنفه فقالت العرب: «لأمر ما جدع قصير أنفه!» فقالت: يا قصير، بيننا دم خطير، فقال: يا ابنة الملوك العظام لا ثأر ولا قود، ولقد أتيت فيه على ما يأتي مثلك في مثله، وقد جئتك مستجيرا بك من عمرو فإنه علم أني أشرت على خاله بالمجيء إليك، فجدع أنفي وأذني، وأوجع ظهري، وحال بيني وبين مالي وولدي، فاستجرت بك لعلمي أنّي لا أكون مع أحد أثقل عليه منك، فقالت له: أهلا وسهلا وكان يبلغها من رأيه وحزمه فاحتصّته وأنزلته واصطفته، فلما وثقت به، أخذت تستشيره في أمورها. فقال لها يوما:
إن عمرا يطلبك بخاله، والرأي أن تتخذي نفقا لعلك تحتاجين إليه، فقالت له: إنّي قد اتخذته تحت سريري، وخرجت به تحت سرير أختي وكان الفرات يشق بين قصيريهما فأظهر لها السرور، ثم قال لها: إنّ لي بالعراق أموالا كثيرة تصلح بالملوك فإن جهزتني بمال للتجارة، توصلت فيه إلى أخذ تلك الذخائر وننقلها إليك، فجهّزته. فاحتال حتى
__________
(1) الرواهش: عروق ظاهر الكف.(2/231)
وصل إلى عمرو، فجهّزه بطرف من الجواهر والخزّ والديباج والأسلحة، فرجع بها، فلما تحققت نصحه، أرسلته إلى العراق ثالث سفرة ليضرب لها بها عدّة من السلاح، ويشتري لها خيلا وعبيدا لتجهز جيشا إلى من حواليها من الملوك فمشى فيما أمرته به، وتوصل إلى عمرو، وقال: قد أصبت الفرصة من الزّبّاء، فقال عمرو: قل اسمع، ومر افعل، فأنت طبيب هذه القرحة، فقال: الرجال والمال، فقال: حكمك فيما عندي مسلّط، فعمد إلى ألفي رجل من أهل القتال، وجعلهم في غرائر سود، وجعل سلاحهم السيوف والحجف (1)، وجعل رؤوس الغرائر مربوطة من داخلها، وجعل عمرا في الحملة، وساق الخيل والعبيد، فلما قاربها بعث إليها البشير بسلامة قصير وكل ما جاء به، فسألت عن العير أين نزل؟ فقيل لها: بالغوير وكانت تنظره من غير طريق الغوير فقالت: عسى الغوير أبؤسا، وتقدّم قصير، فدخل عليها فبشّرها، فرقيت سطحا عاليا لتنظر مجيء الإبل، فنظرت قوائمها تسوخ في الأرض لما عليها من الأثقال، فقالت: يا قصير:
[الرجز]
ما للجمال مشيها وئيدا ... أجندلا يحملن أم حديدا! (2)
أم صرفانا باردا شديدا ... أم الرجال جثّما قعودا
وكانت قالت لجواريها: إني أرى الموت الأحمر في الغرائر السود، فذهبت مثلا.
فدخلت الجمال المدينة، فجسّ بواب بمخصرة في يده غرارة على آخر بعير، فأصابت المخصرة خاصرة رجل فضرط فصاح: الشرّ الشرّ، فأظهروا علامة كانت بينهم، فحلّوا رؤوس الجوالق، فخرج منها ألفا دارع بألفي سيف، فصاحوا: يا لثأر الملك المقتول غدرا! وهربت الزباء تطلب النفق إلى تحت الفرات، فسبق عمرو إلى بابه مع قصير، وكانت صورة عمرو مصورة في جانبها، فعندما رأته عرفته، وكانت جعلت تحت فصّ خاتمها سمّ ساعة فمصّت الفصّ، وقالت: بيدي لا بيد عمرو. فسقطت، وعمرو وقصير يضربانها بالسيف، فماتت بين السم والسيف، فاستباحوا بلدها بما فيه، واستولى عمرو على مملكتها. واتخذ عمرو الحيرة دار ملكه، وتوارثها بنوه واحدا واحدا إلى النعمان بن المنذر، وهو الذي أدرك زمن المصطفى صلّى الله عليه وسلم وقتله كسرى، وهو آخرهم،
__________
(1) الحجف، بالتحريك: التروس من جلود بلا خشب ولا عقب.
(2) الرجز للزباء في لسان العرب (وأد)، (صرف)، (زهق)، وأدب الكاتب ص 200، والأغاني 15/ 256، وأوضح المسالك 2/ 86، وجمهرة اللغة ص 742، 1237، وخزانة الأدب 7/ 295، والدرر 2/ 281، وشرح الأشموني 1/ 169، وشرح التصريح 1/ 271، وشرح شواهد المغني 2/ 912، وتاج العروس (وأد)، (صرف)، وشرح عمدة الحافظ ص 179، ومغني اللبيب 2/ 581، وللزباء أو للخنساء في المقاصد النحوية 2/ 448، وبلا نسبة في همع الهوامع 1/ 159، ومقاييس اللغة 6/ 78، وكتاب العين 7/ 111، والمخصص 12/ 26، وأساس البلاغة (وأد).(2/232)
وكان مقتل والد الزباء عند بعث عيسى عليه السلام. وقال ابن دريد: [الرجز]
وسيف عمرو استعلت به همته ... حتى رمى أبعد شأو المرتمى
فاستنزل الزّباء قسرا وهي من ... عقاب لوح الجوّ أعلى منتهى
* * * إلى حديقة أخذت زخرفها وازّيّنت، وتنوّعت أزاهيرها وتلوّنت، ومعنا الكميت الشّموس، والسقاة الشّموس والشّادي الذي يطرب السّامع ويلهيه، ويقري كلّ سمع ما يشتهيه. فلمّا اطمأنّ بنا الجلوس، ودارت علينا الكؤوس، وغل علينا ذمر، عليه طمر، فتجهّمناه تجهّم الغيد الشّيب، ووجدنا صفو يومنا قد شيب.
* * * [مما قيل في الرياض والبساتين]
قوله: إلى حديقة أخذت زخرفها وازينت.
نريد أن نصل باب الرياض والبساتين، إذ هي جامعة ألوان لم تدخلها الصنعة، ولم تمازجها الكلفة، مع بديع أزهارها التي سماها الله سبحانه وتعالى زينة، وزخرفا فقال تعالى: {حَتََّى إِذََا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهََا وَازَّيَّنَتْ} [يونس: 24]، وأن نجتني فيه بعض ما قالت العرب، ونقلته الرواة من الشعر المستحسن، والتشبيه المشاكل، فإن جلّ النفوس مستأنسة به ونازعة إليه، ومرتاحة لذكره، ومشتاقة إلى زمانه، ولا تكون الرياض مونقة، والأزهار مشرقة، إلّا في اعتدال الزمان، وجدّة الأيام، وهي إذا حلّت الشمس في برج الحمل، كما قال الحسن: [المنسرح]
أما ترى الشمس حلّت الحملا ... وقام وزن الزمان واعتدلا
فاشرب على جدّة الزمان وقد ... أصبح وجه الزمان مقتبلا
وغنّت الطير بعد عجمتها ... واستوفت الخمر حولها كملا
قال الأصمعي رحمه الله تعالى: سألت أعرابيّا عن الغيث، فقال: عصّلت الحياض، وأشرقت الرياض، وأخرجت الأرض زخرفها، وأنبتت من كل زوج بهيج.
وقيل لأعرابيّ: أيّ شيء رأيت أحسن؟ فقال الأعرابيّ: ظباء راتعة، في رياض يانعة، والشمس طالعة.
وقيل لآخر: صف لنا الربيع وأوجز، فقال: هو صديق النّفس بريحانه، وملك الطّرف بريعانه، مع أنه أشكل بالشبيبة، وباعث الشهوة البعيدة.
وقال إبراهيم بن السدّي: خرجت أريد نزهة نهر الأبلّة مما يلي كاظمة تميم وقصر
معبد، حتى غوّرت في مبنى أتخيّل الرياض، وأجيل ناظري في مساقط الغيث، حتى دفعت إلى أعرابيّ عند روضة غناء، عميم نبتها، زاهر نورها، يطيف بها، فقلت: يا أعرابيّ، أحسن عندك ما ترى؟ فقال: كلّا والله، سماء مظلّة وأرض مقلة، تضحك هذه عن بكاء هذه، فما شئت من درّة بيضاء، وياقوتة حمراء، وزمردة خضراء، قد نظمتها أيدي المزن في نحور الصعيد.(2/233)
وقال إبراهيم بن السدّي: خرجت أريد نزهة نهر الأبلّة مما يلي كاظمة تميم وقصر
معبد، حتى غوّرت في مبنى أتخيّل الرياض، وأجيل ناظري في مساقط الغيث، حتى دفعت إلى أعرابيّ عند روضة غناء، عميم نبتها، زاهر نورها، يطيف بها، فقلت: يا أعرابيّ، أحسن عندك ما ترى؟ فقال: كلّا والله، سماء مظلّة وأرض مقلة، تضحك هذه عن بكاء هذه، فما شئت من درّة بيضاء، وياقوتة حمراء، وزمردة خضراء، قد نظمتها أيدي المزن في نحور الصعيد.
وقال يزيد بن ماهان الأوسيّ: أتيت أرض السماوة في أنف من الربيع، وقد اكتهل النبت فلما جزت ساحة الحيّ دفعت إلى جوار كأنهنّ دمي العاج، يمشين كقضيب البان، وبين أيديهنّ روضة مشرقة، وهنّ يطفن بها، ويهبن الولوج فيها. فقلت: ما لكنّ لا تلجن الروضة، فهي أوطأ لأقدامكنّ، وأقرب لإثارة أرجها من أنوفكنّ؟ فقالت إحداهن: أحرام عندك أن يطأ بعضنا خدود بعض؟ قلت: بلى والله، قالت: فوجه الأرض أحق بالتحريم أن يحصد أو يتوسّد.
وبعث الحجاج إلى عبد الملك بجاريتين، وكتب إليه: هما عندي بمنزلة روضتين من رياض السّماوة، جاد الربيع أوّله وآخره عليهما، فاعتمّ نبتهما، ونوّر زهرهما، وحسن منظرهما، وقد بعثت إلى أمير المؤمنين بهما مباركا له فيهما.
وقد ذكرت الشعراء الغيث والرياض بألفاظ مستحسنة، ومعان مستظرفة، وتمثيل رائع، وتشبيه رائق، يبعث السرور، وينفي لوعة المحزون، ويجلب أريحية الفتوة والشباب، فنذكر هنا من محاسن أشعارها ولطائف مذاهبها في ذلك ما نرجو به أن يفي بالغرض الذي قصده وضمّنه الحريريّ صدر هذه المقامة ونوافقه، ونشرح منزعها الشريف في ذلك ونحقّقه إن شاء الله تعالى.
أنشد السّيرافيّ رحمه الله تعالى يصف روضة: [البسيط]
نضّاخة تملأ العينين بهجتها ... فيحاء حفّت بأنواع الرياحين
في ظل آس وجرجير ونرجسة ... وسوسن زان وردا بين نسرين
وكرمة ذات أعناب مذلّلة ... من كلّ أقطارها تحت الأفانين
شبّهت فيها العناقيد التي بقيت ... أولاد زنجية فطس العرانين
فتارة من يواقيت منضّدة ... وكالزّبرجد في بعض الأحايين
فعينها غدق وماؤها غبق ... وريحها ريح مسك الهند والصين
فيها زرابيّ قد بثّث ملمّعة ... يضحكن عن زهر أنواع البساتين
فعارضه حسن الكوفيّ، فقال: [البسيط]
كأنّها كاعب حسناء أبرزها ... عيد فلم تأل في طيب وتزيين
تبرّجت لتروق الناس بهجتها ... فالناس ما بين مبهوت ومفتون
والأيك مائلة الأغصان زائدة ... قد كسيت زخرفا حمر الأفانين
إذا الرّخاء جرت في نورها لفظت ... قراضة من حرير الريّ والصين
كأنما ألبست أكمامها حللا ... من وشي إسكندر أو من نصيبين
وقال عليّ بن الجهم: [البسيط](2/234)
كأنّها كاعب حسناء أبرزها ... عيد فلم تأل في طيب وتزيين
تبرّجت لتروق الناس بهجتها ... فالناس ما بين مبهوت ومفتون
والأيك مائلة الأغصان زائدة ... قد كسيت زخرفا حمر الأفانين
إذا الرّخاء جرت في نورها لفظت ... قراضة من حرير الريّ والصين
كأنما ألبست أكمامها حللا ... من وشي إسكندر أو من نصيبين
وقال عليّ بن الجهم: [البسيط]
لم يضحك الروض إلا حين أعجبه ... حسن النّبات وصوت الطّائر الغرد
بدا فأبدى لنا دنيا محاسنها ... وراحت الراح في أثوابها الجدد
ما قابلت قضب الريحان طلعته ... إلا تبيّن فيه ذلة الحسد
بين النديمين والخّلين مسرعة ... وسيره بيد موصولة بيد
فبادرته يد المشتاق تسنده ... إلى الترائب والأحشاء والكبد
لا عذّب الله إلا من يعذّبه ... بمسمع بارد أو صاحب نكد
وقال البحتريّ: [الطويل]
سقى الغيث أكناف الحمى من محلّة ... إلى الحقف من رمل اللّوى المتفاود (1)
ولا زال مخضرّ من اللون يانع ... عليه بمحمرّ من النّور حاشد
يذكرنا رؤيا الأحبة كلّما ... تنفس في جنح من الليل بارد
شقائق يحملن الندى فكأنّه ... دموع التصابي في خدود الخرائد
ومن لؤلؤ كالأقحوان منظم ... على نكت مصفرّة كالفرائد
وقال أيضا: [الخفيف]
وكأنّ الحوادث والأقحوان ال ... غضّ نظمان: لؤلؤ وفريد (2)
قطرات من السحاب وروض ... نثرت وردها عليه الخدود
وقال أيضا: [الطويل]
وقد نبّه النّوروز في غسق الدجى ... أوائل ورد كنّ بالأمس نوّما (3)
ومن شجر ردّ الربيع لباسه ... عليه كما نشّرت بردا متنممنا
وقال الحسن بن وهب: [الكامل]
طلعت أوائل للرّبيع فبشّرت ... نور الرياض بجدّة وشباب
وغدا السحاب يكاد يسحب في الثّرى ... أذيال أسحم حالك الجلباب
__________
(1) الأبيات في ديوان البحتري ص 603.
(2) البيتان في ديوان البحتري ص 722، 723.
(3) البيتان في ديوان البحتري ص 2090.(2/235)
يبكي فيضحك نورهنّ، فيا له ... ضحك تحسّر عن بكاء سحاب
وترى السماء إذا أجدّ ركابها ... فكأنما التحفت جناح غراب
وترى الغصون إذا الرياح تأرّجت ... ملتفّة كتعانق الأحباب
ولأبي زرعة الدمشقي: [الطويل]
وقد أخذت زهر الرّياض حليّها ... وألبست الأرض الفضاء الزخارف
لجين وعقيان يروق وجوهر ... تؤلّفه أيدي الربيع اللطائف
تهادي التلاع الغور مسكا وعنبرا ... تؤديه أنفاس الرياح العواصف
كأنّ أباريق المدامة بينها ... من المنظر الأعلى ظباء رواعف
ولبكر بن حماد: [المتقارب]
فسقيا لأيّامنا الذاهبات ... لقد فارقتنا بصفو الهوى
وهذا الربيع وريعانه ... يجدّد عهدا لها قد مضى
يذكّرني الورد حمر الخدود ... ولعس الشّفاه إذا ما بدا
وسوسنه صحن خد الفتا ... ة إذا برزت لمحبّ أتى
ونشر الرّياح رياح الحبيب ... تباعد موعده أو دنا
يجود بها الطّلّ وشي النّبات ... وينظمه بلآلي النّدى
ولمحمد بن يزيد: [البسيط]
وروضة صنف النوّار جوهرها ... فيها كما شئت من حسن ومن طيب
كأنّ ما تجتنيه من زخارفها ... أخلاف مستحسن الأخلاق محبوب
ما انفك للعين فيها أعين ذرف ... تبكي بدمع من الأنواء مسحوب
حتى كأن أفانين النّبات بها ... على الميادين ألوان اليعاسيب
كأنّ غدرانها بالروض محدقة ... تحبير ثوب من الموشيّ مخضوب
وقال كشاجم: [الوافر]
إلى الرّوض الذي قد زينته ... شآبيب السّحائب بالبكاء
بكين عليه فابتهجت رباه ... تباهى في زخارف نسج ماء
كأن الأقحوان بجانبيه ... عذارى يبتسمن من الحياء
وقال ابن الزّقاق: [البسيط]
وحدائق خضر المعاطف ألبست ... من حسن بهجتها ثياب زبرجد (1)
__________
(1) البيتان في ديوان ابن الزقاق ص 140.(2/236)
جرّت عليه الشمس فضل ردائها ... فيرى زبرجدهنّ تحت العسجد
وقال أيضا: [المنسرح]
وروضة عاطر بنفسجها ... عطّرها وشيها وسندسها (1)
لما غذتها السّحاب درّتها ... من فوق حوذانها ونرجسها
خاف عليه الغمام حادثة ... فسلّ سيف البرق يحرسها
وقال أيضا: [الخفيف]
نثر الورد في الغدير وقد دوّ ... حه بالهبوب نشر الرّياح (2)
مثل درع الكمى مزّقها الطّع ... ن فسالت دماه بجراح
وقال أيضا: [الكامل]
وقزازة زرقاء راق صفاؤها ... قد ضم زهر الجلنار رداؤها (3)
فاعجب لراح كأسها من فضّة ... ما إن تسيل وقد يسيل إناؤها
ومن ملح الأدباء وما تصرفوا به في الأنوار ما كتب به أبو دلف إلى ابن طاهر يعاتبه: [الطويل]
إخاؤكم كالورد ليس بدائم ... ولا خير فيمن لا يدوم له عهد
وعهدي لكم كالآس حسنا وبهجة ... له ورق خضر إذا فنى الورد
فأجابه ابن طاهر: [الطويل]
وشبّهت ودّي الورد فيما تذمّه ... وهل زهرة إلّا وسيدها الورد
إخاؤكم كالآس مرّ مذاقه ... وليس له في الريح قبل ولا بعد
ولم يأت أحد بأخبث من تشبيه ابن الرومي في ذمّ الورد:
كأنه سرم بغل حين أبرزه ... بعد الخراء وباقي الرّوث في وسطه
وقال أبو الشيص: [البسيط]
يا من تجلّى بريحان ينادمه ... من بين ورد وخيريّ ونسرين
وياسمين وعود ما يغيره ... ما كان أحسن ذا لو لم يكن دوني
وقال أبو المعلى الطائي: [الطويل]
كأن عيون النور زيّنّ بالندى ... عيون تراسلن الدموع على عذلي
__________
(1) الأبيات في ملحق ديوان ابن الزقاق ص 294.
(2) ديوان ابن الزقاق ص 130.
(3) ديوان ابن الزقاق ص 283.(2/237)
وقال أيضا: [الطويل]
ترى للنّدى فيه مجالا كأنّما ... نثرن عليه لؤلؤا فتبدّدا
قوله: حديقة، أي بستان. زخرفها، أي زينتها. تنوّعت أزاهيرها: اختلفت أنواع أزهارها.
وهذه الحديقة التي ذكر من حسنها، مثل البستان الذي دخله عروة بن الزبير مع عبد الملك بن مروان وكان عروة معرضا عن الدنيا فحين رأى في البستان الوصف الذي ذكر الحريري قال: ما أحسن هذا البستان! فقال له عبد الملك: أنت والله أحسن منه، لأنه يؤتى أكله كلّ عام وأنت تؤتي أكلك كلّ يوم، وكان عبد الملك يجب عروة ويعظّمه، على ما بين الزبيريّة والمروانية من التباغض.
وقال لابن شهاب حين وفد عليه: عند من طلبت؟ قال: عند سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وقبيصة بن ذؤيب، فقال عبد الملك: فأين أنت من عروة بن الزبير! فإنه بحر لا تكدّره الدلاء. قال ابن شهاب: فلم أبارح عروة بعد حتى مات.
قال ابن وكيع في وصف ما ذكره الحريري: [الطويل]
ألست ترى وشي الربيع تنمنما ... وما صنع الرّبعيّ فيه ونظّما
وقد حكت الأرض السماء بنورها ... فلم أر في التشبيه أيّهما سما
فخضرتها كالجوّ في حسن لونه ... وأنوارها تحكي لعينيك أنجما
فمن نرجس لما رأى حسن نفسه ... تداخله عجب به فتبسّما
وأبدي على الورد الجنّي تطاولا ... وأظهر غيظ الورد في خده دما
وزهر شقيق نازع الورد فضله ... فزاد عليه الورد فضلا وقدّما
فظل لفرط الحزن يلطم خدّه ... فأظهر فيه اللّطم جمرا مضرّما
ومن سوسن لما رأى الصّبغ دونه ... على كل أنواع الرياض تقسّما
تجلبب من زرق اليواقيت حلّة ... فأغرب في الملبوس فيها وأحكما
وأنوار منثور يخالف شكلها ... فصار بها شكل الربيع منمنما
جواهر لو قد طال فيها حياتها ... رأيت بها كلّ الملوك مختما
وقالوا أبو بكر البلويّ: [البسيط]
وروضة بات ظلّ الغيث ينسجها ... حتّى إذا التحمت أضحى يدبّجها
يبكي عليها بكاء الصبّ فارقه ... إلف فيضحكها طورا ويبهجها
إذا تنفّس فيها ريح سوسنها ... وفاح مثل خزاماها بنفسجها
أقول فيها لساقينا وفي يده ... كأس كشعلة نار إذ يوهّجها
لا تمزجنها بغير الريق منك فإن ... تبخل بذاك فدمعي سوف يمزجها
أقلّ ما بي من عينيك أنّ يدي ... إذا دنت نحو قلبي كاد ينضجها
وقال الوزير المهلّبيّ: [الكامل](2/238)
وروضة بات ظلّ الغيث ينسجها ... حتّى إذا التحمت أضحى يدبّجها
يبكي عليها بكاء الصبّ فارقه ... إلف فيضحكها طورا ويبهجها
إذا تنفّس فيها ريح سوسنها ... وفاح مثل خزاماها بنفسجها
أقول فيها لساقينا وفي يده ... كأس كشعلة نار إذ يوهّجها
لا تمزجنها بغير الريق منك فإن ... تبخل بذاك فدمعي سوف يمزجها
أقلّ ما بي من عينيك أنّ يدي ... إذا دنت نحو قلبي كاد ينضجها
وقال الوزير المهلّبيّ: [الكامل]
الورد بين مضمّخ ومضرّج ... والزّهر بين مكلّل ومتوّج
طلع النهار فلاح نور شقائق ... وبدت سطور الورد بين بنفسج
والثلج يهبط كالنّثار فقم بنا ... نصبحك بابنة كرمة لم تمزج
فكأنّ يومك في غلالة فضة ... والنبت من ذهب على فيروزج
وقال السري: [الكامل]
وحديقة ينسيك وشي برودها ... حتى تشبّهها سبائب عبقري
يجري النّسيم خلالها فكأنما ... غمست فضول ردائها في العنبر
طارت قلوب المحل تخفق بينها ... بخفوق رايات السحاب الممطر
طارت عقيقة برقه فكأنما ... صدعت ممسك غيمه بمعصفر
وقال السّلامي: [الكامل]
نسب الرّياض إلى الغمام شريف ... ومحلّها عند النسيم لطيف
أو ما ترى طرق البروق توسّطت ... أفقا كأنّ المزن فيه شنوف
واليوم من خجل الشقيق مضرّج ... خجل ومن مرض النسيم ضعيف
والأرض طرس والرياض سطوره ... والزهر شكل بينها وحروف
فأدر سقيت الرّيّ جامك إنه ... يوم على كبد الزمان خفيف
قوله: الكميت، يعني الخمر. الشّموس: التي فيها حدّة. والشّموس: السقاة الذين وجوههم كالشمس، وللسّلامي في ذلك: [البسيط]
وظبية من بنات الأنس في يدها ... ووجهها للصّبا والحسن خاتام
قد حللت لؤلؤ الأزرار عن درر ... لهن في ثغرها الفضيّ أتوام
وزارت الأرض منها مقلتان لها ... وحشيّتان وعذب الريق بسّام
والكأس للسكر التبريّ صائغة ... والماء للحبب الدرّيّ نظّام
بتنا نكفكف بالكاسات أدمعنا ... كأننا في حجور الرّوض أيتام
وهذه أشعار غريبة عجيبة، ولابن سكرة في ذلك: [البسيط]
اشرب ففي اليوم فضل لو علمت به ... بادرت باللهو واستعجلت بالطّرب
ورد الخدود وورد الروض قد جمعا ... والغيم مبتسم والشمس في الحجب
لا تحبس الكأس واشربها مشعشعة ... حتى تموت بها موتا بلا سبب
وقال سيف الدولة وذكر قوس قزح: [الطويل](2/239)
اشرب ففي اليوم فضل لو علمت به ... بادرت باللهو واستعجلت بالطّرب
ورد الخدود وورد الروض قد جمعا ... والغيم مبتسم والشمس في الحجب
لا تحبس الكأس واشربها مشعشعة ... حتى تموت بها موتا بلا سبب
وقال سيف الدولة وذكر قوس قزح: [الطويل]
وساق صبيح للصّبوح دعوته ... فقام وفي أجفانه سنة الغمض
يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فمن بين منقض عليها ومنفضّ
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا ... على الجوّ دكنا والحواشي على الأرض
يطرّزها قوس السماء بأصفر ... على أخضر في أحمر تحت مبيضّ
كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبّغة والبعض أقصر من بعض
وهذه من التشبيهات الملوكية التي لا يحضر السوقة مثلها. وقال ابن الزقاق:
[المنسرح]
وشادن طاف بالكؤوس ضحى ... فحثّها قد وضحا (1)
والرّوض يبدي لنا شقائقه ... وآسه العنبريّ قد نفحا
قلنا وأين الأقاح؟ قال لنا ... أودعته ثغر من سقى القدحا
فظلّ ساقي العقار يحجزه ... عنّا فلمّا تبسّم افتضحا
وقال أيضا: [البسيط]
نبّهته ونجوم الليل زاهرة ... والفجر منصدع والصّبح قد لاحا (2)
والليل منهزم ولّت عساكره ... والرّوض مبتسم والزهد قد فاحا
فقام يمسح عينيه براحته ... فخلته في ظلام الليل مصباحا
قوله الشادي: المغني. يلهيه: يشغله ويزيل همه. يقري: يعطي ويهدي. سمع:
أذن. ولبعضهم في غلام مغن وأجاد: [الوافر]
فديتك يا أتمّ الناس ظرفا ... وأصلحهم لمتّخذ حبيبا
فوجهك نزهة الأبصار حسنا ... وصوتك أمتع الأصوات طيبا
وسائلة تسائل عنك قلنا ... لها في وصفك العجب العجيبا
رنا ظبيا وغنّى عندليبا ... ولاح شقائقا، ومشى قضيبا
وقال ابن الزقّاق: [الطويل]
يذكّرني تحنان شدو غنائه ... على الأيك تحنان الحمام المغرّد (3)
له نغمات أفحمت كلّ صادح ... وصوت نشيد قد شجا كلّ منشد
__________
(1) الأبيات في ديوان ابن الزقاق ص 124.
(2) ديوان ابن الزقاق ص 292.
(3) ديوان ابن الزقاق ص 292.(2/240)
فدع كل ما حدّثت عن صوت معبد ... وطارح نشيدا عن نشيد ابن معبد
قوله: اطمأن، أي استقر وسكن. وغل: دخل، والواغل الداخل على الشّراب ولم يدع إليه. ذمر: شجاع، والذمر أيضا: الخبيث ذو الدهاء، وهو مخفف من ذمر، وهو الشجاع، والجمع أذمار، ومنه فلان حامي الذمار، معناه: يحمي ما يلزمه أن يحميه، وسمي ذمارا الأنّ الإنسان يذمر نفسه، أي يحرضها به، وذمرت الرجل أذمره، إذا حرّضته. طمر: خلق. تجهّمناه: عبسنا له، والجهامة: العبوس، ويقال: تجهّمني فلان بكذا، يتجهّمني بمعناه.
[مما قيل في الشيب والشباب]
الغيد: النساء الحسان اللينات الأعناق. الشّيب: الشيوخ، الواحد أشيب. شيب:
كدّر ونغص، وأوّل من نطق بهذا المعنى امرؤ القيس بقوله: [الطويل]
أراهنّ لا يحببن من قلّ ماله ... ولا من رأين الشّيب فيه وقوّسا (1)
وعلقمة في قوله: [الطويل]
إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله ... فليس له من ودّهنّ نصيب (2)
وقال حبيب في هذا المعنى فأحسن: [الخفيف]
لعب الشيب في المفارق بل ج ... دّ فأبكى تماضرا ولعوبا (3)
يا نسيب الثّغام ذنبك أبقى ... حسناتي عند الحسان ذنوبا
ولئن عبن ما رأين لقد أن ... كرن مستنكرا وعبن معيبا
لو رأى الله أن للشيب فضلا ... جاورته الأبرار في الخلد شيبا
وقال علي بن الجهم: [الخفيف]
أنكرت ما رأت برأسي وقالت ... أمشيب أم لؤلؤ منظوم
قلت أولاهما برأسي فأنّت ... أنّة يستثيرها المهموم
حسرت عنّي القناع ظلوم ... فتولّت ودمعها مسجوم
وقال عمرو الوراق: [مجزوء الكامل]
لا تطلبن أثرا بعين ... فالشيب إحدى الميتتين
__________
(1) البيت في ديوان امرئ القيس ص 107، ولسان العرب (قوس)، وكتاب العين 5/ 188، ومقاييس اللغة 5/ 40، وتهذيب اللغة 9/ 223، وأساس البلاغة (قوس)، وتاج العروس (قوس).
(2) البيت لعلقمة بن عبدة في ديوانه ص 43، وشرح اختيارات المفضل ص 1590.
(3) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 25.(2/241)
أبدى مقابح كل شي ... ن ومحا محاسن كلّ زين
فإذا رأيت الغانيا ... ت رأين منك غراب بين
ولربما نافسن في ... ك وكنّ طوعا لليدين
أيام همّتك الشبا ... ب وأنت سهل العارضين
الفنجديهي: من أحسن ما سمعت في هذا المعنى قول ابن البياضي، رحمه الله تعالى: [الكامل]
عرض المشيب بعارضيّ فأعرضوا ... وتقوّضت خيم الشباب فقوّضوا
فكأنّ في الليل البهيم توسّطوا ... حفرا وفي الصبح المنير تقبّضوا
ولقد رأيت وما رأيت بمثله ... بينا غراب البين فيه أبيض
وقال حبيب وزاد في الشيب نقاء الخد: [الكامل]
راحت غواني الحيّ عنك غوانيا ... يلبسن نأيا تارة وصدودا (1)
من كلّ سابغة الشباب إذا بدت ... تركت عميد القريتين عميدا
أزرين بالمرد الغطارف بدّنا ... غيدا ألفتهم لدانا جيدا
أحلى الرجال من النساء مواقعا ... من كان أشبههم بهنّ خدودا
حتى إذا ما الشعر سوّد وجهه ... عاد المسوّد بينهنّ مسودا
هذا من قول الأعشى: [الكامل]
وأرى الغواني لا يواصلن امرأ ... فقد الشباب وقد يصلن الأمردا (2)
ولحبيب وروي لأبي دلف: [الكامل]
نظرت إليّ بعين من لم يعدل ... لمّا تمكّن طرفها من مقتلي
لما رأت وضح المشيب بلحيتي ... صدّت صدود مفارق متحمّل
فجعلت أطلب وصلها بتلطّف ... والشّيب يغمزها بألّا تفعل
وقال محمد بن أمية: [الطويل]
رأين الغواني الشّيب لاح بعارضي ... فأعرضن عنّي بالخدود النّواضر
وكنّ إذا أبصرنني أو سمعنني ... دنون فرفّعن الكوى بالمحاجر
__________
(1) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 87.
(2) البيت في ديوان الأعشى ص 227.(2/242)
وللشريف الرضيّ رحمه الله: [الكامل]
قالوا المشيب فعم صباحا بالنّهي ... واعقر مراحك للطّروق الزائر (1)
لو دام لي ودّ الكواعب لم أبل ... بطلوع شيب وابيضاض غدائر
لكنّ شيب الرأس إن يك طالعا ... عندي فوصل البيض أوّل عابر
إن أعرضت عنه الخدود فطالما ... عطفت له بسوالف ومحاجر
ولقد يكون وماله من عاذل ... واليوم عاد وماله من عاذر
كان السّواد سواد عين حبيبه ... فغدا البياض بياض عين الناظر
لو لم يكن في الشيب إلّا أنه ... عذر الملول وحجة للهاجر
وقال أيضا: [الوافر]
لجام الشيب ثنى لي جيادي ... ورباني لعذّالي وراضا (2)
لو عنّي الخدود من الغواني ... وغمّض عنّي الحدق المراضا
وصار بياضه عندي سوادا ... وكان سواده عندي بياضا
ودخل أبو دلف على المأمون، وقد ترك الخضاب، فغمز جارية عنده أن تعبث به، فقالت: شبت يا أبا دلف، إنا لله وإنا إليه راجعون! فسكت عنها، فقال له المأمون:
أجبها، فأطرق برأسه ثم رفعه، فقال: [البسيط]
تهزّأت إذ رأت شيبي فقلت لها ... لا تهزئي من يطل عمر به يشب
شيب الرجال لهم زين ومكرمة ... وشيبكنّ لكنّ الويل فاكتئبي
فينا لكنّ وإن شيب بدا أرب ... وليس فيكنّ بعد الشيب من أرب
* * * إلّا أنّه سلّم تسليم أولي الفهم، وجلس يفضّ لطائف النّثر والنّظم، ونحن ننزوي من انبساطه، وننبري لطيّ بساطه، إلى أن غنّى شادينا المغرب، ومغرّدنا المطرب: [الوافر]
إلام سعاد لا تصلين حبلي ... ولا تأوين لي ممّا ألاقي
صبرت عليك حتّى عيل صبري ... وكادت تبلغ الرّوح التّراقي
وها أنا قد عزمت على انتصاف ... أساقي فيه خلّي ما يساقي
__________
(1) الأبيات في ديوان الشريف الرضي ص 370.
(2) الأبيات في ديوان الشريف الرضي ص 422.(2/243)
فإن وصلا ألذّ به فوصل ... وإن صرما فصرم كالطّلاق
قال: فاستفهمنا العابث بالمثاني، لم نصب الوصل الأوّل ورفع الثاني؟
فأقسم بتربة أبويه، لقد نطق بما اختاره سيبويه.
قوله: «يفضّ» يكسر. لطائم: أوعية الطيب، وجعلها للكلام مجازا. ننزوي ننقبض. وننبري: نبادر. لطيّ بساطه: لقطع كلامه. المغرب: الحسن الغناء الآتي بالغريب فيه. والشادي والمغرّد واحد وهو المغني. المطرب: الآتي بالطّرب وهو الاهتزاز بالسرور، وقد يكون من شدة الحزن، وقال ابن رشيق في مغنّ: [الخفيف]
غنني يا مجوّد الخلق عندي: ... «حيّ بحدا ومن بأكناف نجد»
واسقني ما يصير ذو البخل منها ... حاتما والجبان عمرو بن معدي
في زمان الشباب عاجلني الشي ... ب فهذا أوائل الدنّ دردي
وقال البجلي في مغنية: [الوافر]
ولاعبة الوشاح بغصن بان ... لها أثر بتقطيع القلوب
إذا استولت طريق العود نقرا ... وغنّت في محبّ أو حبيب
فيمناها يفدّيها فؤادي ... ويسراها تفدّيها ذنوبي
قوله: تأوين، أي تشفقين. عيل: غلب، وأنث الروح لأنه ذهب به إلى النفس، قال ابن ظفر: الرّوح الذي يكون به الحياة، وإذا فارق الجسد كان الموت، والنفس التي بها العقل وهي المقبوضة عند النوم، ولا معنى للإكثار في هذا لأن الشارع ليس له فيه قول يعوّل عليه، ولا للحواس على إدراكه حول فنهتدي إليه.
التراقي: العظمان المعوجّان أعلى الصدر: خلّي: صاحبي. صرم: قطيعة، ويستقبح عندهم مجازاة الحبيب على إساءته، كبيت امرئ القيس: [الطويل]
* فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل (1) *
وقول طرفة: [الرمل]
وإذا تلسنني ألسنها ... إنّني لست بموهون فقر (2)
__________
(1) صدره:
وإن كنت قد ساءتك منّي خليقة
والبيت لامرئ القيس في ديوانه ص 13، وأساس البلاغة (ثوب). وكتاب الجيم 7/ 257، ولسان العرب (ثوب)، وبلا نسبة في لسان العرب (نظف)، وتاج العروس (ثوب).
(2) البيت في ديوان طرفة بن العبد ص 53، ولسان العرب (فقر)، (لسن)، (وهن)، وتهذيب اللغة 6/(2/244)
وقول الأعرابيّ: [الكامل]
إن كان أهلك يمنعونك رغبة ... عنّي فأهلي بي أضنّ وأرغب
والمستحبّ عندهم قول ابن ربيعة: [الوافر]
ألا يا من أحبّ بكلّ نفسي ... ومن هو من جميع الناس حسبي
ومن يظلم فأغفره جميعا ... ومن هو لا يهمّ بغفر ذنبي
وقال أبو نواس: [الوافر]
جنان تسبّني ذكرت بخير ... وتزعم أنني رجل خبيث (1)
وأن مودتي كذب ومين ... وأني للذي يطوى بثوث
وما صدقت ولا ردّ عليها ... ولكنّ الملول هو النّكوث
ولي قلب ينازعني إليها ... وشوق بين أضلاعي حثيث
رأت كلفي بها ودوام عهدي ... فملّتني كذا كان الحديث
وقال ابن شهيد: [البسيط]
كلفت بالحب حتى لو دنا أجلي ... لما وجدت لطعم الموت من ألم
وعاقني كرمي عمّن ولهت به ... ويلي من الحبّ أو ويلي من الكرم
وأطرب من شعر المقامة لغناء، ما حكي أن القاضي أبا عبد الله محمد بن عيسى من بني يحيى، خرج إلى حضور جنازة، وكان رجل من إخوانه ينزل بقرب مقبرة قريش، فعزم عليه بالميل إليه، فنزل وأحضر له طعاما، وغنّت جاريته: [الكامل]
طابت بطيب لثاتك الأقداح ... وزها بحمرة وجهك التّفّاح
وإذا الربيع تنسّمت أرواحه ... نمّت بعرف نسيمك الأرواح
وإذا الحنادس ألبست ظلماءها ... فضياء وجهك في الدّجى مصباح
فكتبها القاضي طربا بها على ظهر يده، ثم خرج. قال الراوي: فلقد رأيته يكبّر على جنازة والأبيات على ظهر يده.
وقال إبراهيم بن المهدي: دخلت يوما على الرشيد وفي رأسه فضلة خمار، وبين يديه المغنون، فقال: يا إبراهيم، بحقّي عليك غنّني، فأخذت العود فغنيته من أشعار جرير: [الكامل]
__________
446، 12/ 426، وكتاب العين 7/ 256، وديوان الأدب 2/ 137، وتاج العروس (فقر)، (لسن)، (وهن)، ومقاييس اللغة 5/ 295، وفيه «نثر» بدل «فقر» ومجمل اللغة 4/ 275، وهو بلا نسبة في المخصص 2/ 113، وأساس البلاغة (لسن).
(1) الأبيات في ديوان أبي نواس ص 369.(2/245)
أسرى لخالدة الخيال ولا أرى ... شيئا ألذّ من الخيال الطارق (1)
إن البليّة من تملّ حديثه ... فاتبع حديثك من حديث الوامق
أهواك فوق هوى النّفس ولم يزل ... مذ بنت قلبي كالجناح الخافق
شوقا إليك ولم تجار مودتي ... ليس المكذّب كالحبيب الصادق
وقال ابراهيم الموصلي لابن جامع: لو هذا طلب الغناء كما نطلبه، ما أكلنا معه الخبز، فقال ابن جامع: صدقت.
ومما ينتظم في هذا النمّط ويغنّى به قول الآخر: [البسيط]
قال الوشاة لهند عن تصارمنا ... ولست أنسى هوى هند وتنساني
قد قلت حين بدا لي بخل سيدتي ... وقد تتبع في بثي وأحزاني
هل تعلمين وراء الحب منزلة ... تدني إليك فإنّ الحب أقصاني
والحريري لم يتعرض بشعره في هذا، لأنه بنى البيت في المسألة، لكن فيما ذكرناه زيادة بيان، وأنه يجب أن يختار المغني، ما يتلقّى للغناء من كل جهاته بالاستحسان.
قوله: العابث بالمثاني، أي اللاعب بأوتار عود الغناء. ومما يستحسن في وصف العود قول ابن القاضي: [البسيط]
جاءت بعود تناغيه ويسعدها ... فانظر بدائع ما خصّت به الشجر
غنّت على عودها الأطيار مفصحة ... غضا فلمّا ذوى غنّى به البشر
فلا يزل عليه أو به طرب ... يهيجه الأعجمان: الطير والوتر
وقال ابن شرف: [الطويل]
سقى الله أرضا أنبتت عودك الذي ... زكت منه أغصان وطابت مغارس
تغنّى عليه الطير والعود أخضر ... وغنى عليه الغيد والعود يابس
ومما قيل في ذم مغنّ: [الكامل]
لو أبصرت عيناك بشرا جالسا ... والعود في يده يبثّ وساوسا
لرأيت منه فتى تحبّ بأن ترى ... في الرأس منه مشاورا وطنافسا
فإذا تربّع لا تربع بعدها ... وبدا يحرّك عوده متنافسا
فكأنّ جرذان المدينة كلها ... في عوده يقرضن خبزا يابسا
__________
(1) الأبيات في ديوان جرير ص 389، والبيت الثاني لجابر في لسان العرب (ومق).(2/246)
المثاني: أوتار بالعود، معروفة على سائر أوتاره. بتربة أبويه، يريد عظامهما التي تصير ترابا في القبر، ولذلك أقسم بالقبر.
[سيبويه]
وأما سيبويه ففارسيّ، مولى لبني الحارث بن كعب، واسمه عمرو بن عثمان بن قنبر، وتفسير سيبويه بالفارسية ريح التفاح، وهو لقب له لأنه كان من أطيب الناس رائحة، وأجلّهم وجها، وقد أشرنا إلى ذلك في العاشرة. وقيل: معنى «سي» ثلاثون و «بويه» رائحة التفاح، فكأنّ معناه: الذي ضعف طيب رائحته ثلاثين مرة. وقيل: إن أمه كانت ترقّصه بذلك وهو صغير فلزمته.
وولد بالبيضاء، وهي قرية بشيراز من عمل فارس ونشأ بها، وقدم البصرة في أوّل أيامه ليكتب الحديث، فلزم حلقة حماد بن سلمة فاستملى عليه يوما قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم:
«ليس من أصحابي إلا من لو شئت لأخذت عنه ليس أبا الدرداء» فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء، بالرفع، وظنه اسم ليس، فقال حمّاد: لحنت يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبت، إنما ليس هنا استثناء، فقال سيبويه: سأطلب علما ليس يلحّنني فيه أحد، فلزم الخليل، فبلغ في علم النحو الغاية، وضرب به في ذلك المثل وهو أوّل من بسط طريقته، وشرّع شريعته، وكتابه الإمام في النحو، الذي لم يصنع قبله ولا بعده مثله، وغاية لأئمة فهمه.
وأخذه الأخفش عنه.
وقيل ليونس: ألّف سيبويه كتابا نحوا من ألف ورقة في علم الخليل، فقال: متى سمع سيبويه هذا كله! فأتي بكتابه، فنظر فيه فقال: يجب أن يكون صدق عن الخليل، كما صدق فيما حكاه عنّي.
وناظر الأصمعيّ سيبويه، فغلبه الأصمعيّ بلسانه فقال يونس: الحقّ مع سيبويه.
وكانت في لسانه حبسة، وقلمه أبلغ من لسانه. قال أبو زيد: كان سيبويه يختلف إليّ وهو غلام له ذؤابتان، وإذا قال في كتابه: حدّثني من أثق به، فإنما يعنيني.
قال الأخفش: كان سيبويه إذا وضع شيئا من كتابه عرض عليّ وهو يرى أنّي أعلم منه، وكان أعلم منّي.
والأخفش هذا هو سعيد بن مسعدة مولى بني مجاشع، يكنى أبا الحسن، وهو الذي أخذ الكتاب عن سيبويه، وهو أكبر من سيبويه، وصحب الخليل. وأما الأخفش الكبير شيخ سيبويه فهو عبد الحميد بن عبد المجيد، يكنى أبا الخطاب وهو الأخفش الكبير، ويونس هو ابن حبيب، يكنى أبا عبد الرحمن مولى بني ضبّة، أخذ النحو عن حماد بن سلمة وعن أبي عمرو بن العلاء، وقيل: إنه جاوز المائة في سنّه ولما فاق سيبويه في علم النحو أهل عصره، وبرّز فيه على نظرائه من أهل دهره، سمع أن الكوفيين ظهروا ببغداد
عند الرشيد بعلم النحو، وهم الكسائي وأصحابه، فقصدهم ببغداد، وناظرهم بحضرة الرشيد وبحضرة يحيى بن برمك.(2/247)
والأخفش هذا هو سعيد بن مسعدة مولى بني مجاشع، يكنى أبا الحسن، وهو الذي أخذ الكتاب عن سيبويه، وهو أكبر من سيبويه، وصحب الخليل. وأما الأخفش الكبير شيخ سيبويه فهو عبد الحميد بن عبد المجيد، يكنى أبا الخطاب وهو الأخفش الكبير، ويونس هو ابن حبيب، يكنى أبا عبد الرحمن مولى بني ضبّة، أخذ النحو عن حماد بن سلمة وعن أبي عمرو بن العلاء، وقيل: إنه جاوز المائة في سنّه ولما فاق سيبويه في علم النحو أهل عصره، وبرّز فيه على نظرائه من أهل دهره، سمع أن الكوفيين ظهروا ببغداد
عند الرشيد بعلم النحو، وهم الكسائي وأصحابه، فقصدهم ببغداد، وناظرهم بحضرة الرشيد وبحضرة يحيى بن برمك.
وناظره الكسائيّ، وقيل الفراء بحضرة الكسائي في المسألة الزنبورية المشهورة، وقد ذكرناها في الرابعة والثلاثين، وكان فيما ذكر الظهور لسيبويه، وتراضوا بينهم بشهادة الأعراب الحاضرين بباب الخليفة، فقدم الكوفيون بجانبهم عند الخليفة للأعراب من لغتهم أن يجيبوا بموافقة قول الكوفيين، فأجابوا بذلك، فخرج سيبويه خجلا وكاد يموت غمّا، فزعموا أنهم شفعوا للرشيد لئلا يرجع مغلوبا خائبا فأمر له بعشرة آلاف درهم، فانبعث إلى الأهواز ولم يعرّج على البصرة. فأقام هناك مدة مديدة إلى أن مات.
وحكي أنه لما انصرف عنهم مغموما لقي الأخفش سعيد بن مسعدة، فأخبره بتألبهم عليه، فدخل الأخفش، فسأل الكسائيّ عن مائة مسألة فخطّأه فيها كلّها، فقال له: أنت سعيد بن مسعدة؟ فقال: نعم، فسأله أن يؤدب أولاده فأجابه. وقرأ عليه الكسائي كتاب سيبويه، وأعطاه سبعين دينارا.
ويروى أنه لما بلغ الكسائيّ موته، قال للرشيد: يا أمير المؤمنين، أدّ عني ديته، فإني أخاف أن أكون شاركت في موته.
وقيل: إنه مات من ذرب المعدة.
وقيل: إنه لما خرج عنهم سأل من يرغب من الملوك في النحو، فقيل له: طلحة ابن طاهر بخراسان، فقصده، فلما انتهى إلى ساوة مرض ومات.
ولما احتضر وضع رأسه في حجر أخيه، فقطرت دمعة من دموعه على خدّه، فرفع عينيه إليه، وقال: [الطويل]
أخيّين كنا فرّق الدهر بيننا ... إلى الأمد الأقصى، ومن يأمن الدّهرا!
ثم قال عند موته: [المتقارب]
نؤمّل دنيا لنبقى بها ... وتأتي المنية دون الأمل
حثيثا يروّي أصول الفسيل ... فعاش الفسيل ومات الرّجل
وفيه أنه مات بشيراز وقبر بها سنة ثمانين. وقيل سنة أربع وتسعين ومائة قال أبو سعيد الصولي: رأيت على قبره مكتوبا لسليمان بن يزيد: [الكامل]
ذهب الأحبة بعد طول تزوار ... ونأى المزار فأسلموك وأسرعوا
تركوك أوحش ما تكون بقفرة ... لم يؤنسوك وكربة لم يدفعوا
قضي القضاء وصرت صاحب حفرة ... عنك الأحبّة أعرضوا وتصدّعوا
* * *
فتشعبت حينئذ آراء الجمع، في تجويز النّصب والرّفع، فقالت فرقة: رفعهما هو الصّواب، وقالت طائفة: لا يجوز فيهما إلا الانتصاب، واستبهم على آخرين الجواب، واستعر بينهم الاصطخاب، وذلك الواغل يبدي ابتسام ذي معرفة، وإن لم يفه ببنت شفة، حتّى إذا سكنت الزّماجر، وصمت المزجور والزّاجر. قال: يا قوم، أنا أنبّئكم بتأويله، وأميّز صحيح القول من عليله إنه ليجوز رفع الوصلين ونصبهما، والمغايرة في الإعراب بينهما، وذلك بحسب اختلاف الإضمار، وتقدير المحذوف في هذا المضمار. قال: ففرط من الجماعة إفراط في مماراته، وانخراط إلى مباراته.(2/248)
ذهب الأحبة بعد طول تزوار ... ونأى المزار فأسلموك وأسرعوا
تركوك أوحش ما تكون بقفرة ... لم يؤنسوك وكربة لم يدفعوا
قضي القضاء وصرت صاحب حفرة ... عنك الأحبّة أعرضوا وتصدّعوا
* * *
فتشعبت حينئذ آراء الجمع، في تجويز النّصب والرّفع، فقالت فرقة: رفعهما هو الصّواب، وقالت طائفة: لا يجوز فيهما إلا الانتصاب، واستبهم على آخرين الجواب، واستعر بينهم الاصطخاب، وذلك الواغل يبدي ابتسام ذي معرفة، وإن لم يفه ببنت شفة، حتّى إذا سكنت الزّماجر، وصمت المزجور والزّاجر. قال: يا قوم، أنا أنبّئكم بتأويله، وأميّز صحيح القول من عليله إنه ليجوز رفع الوصلين ونصبهما، والمغايرة في الإعراب بينهما، وذلك بحسب اختلاف الإضمار، وتقدير المحذوف في هذا المضمار. قال: ففرط من الجماعة إفراط في مماراته، وانخراط إلى مباراته.
* * * قوله: تشعبت، تفرقت، وشعبت الشيء: فرّقته وجمعته، وهو من الأضداد.
ورجل شعاب: يضم ويجمع. آراء: جمع رأي. واستبهم: استغلق. استعر: اتقّد.
الاصطخاب: اختلاط الأصوات، وقد صخب صخبا. بنت شفة: كلمة.
[مما ورد في اختلاف النحويين]
ومثل اختلاف هذه الجماعة على المعاني في رفع «وصل» وخفضه، اختلاف أصحاب الواثق على جارية غنّت بحضرته: [الكامل]
أظلوم إنّ مصابكم رجلا ... أهدى السّلام تحية ظلم
وذكر الحريري في الدرّة: أن أبا العباس المبرد ذكر أن أبا عثمان المازني قصده بعض أهل الذمة ليقرأ عليه كتاب سيبويه، وبذل له مائة دينار، فامتنع أبو عثمان من قبول بذله، فقلت له: جعلت فداك! أتترك هذه النفقة، مع فاقتك وشدّة إضاقتك؟ فقال: إن هذا الكتاب يشتمل على ثلثمائة كذا وكذا آية من كتاب الله تعالى، ولست أرى أن أمكّن منه ذميّا، غيرة على كتاب الله وحميّة له.
قال: فاتفق أن غنّت جارية بحضرة الواثق بقول العرجي: أظلوم البيت، فاختلف من بالحضرة في إعراب «رجل» فمنهم من نصبه بأن على أنه اسمها، ومنهم من رفعه على أنه خبرها، والجارية مصرّة على أن شيخها أبا عثمان لقّنها إياه بالنصب، فأمر الواثق بإحضاره. قال أبو عثمان: فلما مثلت بين يديه قال: ممّن الرجل؟ قلت: من بني مازن، قال: من أيّ الموازن؟ أمازن تميم أم مازن قيس؟ أم مازن أم ربيعة؟ فقلت: من مازن ربيعة، فكلمّني بكلام قومي وقال لي: باسمك؟ يريد ما اسمك وهم يقلبون الميم باء والباء ميما إذا كان في أول الأسماء فكرهت أن أجيبه على لغة قومي لئلا أواجهه بالمكر، فقلت: بكر يا أمير المؤمنين، ففطن لما
قصدته وأعجب منه، ثم قال: ما تقول في قول الشاعر: [الكامل](2/249)
قال: فاتفق أن غنّت جارية بحضرة الواثق بقول العرجي: أظلوم البيت، فاختلف من بالحضرة في إعراب «رجل» فمنهم من نصبه بأن على أنه اسمها، ومنهم من رفعه على أنه خبرها، والجارية مصرّة على أن شيخها أبا عثمان لقّنها إياه بالنصب، فأمر الواثق بإحضاره. قال أبو عثمان: فلما مثلت بين يديه قال: ممّن الرجل؟ قلت: من بني مازن، قال: من أيّ الموازن؟ أمازن تميم أم مازن قيس؟ أم مازن أم ربيعة؟ فقلت: من مازن ربيعة، فكلمّني بكلام قومي وقال لي: باسمك؟ يريد ما اسمك وهم يقلبون الميم باء والباء ميما إذا كان في أول الأسماء فكرهت أن أجيبه على لغة قومي لئلا أواجهه بالمكر، فقلت: بكر يا أمير المؤمنين، ففطن لما
قصدته وأعجب منه، ثم قال: ما تقول في قول الشاعر: [الكامل]
* أظلوم إن مصابكم رجلا (1) *
أترفع «رجلا» أم تنصبه؟ فقلت: بل الوجه النصب، قال: ولم ذلك؟ فقلت: «إن مصابكم رجلا» مصدر بمعنى إصابتكم. فأخذ اليزيديّ في معارضتي فقلت: هو بمنزلة قولك: إن ضربكم زيدا ظلم، فالرجل مفعول بمصابكم ومنصوب به، الدليل عليه أن الكلام معلّق إلا أن تقول «ظلم» فيتمّ. فاستحسنه الواثق وقال: هل لك من ولد؟ قلت:
نعم، بنيّة يا أمير المؤمنين، قال: ما قالت لك عند مسيرك؟ قلت: أنشدت قول الأعشى:
[المتقارب]
أيا أبتا لا ترم عندنا ... فإنا بخير إذا لم ترم (2)
أرانا إذا أضمرتك البلا ... د نجفى وتقطع منا الرحم
قال: فما قلت لها؟ قال: قلت قول جرير: [الوافر]
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنّجاح (3)
قال: أنت على النجاح إن شاء الله تعالى. ثم أمر لي بألف دينار وردّني مكرما.
قال أبو العباس: فلما عاد إلى البصرة قال: كيف رأيت يا أبا العباس! رددنا لله تعالى مائة فعوّضنا بألف.
قال الحريريّ: فهذه الحكاية ترغّب في اقتباس الأدب ودراسته حيث استعطف المازنيّ الواثق ببيت الأعشى حتى اهتزّ لإحسان صلته.
__________
(1) يروى البيت بتمامه:
أظليم إنّ مصابكم رجلا ... أهدى السلام تحيّة ظلم
وهو للحارث بن خالد المخزومي في ديوانه ص 91، والاشتقاق ص 99، 151، والأغاني 9/ 225، وخزانة الأدب 1/ 454، والدرر 5/ 258، ومعجم ما استعجم ص 504، وللعرجي في ديوانه ص 193، ودرة الغواص ص 96، ومغني اللبيب 2/ 538، وللحارث أو للعرجي في إنباه الرواة 1/ 284، وشرح التصريح 2/ 64، وشرح شواهد المغني 2/ 892، والمقاصد النحوية 3/ 503، ولأبي دهبل الجمحي في ديوانه ص 66، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 6/ 226، وأوضح المسالك 3/ 210، ومجالس ثعلب ص 270، وهمع الهوامع 2/ 94.
(2) يروى صدر البيت الأول:
أبانا فلا رمت من عندنا
والبيتان للأعشى في ديوانه ص 91، والبيت الأول في لسان العرب (ريم)، وتاج العروس (ريم)، والبيت الثاني في تاج العروس (ضمر)، وأساس البلاغة (ضمر)، وتهذيب اللغة 1/ 37، وكتاب العين 3/ 224، ولسان العرب (ضمر).
(3) البيت في ديوان جرير ص 98.(2/250)
قال: وفي أخبار النحويين أيضا أنّ المازنيّ سئل بحضرة المتوكل عن قوله تعالى:
{وَمََا كََانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] فقيل له: كيف حذفت الهاء من «بغيا» وفعيل بمعنى فاعل، تلحقه الهاء، نحو فتيّ وفتية وغنيّ وغنيّ، فقال: إن «بغيا» ليست «فعيلا» إنما هو فعول بمعنى فاعل، لأن الأصل «بغوى» ومن أصول التصريف أنه متى اجتمعت الياء والواو في كلمة وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء، كشويته شيّا، ويوم وأيام، وهذا أصل مطرد لم يشذّ منه إلا القليل، فعلى هذه القضية تحذف الهاء وجوبا لأنها بمعنى «باغية»، كما تحذف من «صبور» لأنها بمعنى «صابرة».
قال المازنيّ: حضر يعقوب عند الواثق وقد حاز منزلة العلماء، فقال لي الواثق:
سله عن مسألة، فقلت له: ما وزن «نكتل»؟ فقال: «نفعل»، فقلت له: غلطت، ثم قال لي: فسّره. فقلت: أصله «نكتيل»، فقلبت الياء ألفا للفتحة قبلها وسكنت اللام للجزم، لأنه جواب أمر، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فقال الواثق: هذا الجواب لا جوابك يا يعقوب، فلما خرجنا قال لي يعقوب: ما حملك على هذا وبيني وبينك المودة؟
فقلت: والله ما ظننت أنه يعزب عنك مثل هذا! فانظر كيف لم يثبت يعقوب الأوزان على ثبوت قدمه في العلم.
لقي هارون الرشيد الكسائيّ في بعض طرقه فوقف عليه، وتحفّى بسؤاله عن حاله، فقال: أنا بخير يا أمير المؤمنين، ولو لم أجد من ثمرة الأدب إلا ما وهب لله تعالى لي من وقوف أمير المؤمنين عليّ لكان ذلك كافيا محتسبا.
ودخل أبو يوسف رحمه الله تعالى وهما في مذاكرة وممازحة، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ هذا الكوفيّ قد غلب عليك، فقال: يا أبا يوسف إنه ليأتيني بأشياء يشتمل عليها قلبي، وتأخذ بمجامعه، فقال الكسائيّ: يا أبا يوسف، هل لك في مسألة؟ فقال:
في نحو أو في فقه؟ فقال: بل في فقه، فضحك هارون حتى فحص برجليه، وقال: تلقي على أبي يوسف الفقه؟ فقلت: نعم، ثم قال: يا أبا يوسف، فما تقول في رجل قال لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار؟ قال: إذا دخلت الدار طلقت، قال: أخطأت يا أبا يوسف! فضحك الرشيد ثم قال: فكيف الصواب؟ قال: إذا قال: «أن» وجب الفعل، دخلت بعد أو لم تدخل، وإذا قال «إن» بالكسر لم يجب ولم يقع الطلاق.
دخل الفراء على الرشيد فتكلم فلحن مرات، فقال له جعفر: يا أمير المؤمنين، إنه قد لحن، فقال الرشيد للفراء: أتلحن يا يحيى؟ فقال: إنّ طبع أهل البدو الإعراب وطباع أهل الحضر اللحن، فإذا حفظت أو كتبت لم ألحن، وإذا رجعت إلى الطبع لحنت، فاستحسن الرشيد كلامه وعلم أنه الحق.
وهذا القدر من المناظرة النحوية كاف.
* * *
قوله: الزماجر، أي الأصوات من الجوف كصوت الأسد، الواحدة زمجرة.(2/251)
* * *
قوله: الزماجر، أي الأصوات من الجوف كصوت الأسد، الواحدة زمجرة.
صمت: سكت. المزجور: المنهيّ، والزاجر: الناهي، وزجرته: انتهرته. أنبّئكم بتأويله:
أخبركم بتفسيره. المغايرة: المخالفة، وهي من لفظ «غير». المضمار: الموضع يختبر فيه جري الخيل. فرط: تجاوز الحدّ. مماراته: مخاصمته. انخراط: اندفاع وانطلاق، وخرط عبده: أطلقه على أذيّة الناس، والمرأة نكحها، والشجرة نثر ورقها بيده. مباراته:
معارضته.
* * * فقال: أمّا إذ دعوتم نزال، وتلبّبتم للنّضال فما كلمة هي إن شئتم حرف محبوب، أو اسم لما فيه حرف حلوب؟ وأيّ اسم يتردّد بين فرد حازم، وجمع ملازم؟ وأيّة هاء إذا التحقت أماطت الثّقل، وأطلقت المعتقل؟ وأين تدخل السّين فتعزل العامل، من غير أن تجامل؟ وما منصوب أبدا على الظّرف، لا يخفضه سوى حرف؟ وأيّ مضاف أخلّ من عرى الإضافة بعروة، واختلف حكمه بين مساء وغدوة؟ وما العامل الّذي يتّصل آخره بأوّله، ويعمل معكوسه مثل عمله؟ وأيّ عامل نائبه أرحب منه وكرا، وأعظم مكرا، وأكثر لله تعالى ذكرا؟ وفي أيّ موطن تلبس الذّكران براقع النّسوان، وتبرز ربّات الحجال بعمائم الرجال؟ وأين يجب حفظ المراتب، على المضروب والضارب؟ وما اسم لا يعرف إلّا باستضافة كلمتين، أو الاقتصار منه على حرفين وفي وصفه الأول التزام، وفي الثّاني إلزام؟
وما وصف إذا أردف بالنون، نقص صاحبه في العيون، وقوّم بالدّون، وخرج من الزّبون، وتعرّض للهون؟
فهذه اثنتا عشرة مسألة، وفق عددكم، وزنة لددكم، ولو زدتم زدنا، وإن عدتم عدنا.
* * * نزال، أي انزلوا للحرب، ولذلك بنيت على الكسر لأنها في معنى فعل الأمر، وهي كلمة تقال في الحرب ولها مقامان: الأول أن ينزلوا من ظهور الإبل إلى ظهور الخيل، والثاني أن ينزلوا من ظهور الخيل إلى الأرض وذلك أشدّ ما يكون للحرب.
تلبّبتم: تحزمتم. النضال: المراماة بالسهام. حرف: ناقة. حلوب: لها لبن. حازم:
مشمر، أخذ بالثقة. أماطت: أزالت. المعتقل: المحبوس. تجامل، أي تلقى المعزول بجميل. أخلّ: نقص. معكوسه: مقلوبه. نائبه: القائم مقامه. أرحب منه وكرا: أوسع
موضعا. مكرا: تصرفا. الحجال: جمع حجلة، وهي الستر. المراتب: المواضع.(2/252)
مشمر، أخذ بالثقة. أماطت: أزالت. المعتقل: المحبوس. تجامل، أي تلقى المعزول بجميل. أخلّ: نقص. معكوسه: مقلوبه. نائبه: القائم مقامه. أرحب منه وكرا: أوسع
موضعا. مكرا: تصرفا. الحجال: جمع حجلة، وهي الستر. المراتب: المواضع.
استضافة: إضافة أردف: جعل ردفه، أي خلفه. قوّم: قدرت قيمته. الدون: الحقير.
الزّبون: الكريم الكثير دفع العطايا، أي أخرج من هذه الصفة. والهون: الهوان. وفق:
موافقة. لددكم: خصامكم. عدتم: رجعتم للخصام.
ومن ملح ابن رشيق في مليح نحويّ: [السريع]
إن زارني يوما على خلوة ... أو زرته في موضع خال
كنت له رفعا على الابتدا ... وكان لي نصبا على الحال
وقال الميكالي: [البسيط]
أفدى الغزال الّذي في النّحو كلمني ... مجادلا فاجتنيت الشهد من شفته
وأورد الحجج المقبول شاهده ... مناظرا ليريني فضل معرفته
ثم اتفقنا على رأي رضيت به ... والرفع من صفتي والخفض من صفته
* * * قال المخبر بهذه الحكاية: فورد علينا من أحاجيه التي هالت، لمّا انهالت، ما حارت له الأفكار وحالت. فلمّا أعجز العوم في بحره، واستسلمت تمائمنا لسحره، عدلنا عن استثقال الرّؤية له، إلى استنزال الرّواية عنه، ومن بغي التبرّم به، إلا ابتغاء التعلم منه.
فقال: والذي نزّل النحو في الكلام، منزلة الملح في الطّعام، وحجبه عن بصائر الطّغام لا أنلتكم مراما، ولا شفيت لكم غراما، أو تخوّلني كلّ يد، ويختصني كلّ منكم بيد. فلم يبق في الجماعة إلّا من أذعن لحكمه، ونبذ إليه خبأة كمّه. فلمّا حصلت تحت وكائه، أضرم شعلة ذكائه، فكشف حينئذ عن أسرار ألغازه، وبدائع إعجازه، ما جلا به صدأ الأذهان، وجلّى مطلعه بنور البرهان.
قال الرّاوي: فهمنا، حين فهمنا، وعجبنا إذ أجبنا، وندمنا على ما ندّمنّا.
وأخذنا نعتذر إليه اعتذار الأكياس، ونعرض عليه ارتضاع الكأس. فقال: مأرب لا حفاوة، ومشرب لم يبق له عندي حلاوة، فأطلنا مراودته، ووالينا معاودته.
* * * أحاجيه: ألغازه: هالت: عظمت في النفوس. انهالت: انصبّت، وانهال الرمل:
انصبّ أعلاه إلى أسفله. الأفكار: الأذهان. حالت: تغيرت. استسلمت: انقادت.
تمائمنا: معاذاتنا، وهي الأحراز. عدلنا: ملنا. الروبة: الفكرة. استنزال: طلبه بتلطّف.(2/253)
انصبّ أعلاه إلى أسفله. الأفكار: الأذهان. حالت: تغيرت. استسلمت: انقادت.
تمائمنا: معاذاتنا، وهي الأحراز. عدلنا: ملنا. الروبة: الفكرة. استنزال: طلبه بتلطّف.
بغي: ظلم. ابتغاء: طلب. التبرم: الاستثقال، وبرم بالأمر برما: ضجر، واليرم: البخيل الذي لا يدخل في الميسر. والبصيرة: اليقين والمعتقد وجمعها بصائر، والطغام: الأوغاد وأرذال الناس. أنلتكم: أعطيتكم. مراما: مرادا. تخولني: تملّكني وتعطيني. يختصني:
يفردني. بيد، أي نعمة. أذعن: انقاد وذلّ. نبذ: رمى. خبأة كمه: ما خبىء فيه. بدائع:
غرائب. إعجازه: ما عجز به. جلا: كشف. صدأ: وسخ. جلّى: أوضح. البرهان الحجّة. همنا: تحيرنا لحسن ما سمعنا، وهام الرجل: ذهب في غير طريق. فهمنا، من الفهم، أي عرفنا. ندّ: سبق وخرج، يريد الخصام الذي بدروه به وردّوا كلامه، وندّ أصله شرد البعير. قوله: الأكياس: الحذّاق العقلاء. ارتضاع: شرب. مأرب: حاجة، قال يعقوب: قال الأمويّ: ومن الأمثال: مأرب لا حفاوة، يضرب للرجل إذا كان يتملّقك، أي إنّما بك حاجة إليّ لا حفاوة لي. قال ابن سيده: مأرب بيننا، يكون واحدا وهو السابق، ويكون جمع مأربة، من الجمع الذي يفارق واحده بالهاء. حفاوة: تهمّم، وقد حفيت بك، أي تهمّمت واعتنيت. ومشرب لم يبق له عندي حلاوة، قال الشاعر في معناه: [الطويل]
ولم أجتنب شرب المدام لعلّة ... ولم ألحق الصّهباء ذمّا ولا عذلا
تنافرني أن صرت ضدّا لشكلها ... فليست لنا أهلا، ولست لها أهلا
وقال ابن رشيق: [البسيط]
قرعت سنّي على ما فاتني ندما ... من الشبّاب ومن باللهو للشّيب
فقد رددت كؤوس الرّاح مترعة ... على السقاة وكانت جلّ مشروبي
أنزّه السمع والعينين في نغم ... ومنظر عابث بالحسن والطّيب
من كلّ لافظة بالدرّ باسمة ... عنه محلاة نوع منه مثقوب
أيام تصحبني الغزلان آنسة ... هذا على أنني أعدى من الذّيب
والسابق لردّ الكأس لعلة الكبر أيمن بن خريم بن فاتك الأسديّ في قوله: [الطويل]
وصهباء جرجانية لم يطف بها ... حنيف ولم يسعر بها ساعة قدر (1)
ولم يحضر القسّ المهينم نارها ... طروقا، ولم يشهد على طبخها حبر
أتاني بها يحيى وقد نمت نومة ... وقد غابت الشّعرى وقد جنح النّسر
__________
(1) يروى البيت الأول:
وصهباء ميسانية لم يقم بها ... حنيف ولم تثغر بها ساعة قدر
وهو بلا نسبة في لسان العرب (تغر)، وتاج العروس (تغر)، وتهذيب اللغة 8/ 81.(2/254)
فقلت اغتبقها أو لغيري فاسقها ... فما أنا بعد الشّيب ويحك والخمر
تعفّفت عنها في السّين التي خلت ... فكيف التّصابي بعدما كلأ العمر
إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يأتي حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الّذي ارتأى ... وإن جرّ أسباب الحياة له الدّهر
قال الهيثم بن عديّ: كنا نقول بالكوفة: من لم يرو هذه الأبيات فلا مروءة له، أنشدها أبو عليّ في نوادره. وأنشد أيضا: [المتقارب]
رأيت النّبيذ يذلّ العزيز ... ويكسو التقيّ النّقيّ اتّساخا (1)
فهبني عذرت الفتى جاهلا ... فما العذر فيه إذ المرء شاخا
وأنشد أيضا في نوادره لمن حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية مروءة جملة أشعار، شهرتها في الكتاب أغنت عن ذكرها، وأين شرف أولئك في جاهليّتهم على أن الخمر مباحة لهم من مجون جماعة من الإسلاميّين على تحريمها عليهم مثل الرّمادي في قوله: [الطويل]
أفي الخمر لامت خلّتي مستهامها ... كفرت بكأسي إن أطعت ملامها
لمحمولة في الفلك في جنّة المنى ... قد أوصى لنوح غرسها وضمامها
فخادعه إبليس عنها لعلمه ... بها فرأى كتمانها واغتنامها
ففاز بثلثيها ونوح بثلثها ... ولولا مضيّ عنه لم يك رامها
له حظ أنثى وهو حظ مذكّر ... قليل لعيني أن أطيل انسجامها
وإنا لوتران وقد مات جدنا ... عنينا وإنا لا نجيز اقتسامها
أخذ هذا من خبر يروى، أنّ نوحا عليه الصلاة والسلام لما نزل من السفينة، نازعه إبليس أصل العنب، فاصطلحا أنّ لنوح الثلث ولإبليس الثلثين.
ولما قيل للحسن: نزعت عن اللهو إلى التوبة، قال: [البسيط]
قالوا نزعت ولمّا يعلموا وطري ... في وصل أغيد ساجي الطّرف ميّاس
كيف النزوع وقلبي قد تقسّمه ... لحظ العيون ولون الراح في الكاس
إذا نزعت إلى رشد تكنّفني ... رأيان قد شغلا يسري وإفلاسي
فاليسر في القصف واللذات أخلسها ... والعمر في وصل من أهوى من النّاس
لا خير للعيش إلا في المجون مع ... الأكفاء في الورد والخيريّ والآس
ومسمع يتغنّى والكؤوس لها ... حثّ علينا بأخماس وأسداس
__________
(1) البيتان بلا نسبة في أمالي القالي 2/ 139.(2/255)
يا موري النار قد أعيت قوادحه ... أقبس إذا شئت من قلبي بمقياس
* * * فشمخ بأنفه صلفا، ونأى بجانبه أنفا، وأنشد: [البسيط]
نهاني الشّيب عمّا فيه أفراحي ... فكيف أجمع بين الرّاح والرّاح
وهل يجوز اصطباحي من معتّقة ... وقد أنار مشيب الرّأس إصباحي
آليت لا خامرتني الخمر ما علقت ... روحي بجسمي وألفاظي بإفصاح
ولا اكتست لي بكاسات السّلاف يد ... ولا أجلت قداحي بين أقداح
ولا صرفت إلى صرف مشعشعة ... همّي ولا رحت مرتاحا إلى راح
ولا نظمت على مشمولة أبدا ... شملي ولا اخترت ندمانا سوى الصّاحي
محا المشيب مراحي حين خطّ على ... رأسي، فأبغض به من كاتب ماحي
ولاح يلحى على جرّي العنان إلى ... ملهى فسحقا له من لائح لاحي
ولو لهوت وفودي شائب لخبا ... بين المصابيح من غسّان مصباحي
قوم سجاياهم توقير ضيفهم ... والشيب ضيف له التوقير يا صاح
ثمّ إنه انساب انسباب الأيم، وأجفل إجفال الغيم. فعلمت أنّه سراج سروج، وبدر الأدب الذي يجتاب البروج. وكان قصارانا التحرّق لبعده، والتفرّق من بعده.
* * * قوله: «شمخ»، أي تكبر ورفع أنفه. صلفا: قحة وصلابة وجه، وفي فلان صلف، أي قلة انطباع وموافقة إذا أردت منه شيئا تهاون بك، والتصليفان: ناحيتا العنق، كأنه إذا كلمّته في شيء أعرض عنك، ولوى عنك صليفه، والصّلف مجاوزة قدر الظّرف، وفي الشهاب: آفة الظرف الصّلف. ناء: نهض، ويروى: نأى، تباعد. أنفا: غضبا، وأنفت من كذا تنزهت عنه وترفعت، وأصله من رفع الأنف، فكأنه رفع أنفه تيها عليهم وتكبرا عن منادمتهم لاحتقارهم له أولا قبل اختباره، ثم تبدّلهم آخر بعد اعتباره واعتذر لذلك بالشيب.
ونذكر هنا فصلا أدبيّا يأتي على جميع أغراض هذه الأبيات:
قال بعض الظرفاء يذم الخمر: الشراب: أول الخراب، ومفتاح كلّ باب، يمحق الأموال، ويذهب الجمال، ويهدم المروءة، ويوهن القوّة، ويضع الشريف، ويذل العزيز، ويبيح الحرائر، ويفلس التجار، ويهتك الأستار، ويورث الشّنار.
وقال بعضهم لابنه: كثرة الشراب تكسد القلب، وتقلّ الكسب، وتغيّر اللّب، واعلم أن الظمأ الذابح، خير من الريّ الفاضح.(2/256)
وقال يزيد بن محمد المهلبي يذمه: [الطويل]
لعمرك ما يحصى على الناس شرّها ... وإن كان فيها لذة ورخاء
مرارا تريك الغيّ رشدا، وتارة ... تخيل أنّ المحسنين أساؤوا
وأنّ الصديق الماحض الودّ مبغض ... وأنّ مديح المادحين هجاء
وجرّبت إخوان النبيذ فقلّما ... يدوم لإخوان النبيذ إخاء
وقال ابن الرومي: [الطويل]
مودّة إخوان النبيذ سلافة ... يبولونها عند انقضاء المجالس
فبينا نراهم أهل ألف وأثرة ... وبينا نراهم بينهم حرب داحس
فأما إذا ناديتهم لملمّة ... فناد التّصاوير التي في الكنائس
ولهذا كتب الحسن إلى صديق له يستهدي منه مشروبا: [السريع]
لمّا رأيت الحظّ للقاعد ... والنّاس من واش ومن حاسد
خلوت في بيتي وحدي ولا ... أقلّ في الأعداد من واحد
فابعث بها تشغلني واكفني ... رؤية هذا العالم الفاسد
وقال أيضا: [السريع]
خلوت بالخمر أناجيها ... أشرب منها وأعاطيها
نادمتها إذ لم أجد صاحبا ... أرضاه أن يشركني فيها
شربتها صرفا على وجهها ... فكنت ساقيها وجانيها
قيل لبعضهم: لم لا تتخذ لك نديما؟ قال: لأنه مأخوذ من النّدم.
واختلفوا في اختيار استعمال النديم، فمنهم من اختار نديما واحدا، ومنهم من انتهى في الاختيار إلى ستة بالساقي وصاحب البيت، وما زاد على ذلك فمذموم بإجماع منهم. قال: وأنشدوا في ذلك: [الطويل]
وخير الندامى ستّة من دوي الحجى ... فخمسة إخوان وآخر يمنع
ويحمد في الإخوان من كان محسنا ... بصوت يغنيه ولا يتّمنّع
* * * قوله: نهاني الشيب، جعله الناهي عن اللذات، لأنه الداعي إلى الفناء والنذير بالموت، وما يقول بغير هذا إلا متكلّف عذر، كقول أعرابي ويروى لإبراهيم بن المهدي:
لقد جلّ قدر الشيب أن كان كلما ... بدت شيبة يعري من اللهو مركب
وقال المعذّل: [الخفيف](2/257)
لقد جلّ قدر الشيب أن كان كلما ... بدت شيبة يعري من اللهو مركب
وقال المعذّل: [الخفيف]
لاح شيبي فظلت أمرح فيه ... مرح الطّرف في اللجام المحلّى
وتولّى الشباب فازددت ركضا ... في ميادين باطل إذ تولّى
إنّ من ساءه الزمان بشيب ... لأحق أمره بأن يتسلّى
أتراني أسوء نفسي لمّا ... ساءني الدهر، لا لعمري كلّا
وقال البحتري يعتذر منه: [الخفيف]
عيّرتني بالشيب وهي رمته ... في عذاري بالصدّ والاجتناب (1)
لا تريه عارا فما هو بالشّي ... ب ولكنّه جلاء الشباب
وبياض البازيّ أصدق حسنا ... إن تأمّلت من سواد الغراب
أخذه ابن رشيق فقال: [الوافر]
وإن لم تعجبني ببياض شعر ... فلا تستغربي بلق الغراب
تعافين المشيب وليس هذا ... ولكن هذه شية الشّباب
وقال حبيب يتشكاه: [الخفيف]
أصبحت روضة الشباب هشيما ... وغدت ريحه البليل سموما (2)
شعلة في المفارق استودعتني ... في صميم الفؤاد ثكلا صميما
غرّة بهمة ألا إنما كن ... ت أغرّا أيام كنت بهيما
دقّة في الحياة تدعى جلالا ... مثل ما سمّي اللديغ سليما
وقال مسلم بن الوليد: [البسيط]
الشيب كره وكره أن يفارقني ... أعجب بشيء على البغضاء مورود
يمضي المشيب فلا يأتي له خلف ... والشّيب يذهب مفقودا بمفقود
أخذه سليمان بن وهب حين نظر إلى المرآة، فقال: عيب لا عدمناه. وقال أبو الفتح البستّي: [الكامل]
يا شيبتي دومي ولا تترحّلي ... وتيقّني أني بوصلك مولع
قد كنت أجزع من حلولك مدّة ... والآن من خوف ارتحالك أجزع
وزاد أبو الطيب على هذا فقال: وذكر أنه يتمنّى الشيب في زمن الشباب: [الطويل]
__________
(1) الأبيات في ديوان البحتري ص 84.
(2) الأبيات في ديوان أبي تمام 3/ 223 (طبعة المعارف).(2/258)
منى كنّ لي أنّ البياض خضاب ... فيخفى بتبييض القرون شباب (1)
ليالي عند البيض فوداي فتنة ... وفخر وذاك الفخر عندي عاب
فكيف أذمّ اليوم ما كنت أشتهي ... وأدعو بما أشكوه حين أجاب
كأنّ أبا الطيب نسي ما قاله في الشيب في الزمن الذي زعم أنه كان يشتهيه ويتمنّاه:
[البسيط]
أبعد بعدت بياضا لا بياض له ... لأنت أسود في عيني من الظّلم (2)
وقال ربعيّ: [المنسرح]
من كان يبكي الشباب من أسف ... فلست أبكي عليه من أسف
كيف وشرخ الشباب أوقفني ... يوم حسابي مواقف التّلف
لا صحبت شرّة الشباب ولا ... عدمت ما في المشيب من خلف
وقال ابن رشيق: [مخلع البسيط]
أراك للشيب ذا اكتئاب ... فأين تمضي عن الصواب
إن كنت ترعى الوفاء حقّا ... فالشيب أوفى من الشّباب
وحقيقة الأمر أنه ما زال الناس يكرهون الشيب ويذمّونه، نثرا ونظما. لما فيه من دليل الفناء، والهجنة عند النساء، وقطع اللذات بالرّقبة والحياء، ويحبون الشباب ويمدحونه، لما فيه من عذرة الجاهل، وإتيان العاجل، وحسن الشمائل إلا أن لطف الحذاق من الشعراء في تحسين ما كانوا يكرهون، وتقبيح ما كانوا يمدحون رياضة للنفوس، وتوسعا في القول، كما قال أحدهم: [الطويل]
تفاريق شيب في العذار لوامع ... وما حسن ليل ليس فيه نجوم!
وقالوا: في الشيب استحكام الوقار، وتناهي الحلال، وميسم التّجربة، فهذه مقاصدهم فقف عليها.
قوله: أفراحي: جمع فرح، الراح: الخمر، والثاني جمع راحة، وهي الكفّ.
معتقة: خمر قديمة شديدة الحمرة. أنار: بيّض. إصباحي: احمرار شعري، والصبح:
حمرة الشعر، وضعه موضع السّواد، لأنّ كليهما من حلية الشباب، وحمله على هذا ما ضمن الشيب من التحسين فيقول مستفهما: هل يجوز شربي في البكور من خمر صافية في حال تغيير الكبر شبابي، وتبديله حلية الشباب بحلية الشيوخ. خامرتني: خالطتني.
إفصاحي: تبييني. السّلاف: الخمر. وأجلت: صرّفت. قداحي: سهام الميسر. أقداح:
__________
(1) الأبيات في ديوان المتنبي 1/ 188.
(2) البيت في ديوان المتنبي 4/ 35.(2/259)
جمع قدح، وهو الكأس. صرفت: رددت. صرف: خمر. مشعشعة: رقيقة المزيج.
همّتي: إرادتي. رحت: مشيت بالعشيّ. مرتاحا: مهتزّا من الطرب، وارتاح: وجد راحة الطلب أو خفّة الكرم. نظمت: جمعت. مشمولة: خمر، وهي الشّمول، سمّيت بذلك لاشتمالها على عقل صاحبها، وقيل: لأنها تشمل القوم بريحها، أي تعمّهم. وقيل: لها عصفة كعصفة الريح الشمال. شملي: مجموع أمري، والندمان: هو النديم. الصاحي:
المفيق من سكره. محا: أزال. مراحي: طربي. خطّ: كتب. أبغض به، أي ما أبغضه إليّ. لاح: ظهر يلحى: يلوم ويغلظ القول. جرّى العنان، أي انهماكي في الملاهي.
ملهى: لهو. سحقا: بعدا. لائح: ظاهر في الرأس. لاح: شاتم وعائب، يريد أن شيبه لاح في رأسه فلحاه على اللهو والصّبا. فودي: جانب رأسي. شائب: فيه الشيب. خبا:
طفىء وسكن ضوءه. غسان: قبيلة. وأحسن ما سمعت في شيب الفود، وفي وخط المشيب الّذي ذكر، قول عبد الرحيم بن هارون: [الوافر]
رأيت الشيب مبتسما بفودي ... ففاضت أدمعي بدم الفؤاد
وعمري كلّ يوم في انتقاص ... وذاك النقص لقّب بالزياد
ولي خطّ وللأيام خط ... وبينهما مخالفة المداد
فأكتبه سوادا في بياض ... وتكتبه بياضا في سواد
أنشدها الفنجديهيّ وقال عند إنشادها: ولعبد الحميد أبيات، كأنها روضات جنات.
قوله: سجاياهم، أي طبائعهم. يا صاح، أراد يا صاحب فرخّم لكثرة الاستعمال.
ولما جعل غسان من عادتهم توقير الضيف، والشيب ضيف وجب عليه توقيره. ومراعاة مثل هذا العموم قد تقدّم له في ذم الزجاج الذي جرت عليه سبيله، وأخذ هذا من قول دعبل: [الوافر]
أحبّ الشيب لمّا قيل ضيف ... كحبّي للضّيوف النّازلينا (1)
وقال المتنبي في ذم هذا الضيف: [البسيط]
ضيف ألمّ برأسي غير محتشم ... والسيف أحسن فعلا منه باللّمم (2)
أبعد بعدت بياضا لا بياض له ... لأنت أسود في عيني من الظّلم
وقال محمود الورّاق: [الكامل]
للضيف أن يقرى ويعرف حقّه ... والشيّب ضيف فاقره بخضاب
وافي بأصدق شاهد ولربّما ... وافي المشيب بشاهد كذّاب
__________
(1) البيت في ديوان دعبل بن علي ص 150.
(2) البيتان في ديوان المتنبي 4/ 35.(2/260)
فافسخ شهادته عليك بخضبة ... تنفي الظنون بها عن المرتاب
فإذا دنا وقت الرحيل فخلّه ... والشيّب يذهب فيه كلّ ذهاب
وقوله: والشيب ضيف له التوقير، قام وكيع لسفيان فنكر قيامه إليه فقال: أتتكر عليّ قيامي إليك، وأنت حدّثتني عن عمرو بن دينار، عن أنس بن مالك رضي الله عنهم:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ من إجلال الله عزّ وجلّ إجلال ذي الشيبة المسلم». قال: فأخذ سفيان بيده، فأقعده إلى جانبه.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما أكرم شابّ شيخا لسنّه إلا قيّض الله تعالى له من يكرمه عند كبر سنه».
وقال صلّى الله عليه وسلم: «أوحى إليّ ربي يقول: الشيب على عبدي المؤمن نور من نوري، وأنا أكرم من أن أحرق نوري بناري».
وحدث محمد بن مسلم الخوّاص الرجل الصالح. قال: رأيت يحيى بن أكثم القاضي في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه، وقال: يا شيخ السوء، لولا شيبتك لأحرقتك بالنار، فأخذني ما يأخذ العبد بين يدي مولاه، فلما أفقت قالها ثانية وثالثة، فلما أفقت قلت: يا ربّ، ما هكذا حدّثت عنك، فقال تعالى: وما حدّثت عني؟ قلت: حدثني عبد الرزاق، قال: حدثني معمر بن راشد، عن ابن شهاب الزّهري، عن أنس بن مالك، عن نبيّك محمد صلّى الله عليه وسلم عن جبريل، عنك يا عظيم أنك قلت: ما شاب لي عبد في الإسلام شيبة إلا استحييت منه أن أعذبه بالنار، فقال الله عزّ وجلّ: صدق عبد الرزاق وصدق معمر، وصدق الزّهري وصدق أنس وصدق نبيّي وصدق جبريل، أنا قلت ذلك، انطلقوا به إلى الجنة.
* * *تفسير ما أودع هذه المقامة من النكت العربية والأحاجي النحوية
أما صدر البيت الأخير من الأغنية الذي هو: «فإن وصلا ألذّ به» فإنه نظير قولهم:
المرء مجزيّ بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ، وهذه المسألة أودعها سيبويه كتابه وجوّز في إعرابها أربعة أوجه:
أحدها وهو أجودها أن تنصب: «خيرا» الأول وترفع الثاني. وتنصب: «شرّا» الأول وترفع الثاني، ويكون تقديره: إن كان عمله خيرا فجزاؤه خير، وإن كان عمله شرّا فجزاؤه شرّ، فتنصب الأوّل على أنه خبر كان، وترفع الثاني على أنه خبر مبتدأ محذوف. وقد حذفت في هذا الوجه «كان» واسمها لدلالة حرف الشّرط الذي هو «إن» على تقديرهما. وحذف أيضا المبتدأ لدلالة الفاء التي هي جواب الشرط عليه لأنه كثيرا ما يقع بعدها.(2/261)
الوجه الثاني: أن تنصبهما جميعا، ويكون تقدير الكلام: إن كان عمله خيرا فهو يجزى خيرا، وإن كان عمله شرّا فهو يجزى شرّا فينتصب الأوّل على أنه خبر «كان» وينتصب الثاني انتصاب المفعول به.
والوجه الثالث: أن ترفعهما جميعا، ويكون تقدير الكلام: إن كان في عمله خير فجزاؤه خير، فيرتفع «خير» الأوّل على أنه اسم «كان» ويرتفع «خير» الثاني على ما بيّن في شرح الوجه الأول.
وقد يجوز أن يرتفع «خير» الأول على أنه فاعل «كان» وتجعل «كان» المقدّرة ها هنا هي التامّة التي تأتي بمعنى حدث ووقع، فلا تحتاج إلى خبر كقوله تعالى: {وَإِنْ كََانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى ََ مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، ويكون التقدير في المسألة: إن كان خير فجزاؤه خير، أي إن حدث خير فجزاؤه خير.
والوجه الرابع: وهو أضعفها أن ترفع الأوّل على ما تقدّم شرحه في الوجه الثالث، وتنصب الثاني على ما بيّن ذكره في الوجه الثاني، ويكون التقدير: إن كان في عمله خير فهو يجزى خيرا، وعلى حسب هذا التقدير والمقدّرات المحذوفات فيه يجري إعراب البيت الذي غنّي به. ومما ينتظم في هذا السّلك قولهم: المرء مقتول بما قتل به إن سيفا فسيف، وإن خنجرا فخنجر.
وأما الكلمة التي هي حرف محبوب أو اسم لما فيه حرف حلوب، فهي «نعم»، إن أردت بها تصديق الأخبار أو العدة عند السؤال فهي حرف، وإن عنيت بها الإبل فهي اسم. والنّعم تذكر وتؤنث وتطلق على الإبل وعلى كلّ ماشية فيها إبل. وفي الإبل الحرف وهي الناقة الضامرة، سمّيت حرفا تشبيها لها بحرف السيف. وقيل: إنها الضخمة تشبيها لها بحرف الجبل.
وأما الاسم المتردد بين فرد حازم وجمع ملازم، فهو: سراويل، قال بعضهم: هو واحد وجمعه سراويلات، فعلى هذا القول هو فرد، وكنى عن ضمّه الخصر بأنّه حازم.
وقال آخرون: بل هو جمع، واحده سروال، مثل: شملال وشماليل، وسربال وسرابيل، فهو على هذا القول جمع.
ومعنى قوله: ملازم، أي لا ينصرف وإنما لم ينصرف هذا النوع من الجمع، وهو كلّ جمع ثالثه ألف وبعدها حرف مشدّد، أو حرفان أو ثلاثة أوسطها ساكن لثقله وتفرّده دون غيره من الجموع بأن لا نظير له في الأسماء والآحاد، وقد كني في هذه الأحجية عمّا لا ينصرف بالملازم، كما كني في التي قبلها عمّا ينصرف باللازم.
* * * وأما الهاء التي إذا التحقت أماطت الثقل، وأطلقت المعتقل، فهي الهاء اللاحقة
بالجمع المقدّم ذكره، كقولك: صيارفة وصياقلة، فينصرف هذا الجمع عند التحاق الهاء به، لأنها قد أصارته إلى أمثال الآحاد، نحو: رفاهية وكراهية فخفّ بهذا السبب وصرف لهذه العلة. وقد كني في هذه الأحجية عمّا لا ينصرف بالمعتقل، كما كني في التي قبلها عمّا لا ينصرف باللازم.(2/262)
* * * وأما الهاء التي إذا التحقت أماطت الثقل، وأطلقت المعتقل، فهي الهاء اللاحقة
بالجمع المقدّم ذكره، كقولك: صيارفة وصياقلة، فينصرف هذا الجمع عند التحاق الهاء به، لأنها قد أصارته إلى أمثال الآحاد، نحو: رفاهية وكراهية فخفّ بهذا السبب وصرف لهذه العلة. وقد كني في هذه الأحجية عمّا لا ينصرف بالمعتقل، كما كني في التي قبلها عمّا لا ينصرف باللازم.
وأما السين التي تعزل العامل من غير أن تجامل، فهي التي تدخل على الفعل المستقبل وتفصل بينه وبين أن، التي كانت قبل دخولها من أدوات النصب، فيرتفع حينئذ الفعل وتنتقل أن عن كونها الناصبة للفعل إلى أن تصير المخففة من الثقيلة، وذلك كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى ََ} [المزمل: 20]، وتقديره: علم أنه سيكون.
وأما المنصوب على الظرف الذي لا يخفضه سوى حرف، فهو: «عند» إذ لا يجرّه غير «من» خاصة، وقول العامة: ذهبت إلى عنده لحن.
وأما المضاف الذي أخلّ من عرى الإضافة بعروة، واختلف حكمه بين سماء وغدوة، فهو «لدن» ولدن من الأسماء الملازمة للإضافة، وكلّ ما يأتي بعدها مجرور بها إلّا غدوة، فإن العرب نصبتها بلدن لكثرة استعمالهم إياها في الكلام، ثم نوّنتها أيضا ليتبيّن بذلك أنّها منصوبة، لا أنّها من نوع المجرورات التي لا تنصرف، وعند بعض النحويين أن «لدن» بمعنى «عند»، والصحيح أنّ بينهما فرقا لطيفا، وهو أنّ «عند» يشتمل معناها على ما هو في ملكك ومكنتك، ممّا دنا منك وبعد عنك ولدن يختصّ معناها بما حضرك وقرب منك.
وأما العامل الذي يتصل آخره بأوله، ويعمل معكوسه مثل عمله، فهو: «يا»، ومعكوسها «أي»، وكلتاهما من حروف النداء، وعملهما في الاسم المنادى سيّان، وإن كانت «يا» أجول في الكلام، وأكثر في الاستعمال. وقد اختار بعضهم أن ينادي بأي، القريب فقط كالهمزة.
وأما العامل الذي نائبه أرحب منه وكرا، وأعظم مكرا، وأكثر لله تعالى ذكرا، فهو باء القسم وهذه الباء هي أصل حروف القسم بدلالة استعمالها مع ظهور فعل القسم في قولك: أقسم بالله، ولدخولها أيضا على المضمر، كقولك: بك لأفعلنّ وإنما أبدلت الواو منها في القسم لأنهما جميعا من حروف الشفة ثم لتقارب معنييهما لأنّ الواو تفيد الجمع والباء تفيد الإلصاق، وكلاهما متّفق، والمعنيان متقاربان. ثم صارت الواو المبدلة من الباء أدور في الكلام وأعلق بالأقسام ولهذا ألغز بأنها أكثر لله تعالى ذكرا. ثم إن الواو أكثر موطنا من الباء، لأن الباء لا تدخل إلا على الاسم، ولا تعمل غير الجرّ، والواو تدخل على الاسم والفعل والحرف. وتجرّ تارة بالقسم وتارة بإضمار ربّ. وتنتظم أيضا نواصب الفعل وأدوات العطف فلهذا وصفها برحب الوكر وعظم المكر.(2/263)
وأما الموطن الذي يلبس فيه الذّكران براقع النسوان، وتبرز فيه ربّات الحجال بعمائم الرجال، فهو أوّل مراتب العدد المضاف، وذلك بين الثلاثة إلى العشرة، فإنه يكون مع المذكّر بالهاء، ومع المؤنث بحذفها، كقوله تعالى: {سَخَّرَهََا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيََالٍ وَثَمََانِيَةَ أَيََّامٍ} [الحاقة: 7] والهاء في غير هذا الموطن من خصائص المؤنث، كقولك:
قائم وقائمة وعالم وعالمة، فقد رأيت كيف انعكس في هذا الموطن حكم المذكر والمؤنث حتى انقلب كل منهما في ضدّ قالبه، وبرز في بزّة صاحبه.
وأما الموضع الذي يجب فيه حفظ المراتب عن المضروب والضارب، فهو حيث يشتبه الفاعل بالمفعول لتعذّر ظهور علامة الإعراب فيهما أو في أحدهما، وذلك إذا كانا مقصورين مثل موسى وعيسى، أو من أسماء الإشارة نحو ذاك وهذا. فيجب حينئذ لإزالة اللّبس إقرار كل منهما في رتبته، ليعرف الفاعل منهما بتقدمه، والمفعول بتأخّره.
وأما الاسم الذي لا يفهم إلا باستضافة كلمتين، أو الاقتصار منه على حرفين فهو «مهما» وفيها قولان: أحدهما: أنها مركبة من «مه» التي هي بمعنى اكفف، ومن «ما» والقول الثاني وهو الصحيح أنّ الأصل فيها «ما» فزيدت عليها «ما» أخرى، كما تزاد على «إنّ» فصار لفظها «ماما»، فثقل عليهم توالي كلمتين بلفظ واحد، فأبدلوا من ألف «ما» الأولى «ها» فصارتا «مهما». ومهما من أدوات الشرط والجزاء، ومتى لفظت بها لم يتمّ الكلام، ولا عقل المعنى إلا بإيراد كلمتين بعدها، كقولك: مهما تفعل أفعل وتكون حينئذ ملتزما للفعل، وإن اقتصرت منهما على حرفين وهما «مه» التي بمعنى اكفف، فهم المعنى وكنت ملزما من خاطبته أن يكفّ.
وأما الوصف الذي إذا أردف بالنون نقص صاحبه في العيون، وقوّم بالدون، وخرج من الزّبون، وتعرّض للهون، فهو «ضيف» إذا لحقته النون استحال إلى «ضيفن» وهو الذي يتبع الضيف ويتنزّل في النقد منزلة الزّيف.(2/264)
المقامة الخامسة والعشرون وتعرف بالكرجيّة
حكى الحارث بن همام قال: شتوت بالكرج لدين أقتضيه، وأرب أقضيه، فبلوت من شتائها الكالح، وصرّها النّافح، ما عرّفني جهد البلاء، وعكف بي على الاصطلاء فلم أكن أزايل وجاري، ولا مستوقد ناري، إلّا لضرورة أدفع إليها، أو إقامة جماعة أحافظ عليها، فاضطررت في يوم جوّه مزمهرّ، ودجنه مكفهّر إلى أن برزت من كناني، لمهمّ عناني فإذا شيخ عاري الجلدة، بادي الجردة، وقد اعتمّ بريطة، واستثفر بفويطة، وحواليه جمع كثيف الحواشي، وهو ينشد ولا يحاشي.
* * * شتوت: أقمت في الشتاء.
[الكرج]
والكرج: مدينة معروفة، وبشدة البرد موصوفة، وهي بين أصبهان وهمذان، وقد تقدم برد همذان في الأولى، ومن همذان إلى نهاوند مرحلتان، ومن الكرج إلى مدينة أصبهان ستون فرسخا. وهي منازل عيسى بن إدريس بن معقل العجليّ، ولم تكن في أيام العجم مدينة مشهورة، وإنما كانت في عداد القرى العظام من رساتيق كورة أصبهان، فنزلها العجليّون فبنوا بها الحصون والقصور، وجعلها أبو دلف مدينة عظيمة.
وقال أبو دلف: دخلت على الرّشيد، فقال لي: يا قاسم، ما خبر أرضك؟ قلت:
خراب يباب، خرّبها الأكراد والأعراب، فقال قائل: هذا آفة الجبل وهو أفسده، فقلت:
فأنا أصلحه. قال الرشيد: وكيف ذلك؟ قلت: أفسدته وأنت عليّ وأصلحه وأنت معي.
ففعل ذلك، وعمّر الكرج، حتى صار دار أجناد، ومحلّ وفود وقصّاد.
وقال عليّ بن جبلة: زرته في الجبل، فلما حللت بالكرج، أظهر من برّي وإكرامي أمرا مفرطا، حتى تأخّرت عنه تأخرا كبيرا. فوصل إليّ معقل بن عيسى، فقال: يقول الأمير: انقطعت عني، وأحسبك استقللت برّي، فلا يغضبنّك ذلك، فسأزيد فيه حتى ترضى فقلت: والله ما قطعني عنه إلا إفراطه بالبرّ. قال: وكتب إليه في ذلك:(2/265)
هجرتك لم أهجرك من كفر نعمة ... وهل يرتجى نيل الزيادة بالكفر
ولكنّني لما أتيتك زائرا ... فأفرطت في بري عجزت عن الشكر
فآليت لا آتيك إلّا مسلّما ... أزورك في الشهرين يوما وفي الشهر
فإن زدتني برّا تزايدت جفوة ... ولم تلقني طول الحياة إلى الحشر
فلما وصلت إليه، قال: قاتله الله ما أشعره، وأدق معانيه! فأجابني لوقته، وكان حسن البديهة: [الطويل]
ألا ربّ ضيف طارق قد بسطته ... وآنسته قبل الضيافة بالبشر
أتاني يرجّبني فما حال دونه ... ودون القرى والعرف من نيله سترى
وجدت له فضلا عليّ بقصده ... إليّ وبرّا راد فيه على برّي
فزوّدته مالا يقلّ بقاؤه ... وزودني مدحا يدوم مع الدهر
وبعث إليّ بها وبألف دينار مع وصيفة، فقلت حينئذ: [مخلع البسيط]
إنما الدنيا أبو دلف ... بين مبداه ومحتضره
فإذا ولّى أبو دلف ... ولّت الدنيا على أثره
ملك تندى أنامله ... كانبلاج النّور عن مطره
مستهلّ عن مواهبه ... كابتسام الزهر عن زهره
جبل عزّت مناكبه ... أمنت عدنان في ثغره
كلّ من في الأرض من عرب ... بين باديه ومحتضره
مستعير منه مكرمة ... يكتسبها يوم مفتخره
والبيت الثاني أحفظ المأمون على ابن جبلة حتى سلّ لسانه من قفاه.
* * * قوله: أقتضيه، أي أجمعه. أرب: حاجة. بلوت: قاسيت. الكالح: الشديد، وكلح كلوحا: أبدى أسنانه عند العبوس، والبرد الشديد يبدي الأسنان عند رعده. صرّها:
بردها الشديد. النافح: المتحرك بالريح الباردة. جهد البلاء: مشقة الضرّ، ويقال: بلغ جهده، أي أقصى قوته، فأراد بجهد البلاء المشقة التي يتمنّى الإنسان عندها الموت، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستعيذ منه (1).
أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: علّمني رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا الدعاء: «اللهم إني أعوذ
__________
(1) لفظ الحديث: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتعوذ من جهد البلاء»، أخرجه البخاري في الدعوات باب 28، والقدر باب 13، ومسلم في الذكر حديث 53، والنسائي في الاستعاذة باب 34، 35.(2/266)
بك من سوء القضاء، وجهد البلاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء» (1) وروي في «جهد البلاء»، أنه القتل صبرا.
أنس رضي الله تعالى عنه يرفعه قال: قتل الصبر جهد البلاء.
وقال صلّى الله عليه وسلم: «جهد البلاء أن تحتاج إلى ما في أيدي الناس فيمنعوك».
مجاهد قال: كنت جالسا عند عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بالكوفة، فأتي برجل أن يضرب عنقه، فقلت: هذا والله جهد البلاء، فقال: والله ما هذا إلا كشرطة حجام بمشراط، ولكن جهد البلاء فقر مدقع بعد غنى موسع.
الأحنف: جهد البلاء خمسة: خادم مذموم، وحطب رطب، وبيت يصف، وخوان ينتظر، وجبار على الباب يدق.
عكف بي على الاصطلاء: ألزمني التسخّن بالنار وعكف على الشيء عكوفا: لزمه.
أزايل وجاري: أفارق بيتي، والوجار جحر الضبع. إقامة جماعة، أي حضور الصلاة مع الجماعة، وبردشكير بغرناطة كان أشد على ابن صارة حيث منعه الصلاة من برد الكرج على ابن همام حيث يقول ابن صارة: [الطويل]
أحلّ لنا ترك الصلاة بأرضكم ... وشرب الحميّا وهي شيء محرّم
فرارا إلى نار الجحيم فإنها ... أرقّ علينا من شكير وأرحم
لئن كان ربي مدخلي في جهنّم ... ففي مثل هذا اليوم طابت جهنّم
جوّه مزمهرّ: هواؤه بارد، والزمهرير: البرد. دجنه مكفهرّ: سحابه متراكم مظلم.
كناني: بيتي: مهمّ: أمر لا يؤخر. عناني: عرض لي وقصدني. الجردة: الجلدة التي تجرّد عنها ثوبها، وفلان حسن الجردة والتجرّد، أي حسن العري، وقيل: الجردة الثوب المتجرّد البالي. والريطة عند العرب: شيء رقيق، شبه الملحفة، ولذلك سمّي به المرأة، ولا معنى لهذه الصفة لأنه قد وصفه بالعري، وإنما أراد هنا شبه الكراز لفظ مغيّر عن أصله كالفوطة عندنا، ضرب مما يعتمّ به، وهي مغيّرة عن أصلها، وإنما أصل الفوطة ثوب يجلب من الهند غليظ، وتصغيرها فويطة، يلبسه أهل مصر وأهل المشرق كما يلبس أهل المغرب وأهل الأندلس الإحرام والمئزر. واستثفر: بالثوب إذا لواه على فخذيه، ثم أخرجه من بينهما، فشدّه في حجزته، واستثفر الكلب بذنبه: جعله بين فخذيه فتخيل صورة السروجيّ هنا التي نهاية في القبح على ما يتصف به أبدا، وقد لوى على رأسه قطعة من عمامة بالية، واستثفر بمثلها، فلا تجد له مثلا إلا ما قال أبو دلامة في نفسه:
[الوافر]
__________
(1) أخرجه البخاري في القدر باب 13، ومسلم في الذكر حديث 53، والنسائي في الاستعاذة باب 24، 31، 32، 34، 35، وأحمد في المسند 2/ 173، 246.(2/267)
إذا لبس العمامة كان قردا ... وخنزيرا إذا نزع العمامه
وأين هذا من قول ابن رشيق في غلام معتمّ بعمامة حمراء: [مجزوء الكامل]
يا من يمرّ ولا تمرّ به ... القلوب من الحرق
بعمامة من خدّه ... أو خدّه منها سرق
فكأنه وكأنها ... قمر أحاط به شفق
شغل الجوارح والجوا ... نح والخواطر والحدق
وقال السّلامي في عمامة: [البسيط]
حسناء ضافية، بيضاء صافية ... كأنّ رونقها في صارم ذكر
يزين أطرافها طرز كما رقمت ... على المجرّة طرز الأنجم الزّهر
كثيف: خشن منضمّ بعض حواشيه إلى بعض من الكثرة. يحاشى: يستثنى.
* * * [الرجز]
يا قوم لا ينبئكم عن فقري ... أصدق من عريي أوان القر
فاعتبروا بما بدا من ضرّي ... باطن حالي وخفيّ أمري
وحاذروا انقلاب سلم الدّهر ... فإنّني كنت نبيه القدر
آوي إلى وفر وحدّ يفري ... تفيد صفري وتبيد سمري
وتشتكي كومي غداة أقري ... فجرّد الدّهر سيوف الغدر
وشنّ غارات الرزايا الغبر ... ولم يزل يسحتني ويبري
حتّى عفت داري وغاض درّي ... وبار سعري في الورى وشعري
وصرت نضو فاقة وعسر ... عاري المطا مجرّدا من قشري
كأنني المغزل في التّعرّي ... لا دفء لي في الصّنّ والصّنّبر
غير التّضحّي واصطلاء الجمر ... فهل خضمّ ذو رداء غمر
يسترني بمطرف أو طمر ... طلاب وجه الله لا لشكري!
* * * ينبىء: يخبر. أوان القرّ: وقت البرد. حاذروا: خافوا. سلم: صلح. نبيه القدر:
رفيع المنزلة. آوى: ارجع. وفر: مال كثير. يفري. يقطع. تفيد: تأتي بالفوائد.
صفري: دنانيري. تبيد: تتلف. سمري: رماحي. كومي: إبلي، والكوماء: الناقة العظيمة السنام أقري: أطعم الأضياف، أي تشتكي إبلي من كثرة ما أنحرها للضيفان.
شنّ: فرّق. الرزايا: المصائب. الغبر: الآتية في الزمان المحل. يسحتني: يستأصل مالي. يبري: يقطع لحمي. عفت: درست. غاض: ذهب وجفّ. درّي: لبن إبلي.(2/268)
صفري: دنانيري. تبيد: تتلف. سمري: رماحي. كومي: إبلي، والكوماء: الناقة العظيمة السنام أقري: أطعم الأضياف، أي تشتكي إبلي من كثرة ما أنحرها للضيفان.
شنّ: فرّق. الرزايا: المصائب. الغبر: الآتية في الزمان المحل. يسحتني: يستأصل مالي. يبري: يقطع لحمي. عفت: درست. غاض: ذهب وجفّ. درّي: لبن إبلي.
بار: كسد وضاع. سعري: سوقي. نضو: هزيل. فاقة: حاجة وفقر. عسر: ضيق حال.
المطا: الظهر. قشري: ثيابي. والدفء: ذهاب البرد، وقد دفىء يدفأ، أي سخن وذهب برده. الصّنّ والصنّبر: يومان من أيام العجوز، وهي سبعة: أربعة من آخر فبراير، وثلاثة من أول مارس. وقال الشاعر فجمعها: [الكامل]
كسع الشتاء بسبعة غبر ... بالصّنّ والصّنّبر والوبر (1)
وبآمر وأخيه مؤتمر ... ومعلّل وبمطفىء الجمر
التّضحّي: الجلوس للشمس. خضمّ: كريم، شبّه بالبحر، وهو الخضمّ. ذو رداء غمر: ذو عطاء كثير. مطرف: ثوب مربّع في طرفه علم.
الفرّاء: قيل مطرف لأنه أطرف، أي جعل في طرفيه العلمان. طمر: ثوب خلق.
ثمّ قال: يا أرباب الثّراء، الرّافلين في الفراء من أوتي خيرا فلينفق، ومن استطاع أن يرفق فليرفق فإنّ الدّنيا غدور، والدّهر عثور، والمكنة زورة طيف، والفرصة مزنة صيف. وإنّي والله لطالما تلقّيت الشّتاء بكافاته، وأعددت الأهب له قبل موافاته، وها أنا اليوم يا سادتي، ساعدي وسادتي، وجلدتي بردتي، وحفنتي جفنتي، فليعتبر العاقل بحالي، وليبادر صرف اللّيالي فإنّ السّعيد من اتّعظ بسواه، واستعدّ لمسراه.
* * * أرباب الثراء: أصحاب المال. الرّافلين: الماشين بخيلاء وتبختر. الفراء: جمع فروة. أوتي: أعطي. خيرا: مالا. يرفق: يعين، وأرفقته: أعطيته ما يرتفق به. غدور:
كثيرة الخداع. عثور: واقع بأهله. المكنة: الغنى.
طيف: ما يرى في النوم.
ابن الأنباري: في طيف الخيال قولان: قيل: أصله طيّف فخفّف، وقال الأصمعي رحمه الله تعالى: هو مصدر طاف، وبه أخذ السهيليّ رحمه الله تعالى، فقال: هو مصدر طاف الخيال يطيف طيفا، ولا يقال: منه طائف على فاعل، لأنه لا حقيقة للخيال، إنما
__________
(1) البيتان لأبي شبل الأعرابي في لسان العرب (كسأ)، (أمر)، (عجز)، (كسع)، والتنبيه والإيضاح 2/ 79، وتاج العروس (أمر)، والبيت الثاني لابن أحمر في ملحق ديوانه ص 185، ولابن أحمر أو لأبي شبل في تاج العروس (عجز)، ولسان العرب (عجز)، وبلا نسبة في لسان العرب (طفأ)، (علل)، وجمهرة اللغة ص 331.(2/269)
هو توّهم وتخيّل. فإن كان شيء له حقيقة قلت: فيه طائف، نحو قوله تعالى: {فَطََافَ عَلَيْهََا طََائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} [القلم: 19]، لأن الذي طاف عليها له حقيقة، ويقال: إنه جبريل عليه الصلاة والسلام. وأما قوله تعالى: {إِذََا مَسَّهُمْ طََائِفٌ مِنَ الشَّيْطََانِ تَذَكَّرُوا}
[الأعراف: 1، 2] فقد قرئ طائف أيضا فطائف لأن له حقيقة، وطيف لأنه غرور الشيطان وأمانيه تشبه بالخيال وما لا حقيقة له، فتحصل من هذا ثلاث مراتب الخيال، ولا حقيقة له فيعبّر بالطيف، ويقال في وسوسة الشيطان: طائف وطيف، وما عدا هذين فهو باسم الفاعل، ولا يعبّر عنه بطيف فقف عليه. الفرصة: ما تهيأ لك وتيسّر لك من مطالبتك. مزنة صيف، أي سحابة لا دوام لها، وأراد قول عمران بن حطّان: [الطويل]
أرى أشقياء النّاس لا يسمّونها ... على أنهم فيها غراب وجوع
أراها وإن كانت تحبّ فإنها ... سحابة صيف عن قريب تقشّع
ولما ولي بلال بن أبي بردة البصرة، كان إذا اجتاز في مواليه بخالد بن صفوان يقوله: [الطويل]
* سحابة صيف عن قريب تقشّع *
فبلغ قوله بلالا، فقال: والله لا تقشع حتى يصيبك منها شؤبوب، فردّه ثم ضربه مائة سوط.
كافات: جمع كاف، وأراد بها آلته وما يستعدّ له بها وهي الأهب التي أراد.
موافاته: مجيئه وحضوره. ساعدي: ذراعي. بردتي: ثوبي، الحفنة: ما يملأ الكفّ.
الجفنة: الصحفة، فليتعظ، أي يعتبر ويجعلني عبرة. صرف: تقلّب. استعد: أعدّ.
لمسراه: مثواه. وقال الألبيري في هذا المعنى: [المنسرح]
وذي غنى أوهمته همّته ... أنّ الغنى عنه غير منفصل
فجرّ أذيال عجبه بطرا ... واحتال للكبرياء في حلل
بزّته أيدي الخطوب بزّته ... فاعتاض بعد الجديد بالسّمل
فلا تثق بالغنى فآفته الفق ... ر وصرف الزمان ذو دول
كفى بنيل الكفاف منه غنى ... فكفّ به الدهر غير محتفل
[مقامة البديع البخارية]
ومن مقامات البديع: حدثنا عيسى بن هشام قال: أحلّني جامع بخارى يوم وقد انتظمت مع رفقة في سلك الثّريا. وحين احتفل الجامع بأهله طلع إلينا ذو طمرين، قد أرسل صوانا، واستتلى طفلا عريانا، يضيق بالضرّ وسعه، ويأخذه القرّ ويدعه، لا يملك غير القشرة بردة، ولا يكتفي لحماية رعدة، فوقف الرجل وقال: لا ينظر لهذا الطفل إلّا من الله طفّله، ولا يرقّ لهذا الضرّ إلّا من لا يأمن مثله. يا أصحاب الجدود المفروزة،
والأردية المطروزة، والدّور المنجّدة، والقصور المشيّدة. إنكم لن تأمنوا حادثا، ولن تعدموا وارثا، فبادروا الخير ما أمكن، وأحسنوا مع الدهر ما أحسن، فقد والله طعمنا السّكباج (1)، وركبنا الهملاج (2)، ولبسنا الديباج (3)، وافترشنا الحشايا بالعشايا، فما راعنا إلا هبوب الدهر بغدره، وانقلاب المجنّ لظهره، فعاد الهملاج قطوفا (4)، والديباج صوفا، وهلمّ جرا إلى ما تشاهدون من حالي وزيّي فها نحن نرتضع من الدهر ثدي عقيم، ونركب من الفقر ظهر بهيم، فلا نرنو إلّا بعين اليتيم، ولا نمدّ إلّا يد العديم. فهل من كريم يجلو غياهب هذه البؤوس، ويفلّ شبا هذه النحوس. ثم قعد مرتفقا (5)، وقال للطفل: أنت وشأنك، فقال: ما عسى أن أقول وهذا الكلام لو لقي الشّعر لحلقه، أو الصخر لفلقه، وإن قلبا لم ينضجه ما قلت لنيء، وقد سمعتم يا قوم، ما لم تسمعوا قبل اليوم فليشغل كلّ منكم بالجود يده، وليذكر غده، واقيا بي ولده، وامنحوني أشكركم، واذكروني أذكركم. وتمامها في العشرين.(2/270)
ومن مقامات البديع: حدثنا عيسى بن هشام قال: أحلّني جامع بخارى يوم وقد انتظمت مع رفقة في سلك الثّريا. وحين احتفل الجامع بأهله طلع إلينا ذو طمرين، قد أرسل صوانا، واستتلى طفلا عريانا، يضيق بالضرّ وسعه، ويأخذه القرّ ويدعه، لا يملك غير القشرة بردة، ولا يكتفي لحماية رعدة، فوقف الرجل وقال: لا ينظر لهذا الطفل إلّا من الله طفّله، ولا يرقّ لهذا الضرّ إلّا من لا يأمن مثله. يا أصحاب الجدود المفروزة،
والأردية المطروزة، والدّور المنجّدة، والقصور المشيّدة. إنكم لن تأمنوا حادثا، ولن تعدموا وارثا، فبادروا الخير ما أمكن، وأحسنوا مع الدهر ما أحسن، فقد والله طعمنا السّكباج (1)، وركبنا الهملاج (2)، ولبسنا الديباج (3)، وافترشنا الحشايا بالعشايا، فما راعنا إلا هبوب الدهر بغدره، وانقلاب المجنّ لظهره، فعاد الهملاج قطوفا (4)، والديباج صوفا، وهلمّ جرا إلى ما تشاهدون من حالي وزيّي فها نحن نرتضع من الدهر ثدي عقيم، ونركب من الفقر ظهر بهيم، فلا نرنو إلّا بعين اليتيم، ولا نمدّ إلّا يد العديم. فهل من كريم يجلو غياهب هذه البؤوس، ويفلّ شبا هذه النحوس. ثم قعد مرتفقا (5)، وقال للطفل: أنت وشأنك، فقال: ما عسى أن أقول وهذا الكلام لو لقي الشّعر لحلقه، أو الصخر لفلقه، وإن قلبا لم ينضجه ما قلت لنيء، وقد سمعتم يا قوم، ما لم تسمعوا قبل اليوم فليشغل كلّ منكم بالجود يده، وليذكر غده، واقيا بي ولده، وامنحوني أشكركم، واذكروني أذكركم. وتمامها في العشرين.
* * * فقيل له: قد جلوت علينا أدبك، فاجل لنا نسبك، فقال: تبّا لمفتخر، بعظم نخر، إنّما الفخر بالتّقى، والأدب المنتقى ثم أنشد: [الطويل]
لعمرك ما الإنسان إلّا ابن يومه ... على ما تجلّى يومه لا ابن أمسه
وما الفخر بالعظم الرّميم وإنّما ... فخار الذي يبغي الفخار بنفسه
ثمّ إنّه جلس محقوقفا، واجرنثم مقفقفا. وقال: اللهمّ يا من غمر بنواله، وأمر بسؤاله صلّ على محمد وآله، وأعنّي على البرد وأهواله، وأتح لي حرّا يؤثر من خصاصة، ويواسي ولو بقصاصة.
* * * قوله: «جلوت»، أظهرت وكشفت. أجل: اكشف وبيّن عنه. تبّا: خسرانا. نخر:
بال. المنتقى: المختار. تجلّى: تبدّى وظهر. الرّميم: البالي. يبغي: يطلب.
وقوله: «تبّا لمفتخر، بعظم نخر»، كانت العرب تتفاخر بالأحساب، وتتعاظم بكرم الآباء، فنزل القرآن العظيم بترك ذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}
[الحجرات: 10] و {أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللََّهِ أَتْقََاكُمْ} [الحجرات: 13]. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «أيها الناس، إنما الناس إخوة وليس لعربيّ على عجميّ فضل إلا
__________
(1) السكباج: لحم يطبخ بالخل ويجعل معه مرق.
(2) الهملاج: الدابة السريعة.
(3) الديباج: الحرير.
(4) القطوف: الدابة البطيئة في سيرها.
(5) قعد مرتفقا: أي قعد في مكان عال.(2/271)
بالتقوى. أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، وأكرمكم عند الله أتقاكم» (1)، فلذلك قال: إنما الفخر بالتقى.
وقال عليّ كرم الله وجهه ورضي عنه: [البسيط]
الناس من جهة التمثيل أكفاء ... أبوهم آدم والأمّ حوّاء
فإن يكن لهم من قبل ذا نسب ... يفاخرون به فالطين والماء
وقال عامر بن الطفيل: [الطويل]
وإني وإن كنت ابن سيّد عامر ... وفي السرّ منها والصريج المهذّب (2)
فما سودتني عامر عن ولادة ... أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب
ولكنّني أحمي حماها وأتّقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكب
فهذا مع إمكانه الفخر بالآباء لم يفخر إلا بنفسه. وأخذه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فقال: [الكامل]
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوما على الأحساب نتّكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
وهذا مثل قول الحسن رضي الله تعالى عنه وقد أجزل صلة شاعر، فليم في ذلك فقال: أتراني خفت أن يقول: إني لست ابن فاطمة بنت النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا ابن عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، ولكني خفت أن يقول: لست كمثلهما فيصدّق ويحمل عنه، ويبقى مخلّدا في الكتاب محفوظا على ألسنة الرواة، فقال الشاعر: أنت والله يا بن رسول الله أعرف بالمدح والذم مني.
قوله: والأدب المنتقى حدّث يحيى بن أكثم قال: بينما أنا جالس مع المأمون إذ دخل الدار فتى، أبدع الناس زيّا وهيبة ووقارا، وهو لا يلتفت إعجابا بنفسه، فنظر إليه المأمون، فقال: يا يحيى إنّ هذا الفتى لا يخلو أن يكون هاشميّا أو نحويّا، ثم بعثا من يتعرف ذلك منه. فعاد الرسول فأخبر أنه نحويّ. فقال المأمون: يا يحيى أعلمت إن علم النحو قد بلغ بأهله من عزة النفس وعلوّ الهمة منزلة بني هاشم في شرفهم! يا يحيى، من قعد به نسبه قام به أدبه.
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير، تفسير سورة 49، باب 5، وأحمد في المسند 5/ 411.
(2) الأبيات في ديوان عامر بن الطفيل ص 28، والبيت الثاني في الحيوان 2/ 95، وخزانة الأدب 8/ 343، 345، 348، وشرح شواهد الشافية ص 404، وشرح شواهد المغني ص 953، وشرح المفصل 10/ 101، والشعر والشعراء ص 343، ولسان العرب (كلل)، والمقاصد النحوية 1/ 242، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 185، والخصائص 2/ 342، ومغني اللبيب ص 677، ويروى «عن وراثة» بدل «عن ولادة».(2/272)
قال: وأنشد الشاعر: [المنسرح]
كن ابن من شئت واتّخذ أدبا ... يغنيك مأثوره عن النّسب
إنّ الفتى من يقول ها أنا ذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي
مالي عقلي وهمتي حسبي ... ما أنا مولى ولا أنا عربي
إن انتمي منتم إلى أحد ... فإنني منتم إلى أدبي
وتكلم رجل عند عبد الملك بكلام ذهب فيه كلّ مذهب، فقال له وقد أعجبه: ابن من أنت يا غلام؟ فقال: ابن نفسي يا أمير المؤمنين، التي نلت بها هذا المقعد منك، قال: صدقت. أخذه ابن دريد فقال: [الرجز]
كن ابن من شئت وكن مؤدّبا ... فإنما المرء بفضل حسّه
وليس من تكرمه لغيره ... مثل الذي تكرمه لنفسه
وقالت عائشة رضي الله عنها: كل كرم دونه لؤم، فاللؤم أولى به، وكل لؤم دونه كرم فالكرم أولى به يعني أن أفعال الإنسان إذا كرمت لم يضرّه لؤم آبائه، وإذا لؤمت لم ينفعه كرم آبائه. وقال المعرّي: [السريع]
لو عرف الإنسان مقداره ... لم يفخر المولى على عبده (1)
لولا سجاياه وأخلاقه ... لكان كالمعدوم في وجده
ومجده أفعاله لا الذي ... من قبله كان ولا بعده
قوله: ما تجلّى يومه، أي على ما ظهر وانكشف يومه من أفعاله المحمودة أو المذمومة. محقوقفا: منحنيا. اجرنثم: انقبض. مقفقفا: مرتعدا، ويقال: قفّ شعره إذا ارتفع من ذعر أصابه. وقفّ جلدي من هذا الحديث إذا اقشعر من استشناع ما سمع.
غمر بنواله، أي غطّى بعطاياه. وأمر بسؤاله: يريد قوله تعالى: {وَسْئَلُوا اللََّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]. آله: أهله. أهواله: شدائده ومخاوفه. أتح: قدّر. يؤثر: يفضّل غيره على نفسه. خصاصة: جوع، وهذا منتزع من القرآن.
* * * قال الرّاوي: فلمّا جلّى عن النّفس العصاميّة، والملح الأصمعيّة، جعلت ملامح عيني تعجمه، ومرامي لحظي ترجمه، حتّى استبنت أنّه أبو زيد، وأنّ تعرّيه أحبولة صيد. ولمح هو أنّ عرفاني قد أدركه، ولم يأمن أن يهتكه، فقال: أقسم بالسّمر والقمر، والزّهر والزّهر، إنّه لن يسترني إلّا من طاب خيمه، وأشرب ماء
__________
(1) الأبيات في سقط الزند ص 1016.(2/273)
المروءة أديمه. فعقلت ما عناه، وإن لم يدر القوم معناه، وساءني ما يعانيه من الرّعدة، واقشعرار الجلدة. فعمدت لفروة هي بالنّهار رياشي، وفي اللّيل فراشي فنضوتها عنّي، وقلت له: اقبلها منّي فما كذب أن افتراها، وعيني تراها. ثم أنشد: [السريع]
لله من ألبسني فروة ... أضحت من الرّعدة لي جنّه
ألبسنيها واقيا مهجتي ... وقّي شرّ الإنس والجنّه
سيكتسي اليوم ثنائي وفي ... غد سيكسى سندس الجنّه
* * * والعصامية: منسوبة إلى عاصم بن شهبر بن الحارث الجرميّ، حاجب النعمان بن المنذر الذي يقول له النابغة: [الوافر]
فإني لا ألام على دخول ... ولكن ما وراءك يا عصام (1)
ولم يكن عصام شريفا، ولا نشأ في قومه، ولكن كان من أشدّ الناس بأسا، وأفصحهم لسانا، وأحزمهم رأيا، وأقربهم إلى النعمان، وقال له رجل يوما: كيف بلغت هذه المنزلة من الملك وأنت دنيء الأصل؟ فقال: [الرجز]
نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكرّ والإقداما
* وصيّرته سيّدا هماما (2) *
ويقال: كن عصاميا ولا تكن عظاميا، أي افتخر بنفسك لا بآبائك الذين ماتوا وبقيت عظامهم. فكلّ من ليس له شرف قديم، وشرف بنفسه، يقال له عصاميّ.
وكانت لرجل عند الحجاج حاجة، فوصف بالجهل والحمق، فأراد أن يختبره، فقال: أعصاميّ أنت أم عظاميّ؟ فقال له الرجل: عصاميّ عظاميّ، فظنّ أنه يريد افتخاره بنفسه لفضله وبآبائه لشرفهم، فقال الحجاج: هذا من أفضل الناس، وقضى حاجته ثم جرّبه بعد ذلك، فوجده أجهل الناس، فقال له: أصدقني وإلا قتلتك، أجبتني بعصاميّ وعظاميّ، فقال له الرجل: لم أعلم معناهما، فخشيت أن أقول أحدهما فأخطىء، فقلت في نفسي: أقولهما معا، فإن ضرّني أحدهما نفعني الآخر، فقال الحجاج: المعاذير تصيّر الغبيّ خطيبا، فذهبت مثلا.
__________
(1) البيت في ديوان النابغة الذبياني ص 105، ومقاييس اللغة 4/ 334.
(2) الرجز لعصام بن شهبر في تاج العروس (شهبر)، وبلا نسبة في لسان العرب (عصم)، ومقاييس اللغة 2/ 175، 4/ 334، وتاج العروس (عصم).(2/274)
وسمع المأمون رجلا يفخر بنفسه وهو ناقص، فقال: أنت عظامي لا عصاميّ.
ولهذا أشار بما تقدم من قوله «تبّا لمفتخر، بعظم نخر»، يريد أن عصاما ساد بنفسه لا بآبائه، وكذلك السّروجيّ لم يفخر إلا بنفسه.
الأصمعية: التي حكاها الأصمعيّ، وقد مرّ من ملح الأصمعيّ في هذا الكتاب جملة كافية بحمد الله تعالى. والأصمعيّ عصاميّ لأنه من باهلة، وهي أهجن قبيلة في العرب وألأمها، وذكر المبرّد في كامله جملة أخبار في أمثالها، قال فيها الشاعر:
[المتقارب]
ولو قيل للكلب يا باهلي ... عوى الكلب من لؤم ذاك النّسب
وهو مع ذلك خامل المنشأ، وقد ذكرنا في الأربعين خمول أبيه إلا أنه ساد الناس بنفسه أدبا وعلما ودينا. ومن ملحه أنه قال: بينما أنا في طرق البصرة إذا أنا بكناس يكنس كنيفا، وإذا هو يقول: [الطويل]
فإياك والسكنى بأرض مذلّة ... تعدّ مسيئا فيه إن كنت محسنا
فنفسك أكرمها وإن ضاق مسكن ... عليك بها فاطلب لنفسك مسكنا
قال: فوقفت عليه، فقلت: والله ما بقي عليك من الهون شيء إلا وقد أهنتها به، فما الذي نلت من كرامتها؟ قال: والله لكنس ألف كنيف أحسن من القيام على باب مثلك ساعة.
الأصمعيّ: كان أعرابيان متواخيان بالبادية ثم إن أحدهما استوطن الريف، واختلف إلى باب الحجاج، فولّاه أصبهان. فسمع أخوه خبره فضرب إليه، فأقام ببابه حينا لا يصل إليه، ثم أذن له بالدخول، فأخذه الحاجب فمشى به وهو يقول: [الوافر]
فلست مسلّما ما دمت حيّا ... على زيد بتسليم الأمير
فقال زيد: لا أبالي، فقال الأعرابيّ: [الوافر]
أتذكر إذ لحافك جلد شاة ... وإذ نعلاك من جلد البعير
فقال: نعم، فقال الأعرابيّ: [الوافر]
فسبحان الّذي أعطاك ملكا ... وعلّمك القعود على السرير
تعجمه: تختبره. مرامي لحظي: نظرات عيني وسهام نظري، واحد المرامي مرماة، وهي السهم.
ترجمه: ترميه وتقع عليه. أحبولة: شبكة. يهتكه: يكشفه. السّمر: ظل القمر، ثم سمّي حديث الليل سمرا به. الزّهر: النجوم. خيمه: طبعه. أشرب: سقي. المروءة:
الفعل الجميل. أديمه: وجهه، ويقال: أشرب فلان حبّ فلان، إذا خالط حبّه قلبه. ما
عناه: ما أراده، يريد أنه لما قال: لن يسترني، إنما أراد لن يستر عليّ هذه الحيلة التي أريد بها خداع الناس بعد ما عرفها إلا من هو كما وصف.(2/275)
الفعل الجميل. أديمه: وجهه، ويقال: أشرب فلان حبّ فلان، إذا خالط حبّه قلبه. ما
عناه: ما أراده، يريد أنه لما قال: لن يسترني، إنما أراد لن يستر عليّ هذه الحيلة التي أريد بها خداع الناس بعد ما عرفها إلا من هو كما وصف.
وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «من رأى عورة أخيه فسترها كان كمن أحيا موؤودة من قبرها» (1).
ساءني: شقّ عليّ. يعانيه: يقاسيه. اقشعرار: انقباض وارتعاد. عمدت: قصدت.
رياشي: لباسي. نضوتها: جرّدتها. افتراها: اتخذها. جنّة: سترا ووقاية. واقيا: صائنا.
مهجتي: نفسي. وقّي: كفي. الجنّة: الجنّ. سندس: ثياب خضر.
* * * قال: فلّما فتن قلوب الجماعة، بافتنانه في البراعة ألقوا عليه من الفراء المغشّاة، والجباب الموشّاة، ما آده ثقله، ولم يكد يقلّه، فانطلق مستبشرا بالفرج، مستسقيا للكرج، وتبعته إلى حيث ارتفعت التقيّة، وبدت السّماء نقيّة، فقلت له:
لشدّ ما قرسك البرد. فلا تتعرّ من بعد، فقال: ويك! ليس من العدل، سرعة العذل، فلا تعجل بلوم هو ظلم، ولا تقف ما ليس لك به علم فو الّذي نوّر الشّيبه، وطيّب تربة طيبة، لو لم أتعرّ لرحت بالخيبة، وصفر العيبة.
* * * افتنانه: تنوّعه. البراعة: الجودة والفصاحة. المغشاة: المغطّاة بغيرها من الثياب.
الموشّاة: المزيّنة بالرقم. آده: أثقله. يقلّه: يرفعه. مستسقيا: داعيا بأن يسقيها الله تعالى. التقية: الخشية.
قوله: بدت السماء نقية، مثل ضرب لخلوّ الموضع من الناس وظهوره فيه وحده.
ويك، أي عجبا لك. العذل: اللوم.
تقف: تتبع، يقال: قفوت أثره أقفوه قفوا، إذا تتبعته، ومنه: قفا فلان فلانا إذا أتبعه بكلام قبيح، ويقال: قفاه بالتخفيف.
أبو عبيدة رحمه الله تعالى: أصل القفو والتّقافي: البهتان يرمي به الرجل صاحبه، واحتج بحديث حبان بن عطية: «من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله تعالى في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج» (2). قال الفراء رحمه الله تعالى: القفو: مأخوذ من القيافة، وهو تتبع الأمر، يقال: قاف القائف يقفو قيافة، فهو قائف، بتقديم الفاء على الواو، كما قالوا في جذب: جبذ، وقرئ: {وَلََا تَقْفُ} [الإسراء: 36] مثل تقل. نوّر: بيّض.
__________
(1) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب 24، وأبو داود في الأدب باب 38، وأحمد في المسند 4/ 147، 153، 158.
(2) أخرجه أحمد في المسند 2/ 82.(2/276)
[طيبة]
طيبة مدينة النبي صلّى الله عليه وسلم، وطيّب الله تربتها بأن صيّرها موطنا لنبيه صلّى الله عليه وسلم، في حياته ومستقرّا له بعد مماته. وذكر شيخنا ابن جبير المدينة فقال: للمدينة المكرّمة أربعة أبواب وهي تحت سورين في كلّ سور باب يقابله آخر: باب الحديد، وباب الشريعة، وباب القبلة، وباب البقيع، وبين سورها الغربيّ وخندق النبي صلّى الله عليه وسلم مقدار غلوة، وبين السور والخندق عين النبي صلّى الله عليه وسلم، وعليه حلق عظيم مستدير، ومنبع العين وسطه، كأنه الحوض المستطيل، وتحت العين سقايتان بينهما جدار لطهر الناس وغسل أثوابهم، والعين للاستقاء والعين تمد السقايتين، وتهبط إليهما على خمس وعشرين درجة، وماؤها يعم أهل الأرض فضلا عن أهل المدينة. وبمقربة من الحوض ممّا يلي الحوض حجر الزيت، يقال: إنّ الزيت رشح للنبي صلّى الله عليه وسلم من ذلك الحجر. وبالقرب منه بئر بضاعة وبإزائها من الجهة اليسار جبل الشيّطان حيث صرخ يوم أحد: قتل نبيكم. وعلى شفير الخندق حصن العزّاب، وهو خرب. كان عمر رضي الله عنه بناه لعزّاب المدينة، وأمامه لجهة الغرب على بعد بئر رومة التي اشتراها عثمان رضي الله عنه بعشرين ألفا. وداخل باب الحديد سقاية يهبط إليها على أدراج، وهي بمقربة من الحرم المكرّم، وبقبليّ الحرم دار مالك بن أنس رضي الله عنه. ويطيف بالحرم شارع مبلط بالحجر المنحوت، وفي جوفي المدينة جبل أحد على ثلاثة أميال منها، وبقبليّة مسجد حمزة، وقبره برحبة بجوفي المسجد، وبإزائه قبور الشهداء، وحوله تربة حمراء أنزل فيها سورة الفتح الشريفة، وشرقي المدينة بقيع الغرقد، وإذا خرجت على باب البقيع تلقي على يسارك قبر صفيّة عمة النبي صلّى الله عليه وسلم وأم الزبير، وأمامها قبة مختصرة البناء على قبر مالك بن أنس. وأمامه قبر السلالة الطاهرة إبراهيم ابن النبي صلّى الله عليه وسلم عليه قبة بيضاء وعلى يمينها قبر عبد الرحمن بن عمر، الذي جلده أبوه الحدّ فمات، وبإزائه قبر عقيل بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر، وبإزائه روضة صغيرة فيها ثلاثة من أبنائه صلّى الله عليه وسلم، ويليها روضة العباس والحسن رضي الله عنهما، وعليها قبة مرتفعة في الهواء، وقبراهما مرتفعان على الأرض مغشيان بألواح ملتصقة أبدع التصاق، مرصعة بالصفائح الصّفر مسكوكة بمسامير على أبدع صفة، وعلى هذا الشكل قبر إبراهيم عليه السلام ابن النبي صلّى الله عليه وسلم، وفي آخر البقيع قبر عثمان بن عفان الشهيد، وعليه قبة مختصرة البناء، وبمقربة منه قبر فاطمة بنت أسد أم عليّ كرم الله وجهه، ومشاهد البقيع أكثر من أن تحصى لأنها مدفن الصحابة رضي الله عنهم. وقبل المدينة على نحو الميلين قباء، وكانت مدينة كبيرة متصلة بالمدينة المكرّمة، وبها المسجد الذي أسس على التقوى وهو مربع مستوى الطول والعرض له باب واحد من جهة الغرب، وهو سبع بلاطات في الطول، ومثلها في العرض، وفيه صومعة طويلة بيضاء تظهر على البعد، وفي وسطه مبرك الناقة بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم، عليه حلق قصير شبه الروضة، يتبرّك الناس بالصلاة فيه وفي صحنه مما يلي القبلة شبه محراب على مسطبة، وهو أوّل موضع ركع فيه النبي صلّى الله عليه وسلم،
وفي قبليّة دار بني النجار، وهي دار أبي أيوب الأنصاريّ، ويليها دار عائشة رضي الله تعالى عنها، وبإزائها دار عمر ودار فاطمة ودار أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين ورضي عنّا بهم، وبإزائها بئر أريس حيث تفل فيه النبي صلّى الله عليه وسلم فعاد عذبا بعد أن كان أجاجا، وفيه وقع خاتمه من يد عثمان رضي الله عنه، وحديثه مشهور، وفي آخره تلّ مشرف يعرف بعرفات لأنه كان موقف النبي صلّى الله عليه وسلم يوم عرفة، ومنه زويت له الأرض فأبصر الناس بعرفات. ويدخل من التل على دار الصّفة، وبها كان عمار وسلمان وأصحابهما. والطريق من قبل قباء إلى المدينة بين حدائق النخل المتصلة، والنخيل تحدق بالمدينة من جهاتها، وأعظمها جهة القبلة والشرق، وأقلها جهة الغرب. وآثار المدينة وقباء لا تحصى. فلمّا خص الله تعالى تربة طيبة بصفوة عباده أقسم الحريري بمن طيّبها.(2/277)
طيبة مدينة النبي صلّى الله عليه وسلم، وطيّب الله تربتها بأن صيّرها موطنا لنبيه صلّى الله عليه وسلم، في حياته ومستقرّا له بعد مماته. وذكر شيخنا ابن جبير المدينة فقال: للمدينة المكرّمة أربعة أبواب وهي تحت سورين في كلّ سور باب يقابله آخر: باب الحديد، وباب الشريعة، وباب القبلة، وباب البقيع، وبين سورها الغربيّ وخندق النبي صلّى الله عليه وسلم مقدار غلوة، وبين السور والخندق عين النبي صلّى الله عليه وسلم، وعليه حلق عظيم مستدير، ومنبع العين وسطه، كأنه الحوض المستطيل، وتحت العين سقايتان بينهما جدار لطهر الناس وغسل أثوابهم، والعين للاستقاء والعين تمد السقايتين، وتهبط إليهما على خمس وعشرين درجة، وماؤها يعم أهل الأرض فضلا عن أهل المدينة. وبمقربة من الحوض ممّا يلي الحوض حجر الزيت، يقال: إنّ الزيت رشح للنبي صلّى الله عليه وسلم من ذلك الحجر. وبالقرب منه بئر بضاعة وبإزائها من الجهة اليسار جبل الشيّطان حيث صرخ يوم أحد: قتل نبيكم. وعلى شفير الخندق حصن العزّاب، وهو خرب. كان عمر رضي الله عنه بناه لعزّاب المدينة، وأمامه لجهة الغرب على بعد بئر رومة التي اشتراها عثمان رضي الله عنه بعشرين ألفا. وداخل باب الحديد سقاية يهبط إليها على أدراج، وهي بمقربة من الحرم المكرّم، وبقبليّ الحرم دار مالك بن أنس رضي الله عنه. ويطيف بالحرم شارع مبلط بالحجر المنحوت، وفي جوفي المدينة جبل أحد على ثلاثة أميال منها، وبقبليّة مسجد حمزة، وقبره برحبة بجوفي المسجد، وبإزائه قبور الشهداء، وحوله تربة حمراء أنزل فيها سورة الفتح الشريفة، وشرقي المدينة بقيع الغرقد، وإذا خرجت على باب البقيع تلقي على يسارك قبر صفيّة عمة النبي صلّى الله عليه وسلم وأم الزبير، وأمامها قبة مختصرة البناء على قبر مالك بن أنس. وأمامه قبر السلالة الطاهرة إبراهيم ابن النبي صلّى الله عليه وسلم عليه قبة بيضاء وعلى يمينها قبر عبد الرحمن بن عمر، الذي جلده أبوه الحدّ فمات، وبإزائه قبر عقيل بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر، وبإزائه روضة صغيرة فيها ثلاثة من أبنائه صلّى الله عليه وسلم، ويليها روضة العباس والحسن رضي الله عنهما، وعليها قبة مرتفعة في الهواء، وقبراهما مرتفعان على الأرض مغشيان بألواح ملتصقة أبدع التصاق، مرصعة بالصفائح الصّفر مسكوكة بمسامير على أبدع صفة، وعلى هذا الشكل قبر إبراهيم عليه السلام ابن النبي صلّى الله عليه وسلم، وفي آخر البقيع قبر عثمان بن عفان الشهيد، وعليه قبة مختصرة البناء، وبمقربة منه قبر فاطمة بنت أسد أم عليّ كرم الله وجهه، ومشاهد البقيع أكثر من أن تحصى لأنها مدفن الصحابة رضي الله عنهم. وقبل المدينة على نحو الميلين قباء، وكانت مدينة كبيرة متصلة بالمدينة المكرّمة، وبها المسجد الذي أسس على التقوى وهو مربع مستوى الطول والعرض له باب واحد من جهة الغرب، وهو سبع بلاطات في الطول، ومثلها في العرض، وفيه صومعة طويلة بيضاء تظهر على البعد، وفي وسطه مبرك الناقة بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم، عليه حلق قصير شبه الروضة، يتبرّك الناس بالصلاة فيه وفي صحنه مما يلي القبلة شبه محراب على مسطبة، وهو أوّل موضع ركع فيه النبي صلّى الله عليه وسلم،
وفي قبليّة دار بني النجار، وهي دار أبي أيوب الأنصاريّ، ويليها دار عائشة رضي الله تعالى عنها، وبإزائها دار عمر ودار فاطمة ودار أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين ورضي عنّا بهم، وبإزائها بئر أريس حيث تفل فيه النبي صلّى الله عليه وسلم فعاد عذبا بعد أن كان أجاجا، وفيه وقع خاتمه من يد عثمان رضي الله عنه، وحديثه مشهور، وفي آخره تلّ مشرف يعرف بعرفات لأنه كان موقف النبي صلّى الله عليه وسلم يوم عرفة، ومنه زويت له الأرض فأبصر الناس بعرفات. ويدخل من التل على دار الصّفة، وبها كان عمار وسلمان وأصحابهما. والطريق من قبل قباء إلى المدينة بين حدائق النخل المتصلة، والنخيل تحدق بالمدينة من جهاتها، وأعظمها جهة القبلة والشرق، وأقلها جهة الغرب. وآثار المدينة وقباء لا تحصى. فلمّا خص الله تعالى تربة طيبة بصفوة عباده أقسم الحريري بمن طيّبها.
صفر العيبة: خلو الوعاء.
* * * ثمّ نزع إلى الفرار، وتبرقع بالاكفهرار، وقال: أما تعلم أنّ شنشنتي الانتقال من صيد إلى صيد، والانعطاف من عمرو إلى زيد، وأراك قد عقتني وعققتني، وأفتّني أضعاف ما أفدتني، فاعفني عافاك الله من لغوك، واسدد دوني باب جدّك ولهوك. فجبذته جبذ التّلعابة، وجعجعت به للدّعابة، وقلت له: والله لو لم أوارك، وأغطّ على عوارك، لما وصلت إلى صلة، ولا نقلبت أكسى من بصلة، فجازني عن إحساني إليك، وستري لك وعليك، بأن تسمح لي بردّ الفروة، أو تعرّفني كافات الشّتوة. فنظر إليّ نظر المتعجّب، وازمهرّ ازمهرار المتغضّب، ثمّ قال: أمّا ردّ الفروة فأبعد من ردّ أمس الدّابر، والميت الغابر.
* * * نزع: مال وحنّ. وتبرقع: ستر وجهه. الاكفهرار: العبوس. شنشنتي: طبيعتي.
الانعطاف: الرجوع. عقتني: حبستني. عققتني: قطعتني. أفتّني: حرمتني. أفدتني:
أكسبتني فائدة. اعفني: أرحني وعافني. لغوك: باطلك. التلعابة: كثرة اللعب ورجل تلعابة: حسن اللعب مزّاح، وفي الحماسة: [الطويل]
هو الظفر الميمون إن عاد واغتدى ... به الركب والتّلعابة المتحبّب (1)
__________
(1) يروى صدر البيت:
هو الظّفر الميمون إن راح أو غدا
وهو للعجير السلولي في لسان العرب (ظفر)، وتاج العروس (ظفر)، وبلا نسبة في أساس البلاغة (ظفر).(2/278)
جعجعت: صحت ودعوت به، والجعجعة: رغاء الإبل. الدّعابة: المزاح.
أوارك: أسترك. عوارك: عيبك. صلة: عطية. ستري لك، أي ثوبي، وأراد بعليك، سكوتي عنك حين قلت: لن يسترني إلا من طاب خيمه. ازمهرّ: توقدت عيناه غضبا.
المتغضّب: المستعمل الغضب. الدابر: الماضي. والغابر: الذاهب.
* * * وأمّا كافات الشّتوة، فسبحان من طبع على ذهنك، وأوهى وعاء خزنك، حتّى أنسيت ما أنشدتك بالدّسكرة، لابن سكّرة: [البسيط]
جاء الشّتاء وعندي من حوائجه ... سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا
كنّ وكيس وكانون وكاس طلا ... بعد الكباب وكسّ ناعم وكسا
ثمّ قال: لجواب يشفي، خير من جلباب يدفي فاكتف بما وعيت وانكفي.
ففارقته وقد ذهبت فروتي لشقوتي، وحصلت على الرّعدة طول شتوتي.
* * * وقوله: سبحان من طبع، معناه تنزيها لك يا ربنا من الولد والصاحب والشريك، أن نزهناك من ذلك، وانتصابه على المصدر، كأنك قلت: سبحت الله تسبيح، فجعلت «سبحان» في موضع التسبيح، ومعنى طبع على قلبك، أي غشّاه الصدأ والدنس والوسخ، قال الله تعالى: {فَطُبِعَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} [المنافقون: 3] وقال: {كَذََلِكَ يَطْبَعُ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِ الَّذِينَ لََا يَعْلَمُونَ} [الروم: 59]، وفي الحديث «نعوذ بالله من طمع يدني إلى طبع» (1). وقال الشاعر: [البسيط]
لا تطمعن طمعا يدني إلى طبع ... إن المطامع فقر والغنى ياس
وأنشد يعقوب: [البسيط]
لا خير في طمع يدني إلى طبع ... وغفّة من قوام العيش تكفيني (2)
والذهن: قوّة إدراك العقل. أوهى: أضعف. خزنك: تثقيفك وحرزك. الدسكرة:
هنا قرية معروفة بينها وبين بغداد على طريق خراسان ستة عشرة فرسخا.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 5/ 232، 247، بلفظ: «استعيذوا بالله من طمع يهدي إلى طبع».
(2) البيت لثابت بن قطنة في لسان العرب (طبع)، وتاج العروس (غفف)، وأمالي المرتضى 1/ 408، وله أو لعروة بن أذينة في تاج العروس (طبع)، وهو في ديوان عروة بن أذينة ص 386، وبلا نسبة في لسان العرب (غفف)، ومجمل اللغة 4/ 5، ومقاييس اللغة 4/ 375، والمخصص 3/ 69، 2/ 288، وديوان الأدب 3/ 26، وأساس البلاغة (غفف).(2/279)
[ابن سكّرة]
وابن سكّرة من شعراء اليتيمة قال صاحبها: ابن سكرة الهاشميّ هو أبو الحسن محمد بن عبد الله بن محمد. شاعر متسع الباع، في أنواع الإبداع، فائق في قول الظرف والملح، أحد الفحول والأفراد، وجال في ميدان المجون والسخف بما أراد. وكان يقال ببغداد: إن زمانا جاد بابن سكرة وابن الحجاج لسخيّ جدّا، وما أشبّههما إلا بجرير والفرزدق في عصرهما. ويقال إن ديوان ابن سكرة يربو على خمسين ألف بيت.
ومن شعره في غلام في يده غصن نوار: [المنسرح]
غصن بان بدا وفي اليدّ منه ... غصن فيه لؤلؤ منظوم
فتحيّرت بين غصنين في ذا ... قمر طالع وفي ذا نجوم
وله في غلام يعرف بابن برغوث: [الوافر]
بليت ولا أقول بمن لأني ... إذا أنا قلت من هو تعشقوه
حبيب قد نفى عنّي رقادي ... فإن غمّضت أيقظني أبوه
وله في غلام أعرج: [الكامل]
قالوا بليت بأعرج فأجبتهم ... العيب يحدث في غصون البان
ماذا عليّ إذا استجدت شمائلا ... وروادفا تغني عن الكثبان
إني أحبّ جلوسه وأريده ... للنوم لا للجري في الميدان
في كلّ غصن منه حسن كامل ... ما ضرّني إن زلّت القدمان
وله في غلام سميّه: [الوافر]
إذا باسمي دعيت حننت شوقا ... وذكّرني به الداعي حبيبي
فليت كما اتفقنا في الأسامي ... وألفتها اتفقنا في القلوب
وله أيضا: [المتقارب]
بنفسي عذار بدا طالعا ... على ناضر الورد ما أملحا
كتمت هواه زمان الصّبا ... وبوّحت بالحبّ لمّا التحى
وقالوا محا الشعر لمّا بدا ... محاسنه منه واستقبحا
فقلت لهم ما محا حسنه ... ولكنّ صبري عنه محا
وله في مثله: [الخفيف]
وغزال لولا تميمة شعر ... ذكّرته لقلت بعض الجواري
شارب أشرب الصبابة قلبي ... وعذار خلعت فيه عذاري
وله في مثله أيضا: [الخفيف](2/280)
وغزال لولا تميمة شعر ... ذكّرته لقلت بعض الجواري
شارب أشرب الصبابة قلبي ... وعذار خلعت فيه عذاري
وله في مثله أيضا: [الخفيف]
من عذيري من شادن لا يراني ... وهو روحي أهلا لردّ السلام
أنا من خده وعينيه والثغ ... ر ومن ريقه البعيد المرام
بين ورد ونرجس ولآل ... أقحوان وبابليّ مدام
وله في مثله أيضا: [المنسرح]
في وجه إنسانة كلفت بها ... أربعة ما اجتمعن في أحد
الخدّ ورد والصّدغ غالية ... والريق خمر والثّغر من برد
وله في مثله أيضا: [الوافر]
لقد أمسكت من عمر بن يحيى ... بحبل ما أخاف له انبتاتا
حباني في الحياة ورمّ حالي ... وأوصى بي أبا حسن وماتا
فكنت مجاورا للبحر منه ... فلمّا مات جاورت الفراتا
وله في وزير المهلبي: [البسيط]
لا عذّب الله ميتا كان ينعشني ... فقد لقيت بضرّي مثل ما لاقى
طواه موت طوى عني مكارمه ... فذقت من بعده بالفقر ما ذاقا
وقال فيه أيضا: [الطويل]
مضى ملك عمّ البرية جوده ... رؤوف وإن راع الأسود شفيق
سكرت بنعماه وجود وزيره ... فقالت لي الأيام: سوف تذوق
وقال رحمه الله أيضا: [الوافر]
لقد كان الشباب فكان غضّا ... له ثمر وأوراق تظلّك
وكان البعض منك فمات فاعلم ... متى ما مات بعضك مات كلّك
ويا بعد ما بين حاله وقت قوله: جاء الشتاء البيتين. وبين حاله وقت موت المهلبي، وقد أدرك فاقة، فسئل عما أعدّ للشتوة فقال: [مجزوء الرمل]
قيل ما أعددت للبر ... د فقد جاء بشدّه
قلت: درّاعه عري ... تحتها جبّة رعده
* * * قوله: «إذا القطر عن حاجاتنا حبسا»، في معنى ذلك أن الحسن بن وهب تأخر عن ابن الزيات وهو يكتب له، فاستبطأه فكتب الحسن إليه: [الخفيف]
أوجب العذر في تراخي اللقاء ... ما ترى بي من هذه الأنواء
لست أدري ماذا أقول وأشكو ... من سماء تعوقني عن سماء
غير أني أدعو على تلك بالثّك ... ل وأدعو لهذه بالبقاء
فسلام الإله أهديه منّي ... لك غضّا يا سيّد الوزراء
كان لابن عبد ربه فتى يهواه، فأعلمه أني راحل غدا، فلما أصبح عاقه عن السفر تكاثر المطر، فانجلى عن ابن عبد ربه همّه، وكتب إليه: [البسيط](2/281)
أوجب العذر في تراخي اللقاء ... ما ترى بي من هذه الأنواء
لست أدري ماذا أقول وأشكو ... من سماء تعوقني عن سماء
غير أني أدعو على تلك بالثّك ... ل وأدعو لهذه بالبقاء
فسلام الإله أهديه منّي ... لك غضّا يا سيّد الوزراء
كان لابن عبد ربه فتى يهواه، فأعلمه أني راحل غدا، فلما أصبح عاقه عن السفر تكاثر المطر، فانجلى عن ابن عبد ربه همّه، وكتب إليه: [البسيط]
هلّا ابتكرت لبين أنت مبتكر ... هيهات يأتي عليك الله والقدر
ما زلت أبكي حذار البين ملتهبا ... حتى رثا لي فيك الريح والمطر
يا برده من حيا مزن على كبد ... نيرانها بغليل الشّوق تستعر
آليت ألّا أرى شمسا ولا قمرا ... حتى أراك، فأنت الشمس والقمر
وعد ابن رشيق محبوبه الصائغ أن يكون عنده يوم عيد فصلّى وارتقبه، فإذا بالسماء قد أرعدت وأبرقت، فكتب إليه: [البسيط]
تجهّم العيد وانهلّت مدامعه ... وكنت أعهد منه البشر والضّحكا
كأنه جاء يطوي الأرض من بعد ... شوقا إليك فلما لم يجدك بكى
وكتب السّلاميّ إلى أصحابه والمطر قد قطعه عنهم: [الوافر]
قطعتكم برغم المجد شهرا ... أشدّ عليّ من شهر الصّيام
وكيف أزوركم والمزن تبكي ... على داري بأربعة سجام
وكانت منزلا طلق الحميّا ... فصارت واديا صعب المرام
تهافت ركّع الجدران فيها ... سجودا للرّعود بلا إمام
أنادي كلما ارتفعت سحاب ... فأبكتنا البوارق بابتسام
حوالينا بذاك ولا علينا ... كفانا الله شرّك من غمام
كنّ، أي بيت. كيس: وعاء الدراهم. كانون: حيث تجعل النار فيه. طلا: خمر.
كباب: لحم يشرح ويشوى، وكبّبته: فعلت ذلك به، وقيل: الكباب قطع الكرش تلوي عليها المصارين، وأراد بها ها هنا شواء اللحم. والكسّ: اسم فرج المرأة وليس بعربي، قال الفنجديهي رحمه الله تعالى: سمعت بعض الفضلاء يقول: كتب ابن سكّرة في يوم مطر إلى صديق له: [البسيط]
يوم مطير وعندي من خواطره ... سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا
حروف كافاتها فيها مقومة ... إذا تلاها الفتى ذو اللبّ أو درسا
لنّ وكيس وكانون وكأس طلا ... مع الكباب وكسّ ناعم وكسا
فلو مطرت البحار الدّهر لم ترني ... أقول: أحسن هذا اليوم بي وأسا
وزاد ابن مسعود عليه كافا ثامنة فقال: [الطويل](2/282)
يوم مطير وعندي من خواطره ... سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا
حروف كافاتها فيها مقومة ... إذا تلاها الفتى ذو اللبّ أو درسا
لنّ وكيس وكانون وكأس طلا ... مع الكباب وكسّ ناعم وكسا
فلو مطرت البحار الدّهر لم ترني ... أقول: أحسن هذا اليوم بي وأسا
وزاد ابن مسعود عليه كافا ثامنة فقال: [الطويل]
وكم ليلة في شهر كانون بتّها ... أعانق من حبّي بها الدّعص والغصنا
سمعت من الكافات فيها ثمانيا ... فما شئت من مرأى أنيق حوى الحسنا
كبابا وكيزانا وكيسا وكاعبا ... كساء وكوبا والكوانين والكسا
كما نقصه الأمير تميم بن المعز السابعة، فقال: [الطويل]
إذا هبّ سلطان المريسيّ ضاحكا ... سحيرا وحلّ الغرب كلّ نقاب
وزرّ على الأرض الغمام ثيابه ... فقم والقه في عدّة وحراب
بكنّ وكانون وكأس مدامة ... وكيس وكسّ وافر وكباب
نقلت أبيات ابن مسعود من شرح شيخنا ابن اللبان، قال: ولما جمعنا في أيام الشتاء ما جمعنا من الكافات، قلت في ضدها من الحرّبيتين، جمعت فيهما من الراءات ثمانية وهي: [البسيط]
عندي فديتك راءات ثمانية ... ألقي بها الحرّ إن وافى وإن بردا
رقّ وروح وريحان وريق رشا ... ورفرف ورياض ناعم وردا
جلباب: ثوب يلبس على الثياب. اكتف: اقتنع. وعيت: حفظت. انكفي: ارجع إلى موضعك. طول: مدة. والله تعالى أعلم.(2/283)
المقامة السّادسة والعشرون وتعرف بالرقطاء
حدّث الحارث بن همّام قال: حللت سوق الأهواز، لابسا حلّة الإعواز، فلبثت فيها مدّة، أكابد شدّة، وأزجّي أياما مسودّة، إلى أن رأيت تمادي المقام، من عوادي الانتقام، فرمقتها بعين القالي، وفارقتها مفارقة الطّلل البالي. فظعنت عن وشلها كميش الإزار، ركضا إلى المياه الغزار حتّى إذا سرت منها مرحلتين، وبعدت سرى ليلتين، تراءت لي خيمة مضروبة، ونار مشبوبة، فقلت: آتيهما لعلّي أنقع صدى، أو أجد على النار هدى.
* * * حللت: نزلت. الأهواز: مدينة واسعة لها سبع كور بين البصرة وفارس، قال الرّشاطي: الأهواز: متصلة بالجبل وأصبهان، وقيل: إن الأهواز بلد من سكن قصبته، ضعف عقله ولزمته الحمّى.
حلة الإعواز: ثوب الفقر، والحلّة إزار ورداء، ولا يقال لثوب واحد: حلّة. لبثت:
أقمت. أكابد: أقاسي. أزجّي: أسوق. مسودّة: شداد مشؤومة. تمادي: دوام وطول.
المقام: الإقامة. عوادي: جمع عادية، من العدوان وهو الظلم. والانتقام: العذاب والنكاية. رمقتها: نظرتها. القالي: البغيض. الطلل: ما شخص من آثار الدار. ظعنت:
ارتحلت. وشلها: ماؤها القليل. كميش: مشمّر، وانكمش في طلب حاجته: أسرع فيها، والإزار والمئرز: ما يلبس عرضا من السراويل، ولا تعرف العرب السراويل، ووجدها أعرابي فظنّها قميضا، فأدخل يديه من على ساقيها، والتمس من أين يخرج رأسه فلم يجد فرمى بها، وقال: هذا قميص الشيطان.
قوله: راكضا، أي جاريا، وهمزة ماء مبدلة من هاء «مياه». الغزار: الكثيرة. سرى ليلتين، أي سرت مقدار ما يسار فيه ليلتين. تراءت: ظهرت. مشبوبة: موقودة. أنقع صدى: أروي عطشا. أجد على النار هدى، أي أجد عليها من يرشدني إلى الطريق.
* * * فلمّا انتهيت إلى ظلّ الخيمة، رأيت غلمة روقة، وشارة مرموقة، وشيخا عليه
بزة سنيّة، ولديه فاكهة جنيّة. فحيّيته ثمّ تحاميته. فضحك إليّ، وأحسن الرّدّ عليّ، وقال: ألا تجلس إلى من تروق فاكهته، وتشوق مفاكهته! فجلست لاغتنام محاضرته، لا لالتهام ما بحضرته، فحين سفر عن آدابه، وكشر عن أنيابه، عرفت أنّه أبو زيد بحسن ملحه، وقبح قلحه. فتعارفنا حينئذ، وحفّت بي فرحتان ساعتئذ، ولم أدر بأيّهما أنا أضفى فرحا، وأوفى مرحا! أبإسفارة، من دجنّة أسفاره، أم بخصب رحاله، بعد إمحاله.(2/284)
* * * فلمّا انتهيت إلى ظلّ الخيمة، رأيت غلمة روقة، وشارة مرموقة، وشيخا عليه
بزة سنيّة، ولديه فاكهة جنيّة. فحيّيته ثمّ تحاميته. فضحك إليّ، وأحسن الرّدّ عليّ، وقال: ألا تجلس إلى من تروق فاكهته، وتشوق مفاكهته! فجلست لاغتنام محاضرته، لا لالتهام ما بحضرته، فحين سفر عن آدابه، وكشر عن أنيابه، عرفت أنّه أبو زيد بحسن ملحه، وقبح قلحه. فتعارفنا حينئذ، وحفّت بي فرحتان ساعتئذ، ولم أدر بأيّهما أنا أضفى فرحا، وأوفى مرحا! أبإسفارة، من دجنّة أسفاره، أم بخصب رحاله، بعد إمحاله.
* * * روقة: حسانا، وغلام روقة، إذا أعجبك، وغلمان روقة، الواحد والجمع سواء، وقيل: روقة لفظ مفرد والجمع روق، والهاء للمبالغة. شارة: هيئة حسنة يشار إليها.
مرموقة: محبوبة. بزّة سنية ثياب حسان، والبزّة والبزّ أفضل الثياب: جنيّة: طرية كما اجتنيت. حيّيته: سلّمت عليه. تحاميته: تباعدت عنه. تروق: تعجب. تشوق: تشوّق وتدعو إلى الطرب. مفاكهته: ممازحته، وفاكهته: حدّثته بما يعجب. التهام: ابتلاع.
سفر: كشف وبيّن أنه من أهل الأدب. كشر عن أنيابه: كشف عن أسنانه عند الضحك.
ملحه: مليح كلامه. قلحه: صفرة أسنانه. تعارفنا: عرّفته من أنا وعرفني من هو. حفّت:
أحاطت. والمرح: شدة الفرح وأوفى مرحا، أي أكمل طربا ونشاطا. إسفاره: طلوعه وإضاءته. دجنة: سواد وظلام. أسفاره: جمع سفر. رحاله: أوقاره، يصف كثرة ماله، وأنه إذا نزل منزلا أخصب بكثرة أحماله. إمحاله: جدبه.
* * * وتاقت نفسي إلى أن أفضّ ختم سرّه، وأبطن داعية يسره، فقلت له: من أين إيابك، وإلى أين انسيابك، وبم امتلأت عيابك؟ فقال: أمّا المقدم فمن طوس، وأمّا المقصد فإلى السّوس. وأمّا الجدة الّتي أصبتها، فمن رسالة اقتضيتها. فسألته أن يفرشني دخلته، ويسرد عليّ رسالته، فقال: دون مرامك حرب البسوس، أو تصحبني إلى السّوس. فصاحبته إليها قهر، وعكفت عليه بها شهرا، وهو يعلّني كاسات التعليل، ويجرّني أعنّة التأميل.
* * * تاقت: اشتاقت. أفضّ: أكسر. ختم: ربط وشد. أبطن: أعرف باطنه. يسره:
غناه. إيابك: رجوعك. انسيابك: ذهابك. عيابك: أوعية متاعك.
طوس: مدينة منها إلى نيسابور مرحلتان، قال اليعقوبي: مدينة طوس العظمى،
يقال لها لوبان، وبها قبر الرشيد، وبها توفّي الرضا عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين، وهي من ثغور الجبال المتصلة بخراسان، ومجاورتها أيضا مدينة أصبهان، وهي عظيمة.(2/285)
طوس: مدينة منها إلى نيسابور مرحلتان، قال اليعقوبي: مدينة طوس العظمى،
يقال لها لوبان، وبها قبر الرشيد، وبها توفّي الرضا عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين، وهي من ثغور الجبال المتصلة بخراسان، ومجاورتها أيضا مدينة أصبهان، وهي عظيمة.
وأما السوس، فمدينة بأرض فارس، تعمل بها الثياب السّوسية من الخزّ، قال الرشاطي: السوس من كور الأهواز، والسوس في بلاد الغرب، وذكر الجاحظ أن من طنجة إليها عشرين يوما.
وسوسة من بلاد إفريقية على البحر، تصنع بها ثياب رفاع، والسوس اسم مشترك، والذي قصد الحريري منهما الأولى.
الجدة: الغنى. اقتضبتها: ارتجلتها. يفرشني دخلته: يبسط لي باطن أمره، وأفرشتك حديثي: بسطته لك وبيّنته. يسرد: يقرأ. مرامك: مطلبك. وتقدّمت حرب البسوس في التاسعة عشرة.
عكفت: أقمت. يعلني: يسقيني مرّة بعد مرة، والتعليل أن يطمعك في قضاء حاجتك فإذا تقاضيته أظهر لك عللا وعوائق لم يمنّيك، فمتى ما جئته اعتل لك بعلة مانعة من قضاء حوائجك.
يجرّني: يعلّقها بي ويجعلني أجرّها. أعنّة: جمع عنان. التأميل: مصدر أمّله، إذا رجاه وحقق له أمله.
* * * حتّى إذا حرج صدري، وعيل صبري قلت له: إنّه لم يبق لك علّة، ولا لي في المقام تعلّة، وفي غد أزجر غراب البين، وأرحل عنك بخفّي حنين، فقال:
حاش لله أن أخلفك، أو أخالفك وما أرجأت أن أحدّثك إلّا لألبّثك. وإذا كنت قد استربت بعدتي، وأغراك ظنّ السّوء بمباعدتي، فأصخ لقصص سيرتي الممتدّة، وأضفها إلى أخبار الفرج بعد الشّدّة.
فقلت لها: هات فما أطول طيلك، وأهول حيلك. فقال: اعلم أنّ الدّهر العبوس، ألقاني إلى طوس، وأنا يومئذ فقير وقير، لا فتيل بها ولا نقير، فألجأني صفر اليدين، إلى التّطوّق بالدّين، فادّنت لسوء الاتّفاق، ممّن هو عسر الأخلاق، وتوهّمت تسنّي النّفاق، فتوسّعت في الإنفاق، فما أفقت حتّى بهظني دين لزمني حقّه، ولازمني مستحقّه، فحرت في أمري، وأطلعت غريمي على عسري.
* * *
حرج صدره، إذا ضاق. عيل: غلب، وعالني الأمر يعولني عولا: غلبني. وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه: «وإن خفتم عائلة» أي خصلة تعولكم وتغلبكم. تعلّة: ما تبديه من العلل في اعتذارك لمن يتقاضاك، وفي غد أزجر غراب البين، أي التفاؤل به لفراقك، وإنّما ينسبون الفراق للغراب، لأنهم إذا ارتحلوا عن موضع اجتمعت الغربان فيه يلتقطن ما تركوا من بقايا طعامهم وزبل دوابهم، وإذا أخذوا في هدم البيوت للرحيل وأبصرهم الغراب صاح رغبة فيما يلتقط، فيقولون عند ذلك: نعق غراب البين، فصاروا يتشاءمون به، وزجر الطير يذكر في الثامنة والثلاثين. قال المعرّي في صدق التفاؤل بالغراب: [الطويل](2/286)
* * *
حرج صدره، إذا ضاق. عيل: غلب، وعالني الأمر يعولني عولا: غلبني. وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه: «وإن خفتم عائلة» أي خصلة تعولكم وتغلبكم. تعلّة: ما تبديه من العلل في اعتذارك لمن يتقاضاك، وفي غد أزجر غراب البين، أي التفاؤل به لفراقك، وإنّما ينسبون الفراق للغراب، لأنهم إذا ارتحلوا عن موضع اجتمعت الغربان فيه يلتقطن ما تركوا من بقايا طعامهم وزبل دوابهم، وإذا أخذوا في هدم البيوت للرحيل وأبصرهم الغراب صاح رغبة فيما يلتقط، فيقولون عند ذلك: نعق غراب البين، فصاروا يتشاءمون به، وزجر الطير يذكر في الثامنة والثلاثين. قال المعرّي في صدق التفاؤل بالغراب: [الطويل]
نبيّ من الغربان ليس على شرع ... يخبّرنا أن الشّعوب على صدع
أصدّقه في مرية وقد امترت ... صحابة موسى بعد آياته التسع
كأنّ بفيه كاهنا أو منجّما ... يخبّرنا عما لقينا من الفجع
وما كان أفعى أهل نجران مثله ... ولا كان للإنس الفضيلة في السّمع
أتى وهو طيّار الجناح وإن مشى ... أشاح بما أعيا سطيحا من السّجع
قوله: أخلفك، أكذب وعدك. أرجأت: أخّرت. لألبّثك: لأثبطك وأجعلك تقيم معي. استربت: تشكّكت، وداخلتك الريبة. أغراك: حرّضك وألصقك. أصخ: أسمع:
قصص: خير وحديث. سيرتي: عادتي. أضفها: ضمّها. وأخبار الفرج بعد الشدة أن ينزل بالإنسان شدّة فيشرف منها على الهلاك ثم ينزل الله تعالى تفريجها، فالحديث بها يسمى خبر الفرج بعد الشدة.
قصص في الفرج بعد الشدة
ومنها ما جاء في حديث أنس رضي الله عنه، قال: كان رجل على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلم يتّجر من بلام الشام إلى المدينة، ولا يصحب القوافل توكلّا منه على الله تعالى، فبينا هو جاء من الشام عرض له لصّ على فرس، فصاح بالتاجر: قف، فوقف التاجر، وقال له:
شأنك بمالي، فقال له اللصّ: المال مالي، وإنما أريد نفسك، فقال له: أنظرني حتى أصلّي، قال: افعل ما بدا لك. فصلّى أربع ركعات ورفع رأسه إلى السماء يقول: يا ودود يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا مبدئ يا معيد، يا فعّالا لما يريد، أسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك، وأسألك بقدرتك التي قدّرت بها على جميع خلقك، وأسألك برحمتك التي وسعت كلّ شيء، لا إله إلا أنت يا مغيث أغثني، ثلاث مرّات. وإذا بفارس بيده حربة، فلمّا نظره اللص ترك التاجر ومضى نحوه فلما دنا منه طعنه، فأذراه عن فرسه ثم قتله، وقال للتاجر: اعلم أني ملك من السماء الثالثة، لمّا دعوت الأولى سمعنا لأبواب السماء قعقعة فقلنا: أمر حدث، ثم دعوت الثانية، ففتحت أبواب السماء
ولها شرر، ثم دعوت الثالثة، فهبط جبريل عليه السلام ينادي: من لهذا المكروب؟(2/287)
شأنك بمالي، فقال له اللصّ: المال مالي، وإنما أريد نفسك، فقال له: أنظرني حتى أصلّي، قال: افعل ما بدا لك. فصلّى أربع ركعات ورفع رأسه إلى السماء يقول: يا ودود يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا مبدئ يا معيد، يا فعّالا لما يريد، أسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك، وأسألك بقدرتك التي قدّرت بها على جميع خلقك، وأسألك برحمتك التي وسعت كلّ شيء، لا إله إلا أنت يا مغيث أغثني، ثلاث مرّات. وإذا بفارس بيده حربة، فلمّا نظره اللص ترك التاجر ومضى نحوه فلما دنا منه طعنه، فأذراه عن فرسه ثم قتله، وقال للتاجر: اعلم أني ملك من السماء الثالثة، لمّا دعوت الأولى سمعنا لأبواب السماء قعقعة فقلنا: أمر حدث، ثم دعوت الثانية، ففتحت أبواب السماء
ولها شرر، ثم دعوت الثالثة، فهبط جبريل عليه السلام ينادي: من لهذا المكروب؟
فدعوت الله أن يولّيني قتله. واعلم يا عبد الله أن من دعا بدعائك في كلّ شدّة أغاثه الله، وفرّج عنه. ثم جاء التاجر إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، فقال: «لقد لقنك الله أسماءه الحسنى التي إذا دعي بها أجاب، وإذا سئل بها أعطى».
وقال عمرو السرايا: كنت أعبر في بلاد الروم وحدي، فبينا أنا نائم إذ ورد عليّ علج فحرّكني، ثم قال: يا أعرابيّ، اختر إمّا مسايفة، وإما مطاعنة، أو مصارعة! فقلت:
المسايفة والمطاعنة لا معنى لهما، ولكن المصارعة، فلم ينهنهني أن صرعني وقعد على صدري، وقال: أيّ قتلة تريد أن أقتلك، فذكرت الدعاء ورفعت رأسي إلى السماء، وقلت: أشهد أن كلّ معبود مّا دون عرشك إلى منتهى الأرضين باطل، عزّ وجهك الكريم فقد ترى ما نزل بي. وأغمي عليّ، فأفقت والرومي قتيل إلى جانبي، فقمت، وكنت أعلّم الناس هذا الدعاء.
ووجّه سليمان بن عبد الملك محمد بن يزيد إلى العراق، فأطلق أهل سجون الحجاج وضيّق على يزيد بن أبي مسلم كاتبه. فظفر به يزيد لمّا ولي إفريقيّة، فجعل محمد يقول: اللهم احفظ لي إطلاق الأسرى، وإعطاء الفقراء، فلما دنا يزيد منه وفي يده عنقود، قال: يا محمد ما زلت أسأل الله أن يظفرني بك. فقال له محمد: وما زلت أستجير الله منك، قال: فو الله ما أجارك ولا أعاذك منّي. وو الله لأقتلنّك قبل أن آكل هذه الحبّة من العنب وو الله لو رأيت ملكا يريد قبض روحك لسبقته إليها. وأقيمت الصلاة فوضع حبّة العنب بين يديه، وتقدّم فصلّى بهم، وكان أهل إفريقية اجتمعوا على قتل يزيد، فلما ركع ضربه رجل بعمود حديد فقتله، وقال لمحمد: اذهب حيث شئت.
وقال حماد الراوية: كنت منقطعا إلى يزيد بن عبد الملك، وكان أخوه هشام يجفوني في أيامه لذلك، فلمّا مات يزيد، وأفضت الخلافة إلى هشام خفته، فمكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن آمن إليه من إخواني سرّا. فلمّا لم أسمع أحدا يذكرني في السنة أمنت فخرجت، وصلّيت الجمعة في الرّصافة، فإذا شرطيّان قد وقفا عليّ، وقالا: يا حمّاد، أجب الأمير يوسف بن عمر، فقلت في نفسي: من هذا كنت أخاف، ثم قلت للشرطيين: هل لكما أن تدعاني حتى آتي أهلي فأودّعهم وداع من لا يرجع إليهم أبدا، ثم أسير معكما إليه؟ فقال:
ما إلى ذلك من سبيل، فاستسلمت في أيديهما، وسرت إلى يوسف بن عمر وهو في الإيوان الأحمر، فسلمت عليه فردّ عليّ السلام ورمى إليّ كتابا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر. أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به من غير تروّع ولا تتعتع، وادفع إليه خمسمائة دينار وجملا مهريّا يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق، فأخذت الدنانير وجعلت رجلي في غرز جمل أعدّه لي، ووافيت دمشق لاثنتي عشرة ليلة،
واستأذنت على هشام، فأذن لي، فدخلت عليه فورا في دار مفروشة بالرّخام، وبين كلّ رخامتين قضيب من ذهب، وهو جالس على طنفسة حمراء، وعليه ثياب حمر من الخزّ، وقد تضمّخ بالمسك والعنبر، فسلمّت عليه، فردّ عليّ السلام واستدناني فدنوت منه، حتى قبّلت رجله، فإذا جاريتان لم أر مثلهما قط، في أذني كلّ واحدة منهما حلقتان فيهما لؤلؤتان توقدان، فقال: كيف أنت يا حماد وكيف حالك؟ فقلت: بخير يا أمير المؤمنين، قال: أتدري فيم بعثت إليك؟ قلت: لا، قال: في بيت خطر ببالي لم أدر من قائله، قلت: وما هو؟ قال: [الخفيف](2/288)
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر. أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به من غير تروّع ولا تتعتع، وادفع إليه خمسمائة دينار وجملا مهريّا يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق، فأخذت الدنانير وجعلت رجلي في غرز جمل أعدّه لي، ووافيت دمشق لاثنتي عشرة ليلة،
واستأذنت على هشام، فأذن لي، فدخلت عليه فورا في دار مفروشة بالرّخام، وبين كلّ رخامتين قضيب من ذهب، وهو جالس على طنفسة حمراء، وعليه ثياب حمر من الخزّ، وقد تضمّخ بالمسك والعنبر، فسلمّت عليه، فردّ عليّ السلام واستدناني فدنوت منه، حتى قبّلت رجله، فإذا جاريتان لم أر مثلهما قط، في أذني كلّ واحدة منهما حلقتان فيهما لؤلؤتان توقدان، فقال: كيف أنت يا حماد وكيف حالك؟ فقلت: بخير يا أمير المؤمنين، قال: أتدري فيم بعثت إليك؟ قلت: لا، قال: في بيت خطر ببالي لم أدر من قائله، قلت: وما هو؟ قال: [الخفيف]
ودعوا بالصّبوح يوما فجاءت ... قينة في يمينها إبريق (1)
فقلت: هو لعديّ بن زيد في قصيدة له، قال: أنشدنيها فأنشدته: [الخفيف]
بكر العاذلون في وضح الصب ... ح يقولون لي: أما تستفيق (2)
ويلومون فيك يا ابنة عبد اللّ ... هـ والقلب عندكم موثوق
لست أدري إذ أكثروا العذل فيها ... أعدوّ يلومني أم صديق!
حتى انتهيت إلى قوله: [الخفيف]
ودعوا بالصبوح يوما البيت.
قدّمته على سلاف كعين الدّ ... يك صفّى سلافها الرّاووق
مرّة قبل مزجها فإذا ما ... مزجت لذّ طعمها من يذوق
وطفا فوقها فقاقيع كاليا ... قوت حمر يزينها التّصفيق
ثم كان المزاج ماء سحاب ... لا صرى آجن ولا مطروق
قال: فطرب، ثم قال لي: أحسنت والله يا حماد! ثم قال لإحدى الجاريتين: اسقيه، فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي، ثم قال: أعده فأعدته، عليه، فاستخفّه الطرب حتى نزل عن فرشه، ثم قال للأخرى: اسقيه، فسقتني شربة فذهب ثلث آخر من عقلي، ثم قال: سل حاجتك، فقلت: إحدى الجاريتين، فقال: هما جميعا لك، ثم قال للأولى اسقيه، فسقتني شربة سقطت منها فلم أفق إلا والجاريتان عند رأسي وعشرة من الخدم مع كلّ واحد بدرة، فقيل لي يقول: لك أمير المؤمنين: انتفع بهذا في سفرك، فأخذتها والجاريتين وعاودت أهلي.
وذكر أبو محمد هذه الحكاية في الدرّة وقال: هذه حكاية تنشر مآثر الأجواد، وترغّب المتأدب في الازدياد. وهذه النبذة دالة على أخبار الفرج بعد الشدّة فلنقتصر عليها.
* * * __________
(1) البيت لعدي بن زيد في ديوانه ص 78، ولسان العرب (برق)، (طرق)، وتاج العروس (برق).
(2) الأبيات في ديوان عدي بن زيد ص 76.(2/289)
قوله: ما أطول طيلك، أي ما أكثر حيلتك. يقال ذلك للكثير الدهاء والتصرّف والطّيل: الحبل. أهول: أخوف وأغرب وقير: إتباع لفقير، وفائدة الإتباع المبالغة في معنى الأوّل، وذلك أنك تقول: فلان فقير فيكون له الشيء اليسير من المال، فإذا قلت:
وقير، فليس له شيء البتة. وقيل: معنى وقير مثقل بالدين موقر به، والإتباع قصد لأنه فسره بقوله: لا فتيل لي ولا نقير، كأنّ إنسانا توهم أن له شيئا فذكر وقيرا لنفسه، ثم زاده بيانا بما بعده، ولأنه ذكر استئناف الدّين بعد ذلك.
ويكون الوقير أيضا من الوقر في العظم، وهو الكسر كأنه مكسور العظم، كما أن الفقير أصله المكسور الفقار. والفتيل: الخيط الذي في شقّ النواة مثل الفتيلة، والنقير الفرض الصغير الذي في ظهرها، وفيه كالنقطة ومنه تنبت النخيل، والقطمير: اللفافة التي عليها، وهي القشرة اللطيفة.
صفر اليدين: فراغهما من المال. التطوّق: لبس الطول: أراد أنه لبس من الدّين طوقا. ادّنت: أخذت الدّين، والاتفاق، ضدّ الاختلاف. عسر: صعب. توهّمت:
حسبت. تسنى: تيسر. النّفاق، ضد الكساد. توسّعت: كثّرت. بهظني: غلبني وثقل عليّ حقه: واجبه.
أنس رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم: إن أبواب الرزق مفتوحة إلى باب العرش فينزل الله تعالى إلى عباده أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن قلّل قلّل له، ومن كثر كثّر عليه.
مستحقّه: صاحبه. فحرت في أمري، أي في همّ الدّين، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «علمني جبريل دعاء في الدّين، وهو أن يصلّي إذا زالت الشمس أربع ركعات، يقرأ في كل ركعة بأم الكتاب وآية الكرسي وقل هو الله أحد، فإذا سلّم قرأ: {«قُلِ اللََّهُمَّ مََالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشََاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشََاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشََاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشََاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهََارِ وَتُولِجُ النَّهََارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشََاءُ بِغَيْرِ حِسََابٍ»}، ثم يقول: يا فارج الهمّ يا كاشف الغمّ، يا مجيب دعوة المضطر يا رحيم الدنيا والآخرة، ارحمني رحمة تغنيني بها عمّن سواك واقض ديني فإن الله تعالى يقضي دينه عنه وفيها اسم الله الأعظم».
غريمي: صاحب ديني، سمّي غريما لإدامته التقاضي وإلحاحه وملازمته من عليه الدين، ويكون الغريم أيضا المطلوب بالدّين، لازم له كما قال الشماخ: [الوافر]
تلوذ ثعالب الشرّفين منها ... كما لاذ الغريم من التّبيع (1)
عسري: فقري.
* * * __________
(1) البيت في ديوان الشماخ ص 227، ولسان العرب (بتع).(2/290)
فلم يصدق إملاقي، ولا نزع عن إرهاقي، بل جدّ في التّقاضي، ولجّ في اقتيادي إلى القاضي. وكلّما خضعت له في الكلام، واستنزلت منه رفق الكرام، ورغبته في أن ينظر لي بمياسرة، أو ينظرني إلى ميسرة. قال: لا تطمع في الإنظار واحتجان النّضار، فوحقّك ما ترى مسالك الخلاص، أو تريني سبائك الخلاص.
فلمّا رأيت احتداد لدده، وألّا مناص لي من يده، شاغبته، ثمّ واثبته، ليرافعني إلى والي الجرائم، لا إلى الحاكم في المظالم، لما كان بلغني من إفضال الوالي وفضله، وتشدّد القاضي وبخله. فلمّا حضرنا باب أمير طوس، آنست ألّا بأس ولا بوس. فاستدعيت دواة بيضاء، وأنشأت رسالة رقطاء وهي:
* * * ومثله إملاقي، وأملق: ذهب ماله، مشتق من الملقات وهي الصخور الملس، كأنه افتقر حتى لم يبق له ما يلبس إلّا جلده الأملس. نزع: كفّ. إرهاقي: تكليفي ما لا أطيق، وأرهقته: كلّفته مشقة، والرّهق: الظلم. جدّ: عزم واجتهد، التقاضي: طلب المال. لج: عزم وركب رأسه. استنزلت: طلبت. رفق الكرام: لطفهم وحنانهم على الفقير. مياسرة: لين ومساهلة. ينظرني: يؤخرّ بي والإنظار الإمهال، وفي حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «من أنظر معسرا أظلّه الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظله».
ميسرة: غنى. احتجان: اختزان، واحتجنت الشيء: ضممته بالمحجن، وهو عود معقّف. النّضار: الذهب. مسالك الخلاص. طرق النّجاة سبائك: فقر وقطع. الخلاص، بالكسر: الذهب الخالص. احتداد: اشتداد، وقد احتدّ. لدده: خصامه وإلحاحه.
مناص: مخلص ومفرّ، وناص عن قرينه نوصا ومناصا، إذا فزع وفرّ، وما أحسن ما قال العبديّ في محمد بن إبراهيم يشكو غريما لازمه: [الرمل]
اقض عنّي يا بن عمّ المصطفى ... أنا بالله من الدّين وبك
من غريم فاحش قد عرّني ... أسود الوجه لعرضي منتهك
أنا والظلّ وهو ثالثنا ... أينما زلت من الأرض سلك
شاغبته: شاررته، أي أوقعت بيني وبينه الشغاب. واثبته: ضاربته ووثبت إليه، ووثب إليّ والي الجرائم: حاكم الجنايات، والحاكم في المظالم: هو القاضي. إفضال:
إنعام فضله: جوده وكرمه. وتشدّد: بخل، ورجل شديد ومشداد، أي بخيل، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]، أي لبخيل من أجل حبه الخير وهو المال، أو تشدّد شدته على من تعين قبله حق. آنست: علمت وأحسنت بأس: ضرّ.
وبوس: شدّة. بيضاء: ورقة يكتب فيها ولابن الزّقاق فيها: [الوافر](2/291)
وواضحة كمثل النصل تجري ... مع الإبصار كالماء القراح (1)
ترى حبك المداد بجسم نور ... كمخضرّ الفرند على الصّفاح
كأنّ سواده في صفحتيها ... بقايا الليل في وجه الصّباح
رقطاء: فيها حرف منقوط وآخر غير منقوط، والرقطاء عندهم الدّجاجة المرقشة، وهي المنقّطة بسواد وبياض، ومنه قيل للنهر أرقط لأن فيه تنقيطا خلاف لونه، ولو شكر لمعطيه الدّواة لأنشد هذه الأبيات، وهي لابن سكرة: [البسيط]
أخ مزجت بروحي روحه وجرى ... منه كجري دمي في الجسم أفديه
أهدى إليّ دواة لو كتبت بها ... دهري أياديه لم تنفد أياديه
وهذه الرسالة التي أنشأها أبو محمد أبدع فيها بما أراد، وأغرب بها وأجاد.
وننشد من الشعر النّفيس في مدح الرسائل ما يجري لها كالوصف، ويسري بذكرها طيب العرف، فمن ذلك قول أبي تمام: [الوافر]
مداد مثل خافية الغراب ... وقرطاس كرقراق السّراب (2)
وألفاظ كألفاظ المثاني ... وخطّ مثل وشم يد الكعاب
كتبت ولو قدرت هوى وشوقا ... لكنت إليك سطرا في الكتاب
وله في كتاب جاء من الحسن بن وهب: [الوافر]
لقد جلّى كتابك كل بثّ ... جو وأصاب شاكلة الرّمي
وكان أغضّ في عيني وأندى ... على كبدي من الزّهر الجنيّ
وأحسن موقعا مني وعندي ... من البشرى أتت بعد النّعيّ
فكائن فيه من معنى خطير ... وكائن فيه من لفظ بهيّ
فيا ثلج الفؤاد وكان رضفا ... ويا شبعي برونقه ورييّ
من أبيات كلها عيون، وفيما ذكرنا دليل على ما تركنا.
وقال أبو نواس في كتاب ورد عليه من صديق: [البسيط]
ووارد ورد إنشاء يؤكّده ... صدوره عن سليم الورد والصّدر
شدّت بتيجانه منه على نزه ... تقسّم الحسن بين السمع والبصر
عذوبة صدرت عن منطق ينع ... كالماء يخرج ينبوعا من الحجر
وروضة من رياض الفكر دبّجها ... صوب القرائح لا صوب من المطر
__________
(1) الأبيات في ملحق ديوان ابن الزقاق ص 291.
(2) البيت الأول للحسن بن وهب في ديوان المعاني 2/ 83، وليس في ديوان ابن الزقاق.(2/292)
كأنما نشرت أيدي الرّبيع بها ... بردا من الوشي أو ثوبا من الحبر
ولابن طاهر في ابن ثوابة: [البسيط]
في كل يوم صدور الكتب صادرة ... عن رأيه وندى كفّيه عن مثل
عن خط أقلامه خط القضاء على الأع ... داء بالموت بين البيض والأتل
لعابها عسل في الصدر تبعثه ... وربما كان فيه النفع للعلل
كأنّ أسطارها في بطن مهرقة ... نور يضاحك دمع الواكف الخضل
وقال بعضهم: [الوافر]
كتاب فيه من غرر المعاني ... قلائد لا تنظمها اليدان
إذا نشرت صحائفه تجلّت ... بروضتها أزاهير المعاني
ترود العين منها في مراد ... مريع جاده فيض البنان
كأن مجال عين الفكر فيه ... مجال اللحظ في غرر الحسان
وقال آخر: [الطويل]
يدير على القرطاس أسمر مرهفا ... إذا دار لم تلحق به البيض والسّمر
كأنّ المعاني روضة وهو غيثها ... فمهما سقي أغصانها ضحك الزّهر
وقال الرماديّ: [مجزوء الكامل]
قلم الوزير وكفّه ... هذا يصول وذا يطول
أضحى كليث خفيّة ... ودواته للّيث غيل
* * * أخلاق سيّدنا تحبّ، وبعقوته يلبّ، وقربه تحف، ونأيه تلف، وخلّته نسب، وقطيعته نصب، وغربه ذلق، وشهبه تأتلق، وظلفه زان، وقويم نهجه بان، وذهنه قلّب وجرّب، ونعته شرّق وغرّب. [الخفيف]
سيّد قلّب سبوق مبرّ ... فطن مغرب عزوف عيوف
مخلف متلف أغرّ فريد ... نابه فاضل ذكيّ أنوف
مفلق إن أبان، طبّ إذا نا ... ب هياج وجلّ خطب مخوف
* * * قوله: أخلاق سيدنا تحب، حسن أخلاق الإنسان من كمال سعادته، وكرم فضيلته، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول «اللهمّ كما حسّنت خلقي فحسّن خلقي» مع أن الله عز وجل يقول فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى ََ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].(2/293)
قوله: وبعقوته يلبّ، أي بمنزله يقام لحماية الممدوح من يلوذ به وإكرامه له. وقربه تحف، أي من قرب منه أتحفه وهاداه، ومن بعد منه فقد الأمن فهلك. والنأي: البعد، ولمّا كان القرب سببا للتّحف والنأي سببا للتلف، جعل نفس القرب والبعد هما الحياة والموت. خلّته: صداقته. نسب، أي هو للصديق بمنزلة النسيب، قيل لبزرجمهر: من أحبّ إليك: أخوك أم صديقك؟ فقال: لا أحبّ أخي إلا إذا كان صديقي. وقال أكثم بن صيفي: القرابة تحتاج إلى مودّة، والمودة لا تحتاج إلى قرابة. وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: القرابة قد تقطع، والمعروف قد يكفر، وما رأيت كتقارب القلوب، أخذه ابن مناذر فقال: [الخفيف]
قد يقطع الرحم القريب وتك ... فر النّعمى ولا كتقارب القلبين
يدني الهوى هذا، ويدني ذا هوى ... فإذا هما نفس ترى نفسين
أخذه أبو تمام فحسّنه فقال: [الطويل]
فإنّ الفتى في كلّ حال مناسب ... مناسب روحانية من يشاكل (1)
ولن تنظم العقد الكعاب لزينة ... كما تنظم الشمل الأشتّ الشمائل
وقد تقدّم حديث: «الأرواح جنود مجندة» (2)، ونظم الحسن له.
وقال الشاعر: [الكامل]
لا خير في قربى بغير مودّة ... ولربّ منتفع بودّ أباعد
وإذا وجدت من البعيد مودّة ... فامدد له كفّ القبول بساعد
قوله: وقطيعته نصب، أي عداوته همّ وتعب، وقد قال أبو تمام: [الطويل]
وإلا فأعلمه بأنك ساخط ... ودعه فإنّ الخوف لا شك قاتله (3)
غربه: أي حدّه. ذلق، أي حادّ. شهبه: نجومه، يعني أخلاقه ومكارمه. تأتلق:
تضيء وظلفه: منعه وكفه، وظلفت نفسي عن الشيء: منعتها منه. زان: يزين، يقول إن قمعه من تجاوز قدره ومنعه من سأل ما لا يحبّ زيّن بالممنوع، وشرّف بالمقموع، فتأديب الملوك لا عار به، وإنما العار أن يهينك كفؤك، ومن لا حكم له عليك. وقال المتنبي: [الطويل]
ومن شرف الإقدام أنك فيهم ... على القتل موموق كأنّك شاكد (4)
__________
(1) البيتان في ديوان أبي تمام ص 256.
(2) أخرجه البخاري في الأنبياء باب 2، ومسلم في البر حديث 159، 160، وأبو داود في الأدب باب 16، وأحمد في المسند 2/ 295، 527، 537.
(3) البيت في ديوان أبي تمام ص 232.
(4) البيتان في ديوان المتنبي 1/ 276.(2/294)
وإنّ دما أجريته بك فاخر ... وإنّ فؤادا رعته لك حامد
وقال حبيب: [الكامل]
خشعوا لصولتك التي هي عندهم ... كالموت يأتي ليس فيه عار (1)
وقال آخر: [الطويل]
وإنّ أمير المؤمنين وعتبه ... لكالدّهر لا عار بما فعل الدّهر
وإذا تزين بمنعه، فما ظنك بعطائه! على أن اليد القابلة للجدوى، وهي اليد السفلى، لا تنفك عن حشمة أو ذلة، وقد اعتذروا لهذا المعنى، قال أبو تمام: [الطويل]
رأيت رجائي فيك وحدك همة ... ولكنّه في سائر الناس مطمع (2)
وقال أيضا: [البسيط]
تدعى عطاياه وفرا وهي إن شهرت ... كانت فخارا لمن يعروه مؤتنفا (3)
ما زلت منتظرا أعجوبة زمنا ... حتى رأيت نوالا يقتضي شرفا
وقال إبراهيم بن العباس: [الطويل]
إذا طمع يوما عراني منحته ... كتائب يأس كرّها وطرادها (4)
سوى طمع يدني إليك فإنّه ... يبلغ أسباب العلا من أرادها
وقال الخريمي: [الطويل]
عطاؤك زين لامرئ إن أصبته ... بخير وما كلّ العطاء يزين (5)
وليس بعار لامرئ بذل وجهه ... إليك كما بعض السؤال يشين
وقال أبو الطيب: [الوافر]
وفيض نواله شرف وزين ... وفيض نوال بعض الناس ذمّ
وقال ابن أبي خالد: [الخفيف]
شرف للشريف منك نوال ... ربّ نيل تعافه الأحرار
__________
(1) البيت في ديوان أبي تمام ص 146.
(2) البيت في ديوان أبي تمام ص 192.
(3) ديوان أبي تمام ص 201.
(4) البيتان في ديوان الصولي ص 183.
(5) البيتان لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص 63، والبيت الأول في الاشتقاق ص 144، وديوان المعانى 1/ 46، والأغاني 8/ 342، وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 831.(2/295)
فزاد بقوله: للشريف على من سبق.
قوله: قويم نهجه، أي مستقيم طريقه. بان تبين. قلّب: بحث. شرّق وغرّب: أي مشى بوصفه المادحون شرقا وغربا، وأنشد المتنبي وزاد فيه معنى: [الطويل]
ستحيا بك السّمّار ما لاح كوكب ... وتحدو بك السفّار ما ذرّ شارق (1)
تخلّى من الدنيا لينسى فما خلت ... مغاربها من ذكره والمشارق
قلّب: درّب بالأمور، وفلان حوّل قلّب، إذا كان متصرّفا في أموره، نفاعا لأوليائه، ضرّارا لأعدائه، كأنه لمعرفته بالأمور قد حوّل الأمور وقلبها. ومبرّ، أي غالب لأعدائه.
فطن: ذكي. مغرب: يأتي بالغرائب. عزوف: نزيه النفس بعيد من الريب. عيوف: كاره للدنايا. والمتلف عند العرب: الذي يتلف ماله بالجود. والمخلف: الذي يخلف ما أتلف بالإغارة على الأعداء، وأخذ أموالهم، يصفه بالشجاعة والكرم. وقال البحتريّ:
[الطويل]
بأروع من طيّ كأن قميصه ... يزرّ على الشيخين زيد وحاتم (2)
سماحا وبأسا كالصواعق والحيا ... إذا اجتمعا في العارض المتراكم
وقال ابن الروميّ: [المنسرح]
لم تخلني قط من صنائعك ال ... غرّ ولا من حروبك الضّرس
تصرّف الغيث في صواعقه ... وتارة في سجاله البجس
وقال البحتريّ: [الطويل]
ضحوك إلى الأبطال وهو قريعهم ... وللسيف حدّ حين يسطو ورونق (3)
حياة وموت واحد منتهاهما ... كذلك غمر الماء يروي ويغرق
وقال ديك الجن: [الكامل]
هو عارض زجل فمن شاء الحيا ... أرضى، ومن شاء الصواعق أغضبا (4)
وقال أبو مسهر: [البسيط]
تحيا الأنام به في الجدب إن قحطوا ... جودا وتشقى به يوم الوغى الهام
كالمزن يجتمع الحالان فيه معا ... ماء ونار، وإرهام وإضرام
وقال ابن الروميّ: [الكامل]
والناس طرّا بين مرتقب ... سطواته ومؤمل نفعه
__________
(1) البيتان في ديوان المتنبي 2/ 348.
(2) البيتان في ديوان البحتري ص 1971.
(3) ديوان البحتري ص 1496.
(4) البيت في ديوان ديك الجن الحمصي ص 150.(2/296)
كالعارض التهبت صواعقه ... وسقي البلاد فلم يدع بقعه
قوله: أغرّ: مشهور. فريد: ليس له نظير. نابه: رفيع الذكر. ذكي: متوقد الفطنة، ويروى: «زكيّ»، وهو الطاهر العفيف، وقيل: هو المتزيد في الخير، والزّكاء: النماء والزيادة. أنوف: كثير الحمية والغضب لما يستراب منه. مفلق: فصيح، وأفلق: جاء بالفلق، وهي الداهية كأنه جاء من الفصاحة بما لا يطاق. أبان: بيّن كلامه. طبّ: حاذق حسن التدبير. ناب هياج: حدث شر واختلاف. جلّ خطب: عظم أمر. مناظم: جمع منظوم. تأتلف: تجتمع، يريد أن ما ينظم في شرفه من المدائح يأتلف بلا تكلّف على الشعراء لكثرة صفات الفضل والسؤدد، كما قال حبيب: [البسيط]
تغاير الشّعر فيه إذ سهرت له ... حتى ظننت قوافيه ستقتتل (1)
وقال أبو الطيب: [الطويل]
لك الحمد في الدرّ الذي لي لفظه ... فإنك معطيه وإنّي ناظم (2)
وقال آخر: [الخفيف]
ما لقينا من فضل جود ابن يحيى ... صيّر الناس كلهم شعراء
* * * مناظم شرفه تأتلف، وشؤبوب حبائه يكف، ونائل يديه فاض، وشحّ قلبه غاض، وخلف سخائه يحتلب، وذهب عيابه يحترب. من لفّ لفّه فلج وغلب، وتاجر بابه جلب وخلب. كفّ عن هضم بري. وبريء من دنس غوي، وقرن ليانه بعزّ، ونكّب عن مذهب كزّ. ليس بوثّاب عند نهزة شرّ، بل يعفّ عفّة برّ. [الكامل]
فلهذا يحبّ ويستحقّ عفافه ... شعفا به فلبابه خلّاب
أخلاقه غرّ ترفّ وفوقه ... فسوق إذا ناضلته غلّاب
سحج يهشّ وذو تلاف إن هفا ... خلّ فليس بحقه يرتاب
لا باخل بل باذل خرق إذا ... يعترّ، برز لا يليه باب
إن عضّ أزل فلّ غرب عضاضه ... بمنابه فانحتّ منه ناب
* * * شؤبوب حبائه: دفع عطائه، والشؤبوب: دفع المطر. يكف: يقطر ويسقط. نائل:
__________
(1) البيت في ديوان أبي تمام ص 227.
(2) البيت في ديوان المتنبي 3/ 391.(2/297)
عطاء. فاض: سال وخرج على الأرض. غاض: غاب وجفّ والخلف: حلمة الضّرع الذي يحلب منه اللبن، وهو أيضا اسم للضّرع. سخائه: جوده. عيابه: جمع عيبة يحترب: يستلب، أي لكثرة جوده كأنّ ماله يسلبه القاصدون له. من لفّ لفّه، أي من التف به ودخل في جماعته، واللّف: لفيف الناس، ولفّ القوم: اجتمعوا والتفّ بعضهم ببعض، وأخذ هذا اللفظ من قول الأعشى: [الطويل]
وقد ملأت بكر ومن لفّ لفّها ... نباكا فأحواض الرّبا فالنواعصا (1)
بكر قبيلة، ومن لفّ لفّها، أي من التفّ بها. فلج، أي ظفر بما أحبّ. جلب:
ساق، أي التاجر الذي يقصد بابه بما جلب إليه من الفوائد يجازيه على ذلك بالعطاء الكثير، فلكثرة ما أخذ فكأنه قد خدعه، والملك المفضال يوصف أنه يخدع لكثرة هباته، وقيل لعرابة: بم سدت قومك؟ قال: أنخدع لهم في مالي. هضم: نقص، أراد أنه لا يهضم ولا يظلم من لم يذنب إليه. غوي: ضالّ مفسد. ليانه، أي لين خلقه. بعزّ. بمنع وبعظم، والعزة في اللغة: الشدة والمنعة، والعزاز: الأرض الصلبة، يريد أن الأمير إذا انبسط لم يهب، وإذا اشتدّت سطوته لم يؤلف، فحالة هذا الممدوح بين العزة واللين.
وقال أبو تمام: [الكامل]
المجد شيمته وفيه فكاهة ... سمح ولا جدّ لمن لم يلعب (2)
شرس يتبع ذاك لين خليقة ... لا خير في الصّهباء ما لم تقطّب
نكب: عدل ومال. مذهب: طريق: كزّ: بخيل قليل الخير. وثّاب: عجول كثير الوثوب. نهزة: فرصة وغنيمة. ويعفّ: يكف نفسه. برّ: مطيع لله، أراد أنه عفيف عن المحارم. قوله: شعفا، أي حبا يطلب الغاية، وشعاف القلب: أعلاه. يريد أن عفافه بلّغه غاية الحبّ من القلوب، وفلان مشعوف بفلان، إذا ذهب به حبّه كل مذهب. الفراء: هو من الشّعف، وهي رؤوس الجبال، واحدها شعفة، فكأن معنى شعف بفلان، ارتفع حبه إلى أعلى موضع فيه.
لبابه: خالصه. خلاب: آخذ للنفس غالب عليها. غرّ: حسان. ترفّ: تتلألأ وتشرق، والرفيف: بريق اللون. وفوقه: سهمه والفوق: طرف السهم الذي يلي الوتر.
ناضلته: راميته، يقول: سهمه غلّاب لمن راماه. سحج: سهل الخلق. يهشّ: يهتزّ طربا. تلاف: تدارك. هفا: زلّ وسقط، والهفوة: الزلة. خلّ: صاحب. يرتاب: يشكّ.
خرق: كريم جواد يتخرّق في العطاء. يعتر: يقصد. برز: ظاهر غير محتجب. قال
__________
(1) البيت في ديوان الأعشى ص 199، ولسان العرب (نعص)، ومقاييس اللغة 5/ 207، ومجمل اللغة 4/ 247، وتاج العروس (نعص)، (لفف)، (نبك).
(2) البيتان في ديوان أبي تمام ص 13.(2/298)
الفنجديهيّ: رجل برز، أي عفيف عاقل كريم. لا يليه باب، أي لا يحتجب ببابه دون قصاده.
[مما قيل في الحجاب]
[الكامل]
شاد الملوك قصورهم وتحصّنوا ... من كلّ طالب حاجة أو راغب
غالوا بأبواب الحديد لعزها ... وتنافسوا في قبح وجه الحاجب
فإذا تلطّف للدخول عليهم ... راج تلقّوه بعذر كاذب
فاطلب إلى ملك الملوك ولا تكن ... بادي الضراعة طالبا من طالب
هي لمحمود الورّاق.
وقال أبو مسهر: أتيت أبا جعفر محمد بن عبد الكافي فحجبني، فكتبت إليه:
[البسيط]
إني أتيتك للتسليم أمس فلم ... تأذن عليك لي الأستار والحجب
وقد علمت بأني لم أردّ ولا ... والله ما ردّ إلا الحلم والأدب
فأجابني بهذا القول: [البسيط]
لو كنت كافأت بالحسنى لقلت كما ... قال ابن أوس وفيما قاله أدب
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا ... إنّ السماء ترجّى حين تحتجب
وقال حبيب: [الطويل]
سأترك هذا الباب ما دام إذنه ... على ما أرى حتى يلين قليلا
فما خاب من لم يأته متعمدا ... ولا فاز من قد نال منه وصولا
ولا جعلت أرزاقنا بيد امرئ ... حمى بابه من أن ينال دخولا
إذا لم أجد للإذن عندك موضعا ... وجدت إلى ترك المجيء سبيلا
وحجب أبو العتاهية عن بعض الهاشميين، وقال له: تكون لك عودة فقال:
[الطويل]
لئن عدت بعد اليوم إني لظالم ... سأصرف نفسي حيث تبغى المكارم
متى يظفر الغادي إليك بحاجة ... ونصفك محجوب ونصفك نائم!
قال المتنبي: [الكامل]
أصبحت تأمر بالحجاب لخلوة ... هيهات لست على الحجاب بقادر (1)
__________
(1) الأبيات في ديوان المتنبي 2/ 137.(2/299)
من كان ضوء جبينه ونواله ... لم يحجبا لم يحتجب عن ناظر
فإذا احتجبت فأنت غير محجّب ... وإذا بطنت فأنت عين الظاهر
وقال جرير: [الكامل]
قوم إذا حضر الملوك وفودهم ... نتفت شواربهم على الأبواب (1)
وقال آخر: [الطويل]
نهيت جميع الناس عن كلّ خطة ... يدبّرها في رأيها ابن هشام
فلمّا وردنا الباب أيقنت أنّنا ... على الله والسلطان غير كرام
وقال آخر: [الطويل]
وكل خفيف الشأن يدعى مشمّرا ... إذا فتح البوّاب بابك إصبعا
ونحن الجلوس الماكثون توقّرا ... حياء إلى أن يفتح الباب أجمعا
قوله: عض أزل، أي اشتد زمان، والأزل: ضيق العيش من الجدب والقحط، وعضّ: قبض بأسنانه. فلّ: كسر. غرب: حدّ. بمنابه: بكفايته. انحتّ: انكسر. ناب:
سنّ، يقول: إن عضت الشدائد الناس وأضرت بهم دفعها وكسر أنيابها بمواهبه وخيره لمن أفقرته. ومن مليح ما قيل في هذا المعنى قول المتنبي: [الكامل]
أظمتني الدّنيا فلمّا جئته ... مستسقيا مطرت عليّ سحائبا (2)
حال متى علم ابن منصور بها ... جاء الزمان إليّ منها تائبا
نقل المتنبي اللفظ والمعنى من قول أبي تمام: [الكامل]
كثرت خطايا الدهر فيّ وقد يرى ... لنداك وهو إليّ منها تائب (3)
وألمّ به الحصني أيضا في قوله: [الطويل]
وقد تحسن الأيّام بعد إساءة ... ويذنب صرف الدهر ثم يتوب
وقال ابن المعتز: [المتقارب]
وعوّقني الدهر عن قربه ... زمانا فقد تاب عن ظلمه
وقال ابن الرومي: [الطويل]
أساءت لي الأيام يا بن محمّد ... وهنّ إليّ اليوم معتذرات
رأين مطافي حول عفوك عائدا ... فهنّ لما أبصرنه حذرات
__________
(1) البيت في ديوان جرير ص 56.
(2) البيتان في ديوان المتنبي 1/ 125.
(3) البيت في ديوان أبي تمام ص 29.(2/300)
وقال أبو تمام: [الطويل]
إذا العيس لاقت بي أبا دلف غدا ... تقطع ما بيني وبينه النوائب
وقال أبو نواس: [الطويل]
أخذت بحبل من حبال محمد ... أمنت به من طارق الحدثان
تغطّيت من دهري بظلّ جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام عنّي ما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني
وقال أيضا: [الخفيف]
أنا في ذمّة الخصيب مقيم ... حيث لا تهتدي صروف الزمان
قد عرفنا من الخصيب خلالا ... آمنتنا طوارق الحدثان
كيف أخشى من الليالي اغتيالا ... ومكاني من الخصيب مكاني
* * * وجدير بمن لبّ وفطن، وقرّب وشطن، أن أذعن لقريع زمن، وجابر زمن، مذ رضع ثدي لبانه، خصّ بإفاضة تهتانه. نعش وفرّج، وضافر فأبهج، ونافر فأزعج، وفاء بحقّ أبلج، أتعب من سيلي، وقرّظ إذ هزّ وبلي، وتوّج صفاته، بحبّ عفاته. [مجزوء الرجز]
فلا خلا ذا بهجة ... يمتدّ ظلّ خصبه
فإنه برّ بمن ... آنس ضوء شهبه
زان مزايا ظرفه ... بلبس خوف ربّه
* * * قوله: جدير، أي حقيق. لبّ: كان لبيبا وعاقلا. شطن: بعد. أذعن: ذلّ وانقاد.
القريع: السيد يدفع ضرّ الزمن ويقرعه. جابر زمن، أي مغني فقير، والزمن الفقير الذي لازمه الفقر أو المريض الذي لازمه المرض، وبه زمانة، وأصل ذلك من لزمن. لبانه، أي لبن أمّه، وقال في الدرة. وقولهم: الرضيع الإنسان ارتضع بلبنه، صوابه بلبانه، لأن اللّبن هو المشروب، واللّبان، هو مصدر لابنه، أي شاركه في شرب اللبن، هذا معنى كلامهم الذي نحوا إليه ولفظوا به. التّهتان: سيلان المطر، وإفاضته: صبّه، وأراد في لبن أمه، أرتضع الجود فداوم عليه، كقول المتنبّي: [المتقارب]
سموا للمعالي وهم صبية ... وسادوا وقادوا وهم في المهود (1)
__________
(1) البيت في ديوان المتنبي 1/ 345.(2/301)
وقد غلط المتنبي في هذا، ونسب فيه إلى الكذب والمحال الفاضح، لأن سيادة الأطفال في المهود وقود الجيوش من أمحل المحال، وهذا وإن كان ظاهره كذلك، فقد اتسعت العرب وأهل الأدب في هذا القدر، وأقاموا تخيّل النجابة في المولود في مهده مقام وجودها في كبره. ثم إذا وجدوا صفة الكمال في الرجل التامّ حكموا بكمالها، لأنه رضعها في ثدي أمه، أو غذي بها في بطن أمه، ألا ترى قوله: تعلمت العلم قبل أن يقطع سرّك وسررك، وقبل أن يقطع ذاك، كان في بطن أمّه، وهذا لم ينكره أحد، ومن شعر الحماسة في الذي رأى المهلب في مهده فقال: [الطويل]
خذوني به إن لم يسد سرواتهم ... ويبرع حتى لا يصاب له مثل
وفيها أيضا: [الطويل]
لئن فرحت بي معقل عند شيبتي ... لقد فرحت بي بين أيدي القوابل
وذلك لتخيّل النجابة فيه في ذلك الوقت، ألا ترى ما تثبت نساء العرب من بلوغ السيادة لأبنائهنّ عند ترقيصهن، وانظر إلى ذلك إن شئت في فصل نظمناه في كتابنا الموضوع لاختصار نوادر أبي عليّ، فقد سقط عن المتنبي والحريري بهذا ما عيب عليهما، وقال سوار بن أبي شراعة: [الرمل]
تعرف السّودد في مولودهم ... وتراه سيّدا إن أيفعا
نعش: رفع الضعيف بجوده. فرّج: أزال همه. ضافر: فاخر. أبهج: أدخل السرور على أحبابه إذا كان له الغلب. نافر: حاكم في النسب.
وكانوا في الجاهلية إذا تنازع الرّجلان الشّرف تنافرا إلى حكمائهم فيفضّلون الأشرف، وسميت منافرة لأنهم كانوا يقولون عند المفاخرة: أيّنا أعزّ نفرا.
[منافرة عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة]
وأشهر منافرة في الجاهلية منافرة عامر بن الطّفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب مع علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر، حين قال له علقمة: الرياسة لجدّي الأحوص، وإنما صارت إلى عمك أبي براء من أجله، وقد أسنّ عمك وقعد عنها، فأنا أولى بها منك. وإن شئت نافرتك، فقال عامر: قد شئت والله لأنا أكرم منك حسبا، وأثبت نسبا، وأطول قصبا، فقال علقمة: أنافرك وإني لبرّ وإنّك لفاجر، وإني لولود وإنك لعاقر، وإني لعفّ وإنك لعاهر، وإني لواف وإنك لغادر فقال عامر: أنافرك أنا أسنى منك سنّة، وأطول قمّة، وأحسن لمّة، وأجعد جمّة، وأبعد همّة. فقال علقمة: أنت جسيم وأنا قضيف (1)، وأنت جميل، وأنا قبيح ولكن أنافرك أنا أولى بالخيرات منك.
__________
(1) القضيف: النحيف.(2/302)
فخرجت أمّ عامر فقالت: نافره أيّكما أولى بالخيرات، ففعلوا على أن جعلوا مائة من الإبل يعطاها الحكم الذي ينفر عليه صاحبه، فخرج علقمة ببني خالد بن الأصفر وبني الأحوص ومعهما القباب والجزور والقدور ينحرون في كلّ منزل يطعمون، وخرج عامر ببني مالك، وقال: إنها المقارعة عن أحسابكم، فاشخصوا: بمثل ما شخص به، وقال لعمه أبي براء: أعنّي، فقال: سبّني، فقال لا أسبّك وأنت عمّي، فقال: وأنا لا أسبّ الأحوص وهو عمّي، ولكن دونك نعلي، فإني ربعت فيها أربعين سنة ولم ينهض معه.
فجعلا منافرتهما إلى أبي سفيان بن حرب بن أميّة، ثم إلى أبي جهل بن هشام، فلم يقولا بينهما شيئا، ثم رجعا آخر إلى هرم بن قطبة بن سيار بن عمر الفزاريّ، فقال: لعمري لأحكمنّ بينكما، فأعطياني موثقا أطمئن إليه أن ترضيا بحكمي، وتسلّما ما قضيت بينكما. ففعلا، فأقاموا عنده أيّاما فأرسل إلى عامر فأتاه سرّا، فقال: قد كنت أحسب أنّ لك رأيا، وأن فيك خيرا، وما حبستك هذه المدة إلا لتنصرف عن صاحبك أتنافر رجلا لا تفتخر أنت وقومك إلا بآبائه! فما الذي أنت به خير منه؟ فقال عامر: نشدتك الله والرحم، ألّا تفضل عليّ علقمة، فو الله لئن فعلت لا أفلح بعدها، هذه ناصيتي فاجززها واحتكم في مالي، فإن كنت ولا بدّ فاعلا فسوّ بيني وبينه، فقال له ما قال لعامر، فقال له: أتفاخر رجلا هو ابن عمّك في النسب وأبوه أبوك وهو مع ذلك أعظم منك غناء وأحمد لقاء، وأسمح سماحا! فما الذي أنت به خير منه! فردّ عليه علقمة ما ردّ عامر وانصرف وهو لا يشك أنه ينفّر عامرا عليه. فأرسل هرم إلى بنيه وبني أخيه، وقال لهم:
إني قائل غدا بينهما مقالة، فإذا فرغت فليطرد بعضكم عشر جزائر فلينحرها عن علقمة، وليطرد بعضكم مثلها فلينحرها عن عامر، وفرّقوا بين الناس لا يكون بينهم جماعة. ثم أصبح هرم فجلس مجلسه وأقبل عامر وعلقمة حتى جلسا، فقال هرم: إنكما يا بني جعفر قد تحاكمتما إليّ أنتما كركبتي البعير الآدم الفحل تقعان على الأرض معا، وليس فيكما واحد إلا وفيه ما ليس في صاحبه، وكلاكما سيد كريم. ولم يفضّل واحدا منهما على صاحبه لئلا يجب بذلك شرّا بين الحيّين، ونحرت الجزر وفرّقت على الناس.
وعاش هرم حتى أدرك خلافة عمر رضي الله عنه، فقال: يا هرم، أي الرجلين كنت مفضلا لو فعلت؟ فقال: لو قلت ذلك اليوم عادت جزعة، ولبلغت شعفات هجر، فقال عمر: نعم مستودع السرّ أنت يا هرم، مثلك فليستودع العشيرة أسرارهم، والحكاية طويلة، وقال فيه الأعشى: [السريع]
حكّمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الباهر (1)
لا يقبل الرّشوة في حكمه ... ولا يبالي غيرة الخاسر
قوله: فاء، أي رجع. أبلج: بيّن ظاهر. أتعب من سيلي، يقول إن الأمير الذي
__________
(1) البيتان في ديوان الأعشى ص 141.(2/303)
يأتي بعده في تعب لأنه يروم أن يفعل مثل ما فعل فيعجز عنه، وأعاد هذا المعنى منظما في السابعة والثلاثين حين قال: [السريع]
سماحه أزري بمن قبله ... وعدله أتعب من بعده
أخذه من قول رجل قال لأحد الأمراء، وقد عزل عن عمله: أصبحت والله فاضحا متعبا، أما فاضحا فلكلّ وال قبلك بحسن سيرتك، وأما متعبا فلكل وال بعدك أن يلحقك.
قرّظ: مدح. هزّ: حرك بالثناء عليه. بلى: جرّب. توّج صفاته، أي زيّنها وشرفها، عفاته: قصاده، بهجة: سرور، وكنى بخصبه عن ماله ودعا له بالبركة والكثرة إذا جعله ممتدّ الظل، برّ: مكرم. آنس: أبصر. شهيه: نيرانه الساطعة. واحدها شهاب، وأصل هائه التثقيل فخففّت، وكانت العرب، توقد النيران فيقصدها الأضياف بالليل، أراد أنه كثير الإكرام لمن يقصد ناره، وأخذ اللفظ من قوله تعالى: {آنَسَ مِنْ جََانِبِ الطُّورِ نََاراً} [القصص: 29]
مزايا: فضائل. ظرفه: حسن هيئته وعذوبة لسانه، وهو مصدر ظرف يظرف ظرفا فهو ظريف، فمن قال: الظريف البليغ، وقصره على اللسان لم يجز له أن يقول: ما أظرف زيد؟ على الاستفهام، ومن جعل الظرف حسن الوجه والهيئة جاز له ذلك، وكذلك من جعل الظرف عاما فيكون معناه: أي شيء فيه من الظرف؟ أوجهه أم هيئته أم ذكاؤه وبلاغته؟.
بلبس: اختلاط، أراد أنه يخلط الهزل بالجد، والمزاح وخفّة الطرب بالانقباض والحشمة، وقد تقدم في صفة التنوخي مثل هذا. والمزايا: جمع مزية وهي التمام والكمال، وأصلها من الزيّ.
* * * فليهن سيّدنا فوزه بمفاخر تأثّلت وجلّت، وفوقه بصنائع تمّت ونمّت، ويلائم قرب حضرته، غوث رقّه بحظّ من حظوته فإنّه تليد ندب، وشريد جدب، وجريح نوب أثّرت، وناظم قلائد تسيرت، إذا جاش لخطبة فلا يوجد قائل، ثمّ قسّ ثمّ باقل.
فإن حبّر قلت: حبر نمنمت، وخلت رياضا قد نمت، هذا ثمّ شربه برض وقوته قرض، وفلقه غسق، وجلبابه خلق، وقد قلق لتوغّر غريم غاشم، يستحثه بحقّ لازم فإن منّ سيّدنا بكفه، بهبات كفّه، توشّح بمجد فاق، وباء بأجر فكّي من وثاق.(2/304)
لا خلت سجايا خلقه، ترفد شائم برقه، بمنّ ربّ أزليّ، حيّ أبديّ.
* * * فوزه: ظفره. تأثلت: تقدمت واتصلت. جلّت: عظمت. فوقه: سبقه صنائع:
أفعال جميلة. نمت: اشتهرت. يلائم: يوافق. حضرته: موضعه الذي يحضر فيه، والقرب: جمع قرية، وهي ما يتقرب به من أعمال البر إلى الله تعالى ومن الهدايا إلى الملوك، غوث: إغاثة وكشف ضرّ. رقّه: عبده. حظّ: نصيب. حظوته: مكانته ورفعته، تليد ندب تقول: ندبت القوم دعوتهم، يريد أنه عبد الدعوة التي دعاه بها خصمه إلى الوالي، والتّليد من العبيد: ما ولد عند غيرك ثم اشتريته صغيرا، فكبر عندك، وجعل نفسه عبدا للدعوة لما تعبّد بها، أو يريد بالتليد القديم، فإن التليد والتالد المال القديم، وللنّدب: الهمّ، من ندبت الميت ندبا، فيريد أنه قديم همّ، ورجل ندب، أي خفيف في قضاء الحوائج لأصحابه، فيريد على هذا بتليد ندب، أي خفيف ومن هذه صفته فقد وجبت حرمته. وشريد جدب: طريد فقر وجوع، والجدب ضد الخصب، نوب: نوازل، أثّرت: أبقت به أثرا وأثرها أخذها ماله حتى عاد فقيرا، فمن نظره رأي أثر النوائب عليه، ناظم قلائد: قائل قصائد، ورسائل تسيّرت: مشت في الناس والبلاد، جاش لخطبة:
تحرك صدره للكلام بها، يريد أنه إذا أراد قول خطبة ازدحم الكلام في صدره وارتفع، كما يجيش القدر، أي يغلي، ونقدم هذا الكلام.
قسّ: فصيح العرب، ويأتي ذكره في الأربعين، ثمّ، معناه هنالك، باقل، تقدم، يريد أن قسا على فصاحته لو حضر مع الموصوف لنظم أو نثر لرجع في عيّ باقل، والعادة إنما يذكر معه سحبان للزوم الرسالة وقال حبيب وذكر ثلاثة من أصحابه عبد الله ابن طاهر: أول: [الكامل]
حازوا خلائق قد تيقّنت العلا ... كلّ التيقّن أنهنّ نجومها (1)
ثان: [الكامل]
لو أن باقلا المفهّه ينبري ... في مدحها سهلت عليه حزومها
ثالث:
ولو أن سحبانا يسحب ذيله ... في ذمها لم يدر كيف يذيمها
حبّر: قال شعرا أو رسالة. وأصل حبّر: وشّى وزين، حبر: ثياب موشاة. نمنمت:
زينت ورقمت. نمّت: تحركت بالروائح العطرة.
وقال الصابي في المهلبي وكأنه يصف هذا الكلام: [الخفيف]
__________
(1) البيت في ديوان أبي تمام ص 311.(2/305)
وإن استنطق الأنامل جاءت ... ببيان كالجوهر المنضود
في سطور كأنمّا نشرت يمن ... اه منها عصائبا من برود
فقر لم يزل فقيرا إليها ... كلّ مبدي بلاغة ومعيد
يغتدي البارع المفيد لديها ... لاحقا بالمقصّر المستفيد
ببيان شاف ولفظ مصيب ... واختصار كاف ومعنى سديد
وله في مثله أيضا: [الطويل]
وكم من يد بيضاء حازت جمالها ... يد لك لا تسودّ إلا من النّقس
إذا رقّشت بيض الصحائف خلتها ... تطرّز بالظلماء أردية الشمس
وقال السريّ رحمه الله تعالى: [الكامل]
شغلتك عن حسن الشآم مدائح ... حسنت فما تنفك تطرب سامعا
زهر إذا صافحن سمع معاند ... خفض الكلام وغضّ طرفا خاشعا
جاءتك مثل بدائع الوشي الذي ... ما زال في صنعاء يتعب صانعا
أو كالربيع يريك أخضر يانعا ... متورّدا شرقا وأصفر فاقعا
وله أيضا في مثله: [البسيط]
سأبعث الحمد موشيا سبائبه ... إلى الأمير صحيحا غير مؤتشب
إنّ المدائح لا تهدى لناقدها ... إلا وألفاظها أصفى من الذهب
كم رضت بالفكر منها روضة أنفا ... تفتّح الزهر فيها عن جنى الأدب
لفظ يروح له الريحان مطّرحا ... إذا جعلناه ريحانا على النخب
قوله: شربه، أي حظه من الماء، برض: قليل. قرض: سلف، والقرض ما أخذ ليعوض منه. وفلقه: ضوء صبحه، غسق: ظلام، يريد أن حاله متغيرة. جلبابه: ثوبه.
خلق: بال. توغّر: توقدّ واشتدّ غضبه، والتّوغر: التوقد، الشدّة الغيظ، والوغر شدة الحر، غاشم: ظالم جافّ. يستحثه: يستعجله، لازم: واجب، منّ: أنعم وأحسن، بكفّه: برده عني، هبات: عطايا. توشح: تحزم وتزين، وتوشح الرجل بثوبه: جعله موضع الوشاح وتحزم، فاق: فضل بهذا المجد كل أحد. باء: رجع، فكّي: إنقاذي.
وثاق: شدّ وربط، سجايا: طبائع، ترفد: تصل وتعين، والرّفد: المعونة: شائم برقه:
راجي خيره ونازل أمره، ونزّل البرق منزلة الجود لأنه يأتي بالمطر والمطر يشبّه به الجود:
بمنّ: بإحسان وإنعام، أزليّ: قديم. أبديّ باق مع الأبد وهو الدهر.
وإذ قد فرغنا من شرح هذه الرسالة على صعوبتها، فإنا نعتذر إلى من وقف على شرحنا لها من صعوبة هذا المقام، فإن هذه الرسالة وأمثالها إنما يؤتى بها على جهة الملح
والاقتدار، لا على أنها من نفيس الكلام الفصيح، ألا ترى الحريريّ كيف اعتذر في مثلها حيث قال: أجلّ الأبيات العرائس، وإن لم يكنّ نفائس ولا شك أن الشارح لمثل هذه الرسالة يقارب تعب منشئها في أنه يغوص على تلك الاستعارات البعيدة، فيريد أن يبرز المعنى في غاية البيان، واللفظ في أغلبها موضوع على غاية الإبهام، فوقع التمانع، فلا يصل إلى عبارة متوسطة تتعلق بالمعنى، ولا تبعد من اللفظ إلا بعد جهد، فهذا عذرنا في هذه الرسالة الرقطاء والقهقرية والخيفاء المتقدمتين، وما علمت أحدا شرحها شرحنا ولا بلغ منها مبلغنا، ولله منشئها من عالم بارع! فما اتفق له إنشاؤها إلا بعد التبحّر في علوم اللغات حتى كأنّ أبا حفص بن برد يخاطبه بهذه الأبيات: [البسيط](2/306)
وإذ قد فرغنا من شرح هذه الرسالة على صعوبتها، فإنا نعتذر إلى من وقف على شرحنا لها من صعوبة هذا المقام، فإن هذه الرسالة وأمثالها إنما يؤتى بها على جهة الملح
والاقتدار، لا على أنها من نفيس الكلام الفصيح، ألا ترى الحريريّ كيف اعتذر في مثلها حيث قال: أجلّ الأبيات العرائس، وإن لم يكنّ نفائس ولا شك أن الشارح لمثل هذه الرسالة يقارب تعب منشئها في أنه يغوص على تلك الاستعارات البعيدة، فيريد أن يبرز المعنى في غاية البيان، واللفظ في أغلبها موضوع على غاية الإبهام، فوقع التمانع، فلا يصل إلى عبارة متوسطة تتعلق بالمعنى، ولا تبعد من اللفظ إلا بعد جهد، فهذا عذرنا في هذه الرسالة الرقطاء والقهقرية والخيفاء المتقدمتين، وما علمت أحدا شرحها شرحنا ولا بلغ منها مبلغنا، ولله منشئها من عالم بارع! فما اتفق له إنشاؤها إلا بعد التبحّر في علوم اللغات حتى كأنّ أبا حفص بن برد يخاطبه بهذه الأبيات: [البسيط]
أبا العلاء استمع تعريض ذي مقة ... أهدي لك الودّ محضا غير مقطوب
أنت الذي لم نعاشر مثله رجلا ... في العلم والظرف والآداب والطيب
تحصيل فضلك للحسّاد معجزة ... وكنه علمك شيء غير محسوب
أمّا اللغات فما يعقوب يبلغ ما ... وعيت منها ولا أشياخ يعقوب
* * * قال: فلمّا استشفّ الأمير لآليها، ولمح السّرّ المودع فيها، أوعز في الحال بقضاء ديني، وفصل بين خصمي وبيني، ثمّ استخلصني لمكاثرته، واختصّني بأثرته، فلبثت بضع سنين أنعم في ضيافته، وأرتع في ريف رأفته حتّى إذا غمرتني مواهبه، وأطال ذيلي ذهبه، تلطّفت في الارتحال، على ما ترى من حسن الحال.
قال: فقلت له شكرا لمن أتاح لك لقيان السّمح الكريم، وأنقذك من ضغطة الغريم، فقال: الحمد لله على سعادة الجدّ، والخلوص من الخصم الألدّ، ثم قال:
أيّماء أحبّ إليك؟ أن أحذيك من العطاء، أم أتحفك بالرسالة الرّقطاء، فقلت:
املاء الرسالة أحبّ إليّ، فقال: وهو وحقّك أخفّ عليّ، فإنّ نحلة ما يلج في الآذان، أهون من نحلة ما يخرج من الأردان. ثمّ كأنّه أنف واستحيا، فجمع لي بين الرّسالة والحذيا، ففزت منه بسهمين، وفصلت عنه بغنمين، وأبت إلى وطني قرير العين، بما حزت من الرسالة والعين.
قوله: استشفّ، نظر، لآليها: جواهر كلامها، لمح: رأى. المودع: المضمّن المجعول، وعنى بالسرّ ما ذكر من النقط لحرف والترك لآخر، أوعز: تقدم، فصل:
قطع، استخلصني: ضمنّي وأنقدني منه. لمكاثرته: لزيادة عدده، يريد أن الأمير خلّصه من غريمه وضمه إليه، وجعله فيمن حواليه فكثروا به. اختصني بأثرته: أفردني
بعطيته، وآثرني بها على غيري. لبثت: أقمت، بضع سنين: قال أبو عبيدة رحمه الله:(2/307)
قطع، استخلصني: ضمنّي وأنقدني منه. لمكاثرته: لزيادة عدده، يريد أن الأمير خلّصه من غريمه وضمه إليه، وجعله فيمن حواليه فكثروا به. اختصني بأثرته: أفردني
بعطيته، وآثرني بها على غيري. لبثت: أقمت، بضع سنين: قال أبو عبيدة رحمه الله:
البضع من واحد إلى أربعة، وقال الأخفش: من واحد إلى عشرة، وقال الفراء: ما دون العشرة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: البضع من الثلاثة إلى عشرة، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأبي بكر لما نزلت {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4]: «البضع ما بين السبع والتسع» (1)، قال ابن سلام: فلما انقضت سبع سنين ظهرت الروم على فارس، وقال أبو محمد في الدّرة: البضع أكثر ما يستعمل فيما بين الثلاث إلى العشر، وأسرّ ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 3، 4]، وذلك أنّ المسلمين كانوا يحبون أن تظهر الروم على فارس، لأنهم أهل الكتاب والمشركون يميلون إلى أهل فارس، لأنهم أهل أوثان، فلما بشّر الله المسلمين بأنّ الروم سيغلبون سرّ المسلمون، ثم إن أبا بكر رضي الله عنه أخبر مشركي قريش بما نزل عليهم، فقال له أمية بن خلف: خاطرني على ذلك، فخاطره على خمس قلائص في مدة ثلاث سنين، ثم أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فسأله عن البضع، فقال: ما بين الثلاثة إلى العشرة، فأخبره بخطاره مع ابن خلف. فقال له: ما حملك على تقريب المدة؟ قال: الثقة بالله ورسوله، فقال له: عد إليهم فزدهم في الخطر، وازدد في الأجل، فزدهم قلوصين وزادوه سنتين، فظفرت الروم بفارس قبل انقضاء الأجل الثاني تصديقا لتقدير أبي بكر رضي الله عنه.
ويقال البضع بغير هاء للمؤنث مثل خمس وبضعة للمذكر مثل خمسة.
أرتع: آكل وأتنعم، والريف: الخصب، والرأفة: الرفق. غمرتني مواهبه: غطّتني عطاياه، وأراد بإطالة ذيله كثرة ماله حتى صار منه فضول، وصار يجرّ ذيله تبخترا.
تلطفت: تسللّت برفق، أتاح: قدّر. لقيان: لقاء. الضّغطة: التضييق، وضغطه: ضيّق عليه، الجدّ: الحظ والسعد. الألدّ الشديد الخصومة. أحذيك: أعطيك. أتحفك:
أهديك. وإملاء الرسالة: إلقاؤه عليه ليكتبها. نحلة: عطية، يلج: يدخل، الأردان:
الأكمام. أنف: كبر ذلك عليه واستنكفه، والحذيا: العطية فصلت: زلت، أبت:
رجعت. قرير العين: مسرورا بالفائدة. حزت: جمعت وصار في حوزي، أي في ملكي.
والعين: الذّهب الأحمر.
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير، تفسير سورة 30، باب 1، 3.(2/308)
المقامة السّابعة والعشرون وهي الوبريّة
حكى الحارث بن همّام، قال: ملت في ريّق زماني الّذي غبر، إلى مجاورة أهل الوبر لآخذ أخذ نفوسهم الأبيّة، وألسنتهم العربيّة، فشمّرت تشمير من لا يألو جهدا، وجعلت أضرب في الأرض غورا ونجدا إلى أن اقتنيت هجمة من الرّاغية وثلّة من الثّاغية، ثمّ أويت إلى عرب أرداف أقيال، وأبناء أقوال، فأوطنوني أمنع جناب، وفلّوا عنّي حدّ كلّ ناب، فما تأوّبني عندهم همّ، ولا قرع صفاتي سهم.
* * * غبر: تقدم. أهل الوبر: أصحاب البوادي: الذين مالهم الإبل، وكنى بالوبر عنها.
الأبيّة: العزيزة التي تأبى الذلّ، يألو جهدا: يقصّر في الاجتهاد، أضرب: أمشي في الأرض. وغورا ونجدا: مرتفعا ومنخفضا، اقتنيت: اكتسبت لنفسي لا للبيع.
وشرح الحريري ألفاظا في المقامة فنقتصر فيها على شرحه إلا بقدر ما يزيد الكلام بيانا، مثل قوله: آخذ أخذ نفوسهم، أي أتخلّق بأخلاقهم وطباعهم، ويقال لو كنت مثلنا لأخذت بأخذنا، بكسر الهمزة وفتحها، أي بخلائقنا وشكلنا، واستعمل فلان على الشأم وما أخذ أخذه، أي وما والاه وكان حيّزه، وقوله: إرداف أقيال يفسّر القيل بالملك وبردف الملك، وقيل: القيل بالمشرق كالقائد بالأندلس والرّدافة في الجاهلية كالوزارة في الإسلام، والرّدافة: بأن يرتدف مع الملك على مركوبه، وأن يستخلفه في موضعه متى غزا، أويت: رجعت واتخذته مأوى، أوطنوني: أنزلوني. جناب: جانب، فلّوا: كسروا.
ناب: ضرس. تأوّبني: أتاني ليلا، ولا قرع صفاتي سهم، أي لم ينلني ضرّ.
* * * إلى أن أضللت في ليلة منيرة البدر، لقحة غزيرة الدّرّ فلم أطب نفسا بإلغاء طلبها، وإلقاء حبلها على غاربها فتدثّرت فرسا محضارا، واعتقلت لدنا خطّارا، وسريت ليلتي جمعاء، أجوب البيداء، وأقتري كلّ شجراء ومرداء، إلى أن نشر الصّبح راياته، وحيعل الدّاعي إلى صلاته، فنزلت عن متن الرّكوبة، لأداء
المكتوبة، ثمّ حلت في صهوتها، وفررت عن شحوتها، وسرت لا أرى أثرا إلا قفوته، ولا نشزا إلا علوته، ولا واديا إلا جزعته، ولا راكبا إلّا استطلعته، وجدّي مع ذلك يذهب هدرا، ولا يجد ورده صدرا، إلى أن حانت صكة عميّ، ولفح هجير يذهل غيلان عن ميّ.(2/309)
* * * إلى أن أضللت في ليلة منيرة البدر، لقحة غزيرة الدّرّ فلم أطب نفسا بإلغاء طلبها، وإلقاء حبلها على غاربها فتدثّرت فرسا محضارا، واعتقلت لدنا خطّارا، وسريت ليلتي جمعاء، أجوب البيداء، وأقتري كلّ شجراء ومرداء، إلى أن نشر الصّبح راياته، وحيعل الدّاعي إلى صلاته، فنزلت عن متن الرّكوبة، لأداء
المكتوبة، ثمّ حلت في صهوتها، وفررت عن شحوتها، وسرت لا أرى أثرا إلا قفوته، ولا نشزا إلا علوته، ولا واديا إلا جزعته، ولا راكبا إلّا استطلعته، وجدّي مع ذلك يذهب هدرا، ولا يجد ورده صدرا، إلى أن حانت صكة عميّ، ولفح هجير يذهل غيلان عن ميّ.
* * * أضللت: أتلفت، وضلت الناقة وأضلّها ربّها، منيرة: مضيئة. اللقحة: الناقة لها لبن. غزيرة الدّرّ: كثيرة اللبن، إلغاء: ترك غاربها: أعلى سنامها، اللدن: الرمح اللّين.
الخطار: الطويل المضطرب. واعتقلت الرمح: جعلته ما بين سرجك ورجلك، أجوب البيداء: أقطع القفر. وفسر «حيعل» بأنه قول المؤذن: حي على الصلاة حيّ على الفلاح، وشاهده: [الطويل]
ألا ربّ طيف بات منك معانقي ... إلى أن دعا داعي الصلاة فحيعلا (1)
وقال آخر: [الوافر]
أقول لها ودمع العين جار ... ألم تحزنك حيعلة المنادي (2)
ومعنى حيّ، هلمّ وأقبل، والفلاح: الفوز، وأفلح الرجل، إذا فاز وأصاب خيرا، والمفلحون: الفائزون، وقيل: الفلاح البقاء، أي أقبلوا على بيت البقاء في الجنة. والمفلحون:
الباقون، والصلاة: المعلومة، والصلاة: الرحمة كقوله تعالى {أُولََئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوََاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157]، وكقوله عليه الصلاة والسلام: «اللهمّ صل على آل أبي أوفى» (3)
والصلاة بمعنى الدعاء كالصلاة على الميت، وكقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليأكل ومن كان صائما فليصل» (4) أداء: قضاء. حلت في صهوتها: ركبت ظهرها ووثبت عليها، فررت: كشفت، قفوته: اتّبعته. نشزا: مرتفعا، استطلعته: استخرته وسألته. جديّ: عزمي واجتهادي، هدرا: باطلا. ورده صدرا، أي سؤاله خبرا والورد إتيان الماء والصدر: الرجوع عنه، لفح: تحرك، هجير: حرّ. يذهل: يشغل.
__________
(1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (حصل)، (هلل)، وكتاب العين 1/ 60، وتاج العروس (حيعل)، ويروى «داعي الصباح» بدل «داعي الصلاة».
(2) البيت بلا نسبة في لسان العرب (حعل)، (هلل)، وتاج العروس (حيعل)، وديوان الأدب 2/ 488، وكتاب العين 1/ 60.
(3) أخرجه البخاري في المغازي باب 35، والدعوات باب 19، 33، ومسلم في الزكاة حديث 176، وأبو داود في الزكاة باب 7، والنسائي في الزكاة باب 13، وابن ماجه في الزكاة باب 8، وأحمد في المسند 4/ 353، 355، 381، 383.
(4) أخرجه الترمذي في الصوم باب 64، وأبو داود في الأطعمة باب 1.(2/310)
[ذو الرمة وميّ]
غيلان اسم ذي الرّمة، وهو غيلان بن عقبة بن بيهس بن مسعود بن حارثة، عداده في الرّباب، والرباب: عدّي بن عبد مناة وتيم بن عبد مناة وعكل، وهو عوف بن عبد مناة، وثور بن عبد مناة، وضبة بن أدّ وهو عمهم، وأد بن طابخة بن الياس بن مضر، وسمي ذا الرّمة، لقوله يصف وتدا: [الرجز]
وغير مرضوخ القفا موتود ... أشعث باقي رمة التقليد (1)
نعم فأنت اليوم كالمعمود ... من الهوى أو شبه المورود
بميّ ذات المبسم المبرود ... والمقلتين وبياض الجيد
وقيل: سميّ به لأنه خشي عليه من المسّ، فأتى به الرجل من الحيّ فكتب له معاذة علّقت في عنقه، وشدت بحبل، وقيل: سمعته بذلك خرقاء التي يذكرها في شعره، وذلك أنه رآها وهي في جوار على سنّها فأعجبته وأدام الالتفات إليها ثم قال لها: يا جارية اخرزي لي هذه القربة. فعلمت مراده، فقالت له: إني خرقاء، فولّى وفي يده قطعة حبل بال فنادته: يا ذا الرّمة إن كنت خرقاء، فجاريتي صناع، فاذهب إليها، فمضى عليه ذو الرمة، وسمّاها في شعره خرقاء، فمضت عليها.
وهي ميّ بنت عاصم بن طلبة بن قيس بن عاصم، وتكنى أم ثور، وغلبت عليه حتى عرف بها، فقيل غيلان ميّ كما قيل كثيّر عزة.
وأول أمره مع ميّ فيما حكى الأصبهاني عن أمة لأمّ ميّ قالت: كنا نازلين بأسافل الدّهناء ورهط ذي الرّمة مجاورون لنا، فجلست مية تغسل ثيابا لها ولأمها، في بيت رث فيه خروق، وهي فتاة أحسن من رأيته حين بدا ثدياها، فلما فرغت لبست ثيابها وجلست عند أمها، وأقبل ذو الرمّة ينشد ضالة، فدخل وجلس ساعة ثم خرج، فقالت مية: إني لأرى أنّ هذا العذري قد رآني منكشفة واطلع عليّ من حيث لا أشعر، فإنّ بني عذرة أخبث قوم في الأرض فاذهبي فقصي أثره، فقالت: قصصت أثره فوجدته قد تردّد أكثر من ثلاثين مرة، كل ذلك يدنو فيطلع عليها، ثم يرجع على عقبه ثم يعود فأخبرتها بذلك، ثم لم ينشب أن جاءنا شعره فيها من كلّ وجه ومكان.
وحدّث أيضا بسنده عن عمارة بن ثقيف أنّ ذا الرمة حدّثه أن أوّل أمره معها أنه خرج مع أخيه وابن عمّه في بغاء إبل لهم، فوردوا على ماء، وقد جهدهم العطش، قال:
فأتيت خباء عظيما أستسقي لهما ماء فإذا عجوز جالسة في رواقه، فالتفتت وراءها وقالت: يا ميّ، اسق الغلام، فدخلت عليها وهي تنسج شقّة، فقالت لي: لقد كلفك
__________
(1) الرجز في ديوان ذي الرمة ص 330328، ولسان العرب (رمم)، وتهذيب اللغة 15/ 192، وجمهرة اللغة ص 126، وتاج العروس (رمم).(2/311)
أهلك السفر، على ما أرى من حداثة سنك، ثم قامت تصبّ في ركوتي ماء وعليها شوذب، فلما انحطت على القربة رأيت مرأي لم أر أحسن منه، فلهوت بالنظر إليها، وهي تصبّ الماء فيذهب يمينا وشمالا، فقالت العجوز: يا بنيّ ألهتك ميّ عما بعثك له أهلك، أما ترى الماء يذهب يمينا وشمالا؟ قلت: أما والله ليطولنّ هيامي بها ثم أتيت بالماء أخي وابن عمي فلففت رأسي، وانتبذت ناحية وقلت: [الرجز]
قد سخرت أخت بني لبيد ... منّي ومن سلم ومن وليد (1)
رأت غلامي سفر بعيد ... يدرعان اللّيل ذا السدود
مثل ادّراع اليلمق الحديد
وهي أول قصيدة قلت: ثم مكثت أهيم بها في ديارها عشرين سنة.
وأما ابن قتيبة فقال: مكثت ميّ تسمع شعر ذي الرّمة ولا تراه، فجعلت لله أن تنحر بدنه يوم تراه وكانت من أجمل الناس فلما رأته دميما أسود صاحت: واسوأتاه! واضيعة بدنتاه! فقال: [الطويل]
على وجه ميّ مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب الشّين لو كان باديا (2)
فكشفت عن جسدها، قالت: أشينا ترى لا أمّ لك! فقال: [الطويل]
ألم تر أن الماء يخبث طعمه ... وإن كان لون الماء أبيض صافيا
فقالت له: قد رأيت ما تحت الثياب، فلم يبق إلا أن أقول لك: هلمّ فذق ما وراءه، فو الله لا ذقت ذلك أبدا، ثم صلح الأمر بينهما، فعادا لما كانا من حبّهما.
وهو شاعر مجيد مكثر وصّاف للأطلال والديار والصبر على قطع القفار. أبو الفرج: كان سليمان بن أبي شيخ، رواية لشعر ذي الرّمة، فأنشد يوما قصيدة له وأعرابي من بني عدي بسمعه فقال: أشهد أنك فقيه تحسن ما تلوته، وكان يحسبه قرآنا.
وكان أهل البادية يعجبهم شعره، وكان جرير والفرزدق يحسدانه، وقال حماد الرواية: ما أخرّ القوم ذكره إلا لحداثة سنه، وأنهم حسدوه.
وقال أبو المطرّف: لم يكن أحد منهم في زمانه أبلغ منه، ولا أحسن جوابا، وكان كلامه أحسن من شعره.
وقال مولى لبني هاشم: رأيته بسوق المريد وقد عارضه رجل فقال: يا أعرابيّ يهزأ به أتشهد بما لم تر! قال: نعم قال: بماذا، قال: إن أباك ناك أمك.
__________
(1) الرجز في ديوان ذي الرمة ص 330328.
(2) البيت في ديوان ذي الرمة ص 1921، ولسان العرب (مسح)، وتهذيب اللغة 4/ 349، ومعجم البلدان (الملا)، ووفيات الأعيان 4/ 12، ومعاهد التنصيص 3/ 261، والعقد الفريد 6/ 413، والأغاني 18/ 30.(2/312)
الأصمعي: ما أعلم أحدا من العشاق شكا أحسن من شكوى ذي الرّمة، مع عفّة وعقل.
أبو عبيدة: يخبر ذو الرّمة فيحسن الخبر، ثم يردّ على نفسه فيحسن الرّد، ثم يعتذر فيحسن التخلص. مع حسن إنصاف في الحكم وعفاف.
وقال ذو الرّمة: من شعري ما ساعدني فيه القول ومنه ما أجهدت نفسي فيه، ومنه ما جننت فيه جنونا، فأما الذي طاوعني فيه القول فقولي: [الطويل]
خليليّ عوجا في صدور الرواحل ... بجمهور حزوى فابكيا في المنازل (1)
لعلّ انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي نجيّ البلابل
وأما ما أجهدت نفسي فيه فقولي: [البسيط]
أأن توسّمت من خرقاء منزلة ... ماء الصبابة من عينيك مسجوم (2)
كأنها بعد أحوال مضين لها ... بالأشيمين يمان فيه تسهيم
وأما الذي جنت فيه جنونا فقولي: [البسيط]
ما بال عينك منها الماء ينسكب ... كأنه من كلى مفرّية سرب (3)
براقة الجيد واللبّات واضحة ... كأنها ظبية أفضى بها لبب
زين الثياب وإن أثوابها استلبت ... فوق الحشية يوما زانها السلب
إذا أخو لذة الدنيا تبطّنها ... والبيت فوقهما بالستر محتجب
ساقت بطيّبة العرنين مارنها ... بالمسك والعنبر الهنديّ مختضب
لمياء في شفتيها حوّة لعس ... وفي اللّثات وفي أنيابها شنب
كحلاء في برج، بيضاء في دعج ... كأنها فضة قد زانها ذهب
وهذه القصيدة من المطولات التي نيّفت على المائة وربعها، وتصرّف فيها ما شاء من أوصاف الأطلال والديار والثور والحمار والكلاب والظبي وغير ذلك. وفي خلال ذلك يأتي بتشبيهات بديعات، وهو أشعر الشعراء الإسلاميين في التشبيه. وكان يقول: إذا قلت «كأنّ» فلم أجد مخرجا فقطع الله لساني.
__________
(1) البيتان في ديوان ذي الرمة ص 295.
(2) البيتان في ديوان ذي الرمة ص 371، والخصائص 2/ 11، والصاحبي في فقه اللغة ص 53، ولسان العرب (رسم)، (عنن)، (عين)، ومجالس ثعلب ص 101، ويروى «أعن ترسّمت» بدل «أأن توسّمت».
(3) الأبيات في ديوان ذي الرمة ص 9، والبيت الأول في لسان العرب (سرب)، (غرف)، (عجل)، ومقاييس اللغة 3/ 155، والمخصص 7/ 128، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 12/ 415.(2/313)
واحتذى في ذلك حذوه من المولدين ابن المعتز، وقصده الحريري في هذا الموضع لمعنيين: أحدهما لأنه كان صادقا في حبّ مية فكان لا يشغله عنها شيء، لا مثل كثير عزة وغيره ممن لا يصدق في حبه، والثاني أنه يكثر في شعره صبره على قطع الهواجر لمية مثل قوله: [الطويل]
وهاجرة من دون ميّة لم تقل ... قلوصي بها والجندب الجون يرمح (1)
إذا جعل الحرباء مما أصابه ... من الحرّ يلوي رأسه ويرنّح
لئن كانت الدنيا عليّ كما أرى ... تباريح من ميّ فللموت أروح
ولما شكوت الحب كيما تثيبني ... بودّي قالت إنما أنت تمزح
فذكر الحريري أن هذه الهاجرة شغلته عن ذكر ميّ حتى طلب ظلّا يلوذ به.
* * * وكان يوما أطول من ظلّ القناة، وأحرّ من دمع المقلات فأيقنت أني إن لم أستكن من الوقدة. وأستحمّ بالرّقدة، وأدنفني اللغوب، وعلقت بي شعوب، قعجت إلى سرحة كثيفة الأغصان، وريقة الأفنان، لأغوّر تحتها إلى المغيربان فو الله ما استروح نفسي، ولا استراح نفسي حتّى نظرت إلى سانح، في هيئة سائح وهو ينتجع نجعتي، ويشتدّ إلى بقعتي، فكرهت انعياجه إلى معاجي فاستعذت بالله من شرّ كلّ مفاجىء، ثمّ ترجّيت أن يتصدّى منشدا، أو يتبدّى مرشدا فلما اقترب من سرحتي، وكاد يحلّ بساحتي، ألفيته شيخنا السّروجيّ، متّشحا بجرابه.
ومضطغنا أهبة تجوابه، فآنسني إذ ورد، وأنساني ما شرد، ثمّ استوضحته من أين أثره، وكيف عجره وبجره.
* * * أستكنّ: أستتر وأطلب كنّا. الوقدة: شدة الحرّ، أستجمّ: أستريح فأتقوى. أدنفني:
أمرضني. اللغوب: التعب.
وذكر طول اليوم القصير وأنشد عليه في الشرح: «ويوم كظل الرمح»، وذكر أنّ اليوم القصير يوصف بإبهام القطاة، ولم ينشده عليه شيئا، وقال جرير: [الطويل]
__________
(1) الأبيات في ديوان ذي الرمة ص 1212، والبيت الأول في لسان العرب (رمح)، وتهذيب اللغة 5/ 53، وهو بلا نسبة في المخصص 8/ 177، وكتاب العين 3/ 226، ويروى «ومجهولة» بدل «وهاجرة».(2/314)
ويوم كإبهام القطاة محّبب ... إليّ صباه غالب لي باطله (1)
رزقنا به الصّيد الغزير فلم يكن ... كمن نبله محرومة وحبائله
وذلك يوم خيره قبل شره ... تغيّب واشيه وأقصر عاذله
قال الأصمعي: قال لي خلف الأحمر: ويحه فما ينفعه حين يؤول إلى الشرّ! قلت:
فكيف يجب أن يقول؟ قال: خيره دون شره، قلت: والله لا أرويه بعدها إلا هكذا.
عجت: ملت. سرحة: شجرة، كثيفة: ملتفتة الأغصان. وريقة: كثيرة الورق.
والأفنان: الأغصان، أو ما تفرع منها. وما أحسن ما نظم في الفرار من الحرّ إلى الظل المنازي كاتب مروان صاحب ميافارقين حين قال: [الوافر]
وقانا وقدة الرّمضاء روض ... سقاه مضاعف الطّل العميم
قصدنا دوحه فحنا علينا ... حنوّ الوالدات على الفطيم
يراعي الشمس أنّى قابلتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم
وهذا ما يتعلق بالغرض، وزاد فيه معنى بديعا بقوله: [الوافر]
ويسقينا على ظمأ زلالا ... ألذ من المدام مع الكريم
يروع حصاه حالية الغواني ... فتلمس جانب العقد النظيم
تأمل هذه الصفة تجدها غاية في بابها، وتخيّل هذه الجارية كيف نظرت بياض الحصى في الماء، فارتاعت وحسبت عقدها تناثر، فالتمسته بيدها.
وقال السرّي فأحسن: [الطويل]
أدرها ففقد اللّوم إحدى الغنائم ... ولا تخش إثما لست فيها بآثم
ولا عيش إلا في اعتصام بقهوة ... يروح الفتى منها خضيب المعاصم
ولا ظل إلا ظلّ كرم معرّش ... تغنيك من قطريه ورق الحمائم
سماء غصون تحجب الشمس أن ترى ... على الأرض إلا مثل نثر الدّراهم
وقال ابن لبّال في متنزه بشريش يسمى أجّانة: [الطويل]
أيا حبذا إجانة كيفما اغتدت ... زمان ربيع أو زمان عصير
مذانب ماء كالّلجين على حصى ... كدرّ بلا ثقب أغرّ نثير
ورمل إذا ما ابتلّ بالماء عطفه ... غنينا به عن عنبر وذرور
__________
(1) يروى البيت الأول:
ويوم كإبهام القطاة مملّح ... إليّ صباه معجب لي باطله
وهو بلا نسبة في كتاب العين 2/ 297.(2/315)
وتين كما قامت على حلماتها ... نهود عذارى الزنج فوق صدور
كأن القباب الخزّ فيها عرائس ... على سرر مفروشة بحرير
وله أيضا عفا الله تعالى عنه: [الطويل]
كأنّ جني القوطيّ في رونق الضّحى ... وقد حملته راحة الورقات
نهود عذارى زحزحت عن مقرّها ... فقامت على الأطراف والحلمات
قوله: استروح نفسي، أي استنشقت الريح فتنفست فيه من التعب، أي ما سكنت عنّي أنفاس التعب، واستروحت الشيء، وجدت ريحه، سائح: عابر يسيح في الأرض، أي يمشي في جهاتها، ويقال للمكدي: سائح، لأنه يسيح في طلب الكدية. ينتجع نجعتي، أي يقصد قصدي في طلب الراحة. والانتجاع: طلب المرعى. يشتدّ: يجري. بقعتي: موضعي.
انعياجه: انعطافه. معاجي: مكاني الذي عجت إليه. مفاجىء آت على غفلة. يتصدّى:
يتعرّض. منشدا: دالا على الشيء، تقول: نشدت الضالة طلبتها، وأنشدتها: دللت عليها طالبها. مرشدا: هاديا للطريق. ساحتي: موضعي الذي أنا فيه. ألفيته: وجدته. متّشحا بجرابه، أي جعل جرابه موضع الوشاح. أهبة تجوابه، أي عدة جولانه. ورد: وصل ما شرد:
ما نفر، يعني الضالّة. استوضحته: سألته أن يوضحّ لي أمره.
* * * فأنشد بديها، ولم يقل إيها: [الخفيف]
قل لمستطلع دخيلة أمري ... لك عندي كرامة وعزازه
أنا ما بين جوب أرض فأرض ... وسرى في مفازة فمفازه
زادي الصّيد والمطية نعلي ... وجهازي الجراب والعكازه
فإذا ما هبطت مصرا فبيتي ... غرفة الخان والنّديم جزازه
ليس لي ما أساء إن فات أو أحز ... ن إن حاول الزّمان ابتزازه
غير أني أبيت خلوا من الهمّ ... ونفسي عن الأسى منحازه
أرقد اللّيل ملء جفني وقلبي ... بارد من حرارة وحزازه
لا أبالي من أيّ كأس تفوّق ... ت ولا ما حلاوة من مزازه
لا ولا أستجيز أن أجعل الذلّ ... مجازا إلى تسنّي إجازه
وإذا مطلب كسا حلّة العا ... ر فبعدا لمن يروم نجازه
ومتى اهتزّ للدناءة نكس ... عاف طبعي طباعه واهتزازه
فالمنايا ولا الدنايا وخير ... من ركوب الخنا ركوب الجنازه
* * *
بديها: مرتجلا من غير فكرة، المستطلع: الذي يحب أن يطّلع على الأمر دخيلة أمري: باطنه، عزازة: عزة ورفعة. جوب: قطع. سرى: مشى الليل. مفازة، قال الأصمعيّ: هي المهلكة سميت بذلك تفاؤلا لسالكها بالفوز، كما سمّي اللديغ سليما تفاؤلا بالسلامة، قال ابن الأعرابي: هي مأخوذة من فوز الرجل، إذا هلك، والعرب تسمي النعل مطيّة مجازا حيث يستعان بها على قطع المفازة، وأنشد أبو عليّ الفارسي رحمه الله: [الطويل](2/316)
قل لمستطلع دخيلة أمري ... لك عندي كرامة وعزازه
أنا ما بين جوب أرض فأرض ... وسرى في مفازة فمفازه
زادي الصّيد والمطية نعلي ... وجهازي الجراب والعكازه
فإذا ما هبطت مصرا فبيتي ... غرفة الخان والنّديم جزازه
ليس لي ما أساء إن فات أو أحز ... ن إن حاول الزّمان ابتزازه
غير أني أبيت خلوا من الهمّ ... ونفسي عن الأسى منحازه
أرقد اللّيل ملء جفني وقلبي ... بارد من حرارة وحزازه
لا أبالي من أيّ كأس تفوّق ... ت ولا ما حلاوة من مزازه
لا ولا أستجيز أن أجعل الذلّ ... مجازا إلى تسنّي إجازه
وإذا مطلب كسا حلّة العا ... ر فبعدا لمن يروم نجازه
ومتى اهتزّ للدناءة نكس ... عاف طبعي طباعه واهتزازه
فالمنايا ولا الدنايا وخير ... من ركوب الخنا ركوب الجنازه
* * *
بديها: مرتجلا من غير فكرة، المستطلع: الذي يحب أن يطّلع على الأمر دخيلة أمري: باطنه، عزازة: عزة ورفعة. جوب: قطع. سرى: مشى الليل. مفازة، قال الأصمعيّ: هي المهلكة سميت بذلك تفاؤلا لسالكها بالفوز، كما سمّي اللديغ سليما تفاؤلا بالسلامة، قال ابن الأعرابي: هي مأخوذة من فوز الرجل، إذا هلك، والعرب تسمي النعل مطيّة مجازا حيث يستعان بها على قطع المفازة، وأنشد أبو عليّ الفارسي رحمه الله: [الطويل]
رواحلنا ست ونحن ثلاثة ... نجنّبهنّ الماء في كلّ مشرب
وقال أبو نواس: [الطويل]
إليك أبا العباس يا خير من مشى ... عليها امتطينا الحضرميّ الملسّنا (1)
قلائص لم تعرف حنينا إلى طلا ... ولم تدر ما قرع الفنيق ولا الهنا
وأخذه أبو الطيب فقال: [المنسرح]
لا ناقتي تقبل الرديف ولا ... بالسّوط يوم الرّهان أجهدها (2)
شراكها كورها ومشفرها ... زمامها والشّسوع مقودها
أشدّ عصف الرياح يسبقه ... تحتي من خطوها تأيّدها
وكان السّروجي أكثر عدّة من أبي الشمقمق في قوله: [الخفيف]
كلما كنت في جموع فقالوا ... قرّبوا للرّحيل قرّبت نعلي
أترى أننّي من الدهر يوما ... لي فيه مطية غير رجلي
حيثما كنت لا أخلف رحلا ... من رآني فقد رآني ورحلي
ومن أبيات المعاني في نعل: [الطويل]
وسوداء المناسب يمتطيها ... أخو الحاجات ليس له نكير
فيحملها وتحمله وفيها ... منافع حيث يبتدر السّفر
على أن السّفير ينال منها ... فيرقعها إذا جدّ المسير
السفير: ورق الشجر، والمسفرة المكنسة. والجهاز: ما يحتاج إليه المسافر من العدة. والعكّازة، العصا مصرا: بلدا. الخان: الفندق. والنّديم: الصاحب على الشّراب، وجزازة، قيل: إنه خليع مشهور عندهم، وهذا لا يبعد. وأخبرني الأستاذ أبو ذرّ وغيره أنها القراطيس الصغار، يكتب للناس فيها صفة حاله فيستجديهم بها، فيريد أن نديمه إذا دخل بلدة قطع من قرطاس يجزّها ورقة كبيرة يكتب فيها بما يجلب ممّا يؤكل ويشرب،
__________
(1) البيتان في ديوان أبي نواس ص 76.
(2) الأبيات في ديوان المتنبي 1/ 301.(2/317)
والجزازة: ما يسقط من الشيء تجزّه، كالقصاصة ما يسقط مما يقصّ. والنّحاتة والقلامة وغير ذلك، فلما كانت القطعة الصغيرة تسقط من الورقة سمّوها جزازة. ثم اشتهر عندهم ما صغر من القراطيس بهذا الاسم، قال الفنجديهيّ: جزازة، أي قطعة كاغد عليها شيء مكتوب، والجزازة: ما يقطع من الشيء، قال: وأنشد بعضهم: [الوافر]
وقالوا كيف حالك قالت حالي ... تقضى حاجتي وتفوت حاجي
نديمي هرّتي وسمير أنسي ... دفاتيري ومعشوقي سراجي
أساء: أصاب فيه بسوء، وأحزن عليه، حاول: طلب، ابتزازه: تجريده وإزالته. خلو:
فارغ البال. الأسى: الحزن. منحازة: متنحية ومنعزلة ومنقبضة، وانحاز: انعزل. ملء جفني:
أي أرقد هنيئا لقلة همي، فتمتلئ عيني بالنوم، وهو من قول المتنبي: [البسيط]
أنام ملء جفوني عن شواردها (1)
والحزازة في القلب: تأثير الهمّ كأنه يحزّ فيه، أي يقطع، وقال الشاعر: [الطويل]
إذا كان أولاد الرجال حزازة ... فأنت الحلال الحلو والبارد العذب (2)
والحزازة هنا: الولد السوء، ولا شيء أنكى للقلب من همّه، والحزازة أيضا الحقد والغيظ، وفي قلبي منه حزازة أي حرقة وحزن. تفوّقت أي شربت فواقها، وهو أخذه ما فيها شيئا فشيئا، وما بين عبّة وعبّة فواق وأصله ما بين حلبة من الضّرع وحلبة. مزازة:
بين الحموضة والحلاوة. مجازا: طريقا يجاز عليه. تسنّي: تيسر. إجازة: عطية وصلة.
يروم: يطلب. نجازه: قضاءه وتمامه، ولبعضهم في هذا المعنى: [مخلع البسيط]
أشدّ من عيلة وجوع ... إغضاء حرّ على الخضوع
فقنع من الدّهر قوت يوم ... وأنت بالمنزل الرفيع
ولا ترد ثروة بمال ... ينال بالذلّ والخشوع
وارحل إذا أجدبت بلاد ... منها إلى الخصب والربيع
الدناءة: الفعل القبيح. نكس: دنيء، عاف: كره. اهتزازه: طربه وخفته.
ولبعضهم في هذا المعنى: [الوافر]
ويجتنب اللبيب ورود ماء ... إذا كان الكلاب يلغن فيه
كما سقط الذباب على طعام ... فتتركه ونفسك تشتهيه
__________
(1) عجزه:
ويسهر القوم جرّاها ويختصم
والبيت في ديوان المتنبي 3/ 367.
(2) البيت لعكرشة العبسي في سمط اللآلي ص 629، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 3/ 413.(2/318)
وقال أبو محمد المصريّ يخاطب المعتمد وقد فرّ منه: [المتقارب]
رحلت وفي قلب جمر الغضى ... وهجري لكم دون شكّ صواب
كما تهجر النفس حرّ الطعام ... إذا ما تساقط فيه الذباب
المنايا ولا الدنايا، أي إتيان المنية ولا فعل الدنية، قال أوس بن حارثة: ملك المنيّة ولا الدنية، في وصية طويلة، والمنية معناها المقدورة المحكوم بها، وهي مفعولة من المنى وهو المقدّر والقدر، يقال: منّاك الله بما يسرّك، وأصلها ممنووة فصرفت مفعولة فعيلة، كمطبوخ وطبيخ، وأدغمت الياء في الياء. الخنا: الفساد. الجنازة: النعش.
* * * ثمّ رفع إليّ طرفه، وقال: لأمر ما جدع قصير أنفه، فأخبرته خبر ناقتي السّارحة، وما عانيته في يومي والبارحه، فقال: دع الالتفات، إلى ما فات، والطّماح إلى ما طاح، ولا تأس على ما ذهب، ولو أنّه واد من ذهب، ولا تستمل من مال عن ريحك، وأضرم نار تباريحك، ولو كان ابن بوحك، أو شقيق روحك، ثمّ قال: هل لك في أن تقيل، وتتحامى القال والقيل؟ فإنّ الأبدان أنضاء تعب، والهاجرة ذات لهب، ولن يصقل الخاطر، وينشّط الفاتر، كقائلة الهواجر، وخصوصا في شهري ناجر، فقلت: ذاك إليك، وما أريد أن أشقّ عليك، فافترش التّرب واضطجع، وأظهر أن قد هجع، وارتفقت على أن أحرس، ولا أنعس، فأخذتني السّنة إذ زمّت الألسنة، فلم أفق إلّا واللّيل قد تولّج، والصّبح قد تبلّج، ولا السّروجيّ ولا المسرج.
* * * قوله: «لأمر مّا جدع قصير أنفه» أي ما جدع قصير أنفه إلا لمعنى، وكذلك أنت ما خرجت في هذا الوقت لشدّة حرّه إلى هذه القفار المخوفة إلّا لمعنى، فأخبرني به، فلذلك قال: «فأخبرته خبر ناقتي»، وأيضا فإنّ أوّل الكلام يدلّ عليه، لأنه قال:
فاستوضحته من أين أثره، فأخبره السّروجي في الشعر بقصته، فلما أكملها سأل ابن همام عن قصته، فأخبره بالناقة الضائعة. والسارحة: التي سرحت، أي مشت حيث شاءت.
عاينته: شاهدته ورأيته. الالتفات: النظر إلى جهة. والطماح: ارتفاع العين بالنظر وطاح:
ذهب وتلف. لا تأس: لا تحزن. ولا تستمل: تستدع حبّه وأن يميل إليك بودّه. مال:
انحرف. عن ريحك: عن طريقك وهواك. أضرم: أوقد. تباريحك: أحزانك. تقيل:
تنام في القائلة تتحامى: تتباعد عنها. أنضاء: جمع نضو وهو المهزول، أي قد أهزل التعب أبداننا. الهاجرة: القائلة سمّيت هاجرة لأنها تهجر البرد، أو لأنها أكثر حرّا من
سائر النهار، يقال: فلان أهجر من فلان، إذا كان أضخم منه. لهب: نار.(2/319)
تنام في القائلة تتحامى: تتباعد عنها. أنضاء: جمع نضو وهو المهزول، أي قد أهزل التعب أبداننا. الهاجرة: القائلة سمّيت هاجرة لأنها تهجر البرد، أو لأنها أكثر حرّا من
سائر النهار، يقال: فلان أهجر من فلان، إذا كان أضخم منه. لهب: نار.
وشهري ناجر: يونيه ويوليه، وهما أشد الحرّ. قال الأزهريّ: هما حزيران وتمّوز، النّجران: العطشان. ابن سيده: ظن قوم أنهما حزيران وتموز، وهذا غلط، وإنما هما وقت طلوع نجمين من نجوم القيظ.
الليث: كل شهر في صميم الحرّ فاسمه ناجر، لأن الإبل تنجرّ فيه، أي تشتدّ عطشا حتى تيبس جلودها، فلا تكاد تروي من الماء.
هجع: رقد. وارتفقت: توكأت على مرفقي. السّنة: النوم القليل. زمّت: ربطت ومنعت. فأولج: دخل. تبلّج: أضاء وظهر. المسرج: الفرس عليه سرجه.
* * * فبتّ بليلة نابغيّة، وأحزان يعقوبيّة، أساور الوجوم، وأساهر النجّوم، أفكّر تارة في رجلتي، وأخرى في رجعتي، إلى أن وضح لي عند افترار ثغر الضّوء في وجه الجوّ، راكب يخد في الدّوّ، فألمعت إليه بثوبي، ورجوت أن يعرّج إلى صوبي، فلم يعبأ بإلماعي، ولا أوى لالتياعي، بل سار على هينته، وأصماني بسهم إهانته، فأوفضت إليه لأستردفه، وأحتمل تغطرفه. فلمّا أدركته بعد الأين، وأجلت فيه مسرح العين، وجدت ناقتي مطيته، وضالّتي لقطته، فما كذّبت أن أذريته عن سنامها، وجاذبته طرف زمامها، وقلت له: أنا صاحبها ومضلّها، ولي رسلها ونسلها، فلا تكن كأشعب، فتتعب وتتعب.
* * * أساور: أواثب. الوجوم: السكوت على غيظ، والمعنى: أنّ الغيظ إذا اشتدّ عليه عالج كظمه ودفعه عن نفسه، فكأنه يواثبه. أساهر: أسامر، والسهر امتناع النوم. الرّجلة، بضم الراء: القدرة على المشي، ورجل يرجل رجلا ورجلة، إذا مشى في السفر وحده بلا دابة. وضح: تبيّن. افترار: انكشاف، وافترّ كشف أسنانه عند الضحك. يخد:
يسرع. الدوّ: الصحراء، والراكب: من يركب البعير. والجوّ: نواحي السماء. يعرّج إلى صوبي: يميل إلى جهتي وقصدي. يعبأ: يبال. إلماعي: إشارتي، وهو مصدر ألمعت إليك، أي أشرت إليك، فإذا بعد عنك الرجل فلم يسمع صوتك جردت ثوبك وأشرت إليه، والإشارة بالثوب هي الإلماع. أوى: أشفق. التياعي: تحرّقي وتوجعي. هينته:
سكينته. أصماني: أصاب مقتلي. إهانته: احتقاره. أوفضت: أسرعت. أستردفه: أطلب إليه أن يردفني. تغطرفه: تكبّره، والغطريف: السيّد العظيم. الابن: الفتور. أجلت:
صرفت. مسرح: موضع تسرحها وجولانها بالنظر. واللقطة: ما يجده الإنسان قد سقط
لغيره، فيأخذه ويلتقطه. أذريته: رميت به عنها. مضلّها، أي الذي ضلّت له. رسلها:(2/320)
صرفت. مسرح: موضع تسرحها وجولانها بالنظر. واللقطة: ما يجده الإنسان قد سقط
لغيره، فيأخذه ويلتقطه. أذريته: رميت به عنها. مضلّها، أي الذي ضلّت له. رسلها:
لبنها.
[أشعب وبعض نوادره]
أشعب: الطماع، رجل مدنيّ صاحب نوادر وملاه وله صنعة في الغناء، وكان أبخل الناس وأكثرهم طمعا. ويقال في المثل. أطمع من أشعب. ولهذا قال الحريريّ: فلا تك كأشعب، أي لا تطمع في أخذ الناقة فتكون مثله في طمعه في مال غيره. فتتعب من تعلقت له بشيء، وتتعب، أنت معه في المخاصمة.
ومن حكايات أشعب: قال سالم بن عبد الله بن عمر لأشعب: ما بلغ من طعمك؟
قال: لم أنظر إلى اثنين يتسارّان في جنازة إلا قدّرت أن الميت أوصى لي بشيء.
وقال له ابن أبي الزناد: ما بلغ من طعمك؟ قال: ما زفّت بالمدينة امرأة، إلا كنست بيتي رجاء أن يغلط بها إليّ.
وكانت عائشة بنت عثمان كفلته مع ابن أبي الزناد، فقال أشعب: تربّيت معه في مكان واحد، وكنت أسفل ويعلو حتى بلغنا ما ترون.
وقيل لعائشة: هل آنست من أشعب رشدا؟ فقالت: أسلمته منذ سنة في البزّ، فسألته بالأمس: أين بلغت في الصناعة؟ فقال: يا أمّه، قد تعلمت نصف العمل وبقي نصفه، تعلمت النّشر في سنة، وبقي عليّ تعلّم الطيّ.
وسمعته اليوم يخاطب رجلا وقد ساومه قوس بندق، فقال: بدينار، فقال أشعب:
والله لو كنت إذا رميت عليها طائرا وقع في حجري مشويّا مع رغيفين، ما اشتريتها بدينار، فأيّ رشد يؤنس منه!
ونظر إلى رجل يعمل طبقا، فقال له: أسألك بالله إلّا ما زدت في سعته طوقا أو طوقين، فقال له الرجل: ما معنى ذلك؟ فقال: لعلّه أن يهدى إليّ يوما فيه شيء:
وقيل له: أرأيت أطمع منك؟ قال: نعم، خرجت إلى الشأم مع رفيق لي، فتلاحينا عند دير فيه راهب، فقلت له: الكاذب منّا، أير الراهب استه، فنزل الراهب من صومعته وقد أنعظ، فقال: أيكما الكاذب؟ ثم قال: دعوا هذا، امرأتي أطمع مني ومن الراهب، فقيل له: وكيف ذلك؟ فقال: إنها قالت: ما يخطر على قلبك شيء يكون بين الشك واليقين إلّا وأنا أتيقّنه، ودعوا هذا، شاتي أطمع منّي ومنها، قيل: وكيف؟ قال صعدت على سطح، فنظرت إلى قوس قزح فظنّته حبل قتّ، فأهوت إليه فسقطت فاندقت عنقها.
وقيل له: هل رأيت أطمع منك؟ قال: كلبة آل فلان، رأت رجلا يمضغ علكا فتبعته فرسخين، تظن أنه يأكل شيئا.
وقيل له: ما بلغ من طمعك؟ قال: أضجرني الصبيان يوما، فأردت أن أشغلهم عنّي،
فقلت لهم: إن بموضع كذا عرسا، فامضوا نحوه. فلما ذهبوا ظننت أن ثمّ عرسا، فتبعتهم.(2/321)
وقيل له: ما بلغ من طمعك؟ قال: أضجرني الصبيان يوما، فأردت أن أشغلهم عنّي،
فقلت لهم: إن بموضع كذا عرسا، فامضوا نحوه. فلما ذهبوا ظننت أن ثمّ عرسا، فتبعتهم.
وقال ابن شرف: [البسيط]
وما بلوغ الأماني في مواعدها ... إلا كأشعب يرجو وعد عرقوب
وقد تخالف مكتوب القضاء به ... فكيف لي بقضاء غير مكتوب
وقال ابن حجّاج: [السريع]
فديت من نفسي من كلّما ... لقيته والحق لا يغضب
فقلت: يا عرقوب أطمعتني ... فقال: لم نفسك يا أشعب
* * * فأخذ يلذع ويصي، ويتّقح ولا يستحيي، وبينما هو ينزو ويلين، ويستأسد ويستكين إذ غشينا أبو زيد لابسا جلد النّمر، وهاجما هجوم السّيل المنهمر، فخفت والله أن يكون يومه كأمسه، وبدره مثل شمسه، فألحق بالقارظين، وأضير خبرا بعد عين. فلم أر إلّا أن أذكرته العهود المنسيّة، والفعلة الإمسيّة، وناشدته الله: أوافى للتّلافي، أم لما فيه إتلافي؟ فقال معاذ الله أن أجهز على مكلومي، أو أصل حروري بسمومي بل وافيتك لأخبر كنه حالك، وأكون يمينا لشمالك. فسكن عند ذلك جاشي، وانجاب استيحاشي، وأطلعته طلع اللّقحة، وتبرقع صاحبي بالقحة.
* * * قوله: يتّقح، أي يبدي الوقاحة. ينزو: يقفز. يستأسد: يتشبّه بالأسد فيتقوّى.
يستكين: يذلّ، يريد أنه كان مرة يتقوّى ومرّة يذلّ. غشينا: جاءنا فجأة. لابسا جلد النمر، أي وقحا شجاعا. هاجما: آتيا على غفلة. المنهمر: الكثير الانصياب، وتقدّم أثر خبر بعد عين، الإمسية: المنسوبة إلى أمس الفنجديهي: رأيت بخط الحريريّ النسبة إلى أمس إمسيّ، وهو من شاذ النسب ناشدته: حلّفته. أوافى: أجاء وأوتى. التلافي:
التدارك قبل فوته. معاذ الله، أي أستجير بالله ممّا ذكرت. أجهز: أتم عليه. مكلومي:
مجروحي، وفي أخبار عليّ رضي الله عنه أنه ما أجهز على مكلوم قط. أخبر: أعلم.
كنه: حقيقة جاشي: نفسي، قاله ابن سيده: وقيل: الجأش القلب، وقيل: رباطته وشدّته عند الشيء يسمعه، ما يدري ما هو. وقيل: جاشي: روع قلبي واضطرابه عند الفزع.
واستوحش من الشيء: لم يأنس به. انجاب: انقشع وزال. أطلعته طلعها، أخبرته سرها وعلوت طلع الأكمة، أي مكانا يطلع منه على ما حولها ويشرف عليه والقحة: صلابة الوجه، كأنه جعل منها برقعا على وجهه.
* * *
فنظر إليه نظر ليث العرّيسة، إلى الفريسة. ثمّ أشرع قبله الرّمح، وأقسم له بمن أنار الصّبح، لئن لم ينج منجى الذّباب، ويرض من الغنيمة بالإياب، ليوردنّ سنانه وريده، وليفجعنّ به وليده ووديده. فنبذ زمام الناقة وحاص، وأفلت وله حصاص، فقال لي أبو زيد: تسلّمها ونسنّمها، فإنها إحدى الحسنيين، وويل أهون من ويلين.(2/322)
* * *
فنظر إليه نظر ليث العرّيسة، إلى الفريسة. ثمّ أشرع قبله الرّمح، وأقسم له بمن أنار الصّبح، لئن لم ينج منجى الذّباب، ويرض من الغنيمة بالإياب، ليوردنّ سنانه وريده، وليفجعنّ به وليده ووديده. فنبذ زمام الناقة وحاص، وأفلت وله حصاص، فقال لي أبو زيد: تسلّمها ونسنّمها، فإنها إحدى الحسنيين، وويل أهون من ويلين.
قال الحارث بن همام: فحرت بين لوم أبي زيد وشكره، وزنة نفعه بضرّه.
فكأنه نوجي بذات صدري، أو تكهّن ما خامر سرّي. فقابلني بوجه طليق، وأنشد بلسان ذليق: [مجزوء الرمل]
يا أخي الحامل ضيمي ... دون إخواني وقومي
إن يكن ساءك أمسي ... فلقد سرّك يومي
فاغتفر ذاك لهذا ... واطّرح شكري ولومي
ثم قال: أنا تئق وأنت مئق، فكيف نتّفق! وولّي يفري أديم الأرض، ويركض طرفه أيّما ركض، فما عددت أن اقتعدت مطيّتي، وعدت لطيّتي، حتى وصلت إلى حلّتي، بعد اللتّيّا والّتي.
* * * العرّيسة: مأوى الأسد. والفريسة: الصيد يفترسه، أي يكسر عنقه، وهي أكيلة الأسد. أشرع: صوّب. أنار: نوّر. ينج منجى: يخلص مخلص، وشبه خلوصه بخلوص الذباب، لأنه يقع على الجسد أو الطعام فيتقذّر الإنسان بمقرّه فيشرده، وهو واجد عليه، فينجو الذباب، سالما بعد أذايته.
[مما قيل في الذباب والبعوض شعرا]
وأخذه من قول إبراهيم بن العباس الصولي لمحمد بن الزيات: [المتقارب]
كن كيف شئت وقل ما تشا ... وأبرق يمينا وأرعد شمالا
نجا بك قومك منجى الذباب ... حمته مقاذيره أن ينالا
وأخذه إبراهيم من قول الآخر: [السريع]
أسمعني عبد بني مسمع ... فصنت عنه النّفس والعرضا
ولم أجبه لاحتقاري له ... ومن يعضّ الكلب إن عضا!
ومن قول الآخر: [البسيط]
قوم إذا ما جنى جانيهم أمنوا ... للؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا
وهو كثير، وإنما اخترع إبراهيم لفظ الذباب.(2/323)
قوم إذا ما جنى جانيهم أمنوا ... للؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا
وهو كثير، وإنما اخترع إبراهيم لفظ الذباب.
وعرّض أي بعض الأدباء على صاحب له بمحضر جماعة شعرا، فجعل يعرض عن محاسن الشعر ويتتبع مواضع النقد حسدا، فقال له صاحب الشعر: أراك كالذباب تعرض عن المواضع السليمة وتتبع قروح الجسد.
وقال ابن الروميّ: [المجتث]
تأمّل العيب عيب ... ما بالذي قلت ريب
والشّعر كالشّعر فيه ... مع الشّيبة شيب
فليصفح الناس عنه ... فطعنهم فيه عيب
ومنكيات الذباب لابن آدم كثيرة، منها نزوله على الوجه عند النوم، فيلقى منه بلاء، أو في الصلاة فيصير أضرّ من إبليس للتشاغل، وأما إذا تساقط في الطعام فتنغيصه وتنفيره للطباع أضرار لا تخفى، وقد قدّمت آنفا في ذلك من الشعر شيئا، ولذلك تضرب العرب المثل فتقول: أجرأ من ذباب، لأنه ينزل على الأسد والأمير.
ونذكر هنا ما هو أشدّ أذاية منه وهو البعوض، ولولا أنّ أيامه قلائل لأخلى البلاد، قال ابن رشيق يتشكّاه: [الكامل]
يا ربّ لا أقوى على دفع الأذى ... وبك استعنت على الضعيف الموذي
ما لي بعثت إليّ ألف بعوضة ... وبعثت واحدة إلى نمروذ!
وقال ابن شرف: [الكامل]
لك منزل كملت بشارته لنا ... لّلهو لكن تحت ذاك حديث
غنّى الذباب وظلّ يزمر حوله ... فيه البعوض ويرقص البرغوث
وقال آخر: [مخلع البسيط]
ليل البراغيث والبعوض ... ليل طويل بلا غموض
فذاك ينزو بغير رقص ... وذا يغنّي بلا عروض
وقوله: ويرضي من الغنيمة بالإياب، منقول من قول امرئ القيس، وقد طوّفت (1) البيت. وهو مشهور. يوردنّ: يدخلنّ. وريده: صفحة عنقه، والوريدان:
__________
(1) يروى البيت بتمامه:
وقد طوّفت بالآفاق حتى ... رضيت من السلامة بالإياب
والبيت من الوافر، وهو لامرئ القيس في ديوانه ص 43، ولسان العرب (نقب)، وجمهرة الأمثال 1/ 484، والعقد الفريد 2/ 126، والفاخر ص 260، وكتاب الأمثال ص 249، والمستقصى 2/ 100، ومجمع الأمثال 1/ 295، وتهذيب اللغة 9/ 197، وتاج العروس (نقب)، ويروى «وقد نقّبت»، بدل «وقد طوّفت».(2/324)
العرقان يجري فيهما النّفس، وهما في مقدّم العنق، وفجعته المصيبة فجعا: أوجعته فهو فجيع ومفجوع، وموت فاجع، والفجيعة: الرزيّة الموجعة. يفجعنّ: يحزننّ. وليده:
ابنه. وديده: صاحبه. نبذ: رمى. حاص مال إلى الهرب، ويقال: حاص يحيص حيصا، إذا عدل، ومنه {مََا لَنََا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم: 21]، أي من ملجأ ومحيد. تسلّمها:
خذها. تسنّمها: اركب سنامها. إحدى الحسنيين، أي المسرتين، ولو رجع له الفرس لكملتا له، فالناقة إحداهما. بذات صدري: علم بحاجة نفسي وبحقيقة ما أضمرته في صدري. تكهن: علم. خامر: خالط. طليق: مستبشر. ذليق: حديد. ضيمي: ذلّي وضرّي. ساءك: أحزنك. اطّرح: اترك، وقد أعاد هذا في السابعة والثلاثين فقال: وهبها لا خطأ ولا إصابة.
وسأل الحطيئة عتيبة النهّاس العجليّ فردّه، فقال له قومه: عرّضتنا ونفسك للشر، هذا الحطيئة، وهو هاجينا أخبث هجاء، فقال: ردّوه، فردّوه، فقال: كتمتننا نفسك ولك عندنا ما يسرّك، ثم قال له: من أشعر الناس؟ فقال: الذي يقول: [الطويل]
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتّق الشتم يشتم (1)
فقال: له: وهذه من مقدمات أفاعيك. ثم قال لوكيله: اذهب به إلى السوق فابتع له كلّ ما أحبّ، فعرض عليه الخزّ ورقيق الثياب، فعرض هو إلى الأكسية الغلاظ فاشترى له ما أراد، فرجع إلى عتيبة، فقال له اسمع: [الطويل]
سشلت فلم تبخل ولم تعط طائلا ... فسيان لا ذمّ عليك ولا حمد (2)
وأنت امرؤ لا الجود منه سجيّة ... فتعطي وقد يعدي على النّائل الوجد
وامتدح أبو تمام إبراهيم بن المهديّ، فوجده عليلا، فقبل منه المدحة وأناله ما يصلحه، وقال له: عسى أن أقوم من مرضي فأكافئك، فأقام شهرا ثم كتب له: [المنسرح]
إنّ حراما قبول مدحتنا ... وترك ما نرتجي من الصّفد
كما الدنانير والدراهم في ال ... بيع حرام إلّا يدا بيد
فقال لحاجبه: أعطه ثلاثين ألفا، وجئني بدواة، فكتب إليه: [الطويل]
عاجلتنا فأتاك عاجل برّنا ... قلّا ولو أمهلتنا لم نقلل
فخذ القليل وكن كأنك لم تقل ... ونكون نحن كأنّنا لم نفعل
وقال الخوارزمي: [الوافر]
ولمّا أن رأيت ابني وليد ... وبينهما اختلاف في الفعال
__________
(1) البيت في ديوان الحطيئة ص 30.
(2) البيت الثاني بلا نسبة في لسان العرب (عدا).(2/325)
وهبت قبيح ذا لجميل هذا ... وأسلمت العواقب للّيالي
إذا اليد أحسنت منها يمين ... تسوّغنا لها ذنب الشمّال
قوله يفري: أي يقطع. أديم الأرض: وجهها. يركض طرفه: يجري فرسه. أيّما، صفة لمصدر محذوف، وفيه معنى التعجب من كثرة جريه، تقديره: يركض ركضا، أيّ ركض. اقتعدت: ركبت القعود، وتقدمت في الأولى ما عدوت: ما جاوزت، أي ما عملت شيئا قبل القعود على الناقة. حلّتي: موضعي الذي هو سكني ونزولي. وحلّ.
نزل.
تفسير ما أودع هذه المقامة من الألفاظ اللغوية والأمثال العربية
قوله: «ريّق زماني ورائقه» يعني أوله، وقد يخفف فيقال «ريق».
وقوله: «آخذ أخذ نفوسهم الأبيّة»، يعني أقتدي بهم، يقال: أخذه، بكسر الهمزة وفتحها.
والهجمة، نحو المائة من الإبل.
والثلّة: القطيع من الغنم.
والراغية: الإبل. والثاغية: الشاء، ومنه قولهم: ما له راغية ولا ثاغية، أي لا ناقة له ولا شاء.
وقوله: «أرداف أقيال»، أي يخلفون الملوك إذا غابوا.
وقوله: «أبناء أقوال»، أي فصحاء، يقال للمنطيق: إنه ابن أقوال.
وقوله: «فتدثّرت فرسا محضارا»، التدثّر: الوثوب على ظهر الفرس، والمحضار والمحضير: الشديد العدّو، مأخوذ من الحضر، وهو العدو.
وقوله: «أقتري كلّ شجراء مرداء» الاقتراء: تتبّع الأرض. والشجراء: ذات الشجر، والمراد الخالية من النبات، ومنه اشتقاق الأمرد، لخلوّ وجهه من الشّعر.
وقوله: «حيعل الدّاعي إلى صلاته»، يعني قول المؤذن: حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، والمصدر منه الحيعلة، ومثله من المصادر الهيللة والحمدلة. والحوقلة والبسملة والحسبلة والسّبحلة والجعلفة فالهيللة حكاية قول: لا إله إلّا الله. والحمدلة: حكاية قول: الحمد لله. والحسبلة حكاية قول: حسبنا الله، والسبحلة حكاية قول: سبحان الله.
والجعلفة حكاية قول: «جعلت فداك».
وقوله: «فنزلت عن متن الرّكوبة»، يعني المركوبة، يقال: ناقة ركوب وركوبة وحلوب وحلوبة، وقد قرئ: «فمنها ركوبتهم».(2/326)
والصّهوة: مقعد الفارس. والشّحوة: الخطوة. والجزع: قطع الوادي عرضا.
وقوله: «صكّة عميّ» يعني قائم الظهيرة، وقد اختلف في أصله، فقيل: كان عميّ رجلا مغوارا، فغزا أقواما عند قائم الظهيرة، وصكّهم صكّة شديدة، فصار مثلا لكل من جاء ذلك الوقت، وقيل: المراد به الظّبي، لأنه يسدر في الهواجر، ويذهب بصره، فيصطلك، وكذلك الحية، واصطكاك الظبي بما يستقبله كاصطكاك الأعمى، ثم صغّر الأعمى تصغير الترخيم، فقيل: عميّ كما صغّروا أسود وأزهر، فقالوا: سويد وزهير.
وقوله: «وكان يوما أطول من ظلّ القناة»، يوصف اليوم الطويل بظلّ القناة، كما يوصف اليوم القصير بإبهام القطاة، والعرب تزعم أنّ ظل الرّمح أطول ظلّ، ومنه قول شبرمة بن الطفيل: [الطويل]
ويوم كظلّ الرمح قصّر طوله ... دم الزقّ عنا واصطفاق المزاهر (1)
وقوله: «أحرّ من دمع المقلات» المقلات هي المرأة التي لا يعيش لها ولد، فدمعها أبدا حارّ لحزنها، لأنه يقال: إن دمعة الحزن حارة ودمعة السرور باردة، ولهذا قيل للمدعوّ له: أقرّ الله عينه، مأخوذ من القرّ وهو البرد، وقيل للمدعوّ عليه: أسخن الله عينه، مأخوذ من السّخنة، وهي الحرارة، وقيل: إن إقرار العين مأخوذ من القرار فكأنه دعا له أن يرزق ما يقرّ عينه حتى لا تطمح إلى ما لغيره. وكانت الجاهلية تزعم أن: إن المقلات إذا وطئت على قتيل شريف عاش ولدها، ولهذا أشار بشر بن أبي خازم في قوله: [الطويل]
تظلّ مقاليت النساء يطأنه ... يقلن: ألا يلقى على المرء مئزر (2)
وقوله: «علقت بي شعوب» يعني المنية، ولا يدخل هذا الاسم أداة التعريف، مثل دجلة وعرفة.
وقوله: «لأغور تحتها إلى المغيربان»، التقدير: النزول إلى القائلة كما أن التعريس: النّزول آخر الليل للتهويم أو الاستراحة.
والمغيربان، تصغير المغرب، وكان قياس تصغيره المغيرب، إلّا أنّ العرب ألحقت آخره ألفا ونونا على طريق الشذوذ.
وقوله: «مضطغنا أهبة تجوابه»، الاضطغان: أن يحمل الشيء تحت حضنه، والاضطبان أن يحمله تحت ضبنه، والضّبن: ما بين الإبط والكشح، وكلاهما متقارب.
__________
(1) البيت لابن الطثري في ديوانه ص 81، ولسان العرب (صفق)، وأساس البلاغة (رمح)، وقال ابن بري: البيت لشبرمة بن الطفيل وليس لابن الطثرية.
(2) البيت لبشر بن أبي خازم في ديوانه ص 88، وإصلاح المنطق ص 76، وشرح شواهد الإيضاح ص 413، ولسان العرب (قلت)، والمعاني الكبير ص 930، وبلا نسبة في مجالس ثعلب 1/ 71.(2/327)
ويقال: أول مراتب الحمل الإبط ثم الضبّن، وهو أسفل الإبط ثم الحضن، وهو عند الجنب.
والتجواب مصدر جاب، وجميع المصادر التي جاءت على «تفعال» هي بفتح التاء إلّا قولهم: تبيان وتلقاء لا غير، وزاد بعضهم: تيصال.
وقوله: «عجري وبجري» يريد به جميع أمري الظاهر والباطن، وأصل العجر العقد الناتئة في العصب، والبجر: العقد الناتئة في البطن.
وقوله: «ولم يقل إيها» أي لم يأمرني بالكفّ، يقال: للمستزاد: إيه. وللمستنكف:
إيها.
وقوله: «لأمر ما جدع قصير أنفه»، قصير هو مولى جذيمة الأبرش، وكان جدع أنفه بيده حين قتلت الزباء مولاه، ثم أتاها وأوهمها أن عمرو بن عديّ ابن أخت جذيمة، هو الذي جدع أنفه اتهاما له بأنّه غشّ خاله جذيمة إذ أشار عليه بقصدها، فحظي بهذا القول عندها حتّى جّهزته مرارا إلى العراق فكان يأتيه بالطّرف منه إلى أن استصحب في آخر نوبة الرجال في الصناديق، وتوصّل إلى قتلها، والأخذ بثأر مولاه منها. وقصته مشهورة.
وقوله: «ولو كان ابن بوحك» يعني ولد الصّلب، إشارة إلى أنه ولد في باحة الدار وهي عرّصتها، وجمعها بوح. وقيل: إن البوح من أسماء الذكر.
وقوله: «في شهري ناجر» هما شهرا الحرّ، وقيل: إنها حزيران وتمّوز. وأنكر ابن دريد هذا القول، وقال: هما طلوع نجمين.
وقوله: «بت بليلة نابغية» أومأ به إلى قول النابغة: [الطويل]
فبتّ كأنّي ساورتني ضئيلة ... من الرّقش في أنيابها السمّ ناقع (1)
وقوله: «فألمعت إليه بثوبي» يعني أشرت إليه، يقال منه: ألمع ولمع بمعنى.
وقوله: «يلدع ويصيء»، هذا مثل يضرب لمن يظلم ويشكو، يقال: صاءت العقرب تصيء صيئا وصيئا بفتح الصاد وكسرها إذا صوّتت، وكذلك الفرخ، وما أحسن قول ابن الرومي في هذا المعنى: [البسيط]
تشكي المحبّ وتشكو وهي ظالمة ... كالقوس تصمي الرّمايا وهي مرنان
__________
(1) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 33، وخزانة الأدب 2/ 457، والحيوان 4/ 248، والدرر 6/ 9، وسمط اللآلي ص 489، وشرح شواهد المغني 2/ 902، والكتاب 2/ 89، ولسان العرب (طور)، (نذر)، (نقع)، ومغني اللبيب 2/ 570، والمقاصد النحوية 4/ 73، وتاج العروس (طور)، (نذر)، (نقع)، (ضؤل)، وأساس البلاغة (نقع)، وبلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 394، وهمع الهوامع 2/ 117.(2/328)
وقوله: «ينزو ويلين» هذا مثل يضرب لمن يتعزز ثمّ يذلّ، ويقال: إن أصله أن الجدي ينزو وهو صغير فإذا كبر لان.
وقوله: «لابسا جلد النمر»، هذا مثل يضرب للمتّقح الجريء، لأن النمر أجرأ سبع وأقله احتمالا للضيم، ومن هذا اشتقاق قولهم: تنمّر، أي صار مثل النّمر.
وقوله: «فألحق بالقارظين» الأصل في القارظ الذي يجني القرظ، وهو النبات المدبوغ به والقارظان المشار إليهما أحدهما من عنزة والآخر من النّمر بن قاسط، خرجا يجنيان القرظ فلم يرجعا، ولا عرف لهما خبر، فضرب بهما المثل لكل غائب لا يرجى إيابه، وإليهما أشار أبو ذؤيب في قوله: [الطويل]
وحتّى يثوب القارظان كلاهما ... وينشر في القتلى كليب لوائل (1)
وقوله: «حروري بسمومي»، الحرور: الرّيح الحارة ليلا، والسّموم: الريح الحارة نهارا، وقد يقام أحدهما مقام الآخر مجازا. وقال بعضهم: الحرور يكون ليلا ونهارا، والسموم يختصّ بالنهار.
وقوله: «ليث عريسة» يعني مأوى السبع، ويقال فيه. عرّيس وعرّيسة بإثبات الهاء وحذفها، كما يقال: غاب وغابة وعرين وعرينة. فأمّا الغيل والخيس فلم يلحقوا بهما الهاء.
وقوله: «أفلت وله حصاص» هذا المثل يضرب لمن نجا من هلكة أشفى عليها بعد ما كاد يهوي فيها. والحصاص: العدو، وقيل إنه الضراط.
وقوله: «ويل أهون من ويلين»، هذا المثل يضرب تسلية لمن ناله بعض المكروه، ومثله قول الراجز: [الطويل]
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض (2)
وقوله: «أنا نئق، وأنت مئق، فكيف نتفق»، هذا المثل يضرب للمتنافيين في الخلق فإنّ التّئق هو الممتلئ غيظا مأخوذ من قولهم: أتأقت الإناء إذا ملأته. والمئق هو الباكي فكأن التئق ينزع إلى الشر لغيظه، والمئق يضيق ذرعا باحتماله، ومثله قول بعضهم: أنا كلف، وأنت صلف، فكيف نأتلف!
وقوله: «لطيّتي» يعني لقصدي ووجهتي، وقد يقال فيها: طية، بالتخفيف.
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 147، ولسان العرب (قرظ)، وتهذيب اللغة 9/ 68، وتاج العروس (قرظ)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 763، وديوان الأدب 1/ 354.
(2) البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 66، والدرر 3/ 67، والكتاب 1/ 348، ولسان العرب (حنن)، وهمع الهوامع 1/ 190، وتاج العروس (حنن)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 1273، وشرح المفصل 1/ 118، والمقتضب 3/ 224.(2/329)
وقوله: «بعد اللّتيّا والتي» اللّتيا تصغير الّتي، وهو على غير قياس التصغير المطرد لأنّ القياس أن يضمّ أول الاسم إذا صغّر، وقد أقرّ هذا الاسم على فتحته الأصلية عند تصغيره، إلّا أنّ العرب عوّضته عن ضمّ أوله، بأن زادت ألفا في آخره، وأجرت أسماء الإشارة عند تصغيرها على حكمه، فقالت في تصغير الذي والّتي: اللّذيا واللّتيا تصغير ذا وذاك. وقد اختلف في معنى قولهم: بعد اللتيا والتي، فقيل: هما من أسماء الداهية.
وقيل: المراد بهما بعض صغير المكروه وكبيره.(2/330)
المقامة الثامنة والعشرون وهي السّمرقنديّة
حدّث الحارث بن همام قال: استبضعت في بعض أسفاري القند، وقصدت به سمرقند وكنت يومئذ قويم الشّطاط، جموم النّشاط، أرمي عن قوس المراح، إلى غرض الأفراح، وأستعين بماء الشبّاب، على ملامح السّراب، فوافيتها بكرة عروبة، بعد أن كابدت الصّعوبة، فسعيت وما ونيت، إلى أن حصل البيت. فلّما نقلت إليه قندي، وملكت قول عندي، عجت إلى الحمّام على الأثر، فأمطت عنّي وعثاء السّفر، وأخذت في غسل الجمعة على الأثر.
* * * استبضعت: اتخذت بضاعة. القند. عسل السكر.
[سمرقند]
وسمرقند: بلد عظيم من بلاد خراسان، غزاها ملك من ملوك اليمن اسمه شمر، فملكها وهدمها فسمّيت شمركند، بمعنى خرابة شمر، ثم عرّبت فقيل: سمرقند، وأهلها السّغد. وفي رواية أنه لما انتهى إلى السّغد قاتلهم أياما تحوّلوا إلى مدينتهم فحاصرهم حولا حتى افتتحها عنوة، فقتل منهم وسبا وهدمها، ثم ثاب له رأي، فأمر ببنائها، فبنيت خيرا مما كانت، ثم أمر بصخرة فبنيت عند بابها، وكتب عليها: هذا بناء ملك العرب لا العجم، شمر الملك الأشمّ. ووحد في سورها لوح من نحاس فيه كتاب، وهو: «هذا ما أمر ببنائه شمر»، وقد تقدّم أن فرغانة من أعمالها التي هي آخر خراسان، وبين سمرقند وبغداد ستة أشهر، وتقدم أن مدينة سمرقند من أحسن بلاد الله تعالى، ولما أشرف قتيبة ابن مسلم عليها، فرأى ما أدهشه لإفراط حسنها. قال: كأنها السماء في الخضرة، وكأنّ قصورها النجوم والزهرة، وكأن أنهارها المجرّة.
* * * قوله: قويم الشّطاط، أي معتدل القامة: جموم النّشاط، أي كثير القوة والخفة.
والمراح: النشاط. والأفراح: جمع فرح، وماء الشباب: نضارة الفتوّة ونعمة الصبا.
ملامح السراب: مواضع يلمح السراب فيها، أي يلمع ويظهر، فأراد أنه استعان بقوّة فتوّته على قطع الصحراء. وافيتها: أتيتها.(2/331)
[يوم عروبة]
عروبة، اسم يوم الجمعة، سمّي بذلك لحسنه حيث كان موسما، وهو من قولهم: جارية عروب أي حسناء، وكانت العرب تسمّي أيام الأسبوع بأسماء يجمعها بيتان وهما: [الوافر]
أؤمل أن أعيش وأنّ يومي ... بأوّل أو بأهون أو جبار (1)
أو التّالي دبار فإن أفته ... فمؤنس أو عروبة أو شيار
وعروبة من الأسماء التي تدخلها الألف واللام مرّة وتسقط منها أخرى، قال الشاعر: [الكامل]
* يوم كيوم عروبة المتطاول (2) *
وقال آخر: [البسيط]
* يوم العروبة أورادا بأوراد (3) *
وحكوا أن سيبويه، كان في حلقة بالبصرة فتذاكروا شيئا من حديث قتادة، فذكر سيبويه حديثا غريبا، وقال: لم يرو هذا إلّا سعيد بن أبي العروبة، فقال له بعض الفضلاء: ما هاتان الزيادتان؟ يعني الألف واللام في العروبة فقال سيبويه: هكذا ينبغي أن يقال، لأن العروبة هي يوم الجمعة، فمن قال: عروبة فقد أخطأ. قال محمد بن سلّام: فذكرت ذلك ليونس بن حبيب، فقال: أصاب: سيبويه لله درّه.
وسمّي يوم الجمعة لما جاء في حديث سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم سمّي يوم الجمعة؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: لأن فيه جمع أبوك آدم» (4). وقال بعضهم فذكر عروبة: [الكامل]
__________
(1) البيتان بلا نسبة في الإنصاف 2/ 497، وجمهرة اللغة ص 1311، والدرر 1/ 103، ولسان العرب (عرب)، (جبر)، (دبر)، (شبر)، (أنس)، (هون)، والمقاصد النحوية 4/ 367، وهمع الهوامع 1/ 37.
(2) يروى البيت بتمامه:
وإذا رأى الروّاد ظلّ بأسقف ... يوما كيوم عروبة المتطاول
وهو لابن مقبل في ديوانه ص 221، وتاج العروس (سقف) ومعجم البلدان (أسقف)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 319، 1311، والأزمنة والأمكنة 1/ 271.
(3) صدره:
نفسي الفداء لأقوام هم خلطوا
والبيت للقطامي في ديوانه ص 88، وجمهرة اللغة ص 1311، والأزمنة والأمكنة 1/ 271، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 320، ومقاييس اللغة 4/ 301.
(4) أخرجه أحمد في المسند 2/ 311، بلفظ: «لأي شيء سمّي يوم الجمعة».(2/332)
في العيد زار، وكان يوم عروبة ... يا فرحتي بثلاثة الأعياد
وكان المتوكل صاحب بطليوس ينتظر وفود أخيه عليه من شنتيرين يوم الجمعة، فأتاه يوم السبت، فلمّا تلقاه عانقه، وأنشد: [الوافر]
تخيّرت اليهود السبت عيدا ... وقلنا في العروبة يوم عيد
فلما أن طلعت السبت فينا ... أطلت لسان محتجّ اليهود
وقال ابن الرومي: [الطويل]
وحبّب يوم السّبت عندي أنني ... ينادمني فيه الذي أنا أحببت
ومن عجب الأشياء أنّي مسلم ... حنيف ولكن خير أيامي السبت
* * * قوله: كابدت، أي قاسيت، سعيت وما ونيت: خرجت وما فترت، ويقال: ونى يني، أي ضعف، والونى الضعف والفتور والإعياء. ملكت قول عندي، يريد أن المسافر في الطريق لا يحسب ماله ملكا له حتى يدخل المدينة، لأنه متعرّض للهلاك في الطريق، فإذا دخل المدينة وحصل في بيته ملكه فصار «ملكت قول عندي» عبارة عن سلامة ماله وخلاصه من حوادث الأسفار نحو الغرق والنهب والغرق والغضب، أو يكون عبارة عن الحصول في البيت يقول: عندي كذا، أي في بيتي.
عجت، أي ملت على الأثر، أي في الحين، ورجع على الأثر أي أتى مستعجلا، كأنه مشى على أثره في طريقه قبل غيره، فمعنى عجت إلى الحمام على الأثر، أي دخلته على الفور في الحال. وقد ذكرنا بابا أدبيا من الشعر في الحمام في الرابعة، ونذكر هنا فيه فنا آخر من الأدب.
[مما قيل في الحمّام]
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «ستفتح عليكم أرض الأعاجم، وتجدون فيها بيوتا يقال لها الحمامات، فلا يدخلها الرجل إلا بإزار، وامنعوا النساء أن يدخلنها إلا مريضة أو نفساء» (1).
وروي أن عبيد بن قرط الأسديّ، دخل مع صاحبين له بلدا فيها حمام فأحب صاحباه دخوله فيها، فنهاهما عبيد، فأبيا إلا دخوله، فلما دخلاه رأيا فيه رجلا يتنوّر، أي يستعل النّورة فسألاه عنها. فأخبرهما بإذهابها الشّعر، فاستعملاها فلم يحسنا فأحرقتهما وأضرّت بهما فقال عبيد: [الكامل]
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الأدب باب 38، وأبو داود في الحمّام باب 3، والترمذي في الأدب باب 43، والدارمي في الاستئذان باب 23، وأحمد في المسند 3/ 339، 6/ 132، 139، 173، 179، 267.(2/333)
لعمري قد حذّرت قرطا وجاره ... ولا ينفع التحذير من ليس يحذر
نهيتهما عن نورة أحرقتهما ... وحمام سوء ناره تتسعّر
فما منهما إلا أتاني موقعا ... به أثر من مسها يتقشّر
أحدّكما لم تعلما أنّ جارنا ... أبا الحسل بالبيداء لا يتنوّر
ولم تعلما حمّامنا في بلادنا ... إذا جعل الحرباء في الجدب يحضر
ورد أعرابيّ البصرة، فنزل على ابن عمّ له، فلما رأى البصريّ شعث الأعرابيّ، أراد أن ينظّفه، فقال له يوم جمعة: إنّ الناس يتطّهرون للجمعة، ويتنظّفون، ويلبسون أحسن الملابس، فتعال أدخلك الحمّام لتتنظّف من قشف السفر والبادية، وتتطهّر للصلاة، فدخل معه الحمام، فعندما وطئ الأعرابيّ فرش أوّل بيت في الحمام، لم يحسن المشي عليها لشدة ملاستها فزلق، وسقط لوجهه، وصادفت جبهته حرف مدخل البيت، فشجّه شجّة منكرة فخرج مرعوبا وهو ينشد، ودماؤه تسيل: [الكامل]
وقالوا تطهّر إنّه يوم جمعة ... فأبت من الحمّام غير مطهّر
تزوّدت منه شجّة فوق حاجبي ... بغير جهاد بئسما كان متجري
يقول لي الأعراب حين رأينني ... به لا بظبي بالصّريمة أعفر
وما تعرف الأعراب مشيا بأرضها ... فكيف يبيت ذي رخام ومرمر
وقال ابن سكّرة: دخلت حماما، فخرجت وقد سرق مداسي، فعدت إلى داري حافيا وأنا أقول: [الوافر]
إليك أذمّ حمّام ابن موسى ... فإن فاق المنى طيبا وحرّا
تكاثرت اللّصوص عليه حتى ... ليحفى من يطيف به ويعرى
ولم أفقد به ثوبا ولكن ... دخلت محمدا وخرجت بشرا
يريد بشرا الحافي، وكان من كبار الزهاد، ولزم المشي حافيا فلقّب به.
* * * وقوله: أمطت، أي أزلت. وعثاء السفر: شدته ومشقته، وفي الحديث: «اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب»، وأصله من الوعث، وهو الدّهس، أي الرمل الدقيق. وقيل: الوعث الرمل تغيب فيه القوائم، وقيل: هو الطريق الخشن الصعب.
بالأثر، أي بالحديث المرويّ. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «من اغتسل يوم جمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرّب بدنة، ومن راح في الثانية فكأنّما قرّب بقرة، ومن راح في الثالثة فكأنما قرّب كبشا، ومن راح في الرابعة
فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الخامسة فكأنّما قرّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر».(2/334)
بالأثر، أي بالحديث المرويّ. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «من اغتسل يوم جمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرّب بدنة، ومن راح في الثانية فكأنّما قرّب بقرة، ومن راح في الثالثة فكأنما قرّب كبشا، ومن راح في الرابعة
فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الخامسة فكأنّما قرّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر».
* * * ثمّ بادرت في هيئة الخاشع، إلى مسجدها الجامع، لألحق بمن يقرب من الإمام، ويقرّب أفصل الأنعام، فحظيت بأن جلّيت في الحلبة، وتخّيرت المركز لاستماع الخطبة، ولم يزل النّاس يدخلون في دين الله أفواجا، ويردون فرادى وأزواجا حتّى إذا اكتظّ الجامع بحفله، وأظلّ تساوي الشّخص وظلّه، برز الخطيب في أهبته، متهاديا خلف عصبته، فارتقى في منبر الدّعوة، إلى أن مثل بالدّروة فسلّم مشيرا باليمين، ثم جلس حتّى ختم نظم التأذين.
* * * الأنعام: هي الإبل والبقر والغنم. وقال في الدرة: فرّقت العرب بين النعم والأنعام، فجعلت النّعم اسما للإبل خاصة وللماشية التي فيها الإبل، وتذكر وتؤنث، وجعلت الأنعام اسما لأنواع المواشي مثل الإبل والبقر والغنم. حظيت: سعدت.
جلّيت: سبقت. والحلبة: جماعة الخيل، وأراد بها الناس المبادرين للصلاة، وأنه سبقهم. المركز: الموضع تنتظر فيه الصلاة. دين: طاعة. أفواجا: جماعات. يردون:
يأتون الجامع. اكتظّ: امتلأ وضاق بأهله. حفله: اجتماع الناس فيه. أظل: دنا قرب.
تساوي الشخص وظلّه، يريد حديث عمر رضي الله عنه: أن صلّ الظهر إذا صار ظلك مثلك. برز: خرج. أهبته: عدّته للصلاة. متهاديا: متمايلا لوقاره. عصبته: جماعة المؤذنين. ارتقى: طلع. مثل بالذروة: جلس بأعلى المنبر أو ظهر بأعلاه. والماثل:
اللاطئ بالأرض أو القائم المنتصب، وهو من الأضداد، وسمي المنبر منبرا لارتفاعه وعلوّه من النبر، وهو ارتفاع الصوت، ونبر الرجل نبرة: تكلم بكلمة فيها علوّ، وأنشد أبو الحسن بن البراء: [الكامل]
إني لأسمع نبرة من قولها ... فأكاد أن يغشى عليّ سرورا (1)
مشيرا باليمين، مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الخطيب إذا جلس على المنبر، أشار إلى الناس بيمينه مسلّما من غير كلام. قال ابن عمر رضي الله عنهما: انطلقت مع النبي صلّى الله عليه وسلم إلى مسجد قباء، فصلّى فيه، فخرج عليّ صهيب، فقلت: يا صهيب، كيف كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يردّ من يسلّم عليه؟ قال: يشير بيده (2).
__________
(1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (نبر)، وتهذيب اللغة 15/ 214، وتاج العروس (نبر).
(2) أخرجه أبو داود في الصلاة باب 170، وأحمد في المسند 3/ 138.(2/335)
قوله: جلس، قال الخليل: يقال لمن كان قائما: اقعد، ولمن كان نائما أو ساجدا:
اجلس، وهذا صحيح لأنّ القعود هو الانتقال من علو إلى سفل، ولهذا يقال لمن أصيب برجله: مقعد، والجلوس هو الانتقال من سفل إلى علو، ورجل جالس: آت نجدا، وهو المكان المرتفع. وذكره الحريري في الدرّة. ختم: أكمل.
* * * ثمّ قام وقال: الحمد لله الممدوح الأسماء، المحمود الآلاء، الواسع العطاء، المدعوّ لحسم اللأواء، مالك الأمم، ومصوّر الرّمم، وأهل السّماح والكرم، ومهلك عاد وإرم، أدرك كلّ سرّ علمه، ووسع كلّ مصرّ حلمه، وعمّ كلّ عالم طوله، وهد كلّ مارد حوله. أحمده حمد موحّد مسلم، وأدعوه دعاء مؤمّل مسلّم، وهو الله لا إله إلّا هو الواحد الأحد، العادل الصمّد، لا ولد له ولا والد، ولا ردء معه ولا مساعد، أرسل محمدا للإسلام ممهّدا، وللملّة موطّدا، ولأدلّة الرّسل مؤكّدا، وللأسود والأحمر مسدّدا.
* * * قوله: الآلاء، أي النعم الواسعة الكثيرة. حسم اللأواء: قطع الشدة. الرّمم:
العظام البالية. مصورها: منشئ صورها، وأراد قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهََا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 6]، عاد وإرم: أمّتان قديمتان، وقيل: إرم قبيلة من عاد فيها مملكة عاد. وقيل إرم: اسم لقبائل كثيرة، كالعماليق وطسم وجديس هلكوا، وهم من ولد إرم ابن سام بن نوح، ومن لم يصرف إرم جعله اسما للقبيلة. وقال سابق البربريّ في ذهاب الأمم: [البسيط]
وكيف يأمن ريب الدهر مرتهن ... بعدوة الدّهر إن الدهر عدّاء
ألقى على الجيل من عاد كلاكله ... وقوم هود فهم هام وأصداء
وقال أيضا: [البسيط]
أين الملوك التي عن خطبها غفلت ... حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
غرّت زمانا بملك لا دوام له ... جهلا كما غرّ نفسا من يمنّيها
وصبّحت قوم عاد في ديارهم ... بمقطع يوم عادتهم عواديها
وتبّعا وثمود الحجر غادرهم ... ريب المنون رميما في مغانيها
فكيف يبقى على الأحداث غابرنا ... كأننا قد أظّلتنا دواهيها
وقال الألبيريّ: [الكامل]
أين الملوك وأين ما جمعوا وما ... ذخروه من ذهب المتاع الذاهب
ومن السوابغ والصّوارم والقنا ... ومن الصواهل: بدّن وشوازب
كانت سوابقها تحمّل منهم ... أقمار أندية وأسد كتائب
كانوا ليوث خفيّة لكنّهم ... سكنوا غياض أسنّة وقواضب
قصفتهم ريح الرّدى ورمتهم ... كفّ المنون بكلّ سهم صائب
قوله: مصرّ، أي مقيم على الذنب. والعالم: كل مخلوق، وأراد به الحيوان.(2/336)
أين الملوك وأين ما جمعوا وما ... ذخروه من ذهب المتاع الذاهب
ومن السوابغ والصّوارم والقنا ... ومن الصواهل: بدّن وشوازب
كانت سوابقها تحمّل منهم ... أقمار أندية وأسد كتائب
كانوا ليوث خفيّة لكنّهم ... سكنوا غياض أسنّة وقواضب
قصفتهم ريح الرّدى ورمتهم ... كفّ المنون بكلّ سهم صائب
قوله: مصرّ، أي مقيم على الذنب. والعالم: كل مخلوق، وأراد به الحيوان.
طوله: فضله هدّ: أذلّ وأهلك، وهد البناء: كسره وهدمه. والمارد: العاتي وهو المبالغ في الطغيان والفساد والكثير الشرّ. حوله: قوته، مؤمّل: راج. مسلّم: مفوّض. الصمد، من أسماء الله تعالى والسيّد المطاع، والصمد: الذي لا يولد له، وقيل: الصمد الذي لا جوف له.
وقال ابن الأنباريّ: أجمع أهل اللغة بلا خلاف على أنّ الصمد الذي ليس فوقه أحد، الذي يصمد إليه الناس في أمورهم، وأنشد لورقة بن نوفل: [البسيط]
سبحان ذي العرش سبحانا يدوم له ... ربّ البرية فرد واحد صمد (1)
وأنشد: [الطويل]
* بعمرو بن مسعود وبالسيّد الصمد (2) *
وأنشد: [البسيط]
* ولا رهينة إلا سيّد صمد *
وأنشد: [البسيط]
* خذها حذيف فأنت السيّد الصمد (3) *
__________
(1) يروى البيت:
سبحانه ثم سبحانا يعود له ... وقبلنا سبّح الجوديّ والجمد
وهو لورقة بن نوفل في الأغاني 3/ 115، وخزانة الأدب 3/ 388، 7/ 234، 236، 243، والدرر 3/ 69، ولأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص 30، والكتاب 1/ 326، ولسان العرب (سبح)، (جمد)، (جود)، ومعجم ما استعجم ص 391، ولزيد بن عمرو بن نفيل في شرح أبيات سيبويه 1/ 194، وبلا نسبة في شرح المفصل 1/ 37، 120، 4/ 36، والمقتضب 3/ 217، وهمع الهوامع 1/ 190.
(2) صدره:
ألا بكّر الناعي بخيري بني أسد
والبيت لسبرة بن عمرو الأسدي في التنبيه والإيضاح 2/ 119، وجمهرة اللغة ص 657، وسمط اللآلي ص 933، وبلا نسبة في لسان العرب (صمد)، (خير)، والمخصص 12/ 301، 17/ 152، وديوان الأدب 1/ 209، وتهذيب اللغة 12/ 150، وإصلاح المنطق ص 49، وأمالي القالي 2/ 288.
(3) صدره:
علوته بحسام ثم قلت له(2/337)
قوله: ردء: معين وأردأتك على الأمر: أعنتك. مساعد: موافق لمراده. ممهدا:
باسطا. والملّة: الدين. الأحمر، أراد به الأبيض وأراد لكلّ الناس، وقيل: الأحمر العجم مثل الروم والفرس، لأنهم بيض تعلوهم حمرة، والأسود العرب، لأنهم لسكناهم الصحارى تغلب السمرة على ألوانهم.
* * * وصل الأرحام، وعلّم الأحكام، ووسم الحلال والحرام، ورسم الإحلال والإحرام، كرّم الله محلّه، وكمّل الصلاة والسّلام له، ورحم آله الكرماء، وأهله الرّحماء، ما همر ركام، وهدر حمام، وسرح سوام، وسطا حسام. اعملوا رحمكم الله عمل الصّلحاء، واكدحوا لمعادكم كدح الأصحّاء، واردعوا أهواءكم ردع الأعداء، وأعدّوا للرحلة إعداد السّعداء، وادّرعوا حلل الورع، وداووا علل الطمع، وسوّوا أود العمل، وعاصوا وساوس الأمل، وصوّروا لأوهامكم حؤول الأحوال، وحلول الأهوال، ومساورة الأعلال، ومصارمة المآل والآل.
* * * الأرحام في الأصل: الفروج، ثم يكنى بها عن القرابات للّذين بينهم رحم. وسم:
بيّن، وجعل له علامة، والسّمة: العلامة. رسم: كتب وبيّن وأصل الرسم الأثر، ورسمت الشيء: أثرت به أثرا. الإحلال: الدخول في الحلّ. الإحرام: الدخول في الحرم، وأراد أنه علم موضع الحلّ والحرم. آله: أهله. همر ركام: انصبّ سحاب. هدر: صوّت.
وسرح: تفرّق في المرعى، سوام إبل راعية. ساط: اهتزّ ليقطع. اكدحوا: اعملوا، والكدح عمل الإنسان من خير وشرّ، واكتسابه للدنيا والآخرة. لمعادكم، أي ليوم بعثكم، والمعاد المرجع. الأصحّاء: جمع صحيح. اردعوا: كفّوا. ادّرعوا: البسوا الخوف. أود: اعوجاج. وساوس الأمل: أحاديث الطمع والرجاء. أوهامكم: نفوسكم.
حؤول: تغير. حلول: نزول. الأهوال: المخاوف. مساورة: مواثبة. الإعلال: الإصابة بعلّة، مصارمة: مقاطعة. الآل: الأهل والقرابة.
* * * وادّكروا الحمام وسكرة مصرعه، والرّمس وهول مطلعه، واللّحد ووحدة مودعه، والملك وروعة سؤاله ومطلعه. والمحوا الدّهر ولؤم كرّه، وسوء محاله
__________
والبيت لعمرو بن الأسلع العبسي في بصائر ذوي التمييز 3/ 440، وبلا نسبة في لسان العرب (صمد)، ومقاييس اللغة 3/ 310، ومجمل اللغة 3/ 241، وتاج العروس (صمد)، وكتاب العين 7/ 104.(2/338)
ومكره. كم طمس معلما، وأمرّ مطعما، وطحطح عرمرما، ودمّر ملكا مكرّما.
* * * ادّكروا الحمام: اذكروا الموت. الرّمس: تراب القبر. هول مطلعه: خوف ما يراه الإنسان فيه. اللّحد: الحفيرة في جانب القبر. مودعه: المجعول فيه، كأنه وديعة فيه.
الملك: منكر ونكير، اللذان يفتنان الناس في قبورهم. روعة: تقريع وتخويف. المطلع:
المأتي.
قال الجوهريّ، رحمه الله تعالى: يقال: أين مطلع هذا الأمر؟ أي مأتاه، وهو موضع الاطّلاع من إشراف إلى انحدار، وجاء هو المطلع في الحديث، حدّث واثلة بن الأسقع وغيره قالوا: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «يأيها الناس، اذكروا الموت وهول مطلعه وما تقدمون عليه من أعمالكم، فإنما أنتم عابرو سبيل إلى دار الخلود. ازهدوا في دنيانا قصة غير زائدة، مفرقة غير مجمعة، وارغبوا في دار لا تخرب قصورها ولا يبلى سرورها، ولا يموت ساكنها. أعمار أهل الجنة: أبناء ثلاث وثلاثين سنة، مكحّلون يأكلون ويشربون، لا يخرج من أجوافهم شيء إلا يعرقون، عرقهم ذلك ومسك، فلم أر مثل الجنة، نام طالبها، ولم أر مثل النار، نام هاربها».
وقال ابن سكّرة: [الطويل]
محمّد ما أعددت للترب والبلى ... وللملكين الواقفين على القبر
وأنت مصرّ لا تراجع توبة ... ولا ترعوي عما يذمّ من الأمر
سيأتيك يوم لا تحاول دفعه ... فقدّم له زادا إلى البعث والحشر
وتقدّم الباب موفّى حقه في الحادية عشر.
[الأمل والطمع ومما قيل فيه شعرا]
نذكر هنا بعض ما قيل في الأمل والطمع المانعين للناس من أعمال البر قال أبو العتاهية: [الهزج]
تعلقت بآمال ... طوال أيّ آمال (1)
فأقبلت على الدهر ... ملحّا أيّ إقبال
أيا هذا تجهز ل ... فراق الأهل والمال
فلا بدّ من الموت ... على حال من الحال
وقال أبو تمام: [الطويل]
أتأمل في الدنيا تجدّ وتعمر ... وأنت غدا فيها تموت وتقبر (2)
__________
(1) الأبيات في ديوان أبي العتاهية ص 213.
(2) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 482.(2/339)
تلقّح آمالا وترجو نتاجها ... وعمرك مما قد ترجّيه أقصر
وهذا صباح اليوم ينعاك ضوءه ... وليلته تنعاك لو كنت تشعر
تحوم على إدراك ما قد كفيته ... وتقبل بالآمال فيها وتدبر
رزقك لا يعدوك إمّا معجّل ... على حاله يوما وإمّا مؤخّر
وقال محمود الوراق: [المنسرح]
علام يسعى الحريص في طل ... ب الرزق بطول الرواح والدّلج
يا قارع الباب ربّ مجتهد ... قد أدمن القرع ثم لم يلج
فاطو على الهمّ كفّ مصطبر ... فآخر الهم أوّل الفرج
وقال عبد الصمد بن المعذّل: [المتقارب]
وأعلم أنّ بنات الرجا ... تحلّ العزيز محلّ الذليل
وأن ليس مستغنيا بالكث ... ير من ليس مستغنيا بالقليل
قوله: المحوا: انظروا. كرّه: رجوعه. محاله: شدّته ومعاداته وخداعه. طمس:
محا وأذهب. معلما: موضعا مرتفعا، تعلم به الجهة التي هو فيها. طحطح: أهلك وفرّق. عرمرما: جيشا كبيرا. دمّر: أهلك، والدمار: الهلاك.
[الدهر وما قيل فيه]
ونذكر بعض من ذمّ الدهر من ملوك الإسلام.
من ذلك أنّ سليمان بن عبد الملك لبس في يوم الجمعة لباسا شهر به، ودعا بتخت فيه عمائم، وبيده مرآة، فلم يزل يعتمّ بواحدة بعد أخرى، وأرخى سدولها، وأخذ بيده مخصرة، واعتلى منبره ناظرا في عطفيه، وجمع حشمه، وقال: أنا الملك الشاب، السيد الحبحاب، الكريم الوهاب. فتمثّلت له إحدى جواريه، فقال:
كيف ترين أمير المؤمنين؟ فقالت: أراه منى النفس وقرّة العين، لولا ما قال الشاعر: [الخفيف]
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
أنت خلو من العيوب ومما ... يكره الناس غير أنك فاني
فدمعت عيناه، وخرج على الناس باكيا، فلما فرغ من صلاته رجع ودعا الجارية، وقال لها: ما حملك على ما قلت؟ قالت: والله ما رأيتك ولا دخلت عليك. فأكبر ذلك، ودعا بقية جواريه فصدّقنها على ذلك، فراعه ذلك ولم يبق إلا مديدة حتى مات.
الفضل بن الربيع، قال: كنت مع المنصور في السفر الذي مات فيه، فنزلنا بعض المنازل، فدعا بي وهو في قبّته إلى حائط، وقال: ألم أنهكم أن تدعوا العامة تدخل هذه
المنازل: فيكتبون فيها ما لا خير فيه، قلت: وما هو؟ قال: ألا ترى ما على الحائط مكتوبا: [الطويل](2/340)
الفضل بن الربيع، قال: كنت مع المنصور في السفر الذي مات فيه، فنزلنا بعض المنازل، فدعا بي وهو في قبّته إلى حائط، وقال: ألم أنهكم أن تدعوا العامة تدخل هذه
المنازل: فيكتبون فيها ما لا خير فيه، قلت: وما هو؟ قال: ألا ترى ما على الحائط مكتوبا: [الطويل]
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت ... سنوك، وأمر الله لا بدّ نازل
أبا جعفر، هل كاهن أو منجّم ... يردّ قضاء الله أم أنت جاهل؟
فقلت: والله ما على الحائط شيء، وإنه لنقيّ أبيض، قال: والله، قلت: والله.
قال: إنها والله نفسي نعت إليّ الرحيل، بادر بي إلى حرم الله وأمنه هاربا من ذنوبي وإسرافي على نفسي، فرحلنا، وثقل حتى بلغ بئر ميمون، فقلت له: قد دخلت الحرم، قال: الحمد لله، وقبض من يومه، ولمّا حضرته الوفاة، قال: هذا هو السلطان، لا سلطان من يموت.
عليّ بن يقطين، قال: لمّا كنا مع المهديّ بماسبذان، قال لي: أصبحت جائعا فائتني بأرغفة ولحم بارد، فأكل ونام في البهو، فما استيقظ إلا لبكائه، فبادرنا فقال: أما رأيتم ما رأيت، وقف عليّ رجل لو كان في ألف ما خفي عليّ، فقال: [الطويل]
كأنّي بهذا القصر قد باد أهله ... وأوحش منه ربعه ومنازله
وصار عميد الملك من بعد بهجة ... إلى قبره تحثى عليه جنادله
فلم يبق إلا ذكره وحديثه ... ينادى عليه معولات حلائله
فما أتت عليه عشرة أيام حتى توفّي.
قال الأصمعيّ: دخلت على الرشيد يوما، وهو ينظر في كتاب، ودموعه تنحدر على خده، فالتفت وقال: اجلس، أرأيت ما كان منّي؟ قلت: نعم، قال: أما إنه لو كان من أمر الدنيا ما رأيت هذا، ثم رمى إليّ به، فإذا فيه مكتوب لأبي العتاهية: [الكامل]
يا مؤثر الدنيا بلذّتها ... والمستعدّ لمن يفاخره (1)
نل ما بدا لك أن تنال من ال ... دّنيا فإنّ الموت آخره
هل أنت معتبر بمن خربت ... منه غداة قضى عساكره
وبمن خلت منه أسرّته ... وبمن خلت منه منابره
أين الملوك وأين غيرهم ... صاروا مصيرا أنت صائره
ثم قال: كأنّي أخاطب بهذا دون كلّ الناس، فلم يلبث إلا قليلا حتى مات.
ولمّا رجع المأمون من غزوته التي افتتح فيها أربعة عشر حصنا نزل على عين تعرف بالعشيرة، ينتظر رجوع رسله من الحصون، فأعجبه برد مائها وصفاؤه، وحسن
__________
(1) الأبيات في ديوان أبي العتاهية ص 123.(2/341)
بياضه وكثرة الخضرة والخصب بالموضع، وجلس على خشب بسط له على الماء، وطرح فيه درهم، فقرأ كتابته في قرار الماء لصفائه، ولم يقدر أحد يدخل الماء لشدّة برده، فلاحت سمكة نحو الذراع، كأنها سبيكة فضة، فنزل بعض الفرّاشين فأخذها، فاضطربت في يده وتململت، ووقعت في الماء، فنضح منه على صدر المأمون، ثم أخذها ووضعها بين يديه في منديل، تضطرب، فأمر بأن تقلى الساعة، فأخذته رعدة من ساعته، ولم يقدر يتحرّك، فغطّي باللحف، وهو يرتعد، ويصيح: البرد، فأتي بالسمكة فلم يقدر عليها، وسال على جسمه عرق كالرّب لم يعرفه الأطباء، فلما ثقل قال: أخرجوني أنظر إلى عسكري، وأنظر إلى مالي وملكي، وذلك ليلا، فأشرف على الجيش وانتشاره ونيرانه: فقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه، فلما ثقل رنا بطرفه نحو السماء، وقد امتلأت عيناه دموعا، فقال: يا من لا يموت ارحم من يموت، وقضي عليه من ساعته.
وكان كثيرا ما ينشد: [المتقارب]
ومن لم يزل غرضا للمنو ... ن تتركه ذات يوم عميدا
وإن أخطأت مرة نفسه ... فيوشك مخطئها أن يعودا
فبينا يحيد وتخطئنه ... قصدن فأعجلنه أن يحيدا
وذكر أبو المواريث قاضي نصيبين، أنه رأى في المنام ليلة قائلا، يقول: [البسيط]
يا نائم الليل في جثمان يقظان ... ما بال عينيك لا تبكي بتهتان
إن الليالي لم تحسن إلى أحد ... إلا أساءت إليه بعد إحسان
هلا رأيت صروف الدهر ما فعلت ... بالهاشميّ وبالفتح بن خاقان
يعني المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان قال: فأتى البريد بقتلهما في تلك الليلة.
وقال سابق البربريّ: [البسيط]
وربّ أغيد ساجي الطّرف معتصب ... بالتاج نيرانه للحرب تستعر
يظلّ مفترش الدّيباج محتجبا ... إليه تبنى قباب الملك والحجر
قد غادرته المنايا فهو مستلب ... مجندل ترب الخدّين منعفر
* * * همّه سكّ المسامع، وسحّ المدامع، وإكداء المطامع، وإرداء المسمع والسّامع عمّ حكمه الملوك والرّعاع، والمسود والمطاع، والمحسود والحسّاد، والأساود والآساد، ما موّل إلّا مال، وعكس الآمال، وما وصل إلّا وصال،
وكلم الأوصال، ولا سرّ إلا وساء، ولؤم وأساء، ولا أصحّ إلّا ولّد الدّاء، وروّع الأودّاء.(2/342)
وربّ أغيد ساجي الطّرف معتصب ... بالتاج نيرانه للحرب تستعر
يظلّ مفترش الدّيباج محتجبا ... إليه تبنى قباب الملك والحجر
قد غادرته المنايا فهو مستلب ... مجندل ترب الخدّين منعفر
* * * همّه سكّ المسامع، وسحّ المدامع، وإكداء المطامع، وإرداء المسمع والسّامع عمّ حكمه الملوك والرّعاع، والمسود والمطاع، والمحسود والحسّاد، والأساود والآساد، ما موّل إلّا مال، وعكس الآمال، وما وصل إلّا وصال،
وكلم الأوصال، ولا سرّ إلا وساء، ولؤم وأساء، ولا أصحّ إلّا ولّد الدّاء، وروّع الأودّاء.
الله الله، رعاكم الله! إلام مداومة اللهو، وموصلة السّهو، وطول الإصرار، وحمل الآصار، واطّراح كلام الحكماء، ومعاصاة إله السّماء!
* * * همّه: مراده. سك المسامع: قطع الآذان، وقد سك أذنه، إذا استأصلها بالقطع، والمقطوع الأذن، يقال له: أسكّ، وسككت الشيء فاستكّ، أي سددته فانسدّ. سحّ:
صبّ. إكداء: قطع ومنع. إرداء: إهلاك. الرعاع: سقط الناس. المسود: من ليس بسيّد. المطاع: الذي يقول ما أراد فيطاع ولا يعصى، الأساود: الحيّات. والآساد: جمع أسد. موّل: أعطى مالا. مال: انحرف وخرج عن طريقه. عكس: قلب. الآمال: جمع أمل وهو الرجاء، وقال مسلم بن الوليد: [البسيط]
الدّهر آخذ ما أعطى مكدّر ما ... أصفى ومفسد ما أهوى له بيد
فلا يغرّنك من دهر عطيّته ... فليس يترك ما أعطى على أحد
وقال أبو تمام: [الطويل]
أقول لنفسي حين مالت بصفوها ... إلى خطرات قد نتجن أمانيا (1)
فهبني من الدنيا ظفرت بكلّ ما ... تمنّيت أو أعطيت فوق منائيا
أليس اللّيالي غاصباتي مهجتي ... كما غصبت قبلي القرون الخواليا
قوله: صال: صاح وهدر. كلم: جرح. الأوصال: المفاصل، وهو موصّل عظم عضو في عضو. لؤم: صار لئيما. روّع الأودّاء: أفزع الأحباب. السّهو:
الغلط. الإصرار: الإقامة على الذنب. الآصار: الأثقال، يريد إثقال الذنوب.
اطّراح: ترك ورمي.
* * * أما الهرم حصادكم، والمدر مهادكم! أما الحمام مدرككم، والصّراط مسلككم. أما السّاعة موعدكم، والسّاهرة موردكم! أما أهوال الطّامّة لكم مرصدة! أما دار العصاة الحطمة المؤصدة، حارسهم مالك، ورواؤهم حالك، وطعامهم السّموم، وهواؤهم السّموم. لا مال أسعدهم ولا ولد، ولا عدد حماهم ولا عدد.
__________
(1) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 484.(2/343)
ألا رحم الله امرأ ملك هواه، وأمّ مسالك هداه، وأحكم طاعة مولاه، وكدّ وكدح لروح مأواه، وعمل ما دام العمر مطاوعا، والدّهر موادعا، والصّحة كاملة، والسّلامة حاصلة، وإلّا دهمه عدم المرام، وحصر الكلام، وإلمام الآلام، وحموم الحمام، وهدوء الحواس، ومراس الأرماس.
* * * مسلككم: طريقكم. السّاهرة: وجه الأرض، وقيل الأرض البيضاء. المورد:
موضع الماء الذي يرده الناس والبهائم، ولا غناء لأحد عن قصد الماء، فجعل الساهرة موردا على هذا المعنى. أهوال الطّامّة: مخاوف القيامة وما فيها من الهول والخوف، وأصابت الناس طامّة أي داهية وأمر عظيم، وقد طمّ الأمر، إذا عظم وجاوز الحدّ. مؤصدة: معدّة ينتظرون بها والحطمة: التي تحطم الناس، أي تكسرهم، يعني جهنم أعاذنا الله منها، وهو اسم علم من أسماء جهنم دخلته اللام إيذانا بالصفة. المؤصدة: المغلقة. رواؤهم: منظرهم الحسن. حالك: أسود.
السّموم: جمع سمّ. والسّموم: الريح الحارة. أمّ: قصد. أحكم: أتقن. كدح:
عمل. روح مأواه: راحة مسكنه. موادعا: متاركا ومصالحا. قال ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لرجل يعظه «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك».
دهمه: غشيه وأتاه فجأة، ودهمه يدهمه لغة. المرام: المطلب. حصر: حبس.
إلمام: نزول. الآلام: الأسقام. حموم الحمام: دنوّ الموت. هدوّ: سكون.
الحواس: الإدراكات، وهي التي يحسّ بها الإنسان الأشياء ويدركها وهي خمسة:
العين يدرك بها النظر، والأنف والأذن يدرك بها الشم، والسّمع واللسان واليد يدرك بهما الذوق، واللّمس، فيريد أن هذه الجوارح تسكن بالموت ولا تتحرّك.
[مما قيل في دنو الأجل وعجز الطب حياله]
وننشد هنا أبياتا لها بالموضع بعض تعلّق، ونذكر فيها الأطباء الذين لا حيلة لهم في الموت، قال عدي بن زيد: [الخفيف]
أين أهل الديار من قوم نوح ... ثم عاد من بعدهم وثمود (1)
بينما هم على الأسرّة والأنم ... اط أفضت إلى التّراب الخدود
والأطباء بعدهم لحقوهم ... ضلّ عنهم سعوطهم واللدود
__________
(1) الأبيات في ديوان عدي بن زيد ص 122.(2/344)
وصحيح أضحى يعود مريضا ... وهو أدنى للموت ممن يعود
وقال الخليل بن أحمد: [المتقارب]
فكن مستعدّا لداعي الفناء ... فإن الذي هو آت قريب
وقبلك داوى المريض الطبيب ... فعاش المريض ومات الطبيب
ولابن الروميّ وفصده بعض الأطباء، فزعم أن الفصد زاد في علّته، فقال:
[الكامل]
غلط الطبيب عليّ غلطة مورد ... عجزت موارده عن الإصدار
والنّاس يلحون الطبيب وإنّما ... غلط الطبيب إصابة المقدار
وقال غيره: [السريع]
قد قلت لما قال لي قائل ... قد صار نعمان إلى رمسه
فأين ما يذكر من طبّه ... وحذقه بالماء مع جسّه!
هيهات لا يدفع عن غيره ... من كان لا يدفع عن نفسه
ومنه قول الآخر: [الطويل]
أقول لنعمان وقد ساق طبّه ... نفوسا نفيسات إلى باطن الأرض
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض (1)
ويحكى أن القاضي ابن منظور بلغه أن أبا العلاء بن زهر مرض فضحك، وقال:
فأين طبّه؟ فبلغت أبا العلاء فقال: [الكامل]
قالوا ابن منظور تبسّم هازئا ... لمّا مرضت فقلت يعثر من مشى
قد كان جالينوس يمرض دائما ... فمن الإمام المرتضى قبل الرّشا
وقال المتنبي: [السريع]
لا بدّ للإنسان من ضجعة ... لا تقلب الإنسان عن جنبه (2)
ينسى بها ما مرّ من عجبه ... وما أذاق الموت من كربه
نحن بنو الموتى فما بالنا ... نعاف ما لا بدّ من شربه
تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمان هي من كسبه
__________
(1) البيت الثاني لطرفة بن العبد في ديوانه ص 66، والدرر 3/ 67، والكتاب 1/ 348، ولسان العرب (حنن)، وهمع الهوامع 1/ 190، وتاج العروس (حنن)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 1273، وشرح المفصل 1/ 118، والمقتضب 3/ 224.
(2) الأبيات في ديوان المتنبي 1/ 210.(2/345)
فهذه الأرواح من جوّه ... وهذه الأجساد من تربه
يموت راعي الضأن في جهله ... موتة جالينوس في طبّه
أصيب الجرمي في عينيه فقال: [الرمل]
إذا ما مات بعضك فابك بعضا ... فبعض الشيء من بعض قريب
يمنّيني الطبيب شفاء عيني ... وما غير الإله لها طبيب
* * * قوله: مراس، أصله معالجة الشيء الشديد، وكل شيء التصق بشيء واحتكّ به فقد مارسه. ومرست الدواء بالماء: دلكته. والأرماس: القبور، واحدها رمس، فيريد بها ما يلقاه الإنسان في قبره من الدواهي، وتقدّمت في الحادية عشر، ويروى:
الأمراس: جمع مرس، وهو حبل من ليف يفتل على ثلاثة. مراسه: جريانه على البكرة، فالبكرة تأكل قوته كلّ يوم فتقطعه، كما أن الأيام تأكل قوة ابن آدم فتقطعه، فإذا مات أكل بدنه القبر.
* * * واها لها حسرة ألمها مؤكّد، وأمدها سرمد، وممارسها مكمد، ما لولهه حاسم، ولا لسدمه راحم ولا ممّا عراه عاصم، الهمكم الله أحمد الإلهام، وردّاكم رداء الإكرام، وأحلّكم دار السّلام، وأسأله الرّحمة لكم ولأهل ملّة الإسلام، وهو أسمح الكرام، والمسلّم والسّلام.
* * * آها: كلمة توجع. حسرة: فجيعة، والهاء في «لها» كناية عن الحسرة أضمرها بشريطة التفسير، أي ما أعظمها من حسرة، آها، أي تأوّها. ألمها مؤكد، أي وجعها شديد متتابع. سرمد: دائم. ممارسها: معالجها ومخالطها. مكمد: مهموم محزون.
ولهه: حزنه. حاسم: مزيل قاطع. سدمه: حيرته، عراه: قصده. عاصم: مانع.
ألهمكم: ذكرّكم ونبهّكم. أحلّكم: أنزلكم. دار السلام: الجنة، من دخلها سلم من العذاب وبقي في سلامة. ملة: دين. أسمح: أكرم. السلام: الذي هو من أسماء الله سبحانه وتعالى، ومعناه المسلم لعبده أو هو على حذف المضاف، ومعناه ذو السلام، أي صاحب السّلام، ويحتمل أن يريد به اللفظة التي يقطع بها الكلام، كما تقول لمن تقطع كلامه: والسلام، أي لا زيادة عندي على هذا، أو أردت: والسلام عليكم. فحذفت اختصارا.
وفي تأويل «السلام عليكم» وجهان: أحدهما أنه اسم الله بمعنى «الله تعالى
عليكم»، أي على حفظكم، أو بمعنى السلامة عليكم، فالسلام جمع سلامة.(2/346)
وفي تأويل «السلام عليكم» وجهان: أحدهما أنه اسم الله بمعنى «الله تعالى
عليكم»، أي على حفظكم، أو بمعنى السلامة عليكم، فالسلام جمع سلامة.
قال ابن الأنباريّ: السلام في كلام العرب على أربعة أقسام: السلام التسليم، تقول: سلّمت سلاما، والسلام الله تعالى، والسلام جمع سلامة، والسلام شجر عظام واحدها سلامة قال الأخطل: [الطويل]
ورابية السكران قفر فما بها ... لهم شبح إلّا سلام وحرمل (1)
* * * قال الحارث بن همّام: فلمّا رأيت الخطبة نخبة بلا سقط، وعروسا بغير نقط، دعاني الإعجاب بنمطها العجيب، إلى استجلاء وجه الخطيب، فأخذت أتوسّمه جدّا، وأقلّب الطّرف فيه مجدّا، إلى أن وضح لي بصدق العلامات، أنّه شيخنا صاحب المقامات، ولم يكن بدّ من الصّمت، في ذلك الوقت فأمسكت حتّى تحلّل من الفرض، وحلّ الانتشار في الأرض، ثمّ واجهت تلقاءه، وابتدرت لقاءه.
فلمّا لحظني خفّ في القيام، وأحفى في الإكرام ثمّ استصحبني إلى داره، وأودعني خصائص أسراره، وحين انتشر جناح الظّلام، وحان ميقات الأنام، أحضر أباريق المدام، معكومة بالفدام فقلت: أتحسوها أمام النّوم وأنت إمام القوم! فقال: مه أنا بالنّهار خطيب، وبالليل أطيب، فقلت: والله ما أدري:
أأعجب من تسلّيك عن أناسك، ومسقط راسك، أم من خطابتك مع أدناسك ومدار كاسك.
* * * نخبة: مختارة. سقط: لفظ رديء. استجلاء: نظر. أتوسمه: أنظر سمته، أي علامته التي يعرف بها. جدّا: كثيرا. مجدّا: مجتهدا. وضح: تبيّن. ذو المقامات:
صاحب المجالس. البدّ: الفرار، قال الفراء رحمه الله تعالى: يقال: لا بدّ اليوم من قضاء حاجتي، أي لا فرار، ويقال: ليس لهذا الأمر بدّ، أي لا محالة. الصمت:
السكوت والإنصات لاستماع الخطبة فرض عند الشافعي رضي الله عنه لقوله تعالى:
{وَإِذََا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 241] أي لاستماع الخطبة.
وقال جماعة من المفسرين: إنه إنما نزلت الآية في السكوت لاستماع الخطبة.
__________
(1) البيت في ديوان الأخطل ص 2، والسكران موضع، والحرمل: نبت.(2/347)
أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب: أنصت فقد لغوت» (1).
أبو هريرة وأبو سعيد، أنهما سمعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من خرج إلى الجمعة وعليه الوقار، ثم رجع، ثم أنصت إلى أن جلس الإمام، فلم يتكلم حتى ينزل، ثم صلّى الجمعة غفر الله له ما بينه وبين الجمعة التي تليها» (2).
تحّلل من الفرض: تخلص من الصلاة. الانتشار: انحلال الجموع من الصلاة وانبساطهم على الأرض. ميقاته: وقته. معكومة: مشدودة، وعكمت البعير شددت فمه، والوعاء: شددت رأسه. الفدام: خرقة يشدّ بها فم الإبريق ليصغّي ما فيه. تحسوها:
تشربها. وأنت إمام القوم: توبيخ له على قبح فعله مع الفضل الذي سبق له، والعيب الكبير يصغر في حق أهل الريب، كما أنّ الصغير يعظم في حق أهل المروءات، وقال المتنبي في المعنى وإن كان من غير الباب: [الطويل]
وما يوجع الحرمان من كفّ حازم ... كما يوجع الحرمان من كف رازق (3)
وقال المخزومي: [البسيط]
والعيب في الجاهل المغمور مغمور ... وعيب ذي الشّرف المذكور مذكور
كفوفة الظّفر تخفى من حقارتها ... ومثلها في سواد العين مشهور
وقال إبراهيم بن المهديّ: [الكامل]
لولا الحياء وأنني مشهور ... والعيب بالرجل الكبير كبير
لحللت منزلة الذي يحتلّه ... ولكان منزلنا هو المهجور
مه: اسكت، ومعنى قوله: أنا بالنهار خطيب، وبالليل أطيب، مما وقع في كتاب مفتاح السرور والأفراح، حكاية عن بعضهم أنه قال: رأيت قاصّا يقص غداة يوم، ثم رأيته بالعشيّ في حانة والقدح في يده، فقلت: ما هذا؟ فقال: أنا بالغداة قاصّ، وبالعشيّ عاص.
__________
(1) أخرجه البخاري في الجمعة باب 36، ومسلم في الجمعة حديث 12، وأبو داود في الصلاة باب 229، والترمذي في الجمعة باب 16، والنسائي في الجمعة باب 22، والعيدين باب 21، وابن ماجه في الإقامة باب 86، ومالك في الجمعة حديث 6، والدارمي في الصلاة باب 195، وأحمد في المسند 2/ 244، 272، 280، 393، 396، 485، 518، 532.
(2) روي بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الجمعة باب 19، ومسلم في الجمعة حديث 26، وأبو داود في الطهارة باب 127، والدارمي في الصلاة باب 191، وأحمد في المسند 3/ 81، 5/ 420.
(3) البيت في ديوان المتنبي 2/ 342.(2/348)
ومن ذلك ما كتب به يحيى بن خالد لابنه الفضل حين بعث فيه أهل خراسان كتابا إلى الرشيد: إنه مستغل بالصيد وإدمان اللذات فرمى به إلى يحيى وقال: يا أبت اكتب إليه بما يردعه، فكتب على ظهر الكتاب:
حفظك الله يا بنيّ، وأمتع بك. فقد انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنت عليه من التّشاغل بالصيد وإدمان اللذات، فعاود ما هو أليق بك وأزين لك، فإنه من عاد إلى ما يزينه، وترك ما يشينه، لم يعرفه أهل دهره إلا به. وقد قلت أبياتا فالتزمها، وإن جاوزتها عزلتك عن سخط، ولم أكلمك حولا، وكتب إليه: [السريع]
انصب نهارا في طلاب العلا ... واصبر على فقد لقاء الحبيب
حتى إذا الليل أتى مقبلا ... واستترت فيه عيون الرقيب
فباشر الليل بما تشتهي ... فإنّما الليل نهار الأريب
كم من فتى تحسبه ناسكا ... قد لقي الليل بأمر عجيب
ألقى عليه الليل أثوابه ... فبات في لهو وعيش خصيب
ولذة الأحمق مشهورة ... يرصدها كلّ حسود رقيب
فامتثل ما فيها حتى عزل عنها.
وقال الحلواني في ضده: [الكامل]
أنت الّذي قسم الزمان لنفسه ... قسمين بين رياسة ومتاب
أعطى لمرتبة العلاء نهاره ... منها وجنح اللّيل للمحراب
وقال الفنجديهي في قوله: أنا بالنهار خطيب وبالليل أطيب، معناه أنا صالح المنظر، فاسد المخبر، أنظر في مرآة المراءات، وأسّر مساواة المساءات، وأديم المناجاة جلوة، وأقيم المداجاة خلوة، آمر الناس بالرّشاد، وأنا أتوسّد وسادة الفساد.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أحسن الصلاة حين يراه الناس، ثم أساءها حين يخلو، فتلك استهانة يستهين بها ربه».
قوله: تسليك عن أناسك، أي اشتغالك عن أهلك وبلدك، وهو مسقط رأسه، أي الموضع الذي سقط فيه رأسه عند ولادته. خطابتك: فصاحتك في خطبتك. إدناسك:
عيبك وتلطيخ عرضك. مدار: دورانه في أيدي الشاربين.
* * * فأشاح بوجهه عنّي، وقال: اسمع منّي: [المنسرح]
لا تبك إلفا نأى ولا دارا ... ودر مع الدّهر كيفما دارا
واتّخذ النّاس كلّهم سكنا ... ومثّل الأرض كلّها دارا
واصبر على خلق من تعاشره ... وداره فاللّبيب من دارى
ولا تضع فرصة السّرور فما ... تدري: أيوما تعيش أم دارا
واعلم بأنّ المنون جائلة ... وقد أدارت على الورى دارا
وأقسمت لا تزال قانصة ... ما كرّ عصر المحيا وما دارا
فكيف ترجى النّجاة من شرك ... لم ينج منه كسرى ولا دارا
* * * أشاح: نحّى معرضا، وأشاح في الأمر: صمم عليه. إلفا: صاحبا. نأى: بعد، يقول له جوابا للومة: لا تبك صاحبا بعد عنك، ولا منزلا تغرّبت عنه، وتقلّب مع الدهر كما يتقلب مع أهله. ودر، من الدوران سكنا: أهلا وإلفا تسكن إليه. ومثّل الأرض كلها دارا، أي بلدا، والدار البلد في قوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا فِي دََارِهِمْ جََاثِمِينَ} [العنكبوت:(2/349)
لا تبك إلفا نأى ولا دارا ... ودر مع الدّهر كيفما دارا
واتّخذ النّاس كلّهم سكنا ... ومثّل الأرض كلّها دارا
واصبر على خلق من تعاشره ... وداره فاللّبيب من دارى
ولا تضع فرصة السّرور فما ... تدري: أيوما تعيش أم دارا
واعلم بأنّ المنون جائلة ... وقد أدارت على الورى دارا
وأقسمت لا تزال قانصة ... ما كرّ عصر المحيا وما دارا
فكيف ترجى النّجاة من شرك ... لم ينج منه كسرى ولا دارا
* * * أشاح: نحّى معرضا، وأشاح في الأمر: صمم عليه. إلفا: صاحبا. نأى: بعد، يقول له جوابا للومة: لا تبك صاحبا بعد عنك، ولا منزلا تغرّبت عنه، وتقلّب مع الدهر كما يتقلب مع أهله. ودر، من الدوران سكنا: أهلا وإلفا تسكن إليه. ومثّل الأرض كلها دارا، أي بلدا، والدار البلد في قوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا فِي دََارِهِمْ جََاثِمِينَ} [العنكبوت:
37] {تَمَتَّعُوا فِي دََارِكُمْ} [هود: 65] داره: لاينه وسايسه. اللبيب: العاقل دارى:
أحسن مخالطة الناس، وأصلها الخداع، تقول العرب: دريت الصيد أدريه دريا، وداريته أداريه مداراة، والدرية بعير يقعد عنده الصائد، يستتر به فيجيء الصيد فيأنس بالبعير، فيرميه من قرب. وكان الحسن يقول: المداراة تستحلب مودة القلوب فتخدعهم في عقولهم. وفي الحديث: «أحبّ الناس تحبّبا إلى الله أكثرهم تحبّبا إلى الناس» وفيه: «إذا أحب الله عبدا حبّبه إلى الناس».
وقال ابن عبد ربه: [الكامل]
وجه عليه من الحياء مهابة ... ومحبّة تجري مع الأنفاس
وإذا أحبّ الله يوما عبده ... ألقى عليه محبة للناس
كتب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى سعد بن أبي وقاص: إن الله، إذا أحبّ عبدا حبّبه إلى الناس، واعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس، واعلم أنّ مالك من الله بمنزلة ما للناس عندك.
وقال بعضهم: أتيت الخليل فوجدته على طنفسة صغيرة، فوسّع لي، فكرهت أن أضيّق عليه فتأخرت، فأخذ بعضدي، وقدّمني إلى نفسه، وقال: لا يضيق سمّ الخياط بمتحابين ولا تسع الأرض متباغضين، أخذه ابن عبد ربه فقال: [البسيط]
صل من هويت وإن أبدى مباغضة ... فأطيب العيش وصل بين إلفين
واقطع حبائل خدن لا تلائمه ... فقلّما تسع الدنيا بغيضين
ولأبي محمد بن أبي الوليد المالقي: [البسيط](2/350)
صيّر فؤادك للمحبوب منزلة ... سمّ الخياط مجال للمحبّين
ولا تسامح بغيضا في معاشرة ... فقلّما تسع الدنيا بغيضين
ولابن الزقاق [الطويل]
ألا ادن وإن ضاق الندىّ فإنه ... رحيب بودّ ضمّنته الأضالع
يضيق الفضا عن صاحبين تباغضا ... وسمّ خياط بالحبيبين واسع
وقال التهامي: [المنسرح]
بين المحبّين مجلس واسع ... والودّ حال يقرّب الشاسع
والبيت إن ضاق عن ثمانية ... متّسع بالوداد للتاسع
فرصة: نهزة وغنيمة. دارا: دهرا وقال السّريّ: [البسيط]
قم فانتصف من صروف الدّهر والنّوب ... واجمع بكأسك بين اللهو والطرب
واخلع عذارك واشرب قهوة مزجت ... بقهوة الفلج المعسول والشّنب
توّج بكأسك قبل الحادثات يدي ... فالكأس تاج يد المثري من الأدب
جائلة: دائرة
[كسرى]
كسرى، اسم ملك الفرس، وكسرى ملك الموت أنو شروان بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام، الملك العادل، ملك العرب والعجم، كان موصوفا بالعدل، معروفا بحسن الرعاية والفضل، وشهرته في كتب الآداب مغنية في ذكره عن الإطناب. قيل: كان مولد نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم لاثنتين وأربعين سنة مضت من ملكه، وملك تسعا وأربعين سنة.
وكسرى أبرويز بن هرمز أنو شروان، كان ملكا شديد البطش، نافذ الرأي، قد بلغ من الظّفر ومسالمة الدهر حدا لم يبلغه ملك من الملوك، كان ملكه ثماني وثلاثين سنة.
وفي سنة ثلاثين من ملكه بعث نبينا صلّى الله عليه وسلم.
وحدّث خالد بن ربوة وكان رأسا في المجوس، فأسلم قال: كان كسرى إذا ركب ركب معه رجلان، فيقولان له ساعتئذ: أنت عبد ولست بربّ، فيشير برأسه أن نعم، فركب يوما، فقالا ذلك له فلم يشر برأسه، فشكواه إلى صاحب الشرطة، فركب ليعانبه. وكان كسرى قد نام فلما وقع صوت حوافر الدوابّ في أذنه استيقظ، فدخل عليه صاحب الشرطة، فقال: أيقظتموني، إني رأيت كأنه رقي بي فوق سبع سموات، فوقفت بين يدي الله تعالى، وإذا رجل بين يديه، عليه إزار ورداء، فقال لي: سلّم مفاتيح خزائن الأرض إلى هذا، ألست المأمور بكذا فلم تفعل! وإني أردت أن أقولها فاستردّها منه فأيقظتموني. وصاحب الإزار والرداء هو نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم.(2/351)
وبعث له رسول الله صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة بن قيس، وكتب له: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله النبيّ إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتّبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أدعوك بدعاية الله عزّ وجل فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيّا ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك.
فلما قرأ الكتاب شقّه، وقال: يكتب إليّ بهذا وهو عبدي! فبلغ الخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «مزّقه مزّق الله ملكه» أو قال: «اللهم مزّقهم كل ممزّق» (1).
ثم كتب كسرى إلى باذان، وهو على اليمين: أن أبعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جلدين يأتياني به. فبعث باذان قهرمانه وكان كاتبا حاسبا، وهو بابومة، وبعث معه برجل من الفرس، وكتب معهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، وقال لبابومة: ويلك! انظر من الرجل، وكلّمه، وائتني بخبره. فخرجا حتى قدما الطائف، فسألا عنه فقالوا: هو بالمدينة، واستبشر أهل الطائف، وقالوا: نصب له كسرى، كفيتم الرجل، فخرجا حتى قدم المدينة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكلّمه بابومة وقال:
إنّ شاهنشاه ملك الملوك كسرى كتب إلى باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلت كتبت فيك إلى ملك الملوك بكتاب ينفعك، ويكفّ عنك به، وإن أبيت فهو من قد علمت، وهو مهلكك ومهلك قومك، ومخرّب بلادك.
فقال لهما: ارجعا حتى تأتياني غدا.
وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخبر أن الله تعالى قد سلّط على كسرى ابنه شيرويه، فقتله في ليلة كذا في شهر كذا، بعد ما مضى من الليل كذا سلّط الله عليه ابنه، فقتله. فقالا: هل تدري ما تقول؟ فإنا قد خفنا منك ما هو أيسر من هذا، أفنكتب به عنك ونخبر الملك؟
قال: نعم، أخبراه ذلك عني وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى، وقولا له: إن أسلمت أعطيتك الناس تحت يدك، وملّكتك على قومك من الأبناء. فخرجا من عنده حتى قدما على باذان، فأخبراه الخبر، فقال: والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبيّا، فإن كان ما قال حقا، فهو نبيّ مرسل، فإن لم يكن فسأرى فيه رأيا.
فلم يلبث أن قدم عليه كتاب شيرويه، وفيه: أمّا بعد، فإني قد قتلت كسرى ولم أقتله إلا غضبا لفارس، ممّا كان استحلّ من قتل أشرافهم فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممّن قبلك، وانظر إلى الرجل الذي كتب لك فيه، فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه، فقال باذان: إنّ هذا الرجل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأسلم وأسلمت الأبناء من فارس.
__________
(1) أخرجه البخاري في العلم باب 7، والجهاد باب 101، والمغازي باب 82، والآحاد باب 4، وأحمد في المسند 1/ 243، 305.(2/352)
وكسرى أنوشروان هو الذي بنى سور الأبواب وهو من عجائب الدنيا فلما بناه هادته الملوك وكاتبته. وهو الذي افتتح كثيرا من بلاد الشأم الرومية، ونقل منها الرخام إلى العراق. وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلم ولد لاثنتين وعشرين سنة من ملكه، وقيل: إنه ولد في آخر ملكه كما قدّمنا.
ثم ولي من بعده ابنه هرمز، وكان مضعّفا، غزته الملوك وطمعت فيه، ثم خلعته الفرس، وسملت عينيه.
وعقد الملك لابنه أبرويز في حياته، فبعد حروب شديدة اجتمع لأبرويز أمره، وكان وزيره بزرجمهر أكثر الفرس حكما ومواعظ.
وفي ملكه كانت وقعة ذي قاربين بكر بن وائل، والهرمز صاحب أبرويز، لأربعين سنة لمولد النبي صلّى الله عليه وسلم. وقيل إنها كانت في غزوة بدر وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «هذا يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصرت».
وكان على مربط أبرويز خمسون ألف دابّة وألف فيل، فخرج في أحد أعياده، وقد صفّت له الجيوش وأحدقت به مائة ألف فارس دون الرجّالة، وصفّت له الفيلة، فلما بصرت به سجدت له، فما رفعت رؤوسها حتى رفعت خراطيمها بالمحاجن، فأعلم بذلك وقال: وددت أنها فارسية، ولم تكن هندية، انظروا إلى أدبها من بين سائر الدواب. ثم هدم الله تعالى هذا الملك العظيم بالإسلام، قال الألبيري: [الكامل]
فطف البلاد لكي ترى آثار من ... قد كان يعمرها من الأقيال
عصفت بهم ريح الرّدى فذرتهم ... ذرو الرياح الهوج حقف رمال
فتقطعت أسبابهم وتمزّقت ... ولطالما كانوا كنظم لآلي
قيل لأبرويز وكان حكيما: ما شهوة ساعة؟ قال: الجماع، قيل: فما شهوة يوم؟
قال: دخول الحمام، قيل: فما شهوة جمعة؟ قال: غسل الثياب، قيل: فما شهوة شهر؟
قال: تجديد الثياب، قيل فما شهوة سنة؟ قال: تزوج الأبكار قيل: فما شهوة الأبد؟
قال: أمّا في الدنيا فمشاهدة الإخوان، وأما في الآخرة فنعيم الجنة.
ونظر إلى قذاة في طعام، فدعا الطباخ فقال: ما هذا؟ فقال: حاولته بالليل في وقت لم يكن فيه ماء معين، فأمر بضرب عنقه، فغضب الطباخ وقال: يا بن الأشتوربان تفسيره يا بن سائس الدواب فعفا عنه، وقال: إنا معشر الملوك نعاقب في الصغير، ونعفو عن الكبير.
[دارا بن بهمن]
وأما دارا بن بهمن، وهو آخر ملوك الفرس الأول، فإنه كان ضخم الملك، ذا قدرة ومكانة، وهو الذي بنى بأرض الجزيرة مدينة دارابجرد، وكانت جنده ستمائة
ألف، ولقبه الإسكندر بالجزيرة، فدارت بينهم الحروب أربعين يوما، وخندق دارا على عسكره خمس خنادق، وجعل على كلّ خندق اثني عشر ألف رجل، وكانت النوبة لا تصيب الرجل إلا يوما في كل خمسة أيام، فوجد الإسكندر من ذلك وجدا شديدا، فبعث إلى دارا: إنّا كدنا نتفانى، ورأيت رأيا فيه البقاء لنا ولك، وذلك أن تفرج لي، فأخرق صفّك خرقا إلى جانب بلادك وأرجع إلى بلادي، فإنا لا نرى الفرار من الزحف، وهو عار لا يغسل. فأجابه دارا: لا سبيل إلى ذلك. فلما رأى الإسكندر ذلك وضع البرنس، وحسر عن رأسه، وقال: يا معشر الروم، هذا هو العجز والذلّ عن الانتصار، هل فيكم من يحتال لي في هذا الأمر، وله نصف مال الروم والعجم، ونصف ما في بيوت الأموال؟ فقد أدركتني الحمية. فبلغ الخبر إلى صاحب حرس دارا فقال: أنا أفعل ذلك وآخذ مالا عظيما. فلما التحم القتال حمل على دارا فطعنه بحربة في ظهره، فوقع على الأرض وانهزم عسكر دارا. فجاء الإسكندر ووضع رأس دارا في حجره، ومسح التراب عن وجهه، وقبّله وبكى، وقال: الحمد لله الذي لم يجعل قتلك على يدي، ولا على يد أحد من جندي فسل ما بدا لك أقضه، فقال له دارا: من حاجتي عندك ألّا تخرب بيوت النيران، وأن تنصفني من قاتلي قبل موتي، فإنه إن بقي عندك سيكفر معروفك، كما كفر معروفي. فقال له الإسكندر: حاجتي عندك أن تزوّجني بنتك روشنك، فقال دارا: على أن تجعل الملك من بعدك لولدك منها، فأجابه إلى ذلك وزوّجه ابنته، وأخذ الإسكندر قاتله وقطعه أربع قطع، واستولى على جميع مملكته.(2/353)
وأما دارا بن بهمن، وهو آخر ملوك الفرس الأول، فإنه كان ضخم الملك، ذا قدرة ومكانة، وهو الذي بنى بأرض الجزيرة مدينة دارابجرد، وكانت جنده ستمائة
ألف، ولقبه الإسكندر بالجزيرة، فدارت بينهم الحروب أربعين يوما، وخندق دارا على عسكره خمس خنادق، وجعل على كلّ خندق اثني عشر ألف رجل، وكانت النوبة لا تصيب الرجل إلا يوما في كل خمسة أيام، فوجد الإسكندر من ذلك وجدا شديدا، فبعث إلى دارا: إنّا كدنا نتفانى، ورأيت رأيا فيه البقاء لنا ولك، وذلك أن تفرج لي، فأخرق صفّك خرقا إلى جانب بلادك وأرجع إلى بلادي، فإنا لا نرى الفرار من الزحف، وهو عار لا يغسل. فأجابه دارا: لا سبيل إلى ذلك. فلما رأى الإسكندر ذلك وضع البرنس، وحسر عن رأسه، وقال: يا معشر الروم، هذا هو العجز والذلّ عن الانتصار، هل فيكم من يحتال لي في هذا الأمر، وله نصف مال الروم والعجم، ونصف ما في بيوت الأموال؟ فقد أدركتني الحمية. فبلغ الخبر إلى صاحب حرس دارا فقال: أنا أفعل ذلك وآخذ مالا عظيما. فلما التحم القتال حمل على دارا فطعنه بحربة في ظهره، فوقع على الأرض وانهزم عسكر دارا. فجاء الإسكندر ووضع رأس دارا في حجره، ومسح التراب عن وجهه، وقبّله وبكى، وقال: الحمد لله الذي لم يجعل قتلك على يدي، ولا على يد أحد من جندي فسل ما بدا لك أقضه، فقال له دارا: من حاجتي عندك ألّا تخرب بيوت النيران، وأن تنصفني من قاتلي قبل موتي، فإنه إن بقي عندك سيكفر معروفك، كما كفر معروفي. فقال له الإسكندر: حاجتي عندك أن تزوّجني بنتك روشنك، فقال دارا: على أن تجعل الملك من بعدك لولدك منها، فأجابه إلى ذلك وزوّجه ابنته، وأخذ الإسكندر قاتله وقطعه أربع قطع، واستولى على جميع مملكته.
وملك دارا أربع عشرة سنة، وقيل: ست سنين، وقسم الإسكندر غنائم عسكره في ثلاثين يوما. وشاور الإسكندر معلمه أرسطاطاليس في أن يقتل من بقي من الفرس، فقال له: لا تفعل، ولكن ولّ على كلّ جهة شريفا من أهلها فيتنافسون، فلا يجمعهم ملك أبدا، ففعل فهم ملوك الطوائف، حتى انتزع اردشير منهم الملك، وقال: إنّ كلمة فرقتنا خمسمائة سنة وتسع عشرة سنة يعني كلمة أرسطاطاليس لكلمة بالغة.
وملوك الفرس الأول ستة عشر ملكا، وملوك الفرس الثواني اثنان وثلاثون، منهم امرأتان. وملك بعد أردشير سابور، وهو من عظمائهم، ففتح الحصون ومدن المدن، وبنى الإيوان وهو بالجانب الشرقيّ من المدائن، وهو من عجائب البنيان، وعجائب الفرس كثيرة، وفي هذه النبذة غنية توافق ما شرطنا.
* * * قال: فلمّا اعتورتنا الكؤوس، وطربت النّفوس، جرّعني اليمين الغموس، على أن أحفظ عليه النّاموس. فاتّبعت مرامه، ورعيت ذمامه، ونزّلته بين الملاء منزلة الفضيل، وسدلت الذّيل على مخازي اللّيل، ولم يزل ذلك دابه ودابي، إلى
أن تهيّأ إيابي. فودّعته وهو مصرّ على التّدليس، ومسرّ حسو الخندريس.(2/354)
* * * قال: فلمّا اعتورتنا الكؤوس، وطربت النّفوس، جرّعني اليمين الغموس، على أن أحفظ عليه النّاموس. فاتّبعت مرامه، ورعيت ذمامه، ونزّلته بين الملاء منزلة الفضيل، وسدلت الذّيل على مخازي اللّيل، ولم يزل ذلك دابه ودابي، إلى
أن تهيّأ إيابي. فودّعته وهو مصرّ على التّدليس، ومسرّ حسو الخندريس.
* * * قوله: اعتورتنا، أي قصدتنا ودارت علينا.
الغموس: الشديدة، وهي في الجاهلية التي تغمس صاحبها في العار، وفي الإسلام تغمس صاحبها في الأوزار، والغمس ارتباط الشيء في ماء، أو صبغ حتى اللقمة في الخلّ.
والغموس قيل إنها اليمين التي يقطع بها الرجل حق غيره فيحلف كاذبا. الليث رحمه الله: هي اليمين التي لا استثناء فيها، وفي الحديث: «اليمين الغموس تدع الديار بلاقع» (1)، أي قفرا فارغة من كلّ رزق.
والناموس: إظهار فعل الخير، وتنامس الرجل إذا ظهر بما لا يعتقد، وأصل النّمس الستر، وكلّ شيء سترت به شيئا فهو ناموس له، وناموس الرجل صاحب سره، ويقال:
لصاحب سرّ الخير ناموس ولصاحب سر الشر جاسوس. قال أبو عبيدة: هما بمعنى.
غيره: الناموس: صاحب سر الملك، وقد نمس ينمس نمسا، ونامسته منامسة.
مرامه: مطلبه ومراده. رعيت ذمامه: حفظت حقّه، وما بيني وبينه مما يجب أن يراعى.
الملأ: الجماعة.
[الفضيل بن عياض]
الفضيل: هو ابن عياض التميميّ، كنيته أبو عليّ، وهو ممّن شهر بالزهد والخير، وهو من رجال رسالة القشيري، قال صاحبها أبو علي: خراساني من ناحية مرو، ولد بسمرقند، ومات في الحرم سنة سبع وثمانين ومائتين.
وكان شاطرا يقطع الطريق، وسبب توبته أنه عشق جارية فبينما هو ذات يوم يرتقي الجدار إليها، إذ سمع تاليا يتلو: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللََّهِ وَمََا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16]، فقال: يا رب قد آن، فرجع فأوى إلى خربة، فإذا فيها رفقة فقال بعضهم: نرتحل، وقال بعضهم: حتى نصبح، فإن فضيلا في الطريق فيقطع علينا، فأمّنهم وسار معهم حتى بلغوا، وجاور الحرم.
قال الفضيل: إذا أحبّ الله عبدا أكثر همّه، وإذا أبغض عبدا وسّع عليه دنياه.
وقال: الكامل المروءة من برّ والديه، وأصلح ماله، وأنفق ماله وأنفق من فضله، وأكرم إخوانه، وحسّن خلقه، ولزم بيته.
__________
(1) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية بلفظين: الأول: «اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع» النهاية في غريب الحديث 1/ 153، واللفظ الثاني: «اليمين الغموس تذر الديار بلاقع» النهاية 3/ 386.(2/355)
وقال: إذا رأيت الليل مقبلا فرحت، وقلت: أخلو بربي، وإذا أبصرت الصبح استرجعت كراهة أن يجيء من يشغلني.
واطلع عليه بعض إخوانه من كوّة ولحيته تقطر دموعا، فقال: يا هؤلاء، ليس هذا زمن حديث إنما هو زمن: احفظ لسانك، وعالج قلبك، واخف مكانك، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر.
وقال: لو أنّ الدنيا بحذافيرها عرضت عليّ لا أحاسب بها لكنت أتقذّرها كما يتقذّر أحدكم الجيفة إذا مرّ بها أن تصيب ثيابه.
وقال: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس هو الشرك.
قال أبو عليّ سليمان الدارانيّ: صحبت الفضيل ثلاثين سنة، ما رأيته ضاحكا ولا متبسّما إلا يوم مات ابنه عليّ، فقلت له في ذلك، فقال: إن الله تعالى إذا أحبّ أمرأ ابتلاه.
وقال: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق حماري.
وأخباره كثيرة، وهذه اللمعة دالة عليها.
قوله: سدلت، أي أرخيت. مخازي: قبائح، وما يخزى عليها فاعلها لو اطّلع على فعله. دأبه ودأبي: عادته وعادتي. إيابي: رجوعي. مصر: مقيم. التدليس: تلبيس الأمر وكتمان العيب.
ويشبه عذل ابن همام السروجي في شرب الخمر ثم مساعدته إياه بعد لومه وشربه معه، قول ابن أبي ربيعة، وهو أحسن ما قيل في المساعدة: [الوافر]
وخلّ كنت عين النصح منه ... إذا نظرت ومستمعا سميعا (1)
أطاف بغيّه فنهيت عنها ... وقلت له: أرى أمرا شنيعا
أردت رشاده جهدي فلّما ... أبى وعصى أتيناها جميعا
وقال أعرابي: [الطويل]
وكنت إذا علقت حبال قوم ... صحبتهم وشيمتي الوفاء
فأحسن حين يحسن محسنوهم ... وأجتنب الإساءة إن أساؤوا
أشاء سوى مشيئتهم فآتي ... مشيئتهم وأترك ما أشاء
__________
(1) الأبيات في ديوان عمر بن أبي ربيعة ص 495.(2/356)
المقامة التاسعة والعشرون وهي الواسطيّة
حكى الحارث بن همّام قال: ألجأني حكم دهر قاسط، إلى أن أنتجع أرض واسط، فقصدتها وأنا لا أعرف بها سكنا، ولا أملك فيها مسكنا. ولمّا حللتها حلول الحوت بالبيداء، والشّعرة البيضاء في اللّمّة السوداء، قادني الحظّ النّاقص، والجدّ الناكص، إلى خان ينزله شذّاذ الآفاق، وأخلاط الرّفاق، وهو لنظافة مكانه، وظرافة سكّانه، يرغّب الغريب في إيطانه، وينسيه هوى أوطانه فاستفردت منه بحجرة، ولم أنافس في أجرة، فما كان إلّا كلمح طرف، أو خطّ حرف حتّى سمعت جاري بيت بيت، يقول لنزيله في البيت:
* * * ألجأني: اضطرني. قاسط: جائر. أنتجع: أقصد لطلب الرزق.
[واسط]
واسط: بلد معروف بناه الحجاج وسط المسافة التي بين البصرة والكوفة، منها إلى كل واحدة منهما خمسون فرسخا، وسكنه، ومات فيه.
قال اليعقوبيّ: واسط مدينتان على حافتي دجلة، فالمدينة القديمة التي هي: منازل الدهاقين هي الشرقية من دجلة، وهي مدينة كسكر وابتنى الحجاج مدينة في الجانب الغربيّ، وجعل بينهما جسرا من السفن، وبنى بها قصره والقبة الخضراء التي يقال لها خضراء واسط والمسجد الجامع، وعليها سور، ونزلتها الولاة بعد الحجاج. وهي بين البصرة والكوفة والأهواز متوسطة، فسمّيت واسط بذلك.
قال الطبريّ خرج الحجاج يرتاد منزلا لأهل الشام، فأمعن حتى نزل أطراف كسكر، فبينما هو كذلك إذ هو براهب قد أقبل على أتان له، فعبر دجلة، فلما كان بموضع واسط، تفاجّت الأتان فبالت، فنزل الراهب فاحتفر ذلك البول وحمله حتى رمى به دجلة، وذلك بعين الحجاج، فقال: عليّ به، فلما أتاه قال: ما حملك على ما صنعت؟
فقال: إنا نجد في كتبنا أنه يبنى في هذا الموضع مسجد يعبد الله فيه ما دام أحد في
الأرض يوحّده، فاختط الحجاج مدينة واسط، وبنى المسجد في ذلك الموضع، وذلك سنة ثلاث وثمانين.(2/357)
فقال: إنا نجد في كتبنا أنه يبنى في هذا الموضع مسجد يعبد الله فيه ما دام أحد في
الأرض يوحّده، فاختط الحجاج مدينة واسط، وبنى المسجد في ذلك الموضع، وذلك سنة ثلاث وثمانين.
* * * قوله. سكنا، أي صاحبا يسكن إليه ويؤنس به، والمسكن: المنزل الذي يسكن فيه. البيداء: الصحراء، أراد أنه غريب ليس له صاحب ولا منزل كالحوت في الصحراء.
واللمّة: الجمّة من الشعر تلمّ بالمنكب. قادني: ساقني. الحظ: النصيب. والجدّ:
السعد. الناكص: الراجع إلى خلفه، يريد أنّ سعده يمشي إلى جهة خلف، ونكص ينكص: رجع القهقرى. خان: فندق. والشذّاذ: الغرباء الذين شذّوا عن أوطانهم، أي فروا منها وبعدوا، والشّذّاذ التفرق، وكلمة شاذة: مفترقة من جنسها، وشذّ الرجل: انفرد عن أصحابه. والآفاق: النواحي. أخلاط الرفاق: من لا يتخصص منهم ولا يتعين.
إبطانه: سكناه. هوى أوطانه: حب بلاده. استفردت: سكنتها منفردا. والحجرة: البيت، أنافس: أغال، من قولهم: نفست عليه بالشيء، إذا ضننت به، ولم تحبّ أن يصير إليه.
لمح الطرف: نظر العين. بيت بيت، أي بيته ملاصق بيتي، وهما اسمان جعلا كاسم واحد، وبنيا على الفتح. نزيله: النازل معه.
* * * قم يا بنيّ، لا قعد جدّك، ولا قام ضدّك، واستصحب ذا الوجه البدريّ، واللّون الدّرّي، والأصل النقيّ، والجسم الشقيّ، الّذي قبض ونشر، وسجن وشهر، وسقي وفطم، وأدخل النّار بعد ما لطم ثم اركض إلى السّوق، ركض المشوق، فقايض به اللاقح الملقح، المفسد المصلح، المكمد المفرّح، المعنّى المروّح، ذا الزّفير المحرق، والجنين المشرق، واللّفظ المقنع، والنّبل الممتع، الّذي إذا طرق، رعد وبرق، وباح بالحرق، ونفث في الخرق.
* * * جدك: سعدك. ضدّك: عدوك المخالف لك. البدريّ: الأبيض المستدير كالبدر، يريد الرغيف، شبّهه بالبدر في بياضه واستدارته. وقال ابن الرومي: مررت بخباز يبسط الرّقاق كأسرع من رجوع الطرف، ما بين أن ترى العجين في يده كالكرة حتى يندحي فيصير كالقمر، إلا مقدار لحظة، فشبّهت سرعة انبساطها، بسرعة الدائرة في الماء يقذف فيه بالحجر فقلت: [البسيط]
ما أنس لا أنس خبّازا مررت به ... يدحو الرّقاق كوشك اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفّه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر
* * *(2/358)
ما أنس لا أنس خبّازا مررت به ... يدحو الرّقاق كوشك اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفّه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر
* * *
[الغلمان وما قيل فيهم شعرا]
ويتعلق بهذا ما قيل من الشعر فيمن ليس له نباهة من الغلمان: كان ابن وضاح جالسا مع جملة من الأدباء، فمرّ بهم غلام نظيف يبيع الخبز، فلم يتّجه لأحد فيه شيء إلّا ابن وضاح، فإنه قال: [المجتث]
خابز الخبز ظريف ... عذبت فيه الحتوف
خامل الأنساب لكن ... هو في الحسن شريف
خصره أهيف شخت ... وكذا الغزلان هيف
من يخاصم مقلتيه ... حكّمت فيه السيوف
ونظر إدريس بن اليماني إلى غلام وسيم بالحمّام عليه أسمال، فقال: [الطويل]
توشّح بالظلماء وهو صباح ... وأمرض بالأجفان وهي صحاح
وظلّ فؤادي طائرا عن جوانحي ... وليس له إلّا الغرام جناح
قضيب صباح في وشاح دجنّة ... ألا ليتني تحت الوشاح وشاح
ولا عجب أن أفسدتني جفونه ... فكلّ فساد في هواه صلاح
وقال الرّصافي: [الطويل]
يقولون لي يوما وقد مرّ ضاربا ... بمعوله ضرب المرجّم بالغيب
تعلّم صفّارا فقلت: استعارها ... غدّاة رنا من صبغة العاشق الصّبّ
يعود النحاس الأحمر التّبر عسجدا ... بكفّيه عند السبك والمدّ والضّرب
فحمرته مشتقة من حيائه ... وصفرته مما يخاف من العتب
قوله الدريّ: الأبيض الذي يشبه الدّرّ في لونه، ويقال: كوكب درّيّ منسوب إلى الدرّ، مشبّها به لصفائه وحسنه، بضمّ الدال وتشديد الياء، ودري بالضم والهمز، ودريء بكسر الدال مع الياء ومع الهمزة، ودرّىء بالفتح والهمز، فمن كسر وهمز فهو فعيل، من درأ الكوكب، إذا جرى في أفق السماء، ومن كسر بلا همز فلأجل الياء بعد الراء، ومن ضم وهمز فخطّأه الفراء، قال: فعيل ليس في أبنية العرب، وأثبته سيبويه. قال أبو عبيدة: أصله دروى مثيل سبوح، فجعلوا الواو ياء، وجعلوا الضمة قبلها كسرة، ومثله عتوّ وعتيّ.
قوله: الأصل النقيّ، يعني القمح الذي صنع منه كان نقيّا من الزبل وغيره. وشقاء جسمه، قد فسّر في التاسعة عشر، وهو الآن يبيّن بعض شقائه، فقبض ونشر. وقت العجن،
أو وقت الخبز، لأنه يقطع قبضة ثم يبسط للخبز. سجن: خزن قمحه في المخازن. وشهر:(2/359)
قوله: الأصل النقيّ، يعني القمح الذي صنع منه كان نقيّا من الزبل وغيره. وشقاء جسمه، قد فسّر في التاسعة عشر، وهو الآن يبيّن بعض شقائه، فقبض ونشر. وقت العجن،
أو وقت الخبز، لأنه يقطع قبضة ثم يبسط للخبز. سجن: خزن قمحه في المخازن. وشهر:
أبرز منها للسوق وشهر على الناس، أو يكون سجنه الفرن، وشهرته البيع في السوق، أو عندما يطاف به على الأسواق: وقال المعريّ يلغز في القمح: [الطويل]
وسمراء في بيض الحسان شريتها ... بصفر من العين الشّبيهة بالشمس
وقد غيّبت في الخدر عصرا مصونة ... محجبة عن أعين الجن والإنس
فلمّا بدت عنه بدت سيمة النّوى ... عليها ولم تجزع لحادثة الأمس
فأهلا بأنثى لم تردّ يد لامس ... بسوء ولا أبدت نفارا من اللّمس
سقي: جعل الماء عليه للعجين. فطم: قطع عنه الماء. لطم: سوّي بالكفّ، وعامتنا تشدّد الطاء. اركض: اسرع. المشوق: الكثير الشوق، وشاقك الشيء يشوقك، إذا هاجك. قايض: عاوض، وقايضت الرجل فعلت معه ما يفعل معك. اللّاقح في الأصل: الناقة يعلوها الفحل، فتحمل منه ولقحت: حملت، والملقّح: الفحل يعلوها عند السفاد، وقد بيّن أنه يريد حجر الزند، جعل لاقحا لأنه حامل بالنار، وملقحا لأنّ به تخرج النار من الزند، فكأنه ألقحه بالنار، أي جعلها فيه. والزّند أيضا لاقح ملقح، لأن النار لا توجد في واحد منهما على انفراده، والنار تصلح في موضع وتفسد في آخر فلذلك وصفه بهما. والمعنى: المتعب بإحراقه. المروّح: المدخل الراحة بإصلاحه، وإن جعله للزند، فمعناه إذا شحّ، ومروّح إذا أورى، ونحوه. المكمد، أي المحزن.
المفرّح: ضدّه. والزّفير. التّنفس، وزفرة الحجر هي النار، وهي تحرق كلّ ما تعلّقت به، وهو الجنين، أي المستور في الحجر، فإذا ظهر أشرق وأضاء. واللفظ: صوت الحجر في الزّند، فإذا أبدى النار أقنعك واكتفيت به. وهو نيله، أي عطاؤه. والممتع: الكثير وقليل النار كثير، وقد قال الأعرابيّ: إنّ السّقط يحرق الدوحة، أراد ما يسقط من الزّند من النار الضعيفة يحرق الشجر الكثير الملتف. طرق: ضرب. رعد: صوّت. برق:
لمعت ناره. باح: أظهر ما يسرّ فيه. الحرق: التهاب القلب بالهمّ، فكنى به عمّا في الحجر من النار. نفث: بزق. الخرق: التي تسقط فيها نار الزند وهذه ألفاظ كلّها متقاربة، بعضها يفسّر بعضا، لأنها من مليح الكلام.
* * * قال: فلمّا قرّت شقشقة الهادر، ولم يبق إلّا صدر الصّادر، برز فتى يميس، وما معه أنيس، فرأيتها عضلة تلعب بالعقول، وتغري بالدّخول في الفضول، فانطلقت في أثر الغلام، لأخبر فحوى الكلام، فلم يزل يسعى سعي العفاريت، وينفقّد نضائد الحوانيت، حتّى انتهى عند الرّواح، إلى حجارة القدّاح. فناول بائعها رغيفا، وتناول منه حجرا لطيفا. فعجبت من فطانة المرسل والمرسل، وعلمت أنّها
سروجية وإن لم أسأل، وما كذّبت أن بادرت إلى الخان منطلق العنان لأنظر كنه فهمي، وهل قرطس في التّكهّن سهمي فإذا أنا في الفراسة قارس، وأبو زيد بوصيد الخان جالس. فتهادينا بشرى الالتقاء، وتقارضنا تحية الأصدقاء.(2/360)
* * * قال: فلمّا قرّت شقشقة الهادر، ولم يبق إلّا صدر الصّادر، برز فتى يميس، وما معه أنيس، فرأيتها عضلة تلعب بالعقول، وتغري بالدّخول في الفضول، فانطلقت في أثر الغلام، لأخبر فحوى الكلام، فلم يزل يسعى سعي العفاريت، وينفقّد نضائد الحوانيت، حتّى انتهى عند الرّواح، إلى حجارة القدّاح. فناول بائعها رغيفا، وتناول منه حجرا لطيفا. فعجبت من فطانة المرسل والمرسل، وعلمت أنّها
سروجية وإن لم أسأل، وما كذّبت أن بادرت إلى الخان منطلق العنان لأنظر كنه فهمي، وهل قرطس في التّكهّن سهمي فإذا أنا في الفراسة قارس، وأبو زيد بوصيد الخان جالس. فتهادينا بشرى الالتقاء، وتقارضنا تحية الأصدقاء.
* * * قرّت: سكنت. الهادر: الفحل. وشقشقته: ما يخرج من لهاته. وتقدّمت في الأولى، ويزعمون أنها لا توجد عند نحر الفحل، وكذلك بيضه لا يوجد، قال: وأنشد بشر بن المعتمر: [السريع]
خصيته تطلّ من حظمه ... عند حدوث الذّبح والنّحر
ما إن يرى الراؤون من بعدها ... شقشقة مائلة الهدر
وأراد به: سكت المتكلّم. صدر الصادر: خروج الخارج من الماء بعد شربه. برز:
خرج. يميس: يتبختر ويتثنى. عضلة: داهية وأمر صعب. تغري: تحرّض وتلصق.
فحوى: معنى. يسعي: يجري. العفاريت: شرّ الشياطين وأدهاها. نضائد: ما جعل شيئا على شيء. الرّواح: العشيّ. القدّاح: حجر الزند تقدح النار منه. ناول: أعطى. لطيفا:
دقيقا. فطانة: ذكاء. وما كذّبت، أي ما خيّبت. منطلق العنان: مسيّب حيث شاء. كنه:
حقيقة. قرطس: أصاب الغرض مرة بعد أخرى، والقرطاس يجعل غرضا، فإذا توالى ضربه قيل: قرطس. والتكهن: الحديث بما يكون. والفراسة: النظر بالظّن. وصيد الخان: فناء الفندق، وقيل بابه، من أوصدت الباب، أغلقته، وقيل: عتبة بابه. تهادينا:
أهديته وأهداني. البشرى: السرور، أي فرح كل واحد منا بصاحبه. فتهادينا البشرى:
تقارضنا: اندفعنا بالسّلام، يريد حالة الصديقين إذا التقيا بعد سفر، فيبالغ كلّ واحد منهما في سلام صاحبه ويتابعه. والتحية: السلام، ومنه التحيات لله، ومنه قوله تعالى: {وَإِذََا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهََا} [النساء: 86]، أي سلّم عليكم. وقيل: التحية:
الملك، وكان الملك يحيّا بأنعم صباحا، وأبيت اللعن، وقيل: معناه البقاء لله، وقال زهير بن جناب: [الكامل]
من كلّ ما نال الفتي قد نلته ... إلا التحية من إله قادر
أي البقاء.
ثمّ قال: ما الّذي نابك، حتّى زايلت جنابك؟ فقلت: دهر هاض، وجور فاض. فقال: والّذي أنزل المطر من الغمام، وأخرج الثّمر من الأكمام لقد فسد الزّمان، وعمّ العدوان، وعدم المعوان، والله المستعان فكيف أفلتّ، وعلى أيّ وصفيك أجفلت! فقلت: اتخذت اللّيل قميصا، وأدلجت فيه خميصا. فأطرق
ينكت في الأرض، ويفكّر في ارتياد القرض والفرض. ثمّ اهتزّ هزّة من أكثبه قنص، أو بدت له فرص، وقال: قد علق بقلبي أن تصاهر من يأسو جراحك، ويريش جناحك، فقلت: وكيف أجمع بين غلّ وقلّ، ومن الّذي يرغب في ضلّ ابن ضلّ! فقال: أنا المشير بك وإليك، والوكيل لك وعليك، مع أنّ دين القوم جبر الكسير، وفكّ الأسير، واحترام العشير، واستنصاح المشير إلّا أنهم لو خطب إليهم إبراهيم بن أدهم، أو جبلة بن الأيهم لما زوّجوه إلّا على خمسمائة درهم، اقتداء بما مهر الرسول صلّى الله عليه وسلم زوجاته، وعقد به أنكحة بناته على أنّك لن تطالب بصداق، ولا تلجأ إلى طلاق. ثمّ إنّي سأخطب في موقف عقدك، ومجمع حشدك، خطبة لم تفتق رتق سمع، ولا خطب بمثلها في جمع.(2/361)
ثمّ قال: ما الّذي نابك، حتّى زايلت جنابك؟ فقلت: دهر هاض، وجور فاض. فقال: والّذي أنزل المطر من الغمام، وأخرج الثّمر من الأكمام لقد فسد الزّمان، وعمّ العدوان، وعدم المعوان، والله المستعان فكيف أفلتّ، وعلى أيّ وصفيك أجفلت! فقلت: اتخذت اللّيل قميصا، وأدلجت فيه خميصا. فأطرق
ينكت في الأرض، ويفكّر في ارتياد القرض والفرض. ثمّ اهتزّ هزّة من أكثبه قنص، أو بدت له فرص، وقال: قد علق بقلبي أن تصاهر من يأسو جراحك، ويريش جناحك، فقلت: وكيف أجمع بين غلّ وقلّ، ومن الّذي يرغب في ضلّ ابن ضلّ! فقال: أنا المشير بك وإليك، والوكيل لك وعليك، مع أنّ دين القوم جبر الكسير، وفكّ الأسير، واحترام العشير، واستنصاح المشير إلّا أنهم لو خطب إليهم إبراهيم بن أدهم، أو جبلة بن الأيهم لما زوّجوه إلّا على خمسمائة درهم، اقتداء بما مهر الرسول صلّى الله عليه وسلم زوجاته، وعقد به أنكحة بناته على أنّك لن تطالب بصداق، ولا تلجأ إلى طلاق. ثمّ إنّي سأخطب في موقف عقدك، ومجمع حشدك، خطبة لم تفتق رتق سمع، ولا خطب بمثلها في جمع.
* * * نابك: نزل بك. جنابك: بلدك وناحيتك، والجناب: فناء الدار. هاض: كسر.
فاض: كثر. الغمام: السحاب. والثمر: الثمار. وأكمامها: ما يكون فيها ثمرها، وكل ما وارى شيئا فهو كمام له وكمّ. عمّ: شمل. العدوان: الفساد. المعوان: ما يستعان به.
وقال الشاعر: [الكامل]
لله درّ أبيك أيّ زمان ... أصبحت فيه وأيّ أهل زمان
كلّ يدانيك المحبة جاهلا ... يعطي ويأخذ منك بالميزان
فإذا رأى رجحان حبّة خردل ... مالت مودّته مع الرجحان
وقال ابن لنكك: [المنسرح]
نحن مع الدهر في أعاجيب ... فنسأل الله صبر أيوب
أقفرت الأرض من محاسنها ... فابك عليها بكاء يعقوب
وصفيك: حاليك من الخير والشرّ، وهي حالة السفر. أجفلت: هربت مسرعا، والإجفال: الهروب، ثم قال: مشيت في ظلام الليل، فصار لي كالقميص. ادّلجت:
مشيت في السحر. خميصا: جائعا. أطرق: أمال رأسه ساكنا. ينكت: يخطّ في الأرض.
ارتياد: طلب. الفرض من العطية ما فرضت على نفسك عطاءه، على ألا تجازى عليه.
والقرض: ما أعطي من غير فرض.
قال الحريريّ: القرض بالقاف: ما يستعاد عوضه، والفرض بالفاء: ما لا عوض فيه، وأنشد في الدرّة لأبي عبد الله النّمريّ يرثي أبا عبد الله الأزديّ: [الوافر]
مضى الأزديّ والنّمريّ يمضي ... وبعض الشّكل مقرون ببعض
أخي والمجتني ثمرات ودّي ... وإن لم يجزني قرضي وبرضي
وكانت بيننا أبدا هنات ... توفّر عرضه فيها وعرضي
وما هانت رجال الأزد بعدي ... وإن لم تدن أرضهم من ارضي
الهنات: كناية عن المنكرات، فأراد أنه أمال رأسه إلى الأرض مفكرا، وجعل يخط فيها بيده أو بعود، وهو فعل المهموم الكثير الفكر، كما قال امرؤ القيس: [الطويل](2/362)
مضى الأزديّ والنّمريّ يمضي ... وبعض الشّكل مقرون ببعض
أخي والمجتني ثمرات ودّي ... وإن لم يجزني قرضي وبرضي
وكانت بيننا أبدا هنات ... توفّر عرضه فيها وعرضي
وما هانت رجال الأزد بعدي ... وإن لم تدن أرضهم من ارضي
الهنات: كناية عن المنكرات، فأراد أنه أمال رأسه إلى الأرض مفكرا، وجعل يخط فيها بيده أو بعود، وهو فعل المهموم الكثير الفكر، كما قال امرؤ القيس: [الطويل]
ظللت ردائي فوق رأسي قاعدا ... أعدّ الحصى ما تنقضي عبراتي (1)
فلم يرد أنه يعدّها ليعلم كم فيها، وحاله من البكاء والحيرة تنفي الثبات على العدد، وإنما أراد أنه كان يعبث فيها بيده اشتغالا، وفي قلبه من الهمّ ما غلب على الصبر، وقد بالغ ذو الرمّة في بيان هذا المعنى بقوله: [الطويل]
عشيّة ما لي همّة غير أنّني ... بلقط الحصى والخطّ في الدار مولع (2)
أخطّ وأمحو تارة وأعيده ... بكفّي والغربان في الدّار وقّع
وقال ابن جعيل في ذلك: [الكامل]
لا ينكتون الأرض عند سؤالهم ... لتطلّب العلّات بالعيدان
بل يبسطون وجوههم فترى لهم ... عند السؤال كأحسن الألوان
وقال الشريف الرضيّ فأحسن: [الكامل]
تفري أنامله التراب تعللا ... وأناملي في سنّي المقروع (3)
قوله: أكثبه، أي دنا منه. قنص: صيد. فرص: جمع فرصة، وهي كالغنيمة.
يأسو: يطبّ. يريش: يجعل عليه الريش. الغلّ: الزوجة هنا.
وقالت عائشة رضي الله عنها: إنما النساء أغلال فلينظر أحدكم غلّا يجعل في عنقه.
وتقول العرب للمرأة السيّئة الخلق: غلّ قمل.
وعوتب الكسائي في ترك التزوّج فقال: وجدت معاناة العفّة أيسر من معاناة العيال.
القلّ: القلة وضلّ ابن ضلّ: مجهول لا يعرف، وفلان ضلّ إذا كان مجهولا متمكنا في الضلال. المشير بك وإليك، يقال: أشار به إذا رفعه وأشار النار وأشار بها وتشوّرها، أي رفعها، فمعنى أنا المشير بك، أي أرفع قدرك، وأعظم منزلتك، أي أثني عليك بخير
__________
(1) البيت في ديوان امرئ القيس ص 78، والمخصص 13/ 207.
(2) البيتان في ديوان ذي الرمة ص 720، 721، ولسان العرب (خطط)، والمخصص 13/ 26، 207، وتهذيب اللغة 6/ 557، وتاج العروس (خطط).
(3) البيت في ديوان الشريف الرضي 1/ 497.(2/363)
في غيبتك عند إصهارك، والمشير إليك إذا حضرت، أشرت إليك أن تتزوّج فيهم إذا رأيتهم أكفاءك.
والوكيل لك عليهم حتى يزوّجوك، والوكيل عليك، لتمتثل ما آمرك به من الزواج فيهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. قيل فيه: الكافي هو، قال الفراء: يكون المعنى: كافينا الله ونعم الكافي، كقولك: رازقنا الله ونعم الرازق. ابن الأنباريّ وهو أحسن في اللفظ من قولك: كافينا الله ونعم الوكيل. دينهم: عاداتهم. جبر: إصلاح. فكّ: حلّ. احترام:
إعزاز وتقريب، وهو افتعال من الحرمة، أي يجعلونه في حرمتهم، العشير: الصاحب.
استنصاح المشير، أي من أشار عليهم بشيء رأوه ناصحا.
[إبراهيم بن أدهم]
إبراهيم بن أدهم، هو من شيوخ الصوفية، وهو من رجال رسالة القشيريّ، قال صاحبها: فمنهم أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم بن منصور بن إسحاق البلخيّ من كورة بلخ، من أبناء الملوك.
وحدث إبراهيم بن بشار، قال: صحبت إبراهيم بن أدهم بن منصور بن إسحاق البلخيّ بالشام، فقالت له: يا أبا أسحاق، خبّرني عن بدء أمرك كيف كان؟ فقال: كان أبي من ملوك خراسان، وكنت شابّا، فركبت يوما على دابّة ومعي كلب، وخرجت إلى الصيد فأثرت ثعلبا، فبينا أنا في طلبه، إذ هتف بي هاتف: ألهذا خلقت أم بهذا أمرت؟
ففزعت ووقفت، ثم عدت فركضت الثانية، ففعل مثل ذلك ثلاث مرّات، ثم هتف بي من قربوس السرج: لا والله ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت. قال: فنزلت وصادفت راعيا لأبي، فأخذت منه جبّة من صوف، فلبستها وأعطيته الفرس، وما كان معي. ثم دخلت البادية متوجّها إلى مكة، فبينا أنا يوما في مسيري إذا برجل يسير، وليس معه إناء ولا زاد، فلمّا أمسى وصلّى المغرب حرّك شفتيه بكلام لا أفهمه، وإذا أنا بإناء فيه طعام وإناء فيه شراب، فأكلت وشربت، وكنت على ذلك معه أياما، وعلّمني اسم الله الأعظم، ثم غاب عني، وبقيت وحدي أنا ذات يوم مستوحش من الوحدة، دعوت الله فإذا أنا بشخص آخذ بحجزتي، فقال لي: سل تعط، فراعني صوته، فقال: لا روعة عليك ولا بأس، أنا أخوك الخضر إنّ أخي داود علّمك اسم الله الأعظم فلا تدع على أحد بينك وبينه شحناء فتهلكه، ولكن ادع الله به أن يقوّي ضعفك، ويؤنس وحشتك، وتجدّد به في كلّ يوم نيّتك ورغبتك، ثم تركني وانصرف.
وصحبه سفيان الثوريّ والفضيل بن عياض ودخل الشأم ومات بها. وكان يأكل من عمل يده، مثل الحصاد وحفظ البساتين.
وكان كبير الشأن في الورع، وقال: أطب مطعمك ولا عليك، ألّا تقوم بالليل ولا تصوم بالنهار.(2/364)
وكان عامة دعائه: اللهم انقلني من ذلّ معصيتك إلى عز طاعتك.
وقال لرجل في الطّواف: اعلم أنك لا تنال درجة الصالحين حتى تجوز ستّ عقبات، وهي أن تغلق باب النعمة وتفتح باب الشدة، وتغلق باب العزّ وتفتح باب الذلّ، وتغلق باب الراحة وتفتح باب الجهد، وتغلق باب النوم وتفتح باب السهر، وتغلق باب الغنى وتفتح باب الفقر، وتغلق باب الأمن وتفتح باب الاستعداد للموت.
وقال محمد بن المبارك الصوريّ: كنت مع إبراهيم بن أدهم في طريق بيت المقدس، فنزلنا وقت القيلولة تحت شجرة رمّان، فصلّينا ركعات، فسمعت صوتا من أصل الرمان: با أبا إسحاق، أكرمنا بأن تأكل منا شيئا، فطأطأ رأسه فقال ذلك ثلاث مرات، ثم قال: يا محمد، كن شفيعا إليه ليتناول منّا شيئا، فقلت: يا أبا إسحاق، لقد سمعت، فقام وأخذ رمانتين، فأكل واحدة وناولني الأخرى، فأكلتها وهي حامضة، وكانت قصيرة، فلمّا رجعنا مررنا بها وهي شجرة عالية ورمّانها حلو، وهي تثمر في كلّ عام مرتين، وسمّوها رمانة العابدين.
وركب إبراهيم في مركب، فهاجت ريح شديدة، فلفّ إبراهيم رأسه بعباءة وطرح نفسه مع الناس، فسمعوا صوتا من البحر يقول: لا تخافوا ففيكم إبراهيم بن أدهم، وصاح الناس في المركب: أين إبراهيم بن أدهم؟ ثم سكنت الريح، فخرج وما عرفوه.
قال له رجل: من أين كسبك؟ فقال: [الطويل]
نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى، ولا ما نرقّع
وأخباره في كتب التصوّف كثيرة تطول
[جبلة بن الأيهم]
وأما جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث الأوسط بن ثعلبة بن الحارث الأكبر بن عمرو بن جفنة، وفي نسبه اختلاف.
وهو آخر ملوك غسان، وكان طوله اثني عشر شبرا، فإذا ركب مسح الأرض بقدميه.
ولما أراد أن يسلم كتب إلى عمر ليستأذنه في القدوم عليه، فسرّ بذلك وكتب إليه:
أن أقدم، فلك ما لنا وعليك ما علينا، فخرج في مائة فارس من عكّ وجفنة، فلما دنا إلى المدينة ألبسهم ثياب الوشي المنسوجة بالذهب الأحمر والحرير الأصفر، وجلل الخيل بجلال الديباج، وطوّقها أطواق الذهب والفضة، ولبس تاجه وفيه قرطا مارية، فلم يبق في المدينة إلا من خرج إليه، وفرح المسلمون بقدومه وإسلامه.
ثم حضر الموسم مع عمر، فبينما هو يطوف بالبيت إذ وطئ على إزاره رجل من فزارة فحلّه، فالتفت إليه جبلة مغضبا، فلطمه فهشم أنفه، فاستعدى عليه الفزاريّ عمر،
فقال: ما دعاك إلى أن لطمت أخاك؟ فقال: إنه وطئ إزاري، ولولا حرمة هذا البيت لأخذت الذي فيه عيناه، فقال له عمر: أمّا أنت فقد أقررت، فإما أن ترضيه وإما أن أقيده منك، قال: أتقيده مني، وهو رجل سوقة! قال: قد شملك وإياه الإسلام، فما تفضله إلا بالعافية، قال: قد رجوت أن أكون في الإسلام أعزّ مني في الجاهلية، فقال: هو ذاك، قال: إذا أتنصّر. قال: إن تنصّرت ضربت عنقك. واجتمع وفد فزارة ووفد جبلة، وكادت تكون فتنة، فقال جبلة: أنظرني إلى غد يا أمير المؤمنين. قال: ذلك إليك.(2/365)
ثم حضر الموسم مع عمر، فبينما هو يطوف بالبيت إذ وطئ على إزاره رجل من فزارة فحلّه، فالتفت إليه جبلة مغضبا، فلطمه فهشم أنفه، فاستعدى عليه الفزاريّ عمر،
فقال: ما دعاك إلى أن لطمت أخاك؟ فقال: إنه وطئ إزاري، ولولا حرمة هذا البيت لأخذت الذي فيه عيناه، فقال له عمر: أمّا أنت فقد أقررت، فإما أن ترضيه وإما أن أقيده منك، قال: أتقيده مني، وهو رجل سوقة! قال: قد شملك وإياه الإسلام، فما تفضله إلا بالعافية، قال: قد رجوت أن أكون في الإسلام أعزّ مني في الجاهلية، فقال: هو ذاك، قال: إذا أتنصّر. قال: إن تنصّرت ضربت عنقك. واجتمع وفد فزارة ووفد جبلة، وكادت تكون فتنة، فقال جبلة: أنظرني إلى غد يا أمير المؤمنين. قال: ذلك إليك.
فلما كان في جنح الليل خرج في أصحابه إلى القسطنطينية فتنصّر، وأعظم هرقل قدومه وسرّ به وأقطع له الأموال والرّباع، فلما بعث عمر رضي الله عنه رسوله إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام فأجابه إلى المصالحة، ثم قال للرسول: أرأيت ابن عمّك الذي أتانا راغبا في ديننا؟ يعني جبلة، قال: لا. قال: القه ثم ائتني وخذ الجواب. فذهب فوجد على باب جبلة من الجمع والحجاب والبهجة مثل ما على باب قيصر.
قال: فتلطّفت في الأذن حتى دخلت عليه: فرأيت رجلا أصهب اللحية فأنكرته، فإذا هو قد دعا بسحالة الذهب فذرّها على لحيته، حتى عاد أصهب، وهو قاعد على سرير من قوارير. فلما عرفني رفعني معه على السّرير، وجعل يسائلني عن المسلمين، فقلت: قد أضعفوا أضعافا على ما تعرف، وسأل عن عمر رضي الله عنه، فقلت: بخير حال، فاغنمّ بسلامة عمر، فانحدرت عن السرير فقال: لم تأبى الكرامة؟ فقلت: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن هذا، قال: نعم صلّى الله عليه وسلم، ولكن نقّ قلبك من الدّنس ولا تبال علام قعدت، فطمعت فيه عند صلاته على النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقالت: ويحك يا جبلة ألا تسلم! وقد عرفت الإسلام وفضله؟ قال: أبعد ما كان مني! قلت: نعم، قد فعل رجل من فزارة أكثر مّما فعلت، ارتدّ وضرب أوجه المسلمين بالسيف ثم أسلم، وقبل منه وخلّفته بالمدينة مسلما.
قال: زدني من هذا، إن كنت تضمن لي أن يزوّجني عمر ابنته ويولّيني الأمر من بعده، رجعت إلى الإسلام. فضمنت له التزويج، ولم أضمن الخلافة. فأومأ إلى وصيف بين يديه، فذهب مسرعا فإذا موائد الذهب قد نصبت بصحائف الفضة، فقال لي: كل، فقبضت يدي، وقلت: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن الأكل في آنية الذهب والفضة، فقال: نعم صلّى الله عليه وسلم، ولكن نقّ قلبك، وكل فيما أحببت. فأكل في الذهب والفضة، وأكلت في الخلنج. ثم جيء بطشت من الذهب، فغسل يديه فيها، وغسلت في الصّفر. ثم أومأ إلى خادم عن يمينه، فذهب مسرعا، فسمعت حسّا، فإذا خدم معهم كراسيّ مرصعة بالجواهر، فوضع عشرة عن يمينه وعشرة عن يساره. وإذا عشر جوار في الشعور، عليهنّ ثياب الوشي، مكسّرات في الحلي، فقعدن عن يمينه، وقعد مثلهن عن يساره، وإذا بجارية قد خرجت كالشمس حسنا، وعلى رأسها تاج عليه
طائر، وفي يدها اليمنى جام، وفيه مسك وعنبر فتيت، وفي يدها اليسرى جام فيه الورد، فصفرت للطائر، فوقع في جام ماء الورد، فاضطرب فيه، ثم وقع في جام المسك، فتمرّغ فيه، ثم طار فوقع على صليب في تاج جبلة، فرفرف حتى نفض إما في ريشه عليه، وضحك جبلة من شدة السرور ثم قال للجواري اللّاتي عن يمينه: بالله أضحكننا فاندفعن يغنين، تخفق عيدانهنّ يقلن: [الكامل](2/366)
قال: زدني من هذا، إن كنت تضمن لي أن يزوّجني عمر ابنته ويولّيني الأمر من بعده، رجعت إلى الإسلام. فضمنت له التزويج، ولم أضمن الخلافة. فأومأ إلى وصيف بين يديه، فذهب مسرعا فإذا موائد الذهب قد نصبت بصحائف الفضة، فقال لي: كل، فقبضت يدي، وقلت: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن الأكل في آنية الذهب والفضة، فقال: نعم صلّى الله عليه وسلم، ولكن نقّ قلبك، وكل فيما أحببت. فأكل في الذهب والفضة، وأكلت في الخلنج. ثم جيء بطشت من الذهب، فغسل يديه فيها، وغسلت في الصّفر. ثم أومأ إلى خادم عن يمينه، فذهب مسرعا، فسمعت حسّا، فإذا خدم معهم كراسيّ مرصعة بالجواهر، فوضع عشرة عن يمينه وعشرة عن يساره. وإذا عشر جوار في الشعور، عليهنّ ثياب الوشي، مكسّرات في الحلي، فقعدن عن يمينه، وقعد مثلهن عن يساره، وإذا بجارية قد خرجت كالشمس حسنا، وعلى رأسها تاج عليه
طائر، وفي يدها اليمنى جام، وفيه مسك وعنبر فتيت، وفي يدها اليسرى جام فيه الورد، فصفرت للطائر، فوقع في جام ماء الورد، فاضطرب فيه، ثم وقع في جام المسك، فتمرّغ فيه، ثم طار فوقع على صليب في تاج جبلة، فرفرف حتى نفض إما في ريشه عليه، وضحك جبلة من شدة السرور ثم قال للجواري اللّاتي عن يمينه: بالله أضحكننا فاندفعن يغنين، تخفق عيدانهنّ يقلن: [الكامل]
لله درّ عصابة نادمتهم ... يوما بحلّق في الزمان الأوّل (1)
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفّق بالرحيق السلسل
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
يغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
بيض الوجوه نقيّة أحسابهم ... شمّ الأنوف من الطّراز الأول
فضحك ثم قال: أتدري من قائل هذا؟ قلت: لا، قال: حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
ثمّ قال للاتي عن يساره: بالله أبكيننا، فاندفعن بعيدانهنّ يغنّين: [الخفيف]
لمن الدار أقفرت بعمان ... بين أعلى اليرموك والصّمّان (2)
ذاك مغنى لآل جفنة في الدّه ... ر وحقّ تعاقب الأزمان
قد أراني هناك دهرا مكينا ... عند ذي التاج مجلسي ومكاني
ثكلت أمّهم وقد ثكلتهم ... يوم حلّوا بحارث الجولان
__________
(1) الأبيات لحسان بن ثابت في ديوانه ص 122، 123، والبيت الأول في لسان العرب (جلق)، وتاج العروس (جلق)، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 1/ 475، والبيت الثاني في جمهرة اللغة ص 312، وخزانة الأدب 4/ 381، 382، 384، 11/ 188، والدرر 5/ 38، وشرح المفصل 3/ 25، ولسان العرب (برد)، (برص)، (صفق)، ومعجم ما استعجم ص 240، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 451، وشرح الأشموني 2/ 324، وشرح المفصل 6/ 133، ولسان العرب (سلسل)، وهمع الهوامع 2/ 51، والبيت الثالث في لسان العرب (جفن)، (مرا)، وتاج العروس (فضل)، (جفن)، (مرى)، وبلا نسبة في كتاب العين 6/ 146، والبيت الرابع في خزانة الأدب 2/ 412، والدرر 4/ 76، وشرح أبيات سيبويه 1/ 69، وشرح شواهد المغني 1/ 378، 2/ 964، والكتاب 3/ 19، ومغني اللبيب 1/ 129، وهمع الهوامع 2/ 9، وتاج العروس (جبن)، وبلا نسبة في شرح الأشموني 3/ 562، والبيت الخامس في لسان العرب (طرز)، (أنف)، وتهذيب اللغة 13/ 178، ومقاييس اللغة 3/ 446، وتاج العروس (طرز)، (أنف)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 704.
(2) الأبيات في ديوان حسان بن ثابت ص 322، ويروى البيت الأول:
لمن الدار أوحشت بمغان ... بين أعلى اليرموك فالخمان
وهو في لسان العرب (خمم)، وتاج العروس (خمم)، (بلس)، (أفق)، والأغاني 15/ 150، ومعجم البلدان (أفيق)، (سكاء).(2/367)
ودنا الفصح فالولائد ينظم ... ن سراعا أكلّة المرجان
فبكى حتى سالت الدموع على لحيته، ثم قال لي: وهذا لحسان أيضا، ثم أنشأ يقول: [الطويل]
تنصّرت الأشراف من أجل لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنّفني فيها لجاج ونخوة ... وبعت بها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أميّ لم تلدني وليتني ... رجعت إلى الأمر الذي قال لي عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة ... وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشأم أدنى معيشة ... أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
ثم سألني عن حسان، أحيّ هو؟ قلت: نعم. ثم أمر بمال وكسوة ونوق موقورة برّا، وقال: أقرئه سلامي، وادفع له هذا إن وجدته حيّا، وإن وجدته ميّتا، فادفعه إلى أهله، وانحر الجمال على قبره.
قال: فلما قدمت على عمر أخبرته الخبر، فقال: هلّا ضمنت له الأمر، فإذا أسلم قضى الله علينا بحكمه! ثم بعثت إلى حسان، فأقبل وقد كفّ بصره، فلما دخل قال: يا أمير المؤمنين إني وجدت ريح آل جفنة، قال: نعم، هذا رجل أقبل من عنده قال: هات يا بن أخي ما بعث به إليّ معك؟ قلت: وما علمك؟ قال: إنه كريم من عصبة رجال كرام مدحتهم في الجاهليّة، فحلف ألّا يلقى أحدا يعرفني إلا أهدى إليّ معه شيئا. فدفعته إليه وأخبرته بأمره في الإبل، فقال: وددت أني كنت ميتا فنحرت على قبري، ثم أخذها وانصرف وهو يقول: [الكامل]
إنّ ابن جفنة من بقيّة معشر ... لم يغذهم آباؤهم باللّوم
لم ينسني بالشام إذ هو ربّها ... كلّا ولا متنصّرا بالروم
يعطي الجزيل، ولا يراه عنده ... إلا كبعض عطية المذموم
وأتيته يوما فقرّب مجلسي ... وسقي وروّاني من الخرطوم
وذكر أنّ رسول عمر لما أرسله إلى قيصر، قال: وأمرني أن أضمن لجبلة ما شرط، فلمّا قدمت القسطنطينية وجدت الناس منصرفين من جنازته، فعلمت أن الشقاء قد غلب عليه.
وحدّثت أن صاحب برطونة اليوم من ذرّيته. وذكر الثعالبيّ أنه وجد للصّابي فصلا من كتاب استظرفه جدّا، يذكر صلة وصلت إليه من الصاحب، وهو: وصل أطال الله بقاء سيدنا أبو العباس أحمد بن الحسين، وأبو محمد أحمد بن جعفر بن شعيب حاجّين، فعرّجا إليّ ملمّين، وعاجا عليّ مسلّمين، فحين عرفتهما، وقبل أن أردّ السلام عليهما مددت اليد إلى ما معهما، كما مدّها حسان بن ثابت إلى رسول جبلة بن الأيهم، ثقة منّي
بصلته، وشوقا إلى تكرمته، واعتمادا لإحسانه، وألفا لموارد إنعامه، وتيقّنا أن الخطرة مني على باله، مقرونة بالنّصيب من ماله، وأن ذكراه، مشفوعة بجدواه.(2/368)
وحدّثت أن صاحب برطونة اليوم من ذرّيته. وذكر الثعالبيّ أنه وجد للصّابي فصلا من كتاب استظرفه جدّا، يذكر صلة وصلت إليه من الصاحب، وهو: وصل أطال الله بقاء سيدنا أبو العباس أحمد بن الحسين، وأبو محمد أحمد بن جعفر بن شعيب حاجّين، فعرّجا إليّ ملمّين، وعاجا عليّ مسلّمين، فحين عرفتهما، وقبل أن أردّ السلام عليهما مددت اليد إلى ما معهما، كما مدّها حسان بن ثابت إلى رسول جبلة بن الأيهم، ثقة منّي
بصلته، وشوقا إلى تكرمته، واعتمادا لإحسانه، وألفا لموارد إنعامه، وتيقّنا أن الخطرة مني على باله، مقرونة بالنّصيب من ماله، وأن ذكراه، مشفوعة بجدواه.
رجع ما انقطع. فيريد أنه لو خطب لهؤلاء القوم ابن أدهم على زهده وفضله، أو ابن الأيهم على ملوكيته وعزته لسوّوا بينهما في الصّداق اقتداء بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم.
[المغالاة بالصدقات]
وجاء في الترمذيّ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة أو تقوى عند الله، لكان أولاهم بها نبيّ الله صلّى الله عليه وسلم، وما أعلم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم نكح شيئا من نسائه، على أكثر من اثنتي عشرة أوقية (1).
قال ابن عيينة: والأوقية عند أهل العلم أربعون درهما، واثنتا عشرة أوقية أربعمائة وثمانون درهما.
وفي غير الترمذي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «تياسروا في الصّداق» (2) وكانت صدقات أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم على عظم قدره، وعلّو مرتبته اثنتي عشرة أوقية ونشّا، والنّشّ عشرون درهما، فذلك خمسمائة درهم.
وروي عن عمر رضي الله عنه: أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإنه لا يبلغني عن أحد أنه ساق أكثر من شيء ساقه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أو سيق إليه إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال. فعرضت له امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين، كتاب الله أحق أن يتّبع أو قولك؟ قال: كتاب الله تعالى. ثم قال: فيم ذلك؟
قالت: الله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدََاهُنَّ قِنْطََاراً فَلََا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20]، فقال عمر رضي الله عنه: كلّ أحد أفقه من عمر! ثم رجع إلى المنبر، فقال: إني كنت نهيتكم عن أن تغالوا في صدقات النساء، فليفعل كلّ رجل منكم في ماله ما أحبّ (3).
فرجع عمر عن اجتهاده إلى ما قامت عليه الحجة فأباحه للناس واستعمله في نفسه، فأصدق أم كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم أربعين ألفا والقنطار ألف دينار ومائتا دينار إلا أن المياسرة في الصداق أحبّ عند أهل العلم من المغالاة.
ومن الملح في صداق خمسمائة، ما حدّث به ابن أبي شيبة قال: كان حجاج جارنا، فسمعته يقول لأبيه: تزوجت أمي على خمسمائة درهم، وبقيت أنا لك ربحا، فقال له أبوه: من سخنة عين هذا الربح أخشى.
* * * __________
(1) أخرجه بنحوه الدارمي في النكاح باب 18، ورواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 3/ 18.
(2) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 5/ 296.
(3) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 3/ 18.(2/369)
قوله: مهر: يقال: مهر المرأة يمهرها، وأمهرها: عيّن لها مهرا. لن تطالب بصداق، أي أن القصة ليس لها حقيقة. فليس ثمّ من يطالبك بصداق ولا طلاق.
حشدك: جمعك، وأصله مصدر، ثم استعمل لجماعة الناس. تفتق: تشق. رتق: غلق والسمع: الأذن.
* * * قال الحارث بن همّام: فازدهاني بوصف الخطبة المتلوّة، دون الخطبة المجلوّة حتى قلت له: قد وكلت إليك هذا الخطب فدبّره تدبير من طبّ لمن حبّ. فنهض مهرولا، ثمّ عاد متهلّلا، وقال: أبشر بإعتاب الدّهر، واحتلاب الدّرّ فقد ولّيت العقد، وأكفلت النّقد، وكأن قد ثمّ أخذ في مواعدة أهل الخان، واعداد حلواء الخوان. فلمّا مدّ اللّيل أطنابه، وأغلق كلّ ذي باب بابه، أذّن في الجماعة:
ألا احضروا في هذه السّاعة فلم يبق فيهم إلّا من لبّى صوته، وحضر بيته. فلما اصطفّوا لديه، واجتمع الشاهد والمشهود عليه، جعل يرفع الاصطرلاب ويضعه، ويلحظ التّقويم ويدعه، إلى أن نعس القوم، وغشي النّوم، فقلت له: يا هذا ضع الفاس في الرّاس وخلّص الناس من النّعاس. فنظر نظرة في النّجوم، ثمّ انتشط من عقلة الوجوم، وأقسم بالطّور، والكتاب المسطور لينكشفنّ سرّ هذا الأمر المستور، ولينتشرنّ ذكره إلى يوم النّشور. ثمّ إنّه جثا على ركبته، واسترعى الأسماع لخطبته.
* * * ازدهاني: دعاني إلى الزهو، وهو العجب والكبر، أي أعجبت بوصفها، المتلوّة:
المقروءة، الخطبة: الزوجة المخطوبة. المجلوّة: التي كشف وجهها لينظر إليها. وكلت:
أسندت إليك، وجعلتك القائم. الخطب: الأمر.
طبّ: أصلح حال العليل. فيقول: دبّر هذا الأمر تدبير الطبيب أمر حبيبه إذا كان عليلا، وطبّه أي عناه، وقيل: معنى طبّ حذق بالشيء وجاد فيه ذهنه، والطّبّ: الحاذق بالأمر، فيكون معناه، دبّر أمري تدبير المميّز الحاذق أمر حبيبه.
قال ابن الأنباريّ: قولهم: من حبّ طبّ، أي من أحب حذق وفطن واحتال لمن يحب، والطّبّ في اللغة: الحذق والفطنة، ورجل طبيب وطبّ، إذا كان حاذقا، وسمّي الطّبيب لفطنته.
ومعنى حبّ أحبّ. وقال البصريون: لا يقال: حبّ يحبّ، وجاء عنهم: محبوب،
على فعل لا يتكلم به. الكسائي والفراء: يقال: حببت وأحببت، وحبّ في المثل يدلّ على صحته. والبصريون يقولون. حبّ إتباع لطبّ.(2/370)
ومعنى حبّ أحبّ. وقال البصريون: لا يقال: حبّ يحبّ، وجاء عنهم: محبوب،
على فعل لا يتكلم به. الكسائي والفراء: يقال: حببت وأحببت، وحبّ في المثل يدلّ على صحته. والبصريون يقولون. حبّ إتباع لطبّ.
مهرولا: مسرعا. متهلّلا: مستبشرا. إعتاب: إرضاء. الدّرّ: اللّبن. ولّيت العقد، أي أعطيت النكاح، أي جعلني أبو الزوجة وليّا لها. أكفلت النقد، أي جعلت كفيلا على أخذه، والكفيل: الضامن، أو يكون معنى أكفلت: ضمن لي وأعطيت كفيلا. والنّقد:
المال الحاضر. وكأن قد، أي وكأن قد أحضر المال وتيسّر النكاح. الخوان: المائدة.
أذّن: صاح. لبى: أجاب وقال: لبيك. الأصطرلاب: آلة للمنجّمين يأخذون بها الأوقات. يلحظ: ينظر. التقويم: التعديل. غشي النوم: غطّى العيون وخمرها. ضع الفاس في الرأس، أي اقصد إلى عين الخبر، وهي كلمة تقال عند التوكيد في العزم على الأمر، ومعناه: اقطع ما تريده من الأمر وافعله.
والذي نظر نظرة في النجوم، هو إبراهيم عليه السلام، لأنه تفكر ما الذي يصرفهم عنه إذا كلّفوه الخروج معهم، فقال: إني سقيم. انتشط: انحلّ. والعقلة: ما ينشب فيها الإنسان فتعقله، ويقال: لفلان عقلة يعتقل بها الناس، وذلك إذا صارعهم عقل أرجلهم. والوجوم:
العبوس والحزن الشديد، أراد أنه كان في تقويمه طالع نحس، فكان معبّسا حزينا، فلما زالت ساعته ودخلت ساعة طالع سعد، استبشر وزال عبوسه، وإنما عقد هذا النكاح ليلا لأن قصده المكر، ولأنهم كانوا يختارون نكاح آخر النهار على أوله. قال بعض العلماء: ذهبوا في ذلك إلى اتّباع السنة في الفأل، فآثر الناس استقبال الليل بعقد النكاح، تيمّنا بما فيه من الهدوّ والاجتماع على صدر النهار، لما فيه من التفرق والانتشار، وذهبوا إلى تأويل القرآن لأن الله سمّى الليل في كتابه {سَكَناً} [الأنعام: 96]، {وَجَعَلَ النَّهََارَ نُشُوراً} [الفرقان: 47] كما يستحبون النكاح يوم الجمعة للاجتماع، وقال الشاعر: [الوافر]
ويوم الجمعة التنعيم فيه ... وتزويج الرّجال من النساء
الطور: جبل موسى عليه السلام الذي آنس من جانبه النّار وكلّمه الله عنده. سرّ هذا الأمر، أراد ما أضمره لهم من الخداع، أي أنه سينكشف ويتحدّث به إلى يوم القيامة.
جثا: يجثو جثوّا: جلس على ركبتيه. استرعى: استدعى. الأسماع: الآذان، ويقال:
أرعني سمعك، أي اسمع مني، وأخل أذنيك لاستماع حديثي.
* * * وقال: الحمد لله الملك المحمود، المالك الودود، مصوّر كلّ مولود، ومآل كلّ مطرود، ساطح المهاد، وموطّد الأطواد، ومرسل الأمطار، ومسهّل الأوطار، عالم الأسرار ومدركها، ومدمّر الأملاك ومهلكها، ومكوّر الدّهور ومكرّرها، ومورد الأمور ومصدرها. عمّ سماحه وكمل، وهطل ركامه وهمل، وطاوع السّؤل
والأمل. وأوسع المرمل والأرمل. أحمده حمدا ممدودا مداه، وأوحّده كما وحّده الأوّاه، وهو الله لا إله للأمم سواه، ولا صادع لما عدّله وسوّاه. أرسل محمدا علما للإسلام، وإماما للحكّام، ومسدّدا للرّعاع، ومعطّلا أحكام ودّ وسواع، أعلم وعلّم، وحكم وأحكم، وأصّل الأصول ومهّد، وأكّد الوعود وأوعد واصل الله له الإكرام، وأودع روحه دار السّلام، ورحم آله وأهله الكرام ما لمع آل، وملع رال، وطلع هلال، وسمع إهلال.(2/371)
* * * وقال: الحمد لله الملك المحمود، المالك الودود، مصوّر كلّ مولود، ومآل كلّ مطرود، ساطح المهاد، وموطّد الأطواد، ومرسل الأمطار، ومسهّل الأوطار، عالم الأسرار ومدركها، ومدمّر الأملاك ومهلكها، ومكوّر الدّهور ومكرّرها، ومورد الأمور ومصدرها. عمّ سماحه وكمل، وهطل ركامه وهمل، وطاوع السّؤل
والأمل. وأوسع المرمل والأرمل. أحمده حمدا ممدودا مداه، وأوحّده كما وحّده الأوّاه، وهو الله لا إله للأمم سواه، ولا صادع لما عدّله وسوّاه. أرسل محمدا علما للإسلام، وإماما للحكّام، ومسدّدا للرّعاع، ومعطّلا أحكام ودّ وسواع، أعلم وعلّم، وحكم وأحكم، وأصّل الأصول ومهّد، وأكّد الوعود وأوعد واصل الله له الإكرام، وأودع روحه دار السّلام، ورحم آله وأهله الكرام ما لمع آل، وملع رال، وطلع هلال، وسمع إهلال.
* * * قوله: مآل، أي ملجأ. مطرود: منفيّ. ساطح: باسط. المهاد: الأرض. موطّد الأطواد: مثبّت الجبال. والأوطار: الحاجات. مدمّر الأملاك: أي مهلك الملوك، والأملاك: جمع ملك.
[التطير من الدنيا والزهد فيها]
وهذا كما قال عدي بن زيد: [الخفيف]
أين كسرى كسرى الملوك أنوشر ... وان أم أين قبله سابور (1)
وبنو الأصفر الكرام ملوك الرّوم ... لم يبق منهم مذكور
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور
وتفكّر ربّ الخورنق إذ أش ... رف يوما وللهدى تذكير
لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه فبابه مهجور
ثم بعد القلاع والملك والإم ... رة وارتهم هناك القبور
ثم راحوا كأنهم قصب جفّ ... فألوت به الصّبا والدّبور
وقال الأسود بن يعفر: [الكامل]
ولقد علمت لو أنّ علمي نافعي ... أن السبيل سبيل ذي الأعواد (2)
ماذا أؤمل بعد آل محرّق ... تركوا منازلهم وبعد إياد
__________
(1) الأبيات في ديوان عدي بن زيد العبادي ص 87، والبيت الثاني في لسان العرب (صفر)، (كلس)، وتاج العروس (صفر).
(2) الأبيات في ديوان الأسود بن يعفر ص 26، ويروى صدر البيت الأول:
ولقد علمت سوى الذين نبّأتني
وهو في لسان العرب (عود)، وجمهرة اللغة ص 667، وتهذيب التهذيب 3/ 126، وتاج العروس (عود)، وشرح اختيارات المفضل ص 966، ومعجم البلدان (أنقرة).(2/372)
جرت الرياح على محلّ ديارهم ... فكأنّهم كانوا على ميعاد
ولقد غنوا فيها بأكرم غنية ... في ظلّ ملك ثابت الأوتاد
فإذا النّعيم وكلّ ما يلهى به ... يوما يصير إلى بلى ونفاد
الأصمعيّ: أصيب في حفير حول الحيرة تابوت، فيه رجل عليه خفّان، وعند رأسه لوح فيه: أنا عبد المسيح بن حيان بن بقيلة. [الوافر]
حلبت الدهر أشطره حياتي ... ونلت من المنى فوق المزيد
وكافحت الأمور وكافحتني ... ولم أخضع لمعضلة كؤود
وكدت أنال بالشّرف الثريا ... ولكن لا سبيل إلى الخلود
دخل أرطأة بن سهيّة على عبد الملك، فقال: كيف حالك؟ وكان قد أسنّ فقال: ضعف حالي، وقلّ مالي، وكثر منيّ ما كنت أحبّ أن يقلّ، وقلّ منّي ما كنت أحبّ أن يكثر، قال: فكيف أنت في شعرك؟ فقال: والله ما أغضب، ولا أطرب، ولا أرهب، وما الشعر إلا من نتائج هذه، على أنّي القائل: [الوافر]
رأيت المرء تأكله الليالي ... كأكل الأرض ساقطة الحديد
وما تبغي المنيّة حين تأتي ... على نفس ابن آدم من مزيد
وأعلم أنّها عمّا قليل ... ستوفي نذرها بأبي الوليد
فارتاع عبد الملك، ثم قال: بل توفي نذرها بك، ما لي ولك! قال: يا أمير المؤمنين لا ترع، فما عنيت إلّا نفسي، فقال: أما والله لتلمّنّ بي.
وأبو الوليد كنية لعبد الملك ولأرطأة.
* * * والتكوير: إدخال الليل على النّهار والنّهار على الليل، وكوّرت الشيء رددته، ولويت بعضه على بعض. هطل وهمل، معناهما صبّ. الرّكام: السحاب المتراكم.
السّؤل: المطلوب. أوسع: أغنى. المرمل: الذي نفد زاده. الأرمل: الفقير، أو الذي ماتت زوجته، أو التي مات زوجها، يقال لها أرمل وأرملة، ومنع قوم أن يقال للفاقد زوجته: أرمل، وأجازه بعضهم.
مداه: غايته. الأوّاه: إبراهيم عليه السلام، وهو من التأوّه، وهو التوجّع والتحزّن والنطق بأوّاه أوّاه! صادع: مفسد، والصدع: الشقّ في زجاجة أو حائط. علما، أي إماما يهتدى به. مسدّدا: مصلحا. والرعاع: السقّاط والضّعفة من الناس. ودّ وسواع: صنمان.
حكم: قضى. أحكم: أتقن. أصّل: ثبّت الأصول. مهّد: سوّى ووطّأ. الوعود: جمع وعد. أوعد: هدّد وخوّف. واصل: داوم. أودع روحه دار السلام: أدخله الجنة. آل:
سراب. ملع: أسرع. رال: فرخ النعام. إهلال: رفع الصوت بالتلبية بمكة.(2/373)
حكم: قضى. أحكم: أتقن. أصّل: ثبّت الأصول. مهّد: سوّى ووطّأ. الوعود: جمع وعد. أوعد: هدّد وخوّف. واصل: داوم. أودع روحه دار السلام: أدخله الجنة. آل:
سراب. ملع: أسرع. رال: فرخ النعام. إهلال: رفع الصوت بالتلبية بمكة.
* * * اعملوا رعاكم الله أصلح الأعمال، واسلكوا مسالك الحلال، واطّرحوا الحرام ودعوه، واسمعوا أمر الله وعوه، وصلوا الأرحام وراعوها، وعاصوا الأهواء واردعوها، وصاهروا لحم الصّلاح والورع وصارموا رهط اللهو والطّمع.
ومصاهركم أطهر الأحرار مولدا، وأسراهم سؤددا، وأحلاهم موردا، وأصحّهم موعدا. وها هو أمّكم، وحلّ حرمكم، مملكا عروسكم المكرّمة، وماهرا لها كما مهر الرّسول أمّ سلمة، وهو أكرم صهر أودع الأولاد، وملّك ما أراد، وماسها مملكه ولا وهم ولا وكس ملاحمه ولا وصم، أسأل الله لكم إحماد وصاله ودوام إسعاده، وألهم كلّا إصلاح حاله والإعداد لمعاده. وله الحمد السّرمد، والمدح لرسوله محمد.
* * * اطّرحوا: اتركوا وارموا به. عوه: احفظوه. الأرحام: القرابات، الواحد رحم، والأرحام من النساء الواحد رحم، راعوها: احفظوها وحاموا عليها. الأهواء: دواعي النفس. اردعوها: كفّوها. صاهروا: ناكحوا. لحم: قرابات، ولحمة النسب: التحام القرابة وانضمامها. صارموا: قاطعوا. مصاهركم: ختنكم المتزوّج إليكم. أسراهم:
أشرفهم وأكثرهم مروءة، وقد سري فهو سريّ. أمّكم: قصدكم. حلّ: نزل. حرمكم:
بلدكم وموضعكم، الذي هو كالحرم في أمته. مملكا: متزوّجا، والإملاك: التزويج الذي تملك به المرأة.
قال ابن هشام: أمّ سلمة بنت أمية بن المغيرة، تزوّج بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل وقعة بدر في سنة اثنتين من التاريخ، واسمها هند بنت أمية زاد الركب بن المغيرة، وفي حديث أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم تزوج أمّ سلمة على متاع قيمته عشرة دراهم.
سها: أخطأ. مملكه: منكحه الذي أعطاه وليّته. وكس: غبن، ووهم في الحساب: غلط فيه، وملاحمه: أي مصاهره. وصم: عيب، والوصم: العيب، وأحمد الرجل احمادا، أي صار أمره إلى الحمد، أراد أنه من أهل الأحساب فلا ينقص من يصاهره. الإعداد للمعاد، أي الاستعداد لليوم الذي يعاد فيه إلى نشأته الأولى. السّرمد:
الدائم. والرسول: الذي يتابع أخبار الذي بعثه، أخذا من قولهم: جاءت الإبل أرسالا، أي متتابعة، ويثنّى رسولان، ويجمع رسل. ومنهم من يوحده في كل حال، قال الله تعالى: {إِنََّا رَسُولُ رَبِّ الْعََالَمِينَ} [الأعراف: 104] وحده، لأنه في معنى الرسالة، وأنشد: [الطويل](2/374)
فأبلغ أبا بكر رسولا سريعة ... فما لك يا بن الحضرميّ وماليا (1)
قال الفراء رحمه الله وحدّه اكتفاء بالرسول من الرسولين، وأنشد: [المتقارب]
ألكني إليها وخير الرسو ... ل أعلمهم بنواحي الخبر (2)
أراد الرّسل، فاكتفى بالواحد عن الجمع.
* * * [من خطب النكاح]
وإذ كملت الخطبة فلنسق من خطب النكاح ما يحسن بالوضع.
ومن مشاهير الخطب فيه خطبة أبي طالب في تزويج النبي صلّى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها وهي:
الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وجعل لنا حرما آمنا وبيتا محجوجا، وجعلنا الحكام على الناس. ثم إن محمد بن عبد الله ابن أخي، ممّن لا يوازن فتى في قريش إلا رجح به برّا، وفضلا، وكرما وعقلا، ومجدا ونبلا، وإن كان في المال قلّ فإنما المال ظلّ زائل، وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك وما أحببتم من الصّداق فعليّ.
فهذه الخطبة من أفضل خطب الجاهلية.
وعن يحيى بن أكثم: أراد المأمون أن يزوج ابنته من عليّ الرضا، فقال: يا يحيى تكلم، فأجللت أن أقول: أنكحت فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت الحاكم الأكبر والإمام الأعظم، وأنت أولى بالكلام، فقال:
الحمد لله الذي تصاغرت الأمور بمشيئته، ولا إله إلا الله إقرارا بربوبيته، وصلى الله على سيدنا محمد عند ذكره وعترته. أما بعد، فإن الله سبحانه قد جعل النكاح دينا، ورضيه حكما، وأنزله وحيا، ليكون سببا للمناسلة وإني قد زوّجت ابنة المأمون من عليّ ابن موسى الرضا، وأمهرتها أربعمائة دينار، اقتداء بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وانتهاء إلى ما درج إليه السلف الصالح، والحمد لله رب العالمين.
وحضر المأمون إملاكا وهو أمير، فسأله من حضر أن يخطب، فقال: الحمد لله، والصلاة على المصطفى رسوله، وخير ما عمل به كتاب الله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيََامى ََ مِنْكُمْ وَالصََّالِحِينَ مِنْ عِبََادِكُمْ وَإِمََائِكُمْ} [النور: 32]، ولو لم يكن في المناكحة آية منزّلة ولا
__________
(1) البيت بلا نسبة في المخصص 17/ 30.
(2) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 113، ولسان العرب (لوك)، (رسل)، والمخصص 12/ 225، وبلا نسبة في لسان العرب (ألك)، (نحا)، وتاج العروس (ألك).(2/375)
سنة متّبعة إلّا ما جعل الله في ذلك من تأليف البعيد، وبرّ القريب، لسارع إليه الموفّق المصيب، وبادر إليه العاقل اللبيب.
وفلان قد عرفتموه في نسب لم تجهلوه، خطب إليكم فتاتكم فلانة، وقد بذل لها من الصداق كذا، فشفّعوا شافعنا، وأنكوا خاطبنا، وقولوا خيرا تحمدوا عليه وتؤجروا فيه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وخطب رجل من بني أمية إلى عمر بن عبد العزيز أخته، فأطال، فقال عمر:
الحمد لله ذي الكبرياء، وصلّى الله على محمد خاتم الأنبياء، أما بعد فإن الرغبة منك دعت إلينا، وإن الرغبة منا فيك أجابت بنا، وقد أحسن بك ظنا من أودعك كريمته، واختارك ولم يختر عليك، وقد زوّجناك على كتاب الله تعالى، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
وكان الحسن البصريّ رحمه الله يقول في خطبة النكاح بعد الحمد والثناء.
أما بعد فإن الله تعالى جمع لهذا النكاح الأرحام المنقطعة، والأنساب المفترقة، وجعل ذلك في سنة من دينه، ومنهاج من أمره، وقد خطب فلان إليكم، وعليه وعليكم من الله نعمة، وهو يبذل من الصدق كذا، فاستخيروا الله، وردوا خيرا، يرحمكم الله!
الأصمعي رحمه الله: كانوا يستحسنون من الخاطب أن يطيل ليدل على الرغبة، ومن المخطوب إليه الإنجاز ليدل على الإجابة.
* * * فلمّا فرغ من خطبته البديعة النّظام، العريّة من الإعجام، عقد العقد على الخمس المئين، وقال لي: بالرّفاء والبنين. ثمّ أحضر الحلواء التي كان أعدّها، وأبدى الآبدة عندها. فأقبلت إقبال الجماعة عليها، وكدت أهوي بيدي إليها، فزجرني عن المؤاكلة، وأنهضني للمناولة فو الله ما كان بأسرع من تصافح الأجفان، حتّى خرّ القوم للأذقان. فلمّا رأيتهم كأعجاز نخل خاوية، أو كصرعى بنت خابية علمت إنّها لإحدى الكبر، وأمّ العبر فقلت له: يا عديّ نفسه، وعبيد فلسه، أعددت للقوم حلوى، أم بلوى؟ فقال: لم أعد خبيص البنج، في صحاف الخلنج. فقلت: أقسم بمن أطلعها زهرا، وهدى بها السّارين طرّا لقد جئت شيئا نكرا، وأبقيت لك في المخزيات ذكرا!
* * *
قوله: البديعة النظام: أي الغريبة التأليف. العريّة من الإعجام، أي العاطلة من النقط. الرّفاء: السكون والالتحام، ويدعى للمتزوّج، فيقال له بالرّفاء والبنين، أي بالاتفاق مع الزوجة ووجود البنين مما يكون منها، وهو من رفأت الثوب، إذا ضممت بعضه إلى بعض، ومن رفوت الرّجل إذا سكنته، قال أبو زيد رحمه الله: هو من المرافاة غير مهموز، وهي الموافقة.(2/376)
* * *
قوله: البديعة النظام: أي الغريبة التأليف. العريّة من الإعجام، أي العاطلة من النقط. الرّفاء: السكون والالتحام، ويدعى للمتزوّج، فيقال له بالرّفاء والبنين، أي بالاتفاق مع الزوجة ووجود البنين مما يكون منها، وهو من رفأت الثوب، إذا ضممت بعضه إلى بعض، ومن رفوت الرّجل إذا سكنته، قال أبو زيد رحمه الله: هو من المرافاة غير مهموز، وهي الموافقة.
تزوّج عقيل بن أبي طالب فقيل له: بالرّفاء والبنين، فقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا رفأ أحدكم أخاه فليقل: على الخير والبركة، بارك الله لك وبارك عليك» (1).
الآبدة: الداهية، وجاء بآبدة، أي بكلمة أو خصلة وحشية منكرة، واشتقاقه من الأوابد، وهي الوحش، وكذلك الآبد، يقال: أبد الشاعر، إذا أتى بالعويص في شعره، فمعنى أبدى الآبدة، أي أظهر الداهية التي يبقى ذكرها على الأبد. زجرني: نهاني.
أنهضني: أقامني وقدّمني. المناولة: إعطاء الطعام. تصافح الأجفان: غلقها وفتحها بسرعة، كقولك: طرفة العيون. خروا للأذقان، أي سقطوا على وجوههم، والذّقن مجمع اللّحيين يعبّر به عن الوجه، لأن العرب تسمّي الشيء ببعض ما فيه، وإذا خرّ على وجهه، فأقرب شيء إلى الأرض ذقنه، فخصّه بالذّكر لهذا، قال الله تعالى: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقََانِ سُجَّداً} [الإسراء: 107] أعجاز: أصول. خاوية: فارغة متأكّلة، ويقال: خاوية ساقطة بالية. صرعى: قتلى، وأراد به السكارى، وبنت الخابية: هي الخمر، ومعنى الخابية التي تخبأ فيها الأشياء، مأخوذ من خبأت، فبنيت على ترك الهمز، ويقال: خبأت الشيء وخبّأته وخبّيته، وقرأت الشيء وقريته. إحدى الكبر: واحدة من الكبائر. أم العبر: أي أعظم الدواهي، وما يتّعظ به. لم أعد: لم أتجاوز. الخبيص: نوع من الحلواء. البنج:
نبات يسكر منه، وهو لبن الخشخاش البريّ المعروف بالأفيون. والخلنج: ضرب من الخشب. زهرا: مضيئة، يعني الكواكب. السارين: الماشين بالليل. طرّا: جمعا. نكرا:
منكرا. والمخزيات: جمع مخزية، وهي الخصلة الرديئة يختزي صاحبها متى ذكرت له، والخزي الهوان.
* * * ثمّ حرت فكرة في صيّور أمره، وخيفة من عدوى عرّه، حتى طارت نفسي شعاعا، وأرعدت فرائصي ارتياعا. فلمّا رأى استطارة فرقي، واستشاطة قلقي،
__________
(1) أخرجه بنحوه أبو داود في النكاح باب 36، والترمذي في النكاح باب 7، وابن ماجه في النكاح باب 23، والدارمي في النكاح باب 6، وأحمد في المسند 2/ 381، ورواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 2/ 240، بلفظ: «كان إذا رفّأ الإنسان قال: بارك الله لك وعليك، وجمع بينكما على خير».(2/377)
قال: ما هذا الفكر المرمض، والرّوع المومض؟ فإن يكن فكرك في أجلي، من أجلي فأنا الآن أرتع وأطفر، وأقوي هذه البقعة منّي وأقفر، وكم مثلها فارقتها وهي تصفر وإن يكن نظرا لنفسك، وحذرا من حبسك، فتناول فضالة الخبيص وطب نفسا عن القميص حتّى تأمن المستعدي والمعدي، ويتمهّد لك المقام بعدي وإلا فالمفرّ المفرّ قبل أن تسحب وتجرّ: ثم عمد لاستخراج ما في البيوت، من الأكياس والتخوت. وجعل يستخلص خالصة كلّ مخزون، ونخبة كلّ مذروع وموزون حتى غادر ما ألغاه فخّه، كعظم استخرج مخّه.
* * * صيّور: آمال ورجوع، أي ما يصير إليه أمره. عدوى عرّه، أي انتقال ضرره، والعرّ: الجرب، والعدوى انتقال المرض إلى الصحيح، ومعناه عند العرب: إذا كان الجرب بواحدة من الإبل سرى في غيرها، وفي الصحيح قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة، ولا يورد ممرض على مصحّ». فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال الإبل التي تكون في الرمل، كأنّها الظباء فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها كلّها؟ وقال فمن أعدى الأوّل. وقال النابغة: [الطويل]
فلا تتركنّي بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطليّ به القار أجرب (1)
فأراد أنّه خاف أن يؤخذ بذنب السّروجيّ. شعاعا: متفرقة في كلّ جهة، يقال نفس شعاع، أي تفرقت همّتها، ورأي شعاع، أي متفرّق. والفرائص: جمع فريصة، وهي بضعة عند الكبد ترعد عند الفزع، قال امرؤ القيس: [الطويل]
* وترعد منهنّ الكلى والفريص * (2)
ارتياعا: فزعا. استطاره فرقي: انتشار فزعي. واستشاطة: التهاب واحتراق.
المرمض: المحرق، وهو من لفظ الرّمضاء. والرّوع: الفزع. المومض: الذي يدع صاحبه مبهوتا شاخص البصر من شدته، وأومضت المرأة بعينها إذا برقت. الأجل،
__________
(1) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 73، وأدب الكاتب ص 506، والأزهية ص 273، والجنى الداني ص 387، وخزانة الأدب 9/ 465، والدرر 4/ 101، وشرح شواهد المغني ص 223، ولسان العرب (إلى)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 798، وجواهر الأدب ص 343، ورصف المباني ص 83، وشرح الأشموني 2/ 289، ومغني اللبيب ص 75، وهمع الهوامع 2/ 20.
(2) صدره:
فيشربن أنفاسا وهنّ خوالف
والبيت في ديوان امرئ القيس ص 183.(2/378)
بالتحريك: التأخير؟ وبتسكينها الجناية يقول: إن تفكّرت في تأخيري من الهرب بسبب جنايتي، فالآن أجمع أموالهم وأفرّ، قال الفنجديهيّ إن يكن فكرك في أجلي، أي في جنايتي، يقال: أجل الرّجل عليهم شرّا يأجل ويأجل أجلا أي جناية. وهيّجه من أجلي أي من جرّائي. أرتع: آكل أموالهم. أطفر: أفر هاربا، وطفر: وثب وسار مسرعا. أقوي. وأقفر: معناهما أخلي موضعي، وأقفر الرجل من أهله: انفرد عنهم وبقي وحده والدّار خلت وكذلك أقوت وقويت وأقفرت الأرض من الكلأ، ورأسه من الشعر، وجسده من اللّحم، وأقوى وأقفر لا يتعدّيان. تصفر: تصوت، وهذا عجز بيت لتأبّط شرّا، وصدره: [الطويل]
* فأبت إلى فهم وما كدت آيبا (1) *
تصفر، أي تنفخ ندما على فوتي، والنادم على الشيء يتابع النفخ، يقول: كم مثل هذه الخصلة فارقتها، وهي تصفر تندّما على ما فاتها. تناول: خذ. فضالة:
بقية. طب نفسا، عنه، أي لتكن نفسك طيبة على فقده، فإنّك إذا أكلت الخبيص، سكرت فجرّدتك فصرت في جملة من أكل ماله فتأمن بذلك. المستعدي: هو الشاكي. والمعدي: هو الحاكم، ويقال: استعديت الحاكم فأعداني، أي استعنته فأعانني. يتمهّد: يتوطّأ. المفرّ المفرّ: أي بادر الفرار، وتسحب، هو تجرّ.
الأكياس: أوعية الدراهم والدنانير. التّخوت: أوعية الثياب. يستخلص: يختار.
خالصة: خيار، وكذلك نخبة. مذروع: مكيل بالذّراع، يعني الثياب. موزون: يعني الجواهر وما في معناها ممّا يباع بالوزن، مثل العطريات وغيرها من شبهها. الفخّ: آلة للصيد يحسن أن يكنى به عن المكيدة.
* * * فلمّا همّن ما اصطفاه ورزّم، وشمّر عن ذراعيه وتحزّم أقبل عليّ إقبال من لبس الصّفاقة، وخلع الصداقة، وقال: هل لك في المصاحبة إلى البطيحة، لأزوّجك بأخرى مليحة. فأقسمت له بالذي جعله مباركا أينما كان، ولم يجعله ممّن خان في خان إنّه لا قبل لي بنكاح حرّتين، ومعاشرة ضرّتين. ثم قلت له
__________
(1) عجزه:
وكم مثلها فارقتها وهي تصغر
والبيت لتأبّط شرّا في ديوانه ص 91، والأغاني 21/ 159، وتخليص الشواهد ص 309، وخزانة الأدب 8/ 374، 375، 376، والخصائص 1/ 391، والدرر 2/ 150، وشرح التصريح 1/ 203، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 83، وشرح شواهد الإيضاح ص 629، ولسان العرب (كيد)، والمقاصد النحوية 2/ 165، وبلا نسبة في شرح ابن عقيل ص 164، وهمع الهوامع 1/ 130.(2/379)
قول المتطلّع بطباعه، الكائل له بصاعه: قد كفتني الأولى فخرا، فاطلب آخر للأخرى.
فتبسّم من كلامي، ودلف لالتزامي. فلويت عنه عذاري، وأبديت له ازوراري، فلمّا بصر بانقباضي، وتجلّى له إعراضي أنشد:
* * * همّن: شدّه بالهميان وهو نوع من التّكة. اصطفاه: اختاره. رزّم: جعله رزمة، والرّزمة في كلام العرب: التي فيها ضروب من الثياب وأخلاط يقال: رازم الرجل في أكله، إذا أخلط بعضه ببعض، ورازمت علف الدّابة: خلطته، وقد يريد به ما شدّ على وسطه من المال بهميانه. الصفافة: صلابة الوجه. خلع: أزال.
البطيحة: قرية عامرة بقرب البصرة من جهة واسط، وبينها وبين البصرة وواسط جهة كبيرة، تعرف بالبطاح وتتوسطها البطيحة.
معاشرة ضرتين: مصاحبة زوجين. المتطبّع بطباعه: المتخلّق بخلقه. الكائل له بصاعه، أي الذي أعطاه من الهزل مثل ما أعطاه. دلف: أسرع. التزامي: معانقتي وضمي له. لوبت: عطفت، أي أعرضت عنه بوجهي. ازوراري: انقباضي. تجلّى: ظهر.
إعراضي: تركي إقبالي عليه. [مجزوء الكامل]
* * * يا صارفا عنّي المودّ ... ة والزّمان له صروف
ومعنّفي في فضح من ... جاورت تعنيف العسوف
لا تلحني فيما أتي ... ت فإنّني بهم عروف
ولقد نزلت بهم فلم ... أرهم يراعون الضيوف
ويلوتهم فوجدتهم ... لمّا سبكتهم زيوف
ما فيهم إلّا مخي ... ف إن تمكّن أو مخوف
لا بالصفّي ولا الوفيّ ... ولا الحفي ولا العطوف
فوثبت فيهم وثبة الذّئ ... ب الضّريّ على الخروف
وتركتهم صرعى كأنّهم ... سقوا كأس الحتوف
وتحكّمت فيما اقتنو ... هـ يدي وهم رغم الأنوف
* * * صارفا: منحنيا: المودّة: المحبّة. صروف: دفوع. معنّفي: موبخي ولائمي.
فضح: كشف. والعسوف: الآخذ بجهالة قبل التجربة. تلحني: تلمني. يراعون:(2/380)
* * * يا صارفا عنّي المودّ ... ة والزّمان له صروف
ومعنّفي في فضح من ... جاورت تعنيف العسوف
لا تلحني فيما أتي ... ت فإنّني بهم عروف
ولقد نزلت بهم فلم ... أرهم يراعون الضيوف
ويلوتهم فوجدتهم ... لمّا سبكتهم زيوف
ما فيهم إلّا مخي ... ف إن تمكّن أو مخوف
لا بالصفّي ولا الوفيّ ... ولا الحفي ولا العطوف
فوثبت فيهم وثبة الذّئ ... ب الضّريّ على الخروف
وتركتهم صرعى كأنّهم ... سقوا كأس الحتوف
وتحكّمت فيما اقتنو ... هـ يدي وهم رغم الأنوف
* * * صارفا: منحنيا: المودّة: المحبّة. صروف: دفوع. معنّفي: موبخي ولائمي.
فضح: كشف. والعسوف: الآخذ بجهالة قبل التجربة. تلحني: تلمني. يراعون:
يحفظون حقوقهم. بلوتهم: خبرتهم، ومثله سبكتهم. زيوف: دراهم رديئة، يريد أنهم قوم لا خير فيهم. مخيف: مضرّ مفزع. إن تمكّن: ارتفع وكانت له مكانة. مخوف: لا يقدم عليه خوف ضرره. الصّفي الوفيّ. الصادق الود. الحفيّ: المكرم لصديقه المعتني به. العطوف: الرحيم. الضريّ: المعتاد الذي ضري أخذ الخرفان. صرعى: مطرحون على الأرض. والحتوف: جمع حتف وهو الهلاك. اقتنوه: اكتسبوه. رغم: إذلال.
* * * [مجزوء الكامل]
ثمّ انثنيت بمغنم ... حلو المجاني والقطوف
ولطالما خلفت مك ... لوم الحشا خلفي يطوف
ووترت أرباب الأرا ... ئك والدّرانك والسّجوف
ولكم بلغت بحيلتي ... ما ليس يبلغ بالسيوف
ووقفت في هول ترا ... ع الأسد فيه من الوقوف
ولكم سفكت وكم فتك ... ت وكم هتكت حمى أنوف
وكم ارتكاض موبق ... لي في الذّنوب وكم خفوف
لكنّني أعددت حس ... ن الظّن بالمولى الرؤوف
* * * انثنيت، أي رجعت. المجاني: ما يجنى من الثمار. والقطوف: ما يقتطف منها، وهي جمع قطف وهو العنقود. خلّفت: تركت خلفي. مكلوم: مجروح. الحشى:
إسقاط الجوف. وترت: أخذت منهم ثأري وحقي. أرباب الأرائك: أصحاب الأسرّة.
والدرائك: البسط. السّجوف: جمع سجف، وهو الستر، والأرائك: جمع أريكة، والدّرانك واحدها درنوك. الهول: الأمر المفزع. تراع: تفزع، وفيه: متعلقه وقوف، يريد أن الأسد تفزع أن تقف في الهول الذي وقف فيه. سفكت: قتلت. فتكت: عتيت.
هتكت. قطعت. رحمي: ما يحمي ويمنع. أنوف: كثير الأنفة والحمية. ارتكاض: جري واضطراب وتحرّك. موبق: مهلك. خفوف: إسراع. الرؤوف: الكثير الرفق والرحمة.
[الاعتراف بالذنب والطمع في رحمة الله]
قال ابن رشيق في معنى هذا الخروج بعد تعديد ذنوبه: [البسيط]
إذا أتى الله يوم الحشر في ظلل ... وجيء بالأمم الماضين والرسل
وحاسب الخلق من أحصى بقدرته ... أنفاسهم وتوفّاهم إلى أجل
ولم أجد في كتابي غير سيئة ... تسوءني وعسى الإسلام يسلم لي
رجوت رحمة ربيّ وهي واسعة ... ورحمة الله أرجى لي من العمل
ولابن لنكك: [الوافر](2/381)
إذا أتى الله يوم الحشر في ظلل ... وجيء بالأمم الماضين والرسل
وحاسب الخلق من أحصى بقدرته ... أنفاسهم وتوفّاهم إلى أجل
ولم أجد في كتابي غير سيئة ... تسوءني وعسى الإسلام يسلم لي
رجوت رحمة ربيّ وهي واسعة ... ورحمة الله أرجى لي من العمل
ولابن لنكك: [الوافر]
إذا خفق اللواء عليّ يوما ... وقد أخذ امرؤ القيس اللواء
رجوت الله لا أرجو سواه ... لعلّ الله يرحم من أساء
وقال ابن الزّقاق: [المجتث]
يا عالم السرّ مني ... اصفح بفضلك عنّي
منّيت نفسي بعفو ... مولاي منك ومنّي
وكان ظني جميلا ... فكن إذا عند ظنّي
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم حاكيا عن الله تعالى: «أنا عند ظنّ عبدي بي فليظنّ بي ما يشاء» (1).
توفي رجل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان مسرفا على نفسه، فلما حضرته الوفاة رفع رأسه فإذا أبواه يبكيان عليه، فقال لهما: ما يبكيكما؟ قالا: نبكي لإسرافك على نفسك، قال: فلا تبكيا، فو الله ما يسرني أن الذي بيد الله من أمري بأيديكما. فأتى جبريل عليه السلام النبيّ صلّى الله عليه وسلم فأخبره أن فتى توفّي اليوم، فأشهده فإنه من أهل الجنة، فاستكشف رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبويه عن عمله، فقالا: ما علمنا عنده شيئا من خير إلا أنه قال عند الموت كذا.
قال: من ها هنا أتي حسن الظنّ بالله من أفضل العمل عنده (2).
وعن أنس رضي الله عنه قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يموتنّ أحدكم حتى يحسن ظنه بالله تعالى، فإن حسن الظنّ ثمن الجنة» (3).
أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «حسن الظنّ من حسن العبادة» (4).
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد باب 15، 35، ومسلم في التوبة حديث 1، والذكر حديث 2، 19، والترمذي في الزهد باب 51، والدعوات باب 131، وابن ماجه في الأدب باب 58، والدارمي في الرقاق باب 22، وأحمد في المسند 2/ 251، 315، 391، 413، 445، 480، 482، 516، 517، 524، 539، 3/ 210، 277، 491، 4/ 106.
(2) أخرجه بنحوه أبو داود في الجنائز باب 13، والأدب باب 81، والدارمي في الرقاق باب 22.
(3) أخرجه مسلم في الجنة حديث 81، 82، وأبو داود في الجنائز باب 13، وابن ماجه في الزهد باب 14، وأحمد في المسند 3/ 293، 315، 325، 330، 334، 390.
(4) أخرجه أبو داود في الأدب باب 18، والترمذي في الدعوات باب 115، وأحمد في المسند 2/ 297، 304، 359، 407، 491.(2/382)
وكان محمد بن نافع الواعظ صديقا لأبي نواس، قال: فلما بلغني موته أشفقت عليه، فرأيته في النوم، فقلت: أبا نواس، فقال: لات حين كناية! قلت: الحسن، قال:
نعم، قلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر الله لي، قلت: بأيّ شيء؟ قال: بتوبة تبتها قبل موتي، بأبيات قلتها، قلت: أين هي؟ قال. عند أهلي. فسرت إلى أمّه، فلما رأتني أجهشت بالبكاء، فقلت: إني رأيت كذا، فكأنها سكنت، وأخرجت إليّ كتبا مقطعة، فوجدت بخطه كأنه قريب: [الكامل]
يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الّذي يدعو ويرجو المجرم
أدعوك ربّ كما أمرت تضرّعا ... فإذا رددت يدي، فمن ذا يرحم!
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا ... وجميل ظنّي، ثم إني مسلم
وإنما قال: «لات حين كناية» لأنّ العرب لا تكني الميت إنما تدعوه باسمه، قال الراجز: [الرجز]
وقام نسوة بجنب حفرتي ... بنات أختي وبنات إخوتي
* يدعون باسمي وتناسوا كنيتي *
وقال آخر: [الطويل]
فقد جعلت تدعى كلاب بن جعفر ... بأسمائها لأبا لكنى لا تجيبها
* * * قال: فلمّا انتهى إلى هذا البيت لجّ في الاستعبار، وألظّ بالاستغفار، حتّى استمال هوى قلبي المنحرف، ورجوت له ما يرجى للمقترف المعترف. ثمّ إنّه غيّض دمعه المنهلّ، وتأبّط جرابه وانسلّ، وقال لابنه: احتمل الباقي، والله الواقي.
قال المخبر بهذه الحكاية: فلمّا رأيت انسياب الحيّة والحييّة، وانتهاء الدّاء إلى الكيّة، علمت أن تريّثي بالخان، مجلبة للهوان، فضممت رحيلي، وجمعت للرّحلة ذيلي، وبت ليلتي أسري إلى الطّيب، وأحتسب الله على الخطيب.
* * * قوله: لجّ في الاستعبار، أي أكثر في البكاء. ألظّ: ألحّ، وألظّ به: دار عليه.
استمال: استعطف وأماله إليه. المنحرف: المائل عنه. المقترف: المكتسب الإثم، ويقال: قرف فلان فلانا، إذا ألصق به عيبا وكسبه ذنبا، واقترف فلان ذنبا، أي اكتسبه وألصقه بنفسه. المقترف: المقرّ بذنبه.(2/383)
أبو هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن لله عزّ وجلّ ملائكة يترحمّون على المقرّين على أنفسهم بالذّنوب».
وروى أبو ذرّ عن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «ابن آدم إنك إن يبلغ ذنبك عنان السماء، ثم تستغفرني أغفر لك ولا أبالي» (1). غيّض: جفّف وغيّب، من غيض الماء إذا انتقص وجفّ. المنهلّ: السائل. تأبط: أي جعله تحت إبطه. انسلّ: خرج مخفيا نفسه متحرزا أن يراه أحد. انسياب: مشي لا يحسّ به. الحيّة: يعني الشيخ، وسماه حية لإذايته أهل الخان بالبنج: فجعله كسم الحية فيمن ألقته، ويقال أيضا في تصغير الحية حوّية، وأصلها الواو لأنها من تحوّت أي تلوّت، وقيل: هي من الحياة لطول عمرها.
انتهاء الداء إلى الكيّة: مثل يضرب لانتهاء الداء إلى أقصاه، تقول العرب: آخر الطبّ الكي، تريد أنّ المريض يعالج بكلّ دواء فلا يوافقه فإذا عولج بالكي لم يبق بعده دواء، وإلا فهو الموت، فيريد أنه إن أقام بعدهما انتهى إلى هوان وعذاب. وتريّثي: تثبطي، وتريّث بالمكان: أطال الجلوس فيه، مجلبة، أي سبب جلبه وسوقه رحيله: يريد متاعه وصغّره لفقره وقلّة ما عنده، ورحل الإنسان ماله ومتاعه في السفر، أسري: أمشي بالليل.
الطيّب: قرية بالعراق بمقبرة واسط بينها وبين البطيحة المتقدمة، وسميت الطّيب لطيب هوائها وخصبها.
احتسب: أدعو وأقول: حسيبه الله، ومجازيه على قبيح أفعاله، والاحتساب طلب الأجر، فمعنى أحتسب الله على الخطيب، طلب إلى الله تعالى الثواب بإنكاري على الخطيب، والله تعالى ربّي عليه توكلت وإليه أنيب.
__________
(1) أخرجه بنحوه الترمذي في القيامة باب 48.(2/384)
المقامة الثلاثون وهي الصّوريّة
حكى الحارث بن همّام، قال: ارتحلت من مدينة المنصور، إلى بلدة صور فلّما حصلت بها ذا رفعة وخفض، ومالك رفع وخفض تقت إلى مصر توقان السقيم إلى الأساة، والكريم إلى المواساة فرفضت علائق الاستقامة، ونفضت علائق الإقامة، واعروريت ظهر ابن النّعامة، وأجفلت نحوها إجفال النّعامة. فلّما دخلتها بعد معاناة الأين، ومداناة الحين، كلف بها كلفت النّشوان بالاصطباح، والحيران بتنفّس الصّباح.
* * * [أبو جعفر المنصور]
قوله: مدينة المنصور، هي بغداد، والمنصور هو أمير المؤمنين أبو جعفر بن محمد ابن عليّ بن عبد الله بن عباس، استخلف بعد أخيه السفاح، وبويع له يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين ومائة. وهو ابن إحدى وأربعين سنة وعشرة أشهر، وكان حاجّا وقت وفاة السفاح، فعقد له البيعة عمّه موسى بن عليّ بن عبد الله بالأنبار، وورد الخبر على المنصور في أربعة عشر يوما.
وقد بشّر به النبي صلّى الله عليه وسلم، ونظر إلى عمه العباس، فقال: هذا عمي أبو الخلفاء الأربعين أجود قريش كفّا، ومن ولده السّفاح والمنصور والمهدي.
وقال المنصور: رأيت في المنام كأني في المسجد الحرام، فنودي: أين عبد الله؟
فقمت أنا عبد الله بن يحيى نستبق، حتى وصلنا إلى الدرجة العليا، فجلس هو وأخذ بيدي، فأصعدت، وأدخلت الكعبة، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس ومعه أبو بكر وعمر وبلال. قال. فأقعدني وأوصاني بأمّته، عممني، فكان كورها ثلاثا وعشرين كورا، وقال:
خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة.
وقال المنصور: الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعيّة لا يصلحها إلّا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه.(2/385)
وولد المنصور في سنة خمس وتسعين في اليوم الذي مات فيه الحجاج، ومات بمكة ببئر ميمون لستّ خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة.
* * * [مدينة صور]
صور: مدينة بالشأم، بينها وبين دمشق ثلاثون فرسخا.
وقال شيخنا ابن جبير: مدينة صور يضرب بها المثل في الحصانة، لا تلقي لطالبها بيد طاعة ولا استكانة، قد أعدّها الإفرنج مفزعا لحادثة زمانهم، وجعلوها مثابة لأمانهم.
وحصانتها ومناعتها أعجب ما يحدّث به، وذلك أنّها راجعة إلى بابين، أحدهما في البر والثاني في البحر، والبحر يحيط بها إلا من جهة واحدة، فالبري يفضي إليها بعد ولوج ثلاث أبواب أو أربعة، كلها في ستائر مشيدة محيطة بالباب، والبحريّ يدخل إليه بين برجين مشيّدين إلى مرسى له، ليس في البلاد أعجب منه وصفا، يحيط به سور المدينة من ثلاثة جوانب، ويحدق به من جانب آخر جدار معقود بالجصّ، والسفن تدخل تحت السّور وترسي فيه، ويعترض من البرجين المذكورين سلسلة عظيمة معقودة تمنع عند اعتراضها الداخل والخارج، ولا مجال للمراكب إلا عند إزالتها، وعلى الباب حرّاس، لا يدخل الداخل ولا يخرج إلا على أعينهم، فشأن هذا المرسى شأن عظيم، وعند الباب البرّي عين معينة، تنحدر إليها على أدراج، والآبار والجباب بها كثيرة، لا تخلو دار منها، ولا بساتين بها إنما تجلب لها الفواكه من أقطارها التي بالقرب منها.
ولها أعملة متصلة، والجبال بالقرب منها معمورة بالضياع، ومنها تجيء الثمرات إليها، وللمسلمين الباقين بها مسجدان.
وأعلمني أحد أشياخنا أنها أخذت من أيديهم سنة ثمان عشرة وخمسمائة بعد محاصرة طويلة، وبها كانت دار الصنعة ومنها تخرج مراكب المسلمين للغزو.
* * * قوله: ذا رفعة، أي عزّة ومكانة، خفض: طيب عيش، ومعنى مالك رفع وخفض، أي صاحب أحمال ترفع على الإبل في السفر وتحطّ عنها للنزول، ويريد أنه ذو قدرة وتمكّن يخفض ويرفع من أراد، قوله: تقت، أي اشتقت.
[مصر]
مصر: قال الهمذاني: سميت بمصر بن هرمس بن هروس جدّ الإسكندر.
وقال أهل اللغة: المصر الحدّ فسمّيت مصر لأنها حد بين المشرق والمغرب. ابن دريد كل بلد عظيم مصر، نحو البصرة والكوفة.
طول مصر من الشّجرتين اللتين بين أمج والعريش إلى أسوان، وعرضها من برقة
إلى أيلة، فهى مسيرة أربعين ليلة. وافتتحت كلها في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، على يدي عمرو بن العاص بن وائل السهميّ.(2/386)
طول مصر من الشّجرتين اللتين بين أمج والعريش إلى أسوان، وعرضها من برقة
إلى أيلة، فهى مسيرة أربعين ليلة. وافتتحت كلها في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، على يدي عمرو بن العاص بن وائل السهميّ.
ولما افتتحت مصر، أتى أهلها إلى عمرو، فقالوا له: أيها الأمير، إن لنيلنا هذا سنّة لا يجري إلا بها، فقال لهم: ما ذاك؟ فقالوا له: إذا كان اثنتا عشرة ليلة تخلو من بئونه من أشهر العجم، عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها، وحملنا عليها من الحلي والحلل أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل. فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله. فأقاموا بؤنة وأبيب ومسرى وهي أسماء ثلاثة أشهر للقبط لا يجري النيل فيها لا قليلا ولا كثيرا، حتى همّوا بالجلاء منها. فلما رأى ذلك عمرو بن العاص كتب بذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فكتب عمر بطاقة، وكتب إلى عمرو: إني بعثت إليك بطاقة فألقها في النيل. فأخذ عمرو البطاقة فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أمّا بعد، فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار، هو الذي يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك. فألقى البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم وقد تهيّأ أهل مصر للجلاء، فلّما ألقى البطاقة في النيل أصبحوا يوم الصليب. وقد أجراه الله تعالى ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة، فقطع الله تعالى تلك السنة السوء من أهل مصر.
قال ابن جبير: ومدينة مصر كبيرة عامرة، مختلفة الأسواق من المدن التي سارت بأوصافها الرّفاق، وهي على شط النيل، وعلى النيل في مقابلتها قرية كبيرة الشأن، كثيرة البنيان، تعرف بالجيزة، وتعترض بينهما جزيرة فيها مساكن حسان وعلاليّ مشرفة، وهي مجتمع لهو أهل مصر ومنتزّههم، وبينها وبين مصر خليج يذهب بطولها نحو الميل، ولا مخرج له. وبالجزيرة جامع يخطب فيه.
[مقياس النيل]
ويتصل بهذا الجامع المقياس الذي يعتبر فيه قدر زيادة فيض النيل كل سنة، وابتداؤه من شهر بئونة، ومعظم انتهائه أغشت وآخرها أول أكتوبر.
والمقياس: عمود رخام سمّر في موضع ينحصر فيه الماء عند انتهائه إليه، وهو مفصّل على اثنتين وعشرين ذراعا، وكل ذراع مفصلة على أربعة وعشرين قسما أقساما متساوية تعرف بالأصابع، فإذا استوى الماء تسع عشرة ذراعا في الفيض، فهي الغاية عندهم في طيب العام، وربما كان الماء فيها كثيرا لعموم الفيض، والمتوسط ما استوى سبع عشرة ذراعا وهو أحسن ممّا زاد عليه.
والذي يستحق به السلطان خراجه ست عشرة ذراعا فصاعدا، وعليها تعطى البشارة للذي يراقب الزيادة في كلّ يوم، ويعلم بها مياومة، وإن قصر عن ست عشرة فلا يجيء
لذلك السلطان في ذلك العام، ولا خراج إلا ما يعوّل عليه، وبقرية الجيزة يوم الأحد سوق عظيمة يتحدث بها.(2/387)
والذي يستحق به السلطان خراجه ست عشرة ذراعا فصاعدا، وعليها تعطى البشارة للذي يراقب الزيادة في كلّ يوم، ويعلم بها مياومة، وإن قصر عن ست عشرة فلا يجيء
لذلك السلطان في ذلك العام، ولا خراج إلا ما يعوّل عليه، وبقرية الجيزة يوم الأحد سوق عظيمة يتحدث بها.
[الأهرام]
وعلى نحو سبعة أميال في الصحراء التي يفضى منها إلى الإسكندرية، الأهرام القديمة، المعجزة البناء الغريبة المنظر، المربّعة الشكل، كأنها القباب المضروبة قد قامت في جو السماء، لا سيما الاثنان منها في سعة الواحد منهما من ركنه إلى ركنه ثلثمائة خطوة، وست وستون خطوة محدّدة الأطراف في رأي العين، وربما أمكن الصعود إليها على خطر ومشقة، فتلفى أطرافها المحددة كأوسع ما يكون من الرحاب، قد أقيمت من الصخور العظام المنحوتة وركّبت تركيبا بديع الإلصاق، يكاد يعجز أهل الأرض نقض بنيانها.
[بعض معالم مصر]
وبمصر أيضا المسجد المنسوب إلى عمرو بن العاص، وبها الجبّانة المعروفة بالقرافة، وهي من عجائب الدنيا، لما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء، وأهل البيت والصالحين والعلماء وذوي الكرامات من أهل الزّهد.
وبها قبر آسية امرأة فرعون، وبها مساجد معمورة بالليل والنهار، يبيت بها الصالحون.
وبها قبر الشافعيّ محمد بن إدريس الإمام رضي الله عنه، وهو من المشاهد العظيمة احتفالا واتساعا.
والمشهد العظيم الشأن الذي بالقاهرة، حيث رأس سيدنا الحسين بن عليّ رضي الله عنهما، هو في تابوت من فضّة مدفون، قد بني عليه بنيان يقصر الوصف عنه، مجلّل بأنواع الدّيباج، محفوف بأمثال العمد الكبار، شمعا أبيض أكثرها موضوع في أتوار الفضة، وحفّ أعلاه كلّه بأمثال التفافيح ذهبا في مصنع شبه الروضة، يبهر الأبصار حسنا وجمالا، وفيه من أنواع الرّخام المجزّع الغريب الصنعة، البديع، الترصيع، ما لا يتخيله المتخيلون، والمدخل إليها على مسجد على مثالها في التأنقّ، حيطانه كلّها رخام، وأغرب ما فيه حجر موضوع في الجدار الذي يستقبله الداخل، شديد السواد والبصيص يصف الأشخاص كلها كأنه المرآة الهندية، ولتزاحم الناس على القبر انكبابهم عليه وتمسّحهم به وبالكسوة التي عليه مرأى هائل.
وأخبار مصر كثيرة فلنقتصر على هذه النبذة.
* * * الأساة: الأطباء، المواساة: أن يجعلك أسوة نفسه في ماله فيقاسمك فيه. رفضت:
تركت. علائق: أسباب تتعلق به فتحبسه. نفضت: أزلت واطّرحت، ونفضت ثوبي من الغبار: أزلته عنه. عوائق: موانع. وهي ما يصرف الإنسان عن وجهه الذي يمرّ فيه ويريده، اعروريت: ركبته عريا.(2/388)
* * * الأساة: الأطباء، المواساة: أن يجعلك أسوة نفسه في ماله فيقاسمك فيه. رفضت:
تركت. علائق: أسباب تتعلق به فتحبسه. نفضت: أزلت واطّرحت، ونفضت ثوبي من الغبار: أزلته عنه. عوائق: موانع. وهي ما يصرف الإنسان عن وجهه الذي يمرّ فيه ويريده، اعروريت: ركبته عريا.
ابن النعامة: الطريق، وقيل صدر القدم قال عنترة: [الكامل]
وابن النعامة عند ذلك مركبي (1)
وقيل: ابن النعامة الساق، وقيل: عرق في الرّجل وقيل الفرس الفارة. أجفلت:
أسرعت. النعامة: واحدة النعام. معاناة: مقاساة. الأين: الفتور من التّعب مداناة الحين:
مقاربة الهلاك. كلفت بها، أي أحببتها وولعت بها. النّشوان: السكران، يريد أنه فرح فرح السكران، إذا أصبح للشراب، وهو الاصطباح والمهموم بالليل إذا طلع ضوء النهار انجلى همه، فجعل بياض الفجر. تنفّس أي انتشر في الظلام.
فبينما أنا يوما بها أطوف، وتحتي فرس قطوف إذ رأيت على جرد من الخيل، عصبة كمصابيح اللّيل فسألت لانتجاع النّزهة، عن العصبة والوجهة فقيل: أمّا القوم فشهود، وأما المقصد فإملاك مشهود فحدتني ميعه النّشاط، على أن سرت مع الفرّاط لأفوز بحلاوة اللّقاط، وأحوز حلواء السّماط: فأفضينا بعد مكابدة العناء، إلى دار رفيعة البناء، وسيعة الفناء، تشهد لبانيها بالثراء والسّناء.
فلمّا نزلنا عن صهوات الخيول، وقدّمنا الأقدام للدّخول، رأيت دهليزها مجللا بأطمار مخرّقة، ومكلّلا بمخارف معلّقة، وهناك شخص على قطيفة، فوق دكّة لطيفة.
* * * قطوف: متقارب الخطو، كأنه يقطف خطوه، أي يقطعه. جرد: ملس، والأجرد:
القصير الشعر. عصبة: جماعة. مصابيح: سرج، ويريد بها النجوم. قوله: الوجهة كالجهة، وهو كلّ موضع استقبلته وقصدته وتوجّهت إليه. إملاك: نكاح، وأملك الرجل إملاكا: تزوج، وأملكه غيره: زوّجه. وشهدنا إملاكه، أي عرسه.
__________
(1) صدره:
فيكون مركبك القعود ورحله
والبيت لعنترة بن شداد في ديوانه ص 274، والمخصص 13/ 206، وجمهرة اللغة ص 953، ولخزز بن لوذان السدوسي في لسان العرب (نعم)، ولعنترة أو لخزز بن لوذان في تاج العروس (نعم)، ولسان العرب (عتق)، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 1/ 305، 5/ 446، ومجمل اللغة 4/ 415، والمخصص 2/ 57، 12/ 42، وكتاب العين 2/ 162.(2/389)
ابن عمر رضي الله عنهما، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من شهد إملاك امرئ مسلم، فكأنّما صام يوما في سبيل الله واليوم بسبعمائة» (1) مشهود: أي محضور. حدتني.
ساقتني. ميعة: حدّة ونشاط، والميعة أوّل الشباب، وأوّل جري الفرس، وميعة كلّ شيء معظمه. والفرّاط: السبّاق المتقدّمون، الواحد فارط. اللّقاط: ما يلتقط من العرس مما ينثر فيه للحاضرين، نحو الكعك والخبيص، وما ينثر فيه يسمى نثرا، وكان نثار العرب في عرسهم التمر. أحوز: أحصل. السّماط: السوق التي جوانبها صفّان متقابلان، والسماط أيضا أن يصطفّ العسكر صفّين متقابلين، والسماط في الطعام: أن تلصق مائدة بأخرى، ويجلس الناس عليها صفين متقابلين، والسماط الصفّ منه، ومنه سمط الجوهر، ومنه الشّعر المسمط، وهو الذي أبياته مفصلة على أجزاء متقابلة، وقد نبّهنا عليه في الحادية عشرة. مكابدة: مقاساة، وهي من الكبد كأنّ الكبد يتعب بها. والعناء: التعب. رفيعة البناء، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبد هوانا أنفق ماله في البناء» (2).
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من بنى بناء في غير ظلم ولا اعتداء، أو غرس غرسا في غير ظلم ولا اعتداء فإن أجره جار ما انتفع به أحد من خلق الرحمن» (3).
وقال بعض الحكماء: إذا أيسر الرجل ابتلي بثلاثة أشياء: صديقه القديم يجفوه، وامرأته يتزوّج عليها، وداره يهدمها ويبنيها.
وعلى قوله: أما القوم فشهود، جاء فيهم حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أكرموا الشهود، فإنّ الله عز وجل يستخرج بهم الحقوق، ويدفع بهم الظلم».
قوله وسيعة، أي واسعة، والفناء: الساحة، وهي ما حول الدار. الثراء: كثرة المال. السناء: الشرف والرفعة. صهوات: ظهور. دهليز: مدخل الدار، الذي تسميه عامتنا الأسطوان، والأسطوان عند العرب: السواري، واحدها أسطوانة: وأنشد أبو موسى الحامض في نوادره وذكر الدّهليز فقال: [السريع]
أويت في الدهليز مذ أربع ... ولم أكن آوي الدهاليزا
خبزي من السوق وشعري لكم ... تلك لعمري قسمة ضيزى
مجلّلا: مغطّى. أطمار: ثياب خلقة. مكلّلا: محلقا. مخارف: قفيف أو نعاليق للغرباء، يجعلون فيها ما يأخذونه من الصدقة، والمخارف عند العرب: جمع مخرف،
__________
(1) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 4/ 359.
(2) أخرجه بمعناه الترمذي في القيامة باب 40.
(3) أخرجه أحمد في المسند 3/ 438.(2/390)
وهي قفيفة تشبه الزّنبيل، يخترف فيها الرّطب، أي يجتنى فيها. قطيفة: نوع من البسط.
دكّة: هي الدكان.
* * * فرابني عنوان الصّحيفة، ومرأى هذه البدعة الطّريفة، ودعاني التّطيّر بتلك المناحس، إلى أن عمدت لذلك الجالس فعزمت عليه بمصرّف الأقدار، ليعرّفني من ربّ هذه الدار، فقال: ليس لها مالك معيّن، ولا صاحب مبيّن، إنما هي مصطبة المقيّفين والمدروزين، ووليجة المشقشقين والمجلوزين. فقلت في نفسي:
إنا لله على ضلّة المسعى، وإمحال المرعى وهممت في الحال بالرّجعى، لكنّي استهجنت العود من فوري، والقهقرة دون غيري، فولجت الدّار متجرّعا الغصص، كما يلج العصفور القفص، فإذا فيها أرائك منقوشة، وطنافس مفروشة، ونمارق مصفوفة، وسجوف مرصوفة، وقد أقبل المملك يميس في بردته، ويتبهنس بين حفدته، فحين جلس كأنّه ابن ماء السّماء، نادى مناد من قبل الأحماء: وحرمة ساسان، أستاذ الأستاذين، وقدوة الشحّاذين، لا عقد هذا العقد المبجّل، في هذا اليوم الأغرّ المحجّل، إلّا الذي جال وجاب، وشبّ في الكدية وشاب.
* * * رابني: شككني وخوّفني. عنوان: دليل. الصحيفة: الكتاب، أراد تطيّرت بتلك المخارف، وأراد أنها دار خيبة وحرمان. وكان ابن همام في هذه القصة طفيليّا على ما وصف به نفسه من الرفاهية، وربما يتولّع أهل الظرف والأدب بمثل هذا، فقد حكينا عن إبراهيم بن المهديّ وإسحاق الموصليّ مثل هذا في أخبار الطفيليين على منادمتهما للخلفاء وكثرة أموالهما.
البدعة: الشيء المبدع الذي لم يفعل قبله مثله. والطريفة: الغريبة المستظرفة.
التطيّر: التشاؤم. المناحس: جمع منحوس وهو الذي لا يفارقه النحس، وأراد به المخارق والأطمار التي قدم. مصرّف الأقدار: هو الله تعالى. ربّ الدار: مالكها أو الناظر في إصلاحها ما ذكره ممّا لا يفهم له معنى فهو بسطة المكدين. وقيل المقيفون جمع مقيف، وهو الذي يقفو آثار الناس، أي يتبعهم يطلب لهم شيئا، ويدعو لهم.
والمدروزين: المكدين، ودروزة كلمة أعجمية معناها الكدية. والمشقشق: الذي يحاكي أصوات الطيور فتجتمع إليه فيصطادها. والمجلوز والجلواز: الشرطيّ الذي يتصرّف حول السلطان.
قوله: وليجة، أي مدخل، والوليجة: الموضع الذي يلج الإنسان فيه، أي يدخله
أو كهف يستتر فيه. القهقرة: الرجوع إلى خلف. ضلّة: ضلاله. المسعى: المشي بعجلة، أراد أنّ مشيه كان لغير فائدة. إمحال: يبوسة وجفوف. فوري: حيني من قبل أن أسكن. الغصص: جمع غصّة، وهي ما يختنق بها، وتجرّعها صعب. أرائك. سرر مزيّنة. طنافس: بسط. ونمارق: مخادّ. سجوف: ستور. مرصوفة: مضمومة ملتصقة، وجعل البيت بهذه الأمتعة الكثيرة لأنه بيت عرس، فهي تستعدّ له، وإن كان قد رأى في دهليزه مرقّعات تدلّ على فقر، فإن الغرباء في البلاد يعلّقون مرقّعاتهم في دهليز الفندق، وبيته في غاية الرفاهية، والدار المذكورة، إنما كانت فندقا للفقراء الغرباء والمكدين.(2/391)
قوله: وليجة، أي مدخل، والوليجة: الموضع الذي يلج الإنسان فيه، أي يدخله
أو كهف يستتر فيه. القهقرة: الرجوع إلى خلف. ضلّة: ضلاله. المسعى: المشي بعجلة، أراد أنّ مشيه كان لغير فائدة. إمحال: يبوسة وجفوف. فوري: حيني من قبل أن أسكن. الغصص: جمع غصّة، وهي ما يختنق بها، وتجرّعها صعب. أرائك. سرر مزيّنة. طنافس: بسط. ونمارق: مخادّ. سجوف: ستور. مرصوفة: مضمومة ملتصقة، وجعل البيت بهذه الأمتعة الكثيرة لأنه بيت عرس، فهي تستعدّ له، وإن كان قد رأى في دهليزه مرقّعات تدلّ على فقر، فإن الغرباء في البلاد يعلّقون مرقّعاتهم في دهليز الفندق، وبيته في غاية الرفاهية، والدار المذكورة، إنما كانت فندقا للفقراء الغرباء والمكدين.
والجالس في دهاليزها: خادم الفندق، وحين سأله عنها أخبره أنها ليس لها ربّ معيّن، إنما هي دار المكدين والمحارفين. وقيل لأحد المكدين: أتبيع مرقّعتك؟ فقال: هل رأيت صائدا يبيع شبكته!
المملك: العروس. يميس: يتبختر ويتبهنس، مثله في المعنى. حفدته: خدمه وأتباعه. ويقال: حفد العبد يحفد حفدا، إذا خدم. وفي الدعاء: «وإليك نسعى ونحفد»، أي نخدمك ونعمل لك، وقال الشاعر: [الكامل]
حفد الولائد بينهنّ وأسلمت ... بأكفّهنّ أزمّة الأجمال (1)
أبو عبيدة، يقال: حفد يحفد، وأحفد يحفد، وفسّر طاوس قوله تعالى: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72]، أي خدما، فهو مطابق للغة، وفسّره ابن مسعود رضي الله عنه بالأختان، وهو مطابق لما في المقامة، لأن المكدين لا خدم لهم. وقال الفراء رحمه الله: الحفدة: جمع حافد، ككامل وكملة.
[المنذر ابن ماء السماء]
ابن السماء، الجوهريّ: ماء السماء لقب عامر بن حارثة الأزدي أبو عمرو مزّيقياء، الذي خرج من اليمن لما أحسّ بسيل العرم، وسمّي ماء السماء، لأنه كان إذا أجدب قومه مانهم، أي كفاهم مؤنتهم، حتى يأتيهم الخصب، فكأنه خلف من ماء السماء. وقيل لولده: بنو ماء السماء، وهم ملوك الشأم، والعرب تسمّي أيضا بني ماء السماء، لأنّهم يعيشون بماء السماء، قال الأزهريّ رحمه الله: السّماوة ماء بالبادية، وكان اسم أمّ المنذر ماء السماء، فسمّته العرب ابن ماء السماء.
وهو المنذر بن امرئ القيس بن عمرو بن عديّ، وأمه ماء السماء، وهي امرأة من النّمر بن قاسط، سمّيت بذلك لجمالها. ولما ملك كسرى الذي اسمه قباذ بن فيروز، خرج في أيامه رجل يقال له مزدك، فدعا الناس إلى الزندقة وإباحة الحرم، وألّا يمنع أحد
__________
(1) البيت للفرزدق في زيادات الطبعة الأولى من جمهرة اللغة ص 504، الهامش، وليس في ديوانه، ولجميل بثينة في ملحق ديوانه ص 246، وبلا نسبة في لسان العرب (حفد)، وكتاب العين 3/ 185.(2/392)
أخاه ما يريده. فدعا قباذ المنذر ليدخل في هذا المذهب، فأنف، وأبى المنذر هذا الفعل الخسيس، فطرده قباذ من مملكته، ونفاه عن الحيرة. ودعا الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار، فأجابه. وكان الحارث شديد الملك، فشدّد له ملكه، وكانت أم أنوشروان بين يدي قباذ يوما، فدخل عليه مزدك، فلما رآها قال لقباذ: ادفها إليّ لأقضي حاجتي منها. قال له قباذ. دونكها، فوثب إليه أنوشروان، فلم يزل يسأله أن يهب له أمّه حتى قبّل رجليه، فتركها له. فلما هلك قباذ: وتولّى أنوشروان، وجلس في مجلسه أقبل المنذر إليه، وأذن للناس، فدخل عليه مزدك، ودخل عليه المنذر، فقال أنوشروان: كنت أتمنّى أمنيّتين، أرجو أن يكون الله تعالى قد جمعهما لي، فقال مزدك: وما هما أيها الملك؟
قال: تمنّيت أن أملك فأستعمل هذا الرجل الشريف يعني المنذر وأن أقتل هؤلاء الزنادقة، فقال له مزدك: أو تستطيع أن تقتل الناس كلّهم؟ فقال: إنك لها هنا يا بن الزانية! والله ما ذهب نتن ريح جوربك من أنفي، مذ قبّلت رجليك إلى يومي هذا، وأمر به، فقتل وصلب. وقتل في ضحوة واحدة من الزنادقة مائة ألف، وصلبهم، وطلب الحارث، فخرج هاربا بجميع ما معه، وأخذ المنذر في طلبهم، فأخذ من بني آكل المرار ثمانية وأربعين رجلا، فضرب رقابهم وألحّ في طلب امرئ القيس، فلحق بالسموأل.
وتمام القصة في الثالثة والعشرين.
* * * قوله: الأحماء، أي الأختان. ساسان: شيخ المكدين، قال الفنجديهيّ: ساسان هو أستاذ المكدين ومقدّمهم، وواضع طرائقهم ومعلّمهم. قال أبو الفتح إسماعيل بن الفضل ابن الإخشيد السراج المكدي في كتابه: حدثنا أبو بكر البطايرني المكدي، حدّثنا محمد ابن علي بن أحمد الفقيه المكدي، حدثنا مليك بن صالح المكدي، قال: سمعت طرارة المكدي، قال: قال ساسان: ألا أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟ قلت: بلى، قال: هي الكدية.
وقوله: أستاذ الأستاذين، حدّث أحمد بن الحسن، قال: كنت عند أبي الحسن بن أبي الفضل، فدخل رجل فذكر أنه شاعر، فقال: الشعراء ثلاثة: شاعر وشعرور وشعرة، فأما الشاعر فالمفلق، والشّعرور المستملح، والشعرة المستثقل لرداءة شعره. والأستاذون ثلاثة: أستاذ في الدين كالعلماء والفضلاء، وأستاذ في الدنيا كالوزراء والعمال والولاة، وأستاذ لا دين عنده يتعلّم منه ولا دنيا ينتفع بها، كالحجام، يسمى أستاذا والبنّاء والملاح، وبنو ساسان: ملوك الفرس.
قدوة: مقدّم. الشحاذين: المكدين والشّحّاذ: الملحّ في المسألة، وشحذت السيف بالغت في صقالته. المبجّل: المعظّم، يقال: بجّلته تبجيلا، أي عظمته تعظيما، مأخوذ من البجيل والبجال، وهو الرجل الضخم، وفي الحديث: «أصبتم خيرا تجبيلا»، أي كثيرا
ضخما. الأغرّ: المشهور لحسنه. المحجّل: الأبيض. شب: ترعرع ونشأ.(2/393)
قدوة: مقدّم. الشحاذين: المكدين والشّحّاذ: الملحّ في المسألة، وشحذت السيف بالغت في صقالته. المبجّل: المعظّم، يقال: بجّلته تبجيلا، أي عظمته تعظيما، مأخوذ من البجيل والبجال، وهو الرجل الضخم، وفي الحديث: «أصبتم خيرا تجبيلا»، أي كثيرا
ضخما. الأغرّ: المشهور لحسنه. المحجّل: الأبيض. شب: ترعرع ونشأ.
فأعجب رهط الصّهر ما أشاروا إليه، وأذنوا في إحضار المنصوص عليه، فبرز حينئذ شيخ قد أمال الملوان قامته، ونوّر الفتيان ثغامته، فتباشرت الجماعة بإقباله، وتبادرت إلى استقباله، فلمّا جلس على زربيّته، وسكنت الضوضاء لهيبته، ازدلف إلى مسنده، ومسح سبلته بيده، ثم قال: الحمد لله المبتدئ بالإفضال، المبتدع للنّوال، المتقرّب إليه بالسؤال، المؤمّل لتحقيق الآمال، الّذي شرع الزّكاة في الأموال، وزجر عن نهر السّؤّال، وندب إلى مواساة المضطر، وأمر بإطعام القانع والمعترّ، ووصف عباده المقرّبين، في كتابه المبين، فقال وهو أصدق القائلين: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوََالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسََّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19].
أحمده على ما رزق من طعمة هنيّة، وأعوذ به من استماع دعوة بلا نيّة.
وأشهد ألّا إله إلّا الله وحده لا شريك له، إلها يجزي المتصدّقين والمتصدّقات، ويمحق الرّبا ويربي الصدقات
* * * الملوان والفتيان: الليل والنهار. وثغامته: شعرته. نوّرها: بيّضها. والثّغام: نبت أبيض، وهو ضرب من البهمى، منابته الجبال، إذا يبس ابيضّ بياضا شديدا.
أبو حنيفة: تنبت الثغامة خيوطا طوالا دقاقا من أصل واحد، فإذا جفّت ابيضّت كلها، وإذا أمحل الثغام، كان أشدّ بياضا، ويشبّه به الشيب، قال المرار الفقعسيّ:
[الكامل]
أعلاقة أمّ الوليّد بعد ما ... أفنان رأسك كالثّغام المخلس (1)
وقال حسان رضي الله عنه: [الكامل]
إمّا نرى رأسي تغيّر لونه ... شمطا فأصبح كالثّغام المحول (2)
__________
(1) البيت للمرار الأسدي في ديوانه ص 461، والأزهية ص 89، وإصلاح المنطق ص 45، وخزانة الأدب 11/ 232، 234، والدرر 3/ 111، وشرح شواهد المغني 2/ 722، والكتاب 1/ 116، 2/ 139، ولسان العرب (علق) (ثغم)، (فنن)، وتاج العروس (علق)، (ثغم)، (فنن)، (ما) وبلا نسبة في الأضداد ص 97، ورصف المباني ص 314، وشرح شافية ابن الحاجب 1/ 273، ومغني اللبيب 1/ 311، والمقتضب 2/ 54، والمقرب 1/ 129، وهمع الهوامع 1/ 210.
(2) البيت في ديوان حسان بن ثابت ص 310.(2/394)
والثّغام: مرعى، وتعلفه الخيل، وقال بشر وذكر الخيل: [الوافر]
فباتت ليلة وأديم يوم ... على البهمى يجزّ لها الثّغاما (1)
قوله: زر بيته: طنفسته، والجمع الزّرابي، وقيل هي الوسائد، وقيل الثياب الموشاة. والضّوضاء: الأصوات. ازدلف: قرب. مسنده: موضع إسناده. سبلته:
لحيته، وقيل شاربه.
وهذه الخطبة التي ذكر، ليس فيها لفظ إلا وهو يتضمّن إشارة للكدية.
قوله: المبتدع، أي الفاعل له قبل أن يفعل. النّوال: العطاء. المؤمّل: المرجوّ.
شرع: فرض: ونهر السؤّال، من قوله تعالى: {وَأَمَّا السََّائِلَ فَلََا تَنْهَرْ} [الضحى: 10]، وقال ابن عمران: [الكامل]
إنّ ابن آدم حين يلحف سائل ... ينقد من حنق عليه فينهره
والله إن يقصده عبد ملحف ... بسؤاله يدنيه منه ويشكره
فسل الإله ولذ به لا تنسه ... فالله يذكر عبده إذ يذكره
وقال أيضا: [الرجز]
سؤالنا دعاؤنا للجنّه ... لهم علينا بالقبول منّه
من سال منهم ويك أعطينه ... ولو بتمرة فواسينّه
أو أجمل الردّ لا تنهرنّه ... وإن يكن يلحف فاعذرنّه
* وادع له الله وصبّرنّه *
قوله: ندب: أي دعا وحرّض. المضطر: الشديد الحاجة. القانع: المتذلل عند السؤال. والمعترّ: المتعرّض للمعروف. والمحروم: الذي لا يسأل أحدا شيئا وهو محتاج. طعمة هنيّة: الكدية، لأنّ فائدتها تحصل بلا تحمّل تكلّف ولا مشقة. دعوة بلا نيّة: قولك للسائل: الله يعطيك ووسّع الله عليك ونحوه، وأنشدوا فيهم: [مجزوء الرمل]
ورجال ونساء ... وبنات وبنونا
وإذا يدعى لهم يو ... ما تراهم يغضبونا
وقال آخر: [الطويل]
ألم ترني أبغضت ليلى وذكرها ... كما أبغض المسكين دعوة سائله
لأن السائل لا يطلب من المسؤول الدعاء، إنما يطلب ما يشبع الأمعاء.
ومما يستظرف من هذا ما حكى الأصمعيّ. قال: مرّ بي أعرابيّ سائلا، فقلت له:
__________
(1) البيت ليس في ديوان بشر بن أبي خازم.(2/395)
كيف حالك؟ قال: أسأل الناس إلحافا فيعطوني كرها، فلا يؤجرون على ما يعطوني، ولا يبارك لي فيما آخذ، والعمر بين ذلك فان، والأجل قريب والأمل بعيد.
سأل أعرابي رجلا يكنى أبا عمرو عند داره، فقال: يرزقك الله، فعاد إليه يوما آخر فقال بمثل ما قال أمس وتنحنح، ففلتت منه ضرطة، فقال الأعرابيّ: [الرجز]
إن أبا عمرو لمكبوس الوسط ... إذا سألناه تمطّى وضرط
* إعطاؤه: يرزقك الله فقط *
قوله: أشهد أن لا إله إلا الله، أي أعلم وأبين، ومنه: شهد الله، أي أعلم وبيّن أنه لا إله إلّا هو، ومنه: شهد الشاهد عند الحاكم، أي بيّن له ما عنده وأعلمه الخبر.
يمحق: يزيل ويستأصل. الربا: الحرام وأصله الزيادة. ويربي: يزيد ويكثر، أي يضعفها له.
* * * وأشهد أنّ محمدا عبده الرّحيم، ورسوله الكريم، ابتعثه لينسخ الظّلمة بالضّياء، وينتصف للفقراء من الأغنياء، فرفق صلّى الله عليه وسلّم بالمسكين، وخفض جناحه للمستكين، وفرض الحقوق في أموال المثرين، وبيّن ما يجب للمقلّين على المكثرين، صلّى الله عليه صلاة تحظيه بالزّلفة، وعلى أصفيائه أهل الصّفة. أما بعد: فإن الله تعالى شرع النّكاح لتتعفّفوا، وسنّ التّناسل لكي تتضاعفوا، فقال سبحانه: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنََّا خَلَقْنََاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ََ وَجَعَلْنََاكُمْ شُعُوباً وَقَبََائِلَ لِتَعََارَفُوا} [الحجرات: 13] وهذا أبو الدّرّاج، ولّاج ابن خرّاج، ذو الوجه الوقاح، والإفك الصّراح، والهرير والصّياح، والإبرام والإلحاح، يخطب سليطة أهلها، وشريطة بعلها قنبس بنت أبي العنبس، لما بلغه من التحافها بإلحافها، وإسرافها في إسفافها، وانكماشها على معاشها، وانتعاشها عند هراشها. وقد بذل من الصّداق شلّاقا وعكّازا، وصقاعا وكرّازا، فأنكحوه إنكاح مثله، وصلوا حبلكم بحبله، {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [الإسراء: 24].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وأسأله أن يكثر في المصاطب نسلكم، ويحرس من المعاطب شملكم.
* * * ينسخ: يزيل. المسكين: الضعيف الذليل. وخفض جناحه: ألان جانبه، فهو مثل للإشفاق والحنان، وأصله أنّ الطائر إنما يخفض جناحه على فراخه، ويلحفها به شفقة
عليها، قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمََا جَنََاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24].(2/396)
* * * ينسخ: يزيل. المسكين: الضعيف الذليل. وخفض جناحه: ألان جانبه، فهو مثل للإشفاق والحنان، وأصله أنّ الطائر إنما يخفض جناحه على فراخه، ويلحفها به شفقة
عليها، قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمََا جَنََاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24].
واستكان: خضع وذلّ، وهو استفعل من كان، أصله استكون، نقلت حركة الواو إلى الكاف، فانقلبت الفاء لتحركّها في الحكم وانفتاح ما قبلها فهي في الأصل كاستقام وبابه، أو يكون افتعل من السكون لأن الخاضع يقلّل الكلام، وأصله استكن، فوصلت فتحة الكاف بألف كقوله: [الرجز]
* قلت وقد جرت على الكلكال * (1)
أراد الكلكل، وقال تعالى: {فَمَا اسْتَكََانُوا لِرَبِّهِمْ وَمََا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنين: 76]
وأنشد أبو علي: [البسيط]
* فما استكان لما لاقى ولا خضعا
قوله: المثرين: الأغنياء. الزلفة: القربة، يقرّب بها إلى الله تعالى. أصفيائه:
أحبابه.
الصّفّة: تشبه: القبلة، والصّفّة كالسقيفة، وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم الغرباء يظعنون إليه من الجهات، وليس عندهم شيء، فيسكنون سقائف المسجد، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحرّض الناس على الصّدقة عليهم، وكان يجلس لهم، فيعلّمهم القرآن. وخصّهم الحريريّ بالذّكر لأنّ لهم حالة يشبهون بها المكدين من لباس الخلقان، والعيش من صدقات الناس فهم يتأسّون بأهل الصّفة، ويجعلونهم حجّة على من زجرهم.
ومما يحسن أن ينشد في هذا المعنى قول ابن عمران: [البسيط]
السائلون عيال الله والمال للّ ... هـ فابذله فيهم خاب من لؤما
فجد على ثقة بالله من خلف ... يا ويح من كان للرحمن متّهما!
واحذر من الردّ إن الله يمقته ... من غير عذر وشؤم الشحّ قد علما
الشعوب: جمع شعب، وهو أكبر من القبيلة. الدرّاج، كناه بذلك لكثرة حركته.
ولّاج: كثير الولوج على الناس للكدية. خرّاج: كثير الخروج في طلب رزقه، والولّاج:
الخرّاج الّذي يحسن الدخول في أموره والخروج منها، ويقال: فلان ولّاج خراج، إذا كان متصرّفا في أموره نفّاعا لأوليائه، ضرّارا لأعدائه. والإفك: سوء الكذب. الصّراح:
الظاهر البيّن، يريد أنه إذا وصف حالته في كديته لا يتكلّم إلا بالكذب. الهرير: كثرة
__________
(1) يروى الرجز بتمامه:
أقول إذ خرّت على الكلكال ... يا ناقتا ما جلت من مجال
وهو بلا نسبة في الإنصاف ص 25، والجنى الداني ص 178، ورصف المباني ص 12، وشرح الأشموني 2/ 485، ولسان العرب (كلل)، والمحتسب 1/ 166، وتهذيب اللغة 15/ 665، وجمهرة اللغة ص 222، وتاج العروس (كلل).(2/397)
الصياح والشرّ، وهرير الكلب: صوته دون نباحه من قلّة صبره على البرد. والإبرام:
الإثقال والإضجار، يريد أنه يوالي الصياح على من يكديهم ويثقل عليهم بالعتب على ترك الصّدفة حتى يفتدوا منه. والإلحاح: المداومة والإكثار من السؤال.
وقدم الحطيئة المدينة في سنة مجدبة، فمشى أشرافها بعضهم لبعض، خوفا من لسانه، وقالوا: قدم علينا هذا الرجل، وهو يأتي الشريف منّا، فإن أعطاه جهد نفسه، وإن حرمه هجاه، فجمعوا له بينهم أربعمائة دينار فأتوه، فقالوا: هذه صلة آل فلان، وهذه صلة آل فلان، فأخذها، وظنوا أنهم قد كفوه المسألة، فإذا هو يوم الجمعة قد استقبل وهو يقول: من يحملني على بغلين كفاه الله كيّة النار.
السّليطة: الحديدة اللسان، وقد سلطت فهي سليطة. شريطة: موافقة بعلها، أي زوجها، أي جاءت على شرط زوجها، فهي مثله في خصالها كلّها. قنبس: اسمها، وهو من القبس، وهي الشعلة، كأنها لحدّتها شعلة نار تحرق ما مرّت به. عنبس: من العبوس، ونونه ونون قنبس زائدتان. التحافها: ارتدائها والتوائها فيه. إلحافها: إلحاحها في السؤال. إسفافها: تساقطها على ما تجمع من الناس، والإسفاف: التّتبع لمداق الأمور، والإسفاف: الدخول في الأمر الدنيء، وقد أسفّ: تعرّض للأمر الدنيء.
انكماشها: انحفازها واجتهادها. انتعاشها: قيامها وارتفاعها. هراشها: مشارّتها لقرابتها، والمهارشة أصلها للكلاب، وهي أن يترافع الكلبان ويتنابحا، ويعضّ كل واحد صاحبه، فجعل مدافعتها عند الشرّ لأقرانها ومضارتها كالهراش للكلاب، ولا تكمل عندهم نجابتها، حتى تفوق أقرانها في الشرّ والسبّ بالقبائح وضرب الكفّ على ذلك، وإلا فهي ناقصة. بذل: أعطى. شلّاقا: ثوب مرقع، وليس بعربيّ، وقيل هو شبه المخلاة، وقيل هو خريطة تجعل فيها كسر الخبز. عكّازا: عصا تقرع بها الأبواب، وتضرب بها الكلاب. صقاعا: خرقة بالية تجعلها على رأسها. كرّازا: إناء تعلّقه في ذراعها، تجعل فيه الصدقة. وقيل: الكرّاز إناء لشرب الماء، وتسمّيه عامتنا الكرازة، فكان صداق هذه المرأة ثوبا مرقّعا تلبسه للكدية. وخرقة بالية لرأسها وعصا تقرع بها الأبواب، وإناء إما أن تجعل فيه ما يدقّ من الصدقة أو تجعل فيه ماء لشربها عند طوافها للكدية، والكرّاز هو الخرج، والكرّاز: كبش يحمل عليه الراعي أداته. عيلة: فقرا. شملكم: عددكم.
المعاطب: المهالك.
وخطّأ أبو محمد في الدرة من يذهب من الخواصّ بالعيلة إلى العيال، وقال: إنما العيلة الفقر، بدليل قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} [التوبة: 28] وتصريف الفعل منه عال يعيل فهو عائل، والجمع عالة، وفي التنزيل العزيز: {وَوَجَدَكَ عََائِلًا فَأَغْنى ََ}
[الضحى: 8]، وفي الحديث: «لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس». وأما الذين يعالون فيهم عيال، واحدهم عيّل كجيّد وجياد، وجمع عيال على
عيائل كركاب وركائب، وأعال فهو معيل: كثر عياله، وعالهم يعولهم. وفي الحديث:(2/398)
وخطّأ أبو محمد في الدرة من يذهب من الخواصّ بالعيلة إلى العيال، وقال: إنما العيلة الفقر، بدليل قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} [التوبة: 28] وتصريف الفعل منه عال يعيل فهو عائل، والجمع عالة، وفي التنزيل العزيز: {وَوَجَدَكَ عََائِلًا فَأَغْنى ََ}
[الضحى: 8]، وفي الحديث: «لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس». وأما الذين يعالون فيهم عيال، واحدهم عيّل كجيّد وجياد، وجمع عيال على
عيائل كركاب وركائب، وأعال فهو معيل: كثر عياله، وعالهم يعولهم. وفي الحديث:
«ابدأ بمن تعول»، ومن كلام العرب: والله لقد علت حتى علت أي صنت عيالي حتى افتقرت. وأما قوله تعالى: {ذََلِكَ أَدْنى ََ أَلََّا تَعُولُوا} [النساء: 8] فمعناه ألّا تجوروا.
وقال بعض العرب لحاكم حكم عليه بما لم يوافقه: والله لقد علت عليّ في الحكم، أي جرت، ومن فسّر في الآية {تَعُولُوا} أنّ معناه تكثر عيالكم فقد وهم.
* * * [عهد الصابي في التطفيل]
وإذ فرغنا من تفسير هذه الخطبة الهزلية، وقد قدّمنا أن ابن همام في هذه المقامة طفيليّ، فنذكر هنا العهد الذي كتب الصابي بأمر معز الدولة لمحمّد بن فريعة الطفيليّ ببغداد، وقد استخلفه على التطفيل فإن هذا العهد يوافق خطبة المقامة في كثير من أغراضها.
وذلك عهد عهده محمد بن عبد الرحمن إلى الفضل بن النعمان، حين استخلفه على سنّته، واستنابه على حياطة رسومه وسنته من التطفيل على أهل مدينة السلام، وما يتصل بها من أرباضها وأكنافها، وما يجري معها من سوادها وبياضها وأطرافها، لما توسّمه فيه من قلة الحياء، وشدّة اللقاء، وكثرة اللقم، وجودة الهضم.
وأمره أن يتوسّم اسم التطفيل ومعناه، ويعرف مغزاه ومنحاه ويتصفّحه تصفّح الباحث عن حظه بمجهوده، غير القائل فيه بتسليمه وتقليده، فإنّ كثيرا من الناس قد نسب صاحبه للشّره والنّهم، وحمله على الجشع والقرم، فمنهم من غلط في استدلاله، فأساء في مقاله، ومنهم من شحّ بماله، فدفع عنه باحتياله، وكلا الفريقين مذموم، وجميعهما مليم ملوم، ولا يتعلقان بعذر واضح، ولا يتعرّيان من لباس فاضح. وقد عرفت يا أخي بالتطفيل، ولا عار فيه عند ذوي التحصيل، لأن التطفيل مشتق من الطّفل، وهو وقت المساء وأوان العشاء، فلما كثر استعمل في صدر النهار وعجزه، وأوله وآخره، كما قيل:
القمران للشمس والقمر، وكما قيل العمران لأبي بكر وعمر.
وأمره أن يعتمد موائد الكبراء والعظماء بعراياه، ويبسط الأمر بسراياه، فإنه يظفر من إرادته بالغنيمة الباردة، ويصل بها إلى الغريبة الشاردة. فيجد بها من ظرائف الألوان، الملذّذة للسان، وبدائع الطعوم، السائغة في الحلقوم، ما لا يجده عند غيرهم، ولا يناله إلا لديهم، لحذق صناعتهم وجودة أدواتهم، وخصب ناديهم، وكثرة ذات أيديهم والله يوفر من ذلك حظّنا، ويسدّد نحوه لحظنا، ويوضّح عليه دليلنا، ويسهّل إليه سبيلنا.
وأمره أن يجتلب التّكرمة ممن يحصل منهم ودّه، ويستدعي بالتلطف نائله ورفده، وكثيرا ما يتّفق ذلك للمداخلين، ويتيسر للمتوصّلين.(2/399)
وأمره أن يصادق قهارمة الدور ومدبّريها، ويرافق وكلاء المطابخ ومديريها، فإنهم يملكون من أصحابهم أزمّة مطاعمهم ومشاربهم.
وأمره أن يتعهد أسواق المتسوّقين ومواسم المتبايعين فإذا رأى وظيفة قد زيد فيها، أو أطعمة قد احتشد منها، أتبعها إلى القصد بها، وشيّعها إلى المنزل الحاوي لها، واستعلم ميقات الدعوة، ومن يحضرها من أهل اليسار والثروة.
وأمره أن يجتنب مجامع العوامّ المقلين، ومحافل الرّعاع المقتّرين، وألّا ينقل إليها قدما، ولا يغفر لمآكلها فما، فإنها عصابة تجتمع على مضض النّفوس والأحوال. وقلة الأحلام والأموال، وفي التطفيل عليها إحجاف بها يؤلم وإزراء بمروءة التطفيل يثلم.
وأمره أن يحوز الخوان إذا حصل، والطعام إذا نقل، حتى يعرف بالحدس والتخمين عدد الألوان في الكثرة والقلة، وافتنانها في الطّيب واللذة، فيقدّر لنفسه أن يشبع مع آخرها، وينتهي عند انتهائها، فلا يفوته نصيب من كثيرها وقليلها، ولا يخطئه الحظّ من دقيقها وجليلها. ومتى أحسّ بنقلة الطعام وحجره، أمعن في أوّله إمعان الكيّس في سعيه، والرشيد في أمره، فإنه إذا فعل ذلك سلم من عواقب الأغمار الذين بكفون طرفا، ويقلّون تأدبا، ويظنون أن المائدة تبلغهم إلى آخر حاجتهم، وتنتهي بهم إلى حدّ غايتهم، فلا يلبثون أن يخجلوا خجلة الوامق الراغب، وينقلبوا بحسرة الراهق الخائب.
وأمره أن يروض نفسه، ويغالط حسّه، ويضرب عن كثير مما يلحقه صفحا، ويطوي دونه كشحا، ويستحسن الصّمم عن الفحشاء، ويغمض عن اللقمة الخشناء، وإن أتته الوكزة في حلقه، صبر عليها لأجل الوصول إلى حقه، وإن وقعت الصفعة في رأسه، عضّ عليها بمواقع أضراسه، وإن لقيه لاق بالجفاء، قابله باللطف والصفاء، إذا كان ولج الأبواب، وخالط الأصحاب، وجلس مع الحضور، واختلط بالجمهور، فلا بّد أن يلقاه المنكر لأمره، ويمرّ به المستغرب لوجهه، فإن كان حرّا حسنا أمسك وتذمّم، وإن كان فظّا غليظا همهم وتكلّم. وأن يستعمل مع المخاطب له الملاينة، وأن يجتنب عند ذلك المخاشنة ليردّ غيظه ويقلّ حده، ويكفّ غربه ويأمن سعيه. وأمره أن يتعهد الجوارشات المعدّة للعدد، والمقويّة للمعد، المشهيّة للطعام، المسهلة سبيل الانهضام، وأن يكون في اتخاذها كالكاتب الذي يخطّ أقلامه، والفارس الذي يصقل حسامه.
وأمره إذا غشي أبواب الملوك وأهل السلطان، أن يصانع البوّاب والحجاب ويخدم القوّاد والكتّاب، فإذا دخل السواد الأعظم، توسط الجمع لا يتأخّر ولا يتقدّم، بعد أن يجمل ثيابه، ويحسّن كلامه وجوابه، فطعام الأمراء تدعى إليه الحفلاء احتفالا، ويتكفّل بالوفود على العموم اكتفالا.
فهذا العهد مطابق لأحوال هذه المقامة.(2/400)
[من الخطب الهزلية]
ومما يتصل بخطبة المقامة من الخطب الهزلية ما حدّثوا:
أن رجلا خطب إلى قوم، وجاء يخطب، فاستفتح خطبة النكاح بحمد الله فأطال، ثم ذكر خلق السموات والأرض واقتصر، ثم ذكر القرون حتى ضجر من حضر، ثم التفت إلى الخاطب فقال: ما اسمك أعزك الله؟ فقال: والله قد نسيت اسمي من طول خطبتك، وهي طالق ثلاثا إن تزوّجتها بهذه الخطبة. فضحك القوم وعقدوا له في مجلس آخر.
أنكح خالد بن صفوان عبده أمته، فقال له العبد: لو دعوت الناس فخطبت. قال:
ادعهم أنت، فدعاهم، فلمّا اجتمعوا تكلّم خالد، فقال: إن الله أعظم وأجلّ من أن يذكر في نكاح هذين الكلبين، وأنا أشهدكم أني قد زوّجت هذه الزانية من هذا ابن الزانية.
خطب مصعب بن حيّان خطبة نكاح، فحصر فقال: لقّنوا موتاكم «لا إله إلا الله».
فقالت له الجارية: عجّل الله موتك، ألهذا دعوناك!.
خطب ثقيل في تزويج فأطال، فقام واحد من القوم، وقال: إذا فرغ الثقيل، بارك الله لكم، فإن عليّ شغلا أريد المبادرة فيه. وخطب رجل امرأة، فجعل يخطب وينعظ، فضرب رأس ذكره بيده وقال: مه! إليك يساق الحديث.
* * * فلمّا فرغ الشيخ من خطبته، وأبرم للختن عقد خطبته، تساقط من النّثار ما استغرق حدّ الإكثار، وأغرى الشّحيح بالإيثار. ثم نهض الشيخ يسحب ذلاذله، ويقدم أراذله.
قال الحارث بن همّام: فتبعته لأنظر عرجة القوم، وأكمل بهجة اليوم. فعاج بهم إلى سماط زيّنته طهاته، وتناصفت في الحسن جهاته. فحين ربع كلّ شخص في ربضته، وطفق يرتع في روضته، انسللت من الصّف وفررت من الزّحف فحانت من الشيخ لفتة إليّ، ونظرة هجم بها طرفه عليّ، فقال: إلى أين يا برم؟
هلّا عاشرت معاشرة من فيه كرم! فقلت: والّذي خلقها طباقا، وطبّقها إشراقا لا ذقت لماقا، ولا لست رقاقا، أو تخبرني: أين مدبّ صباك، ومن أين مهبّ صباك؟
فتنفّس الصّعداء مرارا، وأرسل البكاء مدرارا، حتّى إذا استنزف الدّمع، استنصت الجمع، وقال لي: أرعني السّمع.
* * * قوله: أبرم، أي أحكم وسدّد والختن: وليّ الزوجة مثل الأب والأخ وابن العم،
فهم الأختان، وكل شيء من قبل الزوج، فهم الأحماء، واحدهم حما مثل قفا، وحمو مثل أبو، وحمد مهموز، والأصهار تجمعهم.(2/401)
* * * قوله: أبرم، أي أحكم وسدّد والختن: وليّ الزوجة مثل الأب والأخ وابن العم،
فهم الأختان، وكل شيء من قبل الزوج، فهم الأحماء، واحدهم حما مثل قفا، وحمو مثل أبو، وحمد مهموز، والأصهار تجمعهم.
والخطبة: مراسلة المرأة للزواج. والنّثار: ما نثر عليه من الدراهم، وقد نثرت الشيء نثرا إذا رميت به متفرقا، وأصحاب الزوج تدخلهم حميّة عند ذلك فينثر كلّ واحد منهم من الدراهم ما أمكنه، فتجمع ويشترى منها أنواع الأطعمة، ولذلك قال: أغرى الشحيح بالإيثار: أي حرّضه على أن يتكرّم. واستغرق: جاوز. وحدّث ابن قتيبة عن أبي عثمان، قال: مررت بمحضر قد اجتمع فيه خلق كثيرون، فسألت بعضهم: ما جمعهم؟
فقال: هذا سيّد الحي تزوج منا فتاة، فتكلّم الشيخ فقال: الحمد لله صلّى الله عليه وسلم أما بعد فإن الله جعل المناكحة التي رضيها فعلا، وأنزلها وحيا سبب المناسلة، وإن فلانا ذكر فلانة، وبذل لها من الصّداق كذا، وقد زوّجته إياها، وأوصيته بوصية الله فيها، ثم قال: هاتوا نثاركم، فقلبت على رؤوسنا غرائر التمر.
قوله: ذلاذله، أي أطراف ثوبه، والذلذل: ما يلي الأرض من أسفل القميص، أراذله: جمع أرذل، وهو الدنيء، والرّذل والمرذل والرّذيل: الدّون. والعرجة: التعريج، ويقال: ما عليه عرجة ولا تعريج، أي إقامة. وبهجة الشيء: حسنه ونضارته. وعاج:
مال. والسّماط: كلّ مستو على نسق، وصفّ الناس سماط وأراد به المائدة. والطّهاة:
الطبّاخون من النّاس. تناصفت: اعتدلت، وأنصف كلّ جزء منها صاحبه، والتناصف:
اعتدال الحسن. ربع: جلس، يقال: ربعت بالمكان: أقمت به، وربعت الحجر: رفعته باليد، لأنظر شدتي. وربع: وقف وتحبس. ربضته: موضعه الذي يقعد فيه، والرّبضة:
القطعة الغليظة من الثّريد. يرتع: يأكل، وفلان يرتع، أي هو مخصب لا يعدم شيئا يريده. الروضة: موضع العشب، وأراد بها ما بين أيديهم من الطعام. الزّحف: الضرب والوثوب إلى الشّرّ، وأراد أنه لما جلس كلّ انسان أن يأكل خشي هو إن جلس للأكل أن يغرم ويشتهر بأنه طفيليّ، فيحتاج أن يتدافع، وأن يتواثب مع صاحب الحانوت في ثمن ما أكل، ففرّ من ذلك. والزحف: مشي الأعمى. لفتة: نظرة بالتواء، كأنه يلوي عنقه فينظر، ولفت إليه لفتا والتفت: صرف وجهه إليه. وهجم: دخل عليه بغتة. برم: بخيل، وهو الذي لا يدخل مع القوم فيما دخلوا فيه من المغرم. والمعاشرة: ترك المخالفة في الصحبة. طباقا: جمع طبق، أي هي طبق فوق طبق، يعني السماء. وطبّقها: ملأها وعمّها، يقال: طبّق الغيم تطبيقا إذا أصاب بمطره جميع الأرض. إشراقا: نورا وضوءا.
لماقا، الأصمعي رحمه الله: هو ما يشرب، فإن أردت نفيه، قلت: ما ذقت لماقا، وأنشد: [الوافر]
كبرق لاح يعجب من رآه ... ولا يشفي الحوائم من لماق (1)
__________
(1) البيت لنهشل بن حري في ديوانه ص 117، ولسان العرب (ذوق)، (لمق)، وتاج العروس (لمق)،(2/402)
الحوائم: العطاش، وحكى يعقوب أن اللّماق يصلح في الأكل والشرب، قال ابن كيسان: هو الشيء اليسير من الطعام والشراب.
لست رقاقا: أكلت خبزا مرقّقا، واللّوس: تتبع بقية الشيء الحلو في فمك. ابن سيده: لاس لوسا: تتبّع الحلاوة، فأكلها، وما ذاق لوسا ولا لواسا، أي ذواقا، ولا يلوس كذا، أي لا يتناوله.
أو تخبرني: حتى تخبرني. أين مدبّ صباك، يريد أين ولدت فدببت صغيرا. مهبّ صباك: مجيء ريحك، وأراد أين بلدك. الصّعداء: التنفس بتوجّع وهي من فعل المهموم. استنزف الدمع: استفرغه بالبكاء حتى انقطع، ونزف وأنزفه: أفناه بالبكاء، واستنصت: أمرهم بالسكوت.
* * * [الرمل]
مسقط الرّأس سروج ... وبها كنت أموج
بلدة يوجد فيها ... كلّ شيء ويروج
وردها من سلسبيل ... وصحاريها مروج
وبنوها ومغان ... يهم نجوم وبروج
حبّذا نفحة ريّا ... ها ومرآها البهيج
وأزاهير رباها ... حين تنجاب الثّلوج
من رآها قال مرسى ... جنّة الدّنيا سروج
ولمن ينزاح عنها ... زفرات ونشيج
مثل ما لاقيت مذ زح ... زحني عنها العلوج
عبرة تهمي وشجو ... كلّما قرّ يهيج
وهموم كلّ يوم ... خطبها خطب مريج
ومساح في التّرجّي ... قاصرات الخطو عوج
ليت يومي حمّ لمّا ... حمّ لي منها الخروج
مسقط الرأس، يريد الموضع الذي سقط فيه رأسه عندما ولد. أموج: أتصرّف وأتحرّك، والمائج: المضطرب. يروج: يتعجّل. وردها: ماؤها. السلسبيل: عين في
__________
وتهذيب اللغة 9/ 179، وديوان الأدب 1/ 381، وجمهرة اللغة ص 974، وأساس البلاغة (لمق)، وجمهرة الأمثال 1/ 23، ومجمع الأمثال 1/ 41، ولكعب بن جعيل في المستقصى 2/ 223، وبلا نسبة في مجمل اللغة 4/ 251، والمخصص 9/ 101، 13/ 249، ومقاييس اللغة 5/ 212.(2/403)
الجنة، والسلسبيل الخمر. والمروج: المواضع الخصبة. مغانيهم: منازلهم. والبروج:
منازل القمر، وأراد أنهم في الحسن والرفعة كالنجوم، وأن دورهم في العلوّ والاستواء كالبروج.
وسبقه الحلواني القيرواني إلى هذا التشبيه، فقال يتشوّق إلى القيروان بعد خرابها:
[الخفيف]
ليت شعري وليت حرف تمنّ ... ربّما علل الفؤاد السّقيما
كيف يا قيروان حالك لمّا ... نثر البين سلكك المنظوما
كنت أمّ البلاد شرقا وغربا ... فمحا الدهر وشيك المرقوما
نحن أولادها ولكن عققنا ... بعد أن لم نطق بها أن نقيما
دمن كانت البروج وكنّا ... أمرا في قبابها ونجوما
وقال السريّ يتشوق إلى الموصل وكان بحلب: [الكامل]
أمحلّ صبوتنا دعاء مشوق ... يرتاح منك إلى الهوى الموموق
فمتى أزور قباب مشرفة الذّرا ... فأدور بين النّسر والعيّوق
وأرى الصّوامع في غوارب أكمّها ... مثل الهوادج في غوارب نوق
محمّرة الجدران ينتح طيبها ... فكأنّها مبنيّة بخلوق
حمرا تلوح خلالها بيض كما ... فصّلت بالكافور بين عقيق
كلف تذكّر قبل ناهية النّهى ... ظلّين: ظلّ هوى وظلّ حديق
فتفرّقت عبراته في خدّه ... إذ لا مجير له من التفريق
وقال الثعالبي: ما نظرت إلى الصوامع مذ برزت من نيسابور إلا ذكرت بيته، فأرى الصوامع، واستأنفت العجب من حسن هذا التشبيه وبراعته.
* * * قوله: نفحة ريّاها، أي حركة رائحتها الطيبة. مرآها البهيج: منظرها الحسن، وأزاهير رباها: أنوار كداها، وهي جمع أزهار، وأزهار جمع زهر، وهو النّور. تنجاب:
تزول.
ثم قال: سروج هي الموضع الذي أرست به جنة الدنيا، أي ثبتت فيه فكأنه قال:
جنة الدنيا هي سروج. وسروج هذه بلد بقري وعمارات، وهي من بلاد الجزيرة وكورها المشهورة، والجزيرة انقسمت قسمين: ديار ربيعة وديار مضر، وسروج من كور ديار مضر، وهي ثغرية إذا كان للمسلمين قوّة يملكونها، وإذا ضعفوا غلبهم الروم، عليها وهي كثيرة الثلج والبرد.(2/404)
قوله: ينزاح: يبعد. النشيج: البكاء. والزفرة: تنفّس المهموم. زحزحني: نحّاني.
تهمي: تسيل. شجو: حزن. قرّ: سكن. يهيج: يتحرك. خطبها: أمرها مريج: مختلط.
مساع: مواضع تصرفه، ويكون المسعى مصدرا بمعنى السعي. قاصرات، أي قصيرة، وكذا استعمالها لأن فعلها قصر، واسم فاعلها فعيل مثل ظرف فهو ظريف. الخطو: جمع خطوة. عوج: معوجّة. يومي حمّ، أي يوم موتي قدّر، أراد: ليت أني مت ولا أرى خروجي منها.
أنسى رضي الله عنه قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يتمنّين أحدكم الموت لضرّ نزل به، فإن كان لا بدّ فاعلا، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي: وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرا لي» (1).
جابر رضي الله عنه: أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تمنّوا الموت فإن هول المطلع شديد، وإن من السعادة أن يطول عمر العبد، وأن يرزقه الله الإنابة» (2) وفي معنى وصفه سروج وبكائه عليها، قال الحصريّ الأعمى يتشوق إلى القيروان: [البسيط]
أيا سقى الله أرض القيروان حيا ... كأنه عبراتي المستهلّات
فإنّما لذة الجنات تربتها ... مسكيّة وحصاها جوهريات
أرض أريضة، أقطار مباركة ... لله فيها براهين وآيات
وحدّثني الفقيه أبو عبد الله بن زرقون في بستانه بطريانة، أيام قراءتي عليه النّوادر والكامل، وكان رحمه الله ذاكرا بالطريقة الأدبية، مع تميّزه بالطريقة الفقهيّة، فدارت بيني وبينه في إحدى العشيات أنواع من المذاكرات في فنون أدبيات، فاهتزّ رحمه الله، وهشّ، وأظهر السرور بي وأنا يومئذ غلام ما بقل عذاري فقال: لقد علمت أن بيني وبينك أخوّة، قلت: وكيف ذاك يا سيدي؟ فقال: إني ولدت ببلدك شريش فزدت بالحديث غبطة، واستزدت منه، فقال لي: ومع ذلك فثمّ قصة مستظرفة:
اعلم أني كنت اجتزت بشريش قافلا من العدوة، مع الفقيه أبي بكر عبد الله بن العربيّ رحمه الله. فلما صرنا في بطاحها، وبين كرماتها وجنانها، أخذ الفقيه أبو بكر يثني عليها بكلّ لسان، على كثرة ما رأى من البلدان، ويقول: إن الأشياء التي جمعت فيها لا تكاد تجتمع في بلدة، من كثرة الزّرع والضّرع والزيت والعصير والملح وغير ذلك، فقلت له: أعلمت أني ولدت بها؟ فقال لي أبو بكر: أتقول أنت الآن: [مجزوء الرمل]
* مسقط الرأس شريش *
__________
(1) أخرجه البخاري في الدعوات باب 30، وأبو داود في الجنائز باب 9، والترمذي في الجنائز باب 3، وابن ماجه في الزهد باب 31، والنسائي في الجنائز باب 1، وأحمد في المسند 3/ 101، 104، 195، 208، 247، 281.
(2) أخرجه أحمد في المسند 3/ 333.(2/405)
فقلت له مجيزا: [مجزوء الرمل]
* وبها كنت أعيش *
فقال أبو بكر: [مجزوء الرمل]
* بلدة يوجد فيها *
فقلت: [مجزوء الرمل]
* كلّ شيء ويريش *
فقال أبو بكر: [مجزوء الرمل]
* وردها من سلسبيل *
فقلت: [مجزوء الرمل]
* وصحاريها عريش *
ثم سرنا في طريقنا على قوافي السّروجية، فرددناها شريشية، وقطعنا بها الطريق ونحن لا نشعر، فكانت أسرّ عشيّة رأيت، بمجالسة مثل هذا الفاضل وسنّه قد نيّف على الثمانين بسنتين، يحدّثني عن ابن عربي وابن عبدون الكاتب ونظرائهم، في رياض كلّها نزهة على نهر إشبيليّة، وهي أمامنا على بهجتها وجمالها، مادحا لي ولبلدي، ليدخل عليّ بذلك المسرّة، نسأل الله أن يبلغه غاية السرور في دار البقاء.
* * * قال: فلمّا بيّن بلده، ووعيت ما أنشده. أيقنت أنّه علّامتنا أبو زيد، وإن كان الهرم قد أوثقه بقيد. فبادرت إلى مصافحته، واغتنمت مؤاكلته من صفحته، وظلت مدة مقامي بمصر أعشو إلى شواظه، وأحشو صدفتيّ من درّ الفاظه، إلى أن نعب بيننا غراب البين، ففارقته مفارقة الجفن للعين.
* * * قوله: وعيت، أي حفظت. علّامتنا: عالمنا المشهور بالعلم. أوثقه: ربطه وشدّه، وقد تقدّم هذا القبيل من الهرم في أخبار وأشعار حسان، مصافحته: معانقته ووضع كفّي على كفّه.
ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أيّما امرئ يصافح أخاه ليس في صدر واحد منهما على أخيه إحنة لم تتفرّق أيديهما حتى يغفر الله لهما ما مضى من ذنوبهما» (1).
__________
(1) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 1/ 27.(2/406)
الإحنة: الحقد.
اغتنمت: حسبتها غنيمة. مؤاكلته: الأكل معه.
ابن عمر رضي الله عنهما: طعام السخيّ دواء، وطعام الشحيح داء.
ظلت، أي دمت، قال تعالى: {الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عََاكِفاً} [طه: 97]، أي دمت عليه مقيما. قال سيبويه رحمه الله: أصله: ظللت. الليث: يقال: ظلّ نهاره صائما. ولا تقول العرب: ظلّ إلا لكلّ عمل بالنّهار، كما لا تقول: بات إلّا للعمل باللّيل. أعشو:
أنظر ببصر ضعيف. شواظه. ناره، والشّواظ لهب النّار الّذي لا دخان فيه. صدفتيّ:
أذني. نعب: صاح. البين: الفراق، والغراب إذا صاح عندهم تشاءموا به، وقد تقدّم ذلك. مفارقة الجفن للعين، أي مسرعا بقدر ما تفتح عينك.(2/407)
المقامة الحادية والثلاثون وهي الرّملية
حكى الحارث بن همّام قال: كنت في عنفوان الشبّاب، وريعان العيش اللّباب، أقلى الاكتنان بالغاب، وأهوى الاندلاق من القراب لعلمي أنّ السّفر، ينفج السّفر، وينتج الظّفر، ومعاقرة الوطن تعقر الفطن، وتحقر من قطن، فأجلت قداح الاستشارة، واقتدحت زناد الاستخارة، ثم استجشت جأشا أثبت من الحجارة. وأصعدت إلى ساحل الشام للتّجارة، فلمّا خيّمت بالرّملة، وألقيت بها عصا الرّحلة، صادفت بها ركابا تعدّ للسّرى، ورحالا تشدّ إلى أمّ القرى.
* * * عنفوان وريعان، معناهما أول. اللباب: الخالص. أقلى: أبغض. الاكتنان:
الاستتار والإقامة في الكنّ. والغاب: الشجر المتلفّ، وهو بيت الأسد، وأراد به بلدته، وأنه كان يكره الإقامة بها ويحبّ السفر. أهوى: أحبّ. الاندلاق:
الخروج بسرعة وسهولة. والقراب: وعاء يجعل فيه السيف، وهو غمده. السّفر:
جمع سفرة، وهي التي يجعل فيها الخبز ويضمّ عليها بحلق، وتستعمل في السّفر. ينفج: يكثر، أي تكثر المأكولات في السفر فتنفج به. ينتج: يولّد.
الظّفر: الفوز بالحاجة. معاقرة الوطن: ملازمة بلد الإنسان. تعقر الفطن: تميت القلوب وتبلد الأذهان. قطن: سكن وأقام، فيريد أن الإقامة في بلد الإنسان تحقّر شأنه وتبلدّ خاطره.
[الوطن ومما قيل فيه شعرا]
قال الشاعر: [الكامل]
أنفق من الصّبر الجميل فإنه ... لم يخش فقرا منفق من صبره
والمرء ليس ببالغ في أرضه ... كالصّقر ليس بصائد في وكره
وأنشد الفنجديهيّ: [مجزوء الكامل](2/408)
نقّل ركابك في الفلا ... ودع العوالي والقصور
فمحالفو أوطانهم ... أشباه سكّان القبور
لولا التغرّب ما ارتقى ... درّ البحور إلى النّحور
وقالوا: من لم يصاحب البرّ والفاجر، ولم يؤدبه الرخاء مرّة والشدة أخرى، ولم يخرج من الظّلّ إلى الشمس، فلا ترجه. وتقدم مثل هذا في التاسعة.
وقال أبو العباس الأعمى: [البسيط]
مللت حمص وملّتني فلو نطقت ... كما نطقت تلاحينا على قدر
وسوّلت لي نفسي أن أفارقها ... والماء في المزن أصفى منه في الغدر
أما اشتفت منّي الأيام في وطني ... حتى تضايق بي ما عزّ من وطري
ولا قضت من سواد العين حاجتها ... حتى تكرّ على ما كان في السّفر
وقال البحتريّ: [الطويل]
وليس اغترابي من سجستان أنّني ... عدمت بها الإخوان والدّار والأهلا (1)
ولكنّني مالي بها من مشاكل ... وإنّ الغريب الفرد من يعدم الشّكلا
ولأبي الفتح البستي عفا الله عنه: [الكامل]
ما أنصفت بغداد حيّن توحّشت ... لنزيلها وهي المحلّ الآنس (2)
لم يرع لي حقّ القرابة بحتر ... فيها ولا حقّ المروءة فارس
وتعقّب عليه المعرّي في هذا فقال في أبي القاسم عليّ بن المحسّن التّنوخيّ القاضي: [البسيط]
ذمّ الوليد ولم أذمم جواركم ... فقال ما أنصفت بغداد حيّيتا (3)
فإن لقيت وليدا والنوى قذف ... يوم القيامة لم أعدمه تبكيتا
أحسنت ما شئت في تأنيس مغترب ... ولو بلغت المدى أحسنت ماشيتا
وقال أبو الفتح البستيّ: [الطويل]
وما غربة الإنسان في شقّة النّوى ... ولكنّها والله في عدم الشّكل
وإني غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
__________
(1) البيت في ديوان البحتري ص 2629.
(2) البيتان للبحتري في ديوانه ص 1133.
(3) الأبيات في سقط الزند ص 1641، 1642.(2/409)
ولأبي بكر بن بقيّ: [البسيط]
أقمت فيكم على الإقتار والعدم ... لو كنت حرّا أبيّ النّفس لم أقم
فلا حديقتكم يجنى لها ثمر ... ولا سماؤكم تنهلّ بالدّيم
أنا امرؤ إن نبت بي أرض أندلس ... جئت العراق فقامت لي على قدم
ما العيش بالعلم الإحالة ضعفت ... وحرفة وكلت بالقعدد الهرم
وللفقيه أبي محمد بن حزم: [الطويل]
ولي حول أكناف العراق صبابة ... ولا غرو أن يستوحش الكلف الصّبّ
فإن ينزل الرحمن رحلي بينهم ... فحينئذ يبدو التأسّف والكرب
هنالك يدري أن للبعد قصة ... وأنّ كساد العلم آفته القرب
* * * قوله: أجلت، أي صرّفت. قداح: سهام. الاستشارة: مشاورة غيره في رأيه، وإجالة القداح تأتي في الثالثة والأربعين، واستعار هنا لمن يستشيره في أمر السفر قداحا، فإن وافق رأيه فكأنّه خرج له على السهم: «افعل» وإن خالفه فكأنه خرج عليه «لا تفعل».
اقتدحت: ضربت. زناد: ما يكون فيه النار. الاستخارة: طلب الخيرة من الله تعالى.
استجشت: حرّكت. جأشا: نفسا، وهي في سكونها عن السفر كالحجر فلا تتحرّك للسفر. أصعدت: طلعت. خيّمت: أقمت.
الرّملة: بلدة بالشام، سمّتها العرب بالرّملة لمّا غلب عليها الرمل، وهي من كور فلسطين، بينها وبين بيت المقدس ثمانية عشر ميلا، وكانت لدّ مدينة فلسطين القديمة، فلما ولي الخلافة سليمان بن عبد الملك ابتنى مدينة الرّملة، وخرّب لدّ، ونقل أهل لدّ إليها، فصارت الرملة مدينة فلسطين.
ألقيت: تركت. الرّحلة: الارتحال، وكني بإلقاء العصا عن الإقامة بعد أن تهيّأ.
أم القرى: مكة. وكنا نوينا ترك ذكر مكة لشهرتها، ثم وجدنا شيخنا ابن جبير قد ذكر فيها أشياء قّل من يضبطها، فأثبتناها إعلاما لمن أحبّ استطلاعها، وتبرّكا بذكر البيت الشريف أعزه الله تعالى.
[مكة المكرمة]
قال شيخنا: مكة بلد قد وضعها الله تعالى بين جبال محدقة بها، وهي في بطن واد، مدينة كبيرة مستطيلة لها ثلاثة أبواب:
باب المعلّى يخرج منه إلى الجبّانة بالموضع الذي يعرف بالحجون عن يسار المارّ إليها جبل في أعلاه ثنيّة، عليها علم يشبه البرج منها إلى العمرة، وتعرف الثنيّة بكداء،
وهي التي جعلها حسّان موعد خيل الإسلام في قوله: [الوافر](2/410)
باب المعلّى يخرج منه إلى الجبّانة بالموضع الذي يعرف بالحجون عن يسار المارّ إليها جبل في أعلاه ثنيّة، عليها علم يشبه البرج منها إلى العمرة، وتعرف الثنيّة بكداء،
وهي التي جعلها حسّان موعد خيل الإسلام في قوله: [الوافر]
* تثير النّقع موعدها كداء (1) *
ومنها دخلت مكة يوم الفتح، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ادخلوها من حيث قال حسان».
والحجون هو الذي قال فيه الحارث بن مضاض: [الطويل]
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكّة سامر (2)
وعن يسار المارّ إليها جبل، وفي جبّانة الحجون مدفن جماعة من الصّحابة دثرت اليوم قبورهم، وفيها بقيّة علم ظاهر، وهو موضع خشبة عبد الله بن الزبير، كان في موضعه بناء مرتفع، فهدمه أهل الطائف غيرة منهم على ما كان يجدّد من لعنة الحجاج صاحبهم وعن يمينك إذا استقبلت الجبّانة مسجد في مسيل بين جبلين، وهو الذي بايعت الجنّ فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وعلى باب الحجون طريق الطائف والعراق، والصّعود إلى عرفات، والباب بين الشرق والشمال مائلا إلى الشرق.
الباب الثاني: باب السفلى إلى جهة الجنوب، عليه طريق اليمن، ومنه دخل خالد ابن الوليد، يوم الفتح.
الباب الثالث: باب العمرة يعرف بالباب الزاهر، عليه طريق المدينة والشأم وجدّة، وهو غربيّ، ومنه يخرج إلى التّنعيم، وهو على فرسخ من مكة، وهو أقرب ميقات للمعتمرين، وطريقه حسن، فيه الآبار العذبة المسماة بالشّبيكة.
وعلى ميل من مكة في طريق التّنعيم يلفى مسجد بإزائه حجر كالمصطبة، يعلوه حجر آخر مسند، فيه نقش داثر، يقال إن النبي صلّى الله عليه وسلم قعد عليه مستريحا عند مجيئه من العمرة، يمسح الناس خدودهم به تبرّكا. وبعده بغلوة على يسار الطريق قبر أبي لهب وامرأته، قد علاهما جبلان عظيمان من الصّخر لرجم الناس على قديم الدهر.
وعلى قدر ميل يلفى الزاهر، وهو مبنيّ على جانبي الطريق، يحتوي على دار وبساتين لأحد المكييّن، وفيه مكان مستطيل، عليه كيزان الماء، ومراكن مملوءة، وهي القصاري للشرب والطّهور، وفيه منفعة كبيرة للمعتمرين.
وعلى جانبي الطريق في الزاهر أربعة أجبال: جبلان، من هنا وجبلان من هنا،
__________
(1) صدره:
عدمنا خيلنا إن لم تروها
والبيت في ديوان حسان بن ثابت ص 73، ولسان العرب (كدا)، وجمهرة اللغة ص 1060، ومعجم ما استعجم ص 1117، وتاج العروس (كدا).
(2) البيت لعمرو بن الحارث بن مضاض أو للحارث الجرهمي في لسان العرب (حجن)، وبلا نسبة في قطر الندى ص 159.(2/411)
يذكر أنها التي جعل إبراهيم عليه السلام أجزاء الطير عليها، ثم دعاها عند قوله: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ََ} [البقرة: 26].
وعند إجازتك بالزّاهر تمرّ بالوادي المعروف بذي طوى، كان ابن عمر رضي الله عنهما يغتسل فيه عند دخوله مكة، وفيه نزل النبيّ عليه الصلاة والسلام عند دخوله، وفيه مسجد إبراهيم عليه السلام، وفيه آبار نعرف بالشّبيكة. ثم تخرج من الوادي إلى أعلام، وهي أحجار موضوعة بين الحلّ والحرم، كالأبراج المصفوفة، فداخلها إلى جهة مكة حرم، وهي كالأبراج، وآخذة من أعلى جبل، يعترض عن يمين الطريق في [التوجّه]
إلى العمرة، وينشق الطريق إلى جبل عن يساره، وهما ميقات المعتمرين، [وفيها مساجد مبنية بالحجارة] وخارجها بنحو غلوتين مسجد عائشة رضي الله عنها.
ومن جبال مكة جبال أبي قبيس، وهو على الحرم في الجهة الشرقية يقابل الحجر الأسود، في أعلاه مسجد عليه سطح يشرف على مكة، ويظهر حسنها وحسن الحرم واتساعه وجمال الكعبة، وهو مستودع الحجر الأسود من الطوفان، حتى أدّاه إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وفيه قبر آدم عليه السلام، وهو أحد أخشبي مكة، والأخشب الثاني المتصل بقعيقعان في الجهة الغربيّة، وفيه موقف النبي صلّى الله عليه وسلم، عند انشقاق القمر.
ومن جبالها حراء، على مقدار فرسخ، ومشرف على منى، وهو مرتفع في الهواء، كان متعبّد النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وهو الذي اهتّز تحته، فقال: اسكن حراء، فما عليك إلا نبيّ وصدّيق وشهيدان، لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، وفيه نزلت أول آية من القرآن، وهو آخذ من المغرب إلى الشمال، وعلى طرفه الشماليّ جبّانة الحجون المتقدمة.
ومن جبالها جبل ثور، وهو في الجهة اليمانية على فرسخ أو أزيد، وفيه الغار الذي أوى إليه النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وعلى مقربة من الغار قبة جبريل، وهي عمود منقطع من الجبال، قد قام شبه الذراع المرتفعة مقدار نصف القامة، وانبسط من أعلى شبه الكفّ، كأنّه قبّة مبسوطة، يستظلّ تحتها نحو العشرين رجلا، ومن مكة إلى منى نحو خمسة أميال.
ومنى مدينة عظيمة الآثار واسعة الاختطاط، وقد خربت اليوم إلّا منازل يسيرة محدثة للنزول، كان الطريق إليها الميدان اتساعا وانفساحا. وأوّل ما يلقى المتوجّه إليها بقربها مسجد البيعة التي عقدها العباس للنبي صلّى الله عليه وسلم على الأنصار، ثم يفضي بها إلى جمرة العقبة، وهي أوّل منى وعليها مسجد، وبها علم منصوب شبه أعلام الحرم المذكورة، يجعله الرامي عن يمينه مستقبلا مكة، ويرمي بها سبع حصيات يوم النحر أثر طلوع الشمس، ثم ينحر أو يذبح، ويحلّق أو يقصّر، ومنى كلّها منحر، ويحلّ له كلّ الأشياء إلا النساء، وبعدها الجمرة الوسطى، وبها أيضا علم، وبين الجمرتين قدر غلوة، وبعدها بمقدار غلوة الجمرة الأولى التي ترمى وقت الزوال ثاني يوم النّحر بسبع حصيات، وفي
الوسطى بسبع، وفي جمرة العقبة بسبع، فتلك إحدى وعشرون حصاة، ويفعل ذلك في ثالث يوم النحر، فتلك اثنتان وأربعون حصاة، وسبع تقدّمت يوم النحر فتكمل تسع وأربعون حصاة.(2/412)
ومنى مدينة عظيمة الآثار واسعة الاختطاط، وقد خربت اليوم إلّا منازل يسيرة محدثة للنزول، كان الطريق إليها الميدان اتساعا وانفساحا. وأوّل ما يلقى المتوجّه إليها بقربها مسجد البيعة التي عقدها العباس للنبي صلّى الله عليه وسلم على الأنصار، ثم يفضي بها إلى جمرة العقبة، وهي أوّل منى وعليها مسجد، وبها علم منصوب شبه أعلام الحرم المذكورة، يجعله الرامي عن يمينه مستقبلا مكة، ويرمي بها سبع حصيات يوم النحر أثر طلوع الشمس، ثم ينحر أو يذبح، ويحلّق أو يقصّر، ومنى كلّها منحر، ويحلّ له كلّ الأشياء إلا النساء، وبعدها الجمرة الوسطى، وبها أيضا علم، وبين الجمرتين قدر غلوة، وبعدها بمقدار غلوة الجمرة الأولى التي ترمى وقت الزوال ثاني يوم النّحر بسبع حصيات، وفي
الوسطى بسبع، وفي جمرة العقبة بسبع، فتلك إحدى وعشرون حصاة، ويفعل ذلك في ثالث يوم النحر، فتلك اثنتان وأربعون حصاة، وسبع تقدّمت يوم النحر فتكمل تسع وأربعون حصاة.
وفي أثر ذلك ينفضّ الحاجّ إلى مكة، وعند الجمرة الأولى يلفى مجرى الذّبيح عليه السلام، وفي موضع المجرى حجر ملصق بجدار فيه أثر قدم صغيرة، يقال إنها أثر قدمه، عند تحرّكه لان له الحجر إشفاقا، فيقبّله الناس ويلمسونه تبرّكا به.
ومسجد الخيف آخر منّى، وهو متّسع الساحة، كأكبر ما يكون من الجوامع، وصومعته في رحبة المسجد، وله في القبلة أربع بلاطات، وهو مسجد مشهور البركة، ومن منى إلى المزدلفة نحو خمسة أميال، والمزدلفة تسمى المشعر الحرام وجمعا فلها ثلاثة أسماء. ووادي محسّر حدّ بين المزدلفة ومنى. والمزدلفة بسيط من الأرض فسيح حولها صهاريج للماء، وفي وسط البسيط حلق في وسطها قبّة، في أعلاها مسجد يصعد إليه على أدراج من جهتين، يزدحم الناس عليه للصلاة فيه عند مبيتهم بها، وبين المزدلفة وعرفات أزيد من خمسة أميال.
وعرفات بسيط من الأرض [على] مدّ البصر، لو حشر الخلائق فيه لوسعهم، تحدق به جبال كثيرة. وفي آخر البسيط جبل الرّحمة، وهو موقف الناس، والعلمان قبله، فما أمامهما إلى عرفات جبل، وما دونهما حرم.
وجبل الرحمة منقطع عن الجبال، قائم في البسيط، فهو كلّه حجارة. وكان صعب المرتقى، فأحدثوا فيه من أربع جهاته أدراجا وطيئة يصعد فيها بالدوابّ الموقرة. وفي أعلاه قبّة تنسب لأم سلمة رضي الله عنها، وفي وسطها مسجد يحدق به سطح فسيح السّاحة جميل المنظر، يزدحم الناس عليه للصلاة فيه، فيشرف منه على بسيط عرفات، وفي أسفله عن يسار القبلة دار عتيقة البنيان، فيها غرف، لها طيقان تنسب إلى آدم عليه الصلاة والسلام. وعن يسارها مسجد صغير. وبمقربة من العلمين مسجد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، بقي منه الجدار القبلّي يخطب فيه الخطيب يوم الوقفة، ثم يجمع بين الظهر والعصر، ثم يقف الناس بعد جمعهم الظّهر والعصر باكين داعين متضرّعين، حتى يغيب قرص الشمس، ثم يدفع الإمام المالكيّ بالناس بالنّفر دفعا ترتجّ منه الجبال، فيصلّون بمزذلفة المغرب والعشاء الآخرة، فيبيتون بها، والدنيا كلها شموع مسرجة، فإذا صلّوا الصبح غدوة النحر وقفوا داعين.
ومزدلفة كلّها موقف إلا وادي محسّر، فإن فيه تقع الهرولة إلى منى، فإذا بلغوا منى رموا بها جمرة العقبة.
ثم ينفر الناس إلى البيت المكرّم إلى طواف الإفاضة، وهو كمال الحجّ.
وأما البيت المكرّم فهو قريب من التربيع، له أربعة أركان: ركن ينظر إلى الشرق
وفيه الحجر الأسود، ومنه ابتداء الطّواف. يبعد الطائف عنه قليلا، والبيت عن يساره، ثم يلفى بعد ذلك في طوافه الرّكن العراقيّ، وهو ناظر إلى الشمال. ثم الركن الشاميّ، وهو ناظر إلى المغرب، ثم الركن اليمانيّ، وهو ناظر إلى الجنوب، ثم يعود إلى ركن الحجر الأسود، وذلك شوط واحد.(2/413)
وأما البيت المكرّم فهو قريب من التربيع، له أربعة أركان: ركن ينظر إلى الشرق
وفيه الحجر الأسود، ومنه ابتداء الطّواف. يبعد الطائف عنه قليلا، والبيت عن يساره، ثم يلفى بعد ذلك في طوافه الرّكن العراقيّ، وهو ناظر إلى الشمال. ثم الركن الشاميّ، وهو ناظر إلى المغرب، ثم الركن اليمانيّ، وهو ناظر إلى الجنوب، ثم يعود إلى ركن الحجر الأسود، وذلك شوط واحد.
وباب البيت في السّفح الذي بين ركن الحجر والركن العراقيّ، وهو قريب من الحجر بعشرة أشبار، وما بين الحجر والباب يسمّى الملتزم، وهو موضع استجابة الدعاء، ويرتفع الباب من الأرض أحد عشر شبرا ونصفا، والباب من فضّة، مذهّب بديع الصّنعة، يستوقف الأبصار حسنا، وعضادتاه كذلك، وعلى رأسه لوح ذهب خالص إبريز في سعة نحو شبرين، وله نقّارتا فضة، كبيرتان يتعلّق عليهما قفل الباب، والباب ناظر إلى الشرق، وسعته ثمانية أشبار، وطوله ثلاثة عشر شبرا، وغلظ الحائط الذي ينطوي عليه الباب خمسة أشبار، وداخل البيت مفروش بالرخام المجزّع، وحيطانه كلّها رخام مجزّع، قد قام على ثلاثة أعمدة من السّاج، مفرطة الطول، بين كلّ عمود وعمود أربع خطا، ودائرة البيت كلّه من نصفه الأعلى مطليّ بالفضة المذهبة، يخيّل إليك أنها صفيحة ذهب لغلظها بالجوانب الأربع.
وللبيت خمسة مصابيح، وعليها زجاج عراقيّ بديع النقش، أدرجت في وسط السقف، ومع كل ركن مضوأ، ويلفي الداخل من الباب عن يساره ركن الحجر الأسود وباب الرحمة، هو الذي يصعد عليه إلى السطح.
والمقام حجر مغشّي بالفضة، ارتفاعه ثلاثة أشبار، وسعته شبران، أعلاه أوسع من أسفله، وآثار القدمين والأصابع فيه، صبّ لنا فيه ماء زمزم، فشربناه منه.
ومن الباب إلى الركن العراقيّ حوض طوله اثنا عشر شبرا وعرضه خمسة أشبار، وارتفاعه شبر، هو علامة موضع المقام، وهو مصبّ ماء البيت.
وموضع المقام الذي يصلّى فيه ما بين الباب والركن العراقيّ، وموضع المقام قبّة حديد موضوعة إلى جانب قبّة زمزم ترفع في أشهر الحجّ، وتزال قبة الخشب، لأنها أجمل، لازدحام الناس. ومن ركن الحجر إلى الركن العراقيّ أربعة وخمسون شبرا، ومن الحجر الأسود إلى الأرض ستة أشبار، فالطويل يتطامن لتقبيله، والقصير يتطاول له.
وموضع الطواف مفروش بحجارة مبسوطة كأنها الرخام: سود وحمر وبيض، تتّسع عن البيت مقدار تسع خطا، وسائر الحرم مفروش برمل أبيض، وطواف النساء في آخر الحجارة المفروشة.
والحجر ستة أذرع وهو الذي تركته قريش من البيت، وعليه جدار دوره تسع وعشرون خطوة، وهي أربعة وسبعون شبرا من داخل الدويرة، ودور جداره كلّه مجزّع بديع الإلصاق من الرخام، وهو مفروش بالرخام الجزّع البديع التفاريع والتقاطيع، فمرآه عجيب.(2/414)
والحرم له ثلاثمائة سوار من الرخام، وذرع الحرم في الطول أربعمائة ذراع، وفي العرض ثلاثمائة ذراع، فتكسيره ثمانية وأربعون مرجعا، وله تسع صوامع وتسعة عشر بابا، أكثرها مفتّح على الأبواب، منها باب الصفا، وهو مفتح على خمسة أبواب، وهو أكبرها، وعليه يخرج إلى السعي بين الصفا والمروة. وللصفا أربع عشرة درجة، وللمروة خمسة، وما بين الصفا والمروة ميل، وهو اليوم سوق جميل، يجمع الفواكه بمكّة وحوانيت الباعة يمين وشمال فلا يكاد الساعون يخلصون للسعي لكثرة الزحام.
وقبّة بئر زمزم تقابل الحجر الأسود، منها إليه أربع وعشرون خطوة، وداخلها مفروش بالرخّام الأبيض وتنور البئر في وسطها من رخام دوره أربعون شبرا، وارتفاعه أربعة أشبار ونصف، وغلظه شبر، وعمقه إحدى عشرة قامة، وعمق الماء سبع، وباب القبة ناظر إلى الشرق.
ثم ذكر في البيت وما يتصل به من البئر من ذلك غرائب من صنع الرخام والنقوش وغير ذلك أشياء لا يسع كتابنا ذكرها، فلنقتصر على هذا القدر.
* * * فعصفت بي ريح الغرام، واهتاج لي شوق إلى البيت الحرام فزممت ناقتي، ونبذت علقي وعلاقتي: [الوافر]
وقلت للائمي أقصر فإنّي ... سأختار المقام على المقام
وأنفق ما جمعت بأرض جمع ... وأسلو بالحطيم عن الحطام
ثمّ انتظمت مع رفقة كنجوم اللّيل، لهم في السّير، جرية السّيل، وإلى الخير جري الخيل فلم نزل بين إدلاج وتأويب، وإيجاف وتقريب، إلى أن حبتنا أيدي المطايا بالتّحفة، في إيصالنا إلى الجحفة فحللناها متأهّبين للإحرام، متباشرين بإدراك المرام، فلم يك إلّا أن أنخنا بها الرّكائب، وحططنا الحقائب، حتّى طلع علينا من بين الهضاب، شخص ضاحي الإهاب وهو ينادي: يا أهل ذا النادي، هلمّ إلى ما ينجي يوم التّنادي. فانخرط إليه الحجيج وانصلتوا، واحتفّوا به وأنصتوا. فلمّا رأى تأثّفهم حوله، واستعظامهم قوله، تسنّم إحدى الآكام، ثم تنحنح مستفتحا للكلام، وقال:
* * * قوله: عصفت، تحرّكت واشتدّت. الغرام: الشوق. اهتاج: تحرّك. زممت:
شددت زمامها. نبذت: رميت. علقي: ما يتعلق به ويمسكه عن إرادته. علاقتي: ما
يتعلّق بقلبي. أقصر: كفّ. المقام: مقام إبراهيم عليه السلام. المقام: الإقامة.(2/415)
شددت زمامها. نبذت: رميت. علقي: ما يتعلق به ويمسكه عن إرادته. علاقتي: ما
يتعلّق بقلبي. أقصر: كفّ. المقام: مقام إبراهيم عليه السلام. المقام: الإقامة.
وجمع: اسم المزدلفة، سمّيت بذلك لاجتماع الناس فيها. الحطيم: حجر بمكة.
الحطام: كسب الدنيا. انتظمت: ارتفقت. كنجوم الليل، أي هم أشراف وأهل أحساب. جرية: انصباب. الإدلاج: سير الليل. تأويب: سير النهار. إيجاف:
إسراع. تقريب: جري متقارب. حبتنا: أوصلتنا وأعطتنا. التّحفة: الهديّة. إيصالنا:
توصّلنا.
الجحفة ميقات أهل الشأم ومصر والمغرب، وبينها وبين البحر ثمانية أميال.
حللناها: نزلنا فيها. الإحرام: الدخول في الحرم. متباشرين: يبشّر بعضنا بعضا. بإدراك المرام: بلوغ الحاجة. أنخنا الركائب: بركنا الإبل بالأرض. حططنا الحقائب. أنزلنا الأحمال عن ظهورها. الهضاب: الكدى، واحدتها هضبة. ضاحي الإهاب: بارز الجلد، أي ثوبه خلق لا يستره. النّادي: المنزل. هلّم، أي أقبلوا. يوم التّنادي، أي يوم البعث لاجتماع الناس فيه، أو لأنه ينادي للحساب. انخرط: اندفع بسرعة. الحجيج: اسم لجماعة الحجّاج. انصلتوا: خرجوا إليه مسرعين. احتفّوا:
استداروا: وأنصتوا: سكتوا. تأثّفهم: اجتماعهم وثبوتهم حتى صاروا له كالأثافيّ للقدر. استطعامهم قوله: استدعاءهم كلامه. تسنمّ: ارتفع عليها، وأصل «تسنّم» ركب البعير، الآكام: الكدى.
* * * يا معشر الحجّاج، النّاسلين من الفجاج، أتعقلون ما تواجهون، وإلى من تتوجّهون! أم تدرون على من تقدمون، وعلام تقدمون! أتخالون أنّ الحجّ هو اختيار الرّواحل، وقطع المراحل، واتّخاذ المحامل، وإيقار الزّوامل! أم تظنّون أن النّسك هو نضو الأردان، وإنضاء الأبدان، ومفارقة الولدان، والتّنائي عن البلدان:
كلّا والله، بل هو اجتناب الخطيّة، قبل اجتلاب المطيّة، وإخلاص النّيّة، في قصد تلك البنيّة، وإمحاض الطّاعة، عند وجدان الاستطاعة، وإصلاح المعاملات، أمام إعمال اليعملات!
* * * الناسلين: المسرعين. الفجاج: الطرق. وتعقلون: تفهمون. تواجهون:
تستقبلون بوجوهكم، يريد البيت، إلى من تتوجهون: تقصدون. الرواحل: الإبل.
المراحل: المواضع يرحل إليها وينزل فيها. المحامل: آلات من خشب يركب عليها، واحدها محمل، يقال: إن الحجّاج أوّل من أحدثها، ولذلك قال الشاعر: [الرجز](2/416)
أوّل عبد صنع المحاملا ... أخزاه ربّي عاجلا وآجلا (1)
قوله: لزوامل: جمع زاملة، وهي البعير وغيره من الدوابّ يحمل عليها الطعام.
وإيقارها: رفع الأوقار عليها، وهي الأحمال، والوقر: الحمل. النسك: التعبّد، نضو الأردان، تجريد المخيط من الثياب. التنائي: التباعد. اجتناب بعد، واجتنبته: بعدت عنه وتركته. الخطيّة: الذنب يريد أن أوّل ما يجب على الحجاج أن يقدّموا التوبة. والبنيّة، هي الكعبة. إمحاض: إخلاص. وجدان: إصابة. الاستطاعة: القدرة على الشيء، وهي شرط وجوب الحج. المعاملات: الأفعال التي يتعامل بها الناس بينهم من المبايعات وغيرها، وأراد إصلاح فعل العبد بينه وبين ربه. إعمال اليعملات: استعمال الإبل للمشي، واليعملة: الناقة تعمل كثيرا في المشي.
* * * فو الّذي شرع المناسك للنّاسك، وأرشد السّالك في اللّيل الحالك، ما ينقي الاغتسال بالذّنوب، من الانغماس في الذّنوب، ولا تعدل تعرية الأجسام، بتعبئة الأجرام، ولا تغني لبسة الإحرام، عن المتلبّس بالحرام، ولا ينفع الاضطباع بالإزار، مع الاضطلاع بالأوزار، ولا يجدي التّقرّب بالحلق، مع التّقلّب في ظلم الخلق، ولا يرحض التّنسّك في التّقصير، درن التّمسّك بالتّقصير، ولا يسعد بعرفة، غير أهل المعرفة، ولا يزكو بالخيف، من يرغب في الحيف، ولا يشهد المقام، إلّا من استقام، ولا يحظى بقبول الحجّة، من زاغ عن المحجّة، فرحم الله امرأ صفا، قبل مسعاه إلى الصّفا، وورد شريعة الرّضا، قبل شروعه على الأضا، ونزع عن تلبيسه، قبل نزع ملبوسه، وفاض بمعروفه، قبل الإفاضة من تعريفه. ثمّ رفع عقيرته بصوت أسمع الصّمّ، وكاد يزعزع الجبال الشّمّ.
* * * شرع: فرض. المناسك: مواضع الذبح والنّحر، والنّاسك: الذي يأتي بنسك، وهو ما يذبح أو ينحر في الحرم. أرشد السالك: على الطريق للمشي فيها. الحالك:
الشديد السّواد. الذّنوب: الدّلو. الانغماس: الغطس، يريد أن التطهّر لا يزيل الذّنوب.
وما أحسن قول الحلوانيّ في غلام وسيم أراد النهوض للحج: [المنسرح]
__________
(1) يروى الشطر الأول من الرجز:
أول من اتخذ المحاملا
وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 567، وتاج العروس (حمل)، والكامل ص 359.(2/417)
يا طالب الحجّ وهو ذو صغر ... عجلت فاستأنه إلى الكبر
إن كنت تبغي مثوبة فعسى ... تحمل لي قبلة إلى الحجر
وإن رميت الجمار فارم بها ... كلّ فؤاد عليك لم يطر
فقال دعني وزمزما فعسى ... أغسل عن وجنتي دم البشر
قوله: تعدل، أي تقاوم وتساوي. الأجرام: الأجسام، واحدها جرم. تعبئة الأجرام: تحمّل أعباء الذنوب. لبسة: هيئة اللباس. التلبّس: التعلّق والاختلاط.
الاضطباع: الاشتمال والالتحاف، واضطبع الرجل بثوبه، إذا أدخله تحت عضده الأيمن وألقاه على منكبه الأيسر، والاضطلاع: القيام بها. والأوزار: أثقال الذنوب. يجدي:
ينفع. يرحض: يغسل. التقصير: الأخذ من الشّعر. درن: وسخ. التمسّك: التعلق.
التقصير: التضييع، وترك الاجتهاد، عرفة: يوم من أيام الحج، سمّيت بذلك لأن آدم عليه السلام لما أهبط من الجنة، نزل بالهند، وحوّاء بجدّة فالتقيا بعرفة، فسمّي موضع التقائهما ويوم التقائهما عرفة، وقيل: هي من العرف وهو الصّبر، ورجل عارف، أي صابر، فسمّي الموضع عرفة لصبر الناس على القيام به للدعاء. وقيل: هي من العرف، وهو الرّيح الطّيّبة، لأنها طيّبة بنسبتها إلى منى لما بمنى من أقذار الفروث والدماء لأن بمنى ينحر الهدي. يزكو: يكون ناميا، والزكاء: النماء والصلاح. والخيف: موضع بمكة سمي بالخيف، وهو ما ارتفع من الأرض عن موضع السّيل، وانحدر عن غلظ الجبل.
والحيف: الظلم. يحظى: يسعد ويظفر. زاغ: مال وخرج. المحجّة: الطريق المستقيم.
صفا: خلص قلبه. مسعاه: سعيه وجريه. الصفا: صخرة بمكة. ورد: دخل. شريعة الرّضا: طريقة الخير، والشريعة في النهر والغدير: الطريق. يهبط عليه إلى الماء، وبه سمّيت شريعة الدين لأنه طريق موصّل إلى الله تعالى، فورد الشريعة، دخل فيها، ووصل إلى الماء، وشرعت الدوابّ في الماء: دخلت فيه. الأضا: الغدران. نزع: زال وكفّ.
تلبيسه: تخليطه، والإفاضة: آخر الطواف. تعريفه: وقوفه بعرفة. عقيرته: كناية عن صوته يزعزع: يحرّك. الشمّ: المرتفعة.
* * * وأنشد: [البسيط]
ما الحجّ سيرك تأويبا وإدلاجا ... ولا اعتيامك أجمالا وأحداجا
الحجّ أن تقصد البيت الحرام على ... تجريدك الحجّ لا تقضي به حاجا
وتمتطي كاهل الإنصاف متّخذا ... ردع الهوى هاديا والحقّ منهاجا
وأن تواسي ما أوتيت مقدرة ... من مدّ كفّا إلى جدواك محتاجا
فهذه إن حوتها حجّة كملت ... وإن خلا الحجّ منها كان إخداجا
حسب المرائين غبنا أنّهم غرسوا ... وما جنوا ولقوا كدّا وإزعاجا
وأنّهم حرموا حرزا ومحمدة ... وألحموا عرضهم من عاب أو هاجى
أخيّ فابغ بما تبديه من قرب ... وجه المهيمن ولّاجّا وخراجا
فليس تخفى على الرّحمن خافية ... إن أخلص العبد في الطاعات أوداجي
وبادر الموت بالحسنى تقدّمها ... فما ينهنه داعي الموت إن فاجا
واقن التّواضع خلقا لا تزايله ... عنك الليّالي ولو ألبسنك التاجا
ولا تشم كلّ خال لاح بارقه ... ولو تراءى هتون السّكب ثجّاجا
ما كلّ داع بأهل أن يصاخ له ... كم قد أصمّ بنعي بعض من ناجى
وما اللّبيب سوى من بات مقتنعا ... ببلغة تدرج الأيّام إدراجا
فكلّ كثر إلى قلّ مغبّته ... وكلّ ناز إلى لين وإن هاجا
* * * اعتيامك: اختيارك. أحداجا: جمع حدج، وهو ما يجعل على ظهر البعير، يركب عليه. حاجا: جمع حاجة. تمتطي: تركب. كاهل: مقدّم الظهر. ردع: كفّ وردّ، هاديا: دليلا. منهاجا: طريقا. تواسي: تعطي. جدواك: عطيتك. حوتها: جمعتها.(2/418)
ما الحجّ سيرك تأويبا وإدلاجا ... ولا اعتيامك أجمالا وأحداجا
الحجّ أن تقصد البيت الحرام على ... تجريدك الحجّ لا تقضي به حاجا
وتمتطي كاهل الإنصاف متّخذا ... ردع الهوى هاديا والحقّ منهاجا
وأن تواسي ما أوتيت مقدرة ... من مدّ كفّا إلى جدواك محتاجا
فهذه إن حوتها حجّة كملت ... وإن خلا الحجّ منها كان إخداجا
حسب المرائين غبنا أنّهم غرسوا ... وما جنوا ولقوا كدّا وإزعاجا
وأنّهم حرموا حرزا ومحمدة ... وألحموا عرضهم من عاب أو هاجى
أخيّ فابغ بما تبديه من قرب ... وجه المهيمن ولّاجّا وخراجا
فليس تخفى على الرّحمن خافية ... إن أخلص العبد في الطاعات أوداجي
وبادر الموت بالحسنى تقدّمها ... فما ينهنه داعي الموت إن فاجا
واقن التّواضع خلقا لا تزايله ... عنك الليّالي ولو ألبسنك التاجا
ولا تشم كلّ خال لاح بارقه ... ولو تراءى هتون السّكب ثجّاجا
ما كلّ داع بأهل أن يصاخ له ... كم قد أصمّ بنعي بعض من ناجى
وما اللّبيب سوى من بات مقتنعا ... ببلغة تدرج الأيّام إدراجا
فكلّ كثر إلى قلّ مغبّته ... وكلّ ناز إلى لين وإن هاجا
* * * اعتيامك: اختيارك. أحداجا: جمع حدج، وهو ما يجعل على ظهر البعير، يركب عليه. حاجا: جمع حاجة. تمتطي: تركب. كاهل: مقدّم الظهر. ردع: كفّ وردّ، هاديا: دليلا. منهاجا: طريقا. تواسي: تعطي. جدواك: عطيتك. حوتها: جمعتها.
إخداجا: نقصانا. المرائين: المظهرين الخير، وهم على خلافه. وحسب، بمعنى يكفي.
كدّا: عجلة وشدّة. الإزعاج: ضد السكون والقرار، وأزعجته: لم تدعه يستقرّ. حرزا:
تحصيل، وأحرزه: جعله تحت حرز. ألحموه: أمكنوه من لحمه. العرض: ما يسبّ من الرجل أو يمدح. هاجى: شاتم وسابّ.
[الرياء والمراؤون]
ومما قيل في الرياء: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إيّاكم والشّرك الأصغر. قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء» (1).
وقال صلّى الله عليه وسلم: «لا رياء ولا سمعة من يسمع يسمّع الله به» (2).
وقال صلّى الله عليه وسلم: «من أسرّ سريرة ألبسه الله رداءها إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ».
وقال: «من أصلح سريرته، أصلح الله علانيته».
وقال الشاعر: [الرمل]
__________
(1) أخرجه بنحوه الترمذي في النذور باب 9، وابن ماجه في الفتن باب 16، وأحمد في المسند 5/ 428، 429.
(2) أخرجه البخاري في الرقاق باب 36، والأحكام باب 9، ومسلم في الزهد حديث 47، 48، والترمذي في النكاح باب 11، وابن ماجه في الزهد باب 21، وأحمد في المسند 3/ 40، 5/ 45.(2/419)
وإذا أظهرت شيئا حسنا ... فليكن أحسن منه ما تسر
فمسرّ الخير موسوم به ... ومسرّ الشرّ موسوم بشر
وقال يحيى بن أكثم: [الطويل]
يقول لي القاضي معاذ مشاورا ... وولّى امرأ فيما يرى من ذوي الفضل
بعيشك ماذا تحسب المرء فاعلا ... فقلت وماذا يفعل الذئب في النّحل!
يدقّ خلاياها ويأكل شهدها ... ويترك للزّبّال ما كان من فضل
وأنشد الفرزدق: [الوافر]
رئيس السوق محمود السّجايا ... يقصّر عن مدائحه البليغ
نسمّيه بيحيى وهو ميت ... كما أن السليم هو اللديغ
يعاف الورد إن ظمئت حشاه ... وفي مال اليتيم له ولوغ
وللأبيض في الفقهاء المرائين:
أهل الرياء لبستم ناموسكم ... كالذئب يدلج في الظلام العاتم
فملكتم الدنيا بمذهب مالك ... وقسمتم الأموال بابن القاسم
وركبتم شهب البغال بأشهب ... وبأصبغ صبغت لكم في العالم
وله في نحوه أيضا: [الكامل]
قل للإمام سنا الأئمة مالك ... نور العيون ونزهة الأسماع
لله درّك من همام ماجد ... قد كنت راعينا فنعم الرّاعي
فمضيت محمود النّقيبة طاهرا ... وتركتنا قنصا لشرّ سباع
أكلوا بك الدنيا وأنت بمعزل ... طاوي الحشى متكفّت الأضلاع
تشكوك دنيا لم تزل بك برّة ... ماذا رفعت بها من الأوضاع!
وفي الإسرائيليات: جاءت عصفورة، فوقفت على فخّ، فقالت له: ما لي أراك منحنيا؟ قال: لكثرة صلاتي انحنيت، قالت: فما لي أراك بادية عظامك؟ قال: لكثرة صيامي بدت عظامي، قالت: فما هذا الصوف عليك؟ قال: لزهادتي لبست الصوف، قالت: فما هذه الحبّة في يدك؟ قال: قربان إن مرّ بي مسكين ناولته إيّاها، قالت: فإني مسكينة، قال: خذيها فقبضت على الحبة، فإذا الفخ في عنقها، فصاحت: قعي قعي.
تفسيره: لا غرني مراء بعدك أبدا.
قال الشاعر: [مخلع البسيط]
نعوذ بالله من أناس ... تشيّخوا قبل أن يشيخوا
تقوّسوا وانحنوا رياء ... فاحذرهم إنّهم فخوخ
وكان صائد يصيد العصافير في يوم بارد، فكان يذبحها والدموع تسيل، فقال عصفور لصاحبه: لا بأس عليك من الرجل، أما تراه يبكي! فقال له الآخر: لا تنظر دموعه، وانظر ما تصنع يداه.(2/420)
نعوذ بالله من أناس ... تشيّخوا قبل أن يشيخوا
تقوّسوا وانحنوا رياء ... فاحذرهم إنّهم فخوخ
وكان صائد يصيد العصافير في يوم بارد، فكان يذبحها والدموع تسيل، فقال عصفور لصاحبه: لا بأس عليك من الرجل، أما تراه يبكي! فقال له الآخر: لا تنظر دموعه، وانظر ما تصنع يداه.
وراءى بعضهم ثم هتك الله ستره، فقال: [السريع]
بينا أنا في توبتي مقبلا ... قد شبّهوني بابن دوّاد
وقد حملت العلم مستظهرا ... وحدّثوا عني بإسناد
إذ خطر الشيطان بي خطرة ... نكست منها في أبي جاد
ابن دوّاد: عابد بمكة.
صلّى رجل مراء فقيل له: ما أحسن صلاتك! قال: ومع ذلك فإني صائم.
وقال طاهر بن الحسين لأبي عبد الله المروزيّ: كم لك منذ نزلت العراق؟ قال:
منذ عشرين سنة، وأنا أصوم الدهر منذ ثلاثين سنة، قال: يا أبا عبد الله سألناك عن مسألة فأجبتنا عن مسألتين.
وأمر عمر لرجل بكيس، فقال: آخذ الخيط؟ فقال عمر: ضع الكيس.
وكتب رجل عند الحسين كتابا فقال: أتجعلني في حلّ من تراب الحائط؟ فقال: يا أخي بلّ ورعك لا يتكسّر.
وأخبارهم كثيرة.
* * * قوله: ابغ أي اطلب: القرب: أفعال البرّ التي تقرب من الله تعالى، واحدها قربة.
ولّاجا وخرّاجا، أي كيف تصرّف فيها. داجي: ساتر العداوة ونافق. الحسنى: اسم للفعل الحسن، وتكون الحسنى مؤنثة الأحسن فتلزمها اللام، كالكبرى والأكبر وبابه، وتكون الحسنى كالبشرى والرّجعى.
ينهنه يزجر ويكفّ. فاجى: جاء بغتة، ولبعضهم: [المتقارب]
وهل نحن إلا مرامي السّهام ... ويحفزها نابل دائب
طرائد تطلبنا النائبات ... ولا بدّ أن يدرك الطالب
حبائل للدّهر مبثوثة ... يردّ إلى جذبها الهارب
وقال آخر في معناه: [الوافر]
تحاربنا جنود لا تجارى ... ولا تلقي بآساد الحروب
تفوّق أسهما عن ظهر غيب ... وما أغراضها غير القلوب
فأنّي باحتراس من جنود ... مؤيدة تمدّ من الغيوب
وقال ابن جبلة: [الكامل](2/421)
تحاربنا جنود لا تجارى ... ولا تلقي بآساد الحروب
تفوّق أسهما عن ظهر غيب ... وما أغراضها غير القلوب
فأنّي باحتراس من جنود ... مؤيدة تمدّ من الغيوب
وقال ابن جبلة: [الكامل]
وأرى اللّيالي ما طوت من شرّتي ... زادته في عظتي وفي إفهامي
وعلمت أنّ المرء من سنن الردى ... حيث الرميّة من سهام الرامي
قوله: اقن، أي اكتسب والتزم. خلقا: طبيعة.
وقال صلّى الله عليه وسلم: «من تواضع لله رفعه الله» (1).
وقالت الحكماء: كلّ ذي نعمة محسود عليها إلا المتواضع.
وقال عبد الملك: أفضل الرجال من تواضع عن رفعة، وعفا عن قدرة، أنصف عن قوّة.
وقال رجل لبكر بن عبد الله: علّمني التواضع، فقال له: إذا رأيت من وأكبر منك فقل: سبقني إلى الإسلام والعمل الصالح فهو خير مني، وإذا رأيت هو أصغر منك، فقل: سبقته إلى الذّنوب فهو خير مني.
وقال أبو العتاهية: [البسيط]
يا من تشرّف بالدنيا ولذّتها ... ليس التشرّف رفع الطّين بالطّين (2)
إذا رأيت شريف القوم كلّهم ... فانظر إلى ملك في زيّ مسكين
وقال أبو الفتح البستيّ: [البسيط]
من شاء عيشا رغيدا يستفيد به ... في دينه ثمّ في دنياه إقبالا
فلينظرنّ إلى من فوقه أدبا ... ولينظرن إلى من دونه مالا
قوله: لا تشم، أي لا تنظر. خال: سحاب. لاح بارقه، ظهر برقه: تراءى:
تظاهر. هتون: كثير الماء. السّكب: الصّبّ ثجاجا: صبّابا، ثج الماء يثج نجا وثججته أنا. يصاخ: يسمع. أصمّ: كسب الصمم. والنّعيّ: الخبر بالموت. ناجى: حدّث.
اللبيب: العاقل. بلغة: قوت يوم. تدرج تطوي. كثر: كثرة. قلّ: قلة. مغبّته: عاقبته وآخره ناز: مرتفع، ونزا الفحل ينزو نزوا: قفز على الأنثى. لين: فتور. هاج:
اضطرب، ويروى: «وكل ناز إلى لين» وهو الصحيح، أخذه من المثل: فلان ينزو ويلين، يقول: لا ننخدع بما يكون له ظهور في ملبسه وهيئته، فقد يخيب ظنك وتقلّ فائدته، أو يكون مضرّا لا نّفاعا كما قد ينادي بك، فتظنّ النداء لمنفعة، فإذا سمعته فاجأك بمصيبة. وأخذ لفظ «كم قد أصمّ بنعي» من قول أبي تمام: [الطويل].
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 3/ 76.
(2) البيتان في ديوان أبي العتاهية ص 274.(2/422)
أصمّ بك الناعي وإن كان أسمعا ... فأصبح مغني الجود بعدك بلقعا (1)
والسابق إلى هذا المعنى جزو بن ضرار، أخو الشماخ بقوله: [الطويل]
أتاني فلم أسرر به حين جاءني ... حديث بأعلى القبّتين عجيب (2)
تصاممته حتّى أتاني بقينة ... وأفرغ منه مخطىء ومصيب
وقال المتنبي: [البسيط]
طوى الجزيرة لمّا جاءني خبر ... فزعت منه بآمالي إلى الكذب (3)
حتى إذا لم يدع لي صدقه خبرا ... شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
أشار بعد ذلك بالبيتين إلى القناعة، وأن كثير الدنيا مصيره إلى قليل، وقد تقدم أمثال هذا.
وقال أبو تمام: [الخفيف]
يا قليل البقاء في هذه الدا ... ر إلى كم يغرّك التسويف (4)
عجبا لامرئ يذلّ لذي الما ... ل، ويكفيه كلّ يوم رغيف
ولابن عمران: [الكامل]
عجبا لنا نبغي الغنى والفقر في ... نيل الغنى لو صحّت الألباب
فيما يبلّغني المحلّ كفاية ... والفضل فيه تكاثر وحساب
* * * قال الرّاوي: فلمّا ألقح عقم الأفهام، بسحر الكلام، استروحت ريح أبي زيد، وماد بي الإرتياح إليه أيّ ميد، فمكثت حتّى استوعب نثّ حكمته، وانحدر من أكمته. ثمّ دلفت إليه، لأتصفّح صفحات محيّاه، وأستشفّ جوهر حلاه فإذا هو الضّالة التّي أنشدها، وناظم القلائد الّتي أنشدها، فعانقته عناق اللّام للألف،
__________
(1) البيت في ديوان أبي تمام ص 374.
(2) يروى عجز البيت الثاني:
كتاب بأعلى القنتين عجيب
وهو لجزء بن ضرار الغطفاني في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 343، والمقاصد النحوية 3/ 38، ويروى البيت الثاني:
تصاممته حتى أتاني نعيّه ... وأفزع منه مخطىء ومصيب
وهو بلا نسبة في لسان العرب (صمم)، وتاج العروس (صمم).
(3) البيتان في ديوان المتنبي 1/ 87، 88.
(4) البيتان ليسا في ديوان أبي تمام.(2/423)
ونزّلته منزلة البرء عند الدّنف. وسألته أن يلازمني فأبى، أو يزاملني فنبا، وقال:
آليت في حجّتي هذه ألّا أحتقب ولا أعتقب، ولا أكتسب ولا أنتسب، ولا أرتفق ولا أرافق، ولا أوافق من ينافق.
ثم ذهب يهرول، وغادرني أولول.
فلم أزل أقريه نظري، وأودّ لو يمشي على ناظري، حتّى توقّل أحد الأطواد، ووقف للحجيج بالمرصاد.
فلمّا شاهد إيضاع الرّكبان في الكثبان، وقّع بالبنان على البنان.
* * * قوله: فلما أقلح عقم الأفهام، أي جعل العقيم منها حاملا بالعلم والفهم.
استروحت: شممت فوجدت رائحته. ماد: مال. الارتياح: الطّرب. مكثت: أقمت.
أستوعب: أستوفي: نثّ: نشر. أكمته: كديته (1). دلفت: أسرعت. أتصفّح: أنظر.
صفحات محيّاه: جهات وجهه. أستشفّ: أبالغ النظر فيها. جوهر حلاه: خلقة صفاته.
أنشدها: أطلبها. القلائد: جمع قلادة، وهي ما يجعل في العنق من سلوك الجوهر وغيرها، ومنه تقليد البدن بمكة، وتقلّدت بالسيف: جعلته في عنقي، وقلّدتك الأمر:
جعلته في عنقك، وناظم القلائد: جاعلها في خيطها، ويعني بالقلائد ما نثر من وعظه، وأنشده من شعره وصدق لعمري إنّ كلامه المنظوم والمنثور أبهى من القلائد في أعناق الخرائد.
وقوله: عناق اللام للألف، أمّا بخط المغرب فلا معانقة بينهما إلا في الطرفين، وربما وقعت في بعض هذا الخطّ كالصليب، وفي بعضه لا التقاء بينهما البتّة، وإنما يريد صورة لام ألف بالخطّ الكوفيّ، وهما بذلك الخط متعانقان متلازمان من الأعلى إلى الأسفل. وأخذ اللفظ من قول بكر بن خارجة: [البسيط]
يا من إذا قرأ الإنجيل ظلّ له ... قلب الحنيف عن الإسلام منصرفا
رأيت شخصك في نومي يعانقني ... كما تعانق لام الكاتب الألفا
[العناق ومما قيل فيه شعرا]
ونذكر هنا ما يستحسن في العناق، قال البحتريّ: [الرجز]
تلك نعم لو أنعمت بوصال ... لشكرنا في الوصل إنعام «نعم» (2)
__________
(1) الكدية: الأرض الغليظة.
(2) البيتان في ديوان البحتري ص 194.(2/424)
نسيت موقف الجمار وشخصا ... نا كشخص، أرمي الجمار وترمي
وقال أيضا: [المتقارب]
ولم أنس ليلتنا في العنا ... ق لفّ الصّبا بقضيب قضيبا (1)
كما مرّت الريح في سيرها ... فطورا خفوقا، وطورا هبوبا
وقال ابن المعتز: [السريع]
كأنما عانقت ريحانة ... تنفّست في ليلها البارد (2)
فلو ترانا في قميص الدّجى ... حسبتنا من جسد واحد
وقال عليّ بن الجهم: [الطويل]
سقى الله ليلا ضمنا بعد هجعة ... وأدنى فؤادا من فؤاد معذّب (3)
فبتنا جميعا لو تراق زجاجة ... من الماء فيما بيننا لم تسرّب
وقال ابن عبدوس الفاسي: سرت يوما إلى ابن الجهم، فأنشدني البيتين في العناق، فاقتدح زندي لإيراد مثله، فقلت: [البسيط]
لا والمنازل من نجد وليلتنا ... بعيد إذ جسدانا بيننا جسد
كم رام فينا الكرى مع لطف مسلكه ... نوما فما انفكّ لا خدّ ولا عضد
ما أنصفوني، دعوني فاستجبت لهم ... حتى إذا قرّبوني منهم بعدوا
أخذ هذا البيت من قول الآخر: [البسيط]
أشكو الذين أذاقوني مودّتهم ... حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا (4)
وقال أبو نواس: [الطويل]
لبسنا رداء الليل والليل راضع ... إلى أن تردّى رأسه بمشيب
وبتنا كغصني بانة عصفتهما ... مع الصّبح ريحا شمال وجنوب
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... مبادي نصول في عذار خضيب
فياليل قد فارقت غير مذمّم ... ويا صبح قد أصبحت غير حبيب
قال صالح بن موسى: [السريع]
لي سيّد ما مثله سيّد ... تصدّت الحمّى له فاشتكى
__________
(1) ديوان البحتري ص 150.
(2) البيتان في ديوان ابن المعتز ص 77.
(3) البيتان في ديوان علي بن الجهم ص 95.
(4) البيت للعباس بن الأحنف في ديوانه ص 84.(2/425)
عانقته عند موافاتها ... والأفق بالليل قد احلولكا
فجاءت الحمّى لعاداتها ... فلم تجد ما بيننا مسلكا
ولابن الرومي: [الرمل]
طالما التفّت إلى الصب ... ح لنا ساق بساق
في نقاب من وداد ... ولئام من عناق
وقال أيضا: [الطويل]
أعناقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تدان!
وألثم فاها كي تموت حرارتي ... فيشتدّ ما ألقى من الهيمان
كانّ فؤادي ليس يشفي غليله ... سوى أن يرى الروحان ممتزجان
وقال ابن المعتز: [الكامل]
يا ربّ فتيانّ صحبتهم ... لا يرفعون لسلوة قلبا
لو تستطيع قلوبهم نفذت ... أجسامهم فتعانقت حبّا
وقال ابن رشيق: [الكامل]
ومهفهف يحميه عن نظر الورى ... غيران سكنى الموت تحت قبابه
فلثمت خدّا منه ضرّم لوعتي ... وجعلت أطفىء حرّها برضابه
وضممته للصّدر حتى استوهبت ... مني ثيابي بعض طيب ثيابه
فكأنّ قلبي من وراء ضلوعه ... طربا يخبّر قلبه عمّا به
وقال ابن لبّال: [الكامل]
ما كنت أحسب قبل رؤية وجهه ... أن البدور تدور في الأغصان
غازلته حتى بدا لي ثغره ... فحسبته درّا على مرجان
كم ليلة عانقته فكأنّما ... عانقت من عطفيه غصن البان
يطغى ويلعب عند عقد سواعدي ... كالمهر يلعب عند ثني عنان
وقال آخر: [البسيط]
مشتاقة طرقت في الليل مشتاقا ... أهلا بمن لم تخن عهدا وميثاقا
يا زائرا زار من قرب على بعد ... آنست مستوحشا لأذقت ما ذاقا
يا ليل عرّج على إلفين قد جعلا ... عقد السّواعد للأعناق أطواقا
وقال ابن الزقّاق: [الطويل]
ومرتجّة الأعطاف أمّا قوامها ... فلدن، وأما ردفها فرداح
سريت فبات اللّيل من قصر بها ... يطير وما غير السرور جناح
وبتّ وقد زارت بأنعم ليلة ... يعانقني حتى الصّباح صباح
على عاتقي من ساعديها خمائل ... وفي خصرها من ساعديّ وشاح
ونظير هذا قول برهون الغرناطيّ: [البسيط](2/426)
ومرتجّة الأعطاف أمّا قوامها ... فلدن، وأما ردفها فرداح
سريت فبات اللّيل من قصر بها ... يطير وما غير السرور جناح
وبتّ وقد زارت بأنعم ليلة ... يعانقني حتى الصّباح صباح
على عاتقي من ساعديها خمائل ... وفي خصرها من ساعديّ وشاح
ونظير هذا قول برهون الغرناطيّ: [البسيط]
لله درّ ليال ما أحيسنها ... وما أحيسن منها ليلة الأحد
لو كنت حاضرنا فيها وقد غفلت ... عين الرقيب فلم تنظر إلى أحد
أبصرت شمس الضحّى في ساعدي قمر ... ريم موسّدة في ساعدي أسد
وقال ابن قاضي ميلة: [الكامل]
حيث التقى أسد العرين وظبية ... تحت اللحاف وصارم وسوار
قالت أرى بيني وبينك ثالثا ... ولقد عهدتك للدخيل تغار
أأمنت نشر حديثنا فأجبتها ... هذا الذي تطوى له الأسرار
أخذ هذا من قول امرىء القيس: [الطويل]
تجافى عن المأثور بيني وبينها ... وتدني عليّ السّابريّ المضلّعا (1)
يعني بالمأثور السيف.
قوله: الدّنف: المريض. يزاملني: يرادفني، والزّميل: الرّديف نبا. ارتفع وامتنع.
أحتقب: أركب موضع الحقيبة، وهي ما يعلّق خلف الراكب، فيريد أنه حلف ألّا يكون رديفا، ويريد بأحتقب أتّخذ حقيبة للزّاد، يريد أنه لا يحمل زادا اتكالا على ما عند الله تعالى. أعتقب: أركب عقبة يعني نوبة، وهما يعتقبان ويتعاقبان، إذا ركب أحدهما فجاء الآخر فكان مكانه، والاعتقاب: ركوب واحد ونزول آخر.
ولحاتم في المعنى: [الطويل]
وما أنا بالساعي بفضل زمامها ... لتشرب ماء الحوض قبل الركائب (2)
وما أنا بالطّاوي حقيبة رحلها ... لأبعثها خفا وأنزل صاحبي
إذا كنت ربّا للقلوص فلا تدع ... رفيقك يمشي حلفها غير راكب
أنخها فأردفه فإن حملتكما ... فذاك وإن كان العقاب فعاقب
__________
(1) البيت في ديوان امرئ القيس ص 242، وأساس البلاغة (ضلع)، وتاج العروس (ضلع)، وبلا نسبة في كتاب العين 1/ 280.
(2) الأبيات في ديوان حاتم الطائي ص 118، والبيت الثاني في أساس البلاغة (حقب)، وفيه «وأترك صاحبي» بدل «وأنزل صاحبي».(2/427)
أرتفق: أستعين أرافق: أطلب رفيقا. يهرول: يسرع المشي. غادرني: تركني أولول: أصيح: يا ويلي. أقريه: أتبعه. توقّل: صعد. الأطواد: الجبال. بالمرصاد:
بمضيق الطريق بحيث يرتصد فيه جميع الناس، والمرصد والمرصاد عند العرب الطريق.
إيضاع: سرعة، وقد أوضع في سيره: أسرع كأنه يهتزّ ويركض. الكثبان: أكداس الرمل.
رقع: ضرب بالبنان على البنان، أي صفّق بيديه، وقد تطلق البنان مرادا بها اليد، قال الله تعالى: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنََانٍ} [الأنفال: 12]، أي الأيدي والأرجل.
وأنشد الفنجديهيّ: [الوافر]
أقاموا الدّيدبان على يفاع ... وقالوا لا تنم للدّيدبان
إذا أبصرت ضيفا من بعيد ... فوقّع بالبنان على البنان
ثراهم خشية الأضياف خرسا ... يقيمون الصلاة بلا أذان
* * * واندفع ينشد: [الخفيف]
ليس من زار راكبا ... مثل ساع على القدم
لا ولا خادم أطا ... ع كعاص من الخدم
كيف يا قوم يستوي ... سعي بان ومن هدم
سيقيم المفرّطو ... ن غدا مأتم النّدم
ويقول الذي تقرّ ... ب: طوبى لمن خدم
ويك يا نفس قدّمي ... صالحا عند ذي القدم
وازدري زخرف الحي ... اة فوجدانه عدم
واذكري مصرع الحما ... م إذا خطبه صدم
واندبي فعلك القبي ... ح وسحّي له بدم
واد بغيه بتوبة ... قبل أن يحلم الأدم
فعسى الله أن يق ... يك السّعير الّذي احتدم
يوم لا عثرة تقا ... ل ولا ينفع السّدم
* * * قوله: ليس من زار راكبا البيت. يريد أن ثواب الماشي في الحجّ أكثر من ثواب الراكب.
وقال ابن عباس لبنيه: اخرجوا من مكّة مشاة، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
«إنّ للحاجّ الراكب بكلّ خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة، وللماشي بكل خطوة
سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قالوا: يا رسول الله، وما حسنات الحرم؟ قال:(2/428)
«إنّ للحاجّ الراكب بكلّ خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة، وللماشي بكل خطوة
سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قالوا: يا رسول الله، وما حسنات الحرم؟ قال:
الحسنة منها بمائة ألف».
وقوله: سعى بان ومن هدم، من قول بشار: [الطويل]
متى يبلغ البنيان يوما تمامه ... إذا كنت تبنيه وآخر يهدم
المفرّطون: المقصّرون. مأتم: مناحة. ويك: تعجّب. ازدري: احتقري. زخرف:
زينة. وجدان، مصدر وجدت الشيء. اندبي: أبكي. الحمام: الموت. مصرعه: طرحه للميت بالأرض. خطبة: أمره الشديد. صدم: ضرب، والصّدم: ضرب الشيء الصلّب بمثله، وأراد أنه أصاب، من قولهم: صدمهم أمر، أي أصابهم. سحّي: صبّي. يحلم:
يتثقب. الأدم: الجلد، وهو مثل يضرب للشيء يفوت، قال الشاعر: [الوافر]
* كدابغة وقد حلم الأديم (1) *
السّعير: النار المتّقدة. احتدم: التهب واشتد اتقّاده. السّدم: همّ مع ندم.
* * * ثمّ إنّه أغمد عضب لسانه، وانطلق لشأنه، فما زلت في كلّ مورد نرده، ومعرّس نتوسّده، أتفقّده فأفقده، وأستنجد بمن ينشده فلا يجده، حتّى خلت أن الجنّ اختطفته، أو الأرض اقتطفته، فما كابدت في الغربة، كهذه الكربة، ولا منيت في سفرة، بمثلها من زفرة.
* * * عضب: حدّ، وأراد بإغماده سكوته. لشأنه: لأمره. مورد: موضع الماء. نرده:
نقصده. معرّس: موضع النزول بالسّحر للاستراحة. نتوسّده: ننزل فيه. أتفقّده: أطلبه، والتفقّد طلب المفقود، قال الله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} [النمل: 20]، طلبه بعد ما فقده.
أستنجد: أستعين. ينشده: يطلبه. اختطفته: أخذته، بسرعة. اقتطفته: اقتطعته. كابدت:
قاسيت. الكربة: الهمّ. منيت: بليت. زفرة: تنفّس المهموم.
ولأبي طالب الرّقّيّ في غلام محرم: [الطويل]
ومشتمل عطفي عفاف وفتنة ... يرى قتل من يهوى إلى النسك مسلكا
__________
(1) صدره:
فإنك والكتاب إلى عليّ
والبيت للوليد بن عقبة بن أبي عقبة في ديوانه ص 70، ولسان العرب (حلم)، وجمهرة اللغة ص 565، وديوان الأدب 2/ 250، وتاج العروس (أدم)، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 5/ 107، ومقاييس اللغة 2/ 93، ومجمل اللغة 2/ 102، والمخصص 4/ 108.(2/429)
جنى اللحظ من خدّيه وردا مكفورا ... ومن عارضيه ياسمينا ممسّكا
فيا رائحا منه بأوفر فتنة ... تجهّز لعام بعد هذا لعّلكا
وقال صالح بن موسى: [السريع]
عشقت صوفيّا له شاهد ... يقيم عذري عند عذّالي
قد عبد الله بأحواله ... فليته ينظر في حالي(2/430)
عشقت صوفيّا له شاهد ... يقيم عذري عند عذّالي
قد عبد الله بأحواله ... فليته ينظر في حالي
المقامة الثانية والثلاثون وتعرف بالطيبيّة
حكى الحارث بن همام، قال: أجمعت حين قضيت مناسك الحجّ، وأقمت وظائف العجّ والثّجّ، أن أقصد طيبة، مع رفقة من بني شيبة لأزور قبر المصطفى، وأخرج من قبيل من حجّ وجفا، فأرجف بأنّ المسالك شاغرة، وعرب الحرمين متشاجرة، فحرت بين إشفاق يثبّطني، وأشواق تنشّطني إلى أن ألقي في روعي الاستسلام، وتغليب زيارة قبره عليه السّلام فأعتمت القعدة، وأعددت العدّة، وسرت والرّفقة، لا نلوي على عرجة، ولأنني في تأويب ولا دلجة، حتّى وافينا بني حرب، وقد آبوا من حرب، فأزمعنا أن نقضّي ظلّ اليوم، في حلّة القوم.
* * * أجمعت: عزمت عليه كأنه جمع نفسه له. ومناسك الحج: متعبّداته. وظائف:
لوازم، والوظيفة: النصيب الذي يلزمك عزمه. العجّ: رفع الصوت بالتّلبية، وكانوا في الجاهلية إذا أتمّوا حجّهم يتفاخرون بمآثر آبائهم، فأمروا بالثناء على الله تعالى. والثّجّ:
إراقة الدماء، وعجّ يعجّ عجّا وعجيجا: رفع صوته، وثججت الدمع، أثجّه: أسلته، وهو لازم ومتعدّ. وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال فقال: «العجّ والثّج» (1).
طيبة: مدينة النبي صلّى الله عليه وسلم. بنو شيبة: حجبة البيت، وشيبة هو عبد المطلب، وسمّي بذلك، لأنه نشأ بالمدينة عند أخواله صغيرا، فلما مات أبوه هاشم ذهب إليه المطلب، فأتى به فرآه معه أهل مكة فقالوا: ما هو إلا عبد اشتراه، فغلب عليه عبد المطلب. جفا أراد به قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من حجّ البيت ولم يزرني، فقد جفاني، ومن زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي».
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من جاءني زائرا لا يهمّه إلا زيارتي كان حقّا على الله أن
__________
(1) أخرجه الترمذي في الحج باب 14، وتفسير سورة 3، باب 6، وابن ماجه في المناسك باب 6، 16، والدارمي في المناسك باب 8.(2/431)
أكون له شفيعا يوم القيامة» (1). وفي رواية: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» (2).
وأرجف الرّجل: خاض في الفتنة والأخبار المسيئة. وشغر الطريق: خلا من حماته والمدينة خلت من حماتها، وبلد شاغر، بعيد من القاضي والسلطان، فلا يمتنع من غارة أحد، والشّغر: التفرقة، ومنه: خرجوا شغر بغر، أي تفرّقوا، وشغر عن بلده شغرا وشغارا، إذا طرحوه ونفوه، واشتغرت الحرب بينهم: اتّسعت وعظمت، وامرأة شاغرة، إذا رفعت رجليها لكلّ من نكحها، والمعنى أنّ المسالك شاغرة، أي أنّ الطرق مضطربة خالية من حماتها. الحرمين: مكة والمدينة. متشاجرة مختلفة. إشفاق: خوف.
يثبّطني: يحبسني. تنشّطني: تحرّضني. روعي: نفسي. الاستسلام: الانقياد لأمر الله تعالى. أعتمت: اخترت. القعدة: الراحلة المتّخذة للركوب. تلوي: تعطف. عرجة:
شيء يشغل ليعرج عليه. نني: نفتر، وتأويب ودلجة: مشي النّهار والسّحر، والدّلجة، بضم الدال: الاسم من الإدلاج، وهو سير جميع الليل، والتأويب: سير النهار أجمع، والدّلجة بفتح الدال من الإدلاج بوزن الافتعال وهو أن يسير من آخر الليل. يعقوب:
خرجنا بدلجة ودلجة: إذا خرجوا في آخر الليل. وافينا: وصلنا. آبوا: رجعوا. أزمعنا:
عزمنا. نقضّي: نتمّ، أراد عزمنا على أن ننزل ونتمّ بقية يومنا عندهم، وظلّ الشيء إنما يبقى ببقائه. والحلّة. النزول، والقوم: اسم للجمع، والحلّة هيئة الحلول، والحلّة مجلس القوم ومجتمعهم، لأنّهم يحلّونه، والجمع حلال، والحلّة جماعة بيوت الناس.
* * * وبينما نحن نتخيّر المناخ، ونرود الورد النّقاخ، إذا رأيناهم يركضون، كأنّهم إلى نصب يوفضون، فرابنا انثيالهم، وسألنا ما بالهم؟ فقيل: قد حضر ناديهم فقيه العرب فإهراعهم لهذا السّبب فقلت لرفقتي: ألا نشهد مجمع الحيّ، لنتبيّن الرّشد من الغيّ! فقالوا: لقد أسمعت إذ دعوت، ونصحت وما ألوت.
* * * المناخ: موضع النزول. نرود: نطلب. الورد النّقاخ: الماء البارد العذب، وأنشد أبو عليّ: [الوافر]
تركت النّبيذ لأهل النبيذ ... وأصبحت أشرب عذبا نقاخا
سمّي نقاخا، لأنه ينقخ الفؤاد ببرده، أي يكسره. يركضون: يجرون مسرعين.
نصب: صنم، كانوا في الجاهلية ينصبونه، ويذبحون عليه لأوثانهم، وجمعه أنصاب،
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب باب 67، ومالك في فضائل المدينة حديث 3.
(2) أخرجه أحمد في المسند 4/ 108.(2/432)
والنّصب: الشرّ، قال الله تعالى: {بِنُصْبٍ وَعَذََابٍ} [ص: 41]. يوفضون: يسرعون.
إهراعهم: إسراعهم، وأهرع: أسرع فزعا مرتعدا. ويهرعون: يستحثّون. ألوت:
قصرت.
ثمّ نهضنا نتّبع الهادي، ونؤمّ النّادي، حتّى إذا أظللنا عليه، واستشرفنا الفقيه المنهود إليه، ألفيته أبا زيد ذا الشّقر والبقر، والقواقر والفقر، وقد اعتمّ القفداء، واشتمل الصّمّاء، وقعد القرفصاء، وأعيان الحيّ به محتفّون، وأخلاطهم عليه ملتفّون، وهو يقول: سلوني عن المعضلات، واستوضحوا منّي المشكلات، فو الّذي فطر السّماء، وعلّم آدم الأسماء، إنّي لفقيه العرب العرباء، وأعلم من تحت الجرباء. فصمد له فتى فتيق اللّسان، جريء الجنان، وقال: إنّي حاضرت فقهاء الدّنيا، حتّى انتخلت منهم مائة فتيا، فإن كنت ممّن يرغب عن بنات غير، ويرغب منّا في مير، فاستمع وأجب، لتقابل بما يجب، فقال: الله أكبر، سيبين المخبر، وينكشف المضمر، فاصدع بما تؤمر.
* * * الهادىء: الدليل. نؤمّ: نقصد. النادي: مجتمع القوم. أظللنا: قربنا منه ودنونا وأشرفنا عليه. استشرفنا: نظرنا وتأمّلنا، والإستشراف: أن تضع يدك على حاجبك من الشمس إذا أردت النّظر إلى شيء يبعد منك. المنهود: المقصود، ونهدت إليه ونهضت بمعنى، ونهد ينهد نهدا، أي شخص ونهض. وقيل: أكثر ما يستعمل هذا في الحرب، يقال: نهد إلى العدوّ، إذا نهض ليقاتله. ألفيته: وجدته. ذا الشّقر والبقر: صاحب الدواهي، يقال: جاءنا بالشّقر والبقر، إذا جاء بالكذب المستفظع، وجاء بالشّقارى والبقّارى، أي بالكذب. والفواقر: قواصم الظّهر، يراد بها الدواهي، والفاقرة: الكاسرة للفقار، وهو عظم الصّلب. والفقر في النثر، مثل القوافي في الشعر. القفداء، بالقاف قبل الفاء: أن يلفّ عمامته على رأسه ولا يرسل منها شيئا. ابن سيده: القفداء: والقفد، إذا لوى عمامته على رأسه، ولم يسدلها، قال الأزهريّ رحمه الله تعالى: العمّة القفداء معروفة، وهي الميلاء، والسنّة أن يتعمّم ويسدل خلف ظهره.
ابن عمر رضي الله عنهما. كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا تعمّم سدل عمامته بين كتفيه (1).
والصّمّاء: أن تجلّل نفسك بالثوب غير المخيط، ولا ترفع شيئا من جوانبه، فتكون فيه فرجة تخرج منها اليد، وإنما نهى عن ذلك مخافة أن تصيبه شدّة في تلك الحالة، وهو لا يقدر على إخراج يده، فيدفعها فيهلك.
__________
(1) أخرجه الترمذي في اللباس باب 12، بلفظ: «إذا اعتمّ سدل عمامته بين كتفيه».(2/433)
وقال الفنجديهيّ: رأيت بخط الحريريّ: اشتمل الصّمّاء، أي التحف بثوب جلّل جسده، وقيل لها صمّاء لأنها لا منفذ فيها كالصخرة الصماء، التي لا صدع فيها ولا خرق، وهي عند الفقهاء أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه، فتبدو عورته، فنهي عن ذلك.
وقال الأزهريّ: هذا أصحّ الكلام، والفقهاء أعلم بتأويل هذا. والقرفصاء: أن يقعد على إليتيه، وينصب ساقيه، ويلصق فخذيه ببطنه ويحتبي بيديه فيضعهما على ساقيه، قاله أبو عبيد. وقيل: هي جلسة المحتبي، ثم يرفع فخذيه وركبتيه إلى صدره، ويدير يديه على ساقيه، ويشدّهما، فإذا فعلت ذلك بالرجل وشدّدت يديك عليه، فقد قرفصته.
الفنجديهي: رأيت بخط الحريريّ: معناه أن يحتبي بيديه، قال أبو أمامة: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يجلس القرفصاء فيضع يده اليمنى على الشمال عند المفصل (1). وتقرفص الرّجل، إذا جمع يديه وانضمّ من جرب أو قروح به.
أعيان: أشراف. محتفّون: محلّقون، والمنزل محفوف بالناس إذا اجتمعوا بحفافيه، أي بجانبيه. والأخلاط: الدّون من الناس. والمعضلات: الغامضات من الكلام الصّعب. واستوضحوا، أي طلبوا منّي إيضاحها، أي بيانها. فطر: خلق، وفطر الله الخلق ابتدأ خلقهم، قال ابن عباس: ما كنت أدري ما فاطر السموات والأرض حتى احتكم إليّ أعرابيّان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي ابتدأتها، وقال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [هود: 51] أي خلقني. ويتفطّرن: يتشقّقن، وانفطرت: تشّققت. وعلّم آدم الأسماء كلّها، أي علمه أسماء كل شيء من المخلوقات. وفقيه العرب، أي عالمهم، وقال تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 22] أي ليكونوا علماء به، وكلّ عالم بشيء فهو فقيه فيه، ويقال: فقهت عنك، أي فهمت، وفقهت فقها، أي صرت فقيها، وهو الحاذق بما يعلمه، وفقهت الرجل: غلبته في الفقه، العرباء: الخالصة، وهذا الإدّعاء الذي يدعى الآن يسمى انتحال العلم.
وقال بعض الحكماء: لا ينبغي لأحد أن ينتحل العلم.
وقال مقاتل بن سليمان يوما، وقد دخلته أبّهة العلم: سلوني عمّا تحت العرش إلى أسفل الثرى، فقال له رجل: ما نسألك عن شيء من ذلك، إنّما نسألك عما معك في الأرض، أخبرني عن كلب أهل الكهف ما كان لونه؟ فأفحمه.
ولما شهرت تآليف ابن قتيبة، ولحظ بعين العالم المتفنّن، صعد المنبر، وقد غصّ المحفل واعتلى، تبريزا على علماء وقته، مع فضل جاه اشتمل به من السلطان، فقال:
__________
(1) أخرجه أبو داود في الأدب باب 22، بلفظ: «رأت النبي صلّى الله عليه وسلم وهو قاعد القرفصاء»، ورواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 4/ 47. بلفظ: «فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس القرفصاء».(2/434)
ليسألني من شاء عمّا شاء، فقام إليه أحد الأغفال، فقال له: ما الفتيل والقطمير؟ فلم يحر جوابا، وأفحمه ونزل خجلا، وانصرف إلى منزله كسلا. فلما نظر اللفظتين وجد نفسه أذكر الناس بهما، وهذا من عقاب العجب.
ورأيت في بعض الأخبار أنّ ابن قتيبة سئل عن حرف لغة فلم يعلمه وقت السؤال وكان أبيض مشربا بحمرة فلما وجد الحرف غلبت الحمرة على وجهه، حتى طفىء أسفا على فوت الحرف وقت الحاجة، ولعله كان ما قدّمنا في الحكاية.
وقال قتادة: ما سمعت قطّ شيئا إلا حفظته، ولا حفظت قطّ شيئا فنسيته. ثم قال:
يا غلام هات نعلي، فقال: هما في رجليك، ففضحه الله.
وقال قتادة: حفظت ما لم يحفظ أحد قطّ، ونسيت ما لم ينس أحد قطّ، حفظت القرآن في سبعة أشهر، وقبضت على لحيتي، وأنا أريد أن أقطع ما تحت يدي، فقطعت ما فوقها.
وكان بشريش رجل من أهل الدين والورع، وحجّ في أيام أبي حامد وصحبه، ففاتت صلاة الصبح يوما لأحد أصحابه، فلامه على ذلك، فاعتذر له صاحبه فلم يعذره.
ثم قال له على معنى الترغيب: كملت لي اليوم عشرون سنة، ما فاتتني صلاة الصبح في جماعة، فلمّا كان في اليوم الثاني أدرك الحاج من صلاة الصبح ركعة واحدة، فلما لقيه صاحبه بعد الصلاة قال له: هذا كما رأيت. وإنما ذكرت عملك على معنى التبصرة والإرشاد، فلو ذكرته على غير ذلك لفاتتك، وإذا كان موسى كليم الله قد عاتبه الله على الانتحال، حين سئل: أيّ الناس اليوم أعلم؟ قال: أنّا، وابتلي بالسفر حتى لقي الخضر، وجلس إليه راغبا في أن يعلّمه، والخضر لا ينبسط له في التعليم، ونقر عصفور في البحر، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله تعالى، إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.
وروي عن عبد الملك بن حبيب من طريق وهب بن منبّه: أنّ الله تعالى قال لموسى عليه السلام: أتدري لم كلّمتك؟ قال: لا يا ربّ، قال: إني اطلّعت على قلوب العباد فلم أر فيها قلبا أشدّ تواضعا من قلبك، قال المنجم: [السريع]
لكل شيء في الورى آفة ... وآفة المرء من الكبر
وقال آخر: [الكامل]
الكبر يأس والتواضع رفعة ... والمزح والضحك الكثير سقوط
والحرص فقر والقناعة رفعة ... واليأس من روح الإله قنوط
فينبغي لكل عاقل أن يقول: ما أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلم بقوله: {رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}
[طه: 114]، ولا يرى لنفسه حظّا، ويشكر الله تعالى على ما أعطاه فهو بالأدب أليق، وبالشرع أوفق.(2/435)
ومن سخيف الشعر في الانتحال: [الطويل]
وما عنّ لي من غامض العلم غامض ... مدى الدّهر إلّا بتّ منه على علم
وقال عديّ بن الرّقاع: [الكامل]
وعلمت حتى ما أشاور عالما ... عن علم واحدة لكي أزدادها (1)
وسمعه كثيّر ينشده الوليد بن عبد الملك، فقال له: كذبت وربّ البيت الحرام، فليمتحنك أمير المؤمنين في صغار الأمور دون كبارها، حتى يتبّين جهلك، وما كنت قطّ أحمق منك اليوم حين تظنّ هذا في نفسك.
وقال أبو موسى المنجم: ما أحد تمنّيت أن أراه، فلمّا رأيته أمرت بصفعه إلا عديّا، فقيل له: ولم ذلك؟ قال: لقوله هذا البيت، كنت أعرض عليه أصناف العلوم، فكلمّا مرّ عليه بشيء لا يحسنه أمرت بصفعه.
قوله: وأعلم من تحت الجرباء: سمّيت السماء جرباء، لأن النجوم فيها كالجرب في البدن.
وقال ابن الروميّ في غلام يهواه وخرج عليه جدريّ، وأشار إلى جرب السماء:
[الوافر]
وقالوا شأنه الجدريّ فانظر ... إلى وجه به أثر الكلوم
فقلت: ملاحة نثرت عليه ... وما حسن السّماء بلا نجوم!
وقال أبو بكر بن السراج في الفتح بن مسروق البلخيّ، وقيل: قالهما في ابن ياسر المغنّي، وكان من أحسن الناس وجها: [السريع]
لي قمر جدّر لمّا استوى ... فزاده حسنا وزات الهموم
كأنّما غنّى لشمس الضحى ... فنقّطته طربا بالنجوم
وقال آخر: [البسيط]
كأن آثار نجدير بوجنته ... عشر معوّرة في صحف ورّاق
* * * وقال ذو الوزارتين أبو الوليد بن زيدون:
قال لي اعتلّ من هويت حسود ... قلت أنت العليل ويحك، لا هو
ما الذّي تنقمون من بثرات ... ضاعفت حسنه وزانت حلاه
وجهه في الصّفاء والرقة الماء ... ء، فلا غرو أن حباب علاه
__________
(1) البيت في الأغاني 8/ 33.(2/436)
قوله: صمد، أي قصد. فتيق: طليق. جريء الجنان: ماضي القلب قويّه.
انتخلت: اخترت. الفتيا: لغة في الفتوى، وهما اسمان يوضعان موضع الإفتاء، تقول:
إفتاء وفتيا وفتوى.
بنات غير، كناية عن الكذب. الفنجديهيّ. رأيت بخط الحريريّ: بنات الغير:
الكذب.
الفرّاء: يقال للرجل، أبو بنات عبر، وهو الباطن بعين مهملة وباء منقوطة، واحدة.
مير: رزق وصلة، وأصله جلب الطعام للأكل. الله أكبر: حكى أهل اللغة أنّ معناه كبير، وقال الفرزدق: [الكامل]
إنّ الّذي سمك السّماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعزّ وأطول (1)
أي عزيزة طويلة:
قال معن بن أوس: [الطويل]
لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل ... على أيّنا تعدو المنيّة أوّل (2)
أي لوجل، وقال النّحويون: الكسائي والفراء وهشام معناه: أكبر من كل شيء، فحذفت من لأنّ أفعل خبر، كقولك: أبوك أفضل وأعقل، أي من غيره، ولو كان اسما لم يحذف منه شيء، ألا ترى أن من قال: أخوك أفضل لم يقل إن أفضل أخوك، فحذفت «من» في الخبر، لأن الخبر يدلّ على أشياء غير موجودة في اللّفظ، نحو أخوك قام، فيدلّ على المصدر والزمان والمكان والاسم لا يحذف منه شيء يدلّ عليه. والمخبر، مصدر خبرت خبرة ومخبرا، إذا جرّبته، فأراد: سيتبيّن لك بالتجربة ما ادّعيته من العلوم، وينكشف لك ما أضمرته منها. اصدع: تكلّم وأظهر، وصدعت بالحق تكلّمت به جهارا، وقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمََا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] أي أظهر دينك.
__________
(1) البيت في ديوان الفرزدق 2/ 155، والأشباه والنظائر 6/ 50، وخزانة الأدب 6/ 539، 8/ 242، 276، 278، وشرح المفصل 6/ 97، 99، والصاحبي في فقه اللغة ص 257، ولسان العرب (كبر)، (عزز)، وتاج العروس (عزز)، والمقاصد النحوية 4/ 42، والبيت بلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 388، وشرح ابن عقيل ص 467.
(2) البيت لمعن بن أوس في ديوانه ص 39، وخزانة الأدب 8/ 244، 245، 289، 294، وشرح التصريح 2/ 51، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1126، ولسان العرب (كبر)، (وجل)، والمقاصد النحوية 3/ 493، وتاج العروس (وجل)، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 140، وأوضح المسالك 3/ 161، وجمهرة اللغة ص 493، وخزانة الأدب 6/ 505، وشرح الأشموني 2/ 322، وشرح شذور الذهب ص 133، وشرح قطر الندى ص 23، وشرح المفصل 4/ 87، 6/ 98، ولسان العرب (عنف)، (هون)، والمقتضب 3/ 246، والمنصف 3/ 35، وتاج العروس (عنف)، (هون).(2/437)
وإنما اعتمد الشيخ أبو محمد الحريري في شرح الألفاظ التي ألغز بها على الوجه المعمّى ولنشرح ما سوى ذلك مما اشتملت عليه إن شاء الله تعالى.
* * * قال: ما تقول فيمن توضّأ ثمّ لمس ظهر نعله؟ قال: انتقض وضوءه بفعله (النّعل: الزّوجة).
قال: فإن توضّأ ثمّ أتكأه البرد؟ قال: يجدّد الوضوء من بعد (البرد: النوم).
قال: أيمسح المتوضّئ أنثييه؟ قال: قد ندب إليه، ولم يوجب عليه.
(الأنثيان: الأذنان).
قال: أيجوز الوضوء ممّا يقذفه الثّعبان؟ قال: وهل أنظف منه للعربان! (الثّعبان: جمع ثعب، وهو مسيل الوادي).
قال: أيستباح ماء الضّرير؟ قال: نعم، ويجتنب ماء البصير. (الضّرير: حرف الوادي. والبصير: الكلب).
قال: أيحلّ التّطوّف في الرّبيع؟ قال: يكره ذلك للحدث الشّنيع. (التّطوّف:
التّغوّط. والرّبيع: النّهر الصّغير).
* * * قوله: لمسّ، جرّ أصابعه عليها. أتكأه: جعله متّكئا. يقذفه: يطرحه من بطنه.
والصّرير: الأعمى. والبصير: البصر.
والطّوف: مصدر طاف حول الشيء إذا دار به. والحدث: الغائط، وجعله شنيعا لأن الإنسان إذا فعله في الماء ظهر على وجه الماء فكانت به شنعة، واستقذر الماء فلم يستعمل، وإن كان مباحا استعماله.
* * * قال: أيجب الغسل على من أمنى؟ قال: لا ولو ثنّى. (أمنى: نزل مني، ويقال منه: منى وأمنى وامتنى).
قال: فهل يجب على الجنب غسل فروته؟ قال: أجل وغسل إبرته (الفروة:
جلدة الرّأس، والإبرة: عظم المرفق).
قال: أيجب عليه غسل صحيفته؟ قال: نعم كغسل شفته (الصّحيفة: أسرّة الوجه).(2/438)
قال: فإن أخلّ بغسل فأسه؟ قال: هو كما لو ألغى غسل رأسه (الفأس:
العظم المشرف على نقرة القفا).
قال: أيجوز الغسل في الجراب؟ قال: هو كالغسل في الجباب. (الجراب:
جوف البئر).
قال: فما نقول فيمن تيمّم ثم رأى روضا؟ قال: بطل تيمّمه فليتوضّأ (الرّوض ها هنا: جمع روضة، وهي الصّبابة تبقى في الحوض).
* * * أخلّ: نقص. نقرة: حفرة. الرّوض: مواضع الغيث. والصّبابة: البقيّة.
* * * قال: أيجوز أن يسجد الرّجل في العذرة؟ قال: نعم وليجانب القذرة (العذرة: فناء الدار).
قال: فهل له السّجود على الخلاف؟ قال: لا، ولا على أحد الأطراف.
(الخلاف: لكم).
قال: فإن سجد على شماله؟ قال: لا بأس بفعاله. (الشّمال: جمع شملة).
قال: فهل يجوز السّجود على الكراع؟ قال: نعم، دون الذّراع (الكراع: ما استطال من الحرّة، وهي أرض ذات حجارة سود).
قال: أيصلّي على رأس الكلب؟ قال: نعم، كسائر الهضب (رأس الكلب:
ثنيّة معروفة).
قال: أيجوز للدّارس حمل المصاحف؟ قال: لا، ولا حملها في الملاحف.
(الدّارس: الحائض).
قال: ما نقول فيمن صلّى وعانته بارزة؟ قال: صلاته جائزة. (العانة:
الجماعة من حمر الوحش).
* * * والكراع: الرّجل، وكراع كلّ شيء طرفه. والحرّة: أرض فيها حجارة سود.
والهضب: جمع هضبة وهي الصخرة العظيمة، والكدية الصغيرة، وقيل: الهضبة الجبل
المنبسط على وجه الأرض، وقيل: الجبل الطويل المتّسع والجمع هضاب. ثنيّة: عقبة.(2/439)
والهضب: جمع هضبة وهي الصخرة العظيمة، والكدية الصغيرة، وقيل: الهضبة الجبل
المنبسط على وجه الأرض، وقيل: الجبل الطويل المتّسع والجمع هضاب. ثنيّة: عقبة.
* * * قال: فإن صلّى وعليه صوم؟ قال: يعيد ولو صلّى مائة يوم. (الصوم: ذرق النّعام).
قال: فإن حمل جروا وصلّى؟ قال: هو كما لو حمل باقلّي. (الجرو:
الصّغار من القثّاء والرّمان).
قال: أتصحّ صلاة حامل القروة؟ قال: لا، ولو صلّى فوق المروة (القروة:
ميلغة الكلب).
قال: فإن قطر على ثوب المصلّي نجو؟ قال يمضي في صلاته ولا غرو.
(النّجو: السّحاب الّذي قد هراق ماءه).
قال: أيجوز أن يؤمّ الرّجال مقنّع؟ قال: نعم، ويؤمّهم مدرّع. (المقنّع:
لابس المغفر، والمدرّع: لابس الدّرع).
قال: فإن أمّهم من في يده وقف؟ قال: يعيدون ولو أنّهم ألف (الوقف:
السّوار من العاج أو الذّبل، وأراد أنّه لا يجوز للرجال الائتمام بالنّساء).
الميلغة: ما يشرب فيه الكلب الماء، وهي من ولغ الكلب، إذا تناول الماء بلسانه والقروة: نقير من خشب تشرب منه الكلاب. والقثّاء: هو الفقّوس. والنّجو: هو الحدث لا غرو: لا عجب. والمقنّع: لابس القناع، يريد المرأة. والوقف: ما وقف وحبس من الأموال على المساكين والمساجد. والذّبل: جلد السّلحفاة البريّة، ويقال: إنها تعظم، فربّما يضع التاجر ليلا عليها حمله يظنّها صخرة فترتحل به، ويستعمل من الطّبق الذي عليها خلاخل للحشم والعبيد. والعاج عظم الفيل.
* * * قال: فإن أمّهم من فخذه بادية؟ قال: صلاته وصلاتهم ماضية. (الفخذ:
العشيرة، وبادية، أي يسكنون البدو، واختار بعض أهل اللغة تسكين الخاء من هذه الفخذ، ليحصل الفرق بينها وبين العضو).
قال: فإن أمّهم الثور الأجمّ؟ قال: صلّ وخلاك ذمّ. (الثّور: السّيّد.
والأجمّ: الذي لا رمح معه).(2/440)
قال: أيدخل القصر في صلاة الشّاهد؟ قال: لا، والغائب الشاهد. (صلاة الشّاهد: صلاة المغرب، سمّيت بذلك لإقامتها عند طلوع النجم، لأنّ النّجم يسمّى الشاهد).
قال: أيجوز للمعذور أن يفطر في شهر رمضان؟ قال: ما رخّص فيه إلّا للصّبيان. (المعذور: المختون، وهو أيضا المعذّر).
قال: فهل للمعرّس أن يأكل فيه؟ قال: نعم بملء فيه. (المعرّس: المسافر الّذي ينزل في آخر ليله ليستريح ثمّ يرتحل).
قال: فإن أفطر فيه العراة؟ قال: لا تنكر عليهم الولاة. (العراة: الّذين تأخذهم العرواء، وهي الحمّى برعدة).
* * * قال: فإن أكل الصّائم بعد ما أصبح؟ قال: هو أحوط له وأصلح. (أصبح، أي استصبح بالمصباح).
قال: فإن عمد لأن أكل ليلا؟ قال: ليشمّر للقضاء ذيلا. (ذكر ابن دريد أنّ اللّيل فرخ الحبارى، وقال غيره: هو ولد الكروان).
قال: فإن أكل قبل أن تتوارى البيضاء؟ قال: يلزمه والله القضاء. (البيضاء من أسماء الشّمس).
قال: فإن استثار الصّائم الكيد؟ قال: أفطر ومن أحلّ الصّيد. (الكيد:
القيء. واستثاره، أي استدعاه).
قال: أله أن يفطر بإلحاح الطّابخ؟ قال: نعم لا بطاهي المطابخ. (الطّابخ:
الحمّى الصّالب).
قال: فإن ضحكت المرأة في صومها؟ قال: بطل صوم يومها. (ضحكت ها هنا، أي حاضت، ومنه قوله تعالى: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنََاهََا بِإِسْحََاقَ} [هود: 71].
قال: فإن ظهر الجدريّ على ضرّتها؟ قال: تفطر إن آذن بمضرّتها. (الضّرّة:
أصل الإبهام، وأصل الثّدي أيضا).
الطّاهي: طابخ اللّحم. والصّالب: الحمّى لا ترعد، وإلحاحها: ملازمتها.(2/441)
الجدريّ: قروح صغار تخرج على الصبيان. وضرّتها: شريكتها في زوجها.
* * * قال: ما يجب في مالة مصباح؟ قال: حقّتان يا صاح. (المصباح: النّاقة التي تصبح في المبرك).
قال: فإن ملك عشر خناجر؟ قال: يخرج شاتين ولا يشاجر. (الخناجر:
النّوق الغزار الدّرّ، واحدتها خنجر وخنجور).
قال: فإن سمح للسّاعي بحميمته؟ قال: يا بشرى له يوم قيامته. (السّاعي:
جابي الصّدقة، والحميمة: خيار المال).
قال: أيستحقّ حملة الأوزار من الزّكاة جزّا؟ قال: نعم إذا كانوا غزّى.
(الأوزار: السّلاح. وغزّى: جمع غاز).
قال: أيجوز للحاجّ أن يعتمر؟ قال: لا، ولا أن يختمر. (الاعتمار: لبس العمارة، وهي العمامة، والاختمار: لبس الخمار).
قال: فهل له أن يقتل الشّجاع؟ قال: نعم، كما يقتل السّباع. (الشّجاع:
الحيّة).
* * * الحقّة: التي استحقّت أن يركب عليها. والخناجر: نوع من السّكاكين الكبار.
ويشاجر: يخالف. والجابي: الجامع للصدقة، ومنه الجباية.
والأوزار: أثقال الذنوب. والغزّي: هؤلاء الرّماة بالنشّاب. ويعتمر: يحجّ بعمرة.
ويختمر: يستعمل الخبز المختمر.
* * * قال: فإن قتل زمّارة في الحرم؟ قال: عليه بدنة من النّعم. (الزّمّارة: النّعامة واسم صوتها الزّمّار).
قال: فإن رمى ساق حرّ فجدّله؟ قال: يخرج شاة بدله. (ساق حرّ: ذكر القماري).
قال: فإن قتل أمّ عوف بعد الإحرام؟ قال يتصدّق بقبضة من طعام. (أم عوف: الجرادة).(2/442)
قال: أيجب على الحاجّ استصحاب القارب؟ قال: نعم، ليسوقهم إلى المشارب. (القارب: طالب الماء باللّيل).
قال: ما تقول في الحرام بعد السّبت؟ قال: قد حلّ في ذلك الوقت.
(الحرام: المحرّم، والسّبت: حلق الرّأس. وحلّ، من تحليل الحجّ).
قال: ما تقول في بيع الكميت؟ قال: حرام كبيع الميت. (الكميت:
الخمر).
* * * والزّمارة: المرأة تضرب بالمزمار. والبدنة الناقة، سمّيت بذلك لضخامتها وبدن الرّجل ضخم. جدّله: قتله وطرحه على الجدالة، وهي الأرض. ومن أبيات اللّغز في الجرادة:
وما صفراء تكنى أمّ عوف ... كأنّ سويقتيها منجلان
والقارب: السفينة الصغيرة. والكميت: الفرس الأسود العرف والذّنب. والكمتة:
حمرة تضرب إلى السواد.
* * * قال: أيجوز بيع الخلّ بلحم الجمل؟ قال: ولا بلحم الحمل. (الخلّ ابن المخاض، ولا يحلّ بيع اللّحم بالحيوان، سواء كان من جنسه أو من غير جنسه).
قال: أيحلّ بيع الهديّة؟ قال: لا ولا بيع السّبيّة. (الهديّة، بالتّشديد: ما يهدى إلى الكعبة، ويقال فيها هدية، بتسكين الدّال وتخفيف الياء. والسبيّة:
الخمر).
قال: ما تقول في بيع العقيقة؟ قال: محظور على الحقيقة. (العقيقة: ما يذبح على المولود في اليوم السّابع من ولادته).
قال: أيجوز بيع الدّاعي، على الرّاعي؟ قال: لا، ولا على السّاعي.
(الدّاعي: بقية اللّبن في الضّرع، والسّاعي: جابي الصّدقة).
قال: أيباع الصقر بالتّمر؟ قال: لا، ومالك الخلق والأمر. (الصّقر:
الدّبس).(2/443)
قال: أيشتري المسلم سلب المسلمات؟ قال: نعم، ويورث عنه إذا مات.
(السّلب: لحاء الشّجر، وهو أيضا خوض الثّمام).
* * * والحمل: الخروف. والعقيقة: خرزة حمراء. محظور: ممنوع. والصّقر: من جوارح الطير. الدّبس: عسل التّمر. خوص: ورق. الثّمام: شجر ضعيف ورقه كورق الدّوم مزدوجة.
* * * قال: فهل يجوز أن يبتاع الشّافع؟ قال: ما لجوازه من دافع (الشافع: الشاة التّي يتبعها سخلها).
قال: أيباع الإبريق على بني الأصفر؟ قال: يكره كبيع المغفر. (الإبريق:
السّيف الصّقيل الكثير الماء. وبنو الأصفر: الرّوم).
قال: أيجوز أن يبيع الرّجل صيفيّه؟ قال: لا، ولكن ليبع صفيّه. (الصيفيّ:
الولد على الكبر، والصفّي: الناقة الغزيرة الدّرّ).
قال: فإن اشترى عبدا فبان بأمّه جراح؟ قال: ما في ردّه من جناح. (الأمّ:
مجتمع الدّماغ).
قال: أتثبت الشّفعة للشريك في الصحراء؟ قال: لا، ولا للشريك في الصّفراء. (الصّحراء: الأتان التي يمازج بياضها غبرة والصّفراء: النّاقة).
قال: أيحلّ أن يحمى ماء البئر والخلا! قال: إن كان في الفلا فلا. (يحمى:
يمنع. والخلا: الكلأ).
* * * الإبريق: آنية الخمر. الصّيفيّ: ما ولد في زمن الصيف. والصّفيّ: الصاحب الخالص. والدّرّ: اللبن. وبان: ظهر. وجناح: إثم. والأتان: الأنثى من الحمير.
* * * قال: ما تقول في ميتة الكافر؟ قال: حلّ للمقيم والمسافر. (الكافر: البحر، وميتته، السّمك الطّافي فوق مائه).
قال: أيجوز أن يضحّي بالحول؟ قال: هو أجدر بالقبول. (الحول: جمع حائل).(2/444)
قال: فهل يضحّي بالطّالق؟ قال: نعم، ويقرى منها الطارق. (الطالق: الناقة ترسل ترعى حيث شاءت).
قال: فإن ضحّى قبل ظهور الغزالة؟ قال: شاة لحم بلا محالة. (الغزالة:
الشمس). قال بعضهم: يقال: طلعت الغزالة. ولا يقال: غربت، وضدّها الجونة، تسمّى بها عند مغيبها، لأنها تسودّ حين تغيب، كما قال الشاعر: [الرجز]
* تبادر الجونة أن تغيبا (1) *
قال: أيحلّ التّكسّب بالطّرق؟ قال هو كالقمار بلا فرق. (الطّرق: الضّرب بالحصى، وهو من أفعال الكهنة).
قال: أيسلّم القائم على القاعد؟ قال: محظور فيما بين الأباعد. (القاعد:
التي قعدت عن الحيض أو عن الأزواج).
* * * والطّافي: المرتفع على وجه الماء. والحول: جمع أحول وحولاء. أجدر: أحق.
والطّرق: السّير بالليل. محظور: ممنوع.
* * * قال: أينام العاقل تحت الرّقيع؟ قال: أحبب به في البقيع. (الرّقيع: السّماء، وعنى بالبقيع المدينة).
قال: أيمنع الذّمّي من قتل العجوز؟ قال: معارضته في العجوز لا تجوز.
(العجوز: الخمر. وقتلها: مزجها).
قال: أيجوز أن ينتقل الرّجل عن عمارة أبيه؟ قال: ما مجرّز لخامل ولا نبيه.
(العمارة: القبيلة).
قال: ما تقول في التهوّد؟ قال: هو مفتاح التزهّد. (التّهوّد: التّوبة، ومنه قوله تعالى: {إِنََّا هُدْنََا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156].
__________
(1) يروى الرجز:
يبادر الأشباح أن تغيبا ... والجونة البيضاء أن تؤوبا
وهو للخطيم الضبابي في لسان العرب (جون)، وللأجلح بن قاسط الضبابي في النقائض ص 929، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 1303، وتاج العروس (أوب)، (جون)، والأزمنة والأمكنة 2/ 39، وأمالي القالي 1/ 9، وسمط اللآلي ص 41.(2/445)
قال: ما تقول في صبر البليّة؟ قال: أعظم به من خطيّة. (الصّبر: الحبس.
والبليّة: الناقة تحبس عند قبر صاحبها، فلا تسقى ولا تعلف إلى أن تموت، وكانت الجاهلية تزعم أنّ صاحبها يحشر عليها).
قال: أيحلّ ضرب السّفير؟ قال: نعم، والحمل على المستشير. (السّفير: ما تساقط من ورق الشجر. والمستشير: الجمل السّمين، وهو أيضا الجمل الّذي يعرف الّلاقح من الحائل).
* * * والرّقيع: الأحمق الذي يتخرّق عليه رأيه حتى يحتاج إلى أن يرقّع، ثم كثر حتى صار الرّقيع الماجن القليل الحياء، فأراد: أيرقد عاقل تحت رقيع؟ فقال: ما أحسن ذلك، إذا كان في البقيع هذا معناه في الظاهر، وما قصد به قد فسره. والبقيع في الأصل: كلّ موضع فيه أصول أشجار مختلفة. التّهوّد: الدّخول في دين اليهوديّة. عمارة أبيه: ما كان أبوه يعمره من دار يسكنها ومال يعمره السّفير: الرسول. المستشير: المسترشد الذي يستشيرك في أموره والحمل عليه إهانته وظلمه. اللّاقح: الحامل بالولد، والحائل:
ضدّهما.
* * * قال: أيعزّر الرّجل أباه؟ قال: يفعله البرّ ولا يأباه. (التّعزير: التّعظيم والنّصرة والتوقير).
قال: ما تقول فيمن أفقر أخاه؟ قال: حبّذا ما توخّاه. (أفقره: أعاره ناقة يركب فقارها).
قال: فإن أعرى ولده؟ قال: يا حسن ما اعتمده! (أعراه: أعطاه ثمرة نخلة عاما).
قال: فإن أصلى مملوكه النّار؟ قال: لا إثم عليه ولا عار. (المملوك:
العجين الذي قد أجيد عجنه حتّى قوي).
قال: أيجوز للمرأة أن تصرم بعلها؟ قال: ما حظر أحد فعلها. (البعل:
النّخل الذي يشرب بعروقه من الأرض).
قال: فهل تؤدّب المرأة على الخجل؟ قل: أجل. (الخجل: سوء احتمال
الغنى، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم للنساء: «إنّكن إذا جعتنّ دقعتنّ، وإذا شبعتنّ خجلتنّ») (1).(2/446)
قال: فهل تؤدّب المرأة على الخجل؟ قل: أجل. (الخجل: سوء احتمال
الغنى، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم للنساء: «إنّكن إذا جعتنّ دقعتنّ، وإذا شبعتنّ خجلتنّ») (1).
قال: ما تقول فيمن نحت أثلة أخيه؟ قال: أثم ولو أذن له فيه. (نحت أثلته، إذا اغتابه وقدح في عرضه).
* * * يعزّر: يؤدّب، والتّعزيز: ضرب دون الحدّ. والبرّ: المكرم لأبيه. توخاه:
قصده، وكذلك اعتمده. أصلاه: جعله فيها. تصرّم: تقطع وتباعد، وأصل الصّرم القطع. بعلها زوجها. حظر: منع. الخجل: الاستحياء. وأراد بسوء احتمال الغنى، أن تكون مبذّرة لمالها سفيهة، فكأنّ الغنى لمّا أتاها لم تحتمله فأفسدته نحت: نجر.
أثلة: شجرة.
* * * قال: أيحجر الحاكم على صاحب الثّور؟ قال: نعم، ليأمن غائلة الجور.
(الثّور: الجنون).
قال: فهل له أن يضرب على يد اليتيم؟ قال: نعم، إلى أن يستقيم. (يقال:
ضرب على يده، إذا حجر عليه).
قال: فهل يجوز أن يتّخذ له ربضا؟ قال: لا، ولو كان له رضا. (الرّبض:
الزوجة).
قال: فمتى يبيع بدن السّفيه؟ قال حين يرى له الحظّ فيه. (البدن: الدّرع القصيرة).
قال: فهل يجوز أن يبتاع له حشّا؟ قال: نعم، إذا لم يكن مغشّى. (الحشّ:
النخل المجتمع).
قال: أيجوز أن يكون الحاكم ظالما؟ قال: نعم، إذا كان عالما. (الظّالم:
الذي يشرب اللبن قبل أن يروّب ويخرج زبده).
قال: أيستقضى من ليست له بصيرة؟ قال: نعم، إذا حسنت منه السيّرة.
(البصيرة: التّرس).
__________
(1) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 2/ 127.(2/447)
قال: فإن تعرى من العقل؟ قال: ذاك عنوان الفضل. (العقل: ضرب من الوشي).
* * * غائلة: ضرر. الرّبض: بقاع من الأرض تباع وتشترى. الحشّ: الكنيف. مغشّى:
يغشاه الناس ويدخلونه. البصيرة: اليقين والنّظر السديد. السّير: العادة. عنوان: دليل وعلامة.
* * * قال: فإن كان له زهو جبّار؟ قال: لا إنكار عليه ولا إكبار. (الزهو: البسر المتلوّن. والجبّار: النخل الذي فات اليد وضدّه القاعد).
قال: أيجوز أن يكون الشّاهد مريبا؟ قال: نعم، إذا كان أريبا. (المريب:
الّذي يكثر عنده اللبن الرائب).
قال: فإن بان أنّه لاط؟ قال: هو كما لو خاط. (لاط الحوض، إذا طيّنه).
قال: فإن عثر على أنه غربل؟ قال: تردّ شهادته ولا تقبل. (غربل، أي قتل)، ومنه قول الراجز: [الرجز]
* ترى الملوك حوله مغربله (1) *
قال: فإن وضح أنّه مائن؟ قال: هو وصف له زائن. (المائن هاهنا: الذي يعول ويكفي المؤونة، من مان يمون، لا من مان يمين).
قال: ما يجب على عابد الحق؟ قال: يحلّف بإله الخلق. (العابد ها هنا:
الجاحد: والحقّ: الدّين).
قال: ما تقول فيمن فقأ عين بلبل عامدا؟ قال: تفقأ عينه قولا واحدا.
(البلبل: الرّجل الخفيف).
قال: فإن جرح قطاة امرأة فماتت؟ قال: النّفس بالنفس إذا فاتت. (القطة: ما بين الوركين).
* * * __________
(1) الرجز لعامر الخصفي في تاج العروس (غربل)، وللصحاري في تاج العروس (ضرم)، وبلا نسبة في لسان العرب (ثكل)، (حرمل)، (رعبل)، (غربل)، وتهذيب اللغة 8/ 243، وجمهرة اللغة ص 1132، ومقاييس اللغة 2/ 509، ومجمل اللغة 2/ 484، والمخصص 6/ 114.(2/448)
والزّهو: التكبّر والإعجاب. الأريب: العاقل. لاط: عمل عمل قوم لوط. وضح:
تبين. مائن: كاذب. القطاة: نوع من الحمام، وفقأ العين: أخرجها والبلبل، طائر.
* * * قال: فإن ألقت الحامل حشيشا من ضربه؟ قال: ليكفر بالإعناق عن ذنبه.
(الحشيش: الجنين الملقى ميتا).
قال: ما يجب على المختفي في الشرع؟ قال: القطع لإقامة الرّدع. (المختفي:
نبّاش القبور).
قال: فما يصنع بمن سرق أساود الدار؟ قال: يقطع إن ساوين ربع دينار.
(الأساود: الآلات المستعملة كالإجّانة والقدر: الجفنة).
قال: فإن سرق ثمينا من ذهب؟ قال: لا قطع كما لو غصب. (الثمين:
الثّمن، كما يقال في النصف: نصيف، وفي السّدس سديس).
قال: فإن بان على المرآة السّرق؟ قال: لا حرج عليها ولا فرق (السّرق:
الحرير الأبيض).
قال: أينعقد نكاح لم يشهده القواري؟ قال: لا والخالق الباري. (القواري:
الشهود لأنهم يقرون أي الأشياء، أو يتّبعونها).
قال: ما تقول في عريس باتت بليلة حرّة، ثم ردّت في حافرتها بسحرة؟
قال: يجب لها نصف الصّداق، ولا تلزمها عدّة الطلاق.
(يقال: باتت العروس بليلة حرّة، إذا امتنعت على زوجها فإن افتضّها قيل: باتت بليلة شيباء. والرّد في الحافرة بمعنى الرجوع في الطريق الأوّل، وكنى به عن طلاقها قبل وردها إلى أهلها).
* * * الحشيش: نبات يابس: الرّدع: الكفّ والمنع. الأساود: الحيات. الثّمين: الرفيع الثمن.
القواري: طيور خضر، وقد بين هو أنه أراد بالقواري الشّهود، ويقال: المسلمون قواري الله في الأرض أي شهرده، وقال جرير: [الكامل]
* المسلمون لما أقول قواري (1) *
__________
(1) يروى البيت بتمامه:
ماذا تعدّ إذا عددت عليكم ... والمسلمون بما أقول قواري
وهو لجرير في ديوانه ص 897، وأساس البلاغة (قرو).(2/449)
وباتت العروس بليلة شيباء، إذا غشيها زوجها.
الفنجديهي: رأيت: بخط الحريري رحمه الله تعالى: [الخفيف]
طيّبوها ولم أطيّب بطيب ... ربّ منع ألذّ من إعطاء
بتّ في درعها وباتت ضجيعي ... في بصير وليلة شيباء
البصير هنا: قطعة من دم:
وقد أتينا على ما في هذه المسائل من الغريب في الظاهر، وأمّا ما قصده من المعمّى فهو مفسّر في الأصل، وقد أحسن أبو محمد في هذه الفتاوى وبلغ منه الاقتدار والاتساع فوق المراد، وإن كان لا يوصف فيها الابتداع، فقد أحسن في الاتّباع.
[الملاحن والمعاريض]
والسابق إلى هذا المعنى أبو بكر بن دريد رحمه الله تعالى في كتاب سمّاه بالملاحن، وهي من اللّحن، وهو أن تورّي بلفظ عن لفظ.
ثم تمم تلك الأغراض وحسّنها أحمد بن عبيد الله في كتاب سمّاه بالمنقذ.
وفائدة حفظ هذه الأغراض أن يخوّف الرجل أو يروّعه أمير ظالم أو مسلّط غاشم، فيتخلّص منه بهذه المعاريض. فأما أن يقطع بها حقّ مسلم فلا سبيل إليها، ومعتمدهم فيها حديث عمران بن حصين أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم، قال: «إن في المعاريض مندوحة عن الكذب» (1).
وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «عجيب لمن يحسن المعاريض كيف يكذب، ولمن لاحن النّاس كيف لا يعرف جوامع الكلم!» (2).
وقول النبيّ صلّى الله عليه وسلم لطلائع المشركين حين لقوه في نفر من أصحابه، فقالوا: ممّن أنتم؟
قالوا: من ماء، فتركوهم، وأراد {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسََانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مََاءٍ دََافِقٍ} [الطارق: 6].
وقوله صلّى الله عليه وسلم في مزاحه لإحدى عماته «إن الجنة لا تدخلها عجوز»، فلمّا جزعت قال لها «إن الله تعالى يخلقهم يود القيامة أبكارا».
وقال لامرأة: «ما فعل زوجك الذي في عينيه بياض»؟ فلمّا جزعت قال: لها: «أو ليس في كلّ عين بياض»؟
وقال له رجل: احملني، قال: ما عندي إلا ولد الناقة، فقال: وما أصنع بولد الناقة؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «وهل الإبل إلا من النّوق!».
فاستجيزت المعاريض على هذا النحو من المزاح أو التخويف.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب باب 116، ورواه ابن الأثير الجزي في النهاية في غريب الحديث 3/ 212.
(2) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية 3/ 212.(2/450)
ومن ذلك أنّ بعض العرب أدخل على الواثق، وكان يقول بخلق القرآن ويعاقب من خالفة، فقال له، ما تقول في القرآن، فتصامم عليه، فأعاد السؤال، فقال: من تعني يا أمير المؤمنين؟ فقال: إيّاك أعني، فقال: مخلوق يعني نفسه، وتخلّص منه.
وقال لآخر من الصالحين: ما تقول في القرآن؟ فأخرج يده، وجعل يعدّ أصابعه، ويقول: التّوراة والإنجيل والقرآن هؤلاء الثلاثة مخلوقة. فعنى أصابعه، وتخّلص منه.
وتعذّر على رجل لقاء المأمون في ظلامة، فصاح على بابه: أنا أحمد النبيّ المبعوث.
فأدخل إليه، وأعلم أنه تنبّأ فقال له: ما تقول؟ فذكر ظلامته، فقال: له ما تقول فيما حكي عنك؟ فقال: وما هو؟ ذكروا أنّك تقول إنّك نبي، فقال: معاذ الله، إنّما قلت: أنا أحمد النبيّ المبعوث، أفأنت يا أمير المؤمنين مّمن لا يحمده؟ فاستظرفه، وأمر بإنصافه.
وخرج شريح القاضي من عند زياد، وتركه يجود بنفسه، فسأله الناس عن حاله، فقال: تركته يأمر وينهي، فجزعوا لسلامته، فما راعهم إلا صياح النّائحات عليه. فسئل شريح عن قوله، فقال: تركته يأمر بالوصيّة، وينهي عن البكاء.
وسئل ابن شبرمة عن رجل ليستعمل، فقال: إن له شرفا وقدما وبيتا. فنظروا فإذا هو ساقط سفلة، فقيل له في ذلك، فقال: شرفه أذناه، وبيته الّذي يأوي إليه وقدمه الذي يمشي عليه.
وقال صاحب المنقذ:
إذا حلفت بالأيمان اللازمة لك، فانو بالأيمان الأيدي، قال تعالى: {عَنْ أَيْمََانِهِمْ وَعَنْ شَمََائِلِهِمْ} [الأعراف: 17]. فإن قلت: كلّ امرأة طالق فاعن الطّالق من الإبل، وهي التي يطلقّها الراعي، والطّالق الّتي يحمل عليها عقالها.
فإن قيل: احلف بظهار امرأتك كظهر أمّك، فاعن بالظّهر ما يركب من الخيل والبغال والحمير، ولا جناح عليه في ركوب دوابّ أمه.
فإن قال: احلف بما لك على المسلمين صدقة، فاعن ما لك على المساكين من دين، وليس لك عليهم شيء.
فإن أحلفك بأنّ كلّ مملوك لك حرّ. فالمملوك: الدّقيق الملتوت بالماء أو الزيت أو السمن.
فإن قال: كلّ غلام لك حرّ. فالحرّ: الحيّة الذّكر، والحرّ من الرمل الّذي ما وطئ، والحرّ: ذكر الحمام، قال حميد. [الطويل]
* دعت ساق حرّ ترحة وترنّما (1) *
__________
(1) صدره:
وما هاج هذا الشوق إلّا حمامة
والبيت لحميد بن ثور الهلالي في ديوانه ص 24، ولسان العرب (حرر)، (سوق)، (حمم)،(2/451)
فإن أحلفك بأنّ كل جارية لك حرّة، فالجارية السفينة، والريح والشمس.
فإن قال: احلف وإلا كلّ أمة لك حرّة، فالحرّة الأذن، والحرّة السحابة الغزيرة المطر.
فإن أحلفك: وإلا فما لك حبس، فحبس بلد معروف، قال ابن حلّزة: [الكامل]
* لمن الديار عفون بالحبس (1) *
فإن قال: وإلّا فهو كافر. فالكافر الليل، أو البحر أو الزرّاع للبذر، قال الله تعالى:
{أَعْجَبَ الْكُفََّارَ نَبََاتُهُ} [الحديد: 20]، وأصله الساتر.
وتقول: كلّ امرأة تزوجّتها فقد طلّقتها بتاتا. فتزوّجت اتخذت زوجا من النبات أي لونا، وقال الله تعالى: {وَأَنْبَتْنََا فِيهََا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7]. وقال تعالى:
{فَأَخْرَجْنََا بِهِ أَزْوََاجاً مِنْ نَبََاتٍ شَتََّى} [طه: 3]، وطلّقتها ألبستها الطلق، وهو قبة من جلود والنبات: الزاد.
وتقول: ما تطيّبت ولا تمسّكت. فتطيّبت أتيت الطّيب، وهو بلد بين واسط والسوس، أو طيبة مدينة النبي صلّى الله عليه وسلم. وتمسّكت: لبست مسكا وهو الجلد، أو تفعّلّت من الامتساك.
وتقول: ماله قبلي درهم ولا دينار. فدرهم قبيلة من ربيعة، لهم خطّة في البصرة، ودينار اسم رجل معروف.
وماله قبلي ثوب ولا شقّة ولا قميص. الثّوب: الرجوع، من ثاب يثوب، والشقّه:
البعد. والقميص: غشاء القلب.
وماله قبلي شيء بوجه من الوجوه، ولا بسبب من الأسباب. الشيءّ: مصدر شويت اللحم. والوجوه صور مختلفة من التّصاوير. والوجه: المقصد، والجمع وجوه، والأسباب: الحبال.
وما أوصيت إليه، وما أوصى إليّ. أوصى دخل في الواصي، وهو بيت متّصل بعضه ببعض.
__________
ومقاييس اللغة 2/ 6، ومجمل اللغة 2/ 8، وتاج العروس (حرر)، (علط)، (سوق)، (وحى)، وبلا نسبة في كتاب العين 3/ 24.
(1) عجزه:
آياتها كمهارق الفرس
والبيت للحارث بن حلزة في ديوانه ص 48، وتاج العروس (حبس)، ولسان العرب (هرق)، وفيه «الحبش» بدل «الفرس»، وشرح اختيارات المفضل ص 632، وشعراء النصرانية ص 419، ومعجم ما استعجم ص 420.(2/452)
ولا أعلم له دارا ولا عقارا فدارا: بلد معروف بالجزيرة، قال الشاعر: [مجزوء الرمل]
ولقد قلت لرجلي ... بين حرّان ودارا
اصبري يا رجل حتّى ... يرزق الله حمارا
والعقار: النّخل:
ولا أعرف للمرأة بعلا ولا وليّا. فالبعل: النخل أو الشجر، يشرب بماء السحاب، والوليّ: يلي الوسميّ.
وتقول: ما اشتريت لفلانة ضرّتك قميصا، ولا إزارا ولا رداء، ولا قناعا ولا غلالة، ولا حلّيتها خاتما ولا خلخالا ولا طوقا ولا سوارا ولا قرّطتها ولا شنّفتها ولا كسوتها، ولا جلست مع قينة ولا مغنّية ولا ضاربة بعود ولا بطبل ولا رباب، ولا سمعت زمّارة ولا ذقت نبيذا فالقميص غشاء القلب، والرّداء السيف أو الدّين أو الغطاء، والإزار:
قبل المرأة أو جسم الرجل، قال الشاعر: [الوافر]
* فدى لك من أخي ثقة إزار (1) *
والإزار: العفاف، والقناع: جمع قنع، وهو طبق يجعل عليه الفاكهة. وفي الحديث: إنّ الربيع ابنة معوذ أتت النبيّ صلّى الله عليه وسلم بقناع من رطب وآخر من زغب فأكل منه (2)، والزّغب: القثّاء. والغلالة: مسمار من مسامير الدّروع قال: [الطويل]
* فهنّ وضاء صافيات الغلائل (3) *
والغلالة: الجماعة من الناس، والخاتم: شعرات بيض في قوائم الفرس. والسّوار مصدر ساورت الرّجل. والخلخال: الرّمل الجريش. والطّوق: المصدر من الطاقة،
__________
(1) صدره:
ألا أبلغ أبا حفص رسولا
والبيت لبقيلة الأكبر الأشجعي، وكنيته أبو المنهال، في لسان العرب (أزر)، والمؤتلف والمختلف ص 63، وعجزه في لسان العرب (أزر)، منسوبا إلى جعدة بن عبد الله السلمي، وبلا نسبة في شرح اختيارات المفضّل ص 250، وشرح شواهد الإيضاح ص 162، ولسان العرب (قلص).
(2) أخرجه أحمد في المسند 6/ 359.
(3) يروى البيت بتمامه:
علين بكديون وأشعرن كرّة ... فهنّ إضاء صافيات الغلائل
وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص 147، وجمهرة اللغة ص 126، 1245، وخزانة الأدب 3/ 167، ولسان العرب (وضأ)، (كرر)، (غلل)، (كدن)، (أضأ)، والمعاني الكبير ص 1036، وتاج العروس (وضأ)، (كرر)، (غلل)، (كدن)، (أضأ)، وبلا نسبة في شرح المفصل 5/ 22، والمعاني الكبير ص 1033.(2/453)
وقرّطتها من القرط، وهو العلف الرّطب تأكله الدّواب، فإذا يبس فهو القتّ. وشنّفتها جعلتها مشنفة أي مبغضة، من شنفت الرّجل، إذا أبغضته. وكسوتها: ضربت كساها، وهو جانبها، وجانب كلّ شيء كساه والجمع أكساه، والقينة: هزمة بين الوركين وعجب الذّنب من الفرس، والعود الذي يتبخّر به، والزّمارة: الفاجرة، ومنه نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن كسب الزمّارة (1)، والزّمّارة: الغلّ، وفي خبر الحجاج: أتى سعيد بن جبير وفي عنقه الزّمارة، أي ساجور، والطبل: السّلة التي يجعل فيها الطعام، والطّبل: الخراج.
والمغنّية: ناقة تضرب بنابها، والرّباب: سحاب متراكب قريب من الأرض. والنّبيذ: ما نبذته النعام أو الحمير بأرجلها من الحصى.
وتقول: مالي مركوب وما بعت عبدا، وقد افتقرت حتى ما في ملكي نفقة يوم مالي، بمعنى ملكي، ومركوب: ضربت ركبته، وثنيّة بالحجاز. وعبد: جبل من جبال طيّئ. وافتقر: اشتدّ فقاره أو كسر فقار جدي أو حمل، والملك: الحجة.
وتقول: ما أضعت عملك ولا قصّرت ولا أهملت ولا فرّطت ولا سامحت أحدا، ولا تركت واجبا، ولا ارتفقت بحبّه، ولا أبقيت غاية في مناصحتك. أضعت: كثرت ضياعي. وفرّطت: بعثت فارطا، وهو طالب الماء، وقصرت: بنيت قصرا. وأهملت:
كثرت هواملي، وهي الإبل السارحة في المرعى بلا راع. وسامحت: نظرت أيّنا أكرم.
والواجب: السّاقط، وارتفقت: نمت على مرفقي، والغاية: راية الحمار.
وتقول: ما شتمت له أبي ولا عمّا ولا عمّة، ولا خالا ولا خالة، ولا صحبته، ولا شاهدته ولا راسلته، ولا شاربته، ولا نادمته، ولا رأيته منذ دهر.
أبى: داء يأخذ المعزى، قال: [الطويل]
* أبى لا إخال الضّأن منه نواجيا (2) *
وعمّ: قطعة من الناس، وقرية بالشام، والعمّة النخلة، قال صلّى الله عليه وسلم: «نعمت العمّة لكم النخلة» (3)، وقيل لها عمّة لأنها خلقت من بقية طينة آدم عليه السلام. والخال:
السحاب، والخال من البرود، والخال من الخيلان، والخالة: جمع خال من الكبر.
وصحبته: منعته قال تعالى: {وَلََا هُمْ مِنََّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء: 43]، أي يمنعون.
وشاهدته: أكلت معه الشّهد، وراسلته: شربت معه الرّسل، وهو اللبن، وشاربته من
__________
(1) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية 2/ 312. وقال: الزمّارة: هي الزانية.
(2) صدره:
فقلت لكنّاز تدكّل فإنه
والبيت لابن أحمر في ديوانه ص 172، ولسان العرب (دكل)، (أبي)، وتهذيب اللغة 10/ 119، 15/ 64، وجمهرة اللغة ص 1090، وتاج العروس (أبي)، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 1/ 46.
(3) رواه بنحوه ابن الأثير الجزري في النهاية 3/ 303، ولفظه: «أكرموا عمتكم النخلة».(2/454)
الشوارب، ونادمته من النّدم، ورأيته: ضربت رئته، ودهر: قبيلة من إياد.
وتقول: ما كتبت له حرفا، ولا خططت له بقلم، ولا شتمته ولا هجوته، ولا افتريت عليه، ولا أعرف عليه سوءا. الحرف الناقة المضمرة، والقلم: القدح، قال الله تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلََامَهُمْ} [آل عمران: 44]، يعني قداح الميسر. والشّتم: قبح الوجه، وهجوته: أزلت نعمته، وهو الهجى مقصور، وافتريت: لبست الفرو، والسّوء:
البرص.
وتقول: رأيته في السّوق متوفّى مقبورا، وما أخذ دواء ولا معجونا. فالسوق:
أصول الشجر وأعناقها. متوفّى دائما. مقبورا: مبخّرا بالعود الهنديّ الذي فيه قبر، أي رخاوة. والدواء والدّاوية: جلدة اللبن، والمعجون: المضروب على عجانه.
وتقول: هو مجنون مصاب، قد غلّ مرارا، فما اعتذرت له، ولا تنصّلت، لأنه ليس من الأجواد، ولا الشّجعان الذين يقدح في أنسابهم. المجنون: المستور. مصاب:
مجدّر من صاب يصوب، وغلّ من الغلّة، واعتذر وتنصّل؟ اتخذ عذارا ونصلا.
والأجواد: العطاش. والشّجعان: الحيّات، والأنساب: أسنان المشط.
وتقول: رأيت الجيش بالثّغر، والفارس في الفوارس، فما أفضّل عليه أحدا من العرب والعجم. الجيش: الغليان، والثّغر: شجر له شوك، والفارس: الحسن الفراسة، والفوارس: كثبان رمل، والعرب: فساد المعدة، وعربت معدته. والعجم: النّوى.
وما أكلت دابتي شعيرا. الشعير: جمع شعيرة، وهو مسمار من الفضّة في قائم السّيف.
والباب متسع وفيه تأنّس لما ذكره أبو محمد.
* * * ومن المعاريض، أن الحجاج لما أخرج ابن القبعثري من سجنه قال له: سمنت يا غضبان، قال: القيد والرّتعة (1)، والخفض والدعة، ومن يكن ضيف الأمير يسمن، قال:
لأحملنّك على الأدهم قال: مثل الأمير يحمل على الأدهم والورد والكميت. قال: إنه حديد، قال: لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا، قال: اضربوا به الأرض، قال:
{مِنْهََا خَلَقْنََاكُمْ وَفِيهََا نُعِيدُكُمْ} [طه: 55] قال: جرّوة، قال: {بِسْمِ اللََّهِ مَجْرََاهََا وَمُرْسََاهََا} [هود: 41]، قال: احملوه على الأيدي فلما حمل قال: {سُبْحََانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنََا هََذََا} [الزخرف: 13]، فضحك الحجاج وقال: غلبنا هذا الخبيث، خلّوه إلى صفحي عنه، قال: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلََامٌ} [الزخرف: 89].
وقال خالد بن الوليد لعبد المسيح بن عمرو الغسّاني وهو ابن ثلاثمائة وخمسين
__________
(1) الرتعة: الاتساع في الخصب.(2/455)
سنة من أين أقصى أثرك؟ قال: من صلب أبي، قال: من أين خرجت؟ قال: من بطن أمي، قال: فعلام أنت؟ قال: على الأرض، قال: فقيم أنت؟ قال: في ثيابي، قال:
أتعقل لا عقلت! قال: إي والله وأقيّد، قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد، قال:
فما سنّك؟ قال: عظم، قال: ما تزيدني مسألتك إلّا عيّا، قال: ما أجبتك إلا عن مسألتك.
الربيع بن عبد الرحمن، قلت لأعرابيّ: أتهمز إسرائيل؟ قال: إني إذا لرجل سوء أراد قوله: {هَمََّازٍ مَشََّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11]، قلت: أتجرّ فلسطين؟ قال: إني إذا لقويّ!.
خلف الأحمر: قلت لأعرابيّ: ألقي عليك بيتا؟ قال: على نفسك فألقه.
قيل لأعرابي: أتهمز الفأرة؟ قال: الهرّ يهمزها.
ودخل رجل من محارب قيس على عبد الله بن يزيد الهلالي عامل إرمينية، وقد بات على قرب من غدير فيه ضفادع، فقال عبد الله: ما تركتنا شيوخ محارب ننام في هذه الليلة لشدة أصواتها. فقال المحاربيّ: أصلح الله الأمير إنها أضلّت برقعا، فهي في بغائه.
أراد الهلاليّ قول الأخطل: [الطويل]
تنقّ بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري (1)
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حيّة البحر
وأراد المحاربيّ قول الآخر: [الخفيف]
لكلّ هلاليّ من اللؤم برقع ... ولابن هلال برقع وقميص
وهذا النحو من التعريض كثير.
وقال أبو الحسن بن سراج رحمه الله تعالى: [السريع]
يا ضرّة الشمس التي أشرقت ... قد أشرقت حجّة مشتاقك
لحظك أو خصرك قد ضمنا ... ما ضمنت عهدة ميثاقك
ثأر الهوى يطلبه ثائر ... مصرعه ما بين أحداقك
لا تدخري أنفس صوت فقد ... يرغب في أنفس أعلاقك
رفقا بمن ملّكته في الهوى ... فإنه آخر عشّاقك
فأنفس أعلاق المرأة معلوم، والظّرف كلّه في قوله: «فإنه آخر عشّاقك» يعرّض أنها أسنّت فلا عاشق لها من بعده. والقينة: التيّ داعبها ومازحها تفهم ما خوطبت به، لأنها
__________
(1) البيتان في ديوان الأخطل ص 132.(2/456)
تلميذة ولّادة بنت المكتفي، وولّادة شاعرة بارعة التّندير، فمن تندّرها قولها في ذي الوزارتين ابن زيدون عاشقها تعرّض له بشيء كان يزنّ به: [السريع]
ما لابن زيدون على فضله ... يغتابني ظلما ولا ذنب لي
يلحظني شزرا إذا جئته ... كأنّما جئت لأخصي علي
وعليّ صبيّه، وكان يمزح معه.
* * * فقال له السّائل: لله درّك من بحر لا يغضغضه الماتح، وحبر لا يبلغ مدحه المادح ثمّ أطرق إطراق الحييّ، وأرمّ إرمام العييّ فقال له أبو زيد: إيه يا فتى! فإلى متى وإلى متى! فقال: إيه لم يبق في كنانتي مرماة، ولا بعد إشراق صبحك مماراة فبالله أيّ ابن أرض أنت؟ فما أحسن ما أبنت! فأنشد بلسان ذلق، وصوت صهصلق: [مجزوء الوافر]
أنا في العالم مثله ... ولأهل العلم قبله
غير أني كلّ يوم ... بين تعريس ورحله
والغريب الدار لو ح ... لّ بطوبى لم تطب له
ثمّ قال: اللهمّ كما جعلتنا ممن هدي ويهدي، فاجعلهم ممّن يهتدي ويهدي.
فساق إليه القوم ذودا مع قينة، وسألوه أين يزورهم الفينة بعد الفينة. فنهض يمنّيهم العود، ويزجيّ الأمة والذّود.
* * * قوله: يغضغضه: ينقصه. الماتح: المستقي من أعلى البئر، والمائح، بالياء من قعرها. حبر: عالم. أطرق: أمال رأسه ساكتا. وأرمّ: سكت. العييّ: الذي إن كلّمته لم يحسن ردّ جوابه. إيه: بمعنى زدني من سؤالك.
ابن السريّ: إذا قلت: «إيه يا رجل»، فإنما تأمره أن يزيدك من الحديث المعهود بينكما، كأنك قلت: هات الحديث، وإن قلت إيه: بالتنوين، فكأنك قلت: هات حديثا ما، فإلى متى سكوتك؟ مرماة: سهم يرمي به السّبق، وقيل: هو سهم مدوّر النّصل. بعد إشراق صبحك، أي بعد ظهور فضلك. وإشراق ضوء. مماراة: شك. أبنت: بيّنت.
ذلق: حديد. صهصلق: شديد. مثلة: مغيّر الخلق، فهي «فعلة» من المثل، ويقال المثلة والمثل بمعنى.
* * *
[قباح الوجوه](2/457)
* * *
[قباح الوجوه]
ونذكر على قوله: «أنا في العالم مثلة»، فصلا في ذكر قباح الوجوه من العلماء وغيرهم.
فمنهم الجاحظ، وأراد المتوكل أن يعلّم بنيه الثلاثة ولاة عهده، فأدخل عليهم، فارتاعوا من قبح وجهه، فأخرج عنهم بعنف.
وحكى المسعوديّ: أنّ الجاحظ قال: ذكرت للمتوكّل لتعليم بعض ولده، فلما رآني استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني.
وقال الحمدونيّ: [الكامل]
لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا ... لرأيته في دون قبح الجاحظ
رجل ينوب عن الجحيم بوجهه ... وهو العدوّ لكلّ عين لاحظ
قال الأصمعيّ رحمه الله: دخلت يوما على جعفر بن يحيى، فقال لي: هل لك يا أصمعيّ من زوجة؟ قلت: لا، قال: فجارية؟ قلت: للمهنة، قال: فهل لك أن أهب لك جارية نظيفة؟، قلت: إني لمحتاج إلى ذلك. فأمر بجارية فأخرجت وهي في غاية الحسن والجمال والهيئة والظّرف، فقال لها: قد وهبتك لهذا، وقال لي: خذ هذه، فشكرته، وبكت الجارية، وقالت: يا سيّدي، أتدفعني لهذا الشيخ مع ما أرى من سماحتك وقبح منظره! وجزعت جزعا شديدا، فقال لي: يا أصمعيّ، هل لك أن أعوّضك منها ألف دينار؟ فقلت: ما أكره ذلك، فأمر لي بها، ودخلت الجارية، فقال لي: يا أصمعيّ، أنكرت عليها شيئا، فأردت عقوبتها بك، ثم رحمتها منك، فقلت: أيّها الأمير، أفلا أعلمتني قبل ذلك، فإنّي لم آتك حتى سرّحت لحيتي، وأصلحت وجهي وعّمتي، فلو عرفت الخبر لسرت على هيئتي وخلقتي، فو الله لو رأتني كذلك ما عاودت شيئا تنكره أبدا.
وما ضرّ من ذكرنا قبحهم مع العلم الذي زينّهم الله به، وكذا ينبغي لمن خلق قبيح الصورة أن يستعمل لها الأخلاق الحسان، والأفعال الحسان، لئلّا يجمع بين قبيحين.
كان الأويقص المخزوميّ أقبح الناس خلقة، وما روي مثله في العفاف والزهد.
وكان قاضي مكة، فقال يوما لجلسائه: قالت لي أمّي: يا بنيّ إنك خلقت خلقة لا تصلح معها لمجالسة الفتيان في بيوت القيان، فعليك بالدّين، فإنّ الله تعالى يرفع به الخسيسة، ويتمّ به النقيصة. فنفعني الله بكلامها، فولّيت القضاء.
وروي أن أمّ مالك بن أنس أوصته بمثل هذه الوصية، حين أراد أن يتعلّم الغناء في حداثته، فتكره وتعلّم العلم، فذهب به حيث بلغ.
وكان عطاء بن أبي رباح أعور أسود أفطس أشلّ أعرج، ثم عمي. وأمّه سوداء
تسمّى بركة، وقيل لأهل مكة بعد موته: كيف كان عطاء بن أبي رباح فيكم؟ قالوا: كان مثل العافية التي لا يعرف فضلها حتى تفقد.(2/458)
وكان عطاء بن أبي رباح أعور أسود أفطس أشلّ أعرج، ثم عمي. وأمّه سوداء
تسمّى بركة، وقيل لأهل مكة بعد موته: كيف كان عطاء بن أبي رباح فيكم؟ قالوا: كان مثل العافية التي لا يعرف فضلها حتى تفقد.
وكان في خلقة أبان بن عثمان كلّ عيب، وكان يضرب بعيوبه المثل في المدينة.
كان معن بن زائدة أمير اليمن يوما جالسا إذ أتته امرأة من بني سهم، ومعها ابن صغير يتبعها، ويطأ أذيالها، فقالت: أصلح الله الأمير! إن عمّي زوّجني من ليس بكفء، فقال: من هو؟ فقالت: ابن ذي مناجب؟ فقال: عليّ به، فدخل أقبح من خلق الله، وأشوههم خلقا، فقال: من هذه منك؟ قال: امرأتيّ، قال: خلّ سبيلها، ففعل، فأطرق معن ساعة، ثم رفع رأسه فقال: [الطويل]
لعمري لقد أصبحت غير محبّب ... ولا حسن في عينها ذو مناجب
فما لمتها لمّا تبيّنت وجهه ... وعينا له خوصاء من تحت حاجب
وأنفا كأنف البكر يقطر ناتئا ... على لحية عضباء منه وشارب
أتيت بها مثل المهاة تسوقها ... فيا حسن مجلوب ويا شرّ جالب
وكان تزوجها بمكّة وقدم بها اليمن. والصبيّ هو ابن جامع المغنّي المشهور.
وحكى البحتريّ في نوادره عن رجل سمّاه قال: مررت بامرأة من أجمل الناس، معها رجل من أقبحهم، فقلت لها: يا أمة الله، من هذا منك؟ قالت: رجليه، فقلت:
ومن قرنك به؟ قالت: أخيه، فقلت: [الوافر]
جزى الرحمن عنك أخاك شرّا ... فقد أخزاك في الدنيا وزادا
فلم أر مغزلا قرنت بكلب ... ولا خزّا بطانته بجادا
وقال آخر: [الطويل]
ألا ربّ بيضاء المحاجر طفلة ... تساق إلى وغد من القوم تنبال
يقولون جرّتها إليك قرابة ... فويح العذارى من بني العمّ والخال!
وقال آخر: [مجزوء الرمل]
لابن عبد النور وجه ... صار للقبح ملاذا
قال قرد إذ رآه ... لعنة الله على ذا
وقال في بشار: [الطويل]
تواثب أقمارا وأنت مشوّه ... وأقرب خلق الله من شبه القرد
وكان بشار ضخما قبيح الوجه، جاحظ الحدقتين، أقبح الناس عمى ومنظرا فقال فيه حمّاد عجرد: [مجزوء الوافر](2/459)
ألا من مبلغ عني ال ... ذي والده برد
إذا ما نسب النّاس ... فلا قبل ولا بعد
وأعمى يشبه القردا ... إذا ما عمي القرد
فقال: بشار عندما سمع هذا البيت: ما أخطأ ابن الزانية من حين شبّهني بقرد وجعل يبكي ويقول: ما حيلتي! يراني ويشبّهني، ولا أراه فأشبهه! وبعده: [مجزوء الوافر]
ولو تلقيه في صلد ... صفا لا نصدع الصّلد
هو الكلب إذا ما ما ... ت لم يوجد له فقد
وأنشده رجل قول حماد: [الطويل]
دعيت إلى برد وأنت لغيره ... وهبك لبرد نكت أمك من برد
فقال: هاهنا أحد؟ قال: لا، قال: أحسن والله ابن الزانية، ولقد تهيّأ له في بيت واحد عليّ خمسة معان من الهجو، وهي: «دعيت إلى برد» معنى «وأنت لغيره» معنى ثان، و «هبك لبرد» معنى ثالث، «نكت أمك» شتم واستخفاف مجرّد، وهو معنى رابع، ثم ختمها بقوله: «من برد» فأتى بالطامّة الكبرى.
وأوجع ما مرّ عليه من قول حماد: [السريع]
لو طليت جلدته غنبرا ... لأفسدت جلدته العنبرا
أو طليت مسكا ذكيّا إذا ... تحوّل المسك عليه خرا
كان حفص بن أبي بردة أفطس أعفص مقبّح الوجه، وكان حماد صديقه، فتناشدوا الشعر يوما، فطعن حفص على مرقّش، فقال حماد: [الطويل]
لقد كان في عينيك يا حفص شاغل ... وأنف كثيل العوذ عمّا تتبّع
تتبّع لحنا في كلام مرقّش ... ووجهك مبنيّ على اللّحن أجمع
فأذناك إقواء وأنفك مكفأ ... وعيناك إيطاء، فأنت المرقّع
أخذ تشبيه الأنف بالثّيل من قول كعب في الوليد بن عبد الملك: [المتقارب]
فقدت الوليد وأنفا له ... كثيل البعير أبى أن يبولا
قال أبو زيد: رأيت أعرابيّا كأنّ أنفه كوز من عظمه، فرآنا نضحك، فقال لنا: ما يضحككم! فو الله لقد كنت في قوم يسمّوني الأفطس.
وقال الشاعر: [المتقارب]
إذا أنت أقبلت في حاجة ... إليه فكلّمه من خلفه
فإن أنت واجهته بالكلا ... م لم يسمع الصّوت من أنفه
وقال آخر: [مجزوء الرمل](2/460)
إذا أنت أقبلت في حاجة ... إليه فكلّمه من خلفه
فإن أنت واجهته بالكلا ... م لم يسمع الصّوت من أنفه
وقال آخر: [مجزوء الرمل]
إنّ عيسى أنف أنفه ... أنفه ضعف لضعفه
لو تراه راكبا وال ... أنف قد جال بعطفه
لرأيت الأنف في السّر ... ج وعيسى ردف أنفه
وقال الحسن في جعفر بن يحيى: [البسيط]
ذاك الوزير الذي طالت علاوته ... كأنّه ناظر في السيف بالطول
وقال أبو عليّ الخليع: [الكامل]
سابور ويحك ما أخس ... ك بل أخصّك بالعيوب!
وجه قبيح في التبسّم ... كيف يحسن في القطوب!
كان جحظة البرمكي ناتئ العينين جدّا، قبيح الوجه، فقال فيه ابن الروميّ: [الكامل]
نبئت جحظة يستعير جحوظه ... من فيل شطرنج ومن سرطان
يا رحمة لمنادميه تحتملوا ... ألم العيون للذّة الآذان
وكان طيّب الغناء، وحضر مجلسه عليّ بن بسام، فتفرّق القوم المخادّ، فقال جحظة: ما لي لا أعطى مخدّة؟ فقال له ابن بسام: غنّ فالمخادّ كلها إليك تصير، وقال فيه: [السريع]
يا من هجوناه فغنّانا ... أنت وحق الله أهجانا
سيّان إن غنّى لنا جحظة ... أو مرّ مجنون فزنّانا
وله فيه أيضا: [السريع]
لجحظة المحسن عندي يد ... أشكرها منه إلى المحشر
لما رآني رد برذونه ... وصانني عن وجهه المنكر
كان الحطيئة قبيح المنظر، كثير الشّرّ، فالتمس يوما إنسانا يهجوه فلم يجد، فجعل يقول: [الطويل]
أبت شفتاي اليوم إلّا تكلّما ... بشر فما أدري لمن أنا قائله
فاطّلع في ماء فرأى وجهه، فقال: [الطويل]
أرى لي وجها قبّح الله شخصه ... فقبّح من وجه وقبّح حامله (1)
__________
(1) البيت والذي قبله في ديوان الحطيئة ص 257، والبيت الثاني في لسان العرب (قبح)، (شوه) وتاج العروس (قبح)، وكتاب العين 4/ 68.(2/461)
نظر إلى هذا إسماعيل بن معمر القراطيسيّ فقال: [السريع]
ويلي على ساكن شطّ الصراة ... من وجنتيه شمت برق الحياه
ما تنقضي من عجب فكرتي ... من خصلة فرّط فيها الولاه
ترك المحبّين بلا حاكم ... لم يقعدوا للعاشقين القصاه
وقد أتاني خبر ساءني ... مقالها في السرّ: واسوءتاه!
أمثل هذا يبتغي وصلنا ... أما يرى ذا وجهه في المراه!
وقال الأصبهانيّ: إن القراطيسيّ سأل العباس بن الأحنف فقال له: يا أبا الفضل، هل قلت في معنى قولي هذا شيئا؟ فقال: قلت: [السريع]
جارية أعجبها حسنها ... ومثلها في النّاس لم يخلق
خبّرتها أني محبّ لها ... فأقبلت تضحك من منطقي
والتفتت نحو فتاة لها ... كالرّشأ الوسنان في قرطق
قالت لها قولي لهذا الفتى: ... انظر إلى وجهك ثم اعشق
وقال الصّقليّ في صفة عذول قبيح: [الطويل]
رأى وجه من أهوى عذولي فقال لي ... أجلّك عن وجه أراه كريها
فقلت له بل وجه حبّي مرآة ... فأنت ترى تمثال وجهك فيها
ولابن القابلة السّبتي: [الطويل]
ووجه حبيب رقّ حسنا أديمه ... يرى الصبّ فيه وجهه حين ينظر
تعرّض لي عند اللقاء به رشا ... تكاد الحميا من محيّاه تقطر
ولم يتعرض كي أراه وإنما ... أراد يريني أنّ وجهك أصفر
ولبعض المصريين في غلام يهواه: [الكامل]
يجري النّسيم على غلالة خدّه ... وأرقّ منه ما يمرّ عليه
ناولته المرآة ينظر وجهه ... فعكست فتنة ناظريه إليه
وقال الرّماديّ: [الكامل]
وإذا أراد تنزّها في روضة ... أخذ المرآة بكفّ فتنزّها
كان للفضل بن سهل وصيفة ظريفة كثيرة الملح والنّوادر، وكانت ساقيته، وكان أبو نواس يولع بها ويمازحها، فقال لها يوما: إني أحبّك وتبغضينني فلم ذلك؟ فقالت له:
وجهك والحرام لا يجتمعان، فقال: [الوافر]
مذكّرة مؤنّثة مهاة ... إذا برزت تشبّهها غلاما
تعاف الماء والعسل المصفّى ... وتشرب من فتوّتها المداما
تقول للحظها يا سيف أبشر ... ستروي من دم وتشقّ هاما
وقائلة لها في وجه نصح ... علام قتلت هذا المستهاما؟
فكان جوابها في حسن مسّ: ... أأجمع وجه هذا والحراما!
ومن ملح ابن لنكك في أهاجي أبي رياش: [الوافر](2/462)
مذكّرة مؤنّثة مهاة ... إذا برزت تشبّهها غلاما
تعاف الماء والعسل المصفّى ... وتشرب من فتوّتها المداما
تقول للحظها يا سيف أبشر ... ستروي من دم وتشقّ هاما
وقائلة لها في وجه نصح ... علام قتلت هذا المستهاما؟
فكان جوابها في حسن مسّ: ... أأجمع وجه هذا والحراما!
ومن ملح ابن لنكك في أهاجي أبي رياش: [الوافر]
على القبح الفظيع أبو رياش ... يعاشرنا بأخلاق ملاح
يبيح أكفّنا أبدا قفاه ... فنصفعه على وجه المزاح
وله فيه أيضا: [الكامل]
قل للوضيع أبا رياش لا تبل ... ته كلّ تيه بالولاية والعمل
ما ازددت حين وليت إلا خسّة ... كالسكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل
* * * قوله: تعريس، أي نزول آخر الليل. يهدي: الأول يرشد، ويدلّ على الطريق، ويقال هداه يهديه هدى في الدّين، وهداه يهديه هداية في طريق يهدي: يعطي هدية، ويقال: أهداه هديّة يهديها إهداء، إذا أعطاها. الّذود: ما بين الثلاث إلى العشر من الإبل، ولا تكون إلّا إناثا. قينة: جارية مغنية ويقال: القينة الأمة، كانت مغنّية أو غير مغنّية. الفينة: الساعة والحين، ويقال: إني لآتيه الفينة بعد الفيّنة، وفينة بعد فينة، يستعمل بالألف واللام وبتركهما، أي أديم الاختلاف إليه الحين بعد الحين والوقت بعد الوقت. يزجّي: يسوق السّفيه: البطّال المشتغل باللهو.
قال الحارث بن همّام: فاعترضته، وقلت له: عهدي بك سفيها، فمتى صرت فقيها! فظلّ هنيهة يجول، ثم أنشأ يقول: [المتقارب]
لبست لكلّ زمان لبوسا ... ولابست صرفيه: نعمى وبوسا
وعاشرت كلّ جليس بما ... يلائمه لأروق الجليسا
فعند الرّواة أدير الكلام ... وبين السّقاة أدير الكؤوسا
وطورا بوعظي أسيل الدّموع ... وطورا بلهوي أسرّ النّفوسا
وأقري المسامع إمّا نطقت ... بيانا يقود الحرون الشّموسا
وإن شئت أرعف كفّي اليراع ... فساقط درّا يحلّي الطّروسا
وكم مشكلات حكين السهّا ... خفاء فصرن بكشفي شموسا
وكم ملح لي خلبن العقول ... وأسأرن في كل قلب رسيسا
وعذراء فهت بها فانثنى ... عليها الثّناء طليقا حبيسا
* * * هنيهة: سويعة، تصغيّر هنة، ويقال في تصغيرها. هنيّة وهنيهة، كما تصغّر سنة سنيّة، وسنيهة. يجول: يتصرّف. لبوسا: ثوبا يشاكله، أخذه من قول النابغة: [الرجز](2/463)
لبست لكلّ زمان لبوسا ... ولابست صرفيه: نعمى وبوسا
وعاشرت كلّ جليس بما ... يلائمه لأروق الجليسا
فعند الرّواة أدير الكلام ... وبين السّقاة أدير الكؤوسا
وطورا بوعظي أسيل الدّموع ... وطورا بلهوي أسرّ النّفوسا
وأقري المسامع إمّا نطقت ... بيانا يقود الحرون الشّموسا
وإن شئت أرعف كفّي اليراع ... فساقط درّا يحلّي الطّروسا
وكم مشكلات حكين السهّا ... خفاء فصرن بكشفي شموسا
وكم ملح لي خلبن العقول ... وأسأرن في كل قلب رسيسا
وعذراء فهت بها فانثنى ... عليها الثّناء طليقا حبيسا
* * * هنيهة: سويعة، تصغيّر هنة، ويقال في تصغيرها. هنيّة وهنيهة، كما تصغّر سنة سنيّة، وسنيهة. يجول: يتصرّف. لبوسا: ثوبا يشاكله، أخذه من قول النابغة: [الرجز]
البس لكلّ حالة لبوسها ... إما نعيمها وإمّا بوسها (1)
لابست: خالطت. صرفيه: حاليه من الخير والشر. عاشرت: صاحبت يلائمه:
يوافقه. أروق: أعجب، والصّرف اسم لحادث الدهر، لأنه يصرف الأشياء عن وجوهها.
طورا: مرّة. أقرى المسامع: أعطي الآذان، وأجعل فيها البيان. إمّا نطقت، أي إن نطقت الحرون: الذي يأبى المشي والانقياد. الشّموس: الذي إذا نخس وثب، وقيل: الذي يمنع الركاب. اليراع: الأقلام: أرعفها: أسالها بالمداد. يحلي: يزيّن. الطّروس:
الكتب، سمّيت بذلك لأنها ممحوّة، والمطروس: الممحوّ. قال رؤبة: [الرجز]
* كما رأيت الطّلل المطروسا (2) *
[القلم ومما قيل فيه]
وعلى ذكر اليراع قال محمد بن عبد الملك بن صالح الهاشميّ في قلم: [الطويل]
وأهيف طاوي الكشح أسمر ناطق ... له جولان في بطون المهارق
كأنّ اللآلي والزّبرجد نطقه ... ونور الخزامى في عيون الحدائق
إذا استعجلته الكفّ أمطر خاله ... بلا صوت إرعاد ولا صوب بارق
وقال ابن عبد ربه: [المنسرح]
بكفّه ساحر البيان إذا ... أداره في صحيفة سحرا
مهفهف تزدهي به صحف ... كأنما حلّيت به دررا
يكاد عنوانها لروعته ... ينبيك عن سرّها الذي استترا
وقال التّهاميّ: [الكامل]
يلقى العدا من كتبه بكتائب ... يجرّرن من زرد الحروف ذيولا
__________
(1) الرجز ليس في ديوان النابغة الذبياني، وهو بيهس الفزاري في التنبيه والإيضاح 2/ 301، وتاج العروس (بهنس)، (لبس)، (نعم)، وبلا نسبة في لسان العرب (لبس)، وأمثال العرب ص 111، وجمهرة الأمثال 1/ 197، وخزانة الأدب 7/ 296، 11/ 103، والفاخر ص 62، والمستقصى 1/ 304، والوسيط في الأمثال ص 40، 89.
(2) الرجز في ديوان رؤبة ص 71.(2/464)
فترى الصحيفة حلية وجيادها ... أقلامه وسريرهنّ صهيلا
في كفّه قلم أتمّ من القنا ... طولا وهنّ أتم منه طولا
وله أيضا: [الخفيف]
وإذا راش بالأنامل منه ... قلما واستمدّ ساء وسرّا
قلم دبّر الأقاليم حتّى ... قال فيه أهل التناسخ إمرا
يتبع الرمح أمره فابن عشري ... ن ذراعا بالرأي يخدم شبرا
السها: نجم خفيّ. خلبن: خدعن. أسأرن: أبقين، والسؤر. البقية وفي الحديث:
«إذا أكلتم فأسئروا» (1)، وأخذت سائره، معناه بقيّته. الرسيس: أوّل برد الحمّى، يريد أن هذه الملح لعذوبتها إذا حلّت في القلب أحدثت فيه حركة وهزّة، وإذا سمع ذو الذكاء كلاما مستظرفا من نثر أو نظم وجد له دبيبا وقشعريرة، وأخذ «وكم مشكلات»، من قول علي رضي الله عنه: [الوافر]
إذا المشكلات تصدّين لي ... كشفت حقائقها بالنّظر (2)
وإن برقت في مخيل الصّوا ... ب عمياء لا يجتليها البصر
مقنّعة بغيوب الأمور ... وضعت عليها صحيح الفكر
لسانا كشقشقة الأرحبّي ... أو كالحسام اليمانيّ الذّكر
وقلبا إذا استنطقته الغيوب ... أمرّ عليها بواهي الدّرر
عذراء: قصيدة بكر، لم يسبق إليها فهت: نطقت. انثنى: رجع. طليقا: منتشرا في الناس. حبيسا: موقوفا عليها لا يتعدّاها لغيرها.
[مما قيل في الشعر شعرا]
ومدح الشعراء للشعر باب شأوه بعيد، وسنذكر لحبيب وهو المبرّز فيه ولغيره ما يستحسن ويستجاد، قال حبيب: [الكامل]
جاءتك من نظم اللّسان قلادة ... سمطان فيها اللّؤلؤ المكنون (3)
حذيت حذاء الحضرميّة أرهفت ... وأجادها التّخّصير والتبيين
إنسيّة وحشيّة كثرت بها ... حركات أهل الأرض وهي سكون
أمّا المعاني فهي أبكار إذا ... فضت ولكنّ القوافي عون
__________
(1) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية 2/ 327، بلفظ: «إذا شربتم فاسئروا».
(2) الأبيات في ديوان علي بن أبي طالب ص 90، والبيت الأول في تاج العروس (أمع).
(3) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 330، 331.(2/465)
وقال أيضا: [الطويل]
فو الله لا أنفك أهدى قصائدا ... إليك يحملن الثّناء البجّلا (1)
يحاك بها برد عليك مجدّد ... وتحسبه درّا عليك مفصّلا
ألذّ من السّلوى وأطيب نفحة ... من المسك مفتوتا وأيسر محملا
أخفّ على سمع وأثقل قيمة ... وأقصر في سمع الجليس وأطولا
وقال البحتريّ: [الطويل]
تطوع القوافي فيكم فكأنّما ... يطير إليكم من علوّ قصيدها (2)
وكم لي من محبوكة الوشي فيكم ... إذا أنشدت قام امرؤ يستعيدها
وقال أيضا: [الطويل]
ألست الموالي فيك نظم قصائد ... هي الأنجم اقتادت مع اللّيل أنجما (3)
ثناء تخال الروض منه منوّرا ... ضحى وتخال الوشي فيه مسهّما
وقال أيضا: [الطويل]
إليك القوافي نازعات قواصدا ... يسيّر ضاحي وشيها وينمنم (4)
ومشرقة في النّظم غرّا يزيدها ... بهاء وحسنا أنّها لك تنظم
ضوامن للحاجات إمّا شوافعا ... مشفّعة، أو حاكمات تحكّم
وقال عليّ بن الجهم: [الطويل]
ولكنّ إحسان الخليفة جعفر ... دعاني إلى ما قلت فيه من الشّعر (5)
فسار مسير الشمس في كلّ بلدة ... وهبّ هبوب الريح في البرّ والبحر
ولابن الرومي يهجو: [الكامل]
خذها إليك منيحة سيّارة ... في النّاس من باد ومن متحضّر
تغدو إليك بحاصب وبتارب ... وعلى الرّواة بلؤلؤ متخيّر
وقال السريّ الموصلي: [الوافر]
أتتك يجول ماء الطبع فيها ... مجال الماء في السّيف الصّقيل
قواف إن ثنت للمرء عطفا ... ثني الأعطاف في برد جميل
__________
(1) ديوان أبي تمام ص 255.
(2) البيتان في ديوان البحتري ص 655.
(3) ديوان البحتري ص 1984.
(4) ديوان البحتري ص 1931.
(5) البيتان في ديوان ابن جهم ص 147.(2/466)
وقال أيضا: [الكامل]
شرقت بماء الطبع حتى خلتها ... شرقت لرونقها بتبر ذائب
ويقول سامعها إذا ما أنشدت ... أعقود حمد أم عقود كواكب
وقال أيضا: [الكامل]
ألفاظها كالدرّ في أصدافه ... لا بل تزيد عليه في لألائه
من كلّ رائعة الجمال كأنّما ... جاد الشّباب لها برونق مائه
والشعر بحر حزت أنفس درّه ... وتنافس الشعراء في حصبائه
وقال أيضا: [الكامل]
لفظ صقلت متونه فكأنه ... في مشرقات النّظم درّ سخاب
وكأنما أجريت في صفحاته ... حرّ اللّجين وخالص الزّرياب
أغربت في تحبيره فرواته ... في نزهة منه وفي استغراب
وقطعت منه شبيبة لم تشتغل ... عن حسنة بصبا ولا بتصاب
وإذا ترقرق في الصحيفة ماؤه ... عبق النسيم فذاك ماء شبابي
يصغي اللّبيب له فيقسم لبّه ... بين التّعجّب منه والإعجاب
جدّ يطير شراره، وفكاهة ... تستعطف الأحباب للأحباب
قال يحيى بن أكثم لمحمد بن حازم: ما في شعرك شيء غير أنك لا تطيله، فقال:
[الوفر]
أبى لي أن أطيل الشّعر قصدي ... إلى المعنى وعلمي بالصّواب
فأبعثهنّ أربعة وخمسا ... مثقّقة بألفاظ عذاب
خوالد ما حدا ليل نهارا ... وما حسن الصّبا بأخي الشّباب
وهنّ إذا وسمت بهنّ قوما ... كأطواق الحمائم في الرّقاب
وهنّ إذا أقمت مسافرات ... تهاداها الرّواة مع الرّكاب
* * *
[المتقارب]
على أنّني من زماني خصصت ... بكيد ولا كيد فرعون موسى
يسعّر لي كلّ يوم وغى ... أطا من لظاها وطيسا وطيسا
ويطرقني بالخطوب الّتي ... يذبن القوى ويشبن الرؤوسا
ويدنى إليّ البعيد البغيض ... ويبعد عنّي القريب الأنيسا
ولولا خساسة أخلاقه ... لما كان حظّي منه خسيسا
فقلت له: خفّض الأحزان، ولا تلم الزمان، واشكر لمن نقلك عن مذهب إبليس، إلى مذهب ابن إدريس.(2/467)
على أنّني من زماني خصصت ... بكيد ولا كيد فرعون موسى
يسعّر لي كلّ يوم وغى ... أطا من لظاها وطيسا وطيسا
ويطرقني بالخطوب الّتي ... يذبن القوى ويشبن الرؤوسا
ويدنى إليّ البعيد البغيض ... ويبعد عنّي القريب الأنيسا
ولولا خساسة أخلاقه ... لما كان حظّي منه خسيسا
فقلت له: خفّض الأحزان، ولا تلم الزمان، واشكر لمن نقلك عن مذهب إبليس، إلى مذهب ابن إدريس.
* * * قوله: على أنني، أي مع أنني. وقوله: ولا كيد فرعون موسى، أضاف فرعون إلى موسى، لأنّ الفراعنة كانوا جماعة.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنّ لكل أمة فرعونا، وفرعون هذه الأمة أبو جهل» (1).
وفرعون موسى، كان أكبر الفراعنة كيدا وأطولهم عمرا، وأعتاهم على الله، وأسراهم مملكة.
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال موسى عليه الصلاة والسلام: يا ربّ، أمهلت فرعون أربعمائة سنة، وهو يقول: أنا ربّكم الأعلى، ويكذّب بآياتك ويجحد رسلك! فأوحى الله تعالى إنه كان حسن الخلق سهل الحجاب، فأحببت أن أكافئه.
وأما عذابه لبني إسرائيل فقد قدمناه في الخامسة.
ومما يحكى عنه أنّه كان يأمر بالقصب فيشقّ، ويجعل أمثال الشفار، ثم يضيف بعضه إلى بعض، ثم يؤتى بالحبالى من بني إسرائيل فيوقفن عليه، فيحزّ أقدامهنّ، حتى إن المرأة لتضع ولدها فيقع بين رجليها، فتظلّ تطؤه تتّقي به حدّ القصب عن رجليها.
قال وهب بن منبّه: بلغني أنه ذبح في طلب موسى تسعين ألف ولد ونسب الثعالبيّ المفسر فرعون، فقال: هو أبو العباس الوليد بن مصعب بن الرّيان بن أراشه بن ثروان بن عمرو بن قاذم بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام.
قوله: يسعّر، أي يهيّج. وغى: حرب. لظاها: حرّها. وطيسا: شدة، وحمي الوطيس: اشتدت الحرب، وأصله تنّور من حديث يطبخ فيه، فشبّهت شدّة الحرب وحرارتها به. وقيل: هو حفرة يختبز فيها. والوطيس: الوطء الشديد، والبلاء الذي يطسّ الناس، أي يدقهم ويقتلهم.
يطرقني: يقصدني ليلا. الخطوب: الأمور الشداد. خساسة: حقارة حّظي:
نصيبي.
ومما قيل في معنى قوله: ويدني إليّ البعيد البغيض البيت قول الزاهد بن عمران: [البسيط]
إلمام كلّ ثقيل قد أضرّبنا ... نروم نقصهم والشيء يزداد
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 1/ 309، 403، 444.(2/468)
ومن يخفّ علينا لا يلمّ بنا ... وللثقيل مع السّاعات ترداد
ويقرب منه قول الشاعر: [الطويل]
وكيف يودّ القلب من لا يودّه ... بلى قد تريد النفس من لا يريدها
وقال عديّ بن الرقاع: [الكامل]
تبلتك أخت بني لؤي إذ رمت ... وأصاب نبلك إذ رميت سواها (1)
وأعارها الحدثان منك مودّة ... وأعار غيرك ودّها وهواها
وهذا من قول الأعشى: [البسيط]
علّقتها عرضا وعلّقت رجلا ... غيري، وعلّق أخرى غيرها الرّجل (2)
وقال مسلم بن الوليد وهو صريع الغواني، وكان خاملا فولّاه بنو سهل جرجان فشرف فقال: [البسيط]
أهل الصفاء نأيتم بعد قربكم ... فما انتفعت بعيش بعدكم صافي (3)
وقد قصدت ندى من لا يوافقني ... فكان سهمي عنه الطّائش الطافي
أردت «عمرا» وشاء الله «خارجة» ... أما كفى الدّهر من خلفي وإخلافي!
ولهذا أشار ابن شرف بقوله: [الكامل]
سل عن رضاي عن الزّمان فإنّه ... كرضا الفرزدق عن بني يربوع
لله حال قد تنقّل عهدها ... كخلاف نقل الدهر حال صريع
دارت دراريّ الخطوب قواصدا ... حتى نظرن إليّ من تربيع
وله أيضا يتشكّى: [البسيط]
ما لي أجاذب ذي الدنيا مولّية ... فكلّ ثوب عليها قدّمن دبر
أتى الزمان على يأس به لبني الدّن ... يا كبشرى بمولود على كبر
وقال أيضا: [البسيط]
إني وإن عزني نيل المنى لأرى ... حرص الفتى خلّة زيدت على العدم
__________
(1) البيتان لعدي بن الرقاع في اللآلي المصنوعة ص 139.
(2) يروى عجز البيت:
غيري وعلّق أخرى ذلك الرّجل
وهو للأعشى في ديوانه ص 107، والأشباه والنظائر 5/ 152، وشرح التصريح 1/ 286، ولسان العرب (عرض)، (علق)، وتاج العروس (علق)، والمقاصد النحوية 2/ 504، وبلا نسبة في أوضح المسالك 2/ 136.
(3) الأبيات في ديوان صريع الغواني ص 327.(2/469)
تقلّدتني الليالي وهي مدبرة ... كأنني صارم في كفّ منهزم
وقال جحظة: [البسيط]
ضاقت عليّ وجوه الرأي في نفر ... يلقون بالجحد والكفران إحساني
أقّلب الطرف تصعيدا ومنحدرا ... فما أقابل إنسانا بإنساني
وقال أيضا: [المتقارب]
لقد مات إخوتي الصالحون ... فما لي صديق وما لي عماد
إذا أقبل الصبح ولّى السرور ... وإن أقبل الليل ولّى الرقاد
قوله: خفّض، أي سكّن.
* * * [الإمام الشافعي]
وابن إدريس هو الإمام الشافعيّ محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، يلتقي نسبه مع بني هاشم وبني أميّة في عبد مناف.
وقال صلّى الله عليه وسلم: «نحن وبنو المطّلب كهاتين» وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى مضمومتين.
وحاصرت قريش بني المطلب مع بني هاشم في الشّعب.
وكان الشافعي أعلم الناس وأورعهم وأعبدهم، وأجودهم، فإن أردت أن تقف على حفظة ومبلغ علمه، فانظر رحلته.
ووصفه بعض أهل العلم فقال: هو شقيق رسول الله صلّى الله عليه وسلم في نسبه وشريكه في حسبه.
زوّج المطلب ابنه هاشما الشّفاء بنت هاشم بن عبد مناف أخيه، فولدت له عبد يزيد جدّ الشافعي رضي الله عنه، فكان يقال لعبد يزيد: المحض لا قذى فيه، فولد الشافعيّ رضي الله تعالى عنه هاشمان: هاشم بن المطلب وهاشم بن عبد مناف، فالشافعيّ ابن عم النبيّ صلّى الله عليه وسلم وابن عمّته، لأن الشفاء أخت عبد المطلب، فهي عمة النبي صلّى الله عليه وسلم.
وأسلم السائب جدّه يوم بدر، وكان صاحب راية بني هاشم بن عبد مناف أسر وفدى نفسه، فأسلم، فقيل له: لم لم تسلم قبل أن تفتدي؟ فقال: ما كنت أحرم المؤمنين طمعا لهم فيّ.
قال أبو ثور: ما رأيت ولا رأى الراؤون مثله.
وقال أحمد بن حنبل: ما صلّيت صلاة منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو الله للشافعيّ.
وقال له ابنه: أيّ رجل كان الشافعيّ حتى تدعو له هذا الدعاء؟ فقال: يا بنيّ كان كالشّمس للدنيا، أو كالعافية للناس.(2/470)
وقال أحمد بن حنبل: ما صلّيت صلاة منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو الله للشافعيّ.
وقال له ابنه: أيّ رجل كان الشافعيّ حتى تدعو له هذا الدعاء؟ فقال: يا بنيّ كان كالشّمس للدنيا، أو كالعافية للناس.
وحدّث صالح بن أحمد بن حنبل قال: مشى أبي مع بغلة الشافعيّ في ركابه، فبعث إليه يحيى بن معين فقال له: يا أبا عبد الله، أما رضيت إلا أن تمشي مع بغلته! فقال: يا أبا زكرياء، لو مشيت من الجانب الآخر لكان أنفع لك، وما يمسّ أحد محبرة إلا وللشافعي في عنقه منّة.
وقال الشافعيّ رضي الله عنه: ما شبعت منذ ست عشرة سنة، لأنّ الشّبع يثقّل البدن، ويقسّي القلب، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة.
وقال: ما حلفت بالله لا صادقا ولا كاذبا.
وقال: ما ناظرت أحدا قطّ فأحببت أن يخطئ، وما كلّمت أحدا إلا أحببت أن يوفّق ويسدّد ويعان، ويكون عليه من الله رعاية وحفظ وما كلّمت أحدا إلا وأنا لا أبالي أن يبيّن الله الحقّ على لسانه أو لساني وما أوردت الحجة على أحد، فقبل مني إلا هبته واعتقدت محبّته، ولا ثابرني على الحق أحد ودافع الحجة إلا سقط من عيني ورفضته.
وكان يختم القرآن في رمضان ستين مرّة كلّ ذلك في الصلاة.
وقال الكرابيسيّ: بتّ معه غير ليلة فكان يصلّي نحوا من ثلث الليل، فما رأيته يزيد على خمسين آية، فإذا أكثر فمائة آية. وكان لا يمّر بآية فيها رحمة إلا سأل الله لنفسه ولجميع المسلمين، ولا بآية عذاب إلا تعوّذ منها وسأل النجاة منها لنفسه ولجميع المسلمين.
وقال عمر بن عبد الله البلويّ: جلسنا يوما نتذاكر الزّهاد والعبّاد والعلماء، وما بلغ من زهدهم وفصاحتهم وعلمهم، فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا عمر بن نباتة، وقال:
فيم تتحاورون؟ فأعلمناه، فقال عمر: والله ما رأيت رجلا قطّ أورع ولا أخشع ولا أصبح ولا أسمح، ولا أعلم ولا أكرم ولا أجمل، ولا أجلّ ولا أفضل، من محمد بن إدريس الشافعيّ، خرجت أنا وهو والحارث بن اللبيد إلى الصّفا، وكان الحارث صاحب صالح المرّي، وكان من المتّقين الخاشعين، وكان حسن الصوت، فقرأ {هََذََا يَوْمُ لََا يَنْطِقُونَ وَلََا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [النازعات: 35، 36] فرأيت الشافعي رضي الله عنه قد تغيّر لونه، واقشعرّ جلده واضطرب اضطرابا شديدا، ثم خرّ مغشيّا على وجهه، فلما أفاق جعل يقول: أعوذ بك من مقام الكاذبين، وأعراض الغافلين! اللهم خضعت لك قلوب العارفين، وذلّت لك قلوب المشتاقين، اللهم هب لي جودك، وجلّلني بسترك، واعف عن تقصيري بكرم وجهك. ثم قمنا وتفرّقنا.
وقال الربيع بن سليمان، سمعت الشافعيّ رضي الله عنه، يقول: أتى عليّ عيد وليس عندي نفقة، فاستسلفت سبعين دينارا لنفقة أهلي، فبينا أنا كذلك إذ أتاني رجل من
قريش يشتكي إلي الحاجة فأخبرته خبري، وقلت له: خذ ما تحبّ، فقال لي: ما يقنعني إلّا أكثر من هذه الدنانير، فقلت له: فخذها، وبتّ وما معي دينار ولا درهم، فبينا أنا في منزلي إذ أتاني رسول جعفر بن يحيى البرمكي يقول: أجب الوزير، فأجبته. فقال: ما شأنك في هذه الليلة؟ يهتف بي هاتف كلّما دخلت في النوم، يقول: الشافعيّ الشافعيّ، فأخبرته بالخبر، فأعطاني خمسمائة دينار، ثم قال: أزيدك فأعطاني خمسمائة أخرى، فلم يزل يزيدني حتى أعطاني ألفي دينار. ومن جوده أن سوطه وقع من يده، فأعطى من ناوله إياه خمسين دينار وورد مكة بعشرة آلاف درهم، فضرب خباءه خارجها، فأتاه الناس، فما برح من موضعه حتى فرّقها.(2/471)
وقال الربيع بن سليمان، سمعت الشافعيّ رضي الله عنه، يقول: أتى عليّ عيد وليس عندي نفقة، فاستسلفت سبعين دينارا لنفقة أهلي، فبينا أنا كذلك إذ أتاني رجل من
قريش يشتكي إلي الحاجة فأخبرته خبري، وقلت له: خذ ما تحبّ، فقال لي: ما يقنعني إلّا أكثر من هذه الدنانير، فقلت له: فخذها، وبتّ وما معي دينار ولا درهم، فبينا أنا في منزلي إذ أتاني رسول جعفر بن يحيى البرمكي يقول: أجب الوزير، فأجبته. فقال: ما شأنك في هذه الليلة؟ يهتف بي هاتف كلّما دخلت في النوم، يقول: الشافعيّ الشافعيّ، فأخبرته بالخبر، فأعطاني خمسمائة دينار، ثم قال: أزيدك فأعطاني خمسمائة أخرى، فلم يزل يزيدني حتى أعطاني ألفي دينار. ومن جوده أن سوطه وقع من يده، فأعطى من ناوله إياه خمسين دينار وورد مكة بعشرة آلاف درهم، فضرب خباءه خارجها، فأتاه الناس، فما برح من موضعه حتى فرّقها.
وكان شاعرا مجيدا، قال أبو القاسم بن الأزرق: دخلت عليه، فقلت له: يا أبا عبد الله، أما تنصفنا! لك هذا الفقه تفوز بفوائده، ولنا هذا الشعر، وقد جئت تداخلنا فيه! فإمّا أفردتنا أو أشركتنا في الفقه، وقد أتيت بأبيات إن أجزتها بمثلها تبت من الشّعر، وإن عجزت تب منه، فقال لي: إيه يا هذا، فأنشدته هذا الكلام: [الكامل]
ما هّمتي إلا مقارعة العدا ... خلق الزمان وهمّتي لم تخلق
والنّاس أعينهم إلى سبب الغنى ... لا ينظرون إلى الحجا والأولق
لكنّ من رزق الحجا حرم الغنى ... ضدّان مفترقان أيّ تفرق
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني ... بنجوم أقطار السماء تعّلقي
فقال الشافعيّ رضي الله تعالى عنه: ألا قلت كما أقول ارتجالا: [الكامل]
إن الذي رزق اليسار فلم ينل ... حمدا ولا أجرا لغير موفّق
فالجدّ يدني كلّ أمر شاسع ... والجدّ يفتح كلّ باب مغلق
فإن سمعت بأنّ مجدودا حوى ... عودا فأثمر في يديه فحقّق
وإذا سمعت بأنّ محروما أتى ... ماء ليشربه فغاض فصدّق
وأحقّ خلق الله بالهمّ امرؤ ... ذو همّة يبلى بعيش ضيّق
ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
فقلت له: لا قلت شعرا بعدها.
قال المبرّد: كان الشافعيّ رضي الله عنه أشعر الناس وآدب الناس، وأعرفهم بالفقه والقراءات، ولقد أخبرني بعض أصحابي أنه مات ولد لعبد الرحمن بن مهديّ، فكتب إليه الشافعي رضي الله عنه: يا أخي، عزّ نفسك بما تعزّي به غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من غيرك. واعلم أن أمضّ المصائب فقد سرور، وحرمان أجر، فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر! فتناول حظّك يا أخي إذا قرب منك قبل أن تطلبه وقد نأى عنك، ألهمك الله عند المصائب صبرا، وأحرز لنا ولك بالصبر أجرا، وكتب إليه: [البسيط](2/472)
إني أعزّيك لا أنّي على ثقة ... من الحياة ولكن سنّة الدّين
فما المعزّى بباق بعد ميّته ... ولا المعزّي وإن عاشا إلى حين
وقال أيضا: [البسيط]
علمي معي حيثما يّممت ينفعني ... قلبي وعاء له لا بطن صندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي ... أو كنت في السّوق كان العلم في السّوق
وقال أيضا: [الوافر]
ومنزلة السّفيه من الفقيه ... كمنزلة الفقيه من السّفيه
فهذا زاهد في قرب هذا ... وهذا فيه أزهد منه فيه
إذا غلب الشقاء على سفيه ... تقّطع في مخالفة الفقيه
وناظر الشافعيّ محمد بن الحسن الكوفيّ بالرّقة فقطعه الشافعيّ، فبلغ ذلك هارون الرشيد، فقال: أما علم محمد بن الحسن إذا ناظر رجلا من قريش، أنه يقطعه سائلا أو مجيبا، والنبيّ صلّى الله عليه وسلم يقول: «قدّموا قريشا ولا تقدّموا عليها، وتعلمّوا منها ولا تعّلموها»، فإن علم العالم منها يسع طباق الأرض. وكان الشافعيّ يعظّم محمد بن الحسن لعلمه، واستعار شيئا من كتبه فلم يسعفه بذلك، فكتب إليه الشافعيّ رضي الله تعالى عنه: [مجزوء الكامل]
قل للّذي لم ترعي ... نا من رآه مثله
ومن كأنّ من رآ ... هـ قد رأى من قبله
العلم ينهي أهله ... أن يمنعوه أهله
لعلّه يبذله ... لأهله لعلّه
فبعث إليه بما سأل.
وقال في الفقيه ابن عبد الحكم وقد اعتلّ فعاده: [مجزوء الكامل]
مرض الحبيب فعدته ... فمرضت من حذري عليه
شفي الحبيب فعادني ... فشفيت من نظري إليه
وقال أبو سعيد: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول بيتين وهما: [الطويل]
إني أرى نفسي تتوق إلى مصر ... ومن دونها عرض المهامه والقفر
فو الله ما أدري أللخفض والغنى ... أقاد إليها، أم أقاد إلى القبر!
قال: فو الله ما كان إلا قليل حتى سيق إليهما جميعا.
ورأيته بعد وفاته، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: أجلسني على كرسيّ من ذهب ونثر عليّ اللؤلؤ الرّطب.(2/473)
وقال المزنيّ: دخلت عليه غداة وفاته فقلت له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال:
أصبحت من الدنيا راحلا، ولإخواني مفارقا، ولكأس المنية شاربا، ولا أدري إلى الجنة تصير نفسي فأهّنيها أم إلى النار فأعزّيها! ثم أنشأ يقول: [الطويل]
ولمّا قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرّجا منّي لعفوك سلّما
تعاظمني ذنبي فلمّا قرنته ... بعفوك ربّي كان عفوك أعظما
وكانت وفاته في رجب ليلة الجمعة سنة أربع ومائتين، ودفن في صبيحتها وهو ابن أربع وخمسين سنة، وصلّى عليه السّري بن الحكم أمير مصر، ودفن بها نحو قبور الشهداء في مقبرة بني عبد الحكم وعند رأسه عمود من الحجر كبير، وفيه مكتوب: «هذا قبر محمد بن إدريس الشافعيّ أمين الله».
وقال الشافعيّ: أظلم الظالمين لنفسه من تواضع لمن لا يكرمه، ورغب في مودة من لا ينفعه، وقبل مدح من لا يعرفه.
وقال: من غلبت عليه شدة الشهوة بحبّ الدنيا لزمته العبودية لأهلها، ومن رضي بالقنع زال عنه الخضوع.
وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعيّ يقول: [الطويل]
وأنزلني طول النوى دار غربة ... يجاورني من ليس مثلي يشاكله
أخامقة حتى يقال سجيّة ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله
قال: وسمعته ينشد: [الطويل]
صن النفس واحملها على ما يزينها ... تعش سالما والقول فيك جميل
ولا تولينّ الناس إلا تجمّلا ... نبا بك دهر أو جفاك خليل
وإن ضاق رزق اليوم فاصبر إلى غد ... عسى نكبات الدهر عنك تزول
ولا خير في ودّ امرئ متلوّم ... إذا الريح مالت مال حيث تميل
وما أكثر الإخوان حين تعدّهم ... ولكنّهم في النائبات قليل!
قال: وسمع رجلا يشفه على رجل من أهل العلم، فقال لأصحابه: نزّهوا أسماعكم عن استماع الخنى، كما تنزّهون ألسنتكم عن النطق به، فإن المستمع شريك القائل، وإنّ السفيه ينظر إلى أخبث شيء في وعائه، فيحرص على أن يفرغه في أوعيتكم.
نظم بعضه هذا المعنى، فقال: [المتقارب]
فسمعك صن عن سماع الخنى ... كصون اللّسان عن النّطق به
فإنك عند استماع الخنى ... شريك لقائله فانتبه
وكان الحسن البصريّ رحمه الله، إذا خطب الحجاج، وذكر السّلف، يتكلّم تشاغلا
عن خطبته، فقيل له في ذلك، فقال: إن السامع والمتكلم شريكان، ألم تسمع قول الشاعر: [المتقارب](2/474)
فسمعك صن عن سماع الخنى ... كصون اللّسان عن النّطق به
فإنك عند استماع الخنى ... شريك لقائله فانتبه
وكان الحسن البصريّ رحمه الله، إذا خطب الحجاج، وذكر السّلف، يتكلّم تشاغلا
عن خطبته، فقيل له في ذلك، فقال: إن السامع والمتكلم شريكان، ألم تسمع قول الشاعر: [المتقارب]
فجاء به ناطق منهم ... بليغ ومستمع صامت
فكلّ له حظّه أنه ... أعان مع الناطق الساكت
وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: [السريع]
إن كنت لا ترهب ذمّي لما ... تعلم من صفحي عن الجاهل
فاخش سكوتي إذ أنا منصت ... فيك لمسموعي خنى القائل
فالسامع القول كمن قاله ... والموكّل المأكول كالآكل
وذكر الفنجديهيّ الشافعيّ، فقال: هو إمام الأنام، ونظام الإسلام، أحد الأئمة الأربعة الأطواد، الشامخة في الدين الأجواد، رضيع لبان النبوّة، أفضل العلماء، وأعلم الفضلاء، وصدر البدور وبدر الصدور، وهادي الدّعاة، وداعي الهداة، إكسير العلوم، وإكليل الرسوم.
علم العلماء شظيّة من علمه، وحلم الحلساء جذوة من حلمه، وعقائد الأصول مقتدحة من زناد كلماته، وقواعد الفروع مقترحة من عداد نغماته، فارس هيجاء المشكلات، ومقوّم عوجاء المعضلات، منبع السّنن، ومتّبع السّنن، فاز بغلبات الأقران، وحاز قصبات الرّهان، بطهارة الأعراق، ودماثة الأخلاق، وفخامة شرف الأمومة، وكرامة طرفي الأبوّة والعمومة، درّة الأصداف، من صميم آل عبد مناف، كشف الظّلمة عن الأمة، وصرف عنهم المظلمة المدلهمّة، بعلم كالبحر اللجّيّ، ورأي كالبدر في اللّيل الدجيّ، مذهبه مؤيّد بنصوص القرآن، وفصول الفرقان، أسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانه، فهو بين المذاهب والأديان، كالناظر في الأجفان والسمع في الآذان، والعقل في الإنسان، والعدل للسلطان، أحلّه الله محلّ القدس، وأدلى إليه سحاب الأنس في كلام أكثر من هذا.
* * * فقال: دع الهتار، ولا تهتك الأستار، وانهض بنا لنضرب إلى مسجد يثرب، فعسى أن نرحض بالمزار، درن الأوزار فقلت: هيهات أن أسير، أو أفقه التفسير، فقال: تالله لقد أوجبت ذمما، وطلبت إذ طلبت أمما. فهاك ما يشفي النّفس، وينفي اللّبس، قال: فلمّا أوضح لي المعمّى، وكشف عنّي الغمّى، شددنا الأكوار، وسرت وسار. ولم أزل من مسامرته، مدّة مسايرته، فيما أنساني طعم المشقّة، ووددت معه بعد الشّقة، حتّى إذا دخلنا مدينة الرّسول، وفزنا من الزّيارة بالسّول، أشأم وأعرقت، وغرّب وشرّقت.
* * *
قوله: دع الهتار: أي اترك تمزيق العرض، وفلان يهاتر فلانا، أي يسابّه بالباطل من القول، والقبيح من اللفظ، وأصل الهتر سقط الكلام والباطل، والمهاترة: القول الذي ينقض بعضه بعضا، وأهتر الرجل فهو مهتر، إذا أولع بالقول في الشيء، واستهتر، فهو مستهتر: ذهب عقله فيه، وانصرفت إليه همته. تهتك: تخرق وتكشف، يريد أنه لما عرض له بنقائصه قال له: دع كشف العيب، فليس هذا موضعه. انهض: تقدم. لنضرب:(2/475)
* * *
قوله: دع الهتار: أي اترك تمزيق العرض، وفلان يهاتر فلانا، أي يسابّه بالباطل من القول، والقبيح من اللفظ، وأصل الهتر سقط الكلام والباطل، والمهاترة: القول الذي ينقض بعضه بعضا، وأهتر الرجل فهو مهتر، إذا أولع بالقول في الشيء، واستهتر، فهو مستهتر: ذهب عقله فيه، وانصرفت إليه همته. تهتك: تخرق وتكشف، يريد أنه لما عرض له بنقائصه قال له: دع كشف العيب، فليس هذا موضعه. انهض: تقدم. لنضرب:
لنمشي في الأرض. نرحض: نغسل. المزار: زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلم. درن الأوزار: وسخ الذنوب. هيهات: معناه بعد ذلك عنك. أفقه: أفهم، وذمما: جمع ذمّة، وهي العهد.
أمما: شيئا قريبا، والأمم: القصد. هاك: أي خذ. المعمّى: المغطّى المشكل المعنى، وأراد به شرح المائة الفتيا الملغزة. ويقال لمن يطلب ما يمكن ولم يشتطّ: طلب أمما قال عبيد الله بن قيس الرقيّات: [المنسرح]
كوفيّة نازح محّلتها ... لا أمم دارها ولا صقب (1)
الصّقب: القرب. الغمّى: هي الغمة التي تغطّي على الذهن، والمعمّى الأمر الملتبس. الأكوار: ما هو للإبل كالبراذع للدواب. الشّقة: السفر البعيد. والسّول:
المراد، أشأم وأعرقت: قصد الشأم وقصدت العراق.
[فضل زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلم]
ونذكر هنا فصلا في زيارة القبر المعظّم وتوديع زائره له ووصف الروضة والمسجد وذكر يثرب، وهي مدينة النبي صلّى الله عليه وسلم ومهاجره، سمّاها طيّبة لما كان اشتقاقها من التّثريب.
وكان صلّى الله عليه وسلم يغيّر الأسماء التي تدلّ على الاستقباح إلى ضدّها (2).
وقال صلّى الله عليه وسلم: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» ابن عمر رضي الله عنهما: يثرب أرض مدينة الرسول في ناحية منها.
وقال شيخنا ابن جبير في روضته صلّى الله عليه وسلم: شاهدنا الرّوضة المكرّمة، وقد وقع الأذان بوصول صدر الدين رئيس الشافعيّة الأصبهانيّ الذي ورث النّباهة والوجاهة في العلم كابرا عن كابر، المعروف برئيس العلماء، توارثه عن أب فأب، وقد غصّ الحرم بالمنتظرين، وقد أعدّ له كرسيّ بإزاء الرّوضة المقدسة، فصعد وحضر قرّاؤه أمامه، فابتدؤوا بالقراءة بنغمات عجيبة، وتلاحين مطربة بهيجة، وهو يلحظ الرّوضة المقدّسة، ويعلن بالبكاء. ثم أخذ في خطبة من إنشائه سحريّة البيان، وسلك في أساليب من الوعظ باللّسان، وأنشد
__________
(1) البيت في ديوان ابن الرقيات ص 2، وفيه «ولا سقب» بدل «ولا سقب»، ولسان العرب (صقب)، وتهذيب اللغة 8/ 383، والأغاني 5/ 87، وتاج العروس (صقب)، وبلا نسبة في كتاب العين 8/ 430، ومقاييس اللغة 1/ 30.
(2) أخرجه الترمذي في الأدب باب 66، بلفظ: «أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم كان يغير الاسم القبيح».(2/476)
أبياتا بديعة من قوله، كان يردّد منها هذا البيت، ويشير إلى الروضة المعظّمة المطهّرة [الكامل]
هاتيك روضته تفوح نسيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما
وتمادى في وعظه إلى أن أطار النفوس من خشية ورقّة، وهو يعتذر من التقصير، لهول ذلك المقام ويقول: عجبا لألكن العجم، كيف ينطق عند أفصح العرب. وتهافتت الأعاجم عليه معلنين بالتوبة، وقد طاشت ألبابهم، ودهشت عقولهم، فيلقون نواصيهم بين يديه، فيستدعي الجلمين، ويجرّها ناصية ناصية، وكلّما جزّ ناصية كساها عمامة، فتوضع عليه للحين عمامة أخرى، ثم ختم مجلسه، بأن قال: معشر الحاضرين، قد تكلّمت لكم ليلة بحرم الله، وهذه الليلة بحرم رسوله ولا بد للواعظ من كدية، وأنا أسألكم حاجة وإن ضمنتوها إلي أرقت لكم ماء وجهي في ذكرها. فأعلن الناس بالاسعاف وشهيقهم قد علا، فقال: حاجتي أن تكشفوا رؤوسكم، وتبسطوا أيديكم، ضارعين لهذا النبي الكريم في أن يرضى عّني ويسترضي الله عزّ وجل لي. ثم أخذ في تعداد ذنوبه، والاعتراف بها، فأطار الناس عمائمهم، وبسطوا أيديهم للنبي صلّى الله عليه وسلم، داعين له باكين متضرّعين فما رأيت ليلة أكثر دموعا، ولا أعظم خشوعا من تلك الليلة. ثم انفضّ المجلس.
قال ابن جبير رحمه الله: ثم كان في اليوم التالي لهذه اللّيلة وداعنا للروضة المكرّمة، فيا له وداعا، ذهلت له النفوس ارتياعا، حتى طارت شعاعا، وما ظنّك بموقف ينادى بالتوديع فيه سيد المرسلين، وخاتم النبيين، ورسول رب العالمين! إنه لموقف تنفطر فيه الأفئدة، وتطيش له الألباب المتّئدة، فوا أسفاه وا أسفاه! كلّ يبوح لديه بأشواقه، ولا يجد بدّا من فراقه، فما تستطيع إلى الصبر سبيلا، ولا تسمع في ذلك المقام إلّا رنّة وعويلا، وكلّ بلسان الحال ينشد: [مخلع البسيط]
محبّتي تقتضي مقامي ... وحالتي تقتضي الرّحيلا
بوّأنا الله بزيارة هذا النبيّ الكريم منزل الكرامة، وجعله شفيعا لنا يوم القيامة، وأحلنّا بفضله في جواره الكريم دار المقامة.
ثم ذكر الرّوضة المقدّسة مع المسجد العتيق الذي احتوى على الروضة، فقال:
المسجد المبارك مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مستطيل، وتحفّه من جهاته الأربع بلاطات مستطيلة، ووسطه كلّه صحن مفروش بالحصى والرّمل، وفي الصحن خمس عشرة نخلة، فالجهة القبلية لها خمس بلاطات مستطيلة من غرب إلى شرق، والجنوبيّة كذلك، على الصفة المذكورة والشرقيّة لها ثلاث بلاطات، والغربيّة لها أربع بلاطات. وطول المسجد مائة خطوة وست وتسعون خطوة، وسعته مائة وست وعشرون خطوة، وعدد سواريه مائتان وتسعون، وهي أعمدة متصلة بالسّمك دون قسيّ تنعطف عليها، فكأنّها دعائم
قوائم، وهي من حجر منحوت قطعا قطعا، ململمة مثقوبة (1) توضع أنثى في ذكر، ويفرغ بينهما الرصاص المذاب إلى أن يتصل عمودا قائما، وتكسى بغلالة جير، ويبالغ في سفلها ودلكها، فتظهر كأنها رخام أبيض، وتحفّ بالبلاط المتّصل بالقبلة من البلاطات الخمس مقصورة تكتنفه من غرب إلى شرق، والمحراب فيها، وعلى رأس المحراب حجر مربّع أصفر قدر شبر في شبر، ظاهر البريق، يقال: إنه كان مرآة كسرى. وفي أعلى داخل المحراب مسمار مثبّت في جداره، فيه شبه حتّى صغير لا يعرف من أيّ شيء هو، ويزعمون أنه كان كأس كسرى. ونصف جدار القبلة الأسفل رخام موضوع أزارا على إزار مختلف الصّنعة واللون، مجزّع أبدع تجزيع. والنصف الأعلى من الجدار مزيّن كلّه بفصوص الذهب المعروفة بالفسيفساء، قد نتج الصانع فيه نتائج غريب من الصّنّعة، تضمّنت تصاوير أشجار مختلفة الصفات، مائلة الأغصان بثمرها، والجداران الشرقي والغربي النّاظران إلى الصحن مجرّدان أبيضان مقرفصان، قد زيّنا برسم يتضمّن أنواعا من الأصبغة إلى ما يطول وصفه من الاحتفال في هذا المسجد المبارك.(2/477)
المسجد المبارك مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مستطيل، وتحفّه من جهاته الأربع بلاطات مستطيلة، ووسطه كلّه صحن مفروش بالحصى والرّمل، وفي الصحن خمس عشرة نخلة، فالجهة القبلية لها خمس بلاطات مستطيلة من غرب إلى شرق، والجنوبيّة كذلك، على الصفة المذكورة والشرقيّة لها ثلاث بلاطات، والغربيّة لها أربع بلاطات. وطول المسجد مائة خطوة وست وتسعون خطوة، وسعته مائة وست وعشرون خطوة، وعدد سواريه مائتان وتسعون، وهي أعمدة متصلة بالسّمك دون قسيّ تنعطف عليها، فكأنّها دعائم
قوائم، وهي من حجر منحوت قطعا قطعا، ململمة مثقوبة (1) توضع أنثى في ذكر، ويفرغ بينهما الرصاص المذاب إلى أن يتصل عمودا قائما، وتكسى بغلالة جير، ويبالغ في سفلها ودلكها، فتظهر كأنها رخام أبيض، وتحفّ بالبلاط المتّصل بالقبلة من البلاطات الخمس مقصورة تكتنفه من غرب إلى شرق، والمحراب فيها، وعلى رأس المحراب حجر مربّع أصفر قدر شبر في شبر، ظاهر البريق، يقال: إنه كان مرآة كسرى. وفي أعلى داخل المحراب مسمار مثبّت في جداره، فيه شبه حتّى صغير لا يعرف من أيّ شيء هو، ويزعمون أنه كان كأس كسرى. ونصف جدار القبلة الأسفل رخام موضوع أزارا على إزار مختلف الصّنعة واللون، مجزّع أبدع تجزيع. والنصف الأعلى من الجدار مزيّن كلّه بفصوص الذهب المعروفة بالفسيفساء، قد نتج الصانع فيه نتائج غريب من الصّنّعة، تضمّنت تصاوير أشجار مختلفة الصفات، مائلة الأغصان بثمرها، والجداران الشرقي والغربي النّاظران إلى الصحن مجرّدان أبيضان مقرفصان، قد زيّنا برسم يتضمّن أنواعا من الأصبغة إلى ما يطول وصفه من الاحتفال في هذا المسجد المبارك.
وفي الجهة الشرقية بيت مصنوع من عود لمبيت بعض سدنته، وسدنته فتيان أحابيش صقالب ظراف الهيئات، نظاف الملابس، والمؤذّن الرّاتب فيه أحد أولاد بلال، وفي جوف الصّحن قبّة كبيرة تعرف بقبّة الزيت، هي مخزن لجميع آلات المسجد.
وله تسعة عشرة بابا لم يبق منها مفتوحا سوى أربعة: اثنان في الغرب، ويعرفان بباب الرحمة، وباب الخشية، واثنان في الشرق: باب جبريل، ويقابله دار عثمان التي استشهد بها، وباب الرّجاء. وفي الشرق خمسة مغلقة، وفي الغرب كذلك، وفي الجنوب أربعة وفي القبلة واحد صغير، وله ثلاث صوامع إحداها في الركن الشرقيّ على هيئة الصوامع، واثنتان في ركني الجهة الجنوبية صغيرتان على هيئة برجين، والرّوضة المقدّسة مع آخر الجهتين، الجهة القبلية ممّا يلي الشرق، وقد انتظمت من بلاطاته ممّا يلي الصّحن في السعة اثنين ونيّفت إلى البلاط والثالث بمقدار أربعة أشبار، ولها خمسة أركان بخمس صفحات، وشكلها شكل عجيب لا يكاد يتأتّى تصويره ولا تمثيله، والصّفحات الأربع محرّفة عن القبلة تحريفا بديعا، لا يتأتّى لأحد معه استقبالها في صلاته، لأنه ينحرف عن القبلة، والذي اخترع ذلك في تدبيرها مخافة أن يتّخذها الناس مصلّى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأخذت من الجهة الشرقية سعة بلاطتين، وانتظم داخلها من أعمدة الأبلطة ستة، وسعة الصفحة القبلية منها أربعة وأربعون شبرا، وسعة الصفحة الشرقية ثلاثون شبرا، ومن الركّن الشرقيّ إلى الركن الجنوبيّ صفحة سعتها خمسة وثلاثون شبرا، ومن الركن الجنوبيّ إلى الغربي صفحة سعتها تسعة وثلاثون شبرا، ومن الركن الغربيّ إلى القبليّ صفحة سعتها أربعة وعشرون شبرا، وفي هذه الصفحة صندوق
__________
(1) الململم: هو الحجر المجتمع الأملس.(2/478)
آبنوس مختّم بالصندل، مصفّح بالفضة، مكوكب بها طوله خمسة أشبار، وعرضه ثلاثة أشبار، وارتفاعه أربعة، وهو قبالة رأس النبي صلّى الله عليه وسلم، فجميع سعة الروضة من جميع جهاتها مائة شبر، واثنان وسبعون شبرا، وهي مؤزّرة بالرخام البديع النحت الرائع النعت، وينتهي الإزار منها إلى نحو الثلث أو أقلّ يسيرا، وعليه من الجدار المكرم ثلث آخر، قد علاه تضميخ المسك والطّيب مقدار نصف شبر مسوّدا متراكبا، متشقّقا مع طول الأزمنة والأيام، والذي يعلوه من الجدار شبابيك عود متّصلة بالسّمك الأعلى، لأنّ أعلى الروضة متّصل بسمك المسجد، وإلى حيّز إزار الرخام تنتهي الأستار، وهي لازوردّية اللون، مختّمة بخواتم بيض مثمّنة ومربعة، وفي داخل الخواتيم دوائر مستديرة، ونقط بيض تحفّ بها، فمنظرها منظر بديع الشّكل. وفي أعلاها رسم مائل إلى البياض، وفي الصفحة القبلية أمام وجه النبي صلّى الله عليه وسلم مسمار فضّة، هو قبالة الوجه المكّرم، فيقف الناس أمامه للسّلام، وإلى قدميه صلّى الله عليه وسلم رأس أبي بكر رضي الله عنه، ومما يلي كتفي أبي بكر رأس عمر رضي الله عنهما، فيقف المسلّم مستدبر القبلة، ومستقبل الوجه الكريم، فيسلّم ثم ينصرف يمينا إلى وجه أبي بكر، ثم إلى وجه عمر رضي الله تعالى عنهما.
وأمام هذه الصفحة المكرّمة نحو العشرين قنديلا معلّقة من الفضة، وفيها اثنان من ذهب، وفي جوفي الروضة حوض صغير مرخّم في قبلته شكل محراب، قيل: إنه بيت فاطمة رضي الله تعالى عنها، ويقال: هو قبرها، وعن يمين الرّوضة المكرّمة المنبر الكريم، ومنه إليها اثنتان وأربعون خطوة، وهو في الحوض المبارك الّذي طوله أربع عشرة خطوة، وعرضه ستّ خطا، وهو مرخّم كلّه وارتفاعه شبر ونصف، وارتفاع المنبر نحو القامة أو أزيد وسعته خمسة أشبار، وطوله خمس خطوات، وأدراجه ثمانية، وبابه على هيئة الشّبّاك مقفل يفتح يوم الجمعة، وطوله أربعة أشبار ونصف شبر.
والمنبر مغشّى بعود الآبنوس، ومقعد النبي صلّى الله عليه وسلم من أعلاه ظاهر، وقد طبق عليه لوح من الآبنوس غير متّصل به، يصونه من القعود عليه، يدخل الناس أيديهم إليه، ويمسحونه. تبركا بلمس ذلك المقعد الكريم، وعلى رأس رجل المنبر اليمني، حيث يضع الخطيب يده حلقة فضة مجوّفة مستطيلة تشبه حلقة الخياط، لكنها أكبر لاعبة تستدير في موضعها، يزعمون أنها كانت لعبة للحسن والحسين في حال خطبة جدّهما، صلوات الله عليهم أجمعين.
وفي الرّوضة الصغيرة التي بين القبر والمنبر، جاء الأثر أنها روضة من رياض الجنة، وقدرها ثمان خطا، ويتزاحم الناس في هذه الرّوضة للصلاة، وبإزائها لجهة القبلة عمود، يقال إنه مطبق على بقية الجذع الّذي حنّ للنبيّ صلّى الله عليه وسلم وقطعة منه في وسط العمود ظاهرة، يقبّلها الناس، ويمسحون خدودهم فيها وعلى حافتها في القبلة منها صندوق كبير للشّمع والأنوار التي توقد أمام الرّوضة كلّ ليلة، ومصلّى الإمام في الروضة الصغيرة
المذكورة إلى جانب الصندوق، وبينها وبين الروضة الكبيرة محمل كبير مدهون عليه مصحف كبير في غشاء مقفل، هو أحد المصاحب الأربعة التي وجّه بها عثمان إلى البلاد.(2/479)
وفي الرّوضة الصغيرة التي بين القبر والمنبر، جاء الأثر أنها روضة من رياض الجنة، وقدرها ثمان خطا، ويتزاحم الناس في هذه الرّوضة للصلاة، وبإزائها لجهة القبلة عمود، يقال إنه مطبق على بقية الجذع الّذي حنّ للنبيّ صلّى الله عليه وسلم وقطعة منه في وسط العمود ظاهرة، يقبّلها الناس، ويمسحون خدودهم فيها وعلى حافتها في القبلة منها صندوق كبير للشّمع والأنوار التي توقد أمام الرّوضة كلّ ليلة، ومصلّى الإمام في الروضة الصغيرة
المذكورة إلى جانب الصندوق، وبينها وبين الروضة الكبيرة محمل كبير مدهون عليه مصحف كبير في غشاء مقفل، هو أحد المصاحب الأربعة التي وجّه بها عثمان إلى البلاد.
وبإزاء المقصورة لجهة المشرق خزانتان كبيرتان محتويتان على كتب ومصاحف موقوفة على المسجد، ويليها في البلاط الثاني دفّة لجهة الشرق، ودفّة مطبقة على وجه الأرض إلى سرداب يهبط إليه على أدراج تحت الأرض، يفضي إلى خارج المسجد إلى دار أبي بكر، وهو كان طريق عائشة رضي الله عنهما إليها. وذلك الموضع هو موضع الخوخة المفضية لدار أبي بكر رضي الله عنه التي أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بإبقائها، وبإزاء دار أبي بكر دار عمر وابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين.
وفيما ذكرناه كفاية، والله تعالى أعلم.
تم الجزء الثاني، ويليه الجزء الثالث
وأوله: «المقامة الثالثة والثلاثون، وهي المقامة التفليسية»(2/480)
فهرس المحتويات
المقامة الثامنة عشرة السّنجاريّة 3
الشام 3
بنو نمير 5
سنجار 6
الحاضرة والبادية 7
قصة ثمود 10
المقامة المضيرية للبديع الهمذاني 12
مما قيل في الجار 13
ممّا قيل في المودّة والإخاء 14
مما قيل في وصف النساء 15
ذكر بابل 19
معبد المغني 21
إسحاق الموصلي 24
زنام الزامر 29
سطيح 31
قصة موسى 36
من قصص الجاريات المتأدبات 39
مما قيل في الوشاة 43
مما قيل في النميمة 44
مما قيل في وصف الذهب والزجاج 45
مما قيل في الغدر وقلة الوفاء 50
مما قيل في الليل 53(2/481)
هود عليه السلام وقومه 56
المقامة التاسعة عشرة النّصيبيّة 61
مدينة نصيبين 61
مما قيل في وصف الرياض شعرا 62
فصل أشعار المجانين 63
ثواب المريض 68
مما قيل في عيادة المريض 70
حمى كليب 73
تخفيف العيادة 76
مما قيل في القيلولة 78
في الفرج بعد الشدّة 84
تفسير ألفاظ ما تضمنته هذه المقامة من كلمات لغوية وكنى طفيلية وكنايات صوفية 85
المقامة العشرون الفارقيّة 87
ميافارقين 87
الضعف والكبر 89
مما قيل في العصا 94
المقامة الحادية والعشرون الرازيّة 101
الطبع والتطبّع 101
الرّيّ 103
ابن سمعون الواعظ 103
بعض الحكم والمواعظ 106
لقاء ملك الموت 111
الولاية والولاة 115
اللثغ من الشعر 118
سام وحام ويافث 121
عمرو بن عبيد الزاهد 122(2/482)
المقامة الثانية والعشرون الفراتيّة 125
سقي الفرات 125
بني الفرات 127
القعقاع بن شور 128
مما قيل في البر في الجليس شعرا 128
الحور والكور 129
وصف السفن 130
مما قيل في الثقلاء 133
في تشميت العاطس 136
قصة المثل: عند جهينة الخبر اليقين 138
حائك الكلام 142
من أخبار الأدباء والشعراء 145
المقامة الثالثة والعشرون الشّعريّة 152
السرقات الشعرية 156
التحذير من الدنيا وغرورها 167
توارد الخواطر 171
المساجلة 176
أنواع البلاغة في صناعة الشعر 185
التجنيس 185
التشبيه 188
الاستعارة 190
الإشارة 191
الإيماء 192
التلويح 192
التعريض 192
التفخيم 193
المطابقة 194(2/483)
التقسيم 195
التسهيم 196
التتميم 197
الترديد 197
التجريد 198
التتبيع 199
التبليغ 200
التصدير 201
الاستثناء 201
الالتفات 202
الاعتراض 202
الاستطراد 205
قصة فرسي الرشيد والمأمون 206
مراتب الخيل 207
في وصف الخيل 208
كفران الصنيع 212
في إشارة اللحظ 217
قصّة السموأل 223
المقامة الرابعة والعشرون النّحويّة 225
نديما جذيمة 226
الزباء 229
مما قيل في الرياض والبساتين 233
مما قيل في الشيب والشباب 241
سيبويه 247
مما ورد في اختلاف النحويين 249
تفسير ما أودع هذه المقامة من النكت العربية والأحاجي النحوية 261
المقامة الخامسة والعشرون الكرجيّة 265(2/484)
الكرج 265
مقامة البديع البخارية 270
طيبة 277
ابن سكّرة 280
المقامة السّادسة والعشرون الرقطاء 284
قصص في الفرج بعد الشدة 287
مما قيل في الحجاب 299
منافرة عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة 302
المقامة السّابعة والعشرون وهي الوبريّة 309
ذو الرمة وميّ 311
أشعب وبعض نوادره 321
مما قيل في الذباب والبعوض شعرا 323
تفسير ما أودع هذه المقامة من الألفاظ اللغوية والأمثال العربية 326
المقامة الثامنة والعشرون السّمرقنديّة 331
سمرقند 331
يوم عروبة 332
مما قيل في الحمّام 333
الأمل والطمع ومما قيل فيه شعرا 339
الدهر وما قيل فيه 340
مما قيل في دنو الأجل وعجز الطب حياله 344
كسرى 351
دارا بن بهمن 353
الفضيل بن عياض 355
المقامة التاسعة والعشرون الواسطيّة 357(2/485)
واسط 357
الغلمان وما قيل فيهم شعرا 359
إبراهيم بن ادهم 364
جبلة بن الأيهم 365
المغالاة بالصدقات 369
التطير من الدنيا والزهد فيها 372
من خطب النكاح 375
الاعتراف بالذنب والطمع في رحمة الله 381
المقامة الثلاثون الصوريّة 385
أبو جعفر المنصور 385
مدينة صور 386
مصر 386
مقياس النيل 387
الأهرام 388
بعض معالم مصر 388
المنذر ابن ماء السماء 392
عهد الصابي في التطفيل 399
من الخطب الهزلية 401
المقامة الحادية والثلاثون الرّملية 408
الوطن ومما قيل فيه شعرا 408
مكة المكرمة 410
الرياء والمراؤون 419
العناق ومما قيل فيه شعرا 424
المقامة الثانية والثلاثون الطيبيّة 431
الملاحن والمعاريض 450
قباح الوجوه 458(2/486)
القلم ومما قيل فيه 464
مما قيل في الشعر شعرا 465
الإمام الشافعي 470
فضل زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلم 476
فهرس المحتويات 481(2/487)
المجلد الثالث
بسم الله الرّحمن الرّحيم
المقامة الثالثة والثلاثون وتعرف بالتّفليسيّة
حكى الحارث بن همّام، قال: عاهدت الله مذ يفعت، ألّا اؤخّر الصّلاة ما استطعت فكنت مع جوب الفلوات، ولهو الخلوات، أراعي أوقات الصّلاة، وأحاذر من مأتم الفوات. وإذا رافقت في رحلة، أو حللت بحلّة، مرحبت بصوت الدّاعي إليها، واقتديت بمن يحافظ عليها.
فاتّفق حين دخلت تفليس، أن صلّيت مع زمرة مفاليس فلمّا قضينا الصّلاة، وأزمعنا الانفلات، برز شيخ بادي اللّقوة، بالي الكسوة والقوّة، فقال: عزمت على من خلق من طينة الحرّية، وتفوّق درّ العصبيّة، إلّا ما تكلّف لي لبثة، واستمع منّي نفثة، ثم له الخيار من بعد، وبيده البذل والرّدّ. فعقد له القوم الحبا، ورسوا أمثال الرّبا.
يفعت: شببت ولم أبلغ الحلم، وقاربت ذلك.
ابن أبي الخير: يفع الغلام وأيفع، إذا كان ابن سبع سنين، فإذا ناهز الحلم قيل:
مراهق وكوكب، فإذا أدرك قيل: فيه حزوّر.
غيره: غلام يفعة غضّ الشباب، وجارية يفعة، والجمع أيفاع وأيفع، فهو يافع على غير قياس. قال ابن سيده رحمه الله: ولم يقل أحد منهم يفع الغلام، ولا موفع، ومثله أبقل الموضع، وأورس، والورس: نبت أصفر. جوب: قطع. الخلوات: حيث يخلو للذاته. أراعي أحفظ. مأثم: إثم. الفوات فوت الوقت. رافقت في رحلة: صاحبت في ارتحال وسفر. حللت: نزلت ببلدة. والحلّة: جماعة البيوت، والحلّة: القوم الحلول والجمع حلال. مرحبت: قلت مرحبا. الدّاعي: هو المؤذّن.
[فضل الصلاة في وقتها]
وجاء من الأثر في تأخير الصلاة قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الرجل ليصلّي الصلاة وما فاته وقتها، ولما فاته من وقتها أعظم أو أفضل من أهله وماله» (1). فهذا وقد أدرك آخر الوقت سيندم على فوات أوله.
__________
(1) أخرجه مالك في الوقوت حديث 23.(3/3)
وقال عليه الصلاة والسلام: «الوقت الأوّل من الصلاة رضوان الله، والثاني عفو الله» (1)، فقال أبو بكر رضي الله عنه: رضوان الله أحبّ إليّ من عفوه. وإنّما قال ذلك لأن عفو الله لا يتصوّر إلا عند اكتساب خطيئة.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه ذكر الصلاة يوما فقال: «من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة من النار، ومن لم يحافظ عليها كان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبيّ بن خلف» (2).
وقال عليه الصلاة والسلام: «إنّ الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» (3).
وكتب عمر رضي الله عنه إلى عمّاله: إن أهمّ أموركم عندي الصّلاة، من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيّعها فهو لما سواها أضيع.
وجاء في القرآن: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضََاعُوا الصَّلََاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوََاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]، وفي التّفسير: لم يتركوا الصّلاة وإنما أضاعوا وقتها.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تفريط في النوم، وإنما التفريط في الّذي يؤخّر الصلاة إلى وقت الأخرى» (4).
وسئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الّذين هم عن صلاتهم ساهون، فقال: «هم الذين يؤخّرون الصلاة عن وقتها» (5).
وممّا يستظرف من هذا الباب أنّ المنصور قيل له: إن أبا دلامة لا يحضر الصلاة، لأنه معتكف على الخمر، وقد أفسد فتيان العسكر، فلو أمرته بالصلاة معك لأصلحته وغيره. فلمّا دخل عليه قال: أبو دلامة الماجن! قال: يا أمير المؤمنين، ما أنا والمجون، وقد ساورت باب قبري، فقال: عني من استكانتك وتضرّعك وإياك أن تفوتك صلاة الظهر والعصر في مسجدي، فإن فاتتك لأحسننّ أدبك، ولأطيلنّ حبسك. فوقع في شرّ أمر، فلزم المسجد أياما
__________
(1) أخرجه الترمذي في المواقيت باب 13، بلفظ: «الوقت الأول من الصلاة رضوان الله، والوقت الآخر عفو الله».
(2) أخرجه الدارمي في الرقاق باب 13، وأحمد في المسند 2/ 129.
(3) أخرجه البخاري في المواقيت باب 14، ومسلم في المساجد حديث 200، وأبو داود في الصلاة باب 5، والترمذي في المواقيت باب 14، والنسائي في المواقيت باب 9، وابن ماجه في الصلاة باب 6، والدارمي في الصلاة باب 27، ومالك في الصلاة حديث 21، وأحمد في المسند 2/ 8، 13، 64، 124، 145، 148.
(4) أخرجه بنحوه مسلم في المساجد حديث 311.
(5) أخرجه بنحوه مسلم في المساجد حديث 241، 243، والنسائي في الإمامة باب 55، وابن ماجه في الإقامة باب 150، والدارمي في الصلاة باب 25، وأحمد في المسند 6/ 7.(3/4)
ثم كتب رقعة ودفعها إلى المهديّ، فأوصلها إلى أبيه وفيها: [الطويل]
ألم تعلما أنّ الخليفة لزّني ... لمسجده والقصر ما لي وللقصر
أصلّي به الأولى جميعا وعصرها ... فويلي من الأولى، وويلي من العصر!
أصّليهما بالكره في غير مسجدي ... فما لي في الأولى وفي العصر من أجر
يكلّفني من بعد ما شبت توبة ... يحطّ بها عنّي الثّقيل من الوزر
ووالله ما لي نيّة في صلاتها ... ولا البرّ والإحسان والخير من أمري
لقد كان في قومي مساجد جمّة ... ولم ينشرح يوما لغشيانها صدري
وما ضرّه والله يغفر ذنبه ... لو أن ذنوب العالمين على ظهري!
فقال: صدق دعوه يضّل من يشاء، وما يضرّني ذلك! والله لا يفلح هذا أبدا، فدعوه يفعل ما يشاء.
وكان الجمّاز منقطعا إلى أبي جزء الباهليّ، فتناسك أبو جزء، فقال للجمّاز: لا أحبّ أن تخالطني إلا أن تتنسّك فأظهر النّسك، ثم كتب إليه:
قد جفاني الأمير كي أتقرّى ... فتقرّيت مكرها لجفائه
والّذي أنطوى عليه المعاصي ... علم الله نّيتي من سمائه
ما قراة لمكره بقراة ... قد رواه الأمير عن فقهائه
ومن مجون أبي نواس أن الأمير لما نهاه عن الخمر وحبسه، فكلّمه فيه الفضل بن الربيع، وأخرجه كتب إليه: [الخفيف]
أنت يابن الربيع علّمتني الخي ... ر وعوّدتنيه والخير عاده (1)
فارعوى باطلي وراجعني الح ... لم فأحدثت رهبة وزهاده
لو تراني ذكرت بي الحسن البص ... ريّ في حال نسكه أو قتاده
المسابيح في دراعي والمص ... حف في ليّتي مكان القلاده
فإذا شئت أن ترى طرفة تع ... جب منها مليحة مستفاده
فادع بي لا عدمت تقويم مثلي ... فتأمّل بعينك السّجّاده
لو رآها بعض المرائين يوما ... لاشتراها يعدّها للشهاده
أثر لاح للصّلاة بوجهي ... توقن النّفس أنه من عباده
وأذن بشار لأصحابه والمائدة بين يديه، فأكل ولم يدعهم لطعامه، ثم دعا بطشت وكشف عن سوءته فبال، ثم حضر الظهر والعصر والعشاء الأولى والآخرة، فلم يصلّ
__________
(1) الأبيات في ديوان أبي نواس ص 145.(3/5)
فقالوا له: أنت أستأذنا وقد رأينا منك أشياء أنكرناها عليك. قال. وما هي؟ قالوا: دخلنا والطعام بين يديك فلم تدعنا إليه، قال: إنما أذنت لكم لتأكلوا، ثم ماذا؟ قالوا: دعوت بالطشت ونحن حضور فبلت ونحن نراك فقال: أنا مكفوف وأنتم بصراء وأنتم المأمورون بغضّ البصر دوني، ثم ماذا؟ قالوا: حضرت الصلاة فلم تصلّ، فقال: إنّ الذي يقبلها تفاريق يقبلها جملة. هذا على أنه القائل: [الطويل]
ألم تر أنّ الدهر يقدح في الصّفا ... وأنّ بقائي إن حييت قليل
خليلك ما قدّمت من عمل التّقى ... وليس لأيّام المنون خليل
فعش خائفا للموت أو غير خائف ... على كلّ نفس للحمام دليل
وقال الحسن رحمه الله تعالى: [الوافر]
وندمان يرى غبنا عليه ... بأن يمسي وليس له انتشاء
إذا نبهّته من نوم سكر ... كفاه مرّة منك النداء
إذا ما أدركته الظهر صلّى ... فلا ظهر عليه ولا عشاء
يصلّي هذه في وقت هذي ... فكلّ صلاته أبدا قضاء
[مدينة تفليس]
تفليس: مدينة بإرمينية بينها وبين قالي قلا ثلاثون فرسخا، ومن قالي قلا ابتداء الأنهار العظام، أوّلها الفرات وقد تقدّم يأخذ من قالي قلا فرسخين، ثم يشقّ مغرّبا إلى دبيل إلى ورثان، ثم يصبّ إلى بحر الخزر، والثاني الكبير يخرج من مدينة قالي قلا، ثم يشقّ إلى مدينة تفليس مشرّقا إلى مدينة بردعة وأرضها، ثم يقرب من بحر الخزر، فيلتقّي مع الرسّ ويصيران نهرا واحدا.
ويقال: إن خلف الرسّ ثلاثمائة مدينة خراب، وهي التي ذكرها الله تعالى، وأصحاب الرسّ بعث إليها حنظلة بن صفوان فقتلوه، فأهلكوا. وقيل في أصحاب الرسّ غير ذلك.
وإرمينية مقسومة على ثلاثة أقسام، فالقسم الأوّل مدينة دبيل، ومدينة قالي قلا، ومدينة خلاط، ومدينة شمشاط، ومدينة السوّاد، والجزء الثاني مدينة بردعة، ومدينة البيلقان، ومدينة قيلة، ومدينة الباب والأبواب والثالث مدينة خزوان ومدينة تفليس.
والمدينة التي تعرف بمسجد ذي القرئين، وافتتحت إرمينية في خلافة عثمان، وافتتحها سليمان بن ربيعة الباهليّ في سنة أربع وعشرين.
عصبة: جماعة. مفاليس: فقراء، وأفلس الرجل: صار صاحب فلوس بعد أن كان صاحب دنانير. أزمعنا الانفلات: عزمنا على الخروج. اللقوة: داء يأخذ في الوجه، والفواق: ما بين الحلبتين. درّ العصبيّة: لبن الحمّية، وهو مثل. نفثة: كلمة. البذل:
العطاء. والردّ: المنع. الحبا: عقد اليدين على الركبتين. رسوا: ثبتوا الرّبا: الكدى.(3/6)
عصبة: جماعة. مفاليس: فقراء، وأفلس الرجل: صار صاحب فلوس بعد أن كان صاحب دنانير. أزمعنا الانفلات: عزمنا على الخروج. اللقوة: داء يأخذ في الوجه، والفواق: ما بين الحلبتين. درّ العصبيّة: لبن الحمّية، وهو مثل. نفثة: كلمة. البذل:
العطاء. والردّ: المنع. الحبا: عقد اليدين على الركبتين. رسوا: ثبتوا الرّبا: الكدى.
* * * فلمّا آنس حسن إنصاتهم، ورزانة حصاتهم، قال: يا أولي الأبصار الرّامقة، والبصائر الرّائقة أما يغني عن الخبر العيان، وينبىء عن النّار الدّخان شيب لائح ووهن فادح، وداء واضح، والباطن فاضح.
ولقد كنت والله ممّن ملك ومال، وولي وآل، ورفد وأنال، ووصل وصال فلم تزل الجوائح تسحت، والنّوّائب تنحت حتّى الوكر قفر، والكفّ صفر، والشّعار ضرّ، والعيش مرّ والصّبية يتضاغون من الطّوى، ويتمنّون مصاصة النّوى ولم أقم هذا المقام الشّائن، وأكشف لكم الدّفائن إلّا بعد ما شقيت ولقيت، وشبت ممّا لقيت فلينني لم أكن بقيت. ثمّ تأوّه تأوّه الأسيف، وأنشد بصوت ضعيف
* * * آنس: أبصر. إنصاتهم: سكوتهم، رزانة حصاتهم: رجاحة عقولهم، والحصاة يكنى بها عن العقل، قال طرفة: [الطويل]
وإنّ لسان المرء ما لم يكن له ... حصاة على عوراته لدليل (1)
الأبصار الرّامقة: العيون الناظرة. البصائر: جمع بصيرة وهي المعتقد. الرائقة:
المعجبة. العيان: المعاينة، يقول: معاينتك الشيء تغني عن خبرته.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الخبر كالمعاينة» (2).
ينبىء: يخبر. لائح: ظاهر. وهن: ضعف. فادح: مثقل بين. فاضح: أي صاحبه في شهرة وفضيحة. ملك: كان ملكا أو ملك الأموال العظام فصار ذا ملك: مال: صار ذا مال.
وليّ: صار واليا. آل: ساس، أي صار يسوس الناس، أي يكون عليهم أميرا، قال عمر رضي الله عنه: ألنا وإيل علينا. رفد: وهب الرفد. أنال: أعطي النّيل والنوال، يقال: منه نلته وأنلته وصل: أعطى صلة، والرّفد والنّوال: العطاء. والإيالة: السياسة، آل الأمير رعيّته أحسن
__________
(1) البيت في ديوان طرفة بن العبد ص 81، ولسان العرب (حظرب)، وأساس البلاغة (حصي)، وكتاب العين 7/ 177، وتاج العروس (حصي)، وهو لكعب بن سعد الغنوي في لسان العرب (حصي)، ولكعب بن سعد الغنوي أو لطرفة في تاج العروس (حصو)، وبلا نسبة في المخصص 3/ 19، ومقاييس اللغة 2/ 70، وتخليص الشواهد ص 346.
(2) أخرجه أحمد في المسند 1/ 215، 271.(3/7)
سياستهم، وآل ماله يؤوله: أصلحه. صال: بطش وهدّد، وصال الفحل: هدر في قطيعه.
الجوائح: المصائب. تسحت: تستأصل الأموال تنحت: تنجر وتأخذ. النوائب: النوازل.
الوكر: قعر المنزل: صفر: خالية من الدّراهم. الشّعار: اللباس: يتضاغون: يصيحون، والضّغاء صياح الذئب إذا جاع، والضّغاء: البكاء بذلّ وخشوع. الطّوى: الجوع. مصاصة:
ما يمصّ منه. الشائن: العائب صاحبه. شقيت: أدركني الشقاء، لقيت: أصابتني لقوه. تأوّه:
توجّع، وقال أوّه. الأسيف: الحزين [السريع]
* * * أشكو إلى الرّحمن سبحانه ... تقلّب الدّهر وعدوانه
وحادثات قرعت مروتي ... وقوّضت مجدي وبنيانه
واهتصرت عودي ويا ويل من ... تهتصر الأحداث أغصانه
وأمحلت ربعي حتّى جلت ... من ربعي الممحل جرذانه
وغادرتني حائرا بائرا ... أكابد الفقر وأشجانه
من بعد ما كنت أخا ثروة ... يسحب في النّعمة أردانه
يختبط العافون أوراقه ... ويحمد السّارون نيرانه
فأصبح اليوم كأن لم يكن ... أعانه الدّهر الذي عانه
وازررّ من كان له زائرا! ... وعاف عافي العرف عرفانه
فهل فتى يحزنه ما يرى ... من ضرّ شيخ دهره خانه
فيفرج الهمّ الّذي همّه ... ويصلح الشأن الذي شانه
* * *
عدوانه: ظلمه. قرعت مروتي: ضربت صخرتي، وأراد بها نفسه. قوّضت: نقضت وهدمت. اهتصرت: كسرت وحتّتت، وهصر الغصن: تعطّفه وانحناؤه، وضرب بالمروة والعود أمثالا وهو يريد جسده وماله. أمحلته: جعلته محلا. جلت: طردت. الممحل:
الذي لا نبات فيه ولا رزق. جرذانه: فئرانه، وقد تقدّم فائدة هذا المعنى. بائرا: هالكا.
أكابد: أقاسي. أشجانه: أحزانه. أخا ثروة: صاحب غنى. يسحب. يجرّ. أردانه:
أذياله. يختبط: يطلب. العافون: الطالبون للرزق، وخبطت الورق: ضربتها بالعصا، فتسقط فتعلفها الإبل، فيضرب بها المثل لعطية الكريم، وأنشد زهير: [البسيط]
وليس مانع ذي قربى وذي رحم ... يوما ولا معدما من خابط ورقا (1)
__________
(1) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 53، ولسان العرب (خبط)، وتهذيب اللغة 2/ 251، 7/ 250، وجمهرة اللغة ص 291، وأساس البلاغة (خبط)، وتاج العروس (خبط)، وبلا نسبة في لسان العرب (عدم)، وتاج العروس (عدم).(3/8)
السارون: الماشون بالليل. عانه: أصابه بالعين. ازورّ: انقبض. عاف: كره: عافى العرف: طالب المعروف. عرفانه: معرفته. همّه: أذابه وشانه: عابه.
ومن كلام العرب في هذا الباب، ما حكى الأصمعيّ رحمه الله: أنّ الأعراب أصابتهم سنوات كثيرة جدبة، فدخلت طائفة منهم البصرة وبين أيديهم أعرابّي يقول: أيّها الناس، إخوانكم في الدين، وشركاؤكم في الإسلام، عابر وسبيل وفلّال بؤس، وصرعى جدب، تتابعت علينا سنون ثلاث غيّرت النّعم، وأكلت النّعم، فأكلنا ما بقي من جلودها فوق عظامها، فلم نزل نعلّل بذلك نفوسنا، ونمنّي بالغيث قلوبنا، حتى عاد مختارا، وعاد إشراقنا ظلاما، فأقبلنا إليكم يصرعنا الوعر، وينكينا السهل، وهذه آثار مصائبنا لائحة في قسماتنا. فرحم الله متصدّقا من كثير، أو مواسيا من قليل، فلقد عظمت الحاجة، وكسف البال، وبلغ المجهود، والله يجزي المتصدّقين.
وقف أعرابّي على حلقة يونس النحويّ، فقال: الحمد لله، وأعوذ به أن أذكّر به وأنساه، إنّا أناس قد قدمنا هذه المدينة: ثلاثون رجلا، لا ندفن ميّتا، ولا نتحوّل عن منزل، وإن كرهناه، فرحم الله عبدا تصدّق على ابن سبيل، ونضو طريق، وفلّ سنة، فإنه لا قليل من الأجر، ولا غنى عن الله. ولا عمل بعد الموت، يقول الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللََّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضََاعِفَهُ لَهُ} * [البقرة: 245] و [الحديد: 11]، إن الله لا يستقرض من عوز، ولكن ليبلو أخبار عباده.
قال الأصمعيّ رحمه الله: وقف أعرابيّ علينا، فقال: تتابعت علينا سنون، بتغيير وانتقاص، فما تركت لنا ضيعا (1) ولا ريعا (2)، ولا نافطة ولا عافطة (3)، ولا ثاغية (4) ولا راغية (5)، فأماتت الضّرع وأفنت الزّرع، وعندكم من فضل الله نعمة فأعينوا من عطيّة الله إياكم، وارحموا أبا أيتام، وأنضاء زمان، فلقد خلّفت أقواما لا يمرّضون مريضهم ولا يكفّنون ميتهم، ولا ينتقلون من المنزل وإن كرهوه، ولقد مشيت إليكم حتى انتعلت الدماء، وجعت حتى أكلت النوى المحرقة.
وقفت أعرابية على عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقالت: إنّي أتيت من أرض شاسعة، تهبطني هابطة، وترفعني رافعة، في ملحّات من البلايا، برين لحمي، وهضن عظمي، وتركتني والهة، وقد ضاق بي البلد، بعد الأهل والولد، وكثرة العدد، لا قرابة تؤويني، ولا عشيرة تحميني فسألت أحياء العرب: من المرتجى سيبه، المأمون عيبه، الكثير نائله، المكفّي سائله، فدللت عليك، وأنا امرأة من هوازن، فقدت الوالد والرّافد، فاصنع في أمري واحدة من ثلاث: إمّا أن تحسن صفدي (6)، وإما أن تقيم
__________
(1) الضيع، جمع ضيعة: هي العقار.
(2) الربع: مسيل الوادي من كل مكان مرتفع.
(3) النافطة والعافطة: هي النعجة.
(4) الثغاء: هو صوت الغنم.
(5) الرغاء: هو صوت البعير أو الناقة.
(6) الصفد: هو العطاء.(3/9)
أودي (1)، وإما أن تردّني إلى بلدي، فقال: بل أجمعهنّ لك ففعل بها ذلك.
خرج المهديّ يطوف بالبيت بعد هدأة من الليل، فسمع أعرابيّة من جانب المسجد، وهي تقول: قوم متظلمّون، نبت عنهم العيون، وفدحتهم الديون، وعضّتهم السّنون، بادت رجالهم، وذهبت أموالهم، أبناء سبيل، وأنضاء طريق، وصية الله ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم، فهل من آمر بخير كلأه الله في سفره، وخلفه في أهله! فأمر لها بخمسمائة درهم.
ومما جاء في ذم السؤال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب فيه أهون من أن يأتي رجلا أعطاه الله من فضله، فيسأله أعطاه أو منعه» (2).
وقال صلى الله عليه وسلم: «من فتح على نفسه بابا من السؤال، فتح الله عليه سبعين بابا من الفقر» (3).
وقال أكثم بن صيفي: كلّ سؤال وإن قلّ أكثر من كلّ نوال وإن جلّ.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المساكين لا يعودون مريضا، ولا يشهدون جنازة، ولا يحضرون جمعة، وإذا اجتمع الناس في أعيادهم ومساجدهم يسألون الله من فضله، اجتمعوا يسألون الناس ما بأيديهم.
سأل سائل بمسجد الكوفة فلم يعط شيئا، فقال: اللهمّ إنك بحاجتي عالم لا تعلّم، أنت الذي لا يعوزك نائل، ولا يلحفك سائل، ولا يبلغ مدحك قائل أسألك صبرا جميلا، وفرجا قريبا، وبصرا بالهدى، وقوّة فيما تحب وترضى فتبادروا إليه بالعطية، فقال: لا والله لا أرزؤكم الليلة شيئا، ثم خرج وهو يقول: [الكامل]
ما نال باذل وجهه بسؤاله ... عوضا ولو نال الغنى بسؤال
وإذا النّوال مع السؤال وزنته ... رجح السؤال، وخفّ كلّ نوال
وإذا بليت ببذل وجهك سائلا ... فابذله للمتكرّم المفضال
وقال بعض الأدباء: المخذول من كان له إلى اللئام حاجة.
وأنشد الجاحظ في نوادره لأعرابيّ: [الكامل]
سير النّواعج باللّميعة في الضّحى ... يمشي الذليل بها على بلبال
__________
(1) الأود: الاعوجاج.
(2) أخرجه البخاري في الزكاة باب 50، 53، والبيوع باب 15، والمساقاة باب 13، والترمذي في الزكاة باب 38، والنسائي في الزكاة باب 85، وأحمد في المسند 1/ 124، 2/ 243، 257، 300، 395، 418، 475، 496.
(3) أخرجه الترمذي في الزهد باب 17، وأحمد في المسند 1/ 193، 418، 4/ 231. بلفظ: «لا يفتح الأنسان على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر».(3/10)
خير من الطمع الدنيء ويجلس ... بفناء لا طلق؟؟؟
فابثث حوائجك للمليك فإنه ... يغنيك قبل تخشع بسؤال
* * * قال الراوي: فصبت الجماعة إلى إن تستثبته، لتستنجش خبأته، وتستنفض حقيبته، فقالت له: قد عرفنا قدر رتبتك، ورأينا درّ مزنتك فعرّفنا دوحة شعبتك، واحسر اللّثام عن نسبتك. فأعرض إعراض من مني بالإعنات، أو بشّر بالبنات، وجعل يلعن الضّرورات، ويتأفّف من تغيّض المروءات. ثم أنشد بلفظ صادع، وجرس خادع: [المتقارب]
لعمرك ما كلّ فرع يدلّ ... جناه اللّذيذ على أصله
فكل ما حلا حين تؤتى به ... ولا تسأل الشّهد عن نحله
وميّز إذا ما اعتصرت الكروم ... سلافة عصرك من خلّة
لتغلي وترخص عن خبرة ... وتشتري كلّا شرا مثله ... فعار على الفطن اللّوذعيّ ... دخول الغميزة في عقله
* * * قوله: تستثبته: تحقق من هو. تستنجش، تستخرج، والنّجش: استخراج الشيء المجهول المستور. وقيل: تنفير الوحش، وهو من الأوّل، لأنّ تنفير المطمئن كإظهار الكامن. خبأته: سرّه الّذي أخبرهم بظاهره حيث قال: كيت وكيت.
الحقيبة: وعاء يعلّقه الرجل خلف رحله، يجعل فيه ما يعز عليه ممّا يحتاج أن يتناوله متى شاء، وأراد بها هاهنا موضع سرّه تستنفض: تنثر ما فيها رتبتك: قدرك ومنزلتك. درّ مزيتك: ماء سحابك، وأراد ما أبدى لهم من البلاغة. دوحة: شجرة.
شعبتك: فرعك وغصنك. احسر: ازل واكشف. اللّثام: ما يجعل على الأنف والفم، يريد عرّفنا أصلك، ومن أين أنت. مني: بلي. الإعنات: المشقة، وعنّته وأعنته: كلّفته ما يشقّ عليه وبشّر بالبنات: أخبر بولادتهنّ، وقد أخبر الله تعالى أن من بشّر بالأنثى ظل وجهه مسودّا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشّر به. وقد تقدّم وأد البنات وهو دسّهنّ في التراب.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عقبة بن عامر: «لا تكرهوا البنات فإنهنّ المؤنسات الغاليات» (1). وقال عليه الصلاة والسلام «أحبّوا البنات، فإنيّ أبو البنات»، وإنّ الرجل إذا
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 4/ 151.(3/11)
ولدت له ابنة هبط إليها ملكان فمسحا على ظهرها، وقالا: ضعيفة خرجت من ضعيف، من أعان عليك لم يزل يصاب إلى يوم القيامة.
قوله: يتأفف، يقول: أف أف، وهو من فعل المهموم الملهوف. تغيّض المروءات: ذهاب الأفعال الحسان. صادع: شديد يشقّ الأذن. جرس: صوت. جناه:
ما يجتنى منه. الشهد: العسل، أي كل العسل، ولا تسلّ عن النّحل التي صنعته، ولا من أين هو، ضربه مثلا لترك سؤالهم عنه، إذ أفادهم. سلافة: خمر لم تعصر. عصرك:
تعصيرك. خبرة: معرفة وتجربة. اللّوذعيّ: الذّكي. الغميزة: ضعف التدبير والنّظر، لأنّ الذي لا يحسن التدبير، والنّظر إذا سقط غمزه الناس وعابوه.
* * * قال: فازدهى القوم بذكائه، واختلبهم بحسن أدائه مع دائه، حتّى جمعوا له خبايا الخبن، وخفايا الثّبن، وقالوا له: يا هذا، إنّك حمت على ركيّة بكيّة، وتعرّضت لخليّة خليّة. فخذ هذه الصّبابة، وهبها لا خطأ ولا إصابة.
فنزّل قلّهم منزلة الكثر، ووصل قبوله بالشّكر ثم تولّى يجرّ شقّه، وينهب بالخبط طرقه.
قال المخبر بهذه الحكاية: فصوّر لي أنّه محيل لحليته متصنّع في مشيته.
فنهضت أنهج منهاجه، وأقفو أدراجه وهو يلحظني شزرا، ويوسعني هجرا حتّى إذا خلا الطريق، وأمكن التّحقيق، نظر إليّ نظر من هشّ وبشّ، وما حض بعد ما غشّ، وقال: إنّي لإخالك أخا غربة، ورائد صحبة فهل لك في رفيق يرفق بك ويرفق، وينفق عليك وينفق؟ فقلت له: لو أتاني هذا الرفيق لو أتاني التّوفيق. فقال لي: قد وجدت فاغتبط، واستكرمت فارتبط.
* * * ازدهى: دعاهم إلى الزهو والإعجاب به. ذكائه: حدّة ذهنه. اختلبهم: خدعهم.
الخبن: أطراف الثوب، كالكم وغيره، والثّبن: أطراف الرداء وشبهه، والخبنة في الثوب المخيط، وقد خبنته عطفته وكففته بالخياطة، وقيل: الخبن القبض، والخبنة لما يلي من حجزة السراويل والإزار، والجمع خبن، والثبنة ما يلي الظهر من السراويل والإزار.
حمت: حّلقت. ركية: بئر. بكية: قليلة الماء. خلية: جبح النحل حيث كان من حجر أو شجر، وقيل الخلية الخشبة المنقورة لها خاصة، والخلية في غير هذا السفينة، فشبهّت خلية النحل بها خلية: فارغة، الصّبابة: الشيء القليل إذا أخذ منه بكثرة. الخبط: أراد به
أخذ الأموال بالسؤال، يقال: خبطت الشجرة خبطا، نفضت ورقها، أراد أنه كان يجرّ جانبه المعلّ، فكل من مرّ به وسأله رحمه. محيل: مغيّر. حليته: خلقته وصفاته.(3/12)
حمت: حّلقت. ركية: بئر. بكية: قليلة الماء. خلية: جبح النحل حيث كان من حجر أو شجر، وقيل الخلية الخشبة المنقورة لها خاصة، والخلية في غير هذا السفينة، فشبهّت خلية النحل بها خلية: فارغة، الصّبابة: الشيء القليل إذا أخذ منه بكثرة. الخبط: أراد به
أخذ الأموال بالسؤال، يقال: خبطت الشجرة خبطا، نفضت ورقها، أراد أنه كان يجرّ جانبه المعلّ، فكل من مرّ به وسأله رحمه. محيل: مغيّر. حليته: خلقته وصفاته.
نهضت: تقدّمت للمشي. أنهج منهاجه: أمشي في طريقه. أقفو أدراجه: أتبع آثاره.
يلحظني: ينظرني.
شزرا، أي في جهة بمؤخر عينه. قال ابن الأنباريّ: نظر إليّ شزرا، أي نظر إليّ، من جانب عينه من شدّة العداوة والبغضاء، يقال: شزر يشزر، إذا نظر من جانب عينه من العداوة أو من الفرق. ويوسعني هجرا، أي يكثر تجنّبي ومباعدتي. هشّ: خفّ واهتزّ.
بشّ: حسن اللقاء، ويقال: بش فلان بفلان، إذا سرّ به وفرح وانبسط إليه ويقال:
تبشبش به بمعنى بشّ به، والبشاشة والهشاشة الطلاقة والتبسّم. ما حض: أخلص ودّه، غشّ، ضد أخلص، ويقال: غشّه، أي عمل فيما يحبه شيئا قليلا وخلطه بما يسوءه، أخذ من الغشش، وهو الشراب الكدر. إخالك أحسبك رائد: طالب. يرفق بك: يلاطفك ويكون بك رفيقا. يرفق: يوليك مرافقة، أي يعينك بماله حتى يجد معها الرفق. لو أتاني: لوافقني. اغتبط، أي كن به مغتبطا أي محبّا في بقائه، والغبطة: حسن الحال استكرمت فارتبط، أي اتّخذت كريما، وجاء هذا اللفظ في حكاية ذكرها أبو عليّ، وهي أنّ فتى من العرب جاء إلى أمّه، وقد عميت فقال لها: يا أمّه، إني اشتريت فرسا، فقالت: صفه لي، قال: إذا استقبل فظّبي ناصب، وإذا استدبر فهقل (1) هاضب (2)، وإذا استعرض فسّيّد (3) قارب (4)، موالي المسمعين، طامح الناظرين، مدعلق الطّبيين، قالت:
أجدت إن كنت أعربت، قال: إنه مشرف التّليل، سبط الخصيل، وهواه الصهيل، قالت:
أكرمت فارتبط.
* * * ثمّ ضحك مليّل، وتمثّل لي بشرا سويّا فإذا هو شيخنا السّروجيّ، لا قلبة بجسمه، ولا شبهة في وسمه ففرحت بلقيته، وكذب لقوته، وهممت بملامته، على سوء مقامته، فشحا فاه، وأنشد قبل أن ألحاه: [المتقارب]
ظهرت برثّ كيما يقال ... فقير يزجّي الزّمان المزجّى
وأظهرت للنّاس أن قد فلجت ... فكم نال قلبي به ما ترجّى
ولولا الرّثاثة لم يرث لي ... ولولا التّفالج لم ألق فلجا
ثمّ قال: إنّه لم يبق لي بهذه الأرض مرتع، ولا في أهلها مطمع فإن كنت
__________
(1) الهقل: هو الفتي من النعام.
(2) الهضب: نوع من السير.
(3) السّيّد: هو الذئب.
(4) القارب: نوع من السير.(3/13)
الرفيق، فالطريق الطّريق. فسرنا منها متجرّدين، ورافقته عامين أجردين. وكنت على أن أصحبه ما عشت، فأبى الدّهر المشتّ.
* * * قوله: مليّا، أي طويلا. قلبة: علّة. قال الكسائي رحمه الله: ما به قلبة، أي شيء يقلقه فينقلب من أجله على فراشه لغمّه. وقال الفراء رحمه الله: ما به من وجع يخاف عليه منه، من قولهم: قلب الرجل إذا أصابه وجع في قلبه، فلا يكاد ينقلب منه قال الأصمعيّ رحمه الله: معناه ما به داء، مأخوذ من القلاب، وهو داء يصيب الإبل في رؤوسها فيقلبها إلى فوق. شبهة: التباس وتغيّر. وسمه: صفاته. الّلقية: المرّة الواحدة من اللقاء. وقال في الدّرة: العرب تقول: لقية ولقاءة ولقاية، إذا أردوا المرّة الواحدة، فإن أرادوا المصدر، قالوا: لقيته لقاء ولقى ولقيّا، هذا وأنشد: [الطويل]
وإنّ لقاها في المنام وغيره ... وإن لم تجد بالبذل عندي لرابح (1)
وخطّأ من يقول: لقيته لقاءة واحدة، وأغفل أنّ سيبويه قال في كتابه: أتيته إتيانة، ولقيته لقاءة واحدة.
واللقوة: استرخاء اللّحى وعوجه. مقامته: مجلسه الذي كدى به شحافاه: فتحه قال جرير:
وضع الخزير فقيل أين مجاشع ... فشحا جحافله جراف هبلع (2)
الخزير، بنقط الخاء ثم زاي: دقيق يلبك بشحم، وجراف الشيء سخونة. ألحاه:
ألزمه. يزجّي: يسوق. المزجي: القليل الخير، وهذا كما قال: لبست الخميصة أبغي الخبيصة. فلجت: صبت بفالج. الرثاثة: سوء الحال. التفالج: استعمال الفالج، وهو خدر يصيب الجسد. فلجا: فوزا وظفرا. مرتع: موضع يرعى فيه. منجردين: مسرعين، وانجرد الرجل في سيره، إذا جدّ في الذهاب. أجردين: تامّين كاملين، وسرت يوما وشرا وحولا أجرد، وجريدا أي تاما، قال سويد بن كراع: [الطويل]
وجشّمني خوف ابن عفان ردّها ... فثقّفتها حولا جريدا ومربعا
المشتّ: المفرّق.
__________
(1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (لقا)، وتاج العروس (لقي).
(2) البيت في ديوان جرير ص 913، ولسان العرب (خزر)، (هبلع)، (جرف)، وتاج العروس (خزر)، (جشع)، (هبلع)، (جرف)، (جحفل)، وهو بلا نسبة في ديوان الأدب 2/ 51، وكتاب العين 2/ 282.(3/14)
المقامة الرّابعة والثلاثون وتعرف بالزّبيديّة
أخبر الحارث بن همّام، قال: لمّا جبت البيد إلى زبيد، صحبني غلام قد كنت ربّيته إلى أن بلغ أشدّه، وثقّفته حتّى أكمل رشده.
وكان قد أنس بأخلاقي، وخبر مجالب وفاقي فلم يكن يتخطّى مرامي، ولا يخطىء في المرامي لا جرم أنّ قربه التاطت بصفري، وأخلصته لحضري وسفري، فألوى به الدّهر المبيد، حين ضمّتنا زبيد.
* * * جبت: قطعت. البيد: الصحارى.
زبيد: بلدة باليمن بينها وبين صنعاء أربعون فرسخا، وليس في اليمن بعد صنعاء أكبر منها، ولا أغنى من أهلها، ولا أكثر خيرا، واسعة البساتين، كثيرة المياه والفواكه من الموز وغيره، وهي برّية لا ساحلية.
وبلغ أشدّه: أي بلغ الحلم، وقيل ثلاثين سنة. قال الأزهريّ رحمه الله تعالى:
الأشدّ فى كتاب الله تعالى على ثلاث معان: أما قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام {وَلَمََّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنََاهُ حُكْماً وَعِلْماً} [يوسف: 22] فبلوغه مبلغ الرجال، وكذا في اليتيم، حكمه أن يحفظ عليه ماله حتى يبلغ أشّده، وبلوغه أشده أن يؤنس الرّشد منه مع أن يكون بالغا.
وأما قوله تعالى في قصة موسى عليه الصلاة والسلام {وَلَمََّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى ََ}
[القصص: 14] فقرن بلوغ الأشد بالأستواء وهو أن تجتمع قوّته، ويكتهل وذلك من ثمان وعشرين إلى ثلاث وثلاثين سنة، وذلك منتهى الشباب. وأما قوله تعالى {حَتََّى إِذََا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] فهي نهاية بلوغ الأشد، وعندها بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وقد اجتمعت حكمته وتمام عقله، فبلوغ الأشدّ محصور البداية محصور النهاية ما بين ذلك.
ثقفته: قوّمته وحذفته. خبر: أي جرّب وعرف. مجالب وفاقي: أي عرف من أين يجلب ما يوافقني. يتخطّى: يتجاوز. مرامي: مرادي ومقصدي لا جرم، أي لا محالة
ولابدّ، ثم صارت بمعنى حقّا. قربة: ما يتقرب به إلى من المبّرة. التاطت: لصقت.(3/15)
ثقفته: قوّمته وحذفته. خبر: أي جرّب وعرف. مجالب وفاقي: أي عرف من أين يجلب ما يوافقني. يتخطّى: يتجاوز. مرامي: مرادي ومقصدي لا جرم، أي لا محالة
ولابدّ، ثم صارت بمعنى حقّا. قربة: ما يتقرب به إلى من المبّرة. التاطت: لصقت.
بصفري: بنفسي وقلبي، والصّفر دود في البطن، إذا جاع الإنسان عضّت شراسيفه، وهي رقيق البطن، قال أعشى باهلة: [البسيط]
* ولا يعضّ على شرسوفه الصّفر (1) *
فيريد أن هذا الغلام مهذّب يأتي بمحاولاته على الوفاق، ويقرب الطعام من مولاه وقت الحاجة، ومن حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نعمّا للمملوك أن يتوفاه الله، بحسن عبادة ربه، وطاعة سيّده نعما له» (2).
وفال عليه الصلاة والسلام: «إذا نصح العبد لسيده وأحسن عبادة ربّه فله أجران» (3).
أخلصته: أفردته. ألوى: ذهب به وأهلكه. المبيد: المهلك. وننشد هنا أبياتا لابن الحضرمي في غلام هلك للمتوكّل ببطليوس: [الرجز]
غالته أيدي المنايا ... وكنّ في مقلتيّه
وكان يسقي الندامى ... بطرفه ويديه
غصن ذوى وهلال ... جاء الكسوف عليه
ويستحسن لابن همام أن ينشد في وصف هذا الغلام: [الخفيف]
حين تمّت آدابه وتردّى ... برداء من الشّباب جديد
وسقاه ماء الشبيبة فاهت ... زّ اهتزاز الغصن النّديّ الأملود
وسمت نحوه العيون وما كا ... ن عليه لزائد من مزيد
وكأنّي أدعوه وهو قريب ... حين أدعوه من مكان بعيد
وأنشد بعضهم: [الطويل]
نأى آخر الأيام عنك حبيب ... فللعين سحّ دائم وغروب
كأن لم يكن كالغصن في ميعة الضّحى ... سقاه الندى فاهتزّ وهو رطيب
__________
(1) صدره:
لا يتأرّى لما في القدر يرقبه والبيت لأعشى باهلة في لسان العرب (صفر)، (أرى)، وتاج العروس (صفر)، (أرى)، وتهذيب اللغة 12/ 167، 15/ 313، وديوان الأدب 1/ 212، وكتاب العين 7/ 113، وللحارث الباهلي في كتاب العين 8/ 303، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 740، 1094، ومقاييس اللغة 1/ 88.
(2) أخرجه مسلم في الأيمان حديث 46، وأحمد في المسند 2/ 318، 390.
(3) أخرجه أحمد في المسند 2/ 425، 4/ 405.(3/16)
وريحان صدري كان حين أشمهّ ... ومؤنس قصري كان حين أغيب
وكانت يدي ملآنه ثم أصبحت ... بحمد إلهي وهي منه سليب
* * * فلمّا شالت نعامته، وسكنت نأمته، بقيت عاما، لا أسيغ طعاما، ولا أريغ غلاما، حتّى ألجأتني شوائب الوحدة، ومتاعب القومة والقعدة إلى أن أعتاض عن الدّرّ الخرز، وارتاد من هو سداد من عوز فقصدت من يبيع العبيد، بسوق زبيد، فقلت: أريد غلاما يعجب إذا قلّب، ويحمد إذا جرّب وليكن ممّن خرّجه الأكياس، وأخرجه إلى السّوق الإفلاس فاهتزّ كلّ منهم لمطلبي ووثب، وبذل تحصيله عن كثب. ثمّ دارت الأهلّة دورها، وتقلّبت حورها وكورها، وما نجز من وعودهم وعد، ولا سحّ لها رعد.
فلمّا رأيت النّخّاسين، ناسين أو متناسين، علمت أن ليس كلّ من خلق يفري، وأن لن يحكّ جلدي مثل ظفري. فرفضت مذهب التّفويض، وبرزت إلى السوّق بالصّفر والبيض.
* * * شالت نعامته، أي ارتفع نعشه. ويقال في المصلوب: شالت نعامته، أي ارتفعت خشبته، وشالت نعامة القوم، أي ولّوا منهزمين، وهو مثل يضرب للانهزام وللهلاك وللتفرّق. وأنشد الشاعر: [الكامل]
تلقى خصاصة بيننا أرماحنا ... شالت نعامة أيّنا لم يفعل
يخاطب أعداءه وقد وافقهم، يقول: هلّم نلقى في الفرجة الّتي بيننا أرماحنا، ونضرب بالسيوف، هلك وانهزم من لم يفعل، يدعو عليه وينسب ذلك للنعامة، لأنّ النعام موصوف بالسّخف والرّق والشراد. فإذا قالوا: شالت نعامتهم، وخفّت نعامتهم، ورقّ رأيهم، فمعناه إذا تركوا مواضعهم بجلاء أو بموت. ويقال: أحمق من نعامة، لأنها تنشر للطعام، فربما رأت بيضة نعامة أخرى وحدها فتحضنها، وتنسى بيضتها، ثم تجيء الأخرى فترى على بيضتها غيرها، فتمضي لوجهها، وإياها عني ابن هرمة بقوله: [المتقارب]
كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا (1)
__________
(1) البيت لإبراهيم بن هرمة في ديوانه ص 87، والحماسة الشجرية 2/ 902، والحماسة البصرية 2/ 277، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 737، وشرح عمدة الحافظ ص 675، وكتاب الصناعتين ص 123، 145، وعيون الأخبار 2/ 102، ولسان العرب (شحح)، (جهز)، (هنبق).
قاله الجاحظ:(3/17)
قاله الجاحظ:
وأما أبو عبيدة فقال: عنّى الحمامة. وقال ابن الأعرابيّ، بيضة البلد الّتي سار بها المثل هي بيضة النعامة التي تتركها فلا تهتدى إليها فتفسد فلا يقربها شيء. قال الراعي:
[البسيط]
لو كنت من أحد يهجى هجوتكم ... يا بن الرّقاع ولكن لست من أحد (1)
تأبى قضاعة أن ترضى لكم نسبا ... وابنا نزار فأنتم بيضة البلد
قوله: نأمته، أي حركته التي تنمو بحياته. وزعموا أنّ النّامّة بوزن العامّة، عرق اليافوخ. أسيغ طعاما: استسهل بلعه. أريغ غلاما: أطلبه. السّداد: اسم ما يسدّ به الشيء، مثل سداد القارورة وهو صمامها، وسداد الفقر ما يذهبه ويكتفي به من المال، وسداد الثّغر ما يذهب خوفه من الخيل والرجال، والسّداد بالفتح: الإصابة في المنطق، وقال يعقوب: السّداد والسّداد بمعنى واحد، وسنعيد ذكره في أخبار العرجي.
والعوز: فقد الشيء فإنه أراد عبدا يسدّ به فقد غلامه الميّت. إذا قلّب أي إذا قلبت خلقته وجدت كلّ جزء منها حسنا. خرّجه: حذّقه وربّاه الأكياس: أهل الفطنة والحذق.
والإفلاس: الفقر. وثب: قفز وعجل إلى المشي. بذل: أعطى، تحصيله: وجوده وحصوله. كثب: قرب يريد أنه أعطى من نفسه القدرة على حصوله في أقرب مدة. دارت الأهلة دورها، أي كملت السّتة وكملت الأهلّة فيها بالطلوع. كورها وحورها: زيادتها ونقصانها، وقد تقدّم الكور والحور. نجز: حضر. سحّ: أمطر.
النخّاسين: الدلّالين للعبيد والدواب. ثعلب: أخذ من النّخس وهو الدفع، فمعنى النّخاسين الذين يشترون العبيد ليدفعوهم إلى غيرهم. ليس كلّ من خلق يفري، مثل، وخلق قدّر، يقال: خلق الصانع الجلد، إذا قدر ما يقطع منه، وقيل: الخلق: القطع، والفرى: القطع أيضا، ولكن تقديرا، فمعنى المثل: ليس كلّ من فطع شيئا قّدر ما يقطع به، ويفري أيضا: يحسن القطع على جهة الإصلاح. قال زهير: [مجزوء الكامل]
ولأنت تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفري (2)
__________
(1) البيت الأول في ديوان الراعي النميري ص 79، ولسان العرب (بيض)، (رقع)، وتاج العروس (بيض)، (رقع)، والبيت الثاني في ديوان الراعي ص 203، ولسان العرب (بيض)، وتهذيب اللغة 3/ 124، 12/ 85، والحيوان 4/ 336، وتاج العروس (بلد)، (بيض) وهو بلا نسبة في لسان العرب (دعا)، وتاج العروس (دعا).
(2) البيت في ديوان زهير بن أبي سلمى ص 94، ولسان العرب (خلق)، (فرا)، وتهذيب اللغة 7/ 26، 15/ 242، ومقاييس اللغة 2/ 14، 4/ 497، وديوان الأدب 2/ 123، وكتاب الجيم 3/ 49، والمخصص 4/ 111، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 619، وتاج العروس (فرا).(3/18)
ويقال أيضا: خلق الشيء صنّفه، وفراه: أفسده، وأراد ليس كلّ الناس يحسن شراء العبيد.
قوله: لا يحك جلدى مثل ظفري هو مثل يضرب في ترك الاتكّال على الناس، قال الإمام الشافعيّ رضي الله عنه: [مجزوء الكامل]
ما حكّ جلدك مثل ظفرك ... فتولّ أنت جميع أمرك (1)
وإذا قصدت لحاجة ... فاقصد لمعترف بقدرك
رفضت: تركت. التفويض: أن يتّكل الرجل على غيره ويسلّم أمره إليه. الصّفر والبيض: الدّنانير والدراهم.
* * * فإنّي لأستعرض الغلمان، وأستعرف الأثمان، إذ عارضني رجل قد اختطم بلثام، وقبض على زند غلام، وقال: [الرجز]
من يشتري منّي غلاما صنعا ... في خلقه وخلقه قد برعا
بكلّ ما نطت به مضطلعا ... يشفيك إن قال وإن قلت وعى
وأن تصبك عثرة يقل لعا ... وإن تسمه السّعي في النار سعى
وإن تصاحبه ولو يوما رعى ... وإن تقنّعه بظلف قنعا
وهو على الكيس الذي قد جمعا ... ما فاه قطّ كاذبا ولا ادّعى
ولا أجاب مطمعا حين دعا ... ولا استجاز نثّ سرّ أو دعا
وطالما أبدع فيما صنعا ... وفاق في النثر وفي النّظم معا
والله لو ضنك عيش صدعا ... وصبية أضحوا عراة جوّعا
* ما بعته بملك كسرى أجمعا *
قال: فلمّا تأمّلت خلقه القويم، وحسنه الصّميم، خلته من ولدان جنّة النّعيم، وقلت: ما هذا بشرا إن هذا إلّا ملك كريم.
* * * استعرض: أطلب أن يعرض عليّ، وعارضني: قابلني. أستعرف: أطلب معرفته.
اختطم: جعل اللّثام على طرف الأنف وهو الخطم والخرطوم للسباع واللثام: ما كان
__________
(1) البيتان في ديوان الإمام الشافعي ص 111، والبيت الأول في تاج العروس (حكك).(3/19)
على الأنف من النقاب. والزّند: طرف عظم الساعد المتّصل بالكفّ، فهو قد قبض على أرقّ موضع في الذّراع. الصّنع. الحاذق بالصناعة، والمرأة صناع. برع: فضل وفاق غيره. نطت: علقت. مضطلعا: مكتفيا قويّا عليه. وعى: حفظ. لعا، كلمة تقال للعاثر يعني: أقال الله عثرتك، وسلّمك الله تسمه السّعى: تكّلفه المشي. رعى: حفظ الصحبة. الظّلف للشاة بمنزلة الحافر للدّابة. الكيس الحاذق. فاه: تكلّم.
ثم قال: لم يدعه الطمع قطّ فأجابه. استجاز: استحلّ. نثّ: نشر، أبدع: أغرب وأتى بما لم يسبق إليه. ضنك: صدع: كسر، وأنشدوا في هذا المعنى: [الطويل]
وقد تخرج الحاجات يا أمّ مالك ... علائق من ربّ بهنّ ضنين
خلقه القويم: المعتدل القامة. الصميم: الخالص، وهو فعيل، من صمّ الشيء إذا لم يكن فيه فرجة ولا خلل. خلته: حسبته.
[الغلمان وعشّاقهم]
وننشد في هذه المقامة في الغلمان ما له سبب وتعلّق بذكر يوسف عليه السلام، أو يكون الغلام مملوكا حتى يوافق غرض المقامة.
كان شفيع غلام المتوكل أحسن الفتيان وأظرفهم، وكان المتوكلّ يجنّ به جنونا، فأحبّ يوما أن ينادم حسين بن الضحاك، وأن يرى ما بقي من شهوته وكان قد أسنّ فأحضره وسقاه حتى سكر، وقال لشفيع: اسقه، فسقاه وحيّاه بوردة، وكانت على شفيع ثياب مورّدة. فمدّ حسين يده إلى ذراع شفيع، فقال المتوكل: أتخمش أخصّ خدمي بحضرتي، فكيف لو خلوت به! ما أحوجك إلى الأدب! وكان قد غمز شفيعا على العبث به، فدعا بدواة فكتب: [الطويل]
وكالوردة الحمراء حيّا بوردة ... من الورد يمشي في قراطق كالورد
له عبثات عند كل تحيّة ... بكفّيه تستدعي الحليم إلى الوجد
تمنّيت أن أسقى بعينيه شربة ... تذكّرني ما قد نسيت من العهد
سقى الله دهرا لم أبت فيه ليلة ... خليّا ولكن من حبيب على وعد
ثم دفعها لشفيع فأعطاها المتوكل، فاستملحها وقال: أحسنت والله يا حسين! ولو كان شفيع ممّن تجوز هبته لو هبته لك ولكن بحياتي يا شفيع إلّا كنت ساقيه بقيّة يومنا.
وأمر له بمال كثير.
وكان لمعز الدولة غلام تركيّ، وكان وضيء الوجه، منهمكا في الشراب، ولفرط ميل مولاه إليه جعله رئيس سرّيةّ جرّدها لحرب بني حمدان، وكان المهلبيّ يسظرفه ويستحسنه، فقال: [مجزوء الكامل]
ظبي يروق الماء في ... وجناته ويروق عوده
ويكاد من شبه العذا ... رى فيه أن تبدو نهوده
ناطوا بمعقد خصره ... سيفا ومنطقة تئوده
جعلوه قائد عسكر ... ضاع الرّعيلّ ومن يقوده
فكانت الدائرة على جيش الغلام، كما أشار إليه، ولو غزاهم بالسّلاح الذي أمر به الببغاء غلاما غازيا وهو: [البسيط](3/20)
ظبي يروق الماء في ... وجناته ويروق عوده
ويكاد من شبه العذا ... رى فيه أن تبدو نهوده
ناطوا بمعقد خصره ... سيفا ومنطقة تئوده
جعلوه قائد عسكر ... ضاع الرّعيلّ ومن يقوده
فكانت الدائرة على جيش الغلام، كما أشار إليه، ولو غزاهم بالسّلاح الذي أمر به الببغاء غلاما غازيا وهو: [البسيط]
يا غازيا أتت الأحزان غازية ... إلى فؤادي والأحشاء حين غزا
إن بارزتك رماة الرّوم فارمهم ... بسهم عينيك تقتل كلّ من برزا
لكان الظافر الغالب
وكان بديع غلام عمير المأموريّ أحسن خلق الله وجها، وكان الوزير ابن الزّيات مفتونا به، فاجتاز عليه راكبا بآلة الحرب، فقال فيه: [السريع]
راح علينا راكبا طرفه ... أغيد مثل الرّشأ الآنس
قد لبس القرطق واستمسكت ... كفّاه من ذي بدن مائس
وقلّد السيف على غنجه ... كأنه في وقعة الدّاحس
أقول لمّا أن بدا مقبلا: ... يا ليتني فارس ذا الفارس!
وقال ابن الزقاق: [الكامل]
ومهنّد عضب براحة أغيد ... في جفنه عضب يقدّ مفاصلي
يسطو بذاك وذا فيغدو قرنه ... بهما صريع لواحظ ومناصل
ماض كلا السّيفين لكن لحظه ... أمضى وإلّا فاسألنّ مقاتلي
وكان لأبي عيسى بن الرشيد غلام اسمه يسر، وكان آية في الجمال، وكان صالح أخوه يتعشّقه، فبلغت لأبي عيسى قصة جرت بينهما، فحجبه ومنعه أن يخرج من داره إلا بحافظ، وكاد حسين بن الضحاك يموت فيه عشقا، فقال فيه: [مجزوء الرمل]
ظنّ من لا كان ظنّا ... بحبيبي فحماه
أرصد الباب رقيبي ... ن له فاكتنفاه
فإذا ما اشتاق قربي ... ولقائي منعاه
جعل الله رقيبي ... هـ من السّوء فداه
وقال فيه: [الخفيف]
إنّ من لا يرى وليس لا يراني ... نصب عيني ممثّل بالأماني
يأبى من ضميره وضميري ... أبدا بالمغيب ينتجيان
نحن شخصان إن نظرت وروحا ... ن إذا ما اختبرت ممتزجان
فإذا ما هممت بالأمر أو هـ ... مّ بشيء بدأته وبدأني
كان وفقا ما كان منه ومنّي ... فكأنّي حكيته وحكاني
خطرات النّفوس منّا سواء ... وسواء تحرّك الأبدان
وجاءه يوما فتحدّث معه، فأشار لتقبيله، فقال له بشير: إياك والتعرّض لي وانج بنفسك، وكانت فيه عربدة، فقال فيه حسين: [الخفيف](3/21)
إنّ من لا يرى وليس لا يراني ... نصب عيني ممثّل بالأماني
يأبى من ضميره وضميري ... أبدا بالمغيب ينتجيان
نحن شخصان إن نظرت وروحا ... ن إذا ما اختبرت ممتزجان
فإذا ما هممت بالأمر أو هـ ... مّ بشيء بدأته وبدأني
كان وفقا ما كان منه ومنّي ... فكأنّي حكيته وحكاني
خطرات النّفوس منّا سواء ... وسواء تحرّك الأبدان
وجاءه يوما فتحدّث معه، فأشار لتقبيله، فقال له بشير: إياك والتعرّض لي وانج بنفسك، وكانت فيه عربدة، فقال فيه حسين: [الخفيف]
أيها النّفّاث في العقد ... أنا مطويّ على الكمد
إنما زخرفت لي خدعا ... قدحت في الرّوح والجسد
ما لأنس كان مبتذلا ... منك لي بالأمس لم يعد
يوم تعطيني وتأخذها ... دون ندماني يدا بيد
ذاك يوم كان حاسدنا ... فيه معذورا على الحسد
* * * ثمّ استنطقته عن اسمه، لا لرغبة في علمه بل لأنظرّ أين فصاحته من صباحته، وكيف لهجته من بهجته فلم ينطق بحلوة ولا مرّة، ولا فاه فوهة ابن أمة ولا حرّة. فضربت عنه صفحا، وقلت له: قبحا لعيّك وشقحا، فغار في الضحك وأنجد، ثمّ أنغض رأسه إليّ وأنشد:
يا من تلهّبّ غيظه إذ لم أبح ... باسمي له، ما هكذا من ينصف
إن كان لا يرضيك إلّا كشفه ... فأصخ له، أنا يوسف أنا يوسف
ولقد كشفت لك الغطاء فإن تكن ... فطنا عرفت وما إخالك تعرف
قال: فسرّى عتبي بشعره، واستبى لبّي بسحره حتّى شدهت عن التحقيق، وأنسيت قصّة يوسف الصّدّيق ولم تكن لي همّ إلّا مساومة مولاه فيه، واستطلاع طلع الثّمن لأوفّيه. وكنت أحسب أنّه سينظر شزرا إليّ، ويغلي السّيمة عليّ فما حلّق إليّ حيث حلّقت، ولا اعتلق بما به اعتلقت بل قال: إنّ الغلام إذا نزر ثمنه، وخفّت مؤنه، تبرّك به مولاه، والتحف عليه هواه، وإنّي لأوثر تحبيب هذا الغلام إليك، بأن أخفّف ثمنه عليك، فزن مائتي درهم إن شئت، واشكر لي ما حييت. فنقدته المبلغ في الحال، كما ينقد في الرّخيص الحلال، ولم يخطر لي ببال، أنّ كلّ مرخص غال.
* * *
قوله: استنطقته، أي سألته أن ينطق. صباحته: حسنه. لهجته: لفظه، وأصلها طرف اللسان، فكنى بها عن حلاوته. بهجته: حسنه ونضارته، وأصلها حسن اللون. لم ينطق بحلوة ولا مرّة، أي بكلمة جيدة ولا رديئة. فاه: نطق ضربت عنه: أعرضت عنه.(3/22)
* * *
قوله: استنطقته، أي سألته أن ينطق. صباحته: حسنه. لهجته: لفظه، وأصلها طرف اللسان، فكنى بها عن حلاوته. بهجته: حسنه ونضارته، وأصلها حسن اللون. لم ينطق بحلوة ولا مرّة، أي بكلمة جيدة ولا رديئة. فاه: نطق ضربت عنه: أعرضت عنه.
صفحا، أي أوليته صفحة وجهي، وهي جانبه، شقحا، اتباع لقبح، وقيل: هي من شقح البسر، إذا تغيّرت خضرته بجمرة أو صفرة، وهو أقبح ما يكون في رأي العين، وقيل:
هو من شقحت العود إذا كسرته، وقال: هو من أشقاح الكلاب، وهي أدبارها، ويقال:
قبحا وشقحا بضم أولهما وفتحه. غار: أتى الغور، وهو المنخفض من الأرض أنجد:
أتى نجدا، ومعناه بالغ في الضحك وذهب في جهاته. أنغض رأسه، أي حرّكه كأنه يهدّد ويستخفّ به. تلتهب: اشتغل أبح: أتكلم. أصخ: استمع. أنا يوسف، أي أنا حرّ مثل يوسف صلوات الله عليه، إذ باعه إخوته سرّى عتبي: أزال لومي استبى لبّي: أي تملّك عقلي بسحره وحلاوة كلامه شدهت: تحيّرت، وهو مقلوب دهشت التحقيق:
التمييز، وهذا كما قال الشاعر: [الطويل]
والله ما فتنت نفسي محاسنه ... إلّا وقد سحرت ألفاظه أذني
ما تصدر العين عنه لحظة مللا ... كأنه كلّ شيء مرتضى حسن
استطلاع طلعة: استخبار خبره، والسؤال عن قدره، لأوفّيه: لأعطيه كاملا وافيا.
شزرا: نظر فيه إعراض. السّيمة: السّوم، وهو السؤال عن الثمن. ما حلّق إليّ حيث حلّقت، أي ما دار إليّ حيث درت، أي ما كان عنده شيء مما ظننت به من طلبه سوما غاليا. نزر: قلّ. مؤنه: لوازمه وما يحتاج إليه. تبرّك: رآه مباركا، والبركة: الكثرة والسعة. التحف: انضمّ هواه: حبّه. أوثر: أفضّل.
فلمّا تحقّقت الصّفقة، وحقّعت الفرقة، هملت عينا الغلام، ولا همول دمع الغمام، ثم أقبل على صاحبه وقال: [الوافر]
لحاك الله هل مثلي يباع ... لكيما تشبع الكرش الجياع
وهل في شرعة الإنصاف أنّي ... أكلّف خطّة لا تستطاع
وأن أبلى بروع بعد روع ... ومثلي حين يبلى لا يراع
أما جرّبتني فخبرت منّي ... نصائح لم يمازجها خداع
وكم أرصدتني شركا لصيد ... فعدت وفي حبائلي السّباع
ونطت بي المصاعب فاستقادت ... مطاوعة وكان بها امتناع
* * * تحقّقت الصفقة: تمّ البيع. هملت: سالت. الغمام: السحاب. لحاه الله: لعنه وأبعده، ولحيت الرجل: لمته، وأصله من لحوت العود ألحوه ولحيته ألحاه، إذا قشرته، وأنشد ابن الأعرابيّ في نوادره: [الكامل](3/23)
لحوت شمّاسا كما تلحى العصا ... سبّا لو انّ السبّ يدمي لدمي (1)
ويقال: لاحاه ملاحاة ولحا، أصلها المبالغة، ثم كثرت حتى جعلت كلّ ممانعة ومدافعة ملاحاة. الكرش: العيال، وكرش الرجل عياله وصغار ولده، ويقال في المعيل:
عليه كرش منثورة، وإذا أكثرت المرأة أولادها قيل: نثرن كرشها، وقد قدّم أن صبيته جوّع. الشّرعة: الطريق. والخطّة، مثل القصة: الأمر يقع بين القوم أبلى: أمتحن.
الرّوع: الفزع، لأنه يصيب الرّوع وهو القلب. يمازجها: يخالطها. أرصدتني: جعلتني رصدا، والرصد: من يرقبك وأنت لا تعلم فإذا جئته هجم عليك. والشّرك: آلة الصيد.
حبائلي: شباكي نطت: علّقت. المصاعب: الأمور الشاقّة. استقادت: انقادت [الوافر]
وأيّ كريهة لم أبل فيها ... وغنم لم يكن لي فيه باع
وما أبدت لي الأيام جرما ... فيكشف في مصارمتي القناع
ولم تعثر بحمد الله منّي ... على عيب يكتّم أو يذاع
فأنّى ساغ عندك نبذ عهدي ... كما نبذت برايتها الصّناع
ولم سمحت قرونك بامتهاني ... وأن أشرى كما يشرى المتاع
وهلّا صنت عرضي عنه صوني ... حديثك يوم جدّ بنا الوداع
وقلت كمن يساوم فيّ هذا ... سكاب فما يعار ولا يباع
فما أنا دون ذاك الطّرف لكن ... طباعك فوقها تلك الطّباع
على أنّي سأنشد حين بيعي ... أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا
* * * أبل: أبالغ وأجهد نفسي فيه. غنم: غنيمة جرم: ذنب مصارمتي: مقاطعتي، وكشفت في الأمر القناع، إذا جهدت فيه وبالغت. تعثّر: تطلع: يكتّم: يستر. يذاع:
يفشي و «بحمد الله» في البيت، وقعت اعتراضا بين العامل والمعمول، كما وقعت في التاسعة والأربعين اعتراضا بين المبتدأ وخبره في قوله: «وأنت بحمد الله وليّ عهدي» وتعلّقها بمحذوف تقديره: ابتدىء بحمد الله، أو أفتتح بحمد الله الذي خلّصني من عيب يعثر لي عليه، أو الذي جعلك وليّ عهدي، ومنه: سبحان الله وبحمده، معناه أنزّه الله وابتدىء بحمده، أو أفتتح بحمده، ودخلت الواو هنا لغير معنى العطف، ألا ترى أنّك لو قلت: سبحان الله وحمده، لكان المعنى: أسبّحه تسبيحا وأحمده حمدا، هكذا يقتضي ما جاء من المصادر منصوبا في هذا الباب، وفي قولنا: وبحمده لا يكون المعنى ما تقدم في المنصوب، ولكن الباء آذنت بمعنى ابتدأت، أو أبدأ بحمد الله، كأنّك قلت: حمدت الله على إلهامه إياي تسبيحه، وتأمّل قوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر: 7].
__________
(1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (لحا)، وتهذيب اللغة 5/ 239.(3/24)
قوله ساغ: أي سهل. نبذ: ترك. البراية: ما يتساقط من العود إذا نجر، ومن القلم إذا بري، وكذا يأتي في مثل البرادة والنّحاتة ونحوها الصّناع: الحاذقة بالصّنعة، والرجل صنع بغير ألف. قرونك: نفسه. سمحت: جادت أشرى: أباع. عنه، أي عن البيع.
صوني حديثك، أي صيانتي للحديث الذي أحدثت من بيعي وأنا حرّ يوم جدّبنا الوداع، أي في هذه الساعة التي تريد أن تودّعني فيها. سكاب: اسم فرس لرجل من العرب من بني تميم، سأله بعض الملوك أن يبيعها منه، فأبى عليه وقال: [الوافر]
أبيت اللّعن إن سكاب علق ... كريم لا يعار ولا يباع (1)
مفدّاة مكرّمة علينا ... يجاع لها العيال ولا نجاع
الطّرف: الفرس الكريم، يقول: لست أنا دون الفرس، لكن طباع مالكه أفضل من طباعك، حيث كان يجيع عياله ويشبعه، ولم يهنه بالبيع كما أهنتني به.
[العرجي]
وعجز البيت الأخير صدر بيت لعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله عنهم، وهو العرجيّ، سمّيّ بذلك لأنه ولد بالعرج من مكة، وقيل: بل كان له بها مال، وكان يكثر الاختلاف إليه، فنسب إليه. يكنى أبا عمرو، وهو شاعر مطبوع بالغزل مجيد ويشبّه في غزله ومقصده بعمر بن أبي ربيعة، وكان يهوى جيداء أم إبراهيم بن هشام المخزومي، ولها يقول: [البسيط]
أبصرت وجها لها في جيده تلع ... تحت العقود وفي القرطين تشهير (2)
وجه تحيّر فيه الماء في بشر ... صاف له حين أبدته لنا نور
ولها يقول: [الوافر]
إلى جيداء قد بعثوا رسولا ... ليخبرها فلا صحب الرّسول (3)
كأنّ العام ليس بعام حجّ ... تغيّرت المواسم والشّكول
ولها يقول: [السريع]
عوجي علينا ربّة الهودج ... إنك إن لا تفعلي تحرجي (4)
__________
(1) يروى عجز البيت الأول:
نفيس لا تعار ولا تباع
وهو بلا نسبة في لسان العرب (سكب)، وتاج العروس (سكب).
(2) البيتان في ديوان العرجي ص 105، وفيه «تشمير» بدل «تشهير».
(3) البيتان في ديوان العرجي ص 190، وفيه «ليحزنها» بدل «ليخبرها».
(4) ديوان العرجي ص 17.(3/25)
فالحجّ إن حجّت وماذا منى ... وأهله إن هي لم تحجج!
فما استطاعت غير أن أومأت ... نحوي بعيني شادن أدعج
وقال أيضا: [الكامل]
باتا بأنعم ليلة حتّى بدا ... صبح يلوّح كالأغرّ الأشقر (1)
فتلازما عند الفراق صبابة ... أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
فلمّا شاع نسيبه بها قبض عليه ابنها محمد عند ولايته الحجاز، بسبب طلبة عليه، فضربه بالسياط وألقى الزّيت على رأسه، وأوقفه للناس في الشمس، حتى غشي عليه، وسجنه بضع سنين حتى مات في سجنه، فقال في السجن: [الوافر]
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر (2)
وخلّوني ومعترك المنايا ... وقد شرعت أسنّتهم لنحري
كأنّي لم أكن فيهم وسيطا ... ولم تك نسبتي في آل عمرو
أجرّر في المجامع كلّ يوم ... فيا لله مظلمتي وقسري!
عسى الملك المجيب لمن دعاه ... ينجيّني ويعلم كيف شكري
فأجزي بالكرامة أهل ودّي ... وأجزي بالعداوة أهل وتري
فلما أفضت الخلافة إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك، قبض على محمد بن هشام وأخيه إبراهيم ودعا لهم بالسّياط، فقال له محمد: أسألك بالقرابة! قال: وأيّ قرابة بيني وبينك؟ قال: فاسألك بصهر عبد الملك! فقال: لم تحفظه، فقال: يا أمير المؤمنين إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يضرب قرشيّ إلا في حدّ، فقال: ففي حدّ أضربك وقود، قال:
وما ذاك؟ قال: أنت أوّل من سنّ ذلك على العرجي وهو ابن عمي وابن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، فما رعيت [حقّ] جدّه ولا نسبه بهشام من قبل أمّه، اضربهما يا غلام، فضربهما ضربا مبرّحا، وأثقلا بالحديد ووجّه بهما إلى يوسف بن عمر، وأمره بتعذيبهما، فضربهما حتى ماتا.
وغنى إسحاق الموصلي الرشيد قوله: [الوافر]
* أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا *
فسأل عن سبب هذا الشعر، فأخبره بحديث العرجي، قال إسحاق: فرأيته يتغيّظ، فلما أخبرته بما فعل بابني هشام، جعل وجهه يسفر وغيظه يسكن، ثم قال: يا إسحاق، لولا ما حدّثتني به من فعل الوليد، لما تركت أحدا من أماثل بني مخزوم إلا قتلته بالعرجيّ.
__________
(1) ديوان العرجي ص 178.
(2) ديوان العرجي ص 34.(3/26)
ومن جيدّ شعر العرجّي: [الطويل]
فهل أنت آت أهل ليلى فناظر ... لذنب جفوني، أم جفوني تجرّما (1)
فإن يك من ذنب ففي ذاك حكمهم ... وحسب امرىء في حقه أن يحكّما
كمثل شهاب النّار في كفّ قابس ... إذا الريح هبّت وهو كاب أضرما
ومن جيده: [الكامل]
أخبرت أنّك قلت نقتله ... لا تفعلنّ، فدتكم نفسي (2)
والله لا آتي لكم سخطا ... حتى أغيّب في ثرى رمسي
والله لا أنسى تطوّفها ... تهتزّ بين كواعب خمس
كالبدر صورتها إذا انتقبت ... وإذا سفرت فأنت كالشمس
ومنه: [البسيط]
حور بعثن رسولا في ملاطفة ... ثبتا إذا أسقط النّسّاءة الوهم (3)
فجئت أمشي على هول أجشّمه ... تجشّم المرء هو لا في الهوى كرم
أمشي كما حرّكت ريح يمانية ... غصنا من البان رطبا طلّه الرّهم
حتّى جلست إزاء البيت مكتتما ... وطالب الحاج تحت الليل يكتتم
فبت أسقى بأكواس أعلّ بها ... من بارد طاب منه الطّعم والنّسم
وفي معنى قوله: أمشي كما حرّكت. البيت يقول ابن دعبل: [السريع]
قالت لقد أعييتنا حجّة ... فأت إذا ما هجع السّامر
واسقط علينا كسقوط النّدى ... ليلة لا ناه ولا آمر
وقال الواثق: [السريع]
قالت إذا الليل دجا فأتنا ... فجئتها حين دجا الليل
خفّفي وطء الرّجل من حارس ... ولو دنا حلّ به الويل
ومن ظرف العرجيّ، أنه وعد هوى له أن تزوره في منتزه، فجاءته على أتان ومعها جارية لها، وجاء العرجيّ على عير ومعه غلام، فواقعها العرجيّ، ثم خرج فرأى الغلام يواقع الجارية والعير على الأتان، فلما نظر الحال قال: هذا يوم غاب عذّاله.
* * * __________
(1) ديوان العرجي ص 36، وفيه «تعرّما» بدل «تجرّما».
(2) ديوان العرجي ص 148.
(3) ديوان العرجي ص 2.(3/27)
[التضمين]
ويسمّى أخذ الحريريّ شطر بيت العرجيّ التّضمين، وليس بسرقة. والتّضمين يكون في بيت وفي شطر بيت، والشّعراء تتولّع به كثيرا، وهو من صنعة البديع، فمن الثاني قول الأخطل: [الكامل]
ولقد سما للخرّمي فلم تقل ... بعد الونى لكن تضايق مقدمي
ومثله قول الآخر: [الطويل]
وجزت على باب الأمير كأنّني ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
ومن تضمين بيت بكماله قول الحسن بن هانيّ: [البسيط]
إنّي عجبت وفي الأيام معتبر ... والدّهر يأتي بألوان الأعاجيب
من صاحب كان دنياي وآخرتي ... عدا عليّ جهارّا عدوة الذّيب
قد كان لي مثل لو كنت أعقله ... من رأى غالب أمر غير مغلوب
لا تمدحنّ امرأ حتى تجرّبه ... ولا تذمّنّه من غير تجريب
فضمّن هذا البيت.
قال ابن حجاج: [الكامل]
قد قلت لما أن رجعت مولّيا ... ومعي مدابير من الكتّاب
نحن الذّين لهم يقال وكلّنا ... فلّ العصا وطريدة الحجاب
قوم إذا قصدوا الملوك لمطلب ... نتفت شواربهم على الأبواب
وقال ابن رشيق: سألني بعض أصحابي أن أضمّن له قول الشاعر:
فإن فخرت بآباء لهم شرف ... قلنا صدقت، ولكن بئس ما ولدوا
ولا أزيد على بيت واحد، فقلت: [البسيط]
أصبحت من جملة الأشراف إن ذكروا ... كواحد الآس لا يزكو له عدد
والتضمين كثير.
* * * [قصة النضر بن شميل مع المأمون]
وعلى بيت العرجيّ: [الوافر]
* أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا *
حديث النضر بن شميل، قال: كنت أدخل على المأمون في سمره فدخلت ذات
ليلة وعليّ أطمار أخلاق، فقال: يا نضر، ما هذا التقشّف! تدخل على أمير المؤمنين في هذه الخلقان؟ فقلت: أنا شيخ ضعيف، وحرّ مرو شديد، فأتبّرد بهذه الخلقان، قال: لا، ولكنك قشف، فيحمل منك هذا على التقشف. ثم أجرينا الحديث، فقال: حدّثنا هشيم، عن مجاهد، عن الشعبيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوج الرجل المرأة لدينها ولجمالها وكمالها، كان فيها سداد من عوز» فأورده بفتح السين، قلت: يا أمير المؤمنين، حدّثنا عوف بن أبي جميلة الأعرابيّ، عن الحسن عن عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوج الرّجل المرأة لدينها ولجمالها وكمالها كان فيها سداد من عوز»، وكان المأمون متكئا فستوى جالسا، وقال: كيف قلت يا نضر «سداد»؟ قلت: سداد لأنّ «السّداد» هنا لحن، قال: أو تلحّنني! قلت: إنما لحن هشيم وكان لحّانة فتبع أمير المؤمنين لفظه، فقال: فما الفرق بين السّداد والسّداد؟ قلت: السّداد القصد في الدين والسبيل والسّداد بالكسر البلغة في الشيء، وكلّ ما سددت به شيئا فهو سداد، قال: أو نعرف العرب ذلك؟ قلت: نعم هذا العرجي من ولد عثمان، يقول: [الوافر](3/28)
* أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا *
حديث النضر بن شميل، قال: كنت أدخل على المأمون في سمره فدخلت ذات
ليلة وعليّ أطمار أخلاق، فقال: يا نضر، ما هذا التقشّف! تدخل على أمير المؤمنين في هذه الخلقان؟ فقلت: أنا شيخ ضعيف، وحرّ مرو شديد، فأتبّرد بهذه الخلقان، قال: لا، ولكنك قشف، فيحمل منك هذا على التقشف. ثم أجرينا الحديث، فقال: حدّثنا هشيم، عن مجاهد، عن الشعبيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوج الرجل المرأة لدينها ولجمالها وكمالها، كان فيها سداد من عوز» فأورده بفتح السين، قلت: يا أمير المؤمنين، حدّثنا عوف بن أبي جميلة الأعرابيّ، عن الحسن عن عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوج الرّجل المرأة لدينها ولجمالها وكمالها كان فيها سداد من عوز»، وكان المأمون متكئا فستوى جالسا، وقال: كيف قلت يا نضر «سداد»؟ قلت: سداد لأنّ «السّداد» هنا لحن، قال: أو تلحّنني! قلت: إنما لحن هشيم وكان لحّانة فتبع أمير المؤمنين لفظه، فقال: فما الفرق بين السّداد والسّداد؟ قلت: السّداد القصد في الدين والسبيل والسّداد بالكسر البلغة في الشيء، وكلّ ما سددت به شيئا فهو سداد، قال: أو نعرف العرب ذلك؟ قلت: نعم هذا العرجي من ولد عثمان، يقول: [الوافر]
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
ثم أطرق مليّا، وقال: قبح الله من لا أدب له! ثم تجارينا الحديث، فقال: كيف روايتك للشعر؟ قلت: قد رويت الكثير منه، قال: فأنشدني أحسن ما قالته العرب في الحلم فأنشدته: [الطويل]
إذا كان دوني من بليت بجهله ... أبيت لنفسي أن أقابل بالجهل
وإن كان مثلي في محلّ من العلا ... هويت إذا حلما وصفحا عن المثل
وإن كنت أدنى منه في الفضل والحجا ... رأيت له حقّ التّقدّم والفضل
فقال: ما أحسن ما قال! فأنشدني أحسن ما قالته العرب في الحزم فأنشدته: [الطويل]
على كلّ حال فاجعل الحزم عدّة ... لما أنت باغية وعونا على الدّهر
فإن نلت أمرا نلته عن عزيمة ... وإن قصّرت عنه الحقوق فمن عذر
قال: فما أحسن ما قال! فأنشدني أحسن ما قالته العرب في إصلاح العدو حتى يكون صديقا، فأنشدته: [الطويل]
وذي غيسلة ساءلته فقهرته ... فأوقرته منّي بعبء التحمّل
ومن لا يدافع سيئات عدوّه ... بإحسانه لم يأخذ الطّول من عل
ولم أر في الأشياء أسرع مهلكا ... لضغن قديم من وداد معجّل
فقال: ما أحسن ما قال! فأنشدني أحسن ما قالته العرب في السّكوت فأنشدته:(3/29)
وذي غيسلة ساءلته فقهرته ... فأوقرته منّي بعبء التحمّل
ومن لا يدافع سيئات عدوّه ... بإحسانه لم يأخذ الطّول من عل
ولم أر في الأشياء أسرع مهلكا ... لضغن قديم من وداد معجّل
فقال: ما أحسن ما قال! فأنشدني أحسن ما قالته العرب في السّكوت فأنشدته:
[الكامل]
إني ليهجرني الصديق تجنّبا ... فأريه أن لهجره أسبابا
وأراه إن عاتبته أغريّته ... فيكون تركي للعتاب عتابا
وإذا بليت بجاهل متحكّم ... بجد المحال من الأمور صوابا
أوليته منّي السكوت وربّما ... كان السكوت عن الجواب جوابا
فقال: ما أحسن ما قال! ثم قال: ما مالك يا نضر؟ قلت: أريضة بمرو. الروذ اتصابها وأتمزّزها، قال: أفلا نفيدك مالا معها؟ قلت: إن رأى ذلك أمير المؤمنين، فإني لذلك لمحتاج.
فأخذ القرطاس وكتب وأنا لا أدري ما يكتب، ثم قال: كيف تأمر إذا أردت أن تترب الكتاب، قلت: يا غلام أترب الكتاب، قال: فهو ماذا؟ قلت: مترب، قال: فمن السّحاة، قلت: يا غلام اسح الكتاب، قال: فهو ماذا؟ قلت: مسحى، قال: فمن الطين، قلت: يا غلام طن الكتاب، قال: فهو ماذا؟ قلت: مطين ومطان، فقال: هذه أحسن من الأولى، ثم قال: يا غلام أتريه واسحه وطنه. ثم صلّى بنا العشاء، ثم قال لغلامه: امض معه إلى الفضل بن سهل بهذا الكتاب، فلمّا قرأه قال: بم استأهلت أن يأمر لك أمير المؤمنين بخمسين ألف درهم؟ وما سبب ذلك؟ فأخبرته الحديث على جهته، فقال:
لحنّت أمير المؤمنين، فقلت: كلّا إنما لحن هشيم وكان لحّانة فتبع أمير المؤمنين ألفاظه، وقد تتبع ألفاظه الفقهاء ورواة الأخبار. فعجّل لي ما في الكتاب، وأمر لي من عنده بأربعين ألف درهم، فانصرفت بتسعين ألف درهم بحرف استفاده مني.
وهذا الخبر جاء في أخبار النحويين. وذكره الحريري في درّة الغواص بأخصر مما ذكرناه، ثم قال بإثر الخبر: وقد أذكرني هذا المثل أبياتا أنشدنيها أحد أشياخي رحمهم الله لأبي الهيذام: [الرمل]
لي صديق هو عندي عوز ... من سداد لا سداد من عوز
وجهه يذكّرني دار البلى ... كلّما أقبل نحوي وضمز
وإذا جالسني جرّعني ... غصص الموت بكرب وعلز
يصف الودّ إذا شاهدني ... وإذا غاب وشى بي وهمز
كحمار السّوء يبدي مرحا ... فإذا سيق إلى الحمل غمز
ليتني أعطيت منه بدلا ... بنصيبي شرّ أولاد المعز
قد رضينا بيضة فاسدة ... عوضا منه إذا البيع نجز
* * *(3/30)
لي صديق هو عندي عوز ... من سداد لا سداد من عوز
وجهه يذكّرني دار البلى ... كلّما أقبل نحوي وضمز
وإذا جالسني جرّعني ... غصص الموت بكرب وعلز
يصف الودّ إذا شاهدني ... وإذا غاب وشى بي وهمز
كحمار السّوء يبدي مرحا ... فإذا سيق إلى الحمل غمز
ليتني أعطيت منه بدلا ... بنصيبي شرّ أولاد المعز
قد رضينا بيضة فاسدة ... عوضا منه إذا البيع نجز
* * *
[أبو حنيفة والإسكاف]
وكان لأبي حنيفة رحمه الله جار إسكاف بالكوفة، يعمل نهاره أجمع، فإذا أجنّه الليل رجع إلى منزله بالخمر ولحم أو سمك، فيطبخ اللحم أو يشوي السمك، حتى إذا دبّ الشراب فيه رفع عقيرته ينشد: [الوافر]
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فلا يزال يشرب ويردّد هذا البيت، حتى يغلبه النوم.
وكان أبو حنيفة رحمه الله يصلّي الليل كلّه، ويسمع جلبته وإنشاده، ففقد صوته ليالي، فسأل عنه فقيل له: أخذه العسس منذ ثلاث ليال، وهو محبوس، فصلّى الفجر وركب بغلته، ومشى فاستأذن على الأمير، فقال: ائذنوا له، وأقبلوا به راكبا، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط، ففعل به ذلك، فوسّع له الأمير مجلسه، وقال له: ما حاجتك؟
فقال: لي جار إسكاف أخذه العسس منذ ثلاث ليال، فتأمر بتخليته؟ فقال: نعم، وكلّ من أخذ من تلك الليلة إلى يومنا هذا، ثم أمر بتخليتهم أجمعين. فركب أبو حنيفة وتبعه جاره الإسكاف، فلما أوصله داره، قال له أبو حنيفة: أترانا يا فتى أضعناك؟ قال: لا بل حفظت ورعيت جزاك الله خيرا عن صحبة الجوار ورعاية الحق، ولله عليّ ألّا أشرب الخمر أبدا، فتاب ولم يعد إلى ما كان عليه.
[من أخبار الجواري والغلمان]
ومما يوافق هذا الموضع في المقامات من ظرف الحكايات التي تضمنت بيع المماليك عند الضرورات، وما للأجواد من جزيل الهبات، مما ذكروا من أحسن أخبار الغلمان أن جعفر بن يحيى عرض عليه في بعض متوجّهاته مملوك من مماليك رجل جفاه السلطان، فقبض ماله، وأمر ببيع مماليكه، فعرض عليه من جملتهم غلام كما طرّ شاربه، أجمل الناس، يدير بين فكّيه لسانا أبين من الصبح قال جعفر: فقلت له: ما اسمك؟
قال: ماهر، فقلت له: وما صنعتك؟ قال: الأدب والغناء والشعر وما شئت من بعد، فسألته عن ثمنه، فقال: خمسمائة دينار للضرورة، قال: فأدّيت ثمنه، وسألته أن يسمعني شيئا من غنائه، فأخذ العود وغنّى: [الطويل]
حملتم جبال الحبّ فوقي وإنّني ... لأعجز عن حمل القميص وأضعف
ظفرتم بكتمان اللسان فمن لكم ... بكتمان عين دمعها الدّهر يذرف!
فأطربني غناؤه، وشجاني فأجزته، ووهبت له وخلعت عليه، وأمرته بمعادلتي. فلما اجتزت منزل مولاه بمقدار ميل، أنشأ يقول: [الطويل]
وما كنت أخشى معبدا أن يبيعني ... بشيء ولو أضحت أنامله صفرا
أخوهم ومولاهم وحامل سرّهم ... ومن قد ثوى فيهم وعاشرهم دهرا
أشوقا ولمّا تمض لي غير ساعة ... فكيف إذا خبّ المطيّ بنا شهرا!
فقلت: يا غلام، أتعرف منزل مولاك من ها هنا؟ فقال: هيهات، وهل تخفي معالم الصبّ! فقلت: اذهب فأنت حرّ لوجه الله تعالى، ووهبت له ألف دينار، فقال لي زميلي:(3/31)
وما كنت أخشى معبدا أن يبيعني ... بشيء ولو أضحت أنامله صفرا
أخوهم ومولاهم وحامل سرّهم ... ومن قد ثوى فيهم وعاشرهم دهرا
أشوقا ولمّا تمض لي غير ساعة ... فكيف إذا خبّ المطيّ بنا شهرا!
فقلت: يا غلام، أتعرف منزل مولاك من ها هنا؟ فقال: هيهات، وهل تخفي معالم الصبّ! فقلت: اذهب فأنت حرّ لوجه الله تعالى، ووهبت له ألف دينار، فقال لي زميلي:
أمثل هذا يعتق؟ فقلت: أو مثله يملك! فولّى وهو يقول: [البسيط]
لا يوجد الخبر إلا في معادنه ... والشرّ حيث طلبت الشرّ موجود
وحدّث ابن عائشة قال: كان لرجل من قيس عيلان جارية، وكان بها معجبا، ولها مكرما فأصابته حاجة وجهد، فقالت له: لو بعتني فإن نلت طائلا عدت به عليك، فعرضها للبيع، فعرضت على عمر بن عبد الله بن معمر المذحجيّ، فأعجبته فاشتراها بمائة ألف درهم، فلما مضت لتدخل القصر ودّعت مولاها وأنشدته: [الطويل]
هنيئا لك المال الذي قد أصبته ... ولم يبق في كفّي إلا تفكّري
أقول لنفسي وهي في كرب غشية ... أقليّ فقد بان الحبيب أو اكثري
إذا لم يكن للوصل عندك حيلة ... ولم تجدي بدّا من الصّبر فاصبري
فأجابها مولاها: [الطويل]
فلولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... لفرقتنا شيء سوى الموت فاعذري
أءوب بحزن من فراقك موجع ... أناجي به قلبا طويل التّفكّر
عليك سلام لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
فقال ابن معمر: قد شئت، خذ بيدها فهي لك وثمنها.
* * * قال: فلمّا وعى الشّيخ أبياته، وعقل مناغاته، تنفّس الصّعداء وبكى حتّى أبكى البعداء ثمّ قال لي: إنّي أحلّ هذا الغلّام محلّ ولدي، ولا أميّزه عن أفلاذ كبدي ولولا خلوّ مراحي، وخبوّ مصباحي لما درج عن عشّي، إلى أن يشيّع نعشي، وقد رأيت ما نزل به من لوعة البين، والمؤمن هين لين، فهل لك في تسلية قلبه، وتسرية كربه بأن تعاهدني على الإقالة فيه متى استقلت وألّا تستثقلني إذا ثقّلت ففي الآثار المنتقاة، المروّية عن الثّقات: من أقال نادما بيعته، أقاله الله عثرته.
قال الحارث بن همام: فوعدته وعدا أبرزه الحياء، وفي القلب أشياء، فاستدني
حينئذ الغلام إليه، وقبّل ما بين عينيه، وأنشد والدّمع يرفضّ من جفنيه: [الرجز](3/32)
قال الحارث بن همام: فوعدته وعدا أبرزه الحياء، وفي القلب أشياء، فاستدني
حينئذ الغلام إليه، وقبّل ما بين عينيه، وأنشد والدّمع يرفضّ من جفنيه: [الرجز]
خفّض فدتك النّفس ما تلاقي ... من برحاء الوجد والإشفاق
فما تطول مدّة الفراق ... ولا تني ركائب التّلاقي
* بحسن عون القادر الخلّاق *
* * *
قوله: عقل مناغاته، أي فهم كلامه، والمناغاة تكليم الطفل بما يهوى ويفرح به، فإذا ردّد الصبيّ كلامك أو حاكاك فقد ناغاك. الصّعداء: ارتفاع نفس المهموم. أفلاذ:
قطع يريد أولاده، والفلذة: قطعة من الكبد، ولفرط الإشفاق به والمحبة في الولد، يخاطبه أبواه بقلبي وكبدي. وقالوا: أولادنا أكبادنا، وقال الشاعر: [الرجز]
وإنما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض
مراحي: موضع إبلي ودوابّي، وكنى بخلوّ المراح عن الفقر وذهاب المال. درج:
مشى. لوعة البين: حرقة الفراق. هين لين، هما مع الازدواج مخففّتان، فإن أفردتا شدّدتا. قوله: لما درج عن عشّي، يقول: لولا الفقر ما بعته ما دمت حيّا. وتسرية كربه:
إزالة همّه. المنتقاة: المختارة. المدوّنة: المكتوبة المجموعة، والحديث معروف من طريق أبي سريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من أقال نادما بيعته أقاله الله عثرته» (1)، أي عفا عن زلّته أبرزه: أظهره، ويريد بقوله: وفي القلب أشياء: أنه أضمر ألّا يقيله أبدا يرفضّ: يسقط متفرّقا. خفّض: سكّن. برحاء: شدّة. الوجد: الحزن الإشفاق: الخوف. تني: تفتر.
* * * ثمّ قال له: أستودعك من هو نعم المولى. وشمّر ذيله وولّى. فلبث الغلام في زفير وعويل، ريثما يقطع مدى ميل. فلما استفاق، وكفكفّ دمعه المهراق، قال: أتدري لم أعولت وعلام عوّلت؟ فقلت: أظنّ فراق مولاك، هو الذي أبكاك فقال: إنّك لفي واد، وأنا في واد، ولكم بين مريد ومراد، ثم أنشد: [الرجز]
لم أبك والله على إلف نزح ... ولا على فوت نعيم وفرح
وإنّما مدمع أجفاني سفح ... على غبيّ لحظه حين طمح
ورّطه حتّى تعنّى وافتضح ... وضيّع المنقوشة البيض الوضح
__________
(1) أخرجه أبو داود في البيوع باب 52، وابن ماجه في التجارات باب 26، وأحمد في المسند 2/ 252، بلفظ: «من أقال مسلما أقاله الله عثرته».(3/33)
ويك أما ناجتك هاتيك الملح ... بأنّني حرّ وبيعي لم يبح
* إذ كان في يوسف معنى قد وضح *
* * * زفير: أنفاس مرتفعة. عويل: بكاء. ريث: قدر. مدى: غاية. والميل: قدر مدّ البصر من الأرض، ويقال إنه ألف خطوة من خطا البعير، والفرسخ: ثلاثة أميال، والبريد أربعة فراسخ. استفاق: استراح وخفّ ما يجده. كفكف: ردّ وأذهب. المهراق:
المصبوب. أعولت: بكيت بصوت عال، وأعول إعوالا: صاح، ورفع صوته، وعوّلت على كذا اتّكلت عليه، وعلى الله معوّلي اتّكالي، وقال الشاعر: [الطويل]
* وليس على ريب الزّمان معوّل (1) *
كم بين مريد ومراد، يريد أنّهما متقاربان في اللفظ، متباعدان في المعنى، لأنّ المريد في الشيء المحبّ فيه، والمراد الشيء المطلوب، وهو المحبوب، فأنت قد تريد الشيء فتمنعه، وغيرك قد يراد له فيأباه ولا يريده، فاللفظان متضادّان، فيقول: التبس عليك سرّ بكائي فظننت أنه على فراق مولاي. فتفطن الآن أنّه على سخف عقلك، كما التبس اللفظان على غير ناقد، فإذا تفطّن لهما تباعدا عليه، والمريد عند أهل الإرادة المبتدي، والمراد المنتهى، فالمريد هو الذي نصب للتعب والمقاساة، والمراد الّذي لقي الأمر من غير مشقة، فهو مرفوق به مرفّة، وقيل: المريد متحمّل والمراد: محمول.
الجنيد: المريد تتولّاه سياسة المعلّم، والمراد تتولّاه رعاية الحق، لأن المريد يسير، والمراد يطير، فمتى يلحق السائر الطائر! القشيريّ: كلّ مريد في الحقيقة مراد، لأنه إذا أراده الحق للخصوصية، وفقه للإرادة، ولكنهم فرقوا بينهما.
قوله: إلف، أي صاحب. نزح: بعد سفح: جرى. غبيّ: جاهل لحظه: نظره.
طمح: ارتفع. ورّطه: أنشبه، والورطة: أهوية تكون في رأس الجبل يشقّ على من وقع فيها الخروج منها وتورّطت الماشية: وقعت في الورطة، قال طفيل: [الطويل]
تهاب طريق الحق تحسب أنه ... وعور وراط وهو بيداء بلقع (2)
__________
(1) يروى البيت:
ودع عنك رعما قد أتى الدهر دونها ... وليس على دهر لشيء معوّل
وهو بلا نسبة في كتاب العين 2/ 138، 248، وأساس البلاغة (عول).
(2) يروى البيت:
تهاب طريق السهل تحسب أنّه ... وعور وراط وهو بيداء بلقع
والبيت في ديوان طفيل الغنوي ص 89، ولسان العرب (ورط)، وتهذيب اللغة 14/ 15، وتاج العروس (ورط).(3/34)
وقيل: الورطة: الوحل تقع فيه الغنم، فلا يمكنها التخلّص، ثم ضرب مثلا في كلّ شدّة يقع فيها الإنسان، وأورطت فلانا فتورّط هو، أي وقع فيما يعسر التخلّص منه.
أبو عمرو: الورطة الهلكة، قال الرّاجز: [الرجز]
إن تأت يوما مثل هذي الخطّه ... تلاق من ضرب نمير ورطه (1)
قوله: تعنّى، أي تعب. افتضح: اشتهر، والوضح: الشديدةالبياض النقية، أي ضيّع الدراهم المنقوشة البيض، والوضح: البيان والضوء والغرّة والفضّة والدرهم الصحيح، وقيل: إنه وصف الدراهم بالمصدر، كما قال: امرأة زور وكرم. ويك: عجبا لك. وقوله: هاتيك، يقال للمذكّر: ذا، وهو للقريب، وذاك لما هو أبعد، وذلك لأبعد الثلاثة، وللمؤنث ذه وذي وذ، بلا ياء، وتاوتي وهي للقريبة، وتيك للتي هي أبعد منه، وتلك وتالك لأبعدهنّ، وتدخل ها التنبيه على كلّ ما ليس فيه لام، لأن اللام موضوعة للبعيد، وها موضوعة للقريب، فلا يجمع بينهما، نحو هذا وهذاك وهاتا، وشاهده:
[الوافر]
* وليست دارنا هاتا بدار (2) *
وهذه وهذي وهذ وهاتيك، وشاهده قول ذي الرّمة: [الطويل]
قد احتملت ميّ فهاتيك دارها ... بها السّحم تردى والحمام المطوّق (3)
قوله: لم يبح، أي لم يجعل مباحا.
أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه خصمته: رجل عاهد ثم غدر، ورجل باع حرّا، ورجل استأجر أجيرا فلم يوفّه أجره» (4). وضح: تبيّن.
* * * __________
(1) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (ورط)، وتهذيب اللغة 14/ 15، وأساس البلاغة (ورط).
(2) صدره:
وليس لعيشنا هذا مهاة
والبيت لعمران بن حطان في ديوانه ص 112، والمخصص 15/ 107، وأساس البلاغة (مهمه)، وتاج العروس (مهه)، وتخليص الشواهد ص 121، وخزانة الأدب 5/ 361، 362، وشرح أبيات سيبويه 2/ 270، وشرح شواهد الإيضاح ص 604، وشرح شواهد المغني 2/ 926، والكتاب 3/ 488، ولسان العرب (مهه)، والمقتضب 2/ 288، 4/ 277، وبلا نسبة في مغني اللبيب 2/ 627، ومقاييس اللغة 5/ 268، ومجمل اللغة 4/ 291.
(3) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 459، وشرح شواهد الإيضاح ص 602، وبلا نسبة في الدرر 1/ 236، وهمع الهوامع 1/ 76.
(4) أخرجه البخاري في البيوع باب 106، والإجارة باب 10، وابن ماجه في الرهون باب 4، وأحمد في المسند 2/ 358.(3/35)
قال: فتمثّلت مقاله في مرآة المداعب، ومعرض الملاعب، فتصلّب تصلّب المحقّ، وتبرّأ من طينة الرّقّ. فجلنا في مخاصمة، واتّصلت بملاكمة، وأفضت إلي محاكمة: فلّما أوضحنا للقاضي الصّورة، وتلونا عليه السّورة، قال: ألا إنّ من أنذر، فقد أعذر، ومن حذّر كمن بشّر. ومن بصّر فما قصّر وإنّ فيما شرحتماه لدليلا على أنّ هذا الغلام قد نبّهك فما ارعويت، ونصح لك فما وعيت. فاستر داء بلهك واكتمه، ولم نفسك ولا تلمه، وحذار من اعتلاقه، والطّمع في استرقاقه، فإنّه حرّ الأديم، غير معرّض للتّقويم.
وقد كان أبوه أحضره أمس، قبيل أفول الشّمس، واعترف بأنّه فرعه الّذي أنشاه، وألّا وارث سواه، فقلت للقاضي: أو تعرف أباه، أخزاه الله! فقال: وهل يجهل أبو زيد الّذي جرحه جبار، وعند كلّ قاض له أخبار وإخبار، فتحرقت حينئذ وحولقت، وأفقت ولكن حين فات الوقت، وأيقنت أنّ لثامه كان شرك مكيدته، وبيت قصيدته. فنكّس طرفي ما لقيت، وآليت ألّا أعامل ملثّما ما بقيت.
* * * تمثّلت: تصوّرت. المداعب: الممازح. والمعرض بفتح الميم: الموضع الذي تعرض فيه الأشياء، والمعرض الثوب تعرض فيه الجارية. تصلّب: تقوّى، وهو «تفعّل» من الصّلابة وهي الشدة. والأرض الصّلبة: القوية. ولا أعلم أحدا خالف في هذه الرواية إلا ابن ظفر فإنه رواه: «تصلّت» بالتاء بنقطتين، وفسره بتجرّد وجدّ، وكل جادّ مجاهد مسرع في أمره: فهو متصلّت فيه، فذكروا أنه تصحف عليه اللفظ، فشرحه على تصحيفه. المحقّ: صاحب الحق. الرّق: العبوديّة: وذكر الطينة لأنها أصل الخلق. وتبرّأ منها، تباعد. جلنا: تصرّفنا. ملاكمة: مدافعة ومضاربة، واللّكم: الضرب بجمع الكفّ. أفضت: اتّصلت. أوضحنا: بيّنّا. الصّورة: القصة.
تلونا: قرأنا وذكرناها له. أنذر: أعلم. أعذر: أتى بعذر، ويقال: قد أعذر من أنذر، أي قد بلغ أقصى العذر من أنذرك، وعذّر الرجل فهو معذّر، إذا اعتذر ولم يأت بعذر. ومنه قوله تعالى: {وَجََاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرََابِ} [التوبة: 90] ارعويت:
رجعت عن جهلك وانكففت. بلهك، غفلتك وجهلك. حذار، أي احذر أن تتعلّق به. استرقاقه: تملّكه وتعبّده، ومنه قولهم: سوق الرقيق، ومنه سمّي العبد رقيقا، لأنهم يرقون لمالكهم ويخضعون له ويذلّون: والأديم: الجلد. للتقويم: لمعرفة قيمته. أفول: غروب. أنشاه: أحدثه وولّده. جبار: باطل. إخبار: إعلام. وأخبار:
جمع خبر، وأخبره: أعلمه. تحرقّت: عضضت أسناني حتى صوّتت من شدة الغيظ.
حولقت: قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله. أفقت: انتبهت، وأنشد الفنجديهيّ في معنى هذا: [السريع](3/36)
جمع خبر، وأخبره: أعلمه. تحرقّت: عضضت أسناني حتى صوّتت من شدة الغيظ.
حولقت: قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله. أفقت: انتبهت، وأنشد الفنجديهيّ في معنى هذا: [السريع]
يفتضح الجاهل لكنّه ... من بعد ما غرّبه الناصح
ويصلح ابن السوء لكنّه ... من بعد ما مات الأب الصالح
قوله: وأيقنت أن لثامه كان شرك مكيدته، أي شبكة حيلته. وبيت القصيدة: أحسن بيت فيها، فأراد أن حيلته كانت لثامه، نكّس طرفي: أي كسر عيني، وأمال نظري.
* * * ولم أزل أتأوّه لخسر صفقتي، وافتضاحي بين رفقتي. فقال لي القاضي، حين رأى امتعاضي، وتبيّن حرّار تماضي: يا هذا، ما ذهب من مالك ما وعظك، ولا أجرم إليك من أيقظك. فاتّعظ بما نابك، وكاتم أصحابك ما أصابك وتذكّر أبدا ما دهمك، لتقي الذّكرى دراهمك، وتخلّق بتخلّق من ابتلي فصبر، وتجلّت له العبر فاعتبر.
قال الحارث بن همّام: فودّعته لا بسا ثوب الخجل والحزن، ساحبا ذيلي الغبن والغبن، ونويت مكاشفة أبي زيد بالهجر، ومصارمته يد الدهر. فجعلت أتنكّب عن ذراه، وأتجنّب أن أراه إلى أن غشيني في طريق ضيّق، فحيّاني تحيّة شيّق، فما زدت على أن عبست وما نبست، فقال لي: ما بالك شمخت بأنفك على إلفك! فقلت: أنسيت أنّك احتلت وختلت، وفعلت فعلتك الّتي فعلت! فأضرط بي متهازيا، ثم أنشد متلافيا:
* * * أتأوّه: أتوجع. رفقتي: أصحابي، امتعاضي: توجعي. ارتماضي: حرقة قلبي من شدّة الهمّ، ولا يكون الممتعض كاظما، فلا بدّ من ظهور الكرب عليه، وأمر ممعض وما عض، أي ممضّ كارب.
قوله: ما ذهب من مالك ما وعظك، هو مثل، ومعناه إذا ذهب من مالك شيء حذرك أن يحلّ بك مثله، فتأديبه إياك عوض من ذهابه، أجرم: أذنب. نابك: نزل بك.
دهمك: غشيك. تجلت: ظهرت. العبر: العلامات المخوّفة، واعتبرت بالشيء إذا اتعظّت به، الخجل: الحياء. ساحبا: جارّا. الغبن: بسكون الباء في البيع، وبفتحها في الرأي، يريد أنه غبن في رأيه وبيعه، قال في الدّرة: الغبن بإسكان الباء في المال، وبفتحها في الرأي والعقل. نويت: أضمرت. مصارمته: مقاطعته، وصرمت فلانا:
قطعت ما بيني وبينه من المودة، والصّرم: القطع، وقيل للّيل: صريم، لانقطاعه عن النهار، وهو في تأويل مصروم أي مقطوع، وكذلك الصّريم من الرمل، وهو الذي انقطع من معظمه.(3/37)
دهمك: غشيك. تجلت: ظهرت. العبر: العلامات المخوّفة، واعتبرت بالشيء إذا اتعظّت به، الخجل: الحياء. ساحبا: جارّا. الغبن: بسكون الباء في البيع، وبفتحها في الرأي، يريد أنه غبن في رأيه وبيعه، قال في الدّرة: الغبن بإسكان الباء في المال، وبفتحها في الرأي والعقل. نويت: أضمرت. مصارمته: مقاطعته، وصرمت فلانا:
قطعت ما بيني وبينه من المودة، والصّرم: القطع، وقيل للّيل: صريم، لانقطاعه عن النهار، وهو في تأويل مصروم أي مقطوع، وكذلك الصّريم من الرمل، وهو الذي انقطع من معظمه.
يد الدهر: أي أبد الدهر.
أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحلّ للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام والسابق السابق إلى الجنة» (1). ذراه: جهته. غشيني: قصدني وأتاني على غفلة. شيّق: شديد الحبّ، ما نبست: ما تكلّمت، شمخت: رفعت أنفك كبرا، وشمخ:
تكبّر. ختلت: خدعت، وخاتل في معنى ختل، وأصل المخاتلة المشي للصيد قليلا قليلا خفية لئلا يسمع حسّك، ثم جعلت مثلا لكل شيء ورّي به وستر على صاحبه، متلافيا:
متداركا للألفة. [مجزوء الكامل]
* * * يا من بدا منه صدو ... دموحش وتجهّم
وغدا يريش ملاوما ... من دو؟؟؟ هنّ الأسهم
ويقول: هل حرّ يبا ... ع كما يباع الأدهم
أقصر فما أنا فيه بد ... عا مثل ما تتوهّم
قد باعت الأسباط قب ... لي يوسفا وهم هم
هذا وأقسم بالتّي ... يسري إليها المتهم
والطّائفين بها وهم ... شعث النّواصي سهّم
ما قمت ذاك الموقف ال ... مخزي وعندي درهم
فاعذر أخاك وكفّ عن ... هـ ملام من لا يفهم
* * * تجهم: عبوس. ملاوما: جمع ملام أو ملاومة، وهي اللوم والعتاب، يريد أنّ لومه أنفذ من السّهام. الأدهم، قيل: أراد به الفرس وقصد لونه للقافية، وقيل: أراد العبد الأسود. بدعا، أي أوّلا أي ما أنا أوّل من فعل ذلك. الأسباط: إخوة يوسف عليه السلام. وهم هم: أي وهم أنبياء لم يتغيّروا عن مراتبهم، ويقال: هو هو، أي هو كما عهدته لم يتغير.
__________
(1) روي بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الأدب باب 57، 62، والاستئذان باب 9، ومسلم في البر حديث 23، 25، 26، وأبو داود في الأدب باب 47، والترمذي في البر باب 21، 24، وابن ماجه في المقدمة باب 7، وأحمد في المسند 1/ 176، 183، 3/ 110، 165، 199، 209، 225، 4/ 20، 327، 328، 5/ 416، 421، 422.(3/38)
[يوسف بن يعقوب عليه السلام]
وقد جرى ذكر يعقوب والأسباط في المقامات في مواضع، وبنى هذه المقامة على ذكر يوسف وجماله وبيع إخوته إياه، ونريد أن نلمّ بطرف من أخبارهم على شرط الكتاب.
ذكر أهل الأخبار أنّ يعقوب وهو إسرائيل عليه السلام تزوج بنت خاله ليا بنت ليّان بن بتويل، فولدت له روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وغيرهم، ثم توفّيت وخلف على أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، وكان يوسف وأمه قد قسم لهما من الحسن شطره، فكفلت يوسف عمّته، وكانت أكبر ولد إسحاق، وكانت عندها منطقة لإسحاق يتوارثونها على قدر أسنانهم. فلّما ترعرع يوسف أراد يعقوب أخذه منها، وقال لها: والله لا أقدر على الصّبر عنه، فقالت له: والله لا أقدر على صرفه إليك، فلما رأت عزمه على أخذه، حزمت المنطقة تحت ثياب يوسف وهو نائم، ثم ادّعت فقدها فطلب فوجدت عنده، وكان من سنتهم أن من سرق شيئا أخذ فيه، فتركه لها حتى ماتت. فلمّا رجع إلى أبيه شغل به عن سائر بنيه، فحسدوه، فسألوا أباهم إرساله معهم للنزهة، بعد أن ضمنوا حفظه، فأخرجوه إلى البريّة، وأخذوا يضربونه، وكلّما ضربه واحد استغاث بآخر، فيضربه الآخر. فلما كادوا يقتلونه منعهم يهوذا، وذكّرهم بما ضمنوا لأبيه من حفظه، فانطلقوا فأدلوه في الجبّ، وهو يقول: يا أباه لو تعلم ما يصنع بابنك بنو الآباء! وكان بعض إخوته لأمّه، فجعل يتعلق بشفير الجبّ، فربطوا يديه، وألقوه فيه، فقالوا له:
ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا ينجّوك، ثم أرادوا أن يرضخوه بصخرة، فمنعهم يهوذا، وكان يأتيه بالطعام خفية منهم. ثم مرّت سيارة فأدلى واردهم دلوه فتعلّق به، فلما رآه بشّر به السيارة. وقال السّديّ: إنّ الذي أخرجه إنما دعا صاحبا له اسمه بشرى، فأتى إخوته الذين أخرجوه وقالوا: إنه عبد لنا، فباعوه منهم بعشرين درهما على أن يخرجوه من أرض الشأم، فشرطوا لإخوته أن يغرّبوه، ويذهبوا به إلى مصر، فحينئذ رجعوا إلى أبيهم عشاء يبكون.
فهذه قصة بيع الأسباط يوسف على اختصار.
ثم إنّه لمّا بلغ مصر من العزيز، وكان فرعون وهو الريّان بن الوليد قد ولّاه خزائنها، فكان من قصته مع امرأة العزيز ومن حبّها فيه ومن دعائها إياه لنفسها، ومن تأبيّه من ذلك واستنزالها إياه حتى هم بها، ورؤيته برهان ربّه وهو رؤيته صورة يعقوب يعضّ على إصبعه، وقيل: إنه رأى في الحائط مكتوبا: «ولا تقربوا الزنا» ومبادرته الباب فارّا منها، وقدّها قميصه من دبر، ووجوده العزيز على باب الدّار جالسا مع ابن عمّ له، وهو الشاهد من أهلها وقيل: إنه كان صبيّا في المهد واشتهار أمرهما بمصر، حتى تحدّثت به نسوة في المدينة، وقلن: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، وإحضارها لهنّ وإعدادها لهنّ ما يتّكئن عليه
وقيل: المتّكأ الأترج وأمرها له أن يخرج عليهنّ، وإعظامهنّ إياه حتى شغلن بع عن أنفسهن، وقطّعن أيديهنّ وقلن: حاش لله ما هذا بشرا، تنزيها له عن أن يأتي مثله ريبة، فكان من هذا الخبر ما قص الله في القرآن ونطقت به التّفاسير والأخبار.(3/39)
ثم إنّه لمّا بلغ مصر من العزيز، وكان فرعون وهو الريّان بن الوليد قد ولّاه خزائنها، فكان من قصته مع امرأة العزيز ومن حبّها فيه ومن دعائها إياه لنفسها، ومن تأبيّه من ذلك واستنزالها إياه حتى هم بها، ورؤيته برهان ربّه وهو رؤيته صورة يعقوب يعضّ على إصبعه، وقيل: إنه رأى في الحائط مكتوبا: «ولا تقربوا الزنا» ومبادرته الباب فارّا منها، وقدّها قميصه من دبر، ووجوده العزيز على باب الدّار جالسا مع ابن عمّ له، وهو الشاهد من أهلها وقيل: إنه كان صبيّا في المهد واشتهار أمرهما بمصر، حتى تحدّثت به نسوة في المدينة، وقلن: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، وإحضارها لهنّ وإعدادها لهنّ ما يتّكئن عليه
وقيل: المتّكأ الأترج وأمرها له أن يخرج عليهنّ، وإعظامهنّ إياه حتى شغلن بع عن أنفسهن، وقطّعن أيديهنّ وقلن: حاش لله ما هذا بشرا، تنزيها له عن أن يأتي مثله ريبة، فكان من هذا الخبر ما قص الله في القرآن ونطقت به التّفاسير والأخبار.
ثم إن امرأة العزيز قالت للعزيز: إن عبدك فضحني في الناس فإما سجنته، وإمّا برزت للناس أعتذر عن نفسي، فحبسه، فدخل معه رجلان أحدهما خبّاز الملك والآخر نديمه. وكان لمّا بلغ الحلم آتاه الله حكّما وعلما من العبارة، فكان في السّجن يفسر الرؤيا للمسجونين، ويمرّض مرضاهم، ويوسّع على من ضاق عليه مكانه، فقال أحد الفتيين لصاحبه: هلمّ نجرّب هذا العبد، فسألاه من غير أن يريا شيئا، وقالا له: إنا نراك من المحسنين في معاشرتك أهل السجن، فقال لهما: أمّا أحدكما فينادم الملك، وأما الآخر فيصلب، فقالا له: ما رأينا شيئا، فقال لهما: قضي الأمر فيكما، ثم قال للذي ظن أنه ناج منهما: اذكرني عند ربّك. وأخبره أني محبوس ظلما، فأوحى الله تعالى إليه: إن اتخذت من دوني وكيلا لأطيلن سجنك، فعوقب بالسجن حيث همّ بامرأة العزيز، وبإطالته حيث اتكل في أمره على غير ربه.
ثم كان من رؤيا الملك وجهل أهل دولته وتفسير يوسف لها، وقول الملك: ائتوني به وتأبّيه الخروج حتى يسأل النّسوة عن شأنه وشهادتهنّ عند الملك بتبرئته واعتراف امرأة العزيز بأنها راودته، وقوله في العزيز: {لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف: 52].
ويقال إن جبريل قال له عند ذلك: ولا يوم هممت بما هممت به! فقال: {وَمََا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمََّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلََّا مََا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53] الآية. واستخلاص الملك إياه لنفسه، وجعله على خزائن أرضه ما اشتهر قرآنا وتفسيرا. ويقال إن العزيز مات في تلك المدة، وإن يوسف تزوّجها، وقال لها: أليس هذا خيرا؟ فقالت: لا تلمني، كنت امرأة حسناء في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك، فغلبتني نفسي على ما رأيت.
فيزعمون أنّه وجدها عذراء، وأنها ولدت له ابنين.
ثم أجدبت الأرض، فأتاه إخوته منتجعين، فكان من أمره معهم، وإحسانه إليهم في الكيل. وطلبه لهم أن يأتوه بشقيقه بنيامين، ورجوعهم موقرين، ورغبته إياهم في إرساله معهم، وأخذه بسرقة الصّواع وتأذّيهم بذلك، ورجوعهم إلى أبيهم وتوالى الحزن على يعقوب بفقد ابنيه، وأمره لبنيه أن يرجعوا طالبين ليوسف وأخيه، ودخولهم على يوسف أذلّاء صاغرين، وتعريفه إياهم بمكانه، وبعثه بالقميص إلى أبيه، وجمع شملهم بعد طول مدّة الفراق ما نصّ الله تعالى أنّه عبرة لأولي الألباب، ولولا أنّ الأمر في كتب التفسير أشهر من أن يجهل، لفسّرناه فصلا فصلا.
* * *
قوله: أقسم بالتي يسري إليها المتهم يعني مكّة والمتهم الآتي تهامة، وتهامة اسم مكة، وقال: الأصمعيّ: سمعت العرب تقول: إذا انحدرت من ذات عرق فقد أتهمت، شعث سهم: أي متغيّرة ألوانهم وشعورهم.(3/40)
* * *
قوله: أقسم بالتي يسري إليها المتهم يعني مكّة والمتهم الآتي تهامة، وتهامة اسم مكة، وقال: الأصمعيّ: سمعت العرب تقول: إذا انحدرت من ذات عرق فقد أتهمت، شعث سهم: أي متغيّرة ألوانهم وشعورهم.
قوله: اعذر أخاك، قال زيد بن عليّ: ثلاثة لا يجتمعن إلا في كريم: حسن المحضر، واحتمال زلات الإخوان، وقلة الملالة للصديق.
* * * ثمّ قال: أمّا معذرتي فقد لاحت، وأمّا دراهمك فقد طاحت فإن كان اقشعرارك منّي، وازورارك عنّي، لفرط شفقتك على غبّر نفقتك. فلست ممّن يلسع مرّتين، ويوطىء على جمرتين، وإن كنت طويت كشحك، وأطعت شحّك.
لتستنقذ ما علق بأشراكي، فلتبك على عقلك البواكي.
قال الحارث بن همّام: فاضطرّني بلفظه الغالب، وسحره الغاب، إلى أن عدت له صفيّا، وبه خفيّا، ونبذت فعلته ظهريا، وإن كانت شيئا فريّا. لاحت: ظهرت. طاحت:
هلكت اقشعرارك: انقباضك. والقشعريرة: رعدة وانقباض. ازوارارك: انقباضك وميلك، لفرط شفقتك، لكثرة خوفك، غبّر نفقتك: أي تخاف على ما بقي من نفقتك وإن أخذها. يوطىء، أي يجعل غيره يطأ الجمر، أي لا أضرّ مرتين، والكشح: الخصر، وقيل: الجنب. وقيل: هو اسم لما بين الأضلاع، ورأس الورك، وكلّها متقاربة، وطوى كشحه على أمر، واستمرّ عليه، وطوى كشحه، مثل يضرب للمجانبة والمكاتمة، قال الشاعر: [الوافر]
طوى كشحا خليلك والجناحا ... لبين منك ثمّ غدا وراحا (1)
والشحّ: البخل مع الحرص، واضطرني: ألجأني، الخالب: الخادع، صفيّا:
صاحبا مخلصا. حفيّا: معينا، كريما: مكرما، نبذت: رميت وطرحت ظهريّا. أي خلف ظهري، واتخذ ظهريا، أي عدة يستظهر بها، أي يجعلها خلف ظهره حتى متى احتاجها استعملها فريّا: عجبا ومنكرا، والفريّ: الأمر العظيم، والفريّ الكذب.
ومما جاء في الشعر على أخبار يوسف عليه السلام.
قال ابن الزقاق: [الكامل]
بأبي وغير أبي أغنّ مهفهف ... مهضوم ما خلف الوشاح خميصه
لبس الفؤاد فمزّقته جفونه ... فأتى كيوسف حين قدّ قميصه
__________
(1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (كشح)، وتاج العروس (كشح)، وفيهم «صراحا» بدل «وراحا».(3/41)
وقال أيضا: [مجزوء الرجز]
وسافر عن قمر ... مبتسم عن درر
لو لاح للحور وقد ... سلّ حسام الحور
لقدّ منه شغفا ... قميصه من دبر
ومن الملح في ذلك قول ابن حجاج في بختيار: [المنسرح]
فديت وجه الأمير من قمر ... يجلو القذى نوره عن البصر
إنّ زليخا لو أبصرتك لما ... ملّت إلى الحشر لذة النّظر
بل وحياتي لو كنت يوسفها ... لم تك من تهمة العزيز بري
فإنني عالم بأنّك لو ... شممت ريّا نسيمها العطر
سبقتها واندلقت تتبعها ... من بين تلك البيوت والحجر
ولم تزل بالكدّين تنقرها ... من قبل وقت العشا إلى السّحر
طبعك كالماء في سهولته ... لكن أبو الزّبر قان من حجر
إنّ الملوك الشّباب ما خلقوا ... إلّا صلاب القياش والكمر
وقال آخر: [البسيط]
قميص يوسف لمّا قدّ من دبر ... كانت براءته فيه من كذب
وفي قميصك لمّا قد من دبر ... ممّا يدلّ على الفحشاء والرّيب
وقال آخر في الحسن بن وهب: [البسيط]
إذا لقيت نبي وهب بمنزلة ... لم تدر أيّهما الأنثى من الذّكر
مؤدّبون على الفحشاء من صغر ... مدرّبون على النّكراء من كبر
قميص أنثاهم ينشقّ من قبل ... وقميص ذكرانهم تنقدّ من دبر
محنّكون ولم تقطع سرائرهم ... بين الحواضن والدّايات بالكمر(3/42)
إذا لقيت نبي وهب بمنزلة ... لم تدر أيّهما الأنثى من الذّكر
مؤدّبون على الفحشاء من صغر ... مدرّبون على النّكراء من كبر
قميص أنثاهم ينشقّ من قبل ... وقميص ذكرانهم تنقدّ من دبر
محنّكون ولم تقطع سرائرهم ... بين الحواضن والدّايات بالكمر
المقامة الخامسة والثلاثون وتعرف بالشيرازيّة
حكى الحارث بن همّام قال: مررت في تطوافي بشيراز، على ناد يستوقف المجتاز، ولو كان على أوفاز فلم أستطع تعدّيه، ولا خطت قدمي في تخطّيه فعجت إليه لأسبك سرّ جوهره وأنظر كيف ثمره من زهره، فإذا أهله أفراد، والعائج إليهم مفاد. وبينما نحن في فكاهة أطرب من الأغاريد، وأطيب من حلب العناقيد، إذ احتفّ بنا ذو طمرين، قد كاد يناهز العمرين، فحيّا بلسان طليق، وأبان إبانه منطيق ثم احتبى حبوة المنتدين، وقال: اللهمّ اجعلنا من المهتدين. فازدراه القوم لطمريه، ونسوا أنّ المرء بأصغريه.
* * * التّطواف: مصدر طوّفت حول الشيء، إذا أكثرت المشي حوله. وقد طفت به وأطفت، وإذا درت وأكثرت ذلك قلت: طوّفت.
وشيراز: مدينة فارس العظمى، وهي مدينة جليلة عظيمة، ينزلها الولاة ولها سعة حتى إنه ليس فيها منزل، إلّا وفيه لصاحبه بستان فيه جميع الثمار والرياحين والبقول، وكلّ ما يكون في البساتين. وشرب أهلها من عيون تجري في أنهار تأتي من جبال يسقط عليها الثلج.
قوله: ناد: مجلس. يستوقف: يحبس ويجعله يقف. المجتاز: خاطر الطريق المارّ عليه.
أو فاز: انحفاز وعجلة، ومنه قولهم: قعد مستوفزا، معناه قعد على وفز من الأرض، والأوفاز: جمع وفز وهو ألّا يطمئن في قعود. قال الجوهري رحمه الله تعالى:
تقول نحن على أوفاز، ولا تقول على وفز، ومعناه ألا تلقاه معدّا.
الأزهريّ: الوفزة: الوثبة بعجلة، وقعد مستوفزا، إذا رفع أليتيه ووضع ركبتيه ولم يطمئن.
تعدّيه: تخطّيه وجوازه. وخطت: مشت، عجت: ملت. أسبك. أجرّب سرّ
جوهره: أراد باطن أهله إذ كانوا في الظاهر ذوي مناظر، فأراد أن يعرف: هل هم أهل علوم وآداب،. حتى يكملوا في الظاهر والباطن، أم أمرهم على خلاف ذلك، وبيّن ذلك بقوله: كيف ثمره من زهره، فكنى بالزّهر عن ظاهرهم، وبالثّمر عن سرّهم الباطن، وسرّ كل شيء: باطنه وخالصه، وقال المعرّي: [البسيط](3/43)
تعدّيه: تخطّيه وجوازه. وخطت: مشت، عجت: ملت. أسبك. أجرّب سرّ
جوهره: أراد باطن أهله إذ كانوا في الظاهر ذوي مناظر، فأراد أن يعرف: هل هم أهل علوم وآداب،. حتى يكملوا في الظاهر والباطن، أم أمرهم على خلاف ذلك، وبيّن ذلك بقوله: كيف ثمره من زهره، فكنى بالزّهر عن ظاهرهم، وبالثّمر عن سرّهم الباطن، وسرّ كل شيء: باطنه وخالصه، وقال المعرّي: [البسيط]
فلا يغرّنك بشر من سواه بدا ... ولو أنار، فكم نور بلا ثمر (1)
قوله: أفراد، أي كبراء لا نظير لهم، فمن مال إليهم استفاد، وأفراد: نجوم الدّراري، والعائج: المائل. فكاهة: حديث مطرب. الأغاريد: أصوت الطير، ويطلقون على ما كان فيه حنان ورقة منها اسم التّغريد والغناء، إلا الحمام فإنهم يسمّون أصواتها غناء وتغريدا وبكاء ونياحا، ويأخذونه من حال السامع لها، وقرىء على أبي الحسن بن السراج قول سويد بن الأعلم: [الوافر]
لقد تركت فؤادك مستجنّا ... مطوّقة على فنن تغنّى
يميل بها وتركبه بلحن ... إذا ما عنّ للمحزون أنّا
فقال: إنما تكون أصوات الحمام على ما في نفس المستمع، فإذا سمعها من يطرب سمّاها غناء، وإذا سمعها من يحزن سماها بكاء.
وقال ابن قاضي ميلة مصدّقا لما قاله ابن السّرّاج: [الوافر]
لقد عرض الحمام لنا بسجع ... إذا أصغى له ركب تلاحى
شجا القلب الخلّي فقال غنّى ... وبرّح بالشّجيّ فقال ناحا
وسبقه المعرّي بقوله: [الوافر]
بأرض للحمامة أن تغنّى ... بها ولمن تأسف أن تنوحا (2)
وقد قدّمنا في شرح الصدر فصلا للحمام، وما أحسن قول البحتريّ: [البسيط]
حيّتك عنّا شمال طاف طائفها ... في جنة نفحت روحا وريحانا
غنّت سحيرا فناجى الغصن صاحبه ... سرّابها، وتداعى الطير إعلانا
ورق تغنّى على غصن مهدلة ... تسمو بها وتمسّ الأرض أحيانا
تخال طائرها نشوان من طرب ... والغصن من هزّة عطفيه نشوانا
وهذا ديباجة أبي عبادة. وحلب العناقيد: الخمر. احتفّ: انتظم. طمرين، أي ثوبين خلقين، يناهز: يقارب. العمرين: ثمانين سنة، وذلك أن الإنسان من الشبيبة إلى
__________
(1) البيت في سقط الزند ص 139.
(2) البيت في سقط الزند ص 245.(3/44)
الأربعين في نماء وزيادة وقوة، ومن الأربعين إلى الثمانين في نقص، فالبالغ الثمانين قد استوفى عمري الزيادة والنقص، وسئل ذو الرّمة عن سنّه، فقال: بلغت نصف عمر الهرم أربعين سنة، وقيل: العمر ستون سنة، لقوله عليه الصلاة والسلام: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين» (1).
ومن حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله إليه» (2). فالعمران على هذا مائة وعشرون سنة، والحكماء يزعمون أنه منتهى ما يبلغ عمر ابن آدم، والأظهر من سياق المقامة أنه أراد الأول، لأن من قارب مائة وعشرين سنة لا يلتذ بخمر ولا بغيره وهو يزعم في المقامة أنه يحاول شربها الغناء وغير ذلك.
قوله: أبان: بيّن. منطيق: فصيح، اجتبى حبوتهم، أي جلس مثل جلوسهم المنتدين: أهل المجلس. ازدراه: احتقره.
أصغريه: قلبه ولسانه، وقيل لهما الأصغران لصغر حجمهما من بين الأعضاء لفضلهما وشرفهما على الأعضاء، قال عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: ولكنّي مدرّب الأصغرين، ولجلبهما القيام والكمال، كأنه قال: المرء يقوّم أموره بلسانه وقلبه، ويكمل المرء بهما، قال الأصمعيّ رحمه الله تعالى: كان ضمرة بن أبي ضمرة قصيرا، وكان يقول: المرء بأصغريه، بقلبه ولسانه.
* * * وأخذوا يتداعون فصل الخطاب، ويعتدّون عوده من الاحطاب، وهو لا يفيض بكلمة، ولا يبين عن سمة، إلى أن سبر قرائحهم، وخبر شمائلهم وراجحهم. فحين استخرج دفائنهم، واستنثل كنائنهم، قال: يا قوم لو علمتم أنّ وراء الفدام، صفو المدام، لما احتقرتم ذا أخلاق، وقلتم ما له من خلاق، ثمّ فجّر من ينابيع الأدب، والنّكت النّخب، ما جلب به بدائع العجب، واستوجب أن يكتب بذوب الذّهب، فلمّا خلب كلّ خلب، وقلب إليه كلّ قلب، تحلحل، ليرحل، وتأهّب، ليذهب، فعلقت الجماعة بذيله، وعاقت مسرب سيله، وقالت له: قد أريتنا وسم قدحك، فخبّرنا عن قيضك ومحّك، فصمت صموت من أفحم، ثم أعول حتّى رحم.
__________
(1) أخرجه الترمذي في الدعوات باب 101، وابن ماجه في الزهد باب 27.
(2) أخرجه أحمد في المسند 2/ 320، 417.(3/45)
قال الرّاوي: فلمّا رأيت شوب أبي زيد وروبه، وأسلوبه المألوف وصوبه، تأمّلت الشيخ على سهومة محيّاه، وسهوكة ريّاه، فإذا هو إيّاه.
* * * يتداعون: يدعو بعضهم بعضا إلى ذكر الفصاحة، والأشبه أن يكون من الأدعيّة وهي الأحجّية والأغلوطة، كأنهم يتحاجون. وفصل الخطاب، كناية عن الفصاحة، يعتدّون: يحسبون، الأحطاب: جمع حطب، ولا يقال للعود حطب حتى يجفّ ماؤه وييبس، فأراد أنهم حسبوا أبا زيد من جنس الحطب لا نضارة فيه، كأنه لا علم عنده، وقال الشاعر: [الطويل]
إذا العود لم يثمر وإن كان شعبة ... من المثمرات اعتدّه الناس للحطب
يفيض: يتكلم ويندفع في القول، وفاض لسانه وأفاض، أي أبان. يبين: يبيّن.
سمة: علامة. سبر: قاس وجرّب. قرائحهم: أذهانهم. خبر: جرّب، شائلهم:
ناقصهم. راجحهم: وافيهم، والشائل من الدراهم: الناقص الذي يشول به الميزان أي يرتفع، والراجح ضده. وقال في الدّرة: الشائل: المرتفع، وأنشد: [السريع]
يا قوم من يعذر في عجرد ... القاتل المرء على الدّانق
لمّا رأى ميزانه شائلا ... وجاه بين الأذن والعاتق
استنثل كنائنهم: استخرج ما عندهم، والكنانة: جعبة السهام. الفدام: خرقة تجعل على فم الإبريق ليصفو الخمر بها، أخلاق: ثياب بالية. خلاق: نصيب وافر من الخير.
ينابيع: مخارج الماء من العيون. النّكت: المعاني الغامضة، والنكتة: نقطة في شيء تخالف لونه، فإذا كانت في الكلام فهي عيونه، النّخب: المختارة، بدائع: غرائب، ذوب الذهب: ما ذاب منه، ولو أنشدهم شعرا يوافق مجلسهم لم يكن إلا أبيات الناشىء:
[البسيط]
كأنهم في صدور الناس أفئدة ... تحسّ ما أخطروا فيها وما اعتمدوا
يبدون للنّاس ما تخفي ضمائرهم ... كأنهم وجدوا منها الذي وجدوا
دلّوا على باطن الدنيا بظاهرها ... وعلم ما غاب عنهم بالّذي شهدوا
مطالع الحق ما من شبهة غسقت ... إلا ومنهم لديها كوكب يقد
أو أبيات ابن شهيد حيث قال: [مخلع البسيط]
وفتية كالنّجوم حسنا ... كلّهم شاعر نبيل
متّقد الجانبين ماض ... كأنّه الصارم الصقيل
راموا انصرامي عن المعالي ... والقرب من دونها كليل
فاشتدّ في إثرها مسحّ ... كلّ كثير به قليل
في مجلس شأنه التّصافي ... تطيش في وصفه العقول
قوله: خلب، أي خدع. والخلب: الحجاب الذي بين سواد القلب وسواد البطن.(3/46)
وفتية كالنّجوم حسنا ... كلّهم شاعر نبيل
متّقد الجانبين ماض ... كأنّه الصارم الصقيل
راموا انصرامي عن المعالي ... والقرب من دونها كليل
فاشتدّ في إثرها مسحّ ... كلّ كثير به قليل
في مجلس شأنه التّصافي ... تطيش في وصفه العقول
قوله: خلب، أي خدع. والخلب: الحجاب الذي بين سواد القلب وسواد البطن.
تحلحل: تحرّك، وأصله للبعير إذا حرّكته للقيام تقول له: حل حل. عاقت: منعت وحبست. مسرب: طريق مسيل الماء، وسرب يسرب سروبا: مضى على وجهه في سفر بعيد، وسرب الماء يسرب سربا ومسربا فهو سرب: سال، والمعنى منعته المشي، وسم قدحك: علامة سهمك، والقدح السهم قبل أن يراش ويركّب نصله. وأرويتنا من نضحك، أي أسقيتنا من بللك، والنضح: الرشّ الخفيف: قيضك ومحّك، أي ظاهرك وباطنك، لأن القيض قشرة البيضة العليا وقلبها الأصفر هو المحّ، بحاء غير منقوطة.
الفنجديهي: عن قيضك ومحّك أي عن نسبك وبلدك. صمت: سكت. أفحم:
غلب وقطع عن الكلام. أعول: بكى. وشوب أبي زيد ورويه، أي تخليطه في حيله، والشّوب: الخلط، تقول: شبت الماء باللبن، أي خلطتهما والرّوب: اتخاذ الرائب، والشّوب: اللبن الممزوج بالماء هنا، والرّوب: الخالص. ويقال: ما عنده شوب ولا روب، أي لا مرق ولا لبن، وقيل: الشوب، العسل، والرّوب اللبن: وفلان يشوب ويروب، أي يخلط ويصفّي، وأصله يريب، قلبت «يروب» طلبا للازدواج، يضرب مثلا لمن يخلط في القول والعمل والشّوب والرّوب جميعا: الخلط، وراب الرجل روبا:
اختلط عقله ورأيه. أسلوبه: طريقه. المألوف. الملتزم. صوبه: قصده وجانبه وصوابه.
سهومة محيّاه: تغيّر وجهه، سهوكة ريّاه: نتن رائحته من النحر وغيره. وقوله: فإذا هو إياه: استعمل إيّاه، وهو ضمير ومنصوب في موضع الرفع، وهو غير جائز عند سيبويه، وجوّزه الكسائيّ في مسألة مشهورة جرت بينهما.
[مسألة نحويّة]
قال الفنجديهيّ: سألت شيخنا العلامة إمام النحاة جمال العلماء، أبا محمّد عبد الوهاب بن برّي بن عبد الجبار المقدسي عن شرحها، فقال أيده الله: سألت شرح الله صدرك، وأعلى في منازل الشرف قدرك، عن المسألة التي جرت بين سيبويه والكسائيّ، وهي قوله: «كنت أظنّ أن العقرب أشدّ لسعة من الزنبور فإذا هو «إياها».، وسألت عن وجه النصب في «إياها» عند من أجاز ذلك، فاعلم أن مذهب النحويين البصريين في مثل هذه المسألة أن يكون ما بعد إذا مرفوعا بالابتداء والخبر، فيقال: فإذا هو هي، على حدّ ما في الكتاب العزيز: {فَإِذََا هِيَ بَيْضََاءُ لِلنََّاظِرِينَ} [الأعراف: 108]. وقوله: {فَإِذََا هِيَ ثُعْبََانٌ مُبِينٌ} [الشعراء: 32]. فإذا هنا ظرف مكان وليست كالزمانّية، وسأفرّق بينهما، وتقديرها في نحو: خرجت فإذا زيد قائم: خرجت فبالحضرة زيد قائم، والعامل في إذا، قائم، وإن شئت نصبت قائما على الحال، وجعلت الخبر في إذا، كما تقول: خرجت
فإذا زيد قائم فالقائم بالرفع على الخبر والنصب على الحال، ومذهب الكوفيين في الحال أن تكون نكرة ومعرفة، ومن هنا منع سيبويه من إيّاها في المسألة،، لأن المضمر لا يقع حالا لتعريفه وعدم الاشتقاق فيه، والحال تكون نكرة مشتّقة، والكوفيون يجيزون والنصب على معنى: خرجت فإذا زيد قائما. والأقرب عندي أن يريدوا فإذا هو موجود إياها، فحذف الخبر وهو موجود لدلالة الكلام عليه، ومثل هذا عندهم: لئن ضربته ليضربنّه السّيّد الشريف، فينصبون السيّد بإضمار، فإذا حملته على هذا تخرّج.(3/47)
قال الفنجديهيّ: سألت شيخنا العلامة إمام النحاة جمال العلماء، أبا محمّد عبد الوهاب بن برّي بن عبد الجبار المقدسي عن شرحها، فقال أيده الله: سألت شرح الله صدرك، وأعلى في منازل الشرف قدرك، عن المسألة التي جرت بين سيبويه والكسائيّ، وهي قوله: «كنت أظنّ أن العقرب أشدّ لسعة من الزنبور فإذا هو «إياها».، وسألت عن وجه النصب في «إياها» عند من أجاز ذلك، فاعلم أن مذهب النحويين البصريين في مثل هذه المسألة أن يكون ما بعد إذا مرفوعا بالابتداء والخبر، فيقال: فإذا هو هي، على حدّ ما في الكتاب العزيز: {فَإِذََا هِيَ بَيْضََاءُ لِلنََّاظِرِينَ} [الأعراف: 108]. وقوله: {فَإِذََا هِيَ ثُعْبََانٌ مُبِينٌ} [الشعراء: 32]. فإذا هنا ظرف مكان وليست كالزمانّية، وسأفرّق بينهما، وتقديرها في نحو: خرجت فإذا زيد قائم: خرجت فبالحضرة زيد قائم، والعامل في إذا، قائم، وإن شئت نصبت قائما على الحال، وجعلت الخبر في إذا، كما تقول: خرجت
فإذا زيد قائم فالقائم بالرفع على الخبر والنصب على الحال، ومذهب الكوفيين في الحال أن تكون نكرة ومعرفة، ومن هنا منع سيبويه من إيّاها في المسألة،، لأن المضمر لا يقع حالا لتعريفه وعدم الاشتقاق فيه، والحال تكون نكرة مشتّقة، والكوفيون يجيزون والنصب على معنى: خرجت فإذا زيد قائما. والأقرب عندي أن يريدوا فإذا هو موجود إياها، فحذف الخبر وهو موجود لدلالة الكلام عليه، ومثل هذا عندهم: لئن ضربته ليضربنّه السّيّد الشريف، فينصبون السيّد بإضمار، فإذا حملته على هذا تخرّج.
وحكي عن أبي زيد أنه سمع هذه المسألة من العرب، بنصب «إياها»، فإذا صح أنه سمعها فهذا وجه، ويجوز في قياس قولهم: أن يكون على إسقاط الكاف، وهم يروون في الخبر: «ذكاء الجنين ذكاة أمه» (1)، بنصب «ذكاة» يقدرون كذكاة أمّه، فتقديرها فإذا هوكها، أي فإذا الزنبور كالعقرب، وهم يجيزون إدخال الكاف على الضمير، وسيبويه يمنعه إلّا في الشعر كقول العجّاج: [الرجز]
وأم أو عال كها أو أقربا (2)
وقال رؤبة: [الرجز]
فلا أرى بعلا ولا حلائلا ... كهو ولا كهنّ إلا حاظلا (3)
وأجاز بعض النحويين أن يكون «إيّاها» كناية عن الجملة، التقدير: فإذا هو لسعته كلسعتها، فكنى عن الجملة بقوله: «إياها» وينصب على الحال، لأنها كناية عن الجملة، وهي نكرة فتصير في حكم النكرة، كما صارت الهاء في: ربّه رجلا نكرة في المعنى، لكونها كناية عن نكرة، ولذا دخلت «ربّ» عليها، وهي لا تدخل إلّا على نكرة، فهذا ما
__________
(1) أخرجه أبو داود في الأضاحي باب 17، والترمذي في الصيد باب 7، وابن ماجه في الذبائح باب 15، والدارمي في الأضاحي باب 17، وأحمد في المسند 3/ 31، 39، 45، 53.
(2) قبله:
خلّى الذنابات شمالا كثبا
والرجز للعجاج في ملحق ديوانه 2/ 269، وأوضح المسالك 3/ 16، وتاج العروس (وعل)، وجمهرة اللغة ص 61، وخزانة الأدب 10، 195، 196، وشرح أبيات سيبويه 2/ 95، وشرح شواهد الشافية ص 345، والكتاب 2/ 384، ومعجم ما استعجم ص 212، والمقاصد النحوية 3/ 253، وبلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 286، وشرح ابن عقيل ص 356، وشرح المفصل 8/ 16، 42، 44.
(3) الرجز لرؤبة في ديوانه ص 128، وخزانة الأدب 10/ 195، 196، والدرر 5/ 268، 4/ 152، وشرح أبيات سيبويه 2/ 163، وشرح التصريح 2/ 4، والمقاصد النحوية 3/ 256، وللعجاج في الكتاب 2/ 384، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 18، وجواهر الأدب ص 124، ورصف المباني ص 204، وشرح الأشموني 2/ 286، وشرح ابن عقيل ص 357، وشرح عمدة الحافظ ص 269، وهمع الهوامع 2/ 30.(3/48)
يقتضيه وجه النصب في «إياها» على ما ذكره الكوفيون، والفرق بين إذا الزمانية والمكانية من أوجه:
أحدها أنّ الزمانية تقتضي الجملة الفعلية لما فيها من معنى الشّرط، والمكانية تقع بعدها الجملة الابتدائية أو المبتدأ وحده.
والثاني: أنّ الزمانية تقتضي جوابا والمكانية لا تقتضيه.
والثالث: أنّ الزمانية مضافة إلى الجملة التي بعدها، والمكانية ليست مضافة إلى ما بعدها، بدليل خرجت فإذا زيد فزيد مبتدأ وإذا خبره.
والرابع: أنّ الزمانية تكون في صدر الكلام، نحو إذا جاء زيد فأكرمه، والمكانية لا يبتدأ بها إلا أن تكون جوابا للشرط، كالفاء في قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذََا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36].
والخامس: أنّ الزمانية تقتضي الاستقبال والمكانية تقتضي معنى الحضور، لأنها للمفاجأة والمفاجأة للحاضر دون المستقبل.
انقضى الكلام عليهما على جهة الاختصار.
* * * فكتمت سرّه كما يكتم الدّاء الدخيل، وسترت مكره وإن لم يكن يخيل حتّى إذا نزع عن إعواله، وقد عرف عثوري على حاله، رمقني بعين مضحاك، ثمّ طفق ينشد بلسان متباك. [الرجز]
أستغفر الله وأعنو له ... من فرطات أثقلت ظهريه
يا قوم كم من عاتق عانس ... ممدوحة الأوصاف في الأنديه
قتلتها لا أتّقي وارثا ... يطلب منّي قودا أو ديه
وكلّ ما استذنبت في قتلها ... أحلت بالذّنب على الأقضيه
ولم تزل نفسي في غيّها ... وقتلها الأبكار مستشريه
وقوله: الدّاء الدخيل، وهو الذي لا يتكلّم به استقباحا أو لمحلّه، يخيل: يشتبه ويشكل، وخال يخيل: اشتبه. نزع: كفّ، إعواله: بكائه. عثوري: اطلاعي. رمقني:
نظر إليّ. بعين مضحاك، أي كثير الضحك. متباك: مستعمل للبكاء بتكلّف، أعنو: أذلّ، فرطات: سقطات وزلّات. عاتق: شابة قد أدركت ولم يبن بها زوجها، بل هي بكر، ويريد بها الخمر التي لم يفضّ أحد خاتمها، وعانس: طالت إقامتها في بيت أبيها، الأندية: المجالس. القود: قتل النفس بالنفس. استذنبت: نسبت إلى الذنب: الأقضية:
جمع قضاء، أي كلما قيل لي: فعلت هذا الذنب؟ قلت: إنما هو قضاء الله وقدره، وأخذ هذا المعنى من قول الحسين بن الضحاك: [الوافر](3/49)
واتركي العذل على من قاله ... وانسبي جوري إلى حكم القضا
ولهذا البيت حكاية أدبية، قال الحسين كانت لي نوبة في دار الواثق، فبينا أنا نائم ذات ليلة، إذ جائني خادم من خدّام الحرم، فقال لي: إن أمير المؤمنين يدعوك، فقلت له: وما الخبر؟ قال: إنه كان نائما إلى جنب حظيّته فقام وهو يظنها قائمة، فألم بجارية أخرى، وعاد إلى فراشه، فغضبت حظيته وتركته حتى نام، ثم قامت، ودخلت حجرتها فانتبه وهو يظنّها عنده، فطلبها فلم يجدها، فقال: من اختلس كريمتي، ويحكم أين هي! فأخبرناه أنّها قامت غضبى ومضت إلى حجرتها. فدعا بك، قال: فمضيت مع الرّسول وروّيت أبياتا في طريقي، فلما جئته خبّرني القصة، وقال لي: قل في هذا شيئا، ففكّرت هنيهة كأنّي أقول شعرا، ثم أنشدته الأبيات: [الرمل].
غضت أن زرت أخرى غضبة ... فلها العتبى علينا والرّضا
يا فدتك النفس كانت هفوة ... فاغفريها واصفحي عمّا مضى
واتركي العذل على من قاله ... وانسبي جوري إلى حكم القضا
فلقد نبّهتني من رقدتي ... وعلى قلبي كنيران الغضى
فقال: أحسنت بحياتي، أعدها عليّ يا حسين، فأعدتها عليه حتى حفظها، وأمر لي بخمسمائة درهم، فقام ومضى إلى الجارية فأنشدها الأبيات فتراضيا، فكان بعد إذا رآني تبسّم لموقع الأبيات ونجحها عند الجارية، والإحالة على القضاء بالذّنب هو مذهب الجبرية فمن فعل منهم ذنبا قال: لا ذنب لي، إنما قدّر عليّ ومذهب القدريّة خلافه: قال الشاعر في ردّه: [الطويل]
إذا أذنبوا قالوا مقادير قدّرت ... وما العار إلا ما تجرّ المقادر
وقوله: غيّها، أي فسادها. مستشرية: لاحية مصمّمة. واستشرى الشيء: انتشر، واستشرى في أمره: لجّ فيه.
[وأد البنات]
والقتل الذي ذكره للبنات هو الوأد الذي كانت تفعله الجاهلية، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 9].
والموؤودة: التي تدفن حيّة، فتنقل بالتراب، والوأد: القتل.
وورد قيس بن عاصم المنقريّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: بعض الأنصار عن وأده البنات، فقال قيس: ما ولدت لي بنت إلا وأدتها، وما رحمت منهنّ إلا واحدة ولدتها أمها، وأنا في سفر، فدفعتها إلى أخوالها، وقدمت فسألت عن الحمل، فأخبرت أنها ولدت ميتا. ومضت سنون، حتى ترعرعت، فزارت أمها ذات يوم، فدخلت فرأيتها قد ضفرت شعرها، وجعلت في قرونها شيئا من الخلوق، ونظّمت عليها ودعا، وألبستها
قلادة، وجعلت في عنقها مخنقة، فقلت: من هذه الصبيّة فقد أعجبني حسنها؟ فبكت ثم قالت: هذه ابنتك، كنت خبّرتك أنّي ولدت ميتا، وهذه التي ولدت، فجعلتها عند خالها، وبلغت لهذا المبلغ. فأمسكت عنها حتى اشتغلت أمها، ثم أخرجتها يوما، فحفرت حفرة فجعلتها فيها، وهي تقول: يا أبت أتغطّيني بالتراب! حتى واريتها وانقطع صوتها، فما رحمت واحدة منهنّ ممن وأدت غيرها، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:(3/50)
وورد قيس بن عاصم المنقريّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: بعض الأنصار عن وأده البنات، فقال قيس: ما ولدت لي بنت إلا وأدتها، وما رحمت منهنّ إلا واحدة ولدتها أمها، وأنا في سفر، فدفعتها إلى أخوالها، وقدمت فسألت عن الحمل، فأخبرت أنها ولدت ميتا. ومضت سنون، حتى ترعرعت، فزارت أمها ذات يوم، فدخلت فرأيتها قد ضفرت شعرها، وجعلت في قرونها شيئا من الخلوق، ونظّمت عليها ودعا، وألبستها
قلادة، وجعلت في عنقها مخنقة، فقلت: من هذه الصبيّة فقد أعجبني حسنها؟ فبكت ثم قالت: هذه ابنتك، كنت خبّرتك أنّي ولدت ميتا، وهذه التي ولدت، فجعلتها عند خالها، وبلغت لهذا المبلغ. فأمسكت عنها حتى اشتغلت أمها، ثم أخرجتها يوما، فحفرت حفرة فجعلتها فيها، وهي تقول: يا أبت أتغطّيني بالتراب! حتى واريتها وانقطع صوتها، فما رحمت واحدة منهنّ ممن وأدت غيرها، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
«إنّ من لا يرحم لا يرحم» (1).
وذكر أن قيسا وأد بيده بضع عشرة ابنة، وكان السبب في وأد البنات أن المشمرج اليشكريّ أغار على قوم قيس، فسبا نساء فيهنّ ابنته وابنة أخيه، فدخل قيس إليهم فسألهم أن يهبوهما له، فوجد المشمرج قد اصطفاهما لنفسه، فسأله إياهما، فقال: قد جعلت أمرهما إليهما، فإن اختار تاك فخذهما، فاختارتا المشمرج، فانصرف فوأد كلّ ابنة له خوفا من الفضيحة، فاقتدت به العرب في ذلك.
قال الهيثم: إن الوأد كان مستعملا في قبائل العرب قاطبة، كان يستعمله واحد ويتركه عشرة، فجاء الإسلام، وقد قلّ إلا في تميم.
وقيل: كان الوأد في تميم وقيس وبكر وهوازن وأسد، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» (2)، فأجدبوا سبع سنين حتى أكلوا الوبر بالدم، ولهذا جاء تحريم الدم، وهذا خبر بيّن أنّ الوأد كان للحاجة لا للأنفة، وبه نزل القرآن، قال الله تعالى: {وَلََا تَقْتُلُوا أَوْلََادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلََاقٍ} [الإسراء: 31]، وقال: {وَلََا يَقْتُلْنَ أَوْلََادَهُنَّ} [الممتحنة: 12].
ومن ذكر أنه كان أنفة وأنه كان في تميم، ومن جاورهم فيحتج بحديث أبي عبيدة، أن تميما منعت النعمان الإتاوة، فوجّه إليهم أخاه الريان، وجل من معه من بكر بن وائل، فاستاق النّعم وسبى الذّراري. وفي ذلك يقول المشمرج اليشكريّ: [البسيط]
لمّا رأوا راية النعمان مقبلة ... قالوا ألا ليت أدنى دارنا عدن
يا ليت أمّ تميم لم تكن عرفت ... مرّا وكانت كمن أودى به الزّمن
وقال النعمان في جوابه: [البسيط]
لله بكر غداة الرّوع لو بهم ... يرمى ذرا حضن زالت بهم حضن
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب باب 18، 27، ومسلم في الفضائل حديث 65، وأبو داود في الأدب باب 145، والترمذي في البر باب 12، وأحمد في المسند 2/ 228، 241، 269، 514.
(2) أخرجه البخاري في الأذان باب 128، والاستقاء باب 2، والجهاد باب 98، والأنبياء باب 19وتفسير سورة 3باب 9، وسورة 4باب 21، والأدب باب 110، والإكراه في المقدمة، ومسلم في المساجد حديث 294، 295، وأبو داود في الصلاة باب 216، والوتر باب 10، والنسائي في التطبيق باب 27، وابن ماجه في الإقامة باب 145، وأحمد في المسند 2/ 239، 255، 271، 418، 470، 502، 521.(3/51)
إذا لا أرى أحدا في الناس يشبههم ... إلا فوارس خامت عنهم اليمن
فوفدت إليه تميم، فأناب إليهم، وأحب البقيا، وقال: [البسيط]
ما كان ضرّ تميما لو تغمّدها ... من فضلنا ما عليه قيس عيلان
فسألوه النساء، فقال: كلّ امرأة اختارت أباها ردت إليه، وإن اختارت صاحبها تركت عنده فكلّهن اخترنّ آباءهنّ إلّا ابنة قيس بن عاصم، اختارت صاحبها عمرو بن المشرج، فنذر قيس: ألّا تولد له ابنة إلا قتلها. فهذا شيء يعتلّ به من وأد البنات، ويقول،: فعلناه أنفة، وقد كذّب بما أنزل الله تعالى في القرآن المجيد. وأين فعل قيس في الوأد وقساوة قلبه من فعل صعصعة بن ناجية بن عقال جدّ الفرزدق! فإنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني كنت أعمل عملا في الجاهلية لنفسي، أينفعني ذلك اليوم؟ قال: وما عملك؟ قال. أضللت ناقتين عشراوين، فركبت حملا ومضيت في بغائهما: فرفع لي بيت فقصدته، فإذا شيخ جالس بفناء الدار، فسألته عنهما، فقال: هما عندي، وقد أحيا الله تعالى بهما قوما من أهلك مضر، فجلست عنده ليخرجا إليّ، فإذا عجوز قد خرجت من كسر البيت، فقال لها: ما وضعت؟ فإن كان ذكرا شاركناه في أموالنا، وإن كان أنثى وأدناها! فقالت: وضعت أنثى، فقلت: أتبيعنيها؟ فقال: وهل تبيع العرب أولادها! قال: فقلت: إنما اشتري حياتها لا رقّها، فقال: بكم؟ فقلت: احتكم، قال: الناقتين والجمل، قلت: ذلك لك، على أن يبلغني وإياها الجمل، ففعل فآمنت بك يا رسول الله، وقد صارت لي سنّة في العرب، أشتري كلّ موؤودة بناقتين وجمل، فعندي إلى هذه الغاية ثمانون ومائة مؤوودة، قد أنقذتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفعك ذلك، لأنك، لم تبغ وجه الله، وإن تعمل في إسلامك عملا صالحا تثب عليه».
وقال الفرزدق يفتخر بفعل جدّه على جرير: [المتقارب]
ألم تر أنا بنو دارم ... زرارة منّا أبو معبد
ومنّا الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم توأد (1)
أيطلب مجد بني دارم ... عطية كالجعل الأسود
قرنبي يحكّ قفا مقرف ... لئيم مآثره قعدد
ومجد بني دارم دونه ... مكان السّماكين والفرقد
وعطية هو أبو جرير، ويأتي في الأربعين.
وجاء في الحديث الترغيب في إكرام البنات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ابتلي بشيء من هذه البنات، فأحسن إليهنّ كن له سترا من النار» (2). وفي طريق آخر «من كان له ثلاث بنات،
__________
(1) الأبيات في ديوان الفرزدق 1/ 173، والبيت الأول في الكتاب 2/ 234.
(2) أخرجه البخاري في الزكاة باب 10، ومسلم في البر حديث 147، والترمذي في البر باب 13.(3/52)
وثلاث أخوات أو بنتان، أو اختان، فأحسن صحبتهنّ والله اتقى فيهنّ، فله الجنّة» (1).
ولبعضهم تهنئة بمولودة: اتصل بي خبر المولودة، كرّم الله غرّتها، وأنبتها نباتا حسنا وقد علمت أنهنّ أقرب إلى القلوب، وإن الله عز وجل قد بدأ بهن في الترتيب، فقال سبحانه: {يَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ إِنََاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49]، وما سّماه الله تعالى هبة فهو بالشّكر أولى، وبحسن التقبّل أحرى.
وقال بعض الشعراء: [المتقارب]
أحبّ البنات وحبّ البنا ... ت فرض على كلّ نفس كريمه
فإنّ شعيبا من أجل ابنتي ... هـ أخدمه الله موسى كليمه
وفي الحديث: «دفن البنات من المكرمات».
عزّى رجل يحيى بن خالد في حرمة له، فقال: أيها الوزير دفن الحرم من النّعم، ثم قال: [الوافر]
تمزّ إذا رزئت فخير درع ... يسر بل للمصائب درع صبر
فلم أر نعمة شملت كريما ... كعورة مسلم سترت بقبر
وقال عمر بن أبي علقمة المريّ: [الرجز]
إنّي وإن سيق إلى المهر ... ألف وعبدان وذود عشر
أحبّ أصهاري إليّ القبر
وقال إسحاق بن خلف: [البسيط]
لولا أميمة لم أجزع من العدم ... ولم أجب في الليالي حندس الظّلم
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا ... والموت أكرم نزّال على الحرم
وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: [الطويل]
لكلّ أبي بنت يراعي شؤونها ... ثلاثة أصهار إذا ذكر الصّهر
فبيت يغّطيها وبعل يصونها ... وقبر يواريها وخيرهم القبر
وقال آخر: [الكامل]
لا تيأسن منها فقد زوّجتها ... كفؤا وضمنت الصّداق مليكا
* * *
[الرجز]
__________
(1) أخرجه الترمذي في البر باب 13، وأبو داود في الأدب باب 121، وابن ماجه في الأدب باب 3، وأحمد في المسند 3/ 42، 4/ 154.(3/53)
حتّى نهاني الشّيب لمّا بدا ... في مفرقي عن تلكم المعصيه
فلم أرق مذ شاب فودي دما ... من عاتق يوما ولا مصبيه
وها أنذا الآن على ما يرى ... منّي ومن حرفتي المكديه
أربّ بكرا طال تعنيسها ... وحجبها حتّى عن الأهويه
وهي على التّعنيس مخطوبة ... كخطبة الغانية المغنيه
وليس يكفيني لتجهيزها ... على الرّضا بالدّون إلا ميه
واليد لا توكى على درهم ... والأرض قفر والسّماء مصحيه
فهل معين لي على نقلها ... مصحوبة بالقينة الملهيه
فيغسل، الهمّ بصابونه ... والقلب من أفكاره المضنيه
ويقتني منّي الثناء الّذي ... تضوع رّياه مع الأدعيه
* * *
قوله: فودي، أي ناحية رأسي. مصبية: لها صبوة. أو يصبو إليها من رآها، وجعل الخمر مصبية، لأنها تغلب شرّابها فتصيرّهم سكارى، عقولهم عقول الصبيان، فهي تلعب بهم كما تلعب الأمّ بصبيانها، حر فتى: صنعتي المكدية: الصعبة، وأكدى الحافر: بلغ كدية، فرفع عن الحفر آيسا من الماء ثم استعير لغير ذلك أربّ أصلح، تعنيسها: إقامتها بغير زوج.
قال عمر رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مكتوب في التوراة: من بلغت ابنته اثنتي عشرة سنة، فلم يزوجها فأصابت إثما فإثم ذلك عليه» (1).
وقال عليه الصلاة والسلام: «من بلغ له ولد النكاح وعنده ما ينكحه به فلم ينكحه، فأصاب إثما فالإثم بينهما» (2)، ويعني بها خمرا قديمة حجبها عن الأهوية، لئلا يفسّدها الهواء.
قوله: مخطوبة: مطلوبة. الغانية: البارعة الجمال التي غنيت بحسنها عن الزينة، قال الرّستمي: أصلها في ذات الزوج التّي استغنت بزوجها، ثم قيل في غير ذات الزوج.
قال عمارة: هي الشابّة التي تعجب الرجال ويعجبونها، المغنية: التي نشأت في الغنى، وأغنى بمعنى استغنى، والمغنية أيضا: التي تغني زوجها عن غيرها لكمال خصالها.
توكأ: تشدّ وتربط، والوكاء: الخيط يشدّ به فم الوعاء.
ورواد عبد في الجاهلية ابنة سيّده عن نفسها، فأمكنته حتى بلغ أربه منها، ثم
__________
(1) أخرجه الدارمي في المقدمة باب 20.
(2) أخرجه بنحوه البخاري في النكاح باب 9.(3/54)
عمدتّ إليه فجبّته، فقال لها أبوها في ذلك، فقالت: من ورد غير مائه، صدر بمثل حاله، إنّ العبد لمن نوكه قد ابتذل إناء لم يوكه، فقال أبوها: يا بنيه لا شللا ولا عمى.
وميّه: مخدوفة اللام، ولا يدري أواو لامها أم ياء، قوله صاحب العين وقال ابن الأعرابيّ: أمأيت القوم، وأمأيتهم: صاروا بي مائة، ففي مأيت دليل قاطع على أن اللام ياء.
وقال الفراء رحمه الله تعالى وكراع: أصلها مئية، وأنشد: [البسيط]
فقلت والرّكب قد تخطيه منيّته ... أدنى عطيات آبائي مئيات (1)
قوله: قفر: غير عامرة. مصحية: زال سحابها، ضربه مثلا للخلوّ من المال، فلا في أرضه خصب فتعمر من أجله، ولا في سمائه سحاب فيرجى خيرها، وقد تقدّم لغيمي مطر.
القينة الملهية: الجارية المغنيّة. وهي في كلام العرب الأمة، مغنّية كانت أو غير مغنّية قال زهير: [البسيط]
ردّ القيان جمال القوم فاحتملوا (2)
واشتقاقها من قنت الشيء أقينة قينا إذا لممته، قال الشاعر: [الطويل]
ولي كبد مجروحة قد بدا بها ... صدوع الهوى لو أن قينا يقينها (3)
ولهذا سمّي الصّواغ والحداد قينا، والماشطة قينة.
قوله: فيغسل الهمّ بصابونه: يعني فينفي همّي بالخمر لأنها تنفي الهمّ والحزن والغم كما يغسل الصابون وسخ الثوب، المضنية: الممرّضة. يقتني: يكتسب، تضوّع
__________
(1) يروى البيت:
فقلت والمرء تخطيه منيّته ... أدنى عطيته إيّاي ميآت
وهو لتميم بن مقبل في المقاصد النحوية 2/ 376، وليس في ديوانه، وله أو لأبي شبل الأعرابي في الدرر 2/ 237، وبلا نسبة في تذكرة النحاة ص 508، والدرر 6/ 325، ولسان العرب (ضربج)، وهمع الهوامع 2/ 239.
(2) عجزه:
إلى الظهيرة أمر بينهم لبك
والبيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 164، ولسان العرب (ردد)، (لأك)، (لبك)، (قين)، وتهذيب اللغة 9/ 320، 321، 10/ 262، 14/ 65، وجمهرة اللغة ص 377، وكتاب العين 5/ 377، وكتاب الجيم 3/ 213، وتاج العروس (لبك)، (قين)، وبلا نسبة في المخصص 12/ 325.
(3) البيت لرجل من الحجاز في تاج العروس (قين)، ولسان العرب (قين)، وبلا نسبة في مجمل اللغة 4/ 135، ومقاييس اللغة 5/ 45، وديوان الأدب 3/ 411.(3/55)
ريّاه: تتحرك رائحته، يريد أنه يكتسب منه السامع الدعاء، فيثني عليه ثناء حسنا في الدنيا ويدعو له بالآخرة، ويقال: ضاع المسك يضوع، أي انتشرت رائحته، وقول الشاعر:
[الطويل]
وما هو إلا المسك عند ذوي الحجى ... يضوع وعند الجاهلين يضيع
قال الراوي: فلم يبق في الجماعة إلا من نديت له كفّه، وانباع إليه عرفه، فلّما نجحت بغيته، وكملت مئته، أخذ يثني عليهم بصالح، ويشمّر عن ساق سارح فتبعته لأستعرف ربيبة خدره، ومن قتل في حدثان أمره، فكأنّ وشك قيامي، مثّل له مرامي، فازدلف منّي، وقال: أفقه عنّي: [الخفيف]
قتل مثلي يا صاح مزج المدام ... ليس قتلي بلهذم أو حسام
والّتي عنّست هي البكر بنت الكر ... م لا البكر بنت الكرام
ولتجهيزها إلى الكأس والطّا ... س قيامي الّذي ترى ومقامي
فتفّهم ما قلته وتحكّم ... في التغاضي إن شئت أو في الملام
ثم قال: أنا عربيد، وأنت رعديد، وبيننا بون بعيد، ثمّ ودّعني وانطلق، وزوّدني نظرة من ذي علق.
* * * نديت: كرمت. انباع: سال، عرفه: معروفة. نجحت: انقضت وتمت، بغيته:
طلبته، طفق: أخذ وجعل، سارح: ذاهب، يريد أنه شمرّ لليسر، وأضاف ساقا لسارح، وهو يريد: عن ساق رجل سارح، أي ذاهب. ربيبة خدره، أي التّي رباها في بيته، وربيبة الرجل بنت امرأته من غيره، وقيل لها ذلك لأنه يربيّها فهي «فعيلة» بمعنى مفعولة، فأصلها مربوبة، ويقال: ربّ فلان فلانا وربّاه وربّبه وتربّبه بمعنى واحد، حدثان: أول وشك: سرعة، مرامي: مرادي ومطلبي. ازدلف: قرب، ويقال: قلت الخمر، إذا مزجتها وقد فسره بقوله: مزج المدام.
[مما قيل في الخمرة]
قال الأخطل: [الطويل]
فقلت اقتلوها عنكم بمزاجها ... وأحبب بها مقتولة حين تقتل (1)
__________
(1) البيت في ديوان الأخطل ص 263، وإصلاح المنطق ص 35، والدرر 5/ 229، ولسان العرب (قتل)، (كفى)، وبلا نسبة في أسرار العربية ص 108، وشرح ابن عقيل ص 461، وهمع الهوامع 2/ 89.(3/56)
وكان الأخطل خليعا، فأثنى هنا على الممزوجة، وقال في التي لم تمزج: [الوافر] وكأس مثل عين الديك صرف ... تنسي الشاربين لها العقولا
إذا شرب الفتى منها ثلاثا ... بغير الماء حاول أن يطولا
مشى قرشيّة لا شكّ فيها ... وأرخى من مآزره الفضولا
* * *
وأصبح عبد الملك يوما في غداة باردة، فأنشد هذه الأبيات، ثم قال: كأن الأخطل الآن في حانوت خمار محلّل الإزار، مستقبل الشمس، ثم بعث من يطلبه بدمشق، فوجده كما وصف.
وقال له يوما: ألا تسلم فنفرض لك في الفيء ونعطيك عشرة آلاف درهم؟ قال:
فكيف بالخمر؟ قال له عبد الملك: وما تصنع بها، وإنّ أوّلها مرّ وآخرها سكر! قال الأخطل: وفيما بين هاتين منزلة ما يسرّني لك بها.
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه وقد أعطي كأس خمر ممزوجة: [الكامل]
إنّ التي ناولتني فرددتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل (1)
كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل
فدعا بالقتل على الذي أعطاها له ممزوجة.
وذكر الحريري في الدّرة البيتين، وقال في قوله: «أرخاهما» القياس: أشدّهما إرخاء للمفصل، لأن أصل هذا الفعل أرخى، فبناؤه ليس مقيسا كما قالوا: ما أحوجه إلى كذا فبنوا من حوج، إن كان قياسه: ما أشدّ حاجته.
ولهذين البيتين حكاية يحسن أن نعقبهما بروايتها، ونضوع نشرهما بنشر ملحها، وهي ما رواه أبو بكر محمد بن القاسم الأنباريّ عن أبيه، قال: حدثنا الحسن بن عبد الرحمن الربعيّ قال: حدثنا أحمد بن عبد الملك بن السماك السعديّ قال: حدّثنا أحمد بن ظبيان الحائز، قال: اجتمع قوم على شراب لهم، فغنّاهم مغنيهم بشعر حسان: «إن التي» البيتين، فقال بعضهم: امرأتي طالق إن لم أسأل الليلة عبيد الله بن الحسن القاضي عن علّة هذا الشعر، لم قال: «إن التي»، فوحّد، ثم قال: كلتاهما، فثنّى؟ فأشفقوا على صاحبهم وتركوا ما كانوا عليه، ومضوا يتخطّون القبائل، حتى انتهوا إلى بني شقرة وعبيد الله بن الحسن يصلّي، فلما فرغ من صلاته قالوا: قد جئناك في أمر قد دعتنا إليه ضرورة، وشرحوا له خبرهم، وسألوه الجواب، فقال: [الكامل]
* إنّ الّتي ناولتني فرددتها *
__________
(1) البيتان في ديوان حسان بن ثابت ص 124، ولسان العرب (قتل)، وأساس البلاغة (قتل)، وتاج العروس (قتل)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 407، ومقاييس اللغة 5/ 75، والمخصص 11/ 88.(3/57)
غنى بها الممزوجة بالماء، ثم قال: من بعد: كلتاهما حلب العصير، يريد الخمر المحتلبة من العنب، والماء المتحلب من السحاب، المكنّى عنها بالمعصرات في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنََا مِنَ الْمُعْصِرََاتِ مََاءً ثَجََّاجاً} [النبأ: 14]، قال الشيخ الإمام الأجلّ الأوحد العالم أبو محمد أدام الله سعادته: فهذا ما فسره به عبيد الله بن الحسن.
وقد بقي في الشعر ما يحتاج إلى كشف سرّه، وتبيان نكته، أما قوله: [الكامل]
إن التي ناولتني فرددتها ... قتلت قتلت
فإنه خاطب به السّاقي الذي كان ناوله كأسا ممزوجة، لأنه يقال: قتلت الخمر إذا مزجتها، فكأنه أراد أن يعلمه أنه قد فطن لما قد فعله ثم ما اقتنع منه بذلك حتى دعا عليه بالقتل في مقابلة المزج، وقد أحسن كلّ الإحسان في تجنيس اللفظ ثم إنه عقّب الدعاء عليه بأن استعطى منه ما لم تقتل يعني الصّرف التي لم تمزج.
وقوله: أرخاهما للمفصل، يعني اللّسان، وسمّي مفصلا بكسر الميم، لأنه به يفصل بين الحق والباطل، وليس فيما اعتمده عبيد الله بن الحسن من الإسماح وخفض الجناح، ما يقذف في نزاهته أو يغض من نبله وبراعته.
ويضارع هذه الحكاية في وطأة القضاة المتقشفين للمستفتين وتلاينهم في مواطن الّلين، ما يحكى أن حامد بن العباس، سأل عليّ بن عيسى في ديوان الوزارة عن داء الخمار، وعن دوائه، فأعرض عن كلامه، وقال: ما أنا وهذا المسألة! فخجل حامد منه، ثم التفت إلى قاضي القضاة أبي عمرو، فسأله عن ذلك فتنحنح القاضي لإصلاح صوته، ثم قال: قال الله تعالى: {وَمََا آتََاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمََا نَهََاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [المائدة:
41]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «استعينوا على الصناعات بأهلها» (1)، والأعشى هو المشهور في الجاهلية بهذه الصناعة، قال: [المتقارب]
وكأس شربت على لذّة ... وأخرى تدويت منها بها (2)
لكي يعلم النّاس أنّي امرؤ ... أتيت المروءة من بابها
ثم تلاه أبو نواس في الإسلام، فقال: [البسيط]
دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراء ... وداوني بالّتي كانت هي الدّاء (3)
__________
(1) أخرجه بمعناه البخاري في الصلاة باب 64.
(2) البيتان في ديوان الأعشى ص 173، ويروى البيت الأول:
وكأس شربت على لذة ... دهاق ترنّح من ذاقها
وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (رنح)، وتاج العروس (رنح).
(3) البيت في ديوان أبي نواس 1/ 21، وخزانة الأدب 11/ 434، والدرر اللوامع 4/ 142، ومغني اللبيب ص 150، وهمع الهوامع 2/ 29، وبلا نسبة في لسان العرب (شفع).(3/58)
فأسفر حينئذ وجه حامد، وقال لعليّ بن عيسى: ما ضرّك يا بارد أن تجيب ببعض ما أجاب به قاضي القضاة، وقد استظهر في جواب المسألة بقوله سبحانه أولا، ثم بقول الرسول عليه الصلاة والسلام ثانيا، وبيّن الفتيا وأدّى المعنى، وتفصى من العهدة، فكان خجل عليّ بن عيسى من حامد بهذا الكلام أكثر من خجل حامد منه، لما ابتدأه بالمسألة وتبع حسان مسلم بن الوليد، فقال وأحسن: [الطويل]
إذا شئتما أن تسقياني مدامة ... فلا تقتلاها كلّ ميت محرم (1)
خلطنا دما من كرمة بدمائنا ... فأظهر في الألوان منّا الدم الدم
وقال أبو نواس في الصّرف: [الخفيف]
وكميت أرّقّها وهج الشم ... س وصيف يفنى بها وشتاء
لم يشنها الطاهي بطبخ ولا غيّر ... ها عن طبيعة الكرم ماء
وقال فيه أيضا [الطويل]
توارت عن الأبصار من عهد آدم ... حذارا لكون الماء يوما قرينها
فصنها عن الماء القرح وأسقني ... فإنك إن لم تسقني متّ دونها
وعلى أنه القائل: [الطويل]
ألا دارها بالماء حتى تلينها ... فلن تكرم الصّهباء حتى تهينها
وقال أبو نواس لإخوانه في مرض موته: إياكم والخمر صرفا فإنها أحرقت كبدي، قال ابن رشيق: [الكامل]
قدر المدامة فوق قدر الماء ... فارغب بكأسك عن سوى الأكفاء
ما لي ومزج الرّاح إلّا في فمي ... بالرّيق من فم غادة حسناء
ذاك المزاج وإن تعدّاني الّذي ... في لمزن من ذي رقّة وصفاء
أشهى وأبلغ في الفؤاد مسرّة ... من غيره وأدبّ في الأعضاء
لي الصّرف إن مزج النّديم ولم أكن ... مستأثرا فيها عن النّداماء
وقال أيضا: [السريع]
قلت لمن ناولني مرة ... ما بي حبّ الغيد بل حبّها
لا تسقي راحك ممزوجة ... واشرب فما يمكنني شربها
ما راحتي في الرّاح إن غيرت ... دعها كما جاء بها ربّها
__________
(1) البيتان في ديوان حسان بن ثابت ص 179.(3/59)
ونصل بهذا النّمط، ما قيل في نبيذ الزبيب، قال أبو الأسود الدؤليّ: [الطويل]
دع الخمر يشربها الغواة فإنّني ... رأيت أخاها مغنيا بمكانها (1)
فإن لا يكنها أو تكنه فإنّه ... أخوها غذته أمّه بلبانها
يقول: إن لا يكن الزبيب الخمر أو الخمر الزبيب، فإنهما أخوان غذيا بلبن واحد وهي الحبة التي هي أصل العنب والزبيب فأحدهما ينوب مناب الآخر، وأنشد الحامضي: [الطويل]
تركت الحميّا لست أختار شربها ... وما حاجتي في أن أسرّ الأعاديا
ولكنّ أخرى من نبيذ معتّق ... يمّنيك إن أكثرت منه الأمانيا
أخو الخمر من عنقودها غير أنهم ... إذا قطعوها جفّفوه لياليا
وقال المأمون: نقلت هذا المعنى بأبيات ملوكية لا تحضر السوقة بمثلها: [الوافر]
صلّى النّدمان يوم المهر جان ... بكأس من معتّقة الدّنان
بكأس خمر وإنّي عتيق ... فإنّ العبد عبد خمرواني
وجنبنّي الزّبيبين طرّا ... فشأن ذوي الزّبيب خلاف شأني
فأشربها وأزعمها حراما ... وأرجو عفوا ربّ ذي استنان
ويشربها ويزعمها حلالا ... وتلك على الشّقيّ خسارتان
سأل رجل شريحا القاضي: هل النبيذ حلال أم حرام؟ فقال: حلال، قال: قليله خير أم كثيره؟ قال: قليلة، قال الرجل: ما رأيت حلالا وقليله خير من كثيره إلا هذا.
وقال قتيبة بن مسلم لقاضي مرو: بلغني أنك شربت النبيذ، قال: نعم أصلحك الله! أشرب منه ما يسلّي العقل ويطيب النفس، ويغني عن الماء، ويهضم الطعام، قال: فما أبقيت؟ قال: أبقيت أخبثه وأردأه، الاتّكاء على الشمال، ومنادمة الرجال، والاختلاف إلى المبال.
وترك رجل النبيذ فقيل له: لم تركته وهو رسول السرور إلى القلب؟ قال: ولكنه بئس الرسول لم يبعث إلى الجوف فيذهب إلى الرأس.
* * * __________
(1) البيتان في ديوان أبي الأسود الدؤلي ص 162، 306، والبيت الأول في لسان العرب (كون)، وتاج العروس (كون)، وبلا نسبة في المخصص 13/ 219، والبيت الثاني في أدب الكاتب ص 407، وإصلاح المنطق ص 297، وتخليص الشواهد ص 92، وخزانة الأدب 5/ 327، 331، والرد على النحاة ص 100، وشرح المفصل 3/ 107، والكتاب 1/ 46، ولسان العرب (كون)، (لبن)، والمقاصد النحوية 1/ 310، وبلا نسبة في الإنصاف 2/ 823، وشرح الأشموني 1/ 53، والمقتضب 3/ 98، والمقرب 1/ 96.(3/60)
قوله لهذم: هو سنان الرّمح، بنت الكرم: الخمر، وتجهيزها: حملها، والطاس:
إناء الخمر كالإبريق يصبّ منه الشراب في الكأس، وجمعه طاسات، وقال الناشي:
وكأنما الطاسات ممّا حولها ... من نورها يسبحن في ضحضاح
لو بثّ في غسق الظلام ضياؤها ... طلع المساء بغرّة الإصباح
[مما قيل في الغناء]
وقدّم في المقامة أنه لا يجهزها إلا مصحوبة بالقينة، أي لا يشربها إلا بالغناء، وقد ذمّوا الغناء ومدحوه، فأما ذمه، فقال الكنديّ: الغناء برسام حادّ، لأن المرء يسمع فيطرب، فيسمح فيفتقر، فيغتمّ فيمرض فيموت.
وقال يزيد بن الوليد: إياكم والغناء فإنه يسقط المروءة، وينقص الحياء، ويبدي العورة، ويزيد في الشهوة، وإنه لينوب عن الخمر، ويصنع بالعقل ما يصنع به السّكر وأن كان ولا بد فجنّبوه النساء، فإنّ الغناء داعية الزنا.
وأما مدحه فقال ربيعة بن عبد الرحمن: السماع مطربة، وهو من نتيجة العقل، فمن كره السماع، دلّ بذلك على قلة عقله.
وقال بعض الفلاسفة، وجعلت اللّذات خمسا في خمس، فجعل اللمس لليدين والشم للمنخرين، والسمع للأذنين، والذوق للسان، واللون للعينين، وعلى كل جارحة تعب من اللذات إلا النّغمة، فإنه لا تعب على الأذنين فيها، ولذلك صار النّاس كلّهم عربيّهم وعجميّهم، صغيرهم وكبيرهم مشتركين في الإصاخة إلى النّغمة الحسنة، والصوت المستمتع، متباينين في غير ذلك، وقد يوجد أكثرها في أكثر الحيوان كالخيل يصفر لها عند الشرب، فتشرب والإبل يحدى لها فتنقاد، قال الشاعر: [الوافر]
فليس الشّراب إلّا بالملاهي ... وبالحركات في بّم وزير
فلا تشرب بلا طرب فإني ... رأيت الخيل تشرب بالصّفير
وقال آخر: [الخفيف]
فانظر إلى الإبل الّتي ... هي ويك أغلظ منك طبعا
تصغي إلى صوت الحدا ... ة فتقطع الفلوات قطعا
قوله: التغاضي أي التغافل، عربيد: سيىء الأخلاق عند سكره، وهو الّذي يؤذي بيده ولسانه أصحابه، رعديد: جبان فزاع. بون: فضل ومزّية من ذي علق، أي من صاحب محبّة هو مثل يضرب لمن ينظر بودّ ومحبة ابن طريف: العلق: الحبّ، وعلق فلان فلانة، أي أحبّها. والله الموفق.(3/61)
المقامة السّادسة والثلاثون الملطيّة
أخبر الحارث بن همّام قال: أنخت بملطيّة مطية البين وحقيبتي ملأى من العين فجعلت هجّيراي، مذ ألقيت بها عصاي أن أتورّد موارد المرح، وأتصيّد شوارد الملح فلم يفتني بها منظر ولا مسمع ولا خلا منّي ملعب ولا مرتع حتّى إذا لم يبق لي فيها مأرب، ولا في الثّواء بها مرغب، عمدت لإنفاق الذّهب في ابتياع الأهب، فلمّا أكملت الأعداد، وتهيّأ الظّعن فيها أو كاد، وجدت بها تسعة رهط قد سبئوا قهوة، وارتبؤوا ربوة، ودماثتهم قيد الألحاظ. وفكاهتهم حلوة الألفاظ، فنحوتهم طلبا لمنادمتهم لا لمدامتهم، وشغفا بممازجتهم لا بزجاجتهم.
* * * أنخت المطيّة: صيّرتها باركة بالأرض.
[ملطية]
ملطيّة: بلد بالجزيرة ذات أنظار وقرى، بينها وبين الرّقّة خمسون فرسخا، والرّقّة:
أمّ قرى الجزيرة، وذكرها المسعودي في شعره فقال: [الطويل]
ولم يحلبوها من وراء ملطية ... تصدّع أجبال بها وأكام
وقيل: ملطية في ثغره الشأم.
قال اليعقوبيّ: ملطية هي المدينة العظمى، وكانت قديمة فأخربها الرّوم، فبناها المنصور سنة تسع وثلاثين ومائة، وجعل عليها سورا واحدا، ونقل إليها عدّة قبائل من العرب، قال: وهي في مستو من الأرض يحيط بها جبال الروم، وماؤها من عيون وأودية من الفرات، وخفّفها المتنبي ضرورة فقال: [الطويل]
وكرّت فدّرت في دماء ملطية ... ملطية أمّ للبنين ثكول (1)
قوله: ملطيّة البين، يريد ناقة السفر، أي أقام بها وترك السفر. الحقيبة: وعاء
__________
(1) البيت في ديوان المتنبي 3/ 102.(3/62)
الرحل، والعين: الذهب. هجيراي: عادتي، وألقى بها عصاه، أي أقام بها وترك السفر.
أتورّد: أطلب وأدخل، وتوردت الإبل الماء: دخلته قطعة قطعة. والمرح: النشاط.
شوارد: نوافر، وأراد أنه أتبع نفسه جميع اللذات بملطّية وشاهدها، مرتع: موضع خصيب كثير الطعام، مأرب: حاجة. الثّواء: الإقامة. عمدت: قصدت، ابتياع الأهب:
اشتراء العدد للسّفر. الظّعن: الارتحال. الرّهط. الجماعة من ثلاثة إلى عشرة، سبؤوا قهوة: اشتروا. ارتبؤوا ربوة: طلعوا كدية، وقال الحسن: [الطويل]
وفتيان صدق قد صرفت مطيّهم ... إلى بيت خمّار نزلنا به ظهرا
أتينا يهوديا تجمّل ظاهرا ... ويضمر في المكنون من سرّاه الشّرّا
فجاء بها زيتيّة ذهبيّة ... فلم نستطع دون السّجود لها صبرا
خرجنا على أنّ المقام ثلاثة ... فطابت لنا حتى أقمنا بها شهرا
وقال في شراء الخمر بثيابه: [الطويل]
نجوت من اللص المغير بسيفه ... إذا ما رماه بالتّجار سبيل
واصلت خمّارا عليّ بخمرة ... فراح بأثوابي ورحت أميل
وقال الأمير تميم بن المعز: [الطويل]
شربنا على نوح المطوّقة الورق ... وأردية الرّوض الملفّفة البلق
معتّقة أفنى الزمان وجودها ... فجاءت كفوت الّلحظ أو رقّة العشق
كأنّ السحاب الغرّ أصبحن أكؤسا ... لنا وكأنّ الرّاح فيها سنا البرق
فبتنا نحثّ الكأس حثّا وإننا ... لنشربها بالحثّ صرفا ونستسقي
إلى أن رأيت النّجم وهو مغرّب ... وإقبال رايات الصّباح من الشّرق
كأنّ سواد الليل والفجر طالع ... بقيّة لطخ الكحل في الأعين الزّرق
وأحسن في هذا المعنى ما شاء، إلا أنه جعل شربنا في الرّوض على نوح الحمام، ولو عوّض من لفظ «النوح» لفظ الغناء أو التغريد لكان أتمّ للذّته، كما قال ابن الروميّ:
[الطويل]
وأذكى نسيم الروض ريعان ظلّه ... وغنّى مغنّي الطّير فرجّعا
وكانت أهازيج الذّباب هناكم ... على شدوات الطير صوتا موقّعا
وقال آخر: [الطويل]
وكأس كريق الإلف شعشعها به ... وعيشي من هذا الشّراب المشعشع
إذا ما شربنا كأسها صبّ فضلّها ... على روضنا للمسمع المتخلع
المسمع: المغنّي، يعني به الذباب الذي ذكره عنترة في قوله: [الكامل](3/63)
فترى الذباب بها يغني وحده ... هزجا كفعل الشّارب المترنّم (1)
وإنما ذكر الحريريّ الربّوة، لأن النّبات فيها أحسن وأسلم من نبات الانخفاض، لأن نبات الانخفاض وخم، قال الله تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصََابَهََا وََابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهََا ضِعْفَيْنِ} [البقرة: 265]، وقال المتنبي: [الطويل]
* نحن نبت الرّبّا وأنت الغمام (2) *
قوله: دماثتهم قيد الألحاظ، أي سهولة أخلاقهم تقيّد عيون الناظرين إليهم حتى لا ينظروا إلى غيرهم، قال ابن المعتز: [السريع]
منظره قيد عيون الورى ... فليس خلق يتلّقاه
نحوتهم: قصدتهم، شغفا: حبّا.
* * * فلمّا انتظمت عاشرهم، وأضحيت معاشرهم، ألفيتهم أبناء علات، وقذائف فلوات إلا أنّ لحمة الأدب، قد ألّفت شملهم ألفة النسب وساوت بينهم في الرّتب حتّى لاحوا مثل كواكب الجوزاء، وبدوا كالجملة المتناسبة الأجزاء، فأبهجني الاهتداء إليهم وأحمدت الطّالع الّذي أطلعني عليهم، وطفقت أفيض بقدحي مع قداحهم، وأستشفي برياحهم لأبراحهم، حتىّ أدتنا شجون المفاوضة، إلى التحاجي بالمقايضة، كقولك إذا عنيت به الكرامات: ما مثل النّوم فات فأنشأنا نجلو السّها والقمر، ونجني الشّوك والثّمر.
* * * انتظمت: سرت معهم في نظام واحد، والنظام الجوهر. معاشرهم: مصاحبهم ألفيتهم: وجدتهم، أبناء علّات، أي غرباء من بلاد مختلفة، وبنو العلّات: الذين أبوهم واحد وأمّهاتهم شتى قذائف فلوات، أي قد رمت بهم القفار، والطرق المختلفة واحدتها قذيفة، وهي التي يقدف أي يرمى بها. لحمة، أي قرابة. ألفت شملهم: أي جمعت
__________
(1) يروى صدر البيت:
وخلا الذباب بها فليس ببارح
وهو في ديوان عنترة ص 197، وأساس البلاغة (هزج).
(2) صدره:
أين أزمعت أيهذا الهمام
والبيت في ديوان المتنبي 3/ 343.(3/64)
متفرقهم، وجعل للأدب لحمة مجازا، وجعل الأدب يجمعهم كما يجمع بني العلّات الأب، والبلاد تفرّقهم، كما تفرّق بني العلّات الأمهات.
[المودة بين الشعراء]
وهذا نحو ما يحكى أنّ دعبلا ذكر عند عليّ بن الجهم فكفّره ولعنه، وقال: كان يظهر على أبي تمام وهو خير منه، دينا وشعرا، فقال له بعض من حضر: لو أن أبا تمام أخوك ما زدت على مدحك له، فقال: إن لم يكن أخي في النّسب، فهو أخي في المودّة والأدب، أما سمعت ما خاطبني به وأنشد لأبي تمام: [الكامل]
إن كان يجمعنا الإخاء فإننا ... نغدو ونسري في إخاء تالد (1)
أو يفترق نسب يؤلف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد
وكرّر أبو تمام هذا المعنى، فأحسن بقوله: [البسيط]
ذو الودّ مني وذو القربى بمنزلة ... وإخوتي أسوة عندي وخلّاني
عصابة جاورت آدابهم أدبي ... فهم وإن فرّقوا في الأرض جيراني
أرواحنا في مكان واحد وعدت ... أجسامنا في عرق أو خراسان
وأنشد إسحاق الموصلي: [الطويل]
يقولون لي هل من أخ أو قرابة ... فقلت لهم إن الشّكول أقارب
نسيبي في رأيي وعزمي ومذهبي ... وإن باعدتنا في الولاء المناسب
وليس أخي إلا الصحيح وداده ... ومن هو في وصلي وقربي راغب
وكان لسليمان بن وهب نديم يأنس به، فعربد عليه ليلة فاطّرحه وجفاه فوقف له بالطريق، فلما مرّ به وثب إليه، ثم قال: أيّها الوزير، لا تكن في أمري إلا كما قال عليّ ابن الجهم: [البسيط]
القوم أخدان صدق بينهم نسب ... من المودة لم يعدل به نسب
تراضعوا درة الصّهباء بينهم ... فأوجبوا لرضيع الكأس ما يجب
لا يحفظون على السّكران زلّته ... ولا يريبك من أخلاقهم ريب
فقال: قد رضيت عنك رضا صحيحا، فعد لشأنك.
قوله الرتب: أي المنازل الرفيعة، مثل كواكب الجوزاء، أي في الإضاءة والرفعة، والجملة المتناسبة الأجزاء، أي المتّفقة، يعني مقاديرهم في الفضل وغيره متساوية لا تفاضل بينهم، كالجملة التي لا مزية لبعضها على بعض، وأقل جملة حسابية أجزاؤها
__________
(1) البيتان في ديوان أبي تمام ص 86.(3/65)
متناسبة لا كسر في بعضها ولها النّصف والثلث والربع، والخمس والسدس والسبع والثمن والتسع والعشر هي ألفان وخمسمائة وعشرون، ونصفها ألف ومائتان وستون وثلثها وثلاثمائة ثمانمائة وأربعون، وربعها ستمائة وثلاثون، ألف وخمسها خمسمائة وأربعة، وسدسها أربعمائة وعشرون وسبعها ثلاثمائة وستون، وثمنها ثلاثمائة وخمسة عشر، وتسعها مائتان وثمانون وعشرها مائتان واثنان وخمسون.
قوله: أبهجني، أي أفرحني أحمدت: وجدته محمودا. الطّالع: النجم الذي يسعد به صاحبه وينحس على زعمهم. طفقت: أخذت. أفيض بقدحي: أضرب بسهمي، وهذا من فعل الميسر. وأراد أنه يمشي كلامه مع كلامهم ويدخل مداخلهم. أدّتنا: أوصلتنا.
شجون المفاوضة. طرق المراجعة في الكلام، والشجون في الكلام، تداخله، واختلاط بعضه ببعض، والتفاوض: الاندفاع في الحديث، وفي المثل: الحديث ذو شجون، أي ذو فنون وأصله من الشجر المشجون، وهو الشّجر الذي التفّ بعضه ببعض. التّحاجي:
التفاطن. المقايضة: المعاوضة والمقارضة. الكرى: النوم فات، بمعنى مات وأراد أنّ هذا النوع من الألغاز هو أن يؤتى بلفظ عوضا من لفظ آخر يتوارد معه على معنى واحد، والمماثلة التّي بينهما إنما هي موافقة المعنى. نجلو: نكشف. السها: نجم خفّي، وقرن السها في خفائه مع القمر في ظهوره، إنما يشير إلى قولهم في المثل: أريها السها وتريني القمر، وأواد أنهم يأتون بلفظة ظاهرة المعنى، وأخرى خفية، فلا يتمّ لهم شيء.
* * * وبينا نحن ننشر القشيب والرّثّ، وننسل السّمين والغثّ، وغل علينا شيخ قد ذهب حبره وسبره، وبقي خبره وسبره فمثل مثول من يسمع وينظر، ويلتقط ما تنثر، إلى أن نفضت الأكياس، وحصحص اليأس.
فلمّا رأى إجبال القرائح، وإكداء الماتح والمائح، جمع أذياله، وولانّا قذاله، وقال: ما كلّ سوداء تمرة، ولا كلّ صهباء خمرة، فاعتلقنا به اعتلاق الحرباء بالأعواد، وضربنا دون وجهته بالأسداد، وقلنا له: إنّ داء الشّقّ أن يحاض، وإلّا فالقصاص القصاص فلا تطمع أن تجرح وتطرح، وتنهر الفتق وتشرح، فلوى عنانه راجعا، ثمّ جثم بمكانه راصعا، وقال: أمّا إذا استثرتموني بالبحث، فلأحكم حكم سليمان في الحرث.
* * * القشيب: الثوب الجديد. الرّثّ: الخلق: ننشل: نخرج النشيل، وهو لحم يطبخ بلا تابل ثم ينشل، أي يخرج بالمنشل، وهو حديدة معقفة، ذهب حبره وسبره: هيئته
ولونه، قال الفراء: من قولهم: جاءت الإبل حسنة الإحبار والإسبار، قال الأصمعي رحمه الله: هي الجمال والبهاء وآثار النعمة، يقال: فلان حسن الحبر والسّبر، إذا كان جميلا حسن الهيئة، وفي الحديث: يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره، أي قد ذهب جماله وبهاؤه، وسمي الحبر حبرا لأنه يزين الكتاب، ويحسن القرطاس، وحبّرت الشيء زينته، وقيل إنه سمّي حبرا لأنه يؤثر في القرطاس، فيكون علامة فيما يقع فيه، ويقال للأثر حبرة وحبار.(3/66)
* * * القشيب: الثوب الجديد. الرّثّ: الخلق: ننشل: نخرج النشيل، وهو لحم يطبخ بلا تابل ثم ينشل، أي يخرج بالمنشل، وهو حديدة معقفة، ذهب حبره وسبره: هيئته
ولونه، قال الفراء: من قولهم: جاءت الإبل حسنة الإحبار والإسبار، قال الأصمعي رحمه الله: هي الجمال والبهاء وآثار النعمة، يقال: فلان حسن الحبر والسّبر، إذا كان جميلا حسن الهيئة، وفي الحديث: يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره، أي قد ذهب جماله وبهاؤه، وسمي الحبر حبرا لأنه يزين الكتاب، ويحسن القرطاس، وحبّرت الشيء زينته، وقيل إنه سمّي حبرا لأنه يؤثر في القرطاس، فيكون علامة فيما يقع فيه، ويقال للأثر حبرة وحبار.
والسّبر: الأصل واللون والهيئة والمنظر، والسّبر ما يدلّ به على لون الدابة وكرمها، ويروي حبره وسبره، بكسر أوّلهما وفتحه، فإذا كسرا كانا اسمين، وإذا فتحا كانا مصدرين، وحبره علمه، وسبره قياسه، مثل: تمثّل قائما. الأكياس: أوعية الدراهم، ونفضت: ألقي ما فيها، وأراد فارغ كلامهم. وحصحص: تبيّن، اليأس: ضد الرّجاء.
إجبال القرائح: انقطاعها عن الكلام. إكداء: صعوبة، وأصل هذا في البئر، فأوّل ما يرشح من مائها هو القريحة، ثم نقل إلى الطّبيعة والذهن، وأجبل الحافر: إذا حال بينه وبين الماء جبل، وأكدى: حال بينه وبينه كدية، والجبل والكدية حجارة وصلابة تعرض في البئر، لا يمكن حفرها معها، ثم يقال: أكدى أي قّل خيره وأجبل الشاعر، أي انقطع شعره. وأكدى فلان عطائي، أي قطعه وقلّل خيره، ومنه قوله تعالى: {وَأَعْطى ََ قَلِيلًا وَأَكْدى ََ} [النجم: 34]. والماتح: المستسقي على فم البئر، والمائح: النازل إلى قعرها ليملأ الدّلاء ويفرّق بينهما بنقطتي الحرف الّذي قبل آخرهما، فمتى كانتا فوق الحرف، فالمستسقي فوق البئر لكثرة الماء، ومتى كانتا تحته فالمستسقي في قعر البئر ليملأ الدلو بيده، وذلك لقلّة الماء، وإذا تكاثرت الدّلاء عليه، وكثر صياح النّاس عليه من رأس البئر، وكل يرغبه ليملأ دلوه، فيأخذ دلو من لا مال له فيضرب به رجا البئر، أي جانبه ليرتدع الناس عنه، ثم يضرب مثلا للمهان، قال الشاعر: [الوافر]
فلا يرمى بي الرّجوان إنّي ... أقلّ القوم من يغني مكاني (1)
وقالت جارية من العرب تستعطفه: [الرجز]
يأيّها المائح دلوي دونكا ... إنّي رأيت النّاس يحمدونكا (2)
__________
(1) البيت لعبد الرحمن بن الحكم في الاقتضاب في شرح أدب الكاتب ص 366، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص 257، ولسان العرب (رجا).
(2) الرجز لجارية من بني مازن في الدرر 5/ 301، وشرح التصريح 2/ 200، والمقاصد النحوية 4/ 311، وبلا نسبة في لسان العرب (ميح)، وأسرار العربية ص 165، والأشباه والنظائر 1/ 344، والإنصاف ص 228، وأوضح المسالك 4/ 88، وجمهرة اللغة ص 574، وخزانة الأدب 6/ 200، 201، 207، وذيل السمط ص 11، وشرح الأشموني 2/ 491، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 532، وشرح شذور الذهب ص 522، وشرح عمدة الحافظ ص 729، وشرح المفصل 1/(3/67)
ومن أمثالهم: أبصر من المائح يا ستّ الماتح.
وأنشد الفنجديهيّ: [السريع]
يا مائح العين عدمت الرّدى ... من حوض هذي العين كم تستقي
من شيمة الماء انحدار فلم ... ماء جفوني أبدا يرتقي
قوله: جمع أذياله: شمر ثيابه للقيام. قذاله: قفاه.
ما كلّ سوداء تمرة، مثل. والسوداء تستعمل للتمرة والفحمة فيقول: ما كل الكلام سهل فتتعاطونه وما كلّ ما جئتم به بفائق فيدخل في باب المقايضة، وهو مثل يضرب في موضع التهمة.
والصهباء: من أسماء الخمر، والصّهبة أن تعلو الحمرة شقرة وأصوله سود.
[مما قيل في الحرباء شعرا]
الحرباء: دوّيبّة تستقبل الشمس بوجهها إذا استوت في كبد السماء، وإن لم يتأتّ لها الفرصة بوجهها تململت وتقلّبت، ولم تزل في قلق حتى تميل الشمس، فتستقبلها أعني قرصها بوجهها حتى تغرب وهي في طول يومها، لا تأكل شيئا، فإذا جاء الليل ذهبت تبغي ما تأكل، والأنثى منها حرباءة.
وقال أبو عبيدة: الحرباء تستقبل الشمس برأسها أبدا، يقال: إنما تفعل ذلك لتقي جسدها برأسها، وقيل: الحرباء ذكر أمّ حبين، وفي صدره استرخاء وقرب من الأرض، فإذا حميت الأرض بالشمس خاف على صدره أن تحرقه الأرض للزوقه بها، فيصعد على عود شجرة، فليتزمه بيديه، ويجعله بينه وبين الشمس، ويضرب به المثل في التّشبث بما تعّلق به، وذلك أنّه إذا تعلّق بعود التزمه، وقبض عليه فلا يفارقه، حتى يستوثق من آخر، فيضرب المثل به، فيقال: أحزم من الحرباء. وقال قيس بن الحدادية: [البسيط]
بانت سعاد فأمسى القلب مشتاقا ... وأقلقتها نوى الإزماع إقلاقا
واحتثّ حاديهم بزلا مخيسّة ... كوم الذّرا مدد الأعضاد أفياقا (1)
أنّى أتيح لها حرباء تنضبة ... لا يرسل الساق إلا ممسكا ساقا
والساق: ساق الشجرة، والتّنضب: شجر يتعلّق بأعواده الحرباء، فيقال حرباء
__________
117، ومعجم ما استعجم ص 416، ومغني اللبيب 2/ 609، والمقرب 1/ 137، وهمع الهوامع 2/ 105، وتهذيب اللغة 5/ 279، ومقاييس اللغة 5/ 287.
(1) البيت الثالث لأبي دؤاد الإيادي في ديوانه ص 236، ولسان العرب (حرب)، والتنبيه والإيضاح 1/ 60، وتاج العروس (سوق)، وجمهرة الأمثال 1/ 408، وللحارث بن دوسر في المستقصى 2/ 269، وبلا نسبة في لسان العرب (نضب)، (سوق)، (علق)، والمخصص 4/ 25، 8/ 103، وتاج العروس (نضب)، (علق)، وديوان المعاني 1/ 138، والحيوان 6/ 367.(3/68)
تنضبه، كما يقال: ذئب غضى. وقال الأزهري رحمه الله تعالى: الحرباء دويّبة على خلقة سام أبرص، ذات أربع قوائم دقيقة الرأس مخطّطة الظهر، وأكثر الشعراء من ذكر الحرباء وتشبيهها، ومن جيّد ذلك قول ذي الرّمّة: [الطويل]
ودوّيّة جرداء جدّاء خيّمت ... بها هفوات الّصيف من كلّ جانب (1)
كأنّ يدي حربائها متشّمسا ... يدا مذنب يستغفر الله تائب
وقال آخر: [الطويل]
وقد جعل الحرباء يصفرّ لونه ... ويخضرّ من لفح الهجير غباغبه (2)
ويشبح بالكفّين حتى كأنه ... أخو فجوة عالي به الجذع صالبه
وقال أيضا: [الطويل]
يظلّ بها الحرباء للشمس مائلا ... على الجذل إلّا أنه لا يكبّر (3)
إذا حوّل الظلّ العشيّ رأيته ... حنيفا وفي قرن الضّحى ينتصّر
غدا أكهب الأعلى وراح كأنه ... من الضّحّ واستقباله الشمس أخضر
أخبر أنه يدور مع الشمس في وقت الزوال، حتى تكون الشمس في حذاء القبلة، فكأنّه باستقباله لها في ذلك الوقت مسلم يصلّي لها، وفي الضّحى تكون في وجه المشرق، فكأنّه نصرانيّ فيستقبلها بصلاته.
قال ابن الروميّ: [الكامل]
ما بالها قد حسنت ورقيبها ... أبدا قبيح قبح الرّقباء
ما ذاك إلّا أنّها شمس الضحى ... أبدا يكون رقيبها الحرباء
قوله: وجهته، أي جهته. والسدّ: الحاجز بين الشيئين. يحاص: يخاط، ويقال:
حاص ثوبه وعين صقره وشقوق رجليه حوصا وحياصة: خاطها، وقيل: الحوص:
__________
(1) البيتان في ديوان ذي الرمة ص 78.
(2) يروى البيت الأول:
إذا جعل الحرباء يبيضّ رأسه ... وتحضرّ من شمس النهار غباغبه
وهو بلا نسبة في لسان العرب (غبب)، والمخصص 8/ 35، وتاج العروس (غبب).
(3) البيت الأول في ديوان ذي الرمة ص 631، ولسان العرب (حول)، ولزهير بن أبي سلمى في لسان العرب (مثل)، وتاج العروس (مثل)، وليس في ديوان زهير، والبيت الثاني في ديوان ذي الرمة ص 632، ولسان العرب (حول)، (ولى)، وتهذيب اللغة 15/ 452، وديوان الأدب 2/ 381، وتاج العروس (حول)، والبيت الثالث في ديوان ذي الرمة ص 633، ولسان العرب (ضحح)، وتاج العروس (ضحح)، وديوان الأدب 3/ 30.(3/69)
الخياطة بعد رقعة، ولا يكون إلا في جلد، وأنشد يعقوب: [الرجز]
ترى برجليه شقوقا في كلع ... من بارىء حيص ودام منسلع (1)
الكلع: الوسخ، ومنسلع: متشقق. القصاص: أخذ الحق في الجنايات. وتنهر:
توسّع فترده كالنّهر. الفتق: الخرق. وتسرح: تذهب. لوى عنانه: أماله وعطفه. جثم:
برك. راصعا: لا صقا بالأرض والرّصع: تباعد ما بين الركبتين، ورصع بالشيء يرصع رصوعا إذا لازمه. استثرتموني: طلبتموني واستخرجتم ما عندي. والبحث: المناقشة في السؤال، وأصله الصّيد تقول: استثرت الصيد إذا بحثت عليه حتى تقيمه من مرقده.
[حكم سليمان في صاحب الحرث وصاحب الغنم]
قوله: حكم سليمان في الحرث. كان سليمان عليه السلام، فيما ذكروا أبيض، وضيئا، جسيما كثير الشّعر، يلبس من الثياب البياض. فلما بلغ مبلغ الرجال، كان أبوه في أيام ملكه يشاوره في أموره، وكان هذا الحكم فيما ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلين دخلا على داود عليه السلام، أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: يا نبيّ الله، انفلتت غنم هذا في زرعي ليلا، فرتعت في حرثي، فلم تستبق منه شيئا، فقال له داود: اذهب، فإن الغنم لك، فملّكه رقابها بما أكلت من حرثه، فلما خرجا من عنده خطرا على سليمان عليه السلام، فأخبراه بقضاء أبيه، فقال: لو وليت أمركما لقضيت بغير هذا. فأخبر داود عليه السلام، فدعاه وقال له:
كيف كنت تقضي بينهما؟ فقال: أدفع الغنم إلى صاحب الحرث، فيكون له رسلها ونسلها وصوفها، ويبذر صاحبه لصاحب الحرث مثل حرثه، فإذا صار الزرع كهيئته يوم أكل، أخذ غنمه. فقال داود: القضاء ما قضيت به، وحكم بقضاء سليمان عليهما السلام.
وقال ابن مسعود وشريح ومقاتل: أراد بالحرث الكرم، وأن الغنم أكلت قضبانه، فأفسدته، فحكم بها داود لصاحب الكرم، ولم يكن بين الغنم والكرم تفاوت، فمرّوا بسليمان عليه السلام، وهو ابن إحدى عشرة سنة، فقال: يعمل الراعي في إصلاح الكرم حتى يعود كهيئته، ثم يأخذ غنمه.
ومن عجائب حكم سليمان عليه السلام ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: بينا امرأتان معهما ابناهما، إذ جاء الذئب، فذهب بأحدهما، فقالت: هذه إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنّما ذهب بابنك، فاختصما إلى داود عليه السلام، فقضى به للكبرى فمرّتا على سليمان، فأخبرتاه، فقال عليه السلام: «ائتياني
__________
(1) الرجز لحكيم بن معية في لسان العرب (سلع)، (كلع)، وله أو لأبي محمد الفقعسي في تاج العروس (سلع)، ولسان العرب (طبع)، ولعكاشة السعدي في تاج العروس (كلع)، وبلا نسبة في لسان العرب (قسس)، وديوان الأدب 2/ 425.(3/70)
بسكين أشقّه بينكما، فقالت الصغرى: لا وير حمك الله، هو ابنها، فقضى به للصّغرى» (1)
قال أبو هريرة رضي الله عنه: والله إن كنت سمعت بالسكين قبل ذلك، ما كنت أقول إلا المدّية.
قوله: الشمائل: الخلائق والطباع. والشّمول الذهبية: الخمر الحمراء.
* * * [مما قيل في الخمر شعرا]
وذكر في هذه المقامة أنهم سبؤوا قهوة، وذكرها هنا أنها في لونها حمراء، والعرب تتمدّح بشرب الخمر السبيئة، وتصفها بالحمرة، كقول الأعشى، وهو في أوصافها في الجاهليّين، كالحسن في الإسلاميين، وحبّه فيها صدّه عن الإسلام: [الكامل] وسبئيّة ممّا تعتّق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها (2)
وقوله: [المتقارب]
فقمنا ولمّا يصح ديكنا ... إلى خمرة عند حدّادها (3)
فقلت له: هذه هاتها ... بأدماء في حبل مقتادها
فقام فصبّ لنا قهوة ... تسكّننا يعد إرعادها
كميت تكشّف عن حمرة ... إذا ضرّجت بعد إزبادها
فجال علينا بإبريقه ... مخضّب كفّ بفرصادها
فرحنا تنعّمنا نشوة ... تجوز بنا بعد إقصادها
وقال أبو ذؤيب: [الطويل]
ولا الرّاح راح الشام جاءت سبيّة ... لها غاية تهدي الكريم عقابها (4)
__________
(1) أخرجه البخاري في الأنبياء باب 40، والفرائض باب 30، ومسلم في الأقضية حديث 20، والنسائي في القضاة باب 14، 15، وأحمد في المسند 2/ 322، 340.
(2) البيت في ديوان الأعشى ص 77، وتهذيب اللغة 1/ 211، ومقاييس اللغة 1/ 425، 4/ 221، وأساس البلاغة (جرل)، ولسان العرب (عتق)، (جرل)، وتاج العروس (عتق)، (جرل)، وكتاب العين 1/ 146، وفيه «حربالها» بدل «جريالها» وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 1099، والمخصص 11/ 210، ويروى «وسبيئة» بدل «وسبئيّة».
(3) الأبيات في ديوان الأعشى ص 119، والبيت الأول في لسان العرب (حدد)، وهو بلا نسبة في مجالس ثعلب ص 267، والبيت الثاني في لسان العرب (رمم)، ومقاييس اللغة 2/ 379، وأساس البلاغة (قود)، والبيت الرابع في لسان العرب (صرح)، (صفق) ومقاييس اللغة 3/ 347، وكتاب العين 3/ 116.
(4) البيت الأول لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين 1/ 44، ولسان العرب (عقب)، (سبي)،(3/71)
عقارها كما التّبر ليست بخمطة ... ولا خلّة يكوي الشروب شهابها
وقال الحسن: [الطويل]
وخمّار أنخت عليه ليلا ... قلائص قد تعبن من السّفار
فجمجم والكرى في مقلتيه ... كمخمور شكا ألم الخمار
ابن لي كيف سرت إلى حريمي ... وثوب اللّيل مصبوغ بقار
فقلت له ترفّق بي فإني ... رأيت الصّبح من خلل الدّيار
فكان جوابه أن قال كلّا ... وما صبح سوء صبح العقار
وقام إلى الدّنان فسدّ فاها ... فعاد الليل مسدول الإزار
وقال عبد الصمد: [الطويل]
وخيمة ناظور تحفّ بروضة ... يحييك منها وردها والبنفسج
وأشمط أعلى وسطها بعد هجعة ... تراه بها من قره يتشنّج
دعوت فلبيّ وهو بالصوت عارف ... وأقبل نحو الباب يزهو ويهرج
فقلت له المصباح إن كنت مسرجا ... فقال: قفوا فالخمر في الكأس تسرج
* * *
اعلموا يا ذوي الشّمائل الأدّبيّة، والشّموع الذهبيّة، أنّ وضع الأحجيّة، لامتحان الألمعيّة، واستخراج الخبيّة الخفيّة، وشرطها أن تكون ذات مماثلة حقيقيّة، وألفاظ معنوّية، ولطيفة أدبيّة فمتى نافت هذا النّمط، ضاهت السّقط، ولم تدخل السّفط ولم أركم حافظتم على هذه الحدود، ولا مزتم بين المقبول والمردود، فقلنا له: صدقت، وبالحقّ نطقت فكل لنا من لبابك، وأفض علينا من عبابك فقال: أفعل لئلّا يرتاب المبطلون، ويظنّوا بي الظّنون.
* * * قوله: «لامتحان الألمعية»، أي لاختبار الفطنة. نافت: باعدت. النّمط: النوع، يقال: الزم هذا النّمط، أي هذا المذهب والفنّ والطريق. ضاهت: شابهت. السّقط:
رديء المتاع وما لا يعبأ به. والسّفط: وعاء لجميع الثياب الرفيعة، وسفط العلوم:
الكتب، أي لم تكتب ولم تدوّن في الكتب. مزتم: فرّقتم. لبابك: خالص ما عندك.
أفض: صبّ. عبابك: بحرك، وعبّ البحر عبابا هاج واضطرب: يرتاب: يشكّ.
* * * __________
والبيت الثاني لأبي ذؤيب في شرح أشعار الهذليين ص 45، ولسان العرب (نبأ)، (خمط)، (خلل)، والمخصص 11/ 8.(3/72)
ثمّ قابل ناظورة القوم، وقال: [المجتث]
يا من سما بذكاء ... في الفضل واري الزّناد
ماذا يماثل قولي: ... جوع أمدّ بزاد
ثم ضحك إلى الثاني وأنشد: [المجتث]
يا ذا الّذي فاق فضلا ... ولم يدنّسه شين
ما مثل قول المحاجي: ... ظهر أصابته عين
ثم لحظ الثالث وأنشأ يقول: [مجزوء الرجز]
يا من نتائج فكره ... مثل النقود الجائزه
ما مثل قولك للّذي ... حاجيت: صادف جائزه
ثم أتلع إلى الرابع وقال: [الهزج]
أيا مستنبط الغام ... ض من لغز وإضمار
ألا أكشف لي ما مثل: تناول ألف دينار
ثم رمى إلى الخامس ببصره، وقال: [مجزوء الرجز]
يأيّهذا الألمعيّ ... أخو الذّكاء المنجلي
ما مثل أهمل حلية ... بيّن هديت وعجّل
ناظورة القوم: كبيرهم الّذي ينظرون إليه. سما: ارتفع. ذكاء: جودة الذّهن.
واري: مبدي النار، أي زنده متى ضرب أورى نارا. فاق: فضل غيره. النتائج: ما يولّده الفكر من الكلام. النقود: الدراهم. أتلع: مهّد عنقه ونصبه، وتلع الرجل يتلع تلعا:
أخرج رأسه من شيء كان فيه. مستنبط: مستخرج. الغامض: الخفيّ، وغمض غموضا:
دقّ وأحوج إلى النظر، والألمعيّ: هو الذّكي، أي صاحب الفطنة.
* * * ثم التفت لفت السادس وقال: [مجزوء الكامل]
يا من تقصّر عن مدا ... هـ خطا مجاريه وتضعف
ما مثل قولك للّذي ... أضحى يحاجيك: أكفف أكفف
ثم خلج السابع بحاجبه وقال: [مخلع البسيط]
يا من له فطنة تجلّت ... ورتبة في الذّكاء جلّت
بيّن فما زلت ذا بيان ... ما مثل قولي: الشّقيق أفلت
ثم استنصت الثّامن وأنشد: [مجزوء الكامل](3/73)
يا من له فطنة تجلّت ... ورتبة في الذّكاء جلّت
بيّن فما زلت ذا بيان ... ما مثل قولي: الشّقيق أفلت
ثم استنصت الثّامن وأنشد: [مجزوء الكامل]
يا من حدائق فضله ... مطلولة الأزهار غضّه
ما مثل قولك للمحاجي ... ذي الحجى: ما اختار فضّه
ثم حدج التاسع ببصره، وقال: [مجزوء الكامل]
يا من يشار إليه في ال ... قلب الذّكيّ وفي البراعة
أوضح لنا ما مثل قو ... لك للمحاجي: دس جماعه
قال الرّاوي: فلمّا انتهى إليّ، هزّ منكبيّ، وقال: [مجزوء الكامل]
يا من له النّكت التي ... يشجي الخصوم وينكت
أنت المبين فقل لنا ... ما مثل قولي: خالي اسكت
التفت لفت، أي قصد قصده بالنظر، ولفت عنقه إليّ، أي لواها ناظرا إليّ. مداه:
غايته. خلج: غمز، وقال الراجز: [الرجز]
* قد خلجت بحاجب وعين (1) *
تجّلت: ظهرت. جّلت: عظمت. واستنصت: سكّت. حدائق: بساتين مطلولة:
أصابها الطلّ. غضّة: ناعمة. الحجا: العقل. حدج: رمى. البراعة: الفصاحة ووفور العقل. يشجي: يغصّ، والغصص: الاختناق. ينكت: يقلبهم على رؤوسهم، وطعنه فنكته: ألقاه على رأسه، وعند القضاعيّ يشجي، وينكت، أي يسكت على ذلك.
* * * ثمّ قال: قد أنهلتكم وأمهلتكم، وإن شئتم أن أعلّكم عللتكم.
قال: فألجأنا لهب الغلل، إلى استسقاء العلل فقال: لست كمن يستأثر على نديمه، ولا ممّن سمنه في أديمه. ثم كرّ على الأول وقال: [مخلع البسيط]
يا من إذا أشكل المعمّى ... جلته أفكاره الدقيقه
إن قال يوما لك المحاجي: خذ تلك ما مثله حقيقه
ثمّ ثنى جيده إلى الثاني، وقال: [مجزوء الرجز]
يا من بدا بيانه ... عن فضله مبيّنا
__________
(1) الرجز لحبينة بن طريف العكلي في لسان العرب (خلج)، والتنبيه والإيضاح 1/ 202، وتاج العروس (خلج).(3/74)
ماذا مثال قولهم: ... حمار الوحش زيّنا
ثم أوحى إلى الثالث بلحظه، وقال: [مجزوء الكامل]
يا من غدا في فضله ... وذكائه كالأصمعي
ما مثل قولك لّلذي ... حاجاك: أنفق تقمع
ثم حملق إلى الرابع وأنشد:
يا من إذا ما عويص ... دجا أنار ظلامه
ماذا يماثل قولي: ... استنش ريح مدامه
ثم أومض إلى الخامس، وقال:
يا من تنزّه فهمه ... عن أن يروّي أو يشكّا
ما مثل قولك للذي ... أضحى يحاجي: غطّ هلكي
* * *
أنهلتكم: أسقيتكم، والنّهل: الشّرب الأوّل، والعلل: الشرب الثاني أعلّكم:
أسقيكم عللا. لهب الغلل، أي حرّ العطش. يستأثر، أي يخصّ نفسه بشيء دون أصحابه. سمنه في أديمه: أي خيره موقوف عليه، والأديم هنا: زقّ السمن، وأصل المثل: سمنكم هريق في أديمكم، أي خيركم موقوف عليكم قاله أبو عبيدة. وخطأ البكريّ في تفسير الأديم بالزّقّ، وقال: إنّما الأديم هنا طعامكم المأدوم، فعيل بمعنى مفعول، أي خيرهم راجع إليهم، وهو قول الأزهريّ رحمه الله ولم ينكر الأوّل، وهو مثل يضرب للبخيل ولمن لا يتعدّاه خيره، وينفق على نفسه دون غيره. وقمعه يقمعه: ضربه بالمقمعة، أي قهره وكفّه، وقمع الشراب وأقمع: مرّ في الحلق مرّا بغير جرع. كرّ:
عطف: جيده: عنقه. أوحى: أشار. حملق: أحدّ النّظر. عويص: صعب. دجا: اسودّ.
أنار: جعل فيه النور. تنّزه: تباعد. يروّي: يفكر، وقد روّأت الحديث، إذا دبّرته وهيّأته.
* * * ثم أقبل إلى السادس، وأنشد: [مجزوء الخفيف]
يا أخا الفطنة الّتي ... بان فيها كماله
سار بالّليل مدّة ... أيّ شيء مثاله
ثم نحا بصره إلى السابع، وقال: [المجتث]
يا من تحلّى بفهم ... أقام في النّاس سوقه
لك البيان فبيّن ... ما مثل: أحبب فروقه
ثمّ قصد قصد الثامن، وأنشد: [مجزوء الكامل](3/75)
يا من تحلّى بفهم ... أقام في النّاس سوقه
لك البيان فبيّن ... ما مثل: أحبب فروقه
ثمّ قصد قصد الثامن، وأنشد: [مجزوء الكامل]
يا من تبوّأ ذروة ... في المجد فاقت كلّ ذروه
ما مثل قولك: أعط إب ... ريقا يلوح بغير عروه
ثم ابتسم إلى التاسع، وقال: [مجزوء الكامل]
يا من حوى حسن الدّرا ... يه والبيان بغير شكّ
ما مثل قولك للمحا ... جي ذي الذّكاء: الثور ملكي
ثم قبض بجمعه على ردني، وقال: [الكامل]
يا من سما بثقوب فطنته ... في المشكلات ونور كوكبه
ماذا مثال صفير جحفلة ... بيّنه تبيانا ينمّ به
* * *
بان: تبين. تحلّى: تزيّن. تبوّأ: نزل. والذّروة: أعلى الشيء. ثقوب:
نفوذ.
* * * قال الحارث بن همّام: فلمّا أطربنا بما سمعناه، وطالبنا مكاشفة معناه. قلنا له: لسنا من خيل هذا الميدان، ولا لنا بحلّ هذه العقد يدان، فإن أبنت مننت، وإن كتمت غممت. فظلّ يشاور نفسيه، ويقلّب قدحيه، حتى هان بذل الماعون عليه.
فأقبل حينئذ على الجماعة وقال: يا أهل البلاغة والبراعة، سأعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون، ولا ظننتم أنّكم تعلّمون. فأوكوا عليه الأوعية، وروّضوا به الأندية. ثم أخذ في تفسير صقل به الأذهان، واستفرغ معه الأردان، حتّى آضت الأفهام أنور من الشّمس، والأكمام كأن لم تغن بالأمس.
* * * أبنت: بيّنت. مننت: أفضلك علينا. نفسيه: أراد أنّه يردّد رأيه: هل يفعل أو لا يفعل؟ فكأنّ له نفسين، يردّد المشورة عليهما حتى يظهر لهما الرأي الأرجح فيهما فيبني عليه. وقال حويرث العبديّ: [الطويل](3/76)
لكلّ أمرىء نفسان نفس كريمة ... ونفس فيعصيها الفتى أو يطيعها
وقد تقدّم معنى يقلّب قدحيه. الماعون: المعروف، وقال يونس: الماعون في الجاهليّة: كلّ عطيّة ومنفعة، وفي الإسلام الزكاة والطاعة. وقال ابن عباس: الماعون المعروف كلّه حتى ذكر القدر والقصعة والفأس.
وحكى الفنجديهيّ عن ابن عباس: الماعون العاريّة، وقال الماعون: اسم جامع لمنافع البيت، كالقدر والفأس والماء والملح ونحوها، وقال الأعشى: [المتقارب]
بأجود منه بماعونه ... إذا ما سماؤهم لم تغم (1)
والأظهر فيه، أنّه من العون، وأصله معوون بوزن «مفعول»، فقدّمت الواو التي بعد العين، فصار موعون، ثم قلبت ألفا كما قيل: يا جل. وحكى الغراء عن بعض العرب:
الماعون الماء، فيكون على هذا مفعولا من العين، ويعلّ كما علّ من العون، أو يكون فاعولا، من معن الماء، إذا سال. وهو أيضا قول من اشتقه من قولهم: ممعن هربا، أو من قولهم: عين معين. قال قطرب: ماعون فاعول من المعن، وهو الشيء اليسير، ومنهم من قال: أصله معونة، والألف بدل الهاء.
قوله: أوكوا: أي شدّوا. روّضوا: زيّنوا، واجعلوها مثل الرياض. الأردان:
الأكمام. آضت: رجعت أذهانهم مضيئة بالفهم وزال عنها الالتباس. تغن بالأمس، يريد أنّ أكمامهم كانت بالأمس ممتلئة بالدراهم، فتفرّغت اليوم إذ وهبوا له ما فيها.
* * * ولما همّ بالمفرّ، سئل: أين المفرّ؟ فتنفّس كما تتنفّس الثّكول، ثم أنشأ يقول: [مجزوء الرمل]
كلّ شعب لي شعب ... وبه ربعي رحب
غير أنّي بسروج ... مستهام القلب صبّ
هي أرضي البكر والجوّ ... الّذي منه المهبّ
وإلى روضتها الغنّا ... ء دون الرّوض أصبو
ما حلالي بعدها حل ... وو لا اعذوذب عذب
قال الرّاوي: فقلت لأصحابي: هذا أبو زيد السّروجي، الّذي أدنى ملحه
__________
(1) البيت في ديوان الأعشى ص 89، ولسان العرب (معن)، وتاج العروس (معن).(3/77)
الأحاجي، وأخذت أصف لهم حسن توشيته. ثمّ التفتّ فإذا به قد طمر، وناء بما قمر فعجبنا مما صنع إذ وقع، ولم ندر أين سكع وصقع.
* * * المفرّ: المهرب. المقرّ: المنزل والبلد. الثّكول: المرأة الثّكلى الفاقدة لأحبابها.
شعب، أي طريق، أي كلّ بلد لي بلد. ربعي رحب، أي منزلي متّسع. المستهام: الذي غلب الحبّ على قلبه فخرج هائما على وجهه لا يدري أين يتوجّه، وهام يهيم: ذهب عقله فخرج في غير الطريق، وقيل: الهائم: العليل القلب، الّذي يجد في قلبه هياما، وهو وجع يجده البعير، فلا يروى من شرب الماء: قال عروة بن حزام: [الطويل]
بي اليأس أو داء الهيام أصابني ... فإيّاك عنّي لا يكن بك ما بيا (1)
أو يكون من التهويم، وهو هجوم النوم، وهو في الأوجه الثلاثة اسم مفعول، وكان قياسه مستهيما إلّا أنه لما كان كأنه مغلوب على ذلك، جاء على هذا وحذف «به» لدلالة المعنى. والصّبّ: العاشق. البكر: التي ولدت بها. الجوّ: اسم لنواحي السماء. مهبّ الريح: موضع هبوبها من الجوّ، وأراد بلدته التي يجيء منها ويخرج عنها للبلاد. الغنّاء:
الكثيرة الأشجار، وتقدّمت علّتها. أصبو: أميل. أدنى: أقل. توشيته: تزيينه كلامه.
مشيئته: إرادته. طمر: وثب، وهو من الأضداد يقال: طمرت الشيء: سترته، وطمر الجرح سفل وعلا أيضا، ومنه قيل للبرغوث طامر، لنزوّه وارتفاعه. ناء: نهض. قمر:
حازه بالقمار. سكع: مشى مشي المتعسّف. صقع: ذهب، وقيل: لم يدر أين ذهب.
والسّكع: الذهاب على غير هداية، والصّقع: الناحية من الأرض، وما أدري أين صقع، أي أيّ ناحية قصد من الأرض.
* * * [في تفسير الأحاجي]
إذا أردت أن تعرف المماثلة في هذه الأحاجي فتنظر «جوع أمدّ بزاد» فتقابله بطوامير، فتقسم هذه اللفظة، فتقابل القسم الأول وهو «طوا» بقولك: «جوع» فتجده مثله في المعنى، وتقابل بالقسم الثاني، وهو «مير» قولك: «أمد بزاد»، فتجده مثله في المعنى، والمير الإمداد بالزاد، ومير الرجل: أعطى نفقة وقوتا لعياله، فهذه المماثلة
__________
(1) يروى عجز البيت:
فإيّاك عني لا أصبك بدائيا
وهو برواية المؤلف لمجنون ليلى في ديوانه ص 228، وبالرواية الأخرى لعروة بن حزام في مقدمة ديوانه ص 77، وسمط اللآلي ص 950، ولسان العرب (سلل)، وتاج العروس (سلل)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 995، 1109، والمخصص 14/ 22.(3/78)
الحقيقية التي قدّم، وكذلك تقابل «ظهر أصابته عين» بقولك: «مطاعين»، فتجد المطا الظهر، وعين الرجل: أصيب بالعين، وكذلك صادف جائزة، هي ألفي صلة، وألفي هي: صادق، والجائزة هي الصّلة، تصل بها من قصدك. وإن تركت الألفاظ منظومة بغير تقسيم، ينتج منها معنى آخر فيقال لك: ما الطوامير؟ فتقول: الكتب، الواحد طومار، والمطاعين: جمع مطعان، وهو الكثير الطّعن، والفاصلة، الّتي تقع بين شيئين فتفصل هذا من هذا والفاصلة في العروض: توالي أربعة أحرف أو ثلاثة متحركة بعدها ساكن، وهكذا هي المقايضة في هذه المقامة، تصل اللفظة فيكون لها معنى، وتفصلها فيكون لها معنى آخر.
وأنا أفسّر معنى المتصلة إذ المنفصلة قد وقع تفسيرها في المقامة قوله: هادية، أي مرشدة، تقول: هدتني الطريق فهي هادية. والغاشية: ما يغشى القلب، أي يغطيه من الهمّ والسّقم، والغاشية أيضا القوم يغشونك، أي يقصدونك ويزورونك، والغاشية:
القيامة، والغاشية: المرأة تغشاك وتزورك، والغاشية غشاء القلب، والغاشية: غشاء السّرج.
والمهمة: القفر، والأخطار: جمع خطر، وهو الغرر، والأخطار: المنازل الشريفة. والأبارقة: جمع إبريق، وهو إناء معروف، والأبارقة أيضا: السّيوف الصقيلة، واحدها إبريق، والطافية: الجيفة تطفو على وجه الماء أي تطلع عليه.
الفرازين: وزراء الفرس الواحد فرزان، ومنه فرزان الشطرنج، الذي تسميّه العامة «فرزا»، لأنه وزير الشاه، والشاه في كلام الفرس الملك. وقمت: معناه كففت.
والمنتقم: الفرح بمصيبة غيره. والرّحراح من الأواني: الواسع القصير الحديد، ورحراح: موضع معروف. والصّنبور: النخلة الطويلة العنق القليلة الحمل، والصّنبور أيضا: العفاص الذي يجعله السّقاء في فم القربة، ويشدّ عليه ويفرغ منه الماء، والصّنبور أيضا: اللئيم، والصّنبور من الناس من ليس له نسل.
والسّراحين: الذئاب الواحد سرحان. الأسكوب: المطر الكثير الصبّ والأسكوب والأسكاب: قطعة خشب فيها قرص تجعل في خرق الزّق. والمقلاع: آلة يقلع بها الشيء. والله الموفق.
تفسير الأحاجي المودعة هذه المقامة
أمّا جوع أمدّ بزاد، فمثله طوامير، وأما ظهر أصابته عين، فمثله مطاعين، وأما صادف جائزة فمثله الفاصلة، وأمّا تناول ألف دينار، فمثله هادية، وأمّا أهمل حلية فمثله الغاشية.
وأمّا اكفف اكفف، فمثله مهمه، وأما الشقيق أفلت فمثله أخطار.(3/79)
وأمّا ما اختار فضة فمثله أبارقة لأن الرّقة من أسماء الفضة، وقد نطق بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «الرّقة ربع العشر» (1).
وأمّا دس جماعة فمثله طافية، وأمّا خالي اسكت فمثله خالصة لأنك إذا ناديت مضافا إلى نفسك جاز لك حذف الياء وإثباتها ساكنة ومتحرّكة وقد حذف هاهنا حرف النداء، كما حذفه في أصل الأحجيّة، وصه بمعنى اسكت، وأما خذ تلك فمثله هاتيك.
وأمّا حمار وحش زيّنا، فمثله فرازين، لأن الفرأ حمار الوحش، ومنه الحديث:
«كلّ الصيد في جوف الفرا» (2).
وأمّا قوله: أنفق تقمع، فمثله منتقم لأنّ الأمر من مان يمون من. مضارع وقمت تقم.
وأمّا استنش ريح مدامه، فمثله رحراح لأن الأمر من استدعاء الرائحة رح. وأما غطّ هلكى فمثله صنبور لأن البور هم الهلكى، وفي القرآن {وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً}
[الفرقان: 18].
وأما سار بالليل مدة فمثله سراحين.
وأما أحبب فروقة فمثله مقلاع، لأن الأمر من ومق ويمق مق، والّلاع: الجبان يقال: فلان هاع لاع إذا كان جبانا جزوعا.
وأما أعط ابريقا يلوح بغير عروة، فمثله أسكوب لأن الأوس الإعطاء والأمر منه أس. والكوب: الأبريق بغير عروة.
وأما الثّور ملكي، فمثله اللآلي لأن الّلأي على وزن القنا هو ثور الوحش. وأما صفير جحفلة، فمثله مكاشفة لأن المكاء الصّفير قال تعالى: {وَمََا كََانَ صَلََاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلََّا مُكََاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]. والأصل في المكاء المدّ ولكنه قصره في هذه الأحجية، كما حذف همزة الفرا في أحجيته، وكلا الأمرين من قصر الممدود، وحذف همزة المهموز جائز.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 1/ 12، بلفظ: «وفي الرّقة ربع العشر».
(2) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 3/ 422، بلفظ: «أنه قال لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب: كلّ الصيد في جوف الفراء».(3/80)
المقامة السّابعة والثلاثون وتعرف بالصّعديّة
حكى الحارث بن همّام قال: أصعدت إلى صعدة، وأنا ذو شطاط يحكي الصّعدة، واشتداد يبدر بنات صعدة فلّما رأيت نضرتها، ورعيت خضرتها، سألت نحارير الرّواة، عمّا تحويه من السّراة، ومعادن الخيرات لأتّخذه جذوة في الظلمات، ونجدة في الظّلامات، فنعت لي قاض بها رحيب الباع، خصيب الرّباع، تميميّ النّسب والطباع فلم أزل أتقرّب إليه بالإلمام، وأتنفّق عليه بالإجمام حتّى صرت صدى صوته، وسلمان بيته.
* * * أصعدت: طلعت وارتفعت، قال يعقوب: الإصعاد إلى نجد واليمن والحجاز، والانحدار إلى العراق والشام وعمان. وقال الأخفش: أصعد في البلاد: سار فيها ومضى، وأصله الذهاب في الصعود وهو الأرتفاع، ثم توسّعوا في ذلك، وقال الفرّاء رحمه الله تعالى في ابتداء الأسفار والمخارج، تقول: أصعدنا من مكّة إلى بغداد، وأصعدنا من بغداد إلى خراسان، فأما في السّلم فتقول: صعدت فيه لا أصعدت. قال يعقوب رحمه الله: صعّد الجبل وأصعد في البلاد: انحدر فيها وصعد: ارتقى.
وصعدة: مدينة عظيمة باليمن، بينها وبين صنعاء ستون فرسخا، وتحكم فيها صنعة الجلود، والجلد الصّعدي في غاية الجودة، ويضرب المثل بحسن نسائها.
الشّطاط: طول القامة. والصعدة: الرمح. اشتداد: جري. يبدر: يسبق. بنات صعدة: حمر الوحش. نضرتها: خصبها ونعمتها، والنضرة: صفاء اللون وبريقه، نحارير: علماء، والنّحرير، الماهر والحاذق الّذي جرّب الأمور وعرفها، وهو اسم يجمع وجوها من المدح، فيفسّر النحرير بالعالم والمفلق والحاذق والماهر والعادل. والسّراة: السادة، وهو جمع سريّ، وهو السيد الشريف، وجمع فعيل على فعلة عزيز لا يعرف غير هذا، الجذوة: الجمرة الغليظة العظيمة وجيمها بثلاث حركات، ويجمع ثلاثتها، نحو جذا وجذا وجذا. نجدة: قوّة وعونا، الظّلامات:
جمع ظلامة، وهو ما يشتكيه المظلوم، رحيب الباع: واسع العطاء، فكنى بالباع عن شرح مقامات الحريري / ج 3/ م 6
ذلك، والعرب إذا وصفت الرجل بالسخاء، قالوا: هو رحيب الباع، وطويل الباع، وكريم الباع، والباع والبوع بسط اليد بالمعروف، وقد باع يبوع منه، ويقال للبخيل: قصير الباع. خصيب الرّباع، أي هو كثير المال فجمع له كرمه كثرة ماله، فالناس يجدون في كنفه الخصب وقد يراد بخصيب الرباع نافق سوق الأحكام فالمتعلّق به يجد الخصب.(3/81)
جمع ظلامة، وهو ما يشتكيه المظلوم، رحيب الباع: واسع العطاء، فكنى بالباع عن شرح مقامات الحريري / ج 3/ م 6
ذلك، والعرب إذا وصفت الرجل بالسخاء، قالوا: هو رحيب الباع، وطويل الباع، وكريم الباع، والباع والبوع بسط اليد بالمعروف، وقد باع يبوع منه، ويقال للبخيل: قصير الباع. خصيب الرّباع، أي هو كثير المال فجمع له كرمه كثرة ماله، فالناس يجدون في كنفه الخصب وقد يراد بخصيب الرباع نافق سوق الأحكام فالمتعلّق به يجد الخصب.
تميميّ النّسب، أي من بني تميم وشرك الطباع مع النّسب، وهو يريد أنه كامل تام في خلقه، فنسب قبيلته لتميم، وطباعه التّمام والكمال فغلّب أحدهما، وشرك بينهما للقرب، قال ابن شرف: فيما يلمّ بهذا التشريك، ويحسن أن يمدح قاضي المقامة به لجوده: [البسيط]
جاور عليّا ولا تحفل بحادثة ... إذا ادّرعت فلا تسأل عن الأسل
اسم حكاه المسمّى في الفعال فقد ... حاز العليّين من قول ومن عمل
فالماجد السيّد الحرّ الكريم له ... كالنّعت والعطف والتوكيد والبدل
زان العلا وسواه شأنها، وكذا ... تميّز الشّمس في الميزان والحمل
وربّما عابه ما يفخرون به ... يشنا من الخصر ما يهوى من الكفل
سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع، والأفواه والمقل
فإنه أراد بقوله: «حاز العلّيين» أي حاز عليّا بالاسمية، والعلوّ بالفعلية، وهذا مثل ما تقدم للحريريّ: [الخفيف]
جاد بالعين حين أعمى هواه ... عينه فانثنى بلا عينين
فقد أوقع التشبيه على شيئين، يتفّقان في اللفظ، ويختلفان في المعنى، وقد أنشدنا فيما تقدم لبعض المتأخرين: [البسيط]
فكيف أصبر عنها اليوم إذ جمعت ... طيب الهواءين ممدود ومقصور
فالمقصود هوى النفس، والممدود الهواء الذي بين السماء والأرض، وقد قدّمنا في تفسير قول الحريري، وحيّا المسجد بالتّسليمتين، أنّ السلام الواحد على من في المسجد عند دخوله، والثاني تحليل الصلاة.
وقوله: هنا تميميّ النسب والطباع من هذا القبيل، وأكثره في كلام المولدين، وهو مستعمل في كلام العرب، ولا يبعد أن يكون من هذا قولهم: التقى الثريان، فإنهم يريدون بذلك كثرة المطر، وأنه يبلغ في الأرض إلى التراب الندي، فالثرى الواحد المطر، والثاني التراب النّدي، على أنه يحتمل أن يريد بذلك أنّ التراب اليابس لما بّله المطر، حتى لحق بالتراب النّدي، صار اليابس منهما يسمّى «ثرى» فقيل: التقى الثريان، وقال النابغة: [الوافر](3/82)
وقد أبقت صروف الدّهر منّي ... كما أبقت من السّيف اليماني (1)
يصمّم وهو مأثور جراز ... إذا جمعت بقائمه اليدان
فسّره أبو عبيد البكري وغيره: بأنه أراد بذلك الجارحة، والأيد الذي هو القوّة، فجمع على الأخفّ، فهذا من قبيل ما قدمناه، ولا يحضرني الآن غير هذا من كلام العرب.
قوله: الإلمام، أي تخفيف الزيارة. أننفّق، أتخرّج، والنّفّاق ضدّ الكساد.
الإجمام: الزيارة صدى صوته، أي متى دعاه وجده حاضرا مجيبا له، والصدى: صوت الجبل الذي يريدّ عليك إذا صحت.
وابن همام في هذا المقامة شرطيّ القاضي.
[سلمان الفارسيّ]
وسلمان الذي ذكره، هو سلمان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، ويعرف بسلمان الخير، قالت عائشة رضي الله عنها: كان لسلمان رضي الله عنه مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفرد به في الليل، حتى كاد يغلبنا عليه.
وقال عليه السلام: «أمرني ربي بحبّ أربعة، وأعلمني أنه يحبّهم: عليّ، وأبو ذرّ، والمقداد، وسلّمان»، رضي الله تعالى عنهم.
وأتى أبو سفيان على سلمان وصهيب وبلال، فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدوّ الله مأخذها، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم! وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: يا أبا بكر، لعلّك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربّك، فأتاهم أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا أخوتاه، أأغضبتكم؟ فقالوا: لا، ويغفر الله لك.
وكان من أبناء أساورة فارس، وأصله من رامهرمز، وقيل: كان من أصبهان، وكان يطلب دين الله ويتبع من يرجو ذلك عنده، فدان بالنصرانية وغيرها، وقرأ الكتب، وصبر في ذلك على مشقات نالته، وكلّها مذكورة في إسلامه في كتب السّير.
وقيل: تداوله في ذلك بضعة عشر ربّا، حتى أفضى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فاشتراه من قوم من اليهود.
وأوّل مشاهده الخندق، وهو الذي أشار بحفره، فقال أبو سفيان وأصحابه: هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها.
وسئل عليّ عنه فقال: علم العلم الأول، بحر لا ينزف، هو منّا أهل البيت، وفي رواية: هو مثل لقمان الحكيم، وكان فاضلا حبرا زاهدا عالما متقشفا.
__________
(1) البيتان للنابغة الجعدي في أمالي القالي 1/ 71، واللآلي ص 246، وخزانة الأدب 1/ 513.(3/83)
وتعلّم عمل الخوص، فقيل له: لم نعمل هذا وأنت أمير! وقد أجري عليك رزق، فقال: إني أحببت أن آكل من عمل يدي. وكان يتصدق بما يرزق من بيت المال، وكانت له عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لو كان الدّين في الثريا لناله سلمان».
أبو هريرة رضي الله عنه، كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ سورة الجمعة، فلما قرأ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمََّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] وفينا سلمان وضع يده على سلمان، ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لنا له رجل من هؤلاء».
وتوفّي في آخر خلافة عثمان رضي الله عنه، وما ترك شيئا يورث عنه. وفضائله كثيرة.
وعلى قولهم لأبي بكر: «لا، ويغفر الله لك»، قال أبو محمد في الدّرة: وربما أجاب المستخبر بلا النافية، ثم عقبها بالدعاء له، فيستحيل الكلام إلى الدعاء عليه، كما روي أنّ أبا بكر رضي الله عنه رأى رجلا، بيده ثوب، فقال: أتبيع هذا؟ فقال لا عافاك الله، فقال أبو بكر رضي الله عنه لقد علمتم لو تعلمون! فهلا قلت: لا وعافاك الله!.
قال أبو محمد: والمستحسن ما قال يحيى بن أكتم للمأمون، وقد سأله عن أمر فقال: لا وأيد الله أمر أمير المؤمنين.
وحكي أنّ الصاحب بن عباد لمّا سمع هذه الحكاية، قال: والله لهذه الواو أحسن من واوت الأصداغ، في خدود المرد الملاح.
* * * وكنت مع اشتيار شهده، وانتشاق رنده، أشهد مشاجر الخصوم، وأسفر بين المعصوم منهم والموصوم، فبينما القاضي جالس للإسجال، في يوم المحفل والاحتفال إذ دخل شيخ بالي الرّيا، وبادي الارتعاش فتبصّر الحقل تبصّر نقّاد، ثم زعم أنّ له خصما غير منقاد فلم يكن إلا كضوء شرارة، أو وحي إشارة حتّى أحضر غلام، كأنّه ضرغام فقال الشيخ: أيّد الله القاضي، وعصمه من التغاضي، إن ابني هذا كالقلم الرّدي، والسّيف الصّدي، يجهل أوصاف الإنصاف، ويرضع أخلاف الخلاف، إن أقدمت أحجم، وإذا أعربت أعجم، وإن أذكيت أخمد، ومتى شويت رمّد مع أني كفلته مذ دبّ، إلى أن شبّ، وكنت له الطف من ربيّ وربّ فأكبر القاضي ما شكا إليه، وأطرف به من حواليه، ثم قال: أشهد أنّ العقوق أحد الثّكلين، ولربّ عقم أقرّ للعين.
* * *
قوله: اشتيار أي استخراج عسله، وأراد اجتناء منفعته. انتشاق: شمّ، يقال:(3/84)
* * *
قوله: اشتيار أي استخراج عسله، وأراد اجتناء منفعته. انتشاق: شمّ، يقال:
نشق الريح الطيبة نشقا وانتشق: وتنشق: شمها، الرّند: شجر طيّب الرائحة، قال ابن دريد رحمه الله: هو الآس، وقال الجوهري رحمه الله: ربما سمّي العود رندا، مشاجر الخصوم: مواضع الخصام التي يتشاجر فيها الخصمان أي يمتزج كلام هذا بكلام هذا، من الشّجر، واحدها مشجر، وقد يراد بها المصدر، وجمع لاختلاف أنواعه، أسفر: أمشي بينهم بالصلح المعصوم: المحفوظ من الوقوع فيما يحذر، وأصل العصمة في كلامهم المنع، وعصمته من كذا، إذا منعته. {وَاللََّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النََّاسِ} [المائدة: 67]، أي يمنعك، الموصوم: ذو الوصم، وهو العيب، فأراد أنه يصلح بين أهل الخير والشرّ. للإسجال: للحكم، وأسجل القاضي على نفسه بالحكم، وسجّل، إذا كتب على نفسه، فأراد أنه جلس للحكم في العقود والسجلات، ومحفل القوم: مجتمعهم، والاحتفال: كثرة النّاس واجتماعهم، ومعنى احتفل الرجل: جمع، وأراد: يكثر من الشيء الذي قصد، وجمع المحفل محافل، ومنه الشاة المحفلة، وهي التي يحبس لبنها أياما في ضرعها لا تحلب. الرياش:
الثياب. تبصّر الحفل: نظر الجمع وشخص فيهم، نقّاد: مفتش، كأنه ينقد ببصره الرجال، ويريد أنّه نظر من شرط القاضي أهل الحزم والجراءة، فأخبرهم بقصّة ابنه، فانطلقوا فأتوا به، ونقّاد الدراهم: الذي يمعن النظر فيها والتقليب لها، ليميز جيدها من رديئها، وحي إشارة، يريد إشارة العين، إذا غمزت من تريد أن يفهم إشارتك دون غيره، والوحي: الإيماء الخفي. ضرغام: أسد في عظم خلقته وشدته، التغاضي: التغافل والسكوت عن الظلم، الصّدى: الذي علاه الصّدأ، وهو وسخ السيف، والأخلاف جمع خلف، وهو ما يجلب منه اللبن ويقبض عليه الحالب، قال ابن دريد: وقيل: الخلف للناقة كالضّرع للبقرة: أحجم: تأخر، أعربت: أوضحت، أعجم: أبهم ولبّس أذكيت: أوقدت. أخمد: أطفأ، وخمدت النار: أطفىء لهبها، كفلته: ربيّته. دبّ. مشى مشي صغيرة على يديه ورجليه. شبّ: صار شابّا ألطف:
أشفق وأرق، ربّ: أصلح، يريد أنه أصلح أحواله، وأحسن تربيته تحرّزا من أن ينسبه القاضي إلى تقصير. أكبر: رآه كبيرا، أطرف: أعجب، وجعلهم يستطرفون خبره.
الثّكلين: الفقدين، يريد أنّ الرجل إذا عقه ولده ولم يبرّه فكأنه قد فقده.
[عقوق الوالدين]
ومما جاء في العقوق: كان جرير الشاعر أعقّ الناس بأبيه، وكان بلال ابنه كذلك، فرجع جرير بلالا في الكلام، فقال له بلال: الكاذب بيني وبينك ناك أمّه، فأقبلت أمه عليه، وقالت: يا عدوّ الله، تقول هذا لأبيك! فقال جرير: دعيه، فكأنه سمعه مني وأنا أقولها لأبي.
وممنّ شهر عنه العقوق بوالديه الحطيئة الشاعر، قال يهجو أباه: [الوافر]
لحاك الله ثمّ لحاك حقّا ... أبا ولحاك من عمّ وخال (1)
فبئس الشيخ أنت لدى المخازي ... وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
جمعت اللؤم لا حيّاك ربي ... وأبواب السّفاهة والضّلال
وقد تقدّم هجو نفسه وأمه.(3/85)
وممنّ شهر عنه العقوق بوالديه الحطيئة الشاعر، قال يهجو أباه: [الوافر]
لحاك الله ثمّ لحاك حقّا ... أبا ولحاك من عمّ وخال (1)
فبئس الشيخ أنت لدى المخازي ... وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
جمعت اللؤم لا حيّاك ربي ... وأبواب السّفاهة والضّلال
وقد تقدّم هجو نفسه وأمه.
وممن هجا أباه وغيره عليّ بن بسام، وما سلم من هجائه أمير ولا وزير، ولا كبير ولا صغير، ومما قال في أبيه: [الخفيف]
هبك عمّرت عمر عشرين نسرا ... أترى أنني أموت وتبقى!
فلئن عشت بعد موتك يوما ... لأشقن جيب مالك شقا
وقال فيه أيضا: [الطويل]
بعثت لأستهديك عيرا ولم أكن ... علمت بأنّ العير صرلنا صهرا
فوجّه به كي نشترك في ركوبه ... فتركبه بطنا وأركبه ظهرا
وقال فيه أيضا: [الرمل]
شدت دارا خلتها مكرّمة ... سلّط الله عليها الغرقا
وأرانيك صريعا وسطها ... وأرانيها صعيدا زلقا
وقال فيه أيضا: [البسيط]
بنى أبو جعفر دارا فشيّدها ... ومثله لخيار الدّور بنّاء
فالجوع داخلها والذلّ خارجها ... وفي جوانبها بؤس وضرّاء
ما ينفع الدار من تشييد حائطها ... وليس داخلها خبر ولا ماء
وكذب، كان أبو جعفر محمد بن نصر بن منصور بن بسام في نهاية السّودد والمروءة والنظافة، رجل مترف نبيل المركب، مليح الملبس، ظريف العلمان، له همة في تشييد البنيان، وما رثاه ابن الرومي به يدلّ على كذب ابنه، قال ابن الرومي فيه:
[الكامل]
أودى محمد بن نصر بعدما ... ضربت به في جوده الأمثال
ملك تنافست العلا في عمره ... وتنافست في موته الآجال
من لم يعاين سير نعش محمد ... لم يدر كيف تسيّر الأجبال
ودخرته للدهر أعلم أنّه ... كالحصن فيه لمن يؤول مآل
وتمتعت نفسي بروح رجائه ... زمنا طويلا والتمتع مال
__________
(1) الأبيات في ديوان الحطيئة ص 119.(3/86)
ورأيته كالشمس إن هي لم تنل ... فالرّفق منها والضياء ينال
لهفي لفقدك يا محّمد إنه ... فقدت بك النّفحات والأنفال
بالله اقسم إنّ عمرك ما انقضى ... حتى انقضى الإحسان والإجمال
ولابن بسام يعزّي أبا القاسم بن وهب في ابن مات له: [مخلع البسيط]
قل لأبي القاسم بن وهب ... أتى بك الدّهر للعجائب
مات لك ابن وكان زينا ... وعاش ذو الشّين والمعايب
حياة هذا كموت هذا ... فليس تخلو من المصائب
وقد تقدّم هجوه في أخيه.
ومن حسن التعطف على الابن العاق، قول إبراهيم الصابي، وكان ابنه يعقّه:
[البسيط]
أرضى عن ابني إذا ما عقني حذرا ... عليه أن يغضب الرحمن من غضبي
ولست أدري بم استحقّقت من ولدي ... إسخان عيني وقد أقررت عين أبي!
* * *
قوله: ولرب عقم، العقم ألّا تلد المرأة.
فقال الغلام وقد أمعضه هذا الكلام: والذي نصب القضاة للعدل، وملّكهم أعنّة الفضل والفصل، إنه ما دعا قطّ إلا أمّنت، ولا ادّعى إلا آمنت، ولا لبّى إلّا وأحرمت، ولا أورى إلا وأضرمت بيد أنّه كمن يبغي بيض الأنوق، ويطلب الطّيران من النّوق فقال له القاضي: وبم أعنتك، وامتحن طاعتك؟ قال: إنّه مذ صفر من المال، ومني بالإمحال، يسومني أن أتلمّظ بالسّؤال، وأستمطر سحب النّوال ليفيض شربه الذي غاض، وينجبر من حاله ما انهاض، وقد كان حين أخذني بالدّرس، وعلمني أدب النّفس، أشرب قلبي أنّ الحرص متعبة، والطّمع معتبة، والشره متخمة، والمسألة ملأمة.
* * * أمعضه: أوجعه وأغضبه، وأمعض من ذلك وامتعض: غضب وشقّ عليه وأوجعه، ادّعى: نسب لنفسه ما شاء، وفلان مدّع وفعله الدعوى آمنت: صدقت ما ادّعاه لبّى: من تلبية الحاج إذا صاح: لبّيك لبّيك. أحرمت: صرت محرما. أورى: أظهر له النار من الزند، أضرمت: أو قدت، بيد: غير الأنوق: ذكر الرّخم ولا بيض له، فكأنه طلب أمرا لا يكون أبدا، ومثله: طلب الأبلق العقوق، والأبلق الذكر والعقوق من الخيل: التي امتلأ
بطنها من حملها يقال للأنثى: قد أعقت وهي معقّ وعقوق فكأنه طلب أمرا لا يكون أبدا، لأنه لا يكون الأبلق عقوقا.(3/87)
* * * أمعضه: أوجعه وأغضبه، وأمعض من ذلك وامتعض: غضب وشقّ عليه وأوجعه، ادّعى: نسب لنفسه ما شاء، وفلان مدّع وفعله الدعوى آمنت: صدقت ما ادّعاه لبّى: من تلبية الحاج إذا صاح: لبّيك لبّيك. أحرمت: صرت محرما. أورى: أظهر له النار من الزند، أضرمت: أو قدت، بيد: غير الأنوق: ذكر الرّخم ولا بيض له، فكأنه طلب أمرا لا يكون أبدا، ومثله: طلب الأبلق العقوق، والأبلق الذكر والعقوق من الخيل: التي امتلأ
بطنها من حملها يقال للأنثى: قد أعقت وهي معقّ وعقوق فكأنه طلب أمرا لا يكون أبدا، لأنه لا يكون الأبلق عقوقا.
ويقال: إن رجلا سأل معاوية أن يزوجه أمه هندا، فقال: أمرها إليها، وقد أبت أن تتزوّج، قال: فولّني مكان كذا وكذا، فقال معاوية متمثلا: [الخفيف]
طلب الأبلق العقوق فلمّا ... لم ينله أراد بيض الأنواق (1)
والأنوق: طائر أبيض في شواهق الجبال، فبيضها في حرز لا يطمع فيه فمعناه طلب ما لا يكون، وأما طلب الطّيران من النوق فمثل الأول، وهو لا يمكن قوله: أعنتك، أي أتعبك، وكلفك ما يشقّ عليك، من عنت البعير يعنت عنتا، إذا حدث في رجله كسر بعد الجبر، فلا يمكنه التّصرّف إلا بمشقة. قال أبو عبيد رحمه الله: عنّته: أضرّ به، والعنت:
الضرر، قال: وأعنته أيضا، أهلكه وقال أحمد بن عبيد: أعنته: شدّد عليه، والعنت:
التّشديد.
ابن عزيز: عنت: هلاك، وأصله المشقة والصعوبة، ومنه قولهم: أكمة عنوت، إذا كانت صعبة المسالك، وقوله تعالى: {لَأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 22]، أي لأهلككم، ويجوز أن يكون المعنى لشدّد عليكم وتعبّدكم بما يصعب أداؤه عليكم، كما فعل بمن قبلكم.
امتحن: ابتلي، صفر: خلا، مني: بلي. الإمحال: الجدب والفقر، يسومني: يكلفني.
أتلمّظ بالسؤال، أي أكثر الكلام به، والتلمّظ: تتبّع ما بقي في الفم من الطعام باللسان بعد الأكل سحب: جمع سحابة، النوال: العطاء، قال ابن الأنباري رحمه الله: النّول والنوال: المنفعة والحظّ، ونلت الرجل: إذا نفعته. وأنلته حظا ونالني فلان: نفعني، وقولهم: ما كان نولك أن تفعل كذا أي ما كان لك منفعة في هذا الفعل، ونولك:
منصوب خبر كان وأن نفعل اسم كان أو بالعكس. يفيض: يسيل ويكثر. شربه: ماؤه، وأراد به ماله: غاض: جفّ، انهاض: انكسر. أشرب: روى وسقى. الحرص: كثرة:
الطمع والطلب للدنيا، والشّره: الحرص الكثير. متخمة: مفسدة، والمسألة: سؤال ما في أيدي الناس. ملأمة: لؤم.
* * * ثم أنشدني من فلق فيه، ونحت قوافيه: [السريع]
إرض بأدنى العيش واشكر عليه ... شكر من القلّ كثير لديه
وجانب الحرص الذي لم يزل ... يحطّ قدر المتراقي إليه
وحام عن عرضك واستبقه ... كما يحامي اللّيث عن لبدتيه
__________
(1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (أنق)، (عقق)، وتهذيب اللغة 1/ 62، 9/ 324، وجمهرة اللغة ص 371، ومقاييس اللغة 1/ 149، وتاج العروس (أنق)، ويروى «لم يجده» بدل «لم ينله».(3/88)
واصبر على ما ناب من فاقة ... صبر أولى العزم وأغمض عليه
ولا ترق ماء المحيّا ولو ... خوّلك المسؤول ما في يديه
فالحرّ من إن قذيت عينه ... أخفي قذى جفنيه عن ناظريه
ومن إذا أخلق ديباجه ... لم ير أن يخلق ديباجتيه
* * *
فلق: شقّ من بين شفتيه، نحت: نجر، أراد إنشاء قصائده. والقوافي، من قفوت الشيء، إذا تتبعته، وسميت بذلك الاتباع بعضها بعضا. القلّ: القلّة. المتراقي: المرتفع، لبدتيه. شعر متلبد على كفله وبين كتفيه، ناب: نزل. فاقة: فقر. أغمض، أي استره واغفل عنه، والمحيّا: الوجه، خولك: ملكك. الناظر: سواد العين، فيريد أنه إذا وقع في عينيه قذى وهو السقط على شدّة إذايته، احتمله الحرّ الكريم وصبر عليه، وأخفاه من ناظريه: تجلد، أي أخفي أذى بعض العينين عن بعض، وهذا غاية في المبالغة، ديباجه:
ثوبه، والديباج: ثوب رفيع، ديباجتيه: خدّيه، وقيل ديباجة الخدّ حسن بشرته، وأخلق الشيء، وأخلقه غيره لازم ومتعدّ: يقول: إذا افتقرت وبلي ثوبك فلا تبذل وجهك لأحد، ولا تهنه بالسؤال، وهذا من قول حبيب: [البسيط]
ذلّ السؤال شجا في حلق معترض ... من دونه شرق من خلفه حرض (1)
ما ماء كفك إن جادت وإن بخلت ... من ماء وجهي إذا أفنيته عوض
وقال في ابن الزيات: [البسيط]
اعطى ونطفة وجهي في قراراتها ... يصونها الوجنات الغضّة القشب (2)
ويقول: لم يخلق وجهي سؤال، فوجهي غضّ جديد، والنطفة: ماء الوجه الذي نهى الحريري عن إراقته حين قال: [السريع]
ولا ترق ماء المحيّا ولو ... خوّلك المسؤول ما في يديه
[أبو تمام وعبد الصمد بن المعذل]
قال الصوليّ: كان حبيب رحمه الله تعالى لا يجيب هاجيا، ترفّعا عنه، فانحدر إلى البصرة والأهواز يمدح من بهما، فكتب إليه عبد الصمد بن المعذل: [الخفيف]
أنت بين اثنتين تبرز للنّاس ... س بكلتيهما بوجه مذال
لست تنفك طالبا لوصال ... من حبيب أو طالبا لنوال
__________
(1) البيتان في ديوان أبي تمام ص 149.
(2) البيت في ديوان أبي تمام ص 48.(3/89)
أيّ ماء لحرّ وجهك يبقى ... بين ذلّ الهوى وذلّ السؤال
فلما قرأ الشعر قال: قد شغل هذا ما يليه، ولا أرب لنا فيه.
وحكى الأصبهانيّ قال: جمع مجلس أبا تمام وعبد الصمد، وكان عبد الصمد سريح القول، وفي أبي تمام بطء، فأخذ عبد الصمد قرطاسا، وكتب: أنت بين اثنتين، الأبيات، ورمى بها إلى أبي تمام، فأخذه وخلا به طويلا، وجاء وقد كتب فيه: [الكامل]
أفيّ تنظم قول الزّور والفند ... وأنت أنزر من لا شيء في العدد
أشرجت قلبك من بغض على حرق ... كأنها حركات الرّوح في الجسد
فقال له عبد الصمد: يا ماصّ بظر أمه، أخبرني عن «لا شيء» في العدد كيف يكون؟ وعن قولك: «أشرجت قلبك»، أعيبة أو خرج، فأشرجه، عليك لعنة الله.
فانقطع أبو تمام انقطاعا ما رئي مثله.
وحكاية الصوليّ أولى بالصحة من هذه، وليس عبد الصمد من رجال أبي تمام، ولا له من التصرّف في أنواع الشعر ما لأبي تمام، وصنع البديع وقف عليه، ولو صحّت الحكاية فلا يحكم بالنّدرة، لكن يحكم بالجملة، واستعمال ديوان حبيب في مجالس العلماء شاهد على فضله، على أنّ ما جمعنا لعبد الصمد في هذا الكتاب غاية في بابه.
فلنرجع إلى ما قيل في ذل السؤال.
[ذل السؤال]
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل وعنده ما يغدّيه أو يعيشه فإنما يستكثر من جمر جهنّم» (1).
وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: حسبك من السؤال أنه يضعف لسان المتكلم، ويكسر قلب الشجاع البطل، ويوقف الحرّ الكريم موقف العبد الذليل، ويذهب بنضرة اللون، ويمحو الحسب، ويحبّب الموت، ويمقت الحياة.
الأصمعي رحمه الله: سمعت أعرابيا يقول: المسألة طريق المذّلة، تسلب الشريف عزة والحسيب حسبه.
وقال معاوية لعبد الله بن الزبير: أنشدني ثلاثة أبيات غريبة، فقال أنشدكها بثلاثين ألفا تدفعها إليّ، فقال: حتى تنشد فأسمع، فأنشده أبيات الأفواه الأوديّ: [الوافر]
بلوت النّاس قرنا بعد قرن ... فلم أر غير ختل أو قتال (2)
__________
(1) أخرجه أبو داود في الزكاة باب 24، وأحمد في المسند 4/ 181، بلفظ: «فإنه يستكثر من نار جهنم».
(2) الأبيات في ديوان الأفوه الأودي ص 23.(3/90)
ولم أر في الخطوب أشدّ ضرّا ... وآذى من معاداة الرّجال
وذقت مرارة الأشياء طرا ... فما شيء أمرّ من السؤال
ثم قال له: أسمعتك وأنت الحكم، فحكم له، وأمر له بثلاثين ألفا.
وينظر إلى ما نسبه ابن المعذل لحبيب من إضافة ذل السؤال، ما أضافه له عليّ بن الجهم من ذل الأعتذار، وقال يعتذر للمتوكل: [الخفيف]
إنّ ذلّ السؤال والاعتذار ... خطة صعبة على الأحرار
ليس من باطل تورّها المر ... ءو لكن سوابق الأقدار
فارض للسائل الخضوع وللقا ... رف ذنبا بذلّة الاعتذار
إن تجافيت منعما كنت أولى ... من تجافى عن الذّنوب الكبار
أو تعاقب فأنت أعرف با ... لله وليس العقاب منك بعار
وقال أيضا: [الطويل]
هي النفس ما حمّلتها تتحمّل ... وللدهر أيّام تجور وتعدل
وعاقبة الصبّر الجميل جميلة ... وأكمل أخلاق الرجال التفضّل
ولا عار أن زالت عن المرء نعمة ... ولكنّ عارا أن يزول التجمّل
وما المال إلا حسرة إن تركته ... وغنم إذا قدّمته متعجّل
* * *
قال: فعبس الشّيخ واكفهرّ، واندرأ على ابنه وهرّ وقال له: صه يا عقق، يا من هو الشّجي والشّرق، ويك، أتعلم أمّك البضاع، وظئرك الإرضاع! لقد تحكّكت العقرب بالأفعى، واستنّت الفصال حتّى القرعى، ثم كأنه ندم على ما فرط من فيه، وحدته المقة على تلافيه، فرنا إليه بعين عاطف، وخفض له جناح ملاطف، وقال له: ويك يا بنيّ، إنّ من أمر بالقناعة، وزجر عن الضّراعة، هم أرباب البضاعة، وأولو المكسبة بالصناعة فأما ذوو الضّرورات، فقد استثنى بهم في المحظورات وهبك جهلت هذا التأويل، ولم يبلغك ما قيل، ألست الذي عارض أباه، فيما قال وما حاباه!
قوله: اكفهر، اشتدّ عبوسه، ووجه مكفهر: منقبض كالح، لا يرى فيه أثر بشر ولا فرح اندرأ: اندفع على ابنه بالشتم، هرّ: كشر وجهه وعبسه، صه: اسكت، يا عقق: يا كثير العقوق، ويقال: عق أباه يعقه عقوقا، فهو عاق، ويعدل إلى عقق للمبالغة، كعامر وعمر، وعقّ أباه: لم يعطه وقطع رحمه. ولما قتل حمزة عمّ النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عن
عمه، مرّ به أبو سفيان، فطعنه بالرمح في شدقه، وقال: ذق عقق، أي ذق جزاء فعلك يا عقق والعق: القطع والشق.(3/91)
قوله: اكفهر، اشتدّ عبوسه، ووجه مكفهر: منقبض كالح، لا يرى فيه أثر بشر ولا فرح اندرأ: اندفع على ابنه بالشتم، هرّ: كشر وجهه وعبسه، صه: اسكت، يا عقق: يا كثير العقوق، ويقال: عق أباه يعقه عقوقا، فهو عاق، ويعدل إلى عقق للمبالغة، كعامر وعمر، وعقّ أباه: لم يعطه وقطع رحمه. ولما قتل حمزة عمّ النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عن
عمه، مرّ به أبو سفيان، فطعنه بالرمح في شدقه، وقال: ذق عقق، أي ذق جزاء فعلك يا عقق والعق: القطع والشق.
وقال عليه الصلاة السلام: «ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاقّ لوالديه، والدّيّوث، ورجلة النساء» (1).
قوله: الشّجا: الاختناق بالطعام، الشّرق بالماء والطعام والشراب، بهما قوام العيش، فإذا عرض فيهما ذلك فقد عرضت مشقة وأذيّة في موضع الالتذاذ، وكذلك الولد العاق، وهو أذيّة في موضع راحة، وما أحسن قول القائل: [مخلع البسيط]
قراية السوء داء سوء ... فاحمل أذاهم تعش حميدا
فمن تكن قرحة بفيه ... يصبر على مصّه الصّديدا
البضاع: النكاح والجماع ظئرك: مرضعتك، تحكّكت: لصقت بها وحلقت حواليها، استنّت: جرب متتابعة في سنن، وهو الطريق والمذهب، ومنه فلان يستنّ، أي يجري على أيّ أمر شاء، لا يزجره عنه زاجر. وقيل: استنّت، أي سمنت، من قولهم:
سنّ الراعي إبله إذا أحسن رعيها فأسمنها، فكأنه حسّنها وصقلها. القرعى: التي يصيبها القرع في رأسها، والقرعى: جمع قريع، مثل مرضى ومريض، وهذه أمثال تضرب لمن يتشبه بغيره، ولا يقوي قوّته.
فرّط: سبق حدته: ساقته المقة: المحبة، تلافيه: تداركه بالعطف عليه رنا: نظر:
عاطف: راحم، ملاطف، أي رفيق به، أي حسّن كلامه وأنسه وخفض الجناح يكنى به عن لين الجانب ويك: عجبا لك! زجر: نهى الضراعة: التّذلل، وضرع ضراعة فهو ضارع، تضرّع: تذلل وتخشع، البضاعة: التجارة. المحظورات: الممنوعات، وأراد بالاستثناء ما أحلّ الله من المحرمات لأهل الضرائر، ويروى: سوّغوا في المحظورات، أي رخّصوا لهم فيها هبك: أحسبك التأويل: التفسير، ولم يبلغك ما قيل، يعني في إباحة السؤال للمضطر، وهو قول الناس: الضرورات تبيح المحظورات، ويصدّقه قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3]، وقال عليه الصلاة والسلام: «إنما المسألة كدوح يكدح بها أحدكم وجهه إلا مسألة من ذي سلطان أو في أمر لا بدّ منه» (2)، عارضه: قابله بنقيض ما قاله. حاباه: اختصّه بهذه الوصية، أي جعل هذا الشعر وصية لمن سمعه، ويقال: حابى فلان فلانا، إذا مال إليه واتّصل به، أخذ من حبيّ السحاب، وهو السحاب الذي يدنو بعضه من بعض وقيل حباه: خصه باليل أخذه من الحبوة، وهي
__________
(1) أخرجه النسائي في الزكاة باب 69، وأحمد في المسند 2/ 69، 128، 134.
(2) أخرجه أبو داود في الزكاة باب 26، والنسائي في الزكاة باب 92، وأحمد في المسند 2/ 94، 5/ 19، 22.(3/92)
العطية يحبوها الرجل صاحبه، ويخصّه بها قال اليزيدي: ثلاثة إن لم تظلمهم ظلموك:
ابنك، وزوجك، وخادمك. [البسيط]
* * * لا تقعدنّ على ضرّ ومسغبة ... لكي يقال عزيز النّفس مصطبر
وانظر بعينك هل أرض معطلّة ... من النّبات كأرض حفّها الشّجر
فعدّ عمّا تشير الأغبياء به ... فأيّ فضل لعود ماله ثمر
وارحل ركابك عن ربع ظمئت به ... إلى الجناب الّذي يهمي به المطر
واستنزل الرّيّ من درّ السّحاب فإن ... بلّت يداك به فليهنك الظّفر
وإن رددت فما في الرّدّ منقصة ... عليك، قد ردّ موسى قبل والخضر
* * *
مسغبة: جوع. حفّها: حلّقها، يريد أنّ الأرض ذات الخصب تقصد لما فيها من الأرزاق، والأرض المعطّلة من النبات وهي الجدبة يفرّ عنها، وكذلك الغنيّ يكرم لماله، والفقير يهجر ويهان.
[فضل المال]
ومما جاء في فضل المال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمجاشعيّ: «إن كان لك مال فلك حسب، وإن كان لك خلق فلك مروءة، وإن كان لك دين فلك كرم».
وقال حكيم لابنه: يا بنيّ أوصيك، عليك بطلب المال، فلو لم يكن إلا أنه عزّ في قلبك، وذلّ في قلب عدوّك.
وقال آخر لابنه: يا بنيّ أوصيك باثنتين لن تزال بخير ما تمسّكت بهما: درهمك لمعاشك، ودينك لمعادك.
وكان سعد بن عبادة يقول: اللهمّ ارزقني حمدا ومجدا، فإنه لا مجد إلّا بفعال، ولا فعال إلّا بمال.
وقالوا: المال آلة للمكارم، وعون على الزمان، ومتألّف للإخوان، ومن فقده قلّت الرغبة إليه والرهبة منه.
قال سفيان الثوريّ: المال سلاح المؤمن في هذا الزمان.
وكان لأحيحة بن الجلاح بالزّوراء ثلاثمائة ناضح، فدخل بستانا له، فمرّ بتمرة فلقطها، فليم على ذلك، فقال: تمرة إلى تمرة تمرات، وجمل إلى جمل ذود. ثم أنشد يقول: [البسيط](3/93)
إنّي مقيم على الزّوراء أعمرها ... إن الحبيب إلى الإخوان ذو المال (1)
استغن أو مت ولا يغررك ذو نشب ... من ابن عمّ ومن عمّ ومن خال
كلّ النداء إذا ناديت يخذلني ... إلّا النداء إذا ناديت يا مالي
وقال عروة بن الورد: [الوافر]
ذريني للغنى أسعى فإنّي ... رأيت النّاس شرّهم الفقير
وأدناهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له حسب وخير
يباعده القريب ونزدريه ... حليلته ويقهره الصغير
ويلقى ذو العنى وله جلال ... يكاد فؤاد لاقيه يطير
قليل ذنبه والذّنب جمّ ... ولكن للغنى ربّ غفور (2)
ومن أمثال بغداد: المال المال، وما سواه محال.
قوله: الأغبياء: الجهال، وأراد بهم الّذين يأمرون بالبخل. ظمئت: عطشت.
والركاب: الإبل. والجناب: الجانب والناحية. يهمي: يسيل والرّيّ: الشبع من الماء، والصّوب وقع الماء. والظفر: الفوز بالحاجة، يقول: فارق أرضك واغترب في طلب المال، واسأل الكرماء يعطوك.
وقال الشاعر: [الطويل]
سأعمل نصّ العيس يوما ليكفني ... غنى المال يوما أو غنى الحدثان (3)
فللموت خير من حياة يرى بها ... على المرء بالإقلال وسم هوان
إذا قال لم يسمع لحسن مقاله ... وإن لم يقل قالوا عديم بيان
كأنّ الغنى في أهله يجعل الفتى ... بغير لسان ناطقا بلسان
وأشار بقوله: «قد ردّ موسى قبل والخضر، إلى قوله تعالى: {حَتََّى إِذََا أَتَيََا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمََا أَهْلَهََا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمََا} [الكهف: 77].
__________
(1) يروى البيت الأول:
إني أقيم على الزوراء أعمرها ... إنّ الكريم على الإخوان ذو المال
وهو لأحيحة بن الجلاح الأنصاري في لسان العرب (زور)، وتاج العروس (زور).
(2) يروى البيت الأخير:
قليل عيبه والعين جمّ ... ولكنّ الغنى ربّ غفور
وهو في ديوان عروة بن الورد ص 92، والعقد الفريد 3/ 29، وبلا نسبة في الإنصاف 1/ 64.
(3) البيت الأول لأعرابي من باهلة في البيان والتبيين 1/ 234، وعيون الأخبار 1/ 34، والكامل 1/ 410، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 5/ 276، وأساس البلاغة (مني).(3/94)
وفي نسب الخضر الختلاف، منهم من جعله من قابيل بن آدم، ومنهم من يجعل بينه وبين سام بن نوح خمسة آباء، ويجعله من ذريّة سام، وقال عليه الصلاة والسلام: «إنما سمّي خضرا لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتزّ خضرة» (1). والفروة: الأرض البيضاء، وقصته مع موسى مشهورة. وقيل إن موسى صاحبه غير موسى بن عمران. وقال موسى للخضر حين فارقه: عظني فقال: لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، فكما تذهب بأمل صادق فتخيب، قد تذهب بأمل كاذب فتصيب، وتذهب للحقير، وتدرك الجليل. وقد ذهب موسى ليقتبس نارا، فكلّمه ربه. وقد تقدّم هذا.
قال ابن عبد ربه: مما جبل عليه الحرّ الكريم، ألّا يقنع من شرف الدنيا والآخرة بشيء مما انبسط له من أمر الدنيا، بل يكون أمله فيما هو أسنى درجة وأرفع مرتبة، ولذلك قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو عامل بالمدينة لدكين الراجز: إن لي نفسا توّاقة، فإذا بلغك أني صرت إلى أشرف من منزلتي فأتني. فلما صار خليفة أتاه، فقال: أنا أعلمتك أن لي نفسا توّاقة، وأنّ نفسي تاقت إلى أشرف منازل الدنيا منزلة، فلما بلغتها وجدتها تتوق إلى أشرف منازل الآخرة منزلة.
ومن الشاهد لهذا المعنى أنّ موسى عليه السلام لمّا كلمه ربه تكليما سأله، النظر إليه إذ كان ذلك لو وصل إليه أشرف من المنزلة التي نالها فالحرّ الكريم لا يقنع بمنزلة إلا رجاء أشرف منها قال: ومن قولنا في هذا المعنى: [البسيط]
والحرّ لا يكتفي أبدا من نيل منزلة ... حتى ينال الّتي من دونها العطب
يسعى به أمل من دونه أجل ... إن كفّه رهب يدعو به رغب
لذاك ما سأل موسى ربّه: أرني ... أنظر إليك وفي تسآله عجب
يبغي التزيّد فيما نال من كرم ... وهو النجيّ لديه الوحي والكتب
وقال حبيب: [الطويل]
ذريني وأهوال الزمان أقاسها ... فأهواله العظمى تليها رغائبه (2)
* * *
قال: فلمّا أن رأى القاضي تنافي قول الفتى وفعله، وتحلّيه بما ليس من أهله، نظر إليه بعين غضبى، وقال: أتميميّا مرة وقيسيّا أخرى! أفّ لمن ينقض ما يقول، ويتلوّن كما تتلوّن الغول. فقال الغلام: والّذي جعلك مفتاحا للحقّ، وفتّاحا
__________
(1) أخرجه البخاري في الأنبياء باب 27، والترمذي في تفسير سورة 18، باب 3، وأحمد في المسند 2/ 312، 318.
(2) البيت في ديوان أبي تمام ص 44.(3/95)
بين الخلق لقد أنسيت مذ أسيت، وصدىء ذهني مذ صديت على أنّه أين الباب الفتح، والعطاء السّرح! وهل بين من يتبرع باللها، وإذا استطعم بقول: ها!
قال له القاضي: مه فمع الخواطىء سهم صائب، وما كل برق حالب. فميّز البروق إذا شمت، ولا تشهد إلّا بما علمت.
قوله تحلّيه: تزيّنه، وقوله: أتميميّا مرة وقيسيّا أخرى، مثل يضرب لمن يتناقض فيما يقول، تقديره: أتنسب مرة لتميم وتنسب مرّة لقيس! وتميم وقيس قبيلتان عظيمتان، وبينهما أبدا مكافحات ومقاتل، وتميم هذا ابن مرّة بن آدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر، وقيس بن الياس، قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا الدرداء، إذا فاخرت ففاخر بقريش، وإذا كاثرت فكاثر بتميم، وإذا حاربت فحارب بقيس، إلّا أن وجهها كنانة، ولسانها أسد، وفرسانها قيس، ألا إن لله فرسانا في سمائه وهم الملائكة، وفرسانا في الأرض وهم قيس، وإنّ آخر من يقاتل على الإسلام حين لا يبقى إلا ذكره، ومن القرآن إلا رسمه، رجل من قيس». قلت: يا رسول الله، من أيّ قيس؟ قال: «من سليم». وفي البديعية: [مجزوء الخفيف]
إنّ حالي مع الزما ... ن كحالي مع النّسب
أنا أصحى مع النّبي ... ط وأمسي مع العرب
نسبي في يد الزما ... ن إذا سامه انقلب
وقال زفر بن الحارث لعمران بن حطّان: أزيديّا مرة، وأوزاعيّا أخرى! وقال عمران ابن حطّان: [البسيط]
فاعذر أخاك ابن زنباع فإنّ له ... في النائبات خطوبا ذات ألوان
يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدّيّا معدناني (1)
وقال آخر: [البسيط]
أفي الولائد أولاد لواحدة ... وفي العيادة أولاد لعلّات (2)
قوله: يتلوّن، أي يتغير ويتنوّع. والغول: ساحرة الجن، وهو يتصوّر في صور شتى. وأخذه من قول كعب بن زهير: [البسيط]
__________
(1) البيت الثاني لعمران بن حطان في خزانة الأدب 5/ 357، وشرح شافية ابن الحاجب 2/ 14.
(2) يروى صدر البيت:
أفي الولائم أولادا لواحدة
وهو بلا نسبة في شرح أبيات سيبويه 1/ 382، والكتاب 1/ 344، ولسان العرب (علل)، والمقتضب 3/ 265، والمقرب 1/ 258.(3/96)
فما تدوم على حال تكون بها ... إلّا كما تلوّن في أثوابها الغول (1)
وتزعم العرب أنه إذا انفرد رجل في الصحراء ظهرت له في خلقة إنسان، ولا يزال يتبعها حتى يضلّ الطريق، فتدنو منه، وتتمثل في صور مختلفة فتهلكه روعا. وإذا أرادت أن تضلّ الناس أوقدت نارا فيبصرها الساري فيقصدها، فتفعل ذلك وتروّعه، فإن كان الذي يأتيها شجاعا مقداما تحامل وتبعها، فإذا رأت ذلك لم تضرّه، وجلس يصطلي بنارها وهي معه. وقال تأبّط شرا: [المتقارب]
وأدهم قد جبت جلبابه ... كما اجتابت الكاعب الخيعلا (2)
إلى ضوء نار تنوّرتها ... فبتّ لها مدبرا مقبلا
فأمسيت والغول لي جارة ... فيا جارنا أنت ما أهولا
فمن يك عن جارتي سائلا ... فإنّ لها باللّوى منزلا
قال أبو عمرو رحمه الله بات تأبّط شرّا ليلة ذات ظلمة ورعد وبرق بواد يقال له:
رحى بطان، فلقيه الغول وهو سبع من سباع الجنّ فما زال يقاتلها حتى قتلها، فقال:
[الوافر]
ألا من مبلغ فتيان فهم ... بما لاقيت عند رحى بطان
فإنّي قد رأيت الغول تهوي ... بسهب كالصّحيفة صحصحان
فشدّت شدّة نحوي فأهوى ... لها كفّي بمصقول يماني
لها عينان في رأس قبيح ... كرأس الهرّ مشقوق اللسان
وساقا مخدج وشواة كلب ... وثوب من عباء أو شنان
قالوا: وخلفتها خلقة إنسان ورجلاها رجلا حمار، فإذا صاح بها الرّجل: رجلي حمار! نهقت نهيقا لا تخطىء السّبسب والطريق، وفرّت منه.
وانظر في التاسعة والأربعين ذكر القطرب وفيه شيء مستظرف.
قوله: فتّاحا، أي حاكما. وافتح بيننا، أي احكم بيننا، والفتّاح: الناصر، والفتح:
النصر. والحاكم بنصر المظلوم. أسيت: حزنت صدىء ذهني، أي تغطى بالغفلة، من الصّدأ، وهو ما يعلوه من الدّرن. وصديت، غير مهموز أصدى صدى، وأراد مذ افتقرت
__________
(1) البيت في ديوان كعب بن زهير ص 8، والمخصص 17/ 5، والمذكر والمؤنث للأنباري ص 411، وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 961، 988.
(2) يروى صدر البيت الأول:
وأدهم قد جبت ظلماءه
وهو لحاجز السروي في لسان العرب (فعل).
شرح مقامات الحريري / ج 3/ م 7(3/97)
علاني الوسخ، وصحبني النسيان. والفتح: الكثير الفتح الواسع الذي لا يغلق في وجه قاصده. السّرح. الكثير الذي يسرح صاحبه في أنواع الجود، والسرح: السهل السريع، وناقة سروح: مسرعة في سيرها يتبرع: يتفضّل بجوده متطوعا، وتبرّع: تطوّع. اللها:
العطايا. ها معناها: خذ وتناول. وذكر أبو محمد هذه اللفظة في الدّرة فقال: ويقولون لمن يناول شبئاها، بقصر الألف، فيلحنون فيها، لأن الألف ممدودة كما جاء في الحديث: «الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء» (1). ويجوز فيه فتح الهمزة وكسرها مع المدّ ولا تقصر إلا إذا اتصلت بها كاف الخطاب، فيقال: هاك كما يروى أن عليا رضي الله عنه آب إلى فاطمة رضي الله عنها من بعض مواطن الحرب، وسيفه يقطر دما، فقال:
[الطويل]
* أفاطم هاك السيف غير مذمّم (2) *
وعند النحويين أنّ المد فيها بدل من كاف الخطاب، لأنّ أصل وضعها أن تقترن كاف الخطاب بها. فساقها أبو محمد هنا مقصورة بغير كاف، ووقع فيما زعم أنه لحن.
فإن قيل: لعلّها لما وقعت في فقرة موقوف عليها، يحتمل فيها ذلك، فنقول: إنه قد أردفها على فقرة قبلها مقصورة بإجماع، وهي اللها فسوّاها معها على أن أهل اللغة حكوا في اللفظة أربع لغات: ها مقصورة كما في المقامة، وهاء بالمدّ مع فتح الهمزة وكسرها. وسمع رجل أبا العتاهية ينشد: [مجزوء الكامل]
فانظر بطرفك حيث شئ ... ت فلن ترى إلا بخيلا
فقال: قد بخّلت الناس كلّهم، فقال: كذّبني أنت بواحد منهم سخيّ.
قوله: مه: اكفف. الخواطىء: السهام تخطىء الغرض، وهذا مثل يضرب لمن يكثر الخطأ ويأتي أحيانا بالصواب. خالب: خادع شمت البرق: نظرت سحابه أين يمطر.
أعظم: جعله عظيما.
* * * فلمّا تبيّن للشّيخ أن القاضي قد غضب للكرام، وأعظم تبخيل جميع الأنام علم أنه سينصر كلمته، ويظهر أكرومته، فما كذّب أن نصب شبكته، وشوى في الحريق سمكته، وأنشأ يقول: [السريع]
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع باب 54، 76، وابن ماجه في التجارات باب 48.
(2) يروى البيت:
أفاطم هاء السيف غير مذمّم ... فلست برعديد ولا بلئيم
وهو لعلي بن أبي طالب في ديوانه ص 174، وجمهرة اللغة ص 251، وشرح المفصل 4/ 44، وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب 1/ 319، والمحتسب 1/ 337.(3/98)
يأيّها القاضي الّذي علمه ... وحلمه أرسخ من رضوى
قد ادّعى هذا على جهله ... أن ليس في الدّنيا أخو جدوى
وما درى أنّك من معشر ... عطاؤهم كالمنّ والسّلوى
فجد بما يثنيه مستخزيا ... ممّا افترى من كذب الدّعوى
وأنثني جذلان أثني بما ... أوليت من جدوى ومن عدوى
* * *
والحريق: ما تحرقه النار من الحشيش والعيدان، وناره ضعيفة لا تدوم. السمك:
كبش الماء، فلا يستوي إلّا على نار قوية فربّما شوى سمكته ما دام لهب النار موجودا، فإذا سكن اللهب لم يتمكن من شيّها لعدم الجمر في الحريق، فيريد أنّه حرّض القاضي بالشعر على الكرم، حين اهتزّ للكرام، وغضب من تبخيلهم فهزّه بهذا الشعر ليجود عليه قبل أن يسكن، فربّما يبدو له ألّا يجود. أرسخ: أثبت رضوى: جبل بالمدينة سهل مشتق من الرضوان، كأنّ الذي يصعده راض عنه لقلة المشقّة في صعوده. أخو جدوى:
صاحب عطية وكرم. المنّ والسلوى: طعام كان ينزل على بني إسرائيل، وقيل: المنّ الترنجبين والسلوى. السماني، وهو طائر. يثنيه: يردّه. مستخزيا: صاغرا خاضعا.
ويروى «مستخديا»، والخدية: الاستحياء، أو يكون بمعنى مهانا، والخزي: الهوان افترى: كذب واستبعد أنثني جذلان: أرجع فرحا. أوليت: أعطيت. حدوى: إعانة، أي أرجع بالجدوى، وبإعانتك لي عليه حتى يتوب من عقوقه.
* * * قال: فهشّ القاضي لقوله، وأجزل له من طوله، ثمّ لفت وجهه إلى الغلام، وقد نصل له أسهم الملام، وقال له: أرأيت بطل زعمك، وخطأ وهمك! فلا تعجل بعدها بذمّ، ولا تنحت عودا قبل عجم، وإيّاك وتأبّيك، عن مطاوعة أبيك، فإنّك إن عدت تعقه، حاق بك منّي ما تستحقّه، فسقط الفتى في يده، ولاذ بحقو والده، ثم نهض يحفد، وتبعه الشّيخ ينشد: [السريع]
من ضامه أو ضاره دهره ... فليقصد القاضي في صعده
سماحه أزرى بمن قبله ... وعدله أتعب من بعده
* * *
هشّ: فرح. أجزل: أكثر. طوله: إفضاله وهباته. ولفت: ردّ نصل: جعل له نصالا، وأنصلها: نزع نصالها، والنّصل: حديدة السهم. بطل زعمك، أي بطلان قولك.
وهمك: ظنك. تنحت: تنجر. عجم: اختبار، أي حتى تعلم: هل هو قويّ أو ضعيف،
يقول: لا تعتب أحدا حتى تجرّبه. قوله: وإياك وتأبّيك عن مطاوعة أبيك، أي احذر أن تمتنع عن مطاوعة والدك، فإنك ومالك لأبيك.(3/99)
وهمك: ظنك. تنحت: تنجر. عجم: اختبار، أي حتى تعلم: هل هو قويّ أو ضعيف،
يقول: لا تعتب أحدا حتى تجرّبه. قوله: وإياك وتأبّيك عن مطاوعة أبيك، أي احذر أن تمتنع عن مطاوعة والدك، فإنك ومالك لأبيك.
جابر رضي الله عنه: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، إن أبي أخذ مالي، فقال له: «اذهب، فائتني به»، فأوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل الشيخ عن شيء في نفسه، قاله في شأن ابنه. فلمّا جاء الشيخ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بال ابنك يشكوك؟ أتريد أن تأخذ ماله»! فقال: سله يا رسول الله، هل أنفقته إلا على نفسي أو على إحدى عماته أو خالاته! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «دعني من هذا، أخبرني عن شيء قلته في نفسك، ما سمعته أذناك»، فقال: يا رسول الله، ما زال الله يزيدنا بك يقينا، لقد قلت في نفسي شيئا، ما سمعته أذناي، وأنشد يقول: [الطويل]
غذوتك مولودا وعلتك يافعا ... تعلّ بما أجني عليك وتنهل (1)
إذا ليلة ضاقتك بالسّقم لم أبت ... لسقمك إلّا ساهرا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالّذي ... طرقت به دوني فعيناي تهمل
تخاف الرّدى نفسي عليك وإنها ... لتعلم أن الموت وقت مؤجّل
فلما بلغت السنّ والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيك أومّل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة ... كأنك أنت المتعم المتفصّل
فليتك إذ لم ترع حق أبوّتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل
قال: فحينئذ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه، وقال: «أنت ومالك لأبيك» (2).
قوله: حاق، أي نزل، تقول: حاق به المكروه والشؤم يحيق حيقا، نزلا به.
ابن عرفة: وجبا عليه وألزماه، قال الأزهري رحمه الله: الحيق ما يحيط بالإنسان من سوء عمله ومكروه فعله، وقوله تعالى: {وَلََا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلََّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]، أي لا ترجع عاقبة مكرهم إلا عليهم. سقط في يده، يقال ذلك للنادم المتحيّر، ويقال: سقط في يده وأسقط في يده، إذا ندم على فعله، وتحسّر عليه، واليد هنا: الندم، وقوله: سقط الفتى في يده، قال جماعة من أهل اللغة: صوابه: سقط في يده من غير تسمية الفاعل، لأن الفعل مسند إلى المجرور. وقال الأزهري رحمه الله: إنما حسّن سقط في يده بضم السين، غير مسمّى فاعله الصلة، وهي في يده، ومثله قول امرىء القيس: [الكامل]
* دع عنك نهبا صيح في حجراته (3) *
__________
(1) الأبيات لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص 45، والبيت الأول في تاج العروس (عول).
(2) أخرجه ابن ماجه في التجارات باب 64، وأحمد في المسند 2/ 179، 204، 214.
(3) عجزه:
ولكن حديثا ما حديث الرواحل(3/100)
أي صاح المنّهب في نواحيه، وكذلك المراد سقط الندم في يده. وقال أبو القاسم الزجاجي: سقط في أيديهم نظم لم يسمع قبل القرآن، ولا عرفته العرب، فيوجد في أشعارها وخفي على الإسلاميين قال أبو نواس: [الرجز]
* ونشوة سقطت منها في يدي *
وأخطأ في استعمالها، لأن فعلت لا يبنى إلا مما يتعدّى، لا يقال: رغبت ولا غضبت، إنما يقال رغب فيّ وغضب عليّ. لاذ: لجأ وتستّر، ولاذ فلان بفلان: تستر به ودار حوله، وبعضهم يقول: ألاذ، والأولى هي الغالبة، واللواذ مصدر لاوذ، ولذا أثبتت الواو، ولو كان مصدر «لاذ، لقلت لياذا، كقمت قياما».
بحقو: بخصر، وجمعه أحقاء وحقاء. وحفد يحفد أسرع. ضامه: أذله. ضاره:
ضرّه: أزرى: قصّر. وتقدم معنى البيت في الرسالة السادسة والعشرين.
* * * قال الرّاوي: فحرت بين تعريف الشّيخ وتنكيره، إلى أن احرورف لمسيره، فناجيت النّفس باتّباعه، ولو إلى رباعه، لعلّي أظهر على أسراره، وأعرف شجرة ناره، فنبذت العلق، وانطلقت حيث انطلق، ولم يزل يخطو وأعتقب، ويبعد وأقترب، إلى أن تراءى الشّخصان، وحقّ التّعارف على الخلصان، فأبدى حينئذ الاهتشاش، ورفع الإرتعاش، وقال: من كاذب أخاه فلا عاش. فعرفت عند ذلك أنّه السّروجي بلا محالة، ولا حؤولة حالة. فأسرعت إليه لأصافحه، وأستعرف سانحه وبارحه فقال: دونك ابن أخيك البرّ، وتركني ومرّ. فلم يعد الفتى أن أن افترّ، ثمّ فرّ كما فرّ، فعدت وقد استبنت عينهما، ولكن أين هما!
* * * احرورف: مال وانحرف: ناجيت: حدّثت. رباعه: دياره. شجرة ناره، يريد أصل جبلّته. أعتقب: أمشي خلقه واتّبع عقبه. تراءى: ظهر، وخلصان الرجل: صديقه الّذي خلصت له مودّته. الاهتشاش: الطّرب والبشر. الارتعاش: الرّعدة، يريد أن داءه كذب لا حقيقة له محاله: حيله حؤول: تغيّر. أصافحه: أعانقه وأسلّم عليه. أستعرف سانحه
__________
والبيت لامرىء القيس في ديوانه ص 94، وخزانة الأدب 10/ 159، 11/ 177، والدرر 4/ 140، وشرح شواهد المغني 1/ 440، ولسان العرب (صيح) (حجر)، (رسس)، (سقط)، ومغني اللبيب 1/ 150، والمقاصد النحوية 3/ 307، وهمع الهوامع 2/ 29، وبلا نسبة في الجنى الداني ص 244، والمقرب 1/ 195.(3/101)
وبارحه، أي أطلب منه أن يعرّفني بخيره وشره. والسانح من الطير والوحش ما مرّ على ناحية يمينك، والبارح ما مرّ على ناحية يسارك وقيل: السانح ما أولاك ميامنه، والبارح ما أولاك مياسره، وأكثر العرب تتبرك بالسّانح وتتشاءم بالبارح، وبعضهم يتبرّك بالبارح، ويتشاءم بالسانح، والسانح: الذي يمرّ عليك عن ميامنك إلى مياسرك، فيمكن للطّاعن طعنه، وللرامي رميه، فالذي يتمينّ به يرى أنه رزق حاصل، والذي يتشاءم به يرى أنّه عاطب وهالك، والبارح بالضّدّ، فالأول يرى أنه فائت، وراميه خاسر فيتشاءم به، والثاني يرى أنه سالم غير عاطب، فيتيمّن به، والذين يتيمّنون بالبارح ويتشاءمون بالسانح أهل نجد، والذين يضادّونهم أهل العالية.
قوله: دونك، أي خذه واقصده. البرّ: والبار: الكثير الإكرام لأبويه. افترّ:
ضحك. استبنت: عرفت. عينهما: شخصهما، وجعله آخر المقامة برّا له لموافقته له في الحيل، وجرت العادة بأنّ الأب إذا كان نجيبا، فالابن بالضدّ ولهذا قال الشاعر:
[المتقارب]
إذا أطلع الدّهر حرّا نجيبا ... فكن في ابنه سيّىء الاعتقاد
فلست ترى من نجيب نجيبا ... وهل تترك النّار إلا الرماد!(3/102)
إذا أطلع الدّهر حرّا نجيبا ... فكن في ابنه سيّىء الاعتقاد
فلست ترى من نجيب نجيبا ... وهل تترك النّار إلا الرماد!
المقامة الثامنة والثلاثون وهي المرويّة
حكى الحارث بن همّام قال: حبّب إليّ مذ سعت قدمي، ونفث قلمي، أن أتّخذ الأدب شرعة، والاقتباس منه نجعة فكنت أنقّب عن أخباره، وخزنة أسراره فإذا ألفت منهم بغية الملتمس، وجذوة المقتبس، سددت يدي بغرزه، واستنزلت منه زكاة كنزه على أنّي لم ألق كالسّروجيّ في غزارة السّحب، ووضع الهناء مواضع النّقب إلّا أنّه كان أسير من المثل، وأسرع من القمر في النّقل، وكنت لهوى ملاقاته، واستحسان مقاماته، أرغب في الاغتراب، وأستعذب السّفر الّذي هو قطعة من العذاب.
* * * قوله: نفث، أي كتب، والنّفث ما تلقيه من فيك من البصاق الغليظ، فشبّه ما يلقيه القلم من المداد بالنّفث، هذا ظاهر اللفظ، وإنما أراد في المعنى بالقلم ذكره، ونفثه منيّه، فكنى عن البلوغ بذلك، فهو يريد وقت الحلم، وهو الوقت يقوى فيه على المشي في الأسفار، والتصرف كذا فسره لنا بعض حذّاق أشياخنا، وفسرّه الفنجديهي على ظاهره، فقال: معنى مذ سعت قدمي نفث قلمي، مذ قدرت على المشي والكتابة والنظم والنثر. شرعة: طريقة وشريعة وعادة، ومعناه: أصرف همتي إلى علم اللغة والعربية. قال الشافعي رضي الله عنه: من تعلّم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل مقداره، ومن تعلّم اللغة رقّ طبعه، ومن تعلّم الحساب جزل رأيه، ومن كتب الحديث قويت حجته ومن لم يصن نفسه، لم ينفعه عمله.
الاقتباس: الاكتساب وهو افتعال، من القبس. نجعة: طلب المرعى، أي جعلت طلب الأدب لي غذاء ورزقا. أنقّب: أبحث. أحباره: علمائه. ألفيت: وجدت. بغية:
حاجة. الملتمس: الطالب للشيء. جذوة: جمرة عظيمة. والمقتبس: الطالب للنار، والغرز: للرجل، كالرّكاب للسرج، ومعنى شددت بغرزه، أي تمسكت بركابه وبالغت في خدمته، روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من أخذ بركاب رجل لا يرجوه ولا يخافه غفر له».(3/103)
غزارة: كثرة، والسّحب: جمع سحابة، كنى بها عن كثرة العلم. الهناء: القطران.
النّقب: جمع نقبة وهو أوّل ما يبدو من الجرب، وهو مثل لمن وضع الشيء في موضعه، أراد أنه ماهر، أي حاذق يعطي كلّ طالب ما يستحقه ويشفيه من سؤاله، لأن الجهل في القلب بمنزلة الدّاء، فهذا يوقع بيانه بموضع الجهل، فيبرأ صاحب ذلك من دائه، ووضع الهناء مواضع النقب، عجز بيت لدريد بن الصمّة، وكان خرج فرأى الخنساء الشاعرة تهنأ: ذودا لها، ثم نضت ثيابها واغتسلت وهو يراها ولا تراه فقال: [الكامل]
حيّوا تماضر واربعوا صحبي ... وقفوا فإنّ وقوفكم حسبي (1)
ما إن رأيت ولا سمعت به ... كاليوم طالي أينق جرب
متبذّلا تبدو محاسنه ... يضع الهناء مواضع النّقب
وتماضر اسم الخنساء: قوله: أسير من المثل، أي أنه لا يستقرّ ببلد. النقل، يريد انتقاله في المنازل فلا يقيم بمنزلة سوى ليلة، وينتقل في الثانية إلى أخرى، فأراد أنّ أبا زيد لا يستقرّ ببلد إلّا ما يستقرّ القمر بمنزله وهي ليلة واحدة، بل هو أسرع من القمر في ذلك، وإنما خصّ القمر به لأنّه أسرع الكواكب ثقلة من برج إلى برج، إذ لا يمكث في البرج إلا يومين أو ثلاثا، والبرج منزلتان وثلث، والشمس تمكث في البرج ثلاثين يوما، وعطارد يمكث فيه سبعة عشر يوما، والمشتري اثني عشر شهرا وزحل ثلاثين شهرا، والمرّيخ شهرا ونصفا، والزّهرة ستة وعشرين يوما، والرأس والذنب ثمانية عشر شهرا، ذلك تقدير العزيز العليم.
قوله: وأستعذب السفر الذي هو قطعة من العذاب: هو حديث صحيح، رواه مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نهمته من وجهته فليعجّل الرجوع إلى أهله» (2). النّهمة. بلوغ الهمة والشهوة والحاجة، ورجل منهوم بكذا مولع به.
* * * __________
(1) الأبيات في ديوان دريد بن الصمة ص 34، والبيت الأول في الأغاني 15/ 61، وتاج العروس (مضر)، والشعر والشعراء ص 350، وبلا نسبة في الخصائص 3/ 197، والممتع في التصريف 1/ 96، والبيت الثاني في الأغاني 10/ 22، وإصلاح المنطق ص 127، وشرح شواهد الإيضاح ص 578، 129، وشرح شواهد المغني ص 955، وشرح المفصل 8/ 128، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 188، وجمهرة اللغة ص 374، ومغني اللبيب ص 679، والبيت الثالث في لسان العرب (نقب)، وديوان الأدب 1/ 150، وتاج العروس (نقب)، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 5/ 466.
(2) أخرجه البخاري في العمرة باب 19، والجهاد باب 136، والأطعمة باب 30، ومسلم في الإمارة حديث 179، والدارمي في الاستئذان باب 40، ومالك في الاستئذان حديث 39، وأحمد في المسند 2/ 236، 496.(3/104)
فلمّا تطوّحت إلى مرو، ولا غرو، بشّرني بملقاه زجر الطّير، والفأل الّذي هو بريد الخير فلم أزل أنشده في المحافل، وعند تلقّي القوافل. فلا أجد عنه مخبرا، ولا أرى له أثرا ولا عثيرا، حتى بلغ اليأس الطمع وانزوى التأميل وانقطع، فإنّي لذات يوم بحضرة والي مرو، وكان ممّن جمع الفضل والسّرو، إذ طلع أبو زيد في خلق مملاق، وخلق ملّاق. فحيّا الوالي تحيّة المحتاج، إذا لقي ربّ التاج، ثم قال له:
اعلم وقيت الذّم، وكيفيت الهمّ أن من عذقت به الأعمال، أعلقت به الآمال، ومن رفعت له الدّرجات، رفعت إليه الحاجات. وأنّ السعيد من إذا قدر، وواتاه القدر، أدّى زكاة النّعم، كما يؤدّي زكاة النّعم، والتزم لأهل الحرم، ما يلتزم للأهل والحرم. وقد أصبحت بحمد الله عميد مصرك، وعماد عصرك، تزجى الرّكائب إلى حرمك، وترجى الرّغائب من كرمك، وتنزل المطالب بساحتك، وتستنزل الرّاحة من راحتك، وكان فضل الله عليك عظيما، وإحسانه لديك عميما.
* * * قوله: تطوّحت، يقال: تطوّح في البلاد: ذهب به ها هنا وها هنا، فأراد بقوله:
تطوّحت: رميت بنفسي إليها.
[مرو] (1)
مرو: بلدة بخراسان، جليلة لها قرى ومحلّات، وتسمّى أمّ خراسان، وهي دار خلافة المأمون، ومنها خرج أبو مسلم صاحب الدعوة، ينسب إليها. الثّوب مرويّ والرجل مروزيّ، وهو شاذ النسب، ومن مرو إلى مرو (2) خمس مراحل، وعلى مرو نهر فوّهته بالسّابيان، وهو جبل عظيم الارتفاع، تسيل منه أنهار تخترق بلاد خراسان، منها وادي خوارزم، مسيرته أربعون يوما، ووادي القندهار مسافته شهر، ونهر سجستان، مسافته شهر، ونهر مرو، مسافته شهر، ونهر هراة مسافته عشرون يوما، ونهر بلج مسافته اثنا عشر يوما، وبلخ هي متوسّطة خراسان، منها إلى فرغانة ثلاثون مرحلة مغربا، وإلى سجستان مما يلي الفبلة كذلك وإلى كابول وقندهار كذلك، وإلى خوارزم كذلك. وأهل مرو أطبع الناس على البخل ثم أهل خراسان، قال ثمامة: ما رأيت الدّيك يأكل في بلد
__________
(1) هي مرو الشاهجان.
(2) أي من مرو الروذ إلى مرو الشاهجان.(3/105)
قطّ إلا وهو يدعو الدجاجة إلى الحبّ، ويلفظ الحب إليها، إلّا بمرو، فإنني رأيته يأكل وحده، فعلمت أنّ لؤمهم كثير جدّا، وهو فيهم طبع، ورأيت بها طفلا صغيرا، بيده بيضة، فقلت له أعطنيها، فقال لي: ليست تسعها في يدك، فعلت أنّ المنع طبع مركّب فيهم.
لا غرو: لا عجب. زجر الطير. التفاؤل بها، وفسّر الشافعيّ رضي الله عنه قوله النبيّ صلى الله عليه وسلم «أقرّوا الطير على مكناتها» (1). لأن الرجل كان في الجاهلية، إذا أراد الحاجة أتى الطائر في وكره فنغّره، فإن أخذ ذات اليمين مضى لحاجته، وإن أخذ ذات الشمال رجع. فنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل» قيل: وما الفأل؟ قال: «كلمة طيبة» (2).
[الزجر والعيافة]
وزجر الطير التّيامن بها، والتشاؤم. وكان عند العرب قوّة زائدة وإدراك، فينظر الزّاجر منهم للطائر، ولمّا يفعل، فيستقري من ذلك ما يتيامن به ويتشاءم منه، مثل ما يحكى عن أمية بن أبي الصّلت أنه كان يشرب مع إخوان له في قصر غيلان بالطائف إذ سقط غراب على شرف القصر، فنعب نعبة، فقال له أميّة: بفيك الكثكث وهو التّراب، فقال له إخوانه ما يقول؟ قال: يقول: إذا شربت الكأس الذي في يدك متّ. ثم نعب نعبة، فقال أميّة نحو ذلك، فقالوا له: وما يقول؟ قال: زعم أنّ علامة ذلك أن يقع على هذه المزبلة تحت القصر، فيستثير عظما، فيشجى به فيموت. فبينما هم يتكلّمون، إذ وقع الغراب على هذه المزبلة ليلتقط، فاستثار عظما، فأراد أن يبتلعه، فشجى به فمات، فانكسر أميّة، ووقع الكأس من يده، وتغيّر لونه، فجعلوا يعيّرونه عليه، ويقولون: ما أكثر ما سمعنا بمثل هذا، وكان باطلا! فألحّوا عليه، حتى شرب الكأس، فمال في شقّ فأغمي عليه، ثم أفاق، وقال: لا برىء فأعتذر، ولا قويّ فأنتصر، ثم زهقت نفسه.
وحكى المدائني قال: خرج كثيّر من الحجاز يريد مصر، ليزور عزّة، فلما قرب منها رأى غرابا على شجرة ينتف ريشه، فتطيّر من ذلك، فلقيه رجل من بني لهب فقال:
يا أخا الحجاز، ما لك كاسف اللون؟ فذكر له ما رأى، فقال: إنك تطلب حاجة لا تدركها. فقدم مصر، والناس منصرفون من جنازة عزّة فقال: [الطويل]
رأيت غرابا ساقطا فوق بانة ... ينتّف أعلى ريشه ويطايره (3)
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 6/ 381.
(2) أخرجه البخاري في الطب باب 43، 44، ومسلم في السلام حديث 110، وأحمد في المسند 2/ 266، 267، 406، 453، 524.
(3) يروى البيت الأول:
رأيت غرابا واقعا فوق بانه ... ينشنش أعلى ريشه ويطايره
وهو بلا نسبة في لسان العرب (نشش)، وتاج العروس (نشش)، والمخصص 8/ 131.(3/106)
فقلت ولو أنّي أشاء زجرته ... بنفسي للهبّي فهل أنت زاجره
فقال غراب لاغتراب من النوى ... وفي البان بين من حبيب تجاوره
فما أعيف اللهبيّ لا درّ درّه ... وأزجره للطيّر، لا طار طائره
ومّمن زجر لنفسه بشرّ ذو الرّمة فقال: [الطويل]
رأيت غرابا ساقطا فوق قضبة ... من القضب لم ينبت لها ورق خضر (1)
فقلتّ غراب لاغتراب وقضبة ... لقضب النوى، تلك العيافة والزّجر
ومّمن زجر بخير أبو حيّة، حين قال: [الطويل]
وقال صحابي هدهد فوق بانة ... هدى وبيان بالنّجاح يلوح
وقالوا دم، دامت مواثيق بيننا ... ودام لنا حلو الصفاء صريح
وقالوا حمامات، فحمّ لقاؤها ... وطلح فزيرت والمطيّ طلوح
ومن ملح الزّجر زجر أبي نواس، وذلك أنه استخفى عنه أصحابه، وكان لا يفارقهم، ووجّهوا رسولا إليه، فرمى له ظهر قرطاس من وراء الباب، غير مكتوب، وخرموه بزير، وختموه بقار، وأمروا الرسول أن يرمي إليه الكتاب من وراء الباب، فاستعلم موضعهم، وتعرف حالهم، وكتب إليهم: [الوافر]
زجرت كتابكم لمّا أتاني ... بمرّ سوانح الطّير الجواري
نظرت إليه مخروما بزير ... على ظهر ومختوما بقار
فعفت الظّهر أهيف قرطقيّا ... يحار الطّرف منه باحورار
وكان الزّير ذا شدو مصيب ... وقار الختم من قار العقار
فطرت إليكم يا أهل ودّي ... بقلب من هواكم مستطار
فكيف ترونني وترون زجري ... ألست من الفلاسفة الكبار!
وما أحسن قول ابن قاضي ميلة وجمع الوصفين: [الطويل]
ولمّا التقينا محرمين وسيرنا ... بلبّيك يطوى والرّكائب تعسف
فقلت لتربيها أبلغاها بأننيّ ... بها مستهام قالتا: نتلّطف
تفاءلت في أن يطوى طارق الهوى ... بأن عنّ لي منها البنان المطرّف
وأمّا دماء الهدي فهو تواصل ... يدوم ورأي في الهوى يتألّف
وفي عرفات ما يخبّر أنّني ... بعارفة من نيل وصلك أسعف
وتقبيل ركن البيت إقبال دولة ... لنا وزمان بالمودّة يعطف
__________
(1) البيتان في ملحق ذي الرمة 667.(3/107)
وأبلغتها ما قلته فتنهّدت ... وقالت أحاديث العيافة زخرف
لئن كنت ترجو في منى الفوز بالمنى ... فبالخيف من أعراضنا نتخوّف
وقد أنذر الإحرام أنّ وصالنا ... حرام وأنّا عن مرادك نصرف
فهذا وقذفي بالحصا لك منذر ... بأنّ النوى لي عن ديارك تقذف
فبادر نفاري ليلة النّفر إنّه ... سريع وقل من بالعيافة أعرف
* * *
قوله: أنشده، أي أطلبه والمحافل: الجموع. والقوافل: الرفاق الرواجع. عثيرا:
غبارا. اليأس: قطع الرجاء. انزوى: انقبض. التأميل: الترجّي، وهو مصدر أمل الخير، أي ترجّاه. انقمع: انكفّ. السّرو: السيادة. مملاق: فقير. ملّاق: متلطّف في كلامه.
عذقت: علّقت وشدّدت به، وعذق شاته يعذقها، إذا ربط في صوفها خرقة تخالف لونها.
الدرجات: المنازل الشريفة.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلقان يحبّهما الله، وهما السخاء والسماحة، وخلقان يبغضهما الله، وهما البخل. وسوء الخلق. وإذا أراد الله بعبد خيرا استعمله على قضاء حوائج الناس».
وقال خالد بن صفوان: لا تسأل الحوائج ثلاثة لا تسألها: كذوبا، فيقرّب بعيدا ويبعّد قريبا، ولا أحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك، ولا رجلا له إلى صاحبك حاجة، فإنه يصيّر حاجتك بطانة لحاجته.
واتاه: وافقه وطاوعه. أدّى: أعطى. زكاة النّعم: الإبل والشاء، أي أعطى الصنائع والمعروف.
الحرم: جمع حرمة، أراد بذلك أهل الصّيانة والعفاف.
الفنجديهي: الحرم أقوام محترمون، والحرم الثاني: الأهل والقرابة، ومن يحرم على الإنسان نكاحه أو أتركه لضياعه عميد: سيّد.
مصرك: بلدك، والمصر: الحدّ، ويكتب أهل نجد: اشترى فلان من فلان الدار بمصورها، أي بحدودها.
قطرب: هو مأخوذ من مصرت الناقة أمصرها مصرا، إذا حلبتها، وجعلت ضرعها بين إصبعين، فخرج من اللبن شيء قليل، فيسمّى مصرا لأن الناس يجيئون إليه ثم يثبتون، أوّل فأوّل وقيل: المصر العلامة.
العماد: ما يقوم عليه الخباء، شبّهه في قيامه بالأمور بالعماد.
تزجى: تساق. الرّكائب: الإبل. حرمك: بلدك وموضعك الّذي تحميه. الرغائب:
العطايا ساحتك: فناء دارك. راحتك: كفّك.(3/108)
ونذكر من الأحاديث ما يوافق هذا الفصل الذي قدّمنا تفسيره.
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «من عظمت نعمة الله عليه عظمت مؤنة الناس إليه، فإن لم يقم بتلك المؤنة عرّض النّعمة للزوال:
عمرو بن العاص: والله لرجل ذكّرني، ينام على شقّة مرّة، وعلى الأخرى أخرى، يراني موضعا لحاجته لهو أوجب عليّ حقا إذا سألها مني أن أقضيها له.
وقف العتّابي بباب المأمون، فجاء يحيى بن أكثم، فقال له: إن رأيت أن تعلم أمير المؤمنين بموضعي! قال: لست بحاجب قال: لقد علمت ولكنك ذو فضل وذو الفضل معوان، قال: سلكت بي غير طريقي، قال: إنّ الله تعالى ألحقك بجاه ونعمة فهما مقيمان عليك بالزيادة إن شكرت، وبالتغيّر إن كفرت، وأنا اليوم لك خير منك لنفسك، أدعوك إلى ما فيه زيادة نعمتك، وأنت تأبى ذلك، ولكل شيء زكاة، وزكاة الجاه بذله للمستعين.
وأما قوله: تزجى الركائب إلى حرمك، فهو كثير في الشعر، ونذكر منه شيئا يبين حالة القصد لهذا الاسم، وقال الحسن يمدح الأمين: [البسيط]
أقول والعيس تعروري الفلاة بنا ... صعر الأزّمة من مثنى ووحدان (1)
يا ناق لا تسأمي أو تبلغي ملكا ... تقبيل راحته والركن سيّان
محمد خير من يمشي على قدم ... ممّن برا الله من إنس ومن جان
محمد بين أملاك تفضّله ... ولادتان من المنصور ثنتان
تنازع الأحمدان الشّبه فاشتبها ... خلقا وخلقا كما قدّ الشّراكان
سيّان لا فرق في المعقول بينهما ... معناهما واحد والعدّة اثنان
وقال حبيب: [الطويل]
إلى أحمد الممدوح أمّت بنا السّرى ... نواعب في عرض الفلا ورواسم (2)
إلى سالم الأخلاق من كلّ عائب ... وليس له مال من الجود سالم
جدير بألّا يصبح المال عنده ... جديرا بأن يبقى وفي الأرض غارم
وقال آخر: [الطويل]
سأجهد عزمي والمطايا فإنّني ... أرى العفو لا يمتاح إلا من الجهد (3)
سرين بنا رهوا ووخدا وإنما ... يظلّ ويمسى النّجح في كنف الوخد
__________
(1) الأبيات في ديوان أبي نواس (الحسن بن هانىء) ص 65.
(2) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 286.
(3) الأبيات لأبي تمام في ديوانه ص 128، 129.(3/109)
قواصد بالسير الحثيث إلى أبي الم ... غيث فما تنفك ترقل أو تخدي
إلى مشرق الأخلاق للجود ما حوى ... ويحوي وما يخفى من الأمر أو يبدي
فتى لم يزل تقضى به طاعة الندى ... إلى العيشة الغراء والسّؤدد الرغد
وقال فيها معتذرا: [الطويل]
أتاني مع الركبان ظنّ طننته ... لففت له رأسي حياء من المجد
ومن زمن ألبستنيه كأنّه ... إذا ذكرت أيامه زمن الورد
أسربل هجر القول من لو هجرته ... إذا لهجاني عنه معروفة عندي
كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي ومتى ما لمته لمته وحدي
وقال أبو الطيب: [الوافر]
فلم تلق ابن إبراهيم عنسي ... وفيها قوت يوم للقراد (1)
فلمّا جئته أعلى محلّى ... وأجلسني على السّبع الشداد
تهّلل قبل تسليمي عليه ... وألقى ماله قبل الوساد
كأنّ الهام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد
وقد صغت الأسنّة من هموم ... فما يخطرن إلا في فؤادي
وقال أبو الهنديّ: [الوافر]
سألناه الجزيل فما تأنّى ... وأعطى فوق منيتنا وزادا
وأحسن ثم أحسن ثم عدنا ... فأحسن ثم عدت له فعادا
مرارا ما قصدت إليه إلّا ... تبسّم ضاحكا وثنى الوسادا
وقال أبو الطيب: [الوافر]
ولمّا قلّت الإبل امتطينا ... إلى ابن أبي سليمان الخطوبا (2)
مطايا لا تذلّ لمن عليها ... ولا يبغي لها أحد ركوبا
وترتع دون نبت الأرض فينا ... فما فارقتها إلا جديبا
إذا نكبت كنانته استبنّا ... بأنصلها لأنصلها ندوبا
يصيب ببعضها أفواق بعض ... فلولا الكسر لاتّصلت قضيبا
ألست ابن الأولى سعدوا وسادوا ... ولم يلدوا امر إلّا نجيبا
ونالوا ما اشتهوا بالحزم هونا ... وصاد الوحش نملهم دبيبا
__________
(1) الأبيات في ديوان المتنبي 1/ 357.
(2) الأبيات في ديوان المتنبي 1/ 140.(3/110)
وما ربح الرّياض لها ولكن ... كساها دفنهم في التّرب طيبا
ومن المدح قول السّريّ في أبي الحصين القاضي: [الوافر]
لقد أضحت خلال أبي حصين ... حصونا في الملمّات الصعاب
كساني ذيل نائله وآوى ... غرائب منطقي بعد اغترب
فكنت كروضة سقيت سحابا ... فأثنت بالنّسيم على السّحاب
وقال بديع الزمان وشاعر الأوان: [البسيط]
يا سيّد الأمرا فخرا فما ملك ... إلّا تمنّاك مولى واشتهاك أبا
وكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيّا يمطر الذّهبا
والدّهر لو لم يخن والشمس لو نطقت ... واللّيث لو لم يصد والبحر لو عذبا
هذه الجملة كافية وكأنها تفسير ما أجمل من ذكر ممدوحه.
* * * ثمّ إنّي شيخ ترب بعد الاتراب، وعدم الإعشاب، حين شاب قصدتك من محلّة نازحة وحالة رازحة، آمل من بحرك دفعة، ومن جاهك رفعة. والتأميل أفضل وسائل السائل، ونائل النائل فأوجب لي ما يجب عليك، وأحسن كما أحسن الله إليك. وإيّاك أن تلوي عذارك، عمّن ازدارك، وأمّ دارك، أو تقبض راحك عمّن امتاحك، وامتار سماحك فو الله ما مجد من جمد، ولا رشد من حشد بل اللبيب من إذا وجد جاد، وإن بدأ بعائدة عاد والكريم من إذا استوهب الذّهب، لم يهب أن يهب.
ثمّ أمسك يرقب أكل غرسه، ويرصد مطيبة نفسه وأحب الوالي أن يعلم: هل أطفته ثمد، أم لقريحته مدد! فأطرق يروّي في استيراء زنده، واستشفاف فرنده، والتبس على أبي زيد سرّ صمتته، وإرجاء صلته، فتوغّر غضبا، وأنشد مقتضبا.
* * * قوله: ترب، افتقر فلم يبق له ما يقعد عليه غير التراب. والاتراب: الاستغناء، وأترب: صار له من المال بكثرة التراب. والإعشاب: إصابة العشب، وأراد به المال.
محلّة: منزل يحلّ فيه.
نازحة: بعيدة. رازحة: كالّه من الهزال، ورزح رزحا: كلّ من العمل.
ابن الأنباري: رزح فلان: ضعف، وذهب ما في يده، وأصله من رزحت إبل فلان
وكلابه، إذا ضعفت، ولزقت بالأرض، وقيل: هو من المرزح، وهو المطمئن من الأرض، فكأنّ الرّازح قد لزمه، وضعف عن الارتقاء إلى العلوّ. آمل: أرجو. جاهك:(3/111)
ابن الأنباري: رزح فلان: ضعف، وذهب ما في يده، وأصله من رزحت إبل فلان
وكلابه، إذا ضعفت، ولزقت بالأرض، وقيل: هو من المرزح، وهو المطمئن من الأرض، فكأنّ الرّازح قد لزمه، وضعف عن الارتقاء إلى العلوّ. آمل: أرجو. جاهك:
عزّك. والوسائل: جمع وسيلة، وهو الشّفيع، فجعل تأميله أفضل وسيلة. نائل: عطاء، والنّائل: المعطي، ونلت له بالعطاء أنول وأنلت أنيل، ورجل نال ورجلان نالان (1)، ورجال أنوال، ونلته أنوله نولا أعطيته، قال الأعشى: [المتقارب]
ينول العشيرة ما عنده ... ويغفر ما قال جهّالها (2)
تلوي عذارك: تعرض بوجهك. ازدارك، بمعنى زارك، واستعمل قصدك راحك:
جمع راحة، وهي باطن الكف. امتاحك: استسقاك وأراد طلب معروفك، قال الرّاجز:
[الرجز]
أفلح ساق بيديك امتاحا ... وقرّ عينا ورجا الفلاحا
قوله: امتار: استجلب منك الرزق. سماحك: جودك. مجد: كرم، وصار ماجدا، أي شريفا، ومجد يمجد، مجدا فهو ماجد، ومجد مجادة فهو مجيد وقيل: المجد تكرّم الآباء خاصة، وقيل: الأخذ من الشرف والسؤدد ما يكفي وقيل كرم الفعل. جمد: بخل.
حشد: جمع المال اللبيب: العاقل. وجد: استغنى. جاد: تكرّم عاد: فعلها مرة بعد أخرى، وقد تقدم منظوما لم يهب: لم يخف أن يهب: أن يعطي، وهذا كله قصد فيه التجنيس فجاء منه بكل بديع.
قوله: نطفته ثمد، أي قليل.
الأزهري: النطفة تقال للماء القليل والكثير، ورأيت أعرابيا شرب من ركية غزيرة الماء فقال: والله إنها لنطفة باردة، والثمد: الماء القليل الذي لا مدد له. قريحته: ذهنه.
أطرق: أي أمال رأسه للفكرة. في استيراء زنده: في استخراج ناره، وأراد طلب ما عنده من العلم والاستشفاف: الاستقصاء في النظر والتأمل فيما يبصر، واستشف الثوب: جعله طاقا واحدا، أو رفعه في ظل حتى ينظر: أكثيف هو أم رقيق، واستشفّه: رأى ما وراءه، والاستشفاف: النظر إلى كلّ شيء صقيل. الفرند: جوهر السيف، وأراد أن الوالي أعجب بكلامه، فأراد أن يعلم هل كان في حفّطه لغيره أو ارتجله لنفسه. صمتته: سكتته.
إرجاء: تأخير. توغّر: توقّد مقتضبا: مرتجلا: [البسيط]
* * * لا تحقرن أبيت اللّعن ذا أدب ... لأن بدا خلق السّربال سبروتا
ولا تضع لأخي التأميل حرمته ... أكان ذا لسن أم كان سكّيتا
__________
(1) رجل نال: أي رجل جواد كثير النائل.
(2) البيت في ديوان الأعشى ص 169.(3/112)
وانفح بعرفك من وافاك مختبطا ... وانعش بغوثك من الفيت منكوتا
فخير مال الفتى مال أشاد له ... ذكرا تناقله الرّكبان أو صيتا
وما على المشتري حمدا بموهبة ... غبن ولو كان ما أعطاه ياقوتا
لولا المروءة ضاق العذر عن فطن ... إذا اشرأبّ إلى ما جاوز القوتا
لكنّه لابتناء المجد جدّ ومن ... حبّ السّماح ثنى نحو العلا ليتا
* * *
قوله: أبيت اللعن، تحية ملوك الجاهليّة، قال ابن الأنباري رحمه الله في تفسيرها قولان: أحدهما أبيت أن تأتي من الأشياء ما تستحق اللّعن عليه، فاللّعن منصوب، والآخر وهو أردأ القولين أن تكون الألف بمعنى «يا»، وبيت من البيوت مضاف إلى اللعن، لأن بعضهم يخفض اللعن، وتقديره: يا بيت اللّعن: سمة للملك، نقل من الوجه الأول لكثرة الاستعمال، ألا ترى أنها تعطي معنى النداء في البيت، وتقديره: يا ملك أو يا أمير، ويتضمّن معناه الدعاء، أي جعلك الله مّمن يكره اللعن ولذا وقع اعتراضا بين اللفظين الأول طالب للثاني، كما قال ابن محلّم: [السريع]
إنّ الثّمانين وبلّغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان (1)
سبروتا: فقيرا محتاجا، والسّبروت: الفقير الذي لا ثياب له. ذا لسن، أي فصيحا.
سكّيتا: عييّا كثير السكوت. انفح بعرفك، أي ارم بمعروفك انعش بغوثك، أي ارفع بعطيتك، والغوث الإغاثة، وهي المبادرة بالنصرة لمن جاء يستغيثك. والإنعاش أن ترى رجلا قد أهوى للسقوط فترفعه، أو افتقر فتجبره. منكوتا: ملقى على رأسه، ونكت الرجل فهو منكوت، إذا ضرب فأسقط على رأسه. قوله أشاد: أي رفع.
صيتا: ذكرا حسنا وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند الله فانظروا ما يتبعه من حسن الثناء» (2).
وقيل لبعض الحكماء: ما أحمد الأشياء؟ قال: أن يبقى للإنسان أحدوثة حسنة.
أكثم بن صيفيّ: إنما أنتم خبر، فطيّبوا أخباركم، أخذه حبيب فقال: [البسيط]
وما ابن آدم إلا ذكر صالحة ... أو ذكر سّيئة يسري بها الكلم
أما سمعت بدهر باد أمّته ... جاءت بأخبارها من بعدها أمم
__________
(1) البيت لعوف بن محلم في الدرر 4/ 31، وشرح شواهد المغني 2/ 821، وطبقات الشعراء ص 187، ومعاهد التنصيص 1/ 369، وبلا نسبة في شرح شذور الذهب ص 59، ومغني اللبيب 2/ 388، 396، وهمع الهوامع 1/ 248.
(2) أخرجه مالك في حسن الخلق حديث 5.
شرح مقامات الحريري / ج 3/ م 8(3/113)
الأحنف: ما ادّخرت الآباء للأبناء، ولا أبقت الموتى للأحياء شيئا أفضل من اصطناع المعروف عند ذوي الأحساب.
وقيل لمعاوية: أيّ الناس أحبّ إليك؟ قال: من كانت له عندي يد صالحة، قيل:
فإن لم تكن؟ قال: فمن كانت لي عنده يد صالحة.
قال بزرجمهر: إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنّها لا تفني، إذا أديرت عنك فأنفق منها، فإنها لا تبقى بأخذ هذا المعنى الشاعر فقال: [البسيط]
لا تبخلنّ بدنيا وهي مقبلة ... فليس ينقصها التّبذير والسّرف
فإن تولّت فأحرى أن تجود بها ... فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
وقال آخر: [الطويل]
إذا جادت الدّنيا عليك فجدبها ... على النّاس طرّا قبل أن تتفّلت
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت ... ولا الشحّ يبقيها إذا هي ولّت
وكان سعيد بن العاص يقول على المنبر: من رزقه الله رزقا حسنا، فلينفق منه سرّا وجهرا، حتى يكون أسعد الناس به: فإنما يترك ما يترك لأحد رجلين إمّا لمصلح فلا يقل عنده شيء، وإمّا لمفسد فلا يبقى له شيء. أخذه الشاعر فقال: [الكامل]
اسعد بمالك في الحياة فإنّما ... يبقى خلافك مصلح أو مفسد
فإذا جمعت لمفسد لم تغنه ... وأخو الصلاح قليله يتزيّد
[المروءة]
قوله: لولا المروءة، المروءة هي الأفعال الشريفة، التي يجب أن يقال للرجل بها مرء، مثل الرّجولة للأفعال التي يستحقّ الرجل أن يقال له بها رجل.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا دين إلّا بمروءة».
وقال عمر رضي الله عنه: المروءة، مروءتان: ظاهرة وباطنة، فالظّاهرة الرياش والباطنة العفاف.
قدم وفد على معاوية رضي الله عنه، فقال لهم: ما تعدون المروءة؟ قالوا: العفاف وإصلاح المعيشة، قال: اسمع يا يزيد!
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «تجاوزوا لذوي المروءات عثراتهم، فوالله إنّ أحدهم ليعثر وإنّ يده بيد الله» (1).
__________
(1) أخرجه بمعناه أبو داود في الحدود باب 5، وأحمد في المسند 6/ 181، بلفظ: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم».(3/114)
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إنّا معشر قريش، نعدّ الحلم والجود سؤددا، ونعدّ العفاف وإصلاح المال مروءة.
أنوشروان: المروءة ألّا تعمل عملا في السّر تستحيي منه في العلانية. غيره:
المروءة اسم جامع للمحاسن كلها.
وقالوا: المروءة العفّة والحرفة.
قوله: اشرأبّ: تشوّف، والتّشوّف أن تسمع بالشيء وتتطلّع أن تراه، وتمتدّ أن تنظر إليه، يقول: لولا الأفعال الجميلة كان عذر الفطن الحاذق يضيق عليه إذا سئل وقيل له:
قد جاوز مالك قوتك، وفضل عن مؤنتك، فلم تجهد في طلب المال، وترغب في الزيادة منه. قال: فالمروءة توسّع عليه عذره، فيقول ذو المروة. إنما اكتسبه لأنفقه في البرّ، وبيّن هذا بقوله: «ثنى نحو الغنى ليتا» واللّيت: صفحة العنق فيقول: إنما ثنى عنقه، وأمالها حبّا في السماح.
وقد سبقه إلى هذا التّهاميّ بقوله: [الطويل]
ولولا العطايا أنّها سنّة له ... لما قال للدّنيا إذا عثرت: لعا
فإن باشر الدنيا فللجود نالها ... وإن هجر الدنيا فعنها ترفّعا
فزاد بقوله: «وإن هجر الدنيا» معنى حسنا.
وقالوا: نعم العون على المروءة المال.
وقال الأحنف بن قيس: [المتقارب]
فلو مدّ سروي بمال كثير ... لجدت وكنت له باذلا (1)
فإن المروءة لا تستطاع ... إذا لم يكن مالها فاضلا
وقال آخر: [البسيط]
لولا شماتة أعداء ذوي حسد ... أو أن أنال بنفع من يرجّيني
لما خطبت إلى الدنيا مطالبها ... ولا بذلت لها عرضي ولا ديني
[البسيط]
* * * وما تنشّق نشر الشّكر ذو كرم ... إلّا وأزرى بنشر المسك مفتوتا
والحمد والبخل لم يقض اجتماعهما ... حتى لقد خيل ذا ضبّا وذا حوتا
والسّمح في الناس محبوب خلائقه ... والجامد الكفّ ما ينفكّ ممقوتا
__________
(1) البيتان في البيان والتبيين 3/ 292.(3/115)
وللشّحيح على أمواله علل ... يوسعنه أبدا ذمّا وتبكيتا
فجد بما جمعت كفّاك من نشب ... حتّى يرى مجتدي جدواك مبهوتا
وخذ نصيبك منه قبل رائعة ... من الزّمان تريك العود منحوتا
فالدهر أنكد من أن تستمرّ به ... حال، تكرّهت تلك الحال أم شيتا
فقال له الوالي: تالله لقد أحسنت، فأيّ ولد الرّجل أنت؟ فنظر إليه عن عرض، وأنشد وهو مغض: [المنسرح]
لا تسأل المرء من أبوه ورز ... خلا له ثمّ صله أو فاصرم
فما يشين السّلاف حين حلا ... مذاقها كونها ابنة الحصرم
* * *
قوله: تنشّق، أي شم. نشر: راحة. أزرى: عاب. مفتوتا: مدقوقا، يقول: لشكر المعروف عند أهل الجود أعطر من ريح المسك إذا فتّ فانتشرت رائحته.
وقال إبراهيم الشيبانيّ: كنت أرى رجلا من وجوه أهل الكوفة، لا يجفّ لبده، ولا يستريح قلبه في طلب حوائج الناس، وإدخال المرافق على الضعيف، فقلت له: أخبرني عن الحال التي هوّنت عليك هذا التّعب في القيام بحوائج الناس، ما هي؟ قال: قد والله سمعت تغريد الأطيار بالأسحار في فروع الأشجار، وسمعت خفوق أوتار العيدان وترجيع أصوات القيان، فما طربت من صوت قطّ طربي من ثناء حسن، بلسان حسن، على رجل قد أحسن، وما سمعت أحسن من شكر حرّ لرجل حرّ، ومن شفاعة محتسب لطالب شاكر، فقلت له: لله أبوك! لقد حشيت كرما، فلذة السمع هنا بمنزلة الشم في البيت.
خيّل: حسب، والضبّ والحوت قد تقدّما في الثامنة عشر.
قوله: الجامد الكفّ: هو البخيل، وهو ضدّ السّمح. ممقوتا: مبغوضا. علل:
أعذار. يوسعنه ذمّا، أي يكثرن ذمه، التبكيت: الهوان والتوبيخ جد: تكرّم. نشب: مال مجتدي جدواك: طالب عطاياك. مبهوتا: متحيّرا، يريد أنه يعجب من كثرة ما تعطيه فيتحيّر وما يدري كيف يشكرك!
[ذم البخل ومدح الكرم]
ومن مدح الكرم وذم البخل قالوا:
لو لم يكن في الكرم إلا أنه من صفات الله عز وجل.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يحبّ الجود ومكارم الأخلاق ويذمّ سفسافها» (1).
__________
(1) أخرجه الترمذي في الأدب باب 41، بلفظ: «إنّ الله جواد يحب الجود»، وفي النهاية في غريب(3/116)
وقيل لقوم من العرب: من سيّدكم؟ فقالوا: فلان على بخل فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: «وأيّ داء أدوى من البخل» (1)!
وقال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
وقال المأمون لمحمد بن عباد: أنت متلاف، فقال: منع الجود سوء ظن بالمعبود، يقول الله عز وجل: {وَمََا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرََّازِقِينَ} [سبأ: 39].
وقال كسرى: عليكم بأهل السخاء والشجاعة فإنهم أهل حسن الظن بالله، ولو أن أهل البخل لم يدخل عليهم من ضرّ بخلهم ومذمة الناس لهم وإطباق القلوب على بغضهم، إلا سوى ظنّهم بربهم في الخلف لكان عظيما، أخذه محمود الوارق فقال: [الطويل]
من ظنّ بالله خيرا جاد مبتدئا ... والبخل من سوء ظنّ المرء بالله
وخوّف بخيل سخيّا الإملاق والفقر، فردّ عليه السخيّ، يقول: {الشَّيْطََانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشََاءِ وَاللََّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268].
وقال الحسن والحسين لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال، فقال:
بأبي أنتما وأميّ! إن الله عوّدني أن يتفضّل عليّ، وعوّدته أن أتفضّل على عبيدة، فأخاف أن أقطع العادة فيقطع عني عادته.
قوله: وخذ نصيبك منه قبل رائعة. الرائعة الشيبة، لأنها تروّع الإنسان أي تفزعه، وتعلمه أنها تأتيه بالكبر والهرم. والعود المنحوت، أراد به الجسم اليابس لأنّ الهرم يذهب نعمة الجسم، وأصل المنحوت المنجور.
وأراد بقوله: خذ نصيبك قوله عليه الصلاة والسلام: «يقول ابن آدم: مالي مالي، وماله من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأمضى» (2).
[مما قيل في الشيب]
وقال الشاعر في الرائعة: [البسيط]
أهلا برائعة للشيب واحدة ... تفني الشباب وتنهانا عن الغزل
وقال أبو الطيب المتنبي: [الكامل]
راعتك رائعة المشيب بعارضي ... ولو انها الأولى لراع الأسحم (3)
__________
الحديث لابن الأثير الجزري 2/ 273: «إنّ الله يحب معالي الأمور ويبغض سفاسفها»، وفي حديث آخر: «إنّ الله رضي لكم مكارم الأخلاق وكره لكم سفاسفها».
(1) أخرجه البخاري في الخمس باب 15، والمغازي باب 73، وأحمد في المسند 3/ 308.
(2) أخرجه مسلم في الزهد حديث 4، وأحمد في المسند 2/ 368، 412.
(3) البيتان في ديوان المتنبي 4/ 123.(3/117)
لو كان يمكنني سفرت عن الصّبا ... فالشّيب من قبل الأوان يكتّم
وفي رواية ابن جني: «رائعة البياض»، وقال: هي أول شعرة تطلع من الشيب. وأنشد ابن الأعرابي «أهلا برائعة للشيب» وأنشد غيره «برائعة بيضاء» أي بشعرة تطلع من المشيب بيضاء تروع الناظر، وهذا أصوب من الوجه الآخر، وقال كثيّر: [الكامل]
كذب العواذل بل أردن خيانتي ... وبدت روائع لمّتي وقتوم (1)
وقال الألبيري: [الوافر]
بصرت بشيبة وخطت بليلي ... فقلت لها تأهّبي للرحيل
ولا يهن القليل عليك منها ... فما للشيب ويحك من قليل
فكم قد أبصرت عيناك مزنا ... أصابك طلها قبل النّزول
فلا تحقر بنور الشّيب واعلم ... بأنّ القطر يبعث بالسّيول
وقال أبو بكر البلويّ: [السريع]
نكبت في شعري وشعري وما ... نفسي في صبري بمنكوبه
إذا دنت بيضاء مكروهة ... منّي نأت سوداء محبوبه
وقال كشاجم فأحسن: [الوافر]
نظرت إلى المرأة فروّعتني ... طلائع شيبتين لدى المتاب
فأمّا شيبة ففزعت منها ... إلى المقراض من حبّ التّصابي
وأمّا شيبة فصفحت عنها ... لنشهد بالبراءة من خضابي
فيالك من مشيب قد تبدّى ... أقمت به الدّليل على شبابي
وقال البحتريّ: [الخفيف]
وأبت تركي الغديّات والآ ... صال حتى قضين بالمقراض (2)
شعرات أقصّهنّ ويرجع ... ن رجوع السّهام في الأغراض
وقال ابن المعتّز: [الطويل]
ألست ترى شيبا برأسي شاملا ... ونت حيلتي عنه وضاق به ذرعي
كأنّ المقاريض التي يعتورته ... مناقير طير تنتقي سنبل الزّرع
__________
(1) البيت في ديوان كثير عزّة ص 206.
(2) البيتان في ديوان البحتري ص 1209.(3/118)
وقال رجل من الأزد: [الكامل]
ولقد أقول لشيبة أبصرتها ... في مفرقي فمنحتها إعراضي
عنّي إليك فلست منتهيا لقد ... عممت منك مفارقي ببياض
هل لي سوى عشرين عاما قد مضت ... مع ستة في إثرهنّ مواضي
ولقلّما أرتاع منك وإنّني ... فيما هويت وإن وزعت لماضي
فعليك ما اسطعت الظّهور بلمّتي ... وعليّ أن ألقاك بالمقراض
وقال أبو نواس: [الكامل]
وإذا عددت السنّ كم هي لم أجد ... للشّيب عذرا أن يلمّ برأسي
وقال أبو دلف: [البسيط]
في كلّ يوم أرى بيضاء قد طلعت ... كأنما نبتت في ناظر البصر
لئن قرضتك بالمقراض عن بصري ... لما قرضتك عن همّي وعن فكري
وقال كشاجم: [الطويل]
أخي قم فعاونّي على شيبة بغت ... فإني منها في عذاب وفي حرب
إذا ما مضى المنقاش يأتي بها أتت ... وقد أخذت من دونها جارة الجنب
كحان على السّلطان يجزى بذنبه ... تعلّق بالجيران من شدّة الرّعب
ولأبي الفضل الدارميّ: [الخفيف]
شيبة نغّصت عليّ شبابي ... فتعمّدت نتفها غير وان
قلت ماذا كذا العمر التّصابي ... لشبابي أجل عند الحسان
فأجابت جرى من الرّسم للسل ... طان أخذ البراء مثل الجاني
فإن ازددت في الجفاء فلا تن ... كر قدومي عليك مع إخواني
وهذ مثل قول الآخر: [الطويل]
وزائرة للشيب لاحت بعارضي ... فبادرتها بالقطف خوفا من الحتف
فقالت على ضعفي استطلت ووحدتي ... رويدك حتى يلحق الجيش من خلفي
فلم يك إلا عن قريب فأقبلت ... وعمّت جميع الرأس رغما على أنفي
فوا أسفا لو كان يغني تأسّفي ... على زمن ولّى ونحن على حرف
وقال الرّماني: [الكامل]
وثلاث شيبات طلعن بمفرقي ... فظننت أن نزولهنّ رحيلي
طلعت ثلاث في طلوع ثلاثة ... واش ووجه مراقب وعذول
فعزلنني عن صبوتي فلئن ذلك ... ت لقد سمعت بذلّة المعزول
وفي معنى قول أبي نواس: «وإذا عددت السن كم هي» قال المعري:(3/119)
وثلاث شيبات طلعن بمفرقي ... فظننت أن نزولهنّ رحيلي
طلعت ثلاث في طلوع ثلاثة ... واش ووجه مراقب وعذول
فعزلنني عن صبوتي فلئن ذلك ... ت لقد سمعت بذلّة المعزول
وفي معنى قول أبي نواس: «وإذا عددت السن كم هي» قال المعري:
[الخفيف]
عجبت هند من تسرّع شيبي ... قلت هذا عقبي فطام السّرور
عوّضتني يد السّفاسف من مس ... ك عذارى ريشا من الكافور
كأنّ لي في انتظار شيبي حساب ... غالطتني فيه صروف الدّهور
وقال ابن الملح الشّبليّ: [الكامل]
طلع المشيب بلّمتي فتعجّبوا ... من كدّه وتعجبّوا من مهلته
ما شبت من كبر ولكن من يبت ... دنفا ومشتاقا يشب من ليلته
وقال أبو عثمان الخالديّ: [المتقارب]
فديتك ما شبت من كبرة ... وهذي سنّي وهذا الحساب
ولكن هجرت فحلّ المشيب ... ولو قد وصلت لحلّ الشّباب
وهذا القدر كاف.
* * * قوله: فالدهر أنكد البيت يقول: إن كنت غنيا أو فقيرا فتلك حال لا تدوم، كرهت أو رضيتها.
وقوله: أيّ ولد الرجل أنت، هذا الكلام إنما يقع في باب النفي، قال يعقوب:
تقول العرب: لا أدري أيّ ولد الرجل هو؟ يعنون بالرّجل آدم وولده الناس، فكأنه قال:
ما أدري أيّ الناس هو.
عرض: جانب. مغض: مغمض عينه، يريد أنه لم يعجبه سؤاله، فلم يقبل عليه بنظره، ولا بإنشاده. ورز، بالراء قبل الزاي، معناه اختبر واطلب قال ابن الأنباري: رزت ما عنده، أي طلبته وأردته، قال الزّبيديّ: الرّوز قريب من التحقيق، والروز أن تأخذ الصنجة بيدك، فترفعها لتختبر ثقلها، قال الشاعر: [الوافر]
وإنّ الله راز حلوم قيس ... فلّما ذاق خفّتها قلاها
وقال الأعشى: [مجزوء الكامل]
فمشى ولم يخش الأني ... س فرازها وخلا بها
اصرم: اقطع الصحبة. السّلاف: الخمر الخالصة. الحصرم: الحامض، لأنّ عود العنب حامض، ويتولّد عنه شيء لذيذ، وتقدّم معنى البيتين.(3/120)
وأما وجود الأشياء مع أضدادها مثل الحلاوة مع أصله مرّ فله نظائر، قال حبيب:
[البسيط]
* والنار قد تنتضى من ناضر السّلم (1) *
وقال المتنبي: [الوافر]
فإن الماء يجري من جماد ... وإن النار تخرج من زناد (2)
وقد يجري أيضا خلاف العادة في الأشياء، فقد يتشابه الشيئان من جهة، ويتباعدان من أخرى.
قال المعرّي: [البسيط]
قد يبعد الشيء من شيء يشابهه ... إنّ السماء نظير الماء في الزّرق (3)
قال المتنبي وقد سبقه إليه: [الوافر]
وقد يتقارب الوصفان جدّا ... وموصوفا هما متباعدان (4)
وما أحسن قول ابن صارة: [البسيط]
يا من يعذّبني لمّا تملّكني ... ماذا تريد بتعذيبي وإضراري
تروق حسنا وفيك الموت أجمعه ... كالصّقل في السّيف أو كالنور في النار
وقال ابن عبدون أستاذ بلنسية: [البسيط]
يا من محيّاه جّنات مفتّحة ... وهجره لي ذنب غير مغفور
لقد تناقضت في خلق وفي خلق ... تناقض النار بالتدخين والنّور
* * *
قال: فقرّبه الوالي لبيانه الفاتن حتى أحلّه مقعد الخاتن. ثم فرض له من سيوب نيله، ما آذن بطول ذيله، وقصر ليله. فنهض عنه بردن ملآن، وقلب جذلان، وتبعته حاذيا حذوه، وقافيا خطوه، حتّى إذا خرج من بابه، وفصل عن غابه، قلت له: هنّئت بما أوتيت، وملّيت بما أوتيت فأسفر وجهه وتلالا، ووالى شكرا لله تعالى، ثم خطر اختيالا، وأنشد ارتجالا: [الطويل]
__________
(1) صدره:
أخرجتموه بكره من سجيّته
والبيت في ديوان أبي تمام ص 269.
(2) البيت في ديوان المتنبي 2/ 365.
(3) البيت في سقط الزند ص 688.
(4) البيت في ديوان المتنبي 4/ 255.(3/121)
من يكن نال بالحماقة حظّا ... أو سما قدره لطيب الأصول
فبفضلي انتفعت لا بفضولي ... وبقولي ارتفعت لا بقيولي
ثمّ قال: تعسا لمن جدب الأدب، وطوبى لمن جدّ فيه ودأب، ثم ودعني وذهب، وأودعني اللهب.
* * * قوله: مقعد الخاتن: كناية عن القرب، كما أن مزجر الكلب كناية عن البعد.
سيوب: عطايا، وأصلها الكنوز والمعادن. نيله: ماله الموهوب، وفي كتاب العين: أنلت المعروف ونلته ونوّلته واسم ما تهب النّوال والنّيل. آذن: أعلم. طول ذيله: كثرة ماله.
قصر ليله: يريد قلة همه، لأنّ المهموم لا ينام فيطول ليله، ووصف الليل بالطول والقصر، وله باب مشهور في كتب الأدب تركنا ذكره لشهرته وكثرته، وعلّته راجعة لما ذكر من أن ليل السرور قصير، وليل الهمّ طويل.
[مما قيل في الليل شعرا]
وحدث إسحاق الموصليّ قال: دخلت على الرشيد وهو مستلق على قفاه وهو يقول: أحسن والله فتى قريش وظريفها وشاعرها، قلت: فيم ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال في قوله: [البسيط]
لا أسأل الله تغييرا لما فعلت ... نامت وقد أسهرت عينيّ عيناها
فاللّيل أطول شيء حين أفقدها ... واللّيل أقصر شيء حين ألقاها
ثم قال: أفتعرفه؟ قلت بصوت ضعيف: لا، قال: بحقي عليك؟ قلت: نعم هو الوليد بن يزيد، فقال استر ما سمعته مني، وإنه ليستحق أكثر مما وصفته به.
ولبعضهم وأجاد: [الكامل]
إنّ اللّيالي للأنام مطيّة ... تطوى وتنشر بينها الأعمار
فقصارهنّ مع الهموم طويلة ... وطوالهنّ مع السرور قصار
وأنشد الفنجديهي للمطرافي: [البسيط]
أخو الهوى يستطيل الليل من سهر ... واللّيل في طوله جار على قدر
ليل الهوى سنة في الهجر مدّته ... لكنّه سنة في الوصل من قصر
وأنشد السّلامي رحمه الله: [البسيط]
ليلي وليلى سواء في اختلافهما ... قد صيّراني جميعا في الهوى مثلا
يجود بالطول ليلي كلّما بخلت ... بالطّول ليلى وإن جادت به بخلا
وقال ابن أبي دباكل: [الوافر](3/122)
ليلي وليلى سواء في اختلافهما ... قد صيّراني جميعا في الهوى مثلا
يجود بالطول ليلي كلّما بخلت ... بالطّول ليلى وإن جادت به بخلا
وقال ابن أبي دباكل: [الوافر]
يطول اليوم لا ألقاك فيه ... وحول نلتقي فيه قصير
وتبعه بشار، فقال وأحسن: [البسيط]
لا أظلم الليل ولا أدّعي ... أنّ نجوم الليل ليست تغور
ليلي كما شاءت فإن لم تزر ... طال وإن زارت فليلي قصير
تصرّف الليل على حكمها ... فهو على ما صرّفته يدور
وزاد ابن العريف الزاهد على هذا المعنى، فقال وأحسن: [الخفيف]
لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلّى
لو تفرغت لاستطالة ليلي ... ولرعي النّجوم كنت مخلا
إن للعاشقين عن قصر اللي ... ل وعن طوله من الهمّ شغلا
قوله: ردن، أي كم. جذلان: مسرور. حاذيا حذوه، أي متّبعا له جاعلا قدمي موضع قدمه، فيّتسع فيه، فيقال: حذوت حذوه، أي فعلت مثل فعله، وأصله في حذو النعل بالنعل، وقد تقدم.
قافيا: متبعا فصل: زال وخرج. غابه: موضعه، والغاب الشجر الملتفّ يتّخذ الأسد فيه بيتا. ملّيت: أطيل لك ومتّعت به، من الملاوة، وهو الحين أوليت: أعطيت.
أسفر: أضاء، ومثله تلألأ، إلّا أن معناه أبلغ، وأصل تلألأ: ابيضّ، فأشبه بياض اللؤلؤ، وصفاءه، يريد أنّه انبسط وجهه وحسنت خلقته لما دعا له. والى: كرّر. خطر اختيالا:
جرّ أثوابه إعجابا بنفسه. سما قدره: ارتفعت منزلته. طيب الأصول: شرف الجدود.
الفضول: الحمق والدخول فيما لا يعني. والقيول: من دون الملك، واحدهم قيل، وأراد بهم الأجداد الأشراف، وطابق بين الحماقة والفضول، وبين طيب الأصول والقبول، وسلخه من قول المتنبي: [البسيط]
ما بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي ارتفعت لا بجدودي (1)
أشار إلى نسبه من ملوك كندة.
قال: آخر: [الرمل]
أيها الفاخر جهلا بالحسب ... إنّما الناس لأمّ ولأب
إنما الفخر بعقل راجح ... وبأخلاق حسان وأدب
ذاك من قد فاخر النّاس به ... فاق من فاخر منهم وغلب
__________
(1) البيت في ديوان المتنبي 1/ 322.(3/123)
وقال الحكيم بن قنبر: [البسيط]
لا خير فيمن له أصل بلا أدب ... حتّى يكون على ما نابه حدبا
كم من حسيب أخي عيّ وطمطمة ... فدم لدى القوم معروفا إذا انتسبا
في بيت مكرمة آباؤه نجب ... كانوا الرؤوس فأضحى بعدهم ذنبا
وقد تقدمت نظائره.
قوله: تعسا، أي هلاكا. جدب: عاب، وفي الحديث: «جدب ابن الأثير بالسمر بعد العشاء» (1) أي عابه، وقال ذو الرّمة [الطويل]
إذا نازعتك القولّ ميّة أو بدا ... لك الوجه منها أو نضا الدّرع سالبه (2)
فيالك من خدّ أسيل ومنطق ... رخيم ومن خلق تعلل جادبه
قوله: دأب، أي دام عليه. أودعني: ضمنني، وجعله في قلبي اللهب: جمر النار.
ومما يتعلّق بما قدمناه من الشعر قول جحظة: [الوافر]
أرى الأعياد تتركني وتمضي ... وأوشك أنّها تبقى وأمضي
علامة ذاك شيب قد علاني ... وضعقي عند إبرامي ونقضي
وما كذب الّذي قد قال قبلي ... إذا ما مرّ يوم مرّ بعضي
أرى الأيام قد ختمت كتابي ... وأحسبها ستتبعه بفضّ
وعلى قوله: «إذا ما مرّ يوم مرّ بعضي» قال بعض بني حمدان: [مخلع البسيط]
المرء وقت له تناه ... مقّدر طوله وعرضه
فكلّما مرّ منه يوم ... فإنّما مرّ منه بعضه
وجحظة مطبوع الشعر، هو القائل في أبي بكر بن دريد: [البسيط]
فقدت بابن دريد كلّ فائدة ... لمّا غدا ثالث الأحجار والتّرب
وكنت أبكي لفقد الجود مجتهدا ... فصرت أبكي لفقد الجود والأدب
أين هذا من قول الفرزدق يرثي سائسا، أنشده أبو محمد في الدرة: [الطويل]
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الصلاة باب 12، وأحمد في المسند 1/ 389، 410، بلفظ: «جدب لنا رسول الله السمر بعد العشاء».
(2) البيتان في ديوان ذي الرمة ص 834، والبيت الثاني في لسان العرب (جدب)، وتاج العروس (جدب)، وتهذيب اللغة 10/ 673، وديوان الأدب 2/ 142، ومقاييس اللغة 1/ 435، ومجمل اللغة 1/ 414، والأغاني 18/ 57، وديوان المعاني 1/ 234، وأمالي القالي 1/ 95، وذيل الأمالي ص 124، 163، وسمط اللآلي ص 298، وكتاب العين 6/ 87، وهو بلا نسبة في المخصص 12/ 172، وجمهرة اللغة ص 264، ومجالس ثعلب ص 228.(3/124)
ليبك أبا الخنساء بغل وبغلة ... ومخلاة سوء قد أضيع شعيرها
ومجرفة مطروحة ومحسّة ... ومقرعة صفراء بال سيورها
أخذه من قول زيد الخيل يرثي عبدا له: [السريع]
أمّا تعاورتك الرّماح فلا ... أبكيك إلا للدّلو والمرس (1)
وقد قدّمنا فصلا في التشاؤم بالأدب في قوله، فقد دهاني شؤمه وأثنى عليه هنا بقوله: تعسا لمن جدب الأدب، وطوبى لمنّ جدّ فيه وأدب
[مما قيل في الأدب والأديب]
ونذكر هنا فصلا مقنعا في مدحه، حسبما شرطنا من الجري معه على أغراضه. قال العلاء بن أيوب كان يقال: مثل الأديب ذي القريحة، مثل دائرة تدار من داخلها، فهي في كلّ دارة تدار تتّسع وتزداد عظما، ومثل الأديب غير ذي القريحة مثل دائرة تدار من داخلها، فهي عن قليل تبلغ إلى باطنها.
أوصى بعض الحكماء بنيه، فقال لهم: الأدب أكرم الجواهر طبيعة، وأنفسها قيمة، يرفع الأحساب الوضيعة، ويفيد الرغائب الجليلة، ويغني من غيره عشيرة، ويكثر الأنصار من غير رزيّه، فالبسوه حلّة، وتزيّنوا به حلّية، يؤنسكم في الوحشة، ويجمع القلوب المختلفة.
وقال شبيب بن شبّة: اطلبوا الأدب فإنه مادّة للعقل، دليل على المروءة صاحب في الغربة، مؤنس في الوحشة، حلية في المجلس.
وقال الخليل: من لم يكتسب بالأدب مالا اكتسب به جمالا.
وأنشد الأصمعيّ رحمه الله: [البسيط]
إن يك للعقل مولود فلست أرى ... ذا العقل مستوحشا من حادث الأدب
إني رأيتهما كالماء مختلطا ... بالتّرب تظهر عنه زهرة العشب
وقال عبد الملك لبنيه: عليكم بالأدب، فإنكم إذا احتجتم إليه كان لكم مالا، وإن استغنيتم عنه كان لكم جمالا.
ابن المقفع: إذا أكرمك الناس لمال أو لدنيا، فلا يعجبنّك، فإنّ تلك كرامة نزول
__________
(1) يروى صدر البيت:
إمّا تقرّش بك السلاح فلا
وهو لأبي زبيد الطائي في ديوانه ص 105، ولسان العرب (قرش)، وجمهرة اللغة ص 721، 732، وطبقات فحول الشعراء ص 610، والشعر والشعراء ص 308، والكامل ص 992، والأغاني 12/ 160.(3/125)
بزوالهما، ولكن ليعجبنّك إذا أكرموك لدين أو أدب.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كفاك من علم الدين أن تعرف ما لا يسع جهله، ومن علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل.
وقال بزرجمهر: ما ورّثت الآباء الأبناء خيرا من الأدب، لأن به يكسبون المال، وبالجهل يتلفونه.
وقال: حسن الخلق خير قرين، والأدب خير ميراث، والتقوى خير زاد.
وقالوا: ثلاث لا غربة معهنّ. مجانبة الرّيب، وحسن الأدب، وكفّ الأذى. وقال يزرجمهر: من كثر أدبه كثر شرفه، وإن كان قبل وضيعا، وبعد صيته، وإن كان خاملا، وساد وإن كان غريبا، وكثرت الحاجة إليه وإن كان فقيرا.
وقال عمر رضي الله عنه: من أفضل ما أعطيته العرب الأبيات، يقدّمها الرجل بين يدي حاجته، فيستعطف بها الكريم ويستنزل بها اللئيم.
وقالوا: الأدب أدبان. أدب الغريزة، وهو الأصل وأدب الرّواية وهو الفرع، ولا يتفّرع الشيء إلا عن أصله، ولا ينمو الأصل إلّا باتصال المادّة.
وقال حبيب فأحسن: [الطويل]
وما السّيف إلّا زبرة إن تركته ... على الخلقة الأولى لما كان يقطع (1)
وقال آخر: [المنسرح]
مأ وهب الله لامرىء هبة ... أفضل من عقله ومن أدبه
هما كمال الفتى فإن فقدا ... ففقده للحياة أحسن به
وقالوا: إذا كان الرجل طاهر الأدب، طاهر المنبت، تأدّب بأدبه، وصلح بصلاح أهله وولده.
وقال الشاعر: [الطويل]
رأيت صلاح المرء يصلح أهله ... ويعديهم عند الفساد إذا فسد
يعظّم في الدنيا لأجل صلاحه ... ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد
__________
(1) البيت في ديوان أبي تمام ص 128.(3/126)
المقامة التاسعة والثلاثون وهي العمانيّة
حدّث الحارث بن همّام، قال: لهجت مذ اخضرّ إزاري، وبقل عذاري، بأن أجوب البراري، على ظهور المهاري، أنجد طورا، وأسلك تارة غورا حتّى فليت المعالم والمجاهل، وبلوت المنازل والمناهل، وأدميت السّنابك والمناسم، وأنضيت السّوابق والرّواسم فلمّا مللت الإصحار، وقد سنح لي أرب بصحار، ملت إلى اجتياز التّيار، واختيار الفلك السّيّار، فنقلت إليه أساودي، واستصحبت زادى ومزاودي، ثم ركبت إليه ركوب حاذر ناذر، عاذل لنفسه عاذر فلمّا شرعنا في القلعة، ورفعنا الشّرعّ للسّرعة، سمعنا من شاطىء المرسى، حين دجا اللّيل وأغسى، هاتفا يقول: يا أهل ذا الفلك القويم، المزجّى في البحر العظيم، بتقدير العزيز العليم، هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم! فقلنا: أقبسنا نارك أيّها الدّليل وأرشدنا كما يرشد الخليل الخليل.
* * * لهجت أي اشتدّ حبّي، وأصله في الفصيل إذا رضع أمه، يقال: لهج بضرع أمّه، إذا لزمه ليرضعه، اخضرّ إزاري، كنى به عن الشباب، وكانت العرب إذا بلغ منها الغلام الحلم وأشعر لبس الإزار ليستر عورته. بقل عذاري: اخضرّ شاربي، وبدا الشعر في وجهي أخضر مثل البقل.
[مما قيل في العذار]
ونذكر هنا شيئا مما قيل في العذار، قال أبو نواس: [الكامل]
من أين للرشأ الأغنّ الأحور ... في الخدّ مثل عذاره المتحيّر
قمر كأنّ بعارضيه كليهما ... مسكا تساقط فوق ورد أحمر
وقال أيضا: [مخلع البسيط]
قد كان بدر السّماء حسنا ... فالنّاس في حبّه سواء
فزاده ربّه عذارا ... تمّ به الحسن والبهاء
لا تعجبوا، ربّنا قدير ... يزيد في الخلق ما يشاء
وقال ابن رشيق: [السريع](3/127)
قد كان بدر السّماء حسنا ... فالنّاس في حبّه سواء
فزاده ربّه عذارا ... تمّ به الحسن والبهاء
لا تعجبوا، ربّنا قدير ... يزيد في الخلق ما يشاء
وقال ابن رشيق: [السريع]
همّت عذاراه بتقبيله ... فاستلّ من عينيه سيفين
فذلك المحمّر من خدّه ... دم جرى بين الفريقين
وقال غيره: [مجزوء الكامل]
قمر كأنّ قوامه ... من قدّ غصن مسترقّ
وكأنّما قلم الزمرّ ... وفي عوارضه مشقّ
ولأبي الفضل الدارميّ: [الرجز]
إذا الّذي خطّ الجمال بوجهه ... خطّين هاجا لوعة وبلا بلا
ما صحّ عندي أنّ لحظك صارم ... حتى رأيت بعارضيك حمائلا
وقال أيضا: [الرمل]
قلت للملقي على الخّد ... ين من ورد خمارا
أسبل الصّدغ على خدّ ... يك من مسك عذارا
أم أعان الليل حتّى ... غلب الليل النّهارا
قال ميدان جرى الحس ... ن عليه فاستدارا
ركضت فيه عيون ... فأثارته غبارا
قوله: أجوب، أي أقطع البراري: الصّحارى. المهاري: إبل كرام أنجد: أطلع، والنّجد: المرتفع. والغور: ضدّه، وقد أنجد وغار. أسلك: أدخل وأمشي. فليت:
قطعت المعالم: المواضع المعلومة، والمجاهل، ضّدها. بلوت: جرّبت. المناهل:
مواضع المياه. السنابك، أطراف الحوافر المناسم: جمع منسم، وهو مقدّم خفّ البعير.
أنضيت: أهزات. السوابق: الخيل الرواسم: الإبل السريعة، ورسمت النافة فهي راسمة، إذا أثّرت في الأرض من شدة وطئها، قال أبو عبيد رحمه الله: إذا ارتفع السير عن العنق قليلا، فهو التّزيد، فإذا ارتفع عن ذلك، فهو الذّميل، ثم الرّسيم. الإصحار: الدّخول للصحراء، يريد مللت من سفر البر. سنح: ظهر وعرض. ارب: حاجة.
[صحار]
صحار: سوق عمان، وهي مدينة كبيرة على ساحل البحر، مرساها فرسخ في فرسخ، وبلاد عمان ثلاثون فرسخا، ما ولي البحر سهول ورمال، وما تباعد عنه حزون
وجبال، وهي مدن، منها مدينة عمان وهي حصينة على الساحل، ومن الجانب الآخر مياه تجري إلى المدينة، وفيها دكاكين التّجار مفروشة بالنّحاس مكان الآجرّ، وهي كثيرة النخل والبساتين وضروب الفواكه والحنطة والشعير والأرز وقصب السكر، وفي الأمثال:(3/128)
صحار: سوق عمان، وهي مدينة كبيرة على ساحل البحر، مرساها فرسخ في فرسخ، وبلاد عمان ثلاثون فرسخا، ما ولي البحر سهول ورمال، وما تباعد عنه حزون
وجبال، وهي مدن، منها مدينة عمان وهي حصينة على الساحل، ومن الجانب الآخر مياه تجري إلى المدينة، وفيها دكاكين التّجار مفروشة بالنّحاس مكان الآجرّ، وهي كثيرة النخل والبساتين وضروب الفواكه والحنطة والشعير والأرز وقصب السكر، وفي الأمثال:
من تعذّر عليه الرزق فعليه بعمان، وفي أحوازها مغاص اللؤلؤ. وعمان من أحواز اليمن سمّيت بعمان بن سبأ.
الفنجديهيّ: صحار اسم بلدة بكورة عمان وهي قصبتها ممّا يلي الجبل.
* * * التيّار: البحر. الفلك: السفينة السّيّار: الكثير المشي، والفلك يكون واحدا وجمعا، ويذكّر ويؤنث.
أساودي: أمتاعي، لأنها تسوّد الأرض بظلها، وهي جمع أسودة، وأسودة جمع سواد، وسواد الأمير ثقله. أبو عبيد: كلّ شخص سواد، من متاع أو إنسان أو غيره.
الحاذر: الخائف. ناذر: حالف، وأراد به الذي ينذر بخير إن سلّمه الله تعالى من هول البحر. عاذل وعاذر، يريد أنه يعذل نفسه عن التغرير بدخول البحر ومقاساة أهواله، ويعذرها لكثرة المتاجر. شرعنا في القلعة: أخذنا في قلع المراسي، ورفع القلع وهي الشّرع قوله: أغشى، أي أظلم هاتفا، أي صائحا. القويم: المستقيم. المزجّى: المسوق المسير، قال الله تعالى: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ} [الإسراء: 66] أي يسيّرها، وأزجاه: إذا ساقه. أقبسنا: أعطنا أرشدنا: دلّنا، قاله الأزهري رحمه الله.
* * * فقال: أتستصحبون ابن سبيل، زاده في زبيل، وظلّه غير ثقيل، وما يبغي سوى مقيل. فأجمعنا على الجنوح إليه وألّا نبخل بالماعون عليه.
فلمّا استوى على الفلك، قال: أعوذ بمالك الملك، من مسالك الهلك. ثمّ قال: إنّا روينا في الأخبار، المنقولة عن الأحبار، أنّ الله تعالى ما أخذ على الجهّال أن يتعلّموا، حتى أخذ على العلماء أن يعلّموا، وإن معي لعوذة، عن الأنبياء مأخوذة، وعندي لكم نصيحة، براهينها صحيحة، وما وسعني الكتمان، ولا من خيمي الحرمان فتدبّرّوا القول وتفهّموا، واعملوا بما تعلّمون وعلّمّوا.
ثمّ صاح صيحة المباهي، وقال: أتدرون ما هي! هي والله حرز السّفر، عند مسيرهم في البحر، والجنّة من الغمّ، إذا جاش موج اليمّ، وبها استعصم نوح من الطّوفان، ونجا ومن معه من الحيوان على ما صدعت به آي القرآن.
ثم قرأ بعد أساطير تلاها، وزخارف جلاها، وقال: اركبوا فيها باسم الله
مجراها ومرساها. ثمّ تنفّس تنفّس المغرمين، أو عباد الله المكرمين.(3/129)