المجلد الاول
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تقديم
الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحبه الكرام المنتجبين.
وبعد:
لقد عرف الأدب العربي نوعا من النثر الأدبي وهو السجع وهو الكلام المقفّى، أو موالاة الكلام على رويّ واحد، وقد تأثر كتّاب النثر المسجوع أولا بالقرآن الكريم، وخطب الجاهلية، كخطب أكثم بن صيفي حيث يقول: «أيها الناس: من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت»، وهذا السجع له نغم عذب يحرك النفس ويثير الشوق إلى سماعه.
وكان أول ظهور هذا النوع الأدبي كفن قائم بذاته في القرن الثالث الهجري، في خطب الخلفاء وعمال الأقاليم، ثم تطور هذا الفن على أيدي كتاب محترفين كابن نباتة السعدي الذي توفي سنة 374هـ. كما تطور على أيدي كتّاب البلاط كإبراهيم بن هلال الصابي المتوفى سنة 384هـ، حتى أصبح النثر المسجوع أسلوبا مميزا وضروريا لدى الأدباء وكتاب الإنشاء. ومن رحم هذا الأسلوب ظهر فن جديد يدعى فن المقامات الذي يعود الفضل في ابتكاره وتأسيسه إلى بديع الزمان الهمذاني المتوفى سنة 398هـ.
والمقامة هي حكاية تقال في مقام معين وتشتمل على الكثير من درر اللغة وفرائد الأدب والحكم والأمثال والأشعار النادرة التي تدل على سعة اطلاع وغزارة مادة وطول باع وعلو مقام في عالم الأدب. وإذا كان بديع الزمان الهمذاني السباق والمبتكر والمبتدع لهذا الفن، فإن الأستاذ الرئيس أبي محمد القاسم بن علي الحريري هو الملك المتوج على رأس الكتاب الذين تخصصوا في المقامات، فهو بالمقارنة مع كل من كتب المقامات أغزر مادة وأكثر وأشد تعمقا في اللغة مما جعل لمقاماته منزلة خاصة جعلتها ربّما في منزلة تالية للقرآن الكريم والحديث الشريف، حتى إن أديبا عظيما كالزمخشري يقول: إن مقاماته حرية بأن تكتب بماء الذهب.
ويعزى السبب الذي من أجله وضع الحريري مقاماته، كما نقل ياقوت الحموي في معجم الأدباء 4/ 597، 598: عن عبد الله بن محمد بن محمد بن أحمد النقور البزاز ببغداد، قال:
سمعت الرئيس أبا محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري صاحب المقامات يقول:
أبو زيد السروجي، كان شيخا شحاذا بليغا، ومحدثا فصيحا، ورد علينا البصرة، فوقف يوما في مسجد بني حران، فسلم ثم سأل الناس، وكان بعض الولاة حاضرا، والمسجد غاص بالفضلاء، فأعجبتهم فصاحته وحسن صياغة كلامه وملاحته، ثم ذكر أسر الروم ولده كما ذكرناه في المقامة الحرامية وهي الثامنة والأربعون.(1/3)
قال: واجتمع عندي عشية ذلك اليوم جماعة من فضلاء البصرة وعلمائها فحكيت لهم ما شاهدته من ذلك السائل وسمعت من لطافة عبارته في تحصيل مراده، وظرافة إشارته في تسهيل إيراده، فحكى كل واحد من جلسائه أنه شاهد من هذا السائل في مسجده مثل ما شاهدت، وأنه سمع منه في معنّى آخر فصلا أحسن مما سمعت، وكان يغيّر في كل مسجد زيّه وشكله، ويظهر في فنون الحيلة فضله، فتعجبوا من جريانه في ميدانه، وتصرفه في تلوّنه وإحسانه، فأنشأت المقامة الحرامية ثم بنيت عليها سائر المقامات، وكانت أول شيء صنعته.
قال المؤلف: وذكر ابن الجوزي في تاريخه مثل هذه الحكاية، وزاد فيها أن الحريري عرض المقامة الحرامية على أنوشروان بن خالد وزير السلطان فاستحسنها وأمره أن يضيف إليها ما يشاكلها، فأتمها خمسين مقامة.
وقد اشتملت مقامات الحريري على فوائد جمة عدّدها هو بقوله في تقديمه:
وأنشأت على ما أعانيه من قريحة جامدة وفطنة خالدة وروية ناضبة وهموم ناصبة، خمسين مقامة تحتوي على جد القول وهزله ورقيق لفظه وجزله، وغرر البيان ودرره وملح الأدب ونوادره إلى ما وشحتها به من الآيات ومحاسن الكنايات، ورصعته فيها من الأمثال العربية واللطائف الأدبية والأحاجي النحوية والفتاوى اللغوية والرسائل المبتكرة والخطب المحبّرة، والمواعظ المبكية والأضاحيك الملهية، مما أمليت جميعه على لسان أبي زيد السروجي وأسندت روايته إلى الحارث بن همام البصري، وما قصدت بالإحماض فيه إلا تنشيط قارئيه وتكثير سواد طالبيه، ولم أودعه من الأشعار الأجنبية إلا بيتين فذين أسست عليهما بنية المقامة الحلوانية، وآخرين توأمين ضمنتهما خواتم المقامة الكرجية، ما عدا ذلك فخاطري أبو عذره ومقتضب حلوه ومرّه.
شرح المقامات
لقد حظيت مقامات الحريري بكمّ كبير من الشروحات والتعليقات، أحصى منها صاحب كشف الظنون حاجي خليفة أكثر من خمسة وثلاثين شرحا، ويعود كثرة الشروحات إلى ما زخرت به المقامات من الألفاظ، والأمثال، والأحاجي والألغاز والنكت النحوية والبلاغية، مما جعلها ميدانا رحبا للشرح والتفسير والاستطراد.
ويعتبر هذا الشرح الذي بين أيدينا من أهم الشروحات وأغزرها، وقد وضعه العلامة أحمد ابن عبد المؤمن القيسي المعروف بالشريشي الذي يقول: لم أدع كتابا ألّف في شرح ألفاظها وإيضاح أغراضها إلا وعيته نظرا، وتحققته معتبرا ومختبرا وترددت في تفهمه وردا وصدرا، وعكفت على استيفائه بسيطا كان أو مختصرا، ولم أترك في كتاب منها فائدة إلا استخرجتها ولا نكتة إلا علقتها ولا غريبة إلا استلحقتها فاجتمع من ذلك حفظا وخطا أعلاق جمة، وفوائد لم تهتم بهاقبله همة، ثم لم أقنع بتدوين الدواوين، ولا اقتصرت على توقيف التصانيف، حتى لقيت بها صدور الأمصار وعلماء الأعصار.
وقد قام الشارح بالتعريف بالبلدان والأمصار المذكورة في المقامات، ثم شرح غريب
الألفاظ والأمثال، ووضع تراجم وافية للمشهورين من الأدباء والأمراء والقادة والشعراء، وكان للشعر الأندلسي نصيب وافر حيث أورد مجموعة كبيرة منه.(1/4)
وقد قام الشارح بالتعريف بالبلدان والأمصار المذكورة في المقامات، ثم شرح غريب
الألفاظ والأمثال، ووضع تراجم وافية للمشهورين من الأدباء والأمراء والقادة والشعراء، وكان للشعر الأندلسي نصيب وافر حيث أورد مجموعة كبيرة منه.
أما عملنا في هذا الكتاب فقد اقتصر على تخريج جميع الآيات القرآنية وتخريج معظم الأحاديث النبوية استنادا إلى كتب الصحاح التي بين أيدينا، وكذلك خرجنا الشواهد الشعرية في مظانها. كما وضعنا عناوين فرعية وبوبنا الكتاب ووضعنا حواش تشرح بعض الألفاظ الغريبة استنادا إلى معاجم اللغة التي بين أيدينا.
ونرجو أن يكون عملنا هذا خالصا لوجهه تعالى ولله الكمال وحده وهو ولي التوفيق.
إبراهيم شمس الدين(1/5)
ترجمة المؤلف
هو الرئيس أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري، نسبة إلى صناعة الحرير أو بيعه، ولد سنة 446هـ بالمشان، وهي قرية قريبة من البصرة، ثم رحل إلى البصرة وسكن في محلة بني حرام، وتأدب بها، وقرأ العربية على أبي الحسن بن فضال المجاشعي شيخ إمام الحرمين، والفقه على أبي إسحاق الشيرازي، وعيّن صاحب الخبر بالبصرة، وظل بهذا المنصب حتى وفاته.
وكان الحريري من ذوي الجاه واليسار يملك بالمشان أكثر من ثمانية عشر ألف نخلة يغلها، وكان له منزل بالبصرة يقصده الأدباء والعلماء يقرؤون عليه أو يفيدون من علمه، وخصوصا بعد أن ألف المقامات وذاع أمرها بين الناس، وكان مرهف الشعور صادق الحس والتخمين.
وكان الحريري ضئيل الجسم زريّ المنظر عصبي المزاج، ينتف شعرات لحيته إذا اشتغل بالتفكير والكتابة، ولكنه مع هذا كان موضع تقدير الناس وإكبارهم، ويحكى أن شخصا زاره، وأراد أن يتلقى عليه شيئا من العلم لذيوع شهرته، فلما رآه استزرى منظره، فأدرك الحريري ما دار في نفسه، ولما طلب هذا الشخص إلى الحريري أن يملي عليه شيئا من الأدب قال له: اكتب! وأملاه هذين البيتين: [البسيط].
ما أنت أول سار غرّه قمر ... ورائد أعجبته خضرة الدمن
فاختر لنفسك غيري إنني رجل ... مثل المعيدي فاستمع بي ولا ترني
فخجل الرجل وانصرف عنه.
وللحريري ديوان رسائل، وله الرسالة السينية التزم في جميع كلماتها حرف السين، والرسالة الشينية التزم أيضا بجميع كلماتها حرف الشين. وله ديوان شعر.
ومن مؤلفات الحريري «درّة الغواص في أوهام الخواص» بين فيه أغلاط الكتاب فيما يستعملونه من الألفاظ بغير معناها وفي غير موضعها، وكذلك له «ملحة الأعراب في صناعة الإعراب»، وهي أرجوزة في النحو.
توفي الرئيس أبو محمد الحريري في البصرة سنة 515هـ.
ترجمة الشارح
هو أبو العباس أحمد بن عبد المؤمن بن موسى القيسي الشريشي، ولد بشريش سنة 577 هـ. وتلقى بها على أبي الحسن بن لبّال، وأبي بكر بن الأزهر، وأبي عبد الله بن زرقون، وأبي الحسين بن جبير، ورحل إلى المشرق ثم عاد إلى شريش وتوفي بها سنة 619هـ.
له كتب وشروحات كثيرة منها: مختصر لنوادر أبي علي القالي، وشرح الإيضاح لأبي علي الفارسي، وشرح جمل الزجاجي، ووضع رسالة في العروض بالإضافة إلى الكتاب الذي بين أيدينا وهو أشهرها، وهو واحد من ثلاثة شروح: مختصر، ومتوسط، وهذا وهو المطول.
وكان الشريشي شاعرا مطبوعا شائق اللفظ رشيق المعنى، ومن شعره:
يا جيرة الشام هل من نحوكم خبر ... فإن قلبي بنار الشوق يستعر
بسم الله الرحمن الرحيم(1/6)
يا جيرة الشام هل من نحوكم خبر ... فإن قلبي بنار الشوق يستعر
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الشارح
قال الشيخ الأستاذ اللغوي النحويّ أبو العباس أحمد بن عبد المؤمن بن عيسى بن موسى بن عبد المؤمن القيسي الشريشي، تغمده الله برحمته ورضوانه، وأسكنه فسيح جناته بمنه وكرمه آمين:
الحمد لله الذي اختصّ هذه الأمة بأفصح الألسنة وأفسح الأذهان، وشرّف علماءها بالافتنان في أفانين البلاغة والبيان، وميزّنا بين سائر الأمم بالنثر المتفق الفقر والنظم المعتدل الأوزان.
نحمده على أفئدة هداها، وألسنة أطال في شأو البلاغة مداها، ونصليّ على سيد المرسلين، وخيرة العالمين، الذي ختمت بنبوته العامة النبوة، ونسخت بشرعته التّامة الكتب المتلوة، محمد سيد هذا العالم والمخصوص بعلوّ المكانة، وعموم الديانة في ولد آدم، وعلى آله وصحبه الذين عزّروه ووقروه، وآووه إيواء الموفين بالعهود ونصروه، ونقلوا شرعه الكريم نقل التواتر وآثروه، وسلم تسليما، وآتاهم من لدنه رحمة وأجرا عظيما.
ورضي الله عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، مجدد معالم الديانة، والمليء بأداء الأمانة، والمشهور على تعاقب العصور بالزمان والمكان والمكانة، وعن خلفائه الراشدين المرشدين أئمة الهدى، والتالين له في شرف ذلك المدى، والقائمين بأعباء أمره الموعود أنه يبقي أبدا.
ونسأل الله تعالى لسيدنا الخليفة الإمام أمير المؤمنين ابن الخلفاء الأئمة الراشدين، سعدا يعلى أعلامه. ونصرا يصحب قلمه وحسامه، وتأييدا يظهر أمره وينصر اعتزامه، حتى ينتظم شذّان الأمصار في سلك ملكه، وتزدحم وفود الأمم على غمر برّه، وتنطوي ضمائر القلوب ومخبّآت الغيوب على إخلاص طاعته والانثناء لأمره.
أما بعد فإن العلم أربح المكاسب، وأرجح المناصب، وأرفع المراتب، وأنصح المناقب، وحرفة أهل الهمم من الأمم، ونحلة أهل الشرف من السلف، لم يتقلد سلكه إلا جيد ماجد ولم يتوشح برده إلا عطف جادّ في طلب الكمال جاهد ولم يستحق اسمه إلا الواحد الفذ بعد الواحد، وهو وإن تشعّبت أفانينه، وتنوعت دواوينه فعلم الأدب
علمه، والأسّ الذي يبنى عليه كلمه، والرّوح الذي يخبّ في ميدان الطّروس قلمه ولذلك كان أولى ما تقترحه القرائح، وأعلى ما تجنح إليه الجوانح فذوو الأخطار في سائر الأقطار يتنافسون في اقتنائه، ويتصافنون في عافي إنائه (1)، ويرتاحون لأوضاعه وتآليفه، ويستريحون إلى أعبائه المكدودة وتكاليفه، فإنه زمام المنظوم والمنثور، وقوام نطق الألسنة وفكر الصدور، ومنشط المقال من عقال الفهاهة، ومميز الأقدار بالمهابة والنباهة.(1/7)
أما بعد فإن العلم أربح المكاسب، وأرجح المناصب، وأرفع المراتب، وأنصح المناقب، وحرفة أهل الهمم من الأمم، ونحلة أهل الشرف من السلف، لم يتقلد سلكه إلا جيد ماجد ولم يتوشح برده إلا عطف جادّ في طلب الكمال جاهد ولم يستحق اسمه إلا الواحد الفذ بعد الواحد، وهو وإن تشعّبت أفانينه، وتنوعت دواوينه فعلم الأدب
علمه، والأسّ الذي يبنى عليه كلمه، والرّوح الذي يخبّ في ميدان الطّروس قلمه ولذلك كان أولى ما تقترحه القرائح، وأعلى ما تجنح إليه الجوانح فذوو الأخطار في سائر الأقطار يتنافسون في اقتنائه، ويتصافنون في عافي إنائه (1)، ويرتاحون لأوضاعه وتآليفه، ويستريحون إلى أعبائه المكدودة وتكاليفه، فإنه زمام المنظوم والمنثور، وقوام نطق الألسنة وفكر الصدور، ومنشط المقال من عقال الفهاهة، ومميز الأقدار بالمهابة والنباهة.
ولم يزل في كل عصر من حملته بدر طالع، وزهر غصن يانع، وعلم ترنو إليه أبصار وتوميء إليه أصابع، وصناعة البراعة بينهم تتمكن وتتأصل، وتنويع البديع ينضبط ويتحصل، والآخر يكدّ ذهنه في تتميم ما غادره الأول إلى أن اعتدلت كفتاه، وامتلأت ضفتاه، وراق مجتلاه ومجتباه، وتناهى في الحسن والإحسان لفظه ومعناه.
وكان آخر البلغاء وخاتمة الأدباء، أولهم بالاستحقاق، وأولاهم بسمة السباق، والفذ الذي قد عقمت عن توءمة فتية العراق، وفارس ميدان البراعة، ومالك زمام القرطاس واليراعة، والملّبي عند استدعاء درر الفقر بالسمع والطاعة، أبو محمد القاسم ابن علي الحريريّ سقى الله ثراه صوب رحماه، وكافأ إحسانه في الثناء عليه بحسناه فبسط لسان الإحسان، ومدّ أفنان الافتنان، ومهّد جادة الإجادة، وقوي مادة الإفادة، ولم يبق في البلاغة متعقّبا، ولا للرّيادة مترقبا، لا سيما في المقامات التي ابتدعها، والحكايات التي نوعها وفرعها، والملح التي وشحها بدرر الفقر ورصّعها فإنه برز فيها سابقا، وبزّ البلغاء فائقا، وأتى بالمعنى الدقيق واللفظ الرقيق مطابقا، وخلّدها تاجا على هامة الأدب وتقصارا (2) في جيد لغة العرب، وروضة تحوم أنفاس الهمم عليها، ولا تصل أيدي المطامع إليها.
ولما كانت من البراعة بهذا المحل الشهير، وسارت مسير النّيّرين بين مشاهير الجماهير جعلت الأعتناء بها سهم فهمي، والعكوف عليها تحرز عزمي، والدّءوب في حفظ لغاتها وفك مخبّآتها أهم همّي، وصيّرت تحفّظها فرض عيني، والفكر الذي لا يحول وسني بينه وبيني، فبدأت بروايتها عن الشيوخ والثقات، وتقييد ألفاظها عن أعلام هذه الجهات حتى لا أنقل لفظا إلا عن تحقيق، ولا أثبت ضبطا إلا من طريق.
فكان أول من أخذت عنه روايتها، وتلقيت منه درايتها، ببلدي، الشيخ الفقيه المقرىء أبو بكر بن أزهر الحجري، حدثني بها عن صهره الفقيه المحدّث الراوية أبي القاسم بن عبد ربه القيسي المعروف بابن جهور، عن منشئها أبي محمد الحريريّ.
__________
(1) الصّفن بالضم: كالركوة يتوضأ فيها، وخريطة لطعام الراعي، وتصافنوا الماء: اقتسموه بالحصص (القاموس المحيط: صفن).
(2) التقصار والتقصارة، بكسرهما: القلادة جمعه تقاصير.(1/8)
وحدّثني بها أيضا ببلدي الشيخ الفقيه الراوية أبو بكر بن مالك الفهري عن ابن جهور المذكور، وعن الشيخ الفقيه أبي الحجاج الأبّدي القضاعيّ كلاهما عن أبي محمد الحريريّ. وحدثني بها أيضا إجازة الشيخ الفقيه المحدث أبو محمد عبد الله بن محمد ابن عبد الله الحجريّ عن القضاعيّ، وحدثني بها أيضا الكاتب الزاهد أبو الحسن بن جبير عن الشيخ الجليل بركات بن إبراهيم بن طاهر بن بركات القرشي المعروف بالخشوعي عن الحريريّ. وحدثني بها أيضا الشيخ الفقيه الأستاذ أبو ذرّ مصعب بن محمد بن مسعود الخشنيّ بسنده، بعد وقوفه رحمه الله على هذا الشرح وأمره لي بتكليمه، وتلقيت بها جماعة من جلة الأشياخ أكثر في العدد ممن ذكرت لا يعدمني واحد منهم إفادة ضبطية أو لفظية، ولا يفقدني زيادة هزلية أو وعظية فأخذتها أخذ متثبت، عن واع منكّت.
ثم لم أدع كتابا ألّف في شرح ألفاظها وإيضاح أغراضها، وتبيين الإنصاف بين انفصالها واعتراضها إلا وعيته نظرا، وتحقته معتبرا ومختبرا، وتردّدت في تفهمه وردا وصدرا، وعكفت على استيفائه بسيطا كان مختصرا حتى أتيت على جميع ما انتهى إليه وسعي ممنّ فسرها، واستوعبت عامة فوائده الممكنة بأسرها ولم أترك في كتاب منها فائدة إلا استخرجتها، ولا فريدة إلا استدرجتها ولا نكتة إلا علقتها، ولا غريبة إلا استلحقتها، ولا غادرت في موضع منها مستحسنا يشذّ عن جمعي، ولا مستجادا ينبو عنه بصري أو سمعي. فاجتمع من ذلك حفظا وخطا أعلاق جمة، وفوائد لم تهتم بها قبلي هّمة، ثم لم أقنع بتبيين الدواوين، ولا اقتصرت على توقيف التصانيف حتى ليقت بها صدور الأمصار، وعلماء هذه الأعصار، فباحثت وناقشت، وتأوّلت وتداولت، وطالبت المتحفّظ بالأداء، والمتيقظ بالإبداء حتى لم أبق في قادحة زندا إلا اقتدحته، ولا مقفلا إلا افتتحته، فتحصلّ لي من ذلك أيضا عيون صائبة النواظر، وفنون قلّما توجد في مخبآت الدفاتر.
وأنا في خلال ذلك ألتمس مزيدا، ولا أسأم بحثا وتقييدا، إلى أن عثرت على شرح الفنجديهيّ للمقامات والفنجديهيّ هو الشيخ الحافظ أبو سعد محمد بن عبد الرحمن بن محمد المسعوديّ، من قرية فنجديهة من عمل خراسان فرأيت في شرحه الغاية المطلوبة، والبغية المرغوبة، والضالة التي كانت عنيّ إلى هذا الأوان مطوية محجوبة فاسستأنفت النّظر ثانيا، وشمرت عن ساعد الجدّ لا متكاسلا ولا وانيا، وعانيت نور المعنى في نور اللفظ فأصبحت مجتليا جانيا، فاستوعبته أيضا أبلغ استيعاب، وقيدت من فوائد ما لم أجد قبله في كتاب، وأخذت منه أحاديث مسندة أوردها، وآثارا مرفوعة قيّدها تليق بالباب الذي أوردت فيه، وتورد مصححّة إما لألفاظه وإما لمعانيه، وحذفت أسانيد وإن كان قد أوردها تخفيفا عمن يريد المتن ويبتغيه فتم لي بهذا الغرض استيفاء مقاصده، واستيعاب فوائده. وتركته مستلب المعاني، مطروق المغاني، كالروض ركدت
ريحه، والجسم قبض روحه فانضاف من فوائد هذا التأليف البديع إلى الفوائد الملتقطة من الألسنة والمأخوذة من التصانيف المستحسنة روض كله زهر، وسلك كله درر، وأدب إن لم يجمعه التصنيف فهو بعد عين أثر.(1/9)
وأنا في خلال ذلك ألتمس مزيدا، ولا أسأم بحثا وتقييدا، إلى أن عثرت على شرح الفنجديهيّ للمقامات والفنجديهيّ هو الشيخ الحافظ أبو سعد محمد بن عبد الرحمن بن محمد المسعوديّ، من قرية فنجديهة من عمل خراسان فرأيت في شرحه الغاية المطلوبة، والبغية المرغوبة، والضالة التي كانت عنيّ إلى هذا الأوان مطوية محجوبة فاسستأنفت النّظر ثانيا، وشمرت عن ساعد الجدّ لا متكاسلا ولا وانيا، وعانيت نور المعنى في نور اللفظ فأصبحت مجتليا جانيا، فاستوعبته أيضا أبلغ استيعاب، وقيدت من فوائد ما لم أجد قبله في كتاب، وأخذت منه أحاديث مسندة أوردها، وآثارا مرفوعة قيّدها تليق بالباب الذي أوردت فيه، وتورد مصححّة إما لألفاظه وإما لمعانيه، وحذفت أسانيد وإن كان قد أوردها تخفيفا عمن يريد المتن ويبتغيه فتم لي بهذا الغرض استيفاء مقاصده، واستيعاب فوائده. وتركته مستلب المعاني، مطروق المغاني، كالروض ركدت
ريحه، والجسم قبض روحه فانضاف من فوائد هذا التأليف البديع إلى الفوائد الملتقطة من الألسنة والمأخوذة من التصانيف المستحسنة روض كله زهر، وسلك كله درر، وأدب إن لم يجمعه التصنيف فهو بعد عين أثر.
فاستخرت الله تعالى في ضمّ ما انتشر من فوائدها، ونظم ما انتثر من فرائدها، والاعتناء بتأليف في المقامات يغني عن كل شرح تقدم فيها، ولا يحوج إلى سواه في لفظ من ألفاظها ولا معنى من معانيها، فتم من ذلك مجموع جامع وموضوع بارع أودعته من اللغات أصحّها وأوضحها، وأسلسها قياد لفظ وأسمحها وأولاها بالصواب في مظانّ الاختلاف وأرجحها ونسبت المشكل منها إلى قائله من جهابذة العلماء، وجمعت بين مشهور اللغات ومشهور الأسماء، وسبكت العبارة عن المعاني سبكا يدل على الإلغاء والإصغاء. وهذا الفصل وإن سبقني إليه من تقدمني من الشارحين قبلي، فلي فيه مزية إيراد اللفظ البعيد عن الإشكال، والمطابقة بين الأقوال وأرباب الأقوال.
ثم زدت في فوائد هذا التأليف التعريف بالأمصار المذكورة في المقامات على أوفى ما يمكنني من ذكر مواضعها وأقدارها واختطاطها، ومن عقد صلحها، أو تولى فتحها وهذه فوائد لا يخفى مكانها، ولا ينكر استحسانها بالحاجة إلى التعريف بالمكان، تتلو الحاجة إلى غوامض اللسان.
ثم استوعبت شرح الأمثال ونسبتها، جمعا بين القائلين والأقوال، ولم أغفل منها الكثير الدّور ولا القليل الاستعمال، وهذا الفن لم يتبعه أحد على الكمال، وإن ذكره فإنما يذكره استطرادا بحسب الحال.
ثم استوفيت أيضا ذكر من وقع فيه من الرجال والنساء أتم استيفاء، وعرّفت المشتهرين من الآدباء والأبناء، وبنيت أنسابهم وأمكنتهم، وأخبارهم وحرفتهم، وآثارهم ومدتهم، وزيادة في التهمّم والأعتناء، وهذا الفن أيضا لم يورده الشارحون حقّ إيراده ولا اعتمدوه بالتبليغ حقّ اعتماده، وهو مهمّ في الإفادة، على مغفلة في الوقت وبعده الإعادة.
ثم زدت فيه فصلين مفيدين لم أر من اعتنى بهما،. ولا من قصد قصدهما. سوى أبي سعيد الفنجديهيّ في بعض المواضع، فإنه ألمح وألمع، وأورد اليسير فما شفى ولا أقنع:
أحدهما تبيين مأخذ الحريري في الكلام، وإخراج الاحالات المودعة فيه من حيز الإبهام والرد إلى المنشأ في آية أو أثر أو تخطبة أو خبر، أو حكمة فائقة، أو لفظة رائقة، أو بيت نادر، أو مثل سائر وهذا تتميم بيّن، وتكميل متعيّن.
والفصل الثاني: التنبيه على صناعة البديع، وتوفية أسمائه كالتجنيس والتتميم والترصيع، والإتيان بهذا النوع من التبيين والتنبيه على الجميع، وبسط أنواع الأدب
وافتنانه، والإكثار من الشعر في مظانه من الجد والهزل في المواضع اللائقة باستحسانه، ومقابلة كل باب بما يزيد في حسنه وبيانه، والجري مع أبي محمد حسب اتساع خطوه وامتداد ميدانه.(1/10)
والفصل الثاني: التنبيه على صناعة البديع، وتوفية أسمائه كالتجنيس والتتميم والترصيع، والإتيان بهذا النوع من التبيين والتنبيه على الجميع، وبسط أنواع الأدب
وافتنانه، والإكثار من الشعر في مظانه من الجد والهزل في المواضع اللائقة باستحسانه، ومقابلة كل باب بما يزيد في حسنه وبيانه، والجري مع أبي محمد حسب اتساع خطوه وامتداد ميدانه.
ومن تمام التصنيف ردّ الفرع إلى أصله، والجمع في الترتيب بين الشكل وشكله، فأتبعت المواعظ بما يزيدها أثرا في القلوب، وأردفت المسليات بما يعينها في إجلاء الكروب، وسلكت هذه المسالك في سائر الأساليب وأنواع الضروب فإن وجد هذا الكتاب لفظ ظاهر الهزل أو معنى ينسب فيه إلى العذل من وصف نور وثمر وذكر نديم وخمر أو نعت حسن وحسن أو مدح سماع وأذن، فلأن أبا محمد بدأ بأمر فتّمم، وخص نوعا فعمم مع أن صنعة الأدب مبنية على الملح، وخواطر الأدباء جائشة بما سنح، فجاء من هذا الترتيب الغريب، ما يضرب في الإجادة بسهم مصيب، ويثبت لي في الجدّ والدءوب أوفر نصيب.
ثم رأيت الشارحين لها من أولى البصر كالفنجديهيّ وابن ظفر قد جردوا من شروحهم مختصرات وجيزة.، اقتصروا فيها على إيراد اللغات، فحذوت حذوهم في مختصر أوردتها فيه على الكمال، ووفّيتها حقها من رفع الغلط وكشف الإشكال، ولم أخلّ في تصريفها واشتقاقها بوجه من الوجوه ولا حال من الأحوال فجاء غاية في هذا الباب، مغنيا في اللغات الغريبة عن كل كتاب فإن فاته هذا الأصل بضروب من الإفادات وأنواع من الزيادات، فلذلك الفرع شفوف الاستيعاب في اللغات، ومزية الأشتقاق والتصريف والشاهد من الشعر والآيات.
وكل ذلك بلطف الله تعالى، وبسعد من شرّفت كتابي بخدمته، وبنيت تأليفي على أداء شكر نعمته، ونصبت نفسي لأقف ببابه الأعلى، وأتزين بلثم تربته فأنا العبد وهو المولى عماد الأنام، والظل الممدود على المسلمين والإسلام، ونعمة الله التي هي من أفضل النعم الجسام منفق سوق المعارف، ومفجر بحور المنن والعوارف، والمجير بفضله وعدله من المفاقر الفادحة والمخاوف، سيدنا الخليفة الإمام أمير المؤمنين أبو عبد الله ابن إمام الأئمة الراشدين وولي عهده سيدنا الأمير الأجل أبو يعقوب، أيد الله سلطانهم، وأيد بيضتهم وحزبهم، وجمع القلوب على الأنقياد لهم، والوجوه على التوجه قبلهم.
وهذا الكتاب وإن كان المعبر عن حسنه، والغاية الملتمسة في فنّه، والجامع لما افترق في سواه، والمبرّز بما وشحه من الزيادات وحلّاه، فإنه لم يتم جماله ولا استوفى احتواءه على الفوائد واشتماله، إلا ببركة مولانا الخليفة، واقترن اسمه الكريم باسم ولي عهده المستحق للتقديم في الصحيفة فالحمد لله على التوفيق لخدمتهم، والمعونة على شكر نعمتهم، والتعرض لخيري الدنيا والآخرة في ظل حرمتهم.
وقد بذلت في الخدمة جهدي، وأبرزت من فوائد هذا التّأليف أنفس ما عندي، ولم
أتعاط قياما بكل الواجب، ولا وفاء بجميع الحقّ الراتب فالقول يقتصر عن التحصيل، وليس إلى مطاولة الطود ومكاثرة اليمّ من سبيل.(1/11)
وقد بذلت في الخدمة جهدي، وأبرزت من فوائد هذا التّأليف أنفس ما عندي، ولم
أتعاط قياما بكل الواجب، ولا وفاء بجميع الحقّ الراتب فالقول يقتصر عن التحصيل، وليس إلى مطاولة الطود ومكاثرة اليمّ من سبيل.
وقد كنت حين أتممت هذا التأليف، وألقيت عن كاهلي الأعباء التي له والتكليف، وجلوته كالحسناء ألقت في المنصّة النّصيف، كثرت خطابه إليّ من البلدان، وتواردت عليه رغبات الاستحسان، فقلت: حتى يتشرف بلثم اليمين العليا، ويتخصص بقبول إمام الدين والدنيا، فمن بابه الأسمى يلتقط دره المنظوم، وببركاته يسطع مسكه العبق المختوم.
وها أنا أشرع ببركة الله وبركة خليفته المبارك الأهدى، وبنجله المتقلّد منه صفة وعهدا، في الشرح الخطبة كلمة كلمة، وإيضاحها حتى لا أدع لفظة مبهمة، ثم أشرح المقامات على الولاء، وأسلك الجمع بين الإيجاز والاستيفاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله وسلم أفضل التسليم.(1/12)
بسم الله الرحمن الرحيم
الصّدر
اللهم إنا نحمدك على ما علّمت من البيان، وألهمت من التّبيان، كما نحمدك على ما أسبغت من العطاء، وأسبلت من الغطاء.
* * * اللهم إنا نحمدك اللهم اسم خصصته الميم المشددة في آخره بنداء البارىء سبحانه، والتزم معها حذف حرف النداء لوقوع الميم خلفا عنه، ولمحلّ اللام في أوله، أنه لا يلي حرف النداء لام التعريف إلا في قولهم: «يا الله» لتكون اللام الزائدة نائبة عن حرف أصليّ، وهي همزة «إله»، فصارت كالأصليّ، وفي غير هذا الاسم تتجرد اللام للزيادة في أول الامس. و «يا» «زائدة» في أوله كذلك، وهما جميعا لتخصيص الاسم وإزالة شياع التنكير عنه، فلمّا تقاربا في المعنى، وتشابها في الزيادة، وطلب كل واحد منهما أن يلي الاسم دون صاحبه، ترك استعمال الجمع بينهما في أول الاسم إلا في ضرورة الشاعر لإقامة الوزن، وأما اللام في قولهم: «يا الله» فلما كانت نائبة عن حرف أصلي خفيت زيادتها، فلما زادوا الميم في آخره فضحت اللام وشهرت معنى الزيادة، فامتنعت «يا» من أوله إلا عند الضرورة كامتناعها في الرجل والغلام فلما كانت الميم هي الموجبة لمنع «يا» حمّل الاسم معها معنى «يا» فصار مختصا بالنداء ممتنعا من غيره.
ونحمدك، معناه نثني عليك بأتم وجوه الثناء كلها، فيدخل تحته الشكر، والشكر ثناء يقابل به معروف، وفي الحديث: «الحمد رأس الشكر فمن لم يحمد الله لم يشكره» (1) والحمد ذكر الرجل بما فيه من صفات جليلة، والشكر ذكره بما له من أفعال جزيلة، من قولهم: دابة شكور، إذا ظهر بها من السمن فوق ما تأكل من العلف ويقال:
أشكر من بروقة، وهي شجرة معروفة تخصب بأدنى مطر ويؤكد الفرق بينهما أن الحمد في مقابلة الذم والشكر في مقابلة الكفر فاختلاف نقيضيهما دليل على اختلافهما في أنفسهما.
البيان: وضوح المعنى وظهوره، والتبيان: تفهم المعنى وتبينه، والبيان منك
__________
(1) أخرجه الطبراني في الجامع الصغير 1/ 260.(1/13)
لغيرك، والتبيان منك لنفسك، مثل التبيين تقول: بينت الشيء لغيري بيانا وتبينته أنا تبيانا وقد وقع التبيان بمعنى البيان حكى أبو منصور الأزهري رحمه الله: بينت الشيء تبيينا وتبيانا، قال تعالى {تِبْيََاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] أي يبين لك فيه كل ما تحتاج إليه أنت وأمتك من أمر الدين، فهو لفظ عام أريد به الخاصّ، وقد يقع البيان لكثرة الكلام ويعد ذلك من النفاق قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق» (1) أخرجه الترمذي وقال: «العيّ قلة الكلام والبذاء الفحش، والبيان كثرة الكلام».
ألهمت: نبهت عليه وفهمته. وأسبغت: أتممت وكثرت. وأسبغت: أطلت.
والغطاء: أراد به ستر الله على عبده.
* * * ونعوذ بك من شرّة اللّسن، وفضول الهذر، كما نعوذ بك من معرّة اللّكن، وفضوح الحصر، ونستكفي بك الافتتان بإطراء المادح، وإغضاء المسامح، كما نستكفي بك الانتصاب لإزراء القادح، وهتك الفاضح.
* * * نعوذ، أي نستجير، شرّة: حدة واللسن: حدة اللسان وإدلاله على الكلام فضول:
زوائد. الهذر: إكثار الكلام بغير فائدة. معرّة: شدة وصعوبة، والمعرة: العيب والعار.
وقيل: هي كل ما يؤذيك، وفلان يعرّ قومه، أي يدخل عليهم مكروها يلطّخهم به وأصله من العرة وهي الفعلة القبيحة، أو من العرّ وهو الجرب. واللكن: احتباس اللسان عند الكلام فضوح شهرة وفضيحة. الحصر العي، وحصر حصرا إذا أعيا واستحيا أو أضاق صدره. واستعاذ من شرة اللسن لأنه من اقتدر على الكلام أداه إلى المطاولة في الجدل وتصوير الباطل في صورة الحق، وفيه إثم على الكلام وأصل الشرّة القلق والانتشار، ومنه الشرّ وقد شرّ يشرّ، ومنه شرر النار. ثم استعاذ من ضدها وهي المعرة لأن صاحبها لا يتم لفظه فيشين بذلك نفسه، ويقصر عن مراده من البيان، ثم قرن بها الحصر لأن من يعتريه يتوالى عليه الوهل والخجل فلا يستطيع الكلام، فيفتضح ويشتهر عيبه.
وهذا الفنّ من الكلام يسمى في صنعة البديع المقابلة، وأول من صدر به كتابا عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب البيان فقال اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن، كما نعوذ بك من العجب بما
__________
(1) أخرجه الترمذي في البر باب 80، وأحمد فى المسند 5/ 269.(1/14)
نحسن، ونعوذ بك من السلاطة والهذر (1)، كما نعوذ بك من العيّ والحصر وقديما تعوذوا بالله من شرهما، ورغبوا إليه في السلامة منهما وقد قال النّمر بن تولب: [الوافر] أعذني ربّ من حصر وعيّ ... ومن نفس أعالجها علاجا
وقال محمد بن علقمة: [الوافر]
لقد وارى المقابر من شريك ... كثير تحلّم وقليل عاب
صموتا في المحافل غير عي ... جديرا حين ينطق بالصواب
ثم استرسل في ذكر العيّ والبيان إلى غاية بعيدة، واستشهد على النوعين بآيتين بقوله تعالى {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدََادٍ} [الأحزاب: 19]، وفي الضد بقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصََامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18]، فاحتذى الحريري هذا الحذو، فجاءت تشبيهاته أطبع وأصنع، وزاد عليه بأن ابتدأ بحمد الله على نعمة البيان، ثم استعاذ مما استعاذ منه الجاحظ، وبيان المقابلة في كلامه أنه قابل شرّة بمعرّة واللسن باللكن، والهذر بالحصر فإذا تفهمت مواقعها في كلامه قست عليها ما يشبهها في النظم والنثر وسئل قدامة الكاتب عن المقابلة، فقال: هي أن يضع الشاعر ألفاظا يعتمد التوافق بين بعضها وبعض في المخالفة، فيأتي في الموافق بما يوافق، وفي المخالف بما يخالف، وأنشد في ذلك: [الطويل]
فيا عجبا كيف اتفقنا فناضح ... وفيّ مطويّ على الغشّ غادر
فجعل بإزاء «ناصح»، «وفيّ»، «غاشّا: غادرا». ومثله: [الطويل]
فتّى ثمّ فيه ما يسرّ صديقه ... على أنّ فيه ما يسوء الأعاديا
نستكفي: معناه نسألك ونطلب منك أن تكفينا الافتتان وذلك أن تصاب بفتنة الإعجاب، وأصل الفتنة اختبار الفضة بالنار، قال تعالى في الاختبار: {وَفَتَنََّاكَ فُتُوناً}
[طه: 40] أي اختبرناك، والفتين: الفضة المحرقة، والفتين أيضا: الحجارة المحرقة، وهي الحجارة تدلك بها الأقدام في الحمام، والإطراء: الاسترسال في مدح الإنسان بمحضره، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فأنا عبد الله ورسوله».
إغضاء: تجاوز ومسامحة، وأصله أن يبدو لك الشيء فتدني جفنيك وتقصر نظرك كأنك لم تره، والاغضاء: الإغماض وأغضيت عنه وأغمضت، إذا تغافلت عنه.
المسامح: الموافق لغرضك، والمتجاوز عن عيبك، الأنتصاب: الظهور والأعتراض أمام
__________
(1) الهذر: كثرة الكلام في خطأ، والسلاطة حدة اللسان والصخن (القاموس المحيط: «سلط»،
و(1/15)
الشيء، إزراء: تقصير: وتنقيص، القادح: العائب، وقدحت الدود في الأسنان والشجر:
أكلتها فكأنّ فعل هذا العائب في أعراض الناس فعل الدود في الشجر. والقادح أيضا:
الذي يضرب الزند بالحجر ليورى، وهتك: شق، وهتك الستر: خرقته. الفاضح الذي يشهر عيوبك، وفضحت الشيء: كشفته.
* * * ونستغفرك من سوق الشّهوات إلى سوق الشّبهات كما نستغفرك من نقل الخطوات إلى خطط الخطيئات. ونستوهب منك توفيقا قائدا إلى الرّشد، وقلبا متقلبا مع الحقّ، ولسانا متحليا بالصّدق، ونطقا مؤيّدا بالحجة، وإصابة ذائدة عن الزّيغ، وعزيمة قاهرة هوى النّفس، وبصيرة ندرك بها عرفان القدر
* * * نستغفرك: نسألك المغفرة، وهي من غفرت الشيء سترته. الشبهات: جمع شبهة وهي ما يشتبه عليك أمره، والخطوات: جمع خطوة وهي ما بين القدمين، الخطط:
جمع خطة وهي الطريق يخطه الرجل في الأرض يجعله حدا للشيء يحوزه ويعتمده، والخطة بالضم: المنزلة والمزية. والخطيئات: الذنوب وهي من الخطأ، وجعل ما ساقه في المقامات كأنه شهوة اشتهى عملها، ثم اشتبه عليه: هل في ذلك رضا الله أم سخطه! فكأنه ساق شهوة إلى سوق يجهل التّبايع فيها خاسر الصفقة، فلهذا استغفر الله منها:
الهداية رشده الله رشدا وأرشده: هداه. ورشد هو رشدا ورشادا: اهتدى. متحليا: متصفا ومتزينا، مؤيدا: معانا. وأصاب في كلامه إصابة: إذا نطق بالصواب، ورمى فأصاب لم يخطىء وقوله تعالى {رُخََاءً حَيْثُ أَصََابَ} [ص: 36]، أي حيث أراد، قال الفراء:
اختلفت أنا وعيسى النحوي في الآية فقلت: ما أحد أعلم بهذا من رؤبة، قال: فسرنا إليه فلقيناه يتوكأ على اثنين، فقال: أين تصيبان؟ أي أين تريدان؟ فقلت لصاحبي: كفيت السّؤال ذائدة: دافعة، الزيغ: الميل، وزاغ عن الحق: مال عنه إلى الباطل. العزيمة:
الجدّ، وعزم على الشيء: جدّ فيه. قاهرة: غالبة. وهوى النفس: ما تحبّه وتميل إليه بصيرة: يقينا والبصيرة للقلب، والبصر للعين. عرفان القدر أي معرفة أقدارنا.
* * * وإن تسعدنا بالهداية إلى الدّراية، وتعضدنا بالإعانة على الإبانة، وتعصمنا من الغواية في الرّواية، وتصرفنا عن السّفاهة في الفكاهة حتّى نأمن حصائد الألسّنة، ونكفى غوائل الزّخرفة فلا نرد مورد مأثمة، ولا نقف موقف مندمة، ولا نرهق بتبعة ولا معتبة، ولا نلجأ إلى معذرة عن بادرة.(1/16)
الدّراية: مصدر دريت الشيء دراية ودريا، علمته. تعضدنا تقوّينا، وعضّده: أعانه وكان له عضدا، الإبانة: مصدر أبنت الشيء أي بينته تعصمنا من الغواية، أي تمنعنا من الضلالة والفساد، والغواية: مصدر غوى غيّا وغواية وغوى أيضا غواية، وهما ضد رشد رشدا. الرواية: نقل الحديث من صاحبه إلى طالبه، تصرفنا: تزيلنا. السفاهة: الجهل، والفكاهة: المزاح وما تستريح به النفوس وهي في الكلام كالفاكهة في الطعام. حصائد الألسنة: شر كلامها وقطعها في أعراض الناس وأراد ما جاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، إنا لنؤاخذ بما نتكلم؟ فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ! هل يكبّ الناس في النار على رؤوسهم إلا حصائد ألسنتهم!» فدعا الله أن يتم سعده بأن يؤمنه عادية الألسنة. والحصائد في الأصل: جمع حصيدة وهي الحزمة من الزرع المحصود فهي فعيلة بمعنى مفعولة والحصيد: الشيء المحصود.
نكفي: نمنع غوائل: قواتل ومهلكات، واحدها غائلة وغالته المنية أهلكته، الزخرفة: تزيين الباطل، وأصلها تزيين الشيء بالزخرف وهو الذهب. نرد: نقصد، مورد مأثمة: موضع إثم، والمورد أصله الموضع يشرب منه الماء مندمة: ندم. نرهق: نتّهم ونعاب: والزهق العيب، وتبعة: خطيئة يتبعه ضرها بعد الموت. معتبة سخط، وهي من العتاب، وهو تقبيح القول على جهة الاشفاق، وأصله من عتبت الأديم، أي رددته إلى الدباغ ليصلح، ومنه: إنما يعاتب الأديم ذو البشرة، ويقال عتب عليّ في كذا عتبا فأعتبته، أي رجعت إلى ما يريد وأرضيته، وباء «تبعة» وتاء «معتبة» يكسران ويفتحان.
نلجأ: نحوج. معذرة: اعتذار. بادرة: سقطه وزلّة، وقد بدرت الكلمة والفعلة: خرجت من غير أن يدبر موقعها، وفلان تخشى بوادره، أي فلتاته.
* * * اللهم فحقّق لنا هذه المنية، وأنلنا هذه البغية، ولا تضحنا عن ظلك السّابغ، ولا تجعلنا مضغة للماضغ فقد مددنا إليك يد المسألة، وبخعنا بالاستكانة لك والمسكنة، واستنزلنا كرمك الجم وفضلك الذي عمّ، بضراعة الطّلب، وبضاعة الأمل ثمّ بالتّوسل بمحمّد سيّد البشر، والشفيع المشفع في المحشر، الذي ختمت به النّبيين، وأعليت درجته في علّيّين. ووصفته في كتابك المبين فقلت وأنت أصدق القائلين: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطََاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}
[التكوير: 2119]. اللهم صلّ عليه وعلى آله الهادين، وأصحابه الذين شادوا الدين، واجعلنا لهديه وهديهم متّبعين، وانفعنا بمحّبته ومحبّتهم أجمعين، إنك على كلّ شيء قدير، وبالإجابة جدير.
* * *
المنية: ما يتمنى، والبغية: ما يطلب، أنلنا: أعطنا تضحنا: تكشفنا ظلّك السابغ:(1/17)
* * *
المنية: ما يتمنى، والبغية: ما يطلب، أنلنا: أعطنا تضحنا: تكشفنا ظلّك السابغ:
سترك المديد، وأصل الظل الستر والموضع الذي لا تبلغه الشمس وفي الحديث «ضحا ظلّه»، أي عدم فانكشف موضعه للشمس. مضغة: لقمة، وكلّ ما يمضغ لقمة، والماضغ هنا العائب الآكل أعراض الناس وجعل العرض حين يعيبه مضغة له، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لّما عرج بي مررت بأقوام لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ فقال: «هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم».
المسألة: الحاجة والفقر بخعنا: أقرنا، وبخع له بحقه أقرّ به وبخع نفسه قتلها غيظا، ومنه: {فَلَعَلَّكَ بََاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف: 6] فالمتعدية بالباء غير المتعدية بنفسها، الاستكانة: الخضوع والمسكنة: الفقر والذلة. استنزلنا: طلبنا أن تنزل علينا، والاستنزال السؤال بتلطف، والجم: الكثير، فضلك: إحسانك. عمّ: شمل ضراعة: ذلة البضاعة:
المال يتّجر به. الأمل: الرجاء يقول إن تجارتنا التي نحصل بها منك إحسانك، رجاؤنا توكلنا عليك التوسل: التقرب، البشر: الخلق، وهو في الأصل جمع بشرة، وهي ظاهرة الجلد وسمّوا بشرا، لظهور أبشارهم خلافا لغيرهم من الحيوان، الشفيع: الطالب لغيره.
والمشّفع: الذي أعطي الشفاعة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خيّرت بين الشفاعة وبين أن يدخل شطر أمتي الجنة فاخترت الشفاعة وإنها أعمّ وأكفى، أترونها للمؤمنين المنقين! لا ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين» (1).
المحشر: موضع اجتماع الناس يوم القيامة والمحشر أيضا: الحشر وهو الإشبه باليوم، ختمت: جعلته خاتمهم، أي آخرهم، درجته: منزلته، عليين: أعلى الجنة وكأنه جمع علّيّة، المبين: المبين. رسول كريم، قيل: وهو جبرائيل، وقيل هو محمد صلى الله عليه وسلم.
مكين: رفيع المنزلة. ثم: معناه هناك، قال الزّجاجي: هي إشارة إلى ما كان متراميا من الأماكن، والأشهر أن المراد به في الآية جبرائيل، ولذا رجع الحريري آخرا فأزال الآية من كتابه واستشهد بما اتفق مشاهير المفسرين على أن المراد به نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو قوله تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََاكَ إِلََّا رَحْمَةً لِلْعََالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وليس رجوعه عن القول يعيب بل هو حسن، إذ كان الرجوع عن الخطأ إلى الصواب واجبا، إلا أن الثابت عند ابن جهور {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: وهو جبرائيل وهو الرسول لمحمد بالقرآن. ذي قوّة لأنه قلع بأحد جناحيه أربع مدائن لقوم لوط وهي سدوم ودامورا وصابورا وعمورا في كل مدينة مائة ألف إنسان سوى ما فيها من الدواب والأنعام، آله، أي أهله وأصله «أأل» فأبدلت الهمزة ألفا، وأكثر ما تضاف إلى الظاهر، وقد سمع إضافتها إلى المضمر في الشعر والكلام الفصيح، خلافا لأبي جعفر النحاس وأبي بكر الزبيدي، فإنهما من إضافتها إلى المضمر، وأكثرهم على أن همزتها مبدلة من
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الزهد باب 37، وأحمد في المسند 2/ 75.(1/18)
هاء «أهل» وصوابه أنها أصل في بابها، من آل يؤول إذا رجع لأنهم يرجعون إليه ويرجع إليهم، الهادين: المرشدين إلى الطريق الخير، وقد هديته الطريق إذا أرشدته شادوا:
ترفعوا وبنو. هديه وهديهم: وطريقته وطريقتهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه» (1) جدير:
حقيق.
* * * وبعد. فإنه قد جرى ببعض أندية الأدب الذي ركدت في هذا العصر ريحه وخبت مصابيحه، ذكر المقامات التي ابتدعها بديع الزمان، وعلّامة همذان رحمه الله تعالى. وعزا إلى أبي الفتح الإسكندري نشأتها، وإلى عيسى بن هشام روايتها، وكلاهما مجهول لا يعرف، ونكرة لا تتعرّف.
* * * أندية: مجالس واحدها نديّ، والنّدي والنادي والمنتدى: مجلس القوم للحديث، وقيل هو من الندى وهو الكرم، لأنهم يقصدون فيه فيعطون. وقيل: هو من النداء الذي هو الصوت لأنه ينادي فيه بعضهم بعضا ليجتمعوا. وقيل: هو من الندى وهو العرق لأن الداخل فيه يحتشم فيعرق. والأدب: معرفة الأخبار والأشعار، وفلان أديب، إذا كان متفننا مشاركا، ركدت: سكنت، والمقامات: المجالس، واحدها مقامة، والحديث يجتمع له ويجلس لاستماعه يسمى مقامة ومجلسا، لأن المستمعين للمحدث ما بين قائم وجالس، ولأن المحدث يقوم ببعضه تارة ويجلس ببعضه أخرى قال الأعلم: المقامة المجلس يقوم فيه الخطيب يحض على فعل الخير.
[بديع الزمان]
ذكر البديع أبو المنصور الثعالبي في يتيمته، فقال: «بديع الزمان هو أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني، مفخر همذان، ونادرة الفلك وبكر عطارد، وفريد الدهر، وغرة العصر ومن لم يلف نظيره في ذكاء القريحة وسرعة الخاطر وشرف الطبع وصفاء الذهن وقوة النفس، ولم يدرك قرينة في ظرف النثر وملحة وغرر النظم ونكته، ولم يروا أن أحدا بلغ مبلغه من لبّ الأدب وسره أو جاء بمثل إعجازه وسحره فإنه كان صاحب عجائب وبدائع وغرائب فمنها أنه كان ينشد القصيدة ولم يسمعها قطّ وهي أكثر من خمسين بيتا، فيحفظها كلها ويوردها إلى آخرها، ولا ينخرم حرف منها وينظر في الأربع
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب باب 58، وأحمد في المسند 4/ 87، 5/ 54، 57.(1/19)
والخمس الأوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة، ثم يعيدها عن ظهر قلبه هذا ويسردها سردا، وكان يقترح عليه عمل قصيدة أو إنشاء رسالة في معنى غريب وباب بديع، فيفرغ منها في الوقت والساعة والجواب عمّا فيها وكان ربّما يكتب الكتاب المقترح عليه فيبتدىء بآخر سطوره، ثم هلم جرّا إلى الأول ويخرجه كأحسن شيء وأملحه، ويوشح القصيدة الفريدة من قبله بالرسالة الشريفة من إنشائه، فيقرأ من النظم النثر، ومن النثر النظم. ويعطي القوافي الكثيرة، فيصل بها الأبيات الرشيقة، ويقترح عليه كل عروض من النظم والنثر فيرتجله في أسرع من الطرف، على ريق لا يبلعه، ونفس لا يقطعه وكلامه كلّه عفو الساعة وفيض اليد ومسارقة القلم ومجاراة الخاطر، وكان مع هذا مقبول الصورة، خفيف الرّوح، حسن العشرة ناصح الظرف، عظيم الخلق، شريف النفس كريم العهد خالص الود، حلو الصداقة، مرّ العداوة، فارق همذان سنة ثمانين وثلثمائة وهو مقتبا الشبيبة، غض الحداثة وقد درس على أبي الحسين بن فارس، وأخذ عنه جميع ما عنده واستنفذ علمه وورد حضرة الصاحب أبي القاسم بن عباد، فتزوّد من ثمارها وحسن آثارها، وورد نيسابور في سنة اثنتين وثمانين وثلثمائة فنشر بها بزّه، وأظهر طرزه وأملى أربعمائة مقامة نحلها أبا الفتح الإسكندري في الكدية وغيرها وضمنها ما تشتهي الأنفس، من لفظ أنيق قريب المأخذ بعيد المرام وسجع رشيق المطلع والمقطع كسجع الحمام. وجدّ يروق فيملك القلوب، وهزل يشوق فيسحر العقول ثم ألقى عصاه بهراة فعاش فيها عشية راضية وحين بلغ أشده وأربى على أربعين سنة ناداه الله فلباه. وفارق دنياه في سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة فقامت نوادب الأدب وانثلم حد القلم، وبكاه الفضائل مع الأفاضل، ورثاه الأكارم مع المكارم على أنه ما مات من لم يمت ذكره، ولقد خلد من بقي على الأيام نظمه ونثره والله عز وجل يتولاه بعفوه وغفرانه، ويحيّيه بروحه وريحانه».
وذكر الحصري رحمه الله تعالى في كتاب الزهر أن الذي سبب للبديع رحمه الله تأليف مقاماته، وهو أنه رأى أبا بكر بن الحسين بن دريد قد أغرب بأربعين حديثا، ذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، وانتخبها من معادن فكره على طبع العرب الجاهلية بألفاظ بعيدة حوشيّة، فعارضه البديع بأربعمائة مقامة لطيفة الأغراض والمقاصد، بديعة المصادر، والموارد، وانتهى كلامه.
والذي جاء بها، فيه قلة الامتاع للسامع من حديثها، وفيها مقامات لا تبلغ عشرة أسطار فجاءت مقامات الحريري أحفل، وأجزل وأكمل فلذلك فضلت البديعيّة، وقد صرح علماء الأدب في كتبهم بتفضيل البديع على نظرائه من أهل زمانه، ولقبه بالبديع يدل على قدره الرفيع، قال: [البسيط]
وقلّما أبصرت عيناك من رجل ... إلا ومعناه إن فتّشت في لقبه
وسئل بعض علماء الأدب من أهل عصرنا عن الحريري والبديع، فقال: لم يبلغ الحريري أن يسمى «بديع يوم» فكيف يقارن بديع زمان!(1/20)
وقلّما أبصرت عيناك من رجل ... إلا ومعناه إن فتّشت في لقبه
وسئل بعض علماء الأدب من أهل عصرنا عن الحريري والبديع، فقال: لم يبلغ الحريري أن يسمى «بديع يوم» فكيف يقارن بديع زمان!
وجرى ذكر مقاماته في مجلس بعض أشياخنا، وكان حافظا أديبا، فقال: مقامات البديع يحكى أنها ارتجال، وأن البديع كان يقول لأصحابه في آخر مجلسه: اقترحوا غرضا نبني عليه مقامة فيقترحون ما شاءوا فيملي عليهم المقامة ارتجالا في الغرض الذي اقترحوه وهذا أقوى دليل إن صح على فضل البديع. قوله علّامة: أي كثير العلم، وهي بنية للمبالغة.
[همذان]
وهمذان، بفتح الميم ونقط الذال: بلد بخراسان. وقيل همذان من كور الجبل.
وبلد همذان واسع جليل القدر كثير الأقاليم والكور، افتتح سنة ثلاث وعشرين، ويشرب أهلها من عيون وأودية، وقال اليعقوبي: من أراد السير من الدّينور إلى همذان سار متنزها إلى موضع، يقال له: أسد آباذ مرحلتين من أسد آباذ إلى مدينة همذان مرحلتان وهي كثيرة البرد. وقال فيها ابن خالويه وهو همذاني، واستوطن حلب عند بني حمدان:
[الطويل]
إذا همذان اعترّها البرد وانقضى ... برغمك أيلول وأنت مقيم
فعيناك عمشاء وأنفك سائل ... ووجهك مسود البياض بهيم
بلاد إذا ما الصيف أقبل جنة ... ولكنّها عند الشتاء جحيم
ولبعضهم: [الكامل]
همذان متلفة النّفوس ببردها ... والزّمهرير، وحرّها مأمون
غلب الشتاء مصيفها وخريفها ... فكأنّما تمّوزها كانون
وكل الرواة يروونها «همذان» بفتح الميم ونقط الذال، إلا ابن اللبّانة فإني رأيت في شرحه: همدان بسكون الميم ودال غير معجمة، وهي قبيلة يمانية، قال فيها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكرّم الله وجهه: [الطويل]
ولو كنت بوابا على باب جنّة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
والرواية الأولى أثبت. قوله: «عزا» أي نسب يقال: عزيته عزيا، وعزوته عزوا:
نسبته واعتزي إلى بني فلان: انتسب إليهم وأبو الفتح في البديعية بمنزلة أبي زيد في الحريرية، وعيسى بمنزلة الحارث نشأتها: صنعتها. وروايتها: إسناد أحاديثها. والنكرة التي لا تتعرف، هي في غير الأسماء.
* * *
فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم، إلى أن أنشىء مقامات أتلو فيها تلو البديع وإن لم يدرك الظالع شأو الضّليع، فذاكرته بما قيل فيمن ألّف بين كلمتين، ونظم بيتا أو بيتين، واستقلت من هذا المقام الذي فيه يحار الفهم، ويفرط الوهم ويسبر غور العقل وتبين قيمة المرء في الفضل، ويضطر صاحبه إلى أن يكون كحاطب ليل أو جالب رجل وخيل، وقلّما سلم مكثار، أو أقيل له عثار.(1/21)
* * *
فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم، إلى أن أنشىء مقامات أتلو فيها تلو البديع وإن لم يدرك الظالع شأو الضّليع، فذاكرته بما قيل فيمن ألّف بين كلمتين، ونظم بيتا أو بيتين، واستقلت من هذا المقام الذي فيه يحار الفهم، ويفرط الوهم ويسبر غور العقل وتبين قيمة المرء في الفضل، ويضطر صاحبه إلى أن يكون كحاطب ليل أو جالب رجل وخيل، وقلّما سلم مكثار، أو أقيل له عثار.
* * * غنم: غنيمة وحكى الفنجديهي في شرحه للمقامات: أن الذي أشار عليه بها هو شرف الدين أنوشروان بن خالد وزير الخليفة، أمره بإنشاء المقامات وحكم عليه بها.
وقيل: أمره به صاحب البصرة وواليها، وقال: سمعت الشيخ الثقة أبا بكر عبد الله بن محمد بن أحمد بن النقور البزار ببغداد يقول سمعت الشيخ الرئيس أبا محمد الحريري يقول: أبو زيد السّروجيّ كان شحاذا بليغا، ومكديا فصيحا، ورد علينا البصرة، فوقف يوما في مسجد بني حرام يتكلم، ويسأل شيئا، وكان بعض الولاة حاضرا، والمسجد غاص بالفضلاء فأعجبهم بفصاحته، وحسن صناعته وملاحته، وذكر أسر الروم ابنته، كما ذكرنا في المقامة الحرامية وهي الثامنة والأربعون، قال: فاجتمع عندي عشية ذلك اليوم جماعة من المعارف فضلاء البصرة وعلمائها، فحكيت لهم ما شاهدت من ذلك السائل وسمعت من لطافة عبارته في تحصيل مراده، وطرافة إشارته في تسهيل إيراده فحكى كلّ واحد من جلسائي أنه شاهد من هذا السائل في مسجده مثل ما شاهدت، وإنه سمع منه معنى آخر فصلا أحسن مما سمعت، وكان يغير في كل مسجد زيه وشكله، ويظهر في فنون احتياله، فعجبوا من جريانه في ميدانه، وافتنانه في إحسانه قال الحريري فابتدأت في إنشاء المقامة الحرامية تلك الليلة، حاذيا حذوه فلما فرغت منها أقرأتها جماعة من الأعيان، فاستحسنوها غاية الاستحسان، وأنهو ذلك إلى وزير السلطان، واقترحوا عليّ أخواتها، والله المستعان.
وهذا الذي ذكر الفنجديهي قد حدثني بنحوه من يوثق به من الطلبة، بسند يتصل بأبي محمد الحريري، وإن الحريري وفد مع أهل البصرة بغداد، فوجدوا بواسط أبا زيد السروجي فقال: يا أهل البصرة أنتم تزعمون أنكم لا تكادون ولا تخدعون، وقد والله مشيت على مساجدكم ومحاضركم، فما تعذر عليّ فيها موضع لم أجلب منافع أهله بضروب من المكر، فلما بلغوا بغداد أخبروا بالقصة وزير السلطان، فأمر الحريري بجمع المقامات.
لكن الذي ثبت عندنا هو ما حدثني به الشيخ الفقيه أبو بكر بن أزهر أن الفقيه الراوية أبا القاسم بن جهور، حدثه أن الحريري حدثه أن قصة المقامة الثامنة والأربعين
حق، وأن رجلا قام بمسجد بني حرام فأظهر التوبة من ذنبه، وسأل عن الوجه في كفّارته فقام رجل من بين الناس، فذكر أسر ابنته، فنظم الحريري القصة وجعلها مقامة، وأنها أول مقامة أثبتت في الكتاب وكان ابن جهور يقول: إن الذي أشار إليه بها في قوله: «فأشار من إشارته حكم» هو المستظهر بالله العباسي، وكان لهذا المستظهر رغبة في الطلب، وحظ من الأديب، وعناية بأهل العلم.(1/22)
لكن الذي ثبت عندنا هو ما حدثني به الشيخ الفقيه أبو بكر بن أزهر أن الفقيه الراوية أبا القاسم بن جهور، حدثه أن الحريري حدثه أن قصة المقامة الثامنة والأربعين
حق، وأن رجلا قام بمسجد بني حرام فأظهر التوبة من ذنبه، وسأل عن الوجه في كفّارته فقام رجل من بين الناس، فذكر أسر ابنته، فنظم الحريري القصة وجعلها مقامة، وأنها أول مقامة أثبتت في الكتاب وكان ابن جهور يقول: إن الذي أشار إليه بها في قوله: «فأشار من إشارته حكم» هو المستظهر بالله العباسي، وكان لهذا المستظهر رغبة في الطلب، وحظ من الأديب، وعناية بأهل العلم.
وحدث ابن جهور أنه دخل بغداد في أيامه وبها ألف رجل وخمسمائة رجل حامل علم، وكلهم قد أثبت أسماءهم السلطان في الديوان، وأجرى على كلّ واحد من المال بقدر حظّه من العلم، وكان ابن جهور يحدث أن الحريري ألّف المقامات كلها على الرّكاب، وذلك أن المستظهر بالله لما أمره بصنعتها، أخرج كالحافظ على العمال، فكان يخرج في الأبردين يتمشى في ضفتي دجلة والفرات، ويصقل خاطره بنظر الخضرة والمياه فلم ينقض فصل العمل إلا وقد اجتمع له مائتا مقامة فخلّص منها خمسين وأتلف البواقي، وصدر الكتاب، ورفعه إلى السلطان فبلغ عنده أسنى المراتب.
قوله: «فذاكرته بما قيل فيمن ألف بين كلمتين ونظم بيتا أو بيتين»، قال عمرو بن العلاء: الإنسان في فسحة من عقله، وفي سلامة من أفواه الناس، ما لم يضع كتابا أو يقل شعرا.
وقال العتابيّ: من صنع كتابا فقد استشرف للمدح والذم، فإن أحسن فقد استهدف للحسد والغيبة، وإن أساء فقد تعرّض للشتم بكل لسان.
غيره: من صنف فقد جعل عقله على طبق يعرضه على الناس. وقال حسان: [البسيط] وإنما الشّعر عقل المرء يعرضه ... على البريّة إن كيسا وإن حمقا (1)
وإن أحسن بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا
واستقلت: طلبت الإقالة. المقام: موضع القدمين وأنت قائم. يحار: يتحير:
يفرط: يسبق. الوهم: الغلط. يسبر غور العقل، يختبر قدره ومنتهاه، وأصله في الجراحات يختبر غورها، أي بعد قعرها. والمسبار: الحديدة التي يقاس بها مقدار غور الجراحة وسبرها: قاسها به، يفعل ذلك الدبيب للقصاص أو للدواء. ويقال لحديدته:
السّبار والمسبار والمسبر والمكحل والميل والمرود والمجراف.
تبين: تتبيّن، يضطر: يلجأ. حاطب ليل: جامع الحطب بالظلام، وهذا مثل لأكثم ابن صيفي حكيم العرب، ذكره أبو عبيد في الأمثال وقال: إنما شبهّه بخاطب الليل لأنه ربما نهشته الحية أو لسعته العقرب في احتطابه ليلا، فكذلك المهذار ربما أصابه في إكثاره بعض ما يكره، وقال الفرزدق: [الطويل]
__________
(1) البيت في ديوان حسان بن ثابت ص 292.(1/23)
كمحتطب ليلا أساود هضبة ... أتاه بها في ظلمة الليل حاطبه (1)
وأبين من تفسيره أن حاطب الليل لا يبصر ما يحتطب، فهو يؤلف بين الحطب الكبير والصغير والقوي والضعيف والجيد والرديء، فكذلك المكثار يأتي بالضعيف من الكلام والقوي والجيد والرديء، فشبهه لذلك بالحاطب وأراد ب «جالب رجل وخيل» ما أراد بحاطب الليل، لأن الراجل ضعيف والفارس قوي، والمكثار: الكثير الكلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه، كانت النار أولى به، ألا ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت» (2).
أقيل: أقيم ورفع. عثار: انكباب وسقوط وإقامة العاثر أن ترفعه من سقطته ومنه الإقالة في البيع ونحوه.
* * * فلّما لم يسعف بالإقالة، ولا أعفى من المقالة لبّيت دعوته تلبية المطيع، وبذلت في مطاوعته جهد المستطيع وأنشأت على ما أعانيه من قريحة جامدة، وفطنة خامدة ورويّة ناضبة وهموم ناصبة خمسين مقامة تحتوي على جدّ القول وهزله ورقيق اللفظ وجزله وغرر البيان ودرره وملح الأدب ونوادره، إلى ما وشّحتها به من الآيات ومحاسن الكنايات ورصّعته فيها من الأمثال العربية، واللطائف الأدبية والأحاجي النّحوية والفتاوى اللغوية والرسائل المبتكرة والخطب المحبرة والمواعظ المبكية والأضاحيك الملهية مما أمليت جميعه على لسان أبي زيد السروجيّ، وأسندت روايته إلى الحارث بن همام البصريّ.
والاسعاف المصدر، وساعفته مساعفة: قضيت إرادته ولا أعفى من المقالة، أي لم يعفني من كلامه وإلحاحه، وأعفيت: الرجل وعافيته: أزلت عنه ما يشق عليه وأصله الترك، ومنه إعفاء اللحية، وهو أن يتركها على حالها، ومنه: عفا الله عنك لبيت: أجبت وقلت: لبيك. أنشأت: ابتدأت وأخذت أفعل، أعانيه: أعالجه وأصلها من العناء وهو التعب قريحة: ذهن وأصلها ماء البئر النابع عند حفرها، ومنه القرحة للجراحة، لأن أصلها مادة وشبه الذهن بذلك لما يتولد عنه من المعاني فطنة: ذكاء والفطن: الذكيّ خامدة ساكنة وخمدت النار: سكن لهبها روية تدبر وروّأت الأمر تدبرت كيف تصنعه.
__________
(1) البيت في ديوان الفرزدق ص 51.
(2) أخرجه البخاري في الرقاق باب 23، ومسلم في الإيمان حديث 75، 77، والترمذي في البر باب 43، وابن ماجه في الأدب باب 34، والفتن باب 12، والدارمي في الأطعمة باب 11، وأحمد في المسند 5/ 24، 412.(1/24)
وأصل الروية الهمز واستعملت بغير همز. ناضبة: جافة، ونضب الماء: غار في الأرض.
ناصبة: متعبة، وهمّ على معنى النسب أي ذو نصب ولو جاء على القياس لقيل: منصب، لأن فعله أنصبه الهمّ وقال بشر: [الطويل]
تعنّاك همّ من أميمة منصب ... وجاء من الأخبار ما لا يكذب (1)
ونصب نصبا: أعيا من التعب. جزلة: غليظة ومتينة. وغرر: جمع غرة وهي خيار الشيء ومنه غرّة الفرس وهو البياض في جبهته فجعلها للبيان مجازا. درره جمع درّة، وهي الجوهرة العظيمة، والكلام الحسن يشبه بالدرر والجواهر، ملح: جمع ملحة، وهي مليح الكلام. نوادره: غرائبه وشحتها: زينتها، الكنايات: ضرب من الألغاز، وأصل الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه، إما لإبهام على جليسك أو لتعظيم أو لتحقير، فالإبهام أن تذكر لفظا يفهم من ظاهره غير مرادك مثل قوله تعالى حاكيا عن هود عليه السلام، حين قال له قومه: {إِنََّا لَنَرََاكَ فِي سَفََاهَةٍ} {قََالَ يََا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفََاهَةٌ} [الأعراف:
66، 67] فليس في اللفظ زيادة على ما في السفاهة، وقد تضمن الكلام التكذيب لهم والتعظيم، مثل كناية الرجل بأبي فلان، ترك اسمه وعدل إلى كنايته تعظيما له. والتحقير:
أن يكون الشيء خسيسا فتأنف من ذكره فتذكره بغير اسمه،. مثل قوله تعالى: {كََانََا يَأْكُلََانِ الطَّعََامَ} [المائدة: 75] فكنى عن الحدث بالأكل لما كان يتولد عنه، رصّعته:
نظمته، وألصقت بعضه ببعض، وتاج مرصّع: مزين بخرز وجوهر ينتظم فيه. اللّطائف:
الرقائق والكلمة اللطيفة، أي الرقيقة المعنى التي تحل في القلب فتلطفه، الأحاجي:
ضرب من الألغاز واحدها أحجيّة، وهي قولك لصاحبك: أخرج: ما في يدي ولك كذا تقول العرب: أحاجيك ما في يدي؟ وحجيّاك ما في يدي؟ وهي من الحجى وهو العقل.
الفتاوى اللغوية، أراد بها المسائل المائة التي في الثانية والثلاثين وألفتيا: إظهار الشيء المسؤول عنه عند السؤال. المبتكرة: التي لم يسبق أليها، وبكر وابتكر خرج بكرة ومنه الباكور وهو المبكر من كل شيء في الإدراك، وبكر كلّ شيء: أوله. والمحبّرة: المزينة، وحبرت الشيء تحبيرا زينته، وأصلها من الحبر وهي ثياب تصنع باليمن فيها رقوم وتزيين أمليت: ألقيت، وأمليت على الصبيّ: ألقيت عليه ما يكتب. أسندت: رفعت.
* * * __________
(1) البيت لبشر بن أبي خازم في ديوانه ص 7، ورواية البيت فيه:
تغناك نصب من أميمة منصب ... كذي الشوق لمّا يسله وسيذهب
ولطفيل الغنوي في ديوانه ص 37، ورواية البيت فيه:
تأوّبني همّ مع الليل منصب ... وجاء من الأخبار ما لا أكذب
والأغاني 15/ 342، والرواية فيه كما في ديوان طفيل والبيت بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 350.(1/25)
وما قصدت بالإحماض فيه إلا تنشيط قارئيه، وتكثير سواد طالبيه. ولم أودعه من الأشعار الأجّنبية إلا بيتين فذين أسّست عليهما بنية المقامة الحلوانية وآخرين توأمين ضمنتهما المقامة الكرجيّة وما عدا ذلك فخاطري أبو عذره ومقتضب حلوه ومرّه هذا مع اعترافي بأنّ البديع رحمه الله سبّاق غايات وصاحب آيات، وأنّ المتصدّي بعده لإنشاء مقامة ولو أوتي بلاغة قدامة، لا يغترف إلا من فضالته، ولا يسري ذلك المسرى إلا بدلالته.
* * * الإحماض: الانتقال من الشيء إلى شيء، وأصله في الإبل ترعى الخلة وهي حلوة المرعى فتملّه فتنتقل إلى الحمض تأكل منه فيذهب الحمض عن قلوبها استيلاء الحلاوة فتنشط بذلك على الرعي فيقال: أحمض الرجل إحماضا، والعرب تقول: الخلة خبز الإبل والحمض فاكهتها فأراد به تنقله في المقامات، من حكاية فائقة إلى قضية رائقة، ومن موعظة تبكي إلى ملهية تسلي، وفي ذلك تنشيط وترغيب في قراءتها، ونفي للملل والكسل عن قارئها، سواد: أشخاص، ويسمى الشخص سوادا، لأنه يسود الأرض بظله.
أودعه: أضمنه، الأجنبية: التي ليست من شعره، والأجنبي: من ليس بينك وبينه قرابة من الجنابة وهي البعد فذين: منفردين هذا من شعر وهذا من آخر، وتوأمين: أخوين من شعر واحد. أسست: أصلت، والأساس أصل الحائط. الحلوانية والكرجية: منسوبتان إلى حلوان والكرج، وهما بلدان، ما عدا: ما جاوز. خاطري: ذهني. أبو عذره، أي أول صانع له، يقال للمرأة: فلان أبو عذرها، أي أول زوج تزوجها فوجدها عذراء فافتضها وأزال عذرتها، أي ما بها من صعوبة، مقتضب. مقتطع. حلوه ومرّه: جيده ورديئه.
غايات: جمع غاية وهي طلق (1) الخيل والسباق منها الذي يجيء أبدا سابقا المتصدي: المتعرض. بلاغة: فصاحة، وأصلها أن يبلغ الإنسان من الكلام والحجة ما أراد.
[قدامة بن جعفر]
قدامة. وهو أبو الوليد بن جعفر، كان بليغا مجيدا عالما بأسرار صنعة الكتاب ولوازمها، وله كتاب يعرف بسرّ البلاغة في الكتابة، وترجمته تدل على متضمنه، وله تحقيق في صنع البديع يتميز به عن نظرائه، وتدقيق في كلام العرب يربي فيه على أكفائه، وتحذيق في علوم التعليم أضرم فيها شعلة ذكائه فلذلك سار المثل ببلاغته، واتفق
__________
(1) الطلق: هو الشوط الواحد في جري الخيل.(1/26)
المتقدم والمتأخر على فضل براعته. الفضالة: البقية من الماء وغيره، وهي ما فضل عن الحاجة. واغترفها: أخذها بيده يسري بذلك المسرى: يقصد ذلك المقصد، وأصل يسري، يسير بالليل، دلالته: تقدمه وهدايته، وتفتح دالها وتكسر، والفتح أكثر. والدليل بالفلاة: الذي يهدي القوم قصدهم.
* * * ولله درّ القائل: [الطويل]
فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بسعدى شفيت النّفس قبل التّندّم
ولكن بكت قلبي فهيّج لي البكا ... بكاها، فقلت: الفضل للمتقدّم
مبكاها: بكاءها، صبابة: شوقا هيج: حرك والبيتان لعديّ بن الرقاع، وقبلها:
[الطويل]
ومما شجاني أنني كنت نائما ... أعلّل من فرط الكرى بالتنسّم
إلى أن دعت ورقاء في غصن أيكة ... تردّد مبكاها بحسن الترنم
فلو قبل مبكاها
[عديّ بن الرّقاع]
وعديّ هو أبو زيد بن مالك، ينتمي إلى معاوية بن الحارث، وينسب إلى الرقاع وهو جدّ جده. وكان شاعرا مقدما عند بني أمية، مدّاحا لهم، خاصا بالوليد بن عبد الملك، ومنزله بدمشق، وهو من حاضرة الشعراء لا من باديتهم، وكان من أوصف الناس للمطية، وكذا ذكره صاحب الأغاني في ترجمته وقال نوح بن جرير لأبيه: من أنسب الناس؟ قال: ابن الرقاع في قوله: [الكامل]
لولا الحيا وأن رأسي قد عسا ... فيه المشيب لزرت أمّ القاسم (1)
وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم
وسنان أقصده النّعاس فرنّقت ... في عينة سنة وليس بنائم
* * *
أقرّ الحريري هنا للبديع بالفضل، وجعله سبّاقا للغايات، وما أحسن هذا الأدب منه، مع علمه بفضل مقاماته على مقامات البديع، ومن أدل دليل على ذلك أنه منذ ظهرت مقامات الحريري لم تستعمل مقامات البديع، ثم إنه طبق استعمالها آفاق الأرض،
__________
(1) الأبيات في ديوان عدي بن الرقاع ص 99، والأغاني 3/ 374، 9/ 304، 307، وأمالي المرتضى 1/ 511، ولسان العرب (جسم)، (عتا)، ومعجم البلدان (جاسم).(1/27)
إلا أنه أسرّ هنا شيئا، لأنه ختم كلامه، بأن البديع فضله بالتقدّم وهذا منه مذهب مستحسن، ألا تراه كيف بدأ بتجريد الفضل للبديع وحده، ثم لم ير لنفسه قدرا في قوله:
«وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع» فجعل نفسه كالفرس الأعرج الذي جريه إذا أجتهد دون مشي الصحيح، وجعل البديع كالفرس العتيق الكامل القوة ثم لّما بلغ إلى هذا الموضع بعد أسطار صرّح في الظاهر للسامع بأن البديع سباق غايات، وصاحب آيات، وأومى لمن فطن أنه إنما فضله بتقدم الزمان. ثم خلط الكلام في الخلفاء بين المتقدمين والمتأخرين، ثم تناسى ذلك إلى آخر الكتاب في السابعة والأربعين، وصرّح هناك بتفضيل المتأخر على المتقدم وتفضيله نفسه على البديع، حيث يقول: [الرجز]
إن يكن الإسكندريّ قبلي ... فالطلّ قد يبدو أمام الوبل
* والفضل للوابل لا للطّلّ *
ولو كان غيره من العلماء المنسوبين إلى سوء الأدب، ورأى فضل مقاماته، لذم البديع ونقص كتابه فكان ينعكس الذم عليه: وكذا رأينا في الغالب من ادّعى لنفسه فضلا، وازدرى غيره، أنه قلّما يكون إلا ممقوتا، فلما أظهر الحريري مدح البديع ووفاه قسطه من التفضيل والترفيع، ولم ينظر إلى نفسه إلا بطرف خفي قل من يتفطن له، ستر الله عليه ورفع صيته، ووضع لكتابه القبول عند الخاصة والعامة. [الطويل]
فشرّق حتى لم يجد ذكر مشرق ... وغرّب حتى لم يجد ذكر مغرب
فلا يذم كتابه إلا أحد الرجلين فذين ذكرهما إما جاهل، أو حاسد.
* * * ومذهب الناس في تفضيل الحديث على القديم وأكثرهم على تفضيل القديم، وقد أحسن حبيب حيث يقول: [الكامل]
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحبّ إلا للحبيب الأول
كم منرل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل
وقال: [الكامل]
لا زلت من شكري في حلّة ... لابسها ذو سلب فاخر
يقول من تقرع أسماعه: ... ما ترك الأوّل للآخر
وذكر ابن شرف علة ذلك فقال: [الكامل]
أولع النّاس بامتداح القديم ... وبذمّ الحديث غير الذّميم
ليس إلا لأنهم حسدوا الحيّ ... ومالوا إلى العظام الرّميم
وللمتأخرين شعر كثير في تفضيلهم أنفسهم على المتقدمين من أحسنه قول المعريّ: [الخفيف](1/28)
أولع النّاس بامتداح القديم ... وبذمّ الحديث غير الذّميم
ليس إلا لأنهم حسدوا الحيّ ... ومالوا إلى العظام الرّميم
وللمتأخرين شعر كثير في تفضيلهم أنفسهم على المتقدمين من أحسنه قول المعريّ: [الخفيف]
وإنّي وإن كنت الأخير زمانه ... لات بما لم تستطعه الأوائل
وقال ابن عمار: [الطويل]
أنا ابن عمار لا أخفى على أحد ... إلا على جاهل بالشمس والقمر
إن كان أخّرني دهري فلا عجب ... فوائد الكتب يستلحقن في الطرّر
والذي ذكر أبو العباس في الكامل هو الحق، قال: وليس لقدم العهد يفضل القائل، ولا لحداثة العهد يهضم المصيب، ولكن يعطى كلّ ما يستحقّ
[الحمام]
وأمّا بيت عديّ في الحمام فالحمام قد ذكر العرب لها في أشعارها، ونلمّ هنا بفصل منها يروى عن علي رضي الله عنه أنه اشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحشة فقال له: «اتّخذ حمامة تؤنسك وتصيب من فراخها وتوقظك للصلاة بتغريدها» (1).
ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتخذوا الحمام فإنها تلهي الجن عن صبيانكم» (2).
وروى جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه النظر إلى الحمام الأحمر وإلى الأترجّ.
وكان إبراهيم بن سيّار يعجب بالحمام، وكان إذا ذكرها يقول: إن الله جمع فيها حسن المنظر، وكريم المخبر تكفيك مؤنتها، وتكثر لديك معونتها فهي للطارق عدّة وللمستوطن لذة، تطعم في الصحراء، وتعود عليك بالسراء ويأنس الوحيد بحركاتها، وتغنيه عن الأوتار بنغماتها وغيرها من الطير يستعجم وهي ناطقة، وينفر عنك وهي داجنة، وفي طباعها سكون إلى الناس واستئناس بهم، وهي طير عفيف، يبقي الذكر بعد الأنثى مفردا، والأنثى مثل ذلك، مع شدة اتفاقهما على المحبة، إن طارا طارا معا، وإن وقعا وقعا معا، لها سرعة طيران لا تكاد تصيدها سباع الطير إلا بحيلة.
ولم تزل العرب تستحسن تسجيع الحمام وتغريد البلبل والورشان، وقد ذكرت العرب من رقة تسجيعه ما يبعث التذكر، ويولد الشجون، ويهيج الأسى، ويجدد رقة القلب حتى يجعل البكاء فرضا معها، والتصابي لازما لأجلها وأعراب وادي القرى إذا ظفروا بشراب الطائف، أتوا حوائط النخل عند استعلاء الظهيرة، إذا صارت الوراشين
__________
(1) لم أجد الحديث بهذا اللفظ ولا المعنى في كتب الصحاح.
(2) أخرجه الطبراني في الجامع الصغير 1/ 9، بلفظ: «اتخذوا هذه الحمام المقاصيص».(1/29)
والفواخت إلى تلك الظلال، فيشربون ويأنسون بتغريدهن، ويقيمون ترجيع أصواتهن مقام المزامير والأوتار وأنا أسوق من المنظوم ما يوافق هذا النثر، كقول أبي صخر الهذليّ: [الطويل]
ولّما دعت غوريّة الأيك سجّعت ... فسجّع دمعي يستهل ويستشري
يذكرني شجوى دعاء حمامة ... ويبعث لوعات الصّبابة في صدري
بكت حزنا رزء الهديل وشفّني ... فراق حبيب ضاق عن فقده صبري
وأنشد الأصمعي قال: [البسيط]
أيّها البلبل المغرّد في النّخ ... ل غريبا عن أهله حيرانا
أفراقا تشكوه أم ظلت تدعو ... فوق أفنان نخلة ورشانا!
هاج لي صوتك المغرّد شجوا ... ربّ صوت يهيّج الأحزانا
وقال آخر: [الوافر]
أحنّ إلى حوائط ذات عرق ... لتغريد الفواخت والحمام
ألمّ بها بكلّ فتى كريم ... من الفتيان مخلوع الزّمام
وقال آخر: [الوافر]
إذا غنّت على الأغصان ورق ... أجبناها بإعمال المدام
وقال آخر: [الوافر]
سيغنيك عن مزمار آل محرّق ... ومربعهم تغريد تلك الحمائم
بأيكة أطيار تجاوبن بالضحى ... على باسقات مائلات نواعم
وأنشد أبو عليّ عفا الله تعالى عنه: [الطويل]
ومن بستان إبراهيم غنّت ... حمائم بينها فنن رطيب
فقلت لها وقيت سهام رام ... ورقط الريش مطعمها الحبوب
كما هيّجت ذا حزن معنىّ ... على أشجانه فبكى الغريب
وقال نصيب: [الوافر]
لقد هتفت في جنح ليل حمامة ... تبكيّ على إلف وإني لنائم
كذبت وبيت الله لو كنت عاشقا ... لما سبقتني بالبكاء الحمائم (1)
__________
(1) البيتان للمجنون في ديوانه ص 186، والأغاني 2/ 62، والمقاصد النحوية 4/ 473، ولنصيب في(1/30)
وأنشد أبو العباس لحميد بن ثور: [الطويل]
وما هاج هذا الشّوق إلا حمامة ... دعت ساق حرّ ترحة وترنّما (1)
محلّاة طوق لم يكن من تميمة ... ولا ضرب صوّاغ بكفّيه درهما
تغنّت على غصن عشاء فلم تدع ... لنائحة في نوحها متلوّما
إذا حرّكته الريح أو مال ميلة ... تغنّت عليه مائلا ومقوّما
عجبت لها أنّى يكون غناؤها ... فصيحا ولم تفغر بمنطقها فما
فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربيّا شاقه صوت أعجما
وقال حبيب: [الكامل]
لتضعضعت عبرات عينيك أن دعت ... ورقاء حين تضعضع الإظلام (2)
لا تشجينّ لها فإن بكاءها ... ضحك وإنّ بكاءك استغرام
هنّ الحمام، فإن كسرت عيافة ... من حائهنّ فإنّهنّ حمام
وسمع حبيب بخراسان غناء بالفارسية، فلم يدر ما هو، غير أنه شوّقه فقال: [الوافر]
حمدتك ليلة شرفت وطالت ... أقام سهادها ومضى كراها (3)
سمعت بها غناء كان أولى ... بأن يقتاد نفسي من عناها
ومسمعة يحار السمع فيها ... ولم تصممه لا يصمم صداها
ولم أفهم معانيها ولكن ... ورت كبدي فلم أجهل شجاها
وظلت كأنني أعمى معنّى ... يحبّ الغانيات ولا يراها
يعني بهذا الأعمى بشارا حيث يقول: [البسيط]
يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا (4)
قالوا بمن لا ترى تهذي! فقلت لهم: ... الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
* * *
__________
ديوانه ص 14، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1289، وبلا نسبة في الجنى الداني ص 284، والحيوان 3/ 206.
(1) الأبيات في ديوان حميد بن ثور ص 24، 27ولسان العرب (حرر)، (سوق)، (حمم)، ومقاييس اللغة 2/ 6، ومجمل اللغة 2/ 8، وتاج العروس (حرر)، (علط)، (سوق)، (وحى)، وبلا نسبة في كتاب العين.
(2) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 279.
(3) ديوان أبي تمام ص 467.
(4) انظر الأغاني 3/ 238.(1/31)
وأرجو ألّا أكون في هذا الهذر الذي أوردته، والمورد الذي تورّدته، كالباحث عن حتفه بظلفه، والجادع مارن أنفه بكفّه، فألحق بالأخسرين أعمالا الّذين ضلّ سعيهم في الحياة الدّنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا.
* * * قوله: «الهذر الذي أوردته» أي الإكثار الذي أتيت به، وقد تقدّم المورد وتوردّته:
اقتحمته. الباحث: المفتش، والظّلف: للبقر والغنم كالحافر للخيل والحمير. وهذا مثل للعرب وذلك أن ما عزة كانت لقوم، فأرادوا ذبحها فلم يجدوا شفرة، فنبشت بظلفها في الأرض، فاستخرجت منها شفرة، فذبحوها بها، وقالوا: بحثت عن حتفها بظلفها، فسارت مثلا. وقال الشاعر: [الطويل]
وكانت كعنز السوء قامت بظلفها ... إلى مدية تحت الثّرى تستثيرها (1)
وقال أبو الأسود: [المتقارب]
فلا تك مثل التي استخرجت ... بأظلافها مدية أو بفيها (2)
فقام إليها بها ذابح ... ومن يدع يوما شعوبا يجيها
ولفظ المثل عند أبي عبيد «كالعنز تبحث عن المدية» والجادع: القاطع الأنف.
والمارن: طرف الأنف، وأراد به قصيرا مولى جذيمة الأبرش. وقد ذكرنا قصته في شرح الرابعة والعشرين. ورجا المصنف ألا يدّركه من الضرر ما أدركا من الضّرر حين جنيا على أنفسهما وانتفع غيرهما، ضلّ سعيهم: خابت أعمالهم، وأصل ضلّ، تحيّر فلم يدر أين يتوجّه، وأصل السعي المشي بسرعة، سمع أعرابيّ رجلا يقرأ {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمََالًا} [الكهف: 103]، فقال: أنا أعرفهم، قيل له: ومن هم؟ قال: الذين يبرّدون ويأكل غيرهم.
* * * على أنّي وإن أغمض لي الفطن المتغابي، ونضح عنّي المحبّ المحابي، لا أكاد أخلص من غمر جاهل أو ذي غمر متجاهل، يضع منّي لهذا الوضع ويندّد بأنّه من مناهي الشّرع. ومن نقد الأشياء بعين المعقول، وأنعم النّظر في مبانّي الأصول، نظم هذه المقامات، في سلك الإفادات وسلكها مسلك الموصوعات، عن العجماوات والجمادات.
* * * __________
(1) البيت للفرزدق في ديوانه ص 71.
(2) البيتان في ديوان أبي الأسود الدؤلي ص 22.(1/32)
أغمض: سامح وسد عينيه عمّا لم يرض، والفطن: الذكي. التغابي: المتجاهل عن الشيء وهو عارف به، وهو مما يحمد به الرجل، قال حبيب: [الكامل]
ليس الغبيّ بسيّد في قومه ... لكنّ سيّد قومه المتغابي (1)
ونضح بالماء: غسل. المحابي: الذي يفضّلني على غيري، وحباني: اختصني بالعطية، وأصل حاباه أن تعطيه ويعطيك، وقد يكون في معنى «حباه». الغمر: الجاهل ذي غمر: صاحب عداوة. متجاهل: مستعمل للجهل وهو على خلافه يقول إن سدّ عينيه عن عيبي فطن ذو عقل، أو تغابى حين يبصر لي خطأ، أو رأى لي ذلك العيب محبّ، فجعل يغسله عنيّ لمحبته لكلامي فلا أخلص مع ذلك إما من جاهل يعيب ما لا يفهم، أو من عارف يظهر لي عداوة وحسدا، فيردّ حسني قبيحا، وهو عارف بحسني فيشيع في الناس أن المقامات أكاذيب، وهو عارف بفضلها وما قصد بها.
[ما قيل في الحقد]
والغمر: الحقد، وصاحبه مذموم، ولا أعرف من تعرّض من الفصحاء لمدح حامله سوى ما يحكى أن عبد الملك بن صالح جيء به إلى الرشيد في قيوده، فقال له ابن خالد وأراد أن يبكّته: بلغني أنك حقود، فقال عبد الملك: أيها الوزير، إن كان الحقد هو بقاء الخير والشر إنهما لباقيان في صدري وفي رواية أخرى: إنما صدري خزانة تحفظ ما استودعت من خير أو شرّ فقال الرشيد: والله ما رأيت أحدا احتجّ للحقد بمثل ما احتجّ به عبد الملك، ففتح الباب لابن الروميّ، فقال يخاطب بعض من عابه بالحقد:
[الطويل]
لئن كنت في حفظي لما أنا مودع ... من الخير والشرّ انتحيت على عرضي
لما عبتني إلّا بفضل أمانة ... وربّ امرىء يزري على خلق محض
ولولا الحقود المستكنّات لم يكن ... لينقض وترا آخر الدّهر ذو نقض
وما الحقد إلّا توءم الشّكر في الفتى ... وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض
فحيث ترى حقدا على ذي إساءة ... فثمّ ترى شكرا على حسن العوض
ثم رجع إلى الطريقة المثلى، فانتحل المذهب الأعلى، وقال يعيبه، ضاربا بسهم البلاغة في الوجهين: [البسيط]
يا مادح الحقد محتالا له شبها ... لقد سلكت إليه مسلكا وعثا
يا دافن الحقد في ضعفي جوانحه ... ساء الدّفين الذي أضحت له جدثا
الحقد داء دويّ لا دواء له ... يري الصدور إذا ما جمره حرثا
__________
(1) البيت في ديوان أبي تمام ص 154.
فاستشفينه بصفح أو محادثة ... فإنما يبرأ المصدور ما نفثا
إنّ القبيح إذا أصلحت ظاهره ... يعود ما لمّ منه مرّة شعثا
كم زخرف القول ذو زور ولبّسه ... على العقول ولكن قلّما لبثا
* * *(1/33)
__________
(1) البيت في ديوان أبي تمام ص 154.
فاستشفينه بصفح أو محادثة ... فإنما يبرأ المصدور ما نفثا
إنّ القبيح إذا أصلحت ظاهره ... يعود ما لمّ منه مرّة شعثا
كم زخرف القول ذو زور ولبّسه ... على العقول ولكن قلّما لبثا
* * *
قوله «يضع منّي» أي يحط من منزلتي. الوضع: الكتاب. يندّد: يشهر العيب، ندّد به، إذا أسمعه المكروه، نقد الأشياء: فتّش وبحث عليها. المعقول: العقل.
أنعم: بالغ. وأصل النظم جعل حبّات الجواهر في خيطها وضمها فيه لغيرها ثم سمّي بيت الشعر نظما، لأن الكلام فيه ملتصق بعضه ببعض كحبّ الجواهر، والبيت يضمه كالخيط، والسلك: خيط الجوهر. والإفادات: الفوائد. سلك: قصد. الموضوعات:
الكتب المؤلفة، أي أدخلها مدخل هذه الكتب. العجماوات: البهائم، وسمّيت واحدتها عجماء لأن صوتها لا يفهم منه معنى. والجمادات: ما عدا الحيوان، وأراد ما ألّف من الكتب مما لا حقيقة له في الظاهر، وقد ضمّن الحكم الشافية في الباطن، مثل كتاب كليلة ودمنة وغيره مما ألف على ألسنة ما لا عقل له ولا روح. وكذلك المقامات، وإن كان ظاهرها كذبا فالقصد بها تمرين الطالب وتهذيبه وتذكية عقله، وأن يكتسب تجارب الدّنيا من حكايات السّروجيّ، فيكون متنبّها لما يطرأ عليه من النّوازل، فتؤمن على عقله الغفلة والخديعة، إلى ما ينضاف إليه من تعليم صنعة الكتابة والشعر، فإنّها أعون شيء عليها.
[حكم بلسان البهائم]
ومما يحكى على ألسنة البهائم ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بينا راع في غنم إذ عدا عليها الذئب، فأخذ شاة منها، فطلبه الراعي منه حتى استنقذها، فالتفتت إليه الذئب وقال: من لها يوم السّبع، يوم ليس لها راع غيري!» (1).
بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها، فالتفتت إليه البقرة فكلّمته فقالت: أنا لم أخلق لهذا، وإنما خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله! تعجبا وفزعا أبقرة تتكلم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإني مؤمن بذلك وأنا وأبو بكر وعمر» (2).
السّبع، بسكون الباء: أرض المحشر والسبع: الفزع.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود وحتى يختبىء اليهوديّ
(1) أخرجه البخاري في الأنبياء باب 54، وفضائل أصحاب النبي باب 5، 6، 13، والحرث باب 4، ومسلم في الفضائل حديث 1857، والترمذي في المناقب باب 7.
(2) أخرجه البخاري في الأنبياء باب 54، ومسلم في الفضائل حديث 1858.(1/34)
وراء الحجر فيقول الحجر: يا عبد الله، يا مسلم هذا يهوديّ ورائي فاقتله» (1).
قالوا خرج أسد وذئب وثعلب يتصيدون، فاصطادوا حمار وحش وغزالا وأرنبا فقال الأسد للذئب: اقسم بيننا هذا، فقال: الحمار للملك، والغزال لي، والأرنب للثعلب فرفع الأسد يده فضربه ضربة، فإذا هو مجدّل بين يديه. ثم قال: للثعلب:
اقسمها، فقال: الحمار يتغذّى به الملك، والغزال يتعشى به، والأرنب بين ذلك، فقال الأسد: ويحك ما أقضاك! من علّمك هذا القضاء؟ قال: رأس هذا الذئب.
وحدّث الشعبيّ، قال: صاد رجل قبّرة، فقالت: ما تريد أن تصنع بي؟ قال: أذبحك وآكلك. فقالت: والله ما أشبع من جوع وخير لك من أكلي أن أعلّمك ثلاث خصال:
واحدة وأنا في يدك، والثانية وأنا على الشجرة، والثالثة وأنا على الجبل قال:
هاتي: قالت: لا تلهفنّ على ما فات، فخلى سبيلها، فلما صارت على الشجرة قالت: لا تصدّقن بما لا يكون أنه سيكون، فلما صارت على الجبل قالت له: يا شقيّ لو ذبحتني أخرجت من حوصلتي درتين، كل واحدة عشرون مثقالا، قال: فعض الرجل على شفته تلهّفا، ثم قال: هاتي الثالثة، فقالت: أنت قد نسيت ثنتين فكيف أخبرك بالثالثة! ألم أقل لك: لا تلهفنّ على ما فات، ولا تصدقن بما لا يكون أنه سيكون! أنا ولحمي ودمي وريشي لا يكون فيّ عشرون مثقالا، فكيف يكون في حوصلتي درّتان كلّ واحدة عشرون مثقالا! ثم طارت وذهبت. وأمثال هذه الملح أكثر من أن تحصى.
* * * ولم يسمع بمن نبا سمعه عن تلك الحكايات، أو أثّم رواتها في وقت من الأوقات.
ثمّ إذا كانت الأعمال بالنّيات، وبها انعقاد العقود الدّينيّات، فأيّ حرج على من أنشأ ملحا للتّنبيه، لا للتّمويه، ونحا بها منحى التّهذيب، لا الأكاذيب! وهل هو في ذلك إلّا بمنزلة من انتدب لتعليم، أو هدى إلى صراط مستقيم! [الطويل]
على أنّني راض بأن أحمل الهوى ... وأخلص منه، لا عليّ ولا ليا
قوله: «نبا سمعه» أي ارتفع، وأصله في السّيف إذا ارتفع فلم يمض في الضربة.
أثّم: جعلهم أصحاب إثم، انعقاد العقود، أي ارتباط العقائد. حرج: إثم، وأصل التحريج التضييق، للتنبيه، أي لينبّه به الغافل الذهن فيجعله حاضر الخاطر، نحا منحى:
قصد مقصد. التهذيب: التلخيص، وهذبت الطالب: أخرجته وخلّصته، ورجل مهذّب:
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد باب 94، ومسلم في الفتن حديث 2239، وأحمد في المسند 2/ 417، 530.(1/35)
مخلص من العيوب. ويروى: ندب وانتدب، فندب دعا، وانتدب أجاب. وهدى:
أرشد. صراط مستقيم: طريق معتدل، ومن فعل ما ذكر مأجور غير آثم، لكنّه مع هذا رضي أن يخلص ممن يتكلم في كتابه بتعييب، وأن يخرج من هذا الكتاب كفافا لا أجر ولا وزر بل نرجو له الأجر على نيّة الإفادة والتعليم، إن شاء الله تعالى.
* * * وبالله أعتضد، فيما أعتمد، وأعتصم ممّا يصم وأسترشد، إلى ما يرشد فما المفزع إلا إليه، ولا الاستعانة إلا به، ولا التّوفيق إلا منه، ولا الموئل إلا هو عليه توكّلت وإليه أنيب، وبه نستعين، وهو نعم المعين!
أعتضد: أستعين. أعتمد: اقتصد. أعتصم: أمتنع يصم، يعيب. أسترشد:
أستهدي. يرشد: يهدي ويدل على الخير. والمفزع: الملجأ، وكذلك الموئل. وتقول:
فزعت إلى فلان، إذا لجأت أليه واستعنت به ليحميك ويمنعك، وفزعت منه: خفته، والمفزع الذي ذكره مصدر بمعنى الفزع. وتقول: وألت من ذلك، إذا نجوت منه، وأنت موئلي منه، أي الذي تنجّيني منه. والمفزع: الموئل والحصن، تفزع إليه فينجيك من طالبك. أنيب: أرجع. والإنابة: الرجوع إلى الله تعالى والتوبة إليه.(1/36)
المقامة الأولى وهي الصّنعانية
حدّث الحارث بن همّام قال: لمّا اقتعدت غارب الأغتراب، وأنأتنّي المتربة عن الأتراب، طوّحت بيّ طوائح الزّمن، إلى صنعاء اليمن، فدخلتها خاوي الوفاض، بادي الإنفاض لا أملك بلغة ولا أجد في جرابي مضغة.
* * * إن قيل لأي معنى اختار الحريري حارثا وهماما وأبا زيد، دون غيرهم من الأسماء؟ فالجواب أنه إنما قصدهم لأنهم أصدق الأسماء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المرفوع: «تسمّوا بأسماء الأنبياء وأحبّ الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة» (1) وصدقهما أنه ليس أحد إلا وهو يحرث، أي يحاول الكسب أو يهمّ بحاجته.
وأما أبو زيد، فإن صدق أنه إنسان بعينه كما تقدّم في الصدر وقع الأكتفاء به، وإن لم يصدق فقد حكى أهل اللغة أنه كنية الكبر، وأنشد ابن قتيبة: [الطويل]
أعار أبو زيد يميني سلاحه ... وحدّ سلاح الدّهر للمرء كالم
وكنت إذا ما الكلب أنكر أهله ... أفدّى، وحين الكلب جذلان نائم
سلاحه: العصا وإنكار الكلب أهله، إذا لبسوا السلاح. وجذلان نائم، في الجدب إذا ماتت المواشي فيشبع من لحومها وينام. وقال ابن الأعرابيّ: يقال للشيخ الكبير: أبو زيد وأبو سعيد والسروجيّ في الغالب إنما يصفه بالكبر والهرم.
فوقعت التسمية لغوية، وإنما عنى بالحارث بن همام نفسه لأنه يصفه بأشياء لا تليق إلا بالدهر، مثل قوله: [الرجز]
وكل سرح فيه ذئبي عائث ... حتى كأني للأنام وارث
* سامهم وحامهم ويافث *
__________
(1) أخرجه أبو داود في الأدب باب 61، وأحمد في المسند 4/ 345، والطبراني في الجامع الصغير 1/ 224.(1/37)
ومثل قوله: [مجزوء الكامل]
ووتّرت أرباب الأرا ... ئك والدّرانك والسّجوف
وهي كثيرة، وفي الخمسين له كلام لا يليق إلا بالدهر، فجعل أخذ الحارث من أبي زيد، كناية عن علم الحريريّ بما جرّب من صروف الدهر.
قوله: «اقتعدت» أي ركبت، وأصله اتخذت قعدة أو قعودا، وهما اسمان للبعير يقعد عليه راكبه. والغارب: مقدّم سنام البعير. والأغتراب والغربة: التحوّل في البلدان والبعد عن الأوطان، وسيأتي ما أصلهما، وأراد: لما اتخذت ظهر الغربة قعودا. أنأتني:
أبعدتني. المتربة: الفقر. الأتراب: الأصحاب على سنن واحد. طوّحت: رمت.
وطوائح: نوائب تقول: طوحت بالرجل، إذا رميت به إلى الهلاك، وقياس الطوائح المطاوح لأنك تقول: طوّحت فهي مطوحة والجمع مطوحات ومطاوح. قال أبو عبيد: جاءت الطوائح على حذف الزيادة، وردّ الفعل إلى أصله، فإنه من طاحت فهي طائحة، والجمع طوائح، قال أبو عمرو الشيبانيّ: جاءت على النّسب، مثل لابن وتامر، أي ذو لبن وذو تمر وذات تطويح، قال الشاعر: [الطويل]
ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط ممّا تطيح الطوائح (1)
ومثله {وَأَرْسَلْنَا الرِّيََاحَ لَوََاقِحَ} [الحجر: 15]: تقديره ملاقح، لأنك تقول:
ألقحت الريح السحاب إذا جمعته وألقته، وضارع مرتفع بمضمر تقديره: يبكيه ضارع، وهو الذليل.
* * * [صنعاء]
صنعاء، بلد باليمن، وأضافها إلى اليمن، لأن ثمّ صنعاء أخرى، وهي قرية بدمشق. وكان اسم صنعاء في القديم «أزال»، قال ابن الكلبيّ والشرقي (2): ولما وافتها الحبشة قالوا: نعم، فسمّى جبلها نعم أي انظر، فلما نظروا إلى مدينتها ورأوها حصينة مبنية بالحجارة قالوا: هذه صنعاء، وتفسيرها هنيّة، فسميّت صنعاء.
وحكى الهمذاني قال: وأهل صنعاء يقولون في الإسلام: إنها القرية المحفوظة، وأنهم
__________
(1) البيت للحارث بن نهيك في خزانة الأدب 1/ 303، والكتاب 1/ 288، وللبيد بن ربيعة في ملحق ديوانه ص 362، ولنهشل بن حري في خزانة الأدب 1/ 303، ولضرار بن نهشل في الدرر 2/ 286، وللحارث بن ضرار في شرح أبيات سيبويه 1/ 110، ولنهشل، أو للحارث، أو لضرار، أو لمزرد بن ضرار، أو للمهلهل في المقاصد النحوية 2/ 454، والبيت بلا نسبة في الخصائص 2/ 353، 424، ولسان العرب (طوح).
(2) هو الشرقي بن قطامي، واسمه الوليد والشرقي لقبه.(1/38)
سمعوا هاتفا يقول في بعض أيام من حاربهم: كلّ عليك يا أزال، وأنا أتحنن عليك!
وأقدم قصور اليمن وأنبهها ذكرا، وأبعدها صيتا غمدان وقصر أزال، وهي صنعاء.
والذي أسس غمدان وابتدأ بنيانه واحتفر بئره الذي هو اليوم سقاية لمسجد جامع صنعاء، سام بن نوح عليه السلام، على ما يذكره علماء صنعاء واليمن، وذلك أنّه لما مات نوح اجتوى بعده السكنى في الأرض الشمالية، فأقبل طالعا في الجنوب يطلب أطيب البلاد، حتى صار إلى الإقليم الأول، فوجد اليمن أطيبه مسكنا، وصنعاء أطيب اليمن، فوضع مقراته وهى الخيط الذي يقدر به البناء ويبنى على حده فوضع الأساس في ناحية فجّ غمدان في غربيّ الجبل، وهو اليوم معروف بصنعاء، فلما ارتفع بعث الله طائرا، فاختطف المقراة فطار بها، وتبعه سام، لينظر أين يقع فأمّ بها جنوب النّعم من سفح نعم، فوقع بها، فلما اتبعه طار بها، وطرحها على حرّة غمدان، فلما قرّت، علم سام أنه قد أمر بالبناء هنالك فأسس غمدان. واحتفر بيده بئره المسمى كرامة. ويستقى منها إلى اليوم لكنها أجاج.
خاوي الوفاض: فارغ المزاد، ويقال: خوى الرّجل، إذا سجد فترك بين جسده وبين الأرض خواء، وخوى البعير: برك على هذه الحال. والوفاض: جمع وفضة وهي شبه الجراب، وهي أيضا كنانة السهام إذا كانت من جلد لا من خشب، فإن كانت من خشب مجلد أو غير مجلد فهي كنانة أو جعبة.
ابن سيده في المحكم: الوفضة خريطة يحمل فيها الراعي أداته وزاده. والوفضة:
جعبة السهام. قال أبو منصور الأزهري معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «أنه أمر بصدقة [أن] توضع في الأوفاض» (1): إنهم أخلاط الناس. قال الفراء: هم أهل الصّفّة. أبو عبيد: هذا كله عندنا واحد لأن أهل الصّفّة أخلاط من قبائل شتّى، ويمكن أن يكون مع كل واحد منهم وفضة، فعلى هذا من قصر الوفضة على الجعبة، وخطأ الحريري بأن الزاد لا يكون في الجعبة، فهو المخطي والجاهل باتساع اللغة. بادي الأنفاض: ظاهر الفقر، وقد أنفض، إذا فنى زاده. وأنفض الجراب إذا انتفض وسقط ما من فيه من بقية الزاد، ومنه قولهم:
النّفاض يقطّر الجلب، أي فناء زادهم يجعل إبلهم قطارا، أي مربوطة بعضها خلف بعض، تساق إلى السوق فتباع، فيأكلون ثمنها، قال الهذلي: [المتقارب]
له ظبية وله عكّة ... إذا انفض القوم لم ينفضّ (2)
ظبية: جريب صغير من جلد ظبي. بلغة: زاد للمسافر يبلغ به من يومه إلى
__________
(1) أخرجه بنحوه أحمد في المسند 6/ 390، 391.
(2) البيت لأبي المثلم الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 305، ولسان العرب (نفض)، (أبل)، وجمهرة اللغة ص 363، وتاج العروس (نفض)، (عكك)، وبلا نسبة في أساس البلاغة (ظبي).(1/39)
غده، الجراب: وعاء من جلد يصنع للزاد مضغة: لقمة.
* * * فطفقت أجوب طرقاتها مثل الهائم، وأجول في حوماتها جولان الحائم، وأرود في مسارح لمحاتي، ومسايح غدواتي وروحاتي، كريما أخلق له ديباجتي، وأبوح إليه بحاجتي، أو أديبا تفرّح رؤيته غمّتي، وتروي روايته غلّتي حتى أدّتني خاتمة المطاف وهدتني فاتحة الإلطاف إلى نادر رحيب، محتو على زحام ونحيب، فولجت غابة الجمع، لأسبر مجلبة الدّمع، فرأيت في بهرة الحلقة، شخصا شخت الخلقة،. عليه أهبة السّياحة، وله رنّة النّياحة، وهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه ويقرع الأسماع بزواجر وعظه، أحاطت به أخلاط الزمر إحاطة الهالة بالقمر، والاكمام بالثمر، فدلفت إليه لأقتبس من فوائده، وألتقط بعض فرائده، فسمعته يقول حين خبّ في مجاله وهدرت شقاشق ارتجاله:
* * * طفقت: أخذت وجعلت، ومعناها ابتداء الفعل والدخول فيه. أجوب: أقطع وأخرق، وجوب الأرض: قطعها بالمشي، الهائم: الحيران. أجول: أتصرف. حوماتها:
جهاتها، الحائم: الطائر العاطش يحوم حول الماء، أي يدور به، أراد: ألتمس المسارح:
مراعي البهائم. لمحاتي: نظراتي، يريد المواضع التي يسرح عينيه فيها بالنظر، مسايح:
مسالك، أراد طرقه التي يسير فيها بالمشي بالغدوّ والعشيّ، والسيحّ: الماء الجاري على وجه الأرض، وتكون المسايح أيضا جمع مسيحة أو مسحة، وهي الطوافة، من قولك:
مسحت البيت، أي طفت به، فيكون على هذا «فعائل» ميمها أصيلة، وعلى الأول «مفاعل». أخلق: أهين، ديباجتي: جلدة وجهي، يريد أنه يخلق وجهه بالمسألة كما يخلق الثوب، وهذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسألة كدوح وخدوش في وجه صاحبها» (1)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال المسألة بالرّجل حتى يلقى الله عز وجل، وما على وجهه مزعة لحم» (2)، أي قطعة. أبوح: أذكر، حاجتي: فقري. تفرّج: تزيل. غمّتي: غمّي وما يضيق نفسي. غلّتي: عطشي. أدتني: أو صلتني. خاتمة المطاف: آخر المشي هدتني: دلتني.
والإلطاف: حسن السؤال وفاتحته، أراد به سؤالك من تلقى في الطريق إذا دخلت بلدا غريبا، فإذا سألت بتلطّف أرشدت بسرعة، فسؤالك هو الذي فتح لك الطريق. ويقال:
لطف سؤال الرجل، إذا رقّ لفظه ولم يكن فيه جفاء، فتقبله القلوب، وألطف الرجل
__________
(1) أخرجه بنحوه أبو داود في الزكاة باب 26، والنسائي في الزكاة باب 92، وأحمد في المسند 2/ 94 5/ 19، 22.
(2) أخرجه البخاري في الزكاة باب 52، والنسائي في الزكاة باب 83، وأحمد في المسند 2/ 15، 88.(1/40)
سؤاله، إذا سألك بحنان وتلطف، واللطف الرفق، وألطفتك أيضا: بررتك وأكرمتك.،
فالإلطاف مصدر ألطف، ويروي: «الألطاف» جمع لطف وهو الرّفق، يقال: لطف الله بالعباد لطفا رفق بهم رفقا، وهو راجع إلى الأول. ناد مجلس. رحيب: واسع محتو:
مشتمل، نحيب: بكاء. ولجت: دخلت، غاية الجمع: وسط الناس، وأصل الغابة الشجر الملتف يغيب فيه من يدخله، لأسبر: لأفتش، وأراد دخلت بين الناس لأجرب وأعرف ما الذي أبكاهم وجلب دموعهم. ويروي «محلبة» بالحاء، وهي من الحلب، يقال: انحلبت عينه، إذا سالت بالدمع. بهرة: وسط. شخت: دقيق ورقيق، والشّخّت: الحطب الرقيق. أهبة السياحة: آلة العبادة وهي مثل العصا وركوة الماء وثياب الصوف وغير ذلك. يطبع الأسجاع، أي يرتبها ويصنعها، تقول: طبعت الدرهم والسيف إذا صنعتهما، وطبعت الكتاب إذا ختمته، وكانت الملوك تكتب في فصوص خواتمها «لا إله إلا الله» و «الملك لله» وتطبع بذلك كتبها هذا المعني أليق بطبع الأسجاع، أي يزينها ويختمها بجواهر كلامه، ومن روى «الجواهر» باللام فعلى «يصنعها» لا غير، والتفسير على الروايتين أخذته عن أبي ذرّ. والأسجاع الكلام المفقر، له قافية. كقافية الشعر، وكان من كلام الكهّان، وهذه الموعظة التي في المقامة من الأسجاعه، وسجعت الحمامة، إذا غنّت على طريقة واحدة، يقرع: يضرب. الأسماع: الآذان. زواجر: نواه، وزجره: نهاه وانتهره. أحاطت حلّقت: أخلاط: أصناف. مختلطون. الزّمر: الجماعات. الهالة:
الدارة حول القمر من نوره، والطّفاوة: الدارة حول الشمس. والساهور: هو غلاف القمر الذي يستتر فيه ما نقص منه. الأكمام: جمع كم، وهو الغلاف الذي ينشق عن الثمر ويحيط به وسمّي كما لأنه يستر ما تحته، والأكمام: جمع قليل، والكثير كمام، والثمر حمل الأشجار، دلفت: قربت. ودلف الشيخ في مشيته إذا أسرع من ضعف فقارب خطوه، اقتبس من فوائده: التمس وطلب أخذها واكتسابها، والفرائد: شذور الذهب تفصل ما بين الجواهر. خبّ في مجاله: أخذ في كلامه، والخبّ عدو سهل وهو الذي تسميه العامة السير، وفرس مسيار والمجال للخيل: موضع تصرّفها وجريها، هدرت:
صوّتت. شقاشق: جمع شقشقة، وهي النّفاخة يخرجها فحل الإبل من حلقه عند هياجه ورغائه، ويرجع فيها هديره شبّه صوت الواعظ حين يرفعه ويزجر به الناس بصوت البعير يهيج ويتابع الهدير، قال الأخطل: [الوافر]
إذا هدرت شقاشقه ونشبت ... له الأظفار ترك له الهدار (1)
أراد: نشبت وترك، فخفف.
* * * __________
(1) البيت بلا نسبة في الإنصاف 1/ 124، وفيه «المدار» بدل «الهدار». ولم أجد البيت في ديوان الأخطل.(1/41)
أيّها السّادر في غلوائه، السّادل ثوب خيلائه، الجامح في جهالاته، الجانح إلى خزعبلاته إلام تستمرّ على غيّك، وتستمريء مرعى بغيك! وحتام تتناهى في زهوك، ولا تنتهي عن لهوك!
* * * السّادر: الراكب هواه، لا يردّه شيء استطالة وبغيا، ويقال للذي يطيل الجلوس في الشمس حتى يتحير بصره: قد سدر فهو سادر. في غلوائه: في ارتفاعه للشرّ ولجاجة فيه، وهو من غلا يغلو في الأمر، إذا جاز الحدّ فيقول: يا أيّها الأعمى الكثير اللجاج في ركوب المعاصي هلّا نظرت بعين البصيرة، ورجعت عمّا أنت عليه من الضلال! السّادل: المرخي، خيلائه: كبره. الجامح: الجاري إلى غير غاية، وقد جمح الفرس إذا أكبّ رأسه، وجرى في غير قصد، فيريد أنه أكثر الفساد حتى جرى منه في غير طريق الجانح: المائل. الخزعبلات: الأباطيل، وهو ما يتراءى للإنسان في نومه من الخيال.
تستمرّ: تدوم في زورك. غيّك: ضلالك. تستمرىء: تستطيب من المرىء، وهو ما يلتذ به من الطعام. بغيك: ظلمك. تتناهى: تبلغ النهاية، ونهاية الشيء، آخره، زهوك: كبرك وعجبك. اللهو: ما يشغل عن الخير من أنواع الطرب.
[ما قيل شعرا في ذم الكبر]
وقال القاضي أبو جعفر بن عمر في ذمّ الكبر وما يتعلق به: [الوافر]
ولا تنسب إلى كبر فهذا ... أبوك التّرب يخفضك انتسابا
ولا تصحب أخا كبر وقدّم ... على النّفس الأعادي والصّحابا
ولا تحبب محاباة بمدح ... كفى بالمرء حوبا أن يحابى
وحاذر أن ترى في القوم رأسا ... ولا تنس الذّنوب وكن ذنابى
ترابا كن هنا فعساك ألّا ... تمنّى أن تكون غدا ترابا
وقال أبو نواس: [البسيط]
حذّرتك الكبر لا يغشاك ميسمه ... فإنّه ملبس نازعته الله (1)
يا بؤس جلد على جوف مجوفه ... يحوي مقادير إن كلمته تاها
يرى عليك له فضلا يبين به ... إن نال في العاجل السلطان والجاها
إني لأمقت نفسي عند نخوتها ... فكيف آمن مقت الله إيّاها
وقال أبو العتاهية: [السريع]
__________
(1) الأبيات فى ديوان أبي نواس ص 197.(1/42)
عجبت للإنسان في فخره ... وهو غدا في قبره يقبر (1)
ما بال من أوّله نطفة ... وجيفة آخره يفخر!
أصبح لا يملك تقديم ما ... يرجو ولا تأخير ما يحذر
* * *
تبارز بمعصيتك، مالك ناصيتك، وتجترىء بقبح سيرتك على عالم سريرتك، وتتوارى عن قريبك، وأنت بمرأى رقيبك، وتستخفي من مملوكك، وما تخفى خافية على مليكك أتظنّ أن ستنفعك حالك إذا آذن ارتحالك! أو ينقذك مالك، حيّن توبقك أعمالك! أو يغني عنك ندمك، إذا زلّت قدمك! أو يعطف عليك معشرك، يوم يضمك محشرك!
* * * قوله: «تبارز» أي تكاشف وتقابل، والبارز: الظاهر المنكشف، والناصية: شعر مقدم الرأس. تجترىء: تقدم وشجع. والجريء: الشجاع المقدام. سيرتك: عادتك، وجمعها سير وهي ما يعامل به الناس من خير أو شرّ، وتقول: سرت سيرة من خير أو شرّ، إذا أحدثتها فعمل بها الناس بعدك، فصارت عادة لهم ولذلك فسرّنا السيرة بالعادة حيث وقعت، وأصل السيرة هيئة فعل السيّر، وذلك أنك تقول: جلس فلان جلسة بالفتح، وهي المّرة الواحدة من جلوسه، فإذا كسرت الجيم فهي هيئة جلوسه، ومثله ركب ركبة والرّكبة هيئة ركوبه، وتقول: سار هذا الفعل سيرة، والسّيرة بالكسر: هيئة سيره في الناس من حسن أو قبح أو صواب أو خطأ، وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم: هيئة أفعاله حيث كانت. تتوارى: تستتر بمرأى من رقيبك، أي بمنظر ربّك أو بحيث يراك، ورقيب الشيء: حافظه وحارسه. ومليكك: مالكك، وأراد أنّ الإنسان إذا خلا بريبة، استتر بها عن أخيه وعبده حياء منهما، ولا يستحي من ربّه الذي يطّلع على معاصيه، ولا يخفى عليه خافية، وأشار إلى قوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النََّاسِ وَلََا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللََّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء: 108]، وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: [البسيط]
إن كنت تعلم أن الله يا عمر ... يرى ويسمع ما يأتي وما تذر
وأنت في غفلة من ذاك تركب ما ... نهاك عنه، فأين الخوف والحذر!
تجاهر الله إقداما عليه، ومن ... حثالة النّاس تستحيي وتعتذر
وقال نابغة بني شيبان: [الخفيف]
__________
(1) الأبيات في ديوان أبي العتاهية 103.(1/43)
إن من يركب الفواحش سرا ... حين يخلو بسرّه غير خال (1)
كيف يخلو وعنده كاتباه ... شاهداه وربّه ذو الجلال
وقال أبو نواس: [الطويل]
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت، ولكن قل عليّ رقيب (2)
ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة ... ولا أنّ ما يخفى عليه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تراكمت ... ذنوب على آثارهن ذنوب
حالك: عزّتك ومالك. آن: حان وقرب. ارتحالك: انتقالك، توبقك: تهلكك، يقال: أوبقته الذنوب، أهلكته فوبق، أي هلك ووبق أيضا.
وقال أعشى همدان: [البسيط]
أستغفر الله أعمالي الّتي سلفت ... من عثرة يعاقبني بها أبق
زلّت: زلقت معشرك: قومك. محشرك: موضعك الذي تحشر إليه.
* * * هلّا انتهجت محجّة اهتدائك، وعجلت معالجة دائك، وفللت شباة اعتدائك، وقدعت نفسك فهي أكبر أعدائك!
أما الحمام ميعادك فما إعدادك! وبالمشيب إنذارك، فما أعذارك، وفي اللّحد مقيلك، فما قيلك! وإلى الله مصيرك فمن بصيرك! طالما أيقظك الدّهر فتناعست، وجذبك الوعظ فتقاعست، وتجلّت لك العبر فتعاميت، وحصحص الحقّ فتماريت، وأذكرك الموت فتناسيت، وأمكنك أن تواسي فما آسيت.
* * * انتهجت: ركبت. والنهج المنهج والمنهاج: الطريق الواضح. محجّة: طريق، من حجة يحجّه، إذا قصده. اهتدائك استقامتك. معالجة: مداواة. فللت كسرت. شباة: حدّ.
اعتدائك: جورك وظلمك. قدعت: كففت قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس عدوّك الذي إن قتلته كان لك نورا، وإن قتلك دخلت الجنة، ولكن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك». قال الأصمعي: كنّا بطريق مكة في بعض المنازل، إذ وقفت علينا أعرابية فقالت: أطعمونا مما أطعمكم الله، فناولها بعض القوم شيئا فقالت له: كبت الله لك كلّ عدوّ لك إلا نفسك.
__________
(1) الأبيات في ديوان النابغة ص 64.
(2) البيتان في ديوان أبي نواس ص 201.(1/44)
قوله: «أما»: حرف إخبار واستفتاح كألا، الحمام: الموت، من حمّ الأمر، قضي:
الموعد. ما إعدادك: ما استعددت له، والاعداد مصدر أعدّ للأمر إذا هيأ له ما يحتاج إليه من عدّة، يقول: الموت: هو الذي وعدت به أن يأتيك ولا بد، فاستعد له من أفعال البر.
وللفقيه الزاهد أبي عمران موسى بن عمران: [السريع]
يا صاح في الموت لنا حكمة ... بالغة لو أننا ننتفع
فاعمل له قبل مفاجاته ... ويحصد الزارع ما قد زرع
لا حيلة تنجيك منه ولا ... ذو وزر عنه به يمتنع
كم أمم أفناهم قبلنا ... وشمل قوم شتّه فانصدع
ولحبيب: [الطويل]
فقد أيقنت بالموت نفسي لأنّني ... رأيت المنايا يخترمن حياتيا (1)
فيا ليت أنّي بعد موتي ومبعثي ... أكون رفاتا لا عليّ ولا ليا
المشيب: الشيب، يقال: شاب رأسه شيبا أو مشيبا. إنذارك: إعلامك، وأنذرك:
أعلمك ممّا تحذر وخوّفك منه، وأراد قوله تعالى: {وَجََاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37]، وانظر هذا المعنى في الحادية والأربعين مستوفي نظما ونثرا.
أعذارك: جمع عذر، والإعذار بكسر الهمزة مصدر أعذر في طلب الحاجة إذا بالغ فيها قال: ابن السّبتي وجنّس قوافيه: [مخلع البسيط]
الشّيب في مفرقيّ حلّا ... وعقد عهد الملاح حلّا
وكان كالآبنوس رأسي ... فاحتله عاجه فحلّا
وحرّمت وصلي الغواني ... وقلن قتل العميد حلّا
اللحد: حفرة في جانب القبر، ولحد الميت وألحده: شقّ له في جانب القبر وأصل اللفظة الميل، ومقيلك: مقامك، وأصله النوم في القائلة، قيلك: حديثك المقول وحجّتك الواضحة، والقول مصدر كالطحن والذبح والقيل: اسم للمقول كالطحن بالكسر: اسم للدقيق المطحون، والذبح اسم للمذبوح، يعقوب: القال والقيل اسمان لا مصدران. ابن سيده: القيل في الأصل مصدر، وحكى الفارسيّ قاله قولا وقيلا، مثل ذكره ذكرا، والقال يجوز أن يكون مصدرا، فإنّ سيبويه حكى: ذامه ذاما وعابه عابا، إلا أنه لم ينص على القال، مصيرك: رجوعك نصير: معدول عن ناصر للمبالغة. تناعست،
__________
(1) البيتان في ديوان أبي تمام الطائي ص 484.(1/45)
أي أظهرت أنك ناعس. جذبك: قادك بعنف، ويقال: جذب وجبذ وهي أقلّ من الأولى، وصحفت العامة هذه الثانية وقالوا: «حبد» بدال غير منقوطة، تقاعست: تأخرت وتصعبت وتشبهت بالأقعس وهو الذي دخل ظهره وخرج صدره، أي قادك الوعظ إلى الخير فلم تنقد له والعرب تقول: عزة قعساء كأنها تتقعّس عن الذلة. تجلت: ظهرت والعبر: ما يتخوف ويتعظ به عند رؤيته حصحص: تبين، من الحصّ وهو ذهاب الشعر فيتبين ما تحته، والحاء الثانية مبدلة من صاد ثالثة، وإذا اجتمع الأمثال في مثل هذا، أبدلت العرب من الحرف الأوسط حرفا من جنس الحرف السابق، ومثله حثحثت ورقرقت، أصلهما حثثت ورققت، هذا قول الكوفيين، وقال البصريون: هما لغتان تقاربتا، إذ لا يبدل الحرف إلا من مثله أو من مقاربه في المخرج، هذه الحروف متباعدة لا يصحّ إبدالها، ماريت: شككت: تؤاسي: تعطي.
* * * تؤثر فلسا توعيه، على ذكر تعيه، وتختار قصرا تعليه على برّ توليه، وترغب عن هاد تستهديه، إلى زاد تستهديه، وتغلّب حبّ ثوب تشتهيه، على ثواب تشتريه.
يواقيت الصّلات، أعلق بقلبك من مواقيت الصّلاة، ومغالاة الصّدقات، آثر عندك من موالاة الصّدقات، وصحاف الألوان، أشهى إليك من صحائف الأديان.
ودعابة الأقران، آنس لك من تلاوة القرآن.
* * * تؤثر: تفضل. توعيه: تجعله في وعاء. برّ إحسان. توليه: تعطيه وتلصقه بمن تبره. هاد: مرشد لطريق الخير. ترغب عنه: أي تتركه. تستهديه، أي تسترشده وتسأله أن يهديك إلى الخير، وتستهديه الثانية: تطلب أن يهدي لك هدية. يقول: تترك من يهديك إلى طريق الخير، فلا تسأله الهداية، وتقصد أعراض الدنيا من الأطعمة وغيرها، وترغب أن تعطي منها هدية، قال الزاهد بن عمران: [الطويل]
توقّ وحاذر من قبول هديّة ... وإن جاءك فيها الحديث المرغّب
فقد حدثت بعد الرّسول حوادث ... تحذّرنا منها، وعنها ترغّب
وكانت هديّات الأوائل قبلنا ... تؤلّف فيما بينهم وتحبّب
فعادت بلايا يسرع المنّ نحوها ... تفرّق فيما بيننا وتجنّب
وله في مثله: [السريع]
احذر هدايا النّاس تأمن المن ... ها أو قول واش يشي
فقلّ من يهديك إلّا امرؤ ... من رغبة أو رهبة قد حشي
التبس الأمر فلا تقدمن ... واخش مقام الله فيمن خشي
كانت هدايا ثم عادت رشا ... وفي الرّشّا الهلك لمن يرتشي
حذّرنا منها نبيّ الهدى ... إذ لعن الرّاشي والمرتشي
الثواب: المكافأة على الفعل، وأراد به ما يجازي الله به عباده على إحسانه من الأجر، وهو من ثاب يثوب أذا رجع، وأثبت الرجل: أعطيته الثواب، وهو المكافأة على فعله، قوله «يواقيت»: أي جواهر. الصّلات: العطايا.(1/46)
احذر هدايا النّاس تأمن المن ... ها أو قول واش يشي
فقلّ من يهديك إلّا امرؤ ... من رغبة أو رهبة قد حشي
التبس الأمر فلا تقدمن ... واخش مقام الله فيمن خشي
كانت هدايا ثم عادت رشا ... وفي الرّشّا الهلك لمن يرتشي
حذّرنا منها نبيّ الهدى ... إذ لعن الرّاشي والمرتشي
الثواب: المكافأة على الفعل، وأراد به ما يجازي الله به عباده على إحسانه من الأجر، وهو من ثاب يثوب أذا رجع، وأثبت الرجل: أعطيته الثواب، وهو المكافأة على فعله، قوله «يواقيت»: أي جواهر. الصّلات: العطايا.
أعلق: ألصق. مواقيت: أوقات، وهي جمع ميقات.
* * * [التجنيس]
ومما يستحسن من تجنيس الصّلات الصّلاة، حكاية أحمد بن المدّبر وكان إذا مدحه شاعر ولم يرض شعره، قال لغلامه: امض به إلى المسجد فلا تفارقه حتى يصليّ مائة ركعة، ثم خلّه، فتحاماه الشعراء إلا الأفراد المجيدين فجاء الحسين بن عبد الرحمن البصريّ المعروف بالجمل، فاستأذنه في النشيد، فقال: أعرفت الشرط؟ قال نعم: وأنشد: [الوافر]
أردنا في أبي حسن مديحا ... كما بالمدح تنتجع الولاة
فقلنا أكرم الثقلين طرا ... ومن كفّاه دجلة والفرات
فقالوا يقبل المدحات لكن ... جوائزه على المدح الصّلاة
فقلت لهم: وما تغني صلاتي ... عيالي، إنّما تغني الزكاة!
فأمّا إذ أبى إلا صلاتي ... وعاقتني الهموم الشّاغلات
فيأمر لي بكسر الصّاد منها ... لعلّي أن تنشطني الصّلات
فيصلح لي على هذي حياتي ... ويصلح لي على هذي الممات
فضحك واستظرفه، وأمر له بمائة دينار، وقال: من أين أخذت هذا؟ قال: من قول أبي تمام: [الكامل]
هنّ الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنّهن حمام (1)
* * *
قوله: «مغالاة الصّدقات»، أي الزيادة في المهور، وغاليت: زدت في ثمن السّلعة ورددتها غالية، والصّدقات واحدتها صدقة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يمن المرأة تيسير صداقها
__________
(1) البيت في ديوان أبي تمام الطائي ص 279.(1/47)
وخطبتها» (1)، قال عروة: وأنا أقول: من أول شؤمها أن يكثر صداقها. آثر: أفضل وأكثر أثرة. موالاة: متابعة. صحائف: جمع صحيفة، وهي الورقة يكتب فيها من الرّق والقرطاس، دعابة: مزاج، وفي فلان دعابة وتداعب الرّجلان: تمازحا، وفي الحديث:
«كانت فيه صلى الله عليه وسلم دعابة» (2)، وفي حديث جابر رضي الله عنه: «هلّا بكرا تداعبها وتداعبك!» (3). الأقران: الأصحاب والأمثال. تلاوة: قراءة، وتلوته: قرأته، واختلفوا في اشتقاق القرآن، فقال أبو عبيدة: سمّي قرآنا لأنه يجمع السور ويضمها، قال الله تعالى: {فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 3]، أي إذا جمعنا لك شيئا فضمّه واعمل به، وقال قطرب: سمّي قرآنا لأن القارىء يظهره ويبينه ويلقيه منّ فيه، من قول العرب: ما قرأت الناقة سلا قطّ، أي ما رمت به. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد» قالوا: يا رسول الله. ما جلاؤها؟ قال: «قراءة القرآن» (4).
تأمر بالعرف وتنتهك حماه وتحمي عن النّكر ولا تتحاماه، وتزحزح عن الظّلم ثم تغشاه، وتخشى النّاس والله أحقّ أن تخشاه ثمّ أنشد: [المجتث]
تبّا لطالب دنيا ... ثنى إليها انصبابه
ما يستفيق غراما ... بها وفرط صبابه
ولو درى لكفاه ... ممّا يروم صبابه
* * *
العرف، أي المعروف، تنتهك: تبالغ في تناوله بما لا يجوز. حماه: ما حمي منه ومنع، وأصل الحمى موضع العشب يحميه الرجل لإبله، وانتهاكه: استئصال عشبه بالرعي، ونهكت الجلد وانتهكته، إذا أخذته بشفرة حتى يرقّ ويضعف النّكر: المنكر.
تتحاماه: تتباعد عنه. تزحزح عن الظلم: تنحي عنه غيرك وتزيله، وتغشاه: تأتيه وتباشره، تخشى: تخاف، وقال ذو الرّمة في هذا المعنى وهو أحسن شعر قاله: [البسيط] يا ربّ قد أسرفت نفسي وقد علمت ... علما يقينا لقد أحصيت آثاري
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 6/ 77، بلفظ: «إنّ من يمن المرأة تيسير خطبتها».
(2) أخرجه البخاري في الأدب باب 81، وابن ماجه في الجهاد باب 40، وأحمد في المسند 3/ 67.
(3) روي بطرق وأسانيد مختلفة، وفي كتب الصحاح برواية: «هلّا بكرا تلاعبها وتلاعبك». أخرجه البخاري في البيوع باب 34، والوكالة باب 8، والجهاد باب 113، والمغازي باب 18، والنكاح باب 10، 121، 122، والنفقات باب 12، والدعوات باب 35، ومسلم في الرضاع حديث 54، 55، 56، 58، وأبو داود في النكاح باب 10، وابن ماجه في النكاح باب 7، والدارمي في النكاح باب 32، وأحمد في المسند 3/ 294، 302، 308، 304، 362، 369، 374، 376.
(4) لم أجد الحديث بهذا اللفظ في كتب الصحاح.
يا مخرج الرّوح من نفسي إذا احتضرت ... وفارج الكرب زحزحني عن النّار (1)
دعا لنفسه أن يكون من الفائزين، لقوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النََّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فََازَ} [آل عمران: 185].(1/48)
__________
(4) لم أجد الحديث بهذا اللفظ في كتب الصحاح.
يا مخرج الرّوح من نفسي إذا احتضرت ... وفارج الكرب زحزحني عن النّار (1)
دعا لنفسه أن يكون من الفائزين، لقوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النََّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فََازَ} [آل عمران: 185].
قوله «تبّا»، أي خسرانا وهلاكا، وتبّت يده: خسرت قال تعالى: {وَمََا زََادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101]، أي غير خسار وهلاك، قال الشاعر: [الوافر]
عرادة من بقيّة قوم لوط ... ألا تبّا لما عملوا تبابا (2)!
ثنى: عطف ورد: انصبابه: جريه، يستفيق: يستريح، وأفاق من المرض: استراح، غراما: شدّة حبّ لازم له غير مفارق، ومنه سمّي الغريم لملازمته التقاضي وإلحاحه فيه قال تعالى: {إِنَّ عَذََابَهََا كََانَ غَرََاماً} [الفرقان: 65] أي ملحا دائما ومنه {إِنََّا لَمُغْرَمُونَ}
[الواقعة: 66]، وفلان مغرم بالنساء: يحبهن ويلازمهنّ، وقال حاتم: [الطويل]
فما أكلة إن نلتها بغنيمة ... ولا جوعة إن جعتها بغرام
أي بهلاك وملازمة.
فرط صبابة: شدة شوق ومجاوزة حدّ في ذلك. يروم: يطلب. صبابة. بقيّة الماء.
* * * [ما قيل شعرا في ذم الدنيا]
وهذا الشعر مستحسن القوافي، ومثله في ذلك قول الزاهد ابن عمران، وكثيرا ما كان يستمد في شعره من أدب المقامات: [الكامل]
تبّا لذي جهل دعا لمبرّة ... وأجبته برّا به فأذاعها
منّا وقد كافأته بهباته ... وذخرتها عندي له، فأضاعها
فأقل اللّئام من الرجال ولا تجب ... مهما دعوك وجنّبن أوضاعها
وقال آخر: [مجزوء الكامل]
يا من يضيّع عمره ... متماديا في اللهو أمسك
واعلم بأنّك لا محا ... لة ذاهب كذهاب أمسك
(1) يروى البيت:
يا قابض الروح عن جسم عصى زمنا ... وغافر الذنب زحزحني عن النار
وهو في ملحق ديوان ذي الرمة ص 1875، ولسان العرب (زحح)، وتاج العروس (زحح).
(2) البيت لجرير في ديوانه ص 819، ولسان العرب (عرد)، وتاج العروس (عرد)، ويروى «صنعوا تبابا» بدل «عملوا تبابا».(1/49)
ولمنصور الفقيه في الشعر المردف: [المتقارب]
إذا كنت تزعم أنّ الفراق ... فراق الحياة قريب قريب
وأن المقدّم ما لا يفوت ... على ما يفوت مصيب مصيب
وأنت على ذاك لا ترعوي ... فأمرك عندي عجيب عجيب
وقال القاضي أبو حفص عمر في معنى شعر الحريريّ في ذم الدنيا: [مخلع البسيط]
يا راكضا في طلاب دنيا ... ليس لمن تصرع انتعاش
لم تخش نار هوى لظاها ... بمن له نحوها انحياش
أعذر منك الفراش حالا ... علمت ما يجهل الفراش
نطلبها لا تنام عين ... عنها ولا يستقرّ جاش
من لك بالرّيّ من شراب ... يشتدّ من شربه العطاش
دعها فطّلابها رعاع ... طاشت بألبابهم فطاشوا
لم يردوها فهم رواء ... وواردوها هم العطاش
فاظمأ لتروى، وكن كقوم ... سقوا بها غبّة فعاشوا
كأنّ آمالنا ظباء ... ونحن من حيرة خداش
إن لآمالنا انبساطا ... به لأعمارنا انكماش
كأن رجالنا صقور ... ونحن من تحتها خشاش
ولابن الرومي رحمه لله: [الطويل]
لعمرك ما الدّنيا بدار إقامة ... إذا زال عن عين اللبيب غطاؤها
فكيف بقاء الناس فيها وإنما ... ينال بأسباب الفناء بقاؤها
وقال آخر: [الطويل]
ومن يحمد الدنيا لعيش يسرّه ... فسوف لعمري عن قريب يلومها
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة ... وإن أقبلت كانت كثيرا همومها
ولابن سارة رحمه الله تعالى: [الوافر]
بنو الدّنيا بجهل عظّموها ... فجلّت عندهم وهي الحقيره
يهارش بعضهم بعضا عليها ... مهارشة الكلاب على العقيره
* * *
ثمّ إنّه لبّد عجاجته،. وغيّض مجاجته، واعتضد شكوته. وتأبّط هراوته فلمّا
رنت الجماعة إلى تحفّزه، ورأت تأهّبه لمزايلة مركزه، أدخل كلّ منهم يده في جيبه، فأفعم له سجلا من سيبه، وقال: اصرف هذا في نفقتك، أو تفرّقه على رفقتك، فقبله منهم مغضيا، وانثنى عنهم مثنيا، وجعل يودّع من يشّيعه، ليخفي عليه مهيعه، ويسرّب من يتبعه، لكي يجهل مربعه.(1/50)
ثمّ إنّه لبّد عجاجته،. وغيّض مجاجته، واعتضد شكوته. وتأبّط هراوته فلمّا
رنت الجماعة إلى تحفّزه، ورأت تأهّبه لمزايلة مركزه، أدخل كلّ منهم يده في جيبه، فأفعم له سجلا من سيبه، وقال: اصرف هذا في نفقتك، أو تفرّقه على رفقتك، فقبله منهم مغضيا، وانثنى عنهم مثنيا، وجعل يودّع من يشّيعه، ليخفي عليه مهيعه، ويسرّب من يتبعه، لكي يجهل مربعه.
* * * قوله: «ثم إنه لبّد عجاجته»، أي سكّن غبرته المرتفعة حتى لصقت بالأرض غيّض:
جفف. المجاجة: ما يلقي من فيه، وقد مجّ الرجل ريقه إذا سال من حمق أو كبر، وأراد بلبد عجاجته، قطع كلامه الذي كان قد استرسل، وأخذه من قول سليمان بن عبد الملك، وقد تكلّم وفد بين يديه، فلم يصنعوا شيئا وتكلم بعدهم رجل قبيح المنظر فأبلغ، فقال سليمان: كأن كلامه بعد كلامهم سحابة لبّدت عجاجا.
وأراد ب «غيّض مجاجته» ما كان يسيل من عينيه وأنفه عند البكاء. واعتضدها:
جعلها تحت عضده. والشكوة: ركوة الماء تصنع من جلد الثور أو الخروف، وتأبطها:
جعلها تحت إبطه. هراوته: عصاه. رنت: نظرت. تحفزه: تهيؤه وعجلته للانصراف، وتحفّز وانحفز، إذا كان جالسا على عقبيه متهيّئا للقيام، تأهّبه: استعداده، مزايله:
مفارقه. مركزه: موضعه الذي قام به. أفعم ملأ، وفعمت الشيء فعما: ملأته. سجلا:
دلوا. سيبه: عطاؤه، معناه وهب له نصيبا من عطائه. رفقتك: أصحابك. مغضيا:
مستحييا، وأصل «أغضى» كفّ بصره وضم جفنيه،. انثنى: رجع وانعطف عن طريقه، مهيعه: طريقه البيّن. يسرّب: يفرق. فكأنه «تفّعل» من السّرب وهو الطريق، كأنه يردّهم عن تشييعه في طريق مختلفة، أو يكون من لفظ السّرب، وهو الجحرّ. فكأنه يغيبهم عنه حيث يقصد تعمية طريقه عليهم، أو يكون من لفظ السارب وهو الذاهب في الأرض، وقد سرب سروبا، فكأنه يذهبهم في كلّ ناحية ليجهل مكانه مربعه: منزله في الربيع خاصة. والمربع: المنزل في كل وقت من ربعت بالمكان، أقمت به.
* * * قال الحارث بن همّام: فاتّبعته مواريا عنه عيانّي، وقفوت إثره من حيث لا يراني حتى انتهى إلى مغارة، فانساب فيها على غرارة، فأمهلته ريثما خلع نعليه، وغسل رجليه، ثمّ هجمت عليه، فوجدته محاذيا لتلميذ، على خبز سميذ، وجدي حنيذ، وقبالتهما خابية نبيذ، فقلت له: يا هذا، أيكون ذاك خبرك وهذا مخبرك!
* * * مواريا: ساترا. عياني: شخصي، أي تبعته مستخفيا بحيث لا يراني، قفوته: اتبعته من جهة قفاه، انساب: دخل، وأصل الأنسياب، جرى الحية على وجه الأرض، أو
جرى الماء كذلك، ولا يكون الأنسياب إلا على وجه الأرض، لا يقال: انساب في الجحر حدّثني به بعض من لقيت من أصحابنا، وكان أضبط النّاس للسان العرب، قال:(1/51)
* * * مواريا: ساترا. عياني: شخصي، أي تبعته مستخفيا بحيث لا يراني، قفوته: اتبعته من جهة قفاه، انساب: دخل، وأصل الأنسياب، جرى الحية على وجه الأرض، أو
جرى الماء كذلك، ولا يكون الأنسياب إلا على وجه الأرض، لا يقال: انساب في الجحر حدّثني به بعض من لقيت من أصحابنا، وكان أضبط النّاس للسان العرب، قال:
وقول الحريري: «انساب فيها» وهم منه، ولو قال: «انشام فيها» لكان أمثل، يشبّهه بالسيف إذا وضع في غمده. غرارة: غفلة. ريث: قدر. هجمت عليه: دخلت عليه فجأة، ومنه هجم عليه الحرّ، وهجمت عينه: دخلت في رأسه. محاذيا: ملاصقا أو جالسا بحذائه. تلميذ: متعلم الصنعة حنيذ: مشويّ، وحنذ اللحم حنذا: شواه بحجارة محماة. نبيذ، أراد به خمرا، خبرك، أراد به أمرك الذي أنت عليه، مخبرك، أي باطنك وما يختبر منك.
ومما ينتظم في هذا النمط حكاية أبي نواس حين رئي في مجلس منصور بن عمار يبكي، فظن الناس أنه قد نسك، فجعلوا يهنئونه، ويقولون: نرجو لك من الله الخير، فقال: أنا أهون على الله من ذلك وليس كما تظنون، ولكن أبكي لبكاء ذلك الغزال وغلام بالمجلس يبكي من وعظ منصور ثم قال: [السريع]
لم أبك في مجلس منصور ... شوقا إلى الجنّة والحور
لكن بكائي لبكا شادن ... تقيه نفسي كلّ محذور
تنتسب الألسن في وصفه ... إلى مدى عجز وتقصير
وحضر أيضا مجلس بعض القصاص، فقالوا له: لعلّ الله قد أقبل بك! فقال: إنما حضرت لأجل هذا الغزال، ثم قال: [مجزوء الرمل]
خلّياني والمعاصي ... ودعا ذكر القصاص
واسقياني الخمر صرفا ... في أباريق الرّصاص
وعلى وجه غزال ... طائع ليس بعاصي
بين فتيان كرام ... قد تواصوا بالمعاصي
وعلى الله وإن أف ... رطت في الذنب خلاصي
* * *
فزفر زفرة القيظ، وكاد يتميّز من الغيظ ولم يزل يحملق إلي، حتى خفت أن يسطو عليّ، فلمّا أن خبت ناره، وتوارى أواره، أنشد: [المتقارب]
لبست الخميصة أبغي الخبيصه ... وأنشبت شصّي في كلّ شيصه
وصيّرت وعظي أحبولة ... أريغ القنيص بها والقنيصه
وألجأني الدّهر حّتى ولج ... ت بلطف احتيالي على اللّيث عيصه
على أنّني لم أهب صرفه ... ولا نبضت لي منه فريصه
ولا شرعت بي على مورد ... يدنّس عرضي نفس حريصه
ولو أنصف الدّهر في حكمه ... لما ملّك الحكم أهل النّقيصه
* * *(1/52)
لبست الخميصة أبغي الخبيصه ... وأنشبت شصّي في كلّ شيصه
وصيّرت وعظي أحبولة ... أريغ القنيص بها والقنيصه
وألجأني الدّهر حّتى ولج ... ت بلطف احتيالي على اللّيث عيصه
على أنّني لم أهب صرفه ... ولا نبضت لي منه فريصه
ولا شرعت بي على مورد ... يدنّس عرضي نفس حريصه
ولو أنصف الدّهر في حكمه ... لما ملّك الحكم أهل النّقيصه
* * *
قوله: «فزفر زفرة القيظ» الزفرة: تنّفس المهموم أو المغتاظ، والقيظ: شدّة الحرّ، شبّه ما أبداه من شدّة الغيظ بوهج الحر. يتميزّ: يتقطع ويتفّرق، يحملق: يحدّ النظر، والحملقة: نظر الغضبان، والحملاق: باطن الجفن. يسطو: يصول ويتناولني بالمكروه، يقال: سطا عليه وبه، يسطو سطوا وسطوة، إذا قهره وأذله، خبت ناره: سكنت حدّة غيظه، توارى: تغطى واستتر. أواره: لهبه ونار غيظه، والأوار: وهج النار الخميصة:
كساء فيه خطوط، وقال يعقوب وأبو عبيد: الخميصة: كساء مربع أسود له علمان.
الخبيصة: نوع من الحلواء، وتسميه عامتنا الخبيز، بالزاي، وكنى به عن لذة العيش،.
الشّصّ: حديدة معوجة يصاد بها الحوت، وتسمى الصنارة، شيصة: ثمرة رديئة ومن ملح قصاص البلدان، أن أبا عبد الله الخواص كان يقول في قصصه: إنما الناس مثل التمر، فيهم الشيص والبرني، يا رب اجعلنا برنيّا ولا تجعلنا شيصا، وقال قاصّ آخر: إن في الجنة لحم جدي ولحم كلّ شيء بلا عظم مثل الشّيص في بلادنا بلا نوى، يريد أنه لا يحتقر شيئا فكل ما اتخذ له أخذه، أحبولة: آلة يصاد بها، أريغ: أطلب ما يصعب أخذه، كأنه يروغ من كذا، أي عدل عنه ورجع، وهو يخفى رجوعه. قال الفراء: يقال لا للذي يرجع: راغ يروغ، إلا أن يكون مخيفا لرجوعه، قال الله تعالى: {فَرََاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} [الصافات: 93]، أي رجع إليهم يضربهم مخيفا لرجوعه، ومعنى «باليمين» أي بيمينه الذي حلف في قوله تعالى: {وَتَاللََّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنََامَكُمْ} [الأنبياء: 57]، أو يريد باليمين القوة، وقال تعالى: {فَرََاغَ إِلى ََ أَهْلِهِ فَجََاءَ بِعِجْلٍ} [الذاريات: 26]، أي رجع إليهم في إخفاء منه لرجوعه. القنيص والقنيصة: الذكر والأنثى مما يصاد من الوحش، وهذا مثل، وإنما أراد ما يأخذه من الناس بالحيل، ألجأني: أحوجني. ولجت: دخلت.
لطف: رقة، وتلطف، عيصه: بيته، وأصله الشجر الملتفّ. والليث: الأسد. أهب:
أخف، صرفهّ تقلبه، نبضت: تحركت. فريصة: بضعة في آخر الكتف تتحرك عند الفزع، شرعت: دخلت، وعلى: بمعنى «في» نحو قولك: كان ذلك على عهد فلان، أي في عهده. مورد موضع الماء. يدنّس: يوسخ ويعيب،. عرضي: ذكرى. نفس حريصة:
كثيرة الرغبة والطمع، النقيصة: الخصلة القبيحة يفعلها الرجل فينقص بها.
وقال بعضهم: [الكامل]
غضّي عيونك يا عيون النّرجس ... منك استحيت بأن أقبّل مؤنسي
نام الحبيب تدبّلت أجفانه ... وعيونكنّ شواخص لم تنعس
فأجابني تفاح صفحة خده ... بفصاحة من ألسن لم تخرس(1/53)
قبّل حبيبك ما اشتهيت فإن من ... عاداتنا كتمان سرّ المجلس
يا رب إن قدّرته لمقبّل ... غيري فللمسواك أو للأكؤس
ولئن قضيت لنا بصحبة ثالث ... يا رب فلتك شمعة في المجلس
ومن أحسن ما قيل في الدهر، قول تميم بن المعز:
يا دهر ما أقساك من متلون ... في حالتيك وما أقلّك منصفا
أتروح للنّكس الجهول ممهّدا ... وعلى اللّبيب الحرّ سيفا مرهفا!
وإذا صفوت كدرت شيمة باخل ... وإذا وفيت نقضت أسباب الوفا
لا أرتضيك وإن كرمت لأنني ... أدري بأنّك لا تدوم على الصّفا
زمن إذا أعطى استردّ عطاءه ... وإذا استقام بدا له فتحرّفا
ما قام خيرك يا زمان بشرّه ... أولى بنا ما قل منك وما كفى
إدريس بن اليمان: [البسيط]
ماذا أقول لدنيا لو ظفرت بها ... أدّبتها غضبا للعلم والأدب
شجا من أقذية الأيام برّح بي ... بل بالعوالي وبالهندية القضب
* * *
ثم قال لي: ادن فكل، وإن شئت فقم وقل. فالتفتّ إلى تلميذه وقلت:
عزمت عليك، بمن تستدفع به الأذى، لتخبرني من ذا؟ فقال: هذا أبو زيد السّروجي، سراج الغرباء، وتاج الأدباء.
فانصرفت من حيث أتيت، وقضيت العجب ممّا رأيت!
* * * قول: «أدن» أي أقرب. قل، أي قل ما شئت، التلميذ: الخادم، والجمع التلاميذ، قال لبيد: [المنسرح]
* يجلو التلاميذ لؤلؤا قشبا (1) *
أي يجلو التلاميذ لؤلؤا جديدا، وطلبة العلم: تلاميذ شيخهم، الأذى: الضرر،
__________
(1) صدره:
فالماء يجلو متونهن كما
والبيت في ديوان لبيد بن ربيعة ص 31، ولسان العرب (قشب)، وتهذيب اللغة 8/ 335، وتاج العروس (قشب).(1/54)
سراج: مصباح، يريد أنه للغرباء مصباح يفخرون به ويهتدون بحيلته، وللأدباء تاج يتزينون به ويضعونه فوق رؤوسهم. انصرفت: رجعت، قضيت العجب أي أتممته، كأنه قال: قضيت حاجتي مما رأيت، ويقال: قضى بحبه من كذا، أي بلغ مراده، وقضى عليه القاضي، أي قطع عليه، والقاضي: القاطع للأمور المحكم لها. وقوله تعالى: {فَقَضََاهُنَّ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12]، أي قطعهنّ وأحكم خلقهن، ويكون «قضى» بمعنى «عمل».(1/55)
المقامة الثانية وهي الحلوانيّة
حكى الحارث بن همام قال: كلفت مذ ميطت عنّي التّمائم، ونيطت بي العمائم، بأن أغشى معان الأدب، وأنضي إليه ركاب الطّلب لأعلق منه بما يكون لي زينة بين الأنام، ومزنة عند الأوام، وكنت لفرط اللهج، باقتباسه، والطّمع في تقمّص لباسه، أباحث كلّ من جلّ وقلّ، وأستسقي الوبل الطّلّ، وأتعلّل بعسى ولعلّ.
* * * كلفت، أي اشتد حبي، والكلف: شدة الحبّ والمبالغة فيه، فلان كلف بفلان، أي مبالغ في محبّته، وميطت وأميطت: أزيلت. التمائم: الأحراز نيطت: علّقت، وإذا بلغ الصبيّ الحلم عند العرب أزلوا الأحراز عن عنقه، وألبس العمامة والإزار، وقلّد السيف، فأراد: أحببت مذ بلغت الحلم مجالس الأدباء. أغشى: أقصد وأدخل.
المعان: المنزل. أبو عبيد، يقال: البصرة معان منّا، أي منزل منا، قال المعري:
[الوافر]
* معان من أحبّتنا معان (1) *
فالأول اسم موضع معلوم جنّس به، وجعله منزل أحبابه، وقال بعضهم: سمي معانا لمعاينة الناس فيه بعضهم بعضا، أو لأن فيه أعيانا، أنضي: أهزل الركاب: الإبل، وجعل للطلب إبلا مجازا، وإنما يريد: أتعبت نفسي فرحلت إلى طلبه على الإبل، لأعلق منه: لأحصل منه على فائدة أتعلق بها، الأنام: الخلق مزنة: سحابة. الأوام: شدّة العطش يريد أنه يتعب نفسه في طلب الأدب ليتزيّن به بين الناس ويعيش به إذا احتاج إليه، فرط اللهج: شدّة الحب، يقال: قد لهج بالشيء، إذا أكثر الحديث به لحبه فيه، وحرصه عليه، ولهج الفصيل بالرّضاع، إذا لجّ فيه. اقتباسه: اكتسابه، التقمص: لبس
__________
(1) عجزه:
تجيب الصاهلات به القيان
والبيت في سقط الزند ص 172.(1/56)
القميص. لباسه: ثيابه، أي أطمع أن ألبس من ثيابه قميصا. أباحث: أسائل. جلّ:
عظم. قلّ: حقر. أستسقى الوبل والطلّ، أي أطلب منه السقي، والوبل: أشدّ المطر والطلّ: أضعفه، ويقال: الركّ أضعف من الطلّ، ومنه قيل للدنىء: ركيك. أتعللّ:
أشغل نفسي وأطمعها، والعلالة: الشيء اليسير، وعسى ولعلّ: معناهما الرجاء والطمع يريد أنه يسائل الجليل في العلم والحقير، ومن كثر علمه وكان كالوبل، أو قلّ وكان كالطّل، وإذا فقد من يؤخذ عنه العلم رجا نفسه بوجوده وأطمعها. والتعللّ: قطع الزمان بالعيش اليسير وقد تعللّ بشرا به، إذا أخذ منه قليلا قليلا فمعنى «أتعلل عسى ولعل»، أذهب عله وجدي بالرجاء والطمع.
* * * فلما حللت حلوان، وقد بلوت الإخوان، وسبرت الأوزان وخبرت ما شان وزان، ألفيت بها أبا زيد السّروجيّ يتقلب في قوالب الأنتساب، ويخبط في أساليب الأكتساب فيدعي تارة أنّه من آل ساسان، ويعتزي مرّة إلى أقيال غسان، ويبرز طورا في شعار الشّعراء، ويلبس حينا كبر الكبراء.
[حلوان]
حللت: نزلت، وحلوان: بلدة بينها وبين مدينة بغداد أربع مراحل، وهي من كور الجبل، وسميت باسم بانيها، وهو حلوان بن علي بن الحاف بن قضاعة وهي مدينتان بينهما نهر عظيم مقداره فرسخ، وهي مقابلة لطبرستان، وهي جبلية سهلية بحرية لها زيتون ونخيل، وبها قصب السكر وافتتحت في زمن عمر.
* * * بلوت: جربت، الإخوان: الأصحاب. سبرت: فتشت، الأوزان: أقدار الناس، خبرت: جربت وعرفت، شان: عاب. وزان: زيّن يريد أنه دخلها وهو مجّرب عارف بالناس. ألفيت: وجدت، يتقلب: يتنوّع. قولب جمع قالب، وقالب كل شيء: قياسه، وما يصنع عليه. يخبط: المشي في الأرض على غير قصد كمشي الأعمى، أساليب:
طرق. واحدها أسلوب. آل ساسان: ملوك الفرس. يعتزي: ينتسب. أقيال: ملوك غسان: قبيلة باليمن كان منها ملوك، وغسان: ماء كان شربا لولد مازن بن الأزد بن الغوث فسمّوا به، يبرز: يظهر. طورا: حينا. شعار: ثياب. والشّعار ثوب يلي الجسد.
كبر: تكبر، يريد أنه لقي أبا زيد بحلوان يتنوّع بذلك. في أحوال المكدين، ويجري بذلك في طرق اكتساب المعيشة فيدعي أنه من آل ساسان.
وأصل هذا أن الفرس كان فيهم الملك، وكانت العرب تحت حكم ملوكهم، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لملكهم بكتابه يدعوهم إلى الإسلام، مزّقوه، فدعا الله عليهم أن
يمزقوا كلّ ممزق، فأوقع بهم المسلمون في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد حروب شديدة معظمها بالقادسية، فلم يبق لهم في الملك رسم، وصاروا في خلافة عثمان رضي الله عنه تحت حكم المسلمين، وكانوا أهل دهاء وجراءة وحروب ورماية، فسكن من بقي منهم الأمصار، واستعربوا وتفقهوا. فكان منهم من نفع الله به المسلمين، وكان منهم أهل أهواء وبدع، ونشأت منهم هذه الطائفة الخسيسة أهل الكدية، فكانوا يطوفون على البلدان، ويقولون: نحن من بني ساسان، فينتسبون إلى ملوكهم، ثم يتذللّون في السؤال، ويذكرون تلاعب الدهر وانقلاب حال الملوك إلى السؤال، فيقع الإشفاق عليهم، والميل بالرزق لهم، حتى شعر الناس بمكرهم وخديعتهم، فطردوا، وصار الناس إذا رأوا سائلا متمسكا قالوا. ساساني، وقيل: إنّ ساسان اسم رجل معين، وهو أول من أسس الكدية، فنسبوا إليه، كما أنّ الطفيلي منسوب إلى رجل اسمه طفيل وهو أول من تطفل، فأراد أن أبا زيد كان يتنوع في أحواله، فيتمسكن تارة ويدعي أنه من ساسان، ويتعاظم أخرى فينتسب إلى غسان، ويبرز مرة في أحلاس الشعراء المكدين، ويظهر ثانية في ثياب فاخرة، ولباس الكبراء المثرين.(1/57)
وأصل هذا أن الفرس كان فيهم الملك، وكانت العرب تحت حكم ملوكهم، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لملكهم بكتابه يدعوهم إلى الإسلام، مزّقوه، فدعا الله عليهم أن
يمزقوا كلّ ممزق، فأوقع بهم المسلمون في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد حروب شديدة معظمها بالقادسية، فلم يبق لهم في الملك رسم، وصاروا في خلافة عثمان رضي الله عنه تحت حكم المسلمين، وكانوا أهل دهاء وجراءة وحروب ورماية، فسكن من بقي منهم الأمصار، واستعربوا وتفقهوا. فكان منهم من نفع الله به المسلمين، وكان منهم أهل أهواء وبدع، ونشأت منهم هذه الطائفة الخسيسة أهل الكدية، فكانوا يطوفون على البلدان، ويقولون: نحن من بني ساسان، فينتسبون إلى ملوكهم، ثم يتذللّون في السؤال، ويذكرون تلاعب الدهر وانقلاب حال الملوك إلى السؤال، فيقع الإشفاق عليهم، والميل بالرزق لهم، حتى شعر الناس بمكرهم وخديعتهم، فطردوا، وصار الناس إذا رأوا سائلا متمسكا قالوا. ساساني، وقيل: إنّ ساسان اسم رجل معين، وهو أول من أسس الكدية، فنسبوا إليه، كما أنّ الطفيلي منسوب إلى رجل اسمه طفيل وهو أول من تطفل، فأراد أن أبا زيد كان يتنوع في أحواله، فيتمسكن تارة ويدعي أنه من ساسان، ويتعاظم أخرى فينتسب إلى غسان، ويبرز مرة في أحلاس الشعراء المكدين، ويظهر ثانية في ثياب فاخرة، ولباس الكبراء المثرين.
* * * بيد أنّه مع تلون حاله، وتبيّن محاله، يتجلى برواء ورواية، ومداراة ودراية، وبلاغة رائعة، وبديهة مطاوعة، وآداب بارعة وقدم لأعلام العلوم فارعة، فكان لمحاسن آلاته، يلبس على علاته، ولسعة روايته، يصبي إلى رؤيته، ولخلابة عارضته يرغب عن معارضته ولعذوبة إيراده يسعف بمراده فتعلّقت بأهدابه لخصائص آدابه، ونافست في مصافاته، لنفائس صفاته. [الطويل]
فكنت به أجلو همومي وأجتلي ... زماني طلق الوجه ملتمع الضّيا
أرى قربه قربي ومعناه غنية ... ورؤيته ريّا، ومحياه لي حيا
قوله: «بيد أنه»، أي غير، محاله: باطله: والمحال ما لا يمكن أن يتصور، وهو «مفعل» من حال الشيء، إذا تغير، كأنه أزال عن وجهه. يتجلى: يتزين. رواء: نظافة وحسن منظر، مدارة: حسن سياسة في صحبته، وأصلها المخادعة، دراية ودرية: مصدر دريت، بلاغة: فصاحة، رائعة: معجبة، ومن شاهدها ارتاع وتعجب، والبديهة والبداهة:
الأخذ في الكلام من غير فكرة، وهي الإرتجال. مطاوعة: منقادة بارعة: فائقة تفضل غيرها أعلام: جبال فارعة: طائلة قد علتها، واللام في قوله: «لأعلام» زائدة، وزيادتها إذا تقدمت أحسن منها إذا تأخرت، مثل ضربت زيدا ولزيد ضربت، آلاته: عدده، وأراد به هذه الأنواع التي قدمها التي تحلى بها يلبس: يصاحب ويخالط علاته: عيوبه التي ذكر من أنواع الغربة، سعة روايته: كثرة علمه وما يرويه. يصبى: يمال. خلابة: خداع، وقد
خلبه خلبا وخلابة: خدعه، عارضته: قوة كلامه. معارضته: مقابلته ومناقضة كلامه، وتقول: رغبت عن الشيء تركته وتزهدت فيه، ورغبت فيه، إذا أحببته، فيريد أنّه لقوّة كلامه وصلابته لا يتعرّض أحد لجداله فهو يخادع به الناس حتى لا يعترض له فيما يقول، وقيل: معنى فلان شديد العارضة، إذا أفحش وأسمع المكروه، ورجل شديد العارضة، أي لا تقرب ناحيته، إيراده: أخذه في الكلام، يسعف: يساعد، أهدابه: أطراف ثوبه وخصائص الشيء: ما يختص به، أي ينفرد، نافست: زايدت وغاليت مصافاته:(1/58)
الأخذ في الكلام من غير فكرة، وهي الإرتجال. مطاوعة: منقادة بارعة: فائقة تفضل غيرها أعلام: جبال فارعة: طائلة قد علتها، واللام في قوله: «لأعلام» زائدة، وزيادتها إذا تقدمت أحسن منها إذا تأخرت، مثل ضربت زيدا ولزيد ضربت، آلاته: عدده، وأراد به هذه الأنواع التي قدمها التي تحلى بها يلبس: يصاحب ويخالط علاته: عيوبه التي ذكر من أنواع الغربة، سعة روايته: كثرة علمه وما يرويه. يصبى: يمال. خلابة: خداع، وقد
خلبه خلبا وخلابة: خدعه، عارضته: قوة كلامه. معارضته: مقابلته ومناقضة كلامه، وتقول: رغبت عن الشيء تركته وتزهدت فيه، ورغبت فيه، إذا أحببته، فيريد أنّه لقوّة كلامه وصلابته لا يتعرّض أحد لجداله فهو يخادع به الناس حتى لا يعترض له فيما يقول، وقيل: معنى فلان شديد العارضة، إذا أفحش وأسمع المكروه، ورجل شديد العارضة، أي لا تقرب ناحيته، إيراده: أخذه في الكلام، يسعف: يساعد، أهدابه: أطراف ثوبه وخصائص الشيء: ما يختص به، أي ينفرد، نافست: زايدت وغاليت مصافاته:
مصاحبته، نفائس جمع نفيس، وهو الرفيع من كل شيء، يسمى نفيسا، من النّفس وهو العين، حتى كأنه لرفعته تتعلق به العين، وقد قال المعري:
فالعين يسلم منها ما رأت فنبت ... عنه وتلحق ما تهوى من الصوّر (1)
قوله: «أجلو»، أي أكشف أجتلى: نظر طلق الوجه: مستبشرا، والطلق ضدّ العابس، ملتمع: منير بادي اللمعان: قربي: نسبا، ومغناه: منزله، من قولهم: غني بالمكان يغني غنيانا، إذا أقام به غنية: غنى، يقال: غني يغني غنى فهو غنيّ، إذا استغنى، والاسم: الغنية، ريّا: شبعا من الماء، ورويت من الماء ضدّ عطشت: محياه:
حياته. حيا: مطر عام. يقول: أنه بمصاحبته أبا زيد يزول همه، ويلقاه ببشر منه، فيرى قربه منه بالودّ كقرابة النسب، وكان منزله لما يجد فيه من الخصب أو من غزارة العلم يرى أنه غناه، وإذا رآه زال عطشه للعلم أو للماء برؤيته، وقصد تجنيس الألفاظ يبعد المعنى.
* * * ولبثنا على ذلك برهة، ينشىء لي كلّ يوم نزهة، ويدرأ عن قلبي شبهة، إلى أن جدحت، له يد الإملاق كأس الفراق، وأغراه عدم العراق بتطليق العراق، ولفظته معاوز الإرفاق، إلى مفاوز الآفاق ونظمه في سلك الرّفاق خفوق راية الإخفاق، فشحذ للرّحلة غرار عزمته، وظعن يقتاد القلب بأزمته. [الطويل]
فما راقني من لاقني بعد بعده ... ولا شاقني من ساقني لوصاله
ولا لاح لي مذ ندّ ندّ لفضله ... ولا ذو خلال حاز مثل خلاله
لبثنا: أقمنا. برهة: مدة، ينشىء: يصنع ويبتدىء، والنزهة أصلها التّباعد عن الرّيب، ثم كثرت حتى صارت الخروج للرياض، للتفرج، ثم استعملت في المعاني فقيل: نزه فلان في آدابه، وكنى بهذا عمّا يستفيده من علمه. يدرأ: يدفع. شبهة: إشكال والتباس. جدحت: حركت ومزجت، والمجدح: آلة يمزج بها المشروب الصعب
__________
(1) البيت في ديوان أبي العلاء المعري ص 150.(1/59)
الأمتزاج، الإملاق: الفقر من الملقة وهي الصخرة الملساء، فأملق كأنه صادف ملقة لا تنبت شيئا، ولم يصادف خصبا بعد أن كان في ترفة وغنى، أغراه: حرّضه.
والعراق، اختلفوا فيه، فقال صاحب العين: العراق: العظم بلا لحم، فإن كان عليه لحم فهو عرق.
ابن قتيبة، يقال للعظم الذي عليه اللحم عراق، وللخالي من اللحم عرق.
أبو عبيد، العراق: القطعة من اللحم، أبو زيد، قول العامة: ثريده العراق خطأ إذ كان العراق العظام، وأنشد لرجل يطرد الطير عن زرعه في عام جدب: [الرجز]
عجبت من نفسي ومن إشفاقها ... ومن طرادي الطّير عن أرزاقها (1)
في سنة قد كشفت عن ساقها ... حمراء تبرى للّحم عن عراقها
ابن الأنباريّ، قول أبي عبيد هو الصواب لأن العرب تقول: أكلت العراق ولا تقول: أكلت العظم، وفي حديث أم إسحاق العنزية: فجعلت لا آكل العراق ولا أضعه، فقولها: «لا آكل» يدل على أن العراق لحم مفرد أو لحم على عظم،
الأصمعي، قيل لأعرابي: أي الطعام أطيب؟ قال: ثريده دكناء من الفلفل، رقطاء من الحمض، ذات حفافين من البضع، لها جناحان من العراق، قيل: كيف أكلك لها؟
قال: أصدع بهاتين يعني السبابة والوسطى وأسند بهذين يعنى الإبهام والخنصر وأجمع ما شذ منها بهذه يعني البنصر وأضرب فيها ضرب وليّ السوء في مال اليتيم، فهذا يدل على أن العرق قطع اللحم إذا كانت العرب لا تصف الثريد والأطعمة بكثرة العظام.
والعراق في البيت: الأكل، تقول: عرقت العظم عراقا، أكلت ما عليه من اللحم، والعظم معروق، وهو بمنزلة سكتّ سكاتا.
العراق: قال صاحب العين: هو شاطىء البحر، وبه سميّت العراق لأنها على شاطىء دجلة، ابن الأعرابي، سمي عراقا لأنه سفل عن نجد، ودنا من البحر، أخذ من عراق القربة، وهو الخرزفي أسفلها، قطرب، سمّي عراقا لأنه دنا من البحر،. وبه يناخ وينجد.
ويقال: استعرقت إبلهم، إذا أتت ذلك الموضع، لفظته، أي رمته. ومعاوز: جمع معوز، والمعوز هو العوز نفسه، والمعوز بالكسر: الثوب الخلق وجمعه معاوز، الإرفاق ومصدر أرفقته، إذا أوصلت إليه نفعا يرتفق به، ورفقته بمعناه فأراد بمعاوز الإرفاق فقد ما يرتفق به والمفاوز: جمع مفازة وهي الصحراء سميت مفازة على التفاؤل، لأن الرجل إذا
__________
(1) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (عرق)، وتاج العروس (عرق).(1/60)
قطعها فاز ونجا. والآفاق: نواحي الأرض، نظمه: ضمّه وجمعه سلك: خيط، الرّفاق:
جمع رفقة، وعنى بسلك الرفاق الطريق الذي ينتظمون فيه إذا أخذوا في السير، لأنهم يمشون فيه واحدا بعد واحد، فنظمهم الطريق، وصار لهم كالسلك. خفوق: اضطراب، وقد خفق خفقا وخفوقا، والإخفاق: الخيبة، ويقال: غدا فأخفق، إذا خاب، ومثله في الصائد: صاد فأروق. شحذ: حدّ وسن، وشحذ الرجل سيفه.، إذا ألحّ عليه بالتحديد، ومنه قولهم للملحّ في المسألة: شحاذ، والعامة تصحّفه فتقول: شحات، بالتاء. غرار:
حدّ. وأراد أنه لما عزم على الارتحال حدّ عزمته، أي عوّل على السفر يجدّ. والعزمة:
مصدر عزم إذا جدّ، وجعل لها حدا، مبالغة في تعجيل السفر. ظعن: ذهب وارتحل.
أزمة: جمع زمام، وهو حبل من جلود يشدّ به في حلقه مجعولة في وتد أنف البعير، فجعل تعلّق قلوب أصحابه به عند فراقه، وحنينهم إليه كأنه قد ربطها بأزمّة وقادها معه، فمن روى «القلوب» عادت الهاء من «أزمتّه» على السروجيّ، ومن روى «القلب» عادت على القلب أو على السروجيّ، والقلب لابن همام.
وقوله: «راقني»، أي أعجبني، وقد راق الشيء يروق روقا فهو رائق إذا أعجب، لاقني: لصق بي وصحبني. شاقني: شوقني. ساقني لوصاله: دعاني لصحبته، لاح:
ظهر، ندّ: فرّ وشرد. ندّ: مثل، والجمع أنداد، خلال: جمع خلّة الضم وهي الصداقة، خلاله: جمع خلّة بالضم أيضا، وهي الخصلة. وهذا النّمط في وصف الصديق وغيبته بارع ولابن عمران في ذلك: [البسيط]
يا مرحبا بصديق لست أبصره ... إلّا تجدّد لي أنس بمرآه
وإن تغيّب عن عيني فلم أره ... فلي فؤاد بظهر الغيب يرعاه
* * *
واستسرّ عنّي حينا، لا أعرف له عرينا، ولا أحد عنه مبينا، فلمّا أبت من غربتي، إلى منبت شعبتي، حضرت دار كتبها التي هي منتدى المتأدّبين، وملتقى القاطنين منهم المغترّبين، فدخل ذو لحية كثّة، وهيئة رثة، فسلم على الجلّاس، وجلس في أخريات النّاس.
* * * استسرّ: غاب واختفى، وأصله من سرار الهلال في آخر الشهر وهو يستسرّ ليلة لا يظهر أو ليلتين، والعرين: بيت الأسد ومأواه، مبنيا: معلما به يبين لي أين استقرّ. أبت:
رجعت، منبت شعبتي، أي بلدة قرابتي التي نبتوا فيها، يريد البصرة. والشعبة: القرابة، دار كتبها: مدرسة العلم. منتدى: مجتمع القاطنين: الساكنين، وقطن بالمكان: أقام فيه، كثّة: كثيرة الأصول من غير طول.(1/61)
[اللحية وما قيل فيها]
ويقال للّحية إذا أقصر شعرها وكثر: أنها لكثة، وقد «كثّتّ تكثّ كثاثة وكثوثة، ورجل كث اللحية، ولحية كثحمة، إذا كثفت وقصرت وجعدت، ورجل كثحم اللحية، وإذا عظمت وكثر شعرها قيل: إنه لذوا عثنون، وإنه لهلوف، فإذا كانت اللحية قليلة في الذقن ولم تكن في العارضين فذلك السّنوط والسناط، ورجل سناط: بين السّنط، فإذا لم يكن في وجهه كثير شعر، فذلك الثطط ورجل ثطّ، ورجال ثطاط، والسّبلة: مقدّم اللحية، ورجل مسبل، وفلان خفيف العذارين، وهما ما اتصل من شعر اللحية بالصّدغ، وهما العارضان، وهما ما نبت في الخدين من الشعر على عوارض الأسنان، قال رؤبة في لحية حرب بن قطن: [الرجز]
هلّوفة كأنها جوالق ... نكداء لا بارك فيها الخالق (1)
لها فضول ولها بنائق ... إذا الرياح العصف السّوابق
طيّرنها طارت لها عقائق ... إن الذي يحملها لمائق
وأنشد أبو عليّ: [الطويل]
وأنت امرؤ قد كثّأت لك لحية ... كأنك منها قاعد في جوالق (2)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سعادة المرء خفة لحيته». وكانت عائشة رضي الله عنها تقسم فتقول: «لا والذي زين الرجال باللّحى»، تقول: إنه قسم الملائكة.
إلى ص 85
كتاب شرح مقامات الحريري الجزء الأول من ص 85باسمة
قال الأحدب الصوفيّ: سمعت مطيار بن أحمد يقول: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله، أشتهى لحية كبيرة، فقال لي: «لحيتك جيدة، وأنت محتاج إلى عقل تامّ».
وقال صلى الله عليه وسلم: «اعتبر واعقل الرّجل في ثلاث: في طول لحيته، ونقش خاتمه، وكنيته».
أتى رجل طويل اللحية معاوية فقال له: أمّا اللحية فلا نسأل عنها، فما نقش خاتمك؟ فقال: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقََالَ مََا لِيَ لََا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كََانَ مِنَ الْغََائِبِينَ}
__________
(1) الأشطار الثلاثة الأول من الرجز بلا نسبة في لسان العرب (هلف)، وتاج العروس (هلف)، وكتاب العين 4/ 52، وتهذيب اللغة 6/ 302.
(2) البيت بلا نسبة في لسان العرب (كثأ)، وتاج العروس (كثأ).(1/62)
[النمل: 20]، قال: فما كنيتك؟ فقال: أبو الكوكب الدرّيّ، قال: كمل الرجل.
وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ من لحيته من طولها وعرضها بالسواء (1).
وكان عبد الله بن عمر يقبض على لحيته، ويأخذ ما زاد منها على قبضته.
الحسن بن المثنى: إذا رأيت رجلا له لحية طويلة، ولم يتخذ لحية بين لحيتين، كان في عقله شيء.
وكان المأمون جالسا مع ندمائه ببغداد، مشرفا على دجلة وهم يتذاكرون أخبار الناس، فقال المأمون: ما طالت لحية إنسان قط إلا ونقص من عقله بمقدار ما طال من لحيته، وما رأيت عاقلا قطّ طويل اللحية. فقال له بعض جلسائه، ولا يردّ على أمير المؤمنين: قد يكون في طول اللحى أيضا عقل فبينما هم يتذاكرون في هذا، إذ أقبل رجل كبير اللحية، حسن الهيئة، فاخر الثياب، فقال المأمون: ما تقولون في هذا الرجل؟
فقال بعضهم: رجل عاقل، وقال آخر: يجب أن يكون هذا قاضيا، فقال المأمون لبعض الخدم: عليّ بالرجل، فلم يلبث أن أصعد إليه ووقف بين يديه، فسلّم فأجاد السّلام، فأجلسه المأمون، واستنطقه فأحسن النطق، فقال المأمون: ما اسمك؟ فقال: علّوية، قال: فما الكنية؟ قال: أبو حمدويه، فضحك المأمون، وغمز جلساءه ثم قال: ما صنعتك؟ قال: فقيه أجيد الشرع في المسائل، فقال له: نسألك مسألة! فقال الرجل: سل عما بدا لك، فقال له المأمون: ما تقول في رجل اشترى شاة من رجل، فلما تسلمّها المشتري، وقضى الثمن، ضرطت، فخرج من استها بعرة ففقأت عين رجل على من تجب دية العين؟ قال: فنكت بإصبعه في الأرض طويلا، ثمّ قال: تجب على البائع دون المشتري، فقال المأمون: وما العلّة التي أوجبت الدية عليه دون المشتري؟ قال: إنه لمّا باعها لم يشترط أنّ في استها منجنيقا، قال: فضحك المأمون حتى استلقى على قفاه، وضحك كلّ من حضره من الندماء. وأنشد المأمون يقول: [السريع]
ما أحد طالت له لحية ... فزادت اللّحية في حليته
إلا وما ينقص من عقله ... أكثر مما زاد في لحيته
وقال آخر: [المتقارب]
إذا عظمت للفتى لحية ... فطالت فصارت إلى سرّته
فنقصان عقل الفتى عندنا ... بمقدار ما زاد في لحيته
وأنشد أبو عليّ: [مجزوء الكامل]
__________
(1) أخرجه الترمذي في الأدب باب 17، بلفظ: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذه من لحيته من عرضها وطولها».(1/63)
لا تفخرنّ بلحية ... كثرت منابتها طويله (1)
يهوى تفرّقها الرّيا ... ح كأنها ذنب الحسيله
قد يدرك الشّرف الفتى ... يوما، ولحيته قليله
وقال: الحسيلة العجلة.
وأنشد أبو العباس رحمه الله: [الطويل]
كل امرىء ذي لحية عثوليّة ... يقوم عليها ظنّ أنّ له فضلا (2)
وما الفضل في طول السّبال وعرضه ... إذا الله لم يجعل لصاحبه عقلا
عثوليّة: كبيرة.
نظر يزيد بن مزيد الشيبانيّ رحمه الله إلى رجل ذي لحية عظيمة، وقد تلفّفت على صدره، وإذا هو خاضب، فقال له: إنك من لحيتك في مؤنة، فقال: أجل، ولذلك أقول: [الطويل]
لعمرك لو يعطي الأمير على اللّحى ... لأصبحت قد أيسرت منذ زمان
إذا لشفتني لحيتي من عصابة ... لهم عنده ألف ولي مائتان
لها درهم للدّهن في كلّ جمعة ... وآخر للحنّاء يبتدران
ولولا نوال من يزيد بن مزيد ... لصوّت فى حافاتها الجلمان
فأمر له بعشرة آلاف درهم. والجلمان: المقصّ، ويسمى الجالم.
وقال إسحاق بن خلف يصف رجلا بالقصر وطول اللّحية: [البسيط]
ما سرّني أنّني في طول داود ... وأنّني علم في البأس والّجود
ماشيت داود فاستضحكت من عجب ... كأنني والد يمشي بمولود
ما طول داود إلّا طول لحيته ... يظلّ داود فيها غير موجود
تكّنه خصلة منها إذا نفحت ... ريح الشمال، وجفّ الماء في العود
أجدى وأغنى من الخزّ الصّفيق ومن ... بيض القطائف يوم القرّ والسّود
وأشد إفراطا منه قول ابن الروميّ: [السريع]
ولحية يحملها مائق ... مثل الشّراعين إذا أشرعا
تقوده الرّيح بها طائعا ... قودا عنيفا يتعب الأخدعا
__________
(1) الأبيات بلا نسبة في لسان العرب (حسل) وتهذيب اللغة 4/ 304.
(2) البيتان بلا نسبة في تاج العروس (عثل).
وإن عدا والريح في وجهه ... لم ينبعث في مشيه إصبعا
لو غاص في اليمّ بها غوصة ... صاد بها حيتانه أجمعا
وأشد إفراطا منه قول الآخر: [الكامل](1/64)
__________
(2) البيتان بلا نسبة في تاج العروس (عثل).
وإن عدا والريح في وجهه ... لم ينبعث في مشيه إصبعا
لو غاص في اليمّ بها غوصة ... صاد بها حيتانه أجمعا
وأشد إفراطا منه قول الآخر: [الكامل]
يا لحية الشّيخ الأزبّ تميم ... أهديت للأقوام عرف الثّوم
لو أنها دون السماء غمامة ... ضاقت مسالك دعوة المظلوم
أو صبّها في الماء ثم سما بها ... قامت مقام العارض المركوم
ولابن سارة: [البسيط]
ولحية لست أدري كيف أنعتها ... فضول أشعارها أودت بأشعاري
كأنها ويمين الرّيح تنشرها ... مذبّة وقعت في عود بيطار
وقال آخر: [السريع]
أبصرت شيخا ذاهبا جائيا ... ذا لحية قد كبرت في اتّساع
عرضا وطولا وهو من خلفها ... كأنه ناشر ثوب يباع
وقال آخر: [الوافر]
لقد كانت مجالسنا فساحا ... فضيّقها بلحيته رباح
مقلّبة الأسافل والأعالي ... لها في كلّ زاوية جناح
وقال آخر: [السريع]
يا أيّها الناس خذوا حذركم ... قد برزت لحية بهلول
فطولها الفرسخ في فرسخ ... وعرضها ميل إلى ميل
لو ضمّ ما يقطر من دهنها ... أسرج منه ألف قنديل
ولو سها الحجّام عن قصّها ... لخالطت ما في السّراويل
ذكر هنا أبو محمد لحية السرّوجيّ أنّها كثّة، وكل صفة يصف بها السّروجيّ في المقامات، فتلك كانت صفة الحريري. وذكر ابن جهور أنّ الحريريّ كان قليل اللّحية لا خلقة، وإنما كان مولعا بنتفها، كانت يده رحمه الله لا تفارق لحيته. وهذا على كثرته قليل فيما قيل في اللحية.
قوله «رثّة»، أي خلقة بالية. أخريات: أطراف، وهي جمع أخرى.
* * * ثمّ أخذ يبدي ما في وطابه، ويعجب الحاضرين بفصل خطابه، فقال لمن
يليه: ما الكتاب الّذي تنظر فيه؟ فقال: ديوان أبي عبادة، المشهود له بالإجادة.(1/65)
* * * ثمّ أخذ يبدي ما في وطابه، ويعجب الحاضرين بفصل خطابه، فقال لمن
يليه: ما الكتاب الّذي تنظر فيه؟ فقال: ديوان أبي عبادة، المشهود له بالإجادة.
* * * أتى طلحة رضي الله عنه مجلس قوم، فجعلوا ينادونه من كلّ جانب: ها هنا يا صاحب رسول الله! قال: فجلس في أدنى المجلس، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ من التواضع لله الرضا بالدّون من شرف المجلس».
وطابه: زقاق لبنه، أراد أنه يظهر ما عنده. يعجب: يجعلهم يتعجّبون. بفصل خطابه: يريد بفصل كلامه وجودة بلاغته، وقوله تعالى: {وَفَصْلَ الْخِطََابِ} [ص: 20] هو قول الخطيب: «أما بعد». يليه: يلصق به.
[البحتريّ]
أبو عبادة. قال البكريّ: هو الوليد بن عبيد بن يحيى بن عبيد، من بني بحتر بن عتود بن عنين بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن جلهمة، وهي طيّىء. شاعر مقدّم لا يعدل به أحد، يفضّل على حبيب، والناس في تفضيلهما على اختلاف.
قال أبو الفرج الأصبهانيّ: كان البحتريّ شاعرا فصيحا، حسن المذهب نقيّ الكلام، ختم به الشعراء المحدثون، وله تصرّف في ضروب الشعر، سوى الهجاء، فإنّ بضاعته فيه نزرة.
قال البحتريّ: وكان أول أمري أنّي سرت إلى أبي عامر بحمص، فعرضت عليه شعري والشعراء يعرضون عليه أشعارهم فترك من حضر وأقبل عليّ، فقال لي حين تفرّقوا: أنت أشعر من أنشدني، فكيف حالك؟ فشكوت خلّة، فكتب إلى أهل معرّة النعمان، وشهد لي بالحذق في الشعر، وشفع لي إليهم، وقال: امتدحهم. فسرت إليهم، فأكرموني بكتابه، ووظّفوا لي أربعة آلاف درهم، فكانت أوّل مال أصبته.
وحدّث أبو الفرج، قال: حدثني أبو الغوث البحتريّ، عن أبيه، قال: أوّل أمري أنّي دخلت على أبي سعيد محمد بن يوسف الثغريّ، فأنشدته قصيدة أولها: [الكامل]
* أأفاق صبّ من هوى فأفيقا (1) *
فسرّ أبو يوسف بها، وقال: أحسنت والله يا فتى وأجدت وفي مجلسه رجل رفيع نبيل قريب المجلس منه، فوق كل من حضر، تكاد تمسّ ركبته ركبته، فأقبل عليّ، ثم قال: أما تستحي مني! هذا شعري تنتحله وتنشده بحضرتي! فقال أبو سعيد: أحقّا ما
__________
(1) عجزه:
أم خان عهدا أم أطاع سفيقا
والبيت في ديوان البحتري 3/ 1450، وهو بلا نسبة في رصف المباني ص 382.(1/66)
تقول؟ قال: نعم، وإنما علقه منّي وسبق به إليك، وزاد فيه. ثم اندفع فأنشد أكثر القصيدة، حتى شكّكني علم الله في نفسي، وبقيت متحيّرا، فقال لي أبو سعيد: يا فتى، قد كان لك في قرابتك منّي ما يغنيك عن هذا! فجعلت أحلف بكل محرّجة من الإيمان أن الشعر لي، ما سمعته منه، ولا انتحلته. فلم ينفع ذلك شيئا، وأطرق أبو سعيد، وقطع بي حتى تمنّيت أن يساخ بي في الأرض، فقمت منكسف البال، أجرّ رجليّ، فما بلغت باب الدار حتى ردّني الغلام، فأقبل عليّ الرجل وقال: الشعر لك يا بنيّ، والله ما قلته قطّ، ولا سمعته إلا منك ولكنني كنت ظننت أنّك تهاونت بموضعي، فأقدمت على الإنشاد بحضرتي، تريد مضاهاتي، حتى عرّفني الأمير نسبك، ولوددت ألّا تلد طائيّة إلا مثلك، ودعاني وضمّني إليه، وعانقني، وأبو سعيد يضحك، فلزمته بعد ذلك وأخذت عنه، واحتذيت فنه.
وعن أبي الغوث عن أبيه قال: قال لي أبو تمام: بلغني أن بني حميد أعطوك مالا جليلا، فبم مدحتهم؟ فأنشدني شيئا منه، فأنشدته، فقال لي: كم أعطوك؟ فقلت: كذا، فقال لي: ظلموك، والله ما وفّوك حقّك، فلم استكثرت ما أعطوك! والله لبيت منها خير مما أخذت. ثم أطرق قليلا وقال: لعمري لقد استكثرت ذلك لمّا مات الكرام، وذهب الناس، وغاضت المكارم، وكسدت أسواق الأدب، أنت والله يا بنيّ أمير الشعراء غدا بعدي، فقمت فقبّلت رأسه ويديه ورجليه، وقلت: والله لهذا القول أسر لي مما وصل إليّ منهم.
قال البحتريّ: أنشدت أبا تمام يوما شيئا من شعري، فأنشدني بيت أوس: [الطويل] وإن مقرم منّا ذرا حدّ نابه ... تمخّط فينا ناب اخر مقرم (1)
ثم قال: يا بنيّ، نعيت إليّ نفسي: فقلت: أعيذك بالله من هذا! فقال لي: إن عمري ليس يطول، وقد نشأ مثلك لطيىء، أما علمت أن خالد بن صفوان المنقريّ رأى شبيب بن شبّة، وهو من رهطه يتكلم، فقال. يا بنيّ، نعى نفسي إليّ إحسانك في كلامك لأنّا أهل بيت، ما نشأ فينا قطّ خطيب إلا مات من قبله.
قال: فمات أبو تمام بعد سنة من قوله هذا، ومات البحتري سنة ثلاث وثمانين ومائتين.
المبرّد: ذكرت للمتوكل المنازعة الّتي جرت بيني وبين أبي الفتح في تأويلات، فبعث إلى عامله بالبصرة أن يحملني إليه مكرها، فوردت سرّ من رأى، فأدخلت على
__________
(1) البيت لأوس بن حجر في ديوانه ص 122، ولسان العرب (قرم)، (ذرا)، وتهذيب اللغة 7/ 261، 9/ 140، وتاج العروس (خمط)، (قرم)، وأساس البلاغة (خمط)، (قرم)، وبلا نسبة في لسان العرب (خمط)، ومقاييس اللغة 2/ 352، 5/ 75، والمخصص 10/ 200، 15/ 55.(1/67)
المتوكّل، وفي المجلس البحتريّ وأبو العنبس الصيمريّ، فأنشده البحتريّ قصيدة أولها:
[مجزوء الكامل]
عن أيّ ثغر تبتسم ... وبأيّ طرف تحتكم (1)
حسن يضنّ بحسنه ... والحسن أشبه بالكرم
حتى بلغ:
قل للخليفة جعفر المت ... وكّل بن المعتصم
المرتضى ابن المجتبى ... والمنعم ابن المنتقم
أمّا الرعيّة فهي من ... أمنات عدلك في حرم
يا باني المجد الذي ... قد كان قوّض فانهدم
اسلم لدين محمّد ... فإذا سلمت فقد سلم
نلنا الهدى بعد العمى ... بل والغنى بعد العدم
ثم مشى القهقرى للإنصراف، فوثب أبو العنبس، وقال: يا سيّدي، تأمر بردّه! فقد والله عارضته، فأخذ ينشد في ذلك: [مجزوء الكامل]
في أيّ سلح تنتظم ... وبأيّ كفّ تلتقم
أدخلت رأس البحتر ... يّ أبي عبادة في الرّحم
ووصله بما يشبهه من الشعر. فضحك المتوكّل حتى استلقى، وقال: يدفع إلى أبي العنبس عشرة آلاف درهم، فقال أبو الفتح: يا أمير المؤمنين، والبحتريّ الذي هجي وأسمع المكروه ينصرف خائبا؟ قال: ويدفع إلى البحتريّ عشرة آلاف درهم، قال: يا سيّدي، وهذا البصريّ الذي أشخصناه من بلده، ألا يشركهم فيما حصلوه؟ قال: ويدفع له عشرة آلاف: قال وانصرفنا كلّنا في شفاعة الهذليّ، ولم ينفع البحتريّ جدّه وحذقه.
وأما أبو الفرج، فقال: حدّثني جحظة عن أبي العنبس الصيمريّ، قال: كنت عند المتوكل والبحتريّ ينشده:
* عن أيّ ثغر تبتسم *
وكان البحتريّ من أبغض الناس إنشادا، يتشادق ويتزاور في مشيه مرّة جانبا، ومرّة القهقرى، ويهزّ رأسه مرة ومنكبيه أخرى، ويشير بكفيه، ويقف عند كل بيت، ويقول:
أحسنت والله! ثم يقبل على المستمعين، ويقول لهم: ما لكم لا تقولون: أحسنت! هذا والله ما لا يحسن أحد أن يقول مثله، فضجر المتوكل من ذلك، وأقبل عليّ فقال: أما
__________
(1) الأبيات في ديوان البحتري ص 1998.(1/68)
تسمع يا صيمريّ ما يقول؟ فقلت: بلى يا سيدي، فمر فيه بما أحببت، فقال: بحياتي اهجه على هذا الرويّ، فقلت على البديهة [مجزوء الكامل]
أدخلت رأسك في الرّحم ... وعلمت أنك تنهزم
يا بحتريّ حذار ويح ... ك قضاقضة ضغم
فلقد أسلت بواديي ... ك من الهجاسيل العرم
فبأيّ عرض تعتصم ... وبهتكه جفّ القلم
والله حلفة صادق ... وبقبر أحمد والحرم
ووحق جعفر الإما ... م بن الإمام المعتصم
لأصيّرنّك شهرة ... بين المسيل إلى العلم
يا بن الثّقيلة والثّقي ... ل على قلوب ذوي النّعم
وعلى الصّغير مع الكب ... ير من الموالي والحشم
وبعد هذا ما يقبح ذكره فغضب البحتريّ، وخرج يعدو، وجعلت أصيح به:
أدخلت رأسك في الرّحم ... وعلمت أنك تنهزم
والمتوكّل يضحك، ويصفّق حتى غاب عنه.
ومدح البحتريّ بعض الولاة، فتوانى في حقه، فأنشده: [البسيط]
إنّ الأمير أطال الله مدّته ... يعطى من العرف ما لم يعطه أحد (1)
ينسى الذي كان من معروفه أبدا ... إلى العباد، ولا ينسى الذي يعد
فأعطاه خمسين ألف درهم، وقال: البيتان خير من القصيدة.
وقال الهذليّ: قيل للبحتريّ: أيما أشعر؟ أنت أو أبو تمام؟ قال: جيّده خير من جيّدي، ورديئي خير من رديئه. وصدق، أبو تمّام لا يتعلّق به أحد في جيّده، وربما اختلّ لفظه لا معناه، والبحتريّ لا يختلّ لفظه.
وقيل له: قد عثرت باحتذائك أبا تمام في شعرك! فقال: أيعاب عليّ أن أتبع أبا تمام، وما عملت بيتا قط حتى أخطر شعره ببالي!
وذكروا معنى تعاوره البحتريّ وأبو تمام، فقال المبردّ للبحتريّ: أنت في هذا أشعر من أبي تمّام، فقال: لا والله، ذلك الرئيس الأستاذ، والله ما أكلت الخبز إلا به.
وقال عبد الله بن الحسن: سألت المبردّ عن أبي تمام والبحتريّ أيهما أشعر؟ فقال:
__________
(1) البيت في ملحق ديوان البحتري ص 2545.(1/69)
لأبي تمّام استخراجات لطيفة، ومعان ظريفة، وجيّده أجود من شعر البحتريّ ومن تقدّمه من المحدثين، وشعر البحتريّ أحسن استواء من شعره، لأنّ البحتريّ يقول القصيدة كلّها، فتكون سليمة من طعن طاعن، وأبو تمام يقول البيت النّادر والبارد وهذا المعنى كان أعجب إلى الأصمعيّ، وما أشبّهه إلا بغائص يخرج الدرّة المخشلبة وهي زجاجة توضع مكان الدّرّة ثم قال: لأبي تمام والبحتريّ من المحاسن ما لو قيس بأكثر شعر الأوائل ما وجدوا فيه مثله، ثم قال: والبحتريّ ختمّ الشعر، وله بيتان لو وضعا إلى شعر زهير لجازا فيه وهما: [الوافر]
فما سفه السّفيه وإن تعدّى ... بأنجع فيك من حلم الحليم (1)
متى أحفظت ذا كرم تخطّى ... إليك ببعض أفعال اللّئيم
وذكر المبرّد في هذا المجلس شعرا له، وقدّمه على نظرائه: [الكامل]
وإذا ذكرت محاسن ابني صاعد ... أدّت إليك مخائل ابني مخلد (2)
كالفرقدين إذا تأمّل ناظر ... لم يعل موضع فرقد عن فرقد
وقوله: [الكامل]
من شاكر عنّي الخليفة للّذي ... أولاه من فضل ومن إحسان (3)
حتّى لقد أفضلت من إفضاله ... ورأيت نهج الجود حيث رآني
وبعدهما: [الكامل]
أغنت يداه يدي وشرّد جوده ... بخلي، فأفقرني كما أغناني
وله أيضا في الفتح بن خاقان، وقد نزل إلى الأسد فقتله: [الطويل]
حملت عليه السيف عطفك ما انثنى ... ولا يدك ارتدّت ولا حدّه نبا (4)
فأحجم لمّا لم يجد فيك مطمعا ... وصمّم لما لم يجد عنك مهربا
وله فيه:
وما منع الفتح بن خاقان نيله ... ولكنها الأيام تعطى وتحرم (5)
سحاب خطاني جوده وهو مسبل ... وبحر عداني فيضه وهو مفعم
وبدر أضاء الأرض شرقا ومغربا ... وموضع رجلي منه أسود مظلم
__________
(1) ديوان البحتري ص 2079.
(2) ديوان البحتري ص 541.
(3) ديوان البحتري ص 2255.
(4) ديوان البحتري ص 200، 201.
(5) ديوان البحتري ص 1980.
أأشكو نداه بعد أن وسع الورى ... ومن ذا يذمّ الغيث إلا مذمّم!
وله أيضا في انتقاض صلح بين عشيرته: [الوافر](1/70)
__________
(5) ديوان البحتري ص 1980.
أأشكو نداه بعد أن وسع الورى ... ومن ذا يذمّ الغيث إلا مذمّم!
وله أيضا في انتقاض صلح بين عشيرته: [الوافر]
إذا ما الجرح رمّ على فساد ... تبيّن فيه تفريط الطّبيب (1)
وللسّهم السّديد أشد حبّا ... إلى الرامي من السهم المصيب
ومن جيّد شعره: [الطويل]
ولما التقينا واللّوى موعد لنا ... تبيّن رائي الدرّ حسنا ولا قطه (2)
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه
والبحتريّ مكثر جدّا، وديوان شعره نسخ مختلفا بالزيادة والنقص لأن شعره لا ينضبط لكثرته.
[وصية أبي تمام للبحتري]
قال البحتريّ: كنت أروم الشعر في حداثتي، وكنت أرجع فيه إلى الطبع، ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه ووجوه اقتضائه، حتى قصدت أبا تمّام، وانقطعت فيه إليه، واتّكلت في تعريفه عليه، فكان أوّل ما قال لي: يا أبا عبادة، تخيّر الأوقات وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم. واعلم أنّ العادة جرت في الأوقات أن يقصدها الإنسان لتأليف الشيء، أو حفظه في وقت السّحر، وذلك أن النفس تكون قد أخذت بحظها في الراحة، وقسطها من النوم، فإن أردت التشبيب، فاجعل اللفظ رقيقا، والمعني رشيقا، وأكثر فيه بيان الصّبابة، وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق فإذا أخذت في مدح سيّد [ذي أياد]، فأشهر مناقبه، وأظهر مناسبه، وابن معالمه، وشرّف مقامه، ونضّد المعاني، واحذر المحتمل منها. وإيّاك أن تشين شعرك بالألفاظ الهجينة، وكن كأنك خيّاط تقطع الثياب على مقادير الأجسام، وإذا عارضك الضّجر فأرح نفسك، ولا تعمل شعرا إلا وأنت فارغ القلب. واجعل شهوتك إلى قول الشعر الذّريعة إلى حسن نظمه، فإن الشهوة تجمع النفس. وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سبق من شعر الماضين، فما استحسن العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه ترشد إن شاء الله تعالى.
قال: فأعملت نفسي فيما قال، فوقفت على السياسة.
* * * فقال: هل عثرت له فيما لمحته، على بديع استملحته؟ قال: نعم، قوله: [السريع] كأنّما يبسم عن لؤلؤ ... منضّد أو برد أو أقاح (3)
(1) ديوان البحتري ص 190.
(2) ديوان البحتري ص 1230.
(3) البيت بلا نسبة في تاج العروس (ظلم).(1/71)
فإنّه أبدع في التشبيه، المودع فيه.
* * * قوله: «هل عثرت»، معناه اطّلعت. لمحته: نظرته. بديع: معنى لم يسبق غيره إليه من تشبيه أو تجنيس وشبههما ممّا ذكر من صنع البديع في [المقامة] الثالثة والعشرين.
والبدع: إحداث الشيء قبل أن يكون أولا، والبدعة: ما ابتدع من الدّين، والبديع:
المحدث العجيب، وأبدع الرجل: أتى ببديع من قول أو فعل، وأبدع الله الأشياء وابتدعها: خلقها بلا مثال. استملحته: وجدته مليحا. يبسم: يبدي بعض أسنانه عند الضحك. لؤلؤ: جوهر شبّه به الأسنان. وهذا البيت من شعره، وقبله: [السريع]
بات نديما لي حتّى الصّباح ... أغيد مجدول مكان الوشاح (1)
فبتّ أفديه ولا أرعوي ... لنهي ناه عنه أو لحي لاح
أمزج كأسي بجنى ريقه ... وإنما أمزج راحا براح
كأنما يبسم البيت.
وبعده: [السريع]
سحر العيون النّجل مستهلك ... لبّي، وتوريد الخدود الملاح
قل لأبي نوح شقيق العلا ... ومعدن الجود، وترب السّماح
أعوذ بالفضل الجميل الّذي ... عوّدتني، والنائل المستماح
من أن تصدّ الطّرف عنّي وأن ... أخيب في جدواك بعد النّجاح
أشمّتّ حسّادي وأخرجتني ... عن سيبك المغدى عليّ المراح
فهل لأنس بان من عودة ... أم هل لحال فسدت من صلاح
لست على سخطك جلد القوى ... ولا على هجرك شاكي السّلاح
قوله: «المودع»: المضمّن، وأودع الشي: صيّره وديعة.
* * * فقال له: يا للعجب، ولضيعة الأدب! لقد استسمنت ذا ورم، ونفخت في غير ضرم! أين أنت من البيت النّدر، الجامع مشبّهات الثّغر! وأنشد: [البسيط]
نفسي الفداء لثغر رق مبسمه ... وزانه شنب ناهيك من شنب
يفترّ عن لؤلؤ رطب وعن برد ... وعن أقاح وعن طلع وعن حبب
* * *
__________
(1) الأبيات في ديوان البحتري ص 435.(1/72)
استسمنت: حسبته سمينا وطلبت السمانة من هزيل. ورم: دمّل، والمعنى أنه يرميه بسوء الفهم، وقد بيّن هذا أبو الطيّب المتنبي فقال: [البسيط]
أعيدها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشّحم فيمن شحمه ورم (1)
وما انتفاع أخي الدّنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظّلم
ونفخت في غير ضرم، مثل لطلب الشيء في غير موضعه، ولفظ المثل: «نفخت» أو «تنفخ»، والضّرم: النار. النّدر، والنادر: الغريب. الثغر: الأسنان، مبسمه: موضع ابتسامة، يعني الفم.
الشّنب: الماء القليل الجاري على الأسنان الجرميّ: سمعت الأصمعي يقول:
الشّنب برد الأسنان والفم، فقلت: أصحابنا يقولون: حدّتها حين تطلع، فيراد بذلك حداثتها وطراءتها، لأنّها إذا أتت عليها السنون تغيّرت، فقال: ما هو إلا بردها. ابن سيده: قال الأصمعيّ: سألت رؤبة عن الشّنب ما هو؟ فأخذ حبّة رمان فأومأ إلى بصيصها.
ناهيك: كافيك، وتقول: ناهيك بفلان! أي قد انتهى الأمر فيه إلى الغاية ونهي الرّجل من اللحم وأنهى، إذا شبع منه واكتفى، والنّهي: الغدير لأنه ينتهي إليه ماء الوادي. يفترّ: يكشف ويبسم. رطب، أي طريّ كما أخرج من أصدافه، وفي اللؤلؤ إذ ذاك رطوبة وسطوح بياض، فإذا أصابه الهوى ودام عليه صلب، وإذا تداولته الأيدي باللمس وقدم تغيّر بياضه. الطّلع: أول حمل النخلة، وهو الفرخ فإذا انشق فهو بالضحّك، وبه تشبه الأسنان في بياضه، ثم الإغريض إذا افترق حبّه، وإنّما شبّه الأسنان بالطّلع، وهو الفرخ، لأنه إذا شقّ وجد ما فيه من حمل النخلة في غاية البياض، ويقال له: الوليع، قال الشاعر: [المتقارب]
وتبّسم عن لؤلؤ كالوليع ... تشقّق عنه الرّقاة الجفوفا (2)
الجفوف جمع جفّ وهو قشر الفرخ، ويقال له القيقاء والبلبلة، وهو طيّب الريح، والرّقاة: الراقون إلى أعلى النخل.
والحبب: تنضّد الأسنان، وقيل: طرائق تظهر في الخمر عند مزجها بالماء، فأمّا الفقاقيع التّي تعلو الخمر عند المزج فهي الحباب، بزيادة الألف، قال المتلمّس: [الوافر]
__________
(1) البيتان في ديوان المتنبي 3/ 366، 367.
(2) يروى صدر البيت:
وتبسم عن نيّر كالوليع
وهو بلا نسبة في لسان العرب (ولع)، (جفف) وتهذيب اللغة 3/ 200، 10/ 505، وكتاب العين 2/ 251، 6/ 33، وتاج العروس (ولع)، (جفف).(1/73)
عقار أعتقت في الدّنّ حتّى ... كأنّ حبابها حدق الجراد (1)
وقال آخر: [الكامل]
حمراء قانية إذا ما شعشعت ... ينزو إلى وجه النّديم حبابها
* * *
فاستجاده من حضر واستحلاه، واستعاده منه واستملاه، وسئل لمن هذا البيت، وهل حيّ قائله أو ميت؟ فقال: أيم الله، للحقّ أحقّ أن يتّبع، وللصّدق حقيق بأن يستمع إنّه يا قوم، لنجيّكم منذ اليوم. قال: فكأنّ الجماعة ارتابت بعزوته، وأبت تصديق دعوته. فتوجّس ما هجس في أفكارهم، وفطن لما بطن من استنكارهم، وحاذر أن يفرط إليه ذمّ، أو يلحقه وهم، فقرأ {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}.
ثمّ قال: يا رواة القريض، وأساة القول المريض، إنّ خلاصة الجوهر تظهر بالسّبك، ويد الحقّ تصدع رداء الشّكّ، وقد قيل فيما غبر من الزّمان: عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، وها أنا قد عرّضت خبيّتي للإختبار، وعرضت حقيبتي على الاعتبار.
* * * قوله: «استعاده»، أي قال: أعده عليّ. استملاه: طلب أن يكتبه. ايم الله: يمين يحلف به. نجيّكم: محدّثكم يعني نفسه. ارتابت: شكّت والرّيب: الشكّ. بعزوته:
بنسبته، أي بنسبته إلى نفسه. دعوته: ادعاؤه أنه من قوله: والدّعوة بكسر الدّال في النّسب، وبفتحها في الطعام. فتوجّس: أي أحسّ وسمع هجس: وقع وخطر. فطن:
شعر. بطن: خفي، يريد أنه فهم منهم أنهم لم يصدّقوه في أنّ الشعر له، وأنكروا أن يقول مثله. حاذر: خاف. يفرط: يسبق. القريض: الشعر. أساة: أطبّاء، وأحدهم آس.
القول المريض: الضعيف من قبل راويه. خلاصة: ما خلص منه. وجواهر الأرض، مثل الحديد والنحاس وغيرهما، فإذ عرض الجوهر على النّار، فما كان منه خالصا زاد صفاء وجودة، وما لم يكن خالصا فضحته النار وأظهرت عيبه. السّبك: الاختبار بالنار.
تصدع: تشق. غبر: مضى هنا، ويستعمل كثيرا بمعنى «بقي» وهو من الأضداد يقال:
غبر الشيء غبورا إذا بقي، قال الله تعالى: {إِلَّا امْرَأَتَهُ كََانَتْ مِنَ الْغََابِرِينَ} [الأعراف:
83]، أي الباقين. الامتحان: الاختبار والبحث، وهذا المثل من أمثال الفرس، ولهذا أبعد مدّته حيث قال: غبر من الزمان. خبيّتي: مكتومي، وما خبأته من علمي، وأصل «خبيّتي» الهمز، فقلبت همزته ياء وأدغمت فيها الياء، كما قلبت في «خاسية». وتقول:
__________
(1) البيت في شعراء النصرانية ص 342، ولعمرو بن معدي كرب في ديوانه ص 107:
مضاعفة تخيّرها سليم ... كأنّ قتيرها حدق الجراد(1/74)
عرضت الشيء على البيع وعرّضته للبيع، إن أتيت بعلى خفّفت الراء، وإن أتيت باللام شدّدتها. والحقيبة: وعاء يجعله الراكب خلفه، والاعتبار والاختبار واحد.
* * * فابتدر أحد من حضر، وقال: أعرف بيتا لم ينسج على منواله، ولا سمحت قريحة بمثاله، فإن آثرت اختلاب القلوب، فانظم على هذا الأسلوب: [البسيط]
فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت ... وردا وعضّت على العنّاب بالبرد
* * *
قوله: «ابتدر»، أي سبق بالكلام وبادر به. والمنوال: خشبة الحائك يريد أنّ البيت رفيع الصنعة في الشّعر لم يصنع بيت مثله، لأنّ الثوب أنواع، وصنعة الشعر تشبه نسج الثوب. سمحت: جادت. قريحة: ذهن. آثرت: فضّلت. اختلاب القلوب: إمالتها إليك بتصديقك وانخداعك بما تبديه، وهو من الخلب وهو من غشاء القلب. وعن أبي عبيدة وغيره قال ثعلب: الخلب: الّذي بين الزيادة والكبد، يقال: خلبني حبّ فلان، أي وصل حبّه إلى خلبي، وفلان خلب نساء، أي تخلبه النساء، وخلّاب: يخلب الناس، أي يذهب بقلوبهم، وخلب جمعه خلبة، وكلّه من الخلب، قال أعرابيّ: [البسيط]
من كان لم يدر ما حبّ جمعت له ... أو كان في غفلة أو كان لم يجد
فالحبّ أوّله روع وآخره ... مثل الحرارة بين الخلب والكبد
[انظم: قل شعرا منظوما. والأسلوب: الطريقة].
لؤلؤا: درّا. النرجس: نوّار أصفر في نوره انكسار وفتور لا يكاد يرى، له ورقة قائمة، تشبّه به العينان إذا كان في نظرهما فتور.
[ما قيل في النرجس]
وقد تمادى إنكار أدباء وقتنا تشبيه العين بهذا النوّار الأصفر المعروف عندنا بالنرجس، فأكثرهم ينكر أن يكون يقع به تشبيه لأجل صفرته، وإن ذكرته لأحد قال:
وأيّ صفرة في العين إلّا أن يكون بصاحبها علّة اليرقان! ويستهجن موضع التشبيه جدّا.
وقد سألت عنه بعض أشياخي في صغري، وأنا أقرأ عليه كتاب «الجمل» وكان أديبا شاعرا، فأنكر وقوع التشبيه بهذا النّور الأصفر، وقال لي: النّرجس عندهم بالمشرق نور يشبه نوّار القول، وأكثر من لقيته يستبعد التشبيه بهذا الأصفر، لأجل لونه، وذلك لقلّة تحصيلهم معرفة كلام العرب وتشبيهاتها، والعرب توقع تشبيهاتها على الصورة دون المعنى، وعلى المعنى دون الصورة، وعليهما جميعا وهو أكمل وجوه التشبيه. وانظر أقسام التشبيه في الثالثة والعشرين تقع على علم هذا وغيره بإذن الله تعالى.(1/75)
وتشبيه العيون بالسيوف والسّهام، إنّما المراد به المضاء والقطع، ولا يلتفت في ذلك إلى اللون، وكذلك تشبيه العيون بالنّرجس الأصفر إذا قصد ما فيه من الفتور واقع متمكّن في التشبيه، ألا ترى ابن المعتزّ التفت إلى الفتور وحده حين قال: [الكامل]
وسنان قد خدع النّعاس جفونه ... فحكى بمقلته ذبول النّرجس (1)
والنّرجس الذي يشبّه به أهل المشرق العيون، هو نبات له قضبان خضر في رؤوسها أقماع، يخرج منها نور ينبسط منه على الأقماع ورق أبيض، في وسط البياض دائرة قائمة من ورق صغير. هذه الصفة التي تقع في أشعارهم إذا ذكروا النّرجس، وبذلك وصفه كسرى أنوشروان، فقال: النّرجس ياقوت أصفر، بين درّ أبيض على زمرّد أخضر، أخذه بعضهم فقال فيه: [الطويل]
وياقوتة صفراء في رأس درّة ... مركبّة في قائم من زبرجد
كأنّ بهيّ الدرّ عقد نظامها ... فريد أنيق قد أطاف بعسجد
وأنشد أبو عون الكاتب في كتاب التشبيه له، فقال: من جيّد ما قيل في النرجس ما أنشده المبرّد رحمه الله تعالى: [السريع]
نرجسة لاحظني طرفها ... تشبه دينارا على درهم
وقال عبيد الله بن عبد الله فيه: [المنسرح]
ترنو بأبصارها إليك كما ... ترنو إذا خافت اليعافير
مثل اليواقيت قد نظمن على ... زمرّد فوقهنّ كافور
كأنّها والعيون ترمقها ... دراهم وسطها دنانير
وقال أبو نواس: [الطويل]
لدى نرجس غضّ القطاف كأنه ... إذا ما منحناه العيون عيون
مخالفة في شكلهنّ وصفرة ... مكان سواد والبياض جفون
أجاد التشبيه، وكشف بذكر المخالفة قناع الشبهة، وبين مواقع التشبيه غاية البيان.
وقال أبو عبد الملك بن فرج في كتاب الحاسّ والمحسوس، له: وأحسن بيت أنشدنيه أبو جعفر البغداديّ رحمه الله: [الطويل]
مداهن درّ بين أوراق فضّة ... على قيس شبر أخضر كالزّبرجد
وقال أبو الفرج الببغاء: [السريع](1/76)
ونرجس لم يعد مبيضّه ال ... كأس ولا أصفره الرّاحا
تخال أحقاق لجين حوت ... من أصفر العسجد أقداحا
كأنما يهدي المحيّي به ... لطفا إلى الأرواح أرواحا
يغني عن الورد إذا مارنا ... ويخلف الورد إذا فاحا
وقال ابن المعتزّ: [الطويل]
كأنّ عيون النّرجس الغضّ بيننا ... مداهن درّ بينهنّ عقيق
إذا بّلهنّ القطر خلت دموعه ... بكاء عيون كحلهنّ خلوق
وقال النّاشيّ: [مجزوء المتقارب]
أخصّ الصفات التي ... تناولها من كتب
عيون بلا أوجه ... لها حدق من ذهب
وقال ابن الروميّ: [الكامل]
يا نرجس الدّنيا ترى أبدا ... للإفتراج ودائم النّخب
ذهب العيون إذا مثلن لنا ... درّ الجفون زبرجد القصب
وهذه الصفة التي أثبتها أهل المشرق للنّرجس، هي التي يصف بها أهل المغرب البهار، قال ابن أبي عامر في جارية اسمها بهار: [الكامل]
حدق الحسان تقرّ لي وتغار ... وتظلّ في صفة البهار تحار
طلعت على قضبي عيون كمائمي ... مثل العيون تحفّها الأشفار
وأخصّ شيء بي إذا شبّهتني ... درّ تمنطق سلكه دينار
أهدى لنا قضب الزّبرجد ساقه ... وحباه أنفس عطره العطّار
أنا نرجس حقّا بهرت عقولهم ... ببديع تركيبي فقيل بهار
بيّن أن البهار عندنا، هو الذي تسميه أهل المشرق نرجسا.
وقال أبو جعفر بن برد: [الطويل]
تأمّل فقد شقّ البهار مغلّسا ... كمائمه عن نوره الخضل النّدى
مداهن تبر في أنامل فضّة ... على أذرع مخروطة من زبرجد
وقال القسطليّ: [المتقارب]
بهار يروق بمسك ذكيّ ... وصنع بديع وخلق عجب
غصون الزّبرجد قد أورقت ... بها فضة نوّرت بالذّهب
وقال القاضي أبو الحسن بن لبّال: [الرمل](1/77)
بهار يروق بمسك ذكيّ ... وصنع بديع وخلق عجب
غصون الزّبرجد قد أورقت ... بها فضة نوّرت بالذّهب
وقال القاضي أبو الحسن بن لبّال: [الرمل]
وبهار يحكى كؤوس لجين ... حملتها أنامل من زبرجد
سامرتها الكواكب الزّهر حتى ... سمّرت وسطها كواكب عسجد
وأنشدني بعض أشياخنا: [الكامل]
انظر إلى حسن البهار وغنجه ... يرنو إليك بمقلتي وسنان
فكأنما هي راحة من فضّة ... قد ضمّنت كأسا من العقيان
وكأنّ نشر نسيمه غبّ النّدى ... يأتيك بالأنفاس من بغدان
والّذي تسميه أهل المغرب نرجسا يسمّيه أهل المشرق بهارا، ولذلك قال الحريريّ في العاشرة: «ووردتي بالبهار»، دعا فيها على الغلام بالحمّى، وأن ينعكس حمرة خدّه صفرة، وقال حبيب في ذلك: [الخفيف]
إنّ وجه الحمّى لوجه صفيق ... حين تسطو به نهارا جهارا
لم تشن ورد وجنتيه ولكن ... صيّرت ورد وجنتيه بهارا
وبلون النرجس يشبّه أهل الأندلس المريض.
وقال أبو بكر الأبيض: [البسيط]
يا شاكيا صدّني عن مسّه ألمي ... طال اشتياقي به ليلا فلم أنم
تضاءل الدّهر إشفاقا على قمر ... رقيبه في سماء المجد والكرم
لم أرض قلبي مكانا إذ حللت به ... حتى خلطتك في سوادئه بدمي
أنت البهار ولا أدري متى خلعت ... عليك أيدي اللّيالي نرجس السّقم
ولابن الزقّاق: [الرمل]
وغزال ذي اعتدال شفّه ... بعد ما شقّ هواه الأنفسا
جارت الحمّى على وجنته ... فاستحال الورد منه نرجسا
فثبت بما قدمناه، أنّ نرجسهم بهارنا، وأن بهارهم نرجسنا. وآكد ما يدلّ على صحته اشتراك البيت الذي أنشده أبو الفرج على النّرجس مع بيت ابن برد في لفظ واحد، أخذ ابن برد منه صفة النرجس، فقلبه لاسم البهار حين نظمه.
واعلم أن تشبيه العين بنرجسهم أبين لتعلّقهم بالصورة، وأن تشبيهها بنرجسنا أدون لتعلّقه بالمعنى، وهو مع ذلك متمكّن في باب التشبيه، وأنّ اسم النرجس لا بدّ فيه من صفرة.(1/78)
وقد قال شاعر من المشرق، وهو أحمد بن يونس الكاتب في مناقضة ابن الروميّ في تفضيله النرجس على الورد:
إن كنت تنكر ما ذكرنا بعدما ... قامت عليه دلائل وشواهد
فانظر إلى المصفرّ لونا منهما ... وافطن فما يصفرّ إلا الحاسد
فلولا ما ذكرنا من أشعارهم، لحكمنا بهذا البيت، على أن نرجسهم هو نرجسنا، ومذهب ابن الروميّ تفضيله على الورد، وهو القائل: [المتقارب]
وأحسن ما في الوجوه العيو ... ن وأشبه شيء بها النّرجس
والنّفوس تتشوّق إلى رؤية نرجسهم، لأنّا لم نعلم نرجسنا غير هذا الأصفر، حتى نعلم بما ذكرناه أنّه هو النوّار المعروف، وهم أيضا يتشوّقون لمنظر نرجسنا.
ويدلّ على ذلك حكاية القاضي الفقيه أبي الحسن بن لبّال، قال: خرجت عشيّة لخارج إشبيليّة أيام حداثتي وقراءتي بها، فجلست في وسط واديها، وبيدي كتاب أنظر فيه، وإذا رجل يحملق حواليّ، فإذا نظرت في الكتاب يأخذ وينشد للأشعار التي بين أيدينا نظائر من بديع الشعر، فذاكرته فوجدته بحر أدب، فسألته عن محفوظه، فقال:
أحفظ خمسة عشر ألف بيت من الشعر، فسألته: هل تنظم شيئا؟ فأنشدني في وصف فرس، وزعم أنه القائل: [الكامل]
منع الحوافر أن تطين به الثّرى ... فكأنه في جريه متعلّق
وكأنّ أربعة توافق طرفه ... فتكاد تسبقه إلى ما يرمق
فاستعدت بيته، وراجعته في قوله: «تطين»، فقلت له: إنما هو «تطأن»، فلم يعرف اللفظ، وإنما تكلّم بلا همر على لحن عامته، فجرّبته في غيره، فوجدت شعره من جهة الطبع وكثرة الحفظ، لا من جهة العلم، فسألته عن بلاده، فقال: أنا من العراق، فقلت له: فما السبّب الذي جاء بك إلى الأندلس؟ فقال لي: لأرى النّرجس الأصفر المذكور في أشعاركم عيانا. ودعاني إلى الإطالة في ذكر النّرجس رغبة أن أرفع عن غيري حيرة الشبهة التي أقمت فيها زمانا طويلا، لا أجد من يرفعها عني.
[الوأواء الدّمشقي]
والبيت الذي اقتضى النّظم على أسلوبه هو لأبي الفرج الغسّاني الدّمشقي، المعروف بالوأواء، ذكره أبو منصور الثعالبي في يتيمته، فقال: أبو الفرج من حسان الدهر، وصاغة الكلام.
ومن عجائب أمره أنه كان مناديا بدار البطّيخ بدمشق ينادي على الفواكه، وما زال يشعر حتى جاد شعره، ووقع له ما يروق، ويشوق ويفوق، حتى تعلّق بالعيّوق.(1/79)
وقال الفتح بن خاقان: إني انصرفت البارحة من مجلس أمير المؤمنين، فلما دخلت مجلسي لقيت خلافة جاريتي، فلم أتمالك أن، قبّلتها، فوجدت ما بين شفتيها هواء، لو رقد المحموم فيه لأفاق. وهذا مستطرف من كلام الفتح، فقال الوأواء ملمّا به: [الطويل] سقى الله ليلا طاب إذ زار طيفه ... فأفنيته حتى الصّباح عناقا (1)
بطيب نسيم منه يستجلب الكرى ... فلو رقد المحموم فيه أفاقا
وله أيضا: [البسيط]
بالله ربّكما عوجا على سكني ... وعاتباه، لعلّ العتب يعطف (2)
وعرّضا بي وقولا في حديثكما ... ما بال عبدك بالهجران تتلفه!
فإن تبسّم قولا في ملاطفة ... ما ضرّ لو بوصال منك تسعفه!
وإن بدا لكما من سيّدي غضب ... فغالطاه، وقولا: ليس نعرفه
وله في النحول: [الوافر]
وما أبقى الهوى والشوق منّي ... سوى روح تردّد في خيال (3)
خفيت عن العواذل أن تراني ... كأنّ الرّوح منّي في محال
وله في الزّرقة: [البسيط]
يا من هو الماء في تكوين خلقته ... ومن هو الخرّ في أفعال مقلته (4)
ومن بزرقة سيف اللحظ طلّ دمي ... والسيف، ما فخره إلا بزرقته
علّمت إنسان عيني أن يعوم فقد ... جادت سباحته في بحر دمعته
وله أيضا: [المتقارب]
تملّكت يا مهجتي مهجتي ... وأسهرت يا ناظري ناظري (5)
وما كان ذا أملى يا ملول ... ولا هجس الهجر في خاطري
فجد بالوصال فدتك النفوس ... فلست على الهجر بالقادر
وفيك تعلّمت نظم القريض ... فلقّبني الناس بالشاعر
وله من قصيدة:
يقمن لنا برق الثّغور أدلّة ... إذا ما ضللنا في ظلام الذّوائب
__________
(1) ديوان الوأواء الدمشقي ص 164.
(2) ديوانه ص 146، 147.
(3) ديوان الوأواء ص 189.
(4) ديوانه ص 65.
(5) ديوانه ص 99.(1/80)
قال: ومن بديع تشبيهاته قوله:
فأمطرت لؤلؤا من نرجس (1) البيت.
ثم قال: هذا البيت ضمّنه خمسة تشبيهات بغير أداة التشبيه، وذكر المتنبّي منها أربعة فأجاد، وهي ما ضمنها قوله رحمه الله: [الوافر]
بدت قمرا، ومالت خوط بان، ... وفاحت عنبرا، ورنت غزالا (2)
وللفقيه أبي محمد بن حزم خمسة تشبيهات في بيت واحد، ولا يقدر أحد على أكثر منه، إذ لا يحتمل العروض ولا أبنية الأسماء أكثر من ذلك، قال: [الطويل]
خلوت بها والكأس ثالثة لنا ... وجنح ظلام اللّيل قد مدّ وأتّلج
فتاة عدمت العيش إلّا بقربها ... وهل في ابتغاء العيش ويحك من حرج!
كأنّي وهي والكأس والخمر والدّجى ... ثرى وحيا والدّرّ والتّبر والسّبج
وقبل بيت الوأواء: [البسيط]
إنسيّة لو بدت للشمس ما طلعت ... للنّاظرين ولم تغرب على أحد
قالت وقد فتكت فينا لواحظها: ... ما إن أرى لقتيل الحبّ من قود
فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت ... وردا وعضّت على العنّاب بالبرد
ثم استمرت وقالت وهي ضاحكة: ... قوموا انظروا كيف فعل الظّبي بالأسد!
وأول القصيدة: [البسيط]
لمّا وضعت على صدري يدا ليد ... وصحت في اللّيلة الظلماء واكبدي!
وقال أيضا: [الوافر]
أتاني زائرا من كان يبدي ... لي الهجر الطّويل ولا يزور (3)
فقال النّاس لمّا أبصروه ... ليهنك زارك القمر المنير
فقلت لهم ودمع العين يجري ... على خدّي له درّ نثير
ولو نصبوا رحا بإزاء عيني ... لكانت من مدامعها تدور
* * *
فلم يكن إلّا كلمح البصر أو هو أقرب، حتّى أنشد فأغرب: [البسيط]
سألتها حين زارت نضو برقعها ال ... قاني وإيداع سمعي أطيب الخبر
__________
(1) ديوانه ص 84.
(2) البيت في ديوان المتنبي 3/ 224.
(3) ديوان الوأواء الدمشقي ص 110.(1/81)
فزحزحت شفقا غشّى سنا قمر ... وساقطت لؤلؤا من خاتم عطر
* * *
قوله: «لمح البصر»، يعني نظر العين إلى الشيء بسرعة ثم تغيب عنه بسرعة، وأصل البصر الإدراك بالعين. أغرب: أتى بغريب. نضو: كشف. القاني: الأحمر. إيداع سمعي: إعطاء أذني، كأنه جعله وديعة عنده. زحزحت: أزالت. الشفق: حمرة الشمس بعد الغروب. غشّى: غطّى. سنا: ضوء. عطر: فوّاح طيّب التنفس. وبيت الحريريّ في صنعة البديع فائق، وإن لم يأت بعدد تشبيهات بيت أبي الفرج، وبيانه أن أبا الفرج يصف امرأة باكية، فيقول: إنها نثرت دموعها على من قتلت من عشاقها، فسقطت على خدّها فبلّلته، وعضّت على أصابعها المصبوغة بالحنّاء بأسنانها، فجعل البيت كلّه استعارة، فقال: «فأمطرت لؤلؤا»، وهو يريد: بكت دمعا، وذكر نرجسا ووردا، وهو يريد عينا وخدّا، وذكر عنّابا وبردا، وهو يريد أنامل وأسنانا، فضمّن تحت ألفاظه هذه المعاني، وزاد فائدة التشبيه وهذا يفعله أهل القدرة على الشعر، فقابل الحريريّ هذا بقوله:
«فزحزحت شفقا»، وهو يرى نقابا أحمر، وذكر «سنا قمر» وهو يريد ضوء وجهها، وذكر لؤلؤا من خاتم، وهو يريد كلاما من فم. والبيت الثاني في مقابلة بيت أبي الفرج، والأول توطئة له، وهو يصف امرأة زارته متنقّبة فسألها، أن تكشف عن وجهها وتحدّثه، فأزالت نقابها، وأسمعته كلاما حسنا من فم عطر.
[ما قيل في اللؤلؤ]
واللؤلؤ تشبّه به الأسنان في مثل قوله: [السريع]
* كأنما يبسم عن لؤلؤ (1) *
وقوله: [البسيط]
* يفتر عن لؤلؤ رطب وعن برد *
ويشبّه به الكلام في مثل قول البحتريّ: [الكامل]
* ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه (2) *
__________
(1) عجزه:
منضّد أو برد أو أقاخ
والبيت بلا نسبة في تاج العروس (ظلم).
(2) صدره:
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها
والبيت في ديوان البحتري ص 1230، وتاج العروس (سقط)، وكتاب الصناعتين ص 208.(1/82)
وقول الحريريّ: [البسيط]
* وساقطت لؤلؤا من خاتم عطر *
ويشبّه به الدمع، كقول الوأواء: «فأمطرت لؤلؤا»، وهو كثير.
ومن أحسنه قول الشاعر: [الطويل]
ولمّا وقفنا للوداع ودمعها ... ودمعي يثيران الصّبابة والوجدا
بكت لؤلؤا رطبا ففاضت مدامعي ... عقيقا، وصار الكلّ في نحرها عقدا
وقال ابن عبد ربه: [الكامل]
وكأنما غاص الأسى بجفونها ... حتى أتاك بلولؤ منثور
فأخذه الرمادي فحسّنه فقال: [الطويل]
ولم أر أحلى من تبسّم أعين ... غداة اللّوى عن لؤلؤ كان كامنا
قال: فوقعت استعارة التبسّم للعين موقعا لطيفا، وإنما هو للثغر بسبب توسط اللؤلؤ. والحذّاق يتحيّلون في أخذ المعاني بترك القافية والوزن، كقول ابن شهيد:
[الطويل]
ولمّا فشا من دمعنا بعض سرّنا ... إلى كاشحينا والقلوب كواتم
أمرنا بإمساك الدّموع جفوننا ... ليشجي بما يطوي عذول ولائم
أبى دمعنا يجري مخافة شامت ... فنظّمه بين المحاجر ناظم
وراق الهوى منّا عيون كريمة ... تلمّحن حتى ما تروق المباسم
[ما قيل في الامتحان]
وقال ابن شهيد في الامتحان فأحسن: [الطويل]
ونبّئت أقواما تجيش صدورهم ... عليّ وأنّي منهم فارغ الصّدر
أصاخوا إلى قولي فأسمعت صمّهم ... وغاصوا على سرّي فأعياهم أمري
فقال فريق: ليس ذا الشعر شعره ... وقال فريق ليمن الله ما ندري
فمن شاء فليخبر فإنّي لحاضر ... ولا شيء أجلى للشّكوك من الخبر
وينظر في هذا الامتحان ونسبة شعره فيه إلى الانتحال، إلى قصة أبي بكر بن بقيّ حين استهدى بعض إخوانه أقلاما، فبعث إليه بثلاث من القصب، وكتب معها: [البسيط] خذها إليك أبا بكر العلا قصبا ... كأنّما صاغها الصّوّاغ من ورقه
يزهى بها الطّرس حسنا ما نثرت به ... مسك المداد على الكافور من ورقه
فأجابه أبو بكر بن بقيّ فقال: [البسيط](1/83)
ونبّئت أقواما تجيش صدورهم ... عليّ وأنّي منهم فارغ الصّدر
أصاخوا إلى قولي فأسمعت صمّهم ... وغاصوا على سرّي فأعياهم أمري
فقال فريق: ليس ذا الشعر شعره ... وقال فريق ليمن الله ما ندري
فمن شاء فليخبر فإنّي لحاضر ... ولا شيء أجلى للشّكوك من الخبر
وينظر في هذا الامتحان ونسبة شعره فيه إلى الانتحال، إلى قصة أبي بكر بن بقيّ حين استهدى بعض إخوانه أقلاما، فبعث إليه بثلاث من القصب، وكتب معها: [البسيط] خذها إليك أبا بكر العلا قصبا ... كأنّما صاغها الصّوّاغ من ورقه
يزهى بها الطّرس حسنا ما نثرت به ... مسك المداد على الكافور من ورقه
فأجابه أبو بكر بن بقيّ فقال: [البسيط]
أرسلت نحوي ثلاثا من قنا سلب ... ميّادة تطعن القرطاس في ورقه
فالحظّ ينكرها والخطّ يعرفها ... والرقّ يخدمها بالرق في عنقه
فحسده عليها بعض من سمعها، ونسبه إلى الانتحال، فقال أبو بكر يخاطب صاحبه الأوّل: [البسيط]
وجاهل نسب الدّعوى إلى كلمي ... لمّا رماه بمثل النّبل في حدقه
فقلت من حنقي لمّا تعرّض لي: ... من ذا الّذي أخرج اليربوع من نفقه!
ما ذمّ شعري وايم الله لي قسم ... إلا امرؤ ليست الأشعار من طرقه
الشّعر يشهد أنّي في كواكبه ... بل الصّباح الذي ينشقّ في أفقه
وخرج السّلاميّ (1) إلى الموصل وهو صبيّ حين راهق البلوغ، فوجد بها أبا عثمان الخالديّ وأبا الفرج البّبغاء وأبا الحسن التّلّعفريّ وشيوخ الشعراء، فلما رأوه عجبوا منه، واتّهموه في شعره، فقال الخالديّ: أنا أكفيكم أمره. فاتخذ دعوة، وجمع الشعراء والسّلاميّ معهم، فلما توسّطوا الشراب، أخذ في التفتيش عن قدر بضاعته، ثمّ لم يلبثوا أن جاء مطر شديد وثلج وبرد عمّ الأرض كثرة، فألقى أبو عثمان الخالديّ نارنجا بين أيديهم على ذلك البرد، وقال: يا أصحابنا، هل لكم في أن نصف ذلك؟ فقال السّلاميّ ارتجالا: [مجزوء الكامل]
لله درّ الخالديّ ... الأوحد النّدب الخطير
أهدى لماء المزن عن ... د جموده نار السّعير
حتى إذا صدر العتا ... ب إليه من حنق الصّدور
بعثت إليه بعذره ... من خاطري أوفى السّرور
لا تعذلوه فإنّما ... أهدى الخدود إلى الثغور
فأمسكوا عنه عند ذلك، واعترفوا له بالفضل، إلّا التّلّعفريّ، فإنه أقام على قوله فيه، حتى قال السّلاميّ فيه: [الكامل]
يا شاعرا بشعوره لم يشعر ... ما كنت أوّل طالب لم يظفر
لو كنت تعرف والدا تسمو به ... لم تنتسب صفة إلى تلّعفر
تاه ابن فائقة الفسوق على الورى ... بقذال صفعان ونكهة أبخر
وبلادة في الشّعر تعلم أنه ... تيس ولو نصرت بطبع البحتري
__________
(1) هو محمد بن عبد الله بن محمد السلامي.(1/84)
وقال فيه: [الوافر]
سما التلّعفريّ إلى وصالي ... ونفس الكلب تكبر عن وصاله
ينافي خلقه خلقي وتأبى ... فعالى أن تضاف إلى نعاله
فصنعتي اللطيفة في لساني ... وصنعته الخسيسة في قذاله
فإن أشعر فما هو من رجالي ... وإن يصفع فما أنا من رجاله
[صاعد بن الحسن الربعي]
وكان المنصور بن أبي عامر قد أثبت عنده الحسدة، أنّ صاعدا اللغوي متّهم في كل ما يورده من حديث أو شعر، فأدخلت عليه يوما باكورة ورد لم تفتح أكمامها، فقال فيها صاعدا ارتجالا: [المتقارب]
أتتك أبا عامر وردة ... يذكّرك المسك أنفاسها
كعذراء أبصرها مبصر ... فغطّت بأكمامها راسها
فسرّ بذلك المنصور. وكان ابن العريف حاضرا فحسده وقال: إن هذين البيتين لغيره، [وقد أنشدنيهما بعض البغداديين بمصر لنفسه، وهما عندي على ظهر كتاب بخطه، فقال له المنصور: أرنيه. فخرج ابن العريف، وركب وجعل يبحث، حتى أتى مجلس ابن برد وكان أحسن أهل وقته بديهة فوصف له ما جرى فقال: [المتقارب]
عشوت إلى قصر عبّاسة ... وقد صرّع النّوم حرّاسها
أبياتا ضمّن فيها البيتين، فكتبها ابن العريف بخطّ بصريّ، وصار بها إلى المنصور.
فاشتدّ غيظه، وقال: غدا أمتحنه، فإن فضحه الامتحان لم يبق في موضع لي فيه سلطان ثم أخذ طبقا فيه ضروب من الأنوار، وعليه جوار باسمين على بركة ماء حصباؤها الدّر والجوهر. ودعاه في مجلس حافل، وقال له: هذا طبق فيه شيء ما توهمت أنه قدّم بين يدي ملك قبلي، فصفه فقال على البديهة: [الطويل]
أبا عامر هل غير جدواك واكف ... وأعجب ما يلقاه عندك واصف!
وشائع نور صاغها هامر الحيا ... حليّا فمنها عبقر ورفارف
ولمّا تناهى الحسن فيها تقابلت ... عليها بأنواع الملاهي الوصائف
كمثل الظباء المستكنّة كنّسا ... تظلّلها بالياسمين السّقائف
فلم ترعيني في البلاد حديقة ... تنقّلها في الراحتين المناصف
والحكاية لطولها في القسم الرابع من الذخيرة.
وخرج معه إلى أرض الزاهرة، فمد يده إلى شيء من التّرنجان يعبث به، ورمى به إلى صاعد معرّضا بأن يصفه، فقال: [الطويل](1/85)
لم أدر قبل ترنجان عبثت به ... أنّ الزّمّرد قضبان وأوراق
من طيبه سرق الأترج نكهته ... يا قوم حتّى من الأشجار سرّاق!
كأنما الحاجب المنصور علّمه ... فعل الجميل فطابت منه أخلاق
من ليس يقعده عن سؤدد كرم ... ولا يقول له في سوءة ساق
وله أيضا: [الوافر]
بعثت إليك من خيري داري ... محزمة كألوان العقيق
توكّل بالعكوف على التّصابي ... وتصطاد الخليع من الطريق
* * *
فحار الحاضرون لبداهته، واعترفوا بنزاهته. فلمّا آنس استئناسهم بكلامه، وانصبابهم إلى شعب إكرامه، أطرق كطرفة العين، ثم قال: ودونكم بيتين آخرين، وأنشد: [البسيط]
وأقبلت يوم جدّ البين في حلل ... سود تعضّ بنان النّادم الحصر
فلاح ليل على صبح أقلّهما ... غصن وضرّست البلّور بالدّرر
فحينئذ استسنى القوم قيمته، واستغزروا ديمته، وأجملوا عشرته، وجمّلوا قشرته * * *
قوله: «لبداهته»، أي لارتجاله وإنشاده من غير فكرة، ويقال: بدهه بدها وبديهة وبداهة، إذا فجأه. وبده في كلامه: إذا لم يتفكّر فيه، وفلان حسن البديهة والبداهة، أي الإرتجال.
[سرعة البديهة وما قيل فيها]
والقول من غير تفكّر وهو عندهم مما يمدح به، وإن كانت الإصابة غالبا في الرويّة وإطالة الفكرة، كما قال عبد الله بن وهب الراسبيّ للخوارج حين عقدوا له: دعوا الرأي حتى يختمر، فلا خير في الرأي الفطير، والقول القصير.
وقال المنصور لكاتبه: لا تبرم أمرا حتى تفكّر، فإن فكرة العاقل مرآته تريه حسنه من قبيحه.
وقال أيضا: الحكمة نور الفكرة، والصواب فرع الرويّة، والتدبير فرع الهمة.
قال ابن الروميّ: [البسيط]
نار الرويّة نار جدّ منضجة ... وللبديهة نار ذات تلويح(1/86)
وقد يفضّلها قوم لعاجلها ... لكنّه عاجل يمضي مع الريح
وقال أشجع في جعفر بن يحيى: [المتقارب]
يريد الملوك مدى جعفر ... ولا يصنعون كما يصنع
وليس بأوسعهم في الغنى ... ولكنّ معروفه أوسع
بداهته مثل تفكيره ... متى تلقه فهو مستجقع
وقال فيه: [الوافر]
بديهته وفكرته سواء ... إذا التبست على النّاس الأمور
وقال إبراهيم بن العبّاس الصوليّ في الفضل بن سهل: [الكامل]
يقضي الأمور على بديهته ... وتريه فكرته عواقبه
فيظلّ يوردها ويصدرها ... فلنعم حاضره وغائبه
ودخل المأمون يوما بعض دواوينه، فرأى غلاما جميل الصورة، على أذنه قلم فقال: من أنت يا غلام؟ فقال: أنا يا أمير المؤمنين الناشىء في دولتك، والمتقلب في نعمتك، والمؤمّل بخدمتك الحسن بن رجاء خادمك. فقال المأمون: أحسنت يا غلام، وبالإحسان في البديهة تفاضلت العقول. ثم أمر أن ترفع مرتبته في الديوان.
* * * قوله: «بنزاهته» أي برفعته وبعده من التّهمة بسرقة الشعر. آنس: أبصر استئناسهم:
أنسهم وتركهم الإنكار. طرفة: نظرة، قد طرف طرفا، إذا حرّك جفنيه بعد النظر.
دونكم: إغراء، ومعناه خذوا حذركم واسمعوا. جدّ: تحقّق. البين: الفراق. بنان:
أصابع. الحصر: المنقطع عن الكلام عيّا. ليل أراد به نقابا أسود. صبح: وجه.
أقلّهما: رفعهما. غصن: قدّ. ضرّست البلّور: الأصابع. الدرر: الأسنان.
والظاهر من سياق هذين البيتين أنه قصد أن يزيدهم استئناسا بأنه غير مدّع في الشعر، ودلّ على هذا ظاهر الكلام قبل البيتين وبعدهما، وهو قد أدرج معنى زائدا في البيت ولم يصرح به لما عليه في ذلك من التقصير عن درجة غيره، وذلك أنه لمّا لم يستوف مقابلة بيت أبي الفرج مرّة ببيتيه المتقدمين، استوفاها في هذا البيت الثاني، لأنه قابل «أمطرت» بساقطت، واللؤلؤ باللؤلؤ، والنرجس بالخاتم، وهما العين والفم، وحمرة الخد بسنا القمر، وبقي عليه زائد من قول أبي الفرج: «وعضت على العنّاب بالبرد» فقابله في هذا البيت بقوله: «وضرّست البلور بالدرر، وجعلها تعضّ على أصابعها وهي بيض، لأنه يصف امرأة شعرت بفراق أحبابها، فتركت الزينة واستعمال الحنّاء، فلمّا حان وقت فراقهم، لبست ثياب الحزن، وأقبلت تودّعهم تلهّفا وتندّما على فراقهم، ووصف الأصابع
باللّين والصبغ، وذلك مذكور في العاشرة، وجعلها لابسة السواد، لأنّ أهل الشرق يلبسونه لحزنهم، وأهل الأندلس يلبسون البياض لحزنهم، قال الشاعر: [الوافر](1/87)
والظاهر من سياق هذين البيتين أنه قصد أن يزيدهم استئناسا بأنه غير مدّع في الشعر، ودلّ على هذا ظاهر الكلام قبل البيتين وبعدهما، وهو قد أدرج معنى زائدا في البيت ولم يصرح به لما عليه في ذلك من التقصير عن درجة غيره، وذلك أنه لمّا لم يستوف مقابلة بيت أبي الفرج مرّة ببيتيه المتقدمين، استوفاها في هذا البيت الثاني، لأنه قابل «أمطرت» بساقطت، واللؤلؤ باللؤلؤ، والنرجس بالخاتم، وهما العين والفم، وحمرة الخد بسنا القمر، وبقي عليه زائد من قول أبي الفرج: «وعضت على العنّاب بالبرد» فقابله في هذا البيت بقوله: «وضرّست البلور بالدرر، وجعلها تعضّ على أصابعها وهي بيض، لأنه يصف امرأة شعرت بفراق أحبابها، فتركت الزينة واستعمال الحنّاء، فلمّا حان وقت فراقهم، لبست ثياب الحزن، وأقبلت تودّعهم تلهّفا وتندّما على فراقهم، ووصف الأصابع
باللّين والصبغ، وذلك مذكور في العاشرة، وجعلها لابسة السواد، لأنّ أهل الشرق يلبسونه لحزنهم، وأهل الأندلس يلبسون البياض لحزنهم، قال الشاعر: [الوافر]
ألا يا أهل أندلس فطنتم ... بلطفكم إلى أمر عجيب
لبستم في مآتمكم بياضا ... وجئتم منه في زيّ غريب
صدقتم فالبياض لباس حزن ... ولا حزن أشدّ من المشيب
وأنشد أبو عثمان الأشناندانيّ في أبيات المعاني له: [البسيط]
أرعت مراتع مدراها على عجل ... صنوين إن أفردا لم يرعيا أبدا
واستبدلت من رياض الحزن مونقة ... ثوب الأمير الذي في ملكه قعدا
عنى بمراتع مدارها شعرها، وبصنوين مقصّ حلقته به، وبرياض الحزن ثيابا ملوّنة، وبثوب الأمير ثوبا أسود، لأن ملوك بني العباس لباسهم السواد وعارض ابن لبّال الحريريّ في أبياته فقال: [مجزوء الكامل]
ودّعتها ومدامعي ... تنهلّ بالدّمع الطّليق
فبكت فأذرت أدمعا ... في صفحة الخدّ الأنيق
ومضت تعضّ بنانها ... بين التلهّف والشهيق
ورأيت مبيضّ اللّج ... ين يعضّ محمرّ العقيق
وكما عارض بيت الحريري عارض قول البحتريّ المتقدم: [السريع]
يا بأبى ظبيّ إذا مارنا ... أثخن قلبي وفؤادي جراح
يفترّ عن طلع وعن جوهر ... وفضّة أو حبب أو أقاح
فزاد عليه بوصفين.
[مما قيل في الفراق]
ومما يناظر ما تقدّم من البكاء عند الفراق قول محمد بن يوسف: [الكامل]
وكأنّما أثر الدموع بخدّها ... طلّ تساقط فوق ورد يانع
عذب الفراق لنا قبيل وداعنا ... ثم اجترعناه كسمّ ناقع
وقال ابن الروميّ: [المنسرح]
لو كنت يوم الوداع شاهدنا ... وهنّ يطفئن غلّة الوجد
لم تر إلّا دموع باكية ... تسفح من مقلة على خدّ
كأنّ تلك الدموع قطر ندى ... يقطر من نرجس على ورد
وقال النّاشي: [المتقارب](1/88)
لو كنت يوم الوداع شاهدنا ... وهنّ يطفئن غلّة الوجد
لم تر إلّا دموع باكية ... تسفح من مقلة على خدّ
كأنّ تلك الدموع قطر ندى ... يقطر من نرجس على ورد
وقال النّاشي: [المتقارب]
بكيت الفراق وقد راعني ... بكاء الحبيب لبعد الديار
كأنّ الدموع على خدّها ... بقيّة طلّ على جلّنار
وقال أبو نواس: [الطويل]
تقول غداة البين إحدى نسائهم ... لي الكبد الحرّى فسر ولك الصّبر (1)
وقد غلبتها عبرة فدموعها ... على خدّها جمر وفي نحرها صفر
يقول: لون خدها أحمر، فتشكلت الدمعة به جمرا، ولون نحرها أصفر عاجيّ كما قال ذو الرمة: [البسيط]
كأنّها فضّة قد مسّها ذهب ... فصار فيها للون الدمع صفرته
وقيل للعباس بن محمد: ما لون الماء؟ فقال: لون إنائه.
ولمّا ذكر الحريريّ الحلل السود على الجارية، تذكّرت ما قال أبو عثمان الناجم في جارية رأى عليها ثوبا أزرق: [الخفيف]
ما تعدّت قبول حين جلت زيّ ... اشبيها بوجهها ذي الضّياء
لبست أزرقا فجاءت بوجه ... يشبه البدر في أديم السّماء
ولأبي حفص بن برد في غلام بدا له في ثوب لازورديّ، فقال: [مجزوء الكامل]
لمّا بدا في لازور ... ديّ الحرير وقد بهر
كبّرت من فرط الجما ... ل وقلت ما هذا بشر
فأجابني لا تنكرن ... ثوب السماء على القمر
وقال ابن المعتزّ في غلام عليه ديباج بنفسجيّ: [مجزوء الكامل]
وبنفسجيّ الثوب قت ... ل محبّه من حاله
الآن صرت البدر إذ ... ألبست ثوب جماله
قوله: «استسنى»، أي استعظم، وقد سنو الرجل، وسنا: شرف وعظم. ديمته:
كلامه بالشعر وهو دائم غير منقطع، أو يريد بها فطنته التي تمدّه بما شاء من الشعر، وأصل الديمة المطر الدائم. واستغزروها: استكثروها ووجدوها غزيرة أجملوا عشرته، أي أحسنوا صحبته وعاشروه بالجميل. جمّلوا قشرته، أي حسّنوها، من لفظ الجمال، أو يكون معناه: جمّلوا من جمّلت الحساب وأجملته، أي جمعته، فكأنهم جمعوا له شيئا
__________
(1) البيت في ديوان أبي نواس ص 8.(1/89)
وكسوه. وقشرته: ثوبه، لأنه قدّم أنّ هيئته كانت رثّة، فاحتاجوا أن يكسوه.
* * * قال المخبر بهذه الحكاية: فلمّا رأيت تلهّب جذوته، وتألّق جلوته، أمعنت النّظر في توسّمه، وسرّحت الطّرف في ميسمه، فإذا هو شيخنا السّروجيّ، وقد أقمر ليله الدّجوجيّ، فهنّأت نفسي بمورده، وابتدرت استلام يده، وقلت له: ما الّذي أحال صفتك، حتّى جهلت معرفتك، وأيّ شيء شيّب لحيتك، حتّى أنكرت حليتك! فأنشأ يقول: [المجثث]
وقع الشّوائب شيّب ... والدّهر بالنّاس قلّب
إن دان يوما لشخص ... ففي غد يتغلّب
فلا تثق بوميض ... من برقه فهو خلّب
واصبر إذا هو أضرى ... بك الخطوب وألّب
فما على التّبر عار ... في النّار حين يقلّب
ثم نهض مفارقا موضعه، ومستصحبا القلوب معه
* * * تلتهب جذوته: اشتعال جمرته واتقّادها وأراد حدّة ذهنه، والجذوة: النار في طرف العود. تألق: لمعان. جلوته: ما جلاه وكشفه من وجهه، وتقول: جلوت العروس جلوة، إذا أزلت نقابها، وأظهرت وجهها، والجلوة بالكسر: هيئة جلوّة حين يجلى، وأراد بتألّق جلوته بريق وجهه. أمعنت: بالغت وأدمت النظر، وأصله من أمعن في الأرض إذا أبعد الذهاب فيها. توسمه: نظر سماته، وهي علامته التي يعرف بها، ويريد أنه أدام النظر في نعوته. سرّحت الطّرف: أرسلت العين بالنظر، وأصل الطرف تحرّك العين عند النّظر، تقول: طرفت العين طرفا. والعين: الجارحة، والبصر: ما تدركه بنظرها، ثمّ سمّيت العين طرفا لذلك. وميسمه: علامته. أقمر: ابيضّ، فصار مثل لون القمر. الدّجوجيّ: الشديد السواد، وأراد نبات شعره الأسود.
قوله: «بمورده»، أي بقدومه وإتيانه، تقول: ورد علينا فلان، إذا قدم عليك من بلد آخر، والمورد: مصدر ورد، وهو بمعنى الورود، لأنه قدّم أنه غاب عنه مدّة لا يعرف له موضعا، ولا يجد عنه مخبرا حيث قال: «واستتر عنّي حينا»، فلما رآه ببلده بالبصرة فرح بقدومه وهنّأ نفسه على ذلك.
استلام: تقبل اليد. ابن الأنباريّ: استلم الحجر، معناه أخذه ومسّه بيده، واستلم، افتعل، من المسالمة. يريد أخذ الحجر وضمّه إليه، أو يكون استفعل، من الّلأمة وهي
السلاح، يريد أنه حصّن نفسه بمسّ الحجر من العذاب، لأن السلاح إنما يلبس ليمتنع به ويتحصّن. أحال: غيّر. حليتك: صفتك، ولذلك احتاج أن يمعن النظر لمّا تغيرت صفاته التي كان يعرفه بها من الفتوّة والشبيبة، فلما رآه قد شاب شعره، وتغيّرت صفاته لم يعرفه إلّا بعد طول تأمّل. وقال الحلواني القيروانيّ: [الكامل](1/90)
استلام: تقبل اليد. ابن الأنباريّ: استلم الحجر، معناه أخذه ومسّه بيده، واستلم، افتعل، من المسالمة. يريد أخذ الحجر وضمّه إليه، أو يكون استفعل، من الّلأمة وهي
السلاح، يريد أنه حصّن نفسه بمسّ الحجر من العذاب، لأن السلاح إنما يلبس ليمتنع به ويتحصّن. أحال: غيّر. حليتك: صفتك، ولذلك احتاج أن يمعن النظر لمّا تغيرت صفاته التي كان يعرفه بها من الفتوّة والشبيبة، فلما رآه قد شاب شعره، وتغيّرت صفاته لم يعرفه إلّا بعد طول تأمّل. وقال الحلواني القيروانيّ: [الكامل]
ولربّ باكية رأت في لمّتي ... وخز المشيب تألّقت ضحكاته
قالت: أغصنا قد علاه فلا أرى ... زهر الرّياض ونوّرت ورقاته
فأجبتها: قارعت في جنب الهوى ... صرف الزّمان، وهذه نكباته
ولابن الجدّ: [الكامل]
نكرت نحولي وهو من فرط الأسى ... لفراق إخوان عليّ كرام
وتعجّبت للشّيب لا تتعجّبي ... هذا غبار وقائع الأيّام
قوله: «فأنشأ يقول» أي ابتدأ، وأنشدوا: [مجزوء الكامل]
أنشأت تطلب ما تغيّ ... ر قد تناشبت الأظافر
أي ابتدأت تطلب. الشوائب، أصله ما يقع في الماء الصافي من الأقذاء فيكدّره، فأراد أن أنكاد الدهر شيّبته. وقلّب: كثير التقلّب، فيحوّل من حال إلى حال. دان: طاع وانقاد. يتقلّب: يتحوّل عن الطاعة. وميض: لمع خفيّ. خلّب: خدّاع، لا ماء فيه، وأراد: لا تثق بالدّهر، إذا ما كسبت فيه شيئا من المال فإنه يحوّل عنك ولا يترك لك منه شيئا. أضرى: أغرى وألصقها بك، وأصل «أضرى» من ضراوة الكلب، تقول ضري الكلب بالصيد إذا تعلّم الصيد، وأضربته أنا بمعنى عرّضته للصيد. والخطوب: الأمور الشداد. وألّب: حشد، أي اصبر للشدائد إذا أضراها الدهر بك وحشدها، فما عليك في ذلك عيب، كما أن الذهب يسبك بالنار وهو مع ذلك عزيز القدر. والتّبر: الذهب قبل سبكه، وانظر هذا المعنى عند قوله في السابعة والأربعين: [البسيط]
وطالما أصلي الياقوت جمر غضى ... ثم انطفا الجمر والياقوت ياقوت
وزاد الآخر في المعنى فقال: [البسيط]
إني أنا الذّهب المحمى ومخبره ... يزيد في السّبك للدينار دينارا
وأنشدوا: [الكامل]
اصبر على نوب الزّما ... ن فهكذا مضت الدّهور
فرح وحزن تارة ... لا الحزن دام ولا السّرور(1/91)
اصبر على نوب الزّما ... ن فهكذا مضت الدّهور
فرح وحزن تارة ... لا الحزن دام ولا السّرور
المقامة الثّالثة وهي الدّيناريّة
روى الحارث بن همّام قال: نظمني وأخدانا لي ناد، لم يخب فيه مناد، ولا كبا قدح زناد، ولا ذكت نار عناد فبينا نحن نتجاذب أطراف الأناشيد، ونتوارد طرف الأسانيد، إذ وقف بنا شخص عليه سمل، وفي مشيته قزل.
* * * نظمني، أي جمعني. أخدانا أي أصحابا. ناد: مجلس. مناد: متكلّم. كبا: شحّ ولم يبد نارا. قدح: ضرب. زناد: حديدة النار، وزناد العرب من خشب، وأكثر ما يكون من المرخ والعفار وإنما هو أن يؤخذ عود قدر شبر، فيثقب في وسطه ثقب لا ينفذ، ويؤخذ عود آخر قدر ذراع، فيحدّ طرفه، ويجعل ذلك في الثّقب، وقد وضعه رجل بين رجليه، فيديره ويفتله، فيبدي النار، فالأعلى زند والسفلى زندة، والزّناد جمع زند.
قوله: «ذكت»، أي اشتعلت. عناد: خلاف، يريد أنّ هؤلاء الأصحاب لحسن أدبهم ومناظرتهم ليس بينهم خلاف، وهم علماء لا يسقط من كلامهم شيء، وليس فيهم جاهل، فيكون كلامه قليل الإصابة. والأناشيد: ما يتناشدونه من الأشعار بينهم، كأنّ واحدها أنشودة. وتجاذب أطرافها، يريد المشاركة في إنشادها، أي إذا أنشد أحدهم شعرا ليغرب به شاركوه في إنشاده لحفظهم الأشعار، فكأنهم تجاذبوه كما يتجاذب بأطراف الثوب. والأسانيد: الأخبار المسندة إلى أهلها. وأصل التوارد، مزاحمة الإبل على شرب الماء، فجعل مشاركتهم في ضبط غرائب الأخبار كتوارد الإبل على الماء، والطّرف: الغرائب، والطّرفة: الشيء العجيب من كل شيء، الذي لا يوجد له نظير.
سمل: ثوب خلق، وأكثر ما تقول العرب: ثوب أسمال وأخلاق، فيوصف بالجمع لأنه قطع متفرّقة. وسمل: قليل، وفي تبذّل اللباس روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب المتبذّل لا يبالي بما لبس». قزل: عرج.
* * * فقال: يا أخاير الذّخائر، وبشائر العشائر، عموا صباحا، وأنعموا اصطباحا، وانظروا إلى من كان ذا نديّ وندى، وجدة وجدا، وعقار وقرى، ومقار وقرى، فما زال به قطوب الخطوب، وحروب الكروب، وشرر شرّ الحسود، وانتياب
النّوب السّود، حتّى صفرت الرّاحة، وقرعت السّاحة، وغار المنبع، ونبا المربع، وأقوى المجمع، وأقضّ المضجع، واستحالت الحال، وأعول العيال، وخلت المرابط، ورحم الغابط، وأودى الناطق والصّامت، ورثى لنا الحاسد والشّامت.(1/92)
* * * فقال: يا أخاير الذّخائر، وبشائر العشائر، عموا صباحا، وأنعموا اصطباحا، وانظروا إلى من كان ذا نديّ وندى، وجدة وجدا، وعقار وقرى، ومقار وقرى، فما زال به قطوب الخطوب، وحروب الكروب، وشرر شرّ الحسود، وانتياب
النّوب السّود، حتّى صفرت الرّاحة، وقرعت السّاحة، وغار المنبع، ونبا المربع، وأقوى المجمع، وأقضّ المضجع، واستحالت الحال، وأعول العيال، وخلت المرابط، ورحم الغابط، وأودى الناطق والصّامت، ورثى لنا الحاسد والشّامت.
* * * قوله: «يا أخاير الذخائر»، الأخاير: جمع أخير، كما يقال: أكبر وأكابر، والمستعمل خير وشر، ولا يقال: أخير ولا أشرّ إلا شاذّا، وإن كان هو الأصل، لكنه رفض استعماله وجاء الجمع على الأصل، لأنه يردّ الشيء إلى أصله وقال رؤبة: [الرجز]
* بلال خير النّاس وابن الأخير (1) *
فنطق بالمستعمل لشهرته، وبأصله وهو قليل، فإذا تعجّبوا من ذلك قالوا: ما أخير فلانا، وما أشرّ فلانا. والذخائر: جمع ذخيرة وهي الشيء النفيس الغالي يصونه الإنسان ويعتدّه لزمانه. البشائر: جمع بشارة، وقد بشرّت الرجل بشارة إذا أدخلت عليه السرور.
والعشائر: جمع عشيرة، وهي قرابة الرجل من قبيلته، يقول: أنتم أرفع الذخائر، وخيرها، وأنتم يستبشر من لقيكم برؤيتكم، ويتيامن بلقائكم، ويعلم أنكم تصلونه وتكرمونه ليستعطفهم بهذا الكلام. عموا صباحا: دعاء لهم بالنّعمة في الصباح، أي جعلكم الله تنعمون في صباحكم. وعموا: أمر من وعم يعم، وهي في معنى نعم ينعم.
وأنعموا اصطباحا، أي طاب شربكم في الصّباح وتنعمتم به، والاصطباح: أن يصبحوا وهم يشربون. نديّ: مجلس اجتماع، أي هو شريف يقعد ويجتمع عنده. ندى: كرم.
جدى: عطيّة. العقار: المال الذي لا ينتقل كالنخل والدّور والأرضين. قرى: جمع قرية. مقار: جفان يقرى فيها الأضياف، أي يطعمون فيها. والقرى: طعام الضيف.
قطوب. عبوس. الخطوب: الشدائد. الحروب: القتال. الكروب: الهموم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مما أعلم أنّه لا يقوله مكروب إلّا فرّج الله عنه، كلمة أخي يونس: {فَنََادى ََ فِي الظُّلُمََاتِ أَنْ لََا إِلََهَ إِلََّا أَنْتَ} [الأنبياء: 87] الآية».
ومن كلام ابن المعتز: الحوادث المحضة مكسبة لحظوظ جزيلة، وثواب مدخر، وتطهير من ذنب، وتنبيه من غفلة، وتعريف بقدر النعمة، ومرور على مقارعة الدهر، وإذا استرجع الله مواهب الدنيا كانت مواهب الآخرة.
غيره: لولا حوادث الأيام، لم يعرف صبر الكرام، ولا جزع اللئام.
وقال أبو تمّام: [الكامل]
__________
(1) الرجز بلا نسبة في الدرر 6/ 265، وشرح التصريح 2/ 101، وشرح عمدة الحافظ ص 770، وهمع الهوامع 2/ 166.(1/93)
والحادثات وإن أصابك بؤسها ... فهو الذي أنباك كيف نعيمها (1)
الحسود: المتمنّي إهلاك مالك، وإذا رأى لك خيرا تمنّى إزالته، يريد أن الحسود اتّبع ماله بالعين حتى أهلكه، وقلّما يوجد الذي يرمي بالعين إلا حسودا. انتياب: نزول وقصود. النّوب: النوازل. قوله، «صفرت»، أي خلت من الدراهم الراحة: باطن الكف.
قرعت: خلت من المال وصارت قرعاء. والساحة: فناء الدار، والساحة عند العرب:
الرّحبة التي تحلّق بها البيوت، وأراد أنّها خلت من الإبل والبقر والغنم وغير ذلك. غار المنبع: جفّ الماء النابع، والمنبع: موضع النّبع. المربع: المنزل في الربيع. ونبا:
بأهله: وجد نبوة، أي ارتفاعا غير وطىء فلم تمكن الإقامة فيه. أقوى: خلا. المجمع:
موضع الاجتماع. أقضّ: خشن وصار فيه القضض، وهي الحجارة. والمضجع: موضع رقاده، وأخذه من قول أبي ذؤيب: [الكامل]
أم ما لجنبك لا يلائم مضجعا ... إلّا أقضّ عليه ذاك المضجع (2)
وكنى بهذه الألفاظ عن تغيّر الأحوال وذهاب الملل.
وساق الكلام مساق حكايات الأعراب منها أنّ أعرابيا وقف بقوم، فقال: أشكو إليكم أيّها الملأ زمانا أناخ عليّ بكلكله بعد نعمة من البال، وثروة من المال، وغبطة من الحال، أصماني جديداه بنبل مصائبه، عن قسيّ نوائبه، فما ترك لي راغية أجتدي ضرعها، ولا ثاغية أرتجي نفعها، فهل فيكم من معين على صرفه، أو معد على حتفه!
وقد ذكرنا منها جملة في الثالثة والثلاثين. وحكى أبو عليّ في نوادره حكاية عن أبي زيد اللغويّ على لسان أعرابيّ يشبه كلام الحريريّ هنا في سياقه وكثير من الألفاظ، فيقول: إنّ المنبع الذي كنا نعيش به نحن وأموالنا قد ذهب، فهلكنا بذهابه. والمربع:
وهو موضع الخصب، صار نبوة لا ينبت شيئا، فلم تجد الإبل ما ترعاه فهلكت، وإذا هلك المال هلك صاحبه، والمجالس الّتي كنا نجتمع فيها، هلك أهلها فخلت، ومضجعنا الذي كان موطّأ بالفرش أقضّ فامتنع من الإضجاع عليه.
قوله: «استحالت، تغيّرت». وحال الرجل: ما هو عليه من خير أو شرّ أو غنى أو فقر، والحال أيضا: المال. أعول: بكى، وعيال الرّجل: من يفتقر إليه في مؤنته ونفقته، واحدهم عيّل. المرابط: المواضع التي تربط فيها الخيل وتحبس. الغابط: الذي يتمنّى مثل مالك ولا ينقص منه شيء. أودى: هلك. الناطق: المال من الحيوان مثل الإبل والبقر والغنم، وكلّ ما يتملّك من ذي روح سميت بذلك لأصواتها، والناطق كل حيوان
__________
(1) البيت في ديوان أبي تمام ص 310.
(2) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 5، ولسان العرب (قضض)، ومقاييس اللغة 5/ 12، وكتاب العين 5/ 9، وتهذيب اللغة 8/ 251، وتاج العروس (قضض).(1/94)
له صوت. والصامت: الذهب والفضة والمتاع. رثى: بكى. وأشفق الشامت: الذي يسرّ بمصيبتك، ومنه تشميت العاطس، وهو إدخال السرور عليه بالدعاء، وقد شمت به شماتا وشماتة، فهو شامت إذا سرّ ببلاء ينزل به. والحاسد، هو الحسود.
* * * [الحسد وما قيل فيه]
والحسد أوّل ذنب عصي الله به في السماء والأرض، أما في السماء فحسد إبليس آدم، وأما في الأرض فحسد قابيل هابيل.
وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {رَبَّنََا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلََّانََا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}
[فصلت: 29]: إنهما قابيل وإبليس، فالحسد حمل إبليس على الكفر، وحمل قابيل على قتل أخيه.
وقال عليّ رضي الله عنه: لا راحة لحسود، ولا أخ لملول، ولا محبّ لسيّىء الخلق.
وقال رجل لخالد بن صفوان: إني أحبّك، قال: وما يمنعك، ولست لك بجار ولا أخ ولا ابن عمّ! يريد أن الحسد موكّل بالأدنين.
الحسن البصريّ: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد بنفس دائم، وحزن لازم، وغيرة لا تنفد.
معاوية: كلّ الناس أقدر على أن أرضيهم إلّا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها.
المبرّد: حدثنا الزياديّ، قال: يقال: ستة لا تخطئهم الكآبة: فقير حديث عهد بغنى، ومكثر يخاف على ماله التلف، والحسود، والحقود، وطالب مرتبة فوق قدره، وخليط أهل الأدب وليس منهم.
قال الأصمعيّ: اجتمع ثلاثة حسّاد، فقال أحدهم لصاحبه: ما بلغ من حسدك؟
قال: ما اشتهيت أن يفعل بمسلم خير قطّ، فقال الثاني: أنت رجل صالح، ولكني ما اشتهيت أن يفعل بي خير قطّ، فقال الثالث: ما في الأرض خير منكما، ولكني ما اشتهيت أن يفعل أحد بأحد خيرا قطّ.
قال: وأنشد الشاعر: [البسيط]
كلّ العداوة قد ترجى مودّتها ... إلّا عداوة من عاداك من حسد
وقال حبيب: [الكامل]
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود (1)
__________
(1) البيتان في ديوان أبي تمام ص 85.
لولا اشتعال النّار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
وقال القاضي ابن عمر: [المتقارب](1/95)
__________
(1) البيتان في ديوان أبي تمام ص 85.
لولا اشتعال النّار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
وقال القاضي ابن عمر: [المتقارب]
نهاني حلمي فما أظلم ... وعزّ مكاني فما أظلم
ولا بدّ من حاسد قلبه ... بنور مآثرنا مظلم
رحمت حسودي على أنه ... يعذّب بي ثم لا يرحم
أتانا الحسود ولسنا كما ... يقول ولكن كما يعلم
وقال اليمانيّ: [الكامل]
إنّي لأرحم حاسديّ لفرط ما ... ضمّت صدورهم من الأوغار
نظروا صنيع الله بي فعيونهم ... في جنّة وقلوبهم في نار
لا ذنب لي قد رمت كتم فواضلي ... فكأنّما برقعتها بنهار
قوله: «رثى لنا الحاسد والشامت»: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارحموا ثلاثا: غنيّ قوم افتقر، وعزيز قوم ذلّ، وفقيها يلعب به الجهّال».
قال الشافعيّ: خمسة مرحومون: عزيز ذل، وغنيّ فلّ، وحبيب ملّ، وفصيح كلّ، وفقيه ضلّ.
وقال الشافعي: ومن حديث واثلة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تظهر الشماتة بأخيك، فيعافيه الله ويبتليك» (1)، وأخذه الحريريّ من قول الآخر: [السريع]
لم يبق إلّا نفس خافت ... ومقلة إنسانها باهت
ومغرم توقد أحشاؤه ... بالنّار إلا أنه ساكت
رقّ فما في جسمه مفصل ... إلّا وفيه سقم ثابت
يرثي له الشّامت ممّا به ... يا ويح من يرثي له الشامت!
* * *
وآل بنا الدّهر الموقع، والفقر المدقع، إلى أن احتذينا الوجى، واغتذينا الشّجا، واستبطنّا الجوى، وطوينا الأحشاء على الطّوى، واكتحلنا السّهاد، واستوطنّا الوهاد، واستوطأنا القتاد، وتناسينا الأقتاد، واستطبنا الحين المجتاح، واستبطأنا اليوم المتاح، فهل من حرّ آس، أو سمح مواس! فو الذي استخرجني من قيلة، لقد أمسيت أخا عيلة، لا أملك بيت ليلة.
(1) أخرجه الترمذي في القيامة باب 54.(1/96)
قال الحارث بن همّام: فأويت لمفاقره، ولويت إلى استنباط فقره، فأبرزت دينارا، وقلت له اختبارا: إن مدحته نظما، فهو لك حتما، فانبرى ينشد في الحال، من غير انتحال.
* * * قوله: «آل بنا» أي رجع بنا، وقد آل يئيل ويؤول، أي رجع. الموقع: المهلك، من أوقع به، ويحتمل أن يريد بالموقع الذي يحمله على الوقوع، ورجل موقع إذا اشتكى ألم رجليه. المدقع: الملصق بالدقعاء، أي التراب، أي لم يترك للإنسان شيئا يبسطه غير التراب. احتذينا: انتعلنا. الوجى: توجّع باطن القدمين من الحفا، يريد أنه ليس مكان النعال الحفا حتى توجّعت قدماه. الشجى: ما يعرض في الحلق، وكنى بهذا عن سوء الحال، لأن الشجى ليس بغذاء إنما هو مشقة وتعب. ولكن بالغ في وصف سوء حاله، فقال: إنه ينتعل ما لا ينتعل، ويغتذى ما ليس بغذاء، أي ليس ثمّ انتعال ولا غذاء.
استبطنّا، أي جعلناه في بطوننا. الجوى: فساد الجوف. والأحشاء: ما في الجوف وما حشي به. الطّوى: الجوع، وقد طوي يطوى لأن الأحشاء إذا امتلأت من الطعام انتشرت، وإذ فرغت منه انطوى بعضها على بعض. والسّهاد: امتناع النوم، من قول الشاعر: [الرمل]
ما لعيني كحلت بالسّهاد ... ولجنبي نابيا عن وسادي
استوطنّا: سكنّا واتخذناه وطنا. الوهاد: ما انخفض من الأرض. استوطأنا: وجدناه وطيئا. القتاد: شجر له شوك شديد يسمّى عندنا حمض الأمير. الأقتاد: خشب الرّحال، يريد أنهم نسوا ركوب المطايا لبعد عهدهم بها ورجعوا الآن يمشون على الشوك فيجدونه وطيئا. الحين: الموت. المجتاح: من لفظ الجوائح، يريد به المستأصل للأموال.
استبطأنا: وجدناه بطيء المجيء. المتاح. المقدّر، يريد أن يوم موتهم تمنّوه لشدة ما قاسوا، وأبطأ عليهم. آس: طبيب يطبّ علة الفقر والجمع الأساة. سمح: كريم.
والمواسي: المعين. وذكر عاصم في شرح قوله: «يواسي في كريهته أخاه»، أن معناه، جعله أسوة نفسه، فمواس من الأسوة، كأنه يشاركه في ماله. ويقال: آسيته، والأصل الهمز.
المفضّل: معنى فلان يواسي فلانا، يشاركه، والمواساة المشاركة، وآساه: شاركه فيما هو فيه.
مؤرّج: ما يواسيه، أي ما يصيبه بخير أصلا.
غيره: معناه يعوّضه من مودّته وقرابته شيئا، من الأوس وهو العوض، قال الشاعر:
[مجزوء الكامل](1/97)
فلأرمينّك مشقصا ... أوسا أويس من الهباله (1)
والهبالة: اسم ناقة، أي أرميك بسهم يكون عوضا عن الناقة. وكأنّ أصله يؤاوسه، فقدموا السين وهي لام الفعل، وأخّروا الواو وهي عينه، فصار «يؤاسوه» فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، فهو من المقلوب، وإن جعلته من أسوت الجرح، إذا أصلحته فلا قلب فيه.
قوله: «فو الذي استخرجني من قيلة»، قيلة هي أمّ الأوس والخزرج، وهي بنت الأرقم الغسّانية، وانتسابه لها كانتسابه قبل إلى أقيال غسّان. أخا عيلة: صاحب فقر، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} [التوبة: 28]، أي فقرا، وقال صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بك من القسوة والغفلة والعيلة والمسكنة». بيت ليلة: قوت يبيت عليه ليلة.
أويت: أشفقت وحننت. مفاقره: جمع فقر على غير قياس ومثله مذاكير الرجل جمع ذكر: محاسنه ومساويه. لويت: انعطفت. استنباط: استخراج الفقر في النثر:
فواصله، وهي مثل القوافي في النظم، والفقر: ما تقدّم في المقامة من الكلام المفقّر.
أبرزت: أطهرت. حتما: واجبا، يريد أنه قصد إلى أن يحقّق ما تقدّم من الفصاحة في فقره إن كانت له أو انتحلها، فقال ليختبره: امتدح هذا الدينار بشعر. فانبرى، أي اعترض وتقدّم. انتحال: ادّعاء منه في شعر غيره، يقال: انتحل كذا، أي ألزمه نفسه، وجعله كالملك، من النّحلة، وهي الهبة والعطية. [الرجز]
* * * أكرم به أصفر راقت صفرته ... جوّاب آفاق ترامت سفرته
مأثورة سمعته وشهرته ... قد أودعت سرّ الغنى أسرّته
وقارنت نجح المساعي خطرته ... وحبّبت إلى الأنام غرّته
كأنّما من القلوب نقرته ... به يصول من حوته صرّته
وإن تفانت أو توانت عترته ... يا حبّذا نضاره ونقرته
وحبّذا مغناته ونصرته ... كم آمر به استتبّت إمرته
ومترف لولاه دامت حسرته ... وجيش همّ هزمته كرّته
وبدر تمّ أنزلته بدرته ... ومستشيط تتلظّى جمرته
أسرّ نجواه فلانت شرّته ... وكم أسير أسلمته أسرته
__________
(1) البيت لأسماء بن خارجة في لسان العرب (حشأ)، (أوس)، (هبل)، وتاج العروس (حشأ)، (هبل)، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 5/ 138، 6/ 307، 13/ 138، ومقاييس اللغة 2/ 65، وديوان الأدب 1/ 386، والمخصص 8/ 66، ويروى «فلأحشأنّك» بدل «فلأرمينّك».(1/98)
أنقذه حتّى صفت مسرّته ... وحقّ مولى أبدعته فطرته
* لولا التّقى لقلت جلّت قدرته *
* * *
قوله: «اكرم به»، معناه ما أكرمه. راقت. أعجبت. جوّاب آفاق: قطّاع بلاد.
ترامت سفرته: بعدت غيبته، وسمّى السّفر سفرا، لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، أي يكشفها ويوضّحها، أخذ من قولهم: سفرت المرأة عن وجهها، إذا كشفته وأظهرته، ويقال للمكنسة: مسفرة، لأنها تسفر التراب عن الموضع، وسفر بيته، كنسه. مأثورة:
محدّث بها. سمعته: ذكره المسموع أودعت: ضمّنت. أسرّته: خطوط وجهه، أراد نقشه، وأنّ بين أسطاره سرّ الغنى، فمن ملكه ملك الغنى. قارنت: ساوت: النجح: ضد الخيبة. المساعي: المشي في طلب الحوائج. الأنام: الخلق. غرّته: وجهه قيل لأبي الزناد: مالك تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا! قال: إنها وإن أدنتني من الدنيا، فقد صانتني عنها. والنّقرة: القطعة المسبوكة من الذهب والفضة، قبل أن يطبع منها الدراهم والدنانير، وأراد: كأنما قطعت نقرته من قلوب الناس لشدّة حبهم فيه. والنّقرة، إنما تستعمل من الفضة، واستعملها في الذهب لقرب ما بينهما، وأخذه من قول البحتريّ:
فكلّ قلب إليه منصرف ... كأنّه من جميعها خلقا (1)
أو من قول ابن الروميّ: [الطويل]
* * * به أمست الأهواء يجمعها هوى ... كأنّ نفوس النّاس في حبّه نفس
أو من قول المتنبي: [الكامل]
* * * في خطّه من كلّ قلب شهوة ... حتّى كأنّ مداده الأهواء (2)
يصول: يقهر ويغلب، وصال الشجاع على قرنه، والفحل على إبله، والحمار على أتنه صولا، إذا قهر وعلا وصاح بها. الصّرّة: الخرقة تصرّ فيها الدراهم. حوته: ضمّته، يريد أنّ من ملك الدينار صال به على زمانه. تفانت: هلكت. توانت: أبطأت وضعفت عن نصرته. عترته: قرابته الأدنون نضاره: ذهبه. نضرته: حسنه. مغناته: منابه، يقال فلان يغني مغناتك، أي ينوب منابك، ويقوم مقامك، يريد أنه ينوب عن الإنسان في المضايق وينصره. استتبّت: تمّت واستقامت، والمستتبّ: الطريق البين، قال الشاعر: [الطويل]
* على مستتبّ كالمجّرة تعمل *
__________
(1) البيت في ملحق ديوان البحتري ص 2615.
(2) البيت في ديوان المتنبي 1/ 20.(1/99)
إمرته: ولايته. مترف: منعّم. حسرته: تفجّعه، وحزنه. كرّته: رجعته، وبدرتم:
القمر ليلة الكمال ويريد به شخصا به يشبه البدر في حسنه ورفعته، فإذا بعثت في طلبه الدينار أنزلته عن مرتبته وتملكته، والبدرة: عشرة آلاف درهم مستشيط: غضبان: تتلظّى:
تتلهب. جمرته: شدّة غيظه أسرّ: أخفى نجواه: حديثه سرا. شرّته: حدّته وغضبه، يقول: كم من غضبان شديد الغيظ، مثل حاكم يصول بصاحب جناية ويهدّده، فإذا رشي بالدينار وبعث إليه سرّا أزال غضبه، وسكنت حدّته. أسلمته، تركته. أسرته: قومه.
مسرّته: فرحه أبدعته: أوجدته قبل أن يكون. فطرته: خلقته. التقى: الخوف. جلّت:
عظمت.
* * * ثمّ بسط يده، بعد ما أنشده، وقال: أنجز حرّ ما وعد، وسحّ خال إذا رعد فنبذت الدّينار إليه، وقلت: خذه غير مأسوف عليه، فوضعه في فيه، وقال: بارك اللهمّ فيه، ثم شمّر للإنثناء، بعد توفيه الثّناء.
* * * قوله: «أنجز حرّ ما وعد»، هذا مثل، قاله الحارث آكل المرار وهو جدّ امرىء القيس لصخر بن نهشل بن دارم وذلك أن الحارث قال: يا صخر، هل أدلك على غنيمة على أنّ لي خمسها؟ قال نعم، فدلّه على قوم من العرب، فأغار عليهم صخر بقومه فظفروا وغنموا، فحملهم صخر على أن يعطوا الحارث الخمس، فأبوا وكان طريقهم على شجعات وهي ثنيّة متضايقة فلما دنوا منها صار إليهم صخر حتى قعد على رأسها، ومنعهم الجواز أو يعطوا الحارث الخمس، فقال حمزة اليربوعيّ: والله لا نعطيه من غنيمتنا شيئا ومضى في الثنيّة، فحمل عليه صخر فقتله. فلما رأى ذلك الجيش أعطوه الخمس، ففي ذلك يقول نهشل بن حرّيّ بن منجز بن نهشل بن دارم: [الطويل]
ونحن منعنا الجيش أن يتأوّبوا ... على شجعات والجياد بنا تجري
حبسناهم حتّى أقرّوا لحكمنا ... وأدّي أنفال الخميس إلى صخر
فمعنى «أنجز حرّ ما وعد» أحضر وهيّأ. وقد نجز الشيء إذا حضر، ولفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر، أراد لينجز حرّ ما وّعد.
* * * سحّ: صبّ وأمطر. خال: سحاب يخيّل لك أنّ المطر فيه. رعد: صوّت يقول لابن همام: إنّ السحاب إذا سمع الرعد سحّ بالمطر، وأنت قد أسمعتني ذكر الدينار، ووعدتني به، فأنجز لي وعدي.
نبذت: رميت. مأسوف: محزون. بارك: أي ضع البركة فيه، وقولهم: تبارك الله،
أي تقدّس وتطهّر، وقيل: هو «تفاعل» من البركة، أي البركة تنال بذكر اسمك. الانثناء:(1/100)
نبذت: رميت. مأسوف: محزون. بارك: أي ضع البركة فيه، وقولهم: تبارك الله،
أي تقدّس وتطهّر، وقيل: هو «تفاعل» من البركة، أي البركة تنال بذكر اسمك. الانثناء:
الرجوع. توفيه الثناء: كمال الشكر والمدح.
[في وصف الدينار]
ومّما قيل في وصف الدينار ومدحه: [الكامل]
ومقسّم الوجنات يبرق وجهه ... باد على وجناته عبّاد
جبل الأنام على محبّة حسنه ... فكأنّه ربّ وهم عبّاد
وفي مقامات البديع في وصفه: [الرجز]
يا حسنها فاقعة صفراء ... مشرقة منقوشة قوراء
يكاد أن يقطر منها الماء ... قد أثمرتها همّة علياء
يا ذا الّذي بغيته الثّناء ... ما ينقضي بقدرك الإطراء
* امض على الله لك الجزاء *
* * *
[الوعد وإنجازه]
وإذ قد فرغت من شرح ألفاظه في إنجاز الوعد في المثل، وما اتّصل به، فلنذكر مذاهبهم في ذلك.
فأكثرهم على إنجاز الوعد، وقد ذكر فيما هو مستقبل: [المتقارب]
* وبع آجلا منك بالعاجل *
وقال: وإذا خيّرت بين ذرّة منقودة، ودرّة موعودة فمل إلى النقد وقال جرير:
[الطويل]
إنّي لأرجو منك خيرا عاجلا ... والنّفس مولعة بحبّ العاجل (1)
قال آخر: [الطويل]
ولا شكّ أنّ الخير منك سجيّة ... ولكنّ خير الخير عندي المعجّل
وقال آخر: [الطويل]
أتى زائرا من غير وعد وقال لي: ... أجلّك عن تعذيب قلبك بالوعد
وبعضهم يرى أن يكون بين الوعد الإنجاز مهلة ومنه أنّ منصور بن زياد كلّم يحيى
__________
(1) البيت في ديوان جرير ص 495.(1/101)
ابن خالد في حاجة رجل، فقال له: عده عنّي قضاءها، فقال منصور بن زياد: وما يدعوك إلى العدة مع القدرة! فقال: هذا قول من لا يعرف موقع الصنائع من القلوب، إنّ الحاجة إذا لم يتقدّمها وعد ينتظر به نجحها، لم تتحدّث النفس بسرورها إنّ الوعد مطعم والإنجاز طعام، وليس من فاجأه طعام كمن وجد رائحته وتطعّمه ثم طعمه، فدع الحاجة تختمر بالوعد، ليكون لها عند المصطنع حسن موقع ولطف محلّ.
قال ابن الكلبيّ لهشام بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين، لا تصنع إليّ معروفا حتى تعدني به، فإنه لم يأتني منك سيب على غير وعد إلّا هان عليّ قدره، وقلّ منّي شكره، فقال له: لم قلت ذلك، وقد قال سيّد قومك أبو مسلم الخولانيّ: إنّ أنجح المعروف في القلوب، وأبرده على الأكباد معروف غير منتظر بوعد لا يكدّره مطل.
ووعد المهديّ عيسى بن دأب جارية ثم وهبها له، فأنشده عبد الله بن مصعب الزّبيريّ [قول مضرّس الأسديّ] [الطويل]
ولا تيأسن من صالح أن تناله ... وإن كان قدما بين أيد تبادره
فقال: يدفع لعبد الله جارية أخرى، فقال الزّبيريّ:
وأنجز خير الناس من قبل وعده ... أراحك من مطل ومن طول كدّه
فقال له عيسى بن دأب: ما صنعت شيئا! هلّا قلت: [الرجز]
حلاوة الفضل بوعد ينجز ... لا خير في العرف كنهب ينهز
فقال المهديّ: [مجزوء الكامل]
الوعد أحسن ما يكو ... ن إذا تقدّمه ضمان
وقال بعض البلغاء: دع الوعد يركض ثلاثا، فإن كثير العطاء قبل الوعد قليل، وجليله حقير.
وقال يحيى بن خالد: من لم يبت مسرورا بوعد، لم يجد للصنيعة مطعما وفيه يقول أبو قابوس النّصرانيّ: [البسيط]
رأيت يحيى أتمّ الله نعمته ... عليه يأتي الذي لم يأته أحد
ينسى الّذي كان من معروفه أبدا ... إلى الرجال ولا ينسى الذي يعد
وقال الحارثيّ: [الطويل]
وما روضة داريّة أسديّة ... منمنمة زهراء ذات ثرى صعد
بأحسن من حرّ تضمّن حاجة ... لحرّ، فأوفى بالنّجاح مع الوعد
وقال ابن رشيق: [السريع](1/102)
أحسنت في تأخيرها منّة ... لو لم تؤخّر لم تكن كامله
وكيف لا يحسن تأخيرها ... بعد يقيني أنها حاصله!
وجنّة الفردوس يدعى بها ... آجله للمرء، لا عاجله
وقال رجل لأبي عمرو بن العلاء: وعدتني بأمر فلم تنجزه! فقال أبو عمرو: من أولى منّا بالعتب؟ أنا وإلا أنت! قال: أنا قال أبو عمرو: لا والله بل أنا، قال: وكيف؟
قال: لأبي وعدتك وعدا فأنت تفرح بالوعد، فبتّ ليلتك جذلان مسرورا وبتّ أنا بهمّ الإنجاز، فبتّ ليلتي مفكرا مغموما بما عاق الدّهر من بلوغ الإرادة فيه، فلقيتني مدلّا ولقيتك مستحييا.
واعتذر بعض الرؤساء لأبي عليّ البصريّ من تأخّر وعد، فقال: في شكر ما تقدّم من إحسانك شاغل عن استبطاء ما تأخّر منه.
* * * فنشأت لي من فكاهته نشوة غرام، سهّلت عليّ ائتناف اغترام، فجرّدت دينارا آخر وقلت له: هل لك في أن تذمّه، ثمّ تضمّه؟ فأنشد مرتجلا وشدا عجلا:
* * * قوله: «فنشأت»، أي ظهرت وبدت. فكاهة: مزاح. نشوة غرام: سكرة شوق، والغرام: الحربّ المعذّب للقلب. ائتناف: استقبال. اغترام: غرم. ثم ذكر أن يذمه ثم يضمّه، وقد نظمهما الزاهد بن عمران في قوله: [الكامل]
إنّ المؤنة والحساب كلاهما ... قرنا بهذا الدّرهم المذموم
كلف الأنام بذمّه وبضمّه ... فتعجّبوا لمذمّم مضموم
وقال ابن شرف في الدينار والدرهم: [الطويل]
ألا ربّ شيء فيه من أحرف اسمه ... نواه لنا عنه وزجر وإنذار
فتنّا بدينار وهمنا بدرهم ... وآخر ذاهم، وآخر ذا نار
وقال ابن رشيق: [المجتث]
صحّفت دالين من دين ... ار يلوح ودرهم
فقال لي ذلكم «ذي ... نار» وذا قال: «ذرهم»
وابن رشيق وابن شرف أديبا القيروان، يجمعهما البلد والزّمان، وكانا مرّة يتصاحبان، ومرّة يتباغضان.
وقال ابن رشيق في مدح الدينار والدرهم: [الوافر](1/103)
صديق المرء كالدينار طبعا ... وكيف يفارق المرء الطباعا!
تراه إذا أقام يقيم جاها ... وإن فارقته أجدى انتفاعا
أخذه من قول كشاجم: [الرمل]
ومريد من أباه ... ومهين من أجلّه (1)
فهو كالدّينار لا يك ... رم إلا من أذلّه
وقال آخر: [البسيط]
النار آخر دينار نطقت به ... والهمّ آخر هذا الدّرهم الجاري
والمرء ما لم يفد من غيره ورعا ... مقسّم القلب بين الهمّ والنّار
قوله: «مرتجلا»، أي من غير تفّكر. شدا: ابتدأ الغناء وطرّب بنشيده [الرجز]
* * * تبّا له من خادع مماذق ... أصفر ذي وجهين كالمنافق
يبدو بوصفين لعين الرّامق ... زينة معشوق ولون عاشق
وحبّه عند ذوي الحقائق ... يدعو إلى ارتكاب سخط الخالق
لولاه لم تقطع يمين سارق ... ولا بدت مظّلمة من فاسق
ولا اشمأزّ باخل من طارق ... ولا شكا الممطول مطل العائق
ولا استعيذ من حسود راشق ... وشرّ ما فيه من الخلائق
أن ليس يغني عنك في المضايق ... إلّا إذا فرّ فرار الآبق
واها لمن يقذفه من حالق ... ومن إذا ناجاه نجوى الوامق
قال له قول المحقّ الصّادق: ... لا رأى في وصلك لي ففارق
* * *
تبا: أي خسرا. مماذق: لا يصفو ودّه لصاحبه، وقد مذق ودّه، إذا لم يخلصه، ومذق اللبن: خلطه بالماء، والمذيق: المخلوط. أصفر ذي وجهين، قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شرّ النّاس ذو الوجهين، يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه» (2).
__________
(1) البيتان في ديوان كشاجم ص 153.
(2) أخرجه البخاري في المناقب باب 1، والأدب باب 52، والأحكام باب 27، ومسلم في البر حديث 98، 99، وأبو داود في الأدب باب 34، والترمذي في البر باب 78، ومالك في الموطأ كتاب الكلام، حديث 21، وأحمد في المسند 2/ 245، 307، 336، 455، 465، 495، 517، 525.(1/104)
ووقع هذا في نثر البديع، قال في مخاطبة أبي الفتح عيسى: أظعنا تريد؟ قلت: إي والله، قال: أخصب رائدك، ولا ضلّ قائدك، فمتى عزمت؟ قلت: غداة غد، فقال:
[الوافر]
صباح الله لا صبح انطلاق ... وطير الوصل لا طير الفراق
وقال السّعد لا يعدوك دأبا ... يصاحبكم إلى يوم التّلاقي
فأين تريد؟ قلت: الوطن، قال: بلّغت الوطن، وقضيت الوطر، فمتى العود؟
قلت: القابل، فقال: طويت الرّيط (1)، وثنيت الخيط، فأين أنت من الكرم؟ قلت: بحيث أردت، فقال: إذا رجعك الله سالما من هذا الطريق فاستصحب لي عدوّا في ثياب صديق، من نجار الصّفر، يدعو إلى الكفر، ويرقص على الظّفر، كدارة العين، يحطّ ثقل الدين، وينافق بوجهين. فعلمت أنه يلتمس دينارا، فقلت: ذلك لك نقدا، ومثله وعدا، فأنشأ يقول: [مخلع البسيط]
رأيك ممّا خطبت أعلى ... لا زلت للمكرمات. أهلا
صلبت عودا، ودمت فردا ... وطبت فرعا وطبت أصلا
يا واحد الدهر والمعالي ... لا لقي الدّهر منك ثكلا
قوله: «عدوّا في ثياب صديق» من قول أبي نواس: [الطويل]
إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدوّ في ثياب صديق (2)
قوله: «الرامق» أي الناظر، ورمقت الشيء رمقا أتبعت النظر إليه. وزينة المعشوق التي في الدينار: نقشه وتزيينه، ولون العاشق: صفرته، فالناظر في الدينار يرى في الظاهر زينته فيهواه، فيقع على ما وقع عليه باطن العاشق من العذاب والغرام، ويدلّ على ذلك صفرته الظّاهرة عليه. وقال ابن ظفر: زينة المعشوق غرور مدعاة إلى التهوّر في الغرام، ولون العاشق وهو الأصفر دليل على ما أسرّ من شاغف الكلف، فالغافل ينظر من الدينار مثل زينة المعشوق مجرّدة عن عاقبتها، فيصيده الهوى، والعاقل ينظر منه إلى لون العاشق، فيستدلّ على باطن الجوى ذوي الحقائق، يعني أهل الرشد والعلم، والذين ينظرون إلى ما في الدنيا بعين الحقيقة.
ثم لولا حبّ الدنيا ما سرق السارق، فيستوجب قطع يده، أو بعض أعضائه، واليد يجب قطعها بربع دينار ذهب. ومن ملح السّرقة أن الجاحظ حكى أن رجلين كان أحدهما أيمن، والآخر أعسر، فكان الأيمن يفخر على الأعسر، فأخذا في سرقة، فقطعت أيمانهما، فكان الأعسر يعمل بيساره أعماله كلها، والأيمن لا يستطيع أن يعمل بيساره
__________
(1) الريط: جمع ريطة، وهي الملاءة.
(2) البيت في ديوان أبي نواس ص 192.(1/105)
شيئا، ففخر الأعسر عليه بذلك، فقال له الأيمن: ما علمت أنّ للأعسر فضيلة إلا أن يسرق فيؤخذ فتقطع يمينه.
الفاسق: الخارج عن الطاعة إلى ركوب المعصية أو عن الإيمان إلى الكفر، أخذ من فسقت الرطبة، إذا خرجت من قشرها. وقال قوم: الفاسق الجائر، واحتجوا بقوله تعالى: {إِلََّا إِبْلِيسَ كََانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]، أي جار، عنه قال رؤبة: [الرجز]
يهوين في نجد وغور غائرا ... فواسقا عن قصدها جوائرا (1)
اشمأزّ: انقبض. باخل: شحيح، وبخيل أكثر من باخل. طارق: قاصد بليل.
المطل: تأخير الحق الواجب، وأصله من مطل القين الحديد في النار، إذا مدّه وطوّله.
العائق: الحابس، وقد عاقه عن الشيء إذا حبسه. راشق: عائن، وأصله الرامي، فجعله للذي يصيب الناس بعينه. واستعيذ: قرىء عليه المعوّذتان، وهما: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النََّاسِ}. الخلائق: الطبائع، واحدتها خليقة. الآبق:
الهارب، وأبق العبد يأبق إباقا: زال عن مولاه، وفي معنى فراق الدينار فوق الأخطل:
[الوافر]
ومعشوق يرقص كلّ يوم ... ترى في وجهه أبدا كلاما
إذا فارقته أجداك خيرا ... ولا يجدي عليك إذا أقاما
وهذا من قول الحسن البصريّ، وقد رأى رجلا يقلّب درهما، فقال له: أتحبّ درهمك هذا؟ قال: نعم، قال: فإنه ليس لك حتى يخرج من يدك.
واها: تعجّب، معناه ما أعجب من يقذفه. حالق: جبل أملس منيف. ناجاه: حدّثه سرّا. الوامق: المحبّ، وقد ومق يمق مقة المحقّ: القائل الحق.
* * * فقلت له: ما أغزر وبلك! فقال: والشّرط أملك، فنفحته بالدّينار الثّاني، وقلت له: عوّذهما بالمثاني، فألقاه في فمه، وقرنه بتوءمه، وانكفأ يحمد مغداه، ويمدح النّادي ونداه.
* * * __________
(1) الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه ص 190، وأساس البلاغة (فسق)، وللعجاج في ملحق ديوانه 2/ 288، والكتاب 1/ 94، وبلا نسبة في لسان العرب (فسق)، وتهذيب اللغة 8/ 414، وتاج العروس (فسق)، وجواهر الأدب ص 33، والخصائص 2/ 432، وشرح التصريح 1/ 288، وشرح شذور الذهب ص 431، والمحتسب 2/ 43.(1/106)
قوله: «ما أغزر ويلك»، أي ما أكثر بلاغتك. وأملك: ألزم وأحقّ، يريد أن شرطك الذي شرطت من إعطائي دينارا آخر إن ذممته، قد لزمك بذمّي له. والشرط أملك مثل، وأول من قاله الأفعى الجرهميّ، وكان حكيما للعرب، فتحاكم إليه خصمان، فاشترط أحدهما وأراد ألّا يلتزمه، فقال الأفعى: الشرط أملك، وتقديره الشرط أملك لأمرك منك.
نفحته: رميته. عوّذهما: رقاهما. والمثاني: أمّ القرآن، سميت بذلك لأنها تثني في الصلاة، واحتصّها لأنه أشار عليه أن يحمد الله على أخذ الدينار، فكأنه قال: اقرأ الحمد لله رب العالمين، شكرا لله عليهما وتعويذا لهما.
وهذا كما قال ابن رشيق في غلام جميل: [السريع]
معتدل القامة والقدّ ... مورّد الوجنة والخدّ
لو وضع الورد على خدّه ... ما عرف الخدّ من الورد
قل للّذي يعجب من حسنه ... اقرأ عليه سورة الحمد
وله في مثله: [السريع]
شكوت بالحبّ إلى ظالمي ... فقال لي مستهزئا: ما هو!
قلت: غرام ثابت، قال لي: ... اقرأ عليه «قل هو الله»
وقال أبو عبيد: المثاني في كتاب الله ثلاثة أشياء: القرآن، سمّاه الله المثاني في قوله تعالى: {كِتََاباً مُتَشََابِهاً مَثََانِيَ} [الزمر: 23]، وسّمى الفاتحة «مثاني» في قوله: {سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي} [الحجر: 87] وروى عثمان وابن عباس وابن مسعود عنه صلى الله عليه وسلم. «إن المثاني من السور ما دون المئين»، كأنها جعلت مبادىء والتي تليها مثاني.
قوله: «بتوءمه»، أي بأخيه، يعني الدّينار الأول. انكفأ: انقلب وولّى، معناه بكوره وسيره في الغدوّ. النادي ونداه: المجلس وكرم أهله.
[مدح الأشياء وذمّها]
ونريد أن نأتي بفصل في مدح الشيء وذمّه على حكم ما مدح الحريريّ الدّينار وذمّه، ونبيّن مذهب العرب وأهل الأدب في ذلك، فقد ألّف ابن رشيق فيه كتابا جلبت في هذا الكتاب عيونه.
قال أبو عثمان الجاحظ: العربيّ يعاف الشيء ويهجو به غيره، فإن ابتلي به فخر به، ولكنه لا يفخر به لنفسه من جهة ما هجا به غيره، فافهم هذا فإنّ الناس يغلطون على العرب، ويزعمون أنّهم يمدحون بالشيء الذي يهجون به، وهذا باطل ليس شيء إلا وله وجهان، فإذا مدحو ذكروا أحسن الوجهين، وإذا ذمّوا ذكروا أقبح الوجهين.(1/107)
قال ابن رشيق: وأكثر ما تجري هذه الممادح والمذامّ على جهة المنافقة، لا على جهة المناصفة، ومن باب المسامحة لا من باب المشاححة، وإلّا فالشيء لا يوافق ضده، فيكون الحسن قبيحا في حالة واحد، والمدح ذمّا لمعنى واحد، لكن لكلّ شيء كما ذكر الجاحظ مساوىء ومحاسن كما فعل عمرو بن الأهتم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استشهده الزّبرقان بن بدر على ما ادّعاه من الشرف في قومه، قال عمرو: أجل يا رسول الله، إنه مانع حوّزته، مطاع في أنديته، شديد العارضة. فقال الزبرقان: أما والله لقد علم أكثر مما قال ولكن حسدني شرفي، فقال عمرو: أما وقد قال ما قال، فو الله ما علمته إلا ضيّق الطعن زمر المروءة، لئيم الخال، حديث الغنى فرأى الكراهة في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا اختلف قوله، فقال: يا رسول الله، رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الثانية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة» (1).
وكتب يزيد بن معاوية في صدر كتابه إلى عبيد الله بن زياد وقد ولّاه محاربة الحسين بن عليّ رضي الله عنهما وكان قبل ذلك يسيء الرأي فيه: أمّا بعد، فإن المسبوب يوما ممدوح، وإنّ الممدوح يوما مسبوب.
ويروى أن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يعب شيئا قط، فمرّ يوما بكلب ميّت، فقال أصحابه: ما أنتن ريحه! فقال عيسى عليه الصلاة والسلام: ما أحسن بياض أسنانه!.
وقالت للحضين بن منذر امرأة: كيف سدت وأنت دميم بخيل! فقال: لأني سديد الرأي، شديد الإقدام.
وقال مسلمة بن عبد الملك لأخيه هشام: كيف تطمع في الخلافة وأنت بخيل، وأنت جبان! فقال: لأني حليم، وأنا عفيف فسلّم لعائبه ما ادّعاه من مساوئه، وذكر من محاسنه ما لم ينازع فيه.
صعد خالد بن عبد الله القسريّ منبر مكة يوم الجمعة، وهو أمير للوليد بن عبد الملك بن مروان، فأثنى على الحجّاج خيرا، فلما كانت الجمعة الثانية وقد مات الوليد، ورد عليه كتاب سليمان يأمره بشتم الحجّاج وذكر عيوبه، وإظهار البراءة منه، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنّ إبليس كان يظهر من طاعة الله عزّ وجلّ ما كانت الملائكة ترى له به عليهم فضلا، وكان الله قد علم من غشّه ما خفي عن الملائكة، فلما أراد الله فضيحته ابتلاه بالسّجود لآدم، فظهر لهم ما كان يخفيه منهم، فلعنوه. وإنّ
__________
(1) روي بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الأدب باب 90، والترمذي في الأدب باب 69، وابن ماجه في الأدب باب 41، والدارمي في الاستئذان باب 68، وأحمد في المسند 1/ 269، 273، 303، 313، 327، 3/ 456، 5/ 125.(1/108)
الحجّاج كان يظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كنّا نرى له به فضلا، وكان الله قد أطلع أمير المؤمنين من غلّه وغشّه على ما خفي عنّا فلما أراد فضيحته أجرى ذلك على يد أمير المؤمنين فالعنوه لعنة الله. ثم نزل.
ومرّ غيلان بن خرشة الضّبّي مع عبد الله بن عامر بنهر أم عبد الله الذي يشقّ البصرة، فقال عبد الله: ما أصلح هذا النّهر لأهل هذا المصر! فقال غيلان: أجل والله أيّها الأمير يتعلّم العوم فيه صبيانهم، ويكون لسقائهم ولسيل مياههم، ويأتيهم بميرتهم ثم عاد ابن عامر فساير زيادا عليه، فقال زياد: ما أضرّ هذا النهر لأهل هذا المصر! فقال:
أجل والله أيّها الأمير، تنزّ منه دورهم، ويغرق فيه صبيانهم، ويكثر لأجله بعوضهم.
ومدح الجاحظ العروض، فقال: هو ميزان الشّعر ومعياره، به يعرف الصحيح من السقيم، والعليل من السليم، وعليه مدار القريض والشعر، وبه يسلم من الأود والكسر.
ثم ذمّه فقال: هو علم مولّد، وأدب مستبرد، ومذهب مرفوض، تستنكره العقول، مستفعلن فعول، من غيره فائدة ولا محصول.
وكان العباس بن عليّ عمّ المنصور يأخذ الكأس بيده، ثم يقول: أمّا النفس فتسمحين، وأما الهمّ فتطردين، أفتراك منّي تفلتين! ثم يشربها.
وشكا أبو العنياء حاله إلى عبد الله بن سليمان، فقال: أليس قد كتبنا لك إلى إبراهيم بن المدبّر! قال: كتبت إلى رجل قد حصر من همّته طول الفقر، وذلّ الأسر، ومعاناة محن الدهر، فأخففت في طلبتي. قال: أنت اخترته، قال: وما علمي أعزّ الله الامير في ذلك! قد اختار موسى قومه سبعين رجلا وما كان منهم رشيد، واختار رسول صلى الله عليه وسلم ابن أبي سرّح كاتبا فرجع إلى المشركين مرتدّا، واختار عليّ رضي الله عنه أبا موسى حكما، فحكم عليه.
* * * قال الحارث بن همّام: فناجاني قلبي بأنّه أبو زيد، وأنّ تعارجه لكيد.
فاستعدته وقلت له: قد عرفت بوشيك، فاستقم في مشيك. فقال: إن كنت ابن همّام، فحيّيت بإكرام، وحييت بين كرام. فقلت: أنا الحارث، فكيف حالك والحوادث؟ فقال: أتقلّب في الحالين: بؤس ورخاء، وأنقلب مع الرّيحين: زعزع ورخاء. فقلت: كيف ادّعيت القزل، وما مثلك من هزل! فاستسرّ بشره الّذي كان تجلّى، ثم أنشد حين ولّى: [المتقارب]
تعارجت لا رغبة في العرج ... ولكن لأقرع باب الفرج
وألقي حبلي على غاربي ... وأسلك مسلك من قد مرج
فإن لامني القوم قلت اعذروا ... فليس على أعرج من حرج
* * *(1/109)
تعارجت لا رغبة في العرج ... ولكن لأقرع باب الفرج
وألقي حبلي على غاربي ... وأسلك مسلك من قد مرج
فإن لامني القوم قلت اعذروا ... فليس على أعرج من حرج
* * *
قوله: «فاستعدته»، أي قلت له أعد عليّ. عرفت بوشيك، أي عرفت بحسن كلامك وتزيينه. استقم استعدل وأزل عوجك. حيّيت: طال بقاؤك، والتحية البقاء:
حييت: عشت. والحوادث: ما يحدث من الخير والشر. بؤس: شدّة العيش. رخاء: لينه وسعته. زعزع: ريح شديدة تحرّك الشجر وتقلعه. والزعزعة: تحريك الشيء إذا أردت قلعه. رخاء: ريح ليّنة سريعة، من الإرخاء في السّير، وهو عدو فوق التقريب، وناقة مرخاء: سريعة القزل: أسوأ العرج، وقد قزل قزلا.
وهزل هزلا: ترك الجدّ في قول أو فعل، يقول: كيف تحيّلت بالعرج ومثلك لا يهزل ولا يقع في هذه النقيصة! فهو يهزأ به، فغضب عند ذلك استسرّ بشره: زال عنه سماحه وطلاقة وجهه. تجلّى: ظهر. ولّى: ذهب.
قوله: «أقرع»، أي أضرب. الفرج: كشف الهمّ. ألقي حبلي على غاربي: أي أسرح وأمشي حيث أحببت، والعرب تطلق هذا اللفظ، فتقول للمرأة: حبلك على غاربك، أي أنت مسيّبة فتوجّهي حيث شئت لا مانع لك ولا حابس، والغارب: ما انحدر من السّنام، والحبل هو الذي يعقل به البعير، فإذا سرّحوه حلّوا عقاله وألقوه على غاربه، قال ابن الأنباريّ: أصله أن يلقى على حبل الناقة على غاربها فتفزع، ولا ترعى إذا لم تره على الأرض.
أسلك مسلك، أي أدخل مدخل، والمسلك: الطريق. مرج: خلط الجدّ بالهزل.
حرج: إثم والله تعالى أعلم.(1/110)
المقامة الرّابعة وهي الدّمياطيّة
أخبر الحارث بن همّام قال: ظعنت إلى دمياط، عام هياط ومياط وأنا يومئذ مرموق الرّخاء، موموق الإخاء، أسحب مطارف الثّراء، وأجتلي معارف السّراء.
فرافقت صحبا قد شقّوا عصا الشّقاق، وارتضعوا أفاويق الوفاق حتّى لاحوا كأسنان المشط في الاستواء، وكالنّفس الواحدة في التئام الأهواء. وكنّا مع ذلك نسير النّجاء، ولا نرحل إلّا كلّ هوجاء، وإذا نزلنا منزلا، أو وردنا منهلا، اختلسنا اللّبث، ولم نطل المكث، فعنّ لنا إعمال الرّكاب، في ليلة فتيّة الشّباب، غدافيّة الإهاب. فأسرينا إلى أن نضا اللّيل شبابه، وسلت الصّبح خضابه.
* * * قوله: «ظعنت»، أي رحلت، والظعن ضدّ الإقامة.
دمياط: بلد بينه وبين مصر ثلاثون فرسخا، وهي على ساحل البحر الملح، وإلى دمياط ينتهي ماء النيل، فيفترق منها فيخرج بعضه إلى بحيرة تنّيس، وهي بحيرة تجري فيها السفن والمراكب العظام، ويخرج بعضه إلى البحر، وبها تعمل الشروب، وقد ذكرنا ذلك عند تنيس.
قوله: «هياط»: صياح، وتهايط القوم: اجتمعوا ودبّروا أمرهم. مياط: دفاع، أي كان عام هرج وخلاف. مرموق: منظور إليه، الرخاء: سعة المال موموق: محبوب.
أسحب: أجرّ. مطارف: ثياب لها أعلام في أطرافها أجتلى: أنظر. معارف: وجوه.
السرّاء: الغنى والسرور. رافقت: صحبت في السفر. والصّحب: الأصحاب الشّقاق:
الخلاف، ومعنى شقّوا عصاه، أزالواه وطرحوه، والعرب تقول: شقّ فلان العصا، إذا ترك الطاعة وخرج مباينا، قال أبو عبيد: العصا تضرب مثلا للاجتماع، وانشقاقها يضرب مثلا للافتراق الّذي لا اجتماع بعده. أفاويق: جمع أفواق، وأفواق جمع فواق، وهو ما بين الحلبتين والوفاق: ترك الخلاف، وقد وافقته موافقة ووفاقا.
قوله: «لاحوا» أي ظهروا. والعرب تضرب المثل بأسنان المشط، وهو يقع على كلّ استواء في أيّ حال كان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الناس كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون
بالعافية»، فإن أرادوا الاستواء في الشرّ قالوا: سواسية كأسنان الحمار، وقال كثيّر يهجو بني ضمرة: [الطويل](1/111)
قوله: «لاحوا» أي ظهروا. والعرب تضرب المثل بأسنان المشط، وهو يقع على كلّ استواء في أيّ حال كان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الناس كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون
بالعافية»، فإن أرادوا الاستواء في الشرّ قالوا: سواسية كأسنان الحمار، وقال كثيّر يهجو بني ضمرة: [الطويل]
فسائل بقومي كل أجرد سابح ... وسلّ غنما ربّي بضمرة أو سخلا (1)
سواء كأسنان الحمار فلا ترى ... لذى كبرة منهم على ناشيء فضلا
التئام: اجتماع واتّفاق. الأهواء: جمع هوى، وهو ما تحبّه وتميل إليه النفس، فأراد أنّ أغراضهم متّفقة. النّجاء: السير السريع. نرحل: نشدّ عليها الرّحل ونشخص بها. هوجاء: ناقة سريعة، كأنّ بها هوجا وهو الحمق، لسرعة مشيها. وردنا منهلا: أتينا ماءا ننزل عليه، والنّهل: المشرب الأوّل، والعلل الثاني وذلك أنّ الإبل ترد الماء فتشرب منه، ثم تخرج ترعى ساعة وتستريح، وتسمّي تلك الاستراحة الرّعي التّمرئة، ثم ترد مرّة أخرى فتشرب الماء، فالشرب الأول نهل، والثاني علل. والمنهل: موضع النّهل. والورود: قصد الماء.
اختلسنا: استرقنا. اللبث: الإقامة، ومثله المكث، أي لا يستقرّون بموضع ينزلون فيه إلا قليلا. والرّكاب: الإبل وإعمالها: استعمالها. فتيّة الشباب: صغيرة السن، وأراد أنها طويلة سوداء لا قمر فيها، لأن شعر الشباب أسود، ويريد أنها أول الشهر، فهي كالفتيّة، والليلة أوّل الشهر سوداء. غدافيّة: منسوبة إلى الغداف، وهو الغراب لسواده، والإهاب: الجلد، وأراد لونها أسرينا: مشينا بالليل، ويقال: سرى وأسرى. نضا الليل شبابه، أي أزال ظلامه، ونضا ثوبه: جرّده عنه، ومثله: سلت خضابه، وأراد أن الصبح بيّض الظلام بضوئه، وسلت الشيء سلتا أزاله عمّا علق به، والمرأة خضابها كذلك، وسيأتي ذكر الصبح آخر المقامة.
[مما قيل في سواد الليل]
وينظر في سراه مع صحبه في سواد الليل إلى قول ابن شهاب: [الخفيف]
وفتوّ أسروا وقد عكف اللّي ... ل وأقعى مغدودف الأطناب
وكأنّ النجوم لمّا هدتهم ... أشرقت كالعيون من أهداب
يتفرّون جوز كلّ فلاة ... جنح ليل جوزاؤه من ركاب
عنّ ذكرى لمدحهم فتناهوا ... من حديثي في عرض أمر حجاب
همّة في السّماء تسحب ذيلا ... من ذيول العلا وجدّ الرّكاب
ومما جاء في سرى الليل قول عبد الصّمد بن المعذّل، وهو من حسن الاستعارة:
[المتقارب]
__________
(1) البيتان في ديوان كثير عزّة ص 384، والبيت الثاني في لسان العرب (سوا).(1/112)
أقول وجنح الدّجى ملبد ... وللّيل في كلّ فجّ يد
ونحن ضجيعان في مسجد ... فلله ما ضمن المسجد!
فيا ليلة الوصل لا تبعدى ... كما ليلة الهجر لا تبعد
ويا غد إن كنت لي راحما ... فلا تدن من ليلتي يا غد
وقال ابن المعتزّ: [مخلع البسيط]
يا ربّ ليل حالك الجلباب ... ملتحف خافيتي غراب
وما أحسن قول ابن شهيد في وصف الليل: [الطويل]
وبتنا نراعي اللّيل لم نطو برده ... ولم يجن شيب الصبح من فرعه وخطا
تراه كملك الزّنج من فرط كبره ... إذا رام شيئا في تأخّره أبطا
مطلا على الآفاق والبدر تاجه ... وقد علّق الجوزاء في أذنه قرطا
وقال حبيب: [الطويل]
إليك هتكنا جنح ليل كأنّه ... قد اكتحلت منه البلاد بإثمد (1)
وقال ذو الرّمة: [الكامل]
ودوّيّة مثل السماء اعتسفتها ... وقد صبغ الليل الحصى بسواد (2)
وقال أيضا [الطويل]
وليل كجلباب العروس ادّرعته ... بأربعة والشخص في العين واحد (3)
أحمّ غدافيّ، وأبيض صارم ... وأعيس مهريّ، وأروع ماجد
وقال البحتريّ: [الخفيف]
يا خليليّ بالهواجر من مع ... ن بن عوف وبحتر بن عتود (4)
اطلبا ثالثا سواي، فإنّي ... رابع العيس والدّجى والبيد
__________
(1) البيت في ديوان أبي تمام ص 103.
(2) البيت في ديوان ذي الرمة ص 685، وشرح شواهد الإيضاح ص 382، وهو بلا نسبة في شرح شذور الذهب ص 415.
(3) يروى صدر البيت الأول:
وليل كأثناء الرّويزيّ جبته
والبيتان لذي الرمة في ديوانه ص 1108، وأساس البلاغة (روز)، وتاج العروس (روز)، والحيوان 3/ 250، ولسان العرب (روز).
(4) البيتان في ديوان البحتري ص 633.(1/113)
وقال السّلاميّ: [الطويل]
إليك طوى عرض البسيطة عاجلا ... قطار المطايا أن يلوح لها القصر
وكنت وعزمي في الظّلام وصارمي ... ثلاثة أشباح كما اجتمع النّسر
وبشّرت آمالي بملك هو الورى، ... ودار هي الدّنيا، ويوم هو الدّهر
فالبيت الأوّل والثاني نحو بيت البحتريّ، والبيت الثالث نحو بيت ذي الرّمة في التقسيم، وبمثل هذا الكلام يمتدح الملوك وإلّا فلا. ولمّا مدح عضد الدولة بلّغه به من المكانة الغاية القصوى، وفتن بشعره، حتى كان يقول: إذا رأيت السّلاميّ في مجلسي، ظننت أنّ عطاردا نزل من السماء. وسنذكر من شعره ما يحسن.
* * * فحين مللنا السّرى، وملنا إلى الكرى، صادفنا أرضا مخضلّة الرّبا، معتلّة الصّبا، فتخيّرناها مناخا للعيس، ومحطّا للتّعريس، فلمّا حلّها الخليط، وهدأ بها الأطيط والغطيط، سمعت صيّتا من الرّجال، يقول لسميره في الرّحال: كيف حكم سيرتك، مع جيلك وجيرتك؟.
* * * قوله: «السرى»، أي السير بالليل. الكرى: النوم. مخضلّة: مبتلّة بالنّدى. الرّبا:
الكدى، واحدها ربوة. معتلّة الصّبا، أي ليّنة الريح. مناخا: منزلا العيس: الإبل يخالط بياضها حمرة. محطّا: منزلا تحطّ به الأحمال. التعريس: النزول بالليل في آخره، وهذا التخيّر الذي ذكر لهذه الأرض، منتزع من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كانت أرض مخصبة فتقصّدوا في السير وأعطوا الركاب حقّها، فإن الله رفيق يحبّ الرفق، وإذا كانت مجدبة فألحّوا عليها، وعليكم بالدّلجة، فإنّ الأرض تطوى بالليل، وإياكم والتّعريس على ظهر الطريق، فإنه مأوى الحيّات ومدارج السباع» (1).
الخليط: الأصحاب. هدأ: سكن. الأطيط: أصوات الإبل، والغطيط: أصوات الناس النّيام. صيّتا: جهير الصوت. سميره: رفيقه الذي يسمر معه بالحديث. الرّحال: منازل المسافرين، سمّيت رحالا باسم الرّحال التي توضع فيها، والرّحل: اسم لما يحمله البعير من حمله وقتبه وما يوطّأ به تحت الحمل. سيرتك: عادتك. جيلك: أهل عصرك. جيرتك: جيرانك.
* * * فقال: أرعى الجار، ولو جار، وأبذل الوصال لمن صال وأحتمل الخليط،
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الطهارة باب 21، ومالك في الاستئذان حديث 38، برواية: «إياكم والتعريس على جوادّ الطريق».(1/114)
ولو أبدى التّخليط، وأودّ الحميم، ولو جرّعني الحميم، وأفضّل الشّفيق، على الشّقيق، وأفي للعشير، وإن لم يكافىء بالعشير، وأستقلّ الجزيل، للنّزيل، وأغمر الزّميل، بالجميل. أنزّل سميري، منزلة أميري، وأحلّ أنيسي، محلّ رئيسي، وأودع معارفي، عوارفي، وأولي مرافقي، مرافقي، وألين مقالي، للقالي، وأديم تسآلي، عن السّالي، وأرضى من الوفاء، باللفاء وأقنع من الجزاء، بأقلّ الأجزاء، ولا أتظلّم، حين أظلم، ولا انقم، ولو لدغني الأرقم.
* * * قوله: «أرعى»، أي أحفظ. جار: تعدّى ومال عن الحق، قال صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه» (1). أبذل: أعطي. صال: صاح مخوّفا. الخليط:
الصاحب، ويقع على الواحد والإثنين والجمع بلفظ واحد، وسمّي بذلك لاختلاط الأمر بين الصاحبين. الحميم الأوّل: الصديق المخلص، والثاني: الماء الحارّ. الشفيق:
المحبّ. الشقيق: الأخ من الأب، كأنه شقّ معك ظهر أبيك ومن الأمّ كأنه شقّ معك بطن أمك. أفي للعشير: أعامل الصاحب بالوفاء يكافىء بالعشير: يجازى بالعشر من فعلى، والمكافأة المواساة. استقلّ، أراد قليلا الجزيل: الكثير. النزيل: الضيف، والنّزل ما يعدّ للضيف من طعام وغيره. أغمر: أعطى الزّميل: الرديف. الجميل: الأفعال الجميلة. أميري: الحاكم علىّ الأنيس: الذي يؤنس بحديثه، وفلان رئيس قومه: أفضلهم وأعزّهم. أودع: أعطى وديعة معارفي: من يعرفني. عورا في: هباتي واحدها عارفة، وهي اليد من النعمة. أولى مرافقي: أعطى مصاحبي في السفر، ومنه الرفقة لاتفاق بعضهم ببعض، جمع مرفقة وهي المعونة وما يرتفق به. القالي: المبغض، وقليت الرجل قلي، أبغضته تسآلي: كثرة سؤالي. السالي: الناسي للمودّة والتارك لها، وسلوت عن الشيء أسلو سلوّا وسلوة، إذا تركته. اللّفاء: النقصان. وقال أبو عليّ في الإيضاح: اللّفاء ما دون الحق، قال أبو زيد الطائيّ واسمه حرملة رحمه الله: [الوافر]
فما أنا بالضّعيف فتظلموه ... ولا حظّي اللّفاء ولا الخسيس (2)
__________
(1) روي بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الأدب باب 28، ومسلم في البر حديث 140، وأبو داود في الأدب باب 123، والترمذي في البر باب 28، وابن ماجه في الأدب باب 4، وأحمد في المسند 2/ 85، 160، 259، 305، 445، 458، 514، 5/ 32، 267، 365، 6/ 52، 91، 125، 138،
(2) يروى صدر البيت:
وما أنا بالضعيف فتظلموني
وهو لأبي زبيد الطائي في ديوانه ص 100، ولسان (لفأ)، (خيس)، (لفا)، والمخصص 16/ 24، وتاج العروس (لفأ)، (خبس)، (لفا)، وبلا نسبة في كتاب العين 8/ 335، وتهذيب اللغة 15/ 584، ولسان العرب (وفي).(1/115)
أقنع: أرضى، والقناعة الرضا باليسير. والجزاء: المكافأة، وجازيته بما صنع مثل كافأته، والأجزاء: الأنصباء تقسّم على جماعة، واحدها جزء، وأقلّها أنقصها أتظلّم:
أشتكي من الظلم. لا أنقم: لا أنتقم. تقول: نقمت منه نقمة، أي عاقبته، فمعناه: لا أعاقب صاحبي، ولو بلغ في الإضرار مّني الغاية، وتقول أيضا: نقمت الشيء وأنقمه نقما ونقوما: إذا أنكرته، فمعناه على هذا: لا أنكر على صاحبي ولو بالغ في الأذى، ويقال في الإنكار أيضا، نقم ينقم.
* * * فقال له صاحبه: ويك يا بنيّ! إنّما يضنّ بالضّنين، وينافس في الثّمين لكن أنا لا آتي، غير المواتي، ولا أسم العاتي، بمراعاتي، ولا أصافي، من يأبى إنصافي، ولا أواخي، من يلغي الأواخي، ولا أمالي، من يخيّب آمالي، ولا أبالي، بمن صرم حبالي، ولا أداري، من جهل مقداري، ولا أعطي زمامي، من يخفر ذمامي، ولا أبذل ودادي، لأضدادي، ولا أدع أيعادي، للمعادي، ولا أغرس الأيادي، في أرض الأعادي، ولا أسمح بمواساتي، لمن يفرح بمساآتي، ولا أرى التفاتي، إلى من يشمت بوفاتي، ولا أخصّ بحبائي، إلّا أحبّائي، ولا أستطبّ لدائي، غير أودّائي، ولا أملّك خلّتي، من لا يسدّ خلّتي، ولا أصفيّ نيّتي، لمن يتمنّى منيّتي، ولا أخلص دعائي، لمن لا يفعم وعائي، ولا أفرغ ثنائي، على من يفرّغ إنائي.
* * * قوله: «ويك» معناه التعجّب، كأنه قال: ما أعجبك! أو عجبا لك. وقيل: أراد «ويلك»، فحذف اللام. إنما يضنّ بالضّنين، هذا مثل؟ أوّل من قاله الأغلب العجليّ، وفسره أبو عبيد فقال: معناه: تمسّك بإخاء من تمسّك بإخائك، وبيانه أن الضّنين البخيل، ويضنّ: يبخل، فيقول: إنما أتمسّك وأتعلّق بصاحب تمسّك بي وعرف حقّي، فأنا أبخل به على غيري أن يشركني في صحبته كما يبخل بي هو على غيره، وقيل:
الضّنين في المثّل هو الشيء المضنون به لنفاسته، فمعناه إنما يبخل بالشيء النفيس الرفيع. المواتي: المساعد الموافق. العاتي المتكّبر الصعب الخلق. والمراعاة: المحافظة للودّ اسم: اجعلها سمة، أي علامة. أصافي: أخلص له ودّي. يأبى: يمنع. إنصافي، أي إعطائي الحق من نفسه. أواخي: أصير له أخا وأتخذه صديقا. يلغي: يترك ويطرح.
الأواخي: أسباب الود، واحدها أخيّة، وأصل الأخيّة عروة من حبل تشدّ في وتد أو على حجر تحت الأرض، وتبقى العروة على الأرض فيربط فيها حبل الدابه فيمسكها. أمالي:
أعاون، وأصلها الهمزة، تقول: مالأته على الأمر أمالئه، إذا عاونته وساعدته، ومنه: والله ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله، فخفف الهمزة ليوافق آمالي، وهو جمع أمل، وهو
الرجاء. صرم حبالي: قطع أسباب وصالي، وهم يكنون بالحبل عن الودّ، لأن الودّ يربط القلوب ويؤلّفها كالحبل فيما يربط. قوله: «أداري» أسوس وأسحن صحبته. والزمام:(1/116)
أعاون، وأصلها الهمزة، تقول: مالأته على الأمر أمالئه، إذا عاونته وساعدته، ومنه: والله ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله، فخفف الهمزة ليوافق آمالي، وهو جمع أمل، وهو
الرجاء. صرم حبالي: قطع أسباب وصالي، وهم يكنون بالحبل عن الودّ، لأن الودّ يربط القلوب ويؤلّفها كالحبل فيما يربط. قوله: «أداري» أسوس وأسحن صحبته. والزمام:
حبل من جلود يربط في حلقة في أنف البعير. يخفر ذمامي: ينق عهدي، أي لا أنقاد لمن لا عهد له. ودادي: حبّي، وهو من وادّه وهو الذي لا يكون إلا من اثنين فوضعه موضع ودّي، ويقال أيضا: في الحب حباب، مثل وداد، قال الشاعر: [الطويل]
* أداء عراني من حبابك أم سحر (1) *
أضدادي: أعدائي المناقضين لأفعالي. إيعادي: تهديدي وتخويفي الأيادي: النّعم، وواسيته: مواساة: جعلته أسوة نفسي في مالي فقاسمته فيه مساآتي: أحزاني وما يسوء بي. التفاتي: نظري وانعطافي إلى جهته. يشمت: يسرّ: وفاتي: موتي. أخصّ: أفرد.
حبائي: عطائي. أحبّائي: جمع حبيب أستطبّ: أطلب طبّه. خلّتي: صداقتي. يسدّ خلّتي: يصلح فقري. أخلص: أجعله خالصا. يفعم: يملأ. أفرغ ثنائي: أصبّ مدحي وأكسوه، أو يكون أفرغه، أبلغ آخره.
* * * ومن حكم بأن أبذل وتخزن، وألين وتخشن، وأذوب وتجمد، وأذكو وتخمد! لا والله، بل نتوازن في المقال، وزن المثقال، ونتحاذى في الفعال، حذو النّعال حتّى نأمن التّغابن، ونكفي التّضاغن وإلّا فلم أعلّك وتعّلني، وأقلّك وتستقلّني، واجترح لك وتجرحني، وأسرح إليك وتسرّحني. وكيف يجتلب إنصاف بضيم، وأنّى تشرق نفس مع غيم! ومتى أصحب ودّ بعسف، وأيّ حرّ رضي بخطّة خسف! ولله أبوك حيث يقول:
* * * قوله: «تخزن»، أي تحبس. أذكو: أضىء، يقال: خمدت النار، إذا سكن لهبها، وذكت:
اتّقدت. والمثقال: الصنجة التي يوزن بها، سمّيت بذلك لأنها تثقل ما يوزن بها في الكفّة الثانية.
نتحاذى: نتشابه. والفعال: بفتح الفاء: اسم للفعل الحسن أو القبيح، ولا يقال بكسرها إلا في مصدر فاعل، قال ابن الأعرابي: الفعال: فعل الواحد من الخير والشرّ، والفعال بالكسر:
الفعل بين الإثنين. حذو: متشابهة، والعرب تقول في الشيئين يشتبهان: هما حذو النعل بالنعل، أي كل واحد من النّعلين تقطع على قالب أختها، ومنه قول الهذلي: [الكامل]
__________
(1) صدره:
فو الله ما أدري وإني لصادق
والبيت لأبي عطاء السندي في لسان العرب (حبب) والتنبيه والإيضاح 1/ 75، وتاج العروس (حبب)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 64.(1/117)
وتأمّل السّبت الذي أحذوكم ... فانظر بمثل حذائه فاحذوني (1)
التّغابن: الغبن. نكفي: نمنع. التضاغن: العداوة، وتضاغن الرجلان: اعتقد كلّ واحد منهما لصاحبه ضغنا وهو الحقد. أعلّك: أسقيك عللا، أي مرّة بعد أخرى.
تعلّني: تمرضني. أقلّك: أرفعك. تستقلّني: تحقرني. أجترح: اكتسب. أسرح: أرعى عليك، وأجلب عليك الرزق بالغداة والعشيّ تسرّحني: تهملني. ضيم: ذلّ أنّى: كيف تشرق: تضيء، من أشرقت، وتشرق تطلع، من شرقت. غيم: سحاب. أصحب:
أنقاد. بعسف: بجور. وأصل العسف ركوب الأمر بغير تدبير. والخطة: المنزلة والمرتبة، والخسف: الإذلال والنقصان، ومنه خسف الأرض، والخاسف: المهزول، ويقال: باتوا على الخسف، أي جياعا ليس لهم شيء يتقوّتون به والخسف للدابة: أن تبيت بغير علف [السريع]
* * * جزيت من أعلق بي ودّه ... جزاء من يبني على أسّه
وكلت للخلّ كما كال لي ... على وفاء الكيل أو بخسه
ولم أخسّره وشرّ الورى ... من يومه أخسر من أمسه
وكلّ من يطلب عندي جنّى ... فما له إلّا جنى غرسه
لا أبتغي الغبن، ولا أنثني ... بصفقة المغبون في حسّه
ولست بالموجب حقّا لمن ... لا يوجب الحقّ على نفسه
وربّ مذّاق الهوى خالني ... أصدقه الودّ على لبسه
وما درى من جهله أنّني ... أقضي غريمي الدّين من جنسه
فاهجر من استغباك هجر القلى ... وهبه كالملحود في رمسه
والبس لمن في وصله لبسة ... لباس من يرغب عن أنسه
ولا ترج الودّ ممّن يرى ... أنّك محتاج إلى فلسه
* * *
قوله: «أعلق»، فمعنى علّق، أي ألصق. أسّه: أصل بنائه يقول: من علّق بقلبي ودّه، جعلت ذلك الودّ أسّا بقلبي، وبنيت عليه ودي، فإن أسس في قلبي ودّا سليما بنيت له عليه مثله، وإن غشّني في ودّ غششته، والهاء في «أسّه» ترجع إلى «من» أي من نصحني في صحبته نصحته. والخلّ: الصاحب. بخسه: نقصه أخسر: أنقص. الورى:
__________
(1) البيت لبدر بن عامر الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 410، وللهذلي في لسان العرب (حزن)، وتهذيب اللغة 11/ 36.(1/118)
الخلق من الناس. الجنى: ما يجني من الثمرة أبتغي الغبن: أطلب الخداع: أنثني:
أرجع، وصفقة المغبون: بيعة المخدوع حسّه: فهمه، والحسنّ: صوت حركة الحيّ.
والصفقة: في الأصل مصدر، يقال: صفق صفقا إذا ضرب بإحداهما على الأخرى، وكانت صفقة البيع عند العرب أن يضرب المشتري بيده على يد البائع، فإن رضي البيع قبض على يد المشتري وانعقد البيع، وإن لم يرض أرسل يده، ثم صاروا يقولون، رضي الصفقة، إذا رضي البيع، ثم سمّي عقد البيع صفقة. مّذاق: خلّاط غير مخلص. الهوى:
الحبّ. وخالني: حسبني. لبسه: تخليطه وتلبيسه. غريمي: صاحب ديني: من جنسه:
من نوع ما أعطاني. استغباك: استجهلك. القلي: البغض. هبه: احسبه. الملحود:
المدفون. رمسه: قبره، وينظر إلى بيته قول ابن الروميّ: [الرمل]
من تصدّى لأخيه ... بالغنى فهو أخوه
فإن احتاج إليه ... راء منه ما يسوه
يكرم المثري فإن أم ... لق أقصاه بنوه
أنت ما استغنيت عن صا ... حبك الدّهر أخوه
فإن احتجت إليه ... ساعة مجّك فوه
ووجد على حجر مكتوبا: [الرمل]
كلّ من أحوجك الدهر إليه ... وتعرّضت له هنت عليه
وهذان المذهبان اللّذان ذكرهما الحريريّ مبنيان على آيتين، من كتاب الله تعالى قوله تعالى: {وَإِنْ عََاقَبْتُمْ فَعََاقِبُوا بِمِثْلِ مََا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصََّابِرِينَ}، والثانية قوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولََئِكَ مََا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا خير في صحبة من لا يرى لك من الحق، مثل الذي ترى له».
وللشعراء القدماء والمحدثين في المذهبين شعر كثير، قال المقنّع الكنديّ في المذهب الأول: [الطويل]
وإنّ الّذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمّي لمختلف جدّا (1)
أراهم إلى نصري بطاء وإن هم ... دعوني إلى نصر أتيتهم شدّا
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن ضيّعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا غيّ هويت لهم رشدا
وإنّ زجروا طيرا بنحس تمرّ بي ... زجرت لهم طيرا تمرّ بهم سعدا
لهم جلّ مالي إن تتابع لي غنى ... وإن قلّ مالي لم أكلفهم رفدا
__________
(1) الأبيات في شرح ديوان الحماسة للخطيب التبريزي 3/ 171.(1/119)
ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس يسود القوم من يحمل الحقدا
وقال معن بن أوس المزنيّ في المذهب الثاني: [الطويل]
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل (1)
ويركب حدّ السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل
وكنت إذا ما صاحب رام ظنّتي ... وبدّل سوءا بالذي كنت أفعل
قلبت له ظهر المجنّ فلم أدم ... على ذاك إلّا ريثما أتحوّل
وقال إبراهيم بن العباس الصولي: [الوافر]
أميل مع الذّمام إلى ابن عمّي ... وآخذ للصديق من الشقيق (2)
وإن ألفيتني حرّا مطاعا ... فإنك واجدي عبد الصديق
أفرّق بين معروفي وبيني ... وأجمع بين مالي والحقوق
وكنت إذا الصديق أراد غيظي ... وأشرقني على شرق بريقي
غفرت ذنوبه، وصفحت عنه ... مخافة أن أعيش بلا صديق
وكلّف إبراهيم بن العباس بعض إخوانه مقاطعة صديق فقال له: [مجزوء الكامل]
إني متى أحمل بحقد ... ك لا أضرّ به سواكا (3)
ومتى أطعتك في أخيك ... أطعت فيك غدا أخاكا
حتّى أرى مستقسما ... يومي لذا، وغدا لذاكا
وقال أبو الفتح البستّي في المذهب الثاني: [السريع]
فإن تزرني أزر وإمّا ... تقف ببابي أقف ببابك
والله لا كنت في حسابي ... إلّا إذا كنت في حسابك
أين هذا من قول البستيّ أيضا وقد خالفه فيه خلافا شديدا، ولا نازعه أحد فيه، ولا سبقه إليه إذ يقول: [المتقارب]
وإنّي لأختصّ بعض الرجال ... وإن كان فدما ثقيلا عباما (4)
فإنّ الجبين على أنه ... وخيم ثقيل يشهّي الطّعاما
__________
(1) الأبيات في شرح ديوان الحماسة للحطيب التبريزي 3/ 132.
(2) الأبيات في ديوان الصولي ص 154.
(3) الأبيات في ديوان الصولي ص 146.
(4) العبام: هو الغليظ الجامي.(1/120)
ولأبن شرف: [البسيط]
بع من جفاك ولا تبخل بسلعته ... واطلب به بدلا إن رام تبديلا
وهو كثير، وبما ذكرت يستدلّ على الباب.
* * * قال الحارث بن همّام: فلمّا وعيت ما دار بينهما، تقت إلى أن أعرف عينهما، فلمّا لاح ابن ذكاء، وألحف الجوّ الضّياء، غدوت قبل استقلال الرّكاب، ولا اغتداء الغراب، وجعلت أستقرىء صوب الصّوت اللّيليّ، وأتوسّم الوجوه بالنّظر الجليّ، إلى أن لمحت أبا زيد وابنه يتحادثان، وعليهما بردان رثّان، فعلمت أنّهما نجيّا ليلتي، وصاحبا روايتي.
* * * قوله: «وعيت»، أي حفظت. تقت، أي اشتقت. عينهما: شخصهما لاح: ظهر.
ابن ذكاء: هو الصبح، وذكاء هي الشمس، ويقال للصبح: ابن ذكاء لأنه من ضوئها.
ألحف: غطّى. الجوّ: الهواء بين السماء والأرض، أراد أن الصبح غطى نواحي السماء بضوئه.
[مما قيل في ضوء الصبح شعرا]
ومن حسن التشبيه في ضوء الصبح قول ذي الرمّة:
وقد لاح للسّاري الذي كمّل السّرى ... على أخريات اللّيل فتق مشهّر (1)
كلون الحصان الأبيض البطن قائما ... تمايل عنه الجلّ واللون أشقر
شبه اختلاط الضوء بالظلمة بالفرس الأشقر الأبيض البطن.
وقال ابن المعتزّ: [الوافر]
وساق يجعل المنديل منه ... مكان حمائل السيف الطّوال
غدا والصبح تحت الليل باد ... كطرف أشقر ملقى الجلال
وقال يوسف الرمادي: [الطويل]
وليلة أنس قد غمرنا ظلامها ... بأوجه راح تستنير فترشف
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنّما ... تحمّل لقمان، وأقبل يوسف
__________
(1) البيتان في ديوان ذي الرمة ص 655، ولسان العرب (شهر)، (نبط)، (فتق)، وتاج العروس (نبط)، (فتق)، وتهذيب اللغة 6/ 80، 9/ 63، وكتاب العين 3/ 400، 5/ 131، وأساس البلاغة (فتق).(1/121)
قوله: «غدت»، أي بكرت. استقلال: ارتفاع وقيام. والركاب: الإبل واحدتها، راحلة. ولا اغتداء الغراب، أي ولا مثل اغتدائه فحذف «مثل» المنصوبة بلا، وأقام «اغتداء» مقامها لأن «لا» لا تنصب المعارف، وأراد أن اغتدائي كان قبل أن يغتدي الغراب، والغراب أكثر الطير بكورا، وهذا وما شابهه في هذا الكتاب مثل قوله: «ولا كيد فرعون موسى»، «ولا انهلال السحب»، «ولا عمرو بن عبيد»، إذا طلبت حقيقة معناه صار المشبّه أقوى من المشبه به، ولم يأت هذا إلا عن العرب، تقول العرب: «فتى ولا كمالك» فيريدون مالكا أفضل من الفتى، ومثله «مرعى ولا كالسّعدان» أي أن المرعى فاضل في طيبه، ولكن السعدان أفضل منه، ومثله: «ماء ولا كصدّاء»، فصدّاء أفضل من ذلك الماء على طيبه، فهذا مذهب العرب في ذكر «لا» بين المشبّهين.
وأما قول الحريري: «غدوت ولا اغتداء الغراب»، فيريد أن غدوّي أبكر من اغتداء الغراب، وكذلك «ولا انهلال السّحب»، وهو يريد أنّ جودهم فوق جود السحاب، لأن كلام العرب: فلأن أبكر من الغراب، وأجود من السحاب، ولا يقولون السحاب أجود من فلان، ولا الغراب أبكر من فلان، ولا فائدة في ذلك، فإذا حققت لفظه «ولا» في تشبيه الحريريّ على ما يجب لها في كلام العرب انقلب المعنى، وإنما اللفظ من كلام عامّة العراق، فاستعملها لأنها عندهم متعارفة وليس بعربية، ومثل هذا قد جوّزه المولدون في أشعارهم، وجاء منه في مقامات البديع كثير. ويستعمل أهل فاسّ في مغربنا لفظة «ولا» في تشبيهاتهم كثيرا جدّا على حدّ استعمال الحريرّي لها، ولا يستعملها أهل الأندلس.
وقال الفنجديهيّ: الرفع في قوله: «ولا اغتداء الغراب»، أكثر مبالغة في التشبيه من النصب.
قوله: «أستقرىء»، أي أتتبع. صوب: جهة وناحية الليليّ: الذى سمع بالليل أتوسّم، أتعرّف وأنظر سمتها. الجليّ: البيّن. لمحت: رأيت. بردان رثّان: ثوبان خلقان. نجيّا ليلتي، أي المتحدّثان فيها، وجعلهما متحدثين مع الليلة مجازا لما أوقعا الحديث فيها، كقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ} [سبأ: 33] ولا يمكران إنما يمكر فيهما، فنسب ذلك المكر إليهما. صاحبا روايتي. أي اللذان أروى عنهما هذه القصة.
* * * فقصدتهما قصد كلف بدماثتهما، راث، لرثاثتهما، وأبحتهما التّحوّل إلى رحلي، والتّحكم في كثري وقلّي، وطفقت أسيّر بين السّيّارة فضلهما، وأهزّ الأعواد المثمرة لهما، إلى أن غمرا بالنّحلان، واتّخذا من الخلّان. وكنّا بمعرّس نتبيّن منه بنيان القرى، ونتنور نيران القرى.(1/122)
فلمّا رأى أبو زيد امتلاء كيسه، وانجلاء بوسه، قال لي: إنّ بدني قد اتّسخ، ودرني قد رسخ، أفتأذن لي في قصد قرية لأستحمّ وأقضي هذا المهمّ؟ فقلت: إذا شئت فالسّرعة السّرعة، والرّجعة الرّجعة، فقال: ستجد مطلعي عليك، أسرع من ارتداد طرفك إليك.
* * * كلف: محبّ. دماثتهما: سهولتهما، والدّماثة سهولة الأرض، وكل ما وطئته وسهّلته وأذللته بيدك فهو دمث. راث: باك مشفق. ورثاثتهما: سوء حالهما. أبحته:
جعلته له مباحا كثري وقلّي: أي كثير مالي وقليله. طفقت: أخذت. أسيّر: أمشي.
السيارة: القوم الذين يسيرون في الأسفار. أهزّ الأعواد، استعارة، وأراد أنه يستعطف لهما أصحاب الأموال فيواسونهم، فكنى عنهم بالأعواد، وقد كرّر هذا المعنى نظما حين قال: [الرجز]
قصدته والشيخ يبغى جنى ... عود له ما زال مهزوزا
وقال الشاعر في مثله: [البسيط]
إلّا يكن ورقي غصّا أراح به ... للمعتفين فإني ليّن العود
أراد إن لا أكن كثير المال فإني كريم. والورق: المال غير الصامت، وأراح به:
أهتزّ به، من الأريحيّة. وراح الشجر: أتى بورق في آخر الصيف لا أصل له، ويقال لها الخلفة. قوله: «غمرا»، أي أعطيا. النّحلان: العطايا. الخلّان: الأصحاب. وقوله:
«وكنا بمعرّس»، المعرّس موضع النزول آخر الليل نتنوّر: ننظر النيران. القرى: طعام الضيف. كيسه: وعاء دراهمه، والكيس: خريطة تسع خمسمائة درهم والبدرة تسع عشرة آلاف درهم، قال حبيب:
من بعد ما صارت هنيدة صرمة ... والبدرة النّجلاء صارت كيسا (1)
قوله: «انجلاء بوسه»، انكشاف فقره. درني: وسخى. ورسخ الشيء في الأرض رسوخا: غاب فيها، ورسخ العالم في العلم: دخل فيه. أستحمّ: أدخل الحمام، واستحمّ الرجل: اغتسل بالحميم وهو الماء الحارّ. أقضى: أقطع وأزيل، وقضيت الشيء: صنعته. المهمّ: أراد به فرض الصّلاة، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنّ أهم أموركم عندي الصّلاة، فمن ضيّعها فهو لما سواها أضيع. وقيل: المهمّ: الوسخ لأنّ
__________
(1) الهنيدة: اسم للمائة من الإبل، والصرمة: ما بين العشرة إلى بضعة عشر، والنجلاء: الواسعة.
والبيت في ديوان أبي تمام ص 177.(1/123)
الأمر المهمّ، هو الذي في القلب منه همّ وشغل، وقد ذكر أن الذي أوجب عليه قصد الحمام هو ما عليه من الوسخ، فيكون قوله: «وأقضى هذا المهمّ» من قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29]، وقد أهمّني الشيء فهو مهمّ، وهذا القول أوفق بمراده.
[الحمّام وما قيل فيه شعرا]
وللزاهد بن عمران رحمه الله وقد استبطأ في دخول الحمّام: [البسيط]
يا صاح عهدي بالحمّام قد بعدا ... فلا تلمني فيه إن طلبت مدى
قارعت فيه العدا في معرك لجب ... دحض تزلّ به الأقدام قد بعدا
عدا أثرن برأسي حين ثرن به ... توقّدا وأعادت جلده جلدا
فظلت مستأصلا بالقتل أجمعها ... فلم أدع والدا منها ولا ولدا
ثم انثنيت معافى ناعما جذلا ... مظّفرا أستزيد الواحد الصّمدا
ورأى نفسه ممتدّا بين يدي الحكّاك، فقال: [المتقارب]
أأغترّ إن مدّ في العمر لي ... وأرجي المتاب إلى قابل
وأغفل والموت لي طالب ... حثيث كذئب الغضى القاتل
كأنّي بي هكذا ميتا ... تحكّم فيّ يد الغاسل
وله أيضا: [المنسرح]
شكرت للدهر حسن ما صنعا ... طريد مجد تحيّتي رفعا
يا حسن حمّامنا وقد غربت ... شمس الضحى فيه بعد ما متعا
أيقن أنّ الهلال راكبه ... فضاء للحاضرين واتّسعا
فأنعم أبا عامر بنعمته ... واعجب لأمرين فيه قد جمعا
نيرانه من زنادكم قدحت ... وماؤه من بنانكم نبعا
ولبعضهم في حمّام كانت مضاوئه من زجاج أحمر، وفي سمائه حمرة وبياض [المتقارب] تحيّرت من طيب حمّامنا ... فخيّل لي أن فيه الفلق
فمن حمرة فوقنا وابيضاض ... لخدّ الحبيب إذا ما عرق
رأى الدهر ما سدّ من حسنه ... فسدّ كوى سقفه بالشّفق
ودخل الحمّام أبو جعفر التّطيليّ وأبو بكر بن بقيّ رحمهما الله تعالى، فقال أبو جعفر: [المنسرح]
يا حسن حمّامنا وبهجته ... مرأى من السّحر كله حسن
ماء ونار حواهما كنف ... كالقلب فيه السّرور والحزن
ونظر فيه إلى غلام وسيم، فقال: [البسيط](1/124)
يا حسن حمّامنا وبهجته ... مرأى من السّحر كله حسن
ماء ونار حواهما كنف ... كالقلب فيه السّرور والحزن
ونظر فيه إلى غلام وسيم، فقال: [البسيط]
هل استمالك ميّال القوام وقد ... سالت عليه من الحمّام أنداء
كالغصن باشر حرّ النار من كثب ... فظلّ يقطر من أعطافه الماء
وقال آخر: [البسيط]
حمّامنا فيه فصل القيظ محتدم ... وفيه للبرد سرّ غير ذي ضرر
ضدّان ينعم جسم المرء بينهما ... كالغصن ينعم بين الشمس والمطر
وقال ابن رشيق: ومما قلته على عقب وداع:
ولم أدخل الحمام ساعة بينهم ... لأجل نعيم، قد رضيت ببوسي
ولكن لتجري عبرتي مطمئنة ... فأبكي، ولا يدري بذاك جليسي
وقال آخر: [الوافر].
وحمّام كأنّ النار فيه ... مسعّرة بنيران الجحيم
دخلت أنا ومن أهواه فيه ... فعاد لنا كجنّات النعيم
وقال آخر في ذم حمّام: [المتقارب]
وحمّام سوء وخيم الهوا ... قليل المياه كثير الزّحام
فما للقيام به من قعود ... ولا للقعود به من قيام
حنيّاته عطفات القسيّ ... وقطراته صائبات السّهام
وقال آخر في تعجيل الخروج منه: [مجزوء الرمل]
خذ من الحمام واخرج ... قبل أن يأخذ منكا
حدّثن عنه وإلا ... حدّث الحمّام عنكا
وقال ابن رشيق: [الوافر]
ومرتهن لدى الحمّام أضحى ... وحالاه لأصحاب السّعير
إذا سئموا العذاب أو استغاثوا ... أغاثوهم بباب الزمّهرير
كذلك حاله حرّا وبردا ... ببيت الحوض أو بيت الطّهور
وطال به انتظار مواعديه ... فقد زاد الشقيّ على النّظير
وله أيضا: [الطويل]
سأشكر للحمّام بدءا وعودة ... أيادي بيضا ما لهنّ ثمين(1/125)
جلاك على عينيّ عريان حاسرا ... فرحت بتطليق وأنت قمين
وطهّر قلبي من هواك ببارد ... وسخن نقرّ الجفن وهو سخين
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الحمّام يذكّر جهنم، وينقّي الدّرن.
وقال عليّ رضي الله عنه: بئس البيت الحمّام! تكشف فيه العورات، وترتفع فيه الأصوات، ولا يقرأ فيه آية من كتاب الله تعالى.
ودخله بعض الأمراء مع الرقاشي فقال له: امدحه، فقال: يذهب القشافة، ويعقب النظافة، ويفشّ التّخمة، ويطيّب النّعمة، فقال: ذمّه، فقال: يهتك الأستار، ويؤلّف الأقذار، ويذهب بالوقار.
* * * قوله: «إذا شئت فالسرعة السرعة»، يقول إذا شئت أن تقصد الحمّام فالزم السرعة، وعجل الرجعة، وكرّرهما تأكيدا، والفعل الناصب لهما يلزم إضماره مع التكرير، فإذا أفردت جاز إظهار الفعل، ونظيرهما قول العرب: الطريق، الطريق، والأسد الأسد وقال الشاعر: [البسيط]
* خلّ الطريق لمن يبنى المنار له (1) *
فلما سقط التكرير ساغ له إظهار الفعل. مطّلعي: مصدر بمعنى طلوعي. أهل الحجاز يفتحون لامه في المصدر وغيرهم يكسرها. ارتداد طرفك، أي رجوع نظرك.
* * * ثمّ استنّ استنان الجواد في المضمار، وقال لابنه: بدار بدار! ولم نخل أنّه غرّ، وطلب المفرّ. فلبثنا نرقبه رقبة الأعياد، ونستطلعه بالطّلائع والرّوّاد، إلى أن هرم النّهار، وكاد جرف النّهار ينهار. فلمّا طال أمد الانتظار، ولاحت الشّمس في الأطمار، قلت لأصحابي: قد تناهينا في المهلة، وتمادينا في الرّحلة، إلى أن أضعنا الزّمان، وبان أنّ الرّجل قد مان، فتأهّبوا للظّعن، ولا تلووا على خضراء الدّمن.
* * * __________
(1) عجزه:
وابرز ببرزة حيث اضطرّك القدر
والبيت لجرير في ديوانه 1/ 211، وشرح التصريح 2/ 195، والصاحبي في فقه اللغة ص 186، والكتاب 1/ 254، ولسان العرب (برز)، والمقاصد النحوية 4/ 307، وبلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 78، والرد على النحاة ص 75، وشرح الأشموني 2/ 481، وشرح المفصل 2/ 30.(1/126)
استنّ استنان الجواد: جرى كما يجري الفرس، وإنما يقال: استنّ في كلامه إذا جرى في غير طريق بتحريف، ومنه قولهم: استنّت الفصال حتى القرعى، يريدون جرت الفصال وهي تلعب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «فاستنّت شرفا أو شرفين» (1). وقال الشاعر يذكر طعنة خرج دمها في جهة: [المتقارب]
بمستنّة كاستنان الخرو ... ف وقد قطع الحبل بالمرود (2)
أراد المهر، ويقال له: خروف وفلوّ. وقد فسر «استنّت الفصال» بأن معناه أحسن رعيتها، حتى كأنه صقلها. والجواد: الفرس الكريم. المضمار: الطّلق تجري فيه الخيل، سمّي مضمارا لأن الخيل تضمّر فيه، وذلك أنّ العرب كانت تسمّن الخيل فتستخرجها إلى المضمار، فتجريها طلقا قدر ما تحتمل، ثم تزيدها يوما آخر في الجري على ذلك، ثم لا تزال تزيدها في الطّلق كل يوم، حتى تجري بها الأميال، فيسيل عرق الخيل بذلك الجري، ويشتدّ لحمها بذلك التضمير قال زهير: [الوافر]
تضمّر بالأصائل كلّ يوم ... تسنّ على سنابكها القرون (3)
القرون: دفع العرق، واحدها قرن.
وقوله: «بدار بدار»، أي سبقا سبقا، وهو معدول عن بدر، فيقول لابنه: أبدر بالجري، واسبق إلى الحمّام. لم نخل: لم نحسب. غرّ: خدع. نرقبه، أي ننظر من أين يجيء ويروى: «نرقبه رقبة أهّلة الأعياد».
وما أحسن قول ابن الزقّاق في هذه الرّقبة: [الطويل]
وشهر أدرنا لارتقاب هلاله ... جفونا إلى نحو السماء موائلا (4)
إلى أن بدا أحوى المدامع أحور ... يجرّ لأذيال الشباب غلائلا
فقلت له أهلا وسهلا ومرحبا ... بمن قد حوى طيب السّمول شمائلا
أتطلبك الأبصار في الجوّ ناقصا ... وأنت كذا تمشي على الأرض كاملا
وله في معناه: [الكامل]
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد باب 48، والاعتصام باب 24، والمناقب باب 28، والتفسير، تفسير سورة 99، والشرب باب 12، ومسلم في الزكاة حديث 24، 25، والنسائي في الخيل باب 1، وابن ماجه في الجهاد باب 14، ومالك في الجهاد حديث 3، وأحمد في المسند 2/ 262، 383.
(2) البيت لرجل من بني الحارث في لسان العرب (خرف).
(3) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 187، ولسان العرب (سنن)، (قرن)، وتهذيب اللغة 12/ 304، وجمهرة اللغة ص 1321، ومقاييس اللغة 5/ 77، وتاج العروس (سنن)، (قرن)، وبلا نسبة في لسان العرب (صوح)، وجمهرة اللغة ص 793، والمخصص 9/ 143.
(4) الأبيات في ديوان ابن الزقاق ص 238.(1/127)
لله شهر ما نظرت هلاله ... إلّا كنون أو كعطفة لام (1)
حتى تبدّي لي أغنّ مهفهف ... بضيائه ينجاب كلّ ظلام
فطفقت أهتف بالأنام ضللتم ... وغلطتم في عدّة الأيام
ما جاءنا شهر لأول ليلة ... مذ كانت الدنيا ببدر تمام
نستطلعه، أي نلتمس طلوعه. الطلائع: الباحثون عليه. والروّاد: الطالبون له، وأصل الطلائع الباحثون عن أخبار العدوّ. والراصدون في الطرقات، الواحد طليعة، وأصل الروّاد الطالبون للمرعى. هرم: شاخ، ومعناه قارب أن يتمّ ينهار: ينهدم.
والجرف: ما يأكله الوادي، استعاره للنهار. لاحت: ظهرت والأطمار: الثياب الخلقة، أراد أن ثوب الشمس وهو ضوءها قد تغيّر وبلى عند الغروب، وبعضهم يستعمل هذه الاستعارات في الشتاء وغروب الشمس.
ومما يستغرب من ذلك قول العلويّ الأصبهانيّ: [الطويل]
ومجلس شرب جئته متطرّبا ... عشيّا وعين الشّمس في الأفق تنعس
وقال ابن الرّوميّ: [الطويل]
كأنّ جنوح الشّمس ثم غروبها ... وقد جعلت في مجنح الليل تمرض
تخاوص عين بين أجفانها الكرى ... يرنّق منها النّوم وهي تغمّض
وقال أيضا: [الطويل]
إذا رتعت شمس الأصيل ونفّضت ... على الأفق الغربيّ ورسا مذعزعا
وودّعت الدّنيا لتقضي نحبها ... وشوّل باقي عمرها فتشعشعا
ولا حظت الأنوار وهي مريضة ... وقد وضعت خدّا على الأرض أضرعا
كما لاحظت عوّاده عين مدنف ... توجّع ما أوصابه ما توجّعا
أخبرني ابن منصور، قال: خرجت بخارج فاس عشية مع فتى ورّاق، فنظر إلى صفرة الشمس واستنشق برد النسيم، وأنشدني مرتجلا: [خلع البسيط]
انظر إلى الشمس في الأصيل ... كأنّها وجنتا عليل
ورقّ هذا النسيم حتّى ... كأنما يشتكي نحولي
وقال ابن الزّقاق: [الكامل]
وعشية لبست ملاء شقيق ... تزهى بلون للخدود أنيق (2)
__________
(1) الأبيات في ديوان ابن الزقاق ص 258.
(2) الأبيات في ديوان ابن الزقاق ص 306.(1/128)
أبقت بها الشّمس المنيرة مثل ما ... أبقى الحياء بوجنتي معشوق
لو أستطيع شربتها كلفا بها ... وعدلت فيها عن كؤوس رحيق
وقال ابن سراج: [الكامل]
والشمس تنفض زعفرانا بالرّبا ... وتبثّ مسكتها على الغيطان
وما أحسن قول الرّصافي في معناه: [الكامل]
وعشيّ أنس للسرور وقد بدا ... من دون قرص الشّمس ما يتوقّع (1)
سقطت ولم تملك يمينك ردّها ... فوددت يا موسى لوانّك يوشع
وقال ابن الروميّ في طلوع الشمس في خلل السحاب وذكر امرأة: [الوافر]
تريك بياض غرّتها ووجها ... كقرن الشّمس أغسق ثم زالا
أصاب خصاصة فبدا كليلا ... كلا وانفلّ سائره انفلالا
قوله: «بدا كليلا» إشارة إلى أنه عندما بدا غاب بسرعة، وأذكر «كلا» في المقامة التاسعة والثلاثين.
وقال ابن المعتزّ في نحوه: [الوافر]
تظلّ الشمس ترمقنا بلحظ ... مريض مدنف من خلف ستر
تحاول فتق غيم وهو يأبى ... كعنّين يريد نكاح بكر
قوله: «تناهينا»، أي بلغنا النهاية، والمهلة: التراخي، يقول: قد تراخينا في انتظاره حتى بلغنا الغاية في ذلك. «تمادينا في الرحلة»، هذا على حذف مضاف للعلم به، تقديره: تمادينا في ترك الرحلة وانتظارها، ومثل هذا الحذف جائز في النظم والنثر وأنشد أبو علي: [البسيط]
أنا النذير لكم منيّ مجاهرة ... كي لا ألام على نهيي وإنذاري
أي على تركي النهي والإنذار، وقال آخر:
وأهلك مهر أبيك الدّواء ... ليس له من طعام نصيب
أي فقد الدواء، وجاء فى القرآن {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنََّا فِيهََا} [يوسف: 82] أي أهل القرية، و {هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ} [محمد: 13]، أي من أهل قريتك، ومثل هذا كثير في القرآن والكلام الفصيح، بمّا لا يتمّ المعنى إلا بتقديره فالذي غلّظ الحريريّ
__________
(1) البيتان في ديوان الرصافي ص 104.(1/129)
فقال: لو تمادت بهم الرحلة لكانوا في سير متّصل، قد جهل الكلام الفصيح فأراد:
طالت بنا هذه السفرة. وتمادى الشيء فهو متماد، إذا طال فيه المدى، وهو الغاية البعيدة. يقول: تأخّرنا عن السفر اليوم لتمادينا في انتظاره، فطالت علينا السفرة لعطلة السفر، حتى أضعنا اليوم الذي انتظرناه فيه حيث لم نسافر فيه. والزمان: اليوم. بأن:
تبيّن. مان: كذب يقال منه: مان يمين مينا، وأما مانه يمونه مونا، فقام بمؤنته. قوله:
«فتأهّبوا»، استعدوا. الظعن: الرحيل ولا تلوّوا: تعرّجوا. خضراء الدمن: عشب المزابل، هي حسنة المنظر سيّئة المخبر، وإذا يبست لم ينتفع بعودها لخوره وضعفه، فشبّه بها أبا زيد لحسن ظاهره فيما أبدى لهم من فصاحته، وسوء باطنه في كذبه وإخلاف وعده، حتى عطّلهم عن سفرهم نهارا في انتظاره، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم وخضراء الدّمن»، فقيل له: وما خضراء الدمن؟ فقال: «الجارية الحسناء في المنبت السوء».
* * * ونهضت لأحدج راحلتي، وأتحمّل لرحلتي، فوجدت أبا زيد قد كتب، على القتب: [الكامل]
يا من غدا لي ساعدا ... ومساعدا دون البشر
لا تحسبن أنّي نأيت ... ك عن ملال أو أشر
لكنّني مذ لم أزل ... ممّن إذا طعم انتشر
قال: فأقرأت الجماعة القتب، ليعذره من كان عتب فأعجبوا بخرافته، وتعوّذوا من آفته.
ثمّ إنا ظعنّا ولم ندر من اعتاض عنّا.
* * * قوله: «أحدج»: أي اجعل عليها الحدج، وهو مركب من مراكب النساء، وأراد أرحل الناقة. وراحلته: ناقته. أتحمّل لرحلتي، أو قر حملي للرحيل، يقال: تحمّل القوم، إذا عبّوا أحمال. هم وارتحلوا. والقتب: الرّحل. قوله: «ساعدا»، أي ذراعا يستعين به. مساعدا: موافقا. نأيتك: بعدت عنك. أشر: بطر وعدم شكر، يقال: أشر الرّجل يأشر أشرا، إذا بطر، قال الأخطل يذكر بني أمية: [البسيط]
أعطاكم الله جدّا تنصرون به ... لا جدّ إلا صغير بعد محتقر (1)
لم يأشروا فيه إذ كانوا مواليه ... ولو يكون لقوم غيرهم أشروا
__________
(1) البيتان في ديوان الأخطل ص 104.(1/130)
قوله: «مذ لم أزل»، أي مذ بنت ووجدت. انتشر: ذهب. عتب: لام وسخط فعله. خرافته: حديثه الملهى.
[حديث خرافة]
وحديث خرافة مثل سائر على ألسنة الناس في القديم والحديث، يضرب لكلّ حديث لا حقيقة له. ووقع في أمثال المفضّل بسند يصل إلى عائشة رضي الله عنها، أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: حدّثني حديث خرافة (1)، فقال: رحم الله خرافة، كان رجلا صالحا، فأخبرني أنه خرج ذات، ليلة فلقي ثلاثة نفر من الجنّ فسّبوه، فقال أحدهم: نعفو عنه، وقال آخر نقتله، وقال آخر: نستعبده، فبينماهم يتشاورون في أمره، إذ ورد عليهم رجل، فقال: السلام عليكم. فقالوا: وعليك السلام، قال: وما أنتم؟ قالوا: نفر من الجنّ، أسرنا هذا فنحن نأتمر في أمره، فقال: إن حدّثتكم حديثا عجيبا، أتشركونني فيه؟
قالوا: نعم، قال: إني كنت ذا نعمة فزالت، وركبني دين، فخرجت هاربا، فأصابني عطش شديد، فسرت إلى بئر فنزلت لأشرب، فصاح بي صائح من البئر: مه! فخرجت منها ولم أشرب، فغلبني العطش، فعدت، فصاح بي، ثم عدت الثالثة فشربت، ولم ألتفت إليه فقال: اللهم إن كان رجلا فحوّله امرأة، وإن كان امرأة فحوّلها رجلا، فإذا أنا امرأة، فأتيت مدينة فتزوّجني رجل، فولدت منه ولدين، ثم عدت إلى بلدي، فمررت بالبئر التي شربت منها، فنزلت فصاح بي كما صاح في الأول، فشربت ولم ألتفت له، فدعا كالأول، فعدت رجلا كما كنت. فأتيت بلدي، فتزوجت امرأة، فولدت منها ولدين، فلي ابنان من ظهري وابنان من بطني. فقالوا: إن هذا لعجيب، أنت شريكنا، فبينما هم يتشاورون إذ ورد عليهم ثور يطير فلما جاوزهم، إذا رجل بيده خشبة، وهو يحفز في إثره، فوقف عليهم فسلّم، فردّوا وسألهم، فردّوا عليه مثل ردهم على صاحبهم فقال: إن حدّثتكم بحديث أعجب من هذا أتشركونني فيه؟ قالوا: نعم قال:
كان لي عمّ، وكان موسرا، وكان له ابنة جميلة، وكنّا سبعة إخوة، وكان لعّمي عجل يربيّه، فانفلت، فقال: أيّكم يردّه فابنتي له فأخذت خشبتي هذه، واتزّرت، ثم حفزت في إثره وأنا غلام، وقد شبت، فلا أنا ألحقه ولا هو يكلّ فقالوا: إن هذا لعجب، أقعد فأنت شريكنا. فبينما هم يتشاورون، إذ ورد عليهم رجل على فرس أنثى، وخلفه غلام على فرس ذكر، فسلّم كما سلّم صاحباه فردّوا عليه كردّهم على صاحبيه. فسألهم فأخبروه الخبر، فقال لهم: إن حدثتكم بحديث أغرب من هذا، أتشركونني فيه؟ فقالوا نعم، قال: كانت لي أمّ خبيثة ثم قال للفرس الأنثى الذي تحته: أكذلك هو فقالت:
برأسها نعم قال: وكنت أتّهمها بهذا العبد وأشار إلى الفرس، الذي تحت غلامه:
أهكذا؟ فقال برأسه: نعم فوجّهت بغلامي هذا الراكب ذات يوم في بعض حاجاتي،
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 6/ 157.(1/131)
فحبسته عندها فأغفى، فرأى في منامه كأنها صاحت صيحة، فإذا هي بجرذ قد خرج، فقالت: اسجد، فسجد، ثم قالت: اكرب فكرب، ثم قالت: ادرس فدرس، ثم دعت برحا فطحنت قدح سويق، فأتت به الغلام، فقالت له: ائت به مولاك، فأتاني به، فاحتلت عليهما حتى سقيّتهما القدح، فإذا هي فرس أنثى، وإذا هو فرس ذكر، قال:
أكذلك؟ قالت الفرس الأنثى برأسها: نعم، وقال الفرس الذكر برأسه: نعم، فقالوا إن هذا أعجب شيء سمعناه، أنت شريكنا. فأجمع رأيهم فأعتقوا خرافة فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وسلم فأخبره بهذا الحديث، فما جاء من الأحاديث المحالبّة نسب إلى خرافة صاحب الحديث.
* * * قوله: «آفته» أي ضرره. ظعنّا: رحلنا. اعتاض: استبدل.(1/132)
المقامة الخامسة وهي الكوفيّة
حكى الحارث بن هّمام قال: سمرت بالكوفة في ليلة أديمها ذو لونين، وقمرها كتعويذ من لجين، مع رفقة غذوا بلبان البيان، وسحبوا على سحبان ذيل النّسيان، ما فيهم إلّا من يحفظ عنه ولا يتحفّظ منه، ويميل الرّفيق إليه، ولا يميل عنه، فاستهوانا السّمر، إلى أن غرب القمر، وغلب السّهر. فلمّا روّق اللّيل البهيم، ولم يبق إلّا التّهويم، سمعنا من الباب نبأة مستنبح، ثمّ تلتها صكّة مستفتح، فقلنا:
من الملمّ، في اللّيل المدلهمّ؟ فقال:
* * * [الكوفة]
سمرت بالكوفة. الكوفة بلد بالعراق مشهور بينه وبين بغداد ثلاثون فرسخا، وسميت كوفة لاستدارتها، أخذت من الكوفان، وهي الرملة الشديدة البياض، وقيل:
سمّيت كوفة لاجتماع الناس فيها، من قولهم: تكوّف الرمل تكوّفا، إذا ركب بعضه بعضا، وقيل: سمّيت كوفة، لأنها قطعت من البلاد، من قولهم: أعطيت فلانا كيفة، أي قطعة، وكفت أكيف كيفا: قطعت والكوفة «فعلة» منه، قلبت الياء واوا للضمّة التي قبلها.
وهي مدينة العراق الكبرى، والمصر الأعظم وقبّة الإسلام، ودار هجرة المسلمين، وأوّل مدينة اختطّها المسلمون بالعراق.
وذكر شيخنا أبو الحسن بن جبير في رحلته حاجّا، أنه دخل الكوفة في أوّل محرّم سنة تسع وتسعين وخمسمائة، فقال: هي مدينة كبيرة، وقد استولى الخراب على أكثرها، فالعامر منها أقلّ من الخراب، ومن أسباب خرابها قبيلة خفاجة المجاورة لها، وهي لا تزال تضرّ بها، وكفاك بتعاقب الأيّام والليالي ما حقا ومفنيا! وبناؤها بالآجرّ خاصّة، ولا سور لها. والجامع العتيق آخرها ممّا يلي شرق البلد، ولا عمارة تتّصل به من جهة الشرق. وهو جامع كبير، في الجانب القبليّ منه خمس أبلطة، وفي سائر الجوانب بلاطتان متّسعتان، وهي على أعمدة من السّواري المصنوعة من صميم الحجارة المنحوتة قطعة على قطعة، مفرغة بالرّصاص، ولا قسيّ عليها، وهي في نهاية من الطول متصلة
بسقف المسجد، فتحار العيون في تفاوت ارتفاعها، فما رئي في الأرض مسجد أعلى سقفا منه، ولا أطول أعمدة، ولهذا الجامع آثار كثيرة منها بيت بإزاء المحراب عن يمين مستقبل القبلة، يقال إنه كان مصلّى الخليل إبراهيم عليه السلام، وعليه ستر أسود صونا له، ومنه يخرج الخطيب لابسا ثياب السواد للخطبة، والناس يزدحمون على هذا البيت للصلاة فيه، وبمقربة هذا البيت عن يمين القبلة محراب محّلق عليه بأعواد الساج، كأنه مسجد صغير مرتفع عن صحن البلاط، هو محراب عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وفيه ضربه الشقيّ عبد الرحمن بن ملجم، فالناس يصلّون فيه باكين داعين، وفي الزّواية من البلاط القبليّ المتّصل بآخر البلاط الغربيّ شبه مسجد صغير محلّق عليه أيضا بأعواد الساج، وهو مفار التّنّور الذي كان آية نوح عليه السلام، ويتصل بالجدار القبليّ فضاء، يقال إنه. كان منشأ السفينة.(1/133)
وذكر شيخنا أبو الحسن بن جبير في رحلته حاجّا، أنه دخل الكوفة في أوّل محرّم سنة تسع وتسعين وخمسمائة، فقال: هي مدينة كبيرة، وقد استولى الخراب على أكثرها، فالعامر منها أقلّ من الخراب، ومن أسباب خرابها قبيلة خفاجة المجاورة لها، وهي لا تزال تضرّ بها، وكفاك بتعاقب الأيّام والليالي ما حقا ومفنيا! وبناؤها بالآجرّ خاصّة، ولا سور لها. والجامع العتيق آخرها ممّا يلي شرق البلد، ولا عمارة تتّصل به من جهة الشرق. وهو جامع كبير، في الجانب القبليّ منه خمس أبلطة، وفي سائر الجوانب بلاطتان متّسعتان، وهي على أعمدة من السّواري المصنوعة من صميم الحجارة المنحوتة قطعة على قطعة، مفرغة بالرّصاص، ولا قسيّ عليها، وهي في نهاية من الطول متصلة
بسقف المسجد، فتحار العيون في تفاوت ارتفاعها، فما رئي في الأرض مسجد أعلى سقفا منه، ولا أطول أعمدة، ولهذا الجامع آثار كثيرة منها بيت بإزاء المحراب عن يمين مستقبل القبلة، يقال إنه كان مصلّى الخليل إبراهيم عليه السلام، وعليه ستر أسود صونا له، ومنه يخرج الخطيب لابسا ثياب السواد للخطبة، والناس يزدحمون على هذا البيت للصلاة فيه، وبمقربة هذا البيت عن يمين القبلة محراب محّلق عليه بأعواد الساج، كأنه مسجد صغير مرتفع عن صحن البلاط، هو محراب عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وفيه ضربه الشقيّ عبد الرحمن بن ملجم، فالناس يصلّون فيه باكين داعين، وفي الزّواية من البلاط القبليّ المتّصل بآخر البلاط الغربيّ شبه مسجد صغير محلّق عليه أيضا بأعواد الساج، وهو مفار التّنّور الذي كان آية نوح عليه السلام، ويتصل بالجدار القبليّ فضاء، يقال إنه. كان منشأ السفينة.
ومع هذا الفضاء دار عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه تلقّينا هذه الآثار من أشياخ البلد وفي الجهة الشرقيّة بيت قبر مسلمة بن عقيل، وفي جوف الجامع سقاية كبيرة فيها ثلاثة أحواض كبار، وفي غربيّ المدينة على مقدار فرسخ المشهد الشهير المنسوب لعلي بن أبي طالب حيث بركت ناقته، وهو محمول عليها ميّتا، وفيه قبره، والله نعالى أعلم بصحة ذلك. والفرات في الجانب الشرقيّ على قدر نصف فرسخ، والجانب الشرقي كله حدائق نخل ملتفّة يمتد سوادها امتداد البصر.
* * * قوله: «سمرت» أي ذهب نومي. الأديم: الجلد، وأراد أنّ لون الليلة فيه سواد وبياض، لأن قمرها ناقص، ولذلك جعله. كتعويذ من لجين وهو خرز فضة، يستعمل مستديرا استدارة القمر، وبعض الدائرة، فارغ فيربط في الدائرة خيط، فيعلّق في أعناق الصبيان.
[مما قيل في الهلال شعرا]
وقال فيه السكرادي: [الكامل]
قم سلّ همّي بالمدا ... م ففيه همّ قد أمضّه
أو ما ترى قمر السّما ... ء كأنه تعويذ فضّه
فإذا ألمّ به المحا ... ق تخاله في الخدّ عضّه
وعلى معنى البيت الآخر، قال إسماعيل القاضي يصف الهلال: [مجزوء الخفيف] اسقني قبل صاحبي ... واخش صرف النوائب
فالهلال الذي يلو ... ح خلال الغياهب
مثل فخ اللجين صي ... غ لصيد الكواكب
وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: [المنسرح](1/134)
لمّا رأيت الهلال منطويا ... في غرّة الفجر قارن الزّهره
شبّهته والعيان يشهد لي ... بصولجان أوفى لضرب كره
وقال القاضي أبو الحسن بن لبّال: [مجزوء الرجز]
انظر إلى الهلال إذ ... لاح بهيّ المنظر
كزورق من فضة ... وسط لجين أخضر
أخذه من قول ابن المعتزّ: [الكامل]
أهلا بفطر قد أنار هلاله ... فالآن فاغد إلى المدام وبكّر
وانظر إليه كزورق من فضّة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وله أيضا: [المنسرح]
أهلا وسهلا بالنّاي والعود ... وشرب كأس بكفّ مقدود
قد انقضت دولة الصيام وقد ... بشّر مرأى الهلال بالعيد
يتلو الثريّا كفاغر شره ... يفتح فاه لأكل عنقود
وقد شبّهه ابن المعتزّ بقلامة الظفر، فأحسن حيث يقول: [البسيط]
وجاءني في قميص اللّيل مستترا ... يستعجل الخطو من خوف ومن حذر
ولاح ضوء هلال كاد يفضحه ... مثل القلامة قد قدّت من الظّفر
وأخذه من قول الأعرابيّ: [المتقارب]
كأنّ ابن مزنتها جانحا ... فسيط لدى الأفق من خنصر (1)
ابن مزنتها: الهلال. الفسيط: قلامة الظفر.
قوله: «غذوا»: أي ربّوابه وجعل غذاؤهم واللّبان للآدميات، واللبن للآدميات وغيرهنّ. سحبوا: جرّوا. سحبان: فصيح العرب، وانظره في السادسة عشرة. ذيل اللسان: طرفه، يريد أنهم بفصاحتهم أنسوا ذكر سحبان، فكأنهم جرّوا عليه ثوب النسيان حتى غطّوه، فلم يذكره أحد من هؤلاء، وأصل ذلك أن يسحب ذيل الثوب على أثر ليخفى، كقول امرىء القيس: [الطويل]
* تعفّى بذيل الدّرع إن جئت موئلي *
وكقوله: [الطويل]
__________
(1) البيت لعمرو بن قميئة في ملحق ديوانه ص 193، ولسان العرب (فسط)، وبلا نسبة في أساس البلاغة (فسط)، وجمهرة اللغة ص 835، وشرح عمدة الحافظ ص 434، وكتاب الصناعتين ص 223.(1/135)
خرجت بها تمشي تجرّ وراءنا ... على أثرينا ذيل مرط مرحّل (1)
قوله: «يحفظ عنه»، أي هم علماء يروون العلم فيحفظ عنهم. يتحفّظ، يتحذّر، وأخذ هذا من قول سليمان بن عبد الملك: قد أكلت الطّيب، ولبست اللّين، وركبت الفاره، وتبطّنت العذراء، فلم يبق لي من لذتي إلا صديق أطرح فيما بيني وبينه مؤنة التحفّظ. فهذا الذي طلبه سليمان وجده الحريريّ في أصحابه، وأصل التحفّظ الاجتهاد في حفظ الشيء وقلة الغفلة في الأمور، كأنه على حذر، وأنشد ثعلب: [الكامل]
إنّي لأبغض عاشقا متحفّظا ... لم تتهمه أعين وقلوب (2)
قوله: «يميل الرفيق إليه»، تقول: ملت إلى فلان، إذا أحببته وتقرّبت منه، وملت عنه، إذا كرهته وبعدت عنه. والرفيق: الصاحب يرتفق به في السفر. قوله: «استهوانا»، هوى بنا وشغلنا. والسّمر: الحديث يسمر عليه. وذكر الحريريّ أن أصل السّمر ظل القمر، والسّمر:
الحديث، ومنه أخذ السمير، وغالب أحوال السّمار أنهم يتحدثون في ظل القمر وذكر هذا في تفسير الرابعة والأربعين وهو الأصل، ثم لتسع فيه فصار الجلوس بالليل للحديث يسمى سمرا، على أيّ حال اتفق. روّق: ضرب رواقه، والرواق. الثوب يستظلّ به من الشمس، يريد أنّ الليل ضرب عليهم من ظلامه رواقا فانحجب عنهم به القمر. والبهيم: الخالص السواد، والبهيم الخالص من كلّ لون. والتهويم: النوم بالليل، والتغوير: النوم في القائلة، وقد هوّم الرجل، إذا أسقط النّعاس رأسه فانتبه بسقوطه فرفعه، فحقيقته سجود الرأس من النعاس، قال ذو الرّمّة في ذلك: [الطويل]
وأشعث مثل السّيف قد لاح جسمه ... وجيف المهارى والهموم الأباعد (3)
سقاه النّعاس كأس سكر فرأسه ... لدين الكرى في آخر اللّيل ساجد
ويقال: خفق رأسه فهو خافق، قال ذو الرّمة: [البسيط]
وخافق الرأس فوق الرّحل قلت له ... زع بالزّمام وجوز الليل مركوم (4)
__________
(1) البيت لامرىء القيس في ديوانه ص 14، وخزانة الأدب 11/ 427، والدرر 4/ 10، وشرح التصريح 1/ 387، وشرح شواهد الشافية ص 286، وشرح شواهد المغني 2/ 652، 901، وشرح عمدة الحافظ ص 462، ولسان العرب (نير)، وتاج العروس (رجل)، (رجل)، وبلا نسبة في أوضح المسالك 2/ 339، ورصف المباني ص 330، وشرح شافية ابن الحاجب 2/ 338، ومغني اللبيب 2/ 564، وهمع الهوامع 1/ 244.
(2) البيت بلا نسبة في لسان العرب (حفظ)، وتاج العروس (حفظ).
(3) البيتان في ديوان ذي الرمة ص 130.
(4) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 420، ولسان العرب (زهغ)، وتهذيب اللغة 3/ 101، ومقاييس اللغة 3/ 37ومجمل اللغة 3/ 32، وتاج العروس (خفق)، وديوان الأدب 3/ 396، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 818، ومقاييس اللغة 3/ 286، والمخصص 7/ 152، 12/ 104.(1/136)
وقال الرصافيّ فأحسن: [الخفيف]
ومجدّين للسّرى قد تعاطوا ... غفوات الكرى بغير كؤوس
جنحوا وانحنوا على العيس حتّى ... خلتهم يلثمون أيدي العيس
نبذوا الغمض وهو حلو إلى أن ... وجدوه سلافة في الرؤوس
قوله: «نبأة»، أي صوت. مستنبح: يحكي نباح الكلاب، وكان الرجل إذا تلف بالليل بالصحراء ولم يدر أين يتوجّه، حاكى بصوته نباح الكلب، فإن كان قريبا من العمران نبحت لنباحه كلاب الحيّ، فسمع أصواتها، فقصد الحيّ فتسمّي العرب من يفعل هذا المستنبح. وأنشد أبو عليّ في نوادره: [الطويل]
ومستنبح بات الصدى يستتيهه ... فتاه وجوز الليل مضطرب الكسر
رفعت له نارا ثقوبا زنادها ... تليح إلى الساري: هلّم إلى قدري
وقال حسان بن ماثل: [الطويل]
ومستنبح في جنح ليل دعوته ... بمشبوبة في رأس صمد مقابل (1)
فقلت له أقبل، فإنّك راشد ... وإنّ على النار النّدى وابن ماثل (2)
وقد أنشد أبو تمام في حماسته في باب الأضياف في المستنبح ما فيه كفاية فلينظر هنالك.
قوله: «تلتها»، أي تبعتها. صكّة: دفعة. مستفتح: طالب فتح الباب الملمّ: الزائر:
المدلهمّ: الشديد السواد، من الدّهمة، ولامه زائدة [الرجز]
* * * يا أهل ذا المغنى وقيتم شرّا ... ولا لقيتم ما بقيتم ضرّا
قد دفع اللّيل الّذي اكفهرّا ... إلى ذراكم شعثا مغبرّا
أخا سفار طال واسبطرّا ... حتّى انثنى محقوقفا مصفرّا
مثل هلال الأفق حين افترّا ... وقد عرافناءكم معترّا
وأمّكم دون الأنام طرّا ... يبغي قرّى منكم ومستقرّا
فدونكم صيفا فنوعا حرّا ... يرضى بما احلولى وما أمرّا
وينثني عنكم ينثّ البرّا
* * *
__________
(1) الأبيات في ديوان الرصافي ص 103.
(2) البيت لحسان بن ثامل في لسان العرب (لجج)، وتاج العروس (لجج).(1/137)
المغنى: المنزل. وقيتم: كفيتم، وإنما دعا لهم بهذا، لأن في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يوشك قلوب الناس أن تملأ شرّا حتى يجري الشرّ فضلا بين الناس فلا يجد قلبا يدخله».
اكفهرّ: تراكم ظلامه وكثر. ذرا. شعثا: متغيّر الشعر، والشعث: ترك غسل الرأس حتى يتغيّر. مغبرّا: عليه الغبار، وفي الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا وسخت ثيابه، فقال: «أما وجد هذا ما ينقي به ثيابه!». ورأى رجلا شعث الرأس، فقال: «أما وجد هذا ما يسكّن به شعره!» أخا سفار: صاحب أسفار، أي ملازم لها. اسبطرّ: امتدّ وطال سفره انثنى: رجع عاد. محقوقفا: منحنيا. الأفق: ناحية السماء. افترّ: انفتحت أطرافه ولم يتقارب، كأنه فرّ هذا من هذا، ومنه فررت الدابة، وافترّ: ضحك، وشبّه انحناؤه من السفر بدائرة القمر الناقص، وأكثر ما يوقعون هذا التشبيه على الانحناء من الكبر، قال الشاعر: [الوافر]
تقوّس بعد مرّ العمر ظهري ... وداستني اللّيالي أيّ دوس
فأمشي والعصا تهوي أمامي ... كأنّ قوامها وتر لقوسي
وقال ابن لبّال: [المنسرح]
قوّس ظهري المشيب والكبر ... والدّهر يا عمرو كلّه عبر
كأنني والعصا تدبّ معي ... قوسها وهي في يدي وتر
قوله: «عرا»: قصد. فناءكم: منزلكم، وفناء الدار: ما أحاط بها من الأرض فحمته. معترّا: قاصدا لطلب معروفكم، أمّكم: قصدكم. طرّا: أجمع. يبغي قرى:
يطلب طعاما. احلولى: اشتدّت حلاوته. ينثّ: يفشي وينشر. البرّ: الإحسان
* * * قال الحارث بن همّام: فلما خلبنا بعذوبة نطقه، وعلمنا ما وراء برقه، ابتدرنا فتح الباب وتلقيناه بالتّرحاب، وقلنا للغلام: هيّا هيّا، وهلمّ ما تهيّا.
فقال الضّيف: والّذي أحلّني داركم، لا تلمّظّت بقراكم، أو تضموا لي ألّا تتّخذوني كلّا! ولا تجشّموا لأجلي أكلا فربّ أكلة هاضت الآكل، وحرمته مآكل، وشرّ الأضياف من سام التّكليف، وآذى المضيف، خصوصا أذى يعتلق بالأجسام، ويفضي إلى الأسقام، وما قيل في المثل الذي سار سائره: «خير العشاء سوافره»، إلّا ليعجّل التّعشّي، ويجتنب أكل اللّيل الّذي يعشي، اللهمّ إلّا أن تقد نار الجوع، وتحول دون الهجوع.
* * *
قوله: «خلبنا»، أي خدعنا. علمنا ما وراء برقه، يريد أن ما أبدى لهم من الكلام الفصيح دلهّم على ما عنده من العلم، كما أن البرق إذا ظهر ولمع علم ما وراءه من المطر. ابتدرنا: استبقنا، التّرحاب: من قولهم. مرحبا مرحبا. هيّا هيّا، أي سق سق.(1/138)
* * *
قوله: «خلبنا»، أي خدعنا. علمنا ما وراء برقه، يريد أن ما أبدى لهم من الكلام الفصيح دلهّم على ما عنده من العلم، كما أن البرق إذا ظهر ولمع علم ما وراءه من المطر. ابتدرنا: استبقنا، التّرحاب: من قولهم. مرحبا مرحبا. هيّا هيّا، أي سق سق.
هلم ما تهيّا، أي أحضر ما تيسر. لا تلمّظت بقراكم: لا تذوّقت بطعامكم، وأصل التلمّظ تتبع اللسان ما بقي من الطعام في الفم بعد الأكل. كلا: ثقيلا، وفلان كلّ على أهله، إذا لم يكفهم مؤنة نفسه، والكلّ: الإعياء، وجمعه كلول، وعلى فلان كلّ كثير، قال النابغة الجعديّ: [الطويل]
رأيتم بني سعد كلولا كثيرة ... شهيد بذاك ابنا حماد بن أحمرا (1)
تجشّموا: تكلفوا أكلا: طعاما، والأكلة: الغداء والعشاء، والأصل في هذا أنّ الأكل بالفتح، مصدر أكل، وبالضمّ ما أكل، والأكلة بالفتح: المرّة الواحدة، وبالضم اللقمة، وبالكسر هيئة الأكل. هاضت: أضعفت، وأدخلت عليه هيضة، وهي القيء والاسهال، وأصل المثل: رب أكلة تمنع أكلات وقال ابن هرمة: [الوافر]
وربّت أكلة منعت أخاها ... بلذّة ساعة أكلات دهر
وكم من طالب يشفى بشيء ... وفيه هلاكه لو كان يدري
والمآكل: جمع مأكلة أو مأكل، وهي الأكل، وهي أيضا ما يؤكل سام التكليف، أي عرّض مضيفه إلى تكلّف ما يشقّ عليه. والأذى: الضرر، والمضيف: صاحب المنزل.
يفضي: يؤول. سار سائره: انتشر التحدّث به ومشى في الناس خير العشاء سوافره بواكره، أي ما أكل منه بضوء النهار، واحدها سافرة، والسافرة: التي سفرت نقابها عن وجهها، أي كشفته فكأن اللقمة إذا أبصرتها عند أكلها قد سفرت الظلام عن نفسها، وتجمع على سوافر على هذا المعنى، حكى أبو بكر بن شعبان النحويّ، قال: دخلت على محمد اليزيديّ وهو يتغدّى، فقال: يا أبا بكر، خير الغداء بواكره، فخير العشاء ماذا؟ فقلت: لا أدري، فقال:
دخلت على حسين بن الخادم، وهو يتغدّى فقال: يا أبا سليمان، خير الغداء بواكره، فخير العشاء ماذا؟ فقلت: لا أدري، فقال: كنت بحضرة الرشيد وهو يتغدّى، فدخل الأصمعيّ، فقال: يا أصمعيّ، خير الغداء بواكره، فخير العشاء ماذا؟ فقال: بواصره، يعني ما يبصر من الطعام قبل الظلام. وحكى أبو يعقوب في الغداء التأخير. فقال: قال الحكيم وقيل هو لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه من سرّه البقاء ولا بقاء، فليبكر الغداء، وليباكر العشاء، وليخفف الرّداء يريد ثقل الدّين.
التعشّي: أكل العشاء، وهو ما يؤكل بالعشيّ. يعشي: يورث العشا، وهو سواد البصر ليلا، قال ابن دريد: [مجزوء الكامل]
__________
(1) البيت في ديوان النابغة الجعدي ص 65.(1/139)
وأرى العشا في العين أك ... ثر ما يكون من العشاء (1)
أراد من تأخير العشاء، لأن أكل الطعام بالليل يحدث ضعف البصر أكثر من غيره، وقال كشاجم: [مجزوء الخفيف]
ونديم مخالف ... لا يشاء الّذي أشا (2)
هو في الصّحو لي أخ ... وعدوّ إذا انتشى
اقترحت العشاء يو ... ما عليه فأدهشا
ساعة ثم قالى لي: ... العشا يورث العشا
كأن هذا التطبّب أخذه كشاجم من قول [ضيف] الصاحب بن عباد، قال الصاحب:
ما أفحمني أحد كأبي الحسن البديهيّ، فإنه كان عندي، فقدّمت إليه فاكهة، فأمعن في المشمش، فقلت: المشمش يلطّخ المعدة، فقال: لا يعجبني المضيف إذا تطبّب، فوددت أني لم أقلها.
وورد النهي عن ترك العشاء في حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدعوا العشاء، ولو بكفّ من حشف، وإنّ تركه مهرمة» (3).
وقوله: «تحول دون الهجوع»، أي تمنع من النوم، وجاء في الحديث النّهي عن التكلف، قال سفيان: ذهبت أنا وصاحب لي إلى سلمان، فقال: لولا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن التكلّف لتكلّفت لكم، ثم جاء بخبز وملح، فقال صاحبي: لو كان في ملحنا صعتر! فبعث سلمان مطهرته، فأرهنها، فجاء بصعتر، فلما أكلنا قال صاحبي: الحمد لله الذي أقنعنا بما رزقنا، فقال سلمان: لو قنعت لم تكن مطهرتي مرهونة! وجاء في حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نعم الإدام الخلّ» (4)، وكفى بالمرء إثما أن يسخط ما قرّب إليه. الهجوع، أي النوم.
* * * قال: فكأنّه اطّلع على إرادتنا، فرمى عن قوس عقيدتنا، لا جرم أنّا آنسناه بالتزام الشّرط، وأثنينا على خلقه السّبط ولمّا أحضر الغلام ما راج، وأذكى بيننا السّراج، تأمّلته فإذا هو أبو زيد، فقلت لصحبي: ليهنئكم الضّيف الوارد، بل
__________
(1) البيت في ديوان ابن دريد ص 30.
(2) الأبيات في ديوان كشاجم ص 106.
(3) أخرجه الترمذي في الأطعمة باب 46، بلفظ: «تعشّوا ولو بكف من حشف».
(4) أخرجه أبو داود في الأطعمة باب 39، والنسائي في الأيمان باب 21، وابن ماجه باب 33، والدارمي في الأطعمة باب 18.(1/140)
المغنم البارد! فإن يكن أفل قمر الشّعرى فقد طلع قمر الشّعر، أو استسرّ بدر النّثرة فقد تبلّج بدر النّثر. فسرت حميّا المسرّة فيهم، وطارت السّنة عن مآقيهم، ورفضوا الدّعة الّتي كانوا نووها وثابوا إلى نشر الفكاهة بعد ما طووها وأبو زيد مكبّ على إعمال يديه، حتّى إذا استرفع ما لديه، قلت له: أطرفنا بغريبة من غرائب أسمارك، أو عجيبة من عجائب أسفارك.
* * * قوله: «عقيدتنا» أي ما انعقدت عليه نيّاتنا، ويقال: رميت عن القوس، ولا يقال:
رميت بها، إلا أن ترميها من يدك. لا جرم، بمعنى حقا، ولا بدّ ولا محالة. السّبط:
السهل. راج: تيسر. أذكى: أوقد. السّراج: المصباح تأملته: نظرته ليهنئكم، أي ليسرّكم. الوارد: القاصد. المغنم البارد: الهنىء الذي يغنم دون قتال ولا تعب. أفل:
غاب الشّعري: كوكب معروف، وهما شعريان: العبور والغميصاء، سمّوها عبورا لأنهم يزعمون أنها عبرت المجرّة، وسموا الأخرى الغميصاء لأنها بكت على أختها حتى غمصت عينها. أي خفيت استسرّ: غاب وخفي. النّثرة: ثلاثة أنجم مجتمعة. تبلّج: ظهر وأضاء. النثر: ضد النظم، يقول: إن غاب قمر السماء الذي يتحدّث بضوئه، فهذا أبو زيد قمر الفصاحة قد طلع، فجدّدوا حديثكم ودعوا النوم.
سرت: مشت حميّا المسرّة: شدة السرور، والحمّيا: حدّة الخمر وتسمّى الخمر الحميّا. السّنة: أخفّ من النوم. مآقيهم: عيونهم، والمآق: طرف العين من جهة الأنف.
رفضوا: تركوا. الفكاهة: الحديث المظرّف، وأصلها المزاح، ومنه قولهم: لا تمازحنّ صبيّا ولا تفاكهنّ أمة، قال ابن الأنباريّ: المعنى: لا تمازحنّ، إلا أنه استسمج إعادة اللفظ فأتى بلفظ في مثل معناه، مخالف للفظه. وتفاكهنّ، مشتق من الفكاهة، وهي المزاح، وقال طرفة: [الطويل]
وإن امرأ لم يعف يوما فكاهة ... لمن لم يرد سوءا بها لجهول (1)
ووصف أبو العيناء بن أبي دواد، فقال: له هزل يؤثم به، وجدّ يتقدم الجدّ، وبين ذلك فكاهة تستملح، ودعا به تستظرف. ومزح، مصادره ثلاثة: مزح ومزاح وممازحة.
اليزيديّ: بالكسر لا غير. أبو عمرو: ما ذكره اليزيديّ مصدر مازحت مزاحا وممازحة.
قوله: «مكبّ»، أي مائل الرأس. إعمال يديه: استعمالها بالأكل. واسترفع: أمر برفعه، ويروى «استفرغ»، أي أتمّ. أطرفنا، أي حدّثنا بطرفة، وهي الحديث المستملح، والطرفة عند العرب: الشيء المحدث الذي لم يكن عرف، وجاء فلان بطرفة وشيء
__________
(1) البيت في ديوان طرفة بن العبد ص 120.(1/141)
طريف. وهو مشتقّ من الطريف والطارف، وهما المال المستحدث الذي جمعه الرجل واكتسبه. والتالد: ما ورثه عن الآباء، قال الشاعر: [الطويل]
وأصبح مالي من طريف وتالد ... لغيري وكان المال بالأمس ماليا
أسمارك: جمع سمر، وهو الحديث يسمر عليه.
* * * فقال: لقد بلوت من العجائب ما لم يره الرّاءون، ولا رواه الرّاوون وإنّ من أعجبها ما عابنته اللّيلة قبيل انتيابكم، ومصيري إلى بابكم فاستخبرناه عن طرفة مرآه، في مسرح مسراه، فقال: إنّ مرامي الغربة، لفظتني إلى هذه التّربة، وأنا ذو مجاعة وبؤسى، وجراب كفؤاد أمّ موسى. فنهضت حين سجا الدّجى، على ما بي من الوجى، لأرتاد مضيفا، أو أقتاد رغيفا، فساقني حادي السّغب، والقضاء المكنّى أبا العجب، إلى أن وقفت على باب دار، فقلت على بدار:
* * * قوله: «ما لم يره الراءون»، أي الناظرون إليه، وقوله: «ولا رواه الراوون» أي حفظه الحافظون، عاينته: شاهدته ورأيته بعيني. إنتيابكم: قصدكم مصيري: رجوعي.
مرآه: رؤيته. مسرح: حيث يسرح ويمشي. مسراه: سيره بالليل مرامي: قواذف التّربة:
البلدة مجاعة: جوع. بؤسى: ضرر. جراب: وعاء الزاد. كفؤاد أم موسى، أي فارغا لقوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤََادُ أُمِّ مُوسى ََ فََارِغاً} [القصص: 10].
[موسى عليه السلام]
وسمّي موسى لأنّهم وجدوه بين ماء وشجر، ومو بالقبطية هو الماء، وشا الشجر، فعربت فجعلت الشين سينا. وهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، ولم تزل بنو إسرائيل من عهد يوسف عليه السلام تحت أيدي الفراعنة، وهم على بقايا من دين إبراهيم عليه السلام المشروع له وإسحاق ويعقوب ويوسف عليهم الصلاة والسلام، حتى كان فرعون الذي بعث موسى عليه السلام إليه، ولم يكن منهم فرعون أعتى على الله منه ولا أطول عمرا. وكان شديد الغلظة سيّىء الملكة. واسمه الوليد بن مصعب، وكان اتخّذ بني إسرائيل خولا، فصنف منهم يبنون، وصنف يحرثون، ومن لا عمل له وظّف عليه الجزية، فرأى في منامه أن نارا أقبلت من المقدس، فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل، فسأل عن رؤياه، فقيل له:
يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه رجل يكون على يديه هلاك مصر، فأمر بقتل كلّ مولود يولد في بني إسرائيل. فجمع القوابل وعهد إليهنّ بذلك، فذبح الولدان
وعذّب الحبالى، حتى يطرحن ما في بطونهنّ، حتى كاديفنيهم، فقيل له: إنما هم خولك، وإنك إن تفنهم ينقطع النسل. فأمر بقتل الغلمان عاما ويستحيون عاما، فولد هارون في السنة التي يستحيون فيها. وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها.(1/142)
يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه رجل يكون على يديه هلاك مصر، فأمر بقتل كلّ مولود يولد في بني إسرائيل. فجمع القوابل وعهد إليهنّ بذلك، فذبح الولدان
وعذّب الحبالى، حتى يطرحن ما في بطونهنّ، حتى كاديفنيهم، فقيل له: إنما هم خولك، وإنك إن تفنهم ينقطع النسل. فأمر بقتل الغلمان عاما ويستحيون عاما، فولد هارون في السنة التي يستحيون فيها. وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها.
فلما وضعته أمه حزنت لشأنه، فأوحى الله إليها: أن أرضعيه، فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ وهو النيل ولا تخافي ولا تحزني. فعملت تابوتا وجعلته فيه، وألقته في اليمّ، وقالت لأخته: قصّيه، أي اقتفي أثره، فحمله الماء حتى أدخله بين أشجار تحت قصر فرعون، فخرج جواري فرعون يغتسلن، فوجدن التابوت، فأدخلنه إلى آسية امرأة فرعون، وهي بنت مزاحم، إسرائيليّة، فكشفت عنه التابوت، فرأته. فرحمته وأخذته، وأخبرت به فرعون، فأراد أن يذبحه، وخشي أن يكون المولود الذي حذّر منه، فلم تزل به آسية حت تركه لها، وذلك قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} [القصص: 8]، فاللام من {لِيَكُونَ}
للعاقبة، ولم يكن لفرعون ولد، فاتّخذه له ولدا، فارتادوا له المرضعات، فلم يقبل ثدي واحدة منهن، ولما غاب أمره عن أمه، كاد قلبها يطير وجدا عليه، فبعثت أخته كأنّها تلتمس رضاعه، فلما رأت أسفهم عليه حيث لا يقبل على مرضعة وذلك قوله تعالى {وَحَرَّمْنََا عَلَيْهِ الْمَرََاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 10] قالت: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم؟ فقالوا لها: دلّينا على ذلك، فذهبت فجاءت بأمه.
فلما رأته كادت لشدّة حبّها فيه، وفرحها به أن تقول: هو ابني، وتفتضح، فعصمها الله من ذلك، وذلك قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤََادُ أُمِّ مُوسى ََ فََارِغاً إِنْ كََادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلََا أَنْ رَبَطْنََا عَلى ََ قَلْبِهََا} [القصص: 12]، فأعطته ثديها، فأخذ يرضعه. فربّته في قصر فرعون، فلما تحرّك عرضته آسية على فرعون، فلما أخذه مدّ موسى يده إلى لحيته فنتفها، فقال فرعون: عليّ بالذبّاحين، فإنما هو هذا! فقالت آسية: قرّة عين لي ولك، لا تقتلوه فإنه صبيّ لا يعقل، ودعت له بحمر وياقوت لتختبره، فطرح جبريل عليه السلام يده في النار وأخذ قطعة منها، فوضعها موسى عليه السلام في فمه، فأحرقته. فتكره فرعون، فكبر في حجره. فلمّا ترعرع تبنّاه، فكان يركب مراكبه ويلبس ملابسه، ويدعى ابن فرعون.
ثم إن موسى عليه السلام أخبر أن فرعون قد ركب، فركب أثره، فأدركه ببلد منف، فدخلها وقد أحليت لفرعون وليس في طرقها أحد، فرأى إسرائيليا مع قبطيّ يقتتلان، فاستغاثه الإسرائيليّ، فوكز القبطيّ فقضى عليه، فكان من قصته معهما ما قص الله تعالى في كتابه، حتى خرج خائفا يترقب إلى مدين.
وأما رجوعه منها إلى فرعون بأنه رسول الله إلى أن غرق فرعون في البحر وجنوده، فمذكور في الثامنة عشرة.
* * *
قوله: «نهضت»، أي مشيت. سجا الدجى: سكن بالظلام وغطّى كل شيء.(1/143)
* * *
قوله: «نهضت»، أي مشيت. سجا الدجى: سكن بالظلام وغطّى كل شيء.
الوجى: الحفا. أرتاد: أطلب. مضيفا: منزلا، وأضافه: أنزله. وضافه: نزل به فهو ضيفه، أي النازل به. أقتاد: أقود. حادي السغب: سائق الجوع [الرجز]
* * * حيّيتم يا أهل هذا المنزل ... وعشتم في خفض عيش خضل
ما عندكم لابن سبيل مرمل ... نضو سرى خابط ليل أليل
جوى الحشى على الطّوى مشتمل ... ما ذاق مذ يومان طعم المأكل
ولا له في أرضكم من موئل ... وقد دجا جنح الظّلام المسبل
وهو من الحيرة في تململ ... فهل بهذا الرّبع عذب المنهل
يقول لي: ألق عصاك وادخل ... وابشر ببشر وقرى معجّل!
* * *
حيّيتم: طابت حياتكم، والتحيّة البقاء. خفض: لين وخفض عيشه خفضا، إذا أخصب، خضل: ناعم، وخضل: الشيء يخضل خضلا: ابتلّ ابن سبيل: خاطر طريق، وهو الغريب، وسمّي الغريب ابن السّبيل، لأنه إذا ظهر على قوم لا يعرفونه لم يعرف له نسب إلا السبيل الذي جاء منه. ومرمل: لا زاد له، وأرمل القوم: فنى زادهم.
ومن أبيات اللّغز في ابن السبيل: [الطويل]
ونحن ابن من لا ينكر النّاس فضله ... وليس له في الناس من طالب وترا
فإن تحفظوا فينا أبانا فحقّنا ... رعيتم وإلّا أوقدت ناركم شرّا
أي سبيتم في كل مكان، كما قال الآخر: [الطويل]
وأنت الذي شيّبتني قبل شيبتي ... وأوقدت لي نارا بكلّ مكان
ومنها أيضا: [الوافر]
وأحيانا يكون كبير سنّ ... وأحيانا يكون من الشّباب
ومنسوب إلى من لم يلده ... كذاك الله أنزل في الكتاب
قوله: «نضو سرى»، أي هزيل من مشى اللّيل في الأسفار. وخابط ليل: الذي يمشي فيه على غير هداية. أليل: شديد السواد. جوى الحشى: فاسد الجوف من الجوع، وهو الطوى. مشتمل: منضمّ، أي قد انضمّ جوفه على الجوع، ففسدت أحشاؤه. موئل: ملجأ، من وألت إلى كذا، أي لجأت. دجا: ألبس. جنح: سواد:
المسبل. المطبق. تململ: تقلّب وتوجّع. والرّبع: المنزل، والمنهل: موضع الماء.(1/144)
ويقال: ألقى عصاه، إذا ترك السّير وأقام، وروى الأصبعيّ عن بعض البصريين أنه قال: سمّيت العصا عصا لأن اليد والأصابع تشتمل عليها، وهو من قول العرب: عصوت القوم إذا جمعتهم على خير أو شرّ، ويقال: عصي بالسيف يعصى إذا ضرب به كما يضرب بالعصا. بشر: طلاقة وجه.
* * * قال: فبرز إليّ جوذر، عليه شوذر، وقال: [الرجز]
وحرمة الشّيخ الّذي سنّ القرى ... وأسّس المحجوج في أمّ القرى
ما عندنا لطارق إذا عرى ... سوى الحديث والمناخ في الذّرا
* فما ترى فيما ذكرت ما ترى *
* * *
برز: خرج. جؤذر: ظبي، وأصله ولد الغزالة. الشوذر: ثوب قصير.
[إبراهيم عليه السلام]
والشيخ الذي سنّ القرى، هو إبراهيم عليه السلام، واختصّه بلقب الشيخ لأنه أوّل من شاب، ولما رأى الشيب، قال: يا ربّ، ما هذا؟ فأوحى الله إليه، يا إبراهيم، هذا وقار، فقال: يا ربّ زدني وقارا. وشاب وهو ابن مائة وخمسين سنة، وذلك أنه لمّا ولدت سارة إسحاق، قال الكنعانيون: ألا تعجبون لهذا الشيخ والعجوز وجدا غلاما، فتبنّياه! فصوّر الله إسحاق على صورة إبراهيم عليهما السلام، فلم يفصل بينهما، فوشم الله إبراهيم بالشيب.
قوله: «سنّ»: ابتدأ، وجعله سنّة، وهو أول من ضيّف الضيف، وأطعم المساكين، وقصّ شاربه، وقلّم أظافره واستحدّ واستاك، وفرق شعره، ومضمض واستنثر، واستنجى بالماء. وأسّس المحجوج، أي بنى أساس البيت الحرام.
وأمّ القرى: مكّة. والطارق: الآتي بالليل. والمناخ: موضع البروك. يقري:
يضيف. الكرى: النوم برى أعظمه، أي أزال اللحم عنها. انبرى: اعترض.
[قرى الضيف]
وقال حبيب في أنّ أوّل من قرى الضيف إبراهيم عليه السلام: [الكامل]
للجود سهم في المكارم والتّقى ... لا ربهّ المكدي ولا المسهوم (1)
وبيان ذلك أن أوّل من قرى ... وحبا خليل الله إبراهيم
__________
(1) المكدي: الفقير، والمسهوم: الضامر. والبيت في ديوان أبي تمام ص 300.(1/145)
وقال أبو بحر صفوان بن إدريس في فتى اسمه إبراهيم، وأبدع ما شاء حيث قال: [الكامل] أسميّ من سنّ القرى رفقا بمن ... يفنى عليك صبابة وغراما
أنا ضيف حسنك فاصطنعني إنه ... ضيف الهوى يستوجب الإكراما
لمّا نظرت نجوم خيلان بدت ... في صحن وجنتك استفدت مقاما
أفنيت جسم الصبّ شوقا مثلما ... أفنى سميّك قبلك الأصناما
يا زهرة سكنت فؤادي غضّة ... إنّي تبوّأت اللهيب كماما
حتى كأنّ الحبّ قال لأضلعي: ... يا نار كن بردا له وسلاما
وقال أبو بكر بن ميمون فيما يتعلق بهذه النار: [المتقارب]
أبا قاسم والهوى جنّبة ... وإني من حرّها لم أفق
تقحّمت جاحم نار الحشى ... وخضت بحار سواد الحدق
أكنت الخليل وكنت الكليم ... أمنت الجوى وأمنت الغرق!
انظر إلى الأضياف الرابعة والأربعين.
* * * فقلت: ما أصنع بمنزل قفر، ومنزل حلف فقر! ولكن يا فتى، ما اسمك، فقد فتنني فهمك؟ فقال: اسمي زيد، ومنشىء قيد، ووردت هذه المدرة أمس، مع أخوالي من بني عبس.
* * * قوله: «بمنزل قفر» كأن هذا المنزل هو الذي وصفه الآخر حيث يقول: [الرمل] ليس إغلاقي لبابي أنّ لي ... فيه ما أخشى عليه السّرقا
إنما أغلقته كي لا يرى ... سوء حالي من يمرّ الطّرقا
منزل أوطنه الفقر فلو ... يدخل السارق فيه سرقا
[البؤس والحرمان]
وإنما أخذ الحريري هذا المعنى من قصة يزيد المدني، وكان من أهل الملح، فاستضافه أعرابيّ، فقال: ما عندنا إلا الأسودان، فقال الأعرابيّ: خير كثير، فقال: لعلك تظنّهما التمر والماء! والله ما هما إلا الليل والحرّة، فلم يكن ليزيد دار إلا الحرّة وهي أرض سوداء فيها حجارة سود، وهي مقبرة المدينة والقبور المجصّصة تكون بالليل موحشة، فما ظنك بقبور سود في أرض سوداء في ظلمة الليل! كيف حال من يكون هذا قراه! فبهذا البلاء أعرض يزيد عن ضيافة الأعرابيّ.(1/146)
ونحو هذا من أقوال المازحين قول أبي الشمقمق ويروى عن وهب عابد قرطبة: [الوافر] برزت من المنازل والقباب ... فلم يعسر على أحد حجابي
فمنزلي الفضاء وسقف بيتي ... سماء الله أو قطع السحاب
وإنّي لم أجد مصراع بيت ... يكون من السّحاب إلى التراب
ولا أنشقّ الثرى عن عود نحت ... أؤمّل أن أشدّ به ثيابي
ولا خفت الإباق على عبيدي ... ولا خفت الهلاك على دوابي
وفي ذا راحة وفراغ بال ... فدأب الدهر ذا أبدا ودابي
وقال آخر: [الطويل]
ولمّا التمست الرزق فانجذّ حبله ... فلم يصف لي من بحره العذب مشرب
خطبت إلى الإعدام إحدى بناته ... فزوّجنيها الفقر إذ جئت أخطب
فأولدتها الحرف الشّقيّ فماله ... على الأرض غيري والد حين ينسب
فلو تهت في البيداء واللّيل مسبل ... عليّ جناحيه لما لاح كوكب
ولو خفت شرّا فاستترت بظلّه ... لأقبل ضوء الشمس من حيث تغرب
ولو جاد إنسان عليّ بدرهم ... لرحت إلى رحلي وفي الكف عقرب
ولو يمطر الناس الدنانير لم يكن ... بشيء سوى الحصباء رأسي يحصب
وإن يقترف ذنبا ببرقة مذنب ... فإنّ برأسي ذلك الذنب يعصب
وإن أر خيرا في الأنام فنازح ... وإن أر شرّا فهو منّى مقرّب
أمامي من الحرمان جيش عرمرم ... ومنه ورائي جحفل حين أركب
وقال آخر: [الخفيف]
لو ركبت البحار صارت أجاجا ... لا ترى في متونها أمواجا
ولو أنّي وضعت ياقوته حم ... راء في راحتي لصارت زجاجا
ولو أنّي وردت عذبا فراتا ... عاد لا شكّ فيه ملحا أجاجا
وقال آخر: [الخفيف]
لو وردت البحار أطلب ماء ... جفّ قبل الورود ماء البحار
أو مسست العود النّضير بكفّي ... لذوى بعد بهجة واخضرار
أو رمى باسمى النجوم الدّراري ... لا نزوى ضوءها عن الأبصار
ولو أني بعت القناديل يوما ... أدغم اللّيل في ضياء النهار
وقال شواش: [الكامل](1/147)
لو وردت البحار أطلب ماء ... جفّ قبل الورود ماء البحار
أو مسست العود النّضير بكفّي ... لذوى بعد بهجة واخضرار
أو رمى باسمى النجوم الدّراري ... لا نزوى ضوءها عن الأبصار
ولو أني بعت القناديل يوما ... أدغم اللّيل في ضياء النهار
وقال شواش: [الكامل]
كسدت شواشينا وقلّ معاشنا ... فسعودنا مقرونة بنحوس
فكأنما قطعت رؤوس الناس أو ... خلقوا لشقوتنا بغير رؤوس
قيل لأبي الشمقمق: أبشر فإنّا روينا في الحديث: «العارون في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة»، فأنشأ يقول: [مجزوء الرمل]
أنا في حال تعالى ... الله ربي أيّ حال
ليس لي شيء إذا قيل ... لمن ذا؟ قلت ذا لي
فأراضي الله فرشي ... والسّموات ظلالي
ولقد أفلست حتّى ... حلّ أكلى لعيالي
ومن رأى شيئا محالا ... فأنا عين المحال
لو بقي في الناس حرّ ... لم أكن في مثل حالي
قوله: «منزل»، أي مضيف. حلف: صاحب. منشىء: موضعي الذي نشأت فيه.
[مدينة فيد]
وفيد بلد مشهور، في نصف المسافة التي بين مكة وبغداد، وفيها عين ماء، وينزلها عمّال طريق مكة وأهلها من طيّىء، وهم في سفح جبلهم المعروف بسلمى، وقد ذكرها زهير في قوله: [البسيط]
ثم استمرّوا وقالوا إنّ مشربكم ... ماء بشرقيّ سلمى فيد أو ركك (1)
قال الزجاجيّ: سمّيت بفيد بن حام، وهو أوّل من نزلها، قال: ويقول أهل العراق: هي من قولهم: فاد الرجل يفيد فيدا إذا مات، أو من قولهم: استفاد فائدة، وقلّما يقولون: أفاد فائدة، والفيد أيضا نور الزّعفران. قال شيخنا ابن جبير رضي الله عنه: إنه خرج من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بضحوة يوم السبت الثامن من المحرم سنة سبع وتسعين مع أمير الحاج، وصبّحوا فيدا يوم الأحد في اليوم الرابع عشر من خروجهم. ثم وصفها فقال: هي مصر كبير، منفرج في بسيط من الأرض، يمتدّ حوله ربض، يطيف به سور عتيق. وهو معمور بسكان من الأعراب يتعيشون من الحجّاج في التّجارات
__________
(1) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 167، والعقد الفريد 5/ 355، ولسان العرب (فيد)، (ركك)، وتاج العروس (فيد)، (ركك)، والمحتسب 1/ 87، 2/ 27، ومعجم البلدان (ركك)، والمنصف 2/ 309، وبلا نسبة في معجم ما استعجم ص 1033، والمقتضب 1/ 200، والمعرب 2/ 156، والممتع في التصريف 2/ 643.(1/148)
والمبايعات وغير ذلك من المرافق، وفيها يترك الحجاج بعض أزوادهم إعدادا للإرمال (1)
من الزاد عند انصرافهم يتركونها عند معارفهم، بها، فإذا رجعوا أخذوا أزوادهم، ووهبوا لمن أودعوها عندهم شيئا من ذلك.
وهي نصف الطريق من بغداد إلى مكّة أو أقلّ يسيرا، ومنها إلى الكوفة اثنا عشر يوما في طريق سهلة. ودخلها أمير الحاجّ على تعبية وأهبة إرهابا للمجتمعين بها من الأعراب لئلّا يداخلهم الطمع في الحاجّ، لكنّهم لا يجدون إليهم سبيلا والحمد لله.
والمياه كثيرة في آبارها، تمدّها عيون تحت الأرض، وامتلأت أيدي الحجاج القادمين من أغنام العرب بالمبايعة، فلم يبق خيمة ولا ظلالة إلا وإلى جانبها كبش أو كبشان، بحسب الوجد، فعمّ جميع المحلّة الغنم واللبن والسمن والعسل، فأكلوا واحتملوا، وكان ذلك اليوم عيدا للركب.
قال: وبهذه المحّلة العراقية، وما انضاف إليها من الخراسانية والموصليّة وسائر جهات الآفاق ينزل من صحبة أمير الحاج جمع لا يحصى عددهم إلا الله تعالى، يغصّ بهم البسيط الأفيح، ويضيق بهم المهمه الضحضح، فترى الأرض تميد بهم ميدا، وتموج بجمعهم موجا، فتصير بهم بحرا طامي العباب، ماؤه السراب، وسفينه الركاب، وشراعه الظّلال المرفوعة والقباب، ويسير سير السحاب، متداخلا بعضها على بعض، فتعاين تزاحما في البراح المنفسح يهول ويروع، واصطكاكا لمبيع التجارات فيه، فبعضها ببعض مقروع فمن لم يشاهد هذا السفر العراقي لم يشاهد عجبا يتحدّث به، ويتحف السامع بغرائبه، والقرة والقوّة لله وحده وحسبك أنّ النازل في منزل من هذه المحلّة متى خرج لبعض حاجاته، ولم يكن له دلالة على موضعه ضلّ وتلف، وعاد منشودا بجملة الضوالّ، وربما اضطر به الحال إلى الوصول لمضرب الأمير ورفع المسألة إليه، فيأمر أحد المنشدين بما أعدّ لذلك فيردفه خلفه على جمل، ويطوف به المحلّة مناديا باسم جماله وبلده، إلى أن يؤدّيه إلى رفقته.
وعجائب هذه المحلّة كثيرة، ولأهلها من اليسار ما يغنيهم على ما هم بسبيله.
وما ذكرنا أمر هذه المحّلة إلا ليستدلّ على أن فيها بلدا في غاية القوّة والعمارة، حيث أمدّ هذا الجمع الكثير والجم الغفير بما تقدم من أنواع الأرزاق، وإن قبائل طيىء متوفرة بحيث تطلع إلى الغارة على مثل هذه المحلّة. والملك لله وحده مفني الجميع بعد كمال العدّة.
قوله: «وردت»، أي أتيت. المدرة: البلد. عبس: قبيلة.
* * * __________
(1) الإرمال: أي نفاد الزاد.(1/149)
فقلت له: زدني إيضاحا، عشت ونعشت، فقال: أخبرتني أمّي برّة، وهي كاسمها برّة أنّها نكحت عام الغارة بماوان، رجلا من سراة سروج وغسّان، فلمّا آنس منها الإثقال وكان باقعة فيما يقال ظعن عنها سرّا وهلمّ جرّا فما يعرف:
أحيّ هو فيتوقّع، أم أودع اللّحد البلقع.
قال أبو زيد: فعلمت بصحّة العلامات أنّه ولدي، وصدفني عن التّعرّف إليه صفر يدي، ففصلت عنه بكبد مرضوضة، ودموع مفضوضة. فهل سمعتم يا أولي الألباب، بأعجب من هذا العجاب! فقلنا: لا ومن عنده علم الكتاب، فقال:
أثبتوها في عجائب الاتّفاق، وخلّدوها بطون الأوراق، فما سير مثلها في الآفاق فأحضرنا لدّواة وأساودها، ورقشنا الحكاية على ما سردها.
* * * إيضاحا: بيانا. نعشت: جبرت. وبرّة الأول اسمها والثاني صفتها، يريد أنها مكرّمة كثيرة البرّ. نكحت: تزوّجت. عام الغارة، أي عام أغار عليهم عدوّهم. ماوان: بلدة.
سراة: سادة. آنس: أبصر والإثقال: الامتلاء بالولد. باقعة: داهية، ويقال: إنه الذي جال بقاع الأرض وعرف خيرها وشرها.
قال ابن الأنباريّ رحمة الله: فلان باقعة، أي داهية حذر محتال حاذق، والباقعة عند العرب: الطائر الحذر المحتال الذي يشرب الماء من المباقع (1)، ولا يرد المشارع والمياه المحصورة خوفا من أن يحتال عليه فيصطاد، ثم شبّه به كل حذر محتال. هلم جرّا، معناه إلى الآن، قال ابن الأنباريّ: هلمّ جرّا، سيروا على هينتكم، أي تثبّتوا على سيركم، ولا تجهدوا أنفسكم ولا تشقّوا عليها، أخذ من الجرّ في السوق، وهو أن تترك الغنم والبقر ترعى في السير، وينتصب «جرّا» في قول الكوفيين على المصدر، لأن في «هلمّ» معنى «جرّ»، وفي قول البصريين: هو مصدر في موضع الحال تقديره «هلم جارّين» أي مستثبتين، قياسا على: جاء عبد الله مشيا، وأقبل ركضا، وجاء وأقبل عند الكوفيين بمعنى مشى وركض وقال بعضهم: ينصب على التمييز. يتوقّع: ينتظر، أودع:
أدخل اللّحد البلقع: اللحد الخالي. صدفني: أمالني. التعرّف: أن يعرّفه أنه أبوه. صفر يدي: فراغها من الدراهم. فصلت: زلت مرضوضة: مدقوقة مكسورة. مفضوضة:
مفترقة. أولي الألباب: أهل العقول. العجاب: مبالغة في العجب.
خلدوها، أي أثبتوها. الآفاق: البلدان وجهات الأرض جميعها. أساودها:
__________
(1) المباقع: أي الأمكنة التي يستقى منها.(1/150)
أقلامها. رقشنا: كتبنا. على ما سردها، أي كما حكاها وتكلّم بها.
* * * ثم استبطنّاه عن مرتآه، في استضمام فتاه، فقال: إذا ثقل ردني، خفّ عليّ أن أكفل ابني فقلنا: إن كان يكفيك نصاب من المال، ألّفناه لك في الحال فقال: وكيف لا يقنعني نصاب، وهل يحتقر قدره إلّا مصاب!
قال الراوي: فالتزم منه كلّ منّا قسطا، وكتب له به قطّا، فشكر عند ذلك الصّنع، واستنفد في الثّناء الوسع، حتى إنّنا استطلنا القول، واستقللنا الطّول. ثمّ إنّه نشر من وشي السّمر، ما أزرى بالحبر، إلى أن أظلّ التّنوير، وجشر الصّبح المنير، فقضّيناها ليلة غابت شوائبها، إلى أن شابت ذوائبها، وكمل سعودها، إلى أن انفظر عودها.
* * * استبطنّاه: سألناه وطلبنا منه معرفة باطنه. مرتآه: رأيه وغرضه. ردني: كمّي.
أكفل: أضمّ. نصاب: عشرون دينارا. ألفناه: جمعناه. يقنعني: يكفيني. مصاب:
مجنون. قوله: «قسطا»، أي نصيبا. قطّا: كتابا. الصنع: الفعل الجميل، استنفد:
استتمّ. الوسع: الطاقة، ووسع الرجل قدر ما يجد من مال أو كلام أو غير ذلك، وهو من السعة، أي أثنى غاية ما يمكنه من الثناء. استطلنا: استكثرنا ووجدناه كثيرا طويلا، والطّول: الإنعام والفضل، أي رأينا ما أنعمنا به عليه قليلا. والوشى: ثياب مرقومة بألوان شتّى من الحرير. والحبر: ثياب فيها خطوط ورقوم مختلفة، والحبر تصنع باليمن، فشبّه حسن حديثه بالوشى، وخصّ الحبر لحسن فنونه، وقال ابن الزقّاق وكأنه وصف الليلة والعجاب الذي سامرهم به أبو زيد، وزاد عليه الشجاعة:
[الكامل]
لله ليلتنا التّي استجدى بها ... فلق الصّباح لسدفة الإظلام
طرأت عليّ مع النجوم بأنجم ... من فتية بيض الوجوه كرام
إن حوربوا فزعوا إلى بيض الظّبا ... أو خوطبوا فزعوا إلى الأقلام
فترى البلاغة إن نظرت إليهم ... والبأس بين يراعة وحسام
جتر: طلع. قضيناها: أتممناها. شوائبها: ما ينكدها ويكدرها. الذوائب: الشعر الطويل الأسود، وأراد به ظلام الليل، وجعل فيه بياض الصبح بمنزلة الشيب في سواد الشعر، قال ابن دريد: [الرجز]
إمّا ترى رأسي حاكي لونه ... طرّة صبح تحت أذيال الدّجى
انفطر: اشنقّ وطلع. عودها: بياض صبحها، ويقال: انفطر القضيب، إذا بدا نبات ورقه، وقال امرؤ القيس: [المتقارب](1/151)
إمّا ترى رأسي حاكي لونه ... طرّة صبح تحت أذيال الدّجى
انفطر: اشنقّ وطلع. عودها: بياض صبحها، ويقال: انفطر القضيب، إذا بدا نبات ورقه، وقال امرؤ القيس: [المتقارب]
* كخرعوبة البانة المنفطر (1) *
* * *
ولمّا ذرّ قرن الغزالة، طمر طمور الغزالة، وقال: انهض بنا لنقبض الصّلات، ونستنضّ الاحالات، فقد استطارت صدوع كبدي، من الحنين إلى ولدي. فوصلت جناحه، حتّى سنّيت نجاحه فحين أحرز العين في صرّته، برقت أسارير مسرّته، وقال لي: جزيت خيرا عن خطا قدميك، والله خليفتي عليك! فقلت: أريد أن أتّبعك لأشاهد ولدك النّجيب، وأنافثه لكي يجيب.
* * * قرن الغزالة: شعاعها وحاجبها، والغزالة من أسماء الشمس، وأسماؤها كثيرة ذكرها يعقوب وغيره، وذكر منها عشرة خمسة بالهاء، وهي: الغزالة، والجارية، والجونة، ومهاة، والإلاهة. وخمسة بغير الهاء وهي: الشمس، والسّراج، والضّحّ، وذكاء، وبوح.
طمر: وثب. الغزالة: الظبية. انهض أي قم: الصّلات: العطايا. نستنضّ:
نستحضر. والنّاضّ: المال الحاضر. والإحالات: الديون التي وعدوه بها. استطارت:
توسعت وانتشرت. صدوع: شقوق. والحنين: الشوق والرحمة.
وصلت جناحه، أي مشيت معه ويدي في يده، وجناح الرجل: يده. سنيّت:
يسّرت. نجاحه: قضاء حاجته. أحرز العين: حصّل المال. وصرّته: خرقة دراهمه.
برقت: لمعت. أسارير: طرق الوجه، ومنه الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فخرج تبرق أسارير وجهه»، ويقال لها الأسرّة ويقال لخطوط الكف: الأسرّة، وقد جمعهما التّهامي في لفظ واحد في قوله: [الكامل]
يبدي أسرّة وجهه ويمينه ... في ساعة الإعسار والإيسار
مسرّته: سروره، أراد: انطلق وجهه سرورا بالمال. خطا: مشى. والنجيب: الجيّد العقل الكريم الأصل. قوله: «أنافثه»، أي أكلمه.
* * * __________
(1) صدره:
برهرهة رؤدة رخصة
والبيت لامرىء القيس في ديوانه ص 157، ولسان العرب (خرعب)، (بون)، (بره)، وتهذيب اللغة 3/ 275، والمخصص 10/ 214، 11/ 3، وديوان الأدب 2/ 87، وتاج العروس (خرعب) (بون)، (بره)، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 2/ 251.(1/152)
فنظر إليّ نظرة الخادع إلى المخدوع وضحك حتّى تغرغرت مقلتاه بالدّموع، وأنشد: [مخلع البسيط]
يا من تظنّى السّراب ماء ... لمّا رويت الّذي رويت
ما خلت أن يستسرّ مكري ... وأن يخيل الّذي عنيت
والله ما برّة بعرسي ... ولا لي ابن به اكتنيت
وإنّما لي فنون سحر ... أبدعت فيها وما اقتديت
لم يحكها الأصمعيّ فيما ... حكى، ولا حاكها الكميت
تخذتها وصلة إلى ما ... تجنيه كفّي متى اشتهيت
ولو تعافيتها لحالت ... حالي، ولم أحو ما حويت
فمهّد العذر أو فسامح ... إن كنت أجرمت أو جنيت
ثمّ إنّه ودعني ومضى، وأودع قلبي جمر الغضى.
* * * تغرغرت: امتلأت. تظنّى: حسب. حلت: حسبت. يستسرّ: يخفي. مكري:
خداعي. يخيل: يلبّس ويشبّه. عرسي: زوجتي. فنون: أنواع. أبدعت فيها: أحدثتها ولم أقتد بغيري فيها. يحكها: يحدّث بها. حاكها: نسجها وقال مثلها. الأصمعيّ مذكور في المقامة الأربعين.
[الكميت الشاعر]
وأما الكميت الشاعر، فهو ابن زيد الأسديّ، وهو شاعر مجيد مكثر جدّا، وديوان شعره مستعمل مشهور ولمّا قال قصائده الهاشميّات قصد البصرة، فأتى الفرزدق فقال:
يا أبا فراس، أنا ابن أخيك، فقال: ومن أنت؟ فانتسب له، قال: صدقت، وما حاجتك؟
قال: أنت شيخ مضر وشاعرها، وأحببت أن أعرض عليك ما قلت، فإن كان حسنا أمرتني بإذاعته، وإن كان غير ذلك أمرتني بستره: قال: يا ابن أخي، أحسب شعرك على قدر عقلك، فقل راشدا، فأنشده: [الطويل]
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ... ولا لعبا منّي وذو الشّيب يلعب (1)!
قال: بلى، فالعب، فأنشده: [الطويل]
__________
(1) البيت للكميت في جواهر الأدب ص 39، وخزانة الأدب 4/ 313، 314، 315، 319، 11/ 123، والدرر 3/ 81، وشرح شواهد المغني ص 34، والمحتسب 1/ 50، 2/ 205، ومغني اللبيب ص 14، والمقاصد النحوية 3/ 112، وبلا نسبة في الدرر 5/ 112، وهمع الهوامع 2/ 69.(1/153)
ولم يلهني دار ولا رسم منزل ... ولم يتطرّبني بنان مخضّب (1)
قال: ما يتطرّبك إذا؟ فقال: [الطويل]
لا أنا ممّن يزجر الطير همّه ... أصاح غراب أم تعرّض ثعلب
قال: أنت ممّن؟ ويحك! وإلى من تسمو؟ قال: [الطويل]
ولا السانحات البارحات عشيّة ... أمرّ صحيح القرن أم مرّ أعضب
قال: أمّا هذا فقد أحسنت فيه، قال: [الطويل]
ولكن إلى أهل الفضائل والنّهى ... وخير بني حوّاء والخير يطلب
قال: فمن هم ويحك! فقال: [الطويل]
إلى النّفر البيض الّذين بحبّهم ... إلى الله فيما نابني أتقرّب
فقال: أرحني ويحك! من هؤلاء؟ فقال: [الطويل]
بني هاشم رهط النّبيّ فإنّني ... بهم ولهم أرضى مرارا وأغضب
فقال: لله درّك يا بنيّ! فقد أصبت وأحسنت، إذ عدلت عن الزّعانف والأوباش، إذا لا يصرد سهمك (2)، ولا يثلب قولك. ثم مرّ فيها، فقال: أظهر وأشهر، فأنت أشعر من مضى، وأشعر من بقي.
فحينئذ قدم المدينة، فأتى عبد الله بن الحسين، فأنشده، فقال: يا أبا المستهلّ، إنّ لي ضيعة أعطيت فيها أربعة آلاف دينار وهذا كتابها، وقد أشهدت لك بها شهودا، فقال:
بأبي أنت وأمي! كنت أقول الشعر لغيركم أريد به الدنيا والمال، ولا والله ما قلت فيكم شيئا إلا لله، وما كنت لآخذ في شيء جعلته لله ثمنا. فلما أبى عليه أخذ مئزره، فدفعه إلى أربعة غلمان، فجعل يدور به دور بني هاشم، ويقول: هذا الكميت، قال فيكم الشعر حين صمت الناس عن فضلكم، وعرّض دمه لبني أميّة، فأثيبوه بما قدرتم. فاجتمع له من حلى النساء ومن الدنانير والدراهم ما قيمته مائة ألف درهم، فجاء بها إلى الكميت، وقال: يا أبا المستهلّ أتيناك بجهد المقلّ، ونحن في دولة عدوّنا، فاستعن بهذا على دهرك، فقال: بأبي أنت وأمي، قد أكثرتم وأطنبتم، وما أردت بمدحي إيّاكم إلا الله، فأردده إلى أهله. فجهد به بكل حيلة، فأبى، فقال: أما إذا أبيت أن تقبل، فإن رأيت أن تقول شعرا تغضب به بين النزاريّة واليمنيّة لعل فتنة تحدث، فنخرج بين أضغانها، فقال قصيدته التي أولها: [الوافر]
__________
(1) البيت في شرح هاشميات الكميت ص 43، ولسان العرب (طراب)، وتاج العروس (طرب)، وأساس البلاغة (طرب).
(2) أصرد السهم: أخطأ.(1/154)
ألا حيّيت عنّا يا مدينا ... وهل بأس بقول مسلمّينا (1)!
فعرّض فيها، وصاح باليمن فيما كان من أمر الحبشة وغيرهم مثل قوله: [الوافر] لنا قمر السماء وكلّ نجم ... تشير إليه أيدي المهتدينا
وما ضربت هجان بني نزار ... هوائج من فحول الأعجمينا
وما حملوا الحمير على عتاق ... مضمّرة فيلفوا منلغينا
ومشت في العرب، فافتخرت نزار على اليمن واليمن على نزار، وثارت العصبية في البادية والحاضرة، وتحزّب الناس، فتعصّب مروان بن محمد لقومه من نزار على اليمن، فانحرفت عنه إلى الدعوة العباسية وكان الكميت سبب ذلك.
وكان لامتداحه بني هاشم وتعريضه ببني أمية، يطلبه خلفاء بني أميّة، فهرب منهم عشرين سنة، فجدّ هشام بن عبد الملك في طلبه ولم يجده، ولم يستقرّ للكميت قرار من خوفه. وكان لمسلمة بن عبد الملك حاجة عند هشام يقضيها له، لا يردّه فيها، فخرج مسلمة لبعض صيوده، فأتاه الناس يسلّمون عليه، وأتاه الكميت ومسلمة لا يعرفه فقال: السّلام عليك ورحمة الله وبركاته، أما بعد: [مجزوء الكامل]
قف بالدّيار وقوف زائر ... وتأيّ إنّك غير صاغر (2)
حتى انتهى إلى قوله: [مجزوء الكامل]
يا مسلم بن أبي الولي ... د لميّت إن شئت ناشر
علقت حبالي من حبا ... لك ذمّة الجار المجاور
فالآن صرت إلى أميّ ... ة والأمور لها مصاير
والآن كنت به المصي ... ب كمهتد بالأمس حائر
فقال مسلمة: سبحان الله! من هذا الذي أقبل من أخريات الناس ثم بدأنا بالسلام، ثم قال: أما بعد ثم الشعر؟ قيل: الكميت، فأعجب بفصاحته، فسأله عمّا كان فيه من طول غيبته، فذكر له سخط هشام عليه، فضمن له أمانه وتوجّه به حتى أدخله على هشام، وهشام لا يعرفه، فقال الكميت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال هشام: نعم الحمد لله، من هذا؟ قال الكميت: مبتدىء الحمد ومبتدعه، الذي خصّ بالحمد نفسه، وأمر به ملائكته، وجعله فاتحة كتابه، ومنتهى شكره، وكلام أهل جنّته.
أحمده حمد من علم يقينا، وأبصر مستبينا، وأشهد بما شهد به لنفسه، قائما بالقسط
__________
(1) البيت في ديوان الكميت 2/ 114، ولسان العرب (عجز)، والفاخر ص 2، وخزانة الأدب 1/ 179.
(2) البيت للكميت في ديوانه 1/ 223، وإصلاح المنطق ص 304، ولسان العرب (أيا)، وكتاب العين 8/ 401، وبلا نسبة في الممتع في التصريف 2/ 584، والمنصف 2/ 142.(1/155)
وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده العربيّ ورسوله النبيّ الأميّ، الذي أرسله والناس في هبوات (1) حيرة ومدلهمّات ظلمة، عند استمرار أبّهة الضلالة. فبلّغ عن الله ما أمر به، حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وسلم. ثم إنيّ يا أمير المؤمنين تهت في حيرة، وحرت في سكرة، أهاب بي داعيها، فأجابه غاويها، فاقطوطيت (2) في الضّلالة حائدا عن الحق، قائلا بغير الصدق، فهذا مقام العائذ بك، ومنطق التائب، ومبصر الهدى بعد طول العمى. يا أمير المؤمنين، كم من عاثر أقلتم عثرته، ومجترم عفوتم عن جرمه!
فقال هشام وقد علم أنه الكميت: من سنّ لك هذا الغواية، وأهاب بك في العماية؟ قال: الذي أخرج آدم من الجنة فنسى ولم يجد له عزما، وأنت يا أمير المؤمنين، أضاء الله بك الظلمة الداجية بعد العموس فيها فبصرت، وحقن بك دماء قوم أشرب خوفك قلوبهم فهم يبكون لما يعلمون من حزمك وعزمك وبصيرتك، وعزّ بأسك.
وثبات جأشك. وأنت مستغن برأيك عن رأي ذوي الألباب برأي أريب، وحلم مصيب.
فأطال الله لأمير المؤمنين البقاء، وأتمّ عليه النّعماء، ودفع به الأعداء.
فرضي عنه وأمر له بمال كثير.
فهذه منزلة الكميت من الشعر والخطابة خلافا لمن يقول: القافية جلبته في المقامات وغيره من الشعراء كان أولى بموضعه.
* * * قوله: «حاكها»، أي نسجها. يريد أن الكميت ممن يصنع الشعر ولا يقوله على طبعه، فلذلك قال: «حاكها». وسأل بعض الخلفاء جريرا عن النابغة وزهير، فقال:
ينيّران الشعر ويسّديانه، والعلماء بالشعر يسمون صنّاع الشعر عبيد الشعر، مثل زهير وابنه كعب والحطيئة وعديّ بن الرقّاع والكميت.
قوله: «تخذتها»، أي اتخذتها، يقال: تخذ يتخذ بمنزلة اتّخذ يتخّذ، وخفّف عنه، حذفوا ألف الوصل من اتخذ، والتاء الأولى الساكنة، التي هي فاء الفعل، فبقي تخذ، ومثله تقي يتقي واتقّى يتّقي، حذفت ألفه وتاؤه الأولى، وليس يطّرد هذا التخفيف، وإنما جاء في اتّخذ واتقّي وأتجه واتّسع، فقالوا: تقي وتخذ وتجه وتسع وصلة أي موصّلة.
تعافيتها: تكارهتها، وهي تفاعلت من عفت الشيء أعافه عيافا، أي كرهته. حالت:
تغيّرت. أحو: أجمع. مهّد: اقبل وسهّل. أجرمت: أذنبت لنفسي، جنيت: أذنبت لغيري، أراد: إن كان عذري بيّنا فأقبله، وإن كنت ظالما فتجاوز واسمح. أودع: ضمّن وجعل فيه. الغضى: شجر جمره يثبت في النار.
__________
(1) هبوات: أي غبرات.
(2) اقطوطيت: أي قاربت في المشي إسراعا.(1/156)
المقامة السّادسة وهي المراغيّة وتعرف بالخيفاء
روى الحارث بن همّام قال: حضرت ديوان النّظر بالمراغة، وقد جرى به ذكر البلاغة فأجمع من حضر من فرسان اليراعة، وأرباب البراعة، على أنّه لم يبق من ينقّح الإنشاء، ويتصرّف فيه كيف شاء، ولا خلف، بعد السّلف، من يبتدع طريقة غرّاء، أو يفترع رسالة عذراء، وأنّ المفلق من كتّاب هذا الأوان، المتمكّن من أزمّة البيان، كالعيال على الأوائل، ولو ملك فصاحة سحبان وائل.
* * * ديوان النظر، أي مجلس المناظرة. المراغة: بلدة من كور أذربيجان. اليراعة:
القلم قبل أن يبرى ويسوّى، فإذا بري وسوّي قيل له قلم، وبقي عليه الاسم الأوّل وهو اليراعة، واليراع: القصب. أرباب البراعة: أصحاب أصالة الرأي. والبارع: الأصيل الجيّد الرأي، ويقال: برع يبرع بروعا وبراعة، إذا فاق في السؤدد. وينقّح: يحسن ويخلّص. الإنشاء. الكتابة. خلف: بقي. السلف: المتقدمون، وسلفوا: ذهبوا وتقدّموا.
يبتدع: يحدث. طريقة: حالة موصوفة، وطريقة فلان كذا، أي حالته التي هو عليها.
غرّاء: واضحة مشهورة لم يقل أحد مثلها. وغرّة الشيء: أوّله. يفترع: يفتضّ. عذراء:
بكر، سمّيت عذراء لصعوبة جماعها، وتعذّر الشيء: تصعّب، وافتراع البكر: إدماؤها وإزالة ما تصعّب منها، وكلّ ما أدميته فقد فرعته وافترعته، فمعنى يفترع رسالة عذراء أي يأتي برسالة قد تصعّب طريقها على غيره، فاقتدر هو على سلوك طريقها والإتيان بها.
المفلق: الفصيح المعرب الذي يأتي بالفلق وهو الشيء العجيب. الأوان: الوقت.
العيال: من يتّكل في مؤنته على غيره ولا يقوم بنفسه، وعال الرجل عيلة إذا افتقر، وعلته عولا: قمت بمؤنته، فيريد أن كتّاب هذا الزمان عيال على من تقدّمهم حيث افتقروا إلى الأخذ من كلامهم.
وقد وعدنا أن نذكر سحبان فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
* * * وكان بالمجلس كهل جالس في الحاشية، عند مواقف الحاشية، فكان كلّما
شطّ القوم في شوطهم، ونثروا العجوة والنّجوة من نوطهم، ينبىء تخازر طرفه، وتشامخ أنفه، أنّه مخرنبق لينباع، ومجرمّز سيمدّ الباع، ونابض يبرى النبال، ورابض يبغي النّضال. فلمّا نثلت الكنائن، وفاءت السّكائن، وركدت الزّعازع، وكفّ المنازع، وسكنت الزّماجر، وسكت المزجور والزاجر، أقبل على الجماعة، وقال:(1/157)
* * * وكان بالمجلس كهل جالس في الحاشية، عند مواقف الحاشية، فكان كلّما
شطّ القوم في شوطهم، ونثروا العجوة والنّجوة من نوطهم، ينبىء تخازر طرفه، وتشامخ أنفه، أنّه مخرنبق لينباع، ومجرمّز سيمدّ الباع، ونابض يبرى النبال، ورابض يبغي النّضال. فلمّا نثلت الكنائن، وفاءت السّكائن، وركدت الزّعازع، وكفّ المنازع، وسكنت الزّماجر، وسكت المزجور والزاجر، أقبل على الجماعة، وقال:
* * * الكهل: التامّ الخلق، بين الشابّ والشيخ. الحاشية: طرف المجلس. والحاشية الثاني. الأتباع وخدمة القوم، وأصلها رذال المال وصغاره، قال يعقوب: الحاشية والحواشي والحشو: صغار الإبل، وأنشد: [الرجز]
* جلّلتها والأخر الحواشيا (1) *
ل: جرى. شوطهم: طلقهم. نثروا: ألقوا عليها. العجوة: التمرة الطيبة.
والنجوة: الرديئة، هكذا كان يفسّرها شيخنا أبو بكر بن أزهر عن ابن جهور، وما وجدت في كتاب لغة أن النّجوة اسم للتّمرة الرديئة، وقد بحث عنها بعض أصحابنا غاية البحث في كلّ كتاب فيه ذكر النخل والتّمر، فأخبرني أنه ما وجد لها ذكرا، وأظنها لغة بصرية متعارفة بينهم في التمر الرديء، لا أنها لغة عربية، فاستعملها كما استعمل غيرها من لغة بلده، لأن البصرة أكثر بلاد الله نخلا، فيسمون كل نوع من التمر باسم، والتمر تكثر أنواعه عندهم. ورأيت أكثر أهل سجلماسة لا يكادون يحصون أنواعه لكثرتها، ورأيت بها نوعا من التمر زعموا أنه لا يطيب أبدا، وإنما حاله أن ينكمش على نواه، فلا تجد إلا جلدا يابسا على النواة، فيعلفونه المعز، فيحتمل أن يكون مثل هذا في نخل البصرة يسمّى نجوة، ويقابل بالعجوة التي هي أشرف التمر وأطيبه. وأما من فسر النّجوة هنا بالمرتفع من الأرض، فلا معنى له. الفنجديهي: النّجوة، قيل: إنها لفاظة التمر إذا سقطت لا يبالي بها، فإن صحّت روايتها فكأنها سمّيت بالنجوة التي هي العذرة. نوطهم: وعاء تمرهم، قال أبو حنيفة: النّوطة: الجلّة الصغيرة من جلال التمر، والجلّة: الوعاء الذي يكنز فيه التمر، وكلّ وعاء له علاقة فهو نوطه، والجمع نوط، وقد ناطه ينوطه، إذا علقه، فأراد: ألقوا الكلمة الجيدة والرديئة من كلامهم. ينبىء: يخبر. تخازر طرفه: كسر عينيه بالنّظر، وتخازر: نظر بمؤخر عينيه، وهو نظر المنكر للشيء. تشامخ: ارتفاع، وهو فعل المستحقر للشيء مخرنبق: متهيّىء. لينباع: لينهض، وفسره أبو عبيدة في الأمثال، فقال: المخرنبق: المطرق الساكت، لينباع. ليثب إذا أصاب فرصة، قال: ومعناه أنه
__________
(1) يروى الرجز:
ترى المصكّ يطرد العواشيا ... جلّتها والأخر الحواشيا
وهو بلا نسبة في لسان العرب (صكك)، (عشا)، وتاج العروس (صكك)، (عشا).(1/158)
سكت لداهية يريدها، وقيل: المخرنبق: الساكت على السّوء. لينباع: ليظهر الذي في ظنه في الشرّ. مجرمّز: منقبض، وهو كقول النابغة:
وقلت يا قوم إنّ الليث منقبض ... على براثنه للوثبة الضاري (1)
فأخذه ابن الرومي فقال: [الطويل]
سكنّ سكونا كان رهنا بوثبة ... غماس كذاك اللّيث للوثب يلبد
نابض: رام، ويقال: أنبض القوس، إذا جذب وترها ثم أطلقه ليختبر شدّتها.
ونبض العرق: تحرّك، فيكون: «نابض» على النسب، أو على حذف الزائد. الفنجديهيّ:
أورد أبو الحسين بن فارس اللغويّ في كتابه المجمل أنّ نبض لغة في أنبض، وهما بمعنى واحد، قال الشاعر: [الطويل]
فإن أباها مقسم بيمينه ... لئن نبضت كفّي فإني لنابض (2)
فصحّ بهذا قوله. رابض: لاطئ بالأرض، وربضت الشاة: اضطجعت. يبغي النّضال، أي يطلب المراماة، وأراد أنه يريد أن يلقي عليهم المسائل ليجاذبوه. قوله:
«نثلت»، أي نفضت وصبّ ما فيها. الكنائن: الجعاب، وهي أوعية السهام. فاءت:
رجعت. السكائن: جمع سكينة، وهي الوقار، يريد: أتمّ أهل المجلس كلامهم فسكتوا.
ركدت: سكنت. الزعازع: الرياح الشديدة المزلزلة، واحدها زعزع. كفّ المنازع:
أمسك المخالف، يريد انقطع كلامه.
* * * لقد جئتم شيئا إدّا، وجرتم عن القصد جدّا، وعظّمتم العظام الرّفات، وافتتّم في الميل إلى من فات، وغمصتم جيلكم الّذين فيهم لكم اللّدات، ومعهم انعقدت المودّات. أنسيتم يا جهابذة النّقد، وموابذة الحلّ والعقد، ما أبرزته طوارف القرائح، وبرّز فيه الجذع على القارح، من العبارات المهذّبة، والاستعارات المستعذبة، والرسائل الموشّحة، والأساجيع المستملحة! وهل للقدماء إذا أنعم النّظر، من حضر، غير المعاني المطروقة الموارد، المعقولة الشّوارد، المأثورة عنهم لتقادم الموالد، لا لتقدّم الصّادر على الوارد! وإني لأعرف الآن من إذا أنشا، وشّى، وإذا عبّر، حبّر، وإن أسهب، أذهب، وإذا أوجز، أعجز، وإن بده، شده، ومتى اخترع، خرع.
__________
(1) البيت في ديوان النابغة ص 42.
(2) البيت بلا نسبة في المخصص 8/ 16، وفيه «وإني لنابض» بدل «فإني لنابض».(1/159)
إدّا: أمرا فظيعا منكرا. جرتم عن القصد: خرجتم عن الاستقامة. جدّا: كثيرا.
الرفات: البالية. افتتّم: فعلتم ما لا يجب وتجاوزتم فيه، ويقال: افتتات الرجل «افتعل» من الفوات، وفات: ذهب وعدم. غمصتم: حقّرتم وغطيتم. جيلكم: أهل عصركم.
اللّدات: جمع لدة، وهو الذي ولد معك. جهابذة: حذّاق الواحد جهبذ. النقد: معرفة الكلام، نقده: ميّزه، وأصله من ميز الدراهم الجيدة من الرديئة. موابذة: حكام، والموبذ: الكثير الجاه من الفرس، مثل الوزير والقائد. أبرزته: أظهرته. طوارف، جديدات وغريبات. القرائح: الأذهان. برز: غلب. الجذع من الخيل ابن سنتين.
القارح: ابن خمس، أي غلب فيه الحديث العصر القديم. عبارات: جمع عبارة وهي التفسير، وعبّرت عن فلان: تكلّمت عنه وكنت لسانه. المهذّبة: المخلصة من العيب.
الاستعارة: أن تعير اللفظ ما يستحقّه غيره، وهي من العاريّة. الموشّحة: المزيّنة.
الأساجيع: جمع أسجوعة، وهي الكلام المربوط بقافية. أنعم: بالغ. المطروقة: التي نزل عليها. المعقولة: المربوطة. الشوارد: الفارّة، يقول: ليس للقدما. إلا المعاني التي قصدها المتأخّرون، كما قصدها المتقدّمون، وقيّدها المتأخرون بالكتاب كما قيّدها المتقدّمون، فكان تقييدها سببا لأن مشت في الأقطار فعرفت وحفظت. المأثورة:
المحدّث بها. الصادر: الخارج عن الماء، والوارد: الداخل إليه، وذكر هنا أنّ الصادر يتقدّم الوارد، وذلك أنا إذا فرضنا موضع ماء لا يمكن وروده إلا واحدا بعد واحد، فالصادر يسبق الوارد على ما ذكره في المقامة. قال الحريري في درة الغواص: إنّ الخواصّ يقولون: هذا أمر يعرفه الصادر والوارد، ووجه الكلام أن يقال: الوارد والصادر، لأنه مأخوذ من الورد والصدر، ولما كان الورد يقدم الصّدر، وجب أن يقدّم لفظ «الوارد» على الصادر، وهذا كما ترى، الورد يقدم الصدر في حق واحد، ورد الماء ثم صدر عنه، وأما في حق اثنين كما قدّمنا وكما ذكر هو في هذه المقامة، فالصادر يتقدّم الوارد. وقول الناس: هذا أمر يعرفه الصادر والوارد في حق اثنين، فهم فيه على صواب، ومحال أن يكون المثل في حق واحد، لأنّ الشيء لا يعطف على نفسه، ولو كان الوارد على زعمه يتقدّم الصادر لجاز تقديم الصادر عليه، لأنّ الواو لا تعطي رتبة، يقول: لا نتحدّث بكلمهم ونظمهم ونثرهم لفضلهم علينا، لكن لسبقهم لنا.
أنشأ: كتب. وشّى: زيّن ورقّم. عبّر: تكلم أو فسّر. حبّر: حسّن. أوجز: اختصر.
أعجز، أي عجز عن فعله غيره. أسهب: أطال الكلام. أذهب: جاء بالذهب، وأصل أسهب، حفر بئرا بعيدة القعر، وأذهب: صادف معدن الذهب في حفير. بده: ارتجل ولم يتفكّر. شده: حيّر من يتعاطى منزلته. اخترع: قال ما لم يسبق إليه. خرع: شقّق المعاني.
* * * فقال له ناظورة الدّيوان، وعين أولئك الأعيان: من قارع هذي الصّفاة،
وقريع هذه الصّفات؟ فقال: إنّه قرن مجالك، وقرين جدالك وإذا شئت ذاك فرض نجيبا، وادع مجيبا، لترى عجيبا. فقال له: يا هذا، إنّ البغاث بأرضنا لا يستنسر، والتّمييز بين الفضّة والقضّة متيسّر، وقلّ من استهدف للنّضال، فخلص من الدّاء العضال، أو استثار نقع الإمتحان، فلم يقذ بالامتهان، فلا تعرّض عرضك للمفاضح، ولا تعرض عن نصاحة النّاصح. فقال: كلّ امرىء أعرف بوسم قدحه، وسيتفرّي اللّيل عن صبحه. فتناجت الجماعة فيما يسبر به قليبه، ويعمد فيه تقليبه فقال أحدهم: ذروه في حصّتي لأرميه بحجر قصّتي، فإنّها عضلة العقد، ومحكّ المنتقد. فقلّدوه في هذا الأمر الزّعامة، تقليد الخوارج أبا نعامة.(1/160)
* * * فقال له ناظورة الدّيوان، وعين أولئك الأعيان: من قارع هذي الصّفاة،
وقريع هذه الصّفات؟ فقال: إنّه قرن مجالك، وقرين جدالك وإذا شئت ذاك فرض نجيبا، وادع مجيبا، لترى عجيبا. فقال له: يا هذا، إنّ البغاث بأرضنا لا يستنسر، والتّمييز بين الفضّة والقضّة متيسّر، وقلّ من استهدف للنّضال، فخلص من الدّاء العضال، أو استثار نقع الإمتحان، فلم يقذ بالامتهان، فلا تعرّض عرضك للمفاضح، ولا تعرض عن نصاحة النّاصح. فقال: كلّ امرىء أعرف بوسم قدحه، وسيتفرّي اللّيل عن صبحه. فتناجت الجماعة فيما يسبر به قليبه، ويعمد فيه تقليبه فقال أحدهم: ذروه في حصّتي لأرميه بحجر قصّتي، فإنّها عضلة العقد، ومحكّ المنتقد. فقلّدوه في هذا الأمر الزّعامة، تقليد الخوارج أبا نعامة.
* * * قوله: «ناظورة»، أي كبير القوم ومقدّمهم الذي ينظرون إليه. الديوان: دار الكتّاب وموضع اجتماعهم. والديوان، الزمام يكون فيه أسماء الجند وأرزاقهم، وأصله «دوّان»، فقلبت واوه الأولى ياء لانكسار ما قبلها، ودلّ عليه دواوين في جمعه، وهو اسم أعجمي عرّب، والأصل في تسميته أن كسرى أمر الكتّاب أن يجتمعوا له في دار، ويعملوا حساب السواد في ثلاثة أيام، وأعجلهم فيه، فأخذوا في ذلك، واطّلع عليهم لينظر ما يصنعون فنظر إليهم يحسبون بأسرع ما يمكن، وينسخون كذلك، فعجب من كثرة حركتهم، فقال:
أرى «ديوان» ومعناه شياطين، ثم سمّى موضعهم ديوانا، ثم استعملته العرب، وجعل كل محصّل من كلام أو شعر ديوان. قارع: ضارب وكاسر. الصّفاة: الصخرة الملساء، استعارها للصعب من الكلام. قريع: سيّد. الصّفات: النعوت التي تقدّم أنه يعرف بفعلها. وقرن مجالك: صاحب كلامك الذي تجول فيه يعني نفسه. قرين جدالك:
صاحب مجادلتك، والقرن بالكسر: الذي يماثلك في شدّة أو خصام أو علم، وإن لم يكن بينكما معرفة، وقرينك: صاحبك الذي لا يفارقك كأنه قرن معك. والمجال:
الموضع الذي تراض فيه الخيل. رض: سس وليّن. النجيب: الفحل الكريم من الإبل، وعنى نفسه. ادع مجيبا، يقول: سسني ثم ادعني أستجب لك. ترى عجيبا، في حسن جوابي. البغاث: صغار الطير. يستنسر: يصير نسرا، يقول: نحن أهل علم ومعارف، فلا تجوز علينا المخاوف، والعرب تقول في أمثالها: «إن البغاث في أرضنا يستنسر»، أي يرجع الضعيف قويا لعزّنا وحمايتنا له ممن يريده، وقيل في البغاث: إنه ذكر الرّخم، وقيل: البغاث كلّ ما يصاد من الطير، والجوارح: كلّ ما يصيد، والرّهام: ما لا يصيد ولا يصاد، كالخطّاف وغيره. القضّة: الحصى البيض الصغار، ويقال: جاء بالقضّ والقضيض بالقاف والضاد، ومعناه جاء بالكبير والصغير. والقضيض: صغار الحصى وما تكسّر منه، وقالوا: جاؤوا قضّهم بقضيضهم. أي كلّهم. استهدف: صار هدفا، وهو
الغرض للسهم. النّضال: المراماة. العضال: الذي لا يبرأ منه. استثار: حرّك نقع غبار.(1/161)
الموضع الذي تراض فيه الخيل. رض: سس وليّن. النجيب: الفحل الكريم من الإبل، وعنى نفسه. ادع مجيبا، يقول: سسني ثم ادعني أستجب لك. ترى عجيبا، في حسن جوابي. البغاث: صغار الطير. يستنسر: يصير نسرا، يقول: نحن أهل علم ومعارف، فلا تجوز علينا المخاوف، والعرب تقول في أمثالها: «إن البغاث في أرضنا يستنسر»، أي يرجع الضعيف قويا لعزّنا وحمايتنا له ممن يريده، وقيل في البغاث: إنه ذكر الرّخم، وقيل: البغاث كلّ ما يصاد من الطير، والجوارح: كلّ ما يصيد، والرّهام: ما لا يصيد ولا يصاد، كالخطّاف وغيره. القضّة: الحصى البيض الصغار، ويقال: جاء بالقضّ والقضيض بالقاف والضاد، ومعناه جاء بالكبير والصغير. والقضيض: صغار الحصى وما تكسّر منه، وقالوا: جاؤوا قضّهم بقضيضهم. أي كلّهم. استهدف: صار هدفا، وهو
الغرض للسهم. النّضال: المراماة. العضال: الذي لا يبرأ منه. استثار: حرّك نقع غبار.
الامتحان: الاختبار. يقذ: يقع في عينه القذى، وهو ما يسقط في العين، ويقول: من صار غرضا للألسنة قلّ أن يسلم، ومن صار طالبا لمناظرة أهل المعارف أهين وأفحم.
المفاضح: المخزيات واشتهار العيوب. وسم: علامة. قدحه: سهمه، يريد قداح الميسر، وكان كلّ رجل يعمل في قدحه علامة يعرف بها، قال دريد بن الصمّة: [الوافر]
وأصفر من قداح النّبع فرع ... به علمان من عقب وضرس (1)
الضّرس: العضّ بالضّرس وسنذكر في الثالثة والأربعين قداح العرب:
سيتفرّى: سيتكشّف. قوله: «تناجت»، أي تحدّثت سرّا. يسبر: يقاس. قليبه: بئره.
يعمد: يقصد. تقليبه: تجريبه. ذروه: اتركوه. حصّتي: نصيبي. قصتي: خبري، وجعل لمسألته حجرا يرميه به مجازا. عضلة: صعبة. العقد: جمع عقدة، يريد أن عقدها صعب الحلّ. محك المنتقد: وهو حجر يقاس جيّد الفضة والذهب من الرديء أراد أن مسألته نهاية في الصعوبة، والعضلة: كل مسألة شديدة لا يهتدى لمثلها، ولا يوقف على جوابها، من قولهم: داء عضال ومعضل، إذا كان شديدا لا يهتدى لدوائه، ولا يوقف على علاجه، وعضّلت المرأة تعضيلا، نشب ولدها في بطنها، وعضّلت الدجاجة بيضّها كذلك، وفلان عضّلة من العضل، أي داهية لا يهتدى لمكره. قوله: «الزعامة»، أي الرياسة.
[قطريّ بن الفجاءة]
وأبو نعامة هو قطريّ بن الفجاءة التميميّ الخارجيّ. وكان له فرس يكنى بها في الحرب، ويكنى في السلم أبا محمد. وقطريّ: منسوب إلى قطر، موضع قريب من عقير.
وكان فارسا شجاعا شاعرا مجيدا، وكان رئيس الخوارج، وسلّموا عليه بأمير المؤمنين عشرين سنة، وكان خطيبا فصيحا، وله خطبة في ذمّ الدنيا انتهى فيها من البلاغة إلى الغاية. وأوّلها:
أما بعد فإنّي أحذّركم الدنيا فإنها حلوة خضرة، حفّت بالشهوات، وراقت بالقليل، وتحبّبت بالعاجل، وتحلّت بالأمانيّ، وتزيّنت بالغرور، لا تدوم زهرتها، ولا تؤمن فجعتها، غرّارة ضرارة، حائلة زائلة، نافدة بائدة، لا تعدو إذا هي تناهت إلى أمنيّة الرغبة فيها، والرضا عنها، أن تكون كما قال تعالى: {كَمََاءٍ أَنْزَلْنََاهُ مِنَ السَّمََاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبََاتُ}
__________
(1) البيت لدريد بن الصمة في ديوانه ص 117، ورواية العجز فيه:
خفيّ الوسم من ضرس ولمس
ولسان العرب (كفأ)، (عقب)، (ضرس)، (نبع)، والتنبيه والإيضاح 1/ 118، 2/ 184، والمخصص 11/ 3، 13/ 48، وتاج العروس (كفأ)، (عقب)، (ضرس)، (نبع)، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 10/ 390، 11/ 486، ومجمل اللغة 3/ 310، وديوان الأدب 2/ 161، ويروى «صلب» بدل «فرع».(1/162)
{الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيََاحُ وَكََانَ اللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف: 45].
كم واثق بها قد فجعته، وذي طمأنينة إليها قد صرعته، وذي احتيال فيها قد خدعته. وكم من ذي أهبة فيها قد صيّرته حقيرا، وذي نخوة قد ردّته ذليلا، وذي تاج قد كبّته لليدين والفم سلطانها دول، وعيشها رنق، وعذبها أجاج، وحلوها صبر، مليكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وسليمها منكوب، وجامعها محروب مع أنّ وراء ذلك سكرات الموت، وهول المطلع، والوقوف بين يدي الحكم العدل {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسََاؤُا بِمََا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31].
ومن جيّد شعره في وقعة دولاب (1): [الطويل]
لعمرك إني في الحياة لزاهد ... وفي العيش ما لم ألق أمّ حكيم (2)
من الخفرات البيض لم ير مثلها ... شفاء لدى بثّ ولا لسقيم
لعمرك إني يوم ألطم وجهها ... على نائبات الدهر جدّ لئيم
ولو شهدتني يوم دولاب أبصرت ... طعان فتى في الحرب غير ذميم
غداة طفت علماء بكر بن وائل ... وعجنا صدور الخيل نحو تميم
فلم أر يوما كان أكثر مفظعا ... يمجّ دما من فائظ وكليم
وضاربة خدّا كريما على فتى ... أغرّ نجيب الأمّهات كريم
أصيب بدولاب ولم تك موطنا ... له أرض دولاب ودير حميم
فلو شهدتني يوم ذاك وخيلنا ... تبيح من الكفار كلّ حريم
رأت فتية باعوا الإله نفوسهم ... بجنات عدن عنده ونعيم
وأمّ حكيم التي شبّب بها، كانت معه في عسكر الإباضيّة، وكانت من أشجع الناس، وأجملهم وجها، وأحسنهم بدينه متمسّكا. وكان قطريّ يحبّها ويجلّها، وأخبر من شاهدها في تلك الحروب أنها كانت ترتجز فتقول: [الرجز]
أحمل رأسا قد سئمت حمله ... وقد مللت دهنه وغسله
* ألا فتى يحمل عنّي ثقله *
والخوارج يفدّونها بالآباء والأمهات، وخطبها جماعة من أشراف الخوارج فردّتهم، وقالت: [الطويل]
__________
(1) دولاب: قرية من عمل الأهواز، كانت بها حرب الأزارقة ومسلم بن عبيس بن كريز.
(2) الأبيات في ديوان قطري بن الفجاءة ص 175، والبيت السادس في لسان العرب (فيظ)، برواية:
فلم أر يوما كان أكثر مقصعا ... يبيح دما من فائظ وكليم(1/163)
ألا إنّ وجها حسّن الله خلقه ... لأجدر أن يلفى به الحسن جامعا
وأكرم هذا الجرم عن أن يناله ... تورّك فحل همّه أن يجامعا
أين هذه من أمّ خارجة، واسمها عمرة بنت سعد، كان يقال: لها خطب، فتقول:
نكح، وضرب بها المثل فقيل: أسرع من نكاح أمّ خارجة.
وأين هي من حفيدة قطريّ مع صاحبها، حكى الإصبهانيّ عن إسماعيل بن المهاجر قال: خرجت أنا والسيّد الحميريّ سكارى، فلقينا بنت الفجاءة بن عمرو بن قطريّ بن الفجاءة، وكانت امرأة برزة حسناء، فواقفها السّيّد، وأنشدها من شعره، فأعجب كلّ واحد منهما صاحبه، ثم خطبها، فقالت: كيف يكون هذا ونحن على ظهر الطريق! قال:
يكون كنكاح أمّ خارجة، قيل لها: خطب، قالت: نكح، فاستضحكت وقالت: ننظر في هذا، وعلى ذلك فمن أنت؟ قال: [البسيط]
إن تسأليني بقومي تسألي رجلا ... في ذروة المجد من أجواد ذي يمن
ثمّ الولاء الذي أنجو النجاة به ... من كبّة النّار للهادي أبي حسن
فقالت: لا شيء أعجب من هذا! يمانيّ وتميمية، ورافضيّ وإباضيّة، فكيف يجتمعان! فقال: بحسن رأيك تسخو نفسك، ولا يذكر أحدنا سلفا ولا مذهبا، قالت:
أفليس التزويج إذا علم، انكشفت معه الستور؟ قال: وأنا أعرض عليك أخرى، قالت:
وما هي؟ قال: المتعة التي لا يعلم بها أحد، قالت: تلك أخت الزنا، قال: أعيذك بالله أن تكفري بعد إيمانك! قالت: وكيف؟ قال لها: قال الله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}، قالت: أستخير الله وأقلّدك، إذ كنت صاحب قياس وتفتيش.
ولما انصرفت معه، وبات معرسا بها وبلغ أهلها من الخوارج أمرها توعدّوها بالقتل، فجحدت وقالوا: أتزوجت بكافر! فكانت تختلف إليه مدّة وتواصله.
وقوله: «تقليد الخوارج أبا نعامة»، لما قتل الزّبير بن عليّ السّليطيّ أمير الخوارج، أداروا أمرهم، فأرادوا تولية عبيدة بن هلال اليشكريّ، فقال: ألا أدلّكم على من هو خير مني لكم؟ من يطاعن في قبل، يحمي عن دبر عليكم بقطريّ بن الفجاءة المازنيّ، فبايعوه.
* * * فأقبل على الكهل، وقال: أعلم أنّي أوالي، هذا الوالي، وأرقّح حالي، بالبيان الحالي. وكنت أستعين على تقويم أودي، في بلدي، بسعة ذات يدي، مع قلّة عددي. فلمّا ثقل حاذي، ونفذ رذاذي، أمّمته من أرجائي، برجائي، ودعوته لإعادة روائي، وإروائي فهشّ للوفادة وارتاح، وغدا بالإفادة وراح. فلمّا استأذنته في المراح، إلى المراح، على كاهل المراح قال: قد أزمعت ألّا أزوّدك بتاتا ولا
أجمع لك شتاتا، أو تنشىء لي أمام ارتحالك، رسالة تودعها شرح حالك، حروف إحدى كلمتيها يعمّها النّقط، وحروف الأخرى لم يعجمن قطّ، وقد استأنيت بياني حولا، فما أحار قولا، ونبّهت فكري سنة، فما ازداد إلّا سنة. واستعنت بقاطبة الكتّاب، فكلّ منهم قطّب وتاب، فإن كنت صدعت عن وصفك باليقين، فأت بآية إن كنت من الصّادقين.(1/164)
* * * فأقبل على الكهل، وقال: أعلم أنّي أوالي، هذا الوالي، وأرقّح حالي، بالبيان الحالي. وكنت أستعين على تقويم أودي، في بلدي، بسعة ذات يدي، مع قلّة عددي. فلمّا ثقل حاذي، ونفذ رذاذي، أمّمته من أرجائي، برجائي، ودعوته لإعادة روائي، وإروائي فهشّ للوفادة وارتاح، وغدا بالإفادة وراح. فلمّا استأذنته في المراح، إلى المراح، على كاهل المراح قال: قد أزمعت ألّا أزوّدك بتاتا ولا
أجمع لك شتاتا، أو تنشىء لي أمام ارتحالك، رسالة تودعها شرح حالك، حروف إحدى كلمتيها يعمّها النّقط، وحروف الأخرى لم يعجمن قطّ، وقد استأنيت بياني حولا، فما أحار قولا، ونبّهت فكري سنة، فما ازداد إلّا سنة. واستعنت بقاطبة الكتّاب، فكلّ منهم قطّب وتاب، فإن كنت صدعت عن وصفك باليقين، فأت بآية إن كنت من الصّادقين.
فقال له: استسعيت يعبوبا، واستسقيت أسكوبا، وأعطيت القوس باريها، وأسكنت الدّار بانيها. ثم فكّر ريثما استجمّ قريحته، واستدرّ لقحته، وقال: ألق دواتك وأقرب، وخذ أداتك واكتب:
* * * قوله: «أوالي»، أي ألازم وأتخذه وليّا. أرقّح: أصلح، يقال رقّح من عيشه، إذا أصلح منه، قال الشاعر: [السريع]
يترك ما رقّح من عيشه ... يعبث فيه همج هامج (1)
الهمج: البعوض، ثم قيل لأرذال الناس: همج. الحالي: المزيّن بالحليّ. أودي:
عوجي. سعة: كثرة. ذات يدي، أي مالي. عددي: عيالي. حاذي: ظهري، وفلان خفيف الحاذ، أي قليل العيال، وأصل الحاذ مؤخر الفخذين. نفد رذاذي: فرغ قليل مالي، والرّذاذ. المطر الضعيف. أمّته: قصدته. أرجائي: جهاتي وبلادي. رجائي:
أملي. روائي: حسن هيئتي وحالي: إروائي: إزالة عطشي. هشّ: خفّ، ورجل هشّ بسّام: طليق الوجه. للوفاة: للقدوم عليه. وارتاح: طرب واهتزّ. الإفادة: تكسيب الفوائد. المراح، بفتح الميم: المشي والإنصراف. والمراح، بالضم: الموضع الذي تروح إليه الإبل وتروح منه، أو تراح إليه، أي تساق بالعشيّ. والمراح، بالكسر: النشاط والخفّة، وقد مرح مرحا، لعب، من الفرح. كاهل: ما بين فروع الكتفين، استعاره للنشاط. أزمعت: عزمت بتاتا: زادا. شتاتا: مالا متفرّقا. تنشىء: تصنع وتكتب. أمام ارتحالك: قبل سفرك: تودّعها: تضمّنها وتجعل فيها. يعجمن: ينقطن، وأعجمت الكتاب: أزلت عنه عجمته.
__________
(1) البيت للحارث بن حلزة في ديوانه ص 66، ولسان العرب (همج)، (رقح)، وتهذيب اللغة 6/ 71، وجمهرة اللغة ص 519، ومجمل اللغة 4/ 488، وديوان الأدب 1/ 346، 2/ 245، وأساس البلاغة (رفح)، وإصلاح المنطق ص 79، والبخلاء ص 164، والبيان والتبيين ص 3/ 303، والحيوان 3/ 450، وشرح اختيارات المفضّل ص 1731، والمعاني الكبير ص 608، وتاج العروس (رقح)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 496، ومقاييس اللغة 6/ 64، والمخصص 3/ 94، 8/ 185.(1/165)
قطّ: لفظة موضوعة لما مضى من الدهر. وجعل الحريريّ قول الخواصّ: «لا أكلمه قطّ» من أفحش الخطأ لتناقض الكلام، قال: وذلك أنّ العرب تستعمل لفظة «قطّ» فيما مضى من الزمان، كما تستعمل لفظة «أبدا» فيما يستقبل، فيقولون ما كلّمته أبدا، والمعنى: ما كلّمته فيما انقطع من عمري، لأنه من قططت الشيء، إذا قطعته، ومنه قطّ القلم، إذا قطع طرفه. وفيما يؤثر من شجاعة عليّ رضي الله عنه أنه كان إذا استقبل قدّ، وإذا استدبر قطّ، فالقدّ قطع الشيء طولا، والقطّ قطعه عرضا. يقول. تصنع رسالة تضمنها حالك، يكون تركيبها من كلمة يعمّ حروفها النّقط، وكلمة لا ينقط منها حرف، وبهذا المعنى سمّيت المقامة الخيفاء، لأنّ الأخيف من الخيل: الّذي إحدى عينيه زرقاء.
والأخرى كحلاء. استأنيت: أمهلت وأخّرت. أحار: ردّ وراجع. نبّهت: أيقظت. سنة:
حولا. سنة: نوما. قاطبة: جماعة. قطّب وجهه، إذا عبّسه. صدعت: أوضحت وأظهرت، وأصل الصدع الشقّ. باليقين: بالحقّ الواضح. آية: علامة، قال ابن الأنباريّ رحمه الله: في قولهم آية من القرآن ثلاثة أوجه:
قيل إنها علامة لانقطاع الكلام قبلها وبعدها، واحتجّ أبو عبيدة لذلك بقول الشاعر:
[الوافر]
* بآية ما تحبّون الطّعاما (1) *
وبقول النابغة: [الطويل]
توهّمت آيات لها فعرفتها ... لستّة أعوام وذا العام سابع (2)
الثاني: سمّيت الآية لأنها جماعة حروف، قال أبو عمرو: خرج القوم بآيتهم، أي بجماعتهم.
الثالث: سمّيت آية لأنها عجب من العجائب، فالآية العجب.
قوله: «استسعيت»: طلبت سعيه أي جريه. واليعبوب: الفرس السريع. استسقيت:
__________
(1) صدره:
ألا من مبلغ عني تميما
والبيت ليزيد بن عمرو بن الصعق في خزانة الأدب 6/ 512، 514، 515، 518، 519، 523، 526، والدرر 1/ 92، وشرح أبيات سيبويه 2/ 186، وشرح شواهد المغني 2/ 836، وشرح المفصل 3/ 118، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 250، ومغني اللبيب 2/ 420، 638، وهمع الهوامع 2/ 51.
(2) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 31، وخزانة الأدب 2/ 453، وشرح أبيات سيبويه 1/ 447، والصاحبي في فقه اللغة ص 113، والكتاب 2/ 86، ولسان العرب (عشر)، والمقاصد النحوية 3/ 406، 4/ 482، وبلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 261، وشرح التصريح 2/ 276، وشرح شواهد الشافية ص 108، والمقتضب 4/ 322، والمقرب 1/ 147، وتاج العروس (لوم).(1/166)
استمطرت وطلبت سقياه. والأسكوب: المطر الكثير. باريها: صانعها، وكل هذه أمثال، ويريد: أنا أهل لكلّ ما طلبت.
وأوّل من قال: أعط القوس باريها الحطيئة، وذلك أنه دخل على سعيد بن العاص وهو يقري النّاس، فأكل أكلا جافيا، وخرج الناس، فأقام، وأتاه الحاجب ليخرجه فامتنع، وقال: أترغب بهم عن مجالستي! إنّي بنفسي عنهم لأرغب! فقال له سعيد:
دعه. ثم تذاكروا الشعر والشعراء، فقال لهم الحطيئة: والله ما أصبتم جيّد الشّعر ولا شاعر العرب، ولو أعطيتم القوس باريها، وقعتم على ما تريدون، فقال له سعيد: فمن أشعر العرب؟ قال: الذي يقول: [الخفيف]
لا أعدّ الإقتار عدما ولكن ... فقد من قد رزئته الإعدام (1)
إلى آخر القصيدة. قال: فمن قائلها؟ قال: أبو دؤاد الإياديّ، قال: ثم من؟ قال:
والله لحسبك بي رهبة أو رغبة أنا إذا رفعت إحدى رجليّ على الأخرى، وعويت في إثر القوافي كما يعوي الفصيل الصادي إثر أمّه قال: [من أنت؟ قال:] الحطيئة، قال: حيّاك الله يا أبا مليكة، ألا أعلمتنا بمكانك، ولم تحملنا على الجهل بك، فنضيع حقّك ونبخسك قسطك! وأدناه ووصله.
وقال الشاعر: [البسيط]
يا باري القوس بريا ليس يحسنه ... لا تظلم القوس واعط القوس باريها (2)
ريث: مقدار وبطء. استجمّ: استكثر. قريحته: طبيعته، والقريحة في الأصل أوّل ماء البئر النابع، واستجمّها: تركها حتى تكثر. استدرّ: استنزل درّها وهو لبنها. واللّقحة:
الناقة ذات اللبن يريد: أقام قليلا يفكّر ويختار ما يقول: ومثل هذه الحالة ذكروا أن صديقا لكلثوم العتابيّ أتاه يوما، فقال له: اصنع لي رسالة، فاستمد مدّة، ثم علّق القلم، فقال له صاحبه: ما أرى بلاغتك إلّا شاردة عنك، فقال له العتّابيّ: إني لمّا تناولت القلم تداعت عليّ المعاني من كلّ جهة، فأحببت أن أترك كلّ معنى حتى يرجع إلى موضعه، وهذا مثل قول امرىء القيس ويقال إنه قالها وهو ابن عشر سنين: [المتقارب]
أذود القوافي عنّي ذيادا ... ذياد غلام غويّ جوادا (3)
__________
(1) البيت لأبي دؤاد الإيادي في ديوانه ص 338، والأصمعيات ص 187، والأغاني 2/ 139، 16/ 199، 17/ 155، وتخليص الشواهد ص 431، وخزانة الأدب 8/ 125، 9/ 590، 591، والدرر 2/ 238، والشعر والشعراء 1/ 244، والمؤتلف والمختلف ص 115، والمقاصد النحوية 2/ 391، وبلا نسبة في همع الهوامع 1/ 148.
(2) البيت للحطيئة في شرح شواهد الشافية ص 411، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في خزانة الأدب 8/ 349، 350.
(3) الأبيات لامرىء القيس في ديوانه ص 248، ولسان العرب (مرج)، والتنبيه والإيضاح 1/ 219.(1/167)
فلمّا كثرن وعنّينه ... تخيّر منها جوادا جيادا
فأعزل مرجانها جانبا ... وآخذ من درّها المستجادا
وقال عريف القوافي: [الطويل]
أبيت بأبواب القوافي كأنّما ... أصادي بها سربا من الوحش نزّعا (1)
عواصي إلا ما جعلت وراءها ... عصا مربد تغشى وجوها وأذرعا
إذا خفت أن تروى عليّ رددتها ... وراء التراقي خشية أن تطلّعا
أصادي: أداري، وجعل القوافي تقتحم عليه كالإبل، وهو يضربها بعصاه حتى يختار جيادها.
[الدواة والمداد والقلم]
قوله «ألق»، أي اجعل فيها ليقة، تقول: لقت الدواة فهي مليقة، وألقتها فهي ملاقة، وجمع اللّيقة ليق. ويقال للصّوفة قبل أن تبلّ بالمداد: البوهة والموارة، فإذا بلّت بالمداد سمّيت ليقة، وقد يقال لها: ليقة قبل أن تبلّ، سميت بما تؤول إليه، كما قيل للكبش: ذبيح، وللصيد: رميّة، فإن كانت قطنة فهي العطبة والكرسفة، وكرسفت الدواة كرسفة، والقطن كلّه يقال له: العطب والكرسف.
ويقال للمداد: نقس ونقس، والكسر أفصح، وقيل: الفتح مصدر نقستها، جعلت فيها نقسا، والحبر من المداد بالكسر لا غير، والحبر بالفتح والكسر: العالم. وقال بعضهم: سمّي المداد حبرا باسم العالم، كأنهم أرادوا مداد حبر، فحذفوا، ولو كان ما قالوه صحيحا لقالوا للمداد: حبر بالفتح، والأشبه أن يسمّى حبرا لأنه يحسّن الكتابة، من قولهم: حبرت الشيء إذا حسّنته. ويقال للجمال: حبر وسبر، فمداد حبر، كقولّك مداد زينة وجمال، أو يكون من الحبر والحبار، وهو الأثر، فيسمّى بذلك لتأثيره في الكتاب.
ويقال: مددت الدواة أمدّها مددّا، إذا جعلت فيها مدادا، فإن كان فيها مداد فزدت عليه قلت: أمددتها، فإذا أمرته أن يأخذ من المداد بالقلم قلت: استمدد، فإن سألته أن يعطيك على القلم مدادا، قلت: أمدد لي من دواتك، واستمددته أنا سألته أن يمدّني. وقال الخليل: مدّني وأمدّني: أعطني من مداد دواتك، وكلّ شيء زاد في شيء فهو مداد له، وأمهت الدّواة وموّهتها إذا جعلت فيها ماء، والأمر من ذلك كلّه أمه وموّه دواتك.
__________
(1) البيت الأول لسويد بن كراع في لسان العرب (بوب)، وتاج العروس (بوب)، والأغاني 12/ 399، والشعر والشعراء ص 639، والبيت الثاني لسويد بن كراع في مقاييس اللغة 2/ 476، والشعر والشعراء ص 639، وبلا نسبة في لسان العرب (ربد)، وتهذيب اللغة 14/ 109، وجمهرة اللغة ص 297، والمخصص 7/ 91، وتاج العروس (ربد).(1/168)
واشتقاق الدّواة من الدّواء، لأن بها إصلاح أمر الكتّاب، وبعض الشعراء اشتقّها من دوي الرجل يدوي دويّا، إذا صار في جوفه الداء، قال: [البسيط]
أمّا الدواة فأدوى حملها جسدي ... وحرّف الخطّ تحريف من القلم (1)
ووزنها «فعلة» تحرّكت الياء وقبلها فتحة، فقلبت ألفا، وتجمع دويات كقناة وقنوات، ودوى كقناة وقنا. ويقال: أدويت فأنا مدو: اتّخذت دواة، ويقال للذي يبيعها:
دوّاء كخيّاط وإذا أمرت من يتخذها قلت: أدو دواء، ويقال لمن يحملها ويمسكها:
دوّاء، ويقال لها: الدواة والرقيم والنون.
ويقال: هو القلم المزبر بالزاي والمذبر من زبرت وذبرت، أي كتبت، ومن فرقّ بينهما قال: زبرت بالزاي، أي كتبت، وذبرت، أي قرأت. وسمّي قلما لأنه قلم، أي قطع وسوّى، كما يقلّم الظفر، وكلّ عود قطع وحزّ رأسه وأعلم بعلامة فهو قلم، قال الله تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلََامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]، وكانت سهاما فيها أسماؤهم مكتوبة. ويقال للذي يقلم به: مقلم، وللذي يبرى به: مبرى، ولما سقط عن البرى والتّقليم: القلامة والبراية. وقيل لأعرابيّ: ما القلم؟ ففكّر ساعة، وجعل يقلّب أصابعه، ثم قال: لا أدري فقيل له: توهّمه في نفسك، قال: هو عود قلّم من جوانبه كتقليم الأظفار. ويقال لعقدة: الكعوب، واحدها كعب، ولما بينها الأنابيب، واحدها أنبوب، ويستعملان في الرّمح، وفي كلّ عود فيه عقد، والعقدة التي تشينه تسمّى الأبنة وجمعها أبن، فإن كان في العود أو القصبة تأكّل، قيل فيه: قادح ونقد، ويقال لباطنه:
الشحمة، ولظاهره اللّيط، فإن قشرت منه قشرة قلت: ليّطت من القلم ليطة، فإن أخذت شحمته بالسّكين قيل: شحمته أشحمه، فإن أفرطت في أخذها، قلت: بطّنته تبطينا فهو مبّطن، وحفرته فهو محفور، فإن تركت شحمته، قلت: أشحمته إشحاما. ويقال لغشائه الذي عليه: الغلاف واللّحاء والقشر، فإذا نزعتها عنه قيل: قشرته ولحوته وقشوته وسحوته، ويقال في ثلاثتها بالياء، ووسّقته ونقّحته، مشدّدان. ويقال لطرفيه اللّذين يكتب بهما: السّنّان والشّعيرتان، واحدهما سنّ وشعيرة، فإذا قطع طرفه وهيىء للكتابة قيل:
قططته أقطّه قطّا، وقصمته أقصمه قصما، والمقطّ بالكسر: ما يقطّ عليه، وبالفتح الموضع الذي يقط من رأسه، فإن جعلت إحدى سنّيه أطول من الأخرى قلت: قلم محرّف، وقد حرّفته تحريفا، فإن سوّيتهما قلت: قلم مبسوط، فإن سمع له صوت عند الكتابة، فذلك الصريف والصرير والرشيق ويقال للقصب: اليراع والأباء، الواحد يراعة وأباءة، وقيل:
الأباء أطراف القلم، أي القصب، ويقال للقطن الذي يوجد في بطنها: البيلم والقيصف والقيسع، واحدته بيلمة وقيصفة وقيسعة، فإن كان في القصب تأكّل قيل فيه: قادح ونقد،
__________
(1) البيت بلا نسبة في تاج العروس (دوي).(1/169)
وكذلك العود والسنّ والقرن، فإن كان فيها عوج فذلك الدّرء.
قوله: «خذ أداتك»، أي قلمك. وقال ابن طاهر لكاتب له: ألق دواتك، وأطل سنّ قلمك، وفرّق بين السطور، وتوسط بين الحروف.
وقال ابن عبد ربه: ينبغي للكاتب أن يصلح آلته التي لا بدّ له منها، وأداته التي لا تتمّ صناعته إلا بها، وهي دواته، فلينعم ربّها إصلاحها، ثم ليختر من أنابيب القصب أقلّها عقدا، وأكثفها لحما، وأصلبها قشرا، وأعدلها استواء، ويجعل لقرطاسه سكينا حادّا ليكون عونا له على برى أقلامه، ويبريها من ناحية نبات القصب.
واعلم أنّ محل القلم من الكاتب محل الرّمح من الفارس، نظم أحد الشعراء فقال:
[الرمل]
يمسك الفارس رمحا بيد ... وأنا أمسك فيها قصبه
فكلانا فارس في شأنه ... إنما الأقلام رمح الكتبه
وقال أبو الفتح البستي: [البسيط]
إن هزّ أقلامه يوما ليعملها ... أنساك كلّ كميّ هزّ عامله
وإن أقرّ على رقّ أنامله ... أقرّ بالرّقّ كتّاب الأنام له
رأى جعفر بن يحيى خطّا فاستحسنه، فقال: الخّط خيط الحكمة، ينظم فيه منثورها، وتفصّل فيه شذورها.
ومن كتاب جعفر بن يحيى إلى محمد بن الليث: أما بعد، فليكن قلمك محرّفا. لا متينا ولا رقيقا، ضيّق القلب، فأبره بريا مستويا كمنقار الحمامة، وأعطف بطنه، ورقّق شفرتيه، وليكن قرطاسك رقيقا مستوى النّسج، مخرج السّحاءة (1)، مستويا من أحد الطرفين إلى آخره، فليست تستقيم السّطور إلا فيما كان كذلك، وليكن أكثر مطّك في أطراف القرطاس الذي فيه يسارك، وأقلّه في الوسط، ولا تمطّ في الطرف الآخر، والمطّ نصف الخطّ، ولا يقوى عليه إلا العاقل.
قال العتابيّ: سألني الأصمعيّ في دار الرشيدّ أيّ الأنابيب للكتابة أصلح، وعليها أصبر؟ فقلت له: ما نشف بالهجير ماؤه، وستره من تلويحه غشاؤه، من الدّرّية الظهور، النيّرة القشور، الفضّيّة الكسور قال: فأيّ نوع من البري أصوب وأكتب؟ فقلت له:
البريّة المستوية القطّة، التي عن يمين سنها قرنة (2)، تأمن معها المجّة عند المدّة والمطّة، للهواء في شقّها صفيق، وللرّيح في جوفها خريق، والمداد في خرطومها رقيق. قال العتابيّ: فبقي الأصمعيّ شاخصا إليّ لا يحير جوابا.
__________
(1) السحاءة: أي القشرة.
(2) القرنة: الطرف المائل من كل شيء.(1/170)
وقال الحسن بن وهب: يحتاج الكاتب إلى خلال: جودة بري القلم، وإطالة جلفته، وتحريف قطّته، وحسن التأتّي لامتطاء الأنامل، وإرسال المدّة بعد إشباع الحروف، واستواء الرسوم، وحلاوة المقاطع.
وقال بعض الكتّاب: عطّروا دفاتركم بجيّد الحبر، فإنّ الكتب غوان والحبر غوال.
وقال بعض الكتاب أيضا: [الوافر]
وما روض الربيع وقد زهاه ... ندى الأسحار يأرج بالغداة
بأضوع أو بأسطع من نسيم ... تؤدّيه الأفاوه من دواة
كأنّ هذا من قول الآخر: [الوافر]
دعيّ في الكتابه ليس منها ... له فكر يعدّ ولا بديه
كأنّ دواته من ريق فيه ... تلاق، فريحها أبدا كريه
ونظر جعفر بن محمد إلى فتى على ثيابه أثر مداد، وهو يستره، فقال له: [الكامل] لا تجزعنّ من المداد فإنه ... عطر الرجال وحلية الكتّاب
ولبعضهم يهجو كاتبا: [الوافر]
حمار في الكتابة يدّعيها ... كدعوى آل حرب في زياد
فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو لطّخت نفسك بالمداد
وقال كشاجم لورّاق يدّعي الكتابة: [الكامل]
وزعمت أنّك في الكتابة مدرك ... شأوي، فقلت: رماحنا أقلام (1)
هيهات تلك صناعة ممزوجة ... فيها ضياء واضح وظلام
هذا الحديد سلاح أبطال الوغى ... وبه يمج دماءنا الحجّام
وقال أبو العيناء: كنت عند إبراهيم بن العباس، وهو يكتب كتابا، فنقطت من القلم نقطة مفسدة، فمسحها بكمّه فتعجّبت، فقال: لا تعجب، المال فرع والقلم أصل، والأصل أحوج إلى المراعاة من الفرع، وبهذا السواد جاءت هذه الثياب، ثم أطرق قليلا وقال: [الوافر]
إذا ما الفكر ولّد حسن لفظ ... وأسلمه الوجود إلى العيان
ووشّاه فنمنمه جواد ... فصيح في المقال بلا لسان
ترى حلل البيان منشّرات ... تجلّى بينها صور المعاني
__________
(1) الأبيات في ديوان كشاجم ص 160.(1/171)
وكتب سليمان بن وهب بقلم صلب، فاعتمد عليه اعتمادا شديدا، فصرّ القلم في يده، فأنشد: [الطويل]
إذا ما التقينا وانتضينا صوارما ... يكاد يصمّ السامعين صريرها
تساقط في القرطاس منها بدائع ... كمثل اللآلي نظمها ونثيرها
تقود أبيّات البيان بفطنة ... تكشّف عن وجه البلاغة نورها
تظلّ المنايا والعطايا شوارعا ... تدور بما شئنا وتمضي أمورها
إذا ما خطوب الدهر أرخت ستورها ... تجلّت بنا عما يسرّ ستورها
وأتى رجل وكيعا، فقال: رجل يمتّ إليك بحرمة! فقال له: وما حرمتك؟ قال له:
كنت تكتب بمحبرتي عند الأعمش. فوثب وكيع إلى منزله، ثم أخرج منه دنانير لنفقته، وقال له: اعذرني فما أملك غيرها، ودفعها إليه.
وقال أبو الحسن بن لبّال في محبرة آبنوس: [الكامل]
وخديمة للعلم في أحشائها ... كلف بجمع حلاله وحرامه
لبست رداء اللّيل ثم توشّحت ... بنجومه وتتوّجت بهلاله
وحدثني عن شيخي الفقيه أبي عبد الله بن زرقون ابنه الفقيه أبو الحسين، قال:
حدّثني أبي أنه كان بسبتة أيام الشبيبة والطلب، في مجلس جمع من طلبة الأدب، فتعرّض لهم رجل بمحبرة صنعها، وأراد أن يقصد بها الوالي على حسنها، وكانت محبرة آبنوس بحلية صفراء مذهبة، فأطرقوا يروّون، فبادرهم أبو الطالب بن أبي ركب فقال: [الكامل]
جاءتك من غرر العلا زنجيّة ... في حلّة من حلية تتبختر
سوداء صفراء الحليّ كأنّها ... ليل تطرّزه نجوم تزهر
فاستحسنهما من حضر، ورأوا أنه قد أربى على الغاية فيما عنه صدر، فكتبا للرجل في رقعة، فبعد ما سار بها قليلا، رجع فأبرز منها قلم صفر مذهبا، ورغب أن يضمّن ذكره في منظوم يضاف إلى البيتين، فأطرقوا يروّون في ذلك، فبادرهم أبو طالب المذكور فقال: [الكامل]
كملت بأصغر من نجار حليّها ... تخفيه أحيانا، وحينا يظهر
خرسان إلا حين يرضع ثديها ... فتراه ينطق ما يشاء ويذكر
وقال آخر يصف دواة وأقلاما: [الخفيف]
قد بعثنا إليك أمّ العطايا ... والمنايا زنجيّة الأحساب
في حشاها من غير حرب حراب ... وهي أمضى من نافذات الحراب
وأحسن ما قيل في القلم قول حبيب يصف قلم محمد بن عبد الملك الزيّات:(1/172)
قد بعثنا إليك أمّ العطايا ... والمنايا زنجيّة الأحساب
في حشاها من غير حرب حراب ... وهي أمضى من نافذات الحراب
وأحسن ما قيل في القلم قول حبيب يصف قلم محمد بن عبد الملك الزيّات:
[الطويل]
لك القلم الأعلى الّذي بسنانه ... تصاب من المرء الكلى والمفاصل (1)
له الجلوات اللاء لولا نجيّها ... لما احتفلت للملك تلك المحافل
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأرى الجنى اشتارته أيد عواسل
له ديمة طلّ، ولكنّ وقعها ... بآثاره في الشرق والغرب وابل
فصيح إن استنطقته وهو راكب ... وأعجم إن خاطبته وهو راجل
إذا ما امتطى الخمس اللّطاف وأفرغت ... عليه شعاب الفكر وهي حوافل
أطاعته أطراف القنا وتقوّضت ... لنجواه تقويض الخيام الجحافل
إذا استغزر الذّهن الذكيّ وأقبلت ... أعاليه في القرطاس وهي أسافل
وقد رفدته الخنصران وسدّدت ... ثلاث نواحيه الثّلاث الأنامل
رأيت جليلا شأنه وهو مرهف ... ضنى، وسمينا خطبه وهو ناحل
وقال أبو الفتح البستي: [الطويل]
إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم ... وعدّوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتاب مجدا ورفعة ... مدى الدهر أنّ الله أقسم بالقلم
وقال البحتريّ: [البسيط]
تعنو له وزراء الملك خاضعة ... وعادة السّيف أن يستخدم القلما (2)
وقال أبو العباس التنوخيّ: [البسيط]
إن يخدم القلم السّيف الّذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم
فالموت والموت لا شيء يقابله ... ما زال يتبع ما يجري به القلم
بذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أنّ السيوف لها مذ أرهفت خدم
وناقضه أبو الطيب المتنبي فقال: [البسيط]
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي: ... المجد للسيف ليس المجد للقلم (3)
أكتب بنا أبدا بعد الكتاب به ... فإنّما نحن للأسياف كالخدم
وقال الصوليّ: فاخر صاحب سيف صاحب قلم، فقال صاحب القلم: أنا أكتب بلا
__________
(1) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 257.
(2) البيت في ديوان البحتري ص 2048.
(3) البيتان في ديوان المتنبي 4/ 159، 160.(1/173)
غرر، وأنت تقتل على خطر، فقال صاحب السيف: القلم خادم السّيف إن تمّ مداده، وإلا فإلى السيف معاده.
قال الصوليّ: وقال بعض اليونانيين: الدين والدنيا تحت شيئين: سيف وقلم، والسيف تحت القلم.
وفي ذلك يقول جرير النّميريّ: [الوافر]
أتحقرني ولست لذاك أهلا ... وتدنى الأصغرين من الخوان
جهابذة وكتّاب وليسوا ... بفرسان الكتيبة والطّعان
ستذكرني وتعرفني إذا ما ... تلاقي الحلقتان من البطان
وقال كشاجم: [الطويل]
هنيئا لأصحاب السيوف بطالة ... تقضّي بها أيامهم في التنعّم
وكم فيهم من دائم الأمر لم يرع ... بحرب ولم ينهد لقرن مصمّم
وكلّ ذوي الأقلام في كلّ ساعة ... سيوفهم ليست تجفّ من الدّم
وقال آخر: [البسيط]
قوم إذا أخذوا الأقلام من قصب ... ثم استمدوا بها ماء المنيّات
نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا ... ما لا ينال بحدّ المشرفيّات
وقال البحتريّ يصف كلام الحسن بن وهب وأقلامه: [الكامل]
وإذا تألّق في العيون كلامه ال ... محمود خلت لسانه من عضبه (1)
وإذا دجت أقلامه ثم انتحت ... برقت مصابيح الدّجى في كتبه
فاللفظ يقرب فهمه في بعده ... منّا، ويبعد نيله من قربه
حكم، فسائحها خلال بنانه ... متدفّق، وقليبها في قلبه
فكأنّها والسّمع معقود لها ... شخص الحبيب بدا لعين محبّه
وقال عليّ بن الجهم في رقعة جاءته بخط جارية: [السريع]
ما رقعة جاءتك مثنيّة ... كأنّها خدّ على خدّ
نبذ سواد في بياض كما ... ذرّ فتيت المسك في الورد
ساهمة الأسطر مصورفة ... عن وجهة الهزل إلى الجدّ
يا كاتبا أسلمني عتبه ... إليه، حسبي منك ما عندي
__________
(1) الأبيات في ديوان البحتري ص 164.(1/174)
وقال البحتري في ابن الزيات: [الخفيف]
قد تصرّفت في الكتابة حتّى ... عطّل الناس ذكر عبد الحميد (1)
في نظام من البلاغة ما ش ... ك أمرؤ أنّه نظام فريد
وبديع كأنه الزّهر الضا ... حك في رونق الرّبيع الجديد
ما أعيرت منه بطون القراطي ... س وما حملت ظهور البريد
حزن مستعمل الكلام اختيارا ... وتجنّبن ظلمة التّعقيد
كالعذارى غدون في الحلل الصّف ... ر إذا رحن في الخطوب السّود
قال المأمون لمحمد بن داود: إن شاركناك في اللّفظ فقد تاركناك في الخطّ، فقال:
يا أمير المؤمنين، إنّ من أعظم آيات النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أدّى عن الله تعالى رسالته، وحفظ وحيه، وهو أميّ لا يعرف من فنون الخطّ فنّا، ولا يقرأ من حروفها حرفا، وبقي عمود ذلك في أهله، فهم يشرفون بالشّرف الكريم في نقص الخطّ، كما يشرف غيرهم بزيادته، وإنّ أمير المؤمنين أخصّ الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، والوارث لموضعه، والمتقلّد لنهيه ولأمره، فتعلّقت به المشابهة الجليلة، وتناهت إليه الفضيلة. فقال المأمون: يا محمد، لقد تركتني لا آسي على الكتابة ولو كنت أميّا.
قد ذكرنا من آلات الكتابة نثرا ونظما ما فيه كفاية وفي السادسة والعشرين من النظم في أوصاف الكتّاب ما يستحسن وينتظم بما أوردنا هنا.
وإنما أخرج الحريريّ رسالته الخيفاء من هذه الأوصاف المنظومة في الرسائل التي قدّمناها آنفا لما ذكره من أنّ جميع الكتّاب قطب لإنشائها وتاب، لما فيها من لزوم نقط لفظة وترك أخرى وهي على ما بها من التكلّف، رائقة المعاني، أنيقة المباني، ولو غيره تعاطاها لأظلمت معانيها، وتداعت مبانيها، فلله هو! لقد كان منقادا له صعب الكلام بأيسر مرام! وما هو في محاولة البلاغة إلا كما قال حبيب في سليمان بن وهب: [الخفيف]
سرح نطقه إذا ما استمرّت ... عقدة العيّ في لسان الخطيب (2)
ومصيب شواكل الأمر فيه ... مشكلات ملكن لبّ اللبيب
لا معنّى بكلّ شيء ولا ك ... لّ عجيب في عينه بعجيب
* * *
الكرم ثبّت الله جيش سعودك يزين، واللّؤم غضّ الدّهر جفن حسودك يشين، والأروع يثيب، والمعور يخيب، والحلاحل يضيف، والماحل يخيف،
__________
(1) الأبيات في ديوان البحتري ص 636.
(2) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 37.(1/175)
والسّمح يغذي، والمحك يقذي، والعطاء ينجي، والمطال يشجي، والدّعاء يقي، والمدح ينقي، والحرّ يجزي والإلطاط يخزي، واطّراح ذي الحرمة غيّ، ومحرمة بني الآمال بغي، وما ضنّ إلّا غبين، ولا غبن إلّا ضنين، ولا خزن إلّا شقيّ، ولا قبض راحه تقيّ. وما فتىء وعدك يفي، وآراؤك تشفي، وهلالك يضي، وحلمك يغضي، وآلاؤك تغني، وأعداؤك تثني، وحسامك يفني، وسؤددك يبني، ومواصلك يجتني، ومادحك يقتني، وسماحك يغيث، وسماؤك تغيث، ودرّك يفيض، وردّك يغيض، ومؤمّلك شيخ حكاه فيء، ولم يبق له شيء. أمّك بظنّ حرصه يثب، ومدحك بنخب مهورها تجب، ومرامه يخفّ، وأواصره تشفّ، وإطراؤه يجتذب، وملامه يجتنب، ووراءه ضفف، مسّهم شظف وحصّهم جنف، وعمّهم قشف، وهو في دمع يجيب، ووله يذيب وهمّ تضيّف، وكمد نيّف، لمأمول خيّب، وإهمال شيّب، وعدوّ نيّب، وهدوّ تغيّب، ولم يزغ ودّه فيغضب، ولا خبث عوده فيقضب، ولا نفث صدره، فينفض، ولا نشز وصله فيبغض، وما يقتضي كرمك نبذ حرمه فبيّض أمله، بتخفيف ألمه، ينثّ حمدك بين عالمه. بقيت لإماطة شجب، وإعطاء نشب، ومداواة شجن، ومراعاة يفن، موصولا بخفض، وسرور غضّ، ما غشي معهد غنيّ، أو خشي وهم غبيّ، والسلام.
* * * قوله: «غضّ الدهر جفن حسودك»، يقال: غضّ جفنه، أي سدّ عينيه، دعاء عليه بالعمى، يقول: الكرم يزيّن صاحبه. واللؤم وهو البخل يشينه ويعيبه، ثم دعا له بدوام السّعد وثبوته، وبعمى عين الحسود حتى لا يبصر ما أعطي الممدوح من النّعم، فيأخذها بالعين. الأروع: السيد الكريم، وهو الذي قصد، وقيل: الأروع الحديد النفس، وقيل: الذي يروعك بجماله. يثيب: يجازي قاصده. والمعور: البادي العورة، وهو الفارس يظهر في طعنه خلل، وأراد به الناقص الخلق الكثير السفاهة، ومن جملة عيوبه البخل حتى يخيب قاصده، لأنه قابل به الأروع، وهو التامّ الجسيم، الجهير الصوت، قال الشاعر: [الطويل]
يواخي لئيم النّاس كلّ ملائم ... وينطق بالعوراء من كان معورا (1)
__________
(1) يروى صدر البيت:
يروم أذى الأحرار كلّ ملّام
وهو بلا نسبة في لسان العرب (لأم)، وتاج العروس (لؤم).(1/176)
الحلاحل: السيّد الذي يحلّ به الناس كثيرا. يضيف: ينزل الأضياف ويكرمهم.
والماحل: البخيل، شبّه بالبلد الماحل، وهو الجدب، فكأنّ الماحل الذي لا يوجد عنده خير، يقال: أمحل البلد، وبلد ماحل وذو محل، مثل لابن وتامر، والماحل النّمّام، يقال: محل به إلى السلطان إذا وشى به، وهو الذي يخيف على الحقيقة، والماحل أيضا: المخاصم، وقد ما حلته وما حلني. يغذي: يطعم. والمحك: اللّجوج، وهو مقابل السّمح الخلق. يقذي: يجعل في العين قذأ، أي يضرّ قاصده ويؤلمه. ينجي:
يخلّص صاحبه من الذمّ، وتقدّم المطال. ينقي: يغسل العيب. والإلطاط: الامتناع من فعل الخير، ويقال: لطّ وألطّ، إذا ذهب، ولطّ الشيء وألطّه، إذا ستره. يخزي: يهين.
اطّراح: ترك. ذي الحرمة، أي صاحبها، والحرمة ما لا يحلّ انتهاكه، ومن قصدك فقد دخل في حرمك، فتركه ليس من المروءة. غيّ: فساد وضلال. محرمة: منع. بنى الآمال: أهل الرجل الذين يرجون خيره ويأملونه. بغى: ظلم. ضنّ: بخل. غبين:
مخدوع في رأيه. ضنين: بخيل، يقول: ما يضنّ بماله من هو سديد النظر ولا المصيب الرأي إنما يبخل به من هو فاسد النظر مغبون في رأيه. خزن: حبس ماله: قبض راحه:
ضمّ كفه على ما فيها، وهذه كناية عن المنع والبخل. والتقيّ: الذي يقي نفسه من العذاب بعمله الصالح، من وقيت نفسي أقيها، واختلف في وزنه فقيل «فعول» وأصلها «وقوى»، فأبدلوا من الواو تاء لقرب مخرجيهما، ومن الواو الثانية ياء وأدغموها في الياء، وكسروا القاف لتصحّح الياء، والاختيار أن يكون وزنه «فعيلا» وأصله «تقّي»، فأدغموا الياء في الياء، والدليل على صحته جمعهم له على أتقياء، كوليّ وأولياء، ومن قال: إنه «فعول» قال: لمّا أشبه «فعيلا» جمع جمعه.
قوله: «ما فتىء»، أي ما زال. يفي: يصدق ويكون وفيّا. آراؤك: جمع رأى.
تشفي: تزيل الهمّ عن قلب وليّك، وتبرىء مرض قاصدك من فقره، يصفه بجودة الرأي وحسن النّظر فيما يصلح به أحوال أصحابه وقصاده. هلالك يضيء: يصفه بطلاقة الوجه وإضاءته عند السؤال، قال زهير: [الطويل]
تراه إذا ما جئته متهلّلا ... كأنّك تعطيه الذي أنت سائله (1)
وكما قال أبو بكر في الطّلاقة: [الكامل]
وإذا نظرت إلى أسرّة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلّل (2)
__________
(1) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 142، وكتاب العين 3/ 352، وتهذيب اللغة 5/ 365، وبلا نسبة في تاج العروس (هلل)، ولسان العرب (هلل).
(2) البيت لأبي كبير الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 1074، وتاج العروس (عرض)، وبلا نسبة في المخصص 1/ 89.(1/177)
خلافا لسّيىء الخلق الذي يقطّب وجهه عند اللقاء، واللئيم الذي إذا سئل انزوى وتقبّض.
يغضي: يسمح. آلاؤك: نعمك. أعداؤك تثني: يقول لكثرة المادحين لك والناشرين لفضلك، لم يمكن أعداؤك وحسّادك ذمّك لتكذيب الناس إياهم، فصاروا يثنون عليك مع من يثني ويحكى أنّ أعرابيّا استضاف حاتما، فلم ينزله، فبات جائعا مقرورا، فلما كان في السّحر ركب راحلته، وانصرف، فتقدّمه حاتم، فلما خرج من بين البيوت لقيه متنكّرا، فقال له: من كان أبا مثواك البارحة؟ قال: حاتم، قال: فكيف كان مبيتك عنده؟ قال: خير مبيت، نحر لي ناقة فأطعمني لحما عبيطا، وأسقاني الخمر، وعلف راحلتي، وسرت من عنده بخير حال. فقال له: أنا حاتم، والله لا تبرح حتى ترى ما وصفت، فردّه وقال له: ما حملك على الكذب؟ فقال له الأعرابيّ: إنّ الناس كلّهم يثنون عليك بالجود، ولو ذكرت شرّا كنت أكذب، فرجعت مضطرّا إلى قولهم، إبقاء على نفسي لا عليك. وقد تقدّم قول البحتريّ في هذا المعنى: [الطويل]
أأشكو نداه بعد ما وسع الورى ... ومن ذا يذمّ الغيث إلا مذمّم (1)!
وقال حبيب: [الطويل]
فإن أنا لم يحمدك عنّي صاغرا ... عدوّك فاعلم أنني غير حامد (2)
بسبّاقة تنساق من غير سائق ... وتنقاد في الآفاق من غير قائد
أفادت صديقا من عدوّ وصيرّت ... أقارب دنيا من رجال أباعد
ومحلفة لمّا ترد أذن سامع ... فتصدر إلّا عن يمين وشاهد
وهذه القصيدة من كلامه يمدح بها محمد بن الهيثم، يقول: يسمع عدوّك إطنابي في مدحك فيمدحك صاغرا، فكيف وليّك! فأمدك بقصيدة تقطع الأرض، ليست بإبل تساق، ولا بخيل تقاد، فتردّ العدوّ صديقا، والبعيد قريبا، ولا يسمعها أحد إلا ويحلف أنه لم يسمع مثلها، فيشهد له بالصدق.
قوله: «وسوددك يبني»، أي يرفع لك مجدا وشرفا. حسامك يفنى، أي سيفك يقطع ويفني أعداءك. مواصلك يجتنى، أي من زارك وواصلك اجتنى نعمتك ومواهبك.
يقتنى، أي يكتسب. سماؤك تغيث، أي تأتي بالغيث وهو المطر فيستغيث الناس به من الجدب. سماحك يغيث، أي جودك وحسن خلقك يفرّج كرب المهموم، وتقول: غوّث الرجل، أي قال: واغوثاه، وأغثته أغيثه، إذا فرّجت عنه ما يشتكي منه. درّك يفيض:
عطاؤك يشمل، أي لبنك يملأ الإناء ويفيض عليه، يريد أن عطاءه يكثر لسائله. وردّك
__________
(1) البيت في ديوان البحتري ص 1980.
(2) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 119، 120.(1/178)
يغيض، أي منعك يذهب الرزق، وغاض الماء: غار في الأرض، مؤمّلك: راجيك.
والفيء: الظلّ بعد الزوال، يريد أن عمره قد أدبر، فشبّه نفسه بالفيء الذاهب. أمّك بظنّ، أي قصدك برجاء. وحرصه يثب، أي طمعه يتزايد فيجعله في غاية من القلق.
نخب: مختارة. مهورها: حقوقها، يقول: مدحك بنخب في ملئه، فوجبت حقوقها لحسنها وجودتها. ومما ينظر إلى هذه المعارضة قول الشاعر: [الوافر]
وخذ حمدي بجودك، ذا بهذا ... كلانا اليوم أربح صيرفيّ
لأصبح من نوالك في رياش ... وتصبح من مقالي في حليّ
وقال آخر: [مجزوء الرجز]
وحلّة كساها ... كالحليّ في التهابه
فاستبطنت مديحا ... كالأري في نصابه
فراح في ثيابي ... ورحت في ثيابه
وقال ابن شهيد في ضيف له: [الطويل]
وما انفكّ معشوق الثّواء نمدّه ... ببشر وترحيب وبسط لسان
إلى أن تشهّى البين من ذات نفسه ... وحنّ إلى الأهلين حنّة حان
فأتبعته ما سدّ خلّة حاله ... وأتبعني ذكرا بكلّ مكان
وقوله: «مرامه يخفّ»، أي مطلبه يسهل عليك.
أواصره: جمع آصرة وهي صلة الرحم، والأصر: الموضع الحابس، من قولهم:
أصرت فلانا على الشيء آصره أصرا، إذا حبسته عليه وعطفته، ويقال: ما تأصرني على فلان آصرة، أي ما تحبسني عليه حابسة، ولا تعطفني عليه عاطفة. ذكره ابن الأنباريّ.
وذكر الحريري في الدرّة، أن اشتقاق أواصر القرابة والعهد من المأصر، بكسر الصاد، ومعناه الوضع الحابس للمارّ عليه، فسمّيت أواصر، لأنها تعطف على ما يجب رعايته من المودة والرحم. قال: وحكى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، قال: اجتمع عندنا أبو نصر أحمد بن حاتم وابن الأعرابيّ فتحادثا، فحكى أبو نصر أنّ أبا الأسود دخل على عبيد الله بن زياد، وعليه ثياب رثّة، فكساه ثيابا جديدة من غير أن يسأله، أو استكساه، فخرج وهو يقول: [الطويل]
كساك ولم تستكسه فحمدته ... فتى ماجد يعطى الجزيل وياصر
وإنّ أحقّ الناس إن كنت مادحا ... بمدحك من أعطاك والعرض وافر
فقال ابن الأعرابيّ: «وناصر» بالنون، فقال له أبو نصر: دعني يا هذا ويا صري وعليك بناصرك يريد ب «ياصر» يعطف.(1/179)
قوله: «تشفّ»، أي تزيد وتفضل غيرها، يقول: إن الأسباب التي توجب عطفك وحنانك عليّ كثيرة منها الشّيخ والضعف وكثرة العيال وجودة المدح، والعهود السابقة التي بيني وبينك. إطراؤه يجتذب، أي مدحه يتجاذبه الناس ويحرصون على تحصيله لجودته، وأصل الإطراء المدح في الوجه، فهو بمشاهدته كأنه مدح طريّ، أو ظهرت عليه طراوة. ملامه يجتنب: ذمّه يخاف ويبعد منه، فيرشي عليه، يقول: إنّ الذي رجاك شيخ مسنّ فقير قصدك بيقين لأنك من أهل الكرم، فطمعه لذلك يزيد لما ارتجى من معروفك، وأهدى إليك من مدائحه عرائس وجبت عليك حقوقها، ومرامه سهل عليك، ولديك علق تقوم مقام القرابة، وتزيد على ذلك، وله مدح يرغّب فيه وذم يرهب منه.
ووراءه ضفف، أي خلفه كثرة عيال، من ضفّ الطعام ضفّا إذا كثر القوم عليه، وضفّ العيش اشتدّ. والشّظف: سوء الحال، حصّهم: عرّاهم ونتف ريشهم. جنف:
ميل الدهر عليهم. قشف: بؤس عيش. يجيب: يساعد. وله: همّ وحيرة. يذيب:
يذهب اللحم. تضيّف: نزل به ومال إليه. كمد: حزن قارب الموت. نيّف: زاد على المعهود. لمأمول، أي لمقصود مرجوّ. إهمال: تضييع وتسييب. نيّب: عضّ بأسنانه.
وهدوّ تغيّب، أي سكون وأمن زال عنه. يزغ: يمل. نفث صدره، أي تكلم بشرّ، ونفث: بزق من داء في صدره ومنه المثل: لا بدّ للمصدور أن ينفث. ينفض، أي يضرب ويبعد. نشز: ارتفع وزال. يقتضي: يتضمّن ويلزم. نبذ: طرح. حرمه: جمع حرمة.
بيّض أمله، أي أسعد رجاءه، وردّه أبيض بعطائك الذي يخفف ألمه، ويزيل وجعه.
ينثّ: ينشر. عالمه: ناسه وأهل زمانه. بقيت: عشت وطال بقاؤك. إماطة شجب: إزالة هلاك وتنحيته. نشب: مال. شجن: حزن، والشّجن أيضا الحاجة. مراعاة: حفظ.
يفن: شيخ كبير. موصولا، أي متصلا. بخفض: عيش هنيء. غضّ: ناعم جديد.
غشي: قصد ودخل. معهد: موضع يعهد به جلوسه. وهم غبيّ: غلط جاهل.
* * * فلمّا فرغ من إملاء رسالته، وجلّى في هيجاء البلاغة عن بسالته، أرضته الجماعة فعلا وقولا، وأوسعته حفاوة وطولا. ثمّ سئل من أيّ الشّعوب نجاره، وفي أيّ الشّعاب وجاره، فقال: [مجزوء الكامل]
غسّان أسرتي الصّميمه ... وسروج تربتي القديمة
فالبيت مثل الشّمس إش ... راقا ومنزلة جسيمة
والرّبع كالفردوس مط ... يبة ومنزهة وقيمة
واها لعيش كان لي ... فيها ولذّات عميمة
أيّام أسحب مطرفي ... في روضها ماضي العزيمة(1/180)
أختال في برد الشّبا ... ب وأجتلي النّعم الوسيمة
لا أتّقي نوب الزّما ... ن ولا حوادثه المليمه
فلو أنّ كربا متلف ... لتلفت من كربي المقيمة
أو يفتدى عيش مضى ... لفدته مهجتي الكريمة
فالموت خير للفتى ... من عيشه عيش البهيمة
تقتاده ترة الصّغا ... ر إلى العظيمة والهضيمة
ويرى السّباع تنوشها ... أيدي الضّباع المستضيمة
والذّنب للأيام لو ... لا شؤمها لم تنب شيمة
ولو استقامت كانت ال ... أحوال فيها مستقيمة
* * *
قوله: «إملاء رسالته»، أي إلقائها عليه ليكتبها جلّى: كشف. الهيجاء: الحرب، وهي من الهيج وهو الحركة والإضطراب. بسالته: شجاعته. أوسعته: كثّرت له. حفاوة:
إكرام. والطّول: الإنعام. الشّعوب: القبائل، وأحدها شعب، بفتح الشين وهو الأب الكبير. ثعلب، الشّعب: الأب الأكبر الذي ينتهون إليه والقبيلة دونه. نجاره: أصله.
الشّعاب: الطرق في الجبال. وجاره: جحره، أراد بيته، لأنهم سألوه من أيّ قبيلة هو، وعن مسكنه في أيّ موضع هو.
وقوله: «غسان أسرتي»: أي هذه القبيلة أصلي وقرابتي. الصميمة: الصريحة الخالصة. تربتي. بلدتي. إشراقا: ضياء ونقاء من العيب. جسيمة: عظيمة. الفردوس:
الجنّة، سمّيت بذلك لعرائشها، والفردوس: المعرّش من الكرم. مطيبة، أي سروج مثل الجنة في طيب الهواء، وفي نزهتها وحسنها، وفي قدرها، وأراد بالبيت غسّان، وبالربع سروج، أو يريد بيته في غسان في الشرف كالشمس، ومنزله في سروج كالجنة في طيبها ونزهتها، وقد قال في أخرى: [الرمل]
من رآها قال مرسى ... جنّة الدنيا سروج
ومثل قوله في البيت مثل الشمس، قول أبي الطّمحان القينيّ: [الطويل]
وإنّي من القوم الذين هم هم ... إذا مات منهم سيّد قام صاحبه (1)
__________
(1) البيتان الثاني والثالث، لأبي الطمحان القيني في الأغاني 13/ 9، وأمالي المرتضى 1/ 257، وتخليص الشواهد ص 202، وخزانة الأدب 8/ 95، وديوان المعاني 1/ 22، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1598، وكتاب الصناعتين ص 360، ولسان العرب (خضض)، والمقاصد النحوية 1/ 567، وهما للقيط بن زرارة في الحيوان 3/ 93، والشعر والشعراء ص 715.
نجوم سماء كلمّا غار كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتّى نظّم الجزع ثاقبه
وقال حسان بن ثابت: [الكامل](1/181)
__________
(1) البيتان الثاني والثالث، لأبي الطمحان القيني في الأغاني 13/ 9، وأمالي المرتضى 1/ 257، وتخليص الشواهد ص 202، وخزانة الأدب 8/ 95، وديوان المعاني 1/ 22، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1598، وكتاب الصناعتين ص 360، ولسان العرب (خضض)، والمقاصد النحوية 1/ 567، وهما للقيط بن زرارة في الحيوان 3/ 93، والشعر والشعراء ص 715.
نجوم سماء كلمّا غار كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتّى نظّم الجزع ثاقبه
وقال حسان بن ثابت: [الكامل]
بيض الوجوه مضيئة أحسابهم ... شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل (1)
وزاد عليه في الإضاءة والإشراق حجيّة بن المضرّب فقال: [الطويل]
أضاءت لهم أحسابهم فتضاءلت ... لنورهم الشمس المنيرة والبدر
وزاد عليه أبو الطيب وعلى الناس في علوّ الهمة وتبعيد منازلها من منازل الكواكب، حيث يقول: [البسيط]
وعزمة بعثتها همّة زحل ... من تحتها بمكان التّرب من زحل
وزحل أرفع من الشمس ومن سائر الكواكب منزلة، وهذا من غلوّ المتنبّي الذي يخرج به عن الناس حتى يعاب، لأنه لو جعلها مع زحل في منزلة واحدة، كما جعل الحريري منزلته مع الشمس لكان قد بلغ النّهاية، وزاد على غيره، فلم يكتف بذلك حتى جعلها تعلو على زحل، كما يعلو زحل على الأرض. ومن هذا الإفراط في شعره كثير، وأكثر النقاد يعيبون عليه وبعد هذا فمعجزاته في الشعر زاد بها على المتقدّمين والمتأخّرين عند الأكثر فلا يجاري في كثير منها.
واها: تعجّبا، كأنه قال: ما أعجب ما كان عيشي بها! عميمة: كثيرة. أسحب مطرفي: أجرّ ثوبي المعلم في طرفه إعجابا بنفسي. أختال: أمشي الخيلاء متكبّرا. برد الشباب: ثوب الفتوّة. أجتلي: أنظر. الوسيمة: الحسان. والنّوب والحوادث: النوازل والمصائب، كلّها بمعنى واحد، وهي ما ينوب الإنسان: أو يحدث عليه أو ينزل به، أو يصيبه من البلاء بعد العافية. المليمة: التي تأتي بما يلام عليه. كربي المقيمة: همومي الثابتة. مهجتي: نفسي، وأصلها دم القلب. تقتاده: تسوقه. برة: حلقة من صفر تجعل في وترة أنف البعير، يذلّل بها. الصّغار: الذّلّة. العظيمة: داهية يستعظم أمرها.
والهضيمة: المحقّرة لشأنه عند الناس، فيريد بالبهيمة البعير الذي يقاد ويذلّل بالبرة، وبالعظيمة سؤاله الناس، وبالهضيمة احتقارهم له إذا سألهم فيردونه خائبا. والسباع هنا:
الأسود. تنوشها: تتناولها وتخدشها.
(1) يروى صدر البيت:
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
وهو لحسان بن ثابت في ديوانه ص 122، ولسان العرب (طرز)، (أنف)، وتهذيب اللغة 13/ 178، ومقاييس اللغة 3/ 446، وتاج العروس (طرز)، (أنف)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 704.(1/182)
[مما قيل في الضباع]
والضباع: جمع ضبع وهو نوع من سباع الأرض، وهي مضادّة في الخلقة لسبع الأندلس، لأنها عظيمة الكفل والفخذين رقيقة الصدر، وهذا السبع أزلّ عظيم الصدر، والضبع عظيم البطن، ولذلك سمى حضاجر بالجمع، والحضجر: عظيم البطن.
والحضجر: الوطب الكبير من اللبن، ويشبّه به العظيم البطن، وهي عرجاء مثل هذا السبع، ويضرب بحمقها المثل فيقال: أحمق من ضبع، وأحمق من أمّ عامر وهي كنيتها.
ومن حمقها أنّ الصائد يدخل وجارها فيقول لها: خامري أمّ عامر، ومعناه الجئي ألى أقصى مغارك واستتري، فتتقبّص، فيقول: أم عامر ليست في وجارها، ثم يقول: أبشري أمّ عامر بكمر الرجال، أبشري أم عامر بشاة هزلي، وجرادة عظلى، فتمدّ يديها ورجليها، فيوثقها ويشدّ عراقيبها بحبال فلا تتحرّك، ولو شاءت أن تقتله لأمكنها، ولا يدخل عليها إلا عريانا، وإن دخل بثوب قتلته، ثم يخرج لأصحابه بالحبال، وهم على فم الوجار بأسلحتهم، فيخرجونها بالجرّ من قعر الوجار ويقتلونها.
ومن حمقها أنّها تترك جراءها إذا خرجت تلتمس ما تأكل، فتجد جراء أخرى قد خرجت أيضا لذلك، وتركت جراءها فترضع أولاد غيرها، وتترك أولادها، فربما ضاعت جراؤها فأكلها الذئب. وقال الشاعر: [الطويل]
كمرضعة أولاد أخرى وضيّعت ... بني بطنها، هذا الضلال عن القصد
قال أبو زيد: والضباع لا تفترس شيئا إنما تأكل الجيف، وتنبش القبور عن الموتى، وربما اجتمعت الجماعة منها على حمار فأكلته، وليس لها بالنهار كبير عمل، قال الهذليّ: [الوافر]
تبيت اللّيل لا يخفى عليها ... حمار حيث جرّ ولا قتيل (1)
قوله: «المستضيمة» أي المذلّله. والضيم: الذلّ يضرب المثل لتلاعب الزمان بالناس بالأسود والضباع، فقال: إنّ الضباع المحتقرة عند الأسود تتناول الأسود بالضرر، وكذلك الزّمان يرفع الحقير والهجين ويكثر رزقه، ويضع الرفيع ويقتّر عليه، ويملّك الهجناء والأراذل الخطط الجسام، ويجرّع النبلاء والأعيان غصص المخازي وكؤوس الحمام.
* * * [الدهر وأحواله]
وهذه أحوال مشاهدة تنسب إلى الدهر لوقوعها فيه، وقدّرها الباري عزّ وجلّ اختبارا لعباده، وليبصّر العقلاء جريان أحكامه في خلقه، وأنّ الكل تحت قهره، وأن كلّ إنسان من
__________
(1) البيت لساعدة بن جؤية الهذلي في ديوان الهذليين 1/ 216.(1/183)
أهل الحزم والرأي عاجز عن إدراك ما لم يقدّر له وقال محمد بن الفضل: [الرمل]
هانت الدّنيا على اللّ ... هـ فأعطاها اللّئاما
فهم فيها يعيشو ... ن ويلحون الكراما
وقال المعريّ في معنى بيت الحريريّ: [الوافر]
ومن صحب الليّالي علّمته ... خداع الإلف والقيل المحالا (1)
وغيّرت الخطوب عليه حتى ... تريه الذرّ يحملن الجبالا
وقال يزيد المهلبيّ يرثي المتوكل: [البسيط]
علتك أسياف من لا دونه أحد ... وليس فوقك إلا الواحد الصّمد
وأصبح الناس فوضى يعجبون به ... ليثا صريعا تندى حوله النّقد
وأخذ لفظ بيته من قول حبيب: [البسيط]
من لم يعاين أبا نصر وقاتله ... فما رأى ضبعا في شدقه سبع (2)
فيم الشماتة إعلانا بأسد وغى ... أفناهم الصّبر إذ أبقاكم الجزع!
هكذا ينظم حرّ الكلام، ويعتذر لموت الكرام، وتنفى عنهم شماتة اللئام. وقد أحسن الاعتذار أيضا لأبي نصر بأغرب من هذا، وجعله قاتل نفسه، إذ لا نظير له في شجاعته فيقتله، وإنما قتله أمر الله الذي لا يغالب، كما قال أبو الطيب: [الطويل]
ألا إنّما كانت وفاة محمد ... دليلا على أن ليس لله غالب (3)
وكذلك قوله: [الطويل]
فإن ترم عن عمر توانى به المدى ... فخانك حتى لم يجد فيك منزعا
فما كنت إلّا السّيف لاقى ضربية ... فقّطعها حتى انثنى فتقطّعا
أي لم يقتل حتى قلت أعداءه، وأبو نصر هو محمد بن حميد قتله بابك الخرّميّ ومما قال فيه حبيب وهو أشجع بيت قيل قوله: [الطويل]
ونفس تعاف العار حتى كأنمّا ... هو الكفر يوم الرّوع أو دونه الكفر (4)
فأثبت في مستنقع الموت رحله ... وقال لها: من تحت إخمصك الحشر
قوله: «الذنب للأيام»، نسب الذنب إليها لوقوع المكروه فيها كما تقدم. تنب:
__________
(1) البيتان في سقط الزند ص 81.
(2) البيتان في ديوان أبي تمام ص 372.
(3) البيت في ديوان المتنبي 1/ 109.
(4) البيتان في ديوان أبي تمام ص 369.(1/184)
ترتفع، شيمة: طبيعة، أي لولا شؤم الأيام لم تتغير الطباع، أي لو استقامت هي لاستقامت أحوال الناس فيها، فكان كل إنسان يدرك منها على قدر منزلته.
* * * [مما قيل في ذم الزمان]
ومما قيل في ذمّ الزمان مما يوافق هذا المعنى، أنّ عبد الملك بن مروان سأل مسلمة بن يزيد وكان من المعمّرين فقال: أيّ الملوك رأيت أكمل؟ وأيّ الزمان رأيت أفضل؟ فقال: أمّا الملوك فلم أر إلا حامدا أو ذامّا، وأمّا الزمان فيرفع أقواما ويضع أقواما، وكلّهم يذمّ زمانه. لأنه يبلي جديدهم، ويفرّق عديدهم، ويهرم صغيرهم، ويهلك كبيرهم.
أبو جعفر الشيبانيّ قال: أتانا أبو ميّاس الشاعر، ونحن في جماعة، فقال: ما أنتم فيه؟ قلنا: نذكر الزمان وفساده، قال: كلّا إنّ الزمان وعاء، وما ألقي فيه من خير أو شر كان على حاله، ثم أنشأ يقول: [الوافر]
أرى حللا تصان على رجال ... وأخلاقا تذال ولا تصان
يقولون الزّمان به فساد ... وهم فسدوا وما فسد الزمان
وقال آخر: [المتقارب]
أيا دهر إن كنت عاديتنا ... فها قد صنعت بنا ما كفاكا
جعلت الشّرار علينا خيارا ... وأوليتنا بعد وجه قفاكا
وقال أبو العتاهية: [الطويل]
كفاك عن الدّنيا الذميمة مخبرا ... غنى باخليها وافتقار كرامها
وأن رجال النّفع تحت مداسها ... وأنّ رجال الضرّ فوق سنامها
وقال ابن لنكك: [مجزوء الرمل]
يا زمانا ألبس الأح ... رار ذلّا ومهانه
لست عندي بزمان ... إنّما أنت زمانه
وقال ابن الرومي: [الكامل]
دهر علا قدر الوضيع به ... وغدا الشّريف يحطّه شرفه
كالبحر يرسب فيه لؤلؤه ... سفلا ويطفو فوقه جيفه
وكرّره فقال: [البسيط]
قالت علا الناس إلا أنت قلت لها: ... كذاك يسفل في الميزان ما رجحا
وقال آخر: [الخفيف](1/185)
قالت علا الناس إلا أنت قلت لها: ... كذاك يسفل في الميزان ما رجحا
وقال آخر: [الخفيف]
ربّ يوم بكيت فيه فلمّا ... صرت في غيره بكيت عليه
وقال آخر: [البسيط]
لم أبك من زمن نكد أساء به ... إلّا بكيت لعيه حين أفقده
ولا جزعت على ميت فجعت به ... إلا ظللت بسكنى القبر أحسده
ولا ذممت زمانا في تقلّبه ... إلّا وفي زمني قد صرت أحمده
وقال ابن أبي عيزارة: [الطويل]
عتبت على سلم فلمّا فقدته ... وجرّبت أقواما بكيت على سلم
رجعت إليه بعد تفويت غيره ... فكان كبرء بعد طول من السّقم
وأنشد المبرّد: [الطويل]
حياة أبي العباس زيدت بقربه ... أخا ثقة قاس الأمور وجرّبا
ونعتب أحيانا عليه ولو قضى ... لكنّا على الباقي من الناس أعتبا
قال عروة بن الزبير: الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم. أخذه أبو الطيّب فقال:
[الوافر]
وشبه الشيء منجذب إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطّغام
ولو لم يعل إلا ذو محلّ ... تعالى الجيش وانحطّ القتام
ودهر ناسه ناس صغار ... وإن كانت لهم جثث عظام
وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذّهب الرّغام
الطّغام: السفلة.
* * * ثمّ إن خبره نما إلى الوالي، فملأ فاه باللالىء، وسامه أن ينضوي إلى أحشائه، ويلي ديوان إنشائه، فأحسبه الحباء، وظلفه عن الولاية الإباء.
قال الرّاوي: وكنت عرفت عود شجرته، قبل إيناع ثمرته، وكدت أنبّه على علوّ قدره، قبل استنارة بدره، فأوحى إليّ بإيماض جفنه، ألّا أجرّد عضبه من جفنه، فلمّا خرج بطين الخرج، وفصل فائزا بالفلج، شيّعته قاضيا حقّ الرّعاية، ولا حيا له على رفض الولاية، فأعرض متبسّما، وأنشد مترنّما: [المتقارب]
لجوب البلاد مع المتربه ... أحبّ إليّ من المرتبه(1/186)
لإنّ الولاة لهم نبوة ... ومعتبة يا لها معتبه!
وما فيهم من يربّ الضّنيع ... ولا من يشيّد ما رتّبه
فلا يخدعنك لموع السّراب ... ولا تأت أمرا إذا ما اشتبه
فكم حالم سرّه حلمه ... وأدركه الرّوع لمّا انتبه
* * *
قوله: «نما»، أي ارتفع ووصل. اللالىء: الدرر. سامه: كلّفه، ينضوي: ينضمّ.
وأحشائه: خاصّته. يلي ديوان إنشائه: يتولّى دار كتابته، أي يكون هو الذي ينشىء الكتب، وينسخها الكتّاب وتنفذ إلى البلاد. أحسبه: كفاه. الحباء: العطاء. ظلفه: منعه.
الإباء: الامتناع، وقد أبيت من كذا، أي امتنعت منه ويكنى به عن نزاهة النفس. عود شجرته، يريد أنه كان عرفه قبل أن يتكلّم، وأن يعرّف نفسه. وإيناع الثمرة: إدراكها ونضج ثمرتها. إيماض جفنه: إشارة عينه. عضبه: سيفه. جفنه: غمده، أي أشار عليّ أن أستره. بطين: مملوء. الخرج: وعاء معلوم، وهذا كقول الشاعر: [الطويل]
يبيتون بالدّهنا خفافا عيابهم ... ويخرجن من دارين بجر الحقائب (1)
وقد أخذ هذا اللفظ في مقامة أخرى فقال: حتى آل ذا عيبة خضراء وحقيبة بجراء، أي مملوءة. وإلى هذا المعنى أشار، نصيب في قوله: [الطويل]
أقول لركب قافلين رأيتهم ... قفا ذات أو شال ومولاك قارب (2)
قفوا خبّروني عن سليمان إنّني ... لمعروفه من أهل ودّان طالب
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
ثناؤها عليه، أن بدت للناس مملوءة من معروفه، فأتى أبو العتاهية فزاد المعنى بيانا بقوله: [الكامل]
__________
(1) البيت لأعشى همدان في الحماسة البصرية 2/ 262، 263، ولشاعر من همدان في شرح أبيات سيبويه 1/ 371، 372، ولأعشى همدان أو للأحوص أو لجرير في المقاصد النحوية 3/ 46، وهو في ملحق ديوان الأحوص ص 215، وملحق ديوان جرير ص 1021، والبيت بلا نسبة في الإنصاف ص 293، وأوضح المسالك 2/ 218، وجمهرة اللغة ص 682، والخصائص 1/ 120، وسر صناعة الإعراب ص 507، وشرح الأشموني 1/ 204، وشرح التصريح 1/ 331، وشرح ابن عقيل ص 289، والكتاب 1/ 115، ولسان العرب (خشف)، (ندل).
(2) الأبيات لنصيب في ديوانه ص 59، والبيت الأول في تاج العروس (ودد)، والبيت الثاني في لسان العرب (ودد)، وزهر الآداب 1/ 335، والأغاني 1/ 323، وأمالي المرتضى 1/ 61، والحماسة البصرية 1/ 157، وأمالي القالي 1/ 94، 3/ 40، والكامل ص 238، وتاج العروس (ودد)، وفيه «راغب» بدل «طالب»، والبيت الثالث في الأغاني 1/ 317، وأمالي المرتضى 1/ 61، وخزانة الأدب 5/ 296، وشرح شذور الذهب ص 38، والشعر والشعراء 1/ 418، ولسان العرب (حدث).(1/187)
إنّ المطايا تشتكيك لأنّها ... قطعت إليك سباسبا ورمالا (1)
فإذا أتين بنا أتين مخفّة ... وإذا رجعن بنا رجعن ثقالا
قوله: «فصل»، أي زال وتنحّي. الفلج: الظفر بما أراد. الرعاية: حفظ الصحبة.
لاحيا: لائما. رفض: ترك. مترنّما: مطربا، أي لما خرج ممتلىء الوعاء، ظافرا بما أراد، لمته على ترك خدمة الأمير التي كلفه، فأنشد معتذرا. المتربة، أي الفقر. المرتبة:
المنزلة الرفيعة. وهذا البيت ينظر إلى حكاية الأصمعيّ وقد رئي راكبا حمارا فقيل له:
أبعد براذين الخلفاء تركب هذا؟ فقال متمثلا: [الطويل]
ولما أبت إلا طرافا بودّها ... وتكديرها الشّرب الذي كان صافيا
شربنا برنق من هواها مكدّر ... وليس يعاف الرّنق من كان صاديا
يقول: هذا وأملك ديني ونفسي، أحبّ إليّ من ذلك مع ذهابهما.
أطرف الشيء وتطرّفه: استفاده، وقيل: استجاده.
نبوة: ارتفاع وقلّة ثبات. معتبة: سخط. يا لها: تعجب، كأنه قال: يا عجبا لها، ما أشدّها. يربّ: يصلح ويقوّي. الصنيع: الفعل الجميل. يشيّد: يرفع ويتم. رتّبه: بناه وهيّأه. السّراب: ما يظهر نصف النهار كأنه ماء، اشتبه: أشكل. الحالم: من يرى في منامه رؤيا، وقد حلم يحلم: والرّوع: الفزع، يقول: مثل المترفّه بالخطّة السلطانية كحالم رأى نفسه في النوم أميرا، فانتبه في أيدي أعاديه أسيرا، أو رأى نفسه بين غزلان ورياحين فانتبه لزئير أسود ولصفير ثعابين، وكذلك الأمراء إن رفعوا الخديم ببعض إنعامهم كدّروه بتعجيل انتقامهم. ومما يجري في هذا النّمط قول الشاعر: [الطويل]
إلى الله أشكو كلّ يوم وليلة ... إذا نمت لم أعدم خواطر أوهام
فإن كان شرّا كان لا شكّ واقعا ... وإن كان خيرا كان أضغاث أحلام
أخذ المعنى هذا الشاعر من قول أشعب الطماع. قال: رأيت رؤيا نصفها حقّ، ونصفها باطل، قيل: وكيف ذلك؟ قال: كنت أراني أحمل بدرة فمن ثقلها كنت أسلح في ثيابي، فانتبهت فإذا السّلح ولا بدرة. قال الفنجديهيّ: ومن أحسن ما سمعت في هذا المعنى أبيات لطيفة المعاني ظريفة المباني، شرّفني بإنشادها وإملائها عليّ السيّد الأجلّ أبو المظفّر يوسف بن أيوب صلاح الدين بقاهرة مصر لبعضهم: [البسيط]
وزارني طيف من أهوى على وجل ... من الوشاة وداعي الصبح قد هتفا
فكدت أوقظ من حولي به فرحا ... وكاد يهتك ستر الحب بي شغفا
__________
(1) البيتان في ديوان أبي العتاهية ص 312.
ثم انتبهت وآمالي تخيبني ... نيل المني فاستحالت غبطتي أسفا
ومن ملح هذا الباب، أن ابن عبدل دخل على بشر بن مروان لمّا ولي الكوفة، فقال: أيّها الأمير إني رأيت رؤيا، فأذن لي بقصّها، فقال: قل، فقال: [الكامل](1/188)
__________
(1) البيتان في ديوان أبي العتاهية ص 312.
ثم انتبهت وآمالي تخيبني ... نيل المني فاستحالت غبطتي أسفا
ومن ملح هذا الباب، أن ابن عبدل دخل على بشر بن مروان لمّا ولي الكوفة، فقال: أيّها الأمير إني رأيت رؤيا، فأذن لي بقصّها، فقال: قل، فقال: [الكامل]
أغفيت قبل الصبح نوم مسهّد ... في ساعة ما كنت قبل أنامها
فرأيت أنك رعتني بوليدة ... مغنوجة حسن عليّ قيامها
وببدرة حملت إليّ وبغلة ... شهباء ناجية يصلّ لجامها
فقال له بشر: كلّ شيء رأيته فهو عندك إلا البغلة، فإنها دهماء، قال: امرأتي طالق ثلاثا إن كنت رأيتها إلا دهماء ولكني غلطت.
قال البطين الشاعر: قدمت على عليّ بن يحيى الأرمينيّ، فكتبت إليه: [البسيط]
رأيت في النوم أنّي راكب فرسا ... ولي غلام وفي كفّي دنانير
فجئت مستبشرا مستشعرا فرحا ... وعند مثلك لي بالفعل تبشير
فوقّع في أسفل كتابي: {أَضْغََاثُ أَحْلََامٍ وَمََا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلََامِ بِعََالِمِينَ} [سورة يوسف: 44]، ثم أمر لي بكل ما رأيته في منامي.(1/189)
المقامة السّابعة وهي البرقعيديّة
حكى الحارث بن همام، قال: أزمعت الشّخوص من برقعيد، وقد شمت برق عيد، فكرهت الرّحلة عن تلك المدينة، أو أشهد بها يوم الزّينة. فلمّا أظلّ بفرضه ونفله، وأجلب بخيله ورجله، اتّبعت السّنّة في لبس الجديد، وبرزت مع من برز للتعبيد وحين التأم جمع المصلّى وانتظم، وأخذ الزّحام بالكظم، طلع شيخ في شملتين، محجوب المقلتين، وقد انتضد شبه المخلاة، واستقاد العجوز كالسّعلاة، فوقف وقفة مهافت، وحيّا تحيّة خافت. ولمّا فرغ من دعائه، أجال خمسة في وعائه فأبرز منه رقاعا قد كتبن بألوان الأصباغ، في أوان الفراغ، فناولهنّ عجوزه الحيزبون، وأمرها بأن تتوسّم الزّبون، فمن آنست ندى يديه، ألقت منهنّ ورقة لديه، فأتاح له القدر المعتوب، رقعة فيها مكتوب
* * * ازمعت الشخوص، أي عزمت على الخروج. برقعيد: بلد بينه وبين الموصل عشرون فرسخا،. شمت: نظرت.
ويريد بيرق عيد، مقدّمات العيد التي ينظر الناس بها في أسبابه، سأل رجل الجنيد، لماذا سمّي يوم العيد؟ فقال: لأنّ آدم لمّا خرج من الجنة، وأهبط إلى الأرض، ثم تاب الله عليه، فردّه إلى الجنة، كان في ذلك اليوم فقيل له يوم عيد، لأنه أعيد إلى الجنة فيه، قال ابن الأنباريّ رحمه الله: معنى يوم العيد، الّذي يعود فيه الفرح والسرور. والعيد عند العرب: الوقت الذي يعود فيه الفرح أو الحزن، وأصله «العود» لأنه من عاد يعود، فلما سكّنت الواو وكسر ما قبلها قلبت ياء، فصارت من باب ميزان وميقات، وهما من الوزن والوقت، وكذلك الياء إذا سكنت، وانضمّ ما قبلها قلبت واوا مثل موسر وموقن، وهما من أيسر وأيقن، ويقولون في الجمع مياسر.
المدينة: البلد، من أخذها من مدن بالمكان يمدن، إذا أقام فيه، فهي «فعيلة» والجمع مدائن بالهمز، والميم أصلية والياء زائدة، ومن أخذها من دان يدين، فالميم
زائدة والياء أصلية، وهي «مفعولة». يقال: دنت الرّجل ملكته، ودنت له أطعت، ويقال للأمة مدينة لأنها مملوكة، قال الشاعر: [الطويل](1/190)
المدينة: البلد، من أخذها من مدن بالمكان يمدن، إذا أقام فيه، فهي «فعيلة» والجمع مدائن بالهمز، والميم أصلية والياء زائدة، ومن أخذها من دان يدين، فالميم
زائدة والياء أصلية، وهي «مفعولة». يقال: دنت الرّجل ملكته، ودنت له أطعت، ويقال للأمة مدينة لأنها مملوكة، قال الشاعر: [الطويل]
ربت وربا في حجرها ابن مدينة ... يظلّ على مسحاته يتركّل (1)
يعني عبدا: يوم الزينة: يوم العيد لتزيّن الناس فيه. قوله: «أظل»، أي قرب ودنا حتى دخلنا في ظلّه. بفرضه: يعني زكاة الفطر. ونفله: يعني صلاة العيد.
الفنجديهيّ: فرض العيد: صدقة الفطر، ونفل العيد مثل الصلاة والغسل ولبس الجديد من الثياب.
ابن عمر رضي الله عنهما: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر أو شعير، على كل كرّ أو عبد، ذكر أو أثنى من المسلمين.
ابن عباس رضي الله عنهما: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان لجبر الصيام من اللغو والرّفث طعمة للمساكين، فمن أدّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أدّاها بعدها فهي صدقة من الصدقات. أجلب بخيله ورجله، أي جمع أصحاب الخيل والرجّالة وجاء بهم، ضرب به المثل لإقباله وتصميمه على المجيء. لبس: لباس، وجاء في لبس الجديد حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما على أحدكم أن يكون له ثوبان سوى ثوبي مهنته لجمعته ولعيده».
جابر: كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم حلّة يلبسها في العيدين ويوم الجمعة. برزت: خرجت.
التأم: التحم والتصق. المصلّى: موضع صلاة العيد. الزّحام: الضيق لكثرة الناس.
الكظم: تضييق النفس من شدة الزحام. شملتين: عباءتين، والشّملة: نوع من الأكسية، وقيل لها شملة لأنّ صاحبها يشتمل بها، أي يديرها حواليه، محجوب: مستور.
المقلتين: العينين، أراد أنه أعمى. اعتضد: علّقها في عضده. استقاد: جعلها تقوده.
السّعلاة: أنثى الغول، وذكرها يسمّى الكعنكع، وأنشدوا: [الرجز]
* غولا تراعي شرسا كعنكعا (2) *
والغول: جنّ مسكنها الصحارى تتراءى للإنسان كأنها إنسان فلا يزال يتبعها حتى
__________
(1) البيت للأخطل في ديوانه ص 155، ولسان العرب (ركل)، (دين)، (مدن)، وتهذيب اللغة 10/ 188، 14/ 145، 182، وتاج العروس (ركل)، (دين)، (مدن)، وكتاب العين 5/ 353، 8/ 53، ومقاييس اللغة 1/ 334، 2/ 319، 430، وأساس البلاغة (ركل)، والمخصص 13/ 199، ومجمل اللغة 2/ 413، والبيت بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 684.
(2) يروى الرجز:
كأنّها وهو إذا استبّا معا ... غول تداهي شرسا عكنكعا
وهو بلا نسبة في تاج العروس (عكنكع)، ومقاييس اللغة 4/ 12.(1/191)
يضلّ الطريق فيهلك. قوله: «متهافت»، أي متساقط لضعفه، وتهافت الشيء في يدي:
تناثر. خافت: خفيّ الصوت، وقد خفت الرجل، إذا ظهر عليه الضعف من مرض أو جوع أو غير ذلك، وأصل خفت مات هزالا. فرغ: أتمّ أجال: مشى وصرّف. خمسه:
أصابعه. في وعائه، يعني المخلاة التي اعّتضدها، وهي تعليقة يعلّقها السائل في عنقه أو ذراعه، ويجعل فيها ما يعطى من الصّدقة. أبرز: أخرج. أوان: وقت. الفراغ: قلّة الشغل. ناولهنّ: أعطاهنّ. الحيزبون: المسنّة القويّة الخلق. تتوسّم: تنظر. الزّبون:
المنخدع عن ماله «فعول» بمعنى «مفعول»، وهو من ألفاظ أهل المشرق، وأراد به الكثير الصدقة، آنست: أبصرت ندى: كرم. أتاح: ساق. القدر المعتوب: الملوم. [الهزج]
لقد أصبحت موقوذا ... بأوجاع وأوجال
وممنوّا بمحتال ... ومختال ومغتال
وخوّان من الإخوا ... ن قال لي لإملالي
وإعمال من العمّا ... ل في تضليع أعمالي
فكم أصلى بأذحال ... وأمحال وترحال
وكم أخطر في بال ... ولا أخطر في بال
فليت الدّهر لمّا جا ... ر أطفا لي أطفالي
فلولا أنّ أشبالي ... أغلالي وأعلالي
لما جهّزت آمالي ... إلى آل ولا والي
ولا جرّرت أذيالي ... على مسحب إذلالي
فمحرابي أحرى بي ... وأسمالي أسمى لي
فهل حرّ يرى تخ ... فيف أثقالي بمثقال
ويطفي حرّ بلبالي ... بسربال وسروال!
* * *
قوله: «موقوذا»، أي مشرفا على الموت من شدّة الأوجاع والأوجال، والموقوذة في القرآن (1): المقتولة بالخشب، والوقذ: شدة الضرب. أو جال: مخاوف. ممنوّا:
مبتلى. محتال: ماكر كثير الحيلة. مختال: متكبّر. مغتال: مهلك. خوّان: كثير الخيانة.
ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قلّما يوجد في آخر الزمان درهم من حلال، أو أخ يوثق به». قال: مبغض. إقلالي: فقري. إعمال: جدّ وبحث، تقول:
أعملت الشيء في الشيء، إذ جعلته يعمل فيه. والعمال: عاملو كلّ شيء. تضليع:
__________
(1) أي قوله تعالى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3].(1/192)
إفساد. أعمال: جمع عمل، يريد أنه مطلوب يبحث على أعماله إذا أتى بها مجموعة فتنقض أعماله وتصير له أضلاعا بعد اجتماعها، وذلك فساد لها. ويحتمل أن يكون التّضليع من «ضلعك مع فلان». أي ميلك معه، فأعماله تميل عن طرقها فتفسد. وقيل:
تضليع الأعمال: تثقيلها، قال الأزهريّ رحمه الله: ضلع الدين. ثقله حتى يميل صاحبه عن الاستواء لثقله، وفي الحديث: «أعوذ بالله من ضلع الدّين». أصلى: أحترق. أذحال:
أحقاد وعداوات. إمحال: فقر. ترحال: سفر ونقلة من بلد إلى بلد. أخطر: أمشي متبخترا، وقد خطر الرجل، إذا أقبل بيديه وأدبر بهما، وهي مشية الشبّان. بال: خلق.
ولا أخطر في بال: لا أمرّ على بال أحد ولا خاطره. جار: مال عن الحق ولم يعدل.
أطفأ: أمات. أطفالي: أولادي، ومثله: أشبالي.
الفنجديهيّ: يقول: ليت الدّهر لمّا ظلم أولادي، وجار عليهم أماتني لأتخلّص، فإنّ مقاساة الولائد سبب الوقوع في المصائد. قال ابن عيينة: قلت لصيّاد: أيّ طائر أسرع إلى مصايدكم؟ قال: الذي يزقّ، يعني الذي يطعم ولده. أغلالي: قيودي. والأعلال:
جمع علّ، وهو القراد الضخم، وهو الذي يلصق بأفخاذ الدوابّ، وهو كثير التشبّث والإلتصاق، لا يقلع إلا بجهد، فيريد بالأغلال أولاده لأنهم قيوده فلا يسرح بسببهم، وبالأعلال أنهم قد تعلّقوا به يطلبون ما عنده، وقال الشاعر يصف ناقته: [الطويل]
* ولو ظلّ في أوصالها العلّ يرتقي (1) *
ويقال للقراد: الطّلح والفينق والحجير والعلّ والبرام والقرشوم واللّبود في بعض اللغات. جهّزت: أرسلت. آل: قريب، وآل: أهل، أو يكون آل أميرا وسائسا قال عمر رضي الله عنه: ألناوأيل علينا، أي سسنا الناس وساسنا غيرنا، فيكون على هذا مقلوبا من «آيل»، كما قيل: سار في سائر مسحب: طريق. يقول: لولا ظلّ الأولاد ما قصدت واليا، ولا جررت ذيلي في طريق ذلّ، ويقال: سحب ذيله سحبا إذا جرّه، والمسحب:
موضع جرّه ثوبه محرابي: مسجدي. أحرى: أحق بي. أسمالي. أثوابي الخلقة. أسمى لي: أعزّ لي وأرفع لقدري. أثقالي: همومي أو ديوني، أو كثرة عيالي وأحدها ثقل، وثقل الشيء ثقلا ضدّ خفّ، وأثقل الرجل: كثر عياله. بلبالي: حزني، والبلبال:
وسواس الهموم. سربال: قميص. والسروال: معروف، وفي الحديث أن امرأة سقطت من على حمار فأعرض النبيّ صلى الله عليه وسلم بوجهه عنها، فقالوا: إنها متسرولة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:
«اللهمّ اغفر للمتسرولات من أمّتي ثلاثا يا أيّها الناس اتخذوا السراويلات فإنها من أستر ثيابكم، وحضّوا بها نساءكم إذا خرجن».
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد باب 74، والأطعمة باب 28، والدعوات باب 35، وأبو داود في الوتر باب 32، والنسائي في الاستعاذة باب 8، 25، 45، والترمذي في الدعوات باب 70، وأحمد في المسند 3/ 226.(1/193)
ومن ملح الصاحب بن عبّاد أن بعض الشعراء كتب له: [المتقارب] (1)
أيا من عطاياه تعطى الغني ... إلى راحتي من نأي أو دنا
كسوت المقيمين والزائرين ... كسا لم يخل مثلها ممكنا
وخاشية الدار يمشون في ... ثياب من الخزّ إلّا أنا
فقال الصاحب: قرأت في أخبار معن بن زائدة أن رجلا قال له: احملني أيّها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغلة وحمار وجارية، ثم قال له: لو علمت أنّ الله خلق مركوبا غير هذا لحملتك عليه. وقد أمرنا لك من الخزّ بجّبة وقميص ودرّاعة وسراويل وعمامة ومنديل ومطرف ورداء وكساء وجورب وكيس، ولو علمنا لباسا غير هذا من الخزّ لأعطيناكه. ثم أمر بإدخاله إلى الخزانة وصبّ تلك الخلع عليه.
وأخبار الصاحب مستظرفة كثيرة الملح.
قال الحارث بن همام: فلمّا استعرضت حلّة الأبيات، تقت إلى معرفة ملحمها، وراقم علمها. فناجاني الفكر بأنّ الوصلة إليه العجوز، وأفتاني بأنّ حلوان المعرّف يجوز فرصدتها وهي تستقري الصّفوف صفّا صفّا وتستوكف الأكفّ كفّا كفّا، وما إن ينجح لها عناء، ولا يرشح على يدها إناء، فلمّا أكدى استعطافها، وكدّها مطافها، عاذت بالإسترجاع، ومالت إلى إرجاع الرّقاع، وأنساها الشّيطان ذكر رقعتي، فلم تعج إلى بقعتي، وآبت إلى الشّيخ باكية للحرمان، شاكية تحامل الزّمان فقال: إنّا لله، وأفوّض أمري إلى الله، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله! ثمّ أنشد: [مخلع البسيط]
لم يبق صاف ولا مصاف ... ولا معين ولا معين
وفي المساوي بدا التّساوي ... فلا أمين ولا ثمين
* * *
قوله: «ملحمها»، ناسجها، ولما جعل الشّعر حلّة جعل له ناسجا وراقما. ناجاني:
حدّثني. الوصلة: الموصّلة. استعرضت، أي نظرت وعرضتها على نفسي. تقت:
__________
(1) صدره:
ظللت ثلاثا لا نراع من الشذا
والبيت للممزق العبدي في الأصمعيات ص 165، والحيوان 5/ 441، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 157.(1/194)
اشتقت. أفتاني، أعلمني. الحلوان: أجر الكهّان، وأراد أجرة العرّاف، وهو الذي يعرّف بالتلائف الملتقطة أربابها، فيفتكّونها منه بما اتفّقوا عليه، فذهب مالك أنّ من عوّف اللّقطة، وكان من شأنه أخذ الجعل على مثل ذلك، فله أجرة مثله، والشافعيّ لا يوجب له حقّا سواء كان من شأنه أن يعرّف باللّقطة أو لم يكن، تعب في ذلك أو لم يتعب، إلّا أن يشترط قبل الطلب.
رصدتها: ارتقبتها. تستقري: تتبع واقتريت الأرض واستقريتها، تتبّعتها متأمّلا.
تستوكف: تستمطر. ينجح: ينفع ويؤثّر يقال: نجحت الحاجة إذا انقضت، ونجح طالبها إذا لم يخب، وأنجح: أشهر يقول: إن مشيها عليهم لم يقض حاجتها ولا نفعها.
وقصد برشح الإناء كرم الكفّ يقول: لم يرشح لها كفّ بعطيّة. أكدي: خاب وصعب، ويقال: أكدي الحافر، وهو أن يحفر البئر يطلب الماء، فإذا بلغ إلى الصّلابة ويئس من الماء ولم يقدر على الحفر قيل له: أكدي فهو مكد، والكدية هي الصلابة التي يتعذّر حفرها. استعطافها: تليينها القلوب. كدّها: أتعبها. مطافها: مشيها وطوفها على الناس، ويحسن أن ينشد هنا في حالها لأبي نواس: [الطويل]
إذا لم يعنك الله فيما تريده ... فليس لمخلوق إليه سبيل
وإن هو لم يرشدك في كلّ مسلك ... ضللت، ولو أنّ السّماك دليل
غيره: [الطويل]
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجنى عليه اجتهاده
عاذت: تعوّذت ولاذت. الاسترجاع قولهم: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما قال أحد عند المصيبة إنّا لله وإنّا إليه راجعون، اللهمّ أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرا منها إلا استجيب له» (1).
ارجاع: ردّ. تعج: تميل وترجع. بقعتي: موضعي. آبت: رجعت. الحرمان:
الخيبة والمنع. تحامل: مشقّات، وتحاملت في الأمر: تكلفّته على مشقة. أفوّض: أردّ.
لا حول، أي لا حيلة، يقال: ما له حيلة ولا حول، وما له احتيال ولا محتال، ولا محالة ولا محيلة كلّه بمعنى. ويقال: ما له محال بالفتح، أي حول، ومحال بالكسر، أي مكر. ثعلب: هو من قولهم: محل به إذا سعى به إلى السلطان وعرّضه للهلاك.
ومحل به القرآن: شهد عليه بالتّقصير وقال الفرّاء: المحالة على ثلاثة أقسام هي
__________
(1) روي بطرق وأسانيد متعددة. أخرجه مسلم في الجنائز حديث 3، 4، وأبو داود في الجنائز باب 18، والترمذي في الدعوات باب 83، وابن ماجه في الجنائز باب 55، ومالك في الجنائز حديث 42، وأحمد في المسند 6/ 309، 303، 317، 321.(1/195)
الحيلة، والتّي تجعل على رأس البئر كالبكرة، وواحدة محال الظهر وهي فقاره. ويقال:
أخذت في الحولقة، والحوقلة، إذا قلت: لا حول ولا قوّة إلا بالله، وينتصب «لا حول ولا قوّة» بالتبرئة، وإن شئت رفعتهما بالابتداء، «وبالله» خبر «قوّة»، وحذفت خبر «لا حول» لدلالة الثاني عليه، وإن شئت رفعت «حول» بالابتداء، ونصبت «قوة» بالتبرئة، وإن شئت نصبت «حولا» بالتبرئة ورفعت «قوّة» بالعطف على موضع «لا حول»، وإن شئت نصبت «قوّة» بالتنوين عطفا على اللفظ.
وقوله: «صاف»، أي خالص الودّ. مصاف: صادق في ودّه. معين: ماء كثير، يريد صاحب كرم كثير. معين: يعين بماله. المساوي: ضد المحاسن، واحدها «سوء» على غير قياس، وقيل لا واحد لها. بدا: ظهر. الثمين: النفيس الغالي الثمن يقول: إنّ الناس قد استووا في الأفعال السيّئة، وأراد قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس بخير ما تباينوا، فإذا استووا هلكوا»، ومعناه أنّ الناس في الغالب إنّما يتساوون في الشرّ، ولا تجدهم كلّهم فضلاء لأنّ الخير قليل.
قال أبو العباس التّطيليّ فيما يتعلّق بهذا المعنى: [البسيط]
والنّاس كالناس إلّا أن تجرّبهم ... وللبصيرة حكم ليس للبصر
كالأيك مشتبهات في منابتها ... وإنما يقع التفضيل بالثمر
وقال التّهاميّ:
ومن الرّجال معالم ومجاهل ... ومن النّجوم غوامض ودراري
ولربّما اعتضد الحليم بجاهل ... لا خير في يمنى بغير يسار
والنّاس مشتبهون في إيرادهم ... وتفاضل الأقوام بالإصدار
* * *
ثمّ قال لها: منّي النّفس وعديها، واجمعي الرّقاع وعدّيها، فقالت: لقد عددتها لمّا استعدتها، فوجدت يد الضيّاع، قد غالت إحدى الرّقاع، فقال: تعسا لك يا لكاع، أنحرم ويحك القنص والحبالة، والقبس والذّبالة! إنّها لضغث على إبّالة. فانصاعت تقتصّ مدرجها، وتنشد مدرجها فلمّا دانتني قرنت بالرّقعة، درهما وقطعة، وقلت لها: إن رغبت في المشوف المعلم وأشرت إلى الدّرهم فبوحي بالسرّ المبهم. وإن أبيت أن تشرحي، فخذي القطعة واسرحي. فمالت إلى استخلاص البدر التّمّ، والأبلج الهمّ، وقالت: دع جدالك، وسل عمّا بدالك، فاستطلعتها طلع الشّيخ وبلدته، والشّعر وناسج بردته.
* * *
قوله: «عديها»، أي طمّعيها. استعدتها: رددتها. غالت: أهلكت، واستعار للتضييع «يدا» مجازا. تعسا: هلكا، والتّعس: الدّعاء ألّا تقال عثرته يا لكاع: يا لئيمة يا منتنة، واللّكاع: وسخ الفرج. واللّكع: ولد الحمار. القنص: الصيد.(1/196)
* * *
قوله: «عديها»، أي طمّعيها. استعدتها: رددتها. غالت: أهلكت، واستعار للتضييع «يدا» مجازا. تعسا: هلكا، والتّعس: الدّعاء ألّا تقال عثرته يا لكاع: يا لئيمة يا منتنة، واللّكاع: وسخ الفرج. واللّكع: ولد الحمار. القنص: الصيد.
الحبالة: الشبكة، وصفة الحبالة أن يعمد لحبل من شعر مخلوط بيسير من صوف، فذلك أقوى له، فيعقد في أحد طرفيه عين يجري فيها الحبل، ويربط في الطرف الثاني خشبة، وربّما حدّدوا طرفها، ثم يأتون إلى الطريق الذي يدخل منه الصيد إلى الماء فيحفرون فيه حفرة فيغطّونها بورق الشجر وشبهها، ويفتحون عليها عين الحبل، ثم يغطّونها بالتراب والزّبل، حتى تصير في طبع الأرض، فإذا أقبل الصيد للماء، فوضع يده أو رجله في الحفرة، سقطت به، وانضمّ على يده أو رجله الحبل، فيثب فازعا ويفرّ، فتتبعه تلك الخشبة، فكلّما انتفض أقبلت عليه، فتضربه بين يديه ورجليه وبطنه وظهره، فتوهي أعضاءه، وربّما كسرت يديه أو رجليه، فلا يسير بها قدر ميل، حتى يقف موقوذا منها، فيأتيه الصائد فيأخذه، وأنواع الحبالة كثيرة.
قوله: «القبس»، يريد به نور المصباح، والذّبالة: الفتيلة. ضغث: حزمة من حشيش صغيرة، وأصلها جماعة القضبان، وشبهها من النبات، يجمعها أصل واحد، وكلّ ما جمعت عليه كفّك من حشيش أو عيدان فانتزعته من أصله ضغث. إبّالة: حزمة كبيرة، والضّغث على الإبّالة مثل حزمة الحطّاب إذا حملها للبيع، وجعل فوقها حزيمة صغيرة لنفسه فالكبيرة إبّالة والصغيرة ضغث، فكأنه قال: إنها خسارة على خسارة، ويقال لها:
إبالة وأبيل وأبيلة، وضغث على إبّالة، مثل أخذه من قول الشاعر: [مجزوء الكامل]
في كلّ يوم من ذؤاله ... ضغث يزيد على إبّاله (1)
وقال آخر وذكر ناقته: [البسيط]
ردّت عواري غيطان الفلا ونجت ... بمثل إبّالة من خالص الشّعر
وهذا مثل قول حبيب: [الطويل]
فكم جزع واد جبّ ذروة غارب ... وبالأمس كانت أتمكته جوانبه (2)
قوله: «انصاعت»، أي ذهبت نافرة وانثنت مسرعة، وكلّ ما ثنيته ولويته بسرعة فقد صعته صوعا، وكذلك إذا جمعته وفرّقته، فذهب عنك بسرعة، وصاع الشجاع القوم
__________
(1) البيت لأسماء بن خارجة في لسان العرب (حشأ)، (أوس)، (أبل)، (ذأل)، وتاج العروس (حشأ)، (ذأل)، (هبل)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 380، 1027، وتهذيب اللغة 5/ 138، والمخصص 8/ 66، 13/ 177، وديوان الأدب 4/ 177.
(2) البيت في ديوان أبي تمام ص 44.(1/197)
في الحرب إذا جمعهم بهيبته ثم صدمهم، ففروا سراعا متفرّقين، وكلّ نافر مسرع منصاع، وقال ذو الرمّة في الخمر: [البسيط]
رمى فأخطأ والأقدار غالبة ... فانصعن والويل هجّيراه والحرب (1)
تقتصّ، أي تتبع. مدرجها: طريقها التّي مشت فيها لتفريق الرقّاع، ويقال: درج الشيخ والصبيّ درجا ودرجانا، إذا تقاربت خطاهما، والمدرج: الموضع الذي درجا فيه، والمدرجة: قارعة الطريق. تنشد: تطلب من نشدت الضّالّة، ومدرجها: رقعتها، ويقال:
أدرجت الكتاب والثوب طويتهما. القطعة: عند أهل المشرق: الواحدة من صرف يعرّفونه الحندوس، يعمدون إلى دراهمه فيقطعونها قطعا، فهي صرفهم، وبها يتصدقون، فأراد أنه قرن برقعة الشعر درهما، وقطعة من الحندوس، وقال لها: إن خبرتني بقائل الشعر، فخذي الدرهم أجرة، وإن أبيت أن تعرّفيني به فخذي القطعة صدقة وانصرفي. المشوف:
المصقول المجلوّ، والشوف: الجلاء، والمعلم: المنقوش، ونقشه علامته، وقيل: هو الذي عليه علامة الملك، وأخذه من قول عنترة: [الكامل]
ولقد شربت من المدامة بعدما ... ركد الهواجر بالمشوف المعلم (2)
بوحي. تكلمّي. المبهم: المغلق الملبس. أبيت: امتنعت. اسرحي: اذهبي.
استخلاص: تخليص، واستخلص الشيء، جعله خالصا. التمّ: الكامل. والأبلج: النقيّ الأبيض، وفعله إبلاجّ كاحمارّ. الهمّ: الكبير الذي يهمّ به من رآه، وشيخ همّ: مسنّ، والهمّ:
الرقيق النحيف، وهو من همته النار إذا أذابته، وهممت الشحم: أذبته. استطلعتها طلعه:
استخبرتها خبره، وسألتها أن تطلعني عليه، وتقول: استطلعت طلع الشيء، إذا حاولت الإطلاع عليه، وأردت معرفة خبره الّذي تطلع منه عليه، وطلع بالكسر. بردته: ثوبه.
* * * فقالت: إنّ الشّيخ من أهل سروج، وهو الّذي وشّى الشعر المنسوج، ثمّ خطفت الدّرهم خطفة الباشق، ومرقت مروق السّهم الرّاشق، فخالج قلبي أنّ أبا زيد هو المشار إليه، وتأجّج كربي لمصابه بناظريه، وآثرت أن أفاجيه وأناجيه، لأعجم عود فراستي فيه، وما كنت لأصل إليه إلّا بتخطّي رقاب الجمع، المنهيّ عنه في الشّرع، وعفت أن يتأذّى بي قوم، أو يسري إليّ لوم، فسكدت بمكاني،
__________
(1) البيت في ديوان ذي الرمة ص 71، ولسان العرب (هجر)، وتهذيب اللغة 6/ 43، وكتاب الجيم 3/ 325، وجمهرة أشعار العرب ص 953، وتاج العروس (هجر)، وأساس البلاغة (هجر).
(2) البيت لعنترة في ديوانه ص 205، ولسان العرب (شوف)، (علم)، وتهذيب اللغة 2/ 420، 11/ 425، وجمهرة اللغة ص 875، ومقاييس اللغة 3/ 229، وتاج العروس (شوف)، وكتاب العين 6/ 289، وبلا نسبة في المخصص 13/ 143.(1/198)
وجعلت شخصه قيد عياني، إلى أن انقضت الخطبة، وحقّت الوثبة، فخفقت إليه، وتوسّمته عليّ التحام جفنيه، فإذ ألمعيّتي ألمعيّة ابن عبّاس، وفراستي فراسة إياس.
* * * وشّى: زيّن ورقّم. خطفت: أخذت بسرعة. الباشق: من جوارح الطير. مرقت:
خرجت بسرعة. الرّاشق: الّذي يرشق الصيد، أي ينشبه، ويكون الراشق بمعنى المرشوق، كقوله تعالى: {مِنْ مََاءٍ دََافِقٍ} [الطارق: 6]، أي مدفوق. قوله: «خالج»، أي داخل وجاذب. تأجّج: اشتعل. كربي: همّي، والتأجّج «التفعّل» من الأجيج، وهو تصويت النار ولهبها إذا اشتعلت وعظمت. آثرت: اخترت وفضّلت، وآثرته بكذا: فضّلته به والإيثار المصدر. أفاجيه: آتيه فجأة وهو لا يشعر. أناجيه: أحدّثه. أعجم: أجرّب.
فراستي: نظري، وجعل لها عودا مجازا. تخطّى رقاب الجمع: الجواز على أعناق الناس خرّج الترمذيّ في النهي عن ذلك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تخطّى رقاب الناس يوم الجمعة اتخّذ جسرا إلى جهنم» (1).
عفت: كرهت. يتأذّى: يصيبهم أذى. يسري: يصل. اللوم: ضدّ الحمد، وهو أن تأخذ الإنسان بلسانك ذمّا لما فعل. سكدت: التصقت ولزمت. قيد عياني: غرض نظري، أي قيّدت نظري فيه. انقضت: تمّت. حقّت الوثبة، أي وجبت القفزة إليه.
خففت: أسرعت. توسّمته: نظرته. التحام: التصاق وانغلاق. ألمعيّتي: ذكائي وصدق ظنّي، والألمعيّ، هو الذي يظن بك الظّنّ، ولا يخطىء، وهو اليلمعيّ من اللّمعان، كأنه يلمع لذكائه وجودة فطنته، وقال أوس: [المنسرح]
الألمعيّ الذي يظنّ بك الظّنّ ... كأن قد رأى وقد سمعا (2)
ولا يبيّن أحد الألمعيّ بأحسن مما بيّنه أوس، فإذا سئلت: ما الألمعيّ؟ فأنشدت بيته تأت بالجواب الشافي.
والفراسة، أن تنظر الشيء فتستدلّ بظاهره على باطنه، وبما حضر على ما غاب، وقيل: الألمعيّة أن ترى الشيء على بعد فتعرفه وتحقّقه، والفراسة أن ترى الرجل بين يديك فتحكم عليه بما أضمر، أو بما يريد أن يفعله، فالألمعيّة في البعد، والفراسة في
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الإقامة باب 88، وأبو داود في الطهارة باب 127، والترمذي في الجمعة باب 17، والنسائي في الجمعة باب 20، وأحمد في المسند 3/ 417، 437، 4/ 190.
(2) البيت لأوس بن حجر في ديوانه ص 53، ولسان العرب (حظرب)، (لمع)، وتهذيب اللغة 2/ 424، وديوان الأدب 1/ 273، وكتاب الجيم 3/ 214، وديوان الأدب 1/ 273، وكتاب الجيم 3/ 214، والكامل ص 1400، وذيل أمالي القالي ص 34، ومعاهد التنصيص 1/ 128، ولأوس أو لبشر بن أبي خازم في تاج العروس (لمع)، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 5/ 212.(1/199)
القرب، وكيف اختلفت الألمعيّة والفراسة، فالظنّ الصادق يجمع بينهما.
[ابن عباس وبعض أخباره]
وابن عباس رضي الله عنه، هو عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشيّ الهاشميّ، يكنى أبا العباس.
ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وكان ابن ثلاث عشرة سنة يوم توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختلف في السنة التي مات فيها، ما بين ثمان وستين في الأقل، وأربع وسبعين في الأكثر. وصلّى عليه محمد ابن الحنفيّة، وقال: اليوم مات ربانيّ هذه الأمة، وضرب على قبره فسطاط.
روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم علمّه الحكمة وتأويل القرآن» (1)، وفي حديث آخر: «اللهم بارك فيه، وانشر منه، واجعله من عبادك الصالحين». وفي حديث آخر:
«اللهم زده علما وفقّهه» (2) وفي حديث آخر: «اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل» (3).
وكلها أحاديث صحاح.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحبّه ويدنيه ويقرّبه ويشاوره، مع وفور جلّة الصحابة رضي الله عنهم.
وكان ابن عمر رضي الله عنه يقول: ابن عباس فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول.
عبد الله بن عبد الله: ما رأيت أحدا كان أعلم بالسّنة، ولا أجلد رأيا، ولا أثبت نظرا من ابن عباس.
ولقد كان عمر يعدّه للمعضلات، مع اجتهاد عمر ونظره للمسلمين.
عمرو بن دينار: ما رأيت مجلسا كان أجمع لكلّ خير من مجلس ابن عباس، الحلال والحرام والعربيّة والأنساب والشعر.
عطاء: كان الناس يأتون ابن عباس في الشّعر والأنساب، وناس يأتونه لأيام العرب ووقائعها، وناس يأتونه للعلم والفقه، فما منهم صنف إلا يقبل عليهم بما يشاؤون.
مسروق: كنت إذا رأيت ابن عباس، قلت: أجمل الناس فإذا تكلّم قلت: أفصح الناس، فإذا تحدث قلت: أعلم الناس.
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب 24، والترمذي في المناقب باب 42، وابن ماجه في المقدمة باب 11.
(2) أخرجه بنحوه البخاري في الوضوء باب 10، ومسلم في فضائل الصحابة حديث 138، وأحمد في المسند 1/ 266، 314، 328، 335.
(3) راجع التخريج السابق.(1/200)
أبو وائل: خطبنا ابن عباس رضي الله عنهما، وهو على الموسم، فافتتح سورة، فجعل يقرأ ويفسّر، فجعلت أقول: ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثله، لو سمعته فارس والترك والروم لأسلمت.
طاوس: أدركت نحو خمسمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ذكروا ابن عباس خالفوه، فلم يزل يقودهم حتى ينتهوا إلى قوله:
ابن مسعود: نعم ترجمان القرآن ابن عباس، ولو أدرك أسناننا ما عاشره منّا رجل.
يزيد الأصمّ: خرج معاوية حاجّا، ومعه ابن عباس، فكان لمعاوية موكب، ولابن عباس موكب ممّن يطلب العلم.
القاسم بن محمد: ما رأيت في مجلس ابن عباس باطلا قطّ، وما سمعت فتوى أشبه بالسّنة من فتواه.
وكان أصحابه يسمونه الحبر والبحر. وذكر أبو العباس في الكامل أن عمر بن أبي ربيعة أنشده قصيدته: [الطويل]
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أم رائح فمهجّر (1)
فحفظها من سمعها، وهي ثمانون بيتا.
مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: رأيت جبريل عليه السلام عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرتين، ودعا لي بالحكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين.
وروى عنه أنه رأى رجلا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يعرفه، فسأل عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيته؟ قال: نعم، قال: ذاك جبريل، أمّا إنّك ستفقد بصرك فعمي بعد ذلك في آخر عمره، وهو القائل في ذلك ويروى لحسان رضي الله عنهما: [البسيط]
إن يأخذ الله من عينيّ نورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نور (2)
قلب ذكيّ وعقل غير ذي دخل ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور
نظر إليه الحطيئة في مجلس عمر رضي الله عنهما، فقال: من هذا الذي برع الناس بعلمه، ونزل عنهم بسنّه؟ فقيل له: عبد الله بن عباس.
وقال فيه حسان بن ثابت رضي الله عنهما: [الطويل]
إذا ما ابن عبّاس بدا لك وجهه ... رأيت له في كلّ أحواله فصلا (3)
__________
(1) البيت في ديوان عمر بن أبي ربيعة ص 92، وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 326.
(2) البيتان في ديوان حسان بن ثابت ص 165.
(3) الأبيات في ديوان حسان بن ثابت ص 359.
إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بمنتطحات لا ترى بينها فصلا
كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع ... لذي إربة في القول جدّا ولا هزلا
سموت إلى العليا بغير مشقّة ... فنلت ذراها لا ذليلا ولا وغلا
ونظر إليه معاوية يوما يتكلّم معه، فأتبعه بصره، فقال متمثّلا: [الطويل](1/201)
__________
(3) الأبيات في ديوان حسان بن ثابت ص 359.
إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بمنتطحات لا ترى بينها فصلا
كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع ... لذي إربة في القول جدّا ولا هزلا
سموت إلى العليا بغير مشقّة ... فنلت ذراها لا ذليلا ولا وغلا
ونظر إليه معاوية يوما يتكلّم معه، فأتبعه بصره، فقال متمثّلا: [الطويل]
إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... مصيب ولم يثن اللّسان على هجر
يصرّف بالقول اللّسان إذا انتحى ... وينظر في أعطافه نظر الصّقر
وروي أن طائرا أبيض خرج من قبره، فتأوّلوه علمه خرج إلى الناس.
وقيل: دخل قبره طائر أبيض، فقيل: هو بصره.
وقال أبو الزبير: مات ابن عباس رضي الله عنهما بالطائف، فجاء طائر أبيض فدخل في نعشه حين حمل، فما رئي خارجا منه.
وفضائله كثيرة مشهورة، فلنقف منها على هذا القدر.
[إياس القاضي]
وأما إياس، فهو أبو واثلة بن معاوية بن قرة بن إياس بن هلال بن رباب المزنيّ، قاضي البصرة. وسبب قضائه أنّ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إلى عديّ بن أرطأة عامله على البصرة أن اجمع إياس بن معاوية المزنيّ والقاسم بن ربيعة الحارثيّ، فولّ القضاء أنفذهما وأفقههما. فجمع بينهما، فقال كلّ واحد: إنّ صاحبه أنفذ وأفقه، فقال له إياس: سل عنّي وعن القاسم فقيهي المصر: الحسن وابن سيرين وكان القاسم يأتيهما وإياس لا يأتيهما فعلم القاسم أنه إن سألهما أشارا به، فقال القاسم: لا تسأل عني ولا عنه فو الله الذي لا إله إلا هو إن إياسا لأفقه منّي، فإن كنت كاذبا فما عليك إلا ألّا تولّيني وأنا كاذب، وإن كنت صادقا فينبغي لك أن تقبل قولي. فقال له إياس:
إنك جئت برجل، فوقفته على شفير جهنم، فنحيّ نفسه منها بيمين كاذبة يستغفر الله منها، وينجو مما يخاف، فقال له عديّ: أما إنك إذ فهمتها فأنت لها فاستقضاه.
وقال إياس رحمه الله: أرسل إليّ ابن هبيرة فأتيته، فسألني فسكتّ، فلمّا أطلت قال: هيه! قلت: سل عمّا بدا لك، قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: أتفرض الفرائض؟ قلت: نعم، قال: أتعرف من أيام العرب شيئا؟ قلت: نعم، قال: أتعرف من أيام العجم شيئا؟ قلت: أنا بها أعرف، قال: إني أريد أن أستعين بك على عملي، قلت:
إن فيّ خصالا ثلاثا لا أصلح معها للعمل، قال: ما هي؟ قلت: أنا دميم كما ترى، وأنا عييّ، وأنا حديد، قال: أمّا دمامتك فإني لا أريد أن أحاسن بك الناس، وأما العيّ فإني أراك تعرب عن نفسك، وأما الحدّة فإن السوط يقوّمك، قم. فولّاني القضاء، وأعطاني عشرة آلاف درهم، فهي أول مال تموّلته.(1/202)
ودخل عليه عديّ بن أرطأة في مجلس القضاء وعديّ أمير البصرة، وكان أعرابيّ الطبع فقال: يا هناه، أين أنت؟ قال: بينك وبين الحائط، قال: فاسمع مني، قال:
للاستماع جلست، قال: إني تزوّجت امرأة، قال: بالرّفاء والبنين، قال: وشرطت لأهلها ألّا أخرجها من بينهم، قال: أوف لهم بالشرط، قال: فأنا أريد الخروج، قال: في حفظ الله، قال: فاقض بيننا، قال: قد فعلت، قال: فبم تحكم؟ قال: بألّا تخرجها، قال:
بشهادة من؟ قال: بشهادة ابن أخت خالتك.
وأول ما ظهر من ذكائه، أنه دخل دمشق، وهو غلام، فتحاكم مع شيخ عند قاضيها، فصال إياس بحدّته على الشيخ، فقال له القاضي: إنه شيخ كبير، فخفّض كلامك، فقال له إياس: الحقّ أكبر منه، فقال له القاضي: أسكت، فقال: ومن ينطق بحجّتي؟ فقال له القاضي: ما أراك تقول حقّا، فقال إياس: لا إله إلا الله، أحقّ هذا أم باطل؟ فدخل القاضي من فوره إلى عبد الملك بن مروان، فأعلمه بما رأى من ذكائه، فقال له عبد الملك: أخرج فاحكم بينهما، وأخرجه الآن من دمشق إلى بلاده لئلّا يفسد على أهل الشام.
ولما دخل عبد الملك البصرة رأى إياسا وهو صبيّ، وخلفه أربعة من القرّاء أصحاب الطيالسة، وإياس يقدمهم، فقال عبد الملك: أفّ لهذه العثانين أما فيهم شيخ يقدّمهم غير هذا الحدث! ثمّ التفت إليه، وقال: كم سنّك؟ فقال: سنّي أطال الله بقاء الأمير سنّ أسامة بن زيد بن حارثة حين ولّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا فيهم أبو بكر وعمر فقال: تقدّم بارك الله فيك، وكان سنّه سبع عشرة سنة.
وأمّا ذكاؤه وفراسته، فقد ألّف في ذلك المدائنيّ كتابا سمّاه كتاب «زكن إياس»، والزّكن: التشبيه، يقال: زكّن عليهم وزكّم: شبّه وخيّل، وقيل: الزّكن: الظنّ والتفرّش.
ومن زكنه أنه اختصم إليه رجلان في قطيفتين: حمراء وخضراء، فقال أحدهما: دخلت الحوض لأغتسل ووضعت قطيفتي، ثم دخل واغتسل، فخرج قبلي، وأخذ قطيفتي، فتبعته، فزعم أنها قطيفته، فقال: ألك بيّنة؟ قال: لا، قال: ائتوني بمشط، فأتي به، فسرّح رأس هذا، ثم هذا، فخرج من رأس أحدهما صوف أحمر، ومن رأس الآخر أخضر، فقضى بالأخضر لصاحب الأخضر، وبالأحمر لصاحب الأحمر.
وأتى المدينة فصلّى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزكنه أهله حتى صاروا فرقتين:
فرقة تزعم أنه معلم، وأخرى تزعم أنه قاض، ثم وجّهوا إليه رجلا، فأخبره خبرهم، فقال: أصاب الذين ذكروا أني قاض، ورويدا أخبرك عن القوم أمّا الذي من صفته كذا فهو كذا، وأما الذي يليه فهو كذا، وأما ذاك الشيخ فإنه نجار، فقال الرجل: في كلّهم والله أصبت إلّا في الشيخ، فإنه من قريش، فقال إياس: وإن كان من قريش! فقام الرّجل إلى أصحابه، فقال: قد جئتكم من عند أعجب النّاس، والله إن منكم من أحد إلّا أخبرني
بصناعته إلّا هذا فزعم أنه نجّار، فقال: صدق والله إني لأنجر عيدان جواريّ يعني عود المزمار.(1/203)
فرقة تزعم أنه معلم، وأخرى تزعم أنه قاض، ثم وجّهوا إليه رجلا، فأخبره خبرهم، فقال: أصاب الذين ذكروا أني قاض، ورويدا أخبرك عن القوم أمّا الذي من صفته كذا فهو كذا، وأما الذي يليه فهو كذا، وأما ذاك الشيخ فإنه نجار، فقال الرجل: في كلّهم والله أصبت إلّا في الشيخ، فإنه من قريش، فقال إياس: وإن كان من قريش! فقام الرّجل إلى أصحابه، فقال: قد جئتكم من عند أعجب النّاس، والله إن منكم من أحد إلّا أخبرني
بصناعته إلّا هذا فزعم أنه نجّار، فقال: صدق والله إني لأنجر عيدان جواريّ يعني عود المزمار.
ونظر إلى ثلاث نسوة فزعن من شيء، فقال: هذه حامل، وهذه مرضع، وهذه بكر، فسئلن فوجدن كذلك، فسئل من أين لك علم ذلك؟ فقال: لمّا فزعن وضعت كلّ واحدة منهنّ يدها على أهمّ المواضع لها، فوضعت المرضع على ثديها، والحامل على بطنها، والبكر على فرجها.
وسمع نباح كلب لم يره، فقال: هذا نباح كلب مربوط على شفير بئر، فنظر فكان كما قال، فقيل له في ذلك، فقال: سمعت عند نباحه دويّا، ثم سمعت بعده صدى يجيبه، فعلمت أنه عند بئر.
ومن فراسته أنه رأى أثر اعتلاف بعير، فقال: هذا بعير أعور، فنظروا فكان كما قال، فقيل له في ذلك، فقال: لأني وجدت اعتلافه من جهة واحدة.
ولما صار ذكاؤه يضرب به المثل، كما يضرب بجود حاتم وحلم الأحنف وشجاعة عمرو بن معد يكرب، نظمهم حبيب في بيت جمع فضلهم المتفرّق للعباس بن المأمون، فقال: [الكامل]
إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس (1)
وتوفّي سنة اثنتين وعشرين ومائة وأخباره كثيرة، وفيما أوردناه كفاية.
* * * فعرّفته حينئذ شخصي وآثرته بأحد قمصي، وأهبت به إلى قرصي، فهشّ لعارفتي وعرفاني، ولبّى دعوة رغفاني، وانطلق ويدي زمامه، وظلّي إمامه، والعجوز ثالثة الأثافي، والرّقيب الّذي لا يخفى عليه خافي. فلمّا استحلس وكنتي، وأحضرته عجالة مكنتي، قال لي: يا حارث، أمعنا ثالث؟ فقلت: ليس إلّا العجوز، قال: ما دونها سرّ محجوز. ثمّ فتح إحدى كريمتيه، ورأوأ بتوءمتيه، فإذا سراجا وجهه يقدان، كأنّهما الفرقدان. فابتهجت بسلامة بصره، وعجبت من غرائب سيره، ولم يلقني قرار، ولا طاوعني اصطبار، حتى سألته: ما دعاك إلى التّعالي مع سيرك في المعامي، وجوبك الموامي، وإيغالك في المرامي!
* * * قوله: «أهبت به»، أي دعوته، وأصل «أهاب» دعا لنفسه من بعد. وقيل: الإهابة
__________
(1) البيت في ديوان أبي تمام ص 174.(1/204)
دعاء الإبل للشرب. والقرص: رغيف صغير سمّي قرصا، كأنه قرص من العجين، أي قطع، والتقريص: التقطيع. هشّ: خف فرحا. والعارفة، يريد النعمة وهي المعروف.
لبّى: أجاب وقال: لبّيك، ومصدره تلبية وهي «تفعلة»، من الإلباب وهو اللّزوم، ولبّ بالمكان وألبّ به: أقام، وأصله لبّب بثلاث باءات، فأبدلوا الآخرة ياء استثقالا لاجتماع الأمثال، كما قالوا: تظّنيت وتمطّيت، فالياء فيهما بدل من مثل الحرف الذي قبلها، ثم أتبعوه الإبدال في المصدر وهو تلبية، فياؤه باء، وقولهم: لبيّك، معناه إجابة بعد إجابة، ولزوما لطاعتك بعد لزوم. رغفان: جمع رغيف، يريد أنه لمّا سمع بذكر الخبر، فكأنّ الخبر دعاه فأجابه. زمامه: مقوده. إمامه: هاديه. الأثافيّ: حجارة القدر، وهي ثلاث، والعرب تقول: رماه الله بثالثة الأثافيّ يعنون بها الجبل، لأنهم يجعلون حجرين ويلصقونهما بالجبل، فيقوم الجبل مقام الحجر الثالث، واحدتها أثفيّة بالتشديد، وقد تخفّف، وقد أثفيت القدر وأثفتها وثفّيتها، وتسمّي العرب أثافيّ الحديد المنصب.
الرقيب: الحافظ، يريد الله تعالى. استحلس وكنتي، أي دخل، بيتي، وجلس على جلسه، وهو ما يبسط تحت بسطه يقيها الأرض، وفلان حلس بيته، أي لازم القعود فيه، وفي الحديث: «كن في الفتنة حلس بيتك» (1)، أي لا تدخل فيها، والحلس: كساء يلي ظهر البعير تحت البرذعة ويلزمه، فشبّه الذين يعرفون الشيء ويلزمونه بالحلس، ومنه قولهم: لست من أحلاسها، أي من أصحابها العارفين بها. ومنه بنو فلان أحلاس الخيل، أي الذين يضمّرونها ويلزمون ظهورها، وأحلاس القوافي: المجيدون في نظم الشعر، والوكنة: الثقبة في الحائط يسكنها الطائر، وقيل: هي الموضع من الشجرة وغيرها، يقع عليه للمبيت، وهي الوكن، ووكن الطائر وكنا، فهو واكن إذا حضن على فرخه، فلزم وكنته. عجالة مكنتي: ما تعجّل وأمكن من الطعام. محجوز: ممنوع، وحجزت الشيء: حزته ومنعته، وحجزت بين الشيئين حجزا، فأنا حاجز، إذا جعلت بينهما حائلا، والمفعول محجوز، ومنه الحجاز لأنها أرض حجزت بين نجد والسّراة. كريمتيه:
عينيه، وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد أذهب الله كريمتيه إلا كان ثوابه عند الله الجنة» قالوا: وما كريمتاه؟ قال: عيناه (2). رأرأ: قلبهما وأدارهما إدارة كثيرة. وتوأمتاه:
كريمتاه، وقوله: «مسح كريمتيه»، يريد أنه حكّهما بكفّه، فانتفض عنهما ما كان ألصقهما به، حتى التحما. وقيل: رأرأ: أدار العين وحدّد نظرها. وتوأمتاه: عيناه، وفي الغريب المصنّف: رأرأت المرأة بعينها ولألأت، إذا برقت عينها، وأنشد ابن الأعرابيّ: [الطويل]
__________
(1) أخرجه أبو داود في الفتن باب 2، والدارمي في المقدمة باب 27، وأحمد في المسند 4/ 408، جميعهم برواية: «كونوا أحلاس بيوتكم».
(2) روي بطرق وأسانيد متعددة أخرجه الترمذي في الزهد باب 58، وأحمد في المسند 3/ 283، 5/ 258، 6/ 366.(1/205)
عجبت من الحور الكريم نجارها ... ترأرىء بالعينين للرجل الحبل (1)
الحبل: الداهية. الفرقدان: نجمان منيران في بنات نعش. ابتهجت: فرحت.
سيره: عاداته. يلقني قرار: يحبسني سكون وطمأنينة. التّعامي: استعمال العمى.
المعامي: الطرق المجهولة، وقيل: القفار البعيدة التي تعمى فيها الآثار فلا يهتدى فيها.
الموامي: القفار، واحدها موماة. إيغالك: إبعادك ومبالغة دخولك. المرامي: المقاصد والبلاد التي ترميه إلى بلاد أخرى يقول: سألته ما الذي دعاك إلى استعمالك العمى مع دخولك لطلبك الرزق في المشقات وجوب البلاد البعيدة، فلم تجد لنفسك حيلة حتى تشبّهت بالعميان!
* * * فتظاهر باللّكنة، وتشاغل باللهنة، حتى إذا قضى وطره، أتأر إليّ نظره وأنشد: [الطويل]
ولمّا تعامى الدّهر وهو أبو الورى ... عن الرّشد في أنحائه ومقاصده
تعاميت حتى قيل إني أخو عمى ... ولا غرر أن يحذو الفتى حذو والده
ثمّ قال لي: انهض إلى المخدع فائتني بغسول يروق الطّرف، وينقّي الكفّ، وينعّم البشرة، ويعطّر النّكهة، ويشدّ اللّثة، ويقوّي المعدة، وليكن نظيف الظّرف، أريج العرف، نقيّ الدّقّ، ناعم السّحق، يحسبه الّلامس ذرورا، ويخاله النّاشق كافورا، واقرن به خلالة نقيّة الأصل، محبوبة الوصل، أنيقة الشّكل، مدعاة إلى الأكل لها نحافة الصّبّ، وصقالة العضب، وآلة الحرب، ولدونة الغصن الرّطب.
* * * تظاهر: استعان. واللّكنة: احتباس اللسان يريد: لمّا امتلأ فمه بالطعام لم يتسرّح لسانه بالكلام، فوجد بذلك علّة لقطع الجواب، فكأنّ اللّكنة أعانته على ذلك.
اللهنة: الطعام المعجّل للضيف قبل الغداء، وكلّ ما تعجّلته قبل إدراك الطعام لهنة، ولهّنت الضيف: عللّته بذلك. قضى وطره أتمّ حاجته من الأكل، والوطر: المراد، ولا فعل له. أتأر: تابع نظره وحدّده. الورى: الخلق. أنحائه: أغراضه ومقاصده، والنّحو كالقصد. لا غرو: لا عجب. يحذو حذوه: أي يفعل فعله.
__________
(1) يروى صدر البيت:
فيا عجبا للخود تبدي قناعها
والبيت بلا نسبة في لسان العرب (حبل)، وتهذيب اللغة 5/ 78، وتاج العروس (حبل).(1/206)
[مما قيل في العمى شعرا]
وهذا الاعتذار عن التعامي حسن، وقد تقدم اعتذار ابن عباس رضي الله عنهما عنه.
ومما يعزى للحصريّ في ذلك: [الوافر]
وقالوا قد عميت فقلت كلّا ... فإني اليوم أبصر من بصير
سواد العين زار سواد قلبي ... ليجتمعا على فهم الأمور
أخذه من قول بشار: [الطويل]
إذا ولد المولود أعمى وجدته ... وجدّك أهدى من بصير وأحولا
عميت جنينا والذّكاء من العمى ... فجئت عجيب الظنّ للعلم معقلا
وغاض ضياء العين للقلب فاغتدى ... بقلب إذا ما ضيع النّاس حصّلا
وشعر كنور الرّوض لاءمت بينه ... بقول إذا ما أحزن الشّعر أسهلا
وقال بشار: [مخلع البسيط]
قالوا العمى منظر قبيح ... قلت بفقدي لكم يهون
تالله ما في البلاد شيء ... تأسى على فقده العيون
وعكس هذا المعنى أبو العيناء حين سأله المتوكل: ما أشدّ ما عليك في ذهاب بصرك؟ قال: ما حرمته يا أمير المؤمنين من رؤيتك مع إجماع الناس على جمالك.
ومما يستملح من هذا الباب: نشأ أعمى بين أعورين، فإذا مشيا أو قعدا، فحاذى عور هذا عور هذا نشأ بينهما أعمى.
وقال المتنبي يمدح العور ويذمّه في بيت واحد: [الوافر]
أيا ابن كروّس يا نصف أعمى ... وإن تفخر فيا نصف البصير (1)
فإذا انضمّ ابن كروسّ إلى مثله نشأ بينهما أعمى، قال الشاعر: [البسيط]
وبيننا أبدا أعمى نؤلّفه ... قد يخلق الله عميانا من العور
وقال آخر: [الوافر]
ألم ترني وعمرا حين نغدو ... إلى الحاجات ليس لنا نظير
أسايره على يمنى يديه ... وفيما بيننا رجل ضرير
وقال آخر في أعور وعوراء تعاشقا: [الخفيف]
__________
(1) البيت في ديوان المتنبي 2/ 144.(1/207)
هي عوراء باليمين وهذا ... أعور بالشّمال وافق شنّا
بين شخصيهما ضرير إذا ما ... قعدت عن شماله تتغنّى
فأما قول جميل اليشكريّ في صفة الذئب: [الطويل]
وأعور من يمناه إن شاء مرّة ... وإن شاء من يسراه ما كان راقدا
لقد فزت دون العور أوس برتبة ... وأعطيت نابا يفلق الصخر باردا
فإنما وصفه بشدة الحذر، وذكر العور على معنى الاستعارة كما قال حميد بن ثور: [الطويل]
ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان نائم
وقال ابن المعذّل: [المديد]
أشتهي في المقلة القبلا ... لا كثيرا يشبه الحولا
واحمرار الخدّ من خجل ... إنني أستحسن الخجلا
وقال آخر: [مجزوء الرجز]
وأحول ذي حركه ... يملأ بيتي بركة
يريد أنه يرى من الشيء اثنين، كما قال الآخر: [البسيط]
فقد جعلت أرى الشخصين أربعة ... والواحد اثنين ممّا بورك البصر
لأن هذا يصف الكبر.
واعتذر القاضي أبو محمد عبد الوهاب عن الحول فأحسن، حيث يقول: [الطويل]
حمدت إلهي إذ بليت بحبّها ... وبي حول يغني عن النّظر الشّزر
نظرت إليها والرّقيب يظنّني ... نظرت إليه، فاسترحت من العذر
فحوله رفع عنه ثقل مؤنة التكلّف الذي ذكر الآخر حين قال: [الطويل]
ولمّا التقينا والعيون نواظر ... وليس لنا رسل سوى الطّرف للطّرف
تنزهّت في خدّيك من نظر خفي ... وما زلت أخفي الودّ ضعفا على ضعفي
فإن غفل الواشون فزت بنظرة ... وإن نظروا نحوي نظرت إلى كفّي
فلذلك حمد الله على الحول.
وقال الناشي في هذا المعنى فأحسن: [الكامل]
يتناقلان اللفظ من جفنيهما ... فكأنما يتناسخان كتابا
وإذا سهت عين الرقيب تخالست ... كفّاهما خلس السّلام سلابا
وللقاضي أبي محمد عبد الوهاب، أنشدنا بعض أشياخنا البيت الثاني والأخير من القطعة التالية، وكان كثيرا ما يحرضنا بها على الطلب، ويسليّنا عن الغربة: [الطويل](1/208)
يتناقلان اللفظ من جفنيهما ... فكأنما يتناسخان كتابا
وإذا سهت عين الرقيب تخالست ... كفّاهما خلس السّلام سلابا
وللقاضي أبي محمد عبد الوهاب، أنشدنا بعض أشياخنا البيت الثاني والأخير من القطعة التالية، وكان كثيرا ما يحرضنا بها على الطلب، ويسليّنا عن الغربة: [الطويل]
ومحجوبة في الخدر عن كلّ ناظر ... ولو برزت باللّيل ما ضلّ من يسري
أقول لها والدّمع يغلب صبرها ... أعدّي لفقدي ما استطعت من الصّبر
سأنفق ريعان الشبيبة آنفا ... على طلب العلياء أو طلب الأجر
أليس من الحرمان أنّ لياليا ... تمرّ بلا نفع وتحسب من عمري!
ولم ينشدنا البيت الأول ولا الأوسط، وهما من القطعة.
وأما كلام الحريريّ الّذي فرغنا من شرحه فهو منقول من مقامة البديع، يقول على لسان عيسى بن هشام: «ثمّ فارقهم وتبعته، وعرفت أنه متعام لسرعة ما عرف الدينار.
فلما نظمتنا حلوة، مددت يمناي إلى يسرى عضديه، فقلت: والله لتريّني سرّك، أو لأهتكنّ سترك، ففتح عن توأمتيه، وحدر لثامه عن وجهه، فإذا والله أبو الفتح الإسكندريّ، فقلت له: أنت أبو الفتح؟ فقال: [مجزوء الرمل]
أنا أبو قلمون ... في كلّ لون أكون
اختر من الكسب دونا ... فإنّ دهرك دون
زجّ الزمان بحمق ... إنّ الزمان زبون
لا تكذبنّ بعقل ... ما العقل إلا الجنون
وعتب الحريريّ على العمى فائق في النثر، وشعره في الاعتذار عنه رائق في النظم، وهو على انطباعه في القصد إذا أتى بالبيتين أتى بالعجب، وهو في ذلك كما قيل في أبي منصور الفقيه: إذا رمى بزجّية قتل.
* * * قوله: «المخدع»، هو بيت داخل بيت، قال ابن الأنباريّ: هو الخزانة في جانب البيت، وهو من خدع، إذا توارى واستتر، وأخدعه إخداعا: أخفاه، فمن ضمّ ميم «مخدع» فهو من «أخدع»، ومن فتح فهو من «خدع»، وخدع الصبّ في جحره خدعا:
دخله خوفا من صائده. الغول: الأشنان، وهو النّقاوة، ويقال أيضا: الغاسول، وكل ما غسلت به ثوبك أو رأسك فهو غسل وغسول. يروق: يعجب. والطرف: العين. ينقّ:
ينظّف. والبشرة: ظاهر الجلد. والنكهة: رائحة الفم، ونكهت الرجل أنكهه وأنكهه والفتح أقلّ واستنكهته، كلّه شممت فاه، قال الشاعر: [الوافر]
نكهت مجالدا فشممت منه ... كريح الكلب مات حديث عهد (1)
__________
(1) البيت للحكم بن عبدل في الحيوان 1/ 251، وبلا نسبة في لسان العرب (جلد)، (نجا)، (نكه)،(1/209)
واللّثة: اللحم على الأسنان. نظيف الظّرف: نقيّ الوعاء. أريج العرف: عطر الرّائحة، والأرج: فوح الطّيب وأرج المسك: فاح. فتيّ الدقّ: طريّ الكسر. ناعم:
حسن، قد بولغ في سحقه، يريد أنه في الحال الذي يسحق يستعمل. الناشق: الشامّ.
والذّرور والكافور: من أنواع الطيب، والذّرور هو المعروف بالذّريرة، والذّرور أيضا:
غبار يذرّ في العين، وكلّه مأخوذ من الذّرّ، وهو التفرّق، لأن أجزاءه تفرّقت عند سحقه، وفعله ذرّ، وأصله ذرر والكافور مأخوذ من الكفر، وهو التغطية، فلشدّة فوحه وحده يستر رائحة غيره من الطّيب. واللّامس: الذي يمسّه بيده. الخلالة: عويد رقيق يخرج به الطعام من خلل الأسنان. أنيقة الشكل، معجبة الهيئة، وشكل الشيء: هيئته التي هو عليها. ومدعاة: داعية، والهاء للمبالغة. نحافة الصّبّ: رقّة العاشق. والعضب: السيف القاطع. آلة: عدّة وأداة، يريد أنها محدّدة مصقولة مثل آلة الحرب. ويروى «ألّة» بالتشديد، وهي الحربة. لدونة: لين. نحافة الصبّ: ليس هو تشبيها حقيقيّا، وإنما أراد أنها أخذت من العاشق نحافته، ومن العضب صقالته، ومن الغصن لدونته، ولو شبّه الخلالة في الرقّة بالعاشق ونحوله لكان جائزا، وكان من التشبيه المقلوب، وكلاهما بديع في بابه.
والخلالة التّي ذكر، أصلها نبات لشجير ينبت في الصيف، وتطلع له رؤوس، يكون في الواحد منها عدّة من قضبان رقاق، فيمسك الرجل منها في جيبه رأسا، فمتى أكل طعاما نزع منها قضيبا فتخلّل به، ويعرف هذا النبات عندنا بالبستينج، فيحتمل أن يكون هذا بعينه هو الذي عندهم في المشرق، وإلا فصفته التي وصفت موجودة في البستينج من الرقة والصّفاء واللّين والحدة.
وجاء في الحديث النّهي عن التخلّل بعود الآس والرّمان والقصب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نقّوا أفواهكم بالخلال فإنها مسكن الملكين الكاتبين الحافظين، وإن قلمهما اللسان، ومدادهما الرّيق، وليس عليهما شيء أشدّ من فضول الطعام».
أبو أيوب: قال صلى الله عليه وسلم: «حبّذا المتخلّلون في الوضوء والطعام» (1).
أبو هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: «من أكل فليتخلّل، فما تخلّل فليلفظ، ومالاك بلسانه فليبتلع» (2).
__________
وكتاب العين 3/ 380، 6/ 186، والمخصص 11/ 209، وتهذيب اللغة 6/ 24، 11/ 200، ومجمل اللغة 4/ 383، وتاج العروس (جلد)، (نكه)، (نجو)، ويروى: «قريب عهد» بدل «حديث عهد».
(1) أخرجه أحمد في المسند 5/ 416.
(2) أخرجه الدارمي في الوضوء باب 5، والأطعمة باب 42، وأبو داود في الطهارة باب 19، وابن ماجه في الطهارة باب 23، وأحمد في المسند 2/ 371.(1/210)
[أشعار في التشبيه]
والخلالة إذا بلغت من رقتها، أن تقع بين الأسنان، فالعاشق إذا بلغ الغاية النّحول، هو الذي يشبّه بها، كما قال في التاسعة في وصف الصبيّ الهزيل من الجوع: «ولي منه سلالة، كأنها خلالة»، وأخذه من قول ديك الجن: [الخفيف]
ارحم اليوم ذلّتي وخضوعي ... فلقد صرت ناحلا كالخلال
وقال أبو الطيّب: [البسيط]
روح تردّد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبن (1)
فذكر أنّ ثوبه على بدن لم يتبين للناظر. والتشبيه المقلوب عندهم شيء مستظرف، ومذهب مستحسن كما قال ذو الرّمة: [الطويل]
ورمل كأوراك العذارى قطعته ... وقد جلّلته المظلمات الحنادس (2)
فقلب التشبيه، لأن العادة أن تشبّه الأعجاز بكثبان الرمل، كما قال الآخر: [الرجز] * مثل قضيب تحته كثيب *
وكما قال الآخر: [الطويل]
وبيض نضيرات الوجوه كأنّما ... تأزّرن دون الأزر رملات عالج
وأخذه حبيب، وجوّد الصنعة حيث قال:
كم أحرزت قضب الهنديّ مصلتة ... تهتزّ من قضب تهتزّ من كثب
علق قوله: «من قضب تهتز» ب «أحرزت» يلجّ لك بديع صنعته بسرعة، فإنه أراد:
كم أحرزت قضب الهند وهي السيوف إذا أصلتت من أغمادها، وهزّت. من قضب، أي قدود نساء. تهتزّ من كثب، أي أكفال شبه أكداس رمال.
وما أعذب وأظرف قول البحتري: [الكامل]
أين الغزال المستعير من النّقا ... كفلا ومن نور الأقاحي مبسما (3)
فهذا هو الذي جرت به العادة في التشبيه، فقلب ذو الرمّة العرف والعادة فشبّه كثبان النّقا بأكفال النساء، وتبعه خالد الكاتب وغيره.
__________
(1) البيت في ديوان المتنبي 4/ 186.
(2) يروى عجز البيت:
إذا ألبسته المظلمات الحنادس
وهو في ديوان ذي الرمة ص 1131، ولسان العرب (ورك)، (جمل)، وتاج العروس (ورك).
(3) البيت في ديوان البحتري ص 1958.(1/211)
حدث جحظة قال: حدثني خالد الكاتب، قال: جاءني يوما رسول إبراهيم بن المهديّ، فسرت إليه، فرأيت رجلا أسود على فرش قد غاص فيها، فاستجلسني وقال:
أنشدني من شعرك، فأنشدته: [الطويل]
رأت منه عيني منظرين كما رأت ... من الشّمس والبدر المنير على الأرض
عشيّة حيّاني بورد كأنّه ... خدود أضيفت بعضهنّ إلى بعض
ونازعني كأسا كأنّ حبابها ... دموعي لمّا صدّ عن مقلتي غمضي
وراح وفعل الرّاح في حركاته ... كفعل نسيم الريح في الغصن الغضّ
فزحف حتى صار في ثلثي الفراش، وقال: يا فتى، شبّهوا الخدود بالورد، وأنت شبهت الورد بالخدود! فزدني، فأنشدته: [مجزوء الكامل]
عاتبت نفسي في هوا ... ك فلم أجدها تقبل
وأطعت داعيها إلي ... ك ولم أطع من يعذل
لا والذي جعل الوجو ... هـ لحسن وجهك تمثل
لا قلت إن الصبر عن ... ك من التّصابي أجمل
فزحف حتى انحدر من الفراش، ثم قال: زدني، فأنشدته: [الوافر]
عش فحبّيك سريعا قاتلي ... والصّنى إن لم تصلني واصلي
فأنا بين اكتئاب وضنى ... تركاني كالقضيب الذّابل
فبكى العاذل لي من رحمة ... فبكائي لبكاء العاذل
فاستخفّ طربا، ثم قال: يا بليق، كم معك لنفقتنا؟ قال: ثمانمائة وخمسون دينارا، قال: اقسمها بيني وبين خالد، فدفع إليّ نصفها:
وقد سبق إلى قوله: «كأنه خدود»، قال المفضّل: دخلت على الرشيد وبين يديه طبق ورد، وعنده جارية مليحة شاعرة أديبة، قد أهديت إليه، فقال: يا مفضّل، قل في هذا الورد شيئا تشبّهه به، فأنشأت أقول: [البسيط]
كأنه خدّ معشوق يقبّله ... فم الحبيب وقد أبقى به خجلا
وقالت الجارية: [البسيط]
كأنّه لون خدّي حين تدفعني ... كفّ الرّشيد لأمر يوجب الغسلا
فقال: يا مفضّل قم فاخرج، فإن هذه الماجنة قد هيّجتنا، فقمت وأرخيت الستور.
ولقد أحسن ابن الزقّاق في قوله: [الخفيف]
ورياض من الشقائق أضحت ... تتهادى بها نسيم الرياح(1/212)
زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تروق لون الرّاح
قلت: ما ذنبها؟ فقال مجيبا: ... سرقت حمرة الخدود الملاح
وقال البحتري: [البسيط]
في طلعة الشمس شيء من ملاحتها ... وللقضيب نصيب من تثنّيها (1)
وقال ابن المعتزّ: [الطويل]
سقتني في ليل شبيه بشعرها ... شبيهة خدّيها بغير رقيب
فأمسيت في ليلين: في الشعر والدجى ... وشمسين: من خمر وخدّ حبيب
وأستطرد إلى قلب التشبيه من مبالغة النّحول الذي ذكرنا، فأقول: إذا صار جسم العاشق من النحول يوصف بمثل قول الشاعر: [السريع]
أنحلني الحبّ فلو زجّ بي ... في مقلة النّائم لم ينتبه
قد كان لي فيما مضى خاتم ... والآن لو شئت تمنطقت به
وبمثل قول أبي بكر بن دريد: [السريع]
إنّ الذي أبقيت من جسمه ... يا متلف الصبّ ولم يشعر
صبابة لو أنها قطرة ... تجول في جفنك لم تقطر
صار جسم الخلالة على نحافته أكبر من جسم الصبّ بأضعاف، فينقلب التشبيه، وكذلك إذا بولغ في وصف الأكفال بالعظم صغرت عندها الكثبان، فينقلب التشبيه.
وقد ترجم ابن جنّي في خصائصه ترجمة، فقال: هذا باب من غلبة الأصول على الفروع، ثم أنشد بعض ما أنشدنا، وقرنها بمسائل من العربية حسان تشبه الباب.
وللمتقدّمين والمتأخّرين في النحول شعر كثير، ويستحسن في ذلك قول المجنون:
[الطويل]
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر ... مع الصبّح في أعقاب نجم مغرّب (2)
ألا إنما غادرت يا أمّ مالك ... صدى أينما تذهب به الريح يذهب
أخذه المؤمّل فقال: [السريع]
قد صرت من ضعفي إلى حالة ... تجري لها آماق حسّادي
يكاد جسمي من نحول الضّنى ... تحمله أنفاس عوّادي
__________
(1) البيت في ديوان البحتري ص 241.
(2) البيت لقيس بن الملوح في ديوانه ص 64، ولسان العرب (غرب)، وبلا نسبة في المخصص 1/ 14.(1/213)
وزاد خالد الكاتب، فجعله لا يدرك إلا بالوهم، فقال: [البسيط]
يا من تجاهل عمّا كان يعمله ... عمدا وباح بسرّ كان يكتمه
غدا خليلك نضوا لا حراك به ... لم يبق من جسمه إلا توهّمه
فزاد ابن المعتزّ، وجعله يخفى على الموت، فقال: [البسيط]
مسهّد خانه التفريق في أمله ... أضناه سيّده ظلما بمرتحله
فدقّ حتى لو أن الدهر قاد له ... حتفا لما أبصرته مقلتا أجله
فأعدمه المتنبيّ واستريح منه. فقال: [الطويل]
أراك حسبت السّلك جسمي فعقته ... عليك بدرّ عن لقاء التّرائب (1)
ولو قلم ألقيت في شقّ رأسه ... من السّقم ما غيّرت من خطّ كاتب
* * *
قال: فنهضت فيما أمر، لأدرأ عنه الغمر، ولم أهم إلى أنّه قصد أن يخدع، بإدخالي المخدع، ولا تظنّيت أنّه سخر من الرّسول، في استدعاء الخلالة والغسول.
فلمّا عدت بالملتمس، في أقرب من رجع النّفس، وجدت الجوّ قد خلا، والشّيخ والشّيخة قد أجفلا، فاستشطت من مكره غضبا، وأوغلت في إثره طلبا.
فكان كمن قمس في الماء، أو عرج به إلى عنان السّماء.
* * * قوله: «أدرأ»، أي أزيل. الغمر: الودك. أهم: أظنّ، ويذهب وهمي. تظنّيت:
حسبت، وأبدل إحدى نوني «ظنّ» ياء تخفيفا للتضعيف. سخر: هزأ. الملتمس:
المطلوب. الجوّ هنا: داخل البيت. أجفلا: هربا وأسرعا. قوله: «استشطت»: اشتدّ غضبي. مكره: خداعه. أوغلت: بالغت وباعدت. قمس: غمس. عرج به: طلع به.
عنان بفتح العين: سحاب، والعنانة: السحابة، وأعنّت السماء: صار لها عنان، والله الموفّق للصواب.
__________
(1) البيت في ديوان المتنبي 1/ 149.(1/214)
المقامة الثامنة وهي المعريّة [معرّة النعمان]
هي بلدة بالشام، والنّعمان: اسم جبل مطلّ عليها، والمعرّة اسم البلدة، فأضيفت إليه، ولها سبعة أبواب، وعلى جبل منها دير سمعان، فيه قبر عمر بن عبد العزيز، وقبر شيث بن آدم عند باب شيث منها، وداخلها قبر يوشع بن نون، وله يوم حفيل في كلّ عام، وإلى المعرّة ينسب الشاعر المعرّي. قال شيخنا ابن جبير: إنه خرج من قنّسرين يريد حمص، قال: فرأينا عن يمين طريقنا بمقدار فرسخين بلاد المعرّة، وهي سواد كلها محاطة بشجر الزيتون والتين والفستق وأنواع الفواكه، ويتصل التفاف بساتينها وانتظام قراها مسيرة يومين، وهي من أخصب البلاد، وأكثرها أرزاقا، ووراءها جبل لبنان، وهو سامي الارتفاع، ممتدّ الطول، متّصل من البحر إلى البحر، وفي سفح الجبل حصون للملحدة الإسماعيليّة، فرقة مرقت من الإسلام، وادّعت الإلهية، قيّض لهم شيطان يعرف بسنان، خدعهم بأباطيل وخيالات، وموّه عليهم باستعمالها، وسحرهم بمحالها، فاتخذوه إلها يعبدونه، ويبذلون الأنفس دونه، وحصلوا من طاعته بحيث يأمر أحدهم بالتردّي من شاهق جبل، فيتردّى المأمور، والله يضل من يشاء.
* * * أخبر الحارث بن هّمام قال: رأيت من أعاجيب الزّمان، أن تقدّم خصمان، إلى قاضي معرّة النّعمان، أحدهما قد ذهب منه الأطيبان، والآخر كأنّه قضيب البان.
* * * قوله: «الأطيبان»، أي الأكل والنكاح، أي هو شيخ مسنّ، وقيل: الأطيبان: النوم والنكاح، وقيل: طيب النّكاح، وطيب النّكهة.
أبو هريرة، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الأطيبان التمر واللبن» (1).
وسئل شيخ مسنّ من العرب عن حله، فقال: ذهب مني الأطيبان: السّير والأير، وبقي الأرطبان: الضّراط والسّعال.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 3/ 474، بلفظ: «فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماهما الأطيبين».(1/215)
والبان: شجر تشبّه بقضبانه القدود الناعمة.
* * * فقال الشّيخ: أيّد الله القاضي، كما أيّد به المتقاضي، إنّه كانت لي مملوكة رشيقة القدّ، أسيلة الخدّ، صبور على الكدّ، تخبّ أحيانا كالنّهد، وترقد أطوارا في المهد، وتجد في تمّوز مسّ البرد، ذات عقل وعنان، وخدّ وسنان، وكفّ ببنان، وفم بلا أسنان تلدغ بلسان نضناض، وترفل في ذيل فضفاض، وتجلى في سواد وبياض، وتسقى ولكن من غير حياض، ناصحّة خدعة، خبأة طلعة، مطبوعة على المنفعة، ومطواعة في الضّيق والسّعة، إذا قطعت وصلت، ومتى فصلّتها عنك انفصلت، وطالما خدمتك فجّملت، وربما جنت عليك فآلمت وململت، وإنّ هذا الفتى استخدمنيها لغرض، فأخدمته إيّاها بلا عوض، على أن يجتني نفعها، ولا يكلّفها إلّا وسعها، فأولج فيها متاعه، وأطال بها استمتاعه، ثمّ أعادها إليّ وقد أفضاها، وبذل عنها قيمة لا أرضاها.
* * * المتقاضي، أي المتحاكم إليه الذي يطلب من الحاكم قضاءه، وعونه على خصمه وهذا الغرض الذي ذكره ضرب من الألغاز، لأنه مشى كلامه في وصف جارية وغلام، وقد ضمّن الكلام وصف إبرة ومرود. مملوكة، يعني الإبرة جعلها مملوكة لأنها مما يتمّول. رشيقة القدّ: معتدلة القامة. أسيلة: ملساء. خدّ الإبرة: شقّ فيه ثقبها، وأصل الخدّ شقّ مستطيل في الأرض، والأسالة: ملاسة مع طول.
صبور على الكدّ، أي صابرة على المشقّة والتعب، وفعول بمعنى فاعل يمتنع من إلحاق الهاء به إذا وقع صفة لمؤنث، قال عنترة: [البسيط]
إنّي امرؤ سهل الخليقة ماجد ... لا أتبع النّفس اللّجوج هواها
ومنه: امرأة شكور وصبور ولجوج ولحّن أبو محمد خواصّ العراق بقولهم:
شكورة ولجوجة وصبورة، قال: إنّ هذه التاء إنما تدخل في «فعول» إذا كانت بمعنى «مفعول»، نحو ناقة ركوبة وشاة حلوبة. قال: وذكر النحويّون في امتناع الهاء من «فعول» بمعنى «فاعل» للمؤنث عللا، أجودها أن الصفات الموضوعة للمبالغة نقلت عن بابها لتدلّ على المعنى الذي تخصصّت به، فأسقطت الهاء من صبور وفتاة معطار ونظائره كما ألحقت بصفة المذكّر في رجل علّامة ونسّابة، ليدلّ على تحقيق المبالغة، وتؤذن بحدوث معنى زائد في الصفة. وامتناع الهاء المذكورة في أصل مطّرد [لم يشذّ منه إلا قولهم]: عدوّة، فإنهم ألحقوه بصديقة، والشيء في أصول العربية [قد] يحمل على ضدّه ونقيضه، كما يحمل على نظيره ورسيله.(1/216)
تخبّ: تثب في الثوب بسرعة. النّهد: الفرس الضّخم. أطوارا: أحيانا، ومهدها:
مئبر الخائط الذي تمسك به إبرته. تمّوز: أحد الشهور، وهو يوليه. والبرد: أن يبردها الحدّاد بالمبرد ليقوّمها ويعدّلها، فالبرد هنا فعل صانعها. قال ابن ظفر: ذهب بالبرد إلى ما طبع عليه الحديد من البرد في القيظ. قوله: «ذات عقل وعنان»، أراد بالعنان الخيط لأنها ترسله في الخياطة، والعقل شدّها بالخيط حين تمسك في الثوب. سنان: طرفها المسنون، أي المحدّد. كفّ ببنان: الكفّ والتضريب شيئان معروفان في الخياطة، فيريد أن الخائط يقلّب التضريب بأصابعه وهي البنان ويكفّه بالإبرة. فم، يريد ثقب الإبرة.
تلدغ: تضرب الإصبع. واللسان النضناض للحيّة، والنّضنضة، قيل: هي صوت الحيّة، وقيل: حركة لسانها، وإنما اختلف فيها لأن الحيّة إذا ضيّق عليها فتحت فاها وصفرت وحركت لسانها، فيقال: نضنضت، وشبّه طرف الإبرة بلسان الحيّة لكثرة حركته في الثوب وما أحسن قول الشاعر في تشبيه لسان الأفعى بنور السّراج: [الوافر]
وقنديل كأنّ النّور منه ... محيّا من أحبّ إذا تجلّى (1)
أشار على الدّجى بلسان أفعى ... فشمّر ذيله فرقا وولّى
وقال ابن الصبّاغ الصقليّ في شمعة: [المنسرح]
يطعن صدر الدجى بعالية ... صنوبري لسان كوكبها
كحيّة باللسان لاحسة ... ما أدركت من سواد غيهبها
وللبيتين الأوّلين حكاية مستظرفة، حدّثني بها غير واحد من الطّلبة أردت ترك ذكرها لأمرين: لشهرتها، ولأني وجدت البيتين مثبتين في بعض النّسخ من القلائد لأحد رجالها، ثم عزم عليّ بعض الأدباء أن أذكرها، فذكرتها على اختصار لفائدتها وذلك أن الشاعر المعروف بالبكيّ الهجّاء، دخل عليه في ليلة ماطرة ذات رعد وبرق في بيت فندق دوابّ شخص في الظّلام لا يعرفه، وعلى البكيّ بقية من سلهامة خلقة، لا يواريه غيرها، وعلى الثاني بقيّة من قميص قد أسودّ من طول البلى وكثرة الأوساخ، حتى لا يعرف رائيه من أيّ ثوب هو وقد بّلل كلّ واحد منهما المطر. وهما في بلاء من الفقر والجوع والبرد، فرقّ لهما خادم الفندق، فدخل عليهما بقنديل، فعندما نظر كلّ واحد منهما صاحبه تأسّى به، ورأى أنه قد وجد لنفسه نظيرا في الشقاء. فقال البكيّ لجليسه: أيّ شيء أنت؟ فقال: شاعر، وشؤم الأدب بلغ بي ما ترى، قال:
فأجز، فقال: [الوافر]
* وقنديل كأنّ النّور منه *
__________
(1) البيتان لأبي جعفر بن البني الأندلسي في تاج العروس (بنن).(1/217)
فقال الآخر: [الوافر]
* محيّا من أحبّ إذا تجلّى *
فقال البكيّ: [الوافر]
* أشار على الدّجى بلسان أفعى *
فقال الآخر: [الوافر]
* فشمّر ذيله فرقا وولّى *
فقال له البكيّ وقد أعجب به: بمن تعرف؟ فقال: بعنق البرة، قال له: وأنا البكيّ، فجعلا يتناظران بقيّة ليلتهما في أيّهما أكثر حرمانا، حتى أصبحا وكانا يتلمسان.
فقال عنق البرة للبكيّ: هلمّ لنقترع أيّنا يقيم هنا، وأيّنا يرتحل؟ فإنا إن بقينا في موضع واحد، أدرك الناس من شؤمنا ما يؤدّي بهم إلى الهلاك، فاقترعا فخرجت قرعة البكيّ بالرحيل، فارتحل ونزل بفاس، فحلّ بأهلها من بلائه ما قد شهر.
قوله: «ترفل في ذيل فضفاض»، أي تمشي في خيط طويل. تجلّى في سواد وبياض، أي تبرز في خيط أسود لخياطة السواد، وأبيض لخياطة البياض. تسقى: أراد سقي الحدّاد لها إذا أخرجها من النار وألقاها في الماء لتصلب. ناصحة: خائطة، والنّصاح:
الخيّاط، ونصحت الثوب: خطته. خدعة: تخدع الخائط كثيرا، فتخيط وجه الثوب الأعلى، وتترك الأسفل، والهاء في هذه الصفات للمبالغة. خبأة طلعة يصف حالها من الخياطة حين تختبىء في الثوب، ثم تطلع في يد الخائط. مطبوعة أي مصنوعة لينتفع بها.
مطواعة في الضيق والسّعة يريد إذا دفعتها في الثوب دخلت فيه، سواء اتّسع موضع دخولها أو ضاق. إذا قطعت وصلت، يريد إذا قطعت الثوب وفصّلته ألّفته. فصلتها عنك:
نحيّتها، وجعلتها في مئبرها. خدمتك، أي صرفتها فيما تحتاج من خياطة ثيابك. جمّلت:
ألّفت قطع الثوب. جنت عليك فآلمت، أي ضربتك فأوجعتك وصيّرتك ذا ألم. ململت، أي جعلتك متقلّبا لشدة الوجع. قوله: «استخدمنيها»، أي طلب مني خدمتها. الغرض:
الحاجة، وأصل الغرض ما قصدته سهام الرامي، ثم سميت الحاجة غرضا، لأنها قصدت بالرغبة فيها. وسعها: طاقتها وقدر ما تحتمل مما تكلف. أولج فيها متاعه، أي أدخل فيها خيطه. أفضاها: خرق عينها، وفي المرأة خلط مسلكيها، من أفضيت إلى الشيء، وصلت إلى متّسعه، ومنه: القوم فوضى، أي متسعون مختلطون. بذل: أعطى.
* * * فقال الحدث: أمّا الشّيخ فأصدق من القطا، وأمّا الإفضاء ففرط عن خطا، وقد رهنته، عن أرش ما أوهنته، مملوكا لي متناسب الطّرفين، منتسبا إلى القين،
نقيّا من الدّرن والشّين، يقارن محلّه سواد العين، يفشي الإحسان، وينشي الاستحسان، ويغذي الإنسان، ويتحامى اللّسان، إن سوّد جاد، أو وسم أجاد، وإذا زوّد وهب الزّاد، ومتى استزيد زاد، لا يستقرّ بمغنى، وقلّما ينكح إلّا مثنى، يسخو بموجوده، ويسمو عند جوده، وينقاد مع قرينته، وإن لم تكن من طينته، ويستمتع بزينته، وإن لم يطمع في لينته.(1/218)
* * * فقال الحدث: أمّا الشّيخ فأصدق من القطا، وأمّا الإفضاء ففرط عن خطا، وقد رهنته، عن أرش ما أوهنته، مملوكا لي متناسب الطّرفين، منتسبا إلى القين،
نقيّا من الدّرن والشّين، يقارن محلّه سواد العين، يفشي الإحسان، وينشي الاستحسان، ويغذي الإنسان، ويتحامى اللّسان، إن سوّد جاد، أو وسم أجاد، وإذا زوّد وهب الزّاد، ومتى استزيد زاد، لا يستقرّ بمغنى، وقلّما ينكح إلّا مثنى، يسخو بموجوده، ويسمو عند جوده، وينقاد مع قرينته، وإن لم تكن من طينته، ويستمتع بزينته، وإن لم يطمع في لينته.
* * * [القطا]
القطا: طائر يصيح «قطا قطا» فسمّي بصياحه، وبما يفهم من صوته، ولذلك تسمّيه العرب الصّدوق، ويقال: أنسب من قطاة، لأنها إذا صاحت عرفت، وقال الشاعر:
[البسيط]
تدعو القطا وبه تدعى إذا انتسبت ... يا صدقها حين تدعوها فتنتسب (1)
حمراء مقبلة سكّاء مدبرة ... للماء في البحر منها نوطة عجب
وقال الكميت: [البسيط]
لا تكذب القول إن قالت قطا صدقت ... إذ كلّ ذي نسبة لا بدّ ينتحل (2)
وقال أبو وجزة: [البسيط]
ما زلن ينسبن وهنا كلّ صادقة ... باتت تباشر عرما غير أزواج (3)
يريد، أن الحمير وردت الماء ليلا، فأثارت القطا عن أفاحيصه، فصاحت: «قطا
__________
(1) يروى صدر البيت الأول:
تدعوا قطا وبه تدعى إذا نسبت
وهو للنابغة في ديوانه ص 177، ولسان العرب (دعا)، (قطا)، وتهذيب اللغة 3/ 123، 9/ 240، وتاج العروس (قطا)، ويروى البيت الثاني:
حذّاء مقبلة سكّاء مدبرة ... للماء في النحر منها نوطة عجب
والبيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 177، ولسان العرب (حذذ)، (نوط)، وتهذيب اللغة 3/ 426، 9/ 430، وجمهرة اللغة ص 96، 1073، والبيت لابن مقبل في المخصص 8/ 132، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في لسان العرب (سكك)، والمخصص 1/ 85، وكتاب العين 3/ 23، وجمهرة اللغة ص 1048، ومقاييس اللغة 2/ 5، وتاج العروس (سكك).
(2) البيت في الحيوان 6/ 578.
(3) البيت لأبي وجزة السعدي في لسان العرب (زوج)، (هدج)، (عرم)، (قطا)، وتاج العروس (عرم)، (قطا)، وتهذيب اللغة 2/ 392، 9/ 241، وبلا نسبة في المخصص 4/ 46.(1/219)
قطا» فذلك انتسابه وجعلها صادقة لصياحها قطا، والعرم بيضها، لأن فيه سوادا وبياضا، وبيض القطا أفراد ثلاثة أو خمسة، قال مزاحم العقيلي في القطا وفراخها: [الطويل]
فلمّا دعته بالقطاة أجابها ... بمثل الّذي قالت له لم يبدّل (1)
وقال المعرّيّ: [الكامل]
عرفت جدودك إذ نقطت وطالما ... لفظ القطا فأبان عن أنسابها
وقال الأصمعيّ: القطا لا تصيح إلا إذا أرادت الماء، فإذا عدم الماء، وسمعت العرب صياح القطا، فرحوا به وعرفوا قرب الماء من بعده.
وقيل: سمّي القطا لثقل مشيه، يقال: قطا الرجل يقطو، إذا ثقل مشيه.
* * * قوله: «فرط» أي سبق. عن خطا، أي عن غير تعمّد. رهنته: أعطيته رهنا، وأرهنتك: أعطيتك ما ترهنه. والأرش: قيمة العيب، أي دية الجرح، مأخوذ من أرش بين القوم لأنّ الأرش يختصم في قدره. أوهنته: أفسدته، ووهن الشيء يوهن ويهن:
ضعف، وأوهنته أنا، إذا أضعفته. مملوكا، يعني المرود. متناسب الطرفين، أي هذا الطرف مثل هذا الطرف، تكتحل بأيّهما شئت. القين: الحدّاد الذي صنعه. الدّرن: وسخ الحديد، والشّين: العيب، أي هو مصقول معتدل ليس فيه اعوجاج ولا عيب. يقارن محلّه سواد العين أي عند التكحّل به. يفشي: يحدث ويظهر. وإحسان الكحل في العين لا يخفى. ينشىء استحسان، أي ينشىء لناظر العين استحسان الكحل في العين والإنسان: إنسان العين يغذيه بالكحل، والإنسان: السّواد الذي في وسط العين، إذا رأيته رأيت فيه شخصا، والشخص هو الإنسان، فسمّي السواد به. يتحامى: يبعد عنه، يريد أنه يكحل العين ولا يقرب من الفم. قوله: «سوّد»، أي جعل فيه الكحل. جاد: أعطاه العين. وسم العين بالكحل: أجاد عمله فيها. قلمّا ينكح إلا مثنى، أي ينكح عينا واحدة في الغالب. وقد نظم هذا النثر في الثانية والأربعين.
جوده، أي يجود بكحله للعين. ويسمو: يطلع للعين، وجعل له الكحل غذاء يأخذ ويرتفع به للغير. قرينته: مكحلته. من طينته: من جنسه. زينته: تزيينه للعين يطمع في لينته: أي لا يطمع أن يكون الحديد ليّنا. وكلّ لفظة فسرّ بها المرود والإبرة، لها لفظ في ظاهرها غير ما فسّرت به.
* * * فقال لهما القاضي: إمّا أن تبينا، وإلا فبينا، فابتدر الغلام، وقال: [المنسرح]
__________
(1) البيت في الحيوان 5/ 578.(1/220)
أعارني إبرة لأزفو أط ... مارا غفاها البلى وسوّدها
فانخرمت في يدي على خطإ ... منّي لمّا جذبت مقودها
فلم ير الشّيخ أن يسامحني ... بأرشها إذ رأى تأوّدها
بل قال هات ابرة تماثلها ... أو قيمة بعد أن تجوّدها
واعتاق ميلي رهنا لديه ونا ... هيك بها سبّة تزوّدها
فالعين مرهى لرهنه ويدي ... تقصر عن أن تفكّ مرودها
فاسبر بذا الشّرح غور مسكنتي ... وارث لمن لم يكن تعوّدها
* * *
تبينا: توضّحا وتفسّرا حديثكما المهمّ الملغز. فبينا: أبعدا، أو ارتفعا. قوله:
«أرفو» أي أخيط، ويروى «لأرفأ» يقال: رفأت الثوب أرفؤه ورفوته وأرفوه، والرفو من أدقّ أنواع الخياطة، وهو نسج الخرق في الثوب حتى يعود كأنه لم يكن فيه خرق.
وقال ابن القابلة السبتيّ في غلام رفّاء: [مخلع البسيط]
يا رافيا قطع كلّ ثوب ... ويا رشا حبّة اعتمادي
عسى بخيط الوصال ترفو ... ما قطّع الهجر من فؤادي
وقال الحلوانيّ في خياط: [المديد]
ربّ خيّاط فتنت به ... فتنة أوهت قوى جلدي
لاعب بالخيط يفتله ... أتراه ظنّه جسدي!
ليت أني كنته فأرى ... بين ذاك الدّرّ والبرد
فعلت بالثّوب إبرته ... فعل سهم الشّوق في خلدي
وجرى المقراض في يده ... جرى عينيه على كبدي
ومن مجون أبي نواس، أنه كان يؤاكل إسماعيل بن أبي سهل، فعرضت له على مائدة رقاقة في جانبها خرق قد ضمّ، فرفعها بإحدى يديه ونقرها بالأخرى، فانفرجت، وقال وهو يضحك: أخبزكم مرفوء؟ فلما خرج قال: [الرمل]
خبز إسماعيل كالوش ... ى إذا ما انشق يرفا
عجبا من أثر الصن ... عة فيه كيف يخفى
إنّ رفّاءك هذا ... ألطف الأمّة كفّا
فإذا قابل بالنّص ... ف من الخبزة نصفا
ألطف الصّنعة حتى ... لا ترى المغرز أشفى(1/221)
مثل ما جاء من التّن ... ور ما غادر حرفا
والأطمار: الثياب الخلقة، واحدها طمر. عفاها البلى: غيّرها القدم ودرسها، وسوّدها بالأوساخ حتى صارت في طبع الثوب، فمتى غسلت لم تزل.
ومما قالت الشعراء في الأطمار ممّا يستحسن قول الحمدونيّ في طيلسان وهبه له أحمد بن حرب المهلبيّ: [الخفيف]
يا بن حرب أطلت همّي برفوي ... طيلسانا قد كنت عنه غنيّا
فهو في الرّفو آل فرعون في العر ... ض على النار بكرة وعشيّا
وقال أيضا فيه: [الرمل]
طيلسان لابن حرب ... يتداعى لا مساسا
قد طوى قرنا فقرنا ... وأناسا فأناسا
لبس الأيام حتّى ... لم تدع فيه لباسا
غاب تحت الحسّ حتى ... لا يرى إلا قياسا
وقال فيه أيضا: [المنسرح]
قل لابن حرب مقالة العاتب ... ولست فيما أقول بالكاذب
أما رأيت الرفاء يحزنني ... برفوه طيلسانك الذّاهب
أفناه جور البلى عليه كما ... أفنى الهوى عمر خالد الكاتب
وقال فيه أيضا: [السريع]
إن ابن حرب جادلي كاسيا ... بطيلسان هرم قشعم
انظر إلى كثرة تمزيقه ... كأنمّا مزّق في مأتم
رفوى له وهو رميم كمن ... يبنى بناء فوق مستهدم
يصدعه اللّحظ بإيماضه ... صدع فؤاد العاشق المغرم
يذكرني كثرة تمزيقه ... تفرّق الناس عن الموسم
وقال فيه أيضا: [الخفيف]
يا بن حرب كسوتني طيلسانا ... ملّ من صحبة الزمان وصدّا
طال ترداده إلى الرفو حتّى ... لو بعثناه وحده لتهدّى
فحسبنا نسج العناكب قد جئن ... إلى ضعف طيلسانك شدّا
وقال أيضا فيه: [السريع](1/222)
يا قاتل الله ابن حرب لقد ... أطال إتعابي على عمد
بطيلسان خلت أنّ البلى ... يطلبه بالوتر والحقد
أجدّ في رفوي له والبلى ... يلهو به في الهزل والجد
إن أتهم الرافي في رفوه ... مضى به التمزيق في نجد
غنّيته لما مضى راحلا: ... تركتني يا واحدي وحدي
والحمدونيّ هو إسماعيل بن إبراهيم حمدويه، نسب إلى جده، وهو من أهل ميسان، وكان حلو التصرّف مليح الافتتان، وهو القائل: [السريع]
من كان في الدنيا له شارة ... فنحن من نظّارة أدنى
نلحظها من كثب حسرة ... كأننا لفظ بلا معنى
وقال ابن الروميّ في طيلسانه: [الطويل]
ولي طيلسان ناحل غير أنّه ... ثبوت لهمات الريّاح الزّعازع
وما ذاك إلا أنه متهتّك ... يخلى سبيل الريح غير منازع
أراه لضوء الشمس بالعين رؤية ... ويمنعني من لمسه بالأصابع
شكا ثقل اسم الطيلسان لضعفه ... فسميته ساجا فهل ذاك نافعي!
وقال ابن سارة في فروة: [الكامل]
أودت بذات يدي فريوة أرنب ... كفؤاد عروة في الضّنا والرّقّة
يتجشم الرّفّاء في ترقيعها ... بعد المشقة في قريب الشّقة
لو أنّ ما أنفقت في ترقيعها ... يحصى لزاد على رمال الرّقّة
إن قلت: «باسم الله» عند لباسها ... قرأت عليّ «إذا السماء انشقّت»
وله فيها أيضا: [الكامل]
لي فروة وصفي لجائحتي بها ... يأتيك بين مقرّط ومشنّف
عطّلت كتب أبي عبيد بالذي ... ألفّت فيها من غريب مصنّف
يسطو عليّ الغرم في ترقيعها ... سطو الغرام على فؤاد المدنف
فأنا وفروى خوف تمزيقي لها ... أحكي معاوية بجنب الأحنف
وله في طيلسانه: [السريع]
وطيلسان هرم يحتمى ... عليه أكل الخلّ والبقل
كأن كفّيّ إذا انضمّتا ... عليه خوف الرّيح في غلّ
ولبعض أصحابه فيه: [المتقارب](1/223)
وطيلسان هرم يحتمى ... عليه أكل الخلّ والبقل
كأن كفّيّ إذا انضمّتا ... عليه خوف الرّيح في غلّ
ولبعض أصحابه فيه: [المتقارب]
على منكب ابن عليّ سمل ... تقطّعه لحظات المقلّ
إذا غيّم الجوّ أبصرته ... رهين الذّبول بكف البلل
نسوا طيلسان ابن حرب به ... وصاروا به يضربون المثل
وله في غفارته: [المجتث]
لأحمد بن عليّ ... غفارة كالسّراب
إن هبّ أدنى نسيم ... تمرّ مرّ السّحاب
والشعر في هذا الباب كثير.
وقوله: «انخرمت»، أي انكسرت. مقودها: خيطها. تأوّدها: انكسارها، وأصله الاعوجاج. أعتاق ميلي: أحبس مرودي. ناهيك: كافيك، ومعناه المبالغة، كأنه بلغ النهاية في العيب الذي فعل. سبّة: عيب يسبّ به. مرهى: خالية من الكحل، وقد مره الرجل مرها إذا لم يتعهد الكهل، والمرهى من النساء: البيضاء البينة الزّرق الذي يختصّ الكحل في زرقها. اسبر: قس. غور: غاية وقدر. ارث: ارحم وتوجع.
* * * فأقبل القاضي على الشّيخ، وقال: إيه، بغير تمويه، فقال: [المنسرح]
أقسمت بالمشعر الحرام ومن ... ضمّ من النّاسكين خيف مني
لو ساعفتني لم يرني ... مرتهنا ميله الّذي رهنا
ولا تصدّيت أبتغي بدلا ... من إبرة غالها ولا ثمنا
لكنّ قوس الخطوب ترشقني ... بمصميات من هاهنا وهنا
وخبر حالي كخبر حالته ... ضرّا وبؤسا وغربة وضنى
قد عدل الدّهر بيننا فأنا ... نظيره في الشّقاء وهو أنا
لا هو يستطيع فكّ مروده ... لمّا غدا في يديّ مرتهنا
ولا مجالي لضيق ذات يدي ... فيه اتّساع للعفو حين جنى
فهذه قصّتي وقصّته ... فانظر إلينا وبيننا ولنا
* * *
إيه: كلمة يستزاد بها الحديث. والتمويه: الكذب، وهو في الحديث كالتعمية، وقد موّه عليه، إذا خيّل له أنّه على شيء وهو على ضدّه، وأصل التمويه الصّقل، كأنّ على ألفاظه المموّهة صقالة، وهو من لفظ الماء. المشعر: المزدلفة، وهو جمع، سمّي مشعرا
لأنه من علامات الحج، وكلّ علامات الحج مشاعر، والمشعر والمنسك: موضع ذبح الهدى بمكة المفضّل، سمّي مشعرا، لأنه شعر أنه حرام كالبيت. الناسكين: الحجّاج الذين يشعرون الهدى وما ينحر، أنسك ونسك منسكا ونسكا ونسكا، إذا ذبح النّسك، وأصلها ذبائح الجاهلية ثم سمّيت الأضاحي، والنّاسك أيضا: الزاهد. خيف: موضع بمنى. قوله: «ساعفتني»: ساعدتني. تصدّيت: تعرّضت. غالها: أهلكها. الخطوب:(1/224)
إيه: كلمة يستزاد بها الحديث. والتمويه: الكذب، وهو في الحديث كالتعمية، وقد موّه عليه، إذا خيّل له أنّه على شيء وهو على ضدّه، وأصل التمويه الصّقل، كأنّ على ألفاظه المموّهة صقالة، وهو من لفظ الماء. المشعر: المزدلفة، وهو جمع، سمّي مشعرا
لأنه من علامات الحج، وكلّ علامات الحج مشاعر، والمشعر والمنسك: موضع ذبح الهدى بمكة المفضّل، سمّي مشعرا، لأنه شعر أنه حرام كالبيت. الناسكين: الحجّاج الذين يشعرون الهدى وما ينحر، أنسك ونسك منسكا ونسكا ونسكا، إذا ذبح النّسك، وأصلها ذبائح الجاهلية ثم سمّيت الأضاحي، والنّاسك أيضا: الزاهد. خيف: موضع بمنى. قوله: «ساعفتني»: ساعدتني. تصدّيت: تعرّضت. غالها: أهلكها. الخطوب:
الأمور الشداد. ترشقني: تصيبني. بمصميات: بسهام قاتلة. بؤس: شدّة حال. ضنى:
ضعف ومرض. وهو أنا، أي هو مثلي في ضيق الحال. مجالي: موضع تصرّفي. ذات يدي: مالي، وذات اليد ما يملك. العفو: الغفران. جنى: أذنب. قصّتي: حديثي، يقول: فانظر إلينا بعين الشفقة والرحمة، وأصلح بيننا بما ننصرف به شاكرين لك، وهب لنا ما نثني به عليك، وجعل النّظر عاملا في الجميع، لأن من وجوه النّظر الإصلاح بينهم والتكرّم عليهم.
* * * فلمّا وعى القاضي قصصهما، وتبيّن خصاصتهما وتخصّصهما أبرز لهما دينارا من تحت مصلّاه، وقال لهما: اقطعا به الخصام وافصلاه. فتلقّفه الشّيخ دون الحدث، واستخلصه على وجه الجدّ لا العبث، وقال للحدث: نصفه لي بسهم مبرّتي، وسهمك لي عن أرش إبرتي، ولست عن الحقّ أميل، فقم وخذ الميل.
فعرا الحدث لما حدث اكتئاب، واكفهرّ على سمائه سحاب، وجم له القاضي، وهيّج أسفه على الدّينار الماضي إلّا أنّه جبر بال الفتى وبلباله، بدريهمات رضخ بها له، وقال لهما: اجتنبا المعاملات، وادرآ المخاصمات، ولا تحضراني في المحاكمات، فما عندي كيس الغرامات.
فنهضا من عنده، فرحين برفده، مفصحين بحمده، والقاضي ما يخبو ضجره، مذ بضّ حجره، ولا ينصل كمده، مذ رشح جلمده.
* * * قصصهما، أي حديثهما، وهو جمع قصّة. خصاصتهما: فقرهما. تخصّصهما:
رفعتهما وانقباضهما، وقد تخصّص الرجل، إذا انقبض عن العامّة وتشبّه بالخاصّة، أبرز:
أخرج. مصلّاه: بساطه الذي يصلّي عليه. أفصلاه: اقطعاه وأزيلاه. استخلصه: حازه لنفسه خالصا. الجدّ: التحقيق. العبث: الهزل. سهم: نصيب. مبرّتي: إكرامي الذي وصلني به القاضي. أميل: أخرج وأعدل عنه. عرا: قصد ونزل به. حدث: ظهر.
اكتئاب: حزن وهمّ. وجم: غضب، والوجوم: السكوت على غضب. هيّج: حرّك.
أسفه: حزنه. باله: فكره. بلباله: حزنه ووسواسه، رضخ: كثّر العطاء. اجتنبا: باعدا.(1/225)
اكتئاب: حزن وهمّ. وجم: غضب، والوجوم: السكوت على غضب. هيّج: حرّك.
أسفه: حزنه. باله: فكره. بلباله: حزنه ووسواسه، رضخ: كثّر العطاء. اجتنبا: باعدا.
المعاملات: المعاوضات والعواري. ادركا: ادفعا. كيس: وعاء الدراهم. رفده: عطاؤه.
يخبو ضجره: يسكن غضبه: بضّ حجره: رشحت كفه. قال الأخطل: [الكامل]
كزم اليدين من العطيّة ممسك ... ما إن تبض صفاته ببلال (1)
يفصل كمده: يزول حزنه. الجلمد: الصّخر الصّلب، كنى به عن كفه وأنه بخيل، ويد البخيل تشبّه بالحجر، وقال جرير: [البسيط]
كأنمّا خلقت كفّاه من حجر ... فليس بين يديه والنّدى عمل (2)
يرى التيمّم في برّ وفي بحر ... مخافة أن يرى في كفّه بلل
وقال ابن عبد ربه: [البسيط]
يراعة غرّني منها وميض سنا ... حتى مددت إليه الكفّ مقتبسا (3)
فصادفت حجرا لو كنت تضربه ... من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا
كأنما صيغ من لؤم ومن كذب ... فكان هذا له روحا وذا نفسا
أين هذه الأكفّ من التي ذكر حجيّة بن المضرّب، حين قال: [الطويل]
أناس إذا ما الدهر أظلم وجهه ... فأيديهم بيض وأوجههم غرّ
يصونون أحسابا ومجدا مؤثّلا ... ببذل أكفّ دونها المزن والبحر
فلو لامس الصخر الأصمّ أكفّهم ... أفاض ينابيع النّدى ذلك الصّخر
وقال أبو الشيص: [الكامل]
إنّ الأمان من الزمان وريبه ... يا عقب شطّا بحرك الفيّاض
بحر يلوذ المعتفون بسيله ... فعم الجداول مترع الأحواض
لأبي محمد المؤمّل راحتا ... ملك إلى أعلى العلا نهاض
فيد تدفّق بالغنى لصديقه ... ويد على الأعداء سمّ قاض
وقال أبو تمام: [الطويل]
تعوّد بسط الكفّ حتى لو أنّه ... دعاها لقبض لم تجبه أنامله (4)
__________
(1) البيت في ديوان الأخطل ص 159.
(2) البيتان ليسا في ديوان جرير، وهما لعمرو بن عبد وهيب (الحزين الكناني) في لسان العرب (حزن)، وتاج العروس (حزن).
(3) الأبيات في العقد الفريد 6/ 195.
(4) البيت في ديوان أبي تمام ص 232.(1/226)
وقال البحتريّ: [الكامل]
قد قلت للغيث الرّكام ولجّ في ... إبراقه، وألحّ في إرعاده (1)
لا تعرضنّ لجعفر متشبّها ... بندى يديه فلست من أنداده
الله شرّفه، وأعلى ذكره ... ورآه غيث بلاده وعباده
وقال ابن الروميّ: [الطويل]
مقبّل ظهر الكف وهّاب بطنها ... له راحة فيها الحطيم وزمزم
فظاهرها للنّاس ركن مقبّل ... وباطنها عين من الجود عيلم
* * *
حتّى إذا أفاق من غشيته، أقبل على غاشيته وقال: قد أشرب حسّي، ونبّأني حدسي أنّهما صاحبا دهاء، لا خصما ادّعاء، فكيف السّبيل إلى سبرهما، واستنباط سرّهما! فقال له نحرير زمرته، وشرارة جمرته: إنّه لم يتمّ استخراج خبئهما إلّا بهما، فقفّاهما عونا يرجعهما إليه، فلمّا مثلا بين يديه، قال لهما:
اصدقاني سنّ بكركما، ولكما الأمان من تبعة مكركما. فأحجم الحدث واستقال، وأقدم الشّيخ وقال:
* * * قوله: «غشيته»، أي ذهاب عقله بأن يغمى عليه. وغاشيته: زوّاره ومن يغشى موضعه. أشرب: دوخل: حسّي: إدراكي وفهمي. نبّأني: حدّثني. وأخبرني. حدسي:
ظنّي، قال الفرّاء رحمه الله: حدست أحدس، إذا قلت في الشيء برأيك. غيره:
حدست: ظننت ظنّا بلغت منه غاية الشيء في عدده أو وزنه، وأصله من قول العرب:
بلغت الحدس، أي الشيء الذي تطلب لحاقه. والدّهاء في الرجل: الحذق والتبصّر في الأشياء. لا خصما ادّعاء، أي ليس بينهما ادّعاء على الحقيقة فيختصمان فيها. سبرهما:
اختبارهما. استنباط: استخراج. نحرير: حاذق. زمرته: جماعته، وجعله شرارة لنفوذ ذهنه واتقّاده، ولذلك يسمى نحريرا، أي ماهرا بالأشياء كلها، كأنه لإدراكه وفهمه بالأشياء ينحرها بظنّه الصادق. خبئهما: خفيّ ما عندهما. قفّاهما: أتبعهما. والعون:
الشرطيّ، لأنه يعين من يتصرّف له. مثلا: وقفا، يقال: مثل الشيء، فهو ماثل، إذا قام وانتصب، وإذا لطىء بالأرض أو ذهب، وهو من الأضداد. سنّ بكر كما: حقيقة خبركما. والبكر: الفتّى من الإبل، وسنه: مبلغ عمره، لأنّ بالسنّ يعرف كم بلغ من
__________
(1) الأبيات في ديوان البحتري ص 703.(1/227)
العمر، ولفظ المثل «صدقني سنّ بكره»، وروى البكري عن ابن الأعرابيّ أن رجلا سام رجلا بكرا على أن يشتريه مسنّا، فقال البائع: هذا جمل لبكر له، وقال المشتري: هذا بكر، فقال البائع: بل هو مسنّ، فبينما هما يتنازعان إذ نفر البكر، فقال صاحبه: ليسكّن نفاره: «هدع هدع»، وهي كلمة من العرب يسكّن بها صغار الإبل عند نفارها، ولا تقال للكبار، فقال المشتري عند ذلك: صدقني سنّ بكرة. تبعة شرحت في الصّدر. أحجم:
تأخّر فزعا. أقدم: تقدم متشجّعا. استقال: طلب الإقالة. [الرجز]
* * * أنا السّروجيّ وهذا ولدي ... والشّبل في المخبر مثل الأسد
وما تعدّت يده ولا يدي ... في إبرة يوما ولا في مرود
وإنّما الدّهر المسيء المعتدي ... مال بنا حتّى غدونا نجتدي
كلّ ندى الرّاحة عذب المورد ... وكلّ جعد الكفّ مغلول اليد
بكلّ فنّ وبكلّ مقصد ... بالجدّ إن أجدى وإلّا بالدّد
لنجلب الرّشح إلى الحظّ الصّدى ... وننفد العمر بعيش أنكد
والموت من بعد لنا بالمرصد ... إن لم يفاج اليوم فاجي في غد
* * *
الشبّل: ولد الأسد. المخبر: التجربة والخبرة. تعدّت: ظلمت، والمتعدّي:
الظالم المجاوز الحدّ في الظلم. مال بنا، أي حطّنا. نجتدي: نسأل الناس الجدا، وهو العطاء. ندىّ الراحة: كريم الكفّ. وجعد الكفّ، ضدّه، وأراد أن يسأل كل كريم سهل العطاء، وكل لئيم صعبه، وأصل الجعودة انقباض الشعر، ثم استعيرت لقبض الكفّ من اللؤم، ومثله مغلول اليد، أي كأنّ يده محبوسة بغلّ للؤمها، والسائل كأنه يحاول بسطها بالجود فيجدها محبوسة بغلّ اللؤم، وفي الكتاب العزيز: {وَلََا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى ََ عُنُقِكَ وَلََا تَبْسُطْهََا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] فهذا نهي عن التبذير.
وقال حبيب في قصيدة يمدح بها حفص بن عمر الأزديّ ويذكر الجعودة، وهي:
[الطويل]
يرى الوعد أخزى العار إن هو لم تكن ... مواهبه تأتي مقدّمة الوعد (1)
فلو كان ما يعطيه غيثا لأمطرت ... سحائبه من غير برق ولا رعد
من القوم جعد أبيض الوجه والنّدى ... وليس بنان يجتدى منه بالجعد
وقال البحتريّ: [الخفيف]
__________
(1) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 130.(1/228)
صنتني عن معاشر لا أسمّي ... أوّليهم إلّا غداة سبابي (1)
من جعاد الأكفّ غير جعاد ... وغضاب الوجوه غير غضاب
خطروا خطرة الجهام وساروا ... في نواحي الظنون سير السّحاب
وقال أيضا في نحوه: [الوافر]
وخلّفني الزمان على أناس ... وجوههم وأيديهم حديد (2)
لهم حلل حسنّ بيض ... وأخلاق قبحن فهنّ سود
أناس لو تأمّلهم لبيد ... بكى الخلف الّذي يشكو لبيد
قوله «الدد»: ضد الجدّ، وهو اللهو واللعب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لست من دد ولا الدّد مني» (3)، أي لست من باطل ولا الباطل مني أجدى: نفع. الحظ: البخت والنصيب. والصدى: العطشان، وأراد أن حظّه في الدّنيا قليل، فهو سعى له ليجلب رزقا يكثر به حظه. ننفذ: نتمّم. أنكد: مشؤوم وكل ما جلب شرّا فهو أنكد ونكد.
والمرصد: الموضع الذي ترتقب فيه من تريد أخذه، وقد رصدته رصدا ترقبته. يفاج:
يأت على غفلة، وأصله فاجأ بالهمز، فسّهله.
* * * فقال له القاضي: لله درّك، فما أعذب نفثات فيك، وواها لك لولا خداع فيك، وإنّي لك لمن المنّذرين، وعليك من الحذرين، فلا تماكر بعدها الحاكمين، واتّق سطوة المتحكّمين، فما كلّ مسيطر يقيل، ولا كلّ أوان يسمع القيل.
فعاهده الشّيخ على مشورته، والارتداع عن تلبيس صورته، وفصل عن جهته، والختر يلمع من جبهته.
قال الحارث بن همّام: فلم أر أعجب منها في تصاريف الأسفار، ولا قرأت مثلها في تصانيف الأسفار.
* * * قوله: «لله درك»، أي ما أحسن كلامك، والدّرّ أصله اللبن، وكأنه سمّي بحكاية صوته عند الحلب. ولله، أصله القسم، ولا تدخل اللام في القسم إلّا على اسم الله تعالى، والتعجّب معها لازم، فإذا قال الذي يسمع صوت الحلب لصاحب الناقة: لله
__________
(1) الأبيات في ديوان البحتري ص 86.
(2) ديوان البحتري ص 581.
(3) رواه الزمخشري في الفائق في غريب الحديث 1/ 364، بلفظ: «ما أنا من دد ولا الدّد «مني» وبنفس اللفظ رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 2/ 108.(1/229)
درّك! فكأنه قال: والله إن درّك هذا لكثير، ثم استعير للفصيح في كلامه، ولكل من أحسن في شيء، فكأنّه قيل: ما أحسن ما جئت به! وقيل: معناه لله اللبن الذي شربته من أمّك، قال الفرّاء رحمه الله: ربما قالوا: درّك، ولم يقولوا: لله درّك، وأنشد: [الخفيف]
درّ درّ الشّباب والشّعر الأس ... ود والضّامرات تحت الرّجال
قوله: «نفثات»، أي كلمات. واها: عجبا. والمنذر: المعلم بما يخاف. تماكر:
تخادع. سطوة: بطشة. المتحكم: الذي يتحكم بما شاء فيمتثل حكمه. مسيطر: أمير مسلّط. يقيل: يغفر الزلة. أوان: وقت. عاهده: حالفه. مشورته: أخذ رأيه. الارتداع:
الكفّ. تلبيس: تخليط. صورته: قصته. فصل: زال الختر: الخداع. يلمع: يضيء، يريد أنه انفصل عنه وعلى وجهه علامة الغدر، وأنّ يمينه التي حلف له كاذبة، وأوّل من نظم في هذا المعنى الشمّاخ حين قال: [الطويل]
أتتني تميم قضّها بقضيضها ... تمسّح حولي بالبقيع سبالها (1)
يقولون لي: احلف ولست بحالف ... أخادعهم عنها لكيما أنالها
ففرّجت همّ النفس عني بحلفة ... كما شقّت الشقراء عني جلالها
ومن الملح في اليمين الفاجرة، قول ابن الروميّ: [المتقارب]
وإني لذو حلف كاذب ... إذا ما استمحت وفي المال ضيق
وهلى من جناح على معسر ... يدافع بالله ما لا يطيق
وقال فيه أيضا: [الوافر]
إذا حلّت على ضيق ديوني ... وباكرني التّجار وخوّفوني
دفعتهم بمن لو شاء أدّى ... حقوقهم إليهم منذ حين
ولدعبل: [الخفيف]
سألوني اليمين فارتعت عنها ... كي يغروا بذلك الارتياع (2)
ثم أرسلتها كمنحدر السّي ... ل تدلى من المكان اليفاع
وأنشد أبو عليّ: [الكامل]
لا شيء يدفع حقّ خصم شاغب ... إلا كحلف عبيدة بن سميذع
__________
(1) الأبيات للشماخ بن ضرار في ديوانه ص 290، والبيت الأول في خزانة الأدب 3/ 194، وشرح المفصل 2/ 63، والكتاب 1/ 374، ولسان العرب (قضض) (سبل)، وتاج العروس (سبل).
(2) البيتان في ديوان دعبل بن علي الخزاعي ص 107.
يمضي اليمين على اليمين لجاجة ... عضّ الجموح على اللجام المقدع
فإذا يذكر حلفه أصغى لها ... وإذا يذكر بالتقى لم يسمع
قوله: «تصاريف»، أراد التصرّف بالجولان في البلدان. والأسفار: الأوّل: جمع السفر في البلاد، والثاني: جمع سفر، وهو الكتاب، قال الفرّاء رحمه الله: الأسفار:(1/230)
__________
(2) البيتان في ديوان دعبل بن علي الخزاعي ص 107.
يمضي اليمين على اليمين لجاجة ... عضّ الجموح على اللجام المقدع
فإذا يذكر حلفه أصغى لها ... وإذا يذكر بالتقى لم يسمع
قوله: «تصاريف»، أراد التصرّف بالجولان في البلدان. والأسفار: الأوّل: جمع السفر في البلاد، والثاني: جمع سفر، وهو الكتاب، قال الفرّاء رحمه الله: الأسفار:
الكتب العظام. والتصانيف: التآليف المنوّعة، والمصنّف الذي فيه أنواع شتى.(1/231)
المقامة التاسعة وهي الإسكندرانية
قال الحارث بن همّام: طحا بي مرح الشبّاب وهوى الاكتساب، إلى أن جبت ما بين فرغانة وغانة، أخوض الغمار، لأجني الثّمار، وأقتحم الأخطار، لكي أدرك الأوطار، وكنت لقفت من أفواه العلماء، وثقفت من وصايا الحكماء، أنّه يلزم الأديب الأريب، إذا دخل البلد الغريب، أن يستميل قاضية، ويستخلص مراضيه، ليشتدّ ظهره عند الخصام، ويأمن في الغربة جور الحكّام فاتّخذت هذا الأدب أماما، وجعلته لمصالحي زماما، فما دخلت مدينة، ولا ولجت عرينة، إلّا وامتزجت بحاكمها امتزاج الماء بالرّاح، وتقوّيت بعنايته تقوّي الأجساد بالأرواح.
* * * طحا بك قلبك ووهمك طحوا وطحيا: ذهب بك، وطحا الله الأرض. ودحاها:
بسطها. ابن الأنباريّ: طحا قلبه في الهوى واللهو، إذا تطاول وتمادى، قال علقمة:
[الطويل]
* طحا بك قلب في الحسان طروب (1) *
مرح الشباب: نشاط الفتوة. جبت: قطعت ومشيت.
[فرغانة]
فرغانة: مدينة في أقصى خراسان، وكان فيها بيت يسمّى هيكل الشمس، بناه فارس الملك، وخرّبه المعتصم، وبها قتل قتيبة بن مسلم الباهليّ أمير خراسان سنة ثلاث وخمسين، وبينها وبين سمرقند ثلاثة وخمسون فرسخا. قال اليعقوبيّ: من سمرقند إلى أسروشنة خمس مراحل شراقا، ومن أسروشنة إلى فرغانة مرحلتان، ومدينة فرغانة التي
__________
(1) عجزه:
بعيد الشباب عصر حان مشيب
والبيت لعلقمة الفحل في ديوانه ص 33، والأضداد ص 149، وخزانة الأدب 4/ 289، ولسان العرب (طحا)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 99، ورصف المباني ص 354.(1/232)
ينزلها الملك يقال لها كاسان، وهي مدينة جليلة القدر، عظيمة الأمر، وكلّ هذه المدن مضافة إلى عمل سمرقند. وكان أنوشروان بنى فرغانة، ونقل إليها من كل بيت قوما، وسمّاها أزهر خانه، أي من كل بيت.
[غانة]
وغانة: بلد من بلاد السودان، وإليها ينتهي التجار، والمدخل إليها من سجلماسة، ومن سجلماسة إليها مسافة ثلاثة أشهر، ومن غانة إلى سجلماسة شهر ونصف، ودون ذلك، وسبب ذلك أن الرّفاق تتجهّز إليها من سجلماسة بالأمتاع والأثقال، فتباع في غانة بالتّبر، فمن سافر إليها بثلاثين حملا يرجع منها بثلاثة أحمال، أو بحملين: واحد لركوبه، وثان للماء بسبب المفازة التي في طريقها، حدّثني غير واحد من تجارها أنهم يقطعون المفازة في ستة عشر يوما، لا يرون فيها ماء إلّا على ظهور الإبل، فأثمان أحمال الثلاثين جملا يجتمع فيها من التّبر ما يجعل في مزود واحد، فيطوون المراحل للخفّة.
وغانة بلد مملكة السودان، وانتشر الإسلام في أهلها، وبها مدارس للعلم، وبها من تجار المغرب كثير يدخلون التّجارة فيصيبون الخصب والأمن وكثرة المتاجر، فيشترون بها خدما للتّسرّي، ويقيمون بها عند أميرها في غاية الكرامة، والخدم فيها قد جعل الله فيهنّ من الخصال الكريمة في خلقهنّ فوق المراد، من ملاسة الأبدان، وتفتّق السواد، وحسن العينين، واعتدال الأنوف، وبياض الأسنان، وطيب الروائح.
[السواد والبياض ومما قيل فيه شعرا]
وكان ابن الروميّ وصف واحدة منهنّ بقوله: [مخلع البسيط]
تذكرّك المسك والغوالي والن ... دّ ذوات النّسيم والعبق
ليست من العبّس الأكف ولا ال ... فلج الشّفاه الخبائث العرق
أكسبها الحبّ أنها صبغت ... صبغة حبّ القلوب والحدق
يفتّر ذاك السّواد عن يقق ... من ثغرها كالّلالىء النّسق
كأنّها والمزاح يضحكها ... ليل تعرّى دجاه عن فلق
لها حر يستعير وقدته ... من قلب صبّ وصدر ذي حنق
يزداد ضيقا على المراس كما ... تزداد ضيقا أنشوطة الوهق
غصن من الآبنوس ركّب في ... مؤزّر معجب ومنتطق
وقال الشّريف الرضيّ: [الطويل]
أحبّك يا لون السّواد فإنّني ... رأيتك في العينين والقلب توأما (1)
__________
(1) الأبيات في ديوانه الشريف الرضي ص 755.(1/233)
وما كان سهم العين لولا سوادها ... ليبلغ حبّات القلوب إذا رمى
إذا كنت تهوى الظبى ألمى فلا تلم ... جنوني على الظّبي الذي كلّه لمى
وقال ابن مسلمة: [الوافر]
يكون الخال في خدّ قبيح ... فيكسوه الملاحة والجمالا
فكيف يلام مشغوف على من ... يراها كلّها في العين خالا!
وله أيضا: [البسيط]
لام العواذل في سوداء فاحمة ... كأنّها في سواد القلب تمثال
وهام بالخال أقوام وما علموا ... أنّي أهيم بشخص كلّه خال
ولابن رباح: [الوافر]
وسوداء الأديم إذا تبدّت ... يرى ماء النعيم جرى عليه
رآها ناظري فصبا إليها ... وشبه الشّيء منجذب إليه
ولابن رشيق: [مخلع البسيط]
دعا بك الحسن فاستجيبي ... يا مسك في صبغة وطيب
تيهي على البيض واستطيلي ... تيه شباب على مشيب
ولا يرعك اسوداد لون ... كمقلة الشّادن الرّبيب
فإنّما النّور عن سواد ... في أعين الناس والقلوب
قال ابن رشيق: أخذته من قول الآخر، أنشده الجاحظ: [الخفيف]
مشبهات الشّباب والمسك تفديه ... نّ نفسي من الرّدى والخطوب
كيف يهوى الفتى اللبيب وصال ال ... بيض، والبيض مشبهات المشيب
وأخذ بيته الآخر من قول الآخر، أنشده الجاحظ: [الطويل]
وإنّ سواد العين في العين نورها ... وما لبياض العين نور فيعلم
فأخذه أيضا أبو الطيب، فقال في كافور وأحسن: [الطويل]
فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... وخلّت بياضا خلفها ومآقيا
ولابن الجهم: [المتقارب]
وعائب للسّمر من جهله ... مفصّل للبيض ذي محك
قولوا له عنّي: أما تستحي! ... من يجعل الكافور كالمسك!
والسابق لهذا المعنى أبو حفص الشّطرنجيّ، والناس تبع له حيث قال: [السريع](1/234)
وعائب للسّمر من جهله ... مفصّل للبيض ذي محك
قولوا له عنّي: أما تستحي! ... من يجعل الكافور كالمسك!
والسابق لهذا المعنى أبو حفص الشّطرنجيّ، والناس تبع له حيث قال: [السريع]
أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعده
لا شكّ إذ لونكما واحد ... أنّكما من طينة واحده
على أنّ العباس بن الأحنف معاصره، قال: [الطويل]
أحبّ النساء السّود من أجل تكتم ... ومن أجلها أحببت ما كان أسودا
فجئني بمثل المسك أطيب نكهة ... وجئني بمثل اللّيل أطيب مرقدا
أخذ بيته الأول من قول ابن الأعرابيّ: [الوافر]
أحبّ لحبّها السّودان حتّى ... أحبّ لحبّها سود الكلاب
وقال ابن الروميّ في تفضيل السّواد على البياض: [المنسرح]
وبعض ما فضّل السّواد به ... والحقّ ذو سلّم وذو نفق
ألا يعيب السواد حلكته ... وقد يعاب البياض بالبهق
وهذه الأقوال كلها على استحسانها اعتذارات واقتدارات من الشعراء على تحسين القبيح، والأمر المجمع عليه تفضيل البياض.
قال الجاحظ: العرب تمدح بالبياض، وتهجو بالسّواد، وربما مدحوا بالسّواد، ولكن أصل ما يبنون عليه أمرهم ذمّه، وأنشد: [الوافر]
لهم ديباجة عرفت قديما ... بياض في الوجوه وفي الجلود
وأحسن كشاجم فيما قصد إليه بقوله: [المديد]
يا مشبها في فعله لونه ... لم تعد ما أوجبت القسمه (1)
خلقك من خلقك مستخرج ... والظلم مشتقّ من الظلمه
قوله: «جبت ما بين فرغانة وغانة»، وما هنا بمعنى الذي، كأنه قال: جبت الذي بين فرغانة التي هي أقصى المشرق، وغانة التي هي أقصى المغرب من البلاد والقفار والبحار لكسب المال، فما هي التي أوجبت لما بين البلدتين ما ذكر أن يعمّ بالمشي، ولو سقطت لم يلزم العموم، وكأنه يشير بهذا التعبير إلى قول حبيب: [الطويل]
سلي هل عمرت القفر وهو سباسب ... وغادرت ربعي من ركابي سباسبا (2)
وغرّبت حتى لم أجد ذكر مشرق ... وشرقت حتى قد نسبت المغاربا
__________
(1) البيتان في ديوان كشاجم ص 17.
(2) البيتان في ديوان أبي تمام ص 17.(1/235)
قوله: «أخوض الغمار»، أي أدخل المياه الغزيرة فأجوزها. أقتحم الأخطار، أي أترامى في المخاوف. والخطر: الغرر. والأوطار: الحاجات. وقال أبو عمر القسطّلّي فيما يتعلق بهذا: [الطويل]
تخوّفني طول السّفار وإنّني ... لتقبيل كفّ العامريّ سفير
دعيني أرد ماء المفاوز آجنا ... إلى حيث ماء المكرمات نمير
ألم تعلمي أنّ الثواء هو النّوى ... وأن بيوت العاجزين قبور
وأن خطيرات المهالك ضمّن ... لراكبها أنّ الجزاء خطير
وقال النابغة الجعديّ: [الطويل]
إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصّديق فأكثرا (1)
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
وقال ابن سارة: [البسيط]
سافر فإنّ الفتى من باب مفتتحا ... قفل النجاح بمفتاح من السّفر
إن شئت خضرتها يا ابن الرّخاء فكن ... في طيّ عمر الفيافي نائي الحضر
ولا يصدّنك عن أمر تصعّبه ... قد ينبع الكوثر السلسال من حجر
لا بدّ أن يقع المطلوب في شرك ... ولو بنى وكره في دارة القمر
[مما قيل في السفر والحضّ عليه]
ومما ينتظم في باب الحضّ على السفر وترك العجز قولهم: لا ينبغي للعاقل أن يكون إلا في إحدى المنزلتين، إما في الغاية من طلب الدنيا، وإما في الغاية من تركها، ولا ينبغي للعاقل أن يرى إلّا في أحد مكانين، إما مع الملوك مكرّما، وإما مع العباد متبّتلا، ولا يعدّ الغرم غرما إلا إذا ساق غنما، ولا الغنم غنما إلّا إذا ساق غرما ونظم هذا المعريّ فقال: [الوافر]
ذر الدّنيا إذا لم تخط فيها ... وكن فيها كثيرا أو قليلا (2)
وأصبح واحد الرّجلين إمّا ... مليكا في العشائر أو أبيلا
__________
(1) البيت الأول للنابغة الجعدي في ديوانه ص 73، وبلا نسبة في كتاب العين 5/ 390، والبيت الثاني ليس في ديوان النابغة، وهو لعروة بن الورد في ديوانه ص 89، ولأبي عطاء السندي في الأغاني 17/ 244، ولربيعة بن الورد في العقد الفريد 3/ 31، وبلا نسبة في رصف المباني ص 133، والمقرب 1/ 263.
(2) البيتان في سقط الزند 1371.(1/236)
الأبيل: الراهب.
وفي كتاب الهند: من لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب.
وفي التوراة: ابن آدم، خلقت من الحركة إلى الحركة، فتحرّك وأنا معك.
وفي بعض الكتب: امدد يدك إلى باب من العمل أفتح لك بابا من الرزق.
وقالوا: من ضعف عن عمله اتّكل على رزق غيره.
وقال عليّ رضي الله عنه: الحرص مقدّمة الكون.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: «ما المروءة فيكم»؟ قالوا: العفّة والحرفة.
ورئي عكرمة وراء نهر بلخ، فقيل له: ما جاء بك ها هنا؟ فقال: بناتي.
وقال رجل لمعروف الكرخيّ: يا أبا محفوظ أتحرّك لطلب الرزق أم أجلس؟ قال:
لا بل تحرّك، فإنه أصلح لك، فقال: أتقول هذا؟ قال: وما أنا قلته ولكن الله عز وجل أمر به، قال لمريم عليها السلام: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسََاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا}
[مريم: 25] ولو شاء لأنزله عليها.
وأنشد الثعالبيّ: [الطويل]
ألم تر أن الله أوحى لمريم ... وهزّي إليك الجذع يسّاقط الرّطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزّها ... جنته، ولكن كلّ شيء له سبب
وقال موسى بن عمران عليه السلام: لا تلوموا السّفر فإني أدركت فيه ما لم يدركه أحد يريد أن الله كلمّه فيه.
ونظم هذا المعنى حبيب فقال: [المنسرح]
فإن موسى صلّى على روحه ... الله صلاة كثيرة القدس (1)
صار نبيّا وعظم بغيته ... في جذوة للصّلاء والقبس
قال المأمون: لا شيء ألذّ من السفر في كفاية لأنك تحلّ كل يوم في محلّة لم تحلّها، وتعاشر قوما لم تعاشرهم.
الثعالبي: من فضائل السفر أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار، وبدائع الأقطار، ومحاسن الآثار، ما يزيده علما بقدرة الله، ويدعوه إلى شكر نعمته.
وفي الأثر الصحيح: سافروا تصحّوا وتغنموا.
آخر: السفر يشدّ الأبدان، وينشّط الكسلان، ويشهّي إلى الطعام.
__________
(1) البيتان في ديوان أبي تمام ص 170.(1/237)
آخر: ليس بينك وبين بلد نسب، فخير البلاد ما حملك.
قال ابن رشيق: كتبت إلى بعض إخواني: مثل الرجل القاعد أعزّك الله كمثل الماء الراكد، إن ترك تغيّر، وإن تحرّك تكدّر، ومثل المسافر كالسحاب الماطر، هؤلاء يدعونه رحمة، وهؤلاء يدعونه نقمة، فإذا اتصلت أيامه، ثقل مقامه، وكثر لوّامه، فاجمع لنفسك فرجة الغيبة، وفرحة الأوبة، والسلام.
وقال ابن رشيق: [البسيط]
غب عن بلادك وارج حسن مغبّة ... إن كنت حقا تشتكي الإقلالا
فالبدر لم يجحف به إدباره ... ألّا يسافر يطلب الإقبالا
وقال أبو الطّيب: [الطويل]
وما بلد الإنسان غير الموافق ... ولا أهله الأدنون غير الأصادق (1)
وقال البحتريّ: [الخفيف]
وإذا ما تنكرت لي بلاد ... أو صديق فإنني بالخيار (2)
وقال أبو الطّيب: [الطويل]
إذا لم أجد في بلدة ما أريده ... فعندي لأخرى عزمة وركاب
وقال إبراهيم بن العبّاس الصولّي: [البسيط]
لا يمنعنّك خفض العيش في دعة ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان (3)
تلقى بكلّ بلاد إن حللت بها ... أهلا بأهل وجيرانا بجيران
أي لا يمنعنّك الشوق إلى الوطن في الغربة من الاستمتاع بلذة العيش، فالأرض واحدة، والناس جنس واحد. وفي غير الحماسة: [البسيط]
لا يمنعنّك خفض العيش في دعة ... من أن تبدّل أوطانا بأوطان
برفع «خفض»، أي لا يمنعنك عيشك الهنيء في بلدك أن تجول في البلدان، وترى الناس، فتستفيد النزهة والتجربة.
وقالوا: المسافر يسمع العجائب، ويكشف التجارب، ويجلب المكاسب. أوحش أهلك إذا كان أنسك في إيحاشهم، واهجر وطنك إذا نبت نفسك عنه.
قيل لأعشى بكر: إلى كم ذا الاغتراب؟ أما ترضى بالدّعة! قال: لو دامت الشمس عليكم يومين لمللتموها.
__________
(1) البيت في ديوان المتنبي 2/ 320.
(2) البيت في ديوان البحتري ص 987.
(3) البيتان في ديوان الصولي ص 151.(1/238)
أخذه حبيب فقال: [الطويل]
وطول مقام المرء في الحيّ مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدّد (1)
فإنّي رأيت الشّمس زيدت محبّة ... إلى النّاس أن ليست عليهم بسرمد
وقال الحكماء: لا تنال الراحة إلا بالتعب، ولا تدرك الدّعة إلا بالنّصب. وقال حبيب: [الطويل]
على أنني لم أحو وفرا مجمّعا ... ففزت به إلّا بشمل مبدّد (2)
ولم تعطني الأيّام يوما مسكّنا ... ألذّ به إلا بنوم مشرّد
وقال ابن عبد ربه: هل يجوز في عقل، أو يمثل في وهم، أو يصحّ في قياس، أن يحصد زرع بغير بذر، أو يثمّر مال بغير طلب، أو تجني ثمرة بغير غرس، أو يورى زند بغير قدح! وقد يكون الإكداء مع الكدّ، والخيبة مع الغيبة.
وقال الشاعر: [المتقارب]
وما زلت أقطع عرض البلاد ... من المشرقين إلى المغربين
وأدّرع الخوف تحت الدّجى ... وأستصحب الجدي والفرقدين
وأطوي وأنشر ثوب الهموم ... إلى أن رجعت بخفّي حنين
وقال ابن رشيق: [الكامل]
يعطى الفتى فينال في دعة ... ما لم ينل بالكدّ والتّعب
فاطلب لنفسك فضل راحتها ... إذ ليست الأشياء بالطّلب
إن كان لا رزق بلا سبب ... فرجاء ربّك أعظم السّبب
وقال محمد بن يسير: [المنسرح]
قد يرزق الخافض المقيم وما ... شدّ لعنس رحلا ولا قتبا (3)
ويحرم المال ذو المطية والرّ ... حل ومن لا يزال مغتربا
وقال آخر: [البسيط]
قد يرزق المرء لم تتعب رواحله ... ويحرم الرّزق بالأسفار والتّعب
إنّي وعمرك ما أحصى ذوي حمق ... الرزق أعدى بهم من لاصق الجرب
__________
(1) البيتان في ديوان أبي تمام ص 100، 101.
(2) البيتان في ديوان أبي تمام ص 100.
(3) البيتان لابن عبدل الأسدي في الأغااني 5/ 21.(1/239)
ولآخر: [الطويل]
ألا ربّ باغي حاجة لا ينالها ... وآخر قد تقضى له وهو جالس
آخر: [البسيط]
قد يرزق المرء، لا من حسن حيلته ... ويصرف الرزق عن ذي الحيلة الدّاهي
ما مسّني من غنى يوم ولا عدم ... إلا وقولي فيه: الحمد لله
آخر: [البسيط]
لو كان باللبّ يزداد اللبيب غنى ... لكان كلّ لبيب مثل كافور
لكنّه الرّزق بالقسطاس من حكم ... يقصى اللبيب، ويعطى كلّ ماخور
ومثل هذا قليل في كثير وإنما يحكم بالأغلب، والنّجح مع الطلب أكثر، والحرمان للعاجز أصحب، وشرح حبيب هذا المعنى فقال: [الكامل]
همّ الفتى في الأرض أغصان المنى ... غرست وليست كلّ حين تورق
أوصى بعض الحكماء ابنه وأراد سفرا، فقال: إنّك تدخل بلدا لا تعرفه، ولا يعرفك أهله، فتمسّك بوصيّتي تنفق بها عليك بحسن الشمائل فإنها تدلّ على الحريّة، ونقاء الأطراف فإنها تشهد بالملوكية، ونظافة البزّة فإنها تشهد بالنشء في النعمة، وطيب الرائحة فإنها تظهر المروءة، والأدب الجميل فإنه يكسب المحبّة، وليكن عقلك دون دينك، وقولك دون فعلك، ولباسك دون قدرك، والزم الحياء والأنفة فإنّك إن استحييت من الفظاظة اجتنبت الخساسة، وإن أنفت من الغلبة لم يتقدّمك نظير في مرتبة.
قوله: «لقفت»، أخذت، واللّقف: أخذ ما يرمى إليك بيدك. ثقفت: قيدت، ويمدح الرجل الحازم به فيقال: فلان ثقف لقف. والأريب: العاقل، وقد أرب أرابة وأربا، صار أريبا، والأريبة من أربت العقدة أربا، شددتها. يستميل: يستنزل ويدعوه أن يميل إليه. يستخلص مراضيه، أي يحوزها لنفسه. ومراضيه: ما يرضي القاضي ويوافقه، وهو جمع مرضاة، ويقال: صلة الرحم مرضاة للربّ، أي يرضيه برّها، يقول: العاقل إذا دخل بلدة استعطف قاضيها لنفسه، بحسن خلقه حتى يخفّ عليه أمره. ليشتدّ: ليتقوّى.
جور: ظلم، إماما: قدوة، زماما: حبلا أقودها به. ولجت: دخلت. عرينة: بلدة، وأصلها بيت الأسد. الراح: اسم الخمر، وأبهم، على ابن الرومي ممّ اشتقّ اسمها حين قال: [الكامل]
والله ما أدري لأيّة علّة ... يدعونها في الرّاح باسم الرّاح
ألريحها أم روحها تحت الحشا ... أم لارتياح نديمها المرتاح!
وانظر الامتزاج الذي ذكر في الخامسة والأربعين.(1/240)
والله ما أدري لأيّة علّة ... يدعونها في الرّاح باسم الرّاح
ألريحها أم روحها تحت الحشا ... أم لارتياح نديمها المرتاح!
وانظر الامتزاج الذي ذكر في الخامسة والأربعين.
عنايته: اعتناؤه به واهتمامه.
* * * فبينما أنا عند حاكم الإسكندريّة، في عشيّة عريّة، وقد أحضر مال الصّدقات، ليفضّه على ذوي الفاقات، إذ حلّ شخص عفرية، تعتله امرأة مصبية، فقالت: أيّد الله القاضي، وأدام به التّراضي، إنّي امرأة من أكرم جرثومة، وأطهر أرومة، وأشرف خؤولة وعمومة، ميسمي الصّون، وشيمتي الهون، وخلقي نعم العون، وبيني وبين جاراتي بون، وكان أبي إذا خطبني بناة المجد، وأرباب الجدّ، سكّتهم وبكّتهم، وعاف وصلتهم وصلتهم، واحتجّ بأنّه عاهد الله بحلفة، ألّا يصاهر غير ذي حرفة
* * * [الإسكندرية]
مدينة عظيمة من بلاد مصر، بناها الإسكندر ذو القرنين، وهو الذي مشى مشارق الأرض ومغاربها. قال السدّيّ: لما سأل أهل الكتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، قال:
سأخبركم كما تجدونه مكتوبا عندكم: إنّ أول أمره أنه غلام من الروم، أعطي ملكا، فسار حتى أتى ساحل البحر من أرض مصر، فابتنى عندها مدينة يقال لها الإسكندرية.
وقال الهمذانيّ: ذو القرنين ينسب إليه التاريخ قبل الإسلام، ومؤدّبه أرسطاطاليس الحكيم، وكان ملكه الذي بلغ فيه أقصى المشرق والمغرب خمسة عشر عاما، والإسكندرية لما بناها رخمّها بالرخام الأبيض جدرها وأرضها، فكان لباسهم فيها السواد من نصوع بياض الرخام، وإذا كانت ليلة مقمرة يدخل الخياط الخيط في خرق الإبرة من بياض رخامها.
وقيل: إنها مكثت سبعين عاما لا يدخلها أحد إلا وعلى بصره خرقة سوداء من بياض جصّها ورخامها، ولم يحتج لها في تلك المدة إلى سراج بالليل من ضيائها.
وقيل: كانت ثلاث مدن يحيط بجميعها سور.
قال ابن جبير: ما شهدنا بلدا أوسع مسالك، ولا أعلى بناء، ولا أعتق ولا أحفل من الإسكندرية، وأسواقها في نهاية الاحتفال ومن أعجب ما في وصفها أن بناءها تحت الأرض كبنائها فوقها وأعتق، لأنّ الماء إذا جاء من النيل يخترق جميع آبارها وأزقّتها تحت الأرض، فتتصل الآبار بعضها ببعض، ويمدّ بعضها بعضا، وعاينّا فيها من سواري الرّخام وألواحه كبرا وعلوّا واتساقا حسنا ما لا يتخيّل إلا بالوهم حتى إنك تلقى بعض
سواريها يغصّ بها الجوّ صعودا لا يدري معناها، ولا لأيّ شيء وضعت إلا ما يتحدّث به أنه كان عليها من قديم الزمان مبان للفلاسفة وأهل الرّياسة ومن أعظم عجائبها المنار، آية للمتوسّمين وهداية للمسافرين، لولاه ما اهتدوا في البحر إلى برّ الإسكندرية، ويظهر على أزيد من سبعين ميلا، ومبناه في نهاية العتاقة والوثاقة طولا وعرضا، يزاحم الجوّ سموّا وارتفاعا ينحصر عنه الوصف، وينحسر دونه الطّرف، الخبر عنه يضيق، والمشاهدة له تتسع، ذرعنا أحد جوانبه الأربع، فألفينا فيه نيّفا وخمسين باعا، ويذكر أن في طوله أزيد من مائة وخمسين قامة.(1/241)
قال ابن جبير: ما شهدنا بلدا أوسع مسالك، ولا أعلى بناء، ولا أعتق ولا أحفل من الإسكندرية، وأسواقها في نهاية الاحتفال ومن أعجب ما في وصفها أن بناءها تحت الأرض كبنائها فوقها وأعتق، لأنّ الماء إذا جاء من النيل يخترق جميع آبارها وأزقّتها تحت الأرض، فتتصل الآبار بعضها ببعض، ويمدّ بعضها بعضا، وعاينّا فيها من سواري الرّخام وألواحه كبرا وعلوّا واتساقا حسنا ما لا يتخيّل إلا بالوهم حتى إنك تلقى بعض
سواريها يغصّ بها الجوّ صعودا لا يدري معناها، ولا لأيّ شيء وضعت إلا ما يتحدّث به أنه كان عليها من قديم الزمان مبان للفلاسفة وأهل الرّياسة ومن أعظم عجائبها المنار، آية للمتوسّمين وهداية للمسافرين، لولاه ما اهتدوا في البحر إلى برّ الإسكندرية، ويظهر على أزيد من سبعين ميلا، ومبناه في نهاية العتاقة والوثاقة طولا وعرضا، يزاحم الجوّ سموّا وارتفاعا ينحصر عنه الوصف، وينحسر دونه الطّرف، الخبر عنه يضيق، والمشاهدة له تتسع، ذرعنا أحد جوانبه الأربع، فألفينا فيه نيّفا وخمسين باعا، ويذكر أن في طوله أزيد من مائة وخمسين قامة.
وأما داخله فمرأى هائل، اتساع معارج، ومداخل وكثرة مساكن حتى إن الوالج في مسالكه ربّما ضلّ، وفي أعلاه مسجد موصوف بالبركة، يتبرّك الناس بالصلاة فيه، طلعنا إليها، وشهدنا من شأن مبناه عجبا لا يستوفيه وصف واصف، والله تعالى لا يخليه من عزة الإسلام.
* * * قوله «عشية عريّة»، أي باردة. يفضّه: يفرّقه. ذوي الفاقات: أهل الفقر والحاجات. عفرية: يقال رجل عفرية وعفرّ وعفرّيّ، إذا كان صحيحا شديدا موثّق الخلق، أخذ من عفر الأرض، وهو التراب، أي من علق به عفره بالأرض ومنه ليث عفرّين، أي ليث ليوث، معفّر لفريسته. قال الخليل: رجل عفر بيّن العفارة، إذا وصف بالشيطنة، والعفّير أيضا: الظّريف الكيّس، ويقال للشيطان: عفريت وعفرية، وهم عفارية. وقرىء: «قال عفرية من الجنّ»، وفي الحديث: «إن الله ليبغض العفريت النّفريت» (1)، قيل هو الجموع المنوع.
وقال أبو عثمان النّهديّ: دخل رجل عظيم الجسم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له: متى عهدك بالحمّى. قال: ما أعرفها، قال فبالصّداع، قال: ما أدري ما هو! قال: أفأصبت بمالك؟ قال: لا، قال: أفرزئت بولدك؟ قال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبغض العفريت النّفريت» (2)، وهو الذي لا يرزأ في بدنه ولا يصاب في ماله.
وقوله: «تعتله»، أي تسوقه بعنف، وكذلك تدعّه. مصبية: لها صبيّ. جرثومة:
أصل، وكذلك أرومة. ميسمي: علامتي. الصّون: الصيانة والانقباض. شيمتي:
طبيعتي. الهون: الرفق. بون: بعد. بناة: جمع بان، والمجد: الشرف الضخم، وأصله من الإبل المواجد، وهي التي امتلأت بطونها من الرّعي وعظمت. وأمجدها راعيها، إذا رعاها بحيث تمجد، ومجدت وهي تمجد: رعت فامتلأت. وحكى الأصمعيّ قال: أتيت
__________
(1) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 5/ 93، بلفظ: «إنّ الله يبغض العفرية النفرية» أي المنكر الخبيث. وقيل: النفرية والنفريت: إتباع للعفرية والعفريت.
(2) راجع الحاشية السابقة.(1/242)
شعبة يوما وعنده حماد بن سلمة، وهما يتكلّمان في حديث فقال شعبة: يا أبا سلمة، هذا الفتى الذي ذكرت لك فقال حماد يا بنيّ كيف تنشد بيت الحطيئة: «أولئك قوم»؟ فابتدأت القصيدة من أوّلها: [الطويل]
ألا طرقتنا بعد ما هجعت هند ... وقد سرن خمسا وائلات بها الجدّ
إلى أن بلغت قوله: [الطويل]
أولئك قوم إن بنوا البنى ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا (1)
فقال لي حماد: يا بنيّ إن العرب تقول: بنى يبني بناء في العمران، ويقولون في الشرف: نبا ينبو نبوا، فأنشد هذا البيت «أحسنوا البنى» فعرفت قدر حمّاد من ذلك فما كنت أنشد إلا كما لقّنني.
قوله: «أرباب الجدّ». أي أصحاب السعد والمال. والعرب تقول: لفلان جدّ من الدّنيا، أي حظ وبخت، قال امرؤ القيس: [الوافر]
* وقاهم جدّهم ببني أبيهم (2) *
وقال آخر: [الخفيف]
عش بجدّ ولا يضرّك نوك ... إنما عيش من ترى بالجدود (3)
وجدّ الرّجل: صار له جدّ، وأجدّه الله: جعل له جدّا، وما كنت ذا جدّ، ولقد جددت تجدّ، ورجل جديد: حظيظ من الجدّ والحظّ.
أبو عبيد قوله: «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد»، أي ولا ينفع ذا الغنى منك غناه إنما تنفعه طاعته. يعقوب: أي من كان له حظ في الدنيا لم ينفعه ذلك في الآخرة.
بكتهم: قطع كلامهم وأهانهم. عاف: كره. وصلتهم: اتّصالهم به، والوصلة:
سبب التواصل، وهي في الآدميين ما يصل واحدا بآخر من حبّ وغيره، والوصلة بالفتح:
ما جعلته بين عود وعود، أو حبل وحبل، فوصلتهما به. صلتهم: عطيتهم. حلفة:
يمين. يصاهر: يخاتن. حرفة: صنعة ومكسب، وهي فعلة من الحرف وهو الحرمان،
__________
(1) البيت للحطيئة في ديوانه ص 41، ولسان العرب (عقد)، (بنى)، والمخصص 2/ 164، 5/ 122، 15/ 139، وتهذيب اللغة 1/ 197، 15/ 492، وتاج العروس (بنى).
(2) يروى البيت:
رقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب
وهو في ديوان امرىء القيس ص 138، ومقاييس اللغة 4/ 83.
(3) البيت لأبي محمد يحيى بن المبارك اليزيدي في لسان العرب (عجه)، وتاج العروس (هبنق)، (عجه)، وبلا نسبة في لسان العرب (هبنق).(1/243)
والمحارف: المحروم، كأنّ صاحبها منع الرزق، فصار يعالج كسبه.
أبو هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: «خير الكسب كسب يد العامل إذا نصح» (1).
سهل بن سعد رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عمل الأبرار من الرجال الخياطة، ومن النساء الغزل».
* * * فقيّض القدر لنصبي ووصبي، أن حضر هذا الخدعة نادى أبي، فأقسم بين رهطه، أنّه وفق شرطه، وادّعى أنّه طالما نظم درّة إلى درّة، فباعهما ببدرة فاغترّ أبي بزخرف محاله وزوّجنيه قبل اختبار حاله، فلمّا استخرجني من كناسي، ورحّلني عن أناسي، ونقلني إلى كسره، وحصّلني تحت أسره، وجدته قعدة جثمة، وألفيته ضجعة نومة. وكنت صحبته برياش وزيّ، وأثاث وريّ، فما برح يبيعه في سوق الهضم، ويتلف ثمنه في الخضم والقضم، إلى أن مزّق حالي بأسره، وأنفق مالي في عسره.
* * * قوله: «قيّض»، أي قدّر وساق. نصبي: تعبي. ووصبي: مرضي، ونصب الرجل نصبا. أعيا من التعب، ووصب وصبا: أتعبه المرض، فهو نصب ووصب. الخدعة:
الكثير الخداع لغيره، وبسكون الدال الذي يخدعه غيره كثيرا التحريك للفاعل والسكون للمفعول فيما يأتي على «فعلة» من الصفات. نادى: مجلس. رهطه: قومه، وهو اسم لجماعة من ثلاثة إلى عشرة، ويجمع أرهط وأراهط. وفق شرطه: أي موافق ما اشترط.
نظم درّة، يريد أنه جوهريّ ينظم سلوك اللؤلؤ. بدرة: عشرة آلاف درهم، وأراد بالدّرّة هنا الكلمة، ويعبّر بها عن الحكمة، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «لا تدعوا الدّرّة في أفواه الكلاب»، يعني العلم. اغتر: انخدع، وهو افتعل من الغرور. زخرف محاله: تزيين باطله، وأصل زخرف زيّن الشيء بالزخرف وهو الذهب. كناسي: بيتي وأصله للظّبي، وهو من قوله تعالى: {الْجَوََارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 16] تشبيها لها بالظباء على ما ذكره ابن قتيبة ويقال له: كناس ومكنس من الكنس، كأنّ الظبية قد كنست مرقدها ووطّأته. رحّلني: نقلني وحملني على الرّحل. كسره: بيته، وأصله جانب بيت الشّعر أو الخباء، لأنّ جانب الخباء قد انكسر عن يمينه. أسره: حبسه. قعدة: كثير القعود. جثمة: كثير الجثوم، وهو ملازمة الموضع. ضجعة: كثير الاضطجاع، وهو الامتداد على الأرض للنوم. نومة: كثير النوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لهم المقت من الله»، وذكر الذي يكثر النّوم بالنهار،
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 2/ 334، 357.(1/244)
ولم يأخذ من الليل شيئا، وفي حديث آخر: «خير أهل شر الزمان مؤمن نومة» (1). أبو عبيدة: هو الخامل الذّكر الذي لا يعرف الشرّ وأهله، فتريد أنه عاجز قد لازم بيتها، فإن تصرّفت فيه اعترضها ممتدّا، فلا تجد معه راحة. رياش: ثياب، «فعال» من الرّيش، لأنها تكسو البدن كما يكسو الرّيش الطائر. زيّ: هيئة حسنة من اللباس. أثاث: متاع. ريّ:
حالة حسنة، وأصله الهمز، فسهّل وأدغم ليوافق «زيّا» قال ابن الأنباريّ: الأثاث:
المتاع. والرّؤي والرّؤاء: المنظر، وما له رؤاء أي ماله منظر ولا لسان. والحرفان، من رأيت أرى. ما برح: ما زال. الهضم: النّقصان. الخضم: الأكل بالفم كله. والقضم:
الأكل بأطراف الأسنان. مزّق: قطع وأفسد. حالي: غناي، ويروى «مالي» مكان «حالي»، وما فيه بمعنى الّذي كأنه قال: فرّق الذي لي، ورواية ابن ظفر «بالي» بالباء، وقال: البال: الخاطر، وما لهذا الشيء بال، إذا حقّرته، والبال كالخلد، تقول خطر ببالي، كما تقول: خطر بخلدي ونفسي، وكأنّ هذا هو الأصل. والبال: الحال أيضا، ومنه قوله: [الوافر]
* وخالف بال أهل الدّار بالي *
عسره، أي فقره.
* * * فلمّا أنساني طعم الرّاحة، وغادر بيتي أنقى من الرّاحة، قلت له: يا هذا، إنّه لا مخبأ بعد بوس، ولا عطر بعد عروس، فانهض للاكتساب بصناعتك، وأجنني ثمرة براعتك فزعم أنّ صناعته قد رميت بالكساد، لما ظهر في الأرض من الفساد، ولي منه سلالة، كأنّه خلالة، وكلانا ما ينال معه شبعة، ولا ترقأ له من الطّوى دمعه، وقد قدته إليك، وأحضرته لديك، لتعجم عود دعواه، وتحكم بيننا بما أراك الله.
فأقبل القاضي عليه، وقال له: قد وعيت قصص عرسك، فبرهن الآن عن نفسك، وإلّا كشفت عن لبسك، وأمرت بحبسك فأطرق أطراق الأفعوان، ثمّ شمّر للحرب العوان، وقال:
* * * الراحة: القرار والعيش الهنيء، وأراد بأنقى من الراحة خلوّ الكف من الشعر.
مخبأ: ستر. بؤس: شدّة وفقر. عطر: طيب.
__________
(1) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 5/ 131من حديث علي بلفظ: «أنه ذكر آخر الزمان والفتن، ثم قال: خير أهل ذلك الزمان كل مؤمن نومة».(1/245)
ولا عطر بعد عروس، مثل يضرب لتأخير الشيء عن وقت الحاجة إليه، وأصله أن رجلا تزوّج امرأة فوجدها تفلة، فقال لها: أين عطرك؟ قالت: خبأته لغير هذا الوقت، فقال لها: لا مخبأ لعطر بعد عروس وبهذا اللفظ روى أبو زيد الأنصاريّ المثل.
البكريّ: عروس رجل كانت عنده ابنة عمّ له، فمات عنها، فتزّوجها بعده ابن عمّ لها آخر، وهي كارهة، وانطلق بها إلى أهله وقد زوّدها طيبا في سفط، فمرّ بها بقبر عروس، فأقبلت تبكيه وترفع صوتها، وتقول: يا عروس الأعراس، ويا شديد الباس مع أشياء لا يعلمها النّاس. فانتهرها زوجها، وقال: ما تلك الأشياء؟ فقالت: كان عن المكارم غير نعّاس، يعمل السيف صبيحة الباس. ثم قالت: يا عروس الأعراس الأزهر، الكريم المحضر، مع أشياء كانت تذكر فازداد زوجها غضبا، وقال: ما تلك الأشياء؟
فقالت: كان عيوفا للخنا والمنكر، طيب النكهة غير أبخر، ثم أخذت السّفط وكسرته على قبر عروس، ثم قالت: لا عطر بعد عروس، فذهب مثلا. فقال زوجها: ارجعي إلى أهلك، أنت طالق، فقالت: إذا أنصرف مغتبطة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن عروسا هذا رجل من هذيل، وامرأته هذليّة اسمها أسماء.
قوله: «براعتك»، أي جودة تدبيرك. سلالة: ولد صغير كما سلّ من بطن أمه ولهذا سمّي ولد الناقة عند النّتاج قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى: سليل، ثم اتسعوا في السّلالة فقالوا: فلان كريم السّلالة. والخلالة: عود تنقّى به الأضراس من الطعام، شبّهت ولدها به في رقّته. ترقأ: تنقطع. الطّوى: الجوع، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقوت» (1). تعجم: تختبر. دعواه: ما ادّعاه من الصّنعة، وعجمت العود:
عضضته بأسنانك لتعلم قوّته من ضعفه. وعيت: حفظت. قصص عرسك: حديث زوجك. برهن: أظهر حجّتك، والبرهان: الحجّة. لبسك. تخليطك والتباس أمرك.
أطرق: أمال رأسه إلى الأرض ساكتا. الأفعوان: ذكر الأفاعي، وهذا منقول من قول المتلمّس:
فأطرق إطراق الشّجاع ولو رأى ... مساغا لنابيه الشّجاع لصمّما
ووقع لنا في رواية «لناباه»، وهي لغة. شمّر: احتزم. العوان: التي قوتل فيها مرة بعد أخرى، وهي أشدّ، والمرأة العوان: التي علت في السن ولم تهرم. والعوان:
الثيّب، كانت ذات زوج أو لم تكن، وعوّنت المرأة تعوينا، والجمع عون. [المنسرح]
* * * اسمع حديثي فإنّه عجب ... يضحك من شرحه وينتحب
__________
(1) أخرجه أبو داود في الزكاة باب 45، وأحمد في المسند 2/ 160، 193، 194، 195.
أنا امرؤ ليس في خصائصه ... عيب ولا في فخاره ريب
سروج داري الّتي ولدت بها ... والأصل غسّان حين أنتسب
وشغلي الدّرس، والتّبحّر في ال ... علم طلابي، وحبّذا الطّلب
ورأس ما لي سحر الكلام الّذي ... منه يصاغ القريض والخطب
أغوص في لجّة البيان فأخ ... تار الّلآلي منها وأنتخب
وأجتني اليانع الجنيّ من ال ... قول، وغيري للعود يحتطب
وآخذ اللّفظ فضّة فإذا ... ما صغته قيل إنه ذهب
وكنت من قبل أمتري نشبا ... بالأدب المنتقى وأحتلب
ويمتطي أخمصي لحرمته ... مراتبا ليس فوقها رتب
وطالما زفّت الصّلات إلى ... ربعي فلم أرض كلّ من يهب
* * *(1/246)
__________
(1) أخرجه أبو داود في الزكاة باب 45، وأحمد في المسند 2/ 160، 193، 194، 195.
أنا امرؤ ليس في خصائصه ... عيب ولا في فخاره ريب
سروج داري الّتي ولدت بها ... والأصل غسّان حين أنتسب
وشغلي الدّرس، والتّبحّر في ال ... علم طلابي، وحبّذا الطّلب
ورأس ما لي سحر الكلام الّذي ... منه يصاغ القريض والخطب
أغوص في لجّة البيان فأخ ... تار الّلآلي منها وأنتخب
وأجتني اليانع الجنيّ من ال ... قول، وغيري للعود يحتطب
وآخذ اللّفظ فضّة فإذا ... ما صغته قيل إنه ذهب
وكنت من قبل أمتري نشبا ... بالأدب المنتقى وأحتلب
ويمتطي أخمصي لحرمته ... مراتبا ليس فوقها رتب
وطالما زفّت الصّلات إلى ... ربعي فلم أرض كلّ من يهب
* * *
قوله: «ينتحب»، أي يبكى، ونحب نحيبا: أعلن بالبكاء. خصائصه: فضائله وما يختصّ به من الأفعال المحمودة. ريب: شكوك. التبحّر: التوسّع. طلابي: أي طلبي، وإنما هو للعلم، وذكر التبحّر واللآلىء والغوص وغير ذلك مجازا وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما انتعل رجل قطّ ولا تخفّف ولا لبس ثوبا ليغدو في طلب علم يتعلمه إلّا غفر الله له حيث يخطو عتبة بيته». روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من انتعل ليتعلم خيرا غفر الله له قبل أن يخطو».
ابن عباس رضي الله عنهما، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الغدوّ والرّواح في تعليم العلم خير عند الله من الجهاد في سبيله».
ابن مسعود رضي الله عنه، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من خرج يطلب بابا من العلم ليردّ به ضلالا إلى هدى، أو باطلا إلى حق، كان كعبادة متعبد أربعين سنة».
قوله: «يصاغ»، أي يصنع. القريض: الشعر، أغوص: أغيب في الماء إلى قعره.
واللّجة: معظم الماء، جعله للبيان مجازا. اللآلىء: جمع لؤلؤة أنتخب: أختار. وقال المسيب بن علس في وصف الغائص وانتخابه الدرة وتشبيه المرأة بها: [الكامل]
كجمانة البحريّ جاء بها ... غوّاصها من لجّة البحر (1)
نصف النهار الماء غامره ... وشريكه بالغيب ما يدري
(1) البيت الأول في ديوان المسيب بن علس ص 609، ومقاييس اللغة 1/ 475، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 495، وأساس البلاغة (جمن)، والبيت الثاني في ديوان المسيب ص 610، وتهذيب اللغة 12/ 203، وديوان الأدب 2/ 122، وتاج العروس (نصف)، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 5/ 432.(1/247)
فأصاب منيته فجاء بها ... صدفيّة كمضيئة الجمر
يعطى بها ثمنا فيمنعها ... ويقول صاحبه: ألا تشري!
وترى الصّراري يسجدون لها ... ويضمّها بيديه للنحر
وقال عبد الرحمن بن حسان: [الخفيف]
وهي بيضاء مثل جوهرة الغ ... وّاص ميّزت من جوهر مكنون (1)
وقال النابغة: [الكامل]
أو درّة صدفيّة غواصها ... بهج متى يرها يهلّ ويسجد (2)
قوله: «اليانع» أي الناعم. الجنيّ: الطريّ. أمتري نشبا، أي أستخرج مالا، ومريت ضرع الناقة: مسحته وحككته ليدرّ اللبن. والنّشب، قيل: هو العقار وما لا ينقل، وكأنّ مالكه قد نشب إليه حيث لا ينتقل به، كالذي ماله الماشية أو الذهب والفضة. المنتقى:
المختار، ويروى «المقتنى»، وهو المكتسب. ويقال: احتلب وحلب حلبا، والحليب:
اللبن، وهو الحلاب، والحلاب أيضا: الإناء يحلب فيه، وأصله السّيلان. وتحلّب الضّرع: سال وانحلبت عينه: سال دمعها. يمتطي: يركب. أخمصي: باطن قدمي، وهو ما ضمر منها وارتفع عن الأرض. لحرمته: أي لرفعته وشرفه. مراتبا: منازلا: والمرتبة منزلة الشرف، من الرتب وهو ما أشرف من الأرض. والرّتب: جمع رتبة، وهي بمعنى المرتبة، وأصل الرّتب الدّرج تقطع في الحجر ليصعد بها إلى أعلى الجبل، ومنه رتب كلامه، إذا أتبع بعضه بعضا على نظام واعتدال. زفّت: حملت، من زففت العروس إلى زوجها إذا أهديتها له. الصّلات: العطايا. ربعي: منزلي. لم أرض كلّ من يهب، أي لا أرضى أن أكون تحت منّة كل أحد. [المنسرح]
* * * فاليوم من يعلق الرّجاء به ... أكسد شيء في سوقه الأدب
لا عرض أبنائه يصان ولا ... يرقب فيهم إلّ ولا نسب
كأنّهم في عراصهم جيف ... يبعد من نتنها ويجتنب
__________
(1) يروى البيت:
وهي زهراء مثل لؤلؤة العفر ... واص ميزت من جوهر مكنون
وهو لأبي دهبل الجمحي في ديوانه ص 69، ولسان العرب (خصر)، (سنن)، ولأبي دهبل أو لعبد الرحمن بن حسان في الكامل ص 388.
(2) البيت في ديوان النابغة الذبياني ص 92، ولسان العرب (بهج)، (هلل)، وتاج العروس (بهج)، وأساس البلاغة (بهج)، وتهذيب اللغة 5/ 367.(1/248)
فحار لبّي لما منيت به ... من اللّيالي وصرفها عجب
وضاق ذرعي لضيق ذات يدي ... وساورتني الهموم والكرب
وقادني دهري المليم إلى ... سلوك ما يستشينه الحسب
فبعت حتى لم يبق لي سبد ... ولا بتات إليه أنقلب
وادّنت حتى أثقلت سالفتي ... بحمل دين من دونه العطب
ثمّ طوبت الحثى على سغب ... خمسا فلمّا أمضّني السّغب
لم أر إلّا جهازها عرضا ... أجول في بيعه وأضطرب
* * *
من يعلق: معنى من استفهام. يرقب: يرعى. إلّ: قرابة، وإلّ: بقاء عهد.
وسبب: معرفة وصحبه، والسبب: العلم، ومنه: {وَآتَيْنََاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف:
84] وأصله الحبل ثم يستعمل في كل ما يربط شيئا بشيء، من كلام أو غيره.
عراصهم: مواضعهم، وأصل العرصة، فناء الدار. يقال: لبّ الرّجل يلبّ لبابة، ورجل ملبوب: موصوف باللّبابة، ولبّ كل شيء من الثمار ولبابه: داخله، ولبّ كل شيء:
خالصه. منيت: ابتليت وقدّر لي. صرفها: تقلّبها وتصرّفها بما يكره. ذرعي: كناية عن صدري وخلقي، وأصل الذّرع كيل الشيء بالذّراع ثم صار مثلا، يقال: ضاق ذرعي بكذا إذا لم تحتمله وضاق تصرّفك فيه. ذات يدي، أي مالي. ساورتني: واثبتني.
الكرب: الهموم، وكرّرها لاختلاف اللفظ. المليم: الذي أتى بما يلام عليه. سلوك:
دخول. يستشينه: يستعيبه، والشّين: العيب. لبد: شيء لا قليل ولا كثير، وأصله الصّوف، وأكثر ما يستعمل مزدوجا مع سبد يقال: ما عنده سبد ولا لبد، أي لا شعر ولا صوف، ويراد بها نفي الإبل والغنم، ثم صار نفيا لكلّ شيء من المال. بتات: زاد.
أنقلب: أرجع.
ادّنت: أخذت بالدّين، وفي حديث عمر: «فادّان معرضا» (1). والسالفة: صفحة العنق، يريد أن هذا الدّين لثقله ومقاساة همومه فوق العطب، والعطب: الذي هو الهلاك دونه في الشدّة. عائشة رضي الله عنها: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله أن يذلّ عبده ابتلاه بالدّين وجعله في عنقه»، وقال أنس رضي الله عنه: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إياكم والدّين فإنه همّ بالليل ومذلّة بالنهار»، وروى جابر رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا همّ إلا همّ الدّين ولا وجع إلا وجع العين».
الحشى: أسقاط الجوف. سغب: جوع. أمضّني: أحرقني. جهازها: متاعها الذي
__________
(1) حديث عمر رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 2/ 149.(1/249)
جاءتني به، والجهاز، متاع البيت، يريد شوارها، عرضا، أراد «عرضا» فحركه ضرورة، والعرض الأمتعة هنا، أخبرني بهذا من يوثق به في اللغة: والعرض خلاف النقد مشهور في اللغة. وفي العين: العرض، بفتح الراء: كثرة المال، فيقول: لمّا لم يبق لي مال لم أر مالا إلا جهازها، فيكون على هذا أتمّ معنى، ويخرج عن الضرورة التي ألزمته ذلك التحريك. أحول: أتصرّف. أضطرب: أكثر الترداد والتصرّف. [المنسرح]
* * * فجلت فيه والنّفس كارهه ... والعين عبرى والقلب مكتئب
وما تجاوزت إذ عبثت به ... حدّ التّراضي فيحدث الغضب
فإن يكن غاظها توهّمها ... أنّ بناني بالنّظم تكتسب
أو أنّني إذ عزمت خطبتها ... زخرفت قولي لينجح الأرب
فو الّذي سارت الرّفاق إلى ... كعبته تستحثّها النجب
ما المكر بالمحصنات من شيمي ... ولا شعاري التّمويه والكذب
ولا يدي مذ نشأت نيط بها ... إلّا مواضي اليراع والكتب
بل فكرتي تنظم القلائد لا ... كفّي، وشعري المنظوم لا السّخب
فهذي الحرفة المشار إلى ... ما كنت أحوي بها وأجتلب
فأذن لشرحي كما أذنت لها ... ولا تراقب واحكم بما يجب
* * *
عبرى: باكية. مكتئب: حزين. عبثت: لعبت وتحكّمت فيه يقول: ما تصرّفت في بيعه إلا برضا منها ومنى. قوله: «توهّمها»، أي ظنها. خطبتها: مراسلتها في النكاح.
لينجح الأرب: لتقضى الحاجة. تستحثّها: تستعجلها. النّجب: الإبل الكرام. المكر:
الخداع، المحصنات: العفائف. شيمي: طبائعي. شعاري: علامتي: التمويه، تقدّم في الثامنة. نيط: علق، وناط الشي نوطا: علّقه. اليراع: الأقلام. والمواضي: المسرعة في الكتابة يريد أنه فصيح لا يتوقّف قلمه. السّخب: جمع سخاب، وهي قلادة قرنفل ليس فيها جوهر ولا لؤلؤ. قال ابن ظفر: السّخب: العقود من اللؤلؤ وغيره، ومن الطّيب أيضا. أحوى: أحوز وأجمع.
فأذن: اسمع. لا تراقب: لا ترع منّا أحدا ولا تؤثره على صاحبه واحكم بيننا بما يجب وأخذ معنى الأبيات المتقدمة من قول ابن هرمة:
إني امرؤ لا أصوغ الحلي تعمله ... كفّاي لكن لساني صائغ الكلم
وقال آخر: [الطويل](1/250)
وإني لنظّام القلائد للعلا ... ولست بنظّام القلائد للنّحر
* * *
قال: فلمّا أحكم ما شاده، وأكمل إنشاده، عطف القاضي إلى الفتاة، بعد أن شعف بالأبيات، وقال: أما أنّه قد ثبت عند جميع الحكّام، وولاة الأحكام، انقراض جيل الكرام، وميل الأيّام إلى اللّئام، وأبّي لإخال بعلك صدوقا في الكلام، بريّا من الملام، وها هو قد اعترف لك بالقرض، وصرّح عن المحض.
وبيّن مصداق النّظم، وتبيّن أنّه معروق العظم وإعنات المعذر ملأمة، وحبس المعسر مالمة، وكتمان الفقر زهادة، وانتظار الفرج بالصّبر عبادة، فارجعي إلى خدرك، واعذري أبا عذرك، ونهنهي من غربك، وسلّمي لقضاء ربّك. ثمّ إنّه فرض لهما في الصّدقات حصّة، وناولهما من دراهمهما قبصة، وقال لهما: تعلّلا بهذه العلالة، وتندّيا بهذه البلالة. واصبرا على كيد الزّمان وكدّه، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده. فنهضا وللشّيخ فرحة المطلق من الإسار، وهزّة الموسر بعد الإعسار.
* * * قول: «أحكم»، أي أتقن. شاده: بناه وزيّنه، وشاد البناء: أطاله وعمله بالشّيد، وهو الجصّ، ويقال: فيه: أشاد، ويقال: شاد عمله بالشّيد وأشاده: أطاله، هو الأول، وأشاد الحديث: رفعه، وعطف: ثنى عنقه وردّها، وكل ما تثنيه من عنق أو جارحة أو عود فقد عطفته. شعف: أعجب. انقراض: انقطاع وهلاك. جيل: صنف، وجيلك:
أهل عصرك بعلك: زوجك وبعل الرجل بعولة: تزوّج. والقرض: السّلف، أراد به ما أعطته من ثمن جهازها سلفا. صرّح: بيّن. وصرّح عن المحض، مثل يضرب لسرّ الأمر، إذا انكشف، وقالوا: أمر صراح، أي منكشف ظاهر، والصريح من اللبن: المحض الخالص الذي لا رغوة فيه، قال الشاعر: [الوافر]
* وتحت الرّغوة اللّبن الصّريح (1) *
__________
(1) صدره:
ولم يخشوا مصالته عليهم
والبيت لنضلة السلمي في لسان العرب (فصح)، ولأبي محجن الثقفي في البيان والتبيين 3/ 338، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في لسان العرب (صول)، وتاج العروس (صول)، ومجالس ثعلب ص 8، وجمهرة اللغة ص 542، 551.(1/251)
ثم قالوا: لكل شيء خالص: صريح. وقوله: «بيّن مصداق النظم»، يريد أن نظمه إنما هو للشعر لا للجوهر. معروق: لا لحم على عظمه، أي هو فقير إعنات: مشقة.
المعذر: الذي يجهد نفسه في الشّيء ثم لا يستطيعه، يقال: قد أعذر، أي قد بيّن عذره أنّه لا يقدر عليه، وعذّر فهو معذّر، إذا قصّر في طلب الشيء، قال تعالى: {وَجََاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرََابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} [التوبة: 90]، وقال ابن دريد:
* حكم المعذّر غير حكم المعذر *
الملائمة والمأثمة: اللؤم والإثم. والمعسر: الفقير: والزهادة: قلّة الرغبة، قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جاع واحتاج فكتمه الناس وأنزله بالله، كان حقّا على الله أن يفتح عليه رزق سنة من حلال».
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «انتظار الفرج بالصبر عبادة».
وقال ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما صبر أهل بيت على جهد ثلاثا إلا أتاهم الله عزّ وجل برزق».
خدرك: بيتك، وأصله السّتر يكون خلفه الجارية المحجوبة. أبا عذرك: زوجك المفتضّ لك. نهنهي: كفّي غربك: حدّة لسانك. وقيل: معنى «نهنهي من غربك»، أي غيّضي من دموعك، والغرب: فيض الدمع، والأوّل أشبه. سلّمي: انقادي. فرض، أي أوجب. حصّة: نصيب. ناولهما: أعطاهما. قبصة: ما أخذت بأطراف أصابعك.
العلالة: الشيء القليل. تعلّلا: خذا منه شيئا بعد شيء، وكذلك تندّيا، وأصل العلالة بقية الماء في الإناء، وبقيّة اللبن في الضّرع بعد الحلب، قال الرجز: [الرجز]
* يرضعها الدّرة والعلالة (1) *
والبلالة: الندى القليل يبلّ وجه الأرض. كيد: مكر. كدّه: جهده وأنشد أبو محجن الثقفيّ: [الطويل]
عسى فرج يأتي به الله إنّه ... له كلّ يوم في خليقته أمر (2)
عسى ما ترى ألّا يدوم وأن ترى ... له فرجا مما ألحّ به الدهر
__________
(1) يروى الرجز بتمامه:
أحمل أمي وهي الحمّالة ... ترضعني الدّرّة والعلاله
ولا يجازى والد فعاله
والرجز بلا نسبة في لسان العرب (علل)، وتاج العروس (علل)، وكتاب العين 1/ 88.
(2) البيت الأول، لمحمد بن إسماعيل في حاشية شرح شذور الذهب ص 351، وبلا نسبة في الدرر 2/ 157، وشرح شذور الذهب ص 351، وشرح ابن عقيل ص 166، والصاحبي في فقه اللغة ص 157، والمقاصد النحوية 2/ 214، وهمع الهوامع 1/ 131.(1/252)
إذا اشتدّ عسر فارج يسرا فإنه ... قضى الله أنّ العسر يتبعه اليسر
الإسار: الحبل يشدّ به الأسير. هزّة: طرب. الموسر: الغنيّ. الإعسار: الفقر، وسئل حكيم: أيّ الأشياء أحلى؟ قال: النّصرة على العدوّ بعد الهزيمة، والاستغناء بعد الحاجة، والغلبة للمتكلم.
* * * قال الرّاوي: وكنت عرفت أنّه أبو زيد ساعة بزغت شمسه، ونزغت عرسه، وكدت أفصح عن افتنانه وإثمار أفنانه ثمّ أشفقت من عثور القاضي على بهتانه، وتزويق لسانه، فلا يرى عند عرفانه، أن يرشّحه لإحسانه، فأحجمت عن القول إحجام المرتاب، وطويت ذكره كطيّ السّجلّ للكتاب، إلّا أنّي قلت بعد ما فصل، ووصل إلى ما وصل: لو أنّ لنا من ينطلق في أثره، لأتانا بفصّ خبره، وبما ينشر من حبره! فأتبعه القاضي أحد أمنائه، وأمره بالتّجسّس عن أنبائه، فما لبث أن رجع متدهدها، وقهقر مقهقها، فقال له القاضي: مهيم، يا أبا مريم، فقال: لقد عاينت عجبا، وسمعت ما أنشأ لي طربا، فقال له: ماذا رأيت، والّذي وعيت!
* * * قوله: «بزغت»، أي طلعت. ونزغت: نشزت وقابلته بالشرّ والذّكر القبيح، وأراد أنّه عرفه حين ساقته زوجته إلى القاضي. أفصح: أبين. افتنانه: تنوّعه. إثمار: إخراج الثمر، وهو حمل كلّ شجرة. أفنانه: أغصانه. أشفقت: خافت. عثور: ظهور، وعثر على الأمر: اطّلع عليه. بهتانه: باطله وكذبه. تزويق: تزيين، وهو من الزّاووق الذي يعرفه العامة بالزّواق، أي أنه تزيين في الظاهر، وليس له ثبات. عرفانه: تقدّم معرفته.
يرشّحه: يهيئه، وفلان يرشّح لكذا، أي يؤهّل له، من رشّحت الأم ولدها باللبن، إذا جعلته في فيه شيئا بعد شيء حتى يقوى، وقيل: الترشيح: التربية، وقيل: هو تحنّن الأمّ على ولدها من الشدّة. أحجمت: تأخّرت. المرتاب: صاحب الريبة. طويت: سترت.
السّجل: الورق. والكتاب: المكتوب فيها، وقوله تعالى: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}
[الأنبياء: 104]، قيل: السّجلّ: اسم كاتب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: ملك من السماء الثالثة ترفع إليه الحفظة أعمال العباد كلّ خميس واثنين. فصل: زال وانفصل بفصّ خبره:
بحقيقة أمره. ينشر: يظهر. حبّره: حسّن كلامه، وأصله ثياب يمانية مزيّنة، ونشرها:
حلّها من طيّها. التجسّس: البحث. أنبائه: أخباره ما لبث، أي ما أقام، والمعنى ما أبطأ شيئا حتى رجع. متدهدها: متحرّكا، والتدهده: قذفك الحجر من أعلى إلى أسفل.
قهقر: رجع إلى خلف. مقهقها: مبالغا في الضحك، والقهقهة: حكاية صوت الضاحك.
مهيم: كلمة استفهام، معناها: ما الأمر؟ عاينت: رأيت. أنشأ: أحدث، وتقديره:(1/253)
قهقر: رجع إلى خلف. مقهقها: مبالغا في الضحك، والقهقهة: حكاية صوت الضاحك.
مهيم: كلمة استفهام، معناها: ما الأمر؟ عاينت: رأيت. أنشأ: أحدث، وتقديره:
سمعت شيئا أحدث لي ذلك الشيء المسموع الطّرب، ولا يكون «أنشأ» فعلا لأبي زيد، إنما هو فعل ل «ما» من قوله: «ما أنشأ». وعيت: حفظت.
* * * قال: ولم يزل الشيخ مذ خرج يصفّق بيديه، ويخالف بين رجليه، ويغرّد بملء شدقيه، ويقول: [مجزوء الرمل]
كدت أصلى ببليّه ... من وقاح شمّريّه
وأزور السّجن لولا ... حاكم الإسكندريّه
فضحك القاضي حتّى هوت دنينته، وذوت سكينته، فلمّا فاء إلى الوقار، وعقّب الاستغراب بالاستغفار، قال: اللهمّ بحرمة عبادك المقرّبين، حرّم حبسي على المتأدّبين. ثم قال لذلك الأمين: عليّ به، فانطلق مجدّا في طلبه. ثمّ عاد بعد لايه، مخبّرا بنأيه، فقال له القاضي: أما إنّه لو حضر، لكفي الحذر، ثمّ لأوليته ما هو به أولى، ولأريته أنّ الآخرة خير له من الأولى.
قال الحارث بن همام: فلمّا رأيت صغو القاضي إليه، وفوت ثمرة التنبيه عليه، غشيتني ندامة الفرزدق حين أبان النّوار، والكسعيّ لمّا استبان النّهار.
* * * يصفّق بيديه: يضرب بكفيه. يخالف بين رجليه: يعبث بهما في مشيه فيضع كلّ رجل موضع الأخرى، وهي من أنواع الرقص أراد أنه يضرب بكنّيه ويرقص. يغرّد:
يغنّي. بملء شدقيه، أي بصوت شديد تمتلىء به أشداقه.
وملء القدح: قدر ما يملؤه. أبو يعقوب: يقال: أعطني ملء القدح ماء، وأعطني ملأيه، وأعطني ثلاثة أملائه.
أصلي ببليّة، أي قربت أن أحترق بها وأتصلّى بها، والبليّة: المصيبة يبتلى بها، وقاح، جمع وقاحة، وهي صلابة الوجه، وأصلها من الحافر الصّلب، وقال بعضهم في صلابة الوجه: [السريع]
لا يعمل المبرد في وجه ... بل وجهه يعمل في المبرد
فجعل وجهه لصلابته يؤثّر في الحديد. شمّريّة، أي شديدة القحة، قال الأصمعي:
سألت أعرابيّا، وقد خرج من الصّلاة: ما قرأ الإمام؟ قال: ما أدري إلا أنه وقع بين موسى وفرعون شمّريّة. هوت: سقطت. دنينته: قلنسوته، وهذه اللفظة إنما وقعت في
المقامات بفتح الدال وكسر النون، ودنينته بنونين لتوافق «سكينته»، والصحيح حذف نونها الثانية وكسر الأولى، وهي قلنسوة محدّدة الطرف يلبسها القضاة والأكابر، وليست من كلام العرب، إنما هي من الألفاظ المستعملة في العراق، وقد استعملها شعراؤهم، قال ابن لنكك: [البسيط](1/254)
سألت أعرابيّا، وقد خرج من الصّلاة: ما قرأ الإمام؟ قال: ما أدري إلا أنه وقع بين موسى وفرعون شمّريّة. هوت: سقطت. دنينته: قلنسوته، وهذه اللفظة إنما وقعت في
المقامات بفتح الدال وكسر النون، ودنينته بنونين لتوافق «سكينته»، والصحيح حذف نونها الثانية وكسر الأولى، وهي قلنسوة محدّدة الطرف يلبسها القضاة والأكابر، وليست من كلام العرب، إنما هي من الألفاظ المستعملة في العراق، وقد استعملها شعراؤهم، قال ابن لنكك: [البسيط]
نفسي تقيك أبا الهندام يا أملي ... إنّي بكلّ الذي ترضاه لي راضي
ما كان أيرى فقيها إذ ظفرت به ... فكيف ألبسته دينيّة القاضي
وقال الصابي: [مجزوء الرجز]
وفوقه دينيّة ... تذهب طورا وتجي
ذوت: زالت وخفيت. سكينته: وقاره، وأصل ذوى، في الشيء الذي فيه بلل وندوّة، فيجفّ بلله، فاستعاره للسكينة. فاء: رجع. وعقّب: أتبع. الاستغراب: كثرة الضحك، حتى تدمع العينان أراد أنه أتبع ضحكه الاستغفار ليكون كفّارة له، وهذا الذي حكي عن القاضي يحكى مثاله عن الحجاج، يقال: إنه كان إذا استغرب ضحكا يوالي من الاستغفار.
وقال عبد الله بن مسعود: في كتاب الله آيتان ما أصاب عبد ذنبا فقرأهما ثم استغفر الله إلا غفر له الأولى: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذََا فَعَلُوا فََاحِشَةً} [آل عمران: 135]، والثانية قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء: 110] الآية.
قال أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه: من قال: «أستغفر الله الّذي لا إله إلّا هو الحيّ القيوم وأتوب إليه» خمس مرّات، غفر له ولو فرّ من الزحف.
شدّاد بن أوس رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيّد الاستغفار أن تقول:
اللهمّ أنت ربي لا إله إلا أنت وأنا عبدك أصبحت على عهدك ووعدك ما استطعت. أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوء بنعمتك عليّ، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» (1).
وأصل غفر واستغفر غطّى. قال قطرب: اللهمّ اغفر لنا ذنوبنا، أي غطّها، من قول العرب: غفرت المتاع في الوعاء أغفره غفرا، أي غطّيته. ثعلب: غفر الرجل في مرضه يغفر غفرا، أي نكس، فكأنّ المرض غطّى عليه. وقال الأصمعي رحمه الله: اللهم اغفر لنا ذنوبنا، أي استرها علينا، ومنه: اصبغ ثوبك، فإنه أغفر للوسخ، أي أستر، وهذه معان متقاربة.
__________
(1) روي بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الدعوات باب 1، والترمذي في الدعوات باب 15، والنسائي في الاستعاذة باب 57، 63، وأحمد في المسند 4/ 122، 125، ورواه الطبراني في الجامع الصغير 1/ 57.(1/255)
قوله: «عليّ به»، أي جئني به. مجدّا: مجتهدا في طلبه. لأيه: إبطائه. نأيه:
بعده. الحذر: الخوف. أوليته، بمعنى وليته وأعطيته. أولى: أحقّ، يريد أنه لو رجع إليه كان يصله في المرّة الثانية بما هو خير مما وصله به أوّل مرة. قوله: «صغو»، أي ميل.
فوت: ذهاب. التنبيه: الإعلام. غشيتني: غطتني. ولحقتني. أبان: طلقّ. النّوار: بنت عم الفرزدق وزوجه. استبان: تبيّن.
وقال الشاعر: [الطويل]
لو أنّ صدور الأمر تبرز للفتى ... كأعقابه لم تلفه يتندّم (1)
[الفرزدق وبعض أخباره]
والفرزدق اسمه همام بن غالب بن صعصعة، دارميّ من أشراف تميم، والفرزدق لقّب به لجهومة وجهه وغلظه، والفرزدق: قطعة العجين، وقيل: الرغيف الضخم.
وخبره مع النوّار بنت أعين المجاشعيّ، أنه خطبها رجل من قريش أو من دارم، فبعثت إلى الفرزدق أن يكون وليّها إذا كان ابن عمها، فقال: إنّ بالشّأم من هو أقرب إليك مني ولاء، وأنا حذر من أن يقدم منهم قادم، فينكر ذلك عليّ، فاشهدي أنك جعلت أمرك إليّ. فجعلت له أمرها أن يزوّجها ممن يرى، وأشهدت له بذلك، فقال لها:
أرسلي إلى القوم أزوّجك ممّن خطبك. فلما غصّ مسجد بني مجاشع ببني تميم جاء الفرزدق، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: قد علمتم أن النّوار ولّتني أمرها، وأشهدكم أنّي قد زوّجتها من نفسي، فنشزت عليه ونافرته من البصرة إلى عبد الله بن الزبير بمكّة حين أعياها أمراء البصرة، أن يطلقوها منه. وأعياها الشهود أن يشهدوا لها اتقاء من شرّه، فلم يقدر أحد على حملها، حتى تحمّلها قوم من بني عديّ، يقال لهم بنو نسير إلى مكة، فصحبتهم النّوار، فقال الفرزدق: [الطويل]
وقد سخطت منّي النّوار الذي ارتضى ... به قبلها الأزواج، خاب رحيلها (2)
أطاعت بني أمّ النّسير فأصبحت ... على شارف ورقاء صعب ذلولها
وإن امرأ يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشّرى يستبيلها
ومن دون أبوال الأسود بسالة ... وبسطة أيد يمنع الضيم طولها
وإنّ أمير المؤمنين لعالم ... بتأويل ما وصّى العباد رسولها
ثم ارتحل في أثرها حتى وصلا مكة، فنزلت النّوار على بنت منظور بن زبّان زوجة
__________
(1) البيت لابن السليماني في شرح ديوان الحماسة للتبريزي 2/ 135، وللحماسي في تاج العروس (سند).
(2) الأبيات في ديوان الفرزدق ص 604، 605.(1/256)
عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، ونزل الفرزدق على ابنه حمزة، وقال: [الكامل]
أصبحت قد نزلت بحمزة حاجتي ... إن المنوّه باسمه الموثوق (1)
بأبي عمارة خير من وطىء الحصى ... وجرت له في الصالحين عروق
بين الحواريّ الأغرّ وهاشم ... ثم الخليفة بعد والصّدّيق
فكان كلّ ما أصلح حمزة بن عبد الله من شأن الفرزدق نهارا أفسدته بنت منظور ليلا، حتى غلبت النّوار، وقضى ابن الزبير عليه، فقال: [البسيط]
أمّا البنون فلم تقبل شفاعتهم ... وشفّعت بنت منظور بن زبّانا (2)
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
فلما سمع ابن الزبير شعره، توقّف في أمره، فلقيه يوما بباب المسجد، فضمّه إلى الحائط، حتى كادت تزهق نفس الفرزدق. وكان الزبير في غاية من القوّة، ثم هزّه وتركه خائفا، ثم دخل على النّوار، فقال لها: إمّا أن تتمّي زواج ابن عمّك وإلا قتلته، وأرحت المسلمين من شرّ لسانه، فقالت له: ولا بدّ أن تقتله؟ قال: ولا بدّ، فعطفها عليه رحم القرابة، وقالت: لا والله لا أدعه للقتل، قد رضيته. فتزوّجها، فحكم عليه ابن الزبير بمهر مثلها عشرة آلاف درهم، فسأل: هل بمكة أحد يعينه؟ فدلّ على سلم بن زياد، وكان ابن الزبير قد حبسه، فقال: [الطويل]
دعي مغلقي الأبواب دون فعالهم ... ومرّي بمسرى لي هبلت إلى سلم (3)
إلى من يرى المعروف سهلا سبيله ... ويفعل أفعال الكرام التي تنمي
ثم دخل على سلم وأنشده القصيدة، فقال: هي لك ومثلها لنفقتك، فقبض عشرين ألفا، فدفع مهرها، فدخل بها، وأحبلها قبل أن تخرج من مكة، ثم خرج بها، وهما عديلان في محمل، وكانت أبدا تخالفه وتسبّه، لأنها كانت صالحة الدّين، وكان هو رديء الدين، زانيا قاذفا للمحصنات، فكانت تكرهه.
ومن ملح أخبارها أنه راود امرأة شريفة على نفسها، فامتنعت عليه، فتهدّدها بالهجاء، فاستعانت بالنّوار، فقالت: واعديه ليلة ثم أعلميني. ففعلت، وجاءت النّوار، ودخلت الحجلة مع المرأة، فلما دخل الفرزدق البيت، أمرت الجارية فأطفأت السراج، وبادر الحجلة والنّوار فيها، وهو لا يشكّ أنها صاحبة الدار، فواقعها. فلما فرغ قالت: يا عدوّ الله، يا فاسق! فعرفها، وعلم أنه قد خدع، فقال لها: وأنت هي! يا سبحان الله! ما أطيبك حراما، وأبردك حلالا! فلم تزل تؤذيه بلسانها حتى أبغضها.
__________
(1) الأبيات في ديوان الفرزدق ص 570.
(2) الأبيات في ديوان الفرزدق ص 873.
(3) البيتان في ديوان الفرزدق ص 775.(1/257)
فحدّث أبو معقل راويته، قال: قال لي الفرزدق يوما: امض بنا إلى حلقة الحسن، فإني أريد أن أطلّق النّوار، فقلت: إني أخاف أن تتبعها نفسك، ويشهد عليك الحسن وأصحابه، قال: امض بنا، فجئنا حتى وقفنا على الحسن فقال: كيف أصبحت يا أبا سعيد؟ قال: بخير، كيف أصبحت يا أبا فراس؟ قال: لتعلمنّ أن النّوار طالق مني ثلاثا، فقال الحسن وأصحابه: قد سمعنا، قال: فانطلقنا، فقال الفرزدق: يا هذا، إنّ في قلبي من النوّار شيئا، فقلت: قد حذّرتك، فقال: [الوافر]
ندمت ندامة الكسعيّ لمّا ... غدت منّي مطلقّة نوار (1)
وكانت جنّتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضّرار
ولو أني ملكت يدي ونفسي ... لأصبح لي على القدر اختيار
وكنت كفاقيء عينيه عمدا ... فأصبح ما يضيء له نهار
وتوفيّ سنة عشر ومائة. وفيها مات جرير وابن سيرين والحسن، فقالت امرأة بصريّة: كيف يفلح بلد مات فقيهاه وشاعراه، وأضافت جريرا إلى البصرة لكثرة قدومة إليها، ومسكنه باليمامة. وأخباره تطول، وإنما ذكرنا منها ما تعلّق بالنّوار معه.
[الكسعيّ وقوسه]
وأما الكسعيّ فرجل منسوب إلى كسع، قبيلة باليمن، واسمه محارب بن قيس، وبندامته يضرب المثل يقال: أندم من الكسعيّ، وقيل: إنه من بني سعد بن ذبيان، وقيل: اسمه عامر بن الحارث.
ومن حديثه أنه كان يرعى إبلا بواد كثير العشب والخمط فبينما هو يرعاها بصر بنبعة على صخرة، فقال: ينبغي أن تكون هذه قوسا، فجعل يتعهّدها ويقوّمها حتى أدركت، فقطعها، فلما جفّت اتّخذ منها قوسا، وأنشأ يقول: [الرجز]
يا ربّ وفّقني لنحت قوسي ... فإنّها من لذّتي لنفسي
وانفع بقوسي ولدي وعرسي ... أنحتها صفراء مثل الورس
* صلداء ليست كقسيّ النّكس (2) *
ثم دهنها وخطمها بوتر، واتّخذ من برايتها خمسة أسهم، وجعل يقلّبها في كفّه، وينشد: [الرجز]
__________
(1) الأبيات في ديوان الفرزدق ص 363.
(2) الرجز لمحارب بن قيس في لسان العرب (كسع)، وتاج العروس (كسع)، ويروى الشطر الأخير من الرجز:
كبداء ليست كالقسي النّكس(1/258)
هنّ وربي أسهم حسان ... يلذّ للرّامي بها البنان
كأنما قوّمها ميزان ... فأبشروا بالخصب يا صبيان
* إن لم يعقني الشّؤم والحرمان (1) *
ثم أتى قترة على موارد حمر، فكمن فيها، فمرّ به قطيع، فرمى عيرا منها بسهم، فأمخطه أي أنفذه وجازه، وأصاب الجبل، فأورى نارا، فظنّ أنه أخطأه، فأنشأ يقول:
[الرجز]
أعوذ بالله العزيز الرّحمن ... من نكد الجدّ معا والحرمان
ما لي رأيت السهم بين الصّوّان ... يوري شرارا مثل لون العقيان
* فأخلف اليوم رجاء الصّبيان (2) *
ثم مرّ به قطيع آخر، فرمى عيرا فأمخطه السهم، فصنع صنيعه الأوّل، فأنشأ يقول:
[الرجز]
لا بارك الرّحمن في رمي القتر ... أعوذ بالخالق من شرّ القدر
أأمخط السهم لإرهاق الضّرر ... أم ذاك من سوء احتيال ونظر
* أم ليس يغني حذر عنه قدر (3) *
ثم مرّ به قطيع آخر فرمى عيرا، فأمخطه السهم، فصنع صنيعه الأوّل، فأنشأ يقول:
[الرجز]
ما بال سهمي يوقد الحباحبا ... قد كنت أرجو أن يكون صائبا (4)
فأخطأ العير وولّى جانبا ... فصار رأيي فيه رأيا خائبا
ثم مرّ به قطيع آخر، فرمى عيرا بسهم فأمخطه السهم، وصنع ما صنع أولا، فأنشأ يقول: [الرجز]
يا أسفا والجدّ النّكد ... في قوس صدق لم تزيّن بأود
أخلف ما أرجو لأهل وولد ... فيها ولم يغن الحذار والجلد
* فخاب ظنّ الأهل جمعا والولد (5) *
ثم مرّ به قطيع آخر، فرمى عيرا بسهم، فأمخطه السهم، وصنع كما صنع أولا،
__________
(1) الرجز لمحارب بن قيس في لسان العرب (كسع)، وبلا نسبة في تاج العروس (كسع).
(2) الرجز لمحارب بن قيس الكسعي في لسان العرب (كسع)، وتاج العروس (كسع).
(3) راجع الحاشية السابقة.
(4) الرجز للكسعي في لسان العرب (حجب)، (كسع)، وتاج العروس (حبب).
(5) راجع الحاشية السابقة.(1/259)
فأنشأ يقول: [الرجز]
أبعد خمس قد حفظت عدّها ... أحمل قوسي وأريد ردّها
أخزى الإله لينها وشدّها ... والله لا تسلم مني بعدها
* ولا أرجّي ما حييت رفدها (1) *
ثم أخذ القوس، فكسرها على حجر وبات، فلّما أصبح أبصر الأعيار الخمسة مطروحة حوله، فأسف وندم على كسر القوس، وعضّ على إبهامه فقطعها تلهفا، وأنشأ يقول: [الوافر]
ندمت ندامة لو أنّ نفسي ... تطاوعني إذا لقطعت خمسي (2)
تبيّن لي سفاه الرأي منّي ... لعمر أبيك حين كسرت قوسي
__________
(1) راجع الحاشية السابقة.
(2) البيتان للكسعي (محارب بن قيس)، في لسان العرب (كسع)، وبلا نسبة في تاج العروس (كسع).(1/260)
المقامة العاشرة وتعرف بالرحبيّة
حكى الحارث بن همّام قال: هتف بي داعي الشّوق، إلى رحبة مالك بن طوق فلّبيته ممتطيا شملّة، ومنتضيا عزمة مشمعلّة. فلمّا ألقيت بها المراسي، وشددت أمراسي، وبرزت من الحمّام بعد سبت راسي، رأيت غلاما أفرغ في قالب الجمال، وألبس من الحسن حلّة الكمال.
* * * هتف بي، أي دعاني، يقال: هتف بي هتفا وهتافا: دعاه، وهتف الحمامة: مدّت صوتها. والشّوق: تحرّك الحبّ، يريد أنّ شوقه إلى الرّحبة يهيج عليه حتى سار إليها، وجعل له داعيا مجازا. والرّحبة: مدينة شهيرة من عمالة الفرات، بناها مالك بن طوق، ووليها فنسبت إليه، وإليها تنسب الثياب الرحبيّة، وتعرف برحبة الشأم، وهي على يسار الطريق هي والرّقة في استقبالك الفرات جائيا من حرّان، وهي في آخر ديار ربيعة، وأول بلاد الشأم والفرات، بين ديار ربيعة والشأم، فإذا عبرته صرت في حدّ الشام.
[مالك بن طوق]
ومالك كنيته أبو كلثوم بن مالك بن عتّاب بن سعيد بن زهير بن جشم بن بكر ابن حبيب بن عمرو بن غنم بن ثعلب. وقال حبيب يمدحه ويذكر الرّحبة: [الكامل]
يا مال قد علمت ربيعة أنّه ... ما كان مثلك في الأراقم أرقم (1)
طالت يدي لمّا رأيتك سالما ... وأنيخ عن خدّى ذاك العظلم
وشممت ترب الرّحبة العبق الثّرى ... وشفى صداي البحر منها الخضرم
كم حلّ في أكنافها من معدم ... أمسى بها يأوي إليه المعدم
وقال فيه: [البسيط]
رأته في النوم عتّاب فقال لها ... ذو والفراسة: هذا صفوة الكرم (2)
__________
(1) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 275.
(2) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 268.
فجاء والنّسب الوضّاح جاء به ... كأنه بهمة فيهم من البهم
طعّان عمرو بن كلثوم ونائله ... إنّ السيور التي قدّت من الأدم
لو كان يأمل عمرو مثله خلفا ... من صلبه لم يجد للموت من ألم
يقول هذا في اتصاله بنسب عمرو بن كلثوم، وأين هذا من قول دعبل يهجوه:(1/261)
__________
(2) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 268.
فجاء والنّسب الوضّاح جاء به ... كأنه بهمة فيهم من البهم
طعّان عمرو بن كلثوم ونائله ... إنّ السيور التي قدّت من الأدم
لو كان يأمل عمرو مثله خلفا ... من صلبه لم يجد للموت من ألم
يقول هذا في اتصاله بنسب عمرو بن كلثوم، وأين هذا من قول دعبل يهجوه:
[البسيط]
الناس كلّهم يعدو لحاجته ... ما بين ذي فرح منهم ومهموم (1)
ومالك ظلّ مشغولا بنسبته ... يروم منها بناء غير مهدوم
يبني بيوتا خرابا لا أنيس بها ... ما بين طوق إلى عمرو بن كلثوم
وكان ملكا شجاعا، جوادا ممدوحا أميرا على الجزيرة مسكن قومه بني ثعلب.
* * * قوله «لبّيته»، أي أجبته. ممتطيا: راكبا، شمّلة: ناقة سريعة. منتضيا: مجرّدا.
عزمة مشمعلّة، أي عزمة سريعة لا تواني فيها. المراسي: هي محابس السفينة. أمراسي:
حبالى، يريد أنه استعدّ للإقامة وترك السفر، وضرب لذلك المثل بإلقاء المراسي وشدّ الأمراس. برزت: خرجت وظهرت. سبت: حلق، ومتى دخل أهل المشرق الحمام حلقوا رؤوسهم. أفرغ: وضع ليصنع. والقالب: الذي تطبع فيه الدراهم، ودرهم مفرغ، إذا أذيبت فضته وصبّت في قالبه فيريد أنّ هذا الغلام لإفراط حسنه أفرغ في قالب الجمال.
[مما قيل في الحسن والجمال]
ونذكر في هذه المقامة من أوصاف الحسن والجمال ما أمكن، ونضيف إلى ذلك ما قيل في العلمان من الأشعار الحسان ممّا يليق بهذا المكان وندعها من كلّ مقامة يقع فيها ذكر العلمان. قال ابن عبد ربه: الحسن أحمر، وقد تضرب فيه الصّفرة مع طول المكث في الكنّ والتضمّخ بالطيب كما تضرب في بيضة الأدحيّ. وقال أعرابيّ: [البسيط]
وما تطيّبت من صفراء خالية ... كالعاج صفّرها الأكنان والطّيب
وقال آخر: [الرجز]
كأنّ لون البيض في الأدحيّ ... لونك لولا صفرة الجاديّ (2)
يريد أنها تضمّخ بالجاديّ، وهو الزعفران، وصفرة النعمة لا تبلغ صفرته.
وقالوا: إن الجارية الحسناء تتلون بلون الشمس، فهي بالضّحى بيضاء، وبالعشى
(1) الأبيات في ديوان دعبل بن علي ص 144.
(2) الرجز لأبي النجم في المخصص 11/ 261.(1/262)
صفراء، قال الأعشى: [مجزوء الكامل]
بيضاء ضحوتها وصف ... راء العشية كالعراره (1)
العرار: البهار.
وقال الحريريّ في الدرّة: فأما قولهم في الحسن: أحمر، فمعناه أنه لا يكتسب ما فيه من الجمال إلا بتحمّل مشقة يحمرّ منها الوجه، كما قالوا: السّنة الحمراء للمجدبة، وكنوا عن الأمر المستصعب بالموت الأحمر، وأما قوله: [الطويل]
هجان عليها حمرة في بياضها ... تروق لها العينان والحسن أحمر
فإنه عنى به الحسن في حمرة اللّون مع البياض، دون غيره من الألوان.
وقالوا: في الجارية: جميلة من بعيد، مليحة من قريب، فالجميلة الّتي تأخذ بصرك جملة، فإذا دنت منك لم تكن كذلك، والمليحة التي كلما كرّرت بصرك فيها زادتك حسنا.
وقيل: الجميلة السمينة من الجميل، وهو الشحم، والمليحة البيضاء من الملحة، وهي البياض، والصّبيحة كذلك من الصبح لبياضه.
وقالوا: إن الوجه الرّقيق البشرة الصافي الأديم إذا خجل يحمرّ، وإذا فرق يصفرّ، ومنه قولهم: ديباج الوجه، يريدون تلوّنه من رقّته.
وقال عديّ بن زيد في تلوّن الوجه: [الخفيف]
حمرة خلط صفرة في بياض ... مثل ما حاك حائك ديباجا
وقال ابن عبد ربه في ذلك: [الكامل]
يا لؤلؤا يسبي العقول أنيقا ... ورشا بتقطيع القلوب رفيقا
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... درّا يعود من الحياء عقيقا
وإذا نظرت إلى محاسن وجهه ... ألفيت وجهك في سناه غريقا
يا من تقطّع خصره من رقّة ... ما بال قلبك لا يكون رقيقا!
وأعاد معنى: «درّا يعود من الحياء عقيقا»، في بيت آخر فقال وأحسن: [الكامل] كم سوسن لطف الحياء بلونه ... فأصاره وردا على وجناته
قالت امرأة خالد بن صفوان لخالد: لقد أصبحت جميلا، قال: وكيف ذاك وما فيّ
__________
(1) البيت في ديوان الأعشى ص 203، ولسان العرب (عرر)، وفي الديوان واللسان «بيضاء غدوتها» بدل «بيضاء ضحوتها».(1/263)
رداء الحسن ولا عموده ولا برنسه! قالت: وما ذاك؟ قال: عموده الشّطاط (1)، ورداؤه البياض، وبرنسه سواد الشعر.
وقالوا: الحلاوة في العينين، والجمال في الأنف، والحسن في الوجه، والملاحة في الفم.
وقال بعضهم: الظرف في القدّ، والبراعة في الجيد، والرّقة في الأطراف والخصر، والشأن كلّه في الكلام، والمدار على العقل.
وقال عليّ بن عبيد الريحانيّ: الحسن تناسب الصورة، وزينته اعتدال الحركة ثم ما لا يحسن اللسان الترجمة عنه من خفّة الروح والقبول.
وسئل عن اختياره من الحسن، فقال: أمّا ما يمكن نعته فخلّتان وثلاثة بينهما، ليست من صفة اللسان تعجبني صورة أكثر نعتها الملاحة، وبراعة بفصاحة، والخلّة الثالثة نسميها مراح الروح وشكل النّفس وملهبة الشوق، وبمقدار تمكّن الثالثة من القلب يستحكم سلطان الهوى على العقل، فهذه زبدة هذا الباب.
وأحسن الحسن، ما لم يجلب بتزيين وتضييق، وتحلية وتزويق، وأطيب الطيب أنفاس عبقة من كبد سليمة، ومزاج معتدل، وثغر نقيّ، قال امرؤ القيس: [الطويل]
أم تراني كلّما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب (2)
ويحكى أن سيبويه كان يقرأ على الخليل بن أحمد منتقبا، لئلا يشغله بحسنه عن تعليمه. ومعنى «سيبويه» بالفارسية رائحة التفاح، وكان يقال: إنه أطيب الناس رائحة ومع تحفّظ الخليل وورعه، فكان إذا استأذن عليه سيبويه يقول: مرحبا بزائر لا يملّ.
وكان أبو حاتم السجستاني يختم القرآن في كل أسبوع، ويتصدّق كلّ يوم بدينار، ومع هذا الفضل كان يميل بحبّه إلى أبي العباس المبرّد، وكان أبو العباس يلزم حلقته وهو غلام وسيم، فقال فيه: [مجزوء الكامل]
ماذا لقيت اليوم من ... متمجّن خنث الكلام
وقف الجمال بوجهه ... فسمت له حدق الأنام
حركاته وسكونه ... يجنى بها ثمر الأثام
فإذا خلوت بمثله ... وعزمت فيه على اغترام
لم أعد أفعال العفا ... ف، وذاك آكد للغرام
نفسي فداؤك يا أبا ال ... عباس يا جلّ اعتصامي
__________
(1) الشطاط: الطول وحسن القوام.
(2) البيت في ديوان امرىء القيس ص 41، والأشباه والنظائر 8/ 85، ولسان العرب (ندل)، (محل).(1/264)
فارحم أخاك فإنه ... نزر الكرى بادي السّقام
وأنله ما دون الحرا ... م فليس يرغب في الحرام
والولوع في الجمال سجيّة ركبها الله في الأولياء وأكابر العلماء، فمن دونهم من السّوقة والغوغاء. وعلى قدر ذكاء الأرض يطيب زرعها، وعلى قدر طيب التربة يطيب تبعها، فمنها العذب والأجاج وما بينهما، وعلى قدر شرف النفس يكون حبّها، فمنه المستحسن ومنه المستقبح. [الطويل]
* وكلّ إناء بالذي فيه ينضح *
في كتاب الوشاح: العشق إذا تزيّن بالعفاف فهو معنى شريف، ويتلو قوله تعالى:
{الْأَخِلََّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] فمن اتقى الله فهو خليل.
وذهبت طائفة من المتكلّمين البغداديين إلى أن الله تعالى إنما امتحن الناس بالهوى، ليأخذوا أنفسهم بطاعة من يهوونه، وليشقّ عليهم سخطه، ويسرّهم رضاه فيستدلّوا بذلك على قدر طاعة الله تعالى لأنه لا مثل له ولا نظير، وهو خالقهم غير محتاج إليهم، ورازقهم مبتدىء المنن عليهم، فإذا أوجبوا على أنفسهم طاعة لسواه كان هو تعالى أولى أن يتّبع رضاه.
قالوا: ولا ينبغي للعاقل ولا للجاهل أن ينكر علاقة شخص بشخص، وحنين شكل إلى شكل، ومؤالفة إلف إلى إلف، فالقلوب صافية قابلة، والعيون إليها ناقلة.
وقالوا: لا عاشق على الأغلب إلا موفور النّعماء، مكفّى كدّ المعيشة لأنه من فراغ نفسه ورّقة حاشيته.
وقد قيل: إن جميلا وبثينة لو قعدا ليلتين دون غداء وعشاء لبزق كلّ واحد منهما في وجه صاحبه.
ومن شرط المعشوق أن يكون ممّن يؤيس ويطمع، ويستتر ويلمع، ويبدو ويحجب، ويلين ويصعب، ويرضى ويسخط، ويقرب ويشحط، كما قال أبو الطيب: [الكامل]
وأحلى الهوى ما شكّ في الوصل ربّه ... في الهجر فهو الدّهر يرجو ويتّقي (1)
وبين الرّضا والسخط والقرب والنّوى ... مجال لدمع المقلة المترقرق
والحسن أول سعادة المرء، ورائد اليمن، وسائق النّجح لأن الله تعالى بلطف الحكمة، وبشرف الإبداع والصنعة، لم يخلق الصورة مختارة الصفات، سليمة من الآفات، إلّا عن فضل الاحتفاء، ولم يطابقها من الأخلاق إلّا بما يناسب جمالها من
__________
(1) البيتان في ديوان المتنبي 2/ 304.(1/265)
العقل والصفاء. وقلّما تجد الخلق إلّا تبعا للخلقة، تناسبا يطّرد، وأصلا لا ينعكس، وإجماعا لا ينفرد، وما خلق الله نبيّا قطّ إلا وقد بهر أهل زمانه بحسنه وإحسانه فإذا نظرته لأوّل وهلة رأيته أحسنهم صورة، وأتقنهم بنية، فهو أولى مرتبة، وأعلى منقبة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله لا يعذّب حسان الوجوه، سود الحدق».
وورد عليه وفد عبد القيس، وفيه غلام وضيء الوجه، فأقعده وراء ظهره، وقال:
إنما أتي أخي داود من النّظر.
وقد أكثر الشعراء في وصف الحسن فمن أحسن ذلك ما قال عليّ بن بسّام وكأنه يصف الفتى الذي ذكره الحريريّ: [الكامل]
يا من تسربل بالملاحة وارتدى ... فعليه تعتكف العيون إذا بدا
فيرى هلالا زاها ويرى قضي ... با ناضرا ويرى كثيبا أملدا
فإذا نهضت ترجرجا وإذا سفر ... ت تبلجا وإذا مشيت تأوّدا
فترى الجبين كتاج ملك زانه ... درّ تراه مفرّقا ومنضّدا
ويجول ذاك الرّشح في أقطاره ... كالياسمين جرى به قطر النّدى
الوجه فضيّ أحاط بوجنتي ... ذهب، فأنبت عارضين زبرجدا
وفم عقيقيّ تضمّن لؤلؤا ... رطبا ونظم فوق ذاك زمرّدا
ولأبي إسحاق الخفاجيّ: [الطويل]
وأغيد أهدى نرجسا من محاجر ... وثنى فأبدى سوسنا من سوالف
وقد ماج من عطفيه ماء شبيبة ... تعبّ ولا أمواج غير الرّوادف
تطلّع مثل الرمح بسطة قامة ... وفتكة ألحاظ ولين معاطف
ولابن وكيع: [الكامل]
يا من إذا لاحت محاسن وجهه ... غفرت بدائعها جميع ذنوبه
إن كان في تعذيب قلبي راحة ... لك فاجتهد بالله في تعذيبه
ولأبي إسحاق الخفاجيّ: [الكامل]
يا ربّ وضّاح الجبين كأنما ... رسم العذار بصفحتيه كتاب
تغرى بطلعته العيون ملاحة ... وتبيت تعشق عقله الألباب
خلعت عليه من الصبّاح غلالة ... تندى ومن شفق السّحاب نقاب
ولأبي نواس: [الطويل]
أساء فزادته الإساءة حظوة ... حبيب على ما كان فهو حبيب(1/266)
يعدّ عليّ الواشيان ذنوبه ... ومن أين للوجه الجميل ذنوب!
ولأبي إسحاق الخفاجيّ: [الطويل]
تعلقته نشوان من خمر ريقة ... له رشفها دوني، ولي دونها السّكر
ترقرق ماء مقلتاي ووجهه ... ويذكى على قلبي ووجنته الجمر
أرقّ نسيبي فيه رقّة حسنه ... فلم أدر أيّ قبلها منهما السّحر
وطبنا معا ثغرا وشعرا، كأنما ... له منطقي ثغر، ولي ثغره شعر
* * *
وقد اعتلق شيخ بردنه، يدّعي أنّه فتك بابنه، والغلام ينكر عرفته، ويكبر قرفته، والخصام بينهم متطاير الشّرار، والزّحام عليهما يجمع بين الأخيار والأشرار، إلى أن تراضيا بعد اشتطاط اللّدد، بالتّنافر إلى والي البلد، وكان ممّن يزنّ بالهنات، ويغلّب حبّ البنين على البنات، فأسرعا إلى ندوته، كالسّليك في عدوته.
* * * قوله: «وقد اعتلق شيخ بردنه»، أي تعلّق بكمه وأطراف ثوبه. فتك: قتل، والفتك: أن تأتي رجلا آمنا منك وتقتله، أو تكمن له في موضع لا يعرف بك، فإذا أتاك قتلته، ثم سمّي من هجم على الأمور العظام فاتكا، فإذا أدخلت رجلا منزلك أو موضعا لا مغيث له فيه، فقتلته فذلك الغيلة، فإن كان رجلا يخافك فأمنته وآنسته حتى آمنك، ثم قتلته فذلك الغدر. عرفته: معرفته. يكبر: يراه أمرا كبيرا قرفته: تهمته، وقد قرفته بذنب، إذا حملته عليه واتّهمته به، وشبّه ما يلحق كلّ واحد منهما من أذى صاحبه بشرر النار اشتطاط اللّدد: اشتداد الخصام. التنافر: التحاكم. يزنّ: بالهنات: يتّهم بالقبائح، والهنات: الدواهي والهن والهنة من الكنايات العامّة التي يكنى بها عن كلّ شيء ولا يقتصر بها على شيء دون شيء.
[بعض أخبار الولاة]
قوله «ويغلّب حبّ البنين على البنات» نذكر هنا من الولاة المتهمين بهذه الهنات ما يليق بالموضع. قال أهل الأخبار: إن القاضي يحيى بن أكثم، كان مشتهرا بحبّ الغلمان، وإن أهل البصرة رفعوا أمره إلى المأمون قبل اتّصاله به، وقالوا فيه: إنه قد أفسد أولادهم، وظهرت منه الفواحش، وأنه القائل في صفة الغلمان: [السريع]
أربعة تعشق ألحاظهم ... فعين من يعشقهم ساهره(1/267)
فواحد دنياه في وجهه ... منافق ليست له آخره
وآخر دنياه منقوصة ... من خلفه آخرة وافره
وثالث فاز بكلتيهما ... قد جمع الدّنيا مع الآخره
ورابع قد ضاع ما بينهم ... ليست له دنيا ولا آخره
فاستعظمها المأمون وعزله عنهم.
ثم اتصل بعد ذلك يحيى بالمأمون، ونادمه، فخرج معه في يوم عيد، وقد ركب الجند أمامه، ويحيى يحادثه ويضاحكه، فنظرت إلى غلام أمرد من أولاد الجند في غاية الفراهة، عليه ثوب حرير أخضر، ودرع موشّاة مزرّرة بالذهب. فالتفت إلى يحيى، وقال له: ما تقول في هذه البضاعة؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ هذا لقبيح من إمام مثلك مع فقيه مثلي، قال: فمن الذي يقول: [المنسرح]
قاض يرى الحدّ في الزّناة ولا ... يرى على من يلوط من باس
قال: من عليه لعنة الله وغضبه، ابن أبي نعيم، الذي يقول:
أميرنا يرتشي وحاكمنا ... يلوط والشرّ بيننا راسي
قاض يرى الحدّ البيت، وبعده: [المنسرح]
لا أحسب الموت ينقضي وعلى ال ... أمّة وال لآل عبّاس
قال: أو صحيح هذا؟ قال: نعم، قال: ينفى إلى السّند، وإنما ما زحناك، ثم قال المأمون في الغلام: [مجزوء الرمل]
أيّها الراكب ثوبا ... هـ حرير وحديد
جئت للعيد وفي وج ... هك للأعين عيد
أنت جنديّ ولكن ... فيك للحسن جنود
وفي يحيى يقول ابن أبي نعيم: [الراجز]
يا ليت يحيى لم يلده أكثمه ... ولم تطأ أرض العراق قدمه
ألوط قاض في البلاد نعلمه ... أيّ دواة لم يلقها قلمه
* وأيّ جحر لم يلجه أرقمه *
وهذا كقول الآخر: [الرمل]
* يدخل الأفعى إلى خيس الأسد *
ويحيى خراسانيّ من مرو. وبلغ من تحكمّه على المأمون أن فرض لأربعمائة غلام
مرد، واختارهم حسان الوجوه يركبون لركوبه، فقال راشد بن إسحاق: [الوافر](1/268)
* يدخل الأفعى إلى خيس الأسد *
ويحيى خراسانيّ من مرو. وبلغ من تحكمّه على المأمون أن فرض لأربعمائة غلام
مرد، واختارهم حسان الوجوه يركبون لركوبه، فقال راشد بن إسحاق: [الوافر]
خليلي انظرا متعجّبين ... لأظرف منظر تقلاه عيني
لفرض ليس يقبل فيه إلا ... أسيل الخدّ حلو المقلتين
يقودهم إلى الهيجاء قاض ... شديد الطّعن بالرّمح الرّديني
إذا شهد الوغى منهم غلام ... تجدّل للجبين ولليدين
وبات الشيخ منحنيا عليه ... وصدغاه تحاذي الركبتين
وقال فيه: [الطويل]
وكنا نرجّي أن نرى العدل بيننا ... فأعقبناه بعد الرّجاء قنوط
متى تصلح الدّنيا ويصلح أهلها ... إذا كان قاضي المسلمين يلوط
* * *
وكان القاضي أبو القاسم عليّ بن محمد التنوخيّ مولعا بالغلمان، وكان له غلام اسمه نسيم، في نهاية من الحسن، وكان يؤثره على سائر غلمانه، ويخصّه بتقريبه واستخدانه، فكتب إليه بعض من يأنس به: [الرمل]
هل على من لامه مدغمة ... لاضطرار الشعر في ميم نسيم
فوقع تحت البيت: نعم، ولم لا!
وسنذكر من شعره في هذه المقامة ما يستملح.
وممن كان يميل إلى الغلمان من الأمراء أبو العشائر الحمدانيّ الذي يقول فيه المتنبي: [الوافر]
فيا بحر البحور ولا أورّي ... ويا ملك الملوك ولا أحاشي (1)
كأنّك ناظر في كلّ قلب ... فما يخفى عليك محلّ غاش
وقال بعض الرواة: دخلت على أبي العشائر أعوده من علّة، فقلت: ما يجد الأمير؟
فأشار إلى غلام قائم بين يديه، كأنّ رضوان قد غفل عنه بأبق من الجنة، ثم أنشأ يقول:
[مخلع البسيط]
أسقم هذا الغلام جسمي ... بما بعينيه من سقام
فتور عينيه من دلال ... أهدى فتورا إلى عظامي
وامتزجت روحه بروحي ... تمازج الماء بالمدام
__________
(1) البيتان في ديوان المتنبي 2/ 211.(1/269)
ولأبي العشائر: [البسيط]
سطا علينا ومن حاز الجمال سطا ... ظبي من الجنة الفردوس قد هبطا
له عذاران قد خطّا بوجنته ... فاستوقفا فوق خدّيه وما انبسطا
وظلّ يخطو فكلّ قال من شغف: ... يا ليته في سواد الناظرين خطا!
ومع هذا الميل، كان نزيه النفس، رفيع الهمة، سليم الناحية، وكان في الجود غاية، وفي الشجاعة نهاية، وفي الشعر آية. وإذا كان المتنبي الذي هو أشعر الناس عند الأكثرية، يقول حين عوتب في آخر أيامه على فتور شعره: قد تجوّزت في شعري، وأعفيت طبعي، واغتنمت الراحة، مذ فارقت آل حمدان، ومنهم الذي يقول يعني أبا العشائر:
أأخا الفوارس لو رأيت مواقفي ... والخيل من تحت الأسنة تنحط
لقرأت منها ما تخطّ يد الوغى ... والبيض تشكل والأسنة تنقط
فهكذا تستعار المعاني البديعة في الألفاظ الرفيعة فما ظنك بمن يثني عليه المتنبي هذا الثناء!
* * * وممّن وصف غلاما فأحسن، الأمير تميم بن المعزّ صاحب مصر، حيث يقول:
[الطويل]
وبات ضجيعي منه أهيف ناعم ... وأدعج وسنان وألعس أشنب
كأنّ الدجى من لون صدغيه طالع ... وشمس الضّحى في صحن خدّيه نغرب
وقال أيضا: [البسيط]
يا ليلة بات فيها البدر معتنقي ... وكانت الشمس فيها بعض جلّاسي
وبتّ مستغنيا بالثّغر عن قدحي ... وبالخدود عن التّفاح والآس
وقال أيضا: [مجزوء الكامل]
ورد الخدود أرقّ من ... ورد الرياض وأنعم
هذا تنشّقه الأنو ... ف وذا يقبّله الفم
فإذا عدلت فأفضل ال ... وردين ورد يلثم
قوله: «ندوته»، أي مجلسه.
[السّليك بن السّلكة]
والسليك، هو ابن السّلكة، معروف بأمّة، وكانت أمة سوداء شديدة السواد، وكان
هو أسود، وأبوه عمرو بن سنان بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم السعديّ التميميّ.(1/270)
والسليك، هو ابن السّلكة، معروف بأمّة، وكانت أمة سوداء شديدة السواد، وكان
هو أسود، وأبوه عمرو بن سنان بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم السعديّ التميميّ.
وكان يسبق الخيل على رجليه، وكان من العدّائين ومن رجلي العرب وهم الذين يسعون على أقدامهم، ويسبقون الخيل، فيستغنون بأرجلهم عنها وكان من أشجع الناس، وكان لا يغير إلّا وحده، وكان يقال له: الرئبال:
وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن معد يكرب، فقال: أيّ العرب كان أبغض لك أن تلقاه؟ فقال: أمّا من معدّ فغديّ بن فزارة ومرّة بن ذبيان وكلاب بن عامر وشيبان بن بكر وشقّ بن عبد القيس والأراقم من تغلب، ثم لم جلت بفرسي على مياه سعد ما خفت هيج أحد ما لم يلقني حرّاها أو عبداها، قال: أما حرّاها فعامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارث بن شهاب، وأما عبداها فعنترة الفوارس وسليك المقانب.
وأما عدوته المذكورة، فيقال: إنه أحاط به عدوّه فنزا نزوة عدّ فيها أربعا وعشرون خطوة، وعدّ أيضا في نزوة للشّنفري إحدى وعشرون خطوة.
ويقال في المثل: أعدى من الشّنفرى، وأعدى من السليك.
فأما الشّنفرى فإنه أغار على بجيلة مع تأبّط شرّا وعمرو بن براق، فرصدتهم بجيلة على الماء، فقال تأبّط شرّا: إنّ بالماء رصدا، فقالا: ليس عليه أحد، ولا بدّ من وروده، فورد الشّنفرى ثم عمرو، فقال تأبّط شرّا: القوم إنما يريدونني، فلذلك لم يعرضوا لكما، وإذا وردت أنا الماء فسيشدّون عليّ، ويأسرونني، فاذهب يا شنفرى، كأنك تهرب، وكن في أصل ذلك القرن، فإذا سمعتني أقول: خذوا خذوا، فتعال فأطلقني، وقال لعمرو:
إنّي سآمرك أن تستأسر لهم، فلا تبعد ولا تمكّنهم من نفسك. ثم ورد الماء، فشدّوا عليه، وكتفوه، وفعلا ما أمرهما، فقال: تأبّط شرّا: يا معشر بجيلة، هل لكم في أن تيسّروا فداءنا ونستأسر لكم ابن براق؟ قالوا: نعم. فقال يا عمرو: هل لك في أن تستأثر ويباشرونا في الفداء؟ قال: حتى أروّض نفسي شوطا أو شوطين، فجرى الأوّل كالريح، والثاني كالخيل، ثم أراد أن يجري ثالثا، فجعل يقع ويقوم فشلا يطمعهم بذلك، فقال لهم تأبّط شرّا: خذوا خذوا، فأسرعوا إليه بأجمعهم، وهوى الشّنفرى كالريح فقطع وثاقه، ثم أحضروا ثلاثتهم، فنجوا، فقال تأبّط شرّا من قصيدة: [البسيط]
ليلة صاحوا وأغروا بي سراعهم ... بالعيكتين لدى عمرو بن برّاق (1)
لا شيء أسرع منّي غير ذي عذر ... أو ذي جناح بجنب الرّيد خفّاق
__________
(1) البيتان لتأبط شرّا في ديوانه ص 132. والبيت الأول في لسان العرب (عيك)، ومجمل اللغة 2/ 430، وتاج العروس (برق)، (عيك)، وشرح اختيارات المفضل ص 108، ومعجم البلدان (العيكتان)، والمرصع ص 132، ويروى «معدى بن برّاق» بدل «عمرو بن برّاق».(1/271)
فالثلاثة عدّاؤن، والمثل مقصور على الشّنفرى.
وأما السّليك، فرأته طلائع جيش لبكر بن وائل، جاؤا مجرّدين ليغيروا على تميم، فقالوا: إن علم السليك بنا أنذر قومه، فبعثوا إليه فارسين على جوادين، فلمّا صافحاه خرج يمحص (1) كأنه ظبي، فطارداه يوما أجمع، ثم قالا: إذا كان الليل أعيا فنأخذه، ووجدا أثر بوله قد خدّ (2) في الأرض، فقالا: قاتله الله! ما أشدّ متنه! فتبعاه ليلتهما: فلما أصبحا وجداه قد عثر بأصل شجرة، فندر منها كمكان قدمه، وسقطت قوسه في جريه فانخطمت، فوجدا قطعة منها قد ارتزّت (3) بالأرض، فقالا: ما بعد هذا شيء، والله لاتبعناه بعد هذا. ومرّ السليك إلى أهله، فأنذرهم، فكذّبوه لبعد الغاية، فقال: [الطويل]
يكذّبني العمران: عمرو بن جندب ... وعمرو بن سعد والمكذّب أكذب (4)
ثكلتكما إن لم أكن قد رأيتها ... كراديس يهديها إلى الحيّ موكب
كراديس فيها الحوفزان وحوله ... فوارس همّام متى يدع بركبوا
فصدّقه قوم، فنجوا، وكذّبه آخرون، فورد عليهم الجيش فاكتسحهم.
ومن شعر السليك يرثي فرسه وكان يقال لها النحّام وأنشدها المبرّد في باب التشبيه من الكامل: [الوافر]
كأن قوائم النّحّام لمّا ... تحمّل صحبتي أصلا محار (5)
على قرماء عالية شواه ... كأنّ بياض غرّته خمار
وما يدريك ما فقري إليه ... إذا ما القوم ولّوا أو أغاروا
__________
(1) يمحص: يسرع.
(2) خدّ في الأرض: شقها.
(3) ارتزّت: أثبتت.
(4) الأبيات في الأغاني 20/ 353.
(5) البيت الأول للسليك بن السلكة في ديوانه ص 28، ولسان العرب (حور)، (خرم)، (نحم)، وجمهرة اللغة ص 573، وتاج العروس (حور)، (نحم)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 663، والبيت الثاني لبشر بن أبي خازم في ديوانه ص 77، وللسليك بن السلكة في الكتاب 4/ 258، ولسان العرب (تأد)، (فرم)، ولتأبط شرا في معجم ما استعجم 2/ 491، وليس في ديوان السليك، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص 591، وجمهرة اللغة ص 1233، وشرح أبيات سيبويه 2/ 431، ولسان العرب (قرم)، والبيت الثالث للسليك بن السلكة في ديوانه ص 53، ولسان العرب (ركب)، وتاج العروس (ركب)، والكامل ص 970، ويروى عجز البيت:
إذا ما الركب في نهب أغاروا
والبيت الرابع للسليك في ديوانه ص 53، والكامل ص 970، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 1317.(1/272)
ويحضر فوق جهد الحضر نصّا ... يصيدك نافلا والمخّ رار
أي: يصيد لك. ونافلا: ثانيا، ورار: ذائب من الهزال وحكاية السّليك، عن أبي عبيدة، وحكاية الشّنفري عنه وعن الشيبانيّ وكلتاهما على اختصار.
ونزل على جماعة من كنانة ضيفا، فأكرموه، وجمعوا له إبلا كثيرة، وأعطوه إياها، وكان قد كبر وشاخ، وذهبت قوّته، وانتقص عدوه، فقالوا له: إن رأيت أن ترينا ما بقي من عدوك! قال: نعم، ابغوا لي أربعين شابا، وأتوني بدرع ثقيلة عظيمة، فأتوا بها واختاروا من شبانهم أربعين أقوياء عدّائين، فلبس سليك الدرع، ثم قال للشبّان:
الحقوني، ثم عدا عدوا وسطا، وعدا الشبان وراءه جهدهم، فلم يلحقوه حتى غاب عنهم، ثم كرّ راجعا حتى عاد إلى قوم وحده يخطر، والدرع عليه، وسبق الشبّان.
وخرج في ليلة مقمرة يطلب الإغارة، فغلب عليه النوم آخر الليل، فبينما هو ملتفّ بكساء، جثم عليه رجل مثله، شديد البأس، عظيم القوّة، وأمسك على يديه، ومنعه التحرّك، وجعل يلمزه ويؤذيه، ويقول له: استأسر يا خبيث، فاجتهد سليك حتى خلّص إحدى يديه، فضمّ الرجل إليه ضمّة، وعصره عصرة، فضرط، فقال له: أضرطا وأنت الأعلى! فأرسلها مثلا، فلما تخلّص منه، قال له: من أنت؟ قال: أنا رجل افتقرت فقلت: لأخرجنّ ولا أرجع إلى أهلي حتى آتيهم وأنا غنيّ. فقال له السّليك: انطلق معي، فانطلقا فوجدا ثالثا، قصّته قصّتهما، فاصطحبوا حتى أتوا واديا لمراد، فلما أشرفوا عليه إذا فيه نعم، قد ملأ نواحيه من كثرته، فقال لهما السليك: كونا قريبا منّي حتّى آتي الرّعاء، فأعلم علم الحيّ: أهو قريب أم بعيد؟ فإن كان قريبا رجعت، وإن كان بعيدا أوحيت إليكما بقولي فأغيرا. فأتي الرّعاء فاستخبرهم عن الحيّ، فأخبروه ببعد الحيّ، وأنهم إن طلبوا لم يدركوا، فقال للرّعاء: ألا أغنّيكم؟ قالوا: بلى، فرفع صوته فغنّى:
[البسيط]
يا صاحبيّ ألا لا حيّ في الوادي ... سوى عبيد وآم بين أذواد (1)
أتنظران قريبا ريث غفلتهم ... أم تغدوان فإن الريح للعادي
فلما سمعا ذلك أتياه، وطردوا الإبل فذهبوا بها، ولم يبلغ الصريخ الحيّ، حتى فاتوا بالإبل.
__________
(1) البيت الأول للسليك بن السلكة في ديوانه ص 51، ولسان العرب (أما)، وتاج العروس (أمو)، والأغاني 10/ 391، والبيت الثاني لتأبط شرّا في ملحق ديوانه ص 241، ولسان العرب (روح)، والتنبيه والإيضاح 1/ 240، ومجمل اللغة 2/ 441، وللسليك بن السلكة في ديوانه ص 50، والشعر والشعراء ص 373، وجمهرة الأمثال 1/ 130، وعيون الأخبار 1/ 271، ومجمع الأمثال 2/ 11، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 2/ 464.(1/273)
قال ابن الأعرابي: آم مقلوب آيم، وهم العزّاب، جمع أمة.
وكان السّليك من أدلّ الناس بالأرض وأعلمهم بمسالكها، وكان يستودع الماء بيض النعام في الشتاء، ويدفنه في المفاوز العظيمة، فإذا كان الصيف وانقطعت إغارة الخيل أغار على ربيعة، وشرب من ذلك الماء. وكان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخيبة، وأما الهيبة فلا هيبة.
* * * قوله: «عدوته»، العدوة بالكسر: الحالة، وبالفتح المرة الواحدة، فيريد الحريريّ، أن إسراعهما إلى الوالي كان كعدوة السليك.
* * * فلمّا حضراه، جدّد الشّيخ دعواه واستدعى عدواه فاستنطق الغلام وقد فتنه بمحاسن غرّته، وطرّ عقله بتصفيف طرّته، فقال: إنّها أفيكة أفّاك، على غير سفّاك وعضيهة محتال، على من ليس بمغتال. فقال الوالي للشّيخ: إن شهد لك عدلان من المسلمين، وإلّا فاستوف منه اليمين. فقال الشيخ: إنّه جدّله خاسيا، وأفاح دمه خاليا، فأنّى لي شاهد، ولم يكن ثمّ مشاهد! ولكن ولّني تلقينه اليمين، ليبين لك:
أيصدق أم يمين! فقال له: أنت المالك لذلك مع وجدك المتهالك، على ابنك الهالك!
* * * واستدعى عدواه، أي طلب إغاثته وأعداه الحاكم: أغاثه. استنطق: أمره أن ينطق وقد بيّن هذا الاستنطاق في الرابعة والثلاثين عند شراء الغلام قال: «ثم استنطقته عن اسمه، لا لرغبة في علمه، بل لأنظر أين فصاحته من صباحته، وكيف لهجته من بهجته».
وكذلك لم يرد الوالي أن يستنطقه ليقول حجته بل ليعلم حلاوته من صورته التي فتنته.
وقد ذكرنا أنّ فائدة الحسن إنما تدور على اللسان.
[إبراهيم النظام]
وهذا الاستنطاق هو الذي ذهب بإبراهيم بن سيار النظّام، الّذي هو إمام في علم الكلام إلى علاقة غلام وذلك أنه لقي غلاما جميل الوجه، مقبول الصورة، فاستحسنه، وتصوّر فيه الصورة الباطنة المناسبة لخلقته الظاهرة، فقال له: يا غلام، إنه لولا ما سبق من قول الحكماء، لما جعلوا السبيل لمثلي إلى مثلك بقولهم: لا ينبغي لأحد أن يصغر عن أن يقول، ولا أن يكبر عن أن يقال له، لما أنست إلى مخاطبتك، ولا انشرح صدري إلى محادثتك، لكنّه سبب الإخاء وعقد المودّة، ومحلّك من قلبي محلّ الروح من جسد
الجبان، فقال له الغلام وهو لا يعرفه: لئن قلت ذلك أيّها الرجل، لقد قال أستاذنا إبراهيم بن سيار النظام: الطباع تجاذب ما شاكلها بالمجانسة، وتميل إلى ما قارنها بالموافقة، وكياني مائل إلى كيانك بكلّيتي ولو كان الذي انطوى عليه لك عرضا لم أعتدّ به ودّا، ولكنه جوهر جسمي، فبقاؤه ببقاء النفس، وعدمه بعدمها، وأقول كما قال الهذليّ:(1/274)
وهذا الاستنطاق هو الذي ذهب بإبراهيم بن سيار النظّام، الّذي هو إمام في علم الكلام إلى علاقة غلام وذلك أنه لقي غلاما جميل الوجه، مقبول الصورة، فاستحسنه، وتصوّر فيه الصورة الباطنة المناسبة لخلقته الظاهرة، فقال له: يا غلام، إنه لولا ما سبق من قول الحكماء، لما جعلوا السبيل لمثلي إلى مثلك بقولهم: لا ينبغي لأحد أن يصغر عن أن يقول، ولا أن يكبر عن أن يقال له، لما أنست إلى مخاطبتك، ولا انشرح صدري إلى محادثتك، لكنّه سبب الإخاء وعقد المودّة، ومحلّك من قلبي محلّ الروح من جسد
الجبان، فقال له الغلام وهو لا يعرفه: لئن قلت ذلك أيّها الرجل، لقد قال أستاذنا إبراهيم بن سيار النظام: الطباع تجاذب ما شاكلها بالمجانسة، وتميل إلى ما قارنها بالموافقة، وكياني مائل إلى كيانك بكلّيتي ولو كان الذي انطوى عليه لك عرضا لم أعتدّ به ودّا، ولكنه جوهر جسمي، فبقاؤه ببقاء النفس، وعدمه بعدمها، وأقول كما قال الهذليّ:
فتبيّني أني بكم كلف ... ثم اصنعي ما شئت عن علم (1)
فقال له النظام: إنما كلّمتك بما سمعت، وأنت عندي حسن الصورة غلام، ولولا أنّ محلّك محلّ مقيم ما تعرّضت لك، ثم اعتلقه النظام بعد، وقال فيه جريا على علمه:
[الطويل]
توهّمه طرفي فآلم خدّه ... فصار مكان الوهم من نظري أثر (2)
وصافحه كفّي فآلم كفّه ... فمن لمس كفّي في أنامله عقر
ومرّ بفكري خاطرا فجرحته ... ولم أر خلقا قطّ يجرحه الفكر
وقال فيه أيضا: [الكامل]
وإذ تأمّل في الزّجاجة ظلّه ... جرحته لحظة مقلة الظّلّ
وقال فيه أيضا: [الرجز]
أفرغ من نور سماويّ ... مصوّر في جسم إنسيّ
وافتقر الحسن إلى حسنه ... فجلّ عن تحديد كيفيّ
وقال فيه: [مجزوء الكامل]
يا مشرقا ملأ العيو ... ن فلحظها ما يستقلّ
أوفى على شمس الضّحى ... حتى كأنّ الشمس ظلّ
أتريد قتلي عامدا ... ولقتل مثلي ما يحلّ
فصرّف في شعره من صناعته، وأبدع في تخيله ببراعته.
* * * __________
(1) يروى البيت:
فتعلّمي أن قد كلفت بكم ... ثم افعلي ما شئت عن علم
وهو لأبي صخر الهذلي في الإنصاف 1/ 205، وشرح أشعار الهذليين 2/ 975، وشرح المفصل 8/ 76.
(2) الأبيات في أمالي المرتضى 1/ 188.(1/275)
قوله: «غرّته»، أي وجهه. طرّ، أي قطع وأذهب. تصفيف طرّته: شعره المعتدل على جبهته. أفيكة أفّاك: كذبة كذّاب. سفاك: قتّال. عضيهة: بهتان. وباطل. مغتال:
قاتل الغيلة. استوف: استكمل. جدّله: صرعه وألقاه على الجدالة، وهي الأرض:
خاسيا: متباعدا ممنوع الكلام، كأنه قهره ومنعه أن يصيح عند قتله، ولذلك لم يجد عليه شاهدا، وأصله الهمزة فسّهله ليوافق «خاليا» إن أخذته من خسأت الكلب، وإن أخذته من خسي البصر إذا كلّ، فلا تسهيل فيه، ومعناه قريب من الأوّل، أي أنه أضعفه بالضرب حتى لم يستطع الكلام ثم قتله. أفاح دمه، بحاء مهملة: أراقه. قال أبو زيد في نوادره:
أفحت دمه ففاح فيحا وفيحانا، وأنشد: [الرجز]
نحن قتلنا الملك الجحجاحا ... ولم ندع لسارح مراحا
* إلّا ديارا أو دما مفاحا (1) *
وقال أبو حاتم: أراد: ودما مفاحا أي مهراقا. خاليا: بمعنى «منفردا». أنّى، بمعنى كيف. مشاهد: من شاهد حاله وحضر عليها. ولّني: مكّنّي. تلقينه: تفهيمه وإلقاءه عليه. يمين: يكذب. وجدك: حزنك. المتهالك: الكثير التفاوت، وتهالكت المرأة عليه: تراخت عليه، وتكاسلت، قال الأعشى: [الطويل]
تهالك حتى ينكر المرء عقله ... وتسبي الحكيم ذا الحجى بالتّقتّل (2)
* * *
فقال الشّيخ للغلام: قل: والّذي زيّن الجباه بالطّرر، والعيون بالحور، والحواجب بالبلج، والمباسم بالفلج، والجفون بالسّقم، والأنوف بالشّمم، والخدود باللهب، والثّغور بالشّنب، والبنان بالتّرف، والخصور بالهيف، إنّني ما قتلت ابنك سهوا ولا عمدا، ولا جعلت هامته لسيفي غمدا، وإلّا فرمى الله جفني بالعمش، وخدّي بالنّمش، وطرّتي بالجلح، وطلعي بالبلح، ووردتي بالبهار، ومسكتي بالبخار، وبدري بالمحاق، وفضّتي بالاحتراق، وشعاعي بالإظلام، ودواتي بالأقلام.
* * * __________
(1) الرجز لأبي حرب بن عقيل الأعلم في لسان العرب (فيح)، والتنبيه والإيضاح 1/ 261، وتاج العروس (فوح)، ولمزاحم في كتاب الجيم 3/ 24، وليس في ديوان مزاحم العقيلي، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 5/ 263، وديوان الأدب 3/ 419، والمخصص 6/ 95، وجمهرة اللغة ص 182.
(2) البيت في ديوان الأعشى ص 353.(1/276)
قوله: «الذي زيّن الجباه بالطرر»، إلى آخر يمينه، إنما ذكر صفات الحسن شيئا بعد شيء، ليري هذا الوالي كمال الغلام، فيشتدّ حبّه فيه، فإذا ذكر صفة من صفاته نبّه الوالي بذكرها على النّظر إليها، فوجدها كما يصف، فهو الآن في هذه اليمين يجلو محاسن الغلام عليه.
الطّرر: جمع طرّة، وهي اعتدال الشعر على الجبهة، والطّرّة عندهم أن يقطع للجارية من مقدّم ناصيتها حتى لا يبلغ الشعر حاجبيها، فيبقى ما بين شعر ناصيتها وحاجبيها من جبهتها نقيّا، والشعر عليها معتدل، كطرة الثوب ثم تسمّى الشعور الحسان طررا.
أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث فاتنات: الشّعر الحسن، والوجه الحسن، والصوت الحسن».
عائشة رضي الله عنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملائكة السماء يسبّحون بذوائب النساء وبلحى الرجال، فيقولون: سبحان الّذي زيّن الرجال باللحى، والنساء بالذوائب».
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد أحدكم أن يتزوّج المرأة فليسأل عن شعرها كما يسأل عن وجهها».
قالوا: الشعر الحسن يزيد الوجه حسنا وجمالا، وقال ابن صارة وكأنه وصف طرة هذا الغلام يصف بها أبا الفضل بن الأعلم، وكان من أجمل الناس وأذكرهم في علم النحو والأدب، وقرأ النحو قبل أن يلتحى، فقال فيه: [الكامل]
أكرم بجعفر اللبيب فإنه ... ما زال يوضح مشكل «الإيضاح»
ماء الجمال بخدّه مترقرق ... فالعين منه تجول في ضحضاح
ما خدّه جرحته عيني، إنّما ... صبغت غلالته دماء جراحي
لله زاي زبرجد في عسجد ... في جوهر في كوثر في راح
ذي طرّة سبجيّة ذي غرّة ... عاجيّة كالليل والإصباح
رشأ له خدّ البريء ولحظه ... أبدا شريك الموت في الأرواح
* * *
[مما قيل في الحسن والجمال]
ونذكر بعد هذا الحور في العينين، وهو شدة بياض البياض وسواد الكحل، وكلّ ذلك عندهم ممدوح. وقد أكثر الشعراء من وصف ذلك حتى لو تركنا ذكره لشهرته لكان لنا فيه عذر، على أنّا نلمّ ببعض ما قيل في ذلك، وأمّا ما يزهّد فيه من ذلك، ويقلّ ذكره في أشعارهم فالزّرق على أنه قد جاء في حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الزرق في العينين يمن».(1/277)
وقال معاوية لصحار العبديّ: إنك أحمر، قال: والذهب أحمر، قال: إنك لأزرق، قال: والبازي أزرق.
ولبعض أصحابنا: [الطويل]
أحبّك أن قالوا بعينيك زرقة ... كذاك عتاق الطير زرق عيونها
وقال الصّنوبريّ: [المنسرح]
قالوا به زرقة، فقلت لهم ... بذاك تمت خصاله البهجه
ما كحل العين مثل زرقتها ... كم بين ياقوتة إلى سبجه
وقال آخر: [مخلع البسيط]
ما مثل ذا الظّبي في الظّباء ... الأزرق الأزرق القباء
يجول في مقلتيه طرفي ... في زرقة الماء والسماء
بأبي الشّقر ما عليهم ... من ذلك النّور والبهاء
شقرة شعر على بياض ... شعاع شمس على هواء
وكلّ هذا اعتذار جاء على وفق مدح سواد الألوان، ولسواد الألوان في التاسعة فصل مستطرف فقف عليه.
واختلفوا في الحور، فقال أبو عبيدة: الحوراء: الشديدة بياض بياض العين في شدّة سواد سوادها.
وقال أبو عمرو: الظبية الحوراء: السوداء العين الّتي ليس في عينها بياض، ولا يكون هذا في الإنس إنما يكون في الوحوش.
وقال يعقوب: الحور سعة العين وكبر المقلة وكثرة البياض.
وقال قطرب: الحوراء: الحسنة المحاجر، صغرت العين أم كبرت.
واشتقاق «ح ور» يدل على صحة قول يعقوب وأبي عبيدة لأنهم إنما يوقعونه في الغالب على البياض مثل الدقيق الحواريّ للدرمك الشديد البياض ونحوه، وقلّما يتفق شدة بياض العين إلّا مع شدةّ سوادها، ألا ترى أن بياضها مع الزّرق ليس هناك في النقاء، وقال القاضي التنوخيّ في أحور: [الكامل]
حور بعينيه أطال تحيّري ... ترك الدموع بخدّي المتعصفر
غصن تأوّد فوق غصن من نقا ... ليل تبلّح عن نهار مسفر
كالشّمس إلا أنه متنفّس ... عن مسكة متبسّم عن جوهر
والبلج: أن يكون ما بين الحاجبين نقيّا من الشعر، وهو من علامات السيادة عند
العرب، ويتمدّح به ويتيمن بصاحبه، ويتطيّر بمقرون الحاجبين ويقال: أبلج وأبلد، وهي البلجة والبلدة، قال كثير: [الطويل](1/278)
حور بعينيه أطال تحيّري ... ترك الدموع بخدّي المتعصفر
غصن تأوّد فوق غصن من نقا ... ليل تبلّح عن نهار مسفر
كالشّمس إلا أنه متنفّس ... عن مسكة متبسّم عن جوهر
والبلج: أن يكون ما بين الحاجبين نقيّا من الشعر، وهو من علامات السيادة عند
العرب، ويتمدّح به ويتيمن بصاحبه، ويتطيّر بمقرون الحاجبين ويقال: أبلج وأبلد، وهي البلجة والبلدة، قال كثير: [الطويل]
جميل المحيّا أبلج الوجه واضح ... حليم إذا ما زلزلته الزّلازل
الفلج: أن يكون بين منابت الأسنان تباعد، وقد فلج ثغره فلجا، وهو مستحبّ في الثغر. قال وجيه الدولة: وهو مما يليق بهذا الموضع لذكره أوصافا ذكرها الحريري رحمه الله هنا: [الطويل]
إذا عدم الرّوض المنوّر ناظري ... أرانيه ظبي فاتر الطّرف أدعج
فصدغاه ريحاني وعيناه نرجسي ... ومن ثغره لي أقحوان مفلّج
وواحربا من حسن ورد بخدّه ... يطيف به من عارضيه بنفسج
الجفون: أغطية العيون، ثم تسمّى العين جفنا مجازا.
والسقم: فتور العين، ومن حسن التشبيه في ذلك قول أبي نواس: [الطويل]
فطب بحديث من نديم مساعد ... وساقية بين المراهق والحلم (1)
ضعيفة كرّ الطرف تحسب أنّها ... قريبة عهد بالإفاقة من سقم
وقال أيضا: [البسيط]
وشادن قال لي لما رأى سقمي ... وضعف جسمي والدّمع الذي انسجما
أخذت دمعك من لفظي، وجسمك من ... خصرى، وسقمك من طرفي الّذي سقما
وقال ابن الروميّ: [الكامل]
قلبي من الطرف السقيم سقيم ... لو أنّ من أشكو إليه رحيم
وقال ابن الزّقاق: [الوافر]
ومقلة شادن أودت بجسمي ... كأنّ السّقم لي ولها لباس
يسلّ اللّحظ منها مشرفيّا ... لقتلي ثم يغمد النّعاس
ولأبي العلاء بن زهر في مثل ذلك: [البسيط]
يا راشقي بسهام مالها غرض ... إلّا فؤادي وما منها له عوض
وممرضي بجفون كلّها سقم ... صحّت وفي طبعها التمريض والمرض
امنن ولو بخيال منك يؤنسني ... فقد يسدّ مسدّ الجوهر العرض
__________
(1) البيتان في ديوان أبي نواس ص 32.(1/279)
الشمم: ارتفاع في لين الأنف، وهو من علامات الجمال والسؤدد، قال الفرزدق:
[البسيط]
بكفّه خيزران ريحه عبق ... من كفّ أروع في عرنينه شمم (1)
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فلا يكلم إلا حين يبسم
وقال آخر: [السريع]
في باعه طول وفي وجهه ... نور وفي العرنين منه شمم
وقال النابغة: [البسيط]
* شمّ العرانين ضرّابون للهام (2) *
اللهب: اشتعال النار بغير دخان، فشبّه الحمرة في الخدّ وضياءه بحمرة النار، وكني به أبو لهب لجماله.
وقال ابن وكيع فجمع السّقم واللهب: [مخلع البسيط]
واحزني من جفون ظبي ... أقام عذري بها عذاره
أسقم جسمي بسقم طرف ... حيّرني في الهوى احوراره
عجبت من جمر وجنتيه ... يحرقني دونه استعاره
هو اختياري فأبصروه ... شاهد عقل الفتى اختياره
وله قريب منه: [مخلع البسيط]
__________
(1) البيت الأول للفرزدق في ديوانه 2/ 179، ولسان العرب (خزر)، وتاج العروس (خزر)، وله أو للحزين الكناني في لسان العرب (جنه)، وتاج العروس (جنه)، ولعمرو بن عبد وهيب (الحزين الكناني) في لسان العرب (حزن)، وتاج العروس (حزن)، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 2/ 140، ومقاييس اللغة 1/ 482، ويروى عجز البيت الثاني:
فما يكلّم إلا حين يبتسم
وهو للحزين الكناني (عمرو بن عبد وهيب) في الأغاني 15/ 263، ولسان العرب (حزن)، والمؤتلف والمختلف ص 89، وللفرزدق في ديوانه 2/ 179، وأمالي المرتضى 1/ 68، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1622، وشرح شواهد المغني 2/ 732، ومغني اللبيب 1/ 320، والمقاصد النحوية 2/ 513، 3/ 273، وبلا نسبة في أوضح المسالك 2/ 146، وشرح الأشموني 1/ 183، وشرح المفصل 2/ 53.
(2) صدره:
مستحقبي خلق الماذيّ يقدمهم
والبيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 83، ولسان العرب (حقب)، وتاج العروس (حقب)، وكتاب العين 3/ 53، وأساس البلاغة (حقب).(1/280)
كأنّ صدغا له تراه ... وهو على خدّه مدار
بيت من الحسن لي إليه ... حجّ مدى الدّهر واعتمار
ولابن الزّقّاق: [الرمل]
بأبي من لم يدع لي لحظه ... في الهوى من رمق منذ رمق
جعلت نكهته في ثغره ... عبقا في نسق يسبي الحدق
وبدت خجلته في خدّه ... شفقا في فلق تحت غسق
وقال الخفاجيّ: [السريع]
يا بانة تهتزّ فينانة ... وروضة تنفح معطارا
كم دمع عين فيك قد أجريته ... وقلب صبّ فيك قد طارا
كنّي فسمّى قوسه حاجبا ... رمزا وسمّي النّبل أشفارا
فإن رمى يجرحني طرفه ... لحظته أجرحه ثارا
فيصبغ الدّرّ عقيقا به ... وأصبغ الألوان أزهارا
يدير للأعين من وجهه ... كعبة حسن حيثما دارا
قد طبع الحسن به درهما ... تسبك منه العين دينارا
فلي به عين مجوسيّة ... تعبد من وجنته نارا
غيره: [الطويل]
وأغيد تدمى وجنتاه من اللّمح ... تخلّق إلّا من صدودي بالشّحّ
غدا قاتلي أن ظلت أجرح خدّه ... متى صار بالقتل القصاص من الجرح!
الثغور: جمع ثغر وهو السنّ. وتقدّم الشنب في الثانية.
وقال العباس بن الأحنف في طيب الفم: [الطويل]
ذكرتك بالتفّاح لمّا شممته ... وبالرّاح لما قابلت أوجه الشّرب
وتذكّرت بالتّفاح منك سوالفا ... وبالرّاح طعما من مقبّلك العذب
وقال ديك الجنّ، واسمه عبد السلام: [الكامل]
بأبي فم شهد الضّمير له ... قبل المذاق بأنه عذب
كشهادة لله خالصة ... قبل العيان بأنّه الرّبّ
وقال أحمد بن محمد الغسانيّ: [المتقارب]
له مبسم برقه خاطف ... عقول الرجال إذا ما ابتسم(1/281)
أقول له إذ بدا درّه ... شهدنا لصانعه بالحكم
أرى الدّر تثقبه الناظمون ... وما ثقبوا إذا فكيف انتظم!
وقال أبو بكر البلويّ: [المنسرح]
تقطف من ثغره ووجنته ... أنامل الطّرف زهرة عجبا
شقيقها مذهبا يرى خجلا ... وأقحوانا مفضّضا شنبا
وقال ابن بشر الكاتب: [المنسرح]
ولم نزل، والظلام حارسنا ... جسمين مستودعين في جسم
ألثمه في الدّجى وبرق ثنا ... ياه يريني مواقع اللّثم
ثم افترقنا عند الصّباح وقد ... أثّر فيه كهيئة الختم
وقال الشريف الرضيّ: [البسيط]
بتنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى ... يلّفنا الشّوق من فرق إلى قدم (1)
وبات بارق ذاك الثّغر يوضح لي ... مواقع اللّثم في داج من الظّلم
وقال المتنبي: [الطويل]
حسان التثّني ينقش الوشي مثله ... إذا مسن في أثوابهنّ النّواعم (2)
ويبسمن عن درّ تقلّدن مثله ... كأنّ التراقي وشّحت بالمباسم
فهذه معان مختلفة في أوصاف الثغر كلها حسان.
* * * قوله: «والبنان بالترف»، أي الأصابع باللين والنعمة، وأحسن ما قيل في ذلك قول النابغة: [الكامل]
بمخضّب رخص كأنّ بنانه ... عنم يكاد من اللّطافة يعقد (3)
فهذا تشبيه بديع.
وقال امرؤ القيس: [الطويل]
وتعطو برخص غير شثن كأنّه ... أساريع ظبي أو مساويك إسحل (4)
__________
(1) البيتان في ديوان الشريف الرضي ص 723.
(2) البيتان في ديوان المتنبي 2/ 111.
(3) البيت في ديوان النابغة ص 30.
(4) البيت في ديوان امرىء القيس ص 17، وجمهرة اللغة ص 363، 543، وحاشية يس 2/ 85،(1/282)
وقال غيره: [السريع]
يا قمرا أبصرت في مأتم ... يندب شجوا بين أتراب (1)
أبرزه المأتم لي كارها ... من بين رايات وحجّاب
يبكي فيذري الدّرّ من نرجس ... ويلطم الورد بعنّاب
وقال عكّاشة: [الكامل]
سقيا لمنزلنا الّذي كان به ... يوم الخميس عشيّة أصحابا
إذ نحن نسقاها شمولا قرقفا ... تدع الصّحيح بعقله مرتابا
من كفّ جارية كأنّ بنانها ... من فضّة قد فمّعت عنّابا
وكأنّ يمناها إذا ضربت بها ... تلقي على يدها الشّمال حسابا
وقال آخر: [الوافر]
وحوراء اللواحظ بين قلبي ... وبين جفونها حرب البسوس
ترى ماء النّعيم يجول فيها ... كمثل الخمر في صافي الكؤوس
كأنّ بنانها أقلام عاج ... مرصّعة الرأس بآبنوس
ووصف الخصور بالهيف، وهو الضّمر والرقة، وسنذكر معها ما يستظرف، وقد تقدّم قول ابن عبد ربه: [الكامل]
يا من تقطّع خصره من رقّة ... ما بال قلبك لا يكون رقيقا
وقال ابن الروميّ: [مجزوء الكامل]
وهبت له عيني الهجوعا ... فأثابها منه الدّموعا
ظبي كأن بخصره ... من ضمره ظمأ وجوعا
وقال عبيد الله بن عبد الله: [السريع]
سلمى وما سلمى تفوق المنى ... والحسن أوصافا وألوانا
وشاحها يحسد خلخالها ... كجائع يحسد شبعانا
وقال كشاجم في مقلوبه:
مساولة الكلّ غير بطن ... مثقل فهي عنكبوت
__________
وشرح المفصل 6/ 92، 7/ 144، ولسان العرب (سرع)، (سحل)، (شثن)، (ظبا)، والمنصف 3/ 58، وتاج العروس (سحل)، (شثن)، (ظبا).
(1) الأبيات لأبي نواس في ديوانه ص 361.
حجولها الدهر في اضطراب ... ووشحها كاظم صموت
وقال حبيب: [الطويل](1/283)
__________
(1) الأبيات لأبي نواس في ديوانه ص 361.
حجولها الدهر في اضطراب ... ووشحها كاظم صموت
وقال حبيب: [الطويل]
مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قنا الخطّ إلّا أن تلك ذوابل (1)
من الهيف لو أنّ الخلاخيل صيّرت ... لها وشحا جالت عليها الخلاخل
أخذه القاضي ابن لبّال فقال: [الطويل]
جلوت لنا شيئا من الدّرّ عاطلا ... بعيشك لم جنّبته الجيد والنّحرا
فقالت ولم تكذب خشيت سقوطه ... وأومت إليّ فيها نظّمته ثغرا
كذلك إن عضّ السّوار بمعصمي ... وحاذرت أن يدميه حمّلته الخصرا
وأكثر ما يذكرون الخصر بالرّقة مع ذكر الكفل بالعظم، كما قال ديك الجن:
[الكامل]
وتمايلت فضحكت من أردافها ... عجبا، ولكنّي بكيت لخصرها
تسقيك كأس مدامة من كفّها ... ورديّة، ومدامة من ثغرها
وقال القاضي أبو حفص بن عمر:
مشت كالغصن يثنيه النّسيم ... ويعدوه النّسيم فيستقيم
لها ردف تعلّق من ضعيف ... وذاك الرّدف لي ولها ظلوم
يعذّبني إذا فكّرت فيه ... ويتعبها إذا رامت تقوم
وما حبّي لها إلا عذاب ... عليه من نضارتها نعيم
* * *
قوله: «سهوا». أي خطأ. والهامة: الرأس. وإلا فرمى الله جفني بالعمش، إنما ذكر العمش والنّمش وما بعده لأنها أضداد لما تقدم، وعند الإشارة لها يتبيّن من الغلام عند الوالي أضدادها، فيزداد حسنا. [الكامل]
* وبضدّها تتبيّن الأشياء (2) *
والعمش: انتثار شعر العينين. والنّمش: أخفى من البرش. الجلح: الصّلع، وهو
(1) البيتان في ديوان أبي تمام ص 256.
(2) صدره:
ونذيمهم وبهم عرفنا فضله
والبيت للمتنبي في ديوانه 1/ 22.(1/284)
انحسار الشعر من النّزعتين، وفعله جلح الرجل واجلحّ، كاسودّ. والطّلع: قد تقدّم في الثانية، وإذا علته خضرة سمّي بلحا. والبهار: نرجس المغرب، وهو أصفر، والورد أحمر، فدعا له بعلّة تذهب جمال وجهه وتصفّر حمرة خده. والبخار: كالبخر: النّتن.
والمسكة: أطيب العطر، فدعا له بتغير الرائحة. وتقدّم أن أطيب الطيب أنفاس عبقة من كبد سليمة.، وتقدّم في الثانية معنى قوله: «ووردتي بالبهار» منظوما، وقال الصابي في أبخر: [الكامل]
نطق ابن نصر فاستطارت جيفة ... في العالمين لنتن فيه الفاسد
فكأنّ أهل الأرض كلّهم فسوا ... متواطئين على اتّفاق واحد
وقالت جنان في أبي نواس: [الخفيف]
فإذا ما أردت أن تحمد اللّ ... هـ على ما أعطى وأولاك شكرا
فليكن ذاك بالضمير فمن سبّ ... ح بالفسو نال إثما ووزرا
وقال آخر: [السريع]
أهدى زريق قطّه لقمة ... قد لاكها في فمه الأبخر
فبادر القطّ إلى دفنها ... يحسبها من بعض ما قد خرى
قوله: «وبدري بالمحاق»، المحاق: أن ينمحق ضوء القمر فلا يبقى منه شيء.
واحتراق الفضة: اسودادها. وشعاعي بالظلام، أي صباحة وجهه ووضاءته بسواد اللحية، أي عاجلني لله بالالتحاء، ويريد بهذا كلّه أن يكسو بياض وجهه سواد الشعر، فيكسد ولا يلتفت إليه.
وقال ابن المعتزّ في مثل هذا الدعاء: [البسيط]
يا ربّ إن لم يكن في وصله طمع ... وليس لي فرج من طول هجرته
فاشف السّقام الّذي في طرف مقلته ... واستر ملاحة خدّيه بلحيته
ونقل لفظ احتراق الفضة من قول أبي الحسين الثّغريّ، وهو من شعراء اليتيمة:
[الرمل]
لي حبيب يزهى بحسن عجيب ... وبقدّ مثل القضيب الرطيب
أحدقت بالسواد فضة خدّي ... هـ، فقد أحرقت سواد القلوب
[مما قيل في العذار وفي الالتحاء]
ونذكر هنا ما يليق بهذا الموضع مما قيل في العذار وفي الالتحاء مما مدح به وذمّ، قال ابن عبد ربه: [الكامل](1/285)
ومعذّر نقش الجمال بمسكه ... خدّا له بدم القلوب مضرّجا
لما تيقّن أن سيف جفونه ... من نرجس جعل النّجاد بنفسجا
وقال ابن صارة: [الكامل]
ومعذّر رقّت حواشي حسنه ... فقلوبنا حذرّا عليه رفاق
لم يكس عارضه السواد وإنّما ... نفضت عليه سوادها الأحداق
وقال عبد المحسن الصوريّ: [الوافر]
ومعتذر العذار إلى فؤادي ... لجرم سابق من مقلتيه
وكم أعرضت عنه فأعرضت بي ... عن الأعراض خضرة عارضيه
ولمّا قلت إنّ الشّعر يسعى ... لقلبي في الخلاص سعى عليه
وقال أبو القاسم الزاهي: [الكامل]
لولا عذارك ما خلعت عذاري ... لكنت في وزر من الأوزار
ما كنت أحسب أن أعاين أو أرى ... تخطيط ليل في بياض نهار
حتى نظرت إلى عذارك فاغتدى ... سقم القلوب ونزهة الأبصار
وللمعتمد بن عباد: [مخلع البسيط]
تمّ له الحسن بالعذار ... واختلط اللّيل بالنّهار
أخضر في أبيض تبدّى ... ذلك آسي وذا بهاري
لقد حوى مجلسي تماما ... إن يك من ريقه عقاري
وقال ابن حمدون: [مخلع البسيط]
ظلّ على خدّه العذار ... فافتضح الآس والبهار
وأبيضّ هذا واسودّ هذا ... واجتمع اللّيل والنّهار
أغضّ عيني عنه لأنّي ... عليه من مقلتي أغار
فهذا كله حسن في مدح العذار وإن كان النّذير بموت الجمال، فإذا تقوّى العذار واسودّ صاروا إلى نعيه، كما قال أبو بكر البلويّ: [السريع]
انظر إلى ميت ولكنّه ... خلو من الأكفان والغاسل
قد كتب الدهر على خدّه ... بالشّعر: هذا آخر الباطل
وله في ضدّه: [مجزوء الكامل](1/286)
لمّا التحى من قد هويت ... وقلت رسم قد دثر
عاينت من طلّابه ... زمرا مواصلة زمر
وكذاك أصحاب الحديث ... نفاقهم عند الكبر
وكما قال أبو الحسن بن الحاجّ:
أبا جعفر مات فيك الجمال ... فأظهر خدّك لبس الحداد
وقد كان ينبت زهر الرّياض ... فأصبح ينبت شوك القتاد
أبن لي متى كان بدر السما ... ء يدرك بالكون أو بالفساد!
وهل كنت في الملك من عبد شمس ... فأخنى عليك ظهور الفساد
وقال سعيد بن حميد في غلام التحى: [الكامل]
هلّا وأنت بماء وجهك يستقى ... روض الشّباب قليل شعر العارض
فالآن حين بدت بخدّك لحية ... ذهبت بحسنك ملء كفّ القابض
مثل السّلافة عاد خمر عصيرها ... بعد اللّذاذة مثل خلّ الحامض
وقال عليّ بن بسام في أخيه جعفر: [البسيط]
يا من نعته إليّ الإخوان لحيته ... أدبرت والدّهر إقبال وإدبار
قد كنت ممّن يهشّ الناظرون له ... تغصّ دونك أسماع وأبصار
أيّام وجهك مصقول عوارضه ... وللرّياض على خدّيك أنوار
فيا لدهر مضى ما كان أحسنه ... إذا أنت ممتنع، والشّرط دينار
حانت منيّته فاسودّ عارضه ... كما تسوّد بعد الميّت الدّار
وفيه يقول أيضا: [البسيط]
حانت وفاتك يا أبا العباس ... فدع المكاس فلات حين مكاس
ما بال وجهك بعد كثرة نوره ... قد سوّدوه بحالك الأنفاس!
أين الدّنانير التي عوّدتها ... هيهات جاء الشعر بالإفلاس
كانت بخد ثيابه ديباجة ... فاستبدلت حلسا من الأحلاس
وكذا البناء فغير مرتفع إذا ... كانت بليته من الآساس
وقال مصعب الماجن: [الكامل]
قد صافحت أقطار خدّك لحية ... تركته وهو مسوّد الأقطار
فكأنّ خط الشّعر في جنباته ... ليل أقام على نجوم أو نهار
وكان لمحمد بن بشر بابان يدخل من الأكبر أصحابه، ومن الأصغر أحبابه فجاء يوما غلام مليح، وأراد الدخول من الأصغر على عادته، فمنع، فجعل يخاصم البوّاب لإدلاله، فبلغ ذلك ابن بشر، فكتب إليه: [مجزوء الرمل](1/287)
قد صافحت أقطار خدّك لحية ... تركته وهو مسوّد الأقطار
فكأنّ خط الشّعر في جنباته ... ليل أقام على نجوم أو نهار
وكان لمحمد بن بشر بابان يدخل من الأكبر أصحابه، ومن الأصغر أحبابه فجاء يوما غلام مليح، وأراد الدخول من الأصغر على عادته، فمنع، فجعل يخاصم البوّاب لإدلاله، فبلغ ذلك ابن بشر، فكتب إليه: [مجزوء الرمل]
قل لمن رام بجهل ... مدخل الظّبي الغرير
بعد أن علق في خدّي ... هـ مخلاة الشّعير
ليته يدخل إن جا ... ء من الباب الكبير
وقال ابن الأبّار: [مخلع البسيط]
لست بصاب إلى معذّر ... بل أنا في حبّه معذّر
لا أعشق الظبي ذا لجام ... لأنه في الظباء منكر
أحسن ما فيه أن تراه ... بين مهاة وبين جؤذر
ينظر قوله: «لأنه في الظبا منكر» إلى قول حبيب: [الوافر]
تعشّقك الكبار يدلّ عندي ... على أنّ الرحى قلبت ثفالا
وقال آخر: [السريع]
لي في أبي يحيى ومشعوقه ... شغل على ذي شغل شاغل
يا ليت شعري قول ذي حيرة ... من منهما المفعول والفاعل!
وقال ابن حصين في محبوب صغير: [مجزوء الرمل]
بأبي ظبي صغير الس ... نّ حازت ثلث سنّي
سرّني أن ليس يدري ... مذهبي فيه وفنّي
فهو يدعوني عمّا ... وأنا أدعوه بابني
وللخبز أرزيّ: [البسيط]
قالوا عشقت صغيرا قلت أرتع في ... روض المحاسن حتى يدرك الثّمر
ربيع حسن دعاني لاتّباع هوى ... لمّا تفتح فيه النّور والزّهر
وقال التّنوخي في جسيم: [البسيط]
من أين أستر وجدي وهو منتهك ... ما للمتيّم في نيل الهوى درك
قالوا عشقت عظيم الجسم قلت لهم ... الشّمس أعظم جسم ضمّه الفلك
وللفقيه ابن حزم: [الطويل]
وذي عذل فيمن سباني حسنه ... يطيل ملامي في الهوى ويقول:(1/288)
أفي حسن وجه لاح لم تر غيره ... ولم تدر كيف الجسم، أنت قتيل!
فقلت له: أسرفت في اللّوم ظاهرا ... وعندي ردّ لو أردت طويل
ألم تر أنّي ظاهريّ وأنّني ... على ما بدا حتى يقوم دليل!
وأحسن حبيب حين قال: [البسيط]
قال الوشاة بدا في الخدّ عارضه ... فقلت لا تنكروا وما ذاك عائبه (1)
الحسن منه على ما كنت أعهده ... والشّعر حرز له ممّن يطالبه
أحلى وأعذب ما كانت شمائله ... إذ لاح عارضه واخضرّ شاربه
وصار من كان يلحى في مودّته ... إن سيل عني وعنه قال صاحبه
وقال الحلوانيّ: [البسيط]
قالوا التحى فامّحت بالشّعر بهجته ... فقلت: لولا الدّجى لم يحسن القمر
خطّت يد الحسن فيه فوق وجنته: ... هذي محاسن يا أهل الهوى أخر
وله أيضا: [الخفيف]
لي حبيب إذا شكوت إليه ... سامني بالهوى عذابا شديدا
لست أدعو بالشّعر غيظا عليه ... خيفة أن يكون حسنا جديدا
غير أنّي أدعو بقلب قريح ... أن أراه مثلي محبّا عميدا
وقال غيره: [مخلع البسيط]
قد حلّ في سوقك الكساد ... مذ لاح في خدّك السّواد
كأنما الشّعر فيه زرع ... والنّتف منه له حصاد
وقوله: «ودواتي بالأقلام»، أي ابتلاه الله أن يلاط به، قال: الفنجديهيّ: أنشدني بعض الشعراء بمروروز لبعضهم: [الوافر]
دوادار الأمير له دواة ... كمثل الياسمين بغير صوف
يرى قلم الأمير يغوص فيها ... مغاص عصيدة في حلق صوفي
ونقل لفظ الدواة والأقلام من قول ديك الجن وكان يهوى غلاما من حمص، اسمه بكر، فجلس معه ليلة يتحدّث بها حتى غاب القمر، فقام بكر ليمشي، فقال:
[الطويل]
__________
(1) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 432.(1/289)
دع البدر فليغرب فأنت لنا بدر ... إذا ما تجلّى عن محاسنك الشّعر
إذا ما انقضى سحر الذين ببابل ... فأنت لنا سحر وريقك لي خمر
ولو قيل لي قم فادع أحسن من ترى ... لصحت بأعلى الصّوت: يا بكر يا بكر!
وكان هذا الغلام شديد التصاون والتمنع، فاحتال عليه قوم من حمص، فأخرجوه إلى متنزّه، فأسكروه وفسقوا به، فبلغ ذلك ديك الجن فقال: [الكامل]
يا بكر ما فعلت بك الأرطام ... يا دار ما فعلت بك الأيّام
في الدار بعد بقية نستامها ... أم ليس فيك بقية تستام
شغل الظّلام كراك في أبوابهم ... فتفرّغت لدواتك الأقلام
وله فيه أيضا: [البسيط]
قولا لبكر بن مهديّ إذا اعتكرت ... عساكر اللّيل بين الطّاس والجام
ألم أقل لك إنّ الكبر مهلكة ... والبغي والعجب إفساد لأقوام
قد كنت تفرق من سهم تعاينه ... فصرت غير رميم رقعة الرّامي
وكنت تفزع من لمس ومن قبل ... فقد ذللت لإسراج وإلجام
إن تدم فخذاك من ركض فربّتما ... أمسى وقلبي منك الموجع الدّامي
قال أبو عليّ بن رشيق: كنت أوصي غلاما وضيئا، كان يختلف إليّ، وأحذّره من كثرة التخليط، فخرج يوما في جماعة من أصحابه، فأوقع به، فأخبرت بذلك، فقلت:
[السريع]
يا سوء ما جاءت به الحال ... إن كان ما قالوا كما قالوا
ما أحذق النّاس بصوغ الخنا ... صيغ من الخاتم خلخال
وهذا من قول ابن المعتز: [الطويل]
مضى خالد والمال تسعون درهما ... وآب ورأس المال ثلث الدّراهم
وهذا المعنى الخبيث يتبين بعقد التسعين والثلاثين في اليد.
وقال ابن رشيق: [الكامل]
سقطت ثنّيته فأوجع قلبه ... لسقوطها وجرى عليه عظيم
فإذا مررت به فسلّ فؤاده ... عنها وقل صبرا كذاك الريم
عجبا للؤلؤة هوت من سلكها ... والسّلك لا واه ولا مفصوم
أتعدّيا يا خطب وهو مصوّن ... أبدا بخاتم ربّه مختوم
ويستحبّ لمن وسم بوسمة الجمال، أن يكون شديد التصاون، قليل التبذّل، فذلك أدعى للسلامة، وقد قال ابن وكيع في ذلك: [البسيط](1/290)
سقطت ثنّيته فأوجع قلبه ... لسقوطها وجرى عليه عظيم
فإذا مررت به فسلّ فؤاده ... عنها وقل صبرا كذاك الريم
عجبا للؤلؤة هوت من سلكها ... والسّلك لا واه ولا مفصوم
أتعدّيا يا خطب وهو مصوّن ... أبدا بخاتم ربّه مختوم
ويستحبّ لمن وسم بوسمة الجمال، أن يكون شديد التصاون، قليل التبذّل، فذلك أدعى للسلامة، وقد قال ابن وكيع في ذلك: [البسيط]
قالوا عشقت كثير البخل ممتنعا ... فقلت: هيهات عنكم غاب أطيبه
لو جادهان، وقلت الجود عادته ... وإنما عزّ لمّا عزّ مطلبه
فإذا تبذّل وأجاب كلّ من دعاه صار عرضة للظنون، ونبت عن محاسنه العيون، لأنّ النفس الحرّة لا تنفك من غيرة، وقد قال العباس بن الأحنف: [الكامل]
يا قوم لم أهجركم لملالة ... منّي ولا لمقال واش حاسد (1)
لكنّني جرّبتكم فوجدتكم ... لا تصبرون على طعام واحد
وقال أبو الوليد بن حزم: [الكامل]
لمّا استمالك معشر لم أرضهم ... والقول فيك كما علمت كثير
داويت دونك مهجتي فتماسكت ... من بعد ما كادت إليك تطير
فاذهب فغير جوانحي لك منزل ... واسمع فغير وفائك المشكور
وله أيضا: [المتقارب]
يقول وقد لمته في الهوى ... فلان، وعرّضت شيئا قليلا:
أتحسدني؟ قلت: لا، والذي ... أحلّك في الحبّ مرعى وبيلا
وكيف وقد حلّ ذاك الإزار ... وقد سلك النّاس تلك السبيلا!
وقال محمد بن السريّ: [الكامل]
قايست بين جماله وفعاله ... فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي
والله لا كلمته ولو أنه ... كالبدر أو كالشّمس أو كالمكتفي
وقال آخر: [الطويل]
أيا حسنا أزرت قبائح فعله ... عليه كما أزرى الكسوف على البدر
لقد فقت كلّ الناس حسنا وزينة ... ولكنّما قبّحت ذلك بالغدر
وقال ابن عيينة: [الكامل]
ضيعت عهد فتى لعهدك حافظ ... في حفظه عجب وفي تضييعك
إن تقتليه وتذهبي بفؤاده ... فبحسن وجهك لا بحسن صنيعك
* * *
__________
(1) البيتان في ديوان العباس بن الأحنف ص 106.(1/291)
فقال الغلام: الاصطلاء بالبليّة، ولا الإيلاء بهذ الأليّة، والانقياد للقود ولا الحلف بما لم يحلف به أحد. وأبى الشيخ إلّا تجريعه اليمين الّتي اخترعها، وأمقر له جرعها. ولم يزل التّلاحي بينها يستعر، ومحجّة التّراضي تعر، والغلام في ضمن تأبّيه، يخلب قلب الوالي بتلوّيه، ويطمعه في أن يلبّيه، إلى أن ران هواه على قلبه، وألبّ بلبّه، فسوّل له الوجد الّذي تيّمه، والطّمع الّذي توهّمه، أن يخلّص الغلام ويستخلصه، وأن ينقذه من حبالة الشّيخ ثم يقتنصه.
* * * قوله: «الاصطلاء»، أي الاتصال والتلبّس. والبلية، أراد دعوة الباطل التي ادّعى عليه الشيخ. والإيلاء: الحلف: والأليّة: اليمين. والقود: قتل النفس بالنفس، فيقول:
الصبر على الضرب أو القتل أهون من هذه اليمين التي لم يحلف بها أحد اخترعها:
استنبطها. أمقر: أمرّ، من المقر وهو الصير.
وهذه اليمين المخترعة، حكى الأصمعيّ شبهها، فقال: اختصم أعرابيّان عند بعض الولاة في دين، فجعل المدّعى عليه يحلف بالطلاق والعتاق، فقال المدّعي: دعني من هذه الأيمان، واحلف بما أقول لك، فقال: ما قولك؟ قال: قل: لا ترك الله لك خفّا يتبع خفّا، ولا ظلفا يتبع ظلفا، وحتّك من أهلك وولدك، كما يحاتّ الورق من الشجر إن كان بقي لي هذا الحق قبلك. فأعطاه حقّه ولم يحلف له.
وحكى المسعوديّ أنّ الفضل بن الربيع قال: صار إليّ عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فقال: إنّ موسى بن عبد الله بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب قد أرادني على بيعته، فأخبرت الرشيد بذلك، فجمع بينهما، فقال الزبيريّ لموسى: سعيتم علينا، وأردتم نقض بيعتنا ودولتنا، فقال له موسى: ومن أنتم! فغلب الرّشيد الضحك حتى رفع رأسه إلى السقف لئلا يظهر منه الضحك، ثم قال موسى: يا أمير المؤمنين، هذا المشنّع عليّ، خرج مع أخي محمد على جدّك المنصور، وهو القائل [من أبيات]:
قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتنا ... إنّ الخلافة فيكم يا بني الحسن
وليست سعايته حبّا لك، ولا مراعاة لدولتك ولكن بغضا لنا جميعا أهل البيت، وأنا أستحلفه بيمين، فإن حلف بها أنّي قلت ذلك، فدمي حلال لأمير المؤمنين. فقال له الرشيد: احلف له يا عبد الله، فامتنع، فقال له الفضل: لم تمتنع وقد زعمت أنه قال ما ذكرته؟ قال: فإني أحلف له، قال موسى: قل: تقلّدت الحول والقوّة دون حول الله وقوّته إلى حولي وقوّتي، إن لم يكن ما قلته حقا. فحلف له، فقال موسى: الله أكبر! حدثني أبي عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما حلف أحد بهذه اليمين وهو
كاذب إلّا عجّل الله له العقوبة قبل ثلاث»، وها أنذا بين يدي أمير المؤمنين في قبضته، فإن مضت ثلاث ولم يحدث له حادث، فدمي حلال لأمير المؤمنين.(1/292)
قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتنا ... إنّ الخلافة فيكم يا بني الحسن
وليست سعايته حبّا لك، ولا مراعاة لدولتك ولكن بغضا لنا جميعا أهل البيت، وأنا أستحلفه بيمين، فإن حلف بها أنّي قلت ذلك، فدمي حلال لأمير المؤمنين. فقال له الرشيد: احلف له يا عبد الله، فامتنع، فقال له الفضل: لم تمتنع وقد زعمت أنه قال ما ذكرته؟ قال: فإني أحلف له، قال موسى: قل: تقلّدت الحول والقوّة دون حول الله وقوّته إلى حولي وقوّتي، إن لم يكن ما قلته حقا. فحلف له، فقال موسى: الله أكبر! حدثني أبي عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما حلف أحد بهذه اليمين وهو
كاذب إلّا عجّل الله له العقوبة قبل ثلاث»، وها أنذا بين يدي أمير المؤمنين في قبضته، فإن مضت ثلاث ولم يحدث له حادث، فدمي حلال لأمير المؤمنين.
قال الفضل: فو الله ما صلّيت العصر من ذلك اليوم، حتى سمعت الصراخ من داره.
فدخلت عليه، فو الله ما كدت أعرفه: لأنه صار كالزّق العظيم، ثم اسودّ حتى صار كالفحم، فعرّفت الرشيد في الحين، فما انقضى كلامنا حتى عرفنا أنه قد مات، فبادرت بتعجيله، وتولّيت الصلاة عليه. فلما ووري في قبره انخسف به، وخرجت رائحة مفرطة النّتن، ومرّت أحمال شوك على الطريق، فأمرت بها فطرحت في قبره، فانخسف ثانية، فأمرت بألواح ساج، فطرحت على قبره وألقى التراب عليها، وانصرفت، وأعلمت الرشيد. فأكثر التعجّب، وأحضر موسى فأعطاه ألف دينار، وقال له: لم عدلت عن اليمين المتعارفة عند الناس؟ فقال: أخبرت بالسند المتقدّم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف بيمين كاذبة مجّد الله فيها، استحيا الله من تعجيل عقوبته، ومن حلف بيمين كاذبة نازع الله فيه حوله وقوّته إلّا عجّل الله له العقوبة قبل ثلاث».
* * * قوله: «التلاحي»، السّباب والتشاتم. عليّ رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لاحى الرجال سقطت مروءته وذهبت كرامته، وما زال جبريل ينهاني عن ملاحاة الرجال كما ينهاني من عبادة الأوثان» (1). وفي المثل: من لا حاك فقد عاداك.
يستعر: يتّقد. محجّة التراضي: أي طريق الرضا تعر: تصعب. وفي ضمن تأبّيه، أي في أثناء كلامه وامتناعه. يخلب: يخدع ويأخذ قلبه. تلوّيه: انعطافه يطمعه: يدعوه للطمع. يلبّيه: يجيبه لمراده. وران: غلب وغطّى. أبو هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب صقلت، وإن عاد زادت حتى تعظم في قلبه، فذلك الران» (2)، قال الله تعالى: {كَلََّا بَلْ رََانَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ}
[المطففين: 14].
ألبّ: أقام. لبّه: عقله: سوّل: زيّن. الوجد: حرقه القلب. تيّمه: عبّده وذلّله، والمتيّم: المستعبد لهواه. توهمّه: ظنه. يستخلصه: يختصه لنفسه. حبالة: آلة الصيد.
يقتنصه: يصيده يقول: إنّ هذا الغلام في أثناء كلامه بالتمنع وترك الانقياد للشيخ يطمع الوالي في الانقياد له، وإنه إذا دعاه لما يريده منه أجابه، وإنما فعل هذا حين رأى إدامة نظر الوالي في وجهه، واستحسانه كلامه، ولو فسّر الوالي حال الغلام بمنظوم لأنشد:
[البسيط]
__________
(1) روى ابن الأثير الجزري، في النهاية في غريب الحديث 4/ 243، الحديث بلفظ: «نهيت عن ملاحاة الرجال».
(2) أخرجه بنحوه الترمذي في تفسير سورة 83، باب 1، وابن ماجه في الزهد باب 29.(1/293)
يهدي لك الدّر من لفظ ومبتسم ... ضربان: منتثر منه ومنظوم
يجني الذنوب، وأحنو أن أؤاخذه ... من أجل ذلك قيل الحسن مرحوم
ولأنشد إذا غلب عليه هواه: [البسيط]
مرآك مرآك لا شمس ولا قمر ... وورد خدّيك لا ورد ولا زهر
في ذمّة الله قلب أنت ساكنه ... إن بنت بان فلا عين ولا أثر
لولا محلّك من قلبي لما أسفت ... نفسي عليك، فرفقا أيّها القمر
هذه الأبيات لأبي الوليد بن حزم وقد كرر معنى البيت الأخير فقال: [الكامل]
أذكيت من قلبي بنأيك لوعة ... حتى خشيت على محلّك فيه
ومما يتعلق بهذا المعنى قول الآخر: [الطويل]
ولمّا رماني بالسهام تعمّدا ... وفيها نصال الهجر حتى امتلا صدري
فقلت له لا ترم قلبي فإنّه ... مكانك والمرميّ أنت ولا تدري
وقال آخر: [الطويل]
حملتك في قلبي فهل أنت عالم ... بأنّك محمول وأنت مقيم!
ألا أنّ شخصا في فؤادي محلّه ... وأشتاقه، شخص عليّ كريم
وقال التّهاميّ: [الكامل]
قلبي فداؤك وهو قلب لم يزل ... تذكى شهاب الشّوق في أثنائه
جاورته شرّ الجوار وزرته ... لمّا حللت فناءه بفنائه
حرّق سوى قلبي ودعه فإنني ... أخشى عليك وأنت في سودائه
وقال آخر: [السريع]
أودع فؤادي حرقا أودع ... نفسك تؤذى أنت في اضلعي
أمسك سهام اللّحظ أو فارمها ... أنت بما ترى مصاب معي
موقعها القلب وأنت الذي ... مسكنه في ذلك الموضع
* * *
فقال للشّيخ: هل لك فيما هو أليق بالأقوى، وأقرب للتّقوى! فقال: إلام تشير لأقتفيه، ولا أقف لك فيه؟ فقال: أرى أن تقصر عن القيل والقال، وتقتصر منه على مائة مثقال، لأتحمّل منها بعضا، وأجتبي الباقي لك عرضا، فقال الشّيخ:
ما منّي خلاف، فلا يكن لوعدك إخلاف، فنقده الوالي عشرين، ووزع على وزعته تكملة خمسين. ورقّ ثوب الأصيل، وانقطع لأجله صوب التّحصيل، فقال له: خذ ماراج، ودع عنك اللّجاج، وعليّ في غد أن أتوصّل، إلى أن ينضّ لك الباقي ويتحصّل، فقال الشّيخ: أقبل منك على أن ألازمه ليلتي، ويرعاه إنسان مقلتي، حتى إذا أعفى بعد إسفار الصبح، بما بقي من مال الصّلح، تخلّصت قائبة من قوب، وبرىء براءة الذّئب من دم ابن يعقوب، فقال له الوالي: ما أراك سمت شططا، ولا رمت فرطا.(1/294)
فقال للشّيخ: هل لك فيما هو أليق بالأقوى، وأقرب للتّقوى! فقال: إلام تشير لأقتفيه، ولا أقف لك فيه؟ فقال: أرى أن تقصر عن القيل والقال، وتقتصر منه على مائة مثقال، لأتحمّل منها بعضا، وأجتبي الباقي لك عرضا، فقال الشّيخ:
ما منّي خلاف، فلا يكن لوعدك إخلاف، فنقده الوالي عشرين، ووزع على وزعته تكملة خمسين. ورقّ ثوب الأصيل، وانقطع لأجله صوب التّحصيل، فقال له: خذ ماراج، ودع عنك اللّجاج، وعليّ في غد أن أتوصّل، إلى أن ينضّ لك الباقي ويتحصّل، فقال الشّيخ: أقبل منك على أن ألازمه ليلتي، ويرعاه إنسان مقلتي، حتى إذا أعفى بعد إسفار الصبح، بما بقي من مال الصّلح، تخلّصت قائبة من قوب، وبرىء براءة الذّئب من دم ابن يعقوب، فقال له الوالي: ما أراك سمت شططا، ولا رمت فرطا.
قال الحارث بن همام: فلمّا رأيت حجج الشّيخ كالحجج السّريجيّة، علمت أنّه علم السّروجيّة.
* * * قوله: «أليق» أي أشكل وأصقل. بالأقوى: بصاحب القوّة. والذي هو أقرب للتقوى، وهو العفو لقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ََ} [البقرة: 237]. أقتفيه:
أتبعه. لا أقف لك فيه، أي لا أتوقّف فيما تشير به. تقصر: تكفّ. عن القيل والقال، أي عن كل كلام. أجتبي: أجمع. عرضا: كلّ ما ليس فيه روح من الأمتعة غير العين وهو ليس بنقد من السّلع التي يتجر فيها من متاع ورقيق وغير ذلك. أتحمّل: أضمن، وفلان حميل بكذا، أي ضامن له. إخلاف: كذب وعد. نقده: أعطاه نقدا. وزّع: فرّق.
وزعته: شرطته الذين يكفون عنه الناس، واحدهم وازع مثل كافر وكفرة، وقد وزعته وزعا كففته، وأيضا دفعته. وقال الحسن البصريّ رحمه الله: لا بدّ للسلطان من وزعة.
الأصيل العشيّ. وثوبه: ضوء الشمس، وهو في ذلك الوقت رقيق. صوب: وقع، وصاب السهم صوبا وصيّبا: وقع بالرميّة، وصاب السحاب الموضع: أمطر. والتحصيل:
أن يحصلّ بقية المال. راج: حضر وتيسّر، ويقال: راج الشيء روجا فهو رائج إذا جاء جاء سريعا. قوله: «إنسان مقلتي»، أي سواد عيني. يرعاه: يحفظه وينظره. أعفى: أتى بالبقيّة، والعفاوة: بقية المرق في القدر. تخلّصت: انفصلت. والقائبة: البيضة.
والقوب: الفرخ، وهذا مثل يضرب للرجلين يفترقان بعد الصّحبة، وجاء مقلوبا لأن الذي ينفصل ويخرج إما هو الفرخ من البيضة، والقوب، من تقوّب الشيء إذا انتشر، ومنه القوباء لداء الحزاز. وابن يعقوب هو يوسف عليهما السلام، وبراءة الذئب من دمه، هو ما يحكى أنّ إخوته لما جاءوا أبيهم يبكون على يوسف، علموا أنه لا يصدّقهم، فاصطادوا ذئبا فلطّخوه بدم، وأتوه يبكون، وقالوا له: هذا الذئب قد ضري، أكل أغنامنا وأكل يوسف أخانا، قال لهم: أطلقوه، ودعا الله يعقوب أن ينطقه له، فقال للذئب: ادن منّي، فجعل يبصبص بذنبه ويدنو منه، حتى وضع خدّه على فخذ يعقوب، فقال له: لم
أكلت ابني، وفجعتني فيه؟ فقال: لا والله يا نبيّ الله، ما رأيته ولا أكلته، وإني لغريب في أرضكم اليوم، وصلت من مصر في طلب أخ لي فقدته، فأوثقني هؤلاء وساقوني إليك، فقال لهم يعقوب عليه السلام: الذئب مع أخيه أوفى منكم مع أخيكم.(1/295)
والقوب: الفرخ، وهذا مثل يضرب للرجلين يفترقان بعد الصّحبة، وجاء مقلوبا لأن الذي ينفصل ويخرج إما هو الفرخ من البيضة، والقوب، من تقوّب الشيء إذا انتشر، ومنه القوباء لداء الحزاز. وابن يعقوب هو يوسف عليهما السلام، وبراءة الذئب من دمه، هو ما يحكى أنّ إخوته لما جاءوا أبيهم يبكون على يوسف، علموا أنه لا يصدّقهم، فاصطادوا ذئبا فلطّخوه بدم، وأتوه يبكون، وقالوا له: هذا الذئب قد ضري، أكل أغنامنا وأكل يوسف أخانا، قال لهم: أطلقوه، ودعا الله يعقوب أن ينطقه له، فقال للذئب: ادن منّي، فجعل يبصبص بذنبه ويدنو منه، حتى وضع خدّه على فخذ يعقوب، فقال له: لم
أكلت ابني، وفجعتني فيه؟ فقال: لا والله يا نبيّ الله، ما رأيته ولا أكلته، وإني لغريب في أرضكم اليوم، وصلت من مصر في طلب أخ لي فقدته، فأوثقني هؤلاء وساقوني إليك، فقال لهم يعقوب عليه السلام: الذئب مع أخيه أوفى منكم مع أخيكم.
قوله: «سمت»: أي كلّفت. شططا: شيئا بعيدا، والشّطط: مجاوزة القدر.
ورمت فرطا: طلبت شيئا متفاوتا، وكيف لم يسمّه شططا، وقد حرمه لذة ليلة مع هذا الغلام أحسن من ليلة الخفاجي حيث يقول: [مخلع البسيط]
وليلة طلقة قضتني ... من موعد للحبيب دينا
بتنا نجرّ الذيول فيها ... والخمر تمشي بنا بالهوينى
أرسل في روض وجنتيه ... لحظة عين تفيض عينا
كأنّما اللحظ كيمياء ... تذهب من وجهه لجينا
وما توهّمت أنّ طرفا ... يقلب عين اللجين عينا
أو ليلة الآخر حين يقول: [الكامل]
لمّا رأى من ظلت فيه متيمّا ... جسمي ضئيلا والفؤاد مولّها
جادت شمائله عليّ بليلة ... أهدت إلى الصبّ المعنّى ما اشتهى
عانقت فيها البدر ليلة تمّه ... يا من رأى بدرا يعانقه السّها!
[أحمد بن سريج من أئمة الشافعيّة]
قوله: «الحجج السّريجية» منسوبة إلى أحمد بن سريج، وهو من كبار أصحاب الشافعيّ، وكان حسن الاحتجاج، مليح المناظرة.
وقال الفنجديهيّ: السّريجيّة منسوبة إلى الإمام أبي العباس أحمد بن عمر بن سريج إمام أصحاب الشافعيّ على الإطلاق، ومن لا نفست ذات درّ بمثله في الآفاق، حججه في أحكام الشرع أوضح الحجج، وأقواها وأمتنها على مرور الأيام والحجج، وكان يلقّب بالبازي الأشهب، وبالشافعيّ الثانيّ، لتبحّره في استنباط المعاني، من غوامض الأخبار والمثاني، دلائله في فنون العلم متينة، وبراهينه مبينة.
وقال: رأيت في المنام كأنا أمطرنا كبريتا أحمر، فملأت كمّي وحجري وجيبي منه، فعبّر لي أني أرزق علما غزيرا كعزّة الكبريت الأحمر.
وسمع يتمثّل بهذه الأبيات: [المتقارب]
فلا تحسد الكلب أكل العظام ... فعند الخراءة ما ترحمه
تراه وشيكا شكسا إسته ... كلوما جناها عليه فمه
إذا ما أهان امرؤ نفسه ... فلا أكرم الله من يكرمه
وكان يناظر محمد بن داود، فقال له ابن داود يوما وقد أكثر عليه السؤال: أبلعني ريقي، فقال له: قد أبلعتك الدّجلة والفرات.(1/296)
فلا تحسد الكلب أكل العظام ... فعند الخراءة ما ترحمه
تراه وشيكا شكسا إسته ... كلوما جناها عليه فمه
إذا ما أهان امرؤ نفسه ... فلا أكرم الله من يكرمه
وكان يناظر محمد بن داود، فقال له ابن داود يوما وقد أكثر عليه السؤال: أبلعني ريقي، فقال له: قد أبلعتك الدّجلة والفرات.
وقال له مرة: أمهلني ساعة، فقال: قد أمهلتك من الساعة إلى أن تقوم الساعة.
وقال له ابن داود يوما: أكلّمك من الرّجل وتجيبني من الرأس! فقال له: كذلك البقر إذا حفيت أظلافها، وهنت قرونها.
واجتمع أبو العباس بن سريج وأبو بكر بن داود الأصبهانيّ في مجلس عيسى بن الجراح الوزير، فتناظرا في الإبلاء، فقال ابن سريج: أنت بقولك: من كثرت لحظاته، دامت حسراته، أبصر منك في الكلام في الإيلاء، فقال له ابن داود: لئن قلت ذلك، فإني أقول: [الطويل]
أنزّه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرّما
وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنّه ... يصبّ على الصّخر الأصمّ تهدّما
وينطق طرفي عن مترجم خاطري ... فلولا اختلاسي ردّه لتكلّما
رأيت الهوى دعوى من الناس كلّهم ... فلست أرى حبّا صحيحا مسلمّا
وقال له ابن سريج: بم تفتخر؟ ولو شئت قلت: [الكامل]
ومساهر بالغنج من لحظاته ... قد بتّ أمنعه لذيذ سناته
أصبو لحسن كلامه وحديثه ... وأكرّر اللحظات في وجناته
حتى إذا ما الصبح لاح عموده ... ولّي بخاتم ربّه وبراته
فقال له أبو بكر: أصلح الله الوزير! يحفظ عليه ما قال، حتى يقيم عليه شاهدين عدلين، أنه ولّى بخاتم ربه وبراءته، فقال له ابن سريج: فيلزمني في هذا ما يلزمك في قولك: [الطويل]
* وأمنع نفسي أن تنال محرّما *
فضحك الوزير، وقال: لقد جمعتما ظرفا ولطفا وعلما وفهما.
اشتملت هذه الحكاية على أنّ هذين الرجلين العالمين على اشتهارهما بالعلم والفضل والدّين كانا يرتاحان إلى التعشّق على سبيل التظرّف والتزام التعفّف على ما يليق ويشكل بمنصبهما وإذا كان التّعشّق بشرط العفاف، فإنّما يزيد الرّجل الفاضل رقّة طبع، وحلاوة شمائل.
وقال ابن سريج في مرضه الذي مات فيه: أريت في المنام البارحة كأنّ قائلا يقول:
هذا ربّك يخاطبك، فسمعته يقول: ماذا أجبتم المرسلين؟ فقلت: بالإيمان والتّصديق، قال: فقيل: ماذا أجبتم المرسلين؟ فوقع في نفسي أنه يراد مني زيادة في الجواب،
فقلت: بالإيمان والتصديق، غير أنا قد أصبنا من هذه الذنوب، فقال: أما إنّي سأغفرها لك.(1/297)
هذا ربّك يخاطبك، فسمعته يقول: ماذا أجبتم المرسلين؟ فقلت: بالإيمان والتّصديق، قال: فقيل: ماذا أجبتم المرسلين؟ فوقع في نفسي أنه يراد مني زيادة في الجواب،
فقلت: بالإيمان والتصديق، غير أنا قد أصبنا من هذه الذنوب، فقال: أما إنّي سأغفرها لك.
وتوفّي لخمس مضين من جمادى الأولى سنة ست وثلمائة، وبلغ سنه سبعا وخمسين سنة وستة أشهر، ودفن في حجرة، بسويقة غالب ببغداد رحمة الله عليه.
[من شعر النسيب]
ونذكر الآن من نفيس الشعر المضمّن «من ظفر من محبوبه بمراده من الوصال، ثم عفّ عما يخلّ بأهل الجلال»، قال إدريس بن اليمان: [البسيط]
لم تدر ما خلّدت عيناك في خلدي ... من الغرام ولا ما كابدت كبدي
أفديك من زائر رام الدنوّ فلم ... يسطعه من حرق في الدّمع متّقد
خاف العيون، فوافاني على عجل ... معطّلا جيده إلّا من الغيد
عاطيته الكأس فاستحيت مدامتها ... من ذلك الشّنب المعسول والبرد
حتى إذا غازلت أجفانه سنة ... وصيّرته يد الصّهباء طوع يدي
أردت توسيده خدّي وقلّ له ... فقال: كفّك عندي أفضل الوسد
فبات في حرم، لا غدر يزعجه ... وبتّ ظمآن لم أصدر ولم أرد
بدر ألمّ وبدر التّمّ منمحق ... والأفق محلولك الأرجاء من حسد
تحيّر الليل فيه، أين مطلعه ... أما درى اللّيل أن البدر في عضدي!
وقال الرّماديّ: [السريع]
وليلة راقبت فيها الهوى ... على رقيب غير وسنان
والرّاح ما تنزل عن راحتي ... وقتا ومن راحة ندماني
وربّ يوم قيظه منضج ... كأنّه أحشاء ظمآن
أبرز من خدّيه لي رشحه ... طلّا على ورد وسوسان
وكان في تحليل أزراره ... أقود لي من ألف شيطان
فتحت الجنّة من جيبه ... فبتّ في جنّة رضوان
مروءة في الحبّ تنهي بأن ... يجاهر الله بعصيان
وقال سعيد بن حميد: [الخفيف]
زائر زارنا على غير وعد ... أهيف الكشح، مثقل الأرداف
غالب الخوف حين غلبه الشّو ... ق فأخفى الهوى وليس بخافي
غضّ طرفي عنه تقى الله واختر ... ت على بذله بقاء التّصافي(1/298)
ثم ولّي والخوف قد هزّ عطفي ... هـ، ولم نخل من لباس العفاف
وقال بعض الطالبيين: [الطويل]
رموني وإيّاها بشنعاء هم بها ... أحقّ، أدال الله منهم وعجّلا
بأمر تركناه وربّ محمد ... جميعا، فإما عفّة أو تجمّلا
وسنزيد ما يستحسن في العفاف وضده في الثانية عشر.
قوله: «علم السّروجيّة»، أي مشهورها. والعلم: الجبل.
* * * فلبثت إلى أن زهرت نجوم الظّلام، وانتثرت عقود الزّحام، ثمّ قصدت فناء الوالي، فإذا الشّيخ للفتى كالي، فنشدته الله: أهو أبو زيد؟ فقال: إي ومحلّ الصّيد! فقلت: من هذا الغلام، الّذي هفت له الأحلام، قال: هو في النّسب فرخي، وفي المكتسب فحّي، قلت: فهلّا اكتفيت بمحاسن فطرته، وكفيت الوالي الافتنان بطرّته! فقال: لو لم تبرز جبهته السّين، لما قنفشت الخمسين، ثمّ قال:
بت الليلة عندي لنطفىء نار الجوى، ونديل الهوى من النّوى، فقد أجمعت على أن أنسلّ بسحرة، وأصلي قلب الوالي نار حسرة.
* * * لبثت: أقمت. عقود: جمع عقد، أراد ما يعقد من جموع النّاس في الزّحام.
انتثرت: افترقت. زهرت: أضاءت. الفناء: ما حول الدار. ناشدته: سألته. هفت، أي طارت. الأحلام: العقول. فطرته: خلقته. تبرز: تظهر. والطّرّة: قد تقدمت، وشبّه اعتدال الشّعر على الجبهة بشكل السين على السّطر، وأخذه من قول التّهاميّ: [البسيط]
يا ربّ معنى بعيد الشأن نسلكه ... في سلك لفظ قريب الفهم مختصر
لفظ يون لقعد القول واسطة ... ما بين منزلة الإسهاب والخصر
إن الكتابة صارت تحت أنمله ... والجود فالتقيا منه على قدر
تردّ أقلامه الأرماح صاغرة ... عكسا، كعكس شعاع الشّمس للقمر
وفي كتابك فاعذر من يهيم به ... من المحاسن ما في أحسن الصّور
الطّرس كالخدّ والنونات دائرة ... مثل الحواجب والسّينات كالطّرر
ومن ملح الخبز أرزيّ: [الرمل]
وبنفسي من إذا خمّشته ... نثر الورد عليه ورقه(1/299)
وإذا مسّت يدي طرّته ... أفلتت منه فعادت حلقه
أخذها من حكاية لعمر بن أبي ربيعة حدّث المغيرة بن عبد الرحمن، قال:
حججت مع أبي وأنا غلام، عليّ جمّة، فجئت عمر فسلّمت عليه، فجلست عنده، فجعل يمدّ الخصلة من شعري ثم يرسلها، فترجع على ما كانت عليه، ويقول: واشباباه! حتى فعل ذلك مرارا، ثم قال لي: يا ابن أخي، قد سمعتني أقول في شعري: قالت وقلت وكلّ مملوك لي حرّ إن كنت كشفت عن فرج امرأة حرام قطّ، فسألت عن رقيقه، فقيل لي: أما في الحوك فسبعون سوى غيرهم.
وساير عمر عروة بن الزبير يحدّثه، فقال: وأين زين المواكب؟ يعنى ابنه محمدا، وكان يعرف بذلك لجماله فقال عروة: هو أمامك، فركد يطلبه، فقال له عروة: يا أبا الخطّاب، أولسنا أكفاء كراما لمحادثتك! قال: بلى، بأبي أنت وأمي، ولكني مغرى بهذا الجمال حيث كان، ثم التفت إليه، وقال: [البسيط]
إنّي امرؤ مولع بالحسن أتبعه ... لا حظّ لي فيه إلّا لذّة النّظر
أخذه العباس بن الأحنف، فقال: [البسيط]
أتأذنون لصبّ في زيارتكم ... فعندكم شهوات السّمع والبصر
لا يضمر السّوء إن طالت إقامته ... عفّ الضمير ولكن فاسق النّظر
[مما قيل في حلق الشعر]
ومما يتعلق بذكر الشّعر حلاقه، والشعر فيه كثير فنلمّ منه باليسير.
وأول من قرع هذا الباب فيما يذكر القائل: [الخفيف]
حلقوا رأسه ليكسوه قبحا ... خيفة منهم عليه وشحّا
كان من قبل ذاك ليلا وصبحا ... فمحوا ليله وأبقوه صبحا
وقال أبو العباس القريعيّ: [الرمل]
كان إلّا قمرا تحت دجى ... فانجلى اللّيل ولاح القمر
أو كزهر في كمام كامن ... شققت عنه فتمّ الزّهر
وقال أبو العباس بن حيّون: [الكامل]
حلقوك في تغيير حسنك رغبة ... فازداد حسنك بهجة وضياء
كالخمر فضّ ختامه فتشعشعت ... والشّمع قطّ ذباله فأضاء
* * *
قوله: «قنفشت»، أي أخذت بسرعة، تقول: قفشت الشيء، قفشا إذا جمعت عليه
كفّك بسرعة، وقد انقفشت العنكبوت، إذا دخلت حجرها.(1/300)
قوله: «قنفشت»، أي أخذت بسرعة، تقول: قفشت الشيء، قفشا إذا جمعت عليه
كفّك بسرعة، وقد انقفشت العنكبوت، إذا دخلت حجرها.
قوله: «الجوى»، أي مرض القلب. نديل: نعوّض، والإدالة: أن يكون الشيء لك مرة ولغيرك أخرى وهي من الدّولة. النوى: البعد أو يريد: هلمّ لنجدّد المودّة في هذه الليلة، ويكون ذلك عوضا من طول الفرّاق، فقد عزمت على أن أنسلّ بالسّحر وأفرّ، والإنسلال: الخروج مستخفيا. أصلي قلب الوالي: أجعله متحرّقا بالتحسر والتفجع.
* * * قال: فقضيت اللّيلة معه في سمر، آنق من حديقة زهر، وخميلة شجر، حتّى إذا لألأ الأفق ذنب السّرحان، وآن انبلاج الفجر وحان، ركب متن الطّريق، وأذاق الوالي عذاب الحريق، وسلّم إليّ ساعة الفراق، رفعة محكمة الإلصاق، وقال:
ادفعها إلى الوالي إذا سلب القرار، وتحقّق منّا الفرار ففضضتها فعل المتملّس، من مثل صحيفة المتلمّس.
* * * قضّيت: أتممت. سمر: حديث بالليل يسمر عليه. آنق: أحسن. حديقة: بستان، ولا تكون إلا تحت حائط أو زرب. زهر: تور. خميلة: روضة فيها شجر. لألأ: لمع وأضاء. الأفق: جهات السماء. ذنب السّرحان، هو الفجر الكاذب، وهو ضوء يظهر قبل الفجر دقيق متصعّد إلى السماء. والسّرحان: الذئب، شبّه ضوءه بذنبه. آن: حان وقرب.
انبلاج الفجر: ظهور ضوئه. متن: ظهر. الحريق: سلّم: ترك. محكمة الإلصاق: متقنة الطيّ. القرار: السكينة، يريد أنّ الوالي إذا أخبر بهربنا ذهب عقله، فجعل يتململ ولا يقرّ. فضضتها: كسرت ختامها.
[المتلمس وصحيفته]
والمتلمّس، شاعر مشهور، اسمه جرير بن عبد المسيح، وسمّي المتلمّس بقوله: [الطويل] فهذا أوان العرض جنّ ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمّس (1)
وهو مأخوذ من تلمّس الرجل الحاجة، إذا طلبها سرّا من غيره، وأصل ذلك من اللّمس باليد، كالذي يلمس بيده في الظلام مواضع خفيّة يطلب منها شيئا ضاع منه، أو كلمس الأعمى شيئا بيده.
__________
(1) البيت للمتلمس في ديوانه ص 123، والاشتقاق ص 317، وجمهرة اللغة ص 747، وخزانة الأدب 4/ 185، 186، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 662، ولسان العرب (لمس)، (عرض)، وبلا نسبة في خزانة الأدب 6/ 546، والخصائص 2/ 377، وسر صناعة الإعراب 2/ 510، ويروى «حيّ ذبابه» بدل «جنّ ذبابه».(1/301)
ومن كلام عامّتنا: فلان يتلمّس، بسكون التاء، أي يدخل بين الناس باستخفاء ولا يشعر به.
والمتلمّس أحد الثلاثة الذين اتفق العلماء على أنهم أشعر المقلّين في الجاهلية، وهم: المتلمّس والمسيّب بن علس وحصين بن الحمام.
والمتمّلس، بالميم قبل اللام، هو المتخلّص الذي يطلب السلامة والخلاص بسهولة، وقد أملس إذا خرج من بين القوم هاربا وهم لا يشعرون، وقد أملس الشيء، إذا سقط من يدك ولم تشعر به لملاسته.
والصحيفة: الكتاب. وقصّتها أن المتلمّس وطرفة كانا يتنادمان مع عمرو بن هند ملك الحيرة وكان سيّىء الخلق شديده، وهو الذي حرّق من تميم مائة رجل، فهجوه، فقال فيه المتلمس وكان طرده لشيء بلغه عنه: [الكامل]
أطردتني حذر الهجاء ولا ... والّلات والأنصاب لا تئل (1)
أي لا تنجو.
وقال فيه أيضا: [الكامل]
إن الخيانة والمغالة والخنا ... والغدر نتركه ببلدة مفسد (2)
ملك يلاعب أمّه وقطينها ... رخو المفاصل أيره كالمبرد
فإذا حللت ودون بيتي غاوة ... فابرق بأرضك ما بدا لك وارعد
وقال طرفة: [الوافر]
فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثا حول قبتنا تخور (3)
لعمرك إنّ قابوس بن هند ... ليخلط ملكه نوك كثير
في أبيات شهرتها تنبي وتغني عن ذكرها فاستحيا أن يقتلها بحضرته، وبينهما إدلال المنادمة، فكتب لهما بصحيفتين، وختمهما لئلّا يعلما ما فيهما هو أوّل من ختم الكتاب وقال لهما: اذهبا إلى عاملي بالبحرين، فقد أمرته أن يصلكما بجوائز. فذهبا
__________
(1) البيت للمتلمس الضبعي في ديوانه ص 42، ومعجم البلدان (اللات)، والأغاني 24/ 251، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 630، والاشتقاق ص 543.
(2) الأبيات في ديوان المتلمس ص 147، والبيت الثالث في لسان العرب (عصد)، (غوي)، وتاج العروس (عصد)، (غوي)، وإصلاح المنطق ص 193، وهو بلا نسبة في المخصص 14/ 228.
(3) البيتان لطرفة بن العبد في ديوانه ص 48، والبيت الأول في لسان العرب (رغث)، (خور)، وتاج العروس (رغث)، ومقاييس اللغة 2/ 416، وتهذيب اللغة 8/ 90، والمخصص 7/ 49، 178، ومجمل اللغة 2/ 399، وأساس البلاغة (رغث).(1/302)
فمرّا بطريقهما بشيخ يحدث ويأكل من خبز بيده، ويتناول القمل من ثيابه ويقصعه، فقال المتلمّس: ما رأيت شيخا كاليوم أحمق من هذا! فقال الشيخ: ما رأيت من حمقى! أخرج الداء، وآكل الدّواء، وأقتل الأعداء. ويروى: أقتل عدوّا، وأدخل طيّبا، وأخرج خبيثا، أحمق والله منّي من يحمل حتفه بيده.
فاستراب المتلمّس بقوله، وطلع عليهما غلام من أهل الحيرة من كتّاب العرب، فقال له المتلمّس: أتقرأ يا غلام؟ قال: نعم، ففك الصحيفة فإذا فيها: فإذا أتاك المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حيّا: فقال لطرفة: ادفع إليه صحيفتك، فإنّ فيها مثل هذا، فقال طرفة: كلا لم يكن ليجترىء عليّ وكان غرّا صغير السّنّ فقذف المتلمس بصحيفته في نهر الحيرة، وقال: [الطويل]
قذفت بها في الثّني من جنب كافر ... كذلك أقنو كل فظّ مضلّل (1)
رضيت لها بالماء لمّا رأيتها ... يجول بها التيّار في كل جدول
وأخذ نحو الشأم وقال: [الكامل]
ألقى الصحيفة كيف يخفّف رحله ... والزّاد حتى نعله ألقاها (2)
أراد: أنه تخفف للفرار، فألقى ما لا يثقل، وما لا بدّ للسفر منه.
وقال حين نجا: [الكامل]
من مبلغ الشّعراء عن أخويهم ... خبرا فتصدقهم بذاك الأنفس (3)
أودى الذي علق الصحيفة منهما ... ونجا حذار حبائه المتلمّس
__________
(1) يروى البيت الأول:
وألقيتها في الثني من جنب كافر ... كذلك أقنو كلّ قطّ مضلّل
وهو في ديوان المتلمس ص 65، ولسان العرب (كفر)، (قنا)، وتهذيب اللغة 9/ 314، 317، والمخصص 11/ 74، وتاج العروس (كفر)، (قنا)، وكتاب الجيم 3/ 122، والبيت بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 787، وكتاب العين 5/ 357.
(2) البيت للمتلمس في ملحق ديوانه ص 327، وشرح شواهد المغني 1/ 370، ولأبي (أو لابن) مروان النحوي في خزانة الأدب 3/ 21، 24، والدرر 4/ 113، وشرح التصريح 2/ 141، والكتاب 1/ 97، والمقاصد النحوية 4/ 134، ولمروان بن سعيد في معجم الأدباء 19/ 146، وبلا نسبة في أسرار العربية ص 269، وأوضح المسالك 3/ 365، والجنى الداني ص 547، 553، وخزانة الأدب 9/ 472، والدرر 6/ 140، وشرح أبيات سيبويه 1/ 411، وشرح عمدة الحافظ ص 614، ورصف المباني ص 182، وشرح الأشموني 2/ 289، وشرح قطر الندى ص 304، وشرح المفصل 8/ 19، ومغني اللبيب 1/ 24، وهمع الهوامع 2/ 24، 36.
(3) الأبيات في ديوان المتلمس ص 186، والبيت الثالث في لسان العرب (نقرس)، (أبى)، وتهذيب اللغة 9/ 395، وتاج العروس (نقرس).(1/303)
ألق الصحيفة، لا أبا لك إنّما ... يخشى عليك من الحباء النّقرس
وأما طرفة فوصل إلى البحرين، فلما قرأ العامل صحيفته، وسأله عن المتلمّس فأخبره بفراره، عفا عنه لصدقه ورعايته لطابع الملك حيث لم يفكّه.
وقيل: إنه سجنه، وبعث إلى عمرو بن هند، وقال له: ما كنت لأقتل طرفة، وأعادي قبيلته، فإذا أردت قتله، فابعث إليه من يقتله. ففعل وخيّر في قتله فاختار أن يسقى الخمر، ويفصد أكحله ففعل به ذلك حتى مات نزفا، ودفن بهجر. وقيل قي قتله غير ذلك.
وقال البحتري يصدّق ما تقدم: [الكامل]
ولقد سكنت إلى الصدود من النّوى ... والشّري أري عند طعم الحنظل (1)
وكذاك طرفة حين أوجس ضربة ... في الرأس هان عليه فصد الأكحل
وقال: وهو في السجن يخاطب قومه: [السريع]
أسلمني قومي ولم يغضبوا ... لسوءة حلّت بهم فادحه (2)
كلّ خليل كنت خاللته ... لا ترك الله له واضحه
كلّهم أروغ من ثعلب ... ما أشبه اللّيلة بالبارحه!
وقال يخاطب عمرو بن هند في السجن: [الطويل]
أبا منذر كانت غرورا صحيفتي ... ولم أعطكم بالطّوع مالي ولا عرضي (3)
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشّرّ أهون من بعض
وقتل وهو ابن عشرين سنة، والعرب تقول: أشعر الناس ابن العشرين وتعنيه، إلّا أنّ أبا العباس أنشد لأخته ترثيه: [الطويل]
عددنا له ستّا وعشرين حجّة ... فلما توفيّ واستوى سيّدا ضخما (4)
__________
(1) البيتان في ديوان البحتري ص 1743.
(2) الأبيات لطرفة بن العبد في ديوانه ص 15، والبيت الثاني في مجمع الأمثال 1/ 317، وديوان الأدب 3/ 231، وتاج العروس (روغ)، وبلا نسبة في لسان العرب (وضح)، ومقاييس اللغة 6/ 119، وتهذيب اللغة 5/ 157، والبيت الثالث في تمثال الأمثال 2/ 550، وجمهرة الأمثال 2/ 247، وجمهرة اللغة ص 275، والحيوان 6/ 302، والفاخر ص 316، وفصل المقال ص 227.
(3) البيتان لطرفة بن العبد في ديوانه ص 66، والبيت الأول في لسان العرب (غرر)، والبيت الثاني في الدرر 3/ 67، والكتاب 1/ 348، ولسان العرب (حنن)، وهمع الهوامع 1/ 190، وتاج العروس (حنن)، وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 1273، وشرح المفصل 1/ 118، والمقتضب 3/ 224.
(4) البيتان في الكامل للمبرد 1/ 258.
فجعنا به لمّا رجونا إيابه ... على خير حال، لا وليدا ولا قحما (1)
وهلك المتلمّس في الجاهليّة ببصرى.(1/304)
__________
(4) البيتان في الكامل للمبرد 1/ 258.
فجعنا به لمّا رجونا إيابه ... على خير حال، لا وليدا ولا قحما (1)
وهلك المتلمّس في الجاهليّة ببصرى.
* * * فإذا فيها مكتوب: [الطويل]
قل لوال غادرته بعد بيني ... سادما نادما يعضّ اليدين
سلب الشيخ ماله، وفناه ... لبّه، فاصطلى لظى حسرتين
جاد بالعين حين أعمى هواه ... عينه فانثنى بلا عينين
خفّض الحزن يا معنّى فما يج ... دي طلاب الآثار من بعد عين
ولئن جلّ ما عراك كما ج ... لّ لدى المسلمين رزء الحسين
فقد اعتضت منه فهما وحزما ... واللّبيب الأريب يبغي ذين
فاعص من بعدها المطامع واعلم ... أنّ صيد الظّباء ليس بهين
لا ولا كلّ طائر يلج الف ... خّ ولو كان محدقا باللّجين
ولكم من سعى ليصطاد فاصط ... يد ولم يلق غير خفّي حنين
* * *
قوله: «غادرته»، أي تركته. يعضّ اليدين: تندما. سادما. متغيّرا، والسادم:
المتغيّر العقل من الغمّ، من قولهم: ماء سدم، ومياه سدم وأسدام، أي متغّيرة، وقيل:
السّديم: الحزين الذي لا يطيق ذهابا ولا مجيئا، من قولهم: بعير مسدّم، إذا منع من الضّراب، فكأنّ الحزين منع من الذهاب والمجيء، فيقول: تركته يعضّ يديه تندما وتلهّفا. اللظى: لهب النار، وقد لظت النار: علا لهبها فيريد أنّ الشيخ أخذ ماله والفتى عقله، فاحترق بنار فجعتين جاد: سمح. العين: الذهب. هواه: تعشّقه وميله: انثنى.
رجع. بلا عينين، أي بغير مال ولا بصر. خفّض: سكّن. معنّى: معذّب. يجدي: ينفع، والعين ها هنا: الشخص.
* * * [قصة المثل: طلب أثرا بعد عين]
وقولهم: طلب أثرا بعد عين، كأنّ رجلا تمكّن من عدوّه أو من صيد ليرميه، فتراخى عنه حتّى فاته، ثم شدّ في طلبه بعد الفوت وأوّل من قال ذلك مالك بن عمرو العامريّ وكان بعض ملوك غسان أخذه وأخاه سماكا بسبب قتيل كان له في عمالته،
(1) القحم الرجل المتناهي سنا.(1/305)
فحبسهما زمانا، ثم قال لهما: إني قاتل أحدكما، فجعل كلّ واحد منهما يقول: اقتلني مكان أخي، فقتل سماكا وخلّي مالكا، فقال سماك حين ظنّ أنه مقتول: [المتقارب]
وأقسم لو قتلوا مالكا ... لكنت لهم حيّة راصده (1)
برأس سبيل على مرقب ... ويوما على طرق وارده
أأمّ سماك فلا تجزعي ... فللموت ما تلد الوالده
وانصرف مالك إلى قومه، فلبث فيهم زمانا. ثم إن ركبا مرّوا بهم وأحدهم يغنّي بهذا البيت: [المتقارب]
* وأقسم لو قتلوا مالكا *
فسمعت بذلك أمّ سماك، فقالت: يا مالك، قبّح الله الحياة بعد سماك! اخرج في طلب ثأر أخيك، فخرج فلقي قاتل أخيه في ناس من قومه، فقال: من أحسّ لي الجمل الأحمر! فعرّفوه، فقالوا له: لك مائة من الإبل، وكفّ عنه، فقال: لا أطلب أثرا بعد عين، فذهبت مثلا، ثم حمل على قاتل أخيه فقتله.
* * * قوله: «جلّ»، أي عظم. عراك: قصدك. رزء الحسين: المصاب بقتله حين قتل بكربلاء.
وحديثه أن معاوية لمّا مات أرسل إليه أهل الكوفة أن قد حبسنا أنفسنا على بيعتك.
وطولب بالمدينة أن يبايع يزيد، فخرج إلى مكة، وأرسل ابن عمّه مسلم بن عقيل إلى الكوفة وقال له: إن كان حقّا ما كتبوا به، فعرّفني ألحق بك.
فخرج من مكّة للنصف من رمضان، وقدم [الكوفة] لخمس خلون من شوّال، وأميرها النّعمان بن بشير، فدخل مستترا، فبايعه من أهلها ثمانية عشر ألفا. فكاتبه بذلك.
فلمّا همّ بالخروج لقيه ابن عباس رضي الله عنهما، فقال له: يا بن عمّ، أهل العراق أهل غدر، وإنّما يدعونك للحرب، فقال له: يا ابن عمّ، كتب إليّ مسلم باجتماع أهل الكوفة عليّ، فقال له: قد جرّبتهم، وهم أصحاب أبيك وأخيك. وقتلتك غدا مع أميرهم، إذا بلغ ابن زياد خبرك استفزّهم، فكان الذين كتبوا إليك أشدّ عليك عن عدوّك، فإن أبيت إلّا الخروج فلا تخرجنّ بنسائك وولدك معك، فإنّي لخائف أن تقتل كما قتل عثمان، ونساؤه وولده ينظرون إليه. فردّ عليه: لأن أقتل بموضع كذا، أحبّ إليّ من أن أستحلّ بمكة.
__________
(1) الأبيات لسماك بن عمرو العاملي في لسان العرب (لوم)، وخزانة الأدب 9/ 534.
ويروى صدر البيت الأول:
فأقسم لو قتلوا خالدا(1/306)
واتّصل الخبر بيزيد، فكتب إلى عبيد الله بن زياد بتوليته الكوفة. فخرج مسرعا، فدخلها في حشمه وهو ملثّم، والناس يتوقّعون قدوم الحسين، فجعل عبيد الله بن زياد يسلّم على الناس، والناس يقولون: وعليك السلام يا ابن رسول الله، قدمت خير مقدم، حتى انتهى إلى القصر.
فحسر اللّثام، ففتح له النعمان الباب، وتنادي النّاس: ابن مرجانة، فحصبوه بالحصباء، ففاتهم. ووضع الرّصد في طلب مسلم، فصاح مسلم: يا منصور وكان شعارهم فاجتمع له في ساعة واحدة ثمانية عشر ألفا. فأحاطوا بالقصر فقاتلوا ابن زياد، فلم يمس المساء ومعه مائة رجل. فلما رأى تفرّقهم سار نحو أبواب كندة، فبلغ الباب ومعه ثلاثة، فخرج وليس معه أحد، فبقي حائرا لا يدري أين يتوجّه، فنزل من على فرسه، ودخل أحد أزقّة الكوفة، فانتهى إلى باب مولاة لمحمد بن الأشعث، فاستسقاها فسقته، وأعلمها حاله، فرقّت له، فآوته وأعلمت محمد بن الأشعث بمكانه، فمشى إلى ابن زياد، فأعلمه، فوجّه معه سبعين رجلا، فاقتحموا عليه، فقاتلهم مسلم، وأمنّه محمد بن الأشعث، وحمله إلى ابن زياد فضرب عنقه، وبعث برأسه إلى يزيد بن معاوية، فصلب جثّته.
وانتهى الأمر إلى الحسين، وقد بلغ القادسيّة، فهمّ بالرجوع، فقال له إخوة مسلم:
لا نرجع أو نقتل، أو نأخذ بثأرنا، فقال الحسين: لا خير في العيش بعدكم، فسار حتى لقي خيلا لابن زياد، وعليها عمر بن سعد بن أبي وقّاص، فعدل إلى كربلاء، وهو في نحو خمسمائة فارس، فلما كثرت العساكر أيقن أنّه لا محيص له، فقال: اللهمّ احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا، ثم هم يقاتلوننا! ثم خطب قومه فقال: يا عباد الله، اتقّوا الله، وكونوا من الدنيا على حذر، فإن الدنيا لو بقيت على أحد، أو بقي عليها أحد، لكانت الأنبياء أحقّ بها وبالبقاء، غير أنّ الله خلقها للفناء، فجديدها بال، ونعميها مضمحّل، وسرورها مكفهرّ، والدار قلعة، والمنزل تلعة (1) فتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى، واتقوا الله لعلكم تفلحون.
ثم قاتل حتى قتل رضي الله عنه وفيه ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة وتولّى قتله سنان بن أنس النّخعيّ، واحتزّ رأسه، وانطلق به مسرعا إلى ابن زياد، وهو يقول: [الرجز]
أوقر ركابي فضة وذهبا ... إني قتلت الملك المحجّبا
* قتلت خير الناس أمّا وأبا *
وبعث معه الرأس إلى يزيد بن معاوية، وعنده أبو برزة، فجعل ينكت بالقضيب على فيه، وهو يقول: [الطويل]
__________
(1) التلعة: مجرى الماء من أعلى بطون الأرض.(1/307)
نفلّق هاما من رجال أعزّة ... علينا، وهم كانوا أعقّ وأظلما (1)
فقال له أبو برزة: ارفع قضيبك عن فمه، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثمه.
وقتل يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، وقتل معه سبعة وثمانون، منهم عليّ ابنه الأكبر، ومن ولد أخيه الحسن عبد الله والقاسم وأبو بكر، ومن إخوته العباس وعبد الله وجعفر ومحمد وعثمان بنو عليّ، ومن بني عمّه جعفر ومحمد وعون أبناء عبد الله بن جعفر. ومن ولد عقيل عبد الله وعبد الرحمن وجعفر، ودفنهم أهل القادسيّة بعد قتلهم بيوم، وقتلوا هم من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانين.
* * * قوله: «اعتضت»: اقتلعت من العوض. يبغي ذين: يطلب هذين. الظّباء: الغزلان.
يلج: يدخل. محدقا باللّجين، أي محلّقا بالفضة، والصائد يفرّق حول الفخ حبّ القمح وشبهه، فيلقطه الطائر حتى يتوصّل إلى ما نصب له فيقع، فقال: ما كلّ طائر يخدع، ولو حلّق له الفخّ بحبّ اللّجين بدلا من القمح، وإني من هذا الصنف.
قوله: «ولكم من سعى ليصطاد فاصطيد»، من قول الصابي: [الرجز]
يا قمرا كالخشف في نظرته ... وكالقضيب اللّدن في نضرته
خلتك صيدا كان في قبضتي ... فصرت من صيدي في قبضته
والسابق له كعب بن زهير في قوله: [البسيط]
طاف الرّماة بصيد راعهم فإذا ... بعض الرّماة بنبل الصيد مقتول (2)
* * *
[قصة المثل: رجع بخفي حنين]
وخفّا حنين، يضرب بهما المثل للخائب الخاسر، واختلف في حنين، فقال يعقوب: إنه كان رجلا مدّعيا، فجاء إلى عبد المطلب، وعليه خفّان، فقال: يا عم إني من ولد هاشم، فأنعم النّظر فيه، وقال: لا وعظام هاشم، ما أرى فيك شمائل هاشم، فارجع خائبا خاسرا.
وقيل: كان رجلا مغنّيا، فدعاه قوم من أهل الكوفة. ليطربهم في نزهة، فخرجوا به إلى الصحراء، فضربوه وسلبوا ثيابه، وتركوا عليه خفيّه فلما رجع إلى زوجته وكانت تنتظر رجوعه على عادته بما يفضل من أطعمة النزهة ورأته على تلك الحالة قالت لكل من سألها: رجع حنين بخفّيه.
__________
(1) البيت للحصين بن الحمام في المفضليات 12.
(2) البيت ليس في ديوان كعب بن زهير.(1/308)
وقيل: إنه كان صانعا، فساومه أعرابيّ بخفّين، وماكسه حتى أخرجه. فلما ارتحل الأعرابيّ، أخذ حنين إحدى الخفين فوضعها على الطريق، ثم مشى وألقى الأخرى في موضع آخر على الطريق، وكمن له، فلما مرّ الأعرابيّ بالخفّ قال: ما أشبه هذه بخفّ حنين ولو كان معها الأخرى لأخذتها. فلمّا انتهى إلى الأخرى، ندم على ترك الأولى، فأناخ راحلته، وأخذها ورجع إلى الأولى فلما غاب عمد حنين إلى راحلته بما عليها فركبها، ومضى بها، ورجع الأعرابيّ إلى قومه بخفّين، فكان إذا سئل عن حاله قال:
رجعت بخفّي حنين فصار مثلا.
وقيل: كان حنين لصّا حقيرا فأخذ وصلب، فجاءته أمّه وعليه خفّان فانتزعتهما ورجعت، فقيل: رجعت بخفّين حنين، أي رضيت منه بذلك.
* * * فتبصّر ولا تشم كلّ برق ... ربّ برق فيه صواعق حين
واغضض الطّرف تسترح من غرام ... تكتسي فيه ثوب ذلّ وشين
فبلاء الفتى اتّباع هوى النّف ... س وبذر الهوى طموح عين
قال الراوي: فمزّقت رقعته شذر مذر، ولم أبل أعذل أم عذر.
* * * قوله «تبصر»: أي أحسن النظر. حين: هلاك. والصاعقة: نار ترسل مع الرعد والبرق، وجمعها صواعق، وصعق الرجل إذا أصابته، وصعق إذا مات، وقيس تقول:
صاعقة، وبنو تميم صاقعة وقد صقع. غرام: عذاب الحب. شين: عيب. والبذر: زرع الحبّ في الأرض.
طموح: ارتفاع يريد أن أصل العشق مداومة النظر، ألمّ فيه بقول عيسى عليه السلام: «لا يزني فرجك ما غضضت بصرك» وقد تقدّم: من كثرت لحظاته دامت حسراته.
وقال سابق البربريّ في اتباع الهوى: [الطويل]
وهجر الهوى للمرء فاعلم سعادة ... وطول الهوى رين على القلب رائن
فكن دافنا للشّرّ بالخير تسترح ... من الشرّ إنّ الخير للشرّ دافن
وقال آخر: [الطويل]
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى كلّ ما فيه عليك مقال
وقال المتنبي: [الطويل](1/309)
عريز أسى من داؤه الأعين النّجل ... عناء به مات المحبّون من قبل (1)
فمن شاء فلينظر إليّ فمنظري ... نذير إلى من ظنّ أنّ الهوى سهل
وما هي إلا لحظة بعد لحظة ... إذا نزلت في قلبه رحل العقل
وقال ابن زيدون: [البسيط]
من يسأل الناس عن حالي فشاهده ... محض العيان الّذي يغني عن الخبر (2)
أما الضّنى فجنته نظرة عنن ... كأنّها والرّدى جاءا على قدر
فهمت معنى الهوى من وحي طرفك لي ... إن الحوار لمفهوم من الحور
وقال العبّاس بن الأحنف: [الكامل]
الحبّ أوّل ما يكون لجاجة ... تأتي به وتسوقه الأقدار (3)
حتى إذا اقتحم الفتى لجج الهوى ... جاءت أمور لا تطاق كبار
فهذا كله يبيّن بيت الحريريّ.
قوله: «مزقت»: قطعت. شذر مذر: قطعا متفرقة في كلّ جهة، وأصل الشّذر قطع الذهب، ومذر اتباع لها.
لم أبل: أي لم أبال. عذل: لام. عذر: قبل العذر.
__________
(1) الأبيات في ديوان المتنبي 3/ 180.
(2) الأبيات في ديوان ابن زيدون ص 251.
(3) البيتان في ديوان العباس بن الأحنف ص 116.(1/310)
المقامة الحادية عشرة وهي الساوية
حدّث الحارث بن همام، قال: أنست من قلبي القساوة، حين حللت ساوة، فأخذت بالخبر المأثور، في مداوتها بزيارة القبور.
فلمّا صرت إلى محلّة الأموات، وكفات الرّفات، رأيت جمعا على قبر يحفر، ومجنوز يقبر، فانحزت إليهم متفكّرا في المآل، متذكّرا من درج من الآل.
فلمّا ألحدوا الميت، وفات قول ليت، أشرف شيخ من رباوة، متخصّرا بهراوة، وقد لفّع وجهه بردائه، ونكّر شخصه لدهائه.
* * * الحادية عشرة، تبنى على الفتح كبناء أحد عشر. آنست: أدركت وأحسست.
القساوة: غلظ القلب. وقلب قاس وقسيّ، أي صلب، وقلوب قاسية وقسّية وهما عن السكائيّ والفرّاء لغتان بمعنى واحد.
أبو عبيدة: القاسية مأخوذة من القسوة، والقسّية التي ليست خالصة الإيمان، كالدرهم القسيّ وهو الذي خالطه غش من نحاس أو غيره، وقد قسا القلب يقسو قساوة، وقساء: صلب.
ساوة: بلد بينه وبين الرّي اثنان وعشرون فرسخا، وهي في الطريق ما بين همذان والرّيّ.
الخبر المأثور، أي المحدّث به، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «عودوا المرضى، واحضروا المقابر، فإنّها تزهّد في الدنيا، وتذكّر الآخرة» (1).
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ثم بدا لي فزوروها، فإنها ترقّق القلب، وتدمع العين، وتذكّر الآخرة» (2).
__________
(1) أخرجه البخاري في المرض باب 4، وأحمد في المسند 3/ 23، 31، 48، 394، 406.
(2) روي بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه مسلم في الجنائز حديث 106، والأضاحي باب 37، وأبو داود في الجنائز باب 77، والأشربة باب 17، والترمذي في الجنائز باب 7، والنسائي في الجنائز باب(1/311)
وسأل رجل عائشة رضي الله عنها، فقال: يا أمّ المؤمنين، إن لي داء فهل عندك دواؤه؟ قالت: وما داؤك؟ قال: القسوة، قالت: بئس الدّاء داؤك. عد المرضى، وأشهد الجنائز، وتوقّع الموت.
وقيل لعليّ رضي الله عنه: ما شأنك جاورت المقبرة! قال: إني أجدهم خير جيران صدق، يكفّون الألسنة، ويذكّرون الآخرة.
وكانت عجوز في عبد القيس متعبّدة، فإذا جاء الليل تحزّمت، ثم قامت إلى المحراب، فإذا جاء النهار خرجت إلى المقبرة فعوقبت في إتيان القبور، فقالت: إن القلب القاسي إذا جفا لم يليّنه إلا رسوم البلى، وإنّي لآتي القبور فكأني أنظر وقد خرجوا من بين أطباقها، وكأني أنظر إلى تلك الوجوه المتعفّرة، وإلى تلك الأجسام المتغيّرة، وإلى تلك الأكفان الدّسمة.
وقال ميمون بن مهران: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة فلمّا نظر إلى القوم بكى، ثم أقبل عليّ فقال: يا ميمون، هذه قبور آبائي بني أميّة كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذّاتهم وعيشهم أما تراهم صرعى قد خلت من قبلهم المثلات، واستحكم فيهم البلى، وأصابت الهموم في أبدانهم مقيلا، ثم بكى وقال: والله لا أعلم أحدا أنعم ممّن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله.
استنشد المتوكل أبا الحسن عليّ بن محمد بن موسى بن جعفر بن عليّ بن الحسين، فقال: إني لقليل الرّواية في الشعر، فقال: لا بدّ، فأنشده: [البسيط]
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلب الرجال فلم تنفعهم القلل
واستنزلوا بعد عزّ عن معاقلهم ... وأودعوا حفرا، يا بئس ما نزلوا!
ناداهم صارخ من بعد ما دفنوا: ... أين الأسرّة والتيجان والحلل؟
أين الوجوه التي كانت منعّمة ... من دونها تضرب الأستار والكلل!
فأفصح القبر عنهم حين سيل بهم: ... تلك الوجوه عليها الدّود يقتتل
قد طالما أكلوا دهرا وما شربوا ... فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا
قال عمر: لو أنشد شعرا في أوصاف آبائه وبني عمّه ملوك بني أميّة وانحطاطهم من عزّ المملكة إلى ذل المقبرة، لم يكن إلا هذا الشعر.
أبو الحسن القلويّ كان قد سعي به إلى المتوكل، وقيل له إن في بيته سلاحا وكتبا وغير ذلك، فوجّه إليه بعدّة من الأتراك، فهجموا عليه على غفلة ممّن في داره، فوجدوه
__________
100، والضحايا باب 39، والأشربة باب 40، وابن ماجه في الجنائز باب 47، وأحمد في المسند 1/ 145، 452، 3/ 38، 63، 66، 237، 250، 5/ 350، 355، 357، 359، 361.(1/312)
في بيت مغلق عليه وحده، وعليه مسح شعر، ولا بساط في البيت إلّا الرّمل والحصى، وعلى رأسه ملحفة صوف متوجها إلى ربه، يترنّم بالقرآن، فمثل بين يدي المتوكل على حاله، والمتوكّل يشرب وفي يده كأس، فلما رآه عظمه وأجلسه إلى جنبه. وعلم أنه لا يوجد عنده شيء مما قيل، فناوله، فقال: يا أمير المؤمنين، ما خامر لحمي ولا دمعي قطّ فأعفني منه، فأعفاه، ثم قال: أنشدني شعرا أستحسنه، فأنشده الأبيات المتقدّمة، فأشفق من حضر عليه من المتوكل. فو الله لقد بكى المتوكل بكاء طويلا، وبكى من حضر، وقال: يا أبا الحسن، أعليك دين؟ قال: أربعة آلاف درهم، فدفعت إليه، وردّ إلى منزله مكرّما، وقال: ما يقول ولد أبيك في العباس بن عبد المطلب! قال: وما يقولون يا أمير المؤمنين في رجل افترض الله طاعته على بنيه! فأمر له بمائة ألف درهم، وإنّما أراد طاعة الله على بنيه فعرّض.
وقال سابق البربري في المعاريض: [الطويل]
تعاون على الخيرات تظفر ولا تكن ... على الإثم والعدوان ممّن يعاون (1)
وداهن إذا ما خفت يوما مسلّطا ... عليك، ولا يحتال من لا يداهن
ولا تك ذا لونين يبدي بشاشة ... وفي صدره ضبّ من الغلّ كامن
رجعت إلى عرض المقامة.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس إلى قبر، وكنت أدنى القوم منه، فبكى وبكينا، فقال: ما يبكيكم؟ قلنا: بكاؤك، قال: هذا قبر أمي آمنة، استأذنت ربي في زيارتها، فأذن لي (2). فاستأذنته في أن أستغفر لها، فأبى عليّ، فأدركني ما يدرك الولد من الرّقّة.
وكان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبلل لحيته، فسئل عن ذلك، فقيل له:
تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي إذا وقفت على قبر! فقال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «إنّ القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر، وإن لم ينج منه فما بعده أشدّ» (3).
__________
(1) يروى صدر البيت الثالث:
ولا تك ذا وجهين يبدي بشاشة
وهو لسابق البربري في أساس البلاغة (ضبب)، وبلا نسبة في تاج العروس (ضبب)، وكتاب العين 7/ 14.
(2) أخرجه مسلم في الجنائز حديث 105، 106، وأبو داود في الجنائز باب 77، والنسائي في الجنائز باب 101، وابن ماجه في الجنائز باب 48، وأحمد في المسند 2/ 441، 5/ 356.
(3) أخرجه الترمذي في الزهد باب 5، وابن ماجه في الزهد باب 22.(1/313)
والمقصود من زيارة القبور الاعتبار للزائر والانتفاع بدعائه للمزور، ولا ينبغي أن يغفل الزائر عن الدعاء لنفسه وللميت.
وكان رجل يشهد الجنائز، فإذا أمسى وقف على المقابر، فقال: آنس الله وحشتكم، ورحم الله غربتكم، وتجاوز الله عن سيئاتكم، وقبل الله حسناتكم لا يزيد على هذا شيئا. قال: فأمسيت ليلة ولم أدع، فبينما أنا نائم إذا خلق كثير قد جاؤوني، فقلت: من أنتم؟ قالوا نحن أهل المقابر، قلت: ما حاجتكم؟ قالوا: إنّك كنت عودتنا هديّة عند انصرافك إلى أهلك، قلت: وما هي؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعو، قلت:
فإني أعود لذلك فما تركتها بعد ذلك.
قوله: محلّة الأموات، هي المقابر التي يحلّون بها. كفات: قبور وأوعية وكفتّ الشيء: ضممته وقبضته، وكفات الشيء: ما ضمه وستره، وقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفََاتاً أَحْيََاءً وَأَمْوََاتاً} [المرسلات: 2625] قيل: كفات الأحياء بيوتهم، وكفات الأموات قبورهم. والرفات: العظام البالية، وقال ابن المعتز في مقبرة: [الطويل] وسكّان دار لا تزاور بينهم ... على قرب بعض في التجاور من بعض (1)
كأنّ خواتيما من الطّين فوقهم ... فليس لها حتّى القيامة من فضّ
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: [البسيط]
انظر لنفسك يا مسكين في مهل ... ما دام ينفعك التفكير والنّظر
قف بالمقابر وانظر إن وقفت بها ... لله درّك ماذا تستر الحفر!
ففيهم لك يا مغرور موعظة ... وفيهم لك يا مغترّ معتبر!
وقال مالك بن دينار: مررت بالمقابر، فأنشدت أقول: [المتقارب]
أتيت القبور فناديتها ... فأين المعظّم والمحتقر؟
وأين المدلّ بسلطانه ... وأين المزكّي إذا ما افتخر؟
فنوديت من بينهم: لا رأى ... شخوصا لهم ولا من أثر!
تفانوا جميعا فلا مخبر ... وماتوا جميعا ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا ... أما لك فيما ترى معتبر!
تروح وتغدو بنات الثّرى ... وتمحى محاسن تلك الصّور!
ومما وجد على قبر مكتوبا: [المتقارب]
تناجيك أجداث وهنّ سكوت ... وسكّانها تحت التّراب خفوت
__________
(1) البيتان في ديوان ابن المعتز ص 25، 26.
أيا جامع الدنيا لغير بلاغة ... لمن تجمع الدّنيا وأنت تموت؟
ومما وجد على قبر مكتوبا: [البسيط](1/314)
__________
(1) البيتان في ديوان ابن المعتز ص 25، 26.
أيا جامع الدنيا لغير بلاغة ... لمن تجمع الدّنيا وأنت تموت؟
ومما وجد على قبر مكتوبا: [البسيط]
إن الحبيب من الأحباب مختلس ... لا يمنع الموت بوّاب ولا حرس
فكيف تفرح بالدّنيا ولذّتها ... يا من يعدّ عليه اللفظ والنّفس؟
لا يرحم الموت ذا جاه لعزّته ... ولا الذي كان منه العلم يقتبس
قد كان قصرك معمورا له شرف ... فقبرك اليوم في الأجداث مندرس
ووجد على قبر مكتوبا: [الوافر]
وقفت على الأحبة حين صفّت ... قبورهم كأفراس الرّهان
فلما أن بكيت وفاض دمعي ... رأت عيناي بينهم مكاني
قال أعرابيّ: من خاف الموت بادر الفوت، ومن لم يقمع النفس عن الشهوات بادرت به إلى الهلكات، والجنة والنار أمامك.
مرض أعرابيّ فقيل له: إنك تموت، قال: وإذا مت فإلى أين أذهب؟ قالوا: إلى الله، قال: فما كراهتي أن أذهب إلى من لم أر الخير إلّا منه!.
وقال أعرابيّ: ما بقاء عمر تقطعه الساعات، وسلامة بدن معرّض للآفات! ولقد عجبت للمؤمن كيف يكره الموت وهو ينقله إلى الثواب الذي أحيا له ليله، وأظمأ له نهاره!.
وقال آخر: من كانت مطيتّاه الليل والنهار، سارا به وإن لم يسر، وبلغا به وإن لم يبلغ.
آخر: تصرّف الليل والنهار، لا تبقى معه الأعمار، ولا لأحد فيه الخيار.
* * * قوله: مجنوز، أي ميّت وحكى ابن سيده قول بعضهم: جنزت الميت إذا سترته بالكفن. وقال الحسن لما أنذر بجنازة النّوار امرأة الفرزدق للمنذر بها: إذا جنزتموها فآذنوني بالجنازة، والجنازة من جنزت وهي بالفتح الميّت، وبالكسر النعش، وقيل معناهما واحد، وهو الميّت والمختار الكسر. يقبر: يدفن. انحزت: ملت. المآل:
المرجع. مذكّرا: متذكّرا. درج: هلك. الآل: الأهل. ألحدوا: دفنوا وألقوه في اللّحد، وهو حفير في جانب القبر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المقبرة يقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» (1).
(1) روي بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه مسلم في الطهارة حديث 39، والجنائز حديث 103، 104، وأبو داود في الجنائز باب 79، والنسائي في الطهارة باب 109، والجنائز باب 103، وابن ماجه في(1/315)
وكان عليّ رضي الله عنه إذا دخلها يقول: السّلام عليكم يا أهل الديار الموحشة والمنازل المقفرة، من المؤمنين والمؤمنات. اللهمّ اغفر لنا ولهم، واعف عنّا وعنهم. ثم يقول: الحمد لله الّذي جعل الأرض كفاتا، أحياء وأمواتا، منها خلقنا، وإليها معادنا، وعليها محشرنا، طوبى لمن ذكر المعاد، وقنع بالكفاف ورضي عن الله.
وكان الحسن البصريّ رحمه الله إذا دخل قال: اللهمّ ربّ الأجساد البالية، والعظام النّخرة، التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة، أدخل عليها روحا منك وسلاما منا.
قوله: «أشرف»: أي طلع. والرّباوة: الكدية. متخصّر: أي جاعلها مما يلي خصره. هراوة: عصا. لفع: غطّى. نكّر: غيّر هيئته. لدهائه: لمكره.
* * * فقال: لمثل هذا فليعمل العاملون، فاذكروا أيّها الغافلون، وشمّروا أيّها المقصّرون، وأحسنوا النّظر أيّها المتبصّرون. ما لكم لا يحزنكم دفن الأتراب، ولا يهولكم هيل التّراب، ولا تعبئون بنوازل الأحداث، ولا تستعدّون لنزول الأجداث، ولا تستعبرون لعين تدمع، ولا تعتبرون بنعي يسمع، ولا ترتاعون لإلف يفقد، ولا تلتاعون لمناحة تعقد، يشيّع أحدكم نعش الميت، وقلبه تلقاء البيت، ويشهد مواراة نسيبه، وفكره في استخلاص نصيبه، ويخلّي بين ودوده ودوده، ثم يخلو بمزمره وعوده.
* * * ويقال: قصر فهو مقصّر، إذا ترك الشيء وهو قادر عليه وشمّر: اجتهد.
والمتبصّر: الناظر في الشيء على وجه التفهّم، فقد يصيب وقد يخطىء، ولذلك قالوا: أحسنوا النظر. الأتراب: الأصحاب المتقاربون في الموالد، كأنّهم قطعوا من تربة واحدة، وأكثر ما يقع للنساء، وإذا مات للإنسان صاحب على سنّه كان أوقع لحزنه، فلذا نبّه بالتّرب، قال الألبيريّ: [المتقارب]
فإنّ الردى غلّ أهل التقى ... فلم يبق إلا الغشوم العتيد
وأودى بكلّ خليل ودود ... فأين، ولا أين، خلّ ودود!
وكن من أخي ثقة قد لحدت ... فلله ما غيّبته اللّحود
وأثكلني الأنس ثكل اللّذات ... فصرت كأن غريب وحيد
__________
الجنائز باب 36، والزهد باب 36، وأحمد في المسند 2/ 300، 375، 408، 5/ 353، 360، 6/ 71، 76، 111، 180، 221.
وكم من شقيّ يواري التراب ... وكم من سعيد يواري الصّعيد!
قوله: «يهولكم»، أي يفزعكم، والهيل: الصبّ الكثير من أعلى إلى أسفل، في مثل كدس الرمل، وعند صبّ التّراب على الميت تطير القلوب إشفاقا، وتسيل العيون رحمة، قال أبو العتاهية: [الوافر](1/316)
__________
الجنائز باب 36، والزهد باب 36، وأحمد في المسند 2/ 300، 375، 408، 5/ 353، 360، 6/ 71، 76، 111، 180، 221.
وكم من شقيّ يواري التراب ... وكم من سعيد يواري الصّعيد!
قوله: «يهولكم»، أي يفزعكم، والهيل: الصبّ الكثير من أعلى إلى أسفل، في مثل كدس الرمل، وعند صبّ التّراب على الميت تطير القلوب إشفاقا، وتسيل العيون رحمة، قال أبو العتاهية: [الوافر]
بكيتك يا أخيّ بدمع عيني ... فلم يغن البكاء عليك شيّا
كفى حزنا بدفنك ثمّ أنّي ... نفضت تراب قبرك من بديّا
وكانت في حياتك لي عظات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيّا
أبو علي الرازيّ: مررت بصبيان في طريق الشأم يلعبون بالتّراب، وقد ارتفع الغبار، فقلت: مهلا، قد غبّرتم، فقال صبي منهم: يا شيخ: أين تفر إذا هيل عليك التراب في القبر، فغشي عليّ، فأفقت والصبيّ قاعد عند رأسي مع الصبيان يبكون، فقلت له: أعندك حيلة في الفرار من التراب؟ قال: أنا لا أعلم، ولكن سل غيري، فقلت: ومن غيرك؟
قال: عقلك. تعبئون: تبالون وتهتمون. والنوازل: جمع نازلة، وهي المصيبة.
الأحداث: ما يحدث على الإنسان من الخير والشر. والأجداث، بالجيم: القبور، واحدها جدث وجدف. تستعبرون: تبكون. تعتبرون: تتّعظون وترونه عبرة. والنّعي:
ذكر موت الإنسان، وكانت العرب إذا مات منها سيّد ركب رجل فرسه، ومشى في الأحياء، فيقول: نعاء فلانا، والناعي: المخبر بموت الرجل، وقد نعاه نعيا. ترتاعون:
تخافون. إلف: صاحب، وهو في الأصل مصدر ألفت الشيء إلفا، فسمّي به، ويقال في معناه: أليف. تلتاعون: تحترقون من الحزن، واللّوعة: حرقة من الهمّ. المناحة: اجتماع النساء للبكاء على الميت. تعقد: تجمع وتؤلّف. وقلبه تلقاء البيت، أي قلبه مستقبل لبيت الميت، يفكّر فيما ترك ليرثه. مواراة: دفن، وقد واراه، إذا ستره. استخلاص:
تحصيل. ودوده الأول: محبوبه الذي يودّه، ودوده الثاني: جمع دودة، والواو للعطف.
وقال سابق البربريّ في معنى ما تقدم: [البسيط]
نلهو ونأمل أياما تعدّ لنا ... سريعة المرّ تطوينا ونطويها
كم من عزيز سيلقى بعد عزّته ... ذلّا، وضاحكة يوما سنبكيها
وللحتوف تربّي كلّ مرضعة ... وللحساب برى الأرواح باريها
لا تبرح النفس تنعى وهي سالمة ... حتى يقوم بنادي القوم ناعيها
ولن تزال طوال الدهر ظاعنة ... حتى تقيم بواد غير واديها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ... ودورنا لخراب الدّهر نبنيها
وقال آخر: [البسيط]
اعمل وأنت من الدّنيا على حذر ... واعلم بأنّك بعد الموت مبعوث(1/317)
واعلم بأنّك ما قدّمت من عمل ... يحصى عليك، وما خلّفت موروث
وقال الحسن: ابن آدم! أنت أسير الدنيا، رضيت من لذّاتها بما ينقضي، ومن نعيمها بما يمضي، ومن ملكها بما ينفد، تجمع لنفسك الأوزار، ولأهلك الأموال، فإذا متّ حملت أوزارك إلى قبرك، وتركت أموالك لأهلك. أخذه أبو العتاهية فقال: [البسيط]
أبقيت مالك ميراثا لوارثه ... يا ليت شعري ما أبقى لك المال
القوم بعدك في حال تسرّهم ... فكيف بعدهم دارت بك الحال!
ملّوا البكاء فما يبكيك من أحد ... واستحكم القيل في الميراث والقال
وقال ابن عبد ربه: [الوافر]
أيا من عنده أمل طويل ... يؤدّيه إلى أجل قصير
أتفرح والمنيّة كلّ يوم ... تريك مكان قبرك في القبور
هي الدنيا فإن سرّتك يوما ... فإنّ الحزن عاقبة السّرور
ستسلب كلّ ما جمعت فيها ... كعارية تردّ إلى المعير
وقال جبلة بن الحويرث: [البسيط]
يا قلب إنّك في الأحياء مغرور ... فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير (1)
تريد أمرا ولا تدري: أعاجله ... خير لنفسك أم ما فيه تأخير!
فاستقدر لله خيرا وارضينّ به ... فبينما العسر إذ دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبطا ... إذ صار في الرّمس تعفوه الأعاصير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحيّ مسرور
حتى كأن لم يكن إلّا تذكّره ... والدّهر أيّتما حين دهارير
وذاك آخر عهد من أخيك إذا ... بالموت ضمّنه اللّحد الخناسير
* * *
طالما أسيتم على انثلام الحبّة، وتناسيتم اخترام الأحبّة، واستكنتم لاعتراض العسرة، واستهنتم بانقراض الأسرة، وضحكتم عند الدّفن، ولا ضحككم ساعة الزّفن، وتبخترتم خلف الجنائز، ولا تبختركم يوم قبض الجوائز، وأعرضتم عن
__________
(1) البيت الأول بلا نسبة في تاج العروس (أذذ)، وفيه «إنك من أسماء» بدل إنك في «الأحياء»، والبيت الثالث لحريث بن جبلة أو لعثير بن لبيد في الدرر 3/ 100، 118، وشرح شواهد المغني 1/ 244، ولسان العرب (دهز)، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص 294، وخزانة الأدب 7/ 60، ودرّة الغواص ص 73، والكتاب 3/ 528، ومجالس ثعلب 1/ 265، ومغني اللبيب 1/ 83.(1/318)
تعديد النّوادب، إلى إعداد المآدب، وعن تحرّق الثّواكل إلى التأنّق في المآكل، لا تبالون بمن هو بال، ولا تخطرون ذكر الموت ببال، حتى كأنكم قد علقتم من الحمام بزمام، أو حصلتم من الزّمان على أمان، أو وثقتم بسلامة الذّات، أو تحقّقتم مسالمة هادم اللّذّات كلّا ساء ما تتوهّمون، ثمّ كلّا سوف تعلمون!
* * * قوله: «أسيتم»، أي حزنتم: انثلام: انكسار ونقصان. اخترام: هلاك، يقول: إذا انتقص لكم من المال أدنى شيء حزنتم عليه، ولا تحزنون على نقص أحبابكم.
أنس رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من أصبح حزينا على الدّنيا، أصبح ساخطا على الله».
قوله: «استكنتم»، ذللتم، واستكان، استفعل من لفظ الكين، وهو لحم باطن الفرج. اعتراض العسرة: ظهور الفقر. انقراض الأسرة: موت القرابة الزّفن: الرقص.
ضحكتم عند الدفن، جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله تعالى كره لكم العبث في الصلاة، والرفث في الصيام، والضحك في الجنائز».
ورأى ابن مسعود رضي الله عنه رجلا يضحك في جنازة، فقال: تضحك وأنت في جنازة! والله لا أكلّمك أبدا.
ونظر عبد الله بن ثعلبة إلى رجل يضحك في جنازة مستغربا، فقال: أتضحك ولعلّك قد أخذت أكفانك من القصّار!.
وفي الحديث «كثرة الضحك تميت القلب وتذهب بهاء المؤمن» (1).
قوله: «تبخرتم»، أي تعظمتم وأظهرتم الإعجاب في مشيكم. الجوائز: الصّلات وهم يظهرون في أحسن الثياب عند الملوك ليكثر لهم العطاء.
أعرضتم: تنحيتم، وهو من العرض، كأنك إذا لقيت من تكره استقبلته بعرضك، أي بجانبك. النوادب: النوائح اللواتي يندبن الميت أي يبكينه، فيقول: أعرضتم عن الباكيات حين عدّدن خصال الميت المحمودة، ولم تفكر في تلك الحال. إعداد، أي استعداد. المآدب: المطاعم للأعراس. تحرّق: توجّع. الثواكل: الفاقدات لأحبابهنّ.
التأنّق: التحسين، وقد تأنّق في الشيء، إذا احتفل فيه فأعجب به كل من رآه. بال.
دارس متغيّر، يريد الميت. ببال: بفكر وخاطر. الحمام: الموت، وأصله القدر. وهو من حمّ، أي قدّر، وذات الشيء نفسه وحقيقته. مسالمة: متاركة ومصالحة.
__________
(1) أخرجه الترمذي في الزهد باب 2، وابن ماجه في الزهد باب 19، وأحمد في المسند 2/ 310.(1/319)
أبو هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله: «أكثروا ذكر هاذم اللذات، قالوا: وما هاذم اللذات؟ قال: الموت» (1).
وقال الألبيريّ في معنى ما تقدّم: [المنسرح]
كم آمن للمنون لاه ... عن الرّدى بات مطمئنّا
صبّحه وافد المنايا ... فعاين الموت حين عنّا
حتى إذا ما قضى بكاه ... حميمه معولا مرنّا
واروه في لحده وسنّوا ... عليه قيد التراب سنّا
وانتهبوا ماله وشنوا ال ... غارات فيما حواه شنّا
لمثل هذا فكن معدّا ... ما قد أعدّ الهداة منّا
وارتقب الموت فهو حتم ... يخترم الطفل والمسنّا
قوله: كلا، زجر، أي ليس الأمر كما ظننتم.
* * * ثم أنشد: [المنسرح]
أيا من يدّعي الفهم ... إلى كم يا أخا الوهم
تعبّي الذّنب والذّمّ ... وتخطي الخطأ الجمّ
أما بان لك العيب! ... أما أنذرك الشّيب!
وما في نصحه ريب ... ولا سمعك قد صمّ
أما نادى بك الموت ... أما أسمعك الصّوت!
أما تخشى من الفوت ... فتحتاط وتهتمّ
فكم تسدر في السّهو ... وتختال من الزّهو
وتنصبّ إلى اللهو ... كأنّ الموت ما عمّ
* * *
قوله: [المنسرح]
أيا من يدّعي الفهم ... إلى كم يا أخا الوهم
يسمّى هذا من أنواع الشعر المسمّط، أي المفصّل، مأخوذ من السّمط وهو سلك الجوهر المفصّل بالزمرد والذهب وغير ذلك. الوهم: الغلط. الجمّ: الكثير، وعلى
__________
(1) أخرجه الترمذي في القيامة باب 26، والزهد باب 4، والنسائي في الجنائز باب 3، وابن ماجه في الزهد باب 31، وأحمد في المسند 2/ 293، والطبراني في الجامع الصغير 1/ 90.(1/320)
قوله: «وتخطي الخطأ الجم»، ذكر الحريريّ في الدرّة أنّ قول الخواصّ: «أخطأ لمن يأتي بالذنب متعمّدا تحريف للفظ والمعنى، ولا يقال: أخطأ إلّا لمن لم يتعمد الفعل ولمن اجتهد»، فلم يوافق الصواب لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر» (1) وإنما أوجب له الأجر على اجتهاده في إصابة الحق الذي هو نوع من أنواع العبادة، لا عن الخطأ الذي يكفي صاحبه أن يعذر فيه ويرفع مأثمه عنه، و [اسم] الفاعل من هذا النوع:
مخطىء، والاسم الخطأ، قال الله تعالى: {وَمََا كََانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلََّا خَطَأً}
[النساء: 92] وأما المتعمّد، فيقال فيه: خطىء فهو خاطىء، والمصدر الخطء، قال الله تعالى: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كََانَ خِطْأً كَبِيراً} [الإسراء: 31]، والاسم منه الخطيئة، ويقع على الصغيرة، قال الله تعالى: {أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] إخبارا عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وعلى الكبيرة كقوله تعالى: {وَأَحََاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}
[البقرة: 81] الآية: قال أبو محمد الحريريّ: ولي في تضمين هاتين اللفظتين وتخصيص معنييهما المتنافيين: [البسيط]
لا تخطونّ إلى خطء ولا خطأ ... من بعد ما الشيب في فوديك قد وخطا
فأيّ عذر لمن شابت مفارقه ... إذا جرى في ميادين الهوى وخطا
وهذه التفرقة منه مستحسنة، وكذا يقع في أكثر كلامهم، وأما على القطع فلا، لأنه قد حكى الزّجاج وقطرب وابن دريد في الجمهرة أنّ العرب تقول: خطئت الشيء أخطؤه خطأ، وخطئني وأخطأته خطأ في معنى واحد، قال: [الكامل]
والنّاس يلحون الأمير إذا همو ... خطئوا الصواب ولا يلام المرشد (2)
أما: حرف استفتاح وإخبار. بان: ظهر. أما أنذرك الشيب، سيأتي مستوفيا.
وقال في الشيب الفقيه الزّاهد أبو عمران رحمه الله: [الكامل]
ذهب الشّباب بجهله وبعاره ... وأتى المشيب بحلمه ووقاره
شتّان بين مبعّد من ربّه ... بغروره ومبشّر بجواره
ما زلت أمرح بالشباب جهالة ... كالطّرف يمرح معجبا بعذاره
وسحبت أثواب البطالة لاهيا ... وجررت من بطر فضول إزاره
حتى تقلّص ظلّه فتكشّفت ... عوراته وبدا قبيح عواره
__________
(1) روي بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الاعتصام باب 20، 21، ومسلم في الأقضية حديث 15، وأبو داود في الأقضية باب 2، والنسائي في الأحكام باب 2، والقضاة باب 3، وابن ماجه في الأحكام باب 3، وأحمد في المسند 4/ 198، 204، 205.
(2) البيت بلا نسبة في لسان العرب (أمر)، وتاج العروس (أمر).(1/321)
لم أحظ منه بطائل غير الأسى ... وتندّم منّي على أوزاره
والآن قد خط المشيب بمفرقي ... بمواعظ والحقّ في تذكاره
والنفس تركب غيّها لا ترعوي ... عنه ولا تصغي إلى إنذاره
لهفي على عمر يمرّ مضيّعا ... محصى عليّ بليله ونهاره
كان شابّ في بني إسرائيل عبد الله عشرين سنة، وعصاه عشرين سنة، قنطر يوما في المرآة، فرأى الشيب في لحيته، فساءه ذلك فقال: إلهي أطعتك عشرين سنة، وعصيتك عشرين سنة، فإن رجعت إليك أتقبلني؟ فسمع صوتا من زاوية البيت: أحببتنا فأحببناك، وتركتنا فتركناك، وعصيتنا فأمهلناك فإن رجعت إلينا قبلناك.
قال ابن وضاح: إذا بلغ الرجل أربعين سنة ولم يتب، مسح إبليس على وجهه، وقال: بأبي وجه لا يفلح أبدا! وأنشدوا: [الكامل]
وإذا مضى للمرء من أعوامه ... خمسون وهو إلى التّقي لم يجنح
ركدت عليه المخزيات وقلن قد ... أرضيتنا فأقم لذا لا تبرح
وإذا رأى إبليس غرّة وجهه ... حيّا وقال: فديت من لم يفلح
وقال آخر: [الوافر]
تلاحظني المنيّة من قريب ... وتلحظني ملاحظة الرقيب
وتنشر لي كتابا فيه طيّ ... بخطّ الدهر أسطره مشيبي
كتاب في معانيه غموض ... تلوح لكلّ أوّاب منيب
أزال الله يا صاحي شبابي ... فعوّضت البغيض من الحبيب
وبدّلت التكاسل من نشاطي ... ومن حسن النضارة بالشّحوب
كذاك الشمس يعلوها اصفرار ... إذا جنحت ومالت للغروب
وهذا القدر كاف هنا في ذكر الشيب.
* * * وقوله: «ريب»، شك. أما أسمعك الصوت، الصوت هنا: النيّاحة على الميت.
والفوت: بعد الشيء. الاحتياط، من الحوطة، وهي الوقاية. تسدر: تتبختر. تختال:
تتكبّر. الزهو: الكبر. عمّ: شمل.
ولأبي العتاهية في معناه: [السريع]
حتى متى ذو التّيه في تيهه ... أصلحه الله وعافاه!
يتيه أهل التّيه من جهلهم ... وهم يموتون وإن تاهوا
من طلب العزّ ليبقى به ... فإن عزّ المرء تقواه(1/322)
لم يعتصم بالله من خلقه ... من ليس يرجوه ويخشاه
ولمحمد بن حازم: [الطويل]
فيا شامخا أقصر عنانك مقصرا ... فإنّ مطايا الدهر تكبو وتعثر
ستقرع سنّا أو تعضّ ندامة ... يديك إذا خان الزمان وتبصر
ويلقاك رشد بعد غيّك واعظ ... ولكنّه يلقاك والأمر مدبر
[الهزج]
* * * وحتّام تجافيك ... وإبطاء تلافيك
طباعا جمّعت فيك ... عيوبا شملها انضمّ
إذا أسخطت مولاك ... فما تقلق من ذاك
وإن أخفق مسعاك ... تلظّيت من الهم
وإن لاح لك النّقش ... من الأصفر تهتشّ
وإن مرّ بك النّعش ... تغاممت ولا غمّ
تعاصي النّاصح البر ... وتعتاص وتزورّ
وتنقاد لمن غرّ ... ومن مان ومن نمّ
* * *
قوله: «تجافيك»، أي تباعدك من فعل الخير. إبطاء: تأخّر. تلافيك: تداركك.
طباعا: أخلاقا يريد أن أخلاقك قد جمعت فيك عيوبا انضمّ عليك شملها. أخفق:
خاب. مسعاك: طلبك ومشيك في اكتساب الرزق. تلظّيت: احترقت واشتعلت، وهو تفّعلت، من اللّظى. الأصفر: الدينار، ونقشه الكتاب الذي فيه. تهتش: تخفّ وتهتزّ طربا. تغاممت: أظهرت الغمّ. ولا غمّ، أي ليس عندك غمّ على الحقيقة.
كان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا رأى جنازة قال: اغدي فإنا رائحون، أو روحي فإنا غادون.
أبو عمرو بن العلاء قال: جلست إلى جرير وهو يملي على كاتبه: [الكامل]
* ودّع أمامة حان منك رحيل (1) *
__________
(1) عجزه:
إن الوداع إلى الحبيب قليل
والبيت في ديوان جرير ص 472.(1/323)
ثم طلعت جنازة فأمسك، وقال شيّبتني هذه الجنازة، فقلت: فلم تسابّ الناس؟
قال: يبدؤونني، ثم لا أعفو، وأعتدي ولا أبتدي، ثم أنشأ يقول: [الوافر]
تروّعنا الجنائز مقبلات ... ونلهو حين تذهب مدبرات
كروعة هجمة لمغار ذئب ... فلّما غاب عادت راتعات
وقال آخر: [الكامل]
وتعدّ كثرة من يموت تعجّبا ... عمّا قريب سوف تدخل في العدد
وأراك تحملهم ولست تردّهم ... وكأنني بك قد حملت ولا تردّ
قوله: «تعاصي الناصح البرّ»، أي تعاصي من ينصحك ويبرّك. تعتاص: تتصعب، وهو «تفتعل» من العصيان، على القلب. تزورّ: تنقبض. غرّ: خدع. مان: كذب، ونمّ:
مشى بالنميمة.
* * * [الهزج]
وتسعى في هوى النّفس ... وتحتال على الفلس
وتنسى ظلمة الرّمس ... ولا تذكر ما ثم
ولو لاحظك الحظّ ... لما طاح بك اللّحظ
ولا كنت إذا الوعظ ... جلا الأحزان تغتمّ
ستذري الدّم لا الدّمع ... إذا عاينت ذا جمع
يقي في عرصة الجمع ... ولا خال ولا عمّ
كأنّي بك تنحطّ ... إلى اللّحد وتنغطّ
وقد أسلمك الرّهط ... إلى أضيق من سمّ
* * *
الرمس: القبر. لاحظك الحظّ: نظرك السعد. طاح بك: أذهبك وأهلكك، واللحظ: النظر بمؤخر العين، وقد لحظه لحظا ولاحظته ملاحظة، وكله من اللحاظ، وهو طرف العين ممّا يلي الصّدغ. وجلا: كشف. تذري: تصبّ وترسل متفرّقا.
أنس رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأيّها النّاس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فإنّ أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول، حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء، فلو أن السفن أجريت في دموعهم لجرت» (1).
__________
(1) أخرجه ابن ماجه الإقامة باب 176، والزهد باب 19.(1/324)
لا جمع، أي لا قبيل ولا عشير يحميك ولا يمنعك يوم القيامة. يقي: يمنع.
عرصة الجمع: موضع اجتماع الناس في الحشر. تنحطّ تنزل. اللّحد: حفير في جانب القبر. وتنغطّ: تنضمّ وتنقبض، يقال: غططته في الماء إذا أغرقته فيه وغمسته. أسلمك الرهط: تركك قومك. سمّ: عين الإبرة، يريد ضيق القبر على الميت. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ».
وعن أنس رضي الله عنه، قال: توفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فساءنا حاله، فلما انتهينا إلى القبر فدخله، التمع وجهه صفرة، فلما خرج أسفر وجهه، قلنا: يا رسول الله، رأينا منك شأنا فممّ ذلك؟ قال: «ذكرت ضغطة بنتي وشدة عذاب القبر فأتيت فأخبرت أن الله تعالى قد خفّف عنها، ولقد ضغطت ضغطة سمع صوتها ما بين الخافقين». [الهزج]
* * * هناك الجسم ممدود ... ليستأكله الدّود
إلى أن ينخر العود ... ويمسي العظم قد رمّ
ومن بعد فلا بدّ ... من العرض إذا اعتدّ
صراط جسره مدّ ... على النّار لمن قدأم
فكم من مرشد ضلّ ... ومن ذي عزّة ذل
وكم من عالم زلّ ... وقال الخطب قد طم
فبادر أيّها الغمر ... لما يحلو به المرء
فقد كاد يهي العمر ... وما أقلعت عن ذم
* * *
قوله: «ينخر»، أي يبلى، والعود: تابوت الميت. رمّ: بلي: قال الفنجديهيّ: إلى أن ينخر العود، أي إلى أن يبلى الجسم الناعم الذي هو مثل القضيب، وقال الألبيريّ:
[الطويل]
كأنّي بنفسي وهي في السّكرات ... تعالج أن ترقي إلى اللهوات
وقد رمّ رحلي واستقلّت ركائبي ... وقد آذنتني بالرّحيل حداتي
إلى منزل فيه عذاب ورحمة ... وكم فيه من زجر لنا وعظات
ومن أعين سالت على وجناتها ... ومن أوجه في التّرب منعفرات
ومن وارد فيه على ما يسرّه ... ومن وارد فيه على الحسرات
قوله: «اعتدّ» أي استعدّ، روى أبو بكر رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «يحمل
الناس يوم القيامة على الصّراط فيتقادع بهم جنبتا الصّراط تقادع الفراش في النار، فينجّي الله برحمته من يشاء» (1). التّقادع: التّهافت، كأنّ كل واحد منهم يقدع صاحبه كي يسبقه.(1/325)
كأنّي بنفسي وهي في السّكرات ... تعالج أن ترقي إلى اللهوات
وقد رمّ رحلي واستقلّت ركائبي ... وقد آذنتني بالرّحيل حداتي
إلى منزل فيه عذاب ورحمة ... وكم فيه من زجر لنا وعظات
ومن أعين سالت على وجناتها ... ومن أوجه في التّرب منعفرات
ومن وارد فيه على ما يسرّه ... ومن وارد فيه على الحسرات
قوله: «اعتدّ» أي استعدّ، روى أبو بكر رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «يحمل
الناس يوم القيامة على الصّراط فيتقادع بهم جنبتا الصّراط تقادع الفراش في النار، فينجّي الله برحمته من يشاء» (1). التّقادع: التّهافت، كأنّ كل واحد منهم يقدع صاحبه كي يسبقه.
والجسر: بناء على النار يجاز عليه من جهة إلى أخرى. وأمّ: قصد. مرشد: هاد. ضلّ:
تحيّر. الخطب: الأمر الشديد. طمّ: عظم. الغمر: الجاهل بالأمور. والذي يحلو به المرّ: هو التوبة والأعمال الصالحة التي يصلح بها ما فسد. يهي: يضعف. أقلعت عن ذمّ، أي رجعت عن أمر مذموم، وقال ابن عبد ربه: [البسيط]
بادر إلى التوبة الخلصاء مجتهدا ... والموت ويحك لم يمدد إليك يدا
وارقب من الله وعدا ليس يخلفه ... لا بدّ لله من إنجاز ما وعدا
* * *
ولا تركن إلى الدّهر ... وإن لان وإن سر
فتلفى كمن اغتر ... بأفعى تنفث السّم
وخفّض من تراقيك ... فإنّ الموت لاقيك
وسار في تراقيك ... وما ينكل إن هم
وجانب صعر الخدّ ... إذا ساعدك الجّد
وزمّ اللّفظ إن ندّ ... فما أسعد من زم
ونفّس عن أخي البثّ ... وصدّقه إذا نث
ورمّ العمل الرّثّ ... فقد أفلح من رم
* * *
قوله: «لا تركن»: تقول: ركنت إلى فلان، إذا اتخّذته ركنا تلجأ إليه، تلفى:
توجد. اغترّ: انخدع. تنفث: تبصق عند لدغها. خفّض: سكّن. تراقيك ارتفاعك وتكبرك. سار: ماش. والتراقي: العظمان المعوجّان على الصدر. ينكل: يضعف وينقطع. إن همّ: إن أرادك وهمّ بك، وفي معنى هذا قول أبي نواس قال غانم الورّاق:
دخلت عليه قبل وفاته بيوم فقال لي: أمعك ألواحك؟ قلت: نعم، قال: اكتب:
[الخفيف]
دبّ فيّ السّقام سفلا وعلوا ... وأراني أموت عضوا فعضوا
ليس تمضي من لحظة لي إلّا ... نقصّتني بمرّها بي جزوا
ذهبت جدّتي بطاعة نفسي ... وتذكّرت طاعة الله نضوا
قد أسأنا كلّ الإساءة فاللّ ... همّ صفحا عنّا وغفرا وعفوا
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 5/ 43.(1/326)
قوله: «نفّس»، أي وسّع نفسه، كأنه خنق فضاق نفسه، فأمر بحلّه. أخي البث:
صاحب الحزن. نثّ: نطق وكشف له سره. رمّ: أصلح، وقد رممت الشيء رمّا أصلحته. الرثّ: الخلق.
ورش من ريشه انحصّ ... بما عمّ وما خصّ
ولا تأس على النّقص ... ولا تحرص على اللّم
وعاد الخلق الرّذل ... وعوّد كفّك البذل
ولا تستمع العذل ... ونزّهها عن الضّم
وزوّد نفسك الخير ... ودع ما يعقب الضّير
وهيّىء مركب السّير ... وخف من لجّة اليم
بذا أوصيت يا صاح ... وقد بحت كمن باح
فطوبى لفتى راح ... بآدابي يأتم
* * *
رش: اجعل له ريشا. انحصّ: نتف ريشه، تقول: رشت الرجل، أي أعنته وأغنيته. بما عمّ وما خصّ، أي بما كثر من العطيّة وقلّ. تأس: تحزن: على النّقص، أي على النقصان في الصّدقة والمعروف، ولا تكن أيضا حريصا على جمعه ومنعه فمن احتاج إليه، واللمّ: جمع المال، ولممت الشيء لمّا. الرّدل: الرديء، يريد: عاد أخلاق البخل، أو الخلق السوء.
عائشه رضي الله عنها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مسيء إلا وله توبة، إلا صاحب سوء الخلق لأنه لا يتوب من ذنب إلّا عاد في شرّ منه». والبذل: العطاء، وبذلت الشيء بذلا، أي أبحته عن طيب نفس. والعذل: اللوم، أي. من لامك على العطاء لا تسمعه وأعط، وأحسن ما قيل في ردّ العذل على كثرته قول زهير: [الطويل]
وأبيض فياض نداه غمامة ... على معتفيه ما تغبّ فواضله (1)
بكرت إليه غدوة فرأيته ... قعودا إليه بالصّريم عواذله
يفدّينه طورا، وطورا يلمنه ... وأعيا فما يدرين أين مخاتله
__________
(1) البيت الأول في ديوان زهير بن أبي سلمى ص 139، وفيه «يداه غمامة» بدل «نداه غمامة»، والجنى الداني ص 441، وبلا نسبة في لسان العرب (غبب)، وتاج العروس (غبب)، (فضل)، والبيت الثاني في ديوان زهير ص 140، وفيه «بكرة فوجدته» بدل «غدوة فرأيته»، والأضداد ص 42، 195، وشرح شواهد المغني 2/ 941، ولسان العرب (حرم)، وتاج العروس (صرم)، وبلا نسبة في مغني اللبيب 2/ 652.
فأقصرن فيه عن كريم مرزّإ ... صبور على الأمر الذي هو فاعله
قوله «نزّهها»، أي باعدها. عن الضمّ، أي عن ضمّ الأصابع على ما في الكفّ، يقول: ابسط كفّك بالعطية ولا تقبضها على ما فيها شحّا، قال ابن عبد ربّه: [البسيط](1/327)
__________
(1) البيت الأول في ديوان زهير بن أبي سلمى ص 139، وفيه «يداه غمامة» بدل «نداه غمامة»، والجنى الداني ص 441، وبلا نسبة في لسان العرب (غبب)، وتاج العروس (غبب)، (فضل)، والبيت الثاني في ديوان زهير ص 140، وفيه «بكرة فوجدته» بدل «غدوة فرأيته»، والأضداد ص 42، 195، وشرح شواهد المغني 2/ 941، ولسان العرب (حرم)، وتاج العروس (صرم)، وبلا نسبة في مغني اللبيب 2/ 652.
فأقصرن فيه عن كريم مرزّإ ... صبور على الأمر الذي هو فاعله
قوله «نزّهها»، أي باعدها. عن الضمّ، أي عن ضمّ الأصابع على ما في الكفّ، يقول: ابسط كفّك بالعطية ولا تقبضها على ما فيها شحّا، قال ابن عبد ربّه: [البسيط]
يا قابض الكفّ لا زالت مقبّضة ... فما أناملها للناس أرزاق
وغب إذا شئت حق لا ترى أبدا ... فما لفقدك في الأحشاء إحراق
كأنّه قلب بيت ابن دريد في رجل من أهل البصرة: [الكامل]
يا من يقبّل كفّ كل ممخرق ... هذا ابن يحيى ليس بالمخراق
قبّل أنامله فلسن أناملا ... لكنّهنّ مفاتح الأرزاق
أخذه ابن دريد من إبراهيم بن العباس الصوليّ يمدح الفضل بن سهل: [المتقارب]
لفضل بن سهل يد ... تقاصر عنها المثل
فبسطتها للغنى ... وسطوتها للأجل
وباطنها للنّدى ... وظاهرها للقبل
وسرقه ابن الرومي فقال: [الكامل]
أصبحت بين خصاصة ومذلّة ... والحرّ بينهما يموت ذليلا
فامدد إليّ يدا تعوّد بطنها ... بذل النوال وظهرها التقّبيلا
وقال ابن عبد ربه: [الطويل]
وما خلقت كفّاه إلا لأربع ... عقائل لم يعقل لهنّ ثواني
لتقبيل أفواه، وإعطاء نائل، ... وتقليب هنديّ وحبس عنان
قوله: «ودع ما يعقب الضير»، أي دع عنك شيئا يجيئك في أثره ضرر. المركب هنا: السفينة. واليمّ: البحر. واللجّة: معظم الماء، وجعل الميت كالمسافر، وضرب له البحر مثلا لكثرة ما يرى من الأهوال، فأمره بالاستعداد لذلك. يا صاح: يا صاحب. بحت. نطقت، يريد أنّ كلّ ما قدّم من الوصيّة إنما هو على وجه النصح، كما وصّي هو بها قبل ذلك، وأراد بقوله: «صاح» كلّ من يسمع وصيّته، لا صاحبا معيّنا. طوبى: شجرة في الجنة، وهي، عندهم «فعلى» من الطيب. يأتمّ: يقتدى بها في الظاهر، يريد أنه من اقتدى بهذه الوصية فطوبى له، وهو يريد: من حصل آداب المقامات كلها رأس.
* * * ثمّ حسر ردنه عن ساعد شديد الأسر، قد شدّ عليه جبائر المكر لا الكسر،
متعرّضا للاستماحة، في معرض الوقاحة، فاختلب به أولئك الملأ، حتى أترع كمّه وملأ ثمّ انحدر من الرّبوة، جذلا بالحبوة.(1/328)
* * * ثمّ حسر ردنه عن ساعد شديد الأسر، قد شدّ عليه جبائر المكر لا الكسر،
متعرّضا للاستماحة، في معرض الوقاحة، فاختلب به أولئك الملأ، حتى أترع كمّه وملأ ثمّ انحدر من الرّبوة، جذلا بالحبوة.
قال الراوي: فجاذبته من ورائه، حاشية ردائه، فالتفت إليّ مستسلما، وواجهني مسلّما، فإذا هو شيخنا أبو زيد بعينه ومينه، فقلت له: [الهزج]
إلى كم يا أبا زيد ... أفانينك في الكيد
لينحاش لك الصّيد ... ولا تعبا بمن ذم
* * *
قوله: «حسر»، أي كشف. ردنه: كمّه. الأسر: الخلقة، ومنه قوله تعالى:
{وَشَدَدْنََا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 28]، أي خلقهم، وهو من الإسار، وهو القدّ الذي يشدّ به الأسير، فشرك الجلد هي الإسار ويراد بها في الخلقة العصب التي يشتدّ بها الجسد وتلتئم بها الأعضاء، وإليها حكم حركة البدن من القيام والقعود، فسبحان الذي أنشأ الخليقة كيف شاء! الاستماحة: الطلب، استفعالة، من ماح الرجل يميحه إذا أعطاه، وأصل ذلك من المائح، وهو النازل في قعر البئر ليغرف ماءها ويفرّقه على دلاء المستقين، وقد ماح البئر ميحا. الوقاحة: ترك الحياء وصلابة الوجه، من الحافر الوقاح وهو الصّلب. ومعرضها: موضع عرضها ونشرها، وإن كسرت الميم وفتحت الراء فهو ثوب الوقاحة، لبسه لأنّ المعرض الثوب الذي تعرض فيه الجارية للبيع، والوقاحة:
إظهار ذراعه صحيحا مشدودا عليه بخرق، ليوهم من رآه أنه مكسور. اختلب: خدع، واحتلب بالحاء: حلب ما عندهم كما تحلب الشاة. الملأ: الجماعة. أترع: ملأ.
انحدر: هبط، والرّبوة، لغة في الرّباوة التي تقدّمت. جذلا: مسرورا. الحبوة: العطيّة.
جاذبته: نازعته. مينه: كذبه. أفانينك: أنواع كذبك وحيلك. ينحاش: ينضمّ ويجتمع، وحشت الصيد أحوشه، إذا جئته من حواليه لتصرفه إلى الحبالة. لا تعبأ، أي لا تبالي، من عبّأت الحلم للجهل، والخيل للحرب إذا أعددته، وإذا لم يبال بالشيء لم يستعدّ له.
* * * فأجاب من غير استحياء، ولا ارتياء، وقال: [الهزج]
تبصّر ودع اللّوم ... وقل لي هل ترى اليوم
فتى لا يقمر القوم ... متى ما دسته تمّ!
فقلت له: بعدا لك يا شيخ النّار، وزامله العار، فما مثلك في طلاوة علانينك، وخبث نيّتك، إلّا مثل روث مفضّض، أو كنيف مبيّض.(1/329)
ثمّ تفرّقنا، فانطلقت ذات اليمين، وانطلق ذات الشّمال، وناوحت مهبّ الجنوب، وناوح مهب الشّمال.
* * * ارتياء: إبطاء، وهو «افتعال» من رؤية القلب، التي معناها التدبّر والتفكّر، وأصل بابه الهمزة، فنقلها لمكان همزة اللّام يقول: أجاب من غير فكرة. يقمر: يغلب، وتقول: قامرت الرجل قمارا فقمرته أقمره، أي غلبته. دسته، أي حيلته، والدّست: الذي يكون لك فيه الغلب في الشطرنج، تقول: الدّست لي، والدّست عليّ. ومن ألفاظ عامّة المشرق أن يقول الرجل لصاحبه: هلمّ نأخذ دستا. تمّ: كمل. قوله: «زاملة»، أي حاملة، والزاملة: الدابّة يحمل عليها. طلاوة علانيتك، أي حسن ظاهرك. خبث نيّتك:
فساد باطنك، وفي معنى هذا قال لقمان لابنه: احذر واحدة وهي أهل للحذر: إيّاك أن ترى أنك تخشى الله وقلبك فاجر يحذّره من الرياء، وفي الحديث: «من أصلح سريرته أصلح الله علانيته».
وقيل لرجل مراء: ما أحسن صلاتك! قال: ومع هذا فإني صائم! قال الشاعر:
[الرمل]
وإذا أظهرت شيئا حسنا ... فليكن أحسن منه ما يسر
فمسرّ الخير موسوم به ... ومسرّ الشّر موسوم بشرّ
وقال محمود الوراق لابن أخيه: [الوافر]
تصوّف كي يقال له أمين ... وما معنى التصوّف والأمانة
ولم يرد الإله به ولكن ... أراد به الطريق إلى الخيانة
وقال فيه أيضا: [الكامل]
شمّر ثيابك واستعدّ لقائل ... واحكك جبينك للقضاة بثوم
وعليك بالفتوي فاجلس عنده ... حتى تصيب وديعة ليتيم
وقال الأبيض الألبيريّ: [الكامل]
أهل الرياء لبستم ناموسكم ... كالذئب يصبح في الظلام العاتم
فملكتم الدنيا بمذهب مالك ... وقسمتم الأموال بابن القاسم
وركبتم شهب البغال بأشهب ... وبأصبغ صبغت لكم في العالم
وقال آخر: [الكامل]
لا شيء أخسر صفقة من عالم ... لعبت به الدّنيا مع الجهال
فغدا يفرّق دينه أيدي سبا ... ويديله حرصا لجمع المال
لا خير في كسب الحرام وقلّما ... يرجى الخلاص لكاسب لحلال
فخذ الكفاف ولا تكن ذا فضلة ... فالفضل تسأل عنه أيّ سؤال
قوله: «مفضّض»، مطليّ بالفضة. والكنيف: المستراح. ذات: جهة وناحية.(1/330)
لا شيء أخسر صفقة من عالم ... لعبت به الدّنيا مع الجهال
فغدا يفرّق دينه أيدي سبا ... ويديله حرصا لجمع المال
لا خير في كسب الحرام وقلّما ... يرجى الخلاص لكاسب لحلال
فخذ الكفاف ولا تكن ذا فضلة ... فالفضل تسأل عنه أيّ سؤال
قوله: «مفضّض»، مطليّ بالفضة. والكنيف: المستراح. ذات: جهة وناحية.
ناوحت: قابلت. مهبّ: ناحية هبوبها. الجنوب: الريح القبليّة. والشمال [مقابل] الجنوبية.(1/331)
المقامة الثانية عشرة وهي الدّمشقيّة
حكى الحارث بن همّام قال: شخصت من العراق إلى الغوطة، وأنا ذو جرد مربوطة، وجدة مغبوطة، يلهيني خلوّ الذّرع، ويزدهيني حفول الضّرع. فلمّا بلغتها بعد شقّ النّفس، وإنضاء العنس، ألفيتها كما تصف الألسن، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، فشكرت يد النّوى، وجريت طلقا مع الهوى، وطفقت أفضّ فيها ختوم الشّهوات، وأجتني قطوف اللّذّات، إلى أن شرع سفر في الإعراق، وقد أشفقت من الإغراق، فعادني عيد من تذكار الوطن، والحنين إلى العطن، فقوّضت خيام الغيبة، وأسرجت جواد الأوبة.
* * * [غوطة دمشق]
شخصت، أي خرجت. الغوطة: موضع بالشأم خصيب بخارج دمشق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستفتح عليكم الشأم فعليكم بمدينة يقال لها دمشق، هي خير مدائن الشأم وفسطاط المؤمنين بأرض منها يقال لها الغوطة» (1). قال الأصمعيّ: أحسن أنهار الدنيا ثلاثة أنهار: الغوطة، وسمرقند، ونهر الأبلّة، وهو قريب من البصرة، وحشوشها ثلاثة:
عمان، وأردبيل، وهيت. وسمّيت دمشق باسم صاحبها الذي بناها، وهي إرم ذات العماد.
وقال اليعقوبيّ: مدينة دمشق جليلة المقدار قديمة، وهي مدينة الشأم في الجاهلية والإسلام، وليس لها نظير في جميع بلاد الشأم في أنهارها وبساتينها، ومبانيها وكثرة عمارتها. وافتتحت في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة أربع عشرة.
وقال شيخنا ابن جبير: مدينة دمشق هي جنّة المشرق، ومطلع حسنه المونق، وعروس المدن. قد تحلّت بأزاهير الرياحين، وتجلّت في حلل سندسيّة من البساتين، وحلّت من موضع الحسن بمكان مكين، وتجلّت في منصتها بأجمل تزيين، وتشرفت بأن
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنة باب 8.(1/332)
آوى الله المسيح وأمّه منها إلى ربوة ذات قرار ومعين. ظلّ ظليل، وماء سلسبيل، ينساب انسياب الأراقم بكل سبيل، ورياض تحيي النفوس بنسيمها العليل، تبرز لناظريها بمجتلى صقيل، وتناديهم: ألا هلمّوا إلى معرّس للحسن ومقيل، وقد سئمت أرضها كثرة المياه حتى اشتاقت إلى الظمأ، فتكاد تناديك بها الصمّ الصّلاب: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هََذََا مُغْتَسَلٌ بََارِدٌ وَشَرََابٌ} [ص: 42]. قد أحدقت البساتين بها إحداق الهالة بالقمر، واكتنفتها اكتناف الأكمام للزهر، وامتدّت بشرقيّها غوطتها الخضراء امتداد البصر، فكل موقع لحظته بجهاتها الأربع، نضرته اليانعة قيد النظر، ولقد صدق القائلون عنها: إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك منها، وإن كانت في السماء فهي بحيث تسامتها وتحاذيها.
وقال فيها البحتري: [البسيط]
إذا أردت ملأت الطّرف من بلد ... مستحسن، وزمان يشبه البلدا (1)
يمسي السحاب على أجبالها فرقا ... ويصبح النّبت في صحرائها بددا
فلست تبصر إلّا واكفا خضلا ... أو يانعا خضرا، أو طائرا غردا
كأنّما القيظ ولّي بعد وفدته ... أو الربيع دنا من بعد ما بعدا
* * *
قوله: «جرد»، أي خيل قصيرة شعر الجسد. جدة: غنى. مغبوطة: محسودة، أراد مغبوط عليها مالكها، فقلب. يلهيني: يدعوني إلى اللهو. خلوّ الذّرع: فراغ البال والصدر من الهمّ، يزدهيني: يحملني على الزّهو. حفول الضّرع: كثرة المال، والضّرع للبقرة والشاة بمنزلة الثّدي للمرأة، وحفوله: امتلاؤه باللبن. شقّ: مشقة. إنصاء: إهزال.
والعنس: الناقة القوية. ألفيتها: وجدتها النّوى: البعد والانتقال من بلد إلى بلد، وأراد أنه شكر سفره. ويد النّوى: النعمة التي أنعم بها عليه، بأن أوصله إلى الغوطة. الهوى: ما تهواه النفس وتشتهيه. طفقت: أخذت. أفضّ: أكسر. ختوم: ربوط يريد أنّ شهوته التي كانت قد شدّت وربطت أخذ يكسر ختومها ويسرّحها في المآكل والمشارب واللذات. أجتني: أجمع. جناة قطوف: ما يجنى من الثمار، وجعله للذّات اتساعا.
شرع: أخذ وابتدأ. من شرعت الدّابة في الماء، إذا دخلته لتشرب سفّر: مسافرون، الإعراق: المشي إلى العراق، أشفقت: خفت الإغراق: الفقر من أجل الزاد والمأكل، وكأنه غرق في ذلك، فهو يرجع إلى الغرق والإغراق: المبالغة في الشيء، يقال: أغرق الرجل في القول والرمي بالقوس، إذا بالغ فيهما.
عادني: زارني. عيد: شوق، وكلّ ما تذكرته واشتقت إليه فهو عيد، كأنه عاد إلى قلبه بعد نسيانه، ونقل لفظ الشاعر: [الخفيف]
__________
(1) الأبيات في ديوان البحتري ص 710.(1/333)
عاد قلبي من الطّويلة عيد ... واعتراني من حبّها تسهيد (1)
ابن الأنباري، العيد هنا: الوقت الذي يعود فيه الحزن والشوق، وقال تأبط شرّا:
[البسيط]
يا عيد ما لك من شوق وإيراق ... ومرّ طيف على الأهوال طرّاق
العيد: ما يعتاد من الحزن والشوق، ومعنى «يا لك من شوق»: ما أعظمك من شوق. الحنين: الشوق. العطن: مبارك الإبل حول الماء، وأراد به بلده. قوّضت:
هدّمت. خيام: بيوت. الأوبة: الرجوع، وأراد قطعت أسباب الإقامة.
* * * ولمّا تأهّبت الرّفاق، واستتبّ الاتّفاق، ألحنا من المسير، دون استصحاب الخفير، فردناه من كلّ قبيلة، وأعملنا في تحصيله ألف حيلة، فأعوز وجدانه في الأحياء، حتّى خلنا أنّه ليس من الأحياء، فحارت لعوزه عزوم السّيّارة، وانتدوا بباب جيرون للاستخارة فما زالوا بين عقد وحلّ، وشزر وسحل، إلى أن نفد التّناجي، وقنط الرّاجي.
وكان حذتهم شخص ميسمه ميسم الشّبّان، ولبوسه لبوس الرّهبان، وبيده سبحة النّسوان، وفي عينيه ترجمة النّشوان، وقد قيّد لحظه بالجمع، وأرهف أذنه لاستراق السّمع. فلمّا أنى انكفاؤهم، وقد برح له خفاؤهم، قال لهم: يا قوم ليفرخ كربكم، وليأمن سربكم، فسأخفركم بما يسرو روعكم، ويبدو طوعكم.
* * * استتبّ: تهيّأ وأقام. ألحنا: خفنا. الخفير: المجير، وهو الذي تمشي الرفاق في ذمته، وتسمّيه العامة الغفير. ردناه: طلبناه. أعوز: عدم. الأحياء الأول: القبائل، والثاني ضدّ الموتى. حالت: تغيّرت. لعوزه: لفقده. عزوم: جمع عزم، وهو الجدّ.
السّيّارة: الرفقة، وهي فعّالة من السير. انتدوا: اجتمعوا.
* * * [باب جيرون]
باب جيرون، من أبواب جامع دمشق، وجيرون هذا هو جيرون بن سعد بن عاد، وهو الذي بنى دمشق، ونقل إليها الرّخام، وسمّاها إرم، وعلى هذا نقلة الأخبار وأنّ
__________
(1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (عود)، (طول)، وتاج العروس (عود)، وتهذيب اللغة 3/ 132.(1/334)
إرم ذات العماد هي دمشق، يقال: إنه كان فيها أربعمائة ألف عمود. وقد تقدّم أيضا أن دمشق سمّيت باسم بانيها، وهو دماشق بن نمروذ بن كنعان، وقيل: بانيها دمشق بن عامر بن لمك بن أرفخشذ بن سام بن نوح.
قال اليعقوبيّ: جامع دمشق ليس في الإسلام أحسن منه، بناه الوليد بن عبد الملك في خلافته بالرّخام والذهب سنة ثمان وثمانين، مفروش بالرّخام الأبيض المختم بالأزرق، وسقفه لا خشب فيه، مذهّب كلّه، ومنائره ثلاث: واحدة في مؤخر المسجد، مذهّب كلها من أعلاها إلى أسفلها.
وذكر شيخنا ابن جبير في وصف هذا الجامع ووصف دمشق غرائب لا يتّسع لها هذا الكتاب، فلنلمّ هنا ببعض ما وصف في هذا الجامع لنفي بشرطنا. قال: هذا الجامع من أشهر جوامع الإسلام حسنا وإتقان بناء، وغرابة صنعة، واحتفال تنميق وتزيين، ومن عجيب شأنه أنه لا يلمّ به نسج العنكبوت، ولا تلمّ به الطير المعروفة بالخطاف، انتدب لبنائه الوليد، ووجّه إلى ملك الروم بالقسطنطينية يأمره بأشخاص اثني عشر ألف صانع من بلاده، وتقدّم إليه بالوعيد في ذلك إن توقّف [عنه]، فامتثل أمره مذعنا، وشرع في بنائه، وبلغت الغاية في التأنّق فيه، وأنزلت جدره كلها بفصوص الذهب المعروفة بالفسيفساء، وخلطت بها أنواع من الأصبغة الغريبة، قد مثلت أشجارا، وفرّعت أغصانا منظومة بالفصوص ببديع الصنعة المعجزة وصف كلّ واصف، فجاء يعشي العيون وميضا وبصيصا. وبلغت النفقة فيه أحد عشر ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار.
وكان أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه صالح النّصارى لمّا دخلها، بأن أخذ نصف الكنيسة الشرقيّ، فصيّره مسجدا، وبقي النصف الغربيّ للنصارى. فأخذه الوليد، وأدخله في الجامع بعد أن رغب إليهم أن يعوّضهم عنه، فأبوا، فأخذه قهرا. وكانوا يزعمون أنّ من يهدم كنيستهم يجنّ، فبادر الوليد، وقال: أنا أول من يجنّ في الله، وبدأ الهدم بيده، فبادر المسلمون، فأكملوا هدمها. ثم أرضاهم عمر بن عبد العزيز في خلافته عن الكنيسة بمال عظيم.
وطول هذا الجامع من الغرب إلى الشرق: ذرعه مائتا خطوة، وهما ثلثمائة ذراع، وذرعه في السعة من القبلة إلى الشمال مائة وخمس وثلاثون خطوة، وهي مائتا ذراع، وتكسيره بالمرجع المغربيّ أربعة وعشرون مرجعا، وهو تكسير مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم غير أنّ طوله من القبلة إلى الشمال، وبلاطاته المتّصلة بالقبلة ثلاث، مستطيلة من المشرق إلى المغرب، سعة كلّ بلاطة منها ثمان عشرة خطوة، وقامت البلاطات على ثمانية وستين عمودا، منها ثمانية أرجل تتخللها واثنتان مرخّمة ملصقة بالجدار الذي يلي الصخرة، وأربع أرجل مرخّمة أبدع ترخيم، مرصّعة بفصوص من الرّخام ملوّنة، قد نظمت خواتيم، وصوّرت محاريب وأشكالا غريبة قائمة في البلاط الأوسط، دور كلّ رجل منها اثنان
وسبعون شبرا، ويستدير بالصحن بلاط من ثلاث جهاته، سعته عشر خطا، وعدد قوائمه سبع وأربعون، منها أربع عشرة رجلا، والباقي سوار، وسقف الجامع كله من خارج ألواح رصاص. وأعظم ما فيه قبة الرصاص المتّصلة بالمحراب، وهي سامية في الهواء، عظيمة الاستدارة، وقد استقلّ بها هيكل عظيم، هو عماد لها يتّصل من المحراب إلى الصحن والقبّة، قد أغصّت بالهواء، فإذا استقبلتها رأيت مرأى هائلا، ومن أيّ جهة استقبلت البلد ترى القبة في الهواء، كأنها معّلقة في الجوّ، وعدد شمسياتها الزجاجية المذهبة الملونة أربع وسبعون، فإذا قابلتها الشمس واتصل شعاعها بها انعكس الشعاع إلى كلّ لون منها، واتصل ذلك بالجدار القبليّ، ويتصل بالأبصار منها أشعة ملوّنة هائلة لا تبلغ العبارة تصوّرها، ومحرابه من أعجب المحاريب الإسلامية حسنا وغرابة صنعة يتقد ذهبا كلّه، وقد قامت في وسطه محاريب صغار متصلة بجداره، تحفّها سويريات مفتولات فتل الأسورة، فإنها مخروطة، بعضها أحمر، كأنها مرجان لم ير شيء أجمل منها.(1/335)
وطول هذا الجامع من الغرب إلى الشرق: ذرعه مائتا خطوة، وهما ثلثمائة ذراع، وذرعه في السعة من القبلة إلى الشمال مائة وخمس وثلاثون خطوة، وهي مائتا ذراع، وتكسيره بالمرجع المغربيّ أربعة وعشرون مرجعا، وهو تكسير مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم غير أنّ طوله من القبلة إلى الشمال، وبلاطاته المتّصلة بالقبلة ثلاث، مستطيلة من المشرق إلى المغرب، سعة كلّ بلاطة منها ثمان عشرة خطوة، وقامت البلاطات على ثمانية وستين عمودا، منها ثمانية أرجل تتخللها واثنتان مرخّمة ملصقة بالجدار الذي يلي الصخرة، وأربع أرجل مرخّمة أبدع ترخيم، مرصّعة بفصوص من الرّخام ملوّنة، قد نظمت خواتيم، وصوّرت محاريب وأشكالا غريبة قائمة في البلاط الأوسط، دور كلّ رجل منها اثنان
وسبعون شبرا، ويستدير بالصحن بلاط من ثلاث جهاته، سعته عشر خطا، وعدد قوائمه سبع وأربعون، منها أربع عشرة رجلا، والباقي سوار، وسقف الجامع كله من خارج ألواح رصاص. وأعظم ما فيه قبة الرصاص المتّصلة بالمحراب، وهي سامية في الهواء، عظيمة الاستدارة، وقد استقلّ بها هيكل عظيم، هو عماد لها يتّصل من المحراب إلى الصحن والقبّة، قد أغصّت بالهواء، فإذا استقبلتها رأيت مرأى هائلا، ومن أيّ جهة استقبلت البلد ترى القبة في الهواء، كأنها معّلقة في الجوّ، وعدد شمسياتها الزجاجية المذهبة الملونة أربع وسبعون، فإذا قابلتها الشمس واتصل شعاعها بها انعكس الشعاع إلى كلّ لون منها، واتصل ذلك بالجدار القبليّ، ويتصل بالأبصار منها أشعة ملوّنة هائلة لا تبلغ العبارة تصوّرها، ومحرابه من أعجب المحاريب الإسلامية حسنا وغرابة صنعة يتقد ذهبا كلّه، وقد قامت في وسطه محاريب صغار متصلة بجداره، تحفّها سويريات مفتولات فتل الأسورة، فإنها مخروطة، بعضها أحمر، كأنها مرجان لم ير شيء أجمل منها.
وفيها ثلاث مقاصير: مقصورة معاوية، وهي أول مقصورة وضعت في الإسلام، طولها أربعة وأربعون شبرا، وعرضها نصف الطّول. ويليها بجهة الغرب المقصورة التي أحدثت عند زيادة الكنيسة فيه، وهي أكبر. والثالثة بالجانب الغربيّ، يجتمع الحنفيّة فيها للتدريس.
وله أربعة أبواب: باب قبليّ يعرف بباب الزيادة، وباب شمالي يعرف بباب الناطفيين، وباب غربي يعرف بباب البريد، وباب شرقيّ يعرف بباب جيرون، وهو أعظمها.
وله وللغربي دهاليز متسعة يفضي كل دهليز منها إلى باب عظيم كانت كلها مداخل للكنيسة، فبقيت على حالها.
ثم ذكر في الصحن عجائب من الأبنية والقباب والصوامع الثلاث والمياه المدبرّة فيه ما يطول وصفه واختصاره. قال: وهذا الصّحن من أجمل المناظر وأحسنها، وفيه مجتمع أهل البلد ومتفرّجهم ومنتزهّهم، كل عشيّة تراهم فيه ذاهبين وراجعين من باب جيرون إلى باب البريد، لا يزالون على هذه الحالة إلى انقضاء صلاة العشاء الأخيرة، منهم من يتحدّث مع صاحبه، ومنهم من يقرأ، فهذا دأبهم أبدا بالعشي والغداة، وأكثر الاحتفال بالعشي، [فيخيّل لمبصر ذلك أنّها ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم لما يرى من احتفال الناس واجتماعهم، لا يزالون على ذلك كل يوم]، وأهل البطالة يسمونهم الحراثين.
وللجامع أربع سقايات في كل جهة سقاية. وأعظمها سقاية باب جيرون.
وذكر أنّ حول باب جيرون من الأبنية الغريبة ما يطول وصفه، وذكر باب جيرون فقال: يخرج من دهليزه إلى بلاط طويل عريض له خمسة أبواب مقوّسة، لها ستة أعمدة
في جهة اليسار، منه مشهد كبير كان فيه رأس الحسين رضي الله عنه، قبل أن ينقل إلى القاهرة، وبإزائه مسجد صغير لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وقد انتظمت أمام البلاط أدراج ينحدر عليها إلى الدهليز، وهي كالخندق العظيم تتصل إلى باب عظيم الارتفاع ينحسر الطرف دونه سموّا، قد حفّته أعمدة كالجذوع طولا، وكالأطواد ضخامة، وبجانبي الدّهليز أعمدة قامت عليها شوارع مستديرة، فيها حوانيت العطّارين وغيرهم، وعليها شوارع مستطيلة فيها الحجر والبيوت للكراء مشرفة على الدهاليز، وفوقها سطح بيت فيه سكّان الحجر والبيوت، وفي وسط الدّهليز حوض كبير مستدير من الرخام، عليه قبة تقلّها أعمدة من الرخام. وفي وسط الحوض أنبوب صفر يزعج الماء بقوّة، فيرتفع في الهواء أزيد من القامة، وحوله أنابيب صغار ترمي الماء علوّا، فيخرج منها كقضبان اللجين، فكأنها أغصان تلك الدوحة المائية، ومنظرها أبدع من أن يوصف، وعن يمين الخارج من باب جيرون في جدار البلاط الذي أمامه شبه غرفة، بها هيئة طاق كبير مستدير، فيه طيقان من صفر وقد فتحت أبوابا صغارا على عدد ساعات النهار، ودبرت تدبيرا هندسيا، فعند انقضاء ساعة من النهار، تسقط صنجتان من صفر من فمي بازيّين من صفر قائمين على طاستين من صفر مثقوبتين، فتبصر البازيين يمدّان أعناقهما للصنجتين إلى الطّاستين، ويقذفانهما بسرعة، بتدبير عجيب تتخيّله الأوهام سحرا، فعند وقوعهما يسمع لهما دوي، فيعودان من الأثقاب إلى داخل الجدار إلى الغرفة، ويتعلّق الباب تلك الساعة بلوح أصفر، فلا يزال كذلك حتى تنقضي الساعات، فتغلق الأبواب كلها، ثم تعود إلى حالاتها الأولى. ولها بالليل تدبير آخر، وذلك أنّ في القوس المنعطف على الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرّمة، في كلّ دائرة زجاجة. وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة، فإذا انقضت عمّ الزّجاجة ضوء المصباح، وأفاض على الدائرة شعاعا، فلاحت دائرة محمرة، ثم ينتقل إلى الأخرى، حتى تنقضي ساعات الليل، وقد وكلّ بها من يدير شأنها، فيعيد فتح الأبواب، ويسرح الصّنج إلى موضعه وهي التي تسمى الميقات.(1/336)
وذكر أنّ حول باب جيرون من الأبنية الغريبة ما يطول وصفه، وذكر باب جيرون فقال: يخرج من دهليزه إلى بلاط طويل عريض له خمسة أبواب مقوّسة، لها ستة أعمدة
في جهة اليسار، منه مشهد كبير كان فيه رأس الحسين رضي الله عنه، قبل أن ينقل إلى القاهرة، وبإزائه مسجد صغير لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وقد انتظمت أمام البلاط أدراج ينحدر عليها إلى الدهليز، وهي كالخندق العظيم تتصل إلى باب عظيم الارتفاع ينحسر الطرف دونه سموّا، قد حفّته أعمدة كالجذوع طولا، وكالأطواد ضخامة، وبجانبي الدّهليز أعمدة قامت عليها شوارع مستديرة، فيها حوانيت العطّارين وغيرهم، وعليها شوارع مستطيلة فيها الحجر والبيوت للكراء مشرفة على الدهاليز، وفوقها سطح بيت فيه سكّان الحجر والبيوت، وفي وسط الدّهليز حوض كبير مستدير من الرخام، عليه قبة تقلّها أعمدة من الرخام. وفي وسط الحوض أنبوب صفر يزعج الماء بقوّة، فيرتفع في الهواء أزيد من القامة، وحوله أنابيب صغار ترمي الماء علوّا، فيخرج منها كقضبان اللجين، فكأنها أغصان تلك الدوحة المائية، ومنظرها أبدع من أن يوصف، وعن يمين الخارج من باب جيرون في جدار البلاط الذي أمامه شبه غرفة، بها هيئة طاق كبير مستدير، فيه طيقان من صفر وقد فتحت أبوابا صغارا على عدد ساعات النهار، ودبرت تدبيرا هندسيا، فعند انقضاء ساعة من النهار، تسقط صنجتان من صفر من فمي بازيّين من صفر قائمين على طاستين من صفر مثقوبتين، فتبصر البازيين يمدّان أعناقهما للصنجتين إلى الطّاستين، ويقذفانهما بسرعة، بتدبير عجيب تتخيّله الأوهام سحرا، فعند وقوعهما يسمع لهما دوي، فيعودان من الأثقاب إلى داخل الجدار إلى الغرفة، ويتعلّق الباب تلك الساعة بلوح أصفر، فلا يزال كذلك حتى تنقضي الساعات، فتغلق الأبواب كلها، ثم تعود إلى حالاتها الأولى. ولها بالليل تدبير آخر، وذلك أنّ في القوس المنعطف على الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرّمة، في كلّ دائرة زجاجة. وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة، فإذا انقضت عمّ الزّجاجة ضوء المصباح، وأفاض على الدائرة شعاعا، فلاحت دائرة محمرة، ثم ينتقل إلى الأخرى، حتى تنقضي ساعات الليل، وقد وكلّ بها من يدير شأنها، فيعيد فتح الأبواب، ويسرح الصّنج إلى موضعه وهي التي تسمى الميقات.
ثم ذكر في باب جيرون، وفي الجامع وفي خارج البلد عجائب ليست من شرطنا، وإنما ذكرنا منها ما دعت إليه الحاجة من ذكر باب جيرون.
* * * قوله: «الاستخارة» أي طلب الخيرة، واستخرت الله: سألته أن يهب لي الخيرة.
شزر: عقد. سحل: حلّ، وشزرت الحبل شزرا شددت فتله، وسحلت النّسج سحلا أفردت سداه ولم تفتله. نفد: تم وفرغ. التناجي: التحدّث سرّا. قنط: يئس الراجي:
الطامع. حذتهم: قريبا منهم، تقول: داري حذوه وحذوته وحذته، أي حذاءه. ميسمه:
علامته، وأصل الميسم الموسم، لأنه من وسمت الشيء، فقلبت الواو ياء لسكونها وكسر ما قبلها. لبوسه: ثيابه. الرّهبان: العبّاد. والترهّب: ترك النساء. سبحة: خيط ينظم فيه
خرز يعدّ به التسبيح، وكانت لأبي هريرة رضي الله عنه سبحة من النوى المجزّع، وهو الذي حكّ حتى اختلف لونه. وفرغ من سبحته، أي من صلاته وما يتبعها من الذّكر.(1/337)
علامته، وأصل الميسم الموسم، لأنه من وسمت الشيء، فقلبت الواو ياء لسكونها وكسر ما قبلها. لبوسه: ثيابه. الرّهبان: العبّاد. والترهّب: ترك النساء. سبحة: خيط ينظم فيه
خرز يعدّ به التسبيح، وكانت لأبي هريرة رضي الله عنه سبحة من النوى المجزّع، وهو الذي حكّ حتى اختلف لونه. وفرغ من سبحته، أي من صلاته وما يتبعها من الذّكر.
ترجمة: علامة. النّشوان: السّكران. قيّد لحظه: ربط نظره، أي شخص فيهم. أرهف:
أحدّ. آن: حان وقرب، ويروى «ناء» مقلوب «آن». انكفاؤهم: انقلابهم ورجوعهم.
برح: انكشف. خفاؤهم: سرّهم.
ليفرخ كربكم: ليزول ويسكن، ومثل العرب: أفرخ روعك، ومعناه: انجلى وانكشف كما ينكشف ما في البيضة إذا انشق عن الفرخ. وقيل: معنى أفرخ، ذهب.
وقال الفارسيّ في التذكرة: معنى أفرخ روعك: صار له فرخ، وإذا أفرخ الطائر طار، لأنه فارق الحضن، وهذا قول حسن.
وقال عروة بن مضرّس: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم بجمع قبل أن يصلّي الصبح، فقلت: يا رسول الله، طويت الجبلين، ولقيت شدّة، فقال: «أفرخ روعك، من أدرك إفاضتنا هذه فقد أدرك الحج»: وقال الأخطل يصف الثّور والكلاب: [الكامل]
حتّى إذا ما الثّور أفرخ روعه ... وأفاق أقبل نحوها بتذمّر (1)
أضما وهزّ لهنّ روقي رأسه ... إذ قد أتيح لهنّ موت أحمر
فقوله: «أفاق» بعد «أفرخ روغه» يدلّ على أنه أراد ذهب فزعه وزال ويتذمّر، يحضّ نفسه على الإقدام، يقال: ذمرته إذا حضضته. وأضما، أي غضبان، والموت الأحمر مذكور في المقامة بعد هذه. قوله: «كربكم» أي همكم سربكم، أي جمعكم، أي تأمنوا في نفوسكم. سأخفركم: سأجيركم. يسرو: يكشف ويزيل. روعكم: فزعكم. يبدو:
يظهر. طوعكم: منقادا لكم، وأراد سأجيركم بشيء يزيل عنكم الفزع، ويكون منقادا لكم، وذلك الشيء هو الكلمات التي يأتى بها.
* * * قال الرّاوي: فاستطلعنا منه طلع الخفارة، وأسنينا له الجعالة عن السّفارة، فزعم أنّها كلمات لقّنها في المنام، ليحترس بها من كيد الأنام، فجعل بعضنا يومض إلى بعض، ويقلّب طرفيه بين لحظ وغضّ، وتبينّ له أنّا استضعفنا الخبر، واستشعرنا الخور، فقال: ما بالكم اتّخذتم جدّي عبثا وجعلتم تبري خبثا! ولطالما والله جبت مخاوف الأقطار، وولجت مقاحم الأخطار، فغنيت بها عن مصاحبة خفير، واستصحاب جفير. ثمّ إنّي سأنفي ما رابكم، وأستسلّ الحذر الّذي
__________
(1) البيتان في ديوان الأخطل ص 231.(1/338)
نابكم، بأن أوافقكم في البداوة، وأرافقكم في السّماوة، فإن صدقكم وعدي، فأجدّوا سعدي، وأسعدوا جدّي. وإن كذبكم فمي، فمزّقوا أدمي، وأريقوا دمي.
قال الحارث بن همام: فألهمنا تصديق رؤياه، وتحقيق ما رواه، فنزعنا عن مجادلته، واستهمنا على معادلته، وفصمنا بقوله عرى الرّبائث، وألغينا اتقّاء العابث والعائث.
* * * استطلعنا منه طلع الخفارة، أي استخبرناه عن خبر الإجارة، قال ابن الأنباريّ:
معنى السّفارة في كلامهم الإصلاح، والسفير: المصلح.
قال الشاعر: [الوافر]
وما أدع السّفارة بين قومي ... وما أمشي بغشّ إن مشيت
وأسنينا له الجعالة عن السّفارة، أي كثّرنا له العطاء ليدلّنا على المجير، وأن يكون رسولا بيننا وبينه. ويمكن أن تكون السّفارة فعالة، من لفظ السّفير، فيكون اسما للحرفة كالنّجارة والخياطة. لقّنها: حفظها. ليحترس، ليمتنع يومض: يشير. لحظ: نظر بطرف عينيه. غضّ: كسر النظر أي جعلوا يتغامزون عليه استضعافا لخبره. استشعرنا الخور، أي ظهر علينا الفزع والضعف من كلامه. العبث: اللعب. تبري: ذهبي، والتبر: كل ما لم يصنع من الجواهر من نحاس وغيره. خبثا: فاسدا. جبت: قطعت. مخاوف: مواضع الخوف الأقطار: نواحي الأرض. ولجت: دخلت. مقاحم: مهالك، والفحمة الأمر العظيم لا يركبه أحد لهوله. الأخطار: جمع خطر، وهو الغرر. جفير: جعبة السهام.
رابكم: شكّككم، أستسلّ: أزيل. الحذر: الخوف. نابكم: قصدكم. أوافقكم:
أساعدكم وأمشي معكم مصاحبا لكم. أرافقكم: أسافر معكم، والرفيق: الصاحب في السفر. السماوة: مفازة بين الشأم والعراق، وسماوة كل شيء شخصه، وبذلك سميت السماوة لأنها منازل ثمود، وفيها إلى الآن أشخاص منازلهم وآثارهم. أجدّوه: ردوه ذا جدّ، وهو السعد والحظّ، والمعنى أنه يقول: إن كان سعدي قليلا فأجدّوه، أي كثّروا حظّه بعطيتكم حتى يعود صاحبه كثير السّعد، وكذلك يقدّر: أسعدوا جدّي، فيريد: إن صدقتكم وعدي، وسلمتم، فهبوا لي من أموالكم ما يتقوّى به سعدي الضعيف، ويكثّر حظّي القليل. ويقال أيضا: أجدّ الشيء إذا صيّره جديدا. مزّقوا: قطّعوا. أدمي: حلدي.
أريقوا: صبّوا.
ألهمنا، أي ألقي في قلوبنا. نزعنا: أقلعنا. مجادلته: مخالفته. استهمنا: ضربنا السّهام وتخاطرنا على من يركب معه رفيقا. ومعادلته: الركوب معه في المحمل، وهو أن يركب هذا في الأيمن، وهذا في الأيسر، مأخوذة من العدل.(1/339)
ونذكر هنا حكاية مضحكة تزيد المعادلة بيانا، كان المعتصم يأنس بعليّ بن الجنيد الإسكاف، وكان عجيب الصّورة والحديث، فقال المعتصم لابن حماد: اذهب إلى ابن الجنيد، وقل له: يتهيّأ ليزاملني، فأتاه فقال له: تهيأ لمزاملة أمير المؤمنين، فإنّ مزاملة الخلفاء كبيرة، فقال: كيف أتهيّأ لها؟ أصيب رأسا غير رأسي! أشتري لحية غير لحيتي! قال ابن حمّاد: شروطها الامتناع عن الحديث والمذاكرة والمنادمة، وألّا تبصق ولا تسعل ولا تمخط ولا تتنحنح، وأن تتقدّم في الركوب إشفاقا عليه من الميل، وأن يتقدّمك في النزول، فمتى لم يفعل هذا المعادل كان ومثقلة الرصاص التي تعدل بها القبّة واحدا، فقال لابن حماد: اذهب قل له ما يزاملك إلا من أمّه زانية. فرجع إلى المعتصم وأعلمه، فضحك وقال: عليّ به، فلما جاء قال: يا عليّ، أبعث إليك أن تزاملني فلا تفعل! فقال له: إن رسولك هذا الأرعن جاءني بشروط حسّان السامي وخالويه الحاكمي، فقال: لا تبصق ولا تعطس، وجعل يقرقع بصاداته، وهذا لا أقدر عليه فإنّ رضيت أن أزاملك، فإذا جاءني الفساء والضراط فسوت وضرطت، وإلا فليس بيني وبينك عمل. فضحك المعتصم حتى فحص برجليه، وقال: نعم زاملني على هذه الشروط، فسار ساعة فلمّا توسط البرّ، قال: يا أمير المؤمنين، قد حضر ذلك المتسامح، قال: ذلك إليك، قال:
يحضر ابن حمّاد، فحضر، فناوله كمّه، وقال أجد في كّمي دبيب شيء، فانظر ما هو، فأدخل رأسه فشمّ رائحة الكنيف، فقال: ما أرى شيئا، ولكني أعلم أن في جوف ثيابك كنيفا، والضّحك قد ذهب بالمعتصم كلّ مذهب، وابن الجنيد يفسو فساء متّصلا، ويقول لابن حماد: قلت: لي: لا تسعل أو لا تمخط، فخريت عليك، ثم قال: قد نضجت القدر، وأريد أخرى، فأخرج المعتصم رأسه من العماريّة حين كثر عليه الضحك، وصاح: ويلك يا غلام، الأرض: الساعة أموت!.
قوله: «فصمنا»، أي قطعنا وحللنا والعرا: عيون من شريط أو غيره يشدّ بها فم الخرج أو العدل، واحدها عروة. والرّبائث: العلق، واحدها ربيثة، وهو ما يثبّت الإنسان ويحبسه عن أمر يريده، وقد ربثتك عن الأمر ربثا، وتربّثت أنا تربّثا، إذا تثبطت. ألغينا:
اطّرحنا. اتقاء: خوف. العابث: الذي يعبث بأموالهم من أهل الشر فيفسدها، والعابث:
المفسد، ويقال: عبث بفتح الباء عبثا: وبكسرها عبثا: لعب واستخف، وعاث عيثا:
أفسد.
* * * ولمّا عكمت الرّحال، وأزف التّرحال، استنزلنا كلماته الرّاقية، لنجعلها الواقية الباقية، فقال: ليقرأ كلّ منكم أمّ القرآن، كلّما أظلّ الملوان. ثم ليقل بلسان خاضع، وصوت خاشع: اللهمّ يا محيي الرّفات، ويا دافع الآفات، ويا واقي المخافات، ويا كريم المكافاة، ويا موئل العفاة، ويا وليّ العفو والمعافاة، صلّ
على محمد خاتم أنبيائك، ومبلّغ أنبيائك، وعلى مصابيح أسرته، ومفاتيح نصرته، وأعذني من نزغات الشّياطين، ونزوات السّلاطين، وإعنات الباغين، ومعاناة الطّاغين، وعدوان المعادين، وغلب الغالبين، وسلب السّالبين، وحيل المحتالين، وغيل المغتالين، وأجرني اللهم من جور المجاورين، ومجاورة الجائرين، وسطوة الجبّارين، وكفّ عنّي أكفّ الضّائمين، وأخرجني من ظلمات الظالمين، وأدخلني برحمتك في عبادك الصّالحين.(1/340)
* * * ولمّا عكمت الرّحال، وأزف التّرحال، استنزلنا كلماته الرّاقية، لنجعلها الواقية الباقية، فقال: ليقرأ كلّ منكم أمّ القرآن، كلّما أظلّ الملوان. ثم ليقل بلسان خاضع، وصوت خاشع: اللهمّ يا محيي الرّفات، ويا دافع الآفات، ويا واقي المخافات، ويا كريم المكافاة، ويا موئل العفاة، ويا وليّ العفو والمعافاة، صلّ
على محمد خاتم أنبيائك، ومبلّغ أنبيائك، وعلى مصابيح أسرته، ومفاتيح نصرته، وأعذني من نزغات الشّياطين، ونزوات السّلاطين، وإعنات الباغين، ومعاناة الطّاغين، وعدوان المعادين، وغلب الغالبين، وسلب السّالبين، وحيل المحتالين، وغيل المغتالين، وأجرني اللهم من جور المجاورين، ومجاورة الجائرين، وسطوة الجبّارين، وكفّ عنّي أكفّ الضّائمين، وأخرجني من ظلمات الظالمين، وأدخلني برحمتك في عبادك الصّالحين.
* * * عكمت الرحال، أي شدّت الأحمال بالعكام، والعكام ما يشدّ به فم العكم وهو العدل. وقيل: إنّ أصل العكام كمامة تربط على فم البعير، ومثله اللّجام، يستعار لما يشدّ به المتاع ويقال: عكمت المتاع عكما شددته في العكم، أو شددته بالعكام، وعكمت البعير شددت عليه العكم، أو ربطت العكام على فمه، وأعكمتك أعنتك.
أزف: دنا وقرب. استنزلنا: طلبنا منه إنزالها، أي تلطّفنا به ليذكرها الرّاقية: الرفيعة، من رقيّ في الدّرجة، أو المعّوذة لنا، من رقيت المريض، وهو أشبه لموافقتها لمعنى الواقية، وهي الكافية، لما يخاف من الشرّ، أظلّ الأمر: قرب ودنا وكأنه ألقي عليك ظلّه.
الملوان: الليل والنهار، والخاضع: الذليل، وخضع خضوعا: أقرّ بالذل. والخاشع:
المتواضع، وخشع خشوعا: خفض صوته، ورمى ببصره إلى الأرض، والخضوع قريب منه، إلّا أنّ أكثر ما يستعمل الخشوع في الصّوت والخضوع في الأعناق. الرّفات: العظام البالية الآفات: المضرّات. المكافأة: المجازاة. موئل: ملجأ. العفاة: جمع عاف، وهو سائل العفو وليّ العفو: صاحب المغفرة. والمعافاة. المباعدة من الضّرر، وقد عافاه ممّا يكره وأعفاه. أنبائك: أخبارك، والنبأ الخبر. أسرته: رهطه، وأراد بالمصابيح المهاجرين، وبالمفاتيح الأنصار. أعذني: أجرني النّزغات: الإفساد، نزغ الشيطان بين القوم، أي أفسد ذات بينهم، والشيطان: البعيد من الخير، من قولهم: دار شطون، أي بعيدة، ونوى شطون.
قال النابغة: [الوافر]
* نأت بسعاد عنك نوى شطون * (1)
__________
(1) عجزه:
فبانت والفؤاد بها رهين
والبيت للنابغة الذبياني ص 218، ولسان العرب (شطن)، ومقاييس اللغة 3/ 184، ولزياد بن معاوية في تاج العروس (نبغ)، وبلا نسبة في مجمل اللغة 3/ 156.(1/341)
وقال نابغة بني شيبان: [الوافر]
فأضحت بعدما وصلت بدار ... شطون لا تعاد ولا تعود
نزوات: وثوب، وقد نزا نزوا ونزوّا، إذا وثب، ونزا على الشيء، ارتفع. إعنات: مشقّة.
الباغين: المتعدين، وقد بغى عليه بغيا: تعدّى عليه. معاناة: معالجة ومقاساة. الطاغين: المسرفين في الظّلم والمعاصي، والعادين: المتجاوزين الحدّ في الظلم. غيل: جمع غيلة، وهي الهلاك.
والمغتال: المهلك أجرني: أمّنّي. سطوة: بطش وتهديد. الضائمين: المذلين.
* * * اللهمّ حطني في تربتي، وغربتي وغيبتي، وأوبتي ونجعتي، ورجعتي، وتصرّفي ومنصرفي، وتقلّبي ومنقلبي. واحفظني في نفسي، ونفائسي، وعرضي وعرضي، وعددي وعددي، وسكني ومسكني، وحولي وحالي، ومالي ومآلي، ولا تلحق بي تغييرا، ولا تسلّط عليّ مغيرا، واجعل لي منك سلطانا نصيرا، اللهم احرسني بعينك وعونك، واخصصني بأمنك ومنّك، وتولّني باختيارك وخيرك. ولا تكلني إلى كلاءة غيرك، وهب لي عافية غير عافية، وارزقني رفاهية غير واهية. واكفني مخاشي الّلأواء، واكنفني بغواشي الآلاء، ولا تظفر بي الأعداء، إنك سميع الدّعاء.
* * * قوله: «اللهم حطني في تربتي»، أي احفظني في بلدتي. أوبتي: رجعتي. نجعتي:
سفري في طلب الرزق. نفائسي: كرائم مالي. عرضي: نفسي وعرضي: مالي. عددي:
أهلي. عددي: آلاتي، وما أستعدّه. سكني: أهلي. حولي: قوّتي. حالي: بالي. مآلي:
مرجعي. منّك: إحسانك. تولّني: كن لي وليّا. تكلني: تحوجني. كلاءة: حفظ وحراسة. وعافية: عيش سالم من الآفات.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاء وما أعدّ الله لصاحبه من الثواب إذا صبر، وذكر العافية وما أعدّ الله لصاحبها من الثواب إذا شكر، فقلت: يا رسول الله، أعافى فأشكر، أحبّ إليّ من أن أبتلى فأصبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحبّ معك العافية. غير عافية، أي غير دراسة. رفاهية: غنى متّسع. واهية: ناقصة ضعيفة.
مخاشي: ما يخشى ويخاف. اللأواء: الشدّة. اكنفني: استرني. غواشي: أي ما يتغشّى به، أي يتغطّى. الآلاء: النعم.
* * * ثمّ أطرق لا يدير لحظا، ولا يحير لفظا، حتى قلنا: قد أبلسته خشية، أو أخرسته غشية. ثمّ أقنع رأسه، وصعّد أنفاسه وقال:(1/342)
أقسم بالسّماء ذات الأبراج، والأرض ذات الفجاج، والماء الثّجّاج، والسّراج الوهّاج، والبحر الفجّاج، والهواء والعجاج، إنّها لمن أيمن العوذ، وأغنى عنكم من لابسي الخوذ، من درسها عند ابتسام الفلق، لم يشفق من خطب إلى الشّفق، ومن ناجى بها طليعة الغسق، أمن ليلته من السّرق.
قال: فتلقّنّاها حتّى أتقنّاها، وتدارسناها، لكيلا لا ننساها.
* * * أطرق، أي نظر إلى الأرض ساكنا، وقد فسّر قوله: «أطرق» بقوله: «لا يدير لحظا، ولا يحير لفظا»، فيدير لحظا يجيل نظره في الجهات الأربع، ويحير لفظا: يردّ كلاما، والغشية: أن يغشى على عقله. أقنع: رفع. صعد: جعلها تصعد، أي ترتفع.
الأبراج، أي منازل القمر. الفجاج، أي المسالك، واحدها: فجّ، والفجّ الطريق الواسع في الجبل، وقيل: هو المّتسع بين مرتفعين، وقيل: هو الفتح بين الشّيئين: الثّجاج:
السّيّال الكثير الصبّ. السراج: الشمس. الوهّاج: الوفّاد المتلألىء، وهو من وهج النار، وهو اتقادها وحرّها، العجّاج: المصوّت لاضطراب أمواجه. الهواء: ما بين السماء والأرض. والعجاج: الغبار. والعوذ: الرّقى. أغنى: أجزأ وأكفى، والغنى الكفاية، وأغنى فلان مغني فلان، أي كفاه الحضور وقام مقامه. والحوذ، بالحاء المهملة الدّرع، وينقط الحاء بيض السّلاح. ابتسام الفلق: ظهور الفجر. يشفق: يخاف. خطب: أمر شديد. الشّفق: الحمرة بعد غروب الشمس. ناجي: تكلّم بها سرّا، طليعة الغسق، أول طلوع الظلام. تلقنّاها، أي فهمناها. أتقناها: أحكمناها. تدارسناها، الدّرس في كلامهم الرّياضة والتذليل، وطريق مدروس: كثر مشى الناس فيه، فذّللوه وأثروا فيه، فمعنى درس القرآن أو الدعاء، ذلّل لسانه وراضه.
[بعض الأدعية المأثورة]
ونصل هذا الدعاء الذي ذكر أنه مستجاب وصدق إذا صحب الدعاء به الإخلاص، والتضرّع بأدعية ينتفع بها إن شاء الله تعالى.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا قال: «اللهمّ أنت الصاحب في السّفر، والخليفة في الحضر. اللهمّ إنّى أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، ومن الحور بعد الكور، ومن سوء المنظر في الأهل والمال والولد» (1).
__________
(1) روي بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه مسلم في الحج حديث 425، 426، وأبو داود في الجهاد باب 72، والترمذي في الدعوات باب 41، والنسائي في الاستعاذة باب 41، 43، وابن ماجه في الدعاء باب 20، والدارمي في الاستئذان باب 42، ومالك في الاستئذان حديث 34، وأحمد في المسند 1/ 256، 300، 2/ 150، 401، 433، 5/ 82، 83.(1/343)
وقالت أمّ سلمة رضي الله عنها: من خرج في طاعة الله تعالى فقال: اللهم إنّي لم أخرج أشرا ولا بطرا، ولا رياء، ولا سمعة، ولكنّي خرجت ابتغاء مرضاتك، واتقاء سخطك، فأسألك بحقك على جميع خلقك أن ترزقني من الخير أكثر ممّا أرجو، وتصرف عنّي من الشرّ أكثر مما أخاف استجيب له بإذن الله تعالى (1).
وقالوا: كلمات الفرج عند الكرب: لا إله إلا الله الحليم الكريم، وسبحان الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين.
قال جعفر بن محمد لسفيان الثّوريّ: إذا كثرت همومك فأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإذا درت عليك النعم فأكثر من الحمد لله العالمين، وإذا أبطأ عليك الرزق فأكثر من الاستغفار.
ومن قال في ليل أو نهار: اللهم ربّي لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما، اللهمّ إني أعوذ بك من شرّ نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها. إنّ ربّي على صراط مستقيم لم يضرّه شيء.
ومن قال: بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ليلا أو نهارا أمن مما يخاف.
ومن قال: سبحان الله وبحمده، ولا حول ولا قوة إلا بالله ثلاث مرات بعد صلاة الصبح أمن من كلّ غمّ وجذامّ وبرص وفالج.
ومن قال: باسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله، ما شاء الله كل نعمة من الله، ما شاء الله الخير كلّه بيد الله، ما شاء الله لا يصرف السّوء إلا الله، من قالها إذا أصبح أمن من الحرق والغرق.
ومن دخل على سلطان يخاف سطوته فقال: الله أعزّ وأكبر مما أخاف وأحذر، اللهمّ رب السّموات السّبع وربّ العرش العظيم، كن لي جارا من عبدك فلان، وجوره وأشياعه وأتباعه. تبارك اسمك وجلّ ثناؤك. وعزّ جارك، ولا إله غيرك ثلاث مرات أمن من شره.
وقال المنصور للربيع: عليّ بجعفر، قتلني الله إن لم أقتله! فلما مثل بين يديه حرّك شفتيه، ثم قرب وسلم فقال: لا سلّم الله عليك يا عدوّ الله، تعمل عليّ الغوائل في ملكي قتلني الله إن لم أقتلك! فقال: يا أمير المؤمنين إنّ سليمان أعطى فشكر، وإن أيوب ابتلى فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر، عليهم السلام، وأنت على أثر منهم، وأحقّ من تأسّى بهم. فنكس المنصور رأسه مليّا ثم رفع رأسه، وقال: إليّ أبا عبد الله، فأنت القريب
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في المساجد باب 14، وأحمد في المسند 3/ 21.(1/344)
القرابة، وأنت ذو الرحم الواشحة. والسليم الناحية، والقليل الغائلة. ثم صافحه بيمينه، وعانقه بشماله، وأجلسه معه على فراشه، وأقبل يسائله ويحادثه، ثم قال: عجّلوا لأبي عبد الله إذنه وجائزته وكسوته. فلما خرج أمسكه الربيع وقال له: رأيتك قد حرّكت شفتيك فانجلى الأمر، وأنا خادم السلطان، ولا غنى لي عنه، فعلّمني إياه، فقال: نعم، قلت: اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بحفظك الذي لا يرام، لا أهلك وأنت رجائي، فكم من نعمة أنعمتها عليّ قلّ عندها شكري فلم تحرمني، وكم من بليّة ابتليت بها قلّ عندها صبري فلم تخذلني. اللهمّ بك أدرأ في نحره، وأعوذ بك من شره.
ومن قال إذا سمع المؤذن: رضيت بالله ربّا، وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيّا، غفرت له ذنوبه.
ومن دعاء الأعراب: قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ما من قوم أشبه بالسّلف من الأعراب لولا جفاء فيهم.
وقال: غيلان إذا أردت أن تسمع الدعاء فاسمع دعاء الأعراب.
وقال الأصمعي: سمعت أعرابيّا بفلاة من الأرض يقول: اللهمّ إن استغفاري إياك مع كثرة ذنوبي للؤم، وإن تركي الاستغفار مع معرفتي سعة رحمتك لعجز، إلهي كم تتحبّب إليّ برحمتك وأنت غني عني، وكم أتبغّض إليك بذنوبي وأنا فقير إليك:
يا من إذا وعد وفّي، وإذا أوعد عفا، أدخل عظيم جرمي في عظيم عفوك، يا أرحم الراحمين.
قال: وسمعت آخر يقول في دعائه: اللهم إنّي أسألك عمل الخائفين، وخوف العاملين، حتى أتنعمّ بترك النعيم طمعا فيما وعدت، وخوفا ممّا أوعدت. اللهمّ أعذني من سطواتك، وأجرني من نقماتك.
قال: ودعت أعرابيّة لابن لها خرج مسافرا، فقالت: كان الله صاحبك في السفر، وخليفتك في أهلك، وانجح طلبتك، امش مصاحبا مكلوءا، لا أشمت الله بك عدوّا، ولا أرى فيك لمحبّك سوءا.
وهذا الباب كثير، وإنما ذكرنا من الأدعية ما جرّب واستحسن، والله ينفع بها آمين.
قال أعرابي يصف دعوة: [الطويل]
وسارية لم تسر في الليل تبتغي ... محلّا ولم يقطع بها البيد قاطع
سرت حيث لم تسر الرّكاب ولم تنخ ... لورد ولم يقصر لها القيد مانع
تحلّ وراء الليل والليل ساقط ... بأوراقه فيه سمير وهاجع
تفتّح أبواب السماء لوفدها ... إذا قرع الأبواب منهنّ قارع
إذا وفدت لم يردد الله وفدها ... على أهلها، والله راء وسامع
وإني لأرجو الله حتى كأنّني ... أرى بجميل الظنّ ما الله صانع
* * *(1/345)
وسارية لم تسر في الليل تبتغي ... محلّا ولم يقطع بها البيد قاطع
سرت حيث لم تسر الرّكاب ولم تنخ ... لورد ولم يقصر لها القيد مانع
تحلّ وراء الليل والليل ساقط ... بأوراقه فيه سمير وهاجع
تفتّح أبواب السماء لوفدها ... إذا قرع الأبواب منهنّ قارع
إذا وفدت لم يردد الله وفدها ... على أهلها، والله راء وسامع
وإني لأرجو الله حتى كأنّني ... أرى بجميل الظنّ ما الله صانع
* * *
ثمّ سرنا نزجي الحمولات، بالدّعوت، لا بالحداة، وبحمى الحمولات، بالكلمات لا بالكمماة، وصاحبنا يتعهّدنا بالعشيّ والغداة، ولا يستنجز منّا العدات، حتى إذا عاينّا أطلال عانة، قال لنا: الإعانة الإعانة، فأحضرناه المعلوم والمكتوم، وأريناه المعكوم والمختوم، وقلنا له: اقض ما أنت قاض، فما تجد فينا غير راض، فما استخفّه سوى الخفّ والهين، ولا حلي بعينه غير الحلي والعين. فاحتمل منهما وقره، وناء بما يسد فقره، ثم خالسنا مخالسة الطّرّار، وانصلت منّا انصلات الفرّار فأوحشنا فراقه، وأدهشنا امتراقه، ولم نزل ننشده بكلّ ناد، ونستخبر عنه كلّ مغو وهاد، إلى أن قيل: إنه مذ دخل عانة، ما زايل الحانة.
* * * قوله: «نزجي»، أي نسوق. الحمولات، بفتح الحاء: الإبل، وبضمها الأحمال.
الحداة: خدمة الإبل، بمنزلة المكارين للدوابّ. نحمي: نمنع الكماة: الشجعان.
يتعهّدنا: يتفقّدنا. يستنجز: يطلب إحضار ما وعد به عانة، بعين غير منقوطة: قرية بالجزيرة كثيرة الأعناب.
وقال امرؤ القيس: [الكامل]
* من خمر عانة أو كروم شبام * (1)
وأطلالها: آثارها، يريد أنه لمّا أشرف على عانة، قال لهم: أعطوني ما أستعين به.
المعلوم: الظاهر. والمكتوم: المستور. والمعكوم: المجعول في عكم، قال يعقوب:
العكم: نمط تجعل فيه المرأة ذخيرتها، أو يكون المعكوم المشدّود بالعكام، وقد تقدّم آنفا، والمختوم: المطبوع عليه، يريد: أريناه أنواع أموالنا. استخفّ: استحقر. الخف:
الخفيف. الهين: الهين. حلي: حسن. الحلي: ما يتحلّى به النّساء. والعين: الذهب والفضة، يريد أنه استحقر الخفيف القدر الهيّن القيمة، مثل الإمتاع، وشبهها فتركها، وأعجبه الحليّ والذهب فحملهما، أو يكون معنى «استخفّ» وجده خفيفا، والخفّ والهين، يريد الخفيف عليه حمله، الهيّن عليه نقله يريد الذهب والجوهر، ويكون قوله
__________
(1) صدره:
أفق كلون دم الغزال معتّق
والبيت في ديوان امرىء القيس ص 115، وهو بلا نسبة في مقاييس اللغة 1/ 148.(1/346)
«حلي بعينه» وما بعده مفسّرا ومؤكدا لاستخفّ وما بعده، وهذا أشبه من الأول.
وقره: حمله. ناء: نهض بثقل. خالسنا: سارقنا وتسلل عنّا. الطّرّار: الذي يشقّ الجيوب ويستخرج ما فيها، والطّرّ: القطع، وقد طر طرّا، وطرّة الشعر منه، لأنها مقطوعة من جملته، مفصولة عنه. والمنتهز الذي يخطف من يدك الشيء بسرعة.
انصلت: انسلّ ولم يشعر به. والانصلات: سقوط السيف من الغمد. والفرّار، وهو الزّاووق، ويسمّى الزئبق، سمي فرارا لأنه سريع السّيلان لا يستقّر في موضع، والفّرار من كثر فراره. أوحشنا: أذهب أنسنا أدهشنا: حيّرنا. امتراقه: خروجه مسرعا، ومرق السهم: خوج من القوس، ومن الرميّة. ننشده: نطلبه مغو وهاد: مضلّ ومرشد. الحانة:
بغير نقط: بيت الخمّار أو حانوته، والحان والحانة هي الدسكرة التي ذكر، وقال ابن شهيد فيه: [الكامل]
يا رب حان قد أدرت بديره ... خمر الصّبا مزجت بصفو خموره
في فتية جعلوا الزّقاق تكاءهم ... متصارعين تخشّعا لكثيره
يهدى إلينا الراح كلّ معصفر ... كالخشف خفّره التماح خفيره
والى عليّ بطرفه وبكفّه ... فأمال من رأسي لعبّ كبيره
وترنّم الناقوس عند صلاتهم ... ففتحت من عيني لرجع هديره
زايل: فارق
* * * فأغراني خبث هذا القول بسبكه، والانسلال فيما لست من سلكه، فأدلجت إلى الدّسكرة، في هيئة منكّرة، فإذا الشّيخ في حلّة ممصّرة، بين دنان ومعصرة، وحوله سقاة تبهر، وشموع تزهر، وآس وعبهر، ومزمار ومزهر، وهو تارة يستبدل الدّنان، وطورا يستنطق العيدان، ودفعة يستنشق الرّيحان، وأخرى يغازل الغزلان.
فلمّا عثرت على لبسه، وتفاوت بين يومه من أمسه، قلت له: أولى لك يا ملعون، أأنسيت يوم جيرون! فضحك مستغربا ثم أنشد مطربا:
* * * أغراني: حثّني. سبكه: تجريبه. الانسلال: الدخول. سلكه: شكله، وانسلكت حبة اللؤلؤ: جرت في السّلك، وهو خيط النظام. أدلجت: مشيت بالليل. الدسكرة، بناء كالقصر حوله بيوت يسكنها الخمار والحشم، قال الجعديّ: [المتقارب]
ودسكرة صوت أبوابها ... كصوت المواتح بالحوأب
سبقت صياح فراريجها ... وصوت نواقيس لم تضرب(1/347)
بريّة ذي عتب شارف ... وصهباء كالمسك لم تقطب
المواتح: البكرات، والحوأب: اسم ماء الفراريج: الديوك عتب: أوتار، وشارف:
اسم العود، شبهّه بالشارف من الإبل، لأنها أغنّ صوتا وأطربه، قال متممّ: [الطويل]
إذا شارف منهنّ قامت فرجّعت ... حنينا فأبكى شجوها البرك أجمعا (1)
ممّصرة: مصبوغة بالمصرة، وهي العصفر قبل أن يوضع فيه الخلّ، فلونها أصفر، فإذا وضع فيها الخلّ أحمر ما يصبغ به وسمّي معصفرا. والحلّة: ثوبان: إزار ورداء، وسمّيت حلّة، لأنها تحلّ على لابسها كما يحلّ الرّجل على الأرض دنان: جمع دنّ، وهو نوع من الخوابي طويل الأسفل ضيّقه، ويسمّى الراقود.
وهذه الحالة التي وجد عليها الحريريّ السّروجيّ بعد ذلك الترهّب الذي كان عليه في أول المقامة لها نظائر لرجال مشاهير بالعلم والفصل.
* * * [في مجالس الشراب]
حكى الثعالبيّ في يتيمته، وقد ذكر القاضي التنوخيّ فقال: هو أبو القاسم عليّ بن محمد بن داود بن فهم، من أعيان أهل العلم والأدب، وأفراد ذوي الكرم وحسن الشيم، وكان كما قرأت في فصل للصاحب: إن أردت فإني سبحة ناسك، أو أحببت فإني تفاحة فاتك، أو اقترحت فإني مدرعة راهب، أو اخترت فإنّي نخبة شارب.
وكان تقلّد قضاء البصرة والأهواز بضع سنين، وكان المهّلبي وغيره من وزراء العراق يميلون إليه جدّا، ويعدّونه ريحانة الندماء، وتاريخ الظرفاء، يعاشرون منه من تطيب عشرته، وتلين قشرته، وتكرم أخلاقه، وتحسن أخباره، وتسير أشعاره ناظمة حاشيتي البّر والبحر، وناحيتي الشرق والغرب. وكان من جملة القضاة الذين ينادمون الوزير المهّلبيّ، ويجتمعون إليه في الأسبوع ليلتين، على اطّراح الحشمة والتبسّط في القصف والخلاعة، منهم ابن قريعة وابن معروف والقاضي التنّوخي وغيرهم، وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها، وكذلك كان المهلبيّ، وإذا تكمّل الأنس، وطاب المجلس، ولذّ السماع، وأخذ الطرب فيهم مأخذه وهبوا ثوب الوقار للعقار، وتقلبّوا في أعطاف العيش، بين الخفّة والطيش، ووضع بين يدي كلّ واحد منهم طست من ذهب من ألف مثال مملوء شرابا، فيغمس فيه لحيته، بل ينقعها حتى تشرب أكثره، ويرشّ بعضهم بعضا، ويرقصون بأجمعهم، وعليهم مصبّغات الثياب، ومخانق البرم، ويقولون كلما يكثر شربهم هرهر، وفيهم يقول السريّ: [المنسرح]
__________
(1) البيت لمتمم بن نويرة في ديوانه ص 117، ولسان العرب (برك)، وتاج العروس (برك)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 325.(1/348)
مجالس ترقص القضاة بها ... إذا انتشوا في مخانق البرم
وإذا أصبحوا عادوا لعادتهم في الترهّب والتوقّر والتحفّظ وأبهّة القضاة وحشمة المشايخ الكبراء.
وقال في ابن معروف: كان كما قرأته في فصل للصاحب: شجرة فضل عودها أدب، وأغصانها علم، وثمرها عقل، وعروقها شرف تسقيها سماء الحرّية، وتغذوها أرض المروّة، وفيه يقول الصابي: [البسيط]
أقسمت بالله ما يرجى لمعروف ... في الحادثات سوى القاضي ابن معروف
ومن شعر ابن معروف: [الكامل]
لو كنت تدري ما الذي صنع الهوى ... والشّوق في الجسم النّحيل البالي
لهجرت هجري واجتنبت تجنّبي ... ووصلت من بعد النّعيم وصالي
وقال القاضي التنوخي في غلام جسيم: [الوافر]
له في كل عضو دعص رمل ... ثقيل الجسم ذو روح خفيف
أأعشق لا عشقت أخا نحول ... كأني لست ذا الخلق الظّريف
إذا لمسته كفّي لم تلامس ... سوى جلد على عظم ضعيف
شرب المأمون وعبد الله بن طاهر، ويحيى بن أكثم القاضي، فتعامل المأمون وابن طاهر على سكر يحيى فغمزا به الساقي، فأسكره، وكان بين أيديهم رزم من ورد وريحان، فأمر المأمون، فشق له قبر في الرّزم وصيّر فيه. وعمل بيتي شعر، ودعا قينة فجلست عند رأسه، وغنّت بهما وهما:
ناديته وهو حيّ لا حراك به ... مكّفن في ثياب من رياحين
فقلت: قم، قال: رجلي لا تطاوعني ... فقلت: خذ، قال: كفي لا تواتيني
فانتبه يحيى لرنة العود فقال: [البسيط]
يا سيّدي وأمير الناس كلّهم ... قد جار في حكمه من كان يسقيني
إني غفلت عن السّاقي فصيّرني ... كما تراني سليب العقل والدين
لا أستطيع نهوضا قد وهى قدمي ... ولا أجيب لداع حين يدعوني
فانظر لنفسك في قاض يكون لكم ... إني غدوت دفينا في الرّياحين
* * *
والحالة التي وصف بها أبو زيد خلعت الأمين عن الملك، ونقلته إلى المأمون.
قال الربيع: قعد الأمين يوما للنّاس وعليه طيلسان أزرق، وتحته لبد أبيض، فوقّع على
ثمانمائة قصّة، فلقد أصاب فما أخطأ، وأسرع فما أبطأ، ثم قال: يا ربيع أتراني لا أحسن التدبير والسياسة، ولكني وجدت شمّ الآس، وشرب الكأس، والاستلقاء من غير نعاس، أشهى إليّ. وكذلك خلعت قبله الوليد بن يزيد، وبعده المتوكل وغيرهم من الخلفاء والأمراء، ممّن آتر راحة النفس على تعب السياسة.(1/349)
قال الربيع: قعد الأمين يوما للنّاس وعليه طيلسان أزرق، وتحته لبد أبيض، فوقّع على
ثمانمائة قصّة، فلقد أصاب فما أخطأ، وأسرع فما أبطأ، ثم قال: يا ربيع أتراني لا أحسن التدبير والسياسة، ولكني وجدت شمّ الآس، وشرب الكأس، والاستلقاء من غير نعاس، أشهى إليّ. وكذلك خلعت قبله الوليد بن يزيد، وبعده المتوكل وغيرهم من الخلفاء والأمراء، ممّن آتر راحة النفس على تعب السياسة.
قوله: «تبهر» أي تسقيه بالبهار، وهو شبه الإبريق، وقيل: تبهر، تغلب العقول بحسنها، يقال: بهر بهرا، إذا غلبه، وبهر القمر السماء: ملأها بنوره تزهر: تضيء.
شموع: مصابيح الشمع. آس: ريحان. عبهر: نرجس، وقيل: ياسمين، قال عليّ رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شّموا النّرجس ولو في اليوم مرّة واحدة، ولو في الشهر مرّة واحدة، ولو في الدّهر مرّة واحدة، فإنّ في القلب حبّة من الجنون والجذام والبرص، لا يقلعها إلا شم النّرجس».
وقال عليّ رضي الله عنه: حباني النبيّ صلى الله عليه وسلم بالورد، وقال: «أما إنه سيّد ريحان الجنّة بعد الآس».
وقال أردشير بن بابك: الورد درّ أبيض، وياقوت أحمر، على كراسيّ زبرجد أخضر، بوسطّه شذور من ذهب أصفر، له رقة الخمر، ونفحات العطر.
[مما قيل في الأزهار شعرا]
ونذكر هنا طرفا من المنظوم في الأزهار يليق الموضع بحول الله تعالى، قال محمد بن عبد الله بن طاهر ملمّا بقول أردشير: [البسيط]
كأنهنّ يواقيت يطيف بها ... زمرّد وسطه شذر من الذّهب
فاشرب على منظر مستظرف حسن ... من خمرة مزجت كالجمر في اللهب
وللمعتمد بن عباد: [السريع]
كأنّما ياسميننا الغضّ ... كواكب في السماء تبيضّ
والطرق الحمر في جوانبه ... كنهد عذراء مسّه عضّ
ولأبي الفضل الميكاليّ:
وما ضمّ شمل الأنس يوما كنرجس ... يقوم بعذر اللهو عن خالع العذر
فأحداقه أحداق تبر وساقه ... كقامة ساق في غلائله الخضر
ولعضد الدولة: [البسيط]
يا طيب رائحة من نفحة الخير ... إذا تمزق جلباب الدّياجير
كأنما رشّ بالما ورد واعتبقت ... به دواخن ندّ عند تبخير
كأنّ أوراقه في القدّ أجنحة ... حمر وصفر وبيض من زنابير
ولعليّ بن بسام: [البسيط](1/350)
يا طيب رائحة من نفحة الخير ... إذا تمزق جلباب الدّياجير
كأنما رشّ بالما ورد واعتبقت ... به دواخن ندّ عند تبخير
كأنّ أوراقه في القدّ أجنحة ... حمر وصفر وبيض من زنابير
ولعليّ بن بسام: [البسيط]
أما ترى الورد يدعو للورود على ... حمراء صافية في لونها صهب
مداهن من يواقيت مركّبة ... على الزبرجد في أفواهها ذهب
وقال آخر: [المنسرح]
نرجسة عينها محبّرة ... لم تكتحل قطّ آفة الغمض
باكرها الطّلّ فهي باهتة ... تنظر فعل السماء في الأرض
وللأسعد بن بليط: [السريع]
بنفسج باتت أكفّ الصبا ... تنثره في زرقة لا تحدّ
كأنما قطّ بمنثوره ... رؤوس أفلام من الّلازورد
وقال آخر في نور الباقلّا: [البسيط]
نوّارة الباقلا إذا راق منظرها ... تحكي الفراشة تنقيطا وترييشا
كأنّما هي ما حول الذبالة إذ ... مدّت جناحا مكان الكفّ مرقوشا
والباب كثير.
* * * قوله: «مزهر» عود الغناء. يستبزل: يستسقي منها شرابا، والمبّزل الثقب في جانب الخابية تجري منه الخمر صافية، ويبقى العكر في قعرها، قال الأخطل: [البسيط]
لما أتوها بمصباح ومبزلهم ... سارت إليهم سئور الأبجل الضاري (1)
تدمى إذا طعنوا فيها بجائفة ... وفي الزّجاج عتيق غير مسطار
أراد أن الخمر خرجت خروج الدم من الأبجل، وهو عرق.
وقال ابن حصين: [السريع]
حجبت عنها الدّنّ فاستعبرت ... جريا كما قوّس إحليل
كأنها في الكأس منصبّة ... خيط من الفضة مفتول
وقال آخر في قمع الشراب: [المتقارب]
ولما رأى الناس فضل المدام ... وخافوا على جرمها أن يسيلا
__________
(1) البيت الأول في ديوان الأخطل ص 82، والكتاب 4/ 50، ولسان العرب (سور)، (ضرا)، والبيت الثاني في ديوان الأخطل ص 22، ولسان العرب (صطر)، (مصطر)، والمخصص 11/ 75، وفي الديوان: «غير مصطار» بدل «غير مسطار».(1/351)
تواخوا إلى شربها بينهم ... سبيل حفاظ فكنت السّبيلا
قوله: «يستنطق»، يأمر بضربها ليسمع صوتها يستنشق: يشمّ يغازل: يلاعب.
عثرت: اطّلعت، وأعثرت في معناه. لبسه: تخليطه. تفاوت: تباعد. أولى لك: كلمة تهديد معناها: قد وليك الشرّ فاحذر. والملعون: المطرود، ولعنه الله: طرده، والاستغراب: الضحك الكثير.
ومما يوافق شعره وحاله قول الببغاء: [الخفيف]
غادني بالصّبوح قبل الصّباح ... واجر في حلبة الصّبا والمراح
عاصنيها كالجّلنار إذا ما ... كلّلت من حبابها بالأقاح
في اختصاص التّفاح بالطيب والحم ... رة لا في كثافة التّفاح
خدمتها الأجسام بالطبع لمّا ... شاهدت قربها من الأرواح
فتدارك بها حشاشة نفسي ... أو فحرّك بها سكون ارتياحي
بين وردين من بنان وخدّ ... وشرابين من رضاب وراح
ونشيد مستنبط من حديث ... وغناء يغني عن الاقتراح
فألذّ الحياة ما خالط العا ... قل فيها فساده بصلاح
وله أيضا في مثله: [الخفيف]
زمن الورد أشرف الأزمان ... وأوان الربيع خير أوان
أشرف الزهر زار في أشرف الدّه ... ر فصل فيه أشرف الإخوان
وأدرها عذراء وانتهز ال ... إمكان من قبل عائق الإمكان
في كؤوس كأنّها زهر الخش ... خاش ضمّت شقائق النّعمان
واختدعها عند النزال بألفا ... ظ المثاني ومطربات الأغاني
وقال [ابن] وكيع في الخشخاش: [الوافر]
وخشخاش كأنّا منه نفري ... قميص زبرجد عن جسم درّ
كأقداح من البلّور صينت ... بأغشية من الديباج خضر
وقال آخر في شقائق النعمان: [المتقارب]
كأنّ الشقائق إذا برّزت ... غلالة درّ وثوبا أحمّ
قصاع من الجمر مشبوبة ... بأوساطها لمع من حمم
* * *
لزمت السّفار وجبت القفار ... وعفت النّفار لأجني الفرح(1/352)
وخضت السّيول ورضت الخيول ... لجرّ ذيول الصّبا والمرح
ومطت الوقار وبعت العقار ... لحسو العقار ورشف القدح
ولولا الطّماح إلى شرب راح ... لما كان باج فمي بالملح
* * *
قوله: «السفار»: مصدر سافرت. جبت: قطعت. عفت: كرهت خضت: جزت ومشيت فيها. رضت: ذلّلت وركبت. المرح: النشاط والعجب. مطت: نحّيت وأزلت، ويقال: ماط وأماط: باعد، وأيضا باعد غيره، والأصمعيّ يقول: ماط هو، وأماط غيره.
العقار: المال الثابت الذي لا ينقل. حسو: شرب. العقار: الخمر. رشف: مصّ الطّماح: ارتفاع النظر. باح: تكلّم والملح: الكلام الحلو، يريد أنه فعل ما ذكر ليرتاح ويشرب الخمر.
* * * [مما قيل في الخمر والشراب]
ذكر أبو محمد الحريري في هذا الموضع من المقامات أوصاف الخمر وفضلها ومنافعها، وذهابها بالهموم والأسقام، وذكر أنها من أفضل الأشياء وأن بيع أشرف الأعلاق فيها سداد، وأن ترك الإصغاء فيها إلى العذل رشاد وأن كمال لذّتها مع السقاة الحسان، والتطّريب بأنواع الغناء والألحان، إلى غير ذلك مما أشار إليه، ونيّه عليه، وأنا أسوق هنا في وصف الخمر فصلا من كلام الحكماء والأدباء وسائر الأفاضل من الملوك ومهرة الشعراء، جريا معه في أغراضه، حسبما فعلناه في العاشرة في أوصاف الغلمان، وفي الحادية عشرة في فضائل أهل الأديان وأكثر اعتمادي في هذا الفصل على اختيارات انتقيتها من كتاب قطب السرور، وضممت إليها ما يلائمها من غيره، وهو فصل بديع في بابه.
ذكر مؤلفه في منافع الخمر وفضائلها قول الله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرََاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنََابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67] وقال تعالى في الجنة: {فِيهََا أَنْهََارٌ مِنْ مََاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهََارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهََارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشََّارِبِينَ وَأَنْهََارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15، 16] فلم يذكر الماء واللبن إلا بالسّلامة من التغيّر، والعسل إلا بأنه مصفّى، وجعل الخمر لذّة للشّاربين، فكان هذا من التفضيل. وقال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدََانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوََابٍ وَأَبََارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لََا يُصَدَّعُونَ عَنْهََا وَلََا يُنْزِفُونَ} [الواقعة: 18، 19]، فنفى عنها عيوب خمر الدنيا، وهي ذهاب العقل بالسكر والصداع بالخمار وذهاب المال، كما قال تعالى في فاكهتها: {لََا مَقْطُوعَةٍ وَلََا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 32، 33]، فنفى عنها عيوب فاكهة الدنيا التي تأتي في وقت وتنقطع
في آخر وتمنع إلا بالثمن، وقال تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهََا كَأْساً كََانَ مِزََاجُهََا زَنْجَبِيلًا}
[الإنسان: 17].(1/353)
ذكر مؤلفه في منافع الخمر وفضائلها قول الله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرََاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنََابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67] وقال تعالى في الجنة: {فِيهََا أَنْهََارٌ مِنْ مََاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهََارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهََارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشََّارِبِينَ وَأَنْهََارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15، 16] فلم يذكر الماء واللبن إلا بالسّلامة من التغيّر، والعسل إلا بأنه مصفّى، وجعل الخمر لذّة للشّاربين، فكان هذا من التفضيل. وقال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدََانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوََابٍ وَأَبََارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لََا يُصَدَّعُونَ عَنْهََا وَلََا يُنْزِفُونَ} [الواقعة: 18، 19]، فنفى عنها عيوب خمر الدنيا، وهي ذهاب العقل بالسكر والصداع بالخمار وذهاب المال، كما قال تعالى في فاكهتها: {لََا مَقْطُوعَةٍ وَلََا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 32، 33]، فنفى عنها عيوب فاكهة الدنيا التي تأتي في وقت وتنقطع
في آخر وتمنع إلا بالثمن، وقال تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهََا كَأْساً كََانَ مِزََاجُهََا زَنْجَبِيلًا}
[الإنسان: 17].
وأما ما ذكره تعالى من أنّ فيها منافع للناس، فإنّ منافعها لا تحصى كثرة، فمن منافعها ما يصيب النّاس من أثمانها، ولو لم تعصر الأعناب لبارت على أهلها ومنها صلاح الجسم لأنها تروّق الدم وتفتق اللسان، وتزيد في الهمّة، وتهوّن الرزيّة، وتمدّ في الأمنية، قال جالينوس: الخمر تدرّ الدم وتصفّي اللون، وتقوّي المنعة، وتبعث النشاط.
وقال أفلاطون: إنما كان النبيذ يثمر السرور، ويولّد الضحك، ويطيّب النفس لشبهه بالدم، وأنّه يفعل في الجسد إذا اعتدل فعله، لأنه أحمر حارّ رطب والدم أحمر حارّ رطب، فإذا صحّ جوهره، وتمّت أجزاؤه ولّد في النفس السرور والضحك والنشاط.
الحارث بن كلدة. طبيب العرب: الطّلاء (1) مصلحة للبدن ومطيبة للنفس، تفتح له العروق أفواهها، كما تفتح الفراخ أفواهها للطعام.
بعث قيصر إلى قسّ بن ساعدة، فسأله: أيّ الأشربة أفضل؟ فقال: ما صفا في العين، ولذّ على الذوق، وطابت رائحته في الأنف من شراب الكرم، قال: ما تقول في مطبوخه؟ قال: مرعى ولا كالسّعدان، قال: فما تقول في نبيذ الزبيب؟ قال: ميّت أحيى، وفيه بعض المنفعة، وما يكاد يحيا من مات مرّة، قال: ما تقول في نبيذ العسل؟ قال:
نعم شراب الشيخ للإبردة (2) والمعدة الفاسدة.
قال: فنبيذ التمر؟ قال: أوساخ تدعو إليها ضرورات تذمّ عاقبتها في الأبدان، قال:
فما الّذي يذهب بالهموم عند الشراب؟ قال: جوهر فيه لا تبلغه عقول العباد، قال: فما أصلح أوقات الشراب؟ قال: أوّل النهار، ألا ترى أنّ الدواء يبكّر به، والمسافر يدلج لحاجته! لأنّ العقول أول النهار أذكى والفطن أصحّ، قال: فمن أيّ شيء يكون الخمار؟
قال: من ضعف قوة الجوارح عن جذب ما يصعد إلى الدماغ من البخار حتى يفشيه الهواء قليلا قليلا، قال: فالصّرف أفضل أم الممزوج؟ قال: الصّرف سلطان جائر، والممزوج سلطان عادل، والعادل مصلح، والجائر مفسد، قال: أفتشربه أنت؟ قال: نعم، ولا أبلغ ما يغيّر عقلي، قال: ولم؟ قال: أصونه لسؤال مثلك.
أمر الوليد بن يزيد بحمل ابن شرّاعة من الكوفة، فلما قدم عليه، قال: يا بن شراعة، والله ما أرسلت إليك، أسألك عن كتاب الله ولا عن سنة نبيه، قال: يا أمير المؤمنين لو سألتني عنهما لوجدتني حمارا، قال: أرسلت إليك أسألك عن القهوة، قال:
دهقانها الحكيم وطبيبها الرفيق العليم، فاسأل عمّا بدا لك، قال: فأخبرني عن الماء،
__________
(1) الطلاء: من أسماء الخمر.
(2) الإبردة، بكسر الهمزة والراء: علة من غلبة البرد والرطوبة.(1/354)
قال: لا بدّ لي منه والكلب والحمار شركائي فيه، قال: فما تقول في اللبن، قال: ما رأيته إلا استحييت من أميّ لطول ما أرضعتني إياه، قال: فالسّويق؟ قال: شراب المحرور والعجلان والمسافر، قال: فنبيذ التمر؟ قال: سريع الامتلاء، سريع الانفشاش، قال: فما تقول في نبيذ الزبيب؟ قال: حومة حاموا بها على الشراب، فلم يصيبوه، قال: فما تقول في الخمر؟ قال: تلك صديقة روحي، جلتّ عن المثل، تلك التي تزيد النفس إشراقا، قال: فأنت يابن شراعة صديقي، اجلس، أيّ الطعام أحبّ إليك؟ قال: يا أمير المؤمنين، ليس لصاحب الشراب على الطعام حكم، غير أنّ أنفعه أدسمه وأشهاه أمرؤه، قال: فأيّ المجالس أحبّ إليك أن يكون شربنا فيه؟ قال: ما لم تخف الشمس أن تحرقه، أو السماء أن تغرقه، ولا تشرب إلّا على وجه السّماء، فو الله يا أمير المؤمنين ما نادم الناس أصبح من وجهها، قال: فابرز بنا. فلم ير بعد ذلك يشرب إلا تحت السماء.
كان أبو للسّائب فقيها ورعا ظريفا فسأله بعض المجّان، فقال: يا أبا السائب ما تقول في نبيذ الجرّ؟ قال: اشربه حتى تجرّ قال: فنبيذ الدّنّ، قال: اشربه حتى تجنّ، قال: فالدّاذي؟ (1) قال: أحلى من العسل الماذي، قال: فنبيذ الزبيب والعسل؟ فرفع يديه، وقال: العظمة لله، قال: فما تقول في الخمر؟ قال: لا أشربها قال: ولم؟ قال:
أخاف ألّا أؤدّي شكرها فتنزع مني.
قيل لأبي نواس: صف لنا الأشربة، قال: أمّا الماء فيعظم خطره بقدر تعزّزه، وأمّا السويق فبلغة العجلان، ورويّ الظمآن، وأمّا العسل فنبيل المنظر، سخيف المخبر، وأمّا الخمر فهي شقيقة الرّوح وصديقة النفس ما ارتضعت ممزوجة، وصرفها غير مأمون على نهك البدن وغرس السّقم المؤدّي إلى العطب.
قالت الهند: إنّ الشراب مبارك، يزيد في الدّم بحرارته، ويكسر البلغم بحدته، ويشهي الطعام بلطافته، وأما السكر فمحرّم في كلّ ملّة، وسبيل من سبل الضلالة، واسم من أسماء الوسوسة، قبيح الأفعال، مذموم الأحوال.
وقالت الحكماء: من فضائل الشراب أنّ كل مشروب وإن راق وصفا وحلا وعذب، فأوّله طيّب، ثم يعود في نقصان حتى يعود مكروها إلا الشراب، فإنّك كلّما ازددت منه ازددت فيه رغبة وحبّا، وكان أوسطه إليك أعجب، وآخره أطرب، حتى إذا سرا في العروق برقّته، وعمّ البدن بلطافته، ودبّ في الأعضاء والمفاصل دبيب النمل في نقا الرمل، وخادع عقلك فامتلأت بهجة وسرورا، وعدت ملكا محبورا، تضرب في الخلافة بأوفر سهم، ثم أسلمك إلى النّوم الذي هو حياتك وصحّتك، فاجتذبت النفس ما
__________
(1) الداذي: شراب معروف بكثرة إسكاره.(1/355)
شاكلها من لطيفه، وأخذ كلّ عضو قوّته من كثيفه، ثم لا يزال الهواء يخرج بالأنفاس متصعّدا ببخاره، ويجذب ما تحت الدماغ من أستاره، فحينئذ تهبّ بجذل ونشاط، كأنما أنشطت من رباط، وذلك تقدير العزيز العليم.
وقالوا: الشراب مصباح الظّلام، وشفاء الأسقام، وإذا تمشّى في عظامك جعلك خالي الذّرع فسيح الباع، رخىّ البال، قليل الاشتغال، رحب الهمّة، واسع النعمة، فهو أخو الصبوة، وقسيم الشهوة، ولو لم يكن من مننه عليك إلّا أنه إذا مزجته بروحك، وخلطته بدمك، بغّض إليك الحرص ونصبه، والشّره وتعبه، وحبّب إليك المروءة والسماح، وحسّن لك الفكاهة والمزاح.
وقالوا: الشراب يلذّ لك في السفر كلذته في الحضر، ويطيب استعماله في الصحو، كما يطيب في المطر فهو أصل اللّذات الذي عليه تتفرّع، وعنصرها الذي عنه تنبع، وبه تتصل، وإليه ترجع، يردّ الشيوخ في طمع الشبّان، ويدعو الشبّان إلى نشاط النشوان، وقال أبو نواس في ذلك: [السريع]
ما العيش إلا في جنون الصّبا ... فإن تولّى فجنون المدام
راح إذا ما الشيخ والى بها ... خمسا تردّى برداء الغلام
فلله درّ من استنبطه ودلّ عليه، وسقيا لمن بحث عنه واهتدى إليه، ماذا أثار وأيّ شيء أظهر!.
قالوا: ومدار قوامه على اثني عشر شيئا: المواد الثلاث، والقوى الأربع، والحواس الخمس. فالثلاث: هي نسيم الهواء، وعذوبة الماء، ومألوف الأهواء والأربع هي القوة الجاذبة التي تطيّب الطعام وتبرّده، والماسكة التي تمسكه وتجذبه، والهاضمة التي تهديه وتنضجه، والدافعة التي تدفع إلى كلّ عضو سهمه من جوهره، فتخرج عنه ثقله، والحواس الخمس: البصر والسمع والشم والذوق واللّمس. وكلّ شيء من ذلك تدخله الزيادة والنقص فلا يستغني عمّا يقويه في حال ضعفه، ويصفّيه من أوساخه، فلم يجد أهل التجارب الماضون لذلك سببا أبين أثرا، ولا أخفّ محملا، ولا ألطف دبيبا في الأبدان من ماء الكرم، فاستعملوه لذلك استعمالا دائما، فهو ريحانة النفس وترياقها، فيشرب في كل حين، وينفع كل حاسة، وتحيد عنه النوازل والأحزان، وحقّ للنّفس أن تألفه، وللطبيعة أن تلائمه إذ كان حبيبها وشقيق روحها، فتراه يحدث في النفس الشجاعة والتكرّم والأناة والتحلّم.
ومن علامات الكريم إذا أخذ فيه الشراب الاستحياء والتودّد واللهو والسرور والبذل لما في يديه، وكسوة جليسه من أنفس ثيابه، وإذا بلغ المدى في شربها توسّد يساره، ونام حميدا كريما.
ومن علامات اللئيم المماراة والسّفه، وفتل الشارب والتلفّت إلى العربدة وشدة
الغضب، وربما بكى وعوى عواء الذئاب، ونبح نباح الكلاب، فشرب الماء يحرم مع مثل هذا، فكيف الشراب!.(1/356)
ومن علامات اللئيم المماراة والسّفه، وفتل الشارب والتلفّت إلى العربدة وشدة
الغضب، وربما بكى وعوى عواء الذئاب، ونبح نباح الكلاب، فشرب الماء يحرم مع مثل هذا، فكيف الشراب!.
ومن فضائله أنه يلائم الطبائع المعتادة في كلّ زمان من فصول السنة، يشربه المحرور ممزوجا فيبرده، والمقرور صرفا فيسخّنه، واليابس معتدلا فيرطّبه، والمرطوب صرفا فيجفّفه، فمن شربه في الصيف فيستحبّ له أن يشربه على خضرة الجنان وتحت الظلال، وعلى المياه وعلى الورد والياسمين والبنفسج والآس والسفرجل والتفاح. وإن كان في الشتاء، فبخلاف ذلك، من الجلوس في الأكنان واستعمال الكوانين، ولبس الأحمر والممشّق (1) وشمّ فتيت المسك والعنبر والمرزنجوش (2).
وأمّا الربيع والخريف فبين ذلك، لأخذهما من رطوبة الشتاء وحرارة الصيف وإذا اجتمع مع الشراب نغم وألحان على صنوف الملاهي والعيدان، تعاونا على إذهاب الغموم والأحزان، فلله درّ من استنبطه، ماذا أثار وعلى أيّ شيء دلّ!.
ولم لم يكن الشراب أغلب شيء على العقول، وأقربه للقلوب، وألطف محلا في النفوس، وأشدّ ملاءمة للأجسام، وأجمعه لمحمود الخلال حتى لا تقاربه لذة، ولا تساويه شهوة، ولا تعدله خصلة من خصال المسرّات لما حملت الأشراف وذوي العقول أنفسهم على معاقرته، لا يردّهم ما ينالهم فيه عن معاودته، من شنيع الأقوال ولوم العذّال، فيما أنفقوا عليه من الذخائر، وبذلوا من الأموال.
كان بالبصرة رجل ذو ضياع فأنفق ماله في الشراب، فباع ضيعته، فلمّا تمّ البيع قال له المشتري: تأتيني بالعشيّ، أدفع لك المال، وأشاهدك، فقال: لو كنت ممّن يرى بالعشي ما بعت الضيعة.
قال محمود بن الحسن الكاتب: بعت داري فأصابني مثل هذا، فقلت: [مجزوء الكامل] أتلفت مالي في العقار ... وخرجت فيها عن وقاري
حتّى إذا كتب الكتا ... ب وجاءني رسل التّجار
قالوا: الشّهادة بالعشيّ ونح ... ن في صدر النّهار
فأجبتهم ردّوا الكتا ... ب ولا تعنّوا بانتظاري
لو كنت أظهر بالعشيّ لم ... اسمحت ببيع داري
وقال ابن الرومي: [الخفيف]
أنا أهوى ذات الخمار على الجي ... ب وذات الوشاح والدّملجين
__________
(1) الممشّق: أي المصبوغ.
(2) المرزنجوش، وقيل: المردقوش، معرب مردكوش: هو الزعفران.(1/357)
وأرى في النّبيذ رأي صواب ... لشيوخ العراق والكوفتين
وإذا ما الغناء خاض ذوو الألب ... اب فيه اعتصمت بالحرمين
كلّما جاءت الرّخائص فيه ... كان أخذي له بكلتا اليدين
وقال العطويّ: [مجزوء الخفيف]
جارة لي أجارها ال ... حسن من كلّ عائب
فهي بين النّساء كال ... بدر بين الكواكب
سألتني هل النبي ... ذ حلال لشارب؟
قلت: إي والّذي يري ... نيك دون الرّقائب
فاشربيه فإن في ... هـ لإحدى العجائب
ينبت الورد في ريا ... ض خدود الكواعب
ولبعض المتقدّمين: [البسيط]
من ذا يحرّم ماء المزن خالطه ... في جوف خابية ماء العناقيد
إني لأكره تشديد الرّواة لنا ... فيها ويعجبني قول ابن مسعود
وقال ابن الرومي: [الطويل]
أحلّ العراقيّ النبيذ وشربه ... وقال: الحرامان المدامة والسّكر
وقال الحجازيّ الشرابان واحد ... فحّلت لنا بين اختلافهما الخمر
سآخذ من قوليهما طرفيهما ... وأشربها حلّا وللوازر اوزر
خرج الحسن بن هانىء، ومعه مطيط صاحبه، حتى أتيا دير خمّار، فقال الحسن لمطيط: ادخل بنا نتماجن على هذا الخمّار، فدخلا فسلّما، فردّ عليهما السلام، فقال له الحسن: أعندك خمر عتيقة [يا خمار].
قال: عندي منها أجناس، فأيّ جنس تريد؟ قال: التي يقول فيها الشاعر: [الخفيف]
حجبت خيفة وصينت فجاءت ... كجلاء العروس بعد الصّيان
وكأنّ الأكفّ تصبغ من ضو ... ء سناها بالورس والزّعفران
فملأ له الخمّار قدحا من خمرة صفراء، كأنها ذهب محلول، فشربه الحسن، وقال: أحسن من هذا أريد، فقال له الخمّار: من أيّ جنس تريد؟ قال: التي يقول فيها الشاعر: [الخفيف]
رقّقتها أيدي الهواجر حتّى ... صيّرت جسمها كجسم الهواء
فهي كالنّور في الإناء وكالنّا ... ر إذا ما تصير في الأحشاء
فملأ له الخمّار قدحا من خمرة كأنها العقيق، فشربه، وقال: ارفع من هذا أريد، قال: أي نوع تريد؟ قال: التي يقول فيها الشاعر: [الكامل](1/358)
رقّقتها أيدي الهواجر حتّى ... صيّرت جسمها كجسم الهواء
فهي كالنّور في الإناء وكالنّا ... ر إذا ما تصير في الأحشاء
فملأ له الخمّار قدحا من خمرة كأنها العقيق، فشربه، وقال: ارفع من هذا أريد، قال: أي نوع تريد؟ قال: التي يقول فيها الشاعر: [الكامل]
فإذا حسا منها الوضيع ثلاثة ... سمح الوضيع كفعل ذي القدر
في لون ماء المزن إلا أنّها ... بين الضّلوع كواقد الجمر
فملأ له الخمّار قدحا من خمرة بيضاء، كأنها ماء المزن، فشرب الحسن، وقال للخمّار: أتعرفني؟ قال: إي والله يا سيّدي، أنا أعرف الناس بك، قال: فمن أنا؟ قال:
أنت الذي يسكر من غير وزن، فضحك الحسن، وقال لمطيط: ادفع إليه ما معك من النّفقة، فأعطاه مائة درهم وانصرف.
وقال أبو عثمان الناجم: دخلت على أبي العباس عبد الله بن المعتزّ، وهو مخمور طيّب النفس، فقال: يا أبا عثمان، أنشدني ما شئت حتى أعارضك بأحسن منه أو مثله، فأنشدته لأبي نواس: [البسيط]
وعاشق دنف نبّهته سحرا ... فقام للرّاح والتذكار مصطبحا
ودارت الخمر من صهباء صافية ... فما احتسى قدحا حتى بكى فرحا
ففكّر ساعة، وضحك وقال: [البسيط]
وقهوة كشعاع الشمس صافية ... مثل السّراب ترى في قعره شبحا
إذا تعاطيتها لم تدر من لطف ... راحا بلا قدح أعطيت أم قدحا
وقالوا: ما دراريع الخزّ والسّمور بأدفأ من الشراب للمصرور والمقرور.
وقال بعضهم: كنت في منتزّه لي، وإذا شيخ منبخ على علوة معه صبيّ في يوم بارد، فكنت أسمع الصبيّ يقول للشيخ: أعطني فروتي، فيناوله شيئا لا أتبيّنه، فبعثت غلامي ينظر إليه. فإذا عند الشيخ قنّينة، كلّما طلب الصبيّ فروته سقاه قدحا.
قال: وأنشدوا للهدهد الأصبهانيّ: [السريع]
إنّا أناس حسن ديننا ... لبيعنا الآجل بالعاجل
إذا شربنا خمسة خمسة ... فقد لبسنا الفرو من داخل
وقال عمرو الضبابي: [الرجز]
أعددت للّيل إذا الليل برد ... خابيتين من طلاء قد ركد
* فتطرد الهمّ وتكفيك الصّرد *
وقال آخر: [الطويل]
إذا هبّت الأرواح فاجعل دثارها ... إذا التحف الأقوام دكن المطارف(1/359)
ثلاثة أرطال شرابا معتّقا ... تكنّ آمنا منها ولست بخائف
فإنّ دثار المرء من تحت جلده ... أخفّ وأدنى من دثار الملاحف
قال الجاحظ: جلست عجوز من العرب إلى فتيان يشربون، فسقوه قدحا فطابت نفسها، ثم سقوها آخر فاحمرّ وجهها وضحكت، ثم سقوها قدحا ثالثا، فقالت: خبروني عن نسائكم بالعراق، أيشربن من هذا الشراب؟ قالوا: نعم، قالت: زنين وربّ الكعبة، والله لا يدري أحدكم من أبوه.
وسقي أعرابيّ قدحا من شراب، ولم يكن يعرفه، فحرّكته الأريحيّة، فسألوه عنها، فقال: والله ما أدري ما. هي! غير أنّي أراكم تحبّبون إليّ وأراني أسرّ بكم، وما وهب إليّ أحد منكم شيئا.
ومرّ أعرابيّ بقوم يشربون، فدعوه، فنزل وعقل بعيره. وشرب معهم، فلمّا أخذ منه الشراب، قام إلى بعيره فنحره، وشوى لهم من كبده وسنامه، ثم رفع عقيرته يتغنّى: [الوافر]
علّلاني إنما الدّنيا علل ... واسقياني، عللا بعد نهل
بادرا باللهو يوما صالحا ... ودعاني من عتاب وعذل
وانشلا ما اغبّر من قدريكما ... واسقياني أبعد الله الجمل
وقال إسحاق الموصليّ: سقيت أعرابيّا نبيذا، فقال: ما على هذا شيء، يطيّب النفس، ويطرد الحزن، ويمنّي الخير، ويعد الغنى، ثم أنشأ يقول: [الوافر]
ألا خذها كماء الزّعفران ... رمتها بالنّحول يد الزّمان
تصوغ إذا علاها الماء طوفا ... من الياقوت فصّل بالجمان
وتترك من أراد الشرب منها ... صحيح الجسم منكسر اللّسان
كأنّ الشمس طالعة بكفّي ... إذا أخذت زجاجتها بناني
ومرّ الفرزدق بالحكم بن المنذر بن الجارود فاستسقاه ماء، فقال: هلّا لبنا يا أبا فراس؟ قال: ذلك إليك، فملأ له عسّا من خمر، وأمر فحلبت عليه لقحة، فصعدت الرّغوة فوق الشراب، وأتاه به، فشربه حتى صكّ بالعسّ جبهته، وانتفخت أوداجه، واحمرّت عيناه، فمسح سباله، وقال: جزاك الله خيرا، فإنك ما زلت تخفي الصّدقات ونعمّا هي!.
ودخل الأخطل على عبد الملك، فقال: ليت شعري، ما يعجبك من إدمان الخمر، وأوّلها التقطيب والكراهة، وآخرها السّكر والسفاهة! فقال: ولكن بينهما حالة ما يسرّني بها ملكك، هذا نظمه الشاعر، فقال: [الخفيف]
إن يكن أول المدام كريها ... ويكن آخر المدام صداعا
فلها بين ذا وذاك هناة ... وصفها بالسرور لن يستطاعا
وأنشد ابن قتيبة لأبي محجن الثقفي: [الطويل](1/360)
إن يكن أول المدام كريها ... ويكن آخر المدام صداعا
فلها بين ذا وذاك هناة ... وصفها بالسرور لن يستطاعا
وأنشد ابن قتيبة لأبي محجن الثقفي: [الطويل]
إذ متّ فادفنّي إلى جنب كرمة ... تروّي عظّامي بعد موتي عروقها
ولا تدفننّي بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما متّ ألّا أذوقها
قال: فأخبرني من رأى قبره بأرمينية، أنه بين شجرات الكروم، والفتيان يشربون عندها، وينشدون شعره، وإذا جاء قدحه صبّوه على قبره.
ومنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أهل الشام شرب الخمر. فقال شاعرهم: [الطويل] ألم تر أنّ الدّهر يعثر بالفتى ... ولا يملك الإنسان صرف المقادر
صبرت ولم أجزع وقد مات إخوتي ... وما أنا عن شرب المدام بصابر
رماها أمير المؤمنين بحتفها ... فخلّانها يبكون حول المعاصر
ورأى ذؤيب السّلمي خمرا أهراقها السلطان، فقال: [الخفيف]
يا لقومي لما أتى السلطان ... لا يكن للذي أهانوا هوان
سكبوا في التّراب من حلب الكرو ... م عقارا كأنّها الزعفران
سكبت في مكان نحس لقد صا ... دف سعد السّعود ذاك المكان
كيف صبري عن بعض نفسي وهل يص ... بر عن بعض نفسه إنسان!
ولمّا انهمك الوليد بن يزيد في الشّراب والتبذّل مع الندماء، اجتمع وجوه بني أميّة، فلاموه وعنّفوه، فقال لهم اسمعوا ما عندي: [الخفيف]
أشهد الله والملائكة الأب ... رار والعابدين أهل الصّلاح
أنني أشتهي السماع وشرب الرّا ... ح والعضّ في الخدود الملاح
والنّديم الكريم والخادم الفا ... ره يسعى عليّ بالأقداح
وظريف الحديث والكاعب الطّف ... لة ترتجّ في سموط الوشاح
انصرفوا، فيئسوا منه، فدبّروا في إفساد دولته.
ودخل على المأمون عمرو بن مسعدة ورجل من الفقهاء، وبين يديه جام زجاج فيه رطل شراب، فمدّ به يده المأمون إلى الرجل، فقال: يا أمير المؤمنين، والله ما شربتها ناشئا فلا تسقنيها شيخا، فردّ يده إلى عمرو، فأخذها منه، وقال: الله الله يا أمير المؤمنين، إني آليت في الكعبة ألّا أشربها ففكر طويلا والكأس في يد عمرو، ثم قال: [الكامل]
ردّا عليّ الكأس إنّكما ... لا تعلمان الكأس ما تجدي
لو ذقتما ما ذقت ما مزجت ... إلا بدمعكما من الوجد(1/361)
ما مثل نعماها إذا اشتملت ... إلا اشتمال فم على خدّ
خوّفتماني الله رّبكما ... وكخيفتيه رجاؤه عندي
إن كنتما لا تشربان معي ... خوف العقاب شربتها وحدي
وقال الحسن بن هانىء وهو الإمام في الخمريات: [البسيط]
ساع بكأس إلى ناس على طرب ... كلاهما عجب في منظر عجب
قامت تريني، وأمر الليل مجتمع ... صبحا تولّد بين الماء والعنب
كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء درّ على أرض من الذهب
وله أيضا: [الكامل]
قال ابغني المصباح قلت له اتّئد ... حسبي وحسبك ضوءها مصباحا
فسكبت منها في الزّجاجة شربة ... كانت له حتى الصّباح صباحا
من قهوة جاءتك قبل مزاجها ... عطلا فألبسها المزاج وشاحا
شقّ البزال فؤادها فكأنّها ... أهدت إليك بريحها تّفاحا
فأتتك في صور تداولها البلى ... فأزالهنّ وأثبت الأرواحا
وقال ابن المعتز: [الطويل]
ونار قدحناها سراعا بسحرة ... متى ما يرق ماء عليها توقّد
يجول حباب الماء في جنباتها ... كما جال دمع فوق خدّ مورّد
وقال ابن وكيع: [الطويل]
وصفراء من ماء الكروم كأنّها ... فراق عدوّ أو لقاء صديق
كأنّ الحباب المستدير بطوقها ... كواعب درّ في سماء عقيق
الطّوق: حاشية الكأس.
وقال ابن المعتز في الحباب وتشبيهه له أحسن من تشبيهه بجميعه: [مجزوء الكامل] أسقي مخدّرة الدّنا ... ن سلاف خمر قرقفا
راحا تخال حبابها ... درّا يجول مجوّفا
وقال الحسن: [مجزوء الرمل]
بنت عشر لم تعاين ... غير نار الشمس نارا
ثم سحّت فأدارت ... فوقها طوقا فدارا
كاقتران الدّرّ بالدرّ ... صغارا وكبارا
فإذا ما اعترضته الس ... عين من حيث استدارا(1/362)
خلته في جنبات الك ... أس واوات صغارا
وله أيضا في مثل ذلك: [مجزوء الكامل]
والكأس أهواها وإن رزئت ... بلغ المعاش وقّللت فضلي
ذخرت لآدم قبل خلقته ... فتقدّمته بخطوة القبل
فأتاك شيء لا تلامسه ... إلا بحسن غريزة العقل
فإذا علاها الماء ألبسها ... نمشا كمثل خلاخل الحجل
حتى إذا سكنت جوانحها ... كتبت بمثل أكارع النمل
خطين من شتى ومجتمع ... غفل من الإعجام والشكل
وقال ابن المعتز: [البسيط]
كأنّ في كأسها والماء يقرعها ... أكارع النمل أو نقش الخواتيم
وقال حبيب: [الكامل]
صعبت وراض المزج سيّىء خلقها ... فتعلّمت من حسن خلق الماء (1)
خرقاء يلعب بالعقول حبابها ... كتلاعب الأفعال بالأسماء
وضعيفة فإذا أصابت فرصة ... قتلت، كذلك قدرة الضعفاء
وكأنّ بهجتّها وبهجة كأسها ... نار ونور قيّدا بوعاء
أو درّة بيضاء بكر أطبقت ... حبلا على ياقوتة حمراء
وقال ابن البّال: [الكامل]
ومدامة لبست غلالة نرجس ... وتنفست في الكأس أيّ تنفس
باكرتها والورد يوقظه النّدى ... وتبلّ خدّيه عيون النّرجس
والشمس تنظر من وراء غمامة ... لبست من الكافور أحسن ملبس
نبّهتها بيد المزاج فأصبحت ... ترنو إليّ بأعين لم تنعس
وتورّدت حتى توقّد كأسها ... فحسبتها في الكفّ جذوة مقبس
[مجزوء المتقارب]
* * * ولا كان ساق ... دهائي الرّفاق
لأرض العراق ... بحمل السّبح
__________
(1) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 38.(1/363)
فلا تغضبن ... ولا تعجبن
ولا تعتبن ... فعذري وضح
ولا تعجبن ... لشيخ أبنّ
بمغنى أغنّ ... ودنّ طفح
فإنّ المدام ... تقوّي العظام
وتشفي السّقام ... وتنفي التّرح
* * *
قوله: «دهائي»، أي تشيطني ومكري، السّبح، جمع سبحة، وقد تقدمت تصخبن:
ترفعنّ صوتك بالصياح. تعتبن: تلومنّ، وضح: ظهر، أبنّ: أقام. مغنى: منزل، أغنّ:
كثير الأشجار، فإذا هبّت الريح فيها سمعت لها غنّة، ومن هذا قولهم: روضة غنّاء، لأن صوت الرّيح يخرج من بين أشجارها، وعشبها أغنّ.
ومن فسّرها بأن الذباب يغني فيها، فهو صحيح في المعنى فاسد في التصريف، لأن يغني أصله (غ ن ى) وأغنّ أصله (غ ن ن) فيريد بالمغنى الأغنّ منزلا كثير الأشجار.
وفسّره بعضهم كثير الأهل، والأول أولى.
طفح: امتلأ خمرا، المدام: الخمر، وقوله: «تقوّي العظام، وتسفي السّقام» وقد تجاوز هنا قوم حتى جعلوها من العاهات قال الأقيشر ويروي لأبي نواس: [الطويل] ومقعد قوم قد مشى من شرابنا ... وأعمى سقيناه ثلاثا فأبصرا
كميت كأن العنبر الورد ريحها ... إذا شمّها الحاني من الدّن كبّرا
توقّد في أيدي السقاة كؤوسها ... إذا ما رآها صائم القوم أفطرا
وقال آخر: [الطويل]
أبا هاشم هل لي سبيل إلى التي ... أرى شربة منها قواما لأحدب
وقوله: «وتنفي الترح»، أي تزيل الحزن.
وقال الحسن بن هانىء في أن الخمر تزيل الحزن والهم: [البسيط]
دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراء ... وداوني بالتي منها بي الدّاء
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسّها حجر مسّته سرّاء
قامت بإبريقها والليل معتكر ... فظل من وجهها في البيت لألاء
وأرسلت من فم الإبريق صافية ... كأنّما أخذها بالعقل إعفاء
رقّت عن الماء حتى لا يلائمها ... لطافة وجفا عن شكلها الماء(1/364)
فلو مزجت بها نورا لمازجها ... حتى تولّد أنوار وأضواء
وقال البحتريّ: [الكامل]
فاشرب على زهر الرياض يشوبه ... زهر الخدود وزهرة الصّهباء (1)
من قهوة تنسي الهموم وتبعت ... الشّوق الّذي قد ظلّ في الأحشاء
يخفي الزجاجة لونها، فكأنّها ... في الكأس قائمة بغير إناء
وقال حبيب: [الكامل]
بمدامة يغدو الفتى لكؤوسها ... حولا على السّرّاء والضّرّاء (2)
راح إذا ما الراح كنّ مطيّها ... كانت مطايا الشّوق في الأحشّاء
عنبيّة ذهبية سبكت لها ... ذهب المعاني صاغة الشّعراء
[مجزوء المتقارب]
* * * وأصفى السّرور ... إذا ما الوقور
أماط ستور ال ... حيا واطّرح
وأحلى الغرام ... إذا المستهام
أزال اكتتام ال ... هوى وافتضح
فبح بهواك ... وبرّد حشاك
فزند أساك ... به قد قدح
وداو الكلوم ... وسلّ الهموم
ببنت الكرو ... م الّتي تقترح
وخصّ الغبوق ... بساق يسوق
بلاء المشوق ... إذا ما طمح
* * *
قوله: «أماط»، أي أزال، اطّرح: رمى بها، وهذا منتزع من قول عليّ بن الخليل:
[مجزوء الكامل]
لا تكمل اللّذّات ... إلا بالقيان وبالخمور
هتّك الستور فإنّما الّ ... لذات في هتك السّتور
__________
(1) الأبيات في ديوان البحتري ص 6.
(2) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 3.(1/365)
فدع العواذل لا يق ... فن عليك من دون الصّدور
واعلم بأنّك راجع ... حقّا إلى ربّ غفور
قوله: «الغرام»، شدة الحب، المستهام: الذي حمله الحبّ على أن يهيم، أي يذهب ولا يدري أين يتوجه. افتضح: اشتهر، يقول: أصفى ما يكون السرور إذا أزال الوقور ثياب الحياء واطرحها عنه، وأحلى ما يكون العشق إذا أزال العاشق الكتم وشهر نفسه به، ومن هذا قول أبي نواس: [الطويل]
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرّا إذا أمكن الجهر
ويح باسم من تهوى ودعني من الكنى ... فلا خير في اللّذات من دونها ستر
قوله: «زند أساك»، الزند: الذي يقدح به النار، والأسى: الحزن، يقول: يرّد قلبك بذكر من تهوى، فإنك إن رمت كتمه قدح به زند حزنك.
ونحو هذا ما يحكى أن أبا الفضل الدّارميّ، كان له هوى بغلام، فإذا رآه أنكر حبّه، والغلام يعرف شدّة وجده به، فدمعت يوما عينا أبي الفضل، فقال له الغلام: دمعك شاهد عليك، فقال: [الطويل]
وهبني قد أنكرت حبّك جملة ... وآليت أني لا أروم محطّها
فمن أين لي في الحبّ جرح شهادة ... سقامي أملاها، ودمعي خطّها!
وقال المتنبي: [البسيط]
وكاتم الحبّ يوم البين منهتك ... وصاحب الدّمع لا تخفى سرائره (1)
والشعر في هذا كثير، وكله تبع لقول العباس بن الأحنف: [الخفيف]
لا جزى الله دمع عيني خيرا ... وجزى الله كلّ خير لساني
نمّ دمعي فليس يكتم شيئا ... ورأيت اللّسان ذا كتمان
كنت مثل الكتاب أخفاه طيّ ... فاستدلوا عليه بالعنوان
أما الاشتهار الذي ذكر فإنما يأخذ به أهل التّماجن ومن لا بال له، وأما أهل المروءات والتّصاون، فغايتهم إعلام المحبوب بشأنهم، وكتمه عن النّاس، وذلك شديد، ولا يقوم به إلا من كمل عقله، وأما أن يكتمه عن محبوبه كحكاية أبي الفضل، فأشدّ أحوال هذا الباب أن يكون لمحبوبك أصحاب يألفهم ويألفونه، فيعلمون بشأنك كما فعل أبو الأصبغ بن رشيد المرتكيّ، أنشدنيه الفقيه أبو الحسن بن زرقون: [المتقارب]
أبا قاسم إن قسمت الهوى ... كؤوسا فحظّي أوفى الكؤوس
__________
(1) البيت في ديوان المتنبي 2/ 115.
وبين جفونك با قاتلي ... وبين فؤادي حرب البسوس
وبين الجوانح نار الجوى ... كما قد سمعت بنار المجوس
أسارقك اللحظ في خفية ... كما يتناول قيد الشّموس
فمهما بدوت ومهما رنوت ... فشغل العيون وشغل النفوس
سررت به بين أصحابه ... فحدّوا اللحاظ وهزّوا الرؤوس
وهذا على خطرة فذّة ... فكيف لو أني نويت الجلوس
قوله: «داو الكلوم»، يريد جراح قلبه من أنكاد الدهر، ولذلك اتبعه، ب «سلّ الهموم»، لأنه في معنى «داو الكلوم»، وهذا كقول العطويّ:(1/366)
__________
(1) البيت في ديوان المتنبي 2/ 115.
وبين جفونك با قاتلي ... وبين فؤادي حرب البسوس
وبين الجوانح نار الجوى ... كما قد سمعت بنار المجوس
أسارقك اللحظ في خفية ... كما يتناول قيد الشّموس
فمهما بدوت ومهما رنوت ... فشغل العيون وشغل النفوس
سررت به بين أصحابه ... فحدّوا اللحاظ وهزّوا الرؤوس
وهذا على خطرة فذّة ... فكيف لو أني نويت الجلوس
قوله: «داو الكلوم»، يريد جراح قلبه من أنكاد الدهر، ولذلك اتبعه، ب «سلّ الهموم»، لأنه في معنى «داو الكلوم»، وهذا كقول العطويّ:
أعجبتنّ أن أناخ بي الدّهر ... فخاصمته إلى الأقداح
لا تذاد الهموم أنشبن أظفا ... را حدادا بشرب ماء قراح
أحمد الله صارت الكأس تأسو ... دون إخواني الثقات جراحي
قوله: «تقترح» تتمنى. الغبوق: شرب العشي، والمسوق: المحبّ، وطمح: ارتفع بالنظر، يقول: خصّ شرابك بالعشي مع غلام حسن يسقيك ويبيت معك على شرابك، ويكون لإفراط حسنه، يجلب عذاب العاشق إذا نظره.
ومما قيل في السقاة ووصف الخمر من الشعر المستحسن قول أبي نواس:
[الطويل]
إذا عبّ فيها شارب القوم خلته ... يقبّل في داج من الليل كوكبا
ترى حيثما كانت من البيت مشرقا ... وما لم تكن فيه من البيت مغربا
يدور بها ساق أغنّ ترى له ... على مستدار الخدّ صدغا معقربا
سقاني ومنّاني بعينيه منية ... فكانت إلى نفسي ألذّ وأعجبا
وقال ابن الروميّ فأحسن: [الكامل]
ومهفهف كملت محاسنه ... حتى تجاوز منية النّفس
تصبو الكؤوس إلى مراشفه ... وتضجّ في يده من الحبس
أبصرته والكأس بين فم ... منه وبين أنامل خمس
فكأنّها وكأنّ شاربها ... قمر يقبّل عارض الشمس
وقال ابن المعتز: [البسيط]
ظبي مخلّى من الأحزان أودعني ... ما يعلم الله من حزن ومن قلق
كأنه وكأن الكأس في يده ... هلال أوّل شهر غاب في شفق
وقال أيضا: [الكامل](1/367)
ظبي مخلّى من الأحزان أودعني ... ما يعلم الله من حزن ومن قلق
كأنه وكأن الكأس في يده ... هلال أوّل شهر غاب في شفق
وقال أيضا: [الكامل]
يا حسن أحمد غاديا أمس ... بمدامة صفراء كالورس
وكأنّ كفيه تقسم في ... أقداحنا قطعا من الشمس
ولأبي طالب الرّفاء في معنى آخر: [الطويل]
لها في كفّ شاربها شعاع ... تطرّف منه مبيضّ البنان
ولأبي بكر الخالدي: [البسيط]
تومي إليك بأطراف مطرّفة ... فيها خضابان للعنّاب والعنب
فهذا في انتقال حمرتها لأصابع حابسها، فإذا انتقلت لخدّ شاربها حدث للشعراء في ذلك معنى بديع صنع البديع يسمّى المطابقة، وهو الوصف بالغروب والطلوع وقال في ذلك الطليق المروانيّ: [الرمل]
أصبحت شمسا وفوه مغربا ... ويد الساقي المحيّي مشرقا
فإذا ما غربت في فمه ... أطلعت في الخدّ منه شفقا
ولأبي مطروح بن فتوح: [الكامل]
صهباء تغرب إن بدت من كفّه ... في فيه ثم تلوح في وجناته
وقال غيره: [السريع]
بدر بدا يشرب شمسا بدت ... وجدّها في الحسن من جدّه
تغرب في فيه ولكنّها ... من بعد ذا تطلع في خدّه
وقال آخر: [السريع]
أقول والكأس على فيه وقد ... صوّبها كالكوكب الصائب
ذا كوكب يغرب في كوكب ... ويلي على الطّالع والغارب!
* * *
رجعنا إلى ذكر السقاة قال ابن المعتز: [الطويل]
تدور علينا الكأس من كفّ شادن ... له لحظ عين يشتكي السّقم مدنف
كأن سلاف الخمر من ماء خدّه ... وعنقودها من شعره الجعد يقطف
وقال أبو بكر الخالديّ: [البسيط]
أهلا بشمس مدام من يدي قمر ... تكامل الحسن فيه فهو تيّاه
كأن حمرتها إذ قام يمزجها ... من خدّه اعتصرت أو من ثناياه
في وجه فلّ وريحان تراح له ... منّا قلوب وأبصار وتهواه(1/368)
النّرجس الغضّ عيناه وطرّته ... بنفسج، وجنيّ الورد خدّاه
ولابن الزّقاق: [الطويل]
وساق يحثّ الكأس وهي كأنّما ... تلألأ منها مثل ضوء جبينه
سقاني بها صرف الحميّا عشية ... وثنّى بأخرى من رحيق جفونه
هضيم الحشا ذو وجنة عند ميّة ... تريك قطاف الورد في غير حينه
فأشرب من يمناه ما فوق خدّه ... وألثم من خدّيه ما في يمينه
وقال الخوارزمي: [الطويل]
وصفراء كالدينار بنت ثلاثة ... شمال وأنهار ودهر محّرم
مسرّة محزون وعذر معربد ... وكنز مجوسيّ وفتنة مسلم
بدور بها ظبي تدور عيوننا ... على عينه من شرط يحيى بن أكثم
وقال ابن المعتز: [الخفيف]
ونداماي في شباب وشيب ... أتلفت ما لهم نفوس كرام
بين أقداحهم حديث نضير ... وهو سحر وما سواه كلام
وغناء يستعجل الرّاح بالرّا ... ح كما تاح في الغصون الحمام
وكأنّ السقاة بين الندامى ... ألفات بين السّطور قيام
* * *
[المتقارب]
وشاد يشيد ... بصوت تميد
جبال الحديد ... له إن صدح
وعاص النّصيح ... الّذي لا يبيح
وصال المليح ... إذا ما سمح
وجل في المحال ... ولو بالمحال
ودع ما يقال ... وخذ ما صلح
وفارق أباك ... إذا ما أباك
ومدّ الشّباك ... وصد من سنح
وصاف الخليل ... وناف البخيل
وأول الجميل ... ووال المنح
ولذ بالمتاب ... أمام الذّهاب(1/369)
فمن دقّ باب ... كريم فتح
* * *
قوله: «شاد»، أي مغنّ، يشيد: يتقن غناءه ويحكمه. تميد: تميل. صدح: رفع صوته بالغناء، والصداح: الصوت الشديد، يقول: وأحضر الخمر مغنيا تميل الجبال لحسن غنائه، وهذا مثل ما حكى المنجّم، قال: حكي لي أنّ إبراهيم بن المهدي، كان أحسن الناس غناء ببرهان، وذلك أنّي كنت أراه في مجالس الخلفاء مثل المأمون والمعتصم يغنّي المغنون، فإذا ابتدأ هو لم يبق أحد من الغلمان والمتصرفين وأصحاب الصّناعات والمهن الصّغار والكبار، إلا وقد ترك ما في يده، وصار بأقرب موضع يمكنه أن يسمعه، فلا يزال مصغيا إليه، لاهيا عّما كان فيه ما دام يغنّي، فإذا أمسك وغنّى غيره رجعوا إلى أشغالهم، ولا برهان أقوى من شهادة الفطرة، واتفاق الطبائع على الميل إليه مع اختلافها في غير ذلك.
وقال منصور بن المهدي: غنّى أخي إبراهيم الأمين يوما فقال: [المتقارب]
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
لكي يعلم النّاس أني امرؤ ... أتيت الفتّوة من بابها
وكان الأمين مشرفا على حمر الوحش، وهو مخمور، وكان من عادته ألّا يشرب وهو مخمور، فاستوى جالسا وطرب، وقال: أحسنت والله يا عمّ، وأحييت لي طربا، وغنّى يومئذ على أشدّ طبقة ينتهي إليها، وما سمعت مثله قطّ وقد رأيت منه شيئا عجيبا، لو حدّثت به ما صدقته، كان إذا ابتدأ يغنّي أصغت الوحش، ومدّت أعناقها، ولم تزل تدنو منه، حتى تضع رؤوسها على الدّكان الذي كنا عليه، فإذا سكت نفر عنّا، حتى تنتهي إلى أبعد غاية يمكنها التباعد فيها عنّا، وجعل الأمين يعجب من ذلك.
قوله: «يبيح»، أي يجعله له مباحا، يقول: أعص من يعذلك في وصل المليح متى سمح بوصله.
وكان أعرابيّ قد طال تعشقه لجارية، فقيل له: ما كنت صانعا لو ظفرت به، ولا يرا كما غير الله؟ قال: إذا والله لا أجعله أهون الناظرين، لكني كنت أفعل بها ما كنت أفعله بحضرة أهلها، شكوى وحديث عذب، وإعراض عمّا يسخط الرّبّ، ويقطع الحبّ، فإن تلقّي وصال المليح، إذا سمح بمثل هذا فعصيان النصيح واجب، وأكثر الناس يرى أن الظفر بالمعشوق يسقط نصف عشقه، وأن النكاح يفسد الحب:
وقال المأمون: [مجزوء الكامل]
ما الحبّ إلا قبلة ... وغمز كفّ وعضد
وكتب فيها رقي ... أنفذ من نفث العقد
من لم يكن ذا حبّه ... فإنما يبغي الولد
ما الحبّ إلا هكذا ... إن نكح الحبّ فسد
وقال حبيب في نقيضه وأجاد: [الطويل](1/370)
ما الحبّ إلا قبلة ... وغمز كفّ وعضد
وكتب فيها رقي ... أنفذ من نفث العقد
من لم يكن ذا حبّه ... فإنما يبغي الولد
ما الحبّ إلا هكذا ... إن نكح الحبّ فسد
وقال حبيب في نقيضه وأجاد: [الطويل]
وقالت نكاح الحبّ يفسد شكله ... وكم نكحوا حبّا وليس بفاسد!
وقالت أمّ الضحاك المحاربية: [الوافر]
شفاء الحب تقبيل وضم ... وجرّ بالبطون على البطون
ورهز تمهل العينان منه ... وأخذ بالمناكب والقرون
وقال الحسن: [الوافر]
إذا هجع النّيام فخلّ عني ... وعمّن كان أيصلح للدّبيب
فإني عالم فطن أريب ... ولم يخبرك مثل فتى أريب
ألذّ الفعل تأخذه سرورا ... بمنح الحبّ أو منع الرقيب
وبعد هذا ما يقبح ذكره، وشعر الحسن يكثر في هذا الباب.
وقال ابن الأبّار رحمه الله وذكر أنه فعل بمحبوبه وبرقيبه: [الخفيف]
فوثبنا على الغزال وثوبا ... ودببنا على الرّقيب دبيبا
فهل أبصرت أو سمعت بصبّ ... ناك محبوبه وناك الرقيبا!
وقال ابن بسّام: لقد ظرف ابن الأبار، واستهتر ما شاء وقدر، وأظنه لو قدر على إبليس الّذي تولى له هذا المذهب لدبّ عليه.
وابن المعتز كنّى ولم يصرح، فقال: [البسيط]
فكان ما كان مما لست أذكره ... فظنّ خيرا ولا تسأل عن الخبر
أين ما قدمناه لابن الأبار من قول الآخر في ضدّه: [مجزوء الكامل]
ومنّعم غض القطاف ... عذب لماه للارتشاف
فوردت جنّة نحره ... ونعيمها دون اقتطاف
وعصيت سلطان الهوى ... وأطعت سلطان العفاف
وقال ابن الأبار أيضا: [الكامل]
ومعرّض بالغصن في حركاته ... تسل القلوب العفو من لحظاته
عاطيته كأسا كأنّ سلافها ... من ريقه المعسول أو وجناته
وأطعت سلطان العفاف تكرّما ... والمرء مجبول على عاداته
وقال الشريف الرضيّ فأحسن: [البسيط](1/371)
ومعرّض بالغصن في حركاته ... تسل القلوب العفو من لحظاته
عاطيته كأسا كأنّ سلافها ... من ريقه المعسول أو وجناته
وأطعت سلطان العفاف تكرّما ... والمرء مجبول على عاداته
وقال الشريف الرضيّ فأحسن: [البسيط]
بتنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى ... يلّفنا الشّوق من فرق إلى قدم
وبات بارق ذاك الثّغر يوضح لي ... مواقع اللّثم في داج من الظّلم
وباتت الرّيح كالغيرى تجاذبنا ... على الكثيب فضول الرّيط واللّمم
وأكتم الصبح عنها وهي غافلة ... حتّى تكلّم عصفور على علم
فقمت أنفض بردا ما تعلقه ... غير العفاف وراء الغيب والكرم
وقال ابن فرج الجيانيّ: [الوافر]
وطائعة الوصال صددت عنها ... وما الشّيطان فيها بالمطاع
بدت باللّيل سافرة فباتت ... دياجي اللّيل سافرة القناع
وما من لحظة إلّا وفيها ... إلى فتن القلوب لنا دواع
فملّكت الهوى جمحات شوقي ... لأجري في العفاف على طباعي
كذاك الرّوض ما فيه لمثلي ... سوى نظر وشمّ من متاع
ولست من السّوائم مهملات ... فأتخذ الرّياض من المراعي
وقال أيضا فأحسن: [الوافر]
بأيّهما أنا في الشكر بادي ... أشكر الطيف أم شكر الرّقاد
سرى لي فازدهى أملي، ولكن ... عففت فلم أنل منه مرادي
وما في النوم من حرج ولكن ... جريت من العفاف على اعتياد
كأنه لما عفّ في اليقظة جرى على عادته في النوم، وهذا من قول أبي الطيب: [الطويل]
يردّ يدا عن ثوبها وهو قادر ... ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد
وهذا أملك شهوة من التّهامي، وإن كان قد أحسن حيث يقول: [البسيط]
إنّي لأصرف طرفي عن محاسنها ... تكرّما وأكفّ الكفّ عن لمم
ولا أهمّ ولي نفس تنازعني ... أستغفر الله إلا ساعة الحلم
وقال ابن طباطبا: [الكامل]
يقظاته ومنامه شرع ... كلّ بكل منه مشتبه
إن همّ في حلم بفاحشة ... زجرته عفّته فينتبه
أخذه السّريّ، فكتب إلى صديق له، وكان اتهمه بغلام بعثه إليه: [الوافر]
أبا بكر أسأت الظنّ فيمن ... سجيته التمنّع والخلاف
وخفت عليه في الخلوات منّي ... ولم يك بيننا حال تخاف(1/372)
جفوت من الصّبا ما ليس يجفى ... وعفت من الهوى ما لا يعاف
فلو أني هممت بقبح فعل ... لدى الإغفاء أيقظني العفاف
قوله: «جل»، تصرف، المحال: المكر. لذ: تعلّق وتستر. المحال: الباطل، وما لا يمكن ثبوته، ودع ما يقال، أي لا تلتفت إلى من ينقصك باتّباع لذّاتك، وخذ ما يوافقك ويصلح بك.
وهذا رأي من اشتهر بالمجون كالحسن في قوله: [الكامل]
دع عنك ما جدّوا به وتبطّل ... وإذا لقيت أخا الحقيقة فاهزل
لا تركبنّ من الذنوب خسيسها ... واعمد إذا قاربتها للأنبل
وخطيئة تغلو على مستامها ... يأتيك آخرها بطعم الأوّل
حلّلت لا حرج علي حرامها ... ولرّبما حلّلت غير محلّل
وقال ابن وكيع: [الكامل]
لا تقبلنّ من الرشيد كلامه ... وإذا دعاك أخو الغواية فاقبل
ودع الترهّب والتجمّل للورى ... فالعيش ليس يطيب للمتجمّل
وقال أيضا: [الكامل]
فارقت بعدك عفتي ووقاري ... وخلعت في طرق المجون عذاري
لا تأمرنّي بالتستّر في الهوى ... فالعيش أجمع في ركوب العار
لا تكثرنّ عليّ إن أخا الحجا ... برم يقرب الصاحب المكثار
قوله: «أباك»، أي تمنّع منك، سنح: تيسّر، يقال: سنح الشيء سنوحا، إذا تيسر صاف الخليل، أي أخلص الودّ لصاحب، ناف: باعد. أول الجميل: ألصق المعروف بمن يستحقه، وقد أولاني فلان المعروف: ألصقه بي، وجعله بينه وبيني، وقيل معنى «أولاني» ملكني، من قولهم: هذا وليّ المرأة، أي مالك أمرها. وقيل: معناه عضدني به وقوّاني، من قولهم: بنو فلان ولاة على بني فلان، أي يعينونهم ويعضدونهم، وقيل:
أولاني: أنعم عليّ، من الألاء، وهي النّعم، واحدها إلي وألي، والأصل ولي وولي، أبدل من الواو المكسورة همزة، على حدّ «إساد» وأبدل من الواو المفتوحة همزة على حد أحد وامرأة أناة، وال المنح: تابع العطايا، أمام الذهاب: قدّام الموت، يقول: إذا شخت وأيقنت الموت، فاضرب باب التوبة، فإنه يفتح لك إذ كلّ كريم بابه يفتح.
ابن عباس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المصلي يقرع باب الملك، وإنه من يداوم قرع الباب يوشك أن يفتح له»، والله تعالى أكرم الكرماء، وبابه باب التوبة. وقال الألبيريّ: [الوافر]
فلازم قرع باب التّوبة دأبا ... فإنّ لزومه سبب الدخول
* * *(1/373)
فقلت له: بخ بخ لروايتك، وأفّ وتفّ لغوايتك، فبالله من أيّ الأعياص عيصك، فقد أعضلني عويصك؟ فقال: ما أحبّ أن أفصح عني، ولكن سأكنّي
[مجزوء الخفيف]
أنا أطروفة الزّما ... ن وأعجوبة الأمم
وأنا الحوّل الّذي اح ... تال في العرب والعجم
غير أنّي ابن حاجة ... هاضه الدّهر فاهتضم
وأبو صبية بدوا ... مثل لحم على وضم
وأخو العيلة المع ... يل إذا احتال لم يلم
* * *
قوله: «بخ بخ»، أي عجب عجب وتثقّل وتخفّف، وهي كلمة تقال عند الإعجاب بالشيء. أفّ وتفّ، الأصمعي: الأفّ وسخ الآذان، والتّف: وسخ الأظفار، ثم استعمل ذلك عند كلّ شيء يضجر منه.
وقال غيره: الأفّ: القلّة، مأخوذ من الأفف وهو القلة ثم نسق التّف عليه. ومعناه كمعناه، ويقال: لمن يدعى عليه بالخيبة: أفّ وتفّ لك. وقال ابن الأنباري: إذا أفردت أفّ، ففيها عشرة أوجه: فتح الفاء، وكسرها وضمّها على قياس مدّ وثلاثتها بالتّنوين على قياس ويل، فنصبه على الدّعاء، ورفعه بالابتداء، وخفضه على التشبيه بالأصوات كمه وصه، وأف كقد، وأفي بضم الهمزة منصوب على الدعاء، وأفي بإضافته إلى نفسه، وأف بضم الهمزة وسكون الفاء تشبيها بالأدوات، نحو: هل وبل.
غوايتك: ضلالتك. الأعياص: الأصول، والعيص: بيت الأسد، ويريد: من أيّ القبائل والبلاد. أعضلني: صعب عليّ، عويصك: صعب أمرك ومشكله. أفصح: أبين.
أكنى أوري، أي أدلّ على نفسي بكلام خفيّ. أطروفة: غريبة. الحول: الكثير الحيلة، هاضه: كسره. اهتضم: ظلم ونقص، الوضم أطروفة خشبة الجزار التي يقطع عليها اللحم. والعيلة: الفقر، وعال الرّجل يعيل عيلة، إذا افتقر، قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} [التوبة: 28]، وقال الشاعر: [الوافر]
وما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغنيّ متى يعيل (1)
والمعيل: الكثير العيال، وقد أعال يعيل.
* * * __________
(1) البيت لأحيحة بن الجلاح في لسان العرب (عيل)، وجمهرة اللغة ص 59، 571، وتاج العروس (عيل)، وجمهرة أشعار العرب ص 659، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 952.(1/374)
[مما قيل في الخضاب]
قوله: «الريب»، أي لريبة. مسوّد وجه الشيب، نبّه به على قوله في أوّل المقامة:
«ميسمه ميسم الشبان» يريد أنّه خضب شيبه وتشبه بالفتيان، والخضاب مباح والتدليس مكروه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «غيّروا هذا الشيب» (1).
وكان أبو بكر رضي الله عنه يخضب لحناء والكتم، وجاء النهي عن الخضاب بالسواد، وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بهذا السّواد كحواصل الحمام، ولا يربحون رائحة الجنة» (2).
ومن كلام المولدين: الخضاب تذكرة الشباب.
الخضاب أحد الشبابين.
وقال مالك بن أسماء بن خارجة لجارية له: قومي اخضبي رأسي ولحيتي، فقالت:
دعني، فقد عييت مما أرقّعك، فقال: [البسيط]
عيّرتني خلقا أبليت جدّته ... وهل رأيت جديدا لم يعد خلقا!
وقال آخر: [البسيط]
أليس عندك شكر للّتي جعلت ... ما أبيضّ من قادمات الرّأس كالحمم
وجدّدت منك ما قد كان أخلقه ... طول الزمان وصرف الدّهر والقدم
وقال آخر: [الوافر]
وقائلة تقول وقد رأتني ... ترقّع عارضاي من القتير
عليك الخضب علّك أن تداني ... إلى بيض ترى منهن حور
فقلت لها: المشيب نذير عمري ... ولست مسوّدا وجه النّذير
وقال عبدان الأصبهاني: [الخفيف]
في مشيبي شماتة لعداتي ... وهو ناع منّغص لحياتي
ويعيب الخضاب قوم وفيه ... لي أنس إلى حضور وفاتي
لا ومن يعلم السّرائر منّي ... ما تطلّبت خلّة الغانيات
إنما رمت أن يغيّب عنّي ... ما ترينيه كلّ يوم مراتي
وهو ناع إليّ نفسي ومن ذا ... سرّه أن يرى وجوه النّعاة!
وقال آخر: [الكامل]
بكرت تحسّن لي سواد خضابي ... لو كان ذلك يعيدني لشبابي
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 3/ 247، 338.
(2) أخرجه أبو داود في الترجل باب 20، والنسائي في الزينة باب 15، وأحمد في المسند 1/ 273.(1/375)
وإذا أديم الوجه أخلقه البلى ... لم ينتفع فيه بحسن خضاب
ماذا الّذي يبدي عليك خضابه ... وخلاف ما يرضيك في الأثواب!
وقال ابن عبد ربّه: [الوافر]
إذا فصل الخضاب بكى عليه ... ويفرح كلّما وصل الخضابا
كأن حمامة بيضاء ظلّت ... تقاتل في مفارقه غرابا
وقال ابن الرومي: [الكامل]
يأيّها الرجل المسوّد شعره ... كيما يعدّ به من الشّبان
أقصر فلو سوّدت كل حمامة ... بيضاء ما عدّت من الغريان
وأملح منه قول الآخر: [الكامل]
قالت خضبت الشّيب ثم أتيتنا ... تبغي لدينا بالخضاب ودادا
فأجبتها لم أختضب لك إنما ... شيبي صبغت على الشّباب حدادا
وما أحسن ما قال ابن هانىء الأندلسي: [الكامل]
بنتم فلولا أن أغيرّ لّمتي ... عبثا وألقاكم عليّ غضابا
لخضبت شيبا في مفارق لمتي ... ومحوت محو النّفس منه كتابا
وخضبت مبيضّ الحداد عليكم ... لو أننّي أجد البياض خضابا
وإذا أردت على المشيب وفادة ... فاجعل مطيّك دونه الأحقابا
فلتأخذنّ من الزّمان حمامة ... ولتدفعنّ إلى الزّمان غرابا
* * *
قال الرّاوي: فعرفت حينئذ أنّه أبو زيد ذو الرّيب والغيب، ومسوّد وجه الشّيب، وساءني عظم تمرّده، وقبح تورّده، فقلت له بلسان الأنفة، وإدلال المعرفة: ألم يأن لك يا شيخنا أن تقلع عن الخنا! فتضجّر وزمجر، وتنكّر وفكّر، ثمّ قال: إنّها ليلة مراح لا تلاح، ونهزة شرب راح لا كفاح. فعدّ عمّا بدا، إلى أن نتلاقى غدا، ففارقته فرقا من عربدته، لا تعلّقا بعدته، وبتّ ليلتي لابسا حداد النّدم، على نقلي خطا القدم، إلى ابنة الكرم لا الكرم، وعاهدت الله سبحانه وتعالى ألّا أحضر بعدها حانة نبّاذ، ولو أعطيت ملك بغداد، وألّا أشهد معصرة الشّراب، ولو ردّ عليّ عصر الشّباب.
ثمّ إنّا رحّلنا العيس، وقت التّغليس، وخلّينا بين الشّيخين وإبليس.
* * * قوله: «تمرده»، تشيطنه، وتمرّد إذا كثر شرّه، والمريد: الخبيث الذي لا يطاق
مكره تورّده: إتيانه بما لا يحلّ، وأصل التورّد قصد الماء. الأنفه: الغضب يأن: يحين ويقرب.(1/376)
* * * قوله: «تمرده»، تشيطنه، وتمرّد إذا كثر شرّه، والمريد: الخبيث الذي لا يطاق
مكره تورّده: إتيانه بما لا يحلّ، وأصل التورّد قصد الماء. الأنفه: الغضب يأن: يحين ويقرب.
الخنا: الفساد. تضجّر. اشتدّ غضبه. زمجر: تكلّم بما لا يفهم. تنكّر: تغيّر عليّ، ونكّر نفسه كأنّه لا يعرفني. مراح: طرب ونشاط. تلاح: مشاتمة. نهزة: فرصة وغنيمة. كفاح: قتال.
فعدّ: اصرف واترك. فرقا: فزعا. عربدته: شرّه وشغبه. الحداد: ثياب الحزن. الخطا: جمع خطوة، وهي ما بين القدمين. نبّاذ: خمّار. عصر: زمان. رحّلنا العيس: جعلنا على الإبل رحالها. التّغليس: الخروج في الغلس، وهي الظلمة التي بين طلوع الفجر والشمس.
وأظن أنه بنى هذه المقامة على حكاية لأبي دلامة، حكى الأصبهانيّ أنّ موسى بن داود الهاشميّ عزم على الحج، فقال لأبي دلامة: احجح معي ولك عشرة آلاف درهم، فقال: هاتها، فدفعها إليه، فأخذها وهرب إلى السواد، وجعل ينفقها هنالك في شرب الخمر، فطلبه موسى فلم يقدر عليه، وخشي فوت الحجّ، وخرج. فلمّا شارف القادسية إذا هو بأبي دلامة خارج من قرية إلى أخرى وهو سكران، فأمر بأخذه وتقييده، وطرح في محمل بين يديه، فلما سار غير بعيد أقبل على موسى ونادى: [الكامل]
يأيّها النّاس قولوا أجمعون معا: ... صلّى الإله على موسى بن داود
كأنّ ديباجتي خدّيه من ذهب ... إذا بدا لك في أثوابه السّود
إني أعوذ بداود وأعظمه ... من أن أكلّف حجّا يا بن داود
خبّرت أن طريق الحج معطشة ... من الشّراب وما شربي بتصريد
والله ما فيّ من أجر فتطلبه ... ولا الثناء على ديني بمحمود
فقال موسى: ألقوه عن المحمل، لعنه الله، فألقي وعاد إلى موضعه بالسّواد حتى أنفق المال.
وقال آخر: [الوافر]
ألم ترني وبشارا حججنا ... وكان الحجّ من خير التّجاره
خرجنا طالبي سفر بعيد ... فمال بنا الطريق إلى زراره
فآب النّاس قد حجوا وبرّوا ... وأبنا موقرين من الخساره
وقال أبو نواس في الحج: [البسيط]
وقائل: هل تريد الحجّ قلت له: ... نعم، إذا فنيت لذّات بغداذ
وكيف بالحجّ لي ما دمت منغمسا ... في بيت قوّادة أو بيت نبّاذ!
قوله: «وخلينا بين الشيخين أبي زيد وإبليس» من قول الحسن: [السريع]
بتّ وإبليس إلى الصبح في ... كلّ الذي يؤثمني خصمي
وانظر هذا في الثامنة والأربعين، والله أعلم.(1/377)
المقامة الثالثة عشرة وتعرف بالبغداديّة
حدّث الحارث بن همام، قال: ندوت بضواحي الزّوراء، مع مشيخة من الشّعراء، لا يعلق لهم مبار بغبار، ولا يجري معهم ممار في مضمار، فأفضنا في حديث يفضح الأزهار، إلى أن نصفنا النّهار. فلمّا غاض درّ الأفكار، وصبت النّفوس إلى الأوكار، لمحنا عجوزا تقبل من البعد، وتحضر إحضار الجرد، وقد استتلت صبية أنحف من المغازل، وأضعف من الجوازل، فما كذّبت إذ رأتنا، أن عرتنا، حتّى إذا ما حضرتنا قالت:
* * * ندوت، أي خرجت، ويقال: ندت الإبل تندّ وإذا خرجت من المشرب ترعى فيما قرب منه، وهو الذي قصد، لأنه أراد أنه خرج مع أصحابه خارج البلد يستريحون ثم يرجعون. والضّواحي: المواضع البارزة للشمس.
* * * [الزوراء]
والزوراء، هي في الجانب الشرقيّ من بغداد، وسمّيت زوراء لازورار قبلتها، أي لانحرافها. وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تكون مدينة بين الفرات ودجلة يكون فيها ملك بني العباس، وهي الزّوراء يكون فيها حرب مفظعة تسبى فيها النساء، وتذبح فيها الرجال كما يذبح الغنم».
والزّوراء هي بغداد، ويقال لها الزّوراء، ومدينة السلام، ومدينة المنصور، وبغداد وبغداذ وبغدان وبغذان وبغذام وبغذام وبغداد عن الفراء.
وبعضهم يقول: تفسيره بستان رجل، فبغ بستان، وداد رجل. وقيل: بغ صنم، وداد عطيّة وإنما اختلفت العرب في لفظها إذ لم تكن من كلامها، ولا اشتقاق لها من لغتها، وأشهر لغاتها بغداد، بدالين وبغدان، بالنون. وكان الأصمعيّ رحمه الله لا يقول بغداد، وإنما يقول مدينة السلام، لأنّ بغ عندهم اسم صم، وداد عطيّة بالفارسية فكأنها
عطيّة الصم. وبناها المنصور، وبعث رجالا يطلبون له موضعا يبني فيه مدينة، فطلبوا فلم يجدوا، حتى جاء ينزل فنزل على البرّ الذي في الصّراة، فقال: هذا موضع أرضاه، تأتيه الميرة من الفرات ودجلة والصّراة، فوجّه حينئذ الصنّاع من الشأم والموصل والكوفة وواسط والبصرة، فابتدئت سنة خمس وأربعين ومائة.(1/378)
وبعضهم يقول: تفسيره بستان رجل، فبغ بستان، وداد رجل. وقيل: بغ صنم، وداد عطيّة وإنما اختلفت العرب في لفظها إذ لم تكن من كلامها، ولا اشتقاق لها من لغتها، وأشهر لغاتها بغداد، بدالين وبغدان، بالنون. وكان الأصمعيّ رحمه الله لا يقول بغداد، وإنما يقول مدينة السلام، لأنّ بغ عندهم اسم صم، وداد عطيّة بالفارسية فكأنها
عطيّة الصم. وبناها المنصور، وبعث رجالا يطلبون له موضعا يبني فيه مدينة، فطلبوا فلم يجدوا، حتى جاء ينزل فنزل على البرّ الذي في الصّراة، فقال: هذا موضع أرضاه، تأتيه الميرة من الفرات ودجلة والصّراة، فوجّه حينئذ الصنّاع من الشأم والموصل والكوفة وواسط والبصرة، فابتدئت سنة خمس وأربعين ومائة.
وقال محمد بن أبي سهل: لمّا أراد المنصور بناء بغداد، أمرني أن آخذ الطالع، فأخذنا طالعها، فكان المشتري، فأخبرته بما تدلّ عليه النجوم من طول بنائها وكثرة عمارتها، ثم قلت: وخلّة أخرى يا أمير المؤمنين، نجدها على ما تدلّ عليه النجوم
لا يموت فيها خليفة، فرأيته يتبسّم، وقال: الحمد لله، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقيل لرجل: كيف رأيت بغداد؟ فقال: الأرض كلّها بادية وبغداد حاضرتها.
ابن جبير: بغداد هي المدينة العتيقة، ولم تزل حضرة الخلافة العباسيّة وقد ذهب رسمها ووسمها، وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها، والتفات أعين النوائب إليها كالطّلل الدّارس، والأثر الطّامس، أو تمثال الخيال الشّاخص، فلا حسن فيها يستوقف البصر، ويستدعي من المستوفز الغفلة والنّظر، إلا دجلتها التي بين الشرقيّة والغربيّة منها كالمرآة المجلوّة بين صفحتين، أو العقد المنتظم بلبّتين، فهي تردها فلا تظمأ، وتطلع [منها] في مرآة صقيلة فلا تصدأ. والهواء المنتظم يتولّد بين هوائها ومائها، فهي معروفة بفتن الهوى، إلا أن يعصم الله منها. وكنّا سمعنا أن هواء بغداد ينبت السرور في النّفس، ويبعث دائما على الانبساط والأنس، فلا تكاد تجد فيها إلا جذلان طربا، وإن كان نازح الدار مغتربا، حتى حللت بقرية وزيران، وهي على مرحلة منها، فلما نفحتنا نوافح هوائها، ونقعنا الغلة ببرد مائها، أحسسنا من أنفسنا على حال وحشة الانفراد دواعي من الإطراب، واستشعرنا بواعث فرح كأنه فرحه الغيّاب بالإياب، وهفت بنا محركات من الأنس ذكّرتنا معاهد الأحباب في عصر الشباب، هذا للغريب النازح الوطن، فكيف الوافد فيها على أهل وسكن! [الطويل]
سقى الله باب الطّاق صوب غمامة ... وردّ إلى الأوطان كلّ غريب
وبغداد جانبان: شرقيّ وغربيّ ودجلة بينهما. فأما الجانب الغربيّ فقد عمّه الخراب، واستولى عليه، وهو كان المعمور أولا، ولكنّه مع خرابه يحتوي على سبع عشرة محلّه، كلّ واحدة منها مدينة مستقلّة، لها الحمّامان والثلاثة، وصلاة الجمعة في ثمان منها، وأكبرها القريّة، وهي على شطّ دجلة ومقربة من الجسر، ثم الكرخ، وهي مدينة مشهورة، ثم محلّة باب البصرة، وهي مدينة بها جامع المنصور، وهو كبير عتيق البنيان، ثم الشارع وهي مدينة، وهذه الأربع أكبر المحلّات، والوسيطة بين دجلة وبين نهر يتفرّع من الفرات، وينصبّ في دجلة، يجيء فيها جميع المدائن التي يسبقها الفرات.
وعلى بابها نهر آخر منه ينصبّ في دجلة.(1/379)
ومنها العتّابية، وهي مدينة يصنع فيها الثّياب العتّابية، وهي حرير وقطن مختلفات الألوان، وأسماء سائر المحلّات يطول ذكرها، وأمّا الشرقيّة فهي محدثة وهي حفيلة الأسوار، عظيمة الترتيب، تشمل من الخلق على بشر كثير لا يحصيهم، إلا الذي أحصى كلّ شيء عددا. وبالشرقيّ محلة الرّصافة، وبها كان باب الطّاق المشهور على الشطّ، وبإزائها محلّة كبيرة تعرف بقبر أبي حنيفة رحمه الله، فيها قبّة سامية في الهواء بيضاء، فيها قبر الإمام أبي حنيفة، وبالقرب منها قبر الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
وحمّامات بغداد لا تحصى، أخبرني بعض أشياخها، أن فيها اليوم ألفي حمّام، وأكثرها مطليّة بالقار، مسطّحة به، فيخيّل للناظر فيها أنها رخام أسود صقيل، وأكثر حمامات هذه الجهة على هذه الصفة، لكثرة القار عندهم، وشأنه عجيب، لأنّه منبع عين بين البصرة والكوفة، يصير القار في جوانبها كالصّلصال، فيجرف ويجلب، وقد انعقد فسبحان خالقه!
وببغداد من المدارس نحو الثلاثين، ما منها مدرسة إلّا كالقصر العظيم، وأعظمها النظاميّة. وبساتين بغداد وحدائقها بالغربيّة، ومنها تجلب الفواكه للشرقيّة، والعادة أبدا أن يكون بين الشرقيّة والغربية جسران لجواز النّاس، ومع ذلك فمن يعبر بينهما من النّاس في الزوارق لا يحصى، وذلك لكثرة النّاس، وزوارقها لا تحصى، والنّاس ليلا ونهارا من معاينة العبور فيها في نزهة متصلة رجالا ونساء.
وبالجملة فشأن هذه البلدة أعظم من أن يوصف، وأين هي اليوم مما كانت عليه! هى اليوم داخلة تحت قول حبيب: [الكامل]
* لا أنت أنت ولا الدّيار ديار * (1)
ثم ذكر ابن جبير أهلها فذمّهم بكلّ عيب من الكبرياء وبيع الربا، ثم استثنى فقهاءها ووعاظها.
* * * [مما قيل في الشعر والشعراء]
قوله: «مع مشيخه من الشعراء»، قال الخليل في مدح الشّعراء: هم أمراء الكلام يصرّفونه أنّى شاؤوا وجائز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى، وتقييده ومدّ مقصوره وقصر ممدوده، والجمع بين لغاته والتفّريق بين صفاته.
وسئل غيرهم عنهم، فقال: ما ظنّك بقوم الاقتصاد محمود إلا منهم، والكذب مذموم إلا بينهم!
__________
(1) عجزه:
خفّ الهوى وتولّت الأوطار
والبيت في ديوان أبي تمام ص 144.(1/380)
وقال آخر: إيّاكم والشاعر، فإنه يطلب على الكذب مثوبة، ويقرع جليسه بأدنى كلمه.
وقال بعض الظرفاء يذمهم: [السريع]
الكلب والشاعر في رتبة ... يا ليت أني لم أكن شاعرا!
هل هو إلا باسط كفه ... يستمطر الوارد والصادرا
والله لولا حرقات الهوى ... ما كنت إلا رجلا تاجرا
وقال ابن الروميّ: [الطويل]
يقولون ما لا يفعلون مسبّة ... من الله مسبوب بها الشعراء
وقال أيضا: [الكامل]
للناس فيما يكلفون مغارم ... عند الكرام لها قضاء ذمام
ومغارم الشعراء في أشعارهم ... إنفاق أعمار وهجر منام
وجفاء لذات، وهجر مكاسب ... لو خولفت حرست من الإعدام
وتشاغل عن ذكر ربّ لم يزل ... حسن الصنائع، سابغ الإنعام
قوله: «مبار»، أي معارض. مضمار: طلق. ممار: مجادل. أفضنا: اندفعنا.
يفضح: يكشف عيوبها. شبّه الجماعات في الآداب بالخيل الجياد في الطّلق لا يلحق غبارها من يجاريها، وجعل حديثهم بحسن تفنّنه يفضح الأزهار متى قرن بها.
* * * [مجالس الشعراء]
ونجعل تفسيرا لهذا المجلس الموصوف باجتماع الشعراء ما حدث به دعبل أنه اجتمع هو ومسلم بن الوليد وأبو الشّيص وأبو نواس، وهؤلاء مشيخة شعراء عصرهم، فقال لهم أبو نواس: إنّ مجلسنا هذا قد اشتهر باجتماعنا فيه، ولهذا اليوم ما بعده فليأت كلّ امرىء منكم بأحسن ما قال فلينشده، فأنشد أبو الشّيص: [الكامل]
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخّر عنه ولا متقدّم
أجد الملامّة في هواك لذيذة ... حبّا لذكرك فليلمني اللّوّم
أشبهت أعدائي، فصرت أحبّهم ... إذ كان حظّي منك حظّي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغرا ... ما من يهون عليك ممن يكرم
فجعل أبو نواس يعجب من حسن الشعر، حتى ما كاد ينقضي عجبه.
ثم أنشد مسلم أبياتا منها: [الطويل]
فأقسم أنسي الدّاعيات إلى الصبّا ... فقد فجأتها العين والستر واقع(1/381)
فغطّت بأيديها ثمار نحورها ... كأيدي الأسارى أثقلتها الجوامع
قال دعبل: فقال لي أبو نواس: هات أبا عليّ وكأني بك قد جئت بأمّ القلادة لا تعجبي يا سلم، فأنشدته: [الكامل]
أين الشباب وأيّة سلكا ... أم أين يطلب ضلّ أم هلكا
لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
يا ليت شعري كيف صبركما ... يا صاحبيّ إذا دمي سفكا
لا تطلبا بظلامتي أحدا ... قلبي وطرفي في دمي اشتركا
ثم سألناه أن ينشدنا فأنشد: [البسيط]
لا تبك ليلى ولا تركن إلى هند ... واشرب على الورد من حمراء كالورد
كأسا إذا انحدرت في حلق شاربها ... وجدت حمرتها في العين والخدّ
فالخمر ياقوتة، والكأس لؤلؤة ... في كفّ جارية ممشوقة القدّ
تسقيك من عينها خمرا ومن يدها ... خمرا، فما لك من سكرين من بدّ
لي سكرتان وللنّدمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي
فلما بلغ هذا البيت، قاموا فسجدوا له، فقال: أفعلتموها! والله لا أكلمكم ثلاثا ولا ثلاثا ولا ثلاثا! ثم قال: تسعة في هجر الإخوان كثير، وفي بعضها استصلاح للفاسد، وعقوبة على الهفوة.، ثم التفت إلينا وقال: أعلمتم أن حكيما عتب على حكيم، فكتب المعتوب عليه إلى العاتب: يا أخي، إن أيام العمر أقلّ من تحمّل الهجر، نظم ذلك الشاعر فقال: [مجزوء الكامل]
العمر أقصر مدة ... من أن يمحّق بالعتاب
أو أن يكدّر ما صفا ... منه بهجر واجتناب
وقال ابن طاهر: [الطويل]
إلى كم يكون الصّدّ في كلّ ساعة ... ولم لا تملّين القطيعة والهجرا!
رويدك إنّ الدّهر فيه بقية ... لتفريق ذات البين فانتظري الدهر!
وقال آخر: [الكامل]
ولقد علمت فلا تكن متجنيا ... أن الصدود هو الفراق الأوّل
حسب الأحبّة أن يفرّق بينهم ... ريب الزمان فما لنا نستعجل!
وقال القاضي عبد الوهاب: [المنسرح]
لا تتعجّل قطيعتي فكفى ... يوما بذا الدّهر بيننا مقطع
عمّا قريب تجيء فرقتنا ... ثمّت لا ملتقى ولا مجمع
وأخذه الكل من جميل: [الكامل](1/382)
لا تتعجّل قطيعتي فكفى ... يوما بذا الدّهر بيننا مقطع
عمّا قريب تجيء فرقتنا ... ثمّت لا ملتقى ولا مجمع
وأخذه الكل من جميل: [الكامل]
ولعلّ أيام الحياة قليلة ... فعلام يكثر عتبنا ويطول!
قوله: «نصفنا» أي بلغنا نصفه. غاض: جفّ. درّ الأفكار: كلامها، والدّرّ:
اللّبن، استعارة لما يتولد من الذهن. صبت: مالت. الأوكار: البيوت هنا. لمحنا:
أبصرنا. تحضر: تجري. الجرد: الخيل القصيرة الشعر. استتلت: جعلتهم تلوها يتبعونها. أنحف: أقلّ لحما. الجوازل: فراخ الحمام، واحدها جوزل. عرتنا: قصدتنا.
* * * حيّا الله المعارف، وإن لم يكنّ معارف اعلموا يا مآل الآمل، وثمال الأرامل، أنّي من سروات القبائل، وسريّات العقائل، لم يزل أهلي وبعلي يحلّون الصّدر، ويسيرون القلب، ويمطون الظّهر، ويولون اليد. فلمّا أردى الدّهر الأعضاد، وفجع بالجوارح الأكباد، وانقلب ظهرا لبطن، نبا النّاظر، وجفا الحاجب، وذهبت العين، وفقدت الرّاحة، وصلد الزّند، ووهنت اليمن، وضاع اليسار، وبانت المرافق، ولم يبق لنا ثنيّة ولا ناب، فمذ اغبرّ العيش الأخضر، وازورّ المحبوب الأصفر واسودّ يومي الأبيض، وابيضّ فودي الأسود، حتّى رثى لنا العدوّ الأزرق، فحبّذا الموت الأحمر. وتلوي من ترون عينه فراره، وترجمانه اصفراره، قصوى بغية أحدهم ثردة، وقصارى أمنيّته بردة. وكنت آليت ألّا أبذل الحرّ إلّا للحرّ، ولو أني متّ من الضّرّ. وقد ناجتني القرونة، بأن توجد عندكم المعونة، وآذنتني فراسة الحوباء، بأنكم ينابيع الحباء، فنضّر الله امرأ أبرّ قسمي، وصدّق توسّمي، ونظر إليّ بعين يقذيها الجمود، ويقذّيها الجود.
* * * للعارف الأول: الوجوه، واحدها معروف. قال الشاعر: [الكامل]
متلثّمين على معارفنا ... نثني لهنّ حواشي العصب
وإن لم يكنّ معارف، أي وإن كنت لا أعرفهم. مآل: مرجع، وقد آل يؤول أولا ومآلا، إذا رجع. والآمل: الراجي. وثمال: غياث وملجأ. الأرامل: المساكين، يعقوب: هنّ جماعة الرجال والنساء، ويقال لهم: أرامل، وإن لم يكن فيهم نساء.
ويقال: جاءت أرملة من رجال ونساء محتاجين، ويقال للرجال الضعفاء لمحتاجين:
أرملة، وإن لم يكن فيهم نساء. وأرمل القوم: فني زادهم، وواحد الأرامل أرمل وأرملة، وإنما قيل للفاقدة زوجها: أرملة، لأنّ أمرها يؤول إلى الضيعة والحاجة. سروات:(1/383)
ويقال: جاءت أرملة من رجال ونساء محتاجين، ويقال للرجال الضعفاء لمحتاجين:
أرملة، وإن لم يكن فيهم نساء. وأرمل القوم: فني زادهم، وواحد الأرامل أرمل وأرملة، وإنما قيل للفاقدة زوجها: أرملة، لأنّ أمرها يؤول إلى الضيعة والحاجة. سروات:
سادات، واحدها سراة، والسّريّ: السيّد الكبير ذو المروءة، والسرو: المروءة، وقد سرى سروا وسرو سراوة: جمع السخا والفضل، قال امرؤ القيس: [الكامل]
* ولها عليه سراوة الفضل * (1)
وأنشد يعقوب: [الكامل]
إن السريّ هو السريّ بنفسه ... وابن السريّ إذا سرى أسراهما (2)
قال ثعلب: السريّ في كلامهم: الرفيع، مأخوذ من السّراة، وسراة كلّ شيء:
أعلاه، وسريات: سيدات. العقائل: كرائم النساء، تريد أن أباها وأمها من السّادات.
البعل: الزوج، وبعل الرجل بعولة: تزوّج. الصدر: مقدّم المجلس. القلب: قلب العسكر، والعسكر خمسة أقسام: مقدّمة، وساقة، وميمنة، وميسرة، وقلب، وهو محلّ الملوك، أرادت أن قرابتها منهم. يمطون: يهبون. الظّهر: الإبل بأوقارها، وأمطاه:
أعطاه دابة يركب مطاها، أي ظهرها. يولون اليد: يهبون النعمة. أردى: أهلك.
الأعضاد: جمع عضد وهو غليظ الذراع الذي بين المرفق والمنكب. فجع: أحزن، وجاء بفجيعة، وهي الرزيّة يتفجّع عليها الجوارح: عوامل الجسد كاليد والرجل والعين، تريد أنّ الدهر إذا أهلك أهلها فكأنه قطع جوارحها فتعطّلت منفعتها. انقلب: تحوّل. ظهر البطن: كناية عن الخلاف، أي بعد أن كان مستقيما انقلب. نبا: ارتفع ولم يستقرّ:
الناظر: من ينظر عليها. الحاجب: من يحجبها ويسترها. والعين: الذهب. الراحة:
الدّعة والسكون. صلد: لم يور نارا، وأرادت انقطاع الخير عنها. وهنت: استرخت.
اليمين: القوّة. بانت: ذهبت وبعدت. المرافق: من كان يرتفق بحياته ومنفعته، والمرافق: كلّ ما ارتفقت به من مال وغيره. ثنيّة: صغيرة من الإبل. وناب: مسنّة.
وهذا الكلام كلّه استعارة كما تقدم في الإبرة والمرود، لكنّه كني هنا بالجوارح والأعضاء عمّن كان يستعين به من القرابة على الدّهر، ومعاني الأعضاء بيّنة إلا الراحة،
__________
(1) يروى البيت بتمامه:
فلها مقلّدها ومقلتها ... ولها عليه سرارة الفضل
وهو في ديوان امرىء القيس ص 238، ولسان العرب (سرر)، وتهذيب اللغة 12/ 288، وتاج العروس (سرر).
(2) يروى البيت:
تلقى السريّ من الرجال بنفسه ... وابن السريّ إذا سرا أسراهما
وهو بلا نسبة في لسان العرب (سرا)، وتهذيب اللغة 13/ 53، والمخصص 15/ 60، وديوان الأدب 4/ 74، وتاج العروس (سرو).(1/384)
فإنها بطن الكفّ: والزند: طرف عظم الساعد، والثنيّة والناب صريحتان، ونبا الناظر: لم ينم، وجفا الحاجب: لم يرسل الجفن على العين فتنام، كما قال بشار: [الوافر]
نبت عيني عن التغميض حتّى ... كأنّ جفونها عنها قصار (1)
وقال التّهاميّ: [الكامل]
قصرت جفوني أم تباعد بينها ... أم صوّرت عيني بلا أشفار (2)
قوله: «اغبرّ»، أي علته غبرة. والأخضر: الناعم. ازورّ: انقبض. الأصفر، هو الدينار. الفود: ناحية الرأس بين الأذن والجبهة، وهذا من قول أعرابيّ ذكر مصيبته فقال:
مصيبة والله تركت سود الرؤوس بيضا، وبيض الوجوه سودا، وهوّنت المصائب بعدها.
وقال عبد الله بن الزّبير الأسديّ: [الوافر]
رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا (3)
فردّ شعورهنّ السّود بيضا ... وردّ وجوههنّ البيض سودا
وقال التّهامي: [البسيط]
تسوّد الشمس منّا بيض أوجهنا ... ولا تسوّد بيض العذر واللّمم
وكان حالهما في الحكم واحدة ... لو احتكمنا من الدّنيا إلى حكم
قوله: «رثى» بكى وأشفق. العدوّ الأزرق: أراد الرّوم وهم أعداء العرب. والموت الأحمر: الشديد، ومنه الحسن أحمر، أي من أحبّ الحسن احتمل المشقة. وفي الحديث: كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد أقرب إلى العدوّ منه (4)، فمعناه اشتدّ، وقيل: معنى الموت الأحمر: القتل، وقد قال الأخطل: [الكامل]
* أن قد أتيح لهنّ موت أحمر * (5)
__________
(1) البيت في ديوان بشار بن برد 3/ 249، ولسان العرب (نزا). ويروى «جفت عيني» بدل «نبت عيني».
(2) البيت في ديوان التهامي ص 30.
(3) البيتان لعبد الله بن الزبير في ملحق ديوانه ص 143، 144، وتخليص الشواهد ص 443، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 941، والمقاصد النحوية 2/ 417، ولأيمن بن خريم في ديوانه ص 126، ولفضالة بن شريك في عيون الأخبار 3/ 76، ومعجم الشعراء ص 309، وللكميت بن معروف في ديوانه ص 191. وذيل الأمالي ص 115، وبلا نسبة في شرح الأشموني 1/ 159 (البيت الثاني فقط)، وشرح ابن عقيل ص 217، ولسان العرب (سمد).
(4) أخرجه مسلم في الجهاد حديث 79.
(5) صدره:
أضما وهزّ لهنّ رمحى رأسه
والبيت في ديوانه الأخطل ص 231.(1/385)
يريد قتل الثور الكلاب، وتقدّم في المقامة قبل هذه، فلما فيه من الدم سمّي أحمر، وهو الأظهر من مقصد الحريريّ، لأنه علّق غيره من الصفات باللّون مثل العدوّ الأزرق، والرّوم زرق العيون، فكذلك الموت الأحمر.
أبو عبيدة: الموت الأحمر أن يتغيّر بصر الرجل من الهول، فيرى الدنيا في عينيه حمراء ورداء، والموت الأغبر: هو الموت جوعا، لأنه يغبّر في عينيه كلّ شيء، والموت الأسود هو الموت في غمّة الماء، والموت الأبيض هو موت العافية، قال الخطابي:
الموت الأبيض، أي فجأة، لأنه يأخذ الإنسان ببياض لونه.
قوله: «تلوي»، أي خلفي وإلى جانبي. عينه: شخصه. فراره: معرفته، أي شخصه يعرّفكم بحاله، والعرب تقول: عينه فراره للشيء تعرفه إذا أبصرته، والفرّ في البهائم. كشف أسنانها حتى يعرف ما لها من السنّ. ووقع في المقامات فراره بضم الفاء، وكذا في نوادر أبي عليّ، ووقع في النسخ العتاق من الأمثال لأبي عبيد: فراره، بكسر الفاء، وأنشد أبو علي: [الرجز]
* هو الحبيب عينه فراره * (1)
وفسره فقال: نظرك إليه يغنيك عن فرّه لتخبره، وهما لغتان: فراره وفراره.
قوله: «ترجمانه» المتكلم عنه، يريد أن صفرة لونه تخبّرك أنّه جائع. قصوى:
غاية. بغية: طلب. وقصارى أمنيّته، أي منتهى ما يتمنّاه وغايته. بردة: ثوب، أي أقصى ما يطلب ما يأكل وغاية ما يتمنّى ما يلبس. آليت: حلفت. أبذل الحرّ: أهين الخدّ، الحرّ: الكثير المروءة: ناجتني: حدّثتني. القرونة: النفس. المعونة: ما يستعان به، آذنتني: أعلمتني. فراسة الحوباء: فطنة النفس. الينابيع: جمع ينبوع، وهو ما يخرج من الماء وينبع. الحباء: العطاء. أبرّ. راعى وأكرم. توسّمي: نظري وظنّي. يقذيها: يجعل فيها القذى، والجمود: الشحّ.
وقال بعضهم في ذم التشكيّ إلى المخلوق: [الرجز]
لا أشتكي ضرّي إلى النّا ... س وهم من أعلم
إن إلها مسرّ بالضّرّ ... جواد منعم
أشكو الّذي يرحمني ... إلى الّذي لا يرحم
الكستجيّ، قال: أملقت حتى لم يبق في منزلي إلا جارية، فدخلت دار المتوكل، فلم أزل متفكّرا، فحضرني بيتان، فأخذت قصبة، وكتبت على الحائط الذي كنت إلى جانبه: [الرجز]
__________
(1) الرجز بلا نسبة في مقاييس اللغة 4/ 439، برواية:
هو الجواد عينه فراره(1/386)
الّرزق مقسوم فأجمل في الطّلب ... يأتي بأسباب ومن غير سبب
فاسترزق الله ففي الله غنى ... الله خير لك من أب حدب
فركب المتوكّل في ذلك اليوم، وجعل يطوف على الحجر، ومعه الفتح بن خاقان، حتّى وقف على البيتين، وقال: من كتب هذا؟ وقرأهما الفتح له، فاستحسهما، وقال:
من كان في هذه الحجرة؟ فقيل: الكستجيّ، فقال: أغفلنا وأسأنا إليه، فأمر لي ببدرتين.
وقال محمد بن مخلد الكاتب: لزمت أبا الحسن عليّ بن محمد بن الفرات. أغدو وأروح إلى بابه، لا أحظى بطائل، ولا أصل إلى تصريف ولا نائل، حتى كرهت نفسي، فرأيت هاتفا في المنام يقول لي: [الرجز]
يأيّها المكثر في المطالب: ... اهجر تصاريف المنى الكواذب
إذا أتى وقت القضاء الغالب ... بادرت الحاجة كف الطالب
فتركت المسير إليه، فلم يمض لي أسبوع حتى تقلّد حامد بن العباس الوزارة، فقلّدني كتابته، فثابت حالي.
* * * قال الحارث بن همّام: فهمنا لبراعة عبارتها، وملح استعارتها، وقلنا لها:
قد فتن كلامك، فكيف إلحامك! فقالت: أفجّر الصّخر، ولا فخر، فقلنا: إن جعلتنا من رواتك، لم نبخل بمواساتك، فقالت: لأرينّكم أوّلا شعاري، ثمّ لأروّينكم أشعاري. فأبرزت ردن درع دريس، وبرزت برزة عجوز دردبيس، وأنشدت تقول: [السريع]
أشكو إلى الله اشتكاء المريض ... ريب الزّمان المتعدّي البغيض
يا قوم إني من أناس غنوا ... دهرا وجفن الدّهر عنهم غضيض
فخارهم ليس له دافع ... وصيتهم بين الورى مستفيض
كانوا إذا ما نجعة أعوزت ... في السّنة الشّهباء روضا أريض
تشبّ للسّارين نيرانهم ... ويطعمون الضيف لحما غريض
ما بات جار لهم ساغبا ... ولا لروع قال: حال الجريض
* * *
قوله «همنا»، أي تحيّرنا. البراعة: الفصاحة. عبارتها: سياق كلامها. ملح استعارتها، يريد ما استعارته من تسمية الأشخاص بأسماء الأعضاء. إلحامك: نسجك الشعر. يفجّر الصّخر، أي يخرج من الحجر الماء، ومن البخيل العطاء. مواساتك:
صلتك، وأصلها أن تجعل صاحبك أسوة نفسك. شعاري: ثوبي اللاصق بجسمي، سمّي شعارا لأنه يلي شعر الجسد، والظّهار: الثّوب الذي يظهر للعيون، والدّثار:(1/387)
قوله «همنا»، أي تحيّرنا. البراعة: الفصاحة. عبارتها: سياق كلامها. ملح استعارتها، يريد ما استعارته من تسمية الأشخاص بأسماء الأعضاء. إلحامك: نسجك الشعر. يفجّر الصّخر، أي يخرج من الحجر الماء، ومن البخيل العطاء. مواساتك:
صلتك، وأصلها أن تجعل صاحبك أسوة نفسك. شعاري: ثوبي اللاصق بجسمي، سمّي شعارا لأنه يلي شعر الجسد، والظّهار: الثّوب الذي يظهر للعيون، والدّثار:
الثوب الذي بينهما. ردن: كم. درع: قميص. دريس. خلق. برزت: ظهرت.
دردبيس: داهية. ريب: جور. غنوا: أقاموا. غضيض: منكسر. صيتهم: ذكرهم الحسن، وهو من الصوت، فلما كسرت الصاد أصيرّ على وزن الذكر ومعناه، وانقلبت واوه ياء. مستفيض: متحدّث به مشهور. نجعة: مرعى. أعوزت: فقدت. الشهباء:
التي أجدبت فلا مطر فيها، ولا عشب. والرّوض: الموضع الكثير العشب. أريض:
متّسع. تشب: توقد. للسارين: للماشين بالليل: غريض: طريّ. ساغبا: جائعا.
الرّوع: الفزع. الجريض: الغضّ بالريق عند الموت. حال: منع، أي لا يقول جارهم حال الموت دون الأمن.
* * * [قصة المثل: حال الجريض دون القريض]
ووفد عبيد بن الأبرص على النعمان الأكبر، وهو ابن الشقيقة وباني الخورنق، فامتدحه فوصله وأكرمه، وكان له يوم نعيم ويوم بؤس في السنة، فورد عليه في ويوم بؤسه، فقال له: ما أخرجك، ثكلتك أمك! فقال: حضور أجلي، وانقطاع أملي وكان من لقيه يوم بؤسه لم يخلّصه من الموت شيء، فاستنشده: [مخلع البسيط]
* أقفر من أهله ملحوب * (1)
فقال له: حال الجريض دون القريض، فعزم عليه أن ينشد، فأنشده: [مخلع البسيط]
أقفر من أهيله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد (2)
ثم قال له: اختر، إن شئت أخرجت نفسك من الأكحل، وإن شئت من الأبجل، وإن شئت من الوريد، فقال عبيد: [السريع]
خيّرتني بين سحابات عاد ... فردت من بؤسك شرّ المراد
__________
(1) عجزه:
فالقطبيات فالذنوب
والبيت لعبيد بن الأبرص في ديوانه ص 23، وجمهرة اللغة ص 284، وخزانة الأدب 2/ 218، ولسان العرب (ذنب)، (لجب)، (رمل)، (هزل)، (قطم)، وبلا نسبة في رصف المباني ص 435، وتاج العروس (قطب).
(2) البيت في ديوان عبيد بن الأبرص ص 45، وكتاب العين 5/ 151، ومقاييس اللغة 4/ 181، وأساس البلاغة (بدأ)، وجمهرة الأمثال 1/ 359، والفاخر ص 251، ولسان العرب (قفر)، وبلا نسبة في كتاب العين 2/ 218.(1/388)
وكان قتل النعمان لعبيد سبب قطعه يوم بؤسه، فلم يفعله بعد. [السريع]
* * * فغيّضت منهم صروف الرّدى ... بحار جود لم نخلها تفيض
وأودعت منهم بطون الثّرى ... أسد التحامي وأساة المريض
فمحملي بعد المطايا المطا ... وموطني بعد البقاع الحضيض
وأفرخي ما تأتلي تشتكي ... وبؤسا له في كلّ يوم وميض
إذا دعا القانت في ليله ... مولاه نادوه بدمع يفيض
يا رازق النّعّاب في عشّه ... وجابر العظم الكسير المهيض
أتح لنا اللهمّ من عرضه ... من دنس الذّمّ نقيّ رحيض
يطفىء نار الجوع عنّا ولو ... بمذقة من حازر أو مخيض
فهل فتى يكشف ما نابهم ... ويغنم الشّكر الطويل العريض
فو الذي تعنو النواصي له ... يوم وجوه الجمع سود وبيض
لولاهم لم تبد لي صفحة ... ولا تصدّيت لنظم القريض
* * *
قوله: «غيّضت»، أي أذهبت. والصروف: الطواري تصرفك من حال إلى حال. لم أخلها: لم أحسبها. أودعت: ضمنت. الثرى: التراب. التّحامي: الحماية والمنعة، وتحاميته: تباعدت منه وتمنّعت عليه. أساة: أطباء: المطايا: الإبل. المطا: الظهر.
محملي: ما أحمل عليه أثقالي. تقول: صرت أحمل على ظهري بعد أن كان محملي ظهور الإبل. اليفاع: الارتفاع من الأرض. الحضيض: أسفل الجبل. ما تأتلي: تقصّر. بؤسا:
ضرّا. وميض: لمعان. القانت: العابد، والقنوت. طول القيام: يفيض: يملأ العين حتى تفيض بالدمع. النعّاب: فرخ الغراب، اختصّه من الطير لأنهم يزعمون أنه يخرج من بيضته أبيض الزّغب، فيراه الذّكر فيستريب فيضرب أنثاه، وينقرها حتى تفرّ طائرة فيطير خلفها ويتركانه، فيقيّض الله له ذبابا يطير حول عينيه، فيفتح منقاره ليشرّدها، فتدخل في حلقه، فيتغذّى بها حتى يسودّ ريشه، فحينئذ يرجع إليه أبواه، فيكمّلان تربيته. ويا رازق النّعاب، من دعاء داود عليه السلام. المهيض: الذي انكسر بعد الجبر. أتح: قدّر. رحيض: مغسول.
مذقة: جرعة. حازر. لبن حامض شديد الحموضة. والمخيض: اللبن يمزج بالماء، ويحرّك، والمخض التحريك ليخرج زبده، وإذا طال مكث المخيض واشتدّت حموضته سمي حازرا. نابهم: نزل بهم. العريض: الواسع العرض. تعنو: تذّل. النّواصي: شعر مقدّم الرأس. صفحة: ناحية العنق. تصدّيت: تعرّضت. القريض الشعر.
* * * قال الرّاوي: فو الله لقد صدّعت بأبياتها أعشار القلوب، واستخرجت خبايا
الجيوب، حتى ماحها من دينه الامتياح، وارتاح لرفدها من لم نخله يرتاح، فلمّا افعو عم جيبها تبرا، وأولاها كلّ منّا برّا، تولّت يتلوها الأصاغر، وفوها بالشّكر فاغر، فاشرأبّت الجماعة بعد ممرّها، إلى سبرها، لتبلو مواقع برّها. فكفلت لهم باستنباط السّرّ المرموز، ونهضت أقفو أثر العجوز، حتى انتهيت إلى سوق مغتصّة بالأنام، مختصّة بالزّحام، فانغمست في الغمار، وامّلست من الصّبية الأغمار، ثم عاجت بخلوّ بال، إلى مسجد خال، فأماطت الحلباب، ونفضت النّقاب، وأنا ألمحها من خصاص الباب، وأرقب ما ستبدي من العجاب.(1/389)
* * * قال الرّاوي: فو الله لقد صدّعت بأبياتها أعشار القلوب، واستخرجت خبايا
الجيوب، حتى ماحها من دينه الامتياح، وارتاح لرفدها من لم نخله يرتاح، فلمّا افعو عم جيبها تبرا، وأولاها كلّ منّا برّا، تولّت يتلوها الأصاغر، وفوها بالشّكر فاغر، فاشرأبّت الجماعة بعد ممرّها، إلى سبرها، لتبلو مواقع برّها. فكفلت لهم باستنباط السّرّ المرموز، ونهضت أقفو أثر العجوز، حتى انتهيت إلى سوق مغتصّة بالأنام، مختصّة بالزّحام، فانغمست في الغمار، وامّلست من الصّبية الأغمار، ثم عاجت بخلوّ بال، إلى مسجد خال، فأماطت الحلباب، ونفضت النّقاب، وأنا ألمحها من خصاص الباب، وأرقب ما ستبدي من العجاب.
* * * قوله: «صدعت»: شقّت: أعشار: قطع: خبايا: ما خبّىء فيها من الدراهم.
ماحها: أعطاها. دينه: عادته. الامتياح: طلب المعروف، يريد مشيخة الشعراء الذين قد مرّ ذكرهم، وعيش الشعراء إنما هو من الاستجداء والطلب، ومعلوم أنه من كانت عادته أن يأخذ لا يعطي في الغالب شيئا، ولذلك قال: من لم نخله يرتاح، أي من لم نحسب أنه يهتزّ للعطاء، وقد ارتاح، إذا اهتزّ للكرم والعطاء ولذلك قال حبيب: [الكامل]
لم يخلق الرّحمن أحمق لحية ... من سائل يرجو النّدى من سائل
وقال آخر: [الطويل]
لموت الفتى خير من الفقر للفتى ... وللموت خير من سؤال بخيل
لعمرك ما شيء لوجهك قيمة ... فلا تلق مخلوقا بوجه ذليل
ولا تسألن من كان يسأل مرّة ... فللموت خير من سؤال سؤول
وحدّث عيسى بن عمر النحويّ، قال: قدمت من سفر، فدخل عليّ ذو الرّمة الشاعر، فعرضت عليه أن أعطيه شيئا، فقال: أنا وأنت نأخذ ولا نعطي.
ومدح أبو الشمقمق مروان بن أبي حفصة فقال له: يا أبا الشمقمق، أنت شاعر وأنا شاعر، وغايتنا جميعا السؤال.
وكان بشار يعطيه في كل سنة مائتي درهم، فأتاه مرّة، فقال: هلمّ الجزية يا أبا معاذ، فقال: ويحك! أجزية هي؟ قال: هو ما تسمع، فقال له بشار يمازحه: أنت أفصح منّي؟ قال: لا، قال: فأعلم؟ قال: لا، قال: فأشعر؟ قال: لا، قال: فلم أعطيك؟ قال:
لئلا أهجوك، قال: إن هجوتني هجوتك، قال أبو الشمقمق: أو كذا هو؟ اسمع: [الرجز]
إني إذا ما شاعر هجانيه ... أدخلت في إست أمّه علانيه
بشار يا بشار وأراد أن يقول: يا بن الزانية، فأمسك بشّار بفمه، وقال: أراد والله
أن يشتمني. ثم دفع إليه مائتي درهم، وقال: لا تسمعنّ منك هذا الصبيان.(1/390)
إني إذا ما شاعر هجانيه ... أدخلت في إست أمّه علانيه
بشار يا بشار وأراد أن يقول: يا بن الزانية، فأمسك بشّار بفمه، وقال: أراد والله
أن يشتمني. ثم دفع إليه مائتي درهم، وقال: لا تسمعنّ منك هذا الصبيان.
ولقيت بسجلماسة شاعرها وعينها الحاج أمدحثر، وكان له شعر رائق، فحدّثت عنه أنه قصده يوما فتى شاعر يستجديه بشعر، فوقع الحاجّ تحت شعره: [الرجز]
نحن بزاة النّاس لا نصاد ... من كان ذا فهم بنا يصطاد
ثم كتب له، قطعة من شعره، وقال له: اقصد بها فلانا فإنه يصك بما يرضيك، فعلم المقصود بالشعر بنية الحاج، فوصله بما أرضاه.
وعد أبو نواس أبا الطفيل الشاعر وعدا فألحّ عليه، فقال: [الطويل]
وأخرس ولاج وغاد ورائح ... رجاء نوال لو يعان بجود
وإني وإياه كعريان يصطلي ... من الطّلّ نارا غير ذات وقود
زويت له وجها قطوبا عن النّدى ... وألبسته من وعده بوعيد
فإن كنت لاعن سوء فعلك مقلعا ... فدونك فاستظهر بنعل حديد
فعندي مطل لا يطير غرابه ... مطير ولا يدعى له بوليد
قوله: «افعوعم»، امتلأ، وافعوعل بينت للمبالغة. تبرا: ذهبا. أولاها: أعطاها.
البرّ: الإكرام. فاغر: منفتح. اشرأبّت: تطلّعت، وتقول: أشرأبّ الرجل، إذا مدّ عنقه لينظر. سبرها: اختبارها. تبلو تختبر، يريد أن الجماعة أرادت أن تعرف: هل أوقعت إكرامها فيمن يستحقه أم لا. كفلت ضمنت. استنباط: استخراج. المرموز: المخفي.
نهضت: تقدّمت للمشي أقفو: أتبع. مغتصّة: ممتلئة. انغمست: غابت ودخلت.
الغمار: كثرة الخلق وجماعتهم الّتي تغمر الأرض، أي تغطّيها، وردّه ابن الأنباري وجعله من خطأ العامّة، وقال: إنما تقول العرب دخل في خمار الناس، بالخاء، وهو جمعهم، إذا استتر بهم، ومنه الخمار لتغطية الرأس، ومنه الخمر. وقال يعقوب: هو كلّ ما استتر به الإنسان من شجر أو غيره، فإن كان من شجر خاصّة فهو الضّراء، وحكى بعضهم غمارا، جعله من غمر الماء الشيء، إذا غطاه. قوله: امّلست: انفلتت بسهولة، والامّلاس: أن يسقط الشيء من يدك ولا تشعر به. الأغمار: الجهّال. عاجت: مالت.
بخلوّ بال، أي خالية منفردة. أماطت: أزالت. الجلباب: ثوب أوسع من الخمار يتجلبب به، أي يلتف فيه والجلباب كالملحفة للمرأة والرداء للرجل. نضت: نحّت وجرّدت:
النقاب: ما يغطّى به الوجه ألمحها: أنظرها. خصاص: فرج، يريد به من شقوق الباب.
* * * فلمّا انسرت أهبة الخفر، ورأيت محيّا أبي زيد قد سفر، فهممت بأن أهجم عليه، على ما أجري إليه، فاسلنقى اسلنقاء المتمرّدين. ثم رفع عقيرة المغردّين، واندفع ينشد: [المجتث](1/391)
يا ليت شعري أدهري ... أحاط علما بقدري
وهل درى كنه غوري ... في الخدع أم ليس يدري
كم قدّ قمرت بنيه ... بحيلتي وبمكري
وكم برزت بعرف ... عليهم وبنكري
أصطاد قوما بوعظ ... وآخرين بشعر
وأستفزّ بخلّ ... عقلا وعقلا بخمر
وتارة أنا صخر ... وتارة أخت صخر
ولو سلكت سبيلا ... مألوفة طول عمري
لخاب قدحي وقدحي ... ودام عسري وخسري
فقل لمن لام: هذا ... عذري فدونك عذري
* * *
انسرت: زالت، ويروى: بفصل سرت عن إن، ومعناه إن أزالت بالهمزة والمنفصل فعل العجوز، والمتصل فعل الأهبة، وهي العدّة يريد لمّا أن زالت عنها هيئة لباسها التي استترت بها عنا كان الخفر وهو الحياء يمنعها أن تكشف وجهها حتى نعرفها. محيّا: وجه سفر: انكشف. أهجم: آخذه على غفلة. أعنّفه: أقبّح فعله. اسلنقي: صار على ظهره.
المتمردين: الشياطين ومن لا يرحى صلاحه. عقيرة: صوت. المغرّدين. المطربين بالغناء، والعقيرة بمعنى معقورة، أي جارحة مقطوعة. كان رجل قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى. ورفع صوته فقيل لكلّ من رفع صوته: قد رفع عقيرته.
قوله: «يا ليت شعري» معناه: ليت درايتي وفطنتي، ومعنى الشاعر في كلامهم الفطن العالم، وسمّي شاعرا، لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره. وأجاز الفرّاء: ليت شعري أباك ما صنع، على معنى: ليتني أعلم أباك ما صنع، وأنشد: [الخفيف]
ليت شعري مسافر بن أبي عم ... رو وليت يقولها المحزون (1)
ومعناه ليتني أعلم مسافرا.
وقال آخر: [الخفيف]
خمّر الشيب لممّتي تخميرا ... وحدا بي إلى القبور البعيرا
ليت شعري إذا القيامة قامت ... ودعي بالحساب أين المصيرا
__________
(1) البيت لأبي طالب في الاشتقاق ص 166، وخزانة الأدب 10/ 363، وبلا نسبة في الكتاب 3/ 261، ولسان العرب (شعر).(1/392)
قال ثعلب: المصير منصوب بشعري، أي ليتني أعلم المصير أين هو، والبعير منصوب بحدا، أي وحدا الشيب البعير إلى القبور بي. كنه: حقيقة. غوري: آخر أمري، وأصل الغور: قعر الحرجة والمنخفض من الأرض. قمرت: غلبت وخدعت. مكري:
خداعي. أستفزّ: أستخف وأخدع، واستفزّه من كذا: أخرجه منه، والخلّ كناية عن الشرّ، والخمر كناية عن الخير، هذا على مذهب العرب. وكانت الخمر أجلّ ما عندهم، ويقولون: ما عنده خلّ ولا خمر، أي ما عنده شرّ ولا خير، وإذا فسدت الخمر عندهم صارت خلّا، وقد قال في ألغازه: [مجزوء الوافر]
وما شيء إذا فسدا ... تحوّل غيّه رشدا
يريد أنّ الخمر إذا فسدت، صارت خلّا، فبعد أن كانت حراما رجعت حلالا، وزال تأثيرها في العقول.
صخر: هو ابن الشريد، وأخته الخنساء، فأراد أنه مرّة رجل، ومرّة، أخرى امرأة.
ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربعة لعنوا في السماء:
رجل خلقه الله ذكرا فتأنّث، وامرأة خلقها الله أنثى فتذكرت، تتشبّه بالرجال. والذي يضلّ الأعمى، ورجل حصور ولم يجعل الله حصورا إلّا يحيى بن زكريا عليهما السلام».
وأما صخر، فهو ابن عمرو بن الحارث بن الشّريد بن رباح، من بني سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان. وكان في جماله أجمل رجل في العرب، وسنذكر لمعة من أخبار صخر وأخته الخنساء في المقامة الأربعين إن شاء الله تعالى.
سلكت سبيلا: دخلت طريقا. مألوفة: مركوبة ملتزمة قدحي: سهمي. قدحي:
ضربي بالزّند. عسري: فقري. خسري: ضدّ ربحي، والخسر: النقص، يريد: لو مشيت على طريقه واحدة أبدا لخسرت وخبت. دونك، أي خذ.
* * * قال الحارث بن همّام: فلمّا ظهرت على جليّة أمره، وبديعة إمره، وما زخرف في شعره من عذره، علمت أن شيطانه المريد، لا يسمع التفنيد، ولا يفعل إلا ما يريد. فثنيت إلى أصحابي عناني، وأبثثتهم ما أثبته عياني، فوجموا لضيعة الجوائز، وتعاهدوا على محرمة العجائز.
* * * جلية: ظاهرة. بديعة: غريبة. إمره: دهائه وعجبه. زخرف: زيّن. المريد: العاري من الخير إنما هو شرّ كله. التفنيد: اللوم، وفنّدت فعله، إذا عبته. ثنيت: عطفت، وتقول: جاء ثانيا عنانه، إذا بلغ مراده ولم يجهد نفسه. أبثثتهم: أخبرتهم: أثبته. حققه. عياني: معاينتي.
وجموا: غضبوا. الجوائز: العطايا. تعاهدوا: تحالفوا. محرمة: منع وحرمان.(1/393)
المقامة الرابعة عشرة وهي المكيّة
حكى الحارث بن همّام، قال: نهضت من مدينة السّلام، لحجّة الإسلام، فلمّا قضيت بعون الله التّفث، واستبحت الطيب والرّفث، صادف موسم الخيف، معمعان الصّيف، فاستظهرت للّضرورة بما يقي حرّ الظّهيرة، فبينا أنا تحت طراف، مع رفقة ظراف، وقد حمي وطيس الحصباء، وأعشى الهجير عين الحرباء، إذ هجم علينا شيخ متسعسع، يتلوه فتى مترعرع، فسلّم الشّيخ تسليم أديب أريب، وحاور محاورة قريب لا غريب، فأعجبنا بما نثر من سمطه وعجبنا من انبساطه قبل بسطه، وقلنا له: ما أنت! وكيف ولجت وما استأذنت!
* * * نهضت، أي تقدّمت، وسمّي النهوض تقدّما لسرعة الحركة، وسمّى المنصور بغداد مدينة السلام، لأنّ دجلة يقال لها وادي السلام، ونهر السلام، وأضاف الحجة إلى الإسلام لأنها أحد أركانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس» (1)، والحجّ أحدها.
التّفث: ما يلزم الحاجّ من ترك الطّيب وحلاق الشعر. والرفث: النكاح. استبحت:
استحللت. الموسم: الموضع الذي يجتمع فيه النّاس من عيد أو سوق. الخيف: موضع بمكة. معمعان: شدّة الحرّ. استظهرت: استعددت، تقول: قد استظهر للشيء بكذا إذا استعدّ له، وقد تقدّم آنفا للحسن: [الطويل]
* فدونك فاستظهر بنعل حديد *
يقي: يمنع. الظهيرة: حرّ نصف النهار، فيقول: بسبب ضرورة الحرّ جعلت على نفسي سترا يمنع عني حرّ الشمس. طراف: قبّة من جلد. ظراف: جمع ظريف، وهو النّبيل المهذب. حمي وطيس الحصباء: اشتدّ حرّ الجنادل لمن وطئها، وأصل الوطيس التنور يحمى فيطبخ فيه. أعشى: أعمى. الهجير: حرّ نصف النهار. الحرباء: دويّبة
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان باب 1، 2، وتفسير سورة 2، باب 30، ومسلم في الإيمان حديث 19، 22، والترمذي في الإيمان باب 3، والنسائي في الإيمان باب 13.(1/394)
تستقبل الشمس وتدور معها، وانظرها في المقامة السادسة والثلاثين، وقال المعرّيّ:
[الكامل]
وهجيرة كالهجر موج سرابها ... كالبحر ليس لمائه من طحلب (1)
أوفي بها الحرباء عودي منبر ... للظّهر إلا أنه لم يخطب
فكأنه رام الكلام ومسّه ... عيّ فأسعده لسان الجندب
وقال أيضا في نحوه: [الطويل]
وساحرة الأقطار يجنى سرابها ... فتصلب حرباء بريّا على جذع (2)
قوله: «هجم» أي دخل على غفلة. متسعسع: هرم متقارب الخطو. مترعرع: شاب متزايد، وترعرع الغلام، أي أخذ في الزيادة في طوله وخلقته، والرّعرع: الشباب.
أريب: عاقل. حاور: راجع الكلام. نثر من سمطه، أبدى من كلامه، وأصل السّمط خيط الجوهر. انبساطه: دالّته، وهذا الكلام أصله في البساط، تقول: بسطته فانبسط، فلا يكون الانبساط مطاوعا إلا بعد الشروع في البسط، يقول: فهذا الشيخ انبسط علينا قبل أن نبسطه، أي دلّ علينا قبل أن نجعل له السبيل في ذلك. ومما يستحسن من المنظوم هنا قول ابن كناسة: [المنسرح]
فيّ انقباض وحشمة فإذا ... لاقيت أهل الوفاء والكرم
أرسلت نفسي على سجيّتها ... فقلت ما قلت غير محتشم
قال إسحاق الموصلّي: أنشدني ابن كناسة هذين البيتين، فقلت له: وددت أني سبقتك إليهما وينقص من عمري سنتان.
ولجت: دخلت.
* * * فقال: أما أنا فعاف، وطالب إسعاف، وسرّ ضرّي غير خاف، والنّظر إليّ شفيع لي كاف، وأما الانسياب، الذي علق به الارتياب، فما هو بعجاب، إذ ما على الكرماء من حجاب، فسألناه: أنّى اهتدى إلينا، وثم استدلّ علينا؟ فقال: إنّ للكرام نشرا تنمّ به نفحاته، وترشد إلى روضة فوحاته، فاستدللت بتأرّج عرفكم، على تبلّج عرفكم، وبشّرتي تضوّع رندكم بحسن المنقلب من عندكم. فاستخبرناه حينئذ عن لبانته، لنتكفّل بإعانته.
* * * عاف: طالب معروف. إسعاف: قضاء حاجتي. الشفيع: الطالب لغيره، يقول:
__________
(1) الأبيات في سقط الزند ص 1132.
(2) البيت في سقط الزند ص 1351.(1/395)
لست أحتاج إليكم مع ظهور سرّي لشفيع، لأن نظركم إليّ يغني عن الشفيع. كاف: مغن عن غيره. الانسياب: الدخول بسهولة، وقد تقدّم أصله في الأولى. الارتياب: الشكّ والإنكار. عجاب: مبالغة في عجب. أنّى: كيف. نشرا تنمّ به نفحاته: طيبا تفوح روائحه وأنفاسه. ترشد: تدلّ وتهدي. فوحاته: روائحه العطرة. والعرف: الرائحة الطيبة، وتأرّجها: تحركها، وتأرّج الطّيب: فاح. تبلّج: ظهور. عرفكم: معروفكم ولاحظ الحريري في هذا قول العرجيّ: [المنسرح]
يوم يقول الرسول قد أذنت ... فأت على غير رقبة فلج (1)
أقبلت أهوى إلى رحالهم ... أهدى إليها بريحها الأرج
قالوا: ويستدل بالطيب على الملوكية في المواطن التي يكون الناس فيها غير معروفين فمن ذلك الحمّام ومعرك الحرب، ومثل هذا الموطن الذي ذكر الحريري في الحج إذا حلّ، قالوا: والطيب دليل لا يكذب ونمّام لا يفسد، والطيب: غذاء الرّوح، والنفحات الذكية: نشاط النفس، فهو طبّ وطيب، وقال ابن البوّاب: [الطويل]
إذا أبصرتك العين من بعد غاية ... فأوقعت شكا فيك أثبتك القلب
ولو أنّ ركبا يمّموك لقادهم ... نسيمك حتى يستدلّ بك الركب
وقال السّري الموصليّ: [البسيط]
حليّه وثناياه وعنبره ... كلّ ينم عليه أو يراقبه
فلست أدري إذا ما سار في أفق ... شمائل الأفق أذكى أم جنائبه
وقال ابن سكّرة: [البسيط]
أهلا وسهلا بمن زارت بلا عدة ... تحت الظلام ولم تحذر من العسس
تستّرت بالدجى عمدا فما استترت ... وناب إشراقها ليلا عن القبس
ولو طواها الدّجى عنّي لأظهرها ... برق اللّثاث وعطر النّحر والنفس
وأخذه المعتمد بن عباد فقال: [الرجز]
ثلاثة منعتنا من زيارتها ... خوف الوشاة، وخوف الحاسد الحنق
ضوء الجبين ووسواس الحليّ وما ... تحوي معاطفها من عنبر عبق
هب الجبين بفضل الكمّ تستره ... والحلي تنزعه، ما حيلة العرق!
* * *
فقال: إنّ لي مأربا، ولفتاي مطلبا، فقلنا: كلا المرامين سيقضى، وكلاكما
__________
(1) البيتان لجعفر بن الزبير في العشر والشعراء ص 558.(1/396)
سوف يرضى، ولكن الكبر الكبر، فقلنا: أجل، ومن دحى السّبع الغبر، ثم وثب للمقال، كالمنشط من العقال، وأنشد: [مجزوء الرجز]
إنّي امرؤ أبدع بي ... بعد الوجى والتّعب
وشقّتي شاسعة ... يقصر عنها خببي
وما معي خردلة ... مطبوعة من ذهب
فحيلتي منسدّة ... وحيرتي تلعب بي
إن ارتحلت راجلا ... خفت دواعي العطب
وإن تخلّفت عن الرّف ... قة ضاق مذهبي
فزفرتي في صعد ... وعبرتي في صبب
وأنتم منتجع الرّ ... اجي ومرمى الطّلب
لهاكم منهلّة ... ولا انهلال السّحب
وجاركم في حرم ... ووفركم في حرب
ما لاذ مرتاع بكم ... فخاف ناب النّوب
* * *
قوله: «مأربا»، أي حاجة. المرامين: المطلبين. الكبر الكبر، أي قدّموا الأكبر.
ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرني جبريل عليه السلام أن أقدّم الأكبر».
أجل: نعم. دحا: بسط. السبع الغبر: الأرضين. المنشط: المحلول. عقال: قيد البعير، وعقدته بأنشوطة، أي عقدته عقدة تنحلّ بجذبة أو بجذبتين، وقولهم: بئر نشوط، إذا كان دلوها يخرج بجذبة أو جذبتين، وتسمي عامّتنا عقدة الأنشوطة اللخّ. أبدع بي:
أي عطبت ناقتي، يقال: أبدع بالرّجل إذ كلّت إبله أو عطبت. وفي الحديث: إنّ رجلا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: احملني فإني أبدع بي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما عندي ما أحملك عليه ولكن اذهب إلى فلان فقل له يحملك»، فأتاه فحمله فرجع إليه فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«من دلّ على خير فله أجر فاعله» (1). قوله: «الوجى»: وجع الحافر من الحفى. شقّتي شاسعة: سفرتي بعيدة. خببي: مشيتي، وخببّ الفرس خببا، وهو ضرب من العدو دون الإسراع. الخردل: حبّ معروف في نهاية الصّغر. مطبوعة: مصنوعة. منسدّة: منغلقة.
العطب: الهلاك. تخلّفت: تأخرت. مذهبي: طريقي. زفرتي في صعد: نفسي في
__________
(1) أخرجه مسلم في الإمارة حديث 133، وأبو داود في الأدب باب 115، والترمذي في العلم باب 14، وأحمد في المسند 4/ 120، 5/ 274، 357.(1/397)
ارتفاع. عبرتي في صبب: دمعي في انحدار. المنتجع: الموضع الخصيب الذي ينتجع للمرعى، يقول: موضعكم خصيب وأنتم كرام فمن طلب منكم رزقه وجده. لهاكم:
عطاياكم. منهلّة: منصبّة. لاذ: تستّر ولجأ. مرتاع: خائف. والنّوب: جمع نائبة على غير قياس، وهي الداهية، وجعل لها نابا مجازا وجنّس به، وأصل الناب للسبع.
* * * [الرجز]
ولا استدرّ آمل ... حباكم فما حبي
فانعطفوا في قصّتي ... وأحسنوا منقلبي
فلو بلوتم عيشتي ... في مطعمي ومشربي
لساءكم ضرّي الّذي ... أسلمني للكرب
ولو خبرتم حسبي ... ونسبي ومذهبي
وما حوت معرفتي ... من العلوم النّخب
لما اعترتكم شبهة ... في أنّ دائي أدبي
فليت أني لم أكن ... أرضعت ثدي الأدب
فقد دهاني شؤمه ... وعقّني فيه أبي
* * *
استدرّ: طلب الدّرّ وهو اللبن. آمل: راج. حباءكم: عطاءكم. انعطفوا: ميلوا.
منقلبي: مرجعي، يقول: عساكم أن تشفقوا عليّ وتميل قلوبكم بالرحمة إليّ حتى يحسن منقلبي من عندكم. بلوتم: جرّبتم. أسلمني: تركني. الكرب: الهموم. خبرتم:
اختبرتم. حسبي: شرفي. والحسب آباء أشراف بحسب أو أفعال كريمة. مذهبي:
طريقتي. خوت: جمعت. النّخب المختارة. اعترتكم قصدتكم. شبهة: شكّ وحيرة.
دهاني: أهلكني وضرّني. شؤمه: نحسه. عقني قطعني وأساء إليّ بتعليمه، فهو يتطيّر بأدبه.
[الأدب]
والتّطيّر بالأدب مذهب قديم متداول، وقد أشار إليه ابن قتيبة في صدر أدبه:
وقال عمر بن شبّة: من أعجب العجب ثلاثة مقارنة لثلاثة: الحرفة للأدباء، وتباعد المال عن الظرفاء، وإقبال الدنيا على النّوكى.
وقيل للحسن البصري رحمه الله: لم صارت الحرفة مقرونة مع العلم، والثروة مقرونة مع الجهل؟ فقال: ليس كما قلتم، ولكن طلبتم قليلا في قليل فأعجزكم، طلبتم
المال وهو قليل في أهل العلم وهم قليل، ولو نظرتم إلى من تحارف من أهل الجهل لوجدتموهم أكثر وقال الحمدوني: [البسيط](1/398)
وقيل للحسن البصري رحمه الله: لم صارت الحرفة مقرونة مع العلم، والثروة مقرونة مع الجهل؟ فقال: ليس كما قلتم، ولكن طلبتم قليلا في قليل فأعجزكم، طلبتم
المال وهو قليل في أهل العلم وهم قليل، ولو نظرتم إلى من تحارف من أهل الجهل لوجدتموهم أكثر وقال الحمدوني: [البسيط]
ما ازددت من أدبي حرفا أسرّ به ... إلّا تزيّدت حرفا تحته شوم
كذا المقدّم في حذق بصنعته ... أنى توجّه فيها فهو محروم
وقال أبو إسحاق الصّابي: [الطويل]
إذا جمعت بين امرأين صناعة ... فأحببت أن تدري الذي هو أحذق
فلا تتفقد منهما غير ما جرت ... به لهما الأرزاق حين تفرّق
فحيث يكون النّقص فالرزق واسع ... وحيث يكون الفضل فالرزق ضيّق
أخذه عبد الملك بن وهبون، فقال: [الطويل]
يعزّ على العلياء أنّي خامل ... وإن أبصرت مني خمود شهاب
وحيث ترى زند النجابة واريا ... فثمّ ترى زند السّعادة كابي
وقال أبو إسحاق الصّابي: [البسيط]
قد كنت أعجب من مالي وكثرته ... وكيف تغفل عنه حرفة الأدب
حتى انثنت وهي كالغضبى تلاحظني ... شزرا فلم تبق لي شيئا من النّشب
واستيقنت أنها كانت على غلط ... فاستدركته وأفضت بي إلى الحرب
الضبّ والنون قد يرجى اجتماعهما ... وليس يرجى اجتماع المال والأدب
وقال عليّ بن بسام يرثي عبد الله بن المعتز، على ما كان بينهما من العداوة:
[البسيط]
لله درّك من ميت بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب
ما فيه «لوّ» ولا «ليت» فتنقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب
وكان ابن المعتز قام على المقتدر، فلما ظفر به أمر فرمي في صهريج فيه ماء في شدّة البرد فمات. ومن عجائب الدنيا أنّ أباه المعتزّ لما خلع عن الملك أدخل حمّاما، وأغلق عليه فمات من حرّه.
وكما نفوا أنّ يجتمع المال والفهم في الغالب، كذلك نفوا أن تجتمع النجابة في الولد والوالد في الغالب، قال الشاعر. [المتقارب]
إذا أطلع الدهر حرّا لبيبا ... فكن في ابنه سيّىء الاعتقاد
فلست ترى من نجيب نجيبا ... وهل تلد النّار غير الرّماد!
ولما أوجع الفقر والحرمان القاضي عبد الوهاب لأجل أدبه على ما شرطوا في
الأدب، تمنّى الكفاف ولزوم العلم إلى الممات، فقال: [البسيط](1/399)
إذا أطلع الدهر حرّا لبيبا ... فكن في ابنه سيّىء الاعتقاد
فلست ترى من نجيب نجيبا ... وهل تلد النّار غير الرّماد!
ولما أوجع الفقر والحرمان القاضي عبد الوهاب لأجل أدبه على ما شرطوا في
الأدب، تمنّى الكفاف ولزوم العلم إلى الممات، فقال: [البسيط]
يا لهف نفسي على شيئين لو جمعا ... عندي لكنت إذا من أفضل البشر
كفاف عيش كفاني ذلّ مسألة ... وخدمة العلم حتى ينقضي عمري
فلما فتح عليه باب الرزق مات، على ما يأتي ذكره، فسبحان من أنفذ حكمه في خلقه كيف شاء!
* * * فقلنا له: أما أنت فقد صرّحت أبياتك بفاقتك، وعطب ناقتك، وسنمطيك ما يوصّلك إلى بلدك، فما مأربة ولدك؟ فقال له: قم يا بنيّ كما قام أبوك، وفه بما في نفسك لا فضّ فوك. فنهض نهوض البطل للبراز، وأصلت لسانا كالعضب الجراز، وأنشأ يقول: [المجتث]
يا سادة في المعالي ... لهم مبان مشيده
ومن إذا ناب خطب ... قاموا بدفع المكيده
ومن يهون عليهم ... بذل الكنوز العتيده
أريد منكم شواء ... وجردقا وعصيده
فإن غلا فرقاق ... به توارى الشّهيده
أو لم يكن ذا ولا وذا ... فشبعة من ثريده
فإن تعذّرن طرّا ... فعجوة ونهيده
فأحضروا ما تسنّى ... ولو شظى من قديده
وروّجوه فنفسي ... لما يروج مريده
والزّاد لا بدّ منه ... لرحلة لي بعيده
وأنتم خير رهط ... تدعون عند الشّديده
أيديكم كلّ يوم ... لها أياد جديده
وراحكم واصلات ... شمل الصّلات المفيده
وبغيتي في مطاوي ... ما ترفدون زهيده
وفيّ أجر وعقبى ... تنفيس كربي حميده
ولي نتائج فكر ... يفضحن كلّ قصيده
* * *
قوله: «صرحّت» بينت. فاقتك: فقرك، وتصريح أبياته بعطب ناقته هو قوله، «أبدع
بي» المتقدّم، وفي معناه: أنّ أعرابيّة خرجت إلى الحجّ، فلما كانت ببعض الطريق عطبت ناقتها، فرفعت يديها إلى السماء وقالت: يا ربّ أخرجتني من بيتي إلى بيتك، فلا بيتي ولا بيتك! قوله: «نمطيك» نعطيك مطيّة. مأربة: حاجة. فه: تكلّم. فضّ: كسر.(1/400)
قوله: «صرحّت» بينت. فاقتك: فقرك، وتصريح أبياته بعطب ناقته هو قوله، «أبدع
بي» المتقدّم، وفي معناه: أنّ أعرابيّة خرجت إلى الحجّ، فلما كانت ببعض الطريق عطبت ناقتها، فرفعت يديها إلى السماء وقالت: يا ربّ أخرجتني من بيتي إلى بيتك، فلا بيتي ولا بيتك! قوله: «نمطيك» نعطيك مطيّة. مأربة: حاجة. فه: تكلّم. فضّ: كسر.
نهض: تقدّم. أصلت: جرّد. العضب. الجراز: السيف القاطع. مشيدة: مرتفعة. ناب خطب: قصد أمر شديد. والمكيدة، هي الكيد، وكل ما يكاد به فهو مكيدة. وقاموا بدفعها: اقتدروا عليها، يقول: إذا قصدوا بأمر عظيم وكيدوا به اقتدروا على دفع الكيد واكتفوا بمن يريد ضرّهم. العتيدة: الحاضرة المذخورة. رقاق: خبز رقيق. توارى:
تغطّى. الشّهيدة: الشاة المشوية، وقلّما يؤكل لحمها إلا بالرّقاق، وربما سمّوا الهريسة شهيدة، وأنشدوا في ذلك: [الطويل]
هلمّوا إلى من عذّبت طول ليلها ... بأضيق سجن في الجحيم تسّعر
وقد جلدوها الحدّ وهي برّيّة ... فسيروا إلى دفن الشهيدة تؤجروا
وقيل: الشهيدة الدّجاجة المحشوّة، وقيل: السمكة المحشوّة. طرّا: جميعا.
عجوة: نوع من التمر الطيّب. والنّهيدة: الزّبدة، والتمر بالزّبد شيء يلذ عندهم أكله.
تسنّى: حضر. شظّى: قطعة. روّجوه: عجّلوه. ولا بدّ منه، أي قد وجب عليكم فالتزموه لي، تقول: لا بدّ من كذا، معناه قد ألزمته نفسي وجعلته واجبا عليّ، من قول العرب: قد أبدّ الرّجل القوم، وأبدّ الرامي الوحش، إذا ألزمهنّ الحتف، قال أبو ذؤيب:
[الكامل]
فأبدهنّ حتوفهنّ فهارب ... بذمائه أو بارك متجعجع (1)
قوله: «أياد»: أي نعم. راحكم: أكفّكم. واصلات شمل الصّلات: أي تؤلّف وتصل متفرق العطايا والفوائد. بغيتي: إرادتي. مطاوي ما ترفدون. مطاوي الثوب:
معاطفه وما يطوى منه. وترفدون: تعطون، وتقدير البيت: بغيتي زهيدة أي قليلة في مطاوي عطاياكم، أي ما طلبته منكم قليل في أثناء ما تهبون. قوله: «وفيّ أجر»: عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطعم أخاه المؤمن طعاما وافق به شهوته أدخله الله الجنة». وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص «من أطعم أخاه خبزا حتى يشبعه وسقاه ماء يرويه أبعده الله من النار سبع خنادق». تنفيس: تفريج، وترويح، يقول:
عاقبة تفريج همي لمن فرّجه محمودة للأجر الّذي فيها، والثناء بشعري عليه، وعلى هذا رتّب: «ولي نتائج فكر»: وهي أشعاره الحسان. يفضحن: يشهرن عيوبها، يقول: إذا أنشدت شعري افتضحت قصائد الشعراء وتنقصت.
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 24، ولسان العرب (بدد)، (جعع)، (ذمي)، ومقاييس اللغة 1/ 176، 416، وكتاب العين 1/ 68، وأساس البلاغة ذمي، وتهذيب اللغة 1/ 69، 14/ 78، 15/ 26، وتاج العروس (بدد)، (جعع)، (ذمي)، وبلا نسبة في المخصص 3/ 23، 80.(1/401)
قال الحارث بن همام: فلمّا رأينا الشّبل يشبه الأسد، أرحلنا الوالد وزوّدنا الولد، فقابلا الصّنع بشكر نشرا أرديته، وأدّيا به ديته. ولمّا عزما على الانطلاق.
وعقدا للرّحلة حبك النّطاق، قلت للشيخ: هل ضاهت عدتنا عدة يعقوب، أو هل بقيت حاجة في نفس يعقوب! فقال: حاش لله وكلّا، بل جلّ معروفكم وجلّى، فقلت له: فدنّا كما دنّاك، وأفدنا كما أفدناك أين الدّويرة، فقد ملكتنا الحيرة!.
* * * الشّبل: ولد الأسد. أرحلناه: أعطيناه راحلة يركبها. الصنع: الفعل الجميل. نشرا أرديته: استعارة لنشر الشكر. أدّيا: أعطيا. ديته: حقّه، يقول: جعلا شكرهما حقّا لبرّنا ومكافأة لصلتنا، وكأن المال الموهوب قد استهلكه الآخذ له، فإن شكر عليه فالشّكر للواهب هو دية ماله الهالك. وإنما أراد قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نشر معروفا فقد شكره، ومن ستره فقد كفره».
[مما قيل في الشكر]
وفي حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أعطي شيئا فوجد فليجر، ومن لم يجد فليثن به، فإن أثنى عليه فقد شكره، وإن كتمه فقد كفره».
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «من دعاكم فأجيبوه، ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم يجد أحدكم فليدع له حتى يعلم أنه قد كافأه».
وقالوا: إذا قصرت يداك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر.
وما أحسن قول حبيب في نشر الشكر وذمّ ستره. [الكامل]
للنار نار الشوق في كبد الفتى ... والبين يوقده هوى مسموم
خير له من أن يخامر قلبه ... وهواه معروف امرىء مكتوم
سرق الصنيعة فاستمرّ ملعّنا ... يدعو عليه النّائل المظلوم
أؤقّنع المعروف وهو كأنه ... قمر الدّجى إني إذا للئيم
مثر من المال الذّي ملّكتني ... أعناقه ومن الوفاء عديم
فأروح في بردين لم يسحبهما ... قبلي فتى وهما الغنى واللّوم
ومن ملح الأعراب أن أعرابيا لصّا أخذه الحجاج، فضربه سبعمائة سوط، وهو يقول عند كلّ سوط: شكرا يا ربّ، فقيل له: والله ما يمنع الحجاج من تركك إلا كثرة شكرك، أما سمعت الله يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]! فأنشأ الأعرابي يقول: [الرجز](1/402)
يا ربّ لا شكر فلا تزدني ... أسات في شكرك فاعف عنّي
باعد ثواب الشاكرين مني
ومرّ بشار برجل قد رمحته بغلة فسقط مكسورا، وهو يقول: الحمد لله والشكر لله، فقال: استزده يزدك من هذه النعم.
وسيأتي نوع آخر من الشعر في الشكر بحول الله تعالى.
* * * قوله: «حبك النطاق»: النطاق والمنطقة: ما يشدّ على وسطك كالحزام. والحبك:
خيوط أو شرك يشدّ بها النطاق، وأراد أنهما تحزّما للارتحال، ويقال: حبكت الشيء حبكا: شددته، واحتبكت إزاري: شددته. والمحبوك: المفتول، وحبكته: شددت فتله، والحبك: الطرائق في السماء من أثر الغيم، والحبك أيضا: التكسير الذي يكون في الرمل والشّعر والماء.
ضاهت: شابهت. عدتنا: ما وعدناك به من الرّاحلة، ولابنك من الزاد.
* * * [قصة المثل: مواعيد عرقوب]
عرقوب: رجل من العماليق يضرب به المثل في إخلاف الوعد، وقصّته أنّه أتاه أخ له يسأله شيئا، فقال له: إذا أطلعت هذه النخلة فلك طلعها، فلما أطلعت أتاه فقال له:
دعها حتى تصير بلحا، فلما أبلحت أتاه، فقال له: دعها حتى تصير زهوا، فلما أزهت قال له: دعها حتى تصير رطبا، فلما أرطبت قال له: دعها حتى تصير تمرا، فلما أتمرت عمد إليها عرقوب من اللّيل فجدّها، ولم يعطه شيئا.
وقيل: عرقوب هو ابن سعد بن زيد مناة بن تميم، ويقول بنو سعد: هو منّا.
وقيل: هو من الأوس والخزرج، قال علقمة: [الطويل]
وقد وعدتك موعدا لو وفت به ... كموعود عرقوب أخاه بيثرب (1)
__________
(1) يروى البيت:
وعدت وكان الخلف منك سجية ... مواعيد عرقوب أخاه بيثرب
وينسب البيت لأكثر من شاعر، فهو لابن عبيد الأشجعي في خزانة الأدب 1/ 58، وللأشجعي في لسان العرب (ترب)، (عرقب). ولعلقمة في جمهرة اللغة ص 1123، وللشماخ في ملحق ديوانه ص 430، وشرح أبيات سيبويه 1/ 343، وللشماخ أو للأشجعي في الدرر 5/ 345، وشرح المفصل (بروايتين مختلفتين في الصدر)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 173، 253، 1198، وشرح قطر الندى ص 261، والكتاب 1/ 272، والمقرب 1/ 131.(1/403)
وقال كعب بن زهير: [البسيط]
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل (1)
* * *
وقال عبد الله بن عمر: خلف الوعد ثلث النفاق. وحاجة نفس يعقوب: خشية العين على بنيه حين أمرهم أن يتفرّقوا على الأبواب، ولا يدخلوا من باب واحد، لأنهم كانوا في غاية الجمال وكمال الخلق، وقال الله تعالى: {مََا كََانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللََّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلََّا حََاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضََاهََا} [يوسف: 68]، وأراد الحريريّ: هل بقيت لك حاجة لم تقضها؟ فقال: حاش لله، أي معاذ الله.
ابن الأنباري قولهم: حاشى فلانا، معناه أستثنيه، وأخرجه من المذكورين الفرّاء:
هو من حاشيت أحاشي، ويقال: قام القوم حاشى عبد الله بالنصب والخفض، وحاشى لعبد الله، وحاش وحشى، وخفض ما بعدها بإضمار اللّام لكثرة صحبتها حاشى، كأنها ظاهرة، أو تقول: أضيفت حاشى إلى عبد الله، لأنه أشبه الاسم لّما لم يأت معه فاعل.
كلّا: معناها الزّجر، أي ليس الأمر كما تظن. جلّ: عظم. وهو من الجلل، والجليل هو العظيم ويكون في غير هذا اليسير وهو من الأضداد، جلّى: سبق معروفكم كل معروف، والمجلّي من الخيل: السابق.
دنّا: جازنا أين الدويرة؟ سأله أين تسكن من البلاد، ملكتنا: غلبتنا، يقول: قد التبس علينا أمرك وتحيرنا فيه.
* * * فتنفّس تنفّس من ادّكر أوطانه، وأنشد والشهيق يلعثم لسانه: [مجزوء الرمل]
سروج داري ولكن ... كيف السبيل إليها
وقد أناخ الأعادي ... بها وأخنوا عليها
فو الّتي سرت أبغي ... حطّ الذّنوب لديها
ما راق طرفي شيء ... مذغبت عن طرفيها
ثم غرورقت عيناه بالدموع، وآذنت مدامعه بالهموع، فكره أن يستوكفها، ولم يملك أن يكفكفها، فقطع إنشاده المستحلي، وأوجز في الوداع وولّى.
* * * __________
(1) البيت في ديوان كعب بن زهير ص 8، ولسان العرب (عرقب)، وجمهرة اللغة ص 1123، 1198، وكتاب العين 2/ 296، وتاج العروس (عرقب)، (بطل).(1/404)
تنفّس: ردد النفس إلى الجوف بصوت ورفعه إلى صدره، والتنفّس: ضدّ الشهيق، وهو ردّ النفس إلى الجوف بصوت، يلعثم: يلوي ويعقل، ويقال: سأله عن كذا فما تلعثم، أي ما توقّف ولا تلبّث ولا أبطأ، فإذا ذكرت للغريب بلده وهو على بعد منه تنفّس وتلهّف. أناخ: أقام ونزل. أخنوا: أفسدوا، وأتوا على خرابها. والتي يبغي حطّ الذنوب إليها هي مكة. حطّ: إلقاء وإنزال. لديها: عندها، أي إذا حجّ ودعا الله حط ذنوبه عنه.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حجّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» (1).
راق: أعجب. طرفيها: جهتيها. اغرورقت: امتلأت. آذنت: أعلمت. الهموع:
السّيلان، يستوكفها: يستدرّها ويجريها، يكفكفها: يردّها، المستحلي: المستعذب.
أوجز: اختصر.
* * * [مما قيل في الحنين إلى الأوطان]
ومما ينتظم بهذا الموضع من ذكر الأوطان والتشوق إليها قوله رفاعة بن عاصم الفقعسي، وأنشدها البكري لامرأة من طيىء: [الطويل]
ألم تعلمي يا دارا بلجاء أنني ... إذا أخصبت أو كان جدبا جنابها (2)
أحبّ بلاد الله ما بين منعج ... إليّ وسلمى أن يصوب سحابها
بلاد بها نيطت عليّ ثمائمي ... وأوّل أرض مسّ جلدي ترابها
قال عليّ بن عبد الكريم النصيبيني: أتاني ابن الروميّ بقصيدته التي يمدح فيها سليمان بن عبد الله بن طاهر، وقال لي: أنصفني وقل الحقّ: أيّما أحسن قولي في الوطن: [الطويل]
__________
(1) روي بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الحج باب 4، والمحصر باب 9، 10، ومسلم في الحج حديث 438، والترمذي في الحج باب 2، والنسائي في الحج باب 4، وابن ماجه في المناسك باب 3، والدارمي في المناسك باب 7، وأحمد في المسند 2/ 229، 248، 410، 484، 494.
(2) يروى البيت الثالث:
بلاد بها عقّ الشباب تميمتي ... وأوّل أرض مسّ جلدي ترابها
والبيت لرقاع بن قيس الأسدي في لسان العرب (نوط)، (تمم)، وتاج العروس (نوط)، (تمم)، ولأحد الأعراب في الكامل ص 842، 1320، ومعجم البلدان (منعج)، ولامرأة من طيىء في سمط اللآلي ص 272، وبلا نسبة في لسان العرب (عقق)، وتهذيب اللغة 1/ 59، وتاج العروس (فأس)، (عقق)، وينسب البيت كذلك إلى رفاعة بن قيس، ولأبي النضير الأسدي، انظر سمط اللآلي ص 272، 273، الهامش، والكامل ص 842، 1320، الهامش.(1/405)
ولي وطن آليت ألّا أبيعه ... وألّا أرى غيري له الدّهر مالكا
عهدت به شرخ الشباب ونعمة ... كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا
وحبّب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضّاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهم ... عهود الصبّا فيها فحنوا لذلكا
أو قول الأعرابيّ: أحب بلاد الله الأبيات، فقلت: بل قولك لأنه ذكر الوطن ومحبته، وأنت ذكرت حبّ الوطن والعلّة في ذلك.
وقال ابن الرومي يتشوّق إلى بغداد: [الكامل]
بلد صحبت به الشبيبة والصّبا ... ولبست ثوب العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أغصان الشباب تميد
أخذه من قول أعرابي يتشوق إلى بلده: [الطويل]
ذكرت بلادي فاستهلّت مدامعي ... بشوق إلى عهد الصّبا المتقادم
حننت إلى ربع به اخضرّ شاربي ... وقطّع عنّي قبل عقد التّمائم
وقال إسحاق الموصلي: [الطويل]
أتبكي على بغداد وهي قريبة ... فكيف إذا ما ازددت عنها غدا بعدا
لعمرك ما فارقت بغداد عن قلى ... لو أنا وجدنا من فراق لها بدّا
كفى حزنا أن رحت لم أستطع لها ... وداعا ولم أحدث لساكنها عهدا
وأنشدني أن شيخنا أبو بكر السّلاميّ وكان يزعم أنهما لأخي الحريري، وقد أحسن قائلهما كائنا من كان: [البسيط]
طيب الهواء ببغداد يؤرقني ... شوقا إليها وإن عاقت مقادير
فكيف أصبر عنها اليوم إذ جمعت ... طيب الهواءين: ممدود ومقصور(1/406)
طيب الهواء ببغداد يؤرقني ... شوقا إليها وإن عاقت مقادير
فكيف أصبر عنها اليوم إذ جمعت ... طيب الهواءين: ممدود ومقصور
المقامة الخامسة عشرة وهي الفرضيّة
أخبر الحارث بن همام قال: أرقت ذات ليلة حالكة الجلباب. هامية الرّباب، ولا أرق صبّ طرد عن الباب، ومني بصدّ الأحباب، فلم تزل الأفكار يهجن همّي، ويجلن في الوساوس وهمي، حتى تمنّيت لمضض ماءانيت، أن أرزق سميرا من الفضلاء، ليقصّر طول ليلتي اللّيلاء، فما انقضت منيتي، ولا أغمضت مقلتي، حتى قرع الباب قارع، له صوت خاشع، فقلت في نفسي: لعلّ غرس التّمنّي قد أثمر، وليل الحظّ قد أقمر، فنهضت إليه عجلان، وقلت من الطارق الآن! فقال: غريب أجنّة الليل، وغشيه السيّل، ويبتغي الإيواء لا غير، وإذا أسحر قدّم السير.
* * * أرقت: سهرت ولم أنم، وفي حديث زيد بن ثابت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرقا أصابني، فقال: «قل اللهمّ غارت النجوم، وهدأت العيون، وأنت حي قيوم، لا تأخذك سنة ولا نوم، يا حي يا قيوم، أهدئني ليلي، وأنم عيني». فقلتها فأذهب الله عنّي ما كنت أجده.
حالكة الجلباب: سوداء الثوب، هامية الرّباب: سائلة السحاب يريد أن الليلة مظلمة ممطرة، صبّ: عاشق. طرد: نفي. مني ابتلى. صدّ: هجر. الأفكار: أحاديث النفس. يهجن: يحرّكن. ويجلن: يصرفن والوساوس الفكر المقلقة، وهمي: بالي وخاطري، وقال ابن شهيد في نحو هذه الليلة: [الكامل]
ولربّ ليل للهموم تسدّلت ... أستاره فمحا الضّيا بستوره
كالبحر يضرب موجه في موجه ... صعب على العبّار وجه عبوره
طاولته من عزمتي بتصبّر ... أثبتّ همّي في قرارة كوره
وبراحة من همتي ذو كرّة ... عمدت تذاكرني بطبع ذكيره
فرد إذا انبعثت دياجي جنحه ... هولا عليّ خبطت في ديجوره
حتى بدا عبد العزيز لناظري ... أملي، فمزّقت الدّجى عن نوره
وليلة الحريري ضدّ ليلة ابن رشيق في قوله: [الطويل](1/407)
ولربّ ليل للهموم تسدّلت ... أستاره فمحا الضّيا بستوره
كالبحر يضرب موجه في موجه ... صعب على العبّار وجه عبوره
طاولته من عزمتي بتصبّر ... أثبتّ همّي في قرارة كوره
وبراحة من همتي ذو كرّة ... عمدت تذاكرني بطبع ذكيره
فرد إذا انبعثت دياجي جنحه ... هولا عليّ خبطت في ديجوره
حتى بدا عبد العزيز لناظري ... أملي، فمزّقت الدّجى عن نوره
وليلة الحريري ضدّ ليلة ابن رشيق في قوله: [الطويل]
ومن حسنات الدّهر عندي ليلة ... من العمر لم تترك لأيّامنا ذنبا
خلونا ننفي القذى عن عيوننا ... بلؤلؤة مملوءة ذهبا
وملنا لتقبيل الخدود ولثمها ... كميل جياع الطّير تلتقط الحبّا
قوله: «تمنيت». ابن الأنباري: في معناه قدرت وأحببت أن يصير إليّ، وهو من المنى وهو القدر، يقال: منى الله لك ما تحبه يمنيه منيا، أي قدّره لك. لمضض، أي لحرقة، عاينت: شاهدت، ويروى «عانيت» أي قاسيت، سميرا: صاحبا يسمر معه يقصر: يردّها قصيرة بأنسه وحديثه. الليلاء: الشديدة الطويلة السواد، ولابن الزّقاق في مثل هذا السمير: [الخفيف]
ربّ ليل أتحفت فيه بأنس ... من سمير زفّ الحديث عروسا
فاجتنينا مما يحدّث زهرا ... واغتبقنا من خلقه خندريسا
وانثنى الليل يفضل الصبح حسنا ... والدّراري يفضلن فيه الشموسا
ولئن كان لم يحل عن دجاه ... فلقد عاد فحمه آبنوسا
قوله: «أغمضت مقلتي»، نامت عيني. قرع: ضرب. خاشع: ليّن. أثمر: طلع ثمره، الحظ: البخت. أقمر: صار قمر، يقول: لعلّ: بختي قد زال نحسه وأقبل سعده إذ وجدت ما تمنيت، نهضت: تقدمت. الطارق: الآتي بالليل أجنه: ستره. غشيه: غطاه، الإيواء مصدر آويت الرجل، إذا أنزلته على نفسك وضممته، وتقول: أويته وآويت بمعني واحد. أسحر: دخل في وقت السّحر، يريد أنه لا يطلب غير المبيت وينصرف في السحر.
* * * قال: فلمّا دلّ شعاعه على شمسه، ونمّ عنوانه بسرّ طرسه، وعلمت أن مسامرته غنم، ومساهرته نعم، ففتحت الباب بابتسام، وقلت ادخلوها بسلام، فدخل شخص قد حنى الدّهر صعدته، وبللّ القطر بردته، فحيّا بلسان عضب، وبيان عذب، ثم شكر على تلبية صوته، واعتذر من الطروق في غير وقته، فدانيته المصباح المتّقد، وتأمّلّته تأمّل المنتقد، فألفيته شيخنا أبو زيد بلا ريب ولا رجم غيب، فأحللته محلّ من أظفرني بقصوى الطّلب ونقلني من وقذ الكرب، إلى روح الطّرب، ثمّ أخذ يشكو الأين وأخذت في كيف وأين. فقال: أبلعني ريقي، فقد أتعبني طريقي، فظننته مستبطنا للسّغب، متكاسلا لهذا السّبب، فأحضرته ما يحضر للضيف المفاجىء، في الليل الدّاجي.
* * *
الشّعاع: ما يبدو لك من الشمس إذا ظهرت كالخيال، نمّ: أفشى السرّ: والطّرس:(1/408)
* * *
الشّعاع: ما يبدو لك من الشمس إذا ظهرت كالخيال، نمّ: أفشى السرّ: والطّرس:
الكتاب. العنوان: ما يكتب على ظهره، يريد أنّ كلام الطارق تدلّ على مراده.
والمسامرة. هي المساهرة. غنم: غنيمة، نعم: نعمة. بسلام، أي بسلامة وأمن. قوله:
«صعدته»، الصّعدة: الرمح الطويل، وكني به عن القامة. بردته: ثوبه. عضب: قاطع.
تلبية: قولي له: لبيّك. الطروق: المجيء بالليل. دانيته: قربت منه، تأملته: نظرته المنتقد: المجرب للدراهم، أي نظرته بعين المباحثة، ألفيته: وجدته، ريب: شك. رجم الغيب: رمى الظنّ. أظفرني: ملّكني. قصوى: غاية. هي مؤنث الأقصى أي الأبعد.
وقذ الكرب. حرقة الهموم: روح الطرب: راحة السرور. الأين: التعب كيف: سؤال عن حال. وأين: سؤال عن مكان، أي سألته كيف حالك، ومن أين جئت. أبلعني ريقي، أي لا تكثر عليّ السؤال فيجعلني جوابك عن بلع ريقي. السّغب: الجوع، وقد سغب وسغب جاع. الدّاجي: المظلم.
* * * فانقبض انقباض المحتشم، وأعرض إعراض البشم، فسؤت ظنّا بامتناعه، وأحفظني حؤول طباعه، حتى كدت أغلظ له في الكلام، وألسعه بحمة الملام، فتبيّن من لمحات ناظري، ما خامر خاطري، فقال: يا ضعيف الثّقة، بأهل المقة، عدّ عما أخطرته بالك، واستمع إليّ لا أبالك! فقلت: هات، يا أخا التّرّهات، فقال: اعلم أني بتّ البارحة حليف إفلاس، ونجيّ وسواس، فلما قضى الليل نحبه، وغوره الصبح شهبه، غدوت وقت الإشراق، إلى بعض الأسواق متصدّيا لصيد يسنح أو حرّ يسمح، فلحظت بها تمرا قد حسن تصفيفه، وأحسن إليه مصيفه، فجمع على التحقيق، صفاء الرّحيق، وقنوء العقيق، وقبالته لبأ قد برز كالإبريز الأصفر، وانجلى في اللّون المزعفر، فهو يثني على طاهيه، بلسان تناهيه، ويصوّب رأي مشتريه، ولو نقد حبّة القلب فيه.
* * * المحتشم: المستحي هنا. أعرض: نحّى وجهه. وتحقيقه: ولّى عرضه، أي جانبه. البشم: الكسل من الشّبع وقد بشم بشما: مرض من كثرة الأكل. سؤت ظنا:
أساء ظني، وظنا المنصوب على التميز فاعل في المعنى، من باب تفقّأ شحما. أحفظني:
أغضبني. حؤول طباعه: تغيّر أخلاقه. حمة الملام: سمّ العتاب. ألسعه: أقرصه بلساني، ولسعته العقرب: ضربته بإبرتها.
لمحات ناظري، أي خطرات عيني، خامر خاطري، خالط فكري المقة: الحبّ.
عدّ، أي اصرفه عن نفسك، الترهات: العجائب، وأيضا الأباطيل، وأصلها الطرق الصغار المتشعّبة عن الطريق الأعظم. حليف إفلاس: ملازم فقر. نجي: محدث. ولما كانت الوساوس تشغل بال الإنسان وتجعله يتحدث وحده جعل نفسه محدّثا لها. قضى نحبه:
تمّ وانقضى، وقضى الرجل نحبه: مات، والنحب: النذر. وغوّر: غيّب. شهبه:(1/409)
عدّ، أي اصرفه عن نفسك، الترهات: العجائب، وأيضا الأباطيل، وأصلها الطرق الصغار المتشعّبة عن الطريق الأعظم. حليف إفلاس: ملازم فقر. نجي: محدث. ولما كانت الوساوس تشغل بال الإنسان وتجعله يتحدث وحده جعل نفسه محدّثا لها. قضى نحبه:
تمّ وانقضى، وقضى الرجل نحبه: مات، والنحب: النذر. وغوّر: غيّب. شهبه:
نجومه. والإشراق: الارتفاع الشمس وصفاؤها الأسواق: جمع سوق وسميت سوقا، لأن الأشياء تساق إليها، وتساق منها، أو لأن سوق الناس تكثر فيها. والسوق: جمع ساق، والسّوق بالفتح: مصدر سقت، وبالضم الاسم، متصديا: متعرضا.
يسنح: يعرض من جهة اليمين ويزاد بيانا عند ذكر السانح والبارح، يسمح: يجود، لحظت: نظرت، ولحظت: أضيق عيني، أي أبصرت بضيق عيني. تصفيفه، أي جعله صفا واحدا، وصففت الشيء: جعلته صفّا واحدا مضموما.
المصيف: زمن الصيف. الرحيق: الخمر، قنوء: حمرة. العقيق: خرز أحمر.
عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تختموا بخواتيم العقيق فإنه لا يصيب أحدكم غمّ ما دام عليه ذلك» واللبأ: أول ما يحلب من اللبن وهو لم ينضج. برز:
ظهر. الأبريز: الذهب الخالص. المزعفر: المصبوغ بالزعفران.
ويروى: «المعصفر»، وهو المصبوغ بالعصفر، وطاهيه: طابخة: تناهيه غايته وكماله، يقول: هذا اللبأ بحسن صنعته وجودة طبخه كأنه يثني للمشترين على طابخه وإن لم يكن له لسان، فكماله في الحسن وجودته في الصنعة قام له مقام اللسان، ويسمى هذا الكلام بلسان الحال قال الشاعر: [الكامل]
ولسان نعمتك التي قلدتني ... بالشكر أبلغ من لسان بياني
وقال المتنبي: [المنسرح]
تنشد أثوابنا مدائحه ... بألسن ما لهنّ أفواه (1)
إذا مررنا على الأصمّ بها ... أغنته عن مسمعيه عيناه
أخذه من قول نصيب: [الطويل]
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب (2)
وقال أبو العتاهية: [المتقارب]
أيا عجبا كيف يعصي الإل ... هـ أم كيف يجحده الجاحد! (3)
وفي كلّ شيء له آية ... تدلّ على أنه واحد
ولله في كلّ تسكينه ... وتحريكة في الورى شاهد
__________
(1) البيتان في ديوان المتنبي 4/ 265.
(2) البيت لنصيب في ديوانه ص 59، والأغاني 1/ 317، وأمالي المرتضى 1/ 61، وخزانة الأدب 5/ 296، وشرح شذور الذهب ص 38، والشعر والشعراء 1/ 418، ولسان العرب (حدث).
(3) الأبيات في ديوان أبي العتاهية ص 104، وتاج العروس (عنه).(1/410)
وقال الفضل بن عيسى الرقاشي: سل الأرض: من غرس أشجارك، وشق أنهارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا.
ومنه سؤال العرب للمنازل الخالية والديار الدارسة، وقال شاعرهم: [الطويل]
وأجهشت للتوباد حين رأيته ... وكبّر للرحمن حين رآني
وأذريت دمع العين لّما رأيته ... ونادى بأعلى صوته فدعاني
فقلت له أين الذين عهدتهم ... حواليك في أمن وخصب زمان!
فقال مضوا واستودعوني ديارهم ... ومن ذا الذي يبقي على الحدثان!
التّوباد: جبل بني عامر، وجوابه لهذا الشاعر بالمعنى، فجعله لفظيا مجازا، وهذه الحالة الدالة التي سماها الجاحظ في أقسام البيان النّصبة، قال الجاحظ: جمع أصناف الدلالة على المعاني من لفظ أو غيره خمسة لا تنقص ولا تزيد، أولها اللفظ ثم الإشارة، ثم العقد، ثم الخط، ثم النّصبة، والعقد أخذ العدد في الأصابع.
قوله: «نقد»، أي أعطى نقدا، وهو المال الحاضر، حبّة القلب: سواده.
* * * فأسرتني الشهوة بأشطانها، وأسلمتني العيمة إلى سلطانها، فبقيت أحير من صبّ، وأذهل من صبّ، لا وجد يوصلني إلى نيل المراد، ولذّة الازدراد، ولا قدم يطاوعني على الذهاب، مع حرقة الالتهاب، لكن حداني القرم وسورته، والسّغب وفورته، على أن أنتجع كلّ أرض، وأقتنع من الورد ببرض، فلم أزل سحابة ذلك النّهار، أدلي دلوي إلى الأنهار، وهي لا ترجع ببلّة، ولا تجلب نقع غلّة، إلى أن صفت الشمس للغروب، وضعفت النفس من اللّغوب، فرحت بكبد حرّى، وانثنيت أقدّم رجلا وأؤخّر أخرى.
* * * أسرتني: ربطتني كالأسير. أشطانها: حبالها. أسلمتني: تركتني. العيمة: شهوة اللبن. وسلطانها: قدرتها وغلبتها، يريد أنّ الشهوة إلى اللّبأ قهرته حتى تركته مستسلما لا يملك نفسه.
[الضب]
الضّبّ: يشبه الحرذون، وهو حرذون الصحراء وإذا فارق جحره لم يهتد إليه فيتحيّر. فيجعل حجرا عند جحره، واقفا ليهتدى به، فإذا أزاله الصائد تحيّر، فجاء فأخذه، وربما قتله بذلك الحجر، قال الشاعر: [الوافر](1/411)
وإن الضب ذو دهي ومكر ... كما اليربوع والذئب اللعين
يرى مرداته من رأس ميل ... ويأمن سيل بارقة هتون
ويدخل عقربا تحت الذنابي ... رواغ الفهد من أسد كمين
جعل الذئب لعينا، لأنّ من رآه صاح عليه، ومرداته: حجره، والعقرب يعدّه الضب للصائد إن أدخل يده في جحره، وأخذ بذنبه، لسعته العقرب، وربما أكل العقارب وترك منها واحدا في باب جحره للصائد، قال الشاعر: [الطويل]
وأخدع من ضبّ إذا جاء حارش ... أعدّ له عند الذّنابة عقربا (1)
والضبّ، أي وصف بالضلال وقالوا في بيت المتنبي: [الطويل]
لقد لعب البين المشتّ بها وبي ... وزودني في السير ما زوّد الضّبا (2)
أراد أنه زودني الضلال عن وطني، الذي خرجت منه، فما أوفق للعود إليه، والاجتماع مع الحبيب.
وقال الواحدي يقول: جعل البين زادي زاد الضب، والضبّ لا يتزود في المفازة، ومعناه: فارقت الحبيب من غير وداع ولا التقاء يكون لي زادا على البعد. ويقال أيضا:
أخدع من ضبّ، وذلك أنه يطمع الصائد في نفسه، فإذا حنق عليه خدع في جحره، ومنه أخذ معنى الخداع.
ويقال فيه: إنه أعقّ من ضبّ، وذلك أنه يأكل أولاده، ويكنى أبا الحسل ويسمّي ولده الحسل، وأمثال العرب به كثيرة. ويزعمون أنه كان حكما في الدوابّ في الزمان، الذي كانت فيه الحيوان تتكلم. وعنه يروون: في بيته يؤتى الحكم، يعني نفسه. وفيه خواص ليست في الحيوان، تزعم العرب أنه لا يشرب الماء، وإذا أخذه العطش صعد ربوة واستقبل الريح، وأنه طويل العمر. ويقولون: إنه أحيا من ضب، يريدون أن حياته لا تكاد تنقضي، وأنه لا يسقط له سن، وأنه أطول الدواب دما، وإذا ذبح يبقى زمانا، وحينئذ يموت، وأن له ذكرين ولأنثاه فرجين.
* * * «أذهل من ضبّ»: أي أشغل قلبا من عاشق، ووساوس العشق أفضت ببعض العشاق إلى الجنون، وجد: غنى، وقد وجدت وجدا، أي كثر مالي والازدراد: كثرة الأكل، وزردت الطعام وازدردته إذا ابتلعته، الألتهاب: اشتغال نار الجوع. حداني:
ساقني، القرم: شهوة اللحم، وأراد به شهوة الأكل. سورته: شدته. وفورة السغب:
__________
(1) البيت بلا نسبة في تاج العروس (خدع).
(2) البيت في ديوان المتنبي 1/ 60.(1/412)
غليان الجوع. أنتجع: أمشي في طلب ما آكل، والورد: الحظ من الماء. والبرض: قليل الماء. سحابة ذلك النهار، أي طوال ذلك النهار، كما تقول: بياض يومي، أي يومي كله، أي لم يزل طول يومه يستجدي فلم يعط شيئا. نقع غلّة: إرواء عطش صغت:
مالت. اللّغوب: الفشل. حرّى: ملتهبة، انثنيت: رجعت.
[المقامة المجاعية]
أطال أبو محمد هذه المقامة حتى كادت تثقل على السامع، وللبديع فيما يتعلق بمعناها مقامة بتراء فلو زيد في البديعية وقصر في الحريرية لاعتدلتا. وها أنا أذكر البديعية هنا بجملتها لرشاقتها وخفّتها.
قال عيسى بن هشام: كنت ببغداد عام المجاعة، فدفعت إلى جماعة قد نظمهم سلك الثريا، وكلهم يطلب شيئا، وفيهم ذو لثغ في لسانه وفلج في أسنانه فقال: ما خطبك؟ فقلت: حالات لا يفلح صاحبهما، فقير كدّه الجوع، وغريب ليس يمكنه الرجوع، فقال، أي الثلمتين تريد سدها؟ فقلت: الجوع يا سيدي، وقد بلغ منّي مبلغه فقال: ما تقول في رغيف، على خوان نظيف، ونقل قطيف، على لون لطيف، وخردل حرّيف، إلى شواء ضفيف، يقربه إليك من لا يماطلك بوعد، ولا يعذبك بصدّ. [ثم يعلّك بعد ذلك بأقداح ذهبية، من راح عنبيّة]، أذاك أحب إليك أم أوساط محشوة وأكواب مملوءة، وأنقال معدّدة، وفرش منضدة، [وأنوار مجّودة] ومطرب مجيد، له من الغزال عين وجيد، فإن لم ترد هذا ولا ذلك، فما تقول في لحم طيريّ، وسمك بحريّ، وباذنجان مقّلي، وراح نقيّ، وتفاح جنيّ، ومضطجع وطيّ، على حذاء نهر جار، وبركة ذات ثرثار.
فقلت: أنا عبد الثلاثة، فقال: وأنا خادمها لو حضرت، فقلت من أيّ الحجرات أنت؟ فقال: [الكامل]
من ربعة الإسكندريّة ... من نبعة فيهم زكيّه
سخف الزّمان وأهله ... فركبت من سخفي مطيّه
* * *
وبينما أنا أسعى وأقعد، وأهبّ وأركد إذ قابلني شيخ يتأوّه آهة الثّكلان، وعيناه تهملان، فما شغلني ما أنا فيه من داء الذّيب، والخوى المذيب، عن تعاطي مداخلته، والطّمع في مخاتلته، فقلت له: يا هذا، إنّ لبكائك سرا، ووراء تحرّقك لشرا، فأطلعني على برحائك، واتّخذني من نصحائك، فإنك ستجد مني طبّا آسيا، أو عونا مواسيا، فقال: والله ما تأوّهي من عيش فات، ولا من دهر افتات، بل لانقراض العلم ودروسه، وأفول أقماره وشموسه، فقلت: وأيّ حادثة نجمت، وقضيّة
استعجمت حتّى هاجت لك الأسف، على فقد من سلف. فأبرز رقعة من كمّه، وأقسم بأبيه وأمّه، لقد أنزلها بأعلام المدارس، فما امتازوا عن الأعلام الدّوارس، واستنطق لها أحبار المحابر، فخرسوا ولا خرس سكّان المقابر، فقلت: أرينها فلعلّي أغني فيها، فقال: ما أبعدت في المرام فربّ رمية من غير رام، ثم ناولنيها، فإذا المكتوب فيها:(1/413)
وبينما أنا أسعى وأقعد، وأهبّ وأركد إذ قابلني شيخ يتأوّه آهة الثّكلان، وعيناه تهملان، فما شغلني ما أنا فيه من داء الذّيب، والخوى المذيب، عن تعاطي مداخلته، والطّمع في مخاتلته، فقلت له: يا هذا، إنّ لبكائك سرا، ووراء تحرّقك لشرا، فأطلعني على برحائك، واتّخذني من نصحائك، فإنك ستجد مني طبّا آسيا، أو عونا مواسيا، فقال: والله ما تأوّهي من عيش فات، ولا من دهر افتات، بل لانقراض العلم ودروسه، وأفول أقماره وشموسه، فقلت: وأيّ حادثة نجمت، وقضيّة
استعجمت حتّى هاجت لك الأسف، على فقد من سلف. فأبرز رقعة من كمّه، وأقسم بأبيه وأمّه، لقد أنزلها بأعلام المدارس، فما امتازوا عن الأعلام الدّوارس، واستنطق لها أحبار المحابر، فخرسوا ولا خرس سكّان المقابر، فقلت: أرينها فلعلّي أغني فيها، فقال: ما أبعدت في المرام فربّ رمية من غير رام، ثم ناولنيها، فإذا المكتوب فيها:
* * * قوله: «أسعى»، أي أمشي مسرعا، أهبّ وأركد: أتحرك وأسكن، أراد أجري وأقف، وأصل الهبوب والركود للربح، يتأوه: يتوجّع ويقول: آه، وهو قول الحزين.
آهة الثكلان: توجّع الفاقد لأحبابه. تهملان: تسيلان، وداء الذئب: هو الجوع، والذئب أصبر السباع على الجوع وأعفّها، وإذا افترس شاة أكل منها شبعة وترك سائرها ولم يرجع إليها، وعافة إن أروح (1) الخوى: خلّو الجوف من الطعام.
المذيب: المذهب اللحم والقوى. التعاطي: تناول ما لا تحبّ. ومداخلته: معرفة سرّه. مخاتلته: مخادعته. تحرّقك: توجعك، والبرحاء: الشدّة والمشقّة. طبّا:
حاذقا. آسيا: طبيبا. مواسيا: معينا، والمواساة تكون بالنفس أو بالمال، ويشاكل كلامه قول الشاعر: [الطويل]
ولا بدّ من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجّع (2)
افتات: ظلم وجاوز الحدّ. انقراض: انقطاع. دروسه: محوه. أفول: مغيب، وكنى بالأقمار والشموس عن مشاهير العلماء، وبأفولهم عن هلاكهم، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «موت العالم مصيبة لا تجبر، وثلمة لا تسدّ، ونجم طمس، وموت قبيلة أيسر من موت عالم» (3)، حادثة: نازلة وأمر حدث، نجمت: ظهرت. قضية: قصّة، استعجمت. أشكلت. هاجت: حركت. الأسف:
الحزن. سلف: مات وذهب. أعلام: مشاهير، وأصلها الجبال يستدلّ بها على مجاهيل الأرض. المدارس: جمع مدرسة، وهي المحاضر التي يدرس فيها العلم. امتازوا:
افترقوا. والأعلام الدّوارس: الجبال المقفرة الخالية من الأشجار والعمران. استنطق:
استخبر، وسألهم أن ينطقوا ويجيبوا عنها. أحبار: علماء. خرسوا: سكتوا. أغني: أقرّب وأنفع. المرام: الطلب.
* * * __________
(1) أروح: أي أصبحت له رائحة.
(2) البيت بلا نسبة في تاج العروس (وجع).
(3) أخرجه بنحوه الدارمي في المقدمة باب 32. بلفظ: «موت العالم ثلمة في الإسلام».(1/414)
[قصة المثل: ربّ رمية من غير رام]
ربّ رمية من غير رام، أي قد يصيب الغرض من ليس له علم بالرماية، وهو مثل، قاله حكيم بن عبد يغوث المنقريّ، وكان حكيم من أرمى الناس، فأقسم يوما ليعقرنّ ولا بدّ، فخرج ومعه قوسه فرمى ولم يصنع شيئا، فبات ليله بأسوأ حال، وفعل في اليوم الثاني والثالث كذلك، فلما أصبح قال لقومه: ما أنتم صانعون، فإني قاتل اليوم نفسي إن لم أعقر اليوم مهاة؟ فقال له ابنه: يا أبت احملني معك، أرفدك، فقال: وما أحمل من رعش وهل، جبان فشل، فانطلقا فإذا هما بمهاة فرماها فأخطأها، ثم مرت به أخرى، فقال له ابنه مطعم: يا أبت ناولني القوس، فغضب أبوه وهمّ أن يعلوه بها، فقال له مطعم: أحمد بحمدك، فإن سهمي سهمك، فناوله القوس، فرمى مطعم فلم يخطىء، فقال عند ذلك حكيم: رب رمية من غير رام، وقال: [الوافر]
رماها مطعم من غير علم ... بمسّ القوس لم يخطىء صلاها
وكان أبوه قد آلى عليها ... فلم تبرر ألّيته مهاها
* * *
[الخفيف]
أيها العالم الفقيه الذي فا ... ق ذكاء فما له من شبيه
أفتنا في قضيّة حاد عنها ... كلّ قاض وحار كلّ فقيه
رجل مات عن أخ مسلم حرّ ... تقيّ من أمّه وأبيه
وله زوجة لها أيّها الح ... بر أخ خالص بلا تمويه
فحوت فرضها وحاز أخوها ... ما تبقّى بالإرث دون أخيه
فاشفنا بالجواب عمّا سألنا ... فهو نصّ لا خلف يوجد فيه
فلما قرأت شعرها، ولمحت سرّها، قلت له: على الخبير سقطت، وعند ابن بجدتها حططت، إلّا أني مضطرم الأحشاء، مضطرّ إلى العشاء فأكرم مثواي، ثمّ استمع فتواي فقال: لقد أنصفت في الاشتراط وتجافيت عن الاشتطاط فصر معي إلى مربعي لنظفر بما تبتغي، وتنقلب كما ينبغي. قال: فصاحبته إلى ذراه، كما حكم الله. فأدخلني بيتا أحرج من التابوت، وأوهن من بيت العنكبوت، إلّا أنّه جبر ضيق ربعه، بتوسعة ذرعه، فحكّمني في القرى، ومطايب ما يشترى فقلت: أريد أزهى راكب على أشهى مركوب، وأنفع صاحب مع أضرّ مصحوب.
* * * قوله: «فاق»، أي فضل. ذكاء: حدّة ذهن. حاد: مال.(1/415)
قوله: «رجل مات عن أخ»، البيت.
فائدة ذكر الأخ، إثبات النّسب، لأن الأجنبيّ لا يرث، وفائدة ذكر المسلم أنّ أهل دينين لا يتوارثان، وفائدة ذكر الحرّ أن العبد لا يرث الحرّ، وأما التقيّ، فما لقيت من أشياخنا من نبّه عليه، حتى حدّثني به الفقيه أبو العباس اللّيثيّ، عرف بالحضّار، فقال فائدة لطيفة، وهي التحرّز من قاتل العمد، لأنه لا يرث وليّه، فأراد أن موجبات التّوارث قد كملت لهذا الوارث، ومع هذا لم يرث أخاه.
والحبر: العالم. تمويه: شكّ وكذب. حوت: حازت. الإرث: لغة في الورث، وهو بالهمز بدل من الواو. لمحت: أي نظرت، واللمحة نظرة غير متمكّنة. ابن بجدتها:
عالم سرّها، ويقال: بجد في المكان إذا أقام به، والمقيم بالموضع عالم به. وقيل: أصله من قولهم: فلان من أهل البّجد، أي من أهل البادية، وهم العلماء باللسان على ما وضع. حططت: نزلت، والخبير، عالم الخبر، وهذه أمثال للعالم بحقيقة الشيء.
مضطرم: متّقد. مثواي: منزلي، وأكرمت مثوى الضّيف، إذا أحسنت نزله ووطّأت له.
فتواي: ما أفتيك به. الاشتراط والشرط بمعنى. تجافيت: تباعدت. الاشتطاط: مجاوزة الحدّ. مربعي: منزلي. تظفر: تفوز، وأصله من الظّفر، كأنه إذا ظفر بشيء أنشب أظفاره فيه. تنقلب: ترجع. ذراه: منزله، وكلّ ما كان من حائط وشبهه ذرى. أحرج: أضيق.
أوهن: أضعف. جبر: أصلح. توسعة ذرعه: سعة خلقه واحتماله. القرى: طعام الضّيف. مطايب: جمع طيب، على غير قياس. أزهى: أعجب، والزّهو الكبر، وكانوا يصفّفون التمرة على اللّبأ عند بيعه، فيريد بالراكب التمر وبالمركوب اللّبأ لأنهم يشقّون التمرة ويغترفون بنصفها من القدح الذي فيه اللّبأ. ويريد: بأنفع صاحب التمر، وبأضرّ مصحوب اللّبأ، وهذا يوافق قول الأعرابيّ: [الطويل]
ألا ليت لي خبزا من التمر واللّبا ... وخيلا من البرنيّ فرسانها الزّبد
فأطلب فيما بينهنّ شهادة ... بموت كريم لا يعدّ له لحد
والبرنيّ من أفضل التمر، وقال صحار الكلبيّ: [المتقارب]
أكلت الضّباب فما عفتها ... وإني لأهوى قديد الغنم
وركّبت زبدا على تمرة ... فنعم الطعام ونعم الأدم
والعرب تقول: على الثمرة مثلها زبدا، وقيل في تفسيره بالعكس، لأنّ الأطباء يقولون: إن التمر مضرّ سريع العفن، يولّد السّداد (1)، ويقولون أيضا: إنه حارّ رطب مليّن للبطن يولّد المني، فيقابل ضرره نفعه، وكفى لنا أنه قوت يكتفى معه بأدنى الطعام، وفيه قوة زائدة، وبالجملة فاللفظ مشكل، وما وجدت من يحققه.
__________
(1) السداد: داء يسد الأنف، ويمنع نسيم الريح.(1/416)
ويستملح من كلام الحريريّ أنه أراد بالراكب وبأنفع صاحب التمر، لأنه قدّمه في التفسير حين قال: لعلّك تعني ابنة نخيلة، مع لبإ سخيلة، وليس في الأبيات المتقدمة شاهد على اللّبأ، لأن حكم الزبد للزوجة، وتعلقه بالتمرة غير حكم اللبأ، فبالحرى يقرن اللّبأ بالتمر إذا شقّت، وجعله أضرّ مصحوب لأنه لبن لم ينضج، والنار تقطع بعض ضرره.
وقال الفنجديهيّ: أزهى راكب التمر، أي أحسن منظرا وأكثر حمرة، وأشهى مركوب اللّبأ وجعل التمر راكبا واللّبأ مركوبا، لأنّ التّمر يجتنى من رؤوس النخل، فهو كالراكب، ولأن اللّبأء يضع تمرات فوق اللّبأ والرائب، ليزيد رغبة المشتري فيه. وجعل التمر أنفع صاحب، لاكتفاء العرب به عن جميع المطعومات، حتى يبقى أحدهم دهرا لا يأكل إلا التمر، ولا يضرّه ذلك، وجعل اللبأ أضرّ مصحوب، لأنه يولّد الصفراء.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: إنا كنا آل محمد صلى الله عليه وسلم نمكث شهرا لا نستوقد نارا إن هو إلا الأسودان: الماء والتمر (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: «بيت لا تمر فيه جياع أهله» (2).
والعرب تستحسن أكل الزّبد مع التمر، قال سفيان الثوريّ: ما رأيت أحسن من زبدة على إزادة.
وقال معاوية لعبد الرحمن بن أبي بكر: أيّ اللقمة أطيب؟ قال: تعضوضة عليها مثلها زبدا، والإزاد نوع من التمر، والتّعضوض تمر أسود.
وقالوا: ما أكلنا تمرا أحمد من التّعضوض، أي أشد حلاوة، وتاؤه زائدة.
* * * فأفكر ساعة طويلة، ثم قال: لعلّك تعني بنت نخيلة، مع لبإ سخيلة، فقلت:
إيّاهما عنيت، ولأجلهما تعنّيت، فنهض نشيطا، ثمّ ربض مستشيطا، وقال: اعلم أصلحك الله، أن الصدق نباهة، والكذب عاهة فلا يحملنّك الجوع الذي هو شعار الأنبياء، وحلية الأولياء على أن تلحق بمن مان، وتتخلّق بالخلق الذي يجانب الإيمان، فقد تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها، وتأبى الدنيّة ولو اضطرّت
__________
(1) روي بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الهبة باب 1، والرقاق باب 17، والأطعمة باب 6، 41، ومسلم في الزهد حديث 10، 12، وأحمد في المسند 1/ 164، 4/ 19، 5/ 429، 6/ 108، 182، 237.
(2) أخرجه مسلم في الأشربة حديث 153، وأبو داود في الأطعمة باب 41، والترمذي في الأطعمة باب 17، وابن ماجه في الأطعمة باب 38، والدارمي في الأطعمة باب 26، وأحمد في المسند 6/ 179.(1/417)
إليها. ثم إني لست لك بزبون، ولا أغضي على صفقة مغبون، وها أنا قد أنذرتك قبل أن ينهتك السّتر، وينعقد فيما بيننا الوتر، فلا تلغ تدبّر الإنذار، وحذار من المكاذبة حذار.
* * * قوله: «سخيلة»، السّخيلة: ولد الشاة ذكرا كان أو أنثى. تعنّيت: تعبت.
وقال أعرابيّ: أنا أشتهي ثريدة دكناء من الفلفل، زقطاء من الحمّص، ذات جناحين من اللحم، لها جناحان من الفواق، فأضرب فيها كما يضرب وليّ السوء في مال اليتيم.
وقال رجل لأعرابيّ: ما يسرني لو بتّ ضيفا لك، قال: لو بتّ ضيفا لي أصبحت أبطن من أمّك قبل أن تلدك بساعة.
قيل لأشعب: ما تقول في ثريدة مغمورة بالسمن، مشقفة باللحم؟ قال: فأضرب كم؟ قالوا: تأكلها من غير ضرب. قال: هذا ما لا يكون، ولكن لم أضرب أو أتقدم على بصيرة؟.
وقيل لمزبّد وقد أكل طعاما كظّه: قئه، فقال: وما فيه! خبز نقيّ، ولحم جدي طريّ، امرأته طالق لو وجدت قيئا لأكلته.
قوله: «نهض»، تقدّم للمشي. نشيطا: أي خفيفا، وهي من الأنشوطة. ربض:
نزل. مستشيطا: شديد الغضب. نباهة: رفعة. عاهة: آفة وعيب. شعار: علامة، وشعار المؤمنين في الحرب «لا إله إلا الله»، أي علامتهم، والأنبياء عليهم السلام منزّهون عن شهوات المطاعم.
أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نور الحكمة الجوع والتباعد من الله الشّبع، والقربة إليه حبّ المساكين والدنّو منهم. لا تشبعوا فتطفئوا نور الحكمة من قلوبكم، ومن بات يصلّي في خفّة من الطعام، بات حور العين حوله حتى يصبح».
أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: دخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت: «ما أحوجك إلى الجلوس؟ قال: الجوع، فبكيت، فقال: لا تبك، فإن شدّة القيامة لا تصيب الجائع إذا ما احتسب».
قوله: «حلية»: صفة يتحلّون بها. وتتخلّق: تتطبّع. يجانب: يباعد. وأشار لقوله صلى الله عليه وسلم، قيل: أيكون المؤمن كذّابا؟ قال: لا.
عمر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبلغ صريح الإيمان عبد حتى يدع المزاح والكذب والمراء، وإن كان محقّا» (1).
__________
(1) أخرجه أبو داود في الأدب باب 7، والترمذي في البر باب 58، وابن ماجه في المقدمة باب 7.(1/418)
وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: اتقوا الكذب، فإن الكذب يجانب الإيمان.
* * * [قصة المثل: تجوع الحرّة ولا تأكل ثدييها]
قوله: «تجوع الحرّة ولا تأكل ثدييها»، أي لا ترضع لبنها بالأجرة، ثم تأكلها، وهو مثل يضرب للذي لا يمنعه من صيانته شدّة فقره، وهذا المثل للحارث بن سليل الأسديّ، وكان خطب إلى علقمة بن خصفة الطائيّ وكان شيخا فقال علقمة لامرأته:
اختبري ما عند ابنتك، فقالت: أي بنيّة، أيّ الرجال أحبّ إليك؟ الكهل الجحجاح الواصل الميّاح، أم الفتى الوضّاح، الذهول الطمّاح؟ قالت: بل الفتى، قالت: إن الفتى يغيرك، وإن الشيخ يعيرك، قالت: يا أماه إن الفتى شديد الحجاب، كثير العتاب، يا أمّاه أخشى من الشيخ أن يدنّس ثيابي ويبلي شبابي، ويشمت بي أترابي. فلم تزل أمّها بها حتى غلبتها على رأيها. فتزوّجها الحارث، ثم ارتحل بها إلى أهله، وإنه لجالس ذات يوم بفناء قبّته، وهي إلى جانبه إذ أقبل شباب من بني أسد يعتلجون، فتنفسّت الصّعداء ثم بكت، فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: ما لي وللشيوخ، الناهضين كالفروخ، من كل حوقل فنيخ، فقال: ثكلتك أمّك! تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، ثم قال: وأبيك لربّ غارة شهدتها، وسبيّة أردفتها، وخمرة شربتها، فالحقي بأهلك، فلا حاجة لي فيك.
قولها: «الجحجاح»: السيد السمح. والميّاح: الكثير المعروف، ويغيرك يتزوّج عليك، ويعيرك: يميرك، ويعتلجون: يتصارعون. والحوقل: اللسن، والفنيح: الضعيف الرّخو. وقول العامة: لا تأكل ثدييها، أي لا تأكل لحم الثدي خطأ لا وجه له، ويجوز على حذف مضاف تقديره أجر ثدييها أو ثمنهما، أو يكون على المجاز، كأنها إذا أكلت أجرهما فقد أكلتهما، ونحوه قول الشاعر: [الطويل]
إذا صبّ ما في القعب فاعلم بأنّه ... دم الشّيخ فاشرب من دم الشّيخ أودعا
يريد رجلا أخذا إبلا في دية أبيه، فيقول له: إذا شربت لبنها فكأنك تشرب دم أبيك.
قوله: «وتأبى الدنيّة ولو اضطرت إليها»: أي تتمنّع من إتيان الفعل الدنيء، ولو ألجئت إليه. والزّبون: الذي يغلب في المعاملات، فعول بمعنى مفعول، لأنه بزين أي يدفع عن استكمال حقه.
أغضى: أسدل جفّني، أي لا أسكت لك على الخداع. أنذرتك: نبّهتك. ينهتك:
ينقطع. الوتر: العداوة، وقيل: الفرد، فيكون معنى: «ينعقد بيننا الوتر»، أي يرتبط.
وتري بوترك، أي شخصي بشخصك في هذه المعاملة، أو عند المضاربة معك إن خدعتني. تلغ: تترك. الإنذار: التحذير. حذار، أي احذر وخف.
* * *
فقلت: والّذي حرّم أكل الرّبا، وأحلّ أكل اللّبأ، ما فهت بزور، ولا دلّيتك بغرور، وستخبر حقيقة الأمر، وتحمد بذل اللّبأ والتّمر. فهشّ هشاشة المصدوق، وانطلق مغدّا إلى السوق، فما كان بأسرع من أن أقبل بهما يدلح، ووجهه من التّعب يكلح، فوضعهما لديّ، وضع الممتنّ عليّ، وقال: اضرب الجيش بالجيش، تحظ بلذّة العيش. فحسرت عن ساعد النّهم، وحملت حملة الفيل الملتهم، وهو يلحظني كما يلحظ الحنق، ويودّ من الغيظ لو اختنق، حتّى إذا هلقمت النّوعين، وغادرتهما أثرا بعد عين، أقردت حيرة في إظلال البيات، وفكرة في جواب الأبيات، فما لبث أن قام، وأحضر الدّواة والأقلام، وقال: قد ملأت الجراب، فأمل الجواب، وإلّا فتهيّأ إن نكلت، لاغترام ما أكلت، فقلت له: ما عند إلّا التّحقيق، فاكتب الجواب، وبالله التوفيق.(1/419)
* * *
فقلت: والّذي حرّم أكل الرّبا، وأحلّ أكل اللّبأ، ما فهت بزور، ولا دلّيتك بغرور، وستخبر حقيقة الأمر، وتحمد بذل اللّبأ والتّمر. فهشّ هشاشة المصدوق، وانطلق مغدّا إلى السوق، فما كان بأسرع من أن أقبل بهما يدلح، ووجهه من التّعب يكلح، فوضعهما لديّ، وضع الممتنّ عليّ، وقال: اضرب الجيش بالجيش، تحظ بلذّة العيش. فحسرت عن ساعد النّهم، وحملت حملة الفيل الملتهم، وهو يلحظني كما يلحظ الحنق، ويودّ من الغيظ لو اختنق، حتّى إذا هلقمت النّوعين، وغادرتهما أثرا بعد عين، أقردت حيرة في إظلال البيات، وفكرة في جواب الأبيات، فما لبث أن قام، وأحضر الدّواة والأقلام، وقال: قد ملأت الجراب، فأمل الجواب، وإلّا فتهيّأ إن نكلت، لاغترام ما أكلت، فقلت له: ما عند إلّا التّحقيق، فاكتب الجواب، وبالله التوفيق.
* * * الربا: البيع الفاسد.
ابن عباس رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكل درهما من ربا، فهو مثل ثلاث وثلاثين زنية، ومن نبت لحمه من السّحت فالنار أولى به» (1).
فهت: نطقت. زور: باطل. دلّيتك بغرور: يريد أنه لم يعرّر به بل صدّقه.
ستنخبر: ستجرّب. هش: اهتزّ. المصدوق: الذي أخبر بالصدق. مغذّا: مسرعا، وقد أغذّ إغذاذا، إذا أسرع. يدلح: يتثاقل في المشي، ودلحت الدّابة بالحمل دلوحا، والسحاب بالماء. نهضت به ثقيلا. يكلح: يعيش. الممتنّ: المتفضّل. اضرب الجيش بالجيش، أي اخلطهما عند أكلك لهما. تحظّ: تسعد، حسرت عن ساعد، أي شمرت عن ذراع. النّهم: الكثير الشهوة والحرص على الأكل. الملتهم: المبتلع لما وجد.
يلحظني: ينظرني بطرف عينه. الحنق: المغتاظ. وحنق حنقا: اشتدّ غيظه. هلقمت:
ابتلعت بسرعة. غادرتهما: تركتهما أثرا بعد عين، أي بعد أن كان الطعام مريئا ابتلعته فلم يبق غير أثره الإناء.
* * * [ما شهر من مغربات الزرد] (2)
ويليق بهذا الموضع أن نذكر فيه ما شهر من مغرّبات الزرد، قال الشاعر في أكول: [الوافر]
__________
(1) أخرجه بنحوه الترمذي في الجمعة باب 79، والدارمي في الرقاق باب 60، وأحمد في المسند 3/ 321، 399.
(2) الزرد: أي سرعة ابتلاع الطعام.(1/420)
فتضرب خمس كفّك في ثريد ... بلقم منك منكمش الذهاب
كأن دويّه في الحلق لما ... يهمهم صوت رعد أو سحاب
وقال آخر: [الطويل]
إذا غرّد العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الثرائد
وقال آخر: [السريع]
لم تر عيني آكلا مثله ... يضرب باليسرى معا واليمين
تلعب بالقصعة أطرافه ... لعب أخي الشّطرنج بالشّاهين
فمن مشاهير أهل الزرد هلال بن أسعر المازني، وهو من شعراء الدّولة الأمويّة، ذكر الأصبهانيّ أنه كان عظيم الخلق شديدا قويّا.
قال أبو عمرو بن العلاء: لم أكن أراه حيّا، بل رأيته ميّتا، فما رأيت على سرير أطول منه.
قال هلال: جعت مرّة، ومعي بعير لي، فنحرته فأكلته إلا ما جعلته منه على ظهري، ثم أردت جماع امرأتي، فلم أقدر، فقالت: كيف تصل إليّ وبيننا بعير!
وحدّث شيخ من بني مازن، قال: أتاني هلال، فأكل جميع ما في بيتنا، فبعثنا إلى الجيران نستقرض الخبز منهم، فلمّا رأى اختلافنا، قال: كأنكم أرسلتم إلى الجيران:
أعندكم سويق؟ (1) فأتيته بجراب طويل فيه سويق وبرنيّة (2) فيها نبيذ، فصبّ السويق كلّه، وصب النّبيذ، وازدرد الكل.
ومر على رجل من بني مازن بالبصرة، ومعه زورق رطب، قد ساقها من بستانه، فجلس على زورق منها صغير، مغطّى بباريّة (3) فقال: آكل من رطبك؟ قال: نعم، قال:
ما يكفيني؟ قال: ما يكفيك، فجلس على الزّورق يأكل التمر إلى أن اكتفى، فسلت الباريّة فإذا الزورق مملوء نوى.
وقال صدقة بن عبد الله المازني: أولم عليّ أبي لما تزوّجت، فعملنا عشر جفان ثريدا من جزور، فكأن أول من جاءنا هلال، فقدّمت إليه جفنة فأكلها، ثم أخرى حتى أتى على عشر جفان، ثم استسقى، فأتى بقربة من نبيذ، فوضع طرفها في شدقه، فأفرغها في جوفه، ثم خرج، فاستأنفنا عمل الطعام، ومن أعجب ما أكله مائتا رغيف بمكوك (4)
بلح.
وكانت شبعته تكفيه لخمسة أيام. وكان لا يقاومه أحد في النجدة.
__________
(1) السويق: دقيق الحنطة.
(2) البرنية: إناء من الخزف.
(3) البارية: الحصير المنسوج، جمعه بواري.
(4) المكوك: مكيال يسع صاعا ونصف.(1/421)
ومنهم سليمان بن عبد الملك، ذكر المسعودي أن شبعه (1) كانت كل يوم مائة رطل بالعراقي، وكان ربما أتاه الطبّاخون بسفافيد فيها الدجاج، وعليه جبّة الوشي، فبحرصه على الطعام، كان يدخل يده في كمّه ثم يقبض على الدجاجة، وهي حارّة فيفصلها.
قال الأصمعيّ: ذكرت ذلك للرشيد، فقال: قاتلك الله! ما أعرفك بأخبارهم! لقد كنت أرى الدّسم في أكمام جبابه، ولا أدري ما سببه، حتى حدّثتني. وكساني منها جبّة.
وخرج يوما من الحمام وقد اشتد جوعه [فاستعجل الطعام ولم يكن فرغ منه] فأمر أن يقدّم ما لحق من الشواء، ولم يكن فرغ من الطعام شيء، فقدّم إليه عشرون خروفا، فأكل أجوافها مع أربعين رقاقة، ثم قدّم الطعام، فأكل مع ندمائه كأنه لم يأكل.
قال الشمردل وكيل عمرو بن العاص رضي الله عنه لما قدم سليمان الطائف، دخل بستانيّ هو وعمر بن عبد العزيز، وأيوب ابنه، فجال في البستان ساعة، ثم قال: ناهيك بمالكم هذا مالا! ثم ألقى صدره على غصن شجرة، وقال: ويلك يا شمردل! عندك شيء تطعمني؟ فقلت: بلى عندي جدّي، كانت تغدو عليه بقرة وتروح [عليه] أخرى، قال:
عجّل به ويحك! فأتيته به كأنه عكّة سمن، فأكله وما دعا عمر ولا ابنه حتى إذا بقي الفخد قال: هلمّ أبا حفص، قال: إني صائم، فأتى عليه، ثم قال: ويلك أعندك شيء؟ فقلت:
سبع دجاجات هنديات كأنهن رئلان النعام (2)، قال: عجّل بهنّ، فأتيته بهن، فكان يأخذ برجل الدجاجة فيلقي عظامها بفيه، فلمّا فرغ منهنّ قال: ويلك! أعندك شيء؟ فقلت:
حريرة (3) كأنها قراضة ذهب، فقال: عجّلها، فأتيته بها، فجعل يشربها شربا، فلما فرغ تجشّأ فكأنما صاح في جبّ، ثم قال: يا غلام أفرغت من غدائي؟ قال: نعم فقدّم إليه ثمانين قدرا، فأكثر ما أكل من قدر ثلاث لقمات، وأقلّ ما أكل لقمة، ثم مسح يده واستلقى على فراشه، وأذن للناس، وصفّت الموائد، فأكل معهم فما أنكرت من أكله شيئا. وسبب وفاته أنّ نصرانيّا أتى بزنبيل مملوء بيضا، وآخر مملوء تينا، فقال: قشّروا، فجعل يأكل بيضة وتينة، حتى أكل الزّنبيلين، ثم أتوه بقصعة مملوءة محا بسكّر، فأكله فأتخم، فمات.
ومنهم عمرو بن معد يكرب، دخل على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقال: من أين أقبلت يا أبا ثور؟ فقال: من عند سيّد بني مخزوم، أعظمها هامة، وأقلّها ملامة، وأفضلها حلما، وأقدمها سلما، قال: من هو؟ قال: سيف الله وسيف رسوله خالد بن الوليد، قال: فأيّ شيء صنعت عنده؟ قال: أتيته زائرا فدعا لي بقعب وفرس وثور، فقال له عمر: وأبيك إن في هذا لشبعا، قال: لي ولك؟ قال: لي ولك، قال:
__________
(1) شبعه من الطعام: أي ما يكفيه منه ليشبع.
(2) رئلان النعام: أي فرخ النعام.
(3) الحريرة: دقيق يطبخ بلبن وسمن.(1/422)
بلى، فما تقول يا أمير المؤمنين، إني لآكل الجذع من الإبل، أنتقيه عظما عظما، وأشرب الشّنّ (1) من اللبن رائبا (2) أو صريفا (3).
* * * قوله: «أقردت». سكت وخضعت. ما لبث: ما تمهّل. الجراب: وعاء الزاد، وأراد بطنه. أمل، يقال: أمليت عليه إذا ألقيت عليه ما يكتب، وأمللت لغة، وقيل:
الأصل أمللت، فأبدل من اللام ياء. نكلت: انقطعت.
* * * [الخفيف]
قل لمن يلغز المسائل إنّي ... كاشف سرّها الذي تخفيه
إنّ ذا الميّت الذي قدّم الشّر ... ع أخا عرسه على ابن أبيه
رجل زوّج ابنه عن رضاه ... بحماة له، ولا غزو فيه
ثمّ مات ابنه وقد علقت من ... هـ فجاءت بابن يسرّ ذويه
فهو ابن ابنه بغير مراء ... وأخو عرسه بلا تمويه
وابن الابن الصّريح أدنى إلى ... الجدّ وأولى بإرثه من أخيه
فلذا حين مات أوجب للزو ... جة ثمن التراث تستوفيه
وحوى ابن ابنه الذي هو في الأص ... ل أخوها من أمّها باقيه
وتخلّى الأخ الشقيق من الإر ... ث وقلنا يكفيك أن تبكيه
هاك منّي الفتيا التي يحتذيها ... كلّ قاض يقضي وكلّ فقيه
* * *
لا غزو: لا عجب. علقت: حملت. ذويه: قرابته، وأضاف «ذوي» إلى المضمر، وهي لغة قليلة، ومنعها بعضهم، وجوّزها جماعة من أئمة اللغة.
وقال أبو عليّ الفارسيّ. اللهمّ صلّ على محمد وذويه، حملوا «ذوي» على الأصحاب.
الأزهريّ: سمعت غير واحد من العرب، يقول: كنّا مع ذوي عمرو، يعني مع أصحاب عمرو، وهو كثير في كلام قيس ومن جاورهم.
وقال الحريريّ في الدرة: ويقولون: رأيت الأمير وذويه، فيهمون فيه، لأنّ العرب لم تنطق بذي، الّذي بمعنى صاحب إلّا مضافا إلى اسم جنس، كقولك: ذو مال وذو
__________
(1) الشن: القربة.
(2) اللبن الرائب: أي اللبن الممخوض.
(3) اللبن الصريف: أي اللبن ساعة يحلب.(1/423)
نوال، فأمّا إضافته إلى الأعلام أو إلى أسماء الصفات المشتقّة من الأفعال فلم تسمع بحال، ولهذا لحن من قال: صلى الله على محمد وذويه، وكما لم يقولوا: ذو أبي ولا ذو أمّي، واقتصروا على إضافته إلى الجنس، ولهذا لم يرفع السببيّ، لأنه ليس بمشتقّ [من فعل]، فلا يقال: مررت برجل ذي مال أخوه وتصحيحه ذو مال أخوه، لأن النكرة تختصّ بأن توصف بالجملة.
قوله: «مراء» جدال. تمويه: كذب. الصريح: الخالص. أدنى: أقرب. التّراث:
المال الموروث. حوى: حاز. تخلّى: خرج بلا شيء. هاك: خذ. يحتذيها: يتبعها ويعمل بها.
وتقريب هذا اللغز أن تقول: رجل وابنه وامرأة وابنتها، تزوّج الرجل البنت، والابن الأمّ، فمات الابن، وقد حملت منه الأم، فوضعت غلاما، فكان للرّجل ابن ابنه، ولزوجته أخا لأم، ثم مات الرّجل وترك أخا فورثت زوجته الثمن، وأخوها من أمّها الباقي، لأنه ابن ابن الميّت، وهو يحجب الأخ، كما كان يحجبه الابن لو كان حيّا.
ومثله قوله الآخر: [الطويل]
وقائلة أوص الغداة فإنّني ... أرى الموت قد حطّت لديك ركائبه
فقلت وقد راع الفؤاد مقالها ... وضاقت به خوف الحمام مذاهبه
لك الثّمن إن حانت وفاتي فريضة ... وسائر ما يبقى فصنوك صاحبه
جوابه: [الطويل]
تعلّم فإنّ العلم أكبر ملبس ... لمن شرفت أخلاقه ومذاهبه
حليلة هذا أمّها زوجة ابنه ... فذلك والإلغاز جمّ عجائبه
فإن ابنه صنو لزوجته ومن ... يقرّ بعرف العلم تعلو مراتبه
فميراثها ثمن وللصّنو ما بقي ... كذلك يقضي من تعالت مناقبه
والمتقدّم للسؤال في هذه المسألة عبد الملك بن مروان، وذلك أنه وقف به رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا تزوّجت امرأة، وزوّجت ابني من أمّها، فامددنا بشيء نستعين به. فقال له: إن أخبرتني كيف يدعى ابن كلّ واحد منكما لابن صاحبه، فأنا أرفدك، وإلا فلا أعطيك شيئا. فقال له الرجل: فسل عن ذلك كاتبك وصاحب شرطتك، فإن أجاباك، فما تعطيه لي، فادفعه إليهما، وإلا فأنا أعذر. فسألهما فلم يعرفا ذلك، فابتدر رجل من آخر الصفوف، وقال له: أرأيت إن أخبرتك، أتعطيني ما ذكرت للسائل؟ فقال له: نعم، فقال ابن الأب عمّ ابن الابن وابن الابن خال ابن الأب، فوصله.
فهذا أخفّ أمرا في الظاهر من التّوارث الذي فرض الحريريّ، وأشكل في المعنى.
* * *
قال: فلمّا أثبت الجواب، واستثبتّ منه الصّواب، قال لي: أهلك واللّيل، فشمّر الذّيل، وبادر السّيل، فقلت: إني بدار غربة، وفي إيوائي أفضل قربة، لا سيّما وقد أغدف جنح الظّلام، وسبّح الرّعد في الغمام، فقال: اغرب عافاك الله إلى حيث شيت، ولا تطمع في أن تبيت، فقلت. ولم ذاك، مع خلوّ ذراك؟(1/424)
* * *
قال: فلمّا أثبت الجواب، واستثبتّ منه الصّواب، قال لي: أهلك واللّيل، فشمّر الذّيل، وبادر السّيل، فقلت: إني بدار غربة، وفي إيوائي أفضل قربة، لا سيّما وقد أغدف جنح الظّلام، وسبّح الرّعد في الغمام، فقال: اغرب عافاك الله إلى حيث شيت، ولا تطمع في أن تبيت، فقلت. ولم ذاك، مع خلوّ ذراك؟
قال: لأنّي أنعمت النّظر، في التقامك ما حضر، حتّى لم تبق ولم تذر، فرأيتك لا تنظر في مصلحتك، ولا تراعي حفظ صحّتك، ومن أمعن فيما أمعنت، وتبطّن ما تبطّنت، لم يكد يخلص من كظّة مدنفة، أو هيضة متلفة، فدعني بالله كفافا، واخرج عنّي ما دمت معافى، فوالذي يحيي ويميت، ما لك عندي مبيت.
فلمّا سمعت أليّته، وبلوت بليّته، خرجت من بيته بالرّغم، وتزوّد الغمّ، تجودني السّماء، وتخبط بي الظّلماء، وتنبحني الكلاب، وتتقاذف بي الأبواب، حتّى ساقني إليك لطف القضاء، فشكرا ليده البيضاء!
* * * قوله: «أثبت» صحّح. استثبتّ، أي وجده ثابتا. أهلك والليل، كلام للعرب، كأنه قال: بادر أهلك قبل الليل، وتحقيق المعنى في ذلك أنه عطف الليل على الأهل، وجعلهما مبادرين، ومعنى المبادرة مسابقتك الشيء، كقولك: بادرت زيدا المنزل كأني سابقته إليه، وكأنّ الليل والرجل المخاطب يتسابقان إلى أهل الرجل، فأمره الآمر أن يسابق الليل إليهم، ليكون عندهم قبل الليل. شمّر الذيل، أي ارفع ساقك، واستعدّ للمشي. إيوائي: ضمّي. قربة: ما يتقرّب به من أعمال البرّ. أغدف: أسبل وأرسل، ومنه قول عنترة: [الكامل]
إن تغدفي دوني القناع فإنّني ... طبّ بأخذ الفارس المتلثّم (1)
وإنما قيل للغراب غداف لسبوغ ريشه.
وقال رؤبة يخاطب أخاه: [الرجز]
* نبّت من جناحك الغدافي * (2)
__________
(1) البيت لعنترة في ديوانه ص 205، ولسان العرب (طبب)، (قنع)، (غدف)، (لأم)، وتاج العروس (طيب)، (عذف)، وكتاب العين 4/ 394، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 4/ 414، وجمهرة اللغة ص 669.
(2) يروى الرجز:
خلقت من جناحك الغدافي ... من القدامى لا من الخوافي
وهو لرؤبة في ديوانه ص 100، ولسان العرب (غدف)، (قدم)، وتهذيب اللغة 8/ 76، 9/ 48، وتاج العروس (غدف)، (قدم)، وبلا نسبة في كتاب العين 4/ 394.(1/425)
جنح الظلام: ميله، وجنح الليل جنوحا، وأجنح: مال، وهو من الجناح وكان الطائر إذا عدل عن طريق طيرانه، فيرجع يطير إلى جهة جناحه، قيل له: جنح، ثم استعير في الليل وغيره، كما قيل: نكّب عن طريقه، هي من المنكب، كأنه قال: مال بمشيه إلى جهة منكبه.
سبّح: صوت. الغمام: السحاب. اغرب: غب وابعد. ذراك: منزلك. أنعمت:
بالغت. تراعي: تحفظ. أمعن: كثر، وتقول: أمعن لي بحقي: اعترف به وأظهره، مأخوذ من الماء المعين، وهو الجاري الظاهر.
الفرّاء: المعين من الماعون، أو مفعول من العيون.
تبطّن: ملأ بطنه. كظّة: امتلاء البطن. مدنفة: ممرضة. هيضة: انطلاق البطن بالقيء والإسهال. كفافا: مسالمة، أي كفّ عني شرّك وخيرك. معافى: سالما من الآفات.
ألّيته: يمينه. بلوت: خبرت وشاهدت. الرّغم: الذلّ. تجودني: تمطرني والسماء: المطر هنا.
وتذكرت بهذه الحالة خروج السّلامي من دار الشريف الرضي في عشيّة ماطرة، فأعطاه كساء استتر به، فلما وصل إلى منزله كتب إليه بقصيدة:
منها: [الكامل]
ودّعت دارك والسماء تجودني ... بيد الغمام فلا يكن بك ما بي
ما كنت إلا جنّة فارقتها ... كرها فصبّ عليّ سوط عذاب
ورأيت غالية الطريق ومسكه ... طيبا معدّا لي على الأبواب
وحمى كساؤك لا عدمت معيرة ... درّاعتي وعمامتي وجبابي
فوليت يا بحر السماحة كسوتي ... وولي أخوك الغيث بلّ ثيابي
فوصلت أشكر ذا وأشكو ذا وبال ... عينين ما بهما من التّسكاب
وقال آخر فأحسن: [الكامل]
وغمامة نثرت دموعا عندما ... نثر النّسيم جمانها تسبيكا
تهدي السقوف جمانها متفرّقا ... وتمدّه عند السّقوط سلوكا
وقال ابن شهيد فأحسن: [الطويل]
ومرتجز ألقى بذي الأثل كلكلا ... وحطّ بجرعاء الأبارق ما حطّا
سعى في قياد الرّيح يسمح للصّبا ... فألقت على غبر التّلاع به مرطا
وما زال يروي التّرب حتى كسا الرّبا ... درانك، والغيطان من نسحه بسطا
وعنّت له ريح تساقط قطره ... كما نثرت حسناء عن جيدها سمطا
قوله: «تخبط» أي تجعلني أمشي فيها على غير هدى. تتقاذف: تترامى وتتطارح، وجعل الأبواب يرميه بعضها على بعض، لمّا كان يقرعها ولا تفتح له.(1/426)
ومرتجز ألقى بذي الأثل كلكلا ... وحطّ بجرعاء الأبارق ما حطّا
سعى في قياد الرّيح يسمح للصّبا ... فألقت على غبر التّلاع به مرطا
وما زال يروي التّرب حتى كسا الرّبا ... درانك، والغيطان من نسحه بسطا
وعنّت له ريح تساقط قطره ... كما نثرت حسناء عن جيدها سمطا
قوله: «تخبط» أي تجعلني أمشي فيها على غير هدى. تتقاذف: تترامى وتتطارح، وجعل الأبواب يرميه بعضها على بعض، لمّا كان يقرعها ولا تفتح له.
لطف القضاء، أي رفق قدر الله وقضائه. يده البيضاء: نعمته الكريمة، وتقول:
لفلان عليّ يد بيضاء أي نعمة، وجمعها أياد.
[شكر النعمة ومما قيل فيها]
قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أهدى إلى قوم نعمة فلم يشكروها له استجيب له فيهم».
قال عبد الله بن المبارك: أقبل نصر بن سيّار: فقال: اللهمّ إني أهديت إلى بسّام نعمة فلم يعد لي بشكرها، فاجعل موتهم قتلا بالسيف. فبلغني أنه قتل منهم سبعون رجلا.
وقال أبو نواس وأتى بمعنى بديع: [الكامل]
قد قلت للعباس معتذرا ... من ضعف شكريه ومعترفا
أنت امرؤ جلّلتني نعما ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا
فإليك بعد اليوم تقدمة ... لاقتك بالتصريح مكتنفا
لا تحدثنّ إليّ عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا
اعترضه الناشىء في معناه فقال: [الكامل]
إن أنت لم تحدث إليّ يدا ... حتى أقوم بشكر ما سلفا
لم أحظ منك بنائل أبدا ... ورجعت بالحرمان منصرفا
وقال طريح: [الطويل]
طلبت ابتغاء الشّكر فيما صنعت بي ... فقصّرت مغلوبا وإني لشاكر
وقد كنت تعطيني الجزيل بداية ... وإني لما استكثرت منك لحاقر
فأرجع مغبوطا وترجع بالتّي ... لها أوّل في المكرمات وآخر
وقال آخر: [الطويل]
رهنت يدي بالشّكر في شكر برّه ... وما فوق شكري للشّكور مزيد
ولو أنّ شيئا يستطاع استطعته ... ولكنّ ما لا يستطاع شديد
وقال إبراهيم بن العباس الصولي: [المتقارب]
فلو كان للشكر شخص يبين ... إذا ما تأمله الناظر
لمثّلته لك حتى تراه ... فتعلم إني امرؤ شاكر
وهذا الباب من الشكر وإن وفّيناه حقه هنا يأتي متفرّقا في الكتاب.(1/427)
فلو كان للشكر شخص يبين ... إذا ما تأمله الناظر
لمثّلته لك حتى تراه ... فتعلم إني امرؤ شاكر
وهذا الباب من الشكر وإن وفّيناه حقه هنا يأتي متفرّقا في الكتاب.
* * * ولمّا ذكر البطنة وخطرها، وأنها أوجبت عليه خروجه من منزل ضيفه على الحالة التي وصف، أردنا أن نصلها بما يشاكلها.
ومما جاء في ذم البطنة من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يشتري غلاما وضع بين يديه تمرا، فإن أكل كثيرا قال: «ردّوه، فإن كثرة الأكل من الشؤم».
وقيل للتّستري: الرجل يأكل في اليوم مرة؟ قال: أكل الصدّيقين، قيل: فمرتين؟
قال: أكل المؤمنين. قيل: فثلاثا؟ قال: قل لأهلك يبنوا لك معلفا.
ويقبح أن يكون الرجل وصّافا لبطنه وفرجه، وإن من المروءة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه.
وقال عمرو بن العاص لمعاوية رضي الله عنهما يوم الحكمين: أكثروا الطعام، فو الله ما بطن قوم قط إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضت عزيمة رجل بات بطينا.
وقال بعض الحكماء: لكل شيء صدأ وصدأ القلوب شبع البطون.
عزم المعتصم يوما على الاصطباح، وأمر ندماءه أن يطبخ كلّ واحد منهم قدرا، فدخل عليه غلام ابن أبي داود، فقال المعتصم: الساعة يأتي ابن أبي دواد، فيقول: فلان الهاشمي، وفلان القرشيّ والأنصاريّ، فيقطعنا بحوائجه عما عزمنا عليه، وأنا أشهدكم أني لا أمضي له يومي هذا حاجة، فلم يتم الكلام إلا والحاجب يستأذن به، فقال لجلسائه: كيف ترون؟ فقالوا: لا تأذن له، فقال: سوأة لكم! الحمّى سنة أهون عليّ من ذلك، ودخل فما هو إلا أن سلمّ وجلس وتكلم حتى ضحك المعتصم، وسفر وجهه إليه، ثم قال: يا أبا عبد الله، لقد طبخ كل واحد من هؤلاء قدرا، وقد جعلناك حكما في طبخها، قال: فليحضر كل واحد قدره وآكل، ثم أحكم فيها. فوضعت بين يديه، فأكل من أول قدر أكلا كثيرا، فقال المعتصم: هذا ظلم، قال: وكيف ذاك؟ قال: لأني أراك أمعنت في هذا اللون، وستحكم لصاحبه، فقال: عليّ أن آكل من القدور كلّها مثله، قال: شأنك، فأكل ثم قال: أمّا هذه فقد أجاد طباخها، إذ قلّل خلّها وكثّر زيتها، ثم أكل من كل قدر كذلك، ووصف القدور كلّها بصفات حسنة سرّ بها أصحابها، ثم قدّم الطعام، فأكل مع القوم كما أكلوا، أنظف أكل وأحسنه، وهو يحدّثهم بأخبار الأكلة في صدر الإسلام، كمعاوية وعبد الله بن زياد، والحجاج وسليمان بن عبد الملك. وعن أكلة دهره مثل ميسرة التمّار، ودورق القصّاب، وحاتم الكيّال، وإسحاق الحمّامي.(1/428)
فلما رفعت الموائد قال له المعتصم، وقد أطربه حديثه: ألك حاجة يا أبا عبد الله؟
قال: رجل من أهل بيتك، وطئه الدهر، وغيّر حاله، قال: ومن هو؟ قال: سليمان بن عبد الله، قال: قدّر له ما يصلحه، قال: خمسون ألفا، قال: قد أنفذت ذلك له، قال:
ولي حاجة أخرى، ثم ذكر ثلاث عشرة حاجة لا يردّه عن شيء منها، ثم قام خطيبا، فقال: عمّرك الله يا أمير المؤمنين طويلا فبعمرك تخصب جنّات رعيتك، ويلين عيشهم، وتنمو أموالهم، ولا زلت ممتّعا بالكرامة والسلامة، مدفوعا عنك حوادث الأيّام وغيرها، ثم انصرف. فقال المعتصم: هذا والله يتزين الملك بمثله، ويبتهج بقربه، أما رأيتم كيف دخل، وكيف تكلم، وكيف أكل، ثم انبسط في الكلام، وكيف طاب به أكلنا، ما يردّ هذا عن حاجته إلّا لئيم الأصل، والله لو سألني في مجلسي هذا ما قيمته عشرة آلاف ما رددته عنها، وأنا أعلم أنه يكسبني في الدنيا حمدا، وفي الآخرة ثوابا.
وفيه يقول أبو تمام: [الوافر]
لقد أنست مساوىء كلّ دهر ... محاسن أحمد بن أبي دواد (1)
وهذه الحكاية تنتظم في حكايات أهل الزّرد المتقدمين في المقامة، وقد احتوت على رجال موصوفين بذلك، ختمنا بها الباب.
* * * فقلت له: أحبب بلقائك المتاح، إلى قلبي المرتاح، ثمّ أخذ يفتنّ في حكاياته، ويشمط مضحكاته بمبكياته، إلى أن عطس أنف الصبّاح، وهتف داعي الفلاح، فتأهّب لإجابة الدّاعي، ثمّ عطف إلى وداعي، فعقته عن الانبعاث، وقلت: الضيّافة ثلاث، فناشد وحرّج، ثمّ أمّ المخرج، وأنشد إذ عرّج: [الخفيف]
لا تزر من تحبّ في كل شهر ... غير يوم ولا تزده عليه
فاجتلاء الهلال في الشّهر يوم ... ثمّ لا تنظر العيون إليه
قال الحارث بن همّام: فودّعته بقلب دامي القرح، ووددت لو أنّ ليلتي بطيئة الصّبح.
* * * قوله: «أحبب»، تعجّب معناه: ما أحبّ لقاءك إلى قلبي. المتاح: المقدّر، والمرتاح: المهتزّ طربا. يفتنّ: ينوّع. ويشمط: يخلط. أنفه: أوله، وجعل للصباح أنفا عاطسا مجازا لمّا كان يدفع ظلمة الليل. هتف: صاح. داعي الفلاح، هو المؤذّن.
__________
(1) البيت في ديوان أبي تمام ص 79.(1/429)
والفلاح: البقاء. تأهّب: استعدّ. عقته: حبسته. الانبعاث: النّهوض.
وذكر أنّ الضيافة ثلاث: لأنه جاء في حديث أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» (1). وجائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاث، ولا يحلّ له أن يثوى عنده حتى يحرجه، فما أنفق عليه بعد ثلاث فهو صدقة.
أبو عبيدة: جائزته يوم وليلة، أي يعطي الضيف بعد إكرامه ثلاثة أيام ما يجوز به يوما وليلة، يقال: أسفّ بجائزة وجيزة، وجوزة، أي قدر ما يجوز به المسافر من منهل إلى منهل.
ومن ملح باب الضيافة، قال المبرّد: أضاف رجل رجلا فأطال المقام حتى كرهه، فقال الرجل لامرأته: كيف لنا أن نعلم مقدار مقامه؟ فقالت له: ألق بيننا شرّا حتى نتحاكم إليه، ففعل، فقالت المرأة للضيف: بالذي يبارك لك في غدوّك غدا، أيّنا أظلم؟ فقال:
والذي يبارك لي في مقامي عندكم شهرا ما أعلم.
ونزل بصريّ على مدنيّ، وكان صديقا له، فألحّ عليه في الجلوس، فقال المدنيّ لامرأته: إذا كان غدا فإني أقول لضيفنا: كم ذراع يقفز فأقفز، فإذا قفز فأغلقي الباب خلفه، فلمّا كان من الغد، قال له المدنيّ: كم قفزك يا أبا فلان؟ قال: جيّد، فعرض عليه أن يقفز معه، فأجابه، فوثب المدنيّ من داره إلى خارج أذرعا، وقال للضيف: ثب أنت، فوثب الضيف إلى داخل الدار ذراعين، فقال له: وثبت أنا إلى خارج الدار أذرعا، وأنت إلى داخلها ذراعين، فقال الضيف: ذراعان من الدار خير من أربع إلى «برّا».
الأزهريّ: برّا مولدة.
قوله: «ناشد» حلّف. حرّج: وكّد يمينه، أي لا يقيم، والحرج: الإثم.
ابن الأنباري: تحرّج فلان عن كذا، أي تديّن وضيّق على نفسه، والحرج عندهم الضيق. أمّ: قصد. عرّج: التوى عن الباب منصرفا. اجتلاء: نظو.
القرح: الجرح، وأنشد الثعالبي في هذا المعنى، فقال: [الطويل]
عليك بإقلال الزيارة إنّها ... إذا كثرت كانت إلى الهجر مسلكا
فإني رأيت الغيث يسأم دائما ... ويسأل بالأيدي إذا هو أمسكا
__________
(1) روي بطرق وأسانيد متعددة، وأخرجه البخاري في الأدب باب 31، 85، والرقاق باب 23، ومسلم في اللقطة حديث 14، والإيمان حديث 74، 75، 77، وأبو داود في الأطعمة باب 5، والترمذي في البر باب 43، والقيامة باب 50، وابن ماجه في الأدب باب 5، والدارمي في الأطعمة باب 11، ومالك في صفة النبي ص حديث 22، وأحمد في المسند 2/ 174، 267، 269، 433، 463، 3/ 76، 4/ 31، 5/ 412، 6/ 69، 384، 385.(1/430)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «زرغبّا تزدد حبّا» (1).
نظمه الشاعر فقال: [الطويل]
إذا شئت أن تقلى فزر متواترا ... وإن شئت أن تزداد حبّا فزر غبّا
وقالوا: قلة الزيارة أمان من الملالة.
وقالوا في ضدّه: ترك الزيارة سبب القطيعة.
وقال عليّ رضي الله عنه: الصبر من كرم الطبيعة، والمنّ مفسدة الصنيعة، وترك التعاهد للصديق يكون داعية القطيعة.
وقال عبد الصمد بن المعذّل في ضدّ هذا: وأن يحافظ على الصداقة بظهر الغيب، ويمدح إبراهيم بن الحسن: [البسيط]
يا من فدت نفسه نفسي وقد جعلت ... له وقاء لمن يخشى وأخشاه
أبلغ أخاك وإن شطّ المزار به ... إنّي وإن كنت لا ألقاه ألقاه
وإنّ طرفي موصول برؤيته ... وإن تباعد عن مثواي مثواه
الله يعلم أني لست أذكره ... وكيف يذكره من ليس ينساه
لا شيء مما نرى إلا له شبه ... وما لكم آل إبراهيم أشباه
عذرا فهل حسن لم ينمه حسن ... وهل فتى عدلت جدواه جدواه
قال أبو العتاهية: [الكامل]
أقلل زيارتك الصّديق ولا تطل ... إتيانه فتلجّ في هجرانه (2)
إنّ الصديق يلج في غشيانه ... لصديقه فيلجّ في عصيانه
حتى تراه بعد طول سروره ... وكأنه متبرّم بمكانه
وإذا تولّى عن صيانة نفسه ... رجل تنقّص واستخفّ بشأنه
وإفراط البرّ بالصاحب داع إلى كثرة الإخجال، ومانع من العودة بعد الانفصال.
وكتب ابن عمار إلى ابن زريق، وقد عتب عليه، أن اجتاز ببلده ولم يلقه هذه الأبيات: [البسيط]
لم يلوعنك عناني سلوة خطرت ... ولا فؤادي ولا سمعي ولا بصري
لكن عدتني عنكم خجلة عرضت ... كفاني العذر منها بيت معتذر
__________
(1) رواه الزمخشري في الفائق في غريب الحديث 2/ 417، وابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 3/ 336.
(2) الأبيات في ديوان أبي العتاهية ص 332.(1/431)
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر
ضمّن ابن عمار هذا البيت أحسن تضمين، وهو للمعرّي، وما قيل في العجز عن الشكر أحسن منه، والإقلال يمنع تلاقي الأحباب، ويحطّ من همم ذوي الأحساب، فإنه إذا لم يكن عندك ما تقدّم بين يدي ضيفك أو زائرك تمنّيت إذا حلّ بك ألّا تراه.
وقال حبيب: [الطويل]
وسيّان عندي صادفوا لي مطمعا ... أعاب به أو صادفوا لي مقتلا
وقال ابن الجدّ: [الطويل]
وإني لصبّ بالتلاقي وإنما ... يصد فؤادي عن معاذ يرك العسر
أذوب حياء من زيارة صاحب ... إذا لم يساعدني على برّه الوفر
وفي المقامة التي تلي هذه فنّ ثان من الزيارة، تقف عليه إن شاء الله تعالى.
* * *
المقامة السّادسة عشرة وتعرف بالمغربيّة(1/432)
* * *
المقامة السّادسة عشرة وتعرف بالمغربيّة
حكى الحارث بن همّام، قال: شهدت صلاة المغرب، في بعض مساجد المغرب، فلمّا أدّيتها بفضلها، وشفعتها بنفلها، أخذ طرفي رفقة قد انتبذوا ناحية، وامتازوا صفوة صافية، وهم يتعاطون كأس المنافثة، ويقتدحون زناد المباحثة، فرغبت في محادثتهم، لكلمة تستفاد، أو أدب يستزاد، فسعيت إليهم، سعي المتطفّل عليهم.
* * * أدّيتها: تمّمتها، شفعتها: زوجتها، يريد أنّه صلّى الفريصة، ثم صلّى النافلة بفضلها، يريد أنّه صلّاها في الجماعة، وهي أفضل من صلاة الفذّ. انتبذوا: انفردوا، وصاروا إلى جهة وزاوية من المسجد. وامتازوا: انفصلوا. صفوة: خيارا. يتعاطون:
يعطي بعضهم بعضا. المنافثة: المحادثة. يقتدحون، أي يضربونها ويستخرجون نارها.
المباحثة: المناظرة في العلم.
* * * [في معنى التطفّل]
المتطفّل: الآتي إلى الطعام من غير أن يدعى، وهو الوارش (1) عند العرب.
وتطفّل: تشبّه بطفيل العرائس، وهو طفيل بن دلال الدارميّ، يسمّى طفيل الأعراس، وطفيل العرائس، لكثرة دورانه على حضورها، ومشاهدته لها، والأكل منها، من غير أن يدعى إليه، واسمه مشتقّ من الطّفل، وهو إقبال الليل على النهار.
أبو عمرو: الطّفل: الظّلمة.
ابن الأعرابيّ: ويقال للطّفيلي اللّعموظ، والجمع اللعاميظ.
وطفيل من بني عبد الله بن غطفان، كان يأتي الأعراس ولم يدع. ومسكنه بالكوفة، وكان يقول: وددت أن الكوفة بركة مصهرجة، فلا يخفى عليّ فيها دخان، فنسب إليه كل
__________
(1) الوارش: هو الواغل.(1/433)
من يتطفّل، نسبة مذهب لا نسب، والتطفّل من أخلاق اللئام، وسجايا الأوغاد، ومنهي عنه في الشرع.
ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعي فلم يجب فقد عصى الله ورسوله، ومن دخل على غير دعوى دخل سارقا وخرج مغيرا» (1).
عائشة رضي الله عنها: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من دخل على قوم لطعام لم يدع فأكل دخل فاسقا، وأكل حراما».
* * * [من أخبار المتطفلين]
ونسوق هنا فصلا للطفيليّين، يكون في هذه المقامة بمنزلة فضل الأكلة في المقامة التي قبل هذه لأن حالتيهما متقاربة.
فمن ذلك ما يحكى عن بشار الطفيليّ أنه قال: رحلت يوما إلى البصرة، فلما دخلتها قيل لي: إنّ هنا عريفا للطّفيليّين يبرهم، ويكسوهم ويرشدهم إلى الأعمال ويقاسمهم. فسرت إليه فبرّني وكساني، وقمت عنده ثلاثة أيام، وله جماعة يصيرون إليه بالزّلّات (2) فيأخذ النّصف، ويعطيهم النّصف، فوجّهني معهم في اليوم الرابع، فحصلت في وليمة، فأكلت وأزللت معي شيئا كثيرا وجئته به، فأخذ النصف، وأعطاني النصف، فبعت ما وقع لي بدراهم، فلم أزل على هذه الحالة أياما، ثم دخلت يوما على عرس جليل، فأكلت وخرجت بزلّة حسنة، فلقيني إنسان فاشتراها بدينار، فأخذته وكتمته، وكتمت أمرها. فدعا جماعة من الطفيليّين، فقال: إن هذا البغداديّ قد خان، فظنّ أني لا أعلم ما فعل، فاصفعوه وعرفوه ما كتمنا، فأجلسوني شئت أم أبيت، وما زالوا يصفعونني واحدا بعد واحد، فيصفعني الأول منهم، ويشمّ يدي، ويقول: أكل مضيرة (3)، ويصفعني الآخر ويشمّ يدي، ويقول: أكل كذا، ويصفعني الآخر، حتى ذكروا كلّ شيء أكلته، ما غلطوا بشيء منه، ثم صفعني شيخ منهم صفعة عظيمة، وقال: باع الزّلة بدينار، وصفعني آخر، وقال: هات الدّينار، فدفعته إليه، وجرّدني الثياب التي أعطانيها، وقال: اخرج يا خائن في غير حفظ الله. فخرجت إلى بغداد، وحلفت ألّا أقيم ببلد فيه طفيليّة يعلمون الغيب.
ونريد هنا أن نذكر بعض ما اشتهر من حكايات طفيليّة البصرة، إذ هم أحذق خلق الله في باب التطفيل:
__________
(1) أخرجه بنحوه الترمذي في الصوم باب 64، وأبو داود في الأطعمة باب 1.
(2) الزلة: اسم لما تحمل من مائدة صديقك أو قريبك.
(3) المضيرة: هي مرقة تطبخ باللبن.(1/434)
بعث المأمون في طلب عشرة من زناذقة البصرة، فجمعوا فرآهم طفيليّ، فمضى معهم، فأدخلوا في سفينة، فدخل معهم، وجيء بالقيود، فقيّد معهم، فقال أحدهم: يا طفيليّ إليّ هنا، فأقبل عليهم فقال: فديتكم، أيّ شيء أنتم؟ فقالوا له: بل أنت، من أنت؟ وهل أنت من أصحابنا؟ قال: والله ما أعرفكم، غير أني طفيليّ، خرجت من منزلي، فرأيت منظرا جميلا، ونعمة ظاهرة، فقلت: شيوخ وكهول وشبّان، ما اجتمع هؤلاء إلا لصنيع، فدخلت وسطكم كأني أحدكم إلى هذا الزورق، فرأيته قد فرش ومهّد، ورأيت سفرا (1) مملوءة فقلت: نزهة إلى بعض البساتين والقصور، إن هذا اليوم يوم مبارك، فزدت ابتهاجا، فجاء هذا الموكّل بكم فقيّدكم، فطار عقلي فما الخبر؟ فضحكوا وفرحوا به، وقالوا له: قد حصلت في الإحصاء، نحن مانيّة على مذهب ماني، القائل بالنور والظلمة، نسير إلى المأمون، فيسألنا عن مذهبنا، ويدعونا إلى التوبة. ويظهر لنا صورة ماني، ويأمرنا أن نتفل عليها، ونبرأ منها، فمن فعل نجا، وإلا قتل، فإذا دعيت فأخبره باعتقادك، وللطفيليّ مداخلات وأخبار فاقطع سفرنا بها. فكان ذلك. فلما دخلوا على المأمون، دعاهم بأسمائهم وامتحنهم فأمرّ عليهم بالسيف، وتأخّر الطفيليّ وقد استوعب العدّة، فسأل الموكّلين بهم، فقالوا: وجدناه معهم، فجئنا به، فقال له: ما خبرك؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، امرأته طالق إن كنت أعرف من أقوالهم شيئا، إنما أنا رجل طفيليّ، ثم قصّ قصته معهم.
فضحك المأمون كثيرا، ثم أظهر الصورة، فلعنها وبرىء منها، ثم قال: اعطوها لي حتى أسلح عليها، والله ما أدري ما ماني! أنصرانيّ أم يهوديّ أم مسلم؟ فقال المأمون:
يؤدّب على فرط جهله وتطفيله ومخاطرته بنفسه، فقال: يا أمير المؤمنين بحياتك، إن كنت ولا بدّ عازما، فاجعل السّياط كلّها على بطني، فهو الذي حملني على هذا الغرر.
فعاد إلى الضحك، فاستوهبه منه إبراهيم بن المهدي بحديث في تطفيله يذكر في خبر إسحاق الموصلي، فوهبه له، وأجاز الطفيليّ بجائزة سنيّة.
كان إبراهيم بن المدبّر عاملا على البصرة، وكان له سبعة ندماء لا يأنس بغيرهم، وكلّ واحد منهم منفرد بعلم من العلوم. وكان طفيلي يعرف بابن درّاج، من أكمل الناس أدبا، وأخفّهم روحا وأشدّهم في كلّ مليحة افتنانا. فاحتال ودخل في جملة الندماء، فخرج إبراهيم، فرآه فقال لحاجبه: قل لهذا الرجل، ألك حاجة؟ فسقط في يد الحاجب، وعلم أنّ الحيلة تمّت عليه، وأنه لا يرضي ابن المدبّر من عقوبته إلا بقتله، فمرّ يجر رجليه، فقال له: يقول لك الأستاذ: ألك حاجة؟ فقال: قل له: لا، فأدخله عليه، فقال:
فأيّ شيء أدخلك! أأنت طفيليّ؟ فقال: نعم أصلحك الله! فقال: إن الطفيليّ يحتمل على دخوله على الناس بخصال، منها أن يكون لاعبا للشّطرنج أو بالنّرد، أو ضاربا بالعود، أو
__________
(1) السفرة: طعام المسافر.(1/435)
بالطنبور، فقال: أيّدك الله، إنا لما ذكرت في الطبقة العليا، فقال لبعض الندماء: لاعبه بالشطرنج، قال: أعزّك الله. فإن قمرت (1)؟ قال: أخرجناك، قال: وإن قمرت، قال:
أعطيناك ألف درهم، فقال: أحضرها فإن في حضورها قوة للنفس، فلعبا بالشطرنج، فغلب الطفيلي، ومدّ يده لأخذ الدراهم، فقال الحاجب: أعزّك الله، ذكر أنه في الطبقة العليا، وإن فلانا غلامك يغلبه، فأحضر الغلام فغلبه فقالوا له: انصرف، فقال:
أحضروا النرد، فلوعب به فغلب، فقال الحاجب: لكن بوّابنا فلان يغلبه، فأحضر البوّاب فغلبه، فقيل له: اخرج، قال: فالعود؟ فأعطي عودا، فضرب فأصاب، وغنى فأطرب، فقال الحاجب: يا سيّدي إن في جوارنا شيخا يعلّم القيان، هو أحسن منه، فأحضر إليه، فكان أطيب منه، فقيل له: اخرج، فقال: فالطنبور؟ فضرب ضربا لم ير أحسن منه، فقال الحاجب: إنّ فلانا المحتكر أطيب منه، فأحضر فكان أحذق منه، فقال ابن المدبّر: قد تقصّينا لك بكلّ جهد، فأبت حرفتك إلا طرحك، فقال: يا سيّدي، بقيت معي فائدة حسنة، فقال: وما هي؟ قال: تأمر أن يحضر قوس بندق مع خمسين بندقة من رصاص، ويقام هذا الحاجب فأرميه في دبره، فإن أخطأته بواحدة، فاضرب عنقي، فضجّ الحاجب. ووجد ابن المدبّر شفاء نفسه في عقوبته، فأمر بخشبتين، وشدّ الحاجب فوقهما. وأعطي القوس، فرماه بخمسين بندقة، فما أخطأ دبره بواحدة منها.
وحلّ الحاجب وهو يتأوّه لما به، فقال له الطفيليّ: يا صفعان، هل على باب الأمير من يحسن مثل هذا؟ فقال له الحاجب: يا قرنان إذا كان البرجاس (2) استي فلا يحسن أحسد مثلك.
قال: وذهب الضّحك بابن المدبّر هو وأصحابه كلّ مذهب، ثم أعطاه ألف درهم وانصرف.
صحب طفيليّ رجلا في سفر، فلما نزلوا ببعض المنازل، قال له الرجل: خذ درهما وامشي فاشتر لنا لحما. فقال له الطفيليّ: قم أنت، والله إنّي لتعب، فاشتر أنت.
فمضى الرّجل، فاشتراه، ثم قال له الرجل: قم فاطبخه، فقال: لا أحسن، فقام الرجل، فطبخه، ثم قال الرّجل للطفيليّ: قم فاثرد، فقال: والله إنّي لكسلان، فترد الرّجل، ثم قال له: قم فاغترف، قال: أخشى أن ينقلب على ثيابي، فغرف الرجل حتى ارتوى الثّريد، فقال له: قم الآن فكل، قال: نعم إلى متى هذا الخلاف! قد والله استحييت من كثرة خلافك. وتقدّم فأكل.
وقال طفيل العرائس: ليس في الأرض أكرم من ثلاثة أعواد: عصا موسى عليه السلام، وخوان الطعام، ومنبر الخليفة.
__________
(1) قمرت: غلبت.
(2) البرجاس: ما يوضع على رأس الرمح.(1/436)
ومن وصيّته لأصحابه: إذا دخلتم عرسا، فلا تلتفتوا إلى الملاهي، وتخيّروا المجالس، وإن كان العرس كثير الزحام، فليمض أحدكم ولا ينظر في عيون الناس، ليظنّ أهل الرجل أنه من أهل المرأة، وأهل المرأة أنه من أهل الرجل، وإن كان البواب فظّا وقحا، فليبدأ به فليأمره ولينهه من غير عنف، ولكن بين النصيحة والإدلال.
وقال بنان الطفيليّ: التمكن على المائدة خير من ثلاثة ألوان.
وسئل بنان: هل تحفظ من كتاب الله تعالى شيئا؟ قال: نعم، آية. قيل: وما هي؟
قال: {قََالَ لِفَتََاهُ آتِنََا غَدََاءَنََا} [الكهف: 62] قيل: أتحفظ شيئا من الشعر؟
قال: بيتا واحدا، قيل: ما هو؟ قال: [البسيط]
نزوركم لا نكافئكم بجفوتكم ... إن الكريم إذا ما لم يزر زارا
وبعده: [البسيط]
يقرّب الشوق دارا وهي نازحة ... من عالج الشوق لم يستبعد الدارا (1)
وقال أبو الورد المحاكمي في طفيلي: [الوافر]
طفيلي يؤم الخبز أنّى ... يراه ولو يراه على يفاع
ولا يروي من الأخبار إلّا: ... «أجيب ولو دعيت إلى كراع»
وقال طفيلي أيضا: [الخفيف]
نحن قوم إذا دعينا أجبنا ... ومتى ننس يدعنا التّطفيل
ونقل علنّا دعينا فغبنا ... وأتانا فلم يجدنا الرّسول
وأقبل طفيليّ إلى طعام لم يدع إليه، فقال صاحب الطعام: من دعاك؟ فأنشده:
[السريع]
دعوت نفسي حين لم تدعني ... فالحمد لي لا لك في الدعوه
وكان ذا أحسن من موعد ... مخلفه يدعو إلى الجفوه
ودخل طفيليّ في صنيع رجل من القبط، فقال له: من أرسل إليك؟ فأنشأ يقول:
[البسيط]
أزوركم لا أكافيكم بجفوتكم ... إن المحبّ إذا ما لم يزر زارا
فقال: «زر زارا»، ليس ندري من هو؟ أخرج من بيتي!
وقال آخر في طفيليّ كوفيّ: [الطويل]
زرعنا فلمّا سلّم الله زرعنا ... وأوفى عليه منجل لحصاد
__________
(1) البيتان للعباس بن الأحنف في العقد الفريد 6/ 221.(1/437)
بلينا بكوفيّ حليف مجاعة ... أضرّ علينا من دبي وجراد
وحدّث آدم الطويل، قال: دخل حانوتيّ غريب يأكل شيئا من الطعام فتقدّم سائل، فقلت له: ما أكثر تردّدك إليّ! فقال الغريب الذي في الحانوت: لعلّه كما قال الشاعر:
[السريع]
لو طبخت قدر بمطمورة ... أوفى ذرا قصر بأعلى الثّغور
وكنت بالصين لوافيتها ... يا عالم الغيب بما في القدور!
حكى المبرّد قال: كان بالبصرة طفيليّ مشهور، وكان ذا أدب وظرف، فمرّ بسكة النّخع بالبصرة على قوم عندهم وليمة، فاقتحم عليهم، وأخذ مجلسه مع من دعي، فأنكره صاحب المنزل فقالوا له: لو تأنّيت أو صبرت يا هذا قبل الدخول حتى يؤذن لك، كان أحسن لأدبك، وأعظم لقدرك، وأجلّ لمروءتك فقال: إنّما اتّخذت البيوت ليدخل فيها، ووضعت الموائد ليؤكل عليها، والحشمة قطيعة، واطّراحها صلة.
وجاء في الآثار: صل من قطعك، وأعط من منعك، وأحسن إلى من أساء إليك.
وأنشد: [الخفيف]
كلّ يوم أدور في عرصة الدا ... ر أشمّ القتار شمّ الذباب
فإذا ما رأيت آثار عرس ... أو دخانا أو دعوة الأصحاب
لم أعرج دون التقحّم لا أر ... هب شتما أو لكزة البوّاب
مستهينا بمن دخلت عليه ... غير مستأذن ولا هيّاب
ذاك أهنا من التكلّف والغر ... م وشتم البقّال والقصّاب
كان بالبصرة طفيليّ يكنى أبا سلمة، وكان إذا بلغه خبر وليمة، لبس لبس القضاة، وأخذ ابنيه معه، عليهما القلانس الطّوال والطيالسة، فيتقدم أحدهما فيدقّ الباب، ويقول:
افتح يا غلام لأبي سلمة، ثم لا يلبث حتى يلحقه الآخر، فيقول: افتح ويلك! قد جاء أبو سلمة، ويتلوهما، فإن لهم يعرفهم البوّاب فتح لهم، وإن عرفهم لم يلتفت إليهم، ومع كلّ واحد منهما فهر مدوّر يسمّونه كيسان، فينتظرون من دعي، فإذا جاء وفتح له طرحوا الفهر في العتبة، حيث يدور الباب، فلا يقدرون على إغلاقه فيهجمون ويدخلون.
فأكل أبو سلمة يوما على بعض الموائد لقمة حارّة من فالوذج، وبلعها بشدّة حرارتها، فتجمّعت أحشاؤه، فمات على المائدة، فقال عبد الصمد بن المعدل يرثيه:
[البسيط]
أحزان نفسي عنّي غير منصرمه ... وأدمعي من جفون العين منسجمه
على صديق ومولى لي فجعت به ... ما إن له في جميع الصالحين لمه
كم جفنة مثل دور الحوض مترعة ... كوماء جاء بها طباخها رذمة(1/438)
قد كللّتها شحوم من قليّتها ... ومن سنام جزور عبطة سنمه
غيبت عنها فلم تعلم لها خبرا ... لهفي عليك وعولي يا أبا علمه
ولو تكون لها حيا لما بعدت ... يوما عليك ولو في جاحم حطمه
قد كنت أعلم أن الأكل يقتله ... لكنني كنت أخشى ذاك من تخمه
إذا تعمم في شبليه ثم غدا ... فإن حوزة من يأتيه مصطلمه
* * *
وقلت لهم: أتقبلون نزيلا يطلب جنى الأسمار، لا جنيّ الثّمار، ويبغي ملح الحوار، لا ملحاء الحوار، فحلّوا لي الحبا، وقالوا: مرحبا مرحبا، فلم أجلس إلّا لمحة بارق خاطف، أو نغبة طائر خائف، حتّى غشينا جوّاب، على عاتقه جراب، فحيّانا بالكلمتين، وحيّا المسجد بالتّسليمتين، ثم قال: يا أولي الألباب، والفضل اللّباب، أما تعلمون أن أنفس القربات، تنفيس الكربات، وأمتن أسباب النّجاة، مواساة ذوي الحاجات. وإنّي ومن أحلّني ساحتكم، وأتاح لي استماحتكم، لشريد محلّ قاص، وبريد صبية خماص، فهل في الجماعة، من يفثأ عنّا حميّا المجاعة؟
فقالوا له: يا هذا، إنّك حضرت بعد العشاء، ولم يبق إلا فضلات العشاء، فإن كنت بها قنوعا، فما تحد فينا منوعا، فقال: إنّ أخا الشدائد، ليقنع بلفاظات الموائد، ونفاضات المزاود. فأمر كلّ منهم عبده، أن يزوّده ما عنده.
* * * قوله: «نزيلا» أي ضيفا. الأسمار: المذاكرة بالليل. وجناها: ما يجنى من فوائدها. يبغي: يطلب. ملح الحوار: مليح الكلام، والحوار: مراجعة القول. ملحاء الحوار: لحم سنام الفصيل. الحبا: جمع حبوه، وكانت العرب ليس لها في البوادي حيطان تستند إليها في مجتمعهم، فكان الرجل يقيم ركبتيه في جلوسه، فيضع عليها أو يدير بهما ثوبا، ويعقد عليهما يديه، ويستريح إليها، ويقوم ذلك له مقام الاستناد، فيقال لذلك العقد: الحبوة، فأراد أنّهم حلوا له الحبا إكراما له. لمحة بارق: لمعة برق.
خاطف: يخطف العين بسرعة فيمنعها النظر. نغبة: جرعة. غشينا: دخل علينا فجأة.
جوّاب: قطاع للأرض بمشيه. العاتق: ما بين المنكب والعنق. جراب: وعاء للخبز الكلمتين: سلام عليكم. التسليمتين: سلامه عند الدخول وسلامه من الركعتين. وتحية المسجد: أن يركع الداخل فيه ركعتين، وقيل: التسليمتين تسليمة من صلاة المغرب وتسليمة من الركعتين اللّتين بعدها. الألباب: الأذهان اللّباب: الخالص. أنفس: أرفع.
القربات: ما يتقرّب به إلى الله عز وجل، واحدها قربة. الكربات: الهموم. تنفيسها:(1/439)
جوّاب: قطاع للأرض بمشيه. العاتق: ما بين المنكب والعنق. جراب: وعاء للخبز الكلمتين: سلام عليكم. التسليمتين: سلامه عند الدخول وسلامه من الركعتين. وتحية المسجد: أن يركع الداخل فيه ركعتين، وقيل: التسليمتين تسليمة من صلاة المغرب وتسليمة من الركعتين اللّتين بعدها. الألباب: الأذهان اللّباب: الخالص. أنفس: أرفع.
القربات: ما يتقرّب به إلى الله عز وجل، واحدها قربة. الكربات: الهموم. تنفيسها:
تفريجها وإزالتها. أمتن: أقوى وأغلظ. النّجاة: التخلّص. مواساة: جعلك لهم أسوة نفسك. ساحتكم: موضعكم. أتاح: قدّر. استماحتكم: اجتداءكم والطّلب منك. شريد:
منفّر، والشريد: الهارب. قاص: بعيد. بريد: رسول. خماص. جياع. يفثأ: يكسر.
حميّا المجاعة: حدّه الجوع. فضلات: بقايا لفاظات: ما يلفظ منها، أي يطرح.
نفاضات: ما ينفض من بقية الزاد.
ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكل ما يسقط من الخوان نفى عنه الفقر، وعن ولده الحمق».
والمزاود: أوعية الزاد.
* * * فأعجبه الصّنع، وشكر عليه، وجلس يرقب ما يحمل إليه، وثبنا نحن إلى استثارة ملح الأدب وعيونه، واستنباط معينه من عيونه، إلى أن جلنا فما لا يستحيل بالانعكاس، كقولك: ساكب كأس. فتداعينا إلى أن نستنتج له الأفكار، ونفترع منه الأبكار، على أن ينظم الباديّ ثلاث جمانات في عقده، ثمّ تتدرّج الزّيادات من بعده، فيربّع ذو ميمنته في نظمه، ويسبّع صاحب ميسرته على رغمه.
قال الراوي: وكنا قد انتظمنا عدّة كأصابع الكفّ، وتألّفنا ألفة أصحاب الكهف.
* * * الصنع: الجميل. وقوله: «وجلس يرقب»، وقال قبل هذا: «فلم أجلس إلا لمحة بارق»، وقال في الثامنة والعشرين، «وجلس حتى ختم نظم التأذين» وأكثر ما صرف الجلوس في مقاماته من قيام.
وقال في الدّرّة: «يقولون للقائم: اجلس، والاختيار على ما حكاه الخليل، أن يقال لمن كان قائما: اقعد، ولمن كان نائما أو ساجدا: اجلس. وعلّل بعضهم هذا الاختيار بأنّ القعود هو الانتقال من علو إلى سفل، ولهذا قيل لمن أصيب برجلة:
مقعد، وإن الجلوس من سفل إلى علو، ومنه قول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:
[الكامل]
قل للفرزدق والسفاهة كاسمها ... إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس
أي اقصد نجدا.
وكان عمر واليا على المدينة فقال للفرزدق: إن كنت تلزم العفاف، وإلا فاخرج إلى نجد.(1/440)
وحكى أبو عبد الله بن خالويه: قال دخلت على سيف الدولة بن حمدان يوما، فلما مثلت بين يديه قال: اقعد، ولم يقل: اجلس، فتبينت بذلك اعتلاقه بأهداب الأدب واطّلاعه على أسرار كلام العرب.
والذي نظر هو الوجه، ولهذا جعله على الاختيار، ولم يجعله من اللحن، إلّا أنه لقرب المعنيين، يجوز أن يكون قد استعمل جلس في المقامات، من القيام.
* * * يرقب: ينظر ويحرس ثبنا: رجعنا. استثارة: استخراج. ملح: ما يتلمّح به من الكلام. عيونه: محتاره. استنباط: استخراج. معينه: ماؤه الصافي عيونه: جمع عين الماء. وكنى بالمعين والعين عن الكلام والقلوب، جلنا: تصرّفنا. يستحيل. يتغيّر الانعكاس: قراءة اللفظة من آخرها. ساكب: صابّ. تداعينا: دعا بعضنا بعضا. نستنتج:
نستدعي منها النّتاج وهو الولد الأفكار: جمع فكر، وجعل ما يبديه الفكر من الكلام نتاجا له نفترع: نفتض. حمانات: جمع جمانة، وهي حبّة تعمل من فضة كالدرّة، تتدرّج:
تتمشى. يربّع: يصنع أربع جمانات. ذو، بمعنى صاحب. يسبّع: يصنع سبعا رغمه:
إكراهه وإذلاله. انتظمنا: اجتمعنا. تألّفنا: تصاحبنا وانضمّ بعضنا إلى بعض، ومنه ألّفت الكتاب. والألفة: الصحبة والاجتماع. والكهف: الغار وأصحابه قصتهم معروفة.
* * * [قصة أهل الكهف]
قال ابن عباس في قوله عز وجلّ: {مََا يَعْلَمُهُمْ إِلََّا قَلِيلٌ} [الكهف: 22] أنا من أولئك القليل، وهم مكسلمينا ويمليخا، وهو المبعوث بالورق إلى المدينة، ومرطونس وسارينوس ويوانس وكفشطيوس وقطينوسيسوس، وهو الراعي، والكلب اسمه قطمير وهو أنمردون الكروي وفوق القلطي.
وقال أبو شبل: بلغني أنّ من كتب هذه الأسماء في شيء ووضعه في الحريق سكن الحريق.
وذكر الطبري أنّهم كانوا في أيام الطوائف على دين عيسى ابن مريم، وكانوا في حكم ملك للرّوم يسمّى دقيانوس يعبد الأصنام، فبلغه عن الفتية مخالفتهم لدينه، فطلبهم فهربوا منه، فاجتازوا براعي غنم، فأتبعهم بكلبه، فعلموه دينهم، وصاروا إلى ربّهم، فآواهم الليل إلى كهف، فقالوا: نبيت هنا الليلة ثم نصبح فنرى رأينا، فضرب الله على آذانهم فناموا، وتبعهم الملك فوجدهم في الكهف، فلم يطق أحد منهم دخوله، فبنى عليهم باب الكهف، ففتحه الرّعاء بطول الزمان، فأقاموا فيه ما ذكر الله تعالى، ثم أحياهم الله تعالى بعد ثلاثمائة وتسع، فشكّوا: هل ناموا يوما واحدا أو بعضه؟ ثم مسّهم الجوع،
فبعثوا أحدهم بورق يشتري لهم طعاما، ووصّوه أن يحترز حتى لا يشعر بهم أحد، فيدلّ عليهم فيحملوا إلى الملك الذي فرّوا منه أمس فيما ظنوا، فيرجمهم أو يرجعوا إلى دينه، فلمّا أتى باب المدينة، أنكر أن تكون هي التي خرج منها أمس في ظنه لأنها تغيّرت بمرور بعد زمان عليها، فأنكر أهلها. ثم أخرج الدراهم ليشتري طعاما، فقال له البائع: من أين لك هذه الدراهم؟ وأمسكه، فقال: خرجت أمس مع أصحاب لي فارّين من هذا الملك ودينه، فبتنا في كهف، وأصبحنا اليوم، فأرسلوني لأشتري لهم طعاما، فاستر علينا، فحمله الرّجل إلى ملك المدنية يسمع منه، وكان ملكا صالحا، نقصّ عليه القصة، فركب الملك في جملة من الناس ليطلعوا على أمرهم، فدخل على أصحابه، فوجدهم قد عادوا إلى نومهم، فضرب الله على أذنه معهم، فدخل النّاس فوجدوا أجساما لا ينكرون منها شيئا، وكأنهم مستيقظون يكلمونهم، غير أنها بغير أرواح، فقال لهم الملك: هذه آية الله إليكم، فبنوا عليهم مسجدا يصلون فيه.(1/441)
وذكر الطبري أنّهم كانوا في أيام الطوائف على دين عيسى ابن مريم، وكانوا في حكم ملك للرّوم يسمّى دقيانوس يعبد الأصنام، فبلغه عن الفتية مخالفتهم لدينه، فطلبهم فهربوا منه، فاجتازوا براعي غنم، فأتبعهم بكلبه، فعلموه دينهم، وصاروا إلى ربّهم، فآواهم الليل إلى كهف، فقالوا: نبيت هنا الليلة ثم نصبح فنرى رأينا، فضرب الله على آذانهم فناموا، وتبعهم الملك فوجدهم في الكهف، فلم يطق أحد منهم دخوله، فبنى عليهم باب الكهف، ففتحه الرّعاء بطول الزمان، فأقاموا فيه ما ذكر الله تعالى، ثم أحياهم الله تعالى بعد ثلاثمائة وتسع، فشكّوا: هل ناموا يوما واحدا أو بعضه؟ ثم مسّهم الجوع،
فبعثوا أحدهم بورق يشتري لهم طعاما، ووصّوه أن يحترز حتى لا يشعر بهم أحد، فيدلّ عليهم فيحملوا إلى الملك الذي فرّوا منه أمس فيما ظنوا، فيرجمهم أو يرجعوا إلى دينه، فلمّا أتى باب المدينة، أنكر أن تكون هي التي خرج منها أمس في ظنه لأنها تغيّرت بمرور بعد زمان عليها، فأنكر أهلها. ثم أخرج الدراهم ليشتري طعاما، فقال له البائع: من أين لك هذه الدراهم؟ وأمسكه، فقال: خرجت أمس مع أصحاب لي فارّين من هذا الملك ودينه، فبتنا في كهف، وأصبحنا اليوم، فأرسلوني لأشتري لهم طعاما، فاستر علينا، فحمله الرّجل إلى ملك المدنية يسمع منه، وكان ملكا صالحا، نقصّ عليه القصة، فركب الملك في جملة من الناس ليطلعوا على أمرهم، فدخل على أصحابه، فوجدهم قد عادوا إلى نومهم، فضرب الله على أذنه معهم، فدخل النّاس فوجدوا أجساما لا ينكرون منها شيئا، وكأنهم مستيقظون يكلمونهم، غير أنها بغير أرواح، فقال لهم الملك: هذه آية الله إليكم، فبنوا عليهم مسجدا يصلون فيه.
* * * فابتدر لعظم محنتي، صاحب ميمنتي، وقال: لم أخاملّ وقال ميامنه: كبّر رجاء أجر ربّك. وقال الّذي يليه: من يربّ إذا برّ ينم. وقال الآخر: سكّت كلّ من نمّ لك تكس.
وأفضت النّوبة إليّ، وقد تعيّن نظم السّمط السّباعيّ عليّ فلم يزل فكري يصوغ ويكسر، ويثري ويعسر، وفي ضمن ذلك أستطعم، فلا أجد من يطعم، إلى أن ركد النّسيم، وحصحص التّسليم، فقلت لأصحابي: لو حضر السّروجيّ هذا المقام، لشفى الدّاء العقام، فقالوا: لو نزلت هذه بإياس، لأمسك على ياس.
وجعلنا نفيض في استصعابها، واستغلاق بابها، وذلك الزّور المعتري يلحظنا لحظ المزدري، ويؤلّف الدّرر ونحن لا ندري.
* * * قوله: «لعظم محنتي» لعظم بليتي.
* * * لم: من اللوم. ملّ: من الملل. كبّره: عظّم الكبير، وقدّمه على نفسك.
يربّ: يصلح. برّ: أكرم. ينم: يزيد خيره، وترتفع منزلته ونمى الشيء ينمي وينمو نماء، ونموّا ونميّا: زاد، قال الأصمعي: نميت.
حديث فلان إلى فلان أنميه، إذا بّلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير، وفي
الحديث: «فقال خيرا أو نمى خيرا» (1) أي أبلغ خيرا، أو رفعه، وكلّ شيء رفعته.(1/442)
حديث فلان إلى فلان أنميه، إذا بّلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير، وفي
الحديث: «فقال خيرا أو نمى خيرا» (1) أي أبلغ خيرا، أو رفعه، وكلّ شيء رفعته.
فقد نميته. ورواية ابن ظفر: «من يربّ إذا برّ ينمّ»، أي إذا كان البرّ من الناس يمشي بالنميمة فمن يرب فعلا جميلا ويصلحه.
تكس: تكن كّيسا، والكّيس: الناقد في أموره، وقيل العاقل. أفضت: وصلت.
النّوبة: الدولة. السّمط: الخيط يعقد فيه اللؤلؤ.
يصوغ: يصنع. يثري ويعسر، أي يستغني ويفتقر، أي يكثر الكلام مرّة ويقلّل أخرى.
وفي ضمن ذلك، أي في أثنائه وفي مدّته. أستطعم: أطلب طعاما، هذا أصله، وتقول: أطعمت القارىء إذا وقف ففتحت عليه وأفتيته. واستطعم هو، إذا استدعي ذلك. عليّ رضي الله عنه: إذا استطعم الإمام فأطعموه، أي إذا أرتج عليه فافتحوا له.
ركد النسيم: سكنت الريح، يعني كلامه حصحص: تبيّن. التّسليم: الانقياد، أي انقدت للعجز عن الإتيان بها.
المقام: الموقف. العقام: الشديد الّذي لا يؤثّر فيه الدواء، بمنزلة الرحم العقيم، التي لا تؤثر فيها النطفة فلا تلد.
إياس، تقدّم ذكره. واليأس: ضدّ الطمع.
ولما ذكر هنا إياسا ويأسا، نذكر فصلا ذكره في الدّرة على اللفظتين، قال:
ويقولون: أشرف فلان على الإياس من طلبه، فيهمون كما وهم أبو سعيد السكّري، وكان من جلّة النحويّين، وأعلام العلماء المذكورين، فقال: إن إياسا سمّي بالمصدر، من أيس، وليس كذلك وإنما إياس عند المحققين مصدر آسيته، أي أعطيته، والمصدر منه الأوس، ومنه المواساة، فكأنهم سمّوا إياسا بمعنى تسميتهم عطاء. ووجه الكلام أن يقال: أشرف على اليأس، لأنّ أصل الفعل منه يئس على فعل، قال الله تعالى: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمََا يَئِسَ الْكُفََّارُ مِنْ أَصْحََابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13] فأمّا أيس بتقديم الهمزة فمقلوب من يئس واستدلّ شيخنا أبو القاسم بن المفضل النحويّ على صحّة ذلك نأن لفظة يئس، تساوي لفظة اليأس، الذي هو الأصل في نظم الصيغة، فتكون الياء مبدوءا بها والهمزة مثنىّ بها بخلاف تنزّلهما في أيس، فلهذا حكم على أيس أنها مقلوبة من يئس، والمقلوب لا يتصرف تصرّف الأصل ولا يكون له مصدر.
نفيض: نندفع بالكلام. المعتري: القاصد. يلحظنا: ينظرنا بطرف عينه. استحقارا منه لنا. المزدري: المحتقر. يؤلّف: يجمع. الدّرر: جواهر الكلام.
* * * __________
(1) أخرجه البخاري في الصلح باب 2، ومسلم في البر حديث 100، وأبو داود في الأدب باب 50، والترمذي في البر باب 26، وأحمد في المسند 6/ 403، 404.(1/443)
فلمّا عثر على افتضاحنا، ونضوب ضحضاحنا، قال: يا قوم إنّ من العناء العظيم، استيلاد العقيم، والاستشفاء بالسّقيم، وفوق كلّ ذي علم عليم. ثمّ أقبل عليّ، وقال: سأنوب منابك، وأكفيك ما نابك فإن شئت أن تنثر، ولا تعثر، فقل مخاطبا لمن ذمّ البخل، وأكثر العذل: لذ بكلّ مؤمّل، إذا لمّ وملك بذل وإن أحببت أنّ تنظم، فقل للّذي تعظم: [مجزوء الرجز]
أس أرملا إذا عرا ... وارع إذا المرء أسا
أسند أخا نباهة ... أبن إخاء دنّسا
اسل جناب غاشم ... مشاغب إن جلسا
اسر إذا هبّ مرا ... وارم به إذا رسا
اسكن تقوّ فعسى ... يسعف وقت نكسا
* * *
عثر: اطّلع. افتضاحنا: اشتهارنا بالعجز. نضوب ضحضاحنا: جفوف مائنا القليل.
الاستيلاد: طلب الولد، يقول: إنّ من تعب النفس طلب فائدة من ذهن كليل وقريحة جامدة. نابك: نزل بك. تنثر: تقول نثرا. لذ: استتر به والجأ إليه. مؤمّل: مرجوّ لفعل الخير. لمّ: جمع المال. بذل: تكرّم على غيره، وهذا اللفظ من المعكوس في النثر بديع، فما ظنك بهذا النظم الرفيع الذي أردفه عليه، فإنه من أشرف حسناته، رحمه الله!.
قوله: «أس» أعط، والأوس: العطيّة. أرملا: فقيرا أفنى زاده. عرا: قصد. ارع:
احفظ الصحبة. أسا: أتى بسوء، وأصله الهمز أساء فسهّل الهمزة، يقول: إن قصدك فقير فصله، وإن أخطأ عليك صاحب فلا تقطعه، وارع حقّ الصحبة، ويقال: المرء بالهمز، والمر بلا همز، وبترك الهمز يستقيم الانعكاس في بيت الحريري، ويقال: المرة، قال دعبل: [البسيط]
واحفظ عشيرتك الأدنين إنّ لهم ... حقّا يفرّق بين الزّوج والمرة (1)
وهذا البيت الذي فسرناه وما بعده من الأبيات تقرؤه إن شئت من أوّله، وإن شئت من آخره. وجعل هذا النّمط في عكس الحروف توطئة لما يذكر في المقامة بعد هذا في الرسالة القهقرية، من عكس ألفاظها، من أوّلها إلى آخرها إلا أنّ ذلك العكس بالألفاظ وهذا بالحروف، وكلاهما غاية في بابه، وإنما يذكر الأدباء هذا استملاحا في كلامهم، وامتحانا لخواطرهم.
* * * __________
(1) البيت في ديوانه دعبل الخزاعي ص 47.(1/444)
[أمثلة من التصحيف وقلب الكلام]
ونريد أن نذكر هنا فصلا مما يوافقه أو يقاربه على ما شرطناه فمن ذلك أن بعض الأدباء اتّهم صاحبا له بسعاية في جانبه فكتب إليه في المجلس: ساءك نم، فنظره الذي وشى به، فكتب إليه: صحّفه واقلب، فهو والله ما نطق به على لسانك، من بغيك وعدوانك، وهو مقلوب مصحف: منك أتيت، فتضاحكا وتصافيا.
وكتب بعضهم إلى خازن السلطان: [السريع]
قد أقبل الشهر وإقباله ... يأتي بما أجرى ترتيبه
فوجه البرّ ومقلوبه ... يجزيك عن برّك مقلوبه
وكتب بعض الظرفاء إلى صاحب له وهو مقلوب مصحّف: ظبي سراب خشن. فإذا قرأته على الولاء من آخره بعد القلب والتصحيف جاء منه: حسن شراب طيّب.
ومن أنواع المعميّات التّصحيف، ومثاله: أنّ إبراهيم بن المهدي كتب إلى إسحاق الموصليّ: لا يرتج مثل الأسنّة، فكتب إليه إسحاق. لا يرث جميل إلا بثينة.
وقال أبو الجهم بن الأنباريّ للحسن بن وهب: ما تصحيف: كلني بيمينك فبعني بحبّتين، فقال: كل شيء منك في عيني حسن.
وغاب صديق عن صديق له، فلمّا لقيه قال له: عنّ تعبي، فجاوبه: زرعنا يزداد حبا، فالأول قال: غبت عنّي، والثاني قال: زرغبّا تزداد حبّا.
وذكر في بعض مجالس الأدب التصحيف، فقال فتى شابّ: أنا ابن بجدته، فقال بعضهم: ما تصحيف: نصحت فحشي، فقال: تصحيف حسن، فاستغرب إسراعه، فاتهمه شاعر من بلنسية، فقال: ما تصحيف بلنسية؟ فأطرق ساعة، ثم قال: أربعة أشهر، فقال له البلنسيّ: صدق ظّني إنك تنتحل ما تقول ويحك! والفتى يضحك، فقال له:
اشعر، فإنك شاعر، فقال: وأي نسبة بين أربعة أشهر وبلنسية؟ فقام وهو يقول: هو ذاك ثم تنبّه بعد انصراف الفتى بعض من حضر، فنظر فإذا أربعة أشهر ثلاث سنة، وهو تصحيف بلنسية، فخجل المنازع، ومضى إلى دار الفتى معتذرا.
كتب بعض وزراء ابن عبّاد إليه يتسخّط الإخوان هذا البيت: [الكامل]
وإذا صفا لك من زمانك واحد ... فهو المراد، وأين ذاك الواحد!
فوقّع في الكتاب: وأين ذاك الواحد؟ صحّف تعرف: فلمّا قرأه الوزير طار سرورا، ومثل بالبساط فلثمه بين يديه، وإنما صحّف، وأين، فجاء منه: وأنت، فردّ عليه من كلامه أبلغ جواب.
ومن ملح ابن عباد في التصحيف، أنه خرج في جملة وزرائه الأدباء، فاجتازوا
بإشبيليّة بالموضع الذي يباع فيه الجير والجبس، فلقي هناك جارية من أحسن الناس وأقّلهم حياء. فأقبل ابن عبّاد على ابن عمار، وقال: يا بن عمار الجيارين، فقال ابن عمّار: يا مولاي والجبّاسين، فعلم من حضر أنهما لم يريدا أن يعرّف كلّ واحد منهما صاحبه بما ذكر، فبحثوا عن مرادهما، فلم يعرفوه، فسألوا: ابن عمّار، فقال له ابن عباد: لاتبعها منهم إلا غالية. ثم إن ابن عمار أخبرهم أنّ ابن عبّاد أعجبه حسن الجارية، وعابها بقلة الحياء، فصحّف «الجيارين»، فجاء منه «الحيازين» وصحّفت أنا «الجباسين»، فجاء منه «الخناشين»، فاستغربوا حضور أذهانهما وحسن كنايتهما.(1/445)
ومن ملح ابن عباد في التصحيف، أنه خرج في جملة وزرائه الأدباء، فاجتازوا
بإشبيليّة بالموضع الذي يباع فيه الجير والجبس، فلقي هناك جارية من أحسن الناس وأقّلهم حياء. فأقبل ابن عبّاد على ابن عمار، وقال: يا بن عمار الجيارين، فقال ابن عمّار: يا مولاي والجبّاسين، فعلم من حضر أنهما لم يريدا أن يعرّف كلّ واحد منهما صاحبه بما ذكر، فبحثوا عن مرادهما، فلم يعرفوه، فسألوا: ابن عمّار، فقال له ابن عباد: لاتبعها منهم إلا غالية. ثم إن ابن عمار أخبرهم أنّ ابن عبّاد أعجبه حسن الجارية، وعابها بقلة الحياء، فصحّف «الجيارين»، فجاء منه «الحيازين» وصحّفت أنا «الجباسين»، فجاء منه «الخناشين»، فاستغربوا حضور أذهانهما وحسن كنايتهما.
أين هذه الأذهان من رجل مغفّل، كان له ابن يسمّى حسنا مسافرا، فاستفتح المصحف يتفاءل له في القدوم، فخرج له «وحسن مآب»، فترك التيامن بهذا اللفظ لماب الفتى سالما، وقال: تصحيف «حسن مآب»: «حسن مات»، فاستدعى أمّ الفتى وخدمه، ونعاه لهنّ فأقمن مناحة، وجاء الجيران والقرابة يتطلعون حادثتهم، فهو يخبرهم بما تصحّف له، والفتى داخل قد أقبل في أغبط حال وأسرّها، فاستحمق وصار مثلا.
* * * قوله: «أسند» أضفه إليك وقرّبه منك. نباهة: رفعة. أبن: باعد. دنس: عيب.
يقول: صاحب من يشرّفك بذكره الجميل، وباعد من يدنس عرضك وتعاب به.
* * * [مما قيل في الصديق]
وقد قيل: الصاحب رقعة في الثوب، فلينظر الإنسان ما يرقّع به ثوبه.
قال ابن رشيق: [المنسرح]
اصحب ذوي القدر واستعدّ بهم ... وعدّ عن كلّ ساقط سفله
فصاحب المرء شاهد ثقة ... يقضي به غائبا عليه وله
ورقعة الثّوب حين تلبسه ... شهرته أو تكون مشتكله
وفي الحديث: «الأنفس أجناد مجنّدة، وإنها لتشامّ في الهوى كما تشامّ الخيل فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» (1).
ونظم هذا الحديث أبو نواس فقال: [البسيط]
إنّ القلوب لأجناد مجنّدة ... لله في الأرض بالأهواء تعترف (2)
__________
(1) أخرجه بلفظ: «الأرواح جنود مجندة»: البخاري في الأنبياء باب 2، ومسلم في البر حديث 159، 160، وأبو داود في الأدب باب 16، وأحمد في المسند 2/ 295، 527، 537.
(2) البيتان في ديوان أبي نواس ص 408.(1/446)
فما تعارف منها فهو مؤتلف ... وما تناكر منها فهو مختلف
وقال طرفه أو عديّ بن زيد: [الطويل]
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الرّدي
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكلّ قرين بالمقارن مقتدي
وقال أبو العتاهية: [الرجز]
اصحب ذوي الفضل وأهل الدّين ... فالمرء منسوب إلى القرين
وقال الخالديّ: [الكامل]
وإذا أردت ترى فضيلة صاحب ... فانظر بعين البحث من ندمانه
فالمرء مطويّ على علّاته ... طيّ الكتاب وصحبه عنوانه
وممّا يروى لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: [الهزج]
فلا تصحب أخا السّوء ... وإياك وإيّاه (1)
فكم من جاهل أودى ... حليما حين آخاه
يقاس المرء بالمرء ... إذا ما المرء ما شاه
وفي النّاس من النّاس ... مقاييس وأشباه
وفي العين غنى للعي ... ن أن تنطق أفواه
وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه
وقال ابن رشيق: [مجزوء الكامل]
اختر لنفسك من تعا ... دي كاختيارك من تصادق
إن العدو أخو الصديق ... وإن تخالفت الطرائق
قوله: «اسل جناب غاشم» يريد جانب منزل ظالم، ولا تقرّبه. وسلوت يتعدى بعن وبنفسه، تقول: سلوت عنه، وسلوته وسليته.
وقال الأسود بن يعفر: [الطويل]
فأقسمت لا أشريه حتى يملّني ... بشيء ولا أسليه حتى يفارقا (2)
__________
(1) البيت الأول بلا نسبة في الدرر 3/ 120، وهمع الهوامع 1/ 17.
(2) يروى البيت:
فآليت لا أشريه حتى أملّه ... بشيء ولا أملاه حتى يفارقا
وهو للأسود بن يعفر في ديوانه ص 53، والأزمنة والأمكنة 1/ 257، والمحتسب 1/ 157، وتاج العروس (سلي)، ونوادر أبي زيد ص 44، وبلا نسبة في شرح شواهد الشافية ص 441.(1/447)
قوله: «مشاغب» مسارع للشرّ. هبّ: تحرك. مراء: جدال، ومعنى «اسر» اكشف وأزل، يقول: إذا تعلّق بك وهبّ عليك جدال من صاحب فاكشفه عن نفسك بالمناصحة، وباعد المراء. وتقول: سريت الثوب عنّي، وسريته، إذا كشفته، قال ابن هرمة: [الطويل]
* سرى ثوبه عني السرى المتخايل (1) *
ومنه سرّي عن الرجل أي كشف عنه ما كان يجده من الغمّ والغضب، وقد يكون معنى «اسر» باعد وفارق من السّرى، وهو سير الليل، فيقول: فارق موضع الجدال وباعده. رسا: ثبت، أي إذا سكن الخلاف بين القوم فارم أنت به واتركه، ويروى: «اسر» بالضمّ، أي كن سريّا، أي سيدا ذا مروءة، إذا هاج الجدال بين القوم فباعده.
وقال سابق البريري: [البسيط]
لا تنفعنّ لجوجا حين تزجره ... إنّ اللّجوج له في المال إغراء
وأغض في حسن عفو عن نوادره ... فالحرّ فيه عن الآفات إغضاء
* * *
[المراء والجدال]
والمراء مدافعة الحقّ وترك الانقياد، لما ظهر منه، وقد يستعمل بمعنى الجدال، فمن جادل ليظهر باطلا فجداله محظور.
وفي الحديث: «من ترك الجدال محقا بنى الله له بيتا في الجنة» (2).
وقال ميمون بن مهران: لا تمار من هو أعلم منك إنه يختزن عنك علمه ولم تضره شيئا.
وقال لقمان لابنه: من لا يملك لسانه يندم، ومعن يكثر المراء يشتم، ومن يدخل مداخل السوء يتهّم. يا بنيّ لا تمار العلماء فيمقتوك.
وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: المراء يقسي القلوب ويورث الضغائن وقال بلال بن مسعدة: إذا رأيت الرجل لجوجا مماريا معجبا بنفسه فقد تمت خسارته.
__________
(1) يروى البيت بتمامه:
سرى ثوبه عنك الصبا المتخايل ... وودّع للبين الخليط المتزايل
وهو في ديوان ابن هرمة ص 166، ولسان العرب (خيل)، (سرا)، وتهذيب اللغة 13/ 54، ومقاييس اللغة 3/ 154، وتاج العروس (خيل)، (سرا).
(2) أخرجه بنحوه أبو داود في السنة باب 4.(1/448)
ولمسعر بن كدام يخاطب ابنه: [الكامل]
إنّي منحتك يا كدام نصيحتي ... فاسمع لقول أب، عليك شفيق (1)
أمّا المزاحة والمراء فدعهما ... خلقان لا أرضاهما لصديق
إني بلوتهما فلم أختّرهما ... لمجاور جار ولا لرفيق
قوله: «اسكن» الزم السكون والوقار. تقوّ: أراد تتقوى، يسعف: يساعد ويوافق.
نكس: قّصر بك، يقول: لا تبادر إلى الجدال، والزم السكون، حتى يتقوّى نظرك، ويظهر لك صوابك، فعسى يوافقك على الإصابة بحسن التدبير وقت كان يصرفك عن الصواب، لو التزمت الجدال.
ومن أعاجيب ابن الرومي قوله في ذم الجدال: [الكامل]
لأولي الجدال إذا غدوا لجدالهم ... حجج تضلّ عن الهدى وتجور
وهنّ كآنية الزجاج تصادمت ... فهوت وكلّ مكاسر مكسور
فالقاتل المقتول ثمّ لوهنه ... ولضعفه، والآسر المأسور
وقال من شعر يمازح صديقا له: [السريع]
لكنّ في الشيخ غريزية ... يخاصم الله بها في القدر
ما كان لم كان وما لم يكن ... لم يكن فهو كيل البشر
* * *
قال: فلمّا سحرنا بآياته، وحسرنا ببعد غاياته، مدحناه حتى استعفى، ومنحناه إلى أن استكفى.
ثمّ شمّر ثيابه، وازدفر جرابه، ونهض ينشد: [الكامل]
لله درّ عصابة ... صدق المقال مقاولا
فاقوا الأنام فضائلا ... مأثورة، وفواضلا
حاورتهم فوجدت سح ... بان لديهم باقلا
وحللت فيهم سائلا ... فلقيت جودا سائلا
أقسمت، لو كان الكرا ... م حيا، لكانوا وابلا
* * *
قوله: «سحرنا» تركنا مسحورين. بآياته. بعجائبه، يقال: إنّ فلانا آية من الآيات،
__________
(1) الأبيات في حماسة البحتري ص 53.(1/449)
أي عجب من العجائب. حسرنا: قطعنا وأكلنا. والغاية: الطّلق، يريد أنا كلّنا في الغايات التي جرى فيها لبعدها ويريد اتساعه في الكلام.
استعفى: قال: عافوني منه. منحناه: أعطيناه. استكفى: قال: يكفيني. ازدفر:
حمله على ظهره، والزفر الحمل على الظهر. جرابه: وعاء خبزه. عصابة: جماعة.
صدق المقال، أي صادقين في قولهم، وصدق جمع صدوق، وعدل عن صدوق على جهة المبالغة في صدقة. مقاولا: ملوكا. فاقوا: فضلوا، وزادوا عليهم. فضائلا: جمع فضيلة، وهي ما تفضل به غيرك من الأفعال المحمودة مأثورة: متحدّث بها.
فواضلا: عطايا وأيادي، الواحدة فضيلة، وفواضل المال: ما يأتيك من مرافقتك وعكسه.
ومن كلام العرب: إذا عزب المال قلّت فواضله، أي قلّ انتفاع ربّ الإبل بلبنها إذا بعدت، قال الشاعر:
سأبغيك مالا بالمدينة إنّني ... أرى عازب الأموال قلّت فواضله (1)
قوله: «حاورتهم» خاطبتهم.
* * * [سحبان وائل]
سحبان فصيح العرب، وهو سحبان بن زفر بن إياس بن عبد شمس الواثلي من واثل باهلة، وكان من فصحاء العرب وبلغائها، وبه يضرب المثل في البيان والفصاحة، فيقال: أفصح من سحبان.
ودخل عند معاوية وعنده خطباء القبائل، فلمّا رأوه خرجوا لعلمهم بقصورهم عنه، فقال: [الطويل]
لقد علم الحيّ اليمانون أنّني ... إذا قلت أمّا بعد أنّي خطيبها (2)
فقال له معاوية: اخطب، فقال: انظروا لي عصا، فقالوا: وما تصنع بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين؟ قال: وما كان يصنع بها موسى وهو يخاطب ربّه! فأخذه في يده، فتكلّم من الظهر إلى أن كادت صلاة العصر تفوت، ما تنحنح ولا سعل، ولا توقّف ولا ابتدأ في معنى، فخرج منه وقد بقيت عليه فيه بقية، ولا مال عن الجنس الذي يخطب فيه، فقال معاوية: الصلاة! فقال: الصلاة أمامك، ألسنا في تحميد وتمجيد، وعظة وتنبيه،
__________
(1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (فضل)، وتهذيب اللغة 12/ 41.
(2) البيت لسحبان وائل في خزانة الأدب 10/ 369، 372، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص 248، وخزانة الأدب 1/ 315، 11/ 37، ولسان العرب (سحب).(1/450)
ووعد ووعيد! فقال له معاوية: أنت أخطب العرب، فقال: العرب وحدها! بل أخطب الإنس والجن، فقال له معاوية: كذلك أنت.
وهو أوّل من قال: أما بعد، وأوّل من آمن بالبعث من الجاهليّة، وأوّل من توكأ على عصا، وعمّر مائة وثمانين سنة، وهو القائل يمدح طلحة بن عبيد الله، وهو طلحة الطلحات الخزاعي فقال فيه: [مجزوء الكامل]
يا طلح أكرم من مشى ... حسبا وأعطاهم لتالد (1)
منك العطايا فاعطني ... وعليّ مدحك في المشاهد
فقال له طلحة: احتكم، فقال: برذونك الورد، وفصرك بزرنج، وغلامك الخباز، وعشرة آلاف درهم، فقال له: أفّ أف لك! لم تسألني على قدري، إنما سألتني على قدرك وقدر باهلة، والله لو سألتني كلّ قصر لي وعبد ودابة لأعطيتك.
* * * [باقل]
قوله: «باقلا»، هو من إياد، قيل من بني مازن. وقال حميد الأرقط في وصف ضيف أكثر من الطعام: [الطويل]
أتانا وما داناه سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذي هو قائل (2)
فما زال عنه اللّقم حتى كأنه ... من العيّ لمّا أن تكلّم باقل
والعرب تقول: إنّه لأعيا من باقل، ومن عيّه أنه اشترى ظبيا، فحمله على عنقه، فسئل عن ثمنه، فحلّ عنه يديه وفتح أصابعه، وأشار بها وأخرج لسانه يريد أنه بأحد عشر درهما، ولم يلهم أن يخبر عن سومه بلسانه ولمّا عيّر باقل بفعله قال: [المتقارب] يلومون في عيّه باقلا ... كأنّ الحماقة لم تخلق
فلا تكثروا العتب في عيّه ... فللعيّ أجمل بالأموق
خروج اللسان وفتح البنان ... أخفّ علينا من المنطق
الأموق: الأحمق. قوله: «حللت» نزلت. سائلا: طالبا معروفهم جودا: كرما.
سائلا: جاريا. حيا: مطرا كثيرا.
والوابل: أشدّ المطر، يريد أنهم كانوا يزيدون عليهم في الفضل.
* * * __________
(1) البيتان لسحبان بن وائل الباهلي في لسان العرب (طلح)، والتنبيه والإيضاح 1/ 256 (البيت الأول فقط)، وتاج العروس (طلح).
(2) البيتان لحميد الأرقط في لسان العرب (بقل)، وتهذيب اللغة 9/ 172، وتاج العروس (بقل).(1/451)
ثمّ خطا قيد رمحين، وعاد مستعيذا من الحين، وقال: يا عزّ من عدم الآل، وكنز من سلب المال، إنّ الغاسق قد وقب، ووجه المحجّة قد انتقب، وبيني وبين كنّي ليل دامس، وطريق طامس، فهل من مصباح يؤمّنني العثار ويبيّن لي الآثار؟
* * * خطا: مشى ونقل خطاه. قيد: قدر. مستعيذا: مستجيرا. الحين: الموت. عدم الآل: فقد الأهل، يقول: أنتم عزّ لمن فقد أهله، وكنز لمن أخذ ماله. الغاسق: القمر.
عائشة رضي الله عنها قالت: نظر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى القمر، فقال: «يا عائشة استعيذي بالله من شرّ هذا، فإنّ هذا هو الغاسق إذا وقب» (1)، يعني من شرّه إذا كسف. ووقب القمر: يقب وقوبا: دخل في الظلام الذي يكسفه، وكلّ ما غاب فقد وقب. المحجّة:
الطريق. انتقب: استتر، وجعل من الظلام نقابا. وكنّي: منزلي. دامس: مظلم. طامس:
دارس لأن الظلام لمّا غطاه كأنه محاه. الآثار: الطرق التي أثر فيها المشي.
* * * [مما قيل في الشمع]
قال الصابي في شمعة، وذكر هذا المعنى: [البسيط]
وليلة من محاق الشّهر مدجنة ... لا النجم يهدي السّرى فيها ولا القمر
كلفّت نفسي بها الإدلاج ممتطيا ... عزما، هو الصارم الصّمصامة الذّكر
إلى حبيب له في النّفس منزلة ... ما حلّها قبله سمع ولا بصر
ولا دليل سوى هيفاء مخطفة ... تهدي الرّكاب وجنح الليل معتكر
غصن من الذّهب الإبريز أثمر في ... أعلاه ياقوتة صفراء تستعر
تأتيك ليلا كما يأتي المريب فإن ... لاح الصبّاح طوتها دونها الجدر
وقال آخر في مثله: [الطويل]
لنا شمعة نيطت ذراها بشعلة ... كحقّة تبر علّقت بلسانها
إذا عثر الساري بذيل من الدّجا ... نحرنا له قلب الدّجى بسنانها
تفك قيود اللّيل عن كل زائر ... فتجري بها الرّجلان ملء عنانها
إذا ما أحسّت بالصباح تمارضت ... كنرجسة قد أذبلت بمكانها
تموت إذا ما قبّلت خدّ حائط ... فتثبت خالا فوقه من دخانها
__________
(1) أخرجه الترمذي في تفسير سورتي 113و 114، باب 1، وأحمد في المسند 6/ 61، 206، 215، 237، 252.(1/452)
كأنّ الجراد امتصّ جوهر روحها ... ولم يمتنع منها سويدا جنانها
وقال النّمريّ: [المتقارب]
ولمّا دجا الليل مزقته ... بروح ينحف جثمانها
بشمع أعير قدود الرماح ... يحاكي ذراها وألوانها
غصون من التبر قد ركّبت ... لهيبا يزيّن أفنانها
فيا حسن أرواحها في الدجى ... وقد أكلت فيه أبدانها
* * *
قال: فلمّا جيء بالملتمس، وجلّي الوجوه ضوء القبس، رأيت صاحب صيدنا، هو أبو زيدنا.
فقلت لأصحابي: هذا الّذي أشرت إلى أنّه إذا نطق أصاب، وإن استمطر صاب.
فأتلعوا نحوه الأعناق، وأحدقوا به الأحداق، وسألوه أن يسامرهم ليلته، على أن يجبروا عيلته. فقال: حبّا لما أحببتم، ورحبا بكم إذ رحّبتم، غير أنّي قصدتكم وأطفالي يتضوّرون من الجوع، ويدعون لي بوشك الرّجوع، وإن استراثوني خامرهم الطّيش، ولم يصف لهم العيش، فدعوني لأذهب فأسدّ مخمصتهم، وأسيغ غصّتهم، ثمّ أنقلب إليكم على الأثر، متأهّبا للسّمر إلى السّحر.
فقلنا لأحد الغلمة: اتّبعه إلى فئته، ليكون أسرع لفيئته، فانطلق معه مضطبنا جرابه، ومحثحثا إيابه.
* * * قوله: «الملتمس»، أي المطلوب وهو المصباح، والقبس ضوءه. جلا: كشف.
صاحب صيدنا، أي الذي اصطاد أموالنا. استمطر: سئل المطر. صاب: وقع وقعا شديدا، وكنى بالمطر الصّوب عن العلم الكثير. أتلعوا: مدّوا، وأتلع الرجل: نصب عنقه ومدّها، وتطاول لينظر شيئا. أحدقوا: حلّقوا وأحاطوا، والأحداق: سواد العين الأعظم:
عيلته: فقره يتضوّرون: يصيحون. ابن الأنباري: وقولهم: تركته يتضوّر، معناه يظهر الضرّ الذي وقع به بالتقلقل والاضطراب والصياح، فيتضوّر، يتفعّل من الضّور، والضّور بمعنى الضّير، ويقال: ضرّني يضرّني ضرّا، وضارني يضيرني ويضورني ضيرا وضورا
بمعنى. وشك: سرعة. استراثوني: استبطئوني. خامرهم: خالطهم. الطيش: الخفّة وذهاب العقل من الجوع. أسدّ مخمصتهم: أزيل جوعهم. والغصة: ما يختنق به وإساغتها: تسهيلها حتى تبتلع. انقلب على الأثر، أي في الحين وفي الطريق الذي أمضى فيه. أرجع: أمشي على أثري فيه مسرعا، قبل أن يمشي غيري فيغيّره، فهذا معنى أنقلب على الأثر. متأهّبا: مستعدّا. فيئته: رجوعه. مضطبنا: حاملا على ضبنه وهو خصره.(1/453)
عيلته: فقره يتضوّرون: يصيحون. ابن الأنباري: وقولهم: تركته يتضوّر، معناه يظهر الضرّ الذي وقع به بالتقلقل والاضطراب والصياح، فيتضوّر، يتفعّل من الضّور، والضّور بمعنى الضّير، ويقال: ضرّني يضرّني ضرّا، وضارني يضيرني ويضورني ضيرا وضورا
بمعنى. وشك: سرعة. استراثوني: استبطئوني. خامرهم: خالطهم. الطيش: الخفّة وذهاب العقل من الجوع. أسدّ مخمصتهم: أزيل جوعهم. والغصة: ما يختنق به وإساغتها: تسهيلها حتى تبتلع. انقلب على الأثر، أي في الحين وفي الطريق الذي أمضى فيه. أرجع: أمشي على أثري فيه مسرعا، قبل أن يمشي غيري فيغيّره، فهذا معنى أنقلب على الأثر. متأهّبا: مستعدّا. فيئته: رجوعه. مضطبنا: حاملا على ضبنه وهو خصره.
محثحثا: معجّلا. إيابه: رجوعه.
* * * فأبطأ بطئا جاوز حدّه، ثمّ عاد الغلام وحده، فقلنا له: ما عندك من الحديث عن الخبيث؟
فقال: أخذني في طرق متعبة، وسبل متشعّبة، حتّى أفضينا إلى دويرة خربة، فقال: ها هنا مناخي، ووكر أفراخي. ثمّ استفتح بابه، واختلج منّي جرابه، وقال:
لعمري، لقد خفّفت عنّي، واستوجبت الحسنى منّي، فهاك نصيحة هي من نفائس النّصائح، ومغارس المصالح، وأنشد: [المتقارب]
إذا ما حويت جنى نخلة ... فلا تقربنها إلى قابل
وإمّا سقطت على بيدر ... فحوصل من السّنبل الحاصل
ولا تلبثنّ إذا ما لقطت ... فتنشب في كفّة الحابل
ولا توغلنّ إذا ما سبحت ... فإنّ السّلامة في السّاحل
وخاطب بهات، وجاوب بسوف ... وبع آجلا منك بالعاجل
ولا تكثرنّ على صاحب ... فما ملّ قطّ سوى الواصل
* * *
الخبيث، قال أبو الهيثم: الخبيث: الذكر من الشياطين وجمعه خبث. أبو عبيدة:
الخبيث: ذو الخبث في تفسيره. متشعّبة: متفرّقة، وتشعّب الطريق: خرجت منه شعب إلى كل جهة، أي طرق أخر، فأراد أنه خلط عليه بحيث لا يهتدى إلى منزله، فكان يخرجه من طريق إلى طريق. أفضينا: وصلنا، وهو من الفضاء. مناخي: منزلي، وأصله موضع إناخة البعير. وكر أفراحي: عشّ أولادي. استفتح: ضرب وقال: افتحوا الباب.
اختلج: أخذ بسرعة. جرابه: وعاء زاده. الحسنى: الفعل الحسن. هاك: خذ النّفائس:
الذخائر: الرّقاع. مغارس: مواضع يغرس فيها. المصالح: جمع مصلحة، مفعلة من الصلاح. حويت: جمعت وحزت. جنى نخلة: هو التمر. بيدر: أندر الزرع، يسمّى بالشأم أندر، وبالعراق بيدر. حوصل: اجعل في حوصلتك وهي للطائر في الأصل.
كفّة: شبكة. الحابل: الصائد. توغلنّ: تكثرنّ الدخول. سبحت: عمّت. السّاحل: ما ولي الماء من الأرض، وهو فاعل بمعنى مفعول، لأنّ الماء سحله أي قشره وأخذ عشبه، كما تسحل الحديدة بالمبرد، أي تبرد بالمبرد، والسّحالة: ما سقط من المسحول.(1/454)
الذخائر: الرّقاع. مغارس: مواضع يغرس فيها. المصالح: جمع مصلحة، مفعلة من الصلاح. حويت: جمعت وحزت. جنى نخلة: هو التمر. بيدر: أندر الزرع، يسمّى بالشأم أندر، وبالعراق بيدر. حوصل: اجعل في حوصلتك وهي للطائر في الأصل.
كفّة: شبكة. الحابل: الصائد. توغلنّ: تكثرنّ الدخول. سبحت: عمّت. السّاحل: ما ولي الماء من الأرض، وهو فاعل بمعنى مفعول، لأنّ الماء سحله أي قشره وأخذ عشبه، كما تسحل الحديدة بالمبرد، أي تبرد بالمبرد، والسّحالة: ما سقط من المسحول.
وخاطب بهات: عكس قول الصاحب، وقد أهدى إليه العميريّ قاضي قزوين هدّية وكتبت معها: [الخفيف]
العميريّ عبد كافي الكفاة ... ومن اعتدّ في وجوه القضاة
خدم المجلس الرفيع بكتب ... مفعمات من حسنها مترعات
فوقّع تحتها: [الخفيف]
قد قبلنا من الجميع كتابا ... ورددنا لوقتها الباقيات
لست أستغنم الكثير فطبعي ... قول خذ، ليس مذهبي قول هات
قوله: «آجلا» ضد عاجل. وقوله: «ولا تكثرن على صاحب»، أي لا تكثر من الزيارة وأقللها خشية الملل. وروى قدامة بن جعفر أنّ رجلا كتب إلى آخر: إن رأيت أن تحدّد لي موعدا لزيارتك أتوقّته إلى وقت رؤيتك فيؤنسني إلى حين، فافعل.
فأجابه الآخر: أخاف أن أعدك وعدا يعرض دون الوفاء به ما لا أملك دفعه، فتكون الحسرة أعظم من الفرقة.
فأجابه: إنما أسرّ بموعدك، وأكون جذلا با
أتاني هدوّ وعين الرّقي ... ب مطروفة بالكرى الغامر
وأحبب به يسعف الهاجعين ... وتحرمه مقلة السّاهر
وعهدي بتمويه عين المحبّ ... تنمّ على قلبه الطّائر
فلمّا التقينا برغم الرّقا ... دموّه قلبي على ناظري
قال الرضيّ: قلت هذه الأبيات سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، وتداول أهل الأدب إنشادها، واستغربوا هذا المعنى، وشهدوا أنه مخترع لم يسمع، فلما تصفّحت ديوان شعر أبي سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وجدت بخطه في الجزء الثاني من شعره:(1/455)
فأجابه: إنما أسرّ بموعدك، وأكون جذلا با
أتاني هدوّ وعين الرّقي ... ب مطروفة بالكرى الغامر
وأحبب به يسعف الهاجعين ... وتحرمه مقلة السّاهر
وعهدي بتمويه عين المحبّ ... تنمّ على قلبه الطّائر
فلمّا التقينا برغم الرّقا ... دموّه قلبي على ناظري
قال الرضيّ: قلت هذه الأبيات سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، وتداول أهل الأدب إنشادها، واستغربوا هذا المعنى، وشهدوا أنه مخترع لم يسمع، فلما تصفّحت ديوان شعر أبي سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وجدت بخطه في الجزء الثاني من شعره:
[الخفيف]
إن طيف الخيال زار طروقا ... والمطايا بين القنان وشعب
زارني واصلا على غير وعد ... وانثنى هاجرا على غير ذنب
كان قلبي إليه رائد عيني ... فعلى العين منّة للقلب
كان عندي أنّ الغرور لطرفي ... فإذا ذلك الغرور لقلبي
فلا أدري: هل قصد نظمها حتى لا يخلي شعره من هذا المعنى، أو أنسي سماعه مني، وقذف به خاطره، وكثيرا ما يلحق الشعراء ذلك، فيتواردون في بعض المعاني المسبوق إليها، وقد كانوا سمعوها فأنسوها والخواطر مشتركة، والمعاني معترضة لكل خاطر، وكيفما جرى الأمر فالعنصر واحد.
* * * ثم قال: اخزنها في تامورك، واقتد بها في أمورك، وبادر إلى صحبك، في كلاءة ربّك، فإذا بلغتم، فأبلغهم تحيّتي، واتل عليهم وصيّتي، وقل لهم عنّي: إنّ السّهر في الخرافات، لمن أعظم الآقات، ولست ألغي احتراسي، ولا أجلب الهوس إلى رأسي.
قال الرّاوي: فلمّا وقفنا على فحوى شعره، واطّلعنا على نكره ومكره، تلاومنا على تركه، والاغترار بإفكه.
ثمّ تفرّقنا بوجوه باسرة، وصفقة خاسرة.
* * * قوله: «اخزنها في تامورك»، أي اجعلها في قلبك، والتّامور: حجاب القلب، وقيل: دم القلب. كلاءة: حفظ وكلأه يكلؤه: حفظه.
الخرافات: أحاديث اللهو والأباطيل، قال الخليل: الخرافة الحديث المستملح في
الكذب. أبو عبيدة: كان خرافة رجلا صالحا سبته الجنّ، فرأى منهم عجائب فحدّت بها، فيقال في كلّ حديث يستغرب: كأنه حديث خرافة.(1/457)
الخرافات: أحاديث اللهو والأباطيل، قال الخليل: الخرافة الحديث المستملح في
الكذب. أبو عبيدة: كان خرافة رجلا صالحا سبته الجنّ، فرأى منهم عجائب فحدّت بها، فيقال في كلّ حديث يستغرب: كأنه حديث خرافة.
ألغي: أترك. الحتراسي: تحفّظي. الهوس: يبس الرأس، يتولّد من كثرة السهر.
فحوى: معنى. نكره: منكره ودهائه. تلاومنا: لام بعضنا بعضا. الاغترار: الانخداع.
إفكه: كذبه. باسرة: عابسة، وبسر وجهه بسورا: عبّسه. وصفقة خاسرة، أي تجارة ومبايعة ناقصة.
* * *
المقامة السّابعة عشرة القهقريّة(1/458)
* * *
المقامة السّابعة عشرة القهقريّة
حدث الحارث بن همام قال: لحظت في بعض مطارح البين، ومطامح العين، فتية عليهم سيما الحجا، وطلاوة نجوم الدّجى. وهم في مماراة مشتدّة الهبوب، ومباراة مشتطة الألهوب، فهزّني لقصدهم هوى المحاضرة، واستجلاء جنى المناظرة.
فلمّا التحقت برهطهم، وانتظمت في سمطهم، قالوا: أأنت ممن يبلى في الهيجاء، ويلقي دلوه في الدّلاء؟ فقلت: بل أنا من نظارة الحرب، لا من أبناء الطّعن والضّرب. فأضربوا عن حجاجي، وأفاضوا في التّحاجي.
* * * لحظت: نظرت. مطارح: جمع مطرح، وهو الموضع تطرح فيه نفسك، أي ترميها فيه.
البين: الفراق، فيريد بمطارح البين البلاد التي طرحه فيها البين ورماه إليها. ومطامح العين:
المواضع الحسان التي تطمح فيها العين بالنّظر، أي ترتفع إليها. سيما الحجا: علامة العقل، والسّيما من وسمت الشيء وسما إذا علمّته، وأصله «وسمى»، فحوّلت الواو من موضع الفاء إلى العين. فصار سومي، فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها. طلاوة: حسن. الدّجا: الظّلمة.
المماراة: الخصام. مشتدّة: كبيرة الحركة. والشدّ: الجري. الهبوب: مجيء الريح: مباراة:
معارضة. مشتطّة: ممتدّة متجاوزة الحدّ. الألهوب: الجري الشديد، فأراد أن حركة الكلام بينهم في المناظرة شديدة. والمحاضرة: مجالسة العلماء. مناظرة: سؤال العالم لتعلم حسن نظره وقدر معرفته. جناها: فوائدها. رهطهم: جماعتهم. انتظمت في سمطهم، أي جلست بينهم. يبلى في الهيجاء: يقاتل في الحروب. النظارة: القوم يقعدون في موضع مرتفع من الأرض ينظرون منه القتال ولا يشهدونه، فأراد أنني ممن يحضر معكم للاستماع، لا للمناظرة.
الحجاج: مصدر حاجّة، تقول: حاجحت فلانا إذا أوردت عليه الحجّة وأوردها عليك، فإن غليته قلت: حججته. أفاضوا في الأحاجي: اندفعوا في الألغاز.
* * * وكان في بحبوحة حلقتهم، وإكليل رفقتهم، شيخ قد برته الهموم، ولوّحته السّموم، حتّى عاد أنحل من قلم، وأقحل من جلم، إلا أنه كان يبدي العجاب، إذا
أجاب، وينسي سحبان، كلّما أبان. فأعجبت بما أوتي من الإصابة، والتّبريز على تلك العصابة، وما زال يفضح كلّ معمّى، ويصمي في كلّ مرمى، إلى أن خلت الجعاب، ونفد السؤال والجواب.(1/459)
* * * وكان في بحبوحة حلقتهم، وإكليل رفقتهم، شيخ قد برته الهموم، ولوّحته السّموم، حتّى عاد أنحل من قلم، وأقحل من جلم، إلا أنه كان يبدي العجاب، إذا
أجاب، وينسي سحبان، كلّما أبان. فأعجبت بما أوتي من الإصابة، والتّبريز على تلك العصابة، وما زال يفضح كلّ معمّى، ويصمي في كلّ مرمى، إلى أن خلت الجعاب، ونفد السؤال والجواب.
فلمّا رأى إنفاض القوم، واضطرارهم إلى الصّوم، عرّض بالمطارحة، واستأذن في المفاتحة.
فقالوا له: حبّذا، ومن لنا بذا!
* * * بحبوحة: وسط. إكليل: دائرة، وأصلها عصابة مكلّلة بالدرّ والياقوت، تعتمد على رؤوس الملوك. رفقتهم: جماعتهم. برته: أذهبت لحمه. لوّحته: غيّرته وأضمرت جسمه. السّموم: الريح الحارّة. أقحل: أيبس.
جلم: مقصّ، وأكثر ما يستعمل مثنّى، فيقال: جلمان، والعجب من أبي محمد يقول في الدرّة: ويقولون: قرضت بالمقراض، وقصصت بالمقصّ فيهمون، كما وهم بعض المحدثين حين قال في صفة مزنون بالقيادة، وإن كان قد أبدع في الإجادة: [السريع]
إذا حبيب صدّ عن إلفه ... تيها وأعيا كلّ روّاض
ألّف فيما بين شخصيهما ... كأنّه مسمار مقراض
قال: والصّواب أن يقال: مقراضان ومقصّان وجلمان، لأنهما اثنان.
فما منعه غيره أباحه هنا لنفسه، فقال: أقحل من جلم، ولا نقول كما قال: إنه وهم، بل نقول: إنها لغة قليلة.
قال يعقوب: والجلم الذي يجزّ به، وقال رجل من الأزد في مفرد مقراض:
فعليك ما اسطعت الظّهور بلمّتي ... وعليّ أن ألقاك بالمقراض
وقال الراجز في مفرد الجلم: [الرجز]
* وجلم كريشة الوقواق *
والوقواق: الخطّاف، والجسم النّحيل يشبّه بالقلم والجلم، وقلب الشاعر التشبيه وألغز بالقلم، فقال: [المتقارب]
ضئيل الرّواء كثير الغناء ... من البحر في المنصب الأخضر
كمثل أخي العشق في شخصه ... وفي لونه من بني الأصفر
وقال ابن أبي لبابة في جلم: [الوافر]
ومعتنقين ما اتّهما بعشق ... وإن وصفا بضمّ واعتناق(1/460)
لعمرو أبيك ما اجتمعا لمعنى ... سوى معنى القطيعة والفراق
وتقدّم في الثانية من أبيات المعاني فيه: [البسيط]
ارعت مراتع مدراها على وهن ... صنوين إن أفردا لم يرعيا أبدا
أبان: بيّن. التّبريز: الظهور والخروج قبلهم.
العصابة: الجماعة. يفضح: يشهر عيبه. معمّى: مستور. يصمي: يصيب المقتل.
خلت الجعاب: أي أفرغ الكلام، والجعبة: وعاء السهام، فكنى بها عن القلوب، وبالسهام عن الكلام الذمي يصدر عنها.
الإنفاض: فناء الزاد، وقد أنفض القوم، وأراد نفاد ما عندهم من العلم. الصوّم:
السّكوت والإمساك عن الكلام.
المطارحة، أصلها في الغناء، وهو ما يأخذه المتعلّم عن المعلّم وعرّض بها، أي ذكرها. المفاتحة: استفتاح الكلام.
* * * فقال: أتعرفون رسالة أرضها سماؤها، وصبحها مساؤها، نسجت على منوالين، وتجلّت في لونين، وصلّت إلى جهتين، وبدت ذات وجهين، إن بزغت من مشرقها، فناهيك برونقها، وإن طلعت من مغربها، فيا لعجبها!
قال: فكأن القوم رموا بالصّمات، أو حقّت عليهم كلمة الإنصات. فما نبس منهم إنسان، ولا فاه لأحدهم لسان، فحين رآهم بكما كالأنعام، وصموتا كالأصنام، قال لهم: قد أجّلتكم أجل العدّة، وأرخيت لكم طول المدّة، ثمّ هاهنا مجمع الشمل، وموقف الفصل، فإن سمحت خواطركم مذحنا، وإن صلدت زنادكم قدحنا، فقالوا له: والله ما لنا في لجّة هذا البحر مسبح، ولا في ساحله مسرح، فأرح أفكارنا من الكدّ، وهنّيء العطيّة بالنّقد، واتّخذنا إخوانا، يثبون إذا وثبت، ويثيبون متى استثبت.
فأطرق ساعة، ثم قال: سمعا لكم وطاعة، فاستملوا منّي، وانقلوا عنّي
* * * أرضها سماؤها: يريد أعلاها أسفلها. صبحها مساؤها: أولها آخرها. المنوال:
خشبة الحائك، أراد أنها نسجت من الطّرفين، لأنّك تبتدئها بالقراءة إن شئت من أولها، وإن شئت من آخرها.
بزغت: طلعت. ناهيك: كافيك.(1/461)
رونقها: حسنها، والرّونق: صفاء الوجه وحسنه ونعمته.
الصمّات: السكوت، والإنصات مثله. نبس: تكلم. الأنعام: المواشي.
أجّلتكم: أخّرتكم والعدّة هنا: عدة الموت، لأنها أطول العدد، ألا ترى أنه أرخى لهم طول المدة والطّول: الحبل. والشّمل: الاجتماع. الفصل: القضاء، يقول: قد طوّلت لكم الأمد لتستخبروا هذه الرسالة، وفي هذا الموضع يكون اجتماعنا ويفصل فيه بين العارف وضده.
خواطركم: أذهانكم. صلدت: شّحت. قدحنا: ضربنا زند النار، يقول: إن عرفتموها مدحناكم وإن جهلتموها عرّفناها لكم، وجعل صلود الزند كناية عن جمود القرائح.
لجّة: معظم الماء. مسبح: موضع يسبح فيه، أي يعام. مسرح: موضع يسرح فيه، أي يمشي ويتصرّف. الكد. الجهد والتعب. هنيء: طيّب. النقد: حضور المال. يثبون:
يقومون لقيامك. يثيبون: يهبون الثواب. استثبت: طلبت الثواب. استملوا: اكتبوا.
* * * الإنسان صنيعة الإحسان، وربّ الجميل فعل النّدب، وشيمة الحرّ ذخيرة الحمد، وكسب الشّكر استثمار السّعادة، وعنوان الكرم تباشير البشر، واستعمال المداراة يوجب المصافاة، وعقد المحبّة يقتضي النّصح، وصدق الحديث حلية اللّسان، وفصاحة النّطق سحر الألباب، وشرك الهوى آفة النّفوس، وملل الخلائق شين الخلائق، وسوء الطّمع يباين الورع، والتزام الحزامة زمام السّلامة، وتطلّب المثالب، شرّ المعايب، وتتبّع العثرات، يدحض المودّات، وخلوص النّيّة، خلاصة العطيّة. وتهنئة النّوال ثمن السّؤال، وتكلّف الكلف، يسهّل الخلف، وتيقن المعونة يسنّي المؤونة، وفصل الصّدر، سعة الصدر، وزينة الرّعاة، مقت السّعاة، وجزاء المدائح، بثّ المنائح، ومهر الوسائل، تشفيع المسائل، ومجلبة الغواية، استغراق الغاية، وتجاوز الحدّ يكلّ الحدّ.
* * * صنيعة: ما يصطنعه الإنسان لغيره من الخير، يريد أن الإنسان أهل الإحسان، وإن عكست قلت: الإحسان صنيعة الإنسان، أي إصلاح الإحسان وتتميمه من صنع من يوصف بالإنسانيّة وقد تقدّم: [المتقارب]
* وما فيهم من يربّ الصّنيع *
وقال أعرابيّ لعبد الملك بن مروان: [الطويل]
يرب الّذي يأتي من الخير إنه ... إذا فعل المعروف زاد وتمّما(1/462)
وليس كبان حين تمّ بناؤه ... تتبّعه بالنّقض حتى تهدّما
فمعنى يربّ، هو قوله: زاد وتمّما.
النّدب: السّيّد الخفيف: شيمة: طبيعة. الذخيرة: الشيء الرفيع من مال أو غيره، والادخار كالاقتناء. استثمار: تناول الثمر: عنوان: دليل: تباشير: أوائل، وتباشير الصبح: طرائق ضوئه في الليل ويقال للطواق التي تراها على وجه الأرض من آثار الرياح: التّباشير. البشر: طلاقة الوجه. المداراة: خداع القلوب بلطف الكلام، ومداراة الناس: معاملتهم بما يحبّون. المصافاة: إخلاص الصحّبة. عقدها: ربطها. يقتضي:
يتضمّن. حلية: زينة. الألباب: العقول. الهوى: ما يهواه الإنسان ويميل إليه. آفة: داء.
الخلائق: الناس. شين: عيب. الخلائق: الطبائع، يقول: الملل في الناس يعيب أخلاقهم. سوء الطمع: كثرة الحرص. تباين: تباعد. الورع: الكف عمّا فيه إثم، وقد ورع الرجل يرع ورعا ورعة إذا كفّ عمّا لا يحلّ، والورع بفتح الراء: الجبان، وقد ورع وورع، وقال عروة بن أذينة في ذمّ الطمع: [البسيط]
لقد علمت وخير القول أصدقه ... بأنّ رزقي وإن لم آت يأتيني
أسعى له فيعنيني تطلّبه ... وإن قعدت أتاني لا يعنيني
لا خير في طمع يدني إلى طبع ... وعقة من قوام العيش تكفيني (1)
وأنشد الحريريّ البيت الأول في الدرة: [البسيط]
لقد علمت وما الإسراف من خلقي ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني (2)
قال: فيروي أكثرهم «الإسراف» بالسين المهملة، وروى بعضهم بالشين المعجمة، ليكون معناه التطلّع إلى الشيء والاستشراف إليه.
* * * [عروة بن أذينة وهشام بن عبد الملك]
قال: ولهذا البيت حكاية تحثّ على استشعار اليقين، وإعلاق الأمل بالخالق دون
__________
(1) البيت الثالث، لثابت بن قطنة في لسان العرب (طبع)، وتاج العروس (غفف)، وأمالي المرتضى 1/ 408، وله أو لعروة بن أذينة في تاج العروس (طبع)، والبيت في ديوان عروة بن أذينة ص 386، وهو بلا نسبة في لسان العرب (غفف)، ومجمل اللغة 4/ 5، ومقاييس اللغة 4/ 375، والمخصص 3/ 69، 12/ 288، وديوان الأدب 3/ 26، وأساس البلاغة (غفف).
(2) يروى البيت:
لقد علمت وما الإشراف من طمعي ... أنّ الذي هو رزقي سوف يأتيني
وهو لعروة بن أذينة في ديوانه ص 327، والأغاني 18/ 332. وبلا نسبة في لسان العرب (شرف) وتاج العروس (شرف).(1/463)
المخلوقين، فحليته بها تحلية لعاطله، ومنبّهة على صدق قائله وهو ما رويته من عدّة طرق: أن عروة هذا وفد على هشام بن عبد الملك في جماعة من الشعراء، فلما دخل عليه عروة قال له ألست القائل:
لقد علمت وخير القول أصدقه الأبيات.
وأراك قد جئت تضرب من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق! فقال له: لقد وعظت يا أمير المؤمنين فبالغت في الوعظ، وأذكرت ما أنسانيه الدهر. وخرج من فوره إلى راحلته فركبها، ثم نصّها نحو الحجاز.
فمكث هشام يومه غافلا عنه، فلمّا كان من الليل تعارّ (1) على فراشه، فذكره فقال:
رجل من قريش قال حكمة، ووفد إليّ اليوم، فجبّهته ورددته عن حاجته! وهو مع هذا شاعر، لا آمن ما يقول. فلما أصبح سأل عنه، فأخبر بانصرافه، قال: لا جرم، ليعلم أنّ الرزق سيأتيه، ثم دعا بمولى له، فأعطاه ألفي دينار، وقال: الحق بهذا، أين أدركته فأعطه إياها.
قال: فلم يدركه إلا وقد دخل بيته، فقال: أبلغ أمير المؤمنين السلام وقل له كيف رأيت!
* * * قوله: «الحزامة»: جودة الرأي، والحازم: الجامع لرأيه، المحكم لأموره وأصل الحزم الجمع والشدّ، ومنه الحزمة، وحزمت المتاع جمعته وشددته، ومنه الحزام لأنه يشدّ به وقد حزم الرجل: صار حازما.
الزّمام: مقود البعير.
المثالب: المساوي، وثلبه: ذكره بسوء. التطّلب: البحث، يريد أن البحث عن عيوب الناس من أكبر العيوب، قال رجل للمستورد الخارجيّ: أريد غلامّا عيّابا، قال:
التمسه بفضل معايب فيه.
وكان يقول: أوّل ما يدلّ على عائب الناس معرفته بالعيوب.
ومعاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّك إن اتبّعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت تفسدهم» (2).
أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله بها: «مرّ المسيح صلوات الله عليه بقوم من اليهود، فقالوا له شرّ، فقال خيرا، فقيل له في ذلك، فقال:
كلّ ينفق مما عنده».
__________
(1) تعارّ على فراشه: أي تقلب على فراشه في النوم.
(2) أخرجه أبو داود في الأدب باب 37.(1/464)
وكتب الشافعيّ رضي الله عنه لصديق له: [الطويل]
لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرّني أنّي خطرت ببالك (1)
وأتى الشافعيّ رضي الله عنه مسجدا، فصادف قوما يغتابونه، فسدّ الباب وقال:
[الطويل]
هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزّة من أعراضنا ما استحلّت (2)
وقال الشاعر: [السريع]
ثالبني عمرو وثالبته ... فأتّم المثلوب والثالب
قلت له خيرا وقال الخنى ... كلّ على صاحبه كاذب
قوله: «العثرات»، السقطات. يدحض: يبطل، يريد أنّ البحث عن عيوب الصاحب يبطل مودّته.
أبو بردة الأسلمي رضي الله عنه: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه، لا تذمّوا النّاس ولا تعيّروهم، ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنه من يلتمس عورة أخيه تتبّع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بطن بيته» (3).
وقال سابق البربريّ: [الوافر]
إذا ما كنت طالب كلّ ذنب ... ولم تحلل أخاك عن العتاب
تباعد من تباعد بعد قرب ... وصار بك الزّمان إلى اجتناب
وقال عبد الله بن جعفر: عليك بصحبة من إن صحبته زانك، وإن غبت عنه صانك، وإن احتجت إليه مانك، وإن رأى منك خلّة سدّها، أو حسنة عدّها.
وقال الحسن بن وهب: من حقوق المودّة أخذ عفو الإخوان والإغضاء عن تقصير إن كان.
وقيل: خير الإخوان من إذا نسيت ذنبك لم يقرعك به، ومعروف عندك لم يمنّ عليك به.
وقال الشاعر: [الطويل]
إذا شئت أن تدعى كريما مهذّبا ... سنّيا سريّا ماجدا فطنا حرّا
إذا ما بدت من صاحب لك زلّة ... فكن أنت محتالا لزلّته عذرا
__________
(1) البيت لابن الدمينة في ديوانه ص 17.
(2) البيت لكثير عزة في ديوانه ص 100، وكتاب العين 4/ 263، ومقاييس اللغة 2/ 216، والأغاني 9/ 38، وأمالي القالي 2/ 109، وتزيين الأسواق 1/ 122، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 7/ 376.
(3) أخرجه الترمذي في البر باب 83، وأبو داود في الأدب باب 35، 37.(1/465)
قوله: «خلوص النية»، صفاؤها، أي من أخلص لك النية فكأنه قد أعطاك خالص ماله، والخلاصة: ما خلص من الشيء وصفا.
النوال: العطاء. الكلف: المشقّات. يسنّي. يسهّل. المؤنة: خدمة الضيف وما ينفق عليه، يقول: من تيقّن أن الله يعينه على البرّ أو ما ينويه من الحقوق، سهّل عليه تكلّف المؤن وهو من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: «من عظمت نعمة الله عنده عظمت مؤنة الناس عليه فإن لم يقم بتلك النعمة عرّض النعمة للزوال».
وأما معكوس ما قبله، وهو تيقّن الخلف يسهل الكف، فمن قوله صلى الله عليه وسلم «من أيقن بالخلف جاد بالعطية».
قال محمود الورّاق: [البسيط]
من ظنّ بالله خيرا جاد مبتدئا ... والبخل من سوء ظنّ المرء بالله
قالوا: للمعروف ثلاث خصال: تعجيله وتيسيره وستره، فمن أخلّ بواحدة منها، فقد بخس المعروف حقّه، وسقط منه الشكر.
قوله: «الفضل»، هو الزيادة على قدر الحاجة. الصّدر: هو المتقدم في الأمور، مثل الوالي وسيّد القوم، يقول: من يتصدّر لأمور الناس، ففضله وشرفه سعة خلقه.
الرّعاة: الولاة. مقت السّعاة: بغض العمّال الذين يجمعون الزكاة. والسّعاة أيضا المشّاؤون بالنميمية للملوك، فيقول: زين الملوك بغض العمال الذين جرت العادة في قديم الزمان وحديثه بظلمهم الناس، فإذا أبغضوهم بحثوا على أعمالهم الفاسدة، فخافوهم فعدلوا، وأما بغض المشّائين النّميمة للملوك فواجب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لعن الله المثلب». قيل: ومن المثلب يا رسول الله؟ قال: «الذي يسعى بصاحبه إلى سلطان، فيهلك نفسه وصاحبه وسلطانه» (2).
قوله: «بثّ»، أي نشر. المنائح: العطايا، يقول: جزاء المدح بذل المال، وأصل المنائح بذل فوائد الأموال لا الأموال.
مهر: حقّ، الوسائل، القرب، والوسيلة ما تجعله سببا بينك وبين من تريد الوصول إليه مثل الشفيع والهدية في قضاء حاجتك.
المسائل: جمع مسألة، وهي هنا سؤال المحتاج. والمجلبة: مفعلة من الجلب، والمعنى: حق الوسيلة قضاء الحاجة. الغواية: الضّلالة. استغراق: تجاوز الحدّ،
__________
(1) أخرجه مسلم في الذكر حديث 37، 38، وأبو داود في الأدب باب 60، والترمذي في الحدود باب 3، والقرآن باب 10، وابن ماجه في المقدمة باب 17، وأحمد في المسند 2/ 252، 296، 500، 514.
(2) أخرجه بنحوه أحمد في المسند 2/ 179، 207، بلفظ «الأثلب» بدل «المثلب».(1/466)
والحدّ: الأوّل الفصل بين الشيئين، وأصله المنع، والحدّ الآخر حدّ السيف وشبهه.
يكلّ: يضعف.
* * * وتعدّي الأدب، يحبط القرب، وتناسي الحقوق، ينشىء العقوق، وتحاشي الرّيب يرفع الرّتب، وارتفاع الأخطار باقتحام الأخطار، وتنوّه الأقدار بمواتاة الأقدار، وشرف الأعمال في تقصير الآمال، وإطالة الفكرة تنقيح الحكمة، ورأس الرّياسة تهذّب السّياسة، ومع اللّجاجة تلغى الحاجة، وعند الأوجال تتفاضل الرّجال، وبتفاضل الهمم تتفاوت القيم، وبتزيّد السّفير يهن التّدبير، وبخلل الأحوال تتبيّن الأهوال، وبموجب الصّبر ثمرة النّصر، واستحقاق الإحماد بحسب الاجتهاد، ووجوب الملاحظة، كفاء المحافظة، وصفاء الموالي بتعهد الموالي، وتحلّي المروءات يحفظ الأمانات، واختبار الإخوان بتخفيف الأحزان، ودفع الأعداء بكفّ الأودّاء، وامتحان العقلاء بمقارنة الجهلاء، وتبصّر العواقب يؤمن المعاطب، واتقاء الشّنعة ينشر السّمعة، وقبح الجفاء ينافي الوفاء، وجوهر الأحرار عند الأسرار.
* * * تعدّي: تجاوز. يحبط: يفسد.
ينشىء العقوق: يظهر المقاطعة. تحاشى: ترك واعتزال.
الرّيب: التّهم. الرّتب: المنازل الرفيعة، قال بعض الحكماء: ثلاثة لا غربة معهنّ:
مجانبة الرّيب، وحسن الأدب، وكفّ الأذى.
ونظمها الشاعر فقال: [المتقارب]
يزين الغريب إذا ما اغترب ... ثلاث، فمنهنّ حسن الأدب
وثانية حسن أخلاقه ... وثالثهنّ اجتناب الرّيب
وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه لدهقان بعض ملوك العجم: بم ينبل الرجل عندكم؟ قال: بترك الكذب، فإنه لا يشرف إلا من وثق بقوله. وبقيامة بأهله، فإنه لا ينبل من يحتاج أهله إلى غيره، وبمجانبة الرّيب فإنه لا يعزّ من لا يأمن أن يصادف على سوءة.
وبالقيام بحاجات الناس، فإنه من رجي الفرج لديه كثرت غاشيته.
قوله: «ارتفاع الأخطار» أي شرف الأقدار والقيم. اقتحام: دخول شديد، يقال:
فلان يقتحم في الأمور، أي يدخل فيها بغير تثبّت ولا رويّة، وتقحّمت الناقة، إذا ندّت فلم يمسكها راكبها، ومنه قحمة العرب، سمّيت قحمة، لأنهم إذا أجدبوا تركوا البادية ودخلوا الريف.(1/467)
الأخطار: جمع خطر، وهو الغرر.
تنوّه: ترفع. مواتاة: موافقة. الأقدار: الأول جمع قدر الإنسان، أي منزلته، والأقدار الثاني: جمع قدر الله تعالى.
وقال الشاعر: [الكامل]
الجدّ أنهض بالفتى من عقله ... فانهض بجدّ في الحوادث أو ذر
ما أقرب الأشياء حين يسوقها ... قدر وأبعدها إذا لم تقدر
تقصير الآمال: تقليل الرجاء وكفّه، ومن قلل الطمع شرف عمله الفكرة: التدبير.
تنقيح: تخليص، وأصله أن تشذب العقد من العود أو القصب حتى يستوي موضعها مع القصب.
قال الشاعر: [الطويل]
وطارت بصلب قوّضت عند بيتها ... له أبن ما قوّضت وكعوب
صلب: عمود البيت جدبته المرأة لتضربه به فتهدّم بيتها.
تهذب: تخلص: والمهذب: المخلّص من العيوب. والسياسة: حسن المداراة.
واللجاجة: ركوب الرأس في الباطل: تلفى: توجد ويروى: «تلغى» و «تلقى»، ومعناهما تترك وتطرح. والحاجة: ما يحتاج إليه، فإن عكست رجعت الحاجة الفقر، يريد: إذا لججت في شيء أدركت حاجتك، وعلى «تلغى» إذا وقعت لجة في حاجتك تركت، وعلى العكس: من افتقر لجّ في السؤال حتى يعطى.
الأوجال: جمع وجل، وهو الفزع، والمعنى، أنّ تفاضل الرجال في الصّبر عند النوازل.
سلمان رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس شيء خيرا من ألف مثله إلا الإنسان».
وقال الشاعر: [الطويل]
ولم أر أمثال الرّجال تسارعوا ... إلى الخير حتى عدّ ألف بواحد
وفي عكسه يقول: الأمور المخوفة تصغر على العظيم وتعظم على الصغير، فعلى قدر ما يفضل الرجل صاحبه في عزمه وإقدامه تتزايد الأوجال وتنتقض.
وقد قال المتنبي: [الطويل]
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم (1)
__________
(1) البيتان في ديوان المتنبي 3/ 378، 389.
وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم
الهمم: جمع همّة. تتفاوت: تتباعد ما بينها. القيم: المنازل. السفير: الرسول:(1/468)
__________
(1) البيتان في ديوان المتنبي 3/ 378، 389.
وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم
الهمم: جمع همّة. تتفاوت: تتباعد ما بينها. القيم: المنازل. السفير: الرسول:
يهن: يضعف، والمعنى أن السفير إذا تعدّى فزاد في الحديث ضعف التدبير، ولو عكست لقلت: إن تدبير المرسل إذا اختلّ ضعف السفير، وإن كان حازما، وعلى هذا أنشدوا:
[السريع]
إذا كنت في حاجة مرسلا ... فأرسل حكيما ولا توصه (1)
وإن ناصح منك يوما دنا ... فلا تنأ عنه ولا تقصه
وإن باب أمر عليك التوى ... فشاور لبيبا ولا تعصه
وذو الحقّ لا تنتقص حقّه ... فإنّ القطيعة في نقصه
ولا تحرصنّ فربّ امرىء ... حريص مضاع على حرصه
قوله: «خلل»، فساد. والإحماد: أن تجد الرجل محمودا.
والاجتهاد: بلوغ الجهد، وهو أقصى الطاقة، والمعنى: أنّ الرجل يستحق أن يكون محمودا بحسب ما بذل من اجتهاده وطاقته ولو عكست لقلت: الاجتهاد واجب عليك فيما كلفته بحسب إحمادك من كلّفك.
الملاحظة: النظر بمؤخر العين.
المحافظة: التحرّز، والمعنى: إنك إذا أوجبت ملاحظة حال المحافظ لك، ففعلك ذلك كفاء محافظته، وإن عكست قلت إن المحافظة لك إذا صفت محافظته فهي كفاء ملاحظتك.
الموالي: الذي يوالي الخير، والكرم، أي يفعل المرة بعد المرة. تعهّد: تفقّد.
الموالي: بنو العمّ، وقيل: الموالي معن والاك بعتق أو بحلف أو بصحبة، فكلّ واحد منهما مولّى للآخر، والموالي بالضم بالفاعل، والمعنى إذا تعاهدت من والاك بما أوجبه ولاؤه من رعايته، صفت مودته لك، وإن عكست قلت: إن الموالي يتعهدون من والاهم.
والصحيح في هذا الموضع أنّ الموالي الذي يوليك ودّه، والموالي: العبيد والأتباع.
وسألني الأستاذ المقرىء الحاجّ ابن السّقاط في هذا الموضع، فأجبت بما تقدّم، فقال لي: معنى هذا الموضع غائب عمّن لا يعرف سيرة أهل المشرق، وذلك
(1) الأبيات لطرفة بن العبد في ديوانه ص 64، وللزبير بن عبد المطلب في جمهرة الأمثال 1/ 98، وبلا نسبة في تاج العروس (بسند)، والأغاني 17/ 337.(1/469)
أنّ الرجل الشريف حين يصبح عندهم يأمر مواليه أن يقصدوا نظراءه من الأشراف والأعيان، فيأتون باب الشريف، فيستأذنون عليه، ويدخلون إليه ويقولون له: ينعم مولانا صباحك، ثم يسألونه عن حاله وعمّا حدث عنده ثم يفعلون كذلك بجميع أصحاب مولاهم، وكذلك يفعل موالي ذلك المقصود في قصد نظراء مولاهم، فتنضبط بذلك عندهم الرّعايات بين الأصدقاء والأقارب، وتتزايد المودّات بين الأولياء والأجانب. فعلى هذا المعنى يقول في تعهد الموالي، وهو حسن إن شاء الله تعالى.
قوله: «تحلّي»، أي تزيّن. والمروءات، تقدمت. وتخفيف الأحزان: تهوين الطوارىء والنوازل. الأودّاء: والأحباب، يريد أنهم يكفون الأعداء، ورواية ابن ظفر «دفع العداء»، وأنكر «الأعداء»، وقال: العداء بالفتح والمد: الظلم.
امتحان: اختبار، يقول: إنما يتبيّن لك العاقل بمقارنته وبمصاحبته للجاهل، لأنّه لا يوافقه، وإن عكست قلت: الجاهل إذا صحب العاقل تبصّر وانتقى جهله.
وقالوا: إذا أردت أن تفحم عالما فأحضره جاهلا.
وقال الشاعر: [الكامل]
عدّوى البليد إلى الجليد سريعة ... والجمر يوضع في الرماد فيخمد
وقال صلى الله عليه وسلم: «ويل لعالم أمر من جاهله».
وجاء كيسان إلى الخليل يسأله، ففكّر ليجيبه فلمّا استفتح الكلام، قال له: لا أدري ما تقول! فقال الخليل: [الكامل]
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت أجهل ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا
تبّصر العواقب: إمعان النظر في عاقبة الأمور. والمعاطب: المهالك، يريد من نظر في عاقبة أمره أمن ما يحذر.
الشّنعة: الفعل القبيح ينشر ذكره. السّمعة: الذكر الجميل يسمع عنك، أو القبيح فينشر في الناس.
الجفاء: سوء الأدب، وثقل الكلام. وينافي: يباعد. الوفاء: ضد الغدر.
* * * ثم قال: هذه مائتا لفظة، تحتوي على أدب وعظة، فمن ساقها هذا المساق، فلا مراء ولا شقاق، ومن رام عكس قالبها، وأن يردّها على عقبها، فليقل: الأسرار عند الأحرار، وجوهر الوفاء، ينافي الجفاء، وقبح السّمعة ينشر الشّنعة، ثمّ على
هذا المسحب فليسحبها، ولا يرهبها، حتّى تكون خاتمة فقرها، وآخرة دررها.(1/470)
* * * ثم قال: هذه مائتا لفظة، تحتوي على أدب وعظة، فمن ساقها هذا المساق، فلا مراء ولا شقاق، ومن رام عكس قالبها، وأن يردّها على عقبها، فليقل: الأسرار عند الأحرار، وجوهر الوفاء، ينافي الجفاء، وقبح السّمعة ينشر الشّنعة، ثمّ على
هذا المسحب فليسحبها، ولا يرهبها، حتّى تكون خاتمة فقرها، وآخرة دررها.
وربّ الإحسان صنيعة الإنسان.
* * * تحتوي: تشتمل. عظة: موعظة.
المراء والشقاق، معناهما الخلاف، والعكس ردّ أول الكلام على آخره، وهو الردّ على العقب كما ذكره، وهو معنى القهقرة الّذي سمّى به المقامة، ولذلك لم ينسبها إلى بلد. والقهقرة: رجوع الرجل عنك، كما جاء عليك، وذكر أن يرجع إلى خلف، وهو يستقبلك بوجهه، وهو الردّ على العقب، وذلك أنّ الرجل إذا توجّه مقبلا إليك، فإنما يقدّم في مشيه إليك صدور قدميه، فإذا تقهقر قدّم في مشيه عقبه، وأصل القهقر: الحجر المدحرج، فإذا ضربته تدحرج في جريه، حتى يستقرّ، فإذا أردت أن يرجع إلى الموضع الذي جاء منه ضربته فتدحرج راجعا إلى جهة موضعه، فشبّه رجوع الرجل على ما وصفنا، وكذلك هذه الرسالة رجوع آخرها إلى أولها، مشبّه بذلك.
ولذلك شبّه الأعرابي فرسه في اجتماعه بالحجر (1) فقال: محبوبك مهملج (2) كما تقهقر الأدعج.
والمسحب: الطريق الذي تجرّ فيه الشيء.
يرهبها: يخفها، أي لا يخرج الألفاظ عن طريقها فتختلّ، وذلك أن هذه الرسالة مركّبة كلها من مبتدأ وخبر، فإن وقفت فيها على مبتدأ في أولها أو آخرها أو وسطها، فأقرأه مع ما بعده تجده مستقيما، واقرأه مع ما قبله تجده كذلك، فإن وقفت على خبر مبتدأ فلا يستقيم مع ما بعده، وهو مع ما قبله أبعد، فأراد بقوله «لا يرهبها» لا يبتدىء لفظه بغير مبتدأ فتتداعى مبانيها، وتبطل معانيها فتفهمه.
والفقر في غير الموزون مثل القوافي في الموزون، والفقر مشتّقة من فقار الظهر، لأنها تنقطع على قافيتين أو ثلاثة، وهذا هو الفرق بين الفقر والأسجاع إذ الأسجاع كلّها ترجع إلى قافية واحدة من سجع الحمام وهو لا يختلف، ولهذا قال المعرّي في الغراب: [الطويل]
أتى وهو طيار الجناح وإن مشى ... أشاع بما أعيا سطيحا من السّجع (3)
وسطيح: كاهن، وكلامه أسجاع.
* * * قال الراوي: فلمّا صدع برسالته الفريدة، وأملوحته المفيدة، علمنا كيف
__________
(1) الحجر: الأنثى من الخيل.
(2) الهملجة: حسن سير الدابة في سرعة.
(3) البيت في سقط الزند ص 1337.(1/471)
يتفاضل الانشاء، وأنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. ثمّ اعتلق كلّ منّا بذيله، وفلذ له فلذة من نيله، فأبى قبول فلذتي، وقال: لست أزرأ تلامذتي.
فقلت له: كن أبا زيد، على شحوب سحنتك، ونضوب ماء وجنتك، فقال:
أنا هو على نحولي وقحولي، وقشف محولي، فأخذت في تثريبه، على تشريقه وتغريبه.
* * * صدع: كشف وشقّ.
الفريدة: التي لا مثل لها.
أملوحته، يريد بها الرسالة، والأملوحة: الكلام المليح، يعجب له السامع.
والإنشاء: الكتابة.
فلذ: قطع فلذة: قطعة، وأصلها قطعة من كبد البعير.
قال الشاعر: [البسيط]
تكفيه حزّة فلذ إن ألمّ بها ... من الشّواء ويروي شربه الغمر (1)
نيله: عطائه. أرزأ: أنقص.
والتلميذ: هنا متعلم العلم، ولذلك أبى أن يأخذ منه شيئا، وهو في كلّ مقامة إذا تعرّض للكدية يفرده بالأخذ منه، أو يبتدىء التقدير منه، وذلك أنّ الجماعة في هذه المقامة اشترطوا مناظرته، وابن همام شرط أنّه من نظّارة الحرب، أي إنّما جلس لينظر ويتعلّم، فلهذا أخذ منهم وتركه، وزاده فائدة التنبيه على أنه أبا زيد، ولذلك قال له: كن أبا زيد، وكن أتى به بلفظ الأمر، ومعناه الدعاء، وفي الحديث: «كن أبا ذرّ» و «كن أبا خيثمة» (2)، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى شخصا من بعيد، فرجا أن يكون أبا ذرّ الغفاري، فقال: «كن أبا ذرّ» أي جعلك الله أبا ذرّ، فكان ما رجاه النبيّ صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) يروى صدر البيت:
تغنيه حذّة فلذ إن ألمّ بها
وهو لأعشى باهلة في لسان العرب (حذذ)، (حزز) وجمهرة اللغة ص 56، 96، 699، 781، وتاج العروس (حذذ)، (غمر)، (حزز)، وتهذيب اللغة 8/ 129، 14/ 432، وديوان الأدب 1/ 180، وبلا نسبة في لسان العرب (حذذ)، (فلذ)، وجمهرة اللغة ص 510، ومقاييس اللغة 4/ 394، 450، وكتاب العين 4/ 416، وأساس البلاغة (غمر).
(2) رواه ابن الأثر الجزري في النهاية في غريب الحديث 4/ 211، بلفظ: في حديث توبة كعب «رأى رجلا يزول به السراب فقال: كن أبا خيثمة» أي صر، ومنه حديث عمر: أنه دخل المسجد فرأى رجلا بذّ الهيأة فقال: «كن أبا مسلم» يعني الخولاني.(1/472)
وكذلك كان اللفظ هنا، كأنّ ابن همام لمّا أعجب بفصاحة صاحب الرسالة تمنّى أن يكون أبا زيد، لما عهد من فصاحته فقال: كن أبا زيد، أي جعلك الله أبا زيد الّذي عهدت منه الفصاحة، متى رأيته، فصدّق منه أمنيّته فقال: أنا هو الذي تمنّيت.
والدعاء بلفظ الأمر كثير في كلامهم كقوله: [الطويل]
* ألا أنعم صباحا أيّها الطلل البالي * (1)
وقول الآخر: [الطويل]
* ألا أنعم صباحا أيها الربع واسلم * (2)
أي سلّمك الله من ربع، وجعل صباحك ناعما.
الفنجديهي: كن أبا زيد، أي أنت أبو زيد، ومنه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنََّاسِ}
[آل عمران: 110] أي أنتم خير أمة.
شحوب: تغيّر: سحنتك: جلدة وجهك وهيئتك. نضوب: جفوف. والوجّنة:
العظم الشاخص تحت العين. قحولي: يبسي. قشف: تغيّر هيئته بترك النظافة. محولي جفوف جسمي.
تثريبه: لومه وتعييب فعله، والتّثريب بالذنب المؤاخذة به، وأصله الاختلاط والإفساد، وإنما يقول: لا تثريب عليك، من قدر فعفا.
* * * فحولق واسترجع، ثمّ أنشد من قلب موجع: [مجزوء الكامل]
سلّ الزّمان عليّ عضبه ... ليروعني وأحدّ غربه
واسنل من جفني كرا ... هـ مراغما، وأسال غربه
وأجالني في الأفق أط ... وي شرقه وأجوب غربه
__________
(1) عجزه:
وهل يعمن من كان في العصر الخالي
والبيت لامرىء القيس في ديوانه ص 27، وجمهرة اللغة ص 1319، وخزانة الأدب 1/ 60، 328، 332، 2/ 371، 10/ 44، والدرر 5/ 192، وشرح شواهد المغني 1/ 340، والكتاب 4/ 39، وتاج العروس (طول)، وبلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 148، وخزانة الأدب 7/ 105، وشرح الأشموني 1/ 69، 2/ 292، وشرح شواهد المغني 1/ 485. ومغني اللبيب 1/ 169، وهمع الهوامع 2/ 83.
(2) يروى البيت:
ألا أنعم صباحا أيها الربع وانطق ... وحدّث حديث الركب إن شئت واصدق
وهو لامرىء القيس في ديوانه ص 168، والأشباه والنظائر 6/ 236.(1/473)
فبكلّ جوّ طلعة ... في كلّ يوم لي وغربه
وكذا المغرّب شخصه ... متغرّب ونواه غربه
ثمّ ولّى يجرّ عطفيه، ويخطر بيديه، ونحن بين متلفّت إليه، ومتهافت عليه، ثمّ لم نلبث أن حللنا الحبا، وتفرّقنا أيادي سبا.
* * * حولق: قال لا حول ولا قوّة إلا بالله. استرجع: قال إنا لله وإنا إليه راجعون.
عضبه: أي سيفه القاطع. ليروعني: ليفزعني.
غربه: حده. استلّ: أزال. كراه: نومه.
مراغما: مذلّلا.
غربه: مجرى دمعه، والغرب فيض الدمع.
أجالني: صرفني ومشّاني.
الأفق: نواحي الأرض. أطوى: أقطع. أجوب: أخترق.
جوّ: ناحية غربة، فعلة، من الغروب مثل طلعة، من الطلوع.
المغرّب: المبعد. المتغرّب: الملازم للغربة.
نواه: سفرته. غربة: بعيده.
* * * [مما قيل في الغربة والسفر]
ومن أحسن ما قيل في تبعيد السفر قول حبيب: [الطويل]
سلي هل عمرت الفقر وهو سباسب ... وغادرت ربعي من ركابي سباسبا (1)
وغرّبت حتى لم أجد ذكر مشرق ... وشرّقت حتى قد نسيت المغاربا
خطوب إذا لاقيتهنّ رددنني ... جريحا كأني قد لقيت الكتائبا
وله أيضا: [البسيط]
ما اليوم أوّل توديعي ولا الثاني ... البين أكبر من شوقي وأحزاني (2)
دع الفراق فإن الدهر ساعده ... فصار أملك من روحي لجثماني
خليفة الخضرم من يربع على وطن ... في بلدة فظهور العيس أوطاني
في الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا ... بالرّقمتين وبالفسطاط إخواني
وما أظنّ النوى ترضى بما صنعت ... حتى تبلغني أقصى خراسان
__________
(1) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 17.
(2) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 223.(1/474)
وقال الحلواني: [الكامل]
يا نفس ويحك، في التّغريب ذلّة ... فتجرّعي كأسي هوى وهوان
وإذا نزلت بدار قوم دارهم ... فلهم عليك تعزّز الأوطان
وقال ابن شرف: [السريع]
إن ترمك الغربة في معشر ... قد جبل النّاس على بغضهم
فدارهم ما دمت في دارهم ... وأرضهم ما دمت في أرضهم
وقال البستي: [البسيط]
لا يعدم المرء كنّا يستكنّ به ... وشبعة بين أهليه وأصحابه
ومن نأى عنهم قلّت مهابته ... كالليث يحقر لمّا غاب عن غابه
والسابق لهذا المعنى زهير في قوله: [الطويل]
ومن يغترب يحسب عدوّا صديقه ... ومن لا يكرّم نفسه لا يكرّم (1)
وفي قوله: [الوافر]
فقرّي في بلادك إن قوما ... متى يدعوا بلادهم يهونوا (2)
يقال: جاء يجرّ عطفيه، إذا جاء رخيّ البال متبخترا، وإنما ينظر في عطفيه إذا كان معجبا بنفسه.
وثاني عطفيه، بمعنى متكبّر، والعطفان: جانبا الثوب، والعطاف الرّداء، والجمع عطف.
ويقال: جاء يجرّ رجليه، إذا جاء مثقلا لا يقدر أن يحمل رجليه.
يخطر بيديه: يحرّكهما عند المشي.
متهافت: متساقط من النّدم على فراقه.
أيادي سبا، يريد في كلّ طريق وجهة.
* * * [قصة سبأ وسدّ مأرب]
وسبأ هو أبو قبائل اليمن المتفرّقة من سدّ مأرب الذين مزّقهم الله كلّ ممزّق. وسمّي سبأ لأنه أوّل من سبى السّبي، وقيل: سبأ اسم أمّهم، ومأرب اسم بلدهم.
وكانت سبأ من أحسن بلاد الله تعالى وأخصبها، وأكثرها شجرا وماء، وقد ذكر الله تعالى أنها كانت جنّتين عن يمين وشمال، وكانت مسيرة شهر في شهر للمجدّ
__________
(1) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 32، واللمع ص 215، وعجزه لأبي المثلم الهذلي في لسان العرب (كرم).
(2) البيت في ديوان زهير ص 192.(1/475)
الراكب، يسير في جنان من أولها إلى آخرها، لا تواجهه الشمس، ولا يفارقه الظلّ، مع تدفّق الماء، وصفاء الهواء، واتّساع الفضاء، فمكثوا ما شاء الله، لا يعاندهم ملك إلا قصموه.
وكانت في بدء الزمان تركبها السيول، فجمع ملك حمير أهل مملكته، فشاورهم في دفع السّيل، فأجمعوا على حفر مسارب له حتى تؤدّيه إلى البحر، فحشد أهل مملكته حتى صرف الماء، واتّخذ سدّا في موضع جريان الماء من الجبال، ورصفه بالحجارة والحديد، وجعل فيه مجاري للماء في استدارة الذراع، يخترقون منها مقدارا معلوما من الماء وشربا مقسوما للأرض، فإذا جاء السيل تصرف في المجاري إلى جنانهم ومزدرعاتهم، بتقدير يعمّهم نفعه.
وقيل: صنعة لقمان بن عاد، وجعله فرسخا في فرسخ وذكر الأعشى في شعره أن حميرا ابتنته، فقال: [المتقارب]
رخام بنته لهم حمير ... إذا جاء ماؤهم لم يرم (1)
وأروى الزّروع وأعنابهم ... على سعة ماؤهم قد قسم
فعاشوا بذلك في غبطة ... فجاف بهم جارف منهدم
فلما كفروا بأنعم الله، ورأوا أن ملكهم لا يبيده شيء، وعبدوا الشمس، بعث الله على سدّهم فأرة فخرقته. وأرسل عليهم السّيل، وأباد الله خضراءهم.
ولما انتهى الملك في ولد سبأ إلى عمرو بن عامر مزيقياء وسمّي بذلك لأنه كان يمزّق في كل ليلة حلّة كبرا من أن تعاد عليه أو يلبسها غيره. وقيل: سمّي بذلك لأنه مزّق الأزد في البلاد وكان أخوه عمران كاهنا، فأتته كاهنة تدعى طريفة فأخبرته بدنوّ فساد السدّ وفيض السيل، وأنذرته، فقال لها: وما آية ذلك؟ فقالت: إذا رأيت جرذا يكثر بيديه الحفر، ويقلّب برجليه الصخر فاعلم أنه قد اقترب الأمر. فقال: وما الأمر؟ فقالت:
وعد من الله ينزل يا عمرو، فلتكثر الشكر.
فرأى عمرو يوما في السد جرذا يقلب صخرة، ما يقلبها خمسون رجلا، فرجع وهو يقول: [الرجز]
أبصرت أمرا هاج لي برح السّقم
من جرذ كفحل خنزير أجم
له مخاليب وأنياب قضم
__________
(1) الأبيات في ديوان الأعشى ص 43.(1/476)
أي معوّجة. فأجمع على الخروج منها، وأعمل الحيلة في بيع ماله، وألّا بنكر الناس عليه، فقال لابنه: إني صانع طعاما، وداع إليه أهل مأرب، فاردد عليّ ما أقول لك من الحديث، ففعل ابنه ذلك وردّ عليه بأقبح ردّ، فصاح عمرو: واذّلاه! يجيبني صبيّ! فحلف ألا يقيم ببلد ضيم فيه، فجعل يبيع أمواله.
وبعضهم يقول لبعض: اغتنموا غضبة عمرو، واشتروا منه قبل أن يرضى، فلما اجتمعت له أمواله، أخبرهم بشأن السّيل، فأجمعوا على الجلاء، فقال لهم عمران أخوه:
إني أصف لكم بلدانا، فاختاروا أيّتها شئتم فمن كان منكم ذا همّ بعيد، وجمل غير شرود، فليلحق بالشّعب من كرود، فلحق به همدان.
ثم قال: ومن كان منك ذا سياسة وصبر، على أزمات الدهر، فليلحق ببطن مرّ فلحق به خزاعة.
ثم قال: ومن كان منكم يريد الراسخات في الوحل المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل. فنزلها الأوس والخزرج.
ثم قال: ومن كان منكم يريد الخمر والخمير، والأمر والتأمير، فليلحق ببصرى وسدير، وهي من أرض الشأم، فنزلها غسّان.
ثم قال: ومن كان منكم يريد الثياب الرّقاق، والخيل العتاق، والذهب والأوراق، فيلحق بالعراق، فلحق بها مالك بن فهم بن الأزد.
وتخلّف مالك بن اليمان في قومه، حتى أخرجهم السيل فنزلوا نجران، وانتسبوا إلى مذحج.
ودخلت جماعة منهم إلى معدّ فأخرجتهم معدّ بعد حروب، فنزلوا بجبال السّراة على تخوم الشأم.
فلمّا تفرّقت في البلاد هذا التفرّق، ضربت العرب بهم المثل، فقالوا: ذهبوا أيدي سبأ وأيادي سبا، أي متفرّقين في كل ناحية.
وقيل فيهم: إنهم كانوا مجتمعين يدا واحدة، فلما مزّقهم الله وفرّقهم، صارت يدهم أيادي متفرّقة، وأخذ كل طائفة منهم طريقا على حدة. أو يريد به النعمة، فالمعنى:
تفرّقنا كما تفرّقت نعم أهل سبأ.
الزّجاج: سبأ مدينة تعرف بمأرب على ثلاث ليال من صنعاء.
الجوهري: سبأ اسم رجل سمّيت به البلدة.
وذكر في الدرة أن لفظة التفرّق تستعمل في الأشخاص والأجسام، نحو تفرّق
القوم، وإنّ الافتراق يقال في الأهواء والآراء، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «تفترق أمتي على كذا وكذا فرقة»، فإذا قيل: إن لزيد ثلاثة إخوة متفرّقين، فالمعنى أن كل واحد منهم ببقعة.(1/477)
وذكر في الدرة أن لفظة التفرّق تستعمل في الأشخاص والأجسام، نحو تفرّق
القوم، وإنّ الافتراق يقال في الأهواء والآراء، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «تفترق أمتي على كذا وكذا فرقة»، فإذا قيل: إن لزيد ثلاثة إخوة متفرّقين، فالمعنى أن كل واحد منهم ببقعة.
وإن قيل مفترقين فالمعنى أن أحدهم لأبيه وأمه، والآخر لأبيه، والثالث لأمه وكذلك يقال: فرّق بالتشديد فيما كان من قبل الجمع، وفرق بالتخفيف، فيما يراد به التمييز كقوله: فرق بين الحق والباطل، والحالي والعاطل.
تم الجزء الأول، ويليه الجزء الثاني
وأوله: «المقامة الثامنة عشرة، وتعرف بالسنجارية»(1/478)
فهرس محتويات الجزء الأول من شرح مقامات الحريري(1/479)
فهرس محتويات الجزء الأول من شرح مقامات الحريري
فهرس المحتويات
تقديم 3
ترجمة المؤلف 6
مقدمة الشارح 7
الصّدر 13
بديع الزمان 19
همذان 21
قدامة بن جعفر 26
عديّ بن الرّقاع 27
الحمام 29
ما قيل في الحقد 33
حكم بلسان البهائم 34
المقامة الأولى الصّنعانية 37
صنعاء 38
ما قيل شعرا في ذم الكبر 42
التجنيس 47
ما قيل شعرا في ذم الدنيا 49
المقامة الثانية الحلوانيّة 56
حلوان 57
اللحية وما قيل فيها 62
البحتريّ 66(1/481)
وصية أبي تمام للبحتري 71
ما قيل في النرجس 75
الوأواء الدّمشقي 79
ما قيل في اللؤلؤ 82
ما قيل في الامتحان 83
صاعد بن الحسن الربعي 85
سرعة البديهة وما قيل فيها 86
مما قيل في الفراق 88
المقامة الثّالثة الدّيناريّة 92
الحسد وما قيل فيه 95
في وصف الدينار 101
الوعد وإنجازه 101
مدح الأشياء وذمّها 107
المقامة الرّابعة الدّمياطيّة 111
مما قيل في سواد الليل 112
مما قيل في ضوء الصبح شعرا 121
الحمّام وما قيل فيه شعرا 124
حديث خرافة 131
المقامة الخامسة الكوفيّة 133
الكوفة 133
مما قيل في الهلال شعرا 134
موسى عليه السلام 142
إبراهيم عليه السلام 145
قرى الضيف 145
البؤس والحرمان 146(1/482)
مدينة فيد 148
الكميت الشاعر 153
المقامة السّادسة المراغيّة وتعرف بالخيفاء 157
قطريّ بن الفجاءة 162
الدواة والمداد والقلم 168
مما قيل في الضباع 183
الدهر وأحواله 183
مما قيل في ذم الزمان 185
المقامة السّابعة البرقعيديّة 190
ابن عباس وبعض أخباره 200
إياس القاضي 202
مما قيل في العمى شعرا 207
أشعار في التشبيه 211
المقامة الثامنة المعريّة 215
معرّة النعمان 215
القطا 219
المقامة التاسعة الإسكندرانية 232
فرغانة 232
غانة 233
السواد والبياض ومما قيل فيه شعرا 233
مما قيل في السفر والحضّ عليه 236
الإسكندرية 241
الفرزدق وبعض أخباره 256(1/483)
الكسعيّ وقوسه 258
المقامة العاشرة الرحبيّة 261
مالك بن طوق 261
مما قيل في الحسن والجمال 262
بعض أخبار الولاة 267
السّليك بن السّلكة 270
إبراهيم النظام 274
مما قيل في الحسن والجمال 277
مما قيل في العذار وفي الالتحاء 285
أحمد بن سريج من أئمة الشافعيّة 296
من شعر النسيب 298
مما قيل في حلق الشعر 300
المتلمس وصحيفته 301
قصة المثل: طلب أثرا بعد عين 305
قصة المثل: رجع بخفي حنين 308
المقامة الحادية عشرة الساوية 311
المقامة الثانية عشرة الدّمشقيّة 332
غوطة دمشق 332
باب جيرون 334
بعض الأدعية المأثورة 343
في مجالس الشراب 348
مما قيل في الأزهار شعرا 350
مما قيل في الخمر والشراب 353
مما قيل في الخضاب 375(1/484)
المقامة الثالثة عشرة البغداديّة 378
الزوراء 378
مما قيل في الشعر والشعراء 380
مجالس الشعراء 381
قصة المثل: حال الجريض دون القريض 388
المقامة الرابعة عشرة المكيّة 394
الأدب 398
مما قيل في الشكر 402
قصة المثل: مواعيد عرقوب 403
مما قيل في الحنين إلى الأوطان 405
المقامة الخامسة عشرة الفرضيّة 407
الضب 411
المقامة المجاعية قصة المثل: ربّ رمية من غير رام 415
قصة المثل: تجوع الحرّة ولا تأكل ثدييها 419
ما شهر من مغربات الزرد 420
شكر النعمة ومما قيل فيها 427
المقامة السّادسة عشرة المغربيّة 433
في معنى التطفّل 433
من أخبار المتطفلين 434
قصة أهل الكهف 441
أمثلة من التصحيف وقلب الكلام 445
مما قيل في الصديق 446(1/485)
المراء والجدال 448
سحبان وائل 450
باقل 451
مما قيل في الشمع 452
مما قيل في الزيارة والزوار 455
طيف الخيال 456
المقامة السّابعة عشرة القهقريّة 459
عروة بن أذينة وهشام بن عبد الملك 464
مما قيل في الغربة والسفر 474
قصة سبأ وسدّ مأرب 476(1/486)
المجلد الثانى
بسم الله الرّحمن الرّحيم
المقامة الثامنة عشرة وتعرف بالسّنجاريّة
حكى الحارث بن همام قال: قفلت ذات مرّة من الشام، أنحو مدينة السلام، في ركب من بني نمير، ورفقة أولي خير ومير، ومعنا أبو زيد السّروجيّ: عقلة العجلان، وسلوة الثكلان، وأعجوبة الزمان، والمشار إليه بالبنان في البيان.
فصادف نزولنا سنجار، أن أولم بها أحد التجّار، فدعا إلى مأدبته الجفلى، من أهل الحضارة والفلا، حتّى سرت دعوته إلى القافلة، وجمع فيها بين الفريضة والنّافلة.
* * * قفلت: رجعت من السفر.
* * * [الشام]
الشأم، ويقال له: شام وشأم، ويذكّر ويؤنث، وينسب إليه شامي وشآم، على فعال. ويحكى عن سيبويه شآميّ، وإثبات الألف في النّسب يدلّ على إثباتها في أصل البناء.
وقيل: ألف يمان وشآم عوض من ياء النسب، قال طرفة: [الطويل]
* شآمية تروي الوجوه بليل *
وقال في الدّرّة المنسوب إليه على ثلاثة أوجه: شاميّ وهو القياس، وشآم بياء مخففة كالمنقوص، وشآميّ وهو شاذ لأنه يصير بمنزلة المنسوب إلى المنسوب، وكذلك جوّزت الثلاثة في المنسوب إلى اليمن.
وعلى الشاذّ منها قول العرجي: [السريع]
إنّي أتيحت لي يمانية ... إحدى بني الحارث من مذحج (1)
__________
(1) البيت للعرجي في ديوانه ص 19، والأغاني 1/ 108.(2/3)
ولم يجز الحريري تأنيث الشام وقال: لفظه مذكر.
وقال ابن الأنباري وذكر الشام والحجاز وغيرهما: فمن أنث من ذلك شيئا فإنما يذهب به إلى معنى المدينة.
وقالوا: الشأم صفوة بلاد الله.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لحذيفة ومعاذ: «عليكم بالشأم فإنّ الله قد تكفّل بالشام وأهله» (1).
وسميت شاما لأنها عن شامة الكعبة.
ابن الأنباري: يجوز أن يكون مأخوذا من اليد الشّومي وهي اليسرى.
وقال قوم: أصله في الكعبة، لأنّ بابها يستقبل المطّلع، فمن قابل طلوع الشمس كانت الكعبة عن يمينه في شقّ الجنوب، والشأم عن يده الشّومي في شقّ الشمال.
أبو القاسم الزجاجي: قال: جماعة من أهل اللغة: يجوز ألّا يهمز، فيقال: شام جمع شامة، سمّيت بذلك لكثرة قراها، وتداني بعضها من بعض، شبّهت بالشامات.
وقال الشرقيّ سميت بسام بن نوح، لأنه أوّل من بناها، فغيّر اللفظ العجمي فجعل السين شينا.
وقسّمت الشأم خمسة أقسام: الشام الأولى، وأوّل حدّها من طريق مصر أمج، ثم غزة ثم الرملة، ومدينته العظمى فلسطين وعسقلان، وفلسطين هي الشأم الأولى، ولها بيت المقدس.
الشأم الثانية الأردن، ومدينته العظمى طبريّة، وهي بشاطئ البحيرة، واليرموك بين فلسطين والأردن.
والشأم الثالثة الغوطة، ومدينتها العظمى دمشق، ومن سواحلها طرابلس الشام.
الرابعة: أرض حمص الشأم.
الخامسة: قنّسرين، ومدينته العظمى حلب، وهي من قنّسرين على أربعة فراسخ.
وساحلها أنطاكية، مدينة عظيمة على شاطئ البحر داخلها المزارع والبساتين والأنهار.
* * * قوله: «أنحو» أي أقصد. الركب: اسم لمن يركب الإبل، كذا قال الخليل.
وقال يعقوب: الرّكب: جمع راكب، وهم أصحاب الإبل خاصّة، ولا يكون الركب إلا أصحاب الإبل، وراكب الفرس فارس، وراكب البغل بغّال، وراكب الحمار حمّار،
__________
(1) أخرجه بنحوه أحمد في المسند 5/ 34.(2/4)
وراكب الفيل فيّال، والجمع خيّالة وبغّالة وحمّارة وقيّالة، وتبعه ابن قتيبة في هذا، وخطّأهما جميعا ابن السّيد وغيره واحتجوا بقول امرئ القيس: [السريع]
إذا ركبوا الخيل واستلأموا ... تحرّقت الأرض واليوم قرّ (1)
فقوله: «ركبوا الخيل»، يدلّ على أنه يقال لمن ركب الفرس: راكب.
وما ذكره يعقوب هو الصحيح، لأنّ العرب إذا أفردت لفظ راكب أن ركب لم يقع في كلامها إلّا على أصحاب الإبل مطلقا، فإذا أرادت أن توقعه على أصحاب الخيل قيّدته بذكر الخيل، فقالوا: ركبت الفرس، وراكب الفرس، فيذكّرون الفرس، وعلى هذا أتى:
[السريع]
* إذا ركبوا الخيل واستلأموا *.
فخفيت هذه التفرقة على ابن السّيد، على حظّه الوافر من اللغة.
وقال الحريري في الدّرة: الراكب هو راكب البعير خاصّة، وجمعه ركبان، فأما الركب والأركوب، فقد جوز الخليل أن يطلق اسمهما على راكبي كلّ دابة إلّا أنّ الأركوب أكثر من الرّكب عدة وأكثر جماعة.
* * * [بنو نمير]
وبنو نمير قبيلة من بني صعصعة، إحدى جمرات العرب، وأشرف بيوت قيس عيلان، وجمرات العرب ثلاثة، سموا بذلك لأنهم متوافرون في أنفسهم لم يدخلوا معهم غيرهم، والتجمير في كلامهم التجميع وهم بنو نمير، وبنو الحارث بن كعب، وبنو ضبّة بن أدّ، فطفئت جمرتان وهم بنو ضبّة لمحالفتها الرّباب، وبنو الحارث لمحالفتها مذحج، وبقيت نمير لم تحالف، فهي على كثرتها ومنعتها، قال شاعرهم: [الوافر]
نمير جمرة العرب الّتي لم ... تزل في الحرب تلتهب التهابا (2)
وكان الرجل منهم إذا قيل له: ممّن أنت؟ قال: نميريّ كما ترى، إدلالا بنسبته، وافتخارا بمنعته، حتى قال جرير في الراعي: [الوافر]
فغضّ الطّرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا (3)
__________
(1) البيت في ديوانه امرئ القيس ص 154.
(2) البيت للراعي النميري في ديوانه ص 18، وتاج العروس (جمر).
(3) البيت لجرير في ديوانه ص 821، وجمهرة اللغة ص 1096، وخزانة الأدب 1/ 72، 74، 9/ 542، والدرر 6/ 322، وشحر المفصل 9/ 128، ولسان العرب (حدد)، وبلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 411، وخزانة الأدب 7/ 531، 9/ 306، وشرح الأشموني 3/ 897، وشرح شافية ابن الحاجب ص 244، والكتاب 3/ 533، والمقتضب 1/ 185.(2/5)
فصار إذا قيل له ممّن أنت؟ قال: عامريّ.
ومرّت امرأة بهم، فأحدّوا النّظر إليها، فقال أحدهم: والله إنها لرسحاء، فقالت: يا بني نمير، والله ما امتثلتم فيّ واحدة من اثنتين لا قول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصََارِهِمْ} [النور: 30]، ولا قول جرير: [الوافر]
فغضّ الطّرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا (1)
قوله: «أولي خير»، أي ذوي غنى. مير: صلة وصدقة. عقلة العجلان: حابس المستعجل.
سلوة الثكلان: مذهب حزن الحزين، يقول: إذا رآه من هو في شغل معجّل حبسه، أو حزين أزال حزنه.
البنان: الأصابع، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء فتنة أن يشار إليه بالأصابع في دين أو دينا إلّا من عصمه الله».
* * * [سنجار]
سنجار: بلد بينه وبين قرقيسيا نيّف وثلاثون فرسخا، وقرقيسيا على الفرات، وهي كورة من كور ديار ربيعة، وفي سنجار فوّهة نهر الخابور، فيمرّ حتى يصبّ في الفرات، وهي على أميال من نصيبين، وعن يمين طريق الموصل.
* * * قوله: «أولم»، أي صنع وليمة، والوليمة: طعام العرس. والمأدبة: طعام يدعى إليه الناس.
والجفلى: الناس أجمع.
والحضارة: ضدّ البداوة، يفتح أوّلها ويكسر. الفلا: القفر، وأراد دعا أهل الحاضرة والبادية. سرت: وصلت.
القافلة: الرفقة الراجعة من سفرها، قال الأزهريّ: سمّيت قافلة تفاؤلا بقفولها عن سفرها الذي ابتدأت.
وظنّ ابن قتيبة أن عوامّ الناس يغلطون في تسميتهم الناهضين في ابتداء الأسفار قافلة إلا منصرفة إلى وطنها وهذا غلط، وما زالت العرب تسمي الناهضين في ابتداء الأسفار قافلة تفاؤلا، بأنّ ييسّر الله لها القفول وهو شائع عند فصحائهم إلى اليوم.
وأراد بالفريضة، أعيان التجار الذين حضورهم كالفرض، وبالنافلة: المكارين
__________
(1) تقدم البيت مع تخريجه قبل قليل.(2/6)
والأتباع، أو يريد بالفريضة من لا بدّ له أن يدعوه للحضور، مثل القرابة والوجوه والأصحاب، والنافلة لفيف الناس، وأراد أنه حمل لعرسه من يحبّ ومن لا يحبّ، والهاء من «فيها» ضمير الدعوة، ويروى «فيهما» بالميم.
[الحاضرة والبادية]
وأما ذكر الحاضرة والبادية، فقد أتينا في ذلك بفصل أدبيّ مستحسن، ولسنا نحتاج إلى إقامة دليل شاهد على فضل الحاضرة، لأنها محلّ الجمعيات والجماعات، وإليها تجلب الخيرات، وبها تستمدّ البركات، ومنهم العلماء والفضلاء والملوك، إلى ما يطول تعداده، ومن أراد الله به خيرا نقله من البادية إلى الحاضرة، وقد أخبر الله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام في قوله: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجََاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف: 100] وهذا فيه فضل للحاضرة لا يدفع إذ قرن الخروج من السجن بالمجيء من البدو، وعدّه من إحسان الله سبحانه وتعالى.
وقف أعرابي على دعبل وهو ينشد: [المتقارب]
إذا القوس أوترها أيّد ... رمى فأصاب الكلا والذّرى (1)
فقال له: ما عنيت؟ فقال دعبل: القوس قوس قزح، أمطرت الأرض بها، فأعشبت فرعاها المال، فسمنت كلاه وأسنمه، فقال الأعرابي: لله درّكم يا حاضرة! إنكم لتسيرون معنا فتساوون، ولتنكّبون عنا فتفوتون.
وفي ضدّ هذا المعنى قال شبيب بن شبة: كثر قطع الطريق بين مكّة والبصرة، فبعثني المنصور أقوم في المناهل، وأتكلّم بذمّ البادية، وأوبّخهم بما يردعهم، فلم أرد ماء إلا تكلّمت عليه بما يحضرني، فلا أجد من ينطق، حتى قمت على ما لبني تميم، فلما انقضى كلامي، قام رجل منهم قال: الحمد لله أفضل ما حمدته، وحمده الحامدون قبلك أو بعدك، وصلى الله على سيدنا محمد أفضل صلاة وأتمّها وأخصها وأعمّها. ثم إني قد سمعت ما قلت في مدح الحاضرة وأهلها، وذمّ البادية وأهلها، ومهما كان فينا أهل البادية من سوء، فليس فينا نقب الدّور، ولا شهادة الزور، ولا نبش القبور ولا نيك الذكور.
قال: فأفحمني والله حتى تمنّيت أني لم أخرج لذلك الوجه.
وقال القطامي: [الوافر]
فمن تكن الحضارة أعجبته ... فأيّ رجال بادية ترانا (2)
__________
(1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (أيد).
(2) البيت للقطامي في ديوانه ص 76، ولسان العرب (حضر)، وبلا نسبة في إصلاح المنطق ص 111، ومغني اللبيب 2/ 507، ولسان العرب (بدا).(2/7)
قال ابن رشيق: ومن أملح ما سمعه الناس في تفضيل البادية على الحاضرة من حلاوة وطلاوة وصحّة معنى، وقرب مأخذ، مأخوذ من قول أبي الطيب: [البسيط]
من الجآذر في زيّ الأعاريب ... حمر الحلى والمطايا والجلابيب (1)
ثم قال: [البسيط]
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويّات الرّعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمّام مائلة ... أوراكهنّ صقيلات العراقيب
ومن هوي كلّ من ليست مخضّبة ... تركت لون مشيبي غير مخضوب
فلو لم تفضل البادية إلا بهذا، لكان فيه مقنع.
* * * فلمّا أجبنا مناديه، وحللنا ناديه، أحضر من أطعمة اليد واليدين، ما حلا في الفم وحلي في العين. ثمّ قدّم جاما، كأنّما جمد من الهواء، أو جمع من الهباء، أو صيغ من نور الفضاء، أو قشر من الدّرّة البيضاء، وقد أودع لفائف النّعيم، وضمّخ بالطّيب العميم، وسيق إليه شرب من تسنيم، وسفر عن مرأى وسيم، وأرج نسيم.
فلمّا اضطرمت بمحضره الشّهوات، وقرمت إلى مخبره اللهوات، وشارف أن تشنّ على سربه الغارات، وينادى عند نهبه: يا للثّارات! نشز أبو زيد كالمجنون، وتباعد عنه تباعد الضّبّ من النّون، فراودناه على أن يعود، وألّا يكون كقدار في ثمود.
* * * قوله: «ناديه» أي مجلسه. وطعام اليد: الثريد ونحوه. وطعام اليدين: الدجاج الصحاح والشواء ونحو ذلك، وكانت وليمة في الأنصار، فحضرها حسان بن ثابت، وقد كفّ بصره، ومعه ابنه عبد الرحمن، فلما وضع الطعام، جيء بالثريد، قال حسان لابنه:
يا بني، أطعام يد أم طعام يدين؟ قال: بل طعام يد. فأكل، ثم جيء بالشواء، فقال مثل ذلك، فقال: بل طعام يدين فأمسك.
حلا: طاب، حلي: حسن، وحلا في الفم، من الحلاوة، وحلي في العين من الحلي المتزيّن به.
__________
(1) الأبيات في ديوان المتنبي 1/ 129.(2/8)
وفي الدّرة: العرب تقول: حلا في فمي، وحلي في عيني، وليس الثاني من نوع الأول، وهو من الحلي الملبوس، فكأنّ المعنى: حسن في عيني كحسن الحلي الملبوس، وهو من ذوات الياء، والأوّل من ذوات الواو، إلا أن المصدر فيهما جميعا الحلاوة، والاسم حلولا حال لأنّ الحالي ضدّ العاطل، وهو الذي عليه الحلي.
والجام: إناء من زجاج. جمد: عقد وصنع جامدا.
والهباء: غبار الشمس، وهو ما تراه يدخل عليك مع الشمس من شقّ باب أو كوّة حائط.
صيغ: صنع. نور الفضاء، يعني الشمس، والفضاء الأرض الواسعة، وفي الفضاء يتّسع ضوء الشمس فيبيضّ نورها.
أودع: ضمن ضمن وجعل فيه. لفائف النعيم: ما لفّ من الحلوى وطوي بعضه على بعض.
الفنجديهيّ: لفائف النعيم اللّوزينج والقطائف.
ضمّخ: لّطخ. العميم: الكثير. شرب: ماء. وتسنيم: أرفع شرابات أهل الجنة.
سفر: كشف.
مرأى وسيم: منظر حسن. أرج نسيم: طيب الرائحة، والنسيم: الريح الليّنة الهبوب يريد: لمّا أحضر الجام، ساقوا معه ماء عذبا لغسل اليد، ثم كشف لهم عن الجام، فرأوا منظرا من الحلواء الملوّنة، ورائحة عطرة من الأفاوية.
وقال في مثل ذلك عبد السلام بن الحسين المأموني: [البسيط]
خبيصة في الجام قد قدّمت ... مدفونة في اللّوز والسّكّر
يأكل من يأكلها خمسة ... بكفه فيها ولم يشعر
قوله: «اضطرمت» أي اشتعلت. قرمت، أي اشتهت.
اللهوات: جمع لهاة وهي أقصى الفم. شارف: قارب وأشرف عليه تشنّ: تفرّق.
سريه: جماعته، ويريد به ما فيه من الحلواء، والسّرب: بالكسر: جماعة النّساء، وبالفتح: الإبل في المرعى. الغارات، يريد الأيدي التي تغير على الطعام. نهبّه: انتهابه بالأيدي وأكل ما فيه. يا للثارات: كلمة ينادي بها العرب إذا ظفروا بأعدائهم الذين لهم عندهم دم. والثأر: الطلب بالدم، وثأر بالقتيل: قتل قاتله.
وقال حسان بن ثابت: [البسيط]
لتسمعنّ وشيكا في دياركم ... الله أكبر يا ثارات عثمانا (1)
__________
(1) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 216، ولسان العرب (ثور)، (وشك). وبلا نسبة في خزانة الأدب 7/ 210، ورصف المباني ص 41، والمنصف 1/ 68.(2/9)
فالثارات هنا جمع ثأر، وهو المطلوب بالدم، قال: [الوافر]
وكيف تجلّد الأقوام عنه ... ولم يقتل به الثأر المنيم (1)
قال أبو عليّ: الثأر: المقتول، سمّي بالمصدر، كرجل عدل، لذلك جمع بالتاء، وتفسير أبي عليّ عكس ما تقدم، وإذا كان منقولا من المصدر احتمل وصف الفاعل به والمفعول وثارات عثمان محتملة للتفسيرين، فتقديره على قول أبي عليّ:
يا مطلوبات عثمان، وعلى القول الآخر: يا طالبات عثمان هذا أوانكم بالجدّ، وتفسير: يا للثارات في المقامة يستقيم على المعنيين، فعلى الأولى معناه: يا مطلوبات الجياع، قد تمكنا منك، وعلى الثاني معناه: يا طالبين الأكل قد تمكّنتم من المأكول.
وقوله: «نشز»، أي وثب. وتقدّم في الضبّ أنّه لا يرد الماء، وأن مسكنه الصحراء.
والنون: الحوت، وهو لا يفارق الماء، وهما لا يجتمعان، وقد تقدم للصابي:
[البسيط]
* الضبّ والنون لا يرجى التقاؤهما *.
وقال الآخر: [الطويل]
فلو أنهم جاؤوا بشيء مقارب ... لقلت هو الشّكل الموافق للشّكل
ولكنهم جاؤوا بحيتان لجّة ... قوامس، والمكنىّ فينا أبانا الحسل
فضرب بتباعدهما المثل.
راودناه: أردناه على الفعل، تقول: راودته على كذا، إذا أردته على فعله. يعود:
يرجع. ثمود: أمة صالح عليه الصلاة والسلام.
وقدار: هو عاقر الناقة، يضرب به المثل في الشؤم، فيقال: أشأم من قدار، ومن أحيمر عاد.
* * * [قصة ثمود]
وتقريب قصته، أن ثمود كانت تبني في طول أعمارها، فاتخذوا من الجبال بيوتا فرهين، وبيوتهم إلى وقتنا هذا باقية منحوتة في الجبال ومساكنهم على قدر أجسامهم، ورممهم وآثارهم فيها بادية، فلما بعث فيهم صالح، قال له زعيمهم: إن كنت صادقا فأظهر لنا من هذه الصخرة ناقة سوداء عشراء، ذات عوف، فأتى الصخرة فتمخّضت
__________
(1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (جلد)، وتاج العروس (جلد).(2/10)
كالحامل، وانشقّت عن الناقة. ثم تلاها سقبها (1)، فآمن كثير منهم، وكان شربها (2) يوما وشربهم يوما، فإذا كان يوم شربها حلبوها، فملؤوا من لبنها كلّ إناء ووعاء، فلما امتنعت إبلهم من الماء يوم شربها استثقلوها، وكان فيهم امرأتان: عنيزة وصدقة، فبذلتا أنفسهما لقدار على أن يعقر الناقة، وهو قدار بن قديرة، وهي أمّه وسالف أبوه، وكان قدار أزرق اسمر قصيرا، وكان له صديق اسمه مصدّع بن مهرج، معاون له على ما كان به من الفساد في الأرض، وكانا في تسعة من أهل الفساد، فضرب قدار عرقوبها بسيفه، وضرب مصدّع العرقوب الآخر، واستهموا لحمها، فخرجت ثمود تعتذر إلى صالح، وتزعم أنها لا ذنب لها. فقال: انظروا، هل تدركون فصيلها، فعسى أن يرفع عنكم العذاب! فالتمسوه، فصعد إلى جبل يقال له: القارة، وطال الجبل به في السماء، حتى ما تناله الطير، وبكى.
ثم استقبلهم، ورغا ثلاثا، فقال صالح: تمتّعوا في داركم ثلاثة أيام، ذلك وعد غير مكذوب، وآية ذلك أن تصبح وجوهكم في الأول مصفرّة، وفي الثاني محمرّة، وفي الثالث مسودّة. فلما رأوا صدقه أوّل يوم أرادوا قتله، فمنع منهم فلمّا رأوا صدقه في اليوم الثالث تحنّطوا وتكّفنوا وبكوا وضجّوا، وجعلوا ينظرون من أين يأتيهم العذاب. فصبّحتهم في اليوم الرابع صيحة من السماء، قطعت قلوبهم في صدورهم، فأصبحوا في ديارهم جاثمين، فعقروها يوم الأربعاء، وأصيبوا يوم الأحد، وإنما أصيبوا والمذنب بعضهم، لأنهم رضوا فعله، والنّية أبلغ من العمل وبلادهم بين الشأم والحجاز إلى ساحل البحر الحبشي ومرّ النبي صلّى الله عليه وسلم بقربتهم، ونهى الناس عن دخولها، وأراهم مرتقى الفصيل.
ولما رأى صالح أنها دار سخط، ارتحل بمن معه إلى مكة، فلم يزالوا بها حتى ماتوا، فقبورهم في غربيّ البيت، بين دار الندوة والحجر.
وقال حباب بن عمرو: [البسيط]
كانت ثمود ذوي عزّ ومكرمة ... ما إن يضام لهم في النّاس من جار
فأهلكوا ناقة كانت لربّهم ... قد أنذروها فكانوا غير أبرار
* * * فقال: والّذي ينشر الأموات من الرّجام، لا عدت دون رفع الجام، فلم نجد بدّا من تألّفه، وإبراز حلفه، فأشلناه والعقول معه شائلة، والدّموع سائلة، فلمّا فاء إلى مجثمه، وخلص من مأثمه، سألناه لم قام، ولأي معنى استرفع الجام؟ فقال:
إنّ الزّجاج نمّام، وإنّي آليت منذ أعوام، ألّا يضمّني ونموما مقام.
فقلنا: وما سبب يمينك الصّرّى، وأليّتك الحرّى؟
* * * __________
(1) السقب: ولد الناقة.
(2) الشرب: النصيب من الماء.(2/11)
قوله: «ينشر»، أي يحيي الموتى ويقيمهم، فينشرون في الأرض. والرجام:
القبور، واحدها رجم. تألّفه: ضمّة وترك خلافه. إبرار حلفه: مراعاة قسمه.
أشلناه: رفعناه. شائلة: مرتفعة.
فاء: رجع. مجثمه: موضعه، وأصله للطائر.
الصّرّى: العزيمة، ويقال: أصررت على الشيء، عزمت عليه، وهو منّي صرّى وصرىّ وأصرى أي عزيمة وجدّ.
وضّلت ناقة أبي السّمال، فقال: والله لئن لم يردّها الله عليّ لا أصلّي أبدا، فذهب في ابتغائها، فوجدها وقد تعلّق زمامها بشجرة، فقال: علم الله أنها كانت مني صرّى فردّها عليّ.
وقال حبيب: [الكامل]
لما رآهم بابك دون المنى ... هجر الغواية بعد طول وصال (1)
تخذ الفرار أخا وأيقن أنه ... صرّى عزم من أبي السمّال
يقول: لما رأى كثرة من يحاربه أيقن أن ما تمناه فيهم لا يدركه، فهجر الضلالة، وانهزم، إذ أيقن أن طالبه مصرّ على طلبه.
الحرّى: الوكيدة الشديدة، والكبد الحرّى: اليابسة العاطشة.
وناظر الحريريّ بهذه المقامة مقامة المضيريّة في البديعية، ومن هنا إلى أولها مبنيّ على تلك.
* * * [المقامة المضيرية للبديع الهمذاني]
قال البديع: حدّثنا عيسى بن هشام قال:
كنت بالبصرة ومعي أبو الفتح الإسكندريّ، رجل الفصاحة، يدعوها فتجيبه، والبلاغة، يأمرها فتطيعه. وحضرنا معه دعوة بعض التّجار، فقدّم مضيرة (2) نثني على الحضارة (3)، وتترجرج (4) في الغضارة (5)، وتؤذن بالسّلامة، وتشهد لمعاوية رحمة
__________
(1) البيتان في ديوان أبي تمام ص 261.
(2) المضيرة: نوع من الطعام يتخذ من اللحم واللبن الحامض، وربما أضيف إليه الحليب، ثم يوضع عليه التوابل والأبزار.
(3) أي أن أهل الحضر أقدر على صنعها من البدو.
(4) تترجرج: أي تموج وتتحرك.
(5) الغضارة: القصعة.(2/12)
الله بالإمامة، في قصعة يكلّ عنها الطّرف، ويموج فيها الظّرف.
فلمّا أخذت من الخوان (1) مكانها، ومن القلوب أوطانها، قام أبو الفتح يلعنها وصاحبها، ويمقتها وآكلها، ويثلبها وطابخها، وطننناه يمزح، فإذا الأمر بالضدّ، وإذا المزاح عين الجدّ، وتنحّى عن الخوان، وترك مساعدة الإخوان، فرفعناها فارتفعت معها القلوب، وسافرت خلفها العيون، وتحّلبت لها الأفواه، [وتلمظت لها الشفاه] واتّقدت لها الأكباد، [ومضى في إثرها الفؤاد]، لكّنا سألناه عن أمرها، وساعدناه على هجرها.
ثم أخذ يذكر لهم المانع من أكلها، كما يذكر الآن السّروجيّ ومقامة المضيرة طويلة مضحكة.
* * * فقال: إنّه كان لي جار لسانه يتقرّب، وقلبه عقرب، ولفظه شهد ينقع، وخبؤه سمّ منقع، فملت لمجاورته، إلى محاورته، واغتررت بمكاشرته، في معاشرته، واستهوّتني خضرة دمنته، لمنادمته، وأغرتني خدعة سمته، بمناسمته فمازجته وعندي أنّه جار مكاسر، فبان أنه عقاب كاسر، وآنسته على أنّه حبّ مؤانس، فظهر أنّه حباب موالس، وما لحته ولا أعلم أنّه عند نقده، ممّن يفرح بفقده، وعاقرته ولم أدر أنّه بعد فرّه، ممّن يطرب لمفرّه.
* * * قوله: «جار لسانه يتقرّب»، معناه يتودّد إليه بلسانه، ويكتم العداوة في قلبه، وهذا ما يذكر بعده.
[مما قيل في الجار]
أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أشراط الساعة سوء الجوار تعوّذوا بالله من ثلاث، هنّ العواقر: إمام السوء، إن أحسنت لم يشكر، وإن أسأت لم يغفر، ومن جار السوء إن رأى حسنا ستره، وإن رأى قبيحا أذاعه، ومن امرأة السوء، الّتي إن غبت عنها خانتك، وإن دخلت عليها لسّنتك».
قال بعض الفضلاء: الجار السوء يفشي السّر، ويهتك السّتر.
وقيل لأهل البحرين: إن كنتم تحبون أن يحبكم الله ورسوله، فحافظوا على ثلاث خصال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الجوار، فإن أذى الجار يمحو الحسنات، كما تمحو الشمس الجليد عن الصّفاة.
* * * __________
(1) الخوان: هو الذي يوضع عليه الطعام.(2/13)
قوله: «ينقع»، أي يروى العطش. ومنقع، أي أديم حبسه، وأنقع سمّ الحية: ثبت ودام. خبؤه: باطنه، وما خبأه من الشرّ.
محاورته: محادثته. بمكاشرته: مضاحكته: معاشرته: مصاحبته.
استهوتني: ذهبت بي. خضرة دمنته: حسن ظاهره، وتقدمت خضراء الدمن.
أغرتني: حرّضتني وألصقتني به. سمته: علامته. مناسمته: مصاحبته، وقرّب نسمتي من نسمته، أي شخصي من شخصه.
مازجته: خالطته. مكاسر: قريب الدار، وكسر البيت: جانبه والعقاب الكاسر:
التي تضم جناحيها، وتهوي على فريستها، فضمّ الجناح هو كسره.
وآنسته: أبصرته. حبّ: حبيب، وكان زيد بن حارثة يسمّى حبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أي حبيبه.
وضح: تبيّن. حباب: حية. موالس: مخادع خائن في صحبته.
مالحته: واكلته، أي أكلت معه الملح، وأصل الممالحة الرّضاع كأنه حين نادمه راضعه الكأس، وملحت المرأة الصبيّ: أرضعته.
نقده: تجربته. عاقدته: عاهدته، وعقدت يدي على يده.
فرّه: اختباره وكشف سرّه، يريد أن هذا الصاحب كان يظهر مودته، ويسرّ عداوته.
[ممّا قيل في المودّة والإخاء]
وقال الشاعر وهو المغيرة بن حبناء: [الطويل]
أخوك الذي لا ينقض النأي عهده ... ولا عند صرف الدّهر يزورّ جانبه (1)
وليس الذي يلقاك بالبشر والرّضا ... وإن غبت عنه لسّعتك عقاربه
قال: وأنشد آخر: [الطويل]
عليّ لإخواني رقيب من الصّفا ... تبيد الليالي وهو ليس يبيد (2)
وإني لأستحيي أخي أن أبرّه ... قريبا وأن أجفوه وهو بعيد
وقال ابن المعتزّ: [السريع]
لم يبق ممّا فاتني كسبه ... إلّا قتى يسلم لي قلبه
ينأى فلا يذهبه نأيه ... عنّي ولا يفسده قربه
يكون حسبي من جميع الورى ... في كلّ حال وأنا حسبه
__________
(1) البيتان في أمالي القالي 2/ 230.
(2) البيتان بلا نسبة في اللآلي ص 272.(2/14)
وقال بشار وزاد معنى: [الطويل]
تودّ عدوّي ثم تزعم أنني ... صديقك، إن الرأي منك لعازب (1)
وليس أخي من ودّني رأى عينه ... ولكن أخي من ودّني وهو غائب
* * * وكانت عندي جارية، لا يوجد لها في الجمال مجارية، إن سفرت خجل النّيّران، وصليت القلوب بالنّيران، وإن بسمت أزرت بالجمان، وبيع المرجان بالمجّان، وإن رنت هيّجت البلابل، وحقّقت سحر بابل، وإن نطقت عقلت لبّ العاقل واستنزلت العصم من المعاقل، وإن قرأت شفت المفؤود، وأحييت الموءود، وخلتها أوتيت من مزامير آل داود، وإن غنّت ظلّ معبد لها عبدا، وقيل سحقا لإسحاق وبعدا، وإن زمرت أضحي زنام عندها زنيما، بعد أن كان لجيله زعيما، وبالإطراب زعيما، وإن رقصت أمالت العمائم عن الرّؤوس، وأنستك رقص الحبب في الكؤوس، فكنت أزدري معها حمر النّعم، وأحلّي بتملّيها جيد النّعم، وأحجب مرآها عن الشمس والقمر، وأذود ذكراها عن شرائع السّمر، وأنا مع ذلك أليح، من أن تسري بريّاها ريح، أو يكهن بها سطيح، أو ينمّ عليها برق مليح.
* * * قوله: «مجارية»، مبارية معارضة، وفلان يباري الريح جودا، كأنه يعارضها بفعله، فإذا هبت في زمن الشتاء والجهد، فضرّت المحتاجين تتبّع آثار فسادها بماله وهباته فأصلحها.
سفرت: كشفت وجهها. خجل: استحيا. النّيّران: الشمس والقمر.
صليت: أحرقت، يقول: إذا كشفت وجهها افتضحت الشمس والقمر لبديع حسنها، واخترقت القلوب بنيران حبها.
* * * [مما قيل في وصف النساء]
ونسوق هنا جملة من الشعر المستحسن في أوصاف النسوان: قال الشاعر: [البسيط]
__________
(1) البيتان لبشار في أمالي القالي 1/ 83، وليسا في ديوانه.(2/15)
لما تبدّت من الأستار قلت لها ... سبحان سبحان ربيّ خالق الصّور
ما كنت أحسب شمسا غير واحدة ... حتى رأيت لها أختا من البشر
كأنها هي إلا إن يفضلّها ... حسن الدلال وطرف فاتر النظر
وقال أعرابي: [الطويل]
إذا حجبت لم يكفك البدر فقدها ... وتكفيك فقد البدر إن فقد البدر
وحسبك من خمر تقوتك ريقها ... ووالله ما من ريقها حسبك الخمر
وما الصّبر عنها إن صبرت وجدته ... جميلا، وهل في مثلها يحسن الصبر!
ولو أن جلد الذّرّ لامس جلدها ... لكان للمس الذّرّ في جلدها أثرّ
وقال العباس بن الأحنف: [البسيط]
تاهت علينا بأن تمّت محاسنها ... خود تكمّل في أعطافها الفتن (1)
هممت بإتياننا حتى إذا نظرت ... إلى المرآة نهاها وجهها الحسن
ما كان هذا جزائي من محاسنها ... أغرت بي الشّوق حتى شفّني الشّجن
وقال بشار: [الخفيف]
درّة حيثما أديرت أضاءت ... ومشمّ من حيثما شمّ فاحا
وجنات قال الإله لها كو ... ني فكانت روحا روحا وراحا
وله أيضا: [البسيط]
كأنها يوم راحت في محاسنها ... قارتجّ أسفلها واهتزّ أعلاها
حوراء جاءت من الفردوس مقبلة ... بالشمس طلعتها والمسك ريّاها
راحت ولم تعطه برءا لملّته ... عنها ولو سألته النّفس أعطاها
من اللواتي اكتست بردا فشقّ لها ... من حسنها الحسن سربا لإفردّاها
وقال السّلامي: [الطويل]
وفيهنّ سكرى اللّحظ سكرى من الصّبا ... يعاتب حلو اللفظ حلوا الشّمائل
أدارت علينا من سلاف خدودها ... كؤوسا وغنّتنا بصوت الخلاخل
وقال أيضا [البسيط]
لبيّك لبيّك داعي اللهو من كثب ... إلى معاطف كالأغصان من كثب
إن السّوالف كالسوسان في صعد ... إنّ الغدائر كالخلخال في صبب
__________
(1) الأبيات في ديوان العباس بن الأحنف ص 280.(2/16)
إلى خدود بنات الروم قد برزت ... من حجبها وأدارت أعين العرب
من كلّ سافرة عن مشرق خجلا ... فيه طرازان من ماء ومن لهب
واستضحكت عن لآل أو حصى برد ... يكاد بقطر من مائية الشّنب
تحدو بها فتية صيغت وجوههم ... من الرّضا وعواليهم من الغضب
وللأمير تميم بن المعز: [البسيط]
ناولتها شبة خدّيها معتّقة ... صرفا كأنّ سناها ضوء مقباس
فقبّلتها وهي ضاحكة ... فكيف تهدى خدود النّاس للناس
قلت اشربي فهي دمعي، وحمرتها ... دمي، وطابخها في الكأس أنفاسي
قالت فإن كنت من حبي بكيت دما ... فأسقنيها على العينين والرّأس
يا ليلة بات فيها البدر معتنقي ... وباتت الشمس فيها بعض جلّاسي
وبتّ مستغنيا بالثغر عن قدح ... وبالخدود عن التّفاح والآس
وقال أيضا: [البسيط]
قالت وقد نالها للبين أوجعه ... والبين صعب على الأحباب موقعه
اجعل يديك على قلبي فقد ضعفت ... قواه عن حمل ما تحويه أضلعه
واعطف عليّ المطايا ساعة فعسى ... من شتّ شمل الهوى بالوصل يجمعه
كأنني يوم ولّت حسرة وأسى ... غريق بحر يرى الشّاطي ويمنعه
وقال التهامي: [البسيط]
أهدى لنا طيفها نجدا وساكنه ... حتى اقتنصنا ظباء البدو في الحضر
فبات يجلو لنا من وجهها قمرا ... من البراقع لولا كلفة القمر
وراعها حرّ أنفاسي فقلت لها: ... هواي نار وأنفاسي من الشرر
وزاد درّ الثنايا درّ أدمعها ... فالتفّ منتظم منه بمنتثر
ولو قدرت وثوب الليل منخرق ... بالصبح رقّعته منهن بالشّعر
بيضاء يسحب ليلا حسنه أبدا ... في الطّول منه وحسن الليل في القصر
لو لم يكن أقحوانا ثغر مبسمها ... ما كان يزداد طيبا ساعة السّحر
ولبعض أصحابنا: [الطويل]
شدهت فلا أدري بأيّ صفاتها ... تقيّد ألباب الورى وتقودها
وأي لآليها أشدّ نفاسة ... أمنطقها أم ثغرها أم عقودها!
فللشمس مرآها، وللغصن قدّها، ... وللمسك ريّاها، وللرّيم جيدها
قال الحسن: [الكامل](2/17)
شدهت فلا أدري بأيّ صفاتها ... تقيّد ألباب الورى وتقودها
وأي لآليها أشدّ نفاسة ... أمنطقها أم ثغرها أم عقودها!
فللشمس مرآها، وللغصن قدّها، ... وللمسك ريّاها، وللرّيم جيدها
قال الحسن: [الكامل]
وذات خدّ مورّد ... فتّانة المتجرّد
تأمل العين منها ... محاسنا ليس تنفد
فبعضها في انتهاء ... وبعضها يتولد
فالحسن في كلّ جزء ... منها معاد مردّد
وكلما عدت فيها ... تكون في العود أحمد
* * * قوله: «أزرت بالجمان»، أي قصرت بحبّ الفضة.
والمرجان: اللؤلؤ الصغار.
والمجان: شيء لا ثمن له، وخذ هذا مجانا، أي باطلا أراد أنها إذا ضحكت فبدت أسنانها كانت أحسن مما وصف. وأخذه من قول أبي تمام: [السريع]
وقهوة كوكبها يزهر ... يسطع منها المسك والعنبر (1)
ورديّة يحثّها شادن ... كأنها من خدّه تعصر
مهفهف لم يبتسم ضاحكا ... مذ كان إلا كسد الجوهر
وقال آخر وذكر المجان: [البسيط]
عثمان يعلم أنّ المدح ذو ثمن ... لكنه يشتهي مدحا بمجّان
والناس أكيس من أن يمدحوا رجلا ... حتى يروا عنده آثار إحسان
رنت: نظرت، البلابل: وساوس الهموم. والسّحر، ينسب إلى بابل وقال السّلامي في هذا المعنى:
أكحيلة الأجفان بالسّحر الذّي ... لولاه ما درت البلابل بابل
قد كان قلبي غافلا عما به ... أودي وقلب أخي السّلامة غافل
حتى دهاني منك صدر رامح ... ذرب سناناه وطرف قاتل
ما عقدك المهنا بجيدك درّة ... لكن فرند في حسام جائل
وللأمير تميم بن المعتز: [المنسرح]
وليلة بتّها على طرب ... آخرها مشبه لأولاها
أقبّل البرق من ثنّيتها ... وألثم الشمس من محياها
__________
(1) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 371.(2/18)
سقتني الرّياح وهي خدّاها ... بأكؤوس السّحر وهي عيناها
إذا أرادت مزاجها جعلت ... بآخر اللحظ من فمي فاها
فيا لها قهوة معتّقة ... وليس إلا الخدود مأواها
حبابها الثغر حين تمزج لي ... ونقلها الّلثم حين أسقاها
* * *
[ذكر بابل]
وبابل مدينة كان ينزلها ملوك العجم، وهي دار نمروذ بن كنعان، وكانت بابل، من استعظامها واستبشاع أمرها، لا تكاد تحصل، وأسسها نمروذ، وكانت مدينة ضاحكة المنظر، زاهية البناء، واسعة الفناء، جمعت إلى حسن المنظر رصافة البنيان وبهاء المنصب، فكانت سهلة بطحاء مربعة، في كل تربيع حصنان عظيمان، وسورها لا يكاد سامع خبره يصدقه، كان عرضه خمسين ذراعا، في ارتفاع مائتي ذراع، في دور أربعة وستين ميلا، وحوله خندق يجري فيه الفرات، وفيها مائة باب نحاس.
وهي أقدم بناء بني بعد الطوفان، ونسب السّحر لها لأن بها هاورت وماروت معلمي السّحر، فكان يعجبان من بني آدم حيث يعصون الله تعالى على إنعامه عليهم، فابتلاهما الله تعالى فسلط عليهما الشّهوة الآدمية، وحرم عليهما القتل والزنا والخمر وأنزلهما إلى الأرض للحكم بين أهلها، فجاءتهما الزّهرة في خصام، فوقعت في قلوبهما، فشكا كلّ واحد منهما لصاحبه ما يجده من حبّها، فأرسلا إليها، فراوداها فأبت حتى يعلماها الاسم الذي يرجعان به إلى السماء، فأبيا عليها، قالت لهما: فاشربا الخمر، فشرباها فسكرا وعلّماها الاسم، وواقعاها، ثم خرجا فوجدا رجلا، فظنّا أنه ظهر على أمرهما فقتلاه، وتكلمت الزهرة الاسم الذي يرجعان به إلى السماء فرفعت ومسخت كوكبا وخيّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فهما يعذبان ببابل، ويعلمان السحر.
وجاءت امرأة إلى عائشة رضي الله عنها، فقالت: يا أم المؤمنين، قالت لي امرأة:
هل لك أن أعلّمك شيئا يصرف وجه زوجك إليك! فأتت بتيسين، فركبت واحدا، وركبت الآخر، وسرنا ما شاء الله فقالت: أتدرين أنك ببابل؟ ودخلت على رجلين، فقالا لي:
بولي على ذلك الرماد، فذهبت ولم أبل، ورجعت فقالا لي: ما رأيت؟ فقلت: ما رأيت شيئا، قالا: أنت على رأس أمرك، فرجعت فتشدّدت وبلت فخرج مثل الفارس المقنع، فصعد في السماء، فقالا لي: ما رأيت؟ فأخبرتهما، فقالا لي: ذلك إيمانك فارقك، فخرجت إلى المرأة، فقلت لها: والله ما علّماني شيئا، ولا قالا لي كيف أصنع، فقالت:
فما رأيت؟ قلت: كذا وكذا، فقال: أنت أسحر العرب، اعملية، فقطعت جداول، فإذا
زرع يهتز، فقلت: أفرك فإذا هو قد يبس، فأخذته وفركته، وقالت: خذيه، واجعليه سويقا واسقيه زوجك، فلم أفعل شيئا من ذلك، وانتهى الأمر إلى هذا فهل لي من توبة؟.(2/19)
فما رأيت؟ قلت: كذا وكذا، فقال: أنت أسحر العرب، اعملية، فقطعت جداول، فإذا
زرع يهتز، فقلت: أفرك فإذا هو قد يبس، فأخذته وفركته، وقالت: خذيه، واجعليه سويقا واسقيه زوجك، فلم أفعل شيئا من ذلك، وانتهى الأمر إلى هذا فهل لي من توبة؟.
ورأت رجلا من خزاعة فقالت: يا أم المؤمنين، هذا أشبه الناس بها روت وما روت. روى هذا الحديث بإسناد له ابن قتيبة.
* * * قوله: «عقلت لبّ العاقل»، اللبّ: العقل، وعقلته: شددته بعقال، وهو قيد البعير.
والعصم: الوعول، والأعصم: التيس الجبلي الذي في يديه بياض، والمعصم:
موضع الخلخال.
الخليل: الأعصم الوعل، وعصمته: بياض في رجليه.
والمعاقل: قرون الجبال، وأراد أن كلامها لعذوبته يغلب أهل العقول حتى تعدّاهم إلى الوحش، أو يريد بالعصم من له عزمة وهمة من الرجال، فإذا سمعها تذلل لها.
وأخذ هذا من قول أبي بكر بن دريد: [المنسرح]
لو ناجت الأعصم لا نحطّ لها ... طوع القياد من شماريخ الذّرا
أو صابت القانت في مخلولق ... مستصعب المسلك وعر المرتقى
ألهاه عن تسبيحه ودينه ... تأنيسها حتى تراه قد صبا
والسابق إلى هذا المعنى النابغة بقوله: [الكامل]
لو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبد الإله صرورة متعبد (1)
لرنا لرؤيتها وحسن حديثها ... ولخاله رشدا وإن لم يرشد
والمفؤود: الذي يشتكي فؤاده، والموءود: المدفون حيّا، وانظره في الخامسة والثلاثين.
وأراد أنّ حسن صوتها بالقرآن يشفي من مرض الفؤاد، ويحيي الموتى والعرب تزعم في شعرها أنّ إفراط الحسن يحيي الموتى. قال الأعشى: [السريع]
لو أسندت ميتا إلى نحرها ... قام ولم يحمل إلى قابر (2)
__________
(1) البيتان للنابغة الذبياني في ديوانه ص 95، والبيت الأول في لسان العرب (صرر) ومقاييس اللغة 3/ 285، ومجمل اللغة 3/ 225، وجمهرة اللغة ص 1252، وتهذيب اللغة 12/ 109، وتاج العروس (صرر).
(2) يروى البيت الأول:
لو أسندت ميتا إلى قبرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر(2/20)
حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبا للميّت الناشر!
وقال توبة بن الحمير: [الطويل]
ولو أنّ ليلى الأخيليّة سلّمت ... عليّ وفوقي تربة وصفائح (1)
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
وقوله: «مزامير»، المزمار: الصوت نفسه، والجمع مزامير. وقيل: صوابه زمار، ولا يقال زامر، ويقال للأنثى: زامرة ولا يقال: زمّارة، والآلة التي يزمر بها الزّمارة.
وكان داود عليه الصلاة والسلام أحسن خلق الله صوتا، وإذا قرأ الزبّور رقت لصوته الوحوش، وحنت حتى تؤخذ بأعناقها وهي مصغية له، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط إلا على صوته.
ومعبد، أطبع المغنين المتقدمين، إسحاق الموصلي أطبع المتأخرين، وفي معبد يقول حبيب: [الطويل]
محاسن أوصاف المغنّين جمّة ... وما قصبات السّبق إلّا لمعبد (2)
* * *
[معبد المغني]
وهو معبد بن وهب، وقيل ابن قطن وأبوه أسود، وكان هو خلاسيّا مديد القامة، أحول.
غنّى في أول الدولة الأموية، وتوفي أيام الوليد بن يزيد.
وكان علّم جارية اسمها ظبية فاشتراها رجل من الأهواز، وذهبت به إلى كلّ مذهب، فماتت وأخذت جواريه أكثر غنائها، فكان من أجلها يفضل معبدا على نظرائه، ويظهر التعصّب له، فسمع به معبد، فخرج إليه حتى أتى البصرة، فصادف الرّجل خارجا إلى الأهواز في سفينة، فسأله الدخول معه فأمر الملاح أن يجلسه في مؤخر السفينة،
__________
وهو في ديوان الأعشى ص 189، ومقاييس اللغة 5/ 47. والبيت الثاني في ديوان الأعشى ص 191، ولسان العرب (نشر)، وتهذيب اللغة 11/ 338، ومقاييس اللغة 5/ 430، وتاج العروس (نشر)، وبلا نسبة في المخصص 9/ 92.
(1) البيتان لتوبة بن الحمير في الأغاني 11/ 229وأمالي المرتضى 1/ 450، والحماسة البصرية 2/ 108، والدرر اللوامع 5/ 96، وسمط الآلي ص 120. وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1311، وشرح شواهد المغني ص 644، والشعر والشعراء 1/ 453، ومغني اللبيب 1/ 261، والمقاصد النحوية 4/ 453، وهما لرؤبة في همع الهوامع، وليسا في ديوانه، وهما بلا نسبة في الجنى الداني ص 286، وشرح الأشموني 3/ 600، وشرح ابن عقيل ص 593.
(2) البيت في ديوانه أبي تمام ص 103.(2/21)
وانحدر حتى بلغ إلى فم نهر الأبلة فتغدّوا وشربوا، وأمر جواريه فغنّين، فغنت إحداهنّ للنابغة: [البسيط]
بانت سعاد وأمسى حبلها انجذما (1)
ومعبد ساكت في ثياب السّفر، حتى سكتت، فصاح: يا جارية، غناؤك ليس بمستقيم، فغضب مولاها، وقال: وما أنت والغناء! ثم غنّت الثانية بشعر عبد الرحمن بن أبي بكر: [الرمل]
يا بنة الأزديّ قلبي كئيب ... مستهام عندها ما ينيب (2)
ولقد قالوا فقلت دعوني ... إنّ من تنهون عنه حبيب
إنّما أفني عظامي وجسمي ... حبّها، والحبّ شيء عجيب
فصاح معبد: يا جارية، قد أخللت بهذا الصوت إخلالا شديدا! فازداد غضبا مولاها، وقال: ويلك! أما تكفّ عن هذا الفضول! ثم غنّت أخرى لكثيّر فقالت:
[الطويل]
خليليّ عوجا سلّما ساعة معي ... على الرّبع نقضي حاجة ونودّع (3)
وقولا لقلب قد سلا: راجع الهوى ... وللعين أذرى من دموعك أو دعي
فلا عيش إلا مثل عيش مضى لنا ... مصيفا أقمنا فيه من بعد مربع
فقال معبد: ما قومتنّ صوتا واحدا، فقال له الرجل: والله ما أراك تدع هذا الفضول بوجه ولا حيلة، وأقسمت بالله لئن عاودته لأخرجنّك من السفينة، فاندفع معبد يغني الصوت الأوّل، فصاح الجواري: أحسنت والله يا رجل! فأعده، قال: لا ولا كرامة، ثم غنى الثاني، فقلن لسيدهنّ: هذا والله أحسن الناس غناء، فاسأله أن يعيد لعلّنا أن نأخذه، ثم غنّى الثالث فزلزل عليهم السفينة، فوثب الرجل وقبّل رأسه، وقال: أخطأنا عليك، فأسألك أن تنزل إليّ، فأبى فلم يزل به حتى نزل، وقال له: من أين أخذ جواريك هذا الغناء؟ قال: من جارية أخذت عن أبي عباد معبد، ثم استأثر الله بها، وكانت منّي محل الروح من الجسد، فلذلك أفضل معبدا على جميع المغنيين، فقال له معبد: وإنك لأنت هو! أفتعرفني؟ قال: لا، فصك معبد بيده صلعته، وقال: فأنا والله معبد، وإليك قدمت
__________
(1) عجزه:
واحتلّت الشرع فالأجراع من إضما
والبيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 61، ولسان العرب (أضم)، (جذم)، وتاج العروس (أضم)، ومقاييس اللغة 1/ 439، ومجمل اللغة 1/ 418، وبلا نسبة في لسان العرب (آ).
(2) الأبيات بلا نسبة في الأغاني 1/ 50.
(3) الأبيات لكثير في الأغاني 1/ 50، وليست في ديوانه.(2/22)
من الحجاز، ولقصدكم بالأهواز دخلت السفينة، والله لا قصرت في جواريك [هؤلاء] حتى أجعلهنّ خلفا من الماضية، فأكبّ الرجل والجواري على يديه ورجليه بالتقبيل، ويقولون: «كتمتنا نفسك، حتى أسأنا عشرتك، وأنت ممّن نتمنّى من الله أن نلقاه».
ثم وهب له ثلاثمائة دينار وطيبا وهدايا بمثلها، فأقام عنده سنة حتى أخذ عنه جواريه ثم انصرف إلى الحجاز.
قال ابن الكلبي: قدم ابن سريح والغريض المدينة، وكانا في صنعة الغناء من الحذاق، يتعرّضان لمعروف أهلها، فلما شارفاها تقدّما ثقلهما، ليرتادا منزلا، حتى إذا همّا بمغسلة تغسل فيها الثّياب قرب المدينة، إذا هما بغلام ملتحف بإزار وطرفه على رأسه، وبيده حبالة يصيد بها الطير، وهو يتغنّى: [البسيط]
القصر فالنخل فالجمّاء بينهما ... أشهى إلى القلب من أبواب جيرون (1)
فإذا الغلام معبد فلما سمعاه مالا إليه، واستعاداه، فأعاد الصوت، فسمعا شيئا لم يسمعا مثله قطّ، فقال أحدهما لصاحبه: هل سمعت كاليوم قطّ؟ قال: لا والله، فما رأيك؟ قال ابن سريج: هذا غناء غلام يصيد الطّير، فكيف بمن في المدينة، أمّا أنا فثكلت والدي إن لم أرجع، فرجع ولم يدخلها.
وروى إسحاق أنّ معبدا سافر إلى مكة، فسمع ببطن مرّ غناء، فقصد الموضع، وإذا رجل جالس على حرف بركة فارق شعره حسن الوجه عليه درّاعة مصبوغة بزعفران، وهو يتغنى: [الخفيف]
حنّ قلبي من بعد ما قد أنابا (2) ... ودعا الهمّ شجوه فأجابا
ذاك من منزل لسلمى خلاء ... لابس من خلائه جلبابا
عجت فيه وقلت للرّكب عوجوا ... طمعا أن يردّ ربع جوابا
فاستثار المنسيّ من لوعة الح ... بّ وأبدي الهموم والأوصابا
فقرع معبد بعصاه وغنى: [الكامل]
منع الحياة من الرجال ونفعها ... حدق تقلّبها النّساء مراض (3)
وكأنّ أفئدة الرجال إذ رأوا ... حدق النساء لنبلها أغراض
__________
(1) بعده في الأغاني 1/ 11
قد يكتم الناس أسرارا فأعلمها ... وما ينالون حتى الموت مكنوني
والبيت الأخير للمعيطي في لسان العرب (كنن).
(2) الأبيات في الأغاني 1/ 47.
(3) البيتان للفرزدق في ديوانه ص 488، والأغاني 1/ 48.(2/23)
فقال الرجل له: أنت معبد؟ قال نعم، وقال له معبد: بالله أنت ابن سريج! قال:
نعم، وو الله لو عرفتك ما غنّيت بين يديك.
قال معبد: فلما قدمت مكة، قيل لي: إن ابن صفوان قد جعل بين المغنّين جائزة، فأتيت بابه، فطلبت الدّخول، فقال لي آذنه: قد أمرني أن ألا آذن لأحد عليه، قلت:
فدعني أدنو من الباب، فأغني صوتا، فقال: أمّا هذا فنعم، فدنوت من الباب، فغنيت، فقالوا: معبد، ففتحوا لي وأخذت الجائزة.
* * * [إسحاق الموصلي]
وأما إسحاق فذكره صاحب الأغاني، وقال: كان محلّ إسحاق من العلم والأدب والرواية، وتقدمه في الشعر وسائر المحاسن أشهر من أن يوصف، وأما الغناء فكان أصغر علومه، وأدنى ما وسم به وإن كان الغالب عليه وهو الذي صحح أجناس الغناء وطرائفها، وميزها تمييزا لم يقدر أحد عليه قبله ولا بعده، من تدقيق المجاري، وتمييز الأصناف التي جعلوها صنفا واحدا، وهي في نفسها كذلك، ولكنها تفترق عند متيقظ مثله، وأين مثله! وروي عنه أنه قال: بقيت دهرا أغلّس إلى هشام أسمع الحديث وإلى الكسائي أقرأ عليه جزءا من القرآن، وإلى الفرّاء وابن غزالة أسمع اللغة، ثم آتي منصور زلزل، فيطارحني طريقتين أو ثلاثا، ثم آتي عاتكة بنت شهدة، فآخذ منها صوتا أو صوتين، ثم آتي الأصمعيّ وأبا عبيدة، فأستفيد منهما وأناشدهما، ثم أصير إلى أبي فأعلمه بما صنعت، وأتغدّى معه، فإذا كان العشي رحت إلى الرشيد.
وروى الحديث، ولقي أهله، مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وغيرهما، وسأل المأمون أن يكون دخوله مع أهل العلم والأدب، لا مع المغنين، فإذا أراده للغناء غنّاه، فأجابه إلى ذلك.
وقال المأمون: لولا ما سبق لإسحاق على ألسنة الناس من الشهرة بالغناء، لوليته القضاء بحضرتي، فإنه أولى به، وأصدق وأعفّ، وأكثر دينا وأمانة من هؤلاء القضاة، وكان أجود الناس بالمال وأبخلهم بالغناء، وأعطى لمنصور زلزل لّما علمه الضّرب بالعود أكثر من مائة ألف درهم.
وأهدى له ابن الأعرابي نسخة من النوادر بخطه، فمرّ يوما على المدائنيّ، فقال:
إلى أين يا أبا عبد الله؟ قال: أمرّ على رجل كما قال الشاعر: [المنسرح]
نحمل أشباحنا إلى ملك ... نأخذ من ماله ومن أدبه
فقال: ومن هو؟ قال: أبو محمد إسحاق بن إبراهيم.
ومات وهو أشعر أهل زمانه، وقال رأيت جريرا في منامي ينشد شعرا، فلما فرغ
أخذ كبّة شعر فألقاها في فمي، فابتلعتها، فتأوّلت ذلك أنه ورثني الشعر.(2/24)
ومات وهو أشعر أهل زمانه، وقال رأيت جريرا في منامي ينشد شعرا، فلما فرغ
أخذ كبّة شعر فألقاها في فمي، فابتلعتها، فتأوّلت ذلك أنه ورثني الشعر.
ومرّ به شيخ وهو في الحديث، فقال لجلسائه: هذا أشبه النّاس بجرير الذي رأيت، فسئل الشيخ، فإذا هو عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير. ومن شعره يفتخر: [الطويل]
إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي ... وقام بنصري خازم وابن خازم
عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي الثّريا قاعدا غير قائم
وسمعهما الأصمعي فاستحسنهما، وأعجب بهما وفضلّهما.
ودخل على مروان بن أبي حفصة وهو يتحدث مع أبيه فأنشده: [الطويل]
إذا مضر الحمراء كانت أرومتي ... وقام بنصري خازم وابن خازم
عطست بأنف البيت.
فجعل إبراهيم يحدّث مروان، وهو ساه عنه، فقال: ما لك لا تجبيني فقال: إنك ما تدري ما أفرغ ابنك في أذني. ووجه إليه أحمد بن هشام بزعفران رطب وكتب إليه:
[البسيط]
اشرب على زعفران الرّطب متّكئا ... وأنعم نعمت بطول اللهو والطرب
فحرمة الكأس بين الناس واجبة ... كحرمة الودّ والأرحام والأدب
فأجابه إسحاق الموصلي: [البسيط]
اذكرّ أبا جعفر حقّا أمتّ به ... أنّي وإياك مشغوفان بالأدب
وأنّنا قد رضعنا الكأس درّتها ... والكأس حرمتها أولى من النّسب
وجلس عند إبراهيم بن مصعب للشرب، فسقى الغلمان من حضر وجاء غلام قبيح الوجه بقدح إلى إسحاق، فلم يأخذ منه، فقال له إبراهيم: لم لا تشرب؟ فقال: [البسيط]
أصبح نديمك أقداحا تسلسلها ... من الشّمول وأتبعها بأقداح
من كفّ ريم مليح الوجه ريقته ... بعد الهجوع كمسك أو كتّفاح
لا أشرب الراح إلا من يدي رشإ ... تقبيل راحته تغني عن الرّاح
فدعا له بوصيفة تامة الحسن، في زيّ غلام، عليها أقبية ومنطقة، فسقته حتى سكر، ثم أمر بتوجيهها إليه بكلّ ما معها إلى داره.
ومن طرف إسحاق، أن كلثوما العتابي كان من العلم وغزارة الأدب وكثرة الحفظ والترسل والنظم على ما لم يكن عليه أحد، فحضر مجلس المأمون، فوضع بين يديه ألف دينار، وغمز إسحاق بالعبث به، فأقبل إسحاق يعارضه في كل باب ويزيد عليه، وهو لا يعرف إسحاق، فقال: أيأذن أمير المؤمنين في نسبة هذا الرجل، والسؤال عن اسمه؟
فقال: أفعل، فقال له العتابي: ما اسمك ومن أين أنت؟ فقال: أنا من الناس، واسمي كل
بصل، فقال له العتابي: أما النسبة فمعروفة، وأما الاسم فمنكور، فقال له إسحاق: ما أقلّ إنصافك، أو ما كلثوم من الأسماء! فالبصل أطيب من الثوم! فقال له العتابي: قاتلك الله، ما أملحك! ما رأيت كالرجل حلاوة، أيأذن أمير المؤمنين في صلته بما وصلني، فقد والله غلبني؟ فقال له المأمون: بل ذلك موفور عليك، وأمر له بمثله. فانصرف إسحاق إلى منزله، ونادمه العتابي بقية يومه.(2/25)
فقال: أفعل، فقال له العتابي: ما اسمك ومن أين أنت؟ فقال: أنا من الناس، واسمي كل
بصل، فقال له العتابي: أما النسبة فمعروفة، وأما الاسم فمنكور، فقال له إسحاق: ما أقلّ إنصافك، أو ما كلثوم من الأسماء! فالبصل أطيب من الثوم! فقال له العتابي: قاتلك الله، ما أملحك! ما رأيت كالرجل حلاوة، أيأذن أمير المؤمنين في صلته بما وصلني، فقد والله غلبني؟ فقال له المأمون: بل ذلك موفور عليك، وأمر له بمثله. فانصرف إسحاق إلى منزله، ونادمه العتابي بقية يومه.
وكانت هشيمة الخمّارة تجيد الشراب، فلما ماتت قال يرثيها: [الكامل]
أضحت هشيمة في القبور مقيمة ... وخلت منازلها من الفتيان
كانت إذا هجر الحبيب محبّه ... دبت له في السرّ والإعلان
حتّى يلين لما تريد قياده ... ويصير سيئه إلى الإحسان
وهو إسحاق بن إبراهيم بن ماهان، أصله فارسيّ، وترك ماهان إبراهيم صغيرا فنشأ في بني تميم.
وهذا الذي ذكرنا نبذة من أدبه.
وأما محاسنه في الغناء فلا يأتي عليها الحصر، قال الواثق: ما غنّاني إسحاق قطّ إلا ظننت أن قد زيد في ملكي وإن إسحاق نعمة من نعم الملّك، التي لم يحظ أحد بمثلها لو أن له العمر والنشاط ممّا يشتري لاشتريتهما بشطر ملكي.
وحدّث حمّاد ابنه قال: حدثني أبي قال: غدوت يوما وأنا ضجر من ملازمة دار الخليفة. فركبت بكرة عازما أن أطوف في الصّحراء، وأتفرّج، وقلت لعلمانيّ: إن جاء رسول الخليفة فعرفوه أني ركبت في مهمّ ومضيت، وطفت ما بدا لي، وغدوت، وعدت، وقد حمي النّهار، فوقفت في ظلّ جناح شارع لأستريح، فلم ألبث أن خادم جاء يقود حمارا فارها عليه جارية تحتها منديل دبيقيّ. وعليها من اللباس الفاخر ما لا غاية وراءه، فرأيت لها شمائل ظريفة وطرفا فاترا، فحدّثت أنها مغنية، فدخلت الدار التي كنت عليها واقفا، فعلقها قلبي علوقا شديدا لم أستطع معه براحا، وأقبل رجلان شابان، لهما هيبة تدلّ على قدرهما، وهما راكبان، فأذن لهما فحملني حبّ الجارية وحسن حالهما أن توسلت بهما، فدخلت معهما، فظنّا أن صاحب الدار دعاني، وظن هو أني معهما، فجلسنا، وأتي بالطعام فأكلنا، وجيء بالشراب، فخرجت الجارية، وفي يدها عود، فرأيت جارية حسناء، فغنت غناء صالحا، فتمكّن ما في قلبي منها، وشربنا. ثم قمت للبول، فسألهما صاحب المنزل عني، فأنكراني، فقال: هذا طفيلي، ولكنه ظريف، فأجملوا عشرته، فجئت وجلست فغنّت في لحن لي: [الطويل]
ذكرتك أن مرّت ببا أمّ شادن ... أمام المطايا تشرئبّ وتسنح
من المؤلفات الرّمل أدماء حرّة ... شعاع الضّحى في وجهها يتوضّح
فأدّته أداء صالحا. ثم غنّت أصواتا فيها من صنعتي: [مجزوء الخفيف](2/26)
ذكرتك أن مرّت ببا أمّ شادن ... أمام المطايا تشرئبّ وتسنح
من المؤلفات الرّمل أدماء حرّة ... شعاع الضّحى في وجهها يتوضّح
فأدّته أداء صالحا. ثم غنّت أصواتا فيها من صنعتي: [مجزوء الخفيف]
الطّلول الدوارس ... فارقتها الأوانس
أوحشت بعد أنسها ... فهي قفر بسابس
فكان أمرها فيه أصلح من الأوّل، ثم غنّت من صنعتي في شعري: [الخفيف]
قل لمن صدّ عاتبا ... ونأى عنك جانبا
قد بلغت الّذي أرد ... ت وإن كنت لاعبا
واعترفنا بما ادّعي ... ت وإن كنت كاذبا
فكان أصلح ممّا غنته، فاستعدته منها لأصحّحه. فأقبل عليّ أحد الرجلين، فقال:
ما رأيت طفيليّا أصفق وجها منك، لم ترض بالتّطفيل حتى اقترحت! وهذا تصديق المثل، «طفيلي وقد يقترح»، فلم أجبه. وكفّه صاحبه عني، فلم ينكفّ، ثم قاموا للصّلاة فأخذت عود الجارية، وأصلحته إصلاحا محكما. وعدت إلى موضعي، فصلّيت، ثم عادوا، فعاد ذلك الرجل في عربدته عليّ، وأنا صامت، فأخذت الجارية عودها، وجسّته، فقالت: من جسّ عودي؟ فقالوا: ما جسّه أحد، فقالت: والله لقد جسّه حاذق متقدّم، وشدّ طبقته، فقلت لها: أنا أصلحته، فقالت: بالله عليك خذه، واضرب به، فأخذته منها وضربت مبدأ طريق عجيب صعب، فيه نقرات محكمة، فما بقي منهم أحد إلا وثب، وجلس بين يدي، وقالوا: بالله يا سيدي، تغنّي؟ قلت: نعم، وأعرّفكم بنفسيّ أنا إسحاقي الموصليّ، والله إني لأتيه على الخليفة وأنتم تشتمونني منذ اليوم لأني تملّحت معكم بسبب هذه الجارية! وو الله لا نطقت بحرف ولا جلست معكم، أو تخرجوا هذا المعربد الغثّ، ونهضت لأخرج. فتعلّقوا بي وتعّلقت الجارية بي، فقلت: والله لا أجلس إلا أن يخرج فقال له صاحبه: من شبه هذا حذرت عليك، فأخرجوه، فغنيّت الأصوات التّي غنتّها الجارية من صنعتي فطرب صاحب البيت طربا شديدا، وقال لي: هل لك في أمر أعرضه عليك؟ فقلت: ما هو؟ فقال: تقيم عندي شهرا، والجارية مع ما عليها لك، فقلت: أفعل، فأقمت عنده ثلاثين يوما لا يعرف أحد أين أنا، والمأمون يطلبني.
فجئت بذلك منزلي بعد شهر، وركبت إلى المأمون، فقال لي: يا إسحاق، ويحك! أين تكون؟ فعرّفته الخبر فقال: عليّ بالرجل الساعة، فعرّفتهم موضعه فأحضره، وقال:
أنت رجل ذو مروءة وسبيلك أن تعاون عليها، فأمر له بمائة ألف درهم، ونهاه ألّا يعاشر ذلك المعربد النّذل، وأمر لي بخمسين ألفا، وقال: أحضر لي الجارية، فأحضرتها فغنته، فقال: قد جعلت لها نوبة في كلّ يوم ثلاثاء تغنّي مع الجواري، وأمر لها بخمسين ألف درهم. فربحت والله تلك الرّكبة وأربحت.
وتشبه هذه الحكاية حكاية إبراهيم بن المهدي، إذ شفع للمأمون في طفيليّ قد
قدّمنا ذكره، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، هب لي ذنبه، وأحدّثك حدثا عجيبا في التّطفيل عن نفسي، قال: قل، فقلت خرجت يوما فمررت في سكك بغداد، فشممت رائحة أبزار من جناح دار، وقدور قد فاح قتارها. فسألت خياطا: عن ربّ الدار، فقال رجل من التّجار اسمه فلان. فخرجت من شبّاك في الجناح كفّ ومعصم، ما رأيت مثلهما قطّ، فذهب عقلي وبهتّ، وإذا رجلان نبيلان، فقال الخياط: هذان نديماه، وهما فلان وفلان، فحرّكت دابتي، ودخلت بينهما، وقلت: قد استبطأكما أبو فلان، فأتينا الباب، فدخلنا، فلم يشكّ صاحب الدار أنني منهما، فرحّب بي، وأجلسني في أجّل موضع، فأتينا بالألوان، فكان طعمها أطيب من رائحتها، فقلت في نفسي: أكلت الألوان وبقي الكفّ. ثم سرنا إلى مجالس المنادمة، فإذا أنبل مجلس، وصاحب الدار مقبل باللّطف والحديث عليّ لمّا ظن أني منهما، فخرجت جارية تنثنّي كأنها خوط بان، فسلمّت وجلست، وأخذت بالعود وجستّه، فتبيّنت الحذق في جسّتها، وغنّت هذا الصوت:(2/27)
وتشبه هذه الحكاية حكاية إبراهيم بن المهدي، إذ شفع للمأمون في طفيليّ قد
قدّمنا ذكره، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، هب لي ذنبه، وأحدّثك حدثا عجيبا في التّطفيل عن نفسي، قال: قل، فقلت خرجت يوما فمررت في سكك بغداد، فشممت رائحة أبزار من جناح دار، وقدور قد فاح قتارها. فسألت خياطا: عن ربّ الدار، فقال رجل من التّجار اسمه فلان. فخرجت من شبّاك في الجناح كفّ ومعصم، ما رأيت مثلهما قطّ، فذهب عقلي وبهتّ، وإذا رجلان نبيلان، فقال الخياط: هذان نديماه، وهما فلان وفلان، فحرّكت دابتي، ودخلت بينهما، وقلت: قد استبطأكما أبو فلان، فأتينا الباب، فدخلنا، فلم يشكّ صاحب الدار أنني منهما، فرحّب بي، وأجلسني في أجّل موضع، فأتينا بالألوان، فكان طعمها أطيب من رائحتها، فقلت في نفسي: أكلت الألوان وبقي الكفّ. ثم سرنا إلى مجالس المنادمة، فإذا أنبل مجلس، وصاحب الدار مقبل باللّطف والحديث عليّ لمّا ظن أني منهما، فخرجت جارية تنثنّي كأنها خوط بان، فسلمّت وجلست، وأخذت بالعود وجستّه، فتبيّنت الحذق في جسّتها، وغنّت هذا الصوت:
[الطويل]
توهّمها طرفي فأصبح خدها ... وفيه مكان الوهم من نظري أثر
وصافحها كفي فآلم كفّها ... فمن لمس كفي في أناملها عقر
ومرّ بفكري شخصها فجرحته ... ولم أر شخصا قّط يجرحه الفكر
فهيّجت بلابلي، وطربت، ثم غنّت: [الطويل]
أشرت إليها هل علمت مودتي ... فردت بطرف العين إنّي على العهد.
فحدث عن الإظهار عمدا لسرّها ... وحادت عن الإظهار أيضا على عمد
فصحت: السلاح! وجاءني ما لم أملك معه نفسي، ثم غنّت: [الطويل]
أليس عجيبا أنّ بيتا يضمّني ... وإياك لا نخلو ولا نتكّلم
سوى أعين تشكو الهوى بجفونها ... وترجيع أحشاء على النار تضرم
إشارة أفواه وغمز حواجب ... وتكسير أجفان وقلب متيّم
فحسدتها على حذقها، فقلت: يا جارية بقي عليك شيء، فغضبت ورمت بالعود، وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء! فندمت ورأيت تغيّر القوم، فدعوت بالعود وغنّيت: [الكامل]
ما للمنازل لا يجبن حزينا ... أصممن أم بعد المدى فبلينا
راحوا العشيّة روحة مذكورة ... إن متن متنا أو بقين بقينا
فأقبلت على رجليّ تقبلهما، وتقول: المعذرة والله يا سيّدي من تغيير مثلك، وقام مولاها وصاحباه، وصنعوا مثلها، وشربوا بالطاسات طربا، ثم غنّيت: [الطويل](2/28)
أفي الحق أن أمسي ولا تذكرينني ... وقد سجمت عيناي من ذكرك الدّما
إلى الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عسل منّي وتبذل علقما
فجاء والله من طرب القوم ما حسبت له أن يخرجوا من عقولهم، فأمسكت حتى إذا هدأ القوم اندفعت أغنّي:
حذا محبّك مطويّ على كمده ... صبّ مدامعه تجري على جسده
له يد تسأل الرّحمن راحته ... ممّا به ويد أخرى على كبده
يا من رأى كلفا مستهدفا أسفا ... كانت منيّته في طرفه ويده
فصاحت الجارية: السلاح! هذا والله الغناء يا مولاي. وسكروا، وأمر صاحب الدّار غلمانه بحفظهم إلى منازلهم، وبقيت أشرب معه وكان جيّد الشراب فقال:
يا سيّدي ذهب والله ما خلا من أيامي باطلا إذ كنت لا أعرفك، فمن أنت؟ فأخبرته، فقبّل رأسي، وقال: وأنا أعجب من هذا الأدب، وأنا منذ اليوم مع الخلافة. ثمّ سألني عن قصتي فأخبرته خبر الطعام والمعصم، فأحضر جواريه [ولا أشعر]. ثمّ قال: ما بقي غير أمّي وأختي، ولأنزلنّهما إليك. فعجبت من كرمه، وسعة صدره، فقلت: أبدأ بالأخت، ففعل، فلمّا رأيت معصمها، قلت: هي هي. فأرسل إلي عشرة مشايخ وأحضر بدرتين، وقال: أشهدكم أني قد زوّجت أختي فلانة من إبراهيم بن المهدي، وأمهرتها عنه عشرة آلاف درهم. فدفعت إليه البدرة الواحدة، وفرّقت الأخرى على المشايخ، وانصرفوا، وقال: يا سيّدي أمهد لك بعض البيوت، فأحشمني، فقلت: بل أحملها لي منزلي في عماريّة، فوحقّك يا أمير المؤمنين، لقد حمل إليّ من الجهاز ما ضاق عنه بعض دوري.
فتعجّب المأمون من كرمه، وأمر بإحضاره فصار من خواصّه.
* * * قوله: «سحقا» أي بعدا.
* * * [زنام الزامر]
وزنام الزامر هو الذي أحدث الناي، وهو المزمار الذي تدعوه عامتنا بالمغرب الزّلامي، فصحّفوه بإبدال نونه لاما، وإنما هو زناميّ، وقال فيه الشاعر: [الرمل]
إنّ في ناي زنام شغلا ... يشغل العاقل عن ناي زنام
قال القاسم بن زرزور الزامر: حدّثني زنام الزامر، قال: لما اعتل المعتصم علّته التي مات منها، قال: هيّئوا لي الزلال حتى أركبه، فهيّىء له فركب، وأتى فيمن
معه، فمرّ بدجلة بإزاء منازله، فقال: يا زنام، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين! قال:(2/29)
إنّ في ناي زنام شغلا ... يشغل العاقل عن ناي زنام
قال القاسم بن زرزور الزامر: حدّثني زنام الزامر، قال: لما اعتل المعتصم علّته التي مات منها، قال: هيّئوا لي الزلال حتى أركبه، فهيّىء له فركب، وأتى فيمن
معه، فمرّ بدجلة بإزاء منازله، فقال: يا زنام، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين! قال:
أزمر: [السريع]
يا منزلا لم تبل أطلاله ... حاشا لأطلالك أن تبلى
العيش أولى ما بكاه الفتى ... لا بدّ للمحزون أن يسلى
لم أبك أطلالك لكننيّ ... بكيت عيشي فيك إذ ولّى
قال: فزمرت وما زلت أردده، وهو ينتحب ويبكي إلى أن خرج، ثم توفّي بعد خمسة أيام.
وزنام سار المثل بضرب يزمره وإتقان صنعته.
وكان الواثق مولعا يزمره بعد أبيه المعتصم، حدّث حسين بن الضحاك قال: دخلت على الواثق، فقال: قل الساعة أبياتا ملاحا حتى أهب لك شيئا مليحا، فقلت: في أيّ معنى؟ قال: فما شئت بما ترى بين يديك، فالتفتّ فإذا بساط قد تفتّحت أنواره، وأشرق في نور الصبح، فخجلت وأرتح عليّ، فقال الواثق: ألست ترى نور صباح، ونور أقاح! ففتح لي، فقلت: [المتقارب]
ألست ترى الصّبح قد أسفرا ... ومنسكب الغيث قد أمطرا
وأسفرت الأرض عن حلّة ... تضاحك بالأصفر الأحمرا
وتعمل كأسين في فتية ... تطارد بالأصغر الأكبرا
يحثّ كؤوسهم مخطف ... تجاذب أردافه المئزرا
فكلّ ينافس في برّه ... ليفعل في ذاته المنكرا
فضحك، وقال: تستعمل ما قلت يا حسين إلا الفسق فلا ولا كرامة. ثم قال:
قوموا بنا إلى حانة الشطّ. فقام إليها، وشرب وطرب، وما ترك أحدا من المغنّين والجلساء إلا أمر له بصلة. وكان من الأيام التي سارت أخبارها في الآفاق، فلما كان من الغد غدوت عليه، فقال: أنشدني ما قلت في يومنا الماضي، فأنشدته: [البسيط]
يا حانة الشّطّ قد أكرمت مثوانا ... عودي بيوم سرور كالذي كانا
لا تفقدينا دعابات الأمير ولا ... طيب البطالة إصرارا وإعلانا
وهاج زمر زنام بين ذاك لنا ... شجوا فأهدى لنا روحا وريحانا
وسلسل الرّطل عمرو ثم عمّ به السّ ... قيا فألحق أخرانا بأولانا
لا زلت آهلة الأوطان عامرة ... بأكرم النّاس أعرافا وأغصانا
ذكرنا هذه الحكاية لظرفها، ولما وقع لزنام من الذكر في شعر حسن.
* * *
قوله: «زنيما»، أي دعيّا في الزّمر. قال ابن الأعرابيّ: الزنيم ابن الزانية. أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا شيء من نسله إلى سبعة آباء».(2/30)
* * *
قوله: «زنيما»، أي دعيّا في الزّمر. قال ابن الأعرابيّ: الزنيم ابن الزانية. أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا شيء من نسله إلى سبعة آباء».
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كانت العباد فيما مضى إذا عبد الله أحدهم أربعين سنة يسعى نوره بين يديه، فعبد الله عابد أربعين سنة وأربعين، فلم يسع له نور، فابتهل إلى الله تعالى فقال: عبدتك أربعين وأربعين، ولم يسع لي نور فأري في منامه أنه لغير رشدة، فقال:
يا ربّ إن كان أبواي أكلا حماضا أضرس أنا!: فسعى نوره بين يديه».
قوله: «جيله» أي أهل عصره.
الزهيم الأول السيد، والثاني الضامن، أراد أنه يضمن لمن سمعه أن يطربه وقال أبو الفضل الدّارميّ في زامر أسود: [البسيط]
وحالك اللّون كالليل البهيم له ... فضائل مشرقات الحس كالفلق
تخال مجلسنا وجها به حسنا ... إذ صار فيه كخال معجب لبق
تراه يحفظ ما يوحى إليه به ... وسرّه أبدا يهوي بمنخرق
يحدو بأنفاسه الأوتار مجتهدا ... فتستقيم به الألحان في الطّرق
أهدى الشّباب إليه حسن بهجته ... فناسب المسك في لون وفي عبق
الحبب: الفقاقيع تعلو الماء والخمر. أزدري: أحتقر. النّعم: الإبل وأكرمها الحمر. أحلّي: أزيّن. بتملّيها: بطول حياتها ومدّتها، والملاوة: المدة، ومنه قوله تعالى: {وَأَمْلى ََ لَهُمْ} [محمد: 25]. مرآها: رؤيتها. أذود: أدفع. شرائع:
طرق. السمر: الحديث بالليل. أليح: أشفق، تسري: تسير ليلا. ريّاها: رائحتها الطيبة.
يكهن: يشعر ويحسن، وتكهّن الرجل: تحدث عن الغيب.
* * * [سطيح]
وسطيح الغسّاني أكهن الناس، وأنذر بسيل العرم، فكان يدرج جسده كما يدرج الثوب، خلا جمجمة رأسه، وإذا مسّت باليد أثرت فيه للين عظمها.
ومن كهانته أنه لمّا كان ليلة ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ارتجّ إيوان كسرى، فسقطت منه أربع عشرة شرفة، فأعظم ذلك أهل المملكة، وكتب إلى كسرى صاحب الشام أن وادي السماوة انقطع تلك الليلة.
وكتب إليه صاحب اليمن أنّ بحيرة ساوة غاضت تلك الليلة.
وكتب إليه صاحب طبريّة أنّ الماء لم يجر تلك الليلة في بحيرة طبريّة.(2/31)
وكتب إليه صاحب فارس أن بيوت النار خمدت تلك الليلة، ولم تخمد قبل ذلك بألف سنة.
فلما تواترت عليه الكتب، أظهر سريره، وبرز إلى أهل مملكته، فأخبرهم الخبر، فقال الموبذان: أيها الملك إني رأيت تلك الليلة رؤيا هالتني، رأيت إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، حتى اقتحمت دجلة وانتشرت في بلادنا.
قال: فما عندك في تأويلها؟ قال: ما عندي شيء، ولكن أرسل إلى عاملك بالحيرة يوجّه إليك رجلا من علمائهم فإنهم أصحاب علم بالحدثان. فبعث إليه، فوجّه عبد المسيح بن بقيلة الغسائي، فأخبره كسرى بالخبر فقال: أيها الملك، ما عندي فيها شيء، ولكن جهّزني إلى الشأم إلى خالي سطيح. فجّهزه، فلما قدم عليه وجده قد احتضر، فناداه فلم يجبه، فقال: [الرجز]
أصمّ أم يسمع غطريف اليمن ... رسول قيل العجم يهوي للوثن
يا فاصل الخطّة أعيت من ومن ... أتاك شيح الحيّ من آل سنن
* أبيض فضفاض الرّداء والرّسن * (1)
فرفع إليه سطيح رأسه، وقال: عبد المسيح، على جمل مشيح، أقبل إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح بعثك ملك بني ساسان، لارتجاج الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، حتى اقتحمت الواد، وانتشرت في البلاد.
عبد المسيح، إذا ظهرت التلاوة، وغاض وادي السماوة، وظهر صاحب الهراوة، فليست الشام لسطيح بشام، يملك منهم ملوك وملكات، بعدد ما سقط من الشرفات، وكلّ ما هو آت آت، ثم قال: [البسيط]
إن كان ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر طورا دهارير (2)
__________
(1) الرجز لعبد المسيح الغساني في لسان العرب (سطح)، (فود)، (زلم)، وتهذيب اللغة 4/ 277، وهو في حديث سطيح في تاج العروس (فود)، (عنن)، (منن)، وبلا نسبة في لسان العرب (فوز)، (غطرف)، (عنن)، (منن).
(2) يروى صدر البيت الأول:
إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم
وهو لعبد المسيح الغساني في لسان العرب (سطح) وتهذيب اللغة 4/ 278. 6/ 195. ولسطيح في لسان العرب (فرط)، وبلا نسبة في تاج العروس (دهر)، ويروى صدر البيت الثاني:
منهم أخو الصرح بهرام وإخوتهم
وهو لعبد المسيح في لسان العرب (سطح)، وتهذيب اللغة 4/ 278، ويروى البيت الثالث:
فربما ربما أضحوا بمنزلة ... تخاف صولهم الأسد المهاصير
وهو لعبد المسيح في لسان العرب (سطح)، وبلا نسبة في لسان العرب (هصر)، وتاج العروس (هصر)، وفيهما «الهواصير» بدل «المهاصير».(2/32)
منهم بنو الصّرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وسابور وسابور
فربمّا أصبحوا منهم بمنزلة ... تهاب صولهم الأسد اليهاصير
حثّوا المطيّ وجدّوا في رحيلهم ... فما يقوم لهم سرج ولا كور
والنّاس أبناء علّات فمن علموا ... أن قد أقلّ، فمحقور ومهجور
والخير والشرّ مقرونان في قرن ... والخير متّبع والشرّ محذور
فأتى كسرى فأخبره، فغمّه ذلك، فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا، يدور الزمان فملكوا كلّهم في أربعين سنة.
قوله: «ينمّ»: من النميمة. مليح: كثير الظهور.
* * * فاتفق لوشك الحظّ المبخوس، ونكد الطّالع المنحوس، أن أنطقتني بوصفها حميّا المدام، عند الجار النّمّام. ثمّ ثاب الفهم، بعد أن صرد السّهم، فأحسست الخبال والوبال وضيعة ما أودع ذلك الغربال، بيد أني عاهدته، على عكم ما لفظته، وأن يحفظ السّر ولو أحفظته فزعم أنّه يخزن الأسرار، كما يخزن اللّئيم الدّينار، وأنّه لا يهتك الأستار، ولو عرّض لأن يلج النّار.
* * * الحظّ: البخت والنصيب. ووشكه: سرعة زواله المبخوس: المنقوص. نكد:
مشقّة. الطالع: نجم الإنسان، والطالع يقابله التساقط. حميّا: حدّة ثاب: رجع. صرد:
خرج من قوسه، وأراد بالسهم اللفظ الذي سمع منه جاره الخبال: الفساد. الوبال:
الثقل، وهو وبال عليه أي ثقيل في العاقبة، وطعام وبيل: ثقيل متخم، ومنه استوبلت المدينة إذا لم توافق جسمك وإن أحببتها، أودع: جعل فيه. والغربال، معلوم، يشبّه به النّمام حيث لا يمسك ما جعل فيه قال الحطيئة يهجو أمه: [الوافر]
تنحّي فاجلسي مني بعيدا ... أراح الله منك العاليمنا (1)
أغربالا إذا استودعت سرّا ... وكانونا على المتحدّثينا
كانون: أبرد أيام الشتاء، ويريد أنها باردة لحديث.
__________
(1) يروى صدر البيت الأول:
فهنا اقعدي مني بعيدا
والبيتان في ديوان الحطيئة ص 123، ولسان العرب (بدد)، (كنن)، وتهذيب اللغة 9/ 454، ومقاييس اللغة 5/ 123، ومجمل اللغة 4/ 190، وديوان الأدب 3/ 61، وتاج العروس (بدد)، (غربل)، وبلا نسبة في المخصص 12/ 134.(2/33)
قال كعب بن زهير رضي الله عنه: [البسيط]
ولا تمسّك بالعهد الذي زعمت ... إلا كما يمسّك الماء الغرابيل (1)
وقال في الحماسة: [الطويل]
ولا أكتم الأسرار لكن أنمّها ... ولا أدع الأسرار تغلي على قلبي (2)
وإن قليل العقل من بات ليلة ... تقلّبه الأسرار جنبا إلى جنب
وقال آخر: [البسيط]
أعزز عليّ بأخلاق وسمت بها ... عند البريّة يا فالوذج السوق
تضيق بالسّر ذرعا ان خصصت به ... حتى يرى دائعا كالنفخ في البوق
وقال في ضده: [الطويل]
ومستخبر عن سر ريّا رددته ... بعمياء من ريّا بغير يقين (3)
وقال انتصحني إنني لك ناصح ... وما أنا إن خبّرته بأمين
وقال قيس بن الخطيم: [الطويل]
إذا جاوز الاثنين سرّ فإنّه ... ببثّ وتكثير الحديث قمين (4)
يكون له عندي إذا ما ضمنته ... مكان بسوداء الفؤاد مكين
وقال العباس بن الأحنف: [المتقارب]
تعتيت تطلب ما أستحقّ ... به الهجر منك ولا تقدر (5)
وماذا يضرّك من شهرتي ... إذا كان سرّك لا يشهر
أمني تخاف انتشار الحديث ... وحظّي من صونه أوفر
__________
(1) البيت في ديوان كعب بن زهير ص 8، وتاج العروس (غربل).
(2) البيتان لسحيم الفقعسي في ديوان الحماسة ص 185.
(3) يروى البيت الثاني:
تقول انتصحني إنني لك ناصح ... وما أنا إن خيّرتها بأمين
وهو بلا نسبة في لسان العرب (نصح)، والتنبيه والإيضاح 1/ 276، وتاج العروس (نصح).
(4) البيتان لقيس بن الخطيم في ديوانه ص 162، والبيت الأول لقيس بن الخطيم في حماسة البحتري ص 147، والدرر 6/ 312، وسمط الآلي ص 796، وشرح شواهد الشافية ص 183، ولسان العرب (نثث)، (قمن)، (ثني). والمقاصد النحوية 4/ 566، ونوادر أبي زيد ص 204، ولجميل بثينة في ملحق ديوانه ص 245، وكتاب الصناعتين ص 151، وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب 1/ 342، وشرح شافية ابن الحاجب 1/ 265، وشرح المفصل 9/ 19، 137، وهمع الهوامع 2/ 211.
(5) الأبيات في ديوان العباس بن الأحنف ص 146.(2/34)
ولو لم أصنه لبقيا عليك ... نظرت لنفسي كما تنظر
قوله: «بيد» بمعنى غير. عكم: ربط. أحفظته: أغضبته. يهتك: يخرق.
* * * فما إن غبر على ذلك الزّمان، إلّا يوم أو يومان، حتى بدا إلى أمير تلك المدرة، وواليها ذي المقدرة، أن يقصد باب قيله، مجدّدا عرض خيله، ومستمطرا عارض نيله، وارتاد أن تصحبه تحفة تلائم هواه، ليقدّمها بين يدي نجواه، وجعل يبذل الجعائل لروّاده، ويسنّي لمن يظفره بمراده، فأسفّ ذلك الجار الختّار إلى بذوله، وعصى في ادّراع العار عذل عذوله، فأتى الوالي ناشرا أذنيه، وأبثّه ما كنت أسررته إليه، فما راعني إلّا انسياب صاغيته إليّ، وانثيال حفدته عليّ، يسومني إيثاره بالدّرة اليتيمة، على أن أتحكّم عليه في القيمة، فغشيني من الهمّ، ما غشي فرعون وجنوده من اليمّ.
* * * غبر: مضى. المدرة: البلدة. قيله: ملكه الأعظم.
مجدّدا عرض خيله، أي ليعرض عليه ما عنده من الأجناد. والنّيل، أي العطاء.
ارتاد: طلب. تحفة: هدية. تلائم، توافق. هواه: إرادته. نجواه. حديثه مع الملك.
والجعل: حقّ من دلّك على حاجة، والجعالة بمعناه، والجعائل جمعها. يسنّي:
ييّسر وأصل الرّوّاد طلاب المرعى، واحدهم رائد، وأصل الوسائل، أسباب الود.
أسفّ: انحط ودنا، وأسفّ الطائر: تدلّى نحو الأرض لشيء يأخذه، وأسفّ الرجل: طلب مذاق الأمور.
والجار الختّار: الخدّاع بذوله: عطاؤه. أدّراعه: لبسه الدرع. ناشرا أذنيه، أي طامعا، وهو مثل. أبثّه: قال له سرّا.
قوله: «راعني» أي أفزعني.
انسياب: دخول. صاغيته: حاشيته. ومن يميل إليه.
انثيال: انصباب. حفدته: أتباعه.
يسومني: يعرض عليّ، إيثاره: تفضيله على نفسي.
الدرّة اليتيمة: الجوهرة النفيسة، وبهذا سمّى الثعالبي كتابه الدرة اليتيمة، أي الدّرّة المنفردة التي لا مثل لها. واليتيمة درّة مشهورة في البيت الحرام أكبر من بيضة الحمامة، استخرجها من البحر كلب جاء ليلغ، فتعلّقت محارتها بفمه، ففضها في البرّ، فهي من عجائب الدّنيا.(2/35)
ومن عجائبها الحافر، وهو حجر ياقوت، شبه حافر الفرس ألصقه أمير المؤمنين بمصحف عثمان.
والغريبة الثالثة: فرس ذهب لم يصنعه صانع، إنما وجد في معدن الذهب وهو عند ملك الحبشة بغانة.
والذي غشي فرعون وجنوده من اليمّ، هو الغرق. واليمّ: البحر الذي ذهبت نفوسهم فيه.
[قصة موسى]
ولا بدّ أن نلمّ بنبذة من خبره، نكمل بها القصّة حسبما شرطنا وذلك أنّ موسى عليه الصلاة والسلام، لمّا خرج فارّا من فرعون حسبما قدمناه في الخامسة، توجّه إلى مدين، فبلغها كالّا جائعا فقيرا، فوجد الناس يسقون كما نص الله تعالى: {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودََانِ} [القصص: 23]، أي يحبسان غنمهما، فأخبرتاه بأنهما لا يسقيان حتى يصدر الرعاء، وأن لهما أبا شيخا كبيرا، فرحمهما واقتلع الصخرة عن البئر وكان لا يرفعها إلا نفر فملأ وسقى لهما، ثم تولّى إلى ظلّ شجرة مثمرة فقال: {رَبِّ إِنِّي لِمََا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال هذا موسى، ولو شاء إنسان أن ينظر إلى خضرة أمعائه من شدة الجوع لفعل أراد خضرة البقل الذي أكل في طريقه فرجعت الجاريتان بسرعة إلى أبيهما، فأنكر مجيئهما قبل الوقت الذي جرت العادة بمجيئهما فيه، فأخبرتاه خبر موسى، فأرسل إلى إحداهما فأتته وهي تستحيي منه، فقالت: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مََا سَقَيْتَ لَنََا} [القصص:
25]. فمشى معها، وهي بين يديه فضرب الريح ثوبها، فنظر إلى عجيزتها فقال لها:
امشي خلفي، ودلّيني على الطريق، فلما أتى الشيخ سأله عن شأنه، فقصّ عليه قصته فقال: {لََا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظََّالِمِينَ} [القصص: 25] فقالت التي دعته: {يََا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] فقال لها الشيخ: أما القوة فقد خبرته بقلع الصّخرة، فما يدريك أمانته؟ قالت له: إني مشيت أمامه فلم يحبّ أن يخونني وردّني خلفه. فقال له: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هََاتَيْنِ} [القصص:
27] إلى آخر القصة.
فلما قضى أجله، وسار بأهله، وكان في شتاء، رفعت له نار فيما رأى فكانت من نور الله تعالى، فقال لأهله: {امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نََاراً} [القصص: 29]، ومعنى تصطلون، أي من البرد فكان عند إتيانه لها ما أخبر الله تعالى من أنّه {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النََّارِ وَمَنْ حَوْلَهََا وَسُبْحََانَ اللََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} [النمل: 8]. ثم قال له: {وَمََا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يََا مُوسى ََ قََالَ هِيَ عَصََايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهََا وَأَهُشُّ بِهََا عَلى ََ غَنَمِي} أي أضرب بها ورق الشجر للغنم {وَلِيَ فِيهََا مَآرِبُ أُخْرى ََ} [طه: 1817] من حمل الزاد عليها والسقاء
وغير ذلك، فقال له: {أَلْقِهََا يََا مُوسى ََ فَأَلْقََاهََا فَإِذََا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ََ} [طه: 20]. {فَلَمََّا رَآهََا تَهْتَزُّ كَأَنَّهََا جَانٌّ وَلََّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} [القصص: 31]. أي لم ينظر فنودي: {لََا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص: 31] الآيات.(2/36)
فلما قضى أجله، وسار بأهله، وكان في شتاء، رفعت له نار فيما رأى فكانت من نور الله تعالى، فقال لأهله: {امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نََاراً} [القصص: 29]، ومعنى تصطلون، أي من البرد فكان عند إتيانه لها ما أخبر الله تعالى من أنّه {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النََّارِ وَمَنْ حَوْلَهََا وَسُبْحََانَ اللََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} [النمل: 8]. ثم قال له: {وَمََا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يََا مُوسى ََ قََالَ هِيَ عَصََايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهََا وَأَهُشُّ بِهََا عَلى ََ غَنَمِي} أي أضرب بها ورق الشجر للغنم {وَلِيَ فِيهََا مَآرِبُ أُخْرى ََ} [طه: 1817] من حمل الزاد عليها والسقاء
وغير ذلك، فقال له: {أَلْقِهََا يََا مُوسى ََ فَأَلْقََاهََا فَإِذََا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ََ} [طه: 20]. {فَلَمََّا رَآهََا تَهْتَزُّ كَأَنَّهََا جَانٌّ وَلََّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} [القصص: 31]. أي لم ينظر فنودي: {لََا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص: 31] الآيات.
فسأل الله تعالى أن يرسل معه أخاه هارون ردأ، أي عونا لكونه كان أفصح منه لسانا للجمرة التي كانت أحرقت لسانه في صغره، فثقل لسانه فقال تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35].
فأقبل موسى إلى أهله فصار بهم إلى مصر، فدخلها ليلا، فنزل ضيفا بأمه وأخيه، وهم لا يعرفونه، وهارون غائب، فنزل بجانب الدار، وجاء هارون فسأل عنه أمّه فأخبرته أنه ضيف، فدعاه وأكل معه، ثم سأله: من هو؟ فقال: أنا موسى، فقام كلّ واحد منهما لصاحبه واعتنقه.
فقال له موسى: يا هارون، إن الله قد أرسلني وإياك إلى فرعون، فانطلق معي، فقال: سمعا وطاعة، فصاحت أمهما، وقالت: نشدتكما الله تعالى ألا تذهبا إليه فيقتلكما! فسكّناها ثم انطلقا إليه ليلا في قول السدّيّ وضربا الباب، فكلمهما البواب، فقالا له:
{إِنََّا رَسُولُ رَبِّ الْعََالَمِينَ} [الشعراء: 18]، ففزع البواب، فأتى فرعون فأخبره أن مجنونين بالباب يزعمان كذا، فقال: أدخلهما.
وأما ابن إسحاق فحدث أنهما وقفا على باب فرعون، يلتمسان الإذن، يغدوان ويروحان سنتين، وفرعون لا يعرف بهما حتى دخل ملةّ له، فقال له: أيها الملك، إن على الباب رجلا أنّ له إلها غيرك، فقال: أدخلوه، فدخلا وبيد موسى عصاه، فلما وقفا عرفه فرعون، فقالا: {إِنََّا رَسُولُ رَبِّ الْعََالَمِينَ} [الشعراء: 16]، فجاوبه بقوله {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينََا وَلِيداً} [الشعراء: 18] الآيات، ثم ذكّره أياديه قبله.
فقال له موسى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهََا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرََائِيلَ} [الشعراء: 18 22]، أي اتخذتهم عبيدا، تقتل من شئت وتسترقّ من شئت. فقال له {وَمََا رَبُّ الْعََالَمِينَ} [الشعراء: 23] فأراه الآية الكبرى في العصا، أن ألقاها فإذا هي تعبان مبين، ملأت ما بين السماطين فاتحة فاها، قد صار محجنها على ظهرها، فارفضّ الناس، ومال فرعون عن سريره، فناشد موسى ربّه، فأدخل يده في جيبه، فأخرجها بيضاء كالثلج، ثم ردّها، فعادت هيئتها، ثم وضع يده على الحيّة فصارت عصا كما كانت أول مرة، وأخذ فرعون بطنه وكان فيما يزعم يمكث الخمس والسّت ولا يلتمس الخلاء وكان ذلك مما زيّن له أنه ليس له شبيه في الناس فقال لملئه: إن هذا لسحر عظيم، فجمع السحرة، ووعدهم ليوم العيد، وأن يحشر الناس ضحى، يحضرون أمرهم مع موسى، فاجتمعوا لذلك اليوم، فصف خمسة عشر ألف ساحر، كلّ ساحر له نوع من السحر، فخرج موسى يتوكأ على عصاه، حتى أتى الجمع، وفرعون في مجلسه مشرف على وجوه أهل مملكته
فقال لهم موسى: {وَيْلَكُمْ لََا تَفْتَرُوا عَلَى اللََّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذََابٍ} [طه: 61].(2/37)
فقال له موسى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهََا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرََائِيلَ} [الشعراء: 18 22]، أي اتخذتهم عبيدا، تقتل من شئت وتسترقّ من شئت. فقال له {وَمََا رَبُّ الْعََالَمِينَ} [الشعراء: 23] فأراه الآية الكبرى في العصا، أن ألقاها فإذا هي تعبان مبين، ملأت ما بين السماطين فاتحة فاها، قد صار محجنها على ظهرها، فارفضّ الناس، ومال فرعون عن سريره، فناشد موسى ربّه، فأدخل يده في جيبه، فأخرجها بيضاء كالثلج، ثم ردّها، فعادت هيئتها، ثم وضع يده على الحيّة فصارت عصا كما كانت أول مرة، وأخذ فرعون بطنه وكان فيما يزعم يمكث الخمس والسّت ولا يلتمس الخلاء وكان ذلك مما زيّن له أنه ليس له شبيه في الناس فقال لملئه: إن هذا لسحر عظيم، فجمع السحرة، ووعدهم ليوم العيد، وأن يحشر الناس ضحى، يحضرون أمرهم مع موسى، فاجتمعوا لذلك اليوم، فصف خمسة عشر ألف ساحر، كلّ ساحر له نوع من السحر، فخرج موسى يتوكأ على عصاه، حتى أتى الجمع، وفرعون في مجلسه مشرف على وجوه أهل مملكته
فقال لهم موسى: {وَيْلَكُمْ لََا تَفْتَرُوا عَلَى اللََّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذََابٍ} [طه: 61].
فقال بعضهم لبعض: أهكذا يقول ساحرا فخيروه في أن يلقى أو يلقوا؟ فقال: بل ألقوا، فخيّلوا بحبالهم وعصيّم أشياء حيّروا بها العقول، من حيّات قد ملأت الوادي، يركب بعضها بعضا، ونيران تحرق في ظاهرها ما مرّت به وظلم متكاثفة، كما وصف الله تعالى: {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجََاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116]، ففزع موسى وأخوه لهول ما رأيا وذلك قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ََ قُلْنََا لََا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ََ} [طه: 68] الآيات. فألقى موسى عصاه، فجعلت تلقف كلّ ما خيلوا به، وكانوا جلبوا آلاتهم في السفن في النيل، فابتلعت السفن، وأقبلت فاتحة فاها، على قبّة فرعون بمن فيها، ففروا وتعلّقوا بموسى يستنقذون به. فأخذها موسى، فإذا هي عصا في يده كما كانت، فوقع السّحرة سجّدا قائلين: {آمَنََّا بِرَبِّ هََارُونَ وَمُوسى ََ} [طه: 70] لما تبيّنوا أن أمر العصا إلهي، ليس من تخاييلهم، فقال لهم فرعون: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}
[طه: 71] إلى قوله تعالى: {وَاللََّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى ََ}، أي لا سلطان لك إلا في الدنيا ولا سلطان لك بعدها، قالوا {رَبَّنََا أَفْرِغْ عَلَيْنََا صَبْراً وَتَوَفَّنََا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126]، فقتلهم فكانوا أول النهار سحرة وآخره شهداء.
ثم أمر الله تعالى نبيّه موسى أن يخرج بني إسرائيل فقال: {فَأَسْرِ بِعِبََادِي لَيْلًا}
[الدخان: 43].
فأمرهم أن يستعيروا الحليّ من القبط، فخرجوا ليلا، وألقى الله على القبط النوم، حتى طلعت الشمس، وكان موسى على ساقة بني إسرائيل وهارون على المقدّمة، وعدد بني إسرائيل ستمائة ألف وعشرون ألف مقاتل، لا يعدّون ابن العشرة لصغره، ولا ابن الستين لكبره. وتبعهم فرعون، وعلى مقدّمته هامان وهم في ألف ألف وسبعمائة ألف، فذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدََائِنِ حََاشِرِينَ} [الشعراء: 35]. فلمّا تراءى الجمعان، قالوا: يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا بالذبح ومن بعد ما جئتنا اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا! فقال: {كَلََّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
فأتى موسى البحر، وكنّاه أبا خالد، فضربه بعصاه، فانفلق فكان {كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63]، والطود: الجبل، فصار في البحر اثنا عشر طريقا فدخل كلّ سبط طريقه، وكلّ سبط يقول: قتل أصحابنا ففتح الله بينهم قناطر، فنظر آخرهم إلى أوّلهم. وجاء فرعون ومن معه، فأبت خيله أن تقتحم، فاقتحمها جبريل على فرس أنثى، فاقتحمت الخيل في أثره، فلما توسط البحر، أمر البحر أن يأخذهم، فانضم عليهم، فلما أدرك فرعون الغرق، قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرََائِيلَ} [يونس:
90] وجعل جبريل يدّس الطين في فمه لئلا يتمّ الكلمة، فيرحمه الله، وميكائيل يقول:
{آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يونس: 91].(2/38)
وأخرج الله بدن فرعون ميتا، حتى عرفه بنو إسرائيل، فهذا هو الذي غشى فرعون وجنوده من اليمّ.
* * * ولم أزل أدافع عنها ولا يغني الدّفاع، وأستشفع ولا يجدي الاستشفاع، وكلمّا رأى منّي ازدياد الاعتياص، وارتياد المناص، تجرّم وتضرّم، وحرّق عليّ الأرّم، ونفسي مع ذلك لا تسمح بمفارقة بدري، ولا بأن تنزع قلبي من صدري، حتى آل الوعيد إيقاعا، والتقريع قراعا، فقادني الإشفاق من الحين، إلى أن قضته سواد العين، بصفرة العين، ولم يحظ الواشي بغير الإثم والشيّن.
* * * قوله: الاعتياص: أي التصعّب، واعتاص الشّيء اعتياصا: تصعّبّ وتلوّى.
المناص: الملجأ والمفرّ.
وتجرّم: أتى الجرم. وتضرّم: اشتدّ غضبه. والأرّم: الأسنان. وحرّق: عض بعضها على بعض، حتى صوّت، وذلك لشدة الغيظ، وهو مثل. آل: رجع. الوعيد:
التهديد.
قراعا: ضربا، والقراع: الخبط والضرب، والتّقريع: الأخذ باللسان، يريد:
عدّدوني، فلما أبيت ضربوني.
الحين: الموت. قضته: عاوضته وبادلته سواد العين: جاريته التي هي نور عينه.
صفرة العين: لون الدنانير. لم يحظ: لم يأخذ حظوة، وهي النصيب.
والواشي: النّمام، سمّي واشيا لاستخراجه الأخبار وتوصّله إلى معرفتها، من قولهم: فلان يوشّي الخبر، إذا استخرجه وقيل: سمّي واشيا لتحسينه ما ينقل من الأخبار، وثوب موشّى: محسّن بما فيه من النّقوش. وقيل: هو من الشّيه، وهي العلامة، كأنه جعل لنفسه علامة من الوصف القبيح، والشين: العيب.
* * * [من قصص الجاريات المتأدبات]
وعلى وصف الجارية المذكورة بالأدب والجمال نريد أن نسوق فصلا في الجواري ذوات الأدب ممّن أهديت إلى ملك كحال هذه، أولها معه سبب:
حدث الأصمعي قال: بعث لي هارون الرشيد وهو بالرّقّة، فحملت إليه، فأنزلني الفضل بن الربيع ثم أدخلني عليه وقت المغرب، فاستدناني، وقال لي: يا عبد الملك، وجّهت فيك بسبب جاريتين، أهديتا إليّ، لهما أدب، أحببت أن تبرز ما عندهما، وتشير عليّ بالصواب فيهما.(2/39)
ثم أمر بإحضارهما فأحضرتا، فرأيت جاريتين ما رأيت مثلهما قطّ، فقلت لإحداهما: ما عندك من العلم؟ فقالت: ما أمر الله في كتابه، ثم ما ينظر النّاس فيه من الأخبار والأشعار. فسألتها عن حروف من القرآن، فأجابتني كأنها تقرأ القرآن من كتاب، ثم سألتها عن الأخبار والأشعار والنّحو والعروض، فما قصّرت في جوابي في كلّ فنّ أخذت فيه، فقلت لها: فأنشدينا شيئا، فأنشدت: [الطويل]
يا غياث العباد في كلّ محل ... ما يريد العباد إلّا رضاكا
لا ومن شرّف الإمام وأعلى ... ما أطاع الإله عبد عصاكا
فقلت: يا أمير المؤمنين، ما رأيت امرأة في مسك رجل مثلها.
وخبرت الأخرى، فوجدتها دونها، فأمر أن تصنع تلك الجارية لتحمل إليه في تلك الليلة ثم قال: يا عبد الملك، أنا ضجر، وأحبّ أن تسمعني حديثا مما شهدت من أعاجيب الزمان أتفرّج به، فقلت: يا أمير المؤمنين، كان لي صاحب في بدو بني فلان، وكنت أغشاه، وأتحدث إليه، وقد أتت عليه ست وتسعون سنة، وهو أصحّ النفوس ذهنا وأقواهم بدنا، فغبت عنه، ثم أتيته فوجدته ناحل البدن، كاسف البال، فسألته: ما سبب تغيّره؟ فقال: فصدت بعض القرابة، فألفيت عندهم جارية قد طلت بالورس بدنها، وفي عنقها طبل تنشد عليه: [الوافر]
محاسنها سهام للمنايا ... مريّشة بأنواع الخطوب
ترى ريب المنون بهنّ سهما ... يصيب بنصله مهج القلوب
فقلت: [الطويل]
ففي شفتي في موضع الطّبل ترتعي ... كما قد أبحت الطبل في جيدك الحسن
هبيني عودا يابسا تحت شقّة ... يمتّع فيما بين نحرك والذّقن
فلمّا سمعت الشعر، رمت بالطبل في وجهي، ودخلت الخيمة، فوقفت حتى حميت الشمس على مفرق رأسي، فلم تخرج، فانصرفت قريح القلب، فهذا التّغيّر من عشقي لها.
فضحك الرشيد حتى استلقى، ثم قال: ويلك يا عبد الملك! ابن ست وتسعين يعشق! فقلت له: قد كان هذا، فقال: يا عباس، أعط عبد الملك مائة ألف درهم، وردّه إلى مدينة السلام.
فانصرفت، ثم أتاني الخادم، فقال: أنا رسول بنتك يعني الجارية تقول لك: إنّ أمير المؤمنين أمر لها بمال وهذا نصيبك، فدفع لي ألف دينار، فلم تزل تواصلني بالبرّ الواصل، حتى كانت فتنة محمد، وانقطع خبرها عنّي، وأمر لي الفضل بعشرة آلاف درهم.(2/40)
وحدثّ علي بن الجهم، قال: لما أفضت الخلافة إلى المتوكل، أهدى إليه الناس على أقدارهم، فأهدى إليه ابن طاهر جارية أديبة، تسمّى محبوبة، تقول الشعر، وتلحّنه، وتحسن من كلّ علم أحسنه، فحلّت من قلب المتوكل محلّا جليلا، فدخلت يوما للمنادمة، فخرج وهو يضحك. فقال: يا عليّ، دخلت فرأيت محبوبة قد كتبت على خدّها بالمسك «جعفر»، فما رأيت أحسن منه، فقل فيه شيئا، فسبقتني محبوبة، فقالت وأخذت عودها، وغنّت: [الطويل]
وكاتبة بالمسك في الخد جعفرا ... بنفسي مخطّ المسك من حيث أثّرا
لئن أودعت سطرا من المسك خدّها ... لقد أودعت قلبي من الوجد أسطرا
فيا من مناها في السّريرة جعفر ... سقى الله من سقيا ثناياك جعفرا
ويا من لمملوك يظل مليكه ... مطيعا له فيما أسرّ وأجهرا
ويا من لعيني من رأى مثل جعفر ... سقى الله صوب المسكرات لجعفرا!
قال: فتقّلبت خواطري، حتى كأنّى ما أحسن حرفا من الشّعر، فقلت للمتوكل:
أقلني، فقد والله عزب ذهني عني، فلم يزل يعيّرني به.
ثم دخلت عليه بعد ذلك للمنادمة، فقال: يا عليّ، أعلمت أني غاضبت محبوبة، وأمرتها بلزوم مقصورتها، ومنعت أهل القصر من كلامها؟ فقلت: يا سيّدي، إن غاضبتّها اليوم، فصالحها غدا، فدخلت عليه من الغد، فقال: ويحك يا عليّ! رأيت البارحة في النّوم كأنّي صالحت محبوبة، فقالت جاريته: شاطر، يا سيدي، لقد سمعت الآن في مقصورتها هينمة، فقال: قم حتى ننظر ما هي، فقام حافيا، حتى قربنا من مقصورتها، فإذا هي تغنّي، وتقول: [المنسرح]
أدور في القصر لا أرى أحدا ... أشكو إليه ولا يكلّمني
كأنني قد أتيت معصية ... ليست لها توبة تخلّصني
فمن شفيع لنا إلى ملك ... قد زارني في الكرى وصالحني
حتى إذا ما الصباح عاد لنا ... عاد إلى هجره فصارمني
فصفّق المتوكل طربا، فلمّا سمعته خرجت تقبّل رجليه، وتمرّغ خدّها في التراب، حتّى أخذ بيدها راضيا عنها.
حدث أبو عليّ بن الأسكريّ المصريّ وأسكر هي القرية التي ولد بها موسى عليه السلام قال: كنت من جلّاس تميم بن أبي تميم، وممن يخفّ عليه، فأتي من بغداد بجارية رائعة فائقة الغناء، فدعا جلاسه، ومدّت الستارة، فأمرها فغنّت: [الكامل]
وبدا له من بعدما اندمل الهوى ... برق تألّق موهنا لمعانه
يبدو كحاشية الرّداء ودونه ... صعب الذّرى متمنّع أركانه
وبدا لينظر كيف لاح فلم يطق ... نظرا إليه وصدّه أشجانه
فالنّار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه
قال: فأحسنت ما شاءت، وطرب تميم ومن حضر، ثم غنّت:(2/41)
وبدا له من بعدما اندمل الهوى ... برق تألّق موهنا لمعانه
يبدو كحاشية الرّداء ودونه ... صعب الذّرى متمنّع أركانه
وبدا لينظر كيف لاح فلم يطق ... نظرا إليه وصدّه أشجانه
فالنّار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه
قال: فأحسنت ما شاءت، وطرب تميم ومن حضر، ثم غنّت:
سيسليك عمّا فات دولة مفضل ... أوائله محمودة وأواخره
ثني الله عطفيه، وألّف شخصه ... على البرّمذ شدّت عليه مآزره
فطرب تميم ومن حضر طربا شديدا، ثم غنّت: [البسيط]
أستودع الله في بغداد لي قمرا ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
فأفرط تميم في الطرب جدّا. ثم قال لها: تمنّي ما شئت، فلك مناك، فقالت:
أتمنّى عافية الأمير وسعادته، فقال: لا بدّ والله، فقالت: على الوفاء أتمنّى أيها الأمير، فقال: نعم فقالت: أتمنّى أن أغنّي هذه النوبة ببغداد. فتغيّر وجه تميم، وتكدّر المجلس، وقمنا. فلحقني بعض خدمه، فردّني. فلمّا وقفت بين يديه، قال لي: ويحك! أرأيت ما امتحنّا به، ولا بدّ من الوفاء: وما أثق في هذا بغيرك، فتأهب لتحملها إلى بغداد، فإذا غنّت هناك، فاصرفها، فقلت: سمعا وطاعة، فأصحبها جارية سوداء تخدمها وتعاد لها، وأمر لي بناقة وبجمل عليه هودج، فأدخلت فيه، وسرنا مع القافلة إلى مكة، فقضينا حجّنا.
ثم لما وردنا القادسية، أتتني السّوداء، فقالت لي: تقول لك سيدتي: أين نحن؟
فقلت: نحن نزول بالقادسيّة، فأخبرتها، فسمعت صوتها قد ارتفع بالغناء: [مجزوء الكامل]
لمّا نزلنا القادسيّ ... ة حيث مجتمع الرّفاق
وشممت من أرض الحجا ... ز نسيم أنفاس العراق
أيقنت لي ولمن أح ... بّ بجمع شمل واتّفاق
وضحكت من فرح الّلقا ... ء كما بكيت من الفراق
فصاح الناس من أقطار الغافلة: أعيدي أعيدي، بالله! فما سمع لها كلمة.
فلما نزلنا الياسريّة على خمسة أميال من بغداد في بساتين متّصلة يبيت الناس بها، ثم يبكّرون ببغداد. فلمّا قرب الصباح إذا بالسوداء قد أتتني مذعورة، فقالت: إن سيدتي ليست بحاضرة، وو الله لا أدري أين هي؟ فطلبتها فلم أجدها، ولا وجدت لها ببغداد خبرا، فقضيت حوائجي ببغداد وانصرفت إلى تميم، فأخبرته خبرها، فلم يزل واجما عليها.
وأخبار القيان كثيرة فلنقتصر على هذا القدر.
* * *
[مما قيل في الوشاة](2/42)
* * *
[مما قيل في الوشاة]
ومما جاء في الواشي، ما حكي أن رجلا وشى برجل إلى بلال بن أبي بردة، فقال للساعي: انصرف، حتى أكشف عمّا ذكرت، فلمّا كشف عن الساعي، إذا هو لغير رشدة، قال: نبأنا أبو عمرو وما كذبت ولا كذّبت حدّثني أبي عن جدّي، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الساعي لغير رشدة».
وذكر السعاة عند المأمون، فقال: لو لم يكن من غيّهم إلا أنهم أصدق ما يكونون أبغض ما يكونون عند الله.
وقال ذو الرياستين: قبول النميمة شرّ من النميمة، لأن النميمة دلالة، والقبول إجازة، وليس من دلّ على شيء كمن قبله وأجازه، وقد جعل الله السامع شريك القاتل، فقال: {سَمََّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 41].
وقال الشاعر: [الطويل]
لعمرك ما سبّ الأمير عدوّه ... ولكنّما سبّ الأمير المبلّغ
ووشى واش بعبد الله بن همام السّلولي إلى زياد، فقال له: إنه هجاك، فقال: أجمع بينكما، قال: نعم فبعث إلى ابن همام، وأدخل الرجل بيتا، فقال زياد: يا بن همام، بلغني أنك هجوتني، فقال: كلّا، أصلحك الله ما فعلت، ولا أنت لذلك بأهل، فأخرج الرجل، وقال: إن هذا أخبرني، فأطرق ابن همام هنيهة، ثم أقبل على الرجل فقال: [الطويل]
وأنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا ... فخنت، وإمّا قلت قولا بلا علم
فأنت من الأمر الذي كان بيننا ... بمنزلة بين الخيانة والإثم
فأعجب زياد بجوابه، وأقصى الواشي ولم يقبل منه.
قال الشاعر: [الكامل]
لا تقبلنّ نميمة من قائل ... وتحفظنّ من الّذي أنباكها
إن الذي أنباك عنه نمنيمة ... سيدبّ عنك نميمة قد حاكها
عليّ بن أبي طالب: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن موسى قال: يا ربّ إني حيث ذهبت لا أنصر ولا أخذل، فأوحى الله إليه: إن في عسكرك غمّازا، قال: يا رب دلّني عليه، قال:
يا موسى، أبغض الغماز، فكيف أغمز!».
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن أبغضكم إليّ المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبّة، والملتمسون بين البراءة العيب» (1).
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 4/ 227، 6/ 459.(2/43)
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أربعة يؤذنون أهل النار على ما بهم من الأذى»، وذكر رجلا يأكل لحوم الناس، ويمشي بالنميمة (1).
* * * فعاهدت الله تعالى مذ ذلك العهد ألّا أحاضر نمّاما من بعد، والزّجاج مخصوص بهذه الطّباع الذّميمة، وبه يضرب المثل في النّميمة فقد جرى عليه سيل يميني ولذلكم السّبب لم تمتدّ إليه يميني. [الطويل]
فلا تعذلوني بعد ما قد شرحته ... على أن حرمتم بي اقتطاف القطائف
فقد بان عذري في صنيعي وإنّني ... سأرتق فتقي من تليدي وطار في
على أنّ ما زوّدتكم من فكاهة ... ألذّ من الحلوى لدى كلّ عارف
* * *
[مما قيل في النميمة]
قوله «والزجاج مخصوص بهذه الطباع الذميمة»، قال السري فيما يتعلق بالزّجاج من النّمّ: [الطويل]
رأيك تبدي للصديق نوافذا ... عدوّك من أمثالها الدّهر آمن (2)
وتكشف أسرار الأخلّاء مازحا ... ويا ربّ مزح راح وهو ضغائن
سأحفظ ما بيني وبينك صائنا ... عهودك إن العهد للمرء صائن
وألقاك بالبشر الجميل مداهنا ... فلي منك خلّ ما علمت مداهن
أنمّ ما استودعته من زجاجة ... يرى الشيء فيها ظاهرا وهو باطن
وقال ابن المعتز:
لحى الله امرأ أعطاك سرّا ... فضيّعه وفضّ الله فاه
فإنك كلّما استودعت سرّا ... أنمّ من الزجاج بما وعاه
وقال السري: [البسيط]
أستودع الله خلّا منك أو سعه ... ودّا ويوسعني غشّا وتمويها (3)
__________
(1) روي بطرق وأسانيد متعددة، وأخرجه البخاري في الوضوء باب 55، 56، والجنائز باب 82، والأدب باب 49، وأبو داود في الطهارة باب 11، والترمذي في الطهارة باب 53، والنسائي في الطهارة باب 26، والجنائز باب 116، وابن ماجه في الطهارة باب 26، والدارمي في الوضوء باب 61، وأحمد في المسند 1/ 225، 266.
(2) الأبيات في ديوان السري الرفاء ص 267.
(3) الأبيات في ديوان السري الرفاء ص 227.(2/44)
كأن سرّى في أحشائه لهب ... فما يطيق له صمّا حواشيها
قد كان صدرك للأسرار جندلة ... ضنينة بالذي تخفي نواحيها
فعاد من بثّ ما استودعت جوهرة ... رقيقة تستشفّ العين ما فيها
وله أيضا: [الوافر]
ثناني عنك ما استشعرت سرّا ... خلال فيك لست لها يراض (1)
وإنّك كلّما استودعت سرّا ... أنمّ من النّسيم على الرياض
قوله: «وبه جرى المثل في النميمة»، يقال: أنمّ من الزجاجة على ما فيها، لأنه جوهر لا يكتم ما فيه.
[مما قيل في وصف الذهب والزجاج]
قال الأصبهانيّ: ما زال البلغاء يتعاطون وصف هذا الجوهر، فعبّروا عن مدحه وذمّه، فأما ذمه فإن إبراهيم بن سيار النظام أخرجه في كلمتين بأوجز لفظ، وأتمّ معنى، فقال: سريع الكسر، بطيء الجبر.
وقال في الذهب: الذهب لئيم، لأن الشكل يصير إلى شكله، وهو عند اللئام أكثر منه عند الكرام.
وأما سهل بن هارون، فكان يوما بمجلس أحد الملوك، وشدّاد الحربيّ يعدّد خصال الذهب، فقال: هو أبقى الجواهر على الدّفن، وأصبرها على الماء، وأقلّها نقصا في النار، وهو أوزن من كلّ ذي وزن، إذا كان في مقدار شخصه، ولو وضعت على ظهر الزئبق في إنائه قيراطا من ذهب، لرسب حتى يضرب قعر الإناء، وسائر الجواهر تطفو فوقه ولو كان الجوهر ذا وزن ثقيل، ورجح عظيم ولا تشدّ الأسنان المتقلقلة بغيره، ولا يوضع في مكان الأنوف المصطلمة سواه، وميله أجود الأميال، والهند تمرّه في العين بلا كحل لصلاح طبعه، وعليه مدار التبايع مذ كان التبايع، وهو ثمن لكل شيء، وهو الزرياب (2) والصّفائح التي تكون في سقف الملوك، والطبخ في قدوره أغذى وأمرأ.
وسئل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن الكبريت الأحمر فقال: هو الذهب فأدرك سهل بن هارون من الغيرة والحسد ما دعاه إلى معارضته، فقال يذمّ الذهب، ويفضّل الزّجاج: الذهب مخلوق والزجاج مصنوع، وإن فضله الذهب بالصلابة فضله الزجاج بالصفاء، والزجاج أبقى على الدّفن، والزجاج نور علويّ، والذهب ميّاع سيّال، ولم تتخذ الناس آنية للشراب أجمع لما يريدون من الشراب منه، والشراب فيها أحسن منه
__________
(1) الأبيات في ديوان السري الرفاء ص 157.
(2) الزرياب: هو الذهب الخالص.(2/45)
في كلّ معدن، ولا يفقد معه وجه العديم، ولا يثقل اليد، ولا يرتفع في السّوم.
وكان سليمان إذا شرب في إناء كلحت في وجهه مردة الجنّ، فعلّمه الله تعالى صنعة القوارير، فحسم عن نفسه تلك الجراءة. ومن كرع فيه فكأنّما كرع في إناء من ماء وهواء ونور، وقد تقدح النار من كسر قنّينة الزجاج إذا كان فيها ماء لأنّ طبع الزجاج والماء، والهواء والشمس واحد، وليس فيما يدور الفلك عليه أقبل لكلّ صبغ منه وأجدر ألّا يفارقه حتى كأن ذلك الصّبغ جوهرية فيه. ومتى سقط عليه ضياء أنفذه إلى الجانب الآخر، وأعاره لونه، فإن كان الجام ذا لونين، أراك الوشي أحسن من وشى صنعاء، ومن ديباج تستر وإذا وقع شعاع المصباح على جوهر الزّجاج صار المصباح والقنديل مصباحا واحدا، وردّ الضياء كل واحد منهما على صاحبه.
واعتبروا ذلك بالشّعاع الذي يسقط على المرآة على وجه الماء، أو على الزجاج، ثم انظروا كيف يتضاعف نوره، وإن كان سقوطه على عين إنسان أعشاه وربما أعماه، قال الله تعالى: {اللََّهُ نُورُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكََاةٍ فِيهََا مِصْبََاحٌ الْمِصْبََاحُ فِي زُجََاجَةٍ الزُّجََاجَةُ كَأَنَّهََا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 25]، والزيت في الزجاجة نور على نور. قال الله تعالى: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوََارِيرَ} [النمل: 44].
وقال تعالى: {وَأَكْوََابٍ كََانَتْ قَوََارِيرَا قَوََارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 15] فاشتق اسما للفضة منها.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لحادي بإبله: «يا أنيس ارفق بالقوارير» (1)، فاشتقّ للنساء اسما منه. وقدوره أطيب طعاما من قدور الحجارة، وهي لا تصدأ، وإن اتسخت فالماء وحده لها جلاء، ومتى غسلت عادت جددا.
واسم الذهب يتطيّر منه، وإن سقط عليك قتلك. ومن لؤمه سرعته إلى بيوت اللئام، وإبطاؤه عن بيوت الكرام وهو من مصائد الشيطان، ولذلك قالوا: أهلك الرّجال الأحمران، وهو فتّان قتّال لمن أصابه.
فلم يبق في المجلس أحدا إلا تحّير من ذلك وتعجّب من بلاغته وحسن بديهته، واحتجاجه في معارضته من غير رويّة، وأيقن أنه ليس دون اللسان حاجز، وأنّه مخراق يذهب في كلّ فنّ، فإذا صح العقل صحّ تقويم اللسان.
قوله «القطائف»، هي ما يجنى من الثمار، يريد بها الحلوى التي حرّمهم أكلها والرتق: السدّ والإغلاق وهو ضد الفتق، ويقال: هو الفاتق الراتق، أي هو مالك لأمر، فهو يفتح ويغلق ويضيق ويوسع. ورتق: ضمّ وجمع، وامرأة رتقاء: لا يصل إليها
__________
(1) روي بطرق وأسانيد متعددة أخرجه البخاري في الأدب باب 116، وأحمد في المسند 3/ 172.
بلفظ: «ارفق يا أنشجة ويحك بالقوارير».(2/46)
الرجال. وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ كََانَتََا رَتْقاً فَفَتَقْنََاهُمََا} [الأنبياء: 30] أي كانتا سماء واحدة، وأرضا واحدة، فجعلت كل واحدة منهما سبع. وقيل: كانتا معا ففتقناهما بالهواء الذي بينهما وقيل: فتق السماء بالمطر والأرض بالنبات، فقال: سأسدّ ما خرقته.
قوله: «التليد»، المال القديم. والطريف: المكتسب فكاهة: ملح.
* * * قال الحارث بن همّام: فقبلنا اعتذاره، وقبّلنا عذاره، وقلنا له: قدما وقذت النّميمة خير البشر حتّى انتشر عن حمّالة الحطب ما انتشر. ثمّ سألناه عمّا أحدث جاره القتّات، ودخلله المفتات بعد أن راش له نبل السّعاية، وجذم حبل الرّعاية فقال: أخذ في الاستخذاء والاستكانة، والاستشفاع إليّ بذوي المكانة.
* * * عذاره: شعر خدّه، شبه بالشوكة التي تقع على خد الفرس. وقد عذرت الفرس عذرا وأعذرته بالعذار بمعنى ألجمته، وأعذرت اللجام: جعلت له عذارا، وأنشد ابن رشيق في معذّر: [مخلع البسيط]
وأسمر اللّون عسجديّ ... يكاد يستمطر الجهاما
ضاق بحمل العذار ذرعا ... كالمهر لا يعرف اللّجاما
ونكّس الرأس إذ رآني ... كآبة واكتسى احتشاما
وظنّ أن العذار مما ... يزيح عن قلبي الغراما
وما درى أنه نبات ... أنبت في قلبي السّقاما
وهل ترى عارضاه إلّا ... حمائلا قلّدت حساما
قوله: «قدما وقذت»، أي قديما أمرضت وأوجعت.
حمّالة الحطب: هي أمّ جميل بنت حرب عمة معاوية وامرأة أبي لهب، وكانت تمشي بالنميمة بين النبيّ صلّى الله عليه وسلم وبين المشركين، وقيل بين زوجها وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وقيل ذلك للماشي بالنّميمة، لأنّ الحطب يهيج النار، والنميمة تهيج الشرّر. وقيل: سميت حمالة الحطب لأنّها كانت تطرح الشوك للنبي صلّى الله عليه وسلم في طريقه، وكانت عوراء وأبو لهب أحول.
والقتات: النمام بالكذب والنّميمة، وقتّ بقتّ قتا: مشى بالنميمة، ونمّ ينمّ نمّا:
ضيع الأحاديث ولم يحفظها، وقيل: النميمة من قولهم: جلود نمّت إذا لم تمسك الماء.
والقتات أيضا: المتسمع على من ليس يشعر به، وهو القتّات، والنمّام والعسّاس والهمّام والغمّاز والمهينم، والمورش والممأس، وقد مأس يمأس.(2/47)
دخلله: خاصته العالم بداخل أمره. المفتات: المستبدّ برأيه المتسوّر على ما لا ينبغي له.
راش: جعل لها ريشا.
السعاية: المشي بالنميمة. جذم: قطع الرعاية: حفظ الصداقة. الاستخذاء، الخضوع والاستكانة: الذلّ. ذوو المكانة: أهل الجاه
* * * وكنت حرّجت على نفسي، ألّا يسترجعه أنسي، أو يرجع إليّ أمسي فلم يكن له منّي سوى الرّدّ، والإصرار على الصّد، وهو لا يكتئب من النّجه، ولا يتّئب من وقاحة الوجه، بل يلطّ بالوسائل، ويلجّ في المسائل فما أنقذني من إبرامه، ولا أبعد عليه نيل مرامه إلا أبيات نفث بها الصّدر الموتور، والخاطر المبتور فإنّها كانت مدحرة لشيطانه، ومسجنة له في أوطانه وعند انتشارها بتّ طلاق الحبور، ودعا بالويل والثّبور، ويئس من نشر وصلي المقبور كما يئس الكفّار من أصحاب القبور.
* * * حرّجت: أثمت وضيّقت عليها بيمين أكيده. الإصرار: العزيمة. والصّدّ: الإعراض عنه. يكتئب: يهتمّ. النّجه: الجفاء وتغليظ الكلام. يّتئب: يرجع. يلطّ: يكثر اللزوم بها. ويقال: ألط بالشيء، إذا لزمه.
إيرامه: ثقله. نفث: نطق وتكلم. الموتور: المظلوم. المبتور: المقطوع بالهم.
مدحرة: مدفعة ومبعدة، ودحرت الشيء دحورا ودحرا: أبعدته ودحر هو: بعد. بتّ:
قطع وأمضى، وجعله بتّا وهو ما لا رجعة له فيه.
الحبور: السرور، وحبرته حبرته: سررته الثبور: الهلاك، وثبر الله العدو ثبورا:
أهلكه. يئس: قطع رجاءه. نشر: أحيا. المقبور: المدفون. الكفّار: الدافنون للموتى.
* * * فناشدناه أن ينشدنا إياها، وينشقنا ريّاها، فقال: أجل، خلق الإنسان من عجل، ثم أنشد لا يزويه خجل، ولا يثنيه وجل: [الخفيف]
ونديم محضته صدق ودّي ... إذ توهّمته صديقا حميما
ثمّ أوليته قطيعة قال ... حين ألفيته صديقا حميما
خلته قبل أن يجرّب إلفا ... ذا ذمام فبان جلفا ذميما
وتخيّرته كليما فأمسى ... منه قلبي بما جناه كليما
* * * ناشدناه: سألناه وجعلناه. ينشقنا ريّاها: يشممنا رائحتها. أجل، حرف جواب بمعنى نعم.(2/48)
ونديم محضته صدق ودّي ... إذ توهّمته صديقا حميما
ثمّ أوليته قطيعة قال ... حين ألفيته صديقا حميما
خلته قبل أن يجرّب إلفا ... ذا ذمام فبان جلفا ذميما
وتخيّرته كليما فأمسى ... منه قلبي بما جناه كليما
* * * ناشدناه: سألناه وجعلناه. ينشقنا ريّاها: يشممنا رائحتها. أجل، حرف جواب بمعنى نعم.
خلق الإنسان من عجل: قال أبو عليّ: هو على القلب، معناه: خلق العجل من الإنسان، قال الزّجاج: ويدلّ على ذلك قوله تعالى: {وَكََانَ الْإِنْسََانُ عَجُولًا} [الإسراء:
11] ومثله: {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} [آل عمران: 40] أي بلغت الكبر، ومثله: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبََاتُ الْأَرْضِ} [الكهف: 45].
قال الشماخ: [البسيط]
* ليّا كما عصب العلباء بالعود * (1)
أي العود بالعلباء.
وقال القطامي: [الوافر]
* كما بطّنت بالفدن السّياعا * (2)
أي بطّنت بالسياع بالفدن وهو الطّين بالتبن، والفدن: القصر. وقال ابن مقبل:
[البسيط].
* وابتذلت وقع المحاجن بالمهرية الذّقن * (3)
أي ابتذلت المهرية بوقع المحاجن، ومن جعل العجل الطين، فلا قلب فيه، وأراد:
لم يصبروا عن الآيات لعجلتهم في طلبها.
__________
(1) يروى البيت بتمامه:
منه ولدت ولم يؤشب به نسبي ... لمّا كما عصب العلباء بالعود
وهو للشماخ بن ضرار في ديوانه ص 120، والأزهية ص 198، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 367، والمنصف.
(2) يروى البيت بتمامه:
فلما أن جرى سمن عليها ... كما طيّنت بالفدن السياعا
وهو للقطامي في ديوانه ص 40، وأساس البلاغة (فدن)، وجمهرة اللغة ص 845، وشرح شواهد المغني 2/ 972، ولسان العرب (تيز)، (سيع)، ومغني اللبيب 2/ 696.
(3) تمامه:
قد صرّح السّير عن كتمان وابتذلت ... وقع المحاجن بالمهرية الذّقن
والبيت لابن مقبل في ديوانه ص 303، وشرح شواهد المغني 1/ 316، ولسان العرب (كتم)، (حجن)، (ذقن)، والمحتسب 1/ 237، وهو بلا نسبة في المخصص 2/ 418.(2/49)
وقوله: يزويه، أي يقبضه خجل: حياء، وقد خجل إذا استحيا. يثنيه: يردّه.
وجل: خوف.
محضته، أي أخلصته. توهّمته: حسبته. والحميم: الخاصّ من الإخوان، والحميم الثاني: الماء الحارّ السخن.
والصّديد: الدم المختلط بالقيح. أوليته: ألصقت به. القطيعة: البعد قال: مبغض.
إلفا: صاحبا. ذمام: عهد. بان: تبيّن جلفا: جافيا. ذميما. مذموما. كليما الأوّل مكلّما، والثاني مجروحا.
* * * [مما قيل في الغدر وقلة الوفاء]
وقد أكثر الناس من التشكّي بغدر الإخوان وقلة الوفاء منهم على قديم الزمان وحديثه، ونسوق منه ما يليق بهذا الموضع:
قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى لصديق له: هل بلغك شيء تكره ممّن لا تعرف؟ قال: لا، قال: فأقلل ممّن تعرف.
الجاحظ: قرئ على باب شيخ من أهل الرّيّ: جزى الله من لا يعرفنا ولا نعرفه خيرا، كأنه اتقى من ثقاته.
وقال امرؤ القيس بن حجر: [الطويل]
إذا قلت هذا صاحب قد رضيته ... وقرّت به العينان بدّلت آخرا (1)
كذلك جدّي، ما أصاحب صاحبا ... من النّاس إلا خانني وتغيّرا
وقال النابغة: [الطويل]
ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث، أيّ الرّجال المهذّب (2)!
ولمّا انحرف ابن الزيات عن إبراهيم بن العباس الصولي، تحاماه الناس أن يلقوه، وكان الحارث بن سنجر صديقا له، فهجره من ذلك، فكتب إليه: [الطويل]
تغيّر لي فيمن تغيّر حارث ... وكم من خليل غيّرته الحوادث (3)
__________
(1) البيتان في ديوان امرئ القيس ص 69، والبيت الأول في لسان العرب (أخر)، وتاج العروس (أخر).
(2) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 28، ولسان العرب (شعث)، (بقى)، وتهذيب اللغة 1/ 406، 6/ 266، 9/ 348، وكتاب العين 5/ 230، وجمهرة اللغة ص 307، وجمهرة الأمثال 1/ 188!، وفصل المقال ص 44، والمستقصى 1/ 450، ومجمع الأمثال 1/ 23، ومقاييس اللغة 1/ 277، وأساس البلاغة (بقي)، وتاج العروس (بقي).
(3) الأبيات في ديوان الصولي ص 182.(2/50)
أحارث إن أشركت فيك فطالما ... نعمنا وما بيني وبينك ثالث
وكتب لابن الزيات: [الوافر]
أخي بيني وبين الدّه ... ر صاحب أيّنا غلبا (1)
صديقي ما استقام فإن ... نبا دهر عليّ نبا
وثبت على الزمان به ... فعاد به وقد وثبا
ولو عاد الزمان لنا ... لعاد أخا به حدبا
وكتب إليه أيضا: [المتقارب]
وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلمّا نبا صرت حربا عوانا (2)
وكنت إليك ألوم الزمان ... فأصبح فيك ألوم الزّمانا
وكنت أعدّك للنائبات ... فأصبحت أطلب منك الأمانا
وقال أبو فراس: [الطويل]
أقّلب طرفي لا أرى غير صاحب ... يميل مع النّعماء حيث تميل (3)
وصرنا نرى أنّ المتارك محسن ... وأن خليلا لا يضرّ خليل
تصفّحت أحوال الرجال فلم يكن ... إلى غير شاك في الزمان وصول
أكلّ خليل هكذا غير منصف ... وكل زمان بالكرام بخيل!
وله أيضا: [الطويل]
إذا الخلّ لم يهجرك إلّا ملالة ... فليس له إلا الفراق عتاب (4)
إذا لم أجد في بلدة ما أريده ... فعندي لأخرى عزمة وركاب
بمن يثق الإنسان فيما ينوبه ... ومن أين للحرّ الكريم صحاب!
وقد صار هدا الناس إلا أقلهّم ... ذئابا على أجسادهنّ ثياب
وقال الخباز البلويّ: [الطويل]
ألا إنّ إخواني الذين عهدتهم ... أفاعي رمال لا تقصّر في اللّسع
ظننت بهم خيرا فلمّا بلوتهم ... نزلت بواد منهم غير ذي زرع
ولابن هارون القرطبيّ: [الكامل]
ذهب الوفاء فلا وفاء يرتجى ... تلقى الصديق من الوفا عريانا
__________
(1) الأبيات في ديوان الصولي ص 155.
(2) الأبيات في ديوان الصولي ص 166.
(3) الأبيات في ديوان أبي فراس الحمداني ص 34.
(4) الأبيات في ديوان أبي فراس الحمداني ص 38.(2/51)
يعطيك ودّا صادقا بلسانه ... ويجنّ تحت ضلوعه ألوانا
وقال المعرّي: [الوافر]
فظنّ بسائر الإخوان شرّا ... ولا تأمن على سرّ فؤادا (1)
فلو خبرتهم الجوازء خبري ... لما طلعت مخافة أن تكادا
تجنّبت الأنام فلا أواخي ... وغبت عن الأنام فلا أعادى
ولمّا أن تجهّمني مرادي ... جريت مع الزّمان كما أرادا
وهوّنت الخطوب عليّ حتّى ... كأنّي صرت أمنحها ودادا
وله أيضا: [البسيط]
والخلّ كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر
وكتب المعتصم صاحب المرية إلى ابن عمار: [الطويل]
وزهّدني في النّاس معرفتي بهم ... وطول اختياري صاحبا بعد صاحب
فلم ترني الأيام خلّا تسرّني ... مباديه إلا ساءني في العواقب
ولا قلت أرجوه لدفع ملمّة ... من الدهر إلا كان إحدى المصائب
وقال البحتري: [الكامل]
أما العداة فقد أروك نفوسهم ... فاقصد بسوء ظنونك الإخوانا
وقال أيضا: [المجتث]
أما العدوّ فيبدي ... ما عنده ويكاشف (2)
لكن توقّ وحاذر ... من الصّديق الملاطف
وقال منصور بن إسماعيل التميمي الفقيه: قال ابن رشيق: [المجتث]
لو قيل لي خذ أمانا ... من حادثات الزمان
لما أخذت أمانا ... إلا من الإخوان
وهذا الباب لا يحصى كثرة. [الخفيف]
* * * وتظّنيته معينا رحيما ... فتبيّنته لعينا رجيما
وتراءيته مريدا فجلّى ... عنه سبكي له مريدا لئيما
وتوسّمت أن يهبّ نسيما ... فأبى أن يهبّ إلّا سموما
__________
(1) الأبيات في سقط الزند ص 559.
(2) البيتان في ملحق ديوان البحتري ص 2609.(2/52)
بتّ من لسعه الذي أعجز الرّا ... قي سليما وبات منّي سليما
وهذا نهجه غداة افترقنا ... مستقيما والجسم منّي سقيما
لم يكن رائعا خصيا ولكن ... كان بالشرّ رائعا لي خصيما
قلت لمّا بلوته: ليته كا ... ن عديما ولم يكن لي نديما
بغّض الصّبح حين نمّ إلى قل ... بي لأنّ الصّباح يلفى نموما
ودغاني إلى هوى اللّيل إذ كا ... ن سواد الدّجى رقيبا كتوما
وكفى من يشي ولو فاه بالصّد ... ق أثاما فيما أتاه ولوما
* * * قوله: «تظنّيته» أي حسبته، وأبدل من إحدى نونيه ياء.
لعينا: رجيما: شيطانا مبعدا مرجوما بالنجوم، وقيل: الرجيم: المرجوم أي المشتوم المسبوب، من قوله سبحانه وتعالى: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم: 46]، أي لأسبنّك وقيل: الرجيم الملعون، وهو مذهب أهل التفسير، فمعنى اللعين والرجيم واحد.
تراءيته: طننته، من تراءى لي الشيء: ظهر بعض الظهور. مريدا: محبّا. جلّى:
كشف. سبكي: تجربي. مريدا: كثير الشرّ. خبيثا. لئيما: وضيع القدر خسيس الهمة.
توسّمت: ظننت، وتوسمّت فيه الخير، أي رأيت فيه سمته، أي علامته والنّسيم:
الريح اللينة. والسّموم: الحارّة. لسعه: ضرّه. سليم: الأول ملدوغ والثاني سالم:
ورائع: الأول حسن المنظر، والثاني مفزع. بلوته: جرّبته عديما غير موجود. يلفى:
يوجد. هوى. حبّ. رقيبا: حافظا. يشي: ينمّ. فاه: نطق.
قوله: بغّض الصبح، وهو من المثل: الليل أخفى للويل، وقالوا: أنمّ من الصبح، لأنه يهتك حجاب الظلام. وقال بعض الحكماء لابنه: اجعل نظرك في العلم ليلا لأن القلب في النهار كالطائر، وهو في الليل ساكن، فما ألقيت فيه من شيء وعاه.
[مما قيل في الليل]
فأما أكثر الشعراء فهم إلى الليل أفزع، ومن النهار أنزع، لأن الليل أجمع لشتات الهموم والفكر، وأجلب لشوارد الأحزان والذكر.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... عليّ بأنواع الهموم ليبتلي (1)
__________
(1) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 18، وخزانة الأدب 2/ 326، 3/ 271، وشرح شواهد المغني 2/ 574، 782، وشرح عمدة الحافظ ص 272، والمقاصد النحوية 3/ 338، وبلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 75، وشرح الأشموني 2/ 300، وشرح شذور الذهب ص 415.(2/53)
وقال النابعة: [الطويل]
وصدر أراح الليل عازب همّه ... تضاعف فيه الحزن من كلّ جانب (1)
وقال قيس بن ذريح: [الطويل]
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزّتني إليك المضاجع (2)
وقال الطرماح بن حكيم: [الطويل]
ألا أيّها الليل الطويل ألا أصبح ... بصبح، وما الإصباح فيك بأروح (3)
بلى إن للعينين في الصبح راحة ... لطرحهما طرفيهما كلّ مطرح
وقال ابن المعتز: [البسيط]
لا تلق إلا بليل من تواصله ... فالشمس نمّامة والليل قوّاد (4)
كم عاشق وظلام الليل يستره ... لاقى الأحبة والواشون رقّاد
وقال المتنبي وأجاد: [الطويل]
كم زورة لك في الأعراب خافية ... أدهى وقد رقدوا من زورة الذّيب (5)
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
وهذا البيت أمير شعره على كثرة الجيّد فيه. والبديع فيه أنه قابل الشطر الأول بالثاني حرفا بحرف، فقابل «أزورهم» بقوله: «أنثني»، و «سواد الليل» ببياض الصبح، «ويشفع لي» ب «يغري بي».
وحكى ابن جني قال: حدثني المتبني وقت القراءة قال قال لي ابن خزابة وزير كافوز: أعلمت أني أحضرت كتبي كلها، وجماعة من أهل الأدب يطلبون من أين أخذت هذا المعنى، فلم يظفروا به! وكان أكثر من رأيت كتبا.
__________
(1) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 41، وأساس البلاغة (عزب)، وبلا نسبة في تاج العروس (عزب).
(2) البيت ليس في ديوان قيس بن ذريح، وهو لابن الدمينة في ديوانه ص 88، وأساس البلاغة (هرر)، والأغاني 17/ 105.
(3) يروى البيت الأولى:
ألا أيها الليل الذي طال أصبح ... ببمّ وما الإصباح فيك بأروح
وهو للطرماح في ديوانه ص 96، ولسان العرب (بمم)، وتاج العروس (بمم). وديوان المعاني 1/ 346، وزهر الآداب ص 748، ومعجم البلدان (بمّ)، ومعجم ما استعجم 1/ 279.
(4) البيتان في ديوان ابن المعتز 1/ 77.
(5) البيت في ديوان المتنبي 1/ 161.(2/54)
قال ابن جني: ثم إنيّ عثرت على الموضع الذي أخذ منه، فوجدته لابن المعتز مصراعا بلفظ [ليّن] صغير [جدّا] جرى فيه معنى بيت المتنبي كله على جزالة لفظه وحسن تقسيمه وهو: [البسيط]
* فالشّمس نمّامة والليل قواد *
قال: الثعالبي إما أن يكون ألمّ به فحسّنه وزينه، فصار أولى به، أو عثر على الموضع الذي عثر عليه ابن المعتز فأربى عليه في جودة أخذه، وأن يكون قد افترع المعنى وابتدعه، فلله درّه! وناهيك بشرف لفظه وبراعة نسجه!
قال: ولبعض أهل العصر بيت يجمع خمس مطابقات ولا يستقل إلا بإنشاد بيتين قبله وهو: [الطويل]
عذيري من الأيام مدّت صروفها ... إلى وجه من أهوى يد المسخ والمحو
وأبدت برأسي طالعات أرى بها ... سهام أبي يحيى مسدّدة نحوي
فذاك سواد الخط ينهى عن الهوى ... وهذا بياض الوخط يأمر بالصّحو
وقال ابن رشيق: [الخفيف]
أيّها الليل طر بغير جناح ... ليس للعين راحة في الصّباح
كيف لا أبغض الصّباح وفيه ... بان عني أولو الوجوه الصّباح
وقال المتنبي: [الطويل]
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبّر أن المانويّة تكذب (1)
وقاك أذى الأعداء تسري إليهم ... وزارك فيه ذو الدّلال المحجّب
المانويّة هم الثّنويّة، وهم الذين يقولون: إن الخير كله من النور، والشّر كله من الظلام، فكذّبهم بأن وجد الخبر في الظلام حيث ستره من أعدائه، ووقاه شرّهم، وكان عونا على زيارة حبّه، ووجد الضدّ في النور، وهذا كله يجري في نمط بيت الحريري.
* * * قال: فلما سمع ربّ البيت قريضه وسجعه، واستملح تقريظه وسبعه، بوّأه مهاد كرامته، وصدّره على تكرمته. ثمّ استحضر عشر صحاف من الغرب، فيها حلواء القند والضّرب وقال له:
لا يستوي أصحاب النّار وأصحاب الجنّة، ولا يسع أن يجعل البريء كذي
__________
(1) البيتان في ديوان المتنبي 1/ 178، 179.(2/55)
الظّنّة، وهذه الآنية تتنزّل منزلة الأبرار، في صون الأسرار، فلا تولها الإبعاد، ولا تلحق هودا بعاد.
* * * قوله: «قريضة» أي شعره، وتقدّم السجع.
تقريظه وسبعه: المدح والذمّ، ويقال: سبعه يسبعه، إذا رماه بقبيح، من قولهم:
سبعت الذئب إذا رميته، وقيل: معنى سبعت قلت له قولا غمّه وذعر منه، ويقال: سبعت الوحش: ذعرتها، والأسد أفزعته.
بوّأه: أنزله، مهاد: فراش. صدّره: قدّمه وأجلسه في صدر وسادته.
التكرمة: الوسادة وما يجلس الضيف المكرم عليه ودخل عمر على سلمان رضي الله عنهما فألقى له وسادة. فقال: ما هذا يا أبا عبد الله؟ قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقوله: «ما من امرئ مسلم يدخل عليه أخوه المسلم، فيلقي إليه وسادة إكراما له وإعظاما، إلّا غفر الله تعالى له».
قوله: «استحضر»: أمر بإحضارها. الغرب: نوع من الخشب كريم. القند: عصارة قصب السكر. والضرب: العسل الأبيض.
الظّنة: التّهمة، أراد بالبريء آنية الغرب، وبالمتّهم جام الزجاج.
والأبرار: الأخيار. صون: حفظ. تولها: تلصق بها.
عاد: قوم هود، وأراد: لا تساو بين هود وهو مؤمن، وبين قومه وهم كفّار، فهم أضداد كالبريء والمتهم فقد خرج من نوعهم، وإن كانت جنسية الآدمية والقرابة تجمعهم، وكذلك الزجاج والغرب يجتمعان في الآنية والوعاء، ويختلفان في الاحتواء على ما فيهما من الإخفاء والإظهار.
* * * [هود عليه السلام وقومه]
وهو هود بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وعاد هو ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وكانوا أهل أوثان ثلاثة يعبدونها من دون الله، وكانوا ثلاث عشرة قبيلة باليمن، فدعاهم هود إلى عبادة الله تعالى، فكذّبوه وعصوه، وكانوا جبابرة أقوياء، طول الرجل منهم مائة ذراع، وطول أقصرهم ستون ذراعا، قال الله تعالى: {وَزََادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً} [الأعراف: 69]. أي عظما وطولا وقوة وشدة، وعظهم هود عليه الصلاة والسلام، وقال لهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 28] الآية، فكان جوابهم أن قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنََّا قُوَّةً} [فصلت: 65]، وقالوا: {سَوََاءٌ عَلَيْنََا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ}
{تَكُنْ مِنَ الْوََاعِظِينَ} [الشعراء: 136]. وقالوا: {يََا هُودُ مََا جِئْتَنََا بِبَيِّنَةٍ وَمََا نَحْنُ بِتََارِكِي آلِهَتِنََا عَنْ قَوْلِكَ وَمََا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 53] الآيات، واستكبروا ولم يؤمنوا، فحبس عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا.(2/56)
وهو هود بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وعاد هو ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وكانوا أهل أوثان ثلاثة يعبدونها من دون الله، وكانوا ثلاث عشرة قبيلة باليمن، فدعاهم هود إلى عبادة الله تعالى، فكذّبوه وعصوه، وكانوا جبابرة أقوياء، طول الرجل منهم مائة ذراع، وطول أقصرهم ستون ذراعا، قال الله تعالى: {وَزََادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً} [الأعراف: 69]. أي عظما وطولا وقوة وشدة، وعظهم هود عليه الصلاة والسلام، وقال لهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 28] الآية، فكان جوابهم أن قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنََّا قُوَّةً} [فصلت: 65]، وقالوا: {سَوََاءٌ عَلَيْنََا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ}
{تَكُنْ مِنَ الْوََاعِظِينَ} [الشعراء: 136]. وقالوا: {يََا هُودُ مََا جِئْتَنََا بِبَيِّنَةٍ وَمََا نَحْنُ بِتََارِكِي آلِهَتِنََا عَنْ قَوْلِكَ وَمََا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 53] الآيات، واستكبروا ولم يؤمنوا، فحبس عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا.
فأوفدوا وفدا يستسقون لهم، فبعثوا قيل بن عنز، ونعيم بن هزّال، ومرثد بن سعد، وكنيته أبو سعد، وجهلمة بن الخبيريّ، ولقمان بن عاد، ومع كلّ رجل منهم رهط من قومه، فلما قربوا من مكة نزلوا على معاوية بن بكر العقيليّ وكانوا أخوالا له وصهراء فأنزلهم وأكرمهم شهرا، يشربون الخمر وتغنّيهم قينتان له يقال لهما:
الجرادتان. فلما رأى معاوية طول مقامهم عنده وقد بعثهم قومهم للبلاء الّذي نزل بهم شقّ عليه ذلك، وقال: هلك أصهاري وأخوالي، والله ما أدري ما أصنع بهم! وإني أستحي أن آمر بالخروج من عندي فيظنون أنه ضاق بي مقامهم عندي، فقال شعرا وأعطاه للجرادتين فغنّتاهم به، وهو: [الوافر]
ألا يا قيل ويحك قم فهيم ... لعلّ الله يصبحنا غماما (1)
فيسقي أرض عاد إنّ عادا ... قد امسوا لا يبينون الكلاما
وإنّ الوحش تأتيهم جهارا ... فلا تخشى لعاديهم سهاما
وأنتم هاهنا فيم اشتهيتم ... نهاركم وليلكم التّماما
فقبّح وفدكم من وفد قوم ... ولا لقّوا التحيّة والسلاما
فقال بعضهم لبعض: إنما بعثكم قومكم لما نزل بهم، فادخلوا الحرم. فاستسقوا، فقال مرثد بن سعد: والله لا تسقون حتى تطيعوا نبيكم، فقال له جهلمة: [الوافر]
أبا سعد وإنّك من قبيل ... ذوي كرم وإنّك من ثمود
أتأمرنا لنترك دين رفد ... وزمل آل صدّ والوفود
ونترك دين آباء كرام ... ذوي رأي ونتبع دين هود!
فإنّا لا نطيعك ما بقينا ... ولسنا فاعلين لما تريد
ثم قال لمعاوية: امسك مرثدا عنا، لا يدخلنّ مكة معنا وهو على دين هود.
فدخلوا مكة، وخرج مرثد، فأدركهم قبل أن يدعوا، فقال: اللهمّ لا تدخلني في شيء ممّا يدعوك به وفد عاد.
وقيل: قال: اللهمّ إن كان هود صادقا فاسقنا، فقد هلكنا، فأنشأ الله سحائب ثلاثا:
بيضاء، وحمراء وسوداء، ونودي من السحائب: يا قيل، اختر لنفسك ولقومك، قال:
لقد اخترت السّحابة بالسوداء، لأنها أكثر السحاب ماء فنودي: اخترت رمادا رمددا، لا
__________
(1) البيت الأول بلا نسبة في كتاب العين 4/ 60.(2/57)
يبقي من عاد أحدا، فساق الله سبحانه وتعالى السحابة السوداء إلى عاد فاستبشروا، وقالوا: هذا عارض ممطرنا، فسخرت عليهم سبع ليال ريح صرصر، فلم تدع منهم أحدا إلّا هلك.
ولما خرجت الريح عليهم، قال سبعة منهمّ: تعالوا نقف على شفير الوادي فثردّها، فجعلت الريح تأخذ الواحد منهم فترميه حتى يدقّ عنقه، فتركتهم كما قال الله تعالى:
{كَأَنَّهُمْ أَعْجََازُ نَخْلٍ خََاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]. واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبهم منها إلا نسيم يلين البشرة، وتلذّه الأنفس، وإنها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء والأرض.
ورجع وفد عاد، فنزلوا على معاوية، فأتاهم راكب على ناقة في الليلة الثالثة من مصابهم، فأخبرهم الخبر، فقالوا: وأين فارقت هود؟ فقال: بساحل البحر، وخيّروا حين دعوا بمكة لأنفسهم، فقال لقمان: يا ربّ أعطني عمرا، فعمّره الله عمر سبعة أنسر، يأخذ الفرخ إذا خرج من بيضته فيغذّيه حتى يموت، ثم يأخذ آخر حتى بقي السابع، فقال له ابن أخيه: ما بقي من عمرك؟ قال: عمر هذا النّسر، وهو لبد ولبد بلسانهم الدّهر.
فلما لم يستطع لبد النهوض مع النسور، أيقن لقمان بالموت، فماتا جميعا.
واختار قبل أن يصيبه ما أصاب قومه، فاقتلعته الريح فقتلته.
وقال مرثد: يا رب أعطني برّا وصدقا وعمر هود، فعمّر مائة وخمسين سنة.
* * * ثمّ أمر خادمه بنقلها إلى مثواه، ليحكم فيها بما يهواه.
فأقبل علينا أبو زيد، وقال: اقرؤوا سورة الفتح، وأبشروا باندمال القرح فقد جبر الله ثكلكم، وسنّى أكلكم، وجمع في ظلّ الحلواء شملكم، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
ولمّا همّ بالانصراف، مال إلى استهداء الصّحاف، فقال للآدب: إن من دلائل الظّرف، سماحة المهدي بالظّرف، فقال: كلاهما لك والغلام، فاحذف الكلام، وانهض بسلام. فوثب في الجواب، وشكر شكر الرّوض للسّحاب.
* * * قوله: «مثواه»، أي منزله. وقال: اقرؤوا سورة الفتح، أي لأن الله سبحانه وتعالى قد فتح عليكم. اندمال القرح: الجرح. جبر: أصلح. ثكلكم: حزنكم على فقدكم الحلواء بسببي، والحلواء: كل طعام عولج بحلاوة، وتمدّ وتقصر. شملكم: عددكم المفترق. وفي معنى الآية قال بعضهم: [الكامل](2/58)
لا تكره المكروه عند نزوله ... إنّ المكاره لم تزل متباينه
كم من يد لا تستقلّ بشكرها ... لله في طيّ المكاره كامنه
الآدب: صاحب العرس.
الظّرف: جودة الرأي. الأصمعي وابن الأعرابيّ: الظّريف: البليغ الجيّد الكلام، وقالا: الظرف في اللسان، واحتجّا بقول عمر رضي الله عنه أنه إذا كان الرجل ظريفا لم يقطع، أي إذا كان بليغا احتجّ عن نفسه بما يسقط عنه الحد، قال الكسائيّ رحمه الله تعالى وفي الوجه، يقال لسان ظريف ووجه ظريف. غيره: الظريف الحسن الوجه والهيئة.
المهدي: مرسل الهدية، والظّرف: الوعاء. احذف: اقطع بعضه. انهض: تقدّم.
وثب: بالغ وعجّل جوابه. الرّوض: موضع العشب والأنوار.
* * * ثمّ اقتادنا أبو زيد إلى حوائه، وحكمنا في حلوائه، وجعل يقلّب الأواني بيده، ويفضّ عددها على عدده، ثمّ قال: لست أدري أأشكو ذلك النّمّام أم أشكر، وأتناسى فعلته الّتي فعلها أم أذكر، فإنّه وإن كان أسلف الجريمة، ونمنم النّميمة، فمن غيمه انهلّت هذه الدّيمة، وبسيفه انحازت لي هذه الغنيمة. وقد خطر ببالي، أن أرجع إلى أشبالي، وأقنع بما تسنّى لي، وألّا أتعب نفسي ولا أجمالي، وأنا أودّعكم وادع محافظ، واستودعكم خبر حافظ.
ثم استوى على راحلته، راجعا في حافرته، ولاويا إلى زافرته.
فغادرنا بعد أن وخدت عنسه، وزايلنا أنسه، كدست غاب عنه صدره، أو ليل أفل بدره.
* * * حواؤه: موضعه، والحواء: أخبية قريب بعضها من بعض، ويفضّ: يفرّق. وأسلف الجريمة: قدّم الذنب. نمنم: زيّن، والنمنمة: النقش. غيمه: سحابة. انهلّت: سالت.
الدّيمة: العطية هنا، وانظر معنى هذا الشك الطارىء عليه في السابعة والعشرين في قوله:
[الرمل]
* يا أخي الحامل ضيمي *
محافظ: راع للمودة. أستودعكم: أترككم وديعة في يده. خير حافظ: هو الله سبحانه وتعالى يشير لقوله تعالى: {فَاللََّهُ خَيْرٌ حََافِظاً} [يوسف: 64]. استوى عليها، أي
ركبها، وقال في الدّرة: الراحلة تقع على الجمل والناقة، والهاء فيها للمبالغة. كالتي في داهية وراوية، وسمّيت راحلة لأنها ترحل، أي يشد عليها الرّحل، فهي فاعلة بمعنى مفعولة، كما جاء في التنزيل: {عِيشَةٍ رََاضِيَةٍ} [الحاقة: 21]، بمعنى مرضية، و {لََا عََاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللََّهِ} [هود: 43]، أي لا معصوم، و {مِنْ مََاءٍ دََافِقٍ} [الطارق: 6] أي مدفوق، و {حَرَماً آمِناً} [القصص: 57] أي مأمونا، كما جاء مفعول بمعنى فاعل في قوله تعالى: {حِجََاباً مَسْتُوراً} [الإسراء: 45] أي ساترا، {كََانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا}
[مريم: 51]، أي آتيا.(2/59)
* يا أخي الحامل ضيمي *
محافظ: راع للمودة. أستودعكم: أترككم وديعة في يده. خير حافظ: هو الله سبحانه وتعالى يشير لقوله تعالى: {فَاللََّهُ خَيْرٌ حََافِظاً} [يوسف: 64]. استوى عليها، أي
ركبها، وقال في الدّرة: الراحلة تقع على الجمل والناقة، والهاء فيها للمبالغة. كالتي في داهية وراوية، وسمّيت راحلة لأنها ترحل، أي يشد عليها الرّحل، فهي فاعلة بمعنى مفعولة، كما جاء في التنزيل: {عِيشَةٍ رََاضِيَةٍ} [الحاقة: 21]، بمعنى مرضية، و {لََا عََاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللََّهِ} [هود: 43]، أي لا معصوم، و {مِنْ مََاءٍ دََافِقٍ} [الطارق: 6] أي مدفوق، و {حَرَماً آمِناً} [القصص: 57] أي مأمونا، كما جاء مفعول بمعنى فاعل في قوله تعالى: {حِجََاباً مَسْتُوراً} [الإسراء: 45] أي ساترا، {كََانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا}
[مريم: 51]، أي آتيا.
في حافرته: في الطريق الذي جاء منه. لاويا: عاطفا. زافرته: قرابته. وخدت:
أسرعت. عنسه: ناقته الصلبة، ومنه عنست المرأة، إذا طال مكثها لا تتزوج. زايلنا:
فارقنا. دست: مجلس. صدره: أعيانه. أفل: غاب.(2/60)
المقامة التاسعة عشرة وهي النّصيبيّة
روى الحارث بن همّام، قال: أمحل العراق ذات العويم، لإخلاف أنواء الغيم، وتحدّث الرّكبان بريف نصيبين، وبلهنية أهلها المخصبين.
* * * أمحل: أجدب، أي لم ينزل فيه مطر. إخلاف الأنواء، يريد النجوم التي من عادتها أن تطلع بالمطر، وأخلفت: لم تجىء بمطر. الركبان: أهل الأسفار. ريف: خصب.
* * * [مدينة نصيبين]
نصيبين مدينة ديار ربيعة العظمى، وهي مطلّة على جبل الجوديّ الذي استوت سفينة سيدنا نوح عليه الصلاة والسلام عليه، وهو جبل عال مستطيل.
أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «زويت لي الأرض، فرأيت مدينة أعجبتني، فقلت: يا جبريل، أيّ مدينة هذه؟ قال: نصيبين، فقلت: اللهمّ عجّل فتحها».
قال اليعقوبيّ: هي مدينة عظيمة كثير الأنهار والجنّات والبساتين، ولها نهر عظيم يقال له الهرماس، عليه قناطر حجارة قديمة روميّة، وأهلها قوم من ربيعة من بني تغلب، افتتحها غنم بن عياض في خلافة عمر رضي الله عنهما سنة ثمان عشرة.
قال شيخنا ابن جبير: مدينة نصيبين شهيرة العتاقة والقدم، ظاهرها شباب، وباطنها هرم، جميلة المنظر، متوسطة بين الكبر والصّغر، أمامها وخلفها بسيط أخضر مدّ البصر، قد أجرى الله فيه مذانب من الماء تسقيه، وتطرّد في نواحيه، وتحفّ بها عن يمين وشمال بساتين ملتفّة الأشجار، يانعة الثمار. وينساب بين يديها نهر قد انعطف عليها انعطاف السّوار، والحدائق، تنتظم حافتيه، وتفيء ظلالها الوارفة عليه، فرحم الله أبا نواس حيث يقول: [البسيط]
طابت نصبيين لي يوما فطبت لها ... ليت حظّي من الدنيا نصيبين
فخارجها رياضيّ الشمائل، أندلسي الخمائل، برق نضارة وغضارة، ويأتلق عليه رونق الحضارة. وداخلها شعث البادية بادية عليه، فلا مطمح للبصر إليه، لا تجد العين
فيه فسحة مجال، ولا مسحة جمال. وهذا النهر ينساب إليها من عين معينة، منبعها بجبل قريب منها، تنقسم منها مذانب تخترق بسائطها وعمائرها، ويتخلّل البلد منها جزء يفترق على شوارعها، ويلج في بعض ديارها، ويخترق جامعها منه ميزاب ينصبّ في صهريجين، أحدهما وسط الصحن، والآخر عند الباب الشرقي، ويفضي إلى سقايتين حول الجامع. وعلى النّهر جسر معقود من صمّ الحجارة، متّصل بباب المدينة القبلي، وفيها مدرستان ومارستان واحد.(2/61)
طابت نصبيين لي يوما فطبت لها ... ليت حظّي من الدنيا نصيبين
فخارجها رياضيّ الشمائل، أندلسي الخمائل، برق نضارة وغضارة، ويأتلق عليه رونق الحضارة. وداخلها شعث البادية بادية عليه، فلا مطمح للبصر إليه، لا تجد العين
فيه فسحة مجال، ولا مسحة جمال. وهذا النهر ينساب إليها من عين معينة، منبعها بجبل قريب منها، تنقسم منها مذانب تخترق بسائطها وعمائرها، ويتخلّل البلد منها جزء يفترق على شوارعها، ويلج في بعض ديارها، ويخترق جامعها منه ميزاب ينصبّ في صهريجين، أحدهما وسط الصحن، والآخر عند الباب الشرقي، ويفضي إلى سقايتين حول الجامع. وعلى النّهر جسر معقود من صمّ الحجارة، متّصل بباب المدينة القبلي، وفيها مدرستان ومارستان واحد.
* * * قوله: وبلهنية أهلها المخصين، البلهنية: رخاء العيش.
[مما قيل في وصف الرياض شعرا]
ونريد أن نصل ما نذكره من خصب نصيبين بأشعار مستحسنة في أوصاف الرياض تقع كالصفة لها، قال إبراهيم بن العباس الكاتب: [المتقارب]
تأمل سماء أظلّت علي ... ك فيها مصابيحها تزهر
وأرضا تقابلها بالعرو ... س والمرج بينهما جعفر
ومسحب نور غداة بالربي ... ع أنفاسه المسك والعنبر
خلال شقائقه أصفر ... وأضعاف أصفره أحمر
والماء مطّرد بينها ... يضيق بآذيّه المصدر
وللنّاطقات بأكنافه ... دواعي اشتياق ومستعبر
يشارفه البرّ من جانب ... ومن جانب بحره الأخضر
مجال وحوش ومرسى سفين ... فيا عذب لهو ويا منظر
ويا حسن دنيا ويا عز ملك ... يسوسهم الملك الأكبر
إمام به أمر الآمرو ... ن بالعرف واستنكر المنكر
وأنشد السيرافي: [الطويل]
ومجلس فتيان إلى جنب حافة ... بقطر بلّ بين الرّياض الحدائق
تناصي ميادينا له أحدقت به ... مواخرها موصولة بالجواسق
وحفّ بريحان وكرم معرّش ... ونهر وأشجار ونخل بواسق
وورد ونسرين وآس وسوسن ... أفاطيره محفوفة بالشّقائق
تزخرف بالنّوار حتى كأنما ... به جنّة محفوفة بالنّمارق
وقال كشاجم: [البسيط]
وروضة صنّف النّوار جوهره ... فيها فما شئت من حسن ومن طيب
كأنّ ما تجتنيه من زخارفها ... أخلاق مستحسن الأخلاق محبوب ... ما انفكّ للعين فيها أعين ذرف ... تبكي بدمع من الأنواء مسكوب
حستّي كأنّ أفانين النبات بها ... على الميادين ألوان اليعاسيب
كان غدرانها بالرّوض محدقة ... تحبير ثوب من الموشيّ منصوب
ولتميم بن المعتز: [الطويل](2/62)
وروضة صنّف النّوار جوهره ... فيها فما شئت من حسن ومن طيب
كأنّ ما تجتنيه من زخارفها ... أخلاق مستحسن الأخلاق محبوب ... ما انفكّ للعين فيها أعين ذرف ... تبكي بدمع من الأنواء مسكوب
حستّي كأنّ أفانين النبات بها ... على الميادين ألوان اليعاسيب
كان غدرانها بالرّوض محدقة ... تحبير ثوب من الموشيّ منصوب
ولتميم بن المعتز: [الطويل]
وقاذفة بالماء في وسط بركة ... قد التحفت لحاف في الظّلّ سجسجا
إذا اقذفت بالماء سلته منصلا ... وعاد عليها ذلك النّصل هودجا
تحاول إدراك النجوم بقذفها ... كأنّ لها قلبا على الجوّ محرجا
لدى روضة جاد السّحاب ربوعها ... فزخرفها بين الرياض ودبّجا
على نرجس غضّ يلاحظ سوسنا ... وآس ربيعيّ يناغي بنفسجا
كأن غصون الأقحوان زمرّد ... تعمّم بالكافور ثم تتوّجا
ونوار نسرين كأنّ نسيمه ... من المسك في جوّ السماء تأرّجا
قال أبو البحتري: تعرضت لأبي فحمة وكان مجنونا ببغداد له بديهة حسنة، فقلت له: كيف أنت يا أبا فحمة؟ فأنشأ يقول: [الكامل]
أصبحت منك على شفا جرف ... متعرّضا لموارد التّلف
وأراك نحوي غير ملتفت ... متحرّفا عن غير منحرف
يا من أطال بهجره كلفي ... أسفي عليك أشدّ من كلفي
فأخرجت قبضة نرجس من كمي، فأخذها وشمّها مليا، وأنشأ يقول:
لما تزوّجت الجنوب بهاطل ... حون هتون زبرج دلّاح
أضحى يلقّحها بوسميّ الصبّا ... فاستثقلت حملا بغير نكاح
حتى إذا حان المخاض تفجّرت ... فأتت بولدان بلا أرواح
حاك الربيع لها ثيابا وشّيت ... بيد النّدى وأنامل الأرواح
من أصفر في أزهر قد زانه ... تبر على ورق من الأوضاح
ركّبن في عقد الزّبرجد فاغتدى ... نحو الغزالة ناظرا بملاح
* * *
[فصل أشعار المجانين]
ويتصل بهذه الحكاية فصل في ذكر ما يستحسن من أشعار المجانين، فإن أبا محمد ذكر في هذه المقامة المصابين، وذكر المجانين في غيرها، لئلا يخلّ بما شرطنا. قال
بعض الأدباء: كان رجل من أهل الأدب، قد ذهب عقله بالمحبّة، [وخلفه دابة تدور معه، فاستوقفته] وقلت له: يا أبا فلان، ما حالك، وأين النعمة؟ قال: تغيّر قلبي بالحبّ فتغيرت النعمة، ثم بكى وأنشأ يقول: [البسيط](2/63)
ويتصل بهذه الحكاية فصل في ذكر ما يستحسن من أشعار المجانين، فإن أبا محمد ذكر في هذه المقامة المصابين، وذكر المجانين في غيرها، لئلا يخلّ بما شرطنا. قال
بعض الأدباء: كان رجل من أهل الأدب، قد ذهب عقله بالمحبّة، [وخلفه دابة تدور معه، فاستوقفته] وقلت له: يا أبا فلان، ما حالك، وأين النعمة؟ قال: تغيّر قلبي بالحبّ فتغيرت النعمة، ثم بكى وأنشأ يقول: [البسيط]
أرى التجمّل شيئا لست أحسنه ... وكيف أخفى الهوى والدّمع يعلنه
أم كيف صبر محبّ قلبه دنف ... الشوق ينحله والهجر يحزنه
وإنه حين لا وصل يساعفه ... يهوى السلوّ، ولكن ليس يمكنه
وكيف ينسى الهوى من أنت فتنته ... وفترة اللحظ من عينيك تفتنه
فقلت: أحسنت والله، فقال: قف قليلا، فو الله لأطرحنّ في أذنيك أدبا أثفل من الرصاص، وأخفّ على الفؤاد من ريش النعام، فوقفت، فأنشد: [البسيط]
للحبّ نار على قلبي مضرّمة ... لم تبلغ النّار منها عشر معشار
الماء ينبع منها في محاجرنا ... يا للرّجال لماء فاض من نار!
وأنشد أيضا: [المتقارب]
أعاد الصدود فأحيا الغليلا ... وأبدى الجفاء فصبرا جميلا
وأحسب نفسي على ما ترى ... ستلقى من المهجر غمّا طويلا
وأحسب قلبي على ما بدا ... سيذهب مني قليلا قليلا
قال الحسن بن هانىء: رأيت مانيا الموسوس فأنشدني: [الخفيف]
شعر حيّ أتاك من لفظ ميت ... صار بين الحياة والموت وقفا
قد برت جسمه الحوادث حتّى ... كاد عن أعين البريّة يخفى
لو تأمّلتني لتبصر شخصي ... لم تبيّن من المحاسن حرفا
ثم أتيت جعيفران الموسوس، وهو شيخ كبير من بني هاشم، عليه قطيفة، وفي عنقه غلّ من ذهب، فقال: من أين جئت يا حسن؟ فقلت: من بيت مانوية: فقال: في حر أم مانوية! وقال لي اكتب: [البسيط]
ما غرّد الديك ليلا في تنبّهه ... إلا حثثت إليك السّير مجهودا
ولا هدت كلّ عين لذّ راقدها ... بنومة في لذيذ العيش ممهودا
إلا امتطيت الدّجى شوقا إليك ولو ... أصبحت في حلق الأقياد مصفودا
أسعى مخاطرة بالنّفس يا أملي ... والليل مدّرع أثوابه السّودا
فلم ترقّ ولم ترث لذي دنف ... زودته حرقات القلب تزويدا
هيهات لا غدر في جنّ ولا بشر ... من الخلائق إلا فيك موجودا
ثم قال لي: خرّق رقعة مانويّة، فخرقنها، ثم مضيت فلقيت عرددا المصاب، وحوله الصبيان، وهو يلطم وجهه، ويقول: يأيها الناس، الفراق مرّ المذاق، فقلت: يا أبا محمد، من أين أقبلت؟ فقال شيّعت الحاجّ إذ كان لي فيهم سكّن، وقلت في ذلك:(2/64)
ما غرّد الديك ليلا في تنبّهه ... إلا حثثت إليك السّير مجهودا
ولا هدت كلّ عين لذّ راقدها ... بنومة في لذيذ العيش ممهودا
إلا امتطيت الدّجى شوقا إليك ولو ... أصبحت في حلق الأقياد مصفودا
أسعى مخاطرة بالنّفس يا أملي ... والليل مدّرع أثوابه السّودا
فلم ترقّ ولم ترث لذي دنف ... زودته حرقات القلب تزويدا
هيهات لا غدر في جنّ ولا بشر ... من الخلائق إلا فيك موجودا
ثم قال لي: خرّق رقعة مانويّة، فخرقنها، ثم مضيت فلقيت عرددا المصاب، وحوله الصبيان، وهو يلطم وجهه، ويقول: يأيها الناس، الفراق مرّ المذاق، فقلت: يا أبا محمد، من أين أقبلت؟ فقال شيّعت الحاجّ إذ كان لي فيهم سكّن، وقلت في ذلك:
[الطويل]
هم ارحلوا يوم الخميس غدّيّة ... وودعتهم لمّا استقلّوا وودّعوا
فلما تولّوا ولّت النّفس معهم ... فقلت: ارجعي قالت: إلى أين أرجع؟
إلى جسد ما فيه لحم ولا دم ... وما هو إلّا أعظم تتقعقع
وعينان قد أعماهما الحزن والبكا ... وأذن عصت عذّالها ليس تسمع
وجعيفران من مجانين الكوفة، أعطاه رجل درهما، وقال له: قل شعرا على قافية الجيم، فقال بديها: [مجزوء الخفيف]
عادني الهمّ فاعتلج ... كلّ همّ إلى فرج
سلّ عنك الهموم بال ... كأس والراح تنفرج
وهو القائل: [المجتث]
ما جعفر لأبيه ... ولا له بشبيه
أضحى لقوم كثير ... فكلّهم يدّعيه
هذا يقول بنيّي ... وذا يخاصم فيه
والأمّ تضحك منهم ... لعلمها بأبيه
وقال ماني: [البسيط]
من الظّباء ظباء عمّها السّحب ... وحليها الدّرّ والياقوت والذّهب
يا حسن ما سرقت عيني وما انتهبت ... والعين تسرق أحيانا، وتنتهب
إذا يد سرقت فالحدّ يقطعها ... والحدّ في سرق العين لا يجب
وله أيضا: [الطويل]
له وجنات في بياض وحمرة ... فحافاتها بيض وأوساطها حمر
رقاق يجول الماء فيها كأنّها ... زجاج أجيلت في جوانبها الخمر
وأشعار المجانين في هذا الباب أكثر من أن تحصى.
* * * فاقتعدت مهريّا، واعتقلت سمهريّا، وسرت تلفظني أرض إلى أرض، ويجذبني رفع من خفض، حتّى بلغتها نقضا على نقض. فلمّا أنخت بمغناها
الخصيب، وضربت في مرعاها بنصيب، نويت أن ألقي بها جراني، وأتّخذ أهلها جيراني، إلى أن تحيا السّنة الجماد، وتتعهّد أرض قومي العهاد، فوالله ما تمضمضت مقلتي بنومها، ولا تمخّضت ليلتي عن يومها، دون أن ألفيت أبا زيد السّروجيّ يجول في أرجاء نصيبين، ويخبط بها خبط المصابين والمصيبين، وهو ينثر من فيه الدّرر، ويحتلب بكفّيه الدّرر. فوجدت بها جهادي قد حاز مغما، وقدحي الفذّ قد صار توأما، ولم أزل أتبع ظلّه أينما انبعث، وألتقطّ لفظه كلّما نفت، إلى أن عراه مرض امتدّ مداه، وعرقته مداه، حتى كاد يسلبه المحيا، ويسلمه إلى أبي يحيى.(2/65)
* * * فاقتعدت مهريّا، واعتقلت سمهريّا، وسرت تلفظني أرض إلى أرض، ويجذبني رفع من خفض، حتّى بلغتها نقضا على نقض. فلمّا أنخت بمغناها
الخصيب، وضربت في مرعاها بنصيب، نويت أن ألقي بها جراني، وأتّخذ أهلها جيراني، إلى أن تحيا السّنة الجماد، وتتعهّد أرض قومي العهاد، فوالله ما تمضمضت مقلتي بنومها، ولا تمخّضت ليلتي عن يومها، دون أن ألفيت أبا زيد السّروجيّ يجول في أرجاء نصيبين، ويخبط بها خبط المصابين والمصيبين، وهو ينثر من فيه الدّرر، ويحتلب بكفّيه الدّرر. فوجدت بها جهادي قد حاز مغما، وقدحي الفذّ قد صار توأما، ولم أزل أتبع ظلّه أينما انبعث، وألتقطّ لفظه كلّما نفت، إلى أن عراه مرض امتدّ مداه، وعرقته مداه، حتى كاد يسلبه المحيا، ويسلمه إلى أبي يحيى.
* * * قوله: «اقتعدت مهريّا»، أي ركبت بعيرا منسوبا إلى مهرة، قبيلة من قضاعة، إبلهم أنجب الإبل، زعموا أنه كان يلقّحها الوحش، وهي إبل متوحشّة صغار بيض، تكون بين عمان والشّحر، وتزعم العرب إنها إبل الجن لسرعتها، فبقيت أنسالها في بني مهرة. قال أبو عبيدة: المهريّة من الإبل تسير أربعمائة ميل كل يوم، ثم نسبت العرب إلى مهرة كل بعير نجيب.
اعتقلت: حبست، والاعتقال: أن تحبس الرّمح بين ركابك وساقك تلفظني:
ترميني. رفع: مرتفع: خفض: منخفض. يجذبني: يسوقني لنفسه. نقضا على نقض:
هزيل على هزيل وأخذ هذا اللفظ من قول أبي الشيص يصف شدّة السير: [الكامل]
أكل الوجيف لحومهم ولحومها ... فأتوك أنقاضا على أنقاض
ولقد أتتك على الزمان سواخطا ... فرجعن عنك وهنّ عنه رواضي
وقال حبيب في معناه: [الطويل]
وركب يساقون الرّكاب زجاجة ... من السّير لم تقصد لها كفّ قاطب (1)
وقد أكلوا منها الغوارب بالسرى ... وصارت لها أشباحهم كالغوارب
ولحبيب أيضا: [الطويل]
وركب كأمثال الأسنّة عرسّوا ... على مثلها والليل تسطو كواكبه (2)
على كلّ روّاد الملاط تهدّمت ... عريكته العلياء وانضمّ جانبه
رعته الفيافي بعد ما كان حقبة ... رعاها، وماء المزن ينهلّ ساكبه
__________
(1) البيتان في ديوان أبي تمام ص 41.
(2) الأبيات في ديوان أبي تمام ص 44.(2/66)
فكم جزع واد جبّ ذروة غارب ... وبالأمس كانت أتمكته مذائبه
قوله: «أنخت» بركت. مغناها: موضع سكناها. نويت: قصدت. جراني صدري، والجران: باطن عنق البعير، يقول: لما أخذ نصيبا في مرعاها، أضمر أن يقيم بها ريثما يأتي أرضه المطر. الجماد: التي لا مطر فيها. تتعهد: تتفقّد وتزور. العهاد. كثرة المطر.
وتمضمضت العين بالنوم، إذا خالطها ودبّ فيها، وتمخّضت المرأة: أضرّ بها وجع الولادة، وتقول: تمخّضت المرأة عن زوجها إذا حملت بالولد عنه، وتمخضت بولدها إذا تحرّكت به ودنت ولادتها، وإذا استعير هذا المعنى لليلة صار تمخّضها عن اليوم السابق لها، كأن اليوم ألقي في الليلة ما كان فيه من الحيوان فتحرّكت به فيريد أنه لم ينقص يومي الذي وردت فيه نصيبين حتى وجدت فيه أبا زيد قبل أن أدخل في ليلتي، ولأجل هذا قال قبل هذا: تمخّضت مقلتي بنومها، أراد أنه لقيه قبل الليلة التي ينام فيها، ولو قال: تمخضّت بيومها للزم أن يكون اليوم الذي يأتي بعدها، كأنّها كانت تحمله فتلده إذا طلع صبحه من حيث إنه متصل بها، ولو جعلت «عن» بمعنى الباء لانقلب إلى هذا المعنى، وإنما دل الكلام على صحة المعنى الأوّل، وأصله المخض بالتّحريك، ومنه:
مخضت اللبن مخضا، حرّكته لإخراج زبده، ومخضت المرأة وتمخّضت: تحرّك ولدها ليخرج، ثم يستعار ذلك للأيام وغيرها، فأما استعارة حمل الولد فكقول عمرو بن حسان في النعمان: [الوافر]
أجدّك هل رأيت أبا قبيس ... أطال بقاءه النّعم الرّكام (1)
تمخّضت المنون له بيوم ... أتى، ولكلّ حاملة تمام
النّعم الركام: الإبل الكثيرة، وصفّر قابوس، تصغير الترخيم، وجعل المنيّة حاملا باليوم الذي هلك فيه وجعل اليوم ولدها على جهة الاستعارة، وقال حبيب في معناه:
[البسيط]
حتى إذا مخّض الله السّنين لها ... مخض الحليبة كانت زبدة الحقب (2)
فهذه استعارة من مخض اللبن، أراد أن السنين تحرّكت لهذه البلدة، أي كانت تمرّ عليها فلا تنالها بمكروه حتى وجدها المسلمون كالزّبدة في حسنها ولذّتها فأكلوها باستباحة من فيها.
__________
(1) البيت الأول لعمرو بن حسان في لسان العرب (كثر)، (مخض)، (طوق)، والبيت الثاني لعمرو بن حسان في حاشية يس 2/ 286، وبلا نسبة في إصلاح المنطق ص 3، 342، والإنصاف 2/ 760، وجمهرة اللغة ص 608، وشرح عمدة الحافظ ص 736.
(2) البيت في ديوان أبي تمام ص 8.(2/67)
قوله: «ألفيت»، أي وجدت. يجول: يتصرّف. أرجاء: نواحي. يخبط: يسأل الناس، وأصل الخبط نفض ورق الشجر، ينض للإبل فيخزن ثم يدقّ لها في زمن الشّتاء، ويبلّ بالماء فتعلفه، ثم يستعار الخبط للمعروف، وقال زهير بن أبي سلمى: [البسيط]
وليس مانع ذي قربى وذي نسب ... يوما ولا معدما من خابط ورقا (1)
يقال: خبطت الرجل، أي سألته، وخبط الرجل بالأمر: لم يهتد لصوابه، والبعير:
ضرب بيده الأرض، والشيء: ضربته، والدابّة الأرض: شدّت وطأها، والشيطان الإنسان: صرعه.
قوله: «المصابين» أي المجانين. والمصيبين: الواجدين لما يطلبون، والمصيب أيضا ضدّ المخطىء، والمفعول مصاب، فيريد أنه يجول في نواحيها مسرعا كالمجنون، أو كالمتيقّن بوجود حاجته.
الدّرر: الجواهر، والدّرر: اللبان، أراد أنه يتكلم بكلام حسن فيأخذ به العطايا، قدحي الفذّ، أي سهمي المنفرد. توأما: زوجا، وأراد أنه كان منفردا فصار يأبى زيد زوجا. انبعث: نهض وتوجّه. نفث: نطق. عراه: قصده. امتدّ مداه، أي طالت مدته.
عرقته: أخذت لحمه. مداه: سكاكينه. بسلمه: يتركه، وأبو يحيى: كنية الموت، وقد تقدّم في المقامة قبل سهام أبي يحيى مسددة نحوي.
* * * [ثواب المريض]
أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من مات مريضا مات شهيدا، ووقي من فتنة القبر، وغدي وريح عليه برزقه من الجنة» (2).
وقال: «مرض يوم يكفّر ذنوب ثلاثين سنة» (3).
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الصداع والحمّى يصيب الإنسان وإن ذنوبه مثل أحد فما يفارقه حتى لا يدع من ذنوبه وزن خردلة».
أنس رضي الله تعالى عنه، قال: قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «المريض إذا برىء وصحّ
__________
(1) يروى صدر البيت:
وليس مانع ذي قربى ولا رحم
وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 53، ولسان العرب (خبط)، وتهذيب اللغة 2/ 251، 7/ 250، وجمهرة اللغة ص 291، وأساس البلاغة (خبط)، وتاج العروس (خبط)، وبلا نسبة في لسان العرب (عدم)، وتاج العروس (عدم).
(2) أخرجه ابن ماجه في الجنائز باب 62.
(3) أخرجه بنحوه الدارمي في الرقاق باب 56.(2/68)
من مرضه كان كمثل البردة تقع من السماء في صفاء لونها» (1).
* * * فوجدت لفوت لقياه، وانقطاع سقياه، ما يجده المبعد عن مرامه، والمرضع عند فطامه، ثمّ أرجف بأنّ رهنه قد غلق، ومخلب الحمام به قد علق، فقلق صحبه لإرجاف المرجفين، وانثالوا إلى عقوته موجفين: [المتقارب]
حيارى يميد بهم شجوهم ... كأنّهم ارتضعوا الخندريسا
أسالوا الغروب وعطّوا الجيوب ... وصكّوا الخدود وشجّوا الرؤوسا
يودّون لو سالمته المنون ... وغالت نفائسهم والنّفوسا
* * * قوله: «سقياه»، أي فوائده التي كان يسقيه بها. مرامه: حاجته. فطامه: قطعه عن الرضاع. أرجف: تحدث، والإرجاف: خوض الناس في الفتنة وحديثها. وغلق: كفّ، وكان من فعل الجاهلية أن يقول الراهن لمن يمسك رهنه: إن لم آتك إلى كذا فالرّهن لك فإن أتاه بالدّين بعد الأمد قال له: قد غلق الرهن.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يغلق الرهن، له غنمه وعليه غرمه» (2).
المخلب: ظفر الطائر الصائد. الحمام: المنون. انثالوا. انصبّوا واندفعوا. عقوته:
موضعه وأصلها فناء الدار.
موجفين: مسرعين. حيارى: جمع حيران، والحيرة: التردّد في الأمر وعدم التّهدّي له، قال الواثق:
لا يك السّقم ولكن كان بي ... وبنفسي وبأميّ وأبي
قيل لي إنك صدّعت فما ... خالطت سمعي حتى دير بي
وقال آخر:
أنا مذ خبرت بالعلّ ... ة والله عليل
ليت حمّاك بجسمي ... ولك العمر الطويل
يميد: يميل. شجوهم: حزنهم. الخندريس: الخمر. أسالوا الغروب: أجروا الدموع، والغربة: الفيضة من الدمع، والجمع غروب: عطوا: شقوا. صكّوا: لطموا:
__________
(1) أخرجه الترمذي في الطب باب 34.
(2) أخرجه ابن ماجه في الرهون باب 3، ومالك في الأقضية حديث 13.(2/69)
شجّوا: جرحوا. يودّون: يتمنّون. سالمته: تركته وصالحته، وأصله الصلح. المنون:
المنيّة. غالت: أهلكت. نفائسهم: كرائم أموالهم.
[مما قيل في عيادة المريض]
ونذكر هنا من الشعر ما يوافق هذا الموضع:
دخل أبو دهمان القيسيّ يوما على بعض الأمراء يعوده، فأنشده: [الطويل]
بأنفسنا لا بالطّوارف والتّلد ... نقيك الّذي تخفي من السّقم أو تبدي
بنا معشر العوّاد ما بك من أذى ... فإن أشفقوا ممّا أقول فبي وحدي
ودخل محمد بن عبد الله بن طاهر على المتوكل يعوده، فقال: [البسيط]
الله يدفع عن نفس الإمام لنا ... وكلّنا للمنايا دونه غرض
فليت أن الذي يعروه من مرض ... بالعائدين جميعا لا به المرض
ففي الإمام لنا من غيره عوض ... وليس في غيره منه لنا عوض
وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر: [الكامل]
أعزز عليّ بأن أراك عليلا ... أو أن يكون لك السّقام نزيلا
لوددت أني مالك لسلامتي ... فأعيرها لك بكرة وأصيلا
فتكون تبقى سالما لسلامتي ... وأكون ممّا قد عراك بديلا
هذا أخ لك يشتكي ما تشتكي ... وكذا الخليل إذا أحبّ خليلا
هذا الشعر على فتوره شرف بمنصب قائله.
وكان المعتصم أميّا لأن أباه هارون الرشيد ندبه في صغره للتعلّم فسمعه يوما يقول وقد مرّت به جنازة: ليتني مكانك ولا أرى هذا البلاء، فقال له: لا أندبك إلى شيء تتمنّى الموت من أجله فلهذا لم يكن له علم بالأدب كأخويه الأمين والمأمون.
ولأبي العباس المبرّد: [الخفيف]
يا عليل أفديك من ألم الع ... لّة هل لي إلى اللقاء سبيل
إنّ يحل دونك الحجاب فما يح ... جب عنّي وبك الضّنى والنّحول
ولأبي تمام في مالك بن طوق: [المنسرح]
ألبسك الله منه عافية ... في نومك المعترى وفي أرقك
يخرج من جسمك السّقام كما ... أخرج ذمّ الفعال من خلقك
ولابن عبد ربه: [البسيط]
يا من عليه حجاب من جلالته ... وإن بدا لك يوما غير محجوب
ما أنت وحدك مكسوّا ثياب ضنى ... بل كلّنا لك من مضنى ومشحوب
ألقى عليك يدا للضّرّ كاشفة ... كشاف ضرّ نبيّ الله أيوب
* * * قال الراوي: وكنت فيمن التفّ بأصحابه، وأغذّ إلى بابه، فلمّا انتهينا إلى فنائه، وتصدّينا لاستنشاء أنبائه، برز إلينا فتاه، مفترّة شفتاه، فاستطلعنا طلع الشّيخ في شكاته، وكنه قوى حركاته، فقال: قد كان في قبضة المرضة، وعركة الوعكة، إلى أن شفّه الدّنف واستشفّه التّلف، ثمّ منّ الله تعالى بتقوية ذمائه، فأفاق من إغمائه. فارجعوا أدراجكم، وانضوا انزعاجكم، فكأن قد غدا وراح، وساقاكم الرّاح. فأعظمنا بشراه، واقترحنا أن نراه، فدخل مؤذنا بنا، ثمّ خرج آذنا لنا، فلقينا منه لقى، ولسانا طلقا، وجلسنا محدقين بسريره، محدّقين إلى أساريره.(2/70)
يا من عليه حجاب من جلالته ... وإن بدا لك يوما غير محجوب
ما أنت وحدك مكسوّا ثياب ضنى ... بل كلّنا لك من مضنى ومشحوب
ألقى عليك يدا للضّرّ كاشفة ... كشاف ضرّ نبيّ الله أيوب
* * * قال الراوي: وكنت فيمن التفّ بأصحابه، وأغذّ إلى بابه، فلمّا انتهينا إلى فنائه، وتصدّينا لاستنشاء أنبائه، برز إلينا فتاه، مفترّة شفتاه، فاستطلعنا طلع الشّيخ في شكاته، وكنه قوى حركاته، فقال: قد كان في قبضة المرضة، وعركة الوعكة، إلى أن شفّه الدّنف واستشفّه التّلف، ثمّ منّ الله تعالى بتقوية ذمائه، فأفاق من إغمائه. فارجعوا أدراجكم، وانضوا انزعاجكم، فكأن قد غدا وراح، وساقاكم الرّاح. فأعظمنا بشراه، واقترحنا أن نراه، فدخل مؤذنا بنا، ثمّ خرج آذنا لنا، فلقينا منه لقى، ولسانا طلقا، وجلسنا محدقين بسريره، محدّقين إلى أساريره.
* * * قوله: «أغذ»، أي أسرع. تصدّينا: تعرّضنا. الاستنشاء: الاستطلاع. أنبائه:
أخباره. برز: خرج. مفترّة: ضاحكة. استطلعناه: سألناه أن يطلعنا. طلع الشيخ في شكاته: خبر مرضه. كنه: حقيقة. عركه الوعكة: شدة المرضة، وعركت الشيء: دلكته بيديك وحككته، ووعكته الحمّى: كسرته. وشفّه الدنف: أضعفه المرض ونقص جسمه استشفّه: استقصى بقية قوته. ذمائه: قوى نفسه إغمائه: ذهاب عقله من الضعف. ارجعوا أدراجكم، أي في الطريق الذي جئتم فيه. انضوا انزعاجكم، أي أزيلوا زعجكم وطيشكم، والانزعاج: ضد القرار. أعظمنا بشراه، أي وجدنا ما بشرنا به عظيما، والبشارة بكسر الباء: ما بشّرت به، والبشارة بضمها: ما يعطى على البشارة. والبشارة بفتحها: الجمال، وفلان بشير الوجه، أي حسنه، وعند أكثرهم أن لفظ «بشّرته» لا يستمل إلا في الإخبار في الخير، وليس كذلك، بل يستعمل في الخير والشرّ قال تعالى:
{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذََابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 24]، والعّلة في ذلك أن البشارة إنما سميت بذلك لاستبانة تأثير خبرها في بشرة من بشّر بها، وقد تتغيّر البشرة للمساءة بالمكروه، كما تتغيّر عند المسرّة بالمحبوب، إلا أنه إذا أطلق لفظها وقع على الخير كما أنّ النذارة يطلق لفظها في الشر، وهذا ذكره الحريري في الدّرّة قال ابن عزيز: البشرى: والبشارة إخبار بما يسر، قال تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرى ََ} [يونس: 64].
اقترحنا: طلبنا، واقترحت الشيء: فعلته قبل أن يفعل. مؤذنا: معلما. لقّى:
طريحا. طلقا: فصيحا. محدقين: محلّقين، وأحدق القوم بالشيء إذا أحاطوا به واحتفّوا
حوله. وحدّقوا، أي نظروا إليه نظرا شديدا، فهم محدقون إليه، أي ناظرون، والحدقة:(2/71)