الجزء الأول
مقدّمة
بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
هذا كتاب «زهر الآداب وثمر الألباب» لأبي إسحاق الحصري، نقدّمه للقارىء الكريم بصورة لائقة، بعد أن أعيانا فيه التعب، وأجهدنا النصب.
والسبب الذي دعا الحصري إلى تأليف هذا الكتاب، هو رغبة أبي الفضل العباس بن سليمان في أن يقدّم له الحصري كتابا يجمع له فيه من مختار بلغاء عصره وفصحاء دهره ومن كلام المتقدّمين ما قاربه وشابهه ليغنيه عن غيره من كتب الآداب إذ كان أبو الفضل المذكور شديد الميل إلى الأدب، ينفق عمره وماله في جمع الكتب، وقد رحل في طلبها إلى المشرق، فسارع الحصري إلى مراد أبي الفضل، منطلقا في الوقت نفسه من شغفه بمثل هذه الموضوعات. وهكذا شجّعه هذا الرجل على تحقيق ما كان يصبو إليه، فأصبر كتابه النور، كما يذكر ابن خلّكان، في سنة خمسين وأربعمائة للهجرة (1).
هذا الكتاب من روائع الأدب العربي فهو دائرة معارف أدبية تجمع مادة ضخمة من النثر الجيد، والشعر الرائع، والبلاغة الواضحة. وقد أراده الحصري، كما يقول في مقدمته، أن يكون قطعة كاملة من البلاغات في الشعر والخبر، ممّا حسن لفظه ومعناه، واستدلّ بفحواه على مغزاه، ولم يكن شاردا حوشيّا، ولا ساقطا سوقيّا، وابتعد عن مطولات الأخبار، ما يكتفى بها عن جملة ما يراد. ووشّحه بشواهد شعرية في فرائد المدح، وبقطع مختارة في وصف الشيب والشباب لأشهر شعراء العصرين العباسيين الأول والثاني، أمثال أبي نواس وأبي تمام والبحتري والمتنبي، وزيّنه بقطع من الشعر من نظمه
__________
(1) وفيات الأعيان (ج 1ص 55). وانظر أيضا: كشف الظنون لحاجي خليفة (ص 957) وتاريخ الأدب العربي لبرو كلمان (ج 5ص 105).(1/3)
هو جعلها مثلا لقائليه وأسلوبا لسالكيه، وصانه عن ذكر فاحش المجون، حرصا منه على الأخلاق.
يصوّر هذا الكتاب حال المجتمع الإسلامي منذ بداية القرن الأول الهجري حتى عصر مؤلّفه في القرن الخامس الهجري إذ يقدّم لنا صاحبه وصفا لحال الصحابة عندما بلغهم موت رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، فنقل أخبارهم ودوّن آثارهم. ويقدّم قطعة في وصف أهل البيت، رضي الله عنهم، نجتزىء منها ما يلي: «ولهم كلام يعرض في حلي البيان، وينقش في فصّ الزمان، ويحفظ على وجه الدهر، ويفضح قلائد الدّرّ، ويخجل نور الشمس والبدر، ولم لا يطأون ذيول البلاغة، ويجرّون فضول البراعة، وأبوهم الرسول، وأمّهم البتول؟».
ويثني على بديع الزمان الهمذاني لإقدامه على صنع المقامات لأنّ ابن دريد، الذي سبقه إلى ابتكار هذا الفنّ، جاء بمقامات تنبو عن قبولها الطباع، ولا ترتفع لها حجب الأسماع: «بديع الزمان: وهذا اسم وافق مسمّاه، ولفظ طابق معناه، وكلام غضّ المكاسر أنيق الجواهر، يكاد الهواء يسرقه لطفا، والهوى يعشقه ظرفا، ولمّا رأى أبا بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي أغرب بأربعين حديثا وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره فجاء أكثر ما أظهر تنبو عن قبوله الطباع، ولا ترفع له حجبها الأسماع عارضه بأربعمائة مقامة في الكدية، تذوب ظرفا، وتقطر حسنا». ويقدّم نصوصا تظهر مدى النضج الذي وصل إليه الكتّاب في عصره، وبخاصة في مجال الوصف كوصف ماء، وسكين، وامرأة، وغلام، وروضة، وجدول، ونهر، وغدير، وحوض، وقصر، ووصف الليل والنجوم، والبرق والرعد، والمطر، والثلج، وغيرها من أوصاف غلب عليها عنصر البديع كالتورية والجناس والطباق، ممّا يدلّ على أن الصنعة كانت ميزة ذلك العصر.
وقد لاقى هذا الكتاب استحسانا من قبل المتقدّمين فقال فيه ابن بسام: «عارض أبا بحر الجاحظ بكتابه الذي وسمه ب «زهر الآداب، وثمر الألباب» فلعمري ما قصر مداه، ولا قصّرت خطاه، ولولا أنه شغل أكثر أجزائه وأنحائه، ومرج يحبو حمى أرضه وسمائه، بكلام أهل العصر دون كلام العرب، لكان كتاب الأدب، لا ينازعه ذلك إلّا من ضاق عنه الأمد، وأعمى بصيرته الحسد (1)». ومأخذ ابن بسام الوحيد على هذا الكتاب لا ينتقص من قيمته الأدبية والعلمية والاجتماعية والتاريخية. ويقول فيه ابن خلّكان: «جمع فيه كلّ
__________
(1) الذخيرة، (ق 4، ص 584).(1/4)
غريبة في ثلاثة أجزاء» (1). ومثله قال حاجي خليفة: «في ثلاثة أجزاء، جمع فيه كلّ غريب» (2). ويقول الصفدي: «وله من المصنّفات كتاب زهر الآداب، وهو مشهور من أمهات الأدب، صنّفه بالقيروان، وجميعه أخبار أهل المشرق وكلامهم ودقائقهم، أراد بذلك الإعجاز» (3). ويقول النيفر: «وألّف المؤلّفات النفيسة، منها كتاب زهر الآداب، وثمر الألباب، جمع فيه كل غريبة من النثر والنظم، في ثلاثة أجزاء، لو اقتصر المتأدّب عليه لكفاه في حفظ الجيد من النثر والنظم لاكتساب ملكة الأدب، وأغناه عن جميع التآليف في ذلك الغرض» (4). واكتفى الذهبي بالقول: «وله كتاب زهر الآداب» (5). وقال إسماعيل باشا البغدادي: «زهر الآداب، وثمر الألباب، مطبوع بمصره» (6). وأسماه ياقوت: «زهرة الآداب»، وقال إنه يتضمّن أخبارا وأشعارا حسانا (7). واعتمد عليه التجاني، وأخذ منه شواهد شعرية دون أن يتحدّث عنه (8).
وقد اتّبع الحصري منهجا لم يبوّب بموجبه الكتاب في أبواب وفصول، بل أخذ يستطرد فيه من غرض إلى غرض، مريدا أن يتصرّف فيه القارىء من النثر إلى الشعر، وينتقل فيه من المطبوع إلى المصنوع، ومن التشبيهات المصيبة إلى الاختراعات الغريبة، والأوصاف الباهرة، والأمثال السائرة، ومن الجدّ المعجب، إلى الهزل المطرب. وسار على خطى أسلافه، فبدأ كتابه بحمد الله، جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه، وبالصلاة على محمد خاتم المرسلين، وختمه بألفاظ لأهل العصر في ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم. وهو، لمّا شعر بأنّ الإطناب فيه قد عظم واتّسع، وأنّ معانيه باتت غير محصورة بعدد، ولا مقصورة إلى أمد، بحيث صار في مرحلة لا تدرك غايته، ولا تبلغ نهايته، أمسك عنان القلم، واكتفى بما قدّم. وقد أشار إلى هذا الأمر في ختام تصنيفه، معلّلا ذلك بأنّ الغرض فيه هو أن يلمع من معانيه، ثم ينجرّ معه حيث انجرّ، ويمرّ فيه كيف مرّ، ويأخذ في معنى آخر غير موصول بشكله، ولا مقرون بمثله.
__________
(1) وفيات الأعيان (ج 1، ص 54).
(2) كشف الظنون (ص 957).
(3) الوافي بالوفيات (ج 6، ص 61).
(4) عنوان الأريب (ج 1، ص 4443).
(5) سير أعلام النبلاء (ج 18، ص 139).
(6) هدية العارفين (ج 1، ص 8).
(7) معجم الأدباء (ج 1، ص 228).
(8) راجع تحفة العروس للتجاني (في صفحات متفرقة).(1/5)
وهو لم يسلك فيه، كما يذكر في الخاتمة، مذهبا مخترعا لم يسبق إليه، ولا قصد غرضا مبتدعا لم يغلب عليه.
وقد طبع «زهر الآداب» غير مرة فنشر على هامش «العقد» لابن عبد ربّه في بولاق سنة 1302هـ، ونشر بالقاهرة في أربعة أجزاء سنة 1925م. ونشره أيضا الأستاذ زكي مبارك بالقاهرة سنة 1344هـ في أربعة أجزاء.
وعلى الرغم من ذلك، فإني رأيت أن أعنى به لأهميته أولا، ولما فيه من تحريف ونقص وزيادة ثانيا، فراجعته وقابلت نصوصه بما يوافقها في مصادر أخرى، فضبطتها وشرحت ما غمض من معانيها، وترجمت لمعظم الشخصيات الأدبية والعلمية التي وردت فيه، وحدّدت العديد من المواضع والأماكن، راجيا أن يشبع رغبات أهل الأدب، وملتمسا العذر منهم إن هم عثروا فيه على خطأ لأنّ العصمة لربّ العالمين.
وارتأيت أن أتمم عملي هذا بتقديم نبذة عن سيرة الحصري فأقول: هو أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن تميم الأنصاري، الحصري، القيرواني (1). والحصري، بضمّ الحاء وسكون الصاد، نسبة إلى عمل الحصر أو بيعها (2). والقيرواني، نسبة إلى القيروان، بفتح القاف وسكون الياء وفتح الراء، وهي مدينة بأفريقية، بناها عقبة بن نافع الفهري (3).
ولد الحصري في مدينة القيروان، ولم تذكر المصادر التي ترجمت له سنة ولادته.
وعن تاريخ وفاته، فهناك اختلاف في تحديده فابن بسام يقول: «كانت وفاته، فيما بلغني، سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة» (4). ويقول ياقوت، نقلا عن ابن رشيق، إنّ الحصري مات بالمنصورة من أرض القيروان سنة ثلاث عشرة وأربعمائة (5). ويقول ابن خلّكان إنه توفي بالقيروان سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، ولكنه بلغني أنه توفي سنة ثلاث
__________
(1) وفيات الأعيان لابن خلّكان (ج 1، ص 54)، والوافي بالوفيات للصفدي (ج 6، ص 61)، وسير أعلام النبلاء للذهبي (ج 18، ص 139)، وكشف الظنون لحاجي خليفة (ص 957، 1712، 1983)، وهدية العارفين لإسماعيل باشا البغدادي (ج 1، ص 8)، وعنوان الأريب للنيفر (ج 1، ص 43)، والأعلام للزركلي (ج 1، ص 50)، وتاريخ الأدب العربي لبروكلمان (ج 5، ص 105).
(2) وفيات الأعيان (ج 1، ص 54)، وعنوان الأريب (ج 1، ص 44).
(3) معجم البلدان لياقوت (ج 4، ص 420)، وفي وفيات الأعيان (ج 1، ص 55): بناها عقبة بن عامر، الصحابي، رضي الله عنه.
(4) الذخيرة (ق 4، ص 585).
(5) معجم الأدباء (ج 1، ص 226).(1/6)
وخمسين وأربعمائة، والأول أصحّ (1). وفي قوله: الأول أصحّ، قد يكون انطلق من اقتناعه بأن ابن رشيق القيرواني أدرى بوفاة ابن بلده من غيره. ويعود مرة أخرى إلى القول بأن القاضي الرشيد بن الزبير يذكر في كتاب «الجنان» أنّ الحصري ألّف كتاب «زهر الآداب» في سنة خمسين وأربعمائة، ممّا يدلّ على صحة ما قاله ابن بسام من أن الحصري توفي بعد هذا التاريخ، أي في سنة 453هـ. ولم يفصل ابن خلّكان في هذا الشأن، فاكتفى بالقول: والله أعلم بذلك (2). ويورد الصفدي آراء الذين سبقوه دون تعليق، ويختصرها في أنّ الحصري توفي سنة 413هـ أو في سنة 453هـ (3). ومثله يقول الذهبي (4). ويقول حاجي خليفة إنه توفي سنة 453هـ، وقيل: 413هـ (5). ويقول في مكان آخر إنه توفي سنة 453هـ (6)، ويقول إسماعيل باشا البغدادي: «توفي سنة 453 ثلاث وخمسين وأربعمائة» (7). ويقول النيفر: «توفي بالقيروان سنة 453هـ» (8). ويقول بروكلمان إنه توفي بعد سنة 413هـ في المنصورة (9). ويقول الزركلي إن وفاته في سنة 453هـ (10).
وهكذا انقطعت أخبار الحصري دون أن نهتدي إلى السنة التي ولد فيها، أو نحدّد السنة التي توفي فيها، ونحدّد بالتالي الشهر واليوم اللذين توفي فيهما. ولكنّا نميل إلى ما جاء به ابن بسام من أنه توفي سنة 453هـ لأنّ ابن بسام أدرى من غيره بمعرفة تاريخ وفاة الحصري لأنه عندما سأل عن تاريخ وفاته أبلغوه عنه.
وفيما يتعلّق بعائلته، فقد أغفل المؤرخون الحديث عنها، واكتفوا بالإشارة إلى أنه ابن خالة أبي الحسن علي بن عبد الغني، الحصري، القيرواني، الشاعر المشهور (11).
__________
(1) وفيات الأعيان (ج 1، ص 55).
(2) المصدر نفسه والصفحة نفسها.
(3) الوافي بالوفيات (ج 6، ص 62).
(4) سير أعلام النبلاء (ج 18، ص 139).
(5) كشف الظنون (ص 957).
(6) المصدر نفسه (ص 1712، 1983).
(7) هدية العارفين (ج 1، ص 8).
(8) عنوان الأريب (ج 1، ص 44).
(9) تاريخ الأدب العربي (ج 5، ص 105).
(10) الأعلام (ج 1، ص 50).
(11) وفيات الأعيان (ج 1، ص 55) و (ج 3، ص 332)، والوافي بالوفيات (ج 6، ص 61)، وسير أعلام النبلاء (ج 18، ص 139)، والأعلام (ج 1، ص 5150). وترجمة أبي الحسن علي(1/7)
وإغفالهم ذكر عائلته يعود إلى كونها فقيرة متواضعة، ليست من تلك البيوتات الكبيرة التي وليت مناصب مهمة في الدولة.
ولمّا كانت أسرته فقيرة، فقد نشأ على الوراقة والنسخ لجودة خطّه، واندفع في طلب العلم ليعوّض عن فقره بغزارة الثقافة والمعرفة، فتلقّى علومه في جامع مدينة القيروان، حيث كان منزله لزيق الجامع المذكور، فكان هذا الجامع بيته وخزانته، وفيه اجتماع الناس إليه ومعه (1). وأخذ في تأليف الأخبار، وصنعة الأشعار، فتقرّب منه شبّان القيروان ولازموه، فرأس عندهم، وشرف لديهم (2). كما نظر في النحو والعروض، وكان له فيهما مشاركة (3).
وللحصري مكانة أدبية مرموقة فهو من ألمع أدباء وشعراء القيروان في أوانه، وقد اتّفق العديد من النقّاد والمؤرخين على أنه من أعظم شعراء وكتّاب القيروان، ومع ذلك، فإنّ ما وصلنا عن حياته قليل لا يتلاءم ومكانته العالية التي اعترف بها هؤلاء الباحثون.
وعن شعره نقول: لم يقصّر الحصري عن أجود ما عرفته القيروان من أغراض شعرية وبخاصة الغزل الذي اتّسم عنده بالرقّة والحلاوة. وشعره مجموع في ديوان كما يقول ابن خلّكان: «وله ديوان شعر» (4). ويقول ابن بسام: «إلى عدة رسائل وأشعار، أندى من نسيم الأسحار، وأذكى من شميم الأزهار» (5). ويضيف، نقلا عن ابن رشيق في الأنموذج، أنّ له شعرا كثيرا (6). ويقول الذهبي: «وشعره سائر مدوّن» (7). ويقول
__________
الحصري في جذوة المقتبس للحميدي (ص 314) وبغية الملتمس للضبيّ (ص 425رقم 1229)، والذخيرة لابن بسام (ق 4، ص 245)، والصلة لابن بشكوال (ص 627)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (ج 3، ص 331)، ومعجم الأدباء لياقوت (ج 4، ص 171)، ووبغية الوعاة للسيوطي (ص 341)، وشذرات الذهب للعماد الحنبلي (ج 3، ص 385)، والعبر للذهبي (ج 3، ص 321)، ونكت الهميان للصفدي (ص 213).
(1) الذخيرة (ق 4، ص 593).
(2) وفيات الأعيان (ج 1، ص 54، 394)، والوافي بالوفيات (ج 6، ص 61)، والذخيرة (ق 4، ص 593)، وعنوان الأريب (ج 1، ص 44).
(3) الذخيرة (ق 4، ص 593).
(4) وفيات الأعيان (ج 1، ص 54). وانظر أيضا: عنوان الأريب (ج 1، ص 44).
(5) الذخيرة (ق 4، ص 585584).
(6) المصدر نفسه (ص 593)، وانظر أيضا عنوان الأريب (ج 1، ص 44).
(7) سير أعلام النبلاء (ج 18، ص 139).(1/8)
إسماعيل باشا البغدادي: «صنّف ديوان شعره» (1). ويقول النيفر: «وقال الشعر الفائق» (2).
وقد ضاع ديوانه المخطوط، ولم يصلنا من شعره إلّا القليل، لذا لا نستطيع أن نعيّن منزلته بين الشعراء. ونكتفي بسرد بعض النماذج الرقيقة من شعره كقوله في الغزل (3):
[مجزوء الكامل]:
يا هل بكيت كما بكت ... ورق الحمائم في الغصون
هتفت سحيرا والرّبى ... للقطر رافعة الجفون
وقوله (4): [البسيط]:
إنّي أحبّك حبّا ليس يبلغه ... فهم، ولا ينتهي وصفي إلى صفته
أقصى نهاية علمي فيه معرفتي ... بالعجز منّي عن إدراك معرفته
وقوله أيضا (5) [مخلع البسيط]:
عليل طرف سقيت خمرا ... من مقلتيه فمتّ سكرا
ترقرقت وجنتاه ماء ... مازج فيه العقيق درّا
يحرّك الدّلّ منه غصنا ... ويطلع الحسن فيه بدرا
قد خطّ مسك بعارضيه ... خلقت للعاشقين عذرا
وقوله في غلام (6) [المجتث]:
أورد قلبي الرّدى ... لام عذار بدا
أسود كالكفر في ... أبيض مثل الهدى
__________
(1) هدية العارفين (ج 1، ص 8).
(2) عنوان الأريب (ج 1، ص 43).
(3) معجم الأدباء (ج 1، ص 227) والوافي بالوفيات (ج 6، ص 62).
(4) الذخيرة (ق 4، ص 593)، ومعجم الأدباء (ج 1، ص 227)، والوافي بالوفيات (ج 6، ص 61)، ووفيات الأعيان (ج 1، ص 5554)، وعنوان الأريب (ج 1، ص 44).
(5) الذخيرة (ق 4، ص 593) ومسالك الأبصار (ج 11، الورقة 311).
(6) الذخيرة (ق 4، ص 596)، ووفيات الأعيان (ج 1، ص 55، 394)، والوافي بالوفيات (ج 6، ص 61)، وعنوان الأريب (ج 1، ص 44). وجاء في شرح المقامات الحريرية للشريشي (ج 1، ص 277) أنّ البيتين لأبي إسحاق الحضرمي بدل: أبي إسحاق الحصري.(1/9)
وله نثر مستملح، يغلب عليه السّجع، ولكن بدون تكلّف، يجمع بين دقّة الصنعة ورقّة الطبع (1).
وهكذا كان الحصري شاعرا وكاتبا، له ديوان شعر، وتآليف جيدة في ملح الشعر والخبر وصلت صقلية وغيرها من الجهات وانثالت بفضلها عليه صلات الملوك والأعيان (2).
وكان هدفه منها هو أن يقدّم إلى أهل الشعر والنثر ما يسدّ حاجتهم منها، وإليكها:
1 - المصون في سرّ الهوى المكنون: ذكره ابن خلّكان وقال إنه «في مجلد واحد، وفيه ملح وآداب» (3). وذكره حاجي خليفة وقال: «أوله الحمد لله الذي جعل الحمد أول كتابه» (4). وذكره الصفدي وإسماعيل باشا البغدادي دون تعليق (5). وذكره الزّركلي وقال إنه مخطوط وهو في مكتبة عارف حكمت، في المدينة ذات الرقم 772 (6). وذكره بروكلمان وقال إنه في مجلد واحد (7). وأسماه ابن بسام: المصون من الدواوين (8). وهو عند ياقوت: المصون والدرّ المكنون (9)، وعند الذهبي: المصون في الهوى (10).
2 - نور الطّرف ونور الظّرف: ذكره إسماعيل باشا البغدادي دون تعليق (11). وذكره حاجي خليفة، وقال إنه في جزء واحد (12). وذكره الزّركلي وقال إنه مختصر لكتاب «زهر الآداب»، وهو مخطوط (13). وهكذا أسماه بروكلمان، وقال إنه مختارات شعرية قصيرة (14). وأسماه الصفدي «نور الظرف ونور الطّرف»، وقال: هذا الكتاب يختصر كتاب
__________
(1) أورد ابن بسام فصولا من نثر الحصري، فلتراجع في كتابه: الذخيرة (ق 4، ص 597585).
(2) الذخيرة (ق 4، ص 593)، ومعجم الأدباء (ج 1، ص 227)، والوافي بالوفيات (ج 6، ص 61)، وعنوان الأريب (ج 1، ص 44).
(3) وفيات الأعيان (ج 1، ص 54). وانظر أيضا عنوان الأريب (ج 1، ص 44).
(4) كشف الظنون (ص 1712).
(5) الوافي بالوفيات (ج 6، ص 61)، وهدية العارفين (ج 1، ص 8).
(6) الأعلام (ج 1، ص 50).
(7) تاريخ الأدب العربي (ج 5، ص 106).
(8) الذخيرة (ق 4، ص 584).
(9) معجم الأدباء (ج 1، ص 228).
(10) سير أعلام النبلاء (ج 18، ص 139).
(11) هدية العارفين (ج 1، ص 8).
(12) كشف الظنون (ص 1983).
(13) الأعلام (ج 1، ص 50).
(14) تاريخ الأدب العربي (ج 5، ص 106).(1/10)
«زهر الآداب» (1). وأسماه ابن بسام: النور والنور (2). وهو عند ياقوت: كتاب النورين:
«من تصانيفه: كتاب زهرة الآداب، وكتاب النورين، اختصره منها، وهما يتضمّنان أخبارا وأشعارا حسانا» (3). وعند التجاني: «كتابه الموسوم بالنورين» (4). وأسماه في مكان آخر:
نور الطرف (5)، وأسماه أيضا: النور والنور (6).
3 - الجواهر في الملح والنوادر: ذكره ياقوت، فقال: «وله عندي: كتاب الجواهر، في الملح والنوادر، كتبه عبد القادر البغدادي» (7). وأسماه الزركلي: جمع الجواهر في الملح والنوادر (8). وكذلك أسماه بروكلمان بهذا الاسم وقال: ويسمّى أيضا: ذيل زهر الآداب (9). والكتاب مطبوع وقد نشره الأستاذ عبد العزيز البشرى بالقاهرة، سنة 1353هـ. ونشره الأستاذ علي محمد البجاوي بالقاهرة، سنة 1372هـ. كما طبع في القاهرة بالمطبعة الرحمانية، بلا تاريخ.
4 - العجائب والطرف: ذكره بروكلمان، دون تعليق (10).
وهكذا كانت للحصري جهود مثمرة في مختلف مسارب المعرفة، فكان حافظا لتراث غيره، ومحطّ إعجاب المؤلّفين وتقديرهم فابن بسّام الشنتريني يقول فيه: «كان أبو إسحاق هذا صدر النديّ، ونكتة الخبر الجليّ، وديوان اللسان العربي، راض صعابه، وسلك أوديته وشعابه، وجمع أشتاته، وأحيا مواته، حتى صار لأهله إماما، وعلى جدّه وهزله زماما، وطنّت به الأقطار، وشدّت إليه الأقتاب والأكوار، وأنفقت فيما لديه الأموال والأعمار، وهو يقذف البلاد بدرر صدفها الأفكار، وسلوك ناظمها الليل والنهار (11)».
ويقول فيه ياقوت نقلا عن ابن رشيق: «وكان شاعرا نقّادا، عالما بتنزيل الكلام، وتفصيل
__________
(1) الوافي بالوفيات (ج 6، ص 61).
(2) الذخيرة (ق 4، ص 584).
(3) معجم الأدباء (ج 1، ص 228).
(4) تحفة العروس (ص 278).
(5) المصدر نفسه (ص 144، 349).
(6) المصدر نفسه (ص 211).
(7) معجم الأدباء (ج 1، ص 228).
(8) الأعلام (ج 1، ص 50).
(9) تاريخ الأدب العربي (ج 5، ص 105).
(10) المرجع نفسه (ص 106).
(11) الذخيرة (ق 4، ص 584).(1/11)
النظام، يحبّ المجانسة والمطابقة، ويرغب في الاستعارة، تشبّها بأبي تمام في أشعاره، وتتبّعا لآثاره، وعنده من الطبع ما لو أرسله على سجيّته لجرى جري الماء، ورقّ رقّة الهواء» (1)، ويسمّيه ابن خلّكان وإسماعيل باشا البغدادي «الشاعر المشهور» (2).
ويعدّه الذهبي «الأديب، شاعر المغرب» (3).
وأخيرا أقدّم جزيل شكري وخالص تقديري للحاج محمد علي بيضون، صاحب دار الكتب العلمية لتشجيعه لي على إخراج هذا الكتاب في هذه الحلّة القشيبة.
والله المؤيّد والمسدّد
وهو حسبنا ونعم الوكيل
بيروت في الثامن عشر من شباط لعام ستة وتسعين وتسعماية وألف ميلادية.
الدكتور يوسف علي طويل أستاذ الأدب الأندلسي والدراسات العليا وعضو لجنة الدكتوراه بالجامعة اللبنانية
__________
(1) معجم الأدباء (ج 1، ص 226).
(2) وفيات الأعيان (ج 1، ص 54)، وهدية العارفين (ج 1، ص 8).
(3) سير أعلام النبلاء (ج 18، ص 139).(1/12)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي اختصّ الإنسان بفضيلة البيان، وصلّى الله على محمد خاتم النبيين، المرسل بالنور المبين، والكتاب المستبين، الذي تحدّى الخلق أن يأتوا بمثله فعجزوا عنه، وأقرّوا بفضله، وعلى آله وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد فهذا (1) كتاب اخترت فيه قطعة كاملة من البلاغات في الشعر والخبر، والفصول والفقر، ممّا حسن لفظه ومعناه، واستدلّ بفحواه على مغزاه، ولم يكن شاردا حوشيّا (2)، ولا ساقطا سوقيّا (3)، بل كان جميع ما فيه، من ألفاظه ومعانيه، كما قال البحتري (4) [الخفيف]:
في نظام من البلاغة ما ش ... كّ امرؤ أنّه نظام فريد (5)
حزن مستعمل الكلام اختيارا ... وتجنّبن ظلمة التّعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدرك ... ن به غاية المراد البعيد
ولم أذهب في هذا الاختيار إلى مطولات الأخبار، كأحاديث صعصعة بن صوحان (6)، وخالد بن صفوان (7)، ونظائرهما إذ كانت هذه أجمل لفظا، وأسهل حفظا.
__________
(1) النص في الذخيرة لابن بسام (ق 4ص 587586) ببعض الاختلاف عمّا هنا.
(2) الحوشيّ: الوحشيّ الغريب. لسان العرب (حوش).
(3) السوقيّ: نسبة إلى السّوقة وهم بمنزلة الرعية التي تسوسها الملوك. لسان العرب (سوق).
(4) ديوان البحتري (ج 2ص 280) من قصيدة مديح.
(5) الفريد: الدّرّ إذا نظم وفصل بغيره، وقيل: الجوهرة النفيسة. لسان العرب (فرد).
(6) صعصعة بن صوحان خطيب بليغ، من أهل الكوفة، شهد صفين مع الإمام علي عليه الصلاة والسلام.
توفي سنة 56هـ. الأعلام للزركلي (ج 3ص 205) ومصادر حاشيته.
(7) خالد بن صفوان من فصحاء العرب المشهورين، أدرك خلافة السفاح العباسي وحظي عنده. توفي(1/13)
وهو كتاب يتصرّف الناظر فيه من نثره إلى شعره، ومطبوعه إلى مصنوعه، ومحاورته إلى مفاخرته، ومناقلته (1) إلى مساجلته، وخطابه المبهت (2) إلى جوابه المسكت، وتشبيهاته المصيبة إلى اختراعاته الغريبة، وأوصافه الباهرة إلى أمثاله السائرة، وجدّه المعجب إلى هزله المطرب، وجزله الرائع إلى رقيقه البارع.
وقد نزعت فيما جمعت عن ترتيب البيوت، وعن إبعاد الشكل عن شكله، وإفراد الشيء من مثله فجعلت بعضه مسلسلا، وتركت بعضه مرسلا (3) ليحصل محرّر النّقد، مقدّر السّرد وقد أخذ بطرفي التأليف، واشتمل على حاشيتي التصنيف وقد يعزّ المعنى، فألحق الشّكل بنظائره، وأعلّق الأول بآخره، وتبقى منه بقية أفرّقها في سائره ليسلم من التطويل المملّ، والتقصير المخلّ، وتظهر في التجميع إفادة الاجتماع وفي التفريق لذاذة الإمتاع، فيكمل منه ما يونق القلوب والأسماع إذ كان الخروج من جدّ إلى هزل، ومن حزن (4) إلى سهل أنفى للكلل، وأبعد من الملل وقد قال إسماعيل بن القاسم [هو أبو العتاهية] (5): [البسيط]
لا يصلح النفس إذ كانت مدابرة ... إلّا التنقّل من حال إلى حال (6)
وكان السبب الذي دعاني إلى تأليفه، وندبني إلى تصنيفه، ما رأيته من رغبة أبي الفضل العباس بن سليمان أطال الله مدّته، وأدام نعمته! في الأدب، وإنفاق عمره في الطلب وماله في الكتب وأنّ اجتهاده في ذلك حمله على أن ارتحل إلى المشرق بسببها، وأغمض (7) في طلبها، باذلا في ذلك ماله، مستعذبا فيه تعبه، إلى أن أورد من كلام بلغاء عصره، وفصحاء دهره، طرائف طريفة، وغرائب غريبة، وسألني أن أجمع له من مختارها كتابا يكتفي به عن جملتها، وأضيف إلى ذلك من كلام المتقدّمين ما قاربه وقارنه، وشابهه
__________
نحو 133هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 3ص 11) والشعر والشعراء (ص 529) ومعجم البلدان (ج 1ص 438، مادة البصرة) والعقد (صفحات متفرقة) والأعلام (ج 2ص 297).
(1) المناقلة في المنطق: هي أن تحدّثه ويحدّثك، القاموس المحيط (نقل).
(2) المبهت: المحير. لسان العرب (بهت).
(3) المرسل: غير المسلسل، والمسلل هو اتصال الشيء بنفسه. لسان العرب (أرسل) و (سلسل).
(4) الحزن: ما غلظ من الأرض، والجمع حزون. لسان العرب (حزن).
(5) ديوان أبي العتاهية (ص 223).
(6) رواية صدر البيت في الديوان هي: لن يصلح النّفس إن كانت مدبّرة. والمدابرة: الهزيمة، وجاءت هنا بمعنى ذات الملال والسأم. لسان العرب (دبر).
(7) أغمض في طلبها: ذهب. لسان العرب (غمض).(1/14)
ومائله فسارعت إلى مراده، وأعنته على اجتهاده، وألّفت له هذا الكتاب، ليستغني به عن جميع كتب الآداب إذ كان موشّحا من بدائع البديع، ولآلئ الميكالي، وشهيّ الخوارزمي، وغرائب الصاحب، ونفيس قابوس، وشذور أبي منصور (1) بكلام يمتزج بأجزاء النفس لطافة، وبالهواء رقّة، وبالماء عذوبة.
وليس لي في تأليفه من الافتخار، أكثر من حسن الاختيار واختيار المرء قطعة من عقله، تدلّ على تخلّفه أو فضله ولا شكّ إن شاء الله في استجادة ما استجدت، واستحسان ما أوردت إذ (2) كان معلوما أنه ما انجذبت نفس، ولا اجتمع حسّ، ولا مال سرّ، ولا جال فكرّ، في أفضل من معنى لطيف، ظهر في لفظ شريف فكساه من حسن الموقع، قبولا لا يدفع، وأبرزه يختال من صفاء السبك [ونقاء السّلك] وصحة الدّيباجة، وكثرة المائية، في أجمل حلّة، وأجلى حلية [الكامل]:
يستنبط الروح اللطيف نسيمه ... أرجا، ويؤكل بالضمير ويشرب
وقد رغبت في التجافي عن المشهور، في جميع المذكور، من الأسلوب الذي ذهبت إليه، والنحو الذي عوّلت عليه لأن أوّل ما يقرع الآذان، أدعى إلى الاستحسان، ممّا مجّته (3) النفوس لطول تكراره، ولفظته (4) العقول لكثرة استمراره فوجدت ذلك يتعذّر ولا يتيسّر، ويمتنع ولا يتّسع ويوجب ترك ما ندر إذا اشتهر وهذا يوجب في التصنيف دخلا (5)، ويكسب التأليف خللا فلم أعرض إلّا عمّا أهانه الاستعمال، وأذاله (6) الابتذال والمعنى إذا استدعى القلوب إلى حفظه، ما ظهر من مستحسن لفظه من بارع عبارة، وناصع استعارة، وعذوبة مورد، وسهولة مقصد، وحسن تفصيل، وإصابة تمثيل وتطابق أنحاء، وتجانس أجزاء، وتمكّن ترتيب، ولطافة تهذيب، مع صحّة طبع وجوده إيضاح، يثقفه تثقيف القداح، ويصوره أفضل تصوير، ويقدّره أكمل تقدير فهو
__________
(1) البديع والميكالي والخوارزمي والصاحب وقابوس وأبو منصور أعلام من القرن الرابع، وسيورد المؤلف طرفا من شعرهم ونثرهم بعد قليل.
(2) النص في الذخيرة لابن بسام (ق 4ص 587) ببعض الاختلاف عمّا هنا.
(3) مجّته النفوس: استكرهته ومقتته. محيط المحيط (مجج).
(4) لفظته: رمت به وطرحته. محيط المحيط (لفظ).
(5) الدّخل، بفتح الدال والخاء: ما داخلك من فساد، والعيب. محيط المحيط (دخل).
(6) أذاله: أهانه. محيط المحيط (ذيل).(1/15)
مشرق في جوانب السمع، لا يخلقه (1) عوده على المستعيد: [الكامل]
وهو المشيّع بالمسامع إن مضى ... وهو المضاعف حسنه إن كرّرا
وإن (2) كنت قد استدركت على كثير ممن سبقني إلى مثل ما جريت إليه، واقتصرت في هذا الكتاب عليه، لملح أوردتها كنوافث السحر (3) وفقر نظمتها كالغنى بعد الفقر، من ألفاظ أهل العصر، في محلول النثر، ومعقود الشعر وفيهم من أدركته بعمري، أو لحقه أهل دهري ولهم من لطائف الابتداع، وتوليدات الاختراع، أبكار لم تفترعها الأسماع (4)، يصبو إليها القلب والطّرف، ويقطر منها ماء الملاحة والظّرف، وتمتزج بأجزاء النفس، وتسترجع نافر الأنس، تخلّلت تضاعيفه، ووشّحت تأليفه، وطرّزت ديباجه، ورصّعت تاجه، ونظمت عقوده، ورقمت بروده فنورها يرفّ، ونورها يشفّ، في روض من الكلم مونق، ورونق من الحكم مشرق [الطويل]:
صفا ونفى عنه القذى فكأنه ... إذا ما استشفّته العيون مصعّد (5)
فهو كما قلت [السريع]:
بديع نثر رقّ حتّى غدا ... يجري مع الرّوح كما تجري
من مذهب الوشي على وجهه ... ديباجة ليست من الشّعر
كزهرة الدنيا وقد أقبلت ... ترود (6) في رونقها النّضر
أو كالنسيم الغضّ غبّ الحيا (7) ... يختال في أردية الفجر
ولعل في كثير مما تركت، ما هو أجود من قليل مما أدركت إذ كان اقتصارا من كلّ على بعض، ومن فيض على برض (8) ولكني اجتهدت في اختيار ما وجدت وقد تدخل اللفظة في شفاعة اللفظات، ويمرّ البيت في خلال الأبيات، وتعرض الحكاية في عرض
__________
(1) يخلقه: يذهب بجدّته ويبليه. لسان العرب (خلق).
(2) النص في الذخيرة (ق 4ص 587) ببعض الاختلاف عمّا هنا.
(3) النوافث: جمع نافثة وهي الساحرة. لسان العرب (نفث).
(4) تفترعها: تفضّ بكارتها. لسان العرب (فرع).
(5) مصعّد: مرتفع. لسان العرب (صعد).
(6) ترود: تختال. لسان العرب (رود).
(7) الحيا: المطر، وغبّ الحيا: عقب المطر. لسان العرب (حيا) و (غبب).
(8) البرض: القليل. لسان العرب (برض).(1/16)
الحكايات، يتمّ بها المعنى المراد، وليست ممّا يستجاد، ويبعث عليها فرط الضرورة إليها [في إصلاح خلل] فمهما تره من ذلك في هذا الاختيار، فلا تعرض عنه بطرف الإنكار وما أقلّ ذلك في جميع المسالك الجارية في هذا الكتاب، الموسوم ب «زهر الآداب، وثمر الألباب»، لكني أردت أن أشارك من يخرج من ضيق الاغترار، إلى فسحة الاعتذار (1)
[الكامل]:
ويسييء بالإحسان ظنّا، لا كمن ... يأتيك وهو بشعره مفتون
والله المؤيد والمسدّد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[إنّ من البيان لسحرا] (2)
روى عن عبد الله بن عبّاس رضوان الله عليهما! قال:
وفد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الزّبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم فقال الزبرقان: يا رسول الله، أنا سيّد تميم، والمطاع فيهم، والمجاب منهم، آخذ لهم بحقّهم، وأمنعهم من الظلم، وهذا يعلم ذلك يعني عمرا.
فقال عمرو: أجل يا رسول الله إنه مانع لحوزته (3)، مطاع في عشيرته، شديد العارضة (4) فيهم.
فقال الزبرقان: أما إنه والله قد علم أكثر ممّا قال، ولكنه حسدني شرفي!
فقال عمرو: أما لئن قال ما قال فو الله ما علمته إلّا ضيّق العطن (5)، زمر المروءة (6)، أحمق الأب، لئيم الخال، حديث الغنى.
__________
(1) البيت لأبي تمام، وهو في ديوانه (ص 293) من قصيدة مديح، وروايته في الديوان هي:
ويسيء بالإحسان ظنّا لا كمن
هو بابنه وبشعره مفتون
(2) قوله: «إنّ من البيان لسحرا» مثل قاله النبي، صلّى الله عليه وسلم، حين وفد عليه عمرو بن الأهتم والزّبرقان وقيس بن عاصم، ويعني أنّ بعض البيان يعمل على السحر، والسحر هو إظهار الباطل في صورة الحق، ويضرب في استحسان المنطق وإيراد الحجّة البالغة. مجمع الأمثال (ج 1ص 7).
(3) حوزة الرجل: ما يحوزه ويملكه. لسان العرب (حوز).
(4) العارضة: قوة الكلام. لسان العرب (عرض).
(5) العطن: مربض الغنم حول الماء، وضيّق العطن: كناية عن البخل. لسان العرب (عطن).
(6) زمر المروءة: قليلها. لسان العرب (زمر).(1/17)
فرأى الكراهة في وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم لمّا اختلف قوله فقال: يا رسول الله، رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الثانية!
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنّ من البيان لسحرا، وإنّ من الشعر لحكمة. ويروى لحكما، والأول أصحّ.
والذي روى أهل الثّبت، من هذا الحديث أنّه قدم رجلان من أهل المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنّ من البيان لسحرا، أو إنّ من بعض البيان لسحرا.
وعمرو بن الأهتم هو: عمرو بن سنان بن سميّ [بن سنان بن خالد] ابن منقر ابن عبيد بن الحارث، والحارث هو: مقاعس بن عمرو بن كعب ابن سعد بن زيد مناة بن تميم. وسمّي سنان الأهتم، لأنّ قيس بن عاصم المنقري سيد أهل الوبر ضربه بقوسه فهتم فاه. هذا قول أبي محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة. وقال غيره: بل هتم فوه يوم الكلاب الثاني، وهو يوم كان لبني تميم على أهل اليمن. وكان عمرو يلقب المكحّل لجماله، وبنو الأهتم أهل بيت بلاغة في الجاهلية والإسلام. وعبد الله بن عمرو بن الأهتم هو جدّ خالد ابن صفوان وشبيب بن شيبة. وكان يقال: الخطابة في آل عمرو، وكان شعره حللا منشّرة عند الملوك تأخذ منه ما شاءت. وهو القائل [الطويل]:
ذريني فإن البخل يا أمّ مالك ... لصالح أخلاق الرجال سروق
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكنّ أخلاق الرجال تضيق (1)
والزبرقان: اسمه حصين بن بدر بن امرئ القيس [بن الحارث] بن بهدلة بن عوف بن كعب بن سعيد. وسمي الزّبرقان لجماله والزبرقان: القمر [قبل تمامه] وقيل:
لأنّه كان يزبرق عمامته، أي يصفّرها في الحرب.
وكانوا يسمّون الكلام الغريب «السّحر الحلال»، ويقولون: اللفظ الجميل من إحدى النّفثات في العقد (2).
__________
(1) أخذه من قول بشار بن برد:
ولا ضاق فضل الله عن متعفّف ... ولكنّ أخلاق الرجال تضيق
ديوان بشار بن برد (ص 165).
(2) أخذه من قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفََّاثََاتِ فِي الْعُقَدِ}. سورة الفلق، 113، الآية 4. والنفثات: جمع نفثة وهي ما تنفثه الساحرة بريقها على ما تعقده. لسان العرب (نفث).(1/18)
وذكر بعض الرّواة أنه لما استخلف عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، قدم عليه وفود أهل كلّ بلد فتقدّم إليه وفد أهل الحجاز، فاشرأبّ (1) منهم غلام للكلام، فقال عمر: يا غلام ليتكلّم من هو أسنّ منك! فقال الغلام: يا أمير المؤمنين، إنّما المرء بأصغريه، قلبه ولسانه، فإذا منح الله عبده لسانا لافظا، وقلبا حافظا، فقد أجاد له الاختيار ولو أن الأمور بالسنّ لكان ها هنا من هو أحقّ بمجلسك منك.
فقال عمر: صدقت، تكلّم فهذا السحر الحلال! فقال: يا أمير المؤمنين، نحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة (2)، ولم تقدمنا إليك رغبة ولا رهبة لأنّا قد أمنّا في أيامك ما خفنا، وأدركنا ما طلبنا!
فسأل عمر عن سنّ الغلام، فقيل: عشر سنين.
وقد روي أن محمد بن كعب القرظي كان حاضرا، فنظر وجه عمر قد تهلّل عند ثناء الغلام عليه فقال: يا أمير المؤمنين لا يغلبنّ جهل القوم بك معرفتك بنفسك فإنّ قوما خدعهم الثناء، وغرّهم الشكر، فزلّت أقدامهم، فهووا في النار. أعاذك الله أن تكون منهم، وألحقك بسالف هذه الأمة فبكى عمر حتى خيف عليه، وقال: اللهم لا تخلنا من واعظ!
وقد روي أنّ عمر قال للغلام: عظني، فقال هذا الكلام، وفيه زيادة يسيرة ونقص.
وأخذ قول عمر: «هذا السحر الحلال» أبو تمام فقال يعاتب أبا سعيد محمد بن يوسف الطائي (3) [الوافر]:
إذا ما الحاجة انبعثت يداها ... جعلت المنع منك لها عقالا
فأين قصائد لي فيك تأبى (4) ... وتأنف أن أهان وأن أذالا
هي السّحر الحلال لمجتليه (5) ... ولم أر قبلها سحرا حلالا
وكتب أبو الفضل بن العميد إلى بعض إخوانه جوابا عن كتابك ورد إليه [فأحمده]:
وصل ما وصلتني به، جعلني الله فداك، من كتابك، بل نعمتك التامة، ومنّتك العامة فقرّت عيني بوروده، وشفيت نفسي بوفوده، ونشرته فحكى نسيم الرياض غبّ
__________
(1) اشرأبّ: مدّ عنقه لينظر. لسان العرب (شرب).
(2) المرزئة: الاستجداء وطلب النوال. لسان العرب (رزأ).
(3) ديوان أبي تمام (ص 362).
(4) في الديوان: «تأتي» بدل «تأبى».
(5) رواية صدر البيت في الديوان هي: من السّحر الحلال لمجتنيه(1/19)
المطر، وتنفس الأنوار (1) في السّحر، وتأمّلت مفتتحه، وما اشتمل عليه من لطائف كلمك، وبدائع حكمك فوجدته قد تحمّل من فنون البرّ عنك، وضروب الفضل منك، جدّا وهزلا، ملأ عيني، وعمر قلبي، وغلب فكري، وبهر لبّي فبقيت لا أدري: أسموط ذرّ خصصتني بها، أم عقود جوهر منحتنيها؟ كما لا أدري أبكرا زففتها فيه، أم روضة جهزتها منه ولا أدري أخدودا ضرّجت حياء ضمّنته أم نجوما طلعت عشاء أودعته ولا أدري أجدّك أبلغ وألطف، أم هزلك أرفع وأظرف وأنا أوكّل بتتبّع ما انطوى عليه نفسا لا ترى الحظّ إلّا ما اقتنته منه، ولا تعدّ الفضل إلّا فيما أخذته عنه، وأمتّع بتأمّله عينا لا تقرّ إلّا بمثله، ممّا يصدر عن يدك، ويرد من عندك، وأعطيه نظرا لا يملّه، وطرفا لا يطرف دونه، وأجعله مثالا أرتسمه وأحتذيه، وأمتّع خلقي برونقه، وأغذّي نفسي ببهجته، وأمزج قريحتي برقّته، وأشرح صدري بقراءته، ولئن كنت عن تحصيل ما قلته عاجزا، وفي تعديد ما ذكرته متخلّفا لقد عرفت أنه ما سمعت به من السّحر الحلال.
وقال بعض المحدثين يمدح كاتبا [الكامل]:
وإذا جرى قلم له في مهرق ... عجلان في رفلانه ووجيفه (2)
نظمت مراشفه قلائد نظّمت ... بنفيس جوهر لفظه وشريفه
بدعا من السّحر الحلال تولّدت ... عن ذهن مصقول الذكاء مشوفه (3)
مثلا لضاربه وزاد مسافر ... جعلت وتحفة قادم لأليفه
وعلى ذكر قوله «وتحفة قادم» قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي (4): وصف رجل رجلا فقال: كان والله سمحا سهلا، كأنّما بينه وبين القلوب نسب، أو بينه وبين الحياة سبب، إنما هو عيادة مريض، وتحفة قادم، وواسطة عقد.
وأخذ بعض بني العباس رجلا طالبيّا، فهمّ بعقوبته، فقال الطالبي: والله لولا أن أفسد ديني بفساد دنياك لملكت من لساني أكثر ممّا ملكت من سوطك، والله إنّ كلامي
__________
(1) الأنوار: جمع نور وهو الزهر. لسان العرب (نور).
(2) المهرق: الصحيفة. العجلان: المسرع. الرّفلان: السير في تبختر. الوجيف: السير السريع. لسان العرب (هرق) و (عجل) و (رفل) و (وجف).
(3) المشوف: المجلوّ. لسان العرب (شوف).
(4) هو ابن النديم الموصلي، الذي تفرّد بصناعة الغناء، وكان عالما باللغة والموسيقى والتاريخ وعلوم الدين. توفي سنة 235هـ، ترجمته في الفهرست (ص 157) ووفيات الأعيان (ج 1ص 202) والأغاني (ج 17ص 116) و (ج 20ص 334) ومعجم الأدباء (ج 2ص 129) والأعلام (ج 1 ص 292).(1/20)
لفوق الشعر، ودون السّحر، وإنّ أيسره ليثقب الخردل، ويحطّ الجندل.
وقال علي بن العباس، يصف حديث امرأة (1) [الكامل]:
وحديثها السّحر الحلال لو انه ... لم يجن قتل المسلم المتحرّز (2)
إن طال لم يملل، وطن هي أو جزت ... ودّ المحدّث أنّها لم توجز
شرك العقول، ونزهة ما مثلها ... للمطمئنّ، وعقلة المستوفز (3)
ألمّ في بيته الآخر بقول الطائي (4) [الطويل]:
كواعب أتراب لغيداء أصبحت ... وليس لها في الحسن شكل ولا ترب (5)
لها منر قيد النواظر لم يزل ... يروح ويغدو في خفارته الحبّ (6)
وأول من استثار هذا المعنى امرؤ القيس بن حجر الكندي في قوله (7) [الطويل]:
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل (8)
وقالت عليّة بنت المهدي (9) [مجزوء الكامل]:
اشرب على ذكر الغزا ... ل الأغيد الحلو الدّلال
اشرب عليه وقل له: ... يا غلّ ألباب الرجال (10)
وكانت عليّة لطيفة المعنى، رقيقة الشعر، حسنة مجاري الكلام، ولها ألحان
__________
(1) علي بن العباس هو ابن الرومي، وبيتاه الأول والثاني في فوات الوفيات (ج 1ص 170).
(2) المتحرّز: المتحفظ. لسان العرب (حرز).
(3) الشّرك، بفتح الشين والراء: الفخّ. العقلة: العقال. المستوفز: المستعجل. لسان العرب (شرك) و (عقل) و (وفز). والشاعر يريد أن يقول إن حديثها نزهة للمطمئن وعقلة المستعجل.
(4) ديوان أبي تمام (ص 32) من قصيدة مديح.
(5) الكواعب: جمع كاعب وهي الفتاة التي كعب ثديها. الأتراب: جمع ترب وهي السّنّ. لسان العرب (كعب) و (ترب).
(6) قيد النواظر: أي هي للنواظر كالقيد. الخفارة: الحماية. لسان العرب (قيد) و (خفر).
(7) ديوان امرىء القيس (ص 19).
(8) الوكنات: جمع وكنة وهي العشّ. المنجرد: الفرس القصير الشعر. الأوابد: الوحوش النافرة.
الهيكل: الفرس الضخم. لسان العرب (وكن) و (جرد) و (أبد) و (هيكل).
(9) علية بنت المهدي: هي أخت هارون الرشيد كانت من أظرف النساء. توفيت سنة 210هـ. ترجمتها في فوات الوفيات (ج 3ص 123) والأغاني (ج 10ص 199) والأبيات في المصدرين المذكورين ببعض الاختلاف عمّا هنا.
(10) الغلّ: الطوق يوضع في عنق الأسير. لسان العرب (غلل).(1/21)
حسان، وعلقت بغلام اسمه «رشأ» وفيه تقول (1) [مجزوء الكامل]:
أضحى الفؤاد بزينبا ... صبّا كئيبا متعبا
فجعلت زينب سترة ... وكتمت أمرا معجبا
[قولها: بزينب تريد برشأ].
فنمي الأمر إلى أخيها الرشيد، فأبعده، وقيل: قتله، وعلقت بعده بغلام اسمه «طلّ»، فقال لها الرشيد: والله لئن ذكرته لأقتلنّك! فدخل عليها يوما على حين غفلة وهي تقرأ: فإن لم يصبها وابل فما نهى عنه أمير المؤمنين، فضحك، وقال: ولا كلّ هذا، وهي القائلة [الكامل]:
يا عاذلي، قد كنت قبلك عاذلا ... حتى ابتليت فصرت صبّا ذاهلا
الحب أول ما يكون مجانة (2) ... فإذا تحكّم صار شغلا شاغلا
[أرضى فيغضب قاتلي فتعجبّوا ... يرضى القتيل ولا يرضّي القاتلا]
وهي القائلة (3) [الرمل]:
وضع الحبّ على الجور، فلو ... أنصف المعشوق فيه لسمج (4)
[وقليل الحب صرفا خالصا ... لك خير من كثير قد مزج]
ليس يستحسن في نعت الهوى ... عاشق يحسن تأليف الحجج
وكأنها ذهبت في الأول إلى قول العباس بن الأحنف (5) [الطويل]:
وأحسن أيام الهوى يومك الذي ... تروّع بالهجران فيه وبالعتب
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب؟
وقد زاد النميري (6) في هذا فقال [الخفيف]:
راحتي في مقالة العذّال ... وشفائي في قيلهم بعد قال
__________
(1) البيتان في الأغاني (ج 10ص 203) ببعض الاختلاف عمّا هنا.
(2) المجانة: العبث. لسان العرب (مجن).
(3) الأبيات في الأغاني (ج 10ص 213) وفوات الوفيات (ج 3ص 125) ببعض الاختلاف عمّا هنا.
(4) سمج: قبح. لسان العرب (سمج).
(5) البيتان في فوات الوفيات (ج 3ص 125) ببعض الاختلاف عمّا هنا.
(6) النميري: هو أبو حيّة النميري، واسمه الهيثم بن الربيع، وتوفي نحو 183هـ. ترجمته في الشعر والشعراء (ص 658) والأغاني (ج 16ص 331) والأعلام (ج 8ص 103).(1/22)
لا يطيب الهوى ولا يحسن الح ... بّ لصبّ، إلّا بخمس خصال
بسماع الأذى، وعذل نصيح، ... وعتاب، وهجرة، وتقال (1)
وقال بعض المحدثين [الكامل]:
لولا اطّراد الصيد لم تك لذّة ... فتطاردي لي في الوصال قليلا (2)
هذا الشراب أخو الحياة وماله ... من لذة حتى يصيب غليلا
وقال آخر [الطويل]:
دع الصبّ يصلى بالأذى من حبيبه ... فإنّ الأذى ممّن تحبّ سرور (3)
غبار قطيع الشاء في عين ذئبها ... إذا ما تلا آثار هنّ ذررر (4)
وأنشد الأصمعي [لجميل بن معمر العذري] (5): [البسيط]
لا خير في الحبّ وقفا لا تحرّكه ... عواض أليأس أو يرتاحه الطّمع
لو كان لي صبرها أو عندها جزعي ... لكنت أملك ما آتي وما أدع
إذا دعا باسمها داع ليحزنني ... كادت له شعبة من مهجتي تقع (6)
وهذا البيت كقول علي بن العباس الرومي: [الكامل]
لا تكثرنّ ملامة العشاق ... فكفاهم بالوجد والأشواق
إن البلاء يطاق غير مضاعف ... فإذا تضاعف كان غير مطاق
لا تطفئنّ جوى بلوم إنه ... كالريح تغري النار بالإحراق
ويشبه بيت عليّة الآخر بيت أنشد في شعر روي لأبي نواس، ورواه قوم لعنان جارية الناطفي (7)، وهو: [الكامل]
حلو العتاب يهيجه الإدلال ... لم يحل إلّا بالعتاب وصال
__________
(1) التقالي: التباغض. لسان العرب (قلا).
(2) اطراد الصيد: جريه. لسان العرب (طرد).
(3) يصلى: يحترق. لسان العرب (صلا).
(4) الذّرور: ما يذرّ على اللحم، أو ما يذرّ على الجرح في العين من الإكحال ونحوه من الأدوية. لسان العرب (ذرر). يقول: إن غبار الشاء في عين الذئب كالدواء يذرّ في العين.
(5) لم ترد هذه الأبيات في ديوان جميل بثينة.
(6) الشعبة: القطعة. لسان العرب (شعب).
(7) عنان الناطفية: شاعرة بارعة، كانت جارية لرجل من أهل بغداد يدعى الناطفي. توفيت سنة 226هـ.
ترجمتها في الأغاني (ج 23ص 92)، والنجوم الزاهرة (ج 2ص 247) والأعلام (ج 5ص 90).(1/23)
لم يهو قطّ ولم يسمّ بعاشق ... من كان يصرف وجهه التّعذال (1)
وجميع أسباب الغرام يسيرة ... ما لم يكن غدر ولا استبدال
تصف القضيب على الكثيب قناتها ... ولها من البدر المنير مثال
ولربّ لابسة قناع ملاحة ... حسناء سار بحسنها الأمثال
كست الحداثة ظرفها وجمالها ... نورا فماء شبابها يختال (2)
وكأنها والكأس فوق بنانها ... شمس يمدّ بها إليك هلال
حتى إذا ما استأنست بحديثها ... وتكلّمت بلسانها الجريال (3)
قلنا لها: إن صدّقت أقوالها ... أفعالها وجرى بهنّ الفال
قولي فليس تراك عين نميمة ... حضر النصيح وغابت العذّال
وضمير ما اشتملت عليه ضلوعنا ... سرّ لدى أبوابه أقفال
وقد أخذ أبو الطيب المتنبي معنى «قيد الأوابد»، فقال يصف كلبا (4): [الرجز]
نيل المنى وحكم نفس المرسل ... وعقلة الظبي وحتف التّتفل (5)
كأنّ من علمه بالمقتل ... علّم بقراط فصاد الأكحل (6)
وقال في بني حمدان (7): [الكامل]
متصعلكين على كثافة ملكهم ... متواضعين على عظيم الشأن
يتقبّلون ظلال كلّ مطهّم ... أجل الظليم وربقة السّرحان (8)
وقال أعرابي يصف فرسا: إنه لدرك الطالب، ومنجى الهارب، وقيد الرّهان، وزين الفناء.
__________
(1) التّعذال: اللوم. لسان العرب (عذل).
(2) يختال: يترقرق. لسان العرب (خيل).
(3) الجريال: الخمر. لسان العرب (جرل).
(4) ديوان المتنبي (ص 131130).
(5) العقلة: ما يعقل به الشيء كالقيد ونحوه. التّتفل: الثعلب. لسان العرب (عقل) و (تفل). يقول: به تنال منية الصائد ويدرك ما في نفس مرسله على الصيد فيعقل به الظبي عن الإفلات ولا ينجو الثعلب من بين يديه.
(6) الأكحل: عرق في اليد. لسان العرب (كحل).
(7) ديوان المتنبي (ص 442441).
(8) الظليم: الذكر من النعام. الرّبقة: العروة من حبل يشدّ بها. السرحان: الذئب. لسان العرب (ظلم) و (ربق) و (سرح). يقول: إذا خرجوا في الغارات استظلّوا عند اشتداد الحرّ بظلّ خيولهم، وأن خيلهم إذا طردت النعام والذئاب أدركتها فقتلتها ومنعتها من العدو فكانت قيدا لها.(1/24)
وقال بعض أهل العصر في وصف غلام: وجهه قيد الأبصار، وأمد الأفكار، ونهاية الاعتبار.
وقال أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد (1): [الطويل]
وقد أغتدي للصّيد غدوة أصيد (2) ... أعاجل فيها الوحش والوحش هجّد
فعنّت ظباء خفن تحتي مطلق الي ... دين به أيدي الوحوش تقيّد (3)
فأدركتها والسيف لمعة بارق ... ولم يغنها إحضارها (4) حين تجهد (5)
وما بلغت حدّ الثلاثين مدّتي ... وهذا طراز الشيب فيه يمدّد
وأبيات ابن الرومي من أجود ما قيل في حسن الحديث، وقد توسّع الشعراء في هذا الباب، وكثر إحسانهم، كما كثر افتنانهم، وسأجري شأوا في مختار ما قيل في ذلك، وأعود إلى ما بدأت به.
قال القطامي واسمه عمير بن شييم التغلبي، وسمي القطامي لقوله: [الرجز]
يحطّهنّ جانبا فجانبا ... حطّ القطاميّ القطا القواربا (6)
وقال أبو عبيدة: ويقال للصقر قطامي وقطامي: [البسيط]
وفي الخدور غمامات برقن لنا ... حتى تصيّدننا من كلّ مصطاد
يقتلننا بحديث ليس يعلمه ... من يتقينّ ولا مكنونه بادي
فهنّ ينبدن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلّة الصّادي (7)
__________
(1) هو الصاحب بن عباد، وزير مؤيد الدولة البويهي، غلب عليه الأدب، وتوفي سنة 385هـ. ترجمته في معجم الأدباء (ج 2ص 213) ويتيمة الدهر (ج 3ص 188) ووفيات الأعيان (ج 1ص 228) والأعلام (ج 1ص 316).
(2) الأصيد: من يرفع رأسه كبرا. لسان العرب (صيد).
(3) عنّت: عرضت. مطلق اليدين: كناية عن سرعة الفرس. لسان العرب (عنن).
(4) الإحضار: نوع من السير السريع. لسان العرب (حضر).
(5) الأرمد: كليل البصر. لسان العرب (رمد). يقول: إن الشيب لم يسم ببصره إلى عذاره.
(6) القوارب: طالبات الماء. لسان العرب (قرب).
(7) الصادي: العطشان، ومواقع الماء من العطشان: هي الأحشاء. لسان العرب (صدا). ويقول: إنّ حديثهنّ يشفي الصبّ كما يطفىء الماء لوعة الصادي.(1/25)
وقال أبو حيّة النّميري، واسمه الهيثم بن الرّبيع: [الطويل]
وخبّرك الواشون أن لن أحبّكم ... بلى وستور الله ذات المحارم
وإن دما، لو تعلمين، جنيته ... على الحيّ جاني مثله غير سالم
أصدّ وما الصدّ الذي تعليمنه ... عزاء بكم إلّا ابتلاع العلاقم (1)
حياء وتقيا أن تشيع نميمة ... بنا وبكم، أفّ لأهل النّمائم
أما إنه لو كان غيرك أرقلت ... إليه القنا بالرعفات اللهاذم (2)
ولكنه والله ما طلّ مسلما ... كغرّ الثنايا واضحات الملاغم (3)
إذا هنّ ساقطن الأحاديث للفتى ... سقوط حصى المرجان من كفّ ناظم
رمين فأنفذن القلوب، ولا ترى ... دما مائرا إلا جوى في الحيازم (4)
وقال أيضا: [الطويل]
حديث إذا لم تخش عينا كأنه ... إذا ساقطته الشّهد أو هو أطيب
لو أنك تستشفي به بعد سكرة ... من الموت كادت سكرة الموت تذهب
إلى هذا ينظر قول الآخر وإن لم يكن منه: [الطويل]
أقول لأصحابي وهم يعذلونني ... ودمع جفوني دائم العبرات
بذكر منى نفسي فبلّوا، إذا دنا ... خروجي من الدنيا، جفوف لهاتي (5)
وقال سديف مولى بني هاشم يصف نساء: [الكامل]
وإذا نطقن تخالهنّ نواظما ... درّا يفصّل لؤلؤا مكنونا
وإذا ابتسمن فإنهنّ غمامة ... أو أقحوان الرّمل بات معينا (6)
__________
(1) العلاقم: جمع علقم وهو الحنظل وكلّ شيء مرّ. لسان العرب (علقم).
(2) أرقلت: أسرعت. الراعفات: الرماح تسيل الرّعاف وهو الدم. اللهاذم: جمع لهذم وهو القاطع.
لسان العرب (رقل) و (رعف) و (لهذم).
(3) الغرّ: جمع أغرّ وهو الأبيض. الملاغم: طرف الأنف وما حوله إلى الشفتين. لسان العرب (غرر) و (لغم).
(4) الدم المائر: السائل. الحيازم: جمع حيزوم وهو ما اكتنف الحلقوم من جانب الصدر. لسان العرب (مار) و (حيزم).
(5) اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق. لسان العرب (لها).
(6) المعين: الممطور. لسان العرب (عين).(1/26)
وإذا طرفن طرفن عن حدق المها (1) ... وفضلنهنّ محاجرا وجفونا
وكأنّ أجياد الظباء تمدّها ... وخصورهنّ لطافة ولدونا (2)
وأصحّ ما رأت العيون محاجرا ... ولهنّ (3) أمرض ماغ رأيت عيونا
وكأنّهنّ إذا نهضن لحاجة ... ينهض بالعقدات من يبرينا (4)
وقال الطائي (5): [الكامل]
تعطيك منطقها فتعلم أنّه ... لجنى عذوبته يمرّ بثغرها
وأظنّ حبل وصالها لمحبّها ... أوهى وأضعف قوّة من خصرها
أخذه أبو القاسم بن هانىء، فقال يمدح جعفر بن علي، إلّا أنه قلبه فقال (6):
[الكامل]
قد طيّب الأفواه طيب ثنائه ... من أجل ذا نجد الثغور عذابا (7)
وكأنما ضرب السماء سرادقا ... بالزّاب، أو رفع النجوم قبابا (8)
أرضا وطئت الدّرّ رضراضا بها ... والمسك تربا والرياض جنابا (9)
وقال الطائي (10): [الكامل]
بسطت إليك بنانة أسروعا (11) ... تصف الفراق ومقلة ينبوعا
كادت لعرفان النّوى ألفاظها ... من رقّة الشّكوى تكون دموعا
__________
(1) المها: جمع مهاة وهي البقرة الوحشية، يشبهون الفتاة ذات العيون الواسعة بها. لسان العرب (مها).
(2) الأجياد: جمع جيد وهو العنق. اللّدون: الرقّة. لسان العرب (جيد) و (لدن).
(3) اللام في «لهنّ» لام الابتداء، والمقصود بها التوكيد.
(4) العقدات: جمع عقدة وهي الكثيب. لسان العرب (عقد). يبرين: اسم مكان من أصقاع البحرين.
معجم البلدان (ج 5ص 427).
(5) لم يرد البيتان في ديوان أبي تمام.
(6) ديوان ابن هاني الأندلسي (ص 5250).
(7) في الديوان: «فمن» بدل «من»، وهكذا ينكسر الوزن.
(8) في الديوان: «فكأنما» بدل «وكأنما». والزاب: كورة عظيمة بأرض المغرب. معجم البلدان (ج 3 ص 124).
(9) الرضراض: ما استدقّ من الحصى. لسان العرب (رضض).
(10) لم يرد البيتان في ديوان أبي تمام.
(11) الأسروع: دود أحمر الرؤوس تشبّه به الأنامل المخضبة، جمعها أساريع. لسان العرب (سرع).(1/27)
ومن جيّد هذا المعنى وقديمه قول النابغة الذبياني (1): [الكامل]
لو أنها عرضت لأشمط راهب، ... عبد الإله، صرورة متعبّد (2)
لرنا للهجتها وطيب حديثها ... ولخاله رشدا وإن لم يرشد (3)
نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر السليم إلى وجوه العوّد (4)
ومن مشهور الكلام قول الآخر: [الطويل]
وكنت إذا ما زرت سعدى بأرضها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ودّ جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
تحلّل أحقادي إذا ما لقيتها ... وترمى بلا جرم عليّ حقودها (5)
وقال بشار (6): [مجزوء الكامل]
وكأنّ رجع حديثها ... قطع الرّياض كسين زهرا
حوراء إن نظرت إلي ... ك سقتك بالعينين خمرا
تنسي الغويّ معاده ... وتكون للحكماء ذكرا
وكأنها برد الشرا ... ب صفا ووافق منك فطرا
وكأنّ تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا
وتخال ما جمعت علي ... هـ ثيابها ذهبا وعطرا (7)
وسمع بشار قول كثيّر بن عبد الرحمن (8): [الطويل]
ألا إنّما ليلى عصا خيزرانة ... إذا غمزوها بالأكفّ تلين
فقال: قاتل الله أبا صخر! يزعم أنها عصا ويعتذر بأنها خيزرانة، ولو قال: عصا
__________
(1) ديوان النابغة الذبياني (ص 147، 149).
(2) الأشمط: من خالط بياض شعره سواد. الصّرورة: الرجل لم يتزوج، للواحد والجمع. لسان العرب (شمط) و (صرر).
(3) في الديوان: «وحسن» بدل «وطيب».
(4) في الديوان: «السقيم» بدل «السليم». والسليم: الجريح الذي أشرف على الهلاك. العوّد: جمع عائد. لسان العرب (سلم) و (عود). يقول: إنها تنظر بفتور كما ينظر السليم إلى زائريه.
(5) تحلّل: تتحلّل وتذوب. لسان العرب (حلل).
(6) ديوان بشار بن برد (ص 118).
(7) يقول: إنّ جسمها قطعة من ذهب وعطر.
(8) هو كثير عزّة.(1/28)
مخّ، أو عصا زبد لكان قد هجّنها مع ذكر العصا، هلّا قال كما قلت (1): [الوافر]
ودعجاء المحاجر من معدّ ... كأنّ حديثها ثمر الجنان
إذا قامت لحاجتها تثنّت ... كأنّ عظامها من خيزران
وبعد قول كثيّر: «ألا إنما ليلى عصا خيزرانة»: [الطويل]
تمتّع بها ما ساعفتك، ولا يكن ... عليك شجى في الصّدر حين تبين
وإن هي أعطتك اللّيان فإنها ... لآخر من خلّانها ستلين
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين
وقال البحتري (2): [الطويل]
ولمّا التقينا واللّوى موعد لنا ... تعجّب رائي الدّرّ حسنا ولا قطه (3)
فمن لؤلؤ تجنيه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه (4)
وقال المتنبي (5): [الطويل]
أمنعمة بالعودة الظبية التي ... بغير وليّ كان نائلها الوسمي (6)
ترشّفت فاها سحرة فكأنني ... ترشّفت حرّ الوجد من بارد الظّلم (7)
فتاة تساوى عقدها وكلامها ... ومبسمها الدّرّيّ في النثر والنظم (8)
عاد الحديث الأول قال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي: حدّثنا يوسف بن يعقوب قال: أخبرني جدّي قراءة عليه، عن أبي داود، عن محمد بن عبيد الله، عن أبي إسحاق، عن البراء يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إنّ من الشعر لحكما، وإن من البيان لسحرا» قال أبو القاسم: هكذا روينا الخبر، وراجعت فيه الشيخ، فقال: نعم، هو:
«إنّ من الشعر لحكما» بضم الحاء وتسكين الكاف، قال: ووجهه عندي إذا روي هكذا:
__________
(1) ديوان بشار بن برد (ص 235) ورواية البيتين في الديوان فيها بعض الاختلاف عما هنا.
(2) ديوان البحتري (ج 1ص 173).
(3) في الديوان: «والنقا» بدل «واللوى».
(4) في الديوان: «تجلوه» بدل «تجنيه».
(5) ديوان المتنبي (ص 74).
(6) الوسميّ: المطر الأول، الوليّ: المطر الذي يليه. لسان العرب (وسم) و (ولي) يقول: إنها بدأت بالوصال ثم لم تعد إليه، فهل تنعم به مرة أخرى؟
(7) الظّلم، بفتح الظاء وسكون اللام: ماء الأسنان. لسان العرب (ظلم).
(8) في الديوان: «في الحسن والنّظم».(1/29)
إن من الشعر ما يلزم المقول فيه كلزوم الحكم للمحكوم عليه إصابة للمعنى، وقصدا للصواب، وفي هذا يقول أبو تمام (1): [الطويل]
ولولا سبيل سنّها الشعر ما درى ... بغاة العلى من أين تؤتى المكارم (2)
يرى حكمة ما فيه وهو فكاهة ... ويرضى بما يقضي به وهو ظالم (3)
انتهى كلام أبي القاسم.
وقد وجدنا في الشعر أبياتا يجرى على رسمها، ويمضى على حكمها فقد كان بنو أنف الناقة إذا ذكر أحد عند أحد منهم أنف الناقة فضلا عن أن ينسبهم إليه اشتدّ غضبهم عليه فما هو إلّا أن قال الحطيئة يمدحهم (4): [البسيط]
سيري أمام فإنّ الأكثرين حصى ... والأطيبين إذا ما ينسبون أبا (5)
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكربا (6)
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوّي بأنف الناقة الذّنبا
فصار أحدهم إذا سئل عن انتسابه لم يبدأ إلّا به.
وأنف الناقة: هو جعفر بن قريع بن عوف بن كعب بن زيد مناة بن تميم.
وكان بنو العجلان يفخرون بهذا الاسم، ويتشرّفون بهذا الوسم إذ كان عبد الله بن كعب جدّهم إنما سمّي العجلان لتعجيله القرى للضيّفان وذلك أن حيّا من طيء نزلوا به، فبعث إليهم بقراهم عبدا له، وقال له: اعجل عليهم، ففعل العبد، فأعتقه لعجلته، فقال القوم: ما ينبغي أن يسمّى إلّا العجلان فسمّي بذلك فكان شرفا لهم، حتى قال النجاشي، واسمه قيس بن عمرو بن حرن بن الحارث بن كعب يهجوهم: [الطويل]
أولئك أخوال اللّعين وأسرة ال ... هجين ورهط الواهن المتذلّل
وما سمّي العجلان إلّا لقوله ... خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل
__________
(1) ديوان أبي تمام (ص 254253).
(2) في الديوان: «ولولا خلال سنّها بغاة الندى من».
(3) في الديوان: «ويقضي» بدل «ويرضى».
(4) ديوان الحطيئة (ص 128).
(5) أمام، بضم الهمزة: مرخّم أمامة وهي اسم امرأة. الأكثرين حصى: أي إن أكثر الناس عديدا.
(6) العناج: حبل الدلو. الكرب: من حبال الدلو. لسان العرب (عنج) و (كرب). يقول: إنهم إذا عقدوا عقدا ربطوه بحبل بعد حبل، وهو كناية عن أنهم صادقون إذا عهدوا.(1/30)
فصار الرجل منهم إذا سئل عن نسبه قال: كعبي، ويكنى عن العجلان.
وزعمت الرواة أنّ بني العجلان استعدوا (1) على النجاشي لما قال هذا الشعر عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وقالوا: هجانا، قال: وما قال فيكم؟ فأنشدوه قوله:
[الطويل]
إذا الله عادى أهل لؤم ورقّة ... فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل
فقال: إنّ الله لا يعادي مسلما، قالوا: فقد قال: [الطويل]
قبيّلة لا يغدرون بذمّة ... ولا يظلمون الناس حبّة خردل (2)
فقال: وددت أن آل الخطاب كانوا كذلك! قالوا: فقد قال: [الطويل]
تعاف الكلاب الضاريات لحومهم ... وتأكل من عوف بن كعب بن نهشل
فقال: كفى ضياعا من تأكل الكلاب لحمه! قالوا: فقد قال: [الطويل]
ولا يردون الماء إلّا عشية ... إذا صدر الورّاد عن كلّ منهل (3)
فقال: ذلك أصفى للماء، وأقل للزّحام! قالوا: فقد قال: [الطويل]
وما سمّي العجلان إلّا لقوله ... خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل
فقال: سيّد القوم خادمهم!
وكان عمر، رضي الله عنه، أعلم بما في هذا الشعر، ولكنه درأ الحدود بالشبهات.
وهؤلاء بنو نمير بن عامر بن صعصعة من القوم، أحد جمرات العرب وأشرف بيوت قيس بن عيلان بن مضر. وجمرات العرب ثلاثة وإنما سمّوا بذلك لأنهم متوافرون في أنفسهم، لم يدخلوا معهم غيرهم والتجمير في كلام العرب: التجميع، وهم: بنو نمير بن عامر، وبنو الحارث بن كعب، وبنو ضبة بن أد. فطفئت جمرتان، وهما بنو ضبّة لأنها حالفت الرباب، وبنو الحارث لأنها حالفت مذحج، وبقيت نمير لم تحالف فهي على كثرتها ومنعتها. وكان الرجل منهم إذا قيل له: ممّن أنت؟ قال: نميري كما ترى! إدلالا بنسبه، وافتخارا بمنصبه، حتى قال جرير بن [عطية بن] الخطفي
__________
(1) استعدوا: استعانوا. لسان العرب (عدا).
(2) قبيّلة: تصغير قبيلة. يقول: إنهم ضعفاء لا يغدرون ولا حتى يظلمون.
(3) يقول: إنهم ضعفاء بحيث لا يردون الماء إلّا عند العشيّ، أي إذا انصرف عنه الناس.(1/31)
لعبيد بن حصين الراعي أحد بني نمير بن عامر (1): [الوافر]:
فغضّ الطّرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
كعب وكلاب: ابنا ربيعة بن عامر بن صعصعة فصار الرجل منهم إذا قيل له: ممن أنت؟ يقول: عامري، ويكنى عن نمير.
ومرّت امرأة بقوم من بني نمير، فأحدّوا النظر إليها، فقال منهم قائل: والله إنها لرشحاء (2)، فقالت: يا بني نمير، والله ما امتثلتم فيّ واحدة من اثنتين، لا قول الله عزّ وجلّ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصََارِهِمْ} (3) ولا قول الشاعر:
* فغضّ الطّرف إنّك من نمير *
وساير شريك بن عبد الله النميري يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري، فبرّزت (4) بغلة شريك، فقال له يزيد: غضّ من لجامها، فقال: إنها مكتوبة، أصلح الله الأمير! فضحك، وقال: ما ذهبت حيث أردت، وإنما عرّض بقوله: «غضّ من لجامها» بقول جرير:
* فغضّ الطّرف إنك من نمير *
فعرّض له شريك بقول ابن دارة: [البسيط]
لا تأمننّ فزاريّا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار (5)
وبنو فزارة يرمون بإتيان الإبل، ولذلك قال الفرزدق ليزيد بن عبد الملك لمّا ولي عمر بن هبيرة العراق (6): [الوافر]
أمير المؤمنين لأنت مرء ... أمين لست بالطّبع الحريص
أولّيت العراق ورافديه ... فزاريّا أحذ يد القميص (7)
ولم يك قبلها راعي مخاض ... ليأمنه على وركي قلوص (8)
__________
(1) البيت في وفيات الأعيان (ج 1ص 321) و (ج 6ص 321).
(2) الرّشحاء: كثيرة العرق، وهذا من عيوب المرأة. لسان العرب (رشح).
(3) سورة النور 24، الآية 30.
(4) برّزت: سبقت. لسان العرب (برز).
(5) القلوص من الإبل: الشابة بمنزلة الجارية من النساء. والأسيار: جمع سير وهو القدّة من الجلد، وقوله: كتب الناقة بالأسيار: أي ختم حياءها. لسان العرب (قلص) و (سير) و (كتب).
(6) ديوان الفرزدق (ص 136135) وروايتها في الديوان فيها بعض الاختلاف عمّا هنا.
(7) الأحذّ: المقطوع، ومقطوع يد القميص: كناية عن قصر يده في المكرمات، أو كناية عن السرقة.
(8) قوله: يخاف على وركي القلوص: كناية عن الخوف عليها من أن يأتيها عمر بن هبيرة الفزاري ويسرقها.(1/32)
تفيهق بالعراق أبو المثنّى ... وعلّم قومه أكل الخبيص (1)
الرافدان: دجلة والفرات.
وقال بعض النميريين يجيب جريرا عن شعره: [الوافر]
نمير جمرة العرب التي لم ... تزل في الحرب تلتهب التهابا
وإني إذ أسبّ بها كليبا ... فتحت عليهم للخسف بابا
ولولا أن يقال هجا نميرا ... ولم يسمع لشاعرهم جوابا
رغبنا عن هجاء بني كليب ... وكيف يشاتم الناس الكلابا
فما نفع نميرا، ولا ضرّ جريرا، بل كان كما قال الفرزدق (2): [الكامل]
ما ضرّ تغلب وائل أهجوتها ... أم بلت حيث تناطح البحران
وقال أبو جعفر محمد بن منذر مولى بني صبير بن يربوع في هجائه لثقيف: [الوافر]
وسوف يزيدكم ضعة هجائي ... كما وضع الهجاء بني نمير
وسمع الراعي (3) منشدا ينشد: [الطويل]
وعاو عوى من غير شيء رميته ... بقافية أنفاذها تقطر الدّما (4)
خروج بأفواه الرّواة كأنها ... قرى هندوانيّ إذا هزّ صمّما (5)
فارتاع له، وقال: لمن هذا؟ قيل: لجرير، قال: لعن الله من يلومني أن يغلبني مثل هذا!
وقد بنى الشعر لقوم بيوتا شريفة، وهدم لآخرين أبنية منيفة:
وما هو إلّا القول يسري فتغتدي ... له غرر في أوجه ومواسم (6)
__________
(1) تفيهق: عاش عيشة الترف. الخبيص: طعام يعمل من التمر والسمن. لسان العرب (فيهق) و (خبص).
(2) البيت لم يرد في ديوان الفرزدق.
(3) الراعي: هو عبيد بن حصين النميري، وهو شاعر فحل، لقّب بالراعي لكثرة وصفه الإبل. توفي سنة 90هـ. ترجمته في الشعر والشعراء (ص 327) والأغاني (ج 24ص 168) والأعلام (ج 4 ص 188).
(4) الأنفاذ: جمع نفذ وهو الشقّ تحدثه الطعنة. لسان العرب (نفذ).
(5) القرى: الشقّ والصدع. الهندواني: السيف المنسوب إلى الهند. صمّم: أصاب المفصل وقطعه.
لسان العرب (قرا) و (هند) و (صمم).
(6) المواسم: جمع ميسم، وأصله من الوسم، وأراد به الكيّ. لسان العرب (وسم).(1/33)
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي: سمعت أبا عمرو بن العلاء ورجل يقول:
إنما الشعر كالميسم (1). فقال: وكيف يكون ذلك كذلك؟ والميسم يذهب بذهاب الجلد ويدرس مع طول العهد، والشّعر يبقى على الأبناء بعد الآباء، ما بقيت الأرض والسماء!
وإلى هذا نحا الطائي في قوله (2): [الطويل]
وأني رأيت الوسم في خلق الفتى ... هو الوسم لا ما كان في الشّعر والجلد (3)
وقال عمر، رحمة الله عليه: تعلّموا الشعر فإن فيه محاسن تبتغى، ومساوىء تتقى.
وقال أبو تمام (4): [الكامل]
إنّ القوافي والمساعي لم تزل ... مثل النّظام إذا أصاب فريدا (5)
هي جوهر نثر فإن ألّفته ... في الشعر كان قلائدا وعقودا (6)
من أجل ذلك كانت العرب الألى ... يدعون هذا سؤددا مجدودا (7)
وتندّ عندهم العلا إلّا إذا ... جعلت لها مرر القصيد قيودا (8)
وقال علي بن الرومي: [الطويل]
أرى الشعر يحيى الناس والمجد بالذي ... تبقّيه أرواح له عطرات
وما المجد لولا الشّعر إلّا معاهد ... وما الناس إلّا أعظم نخرات
[بعض ما قاله الرسول الكريم]
رجعت إلى ما قطعت، ممّا هو أحقّ وأولى، وأجلّ وأعلى، وهو كلام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الكريم النّجر (9)، العظيم القدر، الذي هو النهاية في البيان، والغاية في البرهان
__________
(1) الميسم: المكواة يوسم به الحيوان ويعلم. محيط المحيط (وسم).
(2) ديوان أبي تمام (ص 114) من قصيدة مديح.
(3) في الديوان: «الوشم» بدل «الوسم» في الصدر والعجز.
(4) ديوان أبي تمام: (ص 8281) من قصيدة مديح.
(5) في الديوان: «الجمان» بدل «النظام».
(6) في الديوان: «بالشعر صار قلائدا».
(7) في الديوان: «محدودا» بدل «مجدودا».
(8) في الديوان: «إلّا على جعلت». وتندّ: تنفر وتذهب. والمرر: جمع مرّة وهي إحكام الفتل، ومرر القصيد: الأشعار المحكمة. محيط المحيط (ندد) و (مرر).
(9) النّجر: الأصل. لسان العرب (نجر).(1/34)
المشتمل على جوامع الكلم، وبدائع الحكم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أفصح العرب، بيد أنّي من قريش، واسترضعت في سعد بن بكر! وليس بعض كلامه بأولى من بعض بالاختيار، ولا أحقّ بالتقديم والإيثار ولكني أورد ما تيسّر منه في أول هذا الكتاب استفتاحا، وتيمّنا بذلك واستنجاحا.
وهذه شذور من قوله صلى الله عليه وسلم، الصريح الفصيح، العزيز الوجيز، المتضمّن بقليل من المباني كثير المعاني:
قوله للأنصار: إنكم لتقلّون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع.
وقوله عليه الصلاة والسلام: المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم. الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة. إياكم وخضراء الدّمن (1).
كلّ الصّيد في جوف الفرا (2) قاله لأبي سفيان صخر بن حرب. الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا. المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا.
أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم. المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور. المرأة كالضلع إن رمت قوامها (3) كسرتها، وإن داريتها استمتعت بها. اليد العليا خير من اليد السفلى. مطل الغنيّ ظلم. يد الله مع الجماعة. الحياء شعبة من الإيمان، مثل أبي بكر كالقطر، أينما وقع نفع. لا تجعلوني في أعجاز (4) كتبكم كقدح الراكب. أربعة من كنوز الجنة: كتمان الصّدقة والمرض والمصيبة والفاقة. جنة الرجل داره. الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. كفى بالسلامة داء. إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم. ما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى. كلّ ميسّر لما خلق له. اليمين حنث أو مندمة (5). دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. انصر أخاك ظالما كان أو مظلوما. احترسوا من الناس بسوء الظّنّ. الندم توبة. انتظار الفرج عبادة. نعم صومعة الرجل بيته. المستشير معان والمستشار مؤتمن.
__________
(1) الدّمن: جمع دمنة وهي مربط الخيل والإبل، ينبت فيها النبات فيكون رائع الخضرة لكثرة الماء والسماد. لسان العرب (دمن).
(2) قوله: «كلّ الصّيد في جوف الفرا» مثل يضرب لمن يفضّل على أقرانه. والفرا: الحمار الوحشي، وجمعه فراء أي ليس مما يصيده الناس أعظم من الحمار الوحشي. مجمع الأمثال (ج 2ص 136، الرقم 3010).
(3) القوام، بكسر القاف: التقويم. لسان العرب (قوم).
(4) الأعجاز: الأواخر، مفردها عجز. لسان العرب (عجز).
(5) الحنث، بكسر الحاء وسكون النون: الذنب. لسان العرب (حنث). يقول: إنك حين تقسم تقع بين الذنب والندم.(1/35)
المرء كثير بأخيه. إنّ للقلوب صدأ كصدإ الحديد وجلاؤها الاستغفار. اليوم الرّهان وغدا السبّاق، والجنّة الغاية. كلّ من في الدنيا ضيف، وما في يديه عاريّة، والضيف مرتحل، والعاريّة مؤدّاة.
ومن جوامع كلمه، عليه الصلاة والسلام، ما رواه أهل الصحيح عن علقمة بن وقّاص الليثي عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:
«إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».
قال أبو القاسم حمزة بن محمد الكناني: سمعت أهل العلم يقولون: هذا الحديث ثلث الإسلام، والثلث الثاني ما رواه النعمان بن بشير (1) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، فمن تركها كان أوفى لدينه وعرضه، ومن واقعها كان كالراتع حول الحمى ألا وإنّ لكل ملك حمى، ألا وإنّ حمى الله محارمه» (2).
قال: و [الثلث] الثالث ما رواه مالك [عن] ابن شهاب عن علي بن حسين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».
وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الشعر وأثاب عليه، وندب حسّان بن ثابت إليه، وقال:
إن الله ليؤيّده بروح القدس ما نافح (3) عن نبيّه.
ولما انتهى شعر أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، شقّ عليه (4) فدعا عبد الله بن رواحة (5) فاستنشده فأنشده فقال: أنت شاعر كريم، ثم دعا
__________
(1) النعمان بن بشير خطيب شاعر من أهل المدينة، تنسب إليه معرّة النعمان. ولي القضاء بدمشق، وتوفي سنة 65هـ. الأعلام (ج 8ص 36) ومصادر حاشيته.
(2) الحمى: الشيء المحمي الممنوع. المحارم: جمع محرم وهو الحرام. يقول: إنّ المحرمات تشبه الحمى فكما أنه لا يجرؤ أحد على الاقتراب من الحمى، كذلك فإنه ليس من الممكن هتك ما حرّمه الله ورسوله.
(3) نافح عنه: دافع. لسان العرب (نفح).
(4) شقّ عليه: عظم عليه. لسان العرب (شقق).
(5) عبد الله بن رواحة: صحابي، شهد بدرا وأحدا والخندق والحديبية. استخلفه النبي، صلى الله عليه وسلم، على المدينة في إحدى غزواته. استشهد في وقعة مؤتة سنة 8هـ. الأعلام (ج 4ص 86) ومصادر حاشيته.(1/36)
كعب بن مالك (1) فاستنشده فأنشده، فقال: أنت تحسن صفة الحرب، ثم دعا بحسّان بن ثابت فقال: أجب عني، فأخرج لسانه فضرب به أرنبته (2) ثم قال: والذي بعثك بالحق ما أحبّ أن لي به مقولا في معدّ ولو أن لسانا فرى الشّعر لفراه (3). ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يمسّ من أبي سفيان، فقال: وكيف، وبيني وبينه الرّحم التي قد علمت؟ فقال: أسلّك منه كما تسلّ الشّعرة من العجين! فقال: اذهب إلى أبي بكر، وكان أعلم الناس بأنساب قريش، وسائر العرب، وعنه أخذ جبير بن مطعم علم النسب، فمضى حسان إليه فذكر له معايبه، فقال حسّان بن ثابت: [الطويل]
وإنّ سنام المجد من آل هاشم ... بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
ومن ولدت أبناء زهرة منهم ... كرام، ولم يقرب عجائزك المجد (4)
ولست كعبّاس ولا كابن أمّه ... ولكن لئيم لا يقوم له زند (5)
وإن امرأ كانت سميّة أمّه ... وسمراء مغموز إذا بلغ الجهد (6)
وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد (7)
فلما بلغ هذا الشعر أبا سفيان قال: هذا كلام لم يغب عنه ابن أبي قحافة (8)، يعني ببني بنت مخزوم عبد الله وأبا طالب والزبير بني عبد المطلب بن هاشم [بن عبد مناف]، أمّهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وأخواتهم برّة وأميمة والبيضاء، وهي أم حكيم، والبيضاء جدّة عثمان بن عفان أمّ أمه.
وقوله: «ومن ولدت أبناء زهرة منهم كرام» يعني أميمة وصفية أم الزبير بن العوام، أمّها هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة.
__________
(1) كعب بن مالك: صحابي من أهل المدينة، اشتهر في الجاهلية، وكان في الإسلام من شعراء الرسول الكريم. توفي سنة 50هـ. الأغاني (ج 16ص 240) ومعجم الشعراء (ص 342) والأعلام (ج 5 ص 228).
(2) الأرنبة: طرف الأنف. محيط المحيط (رنب).
(3) فرى الشّعر: محاه، وهنا كناية عن غاية الإيذاء. لسان العرب (فرا).
(4) العجائز: جمع عجوز. لسان العرب (عجز).
(5) الزّند: موصل طرف الذراع في الكفّ. لسان العرب (زند).
(6) المغموز: الخامل. لسان العرب (غمز).
(7) الزنيم: الدّعيّ. لسان العرب (زنم).
(8) هو أبو بكر الصّدّيق عبد الله بن أبي قحافة القرشي، أول الخلفاء الراشدين. توفي سنة 13هـ.
الأعلام (ج 4ص 102) ومصادر حاشيته.(1/37)
وقوله: «ولست كعباس ولا كابن أمه» أمّ العباس: نتيلة امرأة من النّمر ابن قاسط، وأخوه لأمه ضرار بن عبد المطلب.
وقوله: «وإن امرأ كانت سمية أمه» سمية أم أبي سفيان، وسمراء: أم أبيه، وليس هذا موضع إطناب في رفع الأنساب.
وكان عبد الأعلى بن عبد الرحمن الأموي عتب على بعض ولد الحارث فقال له معرّضا بما قال حسان: [السريع]
إخال بالعمّ وبالجدّ ... مفتخرا بالقدح الفرد
الهج بحسّان وأشعاره ... فإنها أدعى إلى المجد
لولا سيوف الأزد لم تؤمنوا ... ولم تقيموا سورة الحمد
فتوعّدوه، فخافهم، فقال: [الطويل]
بني هاشم، عفوا عفا الله عنكم ... وإن كان ثوبي حشو ثنييه مجرم (1)
لكم حرم الرحمن والبيت والصّفا ... وجمع وما ضمّ الحطيم وزمزم (2)
فإن قلتم بادهتنا بعظيمة ... فأحلامكم منها أجلّ وأعظم
وأسلم أبو سفيان رحمه الله! وشهد مع النبي، صلى الله عليه وسلم، يوم حنين (3)، وكان ممسكا بغلته حين فرّ الناس، وهو أحد الذين ثبتوا، وهم على ما ذكره أبو محمد عبد الملك بن هشام أبو بكر، وعمر، وعلي، والعباس، وأبو سفيان ابن الحارث، وابنه الفضل، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن ابن أم أيمن بن عبيدة قتل يومئذ، وبعض الناس يعدّ فيهم قثم بن العباس، ولا يعدّ أبا سفيان، وكان أبو سفيان من أشعر قريش، وهو القائل: [الوافر]
لقد علمت قريش غير فخر ... بأنّا نحن أجودهم حصانا
وأكثرهم دروعا سابغات (4) ... وأمضاهم إذا طعنوا سنانا
__________
(1) حشو ثنيي الثوب: أي لا بس ثوبه.
(2) الحطيم: موضع بمكة ما بين الركن والمقام وزمزم والحجر. معجم البلدان (ج 2ص 273).
وزمزم: هي البئر المباركة المشهورة. معجم البلدان (ج 3ص 147).
(3) حنين: واد بين مكة والطائف، حارب المسلمون فيه المشركين، فأدرك المسلمين إعجاب بأنفسهم لكثرتهم فانهزموا حتى بلغ فلّهم مكة. وكانت غزوة حنين سنة 8هـ. الكامل في التاريخ (ج 2 ص 266261) والعقد (صفحات متفرقة).
(4) الدروع السابغات: الطويلة الضافية. لسان العرب (سبغ).(1/38)
وأدفعهم عن الضّرّاء عنهم ... وأبينهم إذا نطقوا لسانا
ويروى أنّ ابن سيرين قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سفره قد شنق ناقته بزمامها حتى وضعت رأسها عند مقدمة الرّحل إذ قال: يا كعب ابن مالك: احد بنا! فقال كعب:
[الوافر]
قضينا من تهامة كلّ حقّ ... وخيبر ثم أجممنا (1) السّيوفا
نخيّرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهنّ: دوسا أو ثقيفا
فقال عليه السلام: والذي نفسي بيده لهي أشدّ عليهم من رشق النّبل! ويقال: إنّ دوسا أسلمت فرقا (2) من كلمة كعب هذه، وقالوا: اذهبوا فخذوا لأنفسكم الأمان من قبل أن ينزل بكم ما نزل بغيركم!
وقتل النبي صلى الله عليه وسلم، النضر بن الحارث، وكان ممن أسر يوم بدر (3)، وكان شديد العداوة لله ولرسوله، وقتله عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، صبرا، فعرضت للنبي صلى الله عليه وسلم، أخته قتيلة بنت الحارث وفي بعض الروايات أن قتيلة أتته فأنشدته: [الكامل]
يا راكبا إنّ الأثيل مظنّة ... من صبح غادية وأنت موفّق (4)
أبلغ بها ميتا بأنّ تحيّة ... ما إن تزال بها النّجائب تعنق (5)
منّي إليه وعبرة مسفوحة ... جادت بواكفها وأخرى تخنق (6)
هل يسمعنّي النّضر إن ناديته ... إن كان يسمع ميّت لا ينطق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقّق (7)
__________
(1) أجممنا: أرحنا. لسان العرب (جمم).
(2) الفرق، بفتح الفاء والراء: الخوف. لسان العرب (فرق).
(3) وقعت غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، وفيها قتل النضر بن الحارث. الكامل في التاريخ (ج 2 ص 136116).
(4) الأثيل: اسم مكان قتل فيه النضر بن الحارث على يد علي بن أبي طالب صبرا. الكامل في التاريخ (ج 2ص 73).
(5) تعنق: تسير سيرا حثيثا، والعنق خاصّ بالإبل والدواب. النجائب: جمع نجيبة وهي الناقة. لسان العرب (عنق) و (نجب).
(6) يقال: وكف الماء إذا سال قليلا قليلا. لسان العرب (وكف).
(7) تنوشه: تناله بالطعن. لسان العرب (نوش).(1/39)
قسرا يقاد إلى المنيّة متعبا ... رسف المقيّد وهو عان موثق (1)
أمحمد، ها أنت صنو كريمة ... في قومها والفحل فحل معرق (2)
ما كان ضرّك لو مننت وربّما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق (3)
فالنضر أقرب من قتلت قرابة ... وأحقّهم إن كان عتق يعتق
أو كنت قابل فدية فليفدين ... بأعزّ ما يغلى به من ينفق
فذكر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقّ لها ودمعت عيناه، وقال لأبي بكر: لو كنت سمعت شعرها ما قتلته.
والنضر هذا هو النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار.
قال الزبير بن بكار (4): وسمعت بعض أهل العلم يغمز في أبيات قتيلة بنت الحارث ويقول: إنّها مصنوعة.
[بعض ما قاله أبو بكر الصديق]
ودخل أبو بكر الصديق رضوان الله عليه، على النبي عليه الصلاة والسلام وهو مسجّى بثوب، فكشف عنه الثوب وقال: بأبي أنت وأمي! طبت حيّا وميّتا، وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء من النبوّة، فعظمت عن الصفة، وجللت عن البكاء، وخصصت حتى صرت مسلاة، وعممت حتى صرنا فيك سواء. ولولا أنّ موتك كان اختيارا منك لجدنا لموتك بالنفوس، ولولا أنك نهيت عن البكاء لأنفدنا عليك ماء الشؤون (5). فأمّا ما لا نستطيع نفيه عنّا فكمد وإدناف (6) يتحالفان ولا يبرحان. اللهم فأبلغه عنّا السلام، اذكرنا يا محمد عند ربّك، ولنكن من بالك فلولا ما خلّفت من السكينة لم نقم لما خلّفت من الوحشة اللهمّ أبلغ نبيّك عنّا واحفظه فينا، ثم خرج.
قوله رضي الله عنه: «لولا أن موتك كان اختيارا منك» إنّما يريد قول النبي صلى الله عليه وسلم: لم
__________
(1) الرّسف: مشي المقيّد. العاني: الأسير. الموثق: المقيّد. لسان العرب (رسف) و (عنا) و (وثق).
وهذا البيت والبيتان التاليان في وفيات الأعيان (ج 3ص 437).
(2) معرق: أصيل. لسان العرب (عرق).
(3) منّ: صفح. المحنق: المملوء بالغيظ. لسان العرب (منن) و (حنق).
(4) الزبير بن بكار: راوية وعالم بالأنساب وأخبار العرب. ولي قضاء مكة، وتوفي بها سنة 256هـ.
ترجمته في وفيات الأعيان (ج 3ص 311) وتاريخ بغداد (ج 8ص 467) والأعلام (ج 3ص 42).
(5) الشؤون: جمع شأن وهو مجرى الدمع إلى العين. لسان العرب (شأن).
(6) الإدناف: المرض الثقيل. لسان العرب (دنف).(1/40)
يقبض نبيّ حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخيّر. قالت عائشة رضي الله عنها: فسمعته وقد شخص بصره وهو يقول: في الرفيق الأعلى! فعلمت أنه خيّر، فقلت: لا يختارنا إذن، وقلت: هو الذي كان يحدثنا وهو صحيح.
وكان أبو بكر، لمّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أرضه بالسّنح (1)، فتواترت إليه الرسل، فأتى وقد ذهل الناس، فكانوا كالخرس، وتفرقت أحوالهم، واضطربت أمورهم، فكذّب بعضهم بموته، وصمت آخرون فما تكلّموا إلّا بعد [التغير]، وخلط آخرون فلاثوا (2)، الكلام بغير بيان، وحقّ لهم ذلك للرزيّة العظمى، والمصيبة الكبرى، التي هي بيضة العقر (3)، ويتيمة الدهر، ومدى المصائب، ومنتهى النوائب، فكل مصيبة بعدها جلل (4)
عندها، ولذلك قال، صلى الله عليه وسلم: لتعزّ المسلمين في مصائبهم المصيبة بي.
وكان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ممن كذّب بموته، وقال: ما مات، وليرجعنّه الله، فليقطعنّ أيدي المنافقين وأرجلهم، يتمنّون لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، الموت وإنما واعده ربّه كما واعد موسى، وهو يأتيكم.
وأما عثمان، رضي الله عنه، فكان ممن أخرس فجعل لا يكلّم أحدا، فيؤخذ بيده ويجاء به فينقاد.
وأمّا علي، رضي الله عنه، فلبط بالأرض، فقعد ولم يبرح البيت حتى دخل أبو بكر، وهو في ذلك جلد (5) العقل والمقالة، فأكبّ عليه، وكشف عن وجهه ومسحه، وقبّل جبينه، وبكى بكاء شديدا، وقال الكلام الذي قدّمته. ولمّا خرج إلى الناس وهم في شديد غمراتهم، وعظيم سكراتهم، قام فخطب خطبة جلّها الصلاة على النبي، صلى الله عليه وسلم، قال فيها:
أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله، وأشهد أن الكتاب كما نزل وأن الدين كما شرع، وأنّ الحديث كما حدث، وأن القول كما قال، وأن الله هو الحقّ المبين. في كلام طويل، ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإنّ
__________
(1) السّنح، بضم السين وسكون النون: إحدى محالّ المدينة كان بها منزل أبي بكر الصديق. معجم البلدان (ج 3ص 265).
(2) لاثوا: خلطوا. لسان العرب (لوث).
(3) قوله: «بيضة العقر» مثل يضرب لما لا يكون يقال إنها بيضة الديك، يضرب للشيء يكون مرة واحدة. مجمع الامثال (ج 1ص 96، رقم 466).
(4) الجلل: هنا بمعنى الحقير من الأمور، والمراد أن كل مصيبة تهون وتحتقر بعد المصيبة الكبرى، مصيبة موت النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
(5) الجلد: الثابت. لسان العرب (جلد).(1/41)
محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حقّ لا يموت، وإن الله قد تقدّم إليكم في أمره، فلا تدعوه جزعا، وإن الله قد اختار لنبيّه ما عنده على ما عندكم، وقبضه إلى ثوابه، وخلّف فيكم كتابه، وسنة نبيّه، فمن أخذ بهما عرف، ومن فرّق بينهما أنكر {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوََّامِينَ بِالْقِسْطِ} (1)، ولا يشغلنّكم الشيطان بموت نبيّكم، ويفتننّكم عن دينكم فعاجلوه بالذي تعجزونه، ولا تستنظروه فيلحق بكم.
فلمّا فرغ من خطبته قال: يا عمر، بلغني أنك تقول ما مات نبيّ الله، أما علمت أنه قال في يوم كذا وكذا، وفي يوم كذا وكذا: قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (2)؟ فقال عمر: والله لكأني لم أسمع بها في كتاب الله قبل لما نزل بنا، أشهد أنّ الكتاب كما نزل، وأن الحديث كما حدّث، وأنّ الله حيّ لا يموت، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون! ثم جلس إلى جنب أبي بكر رحمه الله.
قالت عائشة، رضوان الله عليها: لما قبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نجم النّفاق (3)، وارتدّت العرب، وكان المسلمون كالغنم الشاردة، في الليلة الماطرة، فحمل أبي ما لو حملته الجبال لهاضها (4)، فو الله إن اختلفوا في معظم إلّا ذهب بحظّه ورشده، وغنائه، وكنت إذا نظرت إلى عمر علمت أنه إنما خلق للإسلام، فكان والله أحوذيّا (5) نسيج وحده، قد أعدّ للأمور أقرانها.
وحدث أبو بكر بن دريد عن عبد الأول بن يزيد قال: حدّثني رجل في مجلس يزيد بن هارون (6) بالبصرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، دفن ورجع المهاجرون والأنصار إلى رحالهم، ورجعت فاطمة إلى بيتها فاجتمع إليها نساؤها، فقالت: [الكامل]
اغبرّ آفاق السماء، وكوّرت ... شمس النهار، وأظلم العصران (7)
__________
(1) سورة النساء 4، الآية 135.
(2) سورة الزمر 39، الآية 30.
(3) نجم النفاق: ظهر. لسان العرب (نجم).
(4) هاضها: دكّها وحطّمها. لسان العرب (هيض).
(5) الأحوذيّ: الحاذق. لسان العرب (حوذ).
(6) يزيد بن هارون: من حفاظ الحديث الثقات، توفي سنة 206هـ. ترجمته في تاريخ بغداد (ج 14 ص 337) والأعلام (ج 8ص 190).
(7) كوّرت الشمس: ذهب ضوؤها. لسان العرب (كور). وهذا من قول الله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}. سورة التكوير 81، الآية 1.(1/42)
فالأرض من بعد النبي كئيبة ... أسفا عليه كثيرة الرجفان (1)
فليبكه شرق البلاد وغربها ... وليبكه مضر وكل يمان
وليبكه الطّور المعظّم جوّه ... والبيت ذو الأستار والأركان
يا خاتم الرسل المبارك ضوءه ... صلى عليك منزّل الفرقان
وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أثني عليه يقول: اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، فاجعلني خيرا ممّا يحسبون، واغفر لي برحمتك ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون.
وقال رحمه الله في بعض خطبه: إنكم في مهل، من ورائه أجل، فبادروا في مهل آجالكم، قبل أن تنقطع آمالكم، فتردكم إلى سوء أعمالكم.
وذكر أبو بكر الملوك فقال: إن الملك إذا ملك زهّده الله في ماله ورغبّه في مال غيره، وأشرب قلبه الإشفاق فهو يسخط على الكثير، ويحسد على القليل، جذل الظاهر، حزين الباطن، حتى إذا وجبت نفسه (2)، ونضب عمره، وضحا ظلّه (3) حاسبه فأشدّ حسابه وأقلّ عفوه.
وذكر أنه وصل إلى أبي بكر مال من البحرين، فساوى فيه بين الناس، فغضبت الأنصار، وقالوا له: فضّلنا! فقال أبو بكر: صدقتم، إن أردتم أن أفضلكم صار ما عملتموه للدنيا، وإن صبرتم كان ذلك لله عزّ وجلّ! فقالوا: والله ما عملنا إلّا لله تعالى، وانصرفوا فرقي أبو بكر المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على النبي، صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا معشر الأنصار، إن شئتم أن تقولوا: إنّا آويناكم في ظلالنا، وشاطرناكم في أموالنا، ونصرناكم بأنفسنا لقلتم، وإنّ لكم من الفضل ما لا يحصيه العدد، وإن طال به الأمد، فنحن وأنتم كما قال طفيل الغنوي (4): [الطويل]
جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلّت
__________
(1) الرّجفان: الاضطراب. لسان العرب (رجف).
(2) وجبت نفسه: فاضت. لسان العرب (وجب).
(3) ضحا ظلّه: كناية عن أنه مات. لسان العرب (ضحا).
(4) طفيل بن كعب الغنوي من أوصف الناس للخيل، كان يقال له في الجاهلية «المحبّر» لحسن شعره.
توفي نحو 13ق. هـ. ترجمته في الشعر والشعراء (ص 364) والأغاني (ج 15ص 337) ومعجم الشعراء (ص 147، 184) والأعلام (ج 3ص 228).(1/43)
أبوا أن يملّونا ولو أن أمنّا ... تلاقي الذي يلقون منّا لملّت
هم أسكنونا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت أدفأت وأظلّت
فقر من كلامه رضي الله عنه: صنائع المعروف تقي مصارع السوء. الموت أهون ممّا بعده، وأشدّ ممّا قبله. ليست مع العزاء مصيبة، ولا مع الجزع فائدة. ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: البغي، والنكث، والمكر. إن الله قرن وعده بوعيد ليكون العبد راغبا وراهبا.
ولما توفي، رضي الله عنه، وقفت عائشة على قبره، فقالت: نضّر الله وجهك يا أبت، وشكر لك صالح سعيك، فلقد كنت للدنيا مذلّا بإدبارك عنها، وللآخرة معزّا بإقبالك عليها، ولئن كان أجلّ الحوادث بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رزؤك، وأعظم المصائب بعده فقدك، إن كتاب الله ليعد بحسن الصبر عنك حسن العوض منك، وأنا أستنجز موعود الله تعالى بالصبر فيك، وأستقضيه بالاستغفار لك، أما لئن كانوا قاموا بأمر الدنيا فلقد قمت بأمر الدين لمّا وهى شعبه وتفاقم صدعه، ورجفت جوانبه فعليك سلام الله توديع غير قالية لحياتك، ولا زارية (1) على القضاء فيك.
وقال أبو بكر لبلال لما قتل أمية بن خلف وقد كان يسومه سوء العذاب بمكة فيخرجه إلى الرّمضاء (2)، فيلقي عليه الصخرة العظيمة ليفارق دين الإسلام فيعصمه الله من ذلك: [الوافر]
هنئيا زادك الرحمن خيرا ... فقد أدركت، ثأرك يا بلال
فلا نكسا وجدت ولا جبانا ... غداة تنوشك الأسل الطوال (3)
إذا هاب الرّجال ثبتّ حتى ... تخلط أنت ما هاب الرّجال
على مضض الكلوم بمشرفيّ (4) ... جلا أطراف متنيه الصّقال
[بعض ما قاله عمر بن الخطاب]
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه! إلى ابنه عبد الله:
أمّا بعد، فإنه من اتّقى الله وقاه، ومن توكّل عليه كفاه، ومن شكر له زاده، ومن أقرضه
__________
(1) الزارية: العائبة يقال: زرى عمله عليه إذا عابه عليه. محيط المحيط (زرى).
(2) الرّمضاء: شدّة الحرّ، والأرض الحارة الحامية من شدة حرّ الشمس. محيط المحيط (رمض).
(3) الرجل النّكس: الضعيف الدنيء. الأسل: جمع أسلة وهي الرمح. محيط المحيط (نكس) و (أسل).
(4) الكلوم: جمع كلم وهو الجرح. المشرفيّ: السيف ينسب إلى مشارف اليمن. لسان العرب (كلم) و (شرف).(1/44)
جزاه فاجعل التقوى عماد قلبك، وجلاء بصرك، فإنه لا عمل لمن لا نيّة له، ولا أجر لمن لا خشية له، ولا جديد لمن لا خلق له.
ودخل عديّ بن حاتم على عمر، فسلّم وعمر مشغول، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا عديّ بن حاتم فقال: ما أعرفني بك! آمنت إذ كفروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا، وأقبلت إذ أدبروا!
وقال رجل لعمر: من السيد؟ قال: الجواد حين يسأل، الحليم حين يستجهل، الكريم المجالسة لمن جالسه، الحسن الخلق لمن جاوره.
وقال رضي الله عنه: ما كانت الدنيا همّ رجل قطّ إلّا لزم قلبه أربع خصال: فقر لا يدرك غناه، وهمّ لا ينقضي مداه، وشغل لا ينفد أولاه، وأمل لا يبلغ منتهاه.
فصول قصار من كلامه رضي الله عنه
من كتم سرّه كان الخيار في يده، أشقى الولاة من شقيت به رعيّته.
أعقل الناس أعذرهم للناس. ما الخمر صرفا بأذهب لعقول الرجال من الطمع.
لا يكن حبّك كلفا، ولا بغضك تلفا، مر ذوي القرابات أن يتزاوروا، ولا يتجاوروا.
قلّما أدبر شيء فأقبل، أشكو إلى الله ضعف الأمين، وخيانة القويّ، تكثّروا من العيال فإنكم لا تدرون بمن ترزقون. لو أن الشكر والصبر بعيران ما باليت أيّهما أركب. من لا يعرف الشرّ كان أجدر أن يقع فيه.
وقال معاوية بن أبي سفيان لصعصعة بن صوحان: صف لي عمر بن الخطاب فقال: كان عالما برعيّته، عادلا في قضيّته، عاريا من الكبر، قبولا للعذر، سهل الحجاب، مصون الباب، متحرّيا للصواب، رفيقا بالضعيف، غير محاب للقريب، ولا جاف للغريب.
وروى أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حجّ فلمّا كان بضجنان (1) قال: لا إله إلّا الله العليّ العظيم، المعطي من شاء ما شاء، كنت في هذا الوادي في مدرعة صوف أرعى إبل الخطّاب، وكان فظّا يتعبني إذا عملت، ويضربني إذا قصرت، وقد أمسيت الليلة ليس بيني وبين الله أحد، ثم تمثّل: [البسيط]
لا شيء ممّا ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويودي المال والولد
__________
(1) ضجنان، بفتح الضاد والجيم: جبيل على بريد من مكة. معجم البلدان (ج 3ص 453).(1/45)
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا (1)
ولا سليمان إذ تجري الرياح له ... والجنّ والإنس فيما بينها ترد (2)
أين الملوك التي كانت نوافلها ... من كل صوب إليها وافد يفد (3)
حوض هنالك مورود بلا كدر ... لا بدّ من ورده يوما كما وردوا
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم فتح مكة: [الطويل]
ألم تر أنّ الله أظهر دينه ... على كلّ دين قبل ذلك حائد
وأمكنه من أهل مكة بعد ما ... تداعوا إلى أمر من الغيّ فاسد
غداة أجال الخيل في عرصاتها ... مسوّمة بين الزبير وخالد (4)
فأمسى رسول الله قد عزّ نصره ... وأمسى عداه من قتيل وشارد
يريد الزبير بن العوام (5) حواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالد ابن الوليد (6) سيف الله تعالى في الأرض.
ولما قتله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، قالت عاتكة بنت زيد بن عمرو ابن نفيل زوجته ترثيه: [الخفيف]
عين جودي بعبرة ونحيب ... لا تملّي على الأمين النّجيب
فجعتني المنون بالفارس المع ... لم يوم الهياج والتثويب (7)
عصمة الناس والمعين على الدّه ... ر وغيث المحروم والمحروب (8)
__________
(1) هرمز: هو هرمز بن كسرى، وأخباره في الكامل في التاريخ (ج 1ص 472469).
(2) سليمان: هو النبي سليمان عليه الصلاة والسلام.
(3) النوافل: جمع نافلة وهي العطية. محيط المحيط (نفل).
(4) المسوّمة: المعلمة. محيط المحيط (سوم).
(5) الزبير بن العوام: صحابي شجاع، وأحد العشرة المبشرين بالجنّة. توفي سنة 36هـ. الأعلام (ج 3 ص 43) ومصادر حاشيته.
(6) خالد بن الوليد: صحابي من أشراف قريش، توفي سنة 21هـ. الأعلام (ج 2ص 300) ومصادر حاشيته.
(7) يقال: أعلم الفرس إذا علّق عليه صوفا ملونا في الحرب. التثويب: الدعاء. محيط المحيط (علم) و (ثوب).
(8) المحروب: المسلوب. محيط المحيط (حرب).(1/46)
قل لأهل الضراء والبؤس موتوا ... قد سقته المنون كأس شعوب (1)
وقالت أيضا ترثيه: [الطويل]
وفجّعني فيروز لا درّ درّه ... بأبيض تال للكتاب منيب
رؤوف على الأدنى غليظ على العدا ... أخي ثقة في النائبات نجيب
متى ما يقل لا يكذب القول فعله ... سريع إلى الخيرات غير قطوب
وعاتكة هذه، هي أخت سعيد بن زيد، أحد العشرة الذين شهد لهم النبي، صلى الله عليه وسلم، بالجنّة، وكانت تحت عبد الله بن أبي بكر، فأصابه سهم في غزوة الطائف فمات منه، فتزوّجها عمر، رضي الله عنه، فقتل عنها، فتزوجها الزبير ابن العوام فقتل عنها فكان عليّ، رضي الله عنه يقول: من أحبّ الشهادة الحاضرة فليتزوّج بعاتكة!
ومن كلام عثمان بن عفان رضي الله عنه:
ما يزع الله بالسّلطان، أكثر مما يزع بالقرآن (2). سيجعل الله بعد عسر يسرا، وبعد عيّ بيانا وأنتم إلى إمام فعّال، أحوج منكم إلى إمام قوّال، قاله في أول خلافته وقد صعد المنبر وأرتج عليه (3).
وكتب إلى علي، رضي الله عنه، وهو محصور: أمّا بعد، فقد بلغ السّيل الزّبى (4)، وجاوز الحزام الطّبيين (5)، وطمع فيّ من كان لا يدفع عنه نفسه، ولم يعجزك كلئيم، ولم يغلبك كمغلّب (6) فأقبل إليّ، معي كنت أو عليّ، على أيّ أمريك أحببت [الطويل]:
فإن كنت مأكولا فكن أنت آكلي ... وإلّا فأدركني ولمّا أمزّق
__________
(1) شعوب: المنيّة لأنها تشعب الشمل وتبدّده. لسان العرب (شعب).
(2) يزعه: يمنعه ويحبسه. محيط المحيط (وزع).
(3) أرتج عليه باب الكلام: أغلق. محيط المحيط (رتج).
(4) بلغ السيل الزّبى: مثل يضرب لما جاوز الحدّ، والزّبى: جمع زبية وهي حفرة تحفر للأسد إذا أرادوا صيده. مجمع الأمثال (ج 1ص 91، رقم 436).
(5) جاوز الحزام الطّبيين: مثل يضرب عند بلوغ الشدة منتهاها. مجمع الأمثال (ج 1ص 166، رقم 871).
(6) المغلّب: المغلوب مرارا والمحكوم له بالغلبة، ضدّ وقوله: ولم يبلغك كمغلّب: كناية عن المدح والذم. لسان العرب (غلب).(1/47)
وهذا البيت للمزّق العبدي (1)، وبه سمي الممزّق، واسمه شأس، وإنما تمثّل به عثمان، رضي الله عنه وحذّاق أهل النظر يدفعون هذا، ويستشهدون على فساده بأحاديث تناقضه ليس هذا موضعها.
قالوا: وكان عثمان، رضي الله عنه، أتقى لله أن يسعى في أمره عليّ، وعليّ أتقى لله أن يسعى في أمر عثمان، وهذا من قوله عليه السلام: أشقى الناس من قتله نبي أو قتل نبيّا.
ومن كلام عثمان، رضي الله عنه وأكرم نزله، وقد تنكّر له الناس: أمر هؤلاء القوم رعاع عير، تطأطأت لهم تطأطأ الدلاء، وتلددت لهم تلدد المضطر، رأيتهم ألحف إخوانا، وأوهمني الباطل لهم شيطانا. أجررت المرسون رسنه، وأبلغت الراتع مسعاته، فتفرقوا عليّ فرقا ثلاثا، فصامت صمته أنفذ من صول غيره، وشاهد أعطاني شاهده ومنعني غائبه، ومتهافت في فتنة زيّنت في قلبه، فأنا منهم بين ألسن لداد، وقلوب شداد، عذيري الله منهم، ألا ينهى عالم جاهلا، ولا ينذر حليم سفيها؟ والله حسبي وحسبهم يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون.
سئل الحكم بن هشام فقال: كان والله خيار الخيرة، أمير البررة، قتيل الفجرة، منصور النصرة، مخذول الخذلة، مقتول القتلة.
ونظير البيت الذي أنشده قول صخر الجعد (2): [الطويل]
فإن كنت مأكولا فكن أنت آكلي ... فإنّ منايا القوم أكرم من بعض
قال المتوكل: أتيت بأسارى، فسمعت امرأة منهم تقول: [الوافر]
أمير المؤمنين سما إلينا ... سمو الليث أخرجه العريف
فإن نسلم فعون الله نرجو ... وإن نقتل فقاتلنا شريف
وقد ذكر بعض أهل العلم أنه لا يعرف لعثمان شعر، وأنشد له بعضهم: [الطويل]
غنى النفس يغني النفس حتى يكفّها ... وإن عضّها حتّى يضرّ بها الفقر
وما عسرة فاصبر لها إن تتابعت ... بباقية إلّا سيتبعها يسر
__________
(1) الممزّق العبدي: هو شأس بن نهار بن أسود شاعر جاهلي قديم، من أهل البحرين. الأعلام (ج 3 ص 152) ومصادر حاشيته.
(2) هو صخر بن جعد الخضري، شاعر فصيح، توفي نحو 140هـ. الأعلام (ج 3ص 201) ومصادر حاشيته.(1/48)
وقول عثمان، رضي الله عنه فيما روى: «ولم يغلبك كمغلّب» من قول امرىء القيس (1): [الطويل]
فإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلّب (2)
وقال أبو تمام وذكر الخمر (3): [الكامل]
وضعيفة فإذا أصابت فرصة ... قتلت، كذلك قدرة الضّعفاء
من كلام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه
لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخّر التوبة لطول الأمل، ويقول في الدنيا بقول الزاهدين، ويعمل فيها بعمل الراغبين، إن أعطي منها لم يشبع، وإن منح لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي، ينهى ولا ينتهي، ويأمر بما لا يأتي، يحبّ الصالحين ولا يعمل أعمالهم، ويبغض المسيئين وهو منهم يكره الموت لكثرة ذنوبه، ويقيم على ما يكره الموت له، إن سقم ظلّ نادما، وإن صحّ أمن لاهيا، يعجب بنفسه إذا عوفي، ويقنط إذا ابتلي، تغلبه نفسه على ما يظنّ، ولا يغلبها على ما يستيقن، ولا يثق من الرزق بما ضمن له، ولا يعمل من العمل بما فرض عليه، إن استغنى بطر وفتن، وإن افتقر قنط وحزن، فهو من الذّنب والنعمة موقر (4)، يبتغي الزيادة ولا يشكر، ويتكلّف من الناس ما لم يؤمر، ويضيع من نفسه ما هو أكثر، ويبالغ إذا سأل، ويقصّر إذا عمل، يخشى الموت، ولا يبادر الفوت، يستكثر من معصية غيره ما يستقلّ أكثره من نفسه ويستكثر من طاعته ما يستقلّه من غيره، فهو على الناس طاعن، ولنفسه مداهن، اللّغو مع الأغنياء أحبّ إليه من الذكر مع الفقراء، يحكم على غيره لنفسه، ولا يحكم عليها لغيره، وهو يطاع ويعصي، ويستوفي ولا يوفي.
وسئل، رضي لله عنه، عن مسألة فدخل مبادرا، ثم خرج في حذاء ورداء، وهو يتبسّم، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنك كنت إذا سئلت عن مسألة كنت فيها كالسّكة (5)
__________
(1) ديوان امرىء القيس (ص 44).
(2) في الديوان: «وإنك» بدل «فإنك».
(3) ديوان أبي تمام (ص 11) من قصيدة مديح.
(4) موقر: مثقل يقال: وقرت أذنه إذا ثقلت أو ذهب سمعه كلّه. محيط المحيط (وقر).
(5) السّكّة: حديدة منقوشة يضرب عليها الدراهم. محيط المحيط (سكك).(1/49)
المحماة! فقال: إني كنت حاقنا ولا رأي لحاقن (1)، ثم أنشأ يقول: [المتقارب]
إذا المشكلات تصدّين لي ... كشفت حقائقها بالنّظر
وإن برقت في مخيل الصوا ... ب عمياء لا تجتليها الذكر (2)
مقنعة بأمور الغيوب ... وضعت عليها صحيح الفكر
لسانا كشقشقة الأرحبيّ ... أو كالحسام اليماني الذّكر (3)
وقلبا إذا استنطقته العيون ... أمرّ عليها بواهي الدرر
ولست بإمّعة في الرّجال ... أسائل عن ذا وذا ما الخبر (4)
ولكنني ذرب الأصغرين ... أبيّن مع ما مضى ما غبر (5)
وقال معاوية، رضي الله عنه، لضرار الصّدائي: يا ضرار، صف لي عليا، فقال:
أعفني يا أمير المؤمنين، قال: لتصفنه، فقال: أما إذ أذنت فلا بدّ من صفته: كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا (6)، ويحكم عدلا، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدّمعة، طويل الفكرة، يقلب كفّه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللّباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن مع تقريبه إيّانا، وقربه منّا لا نكاد نكلمه لهيبته، ولا نبتدئه لعظمته، يعظم أهل الدين، ويحبّ المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه، قابضا على لحيته يتململ تململ السليم (7)، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا، إليك عنّي! غرّي غيري، ألي تعرّضت، أم إليّ تشوّفت؟ هيهات! قد باينتك ثلاثا، لا رجعة لي عليك فعمرك قصير، وخطرك حقير، وخطبك يسير آه من قلّة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق!
__________
(1) الحاقن: الذي اجتمع بوله كثيرا. محيط المحيط (حقن).
(2) المخيل: ذو الخال، والخال هو سحاب لا يخلف مطره أو لا مطر فيه. محيط المحيط (خيل).
(3) الأرحبيّ: الجمل، نسب إلى بني أرحب، وإلى هؤلاء تنسب النجائب الأرحبية. شقشقة الجمل:
هديره. لسان العرب (رحب) و (شقشق).
(4) الإمّعة: الرجل الذي لا يثبت على شيء. محيط المحيط (أمع).
(5) ذرب اللسان: حديده. والأصغران: القلب واللسان. محيط المحيط (ذرب) و (صغر).
(6) القول الفصل: الحقّ. لسان العرب (فصل).
(7) السليم: الملدوغ. لسان العرب (سلم).(1/50)
فبكى معاوية حتى أخضلت دموعه لحيته وقال: رحم الله أبا الحسن! فلقد كان كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح واحدها في حجرها!
وقال عليّ، رضوان الله عليه: رحم الله عبدا سمع فوعى، ودعي إلى الرشاد فدنا، وأخذ بحجزة هاد فنجا (1)، وراقب ربّه، وخاف ذنبه، وقدّم خالصا، وعمل صالحا، واكتسب مذخورا، واجتنب محذورا، ورمى غرضا، وكابر هواه، وكذّب مناه، وحذر أجلا، ودأب عملا، وجعل الصبر رغبة حياته، والتّقى عدّة وفاته، يظهر دون ما يكتم، ويكتفي بأقلّ مما يعلم، لزم الطريقة الغرّاء، والمحجّة البيضاء، واغتنم المهل، وبادر الأجل، وتزوّد من العمل.
ولما رجع، رضي الله عنه، من صفّين، فدخل أوائل الكوفة إذا قبر، فقال: قبر من هذا؟ فقيل: خبّاب بن الأرتّ (2)، فوقف عليه، وقال: رحم الله خبّابا! أسلم راغبا، وهاجر طائعا، وعاش مجاهدا، وابتلي في جسمه أحوالا، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا.
ومضى فإذا هو بقبور، فوقف عليها، وقال: السلام عليكم أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، أنتم لنا سلف، ونحن لكم تبع، وبكم عمّا قليل لاحقون اللهمّ اغفر لنا ولهم، وتجاوز عنّا وعنهم بعفوك! طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل للحساب، وقنع بالكفاف. ثم التفت، رضي الله عنه، إلى أصحابه، فقال: أما إنهم لو تكلّموا لقالوا:
وجدنا خير الزاد التّقوى.
وذمّ رجل الدنيا بحضرة عليّ، رضي الله عنه، فقال: دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، مهبط وحي الله، ومصلّى ملائكته، ومسجد أنبيائه، ومتجر أوليائه، ربحوا فيها الرحمة، واكتسبوا فيها الجنة، فمن ذا يذمّها، وقد آذنت ببينها، ونادت بفراقها، وذكّرت بسرورها السرور، وببلائها البلاء، ترغيبا وترهيبا، فيأيّها الذامّ لها، المعلّل نفسه بغرورها، متى خدّعتك الدّنيا؟ أم بماذا استذمّت إليك (3)، أبمصرع آبائك في البلى؟ أم بمضجع أمهاتك في الثرى، كم مرّضت بكفيّك، وكم عللت بيديك، تطلب له الشفاء، وتستوصف الأطباء، غداة لا ينفعه بكاؤك، ولا يغني دواؤك.
__________
(1) الحجزة: الحضن، وقوله: أخذ بحجزة فلان: أي استظهر به. لسان العرب (حجز).
(2) خبّاب بن الأرتّ: صحابيّ، مات بالكوفة سنة 37هـ. الأعلام (ج 2ص 30) ومصادر حاشيته.
(3) استذمّت: فعلت ما تذمّ عليه. محيط المحيط (ذمم).(1/51)
فقر من كلامه رضي الله عنه: [البشاشة فخ المودة. والصبر قبر المغبون. والغالب بالظلم مغلوب. والحجر المغصوب بالدار رهن بخرابها. وما ظفر من ظفرت به الأيام.
فسالم تسلم]. رأي الشيخ خير من مشهد الغلام (1). الناس أعداء ما جهلوا. بقية عمر المؤمن لا ثمن لها، يدرك بها ما أفات [ويحيي ما أمات]. نقل هذا الكلام بعض أهل العصر، وهو أبو الفتح عليّ بن محمد البستي (2) [البسيط]:
بقية العمر عندي ما لها ثمن ... وإن غدا وهو محبوب من الثمن
يستدرك المرء فيها ما أفات ويح ... يي ما أمات ويمحو السوء بالحسن
الدنيا بالأموال، والآخرة بالأعمال. لا تخافنّ إلّا ذنبك، ولا ترجونّ إلّا ربّك.
وجّهوا آمالكم إلى من تحبّه قلوبكم. الناس من خوف الذلّ في الذلّ. من أيقن بالخلف جاد بالعطية. بقيّة السيف أنمى عددا، وأنجب ولدا وقد تبيّنت صحّة ما قال في بنيه وبني المهلب إنّ من السكوت ما هو أبلغ من الجواب. الصبر مطيّة لا تكبو، وسيف لا ينبو (3). خير المال ما أغناك، وخير منه ما كفاك، وخير إخوانك من واساك، وخير منه من كفاك شرّه.
وقال بعض أهل العصر ما يشاكل هذا وهو أبو الحسن محمد بن لنكك البصري (4):
[مجزوء الخفيف]
عدّيا في زماننا ... عن حديث المكارم
من كفى الناس شرّه ... فهو في جود حاتم
أبو الطيب (5): [البسيط]
إنّا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال
__________
(1) مشهد الغلام: أي ما يشهده ويراه رأي العين. لسان العرب (شهد).
(2) علي بن محمد البستي شاعر عصره وكاتبه، من كتّاب الدولة السامانية في خراسان. توفي سنة 400هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 3ص 376) والبداية والنهاية (ج 11ص 278) وهو فيه من وفيات 363هـ، ومعاهد التنصيص (ج 3ص 212) ويتيمة الدهر (ج 4ص 204) وشذرات الذهب (ج 3ص 159) والعبر في خبر من غبر (ج 3ص 75) والأعلام (ج 4ص 326).
(3) نبا السيف عن الضريبة: كلّ وارتدّ عنها. محيط المحيط (نبا).
(4) هو محمد بن محمد بن جعفر البصري شاعر، جلّ شعره في شكوى الزمان وهجاء شعراء عصره.
توفي نحو 360هـ. ترجمته في يتيمة الدهر (ج 2ص 347) ومعجم الأدباء (ج 5ص 415) وبغية الوعاة (ص 94) والوافي بالوفيات (ج 1ص 156) والأعلام (ج 7ص 20).
(5) ديوان المتنبي (ص 531).(1/52)
إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه. قيمة كلّ امرىء ما يحسن.
ذكر أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ هذه الكلمة في كتاب البيان فقال (1): فلو لم نقف من هذا الكتاب إلّا على هذه الكلمة لوجدناها شافية، كافية، ومجزية مغنية بل لوجدناها فاضلة عن الكفاية، غير مقصّرة عن الغاية وأفضل الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه ظاهرا في لفظه، وكأنّ الله قد ألبسه من ثياب الجلالة، وغشاه من نور الحكمة، على حسب نيّة صاحبه، وتقوى قائله، فإذا كان المعنى شريفا، واللفظ بليغا، وكان صحيح الطبع، بعيدا من الاستكراه، منزّها عن الاختلال، مصونا عن التكلف صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة، ومتى فصّلت الكلمة على هذه الشريطة، ونفذت من قائلها على هذه الصفة، أصحبها الله، عزّ وجلّ، من التوفيق، ومنحها من التأييد، ما لا يمتنع من تعظيمها به صدور الجبابرة، ولا يذهل عن فهمها معه عقول الجهلة.
ومن دعائه (2)، رضي الله عنه في حروبه: اللهمّ أنت أرضى للرضا، وأسخط للسّخط، وأقدر على أن تغيّر ما كرهت، وأعلم بما تقدر، لا تغلب على باطل، ولا تعجز عن حق، وما أنت بغافل عمّا يعمل الظالمون.
وقال علي رضي الله عنه: [الطويل]
لمن راية سوداء يخفق ظلّها ... إذا قيل قدّمها حضين تقدّما
فيوردها في الصّف حتى تردّها ... حياض المنايا تقطر الموت والدّما
جزى الله قوما قاتلوا في لقائهم ... لدى الروع قوما ما أعزّ وأكرما
وأطيب أخبارا وأفضل شيمة ... إذا كان أصوات الرجال تغمغما (3)
حضين الذي ذكره هو: أبو ساسان الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي، وكان صاحب رايته يوم صفّين.
__________
(1) النص في البيان والتبيين (ج 1ص 83) ببعض الاختلاف عمّا هنا.
(2) أي من دعاء علي بن أبي طالب، عليه الصلاة والسلام، حيث يعود المؤلف إلى الحديث عنه بعد أن استطرد ما يكفي.
(3) التّغمغم: الأصوات عند القتال. محيط المحيط (غمغم).(1/53)
ويروى عنه أنه قال بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها: [الطويل]
أرى علل الدنيا عليّ كثيرة ... وصاحبها حتى الممات عليل
لكلّ اجتماع من خليلين فرقة ... وإنّ الذي دون الممات قليل
وإن افتقادي فاطما بعد أحمد ... دليل على ألّا يدوم خليل
ولما قتل عمرو بن عبد ودّ (1) سقط فانكشفت عورته، فتنحّى عنه وقال: [الكامل]
آلى ابن عبد حين شدّ أليّة (2) ... وحلفت فاستمعوا من الكذّاب
ألّا بفرّ ولا يملل فالتقى ... أسدان يضطربان كلّ ضراب (3)
اليوم يمنعني الفرار حفيظتي ... ومصمّم في الرّأس ليس بناب (4)
أعرضت حين رأيته متقطّرا ... كالجذع بين دكادك وروابي (5)
وعففت عن أثوابه ولو انني ... كنت المقطّر بزّني أثوابي (6)
نصر الحجارة من سفاهة رأيه ... ونصرت دين محمد بصواب (7)
لا تحسبنّ الله خاذل دينه ... ونبيّه يا معشر الأحزاب
في أبيات غير هذه، وبعض الرواة ينفيها عن علي رضي الله عنه.
وعمرو هذا هو: ابن عبد ودّ بن نضر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وكان قد جزع المذاد، وهو موضع حفر فيه الخندق يوم الأحزاب، وفي ذلك يقول الشاعر:
[الكامل]
عمرو بن ودّ كان أول فارس ... جزع المذاد وكان فارس يليل (8)
__________
(1) عمرو بن عبد ودّ: فارس قريش في الجاهلية، أدرك الإسلام ولم يسلم، قتله علي بن أبي طالب في وقعة الخندق سنة 5هـ. الأعلام (ج 5ص 81) ومصادر حاشيته.
(2) آلى: أقسم، والأليّة: القسم. محيط المحيط (ألا).
(3) يململ: يتقلّب. والضّراب: المطاردة يقال: ضاربه مضاربة إذا جالده. محيط المحيط (ملل) و (ضرب).
(4) الحفيظة: الذّبّ عن المحارم. المصمّم: السيف لا ينبو يقال: صمّم السيف إذا مضى في العظم وقطعه. محيط المحيط (حفظ) و (صمم).
(5) متقطّر: صريع يقال: قطر فلانا إذا صرعه صرعة شديدة. الدكادك: جمع دكدك وهو الرمل المتلبّد بالأرض. محيط المحيط (قطر) و (دكدك).
(6) بزّني أثوابي: سلبني إياها. محيط المحيط (بزز).
(7) نصر الحجارة: أي عبد الأوثان.
(8) جزع المذاد: اجتازه، والمذاد: الموضع الذي يذاد فيه عن النفس، أي موضع الحرب. لسان العرب(1/54)
ولما صار مع المسلمين في الخندق دعا [إلى] البراز، وقال: [مجزوء الكامل]
ولقد بححت من الندا ... ء بجمعهم هل من مبارز
ووقفت إذ نكل الشجا ... ع بموقف البطل المناجز (1)
إني كذلك لم أزل ... متسرّعا نحو الهزاهز (2)
إنّ السماحة والشجا ... عة في الفتى خير الغرائز
فبرز علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فقال: يا عمرو، إنك عاهدت الله لقريش ألّا يدعوك أحد إلى خلّتين إلّا أخذت إحداهما، فقال: أجل! قال: فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام. قال: لا حاجة لي بذلك، قال: فإني أدعوك إلى المبارزة، فقال: يا ابن أخي، ما أحبّ أن أقتلك! قال علي: لكني والله أحبّ أن أقتلك، فحمي عمرو، فاقتحم عن فرسه وعرقبه (3) ثم أقبل إلى علي: [الكامل]
فتجاولا كغمامتين تكنّفت ... متنيهما ريحا صبا وشمال (4)
في موقف كادت نفوس كماته ... تبتزّ قبل تورّد الآجال (5)
وعلت بينهما غبرة سترتهما فلم يرع المسلمين إلّا التكبير فعلموا أنّ عليّا قتله.
ولما قتل عمرو جاءت أخته فقالت: من قتله؟ فقيل: علي بن أبي طالب، فقالت:
كفء كريم! ثم انصرفت وهي تقول: [البسيط]
لو كان قاتل عمرو غير قاتله ... لكنت أبكي عليه آخر الأبد
لكنّ قاتله من لا يعاب به ... وكان يدعى قديما بيضة البلد
من هاشم في ذراها وهي صاعدة ... إلى السماء تميت الناس بالحسد
قوم أبى الله إلّا أن يكون لهم ... مكارم الدّين والدّنيا بلا أمد
يا أم كلثوم بكّيه ولا تدعي ... بكاء معولة حرّى على ولد
أم كلثوم: بنت عمرو بن عبد ودّ. و «بيضة البلد» تمدح به العرب وتذمّ فمن مدح
__________
(جزع) و (ذود). ويليل: اسم واد في بدر يصبّ في البحر. معجم البلدان (ج 5ص 441).
(1) المناجز: المبادر إلى القتال. لسان العرب (نجز).
(2) الهزاهز: الشدائد والحروب لأنها تهزهز الرجال. لسان العرب (هزهز).
(3) عرقبه: قطع عرقوبه. لسان العرب (عرقب).
(4) تجاولا: تصاولا. لسان العرب (جول).
(5) الكماة: جمع كميّ وهو الشجاع الذي يكمي لعدوّه. تورّد الآجال: ورود حياض الموت. يقول: إن الكماة يموتون من الهيبة. لسان العرب (كما) و (ورد).(1/55)
به جعله أصلا، كما أن البيضة أصل الطائر. ومن ذمّ به أراد أن لا أصل له. قال الراعي يهجو عديّ بن الرقاع العاملي (1): [البسيط]
يا من توعّدني جهلا بكثرته ... متى تهدّدني بالعزّ والعدد
أنت امرؤ نال من عرضي وعزّته ... كعزة العير يرعى تلعة الأسد (2)
لو كنت من أحد يهجى هجوتكم ... يا ابن الرّقاع ولكن لست من أحد
تأبى قضاعة أن ترضى لكم نسبا ... وابنا نزار فأنتم بيضة البلد
وقال أبو عبيدة: عاملة بن عدي بن الحارث بن مرة بن أد [بن زياد] ابن يشجب، يطعن في نسبه من قحطان، ويقال: هو عاملة بن معاوية بن قاسط ابن أهيب فلذلك قال الراعي هذا. ويقال: إن جندل بن الراعي قالها، وقد قال يحيى بن أبي حفصة الأموي في عاملة [الطويل]:
ولسنا نبالي نأي عاملة التي ... أجدّ بها من نحو بصرى انحدارها
تدافعها الأحياء حتى كأنها ... ثياب بدا للمشترين عوارها
قذفنا بها لمّا نأت قذف حاذف ... بسود حصى خفّت عليه صغارها
ويشبه قول علي رضي الله عنه «وعففت عن أثوابه» قول عنترة بن شداد العبسي (3)
[الكامل]:
هلّا سألت الخيل يا ابنة مالك ... إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
يخبرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعفّ عند المغنم
وقال حبيب بن أوس الطائي (4) [البسيط]:
إن الأسود أسود الغاب همّتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السّلب (5)
قد علقت بذيل ما أوردته، وألحقت بطرف ما جردته، من كلام سيد الأولين والآخرين، ورسول رب العالمين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله الأخيار الطيبين الطاهرين، قطعة من كلام
__________
(1) عديّ بن الرقاع: شاعر محسن، توفي نحو 95هـ. ترجمته في الشعر والشعراء (ص 515) والأغاني (ج 9ص 350) ومعجم الشعراء (ص 253) ونهاية الأرب (ج 4ص 246) والأعلام (ج 4 ص 221).
(2) العير: الحمار. التّلعة: ما ارتفع من الأرض. محيط المحيط (عير) و (تلع).
(3) ديوان عنترة (ص 207، 209).
(4) ديوان أبي تمام (ص 17).
(5) السّلب، بفتح السين واللام: الغنيمة. محيط المحيط (سلب).(1/56)
الخلفاء الراشدين، قدمتها أمام كلّ كلام، لتقدمهم على الخلق، وأخذهم بقصب السّبق، وهم كما قال بعض المتكلّمين يصف قوما من الزهّاد الواعظين، جلوا بكلامهم الأبصار العليلة، وشحذوا بمواعظهم الأذهان الكليلة، ونبّهوا القلوب من رقدتها، ونقلوها عن سوء عادتها، فشفوا من داء القسوة، وغباوة الغفلة، وداووا من العيّ الفاضح، ونهجوا لنا الطريق الواضح. وآثرت أن ألحق بعد ذلك جملة من سليم كلام سائر الصحابة والتابعين، رضي الله عنهم أجمعين، وأدرج في درج كلامهم وأثناء نثرهم ونظمهم، ما التفّ عليه والتفّت إليه، وتعلّق بأغصانه، وتشبّث بأفنانه، كما تقدّم، وأخرج إلى صفات البلاغات، وآخذ بعد ذلك في نظم عقود الآداب، ورقم برود الألباب: [البسيط]
من كل معنى يكاد الميت يفهمه ... حسنا ويعبده القرطاس والقلم
[من كلام الصحابة والتابعين]
قال معاوية بن أبي سفيان رحمه الله: أفضل ما أعطي الرجل العقل والحلم فإذا ذكّر ذكر، وإذا أساء استغفر، وإذا وعد أنجز.
وصف معاوية الوليد بن عتبة (1) فقال: إنه لبعيد الغور، ساكن الفور (2)، وإن العود من لحائه (3)، والولد من آبائه، والله إنه لنبات أصل لا يخلف، ونجل فحل لا يقرف (4).
ومرض معاوية مرضا شديدا فأرجف (5) به مصقلة بن هبيرة (6) وساعده قوم على ذلك، ثم تماثل وهم في إرجافهم، فحمل زياد مصقلة إلى معاوية وكتب إليه: «إنه يجمع مرّاقا (7) من مرّاق العراق فيرجفون بأمير المؤمنين، وقد حملته إليه ليرى رأيه فيه».
__________
(1) الوليد بن عتبة: أمير من رجالات بني أمية فصاحة وحلما وكرما. ولي المدينة سنة 57هـ في أيام معاوية، وتوفي سنة 64هـ. الكامل في التاريخ (ج 3ص 514) و (ج 4ص 174) والعقد (ج 4 ص 23) والأعلام (ج 8ص 121).
(2) الغور: القعر من كل شيء، وبعد الغور: كناية عن أصالة الرأي وعمق التفكير. الفور: الغضب، وسكون الفور كناية عن الحلم. لسان العرب (غور) و (فور).
(3) لحاء العود: قشره. لسان العرب (لحا).
(4) يقرف: من القراف وهو داء يقتل البعير. يقول: إنه قوي متين لا يصيبه الداء. لسان العرب (قرف).
(5) أرجف: خاض في أخبار الفتن. لسان العرب (رجف).
(6) مصقلة بن هبيرة: قائد من الولاة، كان من رجال الإمام علي بن أبي طالب، عليه الصلاة والسلام، توفي نحو 50هـ، الأعلام (ج 7ص 249) ومصادر حاشيته.
(7) المرّاق: جمع مارق وهو الخارج عن الجماعة. لسان العرب (مرق).(1/57)
فقدم مصقلة وجلس معاوية للناس فلمّا دخل عليه قال: ادن مني! فدنا منه، فأخذه بيده فجذبه فسقط مصقلة فقال معاوية: [مجزوء الكامل]
أبقى الحوادث من خلي ... لك مثل جندلة المراجم (1)
صلبا إذا خار الرجا ... ل أبلّ ممتنع الشكائم (2)
قد رامني الأعداء قب ... لك فامتنعت عن المظالم
قال مصقلة: يا أمير المؤمنين، قد أبقى الله منك ما هو أعظم من ذلك [بطشا] وحلما [راجحا] وكلأ ومرعى لأوليائك، وسمّا ناقعا لأعدائك، كانت الجاهلية فكان أبوك سيّد المشركين، وأصبح الناس مسلمين وأنت أمير المؤمنين، وقام.
فوصله معاوية، وأذن له في الانصراف إلى الكوفة. فقيل له: كيف تركت معاوية؟
فقال: زعمتم أنه لما به (3)، والله لقد غمزني غمزة كاد يحطمني، وجذبني جذبة كاد يكسر عضوا مني!
ودخل الأحنف بن قيس على معاوية وافدا لأهل البصرة، ودخل معه النّمر بن قطبة، وعلى النمر عباءة قطوانيّة (4)، وعلى الأحنف مدرعة صوف وشملة، فلمّا مثلا بين يدي معاوية اقتحمتهما عينه (5) فقال النمر: يا أمير المؤمنين، إنّ العباءة لا تكلّمك، وإنما يكلمك من فيها! فأومأ إليه فجلس، ثم أقبل على الأحنف فقال: ثم مه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أهل البصرة عدد يسير، وعظم كسير، مع تتابع من المحول (6)، واتصال من الذّحول (7) فالمكثر فيها قد أطرق، والمقلّ قد أملق (8)، وبلغ منه المخنّق فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعش الفقير، ويجبر الكسير، ويسهّل العسير، ويصفح عن الذّحول، ويداوي المحول، ويأمر بالعطاء ليكشف البلاء، ويزيل الّلأواء (9). وإنّ السيد من يعمّ ولا يخصّ
__________
(1) الجندلة: الصخرة. لسان العرب (جندل).
(2) الشكائم: جمع شكيمة وهي الحديدة المعترضة في فم الفرس وقوله: ممتنع الشكائم: أي إنه أبيّ لا ينقاد. لسان العرب (شكم).
(3) أي زعمتم أنه ضعف لما به من السقم.
(4) قطوانية: نسبة إلى قطوان وهو موضع بالكوفة. معجم البلدان (ج 4ص 375).
(5) اقتحمته عينه: ازدرته. محيط المحيط (قحم).
(6) المحول: جمع محل وهو نقيض الخصب. لسان العرب (محل).
(7) الذّحول: جمع ذحل وهو الثأر. لسان العرب (ذحل).
(8) أملق الرجل: افتقر. محيط المحيط (ملق).
(9) اللأواء: الشدة. محيط المحيط (لأي).(1/58)
ومن يدعو الجفلى (1)، ولا يدعو النّقرى (2)، إن أحسن إليه شكر، وإن أسيء إليه غفر، ثم يكون وراء ذلك لرعيته عمادا يدفع عنها الملّمات، ويكشف عنهم المعضلات.
فقال له معاوية: ها هنا يا أبا بحر! ثم تلا: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} (3).
ومن جميل المحاورات ما رواه المدائني، قال: وفد أهل العراق على معاوية، رحمه الله، ومعهم زياد، وفيهم الأحنف، فقال زياد: يا أمير المؤمنين، أشخصت إليك أقواما الرغبة، وأقعد عنك آخرين العذر، فقد جعل الله تعالى في سعة فضلك ما يجبر به المتخلّف، ويكافأ به الشاخص. فقال معاوية: مرحبا بكم يا معشر العرب، أما والله لئن فرّقت بينكم الدعوة، لقد جمعتكم الرّحم إن الله اختاركم من الناس ليختارنا منكم، ثم حفظ عليكم نسبكم بأن تخيّر لكم بلادا تجتاز عليها المنازل، حتى صفّاكم من الأمم كما تصفّى الفضة البيضاء من خبثها فصونوا أخلاقكم، ولا تدنّسوا أنسابكم وأعراضكم، فإن الحسن منكم أحسن لقربكم منه، والقبيح منكم أقبح لبعدكم عنه.
فقال الأحنف: والله يا أمير المؤمنين، ما نعدم منكم قائلا جزيلا (4)، ورأيا أصيلا، ووعدا جميلا وإن أخاك زيادا لمتّبع آثارك فينا، فنستمتع الله بالأمير والمأمور، فإنكم كما قال زهير، فإنه ألقى على المدّاحين فصول القول (5): [الطويل]
وما يك من خير أتوه فإنّما ... توارثه آباء آبائهم قبل (6)
وهل ينبت الخطّيّ إلّا وشيجه ... وتغرس إلّا في منابتها النّخل؟ (7)
وهذان البيتان لزهير بن أبي سلمى المزني في قصيدة يقول فيها:
وفيهم مقامات حسان وجوهها ... وأندية ينتابها القول والفعل
على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلّين السّماحة والبذل
__________
(1) الجفلى: جماعة الناس وعامتهم. محيط المحيط (جفل).
(2) النّقرى: الخاصة. لسان العرب (نقر).
(3) سورة محمد 47، الآية 30.
(4) القائل الجزيل: الذي يقول جزل الكلام، وهو أيضا العاقل الأصيل الرأي. لسان العرب (جزل).
(5) ديوان زهير بن أبي سلمى (ص 63).
(6) في الديوان: «توارثهم» بدل «توارثه».
(7) الخطّيّ: نسبة إلى الخطّ وهو أرض تنسب إليها الرماح الخطّيّة. معجم البلدان (ج 2ص 378).
الوشيج: جمع وشيجة وهي القناة الملتفّة في منبتها. لسان العرب (وشج). يقول: كما أن القناة لا تنبت إلّا القناة ولا يغرس النخل إلّا حيث. ينبت، فكذلك الكرام لا يولدون إلّا في وضع كريم.(1/59)
سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم ... فلم يفعلوا ولم يليموا ولم يألوا
قال بعض أهل العلم بالمعاني: أعجب بقوله: «ولم يألوا» لأنه لما ذكر السعي بعدهم، والتخلّف عن بلوغ مساعيهم، جاز أن يتوهّم السامع أن ذلك لتقصير الطالبين في طلبهم فأخبر أنهم لم يألوا، وأنهم كانوا غير مقصرين وأنهم مع الاجتهاد في المتأخرين ثم لم يرض بأن يجعل مجدهم طارفا فيهم، ولا جديدا لديهم، حتى جعله إرثا عن الآباء، يتوارثه سائر الأبناء، ثم لم يرض أن يكون في الآباء حتى جعله موروثا عن آبائهم، وهذا لو تكلّفه متكلّف في المنثور دون الموزون لما كان له هذا الاقتدار مع هذا الاختصار.
وكانت قريش معجبة بشعر زهير، وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: إنّا قد سمعنا كلام الخطباء والبلغاء، وكلام ابن أبي سلمى، فما سمعنا مثل كلامه من أحد فجعلوا ابن أبي سلمى نهاية في التجويد، كما ترى.
وذكر أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه قال: إن من أشعر شعرائكم زهيرا، كان لا يعاظل (1) بين الكلام، ولا يتبع حوشيّه، ولا يمدح الرجل إلّا بما يكون في الرجال.
وأخذ معنى قول زهير:
* سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم * طريح بن إسماعيل الثّقفيّ (2)، فقال لأبي العباس عبد الله بن محمد بن علي السفاح: [المسرح]
قد طلب الناس ما بلغت ولم ... يألوا فما قاربوا وقد جهدوا
فهم ملوك ما لم يروك، فإن ... لاح لهم منك بارق خمدوا
تعروهم رعدة لديك كما ... قرقف تحت الدجنّة الصّرد (3)
لا خوف ظلم ولا قلى خلق ... لكن جلالا كساكه الصّمد (4)
ما يبقك الله للأنام فما ... يفقد من العالمين مفتقد (5)
__________
(1) عاظل الكلام: لم يحمل بعضه على بعض، ولم يكرّر اللفظ والمعنى. لسان العرب (عظل).
(2) طريح بن إسماعيل الثقفي: شاعر الوليد بن يزيد الأموي وخليله. توفي سنة 165هـ. ترجمته في معجم الأدباء (ج 3ص 430) والأغاني (ج 4ص 298) والأعلام (ج 3ص 226).
(3) قرقف: أرعد. الدّجنّة: الظلمة. الصّرد: الذي يشكو قسوة البرد. لسان العرب (قرقف) و (دجن) و (صرد).
(4) القلى: البغض. لسان العرب (قلا).
(5) «ما»: أداة شرط.(1/60)
وقال معاوية رحمه الله: المروءة: احتمال الجريرة (1)، وإصلاح أمر العشيرة والنبل: الحلم عند الغضب، والعفو عند المقدرة.
فقر من كلامه رضي الله عنه: ما رأيت تبذيرا قطّ إلّا وإلى جنبه حقّ مضيّع. أنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه. أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة. التسلّط على المماليك من لؤم المقدرة وسوء المملكة.
وقال يحيى بن خالد: ما حسن أدب رجل إلّا ساء أدب غلمانه (2).
وقال معاوية: صلاح ما في يدك أسلم من طلب ما في أيدي الناس. غضبي على من أملك، وما غضبي على من لا أملك؟
ولما توفّي معاوية رحمه الله واستخلف يزيد ابنه اجتمع الناس على بابه، ولم يقدروا على الجمع بين تهنئة وتعزية، حتى أتى عبد الله بن همّام السّلولي، فدخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين، آجرك الله على الرّزيّة، وبارك لك في العطيّة، وأعانك على الرعيّة، فقد رزئت عظيما، وأعطيت جسيما، فاشكر الله على ما أعطيت، واصبر له على ما رزيت فقد فقدت خليفة الله، ومنحت خلافة الله ففارقت جليلا، ووهبت جزيلا إذ قضى معاوية نحبه، فغفر الله ذنبه وولّيت الرياسة، فأعطيت السياسة فأوردك الله موارد السرور، ووفّقك لصالح الأمور، وأنشده: [البسيط]
اصبر، يزيد، فقد فارقت ذائقة ... واشكر حباء الّذي بالملك أصفاكا (3)
لا رزء أصبح في الأقوام نعلمه ... كما رزئت ولا عقبى كعقباكا
أصبحت والي أمر الناس كلّهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا
وفي معاوية الباقي لنا خلف ... إذا نعيت ولا نسمع بمنعاكا (4)
يريد أبا ليلى معاوية بن يزيد، وولّي بعد أبيه شهورا، ثم انخلع عن الأمر، فقال لقائل: [البسيط]
* والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا *
__________
(1) الجريرة: الجناية، واحتمال الجريرة: كناية عن دفع الدية لئلّا يؤخذ الجاني بجنايته. لسان العرب (جرر).
(2) يبدو أن قول يحيى بن خالد وقع استطرادا من المؤلف.
(3) الحباء: العطاء. لسان العرب (حبا).
(4) «لا»: حرف دعاء، جزم بها الفعل إلحاقا بلا الناهية.(1/61)
وأول من فتح الباب في الجمع بين تهنئة وتعزية عبد الله بن همام، فولجه الناس، ومن جيّد ما قيل في ذلك قصيدة أبي تمام الطائي يمدح الواثق ويرثي المعتصم، يقول فيها (1): [الكامل]
إن أصبحت هضبات قدس أزالها ... قدر فما زالت هضاب شمام (2)
أو يفتقد ذو النون في الهيجا فقد ... دفع الإله لنا عن الصّمام (3)
أو كنت منّا غاربا غدوا فقد ... رحنا بأسمى غارب وسنام (4)
تلك الرزيّة لا رزيّة مثلها ... والقسم ليس كسائر الأقسام (5)
وهذا المعنى كثير.
وكان معاوية، رحمه الله، قد ترك قول الشعر في آخر عمره، فنظر يوما إلى جارية في داره ذات خلق رائع، فدعاها فوجدها بكرا فافترعها، وأنشأ يقول: [الوافر]
سئمت غوايتي فأرحت حلمي ... وفيّ على تحمّلي اعتراض
على أني أجيب إذا دعتني ... ذوات الدّلّ والحدق المراض
فقر لجماعة الصحابة والتابعين رضي الله عنهم
ابن عباس: الرخصة (6) من الله صدقة، فلا تردّوا صدقته. لكل داخل هيبة فابدأوه بالتحية، ولكل طاعم حشمة فابدأوه باليمين.
ابن مسعود رحمه الله: الدنيا كلها هموم، فما كان منها في سرور فهو ربح.
عمرو بن العاص: من كثر إخوانه كثر غرماؤه. وقال: أكرموا سفهاءكم، فإنهم يكفونكم العار والنار.
المغيرة بن شعبة: العيش في بقاء الحشمة. في كل شيء سرف إلّا في المعروف.
__________
(1) ديوان أبي تمام (ص 245244).
(2) شمام، بالفتح: جبل أشمّ طويل الرأس. معجم البلدان (ج 3ص 361).
(3) رواية البيت في الديوان هي:
أو نفتقد ذا النون في الهيجا فقد ... رحنا بأتمك ذروة وسنام
(4) الغارب: الكاهل. لسان العرب (غرب).
(5) القسم: النصيب. لسان العرب (قسم).
(6) الرخصة: تسهيل الله للعبد فيما يخففه عليه كقصر الصلاة، وإباحة الفطر للمسافر. لسان العرب (رخص).(1/62)
هذا كقول الحسن بن سهل (1) وقد أنفق في دخول ابنته بوران على المأمون أموالا عظيمة فقيل له: لا خير في السّرف. قال: لا سرف في الخير. فردّ اللّفظ واستوفى المعنى.
معاذ بن جبل (2): الدّين هدم الدّين.
زياد: ارض من أخيك إذا ولّي ولاية بعشر ودّه قبلها.
مصعب بن الزبير (3): التّواضع من مصايد الشرف.
الأحنف بن قيس: من لم يصبر على كلمة سمع كلمات! وقيل له: من السيد؟ قال:
الذي إذا أقبل هابوه، وإذا أدبر عابوه. وله: سرّك من دمك. وله: من تسرّع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون. وله: الكامل من عدّت هفواته.
وقال يزيد بن محمد المهلبي (4): [الطويل]
من ذا الذي ترضى سجاياه كلّها ... كفى المرء نبلا أن تعدّ معايبه
الحسن البصري: ألا تستحيون من طول ما لا تستحيون؟ ابن آدم راحل إلى الآخرة كل يوم مرحلة. ما أنصفك من كلّفك إجلاله، ومنعك ماله. بدن لا يشتكي مثل مال لا يزكى. إن امرأ ليس بينه وبين آدم أب حي لمعرق في الموتى.
قال الطائيّ (5): [الطويل]
تأمّل رويدا هل تعدّنّ سالما ... إلى آدم أو هل تعدّ ابن سالم؟
وقال أبو نواس (6): [الطويل]
وما الناس إلّا هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق (7)
__________
(1) الحسن بن سهل: وزير المأمون بعد أخيه الفضل بن سهل. توفي سنة 236هـ، وقيل: 235هـ.
ترجمته في وفيات الأعيان (ج 2ص 120) وتاريخ بغداد (ج 7ص 309).
(2) معاذ بن جبل: صحابي جليل وأحد الستة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. توفي سنة 118هـ. الأعلام (ج 7ص 258) ومصادر حاشيته.
(3) مصعب بن الزبير: أحد الولاة الأبطال في صدر الإسلام، توفي سنة 71هـ. ترجمته في البداية والنهاية (حوادث سنة 71هـ) والكامل في التاريخ (حوادث سنة 71هـ) والأعلام (ج 7ص 248).
(4) يزيد بن محمد المهلبي: شاعر من أهل البصرة، اشتهر ببغداد، وبها توفي سنة 259هـ، ترجمته في تاريخ بغداد (ج 14ص 348) والأعلام (ج 8ص 187).
(5) ديوان أبي تمام (ص 282).
(6) ديوان أبي نواس (ص 621).
(7) رواية البيت في الديوان هي:
أرى كلّ حيّ هالكا وابن هالك ... وذا نسب في الهالكين عريق(1/63)
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدوّ في ثياب صديق
وكان المأمون يقول: لو قيل للدنيا: صفي نفسك ما عدت هذا البيت وهو مأخوذ من قول مزاحم العقيلي (1): [الطويل]
قضين الهوى ثم ارتمين قلوبنا ... بأسهم أعداء وهنّ صديق
عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما الجزع ممّا لا بدّ منه؟ وما الطمع فيما لا يرجى؟ لا تكن ممّن يلعن إبليس في العلانية ويواليه في السرّ.
الشعبي: إني لأستحيي من الحقّ إذا عرفته ألّا أرجع إليه.
[بعض ما قاله أهل البيت]
قطعة من كلام لبني علي بن أبي طالب أهل البيت رضي الله عنهم: [أهل الفضل والإحسان، وتلاوة القرآن، ونبعة الإيمان، وصوّام شهر رمضان] ولهم كلام يعرض في حلي البيان، وينقش في فصّ الزمان، ويحفظ على وجه الدهر، ويفضح قلائد الدّر، ويخجل نور الشمس والبدر، ولم لا يطأون ذيول البلاغة، ويجرّون فضول البراعة، وأبوهم الرسول، وأمّهم البتول (2)، وكلّهم قد غذي بدرّ الحكم (3)، وربّي في حجر العلم:
[الكامل]
ما منهم إلّا مربّى بالحجى ... أو مبشر بالأحوذيّة مؤدم (4)
آخر: [المتقارب]
نمته العرانين من هاشم ... إلى النّسب الأصرح الأوضح (5)
__________
(1) هو مزاحم بن الحارث، من بني عقيل بن كعب شاعر غزلي بدوي، من الشجعان. توفي نحو 120هـ. الأعلام (ج 7ص 211) ومصادر حاشيته.
(2) البتول: هي فاطمة الزهراء عليها الصلاة والسلام، شبّهت بمريم عليها السلام، وقد لقّبت مريم بهذا اللقب لانقطاعها عن الزواج طيلة حياتها.
(3) الحكم: الحكمة، ومنه قول الله تعالى: {وَآتَيْنََاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} بسورة مريم، الآية 12.
(4) الأحوذية: الحذق والخفّة، وقوله: مبشّر بالأحوذية مؤدم: يعني أن بشرته وأدمه (جلده) قد حشيا بالنشاط. محيط المحيط (حوذ). وورد البيت في الذخيرة لابن بسام (ق 4ص 585) وجاء هناك:
«مردى» بدل «مربّى».
(5) العرانين: جمع عرنين وهو السيد الشريف. محيط المحيط (عرن).(1/64)
إلى نبعة فرعها في السماء ... ومغرسها في ذرى الأبطح (1)
وهم كما قال مسلم بن بلال العبدي وقد قيل له: خطب جعفر بن سليمان خطبة لم ير أحسن منها، فلا يدرى أوجهه أحسن أم خطبته فقال: أولئك قوم بنور الخلافة يشرقون، وبلسان النبوّة ينطقون، وفيهم يقول القائل: [الكامل]
لو كان يوجد عرف مجد قبلهم ... لوجدته منهم على أميال (2)
إن جئتهم أبصرت بين بيوتهم ... كرما يقيك مواقف التّسآل
نور النبوّة والمكارم فيهم ... متوقّد في الشّيب والأطفال
وسئل سعيد بن المسيب: من أبلغ الناس؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال السائل: إنما أعني من دونه. فقال: معاوية وابنه، وسعيد وابنه، وإنّ ابن الزبير لحسن الكلام، ولكن ليس على كلامه ملح. فقال له رجل: فأين أنت من عليّ وابنه، وعباس وابنه؟ فقال: إنما عنيت من تقاربت أشكالهم، وتدانت أحوالهم، وكانوا كسهام الجعبة (3)، وبنو هاشم أعلام الأنام، وحكّام الإسلام (4).
فصل لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في ذكر قريش، وبني هاشم
قد علم الناس كيف كرم قريش وسخاؤها، وكيف عقولها ودهاؤها، وكيف رأيها وذكاؤها، وكيف سياستها وتدبيرها، وكيف إيجازها وتحبيرها (5)، وكيف رجاحة أحلامها إذا خفّ الحليم، وحدّة أذهانها إذا كلّ الحديد (6)، وكيف صبرها عند اللقاء، وثباتها في اللأواء (7)، وكيف وفاؤها إذا استحسن الغدر، وكيف جودها إذا حبّ المال، وكيف ذكرها لأحاديث غد وقلّة صدودها عن جهة القصد، وكيف إقرارها بالحق، وصبرها عليه، وكيف وصفها له، ودعاؤها إليه، وكيف سماحة أخلاقها، وصونها لأعراقها، وكيف وصلوا قديمهم بحديثهم، وطريفهم بتليدهم، وكيف أشبه علانيتهم سرّهم، وقولهم فعلهم. وهل
__________
(1) الأبطح: مسيل واسع فيه دقاق الحصى. لسان العرب (بطح).
(2) العرف: الريح. لسان العرب (عرف).
(3) الجعبة: كنانة النشّاب، جمعها جعاب. لسان العرب (جعب).
(4) سيعود المؤلف بعد قليل للحديث عن أبناء علي بن أبي طالب، عليهم الصلاة والسلام.
(5) يريد بالتحبير ما يقابل الإيجاز، وهو الإطناب أي إن قبيلة قريش تجيد الإيجاز والإطناب معا.
(6) الرجل الحديد: الحادّ، يكون في اللّسن والفهم والغضب. لسان العرب (حدد).
(7) الّلأواء: الشدّة والمحنة. لسان العرب (لأى).(1/65)
سلامة صدر أحدهم إلّا على قدر بعد غوره (1)؟ وهل غفلته إلّا في وزن صدق ظنّه، وهل ظنّه إلّا كيقين غيره؟
وقال عمر: إنك لا تنتفع بعقله حتى تنتفع بظنّه.
قال أوس بن حجر (2): [المنسرح]
الألمعيّ الذي يظنّ لك الظّ ... نّ كأن قد رأى وقد سمعا
وقال آخر: [المتقارب]
مليح نجيح أخو مازن ... فصيح يحدّث بالغائب
وقال بلعاء بن قيس (3): [الطويل]
وأبغي صواب الرّأي أعلم أنّه ... إذا طاش ظنّ المرء طاشت مقادره (4)
بل قد علم الناس كيف جمالها وقوامها، وكيف نماؤها وبهاؤها، وكيف سروها (5)
ونجابتها، وكيف بيانها وجهارتها، وكيف تفكيرها وبداهتها، فالعرب كالبدن وقريش روحها، وقريش روح وبنو هاشم سرّها ولبّها، وموضع غاية الدين والدنيا منها، وبنو هاشم ملح الأرض، وزينة الدنيا، وحلى العالم، والسّنام الأضخم، والكاهل الأعظم، ولباب كلّ جوهر كريم، وسرّ كل عنصر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنّصاب (6) الوثيق، ومعدن الفهم، وبنبوع العلم، وثهلان (7) ذو الهضاب في الحلم، والسيف الحسام (8) في العزم، مع الأناة والحزم، والصفح عن الجرم، والقصد عند المعرفة، والعفو بعد المقدرة، وهم الأنف المقدّم، والسّنام الأكرم، وكالماء الذي لا ينجّسه شيء، وكالشمس التي لا تخفى بكل مكان، وكالذّهب لا يعرف بالنقصان، وكالنجم للحيران، والبارد للظمآن، ومنهم الثّقلان، والشهيدان، والأطيبان، والسّبطان،
__________
(1) الغور: القعر من كل شيء وقوله: «على بعد غوره» أي إنه متعمّق النظر. لسان العرب (غور).
(2) أوس بن حجر: شاعر تميم في الجاهلية، كان غزلا مغرما بالنساء. مات نحو 2ق. هـ. ترجمته في الأغاني (ج 11ص 73) ومعاهد التنصيص (ج 1ص 132) والأعلام (ج 2ص 31).
(3) بلعاء بن قيس: شاعر محسن، رأس بني كنانة في أكثر حروبهم ومغازيهم، وكان كثير الغارات على العرب. ترجمته وبيته في المؤتلف والمختلف (ص 106). وانظر أيضا معجم الشعراء (ص 357).
(4) في المؤتلف والمختلف: «الظنّ» بدل «الرأي».
(5) السّرو: الفضل والسخاء في المروّة. محيط المحيط (سرو).
(6) النّصاب: الأصل. محيط المحيط (نصب).
(7) ثهلان: جبل ضخم في بلاد بني نمير، به ماء ونخيل. معجم البلدان (ج 2ص 88).
(8) السيف الحسام: القاطع. محيط المحيط (حسم).(1/66)
وأسد الله، وذو الجناحين، وذو قرنيها، وسيّد الوادي، وساقي الحجيج، وحليم البطحاء، والبحر، والحبر، والأنصار أنصارهم، والمهاجرون من هاجر إليهم أو معهم، والصّدّيق من صدقهم، والفاروق من فرّق بين الحقّ والباطل فيهم، والحواريّ حواريّهم، وذو الشهادتين لأنه شهد لهم، ولا خير إلّا لهم أو فيهم أو معهم، أو يضاف إليهم، وكيف لا يكونون كذلك ومنهم رسول ربّ العالمين، وإمام الأولين والآخرين، ونجيب المرسلين، وخاتم النبيين، الذي لم يتمّ لنبي نبوّة إلّا بعد التصديق به، والبشارة بمجيئه، الذي عمّ برسالته ما بين الخافقين، وأظهره الله على الدين كلّه ولو كره المشركون؟ (1).
قال الحسن بن علي، عليهما السلام، لحبيب بن مسلمة الفهري: ربّ مسير لك في غير طاعة الله! قال: أمّا مسيري إلى أبيك فليس من ذلك! قال: بلى! أطعت فلانا على دنيا يسيرة، ولعمري لئن كان قام بك في دنياك لقد قعد بك في دينك، فلو أنك إذ فعلت شرّا قلت خيرا كنت كمن قال الله عزّ وجلّ: {خَلَطُوا عَمَلًا صََالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللََّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} (2) ولكنك كما قال: {كَلََّا بَلْ رََانَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ مََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} (3).
وكان الحسن عليه السلام جوادا، كريما، لا يردّ سائلا ولا يقطع نائلا، وأعطى شاعرا مالا كثيرا فقيل له: أتعطي شاعرا يعصي الرّحمن، [ويطيع الشيطان]، ويقول البهتان؟ فقال: إنّ خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك، وإنّ من ابتغاء الخير اتقاء الشرّ.
وقد روى مثل ذلك عن الحسين، رضي الله عنه، وقيل: إنّ شاعرا مدحه فأجزل ثوابه، فليم على ذلك، فقال: أتراني خفت أن يقول: لست ابن فاطمة الزهراء بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا ابن علي بن أبي طالب! ولكني خفت أن يقول: لست كرسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا كعليّ، رضي الله عنه فيصدّق، ويحمل عنه، ويبقى مخلّدا في الكتب، محفوظا على ألسنة الرّواة. فقال الشاعر: أنت والله يابن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أعرف بالمدح والذمّ مني.
ولما توفّي الحسن أدخله قبره الحسين ومحمد بن الحنفيّة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم، ثم وقف محمد على قبره وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وقال: رحمك الله أبا محمد! فلئن عزّت حياتك، لقد هدّت وفاتك، ولنعم الرّوح، روح تضمّنه بدنك ولنعم
__________
(1) أخذه من قول الله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}. سورة التوبة 9، الآية 33.
(2) سورة التوبة 9، الآية 102.
(3) سورة المطففين 83، الآية 14.(1/67)
الجسد، جسد تضمّنه كفنك، ولنعم الكفن، كفن تضمّنه لحدك، وكيف لا تكون كذلك وأنت سليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، وخلف أهل التقى؟ جدّك النبيّ المصطفى، وأبوك عليّ المرتضى، وأمّك فاطمة الزهراء، وعمّك جعفر الطيّار في جنّة المأوى، وغذتك أكفّ الحقّ، وربّيت في حجر الإسلام، ورضعت ثدي الإيمان، فطبت حيّا وميتا فلئن كانت الأنفس غير طيبة لفراقك إنها غير شاكّة أن قد خير لك، وإنك وأخاك لسيّدا شباب أهل الجنة، فعليك يا أبا محمد منا السلام.
وقام رجل من ولد أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب على قبره، فقال: إنّ أقدامكم قد نقلت، وإنّ أعناقكم قد حملت إلى هذا القبر وليّا من أولياء الله يبشّر نبيّ الله بمقدمه، وتفتّح أبواب السماء لروحه، وتبتهج الحور العين (1) بلقائه، ويأنس به سادة أهل الجنة من أمّته، ويوحش أهل الحجا والدين فقده، رحمة الله عليه، وعنده تحتسب المصيبة به.
ألفاظ لأهل العصر في ذكر المصيبة بأبناء النبوّة
قد نعي سليل من سلالة النبوّة، وفرع من شجرة الرسالة، وعضو من أعضاء الرسول، وجزء من أجزاء الوصيّ والبتول (2). كتبت وليتني ما كتبت وأنا ناعي الفضل من أقطاره، وداعي المجد إلى شقّ ثوبه وصداره، ومخبر أنّ شمس الكرم واجبة (3)، والمآثر مودّعة، وبقايا النبوّة مرتفعة، وآمال الإمامة منقطعة، والدين منخذل واجم (4)، وللتقوى دمعان هام وساجم. كتابي وقد شلّت يمين الدّهر، وفقئت عين المجد، وقصر باع الفضل، وكسفت شمس المساعي، وخسف قمر المعالي، وتجدّد في بيت الرسالة رزء جدّد المصائب، واستعاد النّوائب كل هذا لفقد من حطّ الكرم بربعه، ثم أدرج في برده، وامتزج المجد به، فدفن بدفنه، إنها لمصيبة عمّت بيت الرسالة، وغضّت طرف الإمامة، وتحيّفت (5) جانب الوحي المنزّل، وذكّرت بموت النبي المرسل. كتبت والدهر ينعى
__________
(1) الحور: جمع حوراء وهي من اشتدّ بياض بياض عينها وسواد سوادها. العين: جمع عيناء وهي ذات العين، أي التي عظم سواد عينها في سعة والحور العين: من نساء أهل الجنة. محيط المحيط (حور) و (عين).
(2) الوصيّ: هو علي بن أبي طالب، عليه السلام. والبتول: لقب فاطمة الزهراء عليها السلام.
(3) وجبت الشمس: غابت. محيط المحيط (وجب).
(4) الواجم: العبوس المطرق. محيط المحيط (وجم).
(5) تحيّفت جانب الوحي: جعلته ينتقص. محيط المحيط (حيف).(1/68)
مهجته والمجد يندب بهجته، ومهابط الوحي والرسالة تحني ظهورها أسفا، ومآقي الإمامة والوصية والرسالة تذري دموعها لهفا وذلك أن حادث قضاء الله استأثر بفرع النبوّة، وعنصر الدين والمروءة.
[عود إلى بعض ما قاله أهل البيت]
ووقع بين الحسن ومحمد بن الحنفيّة (1) لحاء، ومشى الناس بينهما بالنّمائم، فكتب إليه محمد بن الحنفية: أمّا بعد، فإن أبي وأباك عليّ بن أبي طالب لا تفضلني فيه ولا أفضلك، وأمي امرأة من بني حنيفة، وأمّك فاطمة الزّهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو ملئت الأرض بمثل أمي لكانت أمّك خيرا منها فإذا قرأت كتابي هذا فاقدم حتى تترضّاني، فإنك أحقّ بالفضل مني.
وخطب الحسين بن عليّ، رضوان الله عليهما، غداة اليوم الذي استشهد فيه، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: يا عباد الله، اتّقوا الله، وكونوا من الدنيا على حذر فإنّ الدنيا لو بقيت على أحد [أو بقي عليها أحد] لكانت الأنبياء أحقّ بالبقاء، وأولى بالرّضاء، [وأرضى] بالقضاء غير أنّ الله تعالى خلق الدنيا للفناء، فجديدها بال، ونعيمها مضمحل، وسرورها مكفهرّ (2)، منزل تلعة، ودار قلعة (3) فتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى، واتّقوا الله لعلّكم تفلحون.
وكان لمعاوية بن أبي سفيان عين بالمدينة يكتب إليه بما يكون من أمور الناس وقريش، فكتب إليه: إنّ الحسين بن عليّ أعتق جارية له وتزوّجها فكتب معاوية إلى الحسين: من أمير المؤمنين معاوية إلى الحسين بن عليّ. أمّا بعد، فإنه بلغني أنك تزوّجت جاريتك، وتركت أكفاءك من قريش، ممّن تستنجبه للولد، وتمجد به في الصّهر، فلا لنفسك نظرت، ولا لولدك انتقيت.
فكتب إليه الحسين بن علي: أمّا بعد، فقد بلغني كتابك، وتعييرك إيّاي بأني تزوّجت مولاتي، وتركت أكفائي من قريش، فليس فوق رسول الله منتهى في شرف، ولا
__________
(1) هو محمد بن علي بن أبي طالب، ينسب إلى أمه خولة بنت جعفر الحنفية. كان واسع العلم، ورعا، أسود اللون. توفي بالمدينة سنة 81هـ. وفيات الأعيان (ج 4ص 169) والأعلام (ج 6ص 270).
(2) المكفهرّ: الضارب لونه إلى الغبرة، والمعنى أن سرورها مضمحلّ لا وجود له. محيط المحيط (كفهر).
(3) التّلعة: ما ارتفع من الأرض، أو ما انهبط منها. القلعة: ذو القلع والعزل، وقوله: دار قلعة: أي ليس بمستوطن، أو لا نملكه، أو لا ندري متى نتحوّل عنه. محيط المحيط (تلع) و (قلع).(1/69)
غاية في نسب وإنما كانت ملك يميني، خرجت عن يدي بأمر التمست فيه ثواب الله تعالى ثم ارتجعتها على سنّة نبيّه، صلى الله عليه وسلم، وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة، ووضع عنّا به النقيصة فلا لوم على امرىء مسلم إلّا في أمر مأثم، وإنما اللوم لوم الجاهلية.
فلمّا قرأ معاوية كتابه نبذه إلى يزيد فقرأه، وقال: لشدّ ما فخر عليك الحسين! قال: لا، ولكنها ألسنة بني هاشم الحداد التي تفلق الصّخر، وتغرف من البحر!
والحسين رضي الله عنه! هو القائل: [الوافر]
لعمرك إنّني لأحبّ دارا ... تحلّ بها سكينة والرّباب
أحبّهما وأبذل كلّ مالي ... وليس للائم عندي عتاب
سكينة: ابنته، والرباب: أمّها، وهي بنت امرىء القيس [بن الجرول] الكلبية.
وفي سكينة يقول عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي كذبا عليها (1):
قالت سكينة والدموع ذوارف ... تجري على الخدّين والجلباب (2)
ليت المغيريّ الذي لم أجزه ... فيما أطال تصيّدي وطلابي
كانت تردّ لنا المنى أيّامنا ... إذ لا نلام على هوى وتصابي
خبّرت ما قالت فبتّ كأنما ... يرمى الحشا بنوافذ النّشّاب (3)
أسكين، ما ماء الفرات وطيبه ... منّي على ظمأ وفقد شراب (4)
بألذّ منك، وإن نأيت، وقلّما ... ترعى النساء أمانة الغيّاب
إن تبذلي لي نائلا أشفي به ... داء الفؤاد فقد أطلت عذابي (5)
وعصيت فيك أقاربي وتقطعت ... بيني وبينهم عرى الأسباب (6)
فتركتني لا بالوصال ممتّعا ... منهم، ولا أسعفتني بثواب (7)
فقعدت كالمهريق فضلة مائه ... في حرّ هاجرة للمع سراب (8)
__________
(1) ديوان عمر بن أبي ربيعة (ص 63) والقصيدة فيه قالها في سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف، وليس في سكينة.
(2) في الديوان: «قالت سعيدة منها على الخدّين».
(3) في الديوان: «رمي» بدل «يرمي».
(4) في الديوان: «أسعيد» بدل «أسكين».
(5) في الديوان: «يشفى به سقم الفؤاد».
(6) في الديوان: «فتقطّعت» بدل «وتقطّعت».
(7) في الديوان: «وتركتني» بدل «فتركتني».
(8) المهريق: اسم فاعل لفعل أهراق يهريق الماء إذا صبّه. لسان العرب (هرق).(1/70)
وكانت سكينة من أجمل نساء زمانها وأعقلهنّ، وكان مصعب بن الزبير قد جمع بينها وبين عائشة بنت طلحة بن عبيد الله فلّما قتل مصعب قالت سكينة: [الطويل]
فإن تقتلوه تقتلوا الماجد الذي ... يرى الموت إلّا بالسيوف حراما
وقبلك ما خاض الحسين منيّة ... إلى القوم حتى أوردوه حماما
وقال علي بن الحسين (1) رحمه الله: لو كان الناس يعرفون جملة الحال في فضل الاستبانة، وجملة الحال في فضل التبيين، لأعربوا عن كل ما يتلجلج في صدورهم، ولوجدوا من برد اليقين ما يغنيهم عن المنازعة إلى كل حال سوى حالهم، على أنّ إدراك ذلك كان لا يعدمهم في الأيام القليلة العدّة، والفكرة القصيرة المدّة، ولكنهم من بين مغمور بالجهل، ومفتون بالعجب، ومعدول بالهوى عن باب التثبّت، ومصروف بسوء العادة عن فضل التعلم.
وقال رضي الله عنه: المراء (2) يفسد الصداقة القديمة، ويحلّ العقدة الوثيقة، وأقلّ ما فيه أن تكون به المغالبة، والمغالبة من أمتن أسباب القطيعة.
ومن دعائه: اللهمّ ارزقني خوف الوعيد، وسرور رجاء الموعود، حتى لا أرجو إلّا ما رجيت، ولا أخاف [إلّا] ما خوفت.
وحجّ هشام بن عبد الملك، أو الوليد أخوه، فطاف بالبيت وأراد استلام الحجر فلم يقدر، فنصب له منبر فجلس عليه فبينا هو كذلك إذ أقبل عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في إزار ورداء، وكان أحسن الناس وجها، وأعطرهم رائحة، وأكثرهم خشوعا، وبين عينيه سجّادة (3)، كأنها ركبة عنز، وطاف بالبيت، وأتى ليستلم الحجر، فتنحّى له الناس هيبة وإجلالا، فغاظ ذلك هشاما فقال رجل من أهل الشام: من الّذي أكرمه الناس هذا الإكرام، وأعظموه هذا الإعظام؟ فقال هشام: لا أعرفه، لئلا يعظم في صدور أهل الشام فقال الفرزدق وكان حاضرا (4): [البسيط]
هذا ابن خير عباد الله كلّهم ... هذا النقيّ التقيّ الطاهر العلم (5)
__________
(1) هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الملقب بزين العابدين، رابع الأئمة الاثني عشر، وأحد من كان يضرب به المثل في الحلم والورع. توفي سنة 94هـ. وفيات الأعيان (ج 3ص 266) والعبر في خبر من غبر (ج 1ص 111) والأعلام (ج 4ص 277).
(2) المراء: النزاع والمجادلة. محيط المحيط (مرى).
(3) السّجّادة: أثر السجود في الجبهة. محيط المحيط (سجد).
(4) لم ترد الأبيات في ديوان الفرزدق، ووردت في وفيات الأعيان (ج 6ص 9695).
(5) في وفيات الأعيان: «هذا التقيّ النقيّ».(1/71)
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم
إذا رأته قريش قال قائلها: ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم (1)
في كفّه خيزران ريحه عبق ... في كفّ أروع في عرنينه شمم (2)
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلّم إلّا حين يبتسم
مشتقّة من رسول الله نبعته ... طابت عناصره والخيم والشّيم (3)
ينمى إلى ذروة العزّ التي قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم
ينجاب نور الهدى عن نور غرّته ... كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم (4)
حمّال أثقال أقوام إذا اقترحوا ... حلو الشمائل تحلو عنده نعم (5)
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجدّه أنبياء الله قد ختموا
الله فضّله قدما وشرّفه ... جرى بذاك له في لوحه القلم (6)
من جدّه دان فضل الأنبياء له ... وفضل أمّته دانت له الأمم
عمّ البريّة بالإحسان فانقشعت ... عنها الغيابة والإملاق والظّلم (7)
كلتا يديه غياث عمّ نفعهما ... تستوكفان ولا يعروهما العدم (8)
سهل الخليقة لا تخشى بوادره ... تزينه الاثنتان الحلم والكرم (9)
لا يخلف الوّعد ميمون بغرّته ... رحب الفناء أريب حين يعتزم (10)
ما قال «لا» قطّ إلّا في تشهّده ... لولا التشهّد كانت لاءه نعم
من معشر حبّهم دين، وبغضهم ... كفر، وقربهم منجى ومعتصم
__________
(1) الحطيم: جدار الكعبة، أو حجر مكة مما يلي الميزاب. لسان العرب (حطم).
(2) في وفيات الأعيان: «من كفّ». والأروع: الشهم الذكيّ الفؤاد. العرنين: الأنف كلّه. محيط المحيط (روع) و (عرن).
(3) الخيم: الطبيعة والسجيّة. محيط المحيط (خيم).
(4) القتم، بالفتح: الغبار. محيط المحيط (قتم).
(5) في وفيات الأعيان: «فدحوا» بدل «اقترحوا».
(6) رواية صدر البيت في وفيات الأعيان هي: الله شرّفه قدما وعظّمه.
(7) في وفيات الأعيان: «عنها الغياية والإملاق والعدم». والغيابة: غيبة الرشد. الإملاق: الفقر. لسان العرب (غيب) و (ملق).
(8) في الوفيات: «عدم» بدل «العدم». والعدم: الفقر. لسان العرب (عدم).
(9) رواية عجز البيت في الوفيات هي: يزينه اثنان حسن الخلق، والشيم
(10) في الوفيات: «مأمون نقيبته».(1/72)
يستدفع السوء والبلوى بحبّهم ... ويستربّ به الإحسان والنّعم (1)
مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم ... في كل بدء ومختوم به الكلم
إن عدّ أهل التّقى كانوا أئمّتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم ... ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... الأسد أسد الشّرى والبأس محتدم (2)
يأبى لهم أن يحلّ الذّمّ ساحتهم ... خيم كريم وأيد بالنّدى هضم (3)
لا ينقص العسر بسطا من أكفّهم ... سيّان ذلك إن أثروا وإن عدموا
أيّ الخلائق ليست في رقابهم ... لأوليّة هذا أو له نعم (4)
من يعرف الله يعرف أوليّته ... فالدين من بيت هذا ناله الأمم (5)
وليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم (6)
وقد روي أن الحزين الكناني وفد على عبد الله بن عبد الملك بن مروان وهو أمير على مصر فأنشده قصيدة منها: [البسيط]
لما وقفت عليه في الجموع ضحى ... وقد تعرّضت الحجّاب والخدم
حيّيته بسلام وهو مرتفق ... وضجّة القوم عند الباب تزدحم (7)
في كفه خيزران والبيت الذي يليه.
ويقال: إنها لداود بن سلم في قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، وهو الذي يقول فيه الأخطل (8): [الكامل]
ولقد غدوت على التّجار بمسمح ... هرّت عواذله هرير الأكلب (9)
لذّ، يقبّله النعيم، كأنما ... مسحت ترائبه بماء مذهب (10)
__________
(1) يستربّ: يصلح. لسان العرب (ريب).
(2) في الوفيات: «والأسد» بدل «الأسد». والشّرى: مأسدة يضرب بها المثل. محيط المحيط (شرى).
(3) الهضم: جمع هضيم وهو كثير الإنفاق. لسان العرب (هضم).
(4) أوّليته: آباؤه وأجداده.
(5) في الوفيات: «يعرف أوليّة ذا والدين من بيت».
(6) في الوفيات: «فليس» بدل «وليس».
(7) المرتفق: المتكىء على مرفقه. لسان العرب (رفق).
(8) ديوان الأخطل التغلبي (ص 329328).
(9) هرّت: صاحت وصوّتت. لسان العرب (هرر).
(10) في الديوان: «تقبّله» بدل «يقبّله». والترائب: جمع تريبة وهي موضع القلادة من الصدر. ومذهب:
ممزوج بالذهب. لسان العرب (ترب) و (ذهب).(1/73)
لبّاس أردية الملوك، تروقه ... من كلّ مرتقب عيون الرّبرب (1)
ينظرن من خلل السّتور إذا بدا ... نظر الهجان إلى الفنيق المصعب (2)
ويقال: بل قالها في علي بن الحسين اللّعين المنقري (3)، وسمي اللعين، لأنّ عمر سمعه ينشد شعرا والناس يصلّون، فقال: من هذا اللعين؟ فعلق به هذا الاسم وليقله من شاء، فقد أحسن ما شاد وأجاد وزاد.
وقال ذو الرمة في بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري: [الطويل]
من آل أبي موسى ترى الناس حوله ... كأنهم الكروان عاينّ بازيا (4)
فما يعرفون الضّحك إلّا تبسّما ... ولا ينبسون القول إلّا تناجيا (5)
وما الفحش منه يرهبون، ولا الخنا ... عليه، ولكن هيبة هي ماهيا
فتى السّنّ، كهل الحلم، يسمع قوله ... يوازن أدناه الجبال الروّاسيا
ومن أجود ما للمحدثين في ذلك قول أبي عبادة البحتري في الفتح ابن خاقان (6):
[الطويل]
ولمّا حضرنا سدّة الإذن أخّرت ... رجال عن الباب الذي أنا داخله
فأفضيت من قرب إلى ذي مهابة ... أقابل بدر التّم حين أقابله (7)
بدا لي محمود السجيّة شمّرت ... سرابيله عنه وطالت حمائله (8)
كما انتصب الرّمح الرّدينيّ ثقّفت ... أنا بيبه واهتزّ للطعن عامله (9)
__________
(1) في الديوان: «يروقه» بدل «تروقه».
(2) الهجان: البيض من الإبل. الفنيق: الفحل الذي يترك للضراب، وكذلك المصعب. لسان العرب (هجن) و (فنق) و (صعب).
(3) اللعين المنقري: هو أبو أكيدر منازل بن زمعة شاعر هجّاء، توفي نحو 75هـ. الشعر والشعراء (ص 407) وخزانة الأدب (ج 1ص 531) والأعلام (ج 7ص 289).
(4) الكروان، بكسر الكاف وسكون الراء: جمع كروان وهو طائر طويل الرجلين أغبر، نحو الحمامة، وله صوت حسن. محيط المحيط (كرا).
(5) ينبسون: يتكلمون. محيط المحيط (نبس).
(6) ديوان البحتري (ج 1ص 5453).
(7) في الديوان: «الأفق» بدل «التّمّ».
(8) السرابيل: جمع سربال وهو الدرع. الحمائل: جمع حمالة وهي علاقة السيف. محيط المحيط (سربل) و (حمل).
(9) رواية عجز البيت في الديوان هي: أنابيبه للطعن واهتزّ عامله(1/74)
وكالبدر وافته لتمّ سعوده ... وتمّ سناه واستهلّت منازله
فسلّمت فاعتاقت جناني هيبة ... تنازعني القول الذي أنا قائله (1)
إلى مسرف في الجود لو أنّ حاتما ... لديه لأضحى حاتم وهو عاذله (2)
فلمّا تأمّلت الطّلاقة وانثنى ... إليّ ببشر آنستني مخايله
دنوت فقبّلت النّدى من يد امرىء ... جميل محيّاه سباط أنامله (3)
صفت مثل ما تصفو المدام خلاله ... ورقّت كما رقّ النّسيم شمائله
ووقعت حرب بالجزيرة بين بني تغلب، فتولّى الإصلاح بينهم الفتح بن خاقان فقال البحتري فيما تعلّق بعضه بذكر الهيبة (4): [الطويل]
بني تغلب أعزز عليّ بأن أرى ... دياركم أمست وليس لها أهل
خلت دمنة من ساكنيها وأوحشت ... مرابع من سنجار يهمي بها الوبل (5)
إذا ما التقوا يوم الهياج تحاجزوا ... وللموت فيما بينهم قسمة عدل
كفيّ من الأحياء لاقى كفيّه ... ومثل من الأقوام زاحفه مثل (6)
إذا ما أخ جرّ الرماح انتهى له ... أخ لا بليد في الطّعان ولا وغل (7)
تحوطهم البيض الرّقاق، وضمّر ... عتاق، وأنساب بها يدرك التّبل (8)
بطعن يكبّ الدّار عين دراكه ... وضرب كما ترغو المخزّمة البزل (9)
__________
(1) في الديوان: «واعتاقت» بدل «فاعتاقت». اعتاق: عاق. الجنان: القلب. لسان العرب (عوق) و (جنن).
(2) رواية عجز البيت في الديوان هي: لديه لأمسى حاتما وهو عاذله
(3) في الديوان: «في» بدل «من». وقوله: «سباط أنامله»: أي إنه منبسط الكفّ، وهو كناية عن الكرم والجود.
(4) ديوان البحتري (ج 1ص 6361).
(5) في الديوان: «بلد» بدل «دمنة». وسنجار: مدينة مشهورة من نواحي الجزيرة، بينها وبين الموصل ثلاثة أيام. معجم البلدان (ج 3ص 262). الوبل: المطر الشديد. لسان العرب (وبل).
(6) الكفيّ: النظير. زاحفه: نازله، لسان العرب (كفي) و (زحف).
(7) في الديوان: «انبرى» بدل «انتهى». والوغل: الضعيف النذل. لسان العرب (وغل).
(8) في الديوان: «تخصّهم» بدل «تحوطهم». والتّبل: الثأر. لسان العرب (تبل).
(9) في الديوان: «المخرّمة» بدل «المخزمة». والدارعون: لابسو الدروع. والدّراك: التتابع. وترغو:
تصيح. والبزل: جمع بازل وهو ما بلغ التسع سنين من الإبل والبازل المخزّم: الذي وضع في شدقه الخزام. لسان العرب (درك) و (رغا) و (بزل) و (خزم).(1/75)
تجافى أمير المؤمنين عن التي ... علمتم، وللجانين في مثلها الثّكل (1)
وكانت يد الفتح بن خاقان عندكم ... يد الغيث عند الأرض أجدبها المحل (2)
ولو لاه طلّت بالعقوق دماؤكم ... فلا قود يعطى الأذلّ ولا عقل (3)
تلافيت يا فتح الأراقم بعد ما ... سقاهم بأوحى سمّه الأرقم الصّلّ (4)
وهبت لهم بالسّلم باقي نفوسهم ... وقد أشرفوا أن يستتمّهم القتل (5)
أتاك وفود الشكر يثنون بالّذي ... تقدّم من نعماك عندهم قبل (6)
فلم أر يوما كان أكثر سؤددا ... من اليوم ضمّتهم إلى بابك السّبل
تراءوك من أقصى السّماط فقصّروا ... خطاهم، وقد جازوا السّتور وهم عجل (7)
ولمّا قضوا صدر السلام تهافتوا ... على يد بسّام سجيّته البذل (8)
إذا شرعوا في خطبة قطعتهم ... جلالة طلق الوجه جانبه سهل
إذا نكّسوا أبصارهم من مهابة ... وما لوا بلحظ خلت أنهم قبل (9)
نصبت لهم طرفا حديدا، ومنطقا ... سديدا، ورأيا مثل ما انتضي النّصل
وسلّت سخيمات الصدور فعالك ال ... كريم، وأبرا غلّها قولك الفصل (10)
بك التأم الشّعب الذي كان بينهم ... على حين بعد منه، واجتمع الشّمل
فما برحوا حتى تعاطت أكفّهم ... قراك، فلا ضغن لديهم ولا ذخل (11)
وجرّوا ذيول العصب تصفو ذيولها ... عطاء كريم ما تكاءده بخل (12)
__________
(1) في الديوان: «النّكل» بدل «الثّكل». والثّكل: الفقد. لسان العرب (ثكل).
(2) في الديوان: «حرّقها» بدل «أجدبها».
(3) طلّت: هدرت. القود: القصاص. العقل: الديّة. لسان العرب (طلل) و (قود) و (عقل).
(4) الأوحى: الأسرع، والسمّ الوحي: السريع. الأرقم الصّلّ: الحية التي لا تنفع فيها الرقى. لسان العرب (وحى) و (رقم) و (صلل).
(5) في الديوان: «شارفوا» بدل «أشرفوا».
(6) في الديوان: «أتوك» بدل «أتاك».
(7) العجل: جمع أعجل وهو المسرع. لسان العرب (عجل).
(8) في الديوان: «رسل» بدل «البذل».
(9) قبل: جمع أقبل وهو مثل الأحول. لسان العرب (قبل).
(10) في الديوان: «وسلّ» بدل «وسلّت». والسخيمات: جمع سخيمة وهي الحقد. لسان العرب (سخم).
(11) في الديوان: «ولا ضعن» بدل «فلا ضغن». والذّحل: الحقد. لسان العرب (ذحل).
(12) في الديوان: «برود» بدل «ذيول» و «جواد» بدل «كريم». والعصب: نوع من الثياب يصبغ غزله ثم ينسج. تكاءده: منعه وشقّ عليه. لسان العرب (عصب) و (كأد).(1/76)
وما عمّهم عمرو بن غنم بنسبة ... كما عمّهم بالأمس نائلك الجزل
فمهما رأوا من غبطة في اصطلاحهم (1) ... فمنك بها النّعمى جرت ولك الفضل
عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل بن قاسط.
وللطائيين [أبي تمام والبحتري] في ذلك أشعار كثيرة مختارة، منها قول البحتري يحذّر عاقبة الحرب (2): [الوافر]
أما لربيعة الفرس انتهاء ... عن الزلزال فيها والحروب (3)؟
وكانوا رقّعوا أيّام سلم ... على تلك الضغائن والندوب (4)
إذا ما الجرح رمّ على فساد ... تبيّن فيه تفريط الطبيب
رزيّة هالك جلبت رزايا ... وخطب بات يكشف عن خطوب
يشقّ الجيب ثمّ يجيء أمر ... يصغّر فيه تشقيق الجيوب
وقبر عن أيا من برقعيد ... إذا هي ناحرت أفق الجنوب (5)
يسحّ ترابه أبدا عليها ... عهادا من مراق دم صبيب (6)
فهل لابني عديّ من رشيد ... يردّ شريد حلمهما العزيب (7)؟
أخاف عليهما إمرار مرعى ... من الكلإ الذي عقباه توبي (8)
وأعلم أنّ حربهما خبال ... على الدّاعي إليها والمجيب
لعلّ أبا المعمّر يتّليها ... ببعد الهمّ والصّدر الرّحيب (9)
فكم من سؤدد قد بات يعطي ... عطيّة مكثر فيها مطيب
__________
(1) في الديوان: «صلاحهم» بدل «اصطلاحهم».
(2) ديوان البحتري (ج 1ص 370368).
(3) هو ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان، سمّي ربيعة الفرس لأنه أعطي من مال أبيه الخيل. لسان العرب (ربع) وجمهرة أنساب العرب (ص 292، 469، 483).
(4) في الديوان: «القوارح» بدل «الضغائن». والندوب: جمع ندب وهو أثر الجرح. لسان العرب (ندب).
(5) برقعيد: بلدة كبيرة من أعمال الموصل. معجم البلدان (ج 1ص 387). وناحرت: قابلت. لسان العرب (نحر).
(6) العهاد: أول المطر الوسميّ. لسان العرب (عهد).
(7) العزيب: الغريب، والمراد هنا الغائب الذاهب. لسان العرب (عزب).
(8) في الديوان: «الذي علفاه موب». وقوله: توبي: تهلك، وأصل القول توبىء بالهمز. لسان العرب (وبأ).
(9) في الديوان: «والبلد» بدل «والصّدر».(1/77)
أهيثم يا ابن عبد الله، دعوى ... مشير بالنصيحة أو مهيب (1)
تناس ذنوب قومك إنّ حفظ ال ... ذنوب إذا قدمن من الذّنوب
فللسّهم السديد أحبّ غبّا ... إلى الرامي من السّهم المصيب (2)
متى أحرزت نصر بني عبيد ... إلى إخلاص ودّ بني حبيب
فقد أصبحت أغلب تغلبيّ ... على أيدي العشيرة والقلوب
يناسب قوله: [الوافر]
* إذا ما الجرح رمّ على فساد * قول أبي الطيب المتنبي لعليّ بن إبراهيم التنوخي أحد بني القصيص (3): [الوافر]
فلا تغررك ألسنة موال ... تقلّبهنّ أفئدة أعادي (4)
وكن كالموت لا يرثي لباك ... بكى منه، ويروى وهو صاد (5)
فإنّ الجرح ينغر بعد حين ... إذا كان البناء على فساد (6)
وفي هذه القصيدة (7):
كأن الهام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد (8)
وقد صغت الأسنّة من هموم ... فما يخطرن إلّا في فؤاد (9)
كأنّ البيت الأوّل من هذين ينظر إلى قول مسلم بن الوليد من طرف خفيّ: [الكامل]
ولو أنّ قوما يخلقون منيّة ... من بأسهم كانوا بني جبريلا
قوم إذا احمرّ الهجير من الوغى ... جعلوا الجماجم للسيوف مقيلا (10)
__________
(1) في الديوان: «مشيد» بدل «مشير».
(2) غبّا: عاقبة. لسان العرب (غبب).
(3) ديوان المتنبي (ص 82).
(4) الموالي: جمع المولى وهو الصديق. لسان العرب (ولي). يقول: إنّ ألسنتهم تظهر لك الصداقة، وقلوبهم تبطن العداوة، فلا تغيّر بظاهرهم.
(5) أي يروى ولا يزال عطشان.
(6) في الديوان: «ينفر» بدل «ينغر». وينغر: يجيش بالدم. لسان العرب (نغر).
(7) ديوان المتنبي (ص 81).
(8) يقول: إن سيوفك ألفت رؤوس الأعداء ألفة الرقاد للعين.
(9) في الديوان: «الفؤاد» بدل «فؤاد».
(10) الهجير: وقت الظهر، واحمرار الهجير: كناية عن سيل الدماء فيه. لسان العرب (هجر).(1/78)
وإنما أخذه [أبو الطيب] من قول منصور النميري، وذكر سيفا: [الكامل]
ذكر، برونقه الدّماء، كأنما ... يعلو الرجال بأرجوان ناقع (1)
وترى مساقط شفرتيه كأنها ... ملح تبدّد من وراء الدّارع
وتراه معتمّا إذا جرّدته ... بدم الرّجال على الأديم الناقع (2)
وكأنّ وقعته بجمجمة الفتى ... خدر المدامة أو نعاس الهاجع
أردت هذا البيت، وقول النميري: [الكامل]
وتراه معتّمّا إذا جرّدته
يشير إلى قول أبي الطيب، وذكر سيفا (3): [الكامل]
يبس النّجيع عليه فهو مجرّد ... من غمده وكأنما هو مغمد (4)
ريّان لو قذف الذي أسقيته ... لجرى من المهجات بحر مزبد
وبنو عبيد، وبنو حبيب اللذان ذكرهما البحتري هم: بنو عبيد ابن الحارث بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب، وحبيب بن الهجرس ابن تيم بن سعد بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب، وفيهم حبيب بن حرقة بن تغلب بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب، فلا أدري أيهما أراد!
وقال البحتري (5): [الطويل]
أسيت لأخوالي ربيعة أن عفت (6) ... مصايفها منها، وأقوت ربوعها
بكرهي أن بانت خلاء ديارها ... ووحشا مغانيها، وشتّى جميعها
إذا افترقوا من وقعة جمعتهم ... دماء لأخرى ما يطلّ نجيعها (7)
تذمّ الفتاة الرّود شيمة بعلها ... إذا بات دون الثّأر وهو ضجيعها (8)
__________
(1) السيف الذّكر: الحادّ. لسان العرب (ذكر).
(2) المعتمّ: أي إن الدم جمد عليه فصار له كالعمامة. لسان العرب (عمم).
(3) ديوان المتنبي (ص 44).
(4) يقول: إن الدم الجامد عليه قد صار كالغمد له حتى يرى كأنه مغمد.
(5) ديوان البحتري (ج 1ص 98).
(6) في الديوان: «إذ» بدل «أن».
(7) في الديوان: «عن وقعة جمعتهم لأخرى دماء ما يطلّ».
(8) الرّود: الجميلة الوافرة الحياء. لسان العرب (رود).(1/79)
حميّة شعب جاهليّ وعزّة ... كلابية أعيا الرجال خضوعها (1)
وفرسان هيجاء تجيش صدورهم ... بأحقادها حتى تضيق دروعها (2)
تقتّل من وتر أعزّ نفوسها ... عليها بأيد ما تكاد تطيعها (3)
إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها ... تذكّرت القربى ففاضت دموعها
شواجر أرماح تقطّع بينها ... شواجر أرحام ملوم قطوعها (4)
فكنت أمين الله مولى حياتها ... ومولاك فتح يوم ذاك شفيعها (5)
وقال أبو تمام الطائي (6): [البسيط]
مهلا بني مالك لا تجلبنّ إلى ... حيّ الأراقم دؤلول ابنة الرقم (7)
لم يألكم مالك صفحا ومغفرة ... لو كان ينفخ قين الحيّ في فحم (8)
أخرجتموه بكره من سجيّته ... والنار قد تنتضى من ناضر السلم (9)
أوطأتموه على جمر العقوق، ولو ... لم يخرج الليث لم يخرج من الأجم (10)
لولا مناشدة القربى لغادركم ... حصائد المرهفين السيف والقلم
لا تجعلوا البغي ظهرا إنه جمل ... من القطيعة يرعى وادي النّقم
وقال أيضا (11): [الكامل]
مهلا بني عمرو بن غنم إنكم ... هدف الأسنّة والقنا تتحطّم (12)
__________
(1) في الديوان: «كليبية» بدل «كلابية».
(2) في الديوان: «صدورها» بدل «صدورهم».
(3) الوتر: الثأر. لسان العرب (وتر).
(4) في الديوان: «بينهم» بدل «بينها».
(5) في الديوان: «وكنت» بدل «فكنت».
(6) ديوان أبي تمام (ص 239238).
(7) الأراقم: حيّ من بني تغلب. الرّقم: الداهية، وابنة الرقم: الحيّة. الدّؤلول: الداهية، والسّمّ.
يقول: لا تقدموا السمّ بأنفسكم إلى حيّ الأراقم ليقتلوكم به. لسان العرب (رقم) (ودأل).
(8) القين: الحداد. لسان العرب (قين).
(9) تنتضى: تستخرج. السّلم: اسم شجر. لسان العرب (نضا) و (سلم).
(10) الأجم: مأوى الاسد. لسان العرب (أجم).
(11) ديوان أبي تمام (ص 242241).
(12) في الديوان: «مهلا بني غنم بن تغلب إنكم يتحطّم».(1/80)
ما منكم إلّا مردّى بالحجى ... أو مبشر بالأحوذيّة مؤدم (1)
عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتّ ... اب بن سعد سهمكم لا يسهم (2)
خلقت ربيعة من لدن خلقت يدا ... جشم بن بكر كفّها والمعصم (3)
تغزو فتغلب تغلب مثل اسمها ... وتسيح غنم في البلاد فتغنم
وستذكرون غدا صنائع مالك ... إن جلّ خطب أو تدوفع مغرم (4)
ما لي رأيت ثراكم ببسالة ... ما لي أرى أطوادكم تتهدّم؟ (5)
ما هذه القربى التي لا تصطفى ... ما هذه الرّحم التي لا ترحم؟ (6)
حسد القرابة للقرابة قرحة ... أعيت عوائدها وجرح أقدم (7)
تلكم قريش لم تكن آباؤها ... تهفو ولا أحلامها تتقسّم (8)
حتى إذا بعث النّبيّ محمد ... فيهم غدت شحناؤهم تتضرّم (9)
عزبت عقولهم، وما من معشر ... إلّا وهم منه ألبّ وأحزم (10)
لما أقام الوحي بين ظهورهم ... ورأوا رسول الله أحمد منهم
ومن الحزامة لو تكون حزامة ... ألّا تؤخّر من به تتقدّم (11)
ومالك هو: ابن طوق بن مالك بن عتاب بن زفر بن مرّة بن شريح ابن عبد الله بن
__________
(1) مردّى بالحجا: أي يتّخذه رداء. الأحوذية: الخفّة والنشاط. مبشر بها ومؤدم: أي اتخذ منها بشرته وأدمه (جلده). لسان العرب (ردأ) و (حوذ).
(2) يسهم: يغلب. لسان العرب (سهم).
(3) في الديوان: «مذ» بدل «من».
(4) في الديوان: «فستذكرون» بدل «وستذكرون». ومالك: هو مالك بن طوق التغلبي كما سيأتي بعد قليل، ومالك أمير، كان من الأشراف الفرسان، ولي إمرة دمشق للمتوكل العباسي. بنى بلدة الرحبة على الفرات، وتعرف برحبة مالك، نسبة إليه. توفي سنة 259هـ. ترجمته في فوات الوفيات (ج 3 ص 231) ومعجم البلدان (ج 3ص 34، مادة: رحبة مالك بن طوق) والنجوم الزاهرة (ج 3 ص 20) والأعلام (ج 5ص 262).
(5) في الديوان: «يبسا له» بدل «ببسالة».
(6) في الديوان: «تتّقي» بدل «تصطفى».
(7) رواية البيت في الديوان هي:
حسد العشيرة للعشيرة قرحة ... تلدت وسائلها وجرح أقدم
(8) في الديوان: «لم تكن راؤها تهفو ولا أحلامهم تتقسّم».
(9) الشّحناء: البغضاء. لسان العرب (شحن).
(10) عزبت: غابت. ألبّ: أعقل. لسان العرب (عزب) و (لبب).
(11) في الديوان: «ومن الحزامة أيها النّطف الحشا أن لا تؤخّر». والحزامة: الحزم. لسان العرب (حزم).(1/81)
عمرو بن كلثوم بن مالك [بن عتاب] بن سعد بن [زهير بن] جشم بن بكر [بن وائل] بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب، وفيه يقول دعبل (1) يهجوه: [البسيط]
الناس كلّهم يغدو لحاجته ... من بين ذي فرح منها ومهموم
وما لك ظلّ مشغولا بنسبته ... يرمّ منها بناء غير مرموم (2)
يبني بيوتا خرابا لا أنيس بها ... ما بين طوق إلى عمرو ابن كلثوم
والتكثير من المعنى المعترض، يزيح عن ثغرة الغرض (3)، لكني أجري منه إلى حلبة الإجادة، وأقصد قصد الإفادة، ثم أعود حيث أريد.
وقال ابن الخياط المكي واسمه عبد الله بن سالم في باب الهيبة، في مالك بن أنس الفقيه، رحمة الله عليه وقيل: إن هذا من قول ابن المبارك: [الكامل]
يأبى الجواب فما يراجع هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان (4)
أدب الوقار، وعزّ سلطان التّقى ... فهو المهيب وليس ذا سلطان
وقول الفرزدق (5) [البسيط]
* يكاد يمسكه عرفان راحته * قد تجاذبه جماعة من الشعراء قال أشجع بن عمرو السلمي (6) لجعفر البرمكي:
حبّذا أنت قادما ترد الشا ... م فتختال بين أرحل عيرك
إنّ أرضا تسري إليها لو اسطا ... عت لسارت إليك من قبل سيرك
__________
(1) هو دعبل بن علي الخزاعي كان بذيء اللسان، مولعا بالهجو. توفي سنة 246هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 2ص 266) والشعر والشعراء (ص 727) والأغاني (ج 20ص 131) ومعاهد التنصيص (ج 2ص 190) وتاريخ بغداد (ج 8ص 382) ومعجم الأدباء (ج 3ص 315) والأعلام (ج 2ص 339).
(2) يرمّ: يصلح. لسان العرب (رمم).
(3) ثغرة الغرض: الطريق. لسان العرب (ثغر) و (غرض).
(4) نواكس الأذقان: أي إنهم مطرقون إلى الأرض خشوعا.
(5) هو صدر بيت تقدّم قبل قليل، وعجزه هو: ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
(6) أشجع بن عمرو السلمي: شاعر فحل، مدح البرامكة، وانقطع إلى جعفر بن يحيى البرمكي. توفي نحو 195هـ. ترجمته في الأغاني (ج 18ص 219) وتاريخ بغداد (ج 7ص 45) ومعاهد التنصيص (ج 4ص 62) والشعر والشعراء (ص 758) والأعلام (ج 1ص 331).(1/82)
وإليه أشار أبو تمام الطائي في قوله (1): [الخفيف]
ديمة سمحة القياد سكوب ... مستغيث بها الثّرى المكروب
لو سعت بقعة لإعظام نعمى ... لسعى نحوها المكان الجديب
وفي هذه القصيدة في وصف الدّيمة، ومدح محمد بن عبد الملك الزيات (2):
لذّ شؤبوبها وطاب فلو تس ... طيع قامت فعانقتها القلوب (3)
فهو ماء يجري وماء يليه ... وعزال تنشا وأخرى تصوب (4)
أيّها الغيث حيّ أهلا بمغدا ... ك وعند السّرى وحين تؤوب
لأبي جعفر خلائق تحكي ... هنّ قد يشبه النجيب النجيب
وأنشدها أبا جعفر بن الزيات، فقال: يا أبا تمام والله إنك لتحلّي شعرك من جواهر لفظك وبدائع معانيك، ما يزيد حسنا على بهيّ الجواهر في أجياد الكواعب وما يدّخر لك شيء من جزيل المكافأة إلّا يقصر عن شعرك في الموازنة. وكان بحضرته رجل من الفلاسفة، فقال: هذا الفتى يموت شابا! فقيل له: من أين حكمت عليه بهذا؟ فقال: رأيت فيه من الحدّة والذكاء والفطنة مع لطافة الحسّ ما علمت به أنّ النفس الروحانية تأكل عمره كما يأكل السيف المهنّد غمده! قال الصولي: مات وقد نيّف على الثلاثين.
وقال في أبي دلف العجلي القاسم بن محمد بن عيسى (5): [الطويل]
تكاد عطاياه يجنّ جنونها ... إذا لم يعوّذها بنعمة طالب
__________
(1) ديوان أبي تمام (ص 55).
(2) محمد بن عبد الملك الزيات: من بلغاء الكتّاب والشعراء، وزر للمعتصم وابنه الواثق العباسيين.
مات ببغداد سنة 233هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 5ص 94) والوافي بالوفيات (ج 4 ص 32) والأغاني (ج 23ص 51) وتاريخ بغداد (ج 2ص 342) ومعجم الشعراء (ص 425) وعيون الأنباء (ص 284) والأعلام (ج 6ص 248).
(3) الشؤبوب: الدفعة من المطر. لسان العرب (شأب).
(4) في الديوان: «فهي ماء وأخرى تذوب». والعزالي: جمع عزلاء وهي مصبّ الماء، والمراد هنا السحابة. لسان العرب (عزل).
(5) القاسم بن عيسى: أمير الكرخ وأحد الأمراء الشجعان الشعراء. توفي ببغداد سنة 226هـ. ترجمته في تاريخ بغداد (ج 12ص 416) ومعجم الشعراء (ص 334) والأغاني (ج 8ص 256) ووفيات الأعيان (ج 4ص 73) والفهرست (ص 30) ومروج الذهب (ج 2ص 38) و (ج 3ص 418) والكامل في التاريخ (ج 6ص 413) والأعلام (ج 5ص 179). والبيتان في ديوان أبي تمام (ص 4241).(1/83)
تكاد مغانيه تهشّ عراصها (1) ... فتركب من شوق إلى كلّ راكب
وقال البحتري (2): [الكامل]
لو أنّ مشتاقا تكلّف فوق ما ... في وسعه لمشى إليك المنبر (3)
وقال أبو الطيب المتنبي لبدر بن عمار (4): [الكامل]
طربت مراكبنا فخلنا أنها ... لولا حياء عاقها رقصت بنا
لو تعقل الشّجر التي قابلتها ... مدّت محيّية إليك الأغصنا
رجع إلى ما انقطع
قال أعرابي لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (5)، رضي الله عنه: هل رأيت الله حين عبدته؟ فقال: لم أكن لأعبد من لم أره، قال: فكيف رأيته؟ قال: لم تره الأبصار بمشاهدة العيان، ورأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يدرك بالحواسّ، ولا يشبّه بالناس، معروف بالآيات، منعوت بالعلامات، لا يجوز في القضيّات، ذلك الله الذي لا إله إلّا هو. فقال الأعرابي: الله أعلم حيث يجعل رسالته.
قال الجاحظ: قال محمد بن علي: صلاح شأن الدنيا بحذافيرها في كلمتين لأنّ صلاح شأن جميع الناس [في التعايش و] التعاشر وهو ملء مكيال ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل.
قال الحافظ: لم يجعل لغير الفطنة نصيبا من الخير، ولا حظّا من الصلاح لأنّ الإنسان لا يتغافل عن شيء إلّا وقد عرفه وفطن له، قال الطائي (6): [الكامل]
ليس الغبيّ بسيّد في قومه ... لكنّ سيّد قومه المتغابي
__________
(1) العراص: جمع عرصة وهي ساحة الدار. لسان العرب (عرص).
(2) ديوان البحتري (ج 1ص 20).
(3) رواية البيت في الديوان هي:
فلو أنّ مشتاقا تكلّف غير ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر
(4) ديوان المتنبي (ص 154).
(5) هو أبو جعفر هو أبو جعفر الباقر محمد محمد بن علي زين العابدين ابن الحسين الهاشمي، خامس الأئمة الاثني عشر كان مشهورا بالعلم والتقى، وله آراء في تفسير القرآن. توفي سنة 114هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 4ص 174) والأعلام (ج 6ص 270).
(6) ديوان أبي تمام (ص 24).(1/84)
وقال ابن الرومي لأبي محمد بن وهب بن عبيد الله بن سليمان: [الطويل]
تظلّ إذا نامت عيون ذوي العمى ... وإن حدّدوا زرقا إليك جواحظا (1)
تغاضى لهم وسنان، بل متواسنا، ... وتوقظهم يقظان بل متياقظا (2)
[وأبو جعفر هذا هو الباقر]، وكان أخوه زيد بن علي، رضي الله عنه، ديّنا، شجاعا، ناسكا، من أحسن بني هاشم عبارة، وأجملهم شارة.
وكانت ملوك بني أمية تكتب إلى صاحب العراق أن امنع أهل الكوفة من حضور زيد بن علي فإنّ له لسانا أقطع من ظبة السيف وأحدّ من شبا الأسنّة (3)، وأبلغ من السحر والكهانة (4)، ومن كل نفث في عقدة.
وقيل لزيد بن علي: الصمت خير أم الكلام؟ فقال: قبّح الله المساكنة، ما أفسدها للبيان، وأجلبها للعيّ والحصر (5)! والله للمماراة أسرع في هدم العيّ من النار في يبس العرفج، ومن السيل إلى الحدور (6).
وقال له هشام بن عبد الملك: بلغني أنّك تروم الخلافة وأنت لا تصلح لها لأنك ابن أمة؟ قال زيد: فقد كان إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ابن أمة، وإسحاق ابن حرّة فأخرج الله من صلب إسماعيل خير ولد آدم! فقال له: قم! فقال: إذا والله لا تراني إلّا حيث تكره! فلمّا خرج من الدار قال: ما أحبّ أحد الحياة قط إلّا ذلّ، فقال له سالم مولى هشام: لا يسمعنّ هذا الكلام منك أحد، وكان زيد كثيرا ما ينشد: [السريع]
شرّده الخوف وأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد (7)
منخرق الخفّين يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مرو حداد (8)
قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد
__________
(1) الجواحط: جمع جاحظة وهي الناتئة الحدقة. لسان العرب (جحظ).
(2) المتواسن: المتناوم وليس بنائم. المتياقظ: المتظاهر باليقظة. لسان العرب (وسن) و (يقظ).
(3) ظبة السيف: حدّه. شبا الأسنّة. حدّها، مفردها شباة، محيط المحيط (ظبا) و (شبا).
(4) الكهانة: نوع من فتنة الناس باسم البحث عن الغيب. لسان العرب (كهن).
(5) الحصر: عسر الكلام. لسان العرب (حصر).
(6) الحدور: المنحدرات يجري إليها الماء. لسان العرب (حدر).
(7) الجلاد: الحرب. لسان العرب (جلد).
(8) الوجى: وجع يأخذ الإبل في أرساغها وأيديها. المرو: الحجارة البيض الرقاق. الحداد: جمع حديد. لسان العرب (وجى) و (مرو) و (حدد).(1/85)
وقد رويت هذه الأبيات لمحمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين، وقد رويت لأخيه موسى.
قال عبد الرحمن بن يحيى بن سعيد: حدّثني رجل من بني هاشم قال: كنّا عند محمد بن علي بن الحسين، وأخوه زيد جالس، فدخل رجل من أهل الكوفة فقال له محمد بن عليّ: إنك لتروي طرائف من نوادر الشعر، فكيف قال الأنصاري لأخيه؟
فأنشده: [المتقارب]
لعمرك ما إن أبو مالك ... بوان ولا بضعيف قواه
ولا بألدّ له نازع ... يعادي أخاه إذا ما نهاه
ولكنّه غير مخلافة ... كريم الطبائع حلو نثاه (1)
وإن سدته سدت مطواعة ... ومهما وكلت إليه كفاه
فوضع محمد يده على كتف زيد، فقال: هذه صفتك يا أخي، وأعيذك الله أن تكون قتيل أهل العراق!
وكانت بين جعفر بن الحسن بن الحسين بن علي وبين زيد، رضوان الله عليهم، منازعة في وصيّة، فكانا إذا تنازعا انثال الناس عليهما ليسمعوا محاورتهما فكان الرجل يحفظ على صاحبه اللّفظة من كلام جعفر، ويحفظ الآخر اللفظة من كلام زيد. فإذا انفصلا وتفرّق الناس عنهما قال هذا لصاحبه: قال في موضع كذا وكذا، وقال الآخر: قال في موضع كذا وكذا فيكتبون ما قالا، ثم يتعلّمونه كما يتعلّم الواجب من الفرض، والنادر من الشعر، والسائر من المثل! وكانا أعجوبة دهرهما وأحدوثة عصرهما.
ولما قتل زيدا يوسف بن عمر (2) وصلب جثّته بالكناسة (3) وبعث برأسه مع شبّة بن عقال، وكلّف آل أبي طالب البراءة من زيد، وقام خطباؤهم بذلك فكان أول من قام عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي، رحمة الله عليه، فأوجز في كلامه ثم جلس، وقام عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فأطنب وكان شاعرا خطيبا لسنا ناسبا فانصرف الناس وهم يقولون: ابن الطيار من أخطب الناس، فقيل لعبد الله بن
__________
(1) النّثا: ما أخبرت به عن الرجل من حسن أو سيىء. محيط المحيط (نثا).
(2) هو يوسف بن عمر الثقفي أمير من جبابرة الولاة في العهد الأموي، توفي سنة 127هـ. وفيات الأعيان (ج 7ص 110) والأعلام (ج 8ص 243).
(3) الكناسة. محلة بالكوفة. معجم البلدان (ج 4ص 481).(1/86)
الحسن (1) في ذلك، فقال: لو شئت أن أقول لقلت، ولكن لم يكن مقام سرور، وإنما كان مقام مصيبة!
وعبد الله هذا هو: أبو محمد وإبراهيم الخارجين على أبي جعفر المنصور، وهو القائل لابنه محمد أو إبراهيم: أي بنيّ! إني مؤدّ حقّ الله في تأديبك، فأدّ إليّ حقّ الله في الاستماع مني أي بنيّ! كفّ الأذى، وارفض البذى (2) واستعن على الكلام بطول الفكر في المواطن التي تدعوك فيها نفسك إلى الكلام، فإنّ للقول ساعات يضرّ فيها الخطأ، ولا ينفع فيها الصّواب، واحذر مشورة الجاهل، وإن كان ناصحا، كما تحذر مشورة العاقل إذا كان غاشّا لأنه يرديك بمشورته واعلم يا بنيّ أنّ رأيك إذا احتجت إليه وجدته نائما، ووجدت هواك يقظان، فإياك أن تستبدّ برأيك فإنه حينئذ هواك ولا تفعل فعلا إلّا وأنت على يقين أنّ عاقبته لا ترديك، وأن نتيجته لا تجني عليك.
وهو القائل: إياك ومعاداة الرجال فإنك لن تعدم مكر حليم، أو معاداة لئيم.
وكتب إلى صديق له: أوصيك بتقوى الله تعالى، فإن الله تعالى جعل لمن اتّقاه المخرج من حيث يكره، والرزق من حيث لا يحتسب.
وعبد الله هو القائل: [الكامل]
أنس حرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكّة صيدهنّ حرام
يحسبن من لين الحديث دوانيا ... ويصدّهنّ عن الخنا الإسلام (3)
قال: وهذا كما روي أنّ عبد الملك بن مروان استقبل عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، فقال له: قد علمت قريش أنّك أطولها صبوة، وأبعدها توبة، ويحك! أما لك في نساء قريش ما يكفيك من نساء بني عبد مناف؟ ألست القائل (4): [الطويل]
نظرت إليها بالمحصّب من منى ... ولي نظر، لولا التحرّج، عارم (5)
__________
(1) هو عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب سجنه المنصور العباسي ونقله إلى الكوفة، فمات بها سجينا سنة 145هـ. تاريخ بغداد (ج 9ص 431) والأعلام (ج 4ص 78).
(2) البذى: أصل القول: البذاء وهو فحش القول. لسان العرب (بذأ).
(3) الخنا: الفحش. لسان العرب (خنا).
(4) ديوان عمر بن أبي ربيعة (ص 349348).
(5) المحصّب: موضع رمي الجمار بمنى. معجم البلدان (ج 5ص 62). والتحرّج خوف الإثم. لسان العرب (حرج).(1/87)
فقلت: أصبح أم مصابيح راهب ... بدت لك خلف السّجف أم أنت حالم (1)؟
بعيدة مهوى القرط، إمّا لنوفل ... أبوها، وإمّا عبد شمس، وهاشم (2)
فقال: يا أمير المؤمنين، فإنّ بعد هذا:
طلبن الهوى حتى إذا ما وجدنه ... صدرن وهنّ المسلمات الكرائم (3)
فاستحيا منه عبد الملك، وقضى حوائجه ووصله.
وقال آخر في هذا المعنى: [الطويل]
تعطّلن إلّا من محاسن أوجه ... فهنّ حوال في الصفات عواطل (4)
كواس عوار صامتات نواطق ... بعفّ الكلام باخلات بواذل (5)
برزن عفافا واحتجبن تستّرا ... وشيب بحقّ القول منهنّ باطل (6)
فذو الحلم مرتاد وذو الجهل طامع ... وهنّ عن الفحشاء حيد نواكل (7)
وقال العديل بن الفرخ فيما يتطرف طرفا من هذا المعنى: [الكامل]
لعب النعيم بهنّ في أطلاله ... حتى لبسن زمان عيش غافل (8)
يأخذن زينتهنّ أحسن ما ترى ... فإذا عطلن فهنّ غير عواطل
وإذا خبأن خدودهنّ أرينني ... حدق المها وأخذن نبل القاتل (9)
__________
(1) رواية البيت في الديوان هي:
فقلت: أشمس أم مصابيح بيعة ... بدت لك تحت السّجف أم أنت حالم؟
والسّجف: السّتر. لسان العرب (سجف).
(2) قوله: «بعيدة مهوى القرط» كناية عن طول العنق.
(3) رواية البيت في الديوان هي:
طلبن الصّبا حتى إذا ما أصبنه ... نزعن وهنّ المسلمات الظوالم
(4) الحوالي: جمع الحالية. العواطل: جمع عاطل وهي التي تعطّلت من الحلى. لسان العرب (حلا) و (عطل).
(5) الكواسي: جمع كاسية. العفّ: العفيف. لسان العرب (كسا) و (عفف).
(6) شيب: مزج. لسان العرب (شيب).
(7) الحيد: جمع حيداء وهي التي تحيد عن مواطن التهم. النواكل: جمع ناكلة وهي النافرة من الفحش.
لسان العرب (حيد) و (نكل).
(8) الأطلال: جمع طلل وهو الدار. يقول: إنهنّ نشأن في مدارج النعيم. لسان العرب (طلل).
(9) المها: جمع مهاة وهي بقرة الوحش. لسان العرب (مها).(1/88)
يرميننا لا يستترن بجنّة ... إلّا الصّبا وعلمن أين مقاتلي (1)
يلبسن أردية الشباب لأهلها ... ويجرّ باطلهنّ ذيل الباطل
وتعرّض لعبد الله بن الحسن رجل بما يكره، فقال فيما أنشده ثعلب: [الطويل]
أظنّت سفاها من سفاهة رأيها ... أن أهجوها لما هجتني محارب (2)
فلا وأبيها إنني بعشيرتي ... ونفسي عن ذاك المقام لراغب (3)
وأنشد هذين البيتين أبو العباس المبرّد لرجل لم يسمّه في رجل يعرف بابن البعير، وقبلهما:
يقولون أبناء البعير وما لهم ... سنام ولا في ذروة المجد غارب (4)
وساير عبد الله بن الحسن أبا العباس السفاح بظهر مدينة الأنبار وهو ينظر إلى بناء قد بناه أبو العباس ويدور به، فأنشد عبد الله: [الوافر]
ألم تر جوشنا لما تبنّى ... بناء نفعه لبني بقيله
يؤمّل أن يعمّر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كلّ ليله
وكان أبو العباس له مكرما، ولحقّه معظّما فتبسّم مغضبا، وقال: لو علمنا لاشترطنا حقّ المسايرة! فقال عبد الله: بوادر الخواطر، وأغفال المسانح والله ما قلتها عن رويّة، ولا عارضني فيها فكر وأنت أجلّ من أقال، وأولى من صفح، قال: صدقت خذ في غير هذا.
ولما قتل المنصور ابنه محمدا وكان عبد الله في السجن بعث برأسه إليه مع الربيع حاجبه فوضع بين يديه، فقال: رحمك الله أبا القاسم، فقد كنت من {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللََّهِ وَلََا يَنْقُضُونَ الْمِيثََاقَ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مََا أَمَرَ اللََّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخََافُونَ سُوءَ الْحِسََابِ} (5)! ثم تمثّل: [الطويل]
فتى كان يحميه من الذلّ سيفه ... ويكفيه سوءات الأمور اجتنابها
ثم التفت إلى الربيع فقال له: قل لصاحبك قد مضى من بؤسنا مدة، ومن نعيمك
__________
(1) الجنّة: السترة وكل ما يقي من السهام. لسان العرب (جنن).
(2) محارب: اسم قبيلة.
(3) الراغب عن الشيء: الزاهد فيه. لسان العرب (رغب).
(4) الغارب: الكاهل. لسان العرب (غرب).
(5) سورة الرعد 13، الآيتان 20، 21.(1/89)
مثلها والموعد لله تعالى! قال الربيع: فما رأيت المنصور قطّ أكثر انكسارا منه حين أبلغته الرسالة.
أخذ العباس بن الأحنف (1) هذا المعنى، وقيل: عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير (2)، فقال: [الطويل]
فإن تلحظي حالي وحالك مرّة ... بنظرة عين عن هوى النفس تحجب
تجد كلّ يوم مرّ من بؤس عيشتي ... يمرّ بيوم من نعيمك يحسب
ولما قتل المنصور محمد بن عبد الله اعترضته امرأة معها صبيان، فقالت: يا أمير المؤمنين، أنا امرأة محمد بن عبد الله، وهذان ابناه، أيتمهما سيفك، وأضرعهما خوفك (3)، فناشدتك الله، يا أمير المؤمنين، أن تصعّر لهما خدّك، أو ينأى عنهما رفدك (4) ولتعطفك عليهما شوابك النسب، وأواصر الرّحم (5)، فالتفت إلى الربيع، فقال: اردد عليهما ضياع أبيهما، ثم قال: كذا والله أحبّ أن تكون نساء بني هاشم.
وكان أهل المدينة لما ظهر محمد أجمعوا على حرب المنصور، ونصر محمد فلما ظفر المنصور أحضر جعفر بن محمد بن علي بن الحسين الصادق، فقال له: قد رأيت إطباق أهل المدينة على حربي، وقد رأيت أن أبعث إليهم من يغوّر عيونهم (6)، ويجمّر نخلهم (7). فقال له جعفر: يا أمير المؤمنين، إنّ سليمان أعطي فشكر، وإنّ أيوب ابتلي فصبر، وإنّ يوسف قدر فغفر فاقتد بأيّهم شئت، وقد جعلك الله من نسل الذين يعفون ويصفحون، فقال أبو جعفر: إنّ أحدا لا يعلّمنا الحلم، ولا يعرّفنا العلم، وإنما قلت هممت، ولم ترني فعلت وإنك لتعلم أن قدرتي عليهم تمنعني من الإساءة إليهم.
__________
(1) العباس بن الأحنف: شاعر غزل رقيق. نشأ ببغداد وبها توفي سنة 192هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 3ص 20) ومعاهد التنصيص (ج 1ص 54) والشعر والشعراء (ص 707) والأغاني (ج 8ص 366) وتاريخ بغداد (ج 12ص 127) ومعجم الأدباء (ج 3ص 439) والبداية والنهاية (ج 10ص 209) والأعلام (ج 3ص 259).
(2) عمارة بن عقيل: شاعر فصيح، من أهل اليمامة. توفي سنة 239هـ. ترجمته في معجم الشعراء (ص 247) وتاريخ بغداد (ج 12ص 282) والأعلام (ج 5ص 37).
(3) أضرعه: أذلّه. لسان العرب (ضرع).
(4) الرّفد: العطاء. لسان العرب (رفد).
(5) الشوابك: الروابط، وكذلك: الأواصر. لسان العرب (شبك) و (أصر).
(6) يغوّر عيونهم: يطمسها ويذهب ماءها. لسان العرب (غور).
(7) جمّر النخلة: قطع جمارها. لسان العرب (جمر).(1/90)
وعزّى جعفر بن محمد رجلا، فقال: أعظم بنعمة في مصيبة جلبت أجرا وأفظع بمصيبة في نعمة أكسبت كفرا.
هذا كقول الطائي (1): [البسيط]
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي الله بعض القوم بالنّعم
وكان جعفر بن محمد يقول: إنّي لأملق أحيانا فأتاجر الله بالصدقة فيربحني.
وقال جعفر، رضي الله عنه: من تخلّق بالخلق الجميل وله خلق سوء أصيل فتخلّقه لامحالة زائل، وهو إلى خلقه الأوّل آيل، كطلي الذهب على النحاس ينسحق وتظهر صفرته للناس.
هذا كقول العرجي: [البسيط]
يا أيّها المتحلّي غير شيمته ... ومن خلائقه الإقصار والملق (2)
ارجع إلى خلقك المعروف وارض به ... إنّ التخلّق يأتي دونه الخلق (3)
وكان يقول: ما توسّل إليّ أحد بوسيلة هي أقرب إليّ من يد سبقت مني إليه أتبعها أختها لتحسن ربّها (4) وحفظها لأنّ منع الأواخر يقطع لسان الأوائل.
وقيل لجعفر رحمه الله: إنّ أبا جعفر المنصور لا يلبس مذ صارت إليه الخلافة إلا الخشن، ولا يأكل إلا الجشب (5). فقال: يا ويحه! مع ما مكّن له من السلطان، وجبي إليه من الخراج! قالوا: إنما يفعل ذلك بخلا وجمعا للمال. فقال: الحمد لله الذي حرمه من دنياه ما ترك له من دينه. انتهى.
قال: ومن دعاء جعفر رضي الله عنه: اللهمّ إنك بما أنت أهل له من العفو أولى بما أنا أهل له من العقوبة.
وكان عبد الله [بن معاوية بن عبد الله] بن جعفر عالما، ناسبا، وكان خطيبا مفوّها، وشاعرا مجيدا، وكتب إلى بعض إخوانه:
أما بعد، فقد عاقني الشكّ في أمرك عن عزيمة الرّأي فيك، وذلك أنك ابتدأتني
__________
(1) ديوان أبي تمام (ص 279).
(2) الإقصار: القصور والضعف. الملق: إظهار الودّ ذلّة وخضوعا. لسان العرب (قصر) و (ملق).
(3) التخلّق: التكلّف بما ليس في الفطرة، والخلق: السجية والطبع. لسان العرب (خلق).
(4) ربّ الشيء: أصلحه. لسان العرب (ريب).
(5) الجشب: الطعام الذي لا إدام فيه. لسان العرب (جشب).(1/91)
بلطف عن غير خبرة ثم أعقبتني جفاء عن غير جريرة فأطمعني أوّلك في إخائك، وأيأسني آخرك عن وفائك فلا أنا في غير الرجاء مجمع لك اطّراحا، ولا أنا في غد وانتظاره منك على ثقة فسبحان من لو شاء كشف بإيضاح الشكّ في أمرك عن عزيمة الرأي فيك فاجتمعنا على ائتلاف، أو افترقنا على اختلاف، والسلام.
وهو القائل: [الطويل]
رأيت فضيلا كان شيئا ملفّعا ... فكشّفه التمحيص حتى بدا ليا (1)
فأنت أخي ما لم تكن لي حاجة ... فإن عرضت أيقنت أن لا أخاليا
كلانا غنيّ عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا
فلا زاد ما بيني وبينك بعد ما ... بلوتك في الحاجات إلّا تماديا
فعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا
والقائل أيضا: [الكامل]:
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوما على الأحساب نتّكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
وهذا كقول عامر بن الطفيل، قال أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش: أنشدني محمد الحسن بن الحرون لعامر بن الطفيل (2): [الطويل]
تقول ابنة العمريّ: ما لك بعد ما ... أراك صحيحا كالسليم المعذّب (3)
فقلت لها: همّي الذي تعرفينه ... من الثّأر في حيّي زبيد وأرحب
إن اغز زبيدا أغز قوما أعزّة ... مركّبهم في الحيّ خير مركب
وإن أغز حيّي خثعم فدماؤهم ... شفاء وخير الثّأر للمتأوّب (4)
فما أدرك الأوتار مثل محقّق ... بأجرد طاو كالعسيب المشذّب (5)
__________
(1) ملفّع: مغطّى. لسان العرب (لفع).
(2) عامر بن الطفيل: فارس مشهور، وشاعر مجيد. أدرك الإسلام شيخا، وتوفي سنة 11هـ. ترجمته في الشعر والشعراء (ص 251) والبيان والتبيين (ج 1ص 109، 342) والمؤتلف والمختلف (ص 154) ومعجم الشعراء (ص 222) والعقد (ج 2ص 17) و (ج 3ص 128، 410) والأعلام (ج 3ص 252).
(3) السليم: الملدوغ. لسان العرب (سلم).
(4) المتأوّب: الآتي ليلا، والمراد الثائر. لسان العرب (أوب).
(5) الأجرد: الحصان سقط شعره من الضمور. الطاوي: الضامر. العسيب: جريدة من النخل مستقيمة دقيقة. المشذّب: المقلّم. لسان العرب (جرد) و (طوى) و (عسب) و (شذب).(1/92)
وأسمر خطّيّ وأبيض باتر ... وزغف دلاص كالغدير المثوّب (1)
وإني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفي السرّ منها والصّريح المهذّب
فما سوّدتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب
ولكنني أحمي حماها، وأتّقي ... أذاها، وأرمي من رماها بمنكب
وقال أيضا يهنّىء بعض الهاشميين بإملاك (2): زاد الله في نعمته، وبارك في فواضله، وجميل نوافله ونسأل الله الذي قسم لكم ما تحبّون من السرور أن يجنّبكم ما تكرهون من المحذور، ويجعل ما أحدثه لكم زينا، ومتاعا حسنا، ورشدا ثابتا، ويجعل سبيل ما أصبحت عليه، تماما لصالح ما سموت إليه من اجتماع الشّمل، وحسن موافقة الأهل ألّف الله ذلك بالصلاح، وتمّمه بالنجاح، ومدّ لك في ثروة العدد، وطيب الولد، مع الزيادة في المال، وحسن السلامة في الحال، وقرّة العين، وصلاح ذات البين.
وهجا أبو عاصم محمد بن حمزة الأسلمي المدني الحسن بن زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمة الله عليه، فقال: [الوافر]
له حقّ وليس عليه حقّ ... ومهما قال فالحسن الجميل
وقد كان الرسول يرى حقوقا ... عليه لغيره وهو الرسول
فلما ولي الحسن المدينة (3) أتاه متنكّرا في زي الأعراب، فقال: [الوافر]
ستأتي مدحتي الحسن بن زيد ... وتشهد لي بصفّين القبور (4)
قبور لم تزل مذ غاب عنها ... أبو حسن تعاديها الدهور
قبور لو بأحمد أو عليّ ... يلوذ مجيرها حمي المجير
هما أبواك من وضعا فضعه ... وأنت برفع من رفعا جدير
فقال: من أنت؟ قال: أنا الأسلمي. قال: ادن حيّاك الله! وبسط له رداءه، وأجلسه عليه، وأمر له بعشرة آلاف درهم.
__________
(1) الأسمر الخطّيّ: الرمح الذي ينسب إلى الخط وهو موضع. الأبيض الباتر: السيف القاطع. الزّغف الدلاص: الرماح اللينة الملساء. الغدير المثوّب: النهر الممتلىء. لسان العرب (خطط) و (بيض) و (زغف) و (دلص) و (غدر) و (ثوب).
(2) الإملاك: الزواج. لسان العرب (ملك).
(3) الذي ولي المدينة هو الحسن بن زيد بن علي بن الحسن بن أبي طالب وقد استعمله المنصور على المدينة خمس سنين ثم عزله. توفي سنة 168هـ. الأعلام (ج 2ص 191) ومصادر حاشيته.
(4) صفّين: موضع على شاطىء الفرات، كانت فيه الوقعة بين علي بن أبي طالب، عليه الصلاة والسلام، وبين معاوية في سنة 37هـ غرّة صفر. معجم البلدان (ج 3ص 414).(1/93)
وكان الحسن بن زيد قد عوّد داود بن سلم مولى بني تيم أن يصله، فلما مدح داود جعفر بن سليمان بن علي وكان بينه وبين الحسن بن زيد تباعد أغضبه ذلك، وقدم الحسن من حجّ أو عمرة، فدخل عليه داود بن سلم مهنئا، فقال: أنت القائل في جعفر بن سليمان بن علي: [الطويل]
وكنّا حديثا قبل تأمير جعفر ... وكان المنى في جعفر أن يؤمّرا (1)
حوى المنبرين الطاهرين كليهما ... إذا ما خطا عن منبر أمّ منبرا
كأن بني حوّاء صفّوا أمامه ... فخيّر في أنسابهم فتخيّرا
فقال داود: نعم، جعلني الله فداك، فكنتم خيرة اختياره! وأنا القائل: [الطويل]
لعمري لئن عاقبت أوجدت منعما ... بعفو عن الجاني وإن كان معذرا (2)
لأنت بما قدّمت أولى بمدحة ... وأكرم فخرا إن فخرت وعنصرا
هو الغرّة الزهراء من فرع هاشم ... ويدعو عليّا ذا المعالي وجعفرا
وزيد الندى والسبط سبط محمد ... وعمّك بالطّفّ الزكيّ المطهّرا
وما نال منها جعفر غير مجلس ... إذا ما نفاه العزل عنه تأخّرا (3)
بحقّكم نالوا ذراها وأصبحوا ... يرون به عزّا عليكم ومظهرا
فعادله الحسن بن زيد إلى ما كان عليه، ولم يزل يصله ويحسن إليه إلى أن مات.
وقوله: «وإن كان معذرا» لأن جعفرا أعطاه على أبياته الثلاثة ألف دينار.
ولما ولي الحسن بن زيد المدينة دخل عليه إبراهيم بن علي بن هرمة (4)، فقال له الحسن: يا إبراهيم، لست كمن باع لك دينه رجاء مدحك، أو خوف ذمّك، فقد رزقني الله تعالى بولادة نبيّه، صلى الله عليه وسلم، الممادح، وجنّبني المقابح، وإنّ من حقّه عليّ ألّا أغضي على تقصير في حقّ وجب وأنا أقسم لئن أتيت بك سكران لأضربنّك حدّا للخمر، وحدّا للسكر ولأزيدنّ لموضع حرمتك بي، فليكن تركك لها لله، عزّ وجلّ، تعن عليه، ولا
__________
(1) يؤمّر: يتولّى الإمارة. لسان العرب (أمر).
(2) المعذر: ذو العذر. لسان العرب (عذر).
(3) العزل: بضم العين وسكون الزاي: الضعف. لسان العرب (عزل).
(4) إبراهيم بن علي بن هرمة: شاعر غزل، من سكان المدينة، انقطع إلى الطالبيين ومدحهم. توفي سنة 176هـ. ترجمته في تاريخ بغداد (ج 6ص 127) والأغاني (ج 4ص 361) و (ج 5ص 270) والبداية والنهاية (ج 10ص 169) والنجوم الزاهرة (ج 2ص 84) والأعلام (ج 1ص 50).(1/94)
تدعها للناس فتوكل إليهم. فنهض ابن هرمة، وهو يقول: [الوافر]
نهاني ابن الرسول عن المدام ... وأدّبني بآداب الكرام
وقال لي اصطبر عنها ودعها ... لخوف الله لا خوف الأنام
وكيف تصبّري عنها وحبي ... لها حبّ تمكّن في عظامي
أرى طيف الخيال عليّ خبثا ... وطيب العيش في خبث الحرام
وكان إبراهيم منهوما في الخمر، وجلده خيثم بن عراك صاحب شرطة المدينة لرباح بن عبد الله الحارثي في ولاية أبي العباس.
ولما وفد على أبي جعفر المنصور ومدحه استحسن شعره ووصله، وقال له: سل حاجتك، قال: تكتب لي إلى عامل المدينة ألّا يحدّني إذا أتي بي سكران، فقال أبو جعفر: هذا حدّ من حدود الله تعالى لا يجوز أن أعطلّه، قال: فاحتل لي يا أمير المؤمنين! فكتب إلى عامل المدينة: «من أتاك بابن هرمة سكران فاجلده مائة، واجلد ابن هرمة ثمانين».
فكان الشّرط يمرّون به مطروحا في سكك المدينة، فيقولون: من يشتري مائة بثمانين؟!
وقال موسى بن عبد الله بن علي بن أبي طالب: [الطويل]
إذا أنا لم أقبل من الدهر كلّ ما ... تكرّهت منه طال عتبي على الدّهر
إلى الله كلّ الأمر في الخلق كلّهم ... وليس إلى المخلوق شيء من الأمر
تعودّت مسّ الضرّ حتى ألفته ... وأسلمني طول البلاء إلى الصبر
ووسّع صدري للأذى الأنس بالأذى ... وإن كنت أحيانا يضيق به صدري
وصيّرني يأسي من الناس راجيا ... لسرعة لطف الله من حيث لا أدري
وموسى بن عبد الله هو القائل: [مجزوء الوافر]
تولّت بهجة الدنيا ... فكلّ جديدها خلق (1)
وخان الناس كلّهم ... فما أدري بمن أثق
رأيت معالم الخيرا ... ت سدّت دونها الطرق
فلا حسب ولا نسب ... ولا دين ولا خلق
فلست مصدّق الأقوا ... م في شيء وإن صدقوا
__________
(1) الخلق: بفتح الخاء واللام. البالي. لسان العرب (خلق).(1/95)
وكان المنصور حبسه لخروجه عليه مع أخويه، ثم ضربه ألف سوط، فما نطق بحرف واحد فقال الربيع: عذرت هؤلاء الفساق في صبرهم فما بال هذا الفتى الذي نشأ في النعمة والدّعة؟ فقال: [الكامل]
إنّي من القوم الذين يزيدهم ... جلدا وصبرا قسوة السلطان
وولدت هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة موسى، ولها ستّون سنة، ولا يعلم امرأة ولدت بنت ستين سنة إلّا قرشيّة.
اجتاز علي بن محمد العلوي بالجسر بحدثان (1) قتل عمر بن يحيى بن عبد الله ابن الحسين، وقاتله الحسين بن إسماعيل هناك، قد جرّد رجلا للقتل، فلما رأت أمّ الرجل عليّا سألته أن يشفع فيه، فمال عليّ إلى الحسين فأنشده: [الوافر]
قتلت أبرّ من ركب المطايا ... وجئتك أستلينك بالكلام
وعزّ عليّ أن ألقاك إلّا ... وفيما بيننا حدّ الحسام
ولكنّ الجناح إذا أصيبت ... قوادمه يرفّ على الإكام (2)
فقال له: وما حاجتك؟ قال: العفو عن ابن هذه المرأة! فتركه.
وسئل العباس بن الحسين عن رجل، فقال لجليسه: أطرب من الإبل على الحداء، ومن الثمل على الغناء.
وذكر العباس رجلا فقال: ما الحمام على الأحرار، وطول السّقم في الأسفار، وعظم الدّين على الإقتار، بأشدّ من لقائه.
وقال العباس بن الحسين للمأمون: يا أمير المؤمنين، إن لساني ينطلق بمدحك غائبا، وقد أحببت أن يتزيّد عندك حاضرا، أفتأذن لي يا أمير المؤمنين في الكلام؟ فقال له: قل فو الله إنك لتقول فتحسن، وتحضر فتزبّن، وتغيب فتؤتمن، فقال: ما بعد هذا كلام يا أمير المؤمنين! أفتأذن بالسكوت؟ قال: إذا شئت.
وذكر رجلا بليغا فقال: ما شبّهت كلامه إلا بثعبان ينهال بين رمال، وماء يتغلغل بين جبال.
__________
(1) حدثان الأمر: أوله، أي في وقت قتل عمر. لسان العرب (حدث).
(2) القوادم: عشر ريشات في مقدّم الجناح، وهي كبار الريش. الإكام: جمع أكمة وهي التلّ أو دون الجبل. محيط المحيط (قدم) و (أكم).(1/96)
وسمع المنتجع بن نبهان كلام العباس بن الحسين، فقال: هذا كلام يدلّ سائره على غابره (1)، وأوله على آخره.
وسأل المأمون العباس بن الحسين عن رجل؟ فقال: رأيت له حلما وأناة، ولم أسمع لحنا ولا إحالة (2) يحدّثك الحديث على مطاويه (3)، وينشدك الشعر على مدارجه.
وكان المأمون يقول: من أراد أن يسمع لهوا بلا حرج فليسمع كلام العباس، والعباس بن الحسين من أشعر الهاشميين وهو يعدّ في طبقة إبراهيم ابن المهدي، وهو القائل: [الوافر]
أتاح لك الهوى بيض حسان ... سبينك بالعيون وبالشعور
نظرت إلى النحور فكدت تقضي ... وأولى لو نظرت إلى الخصور (4)
وهو القائل أيضا: [مجزوء الكامل]
صادتك من بعض القصور ... بيض نواعم في الخدور
حور تحور إلى صبا ... ك بأعين منهنّ حور (5)
وكأنما بثغورهنّ ... جنى الرّضاب من الخمور
يصبغن تفّاح الخدو ... د بماء رمّان الصّدور
وهو: العباس بن الحسين بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وأم عبيد الله جدّة بنت عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب عمّ محمد بن علي أبي الخلفاء.
وكان الرشيد والمأمون يقرّبان العباس غاية التقريب لنسبه وأدبه. قال أبو دلف:
دخلت على الرشيد وهو في طارمة على طنفسة (6) ومعه عليها شيخ جميل المنظر فقال لي الرشيد: يا قاسم، ما خبر أرضك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، خراب يباب، أخربها الأكراد والأعراب. فقال قائل: هذا آفة الجبل، وهو أفسده، فقلت: أنا أصلحه، قال الرشيد: وكيف ذلك؟ قلت: أفسدته وأنت عليّ وأصلحه وأنت معي! قال الشيخ: إن همته
__________
(1) سائره: ما بقي منه. غابره: ماضيه، محيط المحيط (سير) و (غبر).
(2) الإحالة: التكلم بالمحال. محيط المحيط (حول).
(3) مطاويه: خفاياه، محيط المحيط (طوى).
(4) تقضي: تهلك. لسان العرب (قضى).
(5) تحور: تميل. لسان العرب (حور).
(6) الطارمة: بيت كالقبة من خشب. الطّنفسة: البساط. محيط المحيط (طرم) و (طنفس).(1/97)
لترمي به من وراء سنّه مرمى بعيدا فسألت عن الشيخ فقيل: العباس بن الحسين، وكان أبو دلف ذلك الوقت صغير السنّ.
ولقي موسى بن جعفر (1)، رضي الله عنه، محمد بن الرشيد الأمين بالمدينة وموسى على بغلة، فقال للفضل بن الربيع (2): عاتب هذا، فقال له الفضل: كيف لقيت أمير المؤمنين على هذه الدابة التي إن طلبت عليها لم تسبق، وإن طلبت عليها تلحق، فقال:
لست أحتاج أن أطلب، ولا إلى أن أطلب ولكنها دابّة تنحطّ عن خيلاء الخيل، وترتفع عن ذلة العير (3)، وخير الأمور أوسطها.
أصيب علي بن موسى بمصيبة، فصار إليه الحسن بن سهل، فقال: إنا لم نأتك معزّين بل جئناك مقتدين فالحمد لله الذي جعل حياتكم للناس رحمة، ومصائبكم لهم قدوة.
وكان علي بن موسى الرضا (4)، رحمه الله، قد ولّاه المأمون عهده، وعقد له الخلافة بعده، ونزع السّواد عن بني العباس، وأمرهم بلباس الخضرة (5)، ومات علي بن موسى في حياة المأمون بطوس، فشقّ [المأمون] قبر الرشيد ودفن فيه تبرّكا به، وكان الرشيد قد مات بطوس فدفن هناك ولذلك قال دعبل بن علي الخزاعي: [البسيط]
اربع بطوس على قبر الزكّي بها ... إن كنت تربع من دين على وطر
ما ينفع الرّجس من قرب الزكّي، ولا ... على الزكيّ بقرب الرجس من ضرر
هيهات كلّ امرىء رهن بما كسبت ... له يداه فخذ من ذاك أو فذر
قبران في طوس: خير الناس كلهم ... وقبر شرّهم، هذا من العبر
__________
(1) هو أبو الحسن موسى بن جعفر الصادق، المعروف بموسى الكاظم سابع الأئمة الاثني عشر، وأحد كبار العلماء الأجواد. توفي سنة 183هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 5ص 308) والبداية والنهاية (ج 10ص 183) وصفوة الصفوة (ج 2ص 103) والأئمة الاثنا عشر (ص 87) وتاريخ بغداد (ج 13ص 27) والعبر في خبر من غبر (ج 1ص 287) والأعلام (ج 7ص 321).
(2) الفضل بن الربيع: وزير أديب حازم، ولي الوزارة إلى أن مات الرشيد. توفي سنة 208هـ. وفيات الأعيان (ج 4ص 37) والبداية والنهاية (ج 10ص 263) وتاريخ بغداد (ج 12ص 343) ومعجم الشعراء (ص 312) والعبر لابن خلدون (م 4ص 59، 61، 248، 249، 251) والأعلام (ج 5 ص 148).
(3) العير: الحمار. لسان العرب (عير).
(4) علي بن موسى الرضا ثامن الأئمة الاثني عشر، توفي سنة 203هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 3 ص 269) والكامل في التاريخ (ج 6ص 351) والأعلام (ج 5ص 26).
(5) لباس الخضرة: شعار أهل البيت.(1/98)
وكان دعبل مداحا لأهل البيت، كثير التعصّب لهم، والغلوّ فيهم. وله المرثية المشهورة، وهي من جيد شعره، وأولها: [الطويل]
مدارس آيات عفت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات (1)
لآل رسول الله بالخيف من منى ... وبالبيت والتّعريف والجمرات
ديار عليّ والحسين وجعفر ... وحمزة والسّجّاد ذي الثّفنات
قفا نسأل الدّار التي خفّ أهلها ... متى عهدها بالصّوم والصلوات
وأين الألى شطّت بهم غربة النّوى ... أفانين في الآفاق مفترقات
أحبّ قصيّ الدار من أجل حبّهم ... وأهجر فيهم أسرتي وثقاتي
وهي طويلة.
ولما دخل المأمون بغداد أحضر دعبلا بعد أن أعطاه الأمان، وكان قد هجاه وهجا أباه، فقال: يا دعبل، من الحضيض الأوهد! فقال: يا أمير المؤمنين، قد عفوت عمن هو أشدّ جرما مني! أراد المأمون قول دعبل يهجوه: [الكامل]
إنّي من القوم الذين سيوفهم ... قتلت أخاك وشرّفتك بمقعد
شادوا بذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد
يفتخر عليه بقتل طاهر بن الحسين بن مصعب ذي اليمينين أخاه محمدا، وطاهر مولى لخزاعة، فاستنشده هذه القصيدة التائيّة، فاستعفاه، فقال: لا بأس عليك، وقد رويتها، وإنما أحببت أن أسمعها منك، فأنشدها دعبل فلما انتهى إلى قوله: [الطويل]
ألم تر أني مذ ثلاثين حجّة ... أروح وأغدو دائم الحسرات
أرى فيئهم في غيرهم متقسّما ... وأيديهم من فيئهم صفرات (2)
إذا وتروا مدّوا إلى أهل وترهم ... أكفّا عن الأوتار منقبضات
وآل رسول الله نحف جسومهم ... وآل زياد غلّظ القصرات (3)
بنات زياد في القصور مصونة ... وبنت رسول الله في الفلوات
بكى المأمون، وجدّد له الأمان، وأحسن له الصّلة.
__________
(1) العرصات: جمع عرصة وهي ساحة الدار. محيط المحيط (عرص).
(2) صفرات: خاليات. لسان العرب (صفر).
(3) القصرات: جمع قصرة وهي أصل العنق. لسان العرب (قصر).(1/99)
والشيء يستدعي ما قرع بابه، وجذب أهدابه، قال سليمان بن قتيبة: [الطويل]
مررت على أبيات آل محمد ... فلم أرها عهدي بها يوم حلّت
فلا يبعد الله الديار وأهلها ... وإن أصبحت من أهلها قد تخلت
وكانوا رجاء ثم عادوا رزية ... ألا عظمت تلك الرزايا وجلّت
وإن قتيل الطّفّ من آل هاشم ... أذلّ رقاب المسلمين فذلّت (1)
ويشبه قوله: «وكانوا رجاء ثم عادوا رزية» قول امرأة من العرب مرّت بالجسر بجثّة جعفر بن يحيى البرمكي مصلوبا (2) فقالت: لئن أصبحت نهاية في البلاء، لقد كنت غاية في الرجاء.
ألفاظ لأهل العصر في أوصاف الأشراف، لها في هذا الموضع موقع
فلان من شرف العنصر الكريم، ومعدن الشرف الصميم. أصل راسخ، وفرع شامخ، ومجد باذخ، وحسب شادخ (3).
فلان كريم الطرفين، شريف الجانبين، قد ركّب الله دوحته في قرارة المجد، وغرس نبعته في محلّ الفضل. أصل شريف، وعرق كريم، ومغرس عظيم، ومغرز صميم.
المجد لسان أوصافه، والشرف نسب أسلافه. نسب فخم، وشرف ضخم. يستوفي شرف الأرومة بكرم الأبوّة والأمومة، وشرف الخؤولة والعمومة. ما أتته المحاسن عن كلالة (4)، ولا ظفر بالهدى عن ضلالة، بل تناول المجد كابرا عن كابر، وأخذ الفخر عن أسرّة ومنابر: [الكامل]
شرف تنقّل كابرا عن كابر ... كالرمح أنبوبا على أنوب
استقى عرقه من منبع النبوّة، ورضعت شجرته من ثدي الرسالة، وتهدّلت أغصانه
__________
(1) الطّفّ: موضع قرب الكوفة. معجم البلدان (ج 4ص 35).
(2) جعفر بن يحيى البرمكي: وزير الرشيد العباسي. قتله الرشيد بعد أن نقم على البرامكة سنة 187هـ.
ترجمته في البداية والنهاية (ج 10ص 189، 194) ووفيات الأعيان (ج 1ص 328) وتاريخ بغداد (ج 7ص 152) والنجوم الزاهرة (ج 2ص 123) والأعلام (ج 2ص 130).
(3) الشادخ: العالي. لسان العرب (شدخ).
(4) الكلالة: من القرابة ما خلا الولد والوالد. لسان العرب (كلل).(1/100)
عن نبعة الإمامة، وتبحبحت أطرافه في عرصة (1) الشّرف والسيادة، وتفقّأت (2) بيضته عن سلالة الطّهارة، قد جذب القرآن بضبعه (3)، وشقّ الوحي عن بصره وسمعه، مختار من أكرم المناسب (4)، منتخب من أشرف العناصر، مرتضى من أعلى المحاتد (5)، مؤثر من أعظم العشائر، قد ورث الشرف جامعا عن جامع، وشهد له نداء الصوامع، هو من مضر في سويداء قلبها، ومن هاشم في سواد طرفها، ومن الرسالة في مهبط وحيها، ومن الإمامة في موقف عزّها، ينزع إلى المحامد بنفس وعرق، ويحنّ إلى المكارم بوراثة وخلق يتناسب أصله وفرعه، ويتناصف نحره وطبعه، وهو الطّيب أصله وفرعه، الزّاكي بذره وزرعه، يجمع إلى عزّ النّصاب، مزيّة الآداب، لا غرو أن يجري الجواد على عرقه، وتلوح مخايل الليث في شبله، ويكون النجيب فرعا مشيدا لأصله. له مع نباهة شرفه، نزاهة سلفه، ومع كرم أرومته وحزمه، مزية أدبه وعلمه، لن تخلف ثمرة غرس ارتيد لها من المنابت أزكاها، ومن المغارس أطيبها وأغذاها وأنماها قد جمع شرف الأخلاق، إلى [شرف الأعراق، وكرم الأداب، إلى] كرم الأنساب له في المجد أول وآخر، وفي الكرم تليد وطارف، وفي الفضل حديث وقديم لا غرو أن يغمر فضله، وهو نجل الصّيد الأكارم، أو يغزر علمه وهو فيض البحور الخضارم (6)، دوحة رسب عرقها، وسمق (7)
فرعها، وطاب عودها، واعتدل عمودها، وتفيّأت ظلالها، وتهدّلت ثمارها، وتفرّعت أغصانها، وبرد مقيلها. مجد يلحظ الجوزاء من عال، ويطول النجم كلّ مطال. شرف تضع له الأفلاك خدودها وجباهها، وتلثم النجوم أرضه بأفواهها وشفاهها. نسب المجد به عريق، وروض الشرف به أنيق. ولسان الثناء بفضله نطوق. فلك المجد عليه يدور، ويد العلا إليه تشير. محلّه شاهق، ومجده باسق.
بدء الكتاب
قد تمّ ما استفتحت به التأليف، وجعلته مقدمة التصنيف، مع ما اقترن به، وانضاف
__________
(1) العرصة: ساحة الدار. لسان العرب (عرص).
(2) تفقأت: تشقّقت. لسان العرب (فقأ).
(3) الضّبع: الكنف والناحية وقوله: جذب بضبعه: أي نوّه به ولسان العرب (ضبع) و (جذب).
(4) المناسب: جمع منسب وهو الأصل. لسان العرب (نسب).
(5) المحاتد: جمع محتد وهو الأصل أيضا. لسان العرب (حتد).
(6) الخضارم: جمع خضرم وهو الواسع. لسان العرب (خضرم).
(7) سمق: ارتفع. لسان العرب (سمق).(1/101)
إليه، والتفّ به، وانعطف عليه، ورأيت أن أبتدىء مقدّمات البلاغات بغرر التحاميد وأوصافها، وما يتعلّق بأثنائها وأطرافها.
وقد قال سهل بن هارون في أول كتاب عمله: يجب على كلّ مبتدىء مقالة أن يبتدىء بحمد الله قبل استفتاحها، كما بدىء بالنعمة قبل استحقاقها.
ولأهل العصر: أولى ما فغر به الناطق فمه، وافتتح به كلمه، حمد الله جلّ ثناؤه، وتقدّست أسماؤه. حمد الله خير ما ابتدىء به القول وختم، وافتتح به الخطاب وتمّم.
وقال أبو العباس عبد الله بن المعتز بالله: إنّ الله، جلّ ثناؤه، لا يمثّل بنظير، ولا يغلب بظهير (1)، جلّ عن موقع تحصيل أدوات البشر، ولطف عن ألحاظ خطرات الفكر، لا يحمد إلّا بتوفيق منه يقتضي حمدا، فمتى تحصى نعماؤه وتكافأ آلاؤه؟ عجز أقصى الشكر عن أداء نعمته، وتضاءل ما خلق في سعة قدرته قدر فقدّر، وحكم فأحكم وجعل الدّين جامعا لشمل عباده، والشرائع منارا على سبيل طاعته يتبعها أهل اليقين به، ويحيد عنها أهل الشك فيه.
أخذ أبو العباس قوله: «ولا يحمد إلّا بتوفيق منه يقتضي حمدا» من قول محمود بن الحسن الوراق (2): [الطويل]
إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... عليّ له في مثلها يجب الشّكر
فكيف بلوغ الشّكر إلّا بفضله ... وإن طالت الأيام واتّصل العمر
إذا عمّ بالسّرّاء عمّ سرورها ... وإن مسّ بالضّرّاء أعقبها الأجر
فما منهما إلّا له فيه نعمة ... تضيق بها الأوهام والبرّ والبحر
وإنما أخذه محمود من قول أبي العتاهية (3): [الخفيف]
أحمد الله فهو ألهمني الحم ... د على الحمد والمزيد لديه (4)
كم زمان بكيت فيه فلمّا ... صرت في غيره بكيت عليه (5)
__________
(1) الظهير: المعين. لسان العرب (ظهر).
(2) محمود بن حسن الوراق: شاعر، أكثر شعره في المواعظ والحكم، وتوفي في خلافة المعتصم في حدود الثلاثين والمائتين. ترجمته في فوات الوفيات (ج 4ص 79) والأعلام (ج 7ص 167).
(3) ديوان أبي العتاهية (ص 288).
(4) في الديوان: «وهو» بدل «فهو».
(5) رواية البيت في الديوان هي:
كم زمان بكيت منه قديما ... ثم لمّا مضى بكيت عليه(1/102)
وقد اضطربت الرواية في هذين البيتين وقائلهما، وهذا البيت الثاني كثير (1)، قال إبراهيم بن العباس: [البسيط]
كذاك أيّامنا لا شكّ نندبها ... إذا تقضّت ونحن اليوم نشكوها
آخر: [الطويل]
وما مرّ يوم أرتجي فيه راحة ... فأفقده إلّا بكيت على أمس
ومحمود هو القائل أيضا (2): [الكامل]
تعصي الإله وأنت تظهر حبّه ... هذا محال في القياس بديع
لو كان حبّك صادقا لأطعته ... إنّ المحب لمن أحبّ مطيع (3)
وكان كثيرا ما ينقل أخبار الماضين، وحكم المتقدّمين، فيحلّي بها نظامه، ويزيّن بها كلامه، وهو القائل: [الكامل]
إني وهبت لظالمي ظلمي ... وشكرت ذاك له على علمي
ورأيته أسدى إليّ يدا ... لمّا أبان بجهله حلمي
رجعت إساءته عليه، ولي ... فضل فعاد مضاعف الجرم
فكأنما الإحسان كان له ... وأنا المسيء إليه في الزّعم
ما زال يظلمني وأرحمه ... حتى رثيت له من الظلم
وهو القائل: [الطويل]
أراني إذا ما ازددت مالا وثروة ... وخيرا إلى خير تزيّدت في الشّرّ
فكيف بشكر الله إن كنت إنما ... أقوم مقام الشّكر لله بالكفر
بأيّ اعتذار أو بأية حجّة ... يقول الذي يدري من الأمر ما أدري
إذا كان وجه العذر ليس ببيّن ... فإنّ اطّراح العذر خير من العذر
[في البلاغة]
ولابن المعتز: البيان ترجمان القلوب، وصيقل العقول، ومجلّي الشبهة، وموجب
__________
(1) أي إن البيت الثاني ردّده الشعراء كثيرا.
(2) البيتان في فوات الوفيات (ج 4ص 81).
(3) في فوات الوفيات: «يحبّ» بدل «أحبّ».(1/103)
الحجة، والحاكم عند اختصام الظنون، والمفرّق بين الشّكّ واليقين، وهو من سلطان الرّسل الذي انقاد به المصعب (1)، واستقام الأصيد (2)، وبهت الكافر، وسلّم الممتنع، حتى أشب (3) الحقّ بأنصاره، وخلا ربع الباطل من عمّاره، وخير البيان ما كان مصرّحا عن المعنى ليسرع إلى الفهم تلقّيه، وموجزا ليخفّ على اللفظ تعاطيه.
وفضل القرآن على سائر الكلام معروف غير مجهول، وظاهر غير خفيّ يشهد بذلك عجز المتعاطين، ووهن المتكلّفين، وتحيّر الكذابين، وهو المبلّغ الذي لا يملّ، والجديد الذي لا يخلق (4)، والحقّ الصادع، والنور الساطع، والماحي لظلم الضلال، ولسان الصّدق النافي للكذب، ونذير قدّمته الرحمة قبل الهلاك، وناعي الدنيا المنقولة، وبشير الآخرة المخلّدة، ومفتاح الخير، ودليل الجنة، إن أوجز كان كافيا، وإن أكثر كان مذكّرا، وإن أومأ كان مقنعا، وإن أطال كان مفهما، وإن أمر فناصحا، وإن حكم فعادلا، وإن أخبر فصادقا، وإن بيّن فشافيا، سهل على الفهم، صعب على المتعاطي (5)، قريب المأخذ، بعيد المرام، سراج تستضيء به القلوب، حلو إذا تذوّقته العقول، بحر العلوم، وديوان الحكم، وجوهر الكلم، ونزهة المتوسّمين، وروح قلوب المؤمنين، نزل به الرّوح الأمين على محمد خاتم النبيين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين، فخصم الباطل، وصدع بالحق، وتألف من النّفرة، وأنفذ من الهلكة، فوصل الله له النصر، وأضرع (6) به خدّ الكفر.
قال علي بن عيسى الرماني (7): البلاغة ما حطّ التكلّف عنه (8)، وبني على التبيين، وكانت الفائدة أغلب عليه من القافية، بأن جمع مع ذلك سهولة المخرج، مع قرب المتناول وعذوبة اللفظ، مع رشاقة المعنى وأن يكون حسن الابتداء كحسن الانتهاء،
__________
(1) المصعب: الفحل الصعب القياد. لسان العرب (صعب).
(2) الأصيد: المائل العنق كبرا. لسان العرب (صيد).
(3) أشب: تجمّع وقوي. لسان العرب (أشب).
(4) يخلق: يبلى. لسان العرب (خلق).
(5) المتعاطي: المتكلّف مجاراته. لسان العرب (عطا).
(6) أضرع: أذلّ. لسان العرب (ضرع).
(7) علي بن عيسى الرماني: معتزلي مفسّر. ومن كبار النحاة. توفي سنة 384هـ. ترجمته في بغية الوعاة (ص 344) ووفيات الأعيان (ج 3ص 299) وتاريخ بغداد (ج 12ص 16) وإنباه الرواة (ج 2 ص 294) والأعلام (ج 4ص 317).
(8) ضمير «عنه» يعود إلى الكلام البليغ.(1/104)
وحسن الوصل، كحسن القطع، في المعنى والسمع، وكانت كلّ كلمة قد وقعت في حقّها، وإلى جنب أختها، حتى لا يقال: لو كان كذا في موضع كذا لكان أولى! وحتى لا يكون فيه لفظ مختلف، ولا معنى مستكره ثم ألبس بهاء الحكمة، ونور المعرفة، وشرف المعنى، وجزالة اللّفظ، وكانت حلاوته في الصدر وجلالته في النفس تفتّق الفهم، وتنثر دقائق الحكم، وكان ظاهر النفع، شريف القصد، معتدل الوزن، جميل المذهب، كريم المطلب، فصيحا في معناه، بيّنا في فحواه وكلّ هذه الشروط قد حواها القرآن، ولذلك عجز عن معارضته جميع الأنام.
ألفاظ لأهل العصر في ذكر القرآن
القرآن حبل الله الممدود، وعهده المعهود، وظلّه العميم، وصراطه المستقيم، وحجّته الكبرى، ومحجّته الوسطى، وهو الواضح سبيله، الراشد دليله، الذي من استضاء بمصابيحه أبصر ونجا، ومن أعرض عنه ضلّ وهوى فضائل القرآن لا تستقصى في ألف قرن، حجّة الله وعهده، ووعيده ووعده، به يعلم الجاهل، ويعمل العامل، ويتنبّه الساهي، ويتذكّر اللاهي، بشير الثواب، ونذير العقاب، وشفاء الصدور، وجلاء الأمور من فضائله أنه يقرأ دائما، ويكتب، ويملى، ولا يملّ. ما أهون الدنيا على من جعل القرآن [إمامه، وتصوّر الموت أمامه، طوبى لمن جعل القرآن] مصباح قلبه، ومفتاح لبّه. من حقّ القرآن حفظ ترتيبه، وحسن ترتيله.
قال بعض الحكماء: الحكمة موقظة للقلوب من سنة (1) الغفلة، ومنقذة للبصائر من سكرة الحيرة، ومحيية لها من موت الجهالة، ومستخرجة لها من ضيق الضّلالة والعلم دواء للقلوب العليلة، ومشحذ للأذهان الكليلة (2)، ونور في الظلمة، وأنس في الوحشة، وصاحب في الوحدة، وسمير في الخلوة، ووصلة في المجلس، ومادّة للعقل وتلقيح للفهم، وناف للعيّ المزري بأهل الأحساب، المقصّر بذوي الألباب أنطق الله سبحانه أهله بالبيان الذي جعله صفة لكلامه في تنزيله، وأيّد به رسله إيضاحا للمشكلات، وفصلا بين الشبهات: شرّف به الوضيع، وأعزّ به الذليل، وسوّد به المسود، من تحلّى بغيره فهو معطّل، ومن تعطّل منه فهو مغفّل، لا تبليه الأيام، ولا تخترمه الدهور، يتجدّد على الابتذال، ويزكو على الإنفاق لله على ما منّ به على عباده الحمد والشّكر.
__________
(1) السّنة، بكسر السين وفتح النون: أول الندم. لسان العرب (وسن).
(2) الكليلة: وصف من الكلال وهو الإعياد. لسان العرب (كلل).(1/105)
[رجع إلى البلاغة]
قيل لعمرو بن عبيد (1): ما البلاغة؟ قال: ما بلّغك الجنّة، وعدل بك عن النار، وبصّرك مواقع رشدك، وعواقب غيّك. قال السائل: ليس هذا أريد، قال: من لم يحسن أن يسكت لم يحسن أن يستمع، ومن لم يحسن الاستماع لم يحسن القول، قال: ليس هذا أريد، قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: «إنّا معشر الأنبياء فينا بكء» أي قلّة كلام وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله، قال السائل: ليس هذا أريد، قال: كانوا يخافون من فتنة القول ومن سقطات الكلام ما لا يخافون من فتنة السكوت، وسقطات الصّمت، قال: ليس هذا أريد، قال عمرو: يا هذا، فكأنك تريد تحبير اللفظ (2) في حسن الإفهام، قال: نعم، قال: إنّك إن أردت تقرير حجّة الله عزّ وجلّ في عقول المكلّفين، وتخفيف المؤونة عن المستمعين، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين، بالألفاظ المستحسنة في الآذان، المقبولة في الأذهان، رغبة في سرعة إجابتهم، ونفي الشواغل عن قلوبهم، بالموعظة الحسنة على الكتاب والسنة كنت قد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب، واستوجبت من الله جزيل الثواب، فقيل لعبد الكريم بن روح الغفاري: من هذا الّذي صبر له عمرو هذا الصبر؟ قال: سألت عن ذلك أبا حفص الشمري، فقال: ومن يجترىء عليه هذه الجرأة إلّا حفص بن سالم؟
وعمرو بن عبيد بن باب هو رئيس المعتزلة في وقته، وهو أوّل من تكلّم على المخلوق، واعتزل مجلس الحسن البصري، وهو أول المعتزلة.
ودخل عمرو بن عبيد على أبي جعفر المنصور، فقال: عظني، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الله أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك منه ببعضها يا أمير المؤمنين، إن هذا الأمر لو كان باقيا لأحد قبلك ما وصل إليك، ألم تر كيف فعل ربّك بعاد إرم ذات العماد؟ قال: فبكى المنصور حتى بلّ ثوبه. ثم قال: حاجتك يا أبا عثمان! وكان المنصور لمّا دخل عليه طرح عليه طيلسانا، فقال: يرفع هذا الطيلسان عني! فرفع، فقال أبو جعفر:
لا تدع إتياننا! قال: نعم، لا يضمّني وإياك بلد إلّا دخلت إليك، ولا بدت لي حاجة إلّا سألتك، ولكن لا تعطني حتى أسألك، ولا تدعني حتى آتيك، قال: إذا لا تأتينا أبدا.
__________
(1) عمرو بن عبيد: متكلم زاهد مشهور، وشيخ المعتزلة في عصره. توفي سنة 144هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 3ص 460) وتاريخ بغداد (ج 12ص 166) والبداية والنهاية (ج 10ص 78) والعبر للذهبي (ج 1ص 193) ومروج الذهب (ج 3ص 302) وشذرات الذهب (ج 1ص 210) والأعلام (ج 5ص 81).
(2) تحبير اللفظ: تحسينه. لسان العرب (حبر).(1/106)
وقد روي مثل هذا لابن السماك مع الرشيد.
وقوله: «لو كان هذا الأمر باقيا لأحد قبلك ما وصل إليك» كقول ابن الرومي:
[الطويل]
لعمرك ما الدّنيا بدار إقامة ... إذا زال عن عين البصير غطاؤها
وكيف بقاء الناس فيها وإنما ... ينال بأسباب الفناء بقاؤها؟
ووعظ شبيب بن شبة المنصور، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله لم يجعل فوقك أحدا، فلا تجعل فوق شكره شكرا.
ودخل عمرو بن عبيد على المنصور وعنده المهدي فقال له: هذا ابن أخيك المهدي، وليّ عهد المسلمين، فقال: سمّيته اسما لم يستحقّ حمله، ويفضي إليك الأمر (1) وأنت عنه مشغول.
وكان عمرو بن عبيد يقول: اللهمّ أغنني بالافتقار إليك، ولا تفقرني بالاستغناء عنك.
وقال له المنصور: يا أبا عثمان، أعنّي بأصحابك: قال: يا أمير المؤمنين، أظهر الحقّ يتبعك أهله.
وقال عمر الشمري: كان عمرو بن عبيد لا يكاد يتكلّم، وإن تكلّم لم يكد يطيل وكان يقول: لا خير في المتكلّم إذا كان كلامه لمن يشهده دون قائله، وإذا طال الكلام عرضت للمتكلّم أسباب التكلّف، ولا خير في شيء يأتيك به التكلف.
قال معمر بن الأشعث: قلت لبهلة الهنديّ أيام اجتلب يحيى بن خالد أطباء الهند:
ما البلاغة عند أهل الهند؟ قال بهلة: عندنا في ذلك صحيفة مكتوبة، ولكنني لا أحسن ترجمتها، ولم أعالج هذه الصناعة، فأثق من نفسي بالقيام بخصائصها، ولطيف معانيها.
قال ابن الأشعث: فلقيت بتلك الصحيفة التراجمة فإذا فيها: أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش (2)، ساكن الجوارح، قليل اللّحظ، متخيّر اللفظ، لا يكلّم سيد الأمة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السّوقة، ويكون في قواه فضل التصرف في كل طبقة، ولا يدقّق المعاني كلّ التدقيق، ولا ينقّح الألفاظ كلّ التنقيح، ولا
__________
(1) المراد بالأمر: الخلافة.
(2) الجأش: رواع القلب إذا اضطرب عند الفزع ورابط الجأش: أي يربط نفسه عن الفرار لشجاعته محيط المحيط (جأش).(1/107)
يصفّيها كل التصفية، ولا يهذّبها غاية التهذيب، ولا يفعل ذلك حتى يصادف حكيما، أو فيلسوفا عليما، ومن قد تعوّد حذف فضول الكلام، وإسقاط مشتركات الألفاظ، وقد نظر في صناعة المنطق على جهة الصناعة والمبالغة، لا على جهة التصفّح (1) والاعتراض، ووجه التظرّف والاستظراف.
قال إسحاق بن حسان بن قوهي: لم يفسّر أحد البلاغة تفسير عبد الله ابن المقفع (2)
إذ قال: البلاغة اسم لمعان تجري في وجوه كثيرة، فمنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون سجعا، ومنها ما يكون خطبا، ومنها ما يكون رسائل فغاية هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى والإيجاز هو البلاغة، فأمّا الخطب فيما بين السّماطين (3)، وفي إصلاح ذات البين، فالإكثار في غير خطل (4)، والإطالة في غير إملال، ولكن ليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أنّ خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته (كأنه يقول فرّق بين صدر خطبة النكاح وخطبة العيد وخطبة الصلح وخطبة التّواهب، حتى يكون لكل فنّ من ذلك صدر يدل على عجزه) (5)
فإنه لا خير في كلام لا يدلّ على معناك، ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصدت، والغرض الذي إليه نزعت.
فقيل له: فإن ملّ المستمع الإطالة التي ذكرت أنها أحقّ بذلك الموضع؟ قال: إذا أعطيت كلّ مقام حقّه، وقمت بالذي يجب من سياسة الكلام، وأرضيت من يعرف حقوق ذلك، فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو فإنهما لا يرضيان بشيء فأمّا الجاهل فلست منه وليس منك، ورضا جميع الناس شيء لا ينال.
__________
(1) التصفّح: التأمّل والنظر في صفحاته. محيط المحيط (صفح).
(2) عبد الله بن المقفع من أئمة الكتّاب في البلاغة، وأول من عني في الإسلام بترجمة كتب المنطق.
توفي سنة 142هـ. ترجمته في البداية والنهاية (ج 10ص 96) ووفيات الأعيان (ج 2ص 151) والفهرست (ص 132) والأعلام (ج 4ص 140).
(3) السّماط: الشيء المصطفّ، والصّفّ. محيط المحيط (سمط).
(4) الخطل: الكلام الفاسد، محيط المحيط (خطل).
(5) ما بين قوسين توضيح من المؤلف لكلام ابن المقفع.(1/108)
[الإطالة والإيجاز]
وقد مدحوا الإطالة في مكانها، كما مدحوا الإيجاز في مكانه. قال أبو داود [ابن جرير] في خطباء إياد: [الكامل]
يرمون بالخطب الطوال، وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء (1)
قال أبو وجزة السعدي يصف كلام رجل (2): [الكامل]
يكفي قليل كلامه، وكثيره ... ثبت، إذا طال النّضال، مصيب
وأنشد أبو العباس محمد بن يزيد المبرّد (3) ولم يسمّ قائله، وهو مولّد ولم ينقصه توليده من حظّ القديم شيئا: [المتقارب]
طبيب بداء فنون الكلا ... م لم يعي يوما ولم يهذر
فإن هو أطنب في خطبة ... قضى للمطيل على المنزر (4)
وإن هو أوجز في خطبة ... قضى للمقلّ على المكثر
وقال آخر يصف خطيبا: [الكامل]
فإذا تكلّم خلته متكلّما ... بجميع عدّة ألسن الخطباء
فكأن آدم كان علّمه الّذي ... قد كان علّمه من الأسماء
وكان أبو داود يقول: تلخيص المعاني رفق، والاستعانة بالغريب عجز، والتشدق في الإعراب نقص، والنظر في عيون الناس عيّ، ومسّ اللحية هلك، والخروج عما بني عليه الكلام إسهاب.
وقال بعضهم يهجو رجلا بالعيّ: [الطويل]
مليء ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع (5)
__________
(1) وحي الملاحظ: إشارة العيون. محيط المحيط (وحي) و (لحظ).
(2) أبو وجزة السعدي: هو يزيد بن عبيد، الشاعر المجيد، والرواية للحديث. توفي بالمدينة ستة 130هـ. ترجمته في الشعر والشعراء (ص 591) والأغاني (ج 12ص 279) والأعلام (ج 8 ص 185).
(3) محمد بن يزيد المبرّد: إمام العربية ببغداد في زمنه، وأحد أئمة الأدب والأخبار، توفي سنة 286هـ.
وفيات الأعيان (ج 4ص 313) وتاريخ بغداد (ج 3ص 380) وبغية الوعاة (ص 116) وإنباه الرواة (ص 241) وعبر الذهبي (ج 2ص 74) والأعلام (ج 7ص 144).
(4) المنزر: المقلّ. محيط المحيط (نزر).
(5) البهر: تتابع النّفس وانقطاعه من الإعياء. العثنون: اللحية. محيط المحيط (بهر) و (عثنن).(1/109)
ووصف العتابي (1) رجلا بليغا فقال: كان يظهر ما غمض من الحجّة، ويصوّر الباطل في صورة الحقّ، ويفهمك الحاجة من غير إعادة ولا استعانة. قيل له: وما الاستعانة؟
قال: يقول عند مقاطع كلامه يا هناة، واسمع، وفهمت! وما أشبه ذلك. وهذا من أمارات العجز، ودلائل الحصر! وإنما ينقطع عليه كلامه فيحاول وصله بهذا، فيكون أشدّ لانقطاعه.
وكان أبو داود يقول: رأس الخطابة الطّبع، وعمودها الدّربة، وجناحاها رواية الكلام، وحليها الإعراب، وبهاؤها تخيّر اللفظ والمحبة مقرونة بقلة الاستكراه.
وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: قال بعض جهابذة الألفاظ، ونقّاد المعاني:
المعاني القائمة في صدور الناس، المختلجة في نفوسهم، والمتصوّرة في أذهانهم، المتصلة بخواطرهم، والحادثة عن فكرهم، مستورة خفيّة، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة، وموجودة في معنى معدومة، لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه، ولا حاجة أخيه وخليطه، ولا معنى شريكه والمعاون له على أمره، وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلّا بغيره، وإنما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها، وإخبارهم عنها، واستعمالهم إياها.
وهذه الخصال هي التي تقرّبها من الفهم، وتجلّيها للعقل، وتجعل الخفيّ منها ظاهرا، والغائب شاهدا، والبعيد قريبا. وهي التي تلخّص الملتبس، وتحل المنعقد، وتجعل المهمل مقيّدا، والمقيّد مطلقا، والمجهول معروفا، والوحشي مألوفا، [والغفل موسوما (2)، والموسوم معلوما] وعلى قدر وضوح الدلالة، وصواب الإشارة، وحسن الاختصار، ودقّة المدخل، يكون ظهور المعنى. وكلّما كانت الدلالة أوضح وأفصح، وكانت الإشارة أبين وأنور، كانت أنفع وأنجع في البيان. والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله يمدحه، ويدعو إليه، ويحثّ عليه بذلك نطق القرآن، وبذلك تفاخرت العرب، وتفاضلت أصناف العجم.
والبيان: اسم لكل شيء كشف لك عن قناع المعنى، وهتك لك الحجب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله، كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان ذلك الدليل لأنّ مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل
__________
(1) العتابي: هو كلثوم بن عمرو شاعر محسن وكاتب مجيد، توفي في حدود 220هـ. ترجمته في الشعر والشعراء (ص 740) والأغاني (ج 13ص 122) ومعجم الشعراء (ص 351) وفوات الوفيات (ج 3ص 219) ووفيات الأعيان (ج 4ص 122) والفهرست (ص 186) ومعجم الأدباء (ج 5 ص 18).
(2) الغفل: الذي لا علامة له، والموسوم: ذو العلامة. لسان العرب (غفل) و (وسم).(1/110)
والسامع إنما هو الفهم والإفهام فبأيّ شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع.
ثم اعلم حفظك الله! أنّ حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ لأنّ المعاني مبسوطة إلى غير غاية، وأسماء المعاني محصورة معدودة، ومحصّلة محدودة.
وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ أو غيره خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد: أولها اللّفظ، ثم الإشارة، ثم العقد، ثم الخطّ، ثم الحال التي تسمّى نصبة.
والنّصبة هي الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف، ولا تقصر عن تلك الدلالات.
ولكل واحدة من هذه الدلائل الخمسة صورة بائنة (1) من صورة صاحبتها، وحلية مخالفة لحلية أختها وهي التي تكشف لك عن أعيان المعاني في الجملة، وعن حقائقها في التفسير، وعن أجناسها وأقدارها، وعن خاصّها وعامّها، وعن طبقاتها في السارّ والضارّ، وعما يكون منها لغوا بهرجا (2)، وساقطا مطّرحا.
وفي نحو قول أبي عثمان: «إنّ المعاني غير مقصورة ولا محصورة» يقول أبو تمام الطائي لأبي دلف القاسم بن عيسى العجليّ (3) [الطويل]
ولو كان يفنى الشعر أفنته ما قرت (4) ... حياضك منه في العصور الذّواهب
ولكنه فيض العقول إذا انجلت (5) ... سحائب منه أعقبت بسحائب
كما أشار إلى قول أوس بن حجر الأسدي: [الطويل]
أقول بما صبّت عليّ غمامتي ... وجهدي في حبل العشيرة أحطب (6)
وقال بعض البلغاء: في اللسان عشر خصال (7) محمودة، أداة يظهر بها البيان، وشاهد يخبر عن الضمير، وحاكم يفصل الخطاب، وواعظ ينهى عن القبيح، وناطق يردّ الجواب، وشافع تدرك به الحاجة، وواصف تعرف به الأشياء، ومعرب يشكر به الإحسان، ومعزّ تذهب به الأحزان، وحامد يذهب الضغينة، ومونق يلهي الأسماع.
__________
(1) البائنة: المتميّزة عن غيرها. لسان العرب (بين).
(2) البهرج: الرديء. لسان العرب (بهرج).
(3) ديوان أبي تمام (ص 43).
(4) في الديوان: «أفناه» بدل «أفنته». وقرت: أخذت. لسان العرب (قرا).
(5) في الديوان: «صوب» بدل «فيض».
(6) أحطب في حبل العشيرة: أستعين بها كما يستعين الحاطب بالحبل. لسان العرب (حطب).
(7) ما يذكره هنا هو إحدى عشرة خطة وليس عشرا.(1/111)
وقال أبو العباس بن المعتز: لحظة القلب أسرع خطرة من لحظة العين، وأبعد مجالا، وهي الغائصة في أعماق أودية الفكر، والمتأملة لوجوه العواقب، والجامعة بين ما غاب وحضر، والميزان الشاهد على ما نفع وضرّ، والقلب كالمملي للكلام على اللسان إذا نطق، واليد إذا كتبت، والعاقل يكسو المعاني وشي الكلام في قلبه، ثم يبديها بألفاظ كواس في أحسن زينة، والجاهل يستعجل بإظهار المعاني قبل العناية بتزيين معارضها، واستكمال محاسنها.
وقيل لجعفر بن يحيى البرمكي: ما البيان؟ قال: أن يكون الاسم يحيط بمعناك، ويكشف عن مغزاك، ويخرجه من الشركة، ولا يستعان عليه بالفكر، ويكون سليما من التكلّف، بعيدا من الصّنعة، بريئا من التعقيد، غنيّا عن التأويل.
وذكر سهل بن هارون (1) وقيل ثمامة بن أشرس جعفر بن يحيى فقال: قد جمع في كلامه وبلاغته الهذّ (2) والتمهل، والجزالة والحلاوة، وكان يفهم إفهاما يغنيه عن الإعادة للكلام. ولو كان يستغني مستغن عن الإشارة بمنطقه لاستغنى عنها جعفر. كما استغنى عن الإعادة فإنه لا يتحبّس ولا يتوقّف في منطقه ولا يتلجلج، ولا يتسعّل، ولا يترقّب لفظا قد استدعاه من بعد، ولا يتلّمس معنى قد عصاه بعد طلبه له.
وقيل لبشّار بن برد: بم فقت أهل عمرك، وسبقت أهل عصرك، في حسن معاني الشعر، وتهذيب ألفاظه؟ فقال: لأني لم أقبل كلّ ما تورده عليّ قريحتي، ويناجيني به طبعي، ويبعثه فكري، ونظرت إلى مغارس الفطن، ومعادن الحقائق، ولطائف التشبيهات، فسرت إليها بفهم جيد، وغريزة قوية، فأحكمت سبرها، وانتقيت حرها، وكشفت عن حقائقها، واحترزت من متكلّفها، ولا والله ما ملك قيادي قطّ الإعجاب بشيء مما آتي به.
وكان بشار بن برد خطيبا، شاعرا، راجزا، سجّاعا، صاحب منثور ومزدوج، ويلقب بالمرعّث لقوله (3): [مجزوء الخفيف]
__________
(1) سهل بن هارون: كاتب بليغ، وشاعر، وخطيب كان شعوبيا يتعصّب للعجم على العرب. توفي سنة 215هـ. ترجمته في فوات الوفيات (ج 2ص 84) ومعجم الأدباء (ج 3ص 404) والفهرست (ص 139) وهدية العارفين (ج 1ص 411) والعقد (ج 6ص 200) والبيان والتبيين (ج 1ص 52، 58، وصفحات أخرى متفرقة) والأعلام (ج 3ص 143).
(2) الهذّ: السرعة. لسان العرب (هذذ).
(3) لم يرد البيتان في ديوان بشار بن برد.(1/112)
من لظبي مرعّث (1) ... ساحر الطّرف والنظر
قال لي لن تنالني ... قلت أو يغلب القدر
وليس هذا موضع استقصاء ذكره، واختيار شعره، وسأستقبل ذلك إن شاء الله.
وقال الوليد بن عبيد البحتري: كنت في حداثتي أروم الشّعر، وكنت أرجع فيه إلى طبع، ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه، ووجوه اقتضابه، حتى قصدت أبا تمام، وانقطعت فيه إليه، واتّكلت في تعريفه عليه فكان أول ما قال لي: يا أبا عبادة تخيّر الأوقات وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم، واعلم أن العادة جرت في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السّحر وذلك أن النّفس قد أخذت حظّها من الراحة، وقسطها من النوم، وإن أردت التشبيب فاجعل اللفظ رشيقا، والمعنى رقيقا، وأكثر فيه من بيان الصّبابة، وتوجّع الكآبة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق، فإذا أخذت في مديح سيّد ذي أياد فأشهر مناقبه، وأظهر مناسبه، وأبن معالمه، وشرّف مقامه، ونضّد المعاني (2)، واحذر المجهول منها، وإيّاك أن تشين شعرك بالألفاظ الرديئة، ولتكن كأنك خيّاط يقطع الثياب على مقادير الأجساد. وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك، ولا تعمل شعرك إلّا وأنت فارغ القلب، واجعل شهوتك لقول الشعر الذّريعة إلى حسن نظمه فإن الشهوة نعم المعين، وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين، فما استحسن العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه، ترشد إن شاء الله.
قال: فأعملت نفسي فيما قال فوقفت على السياسة.
وقالوا: البليغ من يحوك الكلام على حسب الأماني، ويخيط الألفاظ على قدود المعاني.
ولذكر الطائي الليل ذكر بعض أهل العصر وهو أبو علي محمد بن الحسن ابن المظفّر الحاتمي (3) الليل فقال: فيه تجمّ الأذهان (4)، وتنقطع الأشغال، ويصحّ النظر،
__________
(1) المرعّث: الذي يلبس الرّعثة وهي القرط. لسان العرب (رعث).
(2) نضّد المعاني: ضمّ بعضها إلى بعض. لسان العرب (نضد).
(3) محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي: أديب ناقد، من أهل بغداد، توفي سنة 388هـ. ترجمته في بغية الوعاة (ص 35) وتاريخ بغداد (ج 2ص 214) ومعجم الأدباء (ج 5ص 313) ووفيات الأعيان (ج 4ص 362) والمحمدون من الشعراء (ص 230) والوافي بالوفيات (ج 2ص 343) والأعلام (ج 6ص 82).
(4) تجمّ الأذهان: تستريح. لسان العرب (جمم).(1/113)
وتؤلّف الحكمة، وتدرّ الخواطر، ويتّسع مجال القلب، والليل أضوأ في مذاهب الفكر، وأخفى لعمل البر، وأعون على صدقة السّرّ، وأصحّ لتلاوة الذكر، ومدبّرو الأمور يختارون الليل على النهار، فيما لم تصف فيه الأناة لرياضة التدبير وسياسة التقدير، في دفع الملّم، وإمضاء المهمّ، وإنشاء الكتب، وتصحيح المعاني، وتقويم المباني، وإظهار الحجج، وإيضاح المنهج، وإصابة نظم الكلام، وتقريبه من الأفهام.
وقال بعض رؤساء الكتّاب: ليس الكتاب في كل وقت على غير نسخة لم تحرّر بصواب لأنه ليس أحد أولى بالأناة وبالرويّة من كاتب يعرض عقله، وينشر بلاغته فينبغي له أن يعمل النسخ ويرويها، ويقبل عفو القريحة ولا يستكرهها، ويعمل على أن جميع الناس أعداء له، عارفون بكتابه، منتقدون عليه، متفرّغون إليه.
وقال آخر: إنّ لابتداء الكلام فتنة تروق، وجدّة تعجب، فإذا سكنت القريحة، وعدل التأمّل، وصفت النّفس، فليعد النظر، وليكن فرحه بإحسانه، مساويا لغمّه بإساءته فقد قالت الخوارج لعبد الله بن وهب الراسي: نبايعك الساعة فقد رأينا ذلك، فقال: دعوا الرأي حتى يبلغ أناته، فإنه لا خير في الرأي الفطير، والكلام القضيب (1).
وقال معاوية بن أبي سفيان، رحمه الله، لعبد الله بن جعفر: ما عندك في كذا وكذا؟
فقال: أريد أن أصقل عقلي بنومة القائلة (2)، ثم أروح فأقول بعد ما عندي.
قال الشاعر: [البسيط]
إن الحديث تغرّ القوم جلوته (3) ... حتى يغيّره بالوزن مضمار
فعند ذلك تستكفي بلاغته ... أو يستمرّ به عيّ وإكثار
وقالوا: كل مجر بالخلاء يسرّ (4)، وقال أبو الطيب المتنبي (5): [الخفيف]
وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطّعن وحده والنّزالا
__________
(1) الرأي الفطير: الذي يبدو بديها من غير تروية. الكلام القضيب والمقتضب: المرتجل. محيط المحيط (فطر) و (قضب).
(2) القائلة: نصف النهار. محيط المحيط (قيل).
(3) الجلوة: الزينة. لسان العرب (جلا).
(4) أصل المثل: «كلّ مجر في الخلاء يسرّ»، قاله رجل عندما سبق فرسه في الحلبة. مجمع الأمثال (ج 2ص 135).
(5) ديوان المتنبي (ص 436).(1/114)
وكان قلم بن المقفع يقف كثيرا، فقيل له في ذلك، فقال: إن الكلام يزدحم في صدري، فيقف قلمي ليتخيّر.
وقالوا: الكتاب يتصفّح أكثر ممّا يتصفّح الخطاب لأنّ الكاتب متخيّر، والمخاطب مضطرّ، ومن يرد عليه كتابك فليس يعلم أأسرعت فيه أم أبطأت وإنما ينظر أأخطأت أم أصبت فإبطاؤك غير قادح في إصابتك، كما إن إسراعك غير مغطّ على غلطك.
ووصف بعض الكتّاب النسخ فقال: ينبغي أن يصحبها الفكر إلى استقرارها، ثم تستبرأ (1) بإعادة النظر فيها بعد اختيارها، ويوسّع بين سطورها، ثم تحرر على ثقة بصحتها، وتتأمّل بعد التحرير حرفا حرفا إلى آخرها.
فقد كتب المأمون مصحفا اجتمع عليه فكان أوله: بسم الله الرحيم، فأغفلوا الرحمن لأنّ العين لا تعتبر ذلك ثقة أنه لا يغلط فيه، حتى فطن المأمون له.
وقال محمد بن عبد الملك الزيات للحسن بن وهب: حرّر هذه النسخة وبكّر بها، فتصبّح الحسن (2) فقال له: لم تصبّحت؟ قال: حتى تصفحت!
وقال أحمد بن إسماعيل بطاحة: كان بعض العلماء الأغبياء ينظر في نسخه بعد نفوذ كتبه، فقال بعض الكتاب: [السريع]
مستلب اللّب غويّ الشباب ... عذّبه الهجر أشدّ العذاب
يؤمّل الصبر وأنّى له ... به وقد مكّن منه التّصاب
كناظر في نسخة يبتغي ... إصلاحها بعد نفوذ الكتاب
أوصاف بليغة في البلاغات على ألسنة أقوام من أهل الصناعات
قال بعض من ولّد عقائل هذا المنثور، وألّف فواصل هذه الشذور: تجمّع قوم من أهل الصناعات، فوصفوا بلاغاتهم، من طريق صناعاتهم:
فقال الجوهري: أحسن الكلام نظاما ما ثقبته يد الفكرة، ونظمته الفطنة، ووصل جوهر معانيه في سموط (3) ألفاظه، فاحتملته نحور الرواة.
__________
(1) تستبرأ: تجفّف، والمراد أن يعاود الكاتب النظر فيها ليتدارك ما فيها من أخطاء. لسان العرب (برأ).
(2) تصبّح: تأخّر عن الحضور صباحا. لسان العرب (صبح).
(3) السّموط: جمع سمط وهو خيط النظم. لسان العرب (سمط).(1/115)
وقال العطار: أطيب الكلام ما عجن عنبر ألفاظه بمسك معانيه، ففاح نسيم نشقه، وسطعت رائحة عبقه، فتعلّقت به الرّواة، وتعطّرت به السّراة.
وقال الصائغ: خير الكلام ما أحميته بكير الفكر (1)، وسبكته بمشاعل النّظر، وخلّصته من خبث الإطناب، فبرز بروز الإبريز، في معنى وجيز.
وقال الصيرفي (2): خير الكلام ما نقدته يد البصيرة، وجلته عين الرويّة، ووزنته بمعيار الفصاحة، فلا نظر يزيّفه (3)، ولا سماع يبهرجه (4).
وقال الحداد: أحسن الكلام ما نصبت عليه منفخة القريحة، وأشعلت عليه نار البصيرة، ثم أخرجته من فحم الإفحام، ورقّقته بفطّيس الإفهام (5).
وقال النجار: خير الكلام ما أحكمت نجر معناه بقدوم التقدير، ونشرته بمنشار التدبير، فصار بابا لبيت البيان، وعارضة لسقف اللسان.
وقال النجاد: أحسن الكلام ما لطفت رفارف ألفاظه (6)، وحسنت مطارح معانيه، فتنزّهت في زرابيّ (7) محاسنه عيون الناظرين، وأصاخت لنمارق (8) بهجته آذان السامعين.
وقال الماتح: أبين الكلام ما علقت وذم (9) ألفاظه ببكرة معانيه، ثم أرسلته في قليب (10) الفطن فمتحت به سقاء يكشف الشبهات، واستنبطت به معنى يروي من ظمإ المشكلات.
وقال الخياط: البلاغة قميص فجربّانه (11) البيان، وجيبه المعرفة، وكمّاه الوجازة، ودخاريصه (12) الإفهام، ودروزه (13) الحلاوة، ولا بس جسده اللفظ، وروحه المعنى.
__________
(1) الكير: منفخة الحداد. لسان العرب (كير).
(2) الصيرفي: صرّاف الدراهم، والجمع صيارفة. لسان العرب (صرف).
(3) زاف الدراهم وزيّفها: حكم برداءتها. لسان العرب (زيف).
(4) يبهرجه: يحكم بأنه بهرج، والبهرج: الباطل والرديء. لسان العرب (بهرج).
(5) الإفحام: العجز عن البيان. الفطّيس: المطرقة. لسان العرب (فحم) و (فطس).
(6) الرفارف: جمع رفرف وهو ثوب أخضر. لسان العرب (رفرف).
(7) الزرابيّ: جمع زربي وهو كل ما بسط واتكىء عليه. لسان العرب (زرب).
(8) النمارق: جمع نمرقة وهي الوسادة الصغيرة. لسان العرب (نمرق).
(9) الوذم: الدلو. لسان العرب (وذم).
(10) القليب: البئر. لسان العرب (قلب).
(11) الجربّان: الطوق. لسان العرب (جرب).
(12) الدخاريص: جمع دخريص وهو فتحة الزرّ. لسان العرب (دخرص).
(13) الدروز: جمع درز وهو الطرف الرقيق من الثوب. لسان العرب (درز).(1/116)
وقال الصّباغ: أحسن الكلام ما لم تنض (1) بهجة إيجازه، ولم تكشف صبغة إعجازه، قد صقلته يد الرويّة من كمود الإشكال، فراع كواعب الآداب، وألّف عذارى الألباب.
وقال الحائك: أحسن الكلام ما اتّصلت لحمة ألفاظه بسدى معانيه (2)، فخرج مفوّفا منيّرا، وموشّى محبّرا.
وقال البزار (3): أحسن الكلام ما صدق رقم ألفاظه، وحسن نشر معانيه فلم يستعجم عنك نشر، ولم يستبهم عليك طيّ.
وقال الرائض: خير الكلام ما لم يخرج عن حدّ التّخليع (4)، إلى منزلة التّقريب (5)
إلّا بعد الرياضة، وكان كالمهر الذي أطمع أوّل رياضته في تمام ثقافته.
وقال الجمّال: البليغ من أخذ بخطام كلامه، فأناخه في مبرك المعنى، ثم جعل الاختصار له عقالا، والإيجاز له مجالا، فلم يندّ عن الآذان، ولم يشذّ عن الأذهان.
وقال المخنّث: خير الكلام ما تكسّرت أطرافه، وتثنّت أعطافه، وكان لفظه حلّة، ومعناه حلية.
وقال الخمّار: أبلغ الكلام ما طبخته مراجل العلم، وصفّاه راووق الفهم، وضمّته دنان الحكمة، فتمشّت في المفاصل عذوبته، وفي الأفكار رقّته، وفي العقول حدّته.
وقال الفقاعي: خير الكلام ما روّحت ألفاظه غباوة الشكّ، ورفعت رقّته فظاظة الجهل، فطاب حساء فطنته، وعذب مصّ جرعه.
وقال الطبيب: خير الكلام ما إذا باشر [دواء] بيانه سقم الشّبهة استطلقت طبيعة الغباوة فشفي من سوء التفهّم، وأورث صحة التوهّم.
وقال الكحّال: كما أن الرمد قذى الأبصار، فكذا الشبهة قذى البصائر، فاكحل عين اللكنة بميل البلاغة، واجل رمص الغفلة (6) بمرود اليقظة.
__________
(1) لم تنض: لم تمح يقال: نضا الثوب إذا نزعه وأخلقه وأبلاه. لسان العرب (نضا).
(2) السّدى من الثوب: ما مدّ من خيوطه، وهو خلاف اللحمة، واللّحمة: ما نسج عرضا. لسان العرب (سدى) و (لحم).
(3) البزاز: بائع البزّ وهو الثياب أو متاع البيت من الثياب. لسان العرب (بزز).
(4) التخليع: هزّ المنكبين في المشي. لسان العرب (خلع).
(5) التقريب: ضرب من العدو. لسان العرب (قرب).
(6) الرّمص: وسخ أبيض جامد يجتمع في موق العين. لسان العرب (رمص).(1/117)
ثم قال: أجمعوا كلّهم على أن أبلغ الكلام ما إذا أشرقت شمسه، انكشف لبسه، وإذا صدقت أنواؤه اخضرّت أحماؤه (1).
فقر في وصف البلاغة لغير واحد
قال أعرابي: البلاغة التقرّب من البعيد، والتباعد من الكلفة، والدلالة بقليل على كثير.
قال عبد الحميد بن يحيى: البلاغة تقرير المعنى في الأفهام، من أقرب وجوه الكلام.
ابن المعتز: البلاغة البلوغ إلى المعنى ولم يطل سفر الكلام.
سهل بن هارون: البيان ترجمان العقول، وروض القلوب، وقال: العقل رائد الروح، والعلم رائد العقل، والبيان ترجمان العلم.
إبراهيم بن الإمام: يكفي من البلاغة ألا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع.
العتّابي: البلاغة مدّ الكلام بمعانيه إذا قصر، وحسن التأليف إذا طال.
أعرابي: البلاغة إيجاز في غير عجز، وإطناب في غير خطل.
[وكتب إبراهيم بن المهدي إلى كاتب له ورآه يتبع وحشيّ الكلام: إياك وتتبع الوحشي طمعا في نيل البلاغة فإن ذلك العيّ الأكبر، وعليك بما سهل مع تجنبك ألفاظ السفل.
وقال الصولي: وصف يحيى بن خالد رجلا فقال: أخذ بزمام الكلام، فقاده أسهل مقاد، وساقه أجمل مساق فاسترجع به القلوب النافرة، واستصرف به الأبصار الطامحة.
وسمع أعرابي كلام الحسن البصري رحمه الله، فقال: والله إنه لفصيح إذا نطق، نصيح إذا وعظ.
قال الجاحظ: ينبغي للكاتب أن يكون رقيق حواشي الكلام، عذب ينابيع اللسان إذا حاور سدّد سهم الصواب إلى غرض المعنى، لا يكلّم الخاصة بكلام العامة، ولا العامة بكلام الخاصة.
__________
(1) الأنواء: جمع نوء وهو المطر. الأحماء: جمع حمى وهو المكان يحميه الرجل ويمنعه. لسان العرب (نوأ) و (حمى).(1/118)
وقال أبو العباس المبرد: قال الحسن بن سهل لسالم الحراري: ما المنزلة التي إذا نزل بها الكاتب كان كاتبا في قوله وفعله واستحقاقه؟ قال: أن يكون مطبوعا على المعرفة، محتنكا بالتجربة، عارفا بحلال الكتاب وحرامه، وبالدهور في تصرّفها وأحكامها، وبالملوك في سيرها وأيامها، وأجناس الخط، وبادية الأقلام، مع تشاكل اللفظ وقرب المأخذ. قال الحسن: فليس في الدنيا إذا كاتب].
وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام.
وقيل للرومي: ما البلاغة؟ قال: حسن الاقتضاب عند البداهة، والغزارة يوم الإطالة.
وقيل للهندي: ما البلاغة؟ قال: وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة.
وقيل للفارسي: ما البلاغة؟ قال: معرفة الفصل من الوصل.
وقال علي بن عيسى الرّمّاني: البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ.
ومن كلام أهل العصر، في صفة البلاغة والبلغاء
[قال علي بن عيسى الرماني]: أبلغ الكلام ما حسن إيجازه، وقلّ مجازه، وكثر إعجازه، وتناسبت صدوره وأعجازه.
أبلغ الكلام ما يؤنس مسمعه، ويوئس مضيّعه.
البليغ من يجتني من الألفاظ أنوارها (1)، ومن المعاني ثمارها.
ليست البلاغة أن يطال عنان القلم أو سنانه، أو يبسط رهان القول وميدانه، بل هي أن يبلغ أمد المراد بألفاظ أعيان، ومعان أفراد، من حيث لا تزيّد على الحاجة، ولا إخلال يفضي إلى الفاقة.
البلاغة ميدان لا يقطع إلّا بسوابق الأذهان، ولا يسلك إلّا ببصائر البيان.
فلان يعبث بالكلام، ويقوده بألين زمام، حتى كأنّ الألفاظ تتحاسد في التسابق إلى خواطره، والمعاني تتغاير في الانثيال على أنامله.
هذا كقول أبي تمام الطائي (2): [البسيط]
تغاير الشعر فيه إذ سهرت له ... حتى ظننت قوافيه ستقتتل
__________
(1) الأنوار: جمع نور وهو الزهر أو الأبيض منه، لسان العرب (نور).
(2) ديوان أبي تمام (ص 201) من قصيدة مديح.(1/119)
فلان مشرفي المشرق، وصيرفيّ المنطق. البيان أصغر صفاته، والبلاغة عفو خطراته. كأنما أوحى بالتوفيق إلى صدره، وحسن الصواب بين طبعه وفكره.
فلان يحزّ مفاصل الكلام، ويسبق فيها إلى درك المرام، كأنما جمع الكلام حوله حتى انتقى منه وانتخب، وتناول منه ما طلب، وترك بعد ذلك أذنابا لا رؤوسا، وأجسادا لا نفوسا.
فلان يرضى بعفو الطّبع، ويقنع بما خفّ على السمع، ويوجز فلا يخلّ، ويطنب فلا يملّ، لله فلان أخذ بأزمّة القول يقودها كيف أراد، ويجذبها أنّى شاء، فلا تعصيه بين الصّعب والذّلول، ولا تسلمه عند الحزونة والسّهول، كلامه يشتدّ مرّة حتى تقول الصّخر الأملس، ويلين تارة حتى تقول الماء أو أسلس، يقول فيصول، ويجيب فيصيب، ويكتب فيطبّق المفصل، أو ينسّق الدرّ المفصّل، ويرد مشارع الكلام وهي صافية لم تطرق، وجامّة لم ترنّق (1)، خاطره البرق أو أسرع لمعا، والسّيف أو أحدّ قطعا، والماء أو أسلس جريا، والفلك أو أقوم هديا هو ممن يسهل الكلام على لفظه، وتتزاحم المعاني على طبعه، فيتناول المرمى البعيد بقريب سعيه، ويستنبط المشرع العميق بيسير جريه، لسانه يفلق الصّخور، ويغيض البحور، ويسمع الصّم، ويستنزل العصم (2)، خطيب لا تناله حبسة، ولا ترتهنه لكنة، ولا تتمشّى في خطابه رنة، ولا تتحيّف بيانه عجمة، ولا تعترض لسانه عقدة.
فلان رقيق الأسلة، عذب العذبة (3) لو وضع لسانه على الشّعر حلقه، أو على الصّخر فلقه، أو على [الجمر أحرقه، أو على] الصّفا (4) خرقه قد أحسن السّفارة، واستوفى العبارة، وأدّى الألفاظ، واستغرق الأغراض، وأصاب شواكل المراد (5)، وطبّق مفاصل السّداد، وبسط لسان الخطاب، ومدّ أطناب الإطناب (6)، وطلب الأمد في الإسهاب، قال
__________
(1) الجامّة: الساكنة يقال: جمّ الماء يجمّ إذا كثر واجتمع، ترنّق: تعكّر يقال: رنّق الماء إذا كدّره.
محيط المحيط (جمم) و (رنق).
(2) العصم: جمع أعصم وهو الوعل الذي في ذراعيه أو في أحدهما بياض، وسائره أحمر أو أسود.
محيط المحيط (عصم).
(3) الأسلة من اللسان: طرفه. العذبة: طرف كل شيء، والمراد: طرف اللسان. محيط المحيط (أسل) و (عذب).
(4) الصّفا: جمع صفاة وهي الصخرة. محيط المحيط (صفا).
(5) الشواكل: جمع الشاكلة وهي البياض ما بين الأذن والصدغ. محيط المحيط (شكل).
(6) الأطناب: جمع طنب وهو حبل طويل يشدّ به سرادق البيت. والإطناب عند أهل البيان: هو عبارة عن أداء المقصود بأكثر من المتعارف. محيط المحيط (طنب).(1/120)
حتى قال الكلام: لو أعفيت! وكتب حتى قالت الأقلام: قد أحفيت، قد اتّسع له مشرع الإطناب، وانفرج له مسلك الإسهاب، أرسل لسانه في ميدانه، وأرخى له من عنانه، قال وأطال، وجال في بسط الكلام كلّ مجال، إذا اسحنفر (1) في الكلام طفح آذيّه (2)، وسال أتيّه (3)، وانثال عليه الكلام كانثيال الغمام، واستجاب له الخطاب كصوب الرّباب (4).
ألفاظ كغمزات الألحاظ، ومعان كأنها فكّ عان (5)! ألفاظ كما نوّرت الأشجار، ومعان كما تنفّست الأسحار، ألفاظ قد استعارت حلاوة العتاب بين الأحباب، واستلانت كتشكّي العشاق يوم الفراق. كلام قريب شاسع ومطمع مانع، كالشمس تقرب ضياء، وتبعد علاء أو كالماء يرخص موجودا، ويغلو مفقودا. كلام لا تمجّه الآذان، ولا تبليه الأزمان، كالبشرى مسموعة، أو أزاهير الرياض مجموعة، ومعان كأنفاس الرياح، تعبق بالرّيحان والراح.
كلام سهل متسلسل، كالمدام بماء الغمام، يقرب إذنه على الأفهام.
كلام كبرد الشّراب على الأكباد الحرار، وبرد الشباب في خلع العذار.
كلام كثير العيون، سلس المتون، رقيق الحواشي، سهل النواحي.
كلام هو السّحر الحلال، والماء الزّلال، والبرود والحبر، والأمثال والعبر، والنعيم الحاضر، والشباب النّاضر.
نظرت منه إلى صورة الظّرف بحتا، وصورة البلاغة سبكا ونحتا، ألفاظ هي خدع الدهر، وعقد السحر.
كلام يسرّ المحزون، ويسهّل الحزون (6)، ويعطل الدرّ المخزون. كلام بعيد من الكلف، نقيّ من الكلف (7).
كلام كما تنفّس السّحر عن نسيمه، وتبسّم الدّرّ عن نظيمه، ألفاظ تأنّق الخاطر في
__________
(1) اسحتفر: مضى مسرعا، وهو هنا بمعنى: اتّسع. محيط المحيط (سحر).
(2) الآذيّ: الموج. محيط المحيط (أذي).
(3) الأتيّ: السيل. محيط المحيط (أتى).
(4) الرّباب: السحاب. محيط المحيط (ربب).
(5) العاني: الأسير. محيط المحيط (عني).
(6) الحزون: جمع حزن وهو خلاف السهل. محيط المحيط (حزن).
(7) الكلف: جمع كلفة وهي ما تكلّفته على مشقّه. الكلف: شيء يعلو الوجه كالسمسم ويعرف بالنمش.
محيط المحيط (كلف).(1/121)
تذهيبها، ومعان عني الفهم بتهذيبها. ألفاظ حسبتها من رقّتها منسوخة في صحيفة الصّبا، وظننتها من سلاستها مكتوبة في نحر الهوى.
كلام كالبشرى بالولد الكريم، قرع به سمع الشيخ العقيم.
كلام قرب حتى أطمع، وبعد حتى امتنع، وقرب حتى صار قاب قوسين أو أدنى، ثم [سما و] علا حتى صار بالمنزل الأعلى. رقيق المزاج، حلو السماع، نقيّ السّبك، مقبول اللّفظ. قرأت لفظا جليّا، حوى معنى خفيّا، وكلاما قريبا، رمى غرضا بعيدا. لو أنّ كلاما أذيب به صخر، أو أطفىء به جمر، أو عوفي به مريض، أو جبر به مهيض (1) لكان كلامه الذي يقود سامعيه إلى السجود، ويجري في القلوب كجري الماء في العود. ألفاظه أنوار، ومعانيه ثمار. كلامه أنس المقيم الحاضر، وزاد الراحل المسافر. كلامه يصغي إليه المقبور، وينتفض له العصفور، كلام يقضي حقّ البيان، ويملك رقّ الحسن والإحسان، كلام منه يجتني الدّر، وبه يعقد السّحر، وعنده يعتب الدهر (2)، وله ينشرح الصدر.
ومن ألفاظهم في وصف النظم والنثر والشعر والشعراء
نثر كنثر الورد، نظم كنظم العقد. نثر كالسّحر أو أدقّ، ونظم كالماء أو أرقّ. رسالة كالرّوضة الأنيقة، وقصيدة كالمخدّرة الرشيقة. رسالة تقطر ظرفا، وقصيدة تمزج بماء الرّاح لطفا. نثره سحر البيان، ونظمه قطع الجمان. نثر كما تفتّح الزهر، ونظم كما تنفّس السّحر. نثر ترقّ نواحيه وحواشيه، ونظم تروق ألفاظه ومعانيه. نثر كالحديقة تفتّحت أحداق وردها، ونظم كالخريدة تورّدت أسرار خدّها. رسالة تضحك عن غرر وزهر، وقصيدة تنطوي على حبر ودرر. لم ترض في برّك، بأخوات النّثرة (3) من نثرك، حتى وصلتها ببنات الشّعرى (4) من شعرك. كلام كما هبّ نسيم السحر، على صفحات الزّهر، ولذّ طعم الكرى بعد برح السّهر. وشعر في نفسه شاعر، توسم به المواسم والمشاعر.
كلام أنسى حلاوة الأولاد بحلاوته، وطلاوة الربيع بطلاوته، وشعر من حلّة الشباب مسروق، ومن طينة الوصال مخلوق. قصيدة، في فنّها فريدة، هي عروس كسوتها القوافي، وحليتها المعاني. شعر يترقرق فيه ماء الطبع، ويرتفع له حجاب القلب والسمع.
شعر لا مزية الإعجاز أخطأته، ولا فضيلة الإيجاز تخطّته شعر رويته لمّا رأيته، وحفظته
__________
(1) العظم المهيض: المكسور بعد الجبور. محيط المحيط (هيض).
(2) يعتب: يرضي. محيط المحيط (عتب).
(3) النّثرة: كوكبان بينهما قدر شبر. محيط المحيط (نثر).
(4) الشّعرى: الكوكب الذي يطلع بعد الجوزاء، وطلوعه في شدّة الحرّ. محيط المحيط (شعر).(1/122)
لما لحظته. أبيات لو جعلت خلعا على الزمان لتحلّى بها مكاثرا، وتجلّى فيها مفاخرا.
شعر راقني، حتى شاقني، فإنه مع قرب لفظه بعيد المرام، ممرّ النظام (1)، قويّ الأسر (2)، صافي البحر. نظم قد ألبس من البداوة فصاحتها، وغشّي من الحضارة سجاحتها (3)، فإن شئت قلت عبيد (4) ولبيد (5)، وإن شئت حبيب والوليد (6) قصيدته روضة تجتنى بالأفكار، ونقل (7) يتناول بالأسماع والأبصار، ونقل العلم والأدب، ألذّ من نقل المأكل والمشرب، وفاكهة الكلام، أطيب من فاكهة الطعام. نظم كنظم الجمان، وروض كالجنان، وأمن الفؤاد، وطيب الرّقاد. قصيدة لم أر غيرها بكرا، استوفت أقسام الحنكة، واستكملت أحكام الدّربة فعليها رونق الشباب، ولها قوّة المذكيات (8) الصّلاب، روح الشعر، وتاج الدهر، ومقدمة عساكر السحر. كل بيت شعر خير من بيت تبر. شعر يحكم له بالإعجاز والتّبريز، ويشبّه في صفاء سبكه بالذّهب الإبريز. شعر تأتلف القلوب على درره ائتلافا، وتصير الآذان له أصدافا. لله درّه ما أحلى شعره! وأنقى درّه، وأعلى قدره، وأعجب أمره! قد أخذ برقاب القوافي، وملك رقّ المعاني، فضله برهان حقّ، وشعره لسان صدق. فلان يغرب بما يجلب، ويبدع فيما يصنع، حسن السبك، محكم الرّصف، بديع الوصف، مرغوب في شعره، متنافس في سحره. هو ضارب في قداح الشعر بأعلى السهام، آخذ في عيون الفضل بأوفى الأقسام، شعاره أشعاره، ودأبه آدابه، هو ممن يبتده فيبتدع، طبعه يملي عليه، ما لا يملّ الاستماع إليه. قريحة غير قريحة، وطبع غير طبع (9)، وخيم غير
__________
(1) الممرّ: المحكم، القويّ. محيط المحيط (مرر).
(2) الأسر: الإحكام. محيط المحيط (أسر).
(3) سجاحة الحضارة: اعتدال صورتها يقال: سجح الخدّ سجاحة إذا لان وطال في اعتدال. محيط المحيط (سجح).
(4) هو عبيد بن الأبرص الأسدي شاعر جاهلي قديم، مات نحو 25ق. هـ. ترجمته في الشعر والشعراء (ص 187) والأمالي في لغة العرب (ج 3ص 199) وطبقات الشعراء لابن سلام (ص 58) والأعلام (ج 4ص 188)
(5) هو لبيد بن ربيعة العامري أحد شعراء الجاهلية وفرسانهم. أسلم، وتوفي سنة 41هـ. الشعر والشعراء (ص 194) وطبقات الشعراء لابن سلام (ص 53) والأعلام (ج 5ص 240).
(6) حبيب: هو أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، المتوفّى سنة 288هـ. والوليد: هو أبو عبادة الوليد بن عبيد البحتري، المتوفّى سنة 284هـ.
(7) النّقل: ما يتنقّل به على الشراب. محيط المحيط (نقل).
(8) المذكيات من الخيل: التي تمّ سنّها وكملت قوتها، واحدها مذك ومذكّ: محيط المحيط (ذكي).
(9) الطّبع الطّبع: الدنيء. محيط المحيط (طبع).(1/123)
وخيم، لبيد عنده بليد، وعبيد لديه من العبيد، والفرزدق عنده أقل من فرزدقة (1) خمير، وجرير يقاد إليه بجرير (2)، قد نسج حللا لا يبلي جدّتها الجديدان، ولا تزداد إلا حسنا على تردّد الأزمان. نظمه قد نظم حاشيتي البرّ والبحر، وأدرك ناحيتي الشرق والغرب. أشعار قد وردت المياه، وركبت الأفواه، وسارت في البلاد، ولم تسر بزاد، وطارت في الآفاق، ولم تمش على ساق. شعره أسير من الأمثال، وأسرى من الخيال، سار مسير الرياح، وطار بغير جناح. أشعاره سارت مسير الشمس، وهبّت هبوب الريح، وطبّقت تخوم الأرض، وانتظمت الشرق إلى الغرب. قد كادت الأيام تنشدها، والليالي تحفظها، والجنّ تدرسها، والطير تتغنّى بها. أبيات أسفر عنها طبع المجد، فعلمت كيف يتكسّر الزّهر على صفحات الحدائق، وكيف يغرس الدرّ في رياض المهارق (3). شعر قد أحسن خدمته بكمال فكره، ووقف كيف شاء عند عالي أمره. شعر يعلّق في كعبة المجد، ويتوّج به مفرق الدهر. جاءت القصيدة ومعها عزّة الملك، وعليها رواء الصدق، وفيها سيماء العلم، وعندها لسان المجد، ولها صيال الحقّ، لا غرو إذا فاض بحر العلم على لسان الشّعر أن ينتج ما لا عين وقعت على مثله ولا أذن سمعت بشبهه. شعر يكتب في غرّة الدهر، ويشرح في جبهة الشمس [والبدر].
وهذه جملة من فصول أهل العصر تليق بهذا الموضع
كتب أبو الفضل بن العميد إلى أبي محمد خلاد الرامهرمزي القاضي.
«وصل كتابك الذي وصلت جناحه بفنون صلاتك وتفقّدك، وضروب برّك وتعهّدك فارتحت لكلّ ما أوليت، وابتهجت بجميع ما أهديت، وأضفت إحسانك في كلّ فصل إلى نظائره التي وكلت بها ذكري، ووقفت عليها شكري، وتأمّلت النظم فملكني العجب به، وبهرني التعجّب منه، وقد رمت أن أجري على العادة في تشبيهه بمستحسن من زهر جنيّ، وحلل وحليّ، وشذور الفرائد، في نحور الخرائد: [الخفيف]
والعذارى غدون في الحلل البي ... ض وقد رحن في الخطوط السّود
فلم أره لشيء عدلا، ولا أرضى ما عددته له مثلا والله يزيدك من فضله، ولا يخليك من إحسانه، ويلهمك من برّ إخوانك ما تتمّم به صنيعك لديهم، ويربّ معه إحسانك إليهم.
__________
(1) الفرزدقة: القطعة من العجين. محيط المحيط (فرز).
(2) الجرير: حبل يجعل للبعير بمنزلة العذار للدابة. محيط المحيط (جرر).
(3) المهارق: جمع مهرق وهو الصحيفة، فارسي معرّب. محيط المحيط (هرق).(1/124)
وكتب أبو القاسم إسماعيل بن عباد الصاحب إلى أبي سعيد الشبيبي:
«قد رأى شيخ الدولتين كيف الكلف بسادتي من أهل ميكال أيدّهم الله! بين ودّ أضمره على البعد، وإيثار أظهره على تراخي المزار، وتقريظ يمليه عليّ الملوان (1)، ومدح أنطق فيه بلسان الزّمان، حتى إن ذكرهم إذا جرى على لساني اهتزّت له نفسي، وفضلّهم إذا جرى على سمعي انفرج له صدري، فتلك عصبة خير فضلها باهر، وشرفها على شرف النماء زاهر، وشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء [ناظر]، والله يتمّم أعدادها، ولا يعدمني ودادها، وإذا كان إكباري لهم هذا الإكبار فكلّ منتسب إلى جنبهم أثير لديّ، كثير في يديّ. وطرأ عليّ فلان منتسبا إلى جملتهم، وحبّذا الجملة، ومعتزيا إلى خدمتهم، ونعمت الخدمة، ففررناه (2) عن طبع سمح، ولفظ عذب، وصلة نثر بنظم فإن شاء قال: أنا الوليد، وإن شاء قال: أنا عبد الحميد ولم أعظم بمن خرّجته تلك النعمة ونتجته تلك السّدّة أن يأخذ من كلّ حسنة بعروة، ويقدح في كل نار بجدوة وآنسنا بالمقام مدة، أكّدتها شوافع عدّة، إلى أن تذكّر معاهد رأى فيها الدّهر طلقا، والزمان غلاما، والفضل رهنا، والإفضال لزاما فحنّ حنين الرّكاب، وركب عزيم (3) الإياب.
فصل [من كتاب] كتبه الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي (4) إلى أبي القاسم الداوودي (5) جوابا عن كتاب له ورد عليه، وأبو الفضل رئيس نيسابور وأعمالها في وقتنا هذا (6)، وسيمرّ من كلامه ونثره ونظامه ما يغني عن التنويه، ويكفي عن التنبيه، ويجلّ عن التشبيه، ويكون كما قال أبو الحسن الأخفش علي بن سليمان: [استهدى إبراهيم بن المدبّر] أبا العباس محمد بن يزيد جليسا يجمع إلى تأديب ولده الإمتاع بإيناسه فندبني لذلك، وكتب إليه معي: قد أنفذت إليك أعزّك الله فلانا، وجملة أمره أنه كما قال الشاعر: [الوافر]
إذا زرت الملوك فإن حسبي ... شفيعا عندهم أن يخبروني
__________
(1) الملوان: الليل والنهار. محيط المحيط (ملا).
(2) فررناه: اختبرناه يقال: فرّ الدابّة إذا كشف عن أسنانها لينظر ما سنّها. محيط المحيط (فرر).
(3) العزيم: العدو الشديد. محيط المحيط (عزم).
(4) هو أبو الفضل عبد الله بن أحمد بن علي الميكالي، من الكتّاب الشعراء، توفي سنة 436هـ. يتيمة الدهر (ج 4ص 354) وفوات الوفيات (ج 2ص 428) وكشف الظنون (ص 1639، 1817) والأعلام (ج 4ص 191).
(5) هو أبو القاسم الداوودي الهروي، من بلاد خراسان، ترجمته في يتيمة الدهر (ج 4ص 345) ومعجم الأدباء (ج 1ص 639).
(6) أي في وقت الحصري القيرواني مؤلف هذا الكتاب، والمتوفّى سنة 453هـ.(1/125)
وفصل أبي الفضل: وقفت على ما أتحفني به الشيخ: من نظمه الرائق البديع، وخطّه المزري بزهر الربيع، موشّحا بغرر ألفاظه، التي لو أعيرت حليتها لعطّلت قلائد النحور، وأبكار معانيه التي لو قسّمت حلاوتها لأعذبت موارد البحور، فسرّحت طرفي منها في رياض جادتها سحائب العلوم والحكم، وهبّ عليها نسيم الفضل والكرم، وابتسمت عنها ثغور المعالي والهمم، ولم أدر وقد حيّرتني أصنافها، وبهرتني ثغورها وأوصافها، حتى كستني اهتزازا وإعجابا، وأنشأت بيني وبين التماسك سترا وحجابا، ولم أدر أدهتني لها نشوة راح، أم ازدهتني نغمة ارتياح، وانتظم عندي منها عقد ثناء وقريض، أم قرع سمعي منها غناء معبد وغريض (1)، وكيفما كان فقد حوى رتبة الإعجاز والإبداع، وأصبح نزهة القلوب والأسماع، فما من جارحة إلّا وهي تودّ لو كانت أذنا فتلتقط درره وجواهره، أو عينا تجتلي مطالعه ومناظره، أو لسانا يدرس محاسنه ومفاخره.
وله فصل من كتاب إلى أبي منصور عبد الملك بن إسماعيل الثعالبي (2): «وصل كتاب مولاي وسيدي، أبدع الكتب هوادي وأعجازا (3)، وأبرعها بلاغة وإعجازا، فحسبت ألفاظه درّ السحاب، أو أصفى قطرا وديمة، ومعانيه درّ السّخاب (4)، بل أوفى قدرا وقيمة. وتأمّلت الأبيات فوجدتها فائقة النّظم والرّصف، عبقة النسيم والعرف، فائزة بقداح الحسن والظّرف، مالكة لزمام القلب والطّرف ولا غرو أن يصدر مثلها عن ذلك الخاطر، وهو هدف الفقر والنوادر، وصدف الدرر والجواهر، والله يمتّعه بما منحه من هذه الغرر والأوضاح، كما أطلق فيه ألسنة الثناء والامتداح.
وأبو منصور هذا يعيش إلى وقتنا هذا [على طريق التخمين لا على حقيقة اليقين] وهو فريد دهره، وقريع عصره، ونسيج وحده، وله مصنفات في العلم والأدب، تشهد له
__________
(1) معبد: هو معبد بن وهب، نابغة الغناء العربي في العصر الأموي. توفي سنة 126هـ. ترجمته في الأغاني (ج 1ص 43) و (ج 14ص 115) والأعلام (ج 7ص 264). والغريض: هو عبد الملك، من مولدي البربر، ومن أشهر المغنين في صدر الإسلام، توفي نحو 95هـ. ترجمته في الأغاني (ج 2ص 353) والأعلام (ج 4ص 156).
(2) الثعالبي: هو عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي، من أئمة اللغة والأدب، سمّي بالثعالبي نسبة إلى الثعالب حيث كان يخيط جلودها. توفي سنة 429هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 3 ص 178) ومعاهد التنصيص (ج 3ص 266) والعبر للذهبي (ج 3ص 172) وشذرات الذهب (ج 3 ص 246) والذخيرة لابن بسام (ق 4ص 560) والأعلام (ج 4ص 163).
(3) الهوادي والأعجاز: البدايات والنهايات.
(4) السّخاب: قلادة من القرنفل. محيط المحيط (سخب).(1/126)
بأعلى الرتب، وقد فرّقت ما اخترته منها في هذا الكتاب، مع ما تعلّق بشاكلته من الخطاب منها كتاب سماه «سحر البلاغة» قال في صدر هذا الكتاب: «أخرجت بعضه من غرر نجوم الأرض، ونكت أعيان الفضل، من بلغاء العصر، في النثر، وحللت بعضه من نظم أمراء الشعر، الذين أوردت ملح أشعارهم في كتابي المترجم بيتيمة الدهر، فلفقت جميع ذلك وحرّرته، وسقته ونسّقته، وأنفقت عليه ما رزقته، وعملته بكدّ الناظر، وجهد الخاطر، وتعب اليمين، وعرق الجبين، وتعمّدت فيه لذّة الجدة، ورونق الحداثة، وحلاوة الطّراوة، ولم أشبه بشيء من كلام غير أهل العصر، إلّا في قلائل وقلائد من ألفاظ الجاحظ وابن المعتز، تخلّلت أثناءه، وتوشّحت تضاعيفه، ولم أخل كلماته التي هي وسائط الآداب، وصياقل الألباب، وما تستمتعه أنفس الأدباء، وتلذّ أعين الكتاب من لفظ صحيح، أو معنى صريح، أو تجنيس أنيس، أو تشبيه بلا شبيه، أو تمثيل بلا مثيل ولا عديل، أو استعارة مختارة، أو طباق، ذي رونق باق فمن رافق هذا الكتاب قرب تناوله من الكتّاب، إذا وشّوا ديباجة كلامهم بما يقتبسونه من نوره، وسماحة قياده لأفراد الشعراء إذا رصّعوا عقود نظامهم بما يلتقطونه من شذوره، فأمّا المخاطبات والمحاورات، فإنها تتبرّج بغرّة من غرره، وتتوّج بدرّة من درره.
وقد ذكر جملة من أخرج معظم كتابه من نثرهم ونظمهم، وهم: الصابيان (1)، والخالديّان (2)، وبديع الزمان، وأبو نصر بن المرزبان [وعلي بن عبد العزيز القاضي (3)،
__________
(1) الصابيان: هما أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي، نابغة كتّاب جيله، وصاحب الرسائل المشهورة.
توفي سنة 384هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 1ص 52) ومعجم الأدباء (ج 1ص 181) ويتيمة الدهر (ج 2ص 241) والفهرست (ص 149) والأعلام (ج 1ص 78)، وأبو الحسين هلال بن المحسّن الصابي مؤرخ كاتب، توفي سنة 448هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 6 ص 101) وتاريخ بغداد (ج 14ص 76) ومعجم الأدباء (ج 5ص 599) والأعلام (ج 8ص 92).
(2) الخالديّان: هما الأخوان أبو عثمان سعيد بن هاشم الخالدي، الشاعر الأديب، المتوفى سنة 371هـ. وأبو بكر محمد بن هاشم الخالدي، الشاعر الأديب، المتوفى سنة 380هـ. ترجمة الأول في يتيمة الدهر (ج 2ص 183) وفوات الوفيات (ج 2ص 52) ومعجم البلدان (ج 2ص 338:
مادة الخالدية) والأعلام (ج 3ص 103). وترجمة أبي بكر في فوات الوفيات (ج 2ص 53) ويتيمة الدهر (ج 2ص 183) والأعلام (ج 7ص 129).
(3) هو القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، صاحب كتاب «الوساطة بين المتنبي وخصومه». توفي سنة 392هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 3ص 278) ومعجم الأدباء (ج 4 ص 158) ويتيمة الدهر (ج 4ص 3) والبداية والنهاية (ج 11ص 331) وشذرات الذهب (ج 3 ص 56) والأعلام (ج 4ص 300).(1/127)
وأبو محمد القاضي، وأبو القاسم الزعفراني، وأبو فراس الحمداني]، وابن أبي العلاء الأصبهاني، وأبو الطيب المتنبي، وأبو الفتح البستي، وأبو الفضل الميكالي، وشمس المعالي، والصاحب بن عباد، وجماعة يكثر بهم التعداد، قد ذكرهم في كتابه، فكل ما مرّ أو يمرّ من ذكر ألفاظ أهل العصر فمن كتابه نقلت، وعليه عوّلت.
وفي أبي منصور يقول أبو الفتح علي بن محمد البستي: [البسيط]
قلبي رهين بنيسابور عند أخ ... ما مثله حين تستقرى البلاد أخ
له صحائف أخلاق مهذّبة ... من الحجا والعلا والظّرف تنتسخ
وأما الذين ذكر أسماءهم في كتابه فسأظهر من سرائر شعرهم الرصين، وأجلو من جواهر نثرهم الثمين، ما أخذ من البلاغة باليمين.
فصل لأبي الفضل: وصل كتاب الشيخ المبشر من خبر سلامته التي هي غرّة الزمان البهيم (1)، وعذر الدهر المليم (2)، بما أشرقت له آفاق الفضل والكرم، وتمّت به نفائس الآلاء والنعم، فسرّحت طرفي من محاسن ألفاظه، في أنوار تروق أزاهرها، وقلائد تروع دررها وجواهرها، ومبارّ (3) يسترقّ الرّقاب باطنها وظاهرها.
وله إلى أبي سعيد بن خلف الهمداني:
وصل كتابك متحملا من أخبار سلامتك، وآثار نعم الله بساحتك، ما أدّى روح البرّ ونسيمه، وجمع فنون الفضل وتقاسيمه، ومجدّدا عندي من عمر مواصلته، ومعسول كلامه ومحاورته، ما ترك غصن المقة (4) غضّا تروق أوراقه، ووجه الثقة طلقا يتهلّل إشراقه، فكم جنيت عنه من ثمر مسرّة كانت عوائق الأيام تحاذنيه، وحويت به من علق (5)
مضنّة قلّما يجود الدهر بمثله لبنيه.
وله فصل إلى بعض الحكام بجوين (6):
وصل كتاب الحاكم وقد وشّحه بمحاسن فقره، ونتائج فكره، من لفظ شهيّ أعطته
__________
(1) البهيم: المظلم. لسان العرب (بهم).
(2) المليم: المذنب. لسان العرب (لوم).
(3) المبارّ: جمع مبرّة وهي اسم البرّ. لسان العرب (برر).
(4) المقة: الحبّ. لسان العرب (ومق).
(5) العلق: الشيء النفيس. لسان العرب (علق).
(6) جوين، بضم الجيم وفتح الواو وسكون الياء: كورة جليلة في خراسان. معجم البلدان (ج 2 ص 192).(1/128)
القلوب فضل المقادة، ومعنى سنيّ جاده صوب الإصابة والإجادة، وبرّ هنيّ اتّفقت على الاعتراف بفضله ألسنة الثناء والشهادة، فسرّحت طرفي فيما حواه من بدائع وطرف، قد جمعت في الحسن والإحسان بين واسطة وطرف، حتى لم تبق في البلاغة يتيمة إلّا جبرتها وتمّمتها.
وله إلى الأمير السيد أبيه يهنئه بالقدوم.
كتبت وأنا بمنزلة من ارتدّ إليه شبابه بعد المشيب، وارتدى برداء من العمر قشيب، والحمد لله رب العالمين، وصل كتاب مولاي مبشّرا من خبر عوده إلى مقرّ عزّه وشرفه، محروسا في حفظ الله وكنفه، بما لم تزل الآمال تتنسّم روائحه، وتترقّب غادي صنع الله فيه ورائحه، واثقة بأنّ عادة الله الكريمة عنده تسايره وترافقه، وتلزم جنابه فلا تفارقه، حتى تخرجه من غمرة الغماء خروج السيف من الغمد، والبدر بعد السّرار (1) إلى الانجلاء، فعددت يوم وروده عيدا، أعاد عهد السّرور جديدا، وردّ طرف الحسود كليلا وقد كان حديدا، ولم أشبّهه في إهداء الرّوح والشفاء، وتلافي الرّوح بعد أن أشفى (2) على المكروه كل الإشفاء إلّا بقميص يوسف حين تلقّاه يعقوب عليه السلام من البشير (3)، وألقاه على وجهه فنظر بعين البصير، فكم أوسعته لثما واستلاما، والتقطت منه بردا وسلاما، حتى لم تبق غلّة في الصدر إلّا برّدتها، ولا غمّة في النفس إلّا طردتها، ولا شريعة من الأنس إلّا وردتها.
وله فصل من رسالة:
وكان فرط التعجب مرّة وعظم الإعجاب تارة يقف بي عند أول فصل من فصوله، ويثبّطني عن استيفاء غرره وحجوله، ويوهمني أنّ المحاسن ما حوته قلائده، ونظمته فرائده فليس في قوس إحسان وراءها منزع (4)، ولا لاقتراح جنان فوقها متطلّع، حتى إذا جاوزته إلى لففه وتزيينه، وأجلت فكري في نكته وعيونه، رأيت ما يحيّر الطّرف، ويعجز الوصف، ويعلو على الأول محلّا ومكانا، ويفوقه حسنا وإحسانا، فرتعت كيف شئت في رياضه وحدائقه، واقتبست نور الحكم من مطالعه ومشارقه، وسلّمت لمعانيه وألفاظه
__________
(1) السّرار، بكسر السين: آخر ليلة من الشهر يظهر فيها القمر. لسان العرب (سرر).
(2) أشفى على المكروه: أشرف عليه. لسان العرب (شفا).
(3) يشير إلى سورة يوسف في القرآن الكريم.
(4) المنزع: السير الذي ينتزع به يقال: لم يبق في قوس الصبر منزع: أي أن الصبر نفدت أسبابه. لسان العرب (نزع).(1/129)
فضيلة السّبق والبراعة، وتلقّيتها بواجبها من النّشر والإذاعة فإنها جمعت إلى حسن الإيجاز درجة الإعجاز، وإلى فضيلة الإبداع جلالة الموقع في القلوب والأسماع.
وله من فصل:
وصل كتاب الشيخ فنشر عندي من حلل إفضاله وإكرامه، ومحاسن خطابه وكلامه، ما لم أشبّهه إلا بأنوار النّجود (1)، وحبر البرود، وقلائد العقود.
وذكر أبو منصور الثعالبي الأمير أبا الفضل في كتاب ألّفه، فقال في بعض فصوله:
من أراد أن يسمع سرّ النظم، وسحر الشعر، ورقية الدهر، ويرى صوب العقل، وذوب الظّرف، ونتيجة الفضل فليستنشد ما أسفر عنه طبع مجده، وأثمره عالي فكره، من ملح تمتزج بالنفوس لنفاستها، وتشرب بالقلوب لسلاستها: [المتقارب]
قواف إذا ما رواها المشو ... ق هزّت لها الغانيات القدودا
كسون عبيدا ثياب العبيد ... وأضحى لبيد لديها بليدا (2)
وأيم الله ما مرّ يوم أسعفني فيه الزمان بمواجهة وجهه، وأسعدني بالاقتباس من نوره والاغتراف من بحره، فشاهدت ثمار المجد والسؤود تنتثر من شمائله، ورأيت فضائل الدّهر عيالا على فضائله، وقرأت نسخة الفضل والكرم من ألحاظه، وانتهبت فضائل الفوائد من ألفاظه، إلّا تذكرت ما أنشدنيه، أدام الله تأييده لابن الرّومي: [البسيط]
لولا عجائب صنع الله ما ثبتت ... تلك الفضائل في لحم ولا عصب
وقول الطائي (3): [الوافر]
فلو صوّرت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطّباع
وقول كشاجم: [الكامل]
ما كان أحوج ذا الكمال إلى ... عيب يوقّيه من العين
وربّعت بقول أبي الطيب (4): [الوافر]
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإنّ المسك بعض دم الغزال
__________
(1) النجود: جمع نجد وهو ما ارتفع من الأرض، وفيه يونع الزهر. لسان العرب (نجد).
(2) لبيد: هو لبيد بن ربيعة العامري، وقد تقدمت ترجمته.
(3) ديوان أبي تمام (ص 172) من قصيدة مديح.
(4) ديوان المتنبي (ص 275) من قصيدة رثاء والدة سيف الدولة.(1/130)
ثم استعرت فيه بيان أبي إسحاق الصابي حيث يقول للصاحب «ورّثه الله أعمارها، كما بلّغه في البلاغة أنوارها»: [السريع]
الله حسبي فيك من كلّ ما ... تعوّد العبد على المولى
فلا تزل ترفل في نعمة ... أنت بها من غيرك الأولى
وقال في فصل منه: وما أنس لا أنس أيامي عنده بفيروزاباد، إحدى قراه برستاق جوين، سقاها الله ما يحكي أخلاق صاحبها من سيل القطر، فإنها كانت بطلعته البدرية، وعشرته العطرية، وآدابه العلوية، وألفاظه اللؤلؤية، مع جلائل نعمه المذكورة، ودقائق كرمه المشكورة، وفوائد مجالسه المعمورة، ومحاسن أقواله وأفعاله التي يعيا بها الواصفون أنموذجات من الجنّة، التي وعد المتّقون، وإذا تذكرتها في المرابع التي هي مراتع النّواظر، والمصانع التي هي مطالع العيش الناضر، والبساتين التي إذا أخذت بدائع زخارفها، ونشرت طرائف مطارفها، طوي لها الديباج الخسرواني (1)، ونفي معها الوشي الصّنعاني (2)، فلم تشبّه إلّا بشيمه، وآثار قلمه، وأزهار كلمه، تذكرت سحرا وسيما، وخيرا عميما، وارتياحا مقيما، وروحا وريحانا ونعيما.
وكثيرا ما أحكي للإخوان أني استغرقت أربعة أشهر بحضرته، وتوفّرت على خدمته، ولازمت في أكثر أوقاتي عالي مجلسه، وتعطّرت [عند ركوبه] بغبار موكبه فبالله يمينا كنت غنيّا عنها لو خفت حنثا (3) فيها إني ما أنكرت طرفا من أخلاقه ولم أشاهد إلّا مجدا وشرفا من أحواله. وما رأيته اغتاب غائبا، أو سبّ حاضرا، أو حرم سائلا، أو خيّب آملا، أو أطاع سلطان الغضب في الحضر، أو تسلّى بنار الضّجر في السّفر، أو بطش بطش المتجبّر ولا وجدت المآثر إلّا ما يتعاطاه، والمآثم إلّا ما يتخطّاه.
وقال في فصل منه يصفه: وأما فنون الأدب فهو ابن بجدتها (4)، وأخو جملتها، وأبو عذرتها (5)، ومالك أزمّتها، وكأنما يوحى إليه في الاستئثار بمحاسنها، والتفرّد ببدائعها، ولله هو إذا غرس الدّرّ في [أرض] القراطيس، وطرّز بالظلام رداء النهار، وألقت بحار خواطره جواهر البلاغة على أنامله، فهناك الحسن برمّته، والحسن بكلّيته.
__________
(1) نسبة إلى خسرو بن أنو شروان، من ملوك العجم. محيط المحيط (خسر).
(2) نسبة إلى صنعاء التي ينسب إليها جودة الصنعة. معجم البلدان (ج 3ص 425).
(3) الحنث: الخلف في اليمين، والذنب. محيط المحيط (حنث).
(4) ابن بجدتها: العالم بالشيء، والبجدة: باطن الأمر. محيط المحيط (بجد).
(5) أبو عذرتها: أول من افتضّ بكرها، والعذرة: البكارة. محيط المحيط (عذر).(1/131)
وذكر عمر بن علي المطوّعي (1) في كتاب ألّفه في شعر أبي الفضل ومنثوره والشعراء، فقال: رأيت أهل هذه الصناعة قد تشعّبوا على طرق، وانقسموا على ثلاث فرق، فمنهم من اكتسى كلامه شرف الاكتساب دون شرف الانتساب كالمكتسبين من الشعراء بالمدائح، المترشحين بها لأخذ الجوائز والمنائح، وهم الأكثرون من أهل هذه الصناعة ومنهم من شرفت بنات فكره عند أهل العقول، وجلبت لديهم فضائل القبول، لشرف قائلها، لا لكثرة عقائلها، وكرم واشيها، لا لرقّة حواشيها، كالعدد الكثير، والجمّ الغفير، من الخلفاء والأمراء والجلّة والوزراء ومنهم من أخذ بحبل الجودة من طرفيه، وجمع رداء الحسن من حاشيتيه، كامرىء القيس ابن حجر الكندي في المتقدّمين، وهو أمير الشعراء غير منازع، وسيّدهم غير مجاذب ولا مدافع، وعبد الله بن المعتز بالله أمير المؤمنين في المولدين، وهو أشعر أبناء الخلافة الهاشمية، وأبرع أنشاء الدولة العباسية، ومن جلّ كلامه في التشبيه، عن أن يمثّل بنظير أو شبيه، وعلت أشعاره في الأوصاف، عن أن تتعاطاه ألسنة الوصّاف والأمير أبي فراس بن حمدان فارس البلاغة، ورجل الفصاحة، ومن حكمت له شعراء العصر قاطبة بالسيادة، واعترفت لكلامه بالإحسان والإجادة، حتى قال أبو القاسم إسماعيل بن عباد الصاحب: بدىء الشعر بملك وختم بملك، يعني أمرأ القيس وأبا فراس وهذه الطائفة أشهر الثلاثة تقدّما، وأثبتها في مواطن الفخر ومواطىء الشرف قدما، وأسبق الشعراء في ميدان البلاغة، وأرجحهم في ميدان البراعة فإنّ الكلام الصادر عن الأعيان والصدور، أقرّ للعيون وأشفى للصدور، فشرف القلائد بمن قلّدها، كما أن شرف العقائل بمن ولّدها: [الوافر]
وخير الشّعر أكرمه رجالا ... وشرّ الشّعر ما قال العبيد
وإذا اتفق من اجتمعت فيه هذه الشرائط، وانتظمت عنده هاتيك المحاسن، كان خليقا بأن تخلّد في صحائف القلوب أشعاره، وتدوّن في ضمائر النفوس آثاره، وتكتب على الأحداق والعيون أخباره، وجديرا بأن يختصّ بسرعة المجال في المجالس، وخفّة المدار في المدارس، كالأمير الجليل السيد مولانا: [الطويل]
أبى الفضل من نال السماء بفضله ... ومن وعدته نفسه بمزيد
تودّ عقود الدرّ لو كنّ لفظه ... فينظمها من توأم وفريد
__________
(1) عمر بن علي المطوّعي: أديب من أهل نيسابور. خدم في شبابه الأمير أبا الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي. توفي نحو 440هـ. يتيمة الدهر (ج 4ص 433) والأعلام (ج 5ص 55).(1/132)
وهذه مقطعات لأهل العصر في وصف البلاغة
قال أبو الفتح البستي (1): [الطويل]
مدحتك فالتامت قلائد لم يفز ... بأمثالها الصّيد الكرام الأعاظم
لأنك بحر والمعاني لآلىء ... وفكري غوّاص وشعري ناظم (2)
وقال أيضا (3): [البسيط]
ما إن سمعت بنوّار له ثمر ... في الوقت يمتع سمع المرء والبصرا
حتى أتاني كتاب منك مبتسم ... عن كل لفظ ومعنى يشبه الدّررا
فكان لفظك في لألائه زهرا ... وكان معناه في أثنائه ثمرا
تسابقا فأصابا القصد في طلق ... لله من ثمر قد سابق الزّهرا
وقال أيضا (4): [البسيط]
لمّا أتاني كتاب منك مبتسم ... عن كلّ برّ ولفظ غير محدود
حكت معانيه في أثناء أسطره ... آثارك البيض في أحوالي السّود
كأنه ألمّ بقول الطائي (5): [الطويل]:
يرى أقبح الأشياء أوبة آمل ... كستها يد المأمول حلّة خائب (6)
وأحسن من نور تفتّحه الصّبا ... بياض العطايا في سواد المطالب
وقال أبو الفتح البستي في أبي نصر أحمد بن علي الميكالي (7): [الخفيف]
جمع الله في الأمير أبي نص ... ر خصالا تعلو بها الأقدار
راحة برّة وصدرا فضاء ... وذكاء تبدو له الأسرار (8)
خطّه روضة وألفاظه الأز ... هار يضحكن، والمعاني ثمار
__________
(1) البيتان في يتيمة الدهر (ج 4ص 318317).
(2) في اليتيمة: «فطبعي» بدل «وفكري».
(3) الأبيات في يتيمة الدهر (ج 4ص 310).
(4) البيتان في يتيمة الدهر (ج 4ص 310).
(5) ديوان أبي تمام (ص 43) من قصيدة مديح.
(6) في الديوان: «كسته» بدل «كستها».
(7) الأبيات في يتيمة الدهر (ج 4ص 319).
(8) في اليتيمة: «ثرّة» بدل «برّة».(1/133)
وقال عمر بن علي المطوعي يمدح أبا الفضل الميكالي من قصيدة: [الكامل]
وإلى الأمير ابن الأمير المعتلي ... بكمال سؤدده على الأمراء
وطئت بي الوجناء وجنة مهمه ... متقاذف الأكناف والأرجاء (1)
كيما ألاحظ منه في أفق العلا ... فلكا يدير كواكب العلياء
كالبدر غير دوامه متكاملا ... كالبحر غير عذوبة وصفاء
بالفضل يكنى وهو فيه كامن ... كالرّيّ يكمن في زلال الماء
يا من إذا خطّ الكتاب يمينه ... أهدى إلينا الوشي من صنعاء
لم تجر كفّك في البياض موقعا ... إلّا تحلّت عن يد بيضاء
قرم يداه وقلبه ما منهما ... في النّظم والإعطاء إلّا الطائي (2)
وقال فيه أيضا: [الطويل]
كلام الأمير النّدب في ثني نظمه (3) ... ينوب عن الماء الزلال لمن يظما
فنروى متى نروي بدائع نظمه ... ونظما إذا لم نرو يوما له نظما
وكتب إليه أيضا: [الطويل]
أقول وقد جادت جفوني بأدمع ... كأني قد استمليتهنّ من السّحب
وقد علقت بي للنزاع نوازع ... كتبن معاناة العناء على قلبي
إلى سيّد أوفى على الشّمس قدره ... وزادت معاليه ضياء على الشهب
أبي الفضل من راحت فواضل كفّه ... وراحته تربي على عدد الترب
سقى الله أرضا حلّ فيها سحائبا ... كنائله الفيّاض أو لفظه العذب
سحائب يحدوها نسيم كخلقه ... ويقدمها برق كصارمه العضب (4)
ولا زال أفلاك السعود مطيفة ... بحضرته تنتابها وهو كالقطب
وقال أبو منصور الثعالبي للأمير أبي الفضل: [الكامل]
لك في الفضائل معجزات جمّة ... أبدا لغيرك في الورى لم تجمع
__________
(1) الوجناء: الناقة الشديدة، شبّهت بالوجين، والوجين: الأرض الغليظة. المهمه: المفازة البعيدة.
متقاذف الأكناف: متباعد الأطراف. محيط المحيط (وجن) و (مهمه) و (كنف) و (قذف).
(2) القرم: السيد. محيط المحيط (قرم). والطائي: هو أبو تمام والطائي في الإعطاء: هو حاتم الطائي الذي شهر بالجود.
(3) النّدب: الظريف النجيب. محيط المحيط (ندب).
(4) الصارم: السيف. العضب: القاطع. محيط المحيط (صرم) و (عضب).(1/134)
بحران بحر في البلاغة شابه ... شعر الوليد وحسن لفظ الأصمعي (1)
كالنّور أو كالسّحر أو كالدّرّ أو ... كالوشي في برد عليه موشّع (2)
شكرا فكم من فقرة لك كالغنى ... وافى الكريم بعيد فقر مدقع (3)
وإذا تفتّق نور شعرك ناضرا ... فالحسن بين مرصّع ومصرّع
أرجلت فرسان الكلام ورضت أف ... راس البديع وأنت أمجد مبدع
ونقشت في فصّ الزمان بدائعا ... تزري بآثار الربيع الممرع (4)
[وقال في وصف فرس أهداه إليه ممدوحه: [الكامل]
يا مهدي الطّرف الجواد كأنما (5) ... قد أنعلوه بالرياح الأربع
لا شيء أسرع منه إلا خاطري ... في شكر نائلك اللطيف الموقع
ولو أنّني أنصفت في إكرامه ... لجلال مهديه الكريم الأروع (6)
أنظمته حبّ القلوب لحبّه ... وجعلت مربطه سواد المدمع
وخلعت ثم قطعت غير مضيّق ... برد الشباب لجلّه والبرقع
وكتب إليه في جواب كتاب ورد عليه: [الخفيف]
أنسيم الرياض حول الغدير ... مازجته ريّا الحبيب الأثير
أم ورود البشير بالنّجح من ... فك أسير أو يسر أمر عسير
في ملاء من الشباب جديد ... تحت أيك من التّصابي نضير (7)
أم كتاب الأمير سيدنا الفر ... د فياحبّذا كتاب الأمير
وثمار الصدور ما أجتنيه ... من سطور فيها شفاء الصدور
نمّقتها أنامل تفتق الأن ... وار والزهر في رياض السطور
كالمنى قد جمعن في النّعم الغرّ ... مع الأمن من صروف الدهور
يا أبا الفضل وابنه وأخاه ... جلّ باريك من لطيف خبير
__________
(1) الوليد: هو البحتري.
(2) موشّع: معلم. محيط المحيط (وشع).
(3) المدقع: الملتصق بالدّقعاء أي التراب. محيط المحيط (دقع).
(4) الممرع: المملوء عشبا يقال: مرع الوادي إذا أخصب. محيط المحيط (مرع).
(5) الطّرف: الكريم من الخيل. محيط المحيط (طرف).
(6) الأروع: الشّهم الذكيّ الفؤاد. محيط المحيط (روع).
(7) الأيك: الشجر الملتفّ الكثير. محيط المحيط (أيك).(1/135)
شيم يرتضعن درّ المعالي ... ويعبّرن عن نسيم العبير
وسجايا كأنهنّ لدى النش ... ر رضاب الحيا بأري مشور (1)
ومحيا لدى الملوك محيّا ... صادق البشر مخجل للبدور
فأجابه أبو الفضل بأبيات يقول فيها في صفة أبياته: [الخفيف]
وهديّ زفّت إلى السّمع بكر ... تتهادي في حلية وشذور (2)
عجب الناس أن بدت من سواد ... في بياض كالمسك في الكافور
نظمت في بلاغة ومعان ... مثل نظم العقود فوق النحور
كم تذكّرت عندها من عهود ... للتلاقي في ظلّ عيش نضير
فذممت الزمان إذ ضنّ عنّا ... باجتماع يضمّ شمل السرور
ولئن راعنا الزمان ببين ... ألبس الأنس ذلّة المهجور
فعسى الله أن يعيد اجتماعا ... في أمان من حادثات الدهور
إنه قادر على ردّ ما فا ... ت وتيسير كلّ أمر عسير
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي في الوزير المهلّبي (3): [الكامل]
قل للوزير أبي محمد الّذي ... قد أعجزت كلّ الورى أوصافه
لك في المجالس منطق يشفي الجوى (4) ... ويسوغ في أذن الأديب سلافه
وكأنّ لفظك جوهر متنخّل (5) ... وكأنما آذاننا أصدافه
والمهلبي هذا هو أبو محمد الحسن بن هارون بن إبراهيم بن عبد الله بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلّب، وزر لأحمد بن بويه الدّيلمي، وكانت وزارته سنة تسع
__________
(1) الأري: العسل. المشور: المصفّى يقال: شار العسل واستشاره إذا استخرجه من الوقبة وهي النقرة في الصخرة. محيط المحيط (أري) و (شور) و (وقب).
(2) الهديّ: العروس. الشّذور: قطع الذهب، واحدها شذرة. محيط المحيط (هدي) و (شذر).
(3) إبراهيم بن هلال الصابي: نابغة كتّاب جيله، توفي سنة 384هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 1 ص 52) ويتيمة الدهر (ج 2ص 241) ومعجم الأدباء (ج 1ص 181) والفهرست (ص 149) والأعلام (ج 1ص 78). والمهلّبي: هو الحسن بن محمد بن عبد الله بن هارون ابن المهلب من كبار الوزراء الأدباء الشعراء. توفي سنة 352هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 2ص 124) وفوات الوفيات (ج 1ص 353) ومعجم الأدباء (ج 3ص 60) ويتيمة الدهر (ج 2ص 223) والأعلام (ج 2ص 213) والأبيات الثلاثة في يتيمة الدهر (ج 2ص 273).
(4) في يتيمة الدهر: «المحافل» بدل «المجالس».
(5) متنخّل: مختار. محيط المحيط (نخل).(1/136)
وثلاثين وثلثمائة، وكان أبو محمد من سروات الناس وأدبائهم وأجوادهم وأعفّائهم وفيه يقول أبو إسحاق الصابي: [الخفيف]
نعم الله كالوحوش فما تأ ... لف إلّا الأخاير النّسّاكا
نفّرتها آثام قوم وصيّر ... ن لها البرّ والتّقى أشراكا
وكان قبل اتّصاله بالسلطان سائحا في البلاد، على طريق الفقر والتصوّف، قال أبو علي الصوفي: كنت معه في بعض أوقاته، أماشيه في إحدى طرقاته، فضجر لضيق الحال، فقال: [الوافر]
ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا رحم المهيمن نفس حرّ ... تصدّق بالوفاة على أخيه
ثم تصرّف بما يرضيه الدهر، وبلغ المهلبي مبلغه. قال أبو علي: دخلت البصرة فاجتزت بسرّ من رأى (1)، وإذا أنا بناشطيات وحراقات وزيارب وطيّارات في عدّة وعدد، فسألت: لمن هذا؟ فقيل: للوزير المهلبي، ونعتوا لي صاحبي فوصلت إليه حتى رأيته، فكتبت إليه رقعة، وتوصّلت حتى دخلت فسلّمت، وجلست حتى خلا مجلسه، فدفعت إليه الرقعة وفيها: [الوافر]
ألا قل للوزير بلا احتشام ... مقال مذكّر ما قد نسيه
أتذكر إذ تقول لضيق عيش ... «ألا موت يباع فأشتريه»
فنظر إليّ وقال: نعم، ثم نهض وأنهضني معه إلى مجلس الأنس، وجعل يذاكرني ما مضى، ويذكر لي كيف ترقّت حاله، وقدّم الطعام فطعمنا، وأقبل ثلاثة من الغلمان على رأس أحدهم ثلاث بدر (2)، ومع الآخر تخوت وثياب، ومع الآخر طيب وبخور، وأقبلت بغلة رائعة بسرج ثقيل فقال: يا أبا علي، تفضّل بقبول هذا، ولا تتخلّف عن حاجة تعرض لك، فشكرته وانصرفت، فلمّا هممت بالخروج من الباب استردّني وأنشدني بديها: [مجزوء الكامل]
رقّ الزمان لفاقتي ... ورثى لطول تحرّقي
وأنالني ما أرتجي ... وأجار ممّا أتّقي
فلأغفرنّ له الكثي ... ر من الذنوب السّبّق
__________
(1) سرّ من رأى: مدينة استحدثها المعتصم العباسي. معجم البلدان (ج 3ص 215).
(2) البدر: جمع بدرة وهي كيس الدنانير. لسان العرب (بدر).(1/137)
إلّا جنايته التي ... فعل المشيب بمفرقي
قال بعض العلماء: العقول لها صور مثل صور الأجسام، فإذا أنت لم تسلك بها سبيل الأدب حارت وضلّت، وإن بعثتها في أوديتها كلّت وملّت، فاسلك بعقلك شعاب (1)
المعاني والفهم، واستبقه بالجمام (2) للعلم، وارتد لعقلك أفضل طبقات الأدب، وتوقّ عليه آفة العطب فإنّ العقل شاهدك على الفضل، وحارسك من الجهل.
واعلم أنّ مغارس العقول كمغارس الأشجار فإذا طابت بقاع الأرض للشجر زكا ثمرها، وإذا كرمت النفوس للعقول طاب خيرها، فاغمر نفسك بالكرم، تسلم من الآفة والسّقم.
واعلم أنّ العقل [الحسن] في النفس اللئيمة، بمنزلة الشجرة الكريمة في الأرض الذميمة، ينتفع بثمرها على خبث المغرس فاجتن ثمر العقول وإن أتاك من لئام الأنفس.
[وقال النبي عليه السلام: «ربّ حامل فقه إلى من هو أوعى له». وقيل: ربّ حامل فقه غير فقيه، وربّ رمية من غير رام] (3).
وقيل: الحكمة ضالّة المؤمن، أينما وجدها أخذها. وسمع الشّعبيّ الحجاج ابن يوسف وهو على المنبر يقول: أمّا بعد، فإنّ الله كتب على الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب عليه البقاء، ولا بقاء لما كتب عليه الفناء، فلا يغرّنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة، وأقصروا من الأمل، لقصر الأجل. فقال: كلام حكمة خرج من قلب خراب! وأخرج ألواحه فكتب.
وقد روى ذلك عن سفيان الثوري.
وقد سمع إبراهيم بن هشام وهو يخطب على المنبر ويقول: إن يوما أشاب الصغير، وأسكر الكبير، ليوم شرّه مستطير!
وصف الكتب
قال الجاحظ: الكتاب وعاء ملىء علما، وظرف حشي ظرفا، وبستان يحمل في
__________
(1) الشّعاب: جمع شعب وهو الطريق في الجبل. لسان العرب (شعب).
(2) الجمام، بكسر الجيم: الراحة. لسان العرب (جمم).
(3) ربّ رمية من غير رام: أي ربّ رمية (مصيبة) حصلت من رام مخطىء. مجمع الأمثال (ج 1ص 299، رقم المثل 1581).(1/138)
ردن (1)، وروضة تقلّب في حجر، ينطق عن الموتى، ويترجم كلام الأحياء.
وقال: من صنّف كتابا فقد استهدف (2) فإن أحسن فقد استعطف، وإن أساء فقد استقذف (3).
وقال: لا أعلم جارا أبرّ، ولا خليطا أنصف، ولا رفيقا أطوع، ولا معلما أخضع، ولا صاحبا أظهر كفاية، وأقلّ جناية، ولا أقلّ إملالا وإبراما، ولا أقلّ خلافا وإجراما، ولا أقلّ غيبة، ولا أبعد من عضيهة (4)، ولا أكثر أعجوبة وتصرّفا، ولا أقلّ صلفا وتكلّفا، ولا أبعد من مراء، ولا أترك لشغب، ولا أزهد في جدال، ولا أكفّ عن قتال، من كتاب. ولا أعلم قرينا أحسن مواتاة، ولا أعجل مكافأة، ولا أحضر معونة، ولا أقلّ مؤونة، ولا شجرة أطول عمرا، ولا أجمع أمرا، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مجتنى، ولا أسرع إدراكا في كل أوان، ولا أوجد في غير أبّان، من كتاب. ولا أعلم نتاجا في حداثة سنّه، وقرب ميلاده، ورخص ثمنه، وإمكان وجوده، يجمع من التدابير الحسنة، والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأخبار عن القرون الماضية، والبلاد المتراخية، والأمثال السائرة، والأمم البائدة ما يجمع الكتاب.
ودخل الرشيد على المأمون، وهو ينظر في كتاب، فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب يشحذ الفكرة، ويحسن العشرة. فقال: الحمد لله الذي رزقني من يرى بعين قلبه أكثر ممّا يرى بعين جسمه.
وقيل لبعض العلماء: ما بلغ من سرورك بأدبك وكتبك؟ فقال: هي إن خلوت لذّتي، وإن اهتممت سلوتي، وإن قلت: إنّ زهر البستان، ونور الجنان، يجلوان الأبصار، ويمتعان بحسنهما الألحاظ فإنّ بستان الكتب يجلو العقل، ويشحذ الذّهن، ويحيي القلب، ويقوّي القريحة، ويعين الطبيعة، ويبعث نتائج العقول، ويستثير دفائن القلوب، ويمتع في الخلوة، ويؤنس في الوحشة، ويضحك بنوادره، ويسرّ بغرائبه، ويفيد ولا يستفيد، ويعطي ولا يأخذ، وتصل لذّته إلى القلب، من غير سآمة تدركك، ولا مشقّة تعرض لك.
__________
(1) الرّدن: الكمّ. لسان العرب (ردن).
(2) استهدف: صيّر نفسه هدفا لسهام النقد. لسان العرب (هدف).
(3) استقذف: عرّض نفسه للقذف. لسان العرب (قذف).
(4) العضيهة: الإفك وتعمّد الكذب. لسان العرب (عضه).(1/139)
وقال أبو الطيب المتنبي (1): [الطويل]
وللسّرّ منّي موضع لا يناله ... نديم، ولا يفضي إليه شراب
وللخود مني ساعة، ثم بيننا ... فلاة إلى غير اللقاء تجاب (2)
وما العشق إلا غرّة وطماعة ... يعرّض قلب نفسه فيصاب
وغير فؤادي للغواني رميّة ... وغير بناني للرّخاخ ركاب (3)
تركنا لأطراف القنا كلّ لذّة ... فليس لنا إلّا بهنّ لعاب (4)
نصرّفه للطّعن فوق سوابح ... قد انقصفت فيهنّ منه كعاب (5)
أعزّ مكان في الدّنا سرج سابح ... وخير جليس في الزّمان كتاب
فقر في الكتب
إنفاق الفضّة على كتب الآداب، يخلفك عليه ذهب الألباب. إنّ هذه الآداب شوارد، فاجعلوا الكتب لها أزمّة. كتاب الرجل عنوان عقله، ولسان فضله.
ابن المعتز: من قرأ سطرا من كتاب قد خطّ عليه فقد خان كاتبه لأن الخطّ يحرز ما تحته.
بزرجمهر: الكتب أصداف الحكم، تنشقّ عن جواهر الكلم.
بعض الكتاب: إعجام الخطّ يمنع من استعجامه، وشكله يؤمن من إشكاله.
كأن هذا الكاتب نحا إلى قول أبي تمام (6): [الطويل]
ترى الحادث المستعجم الخطب معجما ... لديه، ومشكولا إذا كان مشكلا (7)
ما كتب قرّ، وما حفظ فرّ. الخطوط المعجمة، كالبرود المعلمة.
__________
(1) ديوان المتنبي (ص 517).
(2) الخود: الشابة الناعمة. تجاب: تقطع. محيط المحيط (خود) و (جوب).
(3) في الديوان: «للزجاج» بدل «للرّخاخ». والرّميّة: الصيد يرمى ذكرا كان أم أنثى. والرّخاخ: جمع رخّ وهو قطعة من قطع الشطرنج. محيط المحيط (رمى) و (رخخ).
(4) في الديوان: «شهوة» بدل «لذّة». واللّعاب: الملاعبة. محيط المحيط (لعب).
(5) في الديوان: «حوادر» بدل «سوابح». والسوابح: الخيول السريعة. والكعاب: جمع كعب وهو الرمح. محيط المحيط (سبح) و (كعب).
(6) ديوان أبي تمام (ص 224).
(7) المستعجم: الخفيّ. المعجم: الظاهر. المشكول: المقيّد بعلامات الإعراب. المشكل: الملتبس والمشتبه. لسان العرب (عجم) و (شكل).(1/140)
وقال ابن المعتز يصف كتابا: [الوافر]
وذي نكت موشّى نمقّته ... وحاكته الأنامل أيّ حوك
بشكل يرفع الإشكال عنه ... كأن سطوره أغصان شوك
جملة من ألفاظ أهل العصر في صفة الكتب وتهاديها، وما يتعلّق بأسمائها ومعانيها
حضرة مولاي تجلّ عن أن يهدى إليها غير الكتب، التي لا يترفّع عنها كبير، ولا يمتنع منها خطير، وقد فكّرت فيما أنفذت به مقيما للرّسم في جملة الخدم، وحافظا للاسم في غمار الحشم، فلم أجد إلّا الرّقّ الذي سبق ملكه له، والمال الذي منحه وخوّله، فعدلت إلى الأدب الذي تنفق سوقه بباب سيّدنا ولا تكسد، وتهبّ ريحه بجانبه ولا تركد، وأنفذت كتابي هذا راجيا أن أشرّف بقبوله، ويوقّع إليّ بحصوله ولمّا وجب على ذوي الاختصاص لسيدنا إهداء ما جرت العادة بتسابق الأولياء إلى الاجتهاد في إهدائه، وجب العدول في إقامة رسم الخدمة إلى اتباع ما صدر عنه من الرخصة فيما تسهل كلفته، وتجلّ عند ذوي الألباب قيمته، وتحلو ثمرته: وهو علم يقتنى، وأدب يجتنى.
قال أبو الحسن ابن طباطبا العلوي (1): [الكامل]
لا تنكرن إهداءنا لك منطقا ... منك استفدنا حسنه ونظامه
فالله عزّ وجلّ يشكر فعل من ... يتلو عليه وحيه وكلامه
وأهدى أحمد بن يوسف (2) إلى المأمون في يوم مهرجان (3) هدية قيمتها ألف ألف درهم، وكتب: [الطويل]
على العبد حقّ فهو لا بدّ فاعله ... وإن عظم المولى وجلّت فضائله
ألم ترنا نهدي إلى الله ما له ... وإن كان عنه ذا غنى وهو قابله
__________
(1) هو محمد بن أحمد ابن طباطبا العلوي شاعر مفلق وعالم بالأدب، توفي بأصبهان سنة 322هـ.
معجم الأدباء (ج 5ص 97) ومعاهد التنصيص (ج 2ص 129) ومعجم الشعراء (ص 463) والأعلام (ج 5ص 308). والبيتان في معجم الأدباء (ج 5ص 104).
(2) أحمد بن يوسف وزير من كبار الكتّاب، ولي ديوان الرسائل للمأمون، وتوفي ببغداد سنة 213هـ.
ومعجم الأدباء (ج 2ص 86) وتاريخ بغداد (ج 5ص 216) والبداية والنهاية (ج 10ص 269) والأعلام (ج 1ص 272)، والبيتان في معجم الأدباء (ج 2ص 91).
(3) المهرجان في معجم الأدباء هو يوم نيروز.(1/141)
وقال أبو الفتح البستي: [البسيط]
لا تنكرنّ إذا أهديت نحوك من ... علومك الغرّ أو آدابك النّتفا
فقيّم الباغ قد يهدي لمالكه ... برسم خدمته من باغه التّحفا (1)
وكتب أبو إسحاق الصابي إلى عضد الدولة في هذا المعنى: العبيد تلاطف ولا تكاثر الموالي في هداياها، والموالي تقبل الميسور منها قبولا هو محسوب في عطاياها. ولما كان أدام الله تعالى عزّه! مبرّزا على ملوك الأرض في الخطر الذي قصّروا عنه شديدا، والسعي الذي وقفوا منه بعيدا، والآداب التي عجزوا عن استعلامها فضلا عن علمها، والأدوات التي نكلوا (2) عن استفهامها فضلا عن فهمها، وجب أن يعدل عن اختياراتهم فيما تحظى به الجسوم البهيمية، إلى اختياره فيما تخطى به النفوس العليّة، وعمّا ينفق في سوقهم العامية، إلى ما ينفق في سوقه الخاصية، إفرادا لرتبته العليا، وغايته القصوى، وتمييزا له عمن لا يجري معه في هذا المضمار، ولا يتعلّق منه بالغبار: وقد حملت إلى الخزانة عمرها الله! شيئا من الدفاتر وآلة النجوم، فإن رأى مولانا أن يتطوّل (3) على عبده بالإذن في عرض ذلك عليه مشرّفا له وزائدا في إحسانه إليه فعل إن شاء الله تعالى.
وأهدى أبو الطيب المتنبي إلى أبي الفضل بن العميد في يوم نوروز قصيدة مدحه فيها، يقول في آخرها (4): [الخفيف]
كثر الفكر كيف نهدي كما ته ... دي إلى ربّها الرئيس عباده (5)
والّذي عندنا من المال والخي ... ل فمنه هباته وقياده
فبعثنا بأربعين مهارا (6) ... كلّ مهر ميدانه إنشاده
فارتبطها فإنّ قلبا نماها ... مربط تسبق الجياد جياده
وفي هذه الكلمة يقول وقد احتفل فيها، واجتهد في تجويد ألفاظها ومعانيها، فعقّب عليه أبو الفضل في مواضع وقف عليها فقال (7): [الخفيف]
__________
(1) الباغ: الطّيب. المنجد في اللغة والأعلام (بيغ).
(2) نكل عن استفهامها: نكص عنها. لسان العرب (نكل).
(3) يتطوّل: يتفضّل. لسان العرب (طول).
(4) ديوان المتنبي (ص 576).
(5) في الديوان: «أهدت» بدل «تهدي».
(6) في الأصل: «مهار». والمهار: جمع مهر. لسان العرب (مهر).
(7) ديوان المتنبي (ص 575574).(1/142)
هل لعذري إلى الهمام أبي الفض ... ل قبول سواد عيني مداده (1)؟
أنا من شدّة الحياء عليل ... مكرمات المعلّة عوّاده
ما كفاني تقصير ما قلت فيه ... عن علاه حتى ثناه انتقاده
ما تعوّدت أن أرى كأبي الفض ... ل، وهذا الذي أتاه اعتياده
غمرتني فوائد شاء منها ... أن يكون الكلام ممّا أفاده
ما سمعنا بمن أحبّ العطايا ... فاشتهى أن يكون منها فؤاده
وقد كان مدحه بقصيدته التي أولها (2): [الكامل]
باد هواك صبرت أم لم تصبرا ... وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى
وفيها معان مخترعة، وأبيات مبتدعة، يقول فيها (3): [الكامل]
من مبلغ الأعراب أنّي بعدها ... جالست رسطاليس والإسكندرا (4)
ومللت نحر عشارها فأضافني ... من ينحر البدر النّضار لمن قرى (5)
وسمعت بطليموس دارس كتبه ... متملّكا متبدّيا متحضّرا (6)
ورأيت كلّ الفاضلين كأنما ... ردّ الإله نفوسهم والأعصرا
نسقوا لنا نسق الحساب مقدّما ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخّرا
وفيها يقول (7):
فدعاك حسّدك الرئيس وأمسكوا ... ودعاك خالقك الرئيس الأكبرا
خلفت صفاتك في العيون كلامه ... كالخطّ يملأ مسمعي من أبصرا
__________
(1) في الديوان: «عند» بدل «إلى»
(2) ديوان المتنبي (ص 564).
(3) ديوان المتنبي (ص 570).
(4) رسطاليس: هو المشهور بأرسطو طاليس، والعرب تتصرف في أسماء الأعاجم. يقول: من يبلغ الأعراب أني بعد أن فارقتهم لقيت رسطاليس الحكيم المشهور، والإسكندر الذي ملك الشرق والغرب، يعني أن ابن العميد قد جمع بين حكمة الفيلسوف وسعة ملك الإسكندر.
(5) البدر: جمع بدرة وهي الكيس فيه عشرة آلاف دينار. قرى: أضاف، والقرى: الضيافة. لسان العرب (بدر) و (قرى).
(6) بطليموس: هو الفلكي المشهور صاحب المجسطي. متبدّيا: في أخلاق البداوة. لسان العرب (بدى).
(7) ديوان المتنبي (ص 569).(1/143)
أخذه من قول الطائي يصف قصائده (1): [الطويل]
بقرب يراها من يراها بسمعه (2) ... ويدنو إليها ذو الحجا وهو شاسع
[نموذج في وصف الكتب]
كتاب كتب لي أمانا من الدّهر، وهنّاني في أيام العمر. كتاب أوجب من الاعتداد فوق الأعداد، وأودع بياض الوداد سواد الفؤاد. كتاب النظر فيه نعيم مقيم، والظفر به فتح عظيم. كتاب ارتحت لعيانه، واهتززت لعنوانه. كتاب هو من الكتب الميامين، التي تأتي من قبل اليمين. كتاب عددته من حجول العمر وغرره (3)، واعتددته من فرص العيش وغرره (4). كتاب هو أنفس طالع، وأكرم متطلّع، وأحسن واقع، وأجلّ متوقع. كتاب لو قرىء على الحجارة لانفجرت، أو على الكواكب لانتثرت. كتاب كدت أبليه طيّا ونشرا، وقبّلته ألفا، ويد حامله عشرا. كتاب نسيت لحسنه الرّوض والزّهر، وغفرت للزمان ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. كتاب أمليته هزّة المجد على بنانك، ونطق به لسان الفضل عن لسانك. أنا ألتقط من كلّ حرف تديره أنا ملك تحفة، وآخذ من كل سطر تتجشّم تخطيطه نزهة. إذا قرأت من خطك حرفا، وجدت على قلبي خفّا (5)، وإذا تأمّلت من كلامك لفظا، ازددت من أنسي حظّا. كتاب كتب لي أمانا من الزمان، وتوقيع وقع منّي موقع الماء من العطشان. كتاب هو تعلّة المسافر (6)، وأنسة المستوحش، وزبدة الوصال، وعقلة المستوفز (7). كتاب هو رقية القلب السليم (8)، وغرّة العيش البهيم (9)، كتاب هو سمر بلا سهر، وصفو بلا كدر. كتاب تمتّعت منه بالنعيم الأبيض، والعيش الأخضر، واستلمته استلام الحجر الأسود (10)، ووكلت طرفي من سطوره بوشي مهلّل، وتاج مكلّل، وأودعت
__________
(1) ديوان أبي تمام (ص 428) من قصيدة فخر.
(2) في الديوان: «بعزّ» بدل «بقرب».
(3) الحجول: جمع حجل وهو بياض في القوائم تجمّل به الخيول. الغرر: جمع غرّة وهي بياض في الجبهة. لسان العرب (حجل) و (غرر).
(4) الغرر: جمع غرّة وهي الغفلة والنزق، وقد يحلو في الشباب. لسان العرب (غرر).
(5) الخفّ والخفّة: الارتياح. لسان العرب (خفف).
(6) التّعلّة: ما يتعلّل به من طعام وغيره. لسان العرب (علل).
(7) المستوفز: المتهيء للوثوب. لسان العرب (وفز).
(8) السليم: الملدوغ. لسان العرب (سلم).
(9) البهيم: المظلم. لسان العرب (بهم).
(10) أي استلمه متيمنا، مشبّها نفسه بالحاج الذي يتقرّب إلى الله تعالى عندما يستلم الحجر الأسود يقال:
استلم الحجر الأسود إذا لمسه بالتقبيل أو باليد أو مسحه بالكفّ. لسان العرب (سلم).(1/144)
سمعي من محاسنه من أنساني سماع الأغاني من مطربات الغواني. نشأت سحابة من لفظك، غيمها نعمة سابغة، وغيثها حكمة بالغة، سقت روضة القلب، وقد أجهدتها يد الجدب فاهتزّت وربت، واكتست ما اكتسبت. كتاب حسبته ساقطا إليّ من السماء، اهتزازا لمطلعه، وابتهاجا بحسن موقعه، تناولته كما يتناول الكتاب المرقوم، وفضضته كما يفضّ الرّحيق (1) المختوم. كتاب كالمشتري شرف به المسير، وقميص يوسف جاء به البشير. كتاب هو من الحسن، روضة حزن، بل جنّة عدن، وفي شرح النفس وبسط الأنس برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب. قد أهديت إليّ محاسن الدنيا مجموعة في ورقه، ومباهج الحلى والحلل محصورة في طبقه. كتاب ألصقته بالقلب والكبد، وشممته شمّ الولد. ورد منك المسك ذكيا، والزهر جنيّا، والماء مريّا، والعيش هنيّا، والسحر بابليّا. كتاب مطلعه أهلّة الأعياد، وموقعه موقع نيل المراد. كتاب وجدته قصير العمر، كليالي الوصال بعد الهجر، لم أبدأ به حتى استكمل، وقارب الآخر منه الأوّل. كتاب منتقض الأطراف، منقطع الأكتاف، أبتر الجوارح، مضطرب الجوانح، كتاب كأنه توقيع متحرّز، أو تعريض متبرز (2). كاد يلتقي طرفاه، ويتقارب مفتتحه ومنتهاه. كتاب التقت طرفاه صغرا، واجتمعت حاشيتاه قصرا. ما أظنني ابتدأته حتى ختمته، ولا استفتحته حتى أتممته، ولا لمحته حتى استوفيته، ولا نشرته حتى طويته، وأحسبني لو لم أجوّد ضبطه، ولم ألزم يديّ حفظه، لطار حتى يختلط بالجوّ، فلا أرى منه إلّا هباء منثورا، وهواء منشورا. كتاب حسبته يطير من يدي لخفّته، ويلطف عن حسّي لقلّته، وعجبت كيف لم تحمله الرياح قبل وصوله إليّ، وكيف لم يختلط بالهواء عند وصوله لديّ. كتاب قصّ الاقتصار أجنحته، فلم يدع له قوادم ولا خوافي، وأخذ الاختصار جثّته، فلم يبق ألفاظا ولا معاني. طلع كتابك كإيماء بطرف، أو وحي بكفّ.
وقال أبو العباس عبد الله بن المعتز: استعرت من علي بن يحيى المنجم جزءا فيه أخبار معبد (3) بخط حماد بن إسحاق الموصلي، وكان وعدني به، فبعث إليّ بستّ ورقات لطاف، فرددتها وكتبت إليه: «إن كنت أردت بقولك جزءا الجزء الذي لا يتجزّأ فقد أصبت، وإن كنت أردت جزءا فيه فائدة للقارىء، ومتعة للسامع، فقد أحلت (4): وقد رددته عليك بعد أن طار اللّحظ عليه طيرة».
__________
(1) الرحيق: الخمر. لسان العرب (رحق).
(2) المتبرّز: العفيف. لسان العرب (برز).
(3) هو معبد المغنّي، وقد تقدمت ترجمته بقلمنا.
(4) أحال: تكلّم بالمحال. لسان العرب (حول).(1/145)
فأجابني: إذا كان السّفر عندك منجاة فما أصنع؟
[في محادثة الجليس]
وقال أبو العباس: دخل رجل على الحسن بن سهل بعد أن تأخّر عنه أياما، فقال:
ما ينقضي يوم من عمري لا أراك فيه إلّا علمت أنه مبتور القدر، منحوس الحظّ، مغبون الأيام.
فقال الحسن: هذا لأنّك توصل إليّ بحضورك سرورا لا أجده عند غيرك، وأتنسّم من أرواح عشرتك ما تجد الحواسّ به بغيتها، وتستوفي منه لذّتها، فنفسك تألف مني مثل ما آلفه منك.
وكان يقال: محادثة الرّجال تلقيح الألباب.
وقال ابن الرومي: [مجزوء الكامل]
ولقد سئمت مآربي ... فكأنّ أطيبها خبيث
إلّا الحديث فإنه ... مثل اسمه أبدا حديث
قال مخارق: لقيني أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم قبل نسكه، فقال: أنا والله صبّ بك، ولوع إليك، مغمور القلب بشكرك، واللسان بذكرك، متشوّف إلى رؤيتك ومفاوضتك، وقد طالت الأيام على ما أعد به نفسي من الاجتماع معك، ومن قضاء الوطر منك فما عندك؟ أنا الفداء لك! وتزورني أم أزورك؟
قلت: جعلني الله فداك! ما يكون عند من هو منك بهذا الموضع وفي هذا المحل إلّا الانقياد إلى أمرك، والسمع والطاعة لك، ولولا أن أسيء الأدب في أمر بدأت فيه بالفضل لقلت: إن كثير ما ابتدأت به من القول يقلّ فيما عندي من الشوق إليك، والشّغف بك، دون ما حرّك هذا القول مني، فوجبت لك به المنّة عليّ، وأنا بين يديك، فأثن عناني إلى ما أردت، وقدني كيف شئت، تجدني كما قال القائل: [البسيط]
ما تشتهيه فإني اليوم فاعله ... والقلب صبّ فما جشّمته جشما
وذكر سهل بن هارون رجلا، فقال: لم أر أحسن منه فهما لجليل، ولا تفهما لدقيق، أشار إليه أبو تمام فقال (1): [الوافر]
وكنت أعزّ عزّا من قنوع ... تعرّضه صفوح من ملول
__________
(1) لم يرد هذان البيتان في ديوان أبي تمام.(1/146)
فصرت أذلّ من معنى دقيق ... به فقر إلى ذهن جليل
وقال سعيد بن مسلم للمأمون: لو لم أشكر الله تعالى إلّا على حسن ما أبلاني من أمير المؤمنين من قصده إليّ بحديثه، وإشارته إليّ بطرفه لقد كان في ذلك أعظم الرّفعة، وأرفع ما توجبه الحرمة. فقال: يفعل أمير المؤمنين ذلك لأن أمير المؤمنين يجد عندك من حسن الإفهام إذا حدّثت وحسن الفهم إذا حدّثت ما لا يجده عند أحد ممن مضى، ولا يظنّ أنه يجده عند أحد ممن بقي، فإنك لتستقصي حديثي، وتقف عند مقاطع كلامي، وتخبر بما كنت أغفلته منه.
وقال المتوكل لأبي العيناء: ما تحسن؟ قال: أفهم وأفهم.
وقال بعض الحكماء لتلميذه، وقد ضرب الموسيقى: أفهمت؟ قال: نعم، قال: بل لم تفهم، لأني لا أرى عليك سرور الفهم! وقد قيل: من نظر إلى الربيع وأنواره، والروض وأصباغه، ولم يبتهج كان عديم حسّ، أو سقيم نفس.
ومرّ أبو تمام بأير شهر من أرض فارس، فسمع جارية تغنّي بالفارسية، فشاقه شجيّ الصوت، فقال (1): [الوافر]
ومسمعة تروق السمع حسنا (2) ... ولم تصممه، لا يصمم صداها!
لوت أوتارها فشجت وشاقت ... فلو يسطيع حاسدها فداها (3)
ولم أفهم معانيها، ولكن ... ورت كبدي فلم أجهل شداها (4)
فكنت كأنني أعمى معنّى ... يحبّ الغانيات ولا يراها (5)
قال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر: قلت لأبي تمام: أخذت هذا المعنى من أحد؟
قال: نعم، أخذته من قول بشار بن برد (6): [البسيط]
يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالو: بمن لا ترى تهذي؟ فقلت لهم: ... الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
__________
(1) ديوان أبي تمام (ص 416) من قصيدة غزل.
(2) رواية صدر البيت في الديوان هي: ومسمعة يحار السمع فيها
(3) رواية البيت في الديوان هي:
مرّت أوتارها فشفت وشاقت ... ولو يستطيع حاسدها فداها
(4) في الديوان: «شجاها» بدل «شداها».
(5) في الديوان: «فبتّ كأنني وما يراها».
(6) ديوان بشار بن برد (ص 226).(1/147)
وقال بشار أيضا في هذا المعنى (1): [البسيط]
قالت عقيل بن كعب إذ تعلّقها ... قلبي فأضحى به من حبّها أثر:
أنّى ولم ترها تهدي! فقلت لهم: ... إنّ الفؤاد يرى ما لا يرى البصر
وقال (2): [الطويل]
يزهّدني في حبّ عبدة معشر ... قلوبهم فيها مخالفة قلبي
فقلت: دعوا قلبي وما اختار وارتضى ... فبالقلب لا بالعين يبصر ذو اللّب
وما تبصر العينان في موضع الهوى (3) ... ولا تسمع الأذنان إلّا من القلب
وقد قال أبو يعقوب الخريمي في هذا المعنى، وكان قد أعور ثم عمي، وقيل: إنها للخليل بن أحمد: [الكامل].
قالت أتهزأ بي غداة لقيتها؟ ... يا للرجال لصبوة العميان
فأجبتها: نفسي فداؤك إنما ... أذني وعيني في الهوى سيّان
وقريب من هذا قول الحكم بن قنبر (4) إن لم يكن منه: [البسيط]
إن كنت لست معي فالذكر منك معي ... يرعاك قلبي وإن غيّبت عن بصري
العين تبصر من تهوى وتفقده ... وناظر القلب لا يخلو من النظر
وقال آخر: [الطويل]
أما والّذي لو شاء لم يخلق الهوى ... لئن غبت عن عيني فما غبت عن قلبي
ترينيك عين الوهم حتى كأنني ... أناجيك من قرب وإن لم تكن قربي
وقال أبو عثمان سعيد بن الحسن الناجم: [الطويل]
لئن كان عن عينيّ أحمد غائبا ... فما هو عن عين الضمير بغائب
له صورة في القلب لم يقصها النوى ... ولم تتخطّفها أكفّ النوائب
إذا ساءني منه شحوط مزاره ... وضاقت بقلبي في نواه مذاهبي (5)
__________
(1) ديوان بشار بن برد (ص 106).
(2) ديوان بشار بن برد (ص 34).
(3) في الديوان: «فما» بدل «وما».
(4) هو الحكم بن معمر بن قنبر الخضري شاعر متقدّم، هجّاء خبيث اللسان. توفي نحو 150هـ.
ترجمته في معجم الأدباء (ج 3ص 237) والشعر والشعراء (ص 639) والأعلام (ج 2ص 267).
(5) الشّحوط: البعد. لسان العرب (شحط).(1/148)
عطفت على شخص له غير نازح ... محلّته بين الحشا والتّرائب
وذكر أبو عبيدة كيسان مستمليه في بعض الأمر، فقال: ما فهم، ولو فهم لوهم.
وكان كيسان يوصف بالبلادة والغفلة.
قال الجاحظ: كان يكتب غير ما يسمع، ويستقني (1) غير ما يكتب، ويقرأ غير ما يستقني، ويملي غير ما يقرأ، أمليت عليه يوما: [مجزوء الوافر]
عجبت لمعشر عدلوا ... بمعتمر أبا عمر
فكتب أبا بشر، وقرأ أبا حفص، واستقنى أبا زيد.
قال أبو عباد: للمحدث على جليسه، السامع لحديثه، أن يجمع له باله، ويصغي إلى حديثه، ويكتم عليه سرّه، ويبسط له عذره.
وقال: ينبغي للمحدث إذا أنكر عين السامع أن يستفهمه عن معنى حديثه، فإن وجده قد أخلص له الاستماع أتمّ له الحديث، وإن كان لاهيا عنه حرمه حسن الإقبال عليه، ونفع المؤانسة له، وعرفه بسوء الاستماع والتقصير في حقّ المحدث.
وقال: نشاط المحدّث على قدر فهم المستمع.
وكان عبد الله بن مسعود (2) رضي الله عنه! يقول: حدّث الناس ما حدّجوك بأسماعهم (3)، ولحظوك بأبصارهم، فإذا رأيت منهم فتورا فأمسك.
وقال أبو الفتح البستي: [الوافر]
إذا أحسست في لفظي فتورا ... وحفظي والبلاغة والبيان
فلا ترتب بفهمي إنّ رقصي ... على مقدار إيقاع الزّمان
وقال عامر بن عبد قيس: الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان.
وقال الحسن وقد سمع متكلّما يعظ فلم تقع موعظته من قلبه ولم يرقّ لها: يا هذا، إن بقلبك لشرّا، أو بقلبي!
وقال محمد بن صبيح المعروف بابن السماك لجاريته: كيف ترين ما أعظ الناس به؟
__________
(1) استقنى: سوّد ويقال: استقنى إذا حفظ حياءه ولزمه. لسان العرب (قنا).
(2) عبد الله بن مسعود: صحابي، من أكابرهم فضلا وعقلا. أول من جهر بقراءة القرآن بمكة، وكان خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم. توفي سنة 32هـ. الأعلام (ج 4ص 137) ومصادر حاشيته.
(3) حدّجوك بأسماعهم: وجّهوها نحوك. لسان العرب (حدج).(1/149)
قالت: هو حسن، إلّا أنك تكرره، قال: إنما أكرّره ليفهمه من لم يكن فهمه، قالت: إلى أن يفهمه البطيء يثقل على سمع الذكي.
واستعيد ابن عباس حديثا فقال: لولا أني أخاف أن أغضّ من بهائه، وأريق من مائه، وأخلق من جدّه، لأعدته.
وقال أبو تمام الطائي يصف قصائده (1): [الوافر]
منزّهة عن السّرق المؤدّى (2) ... مكرّمة عن المعنى المعاد
أخذه البحتري فقال (3): [مجزوء الكامل]
لا يعمل اللفظ المك ... رّر فيه واللفظ المردّد (4)
والإطالة مملولة كما يملّ التكرير.
وقد قال الحسن بن سهل: الآداب عشرة فثلاثة شهر جانية، وثلاثة أنو شروانية، وثلاثة عربيّة، وواحدة أربت عليهن فأما الشهر جانية فضرب العود، ولعب الشطرنج، ولعب الصّوالج. وأما الأنوشروانية فالطّب، والهندسة، والفروسية. وأما العربية فالشّعر، والنّسب، وأيام الناس. وأما الواحدة التي أربت عليهنّ، فمقطعات الحديث، والسمر، وما يتلقّاه الناس بينهم في المجالس.
وكان يقال: خذ من العلوم نتفها، ومن الآداب طرفها.
وكان يقال: مقطّعات الأدب، قراضات الذهب.
وحضر بشار بن برد مجلسا فقال: لا تجعلوا مجلسنا غناء كلّه، ولا شعرا كله، ولا سمرا كله، ولكن انتهبوه انتهابا.
وقال الحسن رحمه الله: حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدّبور (5)، واقدعوا (6)
هذه الأنفس فإنها طلعة (7) وإنكم إلّا تزعوها (8) تنزع بكم إلى شرّ غاية.
__________
(1) ديوان أبي تمام (ص 74) من قصيدة مديح.
(2) في الديوان: «المورّى» بدل «المؤدّى». ومنزّهة: صفة لقصيدة المديح.
(3) ديوان البحتري (ج 2ص 175) من قصيدة مديح.
(4) في الديوان: «القول المكرّر فيه والرأي المردّد».
(5) سريعة الدّبور: سريعة الذهاب والزوال. لسان العرب (دبر).
(6) قدع: زجر. لسان العرب (قدع).
(7) النّفس الطّلعة: الشهيّة المتطلّعة. لسان العرب (طلع).
(8) وزع الشيء: كفّه ومنعه. لسان العرب (وزع).(1/150)
وقال أزدشير بن بابك: إن للأذهان كلالا، وللقلوب ملالا، ففرّقوا بين الحكمتين يكن ذلك استجماما.
ويروى في حكمة آل داود: لا ينبغي للعاقل أن يخلي نفسه من أربع عدّة لمعاده، وصلاح لمعاشه، وفكر يقف به على ما يصلحه من فساده، ولذة في غير محرّم يستعين به على الحالات الثلاث.
وما أحسن ما قال أبو الفتح بن كشاجم: [الرمل]
عجبي ممّن تناهت حاله ... وكفاه الله ذلّات الطلب
كيف لا يقسم شطري عمره ... بين حالين نعيم وأدب؟
ساعة يمتع فيها نفسه ... من غذاء وشراب منتخب
ودنوّ من دمى هنّ له ... حين يشتاق إلى اللّعب لعب
فإذا ما نال من ذا حظّه ... فحديث ونشيد وكتب
مرّة جدّ، وأخرى راحة ... فإذا ما غسق الليل انتصب
فقضى الدنيا نهارا حقّها ... وقضى لله ليلا ما وجب
تلك أقسام متى يعمل بها ... دهره يسعد ويرشد ويصب
وقال أبو العباس محمد بن يزيد: قسّم كسرى أيامه فقال: يصلح يوم الريح للنوم، ويوم الغيم للصيد، ويوم المطر للشرب واللهو، ويوم الشمس لقضاء الحوائج.
قال الحسين ابن خالويه (1): ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ولكن نبيّنا، صلى الله عليه وسلم، قد جزّأ نهاره ثلاثة أجزاء:
جزء لله، وجزء لأهله، وجزء لنفسه، ثم جزء جزأه بينه وبين الناس فكان يستعين بالخاصّة على العامة، وكان يقول: أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي فإنه من أبلغ [ذا سلطان] حاجة من لا يستطيع إبلاغها آمنه الله تعالى يوم الفزع الأكبر.
[رجع إلى البلاغة]
وقال شبيب بن شيبة (2): إن ابتليت بمقام لا بدّ لك فيه من الإطالة فقدّم إحكام
__________
(1) في الأصل: «الحسن» وقد صوّبناه عن كتب التراجم، وهو أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه، النحوي اللغوي، المتوفّى سنة 370هـ. ترجمته وفيات الأعيان (ج 2ص 178) والفهرست (ص 92) ويتيمة الدهر (ج 1ص 107) ومعجم الأدباء (ج 3ص 99) وبغية الوعاة (ص 231).
(2) هو شبيب بن شيبة بن عبد الله التميمي المنقزي، أديب الملوك وجليس الفقراء، من مشاهير الخطباء،(1/151)
البلوغ في طلب السلامة من الخطل، قبل التقدّم من إحكام البلوغ في شرف التّجويد ثم إياك أن تعدل بالسلامة شيئا، فقليل كاف خير لك من كثير غير شاف.
وكان جعفر بن يحيى يقول لكتابه: إن استطعتم أن يكون كلامكم كلّه مثل التوقيع فافعلوا.
وقال ثمامة بن أشرس: لم أر قط أنطق من جعفر بن يحيى بن خالد، وكان صاحب إيجاز.
وكان أبو وائلة إياس بن معاوية على تقدّمه في البلاغة، وفضل عقله وعلمه بالإكثار معيبا، وإلى التطويل منسوبا، وقال له عبد الله بن شبرمة: أنا وأنت لا نتفق، أنت لا تشتهي أن تسكت، وأنا لا أشتهي أن أسمع. وقيل له: ما فيك عيب إلّا كثرة كلامك.
قال: أفتسمعون صوابا أم خطأ؟ قالوا: بل صوابا، قال: فالزيادة في الخير خير.
قال الجاحظ: وليس كما قال، بل للكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية، وما فضل عن مقدار الاحتمال، ودعا إلى الاستثقال والكلال فذلك هو الفضال (1) والهذر والخطل والإسهاب الذي سمعت الخطباء يعيبونه.
وذكر الأصمعي أن ابن هبيرة لمّا أراد إياسا على القضاء قال: إني والله لا أصلح له، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنّي دميم حديد، ولأني عييّ، قال ابن هبيرة: أما الحدّة فإن السّوط يقوّمك وأما العيّ فقد عبّرت عما تريد وأما الله الدّمامة فإني لا أريد أن أحاس بك.
ولم يصفه أحد بالعيّ، وإنما كان يعاب بالإكثار، ولكنه أراد المدافعة عن نفسه والحديث ذو شجون (2).
قال أبو العيناء، ذكرت لبعض القيان فعشقني على السماع، فلمّا رأتني استقبحتني، فقلت: [الطويل]
وشاطرة لمّا رأتني تنكّرت ... وقالت: قبيح أحول ما له جسم
__________
توفي نحو 170هـ. وفيات الأعيان (ج 2ص 458) والبيان والتبيين (ج 1ص 47) والأعلام (ج 3 ص 156).
(1) الفضال: المبتذل من قول وغيره. لسان العرب (فضل).
(2) الحديث ذو شجون: ذو فنون وأغراض، وهو م ثل يضرب في الحديث يتذكّر به غيره. مجمع الأمثال (ج 1ص 197، رقم المثل 1044).(1/152)
فإن تنكري مني احولالا فإنني ... أديب أريب لا عييّ ولا فدم (1)
[فاتصل بها الشعر]، فكتبت إلي: إنّا لم نرد أن نولّيك ديوان الزمام!
وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كتب إلى عدي بن أرطاة (2): إن قبلك رجلين من مزينة يعني بكر بن عبد الله، وإياس بن معاوية (3) فولّ أحدهما قضاء البصرة فأحضرهما، فقال بكر: والله ما أحسن القضاء فإن كنت صادقا فما تحلّ توليتي، وإن كنت كاذبا فذلك أوجب لتركي، فقال إياس: إنكم وقفتموه على شفير جهنّم، فافتدى منها بيمين يكفرها، ويستغفر الله تعالى منها، فقال له عديّ: أما إذا اهتديت لها فأنت أحقّ بها، فولّاه.
ودخل إياس الشام وهو غلام صغير، فقدّم خصما له إلى بعض القضاة، وكان الخصم شيخا، فصال عليه إياس بالكلام، فقال له القاضي: خفّض عليك، فإنه شيخ كبير، قال: الحقّ أكبر منه، قال: اسكت! قال: فمن ينطق بحجّتي؟ قال: ما أراك تقول حقا، قال: لا إله إلّا الله! فدخل القاضي على عبد الملك فأخبره فقال: اقض حاجته الساعة وأخرجه من الشام لا يفسد أهلها!
وقال أحمد بن الطيب السّرخسي (4) تلميذ يعقوب بن إسحاق الكندي (5): كنت يوما عند العباس بن خالد، وكان ممن حبّب الله إليه أن يتحدّث، فأخذ يحدّثني، ويتنقل من حديث إلى حديث، وكنّا في صحن له، فلمّا بلغتنا الشمس انتقلنا إلى موضع آخر، حتى صار الظلّ فيئا فلمّا أكثر وأضجر، ومللت حسن الأدب في حسن الاستماع، وذكرت قول الأوزاعي: إن حسن الاستماع قوة للمحدث، قلت له: إذا كنت وأنا أسمع قد عييت ممّا لا كلفة عليّ فيه، فكيف أراك وأنت المتكلم؟ فقال: إنّ الكلام يحلّل الفضول اللّزجة
__________
(1) الفدم: العيّ عن الكلام. لسان العرب (فدم).
(2) عدي بن أرطأة: أمير من أهل دمشق، ولّاه عمر بن عبد العزيز على البصرة سنة 99هـ، فاستمرّ إلى أن قتله معاوية بن يزيد بن المهلب سنة 102هـ. الأعلام (ج 4ص 219).
(3) إياس بن معاوية: قاضي البصرة، يضرب المثل بذكائه، ويعرف بالقاضي إياس. توفي سنة 122هـ.
وفيات الأعيان (ج 1ص 247) والأعلام (ج 2ص 33).
(4) هو أحمد بن محمد بن مروان بن الطيب السرخسي فيلسوف غزير العلم بالتاريخ والسياسة والأدب والفنون. توفي سنة 286هـ. معجم الأدباء (ج 1ص 391) والأعلام (ج 1ص 205).
(5) يعقوب بن إسحاق الكندي: فيلسوف العرب والإسلام في عصره، وأحد أبناء الملوك من كندة من أعرف الناس بالطب والفلسفة والموسيقى والهندسة والفلك، توفي سنة 260هـ. ترجمته في عيون الأنباء (ص 285) ومعجم الشعراء (ص 507) والأعلام (ج 8ص 195)(1/153)
الغليظة التي تعرض في اللهوات وأصل اللسان ومنابت الأسنان، فوثبت وقلت: لا أراني معك اليوم إلّا «إيارج الفيقرا» فأنت تتغرغربي! فاجتهد في أن أجلس فلم أفعل.
قال أحمد بن الطيب: كنا مرّة عند بعض إخواننا، فتكلّم وأعجبه من نفسه البيان، ومنّا حسن الاستماع، حتى أفرط، فعرض لبعض من حضر ملل، فقال: إذا بارك الله في الشيء لم يفن، وقد جعل الله تعالى في حديث أخينا البركة!
ولعبد الله بن سالم الخياط في رجل كثير الكلام: [المنسرح]
لي صاحب في حديثه البركة ... يزيد عند السكون والحركة
لو قال لا في قليل أحرفها ... لردّها بالحروف مشتبكه
ومن طرائف التطويل ما أنشأه البديع، وسيمرّ من كلامه ما هو آنق من زهر الربيع.
[في الظرف والملح والمزاح]
قال الأصمعي: بالعلم وصلنا، وبالملح نلنا، وقال الأصمعي أيضا: أنشدت محمد بن عمران قاضي المدينة، وكان أعقل من رأيته: [السريع]
يا أيّها السائل عن منزلي ... نزلت في الخان على نفسي
يغدو عليّ الخبز من خابز ... لا يقبل الرّهن ولا ينسي (1)
آكل من كيسي ومن كسرتي ... حتى لقد أوجعني ضرسي
فقال: اكتب لي هذه الأبيات، فقلت: أصلحك الله! هذا لا يشبه مثلك، وإنما يروي مثل هذا الأحداث فقال: اكتبها فالأشراف تعجبهم الملح.
وقد قال أبو الدّرداء رحمه الله تعالى: إني لأستجمّ نفسي ببعض الباطل، ليكون أقوى لها على الحقّ.
[وقال ابن مسعود رحمه الله: القلوب تملّ كما تملّ الأبدان، فاطلبوا لها طرائف الحكمة].
وقال ابن الماجشون: لقد كنّا بالمدينة وإن الرجل ليحدّثني بالحديث من الفقه فيمليه عليّ، ويذكر الخبر من الملح فأستعيده فلا يفعل، ويقول: لا أعطيك ملحي، وأهبك ظرفي وأدبي.
__________
(1) أصل القول: «ينسىء»، وقد حذف الهمزة للضرورة الشعرية، وهو من النسيئة أي التأخير. لسان العرب (نسأ).(1/154)
وقال ابن الماجشون: إني لأسمع بالكلمة المليحة وما لي إلّا قميص واحد فأدفعه إلى صاحبها، وأستكسي الله عزّ وجلّ.
وقال الزبير بن بكار (1): رؤي الغاضريّ ينازع أشعب الطمع عند بعض الولاة، ويقول: أصلح الله الأمير! إنّ هذا يدخل عليّ في صناعتي، ويطلب مشاركتي في بضاعتي، وهيأته هيأة قاض، والأمير يضحك، وكانا جميعا فرسي رهان ورضيعي لبان في بيانهما إلّا أنّ الغاضري [كان] لا يتخلّق بالطّمع تخلّق أشعب.
وأتى الغاضريّ يوما الحسن بن زيد فقال: جعلت فداك! إني عصيت الله ورسوله، قال: بئس ما صنعت! وكيف ذلك؟ قال: لأنّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: لا يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة، وأنا أطعت امرأتي، فاشتريت غلاما فهرب.
قال الحسن: فاختر واحدة من ثلاث: إن شئت فثمن الغلام، قال: بأبي أنت! قف عند هذه ولا تتجاوزها! قال: أعرض عليك الخصلتين، قال: لا، حسبي هذه.
وقد روي نحو هذا عن أشعب، أنه قال له بعض إخوانه: لو صرت إليّ العشيّة نتفرج؟ قال: أخاف أن يجيء ثقيل، قلت: ليس معنا ثالث، فمضى معي، فلمّا صلّينا الظهر ودعوت بالطعام، فإذا بداقّ يدقّ الباب، قال: ترى أن قد صرنا إلى ما نكره، قلت له: إنه صديق، وفيه عشر خصال إن كرهت واحدة منهن لم آذن له، قال: هات، قلت:
أولها أنه لا يأكل ولا يشرب، فقال: التسع لك! قل له يدخل!
ورأى سفيان الثّوري (2) الغاضريّ وهو يضحك الناس فقال: يا شيخ، أو ما علمت أنّ لله يوما يخسر فيه المبطلون؟ فوجم الغاضري، وما زال ذاك يعرف فيه حتى لقي الله عزّ وجلّ.
وأشعب الطّمع هو أشعب بن جبير، مولى عبد الله بن الزبير، وكان أحلى الناس، قال الزبير بن أبي بكر: كان أهل المدينة يقولون: تغيّر كلّ شيء إلّا ملح أشعب، وخبز أبي الغيث، ومشية برّة وكان أبو الغيث يعالج الخبز بالمدينة، وبرّة بنت سعيد بن الأسود كانت من أجمل النساء وأحسنهنّ مشية، وأشعب يضرب به المثل في الطّمع، وكان أشعب
__________
(1) الزبير بن بكار: راوية عالم بالأنساب وأخبار العرب، ولي قضاء مكة فتوفي بها سنة 256هـ.
ترجمته في وفيات الأعيان (ج 2ص 311) وتاريخ بغداد (ج 8ص 467).
(2) هو سفيان بن سعيد الثوري إمام في علم الحديث وغيره من العلوم. توفي سنة 161هـ. وفيات الأعيان (ج 2ص 386) والفهرست (ص 226) وتاريخ بغداد (ج 9ص 151).(1/155)
قد نشأ في حجر عائشة بنت عثمان رحمها الله! مع أبي الزناد (1)، قال أشعب: فلم يزل يعلو وأنحطّ حتى بلغنا الغاية.
وقال أشعب: أسلمتني أمي إلى بزّاز، فسألتني بعد سنة، أين بلغت؟ فقلت: في نصف العمل، قالت: وكيف؟ قلت: تعلمت النّشر وبقي الطّيّ، قالت: أنت لا تفلح.
وسألته صديقة له خاتما، فقالت: أذكرك به، قال: اذكري أنك سألتني ومنعتك!
وقيل له: كم كان أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم بدر؟ قال: ثلثمائة عشر درهما! ثم تنسّك في آخر عمره، وغزا ومات على خير، رحمه الله تعالى!
وقيل لأشعب: أرأيت أطمع منك؟ قال: نعم، كلبة آل فلان، رأت رجلين يمضغان علكا (2)، فتبعتهما فرسخين تظنّ أنهما يأكلان شيئا.
وأهدى رجل من ولد عامر بن لؤي إلى إسماعيل الأعرج قالوذجة وأشعب حاضر، فقال: كل يا أشعب، فأكل منها فقال: كيف تراها؟ فقال: عليه الطلاق إن لم تكن عملت قبل أن يوحي ربّك إلى النّحل! أي: ليس فيها حلاوة.
وروى أبو هفان قال: دخل أبو نواس الحسن بن هانىء على يحيي بن خالد فقال له: أنشدني بعض ما قلت، فأنشده: [الكامل]
إني أنا الرجل الحكيم بطبعه ... ويزيد في علمي حكاية من حكى
أتتبّع الظّرفاء أكتب عنهم ... كيما أحدّث من أحبّ فيضحكا
فقال له يحيى [بن خالد]: إن [أول] زندك ليوري بأوّل قدحة، فقال ارتجالا في معنى قول يحيى: [الكامل]
أما وزند أبي عليّ إنه ... زند إذا استوريت سهّل قد حكا
إنّ الإله لعلمه بعباده ... قد صاغ جدّك للسماح ومنحكا
تأبى الصنائع همّتي وقريحتي ... من أهلها وتعاف إلّا مدحكا
ووصف أبو عبد الله الجماز أبا نواس فقال: كان أظرف النّاس منطقا، وأغزرهم أدبا، وأقدرهم على الكلام، وأسرعهم جوابا، وأكثرهم حياء، وكان أبيض اللّون، جميل
__________
(1) أبو الزناد: هو عبد الله بن ذكوان القرشي، من كبار المحدثين، توفي سنة 131هـ. الأعلام (ج 4 ص 85) ومصادر حاشيته.
(2) العلك: كل صمغ يعلك من لبان وغيره فلا يسيل، والجمع علوك وأعلاك. محيط المحيط (علك).(1/156)
الوجه، مليح النغمة والإشارة، ملتفّ الأعضاء، بين الطويل والقصير، مسنون الوجه (1)، قائم الأنف، حسن العينين والمضحك (2)، حلو الصّورة، لطيف الكفّ والأطراف وكان فصيح اللسان، جيّد البيان، عذب الألفاظ، حلو الشمائل، كثير النوادر، وأعلم الناس كيف تكلمت العرب، راوية للأشعار، علّامة بالأخبار، كأن كلامه شعر موزون.
وأقبل أبو شراعة العبسي، والجمّاز في حديثه، وكان أقبح الناس وجها، وكانت يد أبي شراعة كأنها كربة نخل (3) فقال الجماز: فلو كانت أطرافه على أبي شراعة لتمّ حسنه فغضب أبو شراعة وانصرف يشتمه.
والجماز هو: أبو عبد الله محمد بن عمرو بن حماد بن عطاء بن ياسر، وكانوا يزعمون أنهم من حمير، نالهم سباء في خلافة أبي بكر، رضي الله عنه، وهم مواليه، وسلم الخاسر (4) عمّه، وكان الجماز من أحلى الناس حكاية، وأكثرهم نادرة.
قال بعض جلساء المتوكّل: كنّا نكثر عند المتوكل ذكر الجماز حتى اشتاقه، فكتب في حمله إليه، فلما دخل أفحم، فقال له المتوكل: تكلّم فإنّي أريد أن أستبرئك، فقال:
بحيضة أو بحيضتين يا أمير المؤمنين؟ فقال له الفتح (5): قد كلّمت أمير المؤمنين يولّيك على القرود والكلاب! قال: أفلست سامعا مطيعا؟ فضحك المتوكل وأمر له بعشرة آلاف درهم.
وكان لا يدخل بيته أكثر من ثلاثة لضيقه فدعا ثلاثة، فجاءه ستّة، وقرعوا الباب، ووقفوا على رجل رجل فعدّ أرجلهم من خلف الباب فلّما حصلوا عنده، قال: اخرجوا عني، فإنما دعوت ناسا ولم أدع كراكيّ.
__________
(1) المسنون: المخروط. لسان العرب (سنن).
(2) المضحك: الفم. لسان العرب (ضحك).
(3) الكربة، بفتح الكاف والراء والباء جميعا: أصل السعفة. لسان العرب (كرب).
(4) هو سلم بن عمرو، سمّي بالخاسر لأنه باع مصحفا واشترى بثمنه طنبورا، وكان من الشعراء المجيدين الماجنين. توفي سنة 186هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 2ص 350) واسمه فيه «سالم»، وتاريخ بغداد (ج 9ص 136) والأغاني (ج 19ص 276) ومعجم الأدباء (ج 3ص 388) والأعلام (ج 3ص 110).
(5) هو الفتح بن خاقان، وزير المتوكل شاعر فصيح، استوزره المتوكل وأمّره على الشام. قتل هو والمتوكل في مجلس أنس سنة 247هـ. ترجمته في معجم الشعراء (ص 318) وفوات الوفيات (ج 3ص 177) ومعجم الأدباء (ج 4ص 538) والفهرست (ص 116) ومروج الذهب (ج 4 ص 16، 3837) والأعلام (ج 5ص 133).(1/157)
وقال الطائي في عمرو بن طوق التغلبي (1): [الكامل]
الجدّ شيمته، وفيه فكاهة ... سجح ولا جدّ لمن لم يلعب (2)
شرس، ويتبع ذاك لين خليقة ... لا خير في الصّهباء ما لم تقطب (3)
وقال في الحسن بن وهب (4): [الكامل]
لله أيام خطبنا لينها ... في ظلّه بالخندريس السّلسل (5)
بمدامة نغم السماع خفيرها ... لا خير في المعلول غير معلّل (6)
يخشى عليها وهو يجلو مقلتي (7) ... باز، ويغفل وهو غير مغفّل
لا طائش تهفو خلائقه، ولا ... خشن الوقار كأنّه في محفل
فكه يجمّ الجدّ أحيانا، وقد (8) ... ينضى ويهزل عيش من لم يهزل
وقال فيه (9): [الكامل]
ولقد رأيتك والكلام لآلىء ... تؤم فبكر في النّظام وثيّب (10)
وكأن قسّا في عكاظ يخطب ... وابن المقفّع في اليتيمة يسهب (11)
وكأنّ ليلى الأخيلية تندب ... وكثير عزّة يوم بين ينسب (12)
__________
(1) ديوان أبي تمام (ص 19) وفيه: «عمر» بدل «عمرو».
(2) في الديوان: «المجد شيمته سمح ولا جدّ». والسجح: السهل. لسان العرب (سجح).
(3) تقطب: تمزج. لسان العرب (قطب).
(4) ديوان أبي تمام (ص 207).
(5) الخندريس: الخمر القديمة. محيط المحيط (خندرس).
(6) الخفير: المحافظ. المعلول: المريض. المعلّل: الذي يسقى مرة بعد أخرى. لسان العرب (خفر) و (علل).
(7) في الديوان: «يعشو إليها» بدل «يغشى عليها».
(8) يجمّ: من جمّ المكيال إذا ملأه. لسان العرب (جمم).
(9) ديوان أبي تمام (ص 40).
(10) التّؤم: التوأم، أي إنها تشبه اللآلئ. والثّيّب: المرأة فارقت زوجها. لسان العرب (تأم) و (ثيب).
(11) رواية البيت في الديوان هي:
فكأنّ قسّا في عكاظ يخطب ... وكأنّ ليلى الأخيلية تندب
واليتيمة: اسم كتاب لابن المقفع.
(12) رواية البيت في الديوان هي:
وكثير عزّة بوم بين ينسب ... وابن المقفع في اليتيمة يسهب(1/158)
يكسو الوقار ويستخفّ موقرا ... طورا فيبكي سامعيه ويطرب (1)
وقال أبو الفتح البستي: [الطويل]
أفد طبعك المكدود بالهمّ راحة ... براح، وعلّله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بمقدار ما نعطي الطعام من الملح
وما زال الأشراف يمزحون، ويسمحون بما لا يقدح في أديانهم، ولا يغضّ في مروءاتهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت بالحنيفية السّمحة.
وقال: إني لأمزح ولا أقول إلّا حقّا.
وقيل لسعيد بن المسيّب (2): إنّ قوما من أهل العراق لا يرون إنشاد الشعر، فقال:
لقد نسكوا نسكا أعجميّا.
وقيل لابن سيرين (3): إنّ قوما يزعمون أن إنشاد الشعر ينقض الوضوء، فأنشد:
[الطويل]
لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزا (4) ولو رضيت رشح استه لاستقرّت
وقام يصلّي! وقيل: بل أنشد: [البسيط]
أنبئت أنّ عجوزا جئت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصّوم في الطّول
[ما قيل في النسيب والغزل]
وقيل لأبي السائب المخزومي: أترى أحدا لا يشتهي النسيب؟ فقال: أما من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا.
__________
(1) رواية البيت في الديوان هي:
تكسو الوقار وتستخفّ موقرا ... طورا وتبكي السامعين وتطرب
(2) سعيد بن المسيّب: أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع. توفي سنة 94هـ. الأعلام (ج 3ص 102) ومصادر حاشيته.
(3) هو محمد بن سيرين البصري إمام وقته في علوم الدين بالبصرة، تابعي، من أشراف الكتّاب. توفي سنة 110هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 4ص 181) وتاريخ بغداد (ج 5ص 331) والوافي بالوفيات (ج 3ص 146) وشذرات الذهب (ج 1ص 138) والأعلام (ج 6ص 154).
(4) العرس، بكسر العين وسكون الراء: الزوجة. لسان العرب (عرس).(1/159)
وروى مصعب بن عبد الله الزبيري (1) عن عروة بن عبيد الله بن عروة الزبيري قال:
كان عروة بن أذينة (2) نازلا في دار أبي بالعقيق، فسمعته ينشد لنفسه (3): [الكامل]
إنّ التي زعمت فؤادك ملّها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها (4)
فيك الذي زعمت بها، وكلا كما ... أبدى لصاحبه الصبّابة كلّها (5)
ولعمرها لو كان حبّك فوقها ... يوما وقد ضحيت إذن لأظلّها (6)
فإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الضمير إلى الفؤاد فسلّها (7)
بيضاء باكرها النّعيم فصاغها ... بلباقة فأدقّها وأجلّها (8)
لمّا عرضت مسلّما، لي حاجة ... أخشى صعوبتها، وأرجو ذلّها (9)
منعت تحيّتها فقلت لصاحبي: ... ما كان أكثرها لنا وأقلّها
فدنا وقال: لعلّها معذورة ... في بعض رقبتها، فقلت: لعلّها (10)
قال: فأتاني أبو السائب المخزومي فقلت له بعد التّرحيب به: ألك حاجة؟ فقال:
نعم، أبيات لعروة بلغني أنك سمعته ينشدها، فأنشدته الأبيات، فلمّا بلغت قوله:
* فدنا وقال لعلّها معذورة البيت *
__________
(1) هو مصعب بن عبد الله بن مصعب ابن الزبير، علّامة بالأنساب، غزير المعرفة بالتاريخ، ثقة في الحديث، وشاعر. توفي ببغداد سنة 236هـ. معجم الشعراء (ص 402) وتاريخ بغداد (ج 13 ص 112) والأعلام (ج 7ص 248).
(2) هو عروة بن يحيى ابن حارث الليثي شاعر غزل، ومن الفقهاء والمحدثين. توفي نحو 130هـ.
الشعر والشعراء (ص 483) وفوات الوفيات (ج 2ص 451) والمؤتلف والمختلف (ص 54) والأغاني (ج 18ص 330).
(3) الأبيات في الأغاني (ج 18ص 339).
(4) رواية عجز البيت في الأغاني هي: جعلت هواك كما جعلت هوى لها
(5) في الأغاني: «فبك الذي يبدي لصاحبه».
(6) ضحيت: تأذّت من الشمس. لسان العرب (ضحى).
(7) في الأغاني: «وإذا وجدت شفع الفؤاد».
(8) أدقّها وأجلّها: جعلها دقيقة الخصر، جليلة الرّدف المتثاقل.
(9) رواية عجز البيت في الأغاني هي: أرجو معونتها وأخشى دلّها.
(10) الرّقبة، بكسر الراء وسكون القاف: الحذر والخوف. لسان العرب (رقب).(1/160)
طرب، وقال: هذا والله الدائم الصبّابة، الصادق العهد، لا الذي يقول (1):
[الكامل]
إن كان أهلك يمنعونك رغبة ... عنّي فأهلي بي أضنّ وأرغب
لقد عدا هذا الأعرابي طوره، وإني لأرجو أن يغفر [الله] لصاحب هذه الأبيات لحسن الظنّ بها، وطلب العذر لها قال: فعرضت عليه الطعام فقال: لا والله ما كنت لأخلط بهذه الأبيات طعاما حتى الليل، وانصرف.
وكان أبو السائب غزير الأدب، كثير الطّرب، وله فكاهات مذكورة، وأخبار مشهورة، وكان جدّه يكنى أبا السائب أيضا، وكان خليطا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم، إذا ذكره قال: نعم الخليط! كان أبو السائب لا يشاري ولا يماري (2).
واسم أبي السائب عبد الله، وكان أشراف أهل المدينة يستظرفونه ويقدمونه لشرف منصبه، وحلاوة ظرفه.
وكان عروة بن أذينة على زهده، وورعه، وكثرة علمه وفهمه رقيق الغزل كثيره، وهو القائل (3): [البسيط]
إذا وجدت أوار الحبّ في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم أبترد (4)
هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقد؟ (5)
وقد روي هذان البيتان لغيره.
ومرّت به سكينة بنت الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم! فقالت له:
أنت الذي تزعم أنّك غير عاشق، وأنت تقول: [البسيط]
قالت وأبثثتها سرّي فبحت به (6) ... قد كنت عندي تحبّ السّتر فاستتر
ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها ... غطّي هواك وما ألقى على بصري
__________
(1) الأغاني (ج 18ص 340).
(2) المشاراة والمماراة: العنف في المجادلة يقال: شاراه مشاراة إذا بايعه ولاجّه. محيط المحيط (شرى) و (مرى).
(3) البيتان في الشعر والشعراء (ص 484) والأغاني (ج 18ص 339).
(4) في المصدرين السابقين: «عمدت» بدل «أقبلت».
(5) في الشعر والشعراء: «هذا» بدل «هبني». وفي الأغاني: «لحرّ» بدل «لنار».
(6) في الشعر والشعراء (ص 483) والأغاني (ج 18ص 338): «وجدي» بدل «سرّي».(1/161)
والله ما خرج هذا من قلب سليم.
وروى الزّبير عن رجل لم يسمّه، قال: قال لي أبو السائب: أنشدني للأحوص (1)
فأنشدته (2): [الكامل]
قالت وقلت: تحرّحي وصلي ... حبل امرىء بوصالكم صبّ:
صاحب إذن بعلي؟ فقلت لها: ... الغدر شيء ليس من ضربي
شيئان لا أدنو لوصلهما (3) ... عرس الخليل وجارة الجنب
أمّا الخليل فلست فاجعه ... والجار أوصاني به ربّي
عوجا كذا نذكر لغانية (4) ... بعض الحديث مطيّكم صحبي
ونقل لها: فيم الصّدود ولم ... نذنب، بل أنت بدأت بالذّنب؟
إن تقبلي نقبل وننزلكم ... منّا بدار السّهل والرّحب
أو تهجري نكدر معيشتنا (5) ... وتصدّعي متلائم الشّعب
فقال: هذا والله المحبّ حقا، لا الذي يقول: [الوافر]
وكنت إذا حبيب رام هجري ... وجدت وراي منفسحا عريضا
ثم قال (6): اذهب، فلا صحبك الله، ولا وسّع عليك!
وخرج أبو حازم يوما يرمي الجمار، فإذا هو بامرأة حاسر (7) قد فتنت الناس بحسن وجهها، وألهتهم بجمالها، فقال لها: يا هذه، إنك بمشعر حرام، وقد فتنت الناس وشغلتهم عن مناسكهم، فاتقي الله واستتري فإنّ الله، عزّ وجلّ، يقول في كتابه العزيز:
{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى ََ جُيُوبِهِنَّ} (8) فقالت: إني من اللاتي قيل فيهنّ: [الطويل] أماطت كساء الخزّ عن حرّ وجهها ... وأرخت على المتنين بردا مهلهلا
__________
(1) هو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عاصم، لقّب بالأحوص لحوص كان في عينيه. شاعر هجّاء رقيق النسب، توفي سنة 105هـ. الأغاني (ج 4ص 224) والشعر والشعراء (ص 424) والمؤتلف والمختلف (ص 48) وطبقات الشعراء لابن سلام (ص 186).
(2) بعض هذه الأبيات في الأغاني (ج 4ص 261).
(3) في الأغاني: «ثنتان» بدل «شيئان».
(4) في الأغاني: «عوجوا كذا تذكر».
(5) في الأغاني: «تدبري» بدل «تهجري».
(6) القول لصاحب البيت الأخير: «وكنت عريضا».
(7) الحاسر: المرأة التي حسرت خمارها عن وجهها، والجمع الحواسر. محيط المحيط (حسر).
(8) سورة النور 24، الآية 31.(1/162)
من الّلاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفّلا
الشعر للحارث بن خالد المخزومي، فقال أبو حازم لأصحابه: تعالوا ندع الله لهذه الصورة الحسنة ألّا يعذبها الله تعالى بالنار! فجعل أبو حازم يدعو وأصحابه يؤمّنون، فبلغ ذلك الشعبي، فقال: ما أرقّكم يا أهل الحجاز وأظرفكم! أما والله لو كان من قرى العراق لقال اعزبي عليك لعنة الله!
وكان أبو حازم من فضلاء التابعين، وله مقامات جميلة من الملوك، وكلام محفوظ يدلّ على فضله وعقله، وهو القائل: كل عمل تكره من أجله الموت فاتركه، ولا يضرك متى متّ. وكان يقول: ما أحببت أن يكون معك غدا فقدّمه اليوم. وكان يقول: إنما بيني وبين الملوك يوم واحد، أما أمس فلا يجدون لذّته، وأنا وإياهم من غد على وجل وإنما هو اليوم، فما عسى أن يكون اليوم؟
وقال أبو العتاهية (1): [البسيط]
حتى متى نحن في الأيام نحسبها ... وإنما نحن فيها بين يومين
يوم تولّى، ويوم نحن نأمله ... لعلّه أجلب اليومين للحين (2)
وروى الزبير بن أبي بكر قال: قدمت امرأة من هذيل المدينة، وكانت جميلة، ومعها ابن لها صغير، وهي أيّم (3)، فخطبها الناس وأكثروا، فقال فيها عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود (4): [الطويل]
أحبّك حبّا لا يحبّك مثله ... قريب ولا في العالمين بعيد
أحبّك حبّا لو علمت ببعضه ... لجدت ولم يصعب عليك شديد
وحبّك يا أمّ العلاء متيّمي ... شهيدي أبو بكر فذاك شهيد (5)
__________
(1) ديوان أبي العتاهية (ص 272). وقد ورد البيتان في المقتبس لابن حيان (ج 5ص 32) منسوبين إلى ابن مسرّة الأندلسي. وانظر أيضا كتابنا: مدخل إلى الأدب الأندلسي (ص 129).
(2) الحين، بفتح الحاء وسكون الياء: الهلاك. لسان العرب (حين).
(3) الأيّم: المرأة التي لا زوج لها. محيط المحيط (أيم).
(4) عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي مفتي المدينة وأحد الفقهاء السبعة فيها، وله شعر جيد.
توفي بالمدينة سنة 98هـ. وفيات الأعيان (ج 3ص 115) والأغاني (ج 9ص 162) وشذرات الذهب (ج 1ص 114) والأعلام (ج 4ص 195). والأبيات في الأغاني (ج 9ص 173) عدا البيت الأول.
(5) في الأغاني: «وحبك يا أمّ الصبيّ مدلّهي وأيّ شهيد»، وهكذا يكون في البيت إقواء.(1/163)
ويعلم وجدي القاسم بن محمد ... وعروة ما ألقى بكم وسعيد
ويعلم ما أخفي سليمان كلّه (1) ... وخارجة يبدي لنا ويعيد
متى تسألي عما أقول فتخبري ... فللحبّ عندي طارف وتليد
فقال له سعيد بن المسيّب: قد أمن أن تسألنا، ولو سألتنا ما شهدنا لك بزور.
وكان عبيد الله أحد الفقهاء السبعة الذين انتهى إليهم علم المدينة، وقد ذكرهم عبيد الله في هذه الأبيات وهم: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ابن المغيرة المخزومي. والقاسم بن [محمد بن] أبي بكر الصديق، وعروة بن الزبير ابن العوام، وسعيد بن المسيب بن حزن، وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد ابن ثابت الأنصاري.
وقيل لعبيد الله: أتقول الشعر على شرفك؟ فقال: لا بدّ للمصدور أن ينفث (2)
وعبيد الله هو القائل (3): [الوافر]
شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليم والتأم الفطور (4)
تغلغل حبّ عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور
أخذه سلم بن عمرو الخاسر فقال: [الطويل]
سقتني بعينيها الهوى وسقيتها ... فدبّ دبيب الخمر في كلّ مفصل
وقال أبو نواس (5): [الوافر]
أحبّ اللوم فيها ليس إلّا ... لترداد اسمها فيها ألام (6)
ويدخل حبّها في كل قلب (7) ... مداخل لا تغلغلها المدام
__________
(1) في الأغاني: «علمه» بدل «كلّه».
(2) قوله: «لا بدّ للمصدور أن ينفث» مثل، والمصدور: الذي يشتكي صدره، وهو يستريح ويشفى بالنفث. مجمع الأمثال (ج 2ص 241، رقم المثل 3666).
(3) الأبيات في الأغاني (ج 9ص 176) ووفيات الأعيان (ج 3ص 116).
(4) في الأغاني: «صدعت» بدل «شققت». وفي الوفيات: «فالتأم» بدل «والتأم».
(5) ديوان أبي نواس (ص 379) من مقطوعة في الغزل.
(6) رواية عجز البيت في الديوان هي: لترداد اسمه فيما ألام
(7) في الديوان: «حبّه» بدل «حبّها».(1/164)
ومنه قول المتنبي (1): [الطويل]
وللسّرّ منّي موضع لا يناله ... نديم، ولا يفضي إليه شراب
وقال بعض المحدثين: [الكامل]
ما زلت تغويني وتطلب خلّتي (2) ... حتى حللت بحيث حلّ شرابي
ثم انصرفت بغير جرم كان لي ... ما هكذا الأحباب للأحباب
أخذ أبو نواس قوله: «أحب اللوم فيها» البيت من قول [أبي محمد] ابن أبي أمية: [الطويل]
وحدّثني عن مجلس كنت زينه ... رسول أمين، والنساء شهود
فقلت له ردّ الحديث الذي مضى ... وذكرك من بين الحديث أريد
أنا شده بالله إلّا أعدته ... كأني بطيء الفهم عنه بعيد
وقول أبي نواس في البيت الأول كقوله (3): [الوافر]
إذا غاديتني بصبوح لوم ... فممزوجا بتسمية الحبيب (4)
فإني لا أعدّ اللّوم فيها (5) ... عليك، إذا فعلت، من الذنوب
ولا أنا إن عمدت أرى جنانا ... وإن ضنّت بمبحوس النصيب (6)
مقنعة بثوب الحسن ترعى ... بغير تكلّف ثمر القلوب (7)
وفي جنان هذه يقول أبو نواس (8): [البسيط]
يا ذا الذي عن جنان ظلّ يخبرنا (9) ... بالله قل وأعد يا طيّب الخبر
قالوا اشتكتك وقالت ما ابتليت به (10) ... أراه من حيث ما أقبلت في أثري
__________
(1) ديوان المتنبي (ص 517).
(2) الخلّة، بضم الخاء وتشديد اللام: الصداقة والمحبة. محيط المحيط (خلل).
(3) ديوان أبي نواس (ص 254).
(4) في الديوان: «بصبوح عذل فشوبيه بتسمية»
(5) في الديوان: «أعدّ العذل فيه».
(6) رواية البيت في الديوان هي:
وما أنا إن عمرت أرى جنانا ... وإن بخلت بمحبوس النصيب
(7) ثمر القلوب: الدموع أو الفرح أو الحبّ.
(8) ديوان أبي نواس (ص 248).
(9) في الديوان: «يخبرني» بدل «يخبرنا».
(10) رواية صدر البيت في الديوان هي: قال اشتكتك وقالت ما بليت به.(1/165)
ويرفع الطّرف نحوي إن مررت به ... حتى ليخجلني من شدّة النظر (1)
وإن وقفت له كيما يكلمني ... في الموضع الخلو لم ينطق من الحصر (2)
ما زال يفعل بي هذا ويدمنه (3) ... حتى لقد صار من همّي ومن وطري
وفي جنان أيضا يقول أبو نواس، وكان بها صبّا، ولها محبّا (4): [الوافر]
جنان تسبّني ذكرت بخير ... وتزعم أنني رجل خبيث
وأن مودّتي كذب ومين ... وأني للذي تطوى بثوث
وليس كذا، ولا ردّ عليها، ... ولكنّ الملول هو النكوث
ولي قلب ينازعني إليها ... وشوق بين أضلاعي حثيث
رأت كلفي بها وقديم وجدي ... فملّتني، كذا كان الحديث
[وكانت جنان مولاة لبعض الثقفيين].
وفي معنى قول ابن أبي أمية يقول العباس بن الأحنف: [الطويل]
وحدّثتني يا سعد عنها فزدتني ... جنونا فزدني من حديثك يا سعد
وأهل المدينة أكثر الناس ظرفا، وأكثرهم طيبا، وأحلاهم مزاجا، وأشدّهم اهتزازا للسماع، وحسن أدب عند الاستماع. وقال عبد الله بن جعفر: إن لي عند السماع هزّة لو سئلت عندها لأعطيت، ولو قاتلت لأبليت.
وروى أبو العيناء قال: قال الأصمعي: مررت بدار الزبير بالبصرة، فإذا شيخ قديم من أهل المدينة من ولد الزبير يكنى أبا ريحانة جالس بالباب عليه شملة تستره، فسلّمت عليه، وجلست إليه فبينما أنا كذلك إذ طلعت علينا سويداء تحمل قربة، فلما نظر إليها لم يتمالك أن قام إليها، فقال لها: بالله غنّي صوتا. فقالت: إن مواليّ أعجلوني، فقال: لا بدّ من ذلك، قالت: أما والقربة على كتفي فلا، قال: فأنا أحملها، فأخذ القربة منها، فاندفعت تغنّي: [الطويل]
فؤادي أسير لا يفكّ، ومهجتي ... تفيض، وأحزاني عليك تطول
ولي مقلة قرحى لطول اشتياقها ... إليك، وأجفاني عليك همول
__________
(1) في الديوان: «ويعمل الطرف حدّة النظر».
(2) الحصر، بفتح الحاء والصاد معا: العيّ. محيط المحيط (حصر).
(3) في الديوان: «في» بدل «بي».
(4) لم ترد هذه الأبيات في ديوان أبي نواس.(1/166)
فديتك، أعدائي كثير، وشقّتي ... بعيد، وأشياعي لديك قليل (1)
فطرب وصرخ صرخة، وضرب بالقربة إلى الأرض فشقّها فقامت الجارية تبكي، وقالت: ما هذا بجزائي منك أسعفتك بحاجتك فعرّضتني لما أكره من مواليّ. قال: لا تغتمي فإنّ المصيبة عليّ حصلت، ونزع الشّملة ووضع يدا من خلف ويدا من قدّام، وباع الشّملة وابتاع لها قربة جديدة، وقعد بتلك الحال فاجتاز به رجل من ولد عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه! فعرف حاله، فقال: يا أبا ريحانة، أحسبك من الذين قال الله تعالى فيهم: {فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ وَمََا كََانُوا مُهْتَدِينَ} (2). قال: لا يا ابن رسول الله، ولكني من الذين قال الله تعالى فيهم: {فَبَشِّرْ عِبََادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (3)، فضحك، وأمر له بألف درهم.
ومرّ بالأوقص المخزومي، وهو قاضي المدينة، سكران [وهو] يتغنّى بليل، فأشرف عليه، وقال: يا هذا، شربت حراما، وأيقظت نياما، وغنّيت خطأ خذه عني، وأصلح له الغناء.
وسمع سعيد بن المسيب منشدا ينشد: [الطويل]
فلم تر عيني مثل سرب رأيته ... خرجن من التنعيم معتمرات
مررن بفخّ (4) ثم رحن عشيّة ... يلبّين للرّحمن مؤتجرات
ولما رأت ركب النميري أعرضت ... وكنّ من ان يلقينه حذرات
دعت نسوة شمّ العرانين بزّلا ... نواعم، لا شعثا ولا غبرات (5)
فأبرزن لما قمن يحجبن دونها ... حجابا من القسّيّ والحبرات (6)
تضوّع طيبا بطن نعمان إذ مشت ... به زينب في نسوة عطرات
يخبّئن أطراف البنان من التّقى ... ويخرجن شطر الليل معتجرات (7)
__________
(1) الشّقّة، بضم الشين وتشديد القاف: البعد وقوله: «وشقّي بعيد»: أي إن المسافة بيني وبين أهلي بعيدة.
(2) سورة البقرة 2، الآية 16.
(3) سورة الزمر 39، الآيتان 17، 18.
(4) فخّ: واد بمكة. معجم البلدان (ج 4ص 237).
(5) العرانين: جمع عرنين وهو الأنف. البزّل: جمع بازل وهو البعير يبلغ تسع سنين فتكتمل قوته. لسان العرب (عرن) و (بزل). يقول: إن هؤلاء النسوة بلغن سنّ الإدراك.
(6) القسّيّ: ثياب يؤتي بها من مصر، فيها حرير، والقسّ: ناحية من بلاد الساحل قريبة إلى ديار مصر تنسب إليها الثياب القسّيّة. معجم البلدان (ج 4ص 346).
(7) اعتجرت المرأة: تلبّست المعجر وهو ثوب تشدّه المرأة على رأسها. محيط المحيط (عجر).(1/167)
فقال سعيد: هذا والله مما يلذّ استماعه، ثم قال: [الطويل]
وليست كأخرى وسّعت جيب درعها ... وأبدت بنان الكفّ للجمرات
وغالت بيان المسك وحفا مرجلا (1) ... على مثل بدر لاح في الظّلمات
وقامت تراءى بين جمع فأفتنت ... برؤيتها من راح من عرفات
قال: فكانوا يرون أنّ الشعر الثاني له، والأول لمحمد بن عبد الله بن نمير الثقفي يقوله في زينب بنت يوسف أخت الحجاج [وطلبه الحجاج] حتى ظفر به فقال: أنت القائل ما قلت؟ قال: وهل قلت أصلح الله الأمير إلّا:
يخبّئن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن شطر الليل معتجرات
قال له: كم كنتم إذ تقول:
* ولما رأت ركب النميري أعرضت *
قال: والله ما كنت إلّا أنا وصاحب لي على حمار هزيل! فضحك وعفا عنه. وهو القائل: [الوافر]
أهاجتك الظّعائن يوم بانوا (2) ... بذي الزّيّ الجميل من الأثاث
ظعائن أسلكت في بطن قوّ ... تحثّ إذا رنت أي احتثاث
كأنّ على الهوادج يوم بانوا ... نعاجا ترتعي بقل البراث (3)
يهيّجك الحمام إذا تغنّى ... كما سجع النّوادب بالمراثي
وقال ابن المعتز: وعد الدنيا إلى خلف، وبقاؤها إلى تلف، وبعد عطائها المنع، وبعد أمانها الفجع، طوّاحة طرّاحة، آسية جرّاحة، كم راقد في ظلّها قد أيقظته، وواثق بها قد خانته، حتى يلفظ نفسه، ويودّع دنياه، ويسكن رمسه، وينقطع عن أمله، ويشرف على عمله، وقد رجح الموت بحياته، ونقض قوى حركاته، وطمس البلى جمال بهجته، وقطع نظام صورته، وصار كخطّ من رماد تحت صفائح أنضاد (4) وقد أسلمه الأحباب، وافترش التّراب، في بيت نجرته المعاول، وفرشت فيه الجنادل، ما زال مضطربا في أمله، حتى استقرّ في أجله، ومحت الأيام ذكره، واعتادت الألحاظ فقده.
__________
(1) الوحف: الأسود. المرجّل: المسرّح. محيط المحيط (وحف) و (رجل).
(2) الظّعائن: جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج. محيط المحيط (ظعن).
(3) البراث: جمع برث وهو الأرض السهلة. محيط المحيط (برث).
(4) الأنضاد: جمع نضد وهو ما نضد من متاع. محيط المحيط (نضد).(1/168)
وكتب وهو معتقل إلى أستاذه أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب (1) يتشوّقه: [الرجز]
ما وجد صاد بالحبال موثق ... بماء مزن بارد مصفّق (2)
بالرّيح لم يكدر ولم يرنّق ... جادت به أخلاف دجن مطبق (3)
بصخرة إن تر شمسا تبرق ... ماد عليها كالزّجاج الأزرق
صريح غيث خالص لم يمذق (4) ... إلّا كوجدي بك، لكن أتّقي
يا فاتحا لكل باب مغلق ... وصيرفيّا ناقدا للمنطق (5)
إن قال هذا بهرج لم ينفق ... إنّا على البعاد والتفرّق
لنلتقي بالذكر إن لم نلتق
فأجابه: أخذت، أطال الله بقاءك، أول هذه الأبيات مما أمليته عليك من قول جميل (6): [الطويل]
وما صاديات حمن يوما وليلة ... على الماء، يخشين العصيّ حواني (7)
كواعب لم يصدرن عنه لوجهة (8) ... ولا هنّ من برد الحياض دواني
يرين حباب الماء والموت دونه ... فهنّ لأصوات السّقاة رواني (9)
بأكثر مني غلّة وصبابة ... إليك، ولكنّ العدوّ عراني (10)
__________
(1) أحمد بن يحيى ابن سيار الشيباني، المعروف بثعلب، إمام الكوفيين في النحو واللغة، وراوية للشعر. مات ببغداد سنة 291هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 1ص 102) وتاريخ بغداد (ج 5 ص 204) والفهرست (ص 80) ومعجم الأدباء (ج 2ص 55) وبغية الوعاة (ص 172) والبداية والنهاية (ج 11ص 98) والنجوم الزاهرة (ج 3ص 133).
(2) مصفّق: صفّقته الريح يقال: صفقت الريح الأشجار إذا حرّكتها. محيط المحيط (صفق).
(3) الأخلاف: جمع خلف وهو الثّدي. الدّجن: المطر الكثير. لسان العرب (خلف) و (دجن).
(4) يمذق: يمزج. لسان العرب (مذق).
(5) الصيرفيّ: الرجل الحاذق في تمييز النقود. لسان العرب (صرف).
(6) ديوان جميل بثينة (ص 50).
(7) في الديوان: «يغشين» بدل «يخشين». والصاديات: النياق العطشى. والحواني: اللاويات الأعناق.
لسان العرب (صدا) و (حنا).
(8) في الديوان: «لواغب لا يصدرن». واللواغب: اللواتي أعياهنّ السفر أشدّ الإعياء. لسان العرب (لغب).
(9) الرواني: مديمات النظر. لسان العرب (رنا).
(10) في الديوان: «عداني» بدل «عراني».(1/169)
وأخذت آخرها من قول رؤبة بن العجاج (1): [الرجز]
إنّي وإن لم ترني فإنّني ... أخوك والرّاعي إذا استرعيتني
أراك بالودّ وإن لم ترني
قال: فاستخفّني في ذلك ونسب إليّ سوء الأدب.
وكان أبو العباس عبد الله بن المعتز في المنصب العالي من الشعر والنثر، وفي النهاية في إشراق ديباجة البيان، والغاية من رقّة حاشية اللسان. وكان كما قال ابن المرزبان: إذا انصرف من بديع الشعر إلى رقيق النّثر أتى بحلال السحر، وليس بعد ذي الرّمة (2) أكثر افتنانا وأكبر تصرّفا وإحسانا في التشبيه منه. وإنما فرقت جملة ما اخترت من شعره ونثره في جملة هذا الكتاب لئلّا أخرج عما تقدّم به الشرط في البسط، وآتي ههنا ببعض ما أختاره له، قال: [الوافر]
وفتيان سروا والليل داج ... وضوء الصبح متّهم الطّلوع
كأنّ بزاتهم أمراء جيش ... على أكتافهم صدأ الدّروع
وقال أيضا: [الكامل]
في ليلة أكل المحاق هلالها ... حتى تبدّى مثل وقف العاج (3)
والصبح يتلو المشتري فكأنّه ... عريان يمشي في الدّجا بسراج
وقال أيضا يصف فرسا: [الكامل]
ولقد غدوت على طمرّ سابح ... عقدت سنابكه عجاجة قسطل (4)
__________
(1) هو رؤبة بن عبد الله العجاج السعدي راجز، من الفصحاء المشهورين. مات في البادية سنة 145هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 2ص 303) والشعر والشعراء (ص 495) والمؤتلف والمختلف (ص 175) والأعلام (ج 3ص 34).
(2) ذو الرّمّة: هو غيلان بن عقبة، أحد فحول الشعر في عصره. توفي سنة 117هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 4ص 11) والشعر والشعراء (ص 437) والأغاني (ج 18ص 5) ومعاهد التنصيص (ج 3 ص 260) وطبقات الشعراء لابن سلام (ص 165، 169) ومعجم الشعراء (ص 376) والأعلام (ج 5ص 124).
(3) وقف العاج: سوار من عاج. محيط المحيط (وقف).
(4) الطّمرّ، بكسر الطاء والميم وتشديد الراء: الفرس الجواد، المستعدّ للعدو. السنابك: جمع سنبك وهو طرف الحافر. العجاجة: الدخان. القسطل: الغبار. محيط المحيط (طمر) و (سنبك) و (عجج) و (قسطل).(1/170)
متلثّم لجم الحديد يلوكها ... لولا الفتاة مساوكا من إسحل (1)
ومحجّل غير اليمين كأنّه ... متبختر يمشي بكمّ مسبل
وقال: [مجزوء الرمل أو الرجز]
قد أغتدي بقارح ... مسوّم يعبوب (2)
ينفي الحصى بحافر ... كالقدح المكبوب
قد ضحكت غرّته ... في موضع التّقطيب (3)
وقال أيضا: [الكامل]
ولقد وطئت الغيث يحملني ... طرف كلون الصبح حين وفد (4)
خمّاع أطراف الصّوار فما ال ... أخرى عليه إذا جرى بأشدّ (5)
يمشي فيعرض في العنان كما ... صدف المعشّق ذو الدّلال وصد
فكأنه موج يذوب إذا ... أطلقته فإذا حبست جمد
وقال أيضا يصف سيفا: [الطويل]
ولي صارم فيه المنايا كوامن ... فما ينتضى إلّا لسفك دماء
ترى فوق متنيه الفرند كأنه ... بقيّة غيم رقّ دون سماء
وقال يصف نارا: [الطويل]
مشهّرة لا يحجب النخل ضوءها ... كأنّ سيوفا بين عيدانها تجلى
يفرّج أغصان الوقود اضطرامها ... كما شقّت الشقراء عن متنها جلّا (6)
__________
(1) اللّجم: جمع لجام وهو ما يجعل في فم الفرس من الحديد. الإسحل: شجر يستاك به. محيط المحيط (لجم) و (سحل).
(2) القارح من ذي الحافر: ما طلع نابه، وذلك في السنة التاسعة. المسوّم: المعلم. اليعبوب: الفرس السهل الجري في عدوه. لسان العرب (قرح) و (سوم) و (عبب).
(3) التقطيب: العبوس، لسان العرب (قطب).
(4) الطّرف، بكسر الطاء وسكون الراء: الكريم من الخيل. لسان العرب (طرف).
(5) الصّوار: القطيع. لسان العرب (صور).
(6) الشقراء: فرس خالد بن جعفر الكلابي، يضرب بها المثل في شدّة الجري. الجلّ، بضم الجيم وتشديد اللام: ما تلبسه الدابّة لتصان به، والجمع جلال وأجلّة. محيط المحيط (شقر) و (جلل).(1/171)
وقال بعض أهل العصر، وهو السّريّ الموصليّ (1): [المنسرح]
يوم رذاذ ممسّك الحجب ... يضحك فيه السرور من كثب
ومجلس أسبلت ستائره ... على شموس البهاء والحسب
وقد جرت خيل راحنا خببا ... في حليها أو هممن بالخبب
والتهبت نارنا فمنظرها ... يغنيك عن كل منظر عجب
إذا ارتمت بالشرار فاطّردت ... على ذراها مطارد اللهب
رأيت ياقوتة مشبكة ... تطير عنها قراضة الذهب
فانهض إلى المجلس الذي ابتسمت ... فيه رياض الجمال والأدب
وقال بعض أهل العصر، وهو أبو الفرج الببغا (2): [الخفيف]
فحما قدّم الغلام فأهدى ... في كوانينه حياة النّفوس
كان كالآبنوس غير محلّى ... فغدا وهو مذهب الآبنوس
لقي النار في ثياب حداد ... فكسته مصبّغات عروس
وقال أبو الفضل الميكالي: [المتقارب]
كأن الشّرار على نارنا ... وقد راق منظرها كلّ عين
سحالة تبر إذا ما علا (3) ... فإمّا هوى ففتات اللّجين
وقال ابن المعتز يصف سحابة: [الوافر]
وموقرة بثقل الماء جاءت (4) ... تهادى فوق أعناق الرّياح
فباتت ليلها سحّا ووبلا ... وهطلا مثل أفواه الجراح
كأن سماءها لما تجلّت ... خلال نجومها عند الصباح
__________
(1) هو أبو الحسن السريّ بن أحمد بن السريّ الرفّاء الموصلي، سمّي بالرفّاء لأنه كان في صباه يرفو ويطرز في دكان بالموصل. شاعر مطبوع مشهور، توفي سنة 362هـ، وقيل: 360هـ. وفيات الأعيان (ج 2ص 359) وتاريخ بغداد (ج 9ص 194) ومعجم الأدباء (ج 3ص 359) ويتيمة الدهر (ج 2ص 117).
(2) الببغاء: هو عبد الواحد بن نصر المخزومي شاعر مشهور، وكاتب مترسل. توفي سنة 398هـ.
وفيات الأعيان (ج 3ص 199) وتاريخ بغداد (ج 11ص 11) ويتيمة الدهر (ج 1ص 236) والأعلام (ج 4ص 177).
(3) السّحالة: ما سقط من الفضة والذهب إذا برد. محيط المحيط (سحل).
(4) الموقرة: المثقلة. لسان العرب (وقر).(1/172)
رياض بنفسج خضل ثراه ... تفتّح بينه نور الأقاح (1)
وقال: [البسيط]
ولجّة للمنايا خضت غمرتها ... بصارم ذكر صمصامة خذم (2)
وقارح صبغ الخيلان دهمته ... بشهبة كاختلاط الصّبح بالظّلم (3)
وقال: [الطويل]
وليل ككحل العين خضت ظلامه ... بأزرق لمّاع وأبيض صارم
ومضبورة الأعضاد حرف كأنها ... تصافح رضراض الحصى بمناسم (4)
وقال يصف حيّة: [البسيط]
نعتّ رقطاء لا تحيا لديغتها (5) ... لوقدّها السّيف لم يعلق به بلل
تلقى إذا انسلخت في الأرض جلدتها ... كأنها كمّ درع قدّه بطل
وقال أيضا: [الطويل]
وأسار منّي الدّهر عضبا مهنّدا ... يفلّ شبا حظّي، وقلبا مشيّعا (6)
ورأيا كمرآة الصّناع أرى به ... سرائر غيب الدهر من حيث ما سعى
أخذه من قول المنصور لابنه المهدي: لا تبرمنّ أمرا حتى تفكّر فيه فإن فكره العاقل مرآته، تريه قبحه وحسنه.
ولما دفن المنصور وقف الربيع على قبره فقال: رحمك الله يا أمير المؤمنين، وغفر لك! فقد كان لك حمى من العقل لا يطير به الجهل، وكنت ترى باطن الأمر بمرآة من
__________
(1) الخضل: الندي. لسان العرب (خضل).
(2) الخذم: القاطع. لسان العرب (خذم).
(3) القارح من ذي الحافر: بمنزلة البازل من الإبل وهو الذي قوي ببلوغه تسع سنين. الخيلان: جمع خال وهو شامة في البدن. الدّهمة: السواد. الشّهبة: لون بين السواد والبياض. لسان العرب (قرح) و (خيل) و (دهم) و (شهب).
(4) المضبورة: المحكمة الخلق المكتنزة اللحم. الأعضاد: جمع عضد. الحرف: الناقة الضامرة.
رضراض الحصى: صغارها. المناسم: جمع منسم وهو خفّ البعير. لسان العرب (ضبر) و (عضد) و (حرف) و (رضرض) و (نسم).
(5) الرّقطاء: المنقّطة. لسان العرب (رقط).
(6) أسأر: أبقى. المشيّع: الشجاع. لسان العرب (سأر) و (شيع).(1/173)
الرأي، كما ترى ظاهره. ثم التفت إلى يحيى بن محمد أخي المنصور فقال: هذا كما قال أبو دهبل الجمحي (1): [الكامل]
عقم النساء فما يلدن شبيهه (2) ... إنّ النساء بمثله عقم
وبعده:
متهلل بنعم، بلا متباعد ... سيّان منه الوفر والعدم (3)
نزر الكلام من الحياء تخاله ... ضمنا، وليس بجسمه سقم (4)
أخذ البيت الأخير من قول ليلى الأخيلية (5): [الكامل]
لا تقربنّ الدّهر آل مطرّف ... إن ظالما يوما وإن مظلوما
قوم رباط الخيل حول بيوتهم ... وأسنّة زرق يخلن نجوما
وممزّق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما
حتى إذا رفع اللواء رأيته ... يوم الهياج على الخميس زعيما (6)
وقال: [البسيط]
يشبّهون ملوكا في تجلّتهم ... وطول أنصبة الأعناق واللّمم (7)
إذا بدا المسك يجري في مفارقهم ... راحوا كأنهم مرضى من الكرم
وقال أبو علي الحاتمي: وما أحسن أبياتا أنشدها أبو عمر المطرز غلام ثعلب
__________
(1) أبو دهبل الجمحي: هو وهب بن زمعة شاعر محسن، من العشّاق المشهورين. توفي سنة 63هـ.
الشعر والشعراء (ص 512) والمؤتلف والمختلف (ص 117) والأغاني (ج 7ص 129) والأعلام (ج 8ص 125). والأبيات في الأغاني (ج 7ص 150).
(2) في الأغاني: «فلم» بدل «فما».
(3) الوفر: الغنى. العدم: الفقر. لسان العرب (وفر) و (عدم).
(4) الضّمن: المريض، لسان العرب (ضمن).
(5) هي ليلى بنت عبد الله، الأخيلية شاعرة فصيحة، جميلة، توفيت نحو 80هـ. الشعر والشعراء (ص 359) والأغاني (ج 11ص 210) وفوات الوفيات (ج 3ص 226) والأعلام (ج 5 ص 249).
(6) الخميس: الجيش لأنه خمس فرق المقدمة، والقلب، والميمنة، والميسرة، والساقة. لسان العرب (خمس).
(7) الأنصبة: جمع نصاب وهو الأصل الذي ركب فيه العنق. لسان العرب (نصب).(1/174)
يعترض في أثنائها هذا المعنى: [الطويل]
تخالهم للحلم صمّا عن الخنا ... وخرسا عن الفحشاء عند التّهاتر (1)
ومرضى إذا لاقوا حياء وعفّة ... وعند الحروب كالليوث الخوادر (2)
لهم عزّ إنصاف وذلّ تواضع ... بهم ولهم ذلّت رقاب العشائر
كأنّ بهم وصما يخافون عاره ... وليس بهم إلّا اتقاء المعاير (3)
وأنشد: [الطويل]
أحلام عاد لا يخاف جليسهم ... وإن نطق العوراء عيب لسان
إذا حدّثوا لم يخش سوء استماعهم ... وإن حدّثوا أدّوا بحسن بيان
وقال ابن المعتز: [الطويل]
وعاقد زنّار على غصن الآس ... دقيق المعاني مخطف الخصر ميّاس (4)
سقاني عقارا صبّ فيها مزاجها ... فأضحك عن ثغر الحباب فم الكاس
وقال: [الكامل]
يا ليلة نسي الزمان بها ... أحداثه، كوني بلا فجر
فاح المساء ببدرها، ووشت ... فيها الصبّا بمواقع القطر
ثم انقضت والقلب يتبعها ... في حيث ما سقطت من الدّهر
وقال: [الكامل]
يا ربّ إخوان صحبتهم ... لا يملكون لسلوة قلبا
لو تستطيع قلوبهم نفرت (5) ... أجسامهم فتعانقت حبّا
هذا كقول ابن الرومي: [الطويل]
أعانقه والنفس بعد مشوقة ... إليه، وهل بعد العناق تداني؟
وألثم فاه كي تزول حرارتي ... فيشتدّ ما ألقى من الهيمان
ولم يك مقدار الذي بى من الهوى ... ليرويه ما ترشف الشّفتان
__________
(1) التهاتر: تبادل السّباب الباطل. لسان العرب (هتر).
(2) الخوادر: جمع خادر وهو الليث يلزم أجمته. لسان العرب (خدر).
(3) المعاير: المعايب. لسان العرب (عير).
(4) مخطف الخصر: ضامره. لسان العرب (خطف).
(5) نفرت: سعت يقال: نفر إلى الشيء إذا أسرع إليه. لسان العرب (نفر).(1/175)
كأنّ فؤادي ليس يشفي غليله ... سوى أن يرى الروحان يمتزجان
ومن منثوره: لا يزال الإخوان يسافرون في المودّة، حتى يبلغوا الشّقة، فإذا بلغوها ألقوا عصا التّسيار، واطمأنّت بهم الدار، وأقبلت وفود النصائح، وأمنت خبايا الضمائر، فحلّوا عقد التحفّظ، ونزعوا ملابس التخلّق.
وله: سار فلان في جيوش عليهم أردية السيوف، وأقمصة الحديد، وكأنّ رماحهم قرون الوعول (1)، وكأنّ دروعهم زبد السيول، على خيل تأكل الأرض بحوافرها، وتمدّ بالنّقع سرادقها (2)، قد نشرت في وجوهها غرر كأنها صحائف الرّق (3)، وأمسكها تحجيل كأنه أسورة اللّجين (4)، وقرّطت عذرا كأنها الشّنف (5)، تتلقّف الأعداء أوائله ولم تنهض أواخره، قد صبّ عليهم وقار الصبر، وهبّت معهم ريح النّصر.
وله في عليل: آذن الله في شفائك، وتلقّى داءك بدوائك، ومسح بيد العافية عليك، ووجّه وفد السلامة إليك، وجعل علّتك ماحية لذنوبك، مضاعفة لثوابك.
وكتب إلى عبيد الله بن سليمان بن وهب (6) في يوم عيد: أخّرتني العلّة عن الوزير أعزّه الله، فحضرت بالدعاء في كتاب لينوب عنيّ، ويعمر ما أخلته العوائق مني، وأنا أسأل الله تعالى أن يجعل هذا العيد أعظم الأعياد السالفة بركة على الوزير، ودون الأعياد المستقبلة فيما يحبّ ويحبّ له، ويقبل ما توسّل به إلى مرضاته، ويضاعف الإحسان إليه، على الإحسان منه، ويمتّعه بصحبة النعمة ولباس العافية، ولا يريه في مسرّة نقصا، ولا يقطع عنه مزيدا، ويجعلني من كل سوء فداء، ويصرف عيون الغير عنه، وعن حظّي منه.
وله إلى بعض الرؤساء: لا تشن حسن الظّفر بقبح الانتقام، وتجاوز عن كل مذنب
__________
(1) الوعول: جمع وعل وهو تيس الجبل. محيط المحيط (وعل).
(2) النّقع: الغبار. السّرادق: الفسطاط الذي يمدّ فوق صحن البيت. محيط المحيط (نقع) و (سردق).
(3) الرّقّ، بفتح الراء وتشديد القاف. جلد رقيق يكتب فيه. محيط المحيط (رقق).
(4) الأسورة: جمع سوار وهو حلية كالطوق تلبسه المرأة في زندها. اللجين: الفضة. محيط المحيط (سور) و (لجن).
(5) العذر: جمع عذار وهو جانبا اللحية، أي الشعر الذي يحاذي الأذن. الشّنف: القرط الأعلى. محيط المحيط (عذر) و (شنف).
(6) عبيد الله بن سليمان بن وهب: وزير من أكابر الكتّاب، استوزره المعتمد العباسي وأقرّه بعد المعتضد. توفي سنة 288هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 3ص 122) وفوات الوفيات (ج 2 ص 434) والكامل في التاريخ (ج 7ص 510) والأعلام (ج 4ص 194).(1/176)
لم يسلك من الإعذار (1) طريقا حتى اتّخذ من رجاء عفوك رفيقا.
وله اعتذار إلى القاسم بن عبيد الله: ترفّع عن ظلمي إن كنت بريئا، وتفضّل بالعفو إن كنت مسيئا، فو الله إني لأطلب عفو ذنب لم أجنه، وألتمس الإقالة مما لا أعرفه لتزداد تطوّلا، وأزداد تذلّلا وأنا أعيذ حالي عندك بكرمك من واش يكيدها، وأحرسها بوفائك من باغ يحاول إفسادها، وأسأل الله تعالى أن يجعل حظّي منك، بقدر ودّي لك ومحلّي من رجائك، بحيث أستحقّ منك.
وله إليه: لو كان في الصّمت موضع يسع حالي لخففت عن سمع الوزير ونظره، ولم أشغل وجها من فكره، وما زالت الشكوى، تعرب عن لسان البلوى، ومن اختلّت حالته، كان في الصّمت هلكته، وقد كان الصبر ينصرني على ستر أمري حتى خذلني.
وهذا كقول أحمد بن إسماعيل: فصاحة الشكوى، على قدر البلوى، إلّا أن يكون بالشاكي انقباض، وبالمشكوّ إليه إعراض.
[في باب الوصف]
وقد أحسن أبو العباس بن المعتز في صفة الماء في أرجوزته التي أنشدتها آنفا، وقد قال في قصيدة له وذكر إبلا: [الخفيف]
فتبدّى لهنّ بالنّجف المد ... بر ماء صافي الجمام عريّ (2)
يتمشّى على حصى يسلب الما ... ء قذاه فمتنه مجليّ (3)
وإذا داخلته درّة شمس ... خلته كسّرت عليه الحليّ
وقال: [الكامل]
لا مثل منزلة الدّويرة منزل (4) ... يا دار، جادك وابل وسقاك
بؤسا لدهر غيّرتك صروفه ... لم يمح من قلبي الهوى ومحاك
لم يحل للعينين بعدك منظر ... ذمّ المنازل كلّهنّ سواك
__________
(1) الإعذار: مصدر أعذر يقال: أعذر الرجل إذا أبدى عذرا. محيط المحيط (عذر).
(2) النّجف، بفتح النون والجيم معا: مكان لا يعلوه الماء، مستطيل منقاد، يكون في بطن الوادي. لسان العرب (نجف). الجمام: بكسر الجيم: جمع جمّ وهو معظم الماء. العريّ: البارد. محيط المحيط (نجف) و (جمم) و (عري).
(3) الصواب: «فمتنه مجلوّ» يقال: جلا السيف يجلوه إذا صقله. محيط المحيط (جلا).
(4) الدّويرة، بلفظ تصغير دار: محلّة ببغداد. معجم البلدان (ج 2ص 491).(1/177)
أيّ المعاهد منك أندب طيبه ... ممساك بالآصال أم معداك
أم برد ظلّك ذي الغصون وذي الجنى ... أم أرضك الميثاء أم ريّاك (1)
وكأنما سطعت مجامر عنبر ... أو فتّ فأر المسك فوق ثراك (2)
وكأنما حصباء أرضك جوهر ... وكأنّ ماء الورد دمع نداك
[وكأنما أيدي الربيع ضحيّة (3) ... نشرت ثياب الوشي فوق رباك]
وكأن درعا مفرغا من فضّه (4) ... ماء الغدير جرت عليه صباك
وعشقت عاتكة المرية ابن عمّ لها فراودها عن نفسها فقالت: [الطويل]
فما طعم ماء أيّ ماء تقوله ... تحدّر عن غرّ طوال الذوائب
بمنعرج من بطن واد تقابلت ... عليه رياح الصيف من كل جانب
نفت جرية الماء القذى عن متونه ... فما إن به عيب تراه لشارب
بأطيب ممن يقصر الطّرف دونه ... تقى الله واستحياء بعض العواقب
وأنشد الأصمعي قال: أنشدني أبو عمرو بن العلاء لجابر بن الأرق، وقال: هو أحسن ما قيل في معناه: [الطويل]
أيا ويح نفسي كلّما التحت لوحة ... على شربة من ماء أحواض مارب (5)
بقايا نطاف أودع الغيم صفوها (6) ... مصقّلة الأرجاء زرق المشارب
ترقرق دمع المزن فيهنّ والتوت ... عليهنّ أنفاس الرياح الغرائب
وأنشد إسحاق بن إبراهيم للأبيرد اليربوعي، ورويت لمضرّس بن ربعي الأسدي:
[الطويل]
فألقت عصا التّسيار عنها، وخيّمت ... بأرجاء عذب الماء زرق محافره
أزال القذى عن مائه وافد الصبّا ... يروح عليه ناسما ويباكره
__________
(1) الميثاء: السهلة. محيط المحيط (ميث).
(2) فأر المسك: نافجة المسك، أي وعاء المسك. محيط المحيط (فأر) و (نفج).
(3) ضحيّة: تصغير ضحوة وهي بعد طلوع الشمس، وجاءت هنا منصوبة على أنها ظرف زمان. محيط المحيط (ضحى).
(4) مفرغ: مصبوب. محيط المحيط (فرغ).
(5) التاح الرجل: عطش. محيط المحيط (لوح). مارب: أصول القول: «مأرب»، وقد حذفت الهمزة للضرورة الشعرية، ومأرب: بلاد الأزد باليمن. معجم البلدان (ج 5ص 34).
(6) النّطاف: جمع نطفة وهي الماء الصافي قلّ أو كثر. محيط المحيط (نطف).(1/178)
وأول من أتى بهذا زهير بن أبي سلمى في قوله (1): [الطويل]
فلمّا وردن الماء زرقا جمامه ... وضعن عصيّ الحاضر المتخيّم (2)
وقال ابن الرومي: [الطويل]
وماء جلت عن حرّ صفحته القذى ... من الريح معطار الأصائل والبكر
به عبق ممّا تسحّب فوقه ... نسيم الصبا يجري على النّور والزّهر
[وصف الدور والقصور]
ويتعلّق بهذا الباب قول البحتري يصف بركة الجعفري وهو قصر ابتناه المتوكل في سرّ من رأى (3): [البسيط]
يا من رأى البركة الحسنا ورونقها (4) ... والآنسات إذا لاحت مغانيها
ما بال دجلة كالغيرى تنافسها ... في الحسن طورا وأطوارا تباهيها!
إذا علتها الصّبا أبدت لها حبكا ... مثل الجواشن مصقولا حواشيها (5)
فحاجب الشمس أحيانا يغازلها (6) ... وريّق الغيث أحيانا يباكيها
إذا النجوم تراءت في جوانبها ... ليلا حسبت سماء ركّبت فيها
كأنما الفضّة البيضاء سائلة ... من السّبائك تجري في مجاريها
تنصبّ فيها وفود الماء معجلة (7) ... كالخيل خارجة من حبل مجريها
كأنّ جنّ سليمان الّذين ولوا ... إبداعها فأدقّوا في معانيها
فلو تمرّ بها بلقيس عن عرض (8) ... قالت: هي الصّرح تمثيلا وتشبيها
[لا يبلغ السّمك المقصور غايتها (9) ... لبعد ما بين قاصيها ودانيها]
__________
(1) ديوان زهير بن أبي سلمى (ص 78).
(2) الجمام: جمع جمّ وهو معظم الماء. المتخيّم: المقيم. محيط المحيط (جمم) و (خيم). يقول:
فلّما وردت هؤلاء الظعائن الماء، واشتدّ صفاء ما جمع منه في الحياض، وضعوا العصيّ وخيّموا هناك.
(3) ديوان البحتري (ج 1ص 3029).
(4) في الديوان: «الحسناء رؤيتها».
(5) الجواشن: جمع جوشن وهو الدرع. محيط المحيط (جوشن).
(6) في الديوان: «يضاحكها» بدل «يغازلها»، وهو أحسن للسياق.
(7) الوفود: جمع وفد وهو تيار الماء. محيط المحيط (وفد).
(8) عن عرض: من جانب. محيط المحيط (عرض).
(9) في الديوان: «المحصور» بدل «المقصور».(1/179)
يعمن فيها بأوساط مجنّحة ... كالطّير تنشر في جوّ خوافيها (1)
ولم ينفق أحد من خلفاء بنى العباس في البناء ما أنفقه المتوكل وذلك أنه أنفق في أبنيته ثلثمائة ألف ألف، وفي أبنيته يقول علي بن الجهم (2): [المتقارب]
وما زلت أسمع أنّ الملو ... ك تبني على قدر أخطارها
وأعلم أنّ عقول الرجا ... ل يقضى عليها بآثارها
صحون تسافر فيها العيون ... فتحسر من بعد أقطارها (3)
وقبّة ملك كأنّ النجو ... م تفضي إليها بأسرارها
إذا أوقدت نارها بالعراق ... أضاء الحجاز سنا نارها
لها شرفات كأنّ الربيع ... كساها الرّياض بأنوارها
فهنّ كمصطحبات خرجن ... لفصح النّصارى وإفطارها
نظمن القسيّ كنظم الحلى ... بعون النساء وأبكارها (4)
فمن بين عاقصة شعرها ... ومصلحة عقد زنّارها
وللبحتري فيها شعر كثير منه (5): [الوافر]
أرى المتوكّليّة قد تعالت ... مصانعها وأكملت التماما (6)
قصور كالكواكب لا معات ... يكدن يضئن للساري الظّلاما
وروض مثل برد الوشي فيه ... جنى الحوذان ينشر والخزامى (7)
غرائب من فنون النّور فيها (8) ... جنى الزّهر الفرادى والتّؤاما
تضاحكها الضّحى طورا وطورا ... عليه الغيم ينسجم انسجاما (9)
__________
(1) في الديوان: «تنقضّ» بدل «تنشر».
(2) علي بن الجهم شاعر مجيد، من أهل بغداد، توفي سنة 249هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 3 ص 355) والأغاني (ج 10ص 247) ومعجم الشعراء (ص 140) وتاريخ بغداد (ج 7ص 240) و (ج 11ص 367) والأعلام (ج 4ص 269).
(3) تحسر: تكلّ. الأقطار: جمع قطر وهو الناحية. لسان العرب (حسر) و (قطر).
(4) العون: جمع عوان وهي التي كان لها زوج. لسان العرب (عون).
(5) ديوان البحتري (ج 1ص 3332) من قصيدة مدح.
(6) في الديوان: «محاسنها» بدل «مصانعها». المصانع: المباني. لسان العرب (صنع).
(7) في الديوان: «وبرّ» بدل: «وروض». والحوذان: نبت نوره أصفر. محيط المحيط (حوذ).
(8) في الديوان: «النّبت» بدل «النّور».
(9) في الديوان: «عليها الغيث» بدل «عليه الغيم».(1/180)
ولو لم يستهل لها غمام ... بريّقه لكنت لها غماما (1)
وقال أيضا (2): [الكامل]
قد تمّ حسن الجعفريّ ولم يكن ... ليتمّ إلّا للخليفة جعفر (3)
ملك تبوّأ خير دار أنشئت ... [في خير مبدى للأنام ومحضر]
[في رأس مشرفة حصاها لؤلؤ] ... وترابها مسك يشاب بعنبر (4)
مخضرّة والغيث ليس بساكب ... ومضيئة والليل ليس بمقمر
رفعت بمنخرق الرياح، وجاورت ... ظلّ الغمام الصيّب المستعبر (5)
وبعده:
ورفعت بنيانا كأنّ زهاءه ... أعلام رضوى أو شواهق ضيبر (6)
عال على لحظ العيون كأنما ... ينظرن منه إلى بياض المشتري
ملأت جوانبه الفضاء، وعانقت ... شرفاته قطع السحاب الممطر
وتسيل دجلة تحته ففناؤه ... من لجّة فرشت وروض أخضر (7)
شجر تلاعبه الرياح فتنثني ... أعطافه في سائح متفجّر
أخذ أبو بكر الصنبوري (8) قول البحتري في صفة البركة فقال يصف موضعا:
[المتقارب]
سقى حلبا سافك دمعه ... بطيء الرّقوء إذا ما سفك (9)
__________
(1) ريّق الغمام: الغزيز منه. لسان العرب (ريق).
(2) ديوان البحتري (ج 1ص 3433) من قصيدة مديح.
(3) في الديوان: «بالخليفة» بدل «للخليفة». والجعفريّ: هو أحد قصور المتوكل العباسي.
(4) يشاب: يمزج. لسان العرب (شوب).
(5) رواية البيت في الديوان هي:
ظهرت لمحترق الشمال وجاورت ... ظلل الغمام الصائب المستغزر
(6) رواية صدر البيت في الديوان هي: فرفعت بنيانا كأنّ مناره
ورضوى: جبل بالمدينة. معجم البلدان (ج 3ص 51). وضيبر: اسم جبل بالحجاز. معجم البلدان (ج 3ص 465).
(7) رواية البيت في الديوان هي:
وتسير دجلة تحته ففناؤه ... من لجّة غمر وروض أخضر
(8) الصنوبري: هو شاعر الطبيعة أحمد بن محمد الحلبي، المتوفّى سنة 434هـ. ترجمته في فوات الوفيات (ج 1ص 122) والوافي بالوفيات (ج 7ص 379) وشذرات الذهب (ج 2ص 335) والعبر للذهبي (ج 2ص 237) والأعلام (ج 1ص 207).
(9) الرّقوء: السكون يقال: رقأ دمعه إذا جفّ وسكن. محيط المحيط (رقأ).(1/181)
ميادينه بسطهنّ الرياض ... وساحاته بينهنّ البرك
ترى الريح تنسج من مائه ... دروعا مضاعفة أو شبك
كأن الزجاج عليها أذيب ... وماء اللّجين بها قد سبك
هي الجوّ من رقّة غير أنّ ... مكان الطيور يطير السّمك
وقد نظم الزهر نظم النجوم ... فمفترق النّظم أو مشتبك
كما درّج الماء مرّ الصبّا ... ودبّج وجه السماء الحبك
يباهين أعلام قمص القيان ... ونقش عصائبها والتّكك
وأخذ قوله:
* إذا النّجوم تراءت في جوانبها * فقال: [الطويل]
ولما تعالى البدر وامتدّ ضوؤه ... بدجلة في تشرين في الطّول والعرض
وقد قابل الماء المفضّض نوره ... وبعض نجوم الليل يقفو سنا بعض
توهّم ذو العين البصيرة أنه ... يرى باطن الأفلاك من ظاهر الأرض
ولأهل العصر في هذا النّحو كلام كثير:
قال الأمير أبو الفضل الميكالي، يصف بركة وقع عليها شعاع الشمس فألقته على مهو (1) مطلّ عليها يقول: [البسيط]
أما ترى البركة الغرّاء قد لبست ... نورا من الشمس في حافاتها سطعا
والمهو من فوقها يلهيك منظره ... كأنه ملك في دسته ارتفعا
والماء من تحته ألقى الشعاع على ... أعلى سماواته فارتجّ ملتمعا
كأنه السيف مصقولا تقلّبه ... كفّ الكميّ إلى ضرب الكميّ سعى (2)
وقال علي بن محمد الإيادي (3) يمدح المعزّ ويصف دار البحر بالمنصورية (4):
[الطويل]
ولما استطال المجد واستولت البنى (5) ... على النّجم واشتدّ الرواق المروّق
__________
(1) المهو: الحصى الأبيض. محيط المحيط (مها).
(2) الكميّ: الشجاع. محيط المحيط (كمي).
(3) هو أبو الحسن علي بن محمد الإيادي التونسي. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 1ص 112) وفوات الوفيات (ج 4ص 321) ونفح الطيب (ج 4ص 57).
(4) المنصورة أو المنصورية: مدينة بقرب القيروان. معجم البلدان (ج 5ص 211).
(5) البنى: جمع بنية وهي ما بنيته. محيط المحيط (بنى).(1/182)
بنى قبة للملك في وسط جنّة ... لها منظر يزهى به الطّرف مونق
بمعشوقة الساحات، أمّا عراصها (1) ... فخضر، وأمّا طيرها فهي نطّق
تحفّ بقصر ذي قصور كأنما ... ترى البحر في أرجائه وهو متأق (2)
له بركة للماء ملء فضائه ... تخبّ بقصريها العيون وتعنق (3)
لها جدول ينصبّ فيها كأنه ... حسام جلاه القين بالأرض ملصق (4)
لها مجلس قد قام في وسط مائها ... كما قام في فيض الفرات الخورنق (5)
كأنّ صفاء الماء فيها وحسنه ... زجاج صفت أرجاؤه فهو أزرق
إذا بثّ فيها الليل أشخاص نجمه ... رأيت وجوه الزنج بالنار تحرق
وإن صافحتها الشمس لاحت كأنها ... فرند على تاج المعزّ ورونق
كأن شرافات المقاصر حولها ... عذارى عليهنّ الملاء الممنطق
يذوب الجفاء الجعد عن وجه مائها ... كما ذاب آل الصّحصحان المرقرق (6)
وقال عبد الكريم بن إبراهيم: [البسيط]
يا ربّ فتيان صدق رحت بينهم ... والشمس كالدّنف المعشوق في الأفق
مرضى أصائلها حسرى شمائلها ... تروّح الغصن الممطور في الورق
معاطيا شمس إبريق إذا مزجت ... تقلّدت عقد مرجان من النّزق
عن ماحل طافح بالماء معتلج ... كأنما نفسه صيغت من الحدق
تضمّه الرّيح أحيانا، وتفرقه ... فالماء ما بين محبوس ومنطلق
من أخضر ناضر والطّلّ يلحقه ... وأبيض تحت قيظيّ الضحى يقق (7)
تهزّه الريح أحيانا فيمنحها ... للزّجر خفق فؤاد العاشق القلق
كأنّ حافاته نطّقن من زبد ... مناطقا رصّعت من لؤلؤ نسق
كأن قبّته من سندس نمط ... حسناء مجلوّة اللبّات والعنق
__________
(1) العراص: جمع عرصة وهي ساحة الدار. محيط المحيط (عرص).
(2) متأق: ملآن يقال: تئق السّقاء يتأق إذا امتلأ، وتئق فلان إذا امتلأ غضبا. محيط المحيط (تئق).
(3) تعنق: تسرع يقال: أعنق الفرس إذا أسرع وسار العنق. محيط المحيط (عنق).
(4) القين: الحداد. محيط المحيط (قين).
(5) الخورنق: قصر كان بظهر الحيرة، اختلفوا في بانيه. معجم البلدان (ج 2ص 401).
(6) الآل: السّراب. محيط المحيط (أول). الصّحصحان: موضع بين حلب وتدمر. معجم البلدان (ج 3 ص 394).
(7) القيظيّ: المنسوب إلى القيظ وهو الحرّ الشديد. اليقق: الناصع البياض. محيط المحيط (قيظ) و (يقق).(1/183)
إذا تبلّج فجر فوق زرقته ... حسبته فرسا دهماء في بلق (1)
أو لازوردا جرى في متنه ذهب ... فلاح في شارق من مائه شرق
عشيّة كملت حسنا وساعدها ... ليل يمدّد أطنابا على الأفق
تجلى بغرّة وضّاح الجبين له ... ما شئت من كرم واف ومن خلق
ألفاظ لأهل العصر في وصف الماء وما يتصل به
ماء كالزّجاج الأزرق، غدير كعين الشمس، موارد كالمبارد، وماء كلسان الشمعة، في صفاء الدّمعة، يسبح في الرّضراض، سبح النّضناض، ماء أزرق كعين السّنّور (2)، صاف كقضيب البلّور، ماء إذا مسّته يد النسيم حكى سلاسل الفضّة، ماء إذا صافحته راحة الريح، لبس الدّرع كالمسيح، كأنّ الغدير بتراب الماء رداء مصندل، بركة كأنها مرآة السماء، بركة مفروزة بالخضرة، كأنّها مرآة مجلوّة، على ديباجة خضراء، بركة ماء كأنها مرآة الصّناع (3)، غدير ترقرقت فيه دموع السحائب، وتواترت عليه أنفاس الرياح الغرائب، ماء زرق حمامه، طامية أرجاؤه، يبوح بأسراره صفاؤه، وتلوح في قراره حصباؤه، ماء كأنما يفقده من يشهده، يتسلسل كالزرافين (4)، ويرضع أولاد الرّياحين، انحلّ عقد السماء، ووهى عقد الأنواء انحلّ سلك القطر عن درّ البحر، أسعد السحاب جفون العشّاق (5)، وأكفّ الأجواد، وانحلّ خيط السماء، وانقطع شريان الغمام، سحابة يتجلّى عليها ماء البحر، وتفضّ علينا عقود الدّر، سحاب حكى المحبّ في انسكاب دموعه، والتهاب النار بين ضلوعه، سحابة تحدو من الغيوم جمالا، وتمدّ من الأمطار حبالا، سحابة ترسل الأمطار أمواجا، والأمواج أفواجا، تحللت عقد السماء بالدّيمة الهطلاء، غيث أجشّ (6) يروي الهضاب والآكام (7)، ويحيي النبات والسّوام (8)، غيث كغزارة فضلك، وسلاسة طبعك، وسلامة عقدك، وصفاء ودّك، وبل كالنبل، سحابة يضحك من بكائها الرّوض، وتخضرّ من سوادها الأرض، سحابة لا تجفّ جفونها ولا يخفّ أنينها،
__________
(1) البلق: سواد وبياض. محيط المحيط (بلق).
(2) السّنّور: الهرّ. محيط المحيط (سنر).
(3) يقال: امرأة صناع اليدين: أي حاذقة ماهرة. لسان العرب (صنع).
(4) الزرافين: جمع زرفين وهي حلقة للباب أو كل حلقة. محيط المحيط (زرفن).
(5) قوله: أسعد السحاب جفون العشّاق: كناية عن بكاء الفرح.
(6) الأجشّ: الغليظ الصوت. محيط المحيط (جشش).
(7) الآكام: جمع أكمة وهي التلّ. محيط المحيط (أكم).
(8) السّوام: الإبل الراعية. محيط المحيط (سوم).(1/184)
ديمة روّت أديم الثرى، ونبهت عيون النّور من الكرى، سحابة ركبت أعناق الرياح، وسحّت كأفواه الجراح، مطر كأفواه القرب، ووحل إلى الركب، أندية منّ الله معها على البيوت بالثّبوت، وعلى السقوف بالوقوف، أقبل السّيل ينحدر انحدارا، ويحمل أحجارا وأشجارا، كأن به جنة، أو في أحشائه أجنّة.
وبعض ما مرّ من هذه الألفاظ محلول نظام ما تقدّم إنشاده.
ولهم في مقدمات المطر
لبست السماء جلبابها، وسحبت السحائب أذيالها، قد احتجبت الشمس في سرادق الغيم، ولبس الجوّ مطرفه الأدكن، باحت الريح بأسرار النّدى، وضربت خيمة الغمام، ورشّ جيش النسيم، وابتلّ جناح الهواء، واغرورقت مقلة السماء، وبشّر النسيم بالندى، واستعدت الأرض للقطر، هبّت شمائل الجنائب، لتأليف شمل السحائب. تألّفت أشتات الغيوم، وأسبلت السّتور على النجوم.
وفي الرعد والبرق
قام خطيب الرّعد، ونبض عرق البرق، سحابة ارتجزت (1) رواعدها، وأذهبت ببروقها مطاردها، نطق لسان الرعد، وخفق قلب البرق، فالرعد ذو صخب، والبرق ذو لهب، ابتسم البرق عن قهقهة الرعد، زأرت أسد الرعد، ولمعت سيوف البرق، رعدت [سيوف] الغمائم، وبرقت، وانحلّت عزاليّ السماء فطبقت، هدرت رواعدها، وقربت أباعدها، وصدقت مواعدها، كأن البرق قلب مشوق، بين التهاب وخفوق.
ويتصل بهذه الأنحاء
ما حكاه عمر بن علي المطوعي قال: رأى الأمير السيد أبو الفضل عبيد الله بن أحمد أدام الله عزّه! أيام مقامه بجوين (2) أن يطالع قرية من قرى ضياعه تدعى نجاب على سبيل التنزّه والتفرّج، فكنت في جملة من استصحبه إليها من أصحابه، واتّفق أنّا وصلنا والسماء مصحية، والجوّ صاف لم يطرز ثوبه بعلم الغمام، والأفق فيروزج لم يعبق به كافور السحاب فوقع الاختيار على ظلّ شجرة باسقة الفروع، متّسقة الأوراق
__________
(1) ارتجزت: صوّتت يقال: ارتجز الرعد إذا دمدم. محيط المحيط (رجز).
(2) جوين، بضم الجيم وفتح الواو وسكون الياء: اسم كورة تمتدّ من بسطام إلى نيسابور. معجم البلدان (ج 2ص 192).(1/185)
والغصون، قد سترت ما حواليها من الأرض طولا وعرضا، فنزلنا تحتها مستظلّين بسماوة أفنانها (1)، مستترين من وهج الشمس بستارة أغصانها، وأخذنا نتجاذب أذيال المذاكرة، ونتسالب أهداب المناشدة والمحاورة فما شعرنا بالسّماء إلّا وقد أرعدت وأبرقت، وأظلمت بعد ما أشرقت، ثم جادت بمطر كأفواه القرب فأجادت، وحكت أنامل الأجواد ومدامع العشاق، بل أوفت عليها وزادت، حتى كاد غيثها يعود عيثا (2)، وهمّ وبلها أن يستحيل ويلا، فصبرنا على أذاها، وقلنا: سحابة صيف عما قليل تقشّع، فإذا نحن بها قد أمطرتنا بردا كالثّغور، لكنها من ثغور العذاب، لا من الثغور العذاب، فأيقنّا بالبلاء، وسلّمنا لأسباب القضاء فما مرت إلّا ساعة من النهار، حتى سمعنا خرير الأنهار، ورأينا السّيل قد بلغ الزّبى (3)، والماء قد غمر القيعان والرّبى فبادرنا إلى حصن القرية لائذين من السّيل بأفنيتها، وعائذين من القطر بأبنيتها، وأثوابنا قد صندل كافوريّها ماء الوبل، وغلّف طرازيّها طين الوحل، ونحن نحمد الله تعالى على سلامة الأبدان، وإن فقدنا بياض الأكمام والأردان، ونشكره على سلامة الأنفس والأرواح، شكر التاجر على بقاء رأس المال إذا فجع بالأرباح فبتنا تلك الليلة في سماء تكف ولا تكفّ (4)، وتبكي علينا إلى الصباح بأدمع هوام (5)، وأربعة سجام (6) فلما سلّ سيف الصبح من غمد الظلام، وصرف بوالي الصحو عامل الغمام، رأينا صواب الرأي أن نوسع الإقامة بها رفضا، ونتّخذ الارتحال عنها فرضا فما زلنا نطوي الصحارى أرضا فأرضا، إلى أن وافينا المستقرّ ركضا فلمّا نفضنا غبار ذلك المسير، الذي جمعنا في ربقة الأسير، وأفضينا إلى ساحة التيسير، بعد ما أصبنا بالأمر العسير، وتذاكرنا ما لقينا من التعب والمشقّة، في قطع ذلك الطريق وطيّ تلك الشّقة، أخذ الأمير السيد أطال الله بقاءه! القلم فعلق هذه الأبيات ارتجالا: [المتقارب]
دهتنا السماء غداة السّحاب ... بغيث على أفقه مسبل
فجاء برعد له رنّة ... كرنّة ثكلى ولم تثكل
وثنّى بوبل عدا طوره ... فعاد وبالا على الممحل
__________
(1) السّماوة: رواق البيت. الأفنان: جمع فنن وهو الغصن. محيط المحيط (سمو) و (فنن).
(2) العيث: الفساد. محيط المحيط (عيث).
(3) هو مثل، وهو هكذا: «بلغ السّيل الزّبى» يضرب لما جاوز الحدّ، والزّبى: جمع زبية وهي حفرة للأسد إذا أرادوا صيده. مجمع الأمثال (ج 1ص 91).
(4) تكف: تسيل. تكفّ: تمتنع. محيط المحيط (وكف) و (كفف).
(5) الأدمع الهوام: السائلة. محيط المحيط (هما).
(6) السّجام: جمع ساجمة وهي الممطرة. محيط المحيط (سجم).(1/186)
وأشرف أصحابنا من أذاه ... على خطر هائل معضل
فمن لائذ بفناء الجدار ... وآو إلى نفق مهمل
ومن مستجير ينادي: الغريق ... هناك، ومن صارخ معول
وجادت علينا سماء السقوف ... بدمع من الوجد لم يهمل
كأنّ حراما لها أن ترى ... يبيسا من الأرض لم يبلل
وأقبل سيل له روعة ... فأدبر كلّ عن المقبل
يقلّع ما شاء من دوحة ... وما يلق من صخرة يحمل
كأنّ بأحشائه إذ بدا ... أجنّة حبلى ولم تحبل
فمن عامر ردّه غامرا (1) ... ومن معلم عاد كالمجهل
كفانا بليّته ربّنا ... فقد وجب الشكر للمفضل
فقل للسماء ارعدي وابرقي ... فإنّا رجعنا إلى المنزل
أخذ المطوعي قوله: «فلما سلّ سيف الصبح من غمد الظلام» من قول أبي الفتح البستي: [الرمل]
ربّ ليل أغمد الأنوار إلّا ... نور ثغر أو مدام أو ندام
قد نعمنا بدياجيه إلى أن ... سلّ سيف الصبح من غمد الظلام
[وقال بعض أهل العصر، وهو أبو العباس الناشىء] [الطويل]:
خليليّ، هل للمزن مقلة عاشق ... أم النار في أحشائها وهي لا تدري؟
أشارت إلى أرض العراق فأصبحت ... وكاللؤلؤ المنثور أدمعها تجري
سحاب حكت ثكلى أصيبت بواحد ... فعاجت له نحو الرياض على قبر
تسّربل وشيا من حزون تطّرزت ... مطارفها طرزا من البرق كالتّبر
فوشيٌ بلا رقم، ورقم بلا يد ... ودمع بلا عين، وضحك بلا ثغر
وقال آخر: [المتقارب]
أرقت لبرق شديد الوميض ... ترامى غواربه بالشّهب
كأنّ تألّقه في السماء ... سطور كتبن بماء الذهب
__________
(1) الغامر: الخراب. محيط المحيط (غمر).(1/187)
وقال ابن المعتز: [الطويل]
كأنّ الرّباب الجون دون سحابه (1) ... خليع من الفتيان يسحب مئزرا
إذا لحقته خيفة من رعوده ... تلفّت واستلّ الحسام المذكّرا
وقد قال حسان بن ثابت: [المتقارب]
كأن الربّاب دوين السحاب (2) ... نعام تعلّق بالأرجل
وقال ابن المعتز: [الرجز]
باكية يضحك فيها برقها ... موصلة بالأرض مرخاة الطّنب
رأيت فيها برقها منذ بدا ... كمثل طرف العين أو قلب يجب (3)
جرت بها ريح الصبا حتى بدا ... منها لي البرق كأمثال الشهب
تحسبه طورا إذا ما انصدعت ... أحشاؤها عنه شجاعا يضطرب (4)
وتارة تحسبه كأنه ... أبلق مال جلّه حين وثب (5)
وتارة تحسبه كأنه ... سلاسل مفصولة من الذهب
وقال الطائي (6): [الرجز]
يا سهم للبرق الذي استطارا ... صار على رغم الدّجى نهارا (7)
آض لنا ماء وكان نارا (8)
وينشد أصحاب المعاني: [البسيط]
نار تجدّد للعينين نضرتها ... والنار تلفح عيدانا فتحترق
__________
(1) الرّباب: السحاب الذي لا تراه. الجون: الأسود. محيط المحيط (ربب) و (جون).
(2) دوين: تصغير «دون».
(3) وجب القلب يجب وجوبا: خفق ورجف. محيط المحيط (وجب).
(4) الشّجاع، بضم الشين وكسرها: الحيّة. محيط المحيط (شجع).
(5) الأبلق: الجواد يرتفع تحجيله إلى الفخذين، والتحجيل: بياض في القوائم. الجلّ: ما يوضع على ظهر الجواد أو البعير. لسان العرب (بلق) و (حجل) و (جلل).
(6) ديوان أبي تمام (ص 373).
(7) في الديوان: «بات» بدل «صار».
(8) عجز البيت في الديوان هي: أرضى الثرى وأسخط الغبارا
وآضى: صار. لسان العرب (أيض).(1/188)
وقال ابن المعتز يمدح الشّرب في الصّحو، ويذمّه في المطر: [الخفيف]
أنا لا أشتهي سماء كبطن ال ... عير والشّرب تحتها في خراب (1)
بين سقف قد صار منخل ماء ... وجدار ملقى وتلّ تراب
وبيوت يوقّع الوكف فيه ... نّ وإيقاعه بغير صواب (2)
إنما أشتهي الصّبوح على وج ... هـ سماء مصقولة الجلباب
ونسيم من الصّبا يتمشّى ... فوق روض ند جديد الشّباب
وكأنّ الشمس المضيئة دينا ... ر جلته حدائد الضّرّاب
في غداة وكأسها مثل شمس ... طلعت في ملاءة من شراب
أو عروس قد ضمّخت بخلوق ... فهي صفراء في قميص حباب
وغناء لا عذر للعود فيه ... بتندّي الأوتار والمضراب
ونقاء البساط من وضر الطّي ... ن ومسح الأقدام في كلّ باب
ونشاط الغلمان إن عرضت حا ... جاتنا في مجيئهم والذّهاب
وجفاف الريحان والنرّجس ... الغضّ بأيدي الخلّان والأصحاب
لا تندّى أنوفهم كلّما ... حيّوا بضغث ندى أنوف الكلاب
ذاك يوم أراه غنما وحظّا ... من عطاء المهيمن الوهّاب
وقال الصّنوبري: [المتقارب]
أنيس ظباء بوحش الظبا ... وصبغ حيا مثل صبغ الحيا
ويوم تكلّله الشمس من ... صفاء الهوى وصفاء الهوا
بشمس الدّنان وشمس القيان ... وشمس الجنان وشمس السّما
وشبيه بالأبيات التي كتبها ثعلب إلى أبي العباس بن المعتز لجميل قول الآخر:
[الطويل]
وما وجد ملواح من الهيم خلّيت ... عن الورد حتى جوفها يتصلصل (3)
تحوم وتغشاها العصيّ وحولها ... أقاطيع أنعام تعلّ وتنهل
بأكثر منّي لوعة وصبابة ... إلى الورد إلّا أنّني أتجمّل
__________
(1) العير: الحمار الوحشي. الشّرب: جمع شارب. محيط المحيط (عير) و (شرب).
(2) الوكف: مصدر وكف يقال: وكف الماء إذا قطر وسال قليلا قليلا. محيط المحيط (وكف).
(3) الملواح: السريع العطش. الهيم: جمع هيماء، والناقة الهيماء: التي أصابها داء الهيام، والهيام:
أشدّ العطش. يتصلصل: يصوّت. محيط المحيط (لوح) و (هيم) و (صلصل).(1/189)
وقال أبو حيّة النميري (1): [الطويل]
كفى حزنا أنّي أرى الماء معرضا ... لعيني ولكن لا سبيل إلى الورد
وما كنت أخشى أن تكون منيّتي ... بكفّ أعزّ الناس كلّهم عندي
قال ابن المقفّع: كان لي أخ أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما عظّمه في عيني صغر الدنيا في عينه، وكان خارجا من سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان خارجا من سلطان فرجه، فلا تدعوه إليه مؤنة، ولا يتسخفّ له رأيا ولا بدنا.
وكان لا يتأثر عند نعمة، ولا يستكين عند مصيبة. وكان خارجا من سلطان لسانه، فلا يتكلّم بما لا يعلم، ولا يماري فيما علم، وكان خارجا من سلطان الجهالة، فلا يتقدّم أبدا إلا على ثقة بمنفعة، وكان أكثر دهره صامتا، فإذا قال بزّ القائلين، وكان ضعيفا مستضعفا، فإذا جدّ الجدّ، فهو اللّيث عاديا (2). وكان لا يدخل في دعوى، ولا يشارك في مراء (3)، ولا يدلي بحجّة حتى يرى قاضيا فهما، وشهودا عدولا. وكان لا يلوم أحدا فيما يكون العذر في مثله حتى يعلم ما عذره.
وكان لا يشكو وجعه إلّا عند من يرجو عنده البرء، ولا يستشير صاحبا إلا أن يرجو منه النصيحة. وكان لا يتبرّم ولا يتسخّط، ولا يتشكّى ولا يتشهّى، ولا ينتقم من العدوّ، ولا يغفل عن الوليّ، ولا يخصّ نفسه بشيء دون إخوانه من اهتمامه وحيلته وقوته. فعليك بهذه الأخلاق إن أطقتها، ولن تطيق، ولكن أخذ القليل خير من ترك الجميع.
وعلى ذكر قوله: «وإن قال بزّ القائلين» قال ابن كناسة واسمه محمد بن عبد الله، ويكنى أبا يحيى في إبراهيم بن أدهم (4) الزاهد: [الطويل]
رأيتك لا ترضى بما دونه الرضا ... وقد كان يرضى دون ذاك ابن أدهما (5)
__________
(1) أبو حيّة النميري: هو الهيثم بن الربيع، شاعر مجيد، من أهل البصرة. توفي نحو 183هـ. الشعر والشعراء (ص 658) والأغاني (ج 16ص 331) والمؤتلف والمختلف (ص 103) والأعلام (ج 8 ص 103).
(2) عاديا: جاءت منصوبة على الحال.
(3) المراء: الجدال. محيط المحيط (مرى).
(4) محمد بن عبد الله الملقب بكناسة، من شعراء الدولة العباسية، كان يتجنّب في شعره المدح والهجاء. توفي سنة 207هـ. الأغاني (ج 13ص 363) والأعلام (ج 6ص 221). والأبيات، عدا البيت الرابع، في الأغاني (ج 13ص 364363). وإبراهيم بن أدهم: زاهد مشهور، أخباره مشهورة في مبتدإ زهده، توفي سنة 161هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 1ص 31) وفوات الوفيات (ج 1ص 13) والبداية والنهاية (ج 10ص 135) والأعلام (ج 1ص 31).
(5) رواية البيت في الأغاني هي:(1/190)
وكان يرى الدّنيا صغيرا عظيمها ... وكان لأمر الله فيها معظّما (1)
وأكثر ما تلقاه في الناس صامتا ... وإن قال بزّ القائلين فأفحما (2)
يشيع الغنى في الناس إن مسّه الغنى ... وتلقى به البأساء عيسى بن مريما
أهان الهوى حتى تجنّبه الهوى ... كما اجتنب الجاني الدم الطالب الدّما
ألفاظ لأهل العصر في ذكر التقى والزهد
فلان عذب المشرب، عفّ المطلب، نقيّ الساحة من المآثم، بريء الذمة من الجرائم، إذا رضي لم يقل غير الصدق، وإذا سخط لم يتجاوز جانب الحقّ، يرجع إلى نفس أمّارة بالخير، بعيدة من الشرّ، مدلولة على سبيل البرّ أعرض عن زبرج الدنيا وخدعها، وأقبل على اكتساب نعم الآخرة ومنعها. كفّ كفّه عن زخرف الدنيا ونضرتها، وغضّ طرفه عن متاعها وزهرتها، وأعرض عنها وقد تعرّضت له بزينتها، وصدّ عنها وقد تصدّت له في حليتها.
فلان ليس ممن يقف في ظلّ الطمع، فيسفّ إلى حضيض الطّبع (3)، نقيّ الصحيفة، عليّ عن الفضيحة، عفّ الإزار، طاهر من الأوزار، قد عاد لإصلاح المعاد، وإعداد الزاد.
وكان ابن المقفع من أشراف فارس، وهو من حكماء زمانه، وله مصنّفات كثيرة، ورسائل مختارة وكان محجما عن قول الشعر، وقيل له: لم لا تقول الشعر؟ فقال: الذي أرضاه لا يجيئني، والذي يجيء لا أرضاه.
أخذ هذا بعضهم فقال: [الطويل]
أبى الشعر إلّا أن يفيء رديّه ... إليّ، ويأبى منه ما كان محكما
فيا ليتني إذ لم أجد حوك وشيه ... ولم أك من فرسانه كنت مفحما
__________
رأيتك ما يغنيك ما دونه الغنى ... وقد كان يغني دون ذاك ابن أدهما
(1) في الأغاني: «لحقّ» بدل «لأمر».
(2) رواية عجز البيت في الأغاني هي: فإن قال بدّ القائلين وأحكما
(3) الطّبع، بفتح الطاء والباء جميعا: الدّنس أو الوسخ الشديد من الصدإ. محيط المحيط (طبع).(1/191)
وكان ظريفا في دينه (1)، وذكر أنه مرّ ببيت النار فقال (2): [الكامل]
يا بيت عاتكة الّذي أتعزّل (3) ... حذر العدا وبه الفؤاد موكّل
أصبحت أمنحك الصدود، وإنني (4) ... قسما إليك مع الصدود لأميل
البيتان للأحوص بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح الأنصاري، أخي بني عمرو بن عوف. وعاصم بن ثابت حميّ الدّبر (5)، قتله بنو لحيان من هذيل يوم الرجيع، فأرادوا أن يبعثوا برأسه إلى مكة، وكانت سلافة بنت سعد نذرت لتشربنّ في رأسه الخمر، وكان قتل بعض ولدها من طلحة بن أبي طلحة أحد بني عبد الدار يوم أحد، فلمّا أرادوا أخذ رأسه حمته الدّبر وهي النحل فلم يجدوا إليه سبيلا، وجعلوا يقولون: إنّ الدّبر لو قد أمسى صرنا إلى حشو استه، فلما أمسوا بعث الله أتيّا (6) فواراه منهم. وعاتكة التي ذكر هي عاتكة بنت يزيد بن معاوية.
ولمّا دخل أبو جعفر المنصور المدينة قال للربيع: ابغني رجلا عاقلا عالما بالمدينة ليقفني على دورها فقد بعد عهدي بديار قومي فالتمس له الربيع فتى من أعقل الناس وأعلمهم، فكان لا يبتدىء بإخبار حتى يسأله المنصور فيجيبه بأحسن عبارة، وأجود بيان، وأوفى معنى، فأعجب المنصور به، وأمر له بمال، فتأخّر عنه، ودعته الضرورة إلى استنجازه، فاجتاز ببيت عاتكة، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص: «يا بيت عاتكة الذي أتعزّل» البيت، ففكر المنصور في قوله، وقال: لم يخالف عادته بابتداء الإخبار دون الاستخبار إلّا لأمر، وأقبل يردّد القصيدة ويتصفّحها بيتا
__________
(1) كان ظريفا في دينه: أي إنه كان متّهما لأن ابن المقفع، كما مر معنا قبل قليل، كان مجوسيّا ثم أسلم.
(2) البيتان للأحوص بن محمد الأنصاري، وهما في الأغاني (ج 21ص 109) ووفيات الأعيان (ج 2 ص 297).
(3) أتعزّل: أتنحّى عنه. محيط المحيط (عزل).
(4) في وفيات الأعيان: «إني لأمنحك» بدل «أصبحت أمنحك».
(5) حميّ الدّبر: محميّ من الدّبر، والدّبر: جماعة النحل والزبابير. محيط المحيط (حمي) و (دبر).
(6) الأتيّ: السّيل. محيط المحيط (أتي).(1/192)
بيتا حتى انتهى إلى قوله فيها (1):
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل (2)
فقال: يا ربيع، هل أوصلت إلى الرجل ما أمرنا له به؟ فقال: أخّرته عنه لعلّة ذكرها الربيع فقال: عجّله له مضاعفا، وهذا ألطف تعريض من الرجل، وحسن فهم من المنصور.
[في الحسد]
ومن كلام ابن المقفع: الحاسد لا يزال زاريا على نعمة الله ولا يجد لها مزالا، ومكدّرا على نفسه ما به من النعمة فلا تجد لها طعما، ولا يزال ساخطا على من لا يترضّاه، ومتسخّطا لما [لا] ينال، فهو كظوم هلوع جزوع، ظالم أشبه شيء بمظلوم، محروم الطّلبة، منغّص العيشة، دائم التسخّط، لا بما قسم له يقنع، ولا على ما لم يقسم له يغلب، والمحسود يتقلّب في فضل نعم الله مباشرا للسرور، ممهلا فيه إلى مدّة لا يقدر الناس لها على قطع ولا انتقاص، ولو صبر الحاسد على ما به لكان خيرا له لأنه كلما أراد أن يطفىء نور الله أعلاه، ويأبى الله إلّا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون.
قال الطائي (3):
لولا التّخوّف للعواقب لم تزل ... للحاسد النّعمى على المحسود
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
أخذه البحتري فقال (4): [الطويل]
ولن تستبين الدّهر موضع نعمة ... إذا أنت لم تدلل عليها بحاسد
ولقد أحسن القائل: [البسيط]
إن يحسدوني فإني غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
__________
(1) البيت في الأغاني (ج 21ص 111) ووفيات الأعيان (ج 2ص 297).
(2) في الأغاني ووفيات الأعيان: «الحديث» بدل «اللسان». ومذق اللسان: الذي يمزج الجدّ والهزل.
لسان العرب (مذق).
(3) ديوان أبي تمام (ص 77) من قصيدة مديح.
(4) ديوان البحتري (ج 1ص 55) من قصيدة مديح.(1/193)
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظا بما يجد
أنا الذي يجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صدرا عنها ولا أرد (1)
وقال ابن الرومي لصاعد بن مخلد: [الطويل]
وضدّ لكم لا زال يسفل جدّه (2) ... ولا برحت أنفاسه تتصعّد
يرى زبرج الدنيا يزفّ إليكم ... ويغضي عن استحقاقكم فهو يفأد (3)
ولو قاس باستحقاقكم ما منحتم ... لأطفأ نارا في الحشا تتوقّد
وآنق من عقد العقيلة جيدها ... وأحسن من سربالها المتجرّد (4)
وقال معن بن زائدة: [البسيط]
إني حسدت فزاد الله في حسدي ... لا عاش من عاش يوما غير محسود
ما يحسد المرء إلّا من فضائله ... بالعلم والظّرف، أو بالبأس والجود
ألفاظ لأهل العصر في ذكر الحسد
دبّت عقارب الحسدة، وكمنت أفاعيهم بكلّ مرصد. فلان معجون من طينة الحسد والمنافسة، مضروب في قالب الضّيق والمناقشة. قد وكل بي لحظا ينتضل بأسهم الحسد.
فلان جسد كلّه حسد، وعقد كلّه حقد. الحاسد يعمى عن محاسن الصّبح، بعين تدرك حقائق القبح.
كتب محمد بن حماد يعرّض في حاجة له ببيتي شعر إلى الواثق يقول: [الطويل]
جذبت دواعي النفس عن طلب المنى ... وقلت لها كفي عن الطّلب المزري
فإنّ أمير المؤمنين بكفّه ... مدار رحى بالرزق دائبة تجري
فوقع تحتها: جذبك نفسك عن امتهانها بالمسألة دعاني إلى صونك بسعة فضلي عليك، فخذ ما طلبت هنيئا.
قال علي بن عبيدة: أتيت الحسن بن سهل بفم الصلح فأقمت ببابه ثلاثة أشهر لا
__________
(1) الصدر، بفتح الصاد والدال: الاسم من صدر أي رجع عن الماء. والورد: خلاف الصّدر. محيط المحيط (صدر) و (ورد).
(2) الجدّ، بفتح الجيم: الحظّ. محيط المحيط (جدد).
(3) يفأد: يشكو فؤاده. محيط المحيط (فأد).
(4) السّربال: القميص. المتجرّد: العريان. محيط المحيط (سربل) و (جرد).(1/194)
أحظى منه بطائل، فكتبت إليه: [الطويل]
مدحت ابن سهل ذا الأيادي وما له ... بذاك يد عندي ولا قدم بعد
وما ذنبه، والناس إلّا أقلّهم ... عيال له، إن كان لم يك لي جدّ
سأحمده للناس حتى إذا بدا ... له فيّ رأي عاد لي ذلك الحمد
فكتب إليّ: باب السلطان يحتاج إلى ثلاث خلال: عقل وصبر ومال، فقلت للواسطة: تؤدّي عني؟ قال: نعم. قلت: تقول له: لو كان لي مال لأغناني عن الطلب إليك، أو صبر لصبرت عن الذّلّ ببابك، أو عقل لاستدللت به على النزاهة عن رفدك! فأمر لي بثلاثين ألف درهم.
وقال علي بن عبيدة الريحاني يوما، وقد رأى جارية يهواها: لولا البقيا على الضمائر لبحنا بما تجنّه السرائر، لكن نيران الحبّ تتدارك بالإخفاء، ولا تعاجل بالإبداء فإن دوامها مع إغلاق أبواب الكتمان، وزوالها في فتح مصارع الإعلان. وقد قال محمد بن يزيد الأموي: [مجزوء الخفيف]
لا وحبّيك لا أصا ... فح بالدّمع مدمعا
من بكى حبّه استرا ... ح وإن كان موجعا
ومن كلام عليّ بن عبيدة: اجعل أنسك آخر ما تبذل من ودّك، وصن الاسترسال منك، حتى تجد له مستحقا فإن الأنس لباس العرض، وتحفة الثقة، وحباء الأكفاء، وشعار الخاصّة، فلا تخلق جدّته إلّا لمن يعرف قدر ما بذلت له منك.
وقال: لولا حركات من الابتهاج أجد حسّها عند رؤيتك في نفسي لا أعرف لها مثيرا من مظانّها إلّا مؤانستك لي، لأبقيت عليك من العناء، وخفّفت عنك مؤونة اللقاء لكني أجد من الزيادة بك عندي أكثر من قدر راحتك في تأخّرك عني، فأضيق عن احتمال الخسران بالوحدة منك.
وقال: لوجلى من طلوع الملالة بكرّ اللّقاء أستخفّ التّجافي مع شدّة الشوق، لتبقى جدّة الحال عند من أحبّ دوامه لي وردّ طرف الشوق باطنا أيسر من معاناة الجفاء مع الودّ ظاهرا.
وقال بعض المحدثين: [البسيط]
كم استراح إلى صبر فلم يرح ... صبّ إليكم من الأشواق في ترح
تركتم قلبه من حزن فرقتكم ... لو يرزق الوصل لم يقدر على الفرح
وقال أعرابي: [الطويل](1/195)
كم استراح إلى صبر فلم يرح ... صبّ إليكم من الأشواق في ترح
تركتم قلبه من حزن فرقتكم ... لو يرزق الوصل لم يقدر على الفرح
وقال أعرابي: [الطويل]
ألا قل لدار بين أكثبة الحمى ... وذات الغضى: جادت عليك الهواضب (1)
أجدّك لا آتيك إلّا تتابعت ... دموع، أضاعت ما حفظت، سواكب
ديار تنسّمت المنى نحو أرضها ... وطاوعني فيها الهوى والحبائب
ليالي لا الهجران محتكم بها ... على وصل من أهوى ولا الظنّ كاذب
[آداب الجلوس]
تنازع إبراهيم بن المهدي وابن بختيشوع الطبيب بين يدي أحمد بن أبي دواد في مجلس الحكم في عقار بناحية السّواد، فأربى عليه إبراهيم وأغلظ له، فأحفظ ذلك ابن أبي دواد، فقال: يا إبراهيم، إذا نازعت في مجلس الحكم بحضرتنا امرءا فلا أعلمنّ أنك رفعت عليه صوتا، ولا أشرت بيد، وليكن قصدك أمما (2)، وريحك ساكنة، وكلامك معتدلا، مع وفاء مجالس الخليفة حقوقها من التّعظيم، والتوقير، والاستكانة، والتوجّه إلى الواجب فإن ذلك أشكل بك، وأشمل لمذهبك في محتدك، وعظيم خطرك، ولا تعجلنّ، فربّ عجلة تهب ريثا، والله يعصمك من خطل القول والعمل، ويتمّ نعمته عليك كما أتّمها على أبويك من قبل، إنّ ربّك حكيم عليم.
فقال إبراهيم: أصلحك الله تعالى: أمرت بسداد، وحضضت على رشاد ولست عائدا لما يثلم مروءتي عندك، ويسقطني من عينك، ويخرجني من مقدار الواجب إلى الاعتذار، فها أنا معتذر إليك من هذه البادرة اعتذار مقرّ بذنبه، معترف بجرمه، ولا يزال الغضب يستفزني بمواده، فيردني مثلك بحلمه، وتلك عادة الله عندك وعندنا منك وقد جعلت حقيّ من هذا العقار لابن بختيشوع، فليت ذلك يكون وافيا بأرش (3) الجناية عليه ولم يتلف مال أفاد موعظة و {حَسْبُنَا اللََّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (4).
لمّا استوثق أمر أردشير بن بابك وجمع ملوك الطوائف، وتمّ له ملكه، جمع الناس فخطبهم خطبة حضّ فيها على الألفة والطاعة، وحذّرهم المعصية ومفارقة الجماعة، وصفّ الناس أربعة صفوف فخرّوا له سجّدا، وتكلّم متكلّمهم فقال:
__________
(1) الهواضب: جمع هاضية وهي السحابة الممطرة. لسان العرب (هضب).
(2) الأمم: القرب. محيط المحيط (امم).
(3) الأرش: الدية. محيط المحيط (أرش).
(4) سورة آل عمران 3، الآية 173.(1/196)
لا زلت أيها الملك محبوّا من الله تعالى بعزّ النصر، ودرك الأمل، ودوام العافية، وتمام النّعمة، وحسن المزيد، ولا زلت تتابع لديك المكرمات، وتشفع إليك الذّمامات (1)
حتى تبلغ الغاية التي يؤمن زوالها، وتصل إلى دار القرار التي أعدّها الله تعالى لنظرائك من أهل الزّلفى عنده والمكانة منه، ولا زال ملكك وسلطانك باقيين بقاء الشمس والقمر، زائدين زيادة النجوم والأنهار، حتى تستوي أقطار الأرض كلّها في علوّ قدرك عليها، ونفاذ أمرك فيها، فقد أشرق علينا من ضياء نورك ما عمّنا عموم ضياء الصبح، ووصل إلينا من عظيم رأفتك ما اتّصل بأنفسنا اتصال النسيم فأصبحت قد جمع الله بك الأيدي بعد افتراقها، وألّف القلوب بعد توقّد نيرانها، ففضلك الذي لا يدرك بوصف، ولا يحدّ بنعت.
فقال أردشير: طوبى للممدوح إذا كان للمدح مستحقّا، وللداعي إذا كان للإجابة أهلا.
وقيل لأردشير: أيّها الملك الرفيع الذي حلب العصور، وجرّب الدّهور، أي الكنوز أعظم قدرا؟ قال: العلم الذي خفّ محمله، فثقلت مفارقته، وكثرت مرافقته، وخفي مكانه، فأمن من السّرق عليه فهو في الملأ جمال، وفي الوحدة أنيس، يرأس به الخسيس، ولا يمكن حاسدك عليه انتقاله عنك. قيل له: فالمال؟ قال: ليس كذلك.
محمله ثقيل، والهمّ به طويل إن كنت في ملأ شغلك الفكر فيه، وإن كنت في خلوة أتعبتك حراسته.
[سير الملوك وأخبارهم]
قال الجاحظ: حدّثني الفضل بن سهل قال: كانت رسل الملوك إذا جاءت بالهدايا يجعل اختلافهم إليّ، فتكون المؤامرات فيما معهم من ديواني، فكنت أسأل رجلا رجلا منهم عن سير ملوكهم، وأخبار عظمائهم، فسألت رسول ملك الروم عن سيرة ملكهم، فقال: بذل عرفه، وجرّد سيفه، فاجتمعت عليه القلوب رغبة ورهبة، لا ينظر جنده، ولا يحرج رعيّته سهل النّوال، حزن النكال، الرجاء والخوف معقودان في يده.
قلت: فكيف حكمه؟ فقال: يردّ الظّلم، ويردع الظالم، ويعطي كل ذي حقّ حقه فالرعية اثنان: راض، ومغتبط.
قلت: فكيف هيبتهم له؟ قال: يتصوّر في القلوب، فتغضي له العيون.
__________
(1) الذّمامات: جمع ذمام وهو العهد ونحوه. لسان العرب (ذمم).(1/197)
قال: فنظر رسول ملك الحبشة إلى إصغائي إليه، وإقبالي عليه، فسأل الترجمان:
ما الذي يقوله الرومّي؟ قال: يذكر ملكهم، ويصف سيرته فتكلّم مع الترجمان بشيء، فقال لي الترجمان: إنه يقول: إنّ ملكهم ذو أناة عند القدرة، وذو حلم عند الغضب، وذو سطوة عند المغالبة، وذو عقوبة عند الاجترام، قد كسا رعيّته جميل نعمته، وخوّفهم عسف نقمته فهم يتراءونه رأي الهلال خيالا، ويخافونه مخافة الموت نكالا، وسعهم عدله، وردعتهم سطوته، فلا تمتهنه مزحة، ولا تؤمّنه غفلة إذا أعطى أوسع، وإذا عاقب أوجع فالناس اثنان: راج وخائف، فلا الراجي خائب الأمل، ولا الخائف بعيد الأجل. قلت:
فكيف هيبتهم له؟ قال: لا ترفع إليه العيون أجفانها، ولا تتبعه الأبصار إنسانها، كأنّ رعيته قطا رفرفت عليها صقور صوائد.
فحدثت المأمون بهذين الحديثين فقال: كم قيمتهما عندك؟ قلت: ألفا درهم. قال:
يا فضل إن قيمتهما عندي أكثر من الخلافة، أما عرفت قول عليّ بن أبي طالب، كرّم الله وجهه: قيمة كلّ امرىء ما يحسن. أفتعرف أحدا من الخطباء البلغاء يحسن أن يصف أحدا من خلفاء الله الراشدين المهديين بهذه الصّفة؟ قلت: لا. قال: فقد أمرت لهما بعشرين ألف دينار، واجعل العذر مادة بيني وبينهما في الجائزة [على المعوز] فلولا حقوق الإسلام وأهله لرأيت إعطاءهما ما في بيت مال الخاصة والعامة دون ما يستحقّانه.
وقال الجاحظ: حدّثني حميد بن عطاء قال: كنت عند الفضل بن سهل، وعنده رسول ملك الخزر، وهو يحدّثنا عن أخت لملكهم، قال: أصابتنا سنة احتدم شواظها (1)
علينا بحرّ المصائب، وصنوف الآفات ففزع الناس إلى الملك، فلم يدر ما يجيبهم به، فقالت أخته: أيها الملك، إن الخوف لله خلق لا يخلق جديده، وسبب لا يمتهن عزيزه، وهو دالّ الملك على استصلاح رعيّته، وزاجره عن استفسادها، وقد فزعت إليك رعيّتك بفضل العجز عن الالتجاء إلى من لا تزيده الإساءة إلى خلقه عزّا، ولا ينقصه العود بالإحسان إليهم ملكا، وما أحد أولى بحفظ الوصية من الموصّي، ولا بركوب الدلالة من الدّال، ولا بحسن الرعاية من الرّاعي. ولم تزل في نعمة لم تغبرها نقمة، وفي رضا لم يكدّره سخط، إلى أن جرى القدر بما عمي عنه البصر، وذهل عنه الحذر، فسلب الموهوب، والواهب هو السالب فعد إليه بكشر النعم، وعذ به من فظيع النّقم، فمتى تنسه ينسك، ولا تجعلنّ الحياء من التذلّل للمعزّ المذلّ سترا بينك وبين رعيتك، فتستحق مذموم العاقبة ولكن مرهم ونفسك بصرف القلوب إلى الإقرار له بكنه القدرة، وبتذلّل الألسن في الدعاء بمحض الشّكر له فإن الملك ربما عاقب عبده ليرجعه عن سيّىء فعل
__________
(1) الشّواظ: لهب لا دخان فيه أو دخان النار وحرّها. محيط المحيط (شوظ).(1/198)
إلى صالح عمل، أو ليبعثه على دائب شكر ليحرز به فضل أجر.
فأمرها الملك أن تقوم فيهم فتنذرهم بهذا الكلام، ففعلت، فرجع القوم وقد علم الله منهم قبول الوعظ في الأمر والنهي فحال عليهم الحول وما منهم مفتقد نعمة كان سلبها، وتواترت عليهم الزيادات بجميل الصّنع فاعترف لها الملك بالفضل، فقلدها الملك فاجتمعت الرعية لها على الطاعة في المكروه والمحبوب.
قال: وهذا وهم أعداء الله تعالى، وضرائر نعمته، ومستوجبو نقمته، أعاد لهم بالشكر ما أرادوا، وأعطاهم بالإقرار له بكنه قدرته ما تمنّوا، فكيف بمن يجمعه على الشكر نوران اثنان: قرآن منزل، ونبيّ مرسل، لو صدقت النيّات، واجتمعت على الافتقار إليه الطلبات لكنهم أنكروا ما عرفوا، وجهلوا ما علموا، فانقلب جدّهم هزلا، وسكوتهم خبلا.
قطعة صادرة من أقوال الملوك دالّة على فضل كرمهم وبعد هممهم
غضب كسرى أنو شروان على بعض مرازبته، فقال: يحطّ عن مرتبته، ولا ينقص من صلته فإن الملوك تؤدّب بالهجران، ولا تعاقب بالحرمان.
واصطنع أنو شروان رجلا فقيل له: إنه لا قديم له. قال: اصطناعنا إياه شرّفه.
قال معاوية، رضي الله عنه: نحن الزمان، من رفعناه ارتفع، ومن وضعناه اتّضع.
وكان يقول: إني لآنف من أن يكون في الأرض جهل لا يسعه حلمي، وذنب لا يسعه عفوي، وحاجة لا يسعها جودي.
عبد الملك بن مروان أفضل الناس من تواضع عن رفعة، وعفا عن قدرة وأنصف عن قوّة.
زياد استشفعوا لمن وراءكم فليس كلّ أحد يصل إلى السلطان، ولا كلّ من وصل إليه يقدر على كلامه.
المهلب عجبت لمن يشتري المماليك بماله، كيف لا يشتري الأحرار بمعروفه! وقد روى هذا لابن المبارك. وقال لبنيه: يا بني، أحسن ثيابكم ما كان على غيركم.
قال أبو تمام الطائي يستهدي فروا، وعرّض بقول المهلب (1): [الطويل]
فهل أنت مهديه بمثل شكيره ... من الشّكر يعلو مصعدا ويصوّب (2)؟
__________
(1) ديوان أبي تمام (ص 52) من قصيدة يخاطب فيها علي بن مرو ويستهديه فروا.
(2) الشكير: ما ينبت من الشعر بين الضفائر. يصوّب: ينخفض. لسان العرب (شكر) و (صوب). يريد(1/199)
فأنت العليم الطّبّ أيّ وصيّة (1) ... بها كان أوصى في الثياب المهلّب
يزيد بن المهلب استكثروا من الحمد فإنّ الذمّ قلّ من ينجو منه.
السفاح ما أقبح بنا أن تكون الدنيا لنا وأولياؤنا خالون من أثرها.
المأمون إنما تطلب الدنيا لتملك، فإذا ملكت فلتوهب. وقال: إنما يتكثّر بالذهب والفضة من يقلّان عنده.
الحسن بن سهل الأطراف منازل الأشراف يتناولون ما يزيدون بالقدرة، وينتابهم من يريدهم بالحاجة. وتعرض له رجل فقال له: من أنت؟ قال: أنا الذي أحسنت إليّ يوم كذا وكذا. فقال: مرحبا بمن توسّل إلينا بنا.
ولما أراد المعتصم أن يشرّف أشناس التركي بعقب فتح الخزمية أمر أصحاب المراتب بالترجّل إليه، فترجّل إليه الحسن بن سهل، فنظر إليه حاجبه يمشي ويتعثّر في مشيه، فبكى، فقال: ما يبكيك؟ إن الملوك شرّفتنا وشرفت بنا.
ومن كلام أهل العصر
للأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير (2) من أقعدته نكاية الأيام أقامته إغاثة الكرام ومن ألبسه الليل ثوب ظلماته نزعه النهار عنه بضيائه.
وله: ابتناء المناقب باحتمال المتاعب، وإحراز الذّكر الجميل بالسّعي في الخطب الجليل.
الصاحب بن عباد: [المتقارب]
وقائلة: لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل في الأمم؟
فقلت: ذريني لما أشتكي ... فإنّ الهموم بقدر الهمم
__________
أن يقول: إن هديتك رخيصة لا تساوي شكيرا من شعرك.
(1) الطّبّ، بفتح الطاء وتشديد الباء: الماهر الحاذق. لسان العرب (طبب).
(2) قابوس بن وشمكير: صاحب جرجان، كان مرّ السياسة، فخلعه الجند، توفي سنة 403هـ. ترجمته.
في وفيات الأعيان (ج 4ص 79) ومعجم الأدباء (ج 4ص 569) ويتيمة الدهر (ج 4ص 59) والنجوم الزاهرة (ج 4ص 233).(1/200)
أبو الطيب المتنبي (1): [البسيط]
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن (2) ... يخلو من الهمّ أخلاهم من الفطن
أبو الفتح البستي: [الرمل]
صاحب السلطان لا بدّ له ... من هموم تعتريه وغمم
والّذي يركب بحرا سيرى ... قحم الأهوال من بعد قحم (3)
ومن كلام الملوك الجاري مجرى الأمثال
أردشير إذا رغبت الملوك عن العدل رغبت الرعيّة عن الطاعة.
أفريدون الأيام صحائف آجالكم، فخلّدوها أحسن أعمالكم.
وقيل للإسكندر: ما بال تعظيمك لمؤدّبك أكثر من تعظيمك لأبيك؟ قال: لأنّ أبي سبب حياتي الفانية ومؤدّبي سبب حياتي الباقية.
ودخل محمد بن زياد مؤدّب الواثق على الواثق، فأظهر إكرامه، وأكثر إعظامه، فقيل له: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال هذا أول من فتق لساني بذكر الله، وأدناني من رحمة الله.
وأشير على الإسكندر بتبييت الفرس (4)، فقال: لا أجعل غلبتي سرقة. وقيل له: لو تزوّجت بنت دارا؟ فقال: لا تغلبني امرأة غلبت أباها.
أنوشروان الملك إذا كثر ماله مما يأخذ من رعيّته كان كمن يعمر سطح بيته بما بقتلعه من قواعد بنيانه.
أبرويز أطع من [فوقك يطعك من] دونك.
السفاح إن من أدنى الناس ووضعائهم من عدّ البخل حزما، والعفو ذلّا. وكان يقول: إذا كان الحلم مفسدة كان العفو معجزة، والصبر حسن إلّا على ما أوقع بالدّين، وأوهى السلطان والأناة محمودة إلّا عند إمكان الفرصة.
__________
(1) ديوان المتنبي (ص 170) وهو مطلع قصيدة يمدح فيها محمد ابن الخطيب الخصيبيّ.
(2) في الديوان: «لدى» بدل «لذا».
(3) القحم: جمع قحمة وهي الشدّة. لسان العرب (قحم).
(4) التبييت: الهجوم بغتة بالليل. لسان العرب (بيت).(1/201)
وقد قال ابن المعتز: [الكامل]
كم فرصة ذهبت فعادت غصّة ... تشجي بطول تلهّف وتندّم (1)
ولما عزم المنصور على الفتك بأبي مسلم فزع من ذلك عيسى بن موسى، فكتب إليه: [الطويل]
إذا كنت ذا رأي فكن ذا تدبّر ... فإن فساد الرّأي أن تتعجّلا
فأجابه المنصور: [الطويل]
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإنّ فساد الرأي أن تتردّدا
ولا تمهل الأعداء يوما بغدوة ... وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا
وهذا في موضعه كقول الإمام علي، كرّم الله وجهه: من فكّر في العواقب لم يشجع.
وقال سعد بن ناشب فأفرط (2): [الطويل]
عليكم بداري فاهدموها فإنها ... تراث كريم لا يخاف العواقبا
إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه ... ونكّب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في رأيه غير نفسه ... ولم يرض إلّا قائم السّيف صاحبا
سأغسل عنيّ العار بالسيف جالبا ... عليّ قضاء الله ما كان جالبا
ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت ... يميني بإدراك الذي كنت طالبا
وكان سعد من مردة العرب وشياطين الإنس، وفيه يقول الشاعر (3): [الطويل]
وكيف يفيق الدهر سعد بن ناشب ... وشيطانه عند الأهلّة يصرع؟
كتب مروان بن محمد الجعدي إلى عبد الله بن عليّ يسأله حفظ حرمه، فقال له:
الحقّ لنا في دمك، وعلينا في حرمك.
__________
(1) الغصّة، بضم الغين وتشديد الصاد: ما اعترض في الحلق. تشجي: تحدث الشجا وهو الغصّة. لسان العرب (غصص) و (شجا).
(2) سعد بن ناشب: شاعر من مردة العرب، ومن أهل البصرة، توفي نحو 110هـ. ترجمته في الشعر والشعراء (ص 585) والأعلام (ج 3ص 88) والأبيات، عدا البيت الأول، في الشعر والشعراء.
(3) البيت في الشعر والشعراء (ص 585).(1/202)
وقال الرشيد لإسماعيل بن صبيح: إياك والدالة (1) فإنها تفسد حرمة، ومنها أتي البرامكة.
وقال المأمون: الملوك تحتمل كلّ شيء إلّا ثلاثا: إفشاء السرّ، والقدح في الملك، والتعرّض للحرم.
المعتصم: إذا نصر الهوى بطل الرّأي.
المنتصر لذّة العفو أطيب من لذّة التشفّي وذلك أن لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذّة التشفّي يلحقها ذمّ الندم.
والمنتصر يقول عن تجربة، لأنه قتل أباه المتوكل (2)، والأمر في ذلك أشهر من أن يذكر، ولكني ألمع منه بالسير:
كان المتوكّل قد عقد لولده المنتصر والمعتزّ والمؤيّد ولاية العهد، ثم تغيّر على المنتصر دون أخويه، وكان يسمّيه المنتظر، ويقول له: أنت تتمنّى موتي، وتنتظر وقتي! ويأمر الندماء أن يعبثوا به، إلى أن أوغر صدره، وأقلّ صبره فلمّا كانت ليلة الأربعاء لثلاث خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين كان المتوكّل يشرب مع الفتح في قصره المعروف بالجعفريّ، ومعه جماعة من الندماء والمغنيّن، وكان المنتصر معهم، فلمّا انصرمت ثلاث ساعات من الليل قال لزرافة التركي: ألا تسعني ساعة حتى أشكو إليك ما يمرّ بي؟ قال: بلى، وجعل يماطله ويطاوله، وغلّق بغا (3) الشرابيّ الأبواب كلّها إلّا باب الماء، ومنه دخل الذين قتلوه، فأوّل من ضربه باغر التركي ضربة قطع بها حبل عاتقه، وتلقّاه الفتح بنفسه فأكبّ عليه، فقتلا جميعا، وبويع المنتصر من ساعته، وكانت مدّة المنتصر في الخلافة مدة شيرويه ابن كسرى حين قتل أباه ستة أشهر.
وقال إبراهيم بن أحمد الأسدي يرثي المتوكّل: [الخفيف]
هكذا فلتكن منايا الكرام ... بين ناي ومزهر ومدام
بين كأسين أروتاه جميعا ... كأس لذّاته وكأس الحمام
يقظ في السرور حتى أتاه ... قدّر الله حتفه في المنام
__________
(1) الدالّة: ما تدلّ به على صديقك من خير قدّمته. لسان العرب (دلل).
(2) المتوكل: هو جعفر بن محمد، الخليفة العباسي، صاحب قصر المتوكلية ببغداد. مات سنة 247هـ. ترجمته في تاريخ بغداد (ج 7ص 165) والكامل في التاريخ (ج 7ص 95) ومروج الذهب (صفحات متفرقة) والأعلام (ج 2ص 127).
(3) بغا: أحد قواد الأتراك. الكامل في التاريخ (ج 7ص 97).(1/203)
والمنايا مراتب يتفاضل ... ن وبالمرهفات موت الكرام
لم يزر نفسه رسول المنايا ... بصنوف الأوجاع والأسقام
هابه معلنا فدبّ إليه ... في ستور الدّجى بحدّ الحسام
أخذ هذا المعنى عبد الكريم بن إبراهيم التيمي، فقال يرثي عيسى بن خلف، صاحب خراج المغرب، وكان قد تناول دواء فمات بسببه: [الطويل]
منايا سددت الطّرق عنها ولم تدع ... لها من ثنايا شاهق متطلّعا
فلمّا رأت سور المهابة دونها ... عليك ولما لم تجد فيك مطمعا
ترقّت بأسباب لطاف ولم تكد ... تواجه موفور الجلالة أروعا
فجاءتك في سرّ الدواء خفيّة ... على حين لم تحذر لداء توقّعا
فلم أر ما لا يتّقى مثل سهمها ... ولا مثلها لم تخش كيدا فترجعا
وقد رثاه البحتري ويزيد المهلبي بمرثيتين من أجود ما قيل في معناهما، وكانا حاضرين ليلة قتله. فاختفى أحدهما في طيّ الباب، والآخر في قناة الشاذروان فمن قصيدة البحتري (1): [الطويل]
تغيّر حسن الجعفريّ وأنسه ... وقوّض بادي الجعفريّ وحاضره
تحمّل عنه ساكنوه فجاءة ... فآضت سواء دوره ومقابره (2)
ولم أر مثل القصر إذ ريع سربه ... وإذ ذعرت أطلاؤه وجآذره (3)
وإذ صيح فيه بالرّحيل فهتّكت ... على عجل أستاره وستائره
إذا نحن زرناه أجدّ لنا الأسى ... وقد كان قبل اليوم يبهج زائره
فأين عميد الناس في كل نوبة (4) ... تنوب وناهي الدهر فيهم وآمره
تخفّى له مغتاله تحت غرّة ... وأولى لمن يغتاله لو يجاهره
صريع تقاضاه السيوف حشاشة ... يجود بها والموت حمر أظافره
حرام عليّ الراح بعدك أو أرى ... دما بدم يجري على الأرض مائره
وهل يرتجى أن يطلب الدم طالب ... مدى الدهر والموتور بالدم واتره (5)
__________
(1) ديوان البحتري (ج 1ص 4745).
(2) في الديوان: «فعادت» بدل «فآضت» وآضت: صارت. لسان العرب (أوض).
(3) في الديوان: «ولم أنس وحش» بدل «ولم أر مثل». والأطلاء: جمع طلا وهو ولد الظبية. والجآذر:
جمع جؤذر وهو ولد البقرة الوحشية. محيط المحيط (طلا) و (جذر).
(4) في الديوان: «وأين» بدل «فأين».
(5) في الديوان: «أرتجي» بدل «يرتجى». والموتور: هو الواتر لأن الذي قتل المتوكل هو ابنه الذي(1/204)
فلا ملّي الباقي تراث الذي مضى ... ولا حمّلت ذاك الدعاء منابره
وهي طويلة (1)، وكان أبو العباس ثعلب يقول فيها: ما قيلت هاشمية أحسن منها، وقد صرّح فيها تصريح من أذهلته المصائب عن تخوّف العواقب.
وقد كان البحتري يرتاح في كثير من شعره إلى ذكره وذكر الفتح بن خاقان، فمن ذلك قوله لبعض من يمدحه (2): [الطويل]
تداركني الإحسان منك، ونالني ... على فاقة ذاك النّدى والتطوّل (3)
ودافعت عنّي حين لا الفتح يرتجى ... لدفع الأذى عني ولا المتوكّل (4)
وقال (5): [الطويل]
مضى جعفر والفتح بين موسّد ... وبين قتيل في الدّماء مضرّج (6)
أأطلب أنصارا على الدهر بعد ما ... ثوى منهما في التّرب أوسي وخزرجي (7)؟
وقال في غلام له (8): [الطويل]
عسى آيس من رجعة الوصل يوصل (9) ... ودهر تولّى بالأحبّة يقبل
أيا سكنا فات الفراق بنفسه (10) ... وحال التّعادي دونه والتّزيّل
أتعجب لمّا لم يغل جسمي الضّنا (11) ... ولم يخترم نفسي الحمام المعجّل؟
فقبلك بان الفتح منّي مودّعا (12) ... وفارقني شفعا له المتوكّل
__________
خلفه في الحكم يقال: وتره إذا أصابه بذحل، والذحل هو الثأر. محيط المحيط (وتر) و (ذحل).
(1) بلغت 33بيتا.
(2) ديوان البحتري (ج 2ص 178) من قصيدة مدح.
(3) في الديوان: «منك، ومسّني على حاجة ذاك الجدى والتطوّل».
(4) في الديوان: «الفتح يبتغي لدفع الذي أخشى ولا المتوكّل».
(5) ديوان البحتري (ج 2ص 234) من قصيدة مدح.
(6) في الديوان: «والفتح بين مرمّل وبين صبيغ بالدماء مضرّج».
(7) ثوى أوسه وخزرجه: مثل في فقد النصير، لأنّ الأوس والخزرج يضرب بهما المثل العالي في النصرة.
(8) ديوان البحتري (ج 2ص 125).
(9) في الديوان: «البين» بدل «الوصل».
(10) في الديوان: «بأنسه» بدل «بنفسه».
(11) رواية صدر البيت في الديوان هي: فلا تعجبن إن لم يغل جسمي الضّنا
(12) في الديوان: «عنّي» بدل «منّي».(1/205)
فما بلغ الدّمع الذي كنت أرتجي ... ولا فعل الوجد الذي خلت يفعل
وقال أبو خالد يزيد بن محمد المهلبي في قصيدة أولها: [البسيط]
لا وجد إلّا أراه دون ما أجد ... ولا كمن فقدت عيناي مفتقد
يقول فيها:
لا يبعدن هالك كانت منيّته ... كما هوى من عضاه الزّبية الأسد (1)
جاءت منيّته والعين هادية ... هلّا أتته المنايا والقنا قصد (2)؟
فخرّ فوق سرير الملك منجدلا ... لم يحمه ملكه لمّا انقضى الأمد
لا يدفع الناس ضيما بعد ليلتهم ... إذ لا يهزّ إلى الجاني عليك يد
علتك أسياف من لا دونه أحد ... وليس فوقك إلّا الواحد الصّمد
إذا بكيت فإن الدمع منهمل ... وإن رثيت فإنّ الشعر مطّرد
إنّا فقدناك حتى لا اصطبار لنا ... ومات قبلك أقوام فما فقدوا
قد كنت أشرف في مالي فتخلفه ... فعلّمتني الليالي كيف أقتصد
وقال فيها يذكر الأتراك، ويحضّ على اصطناع العرب:
لما اعتقدتم أناسا لا حفاظ لهم ... ضعتم وضيعتم من كان يعتقد
ولو جعلتم على الأحرار نعمتكم ... حمتكم الذّادة المنسوبة الحشد (3)
قوم هم الأصل والأسماء تجمعكم ... والدين والمجد والأرحام والبلد
إنّ العبيد إذا أذللتهم صلحوا ... على الهوان وإن أكرمتهم فسدوا
وقال أبو حيّة النميري: [الطويل]
رمته فتاة من ربيعة عامر ... نؤوم الضّحى في مأتم أيّ مأتم
فقلن لها في السّرّ: نفديك لا يرح ... صحيحا وإلّا تقتليه فألممي
فألقت قناعا دونه الشمس واتّقت ... بأحسن موصولين كفّ ومعصم
__________
(1) العضاه: كل شجر يعظم وله شوك. الزّبية: حفرة في موضع عال يصاد بها الأسد. محيط المحيط (عضه) و (زبى).
(2) القنا: جمع قناة وهي الرمح. القصد: جمع قصد، على وزن كتف، وهو المتكسّر يقال: تقصّدت الرماح إذا تكسّرت. محيط المحيط (قنا) و (قصد).
(3) الذادة: جمع ذائد وهو المدافع. الحشد: جمع حشد، على وزن كتف، وهو من لا يدع عند نفسه شيئا من الجهد. لسان العرب (ذود) و (حشد).(1/206)
وقالت فلمّا أفرغت في فؤاده ... وعينيه منها السحر قالت له نم
فأصبح لا يدري أفي طلعة الضحى ... تروّح أم داج من الليل مظلم
أخذ قوله: «فألقت قناعا دونه الشمس» من قول النابغة الذبياني (1): [الكامل]
قامت تراءى بين سجفي كلّة ... كالشمس يوم طلوعها بالأسعد (2)
سقط النّصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتّقتنا باليد
وقال أبو حية يرثي سلمة بن عياش: [الطويل]
كأنّ أبا حفص فتى البأس لم يجب ... به الليل والبيض القلاص النجائب
إلى الغاية القصوى، ولم تهد فتية ... كراما وتخطوه الخطوب النوائب
ويعمل عتاق العيس حتى كأنها ... إذا وضعت عنها العلايا المشاجب (3)
بعيد مثاني الهمّ يمسي وماله ... سوى الله والعضب السّريجي صاحب (4)
يروم جسيمات العلا فينالها ... فتى في جسيمات المكارم راغب
فإن يمس وحشا بابه فلربما ... تواتر أفواجا إليه المواكب
يحيون بسّاما كأنّ جبينه ... هلال بدا وانجاب عنه السحائب
وما غائب من غاب يرجى إيابه ... ولكنه من ضمّن اللّحد غائب
وزعم الصولي أن أبا حيّة إنما قالها في محمد بن سليمان بن علي بن عبيد الله بن العباس. وكان أبو حيّة جيد الطبع، مألوف الكلام، رقيق حواشي الشعر.
وسئل الأصمعي عن قيس بن الملوح المجنون، فقال: لم يكن مجنونا، وإنما كانت به لوثة (5) كلوثة أبي حيّة، وهو القائل: [الطويل]
رمتني وستر الله بيني وبينها ... عشيّة أحجار الكناس رميم
رميم التي قالت لجارات بيتها: ... ضمنت لكم ألّا يزال يهيم
__________
(1) ديوان النابغة الذبياني (ص 146).
(2) السّجف: ستر رقيق مشقوق من الوسط. الكلّة: الناموسية. الأسعد: برج الحمل. لسان العرب (سجف) و (كلل) و (سعد).
(3) العلايا: الأمتعة، مفردها عليان. المشاجب: أعواد من خشب تعلق عليها الثياب، مفردها مشجب.
لسان العرب (علا) و (شجب).
(4) السّريجي: نسبة إلى سريج وهو قين (حداد) تنسب إليه السيوف السّريجية. محيط المحيط (سرج).
(5) اللّوثة: مسّ الجنون. محيط المحيط (لوث).(1/207)
ألا ربّ يوم لو رمتني رميتها ... ولكنّ عهدي بالنضال قديم
فيا عجبا من قاتل لي أودّه ... أشاط دمي شخص عليّ كريم (1)
يرى الناس أني قد سلوت، وإنني ... لمدنف أحناء الضلوع سقيم (2)
وأنشدني إسحاق بن إبراهيم الموصلي في مثله، ولم يسمّ قائله: [الطويل]
هل الأدم كالآرام والزّهر كالدّمى ... معاودتي أيامهنّ الصوالح (3)
زمان سلاحي بينهنّ شبيبتي ... لها سائف من حسنهنّ ورامح (4)
فأقسمن لا يسقينني قطر مزنة ... لشيبي ولو سالت بهن الأباطح
وقال هارون بن علي بن يحيى المنجّم (5): [مجزوء الكامل]
الغانيات عهودهنّ ... إلى انصرام وانقضاب
من شاب شبن له المودّ ... ة بالخديعة والكذاب (6)
فانعم بهنّ وزند سنّ ... ك في الشبيبة غير خابي (7)
ما دمت في روق الصّبا (8) ... وغصونه الخضر الرّطاب
فافخر بأيام الصّبا ... واخلع عذارك في التصابي
واعط (9) الشباب نصيبه ... ما دمت تعذر بالشباب
وقال أشجع بن عمرو السلمي: [الطويل]
وما لي لا أعطي الشباب نصيبه ... وغصناه يهتزّان في عوده الرّطب
رأيت الليالي ينتهبن شبيبتي ... فأسرعت باللذات في ذلك النّهب
__________
(1) أشاط دمي: أحرقه. محيط المحيط (شيط).
(2) المدنف: الذي أثقله المرض وأشرف على الهلاك. الأحناء: جمع حنو وهو كل ما فيه اعوجاج من البدن كالضلع. لسان العرب (دنف) و (حنا).
(3) الأدم: جمع أدماء وهي السمراء. الزّهر: جمع زهراء وهي البيضاء. محيط المحيط (أدم) و (زهر).
(4) السائف: الذي يضرب بالسيف. الرامح: الذي يضرب بالرمح. لسان العرب (سيف) و (رمح).
(5) هو أبو عبد الله هارون بن علي بن يحيى منجّم بغدادي، وأديب فاضل، وحافظ راوية للأشعار.
توفي سنة 288هـ. وفيات الأعيان (ج 6ص 78) والفهرست (ص 161) ومعجم الأدباء (ج 5 ص 580) ومعجم الشعراء (ص 485) والأعلام (ج 8ص 62).
(6) شبن: مزجن. لسان العرب (شوب).
(7) الخابي: المنطفىء يقال: خبا لهب النار إذا سكن. لسان العرب (خبا).
(8) روق الصّبا: أوله ورونقه. لسان العرب (روق).
(9) الصواب: «أعط»، قد جعل الهمزة همزة وصل للضرورة الشعرية.(1/208)
فإنّ بنات الدّهر يخلسن لذّتي ... فقد جزن سلمي وانتهين إلى حربي
وقد حوّلت حالي الليالي وأسرجت ... على الرأس أمثال الفتيل من العطب
وموت الفتى خير له من حياته ... إذا كان ذا حالين يصبو ولا يصبي
وقال آخر: [مجزوء الكامل]
ما العيش إلّا أن ... تحبّ وأن يحبّك من تحبّه
فقر تتصل بهذه الأبيات، وفي وصف الشباب
أطاع الشباب وغرّته، وأجاب الصبا وشرّته، جرّ إزار الصبا، وأذال (1) ذيول الهوى، وركض في ميدان التصابي، وجنى ثمرات الملاهي. هو في اقتبال شبابه، وحداثة أترابه (2)، وريعان عمره، وعنفوان أمره. هو في إبّان شبابه واعتداله وريعان إقباله واقتباله. بعثه على ذلك أشر الصبا، ولين الغصن، وشرخ الشبيبة، وسكر الحداثة، فتيّ السن، رطيب الغصن، عمره في إقباله، ونشاطه في استقباله، وشبابه في اقتباله، وماؤه بحاله. فلان في حكم الأطفال، الذين لم يعضّوا على نواجذ الرجال. هو في عنفوان شبيبة تخاف سقطاتها وهفواتها، ولا يؤمن جيحاتها ونزواتها. هو في سكرى الشباب والشراب، وبين نزوات الشبان، ونزغات الشيطان. شبابه أعمى عن الرشد، أصمّ عن العذل، قد لبّى داعي هواه، وانغمس في لجّة صباه. قد هجم بسكر الحداثة على سكرات الحوادث، يجري إلى الصّبا جري الصّبا. فلان غفل من سمة التّجربة، جامح في عذار الغفلة، صعب المراس (3) على لجام العظة. هو من سلطان الصّبا في النّوبة الأولى. قد خلع عذاره ومقوده، وألقى إلى البطالة باعه ويده. هو بين خمار الغداة وسكر العشي لا يعرف الصّحو، ولا يفارق اللهو. فلان لا يفيق، ولا يذكر التوفيق. هو بين غرر الشباب، وغرر الأحباب.
ويتعلّق بهذه الألفاظ ألفاظ لهم في نجابة الشباب وترشحهم للمعالي
قد جمع نضارة الشباب إلى أبّهة المشيب، وهو على حدوث ميلاده وقرب إسناده شيخ قدر وهيبة، وإن لم يكن شيخ سنّ وشيبة. هو بين شباب مقتبل، وعقل مكتمل، قد لبس برد شبابه على عقل كهل، ورأي جزل، ومنطق فصل. للدهر فيه مقاصد، وللأيام فيه
__________
(1) أذال: أهان. لسان العرب (ذيل).
(2) الأتراب: جمع ترب وهو اللّدة، والسّنّ، ومن ولد معك. محيط المحيط (ترب).
(3) في الأصل: «الرأس» وهو تحريف.(1/209)
مواعد، أرى له في فصل ضمان الأيام ودائع الحظوظ والأقسام، تباشير نجح، ومخايل نصر وفتح. قد استكمل قوّة الفضل، ولم يتكامل له سنّ الكهل. ما زالت مخايله وليدا وناشئا، وشمائله صغيرا ويافعا، نواطق بالحسن عنه وضوامن النّجح فيه! قد سما إلى مراتب أعيان الرجال، التي لا تدرك إلّا مع الكمال والاكتهال. حمدت عزائمه، قبل أن حلّت تمائمه، وشهدت مكرماته، قبل أن تدرج لداته (1).
وقال البحتري (2): [البسيط]
لا تنظرنّ إلى العباس من صغر ... في السّن وانظر إلى المجد الذي شادا
إنّ النجوم نجوم الأفق أصغرها ... في العين أذهبها في الجوّ إصعادا
وقال آخر: [الوافر]
رأيت العقل لم يكن انتهابا ... ولم يقسم على قدر السنينا
فلو أنّ السنين تقسّمته ... حوى الآباء أنصبة البنينا
وقال الفضل بن جعفر الكاتب: [الطويل]
فإن خلّفته السنّ فالعقل بالغ ... به رتبة الكهل المؤهّل للمجد
فقد كان يحي أوتي الحكم قبله ... صبيّا وعيسى كلّم الناس في المهد
وكان أبو حيّة كثير الرواية عن الفرزدق، وعمّر حتى التقى بابن مناذر فاستنشده شعره، فأنشده أبو حيّة (3): [الطويل]
ألا حيّ من أجل الحبيب المغانيا ... لبسن البلى ممّا لبسن اللّياليا
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة ... تقاضاه شيء لا يملّ الثّقاضيا
حنتك الليالي بعد ما كنت مرة ... سويّ العصا لو كنّ يبقين باقيا
فقال ابن مناذر: أو شعر هذا؟ فقال أبو حيّة: ما في شعري عيب، غير أنك تسمعه.
وفي هذه القصيدة يقول أبو حيّة: [الطويل]
ولما أبت إلّا التّواء بودّها ... وتكديرها الشّرب الذي كان صافيا
شربت برنق من هواها مكدّر ... وكيف يعاف الرّنق من كان صاديا (4)؟
__________
(1) اللّدات: جمع لدة وهو التّرب، أي السّنّ. محيط المحيط (ولد).
(2) ديوان البحتري (ج 2ص 206) من قصيدة مدح.
(3) البيتان الأول والثاني في المؤتلف والمختلف (ص 103).
(4) الرّنق من الماء: الكدر. عاف الرّنق: كرهه. محيط المحيط (رنق) و (عيف).(1/210)
وقد قال عمرو بن قميئة (1) في معنى قول أبي حيّة: [الكامل]
كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألانها الإصباح والإمساء
ودعوت ربي في السلامة جاهدا ... ليصحّني فإذا السّلامة داء
وقال النّمر بن تولب (2): [الطويل]
يودّ الفتى طول السلامة والبقا ... فكيف يرى طول السلامة يفعل؟
يعود الفتى من بعد حسن وصحة ... ينوء إذا رام القيام ويحمل
وقد روي في الحديث الشريف: «كفى بالسلامة داء».
وقد أحسن حميد بن ثور في قوله (3): [الطويل]
أرى بصري قد رابني بعد صحّة ... وحسبك داء أن تصحّ وتسلما
ولن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمّما
وهذان البيتان من قصيدة طويلة، وهي أجود شعر حميد، ومن أجود ما فيها (4):
[الطويل]
وما هاج هذا الشوق إلّا حمامة ... دعت ساق حرّ ترحة وترنّما (5)
تروح عليه والها ثم تغتدي ... مولّهة تبغي له الدّهر مطعما
تؤمل منه مؤنسا لانفرادها ... وتبكي عليه إن زقا وترنّما
كأنّ على إشراقه نور خمرة (6) ... إذ هو مدّ الجيد منه ليطعما
__________
(1) عمرو بن قميئة: شاعر جاهلي مقدّم، توفي سنة 85ق. هـ. ترجمته في الشعر والشعراء (ص 292) والأغاني (ج 18ص 143) والمؤتلف والمختلف (ص 168) ومعجم الشعراء (ص 200) وطبقات الشعراء لابن سلام (ص 67) والأعلام (ج 5ص 83).
(2) النمر بن تولب: شاعر مخضرم، أدرك الإسلام وهو كبير السنّ. توفي نحو 14هـ. ترجمته في الشعر والشعراء (ص 227) والأغاني (ج 22ص 274) وطبقات الشعراء لابن سلام (ص 67) والأعلام (ج 8ص 48).
(3) حميد بن ثور: شاعر مخضرم، عاش زمنا في الجاهلية، ثم أسلم. توفي نحو 30هـ. ترجمته في الشعر والشعراء (ص 306) ومعجم الأدباء (ج 3ص 264) والأغاني (ج 4ص 350) والأعلام (ج 2ص 283). والبيت الأول في الشعر والشعراء (ص 306).
(4) بعض أبيات هذه القصيدة في الشعر والشعراء (ص 306) ومعجم الأدباء (ج 3ص 266).
(5) في معجم الأدباء «مغرما» بدل «ترحة». وساق حرّ: ذكر القماري. محيط المحيط (سوق).
(6) رواية صدر البيت في الشعر والشعراء هي: كأنّ على أشداقه نور حنوة وقد ذكر ابن قتيبة أنّ البيت قيل في حسن التشبيه في فرخ القطاة.(1/211)
فلمّا اكتسى الرّيش السّحام ولم تجد ... لها معه في ساحة الحيّ مجثما (1)
تنحّت قريبا فوق غصن تذءّبت (2) ... به الريح صرفا أيّ وجه تيمّما
فأهوى لها صقر مسفّ فلم يدع ... لها ولدا إلّا رماما وأعظما
فأوفت على غصن ضحيّا ولم تدع ... لنائحة في نوحها متلوّما
عجبت لها أنّى يكون غناؤها ... فصيحا ولم تفغر بمنطقها فما (3)
فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربيّا شاقه صوت أعجما
ومن خبيث الهجاء قوله في هذه القصيدة يخاطب رجلين بعثهما (4): [الطويل]
وقولا إذا جاوزتما أرض عامر ... وجاوزتما الحيّين نهدا وخثعما
تريعان من جرم بن زيّان أنهم ... أبوا أن يريقوا في الهزاهز محجما (5)
وما هجيت جرم بأشدّ من هذا، يريد أنهم لذلّتهم لم يتروا أحدا فيطالبهم بذحل.
وقال الأصمعي: قيل لبعض الصالحين: كيف حالك قال: كيف حال من يفنى ببقائه، ويسقم بسلامته، ويؤتى من مأمنه.
وقال محمود الوراق (6): [الطويل]
يحبّ الفتى طول البقاء كأنّه ... على ثقة أنّ البقاء بقاء
إذا ما طوى يوما طوى اليوم بعضه ... ويطويه إن جنّ المساء مساء
زيادته في الجسم نقص حياته ... وأنّى على نقص الحياة نماء (7)؟
جديدان لا يبقى الجميع عليهما ... ولا لهما بعد الجميع بقاء
__________
(1) السّحام: الأسود. المجثم: مكان الرقاد. لسان العرب (سحم) و (جثم).
(2) تذءّبت: أتت من كل جانب كما يفعل الذئب. لسان العرب (ذأب).
(3) تفغر: تفتح. لسان العرب (فغر).
(4) البيتان في الشعر والشعراء (ص 306) وفيه أنه بعثهما إلى عشيقته.
(5) رواية البيت في الشعر والشعراء هي:
نزيعان من جرم بن ربّان، أنهم ... أبوا أن يميروا في الهزاهز محجما
والهزاهز: الحروب. المحجم: وعاء الحجامة والفصد. لسان العرب (هزهز) و (حجم).
(6) هو محمود بن الحسن الوراق أكثر شعره في المواعظ والحكم. توفي في حدود الثلاثين والمائتين.
ترجمته في فوات الوفيات (ج 4ص 79) وتاريخ بغداد (ج 13ص 287) والشعر والشعراء (ص 745).
(7) النّماء: الزيادة. لسان العرب (نما).(1/212)
وقال المتنبي (1): [الطويل]
زيادة شيب وهي نقص زيادتي ... وقوّة عشق وهي من قوّتي ضعف
وبيت محمود الأخير كقول البحتري (2): [الوافر]
أناة أيها الفلك المدار ... أنهب ما تصرّف أم جبار (3)؟
ستفنى مثل ما تفني وتبلى ... كما تبلي فيدرك منك ثار
تناب النائبات إذا تناهت ... ويدمر في تصرّفه الدّمار
وما أهل المنازل غير ركب ... مطاياهم رواح وابتكار
ويقول فيها:
لنا في الدّهر آمال طوال ... نرجّيها وأعمار قصار
أما وأبي بني حار بن كعب ... لقد طرد الزمان بهم فساروا (4)
أصاب الدّهر دولة آل وهب ... ونال الليل منهم والنهار (5)
أعارهم رداء العزّ حتى ... تقاضاهم فردّوا ما استعاروا
وقد كانوا وأوجههم بدور ... لمبصرها وأيديهم بحار (6)
أخذ قوله: «ستفنى مثل ما تفنى» أبو القاسم بن هانىء فقال (7): [الكامل]
تفنى النجوم الزّهر طالعة ... والنّيّران: الشّمس والقمر
ولئن تبدّت في مطالعها ... منظومة فلسوف تنتثر
ولئن سعى الفلك المدار بها ... فلسوف يسلمها وينفطر
وقد استقصى علي بن العباس الرومي المعنى الأول فقال: [البسيط]
والدّهر يبلي الفتى من حيث ينشئه ... حتى تكرّ عليه ليلة القرب (8)
__________
(1) ديوان المتنبي (ص 101).
(2) ديوان البحتري (ج 2ص 282281) من قصيدة مديح.
(3) في الديوان: «تطرّق» بدل «تصرّف». والجبار من الحروب: ما لا قود فيه. محيط المحيط (جبر).
(4) في الديوان: «جار» بدل «حار».
(5) في الديوان: «منها» بدل «منهم».
(6) في الديوان: «وما كانوا فأوجههم بدور لمختبط».
(7) ديوان ابن هانىء الأندلسي (ص 168) من قصيدة رثاء.
(8) القرب، بفتح القاف والراء معا: سير الليل كله للوصول إلى الورد صباحا. محيط المحيط (قرب).(1/213)
يغذوه في كلّ آن وهو يأكله ... ويحتسي نغبا منه على نغب (1)
يودي بحال فحال من شبيبته ... تسرّب الماء في مستأنف الكتب (2)
حسب امرىء من خنى دهر تطاوله ... وإن أجمّ فلم ينكب ولم ينب
في هدنة الدّهر كاف من وقائعه ... والعمر أقدح مبراة من الوصب (3)
وقال أيضا: [البسيط]
يا باني الحصن أرساه وشيّده ... حرزا لشلو من الأعداء مشجون (4)
انظر إلى الدهر هل فاتته بغيته ... في مطمح النسر أو في مسبح النون (5)
ومن تحصّن منخوبا على وجل ... فإنما حصّته سجن لمسجون
أشكو إلى الله جهلا قد أضرّ بنا ... بل ليس جهلا ولكن علم مفتون
وقال الطائي (6): [الطويل]
وإن تبن حيطان عليه فإنما ... أولئك عقّالاته لا معاقله (7)
ودخل يحيى بن خالد على الرشيد وقد ابتدأت حاله في التغيّر، فأخبر أنه مشغول، فرجع، فبعث إليه الرشيد: خنتني فاتهمتني، فقال: إذا انقضت المدّة كان الحتف في الحيلة، والله ما انصرفت إلّا تخفيفا.
أخذه ابن الرومي فقال وقد فصده بعض الأطباء، فزعم أن الفصد زاد في علّته:
[الكامل]
غلط الطبيب عليّ غلطة مورد ... عجزت محالته عن الإصدار (8)
والناس يلحون الطبيب، وإنما ... غلط الطبيب إصابة المقدار
__________
(1) النّغب: جمع نغبة وهي الجرعة. محيط المحيط (نغب).
(2) الكتب، بضم الكاف وفتح التاء: جمع كتبة وهي السّير (الجلد) الذي تخرز به قربة الماء. لسان العرب (كتب).
(3) الوصب: المرض والوجع الدائم. محيط المحيط (وصب).
(4) المشجون: المشعوب والمكسور. لسان العرب (شجن).
(5) النون: الحوت. لسان العرب (نون).
(6) ديوان أبي تمام (ص 205) من قصيدة مديح.
(7) في الديوان: «وإن يبن حيطانا عليه». والعقّالات: القيود. لسان العرب (عقل).
(8) المحالة: الحيلة. لسان العرب (حول).(1/214)
[ما قيل في الثغر]
وقال أبو حيّة النميري: [الطويل]
سقتني بكأس الحبّ صرفا مروّقا ... رقاق الثنايا عذبة المترنّق (1)
وخمصانة تفترّ عن متنشّق ... كنور الأقاحي طيب المتذوّق (2)
إذا امتضغت بعد امتتاع من الضحى ... أنابيب من عود الأراك المخلّق (3)
سقت شعب المسواك ماء غمامة ... فضيضا بخرطوم الرّحيق المروّق (4)
وأنشد الثوري (5): [الطويل]
ترى الدّر منثورا إذا ما تكلّمت ... وكالدّر منظوما إذا لم تكلّم
تعبّد أحرار القلوب بدلّها ... وتملأ عين الناظر المتوسّم
والبيت الأول من هذين كقول البحتري (6): [الطويل]
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه
وقد تقدّم.
قال أبو الفرج الرياشي: سمعت الأصمعي يقول: أحسن ما قيل في وصف الثغر قول ذي الرمة: [الطويل]
وتجلو بفرع من أراك كأنّه ... من العنبر الهنديّ والمسك يصبح (7)
ذرى أقحوان واجه الليل وارتقى ... إليه النّدى من رامة المتروّح
__________
(1) المترنّق: العين يقال: رنق النوم في عينيه إذا خالطهما. لسان العرب (رنق).
(2) الخمصانة: الضامرة البطن. المتنشّق: الثغر. المتذوّق: الريق. لسان العرب (خمص) و (نشق) و (ذوق).
(3) المخلّق: المدهون بالخلوق وهو ضرب من الطّيب. لسان العرب (خلق).
(4) الفضيض: ما تنائر من الماء. لسان العرب (فضض).
(5) الثوري: هو سفيان بن سعيد، سيد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى. توفي سنة 161هـ. وفيات الأعيان (ج 2ص 386) والفهرست (ص 226) وتاريخ بغداد (ج 9ص 151) والأعلام (ج 3 ص 104).
(6) ديوان البحتري (ج 1ص 173) من قصيدة مديح.
(7) الأراك: شجر يستاك به. يقول: إنها تجلو أسنانها بفرع من الأراك، فيطيب ثغرها ويحلو مذاقه.
لسان العرب (أرك).(1/215)
هجان الثّنايا معرب لو تبسّمت (1) ... لأخرس عنه كاد بالقول يفصح
ومن قديم هذا المعنى وجيّده قول النابغة الذبياني في صفة المتجرّدة امرأة النعمان بن المنذر (2): [الكامل]
تجلو بقادمتي حمامة أيكة ... بردا أسفّ لثاته بالإثمد (3)
كالأقحوان غداة غبّ سمائه (4) ... جفّت أعاليه وأسفله ندي
زعم الهمام بأنّ فاها بارد ... عذب مقبّله شهيّ المورد
زعم الهمام ولم أذقه أنه ... يشفي بريّا ريقها العطش الصّدي
ومن قوله: «ولم أذقه» أخذ كلّ من أتى بهذا المعنى، ففتقه الناس بعده، قال المتوكل الليثي: [الوافر]
كأنّ مدامة صهباء صرفا ... ترقرق بين راووق ودنّ
تعلّ بها الثّنايا من سليمى ... فراسة مقلتي وصحيح ظنّي
وقال بشّار (5): [البسيط]
يا أطيب الناس ريقا غير مختبر ... إلّا شهادة أطراف المساويك
قد زرتنا مرة في الدهر واحدة ... ثنّي ولا تجعليها بيضة الدّيك
يا رحمة الله حلّي في منازلنا ... حسبي برائحة الفردوس من فيك
وقيل لبشار: يا أبا معاذ، كم بين قولك، وأنشد هذه الأبيات. وبين أن تقول (6):
[الرمل]
إنما عظم سليمى خلّتي (7) ... قصب السّكّر لا عظم الجمل
وإذا قرّب منها بصل (8) ... غلب المسك على ريح البصل
__________
(1) الهجان: الخالص، والهجان من الإبل: البيض الكرام. الثنايا: جمع ثنيّة وهي الأضراس الأربعة التي في مقدّم الفم. وهجان الثنايا: أي إنّ أسنانها ناصعة البياض.
(2) ديوان النابغة الذبياني (ص 148147).
(3) الإثمد: حجر يكتحل به. محيط المحيط (ثمد).
(4) في الديوان: «عداة» بدل «غداة».
(5) ديوان بشار بن برد (ص 174173).
(6) ديوان بشار بن برد (ص 192).
(7) في الديوان: «حبّتي» بدل «خلّتي».
(8) رواية صدر البيت في الديوان هي: وإذا أدنيت منها بصلا(1/216)
فقال: إنما الشاعر المطبوع كالبحر مرة يقذف صدفه، ومرة يقذف جيفه (1).
وقد تناول هذا المعنى أبو الحسن عليّ بن العباس الرومي من أقرب متناول فقال:
وكشفه بأوضح عبارة في صفته لجارية أبي الفضل عبد الملك بن صالح السوداء بعد أن استوفى جميع صفاتها وكان قد اقترح عليه وصفها: [المنسرح]
وصفت فيها الّذي هويت على ال ... وهم ولم نختبر ولم نذق
إلّا بأخبارك التي رفعت ... منك إلينا عن ظبية البرق (2)
حاشا لسوداء منظر سكنت ... ذراك إلّا عن مخبر يقق (3)
وهذه الأبيات من قصيدة له وصف فيها السواد، واحتجّ بتفضيله على البياض، حتى أغلق فيه الباب بعده، ومنع أن يقصد فيه أحد قصده، إلّا كان مقصّر السهم عن غرض الإحسان. وقد نبّه علي بن عبد الله بن العباس [المسيب على] فضائلها، وأجاد التشبيه، وكشف عن وجوه الإبداع، وضروب الاختراع.
وقد مدح الناس السواد والسّود فأكثروا فمن جيد ما قالوا فيه قول أبي حفص الشطرنجي: [السريع]
أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعده
لا شكّ إذا لونكما واحد ... أنكما من طينة واحده
فأخذ ابن الرومي هذا المعنى، وأضاف إليه أشياء أخر توسعا واقتدارا، فقال:
يذكرك المسك والغوالي والسّكّ ... ذوات النسيم والعبق (4)
وهذه الأشياء وإن كانت ناقصة عن المسك، فهي ممدوحة بالطيب، غير مستغنى عن ذكرها في التشبيه فأما زيادته على جميع من تعاطى مدح السواد فقوله: [المنسرح]
سوداء لم تنتسب إلى برص الشّ ... قر ولا كلفة ولا بهق (5)
__________
(1) الجيف: جمع جيفة وهي جثّة الميت المنتنة. محيط المحيط (جيف). يقول: إن الشاعر كالبحر، له سقطات لأن الإجادة المطلقة فوق طاقة البشر.
(2) البرق: جمع برقة وهي أرض غليظة مختلطة بحجارة ورمل. لسان العرب (برق).
(3) اليقق: الشديد البياض. لسان العرب (يقق).
(4) السّكّ: نوع من الطّيب. لسان العرب (سكك).
(5) البرص: بياض يظهر في ظاهر البدن لفساد المزاج. الكلفة: حمرة كدرة تعلو الوجه، وقيل: لون بين السواد والحمرة. البهق: بياض رقيق في ظاهر البشرة. محيط المحيط (برص) و (كلف) و (بهق).(1/217)
والأبيض الشديد البياض معيب، وقد دلّ عليه قوله: [المنسرح]
وبعض ما فضّل السواد به ... والحقّ ذو سلّم وذو نفق
ألّا يعيب السّواد حلكته ... وقد يعاب البياض بالبهق
قوله: «الحق ذو سلّم وذو نفق» أراد أنّ الحقّ يتصرّف في جهات، وضرب الصعود والنزول لذلك مثلا ثم قصد لوصف هذه السوداء بالكمال في الصفة ومن عيب السّودان أن أكفّهم عابسة (1) متشقّقة، وأطرافهم ليست بناعمة ليّنة، وكذلك لا يزال الفلح (2) في شفاههم، وهي الشقوق المذمومة الموجودة في أكثر السودان في أوساط الشفاه، وأيضا فإن الأسود مهجو بخبث العرق، فنفى هذه الصفات المذمومة الموجودة في أكثر السودان عنها، فقال: [المنسرح]
ليست من العبس ألأكفّ (3) ولا ال ... فلح الشّفاه الخبائث العرق
ثم عاج بخاطره على وصف هذه السوداء بأضداد تلك الصفات المذمومة، فقال:
[المنسرح]
في لين سمّورة تخيّرها ال ... فرّاء أو لين جيّد الدّلق (4)
ومن بديع مدح السوداء قوله: [المنسرح]
أكسبها الحبّ أنها صبغت ... صبغة حبّ القلوب والحدق
فانصرفت نحوها الضمائر وال ... أبصار يعشقن أيّما عشق
فأخبر أنّ القلوب إنما أحبتها بالمجانسة التي بينها وبين حبّ القلوب من السواد، وكذلك الحدق.
ومن جيّد تشبيهات أبي نواس وقد نبّه نديما للصبوح فأخبر عن حاله وقال (5):
[البسيط]
فقام والليل يجلوه الصباح كما ... جلا التبسّم عن غرّ الثّنيّات (6)
__________
(1) عابسة: يابسة. محيط المحيط (عبس).
(2) الفلح: الشّقّ. محيط المحيط (فلح).
(3) قطعنا همزة الوصل في كلمة «الأكفّ» لكي لا ينكسر الوزن.
(4) الدّلق: دويبة كالسمورة. لسان العرب (دلق).
(5) ديوان أبي نواس (ص 174) من خمرية.
(6) في الديوان: «فقلت والليل يجلو التبسّم». والثنيّات: جمع ثنيّة وهي الأضراس الأربع في مقدّم الفم. لسان العرب (ثنا).(1/218)
ولعلي بن العباس (1) عليه التقدم بقوله: [المنسرح]
يفترّ ذاك السواد عن يقق ... من ثغرها كاللآلىء النّسق (2)
كأنها والمزاح يضحكها ... ليل تعرّى دجاه عن فلق
وفضل هذا الكلام على ذاك أن هذا قدّم لمعناه في التشبيه مقدمة أيّدته، ووطّأت له الآذان، وأصغت الأفهام إلى الاستحسان، وهي قوله:
* يفترّ ذاك السواد عن يقق * وفي هذه السوداء يقول، وقد سأله أبو الفضل الهاشمي أن يستغرق صفات محاسنها الظاهرة والباطنة، فقال: [المنسرح]
لها حر يستعير وقدته ... من قلب صبّ وصدر ذي حنق (3)
كأنما حرّه لخابره ... ما ألهبت في حشاه من حرق
يزداد ضيقا على المراس كما ... تزداد ضيقا أنشوطة الوهق (4)
ثم فكّر فيما فكّر فيه النابغة، وقد أمره النعمان بوصف المتجرّدة، فوصف ما يجوز ذكره من ظاهر محاسنها، ثم كره أن يذكر من فضائلها ما لا يسوغ بمثله أن يذكر منها، فردّ الإخبار عن تلك الفضائل إلى صاحبها، وهو الملك، فقال: [الكامل]
زعم الهمام بأن فاها بارد ... عذب إذا قبّلته قلت ازدد
فاحتذى عليّ بن العباس هذا، فقال بعد ما سأله أن يستغرق في وصف فضائلها الظاهرة والباطنة: [المنسرح]
خذها أبا الفضل كسوة لك من ... خزّ الأماديح لا من الخرق
وصفت فيها التي هويت على ال ... وهم ولم نختبر ولم نذق
إلّا بأخبارك التي وقعت ... منك إلينا عن ظبية البرق
حاشا لسوداء منظر سكنت ... ذراك إلّا عن مخبر يقق
وهذا المعنى أومأ إليه النابغة إيماء خفيّا تذهب معرفته عن أكثر الناس، ولو آثر النابغة
__________
(1) علي بن العباس: هو ابن الرومي، الشاعر المشهور.
(2) النسق: المتّسق. لسان العرب (نسق).
(3) الحر، بكسر الحاء وتشديد الراء أو بدون تشديد: فرج المرأة. محيط المحيط (حرر).
(4) الوهق: الحبل يرمى في أنشوطة فتؤخذ به الدابة والإنسان. لسان العرب (وهق).(1/219)
ترك الاختصار، وهمّ بكشف المعنى وإيضاحه، ما زاد على هذا الكشف الذي كشفه ابن الرومي.
وأصحاب المعاني ينشدون للفرزدق (1): [الطويل]
وجفن سلاح قد رزئت فلم أنح ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا
وفي بطنه من دارم ذو حفيظة ... لو أن المنايا أنسأته لياليا (2)
ومعناه عندهم أنه رثى امرأة توفّيت حاملا، فقال علي بن العباس وقد وصف هذه المرأة السوداء: [المنسرح]
أخلق بها أن تقوم عن ذكر ... كالسيف يفري مضاعف الحلق
إنّ جفون السيوف أكثرها ... أسود والحقّ غير مختلق
فهذه زيادة بيّنة، وعبارة واضحة، لم تحتج إلى تفاسير أصحاب المعاني، وقال ممّا لم ينشده المتنبي: [المنسرح]
غصن من الآبنوس ركّب في ... مؤتزر معجب ومنتطق
يهتز من ناهديه في ثمر ... ومن دواجي ذراه في ورق
وهذا معنى قد بلغ قائله من الإجادة، فوق الإرادة، وامتثل أبو الفضل الهاشمي ما أشار به ابن الرومي، فأولدها، فأنجبت.
وفي معنى قول الفرزدق قال الطائي وأحسن وذكر ولدين توأمين ماتا لعبد الله ابن طاهر (3): [الكامل]
إن ترز في طرفي نهار واحد ... رزأين هاجا لوعة وبلابلا (4)
فالثّقل ليس مضاعفا لمطيّة ... إلّا إذا ما كان وهما بازلا (5)
لهفي على تلك المشاهد منهما (6) ... لو أمهلت حتى تكون شمائلا
__________
(1) الأبيات غير واردة في ديوان الفرزدق.
(2) الحفيظة: قوة الإباء. أنسأته: أخّرته. لسان العرب (حفظ) و (نسأ).
(3) ديوان أبي تمام (ص 339) من قصيدة رثاء.
(4) البلابل: شدّة الهمّ والوساوس. محيط المحيط (بلبل).
(5) الوهم: الجمل الضخم القوي. البازل: المكتمل السّنّ. لسان العرب (وهم) و (بزل).
(6) في الديوان: «تلك الشواهد فيهما».(1/220)
لغدا سكونهما حجى، وصباهما ... حكما، وتلك الأريحيّة نائلا (1)
إنّ الهلال إذا رأيت نماءه ... أيقنت أن سيكون بدرا كاملا (2)
وعلى ذكر التوأمين ألفاظ لأهل العصر في التهنئة بتوأمين
تيسّرت منحتان في وطن، وانتظمت موهبتان في قرن (3)، طلع في أفق الكمال نجما سعد، وشهابا عزّ، وكوكبا مجد، فتأهّلت بهما ربوع المحاسن، ووطّئت لهما أكناف المكارم، واستشرفت إليهما صدور الأسرّة والمنابر. بلغني خبر الموهبة المشفوعة بمثلها، والنّعمة المقرونة بعدلها (4) في الفارسين المقبلين، رضيعي العزّ والرفعة، وقريني المجد والمنعة، فشملني من الاغتباط ما يوجبه ازدواج البشرى، واقتران غادية (5) بأخرى.
والشيء يذكر بما قارب ناحية من أنحائه، وجاذب حاشية من ردائه.
[في الهجاء]
وقال بعض أهل العصر يهجو رجلا وضمّن قول النابغة (6): [الكامل]
* كالأقحوان غداة غبّ سمائه * وأزاحه عن بابه فجاء مليحا في الطبع، مقبولا في السمع: [الكامل]
يا سائلي عن جعفر، عهدي به ... رطب العجان وكفّه كالجلمد (7)
كالأقحوان غداة غبّ سمائه ... جفّت أعاليه وأسفله ندي
ومن مستحسن ما روي في هذا التضمين قول الآخر وضمّن بيتا لمهلهل ابن ربيعة (8): [الوافر]
وسائلة عن الحسن بن وهب ... وعمّا فيه من كرم وخير
__________
(1) في الديوان: «حلما» بدل «حكما».
(2) في الديوان: «رأيت نموّه أن سيعود بدرا».
(3) القرن: الحبل المفتول من لحاء الشجر أو من الصوف. لسان العرب (قرن).
(4) العدل: النظير والمثل. لسان العرب (عدل).
(5) الغادية: السحابة تمطر غدوة. لسان العرب (غدا).
(6) هو صدر بيت للنابغة الذبياني، وعجزه هو: جفّت أعاليه وأسفله ندي
ديوان النابغة الذبياني (ص 148).
(7) العجان: الاست. الجلمد: الصخر. لسان العرب (عجن) و (جلمد).
(8) مهلهل بن ربيعة: هو عدي بن ربيعة، سمّي مهلهلا لأنه هلهل الشّعر، أي أرقّه. ويقال: إنه أول من(1/221)
فقلت هو المهذّب، غير أني ... أراه كثير إرخاء الستور
وأكثر ما يغنّيه فتاه ... حسين حين يخلو بالسّرور
فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذّكور
وهذا البيت لمهلهل ممّا يعدّونه من أول كذب العرب، وكانت قبل ذلك لا تكذب في أشعارها، وكان بين الموضع الذي كانت فيه هذه الواقعة وهي بالجزيرة وبين حجر وهي قصبة باليمامة مسافة بعيدة، فأخرجه هذا الشاعر بقوة منّته، ونفاذ فطنته، إلى معنى آخر مستظرف في بابه. وهذا المذهب أحسن مذاهب التضمين. ومن مليح ما في هذا الباب تضمينات الحمدوني في طيلسان أحمد بن حرب المهلبي، وسيأتي ما أختاره من ذلك في غير هذا الموضع.
[رجع إلى ما قيل في الثغر]
وقد جاء في صفة الثغور والأفواه والرّيق شعر كثير. قال جميل (1): [الطويل]
تمنّيت منها نظرة وهي واقف ... تريك نقيّا واضح الثغر أشنبا
كأنّ عريضا من فضيض غمامة ... هزيم الذّرى تمري له الريح هيدبا (2)
يصفّق بالمسك الذكيّ رضابه ... إذا النّجم من بعد الهدو تصوّبا (3)
وقال (4): [الكامل]
وكأن طارقها على علل الكرى ... والنجم وهنا قد بدا لتغوّر (5)
يستاف ريح مدامة معلولة ... برضاب مسك في ذكيّ العنبر (6)
__________
قصّد القصائد. توفي نحو 100ق. هـ. ترجمته في الشعر والشعراء (ص 215) ومعجم الشعراء (ص 248) والأعلام (ج 4ص 220).
(1) الأبيات لم ترد في ديوان جميل بثينة.
(2) العريض: القطعة من السحاب. الفضيض: ما تناثر من المطر والماء. الهزيم: الصوت. الهيدب:
ذيل السحاب. لسان العرب (عرض) و (فضض) و (هزم) و (هدب).
(3) تصوّب: انحدر. لسان العرب (صوب).
(4) ديوان جميل بثينة (ص 25).
(5) في الديوان: «دنا» بدل «بدا».
(6) رواية البيت في الديوان هي:
يستاف ريح مدامة معجونة ... بذكيّ مسك أو سحيق العنبر
ويستاف ريحها: يشتمّها. محيط المحيط (سوف).(1/222)
وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي (1): [الطويل]
يمجّ ذكيّ المسك منها مفلّج ... نقيّ الثنايا ذو غروب مؤشّر (2)
يرفّ إذا تفترّ عنه كأنه (3) ... حصى برد أو أقحوان منوّر
وقال الهذلي: [الوافر]
وما صهباء صافية لضبّ ... كلون الصّرف منجاب قذاها
تشجّ بنطفة من ماء مزن ... أحلّته برضراض عراها
بأطيب مشرعا من طعم فيها ... إذا ما طار عن سنة كراها
وقال آخر: [البسيط]
وشقّ عنها قناع الخزّ عن برد ... كالدّرّ لا كسس فيه ولا ثعل (4)
كأنه أقحوان بات يضربه ... طلّ من الدّجن سقّاط النّدى هطل (5)
كأنّ صرفا كميت اللّون صافية ... شجّت بماء سماء شنّه جبل (6)
فوها إذا ما قضت من نومها سنة ... أو اعتراها سبات النّوم والكسل
وقال الآخر: [الوافر]
هجان اللّون واضحة المحيّا ... قطيع الصّوت آنسة كسول (7)
تبسّم عن أغرّ له غروب ... فرات الرّيق ليس به فلول (8)
كأنّ صبيب غادية لصبّ ... تشجّ به شآمية شمول
على فيها إذا الجوزاء عالت ... محلّقة وأردفها رعيل (9)
وقال ابن المعتز: [المديد]
يا نديميّ اشربا واسقيانا ... قد بدا الصبح لنا واستبانا
__________
(1) ديوان عمر بن أبي ربيعة (ص 124).
(2) رواية عجز البيت في الديوان هي: رقيق الحواشي ذو غروب مؤشّر
(3) في الديوان: «تراه» بدل «يرفّ».
(4) الكسس: قصر الأسنان. الثّعل: زيادة سنّ أو دخول سنّ تحت سنّ. لسان العرب (كسس) و (ثعل).
(5) الدّجن: إلباس الغيم الأرض. لسان العرب (دجن).
(6) كميت اللون: فيها سواد وحمرة. شجّت: مزجت. شنّه: صبّه متفرّقا وبرده. لسان العرب (كمت) و (شجج) و (شنن).
(7) هجان اللون: بيضاء. قطيع الصوت: التي يتكسر كلامها لرقّته. لسان العرب (هجن) و (قطع).
(8) الفرات: العذب. لسان العرب (فرت).
(9) الرعيل: جماعة النجوم. لسان العرب (رعل).(1/223)
واقتلا همّي بصرف عقار ... واتركا الدّهر فما شاء كانا
إن للمكروه لذعة شرّ ... فإذا دام على المرء هانا
وامزجا كأسي بريقة ألمى ... طاب للعطشان وردا وحانا
من فم قد غرس الدّرّ فيه ... ناصح الريق إذا الرّيق خانا (1)
وقال ابن الرومي: [السريع]
يا ربّ ريق بات بدر الدّجى ... يمجّه بين ثناياكا
يروي ولا ينهاك عن شربه ... والماء يرويك وينهاكا
وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: [الكامل]
وإذا سألتك رشف ريقك قلت لي: ... أخشى عقوبة مالك الأملاك
ماذا عليك؟ جعلت قبلك في الثّرى! ... من أن أكون خليفة المسواك
أيجوز عندك أن يكون متيّم ... صبّ بحبّك دون عود أراك؟
وهذا المعنى يجاوز الإحصاء، ويفوت الاستقصاء وكلّه مأخوذ من قول امرىء القيس (2): [المتقارب]
كأنّ المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر القطر (3)
يعلّ به برد أنيابها ... إذا طرّب الطائر المستحر (4)
فجمع ما فرّقوه، وأخذه الجعفري فقصّر عنه: [المتقارب]
كأنّ المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى وذوب العسل
يعلّ به برد أنيابها ... إذا النّجم وسط السماء اعتدل
ويلحق بهذه المعاني من شعر أهل العصر قول أبي علي محمد بن الحسين بن المظفر الحاتمي وذكر خمرا: [الكامل]
من كفّ ساق أهيف حركاته ... فتن تقنّع بالملاحة واعتجر (5)
__________
(1) ناصح الريق: لم تتغيّر نكهته. لسان العرب (نصح).
(2) ديوان امرىء القيس (ص 158157).
(3) القطر: العود يتبخّر به. القاموس المحيط (قطر).
(4) المستحر: اسم فاعل لفعل «استحر» يقال استحر الديك إذا صاح في السحر. القاموس المحيط (سحر).
(5) اعتجر: لفّ العمامة دون التّلحّي، والاعتجار أيضا: لبسة للمرأة. القاموس المحيط (عجر).(1/224)
ناولته كأسي وكسر جفونه ... يوحي إليّ أن ارتقبهم واصطبر
فثنى لها أقلام درّ رخصة ... تهوى إلى أفراد درّ ذي أشر (1)
فتحدّرت من كأسه في ثغره ... كالشمس تغرب في هلال من قمر
وأهدى أبو الفتح كشاجم لبعض القيان مسواكا وكتب إليها: [الرمل]
قد بعثناه لكي تجلو به ... واضحا كاللؤلؤ الرّطب أغرّ
طاب منه العرف حتّى خلته ... كان من ريقك يسقى في السّحر
وأما والله لو يعلم ما ... حظّه منك لأثنى وشكر
ليتني المهدى فيروي عطشي ... برد أنيابك في كلّ سحر (2)
[أملح الشعر وأرقّه]
وكان ذكر بحضرة ابن أبي عتيق شعر عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد المخزوميين، فقال رجل من ولد خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة: صاحبنا الحارث أشعر، فقال ابن أبي عتيق: دع قولك يابن أخي، فلشعر ابن أبي ربيعة لوطة بالقلب (3)، وعلق بالنفس، ودرك للحاجة ليس لشعر الحارث وما عصي الله بشعر قطّ أكثر مما عصي بشعر ابن أبي ربيعة، فخذ عنّي ما أصف لك: أشعر قريش من رقّ معناه، ولطف مدخله، وسهل مخرجه، وتعطّفت حواشيه، وأنارت معانيه، وأعرب عن صاحبه، فقال الذي من ولد خالد بن العاص: صاحبنا الذي يقول: [الكامل]
إني وما نحروا غداة منى ... عند الجمار تؤودها العقل (4)
لو بدّلت أعلى منازلها ... سفلا وأصبح سفلها يعلو
فيكاد يعرفها الخبير بها ... فيردّه الإقواء والمحل (5)
لعرفت مغناها بما احتملت ... مني الضلوع لأهلها قبل
فقال ابن أبي عتيق: يا ابن أخي، استر على صاحبك، ولا تشاهد المحاضر بمثل هذا، أما تطيّر الحارث عليها حين قلب ربعها فجعل عاليه سافله؟ ما بقي إلّا أن يسأل الله
__________
(1) الرّخصة: اللّينة. الأشر في الأسنان: التحزيز. القاموس المحيط (رخص) و (أشر).
(2) يقول: ليتني كنت المسواك في فيك.
(3) لوطة بالقلب: علوق به ولصوق يقال: لاط الشيء بقلبي إذا ألصق به. القاموس المحيط (لوط).
(4) العقل: جمع عقال وهي القلوص الفتيّة، والقلوص من الإبل: الشابّة. القاموس المحيط (عقل) و (قلص).
(5) الإقواء: الخلاء يقال: أقوت الدار إذا خلت. القاموس المحيط (قوى).(1/225)
حجارة من سجّيل وعذابا أليما. ابن أبي ربيعة كان أحسن الناس للرّبع مخاطبة وأجمل مصاحبة إذ يقول (1): [الخفيف]
سائلا الرّبع بالبليّ وقولا ... هجت شوقا لي الغداة طويلا (2)
أين أهل حلّوك إذ أنت مسرو ... ر بهم آهل أراك جميلا؟ (3)
قال: ساروا وأمعنوا، واستقلّوا ... وبكرهي لو استطعت سبيلا (4)
سئمونا ما سئمنا مقاما ... واستحبّوا دماثة وسهولا (5)
وها هنا حكاية تأخذ بطرف الحديث، دخل مزيد المدني على مولى لبعض أهل المدينة، وهو جالس على سرير ممهّد، ورجل من ولد أبي بكر الصديق وآخر من ولد عمر رضي الله عنهما! جالسان بين يديه على الأرض فلمّا رأى المولى مزيدا تجهّمه، وقال: يا مزيد، ما أكثر سؤالك! وأشدّ إلحافك! جئت تسألني شيئا؟ قال: لا والله، ولكني أردت أن أسألك عن معنى قول الحارث بن خالد: [الكامل]
إنّي وما نحروا غداة منى ... عند الجمار تؤودها العقل
لو بدّلت أعلى منازلها ... سفلا وأصبح سفلها يعلو
فلّما رأيتك ورأيت هذين بين يديك عرفت معنى الذي قال. فقال: أعزب في غير حفظ الله! وضحك أهل المجلس.
وأخذ الحارث قوله: [الكامل]
لعرفت مغناها بما احتملت ... مني الضلوع لأهلها قبل
من قول امرىء القيس قال علي بن الصباح ورّاق بن محلم: قال لي أبو محلم:
أتعرف لأمرىء القيس أبياتا سينية قالها عند موته في قروحه والحلة المسمومة، غير قصيدته التي أولها (6): [الطويل]
* ألمّا على الرّبع القديم بعسعسا (7) *
__________
(1) ديوان عمر بن أبي ربيعة (ص 333).
(2) في الديوان: «لنا» بدل «لي».
(3) في الديوان: «أين حيّ محفوف بهم، آهل».
(4) في الديوان: «ساروا بأجمع، فاستقلّوا، وبرغمي لو».
(5) في الديوان: «وأرادوا» بدل «واستحبّوا».
(6) ديوان امرىء القيس (ص 105).
(7) هو صدر المطلع، وعجزه هو: كأني أنادي أو أكلّم أخرسا
وعسعس: موضع بالبادية. معجم البلدان (ج 4ص 121).(1/226)
فقلت: لا أعرف غيرها، فقال: أنشدني جماعة من الرّواة: [المتقارب]
لمن طلل درست آيه ... وغيّره سالف الأحرس (1)
تنكّره العين من حادث ... ويعرفه شغف الأنفس
وقد أخذه طريح بن إسماعيل الثقفي، فقال: [الكامل]
تستخبر الدّمن القفار ولم تكن ... لتردّ أخبارا على مستخبر
فظللت تحكم بين قلب عارف ... مغنى أحبّته وطرف منكر
وقال الحسن بن وهب، إشارة إلى هذا المعنى: [المنسرح]
أبليت جسمي من بعد جدّته ... فما تكاد العيون تبصره
كأنّه رسم منزل خلق ... تعرفه العين ثم تنكره
وقال يحيى بن منصور الذهلي: [الطويل]
أما يستفيق القلب إلّا انبرى له ... تذكّر طيف من سعاد ومربع
أخادع من عرفانه العين إنه ... متى تعرف الأطلال عيني تدمع
وقال آخر: [مجزوء الوافر]
هي الدار التي تعر ... ف لم لا تعرف الدّارا
ترى منها لأحباب ... ك أعلاما وآثارا
فيبدي القلب عرفانا ... وتبدي العين إنكارا
وقال أبو نواس، وتعلّق أول قوله بهذا المعنى، وأنا أنشد الأبيات كلّها لملاحتها إذ كان الغرض فيهذا التّصرف هو إرادة الإفادة (2): [الطويل]
ألا لا أرى مثلي امترى اليوم في رسم ... تغضّ به عيني ويلفظه وهمي
أتت صور الأشياء بيني وبينه ... فظنّي كلا ظنّ وعلمي كلا علم (3)
فطب بحديث من حبيب مساعد ... وساقية بين المراهق والحلم (4)
ضعيفة كرّ الطّرف تحسب أنّها ... قريبة عهد بالإفاقة من سقم (5)
__________
(1) الأحرس: جمع حرس وهو الدهر. القاموس المحيط (حرس).
(2) ديوان أبي نواس (ص 87) من خمرية.
(3) في الديوان: «جهل» بدل «ظنّ».
(4) في الديوان: «بحديث عن نديم سنّ المراهق». والحلم: الرؤيا. القاموس المحيط (حلم).
(5) في الديوان: «حديثة» بدل «قريبة».(1/227)
يفوّق مالي من طريف وتالد ... تفوّقي الصهباء من حلب الكرم (1)
وإني لآتي الوصل من حيث يبتغى ... وتعلم قوسي حين أنزع من أرمي (2)
وروى أبو هفان قال: كان أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي (3) يطعن على أبي نواس، ويعيب شعره، ويضعّفه، ويستلينه فجمعه مع بعض رواة شعر أبي نواس مجلس والشيخ لا يعرفه، فقال له صاحب أبي نواس: أتعرف أعزّك الله! أحسن من هذا؟
وأنشده: «ضعيفة كرّ الطّرف» الأبيات، فقال: لا والله، فلمن هو؟ قال: للذي يقول (4): [الكامل]
رسم الكرى بين الجفون محيل ... عفّى عليه بكا عليك طويل
يا ناظرا ما أقلعت لحظاته ... حتى تشحّط بينهنّ قتيل
فطرب الشيخ، وقال: ويحك! لمن هذا؟ فو الله ما سمعت أجود منه لقديم ولا لمحدث! فقال: لا أخبرك أو تكتبه فكتبه، وكتب الأول، فقال: للذي يقول (5):
[البسيط]
ركب تساقوا على الأكوار بينهم ... كأس الكرى فانتشى المسقيّ والساقي
كأنّ أرؤسهم والنّوم واضعها ... على المناكب لم تخلق بأعناق (6)
ساروا فلم يقطعوا عقدا لراحلة ... حتى أناخوا إليكم قبل إشراقي (7)
من كلّ جائلة الطّرفين ناجية ... مشتاقة حملت أوصال مشتاق (8)
__________
(1) في الديوان: «تفوّق» بدل «يفوّق». ويفوّق مالي الطريف والتالد: أي إن الخمر أتت على ماله الحديث والقديم وفي الأصل: تفوّق الفصيل: شرب اللبن. محيط المحيط (فوق).
(2) في الديوان: «حيث يتّقى ويعلم سهمي حين أنزع».
(3) محمد بن زياد الأعرابي: من أهل الكوفة، لم ير أحد في علم الشعر أغزر منه. توفي سنة 231هـ.
ترجمته في وفيات الأعيان (ج 4ص 306) وتاريخ بغداد (ج 5ص 282) والوافي بالوفيات (ج 3 ص 79) ومعجم الأدباء (ج 5ص 336) والأعلام (ج 6ص 131).
(4) ديوان أبي نواس (ص 255).
(5) ديوان أبي نواس (ص 285).
(6) في الديوان: «لم توصل» بدل «لم تخلق».
(7) رواية البيت في الديوان هي:
خاضوا إليكم بحار الليل آونة ... حتى أناخوا إليكم فلّ أشواق
(8) رواية البيت في الديوان هي:
من كلّ جائلة النسعين ضامرة ... مشتاقة حملت عبئا لمشتاق(1/228)
فقال: لمن هذا؟ وكتبه. فقال: للذي تذمّه، وتعيب شعره، أبي علي الحكمي! قال: اكتم عليّ، فو الله لا أعود لذلك أبدا.
أخذ قوله: «كأنّ أرؤسهم والنوم واضعها» أبو العباس بن المعتز، فقال يصف شربا:
[الطويل]
كأنّ أباريق اللّجين لديهم ... ظباء بأعلى الرّقمتين قيام
وقد شربوا حتى كأن رؤوسهم ... من اللّين لم يخلق لهنّ عظام
البيت الأول من هذين من قول علقمة بن عبدة (1): [البسيط]
كأنّ إبريقهم ظبي على شرف ... مفدّم بسبا الكتّان ملثوم (2)
أراد بسبائب، فحذف. وقد أحسن مسلم بن الوليد في قوله: [الكامل]
إبريقنا سلب الغزالة جيدها ... وحكى المدير بمقلتيه غزالا
يسقيك بالألحاظ كأس صبابة ... ويديرها من كفّه جريالا (3)
وأنشد الحارث بن خالد أبياته: [الكامل]
إني وما نحروا غداة منى
لعبد الله بن عمر، فلّما بلغ إلى قوله: [الكامل]
لعرفت مغناها بما احتملت ... منّي الضلوع لأهلها قبل
قال له ابن عمر: قل إن شاء الله، قال: إذا تفسد الشعر يا أبا عبد الرحمن، فقال: لا خير في شيء يفسده إن شاء الله.
وكان الحارث بن خالد أحد المجيدين في التشبيب، ولم يكن يعتقد شيئا من ذلك، وإنما يقوله تظرّفا وتخلّعا، وكان أكثر شعره في عائشة بنت طلحة، فلمّا قتل عنها مصعب بن الزبير قيل له: لو خطبتها! قال: إني لأكره أن يتوهّم الناس عليّ أني كنت
__________
(1) علقمة بن عبدة: يقال له علقمة الفحل، وهو شاعر جاهلي، توفي نحو 20ق. هـ. الشعر والشعراء (ص 145) ومعاهد التنصيص (ج 1ص 175) والأعلام (ج 4ص 247).
(2) شرف: مكان عال، وقد يكون اسم مكان. معجم البلدان (ج 3ص 336). والإبريق المفدّم: الذي عليه مصفاة. الملثوم: الذي وضع عليه اللّثام وهو كالمصفاة. القاموس المحيط (فدم) و (لثم).
(3) الجريال: الخمر. القاموس المحيط (جرل).(1/229)
معتقدا لما أقول فيها، وهو القائل: [البسيط]
يا أمّ عمران ما زالت وما برحت ... بنا الصبّابة حتى مسّنا الشّفق (1)
القلب تاق إليكم كي يلاقيكم ... كما يتوق إلى منجاته الغرق
توفيك شيئا قليلا وهي خائفة ... كما يمسّ بظهر الحيّة الفرق (2)
أخذ هذا الطائيّ فحسّنه فقال (3): [الكامل]
تأبى على التّصريد إلّا نائلا ... إلّا يكن ماء قراحا يمذق (4)
نزرا كما استكرهت عابر نفحة ... من فأرة المسك التي لم تفتق (5)
وحجّت عائشة بنت طلحة، فوجّه إليها يستأذنها في الزيارة، فقالت: نحن حرام، فأخّر ذلك حتى نحلّ، فلمّا أحلّت أدلجت ولم يعلم، فكتب إليها: [الكامل]
ما ضرّكم لو قلتم سددا (6) ... إنّ المنيّة عاجل غدها
ولها علينا نعمة سلفت ... لسنا على الأيام نجحدها
لو تمّمت أسباب نعمتها ... تمّت بذلك عندنا يدها
إني وإياها كمفتتن ... بالنار تحرقه ويعبدها
وابن أبي عتيق هذا هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه! وكان من أفاضل زمانه علما وعفافا، وكان أحلى الناس فكاهة، وأظرفهم مزاحا، وله أخبار مستظرفة سيمرّ منها ما يستحسن إن شاء الله.
روى الزبير بن أبي بكر أنه دخل على عائشة يعني بنت طلحة، رضي الله عنهما! وهي لما بها فقال: كيف أنت، جعلت فداك؟ قالت: في الموت، قال: فلا إذا، إنما ظننت في الأمر فسحة، فضحكت، وقالت: ما تدع مزحك بحال.
وفيه يقول عمر بن أبي ربيعة القرشي (7): [المديد]
ليت شعري هل أقولن لركب ... بفلاة هم لديها خشوع
__________
(1) الشّفق: الخوف. القاموس المحيط (شفق).
(2) الفرق: الخائف. القاموس المحيط (فرق).
(3) ديوان أبي تمام (ص 187) من قصيدة مدح.
(4) في الديوان: «أن لا» بدل «إلّا». والتصريد: التقليل. القاموس المحيط (صرد).
(5) في الديوان: «عاثر» بدل «عابر».
(6) السّدد: الاستقامة، والمراد الكلام المستقيم. القاموس المحيط (سدد).
(7) ديوان عمر بن أبي ربيعة (ص 247).(1/230)
طالما عرّستم فاستقلّوا ... حان من نجم الثريّا طلوع (1)
إنّ همّي قد نفى النوم عنّي ... وحديث النفس منّي يروع (2)
قال لي فيها عتيق مقالا ... فجرت ممّا يقول الدموع
قال لي: ودّع سليمى ودعها ... فأجاب القلب: لا أستطيع
لا تلمني في اشتياقي إليها ... وابك لي ممّا تجنّ الضّلوع
قال أبو العباس محمد بن يزيد (3): قوله: «حان من نجم الثريّا طلوع» كناية، وإنما يريد الثريا بنت علي بن عبد الله بن الحارث بن أميّة الأصغر، وكانت موصوفة بالجمال، وتزوّجها سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، فنقلها إلى مصر، وفي ذلك يقول عمر، وضرب لهما المثل بالنجمين (4): [الخفيف]
أيها المنكح الثريّا سهيلا ... عمرك الله، كيف يلتقيان؟
هي شاميّة إذا ما استقلّت ... وسهيل إذا استقلّ يماني (5)
فمات سهيل عنها، أو طلّقها، فخرجت إلى الوليد بن عبد الملك وهو خليفة دمشق تطلب في دين عليها، فبينا هي عند أمّ البنين ابنة عبد العزيز إذ دخل الوليد فقال: من هذه عندك؟ قالت: الثريّا، جاءتك تطلب في دين ارتكبها، فأقبل الوليد عليها، فقال: أتروين من شعر عمر بن أبي ربيعة شيئا؟ قالت: نعم، أما إنه رحمه الله كان عفيفا، عفيف الشعر، أروي له قوله (6): [الخفيف]
ما على الرّسم بالبليّين لو بيّ ... ن رجع السلام أو لو أجابا (7)
فإلى قصر ذي العشيرة بالصا ... ئف أمسى من الأنيس يبابا (8)
وبما قد أرى به حيّ صدق ... ظاهري العيش نعمة وشبابا (9)
__________
(1) في الديوان: «فاركبوا بي» بدل «فاستقلّوا».
(2) في الديوان: «قدما ولوع» بدل «منّي يروع».
(3) أبو العباس محمد بن يزيد: هو المعروف بالمبرّد. وقد تقدمت ترجمته.
(4) ديوان عمر بن أبي ربيعة (ص 438).
(5) استقلّ: ارتفع. لسان العرب (قلل).
(6) ديوان عمر بن أبي ربيعة (ص 40).
(7) في الديوان: «التسليم» بدل «السلام». والبليّين: اسم موضع. معجم البلدان (ج 1ص 494).
(8) في الديوان: «فالطائف» بدل «بالصائف». وذو العشيرة: موضع بالصمان. معجم البلدان (ج 4 ص 127).
(9) في الديوان: «كاملي» بدل «ظاهري».(1/231)
وحسانا، جواريا، خفرات، ... حافظات عند الهوى الأحسابا
لا يكثّرن بالحديث ولا يت ... بعن، ينعقن بالبهام، الظّرابا (1)
فلما خلا الوليد بأمّ البنين قال: لله درّ الثريا أتدرين ما أرادت بإنشادها ما أنشدت من شعر عمر؟ قالت: لا، قال: فإنّي لما عرّضت لها بعمر عرّضت بأن أمي أعرابية وأمّ الوليد ولّادة ابنة العباس بن جزء بن الحارث بن زهير العبسي، وهي أمّ سليمان، ولا تعلم امرأة ولدت خليفتين في الإسلام غيرها، وغير الخيزران، وهي سبيّة من خرشنة، ولدت موسى الهادي وهارون الرشيد ابني محمد المهدي، وشاهسفرم بنت فيروز بن يزدجر بن شهريار بن كسرى أبروير فإنها ولدت للوليد بن عبد الملك يزيد بن الوليد الناقص وإبراهيم بن الوليد المخلوع جلس في الخلافة بعد أخيه يزيد مدة يسيرة، ثم جاء مروان بن محمد بن مروان آخر ملوك بني أمية فخلعه وولّي بعده.
وشبيه بقول الثريّا في باب التعريض أنه دخلت عزّة على عبد الملك بن مروان، فقال لها: أنت عزّة كثير؟ قالت: أنا أمّ بكر الضّمرية، قال لها: يا عزّة؟ هل تروين من شعر كثيّر شيئا؟ قالت: ما أعرفه، ولكن سمعت الرواة ينشدون له (2): [الطويل]
قضى كلّ ذي دين فوفّى غريمه ... وعزّة ممطول معنّى غريمها
قال: فتروين قوله: [الطويل]
وقد زعمت أني تغيّرت بعدها ... ومن ذا الذي يا عزّ لا يتغيّر؟
تغيّر حالي والخليقة كالذي ... عهدت ولم يخبر بسرّك مخبر
قالت: ما سمعت هذا، ولكن سمعتهم ينشدون (3): [الطويل]
كأنّي أنادي صخرة حين أعرضت ... من الصّمّ لو تمشي بها العصم زلّت (4)
غضوبا فما تلقاك إلّا بخيلة ... فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت (5)
قال: وكلّ ما ذكر ابن أبي ربيعة في شعره من عتيق، أو أبي عتيق، فإنما هو ابن أبي
__________
(1) في الديوان: «في الحديث» بدل «بالحديث». والبهام: جمع البهمة وهي أولاد الضأن والمعز والبقر ونعق بالبهام: صاح بها وزجرها. القاموس المحيط (بهم) و (نعق).
(2) البيت في الشعر والشعراء (ص 417).
(3) البيتان في الشعر والشعراء (ص 422).
(4) في الشعر والشعراء: «العيس» بدل «العصم». والعصم: جمع أعصم، والأعصم من الظباء والوعول:
ما في ذراعيه أو في أحدهما بياض وسائره أسود أو أحمر. القاموس المحيط (عصم).
(5) في الشعر والشعراء: «صفوحا» بدل «غضوبا».(1/232)
عتيق، وكان عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة، واسم أبي ربيعة حذيفة، ابن المغيرة بن عبد الله [بن عمر] بن مخزوم، ويكنى أبا الخطاب، أمّه أم ولد سبيّة من حضر موت، ويقال من حمير، ومن ثم أتاه الغزل لأنه يقال: «عشق يماني، ودلّ حجازي». قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: [الخفيف]
إن قلبي بالتلّ تلّ عزاز ... مع ظبي من الظّباء الجوازي (1)
شادن لم ير العراق وفيه ... مع ظرف العراق دلّ الحجاز
وقال الطائي وذكر نفسه (2): [الكامل]
قد ثقّفت منه الحجاز، وسهّلت ... منه العراق، ورقّقته المشرق (3)
وهجرت الثريا عمر، فقال (4): [الخفيف]
قال لي صاحبي ليعلم ما بي: ... أتحبّ القتول أخت الرّباب؟
قلت: وجدي بها كوجدك بالما ... ء إذا ما فقدت برد الشّراب (5)
أزهقت أمّ نوفل إذ دعتها ... مهجتي؟ ما لقاتلي من متاب
أبرزوها مثل المهاة تهادي ... بين خمس كواعب أتراب
وهي مكنونة تحدّر منها ... في أديم الخدّين ماء الشباب (6)
ثم قالوا: تحبّها؟ قلت: بهرا ... عدد الرّمل والحصى والتّراب (7)
ولما بلغ ابن أبي عتيق قوله:
من رسولي إلى الثريّا؟ فإني ... ضقت ذرعا بهجرها والكتاب (8)
قال: إياي أراد، وبي هتف ونوّه، لا جرم لا ذقت طعاما أو أشخص إليها، وأصلح بينهما قال مولى لبني تميم: فنهض ونهضت معه، ثم خرج إلى السوق إلى الضمرتين،
__________
(1) الجوازي: جمع جازئة وهي الناقة أو الظبية تجتزىء بالعشب عن الماء، أي تقنع بالعشب. القاموس المحيط (جزأ).
(2) لم يرد البيت في ديوان أبي تمام.
(3) المشرق: مخلاف باليمن. معجم البلدان (ج 5ص 133).
(4) ديوان عمر بن أبي ربيعة (ص 6059).
(5) في الديوان: «منعت» بدل «فقدت».
(6) في الديوان: «تحيّر» بدل «تحدّر».
(7) في الديوان: «النجم» بدل «الرمل».
(8) في الديوان: «بأنّي» بدل «فإنيّ».(1/233)
فأتى قوما من بني الديل بن بكر يكرون النجائب (1)، فقال: بكم تكرونني راحلتين إلى مكة؟ قالوا: بكذا وكذا درهما، فقلت لبعض التجار: استوضعوا شيئا، فقال ابن أبي عتيق: ويحك! إنّ المكاس (2) ليس من أخلاق الناس. ثم ركب واحدة وركبت أخرى، وأجدّ السير، فقلت: ارفق بنفسك، فقال: ويحك! أبادر حبل الوصل أن يتقضّبا. وما أملح الدنيا إذا تمّ الوصل بين عمر والثريّا! فقدمنا مكة وأتى باب الثريا، فقالت: والله ما كنت لنا زوّارا، فقال: أجل، ولكن جئت برسالة، يقول لك ابن عمّك عمر: ضقت ذرعا بهجرها والكتاب. فلامه عمر، فقال ابن أبي عتيق: إنما رأيتك مبادرا تلتمس رسولا، فخففت في حاجتك، فإنما كان ثوابي أن أشكر.
ووصف ابن أبي عتيق لعمر امرأة من قومه، وذكر جمالا رائعا، وعقلا فائقا، فرآها عمر، فشّبب بها فغضب ابن أبي عتيق وقال: تشبّب بامرأة من قومي؟ فقال عمر (3):
[الخفيف]
لا تلمني عتيق حسبي الّذي بي ... إنّ بي يا عتيق ما قد كفاني
إنّ بي مضمرا من الحبّ قد أب ... لى عظامي مكنونه وبراني (4)
لا تلمني فأنت زيّنتها لي (5).
فقال ابن أبي عتيق:
أنت مثل الشيطان للإنسان
فقال عمر: هكذا وربّ الكعبة قلت.
فقال ابن أبي عتيق: إن شيطانك وربّ القبر ربما ألمّ بي!
وحجّت رملة بنت عبد الله بن خلف أخت طلحة الطلحات، فقال عمر فيها (6):
[الخفيف]
أصبح القلب في الحبال رهينا ... مقصدا يوم فارق الظاعنينا (7)
__________
(1) النجائب: جمع نجيبة وهي الناقة الكريمة ويكرون النجائب: يجعلونها تعدو عدوا شديدا.
القاموس المحيط (نجب) و (كرى).
(2) المكاس: الشدّة في الأخذ والعطاء. لسان العرب (مكس).
(3) ديوان عمر بن أبي ربيعة (ص 417).
(4) في الديوان: «داخلا» بدل «مضمرا».
(5) في الديوان: «وأنت» بدل «فأنت».
(6) ديوان عمر بن أبي ربيعة (ص 426425).
(7) في الأصل: «الظاعينا» وهو تحريف.(1/234)
ولقد قلت يوم مكة سرّا ... قبل وشك من بينكم: نولّينا
أنت أهوى العباد قربا وبعدا ... لو تواتين عاشقا محزونا (1)
قاده الحين يوم سرنا إلى الحجّ ... جهارا ولم يخف أن يحينا (2)
فإذا نعجة تراعي نعاجا ... ومها نجّل النواظر عينا
فسبتني بمقلة وبجيد ... وبوجه يضيء للناظرينا
قلت من أنتم؟ فصدّت وقالت ... أمبدّ سؤالك العالمينا (3)؟
قلت بالله ذي الجلالة لما ... أن تبلت الفؤاد أن تصدقينا (4)
أيّ من تجمع المواسم أنتم ... فأبيني لنا ولا تكذبينا (5)
فرأت حرصي الفتاة، فقالت ... أخبريه بعلم ما تكتمينا (6)
نحن من ساكني العراق، وكنّا ... قبلها قاطنين مكّة حينا
قد صدقناك إذ سألت فمن أن ... ت؟ عسى أن يجرّ شأن شؤونا (7)
وترى أنّنا عرفناك بالنع ... ت ظنونا وما قتلنا يقينا (8)
بسواد الثّنيّتين ونعت ... قد نراه لناظر مستبينا
قولها: «وكنّا قبلها قاطنين مكّة حينا» أرادت إذ كانت مكة لخزاعة. وكان آخر من نبذ مفتاح الكعبة من خزاعة أبو غبشان، فباعه من قصيّ بزقّ خمر فقيل في المثل:
«أخسر صفقة من أبي غبشان». وكان أبو غبشان إذ باع المفتاح قصيّا مريضا قد يئس من نفسه، فلمّا أبلّ من مرضه لامه قومه، وسألوه استرجاعه، وذلك الذي هاج الحرب بين خزاعة وقريش، فظفر قصيّ واستولى على مكة، وجمع قريشا بها ولذلك سمي مجمعا، قال مطرف الخزاعي: [الطويل]
أبوكم قصيّ كان يدعى مجمّعا ... به جمّع الله القبائل من فهر
__________
(1) في الديوان: «تنيلين» بدل «تواتين».
(2) في الديوان: «قاده الطرف إلى الحين جهارا».
(3) مبدّ: اسم فاعل «بدّ» يقال: بدّ رجليه إذا فرّقهما، وبدّ الشيء إذا أبعده. القاموس المحيط (بدد).
يقول: هل أنت قسّمت سؤالك على الناس فعمّهم جميعا؟
(4) تبلت الفؤاد: أصابته بتبل وهو الإسقام. القاموس المحيط (تبل).
(5) في الديوان: «المواسم قولي وأبيني لنا ولا تكتمينا».
(6) هذا البيت لم يرد في الديوان.
(7) كلمة «أن» ساقطة، وقد أضفناها من الديوان.
(8) في الديوان: «ونرى أننا بظنّ وما قتلنا».(1/235)
وقال الطائي (1): [الطويل]
ولمّا نضا ثوب الحياة وأوقعت ... به نائبات الدهر ما يتوقّع
غدا ليس يدري كيف يصنع معدم ... ذرى دمعه في خدّه كيف يصنع
ولم أنس سعي الجود خلف سريره ... بأكسف بال يستقلّ ويظلع (2)
وتكبيره خمسا عليه معا لنا ... وإن كان تكبير المصلّين أربع
وما كنت أدري يعلم الله قبلها ... بأنّ النّدى في أهله يتشيّع
غدوا في زوايا نعشه وكأنّما ... قريش قريش يوم مات مجمّع
وقال الشاعر في أمر قصيّ وأبي غبشان: [الوافر]
أبو غبشان أظلم من قصيّ ... وأظلم من بني فهر خزاعه
فلا تلحوا قصيّا في شراه ... ولوموا شيخكم إذ كان باعه
وكان عمر أسود الثنيتين.
قال مولى ابن أبي عتيق بلال: أتيت الثريّا مسلما عليها، فقالت: أنشدني لعمر، فأنشدتها: [الخفيف]
* أصبح القلب في الحبال رهينا * فقالت الثريّا: إي والله، لئن سلمت له لأردّنّ من شأوه، ولأثنينّ من عنانه، ولأعرفنّه نفسه! فمررت فيها حتى انتهيت إلى قوله: [الخفيف]
قلت من أنتم فصدّت وقالت ... أمبدّ سؤالك العالمينا؟
فقالت: أو قد أجابته بهذا؟ أي وقت؟ فلمّا انتهيت إلى قوله: [الخفيف]
* وترى أننا عرفناك بالنّعت * قالت: جاءت النّوكاء (3) بآخر ما عندها من موقف واحد.
وسأله أخوه الحارث وهو المعروف بالقباع، وكان من أفاضل أهل دهره أن يترك الشعر، ورغب إليه في ذلك، ووعظه، فقال: أمّا ما دمت بمكة فلا أقدر، ولكني أخرج
__________
(1) ديوان أبي تمام (ص 333332).
(2) يستقلّ: يرتفع. يظلع: يسقط. القاموس المحيط (قلل) و (ضلع).
(3) النّوكاء: الحمقاء. القاموس المحيط (نوك).(1/236)
إلى اليمن، فخرج فلما سار إلى هناك لم تدعه نفسه وترك الشعر، فقال: [البسيط]
هيهات من أمّة الوهّاب منزلنا ... إذا نزلنا بسيف البحر من عدن (1)
واحتلّ أهلك أجيادا، وليس لنا ... إلّا التذكّر أو حظّ من الحزن (2)
بل ما نسيت غداة الخيف موقفها ... وموقفي، وكلانا ثمّ ذو شجن
وقولها للثريّا وهي مطرقة ... والدمع منها على الخدّين ذو سنن (3)
بالله قولي له في غير معتبة ... ماذا أردت بطول المكث في اليمن
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها ... فما أخذت بترك الحجّ من ثمن
فلمّا بلغ الشعر الحارث قال: قد علمنا أنه لا يفي.
وروى سفيان بن عيينة عن ابن جريج قال: لزمني دين مرّة فضاقت ساحتي وبلادي بي، فتوجّهت إلى معن بن زائدة باليمن، فقال: ما أقدمك هذه البلدة؟ قلت: دين طردني عن وطني، قال: يقضى دينك، وتردّ إلى وطنك محبوّا محبورا، قال: فأقمت عنده، ثم رأيت الناس يرحلون إلى الحجّ، فحننت إلى مكة، وذكرت قول ابن أبي ربيعة، وذكر الأبيات فأتيت باب معن، فقلت للحاجب: استأذن لي على الأمير، فلمّا دخلت عليه قال: إنّ لك لحادث خبر! قلت: أستودع الله الأمير وأستحفظه عليه. قال: وما هاج هذا منك؟ فقلت: رأيت خروج الناس إلى الحجّ، وذكرت قول عمر فحننت إلى مكّة، فقال:
أنت وحنينك، وإن كنت بفراقك ضنينا، وسيتبعك ما تحتاج إليه فسر مصاحبا، قال:
فسرت إلى رحلي، فأتبعني بمال وثياب ومطايا ودوابّ، وسرت إلى مكّة من فوري.
وكان عمر على غزله، وما يذكره في شعره عفيفا. حدّث المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: دخلت مع أبي مكة، فجاءه عمر، فسلّم عليه، وأنا غلام شابّ وعليّ جبّة، فجعل يأخذ بخصلة من شعري فتمتدّ في يده، ثم يرسلها فترجع، فيقول: واشباباه! فقال لي: يا ابن أخي، قد سمعت قولي: «قلت لها وقالت لي» وكلّ مملوك لي حرّ إن كنت قطّ كشفت عن فرج حرام! قال: فقمت وفي نفسي من يمينه شيء فسألت عن رقيقه، فقيل لي: أما في هذا الحول فسبعون.
__________
(1) سيف البحر: ساحله. القاموس المحيط (سيف).
(2) الحزن: الهمّ. القاموس المحيط (حزن).
(3) ذو سنن: ذو علامات، وسنن الطريق: نهجه وجهته. القاموس المحيط (سنن).(1/237)
ويستحسن قول عمر في المساعدة (1): [الوافر]
وخلّ كنت عين النّصح منه ... إذا نظرت ومستمعا مطيعا
أطاف بغيّة فنهيت عنها ... وقلت له: أرى أمرا شنيعا
أردت رشاده جهدي، فلمّا ... أبى وعصى أتيناها جميعا
وهذا مأخوذ من قول دريد بن الصّمة الجشمي (2): [الطويل]
أمرتهم أمري بمنعرج اللّوى ... فلم يستبينوا الرّشد إلّا ضحا الغد
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجّج ... سراتهم في الفارسيّ المسرّد (3)
فلمّا عصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنني غير مهتدي
وما أنا إلّا من غزيّة إن غوت ... غويت، وإن ترشد غزيّة أرشد
ومن جيد شعره (4): [الطويل]
يقولون إني لست أصدق في الهوى ... وإني لا أرعاك حين أغيب (5)
فما بال طرفي عفّ عمّا تساقطت ... له أنفس من معشر وقلوب (6)
عشية لا يستنكر القوم أن يروا ... سفاه حجى ممّن يقال لبيب
ولا فتنة من ناسك أو مضت له ... بعين الصّبا كسلى القيام لعوب (7)
تروّح يرجو أن تحطّ ذنوبه ... فآب وقد زيدت عليه ذنوب (8)
وما النّسك أسلاني، ولكنّ للهوى ... على العين منّي والفؤاد رقيب
ونظر عمر بن أبي ربيعة إلى فتى من قريش يكلّم امرأة في الطواف، فعاب ذلك عليه، فذكر أنها ابنة عمّه، فقال: ذلك أشنع لأمرك، فقال: إني خطبتها إلى عمي، وإنه زعم أنه لا يزوّجني حتى أصدقها أربعمائة دينار، وأنا غير قادر على ذلك، وذكر من حاله
__________
(1) ديوان عمر بن أبي ربيعة (ص 248).
(2) دريد بن الصّمّة الجشمي: من الأبطال الشعراء المعمرين في الجاهلية، توفي سنة 8هـ. الأعلام (ج 2ص 339) ومصادر حاشيته.
(3) المسرّد: أي الدّرع المسرّد، وهو المحكم نسجه. لسان العرب (سرد).
(4) ديوان عمر بن أبي ربيعة (ص 33).
(5) في الديوان: «أصدقك الهوى» بدل «أصدق في الهوى».
(6) في الديوان: «أعين» بدل «أنفس».
(7) هذا البيت لم يرد في الديوان. وأومضت له: سارقت النّظر. القاموس المحيط (ومض).
(8) في الديوان: «زادت» بدل «زيدت».(1/238)
وحبّه لها فأتى عمر عمّه، فكلّمه في أمرها، فقال: إنه مملق، فزوّجه، وساق عمر عنه المهر.
وكان عمر حين أسنّ حلف ألّا يقول بيتا إلّا أعتق رقبة، فانصرف إلى منزله يحدّث نفسه، فجعلت جاريته تكلّمه ولا يجيبها فقالت: إنّ لك لشأنا، وأراك تريد أن تقول شعرا، فقال (1): [الوافر]
تقول وليدتي لمّا رأتني ... طربت وكنت قد أقصرت حينا
أراك اليوم قد أحدثت أمرا ... وهاج لك الهوى داء دفينا (2)
وكنت زعمت أنك ذو عزاء ... إذا ما شئت فارقت القرينا
لعمرك هل رأيت لها سميّا ... فشاقك أم لقيت لها خدينا (3)؟
فقلت: شكا إليّ أخ محبّ ... كبعض زماننا إذ تعلمينا
فقصّ عليّ ما يلقى بهند ... فذكّر بعض ما كنّا نسينا
وذو الشوق القديم وإن تعزّى ... مشوق حين يلقى العاشقينا
فكم من خلّة أعرضت عنها ... لغير قلى، وكنت بها ضنينا (4)
أردت بعادها فصددت عنها ... وإن جنّ الفؤاد بها جنونا (5)
ثم دعا تسعة من رقيقه فأعتقهم.
قال عثمان بن إبراهيم: حججت أنا وأصحاب لنا، فلمّا رجعنا من مكّة مررنا بالمدينة، فرأينا عمر بن أبي ربيعة، وقد نسك وترك قول الشعر، فقال بعضنا لبعض: هل لكم فيه؟ فملنا إليه، وسلّمنا عليه، وجلسنا وهو ساكت لا يكلّمنا. فقال له بعضنا:
أيعجبك قول الفرزدق (6): [البسيط]
سرت لعينك سلمى بعد مغفاها ... فبتّ مستلهيا من بعد مسراها
فقلت: أهلا وسهلا! من هداك لنا؟ ... إن كنت تمثالها أو كنت إيّاها
تأتي الرياح التي من نحو بلدتكم ... حتى نقول: دنت منّا بريّاها
__________
(1) ديوان عمر بن أبي ربيعة (ص 436).
(2) في الديوان: «شوقا» بدل «أمرا».
(3) رواية صدر البيت في الديوان هي: بربّك هل أتاك لها رسول والخدين: الصاحب. القاموس المحيط (خدن).
(4) في الديوان: «وكم» بدل «فكم». والقلى: البغض. القاموس المحيط (قلا).
(5) في الديوان: «فراقها» بدل «بعادها».
(6) لم ترد الأبيات في ديوان الفرزدق.(1/239)
وقد تراخت بهم عنّا نوى قذف ... هيهات مصبحها من بعد ممساها (1)
من أجلها أتمنّى أن يلاقيني ... من نحو بلدتها ناع فينعاها
كيما أقول: افتراق لا اجتماع له، ... وتضمر النفس يأسا ثم تسلاها
ولو تموت لراعتني وقلت لها: ... يا بؤس للدهر ليت الدهر أبقاها
فلم يهشّ لذلك! فقال الآخر: أيعجبك قول العذري: [البسيط]
لو حزّ بالسيف رأسي في مودّتها ... لمرّ يهوي سريعا نحوها راسي
ولو بلى تحت أطباق الثرى جسدي ... لكنت أبلى وما قلبي لكم ناسي
أو يقبض الله روحي صار ذكركم ... روحا أعيش به ما عشت في الناس
لولا نسيم لذكراكم يروّحني ... لكنت محترقا من حرّ أنفاسي
فتحرّك ثم قال: يا ويحه! أبعد ما يحزّ رأسه يميل إليه؟
ثم أنشأ يحدّثنا، فقال: أتاني خالد الدليل، فقال: إنّ هندا وأترابها بموضع كذا وكذا من الصحراء أيام الربيع، فقلت: كيف الحيلة؟ فقال: تتلثّم وتكتفل (2) كأنك طالب ضالّة، ففعلت، فدفعت إليهنّ، فقلن: يا أعرابي، ما تطلب؟ قلت: ضالّة لي، فقلن: قد كللت يا أعرابي، فلو جلست فأصبت من حديثنا وأصبنا من حديثك، ولعلّك تروح إلى وجود ضالّتك، فنزلت فلمّا امتدّ الحديث بنا حسرت هند لثامي، وقالت: أتراك خدعتنا؟ نحن والله خدعناك، وبعثنا إليك خالدا، رأينا خلاء ومنظرا فأردناك، ونظرت في درعي فأعجبني ما رأيت، فقلت: يا أبا الخطاب، قال عمر: فقلت: لبّيك، وفي ذلك أقول (3):
[الطويل]
ألم تسأل الأطلال والمتربّعا ... ببطن حليّات، دوارس بلقعا؟ (4)
إلى السّرح من وادي المغمّس بدّلت ... معالمه وبلا ونكباء زعزعا (5)
__________
(1) القذف: البعيدة. القاموس المحيط (قذف).
(2) اكتفل البعير: جعل عليه كفلا وهو خرقة على عنق الثور تحت النّير. القاموس المحيط (كفل).
(3) ديوان عمر بن أبي ربيعة (ص 229227).
(4) حليّات: اسم موضع.
(5) في الديوان: «الشّري» بدل «السرح». والمغمّس: موضع قرب مكة في طريق الطائف. معجم البلدان (ج 5ص 161). والنكباء: ريح انحرفت ووقعت بين ريحين أو بين الصّبا والشمال. والريح الزعزع: الشديدة. القاموس المحيط (نكب) و (زعزع).(1/240)
فيبخلن أو يخبرن بالعلم بعد ما ... نكأن فؤادا كان قدما موجّعا (1)
لهند وأتراب لهند إذ الهوى ... جميع وإذ لم نخش أن يتصدّعا (2)
وإذ لا نطيع العاذلين ولا نرى ... لواش لدينا يطلب الهجر مطمعا
وإذ نحن مثل الماء كان مزاجه ... كما صفّق الساقي الرحيق المشعشعا (3)
تنوعتن حتى عاود القلب خبله ... وحتى تذكّرت الحبيب المودّعا (4)
فقلت لمطريهنّ بالحسن: إنما ... ضررت، فهل تسطيع نفعا فتنفعا؟ (5)
وأشريت فاستشرى وقد كان قد صحا ... فؤاد بأمثال المها كان مولعا (6)
لئن كان ما حدّثت حقّا فما أرى ... كمثل الألى أطريت في الناس أربعا
فقال: فقم فانظر، فقلت: وكيف لي؟ ... أخاف حديثا أن يشاع فيشنعا (7)
فقال: اكتفل ثم التثم فأت باغيا ... فسلّم ولا تكثر بأن تتورّعا (8)
فأقبلت أهوي مثل ما قال صاحبي ... لموعده أبغي قلوصا موقّعا (9)
فلمّا تواقفنا وسلّمت أقبلت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا (10)
تبالهن بالعرفان لمّا رأينني ... وقلن: امرؤ باغ أكلّ وأوضعا (11)
وقرّبن أسباب الهوى لمتيّم ... يقيس ذراعا كلّما قسن إصبعا
فلمّا تنازعن الأحاديث قلن لي ... أخفت علينا أن نغرّ ونخدعا؟
__________
(1) في الديوان: «مفجّعا» بدل «موجّعا». ونكأ القرحة: قشرها قبل أن تبرأ فنديت. القاموس المحيط (نكأ).
(2) في الديوان: «بهند» بدل «لهند».
(3) الرحيق: الخمر. المشعشع: الممزوج يقال: شعشع الشراب إذا مزجه. القاموس المحيط (رحق) و (شعشع).
(4) في الديوان: «القلب سقمه الحديث المودّعا».
(5) في الديوان: «ويحك» بدل «بالحسن».
(6) في الديوان: «موزعا» بدل «مولعا». وأشريته فاستشرى: هجته فهاج يقال: شري الشّرّ إذا استطار.
لسان العرب (شرى).
(7) في الديوان: «فقال: تعال انظر أخاف مقاما أن يشيع فيشنعا».
(8) في الديوان: «وأت» بدل «فأت».
(9) في الديوان: «أزجي قعودا موقّعا». والقلوص من الإبل: الشابّة. والموقّع: الذي تكثر عليه آثار الدبر. لسان العرب (قلص) و (وقع).
(10) في الديوان: «أشرقت» بدل «أقبلت».
(11) أكلّ راحلته وأوضعها: أتعبها. لسان العرب (كلل) و (وضع).(1/241)
فبالأمس أرسلنا بذلك خالدا ... إليك، وبينّا له الأمر أجمعا (1)
فما جئتنا إلّا على وفق موعد ... على ملأ منّا خرجنا له معا
رأينا خلاء من عيون ومنظرا ... دميث الرّبى سهل المحلّة ممرعا (2)
وقلن: كريم نال وصل كرائم ... فحقّ له في اليوم أن يتمتّعا
وقوله: «وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا» يقول: هذه الوجوه مدلّة بجمالها فلا تختمر، فتستر شيئا عن الناظرين إليها. وقد أشار إلى هذا المعنى الشماخ بن ضرار (3)
يصف ناقته: [الطويل]
كأنّ ذراعيها ذراع مدلّة ... بعيد الشباب حاولت أن تعذّرا
من البيض أعطافا إذا اتّصلت دعت ... فراس بن غنم أو لقيط بن يعمرا
بها شرق من زعفران وعنبر ... أطارت من الحسن الرّداء المحبّرا
[في معان أخرى]
قال: وكانت عائشة بنت طلحة بن عبيد الله لا تستر وجهها، فلمّا دخلت على مصعب بن الزبير قال لها في ذلك، فقالت: إن الله تعالى وسمني بميسم جمال، فأحببت أن يراه الناس، والله ما بي وصمة أستتر لها.
وقال علي بن العباس الرومي (4) يصف قينة: [المنسرح]
لم يعتصم عودها بزامرة ... ولا انضوى وجهها إلى الستر
وقد ردّد معنى قوله: «لم يعتصم عودها بزامرة» فقال: يصف برعة (5) الكبيرة:
[السريع]
غنّت فلم تحوج إلى زامر ... هل تحوج الشمس إلى شمعه؟
كأنما غنّت لشمس الضحى ... فألبستها حسنها خلعه
كأنما رنّة مسموعها ... رقّة شكوى سبقت دمعه
__________
(1) في الديوان: «الشأن» بدل «الأمر».
(2) في الديوان: «ومجلسا» بدل «ومنظرا». والممرع: المخصب. لسان العرب (مرع).
(3) الشماخ بن ضرار أو معقل بن ضرار: شاعر مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، وتوفي سنة 22هـ.
الأعلام (ج 3ص 175) ومصادر حاشيته.
(4) هو ابن الرومي الشاعر الشهير.
(5) برعة، بفتح الباء والعين وسكون الراء: مخلاف بالطائف. معجم البلدان (ج 1ص 385).(1/242)
تهدي إلى قلبك ما يشتهي ... كأنها قد أطلعت طلعه
يجتمع الظرف لجلّاسها ... والحسن والإحسان في بقعه
طفّل على من حصلت عنده ... فبعض تطفيل الفتى رفعه (1)
ربيع غيث فانتجع روضه ... فلن يعاب الحرّ بالنّجعه (2)
وكان ابن الرومي لا يزال معتمّا، وكان يغضب إذا سئل عن ذلك، وسأله بعض الرؤساء: لم تعتمّ؟ فقال بديها: [المنسرح]
يا أيها السائلي لأخبره ... عنّي لم لا أراك معتجرا (3)
أستر شيئا لو كان يمكنني ... تعريفه السائلين ما سترا
وقد بيّن العلّة التي أوجبت اهتمامه في قوله: [الطويل]
تعمّمت إحصانا لرأسي برهة ... من القرّ يوما والحرور إذا سفع (4)
فلمّا دهى طول التّعمّم لمّتى ... وأودى بها بعد الإطالة والفرع
عزمت على لبس العمامة حيلة ... لتستر ما جرّت عليّ من الصّلع
فيا لك من جان عليّ جناية ... جعلت إليه من جنايته الفزع
وأعجب شيء كان دائي جعلته ... دوائي على عمد وأعجب بأن نفع
وهذا كقوله، وإن لم يكن في معناه، وقد رأيت من ينسبه إلى كشاجم: [الوافر]
طربت إلى المراة فروّعتني ... طوالع شيبتين ألمّتا بي (5)
فأمّا شيبة ففزعت منها ... إلى المقراض حبّا للتّصابي
وأمّا شيبة فصفحت عنها ... لتشهد بالبراءة من خضابي
فأعجب بالدّليل على مشيبي ... أقمت به الدّليل على شبابي
وهو القائل في صفة رجل أصلع: [السريع]
يجذب من نقرته طرّة ... إلى مدى يقصر عن ميله
فوجهه يأخذ من رأسه ... أخذ نهار الصّيف من ليله
__________
(1) التطفيل: غشيان الوليمة من غير دعوة. لسان العرب (طفل).
(2) النّجعة: طلب الكلإ في موضعه. القاموس المحيط (نجع).
(3) الاعتجار: لفّ العمامة دون التحليّ. القاموس المحيط (عجر).
(4) الحرور: الريح الحارّة بالليل. القاموس المحيط (حرر).
(5) المراة: أصل القول: «المرآة» وقد خففت للضرورة الشعرية.(1/243)
وقال أعرابي: [الرجز]
قد ترك الدّهر صفاتي صفصفا ... فصار رأسي جبهة إلى القفا (1)
* كأنه قد كان ربعا فعفا * قال أعرابيّ لسليمان بن عبد الملك: إني أكلّمك يا أمير المؤمنين بكلام فاحتمله، فإنّ وراءه إن قبلته ما تحبّه، قال: هاته يا أعرابي، فنحن نجود بسعة الاحتمال على من لا نأمن غيبته، ولا نرجو نصيحته، وأنت المأمون غيبا، الناصح جيبا (2). قال: فإني سأطلق لساني بما خرست عنه الألسن، تأدية لحقّ الله تعالى إنه قد اكتنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربّهم، وخافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب للآخرة، وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه فإنهم لم يألوا الأمانة تضييعا، والأمة كسفا وخسفا، وأنت مسؤول عمّا اجترموا، وليسوا مسؤولين عمّا اجترمت فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإنّ أعظم الناس عند الله غبنا من باع آخرته بدنيا غيره.
فقال سليمان: أما أنت يا أعرابي، فقد سللت لسانك وهو سيفك، قال: أجل يا أمير المؤمنين، لك لا عليك.
وروى العتبي عن أبيه عن مولى لعمرو بن حريث قال: شخصت إلى سليمان بن عبد الملك، فقيل لي: إنك ترد على أفصح العرب، وسيسألك عن المطر، فانظر ما تجيبه، فقلت: ما عندي من الجواب إلّا ما عند العامّة، فقيل لي: ما ذلك بمقنع عنده، فلقيني أعرابي فقلت: هل لك في درهمين؟ فقال: إنّي والله محتاج إليهما، حريص عليهما، فما شأنك؟ فقلت: لو سألك سائل عن هذا المطر بم كنت تجيبه؟ قال: أو يعيا بهذا أحد؟ قلت: نعم، سائلك! قال: أتعيا أن تقول: أصابتنا سماء، عمد لها الثّرى، واتّصل بها العرى، وقامت منها الغدر، وأتتك في مثل وجار (3) الضّبع؟ فكتبت الكلام، وأعطيته درهمين: فكان هجّيراي على الرّاحلة (4) فإذا نزلت أقبلت عليه وأمثل نفسي كأني واقف بين يديه، وقد سلّمت عليه بالخلافة وهو يسألني عن المطر!
__________
(1) الصّفاة: الحجر الصّلد الضخم. الصّفصف: المستوي من الأرض. القاموس المحيط (صفا) و (صفصف). وهنا يشير إلى سوء حاله.
(2) رجل ناصح الجيب: لا غشّ فيه. القاموس المحيط (نصح).
(3) وجار الضّبع: جحره. القاموس المحيط (وجر).
(4) الهجّيرى: الدأب والشأن. الراحلة: الإبل الصالحة لأن ترحل وقوله: كان هجّيراي على الراحلة:
أي لم يزل يكرره وهو سائر. القاموس المحيط (هجر) و (رحل).(1/244)
فلمّا انتهيت إليه سألني فاقتصصت الكلام، فكسر إحدى عينيه، وقال: إني لأسمع كلاما ما أنت بأبي عذرته (1). قلت: صدقت! وحياتك يا أمير المؤمنين اشتريته بدرهمين! فاستغرب ضحكا، ثم أحسن صلتي.
وقال أعرابي يمدح رجلا: [الطويل]
حليم مع التّقوى، شجاع مع الجدا ... ند حين لا يندى السّحاب سكوب (2)
ويجلو أمورا لو تصيّفن غيره ... لمات خفاتا أو لكاد يذوب
شديد مناط القلب في الموقف الذي ... به لقلوب العالمين وجيب
فتى هو من غير التخلّق ماجد ... ومن غير تأديب الرّجال أديب
وقال بعض المحدّثين يمدح: [الطويل]
فتى يجعل المعروف قبل سؤاله ... ويجعل دون العذر فضل التّكرّم
أغرّ متى تقصد به فضل حظّه ... تصب ومتى تطلب به الغنم تغنم
على رأيه ينضمّ منصدع الصّفا ... وينحلّ من عقد العرى كلّ مبرم
له عزمة أغنى من الجيش في الوغى ... وخطرة رام كالحسام المصمّم
جملة من كلام أبي الفضل أحمد بن الحسين الهمداني، بديع الزمان (3)
وهذا اسم وافق مسمّاه، ولفظ طابق معناه، وكلام غضّ المكاسر، أنيق الجواهر، يكاد الهواء يسرقه لطفا، والهوى يعشقه ظرفا.
ولمّا رأى أبا بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (4) أغرب بأربعين حديثا، وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، واستنخبها من معادن فكره، وأبداها للأبصار والبصائر، وأهداها للأفكار والضمائر، في معارض أعجمية، وألفاظ حوشية، فجاء أكثر ما أظهر تنبو
__________
(1) العذرة: البكارة وأبو عذرته: أول من افتضّ بكارته. القاموس المحيط (عذر). يقول: إنه مبدع الكلام.
(2) الجدا: العطيّة. ند: اسم فاعل من ندي وهو المبتلّ بالماء. القاموس المحيط (جدا) و (ندا).
(3) أحمد بن الحسين الهمذاني: أحد أئمة الكتّاب، وصاحب المقامات المشهورة. توفي سنة 398هـ.
ترجمته في يتيمة الدهر (ج 4ص 256) ووفيات الأعيان (ج 1ص 127) ومعجم الأدباء (ج 1 ص 265) ومعاهد التنصيص (ج 3ص 113) والأعلام (ج 1ص 115).
(4) في الأصل: «الحسين» بدل «الحسن». ومحمد بن الحسن بن دريد إمام عصره في اللغة والآداب.
توفي ببغداد سنة 321هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 4ص 323) ومعجم الأدباء (ج 5 ص 296) وتاريخ بغداد (ج 2ص 195) والفهرست (ص 67).(1/245)
عن قبوله الطباع، ولا ترفع له حجبها الأسماع، وتوسّع فيها إذ صرّف ألفاظها ومعانيها، في وجوه مختلفة، وضروب متصرّفة، عارضها بأربعمائة مقامة في الكدية، تذوب ظرفا، وتقطر حسنا، لا مناسبة بين المقامتين لفظا ولا معنى، وعطف مساجلتها، ووقف مناقلتها، بين رجلين سمّى أحدهما عيسى بن هشام والآخر أبا الفتح الإسكندري، وجعلهما يتهاديان الدّر، ويتنافثان السّحر، في معان تضحك الحزين، وتحرّك الرّصين، يتطلّع منها كلّ طريفة، ويوقف منها على كلّ لطيفة، وربّما أفرد أحدهما بالحكاية، وخصّ أحدهما بالرواية وسأذكر منها ما لا يخلّ طوله بالشرط المعقود، ولا ينافي حصوله الغرض المقصود (1).
كتب إلى أبي نصر أحمد بن علي الميكالي:
كتابي أعزّ الله الأمير! وبودّي أن أكونه، فأسعد به دونه، ولكنّ الحريص محروم، لو بلغ الرزق فاه، لولّاه قفاه. فرّق الله بين الأيام، تفريقها بين الكرام، وألهمها أن تورد بعقل، وتصدر بتمييز، وما ذلك على الله بعزيز، وأنا في مفاتحة الأمير، بين ثقة تعد، ويد ترتعد، ولم لا يكون ذلك؟ والبحر وإن لم أره، فقد سمعت خبره، ومن رأى من السيف أثره، فقد عاين أكثره، والليث وإن لم ألقه، فلم أجهل خلقه، وما وراء ذلك من تالد أصل وحسب، وطارف فضل وأدب، وبعد همّة وصيت، فمعلوم تشهد به الدفاتر، والخبر المتواتر، وتنطق به الأشعار، كما تصدق به الآثار، والعين أقلّ الحواس إدراكا، والأذن أكثرها استمساكا، وإن بعدت الدار فلا ضير إنّ أيسر البعدين بعد الدارين، وخير القربين قرب القلبين.
وكتب إليه في سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة:
الأمير الفاضل، والشيخ الرئيس، رفيع مناط الهمّة، بعيد منال الحرمة، وفسيح مجال الفضل، رحيب منخرق الجود، رطيب مكسر العود: [المجتث]
فلو نظمت الثريّا ... والشّعريين قريضا (2)
وكاهل الأرض ضربا ... وشعب رضوى عروضا (3)
وصغت للدّرّ ضدّا ... وللهواء نقيضا
__________
(1) يفهم من سياق الحديث أن بديع الزمان الهمذاني أخذ فن المقامات عن ابن دريد. وحديث بديع الزمان وارد في الذخيرة لابن بسام (ق 4ص 586585) ببعض الاختلاف عمّا هنا.
(2) الشّعريان: هما الشّعرى العبور، والشّعرى الغميصاء، وهما أختا سهيل. القاموس المحيط (شعر).
(3) رضوى: جبل بالمدينة. القاموس المحيط (رضي).(1/246)
بل لو جلوت عليه ... سود النوائب بيضا
أو ادّعيت الثريّا ... لأخمصيه حضيضا
والبحر عند لهاه ... يوم العطاء مغيضا
لما كنت إلّا في ذمّة القصور، وجانب التقصير، فكيف وأنا قاعد الحالة فيّ المدح، قاصر الآلة عن الشّرح؟ ولكني أقول: الثناء منجح أنّى سلك، والسخيّ جوده بما ملك، وإن لم تكن غرّة لائحة فلمحة دالّة، وإن لم يكن صدّاء فماء (1)، وإن لم يكن خمر فخلّ، وإن لم يصبها وابل فطلّ، وبذل الموجود غاية الجود، وبعض الجهد آخر المجهود، وماش خير من لاش (2)، ووجود ما قلّ خير من عدم ما جلّ. وقليل في الجيب خير من كثير في الغيب، وجهد المقلّ خير من عذر المخل، وحمار أيس خير من فرس ليس (3)، وكوخ في العيان خير من قصر في الوهم. وذيت (4) خير من ليت، وما كان أجود من لو كان، وقد قيل: عصفور في الكفّ أجود من كركيّ (5) في الجوّ، ولأن تقطف (6) خير من أن تقف، ومن لم يجد الجميم رعى الهشيم (7)، ومن لم يحسن صهيلا نهق، ومن لم يجد ماء تيمّم والأمير الرئيس أدام الله نعماه! لا ينظر في قوافي صنيعته إلى ركاكة ألفاظها، وبعد أغراضها، ولكن إلى كثرة جذرها (8)، وثقل مهرها، وقلّة كفئها، وإنني منذ فارقت قصبة جرجان، ووطئت عتبة خراسان، ما زففتها إلّا إليه، ولا وقفتها إلّا عليه، هذا على تمرغي في أعطاف المحن، وضرورتي إلى أبناء الزمن، وإن كان الأمير الرئيس يرفع لكل لفظ حجاب سمعه، ويفسح لكلّ شعر فناء طبعه، فهاك من النثر ما ترى، ومن النظم ما يترى: [مجزوء الرمل]
أدهق الكاس فعرف ال ... فجر قد كاد يلوح
فهو للناس صباح ... ولذي الرأي صبوح
__________
(1) أخذه من المثل: «ماء ولا كصدّاء». وصدّاء: ركيّة لم يكن عندهم ماء أعذب من مائها، والركيّة هي البئر ذات الماء. مجمع الأمثال (ج 2ص 277) ولسان العرب (صدد).
(2) ماش: ما شيء. لاش: لا شيء. وهي لغة عامية يقول: شيء خير من لا شيء.
(3) الأيس: القهر. القاموس المحيط (أيس). يقول: إنّ حمار الضرورة خير من فرس معدوم.
(4) في الأصل: «وزيت» بالزاي. وذيت، بفتح الذال وسكون الياء وفتح التاء أو ضمّها أو كسرها: كيت وكيت. القاموس المحيط (ذيت).
(5) الكركيّ: طائر، جمعه كراكيّ. القاموس المحيط (كرك).
(6) القطف للدواب يقال: قطفت الدابة إذا ضاق مشيها. القاموس المحيط (قطف).
(7) الجميم: النبت الكثير. الهشيم: نبت يابس متكسّر. القاموس المحيط (جمم) و (هشم).
(8) الجذر هنا: هو ما تكافا به المغنّية.(1/247)
والذي يمرح بي في ... حلبة اللهو جموح
فاسقنيها والأمانيّ ... لها عرف يفوح
إنّ للأيام أسرا ... را بها سوف تبوح
لا يغرّنّك جسم ... صادق الحسّ وروح
إنما نحن إلى الآ ... جال نغدو ونروح
ويك هذا العمر تبري ... ح وهذا الروح ريح
بينما أنت صحيح ال ... جسم إذ أنت طريح
فاسقنيها مثل ما يل ... فظه الدّيك الذّبيح
قبل أن يضرب في الدّه ... ر بي القدح السّنيح
إنما الدّهر غرور ... ولمن أصغى نصيح
ولسان الدّهر بالوع ... ظ لواعيه فصيح
نستبيح الدّهر والأيّا ... م منّا تستبيح
نحن لاهون وآجا ... ل المنايا لا تريح
يا غلام الكأس فاليأ ... س من الناس مريح
ضاع ما نحميه من أن ... فسنا وهو مبيح
وقنوعا فمقام الذّ ... ل بالمرء قبيح
أنا يا دهر بأبنا ... ئك شقّ وسطيح (1)
وبأبكار القوافي ... لا على كفء شحيح
يا بني ميكال والجو ... د لعلّاتي مزيح
شرفا إنّ مجال ال ... فضل فيكم لفسيح
وعلى قدر سنا المم ... دوح يأتيك المديح
فهناك الشرف الأر ... فع والطّرف الطّموح
والنّدى والخلق الطا ... هر والخلق الصّبيح
مرتقى مجد يحار ... الطّرف فيه ويطيح
أيّهذا الكرم الما ... ثل والخلق السّجيح (2)
__________
(1) شقّ وسطيح: كاهنان من كهان الجاهلية، كانوا يضربون بهما المثل في معرفة الغيب. لسان العرب (شقق) و (سطح).
(2) السجيح: اللّيّن السهل. القاموس المحيط (سجح).(1/248)
كان هذا الجود ميتا ... عاده منك المسيح
هذه أطال الله بقاء الأمير! هديّة الوقت، وعفو الساعة، وفيض البديهة، ومسارقة القلم، ومسابقة اليد للفم، وجمرات الحدّة، وثمرات المدّة، ومجاراة الخاطر للناظر، ومباراة الطّبع للسّمع، ومجاذبة الجنان للبيان، والشعر إذا لم تقدّمه روّية، ولم تنضجه نيّة، لم يفتح له السمع بابه، ولم يرفع له القلب حجابه، وإذا لبس الأمير هذه على علّاتها رجوت أن يكون بعدها ما هو أفتن وأحسن وأرصن، فرأيه أيّده الله في الوقوف عليها موفقا إن شاء الله.
وله إليه معاتبة: [الطويل]
لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرّني أنّي خطرت ببالك
الأمير الفاضل الشيخ الرئيس، أطال الله بقاءه إلى آخر الدعاء، في حال برّه وجفائه متفضّل، وفي يومي إبعاده وإدنائه متطوّل. وهنيئا له من حمانا ما يحلّه، ومن عرانا ما يحلّه، ومن أعراضنا ما يستحلّه بلغني أنه أدام الله عزّه! استزاد صنيعته، وكنت أظنني مجنيّا عليه، مساء إليه، فإذا أنا في قرارة الذّنب، وبمثابة العتب، وليت شعري أيّ محظور في العشرة حضرته، أو مفروض من الخدمة رفضته، أو واجب في الزيارة أهملته؟ وهل كنت إلّا ضيفا أهداه بلد شاسع، وأدّاه أمل واسع، وحداه فضل وإن قلّ، وهداه رأي وإن ضلّ، ثم لم يلق إلّا في آل ميكال رحله، ولم يصل إلّا بهم حبله، ولم ينظم إلّا فيهم شعره، ولم يقف إلّا عليهم شكره ثم ما بعدت صحبة إلّا دنت مهانة، ولا زادت حرمة إلّا نقصت صيانة، ولا تضاعفت منّة إلّا تراجعت منزلة، ولم تزل الضّعة بنا حتى صار وابل الإعظام قطرة، وعاد قميص القيام صدرة، وذلك التقرب ازورارا، وطويل السلام اختصارا، والاهتزاز إيماء، والعبارة إشارة وحين عاتبته آمل إعتابه، وكاتبته أنتظر جوابه، وسألته أرجو إيجابه، أجاب بالسكوت، وأعتب بالقنوت، فما ازددت إلّا له ولاء، وعليه ثناء لا جرم إني اليوم أبيض وجه العهد، واضح محجّة الودّ، طويل عنان القول، رفيع حكمة العذر وقد حمّلت فلانا من الرسالة ما تجافى عنه القلم والأمير الرئيس أطال الله بقاءه ينعم بالإصغاء لما يورده موفقا إن شاء الله.
وله إليه في هذا الباب:
أنا في خدمة الأمير الرئيس أطال الله بقاءه! مترجّح بين أن أشربها رنقة (1) ولا
__________
(1) الرنقة: الكدرة يقال: رنق الماء إذا كدر فهو رنق. القاموس المحيط (رنق).(1/249)
أسيغها، وألجلج منها مضغة ولا أجيزها، وبين أن أطويها على عرّها، ولا أرتضع أخلاف (1) درّها: [الوافر]
فلا نفسي تطاوعني لرفض ... ولا هممي توطّنني لخفض
وبقي أن أقرصه بأنامل العتب، وأحشمه بألحاظ العذل، وأعرفه أني ما أطوي مسافة مزار إلّا متجشّما، ولا أطأ عتبة دار إلّا متبرّما ولست كمن يبسط يده مستجديا، أو ينقل قدمه مستعديا فإن كان الأمير الرئيس أيّده الله! يسرح طرفة منّي في طامح أو طامع، فليعد للفراسة نظرا: [الطويل]
فما الفقر من أرض العشيرة ساقني ... إليك، ولكنّا بقرباك ننجح
وأجدني كلما استفزّني الشوق إلى تلك المحاسن، أطير إليها بجناحين عجلا، وأرجع بعرجاوين خجلا، ولولا أنّ الرضا بذلك ضرب من سقوط الهمّة، وأن العتاب نوع من أنواع الخدمة، لصنت مجلسه عن قلمي، كما أصونه عن قدمي، ولملت إلى أرض الدعاء فهو أنجع، وإلى جانب الثناء فهو أوسع، وسأفعل لتخفّ مؤنتي، ولا تثقل وطأتي:
[المتقارب]
إذا ما عتبت فلم تعتب (2) ... وهنت عليك فلم تعن بي
سلوت، ولو كان ماء الحياة ... لعفت الورود ولم أشرب
قطعة من مفردات الأبيات لأهل العصر في معان شتّى تجري مجرى الأمثال
أبو فراس الحمداني (3): (الطويل)
إذا كان غير الله للمرء عدّة ... أتته الرّزايا من وجوه المكاسب
وله: [الطويل]
عفافك عيّ، إنما عفّة الفتى ... إذا عفّ عن لذّاته وهو قادر
وقال المتنبي (4): [الخفيف]
كلّ حلم أتى بغير اقتدار ... حجّة لاجىء إليها اللّئام
__________
(1) الأخلاف: جمع خلف وهو حلمة ضرع الناقة. القاموس المحيط (خلف).
(2) أعتبه: طلب إليه العتبى وهي الرّضا. القاموس المحيط (عتب).
(3) لم يرد هذا البيت ولا البيت التالي في ديوان أبي فراس الحمداني.
(4) ديوان المتنبي (ص 163).(1/250)
وله (1): [الخفيف]
وإذا كانت النّفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام
وله (2): [الكامل]
وإذا أتتك مذمّتي من ناقص ... فهي الشّهادة لي بأنيّ كامل
وله (3): [البسيط]
لا يعجبنّ مضيما حسن بزّته ... وهل تروق دفينا جودة الكفن؟
وله (4): [الخفيف]
من أطاق التماس شيء غلابا ... واغتصابا لم يلتمسه سؤالا
وله (5): (الكامل)
والظّلم من شيم النفوس، فإن تجد ... ذا عفّة فلعلّة لا يظلم
وله (6): [البسيط]
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه ... أني بما أنا باك منه محسود
وله (7): [البسيط]
ذكر الفتى عمره الثاني، وحاجته ... ما قاته، وفضول العيش أشغال
والمتنبي أكثر المحدثين افتنانا وإحسانا في الإغراب بهذا الباب والاستقصاء يخرج عن شرط الكتاب.
وقال السري الموصلي: [البسيط]
خذوا من العيش فالأعمار فائتة ... والدهر منصرم والعيش منقرض
__________
(1) ديوان المتنبي (ص 267).
(2) ديوان المتنبي (ص 184).
(3) ديوان المتنبي (ص 172).
(4) المصدر نفسه (ص 437).
(5) المصدر نفسه (ص 630).
(6) المصدر نفسه (ص 549).
(7) ديوان المتنبي (ص 531).(1/251)
وله: [الوافر]
فإنك كلّما استودعت سرّا ... أنمّ من النّسيم على الرّياض
وقال أبو إسحاق الصابي: [البسيط]
الضبّ والنّون قد يرجى التقاؤهما ... وليس يرجى التقاء اللبّ والذّهب (1)
وقال ابن نباتة: [الكامل]
مثل خلعت على الزمان رداءه ... عوز الدّراهم آفة الأجواد
وله: [الكامل]
يهوى الثناء مبرّز ومقصّر ... حبّ الثناء طبيعة الإنسان
وقال أبو الحسن السّلامي: [الوافر]
تبسّطنا على اللّذّات لمّا ... رأينا العفو من ثمر الذّنوب
وقال ابن لنكك البصري: [الطويل]
وماذا أرجّي من حياة تكدّرت ... ولو قد صفت كانت كأحلام نائم
وقال أبو طالب المأموني: [الكامل]
لي في ضمير الدهر سرّ كامن ... لا بدّ أن تستلّه الأقدار
وقال أبو الفضل بن العميد: [الكامل]
الرأي يصدأ كالحسام لعارض ... يطرا عليه وصقله التذكير
وقال أبو الفتح: [الطويل]
بطرتم فطرتم والعصا زجر من عصى ... وتقويم عبد الهون بالهون رادع
وله: [المتقارب]
إذا بلغ المرء آماله ... فليس له بعدها مقترح
وقال الصاحب إسماعيل بن عباد: [مجزوء الرمل]
إن أمّ الصقر في الود ... د لمقلاة نزور
__________
(1) الضّبّ: من حيوان الصحراء. النون: الحوت. اللّبّ: العقل. لسان العرب (ضبب) و (نون) و (لبب).(1/252)
وله: [مخلع البسيط]
من لم يعدنا إذا مرضنا ... إن مات لم نشهد الجنازه
وله: [الرجز]
حفظ اللسان راحة الإنسان ... فاحفظه حفظ الشكر للإحسان
وقال إسماعيل الناشىء: [الطويل]
وكنت أرى أنّ التجارب عدّة ... فخانت ثقات الناس حتى التجارب
وقال أبو الفتح البستي: [السريع]
لا ترج شيئا خالصا نفعه ... فالغيث لا يخلو من العيث (1)
وله: [الطويل]
ولم أر مثل الشكر جنّة غارس ... ولا مثل حسن الصبر جبّة لابس
وله: [الطويل]
وطول مقام الماء في مستقرّه ... يغيّره ريحا ولونا ومطعما
وله: [الخفيف]
ما استقامت قناة رأيي إلّا ... بعد ما عوّج المشيب قناتي
وقال أبو الفضل الميكالي: [الطويل]
هو الشوك لا يعطيك وافر منّة ... يد الدهر إلّا حين تضربه جلدا
وله: [السريع]
ذو الفضل لا يسلم من قدح ... وإن غدا أقوم من قدح
وقال شمس المعالي: [البسيط]
وفي السماء نجوم ما لها عدد ... وليس يكسف إلّا الشمس والقمر
__________
(1) العيث: الإفساد. القاموس المحيط (عيث).(1/253)
هذا مأخوذ من قول الطائي (1): [البسيط]
إن الرياح إذا ما استعصفت قصفت ... عيدان نجد فلم يعبأن بالرّتم (2)
بنات نعش ونعش لا كسوف لها ... والشمس والبدر منها الدهر في الرّقم
وقال أبو الحسن علي بن عبد العزيز القاضي: [البسيط]
الهجر أروح من وصل على حذر ... والموت أطيب من عيش على غرر
وقال أبو بكر الخوارزمي: [الخفيف]
لا تغرّنك هذه الأوجه الغرّ ... فيا ربّ حيّة في رياض
قال أبو العيناء: كان عيسى بن فرخان شاه يتيه عليّ في ولايته الوزارة، فلمّا صرف رهبني، فلقيني فسلّم عليّ فأحفى، فقلت لغلامي: من هذا؟ قال: أبو موسى فدنوت منه وقلت: أعزّك الله، والله لقد كنت أقنع بإيمائك دون بيانك، وبلحظك دون لفظك، فالحمد لله على ما آلت إليه حالك، فلئن كانت أخطأت فيك النعمة، فلقد أصابت فيك النّقمة، ولئن كانت الدنيا أبدت مقابحها بالإقبال عليك، لقد أظهرت محاسنها بالانصراف عنك، ولله المنّة إذ أغنانا عن الكذب عليك، ونزّهنا عن قول الزّور فيك، فقد والله أسأت حمل النّعم، وما شكرت حقّ المنعم، فقيل له: يا أبا عبد الله، لقد بالغت في السبّ، فما كان الذنب؟ قال: سألته حاجة أقل من قيمته، فردّ عنها بأقبح من خلقته.
وقال عليّ بن العباس الرومي لأبي الصقر إسماعيل بن بلبل لمّا نكبه الموفق بن أحمد وألمّ في بعض قوله بقول أبي العيناء: [الكامل]
لا زال يومك عبرة لغدك ... وبكت بشجو عين ذي حسدك
فلئن نكبت لطالما نكبت ... بك همّة لجأت إلى سندك
لو تسجد الأيام ما سجدت ... إلّا ليوم فتّ في عضدك
يا نعمة ولّت غضارتها ... ما كان أقبح حسنها بيدك
فلقد غدت بردا على كبدي ... لمّا غدت حرّا على كبدك
ورأيت نعمى الله زائدة ... لما استبان النّقص في عددك
ولقد تمنّت كلّ صاعقة ... لو أنها صبّت على كتدك (3)
__________
(1) ديوان أبي تمام (ص 279) من قصيدة مديح.
(2) في الديوان: «إذا ما أعصفت قصفت ولم يعبأن». والرّتم: نبات دقيق. القاموس المحيط (رتم).
(3) الكتد، بفتح الكاف والتاء: مجتمع الكتفين. محيط المحيط (كتد).(1/254)
لم يبق لي ممّا برى جسدي ... إلّا بقاء الرّوح في جسدك
وله فيه أهاج (1) كثيرة لما نكب، منها قوله: [السريع]
خفّض أبا الصّقر فكم طائر ... خرّ صريعا بعد تحليق
روّجت نعمى لم تكن كفأها ... فصانها الله بتطليق
لا قدّست نعمى تسربلتها ... كم حجّة فيها لزنديق
وكان أبو الصقر لمّا ولي الوزارة مدحه ابن الرومي بقصيدته النونية التي أولها:
[البسيط]
أجنينك الورد أغصان وكثبان ... فيهنّ نوعان تفّاح ورمان
وفوق ذينك أعناب مهدّلة ... سود لهنّ من الظلّماء ألوان
وتحت هاتيك عنّاب تلوح به ... أطرافهنّ قلوب القوم قنوان (2)
غصون بان عليها الزهر فاكهة ... وما الفواكه مما يحمل البان
ونرجس بات ساري الطّل يضربه ... وأقحوان منير اللّون ريّان
ألّفن من كل شيء طيّب حسن ... فهنّ فاكهة شتّى وريحان
ثمار صدق إذا عاينت ظاهرها ... لكنها حين تبلو الطّعم خطبان (3)
ولا يدمن على عهد لمعتقد ... والغانيات كما شبّهن بستان
يميل طورا بحمل ثم يعدمه ... ويكتسي ثم يلفى وهو عريان
وهي أكثر من مائتي بيت، مرّ له فيها إحسان كثير، فأنشدها أبا الصقر، فلمّا سمع قوله:
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم ... كلّا لعمري ولكن منه شيبان
قال: هجاني، قيل له: إنّ هذا من أحسن المدح ألا تسمع ما بعده:
وكم أب قد علا بابن ذرى شرف ... كما علت برسول الله عدنان
قال: أنا بشيبان لا شيبان بي. فقيل له فقد قال:
ولم أقصّر بشيبان التي بلغت ... بها المبالغ أعراق وأغصان
__________
(1) الصواب: «أهاجيّ» وهي جمع أهجيّة. القاموس المحيط (هجا).
(2) القنوان، بكسر القاف أو ضمّها وسكون النون: جمع قنو وهو الكباسة والكباسة هي العذق الكبير.
القاموس المحيط (قنى) و (كبس).
(3) الخطبان، بضم الخاء وسكون الطاء: نبت كالهليون. القاموس المحيط (خطب).(1/255)
لله شيبان قوم لا يشوبهم ... روع إذا الروع شابت منه ولدان
فقال: لا والله لا أثيبه (1) على هذا الشعر، وقد هجاني.
قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي: كنت يوما عند عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وقد ذكروا قصيدة ابن الرومي هذه النونية، فقال: هذه دار البطيخ، فاقرأوا تشبيهاتها تعلموا ذلك! فضحك جميع من حضر.
وفي هذه القصيدة يقول من المختار في النسيب:
يا ربّ حسّانة منهنّ قد فعلت ... سوءا، وقد يفعل الأسواء إحسان
تشكي المحبّ وتلفى الدّهر شاكية ... كالقوس تصمي الرّمايا وهي مرنان (2)
وهذا كقوله في قصيدة يصف فيها قوس البندق: [الطويل]
لها رنّة أولى بها من تصيبه ... وأجدر بالإعوال من كان موجعا
يقول فيها:
لا تلحياني وإيّاها على ضرعي ... وزهوها، لجّ مفتون وفتّان
إني ملكت فبي للرّقّ مسكنة ... وملّكت فلها بالملك طغيان
لي مذ نأت وجنة ريّا بمشربها ... من عبرتي وفم ما عشت ظمآن
وفيها في مدح بني شيبان:
قوم سماحتهم غيث، ونجدتهم ... غوث، وآراؤهم في الخطب شهبان
تلقاهم ورماح الخطّ حولهم ... كالأسد ألبسها الآجام خفّان (3)
صانوا النفوس عن الفحشاء وابتذلوا ... منهنّ في سبل العلياء ما صانوا
المنعمون وما منّوا على أحد ... يوما بنعمى، ولو منّوا لما مانوا (4)
__________
(1) أثابه: أعطاه. القاموس المحيط (ثوب).
(2) تشكيه: تزيده أذى وشكاية. تصمي: ترمي يقال: أصمى الصّيد إذا رماه فقتله في مكانه. القاموس المحيط (شكى) و (صمى). الرمايا: جمع رميّة وهي الصيد يرمى ذكرا كان أم أنثى. محيط المحيط (رمى).
(3) الخطّ: أرض تنسب إليها الرماح الخطّيّة. معجم البلدان (ج 2ص 378). خفّان، بفتح الخاء وتشديد الفاء: مأسدة قرب الكوفة. معجم البلدان (ج 2ص 379).
(4) مانوا: كذبوا. القاموس المحيط (مين).(1/256)
يقول فيها في أبي الصقر:
يفديه من فيه عن مقدار فديته ... عن المفاداة تقصير ونقصان
قوم كأنهم موتى إذا مدحوا ... وما لهم من حبير الشعر أكفان
صاحي الطباع إذا سالت هواجسه ... وإن سألت يديه فهو نشوان
يصحيه ذهن ويأبى صحوه كرم ... مستحكم فهو صاح وهو سكران
فرد جميع يراه كل ذي بصر ... كأنه الناس طرّا وهو إنسان
وهذا كقول أبي الطيب (1): [الكامل]
ولقيت كلّ الفاضلين كأنّما ... ردّ الإله نفوسهم والأعصرا
نسقوا لنا نسق الحساب مقدّما ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخّرا
وقد تقدّم.
وقال (2): [الطويل]
فإن يك سيّار بن مكرم انقضى ... فإنّك ماء الورد إن ذهب الورد
مضى وبنوه وانفردت بفضلهم ... وألف إذا ما جمّعت واحد فرد
وقال البحتري (3): [الطويل]
ولم أر أمثال الرجال تفاوتا ... لدى المجد، حتى عدّ ألف بواحد
ومدحه (4) وعاتبه بقصائد كثيرة فما أنجحت، فمن ذلك قوله في قصيدة طويلة يمدحه: [البسيط]
في وجهه روضة للحسن مونقة ... ما راد في مثلها طرف ولا سرحا (5)
طلّ الحياء عليها ساقط أبدا ... كاللؤلؤ الرّطب لو رقرقته سفحا
أنا الزعيم لمكحول بغرّته ... ألّا يرى بعدها بؤسا ولا ترحا
مهما أتى الناس من طول ومن كرم ... فإنما دخلوا الباب الّذي فتحا
يعطي المزاح ويعطي الجدّ حقّهما ... فالموت إن جدّ، والمعروف إن مزحا
__________
(1) ديوان المتنبي (ص 570).
(2) ديوان المتنبي (ص 208).
(3) ديوان البحتري (ج 1ص 55) وجاء فيه: «الرجال تفاوتت إلى الفضل حتى عدّ».
(4) القول لابن الرومي.
(5) راد: ارتاد. لسان العرب (رود).(1/257)
وافى عطارد والمرّيخ مولده ... فأعطياه من الحظّين ما اقترحا
إن قال: لا، قالها للآمريه بها ... ولم يقلها لمن يستمنح المنحا
في كفّه قلم ناهيك من قلم ... نبلا، وناهيك من كفّ بما اتّشحا
يمحو ويثبت أرزاق العباد به ... فما المقادير إلّا ما محا ووحى (1)
كأنما القلم العلوي في يده ... يجريه في أي أنحاء البلاد نحا
لمّا تبسّم عنك المجد قلت له ... قهقه فلا نغلا تبدي ولا قلحا (2)
أثني عليك بنعماك التي عظمت ... وقد وجدت بها في القول منفسحا
أمطر بذاك جناني تكسه زهرا ... أنت المحيّا بريّاه إذا نفحا
أنشدتها على متوالي الاختيار، وكذلك أجري في كثير من الأشعار.
وقال يعاتبه ويستبطئه: [الطويل]
عقيد النّدى، أطلق مدائح جمّة ... حبائس حسرى قد أبت أن تسرّحا
وكنت متى تنشد مديحا ظلمته ... يرى لك أهجى ما يرى لك أمدحا
عذرتك لو كانت سماء تقشّعت ... سحائبها أو كان روض تصوّحا
ولكنها سقيا حرمت رويّها ... وعارضها ملق كلاكل جنّحا (3)
وأكلاء معروف حرمت مريعها ... وقد عاد منها السهل والحزن مسرحا (4)
عرضت لأورادي وبحرك زاخر ... فلمّا أردن الورد ألفين ضحضحا (5)
فلو لم ترد أذواد غيري غماره ... لقلت: سراب بالمتان توضّحا (6)
فيا لك بحرا لم أجد فيه مشربا ... وإن كان غيري واجدا فيه مسبحا
مديحي عصا موسى، وذلك أنني ... صربت به بحر النّدى فتضحضحا (7)
__________
(1) وحى: كتب. لسان العرب (وحى).
(2) النّغل، بفتح النون والغين: فساد الأسنان. القلح: صفرة الأسنان. لسان العرب والقاموس المحيط (نغل) و (قلح).
(3) الكلاكل: جمع كلكل وهو الصّدر. جنّح: جمع جانح وهو المائل يقال: جنح إذا مال. لسان العرب (كلكل) و (جنح).
(4) الحزن: خلاف السهل. لسان العرب (حزن).
(5) الضّحضح: الماء اليسير. القاموس المحيط (ضحضح).
(6) الأذواد: جمع ذود وهو من الإبل من الثلاثة إلى العشرة، وفي المثل: «الذّود إلى الذّود إبل». لسان العرب (ذود).
(7) صرب: قطع. القاموس المحيط (صرب).(1/258)
سأمدح بعض الباخلين لعلّه ... إذا اطّرد المقياس أن يتسمّحا
فيا ليت شعري إن ضربت به الصفا ... أيبعث لي منه جداول سيّحا؟
كتلك التي أبدت ثرى الأرض يابسا ... وشقّت عيونا في الحجارة سفّحا
ملكت فأسجح يا أبا الصقر إنه ... إذا ملك الأحرار مثلك أسجحا (1)
وما ضرع إلى أحد هذه الضّراعة، ولا في طوقه هذا الاحتمال وهذه الأبيات الأخيرة إنما ولّد أكثرها من قول أبي تمام الطائي لمحمد بن عبد الملك الزيات (2):
[الطويل]
فلو حاردت شول عذرت لقاحها ... ولكن حرمت الدّرّ والضّرع حافل (3)
أكابرنا عطفا علينا فإننا ... لنا ظمأ برح وأنتم مناهل (4)
وفيه يقول (5): [السريع]
هذا مقامي يا بني وائل ... من مستجير بكم عائذ
أنشب فيه الدهر أظفاره ... وعضّه بالناب والناجذ
فأنصفوا منه أخا حرمة ... لاذ بكم منه مع اللائذ
فما أرى الدهر على جوره ... يخرج من حكمكم النافذ
وقال أيضا: [المنسرح]
يا أيّها السيد الذي وهنت ... أنصار أمواله ولم يهن
فأصبحت في يد الضّعيف وذي ال ... قوّة والباقليّ واللّسن (6)
غيري على أنني مؤمّلك ال ... أقدم سائل بذاك وامتحن
مادح عشرين حجّة كملا ... محرومها عنك غير مضطغن
__________
(1) أخذه من المثل: «ملكت فأسجح»، أي ملكت فأحسن. مجمع الأمثال (ج 2ص 283، رقم المثل 3879).
(2) ديوان أبي تمام (ص 229).
(3) حاردت الأبل: انقطعت ألبانها. الشّول: جمع شائلة، والشائلة من الإبل: ما أتى عليها من حملها سبعة أشهر فجفّ لبنها. القاموس المحيط (حرد) و (شول). وجاء في الديوان: «ولو حاردت
ولكن حرمنا».
(4) في الديوان: «بنا» بدل «لنا».
(5) القول للبحتري.
(6) الباقليّ: المنسوب إلى باقل وهو رجل اشترى ظبيا بأحد عشر درهما، فسئل عن شرائه، ففتح كفّيه، وأخرج لسانه يشير إلى ثمنه، فانفلت، فضرب به المثل في العيّ. القاموس المحيط (بقل).(1/259)
فضلك أو عدلك الذي ائتمن ... الله عليه أجلّ مؤتمن
إن كنت في الشعر ناقدا فطنا ... فلتعطني حقّ حصه الفطن
وإن أكن فيه ساقطا زمنا ... فلتعطني حقّ حصه الزّمن
سم بي ديوانك الذي عدلت ... جدواه بين الصحيح والضّمن (1)
كثر بشخصي من استطعت من ... الناس فإن لم أزنك لم أشن
ما حقّ من لان صدره لك بال ... ودّ لقاء بجانب خشن
وقال أبو العباس الرومي لرجل مدحه في كلمة: [الوافر]
أبعد لقاي دونك كلّ قفر ... يدقّ الشخص فيه أن يلاقى
وإعمالي إليك به المطايا ... وقد ضرب الظلام له رواقا
ورفضي النوم إلّا أن تراني ... أعانق واسط الكور اعتناقا
تسوق بنا الحداة فليس تدري ... أشوقا كان ذلك أم سياقا
أصادف درّة المعروف شكرى ... لديك ولا أذوق لها ذواقا (2)
يقول فيها:
غدا يعلو الجياد وكان يعلو ... إذا ما استفره السّبت الرّقاقا (3)
أعنّتها الشّسوع فإن عراها ... حفاء الكدّ أنعلها طراقا (4)
فزوّج بعد قفر منه نعمى ... أراني الله صبحتها الطّلاقا
[أبو العيناء]
قال أبو القاسم عليّ بن حمزة بن شمردل: حدثني أبي قال: سألت أبا العيناء عن نسبه، فقال: أنا محمد بن القاسم بن خلّاد بن ياسر بن سليمان، وأصل قومي من بني حنيفة من أهل اليمامة، ولحقهم سباء في أيام المنصور فلمّا صار ياسر في قيده أعتقه، فولاؤنا لبني هاشم وكان أبو العيناء ضرير البصر ويقال: إنّ جدّه الأكبر لقي علي بن أبي
__________
(1) الضّمن، بفتح الضاد وكسر الميم: الزّمن، والمبتلى في جسده. القاموس المحيط (ضمن).
(2) شكرى، على وزن سكرى: ملأى يقال: شكرت الناقة إذا امتلأ ضرعها. القاموس المحيط (شكر).
(3) استفره الأفراس: استكرمها. السّبت، بكسر السين: جلود البقر وكل جلد مدبوغ. القاموس المحيط (فره) و (سبت).
(4) الطّراق، بكسر الطاء: جلد النّعل. القاموس المحيط (طرق).(1/260)
طالب رضي الله عنه! فأساء مخاطبته فدعا عليه وعلى ولده بالعمى، فكلّ من عمي منهم صحيح النسب!
قال الصولي: حدّثني أبو العيناء، قال: لما أدخلت على المتوكل فدعوت له وكلّمته استحسن كلامي، وقال لي: بلغني أنّ فيك شرّا! فقلت: يا أمير المؤمنين، إن يكن الشرّ ذكر المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فقد زكّى الله تعالى وذمّ، فقال في التزكية: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوََّابٌ} (1)، وقال في الذمّ: {هَمََّازٍ مَشََّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنََّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} (2).
وقال الشاعر: [الطويل]
إذا أنا لم أمدح على الخير أهله ... ولم أذمم الجبس اللئيم المذمّما (3)
ففيم عرفت الخير والشرّ باسمه ... وشقّ لي الله المسامع والفما؟
وإن كان الشرّ كفعل العقرب التي تلسع السّنيّ والدنيّ بطبع لا بتمييز، فقد صان الله عبدك عن ذلك!
فقال لي: بلغني أنك رافضيّ، فقلت: يا أمير المؤمنين، وكيف أكون رافضيّا وبلدي البصرة ومنشئي في مسجد جامعها، وأستاذي الأصمعي، وليس يخلو القوم أن يكونوا أرادوا الدين أو الدنيا فإن كانوا أرادوا الدّين فقد أجمع الناس على تقديم من أخّروا، وتأخير من قدّموا، وإن كانوا أرادوا الدنيا فأنت وآباؤك أمراء المؤمنين، لا دين إلّا بك، ولا دنيا إلّا معك.
قال: كيف ترى داري هذه؟ قال: قلت: رأيت الناس بنوا دورهم في الدنيا، وأنت بنيت الدنيا في دارك.
فقال لي: ما تقول في عبيد الله بن يحيى؟ قلت: نعم العبد لله ولك مقسّم بين طاعته وخدمتك، يؤثر رضاك على كلّ فائدة، وما عاد بصلاح ملكك على كل لذّة.
قال: فما تقول في صاحب البريد ميمون بن إبراهيم؟ وكان قد علم أني واجد عليه بتقصير وقع منه في أمري فقلت: يا أمير المؤمنين، يد تسرق واست تضرط! وهو مثل اليهوديّ سرق نصف جزيته، فله، إقدام بما أدّى، وإحجام بما أبقى، إساءته طبيعة، وإحسانه تكلّف!
__________
(1) سورة ص 38، الآية 30.
(2) سورة القلم 68، الآيتان 11، 12.
(3) الجبس: الفاسق والرديء والجبان واللئيم. القاموس المحيط (جبس).(1/261)
قال: قد أردتك لمجالستي، قلت: لا أطيق ذاك، وما أقول ذلك جهلا بما لي في هذا المجلس من الشرف، ولكني محجوب، والمحجوب تختلف عليه الإشارة، ويخفى عليه الإيماء، ويجوز أن يتكلّم بكلام غضبان ووجهك راض أو بكلام راض ووجهك غضبان، ومتى لم أميّز بين هذين هلكت، قال: صدقت، ولكن تلزمنا، قلت: لزوم الفرض الواجب اللازم، فوصلني بعشرة آلاف درهم.
ولأبي العيناء مع المتوكّل مجالس أدخل الرواة بعضها في بعض، وسأورد مستظرفها إن شاء الله:
قال له المتوكل يوما: يا أبا العيناء، لا تكثر الوقيعة في الناس، قال: إنّ لي في بصري لشغلا عن الوقيعة فيهم، قال: ذلك أشدّ لحيفك في أهل العافية!
وقال له يوما: هل رأيت طالبيا حسن الوجه قطّ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت أحدا قطّ سأل ضريرا عن هذا؟ قال: لم تكن ضريرا فيما تقدّم، وإنما سألتك عما سلف، قال: نعم، رأيت منهم ببغداد منذ ثلاثين سنة فتى ما رأيت أجمل منه، قال المتوكّل: تجده كان مؤاجرا، وتجدك كنت قوّادا عليه! فقال أبو العيناء: وفرغت لهذا يا أمير المؤمنين، أتراني أدع مواليّ على كثرتهم، وأقود على الغرباء؟ قال: اسكت يا مأبون (1)؟ قال: مولى القوم منهم! قال المتوكل: أردت أن أشتفي به منهم فاشتفى لهم منّي.
وكان أبو العيناء أحدّ الناس خاطرا، وأحضرهم نادرة، وأسرعهم جوابا، وأبلغهم خطابا.
والمتوكل أوّل من أظهر من خلفاء بني العباس الانهماك على شهوته، وكان أصحابه يتسخّفون ويستخفّون بحضرته، وكان يهاتر الجلساء، ويفاخر الرؤساء، وهو مع ذلك من قلوب الناس محبّب، وإليهم مقرّب إذ أمات ما أحياه الواثق من إظهار الاعتزال، وإقامة سوق الجدال.
قال محمد بن مكرم الكاتب: من زعم أنّ عبد الحميد أكتب من أبي العيناء إذا أحسّ بكرم، أو شرع في طمع، فقد ظلم.
كتب إلى أبي عبيد الله بن سليمان وقد نكبه وأباه المعتمد، وهما يطالبان بمال يبيعان له ما يملكانه من عقار وأثاث وعبد وأمة، وقد أعطي بخادم أسود لعبيد الله خمسون دينارا:
__________
(1) المأبون: المتّهم بالشّرّ. القاموس المحيط (أبن).(1/262)
قد علمت أصلحك الله! أنّ الكريم المنكوب أجرأ على الأحرار من اللئيم الموفور لأنّ اللئيم يزيد مع النّعمة لؤما، والكريم لا يزيد مع المحنة إلّا كرما، هذا متّكل على رازقه، وهذا يسيء الظنّ بخالقه، وعبدك إلى ملك «كافور» فقير، وثمنه على ما اتّصل بي يسير لأنه بخدمته السلطان يعرّفني الرؤساء والإخوان ولست بواجد ذلك في غيره من الغلمان فإن سمحت به فتلك عادتك، وإن أمرت بأخذ ثمنه فمالك مادّتي، أدام الله دولتك، واستقبل بالنعمة نكبتك. فأمر له به.
وسمع ابن مكرم رجلا يقول: من ذهب بصره قلّت حيلته، قال: ما أغفلك عن أبي العيناء!
وكتب أبو العيناء إلى عبيد الله بن سليمان: أنا أعزّك الله تعالى! وولدي وعيالي زرع من زرعك، إن سقيته راع وزكا، وإن جفوته ذبل وذوى وقد مسّني منك جفاء بعد برّ، وإغفال بعد تعاهد، حتى تكلّم عدوّ، وشمت حاسد، ولعبت بي ظنون رجال كنت بهم لاعبا، ولهم مجرّسا، ولله درّ أبي الأسود في قوله: [الرمل]
لا تهنّي بعد إذ أكرمتني ... وشديد عادة منتزعه
فوقّع في رقعته: أنا أسعدك الله! على الحال التي عهدت، وميلي إليك كما علمت، وليس من أنسأناه أهملناه، ولا من أخّرناه تركناه، مع اقتطاع الشغل لنا، واقتسام زماننا، وكان من حقّك علينا أن تذكّرنا بنفسك، وتعلمنا أمرك وقد وقّعت لك برزق شهرين لتريح غلّتك، وتعرفني مبلغ استحقاقك، لأطلق لك باقي أرزاقك، إن شاء الله، والسلام.
وكان إذا خرج من داره يقول: اللهم إنّي أعوذ بك من الرّكب والرّكب (1)، والآجرّ والخشب، والرّوايا والقرب (2).
قطعة من خطابه وجوابه:
دخل على أبي الصقر بعد ما تأخّر عنه، فقال: ما أخّرك عنّا؟ قال: سرق حماري،
__________
(1) الرّكب، بفتح الراء وسكون الكاف: ركبان الإبل، وقد يكون للخيل. الرّكب، بضمّ الراء والكاف:
جمع ركاب وهي الإبل، واحدتها راحلة. القاموس المحيط (ركب).
(2) الروايا: جمع راوية وهي المزادة من ثلاثة جلود فيها الماء. محيط المحيط (روى). والقرب: جمع قربة وهي الوطب من اللبن، وقد تكون للماء، والوطب: سقاء اللبن. القاموس المحيط (قرب) و (وطب).(1/263)
قال: وكيف سرق؟ قال: لم أكن مع اللصّ فأخبرك! قال: فلم لم تأتنا على غيره؟ قال:
قعد بي عن الشراء قلّة يساري، وكرهت ذلّة المكاري، ومنّة العواري.
وزحمه رجل بالجسر على حماره، فضرب بيديه على أذني الحمار، وقال: يا فتى، قل للحمار الذي فوقك يقول: الطّريق!
ودخل على إبراهيم بن المدبر، وعنده الفضل بن اليزيدي، وهو يلقى على ابنه مسائل من النحو، فقال: في أي باب هذا؟ قال: في باب الفاعل والمفعول به، قال: هذا بابي وباب الوالدة حفظها الله! فغضب الفضل وانصرف وكان البحتري حاضرا فكتب بعد ذلك بقصيدته إلى إبراهيم بن المدبر التي أولها (1): [الخفيف]
ذكّرتنيك روحة للشّمول ... أوقدت لوعتي وهاجت غليلي
أي شيء ألهاك عن سرّ من را ... ء وظلّ للعيش فيها ظليل (2)
وفيها يقول:
اقتصارا على أحاديث فضل ... وهو مستكره كثير الفضول (3)
فعلام اصطفيت منكسف البا ... ل معاد المخراق نزر القبول (4)
إن تزره تجده أخلق من شي ... ب الغواني ومن تعفّي الطّلول
مسرجا ملجما وما متع الصّب ... ح ادّلاجا للشّحذ والتّطفيل (5)
غير أنّ المعلمين على حا ... ل قليلو التمييز ضعفى العقول (6)
فإذا ما تذاكره النّاس معنى ... من متين الأشعار والمجهول
قال: هذا لنا ونحن كشفنا ... غيبه للسّؤال والمسؤول
ضرب الأصمعيّ فيهم أم الأح ... مر أم ألقحوا بأير الخليل
جلّ ما عنده التردّد في الفا ... عل من والديه والمفعول (7)
__________
(1) ديوان البحتري (ج 2ص 188187).
(2) في الديوان: «ظلّ» بدل «وظلّ». وسرّ من راء: هي سرّ من رأى وهي مدينة استحدثها المعتصم.
معجم البلدان (ج 3ص 215).
(3) في الديوان: «فهو» بدل «وهو».
(4) في الديوان: «منكشف الزيف» بدل «منكسف البال».
(5) في الديوان: «رائح مغتد وما متع» ومتع الصبح: بلغ آخر غايته. الشّحذ: الإلحاح في السؤال.
القاموس المحيط (متع) و (شحذ).
(6) هذا البيت والأبيات الثلاثة التالية غير واردة في الديوان.
(7) في الديوان: «التعمّق» بدل «التردّد».(1/264)
وعزّى بعض الأمراء، فقال: أيّها الأمير، كان العزاء لك لا بك، والفناء لنا لا لك، وإذا كنت البقيّة فالرزيّة عطيّة، والتعزية تهنية.
وسئل أبو العيناء عن مالك بن طوق، فقال: لو كان في زمن بني إسرائيل ونزل ذبح البقرة ما ذبح غيره! قيل: فأخوه عمر؟ قال: كسراب بقيعة يحسبه الظّمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
وكان موسى بن عبد الملك قد اغتال نجاح بن سلمة في شراب شربه عنده، فقال المتوكّل بعد ذلك لأبي العيناء: ما تقول في نجاح بن سلمة؟ قال: ما قال الله تعالى: فوكزه موسى فقضى عليه! فاتّصل ذلك بموسى، فلقي الوزير عبيد الله بن يحيى ابن خاقان، فقال: أيّها الوزير، أردت قتلي فلم تجد إلى ذلك سبيلا إلّا بإدخال أبي العيناء إلى أمير المؤمنين مع عداوته لي فعاتب عبيد الله أبا العيناء في ذلك، فقال: والله ما استعذبت الوقيعة فيه حتى ذممت سريرته لك فأمسك عنه.
ثم دخل بعد ذلك أبو العيناء على المتوكل فقال: كيف كنت بعد؟ قال: في أحوال مختلفة، خيرها رؤيتك وشرّها غيبتك، فقال: قد والله اشتقتك! قال: إنما يشتاق العبد لأنه يتعذّر عليه لقاء مولاه، وأما السيّد فمتى أراد عبده دعاه.
وقال له المتوكل: من أسخى من رأيت؟ قال: ابن أبي دواد، قال المتوكّل: تأتي إلى رجل رفضته فتنسبه إلى السخاء؟ قال: إنّ الصدق يا أمير المؤمنين ليس في موضع من المواضع أنفق منه في مجلسك وإنّ الناس يغلطون فيمن ينسبونه إلى الجود لأنّ سخاء البرامكة منسوب إلى الرشيد، وسخاء الفضل والحسن ابني سهل منسوب إلى المأمون، وجود ابن أبي دواد منسوب إلى المعتصم فإذا نسب الناس الفتح وعبيد الله ابني يحيى إلى السخاء فذلك سخاؤك يا أمير المؤمنين، قال: صدقت فمن أبخل من رأيت؟ قال:
موسى بن عبد الملك، قال: وما رأيت من بخله؟ قال: رأيته يخدم القريب كما يخدم البعيد، ويعتذر من الإحسان كما يعتذر من الإساءة، فقال له: قد وقعت فيه عندي مرتين، وما أحبّ لك ذلك فألقه واعتذر إليه، ولا يعلم أنّي وجهت بك، قال: يا أمير المؤمنين، من يستكتمني بحضرة ألف؟ قال: لن تخاف، قال: على الاحتراس من الخوف.
فصار إلى موسى فاعتذر كلّ واحد منهما إلى صاحبه، وافترقا عن صلح فلقيه بعد ذلك بالجعفري، فقال: يا أبا عبد الله، قد اصطلحنا، فما لك لا تأتينا؟ قال: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟ فقال موسى: ما أرانا إلّا كما كنّا.
وقال له المتوكل: إبراهيم بن نوح النصراني واجد عليك، قال: ولن ترضى عنك
اليهود ولا النصارى حتى تتّبع ملّتهم! قال: إن جماعة من الكتاب يلومونك! فقال:(1/265)
وقال له المتوكل: إبراهيم بن نوح النصراني واجد عليك، قال: ولن ترضى عنك
اليهود ولا النصارى حتى تتّبع ملّتهم! قال: إن جماعة من الكتاب يلومونك! فقال:
[الطويل]
إذا رضيت عنّي كرام عشيرتي ... فلا زال غضبانا عليّ لئامها
قال المتوكل له: أكان أبوك في البلاغة مثلك؟ قال: لو رأى أمير المؤمنين أني لرأى عبدا له لا يرضاني عبدا له.
وقيل لأبي العيناء: إن المتوكل قال: لولا أنّه ضرير البصر لنادمته، فقال: إن أعفاني من رؤية الأهلّة، وقراءة نقش الفصوص، فأنا أصلح للمنادمة.
ولقيه رجل من إخوانه في السّحر، فجعل يعجب من بكوره، فقال: أراك تشاركني في الفعل وتفردني بالتعجّب!
ووقف به رجل من العامّة فأحسّ به، فقال: من هذا؟ قال: رجل من بني آدم! قال:
مرحبا بك، أطال الله بقاك! وبقيت في الدنيا، ما ظننت هذا النّسل إلّا قد انقطع!
ودخل على عبيد الله بن سليمان فقال: اقرب منّي يا أبا عبد الله، فقال: أعزّ الله الوزير، تقريب الأولياء، وحرمان الأعداء، قال: تقريبك غنم، وحرمانك ظلم وأنا ناظر في أمرك نظرا يصلح من حالك إن شاء الله.
وقال له يوما: اعذرني فإنّي مشغول، فقال له: إذا فرغت من شغلك لم نحتج إليك، وأنشده: [الطويل]
فلا تعتذر بالشّغل عنّا فإنّما ... تناط بك الآمال ما اتّصل الشّغل
ثم قال: يا سيّدي، قد عذرتك، فإنه لا يصلح لشكرك من لا يصلح لعذرك.
وأقبل إليه يوما فقال: من أين يا أبا عبد الله؟ قال: من مطارح الجفاء!
وقال له مرّة: نحن في العطلة مرحومون، وفي الوزارة محرومون، وفي القيامة كلّ نفس بما كسبت رهينة.
وسار يوما إلى باب صاعد بن مخلد، فقيل: هو مشغول يصلّي، قال لكلّ جديد لذّة! وكان صاعد نصرانيا قبل الوزارة.
ودخل إلى عبيد الله بن سليمان، فشكا إليه حاله، فقال: أليس قد كتبنا لك إلى إبراهيم بن المدبّر؟ فقال: كتبت إلى رجل قد قصّر من همّته طول الفقر، وذلّ الأسر، ومعاناة محن الدّهر، فأخفقته في طلبتي! قال: أنت اخترته؟ قال: وما عليّ أعزّ الله
الوزير! في ذلك؟ قد اختار موسى قومه سبعين رجلا، فما كان منهم رشيد، واختار النبيّ، صلى الله عليه وسلم، ابن أبي سرح كاتبا، فرجع إلى المشركين مرتدّا، واختار عليّ بن أبي طالب أبا موسى حاكما فحكم عليه!(1/266)
ودخل إلى عبيد الله بن سليمان، فشكا إليه حاله، فقال: أليس قد كتبنا لك إلى إبراهيم بن المدبّر؟ فقال: كتبت إلى رجل قد قصّر من همّته طول الفقر، وذلّ الأسر، ومعاناة محن الدّهر، فأخفقته في طلبتي! قال: أنت اخترته؟ قال: وما عليّ أعزّ الله
الوزير! في ذلك؟ قد اختار موسى قومه سبعين رجلا، فما كان منهم رشيد، واختار النبيّ، صلى الله عليه وسلم، ابن أبي سرح كاتبا، فرجع إلى المشركين مرتدّا، واختار عليّ بن أبي طالب أبا موسى حاكما فحكم عليه!
[هروب إبراهيم بن المدبر من السجن]
وكان إبراهيم بن المدبر أسره صاحب الزّنج بالبصرة وحبسه فاحتال حتى نقب السّجن وهرب، فلذلك ذكر أبو العيناء ذلّ الأسر، وكان قد ضرب في وجهه ضربة بقي أثرها إلى أن مات ولذلك قال البحتري (1): [الكامل]
ومبينة شهر المنازل وسمها ... والخيل تكبو في العجاج الكابي
كانت بوجهك دون عرضك إذ رأوا ... أنّ الوجوه تصان بالأحساب
ولئن أسرت فما الإسار على امرىء ... نصر الإسار على الفرار بعاب (2)
نام المضلّل عن سراك ولم تخف ... عين الرقيب وقسوة البوّاب (3)
فركبتها هولا متى تخبر بها ... يقل الجبان: أتيت غير صواب
ما راعهم إلّا استراقك مصلتا ... في مثل برد الأرقم المنساب (4)
تحمي أغيلمة وطائشة الخطى ... تصل التّلفّت خشية الطّلّاب
قد كان يوم ندى بطولك باهرا ... حتى أضفت إليه يوم ضراب (5)
ذكر من البأس استعذت إلى الّذي ... أعطيت في الأخلاق والآداب (6)
ووحيدة أنت انفردت بفضلها ... لولاك ما كتبت على الكتّاب (7)
[أخبار صاحب الزنج]
قال أبو بكر الصولي: حدّثني محمد بن أبي الأزهر، وقد ذاكرته خبر علي صاحب الزنج، قال: ادّعى أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي ابن الحسين بن
__________
(1) ديوان البحتري (ج 1ص 212211).
(2) العاب: العيب. القاموس المحيط (عيب).
(3) في الديوان: «ولم يخف سنة الرقيب ونشوة البوّاب».
(4) في الديوان: «إلّا امتراقك مصلتا عن مثل برد». والمصلت: السيف الصقيل الماضي.
والأرقم: أخبث الحيّات. القاموس المحيط (صلت) و (رقم).
(5) في الديوان: «راهن» بدل «باهرا». والضّراب: الطعان. لسان العرب (ضرب).
(6) في الديوان: «استعرت» بدل استعذت».
(7) رواية صدر البيت في الديوان هي: وفريضة أنت استننت بديئها.(1/267)
علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، فنظرت مولده ومولد محمد ابن أحمد الذي ادّعاه فكان بينهما ثلاث سنين، وكان لمحمد بن أحمد ولد اسمه علي، مات بعد هذا المدعي اسمه ونسبه بزمان. ثم رجع عن هذا النسب فادّعى أنه علي بن محمد بن عبد الرحيم بن رحيب بن يحيى المقتول بخراسان ابن زيد بن علي.
قال أبو عبيدة محمد بن علي بن حمزة: ولم يكن ليحيى ولد يقال له رحيب ولا غيره لأنّه قتل ابن ثماني عشرة سنة ولا ولد له.
قال بشر بن محمد بن السّريّ بن عبد الرحمن بن رحيب: هو ابن عم أبي لحّا علي بن محمد بن عبد الرحمن بن رحيب، ورحيب رجل من العجم من أهل ورتين من ضياع الريّ، وهو القائل لبني العباس: [الطويل]
بني عمّنا إنّا وأنتم أنامل ... تضمنها من راحتيها عقودها
بني عمّنا ولّيتم الترك أمرنا ... ونحن قديما أصلها وعمودها
فما بال عجم الترك تقسم فيئنا ... ونحن لديها في البلاد شهودها
فأقسم لا ذقت القراح وإن أذق ... فبلغة عيش أو يباد عميدها (1)
وقال أيضا: [الخفيف]
لهف نفسي على قصور ببغدا ... د وما قد حوته من كلّ عاص
وخمور هناك تشرب جهرا ... ورجال على المعاصي حراص
لست بابن الفواطم الزّهر إن لم ... أقحم الخيل بين تلك العراص
وله في هذا المعنى شعر كثير قد ناقضه البغداديون، وكانت مدّته حين نجم إلى أن قتل أربع عشرة سنة، وجملة من قتل ألف ألف وخمسمائة ألف.
[رجع إلى أخبار أبي العيناء]
وذكر أبو العيناء رجلا، فقال: ضحك كالبكاء، وتودّد كالعزاء، ونوادر كندب الموتى!
وكان يهاتر ابن مكرم كثيرا، وكتب إليه ابن مكرم يوما: قد ابتعت لك غلاما من بني ناشر، ثم من بني ناعظ، ثم من بني نهد. فكتب إليه: فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين.
__________
(1) البلغة، بضم الباء وسكون اللام وفتح الغين: ما يتبلّغ به من العيش. القاموس المحيط (بلغ).(1/268)
وولد لأبي العيناء ولد، فأتى ابن مكرم فسلّم عليه، ووضع حجرا بين يديه وانصرف، فأحسّ به، فقال: من وضع هذا؟ فقيل: ابن مكرم، قال: لعنه الله! إنما عرّض بقول النبي، صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر.
وقال لابن مكرم، وقد قدم من سفر: ما لك لم تهد إلينا هدية؟ قال: لم آت بشيء، وإنما قدمت في خف (1). قال: لو قدمت في خفّ لخلّفت روحك!
وأتى إلى باب إبراهيم بن رياح، فحجب، فقال: إذا شغل بكأس يمناه وبحر يسراه، وانتسب إلى أب لا يعرف أباه، ولا يحفل بحجاب من أتاه.
وقدّم إليه أبو عيسى بن المتوكل سكباحة، فجعل لا تقع يده إلّا على عظم فقال:
جعلت فداك! هذه قدر أو قبر؟
ودعا ضريرا ليعشيه، فلم يدع شيئا إلّا أكله، فقال: يا هذا، دعوتك رحمة فتركتني رحمة.
ألفاظ لأهل العصر في صفات الطعام ومقدّماته، وموائده، وآلاته
افرش طعامك اسم الله، وألحفه حمد الله. لا يطيب حضور الخوان (2)، إلّا مع الإخوان. البخل بالطّعام، من أخلاق الطّغام (3). الكريم لا يحظر، تقديم ما يحضر. قد قامت خطباء القدور. قدور أبكار، بخواتم النّار. قدر طار عرفها، وطاب غرفها. دهماء تهدر كالفنيق (4)، وتفوح كالمسك الفتيق. مائده كدارة البدر، تباعد بين أنفاس الجلّاس.
مائدة مثل عروس. مائدة لطيفة، محفوفة بكل طريفة. مائدة تشتمل على بدائع المأكولات، وغرائب الطيّبات. مائدة كأنما عملها صنّاع صنعاء، تجمع بين أنوار الربيع، وثمار الخريف.
وقال الجماز: جاءنا فلان بمائدة كأنّها زمن البرامكة على العفاة!
وذمّ آخر رجلا فقال: لا يحضر مائدته إلّا أكرم الخلق وألأمهم يريد الملائكة والذّباب.
__________
(1) الخفّ، بضم الخاء وتشديد الفاء: واحد الخفاف التي تلبس. القاموس المحيط (خفف).
(2) الخوان، بكسر الخاء وضمّها: ما يؤكل عليه الطعام. القاموس المحيط (خون).
(3) الطّغام، بفتح الطاء والغين: أوغاد الناس. القاموس المحيط (طغم).
(4) الفنيق، على وزن أمير: الفحل المكرم. القاموس المحيط (فنق).(1/269)
وقال ابن الحجاج لرجل دعاه وأخّر الطعام: [السريع]
قد جنّ أصحابك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائده
ولبعض أهل العصر يذمّ رجلا: [الوافر]
خوان لا يلمّ به ضيوف ... وعرض مثل منديل الخوان
رغفان (1) كالبدور الممنطقة بالنّجوم. حمل ذهبيّ الدّثار، فضّيّ الشعار. أطيب ما يكون الحمل، إذا حلّت الشمس الحمل (2). جدي كأنما ندف على جبينه القزّ.
زيرباجة (3)، هي للمائدة ديباجة، تشفي السّقام، ولونها لون السقيم. سكباجة (4) تفتق الشهوة، واسفيذباجة تغذّي القرم (5)، وطباهجة يتفكّه بها، وخبيص (6) يختم بخير.
طباهجة من شرط الملوك، كأعراف الديوك، وقليّة كالعود المطرّى. مغمومة تفرج غمّ الجائع. هريسة نفيسة، كأنها خيوط قزّ مشتبكة، كأنّ المرّي (7) عليها عصارة المسك على سبيكة الفضّة. أرزة ملبونة، في السكر مدفونة. شواء رشراش (8)، وفالوذج رجراج.
طباهجة تغذى، وفالوذجة تعزى، واسفيذباجة تصفع قفا الجوع. ولا فراش للنبيذ، كالحمل الحنيذ (9). دجاجة سميطة، لها من الفضة جسم، ومن الذهب قشرة. دجاجة ديناريّة ثمنا ولونا.
وهذا محلول من قول علي بن العباس الرومي يصف طعاما أكله عند أبي بكر الباقطاني: [الكامل]
وسميطة صفراء دينارية ... ثمنا ولونا زفّها لك حزور (10)
عظمت فكادت أن تكون إوزّة ... وغلت فكاد إهابها يتفطّر
__________
(1) الرّغفان: جمع رغيف. القاموس المحيط (رغف).
(2) الحمل الأول: الخروف، والحمل الثاني: برج في السماء. القاموس (حمل).
(3) الزّيرباج: طعام يستعمل غالبا لقصد المنفعة به معرّب زيربا بالفارسية. محيط المحيط (زير).
(4) السّكباجة: معرّبة، وهي لحم يطبخ بخلّ. القاموس المحيط (سكبج). وما سيأتي من أسماء أطعمة فارسية كان يعرفها العرب في أيام المؤلّف، أي في القرن الخامس الهجري.
(5) القرم: الشديد الشهوة إلى أكل اللحم. القاموس المحيط (قرم).
(6) الخبيص: المعمول من التمر والسمن. القاموس المحيط (خبص).
(7) المرّي، بضم الميم وتشديد الراء المكسورة: إدام كالكامخ. القاموس المحيط (مرر).
(8) الشّواء، بكسر الشين: اللحم المشوي. الرّشراش: السمين. القاموس المحيط (شوى) و (رشش).
(9) الحنيذ: المشوي. القاموس المحيط (حنذ).
(10) الحزور: الغلام إذا اشتدّ وقوي وخدم. محيط المحيط (حزر).(1/270)
طفقت تجود بذوبها جوذابة ... فأتى لباب اللّوز فيها السكر
ظلنا نقشّر جلدها عن لحمها ... فكأنّ تبرا عن لجين يقشر
وتقدّمتها قبل ذاك ثرائد ... مثل الرّياض بمثل ذاك تصدّر
ومرقّقات كلّهنّ مزخرف ... بالبيض منها ملبس ومدثّر
وأتت قطائف بعد ذاك لطائف ... ترضى اللهاة بها ويرضى الحنجر
ضحك الوجوه من الطبرزد فوقها ... دمع العيان من الدّهان يعصّر
قال البديع: حدّثني عيسى بن هشام قال: اشتهيت الأزاذ (1)، وأنا ببغداذ (2)، وليس معي عقد، على نقد (3)، فخرجت أنتهز محالّه، حتى أحلّني الكرخ (4) فإذا أنا بسواديّ (5)
يحدو بالجهد حماره، ويطرّف بالعقد إزاره (6) فقلت: ظفرنا والله بصيد، وحيّاك الله أبا زيد! من أين أقبلت؟ وأين نزلت؟ ومتى وافيت، فهلمّ إلى البيت. فقال السّوادي: لست بأبي زيد، وإنما أبو عبيد! فقلت: نعم، لعن الله الشيطان، وأبعد النّسيان، أنساني طول العهد بك، كيف أبوك، أشابّ كعهدي (7)، أم شاب بعدي؟ قال: قد نبت المرعى على دمنته (8)، وأرجو أن يصيّره الله إلى جنّته، فقلت: إنّا لله، ولا قوة إلّا بالله، ومددت يد البدار، إلى الصّدار (9) أريد تمزيقه، وأحاول تخريقه، فقبض السواديّ على خصري بجمعه (10). وقال: نشدتك بالله لا مزّقته، فقلت: فهلّم إلى البيت نصب غداء، أو إلى السوق نشتري شواء والسوق أقرب، وطعامه أطيب، فاستفزّته حمة القرم (11)، وعطفته
__________
(1) الأزاذ: نوع من التمر. القاموس المحيط (أزد).
(2) بغداذ: هي بغداد وهي مدينة السلام. معجم البلدان (ج 1ص 456).
(3) ليس معي عقد على نقد: أي ليس معي نقود يعقد عليها كيس الدراهم. لسان العرب (عقد) و (نقد).
(4) الكرخ: موضع ببغداد. معجم البلدان (ج 4ص 447).
(5) السّواديّ: الرجل الذي ينسب إلى السواد وهو رستاق العراق. القاموس المحيط (سود).
(6) يطرّف بالعقد إزاره: أي يردّ أحد طرفيه إلى الآخر. لسان العرب.
(7) شابّ كعهدي: أي كعهدي به حين عرفته.
(8) الدّمنة: آثار الدار. وقوله: نبت المرعى على دمنته: يريد أنّ أباه مات منذ زمن بعيد. لسان العرب (دمن) و (نبت).
(9) البدار: المسارعة يقال: بادره مبادرة وبدارا إذا عاجله. والصّدار: ثوب رأسه كالمقنعة. القاموس المحيط (بدر) و (صدر).
(10) جمع الكفّ: قبضته. القاموس المحيط (جمع).
(11) الحمة، بضمّ الحاء وفتح الميم: الإبرة يضرب بها الزّنبور. القرم: شدّة الشهوة إلى اللحم. القاموس المحيط (حمى) و (قرم).(1/271)
عطفة النّهم، وطمع، ولم يعلم أنه وقع، ثم أتيت شوّاء يتقاطر شواؤه عرقا، ويتسايل جوذابه (1) مرقا، فقلت: أبرز لأبي زيد من هذا الشّواء، ثم زن له من تلك الحلواء، واختر من تلك الأطباق، ونضّد عليها أوراق الرقاق، وشيئا من ماء السّمّاق ليأكله أبو زيد هنيا.
فأنحى الشّوّاء بساطوره، على زبدة تنّوره، فجعلها كالكحل سحقا، وكالطحين دقّا، ثم جلس وجلست، ولا نبس ولا نبست، حتى استوفيناه، وقلت لصاحب الحلواء: زن لأبي زيد من اللوزينج (2) رطلين، فإنه أجرى في الحلوق، وأسرى في العروق، وليكن ليليّ العمر، يوميّ النّشر (3)، رقيق القشر، كثيف الحشو، لؤلؤيّ الدهن، كوكبي اللون، يذوب كالصّمغ، قبل المضغ، ليأكله أبو زيد هنيّا. فوزنه، ثم قعد وقعدت، وجرّد وجرّدت (4)، واستوفيناه، ثم قلت: يا أبا زيد، ما أحوجنا إلى ماء يشعشع بالثلج، ليقمع هذه الصّارة (5)، ويفثأ (6) هذه اللّقم الحارة اجلس أبا زيد حتى آتيك بسقّاء، يحيينا بشربة من ماء، ثم خرجت، وجلست بحيث أراه ولا يراني، أنظر ما يصنع به. فلّما أبطأت عليه قام السّواديّ إلى حماره، فاعتلق الشّوّاء بإزاره، وقال: أين ثمن ما أكلت؟ قال: ما أكلته إلّا ضيفا! قال الشّوّاء: هاك وآك متى دعوناك؟ زن يا أخا القحبة عشرين، وإلّا أكلت ثلاثا وتسعين! فجعل السواديّ يبكي ويمسح دموعه بأردانه (7)، ويحلّ عقده بأسنانه، ويقول:
كم قلت لذلك القريد، أنا أبو عبيد، وهو يقول: أنت أبو زيد!؟ فأنشدت: [مجزوء الكامل]
اعمل لرزقك كلّ آله ... لا تقعدنّ بذلّ حاله
وانهض بكلّ عزيمة ... فالمرء يعجز لا المحاله
ومن مليح ما قيل في القطائف قول عليّ بن يحيى بن أبي منصور المنجم: [الرجز]
قطائف قد حشيت باللّوز ... والسّكّر الماذيّ حشو الموز (8)
__________
(1) الجوذاب: طعام يتّخذ من سكر ورز وجوز ولحم، معرّب كوزاب بالفارسية. محيط المحيط (جذب).
(2) اللّوزينج، معرب، وهو نوع من الحلواء، يصنع من نوع من الخبز يسقى بدهن اللوز، ويحشى بالجوز. لسان العرب والقاموس المحيط (لوز).
(3) ليليّ العمر: أي صنع من ليلته. يوميّ النّشر، أي نشر في يومه.
(4) قوله: جرّد وجرّدت: يريد أنّ كلاهما جرّد يده من ثيابه استعدادا لتناول الطعام.
(5) الصّارّة، بتشديد الراء: العطش. القاموس المحيط (صرر).
(6) يفثأ هذه اللّقم: يسكّنها. القاموس المحيط (فثأ).
(7) الأردان: جمع ردن وهو أصل الكمّ. القاموس المحيط (ردن).
(8) الماذيّ: العسل. القاموس المحيط (مذي).(1/272)
يسبح في آذيّ (1) دهن الجوز ... سررت لما وقعت في حوزي
سرور عبّاس بقرب فوز (2)
ومن ألفاظ أهل العصر في الحلواء: فالوذج بلباب البرّ، ولعاب النّحل، كأنّ اللوز فيه كواكب درّ، في سماء عقيق.
ولم يقل أحد في صفة اللّوزينج أحسن من قول ابن الرومي: [السريع]
لا يخطئنّي منك لوزينج ... إذا بدا أعجب أو عجّبا
لو شاء أن يذهب في صخرة ... لسهّل الطّيب له مذهبا
لم تغلق الشّهوة أبوابها ... إلّا أبت زلفاه أن يحجبا
يدور بالنّفحة في جامه ... دورا ترى الدّهن له لولبا (3)
عاون فيه منظر مخبرا ... مستحسن ساعد مستعذبا
مستكثف الحشو ولكنّه ... أرق جلدا من نسيم الصّبا
كأنما قدّت جلابيبه ... من نقطة القطر إذا حبّبا (4)
يخال من رقّة خرشائه ... شارك في الأجنحة الجندبا (5)
لو أنّه صوّر من خبزه ... ثغر لكان الواضح الأشنبا (6)
من كلّ بيضاء يودّ الفتى ... أن يجعل الكفّ لها مركبا
مدهونة زرقاء مدقوقة ... صهباء تحكي الأزرق الأشهبا
قرّة عين وفم حسّنت ... وطيّبت حتى صبا من صبا
ديف له اللوز فما مرّة ... مرّت على الذائق إلّا أبى (7)
__________
(1) الآذيّ: الموج. القاموس المحيط (أذي).
(2) فوز: هي محبوبة العباس، والعباس: هو العباس بن الأحنف، الشاعر الغزل الرقيق، والمتوفى سنة 192هـ. ترجمة العباس في وفيات الأعيان (ج 3ص 20) ومعجم الأدباء (ج 3ص 439) والشعر والشعراء (ص 707) والبداية والنهاية (ج 10ص 209) وتاريخ بغداد (ج 12ص 127) ومعاهد التنصيص (ج 1ص 54) والأغاني (ج 8ص 366) والأعلام (ج 3ص 259).
(3) اللّولب: استدارة الماء. لسان العرب (لولب).
(4) الجلابيب: جمع جلباب وهو القميص وثوب واسع للمرأة. القطر: المطر. حبّب: صار ذا حبب، والحبب: الفقاقيع. لسان العرب (جلبب) و (قطر) و (حبب).
(5) الخرشاء، بكسر الخاء وسكون الراء: الجلدة الرقيقة تركب اللبن. الجندب: الجراد. القاموس المحيط (خرش) و (جدب).
(6) الأشنب: ذو الرقّة والعذوبة في الأسنان. القاموس المحيط (شنب).
(7) ديف: خلط. القاموس المحيط (دوف). يقول: إن صانع اللّوزينج كان يذوق اللوز ليطرح منه ما يجذه مرّا.(1/273)
وانتقد السّكّر نقّاده ... وشاوروا في نقده المذهبا
فلا إذا العين رأته نبت ... ولا إذا الضّرس علاه نبا
لا تنكروا الإدلال من وامق ... وجّه تلقاءكم المطلبا
هذه الأبيات يقولها في قصيدة طويلة يمدح فيها أبا العباس أحمد بن محمد ابن عبد الله بن بشر المرثدي، ويهنيه بابن ولده، وأولها:
شمس وبدر ولدا كوكبا ... أقسمت بالله لقد أنجبا
قال أبو عثمان سعيد بن محمد الناجم: دخلت على أبي الحسن وهو يعمل هذه القصيدة، فقلت: لو تفاءلت فيها لأبي العباس بسبعة من الولد لأن أبا العباس منكوسا سابع، لجاء المعنى ظريفا، فقال: [السريع]
وقد تفاءلت له زاجرا ... كنيته، لا زاجرا ثعلبا
إنّي تأمّلت له كنية ... إذا بدا مقلوبها أعجبا
يصوغها العكس أبا سابع ... لا كذّب الله ولا خيّبا
بل ذاك فأل ضامن سبعة ... مثل الصّقور استشرفت مرقبا
يأتون من صلب فتى ماجد ... وذاك فأل لم يعد معطبا
وقد أتانا منهم واحد ... فلننتظرهم ستّة غيّبا
في مدّة تغمرها نعمة ... يجعلها الله له ترتبا (1)
حتى نراه جالسا بينهم ... أجلّ من رضوى ومن كبكبا (2)
كالبدر وافى الأرض من نوره ... بين نجوم سبعة فاحتبى (3)
وليشكر النّاجم عن هذه ... فإنّها من بعض ما بوّبا
سدّى وألحمت أخ لم أزل ... أشكر ما أسدى وما سبّبا (4)
وكان ابن الرومي منهوما في المآكل، وهي التي قتلته، وكان معجبا بالسمك، فوعده
__________
(1) التّرتب، على وزن قنفذ: الشيء المقيم الثابت. القاموس المحيط (رتب).
(2) رضوى: جبل بالمدينة. معجم البلدان (ج 3ص 51). وكبكب: جبل خلف عرفات مشرف عليها.
معجم البلدان (ج 4ص 434).
(3) احتبى: جمع بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها. القاموس المحيط (حبى). وقد تكون الكلمة «فاجتبى» بالجيم المعجمة، ومعناها: اختار. القاموس المحيط (جبى).
(4) سدّى الثوب: جعل له سدى، والسّدى من الثوب: ما مدّ منه. وألحم الثوب: نسجه، ضدّ سدى.
القاموس المحيط (سدى) و (لحم).(1/274)
أبو العباس المرثدي أن يبعث إليه كلّ يوم بوظيفة لا تنقطع، فبعث إليه يوم سبت، ثم قطعه، فقال: [الخفيف]
ما لحيتاننا جفتنا وأنّى ... أخلف الزائرون منتظريهم
جاء في السّبت زورهم فأتينا ... من حفاظ عليه ما يكفيهم (1)
وجعلناه يوم عيد عظيم ... فكأنّا اليهود أو نحكيهم
وأراهم مصمّمين على الهج ... ر فلم يسخطون من يرضيهم
قد سبتنا وما أتتنا وكانوا ... يوم لا يسبتون لا تأتيهم
فاتّصل ذلك بالناجم، فكتب إلى ابن الرومي: [المتقارب]
أبا حسن، أنت من لا تزا ... ل نحمد في الفضل رجحانه
فكم تحسن الظنّ بالمرثديّ ... وقد قلّل الله إحسانه
ألم تدر أنّ الفتى كالسّراب ... إذا وعد الوعد إخوانه
فبحر السراب يفوت الطّلوب ... فقل في طلابك حيتانه
وخرج ابن الرومي إلى بعض المتنزهات وقصدوا كرما رازقيّا (2)، فشربوا هناك عامّة يومهم، وكانوا يتّهمونه في شعره، فقالوا: إن كان ما تنشدنا لك فقل في هذا شيئا، فقال:
لا تريموا حتى أقول فيه، وأنشدهم لوقته: [الرجز]
ورازقيّ مخطف الخصور ... كأنه مخازن البلّور
قد ضمّنت مسكا إلى الشطور ... وفي الأعالي ماء ورد جوري (3)
بلا فريد وبلا شذور ... له مذاق العسل المشور (4)
وبرد مسّ الخصر المقرور ... ونكهة المسك مع الكافور (5)
ورقّة الماء على الصدور ... باكرته والطّير في الوكور
بفتية من ولد المنصور ... أملأ للعين من البدور
__________
(1) الزّور، بفتح الزاي وسكون الواو: الزائر. القاموس المحيط (زور).
(2) الرازقي: العنب الملاحيّ. القاموس المحيط (رزق).
(3) الجوري: نسبة إلى جور وهي مدينة فيروزاباد، ينسب إليها الورد. القاموس المحيط (جور).
(4) العسل المشور: المجنيّ يقال: شار العسل إذا استخرجه من الوقبة، والوقبة: نقرة في الصخرة.
القاموس المحيط (شور) (وقب).
(5) الخصر، على وزن كتف: البارد. المقرور: الذي أصابه القرّ وهو البرد. القاموس المحيط (خصر) و (قرر).(1/275)
حتى أتينا خيمة النّاطور ... قبل ارتفاع الشمس للذّرور (1)
فانحطّ كالطّاوي من الصّقور ... بطاعة الرّاغب لا المقهور
والحرّ عبد الحلب المشطور ... حتى أتانا بضروع حور (2)
مملوءة من عسل محصور ... والطّلّ مثل اللؤلؤ المنثور
ثمّ جلسنا جلسة المحبور ... بين حفافي جدول مسجور (3)
أبيض مثل المهرق المنشور ... أو مثل متن المنصل المشهور (4)
ينساب مثل الحيّة المذعور ... بين سماطي شجر مسطور (5)
ناهيك للعقود من ظهور ... فنيلت الأوطار في سرور
وكلّ ما يقضى من الأمور ... تعلّة من يومنا المنظور
ومتعة من متع الغرور
ألفاظ تناسب هذا النحو لأهل العصر في صفات الفواكه والثمار
كرم نسلفه الماء القراح، ويقضينا أمّهات الرّاح. عنقود كالثريّا، وعنب كمخازن البلّور، وضروب النّور، وأوعية السرور. أمّهات الرحيق، في مخازن العقيق. نخل نسلفه الماء، ويقضينا العسل. رطب (6) كأنها شهدة بالعقيق مقنّعة، بالعقيان مقمّعة. رمّان كأنه صرر الياقوت الأحمر. سفرجل يجمع طيبا، ومنظرا حسنا عجيبا، كأنه زئبر (7) الخزّ الأغبر، على الديباج الأصفر. تفّاح نفّاح، يجمع وصف العاشق الوجل، والمعشوق الخجل، له نسيم العبير، وطعم الكرّ، رسول المحب، وشبيه الحبيب. تين كأنه سفر مضمومة على عسل. مشمش كأنه الشّهد في بيادق الذهب.
[ما قيل في وصف الليل والصيد واللهو]
قال بعض الرواة: أنشدت أعرابيا قول جرير بن عطية بن الخطفي:
أبدّل الليل لا تسري كواكبه ... أم طال حتى حسبت النجم حيرانا؟
__________
(1) الذّرور: الطلوع يقال: ذرّت الشمس إذا طلعت. القاموس المحيط (ذرر).
(2) الحلب، بفتح الحاء واللام: استخراج ما في الضّرع من اللبن. القاموس المحيط (حلب).
(3) المسجور: المملوء. القاموس المحيط (سجر).
(4) المهرق: الصحيفة. المنصل: السيف. القاموس المحيط (هرق) و (نصل).
(5) السّماط، بكسر السين: الصفّ. القاموس المحيط (سمط).
(6) الرّطب، بضم الراء وفتح الطاء: نضيج البسر. القاموس المحيط (رطب).
(7) الزّئبر، بكسر الزاي والباء وسكون الهمزة: ما يظهر من درز الثوب. القاموس المحيط (زأر).(1/276)
فقال: هذا حسن في معناه، وأعوذ بالله من مثله ولكني أنشدك في ضدّه من قولي، وأنشدني: [الوافر]
وليل لم يقصّره رقاد ... وقصّر طوله وصل الحبيب
نعيم الحبّ أورق فيه حتّى ... تناولنا جناه من قريب
بمجلس لذّة لم نقو فيه ... على شكوى ولا عدّ الذّنوب
بخلنا أن نقطّعه بلفظ ... فترجمت العيون عن القلوب
فقلت له: زدني، فما رأيت أظرف منك شعرا فقال: أمّا هذا الباب فحسبك، ولكن أنشدك من غيره: [الوافر]
وكنت إذا علقت حبال قوم ... صحبتهم وشيمتي الوفاء
فأحسن حين يحسن محسنوهم ... وأجتنب الإساءة إن أساءوا
أشاء سوى مشيئتهم فآتي ... مشيئتهم وأترك ما أشاء
قال الأصمعي: قرأت على أبي محذر خلف بن حيّان الأحمر شعر جرير، فلمّا بلغت إلى قوله: [الطويل]
ويوم كإبهام القطاة محبّب ... إليّ صباه غالب لي باطله
رزقنا به الصّيد العزيز ولم نكن ... كمن نبله محرومة وحبائله
فيا لك يوم خيره قبل شرّه ... تغيّب واشيه وأقصر عاذله
فقال خلف: ويحه! فما ينفعه خير يؤول إلى شرّ؟ فقلت له: كذا قرأته على أبي عمرو بن العلاء، فقال لي: وكذا قال جرير، وما كان أبو عمرو ليقرئك إلّا ما سمع، قلت: فكيف كان يجب أن يكون؟ قال: الأجود أن يقول: خيره دون شرّه، فاروه كذلك، فقد كانت الرواة قديما تصلح أشعار الأوائل، فقلت: والله لا أرويه بعدها إلّا كذا.
ومن أجود ما قيل في قصر الليل قول إبراهيم بن العباس: [الرجز]
وليلة من الليالي الغرّ ... قابلت فيها بدرها ببدري
لم تك غير شفق وفجر ... حتى تقضّت وهي بكر الدّهر
وقال محمد بن أحمد الأصبهاني فيما يتعلّق بهذا المعنى وإن كان في ذكر النهار:
[الخفيف]
كيف يرجى لمقلتيّ هدوّ ... ورقادي لطرف عيني عدوّ؟
بأبي من نعمت منه بيوم ... لم يزل للسرور فيه نموّ
يوم لهو قد التقى طرفاه ... فكأنّ العشيّ فيه غدوّ
إذ لشخص الرقيب فيه ثناء ... ولبدر السّماء منّي دنوّ
وقال ابن المعتز: [السريع](1/277)
كيف يرجى لمقلتيّ هدوّ ... ورقادي لطرف عيني عدوّ؟
بأبي من نعمت منه بيوم ... لم يزل للسرور فيه نموّ
يوم لهو قد التقى طرفاه ... فكأنّ العشيّ فيه غدوّ
إذ لشخص الرقيب فيه ثناء ... ولبدر السّماء منّي دنوّ
وقال ابن المعتز: [السريع]
يا ربّ ليل سحر كلّه ... مفتضح البدر عليل النّسيم
تلتقط الأنفاس برد النّدى ... فيه فنهديه لحرّ الهموم
لا أعرف الإصباح لمّا بدا ... في ضوئه إلّا بسكر النّديم
لبست فيه بالتذاذ الهوى ... ولذّة الرّاح ثياب النعيم
وصف منبج (1)
أخذ قوله: «سحر كله» من قول عبد الملك بن صالح بن عليّ، وقد قال له الرشيد لمّا دخل منبج (2): أهذا منزلك؟ قال: هو لك، ولي بك يا أمير المؤمنين، قال: كيف بناؤه؟ قال: دون منازل أهلي، وفوق منازل الناس، قال: وكيف ذلك وقدرك فوق أقدارهم؟ قال: ذلك خلق أمير المؤمنين أتأسّى به، وأقفو أثره، وأحذو حذوه، قال:
فكيف طيب منبج؟ قال: عذبة الماء، قليلة الأدواء، قال: فكيف ليلها؟ قال: سحر كله؟
وأخذ هذا الطائي فقال (3): [الكامل]
أيامنا مصقولة أطرافها ... بك، والليالي كلّها أسحار
ولأهل العصر، قال أبو علي محمد بن الحسين بن المظفر الحاتمي: [البسيط]
يا ربّ ليل سرور خلته قصرا ... كعارض البرق في أفق الدّجا برقا
قد كاد يعثر أولاه بآخره ... وكاد يسبق منه فجره الشّفقا
كأنّما طرفاه طرف اتفق ال ... جفنان منه على الإطباق وافترقا
ألفاظ في هذا المعنى لأهل العصر
ليلة من حسنات الدهر، هواؤها صحيح، ونسيمها عليل، ليلة كبرد الشباب، وبرد الشراب. ليلة من ليالي الشباب، فضّيّة الأديم، مسكيّة النسيم. ليلة هي لمعة العمر، وغرّة الدهر. ليلة مسكيّة الأديم، كافوريّة النجوم. ليلة رقد الدّهر عنها، وطلعت
__________
(1) منبج، بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء: مدينة بناها كسرى. معجم البلدان (ج 5ص 205).
(2) النص في معجم البلدان (ج 5ص 207) ببعض الاختلاف عمّا هنا.
(3) ديوان أبي تمام (ص 131) من قصيدة مديح.(1/278)
سعودها، وغابت عذّالها. ليلة كالمسك منظرها ومخبرها. ليلة هي باكورة العمر، وبكر الدهر. ليلة ظلماتها أنوار، وطوال أوقاتها قصار.
[الفضل بن سهل] (1)
كان سبب اتصال سعيد بن هريم بذي الرياستين الفضل وسمي ذا الرياستين لأنه جمع بين رياسة القلم ورياسة التدبير للمأمون أنه دخل عليه يوما، فقال: «الأجل آفة الأمل، والمعروف ذخر الأبد، والبرّ غنيمة الحازم، والتفريط مصيبة أخي القدرة، وإنّا لم نصن وجوهنا عن سؤالك، فصن وجهك عن ردّنا، وضعنا من إحسانك بحيث وضعنا أنفسنا من تأميلك».
فأمر أن يكتب كلامه، وسمّاه سعيدا الناطق، ووصله المأمون فخصّ به.
فلحقته في بعض الأوقات جفوة من الفضل، فكتب إليه: «يا حافظ من يضع نفسه عنده، ويا ذاكر من نسي نصيبه منه، ليس كتابي إذا كتبت استبطاء، وما إمساكي إذا أمسكت استغناء فكتبت مذكّرا لا مستقصرا فعلك». فوصله وأحسن إليه.
وقد روي بعض هذا الكلام المنسوب إلى سعيد بن هريم لأبي حفص الكرماني مع ذي الرّياستين.
ويقول أبو محمد عبد الله بن أيوب التميمي: [الطويل]
لعمرك ما الأشراف في كلّ بلدة ... وإن عظموا للفضل إلّا صنائع
ترى عظماء الناس للفضل خشّعا ... إذا ما بدا، والفضل لله خاشع
تواضع لمّا زاده الله رفعة ... وكلّ جليل عنده متواضع
وقال إبراهيم بن العباس: [مجزوء المتقارب]
لفضل بن سهل يد ... تقاصر عنها المثل
فباطنها للنّدى ... وظاهرها للقبل
وبسطتها للغنى ... وسطوتها للأجل
أخذه ابن الرومي فقال لإبراهيم بن المدبر: [الكامل]
أصبحت بين ضراعة وتجمّل ... والمرء بينهما يموت هزيلا
__________
(1) الفضل بن سهل: وزير المأمون وصاحب تدبيره. توفي سنة 202هـ. ترجمته في تاريخ بغداد (ج 12 ص 339) ووفيات الأعيان (ج 4ص 41) والأعلام (ج 5ص 149).(1/279)
فامدد إليّ يدا تعوّد بطنها ... بذل النوال وظهرها التقبيلا
وقال يمدح عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وزاد في هذا المعنى تشبيها ظريفا:
[الطويل]
مقبّل ظهر الكفّ وهّاب بطنها ... لها راحة فيها الحطيم وزمزم (1)
فظاهرها للناس ركن مقبّل ... وباطنها عين من العرف عيلم (2)
وكان ذو الرياستين يقبل صواب القائلين بما في قوّته من صفاء الغريزة، وجودة النّحيزة (3)، فهو كما قال أبو الطيب (4): [الخفيف]
ملك منشد القريض لديه ... يضع الثّوب في يدي بزّاز
وكانت مخايل فضله، ودلائل عقله، ظهرت ليحيى بن خالد وهو على دين المجوسية، فقال له: أسلم أجد السبيل إلى اصطناعك، قال: فأسلم على يد المأمون، ولم يزل في جنبته (5)، إلى أن رقّي إلى رتبته.
وذكره يحيى عند الرشيد فأجمل الثناء، فأمر بإحضاره، فلمّا رآه أفحم فنظر الرشيد إلى يحيى كالمستفهم فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ من أدلّ دليل على فراهة المملوك أن تملك هيبة مولاه لسانه وقلبه، فقال الرشيد: لئن كنت سكتّ لكي تقول هذا فقد أحسنت، ولئن كان هذا شيئا اعتراك عند الحصر (6) لقد أجدت وزاد في إكرامه وتقريبه، وجعل لا يسأله بعد ذلك عن شيء إلّا أجابه بأفصح لسان، وأجود بيان.
قال سهل بن هارون: وممّا حفظ من كلام ذي الرياستين ممّا رأينا تخليده في الكتب ليؤتمّ به، وينتفع بمقول حكمته، قوله: من ترك حقّا فقد غبن حظّا، ومن قضى حقّا فقد أحرز غنما، ومن أتى فضلا فقد أوجب شكرا، ومن أحسن توكّلا لم يعدم من الله صنعا، ومن ترك لله شيئا لم يجد لما ترك فقدا، ومن التمس بمعصية الله حمدا عاد ذلك على ملتمسه ذمّا، ومن طلب بخلاف الحقّ له دركا (7) عاد ما أدرك من ذلك له موبقا (8)
__________
(1) الحطيم: حجر الكعبة. زمزم: بئر عند الكعبة. القاموس المحيط (حطم) و (زمم).
(2) العيلم: الكثيرة الماء. القاموس المحيط (علم).
(3) النحيزة: الطبيعة. القاموس المحيط (نحز).
(4) ديوان المتنبي (ص 213).
(5) الجنبة، بفتح الجيم والباء وسكون النون: الناحية والجانب. القاموس المحيط (جنب).
(6) الحصر، بالفتح: العيّ في المنطق. القاموس المحيط (حصر).
(7) الدّرك، بالفتح: اللّحاق. القاموس المحيط (درك).
(8) الموبق: المهلك. القاموس المحيط (وبق).(1/280)
وذلك أوجب الفلاح للمحسنين، وجعل سوء العاقبة للمسيئين المقصّرين.
ووقّع في رقعة ساع: نحن نرى قبول السعاية شرّا منها لأنّ السّعاية دلالة، والقبول إجازة، وليس من دلّ على شيء وأخبر به كمن قبله وأجازه فاتّقوا السّاعي فإنّه لو كان في سعايته صادقا لكان في صدقه آثما إذ لم يحفظ الحرمة، ولم يستر العورة.
والشيء يقرن مع جنسه: كتب محمد بن علي إلى محمد بن يحيى بن خالد، وكان واليا على أرمينية للرشيد: إنّ قوما صاروا إلى سبيل النّصح فذكروا ضياعا بأرمينية قد عفت ودرست، يرجع منها إلى السلطان مال عظيم، وإني وقفت عن المطالبة حتى أعرف رأيك.
فكتب إليه: قرأت هذه الرقعة المذمومة، وفهمتها، وسوق السعاية بحمد الله في أيامنا كاسدة، وألسنة السّعاة في أيامنا كليلة خاسئة فإذا قرأت كتابي هذا فاحمل الناس على قانونك، وخذهم بما في ديوانك فإنّا لم نولّك الناحية، لتتّبع الرسوم العافية، ولا لإحياء الأعلام الداثرة، وجنّبني وتجنّب بيت جرير يخاطب الفرزدق: [الوافر]
وكنت إذا حللت بدار قوم ... رحلت بخزية وتركت عارا
وأجر أمورك على ما يكسب الدّعاء لنا لا علينا، واعلم أنها مدّة تنتهي، وأيام تنقضي، فإمّا ذكر جميل، وإما خزي طويل.
وقال رجل للمهدي: عندي نصيحة يا أمير المؤمنين، فقال: لمن نصيحتك هذه؟
لنا، أم لعامّة المسلمين، أم لنفسك؟ قال: لك يا أمير المؤمنين، قال: ليس الساعي بأعظم عورة ولا أقبح حالا ممّن قبل سعايته، ولا تخلو من أن تكون حاسد نعمة، فلا نشفي غيظك، أو عدوّا فلا نعاقب لك عدوّك! ثم أقبل على الناس فقال: لا ينصح لنا ناصح إلّا بما فيه لله رضا، وللمسلمين صلاح، فإنما لنا الأبدان وليس لنا القلوب ومن استتر عنّا لم نكشفه، ومن بادانا طلبنا توبته، ومن أخطأ أقلنا عثرته فإني أرى التأديب بالصّفح أبلغ منه بالعقوبة، والسلامة مع العفو أكثر منها مع المعاجلة، والقلوب لا تبقى لوال لا ينعطف إذا استعطف، ولا يعفو إذا قدر، ولا يغفر إذا ظفر، ولا يرحم إذا استرحم.
ووقّع ذو الرياستين إلى تميم بن خزيمة: الأمور بتمامها، والأعمال بخواتمها، والصنائع باستدامتها، وإلى الغاية يجري الجواد فهناك كشفت الخبرة قناع الشّكّ فحمد السابق، وذمّ الساقط.
وذو الرياستين هو القائل: [البسيط]
أنضيت أحرف «لا» ممّا لفظت بها ... فحوّلي رحلها عنّا إلى نعم
أو صيّريها إليها منك منعمة ... إن كنت حاولت فيها خفّة الكلم (1)
قستم علينا فعارضنا قياسكم ... يا أحسن الناس من قرن إلى قدم
ولمّا قتل ذو الرياستين دخل المأمون على أمّه فقال: لا تجزعي فإنّي ابنك بعد ابنك. فقالت: أفلا أبكي على ابن أكسبني ابنا مثلك؟(1/281)
أنضيت أحرف «لا» ممّا لفظت بها ... فحوّلي رحلها عنّا إلى نعم
أو صيّريها إليها منك منعمة ... إن كنت حاولت فيها خفّة الكلم (1)
قستم علينا فعارضنا قياسكم ... يا أحسن الناس من قرن إلى قدم
ولمّا قتل ذو الرياستين دخل المأمون على أمّه فقال: لا تجزعي فإنّي ابنك بعد ابنك. فقالت: أفلا أبكي على ابن أكسبني ابنا مثلك؟
[في وصف الخيل]
ووصف ابن القرّيّة (2) فرسا أهداه الحجاج إلى عبد الملك بن مروان فقال: حسن القدّ، أسيل الخدّ، يسبق الطّرف، ويستغرق الوصف.
وأهدى عبد الله بن طاهر إلى المأمون فرسا وكتب إليه: قد بعثت إلى أمير المؤمنين بفرس يلحق الأرانب في الصّعداء، ويجاوز الظّباء في الاستواء، ويسبق في الحدور جري الماء، فهو كما قال تأبّط شرّا: [الطويل]
ويسبق وفد الرّيح من حيث ينتحي ... بمنخرق من شدّه المتدارك
وقال رجل لبعض النخّاسين: اشتر لي فرسا جيّد القميص، حسن الفصوص، وثيق القصب، نقيّ العصب، يشير بأذنيه، ويندس برجليه (3)، كأنه موج في لجّة، أو سيل في حدور.
جمع محمد بن الحسين، هذين الكلامين وزاد فقال يصف فرسا: هو حسن القميص، جيّد الفصوص، وثيق القصب، نقيّ العصب، يبصر بأذنيه، ويتبوّع (4) بيديه ويداخل برجليه، كأنه موج في لجّة، أو سيل في حدور، يناهب المشي قبل أن يبعث، ويلحق الأرانب في الصعداء، ويجاوز جواري الظباء في الاستواء، ويسبق في الحدور جري الماء، إن عطف جار، وإن أرسل طار، وإن كلّف السير أمعن وسار، وإن حبس
__________
(1) الضمير في «صيّريها» يعود إلى «لا»، والضمير في «إليها» يعود إلى «نعم» يقول: صيّري «لا» إلى «نعم».
(2) ابن القرّيّة: هو أيوب بن زيد، أحد بلغاء الدهر خطيب يضرب به المثل فيقال: «أبلغ من ابن القرّيّة». توفي سنة 84هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 1ص 250) والكامل في التاريخ (ج 4 ص 498) والأعلام (ج 2ص 37).
(3) يندس برجليه: يضرب. القاموس المحيط (ندس).
(4) التّبوّع: إبعاد خطو الفرس في جريه. القاموس المحيط (بوع).(1/282)
صفن (1)، وإن استوقف فطن، وإن رعى أبن (2)، فهو كما قال تأبّط شرّا، وذكر البيت.
وأول هذه الأبيات: [الطويل].
وإني لمهد من ثنائي فقاصد ... به لابن عمّ الصّدق شمس بن مالك
أهزّ به في ندوة الحيّ عطفه ... كما هزّ عطفي بالهجان الأوارك (3)
قليل التّشكّي للملّم يصيبه ... كثير الهوى شتّ النّوى والمسالك
يظلّ بموماة ويمسي بغيرها ... جحيشا ويعروري ظهور المهالك (4)
ويسبق وفد الرّيح من حيث ينتحي ... بمنخرق من شدّه المتدارك
إذا خاط عينيه كرى النوم لم يزل ... له كالىء من قلب شيحان فاتك (5)
إذا طلعت أولى العدوّ فنفره ... إلى سلّة من صارم الغرب باتك (6)
ويجعل عينيه ربيئة قلبه ... إلى ضربة من حدّ أخلق صائك (7)
إذا هزّه في عظم قرن تهلّلت ... نواجذ أفواه المنايا الضّواحك
يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي ... بحيث اهتدت أمّ النجوم الشّوابك (8)
وأهدى عمرو بن العاص إلى معاوية ثلاثين فرسا من سوابق خيل مصر، فعرضت عليه، وعنده عقبة بن سنان بن يزيد الحارثي، فقال له معاوية: كيف ترى هدايانا يا أبا سعيد؟ فإن أخاك عمرا قد أطنب في وصفها، فقال: أراها يا أمير المؤمنين على ما وصف، وإنها لمخيّلة (9) بكلّ خير إنها لسامية العيون، لا حقة البطون، مصغية الآذان، قبّاء (10)
__________
(1) صفن الفرس: قام على ثلاث قوائم وطرف حافر الرابعة. القاموس المحيط (صفن).
(2) أبن: ترقّب. لسان العرب (أبن).
(3) النّدوة: مجلس القوم نهارا. الهجان: الإبل البيض. الأوارك: التي ترعى الأرك وهو الحمض.
القاموس المحيط (ندي) و (هجن) و (أرك).
(4) الموماة: الفلاة. الجحيش: الذي لا يختلط بالناس. يعروري الفرس: يركبه عريانا. القاموس المحيط (موا) و (جحش) و (عري). يقول: إنه يركب ظهور المهالك بلا سرج، وهي فكرة بدوية.
(5) الكالىء: الحارس. الشّيحان: الغيور. القاموس المحيط (كلأ) و (شيح). يقول: إن قلبه يقظ وإن نامت عينه.
(6) الصارم: السيف. الباتك: القاطع. القاموس المحيط (صرم) و (بتك).
(7) الربيئة: الطليعة. الصائك: اللازق. لسان العرب (ربأ) و (صوك).
(8) أمّ النجوم: المجّرة. القاموس المحيط (أمم).
(9) المخيّلة: المبشّرة يقال: خيّل فيه الخير إذا تفرّسه. القاموس المحيط (خيل).
(10) قبّاء الأسنان: أي لها صوت يقال: فبّبت ناب الأسد والفحل إذا صوّتت وقعقعت. محيط المحيط (قبب).(1/283)
الأسنان، ضخام الرّكبات، مشرفات الحجبات (1)، رحاب المناخر، صلاب الحوافر، وقعها تحليل، ورفعها تعليل (2)، فهذه إن طلبت سبقت، وإن طلبت لحقت. قال له معاوية: اصرفها إلى رحلك فإنّ بنا عنها غنى، وبفتيانك إليها حاجة.
وقال النابغة الجعديّ: [الطويل]
وإنّا أناس لا نعوّد خيلنا ... إذا ما التقينا أن تحيد وتنفرا
وننكر يوم الرّوع ألوان خيلنا ... من الطعن حتى نحسب الجون أشقرا (3)
فليس بمعروف لنا أن نردّها ... صحاحا، ولا مستنكر أن تعقّرا
وقال بعض العرب: [الكامل]
ولقد شهدت الخيل يوم طرادها ... بسليم أوظفة القوائم هيكل (4)
فدعوا: نزال! فكنت أوّل نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل؟
ووصف أعرابي فرسا فقال: لما أرسلت الخيل جاءوا بشيطان في أشطان (5)، فأرسلوه، فلمع لمع البرق، واستهلّ استهلال الودق (6)، فكان أقربهم إليه الذي يقع عينه من بعد عليه.
وذكر أعرابي رجلا فقال: عنده فرس طويل العذار، أمين العثار فكنت إذا رأيته عليه ظننته بازيا على مربأ، عليه رمح طويل يقصّر به الآجال.
وقال بعض المحدثين في هذا التطابق: [الوافر]
لقيناهم بأرماح طوال ... تبشّرهم بأعمار قصار
ووصف أعرابي خيلا لبني يربوع فقال: خرجت علينا خيل من مستطير نقع (7)، كأن
__________
(1) الحجبات: جمع حجبة وهي من الفرس ما أشرف على صفاق البطن من وركيه. القاموس المحيط (حجب).
(2) التحليل والتعليل: من حركات الخيل. لسان العرب (حلل) و (علل).
(3) الجون من الخيل: الأدهم. القاموس المحيط (جون).
(4) الأوظفة: جمع وظيف وهو مستدقّ الذّراع والساق من الخيل والإبل وغيرها. الهيكل: الفرس الطويل. القاموس المحيط (وظف) و (هكل).
(5) الأشطان: جمع شطن وهو الحبل الطويل. القاموس المحيط (شطن).
(6) الودق: المطر. القاموس المحيط (ودق).
(7) النّقع: الغبار. القاموس المحيط (نقع).(1/284)
هواديها أعلام، وآذانها أقلام، وفرسانها أسود آجام (1).
ولما أنشد العمّاني الرشيد يصف فرسا: [الرجز]
كأنّ أذنيه إذا تشوّفا ... قادمة أو قلما محرّفا
ولحن، ففهم ذلك أكثر من حضر فقال الرشيد: اجعل مكان «كأن» يخال، فعجبوا لسرعة تهدّيه.
وللطائيين في هذا النوع أشعار كثيرة منعني من اختبارها كثرة اشتهارها وسأنشد بعض ذلك، قال أبو تمام (2): [الكامل]
ما مقرب يختال في أشطانه ... ملآن من صلف به وتلهوق (3)
بحوافر حفر وصلت أصلت ... وأشاعر شعر وخلق أخلق (4)
ذو أولق تحت العجاج، وإنّما ... من صحة إفراط ذاك الأولق (5)
صافي الأديم كأنما ألبسته ... من سندس بردا ومن إستبرق (6)
إمليسة إمليدة لو علّقت ... في صهوتيه العين لم تتعلّق (7)
مسودّ شطر مثل ما اسودّ الدجى ... مبيضّ شطر كابيضاض المهرق (8)
وقال أبو عبادة (9): [الكامل]
وأغرّ في الزّمن البهيم محجّل ... قد رحت عنه على أغرّ محجّل (10)
__________
(1) الآجام: جمع أجمة وهي الشجر الكثير الملتفّ. القاموس المحيط (أجم).
(2) ديوان أبي تمام (ص 187).
(3) المقرب والمقربة: الفرس التي تدنى وتقرب لئلّا يقرعها فحل لئيم. التّلهوق: البياض. القاموس المحيط (قرب) و (لهق).
(4) في الديوان: «حفر وصلب صلب وأشاعر». والصّلت، بفتح الصاد وسكون اللام: الجبين الواضح. الأشاعر: جمع أشعر وهو ما استدار بالحافر من منتهى الجلد. القاموس المحيط (صلت) و (شعر).
(5) الأولق: الجنون. القاموس المحيط (ولق).
(6) الإستبرق: الديباج الغليظ. القاموس المحيط (برق).
(7) في الديوان: «إمليسه أملوده لو».
(8) المهرق: الصحيفة. القاموس المحيط (هرق).
(9) أبو عبادة: هو البحتري، والأبيات في ديوانه (ج 2ص 317316).
(10) البهيم: الأسود. الأغرّ: الفرس التي في جبهتها بياض. المحجّل: الفرس التي قوائمها كلها بيضاء.
القاموس المحيط (بهم) و (غرر) و (حجل).(1/285)
وافي الضلوع يشدّ عقد حزامه ... يوم اللقاء على معمّ مخول
يهوي كما هوت العقاب إذا رأت ... صيدا وينتصب انتصاب الأجدل (1)
متوحّش بدقيقتين كأنما ... تريان من ورق عليه موصّل (2)
كالرائح النّشوان أكثر مشيه ... عرض على السّنن البعيد الأطول (3)
ويظنّ ريعان الشباب يروعه ... من نشوة أو جنّة أو أفكل (4)
هزج الصهيل كأنّ في نبراته ... نغمات معبد في الثّقيل الأوّل (5)
تتوهّم الجوزاء في أرساغه ... والبدر غرّة وجهه المتهلّل (6)
صافي الأديم كأنّما عنيت له ... بصفاء نقبته مداوك صيقل (7) (8)
وكأنما نفضت عليه صبغها ... صهباء للبردان أو قطربّل (9)
ملك العيون فإن بدا أعطينه ... نظر المحبّ إلى الحبيب المقبل
وقال إسحاق بن خلف النهرواني لأبي دلف، وكان له فرس أدهم يسمّيه غرابا:
[الكامل]
كم كم تجرّعه المنون ويسلم ... لو يستطيع شكا إليك له الفم
من كل منبت شعرة من جلده ... خطّ ينمّقه الحسام المخذم (10)
ما تدرك الأرواح أدنى جريه ... حتى يفوت الريح وهو مقدّم
رجعته أطراف الأسنّة أشقرا ... واللون أدهم حين ضرّجه الدّم
__________
(1) في الديوان: «كما تهوي العقاب وقد رأت». والأجدل: الصّقر. القاموس المحيط (جدل).
(2) في الديوان: «متوجّس برقيقتين كأنما». وقوله: «بدقيقتين»: أي بساقين دقيقتين.
(3) في الديوان: «عرضا» بدل «عرض».
(4) في الديوان: «وتظنّ ريعان من جنّة أو نشوة أو أفكل». والأفكل: الرّعدة. القاموس المحيط (فكل).
(5) في الديوان: «كأنّ في نغماته نبرات معبد». ومعبد: هو معبد المغنّي، وقد تقدم الحديث عنه.
(6) في الديوان: «يتوهّم فوق جبينه المتهلّل». والأرساغ: جمع رسغ وهو الموضع المستدقّ بين الحافر وموصل الوظيف من اليد والرجل. القاموس المحيط (رسغ).
(7) في الديوان: «لصفاء مداوس صيقل». والنّقبة: اللون. محيط المحيط (نقب).
(8) رواية عجز البيت في الديوان هي: مهما تواصلها بلحظ تخجل
(9) قطربّل، بضم القاف والباء المشدّدة وسكون الطاء وفتح الراء: اسم قرية بين بغداد وعكبرا، وقد أكثر الشعراء من ذكرها. معجم البلدان (ج 4ص 371).
(10) المخذم: القاطع. القاموس المحيط (خذم).(1/286)
وكأنما عقد النّجوم بطرفه ... وكأنّه بعرى المجرّة ملجم
وقال أبو الطيب (1): [الطويل]
جفتني كأنّي لست أنطق قومها ... وأطعنهم والشّهب في صور الدّهم
وقال أبو الفتح كشاجم: [الرجز]
قد راح تحت الصّبح ليل مظلم ... إذ لاح في السّرج المحلّى الأدهم
ديباج ألوان الجياد، ولم يكن ... ليخصّ بالديباج إلّا الأكرم
ضحك اللّجين على سواد أديمه ... وكذا الظلام تنير فيه الأنجم
فكأنه ببنات نعش ملبب ... وكأنّما هو بالثريّا ملجم
قلت: هذا من قول ابن المعتز: [الطويل]
ألا فاسقياني والظلام مقوّض ... ونجم الدّجى تحت المغارب يركض
كأنّ الثريا في أواخر ليلها ... تفتّح نور أو لجام مفضض
وقال أبو الفتح: [الكامل]
من شكّ في فضل الكميت فبينه ... فيه وبين يقينه المضمار
في منظر مستحسن محمودة ... أخباره إذ تبتلى الأخبار
ماء تدفّق طاعة وسلاسة ... فإذا استدرّ الحضر فيه فنار (2)
وإذا عطفت به على ناورده ... لتديره فكأنّه بركار
وصف الخلوق أديمه فكأنّما ... أهدى الخلوق لجلده عطّار (3)
قصرت قلادة نحره وعذاره ... والرّسغ، وهي من العتاق قصار
وكأنّما هاديه جذع مشرف ... وكأنما للضبع فيه وجار (4)
يرد الضّحاضح غير ثاني سنبك ... ويرود طرفك خلفه فتحار (5)
لو لم تكن للخيل نسبة خلقه ... حاكته من أشكالها الأطيار
__________
(1) ديوان المتنبي (ص 74) وجاء فيه: «صورة» بدل «صور».
(2) الحضر، بضمّ الحاء وسكون الضاد: ارتفاع الفرس في عدوه. القاموس المحيط (حضر).
(3) الخلوق: ضرب من الطّيب. القاموس المحيط (خلق).
(4) الهادي: العنق. الوجار: جحر الضّبع. القاموس المحيط (هدى) (وجر).
(5) الضحاضح: جمع ضحضاح وهو الماء اليسير. القاموس المحيط (ضحضح).(1/287)
وقال ابن المعتز: [الطويل]
وخيل طواها القود حتى كأنّها ... أنابيب سمر من قنا الخطّ ذبّل
صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل
قوله: «ظالمين» من أبدع حشو جرى في بيت، وكأنّ ابن المعتز أشار إلى قول أعرابي مولد: [الطويل]
وعود قليل الذنب عاودت ضربه (1) ... إذا هاج شوقي من معاهدها ذكر
فقلت له: ذلفاء ويحك! سبّبت ... لك الضّرب، فاصبر إنّ عادتك الصبر (2)
قال ابن المعتز: [الوافر]
أراجعتي فداك بأعوجيّ ... كقدح النّبع في الرّيش اللّؤام (3)
بأدهم كالظّلام أغرّ يجلو ... بغرّته دياجير الظّلام
ترى أحجاله يصعدن فيه ... صعود البرق في جوّ الغمام
وقال أيضا: [الرجز]
قد أغتدي والصّبح كالمشيب ... في أفق مثل مداك الطّيب (4)
بقارح مسوّم يعبوب ... ذي أذن كخوصة العسيب (5)
أو آسة أوفت على قضيب ... يسبق شأو النظر الرّحيب (6)
أسرع من ماء إلى تصويب (7) ... ومن رجوع لحظة المريب
وقال: [المديد]
ربّ ركب عرّسوا ثم هبّوا ... نحو إسراج وشدّ رحال
__________
(1) العود، بفتح العين وسكون الواو: المسنّ من الإبل والشاء. القاموس المحيط (عود).
(2) ذلفاء: اسم امرأة. يقول: إن حبّ السرعة إلى لقاء محبوبته جعله يقدم على ضرب راحلته.
(3) الأعوجيّ: فرس لبني هلال تنسب إليه الأعوجيات. اللّؤام: المحكم يقال: لأم السّهم إذا جعل عليه ريشا لؤاما. القاموس المحيط (عوج) و (لأم).
(4) المداك، بفتح الميم والدال: الحجر الذي يسحق عليه الطيب المسمّى بالصلاءة. لسان العرب (دوك).
(5) القارح من ذي الحافر: الذي شقّ نابه وطلع. مسوّم: وضعت عليه السّومة وهي العلامة. اليعبوب:
الفرس السريع الطويل. الخوصة: ورقة النخل. العسيب: جريدة من النخل مستقيمة دقيقة. محيط المحيط (قرح) و (سوم) و (عبب) و (خوص) و (عسب).
(6) الآسة: شجرة، جمعها الآس. القاموس المحيط (أوس).
(7) التصويب: الانحدار يقال: صاب المطر إذا انصبّ ونزل. محيط المحيط (صوب).(1/288)
وعدونا بأعنّة خيل ... تأكل الأرض بأيد عجال
زيّنتها غرر ضاحكات ... كبدور في وجوه ليال
وقال علي بن محمد الإيادي: [الكامل]
مسح الظلام بعرفه يده ... ومشى فقبّل وجهه البدر
وقال الناشىء أبو العباس عبد الله بن محمد: [الكامل]
أحوى عليه مسائح من ليطة ... شهب تسيل على نواشر ساقه (1)
فكأنه متلفّع قبطيّة ... أثناؤها مشدودة بنطاقه
فسواده كاللّيل في إظلامه ... وبياضه كالصّبح في إشراقه
صافي الأديم كريمة أنسابه ... أخلاقه عين على أعراقه
كتب أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي إلى الأمير أبي الفضل عبد الله بن أحمد بن ميكال، وقد زاره الأمير في داره: [الكامل]
لا زال مجدك للسّماك رسيلا (2) ... وعلوّ جدّك بالخلود كفيلا
يا غرّة الزمن البهيم إذا غدا ... أهل العلا لزمانهم تحجيلا
يا زائرا مدّت سحائب طوله ... ظلّا عليّ من الجمال ظليلا
وأتت بصوب جواهر من لفظه ... حتى انتظمن لمفرقي إكليلا
بأبي وغير أبي هلال نوره ... يستعجل التسبيح والتهليلا
نقشت حوافر طرفه في عرصتي ... نقشا محوت رسومه تقبيلا
ولو استطعت فرشت مسقط خطوه ... بعيون عين لا ترى التّكحيلا
ونثرت روحي بعد ما ملكت يدي ... خررت بين يدي هواه قتيلا
وقال أبو القاسم بن هانىء يصف خيل المعزّ (3): [الطويل]
له المقربات الجرد ينعلها دما ... إذا فرعت هام الكماة السّنابك (4)
يريق عليها اللؤلؤ الرّطب ماءه ... ويسبك فيها ذائب التّبر سابك
__________
(1) اللّيطة، بكسر اللام: قشر القصبة والقوس والقناة. القاموس المحيط (لوط).
(2) الرّسيل، بزنة أمير: الواسع. القاموس المحيط (رسل).
(3) ديوان ابن هاني الأندلسي (ص 244243).
(4) في الديوان: «قرعت» بدل «فرعت». والمقربات: جمع مقربة وهي الفرس التي تدنى وتقرب لئلّا يقرعها فحل لئيم. السنابك: جمع سنبك وهو طرف الحافر. القاموس المحيط (قرب) و (سنبك).(1/289)
صقيلات أجسام البروق كأنما ... أمّرت عليها بالشموس المداوك (1)
وقال يصف فرسا لجعفر بن علي بن حمدون (2): [الطويل]
تهلّل مصقول النواحي كأنه ... إذا جال ماء الحسن فيه غريق
من البهم ورد اللون شيب بكمتة ... كما شيب بالمسك الفتيق خلوق (3)
فلو ميز منه كلّ لون بذاته ... جرى سبج منه وذاب عقيق (4)
وقال في قصيدة يمدح بها أبا الفرج الشيباني (5): [الكامل] فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر ... وأمدّكم فلق الصّباح المسفر
وجنيتم ثمر الوقائع يانعا ... بالنّصر من ورق الحديد الأخضر
أبني العوالي السّمهرية والسيو ... ف المشرفيّة والعديد الأكثر
من منكم الملك المطاع كأنّه ... تحت السّوابغ تبّع في حمير (6)
القائد الخيل العتاق شوازبا ... خزرا إلى لحظ السّنان الأخزر (7)
شعث النّواصي حسرة آذانها ... قبّ الأياطل داميات الأنسر (8)
تنبو سنابكهنّ عن عفر الثرى ... فيطأن في خدّ العزيز الأصعر (9)
في فتية صدأ الحديد عبيرهم ... وخلوقهم علق النّجيع الأحمر (10)
__________
(1) في الديوان: «أبشار البروق بالسحاب المداوك».
(2) لم ترد الأبيات في ديوان ابن هاني الأندلسي.
(3) البهم: جمع بهيم وهو الأسود. شيب: خلط. القاموس المحيط (بهم) و (شيب).
(4) السّبج، بفتح السين والباء: الخرز الأسود. العقيق: الخرز الأحمر. محيط المحيط (سبج) و (عقق).
(5) ديوان ابن هاني الأندلسي (ص 162161) وجاء فيه أنه يمدح جعفر بن علي.
(6) السوابغ: جمع سابغة وهي الدّرع التامة الطويلة. تبّع: واحد التبابعة وهم ملوك اليمن، ولا يسمّى به إلّا إذا كانت له حمير وحضر موت. محيط المحيط (سبغ) و (تبع).
(7) الشوازب: جمع شازب وهو الفرس الضامر. الخزر: جمع أخزر وهو الذي ينظر بمؤخر عينه. محيط المحيط (شزب) و (خزر).
(8) في الديوان: «حشرة آذانها ظاميات الأنسر». والأياطل: جمع أيطل وهو الخاصرة. القبّ:
جمع قبّاء، والقبب: دقة الخصر وضمور البطن. الأنسر: جمع نسر وهو لحمة في باطن حافر الفرس من أعلاه. القاموس المحيط (أطل) و (قبب) و (نسر).
(9) السنابك: جمع سنبك وهو طرف الحافر. الأصعر: الذي يصعّر خدّه ويميله عن النظر إلى الناس تهاونا من كبر. القاموس المحيط (سنبك) و (صعر).
(10) الخلوق: ضرب من الطّيب. العلق، بفتح العين واللام: القطعة من الدم. النجيع: دم الجوف.
القاموس المحيط (خلق) و (علق) و (نجع).(1/290)
لا يأكل السّرحان شلو عقيرهم ... مما عليه من القنا المتكسّر (1)
وقال في قصيدة يمدح بها إبراهيم بن جعفر بن علي (2): [الكامل]
فخر لطرف أعوجيّ أنت في ... صهواته والحسن والتّطهيم (3)
يبدي لعزّك نخوة، فكأنّه ... ملك تدين له الملوك عظيم
هاد على الخيل العتاق، كأنّه ... بين الدّجنّة والصباح صريم (4)
سامي القذال بمسمعيه عيافة ... تحت الدّجى ولطرفه تنجيم (5)
أذن مؤللّة، وقلب أصمع ... وحشا أقبّ، وكلكل ملموم (6)
فالطّود من صهواته متزلزل ... والجيش من أنفاسه مهزوم
خرق العيون فضلّ عنها لونه ... وصفا فقلنا ما عليه أديم
فكأنما جمدت عليه مزنة ... وانجاب عنه عارض مركوم (7)
وكأنما نحرت عليه بوارق ... وكأنما كسفت عليه نجوم
وكأنك ابن المنذر النعمان فو ... ق سراته، وكأنه اليحموم (8)
وقال علي بن محمد الإيادي يصف فرس أبي عبد الله جعفر بن أبي القاسم القائم:
[الكامل]
وأقبّ من لحق الجياد، كأنه ... قصر تباعد ركنه من ركنه (9)
__________
(1) في الديوان: «طعينهم» بدل «عقيرهم». والسّرحان: الذئب. الشّلو: العضو. القاموس المحيط (سرح) و (شلو).
(2) لم ترد الأبيات في ديوان ابن هاني الأندلسي.
(3) الطّرف، بكسر الطاء وسكون الراء: الكريم من الخيل. التطهيم: البارع الجمال، والنحيف الجسم.
القاموس المحيط (طرف) و (طهم).
(4) العتاق من الخيل: النجائب، واحدها عتيق. الدّجنّة: الظلماء. الصريم: القطعة من الصباح أو الليل. يقول: إنّ لونه بين السواد والبياض. القاموس المحيط (عتق) و (صرم).
(5) القذال: معقد العذار من الفرس خلف الناصية. العيافة: زجر الطير وهو أن تعتبر بأسمائها ومساقطها وأنوائها فتتسعّد أو تتشأّم. القاموس المحيط (قذل) و (عيف).
(6) مؤلّلة: منتصبة يقال: ألّ الفرس إذا نصب أذنيه وحدّدهما. القلب الأصمع: الذكيّ المتيقظ.
الأقبّ: الضامر، والقبب: دقة الخصر. الكلكل: الصدر. القاموس المحيط (ألل) و (صمع) و (قبب) و (كلكل).
(7) العارض: السحاب المعترض في الأفق. المركوم: المتراكم. القاموس المحيط (عرض) و (ركم).
(8) السّراة: السّريّة. اليحموم: فرس النعمان بن المنذر. القاموس المحيط. (سرى) و (حمم).
(9) اللّحق: الضمور، يقال: لحق إذا ضمر. القاموس المحيط (لحق).(1/291)
لبست قوائمه عصائب فضّة ... وغدت بسمر صفا المسيل ودكنه
وكأنما انفجر الصّباح بوجهه ... حسنا، أو احتبس الظلام بمتنه
قيد العيون إذا بصرن بشخصه ... ورضا القلوب إذا اصطلين بضغنه (1)
متسيطر بالراكبين، كأنّه ... باز تروح به الجنوب لوكنه (2)
يستوقف اللحظات في خطراته ... بكمال خلقته ودقّة حسنه
حلو الصّهيل تخال في لهواته ... حاد يصوغ بدائعا من لحنه (3)
متجبّر ينبي بعتق نجاره ... إشراف كاهله ودقّة أذنه (4)
ذو نخوة شمخت به عن ندّه ... وشهامة طمحت به عن قرنه (5)
وكأنّه فلك إذا حرّكته ... جار على سهل البلاد وحزنه
قد راح يحمل جعفر بن محمد ... حمل النسيم لوابل من مزنه
وما أحسن ما قال أبو الطيب المتنبي (6): [الطويل]
ويوم كلون العاشقين كمنته ... أراقب فيه الشّمس أيّان تغرب (7)
وعيني إلى أذني أغرّ كأنه ... من الليل باق بين عينيه كوكب (8)
له فضلة عن جسمه في إهابه ... تجيء على صدر رحيب وتذهب (9)
شققت به الظلماء، أدني عنانه ... فيطغى، وأرخيه مرارا فيلعب (10)
وأصرع أيّ الوحش قفّيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب (11)
وما الخيل إلّا كالصّديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرّب
__________
(1) الضّغن، بكسر الضاد وسكون الغين: الحقد. القاموس المحيط (ضغن).
(2) الوكن: عشّ الطائر. القاموس المحيط (وكن).
(3) اللهوات: جمع لهاة وهي اللّحمة المشرفة على الحلق. القاموس المحيط (لهى).
(4) النّجار، بكسر النون: الأصل. القاموس المحيط (نجر).
(5) النّدّ: المثل. القرن: المثل أيضا. القاموس المحيط (ندد) و (قرن).
(6) ديوان المتنبي (ص 504503).
(7) في الديوان: «كليل» بدل «كلون». وكمنته: أي كمنت فيه، وكمن: استتر. القاموس المحيط (كمن).
(8) الأغرّ: الأبيض من كل شيء. القاموس المحيط (غرر).
(9) الفضلة: البقيّة. الإهاب: الجلد. يقول: إن الفرس عريض الصدر واسع الجلد، وهذا يجعله شديد العدو. القاموس المحيط (فضل) و (أهب).
(10) العنان: سير اللجام الذي تمسك به الدابّة. القاموس المحيط (عنن).
(11) قفّيته: أتبعته. مثله: منصوب على أنه حال. يقول: إن الحصان نشيط، فهو عند الركوب مثله عند النزول. القاموس المحيط (قفا).(1/292)
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيّب (1)
وينخرط في سلك هذا المعنى مقامة (2) من مقامات الإسكندري في الكدية (3)، ممّا أنشأه بديع الزمان وأملاه في شهور سنة خمس وثمانين وثلثمائة. قال البديع:
حدّثنا عيسى بن هشام قال: حضرنا مجلس سيف الدولة يوما وقد عرض عليه فرس: [الطويل]
متى ما ترقّ العين فيه تسهّل
فلحظته الجماعة فقال سيف الدولة: أيكم أحسن صفته، جعلته صلته فكلّ جهد جهده، وبذل ما عنده فقال أحد خدمه: أصلح الله الأمير! رأيت بالأمس رجلا يطأ الفصاحة بنعليه (4)، وتقف الأبصار عليه، يسلّي الناس، ويشفي الياس، ولو أمر الأمير بإحضاره، لفضلهم بحضاره (5).
فقال سيف الدولة: عليّ به في هيئته، فصار الخدم في طلبه، فجاءوا للوقت به، ولم يعلموه لأيّ حال دعي به، ثمّ قرّب واستدني، وهو في طمرين قد أكل الدهر عليهما وشرب (6)، وحين حضر السّماط، لثم البساط، ووقف. فقال سيف الدولة: بلغتنا عنك عارضة (7)، فاعرضها في هذا الفرس وصفه. فقال: أصلح الله الأمير! كيف به قبل ركوبه ووثوبه، وكشف عيوبه [وغيوبه]؟ فقال: اركبه، فركبه وأجراه، ثم قال: أصلح الله الأمير! هو طويل الأذنين، قليل الاثنين، واسع المراث (8)، ليّن الثّلاث، غليظ الأكرع (9)، غامض الأربع، شديد النّفس، لطيف الخمس، ضيق القلت (10)، رقيق السّتّ، حديد
__________
(1) الشّيات: جمع شية، وشية الفرس: لونه. القاموس المحيط (وشى).
(2) في الصحيفة التي تلي هذه المقامة شرح واف لهذه المقامة، قام به مؤلّف هذ الكتاب، لذا سنكتفي بشرح ما لم يشرحه المؤلف.
(3) الكدية: شدّة الدهر، والمراد هنا الاستجداء. القاموس المحيط (كدي).
(4) يطأ الفصاحة بنعليه: أي إنه فصيح بليغ لا نظير له في الفصاحة.
(5) يقال: ناقة حضار إذا جمعت قوة وجودة سير. القاموس المحيط (حضر).
(6) الطّمر، بكسر الطاء وسكون الميم: الثوب الخلق. القاموس المحيط (طمر). وقوله: أكل الدهر عليهما وشرب: كناية عن أنهما باليان.
(7) العارضة: البديهة. محيط المحيط (عرض).
(8) المراث، بفتح الميم والراء: خوران الفرس وهو المبعر. القاموس المحيط (روث) و (خور).
(9) الأكرع: جمع كراع وهو مستدقّ الساق. القاموس المحيط (كرع).
(10) القلت، بفتح القاف وسكون اللام: النّقرة في الجبل، والمراد هنا النقرة في رأس الورك. القاموس المحيط (قلت).(1/293)
السّمع، غليظ السّبع، رقيق اللسان، عريض الثّمان، شديد الضّلع، قصير التّسع، واسع السّحر (1)، بعيد العشر، يأخذ بالسّابح، ويطلق بالرّامح، ويطلع بلائح، ويضحك عن قارح، يحزّ وجه الكديد (2)، بمداقّ الحديد، يحضر كالبحر إذا ماج، والسيل إذا هاج.
فقال سيف الدولة: لك الفرس مباركا فيه. فقال: لا زلت تأخذ الأنفاس، وتمنح الأفراس، ثم انصرف، وتبعته، وقلت: لك عليّ ما يليق بهذا الفرس من خلعة إن فسّرت ما وصفت، فقال: سل عما أحببت.
فقلت: ما معنى قولك: بعيد العشر؟ فقال: بعيد النظر، والخطو، وأعالي الجنبين (3)، وما بين الوقبين والجاعرتين (4)، وما بين الغرابين، والمنخرين، وما بين الرّجلين، وما بين النقبة والصّفاق، وبعيد القامة في السباق.
فقلت: لا فضّ فوك! فما معنى قولك: قصير التّسع؟ قال: هاك: قصير الشّعرة، قصير الأطرة، قصير العسيب (5)، قصير القضيب، قصير العضدين، قصير الرّسغين، قصير النّسا، قصير الظّهر، قصير الوظيف.
فقلت: لله أنت! فما معنى قولك: عريض الثّمان؟ قال: عريض الجبهة، عريض الصّهوة، عريض الكتف، عريض الجنب، عريض الورك، عريض العصب، عريض البلدة، عريض صفحة العنق.
فقلت: أحسنت، فما معنى قولك: غليظ السبع؟ قال: غليظ الذراع، غليظ المحزم، غليظ العكوة (6)، غليظ الشّوى (7)، غليظ الرّسغ (8)، غليظ الفخذين، غليظ الحبال (9).
فقلت: لله درّك! فما معنى قولك: رقيق الستّ؟ فقال: رقيق الجفن، رقيق السّالفة،
__________
(1) السّحر، بفتح السين وسكون الحاء) الرئة. القاموس المحيط (سحر).
(2) الكديد: الأرض الغليظة. القاموس المحيط (كدد).
(3) بعد أعالي الجنبين: كناية عن متانة الخلق.
(4) الوقبة: نقرة في الصخرة. الجاعرة: الاست أو حلقة الدّبر. القاموس المحيط (وقب) و (جعر).
(5) العسيب: عظم الذّنب. القاموس المحيط (عسب).
(6) العكوة: الذّنب. القاموس المحيط (عكا).
(7) الشّوى: الأطراف. القاموس المحيط (شوى).
(8) الرّسغ: الموضع المستدقّ بين الحافر وموصل الوظيف من اليد والرّجل. القاموس المحيط (رسغ).
(9) الحبال: جمع حبل، المراد هنا العروق. القاموس المحيط (حبل).(1/294)
رقيق الجحفلة (1)، رقيق الأديم، رقيق أعلى الأذنين، رقيق الغرضين (2)
فقلت: أجدت، فما معنى قولك: لطيف الخمس؟ قال: لطيف الزّور، لطيف النّسر، لطيف الجبّة، لطيف العجاية (3)، لطيف الرّكبة.
فقلت: حيّاك الله! فما معنى قولك: غامض الأربع؟ قال: غامص أعالي الكتفين، غامض المرفقين، غامض الحجاجين، غامض الشّظى (4).
قلت: فما معنى قولك: ليّن الثلاث؟ قال: ليّن المردغتين (5)، ليّن العرف، ليّن العنان.
قلت: فما معنى قولك: قليل الاثنين؟ قال: قليل لحم الوجه، قليل لحم المتنين.
قلت: فمن أين نبات هذا العلم؟ قال: من الثغور الأموية، وبلاد الإسكندرية.
فقلت له: أنت مع هذا الفضل، تعرّض وجهك لهذا البذل؟! فأنشأ يقول:
[المجتث]
ساخف زمانك جدّا ... فالدهر جدّ سخيف
دع الحميّة نسيا (6) ... وعش بخير وريف
وقل لعبدك هذا ... يجىء لنا برغيف
سقط عنّا تفسيره في «ليّن الثلاث»، وأكثر هذا التفسير يحتاج إلى تفسير، ولم يرد بما أورد إفهام العوامّ، والبلاغة لمحة دالة، وبلاغة النثر أخت بلاغة الشعر وقد قال البحتري (7): [المنسرح]
والشّعر لمح تكفي إشارته ... وليس بالهذر طوّلت خطبه
__________
(1) الجحفلة: بمنزلة الشّفة للخيل. القاموس المحيط (جحفل).
(2) الغرض للرحل: كالحزام للسّرج. القاموس المحيط (غرض).
(3) العجاية: عصبة في باطن الوظيف من الفرس. القاموس المحيط (عجي).
(4) الحجاج، بكسر الحاء وفتحها: عظم ينبت عليه الحاجب. الشّظى: عظم لازق بالرّكبة أو بالوظيف.
القاموس المحيط (حجج) و (شظى).
(5) المردغة: ما بين العنق إلى التّرقوة. القاموس المحيط (ردغ).
(6) النّسي، بكسر النون وسكون السين: ما نسي. القاموس المحيط (نسي).
(7) ديوان البحتري (ج 1ص 196).(1/295)
والجاعرتان من الفرس: موضع الرّقمتين من الحمار، وهما منتهى ضربه بذنبه إذا حرّكه.
والغرابان: الناتئان من أعلى الوركين، وذكر النقبة هنا، وهو الذي يعرف بالمنقب، وهو من السّرّة حيث ينقب البيطار. والصّفاق: الخاصرة، وقد قيل: جلد البطن كلّه صفاق، والذي أراده الخاصرة. وأراد ببعد القامة في السباق امتداده إذا جرى مع الأرض. والأطرة هنا: طرف الأبهر، وهي طفطفة غليظة. والأبهر: عرق يستبطن الظّهر، فيتّصل بالقلب، وقيل: هو الأكحل. والعسيب: عظم الذنب. والرسغ من الفرس: موضع القيد. والنّسا:
عرق مستبطن الفخذين، وقصره محمود في جري الفرس، ولكنه لا يسمح بالمشي.
والوظيف لكل ذي أربع: ما فوق الرّسغ إلى الساق. والصّهوة: الظهر. والبلدة: ما بين عينيه. والعكوة: مغرز الذّنب. والشّوى: الأطراف. والحبال: حبلا العاتق والظّهر.
والجحفلة من ذوات الحافر: كالشفة من الإنسان. والغرضان من الفرس: ما انحدر من قصبة الأنف من جانبيها. والزور: الصدر. والنّسر في الحافر: لحمة يابسة أسفله يشبهها الشعراء بالنّوى. والجبّة: التي فيها الحوشب، والحوشب: حشو الحافر. والعجاية:
عصب في قوائم الفرس والبعير مركّب فيه فصوص من عظام كأمثال الكعاب تكون عند الرّسغ. والحجاجان: العظمان المطيفان بالعين. والشّظى: عظم لاصق بالذراع.
والمتنان: جانبا الظهر وسقط عنّا تفسير الثلاث من نفس المقامة.
[ما قيل في المواعد]
قال الجاحظ: قال أبو القاسم بن معن المسعودي لعيسى بن موسى: أيّها الأمير، ما انتفعت بك منذ عرفتك، ولا إلى خير وصلت منك منذ صحبتك، فقال: ولم؟ ألم أكلّم لك أمير المؤمنين في كذا وكذا؟ قال: بلى! فهل استنجزت ما وعدت، وعاودت ما ابتدأت؟ فقال: حالت دون ذلك أمور قاطعة، وأحوال عاذرة. قال: أيّها الأمير، فما زدتني على أن نبّهت الهمّ من رقدته، وأثرت الحزن من ربضته، إنّ الوعد إذا لم يصحبه إنجاز يحقّقه كان كلفظ لا معنى له، وجسم لا روح فيه.
وكلّم منصور بن زياد يحيى بن خالد في حاجة لرجل، فقال: عده قضاءها. قال:
فقلت: أصلحك الله! وما يدعوك إلى العدة مع وجود القدرة؟ فقال: هذا قول من لا يعرف موضع الصّنائع من القلوب، إنّ الحاجة إذا لم يتقدّمها موعد ينتظر به نجحها لم تتجاذب الأنفس سرورها إنّ الوعد تطعّم والإنجاز طعام وليس من فاجأه طعام كمن وجد رائحته، وتمطّق (1) به، وتطعّمه ثم طعمه فدع الحاجة تختم بالوعد ليكون بها عند المصطنع حسن موقع، ولطف محلّ.
__________
(1) التّمطّق: التذوّق. القاموس المحيط (مطق).(1/296)
ووعد المهديّ عيسى بن دأب جارية، ثم وهبها له، فأنشده عبد الله بن مصعب الزبيري معرّضا بقول مضرّس الأسدي: [الطويل]
فلا تيأسن من صالح أن تناله ... وإن كان قدما بين أيد تبادره
فضحك المهدي، وقال: ادفعوا إلى عبد الله فلانة، لجارية أخرى فقال عبد الله بن مصعب: [الرجز]
أنجز خير الناس قبل وعده ... أراح من مطل وطول كدّه
فقال ابن دأب: ما قلت شيئا، هلّا قلت: [الرجز]
حلاوة الفضل بوعد ينجز ... لا خير في العرف كنهب ينهز
فقال المهدي: [مجزوء الكامل]
الوعد أحسن ما يكو ... ن إذا تقدّمه ضمان
وقد قال أبو قابوس النصراني يمدح يحيى بن خالد: [البسيط]
رأيت يحيى، أتمّ الله نعمته ... عليه، يأتي الّذي لم يأته أحد
ينسى الّذي كان من معروفه أبدا ... إلى الرّجال، ولا ينسى الذي يعد
وقال أبو الطيب المتنبي (1): [المنسرح]
قوم بلوغ الغلام عندهم ... طعن نحور الكماة لا الحلم
كأنما يولد النّدى معهم ... لا صغر عاذر ولا هرم
إذا تولّوا عداوة كشفوا ... وإن تولّوا صنيعة كتموا
تظنّ من فقدك اعتدادهم ... أنّهم أنعموا وما علموا
ودخل أبو عليّ البصير على الفضل بن يحيى، فأنشده: [الرمل]
وصف الصدّ لمن أهوى فصد ... وبدا يمزح بالهجر فجدّ
ما له يعدل عنّي وجهه ... وهو لا يعدله عندي أحد؟
لا تريدوا غرّة الفضل، ومن ... يطلب الغرّة في خيس الأسد (2)
ملك ندفع ما نخشى به ... وبه نصلح منّا ما فسد
ينجز الناس إذا ما وعدوا ... وإذا ما أنجز الفضل وعد
__________
(1) ديوان المتنبي (ص 90).
(2) الخيس: موضع الأسد. القاموس المحيط (خيس).(1/297)
وقال ابن الرومي في هذا المعنى: [البسيط]
له مواعد بالخيرات بادرة ... لكنها تسبق الميعاد بالصفد (1)
يعطيك في اليوم حقّ اليوم مبتدئا ... ولا يضيّع بعد اليوم حقّ غد
[في البرّ والإنعام]
خطب سليمان بن عبد الملك فقال: أيها الناس، من لم يعلم أبواب مدخله في الكرامة، وجهل طريقته التي وقعت به على النّعمة كان بعرض رجوع إلى دار هوان، وانقلاب بفادح خسران.
فقام إليه أبو وائلة السدوسي، وهو حاجبه، فقال: يا أمير المؤمنين، كنّا كما قال الله تعالى: {هَلْ أَتى ََ عَلَى الْإِنْسََانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} (2)، ثم صرنا كما قال زهير: [الوافر]
يد الملك الجليل تناولتهم ... بإحسان فليس لها مزيل
لأنّ الخير أجمع في يديه ... وربّي بالجزاء له كفيل
فقال سليمان: هذه والله المعرفة بقدر النّعمة، والعلم بما يجب للمنعم.
ورؤي يونس بن المختار في دار المأمون، ومرتبته في أعلى مراتب بني العباس، قاعدا على الأرض، فقال الحاجب: ارتفع يا أبا المعلّى إلى مرتبتك، قال: قد رفعني الله إليها بأمير المؤمنين، وليس لي عمل يفي بها، فلم لا أكرمها عن القعود عنها إلى أن يتهيّأ لي الشكر عليها؟ فبلغ الكلام المأمون فقال: هذا والله غاية الشكر، وبمثله تدرّ النّعم.
وقال رجل للمعلّى بن أيوب، وقد رفعه المعتصم إلى مرتبة أهل بيته: ما يزيدك التقريب إلّا تباعدا. فقال: يا هذا، إني أصون تقريبه إياي بتباعدي منه لئلا تفسد حرمتي عنده بقلّة الشكر على نعمته.
ولمّا استعان المنصور بالحارث بن حسّان قال له: يا حارث، إنّي قد مكّنتك من حسن رأيي فيك، فاحفظه بترك إغفال ما يجب عليك! قال: يا أمير المؤمنين، من أغفل سبب حلول النعمة، ولها عن الحال التي أصارته إليها، استصحب الياس من نيل مثلها، وانقطع رجاؤه من الزيادة فيها، فقال أبو جعفر: من كانت عنده هذه المعرفة دامت النعمة له، وبقي الإحسان إليه.
__________
(1) الصّفد، بالفتح: العطاء. القاموس المحيط (صفد).
(2) سورة الإنسان 76، الآية 1.(1/298)
ولما قال المأمون لعبد الله بن طاهر عند قدومه من مصر: ما سرّني الله منذ ولّيت الخلافة بشيء عظم موقعه عندي، بعد جميل عافية الله، هو أكثر من سروري بقدومك، فقال عبد الله: إيذن لي يا أمير المؤمنين، في تفريق أموالي من طارف وتالد. قال: ولم؟
قال: شكرا على هذه الكلمة وإلّا قصّر بي الحياء عن النظر إلى أمير المؤمنين، فقال المأمون لمن حضر من أهل بيته وقوّاده: ما شيء من الخلافة يفي لعبد الله ببعض شكره.
وقال أبو نواس (1): [الكامل]
قد قلت للعباس معتذرا ... عن ضعف شكريه ومعترفا (2)
أنت امرؤ جلّلتني نعما ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا (3)
فإليك مني اليوم تقدمة ... تلقاك بالتّصريح منكشفا (4)
لا تسدينّ إليّ عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا
عارضه الناشىء واعترض معناه، فقال: [الكامل]
إن أنت لم تحدث إليّ يدا ... حتى أقوم بشكر ما سلفا
لم أحظ منك بنائل أبدا ... ورجعت بالحرمان منصرفا
وقال ابن الرومي: [الخفيف]
عاقنا أن نعود أنّك أولي ... ت أمورا يضيق عنها الجزاء
غمرتنا منك الأيادي اللّواتي ... ما لمعشارها لدينا كفاء
فنهانا عنك الحياء طويلا ... ثمّ قد ردّنا إليك الحياء
ولما حقّ إن قربت التّنائي ... ولما حقّ إن برزت الجفاء
غير أنّا أنضاء شكر أريحت ... وقديما أريحت الأنضاء (5)
ألفاظ لأهل العصر في العجز عن الشكر لتكاثر الإنعام والبرّ
عندي من برّه ما ملك الاعتذار بأزمّته (6)، وقبض ألسنة أمراء الكلام وأئمتّه. عندي له
__________
(1) ديوان أبي نواس (ص 433) من قصيدة مديح عنوانها «عوارف العباس».
(2) في الديوان: «من» بدل «عن».
(3) جلّله: أعطاه. القاموس المحيط (جلل).
(4) في الديوان: «فإليك قبل لاقتك بالتصريح».
(5) الإنضاء: جمع نضو وهو المهزول من الإبل وغيرها. القاموس المحيط (نضا).
(6) الأزمّة: جمع زمام وهو ما يزمّ به، أي ما يشدّ به. القاموس المحيط (زمم).(1/299)
مبارّ (1) أعجزني شكرها، كما أعوزني حصرها. شكره شأو بعيد لا تبلغه أشواطي، ولا أتلافى التفريط في حقّه بإفراطي. إحسانه يعيد العرب عجما، والفصحاء بكما. قد زحمني من مكارمه ما يحصر عنه المبين، ويصحبه العيّ وبئس القرين.
وقال أعرابي: [الطويل]
رهنت يدي بالعجز عن شكر برّه ... وما فوق شكري للشكور مزيد
ولو كان شيئا يستطاع استطعته ... ولكنّ ما لا يستطاع شديد
وقال يحيى بن أكثم: كنت عند المأمون، فأتى برجل ترعد فرائصه (2) فلمّا مثل بين يديه قال المأمون: كفرت نعمتي، ولم تشكر معروفي، فقال: يا أمير المؤمنين، وأين يقع شكري في جنب ما أنعم الله بك عليّ، فنظر إليّ المأمون، وقال متمثّلا: [الطويل]
ولو كان يستغني عن الشكر ماجد ... لرفعة قدر أو علوّ مكان
لما أمر الله العباد بشكره ... فقال: اشكروا لي أيّها الثّقلان
ثم التفت إلى الرجل فقال: هلّا قلت كما قال أصرم بن حميد: [البسيط]
ملكت حمدي حتى إنّني رجل ... كلّي بكلّ ثناء فيك مشتغل
خوّلت شكري لما خوّلت من نعم ... فحرّ شكري، لما خوّلتني، خول (3)
وقال أبو الفتح البستي: [الطويل]
لئن عجزت عن شكر برّك قوّتي ... وأقوى الورى عن شكر برّك عاجز
فإنّ ثنائي واعتقادي وطاقتي ... لأفلاك ما أوليتنيها مراكز
وقال أبو القاسم الزعفراني (4): [الخفيف]
لي لسان كأنه لي معادي ... ليس ينبي عن كنه ما في فؤادي
حكم الله لي عليه فلو أن ... صف قلبي عرفت قدر ودادي
__________
(1) المبارّ: جمع مبرّة وهي من البرّ والإحسان. القاموس المحيط (برر).
(2) الفرائص: جمع فريصة وهي لحمة بين الثدي والكتف ترعد عند الفزع، وترعد فرائصه: أي يفزع.
محيط المحيط (فرص) و (رعد).
(3) خوّل: أعطى. الخول: العبيد. لسان العرب (خول).
(4) البيتان في الذخيرة لابن بسام (ق 4ص 591).(1/300)
وقال إسماعيل بن القاسم، أبو العتاهية، يمدح عمر بن العلاء (1): [الكامل]
إنّي أمنت من الزمان وريبه ... لمّا علقت من الأمير حبالا
لو يستطيع الناس من إجلاله ... لحذوا له حرّ الوجوه نعالا
ما كان هذا الجود حتى كنت يا ... عمر، ولو يوما تزول لزالا
إنّ المطايا تشتكيك لأنّها ... قطعت إليك سباسبا ورمالا (2)
فإذا وردن بنا وردن مخفّة ... وإذا صدرن بنا صدرن ثقالا
وهي قصيدة سهلة الطبع، سلسلة النظام، قريبة المتناول.
وروي أنّ عمر بن العلاء وصله عليها بسبعين ألف درهم، فحسدته الشعراء، وقالوا: لنا بباب الأمير أعوام نخدم الآمال، ما وصلنا إلى بعض هذا! فاتصل ذلك به، فأمر بإحضارهم، فقال: بلغني الذي قلتم وإنّ أحدكم يأتي فيمدحني بالقصيدة يشبّب فيها فلا يصل إلى المدح حتى تذهب لذّة حلاوته، ورائق طلاوته وإنّ أبا العتاهية أتى فشبّب بأبيات يسيرة، ثم قال: إنّ المطايا تشتكيك لأنّها وأنشد الأبيات. وكان أبو العتاهية لمّا مدحه بهذا الشعر تأخّر عنه برّه قليلا، فكتب إليه يستبطئه: [الطويل]
أصابت علينا جودك العين يا عمر ... فنحن لها نبغي التمائم والنّشر (3)
أصابتك عين في سخائك صلبة ... ويا ربّ عين صلبة تفلق الحجر
سنرقيك بالأشعار حتى تملّها ... فإن لم تفق منها رقيناك بالسّور
وقال: [البسيط]
يا ابن العلاء ويا ابن القرم مرداس ... إني مدحتك في صحبي وجلّاسي (4)
أثني عليك ولي حال تكذّبني ... فيما أقول فأستحيي من النّاس
حتى إذا قيل: ما أولاك من صفد ... طأطأت من سوء حالي عندها راسي (5)
فأمر حاجبه أن يدفع إليه المال، وقال: لا تدخله عليّ، فإني أستحيي منه.
وذكر بعض الرواة أنّ المهدي خرج متصيّدا، فسمع رجلا يتغنّى من القصيدة التي
__________
(1) لم ترد الأبيات في ديوان أبي العتاهية.
(2) السّباسب: جمع سبسب وهو المفازة. القاموس المحيط (سبسب).
(3) التمائم: جمع تميمة وهي خرزات كان الأعراب يعلّقونها على أولادهم يتّقون بها النفس أي العين بزعمهم. النّشر: جمع نشرة وهي رقية يعالج بها المريض. محيط المحيط (تمم) و (نشر).
(4) القرم، بفتح القاف وسكون الراء: الفحل. محيط المحيط (قرم).
(5) الصّفد، بفتح الصاد والفاء: العطاء. القاموس المحيط (صفد).(1/301)
مرّت منها الأبيات في عمر بن العلاء آنفا: [الكامل]
يا من تفرّد بالجمال فما ترى ... عيني على أحد سواه جمالا
أكثرت في قولي عليك من الرّقى ... وضربت في شعري لك الأمثالا
فأبيت إلّا جفوة وقطيعة ... وأبيت إلّا نخوة ودلالا
بالله قولي إن سألتك واصدقي ... أوجدت قتلي في الكتاب حلالا؟
أم لا، ففيم جفوتني وظلمتني ... وجعلتني للعالمين نكالا؟
كم لائم لو كنت أسمع قوله ... قد لامني ونهى وعدّ وقالا
فقال المهديّ: عليّ به، فجاءه، فقال: لمن هذا الشعر؟ قال: لإسماعيل ابن القاسم أبي العتاهية، قال: لمن يقوله؟ قال: لعتبة جارية المهدي، قال: كذبت، لو كانت جاريتي لوهبتها له، وكانت عتبة لريطة بنت أبي العباس السفاح، وكان أبو العتاهية قد بلغ من أمرها كل مبلغ، وكلّ ذلك فيما زعم الرواة تصنّع، وتخلّق، ليذكر بذلك.
[أبو العتاهية]
قال يزيد [بن] حوراء المغني: كلّمني أبو العتاهية أن أكلّم المهدي في عتبة فقلت:
إنّ الكلام لا يمكنني، ولكن قل شعرا أغنّيه إياه، فقال: [البسيط]
نفسي بشيء من الدنيا معلّقة ... الله والقائم المهديّ يكفيها
إنّي لأيأس منها ثم يطمعني ... فيها احتقارك للدنيا وما فيها
فعملت فيه لحنا وغنّيته المهدي فقال: لمن هذا؟ فأخبرته خبر أبي العتاهية، فقال: ننظر في أمره، فأخبرت بذلك أبا العتاهية فمكث أشهرا، ثم أتاني فقال: هل حدث خبر؟ فقلت: لا، فقال: غنّه بهذا الشعر: [الخفيف]
ليت شعري ما عندكم ليت شعري ... إنّما أخّر الجواب لأمر
ما جواب أولى بكلّ جميل ... من جواب يردّ من بعد شهر
قال يزيد: فغنّيت به المهدي، فقال: عليّ بعتبة، فأحضرت، فقال: إنّ أبا العتاهية كلّمني فيك، وعندي لك وله ما تحبّان فقالت له: قد علم مولاي أمير المؤمنين ما أوجبه من حقّ مولاتي، فأريد أن أذكر لها ذلك قال: فافعلي فأعلمت أبا العتاهية بما جرى، ومضت الأيام فسألني معاودة المهدي، فقلت له: قد عرفت الطريق فقل ما شئت حتى أغنيه، فقال: [الكامل]
أشربت قلبي من رجائك ماله ... عنق إليك يخبّ بي ورسيم (1)
__________
(1) العنق: سير مسبطرّ للإبل والدابة، ومسبطرّ: مسرع. والرسيم: سير الإبل يقال: رسمت الناقة(1/302)
وأملت نحو سماء صوبك ناظري ... أرعى مخايل برقها وأشيم (1)
ولقد تنسّمت الرياح لحاجتي ... وإذا لها من راحتيك نسيم
ولربما استيأست ثم أقول: لا ... إنّ الذي ضمن النجاح كريم
فغنيته بالشعر، فقال: عليّ بعتبة، فأتت فقال: ما صنعت؟ قالت: ذكرت ذلك لمولاتي فأبته وكرهته، فليفعل أمير المؤمنين ما يريد، فقال: ما كنت لأفعل شيئا تكرهه، فأعلمت أبا العتاهية بذلك، فقال: [الكامل]
قطّعت منك حبائل الآمال ... وأرحت من حلّ ومن ترحال
ما كان أشأم إذ رجاؤك قادني ... وبنات وعدك يعتلجن ببالي
ولئن طمعت لربّ برق خلّب ... مالت بذي طمع ولمعة آل (2)
وقد نقلت هذه الحكاية على غير هذا الوجه، والله أعلم بالحقّ في ذلك.
وضرب المهدي أبا العتاهية مائة سوط لقوله: [الطويل]
ألا إنّ ظبيا للخليفة صادني ... ومالي على ظبي الخليفة من عدوى
وقال: أبي يتمرّس (3)، ولحرمي يتعرّض، وبنسائي يعبث؟ ونفاه إلى الكوفة.
وفي ضربه يقول أبو دهمان: [المنسرح]
لولا الّذي أحدث الخليفة لل ... عشّاق من ضربهم إذا عشقوا
لبحت باسم الذي أحبّ ول ... كنيّ امرؤ قد ثناني الفرق (4)
وكان أبو العتاهية بالكوفة، لمّا نفي، يذكر عتبة، ويكنّي باسمها، فمن ذلك قوله:
[مجزوء الرمل]
قل لمن لست أسمّي ... بأبي أنت وأمّي
بأبي أنت لقد أص ... بحت من أكبر همّي
ولقد قلت لأهلي ... إذ أذاب الحبّ لحمي
وأرادوا لي طبيبا ... فاكتفوا منّي بعلمي:
__________
رسيما إذا أثّرت في الأرض. القاموس المحيط (عنق) و (سبطر) و (رسم).
(1) شام البرق يشيمه: نظر إليه أين يقصد. القاموس المحيط (شيم).
(2) البرق الخلّب: المطمع المخلف. الآل: السراب. القاموس المحيط (خلب) و (أيل).
(3) يتمرّس بالشيء: يحتكّ به. القاموس المحيط (مرس).
(4) الفرق، بالفتح: الفزع. القاموس المحيط (فرق).(1/303)
من يكن يجهل ما أل ... قى فإنّ الحبّ سقمي
إنّ روحي لببغدا ... د، وفي الكوفة جسمي
وقوله: [البسيط]
أمسى ببغداد ظبي لست أذكره ... إلّا بكيت إذا ما ذكره خطرا
إنّ المحبّ إذا شطّت منازله ... عن الحبيب بكى أو حنّ أو ذكرا
يا ربّ ليل طويل بتّ أرقبه ... حتى أضاء عمود الصّبح فانفجرا
ما كنت أحسب إلّا مذ عرفتكم ... أنّ المضاجع ممّا تنبت الإبرا
واللّيل أطول من يوم الحساب على ... عين الشّجيّ إذا ما نومه نفرا
ولمّا قدمت عتبة ببغداد قدم معها أبو العتاهية، وتلطّف حتى اتّصل بالرشيد في خلافة أبيه المهدي وتمكّن منه، وبلغ المهديّ خبره، فأحضره فقال: يا بائس، أنت مستقتل، وسأله عن حاله فأنشده قصيدته التي يقول فيها: [مجزوء الكامل]
أنت المقابل والمدا ... بر في المناسب والعديد
بين العمومة والخؤو ... لة والأبوّة والجدود
فإذا انتميت إلى أبي ... ك فأنت في المجد المشيد
وإذا انتمى خال فما ... خال بأكرم من يزيد
يريد يزيد بن منصور وكانت أم المهديّ أم موسى بنت منصور الحميري، وأنشده:
[المديد]
علم العالم أنّ المنايا ... سامعات لك فيمن عصاكا
فإذا وجّهتها نحو طاغ ... رجعت ترعف منه قناكا (1)
ولو انّ الريح بارتك يوما ... في سماح قصّرت عن نداكا
وأنشده: [المتقارب]
أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرّر أذيالها
فلم تك تصلح إلّا له ... ولم يك يصلح إلّا لها
ولو رامها أحد غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها
ولو لم تطعه بنات القلوب ... لما قبل الله أعمالها
فقال له المهدي: إن شئت أدّبناك بضرب وجيع لإقدامك على ما نهيت عنه،
__________
(1) رعف: خرج من أنفه الدم. القاموس المحيط (رعف).(1/304)
وأعطيناك ثلاثين ألف درهم جائزة على مدحك لنا. وإن شئت عفونا عنك فقط.
فقال: بل يضيف أمير المؤمنين إلى كريم عفوه جميل معروفه ومكرمتان أكثر من واحدة، وأمير المؤمنين أولى من شفع نعمته وأتمّ كرمه. فأمر له بثلاثين ألف درهم وعفا عنه.
ولمّا قدم الرشيد الرّقّة أظهر أبو العتاهية الزّهد والتصوف وترك الغزل، فأمره الرشيد أن يتغزّل، فأبى، فحبسه، فغنّى بقوله: [الطويل]
خليليّ ما لي لا تزال مضرّتي ... تكون على الأقدار حتما من الحتم
كفاك بحقّ الله ما قد ظلمتني ... فهذا مقام المستجير من الظلم
ألا في سبيل الله جسمي وقوّتي ... ألا مسعد حتى أنوح على جسمي
فأمر بإحضاره وقال: بالأمس ينهاك أمير المؤمنين المهدي عن الغزل فتأبى إلّا لجاجا ومحكا واليوم آمرك بالقول فتأبى جرأة عليّ وإقداما، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الحسنات يذهبن السيئات، كنت أقول الغزل ولي شباب وجدّة، وبي حراك وقوّة، وأنا اليوم شيخ ضعيف لا يحسن بمثلي تصاب فردّه إلى حبسه فكتب إليه: [الطويل]
أنا اليوم لي، والحمد لله، أشهر ... يروح عليّ الغمّ منك ويبكر
تذكّر، أمين الله، حقّي وحرمتي ... وما كنت توليني، لعلّك تذكر
ليالي تدني منك بالقرب مجلسي ... ووجهك من ماء البشاشة يقطر
فمن لي بالعين التي كنت مرّة ... إليّ بها من سالف الدّهر تنظر؟
فبعث إليه: لا بأس عليك فقال: [الوافر]
كأنّ الخلق ركب فيه روح ... له جسد وأنت عليه راس
أمين الله إنّ الحبس بأس ... وقد وقّعت: ليس عليك باس
فأخرجه.
أخذ البيت الأول من هذين علي بن جبلة وزاد فيه، فقال لأبي غانم الطوسي:
[السريع]
دجلة تسقي وأبو غانم ... يطعم من تسقي من النّاس
والخلق جسم، وإمام الهدى ... رأس، وأنت العين في الرأس(1/305)
دجلة تسقي وأبو غانم ... يطعم من تسقي من النّاس
والخلق جسم، وإمام الهدى ... رأس، وأنت العين في الرأس
[عمر بن العلاء]
وكان عمر بن العلاء ممدّحا، وفيه يقول بشار بن برد (1): [المتقارب]
إذا أيقظتك حروب العدى ... فنبّه لها عمرا ثمّ نم
دعاني إلى عمر جوده ... وقول العشيرة بحر خضمّ
ولولا الذي ذكروا لم أكن ... لأمدح ريحانة قبل شمّ (2)
فتى لا يبيت على دمنة ... ولا يشرب الماء إلّا بدم (3)
أخذ هذا البيت أبو سعيد المخزومي، فقال: [البسيط]
وما يريدون، لولا الجبن، من رجل ... بالليل مشتمل بالجمر مكتحل
لا يضرب الماء إلّا من قليب دم (4) ... ولا يبيت له جار على وجل
وقال أبو الطيب (5): [الطويل]
تعوّد ألّا تقضم الحبّ خيله ... إذا الهام لم ترفع جنوب العلائق (6)
ولا ترد الغدران إلّا وماؤها ... من الدّم كالرّيحان تحت الشّقائق (7)
وقال أبو القاسم بن هانىء (8): [الكامل]
من لم ير الميدان لم ير معركا ... أشبا، ويوما بالأسنّة أكهبا (9)
__________
(1) ديوان بشار بن برد (ص 217216).
(2) في الديوان: «ولا بالذي لأحمد ريحانة».
(3) في الديوان: «ينام» بدل «يبيت». والدّمنة: الحقد القديم. القاموس المحيط (دمن).
(4) القليب: البئر. القاموس المحيط (قلب).
(5) ديوان المتنبي (ص 417).
(6) تقضم: تأكل اليابس. الهام: جمع هامة وهي رأس كل شيء. العلائق: جمع علاقة وهي ما يتعلّق به الشيء، والمراد الخالي. القاموس المحيط (قضم) و (هيم) و (علق).
(7) الغدران: جمع غدير وهو القطعة من الماء يغادرها السيل. الشقائق: جمع شقيق وهو زهر أحمر.
لسان العرب (غدر) و (شقق).
(8) ديوان ابن هاني الأندلسي (ص 41).
(9) رواية البيت في الديوان هي:
من راقب المقدار لم ير معركا ... أشبا ويوما بالسّنور أكهبا
والأشب: المختلط. والأكهب: الأدهم، أي الأسود. القاموس المحيط (أشب) و (كهب) و (دهم).(1/306)
وكتائبا تردي غواربها العدى ... وفوارسا تعدو صوالجها الظّبا (1)
لا يوردون الماء سنبك سابح ... أو يكتسي بدم الفوارس طحلبا (2)
قال: وبلغ عمر بن العلاء أنّ أبا العتاهية عاتب عليه في هنات نالها منه في مجلس، وكان كثير الانقطاع إليه، فتخلّف عنه، فساء ذلك عمر، فكتب إليه: قد بلغني الذي كان من تجنّبك فيما استخفّك به سوء الأدب عن علم حقيقة مني، فصرت متردّدا من العمى في يلاميع الشبهة (3) ولو كان معك من علمك داع إلى لقائي لكشفت لك مورد الأمر ومصدره، لترجع إلى الصّلة، فتقال أو تأبى إلا الصّريمة فتصرم وقد قال الأول:
[الطويل]
ومستعتب أبدى على الظنّ عتبه ... وأخرج منه المحفظات غليل
كشفت له عذرا فأبصر وجهه ... فعاد إلى الإنصاف وهو ذليل
فأجابه أبو العتاهية: لم أجز بعتبي الحقيقة إلى الشبهة، ولم أجد سعة مع عظيم قدرتك إلى حمل اللائمة، فقصّر بي الخوف من سخطك، على ترك معاتبتك لأنّ المعاتبة لا تجتني إلّا من المساوي، ولو رغبت عن الصلة إلى القطيعة لتقاضيتك ذلك عن طول الصّحبة، وسالف المدّة، وأنا أقول: [الطويل]
رضيت ببعض الذّلّ خوف جميعه ... وليس لمثلي بالملوك يدان
وكنت امرأ أخشى العقاب وأتّقي ... مغبّة ما تجني يدي ولساني
فهل من شفيع منك يضمن توبتي ... فإني امرؤ أوفي بكلّ ضمان؟
فتراجعا إلى أحسن ما كانا عليه.
وإنما ألّم أبو العتاهية في قوله: «إنّ المطايا تشتكيك وما يليه» بقول أبي الحجناء نصيب الأكبر: [الطويل]
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
وقال أبو الطيب في أبي العشائر الحمداني (4): [المنسرح]
تنشد أثوابنا مدائحه ... بألسن ما لهنّ أفواه
__________
(1) الغوارب: جمع غارب وهو الكاهل. الصوالج: جمع صولجان وهو المحجن. محيط المحيط (غرب) و (صلج).
(2) السّنبك: طرف الحافر. القاموس المحيط (سنبك).
(3) اليلاميع: جمع يلمع وهو البرق الخلّب، والسراب، ويشبّه به الكذّاب. القاموس المحيط (لمع).
(4) ديوان المتنبي (ص 257).(1/307)
إذا مررنا على الأصمّ بها ... أغنته عن مسمعيه عيناه
وهذا المعنى من النّصبة (1) الدالة بذاتها التي ذكرتها عن الجاحظ في أقسام البيان.
[سبحان الخالق الكريم]
وقال بعض الخطباء: أشهد أنّ في السموات والأرض آيات ودلالات، وشواهد قائمات كلّ يؤدّي عنك الحجّة، ويشهد لك بالربوبية.
ونظير هذا قول أبي العتاهية، وروى أنه جلس في دكان ورّاق، وأخذ كتابا فكتب على ظهره (2): [المتقارب]
فوا عجبا كيف يعصى الملي ... ك أم كيف يجحده الجاحد؟ (3)
ولله في كلّ تحريكة ... وتسكينة في الورى شاهد (4)
وفي كلّ شيء له آية ... تدلّ على أنّه واحد (5)
وانصرف، فاجتاز أبو نواس بالموضع فرأى الأبيات، فقال: لمن هذا؟ فلوددتها لي بجميع شعري، فقيل: لإسماعيل بن القاسم، فوقّع تحتها (6): [المجتث]
سبحان من خلق الخل ... ق من ضعيف مهين
فصاغه من قرار ... إلى قرار مكين (7)
يحول شيئا فشيئا ... في الحجب دون العيون (8)
حتى بدت حركات ... مخلوقة من سكون
وقال الفضل بن عيسى الرّقاشي: سل الأرض من غرس أشجارك، وشقّ أنهارك، وجنى ثمارك، فإن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا.
__________
(1) النّصبة: السارية. لسان العرب (نصب).
(2) ديوان أبي العتاهية (ص 7069).
(3) في الديوان: «الإله» بدل «المليك».
(4) رواية عجز البيت في الديوان هي: وفي كل تسكينة شاهد
(5) في الديوان: «الواحد» بدل «واحد».
(6) ديوان أبي نواس (ص 619) في باب الزهد.
(7) في الديوان: يسوقه» بدل «فصاغه».
(8) رواية البيت في الديوان هي:
في الحجب شيئا فشيئا ... يحور دون العيون
ويحول: يتحوّل من حال إلى حال أخرى. لسان العرب (حول).(1/308)
وهذا شبيه بقول عديّ بن زيد، وقد نزل النعمان بن المنذر تحت سرحة، فقال:
أتدري ما تقول هذه السّرحة أيها الملك؟ قال: وما تقول؟ قال: تقول: [الرمل]
ربّ ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزّلال
ثم أضحوا لعب الدّهر بهم ... وكذاك الدّهر حالا بعد حال
ويروى «عكف الدّهر بهم فثووا» (1). فتكدّر حال النّعمان وما كان فيه من لذّة.
ألفاظ لأهل العصر في الشكر بدلالة الحال
لو سكت الشّاكر لنطقت المآثر. لو صمت المخاطب لأثنت الحقائب، ولشهدت شواهد حاله، على صدق مقاله. إن جحدت ما أولانيه، كفرت ما أعطانيه، نطقت آثار أياديه عليّ، ولمعت أعلام عوارفه (2) لديّ.
ولأبي الفضل الميكالي من رسالة: ورد فلان فتعاطى من شكره على نعمه التي ألبسه جمالها، وأسحبه أذيالها، ما لو لم يتحدّث به ناشرا ومثنيا، ومعيدا ومبديا، لأثنت به حاله، وشهدت به رحاله، حتى لقد امتلأت بذكره المحافل، وسارت بحبره الرّكبان والقوافل، وصارت الألسنة على الشكر والثناء لسانا، والجماعة على النّشر والدعاء أنصارا وأعوانا، على أنه وإن بالغ في هذا الباب، وجاوز حدّ الإكثار والإسهاب، نهايته القصور دون واجبه، والسقوط عن أدنى درجاته ومراتبه.
ومما يقترن لهم بهذا المعنى من ذكر الشكر: قال أبو الفتح البستي (3): الحرّ نحل الشكر، إن أجناه المرء من خيره شكرا أجناه من برّه شهدا.
غيره: الشكر ترجمان النيّة، ولسان الطّوّية، وشاهد الإخلاص، وعنوان الاختصاص. الشكر نسيم النّعم، وهو السبب إلى الزيادة، والطريق إلى السعادة. الشكر قيد النّعمة، ومفتاح المزيد، وثمن الجنّة. من شكر قليلا، استحقّ جزيلا. شكر المولى، هو الأولى. الشكر قيد النّعم وشكالها، وعقالها، وهو شبيه بالوحش التي لا تقيم مع الإيحاش، ولا تريم (4) مع الإيناس. موقع الشكر من النعمة موقع القرى من الضيف، إن وجده لم يرم، وإن فقده لم يقم. الشكر غرس إذا أودع سمع الكريم أثمر الزيادة، وحفظ العادة. الشكر تعرّض للمزيد السائغ، والنّعم السّوابغ. شكره شكر الأسير لمن أطلقه،
__________
(1) هكذا ينكسر الوزن، وهو لو قال: «عكف الدهر بهم ثمّ ثووا» لكان الوزن سليما.
(2) العوارف: جمع عارفة وهي المعروف. القاموس المحيط (عرف).
(3) قول البستي في يتيمة الدهر (ج 4ص 306).
(4) تريم: تنطلق وتذهب. لسان العرب (ريم).(1/309)
والمملوك لمن أعتقه. أثنى عليه ثناء الرّوض الممحل، على الغيث المسبل. أثنى عليه ثناء لسان الزّهر، على راحة المطر. أثنى عليه ثناء العطشان الوارد، على الزّلال البارد. شكره شكر الأرض للدّيم (1)، وزهير لهرم. بسط لسان الثناء والدعاء، وبلغ عنان الشكر عنان السماء. شكره شكرا ترتاح له المكارم، وتهتزّ له المواسم. لأشكرنّه شكرا تشيع أنواعه، وتنبسط أبواعه (2)، ويلذّ ذكره وسماعه. شكر ملأ القلب واللسان، كشكر حسّان لآل غسّان. أطال عنان الشكر، وفسح مجاله، ورفع أعمدته، ومدّ أروقته. شكر كأنفاس الأحباب، أو أنفاس الأسحار، أو أنفاس الرّياض غبّ القطار.
[من أخبار نصيب وشعره]
رجع إلى ما انقطع:
كان سبب قول نصيب: [الطويل]
فعاجوا فأثنوا بالّذي أنت أهله
أنه كان مع الفرزدق عند سليمان بن عبد الملك، فقال سليمان بن عبد الملك: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا يا أمير المؤمنين، قال: لماذا؟ قال: بقولي (3):
[الطويل]
وركب كأنّ الريح تطلب عندهم ... لها ترة من جذبها بالعصائب (4)
سروا وسرت نكباء وهي تلفّهم ... إلى شعب الأكوار ذات الحقائب (5)
إذا آنسوا نارا يقولون: ليتها، ... وقد خصرت أيديهم نار غالب (6)
يريد أباه وهو غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان ابن مجاشع فأعرض عنه سليمان كالمغضب لأنه إنما أراد أن ينشد مدحا فيه ففهم نصيب مراده، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قلت أبياتا على هذا الرويّ ليست بدونها، فقال:
__________
(1) الدّيم: جمع ديمة وهي مطر يدوم في سكون بلا رعد وبرق. القاموس المحيط (ديم).
(2) الأبواع: جمع باع وهو قدر مدّ اليدين. القاموس المحيط (بوع).
(3) لم ترد هذه الأبيات في ديوان الفرزدق، وقد وردت في الشعر والشعراء (ص 323).
(4) في الشعر والشعراء: «تطلب منهم لها سلبا من جذبها». والتّرة، بكسر التاء وفتح الراء: الذّحل (الثأر). القاموس المحيط (وتر) و (ذحل).
(5) رواية صدر البيت في الشعر والشعراء هي: سروا يركبون الريح وهي تلفّهم.
والنّكباء: ريح انحرفت. والأكوار: جمع كور وهو الرّحل. والحقائب: جمع حقيبة وهي كل ما شدّ في مؤخّر الرّحل. القاموس المحيط (نكب) و (كور) و (حقب).
(6) في الشعر والشعراء: «إذا استوضحوا نارا يقولون».(1/310)
هاتها فأنشأ نصيب يقول: [الطويل]
أقول لركب قافلين لقيتهم ... قفا ذات أوشال ومولاك قارب (1)
فقد أخبروني عن سليمان أنني ... لمعروفه من آل ودّان طالب
فعاجوا فأثنوا بالّذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
فقالوا: تركناه وفي كلّ ليلة ... يطيف به من طالبي العرف راكب
ولو كان فوق الناس حيّ فعاله ... كفعلك أو للفعل منك يقارب
لقلنا: له شبه، ولكن تعذّرت ... سواك عن المستشفعين المطالب
هو البدر والناس الكواكب حوله ... وهل تشبه البدر المنير الكواكب؟
فقال سليمان: أحسنت، والتفت إلى الفرزدق فقال: كيف تسمع يا أبا فراس؟ قال:
هو أشعر أهل جلدته، قال: وأهل جلدتك فخرج الفرزدق وهو يقول (2): [الوافر]
وخير الشعر أكرمه رجالا ... وشرّ الشعر ما قال العبيد
[في باب المدائح]
قال أبو العباس محمد بن يزيد: وهذا باب في المدح حسن متجاوز مبتدع لم يسبق إليه.
قول نصيب: «من أهل ودّان». قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: ذكر محمد ابن كناسة والزبيدي أنّ نصيبا من أهل ودّان، وكان عبدا لرجل من بني كنانة هو وأهل بيته، وزعم أبو هفّان أنه عبد لعبد العزيز بن مروان، وكان نصيب شديد السواد، وهو القائل:
[الطويل]
كسيت ولم أملك سوادا، وتحته ... قميص من القوهيّ بيض بنائقه (3)
فما ضرّ أثوابي سوادي، وإنّني ... لكالمسك لا يسلو عن المسك ذائقه
وقال سحيم عبد بني الحسحاس: [البسيط]
أشعار عبد بني الحسحاس قمن له ... عند الفخار مقام الأصل والورق
__________
(1) قفا: منصوبة تقديرا على أنها ظرف مكان، أي لقيتهم في هذا الموضع. والأوشال: جمع وشل وهو الماء القليل يتحلّب من جبل أو صخرة. القاموس المحيط (وشل).
(2) لم يرد البيت في ديوان الفرزدق، وورد في الشعر والشعراء (ص 323).
(3) القوهيّ: ثياب بيض تنسب إلى قوهستان، وهي مدينة بكرمان. محيط المحيط (قوه) ومعجم البلدان (ج 4ص 416). والبنائق: جمع بنيقة وهي لبنة القميص. القاموس المحيط (بنق).(1/311)
إن كنت عبدا فنفسي حرّة كرما ... أو أسود اللّون إني أبيض الخلق
وقال أبو الطيب المتنبي لكافور الإخشيدي (1): [الخفيف]
إنّما الجلد ملبس وابيضاض ال ... خلق خير من ابيضاض القباء
وقال نصيب لبعض ملوك بني أمية: إن لي بنات نفضت عليهنّ من سوادي، فقال:
ما أحسن ما تلطّفت لهنّ! وأمر له بصلة.
وكان أبو تمام حبيب بن أوس، لمّا مدح أبا جعفر محمد بن عبد الملك الزيات بقصيدته التي أولها (2): [الطويل]
لهان علينا أن نقول وتفعلا ... ونذكر بعض الفضل منك وتفضلا
وهي من أحسن شعره، وقّع له على ظهرها: [الطويل]
رأيتك سمح البيع سهلا، وإنما ... يغالي إذا ما ضنّ بالشيء بائعه
فأمّا إذا هانت بضائع بيعه ... فيوشك أن تبقى عليه بضائعه
هو الماء إن أجممته طاب ورده ... ويفسد منه أن تباح مشارعه
فأجابه بقصيدة طويلة، واحتجّ عليه واعتذر إليه في مدحه لغيره فقال في بعض ذلك (3): [البسيط]
أمّا القوافي فقد حصّنت غرّتها ... فما يصاب دم منها ولا سلب
منعت إلّا من الأكفاء أيّمها ... وكان منك عليها العطف والحدب (4)
ولو عضلت عن الأكفاء أيّمها ... ولم يكن لك في إظهارها أرب (5)
كانت بنات نصيب حين ضنّ بها ... على الموالي ولم تحفل بها العرب
وقد قيل إن أبا تمام أجابه بقوله (6): [الطويل]
أبا جعفر، إن كنت أصبحت شاعرا ... أسامح في بيعي له من أبايعه
فقد كنت قبلي شاعرا تاجرا به ... تساهل من عادت عليك منافعه
__________
(1) ديوان المتنبي (ص 479) وجاء فيه: «النفس» بدل «الخلق».
(2) ديوان أبي تمام (ص 223) وجاء فيه: «فتفضلا» بدل «وتفضلا».
(3) ديوان أبي تمام (ص 48) من قصيدة مديح.
(4) في الديوان: ناكحها» بدل «أيّمها». والأيّم: من لا زوج لها بكرا أو ثيّبا. القاموس المحيط (أيم).
(5) عضل المرأة: منعها الزوج ظلما. القاموس المحيط (عضل).
(6) لم ترد هذه الأبيات في ديوان أبي تمام.(1/312)
فصرت وزيرا والوزارة مكرع ... يغصّ به بعد اللّذاذة كارعه
وكم من وزير قد رأينا مسلّطا ... فعاد وقد سدّت عليه مطالعه
ولله قوس لا تطيش سهامها ... ولله سيف لا تفلّ مقاطعه
قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي: ويقال إن هذه الأبيات منحولة لحبيب. وليس مثل أبي جعفر في جلالة قدره واصطناعه لحبيب يعامل بمثل هذا الجواب، ولا ينتهي جهل حبيب أن يقابل مأموله ومن يرتجي جليل الفائدة منه بهذه الأبيات.
وقد قيل: بل قالها، ولم ينشدها أحدا وإنما ظهرت بعد موته.
وكان ابن الزيات كما قال شاعرا، ومدح الحسن بن سهل في وزارته للمأمون وأعطاه عشرة آلاف درهم، فقال: [البسيط]
لم أمتدحك رجاء المال أطلبه ... لكن لتلبسني التّحجيل والغررا
ما كان ذلك إلّا أنّني رجل ... لا أقرب الورد حتى أعرف الصدرا
قال الصولي: وكان السبب الذي أوجد (1) أبا جعفر على أبي تمام حتى قال: «لقد رأيتك سهل البيع الأبيات» قول أبي تمام قصيدته المشهورة في ابن أبي دواد التي أولها (2): [الوافر]
سقى عهد الحمى سبل العهاد ... وروّي حاضر منه وباد (3)
نزحت به ركيّ الدمع لما ... رأيت الدمع من خير العتاد (4)
يقول فيها في مدحه:
هم عظم الأثافي من نزار ... وأهل الهضب منها والنّجاد (5)
معرّس كلّ معضلة وخطب ... ومنبت كلّ مكرمة وآد (6)
إذا حدث القبائل ساجلوهم ... فإنهم بنو المجد التّلاد (7)
__________
(1) أوجده: أثار موجدته وهي الغضب. لسان العرب (وجد).
(2) ديوان أبي تمام (ص 7371).
(3) في الديوان: «سيل العهاد وروّض حاضر». والعهاد: جمع عهد وهو مطر الوسمي. محيط المحيط (عهد).
(4) في الديوان: «أني» بدل «لما». والرّكيّ: جمع ركية وهي البئر ذات الماء. محيط المحيط (ركي).
(5) في الديوان: «نذار» بدل «نزار». والأثافي: جمع أثفيّة وهي الحجر توضع عليه القدر. القاموس المحيط (ثفى).
(6) المعرّس: موضع التعريس وهو النزول ليلا. الآد: القوة. لسان العرب (عرس) و (أيد).
(7) في الديوان: «حدثوا» بدل «حدث». والتّلاد: القديم. القاموس المحيط (تلد).(1/313)
تفرّج عنهم الغمرات بيض ... جلاد تحت قسطلة الجلاد (1)
وحشو حوادث الأيام منهم ... معاقل مطرد وبنو طراد (2)
لهم جهل السباع إذا المنايا ... تمشّت في الوغى وحلوم عاد
لقد أنست سلوّي كلّ دهر ... محاسن أحمد بن أبي دواد (3)
متى تحلل به تحلل جنابا ... رضيعا للسّواري والغوادي (4)
وما اشتبهت سبيل المجد إلّا ... هداك لقبلة المعروف هاد (5)
وما سافرت في الآفاق إلّا ... ومن جدواك راحلتي وزادي
مقيم الظنّ عندك والأماني ... وإن قلقت ركابي في البلاد
وهذه النّكت (6) التي أحقدت أبا جعفر، وأعتبته على أبي تمام، وفي هذه القصيدة يقول معتذرا إليه في الذي قرف به عنده من هجاء مضر:
أتاني عائر الأنباء تسري ... عقاربه بداهية نآد (7)
نثا خبرا كأنّ القلب منه ... يجرّ به على شوك القتاد (8)
بأنّي نلت من مضر وخبّت ... إليك شكيتي خبب الجواد
وما ربع القطيعة لي بربع ... ولا نادى الأذى منّي بناد
وأين يجوز عن قصد لساني ... وقلبي رائح برضاك غاد (9)؟
ومما كانت الحكماء قالت: ... لسان المرء من خدم الفؤاد
وقدما كنت معسول القوافي ... ومأدوم المعاني بالسّداد (10)
__________
(1) الغمرات: جمع غمرة وهي الشدّة. الجلاد: جمع جليد وهو الشديد القوي وقسطلة الجلاد: غبار الحرب. لسان العرب (غمر) و (جلد) و (قسطل).
(2) الطّراد: مصدر طارد يقال: طارد الأقران إذا حمل بعضهم على بعض. محيط المحيط (طرد).
(3) في الديوان: «مساوي» بدل «سلوّي».
(4) السواري: جمع سارية وهي السحاب يسري ليلا. الغوادي: جمع غادية وهي السحابة تنشأ غدوة.
القاموس المحيط (سرى) و (غدا).
(5) في الديوان: «طريق» بدل «سبيل».
(6) النّكت: جمع نكتة وهي النقطة، والمراد: الإشارات. محيط المحيط (نكت).
(7) عائر الأنباء: أي إن أنباءه سائرة. والنآد: الداهية. محيط المحيط (عور) و (نأد).
(8) رواية صدر البيت في الديوان هي: نثا خبر كأنّ القلب أمسى
ونثا الخبر: أشاعه. والقتاد: شجر صلب له شوكة كالإبر. القاموس المحيط (نثا) و (قتد).
(9) في الديوان: «يجور» بدل «يجوز».
(10) في الديوان: «المعاني ومأدوم القوافي بالسداد».(1/314)
[ابن أبي دواد]
وكان ابن أبي دواد غاليا في التعصّب لإياد وإلحاقها بنزار، على مذهب نسّاب العدنانيين. قال: وكلّ من بالعراق من إياد دخلوا في النّخع، وإليهم ينسبون ومن كان بالشام فهم (1) على نسبهم في نزار، وابن أبي دواد يرمى بالدعوة والتكثير من أخباره يخرج إلى ما أخافه من تطويل التصرّف، في مملول التكلّف.
وكان ابن أبي داود عالما بضروب العلم والأدب، متصرّفا في صناعة الجدال، على مذهب أهل الاعتزال، وكانت العداوة بينه وبين ابن الزيّات بيّنة، والنفاسة في الرياسة بينهما متمكّنة، وقال له بعض الشعراء: [الوافر]
أكلّ أبي دواد من إياد ... فكلّ أبي ذؤيب من هذيل
قال مسلم: ما تاه إلّا وضيع، ولا فاخر إلّا سقيط، ولا تعصّب إلّا دخيل.
وقال مدني لرجل: ممن أنت؟ فقال: من قريش، والحمد لله، قال: بأبي أنت! التحميد ها هنا ريبة! واسم أبي دواد دعميّ، قال أبو اليقظان: وهم من قبيلة يقال لها بنو زهرة إخوة بني جدّان، وقد ذكره الطائي في قوله (2): [الكامل]
والغيث من زهر سحابة رأفة ... والركن من شيبان طود حديد
ذكر شيبان لأن خالد بن يزيد الشيباني شفع له عند ابن أبي دواد فيما ينساق الحديث إليه من موجدته عليه.
قال محمود الوراق: كنت جالسا بطرف الجسر مع أصحاب لي، فمرّ بنا أبو تمام، فجلس إلينا، فقال له رجل منّا: يا أبا تمّام، أيّ رجل أنت لو لم تكن من اليمن؟ قال: ما أحبّ أنّي بغير الموضع الذي اختاره الله لي، فممّن تحبّ أن أكون؟ قال: من مضر، قال:
إنما شرفت مضر بالنبي، صلّى الله عليه وسلم، ولولا ذلك ما قيسوا بملوكنا وأذوائنا، وفينا كذا، ومنّا كذا يفخر وذكر أشياء عاب بها مضر، ونمي الخبر إلى ابن أبي دواد وزيد فيه، فقال: ما أحبّ أن يدخل عليّ، فقال يعتذر إليه بقصيدة أولها (3): [الخفيف]
سعدت غربة النّوى بسعاد ... في طلوع الإتهام والإنجاد
يقول فيها:
بعد أن أصلت الوشاة سيوفا ... قطعت فيّ وهي غير حداد
__________
(1) في الأصل: «فملمّ».
(2) ديوان أبي تمام (ص 76) وجاء فيه: «فالغيث» بدل «والغيث».
(3) ديوان أبي تمام (ص 7069).(1/315)
فنفى عنك زخرف القول سمع ... لم يكن فرضه لغير السّداد (1)
ضرب الحلم والوقار عليه ... دون عور الكلام بالأسداد
ملأتك الأحساب أيّ حياة ... وحيا أزمة وحيّة واد (2)
عاتق معتق من الرقّ إلّا ... من مقاساة مغرم أو نجاد (3)
للحمالات والحمائل فيه ... كلحوب الموارد الأعداد (4)
فما رضي عنه حتى تشفّع إليه بخالد بن يزيد بن مزيد الشيباني، فقال في قصيدة (5):
[الكامل]
أسرى طريدا للحياء من التي ... زعموا، وليس لقوله بطريد (6)
كنت الربيع، أمامه ووراءه ... قمر القبائل خالد بن يزيد
وغدا تبيّن ما براءة ساحتي ... لو قد نفضت تهائمي ونجودي
لله درّك أيّ باب ملمّة ... لم يرم فيه إليك بالإقليد (7)
لما أظلّتني غمامك أصبحت ... تلك الشهود عليّ وهي شهودي
من بعد ما ظنّوا بأن سيكون لي ... يوم بزعمهم كيوم عبيد (8)
يريد عبيد بن الأبرص الأسدي، وكان النعمان بن المنذر لقيه يوم بؤسه فقتله.
وكان ابن أبي دواد كريما فصيحا جزلا. قال أبو العيناء: كنّا عند ابن أبي دواد ومعنا محمود الورّاق وجماعة من أهل الأدب والعلم فجاءه رسول إيتاخ فقال: إن الحاجب أبا منصور يقرأ على القاضي السلام، ويقول: القاضي يتعنّى (9) ويجيء في الأوقات وقد تفاقم الأمر بينه وبين كاتب أمير المؤمنين، يريد ابن الزيات، فصار يضرّنا عند قصده القاضي، وما أحبّ أن يتعنّى إليّ لهذا السبب إذ كنت لا أصل إلى مكافأته. فقال: أجيبوه
__________
(1) في الديوان: «فرصة» بدل «فرضه».
(2) في الديوان: «مليتك» بدل «ملأتك».
(3) في الديوان: «الهون» بدل «الرّقّ».
(4) اللّحوب: الوضوح يقال: لحب الطريق لحوبا إذا وضح. الأعداد: جمع عدّ وهو الماء الجاري الذي لا ينقطع. القاموس المحيط (لحب) و (عدد). يقول: إن عاتق الممدوح تظهر فيه آثار الحمالات والحمائل كظهور قنوات الماء الذي لا ينقطع.
(5) ديوان أبي تمام (ص 7776).
(6) في الديوان: «لرهبة» بدل «لقوله».
(7) في الديوان: «نفسي فداؤك» بدل «لله درّك». والإقليد: المفتاح. القاموس المحيط (قلد).
(8) في الديوان: «ببغيهم» بدل «بزعمهم».
(9) يتعنّى: ينصب، أي يتعب. القاموس المحيط (عني) و (نصب).(1/316)
عن رسالته، فلم ندر ما نقول، ونظر بعضنا إلى بعض فقال: أما عندكم جواب؟ قلنا:
القاضي أعزّه الله، أعلم بجوابه منّا، فقال للرسول: اقرأ عليه السلام، وقل له: ما أتيتك متكثّرا بك من قلّة، ولا متعزّزا بك من ذلّة، ولا طالبا منك رتبة، ولا شاكيا إليك كربة، ولكنّك رجل ساعدك زمان، وحرّكك سلطان، ولا علم يؤلف، ولا أصل يعرف فإن جئتك فبسلطانك، وإن تركتك فلنفسك! فعجبنا من جوابه.
[خالد بن عبد الله القسري]
صعد خالد بن عبد الله القسري المنبر يوم جمعة، فخطب وهو إذ ذاك أمير على مكة، فذكر الحجّاج فأحمد طاعته، وأثنى عليه خيرا، فلمّا كان في الجمعة الثانية ورد عليه كتاب سليمان بن عبد الملك يأمره فيه بشتم الحجّاج وذكر عيوبه، وإظهار البراءة منه، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن إبليس كان ملكا من الملائكة، وكان يظهر من طاعة الله ما كانت الملائكة ترى له بذلك فضلا، وكان الله تعالى قد علم من غشّه ما خفي عن الملائكة، فلّما أراد الله فضيحته ابتلاه (1) بالسجود لآدم فظهر لهم ما كان يخفيه عنهم فلعنوه وإنّ الحجاج كان يظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كنّا نرى له بذلك فضلا، وكان الله عزّ وجلّ، أطلع أمير المؤمنين من غلّه وخبثه على ما خفي عنّا، فلّما أراد الله فضيحته أجرى ذلك على يدي أمير المؤمنين، فالعنوه، لعنه الله. ثم نزل.
[أبو تمام والأفشين]
وكان أبو تمام قد مدح الأفشين التركي، واسمه خيذر بن كاوس، وكان من أجلّ قوّاد المعتصم، وأبلى في أمر بابك الخرّميّ بلاء حمده له فلمّا سخط المعتصم عليه لما نسب إليه من سوء السيرة، وقبح السريرة، وأنه يخطب درجة بابك، ويريد التحصّن بموضع يخلع فيه يده عن الطاعة، وأظهر القاضي أحمد بن أبي دواد عليه أنه على غير الإسلام، قال أبو تمام معتذرا للمعتصم من تقديمه واجتبائه، ولنفسه من مدحه وإطرائه (2): [الكامل]
ما كان لولا فحش غدرة حيدر ... ليكون في الإسلام عام فجار
هذا الرسول وكان صفوة ربّه ... من خير باد في الأنام وقار (3)
__________
(1) ابتلاه: اختبره. القاموس المحيط (بلي).
(2) ديوان أبي تمام (ص 135134).
(3) في الديوان: «النبيّ» بدل «الرسول».(1/317)
قد خصّ من أهل النفاق عصابة ... وهم أشدّ أذى من الكفّار
واختار من سعد لعين بني أبي ... سرح لعمر الله غير خيار (1)
حتى استضاء بشعلة السّور التي ... رفعت له سترا من الأستار (2)
ثم ذكر في هذه القصيدة أنّ قتل الأفشين لبابك لم يكن بصدق بصيرة، ولا لصحة سريرة، فقال:
والهاشمون المستقلة ظعنهم ... عن كربلاء بأثقل الأوزار (3)
فشفاهم المختار منه ولم يكن ... في دينه المختار بالمختار
[أهل النفاق]
أمّا من ذكر من أهل النفاق، فقد كانوا يظهرون غير ما يسرّون، حتى أطلع الله نبيّه عليه السلام على أخبارهم، ونشر له مطويّ أسرارهم.
وأما ابن أبي سرح فهو عبد الله بن سعد بن أبي سرح بن الحسام بن الحارث بن حبيب بن خزيمة بن نصر بن مالك [بن حسل] بن عامر بن لؤيّ، أسلم قبل الفتح، واستكتبه النبيّ عليه السلام فكان يكتب موضع «الغفور الرحيم» العزيز الحكيم، وأشباه ذلك فأطلع الله عليه النبيّ عليه السلام، فهرب إلى مكة مرتدا وأنزل فيه: {وَمَنْ قََالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ} (4). فأهدر النبي، صلّى الله عليه وسلم، يوم الفتح دمه، فهرب من مكّة، فاستأمن له عثمان رضي الله عنه فأمّنه رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، وهو أخو عثمان من الرّضاعة، وأسلم فحسن إسلامه، وولّي مصر سنة أربع وعشرين، فأقام عليها إلى أن حصر عثمان، ومات بقيسارية الشام، ولم يدخل في شيء من الفتن الحجازية في ذلك الوقت.
وأمّا المختار الذي ذكره فهو المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير ابن عوف بن عفدة بن عروة بن عوف بن قسيّ وهو ثقيف وكانت لأبيه في الإسلام آثار جميلة، وأخت المختار صفية بنت أبي عبيد زوج ابن عمر، والمختار هو كذّاب ثقيف الذي جاء فيه الحديث، وكان يزعم أنه يوحى إليه في قتلة الحسين فقتلهم بكل موضع،
__________
(1) في الديوان: «لوحي» بدل «لعمر».
(2) رواية عجز البيت في الديوان هي: رفعت له سجفا عن الأسرار.
(3) رواية البيت في الديوان هي:
والهاشميون استقلّت عيرهم ... من كربلاء بأوثق الأوتار
(4) سورة الأنعام 6، الآية 93.(1/318)
وقتل عبيد الله بن زياد، وله أسجاع يصنعها، وألفاظ يبتدعها، ويزعم أنها تنزل عليه، وتوحى إليه.
وقيل للأحنف بن قيس: إنّ المختار يزعم أنه يوحى إليه! فقال: صدق، وتلا:
«وإنّ الشّياطين ليوحي بعضهم إلى بعض» (1). وأخباره كثيرة ليس هذا موضعها.
لمّا هزم أمية بن خالد بن أسيد لم يدر الناس كيف يقولون له، فدخل عبد الله بن الأهتم عليه، فقال: الحمد لله الذي نظر لنا أيّها الأمير عليك، ولم ينظر لك علينا، فقد تعرّضت للشهادة بجهدك، إلّا أنّ الله علم حاجة أهل الإسلام إليك، فأبقاك لهم بخذلان من معك. فصدر الناس عن كلامه.
ويتعلّق بهذه المقامة فصل في غرائب التكاتب
كتب حمدون بن نهران إلى عامل عزل عن عمله:
بلغني، أعزّك الله، انصرافك عن عملك، ورجوعك إلى منزلك فسررت بذلك، ولم أستفظعه وأجزع له لعلمي بأنّ قدرك أجلّ وأعلى من أن يرفعك عمل تتولّاه، أو يضعك عزل عنه وو الله لو لم تختر الانصراف وترد الاعتزال لكان في لطف تدبيرك، وثقوب رويّتك، وحسن تأتيك، ما تزيل به السبب الداعي إلى عزلك، والباعث على صرفك ونحن إلى أن نهنّئك بهذه الحال أولى بنا من أن نعزيك إذا أردت الانصراف فأوتيته، وأحببت الاعتزال فأعطيته، فبارك الله لك في منقلبك، وهنّاك النعم بدوامها، ورزقك الشّكر الموجب لها الزائد فيها.
وكتب ابن مكرم إلى نصراني أسلم:
أمّا بعد، فالحمد لله الذي وفقّك لشكره، وعرّفك هدايته، وطهّر من الارتياب قلبك، وما زالت مخايلك ممثلة لنا حقيقة ما وهب الله فيك، حتى كأنّك لم تزل بالإسلام موسوما، وإن كنت على غيره مقيما، وكنّا مؤمّلين لما صرت إليه، مشفقين ممّا كنت عليه، حتى إذا كاد إشفاقنا أن يستعلي رجاءنا أتت السعادة بما لم تزل الأنفس تعدّ منك فأسأل الله الذي أضاء لك سبيل رشدك أن يوفّقك لصالح العمل، وأن يؤتيك في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ويقيك عذاب النار.
قال بعض الكتّاب: من الحقّ ما يستحسن تركه، ويستهجن عمله، وقد يقع من ذلك
__________
(1) الآية الكريمة هكذا: {وَإِنَّ الشَّيََاطِينَ لَيُوحُونَ إِلى ََ أَوْلِيََائِهِمْ لِيُجََادِلُوكُمْ}. سورة الأنعام 6، الآية 121.(1/319)
فيما يحلّه الشرع، ويكرهه الأدباء وكثير ممن يغلب على طبعه هذا المعنى يراه سموّ نفس، وعلوّ همة، حتى رأينا من لا يحضر تزويج كريمته، ويولّي أمرها غير نفسه، ورأينا من يجاوز ذلك إلى ألّا ينكح مستنكحا، وزاد به العلوّ إلى ترك ما ذكره أولى، وكنّا عرفنا حال إنسان تزوّجت أمّه فعظم لذلك همّه، وانفرد عن أودّائه (1)، وتوارى عن أصفيائه حياء من لقائهم، وكرها لتهنئتهم له أو عزائهم، واضطرّته الوحشة إلى قصد من ظنّ به منهم المسكة في تحامي خطابه فيما اجتنب لأجله خلّانه، وفارق بسببه إخوانه، وتخيّل ذلك المقصود أنه إنما لجأ إليه ليسلّيه فأفاض معه فيما قدّر أنه قصد له من المعنى الذي جعله وحيدا خوف المفاوضة.
ثم مضت الأيام واختلف الحال، ورجع إلى العشرة وأبناء المودّة فكان عنده من لم يخاطبه أحظى، وفي نفسه أوفى، وعلى قلبه أخفّ، وفي نفسه أشفّ، ونقم على ذلك الصديق وعتب إذ لكلّ من الناس إلّا من طاب محتده وطال سؤدده حال من الإلف والرغبة تحسّن المساوي، ثم حال من الملل والزّهادة تقبّح المحاسن واعتذر المتكلّف من التسلية بما لم يلزمه، ولم يرده صفيّه، فإنه فعل ما أوجبته الأخوّة، وحقوق الخلطة، وأسباب العشرة، وانبساط المفاوضة ودبّت عقارب الظنون والوشاية، إلى أن خرجا بالملاحاة إلى المعاداة فلمّا وقع بعض الناس بينهما من معاودة الحسنى، ومراجعة الأولى جاهر هذا الماقت بفرع سنّ الأسف على تخيّل النهى والوقار من الممقوت، وظاهر الممقوت بتقريع الماقت، بتزويج أمّه، الذي تجشّم من كلامه فيه فضلا، وتكلّف من خطابه عليه ما من حسرة خلا فأفضى الأمر بينهما إلى الأوتار، وطلب الثّار.
فإن اضطرّ إلى القول في هذا المعنى أحد بأمر قاهر من السلطان، أو حوادث الأزمان، أو تطارح الإخوان، فليقل وليكتب ما مثّلنا إن لم يجد منه بدّا: أنت بفضل الله عليك وإحسان تبصيره إياك من أهل الدّين، وخلوص اليقين، فكما لا تتّبع الشهوة في محظور تبيحه، فكذا لا تتّبع الأنفة في مباح تحظره وقد اتّصل بنا ما اختاره الله والقضاء لذات الحقّ عليك، المنسوبة بعد نسبك إليها إليك، ممّا كرهه إباؤك الدّنيوي لك ولها، [ورضيه الحلال الديني له ولها]، فنحن نعزّيك عن فائت محبوبك، ونهنّئك في الخيرة في اختيار القدر لك، ونسأل الله أن يجعلها أبدا معك فيما رضيت وكرهت، وأبيت وأتيت.
فهذا ونحوه أصوب وأسلم، إن اضطررت إليه، وتركه أحسن وأحزم، إن ملكت رأيك فيه والتلطّف للكتابة عمّا يستهجن ولا يستحسن التواجه به من أحسن الأشياء وأسدّها.
__________
(1) الأودّاء: جمع ودود وهو المحبّ. القاموس المحيط (ودد).(1/320)
وكتب أبو الفضل بن العميد في بابه: الحمد لله الذي كشف عنّا ستر الحيرة، وهدانا لستر العورة، وجدع (1) بما شرع من الحلال أنف الغيرة، ومنع من عضل الأمهات، كما منع من وأد البنات، استنزالا للنفوس الأبيّة، عن حميّة الجاهلية. ثم عرّض للجزيل من الأجر من استسلم لمواقع قضائه وعوّض جزيل الثواب لمن صبر على نازل بلائه وهنّاك الله، الذي شرح للتقوى صدرك، ووسّع في البلوى صبرك، ما ألهمك من التسليم بمشيئته، والرضا بقضيّته، ووفّقك له من قضاء الواجب في أحد أبويك، ومن عظم حقّه عليك وجعل الله تعالى حدّه (2) ما تجرّعته من أنف (3)، وكظمته من أسف، معدودا يعظّم الله عليه أجرك، ويجزل به ذخرك وقرن بالحاضر من امتعاضك لفعلها المنتظر من ارتماضك (4) لدفنها، وعوّضك من أسرّة فرشها أعواد نعشها وجعل ما ينعم به عليك من بعدها من نعمة معرّى من نقمة، وما يوليك بعد قبضها من منحة مبرأ من محنة.
ألفاظ لأهل العصر في التهاني بالبنات
هنأ الله سيدي ورد الكريمة عليه، وثمّر بها أعداد النّسل الطيّب لديه وجعلها مؤذنة بإخوة بررة، يعمرون أندية الفضل، ويغبرون (5) بقيّة الدّهر.
اتصل بي خبر المولودة، كرّم الله غرّتها وأنبتها نباتا حسنا، وما كان من تغيّرك بعد اتّضاح الخبر، وإنكارك ما اختاره الله لك في سابق القدر، وقد علمت أنهنّ أقرب من القلوب، وأنّ الله تعالى بدأ بهنّ في الترتيب، فقال جلّ من قائل: {يَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ إِنََاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ الذُّكُورَ} (6). وما سمّاه هبة فهو بالشكر أولى، وبحسن التقبّل أحرى.
أهلا وسهلا بعقيلة النساء، وأمّ الأبناء، وجالبة الأصهار، وأولاد الأطهار، والمبشّرة بإخوة يتناسقون، ونجباء يتلاحقون: [الوافر]
فلو كان النّساء كمثل هذي ... لفضّلت النّساء على الرّجال
فما التّأنيث لاسم الشّمس عيب ... ولا التّذكير فخر للهلال
والله يعرفك البركة في مطلعها، والسعادة في موقعها، فادّرع اغتباطا، واستأنف
__________
(1) جدع الأنف: قطعه. القاموس المحيط (جدع).
(2) الحدّ: البأس. القاموس المحيط (حدد).
(3) الأنف: الحميّة. لسان العرب (أنف).
(4) الارتماض: القلق والحزن. لسان العرب (رمض).
(5) يغبرون: يمكثون. القاموس المحيط (غبر).
(6) سورة الشورى 42، الآية 49.(1/321)
نشاطا. الدنيا مؤنّثة، والرجال يخدمونها. والنار مؤنثة، والذكور يعبدونها. والأرض مؤّنثة، ومنها خلقت البريّة، وفيها كثرت الذّريّة. والسماء مؤنّثة، وقد حلّيت بالكواكب، وزيّنت بالنجوم الثواقب. والنفس مؤنّثة، وهي قوام الأبدان، وملاك الحيوان. والحياة مؤنّثة، ولو لاها لم تتصرّف الأجسام ولا عرف الأنام. والجنّة مؤنّثة، وبها وعد المتّقون، وفيها ينعم المرسلون فهنأك الله ما أوليت، وأوزعك شكر ما أعطيت، وأطال الله بقاءك ما عرف النّسل والولد، وما بقي العصر والأبد إنه فعّال لما يشاء.
[مديح النساء]
والتصرّف في النساء ضيّق النطاق، شديد الخناق، وأكثر ما يمدح به الرجال ذمّ لهنّ، ووصم عليهنّ، قال ابن الرومي: [البسيط]
ما للحسان مسيئات بنا، ولنا ... إلى المسيئات طول الدّهر تحنان
فإن يبحن بعهد قلن: معذرة ... إنّا نسينا، وفي النسوان نسيان
لا نلزم الذّكر، إنّا لم نسمّ به ... ولا منحناه، بل للذّكر ذكران
فضل الرجال علينا أنّ شيمتهم ... جود وبأس وأحلام وأذهان
وأنّ منهم وفاء لا نقوم له ... وهل يكون مع النّقصان رجحان؟
وقال أبو الطيب المتنبي (1): [الطويل]
بنفسي الخيال الزّائري بعد هجعة ... وقولته لي: بعدنا الغمض تطعم
سلام فلولا البخل والخوف عنده ... لقلنا أبو حفص علينا المسلّم (2)
ألا ترى أنّ الجود، والوفاء بالعهود، والشجاعة والفطن، وما جرى في هذا السّنن، من فضائل الرجال، لو مدح النساء به لكان نقصا عليهنّ، وذمّا لهنّ؟
ولمديح النساء أبواب تفرّقت في الكتاب:
أنشد رجل زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور: [مجزوء الكامل]
أزبيدة ابنة جعفر ... طوبى لزائرك المثاب
تعطين من رجليك ما ... تعطي الأكفّ من الرّغاب
فوثب إليه الخدم يضربونه، فمنعتهم من ذلك، وقالت: أراد خيرا وأخطأ، وهو أحبّ إلينا ممّن أراد شرّا فأصاب، سمع قولهم «شمالك أندى من يمين غيرك» فظنّ أنه إذا
__________
(1) ديوان المتنبي (ص 111).
(2) في الديوان: «فلولا الخوف والبخل عنده لقلت أبو».(1/322)
قال هكذا كان أبلغ، أعطوه ما أمّل، وعرّفوه ما جهل.
وقال كثير: [الطويل]
ولمّا قضينا من منى كلّ حاجة ... ومسّح بالأركان من هو ماسح
وشدّت على حدب المطايا رحالنا ... ولا يعلم الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطيّ الأباطح
نقعنا قلوبا بالأحاديث واشتفت ... بذاك صدور منضجات قرائح
ولم نخش ريب الدّهر في كلّ حالة ... ولا راعنا منه سنيح وبارح
وقال: [الطويل]
تفرّق ألّاف الحجيج على منى ... وشتّتهم شحط النوى مشي أربع
فريقان منهم سالك بطن نخلة ... وآخر منهم جازع ظهر تضرع
فلم أر دارا مثلها دار غبطة ... ولهو إذا التفّ الحجيج بمجمع
أقلّ مقيما راضيا بمكانه ... وأكثر جارا ظاعنا لم يودّع
فأصبح لا تلقى خباء عهدته ... بمضربه أوتاده لم تنزّع
فشاقوك لما وجّهوا كلّ وجهة ... فبانوا وخلّوا عن منازل بلقع
ودخل كثير على عزّة يوما، فقالت: ما ينبغي أن نأذن لك في الجلوس، فقال: ولم ذلك؟ قالت: لأني رأيت الأحوص ألين جانبا عند الغواني منك في شعره، وأضرع خدّا للنساء، وأنه الذي يقول: [البسيط]
يا أيها اللائمي فيها لأصرمها ... أكثرت لو كان يغني عنك إكثار
أكثر فلست مطاعا إذ وشيت بها ... لا القلب سال ولا في حبّها عار
ويعجبني قوله: [الطويل]
أدور ولولا أن أرى أمّ جعفر ... بأبياتكم ما درت حيث أدور
وما كنت زوّارا، ولكنّ ذا الهوى ... إذا لم يزر لا بدّ أن سيزور
لقد منعت معروفها أمّ جعفر ... وإني إلى معروفها لفقير
ويعجبني قوله: [البسيط]
كم من دنيّ لها قد كنت أتبعه ... ولو صحا القلب عنها كان لي تبعا
لا أستطيع نزوعا عن محبّتها ... أو يصنع الحبّ بي فوق الذي صنعا
أدعو إلى هجرها قلبي فيتبعني ... حتى إذا قلت هذا صادق نزعا
وزادني رغبة في الحبّ أن منعت، ... أشهى إلى المرء من دنياه ما منعا
وقوله: [الطويل](1/323)
كم من دنيّ لها قد كنت أتبعه ... ولو صحا القلب عنها كان لي تبعا
لا أستطيع نزوعا عن محبّتها ... أو يصنع الحبّ بي فوق الذي صنعا
أدعو إلى هجرها قلبي فيتبعني ... حتى إذا قلت هذا صادق نزعا
وزادني رغبة في الحبّ أن منعت، ... أشهى إلى المرء من دنياه ما منعا
وقوله: [الطويل]
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرا من يابس الصّخر جلمدا
وما العيش إلّا ما تلذّ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشّنان وفنّدا
وإني لأهواها وأهوى لقاءها ... كما يشتهي الصّادي الشراب المبرّدا
علاقة حبّ لجّ في سنن الصّبا ... فأبلى، وما يزداد إلّا تجدّدا
هذان البيتان ألحقهما العتبي وغيره بشعر الأحوص، وأنشدها أبو بكر بن دريد لأعرابي، فقال كثير: قد والله أجاد فما استقبحت من قولي؟ قالت: قولك: [الطويل]
وكنت إذا ما جئت أجللن مجلسي ... وأظهرن منّي هيبة لا تجهّما
يحاذرن منّي غيرة قد عرفنها ... قديما، فلا يضحكن إلّا تبسّما
تراهنّ إلّا أن يخالسن نظرة ... بمؤخر عين أو يقلّبن معصما
كواظم لا ينطقن إلّا محورة ... رجيعة قول بعد أن يتفهّما
وكنّ إذا ما قلن شيئا يسرّه ... أسرّ الرضا في نفسه وتحرّما
وقولك: [الطويل]
وددت وبيت الله أنك بكرة ... هجان، وأني مصعب ثم نهرب (1)
كلانا به عرّ فمن يرنا يقل ... على حسنها جرباء تعدي وأجرب (2)
نكون لذي مال كثير مغفّل ... فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب
إذا ما وردنا منهلا صاح أهله ... علينا فما ننفكّ نؤذى ونضرب
ويحك! لقد أردت بي الشقاء، أفما وجدت أمنية أوطأ من هذه؟ فخرج خجلا.
وقد تمنّى بمثل هذه الأمنية الفرزدق. وأغرب من هذا قول أبي صخر الهذلي:
[الطويل]
تمنّيت من حبّي عليّة أنّنا ... على رمث في البحر ليس لنا وفر (3)
على دائم لا يعبر الفلك موجه ... ومن دوننا الأهوال واللّجج الخضر
__________
(1) الهجان من الإبل: البيض. المصعب: الفحل. القاموس المحيط (هجن) و (صعب).
(2) العرّ، بضم العين وفتحها وتشديد الراء: الجرب. القاموس المحيط (عرر).
(3) الرّمث، بفتح الراء والميم: خشب يضمّ بعضه إلى بعض ويركب في البحر. القاموس المحيط (رمث).(1/324)
فنقضي همّ النفس في غير رقبة ... ويغرق من نخشى نميمته البحر
وقيل: الأمل رفيق مؤنس إن لم يبلغك فقد ألهاك.
وقال مسلم بن الوليد: [الطويل]
وأكثر أفعال الليالي إساءة ... وأكثر ما تلقى الأماني كواذبا
وقال آخر: [الطويل]
منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى ... وإلّا فقد عشنا بها زمنا رغدا
أمانيّ من ليلى حسان كأنما ... سقتني بها ليلى على ظمإ بردا
وقال آخر: [الطويل]
رفعت عن الدنيا المنى غير حبّها ... فلا أسأل الدنيا ولا أستزيدها
وقيل لأعرابي: ما أمتع لذّات الدنيا؟ فقال: ممازحة المحبّ، ومحادثة الصديق، وأماني تقطع بها أيامك، وأنشد: [مجزوء الخفيف]
علّليني بموعد ... وامطلي ما حييت به
ودعيني أفوز من ... ك بنجوى تطلبه
فعسى يعثر الزّما ... ن بخطّي فينتبه
[كثير عزّة]
وكان كثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة الخزاعي ويعرف بعزّة، على حدّة خاطره، وجودة شعره أحمق الناس.
دخل عليه نفر من قريش وهو عليل يهزأون به، قال بعضهم: فقلت له: كيف تجدك؟ قال: بخير، هل سمعتم الناس يقولون شيئا؟ فقلت: نعم، سمعتهم يقولون: إنك الدجّال. فقال: والله لئن قلت ذلك إني لأجد في عيني اليمنى ضعفا منذ أيام.
وكان رافضيّا يدين بالرّجعة، ويقول بإمامة محمد بن الحنفية، والروافض يزعمون أنه دخل في شعب باليمن في أربعين من أصحابه، ولا بدّ من ظهوره، وفي ذلك يقول:
[الوافر]
ألا إنّ الأئمة من قريش ... ولاة الحقّ أربعة سواء
عليّ والثّلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان وبرّ ... وسبط غيّبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتّى ... يقود الخيل يقدمها اللّواء
تغيّب لا يرى عنهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء (1)
وكان خلفاء بني أمية يعلمون ذلك منه، ويلبسونه عليه.(1/325)
ألا إنّ الأئمة من قريش ... ولاة الحقّ أربعة سواء
عليّ والثّلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان وبرّ ... وسبط غيّبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتّى ... يقود الخيل يقدمها اللّواء
تغيّب لا يرى عنهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء (1)
وكان خلفاء بني أمية يعلمون ذلك منه، ويلبسونه عليه.
دخل يوما على عبد الملك بن مروان فقال: نشدتك بحقّ علي بن أبي طالب، هل رأيت أعشق منك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لو سألتني بحقّك لأخبرتك، نعم، بينا أنا أسير في بعض الفلوات إذا أنا برجل قد نصب حبائله، فقلت له: ما أجلسك ها هنا؟ قال:
أهلكني وأهلي الجوع، فنصبت حبائلي لأصيب لهم ولنفسي ما يكفينا سحابة يومنا، قلت: أرأيت إن أقمت معك فأصبنا صيدا، أتجعل لي منه جزءا؟ قال: نعم، فبينما نحن كذلك إذ وقعت ظبية، فخرجنا مبتدرين، فأسرع إليها فحلّها وأطلقها فقلت: ما حملك على هذا؟ قال: دخلتني لها رقّة لشبهها بليلى، وأنشأ يقول: [الطويل]
أيا شبه ليلى لا تراعي فإنّني ... لك اليوم من وحشيّة لصديق
أقول وقد أطلقتها من وثاقها ... لأنت لليلى ما حييت طليق
وروى الكلبي وابن دأب أنه لمّا حلّها قال: [الخفيف]
اذهبي في كلاءة الرّحمن ... أنت مني في ذمّة وأمان
لا تخافي بأن تهاجي بسوء ... ما تغنّى الحمام في الأغصان
ترهبيني والجيد منك لليلى ... والحشا والبغام والعينان؟
وقال قيس بن الملوّح: [الكامل]
راحوا يصيدون الظّباء وإنني ... لأرى تصيّدها عليّ حراما
أشبهنّ منك محاجرا وسوالفا ... فأرى عليّ لها بذاك ذماما
أعزز عليّ بأن أروع شبيهها ... أو أن يذقن على يديّ حماما
ومن جيد شعر كثيّر: [الطويل]
وكانت لقطع الحبل بيني وبينها ... كناذرة نذرا فأوفت وحلّت
فقلت لها: يا عزّ، كلّ مصيبة ... إذا وطّنت يوما لها النّفس ذلّت
ولم يلق إنسان من الحبّ ميعة ... تعمّ ولا غمّاء إلّا تجلّت (2)
__________
(1) رضوى: جبل بالمدينة. معجم البلدان (ج 3ص 51).
(2) ميعة الشباب: أوله. القاموس المحيط (ميع).(1/326)
أباحت حمى لم يرعه الناس قبلها ... وحلّت تلاعا لم تكن قبل حلّت (1)
هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزّة من أعراضنا ما استحلّت
أسيئي بنا أو احسني لا ملومة ... لدينا ولا مقليّة إن تقلّت
وو الله ما قاربت إلّا تباعدت ... بهجر، ولا استكثرت إلّا أقلّت
وما مرّ من يوم عليّ كيومها ... وإن عظمت أيام أخرى وجلّت
فيا عجبا للقلب كيف اعترافه ... وللنفس لما وطّنت كيف ذلّت
وإنّي وتهيامي بعزّة بعد ما ... تخلّيت ممّا بيننا وتخلّت (2)
لكالمرتجي ظلّ الغمامة، كلّما ... تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت
وكان كثير قصيرا دميما، ولذلك قال: [الطويل]
فإن أك معروق العظام فإنني ... إذا ما وزنت القوم بالقوم وازن
ودخل كثير على عبد الملك بن مروان في أول خلافته، فقال: أنت كثير؟ فقال:
نعم، فاقتحمه، وقال: تسمع بالمعيديّ لا أن تراه (3)! فقال: يا أمير المؤمنين، كلّ إنسان عند محلّه رحب الفناء، شامخ البناء، عالي السّناء، وأنشد يقول (4): [الوافر]
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطّرير إذا تراه ... فيخلف ظنّك الرجل الطرير (5)
بغاث الطير أطولها رقابا ... ولم تطل البزاة ولا القصور (6)
خشاش الطير أكثرها فراخا ... وأمّ الباز مقلاة نزور (7)
ضعاف الأسد أكثرها زئيرا ... وأصرمها اللّواتي لا تزير
وقد عظم البعير بغير لبّ ... فلم يستغن بالعظم البعير
__________
(1) التّلاع: جمع تلعة وهي ما ارتفع من الأرض. القاموس المحيط (تلع).
(2) هذا البيت والذي يليه في وفيات الأعيان (ج 4ص 111) ببعض الاختلاف عمّا هنا.
(3) أخذه من المثل: «تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه»، يضرب لمن خبره خير من مرآه. مجمع الأمثال (ج 1ص 129، رقم المثل 655).
(4) الأبيات في أمالي القالي (ج 1ص 48).
(5) الطرير: ذو المنظر والرواء. محيط المحيط (طرر).
(6) البغاث: شرار الطّير. القاموس المحيط (بغث).
(7) في أمالي القالي: «الصقر» بدل «الباز». وخشاش الطير: العصافير ونحوها. المقلاة: التي لا يحيا لها ولد. النّزور: قليلة الأولاد. لسان العرب (خشش) و (قلا) و (نزر).(1/327)
ينوّخ ثم يضرب بالهراوى ... فلا عرف لديه ولا نكير (1)
يقوّده الصبيّ بكلّ أرض ... ويصرعه على الجنب الصغير (2)
فما عظم الرجال لهم بزين ... ولكن زينهم حسب وخير (3)
فقال: قاتله الله! ما أطول لسانه، وأمدّ عنانه، وأوسع جنانه إني لأحسبه كما وصف نفسه.
[في الطول والقصر]
وأنشد أحمد بن عبيد الله لشاعر قديم (4): [الطويل]
وعاذلة هبّت بليل تلومني ... ولم يغتمرني قبل ذاك عذول (5)
تقول: اتئد لا يدعك الناس مملقا ... وتزري بمن يا ابن الكرام تعول؟
فقلت: أبت نفس عليّ كريمة ... وطارق ليل عند ذاك يقول
ألم تعلمي يا عمرك الله أنني ... كريم على حين الكرام قليل
وأني لا أخزى إذا قيل مملق ... سخيّ، وأخزى أن يقال بخيل
فلا تتبعي النفس الغويّة وانظري ... إلى عنصر الأحساب كيف يؤول (6)
ولا تذهبن عيناك في كل شرمح ... له قصب جوف العظام أسيل (7)
عسى أن تمنّى عرسه أنني لها ... به، حين يشتدّ الزمان، بديل (8)
إذا كنت في القوم الطوال فطلتهم ... بعارفة حتى يقال طويل (9)
ولا خير في حسن الجسوم وطولها ... إذا لم تزن حسن الجسوم عقول
فكائن رأينا من فروع طويلة ... تموت إذا لم تحيهنّ أصول (10)
فإلّا يكن جسمي طويلا فإنني ... له بالفعال الصالحات وصول (11)
__________
(1) الهراوى: جمع هراوة وهي العصا. القاموس المحيط (هرو).
(2) رواية عجز البيت في أمالي القالي هي: وينحره على الترب الصغير
(3) في أمالي القالي: «كرم» بدل «حسب».
(4) الأبيات في أمالي القالي (ج 1ص 40).
(5) اغتمره: عدّه غمرا وهو من لم يجرّب الأمور. القاموس المحيط (غمر).
(6) في أمالي القالي: «العين» بدل «النّفس».
(7) الشّرمح: القويّ. القاموس المحيط (شرمح).
(8) العرس، بكسر العين وسكون الراء: امرأة الرجل. القاموس المحيط (عرس).
(9) في أمالي القالي: «فضلتهم» بدل «فطلتهم». والعارفة: المعروف. القاموس المحيط (عرف).
(10) في أمالي القالي: «وكائن رأينا يحيهنّ أصول».
(11) في الأمالي: «فإن لا» بدل «فإلّا».(1/328)
ولم أر كالمعروف: أمّا مذاقه ... فحلو، وأمّا وجهه فجميل
وقال ابن الرومي: [الخفيف]
ونصيف من الرجال نحيف ... راجح الوزن عند وزن الرجال (1)
في أناس أوتوا حلوم العصافي ... ر فلم تغنهم جسوم البغال
أخذه من قول حسان بن ثابت، وقال له بنو الديان الحارثيون: قد كنّا نحن نطول بأجسامنا على العرب حتى قلت: [البسيط]
دعوا التّخاجؤ وامشوا مشية سجحا ... إنّ الرجال ذوو قدّ وتذكير (2)
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير
فتركتنا لا نرى أجسامنا شيئا.
والعرب تمدح الطول، وتثني عليه، وقال عنترة بن شداد (3): [الكامل]
بطل كأنّ ثيابه في سرحة ... يحذى نعال السّبت ليس بتوأم (4)
قوله: «ليس بتوأم» يريد ليس ممن زوحم في الرّحم فضعف، كما قال الشعبي، وقد دخل على عبد الملك بن مروان، فجعل ينظر إليه، وكان الشعبي قد ولد توأما مع أخيه، فكان نحيفا، فقال: يا أمير المؤمنين، إني زوحمت في الرحم، وقال: [الطويل]
ولمّا التقى الصفّان واختلف القنا ... نهالا، وأسباب المنايا نهالها
تبيّن لي أنّ القماءة ذلّة ... وأنّ أعزاء الرجال طوالها
وقال أبو نواس (5): [الطويل]
وكنّا إذا ما الحائن الجدّ غرّه ... سنى برق غاد أو ضجيج رعاد (6)
تردّى له الفضل بن يحيى بن خالد ... بماضي الظّبى يزهاه طول نجاد
أمام خميس أرجوان كأنه ... قميص محوك من قنا وجياد (7)
__________
(1) النصيف: أحد شقّي الشيء، والمراد أنه نصف رجل. القاموس المحيط (نصف).
(2) التّخاجؤ: التباطؤ. القاموس المحيط (خجأ).
(3) ديوان عنترة بن شداد (ص 212).
(4) السّبت، بكسر السين وسكون الباء: كلّ جلد مدبوغ. محيط المحيط (سبت).
(5) ديوان أبي نواس (ص 473472) من قصيدة مديح.
(6) في الديوان: «غاو» بدل «غاد».
(7) الخميس: الجيش لأنه خمس فرق المقدمة، والقلب، والميمنة، والميسرة، والساقة. القاموس المحيط (خمس).(1/329)
ومن هذا البيت أخذ أبو الطيب المتنبي قوله: [المتقارب]
وملمومة زرد ثوبها ... ولكنّه بالقنا مخمل
[رجع إلى كثير عزة]
ودخل كثير على عبد العزيز بن مروان وهو عليل، وأهله يتمنّون أن يتبسّم، فقال:
لولا أنّ سرورك لا يتمّ بأن تسلم وأسقم لدعوت الله أن يصرف ما بك إليّ، ولكني أسأل الله أيها الأمير العافية لك ولي في كنفك فضحك وأمر له بمال فخرج وهو يقول:
[الكامل]
ونعود سيّدنا وسيّد غيرنا ... ليت التشكّي كان بالعوّاد
لو كان تقبل فدية لفديته ... بالمصطفى من طارفي وتلادي
قال محمد بن سلام الجمحي: قال أبي: ذاكرت مروان بن أبي حفصة شعر جرير والفرزدق وكثير، فذهب إلى تقديم كثيرّ، وجعل يطريه ويقول: هو أمدحهم للخلفاء، فقلت: أمن جودة مدحه للخلفاء قوله لعبد الملك بن مروان: [الطويل]
ترى ابن أبي العاصي وقد صفّ دونه ... ثمانون ألفا قد توافت كمولها
يقلّب عيني حيّة بمفازة ... إذا أمكنته شدّة لا يقيلها؟
فقال هذا: للخليفة ودونه ثمانون ألفا، وجعله يقلّب عيني حيّة.
وقوله: [الطويل]
وإنّ أمير المؤمنين هو الذي ... غزا كامنات الودّ مني فنالها
زعم أن أمير المؤمنين استعطفه حتى غزا كامنات صدره.
وقوله لعبد العزيز بن مروان: [الوافر]
وما زالت رقاك تسلّ ضغني ... وتخرج من مكامنها ضبابي (1)
ويرقيني لك الحاوون حتى ... أجابك حيّة تحت الحجاب
زعم أن عبد العزيز ترضّاه، واحتال له ورقاه، حتى أجابه أكذا تمدح الملوك؟
فأسكته.
__________
(1) الضّغن: الشوق. الضّباب: جمع ضبّ وهو الغيظ. القاموس المحيط (ضغن) و (ضبب).(1/330)
فصول قصار
من كان له من نفسه واعظ، كان من الله عليه حافظ. العبد حرّ إذا قنع، والحرّ عبد إذا طمع. الأماني تخدعك، وعند الحقائق تدعك. إذا كان الطمع هلاكا، كان اليأس إدراكا. ليس يعدّ حكيما، من لم يكن لنفسه خصيما. تعزّ عن الشيء إذا منعته، بقلة ما يصحبك إذا منحته. تجرّع مضض الصبر تطفىء نار الضر. الحكمة حفظ ما كلفت، وترك ما كفيت. الصّبر عن محارم الله، أيسر من الصبر على عذاب الله.
شذور لأهل الصّرّ (1) في معان شتّى
قطعة من كلام الأمير قابوس بن وشمكير شمس المعالي في أثناء رسائله: بزند الشفيع توري نار النجاح، ومن كفّ المفيض ينتظر فوز القداح، الوسائل أقدام ذوي الحاجات، والشفاعات مفاتيح الطّلبات. العفو عن المجرم من موجبات الكرم، وقبول المعذرة من محاسن الشّيم. وبالقوادم والخوافي قوّة النجاح، وبالأسنّة والعوالي عمل الرماح. الدنيا دار تغرير وخداع، وملتقى ساعة لوداع، والناس متصرّفون بين كلّ ورد وصدر، وصائرون خبرا بعد أثر. غاية كل متحرّك إلى سكون، ونهاية كل متكون ألّا يكون، وآخر الأحياء فناء، والجزع على الأموات عناء، وإذا كان ذلك كذلك، فلم التهالك على الهالك؟ حشو الدهر أحزان وهموم، وصفوه من غير كدر معدوم. إذا سمح الدهر بالحباء (2)، فأبشر بوشك الانقضاء، وإذا أعار، فاحسبه قد أغار. الدهر طعمان حلو ومرّ، والأيام ضربان عسر ويسر. لكل شيء غاية ومنتهى، وانقطاع وإن بلغ المدى. ترك الجواب، داعية الارتياب، والحاجة إلى الاقتضاء، كسوف في وجه الرجاء.
همّ المنتظر للجواب ثقيل، والمدى فيه وإن كان قصيرا طويل. النجيب إذا جرى لم يشقّ غباره، وإذا سرى لم تلحق آثاره. ومن أين للضباب صوب السحاب، وللغراب هويّ العقاب، وهيهات أن تكتسب الأرض لطافة الهواء، ويصير البدر كالشمس في الضياء.
[شمس المعالي ابن وشمكير]
وقد ترجم عن شمس المعالي أبو منصور الثعالبي في كتاب ألّفه له قال في أوله:
أمّا على أثر حمد الله الذي هو أوّل كتابه، وآخر دعوى ساكني دار ثوابه، والصلاة على خيرته من بريّته، وعلى الصّفوة من ذرّيته، فإنّ خير الكلام ما شغل بخدمة من جمع الله له
__________
(1) الصّرّ: شده البرد. محيط المحيط (صرر).
(2) الحباء: اسم من حبا فلانا أي أعطاه بلا جزاء ولا منّ. القاموس المحيط (حبو).(1/331)
عزّة الملك إلى بسطة العلم، ونور الحكمة إلى نفوذ الحكم، وجعله مميّزا على ملوك العصر، ومدبّري الأرض وولاة الأمر، بخصائص من العدل، وجلائل من الفضل، ودقائق من الكرم المحض، لا يدخل أيسرها تحت العادات، ولا يدرك أقلّها بالعبارات ومحاسن [سير] الأنام، تحرسها أسنّة الأقلام، وتدرسها ألسنة الليالي والأيام، وهذه صفة تغني عن تشبيه الموصوف لاختصاصه بمعناها، واستحقاقه إياها، واستئثاره على جميع الملوك بها، ولعلم سامعها ببديهة السّماع أنها للأمير، شمس المعالي، خالصة وعليه مقصورة، وبه لائقة، وعن غيره نافرة إذ هو بمعاينة الآثار، وشهادة الأخيار، وإجماع الأولياء، واتفاق الأعداء كافل المجد، وكافي الخلق، وواحد الدهر، وغرّة الدنيا، ومفزع الورى، وحسنة العالم، ونكتة الفلك الدائر فبلّغه الله أقصى نهاية العمر، كما بلّغه أقصى غاية الفخر وملكه أزمّة الأمر، كلّما ملّكه أعنّة الفضل وأدام حسن النظر للعباد والبلاد، بإدامة أيامه التي هي أعياد الدّهر، ومواسم اليمن والأمن، ومطالع الخير والسّعد، وزاد دولته شبابا ونموّا، كما زاده في الشرف علوّا، حتى تكون السعادات وفد بابه، والبشائر قرى سمعه، والمسارّ غذاء نفسه، ويترامى به الإقبال إلى حيث لا يبلغه أمل، ولا يقطعه أجل.
نحا في قوله: «وهذه صفة تغني عن الموصوف» إلى قول أبي الطيب يرثي أخت سيف الدولة (1): [البسيط]
يا أخت خير أخ يا بنت خير أب ... كناية بهما عن أشرف النّسب
أجلّ قدرك أن تسمي مؤثّثة ... ومن دعاك فقد سمّاك للعرب (2)
ومن شمس المعالي يقول الأمير أبو الفضل الميكالي: [الرجز]
لا تعصين شمس العلا قابوسا ... فمن عصى قابوس لاقى بوسا
وله يقول بديع الزمان في قصيدة نظمها في تضاعيف رسالة موشحة: [الخفيف]
إنّ من كنت من مناه بمرأى ... وتعدّاك سيّء الاقتراح
بين بشر يردّ غائض جاهي ... وقبول يعيد ريش جناحي
وبساط وردت مشرعة الأن ... س به وادّرعت برد النجاح
فاقض أوطارا التقت والمعالي ... في نظام من النّهى وتصاح
ملك دونه تقطّع أبصا ... ر الليالي يوما ندى وكفاح
ملك لو يشاء مدّ على النّج ... م رواقا وردّ وفد الرّياح
__________
(1) ديوان المتنبى (ص 461).
(2) في الديوان: يصفك» بدل «دعاك».(1/332)
تارة في خشونة الدّهر تلقا ... هـ وطورا في حسن ذات الوشاح
ملك كلّما بدا نقف الأف ... لاك عجبا به وفرط ارتياح
هكذا هكذا تكون المعالي ... طرق الجدّ غير طرق المزاح
وهي طويلة، كتبتها على طريق الاختيار.
رقعة لبديع الزمان إلى شمس المعالي، وقد ورد حضرته:
لم تزل الآمال أطال الله بقاء الأمير السيد شمس المعالي، وأدام سلطانه تعدني هذا اليوم، والأيام تمطلني بألسنة صروفها، على اختلاف صنوفها، بين حلو استرقّني، ومرّ استخفّني، وشرّ صار إليّ، وخير صرت إليه، وأنا في خلال هذه الأحوال أذرع الآفاق فأكون طورا مشرقا للمشرق الأقصى، وطورا مغربا للمغرب، ولا مطمح إلّا حضرته الرفيعة، وسدّته المريعة، ولا وسيلة إلّا المنزع الشّاسع، والأمل الواسع وقد صرت أطال الله بقاء الأمير مولانا بين أنياب النوائب، وتجشّمت هول الموارد، وركبت أكتاف المكاره، ورضعت أخلاف العوائق، ومسحت أطراف المراحل، حتى حضرت الحضرة البهيّة أو كدت، وبلغت الأمنية أو زدت، وللأمير السيد في الإصغاء إلى المجد، والبسط من عنان الفضل، بتمكين خادمه من المجلس يلقاه بقدمه، والبساط يلثمه بفمه، تفضّله، فله الرأي العالي إن شاء الله.
وله إلى بعض الرؤساء وقد وعد بحضور مجلسه بالغداة وأمره أن يزفّ إليه ما أنشأه، فبعث به وكتب إليه:
مرحبا بسلام الشيخ سيّدي ومولاي أطال الله بقاه، ولا كالمرحب بطلعته وقد وصلت تحيّته فشكرتها، وعدته الجميلة بالحضور غدا فانتظرتها ودعوت الله أن يطوي ساعات النهار، ويزجّ الشمس في المغار، ويقرّب مسافة الفلك الدّوّار، ويرفع البركة من سيره، ويجهز الحركة إلى دوره ويسرّني بوفد الظلام وقد نزل، ثم لم يلبث إلّا ريثما رحل وقد بعثت بما طلب سمعا لأمره وطاعة، والنسخة أسقم من أجفان الغضبان، والشيخ سيدي أدام الله عزّه يركض قلمه في إصلاحها، وحبّذا هو في غد، وقد طلع كالصبح إذا سطع، والبرق إذا لمع: [الكامل]
يا مرحبا بغد ويا أهلا به ... إن كان إلمام الأحبّة في غد
وله إلى أبي الطيب سهل بن محمد يسأله أن يصله بأبي إبراهيم إسماعيل بن أحمد:
لو كان للكرم عن جناب الشيخ منصرف لانصرفت، أو للأمل منحرف إلى سواه نحرفت، أو للنّجح باب سواه لولجت، أو للفضل خاطب غيره لزوّجت، ولكن أبى الله
أن يعقد إلّا عليه الخنصر، أو يتحلّى إلّا بفواضله الدهر، ولا يزال كذا يتّسم المجد بسمته، ويجذب العلاء بهمّته، ويسعد الدين بنظره، والدنيا بجماله، وغلامه أنا لو استعار الدّهر لسانا، واتّخذ الريح ترجمانا، ليشيع إنعامه حقّ الإشاعة، لقصرت به يد الاستطاعة، فليس إلّا أن يلبس مكارمه صافية سابغة، ويرد مشارعه صافية سائغة، ويحيل الجزاء على يد قصور، والشكر على لسان قصير ثم إنّ حاجاتي، إذا لم يعر من قلائد المجد نحرها، ولم يعطل من حلي المجد صدرها، كبر مهرها، وعزّ كفؤها، ولم أجد لها إلّا واحدا أخضر الجلدة في بيت العرب، أو ماجدا يملأ الدّلو إلى عقد الكرب (1). وهذه حاجة أنا أزفّها إلى الشيخ الإمام حرص الله مهجته، وأسوقها منظومة من الصّدر إلى العجز، كما يساق الماء إلى الأرض الجرز (2) وأنا من مفتتح اليوم إلى مختتمه، ومن قرن النهار إلى قدمه، قاعد كالكركيّ (3)، أو الديك الهندي، في هذا الأدحيّ (4)، يمرّ بي أولو الحلى والحلل، ويجتاز ذو والخيل والخول (5)، وما أنا والنّظر إلى ما لا يليني، والسؤال عمّا لا يعنيني، واليوم، لمّا افتضضنا عذرة الصباح، ملأت جفوني من منظر ما أحوجه إلى عيب يصرف عين كماله، عن جماله، فقلت لمن حضر: من هذا؟ فأخذوا يحرّكون الرؤوس استظرافا لحالي، ويتغامزون تعجّبا من سؤالي، وقالوا: هذا الشيخ الفاضل أبو إبراهيم إسماعيل بن أحمد، فقلت: حرس الله مهجته، وأدام غبطته فكيف الوصول إلى خدمته، وأنّى مأتى معرفته؟ قالوا: إن الشيخ الإمام أدام الله تأييده يضرب في مودّته بالقدح المعلّى، ويأخذ في معرفته بالحظّ الأعلى، فإن رأى الشيخ أطال الله بقاه أن تجعل عنايته حرف الصلة، وتفضّله لام المعرفة، فعل، إن شاء الله.(1/333)
لو كان للكرم عن جناب الشيخ منصرف لانصرفت، أو للأمل منحرف إلى سواه نحرفت، أو للنّجح باب سواه لولجت، أو للفضل خاطب غيره لزوّجت، ولكن أبى الله
أن يعقد إلّا عليه الخنصر، أو يتحلّى إلّا بفواضله الدهر، ولا يزال كذا يتّسم المجد بسمته، ويجذب العلاء بهمّته، ويسعد الدين بنظره، والدنيا بجماله، وغلامه أنا لو استعار الدّهر لسانا، واتّخذ الريح ترجمانا، ليشيع إنعامه حقّ الإشاعة، لقصرت به يد الاستطاعة، فليس إلّا أن يلبس مكارمه صافية سابغة، ويرد مشارعه صافية سائغة، ويحيل الجزاء على يد قصور، والشكر على لسان قصير ثم إنّ حاجاتي، إذا لم يعر من قلائد المجد نحرها، ولم يعطل من حلي المجد صدرها، كبر مهرها، وعزّ كفؤها، ولم أجد لها إلّا واحدا أخضر الجلدة في بيت العرب، أو ماجدا يملأ الدّلو إلى عقد الكرب (1). وهذه حاجة أنا أزفّها إلى الشيخ الإمام حرص الله مهجته، وأسوقها منظومة من الصّدر إلى العجز، كما يساق الماء إلى الأرض الجرز (2) وأنا من مفتتح اليوم إلى مختتمه، ومن قرن النهار إلى قدمه، قاعد كالكركيّ (3)، أو الديك الهندي، في هذا الأدحيّ (4)، يمرّ بي أولو الحلى والحلل، ويجتاز ذو والخيل والخول (5)، وما أنا والنّظر إلى ما لا يليني، والسؤال عمّا لا يعنيني، واليوم، لمّا افتضضنا عذرة الصباح، ملأت جفوني من منظر ما أحوجه إلى عيب يصرف عين كماله، عن جماله، فقلت لمن حضر: من هذا؟ فأخذوا يحرّكون الرؤوس استظرافا لحالي، ويتغامزون تعجّبا من سؤالي، وقالوا: هذا الشيخ الفاضل أبو إبراهيم إسماعيل بن أحمد، فقلت: حرس الله مهجته، وأدام غبطته فكيف الوصول إلى خدمته، وأنّى مأتى معرفته؟ قالوا: إن الشيخ الإمام أدام الله تأييده يضرب في مودّته بالقدح المعلّى، ويأخذ في معرفته بالحظّ الأعلى، فإن رأى الشيخ أطال الله بقاه أن تجعل عنايته حرف الصلة، وتفضّله لام المعرفة، فعل، إن شاء الله.
[البرامكة]
قال الرشيد ليحيى بن خالد: يا أبت، إني أردت أن أجعل الخاتم الذي في يد الفضل إلى جعفر، وقد احتشمت منه فاكفنيه.
فكتب إليه يحيى: قد أمر أمير المؤمنين أعلى الله أمره أن يحوّل الخاتم من يمينك إلى شمالك.
__________
(1) الكرب، بفتح الكاف والراء: الحبل يشدّ في وسط العراقي (خشب) ليلي الماء فلا يعفن الحبل الكبير. القاموس المحيط (كرب) و (عرق).
(2) الأرض الجرز، بضم الجيم والراء: التي لا تنبت أو لم يصبها مطر. القاموس المحيط (جرز).
(3) الكركيّ: طائر، جمعه كراكيّ. القاموس المحيط (كرك).
(4) الأدحيّ: مبيض النعام في الرمل. القاموس المحيط (دحا).
(5) الخيل، بفتح الخاء وسكون الياء: الكبر. الخول، بفتح الخاء والواو: العبيد. القاموس المحيط (خيل) و (خول).(1/334)
فأجاب الفضل: قد سمعت ما قاله أمير المؤمنين في أخي، وقد اطّلعت على أمره، وما انقلبت عني نعمة صارت إليه، ولا غربت (1) عني رتبة طلعت عليه.
فقال جعفر: لله أخي! ما أنفس نفسه، وأبين دلائل الفضل عليه، وأقوى منّة العقل فيه، وأوسع في البلاغة ذرعه، وأرحب بها جنابه. يوجب على نفسه ما يجب له، ويحمل بكرمه فوق طاقته.
وذكر جعفر بن يحيى في مجلس ثمامة بن أشرس فقال: ما رأيت أحدا من خلق الله كان أبسط لسانا، ولا ألحن بحجّة، ولا أقدر على كلام، بنظم حسن، وألفاظ عذبة، ومنطق فصيح، من جعفر بن يحيى، كان لا يتوقّف، ولا يتحبّس، ولا يصل كلامه بحشو من الكلام، ولا يعيد لفظا ولا معنى، ولا يخرج من فنّ إلى غيره، حتى يبلغ آخر ما فيه وكان لا يرى شيئا إلّا حكاه، ولا يحكي شيئا إلّا كان أكثر منه، ولا يمرّ بذهنه شيء إلّا حفظه، وكان إذا شاء أضحك الثّكلى، وأذهل الزاهد، وخشّن قلب العابد.
قلت: فكيف كانت معرفته؟ قال: كان من أعلم الناس بالخبر الباهر، والشعر النادر، والمثل السائر، والفصاحة التامة، واللسان البسيط.
قال سهل بن هارون، وذكر يحيى بن خالد وابنه جعفرا، فقال: لو كان الكلام متصوّرا درّا، ويلقيه المنطق جوهرا، لكان كلامهما، والمنتقى من ألفاظهما. ولقد غبرت معهما، وأدركت طبقة المتكلمين في أيامهما، وهم يرون البلاغة لم تستكمل إلّا فيهما، ولم تكن مقصورة إلّا عليهما، ولا انقادت إلّا لهما. وإنهما للباب الكرم، عتق منظر، وجودة مخبر، وسهولة لفظ، وجزالة منطق، ونزاهة نفس، وكمال خصال حتى لو فاخرت الدنيا بقليل أيامهما، والمأثور من خصائصها جميع أيام من سواهما من لدن آدم إلى أن ينفخ في الصور، ويبعث أهل القبور حاشا أنبياء الله الكرام، وسلف عباده الصالحين لما باهت إلّا بهما، ولا عوّلت في الفخر إلّا عليهما، ولقد كنا مع تهذيب أخلاقهما، ومعسول مذاقهما، وسنا إشراقهما، وكمال الخير فيهما في محاسن المأمون كالنّقطة في البحر، والخردل في القفر.
ووقّع جعفر بن يحيى لرجل اعتذر عنده من ذنب: قد قدمت طاعتك، وظهرت نصيحتك، ولا تغلب سيئة حسنتين.
__________
(1) في الأصل: «عزبت» بالزاي. وغربت: تقابل: طلعت. وعزبت: بعدت. القاموس المحيط (عزب) و (غرب).(1/335)
ووقّع وقد قرأ كتابا فاستحسن خطّه: الخطّ خيط الحكمة، ينظم فيه منثورها، ويفصّل فيه شذورها.
واختصم رجلان بحضرته، فقال لأحدهما: أنت خليّ، وهذا شجيّ فكلامك يجري على برد العافية، وجوابه يجري على حرّ المصيبة.
ودخل مروان بن أبي حفصة على جعفر بن يحيى فأنشده: [الطويل]
أبرّ فما ترجو الجياد لحاقه ... أبو الفضل سبّاق الأضاميم جعفر (1)
وزير إذا ناب الخلافة حادث ... أشار بما عنه الخلافة تصدر
فقال جعفر: أنشدني مرثيتك في معن بن زائدة، فأنشده: [الوافر]
أقمنا باليمامة أو نسينا ... مقاما ما نريد به زوالا
وقلنا: أين نذهب بعد معن ... وقد ذهب النّوال فلا نوالا؟
وكان الناس كلّهم لمعن ... إلى أن زار حفرته عيالا
حتى فرغ من القصيدة، وجعفر يرسل دموعه على خدّيه، فقال: هل أثابك على هذه المرثية أحد من أهل بيته وولده؟ قال: لا، قال: فلو كان معن حيّا، ثم سمعها منك، كم كان يثنيك عليها؟ قال: أربعمائة دينار، قال: فإنّما كنّا نظنّ أنه لا يرضى لك بذلك، وقد أمرنا لك عن معن رحمه الله بالضّعف ممّا ظننته، وزدناك مثل ذلك فاقبض من الخازن ألفا وستمائة دينار قبل أن تخرج، فقال مروان يذكر جعفرا وما سمح به عن معن:
[الوافر]
نفحت مكافئا عن جود معن ... لنا فيما تجود به سجالا
فعجّلت العطية يا ابن يحيى ... لنادبه ولم ترد المطالا
فكافأ عن صدى معن جواد ... بأجود راحة بذلت نوالا
بنى لك خالد وأبوك يحيى ... بناء في المكارم لن ينالا
كأنّ البرمكيّ لكلّ مال ... تجود به يداه يفيد مالا (2)
أخذ هذا من قول زهير (3): [الطويل]
تراه إذا ما جئته متهلّلا ... كأنّك تعطيه الّذي أنت سائله
__________
(1) الأضاميم: جمع إضمامة وهي الجماعة، محيط المحيط (ضمم).
(2) يفيد: يعطي، وهنا بمعنى: يأخذ. القاموس المحيط (فود).
(3) ديوان زهير بن أبي سلمى (ص 68).(1/336)
وهذا البيت لزهير من قصيدة يقول فيها:
وذي نعمة تمّمتها وشكرتها ... وخصم يكاد يغلب الحقّ باطله
دفعت بمعروف من الحقّ صائب ... إذا ما أضلّ القائلين مفاصله
وذي خطل في القول يحسب أنه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله
عبأت له حلما، وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو باد مقاتله
وأبيض فيّاض يداه غمامة ... على معتفيه ما تغبّ نوافله (1)
غدوت عليه غدوة فرأيته ... قعودا لديه بالصّريم عواذله (2)
يفدّينه طورا، وطورا يلمنه ... وأعيا فما يدرين أين مخاتله
فأعرضن عنه عن كريم مرزّإ ... جموح على الأمر الذي هو فاعله
أخي ثقة لا يذهب الخمر ماله ... ولكنّه قد يذهب المال نائله
قال أبو الفرج قدامة بن جعفر، في معنى أبيات زهير الأولى: لما كانت فضائل الناس من حيث هم ناس، لا من طريق ما هم مشتركون فيه مع سائر الحيوان، على ما عليه أهل الألباب من الاتّفاق في ذلك، إنما هي العقل والعفة والعدل والشجاعة، كان القاصد للمدح بهذه الأربعة مصيبا، وبما سواها مخطئا وقد قال زهير:
أخي ثقة لا يتلف الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
فوصفه بالعفّة لقلّة إمعانه في اللذات، وأنه لا ينفد فيها ماله، وبالسّخاء لإهلاك ماله في النوال، وانحرافه إلى ذلك عن اللذّات، وذلك هو العدل، ثم قال:
تراه إذا ما جئته متهلّلا ... كأنّك تعطيه الذي أنت سائله
فزاد في وصف السخاء بأنه يهشّ ولا يلحقه مضض ولا تكرّه لفعله ثم قال:
فمن مثل حصن في الحروب ومثله ... لإنكار ضيم أو لأمر يحاوله
فأتى في هذا البيت بالوصف من جهة الشجاعة والعقل فاستوفى ضروب المدح الأربعة، التي هي فضائل الإنسان على الحقيقة، وزاد الوفاء، وإن كان داخلا في الأربعة فكثير من الناس لا يعلم وجه دخوله فيها حيث قال: «أخي ثقة» فوصفه بالوفاء والوفاء داخل في هذه الفضائل التي قدّمناها.
__________
(1) المعتفون: جمع المعتفي وهو كل طالب فضل أو رزق. النوافل: جمع نافلة وهي العطية، وتغبّ نوافله: تتأخّر. القاموس المحيط (عفا) و (نفل) و (غبب).
(2) الصريم: الصبح. محيط المحيط (صرم).(1/337)
وقد يتفنّن الشعراء فيعدّون أنواع الفضائل الأربع وأقسامها، وكلّ ذلك داخل في جملتها مثل أن يذكروا ثقابة المعرفة، والحياء، والبيان، والسياسة، والصّدع بالحجّة، والعلم، والحلم عن سفاهة الجهلة وغير ذلك ممّا يجري هذا المجرى، وهو من أقسام العقل. وكذكرهم القناعة، وقلّة الشّره، وطهارة الإزار وغير ذلك أيضا من أقسام العفّة.
وكذكرهم الحماية، والأخذ بالثّار، والدفاع، والنّكاية، والمهابة، وقتل الأقران، والسير في المهامه (1) والقفار وما يشاكل ذلك، وهو من أقسام الشجاعة وكذكرهم السماحة، والتغابن، والانظلام، والتبرّع بالنائل، وإجابة السائل وقرى الأضياف وما جانس هذه الأشياء، وهو من أقسام العدل.
فأمّا تركيب بعضها على بعض فتحدث منها ستة أقسام: يحدث من تركيب العقل مع الشجاعة: الصبر على الملّمات، ونوازل الخطوب، والوفاء بالوعود. وعن تركيب العقل مع السخاء: إنجاز الوعد، وما أشبه ذلك. وعن تركيب العقل مع العفة: التنزه والرغبة عن المسألة، والاقتصار على أدنى معيشة، وما أشبه ذلك. وعن تركيب الشجاعة مع السخاء:
الإخلاف، والإتلاف، وما أشبه ذلك. وعن تركيب الشجاعة مع العفّة: إنكار الفواحش، والغيرة على الحرم. ومن السخاء مع العفة: الإسعاف بالقوت، والإيثار على النفس، وما شاكل ذلك. وكل واحدة من هذه الفضائل الأربع وسط بين طرفين مذمومين.
وقد قال أبو جعفر محمد بن مناذر لمّا حجّ الرشيد مع البرامكة: [الطويل]
أتانا بنو الأملاك من آل برمك ... فيا طيب أخبار، ويا حسن منظر
لهم رحلة في كلّ عام إلى العدا ... وأخرى إلى البيت العتيق المشهّر
فتظلم بغداد، ويجلو لنا الدّجى ... بمكة ما حجّوا ثلاثة أقمر
إذا نزلوا بطحاء مكة أشرقت ... بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر
فما خلقت إلّا لجود أكفّهم ... وأقدامهم إلّا لأعواد منبر
إذا راض يحيى الأمر ذلّت صعابه ... وحسبك من راع له ومدبّر
ترى الناس إجلالا له وكأنهم ... غرانيق ماء تحت باز مصرصر (2)
__________
(1) المهامه: جمع مهمه ومهمهة وهي المفازة البعيدة. القاموس المحيط (مهه).
(2) الغرانيق: جمع غرنوق وهو طير مائي أسود. البازي: ضرب من الصقور. مصرصر: اسم فاعل صرصر، أي صاح من العطش وصوّت صوتا شديدا. القاموس المحيط (غرق) و (بزي) و (صرصر).(1/338)
[مذهب التجنيس في الغزل]
قطعة من شعر الأمير أبي الفضل الميكالي في طرف أخذ بطرف من التجنيس مستطرف في ضروب من الغزل، قال: [الطويل]
لقد راعني بدر الدّجى بصدوده ... ووكّل أجفاني برعي كواكبه
فيا جزعي، مهلا عساه يعود لي ... ويا كبدي، صبرا على ما كواك به
وقال: [الطويل]
مواعيده في الفضل أحلام نائم ... أشبّهها بالقفر أو بسرابه
فمن لي بوجه لو تحيّر في الدّجى ... أخو سفر في ليل غيم سرى به
وقال: [الخفيف]
صل محبّا أعياه وصف هواه ... فضناه ينوب عن ترجمانه
كلّما راقه سواك تصدّت ... مقلتاه بدمعة ترجمانه
وقال: [السريع]
يا ذا الذي أرسل من طرفه ... عليّ سيفا قدّني لو فرا
شفاء نفسي منك تخميشة ... تغرس في خدّك نيلوفرا (1)
وقال: [الكامل]
يا مبتلى بضناه يرجو رحمة ... من مالك يشفيه من أوصابه
[أوصاك سحر جفونه بتسهّد ... وتبلّد، فقبلت ما أوصى به]
اصبر على مضض الهوى فلرّبما ... تحلو مرارة صبره أوصابه
وقال: [الوافر]
كتبت إليه أستهدي وصالا ... فعلّلني بوعد في الجواب
ألا ليت الجواب يكون خيرا ... فيطفىء ما أحاط من الجوى بي
وقال: [الكامل]
إن كنت تأنس بالحبيب وقربه ... فاصبر على حكم الرقيب وداره
إنّ الرقيب إذا صبرت لحكمه ... بوّاك في مثوى الحبيب وداره
__________
(1) التّخميشة: من خمش وجهه يخمشه: أي خدشه. القاموس المحيط (خمش).(1/339)
وقال: [الطويل]
شكوت إليه ما ألاقي فقال لي: ... رويدا، ففي حكم الهوى أنت مؤتلي
فلو كان حقا ما ادّعيت من الهوى ... لقلّ بما تلقى إذا أن تموت لي
وقال: [الوافر]
نوى لي بعد إكثار السؤال ... حبيب أن يسامح بالنّوال
فلمّا رمت إنجازا لوعدي ... عليه أبى الوفاء بما نوى لي
وكان القرب منه شفاء نفسي ... فقد قضت النوائب بالنّوى لي
وقال: [البسيط]
سقيا لدهر مضى والوصل يجمعنا ... ونحن نحكي عناقا شكل تنوين
فصرت إذ علقت كفّي حبائلكم ... فسهم هجرك ترمي ثم تنويني
وقال: [مجزوء الكامل]
صدف الحبيب بوصله ... فجفا رقادي إذ صدف
ونثرت لؤلؤ أدمع ... أضحى لها جفني صدف
وقال: [الكامل]
يا من يقول الشعر غير مهذّب ... ويسومني التعذيب في تهذيبه
لو أنّ كلّ النّاس فيك مساعدي ... لعجزت عن تهذيب ما تهذي به
وقال: [السريع]
أراد أن يخفي هواه وقد ... نمّ بما تخفي أساريره
وكيف يخفي داءه مدنف ... قد ذاب من فرط الأسى ريره (1)
وقال: [مجزوء الكامل]
ومهفهف تهفو بل ... بّ المرء منه شمائل
فالردف دعص هائل ... والقدّ غصن مائل
والخدّ نور شقائق ... تنشقّ عنه خمائل
والعرف نشر حدائق ... تمّت بهنّ شمائل
__________
(1) الرّير، بكسر الراء وفتحها وسكون الياء: الذائب من المخّ، أو الذي كان شحما في العظام أو صار ماء أسود رقيقا. القاموس المحيط (رير).(1/340)
والطّرف سيف ما له ... إلّا العذار حمائل
ولأبي الفتح البستي في هذا المذهب: [الخفيف]
إن لي في الهوى لسانا كتوما ... وجنانا يخفي حريق جواه
غير أني أخاف دمعي عليه ... ستراه يفشي الذي ستراه
ولأبي الفتح البستي في مذهب هذا البيت الأخير: [الخفيف]
ناظراه فيما جنى ناظراه ... أودعاني أمت بما أودعاني
وله: [المتقارب]
خذ العفو وامر بعرف كما ... أمرت وأعرض عن الجاهلين
ولن في الكلام لكلّ الأنام ... فمستحسن من ذوي الجاه لين
وله: [مجزوء الوافر]
إلى حتفي سعى قدمي ... أرى قدمي أراق دمي
فما أنفكّ من ندمي ... وليس بنافعي ندمي
وله (1): [البسيط]
إن هزّ أقلامه يوما ليعملها ... أنساك كلّ كميّ هزّ عامله
وإن أقرّ على رقّ أنامله ... أقرّ بالرّق كتّاب الأنام له
وقال لمن استدعاه إلى مودّته: [المتقارب]
فديتك قلّ الصديق الصّدوق ... وقلّ الخليل الحفيّ الوفي
ولي راغب فيك إمّا وفيت ... فهل راغب أنت في أن تفي؟
وللأمير أبي الفضل: [مخلع البسيط]
أهلا بظبي حواه قصر ... كجنّة قد حوت نعيما
طرقته لا أهاب سوءا ... أباحني حبّه الحريما
فجاد من فيه لي براح ... تنفي حريقا به قديما
أفدي حريقا أباح ريقا ... لا بل حريما أباح ريما
__________
(1) البيتان في وفيات الأعيان (ج 3ص 377) دون تغيير عمّا هنا.(1/341)
وله: [البسيط]
من لي بشمل المنى والأنس أجمعه ... بشادن حلّ فيه الحسن أجمعه
ما زال يعرض عن وصلي وأخدعه ... فالآن قد لان بعد الصدّ أخدعه (1)
وقال: [الكامل]
بأبي غزال نام عن وصبي به ... ومراق دمعي للنّوى وصبيبه (2)
يا ليته يرثي على ولهي به ... لغرام قلبي في الهوى ولهيبه
وله في هذا الباب من غير هذا النمط يصف غلاما مخمورا خمش وجهه: [الكامل]
هبه تغيّر حائلا عن عهده ... ورمى فؤادي بالصدود فأزعجا
ما بال نرجسه تحوّل وردة ... والورد في خدّيه عاد بنفسجا
وله في هذا المعنى: [المتقارب]
وريم على السّكر خمّشته ... بقرص بعارضه أثّرا
فأصبح نرجسه وردة ... ووردة خدّيه نيلوفرا
وقال في وصف العذار: [الكامل]
ظبي كسا رأس الشباب بعارض ... نمّ العذار بحافتيه فلاحا
فكأنما أهدى لعارض خدّه ... شعري ظلاما واستعاض صباحا
وقال في غلام افتصد: [مجزوء الكامل]
ومهفهف غرس الجما ... ل بخدّه روضا مريعا
فصد الطبيب ذراعه ... فجرى له دمعي ذريعا
وأمسّني وقع الحدي ... د بعرقه ألما وجيعا
فأريته من عبرتي ... ما سال من دمه نجيعا
فقر في ذكر العلم والعلماء
العلماء ورثة الأنبياء. والعلماء أعلام الإسلام. العلماء في الأرض كالنجوم في السماء.
__________
(1) الأخدع عرق في المحجمتين، وهو شعبة من الوريد. القاموس المحيط (خدع).
(2) الوصب، بفتح الواو والصاد: المرض. القاموس المحيط (وصب).(1/342)
ابن المعتز العلماء غرباء، لكثرة الجهل. وله: العلم جمال لا يخفى، ونسب لا يجفى. وله: زلّة العالم كانكسار سفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير.
غيره إذا زلّ العالم، زلّ بزلّته عالم. غيره: الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك. من لم يحتمل ذلّ التعلّم ساعة، بقي في ذلّ الجهل أبدا. ما صين العلم بمثل بذله لأهله. من كتم علما فكأنه جاهله: [مجزوء الكامل]
العلم يمنع أهله ... أن يمنعوه أهله
أبو الفتح كشاجم: [مجزوء الكامل]
لا تمنع العلم أمرأ ... والعلم يمنع جانبه
أمّا الغبيّ فليس يف ... هم لطفه وغرائبه
وتكون حاضرة الفوا ... ئد عنده كالغائبه
وأخو الحصافة مستحقّ ... أن ينال مطالبه
فبحقّه أعطيته ... من فضل علمك واجبه
ومن رقّ وجهه عند السؤال، رقّ علمه عند الرجال. علم بلا عمل، كشجرة بلا ثمر. كما لا ينبت المطر الكثير الصّخر، كذلك لا ينفع البليد كثرة التعلّم. من ترفّع بعلمه وضعه الله بعمله. الجاهل صغير وإن كان كبيرا، والعالم كبير وإن كان صغيرا. من أكثر مذاكرة العلماء، لم ينس ما علم، واستفاد ما لم يعلم.
ابن المعتز: المتواضع في طلاب العلم أكثرهم علما، كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماء. إذا علمت فلا تذكر من دونك من الجهال، واذكر من فوقك من العلماء. النار لا ينقصها ما أخذ منها، ولكن ينقصها ألّا تجد حطبا، كذلك العلم لا يفنيه الاقتباس منه، وفقد الحاملين له سبب عدمه. مات خزنة الأموال وهم أحياء، وعاش خزّان العلم وهم أموات. مثل علم لا ينفع ككنز لا ينفق منه. أزهد الناس في عالم جيرانه.
وقيل للصّلت بن عطاء، وكان مقدّما عند البرامكة: كيف غلبت عليهم وعندهم من هو آدب منك؟ قال: ليس للقرباء طرافة الغرباء، وكنت أمرأ بعيد الدار، نائي المزار، غريب الاسم، قليل الجرم، كثير الالتواء، شحيحا بالإملاء فرغّبهم فيّ رغبتي عنهم، وزهّدني فيهم رغبتهم فيّ.
علم لا يعبر معك الوادي، لا يعمر بك النادي. لو سكت من لا يعلم لسقط الاختلاف. إذا ازدحم الجواب خفي الصواب. الغلط تحت اللّغط. خرق الإجماع خرق.
المحجوج بكلّ شيء ينطق.(1/343)
المحجوج بكلّ شيء ينطق.
استعارات فقهية تليق بهذا المكان
دخل أبو تمام الطائي على أحمد بن أبي دواد في مجلس حكمه، وأنشده أبياتا يستمطر نائله، وينشر فضائله، فقال: سيأتيك ثوابها يا أبا تمام، ثم اشتغل بتوقيعات في يده فأحفظ ذلك أبا تمام، فقال: احضر، أيّدك الله، فإنك غائب، واجتمع فإنك مفترق، ثم أنشده: [المنسرح]
إنّ حراما قبول مدحتنا ... وترك ما نرتجي من الصّفد (1)
كما الدنانير والدراهم في ال ... صّرف حرام إلّا يدا بيد
فأمر بتوفير حبائه، وتعجيل عطائه.
ولمّا ولي طاهر بن عبد الله بن طاهر خراسان دخل الشعراء يهنئونه، وفيهم تمام بن أبي تمام فأنشده: [السريع]
هنّاك ربّ الناس هنّاكا ... ما من جزيل الملك أعطاكا
قرّت بما أعطيت يا ذا الحجى ... والبأس والإنعام عيناكا
أشرقت الأرض بما نلته ... وأورق العود بجدواكا
فاستضعف الجماعة شعره، وقالوا: يا بعد ما بينه وبين أبيه! فقال طاهر لبعض الشعراء: أجبه، فقال:
حيّاك ربّ الناس حيّاكا ... إنّ الذي أمّلت أخطاكا
فقلت قولا فيه ما زانه ... ولو رأى مدحا لآساكا
فهاك إن شئت بها مدحة ... مثل الذي أعطيت أعطاكا
فقال تمام: أعزّ الله الأمير، وإنّ الشّعر بالشعر ربا، فاجعل بينهما صنجا من الدراهم، حتى يحلّ لي ولك! فضحك وقال: إلا يكن معه شعر أبيه، فمعه ظرف أبيه أعطوه ثلاثة آلاف درهم! فقال عبد الله بن إسحاق: لو (2) لم يعط إلّا لقول أبيه في الأمير أبي العباس رحمه الله يريد عبد الله بن طاهر: [البسيط]
يقول في قومس صحبي وقد أخذت ... منّا السّرى وخطا المهريّة القود
أمطلع الشمس تبغي أن تؤمّ بنا؟ ... فقلت: كلّا، ولكن مطلع الجود
فقال: ويعطى بهذا ثلاثة آلاف.
__________
(1) الصّفد، بفتح الصاد والفاء: العطاء. القاموس المحيط (صفد).
(2) جواب «لو» محذوف، والتقدير هو: لو لم يعط إلّا لقول أبيه لكان ذلك مقبولا.(1/344)
[ولاية طاهر بن عبد الله بن طاهر خراسان]
وكان سبب ولاية طاهر خراسان بعد أبيه ما حدّث به أبو العيناء قال:
كنّا عند أحمد بن أبي دواد، فجاء الخبر أنّ الكتب وردت على الواثق من خراسان بوفاة عبد الله بن طاهر، وأن الواثق يعزّى عنه، وأنه قد ولّي مكانه خراسان إسحاق ابن إبراهيم، وكان عدوّا له لانخراطه في سلك ابن الزيات فلبس ثيابه ومضى، وقال: لا تبرحوا حتى أعود إليكم فلبث قليلا، ثم عاد إلينا فحدّثنا أنه دخل على الواثق فعزّاه عن عبد الله وجلس، قال: فقال لي الواثق: قد ولّينا إسحاق خراسان، فما عندك؟ قلت: وفق الله أمير المؤمنين ولا نذمّه. قال: قل ما عندك في هذا. قلت: أمر قد أمضي، فما عسيت أن أقول فيه. قال: لتفعلنّ. فقلت: يا أمير المؤمنين، خراسان منذ ثلاثين سنة في يد طاهر وابنه، وكلّ من بها صنائعهم، وقد خلّف عبد الله عشر بنين أكثرهم رجال، وجميع جيش خراسان لهم عبيد أو موال أو صنائع، وسيقولون: أما كان فينا مصطنع؟ وكان يجب أن يجرّبنا أمير المؤمنين، فإن وفينا بما كان يفي به أبونا وجدّنا، وإلّا استبدل منّا بعد عذر فينا ويقدم خراسان إسحاق وهو رجل غريب فينافسه هؤلاء، ويتعصّب أهلها لهم فينتقض ما أبرم، ويفسد ما أصلح.
قال: صدقت يا أبا عبد الله، والرأي ما قلت، اكتبوا بعهد طاهر بن عبد الله على خراسان. فكتبت كتب طاهر، وحرقت كتب إسحاق، فخرجت الزنج تطير بها، ثم لقيني إسحاق داخلا، فقلت: يا أبا الحسن، لا عدمت عداوة رجل أزال عنك ولاية خراسان بكلمة.
ومدح ابن الرومي أبا العباس بن ثوابة، فعارضه أخوه أبو الحسن بقصيدة يمدح أخاه بها، فقال ابن الرومي: [المتقارب]
أليس القوافي بنات الفتى ... إذا صورة الحقّ لم تمسخ
فلا تقّبلنّ أماديح ... حرام نكاح بنات الأخ
ولما أنشد أبو تمام قصيدته في المعتصم: * السيف أصدق أنباء من الكتب * قال له: لقد جلوت عروسك يا أبا تمام فأحسنت جلاءها. قال: يا أمير المؤمنين، والله لو كانت من الحور العين لكان حسن إصغائك إليها من أوفى مهورها.
وقال الأمير أبو الفضل الميكالي: [الوافر]
أقول لشادن في الحسن أضحى ... يصيد بلحظه قلب الكميّ
ملكت الحسن أجمع في قوام ... فأدّ زكاة منظرك البهيّ
وذلك أن تجود لمستهام ... بريق من مقبّلك الشّهيّ
فقال: أبو حنيفة لي إمام ... فعندي لا زكاة على الصّبيّ
وربما أنشد هذه الأبيات على قافية أخرى فقال: [الوافر](1/345)
أقول لشادن في الحسن أضحى ... يصيد بلحظه قلب الكميّ
ملكت الحسن أجمع في قوام ... فأدّ زكاة منظرك البهيّ
وذلك أن تجود لمستهام ... بريق من مقبّلك الشّهيّ
فقال: أبو حنيفة لي إمام ... فعندي لا زكاة على الصّبيّ
وربما أنشد هذه الأبيات على قافية أخرى فقال: [الوافر]
أقول لشادن في الحسن فرد ... يصيد بلحظه قلب الجليد
ملكت الحسن أجمع في قوام ... فلا تمنع وجوبا عن وجود
وذلك أن تجود لمستهام ... برشف رضابك العذب البرود
فقال: أبو حنيفة لي إمام ... فعندي لا زكاة على الوليد
وقال: [الطويل]
بنفسي غزال صار للحسن قبلة ... يحجّ من البيت العتيق ويقصد
دعاني الهوى فيه فلبّيت طائعا ... وأحرمت بالإخلاص والسّعي يشهد
فطرفي بالتسهيد والدّمع قارن ... وقلبي عليه بالصبابة مفرد
وقال أبو الفتح كشاجم: [البسيط]
فديت زائرة في العيد واصلة ... والهجر في غفلة من ذلك الخبر
فلم يزل خدّها ركنا أطوف به ... والخال في خدّها يغني عن الحجر
وينضاف إلى هذا النظم قطعة من رسالة طويلة كتبها بديع الزمان إلى أبي نصر بن المرزبان:
كتابي، أطال الله بقاء الشيخ وأنا سالم، والحمد لله رب العالمين، كيف تقلّب الشيخ في درع العافية، وأحواله بتلك الناحية فإني ببعده منغّص شرعة العيش، مقصوص أجنحة الأنس. ورد كتابه المشتمل من خبر سلامته، على ما أرغب إلى الله في إدامته، وسكنت إليه بعد انزعاجي لتأخّره وقد كان رسم أن أعرّفه سبب خروجي من جرجان، ووقوعي بخراسان، وسبب غضب السلطان وقد كانت القصة أني لما وردت من ذلك السلطان حضرته، التي هي كعبة المحتاج، لا كعبة الحجّاج، ومستقرّ الكرم، لا مشعر الحرم، وقبلة الصّلات، لا قبلة الصلاة، ومنى الضّيف، لا منى الخيف، وجدت بها ندماء من نبات العام (1)، اجتمعوا قيضة كلب (2) على تلفيق خطب، أزعجني عن ذلك الفناء،
__________
(1) من نبات العام: أي إنهم حديثوا العهد.
(2) القيضة: القطعة الصغيرة من العظم، وهو هنا يحقّرهم عندما يصفهم بعظام الكلب. القاموس المحيط (فيض).(1/346)
وأشرف بي على الفناء، لولا ما تدارك الله بجميل صنعه، وحسن دفعه ولا أعلم كيف احتالوا، ولا ما الّذي قالوا وبالجملة غيّروا رأي السلطان، وأشار عليّ إخواني، بمفارقة مكاني، وبقيت لا أعلم أيمنة أضرب أم شآمة، ونجدا أقصد أم تهامة: [الطويل]
ولو كنت في سلمى أجا وشعابها ... لكان لحجّاج عليّ دليل
وقد علم الشيخ أن ذلك السلطان سماء إذا تغيّم لم يرجع صحوه، وماء إذا تغيّر لم يشرب صفوه، وملك إذا سخط لم ينتظر عفوه، وليس بين رضاه والسخط عوجة، كما ليس بين غضبه والسيف فرجة، ولسي من وراء سخطه مجاز، كما ليس بين الحياة والموت معه حجاز فهو سيّد يغضبه الجرم الخفيّ، ولا يرضيه العذر الجلي وتكفيه الجناية وهي إرجاف، ثم لا تشفيه العقوبة وهي إجحاف، حتى إنه ليرى الذنب وهو أضيق من ظلّ الرمح، ويعمى عن العذر وهو أبين من عمود الصّبح وهو ذو أذنين يسمع بهذه القول وهو بهتان، ويحجب عن هذه العذر وله برهان وذو يدين يبسط إحداهما إلى السفك والسفح، ويقبض الأخرى عن العفو والصفح وذو عينين يفتح إحداهما إلى الجرم، ويغمض الأخرى عن الحلم، فمزحه بين القدّ والقطع، وجدّه بين السيف والنّطع، ومراده بين الظهور والكمون، وأمره بين الكاف والنون ثم لا يعرف من العقاب، غير ضرب الرقاب، ولا يهتدي من التأنيب إلّا لإزالة النعم، ولا يعلم من التأديب غير إراقة الدم، ولا يحتمل الهنة على حجم الذرة، ودقة الشعرة، ولا يحلم عن الهفوة، كوزن الهبوة، ولا يغضي عن السقطة، كجرم النقطة ثم إن النقم بين لفظه وقلمه، والأرض تحت يده وقدمه، لا يلقاه الولي إلّا بفمه، ولا العدو إلّا بدمه والأرواح بين حبسه وإطلاقه، كما أنّ الأجسام بين حلّه ووثاقه فنظرت فإذا أنا بين جودين إمّا أن أجود ببأسي، وإمّا أن أجود برأسي، وبين ركوبين إمّا المفازة، وإمّا الجنازة، وبين طريقين إما الغربة، وإمّا التربة، وبين فراقين إمّا أن أفارق أرضي، أو أفارق عرضي، وبين راحلتين إمّا ظهور الجمال، وإمّا أعناق الرجال، فاخترت السماح بالوطن، على السماح بالبدن وأنشدت: [الطويل]
إذا لم يكن إلّا المنيّة مركب ... فلا رأي للمحمول إلّا ركوبها
ولّد ما ذكر من «كعبة [المحتاج، لا كعبة] الحجّاج»، من قول أبي تمام (1):
[الكامل]
بيتان حجّهما الأنام فهذه ... حجّ الغنيّ، وتلكم للمعدم
__________
(1) لم يرد البيت في ديوان أبي تمام.(1/347)
[أبو عليّ البصير]
وشتم بعض الطالبيين أبا عليّ الفضل بن جعفر البصير، فقال أبو عليّ: والله ما نعيا عن جوابك، ولا نعجز عن مسابّك ولكنّا نكون خيرا لنسبك منك، ونحفظ منه ما أضعت فاشكر توفيرنا ما وفّرنا منك، ولا يغرّنّك بالجهل علينا حلمنا عنك.
وسأل أبو علي البصير بعض الرؤساء حاجة ولقيه فاعتذر إليه من تأخّرها فقال أبو عليّ: في شكر ما تقدّم من إحسانك شاغل من استبطاء ما تأخّر منه.
وأبو عليّ أحد من جمع له حظّ البلاغة في الموزون والمنثور، وهو القائل:
[الطويل]
ألمّت بنا يوم الرحيل اختلاسة ... فأضرم نيران الهوى النّظر الخلس
تأبّت قليلا وهي ترعد خيفة ... كما تتأتّى حين تعتدل الشمس
فخاطبها صمتي بما أنا مضمر ... وأنبست حتى ليس يسمع لي حسّ
وولّت كما ولّى الشباب لطيّة ... طوت دونها كشحا على يأسها النفس
وقال يصف بلاغة الفتح بن خاقان وشعره: [الطويل]
سمعنا بأشعار الملوك فكلّها ... إذا عضّ متنيه الثّقاف تأوّدا
سوى ما رأينا لأمرىء القيس إننا ... نراه متى لم يشعر الفتح أوحدا
أقام زمانا يسمع القول صامتا ... ونحسبه إن رام أكدى وأصلدا
[فلمّا امتطاه راكبا ذلّ صعبه ... وسار فأضحى قد أغار وأنجدا]
والفتح بن خاقان يقول: [الطويل]
وإني وإياها لكالخمر، والفتى ... متى يستطع منها الزيادة يزدد
إذا ازددت منها زاد وجدي بقربها ... فكيف احتراسي من هوى متجدّد؟
وكتب إلى أبي الحسن عبيد الله بن يحيى: وإن أمير المؤمنين لمّا استخلصك لنفسه، وائتمنك على رعيّته فنطق بلسانك، وأخذ وأعطى بيدك، وأورد وأصدر عن رأيك، وكان تفويضه إليك بعد امتحانه إياك، وتسليطه الحقّ على الهوى فيك، وبعد أن مثّل بينك وبين الذين سموا لمرتبتك، وجروا إلى غايتك، فأسقطهم مضاؤك، وخفّوا في ميزانك، ولم يزدك أكرمك الله رفعة وتشريفا إلّا ازددت له هيبة وتعظيما، ولا تسليطا وتمكينا، إلّا زدت نفسك عن الدنيا عزوفا وتنزيها، ولا تقريبا واختصاصا، إلّا ازددت بالعامة رأفة وعليها حدبا، لا يخرجك فرط النصح له عن النظر لرعيّته، ولا إيثار حقّه عن
الأخذ بحقّها عنده، ولا القيام بما هو له عن تضمين ما هو عليه، ولا يشغلك معاناة كبار الأمور عن تفقّد صغارها، ولا الجدّ في صلاح ما يصلح منها عن النظر في عواقبها تمضي ما كان الرّشد في إمضائه، وترجىء ما كان الحزم في إرجائه، وتبذل ما كان الفضل في بذله، وتمنع ما كانت المصلحة في منعه، وتلين في غير تكبّر، وتخصّ في خير ميل، وتعمّ في غير تصنّع، لا يشقى بك المحقّ وإن كان عدوّا، ولا يسعد بك المبطل وإن كان وليّا فالسلطان يعتدّ لك من الغناء والكفاية، والذّبّ والحياطة، والنّصح والأمانة، والعفّة والنزاهة، والنصب فيما أدّى إلى الراحة، بما يراك معه حيث انتهى إحسانه إليك مستوجبا للزيادة، وكافة الرعية إلّا من غمط منهم النّعمة مثنون عليك بحسن السيرة، ويمن النقيبة، ويعدّون من مآثرك أنك لم تدحض لأحد حجّة ولم تدفع حقّا لشبهة وهذا يسير من كثير، لو قصدنا لتفصيله، لأنفدنا الزمان قبل تحصيله، ثم كان قصدنا الوقوف دون الغاية منه.(1/348)
وإني وإياها لكالخمر، والفتى ... متى يستطع منها الزيادة يزدد
إذا ازددت منها زاد وجدي بقربها ... فكيف احتراسي من هوى متجدّد؟
وكتب إلى أبي الحسن عبيد الله بن يحيى: وإن أمير المؤمنين لمّا استخلصك لنفسه، وائتمنك على رعيّته فنطق بلسانك، وأخذ وأعطى بيدك، وأورد وأصدر عن رأيك، وكان تفويضه إليك بعد امتحانه إياك، وتسليطه الحقّ على الهوى فيك، وبعد أن مثّل بينك وبين الذين سموا لمرتبتك، وجروا إلى غايتك، فأسقطهم مضاؤك، وخفّوا في ميزانك، ولم يزدك أكرمك الله رفعة وتشريفا إلّا ازددت له هيبة وتعظيما، ولا تسليطا وتمكينا، إلّا زدت نفسك عن الدنيا عزوفا وتنزيها، ولا تقريبا واختصاصا، إلّا ازددت بالعامة رأفة وعليها حدبا، لا يخرجك فرط النصح له عن النظر لرعيّته، ولا إيثار حقّه عن
الأخذ بحقّها عنده، ولا القيام بما هو له عن تضمين ما هو عليه، ولا يشغلك معاناة كبار الأمور عن تفقّد صغارها، ولا الجدّ في صلاح ما يصلح منها عن النظر في عواقبها تمضي ما كان الرّشد في إمضائه، وترجىء ما كان الحزم في إرجائه، وتبذل ما كان الفضل في بذله، وتمنع ما كانت المصلحة في منعه، وتلين في غير تكبّر، وتخصّ في خير ميل، وتعمّ في غير تصنّع، لا يشقى بك المحقّ وإن كان عدوّا، ولا يسعد بك المبطل وإن كان وليّا فالسلطان يعتدّ لك من الغناء والكفاية، والذّبّ والحياطة، والنّصح والأمانة، والعفّة والنزاهة، والنصب فيما أدّى إلى الراحة، بما يراك معه حيث انتهى إحسانه إليك مستوجبا للزيادة، وكافة الرعية إلّا من غمط منهم النّعمة مثنون عليك بحسن السيرة، ويمن النقيبة، ويعدّون من مآثرك أنك لم تدحض لأحد حجّة ولم تدفع حقّا لشبهة وهذا يسير من كثير، لو قصدنا لتفصيله، لأنفدنا الزمان قبل تحصيله، ثم كان قصدنا الوقوف دون الغاية منه.
وله إلى عبيد الله بن يحيى: يقطعني عن الأخذ بحظّي من لقائك، وتعريفك ما أنا عليه عن شكر إنعامك، وإفرادي إياك بالتأميل دون غيرك، تخلّفي عن منزلة الخاصّة، ورغبتي عن الحلول محلّ العامة، وأني لست معتادا للخدمة ولا الملازمة، ولا قويّا على المغاداة والمراوحة فلا يمنعك ارتفاع قدرك، وعلوّ أمرك، وما تعانيه من جلائل الأحوال الشاغلة، من أن تتطوّل بتجديد ذكري، والإصغاء إلى من يحضّك على وصلي وبرّي، ويرغبك في إسداء حسن الصنيعة عندي.
وله إليه آخر فصل من كتاب: وأنا أسأل الله الذي رحم العباد بك، على حين افتقار منهم إليك، أن يعيذهم من فقدك، ولا يعيدهم إلى المكاره التي استنقذتهم منها بيدك.
[السفر]
ولقي رجل رجلا خارجا من مصر يريد المغرب، فقال: يا أخي، أتتّبع القطر، وتدع مجرى السيول؟ فقال: أخرجني من مصر حقّ مضاع، وشحّ مطاع، وإقتار الكريم، وحركة اللئيم، وتغيّر الصديق، بين السعة والضّيق، والهرب إلى النّزر بالعزّ، خير من طلب الوفر بذلّ العجز.
وأوصى بعض الحكماء صديقا له، وقد أراد سفرا، فقال: إنك تدخل بلدا لا يعرفك أهله، فتمسّك بوصيتي تنفق بها فيه عليك بحسن الشمائل فإنها تدلّ على الحرية، ونقاء الأطراف فإنها تشهد بالملوكية ونظافة البزّة فإنها تنبىء عن النّشء في النّعمة وطيب
الرائحة فإنها تظهر المروءة، والأدب الجميل فإنه يكسب المحبة، وليكن عقلك دون دينك، وقولك دون فعلك، ولباسك دون قدرك، والزم الحياء والأنفة فإنك إن استحييت من الغضاضة (1) اجتنبت الخساسة، وإن أنفت عن الغلبة، لم يتقدمك نظير في مرتبة.(1/349)
وأوصى بعض الحكماء صديقا له، وقد أراد سفرا، فقال: إنك تدخل بلدا لا يعرفك أهله، فتمسّك بوصيتي تنفق بها فيه عليك بحسن الشمائل فإنها تدلّ على الحرية، ونقاء الأطراف فإنها تشهد بالملوكية ونظافة البزّة فإنها تنبىء عن النّشء في النّعمة وطيب
الرائحة فإنها تظهر المروءة، والأدب الجميل فإنه يكسب المحبة، وليكن عقلك دون دينك، وقولك دون فعلك، ولباسك دون قدرك، والزم الحياء والأنفة فإنك إن استحييت من الغضاضة (1) اجتنبت الخساسة، وإن أنفت عن الغلبة، لم يتقدمك نظير في مرتبة.
قال الأصمعي: سمعت أعرابيا يوصي آخر أراد سفرا فقال: آثر بعملك معادك، ولا تدع لشهوتك رشادك، وليكن عقلك وزيرك الذي يدعوك إلى الهدى، ويجنّبك من الرّدى، واحبس هواك عن الفواحش، وأطلقه في المكارم فإنك تبرّ بذلك سلفك، وتشيد به شرفك.
وأوصت أعرابية ابنها في سفر، فقالت: يا بني، إنك تجاور الغرباء، وترحل عن الأصدقاء، ولعلّك لا تلقى غير الأعداء فخالط الناس بجميل البشر، واتّق الله في العلانية والسرّ.
وقال بعض الملوك لحكيم وقد أراد سفرا: قفني على أشياء من حكمتك أعمل بها في سفري، فقال:
اجعل تأنّيك أمام عجلتك، وحلمك رسول شدّتك، وعفوك مالك قدرتك، وأنا ضامن لك قلوب رعيّتك، ما لم تحرجهم بالشدّة عليهم، أو تبطرهم بالإحسان إليهم.
وقال أبان بن تغلب: شهدت أعرابية توصي ولدا لها أراد سفرا وهي تقول: أي بني، اجلس أمنحك وصيتي، وبالله توفيقك، قال أبان: فوقفت مستمعا لكلامها، مستحسنا لوصيّتها، فإذا هي تقول: أي بني، إياك والنّميمة، فإنها تزرع الضغينة، وتفرّق بين المحبّين، وإياك والتعرض للعيوب فتتّخذ غرضا، وخليق ألّا يثبت الغرض على كثرة السهام وقلّما اعتورت السهام غرضا إلّا كلمته، حتى يهي ما اشتدّ من قوّته وإياك والجود بدينك، والبخل بمالك وإذا هززت فاهزز كريما يلن لمهزّتك ولا تهزز الليئم فإنه صخرة لا يتفجّر ماؤها، ومثّل بنفسك مثال ما استحسنت من غيرك فاعمل به، وما استقبحت من غيرك فاجتنبه فإن المرء لا يرى عيب نفسه ومن كانت مودّته بشره، وخالف منه ذلك فعله، كان صديقه منه على مثل الريح من تصرّفها.
ثم أمسكت، فدنوت منها، فقلت لها: بالله يا أعرابية، إلّا ما زدته في الوصية قالت: أو قد أعجبك كلام العرب يا حضري؟ قلت: نعم! قالت: الغدر أقبح ما تعامل به الناس بينهم، ومن جمع الحلم والسخاء فقد أجاد الحلّة ريطتها (2) وسربالها.
__________
(1) الغضاضة: الذّلّة والمنقصة. القاموس المحيط (غضض).
(2) الرّيطة: كل ثوب ليّن رقيق، أو كلّ ملاءة غير ذات لفقين كلها نسج واحد. القاموس المحيط (ريط).(1/350)
فقر في مدح السفر
أبو القاسم بن عباد الصاحب: الخبر المنقول أنّ المقبوض غريبا شهيد. وفي الحديث: سافروا تغنموا. السفر أحد أسباب العيش التي بها قوامه، وعليها نظامه. إنّ الله لم يجمع منافع الدنيا في الأرض بل فرّقها وأحوج بعضها إلى بعض. المسافر يسمع العجائب، ويكسب التجارب، ويجلب المكاسب. الأسفار ممّا تزيدك علما بقدرة الله وحكمته، وتدعوك إلى شكر نعمته. ليس بينك وبين بلد نسب فخير البلاد ما حملك.
السفر يسفر عن أخلاق الرجال. أوحش أهلك إذا كان في إيحاشهم أنسك، واهجر وطنك إذا نبت عنه نفسك. ربما أسفر السفر عن الظّفر، وتعذّر في الوطن قضاء الوطر، وأنشد:
[البسيط]
ليس ارتحالك ترتاد الغنى سفرا ... بل المقام على خسف هو السفر
وهذا كقول الطائي (1): [الطويل]
وما القفر بالبيد الفضاء، بل الّتي ... نبت بي وفيها ساكنوها هي القفر
أخذه المتنبي فقال (2): [البسيط]
إذا ترحّلت عن قوم وقد قدروا ... ألّا تفارقهم فالرّاحلون هم
نقيض ذلك في ذمّ السفر والغربة
في الحديث إنّ المسافر وماله لعلى، قلت: إلّا ما وقى الله، أي على هلاك. شيئان لا يعرفهما إلّا من ابتلي بهما: السفر الشاسع، والبناء الواسع. السفر والسّقم والقتال ثلاث متقاربة فالسفر سفينة الأذى، والسّقم حريق الجسد، والقتال منبت المنايا. إذا كنت في غير بلدك فلا تنس نصيبك من الذّل. الغربة كربة. النّقلة مثلة. الغريب كالغرس الذي زايل أرضه، وفقد شربه فهو ذاو لا يثمر، وذابل لا ينضر. الغريب كالوحش النائي عن وطنه فهو لكل سبع فريسة، ولكل رام رميّة وأنشد: [الوافر]
لقرب الدار في الإقتار خير ... من العيش الموسّع في اغتراب
وقال أبو الفتح البستي: [البسيط]
لا يعدم المرء شيئا يستعين به ... ومنعه بين أهليه وأصحابه
__________
(1) ديوان أبي تمام (ص 423) في باب الفخر، وجاء فيه: «القفار» بدل «الفضاء».
(2) ديوان المتنبي (ص 345) وجاء فيه: «أن لا» بدل «ألّا».(1/351)
ومن نأى عنهم قلّت مهابته ... كالليث يحقر لمّا غاب عن غابه
[العزل بعد المؤانسة]
كتب أبو عبيد الله إلى المهدي بعد عزله إيّاه عن الدواوين: لم ينكر أمير المؤمنين حالي في قرب المؤانسة وخصوص الخلطة، وحالي عنده قبل ذلك في قيامي بواجب خدمته، التي أدنتني من نعمته، فلم أبدّل أعزّ الله أمير المؤمنين حال التبعيد، ويقرّب في محل الإقصاء، وما يعلم الله مني فيما قلت إلّا ما علمه أمير المؤمنين، فإن رأى أكرمه الله أن يعارض قولي بعلمه بدءا وعاقبة فعل إن شاء الله.
فلمّا قرأ كتابه شهد بتصديقه قلبه، فقال: ظلمنا أبا عبيد الله، فيردّ إلى حاله، ويعلم ما تجدّد له من حسن رأيي فيه.
ولما أمر المأمون أن يحجب عنه الفضل بن الربيع لسبب تألّم قلبه منه كتب إليه:
يا أمير المؤمنين، لم ينسني التقريب حالي أيام التبعيد، ولا أغفلتني المؤانسة عن شكر الابتداء فعلى أيّ الحالين أبعد من أمير المؤمنين، ويلحقني ذمّ التقصير في واجب خدمته؟ وأمير المؤمنين أعدل شهودي على الصّدق فيما وصفت فإن رأى أمير المؤمنين ألا يكتم شهادتي فعل إن شاء الله.
وقال أبو جعفر المنصور لأبي مسلم حين أزمع قتله: هل كنت قبل قيامك بدولتنا جائز الأمر على عبدين؟ قال: لا، يا أمير المؤمنين. قال: فلم لم تعرض حالي عسرتك ومهانتك على أيامنا، وتعرف لنا ما يعرف غيرك من إجلالنا وإعظامنا، حتى لا ينازعك الحين عنان الطمأنينة؟ قال: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، ولكنّ الزمان وإساءته قلبا ما كان من حسن صنيعتي، قال: فلا مرغوب فيك، ولا مأسوف عليك، وفي الله خلف منك! وأمر بقتله.
جملة من شعر أبي الفتح كشاجم في الأوصاف
قال يصف أجزاء من القرآن: [الخفيف]
من يتب خشية العقاب فإني ... تبت أنسا بهذه الأجزاء
بعثتني على القراءة والنّس ... ك وما خلتني من القرّاء
حين جاءت تروقني باعتدال ... من قدود وصيغة واستواء
سبعة أشبهت لي السبعة الأن ... جم ذات الأنوار والأضواء
كسيت من أديمها الحالك اللّو ... ن غشاء أحبب به من غشاء
مشبها صبغة الشّباب ولمّا ... ت العذارى ولبسة الخطباء
ورأت أنها تحسن بالضدّ ... فتاهت بحلية بيضاء
فهي مسودّة الظهور، وفيها ... نور حقّ يجلو دجى الظّلماء
مطبقات على صحائف كالرّي ... ط تخيّرنّ من مسوك الظباء (1)
وكأنّ الخطوط فيها رياض ... شاكرات صنيعة الأنواء
وكأنّ البياض والنّقط السّو ... د عبير رششته في ملاء
وكأن العشور والذّهب السا ... طع فيها كواكب في سماء
وهي مشكولة بعدّة أشكا ... ل ومقروءة على أنحاء
فإذا شئت كان حمزة فيها ... وإذا شئت كان فيها الكسائي
خضرة في خلال حمر وصفر ... بين تلك الأضعاف والأثناء
مثل ما أثّر الدّبيب من الذّرّ ... على جلد بضّة عذراء
ضمّنت محكم الكتاب كتاب اللّ ... هـ ذي المكرمات والآلاء
فحقيق عليّ أن أتلو القر ... آن فيهنّ مصبحي ومسائي
وقال يصف التخت الذي يضرب عليه حساب الهند: [الرجز](1/352)
من يتب خشية العقاب فإني ... تبت أنسا بهذه الأجزاء
بعثتني على القراءة والنّس ... ك وما خلتني من القرّاء
حين جاءت تروقني باعتدال ... من قدود وصيغة واستواء
سبعة أشبهت لي السبعة الأن ... جم ذات الأنوار والأضواء
كسيت من أديمها الحالك اللّو ... ن غشاء أحبب به من غشاء
مشبها صبغة الشّباب ولمّا ... ت العذارى ولبسة الخطباء
ورأت أنها تحسن بالضدّ ... فتاهت بحلية بيضاء
فهي مسودّة الظهور، وفيها ... نور حقّ يجلو دجى الظّلماء
مطبقات على صحائف كالرّي ... ط تخيّرنّ من مسوك الظباء (1)
وكأنّ الخطوط فيها رياض ... شاكرات صنيعة الأنواء
وكأنّ البياض والنّقط السّو ... د عبير رششته في ملاء
وكأن العشور والذّهب السا ... طع فيها كواكب في سماء
وهي مشكولة بعدّة أشكا ... ل ومقروءة على أنحاء
فإذا شئت كان حمزة فيها ... وإذا شئت كان فيها الكسائي
خضرة في خلال حمر وصفر ... بين تلك الأضعاف والأثناء
مثل ما أثّر الدّبيب من الذّرّ ... على جلد بضّة عذراء
ضمّنت محكم الكتاب كتاب اللّ ... هـ ذي المكرمات والآلاء
فحقيق عليّ أن أتلو القر ... آن فيهنّ مصبحي ومسائي
وقال يصف التخت الذي يضرب عليه حساب الهند: [الرجز]
وقلم مداده تراب ... في صحف سطورها حساب
يكثر فيها المحو والإضراب ... من غير أن يسوّد الكتاب
حتى يبين الحقّ والصواب ... وليس إعجام ولا إعراب
فيه ولا شكّ ولا ارتياب
وقال يصف بركارا (2) استهداه: [المنسرح]
جد لي ببركارك الذي صنعت ... فيه يدا قينة الأعاجيبا
ملتئم الشّعبتين معتدل ... ما شين من جانب ولا عيبا
شخصان في شكل واحد قدّرا ... وركبا بالعقول تركيبا
أشبه شيئين في اشتكالهما ... بصاحب لا يزال مصحوبا
أوثق مسماره وغيّب عن ... نواظر الناقدين تغييبا
فعين من يجتليه يحسبه ... في قالب الاعتدال مصبوبا
__________
(1) المسوك: جمع مسك وهو الجلد. القاموس المحيط (مسك).
(2) البركار: آلة ذات ساقين ترسم بها الدوائر وتعرف بالبيكار أيضا، معرب پركار بالفارسية. محيط المحيط (برك).(1/353)
قد ضمّ قطريه محكما لهما ... ضمّ محبّ إليه محبوبا
يزداد حرصا عليه مبصره ... ما زاده بالبنان تقليبا
ذو مقلة بصّرته مذهبه ... لم تأله رقّة وتهذيبا
ينظر فيها إلى الصواب فما ... بها يزال الصواب مطلوبا
لولاه ما صحّ خطّ دائرة ... ولا وجدنا الحساب محسوبا
[الحقّ فيه فإن عدلت إلى ... سواه كان الحساب تقريبا]
لو عين إقليدس به بصرت ... خرّ له بالسجود مكبوبا
فابعثه واجنبه لي بمسطرة ... تلف الهوى بالثناء مجنوبا
وقال يصف بيكاتا (1): [البسيط]
روح من الماء في جسم من الصّفر ... مولّد بلطيف الحسّ والنظر (2)
مستعبر لم يغب عن طرفه سكن ... ولم يبت من ذوي ضغن على حذر (3)
له على الظهر أجفان محجّرة ... ومقلة دمعها جار على قدر
تنشا له حركات من أسافله ... كأنها حركات الماء في الشجر
وفي أعاليه حسبان يفصّله ... للناظرين بلا ذهن ولا فكر (4)
إذا بكى دار في أحشائه فلك ... خافي المسير وإن لم يبك لم يدر
مترجم عن مواقيت يخبّرنا ... بها فيوجد فيها صادق الخبر
تقضى به الخمس في وقت الوجوب وإن ... غطّى على الشمس ستر الغيم والمطر
وإن سهرت لأوقات تؤرّقني ... عرفت مقدار ما ألقى من السّهر
محدّد كلّ ميقات تخيّره ... ذوو التّخيّر للأسفار والحضر
ومخرج لك بالأجزاء ألطفها ... من النهار وقوس الليل والسّحر
نتيجة العلم والتفكير صورته ... يا حبّذا أبدع الأفكار في الصور
وقال يصف أسطرلابا (5): [البسيط]
ومستدير كجرم البدر مسطوح ... عن كلّ رافعة الأشكال مصفوح
__________
(1) القصيدة في نهاية الأرب (ج 1ص 155) وجاء هناك أنّ صاحبها قالها في وصف طرجهارة، وقال النويري: طرجهارة من الآلات التي تعرف بها الساعات.
(2) الصّفر، بضم الصاد وسكون الفاء: النحاس. القاموس المحيط (صفر).
(3) الضغن: الحقد. القاموس المحيط (ضغن).
(4) الحسبان، بضم الحاء وسكون السين: جمع الحساب. القاموس المحيط (حسب).
(5) الأسطرلاب: آلة يقيس بها الفلكيون ارتفاع الكواكب، يوناني. محيط المحيط (أسطرلب).(1/354)
صلب يدار على قطب يثبّته ... تمثال طرف بشكر الحذق مكبوح
ملء البنان وقد أوفت صفائحه ... على الأقاليم من أقطارها الفيح (1)
تلفى به السبعة الأفلاك محدقة ... بالماء والنار والأرضين والريح
تنبيك عن طائح الأبراج هيئته ... بالشمس طورا، وطورا بالمصابيح
وإن مضت ساعة أو بعض ثانية ... عرفت ذاك بعلم فيه مشروح
وإن تعرّض في وقت يقدره ... لك التشكك جلّاه بتصحيح
مميّز في قياسات الضلوع به ... بين المشائم منها والمناجيح
له على الظهر عينا حكمة بهما ... يحوي الضياء وتنجيه من اللوح
وفي الدواوين من أشكاله حكم ... تنقّح العقل فيها أيّ تنقيح
لا يستقلّ لما فيه بمعرفة ... إلّا الخصيف اللطيف الحسّ والرّوح
حتى ترى الغيب فيه وهو منغلق ال ... أبواب عمن سواه جدّ مفتوح
نتيجة الذهن والتفكير صوّره ... ذوو العقول الصحيحات المراجيح
وكان أبو شجاع فنا خسرو عضد الدولة قد نكب أبا إسحاق الصابي، على تقدمه في الكتابة، ومكانه في البلاغة، واستصفى أمواله من غير إيقاع به في نفسه، فأهدى إليه في يوم مهرجان أسطرلابا في دور الدرهم، وكتب إليه: [البسيط]
أهدى إليك بنو الحاجات واحتشدوا ... في مهرجان عظيم أنت تعليه
لكنّ عبدك إبراهيم حين رأى ... سموّ قدرك عن شيء يساميه
لم يرض بالأرض يهديها إليك، فقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه
[وصف المرأة]
وقول أبي الفتح: «ملء البنان البيت» نظير قول علي ابن العباس الرومي يصف هن (2) امرأة: [الخفيف]
يسع السبعة الأقاليم طرّا ... وهو في أصبعين من إقليم (3)
كضمير الفؤاد يلتهم الدن ... يا وتحويه دفّتا حيزوم (4)
__________
(1) الفيح: الواسعة، جمع أفيح أو فيحاء. القاموس المحيط (فيح).
(2) الهن: الفرج. القاموس المحيط (هنن).
(3) طرّا: جميعا. محيط المحيط (طرر).
(4) الحيزوم: ضلع الفؤاد. القاموس المحيط (حزم).(1/355)
وإنما أخذه ابن الرومي من قول بعض الشعراء يذكر كاتبا: [السريع]
في كفّه أخرس ذو منطق ... بقافه واللام والميم
شبر إذا قيس، ولكنه ... في فعله مثل الأقاليم
محذّف الرّأس ومسودّه ... كإبرة الرّوق من الرّيم (1)
وهذا البيت الأخير مقلوب من قول عدي بن الرقاع العاملي، وقد وصف قرن ريم، وشبّهه بقلم عليه مداد، وذكر ظبية: [الكامل]
تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه ... قلم أصاب من الدّواة مدادها
وقلب المعنى إذا تمكن الشاعر من إخفائه لا يجري مجرى السرقة.
وقد ترى تكثير الشعراء من تشبيه أوراك النسوان بالرّمل والكثبان، قال الشاعر:
[الطويل]
وبيض نضيرات الوجوه كأنما ... تأزّرن دون الأزر رملات عالج (2)
خدال الشّوى لا تحتشي غير خلقها ... إذا الرّسح لم يصبرن دون المنافج (3)
يذرن مروط الخزّ ملأى كأنها ... قصار وإن طالت بأيدي النّواسج (4)
وهذا المعنى متداول متناقل في الجاهلية والإسلام، فأغرب ذو الرمة في قلبه وأحسن، فقال يصف رملا: [الطويل]
ورمل كأوراك العذارى قطعته ... وقد جلّلته المظلمات الخنادس
وكذلك مدحهم ضمور الكشح، وجولان الوشح، وصموت القلب (5) والخلخال، وامتناع الخدام (6) من المجال قال خالد بن يزيد بن معاوية، وذكر رملة بنت الزبير بن العوام: [الطويل]
تجول خلاخيل النساء، ولا أرى ... لرملة خلخالا يجول ولا قلبا
__________
(1) الرّوق: القرن. القاموس المحيط (روق).
(2) عالج: رملة بالبادية. معجم البلدان (ج 4ص 70).
(3) خدال الشّوى: ممتلئة الشّوى، والشّوى: الأطراف. الرّسح: جمع رسحاء وهي قليلة لحم العجز والفخذين. المنافج: العظّامات، وهي حشايا توضع فوق الأرداف. القاموس المحيط ولسان العرب (خدل) و (شوى) و (رسح) و (نفج).
(4) المروط: جمع مرط وهو كساء من صوف أو خزّ. القاموس المحيط (مرط).
(5) القلب، بضم القاف وسكون اللام: سوار المرأة. القاموس المحيط (قلب).
(6) الخدام: جمع خدمة وهي الساق. القاموس المحيط (خدم).(1/356)
أحبّ بني العوّام طرّا لحبّها ... ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
وقال النابغة (1): [الطويل]
على أنّ حجليها وإن قلت أوسعا ... صموتان من ملء وقلّة منطق
وقال الطائي (2): [الطويل]
مها الوحش إلّا أنّ هاتا أوانس ... قنا الخطّ إلّا أنّ تلك ذوابل
من الهيف لو أنّ الخلاخيل صيّرت (3) ... لها وشحا جالت عليها الخلاخل
وقال ابن أبي زرعة الدمشقي: [الكامل]
استكتمت خلخالها ومشت ... تحت الظلام به فما نطقا
حتى إذا ريح الصّبا نسمت ... ملأ العبير بسيرها الطّرقا
وقال المتنبي (4): [الوافر]
وخصر تثبت الأبصار فيه ... كأنّ عليه من حدق نطاقا
قلب هذا كلّه أبو عثمان الناجم، فقال يهجو قينة: [مخلع البسيط]
مسلولة الكلّ غير بطن ... مثقّل فهي عنكبوت
حجولها الدّهر في اصطخاب ... ووشحها كظّم صموت
وقال أبو عثمان يمدح قينة: [السريع]
محسنة في كلّ ألحانها ... لا كالتي تحسن في النّدرة
ثم قلبه في هجاء، فقال: [السريع]
عجبت منها ويحها كيف لا ... تخطىء بالإحسان في النّدره
وهذا مأخوذ من قول محمد بن مناذر يهجو خالد بن طليق، وكان قد تقلّد قضاء البصرة: [السريع]
يا عجبا من خالد كيف لا ... يخطىء فينا مرّة بالصواب
__________
(1) لم يرد البيت في ديوان النابغة الذبياني، وورد في الشعر والشعراء (ص 104) في ترجمة النابغة الذبياني، ولكنه منسوب إلى شاعر مجهول.
(2) ديوان أبي تمام (ص 226) من قصيدة مديح.
(3) في الديوان: «الخلاخل» بدل «الخلاخيل».
(4) ديوان المتنبي (ص 297).(1/357)
كان قضاة الناس فيما مضى ... من رحمة الله، وهذا عذاب
وهذا أيضا من قلب الهجاء مديحا، والمديح هجاء كما قال مسلم بن الوليد يهجو قوما: [الكامل]
قبحت مناظرهم فحين خبرتهم ... حسنت مناظرهم بقبح المخبر
قلبه أبو الطيب المتنبي فقال (1): [الطويل]
وأستكثر الأخبار قبل لقائه ... فلمّا التقينا صغّر الخبر الخبر
وقال أبو تمام (2): [الكامل]
عبأ الكمين له فضلّ لحينه ... وكمينه المخفي عليه كمين
قلبه البحتري فقال (3): [المنسرح]
لا ييأس المرء أن ينجّيه ... ما يحسب الناس أنه عطبه
وقال أبو تمام (4): [الكامل]
وحشيّة ترمي القلوب إذا غدت ... وسنى فما تصطاد غير الصّيد
قلبه البحتري فقال (5): [الطويل]
على أنني أخشى على دار أمنها ... فوارس يصطاد الفوارس صيدها
وقال أبو تمام (6): [الخفيف]
يشنأ الغيث وهو جدّ حبيب ... ربّ حزم في بغضة الموموق (7)
قلبه البحتري فقال (8): [المنسرح]
يسرّني الشيء قد يسوءكم ... نوّه يوما بخامل لقبه (9)
__________
(1) ديوان المتنبي (ص 197) وجاء فيه: «وأستكبر» بدل «وأستكثر».
(2) ديوان أبي تمام (ص 290) من قصيدة مديح.
(3) ديوان البحتري (ج 1ص 189).
(4) ديوان أبي تمام (ص 74) وجاء فيه: «إذا اغتدت» بدل «إذا غدت».
(5) ديوان البحتري (ج 2ص 63) وجاء فيه: «بني الروع» بدل «فوارس».
(6) ديوان أبي تمام (ص 194) من قصيدة مديح.
(7) في الديوان: «تشنأ» بدل «يشنأ». والموموق: المحبوب. القاموس المحيط (ومق).
(8) ديوان البحتري (ج 1ص 189).
(9) رواية صدر البيت في الديوان هي: يسرّك الأمر قد يسوءوكم(1/358)
قال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر: المعنى في المصراع الأول أبين منه في الثاني ألا ترى أنه لو قال: إنه ليسوءك الشيء قد يسرّ، كان مثل ذلك المعنى مستويا، إلّا أنه قلبه لحاجته.
قال ابن الرومي يهجو مغنية: [الرمل]
قينة ملعونة من أجلها ... رفض اللهو معا من رفضه
فإذا غنّت ترى في حلقها ... كلّ عرق مثل بيت الأرضه (1)
فقلبه ابن المعتز فقال يصف أرضة أكلت له كتابا: [الرجز]
تثني أنابيب لها فيها سبل ... مثل العروق لا ترى فيها خلل
وهذا كثير يكتفى منه باليسير.
[ما لا ينقلب من المعاني]
ومن المعاني ما لا ينقلب: ألا ترى أنك تقول: نام القوم حتى كأنهم موتى، ولا يحسن أن تقول: ماتوا حتى كأنهم نيام وقد أخذ على أبي نواس قوله يصف دارا وقف بها: [السريع]
كأنها إذ خرست جارم ... بين يدي تفنيده مطرق (2)
قالوا: إنما يجب أن يشبه الجارم إذا عذلوه فسكت وانقطعت حجّته بالدار الخالية التي لا تجيب.
وأخذوا عليه قوله: [البسيط]
كأنّ نيراننا في جنب حصنهم ... معصفرات على أرسان قصّار
وقد تبعه أبو تمام الطائي فقال في الأفشين لما أحرق (3): [الكامل]
ما زال سرّ الكفر بين ضلوعه ... حتى اصطلى سرّ الزّناد الواري
نار يساور جسمه من حرّها ... لهب كما عصفرت شقّ إزار (4)
__________
(1) الأرضة، بفتح الهمزة والراء والضاد: دودة بيضاء تبني على نفسها أزجا شبه دهليز، لها مشفران تنقر بهما الخشب والحجارة. محيط المحيط (أرض).
(2) الجارم: المذنب. القاموس المحيط (جرم).
(3) ديوان أبي تمام (ص 135).
(4) في الديوان: «نارا» بدل «نار».(1/359)
طارت له شعل يهدّم لفحها ... أركانه هدما بغير غبار
فصّلن منه كلّ مجمع مفصل ... وفعلن فاقرة بكلّ فقار
صلّى لها حيّا، وكان وقودها ... ميتا، ويدخلها مع الكفّار (1)
وكذاك أهل النار في الدنيا هم ... يوم القيامة جلّ أهل النّار
أردت البيت الثاني، قالوا: وإنما تشبه الثياب المعصفرة بالنار فهذا وما أشبهه لا يتوازن انعكاسه، وتتضادّ قضاياه وإنما يصحّ القلب فيما يتحقّق تضادّه أو يتقارب.
[قطعة من شعر أهل العصر في ذكر النجوم]
قال أبو الفتح البستي (2): [البسيط]
قد غضّ من أملي أني أرى عملي ... أقوى من المشتري في أوّل الحمل
وأنني راحل عمّا أحاوله ... كأنني أستدرّ الحظّ من زحل
وقال (3): [البسيط]
إذا غدا ملك باللهو مشتغلا ... فاحكم على ملكه بالويل والحرب
ألم تر الشمس في الميزان هابطة ... لمّا غدا برج نجم اللهو والطّرب (4)؟
وقال (5): [الوافر]
وقد تدني الملوك لدى رضاها ... وتبعد حين تحتقد احتقادا (6)
كما المرّيخ في التثليث يعطي ... وفي التربيع يسلب ما أفادا
وقال (7): [المتقارب]
ألا فثقوا بي فإني كما ... تمدّحت فليمتحن من يحب
فما كوكبي راجعا في الوفاء ... ولا برج قلبي بالمنقلب (8)
__________
(1) في الديوان: «الفجّار» بدل «الكفّار».
(2) البيتان في يتيمة الدهر (ج 4ص 315).
(3) البيتان في يتيمة الدهر (ج 4ص 315).
(4) في يتيمة الدهر: «أما» بدل «ألم».
(5) يتيمة الدهر (ج 4ص 315).
(6) في يتيمة الدهر: «فقد تدني حين تحتفد احتفادا».
(7) يتيمة الدهر (ج 4ص 315).
(8) رواية صدر البيت في يتيمة الدهر هي: فلا كوكبي راجع في الوفا(1/360)
وقال (1): [المتقارب]
لئن كسفونا بلا علّة ... وفازت قداحهم بالظفر
فقد يكسف المرء من دونه ... كما يكسف الشمس جرم القمر (2)
وقال (3): [الرمل]
شرف الوغد بوغد مثله ... ما فيه بزيغ وخلل (4)
ودليل الصدق فيما قلته ... شرف المرّيخ في بيت زحل
وقال: [الكامل]
قل للذي غرّته عزّة ملكه ... حتى أخلّ بطاعة النّصحاء
شرف الملوك بعلمهم وبرأيهم ... وكذاك أوج الشمس في الجوزاء
وقال: [المتقارب]
وقد يفسد المرء بعد الصلاح ... فساد الأماكن، والشرّ يعدي
كما السّعد يقبل طبع النحوس ... إذا كان في موضع غير سعد
وقال: [الرجز]
ما أنس ظمآن بماء بارد ... من بعد طول العهد بالموارد (5)
إلّا كأنسي بكتاب وارد ... من سيد محض النّجار ماجد
* كأنما استملاه من عطارد * وقال: [الكامل]
يا معشر الكتّاب لا تتعرّضوا ... لرياسة، وتصاغروا وتخادموا
إن الكواكب كنّ في أشرافها ... إلّا عطارد حين صوّر آدم
وقال: [المتقارب]
دعاني إلى بيته سيّد ... له الخلق الأشرف الأظرف
__________
(1) يتيمة الدهر (ج 4ص 315).
(2) في يتيمة الدهر: «تكسف» بدل «يكسف».
(3) هذا الشعر ومعظم الشعر الذي يليه في يتيمة الدهر (ج 4ص 316وما بعدها).
(4) في يتيمة الدهر: «شرف الوعد بوعد زيغ وخلل».
(5) في المصدر نفسه: «بعذب» بدل «بماء».(1/361)
فلازمت بيتي ولا طفته ... بعذر هو الأظرف الأطرف (1)
عطارد نجمي، ولا شكّ أن ... عطارد في بيته أشرف (2)
وقال: [البسيط]
لئن تنقّلت من دار إلى دار ... وصرت بعد ثواء رهن أسفار
فالحرّ حرّ عزيز النفس حيث ثوى ... والشّمس في كل برج ذات أنوار
وقال: [الطويل]
لئن صدّع الدهر المشتّت شملنا ... وللدهر حكم للجميع صدوع
فللنّجم من بعد الرجوع استقامة ... وللشمس من بعد الغروب طلوع
وقال لمحبوس: [الطويل]
حبست ومن بعد الكسوف تبلّج ... تضيء به الآفاق للبدر والشمس
فلا تعتقد للحبس غمّا ووحشة ... فأول كون المرء في أضيق الحبس
وقال أيضا: [الكامل]
يا من تولى المشتري تدبيره ... حاشاك أن تنقاد للمرّيخ
وقال: [الكامل]
لا تفزعن من كلّ شيء مفزع ... ما كلّ تدبير البروج بضائر (3)
وقال يرثي أبا القاسم الصاحب: [الطويل]
فقدناه لما تمّ واعتمّ بالعلا ... كذاك كسوف البدر عند تمامه
وقال أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد بن درست لأبي الفضل الميكالي: [الوافر]
إذا ما غاب وجه البدر عنّا ... فوجهك عندنا البدر المقيم
فإن رجعت نجوم السّعد يوما ... فوجهك نجم سعد مستقيم
وقال مسكويه الخالدي: [البسيط]
لا يعجبنّك حسن القصر تنزله ... فضيلة الشمس ليست في منازلها
__________
(1) في اليتيمة: «الألطف» بدل «الأظرف»
(2) في اليتيمة: «أظرف» بدل «أشرف».
(3) في اليتيمة: «تربيع» بدل «تدبير».(1/362)
لو زيدت الشمس في أبراجها مائة ... ما زاد ذلك شيئا في فضائلها
وقال أبو بكر الخوارزمي: [الطويل]
رأيتك إن أيسرت خيّمت عندنا ... لزاما، وإن أعسرت زرت لماما
فما أنت إلّا البدر: إن قلّ ضوؤه ... أغبّ، وإن زاد الضياء أقاما
وهذا كقول إبراهيم بن العباس الصولي في محمد بن عبد الملك الزيات: [الرمل]
أسد ضار إذا مانعته ... وأب برّ إذا ما قدرا
يعرف الأبعد إن أثرى، ولا ... يعرف الأدنى إذا ما افتقرا
وقال ابن المعتز: [الطويل]
إذا ما أراد الحاسدون انهدامه ... بناه إله غالب العزّ قاهره
وماذا يريد الحاسدون من امرىء ... تزينهم أخلاقه ومآثره؟
إذا ما هو استغنى اهتدى لافتقارهم ... ولا تهتدي يوما إليهم مفاقره
وكانوا كرام كوكبا ببصاقه ... فردّ عليهم وبله ومواطره
وهذا البيت كما قال بعض العرب في إحدى الروايات: [الطويل]
رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريّا ومن جال الطّويّ رماني
الجول والجال: الناحية، والطويّ: البئر يريد رماني بما عاد عليه، والرواية المشهورة: من أجل الطّويّ، فعلى هذا تسقط المناسبة بينه وبين قول ابن المعتز.
[من أخبار الأصمعي]
قال بعض الرواة: كنّا مع أبي نصر راوية الأصمعي في رياض من المذاكرة نجتني ثمارها، ونجتلي أنوارها، إلى أن أفضنا في ذكر أبي سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي فقال: رحم الله الأصمعيّ! إنه لمعدن حكم، وبحر علم، غير أنه لم نر قطّ مثل أعرابي وقف بنا فسلّم، فقال: أيكم الأصمعي؟ فقال: أنا ذاك، فقال: أتأذنون بالجلوس؟ فأذنّا له، وعجبنا من حسن أدبه مع جفاء أدب الأعراب.
قال: يا أصمعي، أنت الذي يزعم هؤلاء النّفر أنك أثقبهم معرفة بالشعر والعربية، وحكايات الأعراب؟ قال الأصمعي: فيهم من هو أعلم مني، ومن هو دوني، قال:
تنشدونني من بعض شعر أهل الحضر حتى أقيسه على شعر أصحابنا؟ فأنشده شعرا لرجل امتدح به مسلمة بن عبد الملك: [الطويل]
أمسلم، أنت البحر إن جاء وارد ... وليث إذا ما الحرب طار عقابها
وأنت كسيف الهندوانيّ إن غدت ... حوادث من حرب يعبّ عبابها
وما خلقت أكرومة في امرىء له ... ولا غاية إلّا إليك مآبها
كأنك ديّان عليها موكّل ... بها، وعلى كفّيك يجري حسابها
إليك رحلنا العيس إذ لم نجد لها ... أخا ثقة يرجى لديه ثوابها
قال: فتبسّم الأعرابي، وهزّ رأسه، فظننّا أنّ ذلك لاستحسانه الشعر، ثم قال: يا أصمعيّ، هذا شعر مهلهل خلق النّسج، خطؤه أكثر من صوابه، يغطي عيوبه حسن الرّويّ، ورواية المنشد يشبّهون الملك إذا امتدح بالأسد، والأسد أبخر شتيم المنظر (1)، وربما طرده شرذمة من إمائنا، وتلاعب به صبياننا، ويشبّهونه بالبحر، والبحر صعب على من ركبه، مرّ على من شربه، وبالسيف وربما خان في الحقيقة، ونبا عند الضّربية! ألا أنشدتني كما قال صبيّ من حيّنا! قال الأصمعي: وماذا قال صاحبكم؟ فأنشده: [البسيط](1/363)
أمسلم، أنت البحر إن جاء وارد ... وليث إذا ما الحرب طار عقابها
وأنت كسيف الهندوانيّ إن غدت ... حوادث من حرب يعبّ عبابها
وما خلقت أكرومة في امرىء له ... ولا غاية إلّا إليك مآبها
كأنك ديّان عليها موكّل ... بها، وعلى كفّيك يجري حسابها
إليك رحلنا العيس إذ لم نجد لها ... أخا ثقة يرجى لديه ثوابها
قال: فتبسّم الأعرابي، وهزّ رأسه، فظننّا أنّ ذلك لاستحسانه الشعر، ثم قال: يا أصمعيّ، هذا شعر مهلهل خلق النّسج، خطؤه أكثر من صوابه، يغطي عيوبه حسن الرّويّ، ورواية المنشد يشبّهون الملك إذا امتدح بالأسد، والأسد أبخر شتيم المنظر (1)، وربما طرده شرذمة من إمائنا، وتلاعب به صبياننا، ويشبّهونه بالبحر، والبحر صعب على من ركبه، مرّ على من شربه، وبالسيف وربما خان في الحقيقة، ونبا عند الضّربية! ألا أنشدتني كما قال صبيّ من حيّنا! قال الأصمعي: وماذا قال صاحبكم؟ فأنشده: [البسيط]
إذا سألت الورى عن كل مكرمة ... لم يعز إكرامها إلّا إلى الهول
فتى جواد أذاب المال نائله ... فالنّيل يشكر منه كثرة النّيل
الموت يكره أن يلقى منيّته ... في كرّه عند لفّ الخيل بالخيل
وزاحم الشمس أبقى الشمس كاسفة ... أو زاحم الصّمّ ألجاها إلى الميل
أمضى من النجم إن نابته نائبة ... وعند أعدائه أجرى من السّيل
لا يستريح إلى الدنيا وزينتها ... ولا تراه إليها ساحب الذّيل
يقصّر المجد عنه في مكارمه ... كما يقصّر عن أفعاله قولي!
قال أبو نصر: فأبهتنا والله ما سمعنا من قوله، قال: فتأنّى الأعرابي، ثم قال للأصمعي: ألا تنشدني شعرا ترتاح إليه النفس، ويسكن إليه القلب؟ فأنشده لابن الرّقاع العاملي: [الطويل]
وناعمة تجلو بعود أراكة ... مؤشّرة يسبي المعانق طيبها
كأنّ بها خمرا بماء غمامة ... إذا ارتشفت بعد الرّقاد غروبها
أراك إلى نجد تحنّ، وإنما ... منى كلّ نفس حيث كان حبيبها
فتبسّم الأعرابي وقال: يا أصمعي، ما هذا بدون الأول، ولا فوقه، ألا أنشدتني كما قلت؟ قال الأصمعي: وما قلت؟ جعلت فداك! فأنشده: [الطويل]
تعلّقتها بكرا، وعلّقت حبّها ... فقلبي عن كلّ الورى فارغ بكر
__________
(1) الأبخر: الذي في فمه نتن. الشّتيم: الكريه الوجه. القاموس المحيط (بخر) و (شتم).(1/364)
إذا احتجبت لم يكفك البدر ضوءها ... وتكفيك ضوء البدر إن حجب البدر
وما الصبر عنها، إن صبرت، وجدته ... جميلا، وهل في مثلها يحسن الصّبر؟
[وحسبك من خمر يفوتك ريقها ... وو الله ما من ريقها حسبك الخمر]
ولو أن جلد الذّر لامس جلدها ... لكان لمسّ الذّر في جلدها أثر
ولو لم يكن للبدر ضدّا جمالها ... وتفضله في حسنها لصفا البدر
قال أبو نصر: قال لنا الأصمعي: اكتبوا ما سمعتم ولو بأطراف المدى (1) في رقاق الأكباد!
قال: وأقام عندنا شهرا، فجمع له الأصمعيّ خمسمائة دينار، وكان يتعاهدنا في الحين بعد الحين، حتى مات الأصمعي وتفرّق أصحابنا!
فقر من كلام الأعراب في ضروب مختلفة
قال الجاحظ: ليس في الأرض كلام هو أمتع، ولا أنفع، ولا آنق، ولا ألذّ في الأسماع، ولا أشدّ اتّصالا بالعقول السليمة، ولا أفتق للّسان، ولا أجود تقويما للبيان، من طول استماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء.
قال ابن المقفع، وقد جرى ذكر الشعر وفضيلته: أي حكمة تكون أبلغ، أو أحسن، أو أغرب، أو أعجب، من غلام بدويّ لم ير ريفا، ولم يشبع من طعام يستوحش من الكلام، ويفزع من البشر، ويأوي إلى القفر واليرابيع (2) والظّباء، وقد خالط الغيلان، وأنس بالجان فإذا قال الشعر وصف ما لم يره، ولم يغذّ به، ولم يعرفه، ثم يذكر محاسن الأخلاق ومساويها، ويمدح ويهجو، ويذمّ ويعاتب، ويشبّب ويقول ما يكتب عنه، ويروى له، ويبقى عليه.
وقال بعض الأعراب: [الطويل]
وإني لأهدى بالأوانس كالدّمى ... وإني بأطراف القنا للعوب (3)
وإني على ما كان من عنجهيّتي ... ولوثة أعرابيتي لأديب (4)
__________
(1) المدى، بضمّ الميم وكسرها: جمع مدية وهي الشّفرة. القاموس المحيط (مدي).
(2) اليرابيع: جمع يربوع وهو الدابّة. القاموس المحيط (ربع).
(3) الأهدى: الأعرف، أي الأكثر معرفة. لسان العرب (هدي).
(4) العنجهية: الجهل والحمق والكبر. اللّوثة: الحمق ومسّ الجنون. القاموس المحيط (عجه) و (لوث).(1/365)
كأنّ الأدب غريب من الأعراب، فافتخر بما عنده منه.
وقال الطائي في فطنتهم، يستعطف مالك بن طوق على قومه بني تغلب (1):
[الكامل]
لا رقّة الخصر اللطيف غذتهم ... وتباعدوا عن فطنة الأعراب
فإذا كشفتهم وجدت لديهم ... كرم النفوس وقلّة الآداب
ووصف أعرابي رجلا فقال: هو أطهر من الماء، وأرقّ طباعا من الهواء، وأمضى من السيل، وأهدى من النّجم.
ووصف أعرابيّ رجلا فقال: ذاك والله من ينفع سلمه، ويتواصف حلمه، ولا يستمرأ ظلمه.
وقال أعرابي: جلست إلى قوم من أهل بغداد فما رأيت أرجح من أحلامهم، ولا أطيش من أقلامهم.
وذكر أعرابي من بني كلاب رجلا فقال: كان والله الفهم منه ذا أذنين، والجواب ذا لسانين، ولم أر أحدا أرتق لخلل رأي، ولا أبعد مسافة رويّة، ومراد طرف منه إنما كان يرمي بهمّته حيث أشار إليه الكرم، وما زال يتحسّى مرارة أخلاق الإخوان، ويسقيهم عذوبة أخلاقه.
وذكر أعرابيّ رجلا فقال: والله لكأن القلوب والألسن ريضت له، فما تعقد إلّا على ودّه، ولا تنطق إلّا بحمده.
وقال أعرابي: أقبح أعمال المقتدرين الانتقام، وما استنبط الصواب بمثل المشاورة، ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر.
قال الأصمعي: وخطبنا أعرابي بالبادية، فقال: أيّها الناس، إنّ الدنيا دار مفرّ، والآخرة دار مقرّ فخذوا من مفرّكم لمقرّكم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم.
قال المعافر بن نعيم: وقفت أنا ومعبد بن طوق العنبري على مجلس لبني العنبري، وأنا على ناقة وهو على حمار، فقاموا فبدأوني فسلّموا عليّ ثم انكفأوا على معبد، فقبض يده عنهم وقال: لا، ولا كرامة! بدأتم بالصغير قبل الكبير، وبالمولى قبل العربيّ،
__________
(1) ديوان أبي تمام (ص 24) من قصيدة مدح مالك بن طوق التغلبي.(1/366)
وبالمفحم قبل الشاعر، فأسكت القوم، فانبرى إليه غلام، فقال: بدأنا بالكاتب قبل الأمي، وبالمهاجر قبل الأعرابي، وبراكب الراحلة قبل راكب الحمار.
ووصف أعرابي قومه فقال: ليوث حرب، وغيوث جدب، إن قاتلوا أبلوا، وإن بذلوا أغنوا.
ووصف أعرابي قوما فقال: إذا اصطفّوا سفرت بينهم السهام، وإذا تصافحوا بالسيوف فغر فمه الحمام.
وسئل أعرابيّ عن صديق له، فقال: صفرت (1) عياب الودّ بيني وبينه بعد امتلائها، واكفهّرت وجوه كانت بمائها.
وقال الأصمعي: وسمعت أعرابيا يقول: إنّ الآمال قطعت أعناق الرجال، كالسراب غرّ من رآه، وأخلف من رجاه، ومن كان الليل والنهار مطيّته أسرعا السير والبلوغ به:
[البسيط]
والمرء يفرح بالأيام يقطعها ... وكلّ يوم مضى يدني من الأجل
وذكر أعرابي مصيبة نالته، فقال: إنها، والله، مصيبة جعلت سود الرؤوس بيضا، وبيض الوجوه سودا، وهوّنت المصائب، وشيّبت الذوائب.
وهذا كقول عبد الله بن الزّبير الأسدي: [الوافر]
رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا (2)
فردّ شعورهنّ السّود بيضا ... وردّ وجوههنّ البيض سودا
وإنك لو رأيت بكاء هند ... ورملة إذ تصكّان الخدودا
بكيت بكاء معولة حزين ... أصاب الدهر واحدها الفقيدا
ونظير هذا التطابق بين السواد والبياض، وإن لم يكن من هذا المعنى، قول ابن الرومي: [الخفيف]
يا بياض المشيب سوّدت وجهي ... عند بيض الوجوه سود القرون
فلعمري لأخفينّك جهدي ... عن عياني وعن عيان العيون
ولعمري لأمنعنّك أن تض ... حك في رأس آسف محزون
__________
(1) صفرت: خلت. القاموس المحيط (صفر).
(2) الحدثان من الدهر: نوبه. سمد سمودا: رفع رأسه تكبّرا. القاموس المحيط (حدث) و (سمد).(1/367)
بسواد فيه ابيضاض لوجهي ... وسواد لوجهك الملعون
سأل أعرابيان رجلا، فحرمهما، فقال أحدهما لصاحبه: نزلت والله بواد غير ممطور، وأتيت رجلا بك غير مسرور، فلم تدرك ما سألت، ولا نلت ما أمّلت فارتحل بندم، أو أقم على عدم.
قال الأصمعي: وسمعت أعرابيا يقول: غفلنا ولم يغفل الدهر عنّا، فلم نتّعظ بغيرنا حتى وعظ غيرنا بنا، فقد أدركت السعادة من تنبّه، وأدركت الشقاوة من غفل، وكفى بالتجربة واعظا.
وقال أعرابي لرجل: أشكر للمنعم عليك، وأنعم على الشاكر لك، تستوجب من ربّك زيادته، ومن أخيك مناصحته.
ومدح أعرابي رجلا فقال: ذلك والله فسيح الأدب، مستحكم السبب، من أيّ أقطاره أتيته تثني عليه بكرم فعال، وحسن مقال.
وذمّ أعرابي رجلا فقال: أفسد آخرته بصلاح دنياه، ففارق ما أصلح غير راجع إليه، وقدم على ما أفسد غير منتقل عنه، ولو صدق رجل نفسه ما كذبته، ولو ألقى زمامه أوطأه راحلته.
وقال أعرابي: خرجت حين انحدرت أيدي النجوم، وشالت (1) أرجلها، فما زلّت أصدع الليل حتى انصدع الفجر.
وقال أعرابي: [الرجز]
وقد تعاللت ذميل العنس ... بالسّوط في ديمومة كالتّرس (2)
إذ عرّج الليل بروج الشّمس
ومن مليح الاستعارة في نحو هذا قول الحسن بن وهب: شربت البارحة على وجه الجوزاء فلمّا انتبه الفجر نمت، فما عقلت حتى لحفني قميص الشّمس.
وقال أعرابي لصاحبه في شيء ذكره: قل إن شاء الله، فإنها ترضي الربّ، وتسخط الشيطان، وتذهب الحنث (3)، وتقضي الحاجة.
__________
(1) يقال: شالت الناقة بذنبها وأشالته إذا رفعته فشال الذنب نفسه. القاموس المحيط (شول).
(2) تعاللت الناقة: استخرجت ما عندها من السّير. الذميل: السّير الليّن. العنس: الناقة الصّلبة.
الديمومة: الفلاة الواسعة. محيط المحيط (علل) والقاموس المحيط (ذمل) و (عنس) و (دمم).
(3) الحنث: الإثم. القاموس المحيط (حنث).(1/368)
وروى العتبيّ عن أبيه قال: سمعت أعرابيا يقول لأخيه في معاتبة جرت بينهما: أما والله لربّ يوم كتنّور الطاهي، رقّاص بالحمامة، قد رميت نفسي في أجيج سمومه، أحتمل منه ما أكره لما أحبّ.
قال أبو العباس محمد بن يزيد: وأحسب العتبي صنع هذا الكلام، وأخذه من قول بشّار (1): [الطويل]
ويوم كتنّور الإماء سجرنه ... وأوقدن فيه الجزل حتى تضرّما
رميت بنفسي في أجيج سمومه ... وبالعيس حتى بضّ منخرها دما
أخذ هذا المعنى بعض أصحاب أبي العباس ثعلب فقال يهجو المبرد: [الطويل]
ويوم كتنّور الطّهاة سجرته ... على أنه منه أحرّ وأوقد (2)
ظللت به عند المبرّد جالسا ... فما زلت في ألفاظه أتبرّد
قال الأصمعي: حجّت أعرابية ومعها ابن لها، فأصيبت به، فلمّا دفن قامت على قبره، وهي موجعة فقالت: والله يا بنيّ لقد غذوتك رضيعا، وفقدتك سريعا، وكأنه لم يكن بين الحالين مدة ألتذّ بعيشك فيها، فأصبحت بعد النّضارة والغضارة ورونق الحياة والتنسّم في طيب روائحها، تحت أطباق الثّرى جسدا هامدا، ورفاتا سحيقا، وصعيدا جرزا (3) أي بني! لقد سحبت الدنيا عليك أذيال الفناء، وأسكنتك دار البلى، ورمتني بعدك نكبة الرّدى، أي بني، لقد أسفر لي وجه الدنيا عن صباح داج ظلامه.
ثم قالت: أي ربّ ومنك العدل، ومن خلقك الجور، وهبته لي قرّة عين فلم تمتّعني به كثيرا، بل سلبتنيه وشيكا ثم أمرتني بالصبر، ووعدتني عليه الأجر، فصدقت وعدك، ورضيت قضاءك، فرحم الله من ترحّم على من استودعته الرّدم، ووسّدته الثّرى اللهمّ ارحم غربته، وآنس وحشته، واستر عورته، يوم تكشف الهنات والسّوءات.
فلمّا أرادت الرجوع إلى أهلها وقفت على قبره، فقالت! أي بنيّ، إني قد تزوّدت لسفري، فليت شعري ما زادك لبعد طريقك، ويوم معادك؟ اللهمّ إني أسألك له الرضا برضائي عنه. ثم قالت: استودعتك من استودعنيك في أحشائي جنينا وأثكل الوالدات! ما أمضّ حرارة قلوبهنّ، وأقلق مضاجعهنّ، وأطول ليلهنّ، وأقصر نهارهنّ، وأقلّ
__________
(1) ديوان بشار بن برد (ص 200).
(2) سجر التّنّور: أحماه. القاموس المحيط (سجر).
(3) الصعيد: التراب أو وجه الأرض. الأرض الجرز: التي لا تنبت. القاموس المحيط (صعد) و (جرز).(1/369)
أنسهنّ، وأشدّ وحشتهنّ، وأبعدهنّ من السرور، وأقربهنّ من الأحزان.
لم تزل تقول هذا ونحوه حتى أبكت كلّ من سمعها. وحمدت الله عزّ وجلّ واسترجعت وصلّت ركعات عند قبره وانطلقت.
وأنشد المفضّل الضبيّ لأمرأة من العرب ترثي ابنا لها: [الكامل]
يا عمرو مالي عنك من صبر ... يا عمرو يا أسفي على عمرو
لله يا عمرو، وأيّ فتى ... كفّنت يوم وضعت في القبر؟
أحثوا التراب على مفارقه ... وعلى غضارة وجهه النّضر (1)
حين استوى وعلا الشباب به ... وبدا منير الوجه كالبدر
ورجا أقاربه منافعه ... ورأوا شمائل سيّد غمر (2)
وأهمّه همّي فساوره ... وغدا مع الغادين في السّفر
تغدو به شقراء سامية ... مرطى الجراء شديدة الأسر (3)
ثبت الجنان به، ويقدمها ... فلج يقلّب مقلتي صقر (4)
ربّيته دهرا أفتّقه ... في اليسر أغذوه وفي العسر
حتى إذا التأميل أمكنني ... فيه قبيل تلاحق الثغر
وجعلت من شغفي أنقّله ... في الأرض بين تنائف غبر (5)
أدع المزارع والحصون به ... وأحلّه في المهمه القفر
ما زلت أصعده وأحدره ... من قتر موماة إلى قتر (6)
هربا به والموت يطلبه ... حيث انتويت به ولا أدري (7)
حتى دفعت به لمصرعه ... سوق المعيز تساق للعتر (8)
__________
(1) المفارق: جمع مفرق وهو وسط الرأس وهو الذي يفرق فيه الشّعر. القاموس المحيط (فرق).
(2) الغمر: الكريم. القاموس المحيط (غمر).
(3) المرطى، بفتح الميم والراء والطاء جميعا: ضرب من العدو. الجراء: اسم من جرى الفرس ونحوه.
الأسر: العصب. القاموس المحيط (مرط) و (جرى) و (أسر).
(4) الجنان، بفتح الجيم: القلب. الفلج: المنتصر. القاموس المحيط (جنن) و (فلج).
(5) التنائف: جمع تنوفة وهي المفازة. الغبر: جمع أغبر، والمراد أن التنائف مظلمة. القاموس المحيط (تنف) و (غبر).
(6) القتر: الناحية. القاموس المحيط (قتر).
(7) انتوى: قصد. لسان العرب (نوى).
(8) العتر: الذّبح. القاموس المحيط (عتر).(1/370)
ما كان إلّا أن هجعت له ... ورمى فأغفى مطلع الفجر
ورمى الكرى رأسي ومال به ... رمس يساور منه كالسّكر
إذ راعني صوت هببت به ... وذعرت منه أيّما ذعر
وإذا منيته تساوره ... قد كدّحت في الوجه والنّحر
وإذا له علق وحشرجة ... ممّا يجيش به من الصّدر (1)
والموت يقبضه ويبسطه ... كالثوب عند الطيّ والنّشر
فدعا لأنصره وكنت له ... من قبل ذلك حاضر النّصر
فعجزت عنه وهي زاهقة ... بين الوريد ومدفع السّحر
فمضى وأيّ فتى فجعت به ... جلّت مصيبته عن القدر
لو قيل تفديه بذلت له ... مالي وما جمّعت من وفر
أو كنت مقتدرا على عمري ... آثرته بالشّطر من عمري
قد كنت ذا فقر له، فعدا ... ورمى عليّ وقد رأى فقري
لو شاء ربّي كان متّعني ... بابني وشدّ بأزره أزري
بنيت عليك بنيّ، أحوج ما ... كنّا إليك، صفائح الصّخر
لا يبعدنك الله يا عمري ... إمّا مضيت فنحن بالإثر
هذي سبيل الناس كلّهم ... لا بدّ سالكها على سفر
أو لا تراهم في ديارهم ... يتوقّعون وهم على ذعر
والموت يوردهم مواردهم ... قسرا فقد ذلّوا على القسر
وقال أعرابي يمدح رجلا: [الطويل]
يمدّ نجاد السّيف حتّي كأنه ... بأعلى سنامي فالج يتطوّح
ويدلج في حاجات من هو نائم ... ويوري كريمات الندى حين يقدح
إذا اعتمّ بالبرد اليماني حسبته ... هلالا بدا في جانب الأفق يلمح
يزيد على فضل الرجال فضيلة ... ويقصر عنه مدح من يتمدّح
وأنشد ابن أبي طاهر لأعرابي: [الطويل]
وقبلي أبكى كلّ من كان ذا هوى ... هتوف البواكي والديار البلاقع (2)
__________
(1) العلق، بالفتح: الدم عامة. الحشرجة: الغرغرة عند الموت. القاموس المحيط (علق) و (حشرج).
(2) البلاقع: جمع بلقع وهو الأرض القفر. القاموس المحيط (بلقع).(1/371)
وهنّ على الأطلال من كلّ جانب ... نوائح ما تخضلّ منها المدامع
مزبرجة الأعناق نمر ظهورها ... مخطّمة بالدّرّ خضر روائع
ترى طرزا بين الخوافي كأنها ... حواشيّ برد زيّنتها الوشائع
ومن قطع الياقوت صيغت عيونها ... خواضب بالحنّاء منها الأصابع
ومن جيد ما قيل في الحمام قول ابن الرومي: [الطويل]
وقفت بمطراب العشيّات والضّحى ... فظلت أسحّ الدمع مني وأسجم
حليفة شجو هاج ما بي وما بها ... تباريح شوق يشتكيها المتيّم
فباح به فوها وأخفته عينها ... وباحت به عيني وكتّمه الفم
ودخل أعرابي على الرشيد، فأنشده أرجوزة مدحه بها، وإسماعيل بن صبيح يكتب كتابا بين يديه وكان من أحسن الناس خطّا، وأسرعهم يدا فقال الرشيد للأعرابي: صف الكاتب فقال: [الطويل]
رقيق حواشي العلم حين تبوره ... يريك الهوينا والأمور تطير (1)
له قلما بؤسى ونعمى كلاهما ... سحابته في الحالتين ذرور
يناجيك عمّا في ضميرك خطّه ... ويفتح باب النّجح وهو عسير
فقال الرشيد: قد وجب لك يا أعرابي عليه حقّ، كما وجب لك علينا يا غلام ادفع له دية الحرّ، فقال إسماعيل: وعلى عبدك دية العبد.
وقال أعرابي من بني عقيل: [الطويل]
أحنّ إلى أرض الحجاز، وحاجتي ... خيام بنجد دونها الطّرف يقصر
وما نظري نحو الحجاز بنافعي ... فتيلا، ولكني على ذاك أنظر (2)
أفي كلّ يوم نظرة ثم عبرة ... لعينيك يجري ماؤها يتحدّر
متى يستريح القلب إمّا مجاور ... حزين وإمّا نازح يتذكّر
وقال أعرابي: [الطويل]
وإني لأغضي مقلتيّ على القذى ... وألبس ثوب الصبر أبيض أبلجا
وإنّي لأدعو الله والأمر ضيّق ... عليّ، فما ينفكّ أن يتفرّجا
وكم من فتى ضاقت عليه وجوهه ... أصاب لها من دعوة الله مخرجا
__________
(1) تبوره: تجرّبه. القاموس المحيط (بور).
(2) فتيلا: شيئا. القاموس المحيط (فتل).(1/372)
وقال آخر: [الطويل]
ذكرتك ذكرى هائم بك تنتهي ... إليك أمانيه وإن لم يكن وصل
وليست بذكرى ساعة بعد ساعة ... ولكنها موصولة ما لها فصل
وقال آخر: [الطويل]
أريتك إن شطّت بك العام نيّة ... وعالك مصطاف الحمى ومرابعه
أترعين ما استودعت أم أنت كالذي ... إذا ما نأى هانت عليك ودائعه
ألا إنّ حسيا دونه قلّة الحمى ... منى النفس لو كانت تنال شرائعه (1)
أخذت أزد العتيك شاعرا من قيس بن ثعلبة اسمه المعذّل في دم، فأتاه البيهس بن ربيعة فحمله، وأمره أن ينجو بنفسه، وأسلم نفسه مكانه، فقال له المعذل: أخيّرك بين أن أمدحك أو أمدح قومك فاختار مدح قومه فقال: [الطويل]
جزى الله فتيان العتيك، وإن نأت ... بي الدّار عنهم، خير ما كان جازيا
هم خلطوني بالنفوس وأحسنوا ... الصّحابة لما حمّ ما كان آتيا
متاعهم فوضى فضا في رحالهم ... ولا يحسنون الشّرّ إلّا تباديا (2)
كأنّ دنانيرا على قسماتهم ... إذا الموت في الأبطال كان تحاميا
وذكرت الرواة أنّ المهلب بن أبي صفرة عرض جنده بخراسان، فعرض جيش بكر بن وائل، فمرّ به المعذّل فقال: هذا المعذل القيسي الذي يقول، وأنشد الأبيات، فقالوا: أيها الأمير، أحسبه علينا، فانطلق مائة منهم، فجاءوا بمائة وصيف ووصيفة، فقالوا: أعطه هذا وليعذرنا.
قوله: «كأنّ دنانيرا على قسماتهم» نظير قول أبي العباس الأعمى: [الخفيف]
ليت شعري من أين رائحة المس ... ك وما إن إخال بالخيف إنسي؟
حين غابت بنو أمية عنه ... والبهاليل من بني عبد شمس
خطباء على المنابر، فرسا ... ن عليها، وقالة غير خرس
في حلوم إذا الحلوم استفزّت ... ووجوه مثل الدنانير ملس
__________
(1) الحسي، بفتح الحاء وسكون السين: سهل من الأرض يستنقع فيه الماء. الشرائع: جمع شريعة وهي مورد الشاربة. القاموس المحيط (حسي) و (شرع).
(2) الفضا: ما اتّسع من الأرض. القاموس المحيط (فضا).(1/373)
[من أخبار أبي نواس]
ولما خلع المأمون أخاه محمد بن زبيدة ووجّه بطاهر بن الحسين لمحاربته، كان يعمل كتبا بعيوب أخيه تقرأ على المنابر بخراسان فكان ممّا عابه به أن قال: إنه استخلص رجلا شاعرا ماجنا كافرا، يقال له الحسن بن هانىء، واستخلصه ليشرب معه الخمر، ويرتكب المآثم، ويهتك المحارم، وهو الذي يقول (1): [الطويل]
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرّا إذا أمكن الجهر
وبح باسم من تهوى ودعني عن الكنى ... فلا خير في اللّذّات من دونها ستر (2)
ويذكر أهل العراق فيقول: أهل فسوق وخمور، وماخور وفجور ويقوم رجل بين يديه فينشد أشعار أبي نواس في المجون فاتصل ذلك بابن زبيدة فنهى الحسن عن الخمر، وحبسه ابن أبي الفضل بن الربيع ثم كلّمه فيه الفضل، فأخرجه بعد أن أخذ عليه ألّا يشرب خمرا، ولا يقول فيها شعرا، فقال (3): [الكامل]
ما من يد في الناس واحدة ... كيد أبو العباس مولاها
نام الثقات على مضاجعهم ... وسرى إلى نفسي فأحياها
قد كنت خفتك، ثم آمنني ... من أن أخافك، خوفك الله
فعفوت عنّي عفو مقتدر ... وجبت له نقم فألغاها (4)
ومن قوله في ترك الشراب (5): [الخفيف]
أيّها الرائحان باللّوم، لوما ... لا أذوق المدام إلّا شميما
نالني بالملام فيها إمام ... لا أرى لي خلافه مستقيما
فاصرفاها إلى سواي فإنّي ... لست إلّا على الحديث نديما
جلّ حظي منها إذا هي دارت ... أن أراها وأن أشمّ النسيما (6)
فكأني وما أزيّن منها ... قعديّ يزيّن التحكيما
__________
(1) ديوان أبي نواس (ص 28).
(2) في الديوان: «فبح» بدل «وبح».
(3) ديوان أبي نواس (ص 459).
(4) في الديوان: «حلّت» بدل «وجبت».
(5) ديوان أبي نواس (ص 29).
(6) في الديوان: «كبر» بدل «جلّ».(1/374)
[كلّ عن حمله السلاح إلى الحر ... ب فأوصى المطيق ألّا يقيما]
القعديّة: فرقة من الخوارج، يأمرون بالخروج ولا يخرجون وزعم المبرد أنه لم يسبق إلى هذا المعنى.
وقال (1): [الكامل]
عين الخليفة بي موكّلة ... عقد الحذار بطرفها طرفي
صحّت علانيتي له، وأرى ... دين الضمير له على حرف
ولئن وعدتك تركها عدة ... إني عليك لخائف خلفي (2)
سلبوا قناع الدّن عن رمق ... حيّ الحياة مشارف الحتف
فتنفّست في البيت إذ مزجت ... كتنفّس الرّيحان في الأنف
أخذ قوله: «ولئن وعدتك تركها عدة» الحسن بن علي بن وكيع فقال: [البسيط]
متى وعدتك في ترك الصّبا عدة ... فاشهد على عدتي بالزّور والكذب
أما ترى الليل قد ولّت عساكره ... وأقبل الصبح في جيش له لجب
وجدّ في أثر الجوزاء يطلبها ... في الجوّ ركضا هلال دائم الطلب
كصنولجان لجين في يدي ملك ... أدناه من كرة صيغت من الذهب
فقم بنا نصطبح صفراء صافية ... كالنار لكنها نار بلا لهب
عروس كرم تختال في حلل ... صفر على رأسها تاج من الحبب
وقال أبو الفضل الميكالي في اقتران الهلال بالزهرة: [الرجز]
أما ترى الزّهرة قد لاحت لنا ... تحت هلال لونه يحكي اللهب
ككرة من فضّة مجلوّة ... وافى عليها صولجان من ذهب
وعلى قول أبي نواس (3): [الكامل]
صحّت علانيتي له، وأرى ... دين الضمير له على حرف
كتب أبو العباس بن المعتز إلى أبي الطيب القاسم بن محمد النميري: [السريع]
يا أيها الجافي ويستجفي ... ليس تجنّيك من الظّرف
__________
(1) ديوان أبي نواس (ص 66).
(2) في الديوان: «فلئن» بدل «ولئن».
(3) ديوان أبي نواس (ص 66) من خمرية.(1/375)
إنّك في الشوق إلينا كمن ... يؤمن بالله على حرف
محوت آثارك من ودّنا ... غير أساطيرك في الصّحف
فإن تحاملت لنا زورة ... يوما تحاملت على ضعف
وحدث أبو عمر الزاهد قال: دلك بعض الزهاد المرائين جبهته بتوم وعصبها، ونام ليصبح بها كأثر السجود، فانحرفت العصابة إلى صدغه، فأخذ الأثر هناك، فقال له ابنه:
ما هذا يا أبت؟ فقال: أصبح أبوك ممن يعبد الله على حرف!
وقال أبو نواس في الباب الأول (1): [الخفيف]
غنّنا بالطلول كيف بلينا ... واسقنا نعطك الثناء الثمينا
من سلاف كأنها كلّ شيء ... يتمنّى مخيّر أن يكونا
أكل الدّهر ما تجسّم منها ... وتبقّى لبابها المكنونا
فإذا ما اجتليتها فهباء ... يمنع الكفّ ما يبيح العيونا
ثم شجّت فاستضحكت عن لآل ... لو تجمّعن في يد لاقتنينا
في كؤوس كأنهنّ نجوم ... دائرات بروجها أيدينا (2)
طالعات مع السّقاة علينا ... فإذا ما غربن يغربن فينا
لو ترى الشّرب حولها من بعيد ... قلت قوما من قرّة يصطلونا (3)
وغزال يديرها ببنان ... ناعمات يزيدها الغمز لينا
كلّما شئت علّني برضاب ... يترك القلب للسرور قرينا (4)
ذاك عيش، لو دام لي غير أني ... عفته مكرها وخفت الأمينا
وقال (5): [الطويل]
أعاذل، أعتبت الإمام، وأعتبا ... وأعربت عمّا في الضمير وأعربا
وقلت لساقيها: أجزها فلم أكن ... ليأبى أمير المؤمنين وأشربا (6)
__________
(1) ديوان أبي نواس (ص 30).
(2) في الديوان: «جاريات» بدل «دائرات».
(3) في الديوان: «قوم» بدل «قوما». والقرّة، بكسر القاف وتشديد الراء المفتوحة: ما أصابك من القرّ وهو البرد. القاموس المحيط (قرر).
(4) في الديوان: «خدينا» بدل «قرينا».
(5) ديوان أبي نواس (ص 22).
(6) في الديوان: «يكن» بدل «أكن».(1/376)
فجوّزها عنّي سلافا ترى لها ... لدى الشّرف الأعلى شعاعا مطنّبا (1)
إذا عبّ فيها شارب القوم خلته ... يقبّل في داج من الليل كوكبا
ترى حيثما كانت من البيت مشرقا ... وما لم تكن فيه من البيت مغربا
يدور بها رطب البنان ترى له ... على مستدار الخدّ صدغا معقربا (2)
سقاهم ومنّاني بعينيه منية ... فكانت إلى قلبي ألذّ وأطيبا
قال الحسين بن الضحاك الخليع: أنشدت أبا نواس قولي: [المنسرح]
وشاطريّ اللسان مختلق التّكريه شاب المجون بالنّسك فلما بلغت فيه:
كأنما نصب كأسه قمر ... يكرع في بعض أنجم الفلك
نعر نعرة منكرة، فقلت: ما لك، فقد رعتني؟ قال: هذا المعنى أنا أحقّ به منك ولكن سترى لمن يروى! ثم أنشد بعد أيام:
إذا عبّ فيها شارب القوم خلته ... يقبّل في داج من الليل كوكبا
فقلت: هذه مطالبة يا أبا علي! فقال: أتظنّ أنه يروى لك معنى مليح وأنا في الحياة؟
وقال ابن الرومي فكان أحسن منهما: [الكامل]
ومهفهف كملت محاسنه ... حتى تجاوز منية النّفس
تصبو الكؤوس إلى مراشفه ... وتضجّ في يده من الحبس
أبصرتها والكأس بين فم ... منه وبين أنامل خمس
فكأنّها وكأنّ شاربها ... قمر يقبّل عارض الشمس
وقال أبو الفتح كشاجم: [الخفيف]
وسحاب يجرّ في الأرض ذيلي ... مطرف زرّه على الأرض زرّا (3)
برقه لمحة، ولكن له رع ... د بطيء يكسو المسامع وقرا
كخليّ منافق للّذي يه ... واه يبكي جهرا ويضحك سرّا
قد سقتني المدام فيها فتاة ... سحرتني وليس تحسن سحرا
__________
(1) في الديوان: «إلى» بدل «لدى».
(2) في الديوان: «يدور بها ساق أغنّ ترى له على مستدار الأذن».
(3) المطرف، بضم الميم وسكون الطاء وفتح الراء: رداء من خزّ مربّع ذو أعلام. القاموس المحيط (طرف).(1/377)
فإذا ما رأيتها تشرب الرّا ... ح أرتني شمسا تقبّل بدرا
[بشار بن برد]
وإنما احتذى أبو نواس في هذه الأشعار التي وصف فيها ترك الشراب وطاعته لأمر الأمين مثال بشّار بن برد، وصبّ على قالبه وذاك أن بشارا لما قال (1): [الكامل]
لا يؤيسنّك من مخبّأة ... قول تغلّظه وإن جرحا
عسر النساء إلى مياسرة ... والصعب يمكن بعد ما جمحا
بلغ ذلك المهدي فغاظه وقال: يحرّض النساء على الفجور، ويسهّل السبيل إليه! فقال له خاله يزيد بن منصور الحميري: يا أمير المؤمنين، قد فتن النساء بشعره، وأيّ امرأة لا تصبو إلى مثل قوله (2): [الرمل]
عجبت فطمة من نعتي لها ... هل يجيد النّعت مكفوف النّظر؟
بنت عشر وثلاث قسّمت ... بين غصن وكثيب وقمر
درّة بحريّة مكنونة ... مازها التاجر من بين الدّرر
أذرت الدمع وقالت: ويلتي ... من ولوع الكفّ ركّاب الخطر
أمتي بدّد هذا لعبي ... ووشاحي حلّه حتى انتثر
فدعيني معه يا أمتي ... علّنا في خلوة نقضي الوطر
أقبلت في خلوة تضربها ... واعتراها كجنون مستعر
بأبي والله ما أحسنه ... دمع عين غسّل الكحل قطر
أيها النّوّام هبّوا ويحكم ... وسلوني اليوم ما طعم السّهر
فأمره المهدي ألّا يتغزل، فقال أشعارا في ذلك، منها (3): [مجزوء الكامل]
يا منظرا حسنا رأيته ... من وجه جارية فديته
لمعت إليّ تسومني ... ثوب الشباب وقد طويته (4)
والله ربّ محمد ... ما إن غدرت ولا نويته
أمسكت عنك، وربما ... عرض البلاء وما ابتغيته
إنّ الخليفة قد أبى ... وإذا أبى شيئا أبيته
__________
(1) ديوان بشار بن برد (ص 63).
(2) ديوان بشار بن برد (ص 136135).
(3) ديوان بشار بن برد (ص 5655).
(4) في الديوان: «بعثت إليّ تسومني برد الشباب».(1/378)
ويشوقني بيت الحبي ... ب إذا غدوت، وأين بيته (1)
قام الخليفة دونه ... فصبرت عنه وما قليته (2)
ونهاني الملك الهما ... م عن النساء فما عصيته (3)
بل قد وفيت ولم أضع ... عهدا، ولا رأيا رأيته (4)
وقال أيضا (5): [المنسرح]
والله لولا رضا الخليفة ما ... أعطيت ضيما عليّ في شجن
قد عشت بين النّدمان والرّاح وال ... مزهر في ظل مجلس حسن (6)
ثم نهاني المهديّ فانصرفت ... نفسي، صنع الموفّق اللّقن (7)
وقال (8): [السريع]
أفنيت عمري وتقضّى الشباب ... بين الحميّا والجواري العذاب
فالآن شفّعت إمام الهدى ... وربما طبت لحبّ وطاب
لهوت حتى راعني داعيا ... صوت أمير المؤمنين المجاب
لبّيك لبّيك! هجرت الصّبا ... ونام عذّالي ومات العتاب
أبصرت رشدي وتركت المنى ... وربما ذلّت لهنّ الرّقاب
في كلمة طويلة يقول فيها:
يا حامد القول، ولم يبله ... سبقت بالسّيل مساك السّحاب (9)
الفعل أولى بثناء الفتى ... ما جاءه من خطإ أو صواب
دع قول واء وانتظر فعله ... يثني على اللّقحة ما في الحلاب (10)
__________
(1) في الديوان: «إذا ادّكرت» بدل «إذا غدوت».
(2) قليته: كرهته. لسان العرب (قلى).
(3) في الديوان: «النسيب» بدل «النساء».
(4) في الديوان: «لا بل وفيت فلم أضع».
(5) ديوان بشار بن برد (ص 237).
(6) في الديوان: «الريحان» بدل «النّدمان».
(7) في الديوان: «صنيع» بدل «صنع».
(8) ديوان بشار بن برد (ص 4039).
(9) المساك، بزنة السحاب: الموضع يمسك الماء. القاموس المحيط (مسك).
(10) في الديوان: «راء» بدل «واء». والوائي: اسم فاعل «وأى» أي وعد. واللّقحة، بكسر اللام وسكون(1/379)
إذا غدا المهديّ في جنده ... وراح في آل الرسول الغضاب
بدا لك المعروف في وجهه ... كالظّلم يجري في الثنايا العذاب (1)
ومن شعر بشار في الغزل (2): [الخفيف]
أيها الساقيان صبّا شرابي ... واسقياني من ريق بيضاء رود (3)
إنّ دائي الصّدى، وإنّ شفائي ... شربة من رضاب ثغر برود
عندها الصبر عن لقائي، وعندي ... زفرات يأكلن قلب الجليد
ولها مبسم كغرّ الأقاحي ... وحديث كالوشي وشي البرود
نزلت في السواد من حبّة القل ... ب ونالت زيادة المستزيد
ثم قالت: نلقاك بعد ليال ... والليالي يبلين كلّ جديد
لا أبالي من ضنّ عني بوصل ... إن قضى الله منك لي يوم جود
وقال (4): [البسيط]
تلقى بتسبيحة من حسن ما خلقت ... وتستفزّ حشا الرّائي بإرعاد
كأنما صوّرت من ماء لؤلؤة ... فكلّ جارحة وجه بمرصاد
وقال (5): [الوافر]
وهبت له على المسواك ريقا ... فطاب له بطيب ثنيّتيك
أقبّله على الذكرى كأنّي ... أقبّل فيه فاك ومقلتيك (6)
وقال (7): [المنسرح]
لا أستطيع الهوى وهجرتها ... قلبي ضعيف وقلبها حجر
__________
القاف: الناقة الحلوب. والحلاب: إناء يحلب فيه. يقول: إن اللبن الذي يكون في الإناء يظهر مقدار ما تحلبه الناقة، وهو الذي يثنى عليها. القاموس المحيط (وأى) و (لقح) و (حلب).
(1) الظّلم، بفتح الظاء وسكون اللام: ماء الأسنان وبريقها. القاموس المحيط (ظلم).
(2) ديوان بشار بن برد (ص 8079).
(3) الرّود، بضم الراء وسكون الواو: الناعمة الحسناء. لسان العرب (رود).
(4) ديوان بشار بن برد (ص 93).
(5) ديوان بشار بن برد (ص 172).
(6) أخذه من قول ابن زيدون: [الكامل]
يدنو بوصلك، حين شطّ مزاره، ... وهم، أكاد به أقبّل فاك
ديوان ابن زيدون (ص 98).
(7) ديوان بشار بن برد (ص 101).(1/380)
كأنّ وجدي بها وقد حجبت ... في الرأس والعين والحشا سكر
وأنشد له أبو تمام، وكان يقول: ما رأيت شعرا أغزل منه (1): [الخفيف]
زوّدينا يا عبد قبل الفراق ... بتلاق، وكيف لي بالتّلاق (2)؟
أنا والله أشتهي سحر عيني ... ك وأخشى مصارع العشّاق
أمّتي من بني عقيل بن كعب ... موضع السّلك في طلا الأعناق (3)
وقال (4): [الطويل]
لقد عشقت أذني كلاما سمعته ... رخيما، وقلبي للمليحة أعشق
ولو عاينوها لم يلوموا على البكا ... كريما سقاه الخمر بدر محلّق (5)
وكيف تناسي من كأنّ حديثه ... بأذني وإن عنيت قرط معلّق
وقال (6): [الطويل]
وقد كنت في ذاك الشباب الذي مضى ... أزار ويدعوني الهوى فأزور
فإن فاتني إلف ظللت كأنما ... يدير حياتي في يديه مدير
ومرتجّة الأرداف مهضومة الحشا ... تمور بسحر عينها وتدور
إذا نظرت صبّت عليك صبابة ... وكادت قلوب العالمين تطير
خلوت بها لا يخلص الماء بيننا ... إلى الصّبح دوني حاجب وستور
ومن هذا أخذ علي بن الجهم قوله: [الطويل]
صليني وحبل الوصل لم يتشعّب ... ولا تهجري أفديك بالأمّ والأب
رعى الله دهرا ضمّنا بعد فرقة ... وأدنى فؤادا من فؤاد معذّب
عناقا وضمّا والتزاما كأنما ... يرى جسدانا جسم روح مركب
فبتنا وإنّا لو تراق زجاجة ... من الخمر فيما بيننا لم تسرّب
وشعره في هذا المعنى كثير.
وروى أنه قال: أنا أشعر الناس لأنّ لي اثني عشر ألف قصيدة، فلو اختير من كل
__________
(1) ديوان بشار بن برد (ص 168).
(2) في الديوان: «يا عبده إني إليك بالأشواق لتلاق».
(3) في الديوان: «إنني من بني موضع السيف في طلا».
(4) ديوان بشار بن برد (ص 162161).
(5) في الديوان: «معلّق» بدل «محلّق».
(6) ديوان بشار بن برد (ص 112).(1/381)
قصيدة بيت لاستندر، ومن ندرت له اثنا عشر ألف بيت فهو أشعر الناس وقد نثرت نظمه في أضعاف الكتاب استدعاء لنشاط القارىء وكراهة في إملاله.
وكان بشار أرقّ المحدثين ديباجة كلام، وسمّي أبا المحدثين لأنه فتق لهم أكمام المعاني، ونهج لهم سبيل البديع، فاتّبعوه وكان ابن الرومي يقدمه، ويزعم أنه أشعر من تقدّم وتأخر.
وهو يتعلّق في شعره بولاء عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، ويفتخر بالمضرية. قال له المهدي: فيمن تعتزي؟ قال: أمّا اللسان فعربيّ، أما الأصل فكما قلت في شعري! قال: وما قلت؟ فأنشده (1): [المتقارب]
ونبّئت قوما لهم إحنة ... يقولون من ذا وكنت العلم (2)
ألا أيها السائلي جاهلا ... ليعرفني أنا إلف الكرم
نمت في المكارم بي عامر ... فروعي وأصلي قريش العجم
وإني لأغني مقام الفتى ... وأصبي الفتاة فلا تعتصم
البيت الأول من هذه الأبيات ينظر إلى قول جميل (3): [الطويل]
إذا ما رأوني طالعا من ثنيّة ... يقولون من هذا وقد عرفوني
وفي هذه القصيدة يقول بشار (4): [المتقارب]
وبيضاء يضحك ماء الشبا ... ب في وجهها لك إذ تبتسم
دوار العذارى إذا زرنها ... أطفن بحوراء مثل الصّنم
يرحن فيمسحن أركانها ... كما يمسح الحجر المستلم (5)
أصفراء ليس الفتى صخرة ... ولكنه نصب همّ وغمّ
صببت هواك على قلبه ... فضاق وأعلن ما قد كتم
ويقال: إنه مولى لأمّ الظباء السّدوسية، ولذلك قال أبو حذيفة واصل بن عطاء الغزّال رئيس المعتزلة لمّا هجاه بشار: أما لهذا الأعمى الملحد المشنّف المكتني بأبي معاذ
__________
(1) ديوان بشار بن برد (ص 218).
(2) الإحنة: الحقد والغضب. القاموس المحيط (أحن).
(3) ديوان جميل بثينة (ص 42).
(4) ديوان بشار بن برد (ص 216215).
(5) رواية صدر البيت في الديوان هي: يظلن يمسّحن أركانها(1/382)
من يقتله؟ والله لولا أنّ الغيلة من سجايا الغالية، لبعثت إليه من يبعج بطنه في جوف منزله، ولا يكون إلّا سدوسيّا، أو عقيليّا.
وكان واصل بن عطاء أحد أعاجيب الدنيا لأنه كان ألثغ في الراء، فأسقطها من جميع كلامه وخطبه إذ كان إمام مذهب، وداعي نحلة، وكان محتاجا إلى جودة البيان، وفصاحة اللّسان. قال الجاحظ: فانظر كثرة ترداد الراء في هذا الكلام وكيف أسقطها؟
قال: الأعمى، ولم يقل الضرير، وقال: الملحد ولم يقل الكافر، وقال: المشنّف، ولم يقل المرعّث (1)، وقال: المكتني: بأبي معاذ، ولم يقل بشارا ولا ابن برد، وقال: الغالية، ولم يقل المغيرية، ولا المنصورية، وهم الذين أراد، وقال: لبعثت، ولم يقل لأرسلت، وقال: يبعج، ولم يقل يبقر، وقال: في جوف منزله، ولم يقل في داره، وأراد بذكر عقيل وسدوس ما ذكر من اعتزائه إليهم.
وزعم الجاحظ أن بشارا كان يدين بالرّجعة، ويكفّر جميع الأمة وأنشد له أشعارا صوّب بها رأي إبليس في تقديم النار على الطين، منها قوله (2): [البسيط]
الأرض مظلمة، والنار مشرقة ... والنار معبودة مذ كانت النار
وقال داود بن رزين: أتينا بشارا، فأذن لنا والمائدة بين يديه، فلم يدعنا إلى الطعام، ثم جلسنا فحضر الظهر والعصر والمغرب فلم يصلّ، ودعا بطست فبال بحضرتنا، فقلنا له: أنت أستاذنا، وقد رأينا منك أشياء أنكرناها، قال: ما هي؟ قلنا: دخلنا والطعام بين يديك فلم تدعنا، قال: إنما أذنت لتأكلوا، ولو لم نرد ذلك لم نأذن لكم، قلنا له: ودعوت بالطّست ونحن حضور، قال: أنا مكفوف، وأنتم مأمورون بغضّ الأبصار دوني، قلنا:
وحضرت الصلاة فلم تصلّ! قال: الذي يقبلها تفاريق يقبلها جملة! هذا وهو القائل (3):
[الخفيف]
كيف يبكي لمحبس في طلول ... من سيفضي لحبس يوم طويل
إنّ في البعث والحساب لشغلا ... عن وقوف برسم دار محيل
__________
(1) المرعّث والمشنّق: المرقّط، أي الذي في أذنيه قرطان. القاموس المحيط (رعث) و (شنف).
(2) ديوان بشار بن برد (ص 107).
(3) ديوان بشار بن برد (ص 190189).(1/383)
وقال (1): [الطويل]
ذكرت بها عيشا فقلت لصاحبي: ... كأن لم يكن ما كان حين يزول (2)
وما حاجتي لو ساعد الدهر بالمنى ... كعاب عليها لؤلؤ وشكول
بدا لي أنّ الدهر يقدح في الصّفا ... وأنّ بقائي إن حييت قليل (3)
فعش خائفا للموت أو غير خائف ... على كلّ نفس للحمام دليل (4)
خليلك ما قدّمت من عمل التّقى ... وليس لأيّام المنون خليل
وكان بشّار حاضر الجواب، سجّاعا، خطيبا، صاحب منثور ومزدوج ورجز ورسائل مختارة على كثير من الكلام، ودخل على عقبة بن مسلم بن قتيبة، فأنشده مديحا وعنده عقبة بن رؤبة، فأنشده أرجوزة، ثم أقبل على بشار فقال: هذا طراز لا تحسنه يا أبا معاذ! فقال: والله لأنا أرجز منك ومن أبيك! ثم غدا على عقبة من الغد، فأنشده أرجوزته (5): [رجز]
يا طلل الحيّ بذات الصّمد ... بالله خبّر كيف كنت بعدي
يقول فيها:
صدّت بخدّ وجلت عن خدّ ... ثم انثنت كالنّفس المرتدّ
وصاحب كالدّمّل الممدّ ... حملته في رقعة من جلدي
حتى اغتدى غير فقيد الفقد ... وما درى ما رغبتي من زهدي (6)
وهذا كقول الآخر: [الطويل]
يودّون لو خاطوا عليك جلودهم ... ولا يدفع الموت النفوس الشحائح
وفيها يقول (7):
الحرّ يلحى والعصا للعبد ... وليس للملحف مثل الردّ
__________
(1) ديوان بشار بن برد (ص 179).
(2) في الديوان: «وقلت» بدل «فقلت».
(3) في الديوان: «حين شبت قليل».
(4) في الديوان: «فبت» بدل «فعش».
(5) ديوان بشار بن برد (ص 8684).
(6) في الديوان: «حتى مضى» بدل «حتى اغتدى».
(7) القول لا يزال لبشار، والأبيات تابعة لأرجوزته السابقة الذكر.(1/384)
اسلم وحيّيت أبا الملدّ ... مفتاح باب الحدث المنسدّ
والبس طرازي غير مستردّ ... لله أيامك في معدّ (1)
هي طويلة، فأجزل صلته، فلمّا سمع ابن رؤبة ما فيها من الغريب قال: أنا وأبي وجدّي فتحنا الغريب للناس، وإني لخليق أن أسدّه عليهم، فقال بشار: ارحمهم، رحمك الله! قال: تستخفّ بي، وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر؟ قال: إذا أنت من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا! فضحك كلّ من حضر.
ودخل على المهدي وعنده خاله يزيد بن منصور الحميري، فأنشده قصيدة، فلمّا أتمها قال له يزيد: ما صناعتك يا شيخ؟ قال: أثقب اللّؤلؤ، فقال له المهدي: أتهزأ بخالي؟ فقال: يا أمير المؤمنين، فما يكون جوابي لمن يرى شيخا أعمى ينشد شعرا فيسأله عن صناعته؟
وقال جواري المهدي للمهدي: لو أذنت لبشّار يدخل إلينا يؤانسنا وينشدنا فهو محجوب البصر، لا غيرة عليك منه، وأمره فدخل إليهنّ واستظرفنه، وقلن له: وددنا والله يا أبا معاذ أنك أبونا حتى لا نفارقك، قال: ونحن على دين كسرى (2)! فأمر المهدي ألّا يدخل عليهنّ.
وكأن المتنبي نظر إلى هذا فقال (3): [الكامل]
يا أخت معتنق الفوارس في الوغى ... لأخوك ثمّ أرقّ منك وأرحم
يرنو إليك مع العفاف وعنده ... أنّ المجوس تصيب فيما تحكم
[في المودة والعتاب والصدق والكذب]
قال علي بن عبيدة الريحاني: المودّة تعاطف القلوب، وائتلاف الأرواح، وحنين النفوس إلى مثابة السرائر، والاسترواح بالمستكنّات في الغرائز، ووحشة الأشخاص عند تباين اللقاء، وظاهر السرور بكثرة التّزوار، وعلى حسب مشاكلة الجواهر يكون اتفاق الخصال.
__________
(1) في الديوان: «فالبس» بدل «والبس».
(2) هو كسرى أنو شروان كان مجوسيا يستبيح زواج البنات والأخوات.
(3) ورد فقط البيت الأول في ديوان المتنبي (ص 629).(1/385)
وقال: العتاب حدائق المتحابّين، وثمار الأودّاء (1)، ودليل الظنّ، وحركات الشّوق، وراحة الواجد، ولسان المشفق.
قال بعض الكتاب: العتاب علامة الوفاء، وحاصّة (2) الجفاء، وسلاح الأكفاء.
وقال علي بن عبيدة: التجنّي رسول القطيعة، وداعي القلى (3)، وسبب السلوّ، وأوّل التجافي، ومنزل التهاجر.
وقال: الصدق ربيع القلب، وزكاة الخلق، وثمرة المروءة، وشعاع الضمير، وعن جلالة القدر عبارته، وإلى اعتدال وزن العقل ينسب صاحبه، وشهادته قاطعة في الاختلاف، وإليه ترجع الحكومات.
وقال: الكذب شعار الخيانة، وتحريف العلم، وخواطر الزّور، وتسويل أضغاث النفس، واعوجاج التركيب، واختلاف البنية، وعن خمول الذكر ما يكون صاحبه.
وعلي بن عبيدة كثير الإغارة، على ما كان غيره قد استثاره.
فقر في الكذب لغير واحد
بعض الفلاسفة: الكذّاب والميّت سواء لأن فضيلة الحيّ النّطق، فإذا لم يوثق بكلامه فقد بطلت حياته.
الحسن بن سهل: الكذّاب لصّ لأن اللصّ يسرق مالك، والكذّاب يسرق عقلك ولا تأمن من كذب لك أن يكذب عليك، ومن اغتاب غيرك عندك فلا تأمن أن يغتابك عند غيرك.
قال إبراهيم بن العباس في هذا النحو: [مجزوء الكامل]
إني متى أحقد بحق ... دك لا أضرّ به سواكا
ومتى أطعتك في أخي ... ك أطعت فيك غدا أخاكا
حتّى أرى متقسّما ... يومي لذا، وغدا لذاكا
حسب الكاذب بعقله سقما وبقلبه خصما.
__________
(1) الأودّاء: جمع ودود وهو المحبّ. القاموس المحيط (ودد).
(2) الحاصّة: داء يتناثر منه الشّعر. القاموس المحيط (حصص).
(3) القلى: البغض. القاموس المحيط (قلى).(1/386)
ابن المعتز: علامة الكذاب جوده باليمين لغير مستحلف، وقال: [البسيط]
وفي اليمين على ما أنت فاعله ... ما دلّ أنك في الميعاد متّهم
وقال: اجتنب مصاحبة الكذّاب، فإن اضطررت إليه فلا تصدّقه، ولا تعلمه أنك تكذّبه، فينتقل عن ودّه، ولا ينتقل عن طبعه. يعتري حديث الكذّاب من الاختلاف ما لا يعتري الجبان من الارتعاد عند الحرب. لا تصحّ للكذّاب رؤيا لأنه يخبر عن نفسه في اليقظة بما لم ير، فتريه في النوم ما لا يكون، وأنشد: [البسيط]
لا يكذب المرء إلّا من مهانته ... أو عادة السوء، أو من قلّة الأدب
ولأهل العصر: فلان منغمس في عيبه، يكذب لذيله على جيبه، يقول بهتا، وزورا بحتا، قد ملأ قلبه رينا (1)، وقوله مينا (2) يدين بالكذب مذهبا، ويستثير الزّور مركبا.
أقاويل يتمشّى الزّور في مناكبها، ويبرز البهتان في مذاهبها.
وقال أعرابي لابنه وسمعه يكذب: يا بني، عجبت من الكذّاب المشيد بكذبه، وإنما يدلّ على عيبه، ويتعرّض للعقاب من ربّه فالآثام له عادة، والأخبار عنه متضادّة، إن قال حقا لم يصدّق، وإن أراد خيرا لم يوفّق فهو الجاني على نفسه بفعاله، والدّالّ على فضيحته بمقاله. فما صحّ من صدقه نسب إلى غيره، وما صحّ من كذب غيره نسب إليه، فهو كما قال الشاعر: [مجزوء الكامل]
حسب الكذوب من المها ... نة بعض ما يحكى عليه
ما إن سمعت بكذبة ... من غيره نسبت إليه
[ما قيل في الزفاف]
كتب الحسن بن سهل إلى المأمون، بعد أن زفّت إليه بوران وتوهّم القواد أن هذا التزويج قد أنسى الحسن حاله قبل ذلك قد تولّى أمير المؤمنين من تعظيم عبده في قبول أمته شيئا لا يتّسع له الشكر عنه إلّا بمعونة أمير المؤمنين، أدام الله عزّه، في إخراج توقيعه بتزيين حالي في العامة والخاصة، بما يراه فيه صوابا إن شاء الله.
فخرج التوقيع: الحسن بن سهل زمام على ما جمع أمور الخاصة، وكنف أسباب العامة، وأحاط بالنفقات، ونفذ بالولاة، وإليه الخراج والبريد واختيار القضاة، جزاء بمعرفته بالحال التي قرّبته منّا، وإثابة لشكره إيانا على ما أولينا.
__________
(1) الرّين: الدّنس والخبث. القاموس المحيط (رين).
(2) المين: الكذب. القاموس المحيط (مين).(1/387)
قال يحيى بن أكثم: أراد المأمون أن يزوّج ابنته من الرضا فقال: يا يحيى، تكلّم، فأجللته أن أقول: أنكحت، فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت الحاكم الأكبر، والإمام الأعظم، وأنت أولى بالكلام، فقال:
الحمد لله الذي تصاغرت الأمور بمشيئته، ولا إله إلّا هو إقرارا بربوبيته، وصلّى الله على محمد عند ذكره.
أمّا بعد، فإنّ الله قد جعل النكاح دينا، ورضيه حكما، وأنزله وحيا ليكون سبب المناسبة ألا وإني قد زوّجت ابنة المأمون من عليّ بن موسى، وأمهرتها أربعمائة درهم، اقتداء بسنّة رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، وانتهاء إلى ما درج إليه السّلف، والحمد لله ربّ العالمين.
قال الأصمعي: كانوا يستحبّون من الخاطب إلى الرجل حرمته الإطالة، لتدلّ على الرغبة، ومن المخطوب إليه الإيجاز، ليدلّ على الإجابة.
وخطب رجل من بني أمية إلى عمر بن عبد العزيز أخته، فأطال فقال عمر:
الحمد لله ذي الكبرياء، وصلّى الله على محمد خاتم الأنبياء أما بعد، فإن الرغبة منك دعتك إلينا، والرغبة منّا فيك أجابت، وقد زوّجناك على كتاب الله: إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان.
وخطب رجل إلى قوم فأتى بمن تخطب له، فاستفتح بحمد الله وأطال، وصلّى على النبيّ عليه السلام وأطال، ثم ذكر البدء وخلق السموات والأرض، واقتصّ ذكر القرون حتى ضجر من حضر، والتفت إلى الخاطب، فقال: ما اسمك أعزّك الله؟ فقال: والله قد أنسيت اسمي من طول خطبتك، وهي طالق إن تزوجتها بهذه الخطبة فضحك القوم، وعقدوا في مجلس آخر.
[فقر في الكتاب والقلم والسيف والخطّ]
وقال ابن المعتز: الكتاب والج الأبواب، جريء على الحجّاب، مفهم لا يفهم، وناطق لا يتكلّم، به يشخص المشتاق، إذا أقعده الفراق، والقلم مجهّز لجيوش الكلام، يخدم الإرادة، لا يملّ الاستزادة، ويسكت واقفا، وينطق سائرا، على أرض بياضها مظلم، وسوادها مضيء، وكأنه يقبّل بساط سلطان أو يفتح نوّار بستان.
وهذا كقوله في القاسم بن عبيد الله، قال الصولي: لما عرض القاسم بن عبيد الله ليخلف أباه: قال ابن المعتز: [الخفيف]
قلم ما أراه أم فلك يج ... ري بما شاء قاسم ويسير
خاشع في يديه يلثم قرطا ... سا كما قبّل البساط شكور
ولطيف المعنى جليل نحيف ... وكبير الأفعال وهو صغير
كم منايا وكم عطايا وكم حت ... ف وعيش تضمّ تلك السّطور
نقشت بالدّجا نهارا فما أد ... ري أخطّ فيهنّ أم تصوير
هكذا من أبوه مثل عبيد ال ... له ينمى إلى العلا ويصير
عظمت منّة الإله عليه ... فهناك الوزير وهو الوزير
وقال بعض البلغاء: صورة الخطّ في الأبصار سواد، وفي البصائر بياض.(1/388)
قلم ما أراه أم فلك يج ... ري بما شاء قاسم ويسير
خاشع في يديه يلثم قرطا ... سا كما قبّل البساط شكور
ولطيف المعنى جليل نحيف ... وكبير الأفعال وهو صغير
كم منايا وكم عطايا وكم حت ... ف وعيش تضمّ تلك السّطور
نقشت بالدّجا نهارا فما أد ... ري أخطّ فيهنّ أم تصوير
هكذا من أبوه مثل عبيد ال ... له ينمى إلى العلا ويصير
عظمت منّة الإله عليه ... فهناك الوزير وهو الوزير
وقال بعض البلغاء: صورة الخطّ في الأبصار سواد، وفي البصائر بياض.
وقال أبو الطيب المتنبي (1): [الطويل]
دعاني إليك العلم والحلم والحجى ... وهذا الكلام النّظم والنّائل النثر
وما قلت من شعر تكاد بيوته ... إذا كتبت يبيضّ من نورها الحبر
وقال ابن المعتز في عبيد الله بن سليمان بن وهب: [الطويل]
عليم بأعقاب الأمور، كأنه ... بمختلسات الظنّ يسمع أو يرى
إذا أخذ القرطاس خلت يمينه ... يفتّح نورا أو ينظّم جوهرا
فاخر صاحب سيف صاحب قلم، فقال صاحب القلم: أنا أقتل بلا غرر، وأنت تقتل على خطر. فقال صاحب السيف: القلم خادم السيف، إن تمّ مراده وإلّا فإلى السيف معاده أما سمعت قول أبي تمام (2): [البسيط]
السيف أصدق إنباء من الكتب ... في حدّه الحدّ بين الجدّ واللّعب
بيض الصفائح لا سود الصّحائف في ... متونهنّ جلاء الشّكّ والرّيب
وقال أبو الطيب (3): [البسيط]
ما زلت أضحك إبلي كلّما نظرت ... إلى من احتضنت أخفافها بدم (4)
أسيرها بين أصنام أشاهدها ... ولا أشاهد فيها عفّة الصّنم
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيّف ليس المجد للقلم
أكتب بنا أبدا بعد الكتاب به ... فإنّما نحن للأسياف كالخدم
__________
(1) ديوان المتنبي (ص 198).
(2) ديوان أبي تمام (ص 14).
(3) ديوان المتنبي (ص 539).
(4) في الديوان: «من احتضبت» بدل «من احتضنت».(1/389)
هذا مقلوب من قول علي بن العباس النوبختي، وقد رواه أبو القاسم الزجاجي لابن الرومي، وإنما وهم لاتّفاق الاسمين: [البسيط]
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم
فالموت والموت لا شيء يغالبه ... ما زال يتبع ما يجري به القلم
بذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أنّ السيوف لها مذ أرهفت خدم
وقال ابن الرومي: [المتقارب]
لعمرك ما السّيف سيف الكميّ ... بأخوف من قلم الكاتب
له شاهد إن تأمّلته ... ظهرت على سرّه الغائب
أداة المنيّة في جانبيه ... فمن مثله رهبة الرّاهب
سنان المنيّة في جانب ... وحدّ المنيّة في جانب
ألم تر في صدره كالسّنان ... وفي الرّدف كالمرهف القاضب؟
وقال أبو الفتح البستي: [الطويل]
إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم ... وعدّوه ممّا يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتاب مجدا ورفعة ... مدى الدّهر أنّ الله أقسم بالقلم
وقد قيل: صرير الأقلام، أشدّ من صليل الحسام.
قال الصولي: أنشدني طلحة بن عبيد الله: [الكامل]
وإذا أمرّ على المهارق كفّه ... بأنامل يحملن شختا مرهفا (1)
متقاصرا متطاولا ومفصّلا ... وموصلا ومشتّتا ومؤلّفا
ترك العداة رواجفا أحشاؤها ... وقلاعها قلعا هنالك رجّفا
كالحيّة الرّقشاء إلّا أنه ... يستنزل الأروى إليه تلطّفا
يرمي به قلما يمجّ لعابه ... فيعود سيفا صارما ومثقّفا
وقال محمود بن أحمد الأصبهاني: [السريع]
أخرس ينبيك بإطراقه ... عن كلّ ما شئت من الأمر
يذري على قرطاسه دمعة ... يبدي بها السرّ وما يدري
كعاشق أخفى هواه وقد ... نمّت عليه عبرة تجري
__________
(1) المهارق: جمع مهرق وهو الصحيفة. الشّخت: الدقيق الضامر. القاموس المحيط (هرق) و (شخت).(1/390)
تبصره في كلّ أحواله ... عريان يكسو الناس أو يعري
يرى أسيرا في دواة وقد ... أطلق أقواما من الأسر
أخرق لو لم تبره لم يكن ... يرشق أقواما وما يبري
كالبحر إذ يجري، وكالليل إذ ... يغشى، وكالصارم إذ يفري (1)
وقال أحمد بن جرار: [السريع]
أهيف ممشوق بتحريكه ... يحلّ عقد السّرّ إعلان
له لسان مرهف حدّه ... من ريقة الكرسف ريّان (2)
ترى بسيط الفكر في نظمه ... شخصا له حدّ وجثمان
كأنما يسحب في إثره ... ذيلا من الحكمة سحبان (3)
لولاه ما قام منار الهدى ... ولا سما للملك ديوان
ومن أجود ما قيل في صفة القلم قول أبي تمام لمحمد بن عبد الملك الزيات (4):
[الكامل]
لك القلم الأعلى الّذي بشباته ... تصاب من الأمر الكلى والمفاصل
له ريقة طلّ ولكنّ وقعها ... بآثاره في الشّرق والغرب وابل
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأري الجنى اشتارته أيد عواسل (5)
له الخلوات اللاء لولا نجيّها ... لما اختلفت للملك تلك المحافل (6)
وقال الأمير تميم بن المعز (7): [الطويل]
وذي عجب من طول صبري على الذي ... ألاقي من الأرزاء وهو جليل
يقولون: ما تشكو؟ فقلت: متى شكا ... شبا السيف عضب الشفرتين صقيل؟ (8)
وإنّ أمرأ يشكو إلى غير نافع ... ويسخو بما في نفسه لجهول
__________
(1) الصارم: السيف القاطع. يفري: يشقّ. القاموس المحيط (صرم) و (فري).
(2) الكرسف، بضم الكاف والسين وسكون الراء: القطن. القاموس المحيط (كرسف).
(3) السّحبان: الرجل البليغ الذي يضرب به المثل. القاموس المحيط (سحب).
(4) ديوان أبي تمام «ص 228227).
(5) الأري: العسل. القاموس المحيط (أري).
(6) في الديوان: «لك الخلوات لما احتفلت للملك».
(7) ديوان تميم بن المعز لدين الله الفاطمي (ص 326).
(8) في الديوان: «يقول ألا تشكو من الضرب عضب».(1/391)
عذابي أن أشكو إلى الناس أنني ... عليل ومن أشكو إليه عليل (1)
ويمنعني الشكوى إلى الله علمه ... بجملة ما ألقاه قبل أقول
سأسكت صبرا واحتسابا فإنني ... أرى الصّبر سيفا ليس فيه فلول
وقال (2): [الكامل]
يا دهر، ما أقساك من متلوّن ... في حالتيك، وما أقلّك منصفا
أتروح للنّكس الجهول ممهّدا ... وعلى اللبيب الحرّ سيفا مرهفا؟ (3)
وإذا صفوت كدرت، شيمة باخل، ... وإذا وفيت نقضت أسباب الوفا
لا أرتضيك، وإن كرمت لأنني ... أدري بأنك لا تدوم على الصّفا (4)
زمن إذا أعطى استردّ عطاءه ... وإذا استقام بدا له فتحرّفا
ما قام خيرك يا زمان بشرّه ... أولى بنا ما قلّ منك وما كفى
[من أخبار الكاتب أحمد بن يوسف]
وكان أحمد بن يوسف منصرفا عن غسّان بن عباد، وجرت بينهما هنات بحضرة المأمون، فقال يوما بحضرة خاصّة أصحابه: أخبروني عن غسّان بن عباد فإني أريده لأمر جسيم وكان قد عزم على تقليده السّند مكان بشر بن داود فتكلّم كلّ فريق بما عنده في مدحه فقال أحمد بن يوسف: هو، يا أمير المؤمنين، رجل محاسنه أكثر من مساويه، لا يتطرّف به أمر إلّا تقدّم فيه، ومهما تخوّف عليه فإنه لن يأتي أمرا يعتذر منه لأنه قسم أيامه بين أفعال الفضل فجعل لكلّ خلق نوبة، إذا نظرت في أمره لم تدر أيّ حالاته أعجب أما هداه إليه عقله أم ما اكتسبه بأدبه؟
فقال له المأمون: لقد مدحته على سوء رأيك فيه! قال: لأني في أمير المؤمنين كما قال الشاعر: [الوافر]
كفى ثمنا لما أسديت أني ... نصحتك في الصديق وفي عدائي
وأني حين تندبني لأمر ... يكون هواك أغلب من هوائي
__________
(1) في الديوان: «عداني من الشكوى إلى الناس».
(2) ديوان تميم (ص 274).
(3) في الديوان: «مساعدا» بدل «ممهّدا». والنّكس، بكسر النون وسكون الكاف: الضعيف والمقصّر عن غاية الكرم. القاموس المحيط (نكس).
(4) في الديوان: «ولو صفوت» بدل «وإن كرمت».(1/392)
قال الصولي: وقد روي هذا لغير أحمد، ولعلّ أحمد استعاره فأعجب المأمون ذلك منه، وشكره غسان بن عبّاد له، وتأكّدت الحال بينهما.
وكان أحمد بن يوسف بن القاسم بن صبيح، مولى عجل بن لجيم، عالي الطبقة في البلاغة، ولم يكن في زمانه أكتب منه، وله شعر جيد مرتفع عن أشعار الكتّاب، ووزر للمأمون بعد أحمد بن أبي خالد، وكان أول ما ارتفع به أحمد أن المخلوع محمد بن الرشيد لمّا قتل أمر طاهر بن الحسين الكتّاب أن يكتبوا إلى المأمون فأطالوا، فقال طاهر: أريد أخصر من هذا، فوصف له أحمد بن يوسف وموضعه من البلاغة، فأحضره لذلك، فكتب: أمّا بعد، فإن كان المخلوع قسيم أمير المؤمنين في النّسب واللّحمة، فقد فرّق بينهما حكم الكتاب في الولاية والخدمة، بمفارقته عصمة الدين، وخروجه عن الأمر الجامع للمسلمين لقول الله عزّ وجلّ فيما اقتص [علينا] من نبإ نوح وابنه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صََالِحٍ} (1)، ولا طاعة لأحد في معصية الله، ولا قطيعة ما كانت القطيعة في ذات الله وكتابي إلى أمير المؤمنين وقد أنجز الله له ما كان ينتظر من سابق وعده، والحمد لله الراجع إلى أمير المؤمنين معلوم حقّه، الكائد له فيمن ختر عهده (2)، ونقض عقده، حتى ردّ به الألفة بعد فرقتها، وجمع به الأمة بعد شتاتها، وأضاء به أعلام الدين بعد دروسها وقد بعثت إليك بالدنيا وهي رأس المخلوع، وبالآخرة وهي البردة والقضيب والحمد لله الآخذ لأمير المؤمنين حقّه، الراجع إليه تراث آبائه الراشدين.
وكان أحمد بن أبي خالد كثيرا ما يصف أحمد للمأمون ويحثّه عليه، فأمره المأمون بإحضاره، فلمّا وقف بين يديه قال: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي استخصّك فيما استحفظك من دينه، وقلّدك من خلافته، بسوابغ نعمه، وفضائل قسمه، وعرّفك من تيسير كلّ عسير حاولك عليه متمرّد، حتى ذلّ لك ما جعله تكملة لما حباك به من موارد أموره بنجح مصادرها، حمدا ناميا زائدا لا ينقطع أولاه، ولا ينقضي أخراه، وأنا أسأل الله يا أمير المؤمنين من إتمام بلائه لديك، ومننه عليك، وكفايته ما ولّاك واسترعاك، وتحصين ما حاز لك، والتمكين من بلاد عدوّك، مما يمنع به بيضة الإسلام، ويعزّ بك أهله، ويبيح بك حمى الشّرك، ويجمع لك متباين الألفة، وينجز بك في أهل العناد والضلالة وعده إنه سميع الدعاء، فعّال لما يشاء.
فقال المأمون: أحسنت، بورك عليك ناطقا وساكتا! ثم قال بعد أن بلاه واختبره: يا
__________
(1) سورة هود 11، الآية 46.
(2) ختر عهده: أفسده. لسان العرب (ختر).(1/393)
عجبا لأحمد بن يوسف! كيف استطاع أن يكتم نفسه؟
وكتب إلى المأمون يستجدي لزوّار على بابه: إن داعي نداك، ومنادي جدواك، جمعا ببابك الوفود، يرجون نائلك العتيد، فمنهم من يمتّ بحرمة، ومنهم من يدلي بسالف خدمة، وقد أجحف بهم المقام فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعشهم بسيبه (1)، ويحقّق ظنّهم بطوله، فعل.
فوقّع المأمون في عرض كتابه:
الخير متّبع، وأموال الملوك مظانّ لطلّاب الحاجات فاكتب أسماءهم، وبيّن مرتبة كلّ واحد منهم، ليصير إليه على قدر استحقاقه ولا تكدّرن معروفنا بالمطل والحجاب فقد قال الشاعر: [الوافر]
فإنّك لن ترى طردا لحرّ ... كإلصاق به طرف الهوان
ولم تجلب مودّة ذي وفاء ... بمثل الودّ أو بذل اللّسان
قال أحمد بن يوسف: أمرني المأمون أن أكتب في زيادة قناديل شهر رمضان فأعيا عليّ، ولم أجد مثالا أحتذي عليه فبتّ مغموما، فأتاني آت في النوم فقال: اكتب: فإن فيها إضاءة للمتهجّدين، ونفيا لمكان الرّيب، وأنسا للسابلة، وتنزيها لبيوت الله من وحشة الظّلم، فأخبرت بذلك المأمون، فاستظرفه، وأمر أن تمضي الكتب عليه.
وأهدى إلى المأمون في يوم نوروز طبق جزع (2) عليه ميل من ذهب، فيه اسمه منقوش، وكتب إليه:
هذا يوم جرت فيه العادة، بإلطاف العبيد السادة، وقد بعثت إلى أمير المؤمنين طبق جزع فيه ميل.
فلمّا قرأ المأمون الرقعة قال: أجاءت هدية أحمد بن يوسف؟ قالوا: نعم، قال: هي في داري أمّ داري فيها؟ فلمّا رفع المنديل استظرف الهديّة واسترجح مهديها.
وأهدى إلى إبراهيم بن المهدي هدية وكتب إليه: الثقة بك قد سهّلت السبيل إليك، فأهديت هدية من لا يحتشم إلى من لا يغتنم.
وكتب إلى بني سعيد بن سلم: لولا أنّ الله، عزّ وجلّ، ختم نبوّته بمحمد، صلّى الله عليه وسلم،
__________
(1) السّيب: العطاء. القاموس المحيط (سيب).
(2) الجزع، بفتح الجيم، وكسرها وسكون الزاي: الخرز اليماني الصيني. القاموس المحيط (جزع).(1/394)
وكتبه بالقرآن، لنزّل فيكم نبيّ نقمة، وأنزل فيكم قرآن غدر وما عسيت أن أقول في قوم محاسنهم مساوي السّفل، ومساويهم فضائح الأمم، وألسنتهم معقولة بالعيّ (1)، وأيديهم معقودة بالبخل، وهم كما قال الشاعر: [البسيط]
لا يكبرون وإن طالت حياتهم ... ولا تبيد مخازيهم وإن بادوا
وغنّى مغنّ بحضرة أحمد بن يوسف ولم يكن محسنا، فلم ينصتوا له، وتحدّثوا مع غنائه، فغضب المغنّي فقال أحمد بن يوسف: أنت، عافاك الله، تحمّل الأسماع ثقلا، والقلوب مللا، والأعين قباحة، والأنف نتانة، ثم تقول: اسمعوا مني، وأنصتوا إليّ! هذا إذا كانت أفهامنا مقفلة، وآذاننا صدئة، فإمّا رضيت بالعفو منّا، وإلّا قمت مذموما عنّا.
ألفاظ لأهل العصر في ذمّ المغنين
يترنّم فيتعب ولا يطرب. إذا غنّى عنّى، وإذا أدّى آذى. يميت الطّرب، ويحيي الكرب. ضربه يوجب ضربه. من عجائب غنائه أنه يورد الشتاء في الصيف. ما رؤي قطّ في دار مرتين، وحضر جحظة مجلسا فيه عليّ بن بسام، فتفرّق القوم المخادّ، فقال جحظة (2): فما لي لم تعطوني مخدّة؟ فقال علي بن بسام: غنّ فالمخادّ كلّها إليك تصير! وفيه يقول ابن بسام: [السريع]
يا من هجوناه فغنّانا ... أنت، وبيت الله، أهجانا
سيّان إن غنّى لنا جحظة ... أو مرّ مجنون فزنّانا
وكان خالد يستبرد، فبعث بعض الظرفاء غلامه يشتري له خمسة أرطال ثلج، فأتاه بخالد وقال: يا مولاي، طلبت خمسة أرطال، وهذا حمل!
وتغنّى بحضرة محموم، فقال: ويحك! دعنا نعرق!
وقال بعض المحدثين في قريس المغني: [المتقارب]
ألا فاسقني قدحا وافرا ... يعين على البلغم الهائج
أكلنا قريسا وغنّى قريس ... فنحن على شرف الفالج
ولقي أبو العباس المبرد برد الخيار المغنّي في يوم ثلج بالجسر، فقال: أنت المبّرد وأنا برد الخيار، واليوم كما ترى، اعبر بنا لا يهلك الناس بالفالج بسببنا.
__________
(1) العيّ: عدم الاهتداء لوجه المراد. القاموس المحيط (عيي).
(2) جحظة: هو أحمد بن جعفر بن موسى ابن برمك، كما سيأتي بعد قليل.(1/395)
وقال ابن عباد الصاحب في مغنّ يعرف بابن عذاب: [مخلع البسيط]
أقول قولا بلا احتشام ... يعقله كلّ من يعيه
ابن عذاب إذا تغنّى ... فإنني منه في أبيه
[رجع إلى أحمد بن يوسف]
ومن شعر أحمد بن يوسف: [مخلع البسيط]
ضمير وجد بقلب صبّ ... ترجم دمعي به فشاعا
فصار دمعي لسان وجدي ... ضيّع سرّي به فذاعا
لولا دموعي وفرط حبّي ... ما كان سرّي كذا مضاعا
وقال: [المنسرح]
وعامل بالفجور يأمر بال ... برّ كهاد يخوض في الظّلم
أو كطبيب قد شفّه سقم ... وهو يداوي من ذلك السّقم
يا واعظ الناس غير متّعظ ... ثوبك طهّر أولا فلا تلم
وقال: [الطويل]
إذا ما التقينا والعيون نواظر ... فألسننا حرب وأبصارنا سلم
وقال في الحزن: [الطويل]
كثير هموم القلب حتى كأنما ... عليه سرور العالمين حرام
إذا قيل ما أضناك! أسبل دمعه ... فأخبر ما يلقي وليس كلام
وقال: [الطويل]
كريم له نفس يلين بلينها ... ليردع عن سلطانه سنن الكبر
إذا ذكّرته نفسه عظم قدرها ... دعاه إلى تسكينها عظم القدر
ووقّع في كتاب رجل يحثّه على استتمام صنائعه عنده: مستتمّ الصنيعة من عدّل زيغها، وأقام أودها (1)، صيانة لمعروفه، ونصرة لرأيه فإن أول المعروف مستخفّ، وآخره مستثقل، يكاد أول الصنيعة يكون للهوى، وآخرها للرّأي، ولذلك قيل: ربّ (2)
الصنيعة أشدّ من ابتدائها.
__________
(1) الأود، بالفتح: الاعوجاج. القاموس المحيط (أود).
(2) ربّ الصنيعة: مصلحها يقال: أربّ الأمر إذا أصلحه. القاموس المحيط (ربب).(1/396)
وكان أبو العتاهية له صديقا قبل ارتفاع حاله، فأحسّ منه في حين وزارته تغيّرا، فكتب إليه (1): [الطويل]
أمنت إذا استغنيت من سورة الفقر ... فصرت ترى الإخوان بالنّظر الشّزر
أبا جعفر إنّ الشريف يهينه ... تتايهه دون الأخلّاء بالوفر
فإن تهت يوما بالذي نلت من غنى ... فإن غنائي بالتجمّل والصّبر
ألم تر أنّ الفقر يرجى له الغنى ... وأنّ الغنى يخشى عليه من الفقر
وروى أبو بكر يموت بن المزرع عن خاله الجاحظ قال: حجب أحمد بن يوسف أبا العتاهية، ثم عاد، فقيل: هو نائم، فكتب إليه: [الطويل]
لئن عدت بعد اليوم إني لظالم ... سأصرف وجهي حيث تبغى المكارم
متى يظفر الغادي إليك بحاجة ... ونصفك محجوب ونصفك نائم
وقال: [الخفيف]
في عداد الموتى وفي ساكني الدن ... يا أبو جعفر أخي وخليلي
ميّت مات وهو في ورق العي ... ش مقيما في ظلّ عيش ظليل
لم يمت ميتة الوفاة، ولكن ... مات عن كلّ صالح وجميل
وخاصم أحمد بن يوسف رجلا بين يدي المأمون، وكان صغا (2) المأمون إليه على أحمد، ففطن لذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه يستملي من عينيك ما يلقاني به، ويستبين بحركته ما تجنّه له (3)، وبلوغ إرادتك أحبّ إليّ من بلوغ أملي، ولذّة إجابتك أمتع عندي من لذّة ظفري وقد تركت له ما نازعني فيه، وسلّمت له ما طالبني به، فاستحسن ذلك المأمون.
ومن كلام أحمد بن يوسف: مجالسة البغضاء تثير الهموم، وتجلب الغموم، وتؤلم القلب، وتقدح في النّشاط، وتطوي الانبساط.
ألفاظ لأهل العصر في صفات الثقلاء
فلان ثقيل الطّلعة، بغيض التفصيل والجملة، بارد السكون والحركة قد خرج عن
__________
(1) ورد البيت الأخير فقط في ديوان أبي العتاهية (ص 98).
(2) صغا إليه: مال. القاموس المحيط (صغا).
(3) أجنّه: ستره. القاموس المحيط (جنن).(1/397)
حدّ الاعتدال، وذهب من ذات اليمين إلى ذات الشمال. يحكي ثقل الحديث المعاد، ويمشي في القلوب والأكباد، ولا أدري كيف لم تحمل الأمانة أرض حملته؟ وكيف احتاجت إلى الجبال بعد ما أقلّته؟ كأنّ وجهه أيام المصائب، وليالي النوائب، وكأنما قرّ به فقد الحبائب، وسوء العواقب. وكأنما وصله عدم الحياة، وموت الفجأة، وكأنما هجره قوة المنّة، وريح الجنّة. يا عجبي من جسم كالخيال، وروح كالجبال، كأنه ثقل الدّين، على وجع العين. هو ثقيل السكون، بغيض الحركة، كثير الشؤم، قليل البركة. هو بين الجفن والعين قذاة (1)، وبين الأخمص والنّعل حصاة. ما هو إلّا غداة الفراق، وكتاب الطلاق، وموت الحبيب، وطلوع الرقيب. ما هو إلّا أربعاء لا تدور في صفر، والكابوس في وقت السّحر، وأثقل من خراج بلا غلّة، ودواء بلا علّة، وأبغض من مثل غير سائر، وأجمع للعيوب من بغلة أبي دلامة، وحمار طيّار، وطيلسان ابن حرب، وأير أبي حكيمة، وأنشد: [الطويل]
مشى فدعا من ثقله الحوت ربّه ... وقال: إلهي زيدت الأرض ثانيه (2)
وأنشد: [الخفيف]
مشتمل بالبغض لا تنثني ... إليه لحظا مقلة الرّامق
يظلّ في مجلسنا قاعدا ... أثقل من واش على عاشق
وقال الحمدوني: [المتقارب]
سألتك بالله إلّا صدقت ... وعلمي بأنّك لا تصدق
أتبغض نفسك من ثقلها ... وإلّا فأنت إذا أحمق
وكتب أبو عبد الرحمن العطوي إلى بعض إخوانه: [الطويل]
إذا أنت لم ترسل وجئت فلم أصل ... ملأت بعذر منك سمع لبيب
أتيتك مشتاقا فلم أر حاجبا ... ولا صاحبا إلّا بوجه قطوب
كأني غريم مقتض، أو كأنني ... طلوع رقيب أو نهوض حبيب
وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى يستثقل جليسا اسمه زنباع، فقال له رجل يوما: ما الزنبعة في كلام العرب؟ قال: التثاقل، ولذلك سمّي جليسنا زنباعا.
__________
(1) القذى: ما يقع في العين. القاموس المحيط (قذى).
(2) يشير هنا إلى أن الأرض يحملها حوت، وهذا يدخل في باب الخرافة.(1/398)
وقد كثّر الناس في الثقلاء، وأنا أستحسن قول جحظة، وإن كان غيره قد تقدّمه في مثله: [السريع]
يا لفظة النّعي بموت الخليل ... يا وقفة التّوديع بين الحمول
يا شربة اليارج يا أجرة ... المنزل يا وجه العذول الثقيل (1)
يا طلعة النّعش ويا منزلا ... أقفر من بعد الأنيس الحلول
يا نهضة المحبوب عن غضبة ... يا نعمة قد آذنت بالرّحيل
يا كتابا جاء من مخلف ... للوعد مملوءا بعذر طويل
يا بكرة الثكلى إلى حفرة ... مستودع فيها عزيز الثكول
يا وثبة الحافظ مستعجلا ... بصرفه القينات عند الأصيل
ويا طبيبا قد أتى باكرا ... على أخي سقم بماء البقول
يا شوكة في قدم رخصة ... ليس إلى إخراجها من سبيل
يا عشرة المجذوم في رحله ... ويا صعود السّعر عند المعيل
يا ردّة الحاجب عن قسوة ... ونكسة من بعد برء العليل
وجحظة هذا هو أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك، وقال أبو الحسن علي بن محمد بن مقلة الوزير: سألت جحظة من لقّبه بهذا اللقب؟
فقال: ابن المعتز، لقيني يوما، فقال لي: ما حيوان إن نكّسوه أتانا آلة للمراكب البحرية، فقلت: علق، إذا نكّس صار قلعا، قال: أحسنت يا جحظة فلزمني هذا اللقب، وكان ناتىء العينين جدّا، قبيح الوجه، ولذلك قال ابن الرومي: [الكامل]
نبئت جحظة يستعير جحوظه ... من فيل شطرنج ومن سرطان
يا رحمتي لمنادميه تحمّلوا ... ألم العيون للذّة الآذان
وكان طيّب الغناء، ممتدّ النفس، حسن المسموع إلّا أنه كان ثقيل اليد في الضرب وكان حلو النادرة، كثير الحكاية، صالح الشّعر، ولا تزال تندر له الأبيات الجيدة، وهو القائل: [الكامل]
جانبت أطيب لذّتي وشرابي ... وهجرت بعدك عامدا أصحابي
فإذا كتبت لكي أنزّه ناظري ... في حسن لفظك لم تجد بجواب
إن كنت تنكر ذلّتي وتذلّلي ... ونحول جسمي وامتداد عذابي
فانظر إلى بدني الذي موّهته ... للناظرين بكثرة الأثواب
__________
(1) اليارج: القلب والسّوار. القاموس المحيط (يرج).(1/399)
وقال: [مجزوء الكامل]
وإذا جفاني صاحب ... لم أستجز ما عشت قطعه
وتركته مثل القبو ... ر أزورها في كلّ جمعه
وقال: [البسيط]
ضاقت عليّ وجوه الرأي في نفر ... يلقون بالجحد والكفران إحساني
أقلّب الطرف تصعيدا ومنحدرا ... فما أقابل إنسانا بإنساني
وقال: [المتقارب]
لقد مات إخواني الصالحون ... فما لي صديق وما لي عماد
إذا أقبل الصبح ولّى السرور ... وإن أقبل الليل ولّى الرقاد
وقال يهجو رجلا: [الكامل]
لا تعذلوني إن هجرت طعامه ... خوفا على نفسي من المأكول
فمتى أكلت قتلته من بخله ... ومتى قتلت قتلت بالمقتول
ومن حكاياته ما حدّثني خالد الكاتب قال: جاءني يوما رسول إبراهيم ابن المهدي، فصرت إليه، فرأيت رجلا أسود على فرش قد غاص فيها، فاستجلسني وقال: أنشدني من شعرك، فأنشدته: [الطويل]
رأت منه عيني منظرين كما رأت ... من الشمس والبدر المنير على الأرض
عشيّة حيّاني بورد كأنه ... خدود أضيفت بعضهنّ إلى بعض
ونازعني كأسا كأنّ حبابها ... دموعي لمّا صدّ عن مقلتي غمضي
وراح وفعل الراح في حركاته ... كفعل نسيم الريح بالغصن الغضّ
فزحف حتى صار في ثلثي الفراش، وقال: يا فتى، شبهوا الخدود بالورد، وأنت شبّهت الورد بالخدود، زدني فأنشدته: [مجزوء الكامل]
عاتبت نفسي في هوا ... ك فلم أجدها تقبل
وأطعت داعيها إلي ... ك فلم أطع من يعذل
لا والذي جعل الوجو ... هـ لحسن وجهك تمثل
لا قلت إنّ الصبر عن ... ك من التّصابي أجمل
فزحف حتى انحدر عن الفرش ثم قال لي: زدني، فأنشدته: [الرمل](1/400)
عاتبت نفسي في هوا ... ك فلم أجدها تقبل
وأطعت داعيها إلي ... ك فلم أطع من يعذل
لا والذي جعل الوجو ... هـ لحسن وجهك تمثل
لا قلت إنّ الصبر عن ... ك من التّصابي أجمل
فزحف حتى انحدر عن الفرش ثم قال لي: زدني، فأنشدته: [الرمل]
عش فحبّيك سريعا قاتلي ... والضّنى إن لم تصلني واصلي
ظفر الحبّ بقلب دنف ... فيك والسّقم بجسم ناحل
فهما بين اكتئاب وضنّى ... تركاني كالقضيب الذّابل
وبكى العاذل لي من رحمة ... فبكائي لبكاء العاذل
فنعر طربا وقال: يلبق كم معك لنفقتنا؟ قال: ثمانمائة وخمسون دينارا. قال:
أقسمها بيني وبين خالد، فدفع إليّ نصفها.
وأنشد جحظة أو غيره ولم يسمّ قائله: [البسيط]
لا يبعد الله إخوانا لنا سلفوا ... أفناهم حدثان الدّهر والأبد
نمدّهم كلّ يوم من بقيّتنا ... ولا يوؤوب إلينا منهم أحد
[ما قيل في السكّين]
وكان أحمد بن يوسف جالسا بين يدي المأمون، فسأل المأمون عن السكّين فناوله أحمد السكين، وقد أمسك بنصابها، وأشار إليه بالحدّ، فنظر إليه المأمون نظر منكر فقال: لعلّ أمير المؤمنين أنكر عليّ أخذي النّصاب وإشارتي إليه بالحدّ وإنما تفاءلت بذلك أن يكون له الحدّ على أعدائه، فعجب المأمون من سرعة فطنته، ولطيف جوابه.
وقال بعض الكتاب: السكين مسّ الأقلام يشحذها إذا كلّت، ويصقلها إذا نبت، ويطلقها إذا وقفت، ويلمّها إذا شعثت، وأحسنها ما عرض صدره، وأرهف حدّه، ولم يفصل على القبضة نصابه.
وقال أبو الفتح كشاجم يرثي سكينا سرقت له: [البسيط]
يا قاتل الله كتاب الدواوين ... ما يستحلّون من أخذ السكاكين
لقد دهاني لطيف منهم ختل ... في ذات حدّ كحدّ السيف مسنون (1)
فأقفرت بعد عمران بموقعها ... منها دواة فتى بالكتب مفتون
تبكي على مدية أودى الزمان بها ... كانت على جائر الأقلام تعديني (2)
كانت تقدّم أقلامي وتنحتها ... نحتا وتسخطها بريا فترضيني
__________
(1) الختل: الخادع. محيط المحيط (ختل).
(2) المدية: الشّفرة. القاموس المحيط (مدي).(1/401)
وأضحك الطرس والقرطاس عن حلل ... ينوب للعين من نور البساتين
فإن قشرت بها سوداء من صحفي ... عادت كبعض خدود الخرّد العين
جزع النصاب لطيفات شعائرها ... محسّنات بأصناف التّحاسين
هيفاء مرهفة بيضاء مذهبة ... قال الإله لها سبحانه: كوني
لكن مقطّي أمسى شامتا جذلا ... وكان في ذلّة منها وفي هون
فصين حتى يضاهي في صيانته ... جاهي لصونيه عمّن لا يدانيني
ولست عنها بسال ما حييت، ولا ... بواجد عوضا منها يسليني
ولو يردّ فداء ما فجعت به ... منها فديناه بالدنيا وبالدين
ألفاظ لأهل العصر في صفات السكاكين
سكّين كأنّ القدر سائقها، أو الأجل سابقها، مرهفة الصّدر، مخطفة الخصر، يجول عليها فرند العتق، ويموج فيها ماء الجوهر كأنّ المنية تبرق من حدّها، والأجل يلمع من متنها، ركبت في نصاب آبنوس، كأنّ الحدق نفضت عليه صبغها، وحبّ القلوب كسته لباسها. أخذ لها حديدها الناصح بخطّ من الروم، وضرب لها نصابها الحالك بسهم من الزنج، فكأنها ليل من تحت نهار، أو مجمر أبدى سنا نار، ذات غرار ماض، وذباب قاض. سكين ذات منسر بازيّ، وجوهر هوائي، ونصاب زنجي، إن أرضيت أولت متنا كالدّهان وإن أسخطت اتّقت بناب الأفعوان. سكين أحسن من التّلاق، وأقطع من الفراق، تفعل فعل الأعداء، وتنفع نفع الأصدقاء. هي أمضى من القضاء، وأنفذ من القدر المتاح، وأقطع من ظبة (1) السيف الحسام، وألمع من البرق في الغمام. جمعت حسن المنظر، وكرم المخبر، وتملّكت عنان القلب والبصر، ولم يحوجها عتق الجوهر إلى إمهاء الحجر (2).
[الاستدعاء إلى المؤانسة والمنادمة]
قال محمد بن أنس للقاسم بن صبيح: ما زلنا في سمر نصل فصوله بتشوّقك، فيذهب ذكرك ملل السامر، ونعسة الساهر. فقال القاسم: مثلك ذكر صديقه فأطراه، واعتذر إليه فأرضاه، ولو كنتم آذنتموني كنت أحدكم، مسرورا بما به سررتم، مفيضا فيما فيه أفضتم.
__________
(1) ظبة السيف: حدّه. محيط المحيط (ظبو).
(2) الإمهاء: مصدر أمهى الحديدة: أي أحدّها. القاموس المحيط (مهى).(1/402)
قال بعض الظرفاء: شرط المنادمة قلّة الخلاف، والمعاملة بالإنصاف، والمسامحة في الشراب، والتغافل عن ردّ الجواب، وإدمان الرضا، واطّراح ما مضى، وإسقاط التحيّات، واجتناب اقتراح الأصوات، وأكل ما حضر، وإحضار ما تيسّر، وستر العيب، وحفظ الغيب.
وقد أحسن أبو عبد الرحمن العطوي في قوله: [الوافر]
حقوق الكأس والنّدمان خمس ... فأوّلها التزيّن بالوقار
وثانيها مسامحة النّدامى ... فكم حمت السماحة من ذمار
وثالثها، وإن كنت ابن خير ال ... برية محتدا، ترك الفخار (1)
ورابعها وللنّدمان حقّ ... سوى حقّ القرابة والجوار
إذا حدّثته فاكس الحديث ... الّذي حدّثته ثوب اختصار
فما حثّ النبيذ بمثل حسن الأ ... غاني والأحاديث القصار
وخامسة يدلّ بها أخوها ... على كرم الطبيعة والنّجار (2)
حديث الأمس ننساه جميعا ... فإنّ الذّنب فيه للعقار
ومن حكّمت كاسك فيه فاحكم ... له بإقالة عند العثار
وقال حسان بن ثابت: [الوافر]
نولّيها الملامة إن ألمنا ... إذا ما كان مغث أو لحاء (3)
وشرب اليزيدي عند المأمون فلّما أخذت منه الكأس أقبل يعتزّ عليه بتعليمه إياه، وأساء مخاطبته، فلمّا أفاق من سكره عرّف ما جرى، فلبس أكفانه، ووقف بين يدي المأمون فأنشده: [الطويل]
أنا المذنب الخطّاء والعفو واسع ... ولو لم يكن ذنب لما عرف العفو
ثملت فأبدت منّي الكاس بعض ما ... كرهت وما إن يستوي السّكر والصّحو
ولا سيما إن كنت عند خليفة ... وفي مجلس ما إن يجوز به اللّغو
فإن تعف عني ألف خطوي واسعا ... وإلّا يكن عفو فقد قصر الخطو
__________
(1) المحتد: الأصل. القاموس المحيط (حتد).
(2) النّجار: الأصل. القاموس المحيط (نجر).
(3) المغث: الشّرّ والقتال. اللّحاء: الملاحاة يقال لاحاه ملاحاة ولحاء إذا نازعه. القاموس المحيط (مغث) و (لحى).(1/403)
فقال المأمون: لا تثريب عليك (1)، فالنبيذ بساط يطوى بما عليه.
وشرب كوران المغني عند الشريف الرضي، فافتقد رداءه، وزعم أنه سرق. فقال له الشريف: ويحك! من تتّهم منّا؟ أما علمت أن النبيذ بساط يطوى بما عليه؟ قال: انشروا هذا البساط حتى آخذ ردائي واطووه إلى يوم القيامة.
وكان أبو جعفر أحمد بن جدار، كاتب العباس بن أحمد بن طولون، ينقل أخبار أبي حفص عمر بن أيوب، كاتب أحمد بن طولون، على الشراب إلى العباس، فصار إليه أبو حفص فقال: يا أبا جعفر، إنما مجلس المدام مجلس حرمة، وداعية أنس، ومسرح لبانة، ومذاد همّ، ومرتع لهو، ومعهد سرور، وإنما توسطته عند من لا يتّهم غيبه، ولا يخشى عتبه، وقد اتصل بي ما تنهيه إلى أميرنا أبي الفضل أعزّ الله أمره، من أخبار مجالستي، فلا تفعل، وأنشده: [الخفيف]
ولقد قلت للأخلّاء يوما ... قول ساع بالنّصح لو سمعوه
إنما مجلس المدام بساط ... للمودّات بينهم وضعوه
فإذا ما انتهوا إلى ما أرادوا ... من نعيم ولذّة رفعوه
وهم أحرياء، إن كان منهم ... حافظ، ما أتوه أن يمنعوه
فاعتذر ابن جدار وحلف ما فعل، وقام من مجلسه.
وأنشد أبو حفص: [الكامل]
كم من أخ أوجست منه سجيّة ... فأنست بعد وداده بفراقه
لم أحمد الأيام منه خليقة ... فتركته مستمتعا بخلاقه
عوّل أبو حفص في أكثر كلامه على نقل كلام أبي العباس الناشىء في الشراب، والأبيات التي أنشد أولا له.
أبو القاسم الصاحب: قدما حملت أوزار السّكر، على ظهور الخمر، وطوي بساط الشراب، على ما فيه من خطإ أو صواب. متابعة العقار، تعذر في خلع العذار، وتغني عن الاعتذار. متابعة الأرطال، تبطل سورة الأبطال، وتدع الشيوخ كالأطفال.
كتب إسحاق بن إبراهيم الموصلي إلى بعض الجلّة يستدعيه: يومنا يوم ليّن الحواشي، وطيء النواحي وسماؤنا قد أقبلت، ورعدت بالخير وبرقت، وأنت قطب
__________
(1) لا تثريب عليك: لا لوم عليك يقال: ثرّب عليه وأثربه إذا لامه. القاموس المحيط (ثرب).(1/404)
السرور، ونظام الأمور فلا تفردنا فنقلّ، ولا تنفرد عنا فنذلّ.
وكتب بعض أهل العصر وهو السّريّ الموصلي إلى أخ له يستدعيه إلى مؤانسته:
[الطويل]
خلالك، ما اختلّ الصديق، سحائب ... وبشرك ما هبّت رياح، مواهب
وأنت شقيق الرّوح تؤثر وصلها ... إذا راعها بالهجر خلّ وصاحب
ونحن خلال القصف ولعزف نجتني ... ثمار ملاه كلهنّ أطايب
وعندي لك الرّيحان زين بساطه ... بزهر كما زانت سماء كواكب
وجيش كما انجرّت ذيول غلائل ... مصندلة تختال فيها الكواعب
وقد أطلقت فيه الشمائل، وانثنت ... مفنّدة عن جانبيها الجنائب
وحافظة ماء الحياة لفتية ... حياتهم أن تستلذّ المشارب
نسربلها أخفى اللباس، وإنما ... يلفّ بها أفواهه والسّبائب
على جسد مثل الزّبرجد لم تزل ... تشاكله في لونه وتناسب
إذا استودعت حرّ اللّجين سبائكا ... تصوّبه في أحشائها وهو ذائب
وفوق رؤوس القوم غيم معلّق ... من النّدّ لا يجري ولا هو ذاهب (1)
بوارقه خمر الكؤوس ورعده ... أنامل بيض للطبول تلاعب
ولا عائق يثني عنانك عن هوى ... رغى جانب منه وأومض جانب
فبادر فإن اليوم صاف من القذى ... ويا ربّ يوم بادرته النوائب
وقال ابن المعتز: [المنسرح]
لا شيء يسلي همّي سوى قدح ... تدمى عليه أوداج إبريق
في غيم ندّ يزجي سحائبه ... برق ابتسام ورعد تصفيق
وقال الحسن بن محمد الكاتب يصف طبلا: [البسيط]
يا حبّذا يومنا نلهو بملهية ... تلهى بشيء له رأسان في جسد
قد شدّ هذا إلى هذا كأنهما ... من شدّة الشدّ مقرونان في صفد (2)
نظلّ نلطم خدّيه إذا ضربت ... بكلّ طاقتها لطما بلا حرد (3)
فتسمع الصوت منه حين تضربه ... كأنه خارج من ماضغي أسد
__________
(1) النّدّ: طيب، أو العنبر. القاموس المحيط (ندد).
(2) الصّفد، بالفتح. الوثاق والقيد. القاموس المحيط (صفد).
(3) الحرد، بالفتح: الغضب. القاموس المحيط (حرد).(1/405)
ومن ألفاظهم في الاستدعاء
نحن في مجلس قد أبت راحه أن تصفو لنا أو تتناولها يمناك، وأقسم غناؤه لا طاب أو تعيه أذناك، فأمّا خدود نارنجه فقد احمرّت خجلا لإبطائك، وعيون نرجسه قد حدّقت تأميلا للقائك، فبحياتي عليك إلّا تعجّلت، وما تمهّلت.
نحن بغيبتك كعقد تغيّبت واسطته، وشباب قد أخلقت جدّته وإذ قد غابت شمس السماء عنّا، فلا بدّ أن تدنو الأرض منّا. أنت من ينتظم به شمل الطرب، وبلقائه يبلغ كلّ أرب. طر إلينا طيران السّهم، واطلع علينا طلوع النّجم. ثب إلينا وثوب الغزال، واطلع علينا طلوع الهلال، في غرّة شوّال. كن إلينا أسرع من السهم إلى ممرّه، والماء إلى مقرّه.
جشم إلينا قدمك، واخلع علينا كرمك، وإن رأيت أن تحضرنا لتتّصل الواسطة بالعقد، ونحصل بقربك في جنّة الخلد، وتسهم لنا في قربك الذي هو قوت النفس، ومادة الأنس.
ولهم في استدعاء الشراب
قد تألّف لي شمل إخوان كان يفترق لعوز المشروب، واعتدنا فضلك المعهود، ووردنا بحرك المورود، وأنا ومن سامحني الدهر بزيارته من إخواني وأوليائك وقوف بحيث يقف بنا اختيارك من النشاط والفتور، ويرتضيه لنا إيثارك من الهمّ والسرور، والأمر في ذلك إليك، والاعتماد في جمع شمل المسرّة عليك فإن رأيت أن تكلني إلى أولى الظّنّين بك فعلت. ألطف المنن موقعا، وأجلّها في النفوس موضعا، ما عمر أوطان المسرّة، وطرد عوارض الهمّ والفكرة، وجمع شمل المودة والألفة. قد انتظمت في رفقة لي في سمط الثريا، فإن لم تحفظ علينا النظام بإهداء المدام عدنا كبنات نعش، والسلام.
فرأيك في إرواء غلّتنا بما ينقعها، والطّول على جماعتنا بما يجمعها.
ولهم في الكتابة عن الشراب
قد نشط لتناول ما يستمدّ البشر، ويشرح الصّدر، قد استمطر سحابة الأنس، واستدرّ حلوبة السرور، وقدح زند اللهو، فهو يمري دماء العناقيد، ويفصد عروق الدّنان، وينظم عقد النّدمان.
كتب الحسن بن سهل إلى الحسن بن وهب وقد اصطبح في يوم دجن (1) لم يمطر:
__________
(1) يوم دجن: يوم فيه ظلمة. القاموس المحيط (دجن).(1/406)
أما ترى تكافؤ هذا الطمع واليأس في يومنا هذا بقرب المطر وبعده، كأنه قول كثير:
[الطويل]
وإني وتهيامي بعزّة بعد ما ... تخلّيت ممّا بيننا وتخلّت
لكالمرتجي ظلّ الغمامة، كلّما ... تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت
وما أصبحت أمنيتي إلّا في لقائك، فليت حجاب النأي هتك بيني وبينك! رقعتي هذه وقد دارت زجاجات أوقعت بعقلي ولم تتحيّفه، وبعثت نشاطا حرّكني للكتاب فرأيك في إمطاري سرورا بسارّ خبرك إذ حرمت السرور بمطر هذا اليوم، موفّقا إن شاء الله.
وكتب الحسن بن وهب: وصل كتاب الأمير أيّده الله وفمي طاعم ويدي عاملة ولذلك تأخّر الجواب قليلا، وقد رأيت تكافؤ إحسان هذا اليوم وإساءته، وما استوجب ذنبا استحقّ به دما لأنه إذا أشمس حكى حسنك وضياءك، وإن أمطر حكى جودك وسخاءك، وإن غام أشبه ظلّك وفناءك، وسؤال الأمير عني نعمة من نعم الله، عزّ وجلّ، أعفّي بها آثار الزمان السيىء عندي! وأنا كما يحبّ الأمير صرف الله الحوادث عنه، وعن حظّي منه.
وذمّ رجل رجلا فقال: دعواته ولائم، وأقداحه محاجم، وكؤوسه محابر، ونوادره بوادر.
وقال أبو الفتح كشاجم: كان عندي بعض المجّان من النبيذّيين، فسمعني وأنا أحمد الله جلّ ذكره في وسط الطعام لشيء خطر ببالي من نعم الله التي لا تحصى، فنهض وقال:
أعطي الله عهدا إن عاودت! وما معنى التحميد هنا؟ كأنك تعلمنا أنا قد شبعنا. ثم مال إلى الدواة والقرطاس، وكتب ارتجالا: [الوافر]
وحمد الله يحسن كلّ وقت ... ولكن ليس في أولى الطعام
لأنك تحشم الأضياف فيه ... وتأمرهم بإسراع القيام
وتؤذنهم، وما شبعوا بشبع ... وذلك ليس من خلق الكرام
وكتب المريمي إلى بعض إخوانه وقد ترك النبيذ: [البسيط]
إن كنت تبت عن الصّهباء تشربها ... نسكا فما تبت عن برّ وإحسان
تب راشدا، واسقنا منها، وإن عذلوا ... فيما فعلت فقل ما تاب إخواني
وقال بعض النبيذيّين، وقد ترك الشرب: [الوافر]
تحاموني لتركي شرب راح ... أقمت مكانها الماء القراحا
وما انفردوا بها دوني لفضل ... إذا ما كنت أكثرهم مراحا
وأرفعهم على وتر وصنج ... وأطرفهم وأظرفهم مزاحا
إذا شقّوا الجيوب شققت جيبي ... وإن صاحوا علوتهم صياحا(1/407)
تحاموني لتركي شرب راح ... أقمت مكانها الماء القراحا
وما انفردوا بها دوني لفضل ... إذا ما كنت أكثرهم مراحا
وأرفعهم على وتر وصنج ... وأطرفهم وأظرفهم مزاحا
إذا شقّوا الجيوب شققت جيبي ... وإن صاحوا علوتهم صياحا
فقر للنبيذيين
ما جمشت الدنيا بأظرف من النبيذ، ما للعقار والوقار. إنما العيش في الطّيش، الراح ترياق سمّ الهمّ. النبيذ ستر فانظر مع من تهتكه. اشرب النبيذ ما استبشعته، فإذا استطبته فدعه. لولا أنّ المخمور يعلم قصّته لقدّم وصيّته. الصاحي بين السكارى كالحيّ بين الموتى يضحك من عقلهم، ويأكل من نقلهم. أحمق ما يكون السّكران إذا تعاقل.
التبذل على النبيذ ظرف، والوقار عليه سخف، حدّ السّكران أن تغرب الهموم، ويظهر السرّ المكتوم.
وقال الحسن بن وهب لرجل رآه يعبس عند الشراب: ما أنصفتها، تضحك في وجهك، وتعبس في وجهها.
وقال الطائي (1): [الطويل]
إذا ذاقها، وهي الحياة، رأيته ... يعبّس تعبيس المقدّم للقتل
وقد أحسن الشيخ صدر الدين حيث قال: [البسيط]
وأن أقطّب وجهي حين تبسم لي ... فعند بسط الموالي يحفظ الأدب
وترك رجل النبيذ، فقيل له: لم تركته، وهو رسول السرور إلى القلب؟ قال: ولكنه رسول بأس يبعث إلى الجوف فيذهب إلى الرأس.
وقيل لبعضهم: ما أصبّك بالخمر! فقال: إنها تسرج في يدي بنورها، وفي قلبي بسرورها، كأنّ الناشىء نظر إلى هذا الكلام فقال: [الكامل]
راح إذا علت الأكفّ كؤوسها ... فكأنها من دونها في الرّاح (2)
وكأنما الكاسات ممّا حولها ... من نورها يسبحن في ضحضاح (3)
لو بثّ في غسق الظلام ضياؤها ... طلع المساء بغرّة الإصباح
نفضت على الأجسام ناصع لونها ... وسرت بلذّتها إلى الأرواح
__________
(1) ديوان أبي تمام (ص 374).
(2) الراح في صدر البيت: الخمر. والراح في عجز البيت: الكفّ. القاموس المحيط (روح).
(3) الضّحضاح: الماء اليسير. القاموس المحيط (ضحضح).(1/408)
البيت الأول كقول البحتري (1): [الكامل]
يخفي الزجاجة ضوءها، فكأنها ... في الكفّ قائمة بغير إناء (2)
وللناشىء في هذا المعنى: [الكامل]
ومدامة يخفى النهار لنورها ... ونذلّ أكناف الدّجا لضيائها
صبّت فأحدق نورها بزجاجها ... فكأنها جعلت إناء إنائها
وترى إذا صبّت بدت في كأسها ... متقاصر الأرجاء عن أرجائها
وتكاد إن مزجت لرقّة لونها ... تمتاز عند مزاجها من مائها
صفراء تضحي الشمس، إن قيست بها ... في ضوئها، كاللّيل، في أضوائها
وإذا تصفّحت الهواء رأيته ... كدر الأديمة عند حسن صفائها
تزداد من كرم الطباع بقدر ما ... تودي به الأيام من أجزائها
لا شيء أعجب من تولّد برئها ... من سقمها، ودوائها من دائها
وقال: [الكامل]
إن رمت وصف الراح فأت بما ... فيها من الأوصاف من قرب
هي ماء ياقوت، وإن مزجت ... في كأسها بالبارد العذب
فكأنها وحبابها ذهب ... كلّلته باللّؤلؤ الرّطب
ولأهل العصر: الدنيا معشوقة ريقها الراح. أخذ هذا المعنى من قول ابن الرومي في صاعد بن مخلد: [الطويل]
فتى هاجر الدنيا وحرّم ريقها ... وهل ريقها إلّا الرحيق المورّد؟
ولو طمعت في عطفه ووصاله ... أباحته منها مرشفا لا يصرّد (3)
الخمر أشبه شيء بالدنيا لاجتماع اللذات والمرارة فيها. الخمر مصباح السرور، ولكنها مفتاح الشرور. لكل شيء سرّ، وسرّ الراح السرور. لا يطيب المدام الصافي، إلّا مع النديم المصافي.
__________
(1) ديوان البحتري (ج 2ص 329).
(2) في الديوان: «لونها» بدل «ضوءها».
(3) يصرّد: يسقى دون الرّيّ. محيط المحيط (صرد).(1/409)
ومن ألفاظهم في صفات مجالس الأنس وآلات اللهو وذكر الخمر
مجلس راحه ياقوت، ونوره ورد، ونارنجه ذهب، ونرجسه دينار ودرهم، يحملهما زبرجد. عندنا أترج كأنه من خلقك خلق، ومن شمائلك سرق، ونارنج ككرات من سفن (1) ذهّبت، أو ثدي أبكار خلّقت. مجلس أخذت فيه الأوتار تتجاوب، والأقداح تتناوب. أعلام الأنس خافقة، وألسن الملاهي ناطقة. ونحن بين بدور، وكاسات تدور، وبروق راح، وشموس أقداح. قد نشأت غمامة النّدّ (2)، على بساط الورد. مجلس قد تفتّحت فيه عيون النرجس، وفاحت مجامير الأترج، وفتقت فارات النّارنج، ونطقت ألسن العيدان، وقامت خطباء الأوتار، وهبّت رياح الأقداح، وطلعت كواكب النّدمان، وامتدّت سماء النّدّ. مجلس من رآه حسب الجنان قد اصطفّت عيونها، فجعلت في قدر من الأرض، وتخيّرت فصوصها، فنقلت إلى مجلس الأنس واللهو. قد فضّ اللهو ختامه، ونشر الأنس أعلامه. قد هبّت للأنس ريح برقها الراح، وسحابها الأقداح، ورعودها الأوتار، ورياضها الأقمار. قد فرغنا للهو والدهر عنّا في شغل.
جلّ هذا من قول بعض أهل العصر: [الرمل]
كم جوى مثّله رسم مثل ... ودم قد طلّ أثناء طلل
ولآل كلّل الخدّ بها ... لعب البين بربّات الكلل
حبذا عيش الليالي باللّوى ... لو تجافى الدّهر عنّا وغفل
إذ فرغنا فيه للهو وقد ... باتت الأقدار عنّا في شغل
وأدرنا ذهبا في لهب ... كلّما أخمد بالماء اشتعل
قد اقتعدنا غارب الأنس، وجرينا في ميدان اللهو. عمدنا إلى أقداح اللهو فأجلناها، ولمراكب السرور فامتطيناها. قد امتطينا غوارب السرور بالأقداح. مدامة تورد ريح الورد، وتحكي نار إبراهيم في اللّون والبرد، ولست أدري أشقيق أم عقيق، أم رحيق أم حريق. راح كأنّ الدّيوك صبّت أحداقها فيها. راح كأنما اشتقّت من الرّوح والراحة.
قال ابن الرومي: [الكامل]
والله ما ندري لأيّة علّة ... يدعونها في الرّاح باسم الرّاح
ألريحها أم روحها تحت الحشى ... أم لارتياح نديمها المرتاح؟
__________
(1) السّفن، بالفتح: جلد أخشن، وحجر ينحت به ويليّن. القاموس المحيط (سفن).
(2) النّدّ: الطّيب، أو العنبر. القاموس المحيط (ندد).(1/410)
راح كالنار والنّور والنّور، أصفى من البلّور، ومن دمع المهجور. روح نور لها من الكأس جسم، كأنها شمس في غلالة سراب. شراب أكاد أقول: هو أصفى من مودّتي لك، ومن نعم الله عندي فيك، وأطيب من إسعاف الزمان بلقائك. مدامة قد سبك الدهر تبرها فصفا. كأس كأنها نور ضميره نار. راح كياقوتة في درّة، أصفى من ماء السماء، ودمع العاشقة المرهاء (1)، أحسن من الدنيا المقبلة، والنعم المكملة. أحسن من العافية في البدن، وأطيب من الحياة في السرور. أرقّ من نسيم الصّبا، وعهد الصّبا. أرقّ من دمع محبّ، وشكوى صبّ. أرقّ من دموع العشّاق، مرتها (2) لوعة الفراق. مزج نار الرّاح بنور الماء. راح كأنها معصورة من وجنة الشمس، في كأس كأنها مخروطة من فلقة البدر.
كأسها ملء اليد، وريحها ملء البلد، تصبّ على الليل ثوب النهار، كأنها في الكأس معنى دقيق في ذهن لطيف. كأنّ الراح من خدّه معصورة، وملاحة الصورة عليها مقصورة. وهذا من قول الطائي * كأنها من خدّه تعصر * وقال عبد السلام بن رغبان الملقب بديك الجن الشاعر المشهور (3): [الطويل]
معتّقة من كفّ ظبي كأنما ... تناولها من خدّه فأدارها (4)
تمشّت الصّهباء (5) في عظامهم، وترقّت إلى هامهم، وماست في أعطافهم، ومالت بأطرافهم. سارت فيهم الكؤوس، ونالت منهم سورة الخندريس (6). شربت عقولهم، وملكت قلوبهم.
وقال أبو نواس، وهو أستاذ الناس في هذا الشأن (7): [الكامل]
صفة الطلول بلاغة الفدم ... فاجعل صفاتك لابنة الكرم
تصف الطلول على السماع بها ... أفذو العيان كثابت العلم؟ (8)
وإذا وصفت الشيء متّبعا ... لم تخل من غلط ومن وهم (9)
__________
(1) المرهاء: البيضاء. القاموس المحيط (مره).
(2) مرتها: استخرجتها. القاموس المحيط (مرى).
(3) ديوان ديك الجن (ص 83).
(4) في الديوان: «مشعشعة» بدل «معتّقة».
(5) الصّهباء: الخمر. القاموس المحيط (صهب).
(6) الخندريس: الخمر القديمة. محيط المحيط (خندرس).
(7) ديوان أبي نواس (ص 5857).
(8) في الديوان: «كأنت في العلم».
(9) في الديوان: «زلل» بد «غلط».(1/411)
وقال (1): [الكامل]
الكأس أهواها وإن رزأت ... بلغ المعاش وقلّلت فضلي (2)
صفراء مجّدها مرازبها ... جلّت عن النّظراء والمثل (3)
ذخرت لآدم قبل خلقته ... فتقدّمته بخطوة القبل
فاعذر أخاك فإنه رجل ... مرنت مسامعه على العذل
وقال (4): [المديد]
فتسلّيت بشرب عقار ... نشأت في حجر أمّ الزمان (5)
فتناساها الجديدان حتى ... هي أنصاف شطور الدّنان (6)
وافترعنا مرة الطعم بها ... نزق البكر ولين العوان (7)
واحتسينا من رحيق عتيق ... وشديد كامل في ليان (8)
لم يجفها مبزل القوم حتى ... نجمت مثل نجوم السّنان (9)
أو كعرق السام تنشقّ منه ... شعب مثل انفراج البنان (10)
وقال (11): [الكامل]
وخدين لذّات معلّل صاحب ... يقتات منه فكاهة ومزاحا
قال: ابغني المصباح، قلت له: ائتّد ... حسبي وحسبك ضوءها مصباحا
فسكبت منها في الزجاجة شربة ... كانت له حتى الصباح صباحا
__________
(1) ديوان أبي نواس (ص 4342).
(2) في الديوان: «والكأس» بدل «الكأس». والبلغ: جمع بلغة وهي ما يتبلّغ به من العيش. القاموس المحيط (بلغ).
(3) المرازب: رؤساء الفرس، واحدها مرزبان. محيط المحيط (رزب).
(4) ديوان أبي نواس (ص 1918).
(5) رواية صدر البيت في الديوان هي: فتعزّيت بصرف عقار
(6) في الديوان: «وتناساها» بدل «فتناساها». والجديدان: الليل والنهار. القاموس المحيط (جدد).
(7) رواية صدر البيت في الديوان هي: فافترعنا مزّة الطّعم فيها. ونزق البكر: وثوبها. والعوان من النساء: التي كان لها زوج. القاموس المحيط (نزق) و (عون).
(8) رواية البيت في الديوان هي:
واحتسينا من عتيق عقار ... خسرويّ كامن في ليان
(9) المبزل: المصفاة. القاموس المحيط (بزل).
(10) في الديوان: «السام ينشقّ عنه».
(11) ديوان أبي نواس (ص 21).(1/412)
وهذا كقوله (1): [الوافر]
وخمّار أنخت عليه ليلا ... قلائص قد تعبن من السّفار (2)
فترجم والكرى في مقلتيه ... كمخمور شكا ألم الخمار (3)
أبن لي كيف صرت إلى حريمي ... وجفن الليل مكتحل بقار (4)
فقلت له: ترفّق بي فإني ... رأيت الصبح من خلل الديار
فكان جوابه أن قال: كلّا ... وما صبح سوى ضوء العقار (5)
وقام إلى الدّنان فسدّ فاها ... فعاد الليل مسدول الأزار (6)
وقال بعض المحدثين: [الكامل]
ما زال يشربها وتشرب عقله ... خبلا، وتؤذن روحه برواح
حتى انثنى متوسّدا بيمينه ... سكرا، وأسلم روحه للرّاح
وقال الصنوبري وذكر شربا (7): [الكامل]
نازعتهم كأسا تخال نسيمها ... مسكا تضوّع في الإناء عتيقا
شقّت قناع الفجر لما غادرت ... كفّ النديم قناعها مشقوقا
صبغت سواد دجاه حمرة لونها ... فكأنه سبج أعيد عقيقا (8)
وقال أبو الشّيص: [الكامل]
وكأس كسا الساقي لنا بعد هجعة ... حواشيها ما مجّ من ريقة العنب
كأنّ اطّراد الماء في جنباتها ... تربّع ماء الدرّ في سبك الذّهب
سقاني بها، واللّيل قد شاب رأسه ... غزال بحنّاء الزجاجة مختضب
__________
(1) ديوان أبي نواس (ص 77).
(2) في الديوان: «وخمّار حططت إليه قد ونين من الشّفار».
والقلائص: جمع قلوص وهي الناقة الشابة. القاموس المحيط (قلص).
(3) في الديوان: «فجمجم» بدل «فترجم».
(4) في الديوان: «ونجم» بدل «وجفن».
(5) في الديوان: «قال: صبح ولا صبح سوى».
(6) في الديوان: «وقام إلى العقار فسدّ مسوّد الإزار».
(7) الشّرب، بفتح الشين وسكون الراء: جمع شارب. لسان العرب (شرب).
(8) السّبج، بالفتح: الخرز الأسود. محيط المحيط (سبج).(1/413)
وقال أبو عدي الكاتب: [الطويل]
وليس (1) لها حدّ تحيط بوصفه ... لغات، ولا جسم يباشره لمس
ولكنه كالبرق أومض ماضيا ... فلم يبق منه غير ما تذكر النّفس
وقال ابن المعتز: [الطويل]
ألا فاسقنيها قد مشى الصبح في الدّجى ... عقارا كمثل النار حمراء قرقفا
فناولني كأسا أضاءت بنانه ... تدفّق ياقوتا ودرّا مجوّفا
ولمّا أريناها المزاج تسعّرت ... وخلت سناها بارقا قد تكشفا
يطوف بها ظبي من الإنس شادن ... يقلّب طرفا فاسق اللّحظ مدنفا
عليم بأسرار المحبين حاذق ... بتسليم عينيه إذا ما تخوّفا
فظلّ يناجيني يقلّب طرفه ... بأطيب من نجوى الأماني وألطفا
وقال: [الطويل]
ألا عج على دار السرور فسلّم ... وقل: أين لذّاتي وأين تكلمي؟
وقل: ما حلت بالعين بعدك لذّة ... سواك، وإن لم تعلمي ذاك فاعلمي
وصفراء من صبغ المزاج برأسها، ... إذا مزجت، إكليل درّ منظم
قطعت بها عمر الدّجى وشربتها ... ظلاميّة الأحشاء نوريّة الدّم
[من إنشاء بديع الزمان الهمذاني]
كتب أبو الفضل بديع الزمان إلى أبي عدنان بن محمد الضبي يعزيه عن بعض أقاربه: [الوافر]
إذا ما الدهر جرّ على أناس ... حوادثه أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
أحسن ما في الدهر عمومه بالنوائب، وخصوصه بالرغائب، فهو يدعو الجفلى (2)
إذا ساء، ويخصّ بالنعمة إذا شاء، فليفكّر الشامت فإن كان أفلت، فله أن يشمت، ولينظر الإنسان في الدهر وصروفه، والموت وصنوفه، من فاتحة أمره، إلى خاتمة عمره هل يجد لنفسه، أثرا في نفسه؟ أم لتدبيره، عونا على تصويره، أم لعمله، تقديما لأمله، أم
__________
(1) في الأصل: «ليس»، وهكذا ينكسر الوزن.
(2) دعاهم الجفلى، بفتح الجيم والفاء واللام: دعاهم بجماعتهم وعامتهم. القاموس المحيط (جفل).(1/414)
لحيله، تأخيرا لأجله؟ كلا، بل هو العبد لم يكن شيئا مذكورا خلق مقهورا، ورزق مقدورا، فهو يحيا جبرا، ويهلك صبرا، وليتأمّل المرء كيف كان قبلا فإن كان العدم أصلا، والوجود فضلا، فليعلم الموت عدلا فالعاقل من رقّع من جوانب الدهر ما ساء بما سرّ، ليذهب ما نفع بما ضرّ فإن أحبّ ألّا يحزن فلينظر يمنة، هل يرى إلّا محنة، ثم ليعطف يسرة، هل يرى إلّا حسرة؟ ومثل الشيخ الرئيس أطال الله بقاءه! من فطن لهذه الأسرار، وعرف هذه الديار، فأعدّ لنعيمها صدرا لا يملؤه فرحا، ولبؤسها قلبا لا يطيره ترحا وصحب البريّة برأي من يعلم أنّ للمتعة حدّا، وللعاريّة ردّا، ولقد نعي إليّ أبو قبيصة، قدّس الله روحه، وبرّد ضريحه، فعرضت عليّ آمالي قعودا، وأمانيّ سودا، وبكيت، والسخيّ جوده بما يملك، وضحكت، وشرّ الشدائد ما يضحك، وعضضت الأصبع حتى أدميته، وذممت الموت حتى تمنّيته والموت أطال الله بقاء الشيخ الرئيس خطب قد عظم حتى هان، وأمر قد خشن حتى لان، ونكر قد عمّ حتى عاد عرفا والدنيا قد تنكّرت حتى صار الموت أخفّ خطوبها، وقد خبثت حتى صار أقلّ عيوبها، ولعلّ هذا السهم قد صاب آخر ما في كنانتها، وأنكأ ما في خزانتها، ونحن معاشر التّبع نتعلّم الأدب من أخلاقه، والجميل من أفعاله، فلا نحثّه على الجميل وهو الصبر، ولا نرغّبه في الجزيل وهو الأجر فلير فيهما رأيه إن شاء الله.
وله إلى بعض إخوانه جوابا عن كتاب كتبه يهنّيه بمرض أبي بكر الخوارزمي وكانت بينهما مقارعة، ومنازعة، ومنافرة، ومهاترة ولهما مجالس مستظرفة قهره البديع فيها وبهره، وبكّته (1) حتى أسكته، ليس هذا موضعها، لكني أذكر بعد هذه الرسالة بعض مكاتبات جرت بينهما إذ كان ما لهما من الابتداء، والجواب آخذا بوصل الحكمة وفصل الخطاب:
الحرّ أطال الله بقاءك لا سيما إذا عرف الدهر معرفتي، ووصف أحواله صفتي إذا نظر علم أنّ نعم الدّهر ما دامت معدومة فهي أمانيّ، وإن وجدت فهي عواري، وأنّ محن الأيام وإن طالت فستنفد، وإن لم تصب فكأنّ قد، فكيف يشمت بالمحنة من لا يأمنها في نفسه، ولا يعدمها في جنسه، والشامت إن أفلت فليس يفوت، وإن لم يمت فسيموت وما أقبح الشماتة، بمن أمن الإماتة، فكيف بمن يتوقّعها بعد كلّ لحظة، وعقب كلّ لفظة، والدّهر غرثان طعمه الخيار (2)، وظمآن شربه الأحرار، فهل يشمت المرء بأنياب آكله، أم
__________
(1) بكّته: ضربه بالعصا واستقبله بما يكره. القاموس المحيط (بكت).
(2) الغرثان، بفتح الغين وسكون الراء: الجائع. الطّعم، بضم الطاء وسكون العين: الطعام. القاموس المحيط (غرث) و (طعم).(1/415)
يسرّ العاقل بسلاح قاتله؟ وهذا الفاضل شفاه الله وإن ظاهرناه بالعداوة قليلا، فقد باطنّاه ودّا جميلا، والحرّ عند الحميّة لا يصطاد، ولكنه عند الكرم ينفاد، وعند الشدائد تذهب الأحقاد، فلا تتصور حالتي إلّا بصورتها من التوجّع لعلّته، والتحزّن لمرضته، وقاه والله المكروه، ووقاني سماع المحذور فيه، بمنّه وحوله، ولطفه وطوله.
قال البديع في سياقة أخباره مع أبي بكر الخوارزمي:
أولها أنّا وطئنا خراسان، فما اخترنا إلّا نيسابور دارا، وإلّا جوار السادة جوارا، لا جرم أنا حططنا بها الرّحل ومددنا عليها الطّنب (1)، وقديما كنّا نسمع بحديث هذا الفاضل فنتشوّقه، وبخبره على الغيب فنتعشّقه، ونقدّر أنا إذا وطئنا أرضه، ووردنا بلده، يخرج لنا في العشرة عن القشرة، وفي المودّة عن الجلدة، فقد كانت كلمة الغربة جمعتنا، ولحمة الأدب نظمتنا، وقد قال شاعر القوم غير مدافع (2): [الطويل]
أجارتنا إنّا غريبان ها هنا ... وكلّ غريب للغريب نسيب
فأخلف ذلك الظنّ كلّ الإخلاف، واختلف ذلك التقدير كلّ الاختلاف، وكان قد اتفق علينا في الطريق من العرب اتفاق، لم يوجبه استحقاق، من بزّة بزّوها، وفضّة فضّوها، وذهب ذهبوا به، ووردنا نيسابور براحة، أنقى من الراحة، وكيس أخلى من جوف حمار (3)، وزي أوحش من طلعة المعلّم، بل اطلاعة الرقيب، فما حللنا إلّا قصبة جواره، ولا وطئنا إلّا عتبة داره وهذا بعد رقعة قدّمناها، وأحوال أنس نظمناها.
ونسخة الرقعة: أنا بقرب الأستاذ أطال الله بقاه كما طرب النّشوان مالت به الخمر، ومن الارتياح للقائه كما انتفض العصفور بلّله القطر، ومن الامتزاج بولائه كما التقت الصّهباء والبارد العذب، ومن الابتهاج لمزاره كما اهتزّ تحت البارح الغصن الرّطب، فكيف نشاط الأستاذ سيدي لصديق طرأ إليه ممّا بين قصبتي العراق وخراسان، بل عتبتي نيسابور وجرجان؟ وكيف اهتزازه لضيف: [الكامل]
رثّ الشمائل مخلق الأثواب ... بكرت عليه مغيرة الأعراب
وهو أيّده الله! وليّ إنعامه، بإنفاذ غلامه، إلى مستقرّي، لأفضي إليه بما عندي إن شاء الله.
__________
(1) الطّنب، بالضم: حبل طويل يشدّ به سرادق البيت، أو الوتد. القاموس المحيط (طنب).
(2) شاعر القوم هو امرؤ القيس، وبيته في ديوانه (ص 357).
(3) قوله: «أخلى من جوف حمار». كناية عن عدم منفعته.(1/416)
فلمّا أخذتنا عينه سقانا الدّرديّ من أوّل دنّه، وأجنانا سوء العشرة من باكورة فنّه، من طرف نظر بشطره، وقيام دفع في صدره، وصديق استهان بقدره، وضيف استخفّ بأمره لكنّا أقطعناه جانب أخلاقه، وولّيناه خطّة نفاقه فواصلناه إذ جانب، وقاربناه إذ جاذب، وشربناه على كدورته (1)، ولبسناه على خشونته، ورددنا الأمر في ذلك إلى زيّ استغثّه، ولباس استرثّه، وكاتبناه نستمدّ وداده، ونستلين قياده، ونقيم منآده، بما هذه نسخته.
الأستاذ أبو بكر، والله يطيل بقاءه، أزرى بضيفه أن وجده يضرب إليه آباط (2) القلّة، في أطمار (3) الغربة، فأعمل في رتبته أعمال المصارفة، وفي الاهتزاز إليه أصناف المضايقة، من إيماء بنصف الطّرف، وإشارة بشطر الكفّ، ودفع في صدر القيام عن التمام، ومضغ للكلام، وتكلّف لردّ السلام وقد قبلت ترتيبه صعرا، واحتملته وزرا، واحتضنته نكرا، وتأبّطته شرّا، ولم آله عذرا فإن المرء بالمال وثياب الجمال، ولست مع هذه الحال وفي الأسمال، أتقزّز من صفّ النعال، فلو صدقته العتاب، وناقشته الحساب، لقلت: إنّ بوادينا ثاغية صباح، وراغية رواح، وناسا يجرّون المطارف، ولا يمنعون المعارف: [الطويل]
وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل
فلو طوّحت بأبي بكر أيّده الله إليهم مطارح الغربة، لوجد منزل البشر رحيبا، ومحطّ الرّحل قريبا، ووجه المضيف خصيبا فرأي الأستاذ أبي بكر، أيّده الله، في الوقوف على هذا العتاب الذي معناه ودّ، والمرّ الذي يتلوه شهد، موفق إن شاء الله.
فأجاب بما نسخته: وصلت رقعة سيدي ورئيسي أطال الله بقاه إلى آخر السّكباج (4)، وعرفت ما تضمّنه من خشن خطابه، ومؤلم عتابه، وصرفت ذلك منه إلى الضّجرة التي لا يخلو منها من مسّه عسر أو نبا به دهر والحمد لله الذي جعلني موضع أنسه، ومظنّة مشتكى ما في نفسه، أما ما شكاه سيدي ورئيسي من مضايقتي إياه في القيام، فقد وفيته حقّه أيّده الله سلاما وقياما، على قدر ما قدرت عليه، ووصلت إليه، ولم أرفع عليه إلّا السيد أبا البركات [العلوي] أدام الله عزّه، وما كنت لأرفع أحدا على من أبوه الرسول، وأمّه البتول، وشاهداه التوراة والإنجيل، وناصراه التأويل والتنزيل، والبشير به جبريل
__________
(1) الكدورة: نقيض الصفاء. القاموس المحيط (كدر).
(2) الآباط: جمع إبط وهو باطن المنكب. القاموس المحيط (أبط).
(3) الأطمار: جمع طمر وهو الثوب الخلق. القاموس المحيط (طمر).
(4) السّكباج: لحم يطبخ بخلّ. القاموس المحيط (سكبج).(1/417)
وميكائيل فأمّا القوم الذين صدر عنهم سيدي فكما وصف: حسن عشرة، وسداد طريقة، وجمال تفصيل وجملة، ولقد جاورتهم فأحمدت المراد، ونلت المراد: [الطويل]
فإن كنت قد فارقت نجدا وأهله ... فما عهد نجد عندنا بذميم
والله يعلم نيّتي للأحرار كافة، ولسيدي من بينهم خاصة فإن أعانني الدهر على ما في نفسي بلغت له ما في النيّة، وجاوزت به مسافة القدر والأمنية، وإن قطع عليّ طريق عزمي بالمعارضة، وسوء المناقضة، صرفت عناني عن طريق الاختيار، بيد الاضطرار:
[الطويل]
فما النفس إلّا نطفة بقرارة ... إذا لم تكدّر كان صفوا غديرها
وبعد، فحبذا عتاب سيدي إذا استوجبنا عتبا، واقترفنا ذنبا فأما أن يسلفنا العربدة فنحن نصونه عن ذلك، ونصون أنفسنا عن احتماله، ولست أسومه أن يقول: {اسْتَغْفِرْ لَنََا ذُنُوبَنََا إِنََّا كُنََّا خََاطِئِينَ} (1)، ولكن أسأله أن يقول: {لََا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللََّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرََّاحِمِينَ} (2).
فحين ورد الجواب وعين العذر رمدة تركناه بعرّه، وطويناه على غرّه، وعمدنا إلى ذكره فسحوناه، ومن صحيفتنا محوناه، وصرنا إلى اسمه فأخذناه ونبذناه، وتنكّبنا خطته، وتجنّبنا حطّته، فلا طرنا إليه، ولا صرنا به، ومضى على ذلك الأسبوع، ودبّت الأيام، ودرجت الليالي، وتطاولت المدّة، وتصرّم الشهر، وصرنا لا نعير الأسماع ذكره، ولا نودع الصدور حديثه وجعل هذا الفاضل يستزيد، ويستعيد، بألفاظ تقطعها الأسماع من لسانه، وتؤديها إليّ، وكلمات تحفظها الألسنة من فمه، وتعيدها عليّ فكاتبناه بما هذه نسخته:
أنا أرد من الأستاذ سيدي أطال الله بقاه شرعة ودّه وإن لم تصف، وألبس خلعة برّه وإن لم تضف، وقصاراي أن أكيله صاعا عن مدّ فإني وإن كنت في الأدب دعيّ النّسب، ضيق المضطرب، سيىء المنقلب، أمتّ إلى عشرة أهله بنيقة، وأنزع إلى خدمة أصحابه بطريقة، ولكن بقي أن يكون الخليط منصفا في الوداد، إذا زرت زار، وإن عدت عاد، وسيدي أبقاه الله ناقشني في القبول أولا، وصارمني في الإقبال آخرا فأما حديث الاستقبال، وأمر الإنزال والأنزال (3)، فنطاق الطمع ضيّق عنه، غير متسع لتوقّعه منه،
__________
(1) سورة يوسف 12، الآية 97.
(2) سورة يوسف 12، الآية 92.
(3) الإنزال، بكسر الهمزة: مصدر أنزله، والأنزال، بفتح الهمزة: جمع نزل وهو ما هيّيء للضيف أن(1/418)
وبعد فكلفة الفضل بيّنة، وفروض الودّ متعيّنة، وأرض العشرة ليّنة، وطرقها هيّنة، فلم اختار قعود التّعالي مركبا، وصعود التغالي مذهبا وهلّا ذاد الطير عن شجر العشرة، وذاق الحلو من ثمرها فقد علم الله أن شوقي إليه قد قدّ الفؤاد برحا إلى برح، ونكأه قرحا إلى قرح، ولكنها مرّة مرّة، ونفس حرّة، لم تقد إلّا بالإعظام، ولم تلق إلّا بالإجلال والإكرام، وإذا استعفاني من معاتبته، فأعفى نفسه من كلف الفضل يتجشّمها، فليس إلّا غصص الشوق أتجرّعها، وحلل الصّبر أتدرّعها، ولم أعره من نفسي، وأنا لو أعرت جناحي طائر لما طرت إلّا إليه، ولا وقعت إلّا عليه: [الطويل]
أحبك يا شمس النهار وبدره ... وإن لامني فيك السها والفراقد
وذاك لأنّ الفضل عندك باهر ... وليس لأنّ العيش عندك بارد
فلمّا وردت عليه الرّقعة حشد تلاميذه وخدمه، وجشم للإيجاب قدمه، وطلع علينا مع الفجر طلوعه، ونظمتنا حاشيتا دار الأمير أبي الطيب فقلنا: الآن تشرق الحشمة وتنوّر، وننجد في العشرة ونغوّر، وقصدناه شاكرين لمّا أتاه، وانتظرنا عادة برّه، وتوقّعنا مادّة فضله فكان خلّبا شمناه (1)، وآلا (2) وردناه، وصرفنا في تأخّره وتأخّرنا عنه إلى ما قاله ابن المعتز: [الرجز]
إنّا على البعاد والتفرّق ... لنلتقي بالذكر إن لم نلتق
وأنشدنا قول ابن عصرنا: [الوافر]
أحبك في البتول وفي أبيها ... ولكني أحبّك من بعيد
وبقينا نلتقي خيالا، ونقنع بالذكر وصالا، حتى جعلت عواصفه تهبّ، وعقاربه تدبّ.
والمجلس طويل جدا.
قلت: إن كنت خرجت لطول هذا الكلام عن ضبط الشرط، فلعلي أسامح فيه لفضله، وعدم مثله، وهو وإن كان في باب الاتصال، فهو بتقدير الانفصال، لقيام كلّ رسالة بذاتها، وانفرادها بصفاتها.
__________
ينزل عليه، والطعام ذو البركة. القاموس المحيط (نزل).
(1) البرق الخلّب: المطمع المخلف وشام البرق: نظر إليه أين يقصد. القاموس المحيط (خلب) و (شيم).
(2) الآل: السراب. القاموس المحيط (أول).(1/419)
وكتب إلى رئيس هراة عدنان بن محمد يصف ما جرى بينه وبين الخوارزمي:
ما ألوم هذا الفاضل على بساط شرّ طواه، وموقد حرب اجتواه، ولكني ألومه على ما نواه ثم لم يتبع هواه، ورامه، ثم لم يبلغ آثامه، وأقول: قد ضرب فأين الإيجاع؟
وأنذر فأين الإيقاع؟ وهذه بوارقه، فأين صواعقه؟ وذلك وعيده، فأين عديده؟ وتلك بنوده، فأين جنوده؟ وأنشد: [الكامل]
* هذي معاهده فأين عهوده؟ * وما أهول رعده، لو أمطر بعده! اللهمّ لا كفران، ولعن الله الشيطان، فإنّه أشفق لغريب أن يظهر عواره (1)، وإن طار طواره (2)، وإن كان قصد هذا القصد فقد أساء إلى نفسه من حيث أحسن إليّ، وأجحف بفضله من حيث أبقى عليّ، وأوهم الناس أنه هاب البحر أن يخوضه، والأسد أن يروضه، وشجّعني على لقائه، بعد ما برعني (3) بإيمائه، فبينا كنت أنشد: [الخفيف]
* إنّ جنبي على الفراش لناب * إذ أنشدت: [الخفيف]
* طاب ليلي وطاب فيه شرابي * وبينا أنا أقول: [الخفيف]
* ما لقلبي كأنه ليس مني * إذ قلت: [الخفيف]
* أين من كان موعدا لي بأني * فلو أنّ هذا الفاضل قضى حقّنا بالزيارة عند قدومنا أو الاستزارة، لكان في الضّرب أحسن، وفي طريق المعاشرة أذهب، لا، ولكنه وعد بالمباراة أولا، وهدّدنا بالمسائل ثانيا، وأخلف بالتخلف ثالثا فأبلغ وجدي إليه، واعرض شوقي عليه، وقل له إن كنت ندمت على النضال، فلا تندم على الإفضال، فإن طويتنا حيث الجهاد، فانشرنا حيث الوداد، وإن لم تلقنا في باب المكاشرة، فأتنا من باب المعاشرة.
__________
(1) العوار، بالفتح: العيب. القاموس المحيط (عور).
(2) الطّوار، بفتح الطاء: الحوم حول الشيء. القاموس المحيط (طور).
(3) برعه: غلبه. القاموس المحيط (برع).(1/420)
وله إلى الإمام أبي الطيب سهل بن محمد: قد كان الشيخ يعدني عن هذه الحضرة عدات أشمّ لها الأنف، لا ذهابا بتلك الفواضل عنها، لكن استحالة من هذا الزمان أن يجود بها فحين أسرفت على الحضرة ماجت إليّ أمواج الشرف منها، وخلص إليّ نسيم الكرم عنها، وأتحفني على رسم الإجلال بمركوب شامخ، ومركب ذهب سابغ، وجنيب (1) شرف زائد وسرت بحمد الله محفوفا بأعيان الكتّاب، وعيون الرجال، حتى شافهت بساط العزّ، مستقبلا ملك الشرق أدام الله علوّه، فجذب بضبعيّ عن أرض الخدمة، إلى جوار وليّ النعمة، حرس الله مكانه، فاهتزّ اهتزازا فات سمة الإكرام، وتجاوز اسم الإعظام إلى القيام، فقبلت من يمناه مفتاح الأرزاق، وفتّاح الآفاق، ولحقت منه بقاب العقاب (2)، وخاطبني بمخاطبات نشدت بها ضالّة الكرام، وهلمّ جرّا إلى ما تبعها من جميل الإنزال، وسنيّ الأجزال (3).
وطرأت من الشيخ العميد على شخص يسعه الخاتم، ولا يسعه العالم، ويهتزّ عند المكارم كالغصن، ويثبت عند الشدائد كالرّكن، وسلطان يحلم حلم السيف مغمدا، ويغضب مجرّدا، فهو عند الكرم ليّن كصفحته، وعند السياسة خشن كشفرته، وملك يأتي الكرم نيّة، والفضل سجيّة، ويفعل الشرّ كلفة أو خطيّة، فهو ضرور بآلاته، نفوع بذاته، عطارد قلمه ودواته، والمرّيخ سيفه وقناته عيبه أن لا عيب فيه، فيصرف عين الكمال عن معاليه.
وصادفت من الشيخ الموفق، أيّده الله، ملكا يشاهد عيانا، وجبلا قد سمّي إنسانا، وحسنا قد ملىء إحسانا، وأسدا قد لقّب سلطانا، وبحرا قد أمسك عنانا، وحططت رحلي بفناء الأمير الفاضل أبي جعفر أدام الله عزّه، فوجدت حكمي في ماله أنفذ من حكمه، وقسمي من غناه أوفر من قسمه، واسمي في ذات يده مقدّما على اسمه، ويدي إلى خزانته أسرع من يده، وإن قصدت أن أفرد لكلّ مدحا، وأعبر الجملة شرحا، أطلت، فهلمّ جرّا إلى ما افتتحت الكتاب لأجله.
ورد للخوارزمي كتاب يتقلّب فيه على جنب الحرد، ويتقلّى على جمر الضّجر، ويتأوّه من خمار الخجل، ويتعثّر في أذيال الكلل، ويذكر أنّ الخاصة قد علمت لأينا كان
__________
(1) الجنيب: الفرس، وكلّ طائع منقاد جنيب. محيط المحيط (جنب).
(2) قاب العقاب: بيضه، والعقاب: سيد الطيور. محيط المحيط (قوب) و (عقب).
(3) الأجزال: جمع الجزيل وهو الكثير من الشيء. محيط المحيط (جزل).(1/421)
الفلج (1)، فقلت: است البائن أعلم، والخوارزمي أعرف، والأخبار المتظاهرة [أعدل، والآثار الظاهرة] أصدق، وحلبة السباق أحكم، وما مضى بيننا أشهد، والعود إن نشط أحمد، ومتى استزاد زدنا، وإن عادت العقرب عدنا، وله عندي إذا ما شاء، كلّ ما شاء!
وهي طويلة فيها هنات صنت الكتاب عنها، وقد أعاد البديع معنى قوله في صدر حكايته مع الخوارزمي، فقال في رقعة كتبها إلى سعيد الإسماعيلي، وقد وقفت به الضرورة على تلك الصورة من سلب العرب ماله:
كتابي، بل رقعتي، أطال الله بقاء الشيخ، وقد بكرت عليّ مغيرة الأعراب، كمهلهل، وربيعة بن مكدّم، وعتيبة بن الحارث بن هشام، وأنا أحمد الله، إلى الشيخ الفاضل، وأذمّ الدهر فما ترك لي من فضّة إلّا فضّها، ولا ذهب إلّا ذهب به، ولا علق إلّا علقه (2)، ولا عقار إلّا عقره، ولا ضيعة إلّا أضاعها، ولا مال إلّا مال إليه، ولا سبد إلّا استبدّ به، ولا لبد إلّا لبد فيه (3)، ولا بزّة إلّا بزّها (4)، ولا عارية إلّا ارتجعها، ولا وديعة إلّا انتزعها، ولا خلعة إلّا خلعها، وأنا داخل نيسابور ولا حلية إلّا الجلدة، ولا برد إلّا القشرة، والله وليّ الخلف يعجّله، والفرج يسهّله، وهو حسبي ونعم الوكيل.
وليس البديع بأبي عذرة هذا الخطاب، وسترى نظير هذا المعنى في هذا الكتاب.
ومن إنشائه في مقامات أبي الفتح الإسكندري
قال: حدّثني عيسى بن هشام قال: كنت في بعض بلاد بني فزارة مرتحلا نجيبة، وقائدا جنيبة، يسبحان سبحا، وأنا أهيم بالوطن، فلا الليل يثنيني بوعيده، ولا البعد يدنيني ببيده، وظللت أخبط ورق النّهار، بعصا التّسيار، وأخوض بطن الليل، بحوافر الخيل، فبينا أنا في ليلة يضلّ بها الغطاط (5)، ولا يبصر بها الوطواط، أسبح ولا سانح إلّا السبع، ولا بارح إلّا الضّبع، إذ عنّ لي راكب تامّ الآلات، يطوي منشور الفلوات، فأخذني منه ما يأخذ الأعزل من شاكي السلاح، لكني تجلّدت فقلت: أرضك لا أمّ لك! فدونك شرط الحداد، وخرط القتاد (6)، وخصم ضخم، وحمية أزديّة، وأنا سلم إن شئت، وحرب إن
__________
(1) الفلج، بفتح الفاء وسكون اللام: الظفر والفوز. القاموس المحيط (فلج).
(2) العلق، بكسر العين وسكون اللام: النفيس من كل شيء. علقه: أخذه. القاموس المحيط (علق).
(3) ليس له سبد ولا لبد: أي لا قليل ولا كثير. القاموس المحيط (سبد).
(4) البزّة، بكسر الباء وتشديد الزاي: الهيئة. القاموس المحيط (بزز).
(5) الغطاط، بزنة سحاب: القطا. القاموس المحيط (غطط).
(6) القتاد، بالفتح: شجر صلب له شوكة كالإبر. القاموس المحيط (قتد).(1/422)
أردت، من أنت؟ قال: سلما أصبت، قلت: خيرا أجبت، قلت: فمن أنت؟ قال: نصيح إن شاورت، فصيح إن حاورت، ودون اسمي لثام، لا تميطه الأعلام. قلت: فما الطعمة؟
قال: أجوب جيوب البلاد، حتى أقع على جفنة جواد، ولي فؤاد يخدمه لسان، وبيان يرقمه بنان، وقصاراي كريم ينفض إليّ حقيبته، ويخفّف لي جنيبته، كابن حرّة طلع إليّ بالأمس، طلوع الشمس، وغرب عني بغروبها لكنه غاب ولم يغب تذكاره، وودّع وشيّعتني آثاره، ولا ينبئك عنها أقرب منها، وأومأ إلى ما كان يلبسه، فقلت: شحاذ وربّ الكعبة أخاذ، له في الصّنعة نفاذ، بل هو فيها أستاذ، ولا بدّ أن ترشح له وتسحّ عليه، وقلت له: يا فتى، قد أجليت عبارتك، فأين شعرك من كلامك؟ فقال: وأين كلامي من شعري! ثم استمدّ غريزته، ورفع عقيرته (1)، بصوت ملأ الوادي، وأنشأ يقول: [الطويل]
وأروع أهداه لي الليل والفلا ... وخمس تمسّ الأرض لكن كلا ولا (2)
عرضت على نار المكارم عوده ... فكان معمّا في السوابق مخولا
وخادعته عن ماله فخدعته ... وساهلته في برّه فتسهّلا
ولمّا تجالينا وأحمد منطقي ... بلاني في نظم القريض بما بلا (3)
فما هزّ إلّا صارما حين هزّني ... ولم يلقني إلّا إلى السّبق أوّلا
فلم أره إلّا أغرّ محجّبا ... وما تحته إلّا أغرّ محجّلا
فقلت: على رسلك يا فتى، ولك ممّا يصحبني حكمك. فقال: الجنيبة، قلت:
إنّ (4) وما عليها. ثم قبضت بجمعي عليه، وقلت: لا والله الذي ألهمها لمسا، وشقّها من واحدة خمسا، لا تزايلنا أو نعلم علمك، فحدر (5) لثامه عن وجهه، فإذا والله شيخنا أبو الفتح الإسكندري، فما لبثت أن قلت: [الهزج]
توشّحت أبا الفتح ... بهذا السيف مختالا
وما تصنع بالسيف ... إذا لم تك قتّالا؟
[فصغ ما أنت حليت ... به سيفك خلخالا]
وعلى ذكر قوله: «إنّ وما عليها»، قال أبو عبيدة: وفد عبد الله بن الزّبير الأسدي
__________
(1) العقيرة: ما عقر من صيد أو غيره. القاموس المحيط (عقر).
(2) كلا ولا: أي في غاية السرعة كسرعة النطق بلفظة «لا».
(3) بلاه: اختبره. القاموس المحيط (بلي).
(4) إنّ: بمعنى «نعم».
(5) حدر لثامه عن وجهه: أزاله. لسان العرب (حدر).(1/423)
على عبد الله بن الزّبير بن العوام فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ بيني وبينك رحما من قبل فلانة الكاهلية هي أختنا، وقد ولدتكم، وأن ابن فلان فلانة عمّتي. فقال ابن الزبير: هذا كما ذكرت، وإن فكّرت في هذا أصبت، الناس كلّهم يرجعون إلى أب واحد، وأم واحدة.
فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ نفقتي قد ذهبت. قال: ما كنت ضمنت لأهلك أنها تكفيك إلى أن ترجع إليهم. قال: يا أمير المؤمنين، إن ناقتي قد نقبت ودبرت (1). فقال له: أنجد بها يبرد خفّها، وارقعها بسبت، واخصفها بهلب (2)، وسر عليها البريدين. قال:
يا أمير المؤمنين، إنما جئتك مستحملا، ولم آتك مستوصفا (3)، لعن الله ناقة حملتني إليك. قال ابن الزبير: إنّ وراكبها! فخرج وهو يقول: [الوافر]
أرى الحاجات عند أبي خبيب ... نكدن، ولا أميّة في البلاد
من الأعياص أو من آل حرب ... أغرّ كغرّة الفرس الجواد
وما لي حين أقطع ذات عرق ... إلى ابن الكاهلية من معاد
وقلت لصحبتي أدنوا ركابي ... أفارق بطن مكّة في سواد
فبلغ شعره هذا عبد الله بن الزبير، فقال: لو علم أنّ لي أمّا أخسّ من عمّته الكاهلية لنسبني إليها، وكان ابن الزبير يكنى أبا بكر وأبا خبيب.
قال الصولي: أخذ المعتصم من محمد بن عبد الملك الزيات فرسا أشهب أحمّ (4)، كان عنده مكينا، وكان به ضنينا، فقال يرثيه: [الكامل]
قالوا: جزعت، فقلت: إنّ مصيبة ... جلّت رزيّتها، وضاق المذهب (5)
قال أبو بكر: هكذا أنشدنيه ابن المعتز على أن (إنّ) بمعنى نعم، وأنشد النحويون:
[الكامل]
قالوا: كبرت، فقلت: إن، وربما ... ذكر الكبير شبابه فتطرّبا
[الكامل]
__________
(1) نقبت: حفيت أو رقّت أخفافها. دبرت: أصابتها الدّبرة وهي القرحة. محيط المحيط (نقب) و (دبر)
(2) السّبت، بكسر السين: كل جلد مدبوغ. الهلب: الشّعر كله. القاموس المحيط (سبت) و (هلب).
(3) مستحملا: أي مستحملا نفسه يقال: استحمله نفسه إذا حمّله حوائجه وأموره. مستوصفا: أي سأله أن يصف له ما يتعالج به. القاموس المحيط (حمل) و (وصف).
(4) الأحمّ: الأسود من كل شيء. القاموس المحيط (حمم).
(5) «إنّ»: بمعنى «نعم».(1/424)
كيف العزاء وقد مضى لسبيله ... عنّا فودّعنا الأحمّ الأشهب
دبّ الوشاة فباعدوه، وربما ... بعد الفتى وهو الحبيب الأقرب
لله يوم غدوت فيه ظاعنا ... وسلبت قربك، أيّ علق أسلب؟
نفسي مقسّمة أقام فريقها ... ومضى لطيّته فريق يجنب
الآن إذ كملت أداتك كلّها ... ودعا العيون إليك حسن معجب
وغدوت طنّان اللّجام كأنما ... في كل عضو منك صنج يضرب
وكأنّ سرجك، إذ علاك، غمامة ... وكأنما تحت الغمامة كوكب
أنساك؟ لا زالت إذا منسية ... نفسي، ولا برحت بمثلك تنكب
أضمرت منك اليأس حين رأيتني ... وقوى حبالي من حبالك تقضب
يا صاحبيّ لمثل ذا من أمره ... صحب الفتى في دهره من يصحب
إن تسعدا فصنيعة مشكورة ... أو تخذلا فصنيعة لا تذهب
عوجا فقولا: مرحبا، وتزوّدا ... نظرا، وقلّ لمن تحبّ المرحب
منع الرقاد جوى تضمّنه الحشا ... ممّا أكابده وهمّ منصب
[ما قيل في المزاح]
قال الحجاج بن يوسف لابن القرّيّة: ما زالت الحكماء تكره المزاح، وتنهى عنه، فقال: المزاح من أدنى منزلته إلى أقصاها عشرة أبواب: المزّاح أوله فرح، وآخره ترح.
المزاح نقائض السفهاء، كالشعر نقائض الشعراء. والمزاح يوغر صدر الصديق، وينفّر الرفيق. والمزاح يبدي السرائر لأنه يظهر المعاير. والمزاح يسقط المروءة، ويبدي الخنى (1). لم يجرّ المزح خيرا، وكثيرا ما جرّ شرّا. الغالب بالمزاح واتر، والمغلوب به ثائر. والمزاح يجلب الشتم صغيره والحرب كبيره، وليس بعد الحرب إلّا عفو بعد قدرة.
فقال الحجاج: حسبك، الموت خير من عفو معه قدرة.
وذكر المزاح بحضرة خالد بن صفوان فقال: ينشق أحدكم أخاه مثل الخردل، ويفرغ عليه مثل المرجل، ويرميه بمثل الجندل. ثم يقول: إنما كنت أمزح!
أخذ هذا المعنى محمود بن الحسين الوراق فقال: [الكامل]
تلقى الفتى يلقى أخاه وخدنه ... في لحن منطقه بما لا يغفر
ويقول: كنت ممازحا وملاعبا ... هيهات نارك في الحشا تتسعّر!
__________
(1) الخنى: الفحش في الكلام. محيط المحيط (خنى).(1/425)
أو ما علمت وكان جهلك غالبا ... أنّ المزاح هو السّباب الأصغر؟
فقر في هذا النحو لأهل العصر وغيرهم
المزاحة تذهب بالمهابة، وتورث الضغينة. الإفراط في المزاح مجون، والاقتصاد فيه ظرف، والتقصير عنه ندامة. أوكد أسباب القطيعة المراء والمزاح.
ابن المعتز من كثر مزاحه لم يخل من استخفاف به أو حقد عليه.
قال أيوب بن القرّيّة: الناس ثلاثة: عاقل، وأحمق، وفاجر فالعاقل الدّين شريعته، والحلم طبيعته، والرأي الحسن سجيّته إن سئل أجاب، وإن نطق أصاب، وإن سمع العلم وعى، وإن حدّث روى. وأمّا الأحمق فإن تكلّم عجل، وإن حدّث وهل (1)، وإن استنزل عن رأيه نزل، فإن حمل على القبيح حمل. وأمّا الفاجر فإن ائتمنته خانك، وإن حدّثته شانك، وإن وثقت به لم يرعك، وإن استكتم لم يكتم، وإن علم لم يعلم، وإن حدّث لم يفهم، وإن فقّه لم يفقه.
[الطيرة والزّجر]
قال أبو حية النميري (2): [الطويل]
جرى يوم رحنا عامدين لأرضنا ... سنيح، فقال القوم: مرّ سنيح (3)
فهاب رجال منهم فتعّيفوا ... فقلت لهم: جاري إليّ ربيح (4)
عقاب بأعقاب من الدار بعد ما ... نأت نأية بالظاعنين طريح (5)
وقالوا: حمامات، فحمّ لقاؤها ... وطلح فنيلت والمطيّ طليح (6)
وقال صحابي: هدهد فوق بانة، ... هدى وبيان بالنجاح يلوح
وقالوا: دم، دامت مواثيق بيننا ... ودام لنا حلو الصفاء صريح
لعيناك يوم البين أسرع واكفا ... من الفنن الممطور وهو مروح
ونسوة شحشاح غيور يخفنه ... أخي ثقة يلهون وهو مشيح
__________
(1) وهل: ضعف وفزع. القاموس المحيط (وهل).
(2) القصيدة في أمالي القالي (ج 1ص 7069).
(3) رواية صدر البيت في أمالي القالي هي: بدا يوم رحنا عامدين لأرضها
(4) في أمالي القالي: «وتقاعسوا» بدل «فتعيّفوا».
(5) رواية عجز البيت في أمالي القالي هي: جرت نيّة تسلي المحبّ طروح
(6) في الأمالي: «فزيرت» بدل «فنيلت».(1/426)
يقلن، وما يدرين أنّي سمعته ... وهنّ بأبواب الخيام جنوح: (1)
أهذا الذي غنّى بسمراء موهنا ... أتاح له حسن الغناء متيح؟
إذا ما تغنّى أنّ من بعد زفرة ... كما أنّ من حرّ السلاح جريح
وقائلة: يا دهم ويحك! إنه ... على ما به من عنّة لمليح (2)
فلو أنّ قولا يجرح الجلد قد بدا ... بجلدي من قول الوشاة قروح (3)
وهذا من غريب الزّجر مليح التفاؤل.
قال أبو العباس محمد بن يزيد: أنشدني أعرابيّ في قصيدة ذي الرمة التي أوّلها:
[الطويل]
ألا يا اسلمى يا دارميّ على البلى ... ولا زال منهلّا بجرعائك القطر
بيتين لم يروهما الرواة في ديوانه، وهما:
رأيت غرابا ساقطا فوق قضبة ... من القضب لم ينبت لها ورق خضر
فقلت: غراب لاغتراب، وقضبة ... لقضب النوى هذي العيافة والزّجر
وقال آخر: [الطويل]
دعا صرد يوما على غصن بانة ... وصاح بذات البين منها غرابها (4)
فقلت: أتصريد وشحط وغربة؟ ... فهذا لعمري نأيها واغترابها
وقد أكثرت العرب من ذكر الطّيرة، والزّجر، وكانت تقتدي بذلك وتجري على حكمه، حتى ورد النّهي في سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: لا عدوى ولا طيرة، وقد قال الأول: [الطويل]
لعمرك ما تدري الضّوارب بالحصى ... ولا زاجرات الطّير ما الله صانع
وقال ضابىء بن الحارث البرجمي: [الطويل]
وما عاجلات الطير، تدني من الفتى ... نجاحا ولا عن ريثهنّ يخيب
ولا خير فيمن لا يوطّن نفسه ... على نائبات الدّهر حين تنوب
وربّ أمور لا تضيرك ضيرة ... وللقلب من مخشاتهنّ وجيب
__________
(1) في الأمالي: «عني» بدل «أنّي».
(2) رواية عجز البيت في أمالي القالي هي: على غنّة في صوته لمليح
(3) في أمالي القالي: «قولا يكلم الجلد الوشاة جروح».
(4) الصّرد، بضم الصاد وفتح الراء: طائر ضخم الرأس يصطاد العصافير. القاموس المحيط (صرد).(1/427)
وقال الكميت بن زيد الأسدي: [الطويل]
ولا أنا ممن يزجر الطير همّه ... أصاح غراب أم تعرّض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية ... أمرّ سليم القرن أم مرّ أعضب
وقال شاعر قديم: [مجزوء الكامل]
لا يمنعنّك من بغا ... ء الخير تعقاد التّمائم
ولا التشاؤم بالعطا ... س ولا التّيامن بالمقاسم
فلقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم (1)
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم (2)
وكذاك لا خير ولا ... شرّ على أحد بدائم
قد خطّ ذلك في الزّبو ... ر الأوّليّات القدائم
ولقد أحسن ابن كناسة في رثاء ولده يحيى، أنشده أبو العباس ثعلب: [الطويل]
تيمّمت فيه الفأل حتى رزئته ... ولم أدر أنّ الفال فيه يفيل
فسمّيته يحيى ليحيا فلم يكن ... إلى ردّ أمر الله فيه سبيل
وروى المدائني قال: خرج كثيّر من الحجاز يريد مصر، فلمّا قرب منها نزل بمنزل، فإذا هو بغراب على شجرة بان ينتف ريشه وينعب فأسرع الرحيل، ومضى لوجهه فلقيه رجل من بني نهد، فقال: يا أخا الحجاز، ما لي أراك كاسف اللون؟ قال: ما علمت إلّا خيرا، قال: فهل رأيت في طريقك شيئا أنكرته؟ قال: لا والله إلّا في منزلي هذا، فإني رأيت غرابا ينتف ريشه على بانة وينعب. قال: أما إنك تطلب حاجة لا تدركها.
فقدم مصر والناس منصرفون من جنازة عزة، فقال (3): [الطويل]
رأيت غرابا ساقطا فوق بانة ... ينتّف أعلى ريشه ويطايره
فقلت ولو أني أشاء زجرته ... بنفسي للنهديّ: هل أنت زاجره؟
فقال: غراب لاغتراب من النوى ... وفي البان بين من حبيب تجاوره (4)
فما أعيف النهديّ، لا درّ درّه! ... وأزجره للطير، لا عزّ ناصره
__________
(1) الواقي: الصّرد وهو طائر كما تقدم. الحاتم: غراب البين. القاموس المحيط (وقى) و (حتم).
(2) الأشائم: ضدّ الأيامن، وقد تشاءموا به. القاموس المحيط (شأم).
(3) الأبيات في وفيات الأعيان (ج 4ص 112).
(4) في وفيات الأعيان: «لاغتراب وفرقة وبان فبين من حبيب تعاشره».(1/428)
ثم أتى قبر عزة فأناخ به ساعة ثم رحل، وهو يقول (1): [الطويل]
أقول ونضوي واقف عند رأسها ... عليك سلام الله والعين تسفح
فهذا فراق الحقّ لا أن تزيرني ... بلادك فتلاء الذراعين صيدح (2)
وقد كنت أبكي من فراقك حيّة ... وأنت لعمري اليوم أنأى وأنزح
وقال جرير: [الكامل]
بان الخليط برامتين فودّعوا ... أو كلّما نعبوا لبين تجزع
إن السّوانح بالضّحى هيّجنني ... في دار زينب والحمام الوقّع
وقال عوف الراهب خلاف هذا: [الكامل]
غلط الذين رأيتهم بجهالة ... يلحون كلّهم غرابا ينعق
ما الذنب إلّا للأباعر إنها ... ممّا يشتّ جميعهم ويفرّق (3)
إنّ الغراب بيمنه تدنو النّوى ... وتشتّت الشمل الجميع الأينق (4)
وقد تبعه في هذا المذهب أبو الشيص فقال (5): [مجزوء الرجز]
ما فرّق الأحباب بع ... د الله إلّا الإبل
والناس يلحون غرا ... ب البين لمّا جهلوا
وما على ظهر غرا ... ب البين تطوى الرّحل (6)
ولا إذا صاح غرا ... ب في الديار احتملوا
وما غراب البين إل ... لا ناقة أو جمل
وما أملح ما قال القائل: [الكامل]
زعموا بأنّ مطيّهم عون النوى ... والمؤذنات بفرقة الأحباب
ولو انها حتفي لما أبغضتها ... ولها بهم سبب من الأسباب
__________
(1) البيتان في وفيات الأعيان (ج 4ص 112) باختلاف يسير عما هنا.
(2) الفتلاء: الناقة الثقيلة المتأطّرة الرّجلين. الصّيدح: الصّيّاح الصّيّت. القاموس المحيط (فتل) و (صدح).
(3) الأباعر: جمع بعير وهو الجمل البازل. القاموس المحيط (بعر).
(4) الأينق: جمع ناقة وهي الأنثى من الإبل. لسان العرب (نوق).
(5) الأبيات في الشعر والشعراء (ص 723722).
(6) في الشعر والشعراء: «تمطى» بدل «تطوى».(1/429)
وكان علي بن العباس الرومي مفرط الطّيرة، شديد الغلوّ فيها. قال عليّ بن عبد الله بن المسيب: وكان يحتجّ لها، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يحبّ الفأل، ويكره الطّيرة أفتراه كان يتفاءل بالشيء، ولا يتطيّر من ضدّه؟ ويقول: إن النبيّ، صلى الله عليه وسلم، مرّ برجل وهو يرحل ناقة ويقول: يا ملعونة، فقال: لا يصحبنا ملعون، وإن عليا، رضي الله عنه، كان لا يغزو غزاة والقمر في العقرب، ويزعم أنّ الطيرة موجودة في الطباع قائمة فيها، وأنّ بعض الناس هي في طباعهم أظهر منها في بعض، وأن الأكثر في الناس إذا لقي ما يكرهه، قال: على وجه من أصبحت اليوم؟
فدخل علينا يوم مهرجان سنة ثمان وسبعين وقد أهدي إليّ عدة من جواري القيان، وكانت فيهنّ صبيّة حولاء، وعجوز في إحدى عينيها نكتة، فتطيّر من ذلك، ولم يظهر لي أمره، وأقام باقي يومه فلمّا كان بعد مدة يسيرة سقطت ابنة لي من بعض السطوح، وجفاه القاسم بن عبيد الله، فجعل سبب ذلك المعنيين المغنيتين، وكتب إليّ: [الخفيف]
أيها المتحفي بحول وعور ... أين كانت عنك الوجوه الحسان؟
قد لعمري ركبت أمرا مهينا ... ساءني فيك أيها الخلصان
فتحك المهرجان بالحول والعو ... ر أرانا ما أعقب المهرجان
كان من ذاك فقدك ابنتك الحرة ... مصبوغة بها الأكفان
وتجافي مؤمّل لي جليل ... لجّ فيه الجفاء والهجران
وعزيز عليّ تقريع خلّ ... لا يدانيه عندي الخلّان
غير أني رأيت إذكاره الحز ... م وإشعاره شعارا يصان
لا تهاون بطيرة أيّها ... النظار واعلم بأنها عنوان
قف إذا طيرة تلقّتك وانظر ... واستمع ثمّ ما يقول الزّمان
قلّما غاب من أمورك عنوا ... ن مبين وللزّمان لسان
لا تكن بالهوى تكذّب بالأخ ... بار حتى تهين ما لا يهان
لا يقدك الهوى إلى نصرة الأخ ... بار حتى يقدّم البرهان
إن عقبى الهوى هويّ، وعقبى ... طول تلك المهوّنات هوان (1)
لا تصدق عن النبيين إلّا ... بحديث يلوح فيه البيان
خبّر الله أنّ مشأمة كا ... نت لقوم وخبّر القرآن
أفزور الحديث تقبل أم ما ... قاله ذو الجلال والفرقان؟
أترى من يرى البشير بشيرا ... يمتري في النذير يا وسنان
__________
(1) الهويّ، بضم الهاء: الانحدار. القاموس المحيط (هوي).(1/430)
فدع الهزل والتضاحك بالطي ... رة والنصح مثمن مجّان
وقد فرّق حذّاق أهل النظر في المقال، بين الطيرة والفال، فقالوا: الطيرة كانت العرب ترجع إلى ما تمضيها، وتجري على تقضيها، وكان الذي يهمّ بهم إذا ما رأى ما يتطيّر منه رجع عنه وفي ذلك ما يصرف عن الإحالة على المقادير الجارية بيد ممضيها، النازلة على حكم قاضيها، والفأل لا يردّ المريد عمّا يريد إنما يقوّي منّته، ويسرّ مهجته وليس هذا موضع تطويل، في إيراد الدليل.
وفي جفاء القاسم بن عبيد الله إياه يقول معاتبا: [الطويل]
ألم ترني أقرضتك الودّ طائعا ... ولم تر قبلي معسرا قطّ أقرضا
لعمري لقد صوّرت أبيض مشرقا ... فلم لا تريني وجه نعماك أبيضا؟
فيا ويح مولاك استغاث بمشرب ... فأشرق فاستشفى شفاء فأفرضا (1)
ولولا اعتقادي أنك الخير كله ... لأزمعت توديعا، قضى الله ما قضى
وإني وإن دارت عليّ دوائر ... لأعرض عمّن صدّ عني وأعرضا
وما زلت عرّافا إذا الزاد رانني ... بخبث وعيّافا إذا الماء عرمضا (2)
وهذا البيت كقول الآخر: [الطويل]
وإني للماء المخالط للقذى ... إذا كثرت ورّاده لعيوف
وفي ابنة المسيبي يقول ابن الرومي يعزّيه: [الطويل]
أخا ثقتي أعزز عليّ بنكبة ... مناك بها صرف القضاء المقدّر
صبت، وما للمرء من حكم ربّه ... محيد، وأمر الله أعلى وأقهر
وقد مات من لا يخلف الدهر مثله ... عليك من الأسلاف والحقّ يبهر
تعزيت عمّن أثمرتك حياته ... ووشك التعزي عن ثمارك أجدر
لأنّ اختيال الدهر في ابن وفي ابنة ... يسير وكرّ الدهر شيخيك أعسر
تعذّر أن نعتاض من أمهاتنا ... وآبائنا، والنسل لا يتعذّر
فلا تهلكن حزنا على ابنة جنة ... مضت وهي عند الله تحيا وتحبر
لعلّ الذي أعطاك ستر حياتها ... كساها من اللّحد الذي هو أستر
فكم من أخي حرية قد رأيته ... بنار ذوي الأصهار يكوى ويصهر
__________
(1) أفرض: شرب من الفرضة وهي الثّلمة التي تكون في النهر. لسان العرب (فرض).
(2) رانت النّفس: خبثت. عرمض الماء: طحلب. القاموس المحيط (رين) و (عرمض).(1/431)
فلا تتهم لله فيها ولاية ... ولا نظرا فالله للعبد أنظر
وأنت وإن أبصرت رشدك مرة ... فذو النظر الأعلى برشدك أبصر
ومن مليح تعازيه عن ابنة قوله لعليّ بن يحيى المنجم: [الكامل]
لا تبعدنّ كريمة أودعتها ... صهرا من الأصهار لا يخزيكا
إني لأرجو أن يكون صداقها ... من جنّة الفردوس ما يرضيكا (1)
لا تيأسنّ لها فقد زوّجتها ... كفؤا وضمّنت الصّداق مليكا
[في موت البنت]
وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: [الطويل]
لكل أبي بنت يرجّي بقاؤها ... ثلاثة أصهار إذا ذكر الصّهر
فبيت يغطيها، وبعل يصونها ... وقبر يواريها، وخيرهما القبر
وقال عقيل بن علفة وكان أغير العرب: [الرجز]
وإني وإن سيق إليّ المهر ... ألف وعبدان وذود عشر
أحبّ أصهاري إليّ القبر
ومنه أخذ عبيد الله، قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: دخل علينا ابن خلف البهراني فأنشدنا: [البسيط]
لولا أميمة لم أجزع من العدم ... ولم أجب في الليالي حندس الظلم
وزادني رغبة في العيش معرفتي ... أنّ اليتيمة يحفوها ذوو الرّحم
أحاذر الفقر يوما أن يلمّ بها ... فيهتك الستر عن لحم على وضم (2)
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا ... والموت أكرم نزّال على الحرم
وكانت أميمة بنت أخته، وكان قد تبنّاها، ثم غابت غيبة، فسألناه عنها، فأنشد:
[البسيط]
أمست أميمة مغمورا بها الرّجم ... لدى صعيد عليه التّرب مرتكم (3)
يا شقّة النفس، إنّ النفس والهة ... حرّى عليك، ودمع العين منسجم
__________
(1) الصّداق، بالفتح: مهر المرأة. القاموس المحيط (صدق).
(2) الوضم، بالفتح: ما وقيت به اللحم عن الأرض من خشب وحصير. القاموس المحيط (وضم).
(3) الرّجم، بالفتح: القبر. الصعيد: التراب أو وجه الأرض. القاموس المحيط (رجم) و (صعد).(1/432)
قد كنت أخشى عليها أن يؤخّرها ... عني الحمام فيبدي وجهها العدم (1)
فالآن نمت فلا همّ يؤرّقني ... تهدا العيون إذا ما أودت الحرم
فالآن نمت، فلا همّ يؤرّقني ... بعد الهدوء، ولا وجد ولا حلم
للموت عندي أياد لست أنكرها ... أحيا سرورا وبي ممّا أتى ألم
[من أخبار ابن الرومي]
عاد ذكر ابن الرومي وكان أبو الحسن عليّ بن سليمان الأخفش غلام أبي العباس المبرد في عصر ابن الرومي شابّا مترفا، ومليحا مستظرفا، وكان يعبث به، فيأتيه بسحر فيقرع الباب، فيقال له: من؟ فيقول: قولوا لأبي الحسن مرّة بن حنظلة، فيتطيّر لقوله، ويقيم الأيام لا يخرج من داره، وذلك كان سبب هجائه إياه، فمن أول ما عاتبه به:
[المنسرح]
قولوا لنحويّنا أبي حسن ... إن حسامي متى ضربت مضى
وإنّ نبلي إذا هممت بأن ... أرمي نصّلتها بجمر غضا
لا تحسبنّ الهجاء يحفل بال ... رفع ولا خفض خافض خفضا
ولا تخل عودتي كباديتي ... سأسعط السمّ من أبى الحضضا (2)
أعرف في الأشقياء بي رجلا ... لا ينتهي أو يصير لي غرضا
يليح لي صفحة السلامة وال ... سلم ويخفي في قلبه مرضا
أضحى مغيظا عليّ أن غضب ال ... لّه عليه، ونلت منه رضا
وليس تجدي عليه موعظتي ... إن قدّر الله حينه وقضى
كأنني بالشقيّ معتذرا ... إنّ القوافي أذقنه المضضا
ينشدني العهد يوم ذلك وال ... عهد خضاب إذا له قبضا
لا يأمننّ السفيه بادرتي ... فإنني عارض لمن عرضا
عندي له السوط إن تلوّم في ال ... سير وعندي اللّجام إن ركضا (3)
أسمعت إنباضتي أبا حسن ... والصفح لا شكّ نصح من محضا (4)
__________
(1) العدم، بالضم: الفقدان. القاموس المحيط (عدم).
(2) يقال: سعطه الدواء إذا أدخله في أنفه. الحضض، بضم الحاء وفتح الضاد: دواء نافع للأورام.
القاموس المحيط (سعط) و (حضض).
(3) تلوّم في الأمر: تمكّث وانتظر. القاموس المحيط (لوم).
(4) إنباضتي: صوتي يقال: أنبض بالوتر إذا جذبه ثم أرسله ليرنّ. محيط المحيط (نبض).(1/433)
وهو معافى من السهاد فلا ... يحمل فيمسي فراشه قضضا (1)
أقسمت بالله لا غفرت له ... إن واحد من عروقه نبضا
فاعتذر إليه، وتشفّع عنده بجماعة من أهل بغداد وكان الأخفش أكثر الناس إخوانا فقبل عذره، ومدحه بقصيدته التي يقول فيها: [الخفيف]
ذكر الأخفش القديم فقلنا: ... إنّ للأخفش الحديث لفضلا
وإذا ما حكمت والروم قومي ... في كلام معرّب كنت عدلا
أنا بين الخصوم فيه غريب ... لا أرى الزّور للمحاباة أهلا
ومتى قلت باطلا لم ألقّب ... فيلسوفا ولم أسمّ هرقلا
الأخفش القديم هو أبو الخطاب، وكان أستاذ سيبويه، وهو من المتقدمين في النحو، ويعرف بالأخفش الكبير، وكان في عصر سيبويه [أيضا] أبو الحسن سعيد بن مسعدة، وهو الأخفش الصغير، وهو الذي قال: كان سيبويه يعرض ما وضع من النحو عليّ، ويرى أني أعلم منه، وكان في وقته ذلك أعلم مني.
ثم عاد علي بن سليمان إلى أذاه، واتصل به أنّ رجلا عرض عليه قصيدة من شعره فطعن عليها، فقال قصيدته التي يقول فيها: [المنسرح]
أعتقت عبديّ في القريض معا ... عبدة والفحل من بني عبده
إن أنا لم أرم بالإساءة من ... زاغ عن القصد أو أبى سدده
قلت لمن قال لي عرضت على ... الأخفش ما قلته فما حمده
قصرت بالشعر حين تعرضه ... على مبين العمى إذا انتقده
أنشدته منطقي ليشهده ... فغاب عنه عمى وما شهده
ما بلغت بي الخطوب رتبة من ... تفهم عنه الكلاب والقرده
ولا أنا المفهم البهائم وال ... طير سليمان قاهر المرده
فإن يقل إنني حفظت فكالد ... فتر جهلا بكلّ ما اعتقده
سأسمع الناس ذمّه أبدا ... ما سمع الله حمد من حمده
عبدة بن الطيب، وعلقمة بن عبدة الفحل، وكانا شاعرين مجيدين، وقال علقمة ابن عبدة لرجل ورأى آخر يعتذر إليه وهو معبّس في وجهه: إذا اعتذر إليك المعتذر فتلقّه بوجه
__________
(1) القضض، بالفتح: ما تفتّت من الحصى. يقول: إن عينيه لا تعرفان النوم. القاموس المحيط (قضض).(1/434)
مشرق، وبشر مطلق لينبسط المتذلّل، ويؤمّن المتنصّل.
ولابن الرومي في الأخفش إفحاش صنت الكتاب عنه.
قال علي بن إبراهيم كاتب مسروق البلخي: كنت بداري جالسا فإذا حجارة سقطت بالقرب مني، فبادرت هاربا، وأمرت الغلام بالصعود إلى السطح، والنظر إلى كلّ ناحية من أين تأتينا الحجارة، فقال: امرأة من دار ابن الرومي الشاعر! قد تشوّفت وقالت: اتّقوا الله فينا، واسقونا جرّة من ماء، وإلّا هلكنا، فقد مات من عندنا عطشا.
فتقدمت إلى امرأة عندنا ذات عقل ومعرفة أن تصعد إليها وتخاطبها، ففعلت وبادرت بالجرّة، وأتبعتها شيئا من المأكول ثم عادت إليّ فقالت: ذكرت المرأة أنّ الباب عليها مقفل من ثلاث بسبب طيرة ابن الرومي، وذلك أنه يلبس ثيابه كلّ يوم، ويتعوّذ ثم يصير إلى الباب، والمفتاح معه، فيضع عينه على ثقب في خشب الباب، فتقع عينه على جار له كان نازلا بإزائه، وكان أحدب يقعد كل يوم على بابه، فإذا نظر إليه رجع وخلع ثيابه، وقال: لا يفتح أحد الباب.
فعجبت لحديثها، وبعثت بخادم كان يعرفه، فأمرته بأن يجلس بإزائه وكانت العين تميل إليه وتقدّمت إلى بعض أعواني أن يدعو الجار الأحدب فلّما حضر عندي أرسلت وراء غلامي لينهض إلى ابن الرومي، ويستدعيه الحضور فإني لجالس ومعي الأحدب إذ وافى أبو حذيفة الطّرسوسيّ ومعه برذعة الموسوس صاحب المعتضد، ودخل ابن الرومي، فلمّا تخطّى عتبة باب الصّحن عثر فانقطع شسع نعله (1)، فدخل مذعورا وكان إذا فاجأه الناظر رأى منه منظرا يدلّ على تغير حال فدخل وهو لا يرى جاره المتطيّر منه، فقلت له: يا أبا الحسن، أيكون شيء في خروجك أحسن من مخاطبتك للخادم، ونظرك إلى وجهه الجميل؟ فقال: وقد لحقني ما رأيت من العثرة لأني فكرت أنّ به عاهة! وهي قطع انثييه، قال برذعة: وشيخنا يتطيّر؟ قلت: نعم ويفرط، قال: ومن هو؟ قلت: علي بن العباس، قال: الشاعر؟ قلت: نعم، فأقبل عليه وأنشده: [الطويل]
ولما رأيت الدهر يؤذن صرفه ... بتفريق ما بيني وبين الحبائب
رجعت إلى نفسي فوطّنتها على ... ركوب جميل الصّبر عند النوائب
ومن صحب الدنيا على جور حكمها ... فأيامه محفوفة بالمصائب
فخذ خلسة من كل يوم تعيشه ... وكن حذرا من كامنات العواقب
__________
(1) الشّسع، بكسر الشين وسكون السين: قبال النّعل. القاموس المحيط (شسع).(1/435)
ودع عنك ذكر الفأل والزّجر واطّرح ... تطيّر جار أو تفاؤل صاحب
فبقي ابن الرومي باهتا ينظر إليه ولم أدر أنه شغل قلبه بحفظ ما أنشده، ثم قام أبو حذيفة وبرذعة معه، فحلف ابن الرومي لا يتطيّر أبدا من هذا ولا من غيره، وأومأ إلى جاره، فقلت: وهذا الفكر أيضا من التطيّر، فأمسك، وعجب من جودة الشعر ومعناه، وحسن مأتاه، فقلت له: ليتنا كتبناه؟ قال: اكتبه فقد حفظته، وأملاه عليّ.
ومن شدّة حذره، وعظيم تطيّره، قوله لأبي العباس بن ثوابة، وقد ندبه إلى الخروج إليه وركوب دجلة: [الطويل]
حضضت على حطبي لناري فلا تدع ... لك الخير، تحذيري شرور المحاطب
ومن يلق ما لاقيت في كلّ مجتنى ... من الشّوك يزهد في الثمار الأطايب
أذاقتني الأسفار ما كرّه الغنى ... إليّ، وأغراني برفض المطالب
ومن نكبة لاقيتها بعد نكبة ... رهبت اعتساف الأرض ذات المناكب
فصبري على الإقتار أيسر مطلبا ... عليّ من التّغرير بعد التّجارب
لقيت من البرّ التّباريح بعد ما ... لقيت من البحر ابيضاض الذّوائب
سقيت على ريّ به ألف مطرة ... شغفت لبغضيها بحبّ المجادب
ولم أبغها، بل ساقها لمكيدتي ... تلاعب دهر جدّ بي كالملاعب
أبى أن يغيث الأرض حتى إذا رمت ... برحلي أتاها بالغيوث السّواكب
سقى الأرض من أجلي فأضحت مزلّة ... تمايل صاحيها تمايل شارب
فملت إلى خان مرثّ بناؤه ... مميل غريق الثّوب لهفان لاغب (1)
فما زلت في جوع وخوف ووحشة ... وفي سهر يستغرق الليل واصب (2)
يؤرّقني سقف كأنيّ تحته ... من الوكف تحت المدجنات الهواضب (3)
يظلّ إذا ما الطيّن أثقل متنه ... تصرّ نواحيه صرير الجنادب
وكم خان سفر خان فانقضّ فوقهم ... كما انقضّ صقر الدّجن فوق الأرانب
وما زال ضاحي البرّ يضرب أهله ... بسوطي عذاب جامد بعد ذائب
فإن فاته قطر وثلج فإنّه ... رهين بساف تارة وبحاصب
فذاك بلاء البرّ عندي شاتيا ... وكم لي من صيف به ذي مثالب
__________
(1) اللاغب: اسم فاعل لغب أي أعيا أشدّ الإعياء. القاموس المحيط (لغب).
(2) السهر الواصب: الدائم. القاموس المحيط (وصب).
(3) الوكف: النّطع وهو بساط من الأديم. القاموس المحيط (وكف) و (نطع).(1/436)
ألا ربّ نار بالفضاء اصطليتها ... من الضّحّ يودي لفحها بالحواجب (1)
فدع عنك ذكر البرّ إني رأيته ... لمن خاف هول البحر شرّ المهارب
وما زال يبغيني الحتوف مواربا ... يحوم على قتلي وغير موارب
فطورا يغاديني بلصّ مصلّت ... وطورا يمسّيني بورد الشّوارب
وأمّا بلاء البحر عندي فإنه ... طواني على روع مع الرّوح واقب (2)
ولو ثاب عقلي لم أدع ذكر بعضه ... ولكنّه من هوله غير ثائب
ولم لا ولو ألقيت فيه وصخرة ... لوافيت منه القعر أوّل راسب
ولم أتعلّم قطّ من ذي سباحة ... سوى الغوص والمضعوف غير مغالب
وأيسر إشفاقي من الماء أنّني ... أمرّ به في الكوز مرّ المجانب
وأخشى الرّدى منه على كل شارب ... فكيف بأمنيه على نفس راكب؟
أخذه من قول أبي نواس وقد رأى التمساح بمصر أخذ رجلا (3): [البسيط]
أضمرت للنيل هجرانا ومقلية ... مذ قيل لي إنما التمساح في النيل
فمن رأى النيل رأي العين عن كثب ... فما أرى النيل إلّا في البراقيل (4)
رجع
[الطويل]
أظلّ إذا هزّته ريح ولألأت ... له الشمس أمواجا طوال الغوارب
كأني أرى فيهنّ فرسان بهمة ... يليحون نحوي بالسيوف القواضب (5)
فإن قلت لي قد يركب اليمّ طاميا ... ودجلة عند اليمّ بعض المذانب (6)
فلا عذر فيها لأمرىء هاب مثلها ... وفي اللّجّة الخضراء عذر لهائب
لدجلة خبّ ليس لليمّ إنّها ... تراىء بحلم تحته جهل واثب
تطامن حتّى تطمئنّ قلوبنا ... وتغضب من مزح الرّياح اللّواعب
__________
(1) الضّحّ، بكسر الضاد، وتشديد الحاء: الشمس. القاموس المحيط (ضحح).
(2) الواقب: اسم فاعل وقب يقال: وقبت الشمس إذا غابت. لسان العرب (وقب).
(3) ديوان أبي نواس (ص 561) في باب الهجاء.
(4) في الديوان: «العين من كثب في البواقيل». والبواقيل: جمع بوقال وهو كوز بلا عروة.
والبراقيل: جمع برقيل وهو الجلاهق يرمى به البندق. محيط المحيط (برقل).
(5) يليحون: يبدون. القاموس المحيط (لوح).
(6) المذانب: جمع مذنب وهو مسيل الماء إلى الأرض. القاموس المحيط (ذنب).(1/437)
ولليمّ إنذار بغوص متونه ... وما فيه من آذيّه المتراكب (1)
وهي طويلة، وفيما مرّ كفاية تنبىء عنه وتدلّ عليه، ولو مددت أطناب الاختيار لتتبّع هذا النحو من شعره لخرجت عن غرض الكتاب.
[في العيافة والزجر]
ومن مليح العيافة والزجر ما رواه الصّولي، قال: كان لأبي نواس إخوان لا يفارقهم، فاجتمعوا يوما في موضع أخفوه عنه، ووجّهوا إليه برسول معه ظهر قرطاس أبيض، لم يكتبوا فيه شيئا، فخزموه بزير (2)، وختموه بقار، وتقدموا إلى رسولهم ليرمي بالكتاب من وراء الباب فلمّا رآه استعلم خبرهم، وعلم أنه من فعلهم، فتعرّف موضعهم وآثارهم، فأتاهم فأنشدهم (3): [الوافر]
وجدت كتابكم لمّا أتاني ... يمرّ بسانح الطير الجواري
نظرت إليه مخزوما بزير ... على ظهر، ومختوما بقار
فقلت: الزّير ملهية ولهو ... وخلت القار من دنّ العقار
وخلت الظّهر أهيف قرطقيّا ... يحيل العقل منه بالحورار (4)
فهمت إليكم طربا وشوقا ... فما أخطأت داركم بدار
فكيف ترونني وترون وجدي ... ألست من الفلاسفة الكبار؟
وقال الطائي (5): [الكامل]
أتضعضعت عبرات عينك أن دعت ... ورقاء حين تضعضع الإظلام؟ (6)
لا تنشجنّ لها فإنّ بكاءها ... ضحك، وإن بكاءك استغرام (7)
هنّ الحمام وإن كسرت عيافة ... من حائهنّ فإنهنّ حمام
وروى يموت ابن المزرع قال: كان أحمد بن المدبر إذا مدحه شاعر فلم يرض شعره قال لغلامه: امض به إلى المسجد الجامع فلا تفارقه حتى يصلي مائة ركعة، ثم خلّه
__________
(1) الآذيّ: الموج. القاموس المحيط (أذي).
(2) خزمه: شكّه. الزّير: الدقيق من الأوتار. القاموس المحيط (خزم) و (زير).
(3) ديوان أبي نواس (ص 265) في باب الخمريات، وفي الديوان بعض الاختلاف عمّا هنا.
(4) القرطقيّ: الذي يلبس القرطق وهو ضرب من رقيق اللباس. لسان العرب (قرطق).
(5) ديوان أبي تمام (ص 247) من قصيدة في مدح المأمون.
(6) في الديوان: «تحدرت» بدل «أتضعضعت»، وهكذا ينكسر الوزن، والصواب: «أتحدرت».
(7) في الديوان: «تشجينّ» بدل «تنشجنّ».(1/438)
فتحاماه الشعراء، إلّا الأفراد المجيدين فجاءه أبو عبد الله الحسين بن عبد السلام المصري المعروف بالجمل، فاستأذنه في النشيد، فقال: قد عرفت الشّرط؟ قال: نعم، وأنشده: [الوافر]
أردنا في أبي حسن مديحا ... كما بالمدح ينتجع الولاة
فقلنا: أكرم الثقلين طرّا ... ومن كفّاه دجلة والفرات (1)
فقالوا: يقبل المدحات لكن ... جوائزه عليهنّ الصّلاة
فقلت لهم: وما تغني صلاتي ... عيالي! إنما الشأن الزّكاة
[فأما إذ أبى إلّا صلاتي ... وعاقتني الهموم الشاغلات]
فيأمر لي بكسر الصّاد منها ... فتصبح لي الصّلاة هي الصّلات
فضحك واستظرفه، وقال: من أين أخذت هذا؟ قال: من قول أبي تمام الطائي (2):
[الكامل]
هنّ الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهنّ فإنهنّ حمام (3)
فأحسن صلته.
وقال الأمير أبو الفضل الميكالي لقوم من أهل مرو انخلعوا عن طاعته: [الكامل]
يا راكبا أضحى يخبّ بعنسه ... ليؤمّ مرو على الطريق المهيع (4)
أبلغ بها قوما أثاروا فتنة ... ظلّت لها الأكباد رهن تقطّع
إذ أقدموا ظلما على سلطانهم ... بالغدر والخلع الذميم المفظع
وبحلّ عقد لوائه وإباحة ... لجنابه وحريمه المتمنّع
أبلغهم أني اتخذت لفعلهم ... فألا، له في القوم أسوأ موقع
أمّا اللّواء وحلّه فمخبّر ... عن حلّ عقد بينهم مستجمع
والخلع يخبر أن ستخلع عنهم ال ... أرواح بالقتل الأشدّ الأشنع
والغدر ينبىء أن تغادر في الوغى ... أشلاؤهم لنسوره والأضبع (5)
__________
(1) طرّا: جميعا. محيط المحيط (طرر).
(2) ديوان أبي تمام (ص 247) من قصيدة في مدح المأمون.
(3) العيافة: زجر الطير. محيط المحيط (عيف).
(4) العنس، بفتح العين وسكون النون: الناقة الصلبة. الطريق المهيع: البيّن الواضح. القاموس المحيط (عنس) و (هيع).
(5) الأضبع: جمع ضبع وهو حيوان كالسّبع. القاموس المحيط (ضبع).(1/439)
والفرقتان فشاهد معناهما ... بتفرّق لجميعهم وتصدّع
فتسمّعوا لمقالتي وتأهّبوا ... بذميم بغيكم لشرّ المصرع
فالله ليس بغافل عن أمركم ... حتى تحلّ بكم عقوبة موجع
قال أبو عثمان الجاحظ: سمعت النظام، وذكر عبد الوهاب الثّقفي، قال: هو أحلى من أمن بعد خوف، وبرء بعد سقم، ومن خصب بعد جدب، وغنى بعد فقر، ومن طاعة المحبوب، وفرج المكروب، ومن الوصال الدائم، والشباب الناعم.
[من أخبار الجاحظ]
وكان الجاحظ مائلا عن ابن أبي دواد إلى محمد بن عبد الملك الزيات، فلّما نكب محمد بن عبد الملك أدخل الجاحظ على ابن أبي دواد مقيّدا، فقال له أحمد (1): والله ما أعلمك إلّا متناسيا للنعمة، كفورا للصنّيعة، معددا للمساوي، وما فتّني باستصلاحي لك، ولكنّ الأيام لا تصلح منك لفساد طوّيتك، ورداءة دخيلتك، وسوء اختيارك، وتغالب طباعك.
فقال الجاحظ: خفّض عليك، أصلحك الله، فو الله لأن يكون لك الأمر عليّ خير من أن يكون لي عليك، ولأن أسيء وتحسن أحسن في الأحدوثة من أن أحسن فتسيء، ولأن تعفو عني على حال قدرتك عليّ أجمل بك من الانتقام مني، فعفا عنه.
[من أخبار عتبة بن أبي سفيان]
قال سعد مولى عتبة بن أبي سفيان: خطب عتبة الناس في الموسم سنة إحدى وأربعين، والناس إذ ذاك حديثو عهد بالفتنة فقال (2): قد ولينا هذا المقام الذي يضاعف فيه للمحسن الأجر، وللمسيء الوزر ونحن على سبيل قصد، فلا تمدّوا الأعناق إلى غيرنا فإنها تقطع دوننا فربّ متمنّ أمرا حتفه في أمنيته فاقبلوا منّا العافية ما قبلناها منكم وأنا أسأل الله أن يعين كلّا على كلّ.
فناداه أعرابيّ من ناحية المسجد: أيها الخليفة، فقال: لست به ولم تبعد، قال: يا أخاه، قال: سمعت فقل، فقال: والله لأن تحسنوا وقد أسأنا خير من أن تسيئوا وقد أحسنّا، فإن كان الإحسان منكم فما أولاكم بإتمامه، وإن كان منّا فما أولاكم بمكافأتنا
__________
(1) هو أحمد بن أبي داود. وهذه الحكاية في معجم الأدباء (ج 4ص 476) في ترجمة الجاحظ.
(2) هذه الخطبة في أمالي القالي (ج 1ص 240) ببعض الاختلاف عمّا هنا.(1/440)
عليه، وأنا رجل من بني عامر بن صعصعة يمتّ بالعمومة ويختصّ بالخؤولة، كثر عياله، ووطئه زمانه، [وبه فقر] وفيه أجر، وعنده شكر.
فقال له عتبة: أستغفر الله منك، وأستعين به عليك، وقد أمرت لك بغناك، فليت إسراعي إليك يقوم بإبطائي عنك!
[عود إلى الجاحظ]
قال الجاحظ: تشاغلت مع الحسن بن وهب أخي سليمان بن وهب بشرب النبيذ أياما، فطلبني محمد بن عبد الملك لمؤانسته، فأخبر باتصال شغلي مع الحسن ابن وهب، فتنكّر لي، وتلوّن عليّ فكتبت إليه رقعة نسختها: أعاذك الله من سوء الغضب، وعصمك من سرف الهوى، وصرف ما أعارك من القوّة إلى حبّ الإنصاف، ورجّح في قلبك إيثار الأناة، فقد خفت أيّدك الله! أن أكون عندك من المنسوبين إلى نزق (1) السفهاء، ومجانبة سبل الحكماء، وبعد، فقد قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت: [الطويل]
وإن أمرأ أمسى وأصبح سالما ... من الناس إلّا ما جنى لسعيد
وقال الآخر: [السريع]
ومن دعا الناس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحقّ وبالباطل
فإن كنت اجترأت عليك أصلحك الله! فلم أجترىء إلّا لأنّ دوام تغافلك عني شبيه بالإهمال، الذي يورث الإغفال، والعفو المتتابع يؤمن من المكافأة، ولذلك قال عيينة بن حصن بن حذيفة لعثمان رحمه الله: عمر كان خيرا لي منك، أرهبني فأتقاني، وأعطاني فأغناني، فإن كنت لا تهب عقابي أيدّك الله! لخدمة فهبه لأياديك عندي فإنّ النعمة تشفع في النّقمة، وإلّا تفعل ذلك لذلك فعد إلى حسن العادة، وإلّا فافعل ذلك لحسن الأحدوثة وإلّا فأت ما أنت أهله من العفو دون ما أنا أهله من استحقاق العقوبة، فسبحان من جعلك تعفو عن المتعمّد، وتتجافى عن عقاب المصرّ، حتى إذا صرت إلى من هفوته ذكر، وذنبه نسيان، ومن لا يعرف الشكر إلّا لك، والإنعام إلّا منك هجمت عليه بالعقوبة. واعلم أيّدك الله! أنّ شين غضبك عليّ كزين صفحك عني، وأنّ موت ذكري مع انقطاع سببي منك كحياة ذكرك مغ اتصال سببي بك، واعلم أنّ لك فطنة عليم، وغفلة كريم، والسلام.
__________
(1) النزق، بالفتح: الطيش. القاموس المحيط (نزق).(1/441)
[من حكم علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام]
قال عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه: أعجب ما في الإنسان قلبه، وله موادّ من الحكمة، وأضداد من خلافها فإن سنح له الرجاء أذلّه الطمع، وإن هاجه الطّمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ، وإن أسعد بالرضا نسي التحفظ، وإن أتاه الخوف شغله الحذر، وإن اتّسع له الأمن استلبته العزّة، وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع، وإن استفاد مالا أطغاه الغنى، وإن عضّته فاقة بلغ به البلاء، وإن جهد به الجوع قعد به الضّعف، وإن أفرط في الشبع كظّته البطنة (1)، فكلّ تقصير مضرّ، وكلّ إفراط له قاتل.
البيت الذي أنشده الجاحظ لعبد الرحمن بن حسان في أبيات يقول فيها: [الطويل]
متى ما يرى الناس الغنيّ وجاره ... فقير يقولوا: عاجز وجليد
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاظ قسّمت وجدود
وإن امرأ يمسي ويصبح سالما ... من الناس إلّا ما جنى لسعيد
والبيت الذي أنشده بعده لمحمد بن حازم الباهلي في أبيات يقول فيها: [السريع]
إن كنت لا ترهب ذمّي لما ... تعلم من صفحي عن الجاهل
فاخش سكوتي آذنا منصتا ... فيك لمسموع خنى القائل (2)
فسامع الشرّ شريك له ... ومطعم المأكول كالآكل
مقالة السوء إلى أهلها ... أسرع من منحدر سائل
ومن دعا الناس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحقّ وبالباطل
فلا تهج، إن كنت ذا إربة، ... حرب أخي التجربة الغافل
فإنّ ذا العقل إذا هجته ... هجت به ذا خبل خابل
تبصر في عاجل شدّاته ... عليك غبّ الضّرر الآجل
وفي ابن الزيات يقول الجاحظ: [المتقارب]
بدا حين أثرى لإخوانه ... ففلّل منهم شباة العدم
وأبصر كيف انتقال الزمان ... فبادر بالعرف قبل النّدم
__________
(1) كضّه الطعام: ملأه حتى لا يطيق النّفس. البطنة: الكضّة. القاموس المحيط (كضض) و (بطن).
(2) الخنى: الفحش في الكلام. محيط المحيط (خنى).(1/442)
[الجاحظ ورجل من البرامكة في مرضه]
قال بعض البرامكة: كنت أتقلّد السند، فاتصل بي أني صرفت عنها، وكنت كسبت ثلاثين ألف دينار، فخفت أن يفجأني الصارف، ويسعى إليه بالمال، فصغته عشرة آلاف إهليلجة (1) في كل إهليلجة ثلاثة مثاقيل، وجعلتها في رحلي، ولم أبعد أن جاء الصارف فركبت البحر، وانحدرت إلى البصرة فخبّرت أنّ بها الجاحظ، وأنه عليل فأحببت أن أراه قبل وفاته، فصرت إليه، فأفضيت إلى باب دار لطيف، فقرعته، فخرجت إليّ خادم صفراء، فقالت: من أنت؟ فقلت: رجل غريب أحبّ أن يدخل إلى الشيخ فيسرّ بالنظر إليه، فأدت ما قلت، وكانت المسافة قريبة لصغر الدهليز والحجرة، فسمعته يقول: قولي له: وما تصنع بشق مائل، ولعاب سائل، ولون حائل؟ فأخبرتني، فقلت: لا بدّ من الوصال إليه، فقال: هذا رجل قد اجتاز بالبصرة، فسمع بي وبعلّتي، فقال: أراه قبل موته لأقول: قد رأيت الجاحظ.
فدخلت فسلمت فردّ ردّا جميلا واستدناني، وقال: من تكون؟ أعزّك الله! فانتسبت له، فقال: رحم الله أباك وقومك الأسخياء الأجواد، الكرام الأمجاد، لقد كانت أيامهم روض الأزمنة، ولقد انجبر بهم خلق، فسقيا لهم ورعيا فدعوت له، وقلت: أنا أسأل الشيخ أن ينشدني شيئا من الشعر أذكره به، فأنشدني: [الطويل]
لئن قدّمت قبلي رجال فطالما ... مشيت على رسلي فكنت المقدّما (2)
ولكنّ هذا الدهر تأتي صروفه ... فتبرم منقوضا، وتنقض مبرما
ثم نهضت، فلمّا قاربت الدهليز صاح بي فقال: يا فتى، أرأيت مفلوجا ينفعه الإهليلج؟ فقلت: لا، قال: فأنا ينفعني الإهليلج الذي معك، فأنفذ إليّ منه، فقلت:
السمع والطاعة، وخرجت مفرط التعجّب من وقوعه على خبري، حتى كأنّ بعض أحبابي كاتبه بخبري حين صغته، فأنفذت إليه مائة إهليلجة.
المقامة الجاحظية مقامة من إنشاء البديع تتعلّق بذكر الجاحظ
قال: حدّثنا عيسى بن هشام قال: جمعتني مع رفقة وليمة، وأجبت إليها للحديث
__________
(1) الإهليلجة: ثمر منه أصفر ومنه أسود، والمراد الأصفر لأنه يشبه به الذهب، أي إنه صاغ الذهب على شكل الإهليلجة. القاموس المحيط (هلج).
(2) الرّسل، بكسر الراء وسكون السين: الرفق والتؤدة. القاموس المحيط (رسل).(1/443)
المأثور فيها عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت»، فأفضى بنا المسير إلى دار قد فرش بساطها، وبسطت أنماطها، ومدّ سماطها، وقوم قد أخذوا الوقت بين آس مخضود، وورد منضود، ودنّ مفصود، وناي وعود فصرنا إليهم وصاروا إلينا، ثم عكفنا على خوان (1) قد ملئت حياضه، ونوّرت رياضه، واصطفّت جفانه، واختلفت ألوانه فمن حالك بإزائه ناصع، ومن قان في تلقائه فاقع، ومعنا على الطعام رجل تسافر يده على الخوان، وتسفر بين الألوان، وتأخذ وجوه الرّغفان، وتفقأ عيون الجفان، وترعى أرض الجيران يزحم اللقمة باللقمة، ويهزم المضغة بالمضغة، وهو مع ذلك ساكت لا ينبس (2)، ونحن في الحديث نجري معه حتى وقف بنا على ذكر الجاحظ وخطابته، ووصف ابن المقفّع وذرابته (3)، ووافق أول الحديث آخر الخوان، وزلنا عن ذلك المكان، فقال الرجل: أين أنتم من الحديث الذي فيه كنتم، فأخذنا في وصف الجاحظ ولسنه، وحسن سننه في الفصاحة وسننه فيما عرفناه فقال: يا قوم، لكلّ عمل رجال، ولكل مقام مقال، ولكل دار سكّان، ولكل زمان جاحظ، ولو انتقدتم، لبطل ما اعتقدتم، فكلّ كشر له عن ناب الإنكار، وشمّ بأنف الإكبار، وضحكت إليه، لأجلب ما لديه، وقلت: أفدنا وزدنا، فقال: إنّ الجاحظ في أحد شقي البلاغة يقطف وفي الآخر يقف، والبليغ من لم يقصّر نظمه عن نثره، ولم يزر كلامه بشعره، فهل تروون للجاحظ شعرا رائعا؟ قلنا: لا، قال: فهلمّوا إلى كلامه فهو بعيد الإشارات، قريب العبارات، قليل الاستعارات، منقاد لعريان الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله، فهل سمعتم له بكلمة غير مسموعة، أو لفظة غير مصنوعة؟ فقلت: لا، فقال: هل تحبّ أن تسمع من الكلام ما يخفّف عن منكبيك، وينمّ على ما في يديك؟ فقلت: إي والله، قال: فأطلق لي عن خنصرك ما يعين على شكرك، فأنلته ردائي، فقال: [الطويل]
لعمر الذي ألقى إليّ ثيابه ... لقد كسبت تلك الثياب به مجدا
وقد قمرته راحة الجود بزّة ... فما ضربت قدحا ولا نصبت نردا
أعد نظرا يا من كساني ثيابه ... ولا تدع الأيام تهدمني هدّا
وقل للألى إن أسفروا أسفروا ضحى ... وإن طلعوا في غمّة طلعوا وردا
صلوا رحم العليا وبلوا لهاتها ... فخير النّدى ما سحّ وابله نقدا
__________
(1) الخوان، بكسر الخاء وضمّها: ما يؤكل عليه الطعام. القاموس المحيط (خون).
(2) ينبس: يتكلّم فيسرع. القاموس المحيط (نبس).
(3) الذّرابة، بفتح الذال: فساد اللسان وبذاؤه. القاموس المحيط (ذرب).(1/444)
قال عيسى بن هشام: فارتاحت الجماعة إليه، وانثالت الصّلات عليه، وقلت لما تآنسنا: من أين مطلع هذا البدر؟ فقال: [المجتث]
إسكندرية داري ... لو قرّ فيها قراري
لكنّ ليلي بنجد ... وبالحجاز نهاري
[ما قالته الملوك]
تظلمت رعيّة أردشير بن بابك إليه في سنة مجدبة لعجزهم عن الخراج، وسألته أن يخففه عنهم فكتب لهم ما نسخته: من أردشير المزيد بالبهاء، ابن الملوك العظماء، إلى الفقهاء الذين هم حفظة البيضة، والكتّاب الذين هم ساسة المملكة، وذوي الحرث الذين هم عمرة البلاد، أما بعد، فإنّا نحمد الله تعالى حمد الصالحين، وقد وضعنا عن رعيّتنا بفضل رأفتنا إتاوتنا الموظّفة عليهم سنتنا هذه، ونحن كاتبون مع ذلك نمليهم بوصية تنفع الكلّ: لا تستشعروا الحقد لئلّا يغلب عليكم العدوّ، ولا تحبّوا الاحتكار لئلّا يشملكم القحط، وكونوا للغرباء مؤوين، لتؤووا غدا في المعاد، وتزوّجوا في القرابة فإنه أحسن للرحم، وأثبت للنّسب، ولا تعدّوا هذه الدنيا شيئا فإنها لا تبقي على أحد، ولا ترفضوها مع ذلك فإن الآخرة لا تنال إلّا بها.
وقيل لبزر جمهر: أيّ الاكتساب أفضل؟ قال: العلم والأدب كنزان لا ينفدان، وسراجان لا يطفآن، وحلّتان لا تبليان من نالهما نال أسباب الرشاد وعرف طريق المعاد، وعاش رفيعا بين العباد.
وقال أنوشروان لبزر جمهر لمّا ظفر به: الحمد لله الذي أظفرني بك، قال له: فكافئه بما يحبّ كما أعطاك ما تحبّ. قال: وبم أكافئه يا فاسق؟ قال: بالعفو عمّن أظفرك به اليوم كما تحبّ أن يعفو عنك غدا.
ونظير هذا الكلام قد تقدّم لعليّ، رضي الله عنه.
وقيل لكسرى أيّ الملوك أفضل؟ قال: الذي إذا جاورته وجدته عليما، وإذا خبرته وجدته حكيما، وإذا أغضب كان حليما، وإذا ظفر كان كريما، وإذا استمنح منح جسيما، وإذا وعد وفى، وإن كان الوعد عظيما، وإذا شكي إليه وجد رحيما.
[من إنشاء الميكالي]
كتب الأمير أبو الفضل الميكالي إلى أبي منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل
الثعالبي كتابي وأنا أشكو إليك شوقا لو عالجه الأعرابي لما صبا إلى رمل عالج (1)، أو كابده الخليّ لانثنى على كبد ذات حرق ولواعج وأذمّ زمانا يفرّق فلا يحسن جمعا، ويخرق فلا ينوي رقعا، ويوجع القلب بتفريق شمل ذوي الوداد، ثم يبخل عليهم بما يشفي الصدور والأكباد قاسي القلب فلا يلين لاستعطاف، جائر الحكم فلا يميل إلى إنصاف، وكم أستعدي على صرفه وأستنجد، وأتلظّى غيظا عليه وأنشد: [الطويل](1/445)
كتب الأمير أبو الفضل الميكالي إلى أبي منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل
الثعالبي كتابي وأنا أشكو إليك شوقا لو عالجه الأعرابي لما صبا إلى رمل عالج (1)، أو كابده الخليّ لانثنى على كبد ذات حرق ولواعج وأذمّ زمانا يفرّق فلا يحسن جمعا، ويخرق فلا ينوي رقعا، ويوجع القلب بتفريق شمل ذوي الوداد، ثم يبخل عليهم بما يشفي الصدور والأكباد قاسي القلب فلا يلين لاستعطاف، جائر الحكم فلا يميل إلى إنصاف، وكم أستعدي على صرفه وأستنجد، وأتلظّى غيظا عليه وأنشد: [الطويل]
متى وعسى يثني الزمان عنانه ... بعثرة حال والزّمان عثور
فتدرك آمال وتقضى مآرب ... وتحدث من بعد الأمور أمور
وكلّا، فما على الدهر عتب، ولا له على أهله ذنب وإنما هي أقدار تجري كما شاء مجريها، وتنفذ كالسهام إلى مراميها فهي تدور بالمكروه والمحبوب، على الحكم المقدور والمكتوب، لا على شهوات النفوس وإرادات القلوب وإذا أراد الله تعالى أذن في تقريب البعيد النازح، وتسهيل الصّعب الجامح، فيعود الأنس بلقائك الإخوان كأتمّ ما لم يزل معهودا، ويجدّد للمذاكرة والمؤانسة رسوما وعهودا إنه الملبّي به، والقادر عليه.
وله إلى أبيه: ولو ملكت عنان اختياري، وأسعفني ببعض ما أقترحه القدر الجاري، لما غبت عن حضرته آنسها الله! ساعة من دهري، كما لا أعدّ ساعات بعدي عنها وإخلائي لبابها من أيام عمري ولكنت أبدا ماثلا بها في زمرة الخدم والعبيد، جامعا بها بين حاشيتي العزّ المديد، والشرف العتيد لا سيما في هذا الوقت وقد أشرقت البلاد بنور طلعته التي هي في ظلمة الدّهر صباح، وعزّ مطالعته التي فيها لصدور ذوي الشّنإ شجا ولزند الآمال اقتداح، ومعاودة ظلّه التي أضحت الشمس من حساده، والزمان من عدد ساكنيه وعتاده، إلّا أن الحريص كما علمه مولانا مخلى عن أعذب موارده، وممنوع بالعوائق عن أكرم مطالعه ومقاصده.
وله يستفتح مكاتبة بعض إخوانه:
أنا وإن لم تتقدّم بيني وبينه المكاتبة، وعادة المساجلة والمفاوضة، من فرط حرصي على افتتاحها وتعاطيها، واعتراض العوائق دون المراد والغرض فيها، فإن قلبي بودّه مغمور، وضميري على مصافاته مقصور، فاعتداده لفضائله التي أصبح فيها أوحديّ العنان، وزاحم فيها منكب العنان، واستأثر فيها بالغرر والأوضاح، ما أوفى بها على غرّة الصباح، حتى تشاهدت بها ضمائر القلوب، وتهادت أنباءها ألسنة البعيد والقريب، اعتداد
__________
(1) رمل عالج: جبال متواضعة يتصل أعلاها بالدهناء ويتسع اتساعا كثيرا حتى قيل رمل عالج يحيط بأكثر أرض العرب. محيط المحيط (علج).(1/446)
من يجمع بالاعتداد لها بين شهادة قلبه ولسانه، ومن ينظم في إجلال قدرها صفقة إسراره وإعلانه، فهو يتنسّم الريح إذا هبّت من ناحيته شوقا ونزاعا، ويستملي الوارد والصادر خبر سلامته انصياعا بالودّ إليه وانقطاعا.
شذور من كلامه في أثناء رسائل شتّى: أياديه التي غمرتني سجالها، واتّسع عندي مجالها، وأعيا شكري عفوها وانثيالها، تناولت فيها المنى دانية القطوف، واجتليت أنوار العيش مأمونة الكسوف، ليس يكاد يبرد غليل شوقي وحنيني، أو ترجع نافرة أنسي وسكوني، أو تخلو من الاهتمام والفكرة فيه خواطري وظنوني، إلّا بالتقاء يدنو أمده، ويقرب موعده، وتعلو على الفراق يده، فنعاود العيش طلقا غزيرا، ونجتني ثمر المنى غضّا نضيرا، ونجتلي وجه الزمان مشرقا منيرا. فوائده لها عندي أثر الغمام أو أنفع، ومحلّ السّماك أو أرفع. حالي في مفارقة حضرته حال بنات الماء قد نضب عنها الغدير، ونبات الأرض أخطأها النّوء المطير. لهفي على دهر الحداثة إذ غصن شبابي غضّ وريق، ونقل شرابي عضّ وريق. كلام أحلى من ريق النّحل، وأصفى من ريق الوبل. من تسوّد قبل وقته وآلته، فقد تعرّض لمقته وإذالته. نظمه له: [مجزوء الرمل]
إن من يلتمس الصّد ... ر بلا وقت وآله
لحقيق أن يلقّى ... كل مقت وإذاله
الشكل للكتاب، كالحلي للكعاب. لو كان الشباب فضّة لكان الشيب له خبثا.
النعمة عروس مهرها الشكر، وثوب صونه النّشر. الخضاب تذكرة الشباب. لا تقاس المهاوي بالمراقي، ولا الأقدام بالتّراقي، ولا البحور بالسواقي. كم أبلاني من عرف جزيل لا يبلي الدهر جدّة ردائه، وقضاني من دين تأميل لا يقضي الشكر حقّ نعمائه. الشكر للنعمة نتاج، والكفران لها رتاج، وكلّما زدت النعمة شكرا، زادت طيبا ونشرا.
قطعة من شعره في تجنيس القوافي
قال في أبيه: [الخفيف]
مبدعا في شمائل المجد خيما ... ما اهتدينا لأخذه واقتباسه (1)
فهو فظّ بالمال وقت نداه ... وجواد بالعفو في وقت باسه
__________
(1) الخيم، بكسر الخاء وسكون الياء: السجيّة. القاموس المحيط (خيم).(1/447)
وقال فيه: [الوافر]
إذا ما جاد بالأموال ثنّى ... ولم تدركه في الجود الندامه
وإن هجست خواطره بجمع ... لريب حوادث قال الندى مه (1)
وقال فيه: [المتقارب]
ولما تنازع صرف الزمان ... فزعنا إلى سيد نابه
إذا كشّر الدهر عن نابه ... كشفنا الحوادث عنّابه
وقيل فيه: [السريع]
إن نابنا خطب فآراؤه ... تغني عن الجيش وتسريبه
وإن دجا ليل بدا نوره ... للرّكب نجما فهو يسري به
وقال يفتخر: [المتقارب]
وكم حاسد لي انبرى فانثنى ... لعضّة نفس شجاها شجاها
ومن أين يسمو لنيل العلا ... وما بثّ مالا ولا راش جاها
ومنها قوله: [الوافر]
وسائلة تسائل عن فعالي ... وعمّا حاز في الدنيا جمالي
فقلت: إلى المعالي حنّ قلبي ... وفي سبل المكارم لجّ مالي
وللعلياء نهج مستقيم ... فما لي تاركا ذا النّهج ما لي
إذا أسرجت في فخر سما بي ... فعالي والنّجار فألجما لي
وقال في نوع من هذا الجنس: [الطويل]
ومن يسر فوق الأرض يطلب غاية ... من المجد يسري فوق جمجمة النّسر
ومن يختلف في العالمين نجاره ... فإنّا من العلياء نجري على نجر (2)
ومن يتّجر في المال يكسب ربحه ... فبالمال نشري رابح الحمد والنّشر
وعلى نحو هذا الحذو يقول أبو الفتح البستي: [الوافر]
أبا العباس، لا تحسب بأني ... لشيء من حلى الأشعار عار
__________
(1) مه: اسم فعل بمعنى اكفف. القاموس المحيط (مهه).
(2) النّجار، بكسر النون: الأصل، ومثله: النّجر. القاموس المحيط (نجر).(1/448)
ولي طبع كسلسال المجاري ... زلال من ذرا الأحجار جاري
إذا ما أكبت الأدوار زندا ... فلي زند على الأدوار واري
وقال أبو الفتح البستي أيضا: [الوافر]
بسيف الدولة اتّسقت أمور ... رأيناها مبدّدة النّظام
سما وحمى بني سام وحام ... فليس كمثله سام وحام
[ما قيل في الحاجب]
قال بعض الملوك لحاجبه: إنك عيني التي أنظر بها، وجنّتي التي أستنيم إليها وقد ولّيتك بأبي، فما تراك صانعا برعيّتي؟
قال: أنظر إليهم بعينك، وأحملهم على قدر منازلهم عندك، وأضعهم لك في إبطائهم عن بابك ولزومهم خدمتك مواضع استحقاقهم، وأرتّبهم حيث جعلهم ترتيبك، وأحسن إبلاغك عنهم، وإبلاغهم عنك.
قال: قد وفيت بما عليك قولا، إن وفيت به فعلا والله وليّ كفايتك ومعونتك.
قال المهدي للفضل بن الربيع: إني قد ولّيتك ستر وجهي وكشفه، فلا تجعل الستر بيني وبين خواصّي سببا لضغنهم بقبح ردّك، وعبوس وجهك، وقدّم أبناء الدعوة فإنهم أولى بالتقديم، وثنّ بالأولياء، واجعل للعامة وقتا إذا دخلوا أعجلهم ضيقه عن التلبّث، وصرفهم عن التمكّث.
وقال الحسن بن سهل: إذا كان الملك محتجبا عن الرعيّة، ولم ينزل الوزير نفسه منزلة تكون وسائل الناس إليه أنفسهم واستحقاقهم دون الشفاعات والحرمات، حتى يختصّ الفاضل دون المفضول، ويرتّب الناس على أقدارهم وأوزانهم ومعرفتهم، امتزج التدبير، واختلّت الأمور، ولم يميّز بين الصدور والأعجاز، والنواصي والأذناب، وكان الناس فوضى، ووهت أسباب الملك، وانتقضت مرائره، وشاعت سرائره، وإنّ أقرب ما أرجو به صلاح ما أتولّاه استماعي من المتنسّمين بأنفسهم، المتوسّلين بأفهامهم، المتوصّلين بكفايتهم، وابتذال نفسي لهم، وصبري عليهم، وتصفحي ما توسلوا به وانتحلوه من العقول والآداب، والحماية والكفاية. فمن ثبتت له دعواه أنزلته تلك المنزلة، ولم أتحيّفه حقّه، ولا نقصته حظّه، ومن قصّر عما ادّعى كانت منزلته منزلة المقصّرين، ولم أخيّب أمله من مقدار ما يستحقّه.
وقال بعض البلغاء: إذا أسدل الوالي على نفسه ستر الحجاب، وهي عمود تدبيره
واسترخت عليه حمائل الحزم، وازدلفت إليه وفود الذمّ، وتولّى عنه رشد الرّاجي، ونال أموره خلل الانتشار، وآفة الإهمال، وتسرّع إليه العائبون بلواذع ألسنتهم ودبيب قوارضهم.(1/449)
وقال بعض البلغاء: إذا أسدل الوالي على نفسه ستر الحجاب، وهي عمود تدبيره
واسترخت عليه حمائل الحزم، وازدلفت إليه وفود الذمّ، وتولّى عنه رشد الرّاجي، ونال أموره خلل الانتشار، وآفة الإهمال، وتسرّع إليه العائبون بلواذع ألسنتهم ودبيب قوارضهم.
وحجب سعيد بن عبد الملك عن عبيد الله بن سليمان فكتب إليه: سرت إلى بابك أعزّك الله عندما حدث من أمرك، فلم يقض لقاؤك، وعلمت أنّ ثقتك بما عندي، قد مثّلث لك حالي من السرور بنعمة الله عندك، وأرتك موضعي من الاعتداد بكلّ ما خصّك ووصل إليك، فوكلت العذر إلى ذلك. ثم إنّا نأتيك متيمّنين بطلعتك، مشتاقين إلى رؤيتك، فيحجبنا عنك ملاحظ. وهو كما علمت زنيم (1) الصنيعة، لئيم الطبيعة، يحجب عنك الكرام، ويأذن عليك للّئام، كلّما نجمت له يد بيضاء، أتبعها يدا سوداء فإن رأيت أعزّك الله أن تصرفه عن باب مكارمك فعلت، إن شاء الله.
وقال أبو السمط بن أبي حفصة: [الطويل]
فتى لا يبالي المدلجون بنوره ... إلى بابه ألّا تضيء الكواكب
له حاجب في كلّ خير يعينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب
أخذ البيت الأول من قول جده مروان بن أبي حفصة الأكبر: [الطويل]
إلى المصطفى المهديّ خاضت ركابنا ... دجى الليل يخبطن السّريح المخدّما (2)
يكون لها نور الإمام محمد ... دليلا به تسري إذا الليل أظلما
وقال إدريس بن أبي حفصة، وذكر إبلا: [البسيط]
لها أمامك نور تستضيء به ... ومن رجائك في أعناقها حادي
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الرّتوع وتلهيها عن الزّاد (3)
وأصله قول عمرو بن شأس الأسدي: [الطويل]
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا ... كفى لمطايانا بوجهك هاديا
أليس يزيد العيس خفّة أذرع، ... وإن كنّ حسرى، أن تكون أماميا (4)
__________
(1) الزّنيم: المستلحق في قوم ليس منهم، والدّعيّ. القاموس المحيط (زنم).
(2) الفرس السريح: العري. المخدّم: ذو الخدمة وهي السّير الغليظ المحكم مثل الحلقة تشدّ في رسغ البعير. القاموس المحيط (سرح) و (خدم).
(3) الرّتوع: الأكل والشرب. القاموس المحيط (رتع).
(4) حسرى: متعبة. القاموس المحيط (حسر).(1/450)
وقال بعض أهل العصر: [الطويل]
وليل وصلنا بين قطريه بالسّرى ... وقد جدّ شوق مطمع في وصالك
أربّت علينا من دجاه حنادس ... أعدن الطريق النهج وعر المسالك (1)
فناديت يا أسماء، باسمك، فانجلت ... وأسفر منها كلّ أسود حالك
بنا أنت من هاد نجونا بذكره ... وقد نشبت فينا أكفّ المهالك
منحتك إخلاصي وأصفيتك الهوى ... وإن كنت لمّا تخطريني ببالك
وقال القطامي: [الطويل]
ذكرتكم ليلا فنوّر ذكركم ... دجى الليل حتى انجاب عنه دياجره
فو الله ما أدري أضوء مسجّر ... لذكراكم أم يسجر الليل ساجره؟
وقال القيني: [الطويل]
وإني من القوم الذين هم هم ... إذا مات منهم سيّد قام صاحبه
نجوم سماء كلّما انقضّ كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظّم الجزع ثاقبه
وقال الحطيئة: [البسيط]
نمشي على ضوء أحساب أضأن لنا ... كما أضاءت نجوم اللّيل للسّاري
وقد ردّده في موضع آخر فقال: [الوافر]
هم القوم الذين إذا ألّمت ... من الأيام مظلمة أضاءوا
وكلام القاسم بن حنبل المدني من هذا، حيث يقول: [الوافر]
من البيض الوجوه بني سنان ... لو انك تستضيء بهم أضاءوا
فلو أنّ السماء دنت لمجد ... ومكرمة دنت لهم السماء
هم حازوا من الشّرف المعلّى ... ومن كرم العشيرة حيث شاءوا
وقال بعض المتقدمين: [الطويل]
إذا أشرقت في جنح ليل وجوههم ... كفوا خابط الظلماء فقد المصابح
وإن ناب خطب أو ألمّت ملمّة ... فكم ثمّ من آسي جراح وجارح
__________
(1) أربّت: جمعت وزادت. الحنادس: جمع حندس وهو الليل المظلم. القاموس المحيط (ربب) و (حندس).(1/451)
وقال أبو بديل الوضاح بن محمد التيمي في المستعين: [الطويل]
وقائلة والليل قد نشر الدّجى ... فغطّى بها ما بين سهل وقردد (1)
أرى بارقا يبدو من الجوسق الذي ... به حلّ ميراث النبيّ محمد (2)
أضاءت له الآفاق حتى كأنما ... رأينا بنصف الليل نور ضحى غد
فظلّ عذارى الحيّ ينظمن تحته ... سلوكا من الجزع الذي لم يسرّد
فقلت: هو البدر الذي تعرفونه ... وإلّا يكن فالنّور من وجه أحمد
[ما قيل في الاشتياق]
وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة في معنى قول عمرو بن شأس في حثّ الاشتياق (3): [الطويل]
خليليّ، ما بال المطايا كأنما ... تراها على الأعقاب بالقوم تنكص (4)
فقد أتعب الحادي سراهنّ، وانحنى ... بهنّ فما بالوا عجول مقلّص (5)
وقد قطّعت أعناقهنّ صبابة ... فأعينها ممّا تكلّف تشخص (6)
يزدن بنا قربا فيزداد شوقنا ... إذا ازداد قرب الدار والبعد ينقص (7)
وقال بعض الرجاز، وذكر إبلا: [الرجز]
إنّ لها لسائقا خدلّجا ... لم يدلج الليلة فيمن أدلجا (8)
يريد امرأة يحبّها فيحثّه ما يجده من الشوق على إجهاد مطاياه بالسوق. كما أنشد إسحاق الموصلي: [البسيط]
صبّ يحثّ مطاياه بذكركم ... وليس ينساكم إن حلّ أو سارا
__________
(1) القردد: ما ارتفع من الأرض. القاموس المحيط (قرد).
(2) الجوسق: القصر. القاموس المحيط (جسق).
(3) ديوان عمر بن أبي ربيعة (ص 218).
(4) في الديوان: «نراها على الأدبار بالقوم». ونكص على عقبيه: رجع عمّا كان عليه من خير.
القاموس المحيط (نكص).
(5) في الديوان: «وقد أتعب وانتحى لهنّ، فما يألو عجول».
(6) رواية عجز البيت في الديوان هي: فأنفسنا ممّا يلاقين مشخّص
(7) في الديوان: «إذا زاد طول العهد والبعد».
(8) الخدلّج: الممتلىء الذراعين والساقين. محيط المحيط (خدلج).(1/452)
لو يستطيع طوى الأيام نحوكم ... حتى يبيع بعمر القرب أعمارا
يرجو النّجاة من البلوى بقربكم ... والقرب يلهب في أحشائه نارا
هذا البيت يناسب أبيات ابن أبي ربيعة. يقول: كلما دنا ازداد حرصا على اللقاء.
وشخص إسحاق الموصلي إلى الواثق بسرّ من رأى، وأهله ببغداد، فتصيّد الواثق وهو معه إلى نواحي عكبراء (1)، فلمّا قرب من بغداد قال: [الوافر]
طربت إلى الأصيبية الصّغار ... وهاجك منهم قرب المزار
وكلّ مسافر يزداد شوقا ... إذا دنت الديار من الدّيار
ولحّنه وغنّاه الواثق، فاستحسنه وأطربه، فصرفه إلى بغداد على ما أحبّ وكان إسحاق قال أولا: [الوافر]
وكلّ مسافر يشتاق يوما ... إذا دنت الديار من الديار
فعابوا قوله «يوما»، وقالوا: هي لفظة قلقة في هذا الموضع، لم تحلّ بمركزها، ولا لها هنا موقع. قال: فضعوا مكانها مثلها لا خيرا منها. فما استطاعوا ذلك، فغيّرها إلى ما أنشدت أولا.
وقال أبو نواس (2): [الكامل]
أما الدّيار فقلّما لبثوا بها ... بين اشتياق العيس والرّكبان (3)
وضعوا سياط الشّوق فوق رقابها ... حتى طلعن بها على الأوطان (4)
وقال مخلد بن بكار الموصلي: [الطويل]
أقول لنضو أنفد السّير نيّها ... ولم يبق منها غير عظم مجلّد (5)
خدي بي ابتلاك الله بالشّوق والهوى ... وشاقك تحنان الحمام المغرّد (6)
__________
(1) عكبرا، بضم العين وسكون الكاف: بليدة من نواحي دجيل، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ، معجم البلدان (ج 4ص 142).
(2) ديوان أبي نواس (ص 292).
(3) رواية عجز البيت في الديوان هي: بين استياق العيس بالركبان
(4) في الديوان: «الشوق في أعناقها حتى اطّلعن بهم عن الأوطان».
(5) النّضو، بكسر النون وسكون الضاد: المهزول من الإبل. النّيّ، بفتح النون وتشديد الياء: الشحم.
القاموس المحيط (نضا) و (نوى).
(6) خدي: فعل أمر من الوخد وهو الإسراع للبعير. القاموس المحيط (وخد).(1/453)
فمرّت سريعا خوف دعوة عاشق ... تشقّ بي الموماة في كلّ فدفد (1)
فلمّا ونت في السير ثنّيت دعوتي ... فكانت لها سوطا إلى ضحوة الغد
وكان مخلد حلو الطبع، وهو القائل يمدح رجلا: [الرمل]
يطلع النّجم على صعدته ... فإذا واجه نحرا أفلا
معشر إن ظمئت أرماحهم ... أوردهنّ مجاجات الطلى
تحسن الألوان منهم في الوغى ... حين تستنكر للرّغب الحلى
سخط عبد الله يدني الأجلا ... ورضاه يتعدّى الأملا
يعشب الصّلد إذا سالمه ... وإذا حارب روضا أمحلا
[ملك لو نشّرت آلاؤه ... وأياديه على الليل انجلى]
حلّ بالبأس ابن عمرو منزلا ... طال حتى قصرت فيه العلا
حطّ رحلي في ذراه جوده ... وتمشّى في نداه الخيزلى (2)
[في الخطّ]
سئل بعض الكتاب عن الخطّ: متى يستحقّ أن يوصف بالجودة؟ فقال: إذا اعتدلت اقسامه، وطالت ألفه ولامه، واستقامت سطوره، وضاهى صعوده حدوره، وتفتّحت عيونه، ولم تشتبه راؤه ونونه، وأشرق قرطاسه، وأظلمت أنفاسه، ولم تختلف أجناسه، وأسرع إلى العيون تصوّره، وإلى العقول تثمّره، وقدّرت فصوله، واندمجت وصوله، وتناسب دقيقه وجليله، وخرج من نمط الورّاقين، وبعد عن تصنّع المحررين، وقام لصاحبه مقام النسبة والحلية، كان حينئذ كما قال صاحب هذا الوصف في صفة خط:
[المتقارب]
إذا ما تجلّل قرطاسه ... وساوره القلم الأرقش
تضمّن من خطّه حلّة ... كنقش الدنانير، بل أنقش
حروف تعيد لعين الكليل ... نشاطا ويقرؤها الأخفش
قال أبو هفّان: سألت ورّاقا عن حاله فقال: عيشي أضيق من محبرة، وجسمي أدقّ من مسطرة، وجاهي أرقّ من الزجاج، ووجهي عند الناس أشدّ سوادا من الحبر بالزّاج، وحظي أخفى من شقّ القلم، ويداي أضعف من قصبة، وطعامي أمرّ من العفص (3)
__________
(1) الموماة: الفلاة. الفدفد: الفلاة أيضا. القاموس المحيط (موا) و (فدفد).
(2) الخيزلى: مشية في تثاقل. القاموس المحيط (خزل).
(3) العفص: شجر من البلوط تحمل سنة بلوطا وسنة عفصا وهو دواء قابض مجفّف. القاموس المحيط (عفص).(1/454)
وشرابي أحرّ من الحبر، وسوء الحال ألزم لي من الصّمغ فقلت له: عبّرت عن بلاء ببلاء!
وقال الحمدوني: [البسيط]
ثنتان من أدوات العلم قد ثنتا ... عنان شأوي عمّا رمت من هممي
أمّا الدّواة فأدمى جرمها جسدي ... وقلّم الحظّ تحريف من القلم
وحبّرت لي صحف الحرف محبرة ... تذود عنّي سوام المال والنعم
والعلم يعلم أني حين آخذه ... لعصمتي نافر خلو من العصم
وللحمدوني في الحرفة أشعار مستظرفة، وكان مليح الافتنان، حلو التصرّف وهو إسماعيل بن إبراهيم بن حمدويه، وحمدويه جدّه، وهو صاحب الزنادقة في أيام الرشيد، والحمدوني القائل: [السريع]
من كان في الدنيا له شارة ... فنحن من نظّارة الدنيا
نرمقها من كثب حسرة ... كأننا لفظ بلا معنى
وقال: [الكامل]
قد قلت إذ خرجوا لكي يستمطروا: ... لا تقنطوا واستمطروا بثيابي
لو في حزيران هممت بغسلها ... غطّى ضياء الشمس جوّ سحاب
فكأنها العباس يستسقي به ... عمر فيرويهم دعاء مجاب (1)
[صنعة الأدب]
وقال آخر في المعنى الأول: [البسيط]
لمّا أجدت حروف الخط حرّفني ... عن كلّ حظّ وجاءت حرفة الأدب
أقوت منازل مالي حين وطّنها ... مخيّما سفط الأقلام والكتب
وقال يعقوب الخريمي: [البسيط]
ما ازددت في أدبي حرفا أسرّ به ... إلّا تزيدت حرفا تحته شوم
كذاك من يدّعي حذقا بصنعته ... أنّى توجّه فيها فهو محروم
ولما قتل المقتدر أبا العباس بن المعتز، وزعم أنه مات حتف أنفه، قال عليّ بن محمد بن بسام: [البسيط]
لله درّك من ميت بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب
__________
(1) يشير هنا إلى عمر بن الخطاب عندما استسقى بالعباس بن عبد المطلب، بعد أن احتبس المطر إثر انتقال النبي الكريم إلى الرفيق الأعلى، فسقاهم الله تعالى.(1/455)
ما فيه لوّ ولا ليت فينقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب
قال ابن الرومي: [الكامل]
يا ليت أهل البيت إذ حرموا ... عصموا من الشهوات والفتن
لكنهم حرموا وما عصموا ... فقلوبهم مرضى من الحزن
وهم أطبّ على بليّتهم ... من غيرهم بمضاضة الشّجن (1)
وقال جعفر بن محمد: إن الله وسّع أرزاق الحمقى ليعتبر العقلاء، ويعلموا أنّ الدنيا لا ينال ما فيها بعقل ولا حيلة ألا إنّ كسب المال بالحظّ، وحفظه بالعقل.
قال إبراهيم بن سيّار النظام: الذهب لئيم لأنّ الشكل يصير إلى شكله، وهو عند اللئام أكثر منه عند الكرام. قال المتنبي وأخذ هذا المعنى (2): [الوافر]
وشبه الشيء منجذب إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطّغام (3)
وكان النظام له نظر بوجوه التصرّف، وكان السلطان يصله بالكثير، وكان محظوظا فإذا اجتمع له مال حبس لنفسه بلغة (4)، وفرّق الباقي في أبواب المعروف فقيل له في ذلك، فقال: من حقّ المال عليّ أن أطلبه من معدنه، وأصيب به الفرصة عند أهله ومن حقّي عليه أن يقيني السوء بنفسه، ويصون عرضي بابتذاله، ولا يفعل ذلك إلّا بأن أسمح به ألا ترى ذا الغنى ما أدوم نصبه (5)، وأقلّ راحته، وأخسّ من ماله حظّه، وأشدّ من الأيام حذره، وأغرى الدهرّ بثلبه ونقصه، ثم هو بين سلطان يرعاه، وذوي حقوق يسبّونه وأكفاء ينافسونه، وولد يريدون فراقه، قد بعث عليه الغنى من سلطانه العناء، ومن أكفائه الحسد، ومن أعدائه البغي، ومن ذوي الحقوق الذمّ، ومن الولد الملال، وذو البلغة قنع فدام له السرور، ورفض الدنيا فسلم من المحذور، ورضي بالكفاف فتنكّبته الحقوق.
[أدوات الورّاق]
قال الصولي: أنشدني محمد بن أحمد بن إسحاق: [السريع]
أدمى البكا جفنيّ والمآقي ... فظلت ذا همّ وذا احتراق
__________
(1) المضاضة: وجع المصيبة. الشّجن: الهمّ والحزن. القاموس المحيط (مضض) و (شجن).
(2) ديوان المتنبي (ص 97).
(3) الطّغام، بالفتح: أوغاد الناس. القاموس المحيط (طغم).
(4) البلغة: ما يتبلّغ به من العيش. القاموس المحيط (بلغ).
(5) النّصب، بالفتح: التعب. القاموس المحيط (نصب).(1/456)
ما إن أرى في الأرض والآفاق ... أدنى ولا أشقى من الورّاق
إذا أتى في القمص الأخلاق ... رأيته مطيرة العشّاق (1)
يفرح بالأقلام والأوراق ... كفرحة الجندي بالأرزاق
وقال بعض الوراقين: [المتقارب]
إذا كنت بالليل لا أكتب ... وطول النهار أنا ألعب
فطورا يبطّلني مأكل ... وطورا يبطّلني مشرب
فإن دام هذا على ما أرى ... فبيتي أوّل ما يخرب
وقيل لورّاق: ما تشتهي؟ فقال: قلما مشّاقا، وحبرا برّاقا، وجلودا رقاقا. وكل امرىء فأمنيته على ما يطابق غريزته، ويوافق نحيزته (2).
[اللذات]
قال عليّ بن جبلة العكوك: قال الأصمعي: سئل امرؤ القيس: ما أطيب لذّات الدنيا؟ قال: بيضاء رعبوبة (3)، بالحسن مكبوبة، وبالشّحم مكروبة (4)، بالمسك مشبوبة.
وسئل الأعشى عن ذلك، فقال: صهباء (5) صافية، تمزجها ساقية، من صوب غادية (6).
وسئل طرفة عن ذلك، فقال: مركب وطيّ، وثوب بهيّ، ومطعم شهي.
قال العكوك: فحدّثت بهذا أبا دلف، فقال: [الخفيف]
أطيب الطيّبات قتل الأعادي ... واختيال على متون الجياد
ورسول يأبى بوعد حبيب ... وحبيب يأتي بلا ميعاد
وحدّثت بذلك حميدا الطوسي، فقال: [الطويل]
فلولا ثلاث هنّ من لذّة الفتى ... وجدّك، لم أحفل متى قام عوّدي
__________
(1) القمص: جمع قميص ويكون من قطن أو من صوف. الأخلاق: البالية، مفردها خلق. القاموس المحيط (قمص) و (خلق).
(2) النحيزة: الطبيعة. القاموس المحيط (نحز).
(3) الرّعبوبة: الجارية البيضاء الحسنة الحلوة. القاموس المحيط (رعب).
(4) المكروبة: الممتلئة. القاموس المحيط (كرب).
(5) الصهباء: الخمر. القاموس المحيط (صهب).
(6) الغادية: السحابة تنشأ غدوة. القاموس المحيط (غدا).(1/457)
فمنهنّ سبق العاذلات بشربة ... كميت، متى ما تعل بالماء تزبد (1)
وكرّي إذا نادى المضاف محنّبا ... كسيد الغضا ذي السّورة المتورّد (2)
وتقصير يوم الدّجن معجب ... ببهكنة تحت الخباء المعمّد (3)
الشعر لطرفة بن العبد.
وحدثت بذلك يزيد بن عبد الله، فقال: ما أدري ما قالوا، ولكني أقول: [المنسرح]
فاقبل من الدّهر ما أتاك به ... من قرّ عينا بعيشه نفعه
فكان أسدّهم.
والبيت للأضبط بن قريع، أنشده أبو العباس ثعلب، قال: وبلغني أن هذه الأبيات قيلت قبل الإسلام بدهر طويل (4): [المنسرح]
لكل ضيق من الأمور سعه ... والصبح والمسي لا فلاح معه (5)
ما بال من سرّه مصابك لا ... يملك شيئا من أمره وزعه
أذود عن حوضه ويدفعني ... يا قوم، من عاذري من الخدعه؟
حتى إذا ما انجلت عمايته ... أقبل يلحى وغيّه فجعه (6)
قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه
ويقطع الثوب غير لابسه ... ويلبس الثوب غير من قطعه
فاقبل من الدّهر ما أتاك به ... من قرّ عينا بعيشه نفعه
وصل حبال البعيد إن وصل ال ... حبل، وأقص القريب إن قطعه
ولا تعاد الفقير علّك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه
هذا البيت شبيه بما روي عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) الكميت: الخمر التي فيها سواد وحمرة. القاموس المحيط (كمت).
(2) المضاف في الحرب: من أحيط به. المحنّب: الفرس التي في وظيفيها وصلبها احديداب. السّيد، بكسر السين: الأسد. القاموس المحيط (ضيف) و (حنب) و (سيد).
(3) الدّجن: المطر الكثير. البهكنة: الشابة الغضّة. المعمّد: ذو الأعمدة. القاموس المحيط (دجن) و (بكهن) و (عمد).
(4) الأبيات في أمالي القالي (ج 1ص 108107).
(5) رواية البيت في الأمالي هي:
لكلّ همّ من الهموم سعه ... والمسي والصّبح لا فلاح معه
(6) العماية: الغواية واللجاج. القاموس المحيط (عمي).(1/458)
كثيرا ما يستنشدني قول اليهودي: [الكامل]
ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه ... يوما فتدركه العواقب قد نما (1)
يجزيك، أو يثنى عليك، وإنّ من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى
فأنشده، فيقول: إني فطن لها.
وكان الأضبط سيد بني سعد، وكانوا يشتمونه ويؤذونه، فانتقل إلى حيّ من العرب فوجدهم يؤذون سادتهم، فقال: حيثما أوجّه ألق سعدا! فذهبت مثلا. قال الطائي (2):
[الطويل]
فلا تحسبن هندا لها الغدر وحدها ... سجية نفس، كلّ غانية هند (3)
[وصف المحبرة والقلم]
قال بعض الكتاب يصف محبرة: [الكامل]
ولقد مضيت إلى المحدّث آنفا ... وإذا بحضرته ظباء رتّع (4)
وإذا ظباء الإنس تكتب كل ما ... يملى، وتحفظ ما يقول وتسمع
يتجاذبون الحبر من ملمومة ... بيضاء تحملها علائق أربع (5)
من خالص البلّور غيّر لونها ... فكأنها سبج يلوح ويلمع (6)
إن نكّسوها لم تسل، ومليكها ... فيما حوته عاجلا، لا يطمع
ومتى أمالوها لرشف رضابها ... أدّاه فوها وهي لا تتمنّع
وكأنها قلبي يضنّ بسرّه ... أبدا، ويكتم كلّ ما يستودع
يمتاحها ماضي الثّباة مذلّق ... يجري بميدان الطّروس فيسرع (7)
رجلاه رأس عنده لكنّه ... يلقاه برد حفاه ساعة يقطع
__________
(1) يريد أن يقول: قد يرجع الضعف إليك، وينتعش هو.
(2) ديوان أبي تمام (ص 107) من قصيدة مدح.
(3) في الديوان: «تحسبا» بدل «تحسبن».
(4) الظّباء الرّتّع: التي تأكل وتشرب ما تشاء في خصب وسعة. القاموس المحيط (رتع).
(5) الملمومة: المجتمعة المدوّرة المضمومة. القاموس المحيط (لمم).
(6) السّبج: الخرز الأسود. لسان العرب (سبج).
(7) يمتاحها: ينزعها ويصرعها. الشّباة: حدّ كل شيء. المذلّق: المحدّد. القاموس المحيط (متح) و (شبا) و (ذلق).(1/459)
وكأنّه والحبر يخضب رأسه ... شيخ لوصل خريدة يتصنّع
لم لا ألاحظه بعين جلالة ... وبه إلى الله الصحائف ترفع؟
وقال أبو الفتح كشاجم: [المنسرح]
محبرة جاد لي بها قمر ... مستحسن الخلق مرتضى الخلق
جوهرة خصّني بجوهرة ... ناطت له المكرمات في عنقي
بيضاء والحبر في قراراتها ... أسود كالمسك جدّ منفتق
مثل بياض العيون زيّنه ... مسودّ ما شابه من الحدق
كأنما حبرها إذا نثرت ... أقلامنا ظلّه على الورق
كحل مرته العيون من مقل ... نجل فأوفت به على يقق (1)
خرساء لكنّها تكون لنا ... عونا على علم أفصح النّطق
وقال عبد الله بن أحمد: القلم أمره (2)، ما لم يكتحل بإثمد الدّواة (3).
وكتب إبراهيم بن العباس كتابا فأراد محو حرف فلم يجد منديلا، فمحاه بكمّه فقيل له في ذلك، فقال: المال فرع، والعلم أصل وإنما بلغنا هذه الحال، واعتقدنا هذه الأموال (4) بهذا القلم والمداد، ثم قال: [الوافر]
إذا ما الفكر أضمر حسن لفظ ... وأدّاه الضمير إلى العيان
ووشّاه ونمنمه مسدّ ... فصيح بالمقال وباللّسان (5)
رأيت حلى البيان منوّرات ... تضاحك بينها صور المعاني
ألفاظ لأهل العصر في أوصاف آلات الكتابة والدويّ والأقلام.
الدواة من أنفع الأدوات، وهي للكتابة عتاد، وللخاطر زناد، غدير لا يرده غير الأفهام، ولا يمتح بغير أرشية الأقلام (6)، دواة أنيقة الصّنعة، رشيقة الصبغة، مسكيّة الجلد، كافورية الحلية. غدير تفيض ينابيع الحكمة من أقطاره، وتنشأ سحب البلاغة من
__________
(1) مرت العيون الكحل: استخرجته. اليقق: الأبيض. القاموس المحيط (مرى) و (يقق).
(2) الأمره: وصف من المره وهو خلوّ العين من الكحل. القاموس المحيط (مره).
(3) الإثمد: حجر للكحل. القاموس المحيط (ثمد).
(4) اعتقد المال: اقتناه. القاموس المحيط (عقد).
(5) المسدّي: اسم فاعل سدّى الثوب: أي جعل له سدى، وسدى الثوب: ما مدّ منه. القاموس المحيط (سدى).
(6) الأرشية: جمع رشاء وهو في الأصل: الحبل. القاموس المحيط (رشا).(1/460)
قراره. دواة تداوي مرض عفاتك، وتدوي قلوب عداتك، على مرفع يؤذن بدوام رفعتك، وارتفاع النوائب عن ساحتك، ومداد كسواد العين، وسويداء القلب، وجناح الغراب، ولعاب الليل، وألوان دهم الخيل. وهذا من قول ابن الرومي: [الرجز]
حبر أبي حفص لعاب الليل ... كأنه ألوان دهم الخيل
قال العاصر: مداد ناسب خافية (1) الغراب، واستعار لونه من شرخ الشباب، وأقلام جمّة المحاسن، بعيدة من المطاعن، تعاصي الكاسي، وتمانع الغامز القاسي. أنابيب ناسبت رماح الخطّ في أجناسها، وشاكلت الذهب في ألوانها، وضاهت الحديد في لمعانها كأنها الأميال استواء، والآجال مضاء، بطيئة الحفى، قوية القوى، لا يشظّيها (2)
القطّ، ولا يتشعّب بها الخطّ. أقلام بحرية موشيّة اللّيط (3)، رائقة التخطيط. قلم معتدل الكعوب، طويل الأنبوب، باسق الفروع، رويّ الينبوع، هو أولى باليد من البنان، وأخفى للسرّ من اللّسان. هو للأنامل مطيّة، وعلى الكتابة معونة مرضيّة. نعم العدّة القلم: يقلم أظافر الدّهر، ويملك الأقاليم بالنّهي والأمر، إن أردت كان مسجونا لا يملّ الإسار، وإن شئت كان جوادا جاريا لا يعرف العثار، لا ينبو إذا نبت الصّفاح (4)، ولا يحجم إذا أحجمت الرّماح.
قال أبو الفتح كشاجم، يصف محبرة ومقلمة وأقلاما وسكينا: [الرجز]
جسمي من اللهو وآلات الطّرب ... ومن عتاد وثراء ونشب (5)
ومن مدام ومثان تصطحب ... وهمّة طمّاحة إلى الرّتب
مجالس مصونة من الرّيب ... معمورة من كلّ علم وأدب
تكاد من حرّ الحديث تلتهب ... شعرا وأخبارا ونحوا يقتضب
ولغة تجمع ألفاظ العرب ... وفقرا كالوعد في قلب المحب
أو كتأتّي الرزق من غير طلب ... أجل، وحسبي من دويّ تنتخب
محلّيات بلجين وذهب ... محبرة يزهى بها الحبر الألبّ (6)
__________
(1) خافية الغراب: إحدى ريشاته التي إذا ضمّ الغراب جناحيه خفيت، القاموس المحيط (خفي).
(2) شظّاه: جعل شظاياه تتطاير. القاموس المحيط (شظى).
(3) اللّيط، بكسر اللام: قشر كلّ شيء. القاموس المحيط (ليط).
(4) الصّفاح: جمع صفح، والصّفح من السيف: عرضه، والمراد السيوف. القاموس المحيط (صفح).
(5) النّشب، بالفتح: المال الأصيل. القاموس المحيط (نشب).
(6) الحبر، بكسر الحاء وسكون الباء. العالم. القاموس المحيط (حبر).(1/461)
مثقوبة آذانها، وفي الثّقب ... مثل شنوف الخرّد البيض العرب (1)
تضمن قطرا للكتب عشب ... أسود يجري بمعان كالشهب
لا تنضب الحكمة إلّا إن نضب ... نيطت إلى يسرى يديّ بسبب
كالقرط في الجيد تدلّى فاضطرب ... تصحبها، والأخوات تصطحب
كأنه يودع نبلا من قصب ... لم يعلها ريش ولم تحمل عقب (2)
لا تضحك الأوراق حتى ينتحب ... ترمي بها يمناي أعراض الكتب
رميا متى أقصد به السّمت أصب ... ومدية كالعضب ما مسّ القصب
غضبى على الأقلام من غير سبب ... تسطو بها في كلّ حين وتثب
وإنما ترضيك في ذاك الغضب ... فتلك آلاتي، وآلاتي تحبّ
والظّرف في الآلات ممّا يستحبّ ... لا سيّما ما كان منها للأدب
[من أخبار الخليفة المأمون]
تظلم رجل إلى المأمون من عامل له، فقال: يا أمير المؤمنين، ما ترك لي فضّة إلّا فضّها، ولا ذهبا إلّا ذهب به، ولا غلّة إلّا غلّها، ولا ضيعة إلّا أضاعها، ولا علقا (3) إلّا علقه، ولا عرضا إلّا عرض له، ولا ماشية إلّا امتشّها (4)، ولا جليلا إلّا أجلاه، ولا دقيقا إلّا أدقّه، فعجب من فصاحته وقضى حاجته.
قال عمرو بن سعد بن سلم: كانت عليّ نوبة أنوبها في حرس المأمون، فكنت في نوبتي ليلة فخرج متفقّدا من حضر، فعرفته ولم يعرفني، فقال: من أنت؟ قلت: عمرو، عمرك الله، ابن سعيد، أسعدك الله، ابن سلم، سلّمك الله. فقال: تكلؤنا منذ الليلة.
قلت: الله يكلؤك قبلي، وهو خير حافظا وهو أرحم الراحمين.
فقال المأمون: [الرجز]
إنّ أخاك الحقّ من يسعى معك ... ومن يضرّ نفسه لينفعك
ومن إذا صرف زمان صدعك ... بدّد شمل نفسه ليجمعك
__________
(1) العرب، بالضم: جمع عروب وهي المرأة المتحبّبة إلى زوجها. القاموس المحيط (عرب).
(2) العقب، بالفتح: العصب تعمل منه الأوتار. القاموس المحيط (عقب).
(3) العلق، بكسر العين وسكون اللام: النفيس من كل شيء. القاموس المحيط (علق).
(4) امتشّها: أخذ جميعها. القاموس المحيط (مشش).(1/462)
[وصف الروض والزهور]
وقال علي بن العباس الرومي: [الكامل]
خجلت خدود الورد من تفضيله ... خجلا تورّدها عليه شاهد
لم يخجل الورد المورّد لونه ... إلّا وناحله الفضيلة عاند
للنرجس الفضل المبين إذا بدا ... بين الرياض طريفه والتّالد
وكان ابن الرومي متعصبا للنرجس، كثير الذمّ للورد، وكتب إلى أبي الحسن ابن المسيب: [الكامل]
أدرك ثقاتك إنّهم وقعوا ... في نرجس معه ابنة العنب
فهم بحال لو بصرت بها ... سبّحت من عجب ومن عجب
ريحانهم ذهب على درر ... وشرابهم درّ على ذهب
في روضة شتويّة رضعت ... درّ الحيا حلبا على حلب
واليوم مدجون فحرّته ... فيه بمطّلع ومحتجب (1)
ظلت تسامرنا وقد بعثت ... ضوءا يلاحظنا بلا لهب
وكان كسرى أنو شروان مستهترا (2) بالنّرجس، وكان يقول: هو ياقوت أصفر، بين درّ أبيض، على زمرّد أخضر، نقله بعض المحدثين فقال: [الطويل]
وياقوتة صفراء في رأس درّة ... مركّبة في قائم من زبرجد
كمثل بهيّ الدّرّ عقد نظامها ... نثير فرند قد أطاف بعسجد
كأنّ بقايا الطّلّ في جنباتها ... بقية دمع فوق خدّ مورّد
رجع إلى ابن (3) الرومي: [الكامل]
فصل القضية أنّ هذا قائد ... زهر الرّبيع وأنّ هذا طارد
شتّان بين اثنين: هذا موعد ... بتصرّم الدنيا، وهذا واعد
فإذا احتفظت به فأمتع صاحب ... بحياته، لو أن حيّا خالد
ينهى النديم عن القبيح بلحظه ... وعلى المدامة والسّماع يساعد
__________
(1) المدجون: الكثير المطر. حرّة اليوم: وجهه، أي شمسه. لسان العرب (دجن) و (حرر).
(2) المستهتر بالشيء: المولع به. القاموس المحيط (هتر).
(3) في الأصل: «ابن».(1/463)
اطلب بعقلك في الملاح سميّه ... أبدا فإنك لامحالة واجد
والورد إن فتّشت فرد في اسمه ... ما في الملاح له سمّي واحد
هذي النجوم هي التي ربّينها ... بحيا السحاب كما يربّي الوالد (1)
فانظر إلى الولدين، من أدناهما ... شبها بوالده فذاك الماجد
أين الخدود من العيون نفاسة ... ورياسة، لولا القياس الفاسد؟
وقد ناقضه جماعة من البغداديين وغيرهم في هذا المذهب، وذهبوا إلى تفضيل الورد فما دانوه وما استطاعوه.
قال أحمد بن يونس الكاتب رادّا عليه: [الكامل]
يا من يشبّه نرجسا بنواظر ... دعج، تنبّه إنّ فهمك راقد
إنّ القياس لمن يصحّ قياسه، ... بين العيون وبينه متباعد
والورد أصدق للخدود حكاية ... فعلام تجحد فضله يا جاحد؟
ملك قصير عمره مستأهل ... تخليده، لو أنّ حيّا خالد
إن قلت إنّ الورد فرد في اسمه ... ما في الملاح له سميّ واحد
فالشمس تفرد باسمها والمشتري ... والبدر يشرك في اسمه وعطارد
أو قلت إنّ كواكبا ربينها ... بحيا السّحاب كما يربّي الوالد
قلنا أحقّهما بطبع أبيه في ال ... جدوى هو الزّاكي النجيب الرّاشد
زهر النّجوم تروقنا بضيائها ... ولها منافع جمّة وعوائد
وكذلك الورد الأنيق يروقنا ... وله فضائل جمّة وفوائد
وخليفه إن غاب ناب بنفعه ... وبنفحه أبدا مقيم راكد
إن كنت تنكر ما ذكرنا بعد ما ... وضحت عليه دلائل وشواهد
انظر إلى المصفرّ لونا منهما ... وافطن فما يصفرّ إلّا الحاسد
نبذ من النظم والنثر في صفات النّور والزهر
قال عليّ بن الجهم: [البسيط]
لم يضحك الورد إلّا حين أعجبه ... حسن الرّياض وصوت الطائر الغرد
يدا فأبدت لنا الدّنيا محاسنها ... وراحت الرّاح في أثوابها الجدد
__________
(1) حيا السّحاب: ماؤه. القاموس المحيط (حيي).(1/464)
وقابلته يد المشتاق تسنده ... إلى الترائب والأحشاء والكبد (1)
كأنّ فيه شفاء من صبابته ... أو مانعا جفن عينيه من السّهد
بين النّديمين والخلّين مصرعه ... وسيره من يد موصولة بيد
ما قابلت طلعة الرّيحان طلعته ... إلّا تبيّنت فيه ذلّة الحسد
قامت بحجّته ريح معطّرة ... تشفي القلوب من الأوصاب والكمد (2)
لا عذّب الله إلّا من يعذّبه ... بمسمع بارد أو صاحب نكد (3)
وكان أردشير بن بابك يصف الورد ويقول: هو درّ أبيض، وياقوت أحمر، على كراسي زبرجد أخضر، توسطه شذور من ذهب أصفر، له رقة الخمر، ونفحات العطر، أخذه محمد بن عبد الله بن طاهر فقال: [البسيط]
كأنهنّ يواقيت يطيف بها ... زمرّد وسطه شذر من الذّهب
فاشرب على منظر مستظرف حسن ... من خمرة مزّة كالجمر في اللهب
وقال يزيد المهلبي: أحبّ المتوكل أن ينادمه الحسين بن الضحاك، الخليع البصري، وأن يرى ما بقي من ظرفه وشهوته لما كان عليه فأحضره وقد كبر وضعف، فسقاه حتى سكر، وقال لخادمه شفيع: اسقه فسقاه وحيّاه بوردة، وكانت على شفيع أثواب، فمدّ الحسين يده إلى درع شفيع، فقال المتوكل: أتخمش غلامي بحضرتي؟ كيف لو خلوت به! ما أحوجك يا حسين إلى أدب! وكان المتوكل غمز شفيعا على العبث به، فقال حسين: سيدي، أريد دواة وقرطاسا فأمر له بهما، فكتب: [الطويل]
وكالوردة البيضاء حيّا بأحمر ... من الورد يسعى في قراطق كالورد (4)
له عبثات عند كلّ تحيّة ... بكفّيه يستدعي الخليّ إلى الوجد
تمنّيت أن أسقى بكفّيه شربة ... تذكرني ما قد نسيت من العهد
سقى الله عيشا لم أنم فيه ليلة ... من الدهر إلّا من حبيب على وعد
ثم دفع الرقعة إلى شفيع، وقال: ادفعها إلى مولاك فلمّا قرأها استملحها، وقال:
لو كان شفيع ممن تجوز هبته لوهبته لك، ولكن بحياتي يا شفيع إلّا كنت ساقيه بقيّة يومه! وأمر له بمال كثير حمل معه لما انصرف.
__________
(1) الترائب: عظام الصدر. القاموس المحيط (ترب).
(2) الأوصاب: جمع وصب وهو المرض. القاموس المحيط (وصب).
(3) المسمع: المغنيّ. لسان العرب (سمع).
(4) القراطق: جمع قرطق وهو ضرب من اللباس. لسان العرب (قرطق).(1/465)
قال يزيد المهلبي: فصرت إلى الحسين بعد انصرافه من عند المتوكل بأيام، فقلت:
ويحك! أتدري ما صنعت؟ قال: لا أدع عادتي بشيء، وقد قلت بعدك: [مجزوء الخفيف]
لا رأى عطفة الأحب ... بة من لا يصرح
أصغر الساقيين أش ... كل عندي وأملح
لو تراه كالظبي يس ... نح طورا ويبرح
خلت غصنا على كثي ... ب بنور يوشّح
قال الصولي: وكأن الأول من أبيات الحسن من قول العباس بن الأحنف: [الكامل]
بيضاء في حمر الثياب كوردة ... بيضاء بين شقائق النعمان
تهتزّ في غيد الشباب إذا مشت ... مثل اهتزاز نواعم الأغصان
قال أبو بكر الصولي: كان عند الخصي الوزير ظبي داجن ربيب في داره، فعمد إلى نيلوفر فأكله، فاستملح الغزال وأنسه، وقال: لو عمل في أنس هذا الغزال وفعله بالنيلوفر لاشتمل العمل على معنى مليح! فبلغ الخبر أبا عبد الله إبراهيم ابن محمد بن عرفة نفطويه، فبادر لئلّا يسبق، وعمل أبياتا أولها: [الطويل]
جرت ظبية غنّاء ترعى بروضة ... تنوش لدى أفنانها ورقا خضرا (1)
في أبيات غير طائلة، فاستبرد ما أتى به، قال الصولي: فقلت: [الطويل]
ونيلوفر يحكي لنا المسك طيبه ... تراه على اللذّات أفضل مسعد
قد اجتنّ خوف الحادثات بجنّة ... تروق كثوب الراهب المتعبّد
تركّب كالكاسات في ذهبيّة ... على قضب مخضرّة كالزّبرجد
وألبس ثوبا يفضل اللّحظ حسنه ... كما عبثت عين بخدّ مورّد
غذته أهاضيب السماء بدرّها ... تروح عليه كلّ يوم وتغتدي
تلبّس للأنوار ثوب سمائه ... ففضّل عنه الحسن في كلّ مشهد
وفي وسطه منه اصفرار يزينه ... كياقوتة زرقاء في رأس عسجد
أطاف به أحوى المدامع شادن ... حكى طرف من أهوى وحسن المقلّد (2)
كما أخذ الظمآن بالفم كاسه ... ولم يستعن في أخذه الكاس باليد
__________
(1) تنوش: من النّوش وهو التناول. القاموس المحيط (نوش).
(2) الأحوى: الأسود أو الأحمر إلى السواد. المقلّد: موضع القلادة. القاموس المحيط (حوى) و (قلد).(1/466)
وقال أبو محمد الحسن بن علي بن وكيع: [الكامل]
يوم أتاك بوجهه المتهلّل ... ناهيك من يوم أغرّ محجّل
خلع الغمام على اخضرار سمائه ... خلعا فبين ممسّك ومصندل
وكسا الرّبى حللا تخالف شكلها ... بمورّد ومعصفر ومكحّل
وتمايلت فيه قدود غصونه ... من شرب كاسات العيون الهطّل
وعلا على الأشجار قطر سمائها ... فهدت لعين الناظر المتأمّل
يحكي قباب زمرّد قد كلّلت ... بمنظّم من لؤلؤ ومفصّل
وأتاك نور الباقلاء كأنما ... يرنو إليك بعين أكحل أقبل (1)
الورد يخجل كلّ نور طالع ... وتراه منتقبا بحمرة مخجل
وحكى بياض الطّلع في كافوره ... وجه الخريدة في الخمار الصّندلي
فكأنما الدنيا عروس أقبلت ... في كل أنواع الملابس تجتلي
فاشرب معصفرة القميص سلافة ... من صنعة البردان أو قطربّل (2)
وقال أبو الفتح البستي: [الكامل]
يوم له فضل على الأيام ... مزج السّحاب ضياءه بظلام
فالبرق يخفق مثل قلب هائم ... والغيم يبكي مثل طرف هام
وكأنّ وجه الأرض خدّ متيّم ... وصلت سجام دموعه بسجام
فاطلب ليومك أربعا: هنّ المنى ... وبهنّ تصفو لذّة الأيام
وجه الحبيب، ومنظرا مستشرقا، ... ومغنّيا غردا، وكأس مدام
وقال الأمير أبو الفضل الميكالي: [الكامل]
سلّ الربيع على الشّتاء صوارما ... تركته مجروحا بلا إغماد (3)
وبكت له عين السماء بأدمع ... ضحكت لساجمها ربى الأنجاد
وبدت شقائقها خلال رياضها ... تزهى بثوبي حمرة وسواد
فكأنها بنت الشتاء توجّعت ... لمصابه كشقيقة الأولاد
فقنوء حمرتها خضاب نجيعه ... وسواد كسوتها لباس حداد
__________
(1) الأقبل: الذي ينظر إلى طرف أنفه. القاموس المحيط (قبل).
(2) البردان، بفتح الباء: من قرى بغداد، على سبعة فراسخ منها. معجم البلدان (ح 1ص 375).
وقطربّل، بضم القاف وسكون الطاء وفتح الراء وضم الباء المشدّدة: قرية بين بغداد وعكبرا، ينسب إليها الخمر، وقد أكثر الشعراء من ذكرها. معجم البلدان (ج 4ص 371).
(3) الصوارم: جمع صارم وهو السيف القاطع. القاموس المحيط (صرم).(1/467)
وقال: [الطويل]
تصوغ لنا كفّ الربيع حدائقا ... كعقد عقيق بين سمط لآلي
وفيهنّ أنوار الشقائق قد حكت ... خدود عذارى نقّطت بغوالي (1)
وقال: [المتقارب]
كأنّ الشقائق إذ أبرزت ... غلالة داد وثوبا أحمّ (2)
قطاع من الجمر مشبوبة ... فأطرافها لمع من حمم
وقال في حديقة ريحان: [الكامل]
أعددت محتفلا ليوم فراغي ... روضا غدا إنسان عين الباغي (3)
روض يروض هموم قلبي حسنه ... فيه لكأس الأنس أيّ مساغ
فإذ بدت قضبان ريحان به ... حيّت بمثل سلاسل الأصداغ
وقال في النرجس: [المجتث]
أهلا بنرجس روض ... يزهى بحسن وطيب
يرنو بعيني غزال ... على قضيب رطيب
وفيه معنى خفيّ ... يزينه للقلوب
تصحيفه إن نسقت ال ... حروف برّ حبيب
وقال: [الطويل]
وما ضمّ شمل الأنس يوما كنرجس ... يقوم بعذر اللهو عن خالع العذر (4)
فأحداقه أحداق تبر، وساقه ... كقامة ساق في غلائله الخضر
وقال البحتري (5): [الطويل]
سقى الغيث أكناف اللّوى من محلّة ... إلى الحقف من رمل اللوى المتقاود (6)
__________
(1) الغوالي: جمع غالية وهي الطّيب. لسان العرب (غلا).
(2) الدادي: المولع باللهو. الأحمّ: الأسود من كل شيء. لسان العرب (ددا) و (حمم).
(3) إنسان العين: المثال يرى في سواد العين. محيط المحيط (أنس).
(4) خلع عذاره: تهتّك. محيط المحيط (خلع).
(5) ديوان البحتري (ج 1ص 5554).
(6) في الديوان: «الحمى» بدل «اللّوى». والحقف، بكسر الحاء وسكون القاف: المعوجّ من الرمل.
والمتقاود: المستطيل. القاموس المحيط (حقف) و (قود).(1/468)
ولا زال مخضرّ من الرّوض يانع ... عليه بمحمرّ من النّور جاسد (1)
شقائق يحملن النّدى فكأنّه ... دموع التصابي في خدود الخرائد (2)
ومن لؤلؤ في الأقحوان منظّم ... ومن نكت مصفرّة كالفرائد (3)
كأنّ جنى الحوذان في رونق الضّحى ... دنانير تبر من تؤام وفارد (4)
إذا راوحتها مزنة بكرت لها ... شآبيب مجتاز عليها وقاصد
رباع تردّت بالرياض مجودة ... بكلّ جديد الماء عذب الموارد (5)
كأنّ يد الفتح بن خاقان أقبلت ... تليها بتلك البارقات الرّواعد
قال أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه: قال لي البحتري وقد اجتمعنا على خلوة عند المبرّد وسلكنا مسلكا من المذاكرة: أشعرت أني سبقت الناس كلّهم إلى قولي:
[الطويل]
شقائق يحملن النّدى فكأنّه ... دموع التّصابي في خدود الخرائد
كأنّ يد الفتح بن خاقان أقبلت ... تليها بتلك البارقات الرّواعد
هكذا أنشد، فاستحسن ذلك المبرد استحسانا أسرف فيه، وقال: ما سمعت مثل هذه الألفاظ الرّطبة، والعبارة العذبة، لأحد تقدّمك ولا تأخّر عنك. فاعترته أريحيّة جرّبها رداء العجب فكأنه أعجبني ما يعجب الناس من مراجعة القول فقلت: يا أبا عبادة، لم تسبق إلى هذا، بل سبقك سعيد بن حميد الكاتب إلى البيت الأول بقوله: [الكامل]
عذب الفراق لنا قبيل وداعنا ... ثم اجترعناه كسمّ ناقع
وكأنما أثر الدموع بخدّها ... طلّ تساقط فوق ورد يانع
وشركك فيه صديقنا أبو العباس الناشىء بما أنشدنيه آنفا: [المتقارب]
بكت للفراق وقد راعني ... بكاء الحبيب لبعد الديار
__________
(1) في الديوان: «يانعا» بدل «يانع». والجاسد: المصبوغ بالزعفران. القاموس المحيط (جسد).
(2) في الديوان: «من» بدل «في». والخرائد: جمع خريدة وهي البكر لم تمسس. القاموس المحيط (خرد).
(3) في الديوان: «في الأرجوان منظّم على نكت». والنّكت: جمع نكتة وهي النقطة. محيط المحيط (نكت).
(4) الحوذان: نبت. التّؤام: التوأم. الفارد: المتفرّد. القاموس المحيط (حوذ) و (تأم) و (فرد).
(5) تردّت بالرياض: اتّخذتها رداء. القاموس المحيط (ردى).(1/469)
كأنّ الدموع على خدّها ... بقية طلّ على جلّنار (1)
وما أساء علي بن جريج، بل أحسن في زيادته عليك بقوله: [المنسرح]
لو كنت يوم الوداع شاهدنا ... وهنّ يطفين غلّة الوجد
لم تر إلّا دموع باكية ... تسفح من مقلة على خدّ
كأن تلك الدموع قطر ندى ... يقطر من نرجس على ورد
وسبقك أبو تمام إلى معنى البيتين معا بقوله (2): [الكامل]
من كل زاهرة ترقرق بالنّدى ... فكأنها عين إليه تحذّر (3)
تبدو ويحجبها الجميم كأنها ... عذراء تبدو تارة وتخفّر (4)
خلق أطلّ من الربيع كأنّه ... خلق الإمام وهديه المتنشّر
في الأرض من عدل الإمام وجوده ... ومن الربيع الغضّ سرح يزهر (5)
ينسي الربيع وما يروّض جوده ... أبدا على مرّ الليالي يذكر (6)
قال: فشقّ ذلك عليه، وحلّ حبوته (7) ونهض، فكان آخر عهدي بمؤانسته وغلظ ذلك على محمد بن يزيد، وقدح ذلك في حالي عنده.
وقال البحتري يمدح الهيثم بن عثمان الغنوي (8): [الطويل]
ألست ترى مدّ الفرات كأنه ... جبال شرورى جئن في البحر عوّما (9)
وما ذاك من عاداته غير أنه ... رأى شيمة من جاره فتعلّما (10)
__________
(1) الجلّنار، بضم الجيم وفتح اللام المشدّدة: زهر الرمان، معرب كلنار. القاموس المحيط (جلنر).
(2) ديوان أبي تمام (ص 140139) من قصيدة مدح المعتصم.
(3) في الديوان: «إليك» بدل «إليه».
(4) الجميم: النبت الكثير. القاموس المحيط (جمم).
(5) رواية عجز البيت في الديوان هي: ومن النبات الغضّ سرج تزهر
والسرح: كل شجر طال أو كل شجر لا شوك فيه. القاموس المحيط (سرح).
(6) رواية صدر البيت في الديوان هي: تنسى الرياض وما يروّض فعله.
(7) الحبوة: الاسم من الاحتباء وما يحتبي به الرجل من عمامة أو ثوب. القاموس المحيط (حبا).
(8) ديوان البحتري (ج 1ص 125124).
(9) شرورى: جبل مطلّ على تبوك. معجم البلدان (ج 3ص 339).
(10) في الديوان: «ولم يك» بدل «وما ذاك».(1/470)
وقد نبّه النّوروز في غبش الدّجى ... أوائل ورد كنّ بالأمس نوّما (1)
يفتّحها برد النّدى فكأنه ... يبث حديثا بينهنّ مكتّما (2)
ومن شجر ردّ الربيع لباسه ... عليه كما نشّرت بردا منمنما (3)
أحلّ فأبدى للعيون بشاشة ... وكان قذى للعين مذ كان محرما
فما يمنع الراح التي أنت خلّها ... وما يمنع الأوتار أن تترنّما (4)
وما زلت خلّا للنّدامى إذا اغتدوا ... وراحوا بدورا يستحثّون أنجما (5)
تكرّمت من قبل الكؤوس عليهم ... فما اسطعن أن يحدثن فيك تكرّما
[وقال آخر] (6) [البسيط]:
حيّتك عنّا شمال طاف طائفها ... بجنّة فجرت راحا وريحانا
هبّت سحيرا فناجى الغصن صاحبه ... سرّا بها وتداعى الطّير إعلانا
ورق تغنّى على خضر مهدّلة ... تسمو بها وتمسّ الأرض أحيانا
تخال طائرها نشوان من طرب ... والغصن من هزّة عطفيه نشوانا
ولابن المعتز في أرجوزته البستانية التي ذمّ فيها الصبّوح صفة جامعة، إذا قال [رجز]:
أما ترى البستان كيف نوّرا ... ونشّر المنثور بردا أصفرا
وضحّك الورد إلى الشقائق ... واعتنق الورد اعتناق الوامق (7)
في روضة كحلية العروس ... وخدّم كهامة الطاووس
وياسمين في ذرى الأغصان ... منظم كقطع العقيان
والسّرو مثل قصب الزّبرجد ... قد استمدّ الماء من ترب ند
على رياض وثرى نديّ ... وجدول كالبرد الحليّ
وفرّج الخشخاش جيبا وفتق ... كأنّه مصاحف بيض الورق
أو مثل أقداح من البلّور ... تخالها تجسّمت من نور
__________
(1) في الديوان: «غلس» بدل «غبش».
(2) في الديوان: «يفتّقها برد ينثّ حديثا».
(3) في الديوان: «وشيا» بدل «بردا».
(4) في الديوان: «يحبس» بدل «يمنع».
(5) في الديوان: «إذا انتشوا» بدل «إذا اغتدوا».
(6) ما بين قوسين زيادة أضفناها.
(7) الوامق: المحبّ. القاموس المحيط (ومق).(1/471)
وبعضه عريان من أثوابه ... قد خجل اليابس من أصحابه
تبصره عند انتشار الورد ... مثل الدبابيس بأيدي الجند
والسّوسن الآزار منشور الحلل ... كقطن قد مسّه بعض بلل
نوّر في حاشيتي بستانه ... ودخّل الميدان في ضمانه
وقد بدت فيه ثمار الكنكر ... كأنها جماجم من عنبر
وحلّق البهار بين الآس ... جمجمة كهامة الشّمّاس
خلال شيح مثل شيب النّصف ... وجوهر من زهر مختلف (1)
وجلّنار كاحمرار الورد ... أو مثل أعراف ديوك الهند
والأقحوان كالثنايا الغرّ ... قد صقّلت أنواره بالقطر
وقال أبو الفتح كشاجم: [الوافر]
وروض عن صنيع الغيث راض ... كما رضي الصّديق عن الصديق
إذا ما القطر أسعده صبوحا ... أتمّ له الصنيعة في الغبوق (2)
يعير الرّيح بالنفحات ريحا ... كأنّ ثراه من مسك فتيق
كأنّ الطّلّ منتشرا عليه ... بقايا الدّمع في خدّ مشوق
كأنّ غصونه سقيت رحيقا ... فمالت مثل شرّاب الرّحيق
كأنّ شقائق النعمان فيه ... محصّرة شقائق من عقيق
يذكّرني بنفسجه بقايا ... صنيع اللّطم في الخدّ الرّقيق
وقال: [الرجز]
غيث أتانا مؤذنا بالخفض ... متّصل الوبل سريع الرّكض
دنا فخلناه دوين الأرض ... متصلا بطوله والعرض
إلفا إلى إلف بسرّ يفضي ... ثم سما كاللؤلؤ المرفضّ
فالأرض تجلى بالنبات الغضّ ... في حليها المحمرّ والمبيضّ
من سوسن أحوى وورد غضّ ... مثل الخدود نقّشت بالعضّ
وأقحوان كاللّجين المحض ... ونرجس ذاكي النسيم بضّ (3)
مثل العيون رنّقت للغمض ... ترنو فيغشاها الكرى فتغضي
__________
(1) النّصف، بالفتح: المرأة التي بلغت خمسين سنة ونحوها. القاموس المحيط (نصف).
(2) الصّبوح: ما يشرب عند الصباح. الغبوق: ما يشرب بالعشيّ. القاموس المحيط (صبح) و (غبق).
(3) البضّ، بفتح الباء وتشديد الضاد: الرقيق. محيط المحيط (بضض).(1/472)
جملة من هذا النوع لأهل العصر
قال أبو فراس الحمداني (1): [مجزوء الرجز] أو [مجزوء السريع]
وجلّنار مشرق ... على أعالي شجره
كأنّ في رؤوسه ... أحمره وأصفره (2)
قراضة من ذهب ... في خرقة معصفره (3)
وقال (4): [الطويل]
ويوم جلا فيه الربيع رياضه ... بأنواع حلي فوق أثوابه الخضر
كأنّ ذيول الجلّنار مطلّة ... فضول ذيول الغانيات من الأزر
وقال أبو القاسم بن هانىء، يصف زهرة رمّان قطفت قبل عقدها (5): [الرجز]
وبنت أيك كالشباب النّضر ... كأنها بين الغصون الخضر
جنان باز أو جنان صقر ... قد خفّفته لقوة بوكر (6)
كأنما سحّت دما من نحر ... أو نبتت في تربة من جمر (7)
[أو سقيت بجدول من خمر] ... لو كفّ عنها الدهر صرف الدّهر (8)
جاءت كمثل النّهد فوق الصّدر ... تفترّ عن مثل اللّثاث الحمر (9)
في مثل طعم الوصل بعد الهجر
ولهم في هذا المعنى
روضة رقّت حواشيها، وتأنّق واشيها. روضة كالعقود المنظّمة، على البرود المنمنمة. روضة قد راضتها كفّ المطر، ودبّجتها أيدي الندى. أخرجت الأرض
__________
(1) ديوان أبي فراس الحمداني (ص 189).
(2) رواية عجز البيت في الديوان هي: أصفره وأحمره.
(3) في الديوان: «خرق» بدل «خرقة».
(4) ديوان أبي فراس الحمداني (ص 250).
(5) ديوان ابن هاني الأندلسي (ص 175).
(6) في الديوان: «خلّفته» بدل «خفّفته». واللّقوة: العقاب الأنثى. القاموس المحيط (لقي).
(7) في الديوان: «مجّت» بدل «سحّت».
(8) في الديوان: «رويت» بدل «سقيت».
(9) في الديوان: «بمثل» بدل «كمثل».(1/473)
أسرارها، وأظهرت يد الغيث آثارها، وأبدت الرياض أزهارها. الرياض كالعرائس في حليها وزخارفها، والقيان في وشيها ومطارفها، باسطة زرابيّها (1) وأنماطها، ناشرة حبراتها ورياطها، زاهية بحمرائها وصفرائها، تائهة بعيدانها وغدرانها، كأنما احتفلت لوفد، أو هي من حبيب على وعد. روضة قد تضوّعت بالأرج الطّيّب أرجاؤها، وتبّرجت في ظلل الغمام صحراؤها، وتنافجت بنوافج المسك أنوارها، وتعارضت بغرائب النّطق أطيارها.
بستان رقّ نوره النضيد، وراق عوده النضير. بستان عوده خضر، ونوره نضر، وينعه خضل، وماؤه خصر. بستان أرضه للبقل والريحان، وسماؤه للنخل والرمان. بستان أنهاره مفروزة بالأزهار، وأشجاره موقرة بالثمار. أشجار كأنّ الحور أعارتها قدودها، وكستها برودها، وحلّتها عقودها. الربيع شباب الزمان، ومقدمة الورد والريحان. زمن الورد مرموق، كأنه من الجنّة مسروق. قد ورد كتاب الورد، بإقباله إلى أهل الودّ، إذا ورد الورد، صدر البرد. مرحبا بإشراف الزهر، في أطراف الدهر، وأنشد: [الطويل]
سقى الله وردا صار خدّ ربيعنا ... فقد كان قبل اليوم ليس له خدّ
كأنّ عين النرجس عين، وورقه ورق (2)، النرجس نزهة الطّرف، وظرف الظّرف، وغذاء الروح، شقائق كتيجان العقيق على رؤوس الزنوج، كأنها أصداغ المسك على الوجنات المورّدة. شقائق كالزنوج تجارحت وسالت دماؤها، وضعفت فسال ذماؤها (3).
كأن الشقيق جام من عقيق أحمر، ملئت قرارته بمسك أذفر (4). الأرض زمرّدة، والأشجار وشيء، والماء سيوف، والطيور قيمان. قد غرّدت خطباء الأطيار، على منابر الأنوار والأزهار. إذا صدح الحمام، صدع الحمام قلب المستهام. انظر إلى طرب الأشجار لغناء الأطيار. ليس للبلابل كغناء البلابل (5)، وخمر بابل.
ولهم فيما يتعلّق بهذا النحو في وصف أيام الربيع
يوم سماؤه فاختيّة، وأرضه طاوسيّة. يوم جلابيب غيومه رواق، وأردية نسيمه
__________
(1) الزرابيّ: النمارق والبسط أو كل ما بسط واتكىء عليه، واحدها زربيّ. القاموس المحيط (زرب).
(2) العين الثانية: الذهب، الورق، بفتح الواو وكسر الراء: الدراهم المضروبة. القاموس المحيط (عين) و (ورق).
(3) الذّماء، بفتح الذال: بقية النّفس. القاموس المحيط (ذمى).
(4) المسك الأذفر: الجيّد إلى الغاية. القاموس المحيط (ذفر).
(5) البلابل الأولى: الأشجان، مفردها بلبال. والبلابل الثانية: الطيور المغردة، واحدها بلبل. القاموس المحيط (بلل).(1/474)
رقاق. يوم ممسّك السماء، معصفر الهواء، معنبر الرّوض، مصندل الماء. يوم زرّ عليه جيب الضّباب، وانسحب فيه ذيل السحاب. يوم سماؤه كالخزّ الأدكن، وأرضه كالديباج الأخضر: [الخفيف]
شادن يرتعي القلوب ببغدا ... د ولا يرتعي الكلا بالنّباج (1)
أقبلت والربيع يختال في الرّو ... ض وفي المزن ذي الحيا الثّجّاج (2)
ذو سماء كأدكن الخزّ قد غي ... مت وأرض كأخضر الديباج
فتجلّى عن كلّ ما يتمنّى ... موعد الكد خداة والهيلاج
فظللنا في نزهتين وفي حس ... نين بين الأرمال والأهزاج
بفتاة تسرّنا في المثاني ... وعجوز تسرّنا في الزّجاج
أخذت من رؤوس قوم كرام ... ثارها عند أرجل الأعلاج
يوم حسن الشمائل، ممتع المخايل، سجسج الهواء (3)، مونق الأرجاء. يوم تبسّم عنه الربيع، وتبرّج عنه الروض المريع. يوم كأنّ سماءه مأتم تتباكى، وأرضه عروس تتجلّى. يوم مشهّر الأوصاف، أغرّ الأطراف. يوم يغفي فيه النّور وينتبه، وتسفر فيه الشمس وتنتقب، وتعتنق الغصون وتفترق، ويوشي الغيم وينسكب. يوم غاب نحسه وهوى، وطلع سعده واعتلى، والزمان ساقطة جماره، مفعمة أنهاره، مونقة أشجاره، مغرّدة أطياره. نحن في غبّ سماء، قد أقلعت بعد الارتواء، وأقشعت عند الاستغناء، فالنّبت خضل ممطور، والنّقع ساكن محصور. يوم جوّه طارونيّ (4)، وأرضه طاوسيّ.
يوم دجنه عاكف، وقطره واكف. يوم من أعياد العمر، وأعيان الدّهر.
ولهم في تشبيه محاسن الربيع بمحاسن الإخوان والسادة:
غيث مشبّه بكفّك، واعتداله مضاه لخلقك، وزهره مواز لنشرك (5)، كأنما استعار حلله من شيمتك، وحليه من سجيّتك، واقتبس أنواره من محاسن أيامك، وأمطاره من جودك وإنعامك. قدم الربيع منتسبا إلى خلقك، مكتسيا محاسنه من طبعك، متوشّحا بأنوار لفظك، متوضّحا بآثار لسانك ويدك. أنا في بستان أذكرني ورده المفتّح بخلقك،
__________
(1) النّباج، بكسر النون: موضع بين مكة والبصرة. معجم البلدان (ج 5ص 255).
(2) الحيا: المطر. الثّجّاج: كثير السيلان. القاموس المحيط (حيا) و (ثجج).
(3) السّجسج: الهواء، أي لا حرّ فيه ولا قرّ. القاموس المحيط (سجج).
(4) الطاروني: ضرب من الطّرن وهو الخزّ، أي إنّ جوّه ممتع جميل. القاموس المحيط (طرن).
(5) النّشر: الريح الطيّبة. القاموس المحيط (نشر).(1/475)
وجدوله السابح بطبعك، وزهره الجنيّ بقربك. أنا في بستان كأنّه من شمائلك سرق، ومن خلقك خلق، وقد قابلتني أشجار تتمايل فتذكرني تبريح الأحباب، إذا تداولتهم أيدي الشراب، وأنهار كأنّها من يدك تسيل، ومن راحتيك تفيض. أنا على حافة حوض أزرق كصفاء مودّتي لك، ورقّة قولي في عتبك.
وقال ابن عون الكاتب: [الخفيف]
جاءنا الصوم في الربيع فهلّا اخ ... تار ربعا من سائر الأرباع (1)
وكأنّ الربيع في الصوم عقد ... فوق نحر غطّاه فضل قناع
وكتب أبو الفتح كشاجم إلى بعض إخوانه يستدعيه إلى زيارته في يوم شكّ:
[مجزوء الكامل]
هو يوم شكّ يا عليّ ... وبشره مذ كان يحذر
والجوّ حلّته ممسّ ... كة ومطرفه معنبر
والماء فضّيّ القمي ... يص وطيلسان الأرض أخضر
نبت يصعّد زهره ... في الرّوض قطر ندى تحدّر
ولنا فضيلات تكو ... ن ليومنا قوتا مقدّر
ومدامة صفراء أد ... رك عمرها كسرى وقيصر
فانشط لنا لنحثّ من ... كاساتنا ما كان أكبر
أو لا فإنّك جاهل ... إن قلت إنّك سوف تعذر
وكتب بديع الزمان إلى بعض أهل همذان:
كتابي أطال الله بقاك عن شهر رمضان، عرّفنا الله بركة مقدمه، ويمن مختتمه، وخصّك بتقصير أيامه، وإتمام صيامه وقيامه فهو وإن عظمت بركته ثقيل حركته، وإن جلّ قدره بعيد قعره، [وإن عمّت رأفته، طويل مسافته، وإن حسنت قربته، شديد صحبته، وإن كبرت حرمته كثير حشمته، وإن سرّنا مبتداه فلن يسوءنا منتهاه] فإن حسن وجهه فليس يقبح قفاه، وما أحسنه في القذال (2)، وأشبه إدباره بالإقبال، جعل الله قدومه سبب ترحاله، وبدره فداء هلاله، وأمدّ فلكه تحريكا، بتقضي مدّته وشيكا، وأظهر هلاله نحيفا، ليزفّ إلى اللّذات زفيفا، وعفا الله عن مزح يكرهه، ومجون يسخطه.
__________
(1) الرّبع: أحد فصول السنة.
(2) القذال، بالفتح: جماع مؤخر الرأس. القاموس المحيط (قذف).(1/476)
عوّل البديع في هذا الكلام على قول أبي الفضل بن العميد في رسالة له في مثل ذلك:
أسأل الله أن يعرّفني بركته، ويلقّيني الخير في باقي أيامه وخاتمته وأرغب إليه في أن يقرب على الفلك دوره، ويقصّره سيره، ويخفّف حركته، ويعجّل نهضته، وينقص مسافة فلكه ودائرته، ويزيل بركة الطول عن ساعاته، ويردّ عليّ غرّة شوال، فهي أسنى الغرر عندي، وأقرّها لعيني ويطلع بدره، ويريني الأيدي متطلبة هلاله ببشر، ويسمعني النّعي لشهر رمضان، ويعرض عليّ هلاله أخفى من السّحر، وأظلم من الكفر، وأنحف من مجنون بني عامر، وأبلى من أسير الهجر، وأستغفر الله جلّ وجهه مما قلت إن كرهه، وأستعفيه من توفيقي لما يذمّه، وأسأله صفحا يفيضه، وعفوا يوسعه، إنّه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
[من أخبار المأمون والأمين]
قال المأمون لطاهر بن الحسين: صف لي أخلاق المخلوع. قال: كان واسع الصّدر، ضيّق الأدب، يبيح من نفسه ما تأنفه همم الأحرار، ولا يصغي إلى نصيحة، ولا يقبل مشورة، يستبدّ برأيه، ويبصّر سوء عاقبته فلا يردعه ذلك عمّا يهمّ به. قال: فكيف كانت حروبه؟ قال: كان يجمع الكتائب بالتبذير، ويفرّقها بسوء التدبير. فقال المأمون:
لذلك حلّ ما حلّ به أما والله لو ذاق لذّات النصائح، واختار مشورات الرجال، وملك نفسه عن شهواتها، لما ظفر به.
ولمّا عقد الرشيد البيعة للأمين وهو أصغر من المأمون لأجل أمّه زبيدة، وكلام أخيها عيسى بن جعفر، وقدّمه على المأمون، جعل يرى فضل عقله فيندم على ذلك، فقال: [الطويل]
لقد بان وجه الرّأي لي غير أنّني ... غلبت على الأمر الذي كان أحزما
فكيف يردّ الدرّ في الضّرع بعد ما ... توزّع حتى صار نهبا مقسّما
أخاف التواء الأمر بعد استوائه ... وأن ينقض الحبل الذي كان أبرما
قال أسد بن يزيد بن مزيد: بعث إليّ الفضل بن الربيع بعد مقتل عبد الرحمن الأنباري، قال: فأتيته وهو في صحن داره، وفي يده رقعة قد غضب لما نظر فيها، وهو يقول: ينام نوم الظّربان (1)، وينتبه انتباه الذئب، همّته بطنه، ولذّته فرجه، لا يفكّر في
__________
(1) الظربان، بفتح الظاء وكسر الراء: دويبة كالهرّة منتنة. محيط المحيط (ظرب).(1/477)
زوال نعمة، ولا يتروّى في إمضاء رأي ولا مكيدة، قد شمّر له عبد الله عن ساقه، وفوّق له أسدّ سهامه، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ والموت القاصد، قد عبّى له المنايا على متون الخيل، وناط له البلاء في أسنّة الرماح وشفار السيوف، ثم تمثّل بشعر البعيث:
[الطويل]
يقارع أتراك ابن خاقان ليله ... إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم
فيصبح في طول الطّراد وجسمه ... نحيل، وأضحي في النعيم أصمّم
فشتّان ما بيني وبين ابن خالد ... أمية في الرّزق الذي الله يقسم
ثم قال: يا أبا الحارث، أنا وأنت نجري إلى غاية إن قصّرنا عنها ذممنا، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا وإنما نحن شعبة من أصل، إن قوي قوينا، وإن ضعف ضعفنا إن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكفاء: يشاور النساء، ويعتمد على الرؤيا، وقد أمكن أهل اللهو والخسارة من سمعه فهم يمنّونه الظّفر، ويعدونه عواقب الأيام والهلاك إليه أسرع من السيل إلى قيعان الرّمل وقد خشيت أن نهلك بهلاكه، ونعطب بعطبه، وأنت فارس العرب وابن فارسها، وقد فزع إليك في لقاء طاهر لأمرين أحدهما صدق طاعتك، وفضل نصيحتك والثاني يمن نقيبتك، وشدّة بأسك وقد أمرني أن أبسط يدك، غير أنّ الاقتصاد رأس النصيحة، ومفتاح البركة فبادر ما تريد، وعجّل النهضة، فإني أرجو أن يولّيك الله شرف هذا الفتح، ويلمّ بك شعث الخلافة.
فقلت له: أنا لطاعتك وطاعة أمير المؤمنين مقدم، ولما وهن عدوّ كما مؤثر غير أنّ المحارب لا يفتتح أمره بتقصير وإنما ملاك أمره الجنود، والجنود لا تكون بلا مال، وقد رفع أمير المؤمنين الرغائب إلى قوم لم يجدوا عليه، ومتى سمت من أقدر به الانتفاع له الرضا بدون ما أخذه غيره ممن لم يكن عنده غناء ولا معونة، لم ينتظم بذلك التدبير، وأحتاج لأصحابي رزق سنة قبضا، وحملا إلى ألف فرس لحمل من لا أرتضي فرسه، وإلى ما أستظهر به، لا ألام على وضعه حيث رأيت. فقال: شاور أمير المؤمنين فأدخلني عليه، فلم تدر بيني وبينه كلمتان حتى أمر بحبسي.
ويروى أن الأمين لما أعيته مكايد طاهر قال: [الوافر]
بليت بأشجع الثقلين نفسا ... تزول الراسيات وما يزول
له مع كل ذي بدن رقيب ... يشاهده ويعلم ما يقول
فليس بمغفل أمرا عناه ... إذا ما الأمر ضيّعه الجهول
وفي الفضل بن الربيع يقول بعض الشعراء: [البسيط](1/478)
بليت بأشجع الثقلين نفسا ... تزول الراسيات وما يزول
له مع كل ذي بدن رقيب ... يشاهده ويعلم ما يقول
فليس بمغفل أمرا عناه ... إذا ما الأمر ضيّعه الجهول
وفي الفضل بن الربيع يقول بعض الشعراء: [البسيط]
كم من مقيم ببغداد على طمع ... لولا رجاء أبي العباس لم يقم
البدر إن نظروا، والبحر إن رغبوا ... والحصن إن رهبوا، والسيف ذو النّقم
وقال عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع: ما مدحنا شاعر بشعر أحبّ إلينا من قول أبي نواس: [الكامل]
ساد الملوك ثلاثة ما منهم ... إن حصّلوا إلّا أعزّ قريع
ساد الربيع وساد فضل بعده ... وعلت بعبّاس الكريم فروع
عباس عباس إذا احتدم الوغى ... والفضل فضل والربيع ربيع
وقيل للعتابي: أمدحت أحدا؟ قال: لا، وليس لي على ذلك قدرة، فقيل له: فقد مدحت الربيع، فقال: ذلك ليوم يستحقّ فيه المدح، فقلت: [الطويل]
ومعضلة قام الربيع إزاءها ... ليعمد ركن الدّين لما تهدّما
بمكة والمنصور رهن كما أتى ... أخا الوحي داعي ربّه فتقدّما
غداة عداة الدين شاحذة المدى ... إليه وغول الحرب فاغرة فما
[مبايعة المهدي]
وكان المنصور قد توفّي بمكة وهو حاجّ في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، فأخذ الربيع للمهدي البيعة على الناس، وأخذ بتجديدها عن المنصور على أنه حيّ، وأدخل إليه قوما فرأوه من بعيد وقد جلّله بثوب، وأقعد إلى جنبه من يحرّك يده وكأنه يومىء بها إليهم، فلم يشكّوا في حياته فما خالف أحد فشكره المهدي لذلك، وفي ذلك يقول أبو نواس في مدحه الفضل بن الربيع (1): [مجزوء الرجز]
أبوك جلّى عن مضر ... يوم الرواق المحتضر
والحرب تفري وتذر ... لمّا رأى الأمر اقمطرّ (2)
قام كريما فانتصر ... كهزّة العضب الذّكر
__________
(1) ديوان أبي نواس (ص 441).
(2) رواية صدر البيت في الديوان هي: والخوف يقري ويذر واقمطرّ: اشتدّ. القاموس المحيط (قمطر).(1/479)
ما مسّ من شيء هبر ... وأنت تقتاف الأثر (1)
من ذي حجول وغرر
وقال أيضا (2): [مجزوء الكامل]
آل الربيع فضلتم ... فضل الخميس على العشير (3)
من قاس غيركم بكم ... قاس الثّماد إلى البحور (4)
أين القليل بنو القلي ... ل من الكثير بني الكثير؟
أين النجوم التاليا ... ت من الأهلّة والبدور؟
قوم كفوا أيام مكّة ... نازل الخطب الكبير
وتداركوا نصر الخلا ... فة وهي شاسعة النّصير (5)
لولا مقامهم بها ... هوت الرواسي من ثبير (6)
ومن قول أبي نواس: «من قاس غيركم بكم» البيت، أخذ أبو الطيب المتنبي (7): [الطويل]
قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقلّ السواقيا
فتى ما سرينا في ظهور جدودنا ... إلى عصره إلّا نرجّي التّلاقيا
[أفضل الأوقات لمخاطبة الملوك]
وقال الفضل بن الربيع: من كلّم الملوك في الحاجات في غير وقت الكلام لم يظفر بحاجته، وضاع كلامه، وما أشبههم في ذلك إلّا بأوقات الصلوات لا تقبل الصلاة إلّا فيها، ومن أراد خطاب الملوك في شيء فليرصد الوقت الذي يصلح في مثله ذكر ما أراد، ويسبّب له شيئا من الأحاديث يحسن ذكره بعقبه.
وقال المأمون للفضل بن الربيع لما ظفر به: يا فضل، أكان في حقي عليك، وحق
__________
(1) في الديوان: «حسّ» بدل «مسّ».
(2) ديوان أبي نواس (ص 467) من قصيدة مديح.
(3) الخميس: جزء من خمسة. العشير: جزء من عشرة. القاموس المحيط (خمس) و (عشر).
(4) الثّماد، بكسر الثاء: الماء القليل. القاموس المحيط (ثمد).
(5) في الديوان: «فتداركوا» بدل «وتداركوا».
(6) ثبير: جبل بمكة. معجم البلدان (ج 2ص 72).
(7) ديوان المتنبي (ص 474).(1/480)
آبائي ونعمهم عند أبيك وعندك، أن تثلبني (1) وتسبّني، وتحرّض على دمي؟ أتحبّ أن أفعل بك ما فعلته بي؟
فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ عذري يحقدك إذا كان واضحا جميلا، فكيف إذا حفّته العيوب، وقبّحته الذنوب فلا يضيق عني من عفوك ما وسع غيري منك، فأنت كما قال الشاعر فيك: [الطويل]
صفوح عن الأجرام حتى كأنه ... من العفو لم يعرف من الناس مجرما
وليس يبالي أن يكون به الأذى ... إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما
والشعر للحسن بن رجاء بن أبي الضحاك.
[من أخبار المنصور]
وقال سعيد بن مسلم بن قتيبة: دعا المنصور بالربيع، فقال: سلني ما تريد، فقد سكتّ حتى نطقت، وحفّفت حتى ثقّلت، وأقللت حتى أكثرت.
فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أرهب بخلك، ولا أستقصر عمرك، ولا أستصغر فضلك، ولا أغتنم مالك وإنّ يومي بفضلك عليّ أحسن من أمسي، وغدك في تأميلي أحسن من يومي ولو جاز أن يشكرك مثلي بغير الخدمة والمناصحة لما سبقني لذلك أحد.
قال: صدقت، علمي بهذا منك أحلّك هذا المحلّ فسلني ما شئت، قال: أسألك أن تقرّب عبدك الفضل، وتؤثره وتحبّه.
قال: يا ربيع، إنّ الحب ليس بمال يوهب، ولا رتبة تبذل وإنما تؤكّده الأسباب.
قال: فاجعل لي طريقا إليه، بالتفضل عليه.
قال: صدقت، وقد وصلته بألف ألف درهم، ولم أصل بها أحدا غير عمومتي لتعلم ماله عندي، فيكون منه ما يستدعي به محبّتي، ثم قال: فبكيف سألت له المحبة يا ربيع؟
قال: لأنها مفتاح كلّ خير، ومغلاق كلّ شرّ، تستر بها عندك عيوبه، وتصير حسنات ذنوبه.
__________
(1) ثلبه: لامه وعابه. القاموس المحيط (ثلب).(1/481)
قال: صدقت وأتيت بما أردت في بابه.
أخذ قوله: «خففت حتى ثقلت» أبو تمام فقال لمحمد بن عبد الملك الزيات (1):
[الطويل]
على أنّ إفراط الحياء استمالني ... إليك، ولم أعدل بعرضي معدلا (2)
فثقّلت بالتخفيف عنك، وبعضهم ... يخفّف في الحاجات حتى يثقّلا
[من أخبار الرشيد]
ودخل سهل بن هارون على الرشيد، وهو يضاحك المأمون، فقال: اللهمّ زده من الخيرات، وابسط له من البركات، حتى يكون في كلّ يوم من أيامه مربيا (3) على أمسه، مقصّرا عن غده.
فقال له الرشيد: يا سهل، من روى من الشعر أحسنه وأرصنه، ومن الحديث أفصحه وأوضحه، إذا رام أن يقول لم يعجزه القول.
فقال سهل بن هارون: يا أمير المؤمنين، ما ظننت أنّ أحدا تقدّمني إلى هذا المعنى.
قال: بل أعشى همدان حيث يقول: [الوافر]
رأيتك أمس خير بني لؤيّ ... وأنت اليوم خير منك أمس
وأنت غدا تزيد الخير ضعفا ... كذاك تزيد سادة عبد شمس
[من نظم الفضل بن الربيع]
ومن شعر الفضل بن الربيع ما أنشده الصولي: [مجزوء الكامل]
إنّي امرؤ من هاشم ... بفناء معمور النّواحي
أهل الهدى وذوي التّقى ... وأولي البسالة والسّماح
أهل المعالم والمكا ... رم في المساء وفي الصّباح
أهل النبوّة والخلا ... فة والكمال برغم لاحي
يتألّمون من الصّدر ... د ويصبرون على الجراح
__________
(1) ديوان أبي تمام (ص 226).
(2) في الديوان: «الحباء» بدل «الحياء».
(3) مربيا: اسم فاعل أربى، أي زاد. القاموس المحيط (ربا).(1/482)
[من أخبار أبي العيناء]
حمل محمد بن عبيد الله بن خاقان أبا العيناء على دابّة زعم أنها غير فاره (1)، فكتب إليه: أعلم الوزير، أعزّه الله، أن أبا علي محمدا أراد أن يبرّني فعقّني، وأن يركبني فأرجلني، أمر لي بدابّة تقف للنّبرة (2)، وتعثر بالبعرة، كالقضيب اليابس عجفا (3)
وكالعاشق المهجور دنفا (4)، قد أذكرت الرواة عذرة العذريّ، والمجنون العامري، مساعد أعلاه لأسفله، حباقه (5) مقرون بسعاله، فلو أمسك لترجيت، ولو أفرد لتعزّيت، ولكنه يجمعهما في الطريق المعمور، والمجلس المشهور، كأنه خطيب مرشد، أو شاعر منشد، تضحك من فعله النّسوان، وتتناغى من أجله الصّبيان فمن صائح يصيح: داوه بالطباشير، ومن قائل يقول: نوّله الشعير، قد حفظ الأشعار، وروى الأخبار، ولحق العلماء في الأمصار، فلو أعين بنطق لروى بحقّ وصدق، عن جابر الجعفيّ، وعامر الشّعبي وإنما أتيت من كاتبه الأعور، الذي إذا اختار لنفسه أطاب وأكثر، وإن اختار لغيره أخبث وأنزر فإن رأى الوزير أن يبدّلني به، ويريحني منه بمركوب يضحكني كما ضحّك مني، يمحو بحسنه وفراهته، ما سطّره العيب بقبحه ودمامته ولست أذكر أمر سرجه ولجامه فإن الوزير أكرم من أن يسلب ما يهديه، أو ينقض ما يمضيه.
فوجّه عبيد الله إليه برذونا (6) من براذينه بسرجه ولجامه، ثم اجتمع مع محمد ابن عبيد الله عند أبيه، فقال عبيد الله: شكوت دابّة محمد، وقد أخبرني الآن أنه يشتريه منك بمائة دينار، وما هذا ثمنه لا يشتكى.
فقال: أعزّ الله الوزير، لو لم أكذب مستزيدا، لم انصرف مستفيدا، وإني وإيّاه لكما قالت امرأة العزيز: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ، أَنَا رََاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصََّادِقِينَ} (7).
فضحك عبيد الله، وقال: حجّتك الداحضة بملاحتك وظرفك أبلغ من حجّة غيرك البالغة.
__________
(1) الفاره: الفتيّة. القاموس المحيط (فره).
(2) النّبرة: صيحة الفزع. القاموس المحيط (نبر).
(3) العجف: ذهاب السّمن. القاموس المحيط (عجف).
(4) الدّنف بالفتح: المرض الملازم. القاموس المحيط (دنف).
(5) الحباق، بزنة الغراب: الضّراط. القاموس المحيط (حبق).
(6) البرذون: الدابة. القاموس المحيط (برذن).
(7) سورة يوسف 12، الآية 51.(1/483)
قطعة من رسالة أجاب بها أبو الخطاب الصابي عن أبي العباس بن سابور إلى الحسين بن صبرة عن رقعة وردت منه في صفة حمل أهداه
وصلت رقعتك، ففضضتها عن خطّ مشرق، ولفظ مونق، وعبارة مصيبة، ومعان غريبة، واتساع في البلاغة يعجز عنه عبد الحميد في كتابته، وقسّ وسحبان في خطابته وتصرّف بين جدّ أمضى من القدر، وهزل أرقّ من نسيم السّحر، وتقلّب في وجوه الخطاب، الجامع للصّواب إلّا أنّ الفعل قصّر عن القول لأنك ذكرت حملا، جعلته بصفتك جملا، فكان المعيديّ الذي تسمع به ولا أن تراه (1). وحضر فرأيت كبشا متقادم الميلاد، من نتاج قوم عاد، قد أفنته الدّهور، وتعاقبت عليه العصور، فظننته أحد الزّوجين اللذين جعلهما نوح في سفينته، وحفظ بهما جنس الغنم لذرّيته صغر عن الكبر، ولطف عن القدم، فبانت دمامته، وتقاصرت قامته، وعاد ناحلا ضئيلا، باليا هزيلا، بادي السّقام، عاري العظام، جامعا للمعايب، مشتملا على المثالب (2)، يعجب العاقل من حلول الحياة به، وتأتّي الحركة فيه لأنه عظم مجلّد، وصوف ملبّد، لا تجد فوق عظامه سلبا (3)، ولا تلقى يدك منه إلّا خشبا، لو ألقي إلى السّبع لأباه، ولو طرح للذئب لعافه وقلاه، قد طال للكلإ فقده، وبعد بالمرعى عهده، لم ير ألقتّ (4) إلّا نائما، ولا عرف الشعير إلّا حالما، وقد خيّرتني بين أن أقتنيه فيكون فيه غنى الدهر، أو أذبحه فيكون فيه خصب الرّحل فملت إلى استبقائه لما تعرف من محبتي من التوفير، ورغتبي للتّثمير، وجمعي للولد، وادّخاري لغد، فلم أجد فيه مستمتعا للبقاء، ولا مدفعا للفناء لأنه ليس بأنثى فتحمل، ولا بفتى فينسل، ولا بصحيح فيرعى، ولا بسليم فيبقى فملت إلى الثاني من رأييك، وعوّلت على الآخر من قوليك، وقلت: أذبحه فيكون وظيفة للعيال، وأقيمه رطبا مقام قديد (5) الغزال، فأنشدني وقد أضرمت النار، وحدّت الشّفار، وشمّر الجزّار:
[البسيط]
أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشّحم فيمن شحمه ورم
__________
(1) أخذه من المثل: «تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه»، يضرب لمن خبره خير من مرآه. مجمع الأمثال (ج 1ص 129، رقم المثل 655).
(2) المثالب: جمع مثلبة، وهي العيب. القاموس المحيط (ثلب).
(3) السّلب، بالفتح: ما يسلب. القاموس المحيط (سلب).
(4) القتّ: الرطب من علف الدوابّ. القاموس المحيط (قتت).
(5) القديد: اللحم المشرّر المقدّد. القاموس المحيط (قدد).(1/484)
وقال: ما الفائدة لك في ذبحي؟ وأنا لم يبق مني إلّا نفس خافت، ومقلة إنسانها باهت: لست بذي لحم، فأصلح للأكل لأن الدهر قد أكل لحمي، ولا جلدي يصلح للدّباغ لأن الأيام قد مزّقت أديمي، ولا لي صوف يصلح للغزل لأن الحوادث قد حصّت (1) وبري فإن أردتني للوقود فكفّ بعر أبقى من ناري، ولن تفي حرارة جمري بريح قتاري (2)، فلم يبق إلّا أن تطلبني بذحل (3) أو بيني وبينك دم، فوجدته صادقا في مقالته، ناصحا في مشورته، ولم أعلم من أي أمريه أعجب أمن مماطلته للدهر بالبقاء، أم من صبره على الضّرّ واللأواء (4)، أم من قدرتك عليه مع إعواز مثله، أم من تأهيلك الصديق به مع خساسة قدره؟ ويا ليت شعري إذ كنت وإليك سوق الغنم، وأمرك ينفذ في الضأن والمعز، وكلّ كبش سمين وحمل بطين مجلوب إليك، مقصور عليك تقول فيه قولا فلا تردّ، وتريده فلا تصدّ، وكانت هديتك هذا الذي كأنه ناشر من القبور، أو قائم عند النفخ في الصور، فما كنت مهديا لو أنك رجل من عرض الكتّاب، كأبي عليّ وأبي الخطّاب، ما كنت تهدي إلّا كلبا أجرب، أو قردا أحدب.
[من نظم الحمدوني]
وقال الحمدوني في شاة سعيد بن أحمد بن خوسنداذ (5): [الكامل]
أسعيد، قد أعطيتني أضحيّة ... مكثت زمانا عندكم ما تطعم
نضوا تعاقرت الكلاب بها وقد ... شدّوا عليها كي تموت فيؤلموا (6)
فإذا الملا ضحكوا بها قالت لهم: ... لا تهزؤوا بي وارحموني ترحموا
مرّت على علف فقامت لم ترم ... عنه، وغنّت والمدامع تسجم
«وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخّر عنه ولا متقدّم» (7)
__________
(1) حصّت وبري: قطعته. القاموس المحيط (حصص).
(2) القتار، بضم القاف: الشّواء. القاموس المحيط (قتر).
(3) الذحل: الثأر. القاموس المحيط (ذحل).
(4) الّلأواء: الشدّة. القاموس المحيط (لأي).
(5) الأبيات في فوات الوفيات (ج 1ص 174).
(6) في فوات الوفيات: «تغامزت» بدل «تعاقرت».
(7) البيت لأبي الشيص، وهو في الشعر والشعراء (ص 722).(1/485)
وقال أيضا (1): [البسيط]
أبا سعيد، لنا في شاتك العبر ... جاءت وما إن لها بول ولا بعر (2)
وكيف تبعر شاة عندكم مكثت ... طعامها الأبيضان الشمس والقمر (3)
لو أنّها أبصرت في نومها علفا ... غنّت له ودموع العين تنحدر:
يا مانعي لذّة الدنيا بأجمعها ... إني ليفتنني من وجهك النظر (4)
وقال أيضا: [المنسرح]
شاة سعيد في أمرها عبر ... لمّا أتتنا قد مسّها الضرر
وهي تغني من سوء حالتها ... حسبي بما قد لقيت يا عمر
مرّت بقطف خضر ينشّرها ... قوم فظنّت بأنها خضر
فأقبلت نحوها لتأكلها ... حتى إذا ما تبيّن الخبر
وأبدلتها الظنون من طمع ... يأسا تغنّت والدّمع منحدر
كانوا بعيدا وكنت آملهم ... حتى إذا ما تقربوا هجروا
وقال (5): [مجزوء الخفيف]
لسعيد شويهة ... سلّها الضّرّ والعجف (6)
قد تغنّت وأبصرت ... رجلا حاملا علف:
بأبي من بكفّه ... برء ما بي من الدّنف
فأتاها مطمّعا ... وأتته لتعتلف (7)
فتولّى فأقبلت ... تتغنّى من الأسف:
ليته لم يكن وقف ... عذّب القلب وانصرف
[قال]: وإذ قد جرت بعض تضمينات الحمدوني في هذا الموضع فأنا أذكر هنا قطعة من شعره في الطيلسان، وأنعطف في غير هذا الموضع إليها وأكرّ عليها وكان أحمد بن
__________
(1) فوات الوفيات (ج 1ص 174) وجاء فيه أن الشعر قاله في شاة سعيد.
(2) في فوات الوفيات: «أيا سعيد لنا».
(3) في المصدر نفسه: «الماء» بدل «الشمس».
(4) في المصدر نفسه: «ليقنعني» بدل ليفتنني».
(5) في الأصل: «قال». والأبيات في فوات الوفيات (ج 1ص 174).
(6) في فوات الوفيات: «التلف» بدل «العجف».
(7) في فوات الوفيات: «فأتته» بدل «وأتته».(1/486)
حرب المهلّبي من المنعمين عليه، والمحسنين إليه، وله فيه مدائح كثيرة، فوهب له طيلسانا أخضر لم يرضه، قال أبو العباس المبرّد: فأنشدنا فيه عشر مقطعات، فاستحلينا مذهبه فيها، فجعلها فوق الخمسين فطارت كل مطار، وسارت كل مسار، فمنها (1):
[الخفيف]
يا ابن حرب كسوتني طيلسانا ... ملّ من صحبة الزمان وصدّا (2)
فحسبنا نسج العناكب قد حا ... ل إلى ضعف طيلسانك سدّا
طال ترداده إلى الرّفو حتى ... لو بعثناه وحده لتهدّى
وقال فيه أيضا (3): [البسيط]
يا طيلسان ابن حرب قد هممت بأن ... تودي بجسمي كما أودى بك الزّمن
ما فيك من ملبس يغني ولا ثمن ... قد أوهنت حيلتي أركانك الوهن (4)
فلو تراني لدى الرّفّاء مرتبطا ... كأنني في يديه الدهر مرتهن
أقول حين رآني الناس ألزمه ... كأنما لي في حانوته وطن
«من كان يسأل عنّا أين منزلنا ... فالأقحوانة منّا منزل قمن» (5)
وقال (6): [مجزوء الكامل]
قل لابن حرب طيلسا ... نك قوم نوح منه أحدث
أفنى القرون ولم يزل ... عمّن مضى من قبل يورث (7)
وإذا العيون لحظنه ... فكأنه باللّحظ يحرث (8)
يودي إذا لم أرفه ... فإذا رفوت فليس يلبث
كالكلب إن تحمل علي ... هـ الدّهر أو تتركه يلهث
__________
(1) البيتان الأول والثالث في فوات الوفيات (ج 1ص 173) ووفيات الأعيان (ج 7ص 96).
(2) في وفيات الأعيان: «فصدّا» بدل «وصدّا».
(3) الأبيات في فوات الوفيات (ج 1ص 175).
(4) في فوات الوفيات: «حيلي» بدل «حيلتي».
(5) هذا البيت لحارث بن خالد المخزومي، وهو في الأغاني (ج 3ص 322). والقمن: الخليق والجدير. محيط المحيط (قمن). والأقحوانة: موضع قرب مكة. معجم البلدان (ج 1ص 234).
(6) الأبيات في وفيات الأعيان (ج 7ص 97).
(7) رواية صدر البيت في وفيات الأعيان هي: هو طيلسان لم يزل
(8) في وفيات الأعيان: «فإذا» بدل «وإذا».(1/487)
وقال (1): [الكامل]
قل لابن حرب طيلسانك قد ... أوهى قواي بكثرة الغرم (2)
متبيّن فيه لمبصره ... آثار رفو أوائل الأمم
وكأنه الخمر التي وصفت ... في «يا شقيق الروح من حكم» (3)
فإذا رممناه فقيل لنا: ... قد صحّ، قال له البلى: انهدم
مثل السّقيم برا فراجعه ... نكس فأسلمه إلى سقم (4)
أنشدت حين طغى فأعجزني ... «ومن العناء رياضة الهرم»
«الخمر التي وصفت» من قول أبي نواس (5): [المديد]
يا شقيق النّفس من حكم ... نمت عن ليلي ولم أنم
فاسقني البكر التي اعتجرت ... بخمار الشّيب في الرّحم (6)
ثمّت انصات الشباب لها ... بعد أن جازت مدى الهرم
فهي لليوم الذي بزلت ... وهي تلو الدّهر في القدم (7)
عتّقت حتى لو اتّصلت ... بسلان ناطق وفم
لاحتبت في القوم ماثلة ... ثم قصّت قصّة الأمم
فرعتها بالمزاج يد ... خلقت للكاس والقلم (8)
وقال الحمدوني (9): [الرمل]
طيلسان لابن حرب جاءني ... خلعة في يوم نحس مستمرّ
__________
(1) الأبيات في فوات الوفيات (ج 1ص 175).
(2) في فوات الوفيات: «أودى» بدل «أوهى».
(3) في المصدر نفسه: «فكأنه الخمر شقيق النفس». وما بين شولتين صدر بيت لأبي نواس، والبيت بتمامه كما في الديوان (ص 41) هكذا:
يا شقيق النّفس من حكم ... نمت عن ليلي ولم أنم
(4) في فوات الوفيات: «بري» بدل «برا». والنّكس، بضم النون وسكون الكاف: عود المرض بعد النّقه.
القاموس المحيط (نكس).
(5) ديوان أبي نواس (ص 41).
(6) رواية صدر البيت في الديوان هي: فآسقني الخمر التي اختمرت
ويقال: اعتجرت بغلام أو جارية: أي ولدته بعد يأسها من الولد. القاموس المحيط (عجر).
(7) في الديوان: «ترب» بدل «تلو».
(8) في الديوان: «قرّعتها» بدل «فرعتها».
(9) الأبيات في فوات الوفيات (ج 1ص 176) دون تغيير عمّا هنا.(1/488)
فإذا ما صحت فيه صيحة ... تركته كهشيم المحتظر
وإذا ما الرّيح هبّت نحوه ... طيّرته كالجراد المنتشر
مهطع الدّاعي إلى الرّافي إذا ... ما رآه قال: ذا شيء نكر
وإذا رفّاؤه حاول أن ... يتلافاه تعاطى فعقر
وقال (1): [المتقارب]
أيا طيلساني أعييت طبّي ... أسلّ بجسمك أم داء حبّ؟
ويا ريح صيّرتني أتّقيك ... وقد كنت لا أتّقي أن تهبّي
ومستخبر خبر الطيلسان ... فقلت له الروح من أمر ربّي
وقال فيه (2): [الرمل]
طيلسان لابن حرب جاءني ... قد قضى التمزيق منه وطره
أنا من خوف عليه أبدا ... سامريّ ليس يألوه حذره (3)
يا ابن حرب خذه أو فابعث بما ... نشتري عجلا بصفر عشره
فلعلّ الله يحييه لنا ... إن ضربناه ببعض البقره
فهو قد أدرك نوحا، فعسى ... عنده من علم نوح خبره (4)
أبدا يقرأ من أبصره ... {(أَإِذََا كُنََّا عِظََاماً نَخِرَةً)} (5)
وقال فيه (6): [الخفيف]
يا ابن حرب أطلت فقري برفوي ... طيلسانا قد كنت عنه غنيّا (7)
فهو في الرّفو آل فرعون في العر ... ض على النار غدوة وعشيّا (8)
زرت فيه معاشرا فازدروني ... فتغنّيت إذا رأوني زريّا:
جئت في زيّ سائل كي أراكم ... وعلى الباب قد وقفت مليّا
__________
(1) الأبيات في فوات الوفيات (ج 1ص 176) دون تغيير عمّا هنا.
(2) فوات الوفيات (ج 1ص 176).
(3) في فوات الوفيات: «خوفي» بدل «خوف».
(4) في المصدر نفسه: «فعسى قد حوى من علم».
(5) في المصدر نفسه: «يبصره» بدل «أبصره». وعجزه آية قرآنية رقمها 11من سورة النازعات 79.
(6) الأبيات في فوات الوفيات (ج 1ص 177) والبيتان الأول والثاني في وفيات الأعيان (ج 7ص 96).
(7) في وفيات الأعيان: «وتري» بدل «فقري». ورفا الثوب: أصلحه. القاموس المحيط (رفا).
(8) في وفيات الأعيان وفوات الوفيات: «بكرة» بدل «غدوة».(1/489)
وقال فيه (1): [الوافر]
وهبت لنا ابن حرب طيلسانا ... يزيد المرء ذا الضّعة اتّضاعا (2)
يسلّم صاحبي فيعيد شتمي ... لأنّ الروح يكسبه انصداعا (3)
أجيل الطّرف في طرفيه طولا ... وعرضا ما أرى إلّا رقاعا
فلست أشكّ أن قد كان قدما ... لنوح في سفينته شراعا (4)
فقد غنّيت إذ أبصرت منه ... جوانبه على بدني تداعى (5):
«قفي قبل التفرّق يا ضباعا ... ولا يك موقف منك الوداعا»
[من أخبار المأمون]
دخل المأمون بعض الدواوين، فرأى غلاما جميلا على أذنه قلم، فقال: من أنت يا غلام؟ فقال: أنا يا أمير المؤمنين الناشىء في دولتك، المتقلّب في نعمتك، المؤمّل لخدمتك، خادمك وابن خادمك الحسن بن رجاء. فقال: أحسنت يا غلام، وبالإحسان في البديهة تفاضلت العقول. فأمر أن يرفع عن مرتبة الديوان.
قال أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج: قال لي أبو العباس المبرّد: ما رأيت في أصحاب السلطان مثل إسماعيل والحسن كنت إذا رأيته رأيت رجلا كأنما خلق لذروة منبر، أو صدر مجلس، يتكلّم وكأنه يتنفّس، يسهب ويطنب، ويعرب ويغرب، ولا يعجب ويعجب.
أراد القاضي إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد، والحسن ابن رجاء بن أبي الضحاك.
[من أخبار المبرد]
وكان أبو العباس يعدّ في البلغاء، وقال: لما دخلت على المتوكل اختار لي الفتح ابن خاقان وقت شربه، وكان الشراب قد أخذ منه، فسألني وقال: يا بصري، أرأيت أحسن
__________
(1) وفيات الأعيان (ج 7ص 96).
(2) رواية صدر البيت في وفيات الأعيان هي: رأينا طيلسانك يا ابن حرب.
(3) في وفيات الأعيان: «صاحبي فيقدّ شبرا به وأقدّ في ردّي ذراعا».
(4) في وفيات الأعيان: «دهرا» بدل «قدما».
(5) في المصدر نفسه: «وقد غنّيت منه بقاياه على كتفي تداعى».(1/490)
وجها مني؟ فقلت: لا والله ولا أسمح راحة، ثم تجاسرت فقلت: [الوافر]
جهرت بحلفة لا أتّقيها ... بشّك في اليمين ولا ارتياب
بأنك أحسن الخلفاء وجها ... وأسمح راحتين، ولا أحابي (1)
وأنّ مطيعك الأعلى محلّا ... ومن عاصاك يهوى في تباب (2)
فقال: أحسنت وأجملت في حسن طبعك وبديهتك، فقلت: ما ظننتني أبلغ هذا الشرف، ولا أنال هذه الرتبة فلا زال أمير المؤمنين يسمو بخدمه إلى أعلى المراتب، ويصرّفهم في المذاهب.
وكان ابن المعتزّ قد غضب على بعض وكلائه، فصار إلى أبي العباس المبرّد يسأله أن يكلّمه له فكتب إليه المبرّد: أنت والله كما قال مسلم بن الوليد في جدّك الرشيد:
[الكامل]
بأبي وأمي أنت ما أندى يدا ... وأبرّ ميثاقا، وما أزكاكا
يغدو عدوّك خائفا، فإذا رأى ... أن قد قدرت على العقاب رجاكا
وهذا معنى كثير.
[في المدح]
أنشد أحمد بن يحيى ثعلب الأعرابي: [الطويل]
كريم يغضّ الطّرف فضل حيائه ... ويدنو وأطراف الرماح دواني
وكالسيف إن لم ينته لان متنه ... وحدّاه إن خاشنته خشنان
وهذا يناسب قول ابن المعتز في بعض جهاته:
ويجرح أحشائي بعين مريضة ... كما لان متن السيف والحدّ قاطع
وقال الأخطل في بني مروان (3): [البسيط]
صم عن الجهل، عن قيل الخنا أنف ... إذا ألمّت بهم مكروهة صبروا (4)
__________
(1) حاباه محاباة: نصره ومال إليه. القاموس المحيط (حبا).
(2) التّباب، بالفتح: النقص والخسار. القاموس المحيط (تبب).
(3) ديوان الأخطل التغلبي (ص 171).
(4) رواية صدر البيت في الديوان هي: حشد على الحقّ، عيّافو الخنى أنف(1/491)
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا (1)
وقال إبراهيم بن عليّ بن هرمة يمدح أبا جعفر المنصور: [الطويل]
كريم له وجهان وجه لدى الرضا ... طليق، ووجه في الكريهة باسل
وليس بمعطي الحقّ من غير قدرة ... ويعفو إذا ما أمكنته المقاتل
له لحظات من حفافي سريره ... إذا كرّها فيها عقاب ونائل
فأمّ الذي أمّنت آمنة الرّدى ... وأمّ الذي حاولت بالثكل ثاكل
وقال الطائي في أبي سعيد محمد بن يوسف (2): [الطويل]
هو السيل إن واجهته انقدت طوعه ... وتقتاده من جانبيه فيتبع
وكان عصابة الجرجاني، واسمه إسماعيل بن محمد، منقطعا إلى الحسن بن رجاء متّصلا به، وهو القائل فيه: [الكامل]
ومحجّب بالنور ليس بمدرك ... إلّا بما تأتي به الأنباء
ملك يحبّ الله فهو يحبّه ... ويطيعه فتطيعه الأشياء
يمشي الهوينا للصلاة يقيمها ... وإذا مشى للحرب فالخيلاء
لله درّك أيما ابن عزيمة ... يشوي الزمان وما له إشواء
ثم عتب عليه في بعض الأمر، فهجاه هجاء قبيحا فهرب إلى عمان، ثم اعتذر إليه بقصيدته التي أولها: [الكامل]
لا تخضبنّ عوالي المرّان ... إلّا من العلق النّجيع الآن (3)
وهي أجود شعر قيل في معناه، وهي التي يقول فيها:
اقر السلام على الأمير، وقل له: ... إنّ المنادمة الرضاع الثّاني
ما إن أتى حشمي بأنّك ساخط ... حتى استخفّ بموضعي غلماني
وغدت عليّ مطاعمي ومشاربي ... وملابسي من أعون الأعوان
__________
(1) شمس العداوة: أي يبدون العداوة ويقال: شمس له إذا أبدى له عداوة. القاموس المحيط (شمس).
(2) ديوان أبي تمام (ص 168).
(3) العوالي: جمع عالية وهي رأس القناة. المرّان: الرماح الصّلبة اللّدنة، واحدتها مرّانة. العلق، بالفتح: الدم والنجيع من الدم: ما كان إلى السواد. الآني: الحارّ. القاموس المحيط (علا) و (مرن) و (علق) و (نجع) و (أنى).(1/492)
فكتب إليه الحسن: [الكامل]
أبلغ أبا إسحاق أنّ محلّه ... مني بحيث الرأس والعينان
لا تبعدنّ بك الديار لنزغة ... ولتبعدنّ نوازغ الشيطان
فليفرخ الرّوع الذي روّعته ... إنّ المحلّ محلّ كلّ أمان
[بين جميل وعمر بن أبي ربيعة]
اجتمع جميل بن معمر العذري بعمر بن أبي ربيعة المخزومي، فأنشده جميل قصيدته التي أولها (1): [الطويل]
لقد فرح الواشون أن صرمت حبلي ... بثينة أو أبدت لنا جانب البخل
يقولون: مهلا يا جميل، وإنّني ... لأقسم ما لي عن بثينة من مهل
خليليّ فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي؟
نقله أبو العتاهية، فقال (2): [السريع]
يا من رأى قبلي قتيلا بكى ... من شدّة الوجد على القاتل
فلمّا أتمّها قال لعمر: يا أبا الخطاب، هل قلت في هذا الرويّ شيئا؟ قال: نعم، ثم أنشده (3): [الطويل]
جرى ناصح بالودّ بيني وبينها ... فعرّضني يوم الحصاب إلى قتلي (4)
فما أنس م الأشياء لا أنس قولها ... وموقفها يوما بقارعة النخل (5)
فلمّا تواقفنا عرفت الذي بها ... كمثل الذي بي حذوك النّعل بالنّعل
فسلّمت واستأنست خيفة أن يرى ... عدوّ مكاني أو يرى حاسد فعلي (6)
وأقبل أمثال الدّمى يكتنفنها ... وكلّ يفدّي بالمودّة والأهل (7)
فقالت وأرخت جانب السّتر: إنما ... معي فتكلّم غير ذي رقبة أهلي (8)
__________
(1) ديوان جميل بثينة (ص 3736).
(2) لم يرد البيت في ديوان أبي العتاهية.
(3) ديوان عمر بن أبي ربيعة (ص 293).
(4) الحصاب: موضع الجمار بمنى. لسان العرب (حصب).
(5) في الديوان: «موقفي» بدل «قولها».
(6) في الديوان: «كاشح» بدل «حاسد».
(7) رواية صدر البيت في الديوان هي: وقمن إليها كالدّمى فاكتنفنها
(8) في الديوان: «فتحدث» بدل «فتكلم».(1/493)
فقلت لها: ما بي لهم من ترقّب ... ولكنّ سرّي ليس يحمله مثلي
فاستخذى (1) جميل وصاح: هذا والله الذي طلبت الشعراء فأخطأته، فتعلّلوا بوصف الديار، ونعت الأطلال.
ولمّا مات عمر بن أبي ربيعة نعي لأمرأة من مولّدات مكة، وكانت بالشام، فبكت وقالت: من لأباطح مكة؟ ومن يمدح نساءها، ويصف محاسنهن، ويبكي طاعتهن؟! فقيل لها: قد نشأ فتى من ولد عثمان بن عفان (2) على طريقته، فقالت: أنشدوني له، فأنشدوها: [الطويل]
وقد أرسلت في السرّ ليلى بأن أقم ... ولا تقربنّا فالتجنّب أجمل
لعلّ العيون الرامقات لوصلنا ... تكذب عنّا أو تنام فتغفل
أناس أمنّاهم فبثّوا حديثنا ... فلمّا كتمنا السّرّ عنهم تقوّلوا
فما حفظوا العهد الذي كان بيننا ... ولا حين همّوا بالقطيعة أجملوا
فتسلّت وقالت: هذا أجلّ عوض، وأفضل خلف، فالحمد لله الذي خلف على حرمه وأمته مثل هذا.
وقال عروة بن أذينة: أنشدت ابن أبي عتيق للعرجي: [الطويل]
فما ليلة عندي وإن قيل ليلة ... ولا ليلة الأضحى ولا ليلة الفطر
بعادلة الاثنين، عندي وبالحرا ... يكون سواء مثلها ليلة القدر (3)
وما أنس م الأشياء لا أنس قولها ... لجارتها: قومي سلي لي عن الوتر (4)
فجاءت تقول الناس في ست عشرة ... ولا تعجلي عنه فإنك في أجر
فقال ابن أبي عتيق: هذه أفقه من ابن أبي شهاب أشهدكم أنّها حرّة من مالي إن أجاز أهلها ذلك.
والعرجيّ هو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكان ينزل بعرج الطائف فنسب إليه، وهو القائل (5): [المنسرح]
هل في ادّكاري الحبيب من حرج ... أم هل لهمّ الفؤاد من فرج
__________
(1) استخذى: خضع. محيط المحيط (خذي).
(2) الفتى هو العرجي، وسيترجم له المؤلف بعد قليل.
(3) بالحرا يكون: أي حريّ به. القاموس المحيط (حرا).
(4) الوتر: الفرد أو ما لم يتشفّع من العدد. القاموس المحيط (وتر).
(5) الأبيات في معجم البلدان (ج 1ص 250، مادة أمج)، ببعض الاختلاف عمّا هنا.(1/494)
أم كيف أنسى مسيرنا حرما ... يوم حللنا بالنّخل من أمج (1)
يوم يقول الرسول قد أذنت ... فأت على غير رقبة فلج (2)
أقبلت أهوي إلى رحالهم ... أهدى إليها بريحها الأرج
وكان محمد بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم واليا على مكة وهو خال هشام بن عبد الملك بلغه أنّ العرجيّ هجاه، فضربه ضربا مبرحا، وأقامه على أعين الناس، فجعل يقول: [الوافر]
سيغضب لي الخليفة بعد رقّي ... ويسأل أهل مكة عن مساقي
عليّ عباءة برقاء ليست ... من البلوى تجاوز نصف ساقي
وتغضب لي بأسرتها قصيّ ... ولاة الشعب والطّرق العماق
فحلف محمد بن هشام ألا يخرجه ما دامت له ولاية فأقام في السجن سبع سنين حتى مات، وهو القائل في سجنه: [الوافر]
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
وخلّوني ومعترك المنايا ... وقد شرعت أسنّتهم لنحري
كأني لم أكن فيهم وسيطا ... ولم تك نسبتي في آل عمرو
أجرّر في الجوامع كلّ يوم ... ألا لله مظلمتي وهصري
عسى الملك المجيب لمن دعاه ... سينجيني فيعلم كيف شكري
فأجزي بالكرامة أهل ودّي ... وأجزي بالضغائن أهل ضرّي
جملة من الفصول القصار لابن المعتز
البشر دالّ على السخاء كما يدلّ النّور على الثمر. إذا اضطررت إلى الكذّاب فلا تصدّقه، ولا تعلمه أنك تكذّبه، فينتقل عن ودّه، ولا ينتقل عن طبعه. كما أن الشمس لا يخفى ضوءها وإن كانت تحت السحاب كذلك الصبيّ لا تخفى غريزة عقله وإن كان مغمورا بأخلاق الحداثة. كرم الله، عزّ وجلّ، لا ينقض حكمته، ولذلك لا يجعل الإجابة في كل دعوة. كما أنّ جلاء السيف أهون من صنعه، كذلك استصلاح الصديق أهون من اكتساب غيره. إذا استرجع الله مواهب الدنيا كانت مواهب الآخرة. لولا ظلمة الخطا ما
__________
(1) أمج، بفتح الهمزة والميم: بلد من أعراض المدينة. معجم البلدان (ج 1ص 249).
(2) الرّقبة، بكسر الراء وسكون القاف: التحفظ والفرق. فلج: أمر من الولوج وهو الدخول. القاموس المحيط (رقب) و (ولج).(1/495)
أشرق نور الصواب. الحوادث الممضّة مكسبة لحظوظ جزيلة من صواب مدّخر، وتطهير من ذنب، وتنبيه من غفلة، وتعريف بقدر النعمة، ومرون على مقارعة الدهر.
ومثل هذا الفصل محفوظ عن ذي الرياستين، قاله بعقب علّة فأغار عليه ابن المعتز.
وكتب إلى أحمد بن محمد جوابا عن كتاب استزاده فيه: قيّد نعمتي عندك بما كنت استدعيتها به، وذبّ عنها أسباب سوء الظنّ، واستدم ما تحبّ مني بما أحبّ منك.
وكتب إليه: والله لا قابل إحسانك مني كفر، ولا تبع إحساني إليك منّ، ولك عندي يد لا أقبضها عن نفعك، وأخرى لا أبسطها إلى ظلمك، فتجنّب ما يسخطني فإني أصون وجهك عن ذلّ الاعتذار.
وكان أحمد بن سعيد يؤدّبه فتحمل البلاذري على قبيحة أم ابن المعتز بقوم سألوا أن تأذن له أن يدخل إلى ابن المعتز وقتا من النهار، فأجابت أو كادت تجيب، قال ابن سعيد:
فلمّا اتصل الخبر بي جلست في منزلي غضبان لما بلغني عنها، فكتب إليّ ابن المعتز وله ثلاث عشرة سنة: [البسيط]
أصبحت يا ابن سعيد خدن مكرمة ... عنها يقصّر من يخفى وينتعل (1)
سربلتني حكمة قد هذّبت شيمي ... وأجّجت نار ذهني فهي تشتعل
أكون إن شئت قسّا في خطابته ... أو حارثا وهو يوم الحفل مرتجل
وان أشأ فكر زيد في فرائضه ... أو مثل نعمان لما ضاقت الحيل
أو الخليل عروضيّا أخا فطن ... أو الكسائيّ نحويّا له علل
تعلو بداهة ذهني في مراكبها ... كمثل ما عرفت آبائي الأول
وفي فمي صارم ما سلّه أحد ... من غمده فدرى ما العيش والجذل
عقباك شكر طويل لا نفاد له ... يبقى بجدّته ما أطّت الإبل (2)
وقسّ الذي ذكر: هو قسّ بن ساعدة الإيادي، وقد سمع النبيّ، صلّى الله عليه وسلم، شعره، وعجب منه.
وحارث: هو الحارث بن حلّزة اليشكري، وصف ارتجاله يوم فخره بقصيدته التي أنشدها بحضرة عمرو بن هند التي أولها: [الخفيف]
آذنتنا ببينها أسماء ... ربّ ثاو يملّ منه الثّواء
__________
(1) الخدن: الصاحب. القاموس المحيط (خدن).
(2) أطّت الإبل: أنّت تعبا أو حنينا. القاموس المحيط (اطط).(1/496)
وزيد: هو زيد بن ثابت الأنصاري، وإليه انتهى علم الفرائض. ونعمان: هو أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه بن ثابت، سبق أهل العراق في الفقه. والخليل بن أحمد الفرهودي، ويقال: الفراهيدي، منسوب إلى حيّ في الأزد، اليحمري. والكسائي:
علي بن حمزة الكوفي.
[من إنشاء ابن العميد]
وكتب أبو الفضل محمد بن العميد إلى بعض إخوانه:
أنا أشكو إليك جعلني الله فداك دهرا خؤونا غدورا، وزمانا خدوعا غرورا، لا يمنح ما يمنح إلّا ريث ما ينتزع، ولا يبقى فيما يهب إلّا ريث ما يرتجع، يبدو خيره لمعا ثم ينقطع، ويحلو ماؤه جرعا ثم يمتنع. وكانت منه شيمة مألوفة، وسجيّة معروفة، أن يشفع ما يبرمه بقرب انتقاض، ويهدي لما يبسطه وشك انقباض، وكنّا نلبسه على ما شرط، وإن خان وقسط ونرضى على الرغم بحكمه، ونستئمّ (1) بقصده وظلمه، ونعتدّ من أسباب المسرّة ألّا يجيء محذوره مصمتا بلا انفراج، ولا يأتي مكروهه صرفا بلا مزاج، ونتعلّل بما نختلسه من غفلاته، ونسترقه من ساعاته. وقد استحدث غير ما عرفناه سنّة مبتدعة، وشريعة متّبعة، وأعدّ لكل صالحة من الفساد حالا، وقرن بكلّ خلّة من المكروه خلالا.
وبيان ذلك جعلني الله فداك أنه كان يقنع من معارضته الإلفين، بتفريق ذات البين، فقد أثني ممنوّا فيك بجميع ما أوغره، وما أطويه من البلوى منك أكثر مما أنشره، وأحسبني قد ظلمت الدهر بسوء الثناء عليه، وألزمته جرما لم يكن قدره بما يحيط به، وقدرته ترتقي إليه، ولو أنك أعنته وظاهرته، وقصدت صرفه وآزرته، وبعتني بيع الخلق وليس فيمن زاد ولكن فيمن نقص، ثم أعرضت عني إعراض غير مراجع، واطّرحتني اطّراح غير مجامل فهلّا وجدت نفسك أهلا للجميل حين لم تجدني هناك، وأنفذت من جلّ ما عقدت من غير جريمة، ونكثت ما عهدت من غير جريرة (2)، فأجبني عن واحدة منهما ما هذا التّغالي بنفسك، والتّعالي على صديقك؟ ولم نبذتني نبذ النّواة، وطرحتني طرح القذاة؟ ولم تلفظني من فيك، وتمجّني من حلقك؟ وأنا الحلال الحلو، والبارد العذب، كيف لا تخطرني ببالك خطرة، وتصيّرني من أشغالك مرة فترسل سلاما إن لم تتجشّم مكاتبة، وتذكرني فيمن تذكر إن لم تكن مخاطبة؟ وأحسب كتابي سيرد عليك فتنكره حتى تتثبّت، ولا تجمع بين اسم كاتبه وتصوّر شخصه حتى تتذكّر فقد صرت عندك ممن محا النسيان
__________
(1) استأمّه: اتخذه إماما. القاموس المحيط (أمم).
(2) الجريرة: الذنب والجناية. القاموس المحيط (جرر).(1/497)
صورته من صدرك، واسمه من صحيفة حفظك، ولعلّك أيضا تتعجب من طمعي فيك وقد تولّيت، واستمالتي لك وقد أبيت، ولا عجب فقد يتفجّر الصّخر بالماء الزلال، ويلين من هو أقسى منك قلبا فيعود إلى الوصال، وآخر ما أقوله أنّ ودّي وقف عليك، وحبس في سبيلك، ومتى عدت إليه وجدته غضّا طريّا، فجرّبه في المعاودة فإنه في العود أحمد.
اجتليت هذا الكلام على اختيار الاختصار.
حلّ قوله «فقد يتفجر الصخر بالماء الزلال» من قول ابن الرومي: [مجزوء الرمل]
يا شبيه البدر في الحس ... ن وفي بعد المنال
جد فقد تتفجر الصّخ ... رة بالماء الزّلال
وفي هذه الرسالة في ذكر فتح وإن لم يستبق منه المعنى:
وقد خصّنا الله تعالى معاشر عبد الأمير عضد الدولة بنعمة يعلو مراتب النعم موقعها، ويفوت مقدار المواهب موضعها، فباسمه أبقاه الله فتح الفتح، وبشعاره استنزل النّجع، وبيمن نقيبته فرج الكرب، وبسعادة جدّه كشف الخطب، وباهتزازه للدولة وحمايته عاد إليها ماؤها، وراجعها بهاؤها، فعزّ الملك ونصر، وذلّ العدو وقهر، وحميت أطراف الدولة، وحفظت أكناف الملّة، واستجدّ نظام النعمة، وسدلت ستور الصيانة دون الحرمة ولو جعل المولى تقدّس اسمه لنعمته إذا تناهت على عبيده جزاء غير الإخلاص في شكره، وقبل ما في مقابلة الموهبة التي يستجدها عند خلقه غير الإغراق في حمده، لرأيت ألّا أقتصر في قضاء حقّه على بعض الملك دون بعض، ولجعلت في صدر ما أبذل عن هذه النعمة الأعزّين الأهل والولد، والأنصرين الساعد والعضد، بل العميدين القلب والكبد بل النفس كلّها، والمهجة بأسرها.
[ما قيل في العتاب]
وقال سعيد بن حميد يعاتب بعض 7خوانه: [الكامل]
أقلل عتابك فالبقاء قليل ... والدّهر يعدل تارة ويميل
لم أبك من زمن ذممت صروفه ... إلّا بكيت عليه حين يزول
ولكلّ نائبة ألمّت مدّة ... ولكلّ حال أقبلت تحويل
والمنتمون إلى الإخاء جماعة ... إن حصّلوا أفناهم التحصيل
ولعل أحداث المنيّة والرّدى ... يوما ستصدع بيننا وتحول
فلئن سبقت لتبكينّ بحسرة ... وليكثرنّ عليّ منك عويل
ولتفجعنّ بمخلص لك وامق ... حبل الوفاء بحبله موصول
ولئن سبقت ولا سبقت ليمضين ... من لا يشكاله لديّ خليل
وليذهبنّ بهاء كلّ مروءة ... وليفقدنّ جمالها المأهول
وأراك تكلف بالعتاب وودّنا ... ضاف عليه من الوفاء دليل
ودّ بدا لذويّ الإخاء جماله ... وبدت عليه بهجة وقبول
ولعلّ أيام الحياة قليلة ... فعلام يكثر عتبنا ويطول؟
وقال أيضا: [الطويل](1/498)
أقلل عتابك فالبقاء قليل ... والدّهر يعدل تارة ويميل
لم أبك من زمن ذممت صروفه ... إلّا بكيت عليه حين يزول
ولكلّ نائبة ألمّت مدّة ... ولكلّ حال أقبلت تحويل
والمنتمون إلى الإخاء جماعة ... إن حصّلوا أفناهم التحصيل
ولعل أحداث المنيّة والرّدى ... يوما ستصدع بيننا وتحول
فلئن سبقت لتبكينّ بحسرة ... وليكثرنّ عليّ منك عويل
ولتفجعنّ بمخلص لك وامق ... حبل الوفاء بحبله موصول
ولئن سبقت ولا سبقت ليمضين ... من لا يشكاله لديّ خليل
وليذهبنّ بهاء كلّ مروءة ... وليفقدنّ جمالها المأهول
وأراك تكلف بالعتاب وودّنا ... ضاف عليه من الوفاء دليل
ودّ بدا لذويّ الإخاء جماله ... وبدت عليه بهجة وقبول
ولعلّ أيام الحياة قليلة ... فعلام يكثر عتبنا ويطول؟
وقال أيضا: [الطويل]
لقد ساءني أن ليس لي عنك مذهب ... ولا لك عن سوء الخليقة مرغب
أفكر في ودّ تقادم بيننا ... وفي دونه قربى لمن يتقرّب
وأنت سقيم الودّ رثّ حباله ... وخير من الودّ السقيم التجنّب
تسيء وتأبى أن تعقّب بعده ... بحسني، وتلقاني كأني مذنب
وأحذر إن جازيت بالسوء والقلى ... مقالة أقوام هم منك أنجب
أساء اختيارا أو عرته ملالة ... فعاد يسيء الظنّ أو يتعتّب
فخبت من الودّ الذي كان بيننا ... كما خاب راجي البرق والبرق خلّب (1)
وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: [الطويل]
إلى كم يكون الصّدّ في كلّ ساعة ... ولم لا تملّنّ القطيعة والهجرا؟
رويدك! إنّ الدهر فيه بقيّة ... لتفريق ذات البين فانتظر الدّهرا
آخر: [الكامل]
ولقد علمت فلا تكن متجنّبا ... أنّ الصدود هو الفراق الأوّل
حسب الأحبّة أن يفرّق بينهم ... صرف الزمان، فما لنا نستعجل؟
آخر: [الطويل]
ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها ... فمفترق جاران دارهما العمر
ويقرب من المعنى قول المتنبي أيضا (2): [الخفيف]
زوّدينا من حسن وجهك ما دا ... م فحسن الوجوه حال يحول (3)
__________
(1) البرق الخلّب: المطمع المخلف. القاموس المحيط (خلب).
(2) ديوان المتنبي (ص 457).
(3) في الديوان: «تحول» بدل «يحول».(1/499)
وصلينا نصلك في هذه الدّن ... يا فإنّ المقام فيها قليل
[ما يتعلق بالأعراب]
وقف أعرابيّ يسأل، فعبث به فتى، فقال: ممن أنت؟ فقال: من بني عامر ابن صعصعة، فقال: من أيّهم؟ فقال: إن كنت أردت عاطفة القرابة فليكفك هذا المقدار من المعرفة، فليس مقامي بمقام مجادلة ولا مفاخرة، وأنا أقول: فإن لم أكن من هاماتهم فلست من أعجازهم. فقال الفتى: ما رويت عن فضيلتك إلّا النقص في حسبك، فامتعض الأعرابي لذلك فجعل الفتى يعتذر، ويخلط الهزل والدعابة باعتذاره، وأطال الكلام، فقال له الأعرابي: يا هذا، إنك منذ اليوم آذيتني بمزحك، وقطعتني عن مسألتي بكلامك واعتذارك، وإنك لتكشف عن جهلك بكلامك ما كان السكوت يستره من أمرك، ويحك! إنّ الجاهل إن مزح أسخط، وإن اعتذر أفرط، وإن حدث أسقط، وإن قدر تسلّط، وإن عزم على أمر تورّط، وإن جلس مجلس الوقار تبسّط أعوذ منك ومن حال اضطرتني إلى احتمال مثلك!
وقال إسحاق الموصلي: قال أعرابي لرجل كان يعتمده بالعطية: اسأل الذي رحمني بك أن يرحمك بي.
وسأل أعرابي رجلا، فأعطاه، فقال: الحمد لله الذي ساقني إلى الرزق وساقك إلى الأجر.
[من إنشاء بديع الزمان الهمذاني]
ومن إنشاء البديع من مقامات الإسكندري:
قال: حدّثنا عيسى بن هشام قال: أفضت بي إلى بلخ تجارة البزّ، فوردتها وأنا بفروة (1) الشباب وبال الفراغ، وحلية الثروة، لا يهمنّي إلّا نزهة فكر أستفيدها، وشريدة من الكلام أصيدها فما استأذن على سمعي مسافة مقامي، أفصح من كلامي. ولمّا حنى التفرق بنا قوسه أو كاد، دخل إليّ شابّ في زي ملء العين، ولحية تشوك الأخدعين (2)، وطرف قد شرب بماء الرّافدين (3)، ولقيني من البرّ في السناء، بما زدته من الشكر والثناء ثم قال: أظعنا (4) تريد؟ قلت: إي والله، فقال: أخصب الله رائدك، ولا أضلّ قائدك،
__________
(1) الفروة: جلدة الرأس والتاج وقوله: بفروة الشباب: أي في ريعان الشباب. القاموس المحيط (فرا).
(2) الأخدع: عرق في المحجمتين وهو شعبة من الوريد. القاموس المحيط (خدع).
(3) الرافدان: هما دجلة والفرات، وهو كناية عن أنه في ريعان الشباب.
(4) الظّعن: السّير. محيط المحيط (ظعن).(1/500)
فمتى عزمت؟ فقلت: غداة غد، فقال: [الوافر]
صباح الله لا صبح انطلاق ... وطير الوصل لا طير الفراق
قال: أين تريد؟ قلت: الوطن، قال: بلّغت الوطن، وقضيت الوطر، فمتى العود؟
قلت: القابل، قال: طويت الرّيط (1)، وثنيت الخيط، فأين أنت من الكرم؟ قلت: بحيث أردت. قال: إذا رجعك الله من هذه الطريق، فاستصحب لي عدوّا في بردة صديق، من نجار الصّفر، يدعو إلى الكفر، ويرقص على الظّفر، كدارة العين، يحطّ ثقل الدّين، وينافق بوجهين! فعلمت أنه يلتمس دينارا، قلت: لك ذلك نقدا، ومثله وعدا، فأنشأ يقول: [مخلع البسيط]
رأيك ممّا خطبت أعلى ... لا زلت للمكرمات أهلا
صلبت عودا وفقت جودا ... وطبت فرعا وطبت أصلا
لا أستطيع العطاء حملا ... ولا أطيق السؤال ثقلا
قصرت عن منتهاك ظنّا ... وطلت عمّا ظننت فعلا
يا رحمة الله والمعالي ... لا لقي الدّهر منك ثكلا
قال عيسى بن هشام: فنلته الدينار، وقلت: من أين نبت هذا الفضل؟ قال: نمتني قريش، ومهّد لي الشرف في بطحائها. فقال بعض من حضر: ألست أبا الفتح السكندري؟
ألم أرك بالعراق، تطوف بالأسواق، مكدّيا بالأوراق؟ فأنشأ يقول: [مجزوء الرمل]
إنّ لله عبيدا ... أخذوا العمر خليطا
فهم يمسون أعرا ... با ويضحون نبيطا (2)
وله إلى أبي نصر الميكالي يشكو إليه خليفته بهراة:
كتابي، أطال الله بقاء الشيخ الجليل، والماء إذا طال مكثه، ظهر خبثه، وإذا سكن متنه، تحرّك نتنه، كذلك الضيف يسمج (3) لقاؤه، إذا طال ثواؤه (4)، ويثقل ظلّه، إذا انتهى محلّه، وقد حلبت أشطر خمسة أشهر بهراة وإن لم تكن دار مثلي لولا مقامه، وما كانت
__________
(1) الرّيط: جمع ريطة وهي كلّ ملاءة غير ذات لفقين، كلها نسج واحد. القاموس المحيط (ريط).
والكلام كناية عن طيّ أيام البعد عن الأهل.
(2) النبيط: جيل ينزلون بالبطائح بين العراقين. القاموس المحيط (نبط).
(3) يسمج لقاؤه: يقبح. القاموس المحيط (سمج).
(4) الثّواء: الإقامة. القاموس المحيط (ثوى).(1/501)
تسعني لولا ذمامه، ولي في بيتي قيس مثل صدق، وإن صدرا مصدر عشق: [الطويل]
وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني ... بقول يحلّ العصم سهل الأباطح
تجافيت عني حيث لا لي حيلة ... وخلّفت ما خلّفت بين الجوانح
نعم. قنصتني نعم الشيخ الجليل، فلمّا علق الجناح، وقلق البراح، طرت مطار الريح، بل مطار الرّوح، وتركتني بين قوم ينقض مسّهم الطهارة، وتوهن أكفّهم الحجارة، وحدّثت عن هذا الخليفة، بل الجيفة، أنه قال: قضيت لفلان خمسين حاجة منذ ورد هذا البلد، وليس يقنع، فما أصنع؟ فقلت: يا أحمق، إن استطعت أن تراني محتاجا، فاستطع أن أراك محتاجا إليك. أفّ لقولك ولفعلك، ولدهر أحوج إلى مثلك! وأنا أسأل الشيخ الجليل أن يبيّض وجهي بكتاب يسوّد وجهه، ويعرّفه قدره، ويملأ رعبا صدره، إلى أن تبين على صفحات جنبه، آثار ذنبه.
وله إليه يعاتبه:
قد عرف الشيخ الجليل اتّسامي بعبوديته، ولو عرفت وراء العبوديّة مكانا لبلغته معه، وأراني كلما قدمت صحبة، رجعت رتبة، وكلّما طالت خدمة، قصرت حشمة، ولست ممن يذهب عليه أن للسلطان أن يرفع عبدا حبشيا، ويضع قرشيّا، ولكن أحبّ أن أقف من مكاني على رتبة كوكبها لا يغور، ومنزلة لولبها لا يدور، فإذا عرفت قدري وخطه، لم أتخطّه، ثم إن رأيت محلّي وحدّه، لم أتعدّه، إن قدّمني يوما عليها علمت أن عناية قدمتني، وإن أخّرني عنها علمت أنّ جناية أخرتني. رفع عليّ اليوم فلان ولست أنكر سنّه وفضله، ولا أجحد بيته وأصله، ولكن لم تجر العادة بتقدّمه، لا في الأيام الخالية، ولا في هذه الأيام العالية وشديد على الإنسان ما لم يعوّد فإن كان حاسد قد همّ، أو كاشح قد نمّ، أو خطب قد ألمّ، أو أمر قد وقع وتمّ، فالشيخ الجليل أولى من يعرفه ويعرّفنيه، وإلّا فما الرأي الذي أوجب اصطناعي، ثم ضياعي، والسبب الذي اقتضى بيعي بعد ابتياعي؟
[عود إلى المأمون]
ولمّا رضي المأمون عن إبراهيم بن المهدي أمر به فأدخل عليه، فلمّا وقف بين يديه قال: وليّ الثأر محكّم في القصاص، ومن تناوله الاغترار بما مدّ له من أسباب الرجاء أمن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك الله تعالى فوق كل ذي ذنب، كما جعل كلّ ذي ذنب دونك، فإن أخذت فبحقّك، وإن عفوت فبفضلك. ثم قال: [المجتث]
ذنبي إليك عظيم ... وأنت أعظم منه
فخذ بحقّك، أو لا ... فاصفح بفضلك عنه
إن لم أكن في فعالي ... من الكرام فكنه
فقال لي: إني شاورت أبا إسحاق والعباس في قتلك، فأشارا به، قال: فما قلت لهما يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت لهما: بدأناه بإحسان، ونحن نستأمره فيه، فإن غيّر فالله يغير ما به، قال: أما أن يكونا قد نصحا في عظيم ما جرت عليه السياسة فقد فعلا وبلغا ما يبلغك، وهو الرأي السديد، ولكنك أبيت ألّا تستجلب النصر إلّا من حيث عوّدك الله. ثم استعبر باكيا، فقال له المأمون: ما يبكيك؟ قال: جذلا! إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته في الإنعام، ثم قال: إنه وإن كان قد بلغ جرمي استحلال دمي، فعلم أمير المؤمنين وفضله بلغاني عفوه، ولي بعدهما شفاعة الإقرار بالذنب، وحقّ الأبوّة بعد الأب. فقال: يا إبراهيم، لقد حبّب إليّ العفو حتى خفت ألّا أوجر عليه، أما لو علم الناس ما لنا في العفو من اللذّة لتقرّبوا إلينا بالجنايات، لا تثريب (1) عليك يغفر الله لك، ولو لم يكن في حقّ نسبك ما يبلغ الصفح عن جرمك لبلّغك ما أملت حسن تنصّلك ولطف توصّلك، ثم أمر بردّ ضياعه وأمواله، فقال: [البسيط](1/502)
ذنبي إليك عظيم ... وأنت أعظم منه
فخذ بحقّك، أو لا ... فاصفح بفضلك عنه
إن لم أكن في فعالي ... من الكرام فكنه
فقال لي: إني شاورت أبا إسحاق والعباس في قتلك، فأشارا به، قال: فما قلت لهما يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت لهما: بدأناه بإحسان، ونحن نستأمره فيه، فإن غيّر فالله يغير ما به، قال: أما أن يكونا قد نصحا في عظيم ما جرت عليه السياسة فقد فعلا وبلغا ما يبلغك، وهو الرأي السديد، ولكنك أبيت ألّا تستجلب النصر إلّا من حيث عوّدك الله. ثم استعبر باكيا، فقال له المأمون: ما يبكيك؟ قال: جذلا! إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته في الإنعام، ثم قال: إنه وإن كان قد بلغ جرمي استحلال دمي، فعلم أمير المؤمنين وفضله بلغاني عفوه، ولي بعدهما شفاعة الإقرار بالذنب، وحقّ الأبوّة بعد الأب. فقال: يا إبراهيم، لقد حبّب إليّ العفو حتى خفت ألّا أوجر عليه، أما لو علم الناس ما لنا في العفو من اللذّة لتقرّبوا إلينا بالجنايات، لا تثريب (1) عليك يغفر الله لك، ولو لم يكن في حقّ نسبك ما يبلغ الصفح عن جرمك لبلّغك ما أملت حسن تنصّلك ولطف توصّلك، ثم أمر بردّ ضياعه وأمواله، فقال: [البسيط]
رددت مالي ولم تبخل عليّ به ... وقبل ردّك مالي قد حقنت دمي
وقام علمك بي فاحتجّ عندك لي ... مقام شاهد عدل غير متّهم
فلو بذلت دمي أبغي رضاك به ... والمال حتى أسلّ النّعل من قدمي
ما كان ذاك سوى عاريّة سلفت ... لو لم تهبها لكنت اليوم لم تلم
أخذ معنى قول المأمون: «لقد حبّب إليّ العفو حتى خفت إلّا أوجر عليه» أبو تمام الطائي فقال (2): [الكامل]
لو يعلم العافون كم لك في الندى ... من لذّة وقريحة لم تخمد (3)
فكان أبو تمام في هذا كما قال أبو العباس المعتز في القاسم بن عبيد الله:
إذا ما مدحناه استعنّا بفعله ... فنأخذ معنى قولنا من فعاله
وكان تصويب إبراهيم لرأي أبي إسحاق المعتصم والعباس بن المأمون ألطف في طلب الرضا ودفع المكروه واستمالتهما إلى العاطفة عليه من الإزراء عليهما في رأيهما،
__________
(1) لا تثريب عليك: لا لوم عليك. القاموس المحيط (ثرب).
(2) ديوان أبي تمام (ص 101) من قصيدة مديح.
(3) في الديوان: «فرحة» بدل «لذّة».(1/503)
وكان إبراهيم يقول: والله ما عفا عني لرحم ولا لمحبة ولكن قامت له سوق في العفو كره أن يفسدها [بي].
وكان المأمون شاور في قتل إبراهيم أحمد بن أبي خالد الأحوال، فقال: إن قتلته فلك نظير وإن عفوت عنه فلا نظير لك فأختار لك العفو.
[بين المأمون وإسحاق بن العباس]
وقال المأمون لإسحاق بن العباس: لا تحسبني أغفلت أمر ابن المهدي وتأييدك له، وإيقادك لناره.
قال: والله يا أمير المؤمنين لأجرام قريش إلى رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، أعظم من جرمي إليك ولرحمي أمسّ بك من أرحامهم وقد قال لهم كما قال يوسف على نبّينا وعليه الصلاة والسلام لإخوته: {لََا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللََّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرََّاحِمِينَ} (1).
وأنت يا أمير المؤمنين، أحقّ وارث لهذه الأمة في الطّول، وممتثل لخلال العفو والفضل.
قال: هيهات! تلك أجرام جاهلية عفا عنها الإسلام، وجرمك جرم في إسلامك، وفي دار خلافتك.
قال: يا أمير المؤمنين، فو الله للمسلم أحقّ بإقالة العثرة وغفران الذنب من الكافر.
وهذا كتاب الله بيني وبينك إذ يقول: {وَسََارِعُوا إِلى ََ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرََّاءِ وَالضَّرََّاءِ وَالْكََاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعََافِينَ عَنِ النََّاسِ وَاللََّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (2). والناس يا أمير المؤمنين، نسبة دخل فيها المسلم والكافر، والشريف والمشروف.
قال: صدقت، وريت بك زنادي، ولا برحت أرى من أهلك أمثالك.
[في الاستعطاف]
وقال رجل لبعض الملوك وقد وقف بين يديه: أسألك بالذي أنت بين يديه غدا أذلّ مني بين يديك اليوم، وهو على عقابك أقدر منك على عقابي، إلّا ما نظرت في أمري نظر من برئي أحبّ إليه من سقمي، وبراءتي أحبّ إليه من بليّتي.
وأراد معاوية عقوبة روح بن زنباع فقال: يا أمير المؤمنين، أنشدك الله تعالى ألّا
__________
(1) سورة يوسف 12، الآية 92.
(2) سورة آل عمران 3، الآيتان 133، 134.(1/504)
تضع مني خسيسة أنت رفعتها، أو تنقض مني مريرة (1) أنت أبرمتها، أو تشمت بي عدوّا أنت كبتّه، وحاسدا بك وقمته (2) وأسألك بالله إلّا أربى حلمك على خطئي وصفحك على جهلي.
فقال معاوية رضي الله عنه: إذا الله ثنّى عقد شيء تيسّرا.
أشار إلى هذا أبو الطيب المتنبي إذ قال (3): [الطويل]
أزل حسد الحسّاد عني بكبتهم ... فأنت الذي صيّرتهم لي حسّدا
إذا شدّ زندي حسن رأيك في يدي ... ضربت بسيف يقطع الهام مغمدا (4)
[عفو الملوك]
وعتب المأمون على بعض خاصّته، فقال: يا أمير المؤمنين، إن قديم الحرمة وحديث التوبة يمحوان ما بينهما من الإساءة. قال: صدقت، وعفا عنه.
وكان في ملوك فارس ملك عظيم المملكة، شديد النقمة، فقرّب له صاحب المطبخ طعامه، فنقطت نقطة من الطعام على المائدة، فزوى له الملك وجهه، وعلم صاحب المطبخ أنّه قاتله، فعمد إلى الصّحفة (5) فكفأها على المائدة ثم ولّى، فقال له الملك: ما حملك على ما فعلت، وقد علمت أن سقوط النّقطة أخطأت بها يدك ولم يجر بها تعمّدك، فما عندك في الثانية؟ قال: استحيت للملك أن يوجب قتلي، ويبيح دم مثلي، في سنّي وحرمتي، وقديم اختصاصي وخدمتي، في نقطة أخطأت بها يدي، فأردت أن يعظم ذنبي ليحسن بالملك قتلي.
قال: لئن كان اعتذارك ينجيك من القتل، فليس ينجيك من التأديب اجلدوه مائة جلدة، واخلعوا عليه خلع الرّضا.
وخرج بهرام جور متصيّدا فعنّ له حمار وحش، فأتبعه حتى صرعه، وقد انقطع عن أصحابه، فنزل عن فرسه يريد ذبحه، وبصر براع فقال: أمسك عليّ فرسي، وتشاغل بذبح الحمار، وحانت منه التفاتة، فنظر إلى الراعي يقطع جوهر عذار فرسه، فحوّل بهرام جور
__________
(1) المريرة: الحبل الشديد الفتل. القاموس المحيط (مرر).
(2) وقمته: قهرته. القاموس المحيط (وقم).
(3) ديوان المتنبي (ص 388).
(4) في الديوان: «فيهم» بدل «في يدي».
(5) الصّحفة: أعظم القصاع. القاموس المحيط (صحف).(1/505)
وجهه وقال: تأمّل العيب عيب، وعقوبة من لا يستطيع الدفاع عن نفسه سفه، والعفو من أفعال الملوك، وسرعة العقوبة من أفعال العامة.
ثم قال: يا غلام، ما بال شريانك يضطرب لعلّك آذاك تكسيرنا أرضك بحوافر خيلنا، فقال: نعم، وقد عزمت على أن أنقلع مائة فرسخ، فقال بهرام: لا ترع فهذا الموضع وما فيه لك، وكان الراعي خبيثا، فقال: إن الملوك إذا قالت قولا تمّت على قولها، فرجع بهرام إلى عسكره وقال: اتبعني لأوثّق لك من هذه الأرض، فاتّبعه، فلمّا بصر به الوزير قال: أيها الملك السعيد، إني لأرى جوهر عذار فرسك مقلّعا، فتبسّم وقال: أخذه من لا يردّه، ورآه من لا ينمّ به، فمن أخذه صاحبنا ولا نطالبه به.
نقل ابن الرومي قول بهرام: «تأمل العيب عيب» كما اتّفق موزونا فقال: [المجتث] تأمّل العيب عيب ... ما في الذي قلت ريب
وكلّ خير وشرّ ... دون العواقب غيب
وربّ جلباب همّ ... فيه من الصّنع جيب
لا تحقرنّ سييبا ... كم قاد خيرا سييب (1)
أخذ البيت الأخير من قول الطائي (2): [مخلع البسيط] ربّ قليل غدا كثيرا ... كم مطر بدؤه مطير
وقوله (3): [الخفيف] لا تزيلن صغير همّك وانظر ... كم بذي الأثل دوحة من قضيب (4)
وقد أعاد ابن الرومي قوله: [المجتث] وكلّ خير وشرّ ... دون العواقب غيب
في قصيدته التي مدح بها أحمد بن محمد بن ثوابة حين ساوره، وقال: لو أتى لبيد لتعجّب منه، فاستجزله وقال: [الطويل] ولمّا دعاني للمثوبة سيّد ... يرى المدح عارا قبل بذل المثاوب
تنازعني رغب ورهب كلاهما ... قويّ، وأعياني طلوع المعايب
__________
(1) سييب: تصغير سيب وهو العطاء. القاموس المحيط (سيب).
(2) لم يرد البيت في ديوان أبي تمام.
(3) ديوان أبي تمام (ص 38) من قصيدة مديح.
(4) في الديوان: «لا تذيلن» بدل «لا تزيلن». والأثل: شجر، واحدته أثلة. القاموس المحيط (أثل).(1/506)
فقدّمت رجلا رغبة في رغيبة ... وأخّرت رجلا رهبة للمعاطب
أخاف على نفسي وأرجو مفازها ... وأستار غيب الله دون العواقب
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي ... ومن أين والغايات بعد المذاهب
[رجع إلى إنشاء بديع الزمان]
نسخة رقعة كتبها بديع الزمان إلى أبي علي إسماعيل يعتذر إليه:
سوء الأدب من سكر النّدب، وسكر الغضب من الكبائر التي تنالها المغفرة، وتسعها المعذرة، وقد جرى بحضرة الشيخ ما جرى، وقد أفنيت يدي عضّا، وأسناني رضّا، وإن لم أوف ما جرى فالعذر أمدّ خطّا، فإن كان بساطا يطوى، وحديثا لا يروى، فأولى من عذر اللاعب، وأحرى من غفر الصاحب وإن كان ميتا ينشر، وسببا يذكر، فليكن العقاب ما كان، إن لم يكن الهجران، على أني قد أخذت قسطي من العقاب، واستفدت من ردّ الجواب، ما كفى وأوجع القفا فكان من موجب أدب الخدمة، إبقاء الحشمة لوليّ النعمة، باحتمال الشّتم، والإغضاء عن الخصم، لكني أحدقت بي ثلاثة أحوال لا يسلم صاحبها اللعب وسكره، والخصم وهجره، والإدلال والثقة، وهنّ اللواتي حملنني على ماء الوجه فهرقته، وحجاب الحشمة فخرقته، وقد منعني الآن فرط الحياء من وشك اللقاء، وعهدي بوجهي وهو أصفق من العدم الذي حملني على جهله، وأوقح من الدهر الذي أحوجني إلى أهله لكن النعم إذا توالت على وجه رقّقت قشرته، وألانت بشرته وأنا منتظر من الجواب ما يريش جناحي إلى خدمته، فإن رأى أن يكتب فعل، إن شاء الله.
وله رقعة إلى أبي علي بن مشكويه أولها: [الطويل] ويا عزّ إن واش وشى بي عندكم ... فلا تمهليه أن تقولي له: مهلا
كما لو وشى واش بعزّة عندنا ... لقلنا: تزحزح لا قريبا ولا أهلا
بلغني، أطال الله بقاء الشيخ أن قيضة (1) كلب وافته بأحاديث لم يعرها الحقّ نوره، ولا الصدق ظهوره، وأنه أدام الله عزّه أذن لها على مجال أذنه، وفسح لها فناء ظنّه، ومعاذ الله أن أقولها، وأستجيز معقولها بل قد كان بيني وبين الشيخ عتاب لا ينزل كنفه ولا يجدف، وحديث لا يتعدّى النفس وضميرها، ولا يعرف الشفة وسميرها، وعربدة كعربدة أهل الفضل، لا تتجاوز الدّلال والإدلال، ووحشة لا يكشفها عتاب لحظة، كعتاب
__________
(1) القيضة، بكسر القاف وسكون الياء وفتح الضاد: القطعة الصغيرة من العظم. القاموس المحيط (قيض).(1/507)
جحظة، فسبحان من ربّي هذا الأمر حتى صار أمرا، وتأبّط شرّا، وأوجب عذرا، وأوحش حرّا. وسبحان من جعلني في حيّز العدو أشيم بارقته، وأتخوّف صاعقته، وأنا المساء إليه، والمجنيّ عليه، ولكن من بلي من الأعداء بمثل ما بليت، ورمي من الحسد بما رميت، ووقف من التوحّد والوحدة حيث وقفت، واجتمع عليه من المكاره ما وصفت، اعتذر مظلوما، وضحك مشتوما، ولو علم الشيخ عدد أولاد الجدد، وأبناء العدد، بهذا البلد، ممن ليس له همّ إلّا في سعاية أو شكاية أو حكاية أو نكاية، لضنّ بعشرة غريب إذا بدر، وبعيد إذا حضر، ولصان مجلسه عمن لا يصونه عما رقى إليه، وهبني قد قلت ما حكى، أليس الشّاتم من أسمع، والجاني من أبلغ؟ فقد بلغ من كيد هؤلاء القوم أنهم حين صادفوا من الأستاذ نفسا لا تستفزّ، وجبلا لا يهزّ، وشوا إلى خدمه بما أرّثوا نارهم (1)، وورد عليّ ما قالوه فما لبثت أن قلت: [الطويل] فإن تك حرب بين قومي وقومها ... فإني لها في كلّ نائبة سلم
وليعلم الأستاذ أنّ في كبد الأعداء مني جمرة، وأنّ في أولاد الزنا عندنا كثرة، وقصاراه نار يشبّونها، وعقرب يدبّبونها، ومكيدة يطلبونها، ولولا أن العذر إقرار بما قيل، وأكره أن أستقيل، لبسطت في الاعتذار شاذروانا، ودخلت في الاستقالة ميدانا، لكنه أمر لم أضع أوّله، فلم أتدارك آخره.
وقد أبى الشيخ أبو محمد أيّده الله إلّا أن يوصل هذا النثر الفاتر بنظم مثله فهاكه يلعن بعضه بعضا: [السريع] مولاي إن عدت ولم ترض لي ... أن أشرب البارد لم أشرب
امتط خدي وانتعل ناظري ... وصد بكفّي حمّة العقرب
تالله ما أنطق عن كاذب ... فيك، ولا أبرق عن خلّب
فالصفو بعد الكذب المفترى ... كالصّحو عقب المطر الصّيّب
إن أجتن الغلظة من سيدي ... فالشوك عند الثمر الطيب
أو يفسد الزّور على ناقد ... فالخمر قد يعصب بالثيّب
ولعلّ الشيخ أبا محمد أيّده الله يقوم من الاعتذار بما قعد عنه القلم واللسان فنعم رائد الفضل هو، والسلام.
__________
(1) أرّثوا نارهم: أجّجوها وأشعلوها. لسان العرب (أرث).(1/508)
فقر من كلام سهل بن هرون للمأمون
كان المأمون استثقل سهل بن هرون، فدخل عليه يوما، والناس على مراتبهم، فتكلّم المأمون بكلام ذهب فيه كلّ مذهب فلمّا فرغ من كلامه أقبل سهل بن هرون على الجمع فقال: ما لكم تسمعون ولا تعون، وتشاهدون ولا تفقهون، وتفهمون ولا تتعجّبون، وتتعجّبون ولا تنصفون؟ والله إنه ليقول ويفعل في اليوم القصير ما فعل بنو مروان في الدهر الطويل، عربكم كعجمكم، وعجمكم كعبيدكم، ولكن كيف يعرف الدواء من لا يشعر بالداء؟ فرجع المأمون فيه إلى الرأي الأول.
[من ترجمة سهل بن هرون، وأخباره]
وكان أبو عمرو سهل بن هرون من أهل ميسان (1)، نزل البصرة فنسب إليها، وهو القائل: [الكامل] يا أهل ميسان السلام عليكم ... الطيبون الفرع والجذم
أمّا الوجوه ففضّة مزجت ... ذهبا وأيد سحّة هضم (2)
أتريد كلب أن أناسبها ... قد قلّ من كلب بي العلم
أجعلت بيتا فوق رابية ... فرع النّجوم كأنه نجم
كبيت شعر وسط مجهلة ... بفنائه الجعلان والبهم
وكان سهل شعوبيا، والشعوبية فرقة تتعصّب على العرب وتنتقصها، وكان أبو عبيدة يرمى بذلك.
وسهل ظريف عالم حسن البيان، وله كتب ظريفة صنّفها معارضا للأوائل في كتبهم بما لا يستصوبه منهم، حتى قيل له: «بزر جمهر الإسلام» وقال يمدح رجلا: [الطويل] عدوّ تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا ما منعه كان أحزما
مذلّل نفس قد أبت غير أن ترى ... مكاره ما تأتي من العيش مغنما
وهذا نظير قوله في كتاب «ثعلة وعفرة» الذي عارض به كليلة ودمنة: اجعلوا أداء ما يجب عليكم من الحقوق مقدّما قبل الذي تجودون به من تفضّلكم فإن تقديم النافلة مع الإبطاء عن الفريضة مظاهر على وهن العقيدة، وتقصير الروية، ومضرّ بالتدبير، مخلّ
__________
(1) ميسان، بفتح الميم وسكون الياء: اسم كورة واسعة كثيرة القرى والنخل بين واسط والبصرة، قصبتها ميسان. معجم البلدان (ج 5ص 242).
(2) الهضم: جمع هضوم. ويد هضوم: أي تجود بما لديها. القاموس المحيط (هضم).(1/509)
بالاختيار، وليس في نفع محمدته عوض من فساد المروءة ولزوم النقيصة. وكتابه هذا مملوء حكما وعلما. وسهل القائل: [الطويل] تقسّمني همّان قد كسفا بالي ... وقد تركا قلبي محلّة بلبال
هما أذريا دمعي، ولم تذر عبرتي ... رهينة خدر ذات سمط وخلخال
ولا قهوة لم يبق منها على المدى ... سوى أن تحاكي النور في رأس ذيال
تحلّل منها جرمها وتماسكت ... لها نفس معدوم على الزمن الخالي
ولكما أبكي بعين سخينة ... على حدث تبكي له عين أمثالي
فراق خليل لا يقوم به الأسى ... وخلّة حرّ لا يقوم لها مالي
فوا حسرتي حتّى متى القلب موجع ... لفقد خليل أو تعذر إفضال؟
وما الفضل إلّا أن تجود بنائل ... وإلّا لقاء الخلّ ذي الخلق العالي
وهو القائل: [البسيط] إذا امرؤ ضاق عني لم يضق خلقي ... من أن يراني غنيّا عنه بالياس
لا أطلب المال كي أغني بفضلته ... ما كان مطلبه فقرا إلى الناس
وأنشد له الجاحظ يهجو رجلا: [البسيط] من كان يعمر ما شادت أوائله ... فأنت تعمر ما شادوا وما سمكوا
ما كان في الحق أن تحوي فعالهم ... وأنت تحوي من الميراث ما تركوا
وقال محمد بن زياد الزيادي: وجدت (1) على سهل بن هرون في بعض الأمر، فهجوته، فكتب إليّ أما بعد، فالسلام على عهدك وداع ذي ضنّ بك، في غير مقلية (2)
لك، ولا سلوة عنك، بل استسلام للبلوى في أمرك، وإقرار بالمعجزة في استعطافك إلى أوان فيئك (3)، أو يجعل الله لنا دولة من رجعتك، والسلام.
وكتب في أسفل الكتاب: [المنسرح] إن تعف عن عبدك المسيء ففي ... عفوك مأوى للفضل والمنن
أتيت ما استحقّ من خطإ ... فجد بما تستحقّ من حسن
__________
(1) وجد عليه: غضب. القاموس المحيط (وجد).
(2) المقلية: الكراهية والبغض. القاموس المحيط (قلا).
(3) الفيئة: الرجوع. القاموس المحيط (فيء).(1/510)
[من عظات الحسن البصري]
وقال الحسن البصري، رحمه الله في يوم [فطر] وقد رأى الناس وهيآتهم:
إن الله تبارك وتعالى جعل رمضان مضمارا لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلّف آخرون فخابوا، فالعجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون، أما والله لو كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه ومسيء بإساءته.
ونظر إلى قوم منصرفين من صلاة الفطر يتدافعون ويتضاحكون، فقال:
الله المستعان! إن كان هؤلاء قد تقرّر عندهم أنّ صومهم قد تقبّل فما هذا محلّ الشاكرين، وإن علموا أنه لم يتقبّل فما هذا محلّ الخائبين.
وكان الحسن من الخطباء النّساك الفقهاء الأجواد، ويقال: إنه لم يكن تابعيّ أفضل منه.
هذا قول أهل العراق جميعا، وأهل الحجاز يقدمون سعيد بن المسيب عليه، وكان سعيد أحسن من الحسن ورعا، وأشدّ الناس حذرا، وأقلّهم كلاما. وكان الحسن لا يدع أن يتكلّم بما هجس في نفسه، وجاش في صدره.
وعلى ذكر الحسن شهر رمضان نقول:
ألفاظ لأهل العصر، في التهنئة بإقبال شهر رمضان مع ما يتّصل بها من الأدعية
ساق الله تعالى إليك سعادة إهلاله، وعرّفك بركة كماله. قسم الله لك من فضله، ووفّقك لفرضه ونفله. لقّاك الله ما ترجو، ورقاك إلى ما تحبّه فيما تتلوه. جعل الله ما أظلّك من هذا الصوم مقرونا بأفضل القبول، مؤذنا بدرك البغية ونجح المأمول، ولا أخلاك من برّ مرفوع، ودعاء مسموع. قابل الله تعالى بالقبول صيامك، وبعظيم المثوبة تهجّدك وقيامك. عرّفك الله من بركاته ما يربي على عدد الصائمين والقائمين، ووفّقك الله لتحصيل أجر المتهجّدين. أسأل الله تعالى أن يضاعفه بمنّه لك، ويجعله وسيلة بقبوله إلى مرضاته عنك. أعاد الله إلى مولاي أمثاله، وتقبّل فيه أعماله، وأصلح في الدين والدنيا أحواله، وبلّغه منها آماله. أسعده الله بهذا الشهر، ووفاه فيه أجزل المثوبة والأجر، ووفّر حظّه من كل ما يرتفع من دعاء الدّاعين، وينزل من ثواب العاملين، وقبل مساعيه وزكاها، ورفع درجاته وأعلاها، وبلّغه من الآمال منتهاها، وظفر بأبعدها وأقصاها.
وقال الحسن: من أخلاق المؤمن قوة في دين، وحزم في لين، وحرص على العلم، وقناعة في فقر، ورحمة للمجهود، وإعطاء في حق، وبرّ في استقامة، وفقه في يقين، وكسب في حلال.(1/511)
ساق الله تعالى إليك سعادة إهلاله، وعرّفك بركة كماله. قسم الله لك من فضله، ووفّقك لفرضه ونفله. لقّاك الله ما ترجو، ورقاك إلى ما تحبّه فيما تتلوه. جعل الله ما أظلّك من هذا الصوم مقرونا بأفضل القبول، مؤذنا بدرك البغية ونجح المأمول، ولا أخلاك من برّ مرفوع، ودعاء مسموع. قابل الله تعالى بالقبول صيامك، وبعظيم المثوبة تهجّدك وقيامك. عرّفك الله من بركاته ما يربي على عدد الصائمين والقائمين، ووفّقك الله لتحصيل أجر المتهجّدين. أسأل الله تعالى أن يضاعفه بمنّه لك، ويجعله وسيلة بقبوله إلى مرضاته عنك. أعاد الله إلى مولاي أمثاله، وتقبّل فيه أعماله، وأصلح في الدين والدنيا أحواله، وبلّغه منها آماله. أسعده الله بهذا الشهر، ووفاه فيه أجزل المثوبة والأجر، ووفّر حظّه من كل ما يرتفع من دعاء الدّاعين، وينزل من ثواب العاملين، وقبل مساعيه وزكاها، ورفع درجاته وأعلاها، وبلّغه من الآمال منتهاها، وظفر بأبعدها وأقصاها.
وقال الحسن: من أخلاق المؤمن قوة في دين، وحزم في لين، وحرص على العلم، وقناعة في فقر، ورحمة للمجهود، وإعطاء في حق، وبرّ في استقامة، وفقه في يقين، وكسب في حلال.
وقال محمد بن سليمان لأبي السماك: بلغني عنك شيء، قال: لا أباليه، قال:
ولم؟ قال: لأنه إن كان حقّا غفرته، وإن كان باطلا كذبته.
وقال محمد بن صبيح المعروف بابن السماك، خير الإخوان أقلّهم مصانعة في النصيحة، وخير الأعمال أحلاها عاقبة، وخير الثناء ما كان على أفواه الأخيار، وأشرف السلطان ما لم يخالطه البطر، وأغنى الأغنياء من لم يكن للحرص أسيرا، وخير الإخوان من لم يخاصم، وخير الأخلاق أعونها على الورع، وإنما يختبر ودّ الرجال عند الفاقة والحاجة.
ووصف بعض البلغاء رجلا فقال: إنه بسيط الكفّ، رحب الصّدر، موطّأ الأكناف، سهل الخلق، كريم الطباع، غيث مغيث، وبحر زخور، ضحوك السنّ، بشير الوجه، بادي القبول، غير عبوس، يستقبلك بطلاقة، ويحييّك ببشر، ويستدبرك بكرم غيب، وجميل سرّ، تبهجك طلاقته، ويرضيك بشره، ضحّاك على مائدته، عبد لضيفانه، غير ملاحظ لأكيله، بطين من العقل، خميص (1) من الجهل، راجح الحلم، ثاقب الرّأي، طيّب الخلق، محصّن الضريبة، معطاء غير سائل، كاس من كل مكرمة، عار من كلّ ملامة، إن سئل بذل، وإن قال فعل.
قال أبو الفتح كشاجم: [الطويل] مزاجك للمثنى من العود والصّبا ... من الرّيح والصافي الرقيق من الخمر
فلو كنت وردا كنت وردا مضاعفا ... ولو كنت طيبا كنت من عنبر الشّحر
ولو كنت لحنا كنت تأليف معبد ... ولو كنت عودا ما افتقرت إلى زمر.
وقال أعرابي: [الطويل] ألا حبّذا البرد الذي تلبسينه ... ويا حبّذا من باعك البرد من تجر (2)
فلو كنت ماء كنت ماء غمامة ... ولو كنت درّا كنت من درّة بكر
ولو كنت لهوا كنت تعليل ساعة ... ولو كنت نوما كنت إغفاءة الفجر
ولو كنت ليلا كنت قمراء جنّبت ... نحوس ليالي الشّهر أو ليلة القدر
__________
(1) خميص من الجهل: خال من الجهل. القاموس المحيط (خمص).
(2) التّجر، بفتح التاء وسكون الجيم: جمع تاجر وهو الذي يبيع ويشتري. القاموس المحيط (تجر).(1/512)
الفهرس
المقدمة 3
البسملة 13
بعض ما قاله الرسول الكريم 34
بعض ما قاله أبو بكر الصديق 40
بعض ما قاله عمر بن الخطاب 44
فصول قصار من كلامه رضي الله عنه 45
ومن كلام عثمان بن عفان رضي الله عنه 47
من كلام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه 49
من كلام الصحابة والتابعين 57
فقر لجماعة الصحابة والتابعين رضي الله عنهم 62
بعض ما قاله أهل البيت 64
فصل لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في ذكر قريش، وبني هاشم 65
ألفاظ لأهل العصر في ذكر المصيبة بأبناء النبوّة 68
رجع ما انقطع 84
ألفاظ لأهل العصر في أوصاف الأشراف، لها في هذا الموضع موقع 100
بدء الكتاب 101
في البلاغة 103
ألفاظ لأهل العصر في ذكر القرآن 105
رجع إلى البلاغة 106
الإطالة والإيجاز 109
وصية أبي تمام للبحتري 113(1/513)
الإطالة والإيجاز 109
وصية أبي تمام للبحتري 113
أوصاف بليغة في البلاغات على ألسنة أقوام من أهل الصناعات 115
فقر في وصف البلاغة لغير واحد 118
ومن كلام أهل العصر، في صفة البلاغة والبلغاء 119
ومن ألفاظهم في وصف النظم والنثر والشعر والشعراء 122
وهذه جملة من فصول أهل العصر تليق بهذا الموضع 124
وهذه مقطعات لأهل العصر في وصف لبلاغة 133
وصف الكتب 138
فقر في الكتب 140
جملة من ألفاظ أهل العصر في صفة الكتب وتهاديها، وما يتعلق بأسمائها ومعانيها 141
نموذج في وصف الكتب 144
في محادثة الجليس 146
رجع إلى البلاغة 151
في الظرف والملح والمزاح 154
ما قيل في النسيب والغزل 159
في باب الوصف 177
وصف الدور والقصور 179
ألفاظ لأهل العصر في وصف الماء وما يتصل به 184
ولهم في مقدمات المطر وفي الرعد والبرق ويتصل بهذ الأنحاء 185
ألفاظ لأهل العصر في ذكر التقى والزهد 191
ألطف تعريض، وأدقّ فهم 192
في الحسد 193
ألفاظ لأهل العصر في ذكر الحسد 194
آداب الجلوس 196
سير الملوك وأخبارهم 197
قطعة صادرة من أقوال الملوك دالّة على فضل كرمهم وبعد هممهم 199
ومن كلام أهل العصر 200
ومن كلام الملوك الجاري مجرى الأمثال 201
ويتعلق بهذه الألفاظ لهم في نجابة الشباب وترشيحهم للمعالي 209
ما قيل في الثغر 215(1/514)
ويتعلق بهذه الألفاظ لهم في نجابة الشباب وترشيحهم للمعالي 209
ما قيل في الثغر 215
وعلى ذكر التوأمين ألفاظ لأهل العصر في التهنئة بتوأمين 221
في الهجاء 221
رجع إلى ما قيل في الثغر 222
أملح الشعر وأرقّه 225
في معان أخرى 242
جملة من كلام أبي الفضل أحمد بن الحسين الهمداني، بديع الزمان 245
قطعة من مفردات الأبيات لأهل العصر في معان شتّى تجري مجرى الأمثال 250
أبو العيناء 260
هروب إبراهيم بن المدبر من السجن 267
أخبار صاحب الزنج 267
رجع إلى أخبار أبي العيناء 268
ألفاظ لأهل العصر في صفات الطعام ومقدماته، وموائده، وآلاته 269
ألفاظ تناسب هذا النحو لأهل العصر في صفات الفواكه والثمار 276
ما قيل في وصف الليل ولصيد واللهو 276
وصف منبج 278
ألفاظ في هذا المعنى لأهل العصر 278
الفضل بن سهل 279
في وصف الخيل 282
ما قيل في المواعد 296
في البر والإنعام 298
ألفاظ لأهل لعصر في العجز عن الشكر لتكاثر الإنعام والبر 299
أبو العتاهية 302
عمر بن العلاء 306
سبحان الخالق الكريم 308
ألفاظ لأهل العصر في الشكر بدلالة الحال 309
من أخبار نصيب وشعره 310
في باب المدائح 311
ابن أبي دواد 315
خالد بن عبد الله القسري 317(1/515)
ابن أبي دواد 315
خالد بن عبد الله القسري 317
أبو تمام والأفشين 317
أهل النفاق 318
ويتعلق بهذه المقامة فصل في غرائب التكاتب 319
ألفاظ لأهل العصر في التهاني بالبنات 321
مديح النساء 322
كثير عزة 325
في الطول والقصر 328
رجع إلى كثير عزة 330
فصول قصر 331
شذور لأهل العصر في معان شتى 331
شمس المعالي ابن وشمكير 331
البرامكة 334
مذهب التجنيس في الغزل 339
فقر في ذكر العلم والعلماء 342
استعارات فقهية تليق بهذا المكان 344
ولاية طاهر بن عبد الله بن طاهر خراسان 345
أبو علي البصير 348
السفر 349
فقر في مدح السفر 351
نقيض ذلك في ذم السفر ولغربة 351
العزل بعد المؤانسة 352
جملة من شعر أبي الفتح كشاجم في الأوصاف 352
وصف المرأة 355
ما لا ينقلب من المعاني 359
قطعة من شعر أهل العصر في ذكر النجوم 360
من أخبار الأصمعي 363
فقر من كلام الأعراب في ضروب مختلفة 365
من أخبار أبي نواس 374
في المودة والعتاب والصدق والكذب 385(1/516)
من أخبار أبي نواس 374
في المودة والعتاب والصدق والكذب 385
فقر في الكذب لغير واحد 386
ما قيل في الزفاف 387
فقر في الكتاب والقلم والسيف والخط 388
من أخبار الكاتب أحمد بن يوسف 392
ألفاظ لأهل العصر في ذم المغنين 395
ألفاظ لأهل العصر في صفات الثقةء 397
ما قيل في السكين 401
ألفاظ لأهل العصر في صفات السكاكين 402
الاستداعاء إلى المؤانسة والمنادمة 402
ومن ألفاظهم في الاستدعاء 406
ولهم في استدعاء الشراب 406
ولهم في الكتابة عن الشراب 406
فقر للنبيذيين 408
ومن ألفاظهم في صفات مجالس الأنس وآلات اللهو وذكر الخمر 410
من إنشاء بديع الزمان الهمذاني 414
ومن إنشائه في مقامات أبي الفتح الإسكندري 422
ما قيل في المزاح 425
الطيرة والزجر 426
في موت البنت 432
من أخبار ابن الرومي 433
رجع 437
في العيافة والزجر 438
من أخبار الجاحظ 440
من أخبار عتبة بن أبي سفيان 440
عود إلى الجاحظ 441
من حكم علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام 442
الجاحظ ورجل من البرامكة في مرضه 443
المقامة الجاحظية مقامة من إنشاء البديع تتعلق بذكر الجاحظ 443
ما قالته الملوك 445(1/517)
المقامة الجاحظية مقامة من إنشاء البديع تتعلق بذكر الجاحظ 443
ما قالته الملوك 445
من إنشاء الميكالي 445
قطعة من شعره في تجنيس القوافي 447
ما قيل في الحاجب 449
ما قيل في الاشتياق 452
في الخط 454
صنعة الأدب 455
أدوات الوراق 456
اللذات 457
وصف المحبرة والقلم 459
من أخبار الخليفة المأمون 462
وصف الروض والزهور 463
نبذ من النظم والنثر في صفات النور والزهر 464
جملة من هذا النوع لأهل العصر 473
ولهم في هذا المعنى 473
ولهم فيما يتعلق بهذا النحو في وصف أيام الربيع 474
من أخبار المأمون والأمين 477
مبايعة المهدي 479
أفضل الأوقات لمخاطبة الملوك 480
من أخبار المنصور 481
من نظم الفضل بن الربيع 482
من أخبار أبي العيناء 483
قطعة من رسالة أجاب بها أبو الخطاب الصابي عن أبي العباس بن سابور إلى الحسين بن صبرة عن رقعة وردت منه في صفة حمل أهداه 484
من نظم الحمدوني 485
من أخبار المأمون 490
من أخبار المبرد 490
في المدح 491
بين جميل وعمر بن أبي ربيعة 493
جملة من الفصول القصار لابن المعتز 495(1/518)
بين جميل وعمر بن أبي ربيعة 493
جملة من الفصول القصار لابن المعتز 495
من إنشاء ابن العميد 497
ما قيل في العتاب 498
ما يتعلق بالأعراب 500
من إنشاء بديع الزمان الهمذاني 500
عود إلى المأمون 502
بين المأمون وإسحاق بن العباس 504
في الاستعطاف 504
عفو الملوك 505
رجع إلى إنشاء بديع الزمان 507
فقر من كلام سهل بن هرون للمأمون 509
من ترجمة سهل بن هرون، وأخباره 509
من عظات الحسن البصري 511
ألفاظ لأهل العصر، في التهنئة بإقبال شهر رمضان مع ما يتصل بها من الأدعية. 511
الفهرس 513(1/519)
الجزء الثاني
نبذ من ألفاظ بلغاء أهل العصر
بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
تجري في المدح مجرى الأمثال لحسن استعارتها، وبراعة تشبيهاتها:
فلان مسترضع ثدي المجد، مفترش حجر الفضل، له صدر تضيق به الدّهناء، وتفزع إليه الدّهماء، له في كل مكرمة غرّة الإصباح، وفي كل فضيلة قادمة الجناح (1)، له صورة تستنطق الأفواه بالتسبيح، ويترقرق فيها ماء الكرم، وتقرأ فيها صحيفة حسن البشر، تحيا القلوب بلقائه، قبل أن يميت الفقر بعطائه، له خلق لو مزج به البحر لنفى ملوحته، وكفى كدورته. هو غذاء الحياة، ونسيم العشق، ومادّة الفضل، آراؤه سكاكين في مفاصل الخطوب، له همّة تعزل السماك الأعزل، وتجرّ ذيلها على المجرّة، هو راجح في موازين العقل، سابق في ميادين الفضل، يفترع أبكار المكارم، ويرفع منار المحاسن، ينابيع الجود تتفجّر من أنامله، وربيع السماء يضحك من فواضله. هو بيت القصيدة، وأول الجريدة، وعين الكتيبة، وواسطة القلادة، وإنسان الحدقة، ودرّة التاج، ونقش الفصّ! وهو ملح الأرض، ودرع الملّة، ولسان الشريعة، وحصن الأمة. هو غرّة الدّهر والزمان، وناظر الإيمان. له أخلاق خلقن من الفضل، وشيم تشام منها بوارق المجد (2)، أرج الزمان بفضله، وعقم النساء عن الإتيان بمثله. الجميل لديه معتاد، والفضل منه مبدوء ومعاد، ماله للعفاة، مباح، وفعاله في ظلمة الدهر مصباح، كأنّ قلبه عين، وكأنّ جسمه
__________
(1) القادمة: واحدة القوادم، وهي أربع ريشات في مقدّم جناح الطائر ويقابلها الخوافي. لسان العرب (قدم).
(2) تشام: تنظر يقال: شام السحاب والبرق شيما إذا نظر إليه أين يقصد وأين يمطر. البوارق: جمع بارق وهو السّحاب ذو البرق. لسان العرب (شيم) و (برق).(2/3)
سمع، يرى بأوّل رأيه آخر الأمر، جوهر من جواهر الشرف لا من جواهر الصّدف، وياقوتة من يواقيت الأحرار، لا يواقيت الأحجار، طلعته للبشاشة عليها ديباجة خسروانيّة، وفيها للطلاقة روضة ربيعية. وجه كأنّ بشرته نشر البشر، ومواجهته أمان من الدّهر. يصل ببشره، قبل أن يصل ببرّه، قد لحظت من وجهه الأنوار، ومن بنانه النوّار. أنا من كرم عشرته، وطلاقة أسرّته، في روضة وغدير، وجنّة وحرير، وهو بحر من العلم ممدود بسبعة أبحر، ويومه من يوم الأدب كعمر سبعة أنسر. العلم حشو ثيابه، والأدب ملء إهابه. هو شخص الأدب مائلا، ولسان العلم قائلا. شجرة فضل عودها أدب، وأغصانها علم، وثمرتها عقل، وعروقها سرو، تسقيها سماء الحريّة، وتغذّيها أرض المروءة. هم ملح الأرض إذا فسدت، وعمارة الأرض إذا خربت، ومعرض الأيام إذا احتشدت وهم جمال الأيام، وخواصّ الأنام، وفرسان الكلام، وفلاسفة الإسلام. فلان غصن طبعه نضير، ليس له في مجده نظير، قد جمع الحفظ الغزير، والفهم الصحيح، والأدب القويّ القويم، وما يؤنسه من الوحشة إلّا الدفاتر، ولا يصحبه في الوحدة إلّا المحابر. فلان يحلّ دقائق الأشكال، ويزيل معترض الإشكال. له خلق كنسيم الأسحار، على صفحات الأنوار. كالماء صفاء، والمسك ذكاء. أخلاق قد جمعت المروءة أطرافها، وحرست الحرية أكنافها. أخلاق تجمع الأهواء المتفرّقة على محبته، وتؤلّف الآراء المتشتّتة على مودّته. أخلاق أعذب من ماء الغمام، وأحلى من ريق النّحل، وأطيب من زمان الورد.
أخلاق أحسن من الدرّ والعقيان، في نحور الحسان، وأذكى من حركات الروح والرّيحان.
فلان يستحطّ القمر بطرفه، ويستنزل النّجم بلطفه. هو حلو المذاق، سهل المساغ. أجمل الناس في جدّ، وأحلاهم في هزل. يتصرّف مع القلوب، كتصرّف السحاب مع الجنوب.
ذو جدّ كعلوّ الجدّ (1)، وهزل كحديقة الورد. له عشرة ماؤها يقطر، وصحوها من الغضارة يمطر. هو ريحانة على القدح، وذريعة إلى الفرح. عشرته ألطف من نسيم الشمال، على أديم الزّلال، وألصق بالقلب، من علائق الحب. إذا أردت فهو سبحة ناسك، أو أحببت فهو تفّاحة فاتك، أو اقترحت فهو مدرعة راهب، أو آثرت فهو نخبة شارب. أخباره زكيّة، وآثاره ذكية. أخباره تأتينا كما وشى بالمسك ريّاه، ونمّ على الصباح محيّاه. قد انتشر من طيب أخباره ما زاد على المسك الفتيق، وأوفى على الزّهر الأنيق. مناقب تشدخ في جبينها غرّة الصباح، وتتهادى أنباءها وفود الرياح. فلان أخباره آثاره، وعينه فراره (2)، قد حصل
__________
(1) الجدّ، بكسر الجيم: الاجتهاد. والجدّ، بفتح الجيم: الحظّ والبخت. لسان العرب (جدد).
(2) أخذه من المثل: «إنّ الجواد عينه فراره». يضرب لمن يدلّ ظاهره على باطنه فيغني عن اختباره، حتى لقد يقال: إنّ الخبيث عينه فراره. مجمع الأمثال (ج 1ص 9، رقم المثل 5).(2/4)
له من حميد الذكر، وجميل النّشر، ما لا تزال الرواة تدرسه، والتواريخ تحرسه. سألت عن أخباره فكأني حرّكت المسك فتيقا، أو صبّحت الروض أنيقا. أخباره متضوعة كتضوّع المسك الأذفر (1)، ومشرقة إشراق الفجر الأنور. أحببته بالخبر، قبل الأثر، وبالوصف قبل الكشف. هو ممن يثقل ميزان ودّه، ويحصف ميثاق عهده. هو كريم العهد، صحيح العقد، سليم الصّدر في الودّ، حميد الورد فيه والصدر. هو لإخوانه عدّة تشدّهم وتقويهم، ونور يسعى بين أيديهم. هو ركن الإخاء، صافي شرب الوفاء، حافظ على الغيب ما يحفظه على اللقاء. هو ممن لا تدوم المداهنة في عرصات قلبه، ولا تحوم المواربة على جنبات صدره. هو يسري إلى كرم العهد، في ضياء من الرّشد. عهده نقش في صخر، وودّه نسب ملآن من فخر. يقبل من إخوانه العفو، كما يوليهم من إحسانه الصّفو. في ودّه غنى للطالب، وكفاية للراغب، ومراد للصّحب، وزاد للركب. هو في حبل الوفاء حاطب، وعلى فرض الإخاء مواظب. النّجح معقود في نواصي آرائه، واليمن معتاد في مذاهب أنحائه. له الرّأي الثاقب الذي تخفى مكايده، وتظهر عوائده، والتدبير النافذ الذي تنجع مباديه، وتبهج تواليه. رأي كالسّهم أصاب غرّة الهدف، ودهاء كالبحر في بعد الغور وقرب المغترف، لا يضع رأيه إلّا مواضع الأصالة، ولا يصرف تدبيره إلّا على مواقع السداد والإصابة. يعرف من مبادىء الأقوال خواتم الأفعال، ومن صدور الأمور أعجاز ما في الصدور. رؤيته رأي صليت، وبديهته قدر مصيب. يسافر رأيه وهو دان لم يبرح، ويسير تدبيره وهو ثاو لم ينزح. له رأي لا يخطىء شاكلة الصّواب، [ولا يخشى بادرة العثار. فلان يخمّر الرأي ويحيله، ويجيد الفكر ويجيله، حتى يحصل على لب الصواب]، ومحض الرأي. إذا أذكى سراج الفكر، أضاء ظلام الأمر، هو قطب صواب تدور به الأمور، ومستنبط صلاح يردّ إليه التدبير. يرى العواقب في مرآة عقله، وبصيرة ذكائه وفضله. وله رأي يردّ الخطب مصلّما، والرمح مقلّما. [آراؤه سكاكين في مفاصل الخطوب]، كأنه ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق، ويطالعه بعين السّداد والتوفيق. يستنبط حقائق القلوب، ويستخرج ودائع الغيوب. قد سرينا من مشورته في ضياء ساطع، ومن رأيه الصائب في حكم قاطع.
نبذ من مفردات الأبيات في فرائد المدح
أبو نواس (2): [البسيط]
__________
(1) المسك الأذفر: الطيب الريح. لسان العرب (ذفر).
(2) ديوان أبى نواس (ص 457).(2/5)
وكلت بالدهر عينا غير نائمة ... من جود كفيك تأسو كلّما جرحا (1)
الطائي (2): [الوافر]
فلو صوّرت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع
البحتري (3): [الطويل]
ولو لم يكن في كفّه غير نفسه ... لجاد بها فليتّق الله سائله
وله (4): [الطويل]
ولم أر أمثال الرجال تفاوتوا ... لدى المجد حتى عدّ ألف بواحد
كشاجم: [الخفيف]
عرف الفاضلون فضلك بالعل ... م وقال الجهّال بالتقليد
المتنبي (5): [الكامل]
شخص الأنام إلى كمالك فاستعذ ... من شرّ أعينهم بعيب واحد
وله (6): [الطويل]
ولمّا رأيت الناس دون محلّه ... تيقّنت أنّ الدهر للناس ناقد
وله أيضا (7): [البسيط]
إن خوطبوا أو لقوا أو كوتبوا وجدوا ... في اللفظ والخطّ والهيجاء فرسانا
وله أيضا (8): [الكامل]
ذكر الأنام لنا فكان قصيدة ... كنت البديع الفرد في أبياتها (9)
__________
(1) في الديوان: «غير غافلة من جود كفّك».
(2) ديوان أبي تمام (ص 172).
(3) البيت لم يرد في ديوان البحتري.
(4) ديوان البحتري (ج 1ص 55).
(5) البيت لم يرد في ديوان المتنبي.
(6) ديوان المتنبي (ص 328). يقول: لمّا رأيت الناس دونه في المنزلة تيقّنت أن الدهر ناقد لهم يعطي كل إنسان على قدر ما يستحقّه.
(7) ديوان المتنبي (ص 188). ورواية البيت في الديوان هي:
إن كوتبوا أو لقوا أو حوربوا وجدوا ... في الخطّ واللفظ والهيجاء فرسانا
(8) ديوان المتنبي (ص 194).
(9) في الديوان: «من» بدل «في».(2/6)
أبو العباس الناشىء: [الوافر]
خلقت كما أرادتك المعالي ... فأنت لمن رجاك كما يريد
المأموني: [الكامل]
وخلائق كالخمر دون فعاله ... حبب لهنّ وما لهنّ خمار
[مجالس أهل الحكم]
وقال إبراهيم الموصلي لموسى الهادي، وهو نديمه، وقد غنّاه صوتا فأعجبه: إنّ من كان محلّه من أمير المؤمنين محلّي في الانبساط وتقدّم النّدام جرأه البسط على الطلب، وبعثته المنادمة على الرجاء، وقد نصب لي أمير المؤمنين بقربي منه مشارع الرغبة إليه، وحثّني محلّي عنده على الكروع في المنهل بين يديه. فقال: سل شفاها فإني جاعل فعلي عن إجابتك إليه حاضرا فسأله ما قيمته خمسون ألف درهم فأمر له بمائة ألف درهم.
ولما ظفر الإسكندر بدارا بن دارا قال له: بم اجترأ عليك صاحب شرطتك؟ قال:
بتركي ترهيبه وقت إساءته وتفريطه، وإعطائه وقت الإحسان اليسير من فعله نهاية رغبته.
فقال الإسكندر: نعم العون على استصلاح القلوب الموغرة الترغيب بالأموال، وأصلح منه عاجلا الترهيب وقت الحاجة إليه.
وقال الحسن بن سهل: خرج بعض ملوك الفرس متنزّها، فلقي بعض الحكماء، فسأله عن أحزم الملوك، فقال: من ملك جدّه هزله، وقهر لبّه هواه، وأعرب لسانه عن ضميره، ولم يخدعه رضاه عن سخطه، ولا غضبه عن صدقه. فقال الملك: لا، بل أحزم الملوك من إذا جاع أكل، وإذا عطش شرب، وإذا تعب استراح. فقال الحكيم: أيها الملك، قد أجدت الفطنة. هذا العلم مستفاد أم غريزي؟ قال: كان عندنا معلّم من حكماء الهند، وكان هذا نقش خاتمه. قال: فهل علّمك غير هذا؟ قال: ومن أين يؤخذ مثل هذا عند رجل واحد؟ ثم قال له الملك: علّمني من حكمتك أيّها الحكيم. قال: نعم، احفظ عني ثلاث كلمات. قال: ما هنّ؟ قال: صقلك السيف ليس له جوهر من سنخة (1) خطأ، وصبّك الحبّ في الأرض السّبخة (2). ترجو نباته جهل، وحملك المسنّ على الرياضة عناء.
قال أبو تمّام الطائي (3): [الكامل]
__________
(1) السّنخ: الأصل من كل شيء. لسان العرب (سنخ).
(2) الأرض السّبخة: ذات النّزّ والملح. القاموس المحيط (سبخ).
(3) ديوان أبي تمام (ص 234) وهو من قصيدة مديح.(2/7)
والسيف ما لم يلف فيه صيقل ... من سنخه لم ينتفع بصقال
وقيل لبعض الحكماء: ما الدليل الناصح؟ قال: غريزة الطبع. قيل: ما القائد المشفق؟ قال: حسن المنطق. قيل: فما العناء المعنّى؟ قال: تطبيعك ما لا طبع له.
وكان أنوشروان يقول: الناس ثلاث طبقات تسوسهم ثلاث سياسات: [طبقة من خاصة الأحرار تسوسهم بالعطف واللّين والإحسان، و] طبقة من خاصة الأشرار تسوسهم بالغلظة والعنف والشدّة، وطبقة من العامة تسوسهم باللين والشّدة، لئلّا تخرجهم الشدّة، ولا يبطرهم (1) اللّين.
وقال واصل بن عطاء: ألا قاتل الله هذه السفلة! توادّ من حادّ الله ونبيّه، وتحادّ من وادّ الله ونبيّه، وتذمّ من مدحه الله، وتمدح من ذمّه الله على أنه بهم علم الفضل لأهل الطبقة العالية، وبهم أعطيت الأوساط حظّا من النّبل.
وقيل لبعض الملوك، [وقد بلغ في القدر ما لم يبلغه أحد من ملوك زمانه]: ما الذي بلغ بك هذه المنزلة؟ قال: عفوي عند قدرتي، وليني عند شدّتي، وبذلي الإنصاف ولو من نفسي، وإبقائي في الحب والبغض مكانا لموضع الاستبدال.
وقال الإسكندر لأحد الحكماء، وأراد سفرا: أرشدني لأحزم أمري. قال: لا تملأنّ قلبك من محبّة الشيء، ولا يستولين عليك بغضه، واجعلهما قصدا (2) فإن القلب كاسمه ينزع ويرجع، واجعل وزيرك التثبت، وسميرك التيقّظ، ولا تقدّم إلّا بعد المشورة فإنها نعم الدليل، فإذا فعلت ذلك ملكت قلوب رعيّتك.
وقيل لبعض الحكماء: ما الحزم؟ قال: سوء الظن. قيل: فما الصواب؟ قال:
المشورة. قيل: فما الرأي الذي يجمع القلوب على المودّة؟ قال: كفّ بذول، وبشر جميل. قيل: فما الاحتياط؟ قال: الاقتصاد في الحبّ والبغض.
وسئل بزرجمهر: ما المروءة؟ قال: ترك ما لا يعني. قيل: فما الحزم؟ قال: انتهاز الفرصة. قيل: فما الحلم؟ قال: العفو عند المقدرة. قيل: فما الشدة؟ قال: ملك الغضب. قيل: فما الخرق؟ قال: حب مغرق وبغض مفرط.
قال معاوية، رضي الله عنه، لزياد حين ولّاه العراق: يا زياد، ليكن حبّك وبغضك قصدا (3) فإن العثرة فيهما كامنة، واجعل للنزوع والرجوع بقيّة من قلبك، واحذر صولة
__________
(1) يبطرهم اللّين: يحملهم على البطر وهو الطغيان في النعمة. لسان العرب (بطر).
(2) القصد في الشيء: خلاف الإفراط وهو ما بين الإسراف والتقتير. لسان العرب (قصد).
(3) القصد في الشيء: خلاف الإفراط وهو ما بين الإسراف والتقتير. لسان العرب (قصد).(2/8)
الانهماك، فإنها تؤدي إلى الهلاك.
ومن كلام بلغاء أهل العصر في ذكر السلطان
أبو القاسم الصاحب: مرضاة السلطان، لا تغلو بشيء من الأثمان، ولا ببذل الروح والجنان. تهيّب السلطان فرض وكيد، وحتم على من ألقى السمع وهو شهيد.
أبو إسحاق الصابي: الملك أحقّ باصطفاء رجاله منه باصطفاء أمواله لأنه مع اتساع الأمر وجلالة القدر لا يكتفي بالوحدة، ولا يستغني عن الكثرة ومثله في ذلك مثل المسافر في الطريق البعيد الذي يجب أن تكون عنايته بفرسه المجنوب، كعنايته بفرسه المركوب.
فصل للصابي: الملك بمن غلط من أتباعه فاتّعظ أشدّ انتفاعا منه بمن لم يغلط ولم يتّعظ فالأول كالقارح (1) الذي أدّبته الغرّة، وأصلحته الفدامة (2)، والثاني كالجذع المتهوّك (3) الذي هو راكب للغرّة وراكن إلى السلامة.
وقيل: إن العظم إذا جبر من كسره عاد صاحبه أشدّ بطشا وأقوى أيدا.
أبو بكر الخوارزمي: لا صغير مع الولاية والعمالة، كما لا كبير مع العطلة والبطالة وإنما الولاية أنثى تصغر وتكبر بواليها، ومطيّة تحسن وتقبح بممتطيها، والصّدر لمن يليه، والدّست لمن جلس فيه، والأعمال بالعمّال، كما أنّ النساء بالرجال.
فصل له: إنّ ولاية المرء ثوبه فإن قصر عري منه، وإن طال عثر فيه. قليل السلطان كثير، ومداراته حزم وتدبير، ومكاشفته غرور وتغرير.
أبو الفتح البستي: أجهل الناس من كان على السلطان مدلّا، وللأخوان مذلّا.
أبو الفضل ابن العميد: الإبقاء على حشم السلطان وعمّاله عدل الإبقاء (4) على ماله، والإشفاق [على حاشيته وحشمه مثل الإشفاق على ديناره ودرهمه].
وله من رسالة طويلة، جواب لأبي شجاع عضد الدولة عن كتاب اقتضاه فيه صدر كتاب ألّفه أبو الحسن الصوفي في نوع من علوم الهيئة:
__________
(1) القارح من ذي الحافر: الذي شقّ نابه وطلع، وهو بمنزلة البازل من الإبل. محيط المحيط (قرح).
(2) الفدامة: الحماقة وقلّة الفهم. محيط المحيط (فدم).
(3) الجذع من البهائم: قبل الثنيّ، والجذع من الإبل: من كان في السنة الخامسة، ومن البقر والشاء في السنة الثانية. والمتهوّك: المتحيّر والمتهوّر. محيط المحيط (جذع) و (هوك).
(4) العدل: المثل والنظير. القاموس المحيط (عدل).(2/9)
أنا أقدم الإجابة بحمد الله تعالى جدّه، على ما وهب لنا معاشر عبيده وخدمه خاصة، بل لرعاياه عامّة، بل لأهل الأرض كافة، من عظيم النعمة بمكانه، وجسيم الموهبة بإنفاق أعمارنا في زمانه، حتى شاركناه في أسباب السعادة التي لم تزل مذخورة عليه، حتى صارت إليه، وساهمناه في موادّ الفضيلة التي لم تزل محفوظة له حتى اتّصلت به فإنّ المرء أشبه شيء بزمانه، وصفات كل زمان منتسخة من سجايا سلطانه فإن فضل شاع الفضل في الزمان وأهله، وتحلّى الدّهر بأفضل حليته، وتجلّى للعيون والقلوب بأحسن زينته، وكسا بنيه والناشئين فيه بشرف جوهره، وأورثهم نيل فضله، وعزّ العلم وأهله، وعرف لمقتبسه قدره، وتوجّهت الأذهان نحوه، وتعلّقت الخواطر به، وصرفت الفكر فيه، ونشدت ضوالّه، ونظم أشتاته، وجمعت أفراده، ووثقت نفوس الساعين في استفادته بحسن عائدته، فحرصت عليه، وصرفت نظرها إليه، وأيقنت في بضاعتها بالنّفاق، وفي تجارتها بالإرفاق فصار ذلك إلى نماء العلوم وزيادتها داعية، ولتكثير قليلها وإيضاح مجهولها سببا وعلّة، وإلى انخراط جواهرها المتفرقة في سلوك التصنيف سبيلا، وإلى تقييد شواردها بعقل (1) التأليف طريقا. وإن رذل السلطان اتّبعت الرذيلة اتباعا، وذهبت الفضائل ضياعا، وبطلت الأقدار والقيم، وسلبت الأخطار والهمم، وزال العلم والتعلم، ودرس الفهم والتفهم، وضرب الجهل بجرانه، ووطىء بمنسمه، واستعلى الخمول على النباهة، واستولى الباطل على الحقّ، وصار الأدب وبالا على صاحبه، والعلم نكالا على حامله. وبحسب عظيم المحنة بمن هذه صفته، والبلوى مع من هذه صورته، تعظم النعمة بملك سلطان عالم، كالأمير الجليل عضد الدولة، أطال الله تعالى بقاءه، وأدام قدرته، الذي أحلّه الله عزّ وجلّ من الفضائل بملتقى طرقها ومجتمع فرقها، فهي نوادّ ممن لاقت حتى تصير إليه، وشوارد نوازع حيث حلّت حتى تقع عليه، تتلفت تلفت الرامق، وتتشوّف إليه تشوف الصبّ العاشق، قد ملكها أنّى توجهت وحشة المضاع وحيرة المرتاع (2): [الطويل]
فإن تغش قوما غيره أو تزرهم ... فكالوحش يدنيها من الأنس المحل
حتى إذا قابلته أسرعت إليه إسراع السيل ينصبّ في الحدور، والطير ينقضّ إلى الوكور.
__________
(1) العقل، بالضم: جمع عقال وهو حبل تربط به الدابة. لسان العرب (عقل).
(2) البيت لصريع الغواني مسلم بن الوليد، وهو في الشعر والشعراء (ص 713)، ورواية صدر البيت هناك هي:
فإن أغش قوما بعده أو أزرهم(2/10)
وقال أبو الطيب المتنبي (1): [المنسرح]
أحقّ عاف بدمعك الهمم ... أحدث شيء عهدا بها القدم (2)
وإنما الناس بالملوك، وما ... تفلح عرب ملوكها عجم
لا أدب عندهم ولا حسب ... ولا عهود لهم ولا ذمم
بكلّ أرض وطئتها أمم ... ترعى بعبد كأنّها غنم
يستخشن الخزّ حين يلمسه ... وكان يبرى بظفره القلم
وقال الزبير بن بكار: قدم ابن ميّادة، واسمه الرّمّاح بن أبرد، زائرا لعبد الواحد بن سليمان، وهو أمير المدينة، فكان عنده ليلة في سمّاره فقال عبد الواحد لأصحابه: إني لأهم أن أتزوج فابغوني أيّما، قال ابن ميادة: أنا أصلحك الله أدلّك، قال: على من، يا أبا بشر، نميل؟ قال: قدمت عليك أيها الأمير، فلما قدمت الفيت المسجد وإذا أشبه شيء به وبمن فيه الجنة ومن فيها، فبينا أنا أمشي إذا قادتني رائحة رجل عطر حتى وقفت عليه، فلما وقع بصري عليه استلهى حسنه ناظري، فما أقلعت ناظري حتى تكلّم فما زال يتكلّم كأنما ينثر درّا، ويتلو زبورا، ويدرس إنجيلا، ويقرأ فرقانا، حتى سكت، فلولا معرفتي بالأمير ما شككت أنه هو، ثم خرج من مصلّاه إلى داره، فسألت عنه، فأخبرت أنه من الحسن بمكانة، وأنه للخليفتين، وأنه قد نالته ولادة من رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، لها ساطع من غرّته فإن اجتمعت أنت وهو على ولد ساد العباد، وجاب ذكره البلاد.
فلما قضى ابن ميّادة كلامه قال عبد الواحد ومن حضر: ذلك محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، رضي الله تعالى عنه، لفاطمة بنت الحسين بن علي، رضي الله عنهم.
وقال ابن ميادة: [الطويل]
لهم سيرة لم يعطها الله غيرهم ... وكلّ قضاء الله فهو مقسّم
هذا في تقابل نسبه، وكمال منصبه، كقول عويف القوافي في طلحة بن عبد الله الزهري: [الطويل]
يصمّ رجال حين يدعون للندى ... ويدعى (3) ابن عوف للندى فيجيب
وذاك امرؤ من أيّ عطفيه يلتفت ... إلى المجد يحوي المجد وهو قريب
وعبد الواحد بن سليمان هذا هو الذي يقول فيه القطامي: [البسيط]
__________
(1) ديوان المتنبي (ص 8887).
(2) العافي: الدارس. لسان العرب (عفا).
(3) في الأصل: «ويدعون»، وهكذا ينكسر الوزن.(2/11)
أقول للحرف لمّا أن شكت أصلا ... طول السّفار وأفنى نيّها الرّحل (1)
إن ترجعي من أبي عثمان منجحة ... فقد يهون على المستنجح العمل
أهل المدينة لا يحزنك شأنهم ... إذا تخطّأ عبد الواحد الأجل
ومن قول القطامي: «إن ترجعي من أبي عثمان منجحة» أخذ الآخر قوله: [الطويل] إذا ما تعنّى المرء في إثر حاجة ... فأنجح لم يثقل عليه عناؤه
وهو عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك بن مروان، قال الكلبي: هو عبد الواحد ابن الحارث بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، والأول قول ابن السكيت.
والقصيدة التي منها هذه الأبيات من أجود قوله، وفيها يقول ممّا يتمثّل به: [البسيط]
والعيش لا عيش إلّا ما تقرّ به ... عين ولا حال إلّا سوف ينتقل
والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهي ولأمّ المخطىء الهبل (2)
قد يدرك المتأنّي بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزّلل
قوله: «والناس من يلق خيرا قائلون له» مأخوذ من قول المرقش: [الطويل]
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما
وقال عمرو بن سعيد للأخطل: أيسرّك أنّ لك بشعرك شعرا؟ قال: لا، ما يسرّني أن لي بقولي مقولا من مقاويل العرب، غير أنّ رجلا من قومي قال أبياتا حسدته عليها، وايم الله، إنه لمغدف القناع، ضيّق الذراع، قليل السماع، قال: ومن هو؟ قال: القطامي، قال:
وما هذه الأبيات؟ فأنشد له يصف إبلا من هذه القصيدة: [البسيط]
يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتّكل (3)
فهن معترضات والحصا رمض ... والرّيح ساكنة والظلّ معتدل (4)
يتبعن سامية العينين تحسبها ... مجنونة أو ترى ما لا ترى الإبل
[بين اللفظ واللحن]
قال أبو العتاهية لمخارق: أنت بنغم ألفاظك دون نغم ألحانك، تطرب إذا تكلّمت، فكيف إذا ترنّمت!.
__________
(1) الحرف: الناقة الضامرة. النّبيّ: الشّحم. لسان العرب (حرف) و (نوى).
(2) الهبل، بالفتح: الثكل. لسان العرب (هبل).
(3) الرّهو: السّير السهل. لسان العرب (رها).
(4) الرّمض: الحارّ. لسان العرب (رمض).(2/12)
وقال له يوما: يا حكيم هذه الأقاليم، اصبب في هذه الآذان من جيّد تلك الألحان، فأقسم لو كان الكلام طعاما، لكان غناؤك له إداما.
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: دخلت على المعتصم يوما وقد خلا، وعنده جارية تغنّيه، وكان معجبا بها، فلما جلست قال لي: يا أبا إسحاق، كيف تراها؟ فقلت:
يا أمير المؤمنين، أراها تقهره بحذق، وتختله برفق، ولا تخرج من حسن إلّا إلى أحسن منه، وفي حلقها شذور نغم أحسن من دوام النعم، قال: يا إسحاق، هي غايات الأمل، ومنسيات الأجل، والسقم الداخل، والشغل الشاغل، وإن صفتك هذه لو سمعها من لم يرها لفقد لبّه، وقضى نحبه.
وسئل إسحاق عن المجيد من المغنين، فقال: من لطف في اختلاسه، وتمكّن من أنفاسه، وتفرّع في أجناسه، يكاد يعرف ضمائر مجالسيه، وشهوات معاشريه، يقرع مسمع كلّ واحد منهم بالنحو الذي يوافق هواه، ويطابق معناه.
وكان إسحاق بن إبراهيم قد جمع إلى حذقه بصناعته حسن التصرف في العلوم، وجودة الصنعة للشعر، وحدّث عن نفسه فقال: كنت أيام الرشيد أبكّر إلى هشيم ووكيع فأسمع منهما، ثم أنصرف إلى عاتكة بنت شهيد فتطارحني صوتين، ثم أصير إلى زلزل الضارب فآخذ منه طريقين، ثم أسير إلى منزلي فأبعث إلى أبي عبيدة والأصمعي، فلا يزالان عندي إلى الظهر، ثم أذهب إلى الخليفة.
ونزل أبوه بالموصل وليس من أهلها فنسب إليها، وهو مولى خزيمة بن خازم التميمي، وفي ذلك يقول إسحاق: [الطويل]
إذا مضر الحمراء كانت أرومتي ... وقام بنصري خازم وابن خازم
عطست بأنفي شامخا وتناولت ... بناني الثريّا قاعدا غير قائم
وفيه يقول محمد بن عامر الجرجاني يرثيه: [الطويل]
على الجدث الشرقيّ عوجا فسلّما ... ببغداد لما صدّ عنه عوائده
أإسحاق، لا تبعد، وإن كان قد رمى ... بك الموت مرمّى ليس يصدر وارده
متى تأته يوما تحاول منفسا ... من الدين والدنيا فإنك واجده
إذا هزل اخضرّت فروع حديثه ... ورقّت حواشيه وطابت مشاهده
وإن جدّ كان القول جدّا وأقسمت ... مخارجه ألّا تلين شدائده
ومن جيّد شعر إسحاق قصيدته في إسحاق بن إبراهيم المصعبيّ بعد إيقاعه بالخرميّة: [الطويل]
تقضّت لبانات وجدّ رحيل ... ولم يشف من أهل الصفاء غليل
ومدّت أكفّ للوداع فصافحت ... وفاضت عيون للفراق تسيل
ولا بدّ للألّاف من فيض عبرة ... إذا ما خليل بان عنه خليل (1)
فكم من دم قد طلّ يوم تحمّلت ... أوانس لا يودى لهن قتيل (2)
غداة جعلت الصبر شيئا نسيته ... وأعولت لو أجدى عليّ عويل (3)
ولم أنس منها نظرة هاج لي بها ... هوى منه باد ظاهر ودخيل
كما نظرت حوراء في ظلّ سدرة ... دعاها إلى ظلّ الكناس مقيل
فلا وصل إلّا أن تلافاه أينق ... عتاق نماها شدقم وجديل (4)
إذا قلبت أجفانها بتنوفة ... طوى البعد منها هزة وذميل (5)
تفرّد إسحاق بنصح أميره ... فليس له عند الإمام عديل
يفرج عنه الشكّ صدق عزيمة ... ولبّ به يعلو الرجال أصيل
أغرّ نجيب الوالدين كأنه ... حسام جلت عنه العيون صقيل
بني مصعب، للمجد فيكم إذا بدت ... وجوهكم للناظرين دليل
كرمتم فما فيكم جبان لدى الوغى ... ولا منكم عند العطاء بخيل
غلبتم على حسن الثناء فراقكم ... ثناء بأفواه الرجال جميل
إذا استكثر الأعداء ما قلت فيكم ... فإن الذي يستكثرون قليل
وهذا نمط الحذاق الفحول، وقال: [الطويل](2/13)
على الجدث الشرقيّ عوجا فسلّما ... ببغداد لما صدّ عنه عوائده
أإسحاق، لا تبعد، وإن كان قد رمى ... بك الموت مرمّى ليس يصدر وارده
متى تأته يوما تحاول منفسا ... من الدين والدنيا فإنك واجده
إذا هزل اخضرّت فروع حديثه ... ورقّت حواشيه وطابت مشاهده
وإن جدّ كان القول جدّا وأقسمت ... مخارجه ألّا تلين شدائده
ومن جيّد شعر إسحاق قصيدته في إسحاق بن إبراهيم المصعبيّ بعد إيقاعه بالخرميّة: [الطويل]
تقضّت لبانات وجدّ رحيل ... ولم يشف من أهل الصفاء غليل
ومدّت أكفّ للوداع فصافحت ... وفاضت عيون للفراق تسيل
ولا بدّ للألّاف من فيض عبرة ... إذا ما خليل بان عنه خليل (1)
فكم من دم قد طلّ يوم تحمّلت ... أوانس لا يودى لهن قتيل (2)
غداة جعلت الصبر شيئا نسيته ... وأعولت لو أجدى عليّ عويل (3)
ولم أنس منها نظرة هاج لي بها ... هوى منه باد ظاهر ودخيل
كما نظرت حوراء في ظلّ سدرة ... دعاها إلى ظلّ الكناس مقيل
فلا وصل إلّا أن تلافاه أينق ... عتاق نماها شدقم وجديل (4)
إذا قلبت أجفانها بتنوفة ... طوى البعد منها هزة وذميل (5)
تفرّد إسحاق بنصح أميره ... فليس له عند الإمام عديل
يفرج عنه الشكّ صدق عزيمة ... ولبّ به يعلو الرجال أصيل
أغرّ نجيب الوالدين كأنه ... حسام جلت عنه العيون صقيل
بني مصعب، للمجد فيكم إذا بدت ... وجوهكم للناظرين دليل
كرمتم فما فيكم جبان لدى الوغى ... ولا منكم عند العطاء بخيل
غلبتم على حسن الثناء فراقكم ... ثناء بأفواه الرجال جميل
إذا استكثر الأعداء ما قلت فيكم ... فإن الذي يستكثرون قليل
وهذا نمط الحذاق الفحول، وقال: [الطويل]
ومدرجة للريح غبراء لم يكن ... ليجشمها زمّيلة غير صارم (6)
يضلّ بها الساري وإن كان هاديا ... وتقطع أنفاس الرياح النّواسم
__________
(1) الألّاف: جمع آلف وهو كثير الألفة. القاموس المحيط (ألف).
(2) طلّ: أهدر. الأوانس: جمع آنسة وهي التي يؤنس إليها. لا يودى لهنّ قتيل: لا تعطى ديته. لسان العرب (طلل) و (أنس) و (ودى).
(3) أعول: بكى. لسان العرب (عول).
(4) شدقم وجديل: فحلان من فحولة الإبل المعروفة، كانا للنعمان بن المنذر، يضرب بهما المثل.
لسان العرب (شدقم) و (جدل).
(5) التّنوفة: الصحراء المترامية الأطراف. الذميل: ضرب من السير السريع. لسان العرب (تنف) و (ذمل).
(6) مدرجة للريح: أي الصحراء. الزّمّيلة: الجبان. لسان العرب (درج) و (زمل).(2/14)
تعسّفت أبري جوزها بشملّة ... بعيدة ما بين العرى والمحازم (1)
كأنّ شرار المرو من نبذها به ... نجوم هوت إحدى الليالي العواتم (2)
إذا ضمّها والسّفر ليل فغيبت ... دياجيره عنهم رؤوس المعالم
تنادوا فصاروا تحت أكناف رحلها ... ليهديهم قدح الحصى بالمناسم
وقال: [الطويل]
ولما رأين البين قد جدّ جدّه ... ولم يبق إلّا أن تبين الركائب
دنونا فسلّمنا سلاما مخالسا ... فردّت علينا أعين وحواجب
تصدّ بلا بغض ونخلس لمحة ... إذا غفلت عنا العيون الرواقب
نذاد إذا حمنا لنشفي غلة ... كما ذيد عن ورد الحياض الغرائب
وما أحسن ما قال أبو العباس الناشىء في هذا المعنى: [الطويل]
ولما رأين البين زمّت ركابه ... وأيقنّ منّا بانقطاع المطالب
طلبن على الرّكب المجدين علّة ... فعجن علينا من صدور الركائب
فلمّا تلاقينا كتبن بأعين ... لنا كتبا أعجمنها بالحواجب
فلمّا قرأناهنّ سرّا طوينها ... حذار الأعادي بازورار المناكب
وقال إسحاق: [الطويل]
ألا من لقلب لا يزال رميّة ... للمحة طرف أو لكسرة حاجب
وللخمر اللاتي تساقط لوثها ... فتور الخطا عن واردات الذوائب
[وصف الذوائب]
وعلى ذكر الذوائب قال ابن المعتز: [الطويل]
سقتني في ليل شبيه بشعرها ... شبيهة خدّيها بغير رقيب
فأمسيت في ليلين بالشّعر والدّجى ... وخمرين من راح وخدّ حبيب
وقال بكر بن النطاح: [الكامل]
بيضاء تسحب من قيام شعرها ... وتغيب فيه وهو جثل أسحم (3)
فكأنها فيه نهار مبصر ... وكأنه ليل عليها مظلم
__________
(1) تعسّف: قطع. الجوز: الوسط. الشّملّة: الناقة السريعة. لسان العرب (عسف) و (جوز) و (شمل).
(2) المرو: حجر أبيض رقيق برّاق يوري النار. محيط المحيط (مرو).
(3) الشّعر الجثل: الكثير الملتفّ. الأسحم: الأسود. محيط المحيط (جثل) و (سحم).(2/15)
وقال المتنبي (1): [الكامل]
نشرت ثلاث ذوائب من شعرها ... في ليلة فأرت ليالي أربعا
واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معا
وقال ابن الرومي: [المنسرح]
وفاحم وارد يقبّل مم ... شاه إذا اختال مسبلا غدره (2)
أقبل كالليل في مفارقه ... منحدرا لا يرام منحدره
حتى تناهى إلى مواطئه ... يلثم من كلّ موطىء عفره
كأنه عاشق دنا شغفا ... حتى قضى من حبيبه وطره
يغشي غواشي قرونه قدما ... بيضاء للناظرين مقتدره
مثل الثريّا إذا بدت سحرا ... بعد غمام وحاسر حسره
أخذه بعض أهل العصر وهو محمد بن مطران فقال: [الطويل]
ظباء أعارتها الظّباء حسن مشيها ... كما قد أعارتها العيون الجآذر
فمن حسن ذاك المشي قامت فقبّلت ... مواطىء من أقدامهنّ الغدائر
وقال مسلم بن الوليد: [الطويل]
أجدّك هل تدرين أن ربّ ليلة ... كأنّ دجاها من قرونك ينشر
نصبت لها حتى تجلّت بغرّة ... كغرّة يحيى حين يذكر جعفر
[القصيدة والإنسان]
قال الحاتمي: مثل القصيدة مثل الإنسان في اتّصال بعض أعضائه ببعض فمتى انفصل واحد عن الآخر وباينه في صحّة التركيب، غادر الجسم ذا عاهة تتخوّن (3)
محاسنه، وتعفّي معالمه وقد وجدت حذّاق المتقدّمين وأرباب الصناعة من المحدثين يحترسون في مثل هذا الحال احتراسا يجنّبهم شوائب النقصان، ويقف بهم على محجّة الإحسان، حتى يقع الاتّصال، ويؤمن الانفصال، وتأتي القصيدة في تناسب صدورها وأعجازها وانتظام نسيبها بمديحها كالرسالة البليغة، والخطبة الموجزة، لا ينفصل جزء منها عن جزء، وهذا مذهب اختصّ به المحدثون لتوقّد خواطرهم، ولطف أفكارهم،
__________
(1) ديوان المتنبي (ص 115).
(2) الغدر، بالضم: جمع غديرة وهي الذؤابة. لسان العرب (غدر).
(3) تتخوّن محاسنه: تنتقصها. محيط المحيط (خون).(2/16)
واعتمادهم البديع وأفانينه في أشعارهم، وكأنه مذهب سهّلوا حزنه (1)، ونهجوا رسمه فأمّا الفحول الأوائل، ومن تلاهم من المخضرمين والإسلاميين فمذهبهم المتعالم «عدّ عن كذا إلى كذا» (2) وقصارى كلّ واحد منهم وصف ناقته بالعتق، والنّجابة والنجاء، وأنه امتطاها فادّرع عليها جلباب اللّيل وربما اتّفق لأحدهم معنى لطيف يتخلّص به إلى غرض لم يتعمّده إلّا أن طبعه السليم، وصراطه في الشعر المستقيم، نصبا مناره وأوقدا باليفاع ناره فمن أحسن تخلّص شاعر إلى معتمده قول النابغة الذبياني (3): [الطويل]
فكفكفت منّي عبرة فرددتها ... على النّحر، منها مستهلّ ودامع
على حين عاتبت المشيب على الصّبا ... وقلت: ألمّا أصح والشيب وازع (4)
وقد حال همّ، دون ذلك، شاغل ... مكان الشّغاف، تبتغيه الأصابع (5)
وعيد أبي قابوس في غير كنهه ... أتاني ودوني راكس فالضّواجع (6)
وهذا كلام متناسخ، تقتضي أوائله أواخره، ولا يتميّز منه شيء عن شيء: [الطويل]
أتاني، أبيت اللعن، أنك لمتني ... وتلك التي تستكّ منها المسامع
مقالة أن قد قلت سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع
ولو توصّل إلى ذلك بعض الشعراء المحدثين الذين واصلوا تفتيش المعاني، وفتحوا أبواب البديع، واجتنوا ثمر الآداب، وفتحوا زهر الكلام لكان معجزا عجبا، فكيف بجاهل بدوي إنما يغترف من قليب قلبه، ويستمدّ عفو هاجسه.
وقال عليّ بن هارون المنجم عن أبيه: لم يتوصل أحد إلى مدح بمثل قول [ابن] وهيب: [الكامل]
ما زال يلثمني مراشفه ... ويعلّني الإبريق والقدح
__________
(1) الحزن، بفتح الحاء: خلاف السهل. محيط المحيط (حزن).
(2) هذا كقول زهير بن أبي سلمى من قصيدة مدح في هرم: [الكامل]
دع ذا وعدّ القول في هرم ... خير البداة وسيّد الحضر
ديوان النابغة الذبياني (ص 27). يقول: دع ما أنت فيه من وصف الديار واصرف القول. والبداة:
البدو، واحدها باد.
(3) ديوان النابغة الذبياني (ص 8079).
(4) الوازع: الرادع لسان العرب (وزع).
(5) الشّغاف: حجب القلب. لسان العرب (شغف).
(6) راكس: اسم واد. الضواجع: جمع ضاجعة وهي منحنى الوادي. محيط المحيط (ضجع).(2/17)
حتى استردّ الليل خلعته ... وبدا خلال سواده وضح
وبدا الصباح كأن غرّته ... وجه الخليفة حين يمتدح
وقال عليّ بن الجهم: [البسيط]
وليلة كحّلت بالنّقس مقلتها ... ألقت قناع الدّجى في كلّ أخدود (1)
قد كاد يغرقني أمواج ظلمتها ... لولا اقتباس سنا وجه ابن داود
قوله: «كحلت بالنّفس مقلتها» مأخوذ من قول أعرابي: «والليل قد صبغ الحصى بمداد».
وقد أخذ هذا أبو نواس فقال (2): [الوافر]
أبن لي كيف صرت إلى حريمي ... وجفن الليل مكتحل بقار
وقد أخذ هذا أبو تمام فقال (3): [الطويل]
إليك هتكنا جنح ليل كأنه ... قد اكتحلت منه البلاد بإثمد
وقد أخذ لفظ الأعرابي المتقدّم أبو نواس فقال (4): [الرجز]
قد أغتدي والليل كالمداد ... والصّبح ينفيه عن البلاد
طرد المشيب حالك السّواد
وإنما نظر في هذا إلى قول الأعرابي: [البسيط]
أقول والليل قد مالت أواخره ... إلى الغروب: تأمّل نظرة حار
ألمحة من سنا برق رأى بصري ... أم وجه نعم بدا لي أم سنا نار؟
بل وجه نعم بدا والليل معتكر ... فلاح ما بين حجّاب وأستار
ومن بديع الخروج قول عليّ بن الجهم وذكر سحابة: [الطويل]
وسارية تزدار أرضا بجودها ... شغلت بها عينا طويلا هجودها (5)
أتتنا بها ريح الصّبا فكأنها ... فتاة ترجّيها عجوز تقودها
فما برحت بغداد حتى تفجّرت ... بأودية ما تستفيق مدودها
__________
(1) النّفس: المداد. الأخدود: الحفرة المستطيلة في الأرض. محيط المحيط (نقس) و (خدد).
(2) ديوان أبي نواس (ص 77) من خمرية، وجاء فيه: «ونجم» بدل «وجفن».
(3) ديوان أبي تمام (ص 93) من قصيدة مديح.
(4) لم يرد البيت في ديوان أبي نواس.
(5) السارية: السحابة. تزدار: تطلب الزيارة. الجود: المطر. لسان العرب (سرى) و (زور) و (جود).(2/18)
ولمّا قضت حقّ العراق وأهله ... أتاها من الريح الشمال بريدها
فمرّت تفوت الطّير سبقا كأنها ... جنود عبيد الله ولّت بنودها
يريد انصراف أصحاب عبيد الله بن خاقان عن الجعفريّ إلى سرّ من رأى عند قتل المتوكل. وقد أخذ هذا التشبيه معكوسا من قول أبي العتاهية (1): [الوافر]
ورايات يحلّ النصر فيها ... تمرّ كأنها قطع السحاب
وقال ديك الجنّ (2): [الخفيف]
وغرير يقضي بحكمين: في الرا ... ح بجور، وفي الهوى بمحال
للنّقا ردفه، وللخوط ما ... حمّل لينا، وجيده للغزال (3)
فعلت مقلتاه بالصّبّ ما تف ... عل جدوى يديك بالأموال (4)
ومن بارع الخروج قول المتنبي (5): [البسيط]
مرّت بنا بين تربيها فقلت لها: ... من أين جانس هذا الشادن العربا (6)
فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى ... ليث الشّرى وهو من عجل إذا انتسبا (7)
واشتهار شعره، يمنعني من ذكره.
[افتتاح القصائد بالغزل]
قال ابن قتيبة: سمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيدة إنما ابتدأ بوصف الديار والدّمن والآثار فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سببا لذكر أهله الظاعنين إذ كانت نازلة العمد في الحلول والظّعن على خلاف ما عليه نازلة المدر لانتقالهم من ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ، وتتبّعهم مساقط الغيث حيث كان ثم وصل ذلك بالنسيب، فبكى شدّة الوجد، وألم الصبابة والشوق ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، ويستدعي إصغاء الأسماع لأن النسيب قريب من النفوس، لائط
__________
(1) لم يرد البيت في ديوان أبي العتاهية.
(2) ديوان ديك الجن (ص 147) من قصيدة مدح.
(3) النّقا: ما احدودب من الرمل. الخوط: الغصن الناعم الرقيق. لسان العرب (نقا) و (خوط).
(4) الجدوى: العطية. لسان العرب (جدا).
(5) ديوان المتنبي (ص 93).
(6) التّرب: المساوي لغيره في العمر، يستعمل للمذكر والمؤنث. لسان العرب (ترب).
(7) الشّرى: موضع تكثر فيه الأسود. عجل: قبيلة الممدوح. لسان العرب (شرى) و (عجل).(2/19)
بالقلوب (1)، لما جعل الله تعالى في تركيب العباد من محبّة الغزل، وإلف النساء، فليس أحد يخلو من أن يكون متعلّقا منه بسبب، وضاربا فيه بسهم، حلال أو حرام. فإذا استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له عقّب بإيجاب الحقوق فرحل في شعره، وشكا النّصب والسهر، وسرى الليل [وحر الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حقّ الرجاء وذمام التأميل]، وقرّر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح فبعثه على المكافأة، وفضّله على الأشباه، وصغّر في قدره الجزيل، وهزّه لفعل الجميل فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحدا أغلب على الشعر، ولم يطل فيملّ السامعين، ولم يقطع وفي النفوس ظمأ إلى المزيد.
[بين أبي تمام والبحتري]
ويتعلّق بهذه القطعة ما حدّث به الحاتمي عن نفسه، وإن كانت الحكاية طويلة فهي غير مملولة لما لبسته من حلل الآداب، وتزيّنت به من حلى الألباب، قال: جمعني ورجلا من مشايخ البصرة ممن يومأ إليه في علم الشعر مجلس بعض الرؤساء، وكان خبره قد سبق إليّ في عصبيّته للبحتري، وتفضيله إياه على أبي تمام، ووجدت صاحب المجلس مؤثرا لاستماع كلامنا في هذا المعنى، فأنشأت قولا أنحيت فيه على البحتري إنحاء أسرفت فيه، واقتدحت زناد الرجل، فتكلّم وتكلّمت، وخضنا في أفانين من التفضل والمماثلة، غلوت في جميعها غلوا شهده جميع من حضر المجلس، وكانوا جمّة الوقت، وأعيان الفضل، فاضطر إلى أن قال: ما يحسن أبو تمام يبتدىء، ولا يخرج، ولا يختم، ولو لم يكن للبحتري عليه من الفضل إلّا حسن ابتداءاته، ولطف خروجه، وسرعة انتهائه، لوجب أن يقع التسليم له، فكيف بأوابده التي تزداد على التكرار غضارة وجدة، ثم أقبل عليّ، فقال: أين يذهب بك عن ابتدائه: [الكامل]
عارضننا أصلا فقلنا الرّبرب ... حتى أضاء الأقحوان الأشنب (2)
واخضرّ موشيّ البرود وقد بدا ... منهنّ ديباج الخدود المذهب
وأنّى لأبي تمام مثل خروجه حيث يقول: [الطويل]
__________
(1) لائط بالقلوب: لاصق بها. لسان العرب (لوط).
(2) الأصل، بالضم: جمع أصيل وهو العشيّ. الأشنب: الذي في أسنانه ماء ورقّة وعذوبة. القاموس المحيط (أصل) و (شنب).(2/20)
أدارهم الأولى بدارة جلجل ... سقاك الحيا روحاته وبواكره (1)
وجاءك بحكي يوسف بن محمد ... فروّتك ريّاه وجادك ماطره
وقد كرر هذا وزاد فيه فقال: [البسيط]
تنصّب البرق مختالا فقلت له: ... لو جدت جود بني يزدان لم تزد
ومن ذا الذي لطف لأن يخرج من وصف روض إلى مدح، فقال أحسن من أقوله:
[الطويل]
كأنّ سناها بالعشيّ لصحبها ... تبلّج عيسى حين يلفظ بالوعد
وأنّى لأبي تمام مثل حسن انتهائه حيث يقول: [الطويل]
إليك القوافي نازعات شواردا ... يسيّر ضاحي وشيها وينمم
ومشرقة في النظم غرّا يزيدها ... بهاء وحسنا أنها لك تنظم
وقوله في هذا المعنى: [الطويل]
ألست الموالي فيك نظم قصائد ... هي الأنجم اقتادت مع الليل أنجما
ثناء تخال الروض فيه منوّرا ... ضحى، وتخال الوشي فيه منمنما
ولقد تقدم البحتري الناس كلهم في قوله (2): [الكامل]
لو أنّ مشتاقا تكلّف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر
قال أبو علي: وكنت ساكنا إلى أن استتمّ كلامه، فكأنّ الجماعة أعجبهم ذلك، عصبية عليّ لا على أبي تمام لأني كنت كالشّجى معترضا في لهواتهم، وأسرّ كلّ واحد منهم إلى صاحبه سرّا يومىء به إلى استيلاء الرجل عليّ فلمّا استتمّ كلامه وبرقت له بارقة طمع في تسليمي له ابتدأت فقلت: لست ممن يقعقع له بالشّنان، ولا يقرع له بالعصا، لا إله إلّا الله! استنّت الفصال حتى القرعى! هل هذه المعاني إلا عون (3) مفترعة، قد تقدم أبو تمام إلى سبك نضارها، وافتضاض أبكارها، وجرى البحتري على وتيرته في انتزاع أمثالها وأتباعها، فأمّا قوله: «عارضننا أصلا فقلنا الربرب»، فمن قول أبي جويرية العبدي: [الكامل]
سلّمن نحوي للوداع بمقلة ... فكأنما نظرت إلينا الربرب
__________
(1) الحيا، بالفتح: المطر. محيط المحيط (حيا).
(2) ديوان البحتري (ج 1ص 20) من قصيدة مديح، وجاء في الديوان: «فلو أنّ» بدل «لو أنّ». وفي البيت إشارة إلى قول الله تعالى: {لََا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلََّا وُسْعَهََا}. سورة البقرة 2، الآية 233.
(3) العون: جمع عوان وهي المرأة التي كان لها زوج. لسان العرب (عون).(2/21)
وقرأن بالحدق المراض تحية ... كادت تكلّمنا وإن لم تعرب
وأما قوله في صفة الغيث مخاطبا للدار: «وجاءك يحكي يوسف بن محمد»، وقوله في هذا المعنى: «لوجدت جود بني يزدان لم تزد» فمن قول أبي تمام (1): [الكامل]
ولنؤيها في القلب نؤي شفّه ... وله بظاعنها وبالمتخلّف
وكأنما استسقى لهنّ محمد ... من سومهنّ من الحيا في زخرف
ومن قوله الذي تقدّم فيه كلّ أحد لفظا رشيقا ومعنى رقيقا (2): [الوافر]
ديمة سمحة القياد سكوب ... مستغيث لها الثّرى المكروب
لو سعت بقعة لإعظام نعمى ... لسعى نحوها المكان الجديب
ومن هنا أخذ البحتري: «لسعى إليك المنبر» (3): [الوافر]
أيها الغيث، حيّ أهلا بمغدا ... ك وعند السرى وحين تؤوب
لأبي جعفر خلائق تحكي ... هنّ قد يشبه النجيب النجيب
أنت فينا في ذا الأوان غريب ... وهو فينا في كلّ وقت غريب
وأما قوله: [الطويل]
كأنّ سناها بالعشي لصحبها ... تبلّج عيسى حين يلفظ بالوعد
فإنما نظر فيه إلى قول دعبل بن علي: [المتقارب]
وميثاء خضراء زربيّة ... بها النّور يلمع في كل فنّ (4)
ضحوكا إذا لاعبته الرياح ... تأوّد كالشارب المرجحن
فشبّه صحبي سنا نورها ... بديباج كسرى وعصب اليمن
فقلت: بعدتم، ولكنني ... أشبهه بجناب الحسن
فتى لا يرى المال إلّا العطاء ... ولا الكنز إلّا اعتقاد المنن
وأما قوله في صفة الغواني: «يسيّر ضاحي وشيها وينمنم» وقوله في وصفها:
«وتخال الوشي فيه منمنما» فمن قول أبي تمام (5): [الكامل]
__________
(1) لم يرد هذان البيتان في ديوان أبي تمام.
(2) البيتان لأبي تمام وهما في ديوانه (ص 55) من قصيدة مديح).
(3) الأبيات لأبي تمام، وهي في ديوانه (ص 55) من قصيدة مديح.
(4) الميثاء: الأرض السهلة. الزّربيّة من النبت: ما اصفرّ أو احمرّ وفيه خضرة، جمعها زرابيّ. محيط المحيط (ميث) و (زرب).
(5) ديوان أبي تمام (ص 79) وجاء فيه: «رجزا» بدل «نثرا».(2/22)
حلّوا بها عقد النسيب، ونمنموا ... من وشيها نثرا لها وقصيدا
ومن قوله الذي أبدع فيه: [الطويل]
ووالله لا أنفكّ أهدي شواردا ... إليك تحمّلن الثناء المنخّلا (1)
تخال به بردا عليك محبّرا ... وتحسبه عقدا عليك مفصّلا
ألذّ من السّلوى وأطيب نفحة ... من المسك مفتوقا وأيسر محملا
أخفّ على قلبي وأثقل قيمة ... وأقصر في قلب الجليس وأطولا
وقول البحتري: (هي الأنجم اقتادت مع الليل أنجما) مأخوذ من قول أبي تمام مقصرا عنه كلّ تقصير عن استيفاء إحسانه حيث يقول: [الطويل]
أصخ تستمع حرّ القوافي فإنها ... كواكب إلّا أنهنّ سعود
ولا تمكن الإخلاق منها فإنما ... يلذّ لباس البرد وهو جديد
فهذه خصال صاحبك فيما عددته من محاسنه التي هتكت بها ستور عواره، ونشرت مطويّ أسراره، حتى استوضحت الجماعة أنّ إحسانه فيها عارية مرتجعة، ووديعة منتزعة، فاسمع ما قال أبو تمام في نحو أبياتك التي أوجبت الفضل لصاحبك حين قال مبتدئا (2):
[الكامل]
لا أنت أنت، ولا الديار ديار ... خفّ الهوى، وتقضّت الأوطار (3)
كانت مجاورة الطلول وأهلها ... زمنا عذاب الورد فهي بحار (4)
وقوله (5): [الكامل]
رقّت حواشي الدهر فهي تمرمر ... وغدا الثّرى في حليه يتكسّر
وقوله (6): [الكامل]
أرأيت أيّ سوالف وخدود ... عنّت لنا بين اللّوى وزرود
__________
(1) الشوارد: جمع شاردة وهي القصيدة السائرة في البلاد. الثناء المنخّل: الذي نفى عنه كل غريب.
محيط المحيط (شرد) و (نخل).
(2) ديوان أبي تمام (ص 128) من قصيدة مديح.
(3) في الديوان: «وتولّت» بدل «وتقضّت». والأوطار: جمع وطر وهو الحاجة. لسان العرب (وطر).
(4) في الديوان: «وهي» بدل «فهي».
(5) ديوان أبي تمام (ص 138). وتمرمر: تهتزّ وتتردّد. ويتكسّر: يتثنّى. لسان العرب (مرمر) و (ثنى).
(6) ديوان أبي تمام (ص 74) مطلع قصيدة مديح، وجاء فيه: «فزرود» بدل «وزرود». وزرود: اسم مكان. واللّوى: منقطع الرمل.(2/23)
وهل يستطيع أحد أن يبتدىء بمثل ابتدائه (1): [الكامل]
طلل الجميع لقد عفوت حميدا ... وكفى على رزئي بذاك شهيدا
دمن كأنّ البين أصبح طالبا ... دمنا لدى آرامها وحقودا
أو مثل قوله مبتدئا (2): [الكامل]
يا دار، درّ عليك إرهام الندى ... واهتزّ روضك للثرى فترءّدا (3)
وكسيت من خلع الحيا مستأسدا ... أنفا يغادر وحشه مستأسدا
أو مثل قوله مبتدئا (4): [الطويل]
غدت تستجير الدمع خوف نوى غد ... وعاد قتادا عندها كلّ مرقد (5)
فأذرى لها الإشفاق دمعا مورّدا ... من الدم يجري فوق خدّ مورّد (6)
ولقد أحسن حين ابتدأ فقال (7): [الوافر]
نوار في صواحبها نوار ... كما فاجاك سرب أو صوار
تكذّب حاسد فنأت قلوب ... أطاعت واشيا ونأت ديار
وحيث يقول (8): [الكامل]
ما في وقوفك ساعة من باس ... تقضي ذمام الأربع الأدراس
فلعلّ عينك أن تجود بدمعها ... والدمع منه خاذل ومواسي (9)
__________
(1) ديوان أبي تمام (ص 79) مطلع قصيدة مدح. والدمن في صدر البيت الثاني: جمع دمنة وهي آثار الديار، والدمن في عجز البيت نفسه: الذحول. لسان العرب (دمن).
(2) ديوان أبي تمام (ص 111110) مطلعا قصيدة مديح، وجاء فيه: «دار» بدل «درّ» في البيت الأول.
(3) ترأد: تمايل من النعمة والريّ، أو تهتزّ من النعمة. لسان العرب (رأد).
(4) ديوان أبي تمام (ص 90) مطلعا قصيدة مديح.
(5) القتاد، بالفتح: شجر ذو شوك كالأبر. لسان العرب (قتد).
(6) في الديوان: «فأجرى» بدل «فأذرى».
(7) ديوان أبي تمام (ص 124) مطلعا قصيدة مديح. والصّوار: القطيع من الأبقار الوحشية تشبه به النساء لحسن عيونه.
(8) ديوان أبي تمام (ص 152) وجاء فيه: «نقضي» بدل «تقضي» في البيت الأول. والأربع: جمع ربع وهو الدار وما حولها، والمنزل. الأدراس: جمع دارس، اسم فاعل درس، أي عفا. لسان العرب (ربع) و (درس).
(9) في الديوان: «أن تعين بمائها» بدل «أن تجود بدمعها». والمواسي: النافع والمعاون.(2/24)
وحيث يقول (1): [الخفيف]
ما عهدنا كذا نحيب المشوق ... كيف والدمع آية المعشوق
وحيث يقول (2): [الكامل]
دمن ألمّ بها فقال: سلام، ... كم حلّ عقدة صبره الإلمام؟
نحرت ركاب الركب حتى يعبروا ... رجلا، وقد عنفوا عليّ ولاموا (3)
وحيث يقول (4): [البسيط]
أمّا الرسوم فقد أذكرن ما سلفا ... فلا تكفّنّ عن شانيك أو يكفا
لا عذر للصّبّ أن يقنى السّلو ولا ... للدمع بعد مضيّ الحيّ أن يقفا
ومن اقتضاباته البعيدة قوله (5): [الطويل]
لهان علينا أن نقول وتفعلا ... ونذكر بعض الفضل منك فتفضلا (6)
وقوله أيضا مقتضبا (7) [الكامل]
الحقّ أبلج والسيوف عواري ... فحذار من أسد العرين حذار
ومما تقدّم فيه كلّ واحدة في حسن التخلّص إلى المدح قوله (8): [البسيط]
إساءة الحادثات استنبطي نفقا ... فقد أظلّك إحسان ابن حسّان (9)
وقوله (10): [الطويل]
إذا العيس لاقت بي أبا دلف فقد ... تقطّع ما بيني وبين النوائب
وقوله (11): [البسيط]
لم يجتمع قطّ في مصر ولا طرف ... محمد بن أبي مروان والنّوب
__________
(1) ديوان أبي تمام (ص 190) وهو مطلع قصيدة مديح. وجاء فيه: «بكاء» بدل «نحيب».
(2) ديوان أبي تمام (ص 247246) وهما مطلعا قصيدة مديح.
(3) في الديوان: «القوم» بدل «الركب».
(4) ديوان أبي تمام (ص 177) وهما مطلعا قصيدة مديح.
(5) ديوان أبي تمام (ص 223) مطلع قصيدة مدح.
(6) لهان: أي والله لقد هان.
(7) ديوان أبي تمام (ص 134) وهو مطلع قصيدة مديح.
(8) ديوان أبي تمام (ص 187) من قصيدة مديح.
(9) النّفق، بالفتح: سرب في الأرض. أظلّك: غشيك أو دنا منك. لسان العرب (نفق) و (ظلل).
(10) ديوان أبي تمام (ص 41) من قصيدة مديح.
(11) ديوان أبي تمام (ص 46) من قصيدة مديح.(2/25)
وقوله المنقطع دونه كلّ قول في هذا المعنى (1): [الكامل]
إنّ الذي خلق الخلائق قاتها ... أقواتها لتصرّف الأحراس
فالأرض معروف السماء قرى لها ... وبنو الرجاء لهم بنو العبّاس
القوم ظلّ الله أسكن دينه ... فيهم، وهم جبل الملوك الراسي
وقوله (2): [الكامل]
عامي وعام العيس بين وديقة ... مسجورة وتنوفة صيهود (3)
حتى أغادر كلّ يوم بالفلا ... للطّير عيدا من بنات العيد
هيهات منها روضة محمودة ... حتى تناخ بأحمد المحمود
بمعرّس العرب الذي وجدت به ... أمن المروع ونجدة المنجود
ومن أبدع ابتدائه قوله (4): [الكامل]
سقّى ديارهم أجشّ هزيم ... وغدت عليهم نضرة ونعيم (5)
جادت معاهدهم عهاد سحابة ... ما عهدها عند الديار ذميم (6)
ثم تخلّص إلى المدح فقال وأحسن كلّ الإحسان:
لا والذي هو عالم أنّ النّوى ... مرّ وأنّ أبا الحسين كريم (7)
ما زلت عن سنن الوداد ولا غدت ... نفسي على إلف سواك تحوم
ثم عاد إلى المدح، فقال:
لمحمد بن الهيثم بن شبابة ... مجد إلى حيث السّماك مقيم (8)
ملك إذا نسب النّدى من ملتقى ... طرفيه فهو أخ له وحميم (9)
__________
(1) ديوان أبي تمام (ص 153152) من قصيدة مديح.
(2) ديوان أبي تمام (ص 75) من قصيدة مدح أحمد بن أبي دواد.
(3) العيس: الإبل. الوديقة: الموضع فيه يقلّ العشب. المسجورة: الموقدة المملوءة. التنوفة:
الصحراء المترامية الأطراف. الصيهود: الفلاة التي لا ينال ماؤها. لسان العرب (عيس) و (ودق) و (تنف) و (صيهد).
(4) ديوان أبي تمام (ص 264) من قصيدة مدح أبي الحسين محمد بن الهيثم بن شبابة.
(5) في الديوان: «أسقى طلولهم أجشّ». والأجشّ: السحاب الغليظ الرعد. لسان العرب (جشش).
(6) العهاد: جمع عهدة وهي أول المطر الوسمي. لسان العرب (عهد).
(7) في الديوان: «صبر» بدل «مرّ». والصّبر: عصارة شجر حامض. لسان العرب (صبر).
(8) في الديوان: «جنب» بدل «حيث».
(9) في الديوان: «فهو له أخ وحميم».(2/26)
وأبو تمام الذي وصف القوافي بما لم يستطع وصفها به أحد فقال (1): [الطويل]
فإن أنا لم يحمدك عني صاغرا ... عدوّك فاعلم أنني غير حامد
بسيّاحة تنساق من غير سائق ... وتنقاد في الآفاق من غير قائد
محبّبة ما إن تزال ترى لها ... إلى كل أفق واحدا غير وافد (2)
مخلقة لمّا ترد أذن سامع ... فتصدر إلّا عن يمين وشاهد (3)
والذي قال أيضا في صفتها (4): [الكامل]
جاءتك من نظم اللسان قلادة ... سمطان فيها اللؤلؤ المكنون
إنسيّة وحشيّة كثرت بها ... حركات أهل الأرض وهي سكون
حذيت حذاء الحضرميّة أرهفت ... وأجادها التّخصير والتلسين (5)
ينبوعها خضل، وحلي قريضها ... حلي الهدى، ونسيجها موضون (6)
أحذاكها صنع الضمير يمدّه ... حسب إذا نضب الكلام معين (7)
أما المعاني فهي أبكار إذا ... نصّت، ولكنّ القوافي عون (8)
وقد أبدع في وصفها فقال (9): [الكامل]
لم أبق حلية منطق إلّا وقد (10) ... سبقت سوابقها إليك جيادي
أبقين في أعناق جودك جوهرا ... أبقى من الأطواق في الأجياد
__________
(1) ديوان أبي تمام (ص 106) من قصيدة مدح ابن شبابة المتقدم الذكر.
(2) في الديوان: «مخيّمة ما إن تزال وافدا غير وافد».
(3) في الديوان: «ومحلفة» بدل «مخلقة».
(4) ديوان أبي تمام (ص 293) من قصيدة مدح الأفشين.
(5) في الديوان: «وأجابها» بدل «وأجادها». وحذيت: لبست الحذاء في رجلها. والحضرمية: نعل ملسنة. وأرهفت: رقّق حدّها. والتخصير: التدقيق يقال: نعل مخصرة أي مستدقة الوسط.
والتلسين: جعل طرف الشيء كاللسان، ومنه نعل ملسنة، أي فيها طول ولطافة كهيئة اللسان، وامرأة ملسنة القدمين أيضا. لسان العرب (حذا) و (حضرم) و (خصر) و (لسن).
(6) موضون: أي ثنى بعضه فوق بعض. لسان العرب (وضن).
(7) في الديوان: «جفر» بدل «حسب». وأحذاكها: ألبسك إياها. والجفر: البئر ذات الماء. والمعين:
الماء الجاري على وجه الأرض. وصنع الضمير: أي إنه ماهر. لسان العرب (حذا) و (جفر) و (عين) و (صنع).
(8) نصّت: أقعدت على المنصّة وهي كرسيّ ترفع عليها العروس في جلائها لترى من بين النساء. العون:
جمع عوان وهي التي كان لها زوج. لسان العرب (نصص) و (عون).
(9) ديوان أبي تمام (ص 119) من قصيدة مديح.
(10) في الديوان: «لم تبق حلبة منطق».(2/27)
هل يستطيع أحد أن ينسب هذا أو شيئا منه إلى السّرق والاحتذاء؟ وهل يستطيع مماثلته بشيء من شعر البحتري، أو أشعار المحدثين في عصره ومن قبله؟ فعيّ عن الجواب قصورا، وأحجم عن المساجلة تقصيرا، وحكمت الجماعة لي بالقهر، وعليه بالنصر، ولم ينصرف عن المجلس حتى اعترف بتقديم أبي تمام في صنعة البديع واختراع المعاني على جميع المحدثين. وكان يوما مشهودا.
[حول الغناء]
وقال ثمامة بن أشرس: كنت عند المأمون يوما، فاستأذن الغلام لعمير المأموني فكرهت ذلك، ورأى المأمون الكراهية في وجهي، فقال: يا ثمامة، ما بك؟ فقلت:
يا أمير المؤمنين، إذا غنّانا عمير ذكرت مواطن الإبل، وكثبان الرمل، وإذا غنّتنا فلانة انبسط أملي، وقوي جذلي، وانشرح صدري، وذكرت الجنان والولدان، كم بين أن تغنيك جارية غادة كأنها غصن بان، ترنو بمقلة وسنان، كأنما خلقت من ياقوتة، أو خرطت من فضة، بشعر عكاشة العميّ حيث يقول: [الكامل]
من كفّ جارية كأن بنانها ... من فضة قد طرّفت عنّابا
وكأنّ يمناها إذا ضربت بها ... تلقى على الكفّ الشمال حسابا
وبين أن يغنيك رجل كثّ اللحية، غليظ الأصابع، خشن الكف، بشعر ورقاء بن زهير حيث يقول: [الطويل]
رأيت زهيرا تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادره (1)
وكم بين أن يحضرك من تشتهي النظر إليه، وبين من لا يقف طرفك عليه؟ فتبسّم المأمون، وقال: الفرق بينهما واضح، والمنهج فسيح يا غلام، لا تأذن له، وأحضر أطيب قيناته، فظللنا في أمتع يوم.
وعكاشة هذا هو عكاشة بن عبد الصمد البصري، نقيّ الديباجة، ظريف الشعر، وكان شاعرا مجيدا. وقد أخذ معنى قوله أبو العباس الناشىء، وزاد فيه، فقال: [الكامل]
وإذا بصرت بكفّها اليسرى حكت ... يد حاسب تلقي عليك صنوفا
فكأنما المضراب في أوتاره ... قلم يمجمج في الكتاب حروفا
ويجسّه إبهامها فكأنما ... في النّقر تنفي بهرجا وزيوفا
أخذ هذا البيت من قول أبي شجرة السلمي وذكر ناقته: [البسيط]
__________
(1) العجول: الثكلى، والواله من النساء والإبل. لسان العرب (عجل).(2/28)
تطير عنها حصى الظّرّان من بلد ... كما تنوقد عند الجهبذ الورق (1)
وأصله قول امرىء القيس (2): [الطويل]
كأنّ صليل المرو حين تشدّه ... صليل زيوف ينتقدن بعبقرا (3)
وقال أبو الفتح كشاجم: [الكامل]
لو لم تحرّكه أناملها ... كان الهواء يعيده نطقا
جسّته عالمة بحالته ... جسّ الطبيب لمدنف عرقا
غنّت فخلت أظنّني طربا ... أسمو إلى الأفلاك أو أرقى
وحسبت يمناها تحرّكه ... رعدا وخلت يسارها برقا
وأنشد الحاتمي لأبي بكر الصولي: [الخفيف]
وغناء أرقّ من دمعة الصبّ ... وشكوى المتيّم المهجور
يشغل المرء منظر ثم نطق ... فهو يصغي بظاهر وضمير
صافح السمع بالذي يشتهيه ... وأذاق النفوس طعم السرور
ليس بالقائل الضعيف إذا ما ... راض نغما ولا الشنيع الجهير
وقال أبو نواس (4): [الوافر]
وأهيف مثل طاقة ياسمين ... له حظّان من دنيا ودين
يحرّك حين يشدو ساكنات ... فتنبعث الطبائع للسكون
وهذا مليح، يريد حركة الجوانح للغناء، وسكون الجوارح للاستماع. وقال الحمدوني يصف عودا: [البسيط]
وناطق بلسان لا ضمير له ... كأنه فخذ نيطت إلى قدم
يبدي ضمير سواه للقلوب كما ... يبدي ضمير سواه منطق القلم
__________
(1) الظّرّان، بضم الظاء وكسرها: جمع ظرّ وهو الحجر عامة. الجهبذ: الخبير. الورق: الفضة. لسان العرب (ضرر) و (جهبذ) و (ورق).
(2) ديوان امرىء القيس (ص 64).
(3) في الديوان: «تطيرة» بدل «تشذّه». والمرو: الحجارة. وهنا يشبّه صوت الحجارة، إذا رمت بها، ووقوع بعضها على بعض، بصوت الدراهم الزيوف إذا انتقدها الصيرفي وقلبها. والزيّوف: الرديئة، واحدها زائف وزيف، خصّها لأنّ صوتها أشدّ من صوت غيرها لكثرة نحاسها. والصليل: الصوت.
وتشذّه: تفرّقه. لسان العرب (مرو) و (زيف). وعبقر: موضع باليمن. معجم البلدان (ج 4 ص 79).
(4) البيتان لم يردا في ديوان أبي نواس.(2/29)
[في صفة القيان]
ومن أحسن ما قيل في صفة القيان قول ابن الرومي: [الخفيف]
وقيان كأنها أمهات ... عاطفات على بنيها حواني
مطفلات وما حملن جنينا ... مرضعات ولسن ذات لبان
ملقمات أطفالهنّ ثديّا ... ناهدات كأحسن الرّمان
مفعمات كأنها حافلات ... وهي صفر من درّة الألبان
كل طفل يدعى بأسماء شتّى ... بين عود ومزهر وكران (1)
أمه دهرها تترجم عنه ... وهو بادي الغنى عن الترجمان
وقال أبو الفتح كشاجم: [المنسرح]
جاءت بعود كأنّ نغمته ... صوت فتاة تشكو فراق فتى
محفّف حفّت العيون به ... كأنما الزهر حوله نبتا
دارت ملاويه فيه فاختلفت ... مثل اختلاف العيون مذ ثبتا
لو حركته وراء منهزم ... على بريد لعاج والتفتا
وقال: [الطويل]
يقولون تب والكأس في كفّ أغيد ... وصوت المثاني والمثالث عالي
فقلت لهم لو كنت أزمعت توبة ... وشاهدت هذا في المنام بدا لي
وقال: [الكامل]
أفدي التي كلف الفؤاد من أجلها ... بالعود حتى شفّني إطرابا
تاهت بجمع صناعتين، وأظهرت ... كبرا بذاك، وأعجبت إعجابا
قالت: فضلتك بالغناء وأنت لا ... تشدو، وكنا مثلكم كتّابا
فعنيت بالأوتار حتى لم أدع ... نغما ولم أغفل لهنّ حسابا
وألفتها فأغار ذاك على يدي ... قلمي وعاتبها عليه عتابا
فجعلت للقرطاس جانب صدره ... وجعلت جانب عجزه مضرابا
وقال: [البسيط]
جاءت بعود كأنّ الحبّ أنحله ... فما يرى فيه إلّا الوهم والشبح
فحرّكته وغنّت بالثقيل لنا ... صوتا به الشوق في الأحشاء ينقدح
__________
(1) الكران، بزنة كتاب: آلة من آلات اللهو تشبه العود أو الصنج. لسان العرب (كرن).(2/30)
بيضاء يحضر طيب اللهو ما حضرت ... فإن نأت عنك غاب اللهو والفرح (1)
كل اللباس عليها معرض حسن ... وكلّ ما تتغنّى فهو مقترح
هذا من قول ابن المعتز: [المتقارب]
وغنّت فأغنت عن المسمعي ... ن وارتجّ بالطرب المجلس
محاسنها نزهة للعيون ... ومعرضها كلّ ما تلبس
وقال أيضا (2): [الخفيف]
أشتهي في الغناء بحّة حلق ... ناغم الصوت متعب مكدود
كأنين المحبّ أضعفه الشّو ... ق فضاهى به أنين العود
لا أحبّ الأوتار تعلو كما لا ... أشتهي الضرب لازما للعمود
وأحبّ المجنبات كحبي ... للمبادي موصولة بالنّشيد
كهبوب الصبا توسط حالا ... بين حالين شدّة وركود
وقال: [الخفيف]
آه من بحّة بغير انقطاع ... لفتاة موصولة الإيقاع
أتعبت صوتها وقد يجتنى من ... تعب الصوت راحة الأسماع
فغدت تكثر الشّجاج وحطّت ... طبقات الأوتار بعد ارتفاع
كأنين المحبّ خفّض منه ... صوت شكواه شدّة الأوجاع
وقال بعض أهل العصر، وهو أبو الحسن بن يونس: [الكامل]
غنّت فأخفت صوتها في عودها ... فكأنما الصوتان صوت العود
غيداء تأمر عودها فيطيعها ... أبدا، ويتبعها اتّباع ودود
أندى من النّوّار صبحا صوتها ... وأرقّ من نشر الثّنا المعهود
فكأنما الصوتان حين تمازجا ... ماء الغمامة وابنة العنقود
وأبو الحسن هذا هو: علي بن عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى، صاحب عبد الله بن وهب الفقيه، وكان لأبي الحسن في الشعر مذهب حسن، وطبع صحيح، وحوك مليح، وكان عالما بالنجوم وما يتعلّق بها من علوم الأوائل، وهو القائل:
[الطويل]
__________
(1) ما: مصدرية ظرفية، أي مدة حضورها.
(2) القول لا يزال لأبي الفتح كشاجم.(2/31)
سقى الله أكناف اللّوى كلما سقى ... بضرب من المزن الكنهور هامل (1)
إذا نشرت ريح جمان سحابة ... غدا وهو حلي للرياض العواطل
به وجد رعد ليس بين جوانح ... ووسواس ودق ليس بين مفاصل
إذا كان خدّ البرق يلمس نبته ... تلقّاه درّ النّور فوق الخمائل
وقال، وذكر غلاما: [الكامل]
يجري النسيم على غلائل خدّه ... وأرقّ منه ما يمرّ عليه
ناولته المرآة ينظر وجهه ... فكسته فتنة ناظريه إليه
وقال ابن المعتز وذكر المرآة: [الطويل]
تبيّنني لي كلّما رمت نظرة ... وناصحتي من دون كلّ صديق
يقابلني منك الذي لا عدمته ... بلجّة ماء وهو غير غريق
وقال أبو الفتح كشاجم يصف مرآة أهداها: [الخفيف]
أخت شمس الصفاء في الحسن والإش ... راق غير الإعشاء للأجفان
ذات طوق مشرف من لجين ... أجريت فيه صفرة العقيان
فهو كالهالة المحيطة بالبد ... ر لستّ مضين بعد ثمان
وعلى ظهرها فوارس تلهو ... ببزاة تعدو على غزلان
[لك فيها إذا تأملت فأل ... حسن مخبر بنبيل الأماني]
لم يكن قبلها من الماء جرم ... حاصر نفسه بغير أوان
عدّلت عكسها الشعاع فمبدا ... هـ إليها ورجعه سيّان
وهي شمس وإن مثالك يوما ... لاح فيها فإنها شمسان
أينما قابلت مثالك من أر ... ض ففيها تقابل النّيّران
فالقها منك بالذي ما رآه ... خائف فانثنى بغير أمان
ومن ألفاظ أهل العصر في مدح الغناء]
غناؤه كالغنى بعد الفقر، وهو جبر للكسر. [غناؤه] يبسط أسرّة الوجه، ويرفع حجاب الإذن، ويأخذ بمجامع القلب، ويحرّك النفوس، ويرقص الرؤوس. فلان طبيب القلوب والأسماع، ومحيي موات الخواطر والطّباع، يطعم الآذان سرورا، ويقدح في القلوب نورا. القلوب من غنائه على خطر فكيف الجيوب؟! السكر على صوته شهادة.
__________
(1) الكنهور، بزنة السفرجل: المتراكم من السحاب. لسان العرب (كنهر).(2/32)
كل ما يغنّيه مقترح. لغنائه في القلب، موقع القطر في الجدب. نغمة نغمته تطرب، وضروب ضربه لا تضطرب. وقيل: السماع متعة الأسماع، وإدام المدام.
[في وصف القلم]
أهدى بعض الكتّاب إلى أخ له أقلاما وكتب إليه: إنه أطال الله بقاءك! لما كانت الكتابة قوام الخلافة، وقرينة الرياسة، وعمود المملكة، وأعظم الأمور الجليلة قدرا، وأعلاها خطرا، أحببت أن أتحفك من آلاتها بما يخفّ عليك محمله، وتثقل قيمته، ويكثر نفعه فبعثت إليك أقلاما من القصب النابت في الأعذاء (1)، المغذوّ بماء السماء، كاللآلي المكنونة في الصّدف، والأنوار المحجوبة بالسّدف، تنبو عن تأثير الأسنان، ولا يثنيها غمز البنان، قد كستها طباعها جوهرا كالوشي المحبّر، وفرند الديباج المنيّر، فهي كما قال الكميت: [المتقارب]
وبيض رقاق صحاح المتو ... ن تسمع للبيض فيها صريرا
مهنّدة من عتاد الملوك ... يكاد سناهنّ يعشي البصيرا
وكقدح النبل في ثقل أوزانها، وقضب الخيزران في اعتدالها، ووشيج الخطّ في اطّرادها، تمرّ في القراطيس كالبرق اللائح، وتجري في الصحف كالماء السائح، أحسن من العقيان، في نحور القيان.
وكتب عبيد الله بن طاهر إلى إسحاق بن إبراهيم من خراسان إلى بغداد يسأله أن يوجّه إليه بأقلام قصبيّة: أما بعد، فإنّا على طول الممارسة لهذه الصناعة التي غلبت على الاسم، ولزمت لزوم الوسم، فحلّت محلّ الأنساب، وجرت مجرى الألقاب وجدنا الأقلام القصبيّة أسرع في الكواغد، وأمرّ في الجلود، كما أن البحرية منها أسلس في القراطيس، وألين في المعاطف، وأكلّ عن تمزيقها، والتعلق بما ينبو من شظاياها. ونحن في بلاد قليلة القصب، رديء ما يوجد بها منه فأحببت أن تتقدّم في اختيار أقلام قصبية، وتتأنّق في انتقائها قبلك، وطلبها في منابتها، من شطوط الأنهار، وأرجاء الكروم، وأن تتيمّم باختيارك منها الشديدة المجسّ، الصّلبة المعضّ، الغليظة الشحوم، المكتنزة الجوانب، الضيّقة الأجواف، الرزينة الوزن، فإنها أبقى على الكتاب، وأبعد من الحفاء، وأن تقصد بانتقائك منها للرقاق القضبان، اللطاف المنظر، المقوّمات الأود، الملس
__________
(1) الأعذاء: جمع عذي، وهو الزرع لا يسقيه إلّا المطر. لسان العرب (عذي).(2/33)
العقد، ولا يكون فيها التواء عوج ولا أمت (1) وضمّ الصافية القشور، الخفية الأبن (2)، الحسنة الاستدارة، الطويلة الأنابيب، البعيدة ما بين الكعوب، الكريمة الجواهر، المعتدلة القوام، تكاد أسافلها تهتزّ من أعلاها، لاستواء أصولها برؤوسها، المستكملة يبسا، القائمة على سوقها، قد تشرّبت الماء في لحائها، وانتهت في النّضج منتهاها، لم تعجّل عن تمام مصلحتها، وإبّان ينعها، ولم تؤخّر في الأيام المخوفة عاهاتها من خصر الشتاء، وعفن الأنداء، فإذا استجمعت عندك أمرت بقطعها ذراعا ذراعا، قطعا رفيقا تتحرّز معه أن تتشعّب رؤوسها، أو تنشق أطرافها، ثم عبأت منها حزما فيما يصونها من الأوعية، وعليها الخيوط الوثيقة، ووجّهتها مع من يحتاط في حراستها وحفظها وإيصالها إذ كان مثلها يتوانى فيه، لقلّة خطرها عند من لا يعرف فضل جوهرها واكتب معه بعدّتها وأصنافها وأجناسها وصفاتها، على الاستقصاء، من غير تأخير ولا إبطاء.
فأجابه ووجّه إليه مع الأنابيب: أتاني كتاب الأمير أعزّه الله! بما أمر به ولخّصه، من البعث بما شاكل نعته، وضاهى صفته، من أجناس الأقلام، فتيممت بغيته قاصدا لها، وانتهجت معالم سبله آخذا بها، فأنفذت إليه حزما أنشئت بلطيف السّقيا، وحسن العهد والبقيا، لم تعجل بإخراجها، ولا بودرت قبل إدراكها فهي مستوية الأنابيب معتدلتها، مثقّفة الكعوب مقوّمتها لا يرى فيها أمت زور، ولا وصم صغر ولا عوج، وقد رجوت أن يجدها الأمير عند إرادته وحسب بغيته.
ومن كلام منصور بن عمّار في صفة القلم، ويقال إنه لسليمان بن الوليد الكاتب:
أو ليس من عجائب الله في خلقه، وإنعامه على عباده، تعليمه إياهم الكتاب المفيد للباقين حكم الماضين، والمخاطب للعيون بسرائر القلوب، على لغات مختلفة، بمعان مفترقة معقودة، وأحرف مقلوبة، من ألف وتاء، وجيم وباء، متباينات الصور، مختلفات الجهات، لقاحها التفكير، ونتاجها التأليف، تخرس مفردة، وتنطق مزدرجة، بلا أصوات مسموعة، ولا ألسن محدودة، ولا حركات ظاهرة، بل قلم حرّف باريه قطّته، ليعلق المداد به، وأرهف جانبيه ليردّ ما انتشر عنه إليه، وشقّ في رأسه ليحتبس الاستعداد عليه، ورفع من شعبيته لتجتمع حواشي تصويره فهنالك روى القلم في شقّه، وقذف المادة إلى صدره، فإذا علقتها العيون حكتها الألسن، فالقلوب حينئذ راعية، والآذان واعية، لكلام سدّاه العقل، وألحمه اللسان، وأدّته اللهوات، ولفظته الشّفاه، ووعته الأسماع، على
__________
(1) الأمت: الانخفاض والارتفاع. القاموس المحيط (أمت).
(2) الأبن، بضم الهمزة وفتح الباء: جمع أبنة وهي العقدة في العود. القاموس المحيط (أبن).(2/34)
اختلاف أنحاء، من صفات وأسماء فتبارك الله أحسن الخالقين.
حمل من رسالة كتبها بعض أهل العصر، وهو أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله النجيرمي، في القلم إلى أبي عمران بن رياح:
إنه لما كان القلم مطيّة الفكر والبيان، ومخرج الضمير إلى العيان، ومستنبطا ما تواريه ظلم الجنان إلى نور البيان، ومريح الفطن العوازب، وجالب الفكر الغرائب [ولسان الغائب، وبز الكاتب، مكتّب الكتائب]، ومفرق الجلائب، وعماد السّلم، وزناد الحرب، ويد الحدثان، وخليفة اللسان، ورأس الأدوات التي خصّ الله بها الإنسان، وشرّفه بها على سائر أصناف الحيوان، ومركبا لآلة قد تقدّمت كلّ آلة، وحكمة سبقت في الإنسان كلّ حكمة، وقواما لهندسة عقلية، ومصدرا لعقل العاقل، وجهل الجاهل. الناقل إلينا حكم الأولين، وحاملها عنا إلى الآخرين، الحافظ علينا أمر الدنيا والدين، أول شيء خلقه الله بأمره وسبّحه، ومجّده وحمده وسجد له، فكان له فرسان خلق لهم، وكنت عميدهم، وأقران قصر عليهم، وأنت صنديدهم، وميدان كنت زينه، ومضمار كنت عينه، وحلية كنت سابقها ومعجزها، وغاية كنت مالكها ومحرزها، ورمت بي الأيام إلى معدنه الذي كلفت به وعنيت بطلبه، فانفردت منه بقدح فذّ أوحد، فرد في منبته، قد ساعدت عليه السعود في فلك البروج حولا كاملا، مختلف يؤلّفه أركانها وطباعها، ومتباين أنوائها وأنحائها، وتؤيّده بقواها وجواهرها، حتى غذته عرقا في الثرى معرقا، وأرضعته ناجما، وسقته مكعبا، وأروته مقصبا، وأظمأته مكتهلا، ولوحته مستحصدا، وجلّلته بهاءها، وألقت عليه عنوانها، وأودعته أعراقها، وأوراقها وأخلاقها، حتى إذا شقّ بازله، ورقّت شمائله، وابتسم من غشائه، ونادى من لحائه، وتعرى عن خز المصيف، بانقضاء الخريف، وانكشف عن لون البيض المكنون، والصدف المخزون، ودرّ البحار، وفتات الجمار، دعا منه نفق العاج بنقبة الديباج، وقميص الدرر بطراز النساج، فاجتمعت له زينة الأيدي البشرية، إلى الأيدي العلوية، والأنساب الأرضية، إلى الأنساب السماوية، فلمّا قادته السعادة إليّ، ورأيته نسيج وحده في الأقلام، رأيت أولى الناس به نسيج وحده في الأنام، فآثرتك به مؤثرا للصنيعة عالما أن زين الجياد فرسانها، وزين السيوف أقرانها، وزين بزة لابسها، وزين أداة ممارسها، فالآن أعطيت القوس باريها، وزناد المكارم موريها، والصمصامة مصلتها، والقناة معلمها، وحلّة المجد لابسها.
وكان النجيرمي جيّد الروية والبديهة في نظمه ونثره، حلو التصريف، مليح التأليف، وكان يوما عند أبي المسك كافور الإخشيدي، فدخل عليه أبو الفضل بن عياش فقال: أدام الله أيام سيدنا الأستاذ بالخفض فتبسّم كافور إلى أبي إسحاق، فقال
ارتجالا: [البسيط](2/35)
وكان النجيرمي جيّد الروية والبديهة في نظمه ونثره، حلو التصريف، مليح التأليف، وكان يوما عند أبي المسك كافور الإخشيدي، فدخل عليه أبو الفضل بن عياش فقال: أدام الله أيام سيدنا الأستاذ بالخفض فتبسّم كافور إلى أبي إسحاق، فقال
ارتجالا: [البسيط]
لا غرو إن لحن الدّاعي لسيّدنا ... وغصّ من هيبة بالريق والبهر
فمثل سيدنا حالت مهابته ... بين البليغ وبين القول بالحصر
فإن يكن خفض الأيام من دهش ... من شدّة الخوف لا من قلّة البصر
فقد تفاءلت في هذا لسيدنا ... والفأل مأثرة عن سيّد البشر
بأنّ أيامه خفض بلا نصب ... وأن دولته صفو بلا كدر
فأمر له بثلثمائة دينار، ولابن عياش بمائتين.
وقال حمدان الدمشقي يصف قلما: [الكامل]
للأيم بعثته وشقّ لسانه ... وله إذا لم تجره إطراقه
كالحيّة النّضناض (1) إلّا أنه ... من حيث يجري سمّه ترياقه
قال العتابي: سألني الأصمعي فقال لي: أي الأنابيب أصلح للكتابة وعليها أصبر؟
فقلت: ما نشف بالهجير ماؤه، وستره عن تلويحه غشاؤه، من التّبرية القشور الدرّية الظهور، الفضيّة الكسور، قال: فأيّ نوع من البري أكتب وأصوب؟ قلت: البرية المستوية القطّ، عن يمين سنّها، برية تأمن معها المجّة عند المطّ، الهواء في مشقّها فتيق، والريح في جوفها خريق، والمداد في خرطومها رقيق، قال: فبقي الأصمعي شاخصا إليّ ضاحكا لا يحير مسألة ولا جوابا.
[العتابي]
والعتابي: هو كلثوم بن عمرو بن الحارث التغلبي، يكنى أبا عمرو، قال أبو عثمان الجاحظ: كان العتّابيّ ممن اجتمع له الخطابة، والبيان، والشعر الجيد، والرسائل الفاخرة، وعلى ألفاظه وحذوه يقول في البديع جميع من يتكلّف ذلك من شعراء المولدين كنحو منصور النّمري، ومسلم بن الوليد الأنصاري، وأشباههما، وكان العتابي يحتذي حذو بشّار في البديع، ولم يكن في المولدين أجود بديعا من بشار وابن هرمة.
والعتابي من ولد عمرو بن كلثوم ابن مالك بن عتّاب بن سعد، ولذلك قال:
[البسيط]
__________
(1) الحيّة النضناض: التي لا تستقرّ في مكان، أو إذا نهشت قتلت من ساعتها، أو التي أخرجت لسانها تنضنضه أي تحرّكه. القاموس المحيط (نضض).(2/36)
إني امرؤ هدم الإقتار مأثرتي ... واجتاح ما أبدت الأيام من خطري
أنا ابن عمرو بن كلثوم يسوّده ... حيّا ربيعة والأحياء من مضر
أرومة عطّلتني من مكارمها ... كالقوس عطّلها الرامي من الوتر
وكان صاحب بديهة في المنظوم والمنثور، حسن العقل والتمييز، والعرب تقول:
من تمنّى رجلا حسن العقل، حسن البيان، حسن العلم، تمنّى شيئا عسيرا. وقد اجتمع ذلك كله للعتابي.
وعاتبه يحيى بن خالد على لباسه، وكان لا يبالي أي ثوبيه ابتذل! فقال: أبعد الله رجلا مهمّه أن يكون جماله في لباسه وعطره. إنما ذلك حظّ النساء، وأهل الأهواء، حتى يرفعه أكبراه: همّته، ولبّه، ويعلو به معظماه: لسانه، وقلبه.
ودخل على الرشيد فقال: تكلّم يا عتّابيّ! فقال: الإيناس قبل الإبساس، لا يمدح المرء بأوّل صوابه، ولا يذمّ بأول خطئه لأنه بين كلام زوّره، أو عيّ حصره.
وذكر أبو هفّان أنّ الرشيد لقيه بعد قتل جعفر بن يحيى وزوال نعمته، فقال:
ما أحدثت بعد يا عتّابي؟ فأنشده ارتجالا: [الطويل]
تلوم على ترك الغنى باهليّة ... طوى الدهر عنها كلّ طرف وتالد
رأت حولها النسوان يرفلن في الكسا ... منظمة أجيادها بالقلائد
أسرّك أني نلت ما نال جعفر ... من الملك أو ما نال يحيى بن خالد
وأنّ أمير المؤمنين أغصّني ... مغصّهما بالمرهفات البوارد
فإنّ رفيعات المعالي مشوبة ... بمستودعات في بطون الأساود
وكان متحرفا عن البرامكة، وفيهم يقول: [البسيط]
إنّ البرامك لا تنفك أنجية ... بصفحة الدّين من نجواهم ندب (1)
تجرّمت حجج منهم ومنصلهم ... مضرّج بدم الإسلام مختضب (2)
واجتاز عبد الله بن طاهر بالرقة بمنزل العتّابي، فقال: أليس هذا منزل كلثوم بن عمرو؟ قيل: نعم، فثنى رجله، ودخل إليه، فألفاه جالسا في بيت كتبه، فحادثه وذاكره، ثم انصرف، فتحدّث الناس في ذلك، وقالوا: إن الأمير لم يقصده، وإنما اجتاز به فأخطر ذلك الزيارة، فكتب إليه: [الكامل]
__________
(1) الأنجية: جمع نجيّ وهو السّرّ. النّدب، أثر الجرح، محيط المحيط (نجا) و (ندب).
(2) تجرّمت: ذهبت وانقضت. محيط المحيط (جرم).(2/37)
يا من أفادتني زيارته ... بعد الخمول نباهة الذكر
قالوا الزيارة خطرة خطرت ... ومجاز خطرك ليس بالخطر
فادفع مقالتهم بثالثة ... تستنفد المجهود من شكري
لا تجعلنّ الوتر واحدة ... إن الثلاث تتمة الوتر
فبعثته الأبيات إلى أن زاره ثلاثا.
وكان يميل إلى المأمون، فلمّا خرج المأمون إلى خراسان شيّعه حتى وصل معه إلى سندان (1) كسرى، فقال له المأمون: سألتك بالله يا عتّابي إلّا عملت على زيارتنا إن صار لنا من هذا الأمر شيء، فلمّا ولي المأمون الخلافة، ودخل بغداد سنة أربع ومائتين توصّل إليه العتّابي، فلم يمكنه الوصول، فقال للقاضي يحيى بن أكثم: إن رأيت أن تعلم أمير المؤمنين بمكاني! فقال: لست بحاجب! قال: قد علمت، ولكنك ذو فضل، وذو الفضل معوان! فقال: سلكت بي غير طريقي! قال: إن الله تعالى ألحقك بجاه ونعمة، وهما يقيمان عليك بالزيادة إن شكرت، والتغيير إن كفرت، وأنا اليوم لك خير منك لنفسك أدعوك لما فيه زيادة نعمتك، وأنت تأبى ذلك ولكلّ شيء زكاة، وزكاة الجاه بذله للمستعين، فدخل يحيى على المأمون فقال: أجرني من لسان العتّابي، فلها عنه، ولم يأذن له، فلما طال عليه كتب إليه: [الخفيف]
ما على ذلك افترقنا بسندا ... ن ولا هكذا عهدنا الإخاء
لم أكن أحسب الخلافة يزدا ... د بها ذو الصفاء إلّا صفاء
تضرب الناس بالمثّقفة السّم ... ر على غدرهم وتنسى الوفاء
يعرّض بقتله لأخيه على غدره، ونكثه لما عقد الرشيد فلمّا قرأ المأمون الأبيات أمر أن يدخل عليه. فلمّا سلّم قال: يا عتابي، بلغتني وفادتك فسرّتني، وقد كانت بلغتني وفاتك فساءتني، وإني لحريّ بالغمّ لبعدك، والسرور بقربك! فقال: يا أمير المؤمنين، لو قسم هذا الكلام على أهل الأرض لوسعهم عدلا وأعجزهم شكرا، وإنّ رضاك لغاية المنى لأنه لا دين إلّا بك، إلّا معك، قال: سلني، قال: يدك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة، بخمسين ألفا.
وقال العتابي وودّع جارية له: [الخفيف]
__________
(1) سندان، بكسر السين: واد. وبفتح السين: قصبة بلاد الهند أو مدينة ملاصقة للسند. معجم البلدان (ج 3ص 266).(2/38)
ما غناء الحذار والإشفاق ... وشآبيب دمعك المهراق
ليس يقوى الفؤاد منك على الصّ ... دّ ولا مقلتا طليح المآقي
غدرات الأيّام منتزعات ... ما غنمنا من طول هذا العناق
إن قضى الله أن يكون تلاق ... بعد ما قد ترين كان تلاق
هوّني ما عليك وأقني حياء ... لست تبقين لي ولست بباق
أيّنا قدّمت صروف المنايا ... فالذي أخّرت سريع اللّحاق
ويد الحادثات رهن بمرّا ... ت من العيش مصبرات المذاق
غرّ من ظن أن يفوت المنايا ... وعراها قلائد الأعناق
كم صفيّين متّعا باتفاق ... ثم صارا لغربة وافتراق
قلت للفرقدين والليل ملق ... سود أكنافه على الآفاق
إبقيا ما بقيتما سوف يرمى ... بين شخصيكما بسهم الفراق
بينما المرء في غضارة عيش ... وصلاح من أمره واتّفاق
عطفت شدّة الزمان فأدّت ... هـ إلى فاقة وضيق خناق
لا يدوم البقاء للخلق لك ... نّ دوام البقاء للخلّاق
وقال في الرشيد: [الطويل]
إمام له كفّ تضمّ بنانها ... عصا الدين ممنوعا من البري عودها
وعين محيط بالبريّة طرفها ... سواء عليها قربها وبعيدها
وقال فيه: [الطويل]
رعى أمّة الإسلام فهو إمامها ... وأدّى إليها الحقّ فهو أمينها
مقيم بمستنّ الفلا حيث تلتقي ... طوارق أبكار الخطوب وعونها
وكان منصور النمري سعى به إلى الرشيد فخافه، فهرب إلى بلد الروم، وله قصائد، يعتذر فيها، جيدة مختارة، وهو مشبّه في حسن الاعتذار بالنابغة الذبياني، ومن جيّد اعتذاره قوله للرشيد، ويقال: بل قالها على لسان عيسى بن موسى الهاشمي يخاطب الرشيد: [الطويل]
جعلت رجاء العفو عذرا وشبته ... بهيبة إمّا غافر أو معاتب
وكنت إذا ما خفت حادث نبوة ... جعلتك حصنا من حذار النوائب
فأنزل بي هجرانك اليأس بعدما ... حللت بواد منك رحب المشارب
أظلّ ومرعاي الجديب مكانه ... وآوي إلى حافات أكدر ناضب
ولم يثن عن نفسي الردى غير أنها ... تنوء بباق من رجائك ثائب (1)
هي النفس محبوس عليك رجاؤها ... مقيّدة الآمال دون المطالب
وتحت ثياب الصبر مني ابن لوعة ... يظلّ ويمسي مستلين الجوانب
فتى ظفرت منه الليالي بزلّة ... فأقلعن عنه داميات المخالب
حنانيك إني لم أكن بعت عزّة ... بذلّ، وأحرزت المنى بالمواهب
فقد سمتني الهجران حتى أذقتني ... عقوبة زلّاتي وسوء مناقب
فها أنا مقصى في رضاك، وقابض ... على حدّ مصقول الذّنابين قاضب (2)
ومنتزع عما كرهت وجاعل ... هواك مثالا بين عيني وحاجبي
وفي هذه القصيدة مما يختار أهل الصناعة: [الطويل](2/39)
جعلت رجاء العفو عذرا وشبته ... بهيبة إمّا غافر أو معاتب
وكنت إذا ما خفت حادث نبوة ... جعلتك حصنا من حذار النوائب
فأنزل بي هجرانك اليأس بعدما ... حللت بواد منك رحب المشارب
أظلّ ومرعاي الجديب مكانه ... وآوي إلى حافات أكدر ناضب
ولم يثن عن نفسي الردى غير أنها ... تنوء بباق من رجائك ثائب (1)
هي النفس محبوس عليك رجاؤها ... مقيّدة الآمال دون المطالب
وتحت ثياب الصبر مني ابن لوعة ... يظلّ ويمسي مستلين الجوانب
فتى ظفرت منه الليالي بزلّة ... فأقلعن عنه داميات المخالب
حنانيك إني لم أكن بعت عزّة ... بذلّ، وأحرزت المنى بالمواهب
فقد سمتني الهجران حتى أذقتني ... عقوبة زلّاتي وسوء مناقب
فها أنا مقصى في رضاك، وقابض ... على حدّ مصقول الذّنابين قاضب (2)
ومنتزع عما كرهت وجاعل ... هواك مثالا بين عيني وحاجبي
وفي هذه القصيدة مما يختار أهل الصناعة: [الطويل]
وأشعث مشتاق رمى في جفونه ... غريب الكرى بين الفجاج السباسب
سحبت له ذيل السّرى وهو لابس ... دجى الليل حتى مجّ ضوء الكواكب
ومن فوق أكوار المهاري لبانة ... أحلّ لها أكل الذّرى والغوارب
وكلّ فتى عاداته قصر شوقه ... وطيّ الحشى دون الهموم العوازب
يسرّ الهوى لم يبده نعت فرقة ... صراخا، ولم تسمع به أذن صاحب
إذا ادّرع الليل انجلى وكأنه ... بقية هندي الحسام المضارب
بركب ترى كسر الكرى في جفونهم ... وعهد الليالي في وجوه مشاحب
وقال أيضا: [الخفيف]
لو رأتني بذي المحارة فردا ... وذراع ابنة الفلاة وسادي (3)
أطفىء الحزن بالدموع إذا ما ... حمّة الشوق أثّرت في فؤادي
خاشع الطرف قد توشّحنى الضرّ ... فلانت له قناة قيادي
ترب بؤس أخا هموم كأنّ ال ... حزن والبؤس وافيا ميلادي
وكأني استشعرت ما لفظ النا ... س من النائرات والأحقاد
أتصدّى الرّدى وأدّرع اللي ... ل بهوجاء فوقها أقتادي
حظّ عيني من الكرى خفقات ... بين سرحي ومنحنى أعوادي
__________
(1) الثائب: العائد. لسان العرب (ثوب).
(2) المصقول: المجلوّ. الذّناب من كل شيء: مؤخّره. القاضب: السيف القطّاع: القاموس المحيط (صقل) و (ذنب) و (قضب).
(3) ابنة الفلاة: الناقة.(2/40)
أوحش الناس جانبيّ فما آ ... نس إلّا بوحدتي وانفرادي
قد رددت الذي به أتقي النا ... س وأبرزت للزمان سوادي
فاستهلّت عليّ تمطرني الشو ... ق شآبيب مزنة مرعاد
وقال: [الطويل]
أما راع قلب العامرية أنني ... غدوت ومرجوع السقام قريني؟
وقال: [الطويل]
أكاتم لوعات الهوى ويبينها ... تخلّل ماء الشوق بين جفوني
ومطروفة الإنسان في كلّ لوعة ... لها نظرة موصولة بحنين
[بنو وهب]
وقال الحسن بن وهب بن سعيد: [السريع]
ابك فمن أحسن ما في البكا ... أنّ البكا للوجد تحليل
وهو إذا أنت تأمّلته ... حزن على الخدّين محلول
وقد أعرق بنو وهب في الكتابة وأنجبوا، ولهم في هذا الكتاب ما يشهد لهم بما نسب إليهم، وفيهم يقول الطائي (1): [الخفيف]
كلّ شعب كنتم به آل وهب ... فهو شعبي وشعب كلّ أديب (2)
إن قلبي لكم لكالكبد الحرىّ ... وقلبي لغيركم كالقلوب
وفي هذه القصيدة يقول في مدح سليمان بن وهب:
ما على الوسّج الرّواتك من عي ... ب إذا ما أتت أبا أيوب (3)
حوّل لا فعاله مرتع الذّم ... م ولا عرضه مناخ العيوب (4)
واجد بالصديق من برحاء الشّوق ... وجدان غيره بالحبيب
أخذ سليمان منه معنى هذا البيت الأخير، فقال في رسالة لبعض إخوانه:
__________
(1) ديوان أبي تمام (ص 3938) من قصيدة مديح.
(2) الشّعب، بكسر الشين: الطريق في الجبل. والشاعر هنا يتأثر بقول رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: «لو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار». لسان العرب (شعب).
(3) في ديوان أبي تمام: «عتب» بدل «عيب». والوسّج: جمع واسجة وهي الناقة السريعة السير.
والرواتك: جمع راتكة وهي متقاربة الخطو. لسان العرب (وسج) و (رتك).
(4) في ديوان أبي تمام: «مراح» بدل «مناخ».(2/41)
ظرف الصداقة، أرق من ظرف العلاقة، والنفس بالصديق، آنس منها بالعشيق.
فقال له أبو تمام: كلامك هذا أرقّ من شعري.
والحسن بن وهب حسن الشعر والبلاغة، جيّد اللسان، حلو البيان، وكان يحب بنان جارية محمد بن حمّاد، وله فيها شعر جيد، ولها يقول: [الطويل]
أقول وقد حاولت تقبيل كفّها ... وبي رعدة أهتزّ منها وأسكن
ليهنئك أنّي أشجع الناس كلّهم ... لدى الجرب إلّا أنني عنك أجبن
وحضرت مجلسه وبين يديه نار فأمرت بإزالتها، فقال: [الكامل]
بأبي كرهت النار حتى أبعدت ... فعلمت ما معناك في إبعادها
هي ضرّة لك في التماع ضيائها ... وهبوب نفحتها لدى إيقادها
وأرى صنيعك في القلوب صنيعها ... بسيالها وأراكها وعرادها (1)
شركتك في كلّ الأمور بفعلها ... وضيائها وصلاحها وفسادها
وإلى هذا ينظر قول الأمير تميم بن المعزّ: [الخفيف]
ما هجرت المدام والورد والبد ... ر بطوع، لكن برغم وكره
منعتني من الثلاثة من لو ... قتلتني لم أحك والله من هي
قالت الورد والمدامة والبد ... ر ضيائي ولون خدّي ووجهي
قلت بخلا بكلّ شيء فقالت ... لا ولكن بخلت بي وبشبهي
قلت يا ليتني شبيهك قالت ... إنما يقتل المحبّ التّشهّي
ولمّا مات الحسن بن وهب وكان موته بالشام عزّي عنه أخوه سليمان، فجاء أبو العيناء، فقال: أنشدني أبو سعيد الأصمعي: [الطويل]
لعمري لنعم المرء من آل جعفر ... بحوران أمسى أعلقته الحبائل
لقد فقدوا عزما وحزما وسؤددا ... وعلما أصيلا خالفته المجاهل
فإن عشت لم أملل حياتي وإن تمت ... فما في حياتي بعد موتك طائل
فقال سليمان: أحسن الله جزاءك، ووصل إخاءك، إن هذا لمن أحسن الشعر، وقد تمثّل به قتيبة حين بلغه موت الحجاج، ولكني أقول كما قال كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار: [الطويل]
أخي ما أخي لا فاحش عند بيته ... ولا ورع عند اللقاء هيوب
__________
(1) السّيال، بزنة سحاب: جمع سيالة وهي نبات له شوك أبيض طويل. العراد: جمع عرادة وهي شجرة صلبة. لسان العرب (سيل) و (عرد).(2/42)
حليم إذا ما سورة الجهل أطلقت ... حبى الشيب، للنفس اللّجوج غلوب
حبيب إلى الزوّار غشيان بيته ... جميل المحيّا شبّ وهو أريب
إذا ما تراآه الرجال تحفّظوا ... فلم تنطق العوراء وهو قريب
فانصرف الناس يعجبون من علم سليمان، وحسن جوابه، وصحّة تمثله.
والأبيات التي أنشدها الأصمعي للحطيئة، واسمه جرول بن أوس بن جؤيّة بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيفة بن عبس بن بغيض، يقولها في علقمة بن علاثة وفيها يقول: [الطويل]
فما كان بيني لو لقيتك سالما ... وبين الغنى إلّا ليال قلائل
قال سليمان بن وهب: لما جار علينا بالنكبة السلطان، وجفانا من أجلها الإخوان، أنصفنا ابن أبي دواد بتطوّله، وكفانا الحاجة إليهم بتفضّله، فكنّا وإياه كما قال الحطيئة:
[الكامل]
جاورت آل مقلّد فحمدتهم ... إذ لا يكاد أخو جوار يحمد
أيام من يرد الصنيعة يصطنع ... فينا، ومن يرد الزهادة يزهد
وله فصل إلى بعض إخوانه:
لك أن تعتب، وشبيهك أن يعذر فهب أقل الأمرين لأكثرهما، وقدّم فضلك على حقّك، ويقينك على شكّك.
ووصف رجلا بليغا فقال: كان والله واسع المنطق، جزل الألفاظ، ليس بالهذر في لفظه، [ولا المظلم في مقصده معناه إلى القلم أسرع من لفظه إلى السّمع].
وهذا ضدّ قول محمد بن عبد الملك الزيات في عبيد الله بن يحيى بن خاقان: هو مهزول الألفاظ، غليظ المعاني، سخيف العقل، ضعيف العقدة، واهي العزم، مأفون الرأي (1).
ألفاظ لأهل العصر في ذمّ الكتاب والكتّاب والنثر والشعر
الخرس أحسن من كلامه، والعيّ أبلغ من بيانه، خاطره ينبو، وقلمه يكبو، ويسهو ويغلط، ويخطىء ويسقط. هو قصير باع الكتابة، قاصر سعي الخطابة، وكتبه مضطربة الألفاظ، متفاوتة الأبعاض، منتشرة الأوضاع، متباينة الأغراض. الجلم أولى بكفّه من
__________
(1) مأفون الرأي: ضعيف الرأي، وناقص الرأي. لسان العرب (أفن).(2/43)
القلم، والطّاس أليق بها من القرطاس. كلام تنبو عن قبوله الطباع، وتتجافى عن استماعه الأسماع. ألفاظ تنبو عنها الآذان فتمجّها، وتنكرها الطباع فتزجّها. كلام لا يرفع الطبع له حجابا، ولا يفتح السمع له بابا. كلام يصدي الرّيان (1)، ويصدىء الأفهام والأذهان. كلام قد تعمّل فيه حتى تبذل، وتكلّف حتى تعسّف. طبع جاس، ولفظ قاس، لا مساغ له في سمع، ولا وصول له مع خلو ذرع. كلام لا الرويّة ضربت فيه بسهم، ولا الفكرة جالت فيه بقدح. كلام تتعثّر في حزونته، وتتحيّر الأفهام من وعورته. كلمات ضعيفة الإتقان، قليلة الأعيان، مضمحلّة على الامتحان. ألفاظ تستعار من الدياجي، ومعان تقدّر من الأثافي.
كلام بمثله يتسلّى الأخرس عن كلمه، ويفرح الأصمّ بصممه، أثقل من الجندل، وأمرّ من الحنظل، هو هذيان المحموم، وسوداء الهموم. كلام رثّ، ومعنى غثّ، لا طائل فيهما، ولا طلاوة عليهما. أبيات ليست من محكم الشعر وحكمه، ولا من أحجال الكلام وغرره. شعر ضعيف الصنعة رديء الصّبغة بغيض الصفة [وقد جمع بين إقواء وإيطاء (2)، وإبطاء وإخطاء. ما قطع في شعره شعرة] ولا سقى قطرة. لو شعر بالنقص ما شعر. لا يميز بين خبيث القول وطيّبه، ولا يفرق بين بكره وثيّبه (3). هو بارد العبارة، ثقيل الاستعارة. هو من بين الشعراء منبوذ بالعراء. لم يلبس شعره حلّة الطلاوة. له شعر لا يطيب درسه، ولا يخفّ سرده، وخطّ مضطرب الحروف، متضاعف التضعيف والتحريف. خطّ يقذي العين ويشحي الصّدر. خطّ منحطّ، كأنه أرجل البطّ، وأنامل السرطان، على الحيطان. قلمه لا يستجيب بريه، ومداده لا يساعد جريه. قلمه كالولد العاقّ، والأخ المشاق، إذا أدرته استطال، وإذا قوّمته مال، وإذا بعثته وقف، وإذا وقفته انحرف. قلم مائل الشق، مضطرب المشق، متفاوت [البري، معدوم الجري، محرّف القطّ. قلم لم يقلّم ظفره فهو] يخدش القرطاس، وينقش الأنقاس (4)، ويأخذ بالأنفاس.
قلم لا يبعث إذا بعثته، ولا يقف إذا وقفته. قد وقف اضطراب [بريه، دون استمرار] جريه، واقتطع تفاوت قطّه، عن تجويد خطه.
__________
(1) يصدي الرّيّان: يجعل الممتلىء عطشان يقال: أصداه: أعطشه، والريّان: المرتوي، ضدّ العطشان. لسان العرب (صدا) و (ريي).
(2) الإقواء والإيطاء: من عيوب القافية فالإقواء هو اختلاف حركة الرويّ في قصيدة واحدة، كأن يجيء بيت مرفوعا وآخر مجرورا. والإيطاء هو أن تتكرّر القافية في قصيدة واحدة بمعنى واحد. الكافي في العروض والقوافي للخطيب التبريزي (ص 160، 162).
(3) الثّيّب: المرأة فارقت زوجها. القاموس المحيط (ثيب).
(4) الأنقاس: جمع نقس وهو المداد. القاموس المحيط (نقس).(2/44)
[خير الكلام]
ذكر عتبة بن أبي سفيان كلام العرب فقال: إن للعرب كلاما هو أرقّ من الهواء، وأعذب من الماء، مرق من أفواههم مروق السهام من قسيّها، بكلمات مؤتلفات، إن فسّرت بغيرها عطلت، وإن بدلت بسواها من الكلام استصعبت فسهولة ألفاظهم توهمك أنها ممكنة إذا سمعت، وصعوبتها تعلمك أنها مفقودة إذا طلبت. هم اللطيف فهمهم، النافع علمهم، بلغتهم نزل القرآن، وبها يدرك البيان، وكلّ نوع من معناه مباين لما سواه، والناس إلى قولهم يصيرون، وبهداهم يأتمّون، أكثر الناس أحلاما، وأكرمهم أخلاقا.
وكان يقال: خير الكلام المطمع الممتنع.
وأنشد إبراهيم بن العباس الصّوليّ لخاله العباس بن الأحنف: [السريع]
إليك أشكو ربّ ما حلّ بي ... من صدّ هذا العاتب المذنب
إن قال لم يفعل، وإن سيل لم ... يبذل، وإن عوتب لم يعتب
صبّ بعصياني، ولو قال لي ... لا تشرب البارد لم أشرب
ثم قال: هذا والله الشعر الحسن المعنى، السهل اللفظ، العذب المستمع، الصعب الممتنع، العزيز النظير، القليل الشبيه، البعيد مع قربه، الحزن (1) مع سهولته، فجعل الناس يقولون: هذا الكلام أحسن من الشعر.
وقال أبو العباس الناشىء يصف شعره: [الكامل]
يتحيّر الشعراء إن سمعوا به ... في حسن صنعته وفي تأليفه
فكأنه في قربه من فهمهم ... ونكولهم في العجز عن ترصيفه
شجر بدا للعين حسن نباته ... ونأى عن الأيدي جنى مقطوفه
فإذا قرنت أبيّه بمطيعه ... وقرنته بغريبه وطريفه
ألفيت معناه يطابق لفظه ... والنظم منه جليّه بلطيفه
فأتاه متّسقا على إحسانه ... قد نيط منه رزينه بخفيفه
هذبته فجعلته لك باقيا ... ومنعت صرف الدهر عن تصريفه
وقال الناشىء في فصل من كتابه في الشعر: الشعر قيد الكلام، وعقل الآداب، وسور البلاغة، ومعدن البراعة، ومجال الجنان، ومسرح البيان، وذريعة المتوسّل، ووسيلة المتوصل، وذمام الغريب، وحرمة الأديب، وعصمة الهارب، وعدّة الراهب،
__________
(1) الحزن، بفتح الحاء وسكون الزاي: ما غلظ من الأرض. القاموس المحيط (حزن).(2/45)
ورحلة الدّاني، ودوحة المتمثل، وروحة المتحمّل، وحاكم الإعراب، وشاهد الصواب.
وقال في هذا الكتاب: الشعر ما كان سهل المطالع، فصل المقاطع، فحل المديح، جزل الافتخار، شجيّ النسيب، فكه الغزل، سائر المثل، سليم الزلل، عديم الخلل، رائع الهجاء، موجب المعذرة، محبّ المعتبة، مطمع المسالك، فائت المدارك، قريب البيان، بعيد المعاني، نائي الأغوار، ضاحي القرار، نقي المستشف، قد هريق فيه ماء الفصاحة، وأضاء له نور الزجاجة، فانهلّ في صادي الفهم، وأضاء في بهيم الرأي.
لمتأمله ترقرق، ولمستشفّه تألّق، يروق المتوسم، ويسرّ المترسّم قد أبدت صدوره متونه، وزهت في وجوهه عيونه، وانقادت كواهله لهواديه، وطابقت [ألفاظه معانيه، وخالفت أجناسه مبانيه، فاطّرد لمتصفحه، وأنار] لمستوضحه، وأشبه الروض في وشي ألوانه، وتعمّم أفنانه، وإشراق نواره، وابتهاج أنجاده بأغواره وأشبه الوشي في اتفاق رقومه، واتساق رسومه، وتسطير كفوفه، وتحبير فوفه وحكى العقد في التئام فصوله، وانتظام وصوله، وازديان ياقوته بدرّه، وفريده بشذره، فلو اكتنف الإيجاز موارده، وصقلت مداوس الدربة مناصله، وشحذت مدارس الأدب فياصله، جاء سليما من المعايب، مهذّبا من الأدناس، تتحاشاه الأبن (1)، وتتحاماه الهجن، مهديا إلى الأسماع بهجته، وإلى العقول حكمته.
وقد قلت في الشعر قولا جعلته مثلا لقائليه، وأسلوبا لسالكيه، وهو: [الكامل]
الشعر ما قوّمت زيغ صدوره ... وشددت بالتهذيب أسر متونه
ورأبت بالإطناب شعب صدوعه ... وفتحت بالإيجاز غور عيونه
وجمعت بين قريبه وبعيده ... ووصلت بين مجمّه ومعينه
وعقدت منه لكلّ أمر يقتضي ... شبها به فقرنته بقرينه
فإذا بكيت به الديار وأهلها ... أجريت للمحزون ماء شؤونه
ووكلته بهمومه وغمومه ... دهرا فلم يسر الكرى بجفونه
وإذا مدحت به جوادا ماجدا ... وقضيته بالشّكر حقّ ديونه
أصفيته بنفيسه ورصينه ... ومنحته بخطيره وثمينه
فيكون جزلا في اتّفاق صنوفه ... ويكون سهلا في اتّساق فنونه
وإذا أردت كناية عن ريبة ... باينت بين ظهوره وبطونه
فجعلت سامعه يشوب شكوكه ... ببيانه وظنونه بيقينه
__________
(1) الأبن: جمع أبنة وهي العقدة في العود. لسان العرب (أبن).(2/46)
وإذا عتبت على أخ في زلّة ... أدمجت شدّته له في لينه
فتركته مستأنسا لدماثة ... مستيئسا لوعوثه وحزونه (1)
وإذا نبذت إلى التي علّقتها ... إن صارمتك بفاتنات شئونه
تيّمتها بلطيفه ورقيقه ... وشغفتها بخفّيه وكمينه
وإذا اعتذرت إلى أخ في زلّة ... واشكت بين محيله ومبينه
فيحور ذنبك عند من يعتدّه ... عتبا عليك مطالبا بيمينه
والقول يحسن منه في منثوره ... ما ليس يحسن منه في موزونه
وقال الخليل بن أحمد: الشعراء أمراء الكلام، يصرّفونه أنّى شاءوا وجائز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تصريف اللّفظ وتعقيده، ومدّ مقصوره، وقصر ممدوده، والجمع بين لغاته، والتفريق بين صفاته.
وقال: الشعر حلية اللسان، ومدرجة البيان، ونظام الكلام، مقسوم غير محظور، ومشترك غير محصور، إلا أنه في العرب جوهريّ، وفي العجم صناعي.
قال أعرابي لشاعر من أبناء فارس: الشعر للعرب، فكلّ من يقول الشعر منكم فإنما نزا على أمّه رجل منّا! فقال الفارسي: وكذلك من لا يقول الشعر منكم، فإنما نزا على أمّه رجل منّا!.
وقال عمارة بن عقيل: أجود الشعر ما كان أملس المتون، كثير العيون، لا يمجّه السمع، ولا يستأذن على القلب. وأنشد الجاحظ شعر أبي العتاهية فلم يرضه، وقال: هو أملس المتون، ليس له عيون، كأنه وعمارة تجاذبا كلاما واحدا.
وقال ابن عقيل: الشعر بضاعة من بضائع العرب، ودليل من أدلّة الأدب، وأثارة (2)
من أثارات الحسب. ولن يهزّ الشعر إلّا الكريم المحتد (3)، الكثير السؤدد، الكلف بذكر اليوم والغد.
ومدح بشار المهديّ فلم يعطه شيئا، فقيل له: لم تجد في مدحه. فقال: لا والله، لقد مدحته بشعر لو قلت مثله في الدهر لما خيف صرفه على حرّ، ولكني أكذب في العمل، فأكذب في الأمل.
نظمه الناجم فقال: [الوافر]
__________
(1) الوعوث: جمع وعث وهو المكان السهل. القاموس المحيط (وعث).
(2) الأثارة: البقيّة من العلم، جمعها أثارات. محيط المحيط (أثر).
(3) المحتد: الأصل. محيط المحيط (حتد).(2/47)
ولي في أحمد أمل بعيد ... ومدح حين أنشده طريف
مدائح لو مدحت بها الليالي ... لما دارت عليّ لها صروف
قال هشام بن عبد الملك لخالد بن صفوان: صف لي جريرا والفرزدق والأخطل، فقال: يا أمير المؤمنين، أما أعظمهم فخرا، وأبعدهم ذكرا، وأحسنهم عذرا، وأسيرهم مثلا، وأقلّهم غزلا، وأحلاهم عللا، البحر الطامي إذا زخر، والحامي إذا ذعر، والسامي إذا خطر، [الذي إذا هدر جال، وإذا خطر صال، الفصيح اللسان، الطويل العنان، فالفرزدق. وأما أحسنهم نعتا، وأمدحهم بيتا، وأقلّهم فوتا، الذي إن هجا وضع، وإن مدح رفع، فالأخطل. وأما أغزرهم بحرا، وأرقهم شعرا، وأكثرهم ذكرا، الأغرّ الأبلق، الذي إن طلب لم يسبق، وإن طلب لم يلحق، فجرير. وكلّهم ذكيّ الفؤاد، رفيع العماد، واري الزناد.
قال مسلمة بن عبد الملك، وكان حاضرا: ما سمعنا يا ابن صفوان في الأولين ولا في الآخرين، أشهد أنك أحسنهم وصفا، وألينهم عطفا، وأخفّهم مقالا، وأكرمهم فعالا.
فقال خالد: أتمّ الله عليك نعمه، وأجزل لك قسمه. أنت والله أيها الأمير ما علمت كريم الغراس، عالم بالناس، جواد في المحل، بسّام عند البذل، حليم عند الطّيش، في الذّروة من قريش، من أشراف عبد شمس، ويومك خير من الأمس.
فضحك هشام وقال: ما رأيت مثلك يا ابن صفوان لتخلّصك في مدح هؤلاء، ووصفهم، حتى أرضيتهم جميعا وسلمت منهم.
ودخل العجّاج على عبد الملك بن مروان فقال له: بلغني أنك لا تحسن الهجاء، فقال: يا أمير المؤمنين، من قدر على تشييد الأبنية، أمكنه خراب الأخبية، قال:
ما يمنعك من ذلك؟ قال: إنّ لنا عزّا يمنعنا من أن نظلم، وحلما يمنعنا من أن نظلم، قال:
لكلماتك أحسن من شعرك! فما العزّ الذي يمنعك أن تظلم؟ قال: الأدب [البارع، والفهم الناصع. قال: فما الحلم الذي يمنعك من أن تظلم؟ قال: الأدب] المستطرف، والطبع التّالد، قال: لقد أصبحت حكيما. قال: وما يمنعني من ذلك وأنا نجيّ أمير المؤمنين؟.
قال أبو إسحاق: وليس كما قال العجاج، بل لكثير من الشعراء طباع تنبو عن الهجاء كالطائي (1) وأضرابه، وأصحاب المطبوع أقدر عليه من أهل المصنوع، إذ كان الهجو كالنادرة التي إذا جرت على سجيّة قائلها، وقربت من يد متناولها، وكان واسع العطن، كثير الفطن، قريب القلب من اللسان، التهبت بنار الإحسان.
__________
(1) الطائي: هو أبو تمام.(2/48)
ومما ينحو هذا النحو من مقامات أبي الفتح الإسكندري إنشاء بديع الزمان قال:
حدّثنا عيسى بن هشام قال: طرحتني النوى مطارحها، حتى إذا وطئت جرجان الأقصى، فاستظهرت على الأيام بضياع أجلت فيها يد العمارة، وأموال وقفتها على التجارة، وحانوت جعلته مثابة (1)، ورفقة اتخذتهم صحابة، وجعلت للدار حاشيتي النهار، والحانوت ما بينهما فجلسنا يوما نتذاكر الشعر والشعراء، وتلقاءنا شاب قد جلس غير بعيد، ينصت وكأنه يفهم، ويسكت وكأنه لا يعلم، حتى إذا مال الكلام بنا ميله، وجرّ الجدل فينا ذيله، قال: أصبتم عذيقه (2)، ووافيتم جذيله، ولو شئت للفظت [فأفضت]، ولو أردت لسردت، ولجلوت الحقّ في معرض بيان يسمع الصم، وينزل العصم. فقلت:
يا فاضل، ادن فقد منّيت، وهات فقد أثنيت، فدنا وقال: سلوني أجبكم، واستمعوا أعجبكم.
قلنا: فما تقول في امرىء القيس؟ قال: هو أول من وقف بالديار وعرصاتها، واغتدى والطير في وكناتها، ووصف الخيل بصفاتها، ولم يقل الشعر كاسبا، ولم يجد القول راغبا، ففضل من تفتّق للحيلة لسانه، وانتجع للرغبة بنانه.
قلنا: وما تقول في النابغة؟ قال: ينسب إذا عشق، ويثلب إذا حنق، ويمدح إذا رغب، ويعتذر إذا رهب، فلا يرمي إلّا صائبا.
قلنا: فما تقول في طرفة؟ قال: هو ماء الأشعار وطينتها، وكنز القوافي ومدينتها، مات ولم تظهر أسرار دفائنه، ولم تطلق عتاق خزائنه.
قلنا: فما تقول [في زهير؟ قال: يذيب الشعر والشعر يذيبه، ويدعو القول والسّحر يجيبه.
قلنا: فما تقول] في جرير والفرزدق؟ وأيهما أسبق؟ قال: جرير أرقّ شعرا، وأغزر غزرا، والفرزدق أمتن صخرا، وأكثر فخرا، وجرير أوجع هجوا، وأشرف يوما، والفرزدق أكثر روما (3)، وأكثر قوما، وجرير إذا نسب أشجى، وإذا ثلب أردى، وإذا مدح أسنى، والفرزدق إذا افتخر أجزى، وإذا وصف أوفى، وإذا احتقر أزرى.
قلنا: فما تقول في المحدثين من الشعراء والمتقدّمين منهم؟ قال: المتقدمون أشرف لفظا، وأكثر في المعاني حظا، والمتأخّرون ألطف صنعا، وأرق نسجا.
__________
(1) المثابة: المكان يرجع إليه كلما أراد. لسان العرب (ثوب).
(2) العذيق: تصغير عذق وهو النخلة بحملها. محيط المحيط (عذق).
(3) الرّوم: الطلب. القاموس المحيط (روم).(2/49)
قلنا: فلو أريت من أشعارك، ورويت من أخبارك، قال: خذهما في معرض واحد، أنشد: [الرجز]
أما تروني أتغشّى طمرا ... ملتحفا في الضّرّ أمرا إمرا (1)
منطويا على الليالي غمرا ... ملاقيا منها صروفا حمرا
أقصى أمانيّ طلوع الشّعرى ... فقد عنينا بالأماني دهرا
وكان هذا الحرّ أعلى قدرا ... وماء هذا الوجه أغلى سعرا
ضربت للسّرو قبابا خضرا ... في دار دارا وإوان كسرى
فانقلب الدهر لبطن ظهرا ... وعاد عرف العيش عندي نكرا
لم يبق من وفري إلّا ذكرا ... ثمّ إلى اليوم هلمّ جرّا
لولا عجوز لي بسرّ من را ... وأفرخ دون جبال بصرى
قد جلب الدّهر إليهم شرّا ... قتلت، يا سادة، نفسي صبرا!
قال عيسى بن هشام: فنلته ما تاح (2)، وأعرض عنّا فراح، وجعلت أنفيه وأثبته، وأنكره وكأني أعرفه، ثم دلّتني عليه ثناياه، فقلت: الإسكندري والله فلقد كان فارقنا خشفا (3)، ووافانا جلفا، ونهضت على إثره، ثم قبضت على خصره، وقلت: ألست أبا الفتح؟ ألم تكن فينا وليدا، ولبثت فينا من عمرك سنين؟ فأيّ عجوز لك بسرّ من رأى؟
فضحك وقال: [مخلع البسيط]
ويحك هذا الزمان زور ... فلا يغرّنّك الغرور
غرّق وبرّق وكل وطرّق ... واسرق وطلبق لمن تزور
لا تلتزم حالة ولكن ... در لليالي كما تدور
ومن إنشائه مقامة ولدها على لسان عصمة وذي الرمة قال: حدّثنا عيسى بن هشام قال: بينا نحن في مجتمع لنا ومعنا يومئذ رجل العرب حفظا ورواية عصمة بن بدر الفزاري، فأفضى الكلام إلى ذكر من أعرض عن خصمه حلما، أو أعرض عنه خصمه احتقارا، حتى ذكر الصّلتان العبدي واللّعين المنقري، وما كان من احتقار جرير والفرزدق لهما. فقال عصمة: سأحدّثكم بما شاهدته عيني، ولا أحدّثكم عن غيري: بينا أنا أسير في بلاد تميم مرتحلا نجيبة، وقائدا جنيبة، عنّ لي راكب على أورق جعد اللّغام (4)، فاجتاز
__________
(1) الطّمر: الثوب الخلق أو الكساء البالي. الإمر: المنكر. محيط المحيط (طمر) و (أمر).
(2) تاح له الشيء: تهيّأ. محيط المحيط (تيح).
(3) الخشف: ولد الظبي. محيط المحيط (خشف).
(4) الأورق من الإبل: ما في لونه بياض إلى سواد وهو من أطيب الإبل لحما لا عملا وسيرا. اللّغام،(2/50)
بي رافعا صوته بالسلام. فقلت: من الراكب الجهير الكلام، المحيّي بتحيّة الإسلام؟
فقال: أنا غيلان بن عقبة. فقلت: مرحبا بالكريم حسبه، الشهير نسبه، السائر منطقه.
فقال: رحب واديك، وعزّ ناديك، فمن أنت؟ قلت: عصمة بن بدر الفزاري. فقال:
حيّاك الله، نعم الصديق، والصاحب والرفيق. وسرنا فلمّا هجّرنا قال: ألا نغوّر (1)
يا عصمة، فقد صهرتنا الشمس؟ فقلت: أنت وذاك، فملنا إلى شجرات ألاء (2) كأنهنّ عذارى متبرّجات، قد نشرن الغدائر، وسرّحن الضفائر لأثلاث متناوحات فحططنا رحالنا، ونلنا من الطعام، وكان ذو الرمة زهيد الأكل. وزال كلّ منّا إلى ظل أثلة يريد القائلة، واضطجع ذو الرّمة، وأردت أن أصنع صنيعه، فولّيت ظهري الأرض، وعيناي لا يملكهما غمض، فنظرت غير بعيد إلى ناقة كوماء (3)، ضحيت وغبيطها ملقى (4)، وإذا رجل قائم يكلؤها كأنه عسيف أو أسيف (5)، فلهيت عنهما، وما أنا والسؤال عما لا يعنيني! ونام ذو الرّمة غرارا، ثم انتبه، وكان ذلك في أيام مهاجاته لذلك المرّيّ. فرفع عقيرته ينشد فيه: [المتقارب]
أمن ميّة الطّلل الدارس ... ألظّ به العاصف الرّامس
فلم يبق إلّا شجيج القذال ... ومستوقد ما له قابس
وحوض تثلّم من جانبيه ... ومحتفل دائر طامس
وعهدي به وبه سكنه ... وميّة والإنس والآنس
ستأتي امرأ القيس مأثورة ... يغنّي بها العابر الجالس
ألم تر أنّ امرأ القيس قد ... ألظّ به داؤه الناجس
هم القوم لا يألمون الهجاء ... وهل يألم الحجر اليابس؟
فما لهم في الفلا راكب ... ولا لهم في الوغى فارس
إذا طمح الناس للمكرمات ... فطرفهم المطرق الناعس
تعاف الأكارم إصهارهم ... فكل نسائهم عانس
__________
زبد الجمل يقذفه من فيه. جعد اللّغام: أي كثير الزبد. محيط المحيط (ورق) و (لغم) و (جعد).
(1) نغوّر: نقيل يقال: غوّر الرجل إذا أتى الغور ليحتمي من حرّ الشمس. محيط المحيط (غور).
(2) الألاء: جمع ألاءة وألاء وهي شجرة دائمة الخضرة حسنة المنظر. محيط المحيط (ألى).
(3) الناقة الكوماء: الضخمة السنام. محيط المحيط (كوم).
(4) ضحيت: أصابتها الشمس بحرّها. غبيط الناقة: رحلها يشدّ عليه الهودج. محيط المحيط (ضحى) و (غبط).
(5) العسيف: الأجير. الأسيف: العبد المملوك. محيط المحيط (عسف) و (سيف).(2/51)
فلمّا بلغ هذا البيت جعل ذلك النائم يمسح عينيه ويقول: أذو الرّميمة يمنعني النوم بشعر غير مثقّف ولا سائر؟ فقلت: يا غيلان، من هذا؟ فقال: الفريزد، يعني الفرزدق، وحمي ذو الرمة: [المتقارب]
وأمّا مجاشع الأرذلون ... فلم يسق ميّتهم راجس
سيعقلهم عن مساعي الكرام ... عقال، ويحبسهم حابس
فقلت: الآن [يشرق فيثور، و] يعمّ الفرزدق هذا وقبيله بالهجاء. فوالله ما زاد على أن قال: قبحا لك يا ذا الرّميمة! أتعرض لمثلي بمقال منتحل؟ ثم عاد في نومه كأن لم يسمع شيئا، وسار ذو الرّمة وسرت، وإني لأرى فيه انكسارا حتى افترقنا.
قوله فيما ولد على الفرزدق «بمقال منتحل»، يريد أن البيت الأخير منقول من قول جرير: [الطويل]
ألم تر أنّ الله أخزى مجاشعا ... إذا ما أفاضت في الحديث المجالس
وما زال معقولا عقال عن الندى ... وما زال محبوسا عن المجد حابس
عقال: ابن محمد بن [سعيد بن] مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وهو جدّ الفرزدق. وحابس: ابن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم، وهو أبو الأقرع بن حابس أحد المؤلّفة قلوبهم.
فقر في الشعر
قيل لابن الزّبعرى: لم تقصّر أشعارك؟ فقال: لأنها أعلق بالمسامع، وأجول في المحافل.
وقيل ذلك لعقيل بن علّفة في أهاجيه، فقال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق.
غيره: لسان الشاعر أرض لا تخرج الزهر حتى تستسلف المطر، وما ظنّك بقوم الاقتصار محمود إلّا فيهم، والكذب مذموم إلّا منهم. إياكم والشاعر فإنه يطلب على الكذب مثوبة، ويقرع جليسه بأدنى زلّة.
أبو القاسم الصاحب بن عباد: النثر يتطاير كتطاير الشّرر، والنظم يبقى بقاء النّقش في الحجر.
أبو عبيدة: الزّحاف في الشعر كالرّخصة في الدين، لا يقدم عليها إلّا فقيه.
وقال أبو فراس الحمداني (1): [مخلع البسيط](2/52)
أبو عبيدة: الزّحاف في الشعر كالرّخصة في الدين، لا يقدم عليها إلّا فقيه.
وقال أبو فراس الحمداني (1): [مخلع البسيط]
تناهض الناس للمعاني (2) ... لمّا رأوا نحوها نهوضي
تكلّفوا المكرمات كدّا ... تكلّف الشعر بالعروض
وقد مدح الجاحظ العروض وذمّها، فقال في مدحها: العروض ميزان، ومعراض بها يعرف الصحيح من السقيم، والعليل من السليم، وعليها مدار الشعر، وبها يسلم من الأود (3) والكسر. وقال في ذمّه: هو علم مولّد، وأدب مستبرد، ومذهب مرفوض، وكلام مجهول، يستنكر العقل بمستفعلن وفعول، من غير فائدة ولا محصول.
ومن مفردات الأبيات في هذا المعنى قول دعبل: [الطويل]
يموت رديء الشعر من قبل أهله ... وجيّده يبقى وإن مات قائله
البحتري (4): [البسيط]
أعيا عليّ فلا هيّابة فرق ... يخشى الهجاء، ولا هشّ فيمتدح (5)
آخر: [الوافر]
[و] ممّا يقتل الشعراء غمّا ... عداوة من يغلّ عن الهجاء
أحمد بن أبي فنن: [الطويل]
وإنّ أحقّ الناس باللؤم شاعر ... يلوم على البخل اللئام، ويبخل
وهذا كقول علي بن العباس الرومي في أبي الفياض سوّار بن أبي شراعة، وكان سوّار شاعرا مجيدا: [الكامل]
يا من صناعته الدعاء إلى العلا ... ناقضت في فعليك أيّ نقاض
عجبا لحضّاض الكرام على الذي ... هو فيه محتاج إلى حضّاض
وصف المكارم وهو فيها زاهد ... ورأى الجميل وفيه عنه تغاض
لم ألق كالشعراء أكثر حارضا ... وأشدّ معتبة على الحرّاض (6)
__________
(1) ديوان أبي فراس الحمداني (ص 272).
(2) رواية صدر البيت في الديوان هي: تناهض القوم للمعالي.
(3) الأود، بالفتح: العوج. لسان العرب (أود).
(4) ديوان البحتري (ج 2ص 170) من قصيدة من 12بيتا قالها في مدح الحسن بن خالد.
(5) الفرق: الخائف. الهشّ: البشّ. لسان العرب (فرق) و (هشش).
(6) الحارض: الذي أهلك نفسه يقال: أحرضه المرض إذا أفسد بدنه وأشفى على الهلاك.
والحرّاض: الذي يوقد على الصخر ليتخذ منه جصّا. لسان العرب (حرض).(2/53)
كم فيهم من آمر برشيدة ... لم يأتها، ومرغب رفّاض
يا حسرتي لمودّة أدبية ... لم نفترق عنها افتراق تراض
ليس العتاب بنافع في قاطع ... أعيا المشيب تتابع المقراض
ثم قال بعد هذا التبكيت والعتاب ما منعه أن يتوهّم أنه هجاه: [الكامل]
ولما هجوتك، بل وعظتك إنّني ... لا أجعل الأعراض كالأغراض (1)
فاكفف سهامك عن أخيك فإنما ... آسفته، فرماك بالمعراض
فمتى حلمت وجدت أحنف دهره ... ومتى جهلت منيت بالبرّاض
فاعذر أخاك على الوعيد فإنما ... أنذرت قبل الرّمي بالإنباض
[واعلم وقيت الجهل أن خساسة ... بطر الغنى ومذلّة الإبعاض]
ثم هجاه بقوله: [البسيط]
وما تكلمت إلّا قلت فاحشة ... كأن فكّيك للأغراض مقراض
مهما تقل فسهام منك مرسلة ... وفوك قوسك والأعراض أغراض
وابن الرومي هذا كما قال مسلم بن الوليد الأنصاري في الحكم بن قنبر المازني:
[الخفيف]
عابني من معايب هنّ فيه ... حكم فاشتفى بها من هجاني
وكما قال الآخر: [الطويل]
ويأخذ عيب الناس من عيب نفسه ... مراد لعمري ما أراد قريب
[ترجمة الأحنف بن قيس وأخباره]
وروى عيسى بن دأب قال: أوّل ما عرف الأحنف بن قيس وقدّم أنه وفد على عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وكان أحدث القوم سنا، وأقبحهم منظرا، فتكلّم كل رجل من الوفد بحاجته في خاصته، والأحنف ساكت، فقال له عمر: قل يا فتى! فقام فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ العرب نزلت بمساكن طيبة ذات ثمار وأنهار عذاب، وأكنّة ظليلة (2)، ومواضع فسيحة، وإنا نزلنا بسبخة نشّاشة، ماؤها ملح، وأفنيتها ضيقة، وإنما يأتينا الماء في مثل حلق النعامة فإلّا تدركنا يا أمير المؤمنين بحفر نهر يغزر ماؤه، حتى
__________
(1) الأغراض: جمع غرض وهو ما يجعله الرامي هدفا يقصد برميه إليه. لسان العرب (غرض).
(2) الأكنّة: جمع كنّ وهو السّتر الواقي من الحرّ والبرد. الظليلة: ذات الظلّ. لسان العرب (كنن) و (ظلل).(2/54)
تأتي الأمة فتغرف بجرّتها وإنائها أوشك أن نهلك، قال: ثم ماذا؟ قال: تزيد في صاعنا ومدّنا، وتثبت من تلاحق في العطاء من ذرّيّتنا. قال: ثم ماذا؟ قال: تخفّف عن ضعيفنا، وتنصف قوينا، وتتعاهد ثغورنا، وتجهّز بعثنا، قال: ثم ماذا؟ قال: إلى ها هنا انتهت المطالب، ووقف الكلام. قال: أنت رئيس وفدك، وخطيب مصرك، قم عن موضعك الذي أنت فيه. فأدناه حتى أقعده إلى جانبه، ثم سأله عن نسبه، فانتسب له، فقال: أنت سيد تميم، فبقيت له السيادة إلى أن مات.
وهو الأحنف، واسمه الضحّاك بن قيس بن معاوية بن حصين بن حصن بن عبادة بن النزال بن مرّة بن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن [سعد بن] زيد مناة بن تميم.
وقال بعض بني تميم: حضرت مجلس الأحنف وعنده قوم مجتمعون له في أمر لهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنّ الكرم منع الحرم، ما أقرب النقمة من أهل البغي، لا خير في لذّة تعقب ندما، لم يهلك من اقتصد، ولم يفتقر من زهد، رب هزل قد عاد جدا، من أمن الزمان خانه، ومن تعظّم عليه أهانه، دعوا المزاح فإنه يؤرّث (1)
الضغائن، وخير القول ما صدّقه الفعل، احتملوا لمن أدلّ عليكم، واقبلوا عذر من اعتذر إليكم، أطع أخاك وإن عصاك، وصله وإن جفاك، أنصف من نفسك قبل أن ينتصف منك، إيّاكم ومشاورة النساء، واعلم أنّ كفر النّعم لؤم، وصحبة الجاهل شؤم، ومن الكرم الوفاء بالذّمم، ما أقبح القطيعة بعد الصلة، والجفاء بعد اللّطف، والعداوة بعد الودّ، لا تكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا إلى البخل أسرع منك إلى البذل، واعلم أنّ لك من دنياك ما أصلحت به مثواك، فأنفق في حقّ، ولا تكن خازنا لغيرك، وإذا كان الغدر موجودا في الناس فالثّقة بكل أحد عجز اعرف الحقّ لمن عرفه لك، واعلم أنّ قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل. قال: فما سمعت كلاما أبلغ منه. فقمت وقد حفظته.
ودخل الأحنف على معاوية، ويزيد بين يديه، وهو ينظر إليه إعجابا، فقال: يا أبا بحر، ما تقول في الولد؟ فعلم ما أراد، فقال: يا أمير المؤمنين، هم عماد ظهورنا، وثمر قلوبنا، وقرّة أعيننا، بهم نصول على أعدائنا، وهم الخلف منّا بعدنا، فكن لهم أرضا ذليلة، وسماء ظليلة، إن سألوك فأعطهم، وإن استعتبوك فأعتبهم (2)، ولا تمنعهم رفدك
__________
(1) يورّث الضغائن: يوقدها ويشعلها ويؤجّج نارها. لسان العرب (أرث).
(2) استعتبوك: طلبوا رضاك. وأعتبهم: أعطاهم الرضا. لسان العرب (عتب).(2/55)
فيملّوا قربك، ويستثقلوا حياتك، ويتمنّوا وفاتك. فقال: لله درّك يا أبا بحر، هم كما قلت!.
وزعمت الرواة أنها لم تسمع للأحنف إلّا هذين البيتين: [المتقارب]
فلو مدّ سروي بمال كثير ... لجدت وكنت له باذلا (1)
فإنّ المروءة لا تستطاع ... إذا لم يكن مالها فاضلا
وكان يبخّل. وقال لبني تميم: أتزعمون أني بخيل! والله إني لأشير بالرّأي قيمته عشرة آلاف درهم! فقالوا: تقويمك لرأيك بخل. وكان الأحنف من الفضلاء الخطباء النّسّاك، وبه يضرب المثل في الحلم.
وقد ذكر للنبي، صلّى الله عليه وسلّم، فاستغفر له فقد بعث النبي، صلّى الله عليه وسلّم، رجلا إلى قومه بني سعد يعرض عليهم الإسلام، فقال الأحنف: إنه يدعوكم إلى خير، ولا أسمع إلّا حسنا. فذكر للنبي، صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «اللهم اغفر للأحنف». وكان الأحنف يقول: ما شيء أرجى عندي من ذلك.
قال عبد الملك بن عمير: قدم إلينا الأحنف، فما رأينا خصلة تذمّ في رجل إلّا رأيناها فيه، كان أصلع الرّأس، متراكب الأسنان، أشدق، مائل الذّقن، ناتىء الوجنتين، باخق العينين (2)، خفيف العارضين، أحنف الرّجلين، وكانت العين تقتحمه دمامة وقلّة رواء، ولكنه إذا تكلّم جلّى عن نفسه. وهو الذي خطب بالبصرة حين اختلفت الأحياء، وتنازعت القبائل فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا معشر الأزد [وربيعة]، أنتم إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الصهر، وأكفاؤنا في النسب، وجيراننا في الدار، ويدنا على العدوّ، والله لأزد البصرة أحبّ إلينا من تميم الكوفة، [ولأزد الكوفة أحبّ إلينا من تميم الشام]، وفي أموالنا وأحلامنا سعة لنا ولكم.
وقد قام خطباء البصرة في هذا اليوم وتكلّموا وأسهبوا، فلمّا قام الأحنف أصغت القبائل إليه، وانثالت عليه، وقال الناس: هذا أبو بحر، هذا خطيب بني تميم، وحضر ذلك الجمع جارية لآل المهلب، فذهبت تروم النظر إليه، فاعتاص ذلك عليها، فأشرفت عليه من دارها، فلمّا رأته والأبصار خاشعة لكلامه، ورأت دمامة خلقه، وكثرة آفات جوارحه، قالت: فقدت هذه الخلقة ولو افترّت عن فصل الخطاب.
__________
(1) السّرو: الفضل والسخاء في المروّة. محيط المحيط (سرو).
(2) البخق، بالفتح: أقبح العور، أو أن لا يلتقي شفر عينه على حدقته. القاموس المحيط (بخق).(2/56)
وذكر المدائني أنّ الأحنف بن قيس وفد على معاوية، رضي الله عنه، مع أهل العراق، فخرج الآذن، فقال: إنّ أمير المؤمنين يعزم عليكم ألّا يتكلم أحد إلّا لنفسه. فلمّا وصلوا إليه قال الأحنف: لولا عزمة أمير المؤمنين لأخبرته أن دافّة دفّت، ونازلة نزلت، ونابتة نبتت، كلّهم بهم حاجة إلى معروف أمير المؤمنين وبرّه، قال: حسبك يا أبا بحر، فقد كفيت الشاهد والغائب.
ولما عزم معاوية على البيعة ليزيد كتب إلى زياد أن يوجّه إليه بوفد أهل العراق، فبعث إليه بوفد البصرة والكوفة، فتكلّمت الخطباء في يزيد، والأحنف ساكت، فلمّا فرغوا قال: قل يا أبا بحر، فإنّ العيون إليك أشرع منها إلى غيرها، فقام الأحنف فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على نبيّه، صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنك أعلمنا بيزيد في ليله ونهاره، وإعلانه وإسراره، فإن كنت تعلمه لله رضا فلا تشاور فيه أحدا، ولا تقم له الخطباء والشعراء، وإن كنت تعلم بعده من الله فلا تزوّده من الدنيا وترحل أنت إلى الآخرة فإنك تصير إلى يوم يفرّ [فيه] المرء من أخيه، وأمّه وأبيه، وصاحبته وبنيه. قال: فكأنه أفرغ على معاوية ذنوب ماء بارد. فقال له: اقعد يا أبا بحر فإن خيرة الله تجري، وقضاء الله يمضي، وأحكام الله تنفذ، لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه وإن يزيد فتى قد بلوناه (1)، ولم نجد في قريش فتى هو أجدر بأن يجتمع عليه منه. فقال: يا أمير المؤمنين، أنت تحكي عن شاهد، ونحن نتكلّم على غائب، وإذا أراد الله شيئا كان.
قال ابن الرومي: [الكامل]
إن امرأ رفض المكاسب واغتدى ... يتعلّم الآداب حتى أحكما
فكسا وحلّى كلّ أروع ماجد ... من حرّ ما حاك القريض ونظّما
ثقة برعي الأكرمين حقوقه ... لأحقّ ملتمس بألّا يحرما
قال أبو العباس أحمد بن عبيد الله بن عمّار: ومن نادر شعر أبي الحسن في هذا المعنى قوله، ووصف إتعاب الشعراء أنفسهم بدؤوبهم في صناعتهم، وما يتصرّم من أعمارهم، وأن إلحاحهم في طلب ما في أيدي من أسلفوه مديحهم لو كان رغبة منهم إلى ربّهم كان أجدى عليهم، وأقرب من درك بغيتهم، ونجح طلبتهم، ثم انحرف إلى توبيخ من مدحه فحرمه بأحسن عبارة، وأرضى استعارة، فقال: [الكامل]
للناس فيما يكلفون مغارم ... عند الكرام لها قضاء ذمام
__________
(1) بلوناه: اختبرناه. لسان العرب (بلا).(2/57)
ومغارم الشعراء في أشعارهم ... إنفاق أعمار وهجر منام
وجفاء لذات ورفض مكاسب ... لو حولفت حرست من الإعدام
وتشاغل عن ذكر ربّ لم يزل ... حسن الصنائع سابغ الإنعام
من لو بخدمته تشاغل معشر ... خدموكم أجدى على الخدّام
أفما لذلك حرمة مرعيّة ... إنّ الكرام إذا لغير كرام
لم أحتسب فيك الثواب بمدحتي ... إياك يا ابن أكارم الأقوام
لو كان شعري حسبة لم أكسه ... أحدا أحقّ به من الأيتام
لا تقبلنّ المدح ثم تعافه ... فتنام والشعراء غير نيام
واحذر معرّتهم إذا دنّستهم ... فلهم أشدّ معرّة العرّام
واعلم بأنّهم إذا لم ينصفوا ... حكموا لأنفسهم على الحكّام
وجناية العادي عليهم تنقضي ... وعقابهم يبقى مع الأيام
أبو الطيب المتنبي (1): [الكامل]
ومكايد السفهاء واقعة بهم ... وعداوة الشعراء بئس المقتنى
مات الأحنف بن قيس بالكوفة، فمشى مصعب بن الزبير في جنازته بغير رداء، وقال: اليوم مات سرّ العرب فلمّا دفن قامت امرأة على قبره فقالت: لله درّك من مجنّ في جنن (2)، ومدرج في كفن، نسأل الذي فجعنا بموتك، وابتلانا بفقدك، أن يجعل سبيل الخير سبيلك، ودليل الرّشد دليلك، وأن يوسّع لك في قبرك، ويغفر لك يوم حشرك فوالله لقد كنت في المحافل شريفا، وعلى الأرامل عطوفا، ولقد كنت في الحيّ مسوّدا، وإلى الخليفة موفدا، ولقد كانوا لقولك مستمعين، ولرأيك متّبعين ثم أقبلت على الناس فقالت: ألا إنّ أولياء الله في بلاده، شهود على عباده، وإني لقائلة حقّا، ومثنية صدقا، وهو أهل لحسن الثناء، وطيب النّثا (3)، أما والذي كنت من أجله في عدّة، ومن الحياة إلى مدّة، ومن المقدار إلى غاية، ومن الإياب إلى نهاية، الذي رفع عملك، لما قضى أجلك، لقد عشت حميدا مودودا، ومتّ سعيدا مفقودا، ثم انصرفت وهي تقول: [الكامل]
لله درّك يا أبا بحر ... ماذا تغيّب منك في القبر؟
__________
(1) ديوان المتنبي (ص 156).
(2) المجنّ: المستتر يقال: جنّ الشيء عنه إذا استتر، الجنن، بالفتح: القبر، والجمع أجنان. محيط المحيط (جنن).
(3) النّثا: ما أخبرت به عن الرجل من حسن أو سيء. محيط المحيط (نثا).(2/58)
لله درّك أيّ حشو ثرى ... أصبحت من عرف ومن نكر
إن كان دهر فيك جرّ لنا ... حدثا به وهنت قوى الصّبر
فلكم يد أسديتها ويد ... كانت تردّ جرائر الدهر (1)
ثم انصرفت فسئل عنها، فإذا هي امرأته وابنة عمّه. فقال الناس: ما سمعنا كلام امرأة قطّ أبلغ ولا أصدق منه.
قال: وكان الأحنف قدم الكوفة في أيام مصعب بن الزبير، فرآه رجل أعور دميما قصيرا أحنف الرجلين، فقال له: يا أبا بحر، بأي شيء بلغت في الناس ما أرى فو الله ما أنت بأشرف قومك، ولا أجودهم؟! فقال: يا ابن أخي، بخلاف ما أنت فيه! قال: وما هو؟ قال: تركي من أمرك ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا تتركه.
[ترجمة منصور النمري وأخباره]
اجتمع الشعراء بباب المعتصم فبعث إليهم: من كان منكم يحسن أن يقول مثل قول منصور النّمري في أمير المؤمنين الرشيد: [البسيط]
إنّ المكارم والمعروف أودية ... أحلّك الله منها حيث تجتمع
إذا رفعت امرأ فالله رافعه ... ومن وضعت من الأقوام متّضع
من لم يكن بأمين الله معتضما ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع
إن أخلف الغيث لم تخلف أنامله ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتّسع
فليدخل، فقال محمد بن وهيب: فينا من يقول خيرا منه، وأنشد: [البسيط]
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتهم ... شمس الضحى وأبو إسحاق، والقمر
يحكي أفاعيله في كل نائبة ... الغيث والليث والصمصامة الذّكر
فأمر بإدخاله وأحسن صلته.
أخذ معنى البيت الأول من بيتي محمد بن وهيب أبو القاسم محمد بن هانىء الأندلسي (2): [الكامل]
المدنفان من البريّة كلّها ... قلبي وطرف بابليّ أحور (3)
__________
(1) الجرائر: جمع جريرة وهي الجناية والذنب. محيط المحيط (جرر).
(2) ديوان ابن هانىء الأندلسي (ص 165).
(3) في الديوان: «جسمي» بدل «قلبي». والمدنفان: مثنّى مدنف وهو من ثقل عليه المرض. لسان(2/59)
والمشرقات النّيّرات ثلاثة ... الشمس والقمر المنير وجعفر
وبيت أبي القاسم [الأول] مأخوذ من قول ابن الرومي: [مجزوء الرمل]
يا عليلا جعل العلة ... مفتاحا لسقمي
ليس في الأرض عليل ... غير جفنيك وجسمي
ومرّ النمري بالعتابي مغموما فقال: ما لك، أعزّك الله؟ فقال: امرأتي تطلق (1) منذ ثلاث ونحن على يأس منها. فقال له العتّابي: وإنّ دواءها منك أقرب من وجهها، قل:
هارون الرشيد، فإن الولد يخرج! فقال: شكوت إليك ما بي، فأجبتني بهذا؟ فقال:
ما أخذت هذا إلّا من قولك: [البسيط]
إن أخلف الغيث لم تخلف أنامله ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع
وأبيات منصور بن سلمة بن الزبرقان النمري التي ذكرها المعتصم من قصيدة له وهي أحسن ما قيل في الشيب أولها: [البسيط]
ما تنقضي حسرة ولا جزع ... إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع
بان الشباب وفاتتني بغرّته ... خطوب دهر وأيام لها خدع (2)
ما كنت أوفي شبابي كنه غرّته ... حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع
تعجّبت أن رأت أسراب دمعته ... في حلبة الخدّ أجراها حشى وجع
أصبحت لم تطعمي ثكل الشباب ولم ... تشجي بغصّته فالعذر لا يقع
لا ألحينّ فتأتي غير كاذبة ... عين الكذوب فما في ودّكم طمع
ما واجه الشيب من عيب وإن ومقت ... إلّا لها نبوة عنه ومرتدع (3)
إني لمعترف ما فيّ من أرب ... عند الحسان فما للنّفس تتخدع
قد كدت تقضي على فوت الشباب أسى ... لولا تعزّيك أنّ الأمر منقطع
__________
العرب (دنف). والبابلي: الساحر، نسبة إلى بابل التي ينسب إليها السحر والخمر. معجم البلدان (ج 1ص 309).
(1) في الأصل: «بطلق» بالباء الموحدة. وتطلق: يأتيها المخاض وهو وجع الولادة. لسان العرب (طلق).
(2) غرّة الشباب: غفلته وسهوه. الخدع: جمع خدعة وهي ما تنخدع به. لسان العرب (غرر) و (خدع).
(3) ومقت: ودّت وأحبّت. المرتدع: الارتداع والانزجار. لسان العرب (ومق) و (ردع).(2/60)
وذكر أن الرشيد لما سمع هذا بكى، وقال: ما خير دنيا لا تخطر فيها ببرد الشباب! وأنشد متمثّلا: [الوافر]
أتأمل رجعة الدنيا سفاها ... وقد صار الشباب إلى ذهاب
فليت الباكيات بكلّ أرض ... جمعن لنا فنحن على الشباب
وكان الرشيد يقدم منصورا النمري بجودة شعره، ولما يمتّ إليه من النسب من العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنه، وكانت نثيلة أم العباس من النمر بن قاسط ولما كان يظهر من الميل إلى إمامة العباس وأهله، والمنافرة لآل علي، رضي الله عنه، ويقول: [الوافر]
بني حسن وقل لبني حسين ... عليكم بالسّداد من الأمور
أميطوا عنكم كذب الأماني ... وأحلاما يعدن عداة زور (1)
تسمّون النبي أبا وبأبى ... من الأحزاب سطر في سطور
يريد قول الله تعالى: {مََا كََانَ مُحَمَّدٌ أَبََا أَحَدٍ مِنْ رِجََالِكُمْ} (2). وهذا إنما نزل في شأن زيد بن حارثة، وكان رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، تبنّاه، فقال له الرشيد: ما عدوت ما في نفسي، وأمره أن يدخل بيت المال فيأخذ ما أحبّ.
وكان يضمر غير ما يظهر، ويعتقد الرّفض، وله في ذلك شعر كثير لم يظهر إلّا بعد موته، وبلغ الرشيد قوله: [الكامل]
آل النبيّ ومن يحبّهم ... يتطامنون مخافة القتل
أمن النصارى واليهود ومن ... من أمّة التوحيد في أزل (3)
إلّا مصالت ينصرونهم ... بظبا الصّوارم والقنا الذّبل (4)
فأمر الرشيد بقتله [وكان حينئذ برأس العين]، فمضى الرسول فوجده قد مات فقال الرشيد: لقد هممت أن أنبش عظامه فأحرقها. وكان يلغز في مدحه لهارون، وإنما يريد قول النبي، صلّى الله عليه وسلّم، لعليّ، رضوان الله عليه: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى». وقال الجاحظ: وكان يذهب أولا مذهب الشّراة (5)، فدخل الكوفة وجلس إلى هشام بن الحكم
__________
(1) أميطوا عنكم: أبعدوها عنكم. لسان العرب (ميط).
(2) سورة الأحزاب 33، الآية 40.
(3) الأزل: الشدّة والضيق. لسان العرب (أزل).
(4) المصالت: جمع مصلت وهو المقدام الشجاع. الظّبا: جمع ظبة وهي حدّ السيف. الصوارم: جمع صارم وهو السيف. لسان العرب (صلت) و (ظبا) و (صرم).
(5) الشّراة: الخوارج، سمّوا أنفسهم بذلك لأنهم شروا أنفسهم في طاعة الله، أي باعوها بالجنة حين(2/61)
الرافضي (1) وسمع كلامه، فانتقل إلى الرفض، وأخبرني من رآه على قبر الحسين بن علي، رضي الله عنهما، ينشد قصيدته التي يقول فيها: [الوافر]
فما وجدت على الأكتاف منهم ... ولا الأقفاء آثار النّصول (2)
ولكنّ الوجوه بها كلوم ... وفوق حجورهم مجرى السيول
أريق دم الحسين ولم يراعوا ... وفي الأحياء أموات العقول
فدت نفسي جبينك من جبين ... جرى دمه على خدّ أسيل
أيخلو قلب ذي ورع ودين ... من الأحزان والألم الطويل
وقد شرقت رماح بني زياد ... بريّ من دماء بني الرسول (3)
بتربة كربلاء لهم ديار ... نيام الأهل دارسة الطّلول
فأوصال الحسين ببطن قاع ... ملاعب للدّبور وللقبول
تحيات ومغفرة وروح ... على تلك المحلّة والحلول (4)
برئنا يا رسول الله ممن ... أصابك بالأذيّة والذّحول (5)
[أخبار ابني المعذل]
وقال أحمد بن المعذل: [الوافر]
أخو دنف رمته فأقصدته ... سهام من جفونك لا تطيش
كئيب إن ترحّل عنه جيش ... من البلوى ألمّ به جيوش
وكان أحمد بن المعذّل بن غيلان العبدي في اللغة والبيان والأدب والحلاوة غاية.
قال: دخلت المدينة فتحملت على عبد الملك بن الماجشون برجل ليخصّني ويعنى بي، فلمّا فاتحني قال: ما تحتاج أنت إلى شفيع، معك من الحذاء والسقاء ما تأكل به لبّ الشجر، وتشرب صفو الماء.
__________
فارقوا الأئمة الجائرة. محيط المحيط (شرا). وعن الخوارج انظر الملل والنحل للشهرستاني (ج 1 ص 138114).
(1) الرافضي: نسبة إلى الرافضة وهي فرقة من الشيعة بايعوا زيد بن علي، ثم تركوه ورفضوه، فسمّوا بذلك. محيط المحيط (رفض). وعن الشيعة انظر الملل والنحل (ج 1ص 197147).
(2) يقول: إنهم لا يفرّون ليقع الطعن في ظهورهم.
(3) شرقت الرماح بدمائهم: كناية عن كثرة ما أسالته منها يقال: شرقت الأرض إذا امتنعت أن يجري فيها الماء. محيط المحيط (شرق).
(4) الحلول: جمع حالّ وهو الذي يحلّ المكان. محيط المحيط (حلل).
(5) الذّحول: جمع ذحل وهو الثأر. محيط المحيط (ذحل).(2/62)
وكان أخوه عبد الصمد يؤذيه ويهجوه، فكتب إليه أحمد: أما بعد، فإنّ أعظم المكروه ما جاء من حيث يرجى المحبوب، وقد كنت مؤمّلا مرجوا، حتى شمل شرّك، وعمّ أذاك، فصرت فيك كأبي العاقّ: إن عاش نغّصه، وإن مات نقصه، واعلم لقد خشّنت صدر أخ جيبه لك ناصح، والسلام.
وكان يقول له: أنت كالأصبع الزائدة: إن تركت شانت، وإن قطعت آلمت!.
ومثل هذا قول النعمان بن شمر الغساني: [الطويل]
وصال أبي برد عناء، وتركه ... بلاء، فما أدري به كيف أصنع
إذا زرته يومين ملّ زيارتي ... وإن غبت عنه ظلّت العين تدمع
وقول الضحاك بن همام الرقاشي: [الطويل]
وأنت امرؤ منّا خلقت لغيرنا ... حياتك لا ترجى وموتك فاجع
وأنت على ما كان منك ابن حرّة ... وإني لما يرضى به الخصم مانع
وفيك خصال صالحات يشينها ... لديك جفاء عنده الودّ ضائع
وقال بعض المحدثين: [الطويل]
إذا ساءني في القول والفعل جاهدا ... وفي كلّ حال من أحبّ وأمحض (1)
فيا ليت شعري ما يعاملني به ... على كلّ ذنب من أعادي وأبغض
وقال أبو العباس المبرّد: وكان أحمد بن المعذّل من الأبّهة، والتمسك بالمنهاج، والتجنّب للعبث، والتعرّض للإشفاق لما في (2) أيدي الناس، وإظهار الزّهد فيه، والتباعد عنه، على غاية، حتى حمل في فقهاء وأدباء من أهل البصرة، فأخذ الصلة غير ممتنع ولا منكر. ووصله إسحاق بن إبراهيم فقبل، واستدعى اجتباءه إيّاه، وتحلّى له جهده، فقال عبد الصمد: [الوافر]
عذيري من أخ قد كان يبدي ... على من لابس السلطان عتبه
وكان يذمّهم في كلّ يوم ... له بالجهل والهذيان خطبه
فلمّا أن أتته دريهمات ... من السلطان باع بهنّ ربّه
وقال فيه: [مجزوء الخفيف]
لي أخ لا ترى له ... سائلا غير عاتب
__________
(1) أمحض لفلان الودّ: أخلصه إياه وجملة من أحبّ وأمحض في محلّ رفع فاعل «ساءني».
(2) يريد أن يقول: والتعرض لما في أيدي الناس لأجل الإشفاق.(2/63)
أجمع الناس كلّهم ... للئيم المذاهب
دون معروف كفّه ... لمس بعض الكواكب
ليت لي منك يا أخي ... جارة من محارب
نارها كلّ شتوة ... مثل نار الحباحب (1)
ذهب إلى قول القطامي، وقول القطامي من خبيث الهجاء، وكان نزل بامرأة من محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر، فذمّ مثواه عندها، فقال: [الطويل]
وإني وإن كان المسافر نازلا ... وإن كان ذا حقّ على الناس واجب
فلا بدّ أنّ الضيف يخبر ما رأى ... مخبّر أهل أو مخبّر صاحب
لمخبرك الأنباء عن أمّ منزل ... تضيّفتها بين العذيب فراسب (2)
تلفّعت في طلّ وريح تلفّني ... إلى طرمساء غير ذات كواكب (3)
إلى حيزبون توقد النار بعدما ... تلفّعت الظلماء من كل جانب (4)
تصلّى بها برد العشاء ولم تكن ... تخال وميض النار يبدو لراكب
[فما راعها إلّا بغام مطيّتي ... تريح بمحسود من الصوت لاغب] (5)
فجنّت فنونا من دلاث مناخة ... ومن رجل عاري الأشاجع شاحب (6)
سرى في حليك الليل حتى كأنما ... تخزّم بالأطراف شوك العقارب
تقول وقد قرّبت كوري وناقتي ... إليك، فلا تذعر عليّ ركائبي
فسلّمت والتسليم ليس يسرّها ... ولكنه حقّ على كل جانب
فردّت سلاما كارها ثم أعرضت ... كما انحاشت الأفعى مخافة ضارب
فلمّا تنازعنا الحديث سألتها ... من الحيّ؟ قالت: معشر من محارب
من المشتوين القدّ مما تراهم ... جياعا وريف الناس ليس بناضب
__________
(1) نار الحباحب: هي ما تقدحه حوافز الخيل عند اصطدامها بالحجارة. محيط المحيط (حبحب).
يقول النابغة الذبياني: [الطويل]
تقدّ السّلوقيّ المضاعف نسجه ... وتوقد بالصّفّاح نار الحباحب
ديوان النابغة الذبياني (ص 52).
(2) العذيب: ماء بين القادسية والمغيثة، وقيل: هو واد لبني تميم وقيل: موضع بالبصرة. معجم البلدان (ج 4ص 92). وراسب: قرية بين مكة والطائف. معجم البلدان (ج 3ص 13).
(3) الطّرمساء: الظلمة أو تراكمها. محيط المحيط (طرمس).
(4) الحيزبون: العجوز أو المسنّة الداهية. محيط المحيط (حزبن).
(5) بغام المطيّة: صوتها. اللاغب: الذي أعياه التعب أشدّ الإعياء. محيط المحيط (بغم) و (لغب).
(6) الدّلاث: السريع من النوق وغيرها. محيط المحيط (دلث).(2/64)
فلمّا بدا حرمانها الضيف لم يكن ... عليّ مبيت السوء ضربة لازب
وقمت إلى مهريّة قد تعوّدت ... يداها ورجلاها حثيث المراكب
ألا إنّما نيران قيس إذا شتوا ... لطارق ليل مثل نار الحباحب
ومحارب: قبيلة منسوبة إلى الضعف، وقد ضربت العرب بها المثل. قال الفرزدق لجرير (1): [الطويل]
وما استعهد الأقوام من زوج حرة ... من الناس إلّا منك أو من محارب
أي يأخذون العهد عليه أنه ليس من كليب ولا من محارب.
وقال أبو نواس في قصيدته التي فخر فيها باليمانية وهجا قبائل معد (2): [المنسرح] وقيس عيلان لا أريد لها ... من المخازي سوى محاربها
وكانت أم عبد الصمد بن المعذل طباخة، فكان أحمد يقول إذا بلغه هجاؤه:
ما عسيت أن أقول فيمن ألفح بين قدر وتنّور، ونشأ بين زقّ وطنبور (3)؟ وعبد الصمد شاعر أهل البصرة في وقته، وهو القائل: [الطويل]
تكلّفني إذلال نفسي لعزّها ... وهان عليها أن أهان لتكرما
تقول: سل المعروف يحيى بن أكثم ... فقلت: سليه ربّ يحيى بن أكثما
قال أبو شراعة القيسي: كنت في مجلس العتبي مع عبد الصمد بن المعذل، فتذاكرنا أشعار المولدين في الرقيق، فقال عبد الصمد: أنا أشعر الناس فيه وفي غيره، فقلت:
أحذق منك والله بالرقيق الذي يقول، وهو راشد بن إسحاق أبو حكيمة الكوفي: [الطويل]
ومستوحش لم يمس في دار غربة ... ولكنّه ممن يحبّ غريب
طواه الهوى واستشعر الوصل غيره ... فشطّت نواه والمزار قريب (4)
سلام على الدار التي لا أزورها ... وإن حلّها شخص إليّ حبيب
وإن حجبت عن ناظريّ ستورها ... هوى تحسن الدّنيا به وتطيب
هوى تضحك اللّذات عند حضوره ... ويسخن طرف اللهو حين يغيب
تثنّى به الأعطاف حتى كأنه ... إذا اهتزّ من تحت الثياب قضيب
__________
(1) البيت لم يرد في ديوان الفرزدق.
(2) ديوان أبي نواس (ص 509).
(3) الزقّ، بضم الزاي: الخمر، وبكسر الزاي: جلد يوضع فيه الشراب. والطّنبور: من آلات اللهو.
محيط المحيط (زقق) و (طنبر). يريد أن يقول: إنه سيئ التنشئة.
(4) شطّت: بعدت. النّوى: البعد. محيط المحيط (شطط) و (نوى).(2/65)
ألم تر صمتي حين يجري حديثه ... وقد كنت أدعى باسمه فأجيب
رضيت بسعي الدهر بيني وبينه ... وإن لم يكن للعين فيه نصيب
أحاذر إن واصلته أن ينالني ... وإيّاه سهم للفراق مصيب
أرى دون من أهوى عيونا تريبني ... ولا شكّ أني عندهنّ مريب
أداري جليسي بالتجلّد في الهوى ... ولي حين أخلو زفرة ونحيب
وأخبر عنه بالذي لا أحبّه ... فيضحك سنّي والفؤاد كئيب
مخافة أن تغرى بنا ألسن العدا ... فيطمع فينا كاشح فيعيب (1)
كأن مجال الطّرف في كل ناظر ... على حركات العاشقين رقيب
أرى خطرات الشوق يبكين ذا الهوى ... ويصيبين عقل المرء وهو لبيب
وكم قد أذلّ الحبّ من متمنّع ... فأضحى وثوب العزّ منه سليب
وإن خضوع النفس في طلب الهوى ... لأمر، إذا فكرت فيه، عجيب
فلم ينطق بحرف.
ولأبي شراعة يمدح بني رياح: [البسيط]
بني رياح، أعاد الله نعمتكم ... خير المعاد وأسقى ربعكم ديما (2)
فكم به من فتى حلو شمائله ... يكاد ينهلّ من أعطافه كرما
لم يلبسوا نعمة لله مذ خلقوا ... إلّا تلبّسها إخوانهم نعما
وفي إبراهيم بن رياح يقول عبد الصمد بن المعذل: [الخفيف]
قد تركت الرياح يا ابن رياح ... وهي حسرى إن هبّ منها نسيم
نهكت مالك الحقوق فأضحى ... لك مال نضو وفعل جسيم (3)
وكان عبد الصمد [بن المعذّل] متصلا بإبراهيم ونبيه، وأفاد منهم أموالا جليلة، واعتقد عقدا نفيسة، فما شكر ذلك ولا أصحبه بما يجب عليه من الثناء عند نكبته، وكان الواثق عزله عن ديوان الضياع، ودفعه إلى عمر بن فرج الرخجي، فحبسه فهجاه عبد الصمد.
__________
(1) الكاشح: الذي يضمر العداوة. محيط المحيط (كشح).
(2) الدّيم: جمع ديمة وهي المطر. محيط المحيط (دوم).
(3) نهكت الحقوق مالك: أتت عليه واجتاحته وبالغت في ذلك. النّضو: الضعيف المهزول. لسان العرب (نهك) و (نضا).(2/66)
قال أبو العباس محمد بن يزيد (1): وكان عبد الصمد شديد الإقدام على رديء السريرة فيما بينه وبين الناس، خبيث النّيّة، يرصد صديقه بالمكروه، تقديرا أن يعاديه فيسوءه بأمر يعرفه ولا يكاد يسلم لأحد، وكان مشهورا في ذلك الأمر، يلبس عليه (2)، ويحمل على معرفة، عجبا بظرف لسانه، وطيب مجلسه، وأيضا لقبح مسبّته، وشائن معرّته.
قال أبو العيناء: ولما حبس الواثق إبراهيم بن رياح، وكان لي صديقا، صنعت له هذا الخبر رجاء أن ينتهي إلى أمير المؤمنين فينتفع به، فأخبرني زيد بن علي بن الحسين أنه كان عند الواثق حين قرىء عليه فضحك واستظرفه. وقال: ما صنع هذا كلّه أبو العيناء إلّا في سبب إبراهيم بن رياح، وأمر بتخليته، والخبر قال: لقيت أعرابيا من بني كلاب فقلت له: ما عندك من خبر هذا العسكر؟ فقال: قتل أرضا عالمها، قال: فقلت: فما عندك من خبر الخليفة؟ قال: بخبخ بعزّه، وضرب بجرانه (3)، وأخذ الدرهم من مصره، وأرهف قلم كلّ كاتب بجبايته. قلت: فما عندك في أحمد بن أبي دواد؟ قال: عضلة (4) لا تطاق، وجندلة (5) لا ترام، ينتحي بالمدى لتحزه فيجور، وتنصب له الحبائل حتى تقول: الآن، ثم يضبر (6) ضبرة الذئب، ويخرج خروج الضب، والخليفة يحنو عليه، والقرآن آخذ بضبعيه. قلت: فما عندك في عمر بن فرج؟ قال: ضخم حضجر (7)، غضوب هزبر، قد أهدفه القوم لبغيهم، وانتضلوا له عن قسيّهم، وأحر له بمثل مصرع من يصرع. قلت: فما عندك في خبر ابن الزيّات؟ قال: ذلك رجل وسع الورى شرّه، وبطن بالأمور خيره. فله في كل يوم صريع، لا يظهر فيه أثر ناب ولا مخلب، إلّا بتسديد الرأي. قلت: فما عندك في خبر إبراهيم بن رياح! قال: ذاك رجل أوبقه كرمه، وإن يفز للكرام قدح، فأحر بمنجاته، ومعه دعاء لا يخذله، وربّ لا يسلمه، وفوقه خليفة لا يظلمه. قلت: فما عندك في خبر نجاح بن سلمة؟ قال: لله درّه من ناقض أوتار، يتوقّد كأنه شعلة نار، له في الفينة
__________
(1) هو المبرّد محمد بن يزيد الأزدي المتوفّى سنة 285هـ، وقد تقدمت ترجمته.
(2) يلبس عليه: أي يلبس عليه الأمر يقال: لبس عليه الأمر إذا خلطه وجعله مشتبها بغيره. محيط المحيط (لبس).
(3) ضرب بجرانه: أي ثبت واستقرّ. محيط المحيط (جرن).
(4) العضلة: الداهية. محيط المحيط (عضل).
(5) الجندلة: جمعها جندل وهو الحجر كله. لسان العرب (جندل).
(6) ضبر: وثب. محيط المحيط (ضبر).
(7) الحضجر: العظيم البطن. محيط المحيط (حضجر).(2/67)
بعد الفينة، عند الخليفة خلسة كخلسة السارق، أو كحسوة الطائر، يقوم عنها وقد أفاد نعما، وأوقع نقما. قلت: فما عندك في خبر ابن الوزير؟ قال: إخاله كبش الزنادقة، ألا ترى أنّ الخليفة إذا أهمله خضم ورتع، وإذا أمر بتقصيه أمطر فأمرع، قلت: فما عندك من خبر الخصيب أحمد]؟ قال: ذاك أحمق، أكل أكلة نهم، فاختلف اختلاف بشم. قلت:
فما عندك في خبر المعلى بن أيوب؟ قال: ذاك رجل قدّ من صخرة، فصبره صبرها، ومسّه مسّها، وكلّ ما فيه بعد فمنها ولها. قلت: فما عندك من خبر أحمد بن إسرائيل؟ قال:
كتوم غرور، وجلد صبور، رجل جلده جلد نمر، كلّما خرقوا له إهابا، أنشأ الله له إهابا.
قلت: فما عندك من خبر الحسن بن وهب؟ قال: ذاك رجل اتّخذ السلطان أخا، فاتّخذه السلطان عبدا، قال: قلت: فما عندك من خبر أخيه سليمان بن وهب؟ قال: شدّ ما استوفيت مسألتك أيها الرجل! ذاك حرمة حبست مع صواحباتها في جريرة (1) محرمة، ليس من القوم في ورد ولا صدر، هيهات: [الخفيف]
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرّ الذيول
قال: قلت: فما عندك من خبر عبد الله بن يعقوب؟ قال: أموات غير أحياء، وما يشعرون أيّان يبعثون.
قلت: فأين نزلت فأؤمّك؟ قال: ما لي منزل تأمّه. أنا أستتر في الليل إذا عسعس، وأنتشر في الصبح إذا تنفّس (2).
[ابن راشد]
ومن مليح شعر راشد بن إسحاق بن راشد، وهو أبو حكيمة، وكان قويّ أسر الشعر: [الطويل]
تحيّرت في أمري وإني لواقف ... أجيل وجوه الرأي فيك وما أدري (3)
أأعزم عزم اليأس فالموت راحة ... أم اقنع بالإعراض والنّظر الشّزر
وإني وإن أعرضت عنك لمنطو ... على حرق بين الجوانح والصدر
إذا هاج شوقي مثّلتك لي المنى ... فألقاك ما بيني وبينك في ستر
فديتك لم أصبر ولي فيك حيلة ... ولكن دعانى اليأس فيك إلى الصبر
__________
(1) الجريرة: الذنب والجناية. محيط المحيط (جرر).
(2) عسعس الليل: أقبل ظلامه. محيط المحيط (عسعس). وهنا يتأثر بقول الله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذََا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذََا تَنَفَّسَ}. سورة التكوير 81، الآيتان 17، 18.
(3) أحاله: أداره. محيط المحيط (جال).(2/68)