الجزء الأول
أبو عبد الله محمد بن علي بن الأزرق الحميري الأصبحي ومخطوطته:
روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام(1/7)
المقدّمة
: تقديم 1) تمهيد:
أسباب اختيار الموضوع.
شكر واعتراف.
2) المقدمة:
المؤلف ومخطوطته:
1 - المؤلف:
عصره وبيئته العلمية والأدبية.
حياته.
اسمه، لقبه، وكتبه.
مولده، نشأته، شيوخه، تلامذته، مراسلاته مع أعلام عصره.
وظائفه.
رحلته.
آثاره.
2 - روضة الإعلام.
تسمية الكتاب.
نسبته إلى صاحبه.(1/9)
تاريخ تأليفه.
سبب تأليفه.
موضوعه ومحتواه.
مصادره.
منهجه وأسلوبه.
قيمة الكتاب.
منهاج التحقيق:
علمية البحث عن المخطوطات.
وصفها.
منهاج التحقيق.(1/10)
تمهيد حول اختيار الموضوع:
دأب الباحثون على ذكر السبب الدافع إلى الاهتمام بهذا الموضوع أو ذاك، وممارسة الكتابة فيه، حتى صار ذلك تقليدا وسنة يطرقها الباحث وضربا من النهج ينهجه.
وأجدني مدفوعة لأن أنهج هذا النهج حتى أوثق الروابط التي شدتني إلى هذا الموضوع، وقد يكون من جموح قلمي أن أعود إلى سنوات خلت حيث كانت خطوة البدء، وثمرة التفكير الأول التي لم تنضج بعد، تتجه نحو تلمس شخصية أندلسية عرفت بإنتاجها الحافل، وتناولها بالدرس والتمحيص، تلك هي شخصية «ابن حزم الظاهري» التي نبهتني إلى أن هذا الإنتاج الأدبي والعلمي بالأندلس لا يمكن أن يصدر إلا عن حضارة بلغت من التقدم مبلغا عظيما.
ويبدو أن هذا كان دافعا لكثير من الباحثين لأن ينقبوا عن هذه الذخيرة الثمينة ويكشفوها للمهتمين على اختلاف مشاربهم، وتنوع مآربهم.
ونتيجة لهذه الجهود عرفت المكتبة الأندلسية مساهمات قيمة ملأت العديد من الثغرات، وكشفت النقاب عن كثير من الحقائق سواء الأدبية أم العلمية، ساهمت في نمو الشخصية الثقافية الأندلسية، وتميزها بطابع حضاري يخصها.(1/11)
ولقد كانت الصلة وثيقة بيني وبين المكتبة الأندلسية لسنوات ليست بالقليلة عرفت خلالها بعض معالم الفكر الأندلسي وبعض أعلامه وكان من بين هؤلاء الأعلام: «أبو عبد الله محمد بن علي بن الأزرق» الذي استقطب اهتمامي منذ أن نشرت أول آثاره، فوجدتني أشق الطريق إليه، تحدوني الرغبة في المعرفة تارة، وروح الفضول أخرى، لعلي أكشف وجها آخر ظل مختفيا من جوانب هذه الشخصية، فوجدت طلبتي في مخطوطته «روضة الإعلام» التي شدني إليها أكثر من وازع.
من ذلك:
أن صاحبها قد كتب له أن يوجد في فترة حرجة من تاريخ المسلمين في الأندلس. ربما كانت أحرج الفترات، ولهذا اكتست أهمية مستمدة من الحياة الفكرية عامة، ومن الفترة خاصة.
أن آثار ابن الأزرق ظلت بعيدة عن الساحة الأدبية والفكرية قرونا عدة، لم يتح لها أن تعرف النور، أو ينفض عنها غبار النسيان، إلا في السنوات الأخيرة حيث كشف النقاب عن بعض كتبه النفيسة المسماة ب «بدائع السلك في طبائع الملك» الذي عد من أهم كتب علم الاجتماع السياسي لدى المسلمين، واعتبر امتدادا للفكر الخلدوني وتطويرا له في ظروف رهيبة كانت تعيشها غرناطة المسلمة.
أن قيمة هذه المخطوطة ليست باعتبارها عملا إبداعيا، بل لأنها سجل لما وصلت إليه الثقافة العربية الإسلامية في الأندلس حيث كل شيء يتهاوى ويتساقط أمام غزوات النصارى، وضرباتهم المتوالية.
أن مصادر الدراسة الأدبية لهذه الفترة تعد نادرة إن لم تكن مفقودة، فكثير منها التهمة الضياع، وكثير منها لم ينفض عنه غبار النسيان.
الرغبة الصادقة في إثراء المكتبة العربية عن طريق إحياء التراث والعمل على بعثه، اعترافا بما للسلف من فضيلة، وما يكسبه الناظر في التراث من الاطلاع
على أمهات المصادر، والرجوع إلى مظان البحث، وهي مسؤولية يتحملها كل محقق للتراث.(1/12)
الرغبة الصادقة في إثراء المكتبة العربية عن طريق إحياء التراث والعمل على بعثه، اعترافا بما للسلف من فضيلة، وما يكسبه الناظر في التراث من الاطلاع
على أمهات المصادر، والرجوع إلى مظان البحث، وهي مسؤولية يتحملها كل محقق للتراث.
هذا وقد واجهتني صعوبات عدة نابعة من طبيعة البحث نفسه، فحين عقدت العزم على تحقيق «روضة الإعلام» كنت أعلم أنه عمل محفوف بمصاعب جمة لأن الكتاب لم يصل تاما، ولأن النسخة الوحيدة التي تحتفظ بالمقدمة شملها البتر، وأصابها الإتلاف، زيادة على ضخامة الكتاب المتمثلة في عدد صفحاته، وتنوع أغراضه.
ولولا تلك الحوافز التي أمدتني بالصبر للقيام بهذا العمل وما قدمه أستاذي الفاضل من عون ومساعدة من أجل النهوض بهذا العبء لما كان لي أن أستمر في هذا العمل المضني الذي عانقته سنوات عدة.
وقد يكون من عيوب البحث الإطناب، أو أن تزيد صفحاته عن المطلوب، الشيء الذي يتعب الباحث والقارىء معا، إذ قد يدفع الباحث إلى الوقوع في أخطاء يصعب حصرها لتنوع المادة، وتعدد مشاربها، ويدفع القارىء إلى الملل أحيانا، لأن الغاية من البحث ليست الاستقصاء، وكثرة الاستطرادات، بقدر ما هي معرفة مدى استفادة الباحث من المصادر، ومدى قدرته على استيعابها، ومناقشتها، وإبداء الرأي فيما يظهر صوابه إن وافق الصواب، أو خلافه إن ظهر خطأه.
وهذه بديهة ينطلق منها كل عمل قائم على منهج علمي، ولكن قد يستهوي الطالب أحيانا حب المعرفة، والنهل من موارد متعددة قد تخرجه عن هذا النهج، وقد تكون أحيانا رغبته في إحياء التراث هي التي تمده بهذا الاختيار المضني، وتلك كانت غايتي من تحقيق «روضة الإعلام».(1/13)
شكر واعتراف
اعترافا مني لذوي الفضل بفضلهم، فإني أجد نفسي ممتنة لكل أولئك الذين ساعدوني على إنجاز هذا العمل، وأخص بالذكر منهم أستاذي المشرف عبد القادر زمامة، والأستاذ الفاضل محافظ خزانة القرويين محمد عبد العزيز الدباغ، والأستاذ الناقد الدكتور علال الغازي، وأستاذ العربية وعالمها عميد كلية الدعوة الإسلامية المختار أحمد ديرة بطرابلس.
فإلى كل هؤلاء أقدم جزيل شكري وامتناني والحمد لله في البدء والختام.
سعيدة العلمي
فاس المغرب
الخميس 6ذو القعدة 1418
5 - مارس 1998(1/14)
المؤلف عصره وبيئته العلمية والأدبية
لقد كان عصر ابن الأزرق (831هـ 896هـ) وهو معظم القرن التاسع الهجري عصر غرناطة الأخير، عصر الفتن والاضطرابات التي أدت إلى سقوطها.
وإن نظرة سريعة على التاريخ الأندلسي لتبين بوضوح أن أهل الأندلس كانوا في صراع دائم مع العدو، عاش الناس فيه على مدى ثمانية قرون وهم يوطنون أنفسهم على أنهم أهل حرب، وكانوا يتطلعون دائما لأن يكون أميرهم قائد معركة وبطل انتصار
ومن ثمّ عدت الأندلس «ثغرا من ثغور المسلمين لمجاورتهم الروم، واتصال بلادهم ببلادهم» (1).
من كل هذا نرى أن هذا الصرح المتهدم لم يكن نتيجة لحظة طارئة، بل إنه منذ وقعة العقاب (609هـ 1212م) والمسلمون يعيشون هزائم متتالية «فقد خامرهم خوف الروم، وامتلأت قلوبهم رعبا منهم، فكانوا لا يستطيعون قتالهم فملك الروم أكثر بلادهم، وقواعدهم، وحصونهم، ومعاقلهم» (2).
__________
(1) انظر جذوة الحميدي ص: 6.
(2) انظر الذخيرة السنية. ص: 144.(1/15)
فسقطت مدن، وأخذت قواعد (1)، فانحاز أهل الإسلام إلى «غرناطة» و «المرية» و «مالقة» ونحوها، وهذه الرقعة الضيقة شاء لها القدر أن تشاهد ميلاد أندلس جديدة نزح أهلها عن ديارهم المنكوبة في غرب الأندلس، وشرقها، وشمالها، وظهرت عبقرية هؤلاء النازحين في خلق جو علمي، ازدهرت فيه العلوم والفنون ومع ذلك فقد كانت الظاهرة العامة للحياة السياسية بالأندلس عصر «ابن الأزرق» وقبله هي: ظاهرة استرجاع الإسبان لأراضي الأندلس الإسلامية، ونزع ما تبقى منها، وقد كان هذا يلقي عبئا على مملكة غرناطة وحكام دولة بني الأحمر (2)، وذلك بالنهوض بعبء الجهاد الشاق ضد النصارى ومناوآتهم المستمرة لإسقاط آخر معقل من معاقل الإسلام بالأندلس.
إلى جانب هذا كانت عوامل التنافس، والصراع على السلطة، والعرش، بين أبناء الأسرة النصرية في «غرناطة». مما زاد في دعم الشقاق، وتعقيد الحياة السياسية، «فأخذ الاستقرار والسلم اللذان تمتعت بهما حينا في أواخر القرن الثامن الهجري، وأوائل القرن التاسع ينصرم شيئا فشيئا، وأخذت تواجه طائفة من الثورات والانقلابات الداخلية» (3) المتوالية شطرتها شطرين يتربص كل منهما بالآخر:
أحدهما: غرناطة وبعض أعمالها، ويحكمها أبو عبد الله محمد بن السلطان أبي الحسن النصري.
وثانيهما: وادي آش وأعمالها، ويحكمها أبو عبد الله محمد بن سعد
__________
(1) انظر تفاصيل ذلك في نفح الطيب: 4/ 473472، والبيان المغرب: 3/ 306وما بعدها.
(2) دولة بني الأحمر المعروفة أيضا بدولة بني نصر الخزرجيين، قامت على يد زعيمهم محمد بن يوسف الخزرجي، وتوارث أبناؤه وأحفاده بعده عرش مملكة غرناطة من سنة (635هـ 897هـ) (1238م 1492م): حيث تعاقب على هذا العرش واحد وعشرون ملكا
انظر: «أبو الوليد ابن الأحمر»: 20.
(3) مواقف حاسمة. ص: 239.(1/16)
المعروف بالزغل (1) الذي كان ابن الأزرق قاضيا له بغرناطة إلى أن خرجا منها إلى وادي آش. مما يوضح أن صاحبنا لم يكن بمعزل عن الحياة السياسية العامة التي كانت تعصف بغرناطة في أيامها الأخيرة.
وقد كان لاتحاد مملكتي «قشتالة» و «أرجونة» النصرانيتين «دور فعال في القضاء على آخر معقل من معاقل الإسلام بالأندلس، وتوحيد إسبانيا النصرانية» (2) فتم الاستيلاء على (بلش مالقة)، و (مالقة) عام (892هـ 1487م) ثم على (وادي آش) و (المنكب) و (المرية) أواخر سنة (894هـ 1489م) ثم على (بسطة) في المحرم (895هـ 1489م).
فلما رأى ذلك السلطان «أبو عبد الله محمد الزغل» بادر «بالجواز لبر العدوة، فجاز لوهران ثم لتلمسان، واستقر بها» (3) بعد أن سلم جميع أراضيه.
وعمل النصارى على تشديد الحصار على «غرناطة» وقطع علاقتها مع البر والبحر حتى دبّ اليأس إلى قلوب أهلها، وانتهى الأمر بتوقيع «صك التسليم» (4).
وهكذا أذعنت «غرناطة» وسلمت في صفر (897هـ ديسمبر 1491م) ودخل النصارى غرناطة في الثاني من ربيع الأول من عام (897هـ 2يناير 1492م).
ولم يكن بإمكان «محمد الشيخ بن يحيى الوطاسي» (5) أحد ملوك فاس أن يقدم شيئا للأندلس كغيره من ملوك المغرب السابقين، وذلك لحالة الضعف، والفوضى التي كان المغرب يعيشها بعد تفتت الدولة المرينية، وسقوط مدن
__________
(1) نفح الطيب: 4/ 519.
(2) انظر مقال د. محمد باقر الحسيني: «أضواء على نهاية العرب بالأندلس». مجلة آفاق عربية، السنة الرابعة، العدد الأول، سبتمبر 1978، ص: 106.
(3) نفح الطيب: 4/ 524.
(4) ن. م. س: 4/ 529510.
(5) انظر جذوة ابن القاضي: 1/ 211، ودرة الحجال: 2/ 145.(1/17)
مغربية في يد الإسبان والبرتغال، وحالة الضعف هذه كانت تشمل سائر أقطار العالم الإسلامي آنئذ.
وقد كانت محاولات لاستنهاض همم الحكومات الإسلامية، ووقعت مكاتبة أهل الجزيرة للسلطان «أبي يزيد خان العثماني» (1) ولكنها محاولات باءت بالفشل.
تلك نظرة مجملة عن الحالة السياسية العامة التي كان يعيشها «ابن الأزرق» ولم يكن بمنأى عن الأحداث التي عصفت بغرناطة فهو قاضيها ومفتيها، وسنوضح ذلك أثناء ترجمتنا له.
بيئته العلمية والأدبية:
وفي غمرة هذه الأحداث التي لم يكن المجتمع الأندلسي بمعزل عنها، نتساءل: ماذا كان لغرناطة أن توفره في مثل هذه الظروف لتزدهر بها الحركة العلمية؟ ثم ما هي الثقافة المتمثلة في فترة اضطرابات كهذه، وخاصة بعد منتصف القرن التاسع الهجري؟ وإلى أي حد استطاعت هذه الأحداث أن تهيمن على أقلام العلماء والأدباء، وأن تنقش رسما دقيقا للسمات المميزة للإنتاج الفكري في هذه المرحلة؟
لقد أكد بعض الدارسين أن مستوى الثقافة قد ظل رفيعا في مملكة غرناطة حتى القرن التاسع الهجري، حيث استطاعت هذه الآداب البقاء رغم قلة ما كانت تستطيع دويلة غرناطة أن تهيئه لها ولأصحابها من ظروف ملائمة للانتعاش بسبب ما كانت فيه من كفاح دائم مع النصارى» (2).
إلا أن منطق الأحداث، ومنطق التاريخ، يشهدان بأن الإنتاج الفكري وإن لم يتوقف رغم هذه الحروب المتوالية فإن اضمحلال الحركة الفكرية حاصل لا محالة لضعف الحكم، وقيام الفتن، والحروب الأهلية، وبالتالي انهيار الحكم
__________
(1) أزهار الرياض: 1/ 108وما بعدها.
(2) تاريخ الفكر الأندلسي: ص: 25.(1/18)
العربي الإسلامي بالأندلس، ولولا نزوح بعض الأعلام، وهجراتهم المتتابعة قبيل سقوط غرناطة وبعدها لما حفظ التاريخ لهم ذكرا.
فنرى في أواخر القرن التاسع الهجري، وفي الوقت الذي كانت غرناطة تسلم أنفاسها الأخيرة، عدة من المفكرين والأدباء الذين يستحقون الذكر والتنويه (1)، عبروا البحر إلى المغرب أو المشرق ونشروا علمهم، وكانت لهم المكانة والوجاهة وإن كان حنينهم إلى الأندلس لم يفتر، ومن بين هؤلاء:
أبو الحسن القلصادي علي بن محمد القرشي البسطي: نزيل غرناطة، عبر البحر إلى تلمسان حين اشتد ضغط النصارى على غرناطة «آخر من له التواليف الكثيرة من أئمة الأندلس» (2)، توفي بباجة إفريقية (3) سنة: 891هـ 1486م.
ومن مظاهر تأثير الجو السياسي القاتم على المستوى العلمي: ما ذكره «القلصادي في «رحلته» وهو يترجم لشيخه «أبي الحسن علي اللخمي المشهور بالقرباقي»، فقد لاحظ أن سوق العلم «ببسطة» مسقط رأسه لم تعد رائجة، بعد أن كانت الحركة العلمية قائمة فيها، وفي حصونها التابعة لها، وكان التنازع بين أهل الموضع فيمن يكون الإمام منهم، وأما الآن فهي كما قال الشاعر في البيت الجاري مجرى الأمثال:
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها، وحتى سامها كلّ مفلس» (4)
ومنهم: الفقيه الأديب حائز السبق في كثرة النسخ والكتابة أبو عبد الله محمد بن الحداد الشهير بالوادي آشي (5) نزيل تلمسان (6) غادر غرناطة قبيل سقوطها بقليل وهو القائل:
__________
(1) نهاية الأندلس: ص: 369368.
(2) نفح الطيب: 2/ 692.
(3) باجة إفريقية: مدينة قديمة بباجة القمح، وتقع في الشمال الغربي من البلاد التونسية على بعد 101كلم من تونس العاصمة. انظر معجم البلدان: 1/ 314وما بعدها.
(4) رحلة القلصادي: ص: 9290.
(5) أزهار الرياض: 1/ 71.
(6) ن. م. س: 1/ 55.(1/19)
غريب بتلمسان وحيد ... من الأحباب ليس له مشاكل
وكم فيها من الأصحاب لكن ... عدمت بها المناسب والمماثل (1)
ومنهم: الوزير، والكاتب، والشاعر أبو عبد الله محمد بن الفقيه الصالح أبي محمد عبد الله العقيلي المعروف بالعربي، وقد وصف بأنه «خاتمة الأدباء بالأندلس» (2)، وقد عبر البحر إلى المغرب بعد سقوط غرناطة مع أبي عبد الله ابن الأحمر المخلوع، آخر ملوك الأندلس.
ومنهم: الحافظ أبو جعفر أحمد بن داود البلوي الأندلسي الذي ارتحل مع أبيه وإخوته، وهؤلاء خرجوا من الأندلس قبل أخذ غرناطة لما رأوا استطالة العدو عليها، وأنه آخذها لا محالة، فقوضوا رحالهم عنها، فنزلوا بتلمسان المحروسة وأخذت الحضرة الغرناطية بعد ارتحالهم بقريب (3).
ومنهم: أبو الحسن علي البياضي، الذي دلت الكتب التي نسخها بيده، أنه كان من أهل بلش الحصن الشرقي لمالقة وأنه تولى خطابة الجامع الأعظم بمكناس، وتوفي بها عام 912هـ، ودفن خارج باب البردعيين، بروضة الولي عبد الله بن محمد (4).
ومنهم: صاحبنا أبو عبد الله محمد ابن الأزرق قاضي الجماعة بغرناطة، وسيأتي الحديث عنه مفصلا فيما بعد.
إلى غير ذلك من الأعلام الذين برزوا خلال هذه الفترة الحاسمة، وهو إن دل على شيء، فإنما يدل على ذلك النشاط العلمي، الذي لم تخب جذوته نهائيا، عندما كانت غرناطة تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأن من العلماء من واصل تزويد المكتبة العربية بما جادت به قريحته، كما أن حركة الإفتاء، والعناية
__________
(1) م. س: 3/ 308.
(2) م. س: 1/ 103.
(3) «فهرست ابن غازي» أثناء حديثه عن بني داود: 3231، ونفح الطيب: 2/ 56، و 5/ 419 482، وأزهار الرياض: 1/ 71.
(4) درة الحجال: 3/ 212.(1/20)
بالنوازل لم تتوقف، وقد احتفظ كتاب «المعيار» للونشريسي بمجموعة هامة من فتاوى فقهاء الأندلس في هذه الفترة، وعلى رأسهم صاحبنا «ابن الأزرق».
كما ظلت مجالس التدريس موئلا للطلبة الوافدين لأخذ العلم والسماع عن الشيوخ، فهذا أبو الحسن علي بن قاسم بن محمد التجيبي الزقاق (1) يقدم على «غرناطة» من فاس ويأخذ عن علمائها.
وأيضا أحمد بن محمد الدقون (2) الذي تولى خطابة جامع القرويين بفاس، بعد أن أخذ بدوره عن المواق (3) وغيره من شيوخ غرناطة في هذه الفترة.
وفي ذلك ما يشهد على رواج سوق العلم بها، ويؤكد ذلك أيضا ما ذكره «الرصاع» (4) في «فهرسته» عند احتياجه «شرح ابن يونس على المدونة»، و «حرص والده على شرائه، فلم يجده، ثم سهل الله أن وجد مركبا معدا للسفر لبلاد الأندلس، وكان مسافرا فيه الحاج أبو عبد الله محمد من أصحاب الوالد فأعطاه متاعا لشراء الكتاب، وأكد عليه في شراء «ابن يونس» فغاب المركب مدة قريبة، وأتى بخزانة من الأندلس وفيها كتاب «ابن يونس»» (5).
وفي كل ذلك ما يدل على أن معاهد العلم بغرناطة قد ظلت عامرة عصر ابن الأزرق تشع، وتعطي، وأن مكتبتها الزاخرة، كانت محط الأنظار، يأتيها طلاب العلم، ويستفيدون من نفائس كتبها.
__________
(1) المتوفى عام 912هـ 1506م، كان بارعا في الرياضيات، تولى خطابة جامع الأندلس بفاس، كما تولى الخطابة بغرناطة أيام مقامه بها، له لامية مشهورة في «الأحكام وعلم القضاء». انظر سلوة الأنفاس: 2/ 8584.
(2) المتوفى عام 921هـ 1515م. انظر الشجرة: 276.
(3) محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري، الأندلسي، الغرناطي المالكي الشهير بالمواق أبو عبد الله، توفي في حدود 897هـ 1492م، فقيه، من آثاره: شرح كبير على مختصر خليل، سماه التاج الإكليل، والمختصر في فروع الفقه المالكي، وسنن المهتدين في مقامات الدين.
انظر: النيل: 324و 325.
(4) هو أبو عبد الله محمد الأنصاري المتوفى بتونس سنة 894هـ.
(5) انظر فهرست الرصاع: ص: 148.(1/21)
وقد يكون فيما ألفه «ابن الأزرق» خير دليل على هذا النشاط العلمي بعد منتصف القرن التاسع الهجري، ففيه ما يشهد بالمستوى الرفيع الذي كانت عليه الحياة العلمية والأدبية عصر غرناطة الأخير، وفيه ما يدل على ما كان يشغل بال مفكريها، وعلمائها، وما كانوا يهتمون به في تآليفهم.
وفيما نعطيه فيما بعد من أعلام سواء كانوا شيوخا أو تلاميذا «لابن الأزرق» خير دليل على نشاط الحركة العلمية بالأندلس.(1/22)
ابن الأزرق حياته: اسمه ولقبه وكنيته مولده ونشأته شيوخه مراسلاته مع أعلام عصره تلاميذه وظيفته رحلته آثاره.
حياته:
لم تكن شخصية ابن الأزرق مغمورة، ولذلك تناقلت كتب التراجم (1)
__________
(1) من هذه المصادر والمراجع التي ترجمت له:
1 - الضوء اللامع للسخاوي: 9/ 2120.
2 - الأنس الجليل للحنبلي: 2/ 256255.
3 - توشيح الديباج للقرافي: ص: 216.
4 - دوحة الناشر للعلمي الشفشاوني: 124.
5 - درة الحجال لابن القاضي: 2/ 297.
6 - نيل الابتهاج للتنبكتي: 324323.
7 - نفح الطيب للمقري: 2/ 703699و 3/ 298و 6/ 447446.
8 - أزهار الرياض للمقري: 3/ 322317.
9 - السر الظاهر للحوات: الملزمة العاشرة ص: 54.
10 - شجرة النور لمخلوف: 1/ 262261.
11 - تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان: 2/ 343.
12 - إيضاح المكنون للبغدادي: 1/ 170و 593و 2/ 71، وهي ترجمة مختصرة جدا.
13 - هدية العارفين للبغدادي: 2/ 217.
14 - دائرة المعارف للبستاني: 2/ 333.
15 - الأعلام للزركلي: 7/ 181من الطبعة الثانية. و 6/ 289من الطبعة الخامسة.
16 - معجم المؤلفين لكحالة: 11/ 43.
17 - نهاية الأندلس لعنان: ص: 369.
ومما كتبه عنه من حقّق بعض كتبه:
18 - انظر مقدمة كتاب «بدائع السلك في طبائع الملك»: ص: 325. بتحقيق د. علي(1/23)
الحديث عنه، وسنحاول من خلالها أن نعطي ترجمة وافية، نتبين من خلالها
__________
سامي النشار، وص: 469. بتحقيق د. محمد بن عبد الكريم الجزائري.
ومما كتب عنه في المجلات والصحف:
المجلات:
19 - مقال للأستاذ حسن السايح: «ابن الأزرق شارح ابن خلدون»، دعوة الحق ع 3السنة:
10 - رمضان 1386يناير 1967من ص: 107102.
20 - مقال للدكتور عبد الهادي التازي: «مع ابن الأزرق في مخطوطته»: «بدائع السلوك في طبائع الملوك، وحديثه عن السفارة والسفراء»، دعوة الحق ع 7السنة: 16رجب 1394 غشت 1974. ص: 144.
21 - تتمة للمقال السابق، دعوة الحق ع 1السنة: 17ربيع 2، 1395ماي 1975ص: 150 158.
22 - وقد أعاد د. عبد الهادي التازي نشر المقالين السابقين في مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد، المجلد 22سنة 19841983ص: 5237.
23 - مقال للأستاذ: محمد عبد الله عنان: «كتب تأثرت بمقدمة ابن خلدون»، مجلة العربي ع 182، ذو الحجة 1393هـ يناير 1974. ص: 187.
الصحف المغربية:
24 - مقال للدكتور علي النشار: «ابن الأزرق وبدائع السلك» جريدة العلم 3ربيع 2. 1396هـ 3أبريل 1976.
25 - مقال للأستاذ حسن السايح: «من اكتشف كتاب ابن الأزرق» جريدة العلم 7ربيع 2.
1396 - هـ 7أبريل 1976.
26 - مقال للدكتور علي النشار: «من اكتشف كتاب ابن الأزرق» جريدة العلم 8ربيع 2.
1396 - هـ 8أبريل 1976.
27 - مقال لسعد البزار: «حول تحقيق كتاب ابن الأزرق» جريدة العلم رجب 1396هـ يوليو 1976.
28 - مقال لأحمد تسوكي: «عرض وتقديم حول كتاب ابن الأزرق»: «بدائع السلك» ضمنه ترجمة لابن الأزرق بأسلوبه الخاص كما لخّص كتابه، وذلك في مقالين بجريدة الأنباء أحدهما في 18جمادى الأولى 1397هـ 7ماي 1977، والثاني في 19جمادى الأولى / 8 ماي / 1977.
29 - مقال لمحمد عنان «حول كتاب الإبريز المسبوك في كيفية أدب الملوك لابن الأزرق» العلم الثقافي ع 353السنة: 8/ 29جمادى 2/ 1397هـ 17يونيه 1977الرباط.
30 - مقال للأستاذ عبد الله كنون: «حول ابن الأزرق وكتابه بدائع السلك» صحيفة الميثاق:
ع 282السنة: 15ذي القعدة 1398هـ 18أكتوبر 1978م.
ما جاء في هذه الصحف كان عقب صدور كتاب «بدائع السلك» لابن الأزرق، حيث شهدت أعمدة الصحف ضجة كان محورها ابن الأزرق وكتابه المذكور، وفي(1/24)
المعالم الكبرى التي طبعت حياته، وما تخللها من أحداث حاسمة، كان لها الأثر الواضح في رحيله عن الأندلس، وفيما خلفه من آثار أدبية وعلمية.
اسمه ولقبه وكنيته:
هو أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن علي بن علي بن قاسم بن الأزرق الحميري (1) الأصبحي (2) الغرناطي الأصل، المالقي المولد، المالكي المذهب، يعرف بابن الأزرق، لقّبه مجير الدين الحنبلي: ب «شمس الدين»، ونعته: «بقاضي القضاة»، ووصفه: «بأنه كان من أهل العلم والصلاح، حسن الشكل، منور الشيبة، عليه الأبهة والوقار» (3).
مولده ونشأته:
معظم الكتب التي ترجمت له، لم تشر إلى تاريخ ولادته، وقد حاول بعض الدارسين (4) تحديد ذلك فجعله عام: 831هـ 1427م بناء على ما ورد عند صاحب «الأنس الجليل»، الذي ذكر: أن وفاة ابن الأزرق كانت بعدما بلغ سنه خمسا وستين سنة.
ولد بمالقة، ونشأ بها، وحفظ القرآن وغيره (5) حسبما جرت به عادة أهل الأندلس، ولم يقتصر في أخذ العلم عن علماء «مالقة»، بل رحل إلى «غرناطة»، واستفاد من علمائها، «كما استفاد ممن لقيهم بفاس، وتلمسان، وتونس» (6).
__________
هذه المقالات بعض المحاولات للترجمة لابن الأزرق إلا أن بعضها جاء مشوها، والبعض الآخر اهتم بجانب معين فقط، دون جوانب أخرى.
(1) الحميري: ساقطة من «الضوء اللامع»: 9/ 20، و «الأنس الجليل»: 2/ 255.
(2) الأصبحي: عن مخطوطة قيد فيها ابن الأزرق اسمه ونسبه، وقد أثبتها الزركلي في الأعلام: 7/ 181. من الطبعة الثانية، وثيقة رقم 1168.
(3) الأنس الجليل: 2/ 591.
(4) د. محمد بن عبد الكريم في مقدمة كتاب «بدائع السلك»: 1/ 1110.
(5) الضوء اللامع: 9/ 20.
(6) ن. م. س: 9/ 21.(1/25)
شيوخه:
لم يترك ابن الأزرق فهرسة لشيوخه الذين تلقى عنهم معارفه، ويبقى الفضل لمخطوطته: «روضة الإعلام» التي حفظت لنا أسماء بعضهم، كما سجلت كتب التراجم مجموعة منهم.
ويبدو واضحا أن جل انتفاعه كان بشيخه: «إبراهيم بن أحمد بن فتوح» (1)
مفتي غرناطة، فقد لازمه، وأخذ عنه النحو والفقه، والأصلين والمنطق، ويظهر أنه كان شديد الاحترام له، كثير التأثر به، لما كان لهذا الشيخ من سعة صدر «إذ كان يفسح لصاحب البحث مجالا رحبا، شرط ألا يفضي هذا إلى الإطالة والتعسف» (2).
فلقد كان «ابن فتوح» يقرىء طلبته مقالات «ابن رضوان» في المنطق، ورجز ابن سينا، وبعض رجزه في المنطق، و «مختصر ابن رشد» في الأصول، والشامل لبهرام، والتسهيل لابن مالك، وكتاب سيبويه، والكشاف للزمخشري، وكتب الغزالي في التصوف وبخاصة: «الجواهر والأربعين» (3).
ولقد كان لكل هذا أثره في بلورة شخصية «ابن الأزرق» الثقافية، والتي ظهرت بوضوح في مؤلفه: «روضة الإعلام» ووفاء منه لشيخه فلقد أجرى ذكره فيه، في مواضع متعددة ومواقف مختلفة (4).
ومن شيوخه الذين تعرض لذكرهم أيضا في «روضة الإعلام» الأستاذ القاضي «أبو إسحاق إبراهيم البدوي الأنصاري الأندلسي المالكي»، قاضي «مالقة» يقول عنه:
«وقد كان شيخنا الأستاذ القاضي أبو إسحاق البدوي رحمه الله يقول:
__________
(1) ت: 867هـ 1463م. انظر النيل: 53.
(2) انظر «روضة الإعلام»: مخ أ (224و).
(3) النيل: 54ورحلة القلصادي: 168166.
(4) «روضة الإعلام» مخ أ: (252و) و (276و).(1/26)
«عليكم بالقراءة فإنا ما رأينا طالب علم، يمد يده بسؤال الصدقة» (1) «أخذ عنه القراءة بتلاوة ابن كثير بمالقة» (2).
أما الشيخ الإمام أبو يحيى محمد بن عاصم القيسي الغرناطي فقد حلاه ابن الأزرق في «روضة الإعلام» «بالشيخ الرئيس القاضي الجليل، العالم العلم أبو يحيى بن عاصم» (3).
«وقد جالسه كثيرا وانتفع به» (4) «توفي ذبيحا من جهة السلطان» (5).
ومحمد بن جبير اليحصبي أحد أعلام الأندلس المتأخرين، كان يمجد أهل السنة، ويهاجم المعتزلة (4)، أخذ عنه الأدب، وكان يدعوه شيخ الأدباء، وحجة البلغاء، الكاتب المجيد الأبرع، وكثيرا ما كان يتمثل بشعره وينشد أبياته (6).
وقد اقتصرت «روضة الإعلام» على ذكر هؤلاء، ولم يرد ذكر لشيوخ آخرين، وقد يكون فيما أورده (7) «السخاوي» صاحب «الضوء اللامع»: خير مرجع لمعرفة ما تبقى من شيوخه، إذ هو المصدر الأساسي الذي نقلت عنه معظم الكتب، التي تناولت الحديث عن شيوخ ابن الأزرق، ومن هؤلاء:
أبو عبد الله محمد بن محمد السرقسطي مفتي غرناطة في الفقه، الذي كان أحفظ الناس لمذهب مالك، حضر «ابن الأزرق» مجالسه في الفقه، توفي عام 865هـ 1461م (8).
__________
(1) «روضة الإعلام» مخ أ: (276و).
(2) النيل: 53.
(3) روضة الإعلام مخ أ: (171ظ) و (224و).
(4) الضوء اللامع: 9/ 21، وأزهار الرياض: 3/ 319.
(5) تولى القضاء سنة: 838هـ 1434م. انظر النيل: 313وقد ذكر أنه لم يقف على سنة وفاته.
وأزهار الرياض: 1/ 171، 172، 173، وقد ذكره في مواضع عدة ونقل عنه نقولات كثيرة.
(6) أزهار الرياض: 3/ 304.
(7) روضة الإعلام مخ أ (111و). والضوء اللامع: 9/ 21.
(8) انظر الضوء اللامع: 9/ 21، والنيل: 315314. ورحلة القلصادي: 166164.(1/27)
وأبو الفرج عبد الله بن أحمد البقني المالكي، أحد المفتين بغرناطة، كان فقيها عالما توفي بعد عام 860هـ 1455م (1).
وأبو العباس أحمد بن أبي يحيى بن محمد الشريف التلمساني قاضي الجماعة بغرناطة العالم العلامة المتوفى سنة 895هـ 1489م بتلمسان (2).
والخطيب أبو عبد الله محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري، شهر بالمواق (بفتح الميم وشد الواو) الأندلسي الغرناطي، عالمها وصالحها وشيخها ومفتيها، كان حافظا للمذهب، ضابطا لفروعها، شهد استيلاء النصارى على مرج غرناطة (3).
مراسلاته مع بعض أعلام عصره:
من خلال ما قدمناه من أسماء أعلام سجل التاريخ جهودهم العلمية والأدبية، ندرك الحصيلة الثقافية التي كونت شخصية «ابن الأزرق»، إلا أنه لم يكتف بهذه المجالس، والأعلام، بل نراه في «روضة الإعلام» يعرض لنا بعض الرسائل العلمية التي تبادلها مع بعض علماء عصره، خاصة علماء تونس، من مثل «أبي البركات محمد بن محمد بن عزوز» (4) الفقيه الراوية المحدث (5).
والفقيه القاضي خاتمة السلف: أبو عبد الله محمد بن محمد الزلديوي القسطنطيني، نزيل تونس (6) الذي كتب إلى «ابن الأزرق» بالإجازة العامة من حضرة تونس المحروسة في أواخر شوال عام 871هـ 1466م، كما كتب إليه يعرفه ببعض أعلام العصر في الحفظ وغيره من أصحاب المذهب المالكي، من
__________
(1) الضوء اللامع: 9/ 21، والنيل: 159.
(2) ن. م. س: 9/ 21والنيل: 80.
(3) ن. م. س: 9/ 21والنيل: 325324. انظر هامش ص: 19فقد سبقت الإشارة إليه وإلى تآليفه.
(4) روضة الإعلام مخ أ (50و).
(5) مات مطعونا سنة 873هـ 1468م. انظر الضوء اللامع: 10/ 16.
(6) روضة الإعلام: 250و (خاتمة الكتاب) وفهرست الرصاع: 138137، وضبطه بالزنديوي بالنون، والنيل: 315.(1/28)
مثل: الحافظ أبي القاسم بن موسى العبدوسي الفاسي نزيل تونس (1).
كل هذا يوضح الصلات الثقافية التي كانت تربط بين «ابن الأزرق» ومعاصريه، بل تربط بين علماء الغرب الإسلامي في هذه الفترة.
تلاميذه
منهم: الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد الوادي آشي الغرناطي، الذي حل بتلمسان بعد أخذ «غرناطة» وكان حائز السبق في كثرة النسخ والكتابة (2) ولا يبعد أن يكون قد نسخ بعض كتب شيخه، فكان له الفضل في نشرها وتداولها (3).
والحافظ أبو جعفر أحمد بن علي بن أحمد بن داود البلوي الغرناطي الأندلسي (4) رحل مع أهله إلى تلمسان سنة 890هـ 1485م، ترك نماذج كثيرة لبعض أدعية أستاذه (5).
وشرف الدين يحيى بن محمد الأنصاري المغربي الأندلسي المالكي «كان من أهل العلم ماهرا في العربية، اشتغل بالعلم بالأندلس على قاضي القضاة شمس الدين بن الأزرق» (6).
وظائفه:
وظيفة القضاء:
تولى أولا قضاء (غربي مالقة)، أيام سعد بن علي بن يوسف بن نصر،
__________
(1) روضة الإعلام مخ أ (284و) وما بعدها.
(2) أزهار الرياض: 3/ 305.
(3) بدائع السلك (ت علي النشار): 1/ 17.
(4) المتوفى سنة 930هـ.
(5) روى عنه في «ثبته» ص: 158و 159و 160و 161، كما نقل عنه المقري في نفح الطيب: 2/ 703 704بعض الأدعية.
(6) توفي (شرف الدين) سنة 895هـ 1490م. انظر الأنس الجليل: 2/ 254253.(1/29)
صاحب الأندلس الذي كان يلقب بأمير المسلمين، وبالمستعين بالله (1).
ثم تولى قضاء (مالقة) نفسها عن أبي عبد الله محمد بن سعد النصري المعروف بالزغل (2). ثم قضاء وادي آش عن أبي الحسن علي بن سعد النصري (3) أخي محمد بن سعد النصري المتقدم، ثم نقله الملك (أبو الحسن) إلى (مالقة) قاضيا للمرة الثانية. ثم لقضاء الجماعة بغرناطة، ومات أبو الحسن وهو على قضائها، فاستمر به أخوه أبو عبد الله محمد بن سعد النصري المعروف بالزغل، وبقي في هذا المنصب إلى أن خرج مع الملك المذكور من (غرناطة) إلى (وادي آش) وهما منفصلان عنها (4).
وشغل القضاء أخيرا (بالقدس الشريف)، أيام الملك أبي النصر قايتباي، سلطان مصر (5).
قيامه بالتدريس:
إلى جانب وظيفة القضاء زاول «ابن الأزرق» التدريس تطوعا كغيره من علماء عصره، وقد تصدر للإقراء بالجامع الأعظم بغرناطة، قال عنه تلميذه الوادي آشي:
سمعت شيخنا الإمام سيدي محمد بن الأزرق الأصبحي رحمه الله بمجلس تدريسه من «الجامع الأعظم» يقول: كان أبو محمد عوف بن يوسف الخزاعي من أهل القيروان يقول: «الخلائق كلهم أعداء بني آدم، وبنو آدم كلهم أعداء المسلمين، وجميعهم أعداء أهل السنة (6).
__________
(1) ت: 869هـ 1464م. انظر ترجمته في نفح الطيب: 7/ 194184.
(2) توفي بتلمسان سنة 899هـ 1494م. انظر ترجمته في ن. م. س: 4/ 524511.
(3) ت: 890هـ 1485م. انظر ترجمته في ن. م. س: 4/ 515511.
(4) الضوء اللامع: 9/ 21.
(5) ت: 901هـ 1496م بعدما دام في الملك زهاء 28عاما.
(6) أزهار الرياض: 3/ 305.(1/30)
وقال عنه في موضع آخر: «أنشدنا شيخنا وبركتنا العالم الجليل الخطيب المصقع، البليغ المفيد قاضي الجماعة سيدنا أبو عبد الله محمد بن علي بن الأزرق رضي الله عنه وأمتع ببقائه» (1).
وفي هذا ما يشهد بتصدره للتدريس، ويؤكد مكانته العلمية التي كان يحظى بها، مما حمل تلاميذه على الإشادة به، والرواية عنه، على الرغم من تصدع البنيان، وتفرق الجمع، وهجرة العديد من أعلام هذه الفترة، ومفارقتهم أرض الأندلس.
قيامه بالإفتاء:
لقد كان «ابن الأزرق» أحد المفتين بغرناطة، فقد ذاعت فتاويه، وتناقلها الفقهاء في تقاييدهم، وتصانيفهم، ولقد احتفظ كتاب «المعيار المعرب» للونشريسي المالكي (2) بكثير من فتاوي «ابن الأزرق» (3) التي تبين طريقته في الإجابة، وأسلوبه في الرد، بدا من خلالها: رجلا شديد الشكيمة، قوي الحجة، مما لا يدع شكا لمرتاب. وقد أشار إلى ذلك المقري في «نفح الطيب» فقال: «وقد نقل عن ابن الأزرق صاحب المعيار في «جامعه» وأثنى عليه غير واحد» (4).
ولم يفت تلميذه الوادي آشي أن يذكرنا ببعض فتاوي شيخه، وبما حكم في بعض النوازل (5) مبديا أوجه الخلاف بينه وبين شيخه، مما يدل على ذيوعها، وانتشارها، عهد ابن الأزرق وبعده.
__________
(1) ن. م. س: 3/ 304303، والمصقع: من لا يرتج عليه في كلامه.
(2) كتاب المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب لأبي أحمد بن يحيى الونشريسي الأصل المالكي المذهب، نزيل فاس. ت: 914هـ 1508م / انظر في ترجمته النيل: 87، ونفح الطيب: 2/ 701.
(3) انظر من هذه الفتاوي ما جاء في مسألة ما يهديه اليهود في أعيادهم: 11/ 112111.
(4) نفح الطيب: 2/ 701.
(5) أزهار الرياض: 3/ 316.(1/31)
وهكذا نخلص إلى أن صاحبنا قد جمع بين وظائف عدة، وفيها ما يشهد بباعه، ومقدرته، ومشاركته في ميادين مختلفة، إلى آخر أيامه بالأندلس، حيث غادر غرناطة إلى وادي آش، ومنها إلى ديار أخرى، وسنحاول توضيح ذلك بالحديث عن رحلته.
رحلة ابن الأزرق:
لم يترك «ابن الأزرق» رحلة مدونة كغيره من الرحالة العلماء، الذين زاروا الشرق وكانت وجهتهم الديار المقدسة، وقد يكون ذلك لاختلاف المقصد بينه وبينهم، ولتباين الظروف الدافعة لهذه الرحلة.
ونتساءل أولا: هل يمكن اعتبار نزوحه عن وادي آش رحلة أو هجرة أو سفارة لإنقاذ هذا الصرح المتهدم؟
والواضح من استقراء النصوص أن هذه جميعا تآلفت، نظرا لما تعاقب من أحداث أدت إلى سقوط غرناطة، وانهيار الحكم العربي بصفة نهائية.
ونتساءل ثانيا: متى نزح «ابن الأزرق» عن غرناطة وبالتالي عن وادي آش؟
من المؤكد أن ذلك تم أيام «أبي عبد الله محمد الزغل» (1) بعد أن سقطت غرناطة بيد ابن أخيه «أبي عبد الله محمد المخلوع الذي سلم مفاتيحها إلى الإسبان سنة 897هـ 1492م ويحدثنا صاحب نفح الطيب (2) عن ذلك فيقول:
«وخرج صاحب قشتالة (3) قاصدا «بلش مالقة» ونزل عليها في ربيع الثاني
__________
(1) تقدمت الإشارة إليه في ص: 1514من هذا البحث.
(2) 4/ 520519.
(3) هو فرديناند الخامس بزواجه من إيزابيلا ملكة قشتالة وليون، وفرديناند هو ابن عمها الذي أصبح بعد وفاة أبيه ملكا على عرش آراجون سنة 884هـ 1479م، وكان من نتائج هذا الزواج توحيد إسبانيا، والقضاء على آخر من بقي من دولة الإسلام. انظر مقال: «أضواء على نهاية العرب في الأندلس» د. محمد باقر الحسيني / مجلة آفاق عربية / السنة الرابعة ع 1. سبتمبر 1978.
ص: 106.(1/32)
سنة 892هـ، وحاصرها، ولما صح عند صاحب غرناطة ذلك، اجتمع بالناس، فأشاروا بالمسير لإغاثة «بلش» للعهد الذي عقدوه.
وأتى أهل «وادي آش» وغيرها وحشود «البشرات»، وخرج «صاحب غرناطة» منها في الرابع والعشرين لربيع الثاني من هذه السنة، ووصل «بلش»، فوجد العدو نازلا عليها برا وبحرا، فنزل بجبل هنالك، وكثر لغط الناس وحملوا على النصارى من غير تعبئة، وحين حركتهم للحملة، بلغ السلطان الزغل أن غرناطة بايعت «صاحب البيازين» (1)، فالتقوا مع النصارى فشلين ورجعوا منهزمين، وقد شاع عند الخواص ثورة غرناطة على السلطان، فقصدوا «وادي آش»، وعاد النصارى إلى «بلش».
والذي نستفيده من هذا النص أن خروج «الزغل» من «غرناطة» كان في 24 من ربيع الثاني سنة 892هـ. ونحن نعلم أن «ابن الأزرق» كان قاضي الجماعة للزغل بغرناطة، وأن خروج غرناطة عن طاعته قد يلزم «ابن الأزرق» الخروج منها وفاء لصاحبه إن لم يكن فارقها قبل مواكبا للسلطان في مسيرته لإغاثة «بلش مالقة» وبعد انهزامه في معركته مع النصارى توجه معه إلى «وادي آش» ومنها بدأ رحلته بعد 892هـ.
ويرى صاحب «أزهار الرياض» (2) أن ذلك في أواخر العشرة، التي كملت بها تسعمائة للهجرة والله أعلم، حيث وجهه سلطانه أبو عبد الله الزغل قاصدا السلطان «أبا عمرو عثمان بن محمد بن أبي فارس» لمساعدة الأندلسيين على عدوهم الكافر» (3).
دخوله فاس:
وهنا يبادرنا السؤال التالي: هل ارتحاله إلى تلمسان كان مباشرة، أو أنه قد
__________
(1) البيازين: حي من غرناطة، وصاحب البيازين هو أبو عبد الله المخلوع.
(2) 3/ 318.
(3) الضوء اللامع: 9/ 21.(1/33)
حط رحله في فاس أولا ليتابع طريقه بعد ذلك؟ وهل عرف فاس قبل هذه الرحلة الأخيرة؟
مما لا شك فيه أن «ابن الأزرق» قد ورد على فاس قبل هذه الرحلة، وقد أشار إلى ذلك في كتابه «بدائع السلك» (1) عندما قال:
«وبعد انقراض الدولة المرينية في أواسط هذه المائة التاسعة بفاس كرسي ملكهم خلفهم فيها الشريف ابن عمران ناسخ دولتهم، ثم الشيخ ابن يحيى الوطاسي (2) منتزع ذلك من يده إلى هذا العهد، وإن كان بها خراب كثير حسبما شاهدناه، والبقاء لله وحده».
ففي هذا النص ما يدل على مشاهدة «ابن الأزرق» لفاس في فترة معينة، وإن كنا لا ندرك هوية هذه الرحلة، ولا ننسى أن «السخاوي» قد ذكر أن من جملة شيوخ «ابن الأزرق» بعض المشايخ الذين «لقيهم بفاس» (3) إلا أنه لم يحدد أسماءهم، ولا زمن الأخذ عنهم. أما بعد رحيله الأخير عن «وادي آش»، فإن معظم مصادر ترجمته. لا تذكر شيئا عن دخوله فاس قبل وصوله تلمسان، ما عدا بعض الإشارات المبهمة كما في «الأنس الجليل» (4) عندما قال: «فلما استولى عليها (أي غرناطة) الإفرنج، خرج منها يستنفر ملوك الأرض في نجدة صاحب غرناطة، فتوجه لملوك المغرب فلم يحصل بنتيجة».
وهنا نطرح استفسارا حول من هم هؤلاء الملوك؟!. هل ملوك فاس، أو تلمسان وتونس (5)؟ على أن صاحب «السر الظاهر» قد أثبت قدوم «ابن الأزرق»
__________
(1) 2/ 764. ت: د. محمد بن عبد الكريم الذي حاول إثبات تاريخ تأليف «البدائع» سنة 883هـ 1478م. انظر ص: 3938.
(2) تولى الشيخ ابن يحيى الوطاسي ملك فاس بعد الشريف العمراني الجوطي عام 875هـ 1470م.
واستمر فيه إلى أن توفي سنة 910هـ 1510م. انظر جذوة ابن القاضي: 1/ 211.
(3) الضوء اللامع: 9/ 21.
(4) 2/ 591.
(5) إذ أن خطيب تلمسان، كان يصرح باسم السلطان أبي عمرو عثمان صاحب تونس مقدما في الذكر على اسم صاحب تلمسان أبي عبد الله، من أعقاب بني زيان لما بينهما من الشروط في ذلك. انظر بدائع السلك: 2/ 736. ت: د. محمد بن عبد الكريم.(1/34)
إلى فاس فقال: «وقدم على فاس من غرناطة زمن تغلب الروم عليها» (1).
ويبقى الأمر بعد كل هذا موضع ظن وتساؤل، ومن ثم لا يمكن الجزم بشيء، لا نعدام الدليل القاطع.
دخوله تلمسان:
أما دخوله تلمسان فقد شهدت معظم مصادر ترجمته بدخوله إليها، لما تغلب العدو على غرناطة (2)، وقد صادف دخوله إلى تلمسان وفاة السلطان «أبي عمرو عثمان» صاحب تونس (3)، وتولي «أبي زكريا يحيى» الذي كان في خلاف مع ابن عمه «عبد المؤمن» حول الحكم، فلم يكن بالإمكان صنع شيء من أجل إنقاذ الأندلس.
دخوله مصر:
ثم ارتحل إلى «الديار المصرية»، ولا تفيدنا المصادر شيئا عن دخوله «تونس» في طريقه إلى «مصر»، ولا يستبعد أن تكون الظروف التي كانت تعايشها تونس بعد موت السلطان «أبي عمرو» جعلت سفارته محددة بتلمسان التي كانت خاضعة لسلطة وهيمنة صاحب تونس، فرحل إلى القاهرة محاولا استنهاض عزائم سلطانها «قايتباي» الذي كان مشغولا بحرب «بايزيد بن عثمان التركي» بإستانبول، وصد غاراته المتكررة فكان «كمن يطلب بيض الأنوق أو الأبيض العقوق» (4).
فتوجه إلى مكّة وجاور بها، وزار النبي صلى الله عليه وسلم، ورجع إلى القاهرة في أول
__________
(1) السر الظاهر: الملزمة 10/ 4. وإن كان قد أخطأ في تحديد سنة وفاة «ابن الأزرق» معتمدا على «دوحة الناشر».
(2) انظر دوحة الناشر: 124. وأزهار الرياض: 3/ 318والنيل: 345.
(3) توفي السلطان أبو عمرو عثمان صاحب تونس عام 893هـ 1487. انظر الحلل السندسية: 4/ 10901089.
(4) نفح الطيب: 2/ 702، وقوله: «بيض الأنوق أو» مثل لما لا يكون، أو ما لا يطمع فيه، فمعناه أنه طلب ما لا يكون.(1/35)
سنة ست وتسعين وثمانمائة (1) مجدّدا الكلام في غرضه. «فدافعوه عن مصر بقضاء القضاة في بيت المقدس» (2).
يقول صاحب «الضوء اللامع» (3): «وقصدني في أثناء ذلك ورأيته من رجال الدهر، وأظهر الاغتباط باجتماعه بي، وطالع بعض تصانيفي وغيرها، وسافر في رمضان قاضيا، وقد وليه في ثانيه، فوصله في السابع عشر من شوال».
«فتولاه بنزاهة وصيانة، وطهارة، ووقع الثناء عليه، ثم حصل له توعك، واستمر حتى توفي في يوم الجمعة بعد فراغ الصلاة، سابع عشر ذي الحجة سنة ست وتسعين وثمانمائة، وصلي عليه في يومه بعد صلاة العصر بالمسجد الأقصى، ودفن بماملا إلى جانب حوش البسطامي فكانت إقامته بالقدس إحدى وستين يوما، توفي وله خمس وستون سنة» (4).
آثاره:
لم يكن يراع «ابن الأزرق» ليقف به عند علم دون آخر، بل كان مشاركا في كل العلوم التي عرفها عصره، ويكفيه من ذلك شهادة معاصر له حين وصفه بقوله: «ورأيته من رجال الدهر» (5). وما شهد له به «المقري» حين قال: هو الإمام العلامة، الخطيب الحجة، الأعرف، المؤرخ، الناظم، الناثر، الراوية (6).
وهذا يوضح مدى مشاركة «ابن الأزرق» في مختلف علوم عصره، وكان من الطبيعي أن يظهر أثر ذلك فيما خلفه من نظم أو نثر.
__________
(1) الأنس الجليل: 2/ 592.
(2) نفح الطيب: 2/ 702.
(3) 9/ 21. ففي هذا النص إشارة إلى اجتماع ابن الأزرق بالسخاوي: الذي يشهد له أنه كان من رجال الدهر.
(4) الأنس الجليل: 2/ 592.
(5) الضوء اللامع: 9/ 21.
(6) أزهار الرياض: 3/ 317.(1/36)
شعره:
لقد خلف «ابن الأزرق» نظما رائقا، وهو لا يمثل ديوانا مستقلا، وإنما هي جملة من قصائد ومقطعات وأبيات قالها في مناسبات معينة أثبتها بعض مترجميه خاصة المقري في كتابيه «نفح الطيب» و «أزهار الرياض».
وباستقرائنا لهذه الأشعار نكتشف درر نظمه، وبديع لفظه، ورقة أسلوبه، وطرافة مواضيعه، ودقة معانيه، وتنوع أغراضه.
من ذلك قوله في قصيدة مدح بها شيخه الإمام «أبا يحيى ابن عاصم» وهي من غرر النظام، وحرّ الكلام، تشتمل على واحد وأربعين بيتا مطلعها:
خضعت لمعطفه الغصون الميّس ... ورنا فهام بمقلتيه النّرجس
ذو مبسم زهر الربا في كسبه ... متنافس عن طيبه متنفّس (1)
وقد أبدى المقري (2) شكا في صحة نسبة هذه القصيدة إلى «ابن الأزرق» فقال: وبعد أن كتبت هذه القصيدة، حدث لي شك، هل هي من نظم القاضي أبي عبد الله ابن الأزرق المذكور، أو من نظم ابن الأزرق الآخر الذي جرى ذكره في «روضة الإعلام» (3).
كما شك «المقري» في قصيدة أخرى عدها من مجون الأندلسيين وأنها «منسوبة لأبي عبد الله ابن الأزرق» وهي تحتوي على خمسة وتسعين بيتا مطلعها:
عم باتصال الزمن ... ولا تبالي بمن
وهو يواسي بالرّضى ... من سمج أو حسن
أو من عجوز تحتظى ... والظهر منها منحني
أو من مليح مسعد ... موافق في الزمن
مهما تبدّى خدّه ... يبدو لك الورد الجني
__________
(1) ن. م. س: 3/ 322320.
(2) ن. م. س: 3/ 322.
(3) الباب الثالث: 131ظ من (مخ أ).(1/37)
ويختمها بقوله:
فليس عند شاعر ... غير كلام الألسن
يصور الأشياء وه ... ي أبدا لم تكن
[فاسمح وسامح واقتنع ... واطو حشاك واسكن
ولننصرف فقصدنا ... إطراف هذا الموطن (1)
وقد ذهب د. «محمد بن عبد الكريم إلى أن ابن الأزرق في هذه القصيدة يعاتب الأندلسيين، وينكر عليهم غرقهم في الترف والملذات، بدليل ما أنهى به قصيدته (2).
ويبدو أن القصيدة تحتاج إلى أكثر من وقفة، حتى تستجلى غوامضها، وتفك ألغازها.
ومما قاله عند وفاة والدته:
تقول لي: ودموع العين واكفة ... ما أفظع البين والتّرحال يا ولدي
فقلت: أين السّرى قالت: لرحمة من ... قد عزّ في الملك، لم يولد، ولم يلد (3)
ومن بارع نظمه قصيدته التي أنشدها عند نزول طاغية النصارى، بمرج غرناطة، وسنثبتها بكاملها لأهميتها:
مشوق بخيمات الأحبّة، مولع ... تذكّره نجد وتغريه لعلع
مواضعكم يا لائمين على الهوى ... فلم يبق للسّلوان في القلب موضع
ومن لي بقلب تلتظي فيه زفرة ... ومن لي بجفن تنهمي منه أدمع
رويدك، فارقب للطائف موقعا (4) ... وخلّ الذي من شرّه يتوقّع
وصبرا، فإنّ الصبر خير تميمة ... ويا فوز من قد كان للصّبر يرجع
__________
(1) نفح الطيب: 3/ 303298.
(2) بدائع السلك: 1/ 28. ت: د. محمد بن عبد الكريم.
(3) أزهار الرياض: 3/ 319.
(4) في نفح الطيب: موضعا(1/38)
وبت واثقا باللّطف من خير راحم ... فألطافه من لمحة العين أسرع
وإن جلّ خطب فانتظر فرجا له ... فسوف تراه في غد عنك يرفع
وكن راجعا لله في كل حالة ... فليس لنا إلّا إلى الله مرجع (1)
والقصيدة تعبير عن الاستسلام لقضاء الله، والتعزي بالصبر والسلوان، وانتظار الفرج من خير راحم، وفيما عدا هذه القصائد نجد له بعض أبيات ذات مواضع طريفة من ذلك قوله في بلدة بسطة:
في بسطة حيث الأباطح مشرقه ... أضحت جفوني بالمحاسن مغلقه (2)
وقال موريا ببسطة أيضا:
قل لمن رام النوى عن وطن ... قولة ليس بها من حرج
فرج الهم بسكنى بسطة ... إن في بسطة باب الفرج (3)
وقوله في وصف الدخان:
عذري في هذا الدّخان الذي ... جاور داري، واضح في البيان
قد قلتم إنّ بها زخرفا ... ولا يلي الزخرف إلا الدّخان (4)
وقوله في وصف الربيع:
تأمّلت من حسن الربيع نضارة ... وقد غرّدت فوق الغصون البلابل
حكت في غصون الدّوح قسّا فصاحة ... لتعلم أنّ النّبت في الروض باقل (5)
ولعل فيما ذكرناه من نصوص شعرية «لابن الأزرق» صورة جلية تبين مقدرته الشعرية، ومدى مساهمته الفنية في تناول بعض الأغراض الشعرية، ولعل أبرزها ما جاء في رثائه لغرناطة، وفي رثاء والدته، وإن كنا من جهة أخرى نوافق ما جاء عن المقري من شك في نسبة بعض هذه القصائد إليه لبعدها عن نفسه، وأسلوب شعره.
__________
(1) ن. م. س: 2/ 704. وأزهار الرياض: 3/ 319.
(2) نفح الطيب: 6/ 447.
(3) نفح الطيب: 6/ 447.
(4) ن. م. س: 2/ 702.
(5) ن. م. س: 2/ 702.(1/39)
نثره:
له تآليف منها:
1 «بدائع السلك في طبائع الملك» وهو كتاب بديع في موضوعه، لخص فيه مقدمة تاريخ ابن خلدون المسمى كتاب «العبر». وزاد عليه زيادات كثيرة نافعة، وهو في سفر ضخم (1).
2 «شفاء الغليل في شرح مختصر خليل» وهو كتاب مفيد لم يؤلف على «مختصر خليل» مثله إقناعا ونقلا، وفهما، وذكر المقري (2) أنه رأى منه نحو ثلاثة أسفار، ولا يدري هل أتمه أو لا وتمامه يكون في نحو العشرين سفرا، وقد كتب المقري بتلمسان خطبته في كراسة، وقد أتى فيها بالعجب العجاب، وهي أدل على غزارة علمه، واتساعه في الفروع والأصول».
وذكر صاحب «التحفة القادرية» في موضوع الكتب التي درسها المولى عبد الله الشريف دفين وزان في فاس، حاشية ابن الأزرق قاضي غرناطة على المختصر الخليلي (3). ونتساءل هل كان هذا المؤرخ القادري يتحدث عن الشرح الذي أشار إليه معظم مترجمي ابن الأزرق وسماه «بالحاشية» أو كان لابن الأزرق زيادة على «الشرح» حاشية على المختصر؟
3 «روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام» وهي المخطوطة التي نروم تحقيقها، ونعمل على تقديمها، وسيأتي الكلام عليها.
والآن، آن لنا أن نمسك عنان القلم، الذي جمح فأطال الكلام في هذه الترجمة والإحاطة بصاحبها، ومقصودنا حصول الفائدة، والتنبيه إلى ما نقل عنه بعض مترجميه، أو ما حصل لهم من الخلط في التعريف به، والغاية من ذلك كله، التعريف بشخصية المترجم له، وبمكانته العلمية والأدبية.
__________
(1) نفح الطيب: 2/ 699، وأزهار الرياض: 3/ 318. وهذا الكتاب قد حقق وطبع، وقد أشرنا إلى ذلك أثناء الحديث عن مصادر ومراجع ترجمة ابن الأزرق.
(2) نفح الطيب: 2/ 699، وأزهار الرياض: 3/ 317.
(3) انظر مخطوطة التحفة القادرية لمؤلفها عبد السلام بلخياط القادري. مخطوطة خاصة محفوظة بخزانة الأستاذ محمد المنوني.(1/40)
«روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام»
تسمية الكتاب:
يقول عنه مؤلفه في معرض التقديم له من ديباجة «روضة الإعلام» نفسها:
سميته: «روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام» وإني لأرجو أن تكون التسمية إن شاء الله صادقة العنوان.
وهي نفس التسمية التي أثبتتها سائر الكتب التي تعرضت لترجمة ابن الأزرق ما عدا صاحب «نيل الابتهاج» (1) الذي سماه: «روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم اللسان». وقد يكون هذا من سهو الناسخ، فحاد بالعنوان عن رسمه الحقيقي.
ونتساءل هل لفظة «الإعلام» الواردة في تسمية الكتاب بكسر الهمزة من أعلمه الأمر وبالأمر يعلمه إعلاما: أي أطلعه عليه وعرفه به، أو بفتح الهمزة على اعتبار أن «الأعلام»: جمع «لعلم»؟
إذا أخذنا بقانون السجع الذي دأب عليه المصنفون في وضع أسماء الكتب، فإننا نقرأها بالكسر، وأما إذا استقرأنا ما ورد في الكتاب من أسماء أعلام عديدة، فإننا نقرأها بالفتح، وسنجد في الحقيقة أنها روضة أعلام للتعريف
__________
(1) ص: 324.(1/41)
بمنزلة العربية من علوم الإسلام. ومع ذلك فإننا نرجح قراءتها بالكسر لأنه أدق في المعنى وأبلغ في المراد.
نسبة الكتاب إلى صاحبه:
أشار «ابن الأزرق» نفسه إلى مؤلفه هذا في كتابه «بدائع السلك» (1) فقال:
«وقد مر في «روضة الإعلام» من آداب هذه الصداقة ما فيه بلاغ وإطناب بيان».
وذكره في موضع آخر (2) فقال:
«وقد قررنا في «روضة الإعلام بمنزلة» ما يتضح به هذا الموضع على التمام إن شاء الله تعالى».
وحلاه «المقري» (3) بقوله: «مجلد ضخم فيه فوائد وحكايات لم يؤلف في فنه مثله وقفت عليه بتلمسان».
وقال: ومن إنشائه في التأليف المذكور (4) ما صورته:
«قلت: ولقد كان شيخنا العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن فتوح قدس الله روحه يفسح لصاحب البحث مجالا رحبا، ويوسع المراجع له قبولا ورحبا» (5).
وإذا كان المقري قد جاء نقله عن «روضة الإعلام» مصاحبا لترجمة «ابن الأزرق» فإن صاحب «نيل الابتهاج» قد نقل عنه في مواضع متفرقة من كتابه (6).
من ذلك ما أورده في ترجمة «أبي القاسم عبد العزيز بن موسى بن معطي
__________
(1) ت: د. علي النشار: 2/ 462.
(2) م. س: 2/ 364.
(3) نفح الطيب: 2/ 700، وأزهار الرياض: 3/ 318.
(4) ويقصد به «روضة الإعلام».
(5) نفح الطيب: 2/ 700، ويقابله في مخ أروضة الإعلام، ص: 224و (الخاتمة).
(6) انظر النيل ص: 76و 180179. و 253. و 277276. و 285284، ويقابلها بالتتابع في مخ أ «روضة الإعلام»: 236و / 284و / 285ظ(1/42)
العبدوسي الفاسي» (1) حامل لواء المذهب المالكي، وإمام الحفظ في وقته، نزيل تونس، قال:
«قال القاضي أبو عبد الله ابن الأزرق: كتب إلي الشيخ الفقيه الجليل قاضي الأنكحة بتونس المحروسة، وأحد المفتين بها أبو عبد الله محمد بن محمد الزلديوي رحمه الله يعرفني من بعض أخباره في الحفظ بما يقضى منه العجب، ويزيد في الغرابة على ما كنا نسمع من ذلك» (2).
ولا ننسى ما نقله ابن مريم عن «روضة الإعلام» في كثير من تراجم كتابه (3)، وفي كل هذا ما يعزز نسبة الكتاب إلى صاحبه، وإثبات صحة النص المكتوب، إما بالإشادة بفضله أو بالنقل عنه.
تاريخ تأليفه:
من المؤكد أن كتاب «روضة الإعلام» قد ألف قبل كتابه «بدائع السلك» بدليل ما نجده من إحالات على «روضة الإعلام» وقد أشرنا إلى ذلك سابقا.
على أننا إذا عدنا إلى النسخ الموجودة لدينا من «مخطوطة روضة الإعلام»، فإنها لا تحدد تاريخ بداية تأليف هذا الكتاب، ولا تاريخ الفراغ من تصنيفه ما عدا النسخة «أ» إذ يقول ناسخها نفسه محمد بن الحسن بن ظافر:
«وألفيت بآخر أصل المؤلف أبقاه الله وحفظه وكلأه من غير الأيام وبخطه ما نصه: فرغت من تصنيفه بعون الله تعالى، وإمداد تيسيره في السادس والعشرين لشعبان المكرم من شهور سنة خمس وسبعين وثمانمائة بمدينة «مالقة» حرسها الله تعالى وكلأها، قاله مصنفه الفقير إلى الله تعالى المضطر إلى وسع رحمته محمد بن علي بن محمد بن علي بن القاسم بن الأزرق الأصبحي لطف الله به» (4).
__________
(1) ت: 837هـ. انظر في ترجمته: م. س: 182179.
(2) م. س: 180179.
(3) انظر: البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان: 141و 163162.
(4) انظر الصفحة الأخيرة من «روضة الإعلام» مخ أ: 353و.(1/43)
ومن خلال هذا النص نحدد تاريخ الفراغ من تصنيف الكتاب وذلك في 26 من شعبان عام 875هـ 1470م.
سبب تأليفه
ونتساءل بعد كل هذا عن سبب تأليفه للكتاب، وقد تكون النوازع شتى والأهداف مختلفة، والذي يلاحظ أن «ابن الأزرق» لم يذكر لذلك سببا، ونستطيع عن طريق استقراء ظروف العصر المحيطة بهذا التأليف، ومن خلال استبطان النص، وسبر غوره أن نحصر ذلك في أمرين هامين:
أولهما: وليس وقفا على فترة دون أخرى، بل نجده شمل جميع المراحل التاريخية بالأندلس. هو اهتمام أهل الأندلس بالعربية عامة (1)، وبالنحو خاصة، فلقد خصوه بالعناية، وجندوا أقلامهم للتأليف فيه، وشرح مصنفاته، كما قاموا بدرسه، وتدريسه، وتخصص فريق منهم به دون غيره، ونالوا به شرف المنزلة بين علماء عصرهم، كما أن تعليمهم العربية كان يوفر لعدد منهم موردا طيبا (2).
ولقد كان هذا دافعا لكثير من الدارسين المحدثين إلى الاهتمام بعلماء النحو في الأندلس وآرائهم على اختلاف مشاربهم، «وكانت النتيجة أن كتب عن علماء العربية باعتبارهم نحويين، أكثر مما كتب عنهم باعتبارهم أصحاب لغة» (3).
وقد كان اعتمادهم على مصادر مختلفة المذاهب، وإن كانت الأندلس قد عرفت النحو الكوفي، واهتمت به قبل أن تعرف النحو البصري، كما كانوا يكنون لعلماء العربية الأوائل احتراما كبيرا. فهذا أبو حيان: أثير الدين محمد بن
__________
(1) انظر ما كتبه «ألبير حبيب مطلق» عن «الحركة اللغوية في الأندلس منذ الفتح العربي حتى نهاية عصر ملوك الطوائف». ط 1967. ويشتمل على 488صفحة. وما كتبه «رضا عبد الجليل الطيار» في كتابه: الدراسات اللغوية في الأندلس منذ مطلع ق 6هـ حتى منتصف ق 7هـ. ط: 1980، ويشتمل على 270صفحة.
(2) الدراسات اللغوية: للطيار. ص: 34.
(3) نشأة النحو لمحمد الطنطاوي: ص: 199187.(1/44)
يوسف الغرناطي الأندلسي كان يقول: «خير الكتب النحوية المتقدمة كتاب سيبويه، وأحسن ما وضعه المتأخرون كتاب «التسهيل» لابن مالك، وكتاب «الممتع في التصريف» لابن عصفور» (1).
ولسنا نريد من وراء كل هذا مجرد السرد، وإنما التنبيه إلى المكانة التي كانت تحتلها الدراسات اللغوية، والنحوية، لدى الأندلسيين، وتنوع مشاربها.
وقد كان لاضطراب الأحوال في الأندلس خصوصا، وفي المغرب عموما، وضعف السلطة بالمشرق وقيام الخلافات، والنزاعات، داخل البلد الواحد، وما يثيره ذلك، من فوضى وانعدام الاطمئنان، أثره على الحياة العلمية بصفة عامة، وقد كانت الأندلس في تلك الآونة تنحدر نحو النهاية: نهاية الحكم العربي الإسلامي بها، ونهاية العلوم الإسلامية التي أشعت زمنا طويلا، وكانت منبرا يهتدى به، ولم يكن هذا وليد لحظة بل كانت جذوره منذ مدة طويلة، حيث بدأت المدن الأندلسية تتساقط في يد النصارى، الواحدة تلو الأخرى حتى لم يعد للعرب إلا رقعة ضيقة هي إمارة غرناطة التي ظلت صامدة مدة قرنين ونصف.
ولقد كان هذا الجو المضطرم بهجوم النصارى المتواصل، دافعا لهجرة عدد كبير من النحاة الأندلسيين إلى المغرب والمشرق، وبذلك خبت جذوة النشاط النحوي، وتوقفت آلته، في وقت كان التدهور العلمي العام، بدأ يظهر في العالم الإسلامي، والميل نحو التأليف الموسوعي ينمو ويشيع، وهو في جله قائم على جمع ما أنتجه السابقون، كما نشطت المنظومات التعليمية في اللغة والنحو، وغدا التعليم وحفظ اللغة همهم الأساسي.
في هذا الوسط حيث تنعدم كل القيم، ويبقى الحكم النهائي والقول الصائب للمنتصر، كان «ابن الأزرق» يرفع راية الدفاع عن اللغة العربية، وكانت صيحة أخيرة، تدوي وسط بنيان كل شيء فيه يتهاوى ويتساقط. كان يرى خطر
__________
(1) المدارس النحوية لشوقى ضيف. ص: 321320.(1/45)
الصليبية، يتهدد كل ما يحيط المسلم، داخل غرناطة وكأنه يرى النهاية المرتقبة، وأن التاريخ سيسجل له هذه الوقفة التي هي تعبير عن واجب، وأداء مسؤولية، علما منا بمبلغ تشبت أهل الأندلس باللغة والنحو.
ثانيهما: ويعود لوازع ذاتي يمكن في غيرة ابن الأزرق على العربية، ورفع راية الدفاع عنها، وعن أسسها ومقوماتها، والدعوة إلى المحافظة عليها، خوفا من اندثارها، وهنا يواجهنا السؤال التالي: هل كان دفاعه عن العربية وآلتها، من أجل خدمة الدرس اللغوي والنحوي أو أملته عليه ظروف ما، وحاجة ملحة كانت نقطة انطلاق نهجها من بداية الكتاب إلى نهايته؟
إن اللسان المتحدث عنه هو اللسان العربي، ومن ثم فهو وسيلة لفهم الكتاب والسنة، وفهم الشريعة الإسلامية، ووسيلة لتفقه الناس في أمور دينهم ودنياهم، فعدم فهم العربية، أو عدم معرفة ضبط حروفها، وألفاظها، وجملها، قد يوقع المتلفظ بها في محذور، ومن ثم يجب الاهتمام بها، والعمل على تعلمها، اقتداء بالسلف الصالح.
ونحن نعرف أن أكثر العلوم الإسلامية قد نشأت من القرآن، وتولدت خدمة له، فكان أول شيء احتاج إليه المسلمون في ضبط القرآن وقراءته سالما من لحن العوام هو: النحو. خاصة بعد الفتوحات، وتوسع البلاد الإسلامية، حيث فشا اللحن حتى بين أبناء الطبقة الحاكمة كما يشهد بذلك كتابه: «روضة الإعلام» فيما رواه من حكايات وأخبار في هذا المقام. وقد كان موقفه متشددا إزاء هذه القضية التي التزم الدفاع عنها، موقف فقيه مالكي يعلم يقينا أن كل شيء يتأهب للرحيل عن الأندلس من قيم وعادات، وتعاليم إسلامية، فلقد كان خطر الصليبية يلوح ويكبر، وضربات النصارى تتوالى من أجل تضييق الخناق على من تبقى في هذه المدن الأندلسية، مما أدى إلى هجرة عدد كبير من علماء الأندلس إلى المشرق، ولهذا كان دفاعه عن العربية دفاعا عن الكتاب والسنة، دفاعا عن عقيدة ومذهب، ووجود وكيان فألف لكل هذا «روضته».(1/46)
موضوع الكتاب ومحتواه:
أما عن الموضوع الأساسي للكتاب، فهو التعريف بمكانة العربية، من سائر العلوم الإسلامية.
ويبدو واضحا أن المؤلف قد جعل العربية نقطة المركز ومحيط الدائرة، ما تبقى من العلوم الإسلامية.
وقد حدد ابن الأزرق هذه العلوم في الباب الرابع من الكتاب حيث قال:
«تعرّض غير واحد من العلماء رحمهم الله إلى حصر العلوم الإسلامية ولهم في ذلك طرق منها قول بعضهم: إنها خمسة عشر علما لا بدّ منها على الكمال في علم التفسير» (1).
وقد جعل أول هذه العلوم: علم العربية، ثانيها: علم الاشتقاق، ثالثها:
علم التصريف، رابعها: علم النحو، خامسها: علم المعاني، وسادسها: علم البيان، سابعها: علم البديع، ثامنها: علم القراءات، تاسعها: علم أسباب التنزيل، عاشرها: علم الأخبار والآثار، حادي عشرها: علم السنن، ثاني عشرها: علم أصول الفقه، ثالث عشرها: علم الفقه، رابع عشرها: علم الكلام، خامس عشرها: علم الموهبة (2).
وانطلاقا من هذا التصور حبك موضوعه، فجاء روضة مشتملة على أنواع شتى من العلوم الإسلامية.
ولكلّ علم آلته الموصلة إلى فهمه، وآلة العربية: علم النحو، ولذلك اهتم بتقريب مدلوله، وبيان فضل تعلمه، بل اعتبر تعلمه وتعليمه واجبين، لأن العربية هي المرقاة لفهم الكتاب والسنة، فبها يقوم زيغ الكلام أحسن تقويم، ويعصم صاحبها من آفة الفهم السقيم، ومن ثم فهي تستحق رتبة البداية والتقديم (3).
__________
(1) روضة الإعلام: 139ظ. و 141و.
(2) روضة الإعلام: 139ظ. و 141و.
(3) انظر ديباجة الكتاب.(1/47)
ولم يكفه ذلك بل عرض لوجهة نظر الشرع فيه، وحكم استنباطه، متبعا آثار السلف في ظهور الحاجة إلى تعلمه، وقدم لذلك من الأدلة النقلية، والعقلية ما لا يحصى، ويبقى «لابن الأزرق» فضل تفصيل موضوعه، وتقريب مضمونه، بما قدمه في ديباجة الكتاب، ويحسن بالقارىء أن يحصن نفسه بها، وإلا حاد عن فهم ما وضع له الكتاب أساسا لكثرة اشتباه أجزائه، ولما اشتمل عليه من عناوين عامة، وأخرى فرعية، ولما فيه من حكايات وروايات، ومسائل متنوعة، وأحكام مختلفة.
محتوى الكتاب:
وقد أجمل المؤلف ذلك في ديباجة الكتاب فقال:
«ومحصوله على مقدمة، وأربعة أبواب، وخاتمة» (1).
فالمقدمة: في مدلول اسم النحو لغة واصطلاحا.
والباب الأول: في تقرير فضل العربية، وتحرير الحض على تعلمها، وجعل خاتمة هذا الباب تنقسم إلى ثلاثة فصول، وقد خصها بتقرير فضائل العلم إطلاقا وتقييدا فجعل الفصل الأول: في فضائل العلم العقلية. والفصل الثاني: في الفضائل النقلية، والفصل الثالث: في الفضائل المركبة من العقل والنقل.
والباب الثاني: في منفعة النحو منها، وضرورة الاحتياج إليه في ملة الإسلام.
والباب الثالث: في حكم استنباط النحو، والاشتغال به في نظر الشرع، وقد قسمه إلى فصلين:
الفصل الأول: في حكم استنباط النحو شرعا.
الفصل الثاني: في حكم الاشتغال به في نظر الشرع.
والباب الرابع: في نسبة النحو من العلوم، ومرتبته في التعلم، وغير ذلك مما
__________
(1) انظر روضة الإعلام: 1ظ. من ديباجة الكتاب.(1/48)
يحضّ على النظر فيه، والعناية بصونه وحفظه.
وقد قسمه إلى مناهج:
المنهج الأول: في نسبة العربية من سائر العلوم.
المنهج الثاني: في مرتبة العربية في التعلم.
المنهج الثالث: في بيان ما يعتمد عليه من حمل قواعد العلوم على العربية وما لا يعتد به من ذلك.
المنهج الرابع: في صون العربية من الإهانة لها، باستعمالها مع غير أهلها، ومن لا يحسن أن يخاطب بمقتضاها.
المنهج الخامس: في التحذير من التشدق بغريب العربية، وتفاصح المخاطبة بمقعر لغاتها.
المنهج السادس: في حكم أخذ الرزق أو الأجرة على تعليم العربية.
والخاتمة: في آداب المشتغل به وبغيره من سائر العلوم، وفيها إطناب عميم الفوائد، بديع اللواحق والزوائد، يتحف الناظر بنفائس درره الفاخرة، ويجمع به ما يعود عليه بخير الدنيا والآخرة.
وقد ذكر الآداب العامة والخاصة لهذا التعلم، وهي ثلاثة أقسام:
القسم الأول: فيما يتخلق به مع معلمه، وهي عشرة.
القسم الثاني: ما قيل في الآداب التي يتخلق بها المتعلم في نفسه، وحالة الاشتغال بتعلمه، وهي آداب متعددة، وهي عشرون أدبا.
القسم الثالث: في الآداب التي يتخلق بها المتعلم مع رفقائه في الطلب، وهي عشرة آداب.
وهو كما قال مؤلفه: يمتع بفوائد مختلفات، وفرائد في منظوم سبكه مؤتلفات، وروايات نقليات، واعتبارات عقليات، وحكايات مستظرفات، وآداب من أخلاق السنة مغترفات، فإذا طالعته أبصرت فيه غرائب جمة حكما وحكما.(1/49)
مصادر الكتاب:
ونتساءل ما هي المصادر التي اعتمدها المؤلف في تصنيف كتابه؟
إن الكتاب يضم مصادر متنوعة وغزيرة، ولم يكن «ابن الأزرق» ليكتفي بكتب الأقدمين بل استعان بالتقاييد (1)، كما نقل عن بعض شيوخه، وعن بعض معاصريه (2).
والذي يلفت الانتباه حقا هو إغفاله أحيانا كثيرة عن ذكر مصادره، أو توضيحها بدقة، مكتفيا بالإشارة إلى ذلك كقوله: «قال صاحب الطراز» (3) أو قال: «بعض العصريين» (4) أو قال: «بعض شراح الرسالة» (5).
وهو أحيانا أخرى يذكر اسم المؤلّف: دون تعيين مؤلّفه، وقد لا يصرح باسمه بل يقتصر على الكنية فقط. من ذلك قوله:
«قال السخاوي» (6) أو «قال ابن الحاج» (7) أو «قال الغزالي» (8) أو «قال الشيخ عز الدين» (9)، أو «قال الشيخ أبو عمر» (10).
وهو تارة يذكر المصدر قبل إيراد النص كقوله: قال النووي في «البيان» (11). وتارة أخرى يشير إلى ذلك بعد إيراده، فيقول مثلا: «ذكر ذلك كله الشيخ أبو نعيم» (12).
__________
(1) روضة الإعلام: (مخ أ) ص: (173و). و (200و). و (242و).
(2) م. س: 174/ ظ.
(3) م. س: 87ظ.
(4) م. س: 174ظ.
(5) م. س: 61ظ.
(6) م. س: 322و.
(7) م. س: 262ظ.
(8) م. س: 249و.
(9) م. س: 303و.
(10) م. س: (54ظ) و (208ظ).
(11) م. س: 66ظ.
(12) م. س: 232و.(1/50)
ونحن لا نعاتب «ابن الأزرق» في طريقة نقله لمصادره، فهي طريقة عرفت عند الأقدمين إذ كانوا ينفرون من إقحام أنفسهم في سرد أسماء المشهورين من العلماء، وما اشتهروا به من تآليف، والذي يهمنا هو: ما الذي نستفيده من وفرة هذه المصادر وتنوعها؟
إنها تؤكد شخصية الكاتب العلمية، وتؤكد حقيقة تاريخية عن المكتبة الأندلسية في عهدها الأخير، وكيف ظلت زاخرة بمختلف العلوم والفنون.
والملاحظ أن مصادره، لم تقف عند فن معين، بل شملت كتب النحو، واللغة، والقراءات، والأدب، والتاريخ، والسير، والطبقات، والفقه، والأصول، والمنطق، والتصوف، وعلم السياسة إلى غير ذلك من الفنون التي يزخر بها الكتاب، وسيجد القارىء حال اطلاعه عليه هذا الفيض الزاخر من المصادر، ويقابل سيلا من الأعلام الذين كان لهم دور في الحياة الأدبية والعلمية بصفة عامة.
منهجه في تأليف الكتاب:
يمكننا أن نقسم منهجه إلى منهج عام، ومنهج خاص.
المنهج العام:
وهو الذي يبدو من خلال تقسيمه الكتاب إلى مقدمة، وأربعة أبواب، وخاتمة، وهو تقسيم لم يحد عنه، بل نهجه وفق ما قرره.
ومما يلاحظ أن هذه الأبواب تقصر أحيانا من حيث يطول بعضها، وذلك حسب الموضوع الذي يعرضه، والمادة المتوفرة لديه.
ومن ثم نجد الخاتمة (1) من حيث عدد صفحاتها، تفوق باقي الأبواب، والفصول، في حين نجد «الباب الثالث»، لا يتعدى بضع وريقات.
ولقد وفى الكيل نصيبه، كما يقال، فلم يترك شاذة ولا فاذة إلا دعم بها المسألة التي يريد تقريرها، وذلك وفاء منه لمنهجه، وتتميما للغاية المتوخاة.
__________
(1) روضة الإعلام: (مخ أ) ص: 206ظ 353و.(1/51)
أما المنهج الخاص:
فهو زيادة على تماسك موضوعه، وتداخله، وتشابكه، قد نحا منهجا محكما أعطاه خصوصية انفرد بها.
وتتضح هذه الخصوصية، في ابتكاره بالإضافة إلى العناوين الأصلية، عناوين فرعية وهذه العناوين الفرعية هي الأخرى تنطوي على تفريعات يكون الهدف منها الاستدراك على «مسألة»، أو «التنبيه على فضيلة»، أو «مغلطة»، أو «زيادة معنى»
ونتساءل لم هذا السيل من العناوين الفرعية التي لا تعد ولا تحصى، والتي عمت سائر الكتاب، وداخل كل باب، وفصل، بل داخل كل عنوان أو مسألة، يطرحها للدرس أو النقاش؟ ويبدو أن للمنطق، ولتشبع مؤلفه به، أثرا واضحا في طريقة ترتيب أبوابه، وتنظيم فصوله، جعل من أبرز سمات منهجه هذا الإحكام المتقن الذي لولاه لعبرت الفوضى الكتاب، ولكان من الصعب تحديد مروياته، ونقولاته، ومسائله، ومن هذه العناوين:
«تنبيه على وهم» (1): في معرض إشارته إلى ما وهمه الجاحظ في مسألة اللّحن واللّحن.
أو «ترغيب» (2): أثناء حديثه عن مطالعة الكتب، والترغيب في تحصيلها.
أو «مزيد تشويق» (3): إذا كان هناك ما يجري مجرى الترغيب.
وهو لا يتوانى في تكرار هذه العناوين الفرعية، لتأدية معنى من المعاني، داخل الباب الواحد، بل داخل الفقرة الواحدة، فقد يكررها لعدة مرات.
فلفظ «تنبيه» مثلا قد استعملها سبع مرات داخل القسم الثاني من الخاتمة (4) إلا أن محل استعمالها في مسألة يخالف ما نبه إليه في مسألة أخرى،
__________
(1) م. س: 170ظ من الباب الرابع.
(2) م. س: 263ظ من الخاتمة.
(3) م. س: 266ظ من الخاتمة.
(4) روضة الإعلام: 242و، و 246ظ، 254ظ، و 267و(1/52)
وهذه خصوصية جعلت الكتاب يتميز بطرافة تكمن في ذلك التنوع الذي يدفع الملل، ويكون بمنزلة جواذب للفكر. كما أن بعض هذه العناوين قد تأتي مجردة كما ذكر سابقا في لفظ «تنبيه»، وقد ترد مركبة كما في قوله: «تنبيه على مهم» (1) «تنبيه على مقصد من المنافسة» (2) «لا حقة تنبيه» (3).
ومما يلاحظ أنه قد اتبع منهجا استقرائيا في عرض فقراته، ونصوصه، التي تخدم موضوعه، ناهجا طريق الانتقال من الكليات إلى الجزئيات، ومن العام إلى الخاص، فهو يعرض الفكرة أولا، ثم يقدم مختلف الآراء الواردة في المسألة، وقد يفرع عنها مسألة جانبية يخصها بالاهتمام، ويعرض للأوجه الواردة فيها أيضا، ليعقب بعد ذلك إن كان له رأي فيها، أو يصمت ليتابع حديثه إن لم يكن له ما يدلي به.
طرق الاستدلال عند ابن الأزرق:
إن المتأمل فيما أورده «ابن الأزرق» من نصوص في كتابه ليلحظ أن طرق الاستدلال عنده مختلفة متنوعة الأغراض، يجمعها خيط واحد هو الدفاع عن العربية وآلتها.
وإن الناظر في الكتاب لأول وهلة، قد يدهشه ذلك العدد الضخم من المرويات، حتى يخاله كتاب تفسير لكثرة الآيات الواردة فيه، أو كتاب حديث لكثرة ما ورد فيه من الأحاديث النبوية، أو ديوان شعر لكثرة منظوماته المروية، أو كتاب نوادر وأخبار وتراجم لكثرة ما جمع منها، أو كتاب فقه وأصول ومنطق لكثرة ما فصل وفرع من الأحكام والمسائل، لكن المتفحص اللبيب حين يسبر غوره، يجد أن هذه جميعا، جاءت لتخدم الغرض الأساسي، الذي وضع لأجله الكتاب، كما أنها صورة واضحة لثقافة ابن الأزرق، ولطريقة عرضه للمسائل،
__________
(1) م. س: 189ظ.
(2) م. س: 330ظ.
(3) م. س: 335و.(1/53)
التي كانت تشغل ذهن مثقف ينتمي إلى ق 9هـ، وإن كنا نأخذ عليه وقوفه عند حدود السلف الصالح، وعند حدود النقل دون تجاوز ذلك، والسؤال المطروح هو: كيف كان «ابن الأزرق» ينقل نصوصه ليستدل بها؟
تميز في نقله للنصوص بطريقتين:
إحداهما: محافظته على النص دون اختصاره، إلا أنه قد ينقله على غير ترتيب، فيأخذ من النص ما يتطلبه الشاهد ملتقطا من مواضع (1)، وعند نهاية النص المنقول يشير إلى ذلك بلفظ «انتهى»، أو «قلت» أو «قال» أو بذكر «عنوان» أو «بالرواية عن علم من الأعلام»، إذ يشعرك ببداية نص آخر أو فكرة أخرى.
ثانيتهما: قد يعمد إلى تلخيص النص المستشهد به بالاقتصار على معناه فقط فيشير إلى ذلك بقوله: «انتهى وبعضه بالمعنى» (2) أو «انتهى ملتقطا من مواضع في كلامه» (3) أو «انتهى وتقرير هذا المعنى شهير في كلام الناس فلا نطول بإيراده» (4).
وفي كل هذا ما يوضح أمانة المؤلف في المحافظة على النص المنقول.
ومما يدخل أيضا في منهجية المؤلف في هذا الكتاب مسألة الإحالات عنده، فهو تارة يحيلك على مواضع من كتابه، وأخرى على تتبع مظان أخرى خارج كتابه.
من ذلك قوله في ترجيح مداد العلماء على دم الشهداء يوم القيامة:
«وسيأتي له ذكر إن شاء الله في خاتمة الكتاب» (5).
__________
(1) من ذلك مثلا ما نقله عن «ابن السيد البطليوسي» في كتابه «الاقتضاب» ط 1973، فهو يأخذ من ص: 55، ثم يعود إلى ص: 51، ثم 59، ثم 55.
(2) روضة الإعلام: مخ أ 54ظ.
(3) م. س: 51ظ.
(4) م. س: 60ظ.
(5) م. س: 43و.(1/54)
وقوله في أمر سبقت الإشارة إليه: «مما تقدم في الفضيلة الثالثة أن الإدراك العقلي أشرف من الإدراك الحسي» (1).
وقوله عند الحديث عن عدم إهمال علم من العلوم الشرعية: «وقد تقدم للغزالي في هذا المعنى فليراجع من هناك» (2) إلى غير ذلك مما يعم مواطن كثيرة من الكتاب.
هذا ما يتعلق بالإحالات داخل الكتاب، أما خارجه فكقوله في مسألة «كذا»: «نقل صاحب الصحاح: أنها تكون كناية عن الشيء، وعن العدد، وبه يجاب عن إشكال أورده القرافي في الموضع، فانظره من هناك» (3).
وقوله في السبب العام لوضع النحو، ما جاء عند «أبي نصر الفارابي» في كتاب «الألفاظ»، «وله في صدر الكتاب كلام في هذا المعنى، أتم مما نقل عنه فراجعه من هناك» (4).
ونكتفي بهذه الإشارات فغيرها كثير.
ومما يلاحظ أن صاحبنا في إشاراته هذه، يقدم الدليل على مهارة التأليف، وقدرة في سبك خيوط موضوعه، وربط أبوابه ربطا محكما يعبر عن تفكير المجد، وملاحظة المجرب المحنك في ميدان التأليف.
أسلوب الكتاب:
وإذا تأملنا أسلوب «ابن الأزرق» في هذا الكتاب، فإننا نجده أسلوب الفقيه الأصولي المجادل الذي يبسط المسألة ويعرض لأوجهها المختلفة سواء كانت في الأدب أم اللغة أم النحو ليأتي بعد ذلك ببعض الاستدلالات التي تؤكد مرماه، وتثبت حجته في مسألة من المسائل التي كان يعرضها.
__________
(1) م. س: 32و، وهو يشير إلى ما تقدم في ص: 29و.
(2) م. س: 252ظ.
(3) م. س: 112و.
(4) م. س: 135ظ.(1/55)
ولذلك لا نجد في الكتاب ما يدل على خيال جامح، أو إبداع أدبي بارع، يشدك إلى قراءته، ومن ثم فقد طابع التسلسل الذي يجعل الفكرة تلاحق سابقتها، لكثرة التفريعات والتقسيمات، فعم الكتاب كثرة الاستطراد والتقصي.
وليس هذا بعيب في الكتاب ولا في أسلوبه، لأنه نهج فرضه الموضوع، وأملته ظروف التأليف، وشخصية المؤلف أيضا.
ويبقى «لابن الأزرق» فضل إمدادنا بنموذج لأسلوب الكتابة في عصره، ولطريقة في التأليف، خاضعة لمعايير منطقية، لا يستطيع صاحبها مجاوزتها.
والكتاب بعد كل هذا يعد وثيقة نادرة، تكشف عن ثقافة عصر بكل معطياته، وعن المستوى العلمي الذي كانت تحظى به بلاد الأندلس، وما كان لأعلامها من علم ومعرفة، ويحدد موقفا معينا لصاحبه تتجلى أهميته في الدفاع عن العربية وآلتها. وبالتالي عن الكتاب والسنة في مواجهة التحدي الصليبي الذي كان يزحف، وكأن «ابن الأزرق» يستقرىء المستقبل ويفصح عما تخفيه الأيام.
ويحق لنا أن نتساءل عن أهم المميزات والخصائص التي تميز بها هذا الكتاب؟ إن لكل كتاب طعما يدل على ذوق صانعه، ولونا يدل على شخصية مصوره، مهما اختلفت شخصية المختار وراء ما اختار.
ولقد جاء كتاب «روضة الإعلام» يعكس بحق شخصية صاحبه، ويعكس ما كان يهتم به من مباحث وعلوم كانت جزءا مما كان يشغل علماء عصره، فقد روى عن شيوخه، وعن معاصريه، فهو أديب تارة، وإن كان ذوقه ينحصر أحيانا كثيرة في المحفوظ لديه دون إبداع، وهو فقيه تارة أخرى يعتمد الأدلة النقلية والعقلية وهو بعد كل هذا محدث، وراوية، وعالم أصول، ومنطق، مما جعل الكتاب موسوعة علمية تغريك بلطائفها، وطرائفها.
ولعل أهم خاصية لهذا الكتاب هو جمعه للنصوص المختلفة، والتعقيب عليها بالاستحسان والاستهجان، وبالموافقة والمخالفة، مع الإشارة إلى مواطن
الجودة فيها، ومواضع الضعف وخلق جو من المناقشة القائمة على الإتيان بالدليل المقنع، والحجة الدامغة، مقلبا وجوه الرأي في المسألة الواحدة، وتبدو لهجته فيها أحيانا، موضوعية هادئة، وأحيانا حادة، خاصة في دفاعه عن النحو وأهله، أو في موقفه من بعض المذاهب التي يبدو من خلالها علما من أعلام المالكية متشبثا بالسلف الصالح، ناهجا طريقهم، ومقتديا بآرائهم متعصبا لهم على غيرهم، فهل كان «ابن الأزرق» يريد من كل هذا إلى أن جماع الفضل في العلوم والفنون الإسلامية يرجع إلى أهل السنة؟(1/56)
ولعل أهم خاصية لهذا الكتاب هو جمعه للنصوص المختلفة، والتعقيب عليها بالاستحسان والاستهجان، وبالموافقة والمخالفة، مع الإشارة إلى مواطن
الجودة فيها، ومواضع الضعف وخلق جو من المناقشة القائمة على الإتيان بالدليل المقنع، والحجة الدامغة، مقلبا وجوه الرأي في المسألة الواحدة، وتبدو لهجته فيها أحيانا، موضوعية هادئة، وأحيانا حادة، خاصة في دفاعه عن النحو وأهله، أو في موقفه من بعض المذاهب التي يبدو من خلالها علما من أعلام المالكية متشبثا بالسلف الصالح، ناهجا طريقهم، ومقتديا بآرائهم متعصبا لهم على غيرهم، فهل كان «ابن الأزرق» يريد من كل هذا إلى أن جماع الفضل في العلوم والفنون الإسلامية يرجع إلى أهل السنة؟
إن هذا التأليف الغريب المتفرد بخصوصياته، يمكن عده فلتة من فلتات الزمن، حافظ على ذخيرة علمية وافرة جعلت من الكتاب روضة علوم وأعلام فوافق بذلك الاسم المسمى، وجاء كل باب من أبوابها بل كل فصل من فصولها يعكس روضا من المعرفة، ومما انتهت إليه الثقافة عهد ابن الأزرق.
البحث عن المخطوطات:
كانت عملية البحث عن نسخ هذا الكتاب المخطوطة صعبة وشاقة، ما بين سفر، وتنقل، وتنقيب، وبحث، وهي أمور لا تخفى على أي باحث قام بعبء التحقيق. والذي وصل إليه بحثي أن للكتاب أربع نسخ مخطوطة، وهذه النسخ هي:
1 - مخطوطة الخزانة الحسنية بالقصر الملكي بالرباط، تحت رقم 4436التي رمزها (أ).
2 - مخطوطة الخزانة الحسنية بالقصر الملكي بالرباط، تحت رقم 2567التي رمزها (ب).
3 - مخطوطة الخزانة العامة بالرباط، تحت رقم ق / 486التي رمزها (ج).
4 - مخطوطة الخزانة العامة بالرباط، تحت رقم ق / 285التي رمزها (د).
وقد حاولت جهد الإمكان الاطلاع على هذه النسخ جميعها، ومعارضتها بعضها ببعض حتى أدرك ما بينها من تشابه أو اختلاف، وأتبين مدى قدمها
وسلامتها من الأخطاء، لترجيح بعضها على بعض، والوصول إلى النسخة التي تكون أصلا.(1/57)
وقد حاولت جهد الإمكان الاطلاع على هذه النسخ جميعها، ومعارضتها بعضها ببعض حتى أدرك ما بينها من تشابه أو اختلاف، وأتبين مدى قدمها
وسلامتها من الأخطاء، لترجيح بعضها على بعض، والوصول إلى النسخة التي تكون أصلا.
والذي انتهيت إليه أن جميع هذه النسخ مأخوذة عن أصل قديم لا نعرف عنه شيئا، وزيادة على اختلافها فقد لحقها من البتر ما عم سائرها، سواء في أولها أم في وسطها، أم آخرها، وهو ما جعل عصب الصعوبة يكمن في اختيار النسخة الأصل.
وتنازعني اختياران هما: هل أعير الاختيار للنسخة الأقدم، على الرغم مما انتزعته الأرضة منها، وما أخذته الأيام من ضياع لصفحاتها، وطمس لفقراتها مع احتفاظها بسند توثيقها بما تشتمل عليه من بقايا تمثل بدء الكتاب كما في (ب)، أو أنهج سبيلا آخر، فأرجح النسخة التي تتوفر على وضوح أكثر مع قلة الأخطاء على الرغم من تأخرها الزمني، وعلى الرغم من ضياع مقدمتها كما في (أ) للوصول إلى نص سليم؟
واستقر عزمي على الاختيار الثاني، فجعلت (أ) الأصل، إلا أن هذا لم يمنعني من جعل باقي النسخ مادة أسد بها الفراغ الناتج عن بعض الإسقاطات والحذف، ولا أقف بها عند حدود المعارضة بل اعتبرها مكملة لما يوجد من نقص أو محو أملا في إخراج نص بعيد عن التشويه أو التحريف، وفي إخراج نص تام متكامل تفتقده كل النسخ ليعطينا نسخة تامة للكتاب.
وصف المخطوطات:
وصف المخطوطة (أ):
هذه المخطوطة محفوظة بالخزانة الحسنية بالقصر الملكي بالرباط تحت رقم 4436قياسها: (5، 26* 18) وعدد صفحاتها: 705، وسطورها باطراد: 18 سطرا في كل صفحة ما عدا الصفحات الأخيرة فهي ما بين 15و 17سطرا.
أما إطارها المكتوب فقياسه: (5، 16* 11).
كتبت بخط مغربي جميل، ونقشت العناوين ورؤوس الفقرات بخط بارز ملون بالأزرق والأحمر والأسود، خالية من أي أثر للأرضة، إلا أن هذا لم يمنع
من وجود بياض في مواضع كثيرة من المخطوطة، وهو يتعدى الكلمات ليشمل صفحات بأتمها (1) ولعل ذلك يرجع إلى أن الناسخ كان ينقل عن مخطوطة لم يكن يدرك بعض كلماتها أو أنها تتضمن ذلك الإسقاط فحافظ الناسخ عليه، وقد أكملناه من النسخ الأخرى.(1/58)
كتبت بخط مغربي جميل، ونقشت العناوين ورؤوس الفقرات بخط بارز ملون بالأزرق والأحمر والأسود، خالية من أي أثر للأرضة، إلا أن هذا لم يمنع
من وجود بياض في مواضع كثيرة من المخطوطة، وهو يتعدى الكلمات ليشمل صفحات بأتمها (1) ولعل ذلك يرجع إلى أن الناسخ كان ينقل عن مخطوطة لم يكن يدرك بعض كلماتها أو أنها تتضمن ذلك الإسقاط فحافظ الناسخ عليه، وقد أكملناه من النسخ الأخرى.
والمخطوطة لا تخلو من أخطاء وتصحيفات، خاصة في النصوص الشعرية وموازينها، وفي أسماء بعض الإعلام، وقد نبهنا على ذلك في موضعه من الهامش، وبالمخطوطة تعليقات وهوامش بخط مشابه لخط المتن تمثل إلحاقا من الناسخ لتوضيح بعض ما بالنص، وتكثر هذه الهوامش في خاتمة الكتاب. بالإضافة إلى وجود رموز دأب عليها النساخ مثل: (قف) و (صح)
وهي مبتورة الأول فقد سقط منها ما يزيد عن ثلاث صفحات وآخرها تام فيه إشارة إلى تاريخ الفراغ من تصنيفها: 26شعبان من عام 875هـ بمدينة مالقة.
وإلى ناسخها لنفسه محمد بن الحسن بن ظافر الذي نقل عن النسخة الخطية للمؤلف نفسه، وتاريخ نسخه لها بمدينة مالقة يوم الثلاثاء 2رجب من عام:
886 - هـ فهي نسخت على عهد المؤلف وإلى ناسخ المخطوطة التي بين أيدينا دون ذكر اسمه، وإنما ختمها بقوله: «انتهى بحمد الله وحسن عونه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما، ووافق الفراغ منه أواخر شهر ربيع الثاني عام ثلاثة عشر ومائة وألف، اللهم اغفر لكاتبه وقارئه، وناظره، وكاسبه، ولجميع المسملين والمسلمات الأحياء منهم والأموات وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
وعلى هذا فتاريخ نسخها هو ربيع الثاني من عام 1113هـ.
وتتميز هذه النسخة بوضوح خطها، وسهولة قراءتها، والأجدى من هذا بتوثيقها الذي يصل بينها وبين النسخة الأم التي بخط المؤلف، لكل هذا اعتمدتها وجعلتها النسخة الأصل في التحقيق.
__________
(1) انظر: ص (6و) فقد شمل البتر ما يقارب ثلاث صفحات، وص (138و) إذ شمل البتر بقية الباب الثالث وأوائل الباب الرابع أي ما يقارب اثنتي عشرة صفحة وقد أتممناها من (ج).(1/59)
وصف المخطوطة (ب):
توجد هذه المخطوطة بالخزانة الحسنية بالقصر الملكي بالرباط تحت رقم: 2567. قياسها: (5، 27* 5، 20) وعدد صفحاتها (452). وسطور كل صفحة منها غير مطردة تتراوح ما بين (2624). وأما إطارها المكتوب فقياسه (19* 5، 13).
كتبت بقلم يغلب عليه الطابع المغربي، وكتبت العناوين ورؤوس الفقرات بألوان مختلفة ويصعب على قارئها تلمس حروفها، وضبط جملها نظرا لما نخرته الأرضة من السطور والكلمات والحروف، وبالأحرى تتبع الصواب والخطأ فيها، وفي أعلى الصفحة الأولى خاتم الخزانة الحسنية، وكذا في آخر صفحة من المخطوطة.
ونقرأ في أولى صفحاتها بعد البسملة والتصلية:
«قال الشيخ الإمام الأوحد الصدر الأجل العالم العلامة أبو عبد الله محمد بن علي بن الأزرق الأبي الأصبحي قاضي القضاة، وعلم الإعلام، رحمه الله تعالى ورضي عنه بمنّه». وقد كتبت هذه العبارة وسط الصفحة وبخط بارز.
وفي بداية السطر تبدأ المخطوطة ب «الحمد لله الذي رفع منار العربية». وآخرها سقطت منه ما يقارب أربع صفحات، وهكذا لا تنتهي بأي ذكر لتعليق أو توثيق، لأنهما ضاعا بضياع الصفحات الأخيرة، ومن ثم لم نعرف لهذه النسخة تاريخ نسخها، ولا ناسخها فهي تنتهي عند قوله:
«قال ابن المنذر: كان مالك لا يوسع لأحد في حلقته ولا يرفعه، ويدع أحدهم / هه / هـ / الحمد لله».
ومع كل هذا فيمكن أن نرجح أنها من أقدم النسخ نظرا لكثرة خرومها، ولورقها الذي اعتدت عليه الأرضة من كل جانب حتى صار من الصعب الحصول على نسخة مصورة منها.(1/60)
وتتميز هذه المخطوطة عن غيرها من النسخ أنها الوحيدة التي تحتفظ بالصفحات الأولى للكتاب، أما ما عداها من النسخ فهي مبتورة الأول، ومن ثم تتجلى أهميتها على الرغم مما فيها من طمس، وبياض كما في الصفحة الأولى. كما أنها النسخة الوحيدة التي تحمل اسم المصنف والمصنف، ومنهجه، وأبوابه.
وقد استأنست بها في التحقيق، وكدت أركن لجعلها النسخة الأصل، لولا صعوبة قراءتها وكثرة خرومها مما لا يفي بالمطلوب في استخراج نص واضح وسليم.
وصف المخطوطة (ج):
هذه النسخة محفوظة بالخزانة العامة بالرباط تحت رقم ق / 486. قياسها:
(23* 5، 17) وعدد صفحاتها (450) وسطور كل صفحة منها باطراد 26سطرا، أما إطارها المكتوب فقياسه ما بين (5، 16و 17* 12) خطها مغربي مستحسن، ويتغير نسبيا في الأوراق الأخيرة من المخطوطة، كتبت الأعلام والعناوين ورؤوس الفقرات بخط واضح مميز.
والملاحظ أن الأرضة قد أكلت بعض أطرافها، فأسقطت جملا، وأحدثت بترا، خاصة في الأوراق الأولى.
ونجد في الورقة الأولى من مجلدتها أبياتا شعرية ينسبها الناسخ للأديب سيدي إبراهيم الكميلي، بها طمس في أحد أشطارها، وهي تدور حول الأديب، وبستان الآداب، وأظنها من باب تجريب القلم، ولا علاقة لها بالنص، أو هي لأحد مالكيها.
وفي الصفحة الأولى تمليك ينص على اسم صاحبه «محمد المكي بن موسى بن محمد بن ناصر». وفي نهايتها إمضاء صاحب التمليك مع ذكر اسم الكتاب ومؤلفه والإشارة إلى سقوط أوراق يسر الله بإكماله بها، وهذا التمليك كتب بخط مغاير للمتن.(1/61)
وفي أعلى الصفحة جهة اليسار نجد خاتم مكتبة الزاوية الناصرية تمكروت تحت رقم (322ص). وفي الوسط نجد خاتم الخزانة العامة بالرباط. مخطوطات الأوقاف.
ويتضح من هذا أن النسخة كانت تحتضنها خزانة تمكروت ثم نقلت إلى الخزانة العامة. والنسخة مبتورة الأول والأخير. فهي تبدأ بقوله: «النوع الرابع:
ما يعلم بأن من عرفه، وقرأ القرآن» وقد سقط من أوراقها ما يقارب سبع صفحات وتختم النسخة بقوله:
«وقال ابن المنذر: كان مالك لا يوسع لأحد في حلقته ولا يرفعه، يدع» فقد ضاع من آخرها ثلاث صفحات ونصف.
وهكذا نلاحظ أنها لا تنتهي بأي ذكر لتعليق أو توثيق لأنهما ضاعا بضياع الصفحات الأخيرة، وإنما بخاتم الخزانة العامة، وخاتم الخزانة الناصرية، وعلى هذا فمن المحتمل أن تكون (ج) منقولة عن (ب) لتشابه بينهما خاصة في نهاية المخطوطة، بل قد تكون (ج) أقدم من (ب). لهيئتها العامة ولأوراقها التي نخرتها الأرضة.
وبالمخطوطة أيضا تعليقات وهوامش هي في الغالب لقارئها، وليست للناسخ فقد كتبت بخط رقيق ومغاير.
ولا تخلو أيضا من حذف، وبياض، وأخطاء، وقد حاولت جهد الإمكان أن أتخطاها بالإصلاح والتقويم.
ومع كل هذا فقد استأنست بها في عملية التحقيق حرصا على استيفاء دلائل ثبوت نص الكتاب ومعارضته بغيره من النسخ.
وصف المخطوطة (د):
هذه المخطوطة محفوظة بالخزانة العامة بالرباط تحت رقم 285. وهي من ضمن مخطوطات المكتبة الكتانية لمالكها محمد عبد الحي الكتاني، قياسها:
(5، 27* 21) وإطارها المكتوب: (19* 5، 14). وعدد سطورها في كل صفحة
23 - سطرا، وعدد صفحاتها: (333) صفحة، خطها مغربي متوسط مقروء يتغير نسبيا في بعض الأوراق خاصة الأخيرة حيث يعسر قراءته.(1/62)
(5، 27* 21) وإطارها المكتوب: (19* 5، 14). وعدد سطورها في كل صفحة
23 - سطرا، وعدد صفحاتها: (333) صفحة، خطها مغربي متوسط مقروء يتغير نسبيا في بعض الأوراق خاصة الأخيرة حيث يعسر قراءته.
جلدها به خروم في أطرافه لتسرب الأرضة إليه.
ونجد في الورقة الأولى من مجلدتها بعض أشعار محورها امرأة ورثت من زوجها نصف ماله، وهي أشعار لا علاقة لها بالنص المخطوط، وفي نهاية هذه الورقة تمليك ينص على اسم صاحبه «محمد بن إبراهيم الحسني النظيفي السوسي بالمواسين» الذي ملكه بموجب شراء من ورثة الغالي العدل بالقصور، وقد حدد ثمن النسخة، ولم يذكر تاريخ البيع أو الشراء.
أما الصفحة الأولى من النسخة فتحمل تعليقا لمحمد عبد الحي الكتاني، يثبت فيه عنوان المخطوطة، ويترجم لصاحبها، ويبين بعض مصادر هذه الترجمة، ويشيد بفوائد الكتاب عموما، فلقد طالعه مرتين لأجل كتابه:
«التراتيب الإدارية» ويختم ذلك كله بالتاريخ الذي أكمل فيه مطالعة الكتاب وهو فاتح رجب عام 1343هـ.
ومما يلاحظ أن محمد عبد الحي الكتاني لم يذكر طريقة التمليك التي حصل بها على المخطوطة، وفي أعلى الصفحة الثانية كتب وبخط مغاير للنص:
«في ملك محمد عبد الحي الكتاني» بمراكش عام 1331هـ.
والمخطوطة مبتورة الأول إلى آخر الباب الثالث فهي تبدأ ب «ومن ذلك اختلافهم في شكل المصحف، ونقطه، وتعشيره» أما آخرها فتام، فقد أتى على ذكر ناسخها وتاريخ نسخها، يقول ناسخها: «وقد تم بعون الله تكميل هذا الغرض على يد عبيد الله تعالى وأقل عبيده علي بن المبارك بن يحيى السجستاني وكان الفراغ منه في شهر ربيع الثاني عام ثمانية وألف».
والمخطوطة لا تخلو من أخطاء، ومع ذلك فناسخها لا بأس به، ويظهر ذلك في الهوامش والتعليقات التي كانت ملازمة لبعض الفقرات.(1/63)
منهج التحقيق
كانت رحلتي مع «روضة الإعلام» رحلة ممتعة على الرغم مما لاقيت فيها من عناء، فمن خلال الوصف التقريبي السابق الذي حاولت فيه توضيح الصورة التي أتت عليها النسخ، يبدو جليا صعوبة الارتكان إلى نسخة من هذه النسخ المخطوطة، نظرا لما تحتوي عليه من بتر يعم سائرها. ومع ذلك وبتتبع هذه النسخ قراءة، وتمحيصا، وفحصا، وجدتني أحتكم إلى ما تفترضه الحقيقة العلمية، من جعل أقرب هذه النسخ إلى تحقيق نص سليم هي النسخة الأصل، ما دامت النسخة الأم ليست موجودة لدينا، بل أجعل من النسخ جميعها مطية لتخريج نص الكتاب تاما، معتمدة المنهج الانتقائي المقارن في إخراج النص، نظرا لما أصابه من بتر وتشويه، وحذف، استغرق أحيانا فصلا بل بابا بأتمه.
لكل ذلك اعتمدت (أ) ونبهت إلى ما تحتوي عليه من زيادة أو إسقاط أو حذف في الهوامش والحواشي (1).
وبما أن كل عمل جاد يفترض دراسة موضوعية، وممارسة منهجية، ومصدرا علميا، فإن رحلتي مع المصادر والمراجع كانت مضنية، إذ ما أكثرها عند «ابن الأزرق» وما أكثر اختلافها وتنوعها، فهي تمثل مكتبة للعلوم الإسلامية على مدى تسعة قرون و «ابن الأزرق» لم يترك جانبا من جوانب الثقافة الإسلامية إلا سلكه، سواء في اللغة أم النحو، في الفقه أم في الحديث، في الأصول أم في المنطق، في الأدب أو النقد أو الترجمة
وقد حاولت الرجوع إلى تلك المصادر سواء منها المخطوط أم المطبوع، تحدوني الرغبة في تحقيق النص، ومقابلته، وترجيح الصائب منه على المضطرب الذي يفسر المعنى، فعمدت إلى تصحيح الأبيات الشعرية على ضوء دواوين أصحابها، ولم ينسب منها «ابن الأزرق» إلا القليل تاركا الباقي عهدة لمن قام بعبء التحقيق، أو تناول كتابه بالقراءة والتمحيص، علما أن شواهده
__________
(1) انظر مثلا ص: 81وقد أتممناها من (ب). وص: 3427. وقد أتممناها من (ج)(1/64)
الشعرية تفوق 400شاهد، موزعة حسب الأغراض، والفصول، والأبواب، إذ قد تصل عدد أبيات الشاهد الواحد إلى ما يفوق مائة بيت، وقد عملت ما وسعني الجهد على تخريج هذه الأشعار سواء من دواوين أصحابها أم من المظان التي يرجح أن تكون واردة فيها.
كما التزمت بتخريج الآيات القرآنية، وإثبات سورها، ورقم الآية مع ضبطها وتصحيحها مما أصابها على يد النساخ.
أما الأحاديث والآثار المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم فقد عملت على إرجاع جلها إلى مظانها أو إلى مصادرها.
ووردت في الكتاب أسماء أعلام حاولت تصحيحها وضبطها على الوجه السليم. وبالتالي الترجمة لها على اختلاف أجناسها، واختصاصها ما عدا الأعلام المشهورة كأسماء الرسل، وكبار الصحابة، أو من لم أعثر لهم على ترجمة فيما توافر لدي من المصادر، وقد حاولت أن تكون الترجمة مركزة وأمس بالجانب الذي أورده المؤلف.
كما سلطت الأضواء على البلدان، والأماكن، والمفردات اللغوية، والمصطلحات التي ملأت جوانب الكتاب حسب ما تيسر لي، ووصل إليه اجتهادي. كما حاولت عدم الإكثار من التعليقات لأن ذلك يعوق القارىء عن ملاحقة النص ومتابعته، إلا ما كان يقتضي الإشارة إلى ما استغلق من النص، وفك غوامضه.
هذا وقد أتعبتني أخطاء النساخ، وما أكثرها على تنوعها، سواء كانت نحوية أم لغوية أم صرفية أم عروضية، أم ما تعلق منها بالضبط أم الإعجام، أم وضع الجمل النثرية المسجوعة في وضع الشعر، أم رسم بعض الأبيات الشعرية رسم النثر، فقد حاولت جهد الإمكان تلافيها، وركنت إلى تنقية النص من شوائبه على اعتبار أن هذا من أقلام النساخ، ولم أكلف نفسي عناء الإشارة إليها في الهوامش.(1/65)
إن مما يزيد النص وضوحا وضع النقط، والفواصل، وعلامات الاستفهام، والتعجب، وقد وفينا النص حقه من كل ذلك.
الرموز:
/ / للدلالة على انتهاء كل صفحة من المخطوطة الأصلية والشروع في أخرى مع إثبات رقم الصفحة من المخطوطة، مرفوقة بالواو (و) دلالة على وجه الصفحة، والظاء (ظ) على ظهرها.
() إشارة إلى وجود بياض في النسخة الأصلية أو في النسخ الأخرى.
[] إشارة إلى وجود إسقاط في النسخة الأصلية أو في النسخ الأخرى، أو إشارة إلى زيادة إما من نسخة على أخرى، أو من مصادر، ومراجع التحقيق.
«» وضع بينهما كل قول سواء كان من القرآن أم الحديث أم غير ذلك.
ثم وضعت فهارس لكل الأبواب التي احتواها الكتاب حتى يتمكن القارىء وبيسر من الوقوف على مطلبه، ووضعنا فهارس للموضوعات، وفهارس للآيات والأحاديث والأعلام، وغيرها مما سيكون مثبتا في آخر الكتاب.
والله الموفق(1/66)
الصفحة الأولى من المخطوطة «أ»(1/67)
الصفحة الأخيرة من المخطوطة «أ»(1/68)
الصفحة الأولى من المخطوطة «ب»(1/69)
الصفحة الأخيرة من المخطوطة «ب»(1/70)
الصفحة الأولى من المخطوطة «ج»(1/71)
الصفحة الأخيرة من المخطوطة «ج»(1/72)
تعليق لمحمد عبد الحي التكاني حول المخطوطة ويوازيه رقم (1) مخطوطة «د»(1/73)
الصفحة الأولى من المخطوطة (د) ويوازيها رقم (2)(1/74)
الصفحة الأخيرة من المخطوطة (د)(1/75)
روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام(1/77)
روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام
مقدمة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد () قال الشيخ الإمام الأوحد الصدر 1و / / الأجل العالم العلامة أبو عبد الله محمد بن علي بن الأزرق الأبي الأصبحي قاضي القضاة وعلم الإعلام رحمه الله تعالى ورضي عنه بمنه
الحمد لله الذي رفع منار العربية على المدح والتعظيم، وجعلها مرقاة لفهم السنة النبوية والقرآن العظيم، وأوجب لها رتبة البداية والتقديم، و () جمالها على ذوي الخصوصية () شرف الحديث والقديم، وقوم بها زيغ الكلام أحسن تقويم () هدايتها في نهاية العلوم وبدايتها على أوضح نهج قويم، وعصم صاحبها من آفة الفهم السقيم، واختلال تصريفه بضلال تحريفه عن سواء الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا المبعوث باللسان العربي للفهم والتفهيم، والمخصوص من بيان الدلالة بما أذهب به من شبهات الضلالة () البهيم، الذي جعل العربية واجبة التعلم () ودلائل الاحتياج إليها والاضطرار () القبول والتسليم () عن آله وخلفائه وصحابته () في أشرف
المظاهر () () وما بقيت على () من تعاقب () فإن من الواجب على من عرف العلم () () سوابق () وهذا كتب () في تهذيب فصوله 1ظ / / () ضمنه (1).(1/79)
الحمد لله الذي رفع منار العربية على المدح والتعظيم، وجعلها مرقاة لفهم السنة النبوية والقرآن العظيم، وأوجب لها رتبة البداية والتقديم، و () جمالها على ذوي الخصوصية () شرف الحديث والقديم، وقوم بها زيغ الكلام أحسن تقويم () هدايتها في نهاية العلوم وبدايتها على أوضح نهج قويم، وعصم صاحبها من آفة الفهم السقيم، واختلال تصريفه بضلال تحريفه عن سواء الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا المبعوث باللسان العربي للفهم والتفهيم، والمخصوص من بيان الدلالة بما أذهب به من شبهات الضلالة () البهيم، الذي جعل العربية واجبة التعلم () ودلائل الاحتياج إليها والاضطرار () القبول والتسليم () عن آله وخلفائه وصحابته () في أشرف
المظاهر () () وما بقيت على () من تعاقب () فإن من الواجب على من عرف العلم () () سوابق () وهذا كتب () في تهذيب فصوله 1ظ / / () ضمنه (1).
ومحصوله على مقدمة، وأربعة أبواب، وخاتمة.
فالمقدمة: في مدلول اسم النحو لغة واصطلاحا.
والباب الأول: في تقرير فضل العربية، وتحرير الحض على تعلمها.
والباب الثاني: في منفعة النحو منها، وضرورة الاحتياج إليه في ملة الإسلام.
والباب الثالث: في حكم استنباط النحو، والاشتغال به في نظر الشرع.
والباب الرابع: في نسبة النحو من العلوم، ومرتبته في التعلم، وغير ذلك مما يحض على النظر فيه والعناية بصونه وحفظه.
والخاتمة: في آداب المشتغل به، وبغيره من سائر العلوم، وفيها إطناب عميم الفوائد، بديع اللواحق والزوائد، يتحف الناظر بنفائس درره الفاخرة، ويجمع له ما يعود عليه بخير الدنيا والآخرة.
وعند كمال ما حواه الكتاب وجمعه وتأدى به أقصى ما أمّل فأسمعه.
سميته: «روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام». وإنّي لأرجو أن تكون التسمية إن شاء الله صادقة العنوان، فائزة من فضله بالقبول والرضوان، فقد دلّ بها على ما يبهج ويقيد بمحاسنه النواظر، ويمتع بفوائد مختلفات، وفرائد في منظوم سبكه مؤتلفات، وروايات نقليات، واعتبارات عقليات، وحكايات مستظرفات، وآداب من أخلاق السنة مغترفات، فإذا طالعته أبصرت فيه غرائب جمة () و () سراج () أضاء لأهل رشد
__________
(1) ما بين قوسين بياض في «ب» ناتج عن خروم. وهي النسخة الوحيدة التي تشتمل على الصفحات الأولى من الكتاب.
ما بين قوسين بياض في «ب» ناتج عن خروم.(1/80)
فإن صح () القصد الأسنى كما قال الشاعر () القصد به مرشدا:
كتاب يزدري بالسحر حسنا ... وسمت به زمانك وهو غفل
معان () عنها ... يشيب لها حسودك وهو طفل
وقال الآخر متمثلا، ولمشروع معناه ممثلا:
هو الحديقة إلا أن صيّبها ... صوب النّهى (1)، وجناه زهرة ()
لا بل هو السلك لم تنظم جواهره ... أيد النّواظم لكن برية القلم
() المنّة والطول، وواهب القوة والحول، أمد يد الضراعة خاضعا () () عسى أن يمن فيه بالإخلاص وبالنجاة من سوء القصد به () () بسابق الهداية آثار الخلل، إنه ولي من اعتمد عليه، وتبرأ من الحول والقوة إليه، وهو سبحانه بالإجابة جدير، وعلى جوده بما يشاء قدير.
__________
(1) الصيب والصوب: المطر، والنهى: ج نهية: وهو العقل، وفي التنزيل العزيز: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِأُولِي النُّهى ََ} سورة طه، الآيات: 54و 128.(1/81)
مقدمة الكتاب المقدمة وفيها مباحث ثلاثة:
المبحث الأول: في تفسير اسم «النحو» لغة.
وهو راجع فيها إلى معنى: «قصد الشيء 2و / / ونحا ناحيته».
قال في «الصحاح» (1): «النحو، القصد والطريق، يقال: نحوت نحوك:
أي قصدت قصدك، ونحوت بصري إليه: أي صرفته».
وفي «مختصر العين» (2): «نحوت نحو فلان: قصدت قصده وناحيته، ومنه نحو العربية، ويجمع على أنحاء. وانتحيت له (3): إذا تعمدت له» (4).
وفي كتاب كراع (5): «نحوت بصري إليه، ونحيته، انحوه، وانحاه: إذا
__________
(1) انظر مادة: نحا.
(2) مختصر العين: كتاب لأبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي. ت: 379هـ 989م. وهو من أئمة النحو واللغة والأدب. ألف كتابه هذا للحكم المستنصر بالله. وذهب فيه إلى اختصار كتاب «العين» للخليل. وتوجد منه نسختان خطيتان بخزانة القرويين. وقد اعتمدت النسخة رقم 1238.
/ انظر في ترجمة الزبيدي: جذوة الحميدي: 46والوفيات: 4/ 374372.
(3) زيادة من مخ المختصر: 105.
(4) انظر ن. م. س: 105. مادة (ح ن و).
(5) هو أبو الحسن علي بن الحسن الهنائي الأزدي الملقب «بكراع النمل» لقصره وقبحه.(1/83)
صرفته () (1).
وفي «أفعال (2) ابن القوطية (3)»: «نحوت الشيء أنحوه نحوا. ونحيته أنحاه نحوا (4). ونحيا: قصدته، وأنحيت (5) عليه: أقبلت عليه» (6).
هذا أصله، وهو أن يكون «مصدرا» بمعنى «القصد» كما () (7). وقد يستعمل «ظرفا» كقوله: أنشده ابن جني (8):
يحدو بها كل فتى هيّات ... وهنّ نحو البيت عامدات (9)
وبمعنى «مثل» فيقال: هذا نحو كذا: أي مثله.
__________
اهتم بالدراسات اللغوية، وكانت له أبحاث في فقه اللغة والمعاجم بخاصة. له كتب عدة منها:
«المنجّد» و «المنتخب» و «المنضد» و «المجرد». وتذكر معظم مصادر ترجمته أنه توفي سنة:
309 - هـ 921م / انظر الفهرست: 130. والإنباه: 2/ 240.
(1) بياض في «ب» ناتج عن خروم.
(2) كتاب الأفعال لابن القوطية من أقدم المعاجم العربية التي اهتمت بالفعل في بنائه ومصدره، ومعناه. وهو كتاب لغوي صرف، ليس كتاب أخبار، ولا كتاب أدب
(3) وابن القوطية: هو أبو بكر محمد بن عمر المعروف بابن القوطية. ت: 367هـ 978م إشبيلي الأصل، قرطبي المولد والوفاة. مؤرخ من أعلم أهل زمانه باللغة والأدب، قال عنه ابن خلكان:
«صنف الكتب المفيدة في اللغة منها: كتاب «تصاريف الأفعال» وهو الذي فتح هذا الباب». انظر جذوة الحميدي: 76. والوفيات: 4/ 371368.
(4) بياض في «ب» ناتج عن خروم.
(5) في «الأفعال» 155: أنحيت على الشيء.
(6) م. س: 155.
(7) بياض في «ب» ناتج عن خروم.
(8) هو عثمان بن جني الموصلي (أبو الفتح) ت: 392هـ 1001م. أديب، نحوي لغوي، مشارك في بعض العلوم. من تصانيفه: «سر الصناعة»، و «أسرار البلاغة»، و «المنهج في اشتقاق شعر الحماسة»، و «المحتسب». انظر: تاريخ بغداد: 11/ 312311، والنزهة: 334332، والإنباه: 2/ 340335.
(9) البيت وارد في الخصائص: 1/ 34. وهو في وصف الإبل، وقوله: يحدو: حدا الإبل، وحدا بها يحدو حدوا وحداء: زجرها خلفها وساقها. والحدو: سوق الإبل والغناء لها. (اللسان حدا).
وهيات: أي يهيّت بها: يدعوها ويصيح بها.
نحو البيت: أي جهة البيت، وهو ظرف مكان.
عامدات: قاصدات.
ووجه الشاهد في البيت قوله: «نحو» البيت، فقد استعمل لفظ «نحو» ظرفا.(1/84)
وبمعنى «القسم» يقال: هذا على أربعة أنحاء: أي أقسام.
المبحث الثاني: في مدلول «النحو» (1) اصطلاحا.
وقد عبّروا عن ذلك بعبارات كثيرة، فقال الفارسي (2):
«النحو علم بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب».
ويعني «بالمقاييس» القوانين الكلية، أي الأقاويل الجامعة الحاصلة في النفس من استقراء كلام العرب، وهو تتبع أنحائه وتصرفاته.
وقال ابن جني (3): «هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة فينطق بها.
وإن لم يكن منهم، أو إن شذ بعضهم عنها ردّ به إليها».
وقال بعض المتأخرين: «هو علم بالأحوال والأشكال التي بها تدل ألفاظ العرب على المعاني».
وقال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي (4) رحمه الله: ويعني «بالأحوال» وضع الألفاظ بعضها مع بعض في تركيبها للدلالة على المعاني المركبة.
ويعني «بالأشكال» ما يعرض في أحد طرفي اللفظ، أو وسطه، أو جملته (5) من الآثار والتغيير، أي التي بها تدل ألفاظ العرب على المعاني» (6).
__________
(1) خرم في «ب» أكملناه حسب سياق الجملة.
(2) هو أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي النحوي / ت: 377هـ 987م. من أهم كتبه:
«الإيضاح». انظر: تاريخ بغداد: 7/ 275. والإنباه: 1/ 273.
(3) في الخصائص: 1/ 34. وانظر اللسان نحا.
(4) هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي / ت: 790هـ 1388م.
أصولي. حافظ من أئمة المالكية. من تصانيفه: «الموافقات»، و «الإفادات والإنشادات»، و «شرح الخلاصة» انظر: النيل: 5046.
(5) في «ب»: جملة.
(6) انظر مخ «شرح خلاصة ابن مالك في النحو» للشاطبي، خزانة القرويين رقم 423/ ص: 6.(1/85)
المبحث الثالث: في سبب التسمية به
، وفي ذلك وجهان:
أحدهما: أنه لما كان في اللغة يراد به «القصد» () (1) به هذا العلم.
كأنه قصد إلى معرفة كلام العرب على الوجه الذي وقع الاصطلاح عليه.
الثاني: أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو المعلم الأول في هذا العلم على ما يذكر في موضعه إن شاء الله لما وضع لأبي الأسود الدؤلي (2) بعض مبادئه قال له: انح هذا النحو، أي اقصد قصده.
ويقال: إن أبا الأسود () به قال له: نعم، ما نحوت، فلما استعملت هذه اللفظة في مبدإ الاختراع لهذا العلم سمي بها () سائر ما يقصد من العلوم وغيرها. كما غلب اسم «الفقه» وهو في اللغة بمعنى الفهم على العلم () الشرعية دون سائر () (3).
فائدتان
الفائدة الأولى:
الألف واللام في «النحو» للعهد العلمي فيما () التخاطب اصطلاحا من غير () على معين منه. وهي التسمية العامة وقد يلحظ بها معنى () وذلك إذا أريد به () على التعيين كما يقال: «هذا النحو» ويراد به ما قرره سيبويه، وهو «النحو حقيقة».
الفائدة الثانية:
قال ابن أبي الربيع (4): كلام العرب يجمع على ثلاثة أسماء: النحو،
__________
(1) بياض في «ب» ناتج عن خروم.
(2) هو ظالم بن عمرو الدؤلي الكناني / ت: 69هـ 688م. أول من أسس علم العربية ووضع النحو. انظر: أخبار النحويين: 13، وطبقات الزبيدي: 2621، والنزهة: 116.
(3) ما بين قوسين بياض في (ب) ناتج عن خروم.
(4) هو أبو الحسين عبيد الله بن أحمد العثماني الإشبيلي الأموي النحوي / ت: 688هـ 1289م.(1/86)
واللغة، والأدب. فالنحو: 2ظ / / هو العلم بتغير الألفاظ، واللغة: العلم بوضع الألفاظ، والأدب: هو العلم بموقع الألفاظ من الكلام () لك وقبحه.
قلت: وهو في التفصيل على أنواع:
أحدها: علم المعاني، وهو معرفة خواص التركيب من جهة () أصل المعنى.
ثانيها: علم البيان، وهو معرفة خواص تركيب الكلام من حيث اختلافه () وضوح الدلالة وخفائها، وزيادتها ونقصانها.
__________
من تصانيفه: «شرح كتاب سيبويه»، و «ملخص القوانين النحوية»، و «برنامج». / انظر البغية: 2/ 126125، وفهرس الفهارس: 1/ 445444.(1/87)
الباب الأول في تقرير فضل العربية وتحرير الحض على تعلمها.
وتحتوي خاتمة هذا الباب على ثلاثة فصول:
الفصل الأول:
في الفضائل العقلية.
الفصل الثاني:
في الفضائل النقلية.
الفصل الثالث:
في الفضائل المركبة من العقل والنقل.
وكمال المراد في ذلك يتلخص في طرفين:(1/89)
في الفضائل المركبة من العقل والنقل.
وكمال المراد في ذلك يتلخص في طرفين:
أحدهما: فيما يدل على ذلك ويثبته، والثاني: في الجواب عن ظاهر ما يخالفه ويعارضه.
الطرف الأول 1ظ / / (1):
وفيه مسلكان:
أحدهما: فيما يتضمن ذلك عموما، والثاني: فيما يدل عليه خصوصا.
[المسلك] (2) الأول: وتقريره من وجوه:
أحدهما: أن الحض على حبّ العرب
بنحو ما في الصحيح عن ابن عمر (3) رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من أحبّ العرب فبحبّي
__________
(1) بداية «أ»، النسخة الأصل، وقد عدت إلى ترقين المتن حسبها.
(2) خروم في «ب».
(3) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، ت: 73هـ 692م. الصحابي: الجليل، كان كثير الحديث، شديد الورع. انظر: الإصابة: 1/ 350347.(1/91)
أحبّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم» (1). متضمن لفضلها من [جهة] (2) ما هي موصلة لمعرفة ما خصت به من [بين] (3) سائر الأمم، وهو لسانها الذي [نزل به] (4) القرآن [الكريم] (5).
الثاني: أن العلم بها وسيلة إلى فهم أشرف المقاصد
، وهي علوم الكتاب والسنة على ما سيرد بيانه إن شاء الله تعالى وحينئذ فيكون لها من [الفضائل] (6) على الجملة ما لتلك المقاصد الشريفة، لأن الوسائل [من حيث] (7)
هي لها أحكام مقاصدها، كما قرر الشيخ عز الدين (8) رحمه الله قال:
«فالوسيلة إلى أفضل المقاصد، هي أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد، هي أرذل الوسائل» (9).
الثالث: أن تقدير (10) فقد [ما يدل] (11) على خصوصية فضلها
، فكل ما
__________
(1) ما رواه «ابن الأزرق» هو شاهد من حديث «عمرو بن دينار»: عن «عبد الله بن عمر» رضي الله عنهما قال: بينا نحن جلوس بفناء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مرت امرأة، فقال رجل من القوم:
هذه ابنة محمد، فقال أبو سفيان: إن مثل «محمد» في بني «هاشم» مثل الريحانة في النتن، فانطلقت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فخرج يعرف الغضب في وجهه، فقال: «ما بال أقوام تبلغني عن أقوام، إن الله تبارك وتعالى خلق السماوات فاختار العليا، فأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر واختار من مضر قريشا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا من بني هاشم، من خيار إلى خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم». حديث أخرجه الحاكم في «المستدرك» 4/ 73. ورواه أيضا من غير هذا الإسناد.
(2) بياض في «أ».
(3) بياض في «أ».
(4) ساقط من «أ».
(5) ساقط من «أ».
(6) خروم في «ب».
(7) بياض في «أ».
(8) هو عبد العزيز بن عبد السلام الدمشقي الشافعي المعروف «بعز الدين» والملقب «بسلطان العلماء». ت: (660هـ 1262م). فقيه، مشارك في الأصول والعربية والتفسير. له تصانيف منها: «التفسير الكبير»، و «الإلمام في أدلة الأحكام»، و «قواعد الأحكام». انظر: البداية: 13/ 235.
(9) قواعد الأحكام: 46.
(10) في العبارة قلق في سائر النسخ.
(11) خرم في «ب».(1/92)
يدل على فضيلة العلم بإطلاق، مقتض لشمول الدلالة عليها، لسلامتها عن قيام المعارض، وتوجه دعواه على ما سيتضح إن شاء الله.
الرابع: أن فضيلة مدح كلام العرب
، ومزية الثناء عليه، في جملة من آيات الكتاب العزيز، من أظهر ما يدل على شرف بها، وفضل التمكن به، من معرفة ما تكرر الثناء عليه، فمن ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعََالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى ََ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسََانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (195) (1).
فمجيء هذه الجملة في مساق تقرير البرهان على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم مع تضمن تعديد المنة عليه، ومن جملتها تنزيل الوحي على قلبه {بِلِسََانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (195).
شاهد بوضوح الدلالة على فضل هذا العلم 2و / / الكاشف عن أسرار هذا اللسان مباشرة، ووساطة على أن جميع ما يلوح من لطائف هذه الجملة، مشعر بذلك من حيث الإشارة إليها، في سياق تعظيم المنة عليه صلى الله عليه وسلم مقتض دليلها، لإتمام النعمة عليه في إنزال القرآن باللسان الموصوف بما دل على شرفه وفضله على غيره، وعند ذلك فلنشر هنا إلى ما يحضر منها لتعلقه بهذا الدليل الكلي:
اللطيفة الأولى:
تصديرها بكلمة «إن» المقتضية لتأكيد الجملة الداخلة عليها، فإذا قيل: إن زيدا قائم» كان بمنزلة ذكر الجملة مرتين، كأنه قيل: «زيد قائم، زيد قائم».
اللطيفة الثانية:
تنكيت (2) لإخبار بتنزيل القرآن من رب العالمين. على من زعم من مكذبي العرب أنه سحر، أو كهانة إذ الضمير في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ} عائد على القرآن، ومجيئه بعد تقدم قصص قبله، مع قوله تعالى بعد ذلك: {وَإِنَّهُ لَفِي}
__________
(1) سورة الشعراء، الايات: 195192.
(2) نكت عليه: ندد به، وعاب عليه قوله أو عمله.(1/93)
{زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} (196) (1) مشيرا إلى برهان ذلك زائدا على تصريح الدلالة عليه في غير موضع.
اللطيفة الثالثة:
تأكيد هذا الإخبار «باللام» المفيدة لمبالغة التأكيد الذي اقتضته «إن» في صدر الجملة، وقد تقدم أن الجملة معها بمنزلة تكريرها مرتين، وهي مع دخول هذه اللام في الخبر، في قوة إعادتها ثلاث مرات.
اللطيفة الرابعة:
إضافة «التنزيل» إلى {رَبِّ الْعََالَمِينَ} دون غيره من الأسماء الحسنى، وذلك لتضمنه جميع الأوصاف التي بها قوام جميع العالم، إيجادا وإمدادا، فيشعر لا محالة بأن إنزال القرآن على الوجه الذي أشارت إليه هذه الجملة. ومن ذلك كونه {بِلِسََانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (195). هو من آثار تربيته سبحانه، وعنايته بهذا النوع الإنساني من جملة مخلوقاته.
اللطيفة الخامسة:
2 - ظ / / إسناد النزول به إلى الواسطة المعبر عنها «بالروح الأمين»، وهو جبريل عليه السلام لما في الكناية عنه بوصفي «الروح» و «الأمانة» التي هي من أخص صفات الرسالة من إعطاء الفرق بينه وبين الشياطين الذين هم واسطة الكهان، وتمامه تصريحا مذكورا بعد ذلك في قوله تعالى: {وَمََا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيََاطِينُ (210) وَمََا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمََا يَسْتَطِيعُونَ} (211) (2).
اللطيفة السادسة:
تخصيص النزول «بقلبه» صلى الله عليه وسلم، وإن كان إنما نزل على سمعه، ليعلم به أن ذلك المنزل محفوظ له صلى الله عليه وسلم راسخ في قلبه، لا يجوز عليه التغيير المؤثر في شرط الإنذار به، وأيضا فإن القلب هو المخاطب في الحقيقة، لأنه محل التمييز
__________
(1) سورة الشعراء، الآية: 196.
(2) سورة الشعراء: الآيتان: 210و 211.(1/94)
والتعقل مع ما في الترقي إليه، والتخصيص به من الإشارة إلى استقرار المنزل الشريف في المحل الشريف.
اللطيفة السابعة:
الإعلام بغاية هذا التنزيل وهي أن يكون صلى الله عليه وسلم من المنذرين: أي المبلغين في الترهيب مما يخل بكل واجب التحصيل من العلم والعمل اللذين هما وسيلتا السعادة.
اللطيفة الثامنة:
ختم ذلك بما سجل بإتمام النعمة لما أنزل {بِلِسََانِ} أي: بلغة خاصيتها الإبانة، لما تعبر به من المعاني، وإن [تناهت] (1) في الغموض إلى غاية تقصر عنها سائر اللغات مع الوضوح في نفسها، بحيث يسبق قلب سامعها إلى فهمها، قبل تمكن أذنه من وعيها.
اللطيفة التاسعة:
إتيانها {بِلِسََانِ} منكرا دون أن يقال: باللسان العربي المبين لما في التنكير من التعظيم، الذي لا يوفي به التعريف، كأنه قيل: «بلسان أي لسان»، كما في قوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} (55) (2). في نظائر كثيرة.
اللطيفة العاشرة:
حصول الشهادة بفضل هذا اللسان على كلا 3و / / التقديرين، في قوله تعالى: {بِلِسََانِ}. أما على تعلقه «بنزل» فظاهر من جهة أن الروح الأمين بلغ به القرآن المنذر لجميع من بلغه إلى يوم القيامة دون غيره. وأما على تعلقه «بالمنذرين» فكذلك لما في تخصيص الإنذار العام به من الإشادة بفخره، والإبانة عن عظيم فضله، والله أعلم.
__________
(1) في «أ» تناهب وفي «ب» طمس.
(2) سورة القمر، الآية: 55.(1/95)
اعتراف بشهود منة:
من شهادة العرب بفضيلة لسانها واعترافها بتكميل شرفها حيث نزل به القرآن المجيد ما يروى عن عتبة بن أبي سفيان (1) وقد ذكر لسان العرب فيما أورده صاحب (2) زهر الآداب، فقال: «إن للعرب كلاما هو أرق من الهواء، وأعذب من الماء، يمرق (3) من أفواههم مروق السهام من قسيّها، بكلمات مؤتلفات، إن فسّرت بغيرها عطلت، وإن بدلت بسواها من الكلام استصعبت، فسهولة ألفاظها أنها ممكنة إذا سمعت، وصعوبتها تعلمك أنها مفقودة إذا طلبت، هم اللطيف فهمهم، النافع علمهم، بلغتهم نزل القرآن، وبها يدرك البيان، وكل نوع من معناه مباين لما سواه، والناس إلى قولهم يصيرون، وبهداهم يأتمون، أكثر الناس أحلاما، وأكرمهم أخلاقا» اه (4).
قلت: قوله: «والناس إلى قولهم يصيرون» مثله قول الإمام الشافعي (5) في رسالته الموضوعة في أصول الفقه: «على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح، والتشهد وغير ذلك.
قال: وما ازداد به من العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به
__________
(1) عتبة بن أبي سفيان أمير مصر، وليها من قبل أخيه معاوية. ت: 44هـ 664م. انظر النجوم الزاهرة: 1/ 124122.
(2) هو أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري. ت: 413هـ 1022م. وفي رواية أنه توفي سنة 453هـ. من تصانيفه: «زهر الآداب وثمر الألباب». انظر: معجم الأدباء: 2/ 9794، والوفيات: 1/ 5554.
(3) مرق السهم من القوس: خرج مسرعا.
(4) انظر: زهر الآداب: 3/ 48.
(5) هو أبو عبد الله محمد بن إدريس الهاشمي القرشي الشافعي. ت: 204هـ 820م أحد الأئمة الأربعة، كان أشعر الناس، وآدبهم وأعرفهم بالفقه والقراءات. من تصانيفه: «أحكام القرآن»، و «الرسالة». انظر: تاريخ بغداد: 2/ 56، والتذكرة: 1/ 361.(1/96)
نبوته، وأنزل به آخر كتبه كان خيرا له. كما عليه أن يتعلم الصلاة والذكر فيها 3ظ / / ويأتي البيت، وما أمر بإتيانه ويتوجه لما وجه له» (1).
المسلك الثاني:
ونعني به الدلالة على خصوص ما وقع عليه اسم هذا العلم اصطلاحا.
وبيانها باستقراء ما تفيده من المعاني، وهي أنواع:
النوع الأول: ما يدل على فضله.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (2): «أحبّوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام الجنة عربي» (3).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «مر عمر بقوم قد رموا رشقا (4)، فأخطأوا، فقال: ما أسوأ رميكم! قالوا: نحن متعلمين، فقال لحنكم أشد علي من سوء رميكم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «رحم الله امرءا أصلح من لسانه» (5) رواه بهذا المساق أبو نعيم (6) في «رياضة المتعلمين» (7).
وينظر إلى قول «عمر» فيه رضي الله عنه: لحنكم أشد علي من سوء رميكم، ما يحكى أن رجلا دخل على زياد (8) فقال له: إن أبينا هلك! وإن
__________
(1) انظر: الرسالة: 9.
(2) ساقطة من «أ».
(3) رواه الحاكم في المستدرك: 4/ 87.
(4) الرّشق: الوجه من الرمي: إذا رموا بأجمعهم وجها بجميع سهامهم في جهة واحدة ويجمع على أرشاق. اللسان رشق.
(5) انظر إيضاح الوقف: 1/ 22.
(6) هو أحمد بن عبد الله بن مهران الأصبهاني الشافعي. ت: 430هـ 1038م. محدث، مؤرخ، صوفي. من تصانيفه: «حلية الأولياء»، و «تاريخ أصفهان»، و «المستخرج على الصحيحين»، و «رياضة المتعلمين» / انظر: المنتظم لابن الجوزي: 8/ 100، وطبقات القراء: 1/ 71.
(7) أشار إليه المنتوري في فهرسته المخطوطة بالخزانة الحسنية رقم 1578وفي كشف الظنون: 1/ 938: سماه: «رياضة المتعلم».
(8) هو زياد بن أبي سفيان. ت: 53هـ 673م، أمير من القادة الفاتحين، خطيب، رثاه بعد موته كثير من الشعراء. انظر: تاريخ ابن خلدون: 3/ 9، والخزانة: 2/ 517.(1/97)
أخينا (1) غلبنا على ميراثنا من أبانا! فقال له زياد: ما ضيعت (2) من نفسك أكثر مما ضاع من مالك» (3).
وينظر إلى ذلك أيضا ما رواه ابن الجوزي (4) عن العتبي (5) قال: «اختصم عند عمر بن عبد العزيز «بالمدينة» رجلان. وكانا [هجينين] (6) (7) فقال لهما الحاجب: قوما فقد أذيتم (8) الأمير. فقال عمر بن عبد العزيز: لأنت أشد أذى لي منهما».
النوع الثاني: ما يقتضي الأمر بتعلمه وخصوصا في القرآن الكريم
. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أعربوا القرآن، والتمسوا غرائبه» (9).
وفي رواية: «فإن الله يحب أن يعرب» (10).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي علم
__________
(1) في «البيان والتبيين»: 2/ 222: «وثب على مال أبانا فأكله».
(2) عبارة «البيان والتبيين»: 2/ 222: «الذي أضعت من لسانك أضر عليك مما أضعت من مالك».
(3) انظر: م. س: 2/ 222، وعيون الأخبار: 1/ 159.
(4) هو عبد الرحمن بن علي القرشي التيمي، البكري، البغدادي، الحنبلي، المعروف بابن الجوزي. ت: 597هـ 1201م، محدث، حافظ، مفسر، فقيه، مشارك في أنواع أخرى من العلوم، من تصانيفه «المنتظم»، و «تذكرة الأريب» في اللغة، و «جامع المسانيد»، وغير ذلك.
انظر: البداية: 13/ 3028.
(5) هو محمد بن عبد الله العتبي. ت: 228هـ 842م. أديب، راوية من أهل البصرة، وله تصانيف منها: «كتاب الخيل»، وكتاب «الأعاريب». انظر: الفهرست: 182.
(6) في النسخ: هجنان.
(7) الهجين: من كان أبوه عربيا، وأمه غير محصنة.
(8) استعمل الفعل الثلاثي اللازم الذي على وزن «فعل»: أذي: خطأ، والمقصود عنده الفعل الرباعي المتعدي الذي على وزن «فاعل»: آذى.
(9) الحديث ذكره «الحاكم» في المستدرك: 2/ 439. وقال عنه: هذا حديث صحيح الإسناد على مذهب جماعة من أئمتنا، ولم يخرجاه (أي البخاري ومسلم).
(10) انظر: إيضاح الوقف: 1/ 15. وأن يعرب: أي القرآن، وأعرب الرجل كلامه: حسنه وأفصح، ولم يلحن.(1/98)
القرآن أفضل؟ قال: «غريبه، فالتمسوه في الشعر»» (1).
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أعربوا الكلام كي تعربوا القرآن» 4و / / (2).
وعن عمر رضي الله عنه «أنه أتى على قوم يقرىء بعضهم بعضا، فلما رأوه سكتوا فقال: ما كنتم تتراجعون؟ قالوا: كان يقرىء بعضنا بعضا، قال:
اقرأوا ولا تلحنوا» (3).
وعنه أنه قال: «تعلموا القرآن كما تعلّمون حفظه» (4).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «جوّدوا القرآن، وزيّنوه بأحسن الأصوات وأعربوه فإنه عربي، والله يحب أن يعرب به» (5).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «أعربوا القرآن» (6).
وعن أبيّ بن كعب (7) رضي الله عنه قال: «تعلموا اللّحن في القرآن كما تتعلّمونه» (8).
واللحن هنا يراد به «النحو» كما حكى «ابن الأنباري (9) عن يزيد بن هارون (10) أنه لما حدّث بأن عمر رضي الله عنه كتب أن تعلموا الفرائض
__________
(1) انظر إيضاح الوقف: 1/ 62.
(2) م. س: 1/ 22.
(3) م. س: 1/ 2019.
(4) م. س: 1/ 23.
(5) م. س: 1/ 16.
(6) م. س: 1/ 17.
(7) أبي بن كعب الأنصاري البخاري، سيد القراء. وهو أول من كتب للنبي صلى الله عليه وسلم. وروى عنه من الصحابة عمر. اختلف في سنة وفاته. ويرى صاحب «الإصابة» أن أثبت الأقاويل هو سنة 30هـ 650م. انظر: طبقات القراء: 1/ 31. والإصابة: 1/ 20.
(8) إيضاح الوقف: 1/ 24.
(9) هو أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري النحوي. ت: 328هـ 940م. من أعلم أهل زمانه بالأدب واللغة. ومن أكثر الناس حفظا للشعر والأخبار. من كتبه: «الزاهر» في اللغة، و «شرح القصائد السبع»، و «إيضاح الوقف والابتداء في كتابه عز وجل». انظر: النزهة: 264 وطبقات القراء: 2/ 230.
(10) يزيد بن هارون السلمي (بالولاء). الواسطي من حفاظ الحديث. كان يقول: أحفظ(1/99)
والسنة واللّحن كما تعلّمون القرآن. قيل له: «ما اللّحن؟ قال: «النحو» (1).
وعن أبي ذر (2) رضي الله عنه قال: «تعلموا العربية في القرآن كما تتعلمون حفظه» (3).
وعن عبد الله بن بريدة (4) عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنّي أعلم أني إذا سافرت أربعين ليلة أعربت آية من كتاب الله تعالى لفعلت» (5).
النوع الثالث: ما يؤكّد الأمر بتعلمه على الإطلاق.
وعن عمر رضي الله عنه «أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري أن مر من قبلك بتعلم العربية فإنها تدل على صواب الكلام، ومرهم برواية الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق» (6).
وعن يحيى بن عتيق (7) قال: «سألت الحسن (8)، قلت: أرأيت الرجل يتعلم العربية يطلب بها حسن المنطق، ويلتمس أن يقيم قراءته؟! قال:
حسن، فتعلمها يا أخي، فإن الرجل ليقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها» (9).
__________
أربعة وعشرين ألف حديث بإسنادها ولا فخر. ت: 206هـ 821م. انظر: التذكرة: 1/ 317.
(1) انظر: إيضاح الوقف: 1/ 1615.
(2) هو جندب بن جنادة الغفاري. ت: 32هـ 652م. صحابي، يقال: أسلم بعد أربعة، وكان خامسا، وهو أول من حيا الرسول صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام. انظر: التذكرة: 1/ 17.
(3) إيضاح الوقف: 1/ 23.
(4) عبد الله بن بريدة الأسلمي أبو سهل. ت: 115هـ 733م. من رجال الحديث ولي القضاء بمرو، فثبت فيه إلى أن توفي. انظر: التذكرة: 1/ 102.
(5) إيضاح الوقف: 1/ 26.
(6) انظر: ن. م. س: 1/ 31.
(7) يحيى بن عتيق الطفاوي، روى عن الحسن وابن سيرين، وعنه حماد بن زيد، وابن علية. ت:
130 - هـ 747م. انظر: طبقات ابن سعد: 7/ 253.
(8) هو أبو سعيد الحسن بن يسار البصري. ت: 110هـ 728م. تابعي. كان حبر الأمة في زمنه.
وأحد العلماء، الفقهاء، الفصحاء، النساك، له كلمات سائرة، وكتاب في فضائل مكة. انظر:
الحلية: 2/ 131.
(9) إيضاح الوقف: 1/ 27.(1/100)
وعن أبي حمزة (1) قال: قيل للحسن: قوم يتعلمون العربية، قال:
أحسنوا، يتعلمون لغة نبيهم صلى الله عليه وسلم» (2).
النوع الرابع (3): ما يعلم بأن من عرفه، وقرأ القرآن به
ضوعف أجره 4ظ / / وثوابه.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ القرآن فلم يعربه وكّل به ملك يكتب له، كما أنزل، بكل حرف عشر حسنات، فإن أعرب بعضه ولم يعرب بعضه وكل به ملكان يكتبان له بكل حرف عشرين حسنة، فإن أعربه وكّل به أربعة أملاك، يكتبون له بكل حرف سبعين حسنة» (4).
وعن الشعبي (5) قال: قال عمر رضي الله عنه: «من قرأ القرآن فأعرب، كان له عند الله أجر شهيد» (6).
وعن مكحول (7) قال: بلغني أنّ من قرأ القرآن، فأعرب به كان له من الأجر ضعفان ممّن قرأ بغير إعراب (8).
__________
(1) هو أبو حمزة محمد بن ميمون المروزي السكري. ت: نحو 167هـ 783م (إذ اختلف في سنة وفاته). الإمام، المحدث، كان ثقة سمحا، حلو الكلام حتى لقب بالسكري. انظر: التذكرة:
1/ 230.
(2) انظر: إيضاح الوقف: 1/ 29.
(3) بداية النسخة «ج».
(4) انظر: إيضاح الوقف: 1/ 16.
(5) هو أبو عمرو عامر بن شراحيل الهمذاني الكوفي، علامة التابعين. ت: نحو: 103هـ 721م.
(إذ اختلف في سنة وفاته). كان يضرب المثل بحفظه. اتصل بعبد الملك بن مروان، فكان نديمه، وسميره، ورسوله إلى ملك الروم. واستقضاه عمر بن عبد العزيز. انظر تاريخ بغداد:
12/ 227والتذكرة: 1/ 79.
(6) إيضاح الوقف: 1/ 20.
(7) هو أبو عبد الله مكحول بن أبي مسلم الهذلي بالولاء، الفارسي الأصل، كان من حفاظ الحديث. كما كان فقيه الشام في عصره حتى قيل عنه: لم يكن في زمنه أبصر منه بالفتيا.
اختلف في سنة وفاته ما بين 112هـ 730م و 118هـ انظر: الفهرست: 332، والتذكرة: 1/ 107.
(8) إيضاح الوقف: 1/ 21.(1/101)
النوع الخامس: ما يفيد أنّ العلم به من أكمل خصال المروءة
وأدلها على [ثبات] (1)
العقل.
فعن «مجاهد» (2) قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعلموا العربية فإنها [تثبت] (3) العقل، وتزيد في المروءة (4).
وعن محمد بن عبد الله بن أخي ابن شهاب (5) قال: سمعت عمي ابن شهاب (6) وهو يقول: ما أحدث الناس مروءة أعجب إليّ من تعلّم الفصاحة (7).
وعن أبي الدينار (8) قال: «تعلموا العربية فإنها المروءة الظاهرة، وهي ترتب الوضيع مراتب الأشراف» (9).
وعن ابن شبرمة (10) قال: «إن الرجل يلحن وعليه الخزّ الأدكن، فكأن عليه أخلاقا (11) وإنه ليعرب، وعليه الأخلاق، فكأن عليه الخز الأدكن (12)» (13).
__________
(1) في «ج» إثبات.
(2) هو أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي مولى بني مخزوم. ت: 104هـ 722م. تابعي: مفسر، كان شيخ القراء والمفسرين. انظر: التذكرة: 1/ 72، وطبقات القراء: 2/ 41.
(3) في «أ» و «ج» تنبت.
(4) إيضاح الوقف: 1/ 31وطبقات الزبيدي: 13.
(5) روى عن عمه، وروى عنه معن والقعنبي. ت: 157هـ 773م. انظر ميزان الاعتدال: 3/ 592.
(6) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري. ت: 124هـ 742م. من أوائل الحفاظ المحدثين والفقهاء، تابعي من أهل المدينة. انظر الوفيات: 48/ 177، والتذكرة: 1/ 102.
(7) إيضاح الوقف: 1/ 34.
(8) لم أجد ترجمة لأبي الدينار، فلعله أحد الفصحاء الأعراب، الذين أخذ عنهم الكسائي. ففي «إيضاح الوقف» أخبرني الكسائي عن أبي الدينار.
(9) م. س: 1/ 4645.
(10) هو عبد الله بن شبرمة الضبي. ت: 144هـ 761م. قاضي الكوفة، وكان فيها شاعرا. انظر الخلاصة: 170.
(11) الأخلاق: خلق الشيء خلوقا، وخلقا: بلي، وثوب أخلاق، إذا كان الخلوقة فيه كله / اللسان خلق.
(12) الأدكن: لون كلون الخز الذي يضرب إلى الغبرة بين الحمرة والسواد (اللسان دكن).
(13) انظر: طبقات الزبيدي: 13.(1/102)
قلت: ومن عدم الاعتبار بزينة الملبس إذا عري صاحبه من هذا العلم، وأنه حقيق بأن لا يلبس ما لا يستر عوراء جهله فضلا عن الزينة «ما يروى أن رجلا حسن الشّارة، جميل البزّة (1). وقف على المبرد، فسأله عن مسألة، فأحال، ولحن، فقال له المبرد: يا هذا أنصفنا من نفسك! إما أن تلبس على قدر كلامك، أو تتكلم على قدر لباسك».
وفي مثل من هذا حاله يحسن إيراد ما قال بعضهم (2) في أبي مسلم بن فهد، أنشده الشيخ 5و / / أبو عمر (3):
أبا مسلم إنّ الفتى بجنانه ... ومقوله (4) لا بالمراكب واللّبس
وليس ثياب المرء تغني قلامة ... إذا كان مقصورا على قصر النفس
وليس يفيد العلم والحلم والتقى ... أبا مسلم طول القعود على الكرسي (5)
النوع السادس: ما يحقق أن الاشتغال بطلبه يكسب رقة الطّبع، وجمال اللسان
وزينته.
فعن الشافعي أنه قال: «من قرأ القرآن عظمت [قيمته] (6)، ومن كتب الحديث قويت حجّته، ومن طلب العربية رق طبعه، ومن لم يصن نفسه، لم ينفعه علمه».
وعن مالك (7) قال: «الإعراب حلي اللسان، فلا تمنعوا ألسنتكم
__________
(1) البزة بالكسر: الهيئة.
(2) هو أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي النحوي وقد كتب هذه الأبيات إلى أبي مسلم بن فهد.
انظر: الجذوة للحميدي: 46.
(3) هو يوسف بن عبد البر النمري القرطبي المالكي. ت: 463هـ 1071م. محدث، حافظ مؤرخ، عارف بالرجال والأنساب، مقرىء فقيه، نحوي. له تصانيف منها: «الاستيعاب في معرفة الأصحاب»، و «جامع بيان العلم وفضله». انظر: الجذوة للحميدي: 367. والديباج: 2/ 367.
(4) المقول: اللسان. اللبس: ما يلبس.
(5) انظر جامع العلم: 1/ 92.
(6) في «أ» نفسه.
(7) هو مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري. ت: 179هـ 795م. أحد الأئمة الأربعة(1/103)
حليها» (1).
وعن ابن شبرمة [قال: «ما لبس الرّجال لبسا أزين من العربية، ولا لبس النساء لبسا أزين من الشّحم» (2).
وعن ابن سيرين (3) قال]: (4) «ما رأيت على رجل أحسن من فصاحة، ولا رأيت على امرأة أحسن من شحم (5).
قال ابن قتيبة (6): «ويقال الإعراب حلية الكلام، ووشيه» (7).
حكاية:
يعتبر بها في فضيحة من عري عن زينة هذا العلم، وجمال المعرفة [حتى سقطت] (8) منزلته، بعد الاغترار بظاهر أمره.
قال ابن الجوزي (9) «عن أبي الفضل بن مهدي: قال لي أبو أحمد [الأزدي] (10) (11): واظب على العلم فإنه يزين الرجال، كنت يوما في حلقة أبي
__________
عند أهل السنة، وإليه تنسب المالكية، فقيه الحجاز. اشتهر بكتاب «الموطأ». انظر الفهرست:
294. والوفيات: 4/ 139135. وغيرهما كثير.
(1) طبقات الزبيدي: 44.
(2) إيضاح الوقف: 1/ 32.
(3) هو أبو بكر محمد بن سيرين البصري الأنصاري (بالولاء): ت: 110هـ 723م. إمام وقته في علوم الدين. تفقه وروى الحديث. استكتبه أنس بن مالك بفارس. انظر: تاريخ بغداد: 5/ 331، وطبقات القراء: 2/ 151.
(4) ما بين المعقوفتين ساقط من «ج».
(5) عيون الأخبار: 2/ 157.
(6) هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، من أئمة الأدب، ومن المصنفين المكثرين.
ت نحو: 276هـ 889م. له تصانيف منها: «عيون الأخبار»، و «أدب الكاتب». انظر الفهرست:
121 - و «طبقات الزبيدي»: 183، والنزهة: 209.
(7) عيون الأخبار: 2/ 147.
(8) بياض في «ج».
(9) في كتابه: أخبار الحمقى والمغفلين: 124.
(10) هو عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي النحوي، وتكنيه كتب التراجم بأبي القاسم. ت: 348هـ 988م. من آثاره: كتاب: «الاختلاف»، و «المنطق». انظر تاريخ بغداد: 10/ 358، والنزهة: 386.
(11) في «ج»: الأزيدي.(1/104)
سعيد (1) يعني السيرافي فجاء ابن عبد الملك خطيب جامع المنصور، وعليه السواد (2)، والطويلة (3)، والسيف، والمنطقة، فقام الناس له، وأجلوه، فلما جلس قال: قد عرفت قطعة من هذا العلم، وأريد أن أستزيد منه، فأيّما خير سيبويه أو الفصيح لثعلب؟ فضحك الشيخ ثم قال: يا سيدنا، محبرة، اسم، أو فعل، أو حرف؟ فسكت. [ثم قال له: حرف، فضحك من حضر، ثم لما قام لم يقم له أحد]» (4) اه.
النوع 5ظ / / السابع: ما يقرر أن المعرفة به توجب الإجلال والتعظيم
، وإن كان [صاحبها] (5)
قبل الاتصاف بها، ليس هنالك، أو كان مجهول [الأمر] (6).
فعن ابن شبرمة قال: «إذا [سرّك] (7) أن تعظم في عين من كنت في عينه صغيرا، أو يصغر في عينك من كان في [عينك] (8) عظيما، فتعلم العربية، فإنها تجرئك على [المنطق] (9)، وتدنيك من السلطان (10)».
قلت: من الشهادة بمعنى قوله: «أو يصغر في عينك، من كان عندك [عظيما] (11). ما يروى عن سعيد بن سلم (12) قال: دخلت على الرشيد فملأ قلبي، ثم لحن فخفّ علي».
__________
(1) أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي. ت: 368هـ 978م. نحوي، عالم بالأدب. كان معتزليا. من تصانيفه: «شرح سيبويه»، و «الإقناع» انظر: النزهة: 307، والإنباه: 1/ 313.
(2) السواد: اللباس الرسمي على عهد العباسيين. يقال جاء الوزير وعليه سواده. انظر المعجم الوسيط: 1/ 463سود.
(3) والطويلة: القلنسوة العالية المدعمة بعيدان، وفي تاريخ بغداد: 7/ 165: فألبسه الطويلة وعممه بيده على الطويلة.
(4) ما بين المعقوفتين ساقط من «أ».
(5) بياض في «أ».
(6) بياض في «أ».
(7) بياض في «أ».
(8) بياض في «أ».
(9) بياض في «أ».
(10) انظر عيون الأخبار: 2/ 157.
(11) بياض في «أ».
(12) هو سعيد بن سلم الباهلي بصري الأصل. سمع عبد الله بن عون وطبقته وروى عنه(1/105)
ومن الشهادة باشتهار معنى قوله: «أن تعظم في عين من كنت في عينه صغيرا» أن بعض الجهلة سمع بذلك، فأراد أن يتكلم بما ظنه سالما من اللّحن، ليهابه المخاطب، فسقط على أم رأسه، وجاء بما يضحك سامعه، وذلك ما حكاه ابن الجوزي عن بعضهم قال:
دعاني إنسان من جيراننا فوجه إلى البقال: وجّه إلينا بدنقان (1) جوز!
فقلت له: ما هذا؟ قال: أردت أن يهابني
وعن الأصمعي قال: كان يقال: ثلاثة يحكم لهم بالنبل: حتى يدرى من هم، رجل رأيته راكبا، أو سمعته يعرب، أو شممت منه طيبا.
وثلاثة يحكم لهم بالاستصغار حتى يدرى من هم: رجل شممت منه رائحة نبيذ في محفل، أو سمعته في [مصر] (2) عربي يتكلم بالفارسية، أو رجل رأيته على ظهر طريق [ينازع] (3) في القدر! (4).
وعن «عبد الوارث (5) قال: كان شعبة (6) يحقرني أبدا إذا ذكرت شيئا 6و / / قال: فحدث يوما إلى كعب بن مالك (7)، قال:
قضينا من تهامة كل ريب (8) ... وخيبر، ثم أجممنا السيوفا
__________
ابن الأعرابي ت: 231هـ 845م. صاحب اللغة. سكن خراسان، وولاه السلطان بعض الأعمال «بمرو»، ثم قدم بغداد، وحدث بها. انظر: تاريخ بغداد: 9/ 74.
(1) الدانق: والدانق: سدس الدينار والدرهم. ولا يخفى أنه يشير إلى اللحن في: دانقين وفي جوز:
التي هي زوج.
(2) في «أ» و «ج» ممر.
(3) بياض في «أ».
(4) عيون الأخبار: 1/ 296.
(5) عبد الوارث بن سعيد أبو عبيدة العنبري (بالولاء)، التنوري البصري. ت: 180هـ 796م. كان فصيحا من أئمة الحديث. انظر: التذكرة: 1/ 257، وطبقات القراء: 1/ 478.
(6) شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي الأزدي (مولاهم) الواسطي ثم البصري. ت: 160هـ 776م. من أئمة رجال الحديث حفظا، ودراية، قال عنه الشافعي: لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق. وكان عالما بالأدب والشعر. انظر تاريخ بغداد: 9/ 255.
(7) كعب بن مالك الأنصاري الشاعر الصحابي، الجليل. ت: 50هـ 670م. انظر طبقات ابن سلام: 1/ 220.
(8) كل ريب: كل حاجة.(1/106)
نخبرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهن: [دوسا] (1) أو ثقيفا
وننتزع العروش، (2) عروش وجّ ... ونترك داركم منكم خلوفا (3)
قال: فقال شعبة: و «ننتزع العروس عروس وج». فقلت له: يا أبا بسطام وأي عروس ثمة؟! قال: ويحك، ما هيه؟ قلت: العروش. قال الله تعالى:
{فَهِيَ خََاوِيَةٌ عَلى ََ عُرُوشِهََا} (4). قال: فكان بعد ذلك يهابني، ويجلني» (5).
ويقرب من هذا في استحقاق الكرامة [لظهور] (6) أثر المعرفة بهذا العلم بعد ظن أنه لا يستوجبها [للجهل] (7) به، ما يحكى عن الزهري أن رجلا أتاه ليسأله أن يحدثه، فقال: ممن أنت؟ قال: من [عاملة] (8) (9). قال: لا أحدثك.
قال: لم؟. قال: لأنكم لا علم لكم بالعربية أو [قال] (10): بالكلام. قال: إني [لأعرف] (11) منها شيئا قال: فما معنى قول الشاعر (12):
__________
(1) بياض في «أ».
(2) في الديوان: 38 (وننتزع العروش ببطن وج) ووج: قيل: هي بلد بالطائف وقيل: هي الطائف.
وفي القاموس المحيط: اسم واد بالطائف لا بلد به. ومنه حديث: آخر وطأة وطئها الله تعالى بوج. والوطأة هنا: الغزاة. يريد غزوة حنين لا الطائف. و «حنين» واد قبل وج. اللسان، والقاموس المحيط: وجج.
(3) الخلوف: الحضّر والغيّب (ضد). ويقال: الحيّ خلوف: أي غيب. قال أبو زبيد الطائي:
«أصبح البيت، بيت آل إياس ... مقشعرا، والحي حي خلوف»
أي لم يبق منهم أحد. اللسان: خلف.
(4) الحج: 45وجاء في اللسان: عرش قوله: {خََاوِيَةٌ عَلى ََ عُرُوشِهََا} أي خاوية عن عروشها لتهدمها. جعل «على» بمعنى «عن». وعروشها: سقوفها. يعني قد سقط بعضه على بعض، وأصل ذلك أن تسقط السقوف، ثم تسقط الحيطان عليها. وخوت: صارت خاوية من الأساس.
(5) انظر: إيضاح الوقف: 1/ 5857.
(6) بياض في «أ».
(7) بياض في «أ».
(8) عاملة: حي من كهلان من القحطانية، وهم حي متسع، خرجوا من اليمن إلى الشام، وأقاموا في جبل يعرف بجبل عاملة. وكان لهم صنم، في مشارف الشام يقال له: «الأقيصر»، كانوا يحجون إليه، ويحلقون رؤوسهم عنده. انظر: معجم قبائل العرب: 2/ 714.
(9) بياض في «أ».
(10) بياض في «أ».
(11) في «ج» لأعرب منها.
(12) البيت للأخطل أبو مالك غياث التغلبي. ت: 90هـ 708م. مدح ملوك بني أمية.(1/107)
[صريع] (1) مدام يرفع الشّرب رأسه ... ليحيا، وقد ماتت عظام ومفصل (2)
[ما يعني] (3) بالمفصل؟ قال: اللسان. قال: اغد علي لأحدثك» (4).
وحكى الخطيب (5) في «تاريخ بغداد» عن خلف بن هشام (6)، وقد سئل:
لم سمي الكسائي كسائيا؟ فقال:
«دخل الكسائي الكوفة، فجاء إلى مسجد السّبيع (7)، وكان حمزة بن حبيب الزيات (8) يقرىء فيه، فتقدم الكسائي مع أذان الفجر، فجلس وهو ملتف في كساء من البرّكان (9) الأسود، فلما صلى حمزة قال: من تقدم في الوقت يقرأ؟ قيل له: الكسائي أو من تقدم يعنون صاحب الكساء فرمقه القوم بأبصارهم، فقالوا: إن كان حائكا فسيقرأ سورة «يوسف»، وإن كان 6ظ / / ملاحا فسيقرأ سورة «طه»، فسمعهم، فابتدأ بسورة «يوسف»، فلما بلغ إلى قصة الذئب، قرأ: {«فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ»} (10) بغير همز. فقال له حمزة: «الذئب» بالهمز،
__________
وهجا خصومهم، كما تهاجى مع جرير، والفرزدق، من آثاره: ديوان شعر. انظر: طبقات الشعراء: 1/ 298. والمزهر: 2/ في مواضع عدة.
(1) بياض في «أ» أتممناه من «ج».
(2) الشّرب: ج شارب. انظر الديوان: 2.
(3) بياض في «أ» أتممناه من «ج».
(4) انظر إيضاح الوقف 1/ 4544.
(5) هو أبو بكر أحمد بن علي البغدادي المعروف بالخطيب. ت: 463هـ 1072م. أحد الحفاظ المؤرخين. ذكر أن له: 56كتابا من مصنفاته، أفضلها: «تاريخ بغداد». انظر: معجم الأدباء:
4/ 4513.
(6) هو أبو محمد خلف بن هشام البزار الأسدي. ت: 229هـ 843م. أحد القراء العشرة كان عالما، عابدا، ثقة. انظر: تاريخ بغداد: 1/ 272. وطبقات القراء 8/ 322.
(7) السبيع: محلة بالكوفة كان يسكنها الحجاج بن يوسف، منسوبة إلى السبيع بن السبيع وقد نسب إلى هذه المحلة جماعة من أهل العلم. انظر: معجم البلدان 3/ 187.
(8) حمزة بن حبيب التيمي الزيات. ت: 156هـ 773م. كان عالما بالقراءات، انعقد الإجماع على تلقي قراءته. انظر «معجم الأدباء»: 10/ 293289.
(9) البرّكان: الكساء الأسود القاموس المحيط برك
(10) سورة يوسف، الآية: 17.(1/108)
فقال الكسائي: وكذلك اهمز «الحوت» من قوله: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ} (1)؟!
قال: لا، قال: فلم همزت «الذيب»، ولم تهمز الحوت، وهذا {«فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ»}
وهذا {«فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ»}؟ فرفع بصره إلى خلاد الأحول (2) وكان (3) [3/ / أجل (4)
غلمانه، فتقدم إليه في جماعة من أهل المجلس فناظروه، فلم يصنعوا شيئا، فقالوا: أفدنا يرحمك الله، فقال لهم الكسائي: تفهّموا عن الحائك؟! تقول إذا نسبت الرجل إلى الذئب: «قد استذأب الرجل»، ولو قلت: «قد استذاب» بغير همز لكنت إنما نسبته إلى الهزال، تقول: قد استذاب الرجل، إذا استذاب شحمه (بغير همز) فإذا نسبته إلى الحوت تقول: «قد استحات الرجل» أي كثر أكله، لأن الحوت يأكل كثيرا، ولا يجوز فيه الهمز، فلتلك العلة همز «الذّئب»، ولم يهمز «الحوت».
وفيه معنى آخر: لا يسقط الهمز من مفرده، ولا من جمعه: وأنشدهم:
أيها الذئب، وابنه وأبوه ... أنت عندي من أذؤب ضاريات
فسمي الكسائي من ذلك اليوم» (5).
قلت: وعلى ذكرهم الحوت، ففي معنى: القصد به ما حكاه صاعد (6) أن «الأعمش (7) كان يقرىء في مسجد بني أسد بالكوفة، وكان مولى لهم، وكان أبو
__________
(1) سورة الصافات، الآية: 142.
(2) هو خلاد بن خالد الأحول الكوفي. ت: 220هـ 835م، عرض على حمزة، وكان من جلة أصحابه. انظر طبقات القراء: 1/ 275274.
(3) بياض في «أ» يشمل أربع صفحات أتممناها من «ج» لوضوحها واتبعنا في ترقيمها ما بالنسخة الخطية. وتبدأ من قوله: «أجل غلمانه إلى قوله: إن رجلا قال له: يا أبو سعيد».
(4) في «تاريخ بغداد»: 11/ 405: «أجمل غلمانه» وفي «النزهة»: 7069: أكمل.
(5) تاريخ بغداد: 11/ 405والنزهة: 7069، والإنباه: 2/ 258.
(6) هو صاعد بن الحسن الربعي البغدادي. ت: سنة 417هـ 1026م. عالم بالأدب واللغة، ومن الكتاب الشعراء، ولد بالموصل، وانتقل إلى الأندلس حوالي سنة 380هـ، فأكرمه الحاجب المنصور بن أبي عامر فصنف له كتاب «الفصوص». انظر الجذوة: 223.
(7) سليمان بن مهران الأعمش أبو محمد الأسدي. ت: 148هـ 765م. كان من أقرإ الناس لكتاب الله عز وجل انظر: طبقات القراء: 1/ 316.(1/109)
حصين إمام المسجد وهو من أنفسهم، فأنف أن يقرأ على الأعمش لأنه من أنفسهم [والأعمش من مواليهم] (1)، فكان يتسمع إقراءه، ويقرأ به في الصلاة، ففطن له الأعمش، فقال يوما [لبعض] (2) من يقرأ عليه: أنت تقرأ علي غدا قبل الصبح: «والصافات» (3)، [فإذا مررت «بالحوت»] (4) فاهمز الواو من «الحوت» إذا قرأته، فإني أغفل عنك، ففعل القارىء ذلك، فلما أقيمت الصلاة 4/ قرأ أبو حصين: «والصافات» وهمز «الحوت»، فلما أخذ الأعمش مجلسه، قال لأصحابه: كسر اليوم ضلع [من أضلاع] (5) الحوت، فسمعه أبو حصين، فرماه بألواح كانت بيده فشجّه [بها] (6)، ووقع قتال شديد بين العرب والموالي يومئذ» (7).
قلت: وحكاية الكسائي، وإن لم يصرح فيها بما صار إليه حاله بعد أن أعرب عن نفسه بما أكذب ظنونهم، فالعلم بمصيرها إلى خلاف ما كانت عليه لا يجهل.
كما يحكى عن القاضي «منذر بن سعيد» (8) فيما أورده القللوسي (9): أنه حضر مجلس أبي جعفر النحاس النحوي (10) في الإملاء بمصر فأملى في جملة
__________
(1) زيادة من مخ الفصوص: 2/ 118.
(2) زيادة من مخ الفصوص: 2/ 118.
(3) إشارة إلى سورة الصافات، الآية: 142، في قصة يونس: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} (142).
(4) زيادة من مخ الفصوص: 2/ 118.
(5) زيادة من م. س: 2/ 119.
(6) زيادة من م. س: 2/ 119.
(7) انظر م. س: مخ بالخزانة العامة الرباط، تحت رقم: 1668ك. 2/ 119118. وانظر أيضا النسخة المطبوعة 2/ 6968، فص 81.
(8) هو منذر بن سعيد البلوطي. ت: 355هـ 966م. قاضي الجماعة بقرطبة، كان عالما فقيها، وأديبا بليغا، وخطيبا على المنابر. انظر الجذوة: 348. والإنباه: 3/ 325.
(9) هو محمد بن محمد بن إدريس يكنى بأبي بكر، ويعرف «بالقللوسي» كما في الديباج: 2/ 285، وفي البغية: 1/ 220، بالقلاوسي. ت: 707هـ 1307م. كان إماما في العربية والعروض، ألف في تاريخ بلده، إذ هو من أهل «أصطبونة» كما ألف في العروض، وفي الفرائض.
(10) هو أحمد بن محمد المرادي أبو جعفر المعروف بالنحاس النحوي، المصري. ت: 338هـ 949م. كان من أهل العلم بالفقه والقرآن. من تصانيفه: «إعراب القرآن» و «الكافي في العربية».
انظر: الإنباه: 1/ 101، والبغية: 1/ 362.(1/110)
ما أملى قوله (1):
خليلي هل بالشام عين حزينة ... تبكّي على لبنى (2) لعلي أعينها
قد اسلمها الباكون إلا حمامة ... مطوّقة باتت وبات قرينها
تجاذبها أخرى على خيزرانة ... يكاد يدانيها من الأرض لينها
فقال له منذر: أعزك الله باتا يصنعان ماذا؟! فقال له النحاس: فكيف تقول أنت؟ فقال منذر: «بانت وبان قرينها». فاستبان ما قال. فقال له: ارتفع، ولم يزل يرفعه حتى دنا منه. ولم يزل يعرف له ذلك بعد ويكرمه» (3).
وكما يحكى عن الشيخ أبي عبد الله الجالطي (4) فيما ذكره الرشاطي (5) أنه جرت له يوما في مجلس الشيخ أبي الحسن القابسي (6) بالقيروان قصة نوهت بذكره بإفريقية، وذلك أنه شهد مجلسه، ولم يكن رآه، ولا عرفه، فلم يرفع الشيخ به رأسا، ولا سأله، فقعد الجالطي حيث أمكنه، وقد ساءه نكرانه، وإذا القارىء على الشيخ لحّانة، غفل، لا معرفة عنده، يلحن ويصحف ويخطىء، فأخذ الجالطي يرد عليه من مكانه، والآخر يستجهله، ويكثر من ذلك حتى أنكر عليه الشيخ القابسي، وقال له: ما لك ولقارئنا هذا تعارضه، وترد عليه؟ فقال له: أصلحك الله، إن لي أن أراد عليه إذ أهملته، وجهلت خطأه، فإنه يقرأ عليك
__________
(1) الشعر لقيس بن معاذ المجنون.
(2) في الإنباه: 1/ 103: على نجد.
(3) الحكاية واردة في طبقات الزبيدي: 221وفي الإنباه: 1/ 103، مع بعض اختلاف.
(4) هو محمد بن قاسم بن محمد الفراء. قتله البرابر يوم دخولهم قرطبة، سنة 403هـ 1012م. كان ممن عني بالعلم، وشهر بالفهم، وقال عنه ابن حيان: كان محمود الطريقة في علمه. انظر:
المدارك: 7/ 205.
(5) الرشاطي: هو عبد الله بن علي اللخمي الأندلسي المعروف بالرشاطي. ت: 542هـ 1147م.
عالم بالأنساب، والحديث، له تصانيف منها: «الإعلام بما في كتاب المؤتلف والمختلف للدارقطني من الأوهام» و «اقتباس الأنوار والتماس الأزهار في أنساب الصحابة ورواة الآثار» انظر الصلة: 297.
(6) هو علي بن محمد بن خلف المعافري المالكي المعروف بابن القابسي أبو الحسن. ت: 403هـ 1012م. من أهل القيروان، محدث، حافظ، فقيه، أصولي، متكلم. له تآليف منها: «الممهد» في الفقه، و «كتاب رتب العلم وأحوال أهله». انظر التذكرة: 3/ 264. والديباج: 2/ 101.(1/111)
الخطأ، ويجهل الكلام، وأنت لا تغير عليه، وهو حديث لا يحتمل هذا فيه، فإنما هو لسان العرب الذي به هدانا الله تعالى لدينه، وفهّمنا كتابه العزيز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم عرب فصحاء، لا يجوز أن يعبر عنهم بغير الصواب الذي نطقوا به، ويجب عليه ألا يتولى القراءة عليك من يلحن، ويصحف، ويخطىء، وقارئك هذا نهاية في التخلف قد أخطأ في كذا حتى عدت سقطاته، وأنت لا تغير عليه، وأنت تدعي العلم بما تحمله، ويعدك من يختلف إليك عالما، ولست به، إذا رضيت بهذا، وعرفته من نفسك، فغضب الشيخ من كلامه، وقدر أن أكثر ما عنده العربية، فنعى عليه التبجح بها، واستطرده للفقه، وطارحه مسائل من صعابه فأ 5/ / حسن مجاوبته عنها، وسبقه إلى تعريفها وتنظيرها، وخطأه في كثير منها، فاعترف له الشيخ عند ذلك بالجهل، وأقسم عليه أن يدنو إليه، فقام نحوه، وأخذ بيده، وأجلسه إلى جنبه، وتنصل (1) إليه، وألزمه اللوم إذ لم يعرفه بنفسه، ولاطفه حتى سكنت فورته.
[فانطلق وقرأ] (2). وعجب الشيخ علمه.
فلما غدا الجالطي على الشيخ ابن أبي زيد (3) [] (4) فضحك إليه، وزاد في التحفي به، وقال له: لقد كان للشيخ أبي الحسن منك أمس يوم عصيب، وأقبلا يتضاحكان».
وكما يحكى عن الشيخ أبي محمد عبد الله بن الحسن القرطبي (5) معرفة
__________
(1) تنصل إليه: انتفى من ذنبه، واعتذر إليه. فالتنصل شبه التبرء من جناية أو ذنب اللسان.
(2) غير واضحة لوجود خروم.
(3) هو عبد الله بن أبي زيد عبد الرحمن النفزي القيرواني المالكي أبو محمد. ت: 386هـ 966م.
كان إمام المالكية في وقته، وقدوتهم، وجامع مذهب مالك، وشارح أقواله إلى جانب علمه الواسع، وحفظه الكثير. من تصانيفه: كتاب «الاقتداء بأهل المدينة»، و «الذب عن مذهب مالك» و «الرسالة»، وكتاب «النوادر والزيادات» و «مختصر المدونة» وإعجاز القرآن والتفسير. انظر:
التذكرة: 3/ 1021، والديباج: 1/ 327.
(4) غير واضحة لوجود خروم.
(5) من حفاظ الحديث، ومن الكتاب اللغويين الشعراء، ومن العارفين بالقراءات. ت: 611هـ 1214م. له تصانيف في العروض والقراءات. انظر البغية: 2/ 37.(1/112)
المالقي مولدا، ومنشأ، مع القاضي أبي القاسم ابن حبيش (1) عند قدومه عليه بمرسية (2) ليأخذ عنه، وذلك أنه لما ورد عليه لم يجد سبيلا إلى التوصل لما كان يريده من الاختصاص به، والاستكثار منه لما كان القاضي قد شغل به من الأحكام مع ازدحام الناس عليه من وجوه أهل «مرسية» وغيرهم من الواردين، قال رحمه الله فيما حكى ولده الشيخ أبو بكر: فكنت إذا جئت مجلسه، قعدت في أخريات الناس، فأسمع ما يقدر لي سماعه، ثم انصرف، فمر للقارىء عليه ذات يوم اسم رجل اختلف في منعه من الصرف، فسألهم القاضي عنه، فتكلم بعض الحاضرين في ذلك بكلام غير مقنع، وكان القاضي لم يرضه، فقلت في نفسي: لا أجد شيئا أحظى به عند الشيخ مثل التكلم في هذا المقام.
قال: فتطاولت إليه من بين الجماعة، وقلت: يا سيدي، إن عندي في هذه المسألة مزيد بيان، فإن أذنتم في الكلام تكلمت. فقال لي: تكلم يا فتى، قال: فتكلمت في المسألة، وبسطت القول في الباب، ونصصت الخلاف، ورجحت الصواب، ولم أبق غاية، والقاضي أثناء ذلك مصغ إلي، فلما استوفيت القول في المسألة، قام، وفسح لي مكانا بإزائه، وقال لي: هذا مكانك، ولم يزل على ذلك من بري وإيثاري إلى أن رحلت عنه.
قال ولده: وقد رأيت مصداق هذا بخط أبي في كتاب خاطب به أباه رحمه الله من مرسية حينئذ، ونص بعض فصوله: «والذي وجب به إعلامكم يا سيدي أن الشيخ الفقيه القاضي أبا القاسم ابن حبيش رضي الله عنه أولاني من بره، وإقباله، وإيثاره، واهتباله، ما يقصر عن وصف أقله اللسان، ويقل عنده كل إحسان، وخصني بروايتين في أول النهار وآخره، وهو
__________
(1) عبد الرحمن بن محمد أبو القاسم بن حبيش الأنصاري الأندلسي. ت: 584هـ 1188م، بمرسية. القاضي، الإمام، الحافظ، برع في النحو، وكان أحد الأئمة في الحديث، وغريبه، ولغته. وله كتاب «المغازي» في مجلدات. انظر: البغية: 2/ 85.
(2) مدينة بالأندلس اختطها عبد الرحمن بن الحكم بن هشام الأموي وسماها: تدمير: بتدمر الشام ذات أشجار، وحدائق محدقة بها. انظر: معجم البلدان: 5/ 107.(1/113)
لا يتكلم في مسألة، إلا أقبل بها علي، ولا يخرج شيئا من كتبه إلا دفعه إلي، وقربني منه حتى صرت أقرأ محاديا له، ما بيني وبينه أحد، هذا مع حسن الثناء، وجميل التقريظ عند عامة الأصحاب». إلى آخر كلامه في هذا الكتاب.
اعتبار بعكس:
حكى القللوسي أن طالبين من أهل رندة (1) وردا على الحافظ أبي بكر بن الجد (2)، يريدان سماع «الموطأ» ووصفا له بالمعرفة 6/ / [في النحو] (3) فلما انتهت القراءة إلى قوله: «وصلّ العصر ما لم تصفر الشمس» قال: كيف تضبطون هذا الموضع؟ فقالا له: «ما لم تصفرّ الشمس» بالفتح، فأنشد الحافظ:
أوردها سعد، وسعد مشتمل ... ما هكذا تورد يا سعد الإبل (4)
وقال لهما: أين نحوكما؟ جميع العرب يرجع هنا إلى «الكسر» إلا طائفة من «الفاتحين» غير فصحائهم الذين أنشدوا «بالفتح».
«فغضّ الطرف إنك من نمير» (5)
وكان بالحضرة أبو علي الشلوبين (6) صنيعة الحافظ، وكان أصغر القوم
__________
(1) مدينة كانت من أمنع حصون الأندلس بين إشبيلية ومالقة. انظر: معجم البلدان: 3/ 7473.
(2) هو محمد بن عبد الله بن الجد الفهري أبو بكر. ت: 586هـ 1190م. الحافظ، جليل إشبيلية، وزعيم وقته في الحفظ، يقال إنه ما طالع شيئا فنسيه. انظر: الإحاطة: 3/ 9089، والديباج:
2/ 286.
(3) غير واضحة في مخ «ج».
(4) البيت لمالك بن زيد مناة، قوله: وسعد مشتمل: الاشتمال هو التلفف بالثوب، حتى يغطي سائر الجسد، ولا تكون فيه إلا فرجة يخرج منها يده. وللبيت قصة أوردها «ابن سلام» في طبقاته:
ق 1/ 3129.
(5) والشطر الثاني هو: (فلا كعبا بلغت ولا كلابا)، والبيت لجرير من قصيدة، يهجو فيها الراعي النميري. ويعد من أقذع ما قيل في الهجاء. وغض الطرف: معناه: غضه ذلا ومهانة، وغضّ الطرف: كف البصر، وأهل نجد يقولون: غض طرفك: بالإدغام، أما أهل الحجاز فيقولون:
اغضض. انظر الديوان: 75، والبيان والتبيين: 4/ 35، واللسان: غض.
(6) هو عمر بن محمد بن عبد الله الأزدي المعروف بالشلوبين، النحوي، أو الشلوبيني أبو علي.
ت: 645هـ 1247م، من كبار العلماء بالنحو واللغة. من تصانيفه: «القوانين» في علم «العربية» و «شرح المقدمة الجزولية» في النحو. انظر: الإنباه: 2/ 332والديباج: 2/ 78.(1/114)
سنا، فقال له الحافظ: كيف تقول أنت يا عمر؟ فقال له: المتبعون يتبعون إلا في ثلاثة مواطن:
أحدها: مع ضمير المذكر الغائب يرجعون إلى الضم.
الثاني: مع ضمير المؤنث الغائبة يرجعون إلى الفتح.
الثالث: إذا لقيه ساكن من كلمة أخرى، يرجعون إلى الكسر، والكاسرون يكسرون مطلقا، وعلى لغتهم جاء:
قال أبو ليلى (1) لحبل شدّه (2) ... حتى إذا شددته فمدّه (3)
إن أبا ليلى نسيج (4) وحده
والفاتحون: فصحاؤهم يرجعون إلى الكسر عند التقاء الساكنين.
وطائفة منهم غير فصحاء، يبقون على فتحهم، فعلى لغة هؤلاء يقال: «ما لم تصفرّ الشمس» بالفتح فأنشد الحافظ:
ذي المعالي فليعلون من تعالى ... هكذا هكذا وإلا فلا، فلا
ثم أنشأوا يقرأون الكتاب، ولم يسألهم في مسألة بعدها إلى أن أتموه، وانفصلا (5) اه
النوع الثامن: ما يصرح بسقوط منزل الجاهل به
، وأنه لا حظ له في حظوة، ولا كرامة.
فعن العتبي عن أبيه قال: استأذن رجل من جند الشام له فيهم قدر على عبد الملك بن مروان وهو يلعب بالشطرنج فقال: يا غلام غطّها، فهذا الشيخ له
__________
(1) أبو ليلى: كنية لمن يحمق. انظر المضاف والمنسوب: 201.
(2) في الأنيس المطرب: 171: لحبلي مده.
(3) في م. س: 171: فشده.
(4) نسيج وحده: أي لا نظير له، والأفعال الواردة شاهد على الكسر في آخر الكلمة، شدّه، مدّه كلغة لمن يرجع إليه.
(5) القصة واردة في الأنيس المطرب: 172171.(1/115)
جلاله، ثم أذن له، فلما كلمه وجده يلحن، فقال: يا غلام، اكشفها فليس للاحن حرمة.
وعن حريث بن السائب (1) قال: قال البتي (2) للحسن (3): يا أبو سعيد:
فقال الحسن رحمه الله: أكسب الدوانيق شغلك أن تقول يا أبا سعيد؟ قال:
ثم جعل يفهمه ولا يفهم. فقال: يا عبد الله، خذ بيد هذا العلج، فأقمه عني، فإنه يمنعه عيّه أن يفهم ما أقول» (4).
وعن «يعلى بن حكيم (5) قال: دخل فرقد (6) على الحسن فقال: السلام عليك يا أبا سعيد، فقال الحسن: من هذا؟ قالوا: فرقد. قال: ومن فرقد؟
قالوا: إنسان يكون بالسبخة (7). قال: فقال: يا فريقد، ما تقول فيمن يأكل الخبيص (8)؟ قال: لا أحبه ولا نحب من يحبه، ولا أتولاه في الدنيا ولا في الآخرة. قال: فقال الحسن: أترونه مجنونا؟! (9).
قلت: ومن نادر ما يحكى عن الحسن رضي الله عنه في هذا المعنى أن رجلا قال له 7ظ / / (10): يا أبو سعيد، أنا أفسي في ثيابي، وأصلي بها
__________
(1) حريث بن السائب: روى عن الحسن، ومحمد بن المنكدر. وروى عنه ابن المبارك، وعبد الصمد، انظر ميزان الاعتدال: 1/ 474.
(2) هو عثمان بن سليمان البتي الكوفي الفقيه، روى عن أنس والشعبي، وروى عنه شعبة، ويزيد بن زريع ووثّقه ابن سعد وغيره. انظر: طبقات ابن سعد: 7/ 257.
(3) الحسن البصري.
(4) انظر: إيضاح الوقف: 1/ 5958.
(5) يعلى بن حكيم الثقفي من رجال السند: روى القراءة عن ابن كثير، وروى عن عكرمة وسليمان بن أبي عبد الله، وروى عنه حماد بن زيد، وجرير بن حازم. انظر: طبقات القراء 2/ 391.
(6) هو فرقد بن يعقوب السبخي. ت: 130هـ 747م. بصري، نسب إلى سبخة البصرة، روى عن إبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، وروى عنه سعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة. انظر:
طبقات ابن سعد: 7/ 243.
(7) السّبخة: ج سباخ: أرض ذات ملح ونز، ومنه إن مررت بالبصرة فإياك وسباخها، اللسان سبخ.
(8) الخبيص: المعمول من التمر والسمن: حلواء اللسان خبص.
(9) إيضاح الوقف: 1/ 6059.
(10) رجع إلى مخ «أ».(1/116)
يجوز؟ قال: نعم، لا كثر الله في المسلمين مثلك»، هذا لجمعه بين لحنين مع حماقة المقصود بمثل هذا الخطاب.
«وعن إسحاق بن أبي إسرائيل (1) قال: سمع أبو عمرو بن العلاء (2) رجلا يلحن فقال: ألا أراك ندلا بعد» (3).
وعن سالم بن رستم (4) قال: «جئنا من خراسان فجاء رجل متفصح فجعل يقعر (5) في كلامه ويلحن، فقال له ابن المبارك (6): أنت ممن لو رآه الحطيئة (7)
لبكى عليه» (8).
النوع التاسع: ما [ينبه] (9) على نقص الجاهل به
وإن استوفى من كمال ما عداه خصالا.
__________
(1) إسحاق بن أبي إسرائيل. ت: 245هـ 859م. روى عن شريك، وإبراهيم بن سعد، وحماد بن زيد، وروى عنه: أحمد بن علي المروزي. انظر: طبقات ابن سعد: 7/ 353، وطبقات القراء:
1/ 157.
(2) أبو عمرو بن العلاء بن عمار المازني النحوي المقرىء. ت: 154هـ (وقيل 159هـ) 770م.
اختلف في اسمه على أحد وعشرين قولا، وسبب الاختلاف أنه لجلالته كان لا يسأل عن اسمه، إمام أهل البصرة في القراءات، والنحو واللغة، وأيام العرب والشعر. انظر: النزهة 2924، والبغية: 2/ 232.
(3) إيضاح الوقف: 1/ 45.
(4) في م. س: 1/ 45. سلم بن رستم روى عن عبد الله بن محمد بن رستم. ولم أجد له ترجمة.
(5) تقعر في كلامه: إذا كان ينتحى وهو لحانة.
(6) هو أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي المقرىء، صاحب أبي عمرو بن العلاء البصري. ت:
202 - هـ 817م. كان عالما باللغة والنحو وأخبار الناس، له تصانيف منها: «كتاب النوادر» في اللغة، وكتاب «النقط والشكل». انظر: طبقات الزبيدي: 6661، والنزهة: 8481.
(7) هو جرول بن أوس العبسي، ويلقب بالحطيئة، ت: نحو 45هـ 665م. شاعر، مخضرم، أسلم ثم ارتد، كان هجاء لم يكد يسلم من لسانه أحد، له ديوان شعر. انظر: طبقات الشعراء: 1/ 120، وفوات الوفيات: 1/ 279276.
(8) إيضاح الوقف: 1/ 48.
(9) بياض في «أ».(1/117)
فعن «أبي غسان المدني (1) قال: أجرى عبد الله بن يزيد بن معاوية مع الوليد بن عبد الملك فسبقه عبد الله، فدخل الوليد على خيل عبد الله فعقرها، فجاء عبد الله خالدا (2) أخاه فقال: ألم ترني سابقت الوليد فسبقته فعقر خيلي، والله لهممت أن أقتله.
قال: فدخل خالد على عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين: أتاني عبد الله فحلف لهمّ بقتل الوليد، فقال عبد الملك: ولم يقتله؟ قال: سابقه فسبقه، فدخل على خيله فعقرها، فقال عبد الملك: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذََا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهََا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهََا أَذِلَّةً وَكَذََلِكَ يَفْعَلُونَ} (3).
فقال خالد: يا أمير المؤمنين، اقرأ الآية الأخرى: {وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا فَفَسَقُوا فِيهََا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنََاهََا تَدْمِيراً} (4).
فقال عبد الملك: أما والله لنعم المرء عبد الله على لحن فيه! قال:
أفعلى لحن ابنك تقول؟. قال: إن أخا الوليد سليمان. قال: وأخو عبد الله خالد. قال: مدحت والله نفسك يا خالد! قال: وقبلي ما مدحت نفسك يا أمير المؤمنين؟! قال: ومتى؟ قال: حين قلت أنا قاتل عمرو بن سعيد (5)، قال حق والله لمن قتل عمرا أن يفخر بقتله! قال أما والله لمروان كان
__________
(1) هو محمد بن مطرف. ت: 163هـ 779م. روى عن زيد بن أسلم، ومحمد بن المنكدر، وروى عنه الثوري، ويزيد بن هارون. انظر: ميزان الاعتدال: 4/ 43، والشذرات: 1/ 257.
(2) خالد بن يزيد بن معاوية. ت: 85هـ 704م. أمير أموي، أديب، عالم، وحكيم، بايعه بنو أمية بالخلافة بعد موت أبيه، فزهد فيها حبا في العلم، وانصرف يؤلف ويترجم كتب الكيمياء والطب والنجوم. انظر: معجم الأدباء: 11/ 4235.
(3) سورة النمل، الآية: 34.
(4) سورة الإسراء، الآية: 16.
(5) هو عمرو بن سعيد بن العاص الملقب بالأشدق. ت: 70هـ 690م. أمير من الخطباء البلغاء، لقب بالأشدق لفصاحته، ولي مكة والمدينة لمعاوية وابنه يزيد. عاضد مروان بن الحكم في طلب الخلافة فجعل له مروان ولاية العهد بعد ابنه عبد الملك، ولما ولي عبد الملك ساءت الأمور بينهما إلى أن تمكن منه عبد الملك فقتله. انظر: الكامل لابن الأثير: 4/ 18و 297، وقد ذكر أن سنة وفاته 69هـ. والإصابة: 3/ 175.(1/118)
8 - و / / أطولنا باعا. قال: أما إني أرى ثأري في مروان صباح مساء. ولو أشاء أن أزيله (1) لأزلته، قال: إذا شئت أن تطفىء نورك فافعل. قال: ما جرأك (2) علي يا خالد؟ خلني عنك، قال: لا والله ما قال الشاعر:
ويجرّ اللسان من أسلات (3) ال ... حرب ما لا يجر [منها] (4) البنان
قال: فاستحيا عبد الملك، فقال: يا وليد، أكرم أخاك، وابن عمك، فقد رأيت أباه يكرم أباك وجده يكرم جدك» (5).
قلت: وفي بعض مساق هذا الخبر أن عبد الملك قال لخالد بعد جوابه له بآية: {وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} أفي [عبد الله] (6) تكلمني؟ والله لقد دخل علي، فما أقام لسانه لحنا، فقال خالد: أفي الوليد تقول؟ فقال عبد الملك: إن كان الوليد يلحن فإن أخاه سليمان. فقال خالد: وإن كان عبد الله يلحن فإن أخاه خالد».
النوع العاشر: ما يسجل بتأديب من فرط في تعلمه ضربا وإيلاما
، وتأخيرا عن المراتب التي تخل بها الجهالة به.
فروى ابن الأنباري أن «كاتب أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كتب إلى عمر رضي الله عنه فكتب: «من أبو موسى». فكتب إليه عمر رضي الله عنه إذا أتاك كتابي هذا فاجلده سوطا، واعزله عن عملك» (7).
__________
(1) في معجم الأدباء: 11/ 38: ولو أشاء أن أديله لأدلته: أي أنزع منه الأمر وتكون لي الدولة.
(2) في ن. م. س: 11/ 38: ما أجرأك.
(3) الأسل: نبات له أغصان دقاق كثيرة لا ورق لها، واحدته أسلة، وسمي القنا أسلا تشبيها بطوله واستوائه.
(4) في «ج» منهما.
(5) انظر: إيضاح الوقف: 1/ 5553، ومعجم الأدباء: 11/ 3937.
(6) ساقط من «أ».
(7) انظر: إيضاح الوقف: 1/ 25، والخبر أورده صاحب مراتب النحويين: 23.(1/119)
وعنه رضي الله عنه «أنه كان إذا سمع رجلا يخطىء، قبح عليه، وإذا أصابه يلحن ضربه [بالدّرّة] (1) (2)» (3).
وعن [عبد الله] (4) ابنه رضي الله عنهما «أنه كان يضرب ولده على اللحن في كتاب الله عز وجل» (5).
وعن نافع (6) عنه، «أنه كان يضرب بنيه على اللحن» (7).
وعن الحسن (8) «أنه قيل له: إن لنا إماما يلحن. قال: أخروه» (9).
[قلت] (10): من طريف ما يحكى فيما يؤول إليه إمامة اللاحن، ما أورده ابن قتيبة في «عيون الأخبار» (11) «أن أعرابيا سمع إماما يقرأ: {وَلََا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتََّى يُؤْمِنُوا} (12). فقال: سبحان الله! هذا قبل الإسلام قبيح، فكيف بعده؟! 8ظ / فقيل له: إنه لحن، والقراءة: «ولا تنكحوا» فقال: قبحه الله، لا تجعلوه بعدها إماما، فإنه يحل ما حرم الله» اه.
ولا غاية وراء هذا الإخلال برتبة الإمامة، ومثلها سائر الرتب الشريفة، ومن هناك عد أصحابها. من شناعة اللحن حائزين الرتبة بمجرد البخت لفوات شرط الاستحقاق.
__________
(1) الدرة: سوط صغير يضرب به.
(2) في «أ» بالمدره.
(3) إيضاح الوقف: 1/ 51.
(4) بياض في «أ».
(5) م. س: 1/ 24.
(6) نافع مولى ابن عمر: أحد الأئمة الكبار بالمدينة. روى عن مولاه، وعائشة وأبي هريرة. وروى عنه أيوب الزهري وابن عون. ت: 118هـ 746م. انظر: تاريخ الإسلام للذهبي: 5/ 10.
(7) إيضاح الوقف: 1/ 25.
(8) الحسن بن يسار البصري.
(9) إيضاح الوقف: 1/ 29.
(10) بياض في «أ».
(11) 2/ 160.
(12) سورة البقرة، الآية: 221. وقد قرأ بفتح التاء: «ولا تنكحوا».(1/120)
فيحكى «أن أعرابيا سمع واليا يخطب، فلحن مرة، واثنتين فقال: أشهد [أنك] (1) ملكت بقدر».
وينظر إليه في استغراب نيل الحظوظ مع توفر الحظ من نقيصة اللحن ما يحكى أن أعرابيا دخل السوق فسمعهم يلحنون [فقال: سبحان الله! يلحنون] (2)
ويربحون (3)».
ويروى عن آخر (4) «أنه مر بأعدال [مطروحة] (5) مكتوب عليها: «لأبو فلان» فقال: لا إله إلا الله، يلحنون ويربحون (6)» (7).
[نادرة] (8):
من ملح ما يحكى في تقريع اللاحن، وتوبيخه، «أن القاضي (9) [ابن قريعة] (10) رفع إلى الوزير المهلبي (11) حسابا فيه درهمان، ودانقان، وحبتان، فدعاه وأنكر عليه الإعراب في الحساب. فقال: أيها الوزير صار لي طبعا، فلست أستطيع له رفعا. فقال: أنا أزيلك عنه دفعا، وأزيله عنك صفعا، ثم قربه بعد ذلك».
هذا إن كان على أن الإعراب كان على غير الرفع، ويحتمل أن يكون
__________
(1) ساقط من «أ».
(2) ساقط من «أ».
(3) عيون الأخبار: 2/ 159، مع بعض الاختلاف في اللفظ.
(4) في الإنباه: أنه «أبو عمرو بن العلاء».
(5) زيادة من الإنباه: 2/ 319، والعدل: يكون للمتاع خاصة.
(6) في م. س: 2/ 319: ويرزقون.
(7) في م. س: 2/ 319.
(8) بياض في «أ».
(9) هو محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قريعة البغدادي أبو بكر ت: 367هـ 978م. من القضاة، تولى القضاء ببعض أعمال بغداد، وتوفي بها له مسائل وأجوبة مدونة في كتاب، انظر: «الوفيات»: 4/ 384382.
(10) في «أ»: ابن فريعة.
(11) هو أبو محمد الحسن المهلبي. ت: 352هـ 963م. أديب، شاعر، من كبار الوزراء، يعود بنسبه إلى المهلب بن أبي صفرة. استوزه معز الدولة البويهي والمطيع العباسي. له شعر رقيق.
انظر: معجم الأدباء: 9/ 152118.(1/121)
توبيخه على استعمال الإعراب في الموضع الذي جرت العادة بالمسامحة في تركه، وإذ ذاك فهو من نوادر الإنكار في ذلك على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
[الطرف الثاني] (1): في الجواب عن ظاهر ما يخالف دليل فضل هذا العلم
ويعارضه.
اعلم أن هذا العلم، وإن وضح دليل فضله وتبين، وتخصص به في العلوم الدينية وتعين، فقد عورض بما يوهم القدح في محصوله، وقوبل بما يوهم وهي قواعده وأصوله، وما يلفى من ذلك مشتهرا، وعلى دعوى المعارضة مستظهرا، فعن بعض كبراء السلف منقول، ولفريق من علماء الخلف مقول 9و / /.
فأما الأول: فهو ما يحكى أن القاسم بن مخيمرة (2) ذكرت العربية عنده فقال: «أولها [كبر] (3)، وآخرها بغي» (4).
وظاهر الذم بذلك مشعر بعدم فضيلة العلم به شرعا لما يؤدي إليه من المفاسد المهلكة وإذ ذاك فيكون من العلوم المبتدعة، والبدعة لا يخفى استحقاقها للذم [على الجملة] (5).
وأما الثاني: وهو تصريح ببدعته فحكى الشيخ أبو طالب المكي (6) في
__________
(1) بياض في «أ».
(2) هو أبو عروة القاسم بن مخيمرة الهمداني. ت: 100هـ 718م. كان معلما بالكوفة ثم انتقل إلى الشام، من رجال الحديث روى عن عبيد الله بن عمرو بن العاص وعن أبي سعيد الخدري وغيرهما. انظر الصفوة: 3/ 95.
(3) في «ج» كفر.
(4) قوت القلوب: 1/ 166.
(5) ساقطة من «أ».
(6) هو محمد بن علي بن عطية الحارثي أبو طالب. ت: 386هـ 996م. زاهد فقيه، نشأ واشتهر بمكة، رحل إلى البصرة فاتهم بالاعتزال، وسكن بغداد فوعظ فيها. له «قوت القلوب» في التصوف. قال عنه الخطيب البغدادي: ذكر فيه أشياء منكرة مستشنعة في الصفات. وله «علم القلوب»، و «أربعون حديثا». انظر: تاريخ بغداد: 3/ 89.(1/122)
«[قوت] (1) القلوب (2)» عن بعض العلماء، قال: «العلوم تسعة، أربعة منها معروفة من الصحابة والتابعين، وخمسة محدثة لم تكن تعرف فيما سلف.
قال: فأما الأربعة المعروفة، فعلم الإيمان، وعلم القرآن، وعلم الآثار، والفتاوى.
أما الخمسة المحدثة: فالنحو، والعروض، وعلم [المقاييس] (3)، والجدل في الفقه، وعلم المعقول بالنظر» (4).
وذكر في باب «ما أحدث الناس مما لم يكن السلف عليه» أن من ذلك التدقيق في القياس والنظر والتبحر في علوم (5) العربية، كما قال إبراهيم بن أدهم (6): أعربنا في الكلام (7) فلم نلحن ولحنا في الأعمال (8) فلم نعرب، فيا ليتنا لحنا في الكلام، وأعربنا في الأعمال» (9) اه.
ومثله قول بعض السلف: «النحو يذهب الخشوع من القلب»، من أراد (10)
أن يزدري بالناس كلهم فلينظر في النحو» (11).
والجواب عن الأول: أنه لا دليل فيه على المعارضة من وجهين:
أحدهما: أن ما ذكر عن القاسم بن مخيمرة قد نقل أنه رجع عنه. فحكى
__________
(1) في «ج»: قوة.
(2) «قوت القلوب في معاملة المحبوب، ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد» وقد اشتهر اسمه ب «طريق المريد للوصول إلى مقام التوحيد».
(3) بياض في «أ».
(4) م. س: 1/ 166.
(5) في م. س: 1/ 166: والتبحر في علوم النحو والعربية.
(6) هو أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم بن منصور العجلي البلخي الزاهد. ت في بلاد الروم: 161هـ 777م. كان ذا ثروة عريضة، ثم رفض الدنيا وصار إلى الزاهد، «انظر الصفوة»: 4/ 152.
(7) في البيان: 2/ 220: في كلامنا فما نلحن.
(8) في م. س: 2/ 220: في أعمالنا فما نعرب.
(9) قوت القلوب: 1/ 166والبيان والتبيين: 2/ 220.
(10) في «قوت القلوب»: 1/ 166: «من أحب».
(11) م. س: 1/ 166، وانظر الاعتصام: 1/ 198.(1/123)
«أحمد بن يحيى ثعلب (1) قال: «كان أحد الأئمة في الدين يعيب النحو، ويقول: [أول] (2) تعلمه شغل، وآخره بغي! يزدري العالم به الناس، فقرأ يوما:
{إِنَّمََا يَخْشَى اللََّهَ مِنْ عِبََادِهِ الْعُلَمََاءُ} (3).
فقيل له: كفرت من حيث لم تعلم! فجعل الله يخشى العلماء. فقال:
لا [طعنت] (4) (5) على علم يؤول بي إلى معرفة هذا أبدا» (6).
قال الشيخ أبو عمرو الداني (7): «الإمام الذي ذكره أحمد بن يحيى هو القاسم بن مخيمرة [قال] (8): وقد جرى لعبد الله بن أبي إسحاق (9) مع 9ظ / / محمد بن سيرين كلام، وكان ابن سيرين ينتقص النحويين، فاجتمعا في جنازة، فقرأ ابن سيرين: {«إِنَّمََا يَخْشَى اللََّهَ مِنْ عِبََادِهِ الْعُلَمََاءُ»} برفع اسم «الله»، فقال ابن أبي إسحاق: كفرت يا أبا بكر، تعيب على هؤلاء الذين يقيمون كتاب الله!؟ فقال ابن سيرين: إن كنت أخطأت فاستغفر الله [ورجع إلى حلقته] (10)» (11).
__________
(1) أبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني النحوي المعروف بثعلب. ت: 291هـ 903م. إمام الكوفيين في النحو واللغة في زمانه. انظر: طبقات الزبيدي: 150141والنزهة: 232228.
(2) في «أ»: إن لم.
(3) سورة فاطر، الآية: 28.
(4) في «أ» لا طعت.
(5) كذا وردت في الاعتصام: 1/ 199، وقد وضع عليها علامة استفهام، ولا ندري لم، لأن المعنى واضح إذ تقول: طعن في الرجل، وعلى الرجل: عابه وقدح فيه؟!
(6) انظر: الاعتصام: 1/ 199.
(7) هو عثمان بن سعيد أبو عمرو الداني المقرىء المعروف بابن الصيرفي. ت: 444هـ 1053م.
من أهل الحفظ والعلم والذكاء. ومن الأئمة في علم القرآن، وروايته، وتفسيره. من مصنفاته في القراءة: «التيسير في القراءات السبع»، و «المقنع». انظر: الجذوة: 305، والصلة: 407405، والديباج: 2/ 8584.
(8) في «أ»: مال.
(9) هو أبو بكر الحضرمي. ت: 117هـ 735م. من أئمة اللغة والقراءة. يقال إنه أول من علل النحو. انظر أخبار النحويين: 25، والبغية 2/ 42.
(10) ما بين المعقوفتين زيادة من «الإنباه»: 2/ 107.
(11) الخبر وارد في «الاعتصام»: 1/ 199، والإنباه: 2/ 107.(1/124)
قلت: ولزوم الكفر من هذه القراءة إنما هو بحسب ما يعطيه الظاهر، وإلا فقد قرىء بها.
ووجهها الإمام فخر الدين (1): بأن معناها: «أنه لو جازت الخشية على الله تعالى لما خشي إلا العلماء. لأنهم هم الذين يميزون بين ما يجوز، وبين ما لا يجوز. أما الجاهل الذي لا يميز بين هذين، فأي مبالاة به، وأي التفات إليه» (2).
قال: «ففي هذه نهاية الإجلال للعلماء والتعظيم» (3).
الثاني: على فرض عدم الرجوع عنه، فليس فيه ما يدل على الذم المعارض لمدحه.
قال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: «لأنه لم يذم النحو من حيث هو بدعة بل من حيث ما يكتسب به أمر زائد. كما يذم سائر علماء السوء، لا لأجل علومهم، بل لأجل ما يحدث لهم بالعرض من الكبر به، والعجب، وغيرهما، ولا يلزم من ذلك كون العلم بدعة».
قال: فتسمية العلوم التي يكتسب بها أمر مذموم بدعا، إنما على المجاز المحض من حيث لم يحتج إليها [أولا، ثم احتيج إليها بعد] (4)، أو من عدم المعرفة بموضوع البدعة، إذ من العلوم الشرعية ما يداخل صاحبها [الكبر] (5)، والزهو، وغيرهما، ولا يعود ذلك [عليها] (6) بذم» (7).
__________
(1) هو محمد بن عمر التيمي البكري الطبرستاني الرازي الشافعي المعروف بفخر الدين، ويكنى بأبي عبد الله. ت: 606هـ 1210م. مشارك في كثير من العلوم الشرعية، والعربية والرياضية.
له تصانيف كثيرة منها: «مفاتيح الغيب» في تفسير القرآن، و «المحصول في علم الأصول»، وغيرهما انظر: طبقات الشافعية: 8/ 9681، والبداية: 13/ 5655.
(2) في التفسير: 2/ 187.
(3) انظر: م. س: 2/ 187.
(4) ساقطة من «أ».
(5) في «أ» و «ج»: في الكفر.
(6) في «ج»: عليهما.
(7) انظر: الاعتصام: 1/ 198.(1/125)
تنبيه:
دخول [الكبر] (1) على حملة هذا العلم وإن كان لا يدل على الذم، كما تقرر، فسببه ما يكسب صاحبه من اعتقاد الفضيلة له، وظهور المزية به، على من كان عاريا منه، وحق له ذلك، لكن يجب عليه أن يظهر الشكر لله تعالى، ويتحلى بفضيلة التواضع، ورؤية التقصير من وجوه لا تنحصر.
يحكى عن يحيى 10و / / بن أكتم (2) أنه قال: «بينا أنا جالس مع المأمون إذ دخل فتى أبرع الناس زيا وهيئة، ووقارا، وهو لا يلتفت إعجابا بنفسه، فنظر إليه المأمون فقال: يا يحيى، إن هذا الفتى لا يخلو أن يكون هاشميا، أو نحويا.
ثم بعثنا من يتعرف ذلك منه، فعاد الرسول، فأخبر أنه نحوي، فقال المأمون:
يا يحيى: أعلمت أن علم النحو قد بلغ بأهله من عزة النفس، وعلو الهمة، منزلة بني هاشم في شرفهم، يا يحيى: من قعد به نسبه رفعه أدبه».
ويروى عن يونس (3) أنه كان يقول: كنا ننظر إلى الشاب يخطر في جامع البصرة بين السواري فنقول: إما أن يكون قرشيا أو نحويا.
والجواب عن الثاني من وجهين:
أحدهما: أن هذا النقل إن صح مخالف للإجماع المنعقد قبله على خلافه، وفيما تقدم أوضح دليل عليه، وسيأتي إن شاء الله ما يؤيده عند الكلام على حكم هذا العلم في نظر الشرع، وأن السلف الصالح أمروا بوضعه، وسنوا تعليمه عند حدوث السبب له، وإذ ذاك فالنظر فيه ليس ببدعة، بل هو سنة من سنن الخلفاء الراشدين لا تعارض بهذا النقل المسبوق بالإجماع على مبدإ ظهورها من ناحيتهم.
__________
(1) في «أ»: الكفر.
(2) هو أبو محمد يحيى بن أكتم (بالتاء المثناة والثاء المثلثة: لغتان في عظيم البطن) بن محمد بن قطن التميمي المروزي. ت: 242هـ 856م. قاضي البصرة ثم بغداد عهد المأمون، كما كان فقيها. انظر: تاريخ بغداد: 14/ 191، والوفيات: 6/ 165147.
(3) يونس بن حبيب البصري أبو عبد الرحمن. ت: 183هـ 779م. من أكابر النحاة، أخذ عنه سيبويه والكسائي. انظر: أخبار النحويين: 33، والنزهة: 49، والمزهر: 2/ 339.(1/126)
الثاني: على تسليم عدم ثبوت هذا الإجماع.
قال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي: «فقاعدة المصالح تضم (1) علوم العربية إلى قبيل المشروع فهي من جنس كتب المصحف، وتدوين الشرائع» (2).
قلت: «يعني بالمصالح»: المصالح المرسلة، وهي ما لم يشهد لاعتبارها شرعا، دليل معين، وتحرير الكلام عليها، مقرر في أصول الفقه، وسنشير إن شاء الله إلى بسط دلالة هذا النوع من الدليل على شرعية هذا العلم. وإذا ثبت أصله نقلا، واعتبارا، فإطلاق الإحداث عليه، بعد مضي زمان السلف الصالح، إن كان على المجاز كما تقدم. فيقرب الأمر، ولكن الظاهر من كلام الشيخ أبي طالب 10ظ / / المكي، «أنه يريد الإحداث الحقيقي، وخصوصا في تدقيق النظر فيه، وحينئذ فلا يشك في بطلان مقوله ومنقوله، وغير بعيد هذا من حاله، وإن كان من أئمة علماء الآخرة. فقد قال فيه الأستاذ «أبو إسحاق الشاطبي» فيما وقفت عليه من «أجوبته»: «له آراء خالف فيها العلماء حتى إنه ربما خالف الإجماع في بعض المواضع، لكن له كلام حسن في الوعظ، والتذكير، والتحريض على طلب الآخرة، فلذلك إذا احتاج الطلبة إلى كتابه «قوت القلوب» طالعوه متحرزين، وأما العوام فلا يحل لهم مطالعته البتة».
قلت: لقولهم: «كل كلام، منه مأخوذ أو متروك، إلا ما كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم (3) وثبت هذا عن مالك رحمه الله فالطلبة يعرفون ما يؤخذ منه، وما يترك، والعوام لا معرفة لهم بذلك، فيتعين عليهم ترك النظر في الجميع، لالتباس الضار بالنافع، ولا يعود هذا كله بقدح فيمن اشتهر فضله، وعرفت في مراتب علماء الآخرة منزلته، لأن عدم الأخذ بمثل هذا من كلامه، إنما هو لما عارضه، مما هو أولى منه بشهادة الإجماع، وعمل أئمة المسلمين، مع حفظ ما يجب له من التعظيم، ويعتقد في جانبه من رجاء البركة به، والتماس أنوار
__________
(1) في الاعتصام: 1/ 199: تعم.
(2) انظر: م. س: 1/ 199.
(3) الاعتصام: 1/ 217.(1/127)
الهداية من كلامه، على ما هو الواجب مع المعتبرين من إعلام تلك الطريقة نفعنا الله بهم، وأعاد علينا من بركات حبهم، ورزقنا حسن الأدب معهم.
تعريف:
من [جملة] (1) الجاحدين لفضيلة هذا العلم من تجرأ بنظم الشعر على التصريح بهجوه، وتنقص قدره، وإسقاط منزلة المختص به، وهو وإن كان كما قيل: 11و / /.
ما يضر البحر أمسى زاخرا ... أن رمى فيه غلام بحجر (2)
وكما [قيل] (3):
ما ضر تغلب وائل أهجوتها ... أم بلت حيث تناطح البحران (4)
ولكن لا بد من الجواب عما نذكر من ذلك ليحمل عليه ما سواه، وذلك قطعتان هما أفحش ما وقفت عليه في هذا الغرض، وأدل على جهالة قائلها بقدر هذه الصناعة.
القطعة الأولى:
قوله:
يا طالب النحو يبغي فوق حاجته ... لقد فتنت بآراء المجانين
النحو كالملح ما دون الكفاية لا ... يجدي وما فوقها [داء] (5) إلى حين
إن النحاة مضت أعمارهم بددا ... في غير شيء وباعوا الدين بالدون
وسطروا فتنة أخبارها كذب ... ما بين زيد وعمرو في الدواوين
__________
(1) في «أ»: جهلة.
(2) زخر البحر: كثر ماؤه وارتفعت أمواجه. وفي «البيان» للجاحظ: 3/ 248: «ما يضير»، وفي «الحيوان» 1/ 13: «هل يضر»، ووارد في «بهجة المجالس»: 2/ 198.
(3) ساقطة من «أ».
(4) البيت من قصيدة للفرزدق في ديوانه: 2/ 344يهجو فيها جريرا دفاعا عن الأخطل مادحا بني تغلب قوم الأخطل انظر الحيوان: 1/ 13، والبيان والتبيين: 3/ 248، والخزانة: 2/ 501.
(5) في «أ»: وما فوقها ذا.(1/128)
وحسب ذي اللب منهم أن مذهبهم ... (حكم العقول بتقبيح وتحسين) (1)
وما عن النحو يوم الدين يسألهم ... رب العباد إذا [هبوا] (2) إلى الدين
لكن يقول اخبروني عن عقائدكم ... وهل أتيتم بمفروض ومسنون
فكم ترى معجما في الخلد مسكنه ... وكم ترى معربا في سجن سجّين
فمن يكن عن كرام الناس يسألني ... فأكرم الناس أهل العلم بالدين
والجواب، قوله: «يا طالب النحو يبغي فوق حاجته» إلى آخر البيت الثاني، حاصله: التعريف [لطالب] (3) النحو على وجه الإرشاد والنصيحة بأن طلبه ينبغي أن يتقدر بحسب الحاجة إليه كما في الملح، فإنهم قالوا: «النحو في الكلام كالملح في الطعام»، ولما كان الملح لا ينفع في الطعام إلا إن اقتصر فيه على مقدار الحاجة، وإلا لم يحصل به كمال المنفعة مع النقص من قدر الحاجة منه وأدى إلى ضرر متناوله إن زاد منه فوق 11ظ / / المحتاج إليه، فكذلك النحو إن ابتغي بطلبه قدر المراد منه انتفع به، وإن وقف دونه، لم يظفر منه بتمام غرض، وإن تجاوز إلى الزيادة عليه، دخلت عليه الفتنة [بسفه] (4) المجانين، وسخافة آرائهم.
وجوابه: أن الحاجة إلى النحو ليس الناس فيها بمنزلة واحدة، فإن منهم من انتهض لإحراز رتبة الإمامة في العلوم الدينية، فهذا حاجته إليه موقوف قدرها، على بلوغ الغاية فيه على ما يمهد بعد إن شاء الله.
ومنهم من عجز عن ذلك لنقص في كمال الاستعداد، أو لعائق قطع به عن الوصول إلى غاية ما كان قابلا له، ولا شك أن حاجة هذا إلى النحو، دون قدر
__________
(1) إشارة إلى رأي أهل التحسين والتقبيح العقليين، ومحصول مذهبهم، تحكيم عقول الرجال دون النص، وهو أصل من الأصول التي بنى عليها أهل الابتداع آراءهم بحيث إن وافق النص آراءهم قبلوه، وإلا رفضوه.
(2) بياض في «أ».
(3) في «ج»: الطالب.
(4) في «أ»: بسبقه.(1/129)
حاجة من فوقه، ثم هي مع ذلك تتفاوت بحسب تفاوت صاحبها، في مقدار ما هو بسبيله، وحينئذ فتكون مقولة بالتشكيك المحض، ويلزم عن ذلك أمر آخر:
وهو أن النحو يجب أن يكون في نفسه قد استقصيت فيه الغاية، وبذل في تدقيق النظر فيه مجهود الاستطاعة، ليكون أصلا لأصناف الطالبين، وموردا قد علم كل الناس مشربهم منه، وكذلك فعلوا رحمهم الله.
قال ابن خروف (1) في تنزيه أئمة النحو عما نسب إليهم من الزلل والسهو:
«لولا اجتهادهم في ضبطه، وتحريهم في نقله، وتبنيهم معانيه، واتساعه، ومجازه، وحذفه، وأكثر علله، وحصر [الكثير] (2) منه في القليل، ما علمت حقيقته، وما احتوى عليه من عجائبه» اه.
وإذا كان كذلك فكيف يصح أن يقال في جانب الأئمة الذين تكفلوا بالقيام بهذه المهمة، وأنهضت إلى تكميل الغاية منها عزائمهم: «إنهم ما أتوا إلا بما خاب فيه سعيهم، وخسرت في التشمير عن ساعد الجد فيه صفقتهم، حتى نسبوا إلى الجنون، والحماقة، وحذر من [غرور] (3) الفتنة بآرائهم، وسفه الاعتقاد 12و / / لخرافات علمهم، وهذيان صناعتهم».
لا يقال: إنما هذا في حق من اشتغل بطلب ما فوق الحاجة معرضا عن تقديم الأهم، لأن ذلك لا يخفى أنه من فعل ذوي السفه والجهالة، لأنا نقول أولا: قوله بعد ذلك (4): [«إن النحاة مضت أعمارهم بددا»] إلى آخره يبين أن الفتنة بآراء هذه الحماقة التي أنتجها تعمق النظر في هذا العلم، لا تخص
__________
(1) هو أبو الحسن علي بن محمد الحضرمي الإشبيلي. ت: 604هـ 1208م. من أعلم الناس بالعربية. له كتاب «تنقيح الألباب في شرح غوامض الكتاب» و «شرح الجمل للزجاجي». وله ردود كثيرة على بعض معاصريه. انظر: معجم الأدباء: 15/ 7675، والوفيات: 3/ 335، وجذوة ابن القاضي: 2/ 485484.
(2) في «أ»: الكبير.
(3) في «أ»: عزور.
(4) البيت الثالث من القصيدة ص: 11و / / من مخ «أ». ص: 126من هذا الكتاب.(1/130)
صاحب هذه الحالة، بل هي شاملة للأئمة الذين نظروا فيما فوق الحاجة أولا، ولمن عني بطلبها ثانيا.
ثم نقول ثانيا: على تسليم صحة الحكم بما ذكر على صاحب تلك الحالة، فلا يعود بذم على العلم من حيث هو، وإنما جاء الذم من جهة تقديم ما هو أهم، وهذا وارد على كل علم قدم الاشتغال به على ما هو أحق بالتقديم بحسب النسب، والإضافات، واختلاف الأوقات، والحالات.
ثم نقول ثالثا: [طالب] (1) ما فوق الحاجة من هذا العلم قد يندب في حقه، أو يجب أن يقتصر على ذلك الطلب قاطعا به سواد ليله، وبياض نهاره إلى انقضاء عمره، إذا حسنت النية، وقام بوظيفة من وظائف ما يحفظ به الدين أصلا وفرعا حسبما يأتي عليه مزيد تقرير إن شاء الله وإذ ذاك فحاشاه [ثم حاشاه] (2) من النسبة إلى الفتنة [بآراء] (3) [المجنون] (4) وأنظار الحماقة، كيف وقد شهد كبار الصحابة وأعلام العلماء، بأن «تعلم العربية يزيد في العقل، ويكسب كمال المروءة» على ما تقدم (5) بل القائل لهذا هو الأحق بذلك والأولى حيث تكلم بما لم يحط به علما، وملأ فاه (بهجو) (6) من برأه الله من عار هذه النقيصة. {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللََّهِ عَظِيمٌ} (7).
ولولا أن المبتدئين ربما اغتروا بزخرف هذا الكلام، واعتقدوه نصيحة صادرة من معتبر في العلم لكنا نعرض عنه إعراض مثله، لكن الضرورة دعت إلى مجاوبته، والله ينفع بالنية في ذلك.
__________
(1) في «ج»: طالبه.
(2) ساقطة من «أ».
(3) في «ج»: بإزاء.
(4) في «أ»: الجنون.
(5) انظر: ص: 4ظ من مخ «أ». ص: 100من هذا الكتاب.
(6) في «أ»: وملأ فا من يهجو، وفي «ج»: من هجر.
(7) سورة النور، الآية: 15.(1/131)
فإن قلت: 12ظ / / فقد نقل «عياض» (1) في «المدارك» (2) عن الشيخ «أبي محمد بن التبان» (3) من علماء القيروان، و [ذي] (4) الجلالة فيهم، أنه قال ناصحا لبعض المتعلمين منه: «خذ من النحو ودع، وخذ من الشعر وأقل، وخذ من العلم وأكثر، فما أكثر أحد من النحو إلا حمقه، ولا من الشعر إلا أرذله، ولا من العلم إلا شرفه» (5).
وهذه شهادة من معتبر في العلم، ومقدم في الإمامة فيه، والتفنن في أنواعه، حسبما عرفوا به.
قلت: الجواب عن ذلك من وجهين:
أحدهما: أنه يحتمل أن يكون المتروك عنده ما لا يفيد من التعاليل التي لا ينبني عليها حكم، وبالجملة ما لا يتوقف تحقيق المعرفة بكلام العرب على النظر فيه، والتعمق في تتبع التخريج عليه، ويشهد لهذا أنهم قد وصفوه أنه كان عالما بالنحو واللغة [فمن] (6) هناك والله أعلم شهد بأن من النحو ما لا يحتاج إليه، ولا يفيد في معرفة ما هو وسيلة إليه، كما يوجد ذلك لأهل العلوم مما هو من فضول علمهم.
الثاني: على تسليم أنه شهد بمعنى ما يعطيه كلام صاحب الأبيات، فشهادته معارضة بشهادة من لا يحصى من أكابر العلماء، وعقلاء الأئمة سلفا
__________
(1) أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي السبتي. ت: 544هـ 1149م. عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته. من تصانيفه: «ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك»، و «الإلماع» و «الشفا». انظر: القلائد: 222، والشجرة: 1/ 141140.
(2) انظر: 6/ 256.
(3) هو عبد الله بن إسحاق المعروف بابن التبان. ت: 371هـ 981م. كان من أحفظ الناس للقرآن، والتفنن في علومه، والتكلم على أصول التوحيد، ضربت إليه أكباد الإبل من الأمصار لعلمه بالذب عن مذهب أهل الحجاز، ومصر، ومذهب مالك. انظر: المدارك: 6/ 248، والديباج: 1/ 431
(4) في «ج»: ذوي.
(5) النص وارد أيضا في الديباج: 1/ 432.
(6) في «أ»: ممن.(1/132)
وخلفا، وبرهان الوجود عاضد لهم، وحاكم بتخلف ما ظنه خلافهم، والله تعالى أعلم، وهو يقول الحق، ويهدي السبيل.
فإن قلت: فقد قال الغزالي (1): «كل ما يطلب لغيره، فلا ينبغي أن يجهد فيه المطلوب ويستكثر منه». قال: «فاقتصر من شائع علم اللغة على ما يفهم (2)
به كلام العرب، وتنطق به، ومن غريبه على غريب القرآن، وغريب الحديث، ودع التعمق فيه، واقتصر من النحو على ما يتعلق بالكتاب والسنة» (3) اه. وهذا الكلام يشير إلى معنى ما سبق عن ابن التبان.
قلت: ذلك المقدار الذي أرشد إلى الاقتصار عليه من علمي النحو واللغة، يتفاوت الناس فيه 13و / / على حسب ما تقدمت الإشارة إليه. فلا يكون هناك حد لعلم النهاية عنده، وأيضا ذلك المقدار بالنسبة إلى طلب رتبة الاجتهاد في الشريعة، لا يحصل إلا لمن بلغ في العربية رتبة الاجتهاد أيضا على ما يأتي تقريره إن شاء الله مع نقل [ما عناه] (4) من كلامه في «المستصفى»، وأيضا كلام الغزالي هنا باعتبار تقديم الأهم عند مزاحمة الفنون العلمية على الناظر فيها، ويتفاوت الناس في ذلك أيضا تفاوتا عظيما. وأما مع الفراغ [للاستقصاء] (5) والاطلاع على فن من الفنون العلمية، وخصوصا مع تعذر الاشتغال بغيره، فلا يتمشى فيه ذلك المعنى. ولذلك قال في موضع آخر بعده عند الكلام على وظائف المتعلم: «أن منها ألا يدع طالب العلوم (6) فنا من العلوم المحمودة، ولا نوعا من أنواعه إلا وينظر فيه نظرا يطلع به على مقصده وغايته».
__________
(1) أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي. ت: 505هـ 1111م. حجة الإسلام وفيلسوف ومتصوف، له نحو مائتي مصنف منها: كتابه «الإحياء»، و «المنقذ»، و «ميزان العمل»، و «المستصفى». انظر: الوفيات: 4/ 216، وطبقات الشافعية: 6/ 191.
(2) في الإحياء: 1/ 40: على ما تفهم منه كلام.
(3) انظر: م. س: 1/ 40.
(4) في «أ»: نقل عناه.
(5) في «ج»: الاستقصاء.
(6) في الإحياء: 1/ 51: العلم.(1/133)
قال: «ثم إن [ساعده] (1) العمر طلب التبحر فيه، وإلا اشتغل بالأهم منه (2)، فاستوفاه فإن العلوم [متعاونة] (3) وبعضها مرتبط «بالبعض».
قال: ويستفيد منه في الحال الانفكاك عن عداوة ذلك العلم بسبب جهله، فإن الناس أعداء ما جهلوا. قال الله تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هََذََا إِفْكٌ قَدِيمٌ} (4). وقد قال الشاعر:
ومن يك ذا فم مرّ مريض ... يجد مرّا به الماء الزلالا (5)
زاد في «ميزان العمل»: فلا ينبغي للعاقل (6) أن يستهين بشيء من أنواع العلوم، بل ينبغي أن يحصل كل علم، ويعطيه حقه ومرتبته، فإن العلوم على درجاتها، إما سالكة بالعبد إلى الله تعالى، أو معينة على أسباب السلوك، ولها منازل مرتبة في القرب والبعد من المقصد، والقوام بها حفظة كحفظة الرباطات والثغور على طريق الجهاد، والحج، ولكل واحدة منها رتبة» اه (7).
انعطاف:
قوله: «النحو (8) كالملح إلى آخره» هو معنى 13ظ / / قولهم في الجملة:
«النحو في الكلام كالملح في الطعام، ورواه ابن قتيبة في عيون الأخبار (9):
«النحو في العلم بمنزلة الملح في القدر، والرامك في الطيب» والرّامك: بكسر الميم وفتحها.
قال الجوهري: هو شيء أسود يخلط بالمسك.
__________
(1) في «ج»: صاعده.
(2) زيادة من الإحياء م. س: 1/ 52.
(3) في «أ»: متفاوتة.
(4) سورة الأحقاف، الآية: 11.
(5) الإحياء: 1/ 5251.
(6) ساقطة من «ميزان العمل»: 99.
(7) انظر: م. س: ص: 99.
(8) إشارة إلى البيت الثاني من القطعة الواردة في ص: 11ومن مخ «أ». ص: 126من هذا الكتاب.
(9) انظر: 2/ 157.(1/134)
وكثير من عوام السامعين له يحملونه على أن المراد به: تشبيه النحو بالملح في نفع مقدار الحاجة، وضرر الزيادة عليه، وعدم كمال النفع عند التقصير عنه كما صرح به صاحب الأبيات، ويظهر من قول آخر:
طالع من النحو وادر منه ... بقدر ما يصلح الكلاما
كالملح يستعملون منه ... بقدر ما يصلح الطعاما
والملح إن زاد في طعام ... كان على أهله سقاما
وما فهموه غير لازم لأمرين:
أحدهما: أنه يكفي في المشبه أن يكون فيه وصف جامع من أوصاف المشبه به خصوصا إذا كان [أشهر] (1) أوصاف المحل. «كالأسد للشجاع»، وعليه فلا يلزم أن يكون النحو كالملح الذي لا يستغنى عنه، [فالوصف] (2)
الجامع بينهما، مجرد النفع بهما خاصة.
الثاني: على تسليم لزوم الضرر بالزيادة على القدر المحتاج إليه، فقد تقدم (3) ما يدل على أن منشأ ذلك ليس نفس العلم، بل من أمور تعرض للناظر فيه، خارجة عنه كما في سائر العلوم.
قوله:
«إن النحاة مضت أعمارهم بددا ... في غير شيء وباعوا الدين بالدون (4)»
مضمنه تحقيق الإخبار بزعمه عن مضي أعمار النحاة متبددة، أي متفرقة في غير شيء معتبر الفائدة وعن بيعهم الدين بما دونه، مما أوجب ضلال سعيهم، وخسران صفقتهم.
وجوابه من وجهين:
أحدهما: منع صحة هذا الإخبار لما علم أن 14و / / الدعوى يكفي في
__________
(1) في «أ»: اشتهر.
(2) في «ج»: بالوصف.
(3) انظر: ص: 12و / من مخ «أ». ص: 129من هذا الكاب.
(4) البيت الثاني من القطعة الواردة في ص: 11و / من مخ «أ». ص: 129من هذا الكتاب.(1/135)
جوابها المنع، فإن قلت: دليله على ذلك متقدم: قوله: «إن النحو كالملح» حتى في الضرر الزائد على قدر الحاجة.
قلت: وقد تقدم أنه لا دليل أيضا على ذلك فهو دعوى هذه أختها!
الثاني: تحقيق [إبطاله] (1) بما يدل على خلافه، وبيانه: أن النحويين إذا كانوا قد قاموا بوظيفة مهمة الحصول (2) في [الدين] (3)، ومسلوك بها على سنن الخلفاء الراشدين، فكيف يسوغ أن يعتقد فيهم أن «أعمارهم مضت في ذلك بددا»، في غير شيء؟ أو كيف يعقل أن يقال: «إنهم باعوا الدين بالدون»، وهم ما اشتغلوا إلا بما يقيم الدين، ويمهد السبيل إلى فهم أصله الذي هو الكتاب العزيز، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولولا أن الله تعالى وفر دواعيهم لاستنباط هذا العلم المأخوذ من عظماء الصحابة، وكبراء التابعين، لما كانت الشريعة محفوظة، لكنه تعالى قد ضمن عصمتها في نحو قوله تعالى: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} (9) (4). وقوله: {كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} (5).
فلا جرم، كان من جملة ما به العصمة: قطع النحاة لأعمارهم، في تمهيد علوم العربية، وتفريع أصولها.
قال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله في تقرير هذه العصمة، مما يدل على ذلك: (6) «الاعتبار الوجودي الواقع من زمان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن. وذلك أن الله تعالى وفر دواعي هذه الأمة للذب عن الشريعة، والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل، أما القرآن الكريم فقد [قيض] (7) الله له حفظة بحيث لو زيد فيه حرف واحد لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر،
__________
(1) في «ج»: بطاله.
(2) في العبارة غموض لا يخفى.
(3) في «ج»: الدير.
(4) سورة الحجر، الآية: 9.
(5) سورة هود، الآية: 1.
(6) وهو الدليل الثاني على أن الشريعة المباركة معصومة حيث جعل الأول: في الأدلة الدالة على ذلك تصريحا وتلويحا، والثاني: للاعتبار الوجودي
(7) في «أ»: نيط.(1/136)
فضلا عن [القراء] (1) الأكابر.
قال: «وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة فقيض الله لكل علم رجالا حفظة على أيديهم، فكان منهم قوم يذهبون الأيام الكثيرة في حفظ اللغات والتسميات 14ظ / / الموضوعة على لسان العرب، حتى قرروا لغات الشريعة من القرآن والحديث، وهو الباب الأول من أبواب فقه الشريعة، إذ أوحاها الله إلى رسوله على لسان العرب».
قال: ثم قيض الله سبحانه رجالا يبحثون عن تصاريف هذه اللغة في النطق بها (2) رفعا، ونصبا، وجرا، وجزما، وتقديما، وتأخيرا، وإبدالا، وقلبا، وإتباعا، وقطعا، وإفرادا، وجمعا إلى غير ذلك من وجوه تصاريفها في الإفراد و [التركيب] (3)، واستنبطوا لذلك قواعد ضبطوا بها قوانين الكلام العربي على حسب الإمكان، فسهل الله بذلك الفهم [عنه] (4) في كتابه، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في خطابه» انتهى المراد منه، وبعض أوله بالمعنى (5).
قلت: ومثله في وضوح الشهادة بذلك قول الغزالي في «ميزان العمل» (6):
«فلولا أن الله تعالى حبب علم اللغة، والنحو، والحروف، والطب، والفقه في قلوب طوائف لبقيت هذه العلوم معطلة، ولتشوش النظام الكلي» اه.
ومثله أيضا قول ابن العربي (7) في «رحلته الصغرى» (8) وقد قرر أنه لا بد
__________
(1) في «أ» و «ج»: القراءة.
(2) في الموافقات: 2/ 59: فيها.
(3) في «أ»: الترتيب.
(4) ساقطة من «أ».
(5) م. س: 2/ 59.
(6) انظر: ص: 106.
(7) هو أبو بكر محمد بن عبد الله المعافري الإشبيلي المالكي المعروف بابن العربي. ت: 543هـ 1184م. عالم، مشارك في الحديث، والفقه، والأصول، وعلوم القرآن، والأدب، والنحو، والتاريخ من تصانيفه: «عارضة الأحوذي»، و «المحصول» في الأصول، و «قانون التأويل».
انظر: الديباج: 2/ 256252، والشجرة: 138136.
(8) يريد ما جاء ضمن كتاب ابن العربي: «قانون التأويل في علوم التنزيل» مخطوط بالخزانة العامة الرباط تحت رقم: ك / 251.(1/137)
من معرفة النحو واللغة لاضطرار الناس إليهما حين فسد عليهم الكلام العربي، وافتقروا إلى تحصيله بالعلم الصناعي، ونصه:
«ولما أراد الله حفظ دينه، وضبط شريعته، [وإنجاز] (1) وعده في إكمال دينه، اختار الخليل نشأة فارسية فاختطف من بينهم، ويسر له ضبط اللغة وترتيب قوانينها، وجاء بالمعجز للعالم في ذلك، وألقى ما علم منه إلى حذاق أصحابه فلم يكن فيهم من لقنه إلا سيبويه».
قال: «وزاد الخليل بأن أخذ في علم الألحان، ليضبط على العرب الأوزان التي لا يتم الشعر إلا بها، وهو ديوانها» (2). انتهى المراد منه.
ومثله أيضا من كلام من سبق هؤلاء قول «ابن قتيبة» في «مشكل القرآن»، وقد ذكر كلمات غريبة يحتاج إلى معرفتها 15و / / من لسان العرب: «لولا العلماء المنقبون في البلاد، المبقرون (3) عن الخبء، الناظرون للخلوف (4)، الطالبون أعقاب الأحاديث، ولسان الصدق في الباقين، لطال علينا أن نطلع على خفياتها، أو نظهر مستورها» (5).
وإذا كان أهل هذا العلم بهذه المنزلة في علماء الأمة، فالواجب أن يقال: جزاهم الله عن الإسلام خيرا، وضاعف جزيل ثوابهم يوم الدين [لا] (6)
أن يقذفوا [بسب] (7) البطالة، وبيع الدين بالدون: {سَتُكْتَبُ شَهََادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ} (8).
__________
(1) في «أ»: إيجاز.
(2) انظر ص: 387من مخ الرحلة.
(3) في «تأويل مشكل القرآن»: 93. «المنقرون»، وبقرت له الحديث: فتحته وكشفته. والخبء: كل شيء مستور / اللسان.
(4) الخلوف: م الخلف: وهو الرديء من القول.
(5) انظر: «تأويل مشكل القرآن» ص: 93.
(6) في «أ»: (إلا).
(7) في «ج»: بسبب.
(8) سورة الزخرف، الآية: 19.(1/138)
حكايتان:
يستأنس بهما في رجاء الوعد [الكريم] (1) لأهل هذه العلوم العربية.
الحكاية الأولى:
ذكر ابن خلكان في ترجمة الإمام أبي العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب أنه كان يقول: «اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا. واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا، واشتغل أصحاب الفقه بالفقه ففازوا، واشتغلت (2)
بزيد وعمرو، فليت شعري ماذا يكون حالي في الآخرة؟ قال الراوي (3):
فانصرفت من عنده، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة في المنام. فقال لي: أقرىء أبا العباس مني السلام وقل له: أنت صاحب العلم المستطيل.
قال أبو عبد الله الروذباري (4) العبد الصالح: «أراد أن الكلام به يكمل، والخطاب به يجمل، وأن جميع العلوم مفتقرة إليه» (5) اه.
الحكاية الثانية:
أوردها أيضا في اسم ابن الخشاب (6) [النحوي] (7) الأديب عن العماد الأصبهاني (8) قال: «كانت بيني وبينه مكاتبات، وصحبة، فمات وأنا في الشام،
__________
(1) في «أ»: الكرم.
(2) في «الوفيات» 1/ 103102: و «اشتغلت أنا».
(3) هو أبو بكر أحمد بن موسى بن مجاهد التميمي الحافظ البغدادي. ت: 324هـ 935م. انظر:
طبقات القراء: 1/ 139.
(4) هو أحمد بن عطاء بن أحمد الروذباري نسبة إلى قرية روذبار القريبة من بغداد. ت: 369هـ 979م. انظر: البداية 11/ 296. «وفيه، أسند الحديث، وكان يتكلم على مذهب الصوفية»، ومعجم البلدان: 3/ 7877.
(5) انظر: الوفيات: 1/ 104102.
(6) هو أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الخشاب البغدادي. ت: 567هـ 1172م. أعلم معاصريه بالعربية. من تصانيفه: «المرتجل في شرح الجمل للزجاجي»، و «الرد على التبريزي»، انظر:
الإنباه: 2/ 99
(7) في «ج»: (النحو في).
(8) هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن حامد الأصبهاني. ت: 597هـ 1201م. عالم أديب.(1/139)
فرأيته (ليلة) (1) في المنام، فقلت (له) (2): ما فعل الله بك؟ فقال: خيرا. فقلت:
هل يرحم الله الأدباء؟ قال: نعم، فقلت: وإن كانوا مقصرين؟ فقال: يجري عتاب كثير ثم يكون النعيم» (3).
قوله:
«وسطروا فتنة أخبارها كذب ... ما بين زيد وعمرو في الدواوين» (4)
يشير إلى أن تمثيل النحويين ما يريدون من دلالة تغيير الإعراب على تغيير المعاني 15ظ / / كقولهم في تمثيل الفاعل والمفعول: «ضرب زيد عمرا»، إذا كان زيد فاعلا، وعمرو مفعولا. وقولهم: «ضرب عمرو زيدا» إذا كان بالعكس، هو فتنة ألقوها بين زيد وعمرو، وسطروا أخبارها في دواوين علمهم، افتراء منهم وكذبا.
وجوابه، أن يقال: وأي كذب في ذلك، والمراد به تمثيل ما يراد من المعاني المدلول عليها، باختلاف أواخر الكلم، والتمثيل بنوع من الكلام المطابق، لذلك لا يلزم منه توهم كذب، لا سيما عند الضرورة إليه في التعليم، وليت شعري علم هذا الناظم من هذا العلم ما تمكن به من نظم أبياته، هل يمكن في عادة التعليم له إلا أن يكون ممثلا «بزيد وعمرو» وشبههما، ما أراه إلا نسي أو تناسى، أو سمع أنّ بعض من تقدم، هجا بذلك بعض النحويين، فأخذ هو يضم معناه إلى جملة ما هذى به، من هجوه وسبه.
أنشد ابن جني (5) لعمار الكلبي (6) وقد عيب عليه بيت من شعره، فامتعض لذلك لكونه عربيا بالطبع:
__________
من الوزراء، أتقن الفقه والعربية انظر: حسن المحاضرة: 1/ 270.
(1) زيادة من الوفيات: 3/ 103.
(2) زيادة من الوفيات: 3/ 103.
(3) انظر: م. س: 3/ 103.
(4) البيت الرابع من القطعة الواردة في ص: 11ومن مخ «أ». ص: 126من هذا الكتاب.
(5) انظر: الخصائص: 1/ 240239، ومعجم الأدباء: 12/ 104103.
(6) وفي معجم الأدباء 12/ 104: عمرو الكلبي.(1/140)
ماذا لقينا من المستعربين ومن ... [قياس نحوهم] (1) هذا الذي ابتدعوا
(إن قلت قافية بكرا يكون بها ... بيت خلاف الذي قاسوه أو ذرعوا) (2)
قالوا: لحنت، وهذا ليس منتصبا ... وذاك [خفض] (3) وهذا ليس يرتفع
وحرضوا بين عبد الله من حمق ... وبين زيد، فطال الضرب والوجع
كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم ... (وآخرين) (4) على إعرابهم طبعوا
ما كل قولي مشروحا لكم فخذوا ... ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا
لأن أرضي أرض لا تشب بها ... نار المجوس، ولا تبنى بها البيع
إلا أن هذا الشاعر معذور لما أبدى من وجوه المعذرة، ومن جملتها عدم احتياجه إلى التمثيل لنطقه بالعربية سجية وطبيعة.
وأما هذا الآخر: فلا عذر له في هجوه 16و / / إلا كفران نعمة هذا العلم، وجرأة الإقدام على سب العلماء به من غير حياء ولا حشمة.
قلت: ومن قبيل هذا الهجو على الجملة ما ذكره «الزبيدي» في «طبقات النحويين» (5) عن أبي مسلم مؤدب عبد الملك بن مروان: أنه كان قد نظر في النحو، فلما أحدث الناس التصريف لم يحسنه، وأنكره فهجا أصحاب النحو فقال:
قد كان أخذهم في النحو يعجبني ... حتى تعاطوا كلام الزنّج والروم
لما سمعت كلاما لست أفهمه ... كأنه زجل الغربان والبوم
تركت نحوهم والله يعصمني ... من التقحم في تلك الجراثيم
قال: فأجابه معاذ الهرا (6) أستاذ الكسائي فقال:
__________
(1) في «أ» و «ج»: وقياسهم هذا.
(2) زيادة من الخصائص: 1/ 240.
(3) في «ج»: حفظ.
(4) في الخصائص: 1/ 240: وبين قوم.
(5) انظر: ص: 126125.
(6) معاذ بن مسلم الهراء ت: 187هـ 802م. انظر: طبقات الزبيدي: 125، والوفيات 5/ 218 221. وفيه أن الهرا بدون مد.(1/141)
عالجتها أمرد حتى إذا ... شبت، ولم تحسن أباجادها
سميت من يعرفها جاهلا ... يصدرها من بعد إيرادها
سهل منها كل مستصعب ... [طود] (1) علا القرن من أطوادها
تنبيه:
من التغفيل عن مقصد التمثيل بما يوهم «إلقاء الفتنة بين زيد وعمرو» ما عرض لابن مضاء (2). وهو من جملة من ينسب إلى النحويين، في التشنيع عليهم، في قولهم: «إن العرب قد قصدت من العلل والأغراض ما نسبوه إليها، وأن الألفاظ يعمل بعضها في بعض» (3).
فزعم أنهم قد [تقولوا] (4) على العرب، وكذبوا فيما نسبوا إلى الألفاظ من العمل وما كفاه ذلك حتى رماهم بالاعتزال، والخروج عن السنة» (5).
قال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي: «وظلمهم عفا الله عنه، إذ لم يعرف ما قصدوه» وقال ابن خروف: «حمل عليهم في ذلك الحمل، (6) وتأول عليهم ما لا يعتقدون». ثم قال بعد كلام: «وكيف يعتقد في أئمة زين الله بهم الدين، وجعلهم 16ظ / / حفظة لكتابه المبين، أنهم يعتقدون أن الألفاظ يعمل بعضها في بعض»، يريد على وجه الحقيقة، [وليشنع] (7) عليهم ذلك، وإذا كانت
__________
(1) في «ج»: طرد.
(2) هو أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن اللخمي القرطبي. ت: 592هـ 1196م. عالم بالعربية، وقاضي الجماعة، له معرفة بالطب والهندسة والحساب، وله شعر. من تصانيفه: «تنزيه القرآن عما لا يليق من البيان»، و «الرد على النحاة» انظر: البغية: 139، وجذوة ابن القاضي: 1/ 143142.
(3) إشارة إلى ما ورد في الخصائص: 1/ 251237.
(4) في «ج»: نقلوا.
(5) انظر: «الرد على النحاة» ص: 87: حيث يقول: «وأما القول بأن الألفاظ يحدث بعضها بعضا فباطل عقلا وشرعا. لا يقول به أحد من العقلاء لمعان يطول ذكرها فيما المقصد إيجازه».
(6) الحمل: ج أحمال وحمولة: ما يحمل.
(7) في «أ»: ويشنع.(1/142)
العرب قاطبة تتسع فتنسب الأشياء إلى غير [فاعليها] (1) فتقول: «ولد له ستون عاما! وصيد عليه يومان! واجتمعت اليمامة!» (2). وذكر من هذه
قال: «فأئمة النحويين رحمهم الله ائتموا بهم، وركبوا طريقهم حين رأوهم اتسعوا هذا الاتساع البديع، فأكثروا منه، فلا قباحة عليهم فيما عبروا به عن مرادهم، بل أفهموا بذلك وأحسنوا».
قلت: وكذلك لا درك عليهم فيما مثلوا به من «زيد وعمرو» كما زعم ناظم الأبيات لما تقدم من ضرورة التوقيف على ما يراد من فهم كلامهم، منضما إلى ما علم من حالهم في صدق النقل، وصحة الرواية، فلقد بوب لذلك ابن جني (3)، وعقد له ما يؤكد العلم به، فقال في صدره ما نصه:
«هذا موضع من هذا الأمر، لا يعرف صحته إلا من تصور أحوال السلف، تصورهم ورآهم من الوفور، والجلالة بأعيانهم، واعتقد في هذا العلم الكريم ما يجب اعتقاده له، وعلم أنه لم يوفق لاختراعه، وابتداء قوانينه وأوضاعه إلا البر عند الله سبحانه، الحظيظ بما نوه به، وأعلى شأنه» (4).
ثم مر في كلامه إلى أن حكى عن «الرياشي» (5) قال: «جئت أبا زيد الأنصاري (6) لأقرأ عليه كتابه في «النبات» فقال: لا تقرأه علي فإني قد أنسيته».
__________
(1) في «ج»: ما عليها.
(2) فالمعنى ولد له الأولاد، وولد له الولد ستين عاما، كما تقول: صيد عليه الوحش في يومين، ولكنه اتسع واختصر، وتقول: «اجتمعت أهل اليمامة». انظر: كتاب سيبويه: 1/ 53و 211، «باب استعمال الفعل في اللفظ لا في المعنى لاتساعهم في الكلام، والإيجاز، والاختصار».
(3) ذكر ذلك في باب «في صدق النقلة وثقة الرواة والحملة».
(4) الخصائص: 3/ 309.
(5) أبو الفضل عباس بن الفرج الرياشي. ت: بالبصرة 257هـ 870م. كان من كبار أهل اللغة، كثير الرواية للشعر انظر: «أخبار النحويين» 9389، وطبقات الزبيدي 9997، والنزهة: 201199.
(6) هو سعيد بن أوس الأنصاري المتوفى في خلافة المأمون، وقد اختلف في سنة وفاته ما بين سنة (214هـ و 215هـ 829م و 830م) كان من أهل العلم بالنحو واللغة، كثير الرواية عن الأعراب، كثير النقل. انظر: «أخبار النحويين»: 5752، و «النزهة» 129125، وطبقات الزبيدي 165 166.(1/143)
ثم قال: «وحسبنا من هذا حديث سيبويه، وقد [حطب] (1) بكتابه وهو ألف ورقة علما مبتكرا، ووضعا متجاوزا: لما يسمع، ويرى، قلما تسند إليه حكاية، أو توصل به رواية، إلا الشاذ الفاذ الذي لا [حفل] (2) به، ولا [قدر] (3).
فلولا تحفظ من يليه، ولزومه طريق ما يعنيه، لكثرت الحكايات عنه، ونيطت أسبابها [به] (4)، لكن أخلد كل إنسان منهم إلى عصمته وادّرع جلباب ثقته، وحمى جانبه من صدقه وأمانته 17و / / ما أريد من صون هذا العلم الشريف له به.
قال: وهذا أبو علي يعني شيخه الفارسي كان من تأنيه وتحرجه كثير التوقف فيما يحكيه، دائم الاستظهار لإيراد ما يرويه، فكان تارة يقول: أنشدت لجرير «فيما أحسب»، وأخرى قال لي أبو بكر (5) فيما أظن، وأخرى في «غالب ظني كذا»، وأرى أني «قد سمعت كذا».
ثم قال: هذا [جزء] (6) من جملة، وغصن من دوحة، وقطرة من بحر [مما] (7) يقال في هذا الأمر» (8) اه.
قلت: وذكر «الخطيب» في «تاريخه» (9) عن الفراء أنه قال: «لقيت الكسائي يوما فرأيته كالباكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: هذا الملك (10)؟
يحيى بن خالد (11) يوجه إلي فيحضرني فيسألني عن الشيء، فإن أبطأت في
__________
(1) في «ج»: خطب.
(2) بياض في: «أ»، وفي «ج»: لا جعل.
(3) بياض في: «أ».
(4) زيادة من الخصائص: 3/ 312.
(5) لعله شيخه «محمد بن السري المعروف ب «ابن السراج» ت: 316هـ 928م.
(6) بياض في: «أ».
(7) في «ج»: ما.
(8) الخصائص: 3/ 313309.
(9) تاريخ بغداد: 11/ 411.
(10) كذا في جميع الأصول.
(11) هو يحيى بن خالد البرمكي مؤدب الرشيد ومعلمه، ت: 190هـ 805م. انظر: الوفيات: 6/ 229219.(1/144)
الجواب لحقني منه عيب، وإن بادرت لم آمن الزلل، قال: فقلت له ممتحنا: يا أبا الحسن، من يعترض عليك؟ قل ما شئت، فأنت الكسائي. فأخذ لسانه بيده فقال: قطعه الله إذن، إن قلت ما لا أعلم» (1).
قوله:
«وحسب [ذي] (2) اللب منهم أن مذهبهم ... حكم العقول بتقبيح وتحسين (3)»
كأنه يقول: يكفي ذا العقل المهتدي بأنوار السنة من المعرفة بمذهب النحاة أن حاصله تحكيم العقل بالتحسين والتقبيح، كما هو مذهب أهل الزيغ والضلالة، وهذه نسبة أخرى إلى الاعتزال من غير الوجه الذي تخيلها ابن مضاء.
وجوابه أن يقال له: أنت [أيها] (4) الظالم لنفسه لما رأيت النحويين يعللون جواز أمر ما، بحسنه في بابه، وامتناع أمر آخر بقبحه في محله، توهمت أنهم قائلون بالتحسين والتقبيح [العقليين] (5) حتى في موضوع علمهم، ولم تعلم أنهم ما قصدوا بذلك إلا ما فهموه حسنا عند العرب باعتبار جريانه على أقيسة كلامهم، أو قبيحا بالنسبة إلى مخالفته لذلك، لا أنهم يسترسلون مع تحسين العقل وتقبيحه حيثما حكم بذلك من حيث وجوب التعليل به لذاته.
أما 17ظ / / بالنسبة إلى عدم المراعاة لما عند العرب فظاهر أنهم ما فعلوا ذلك، ألا تسمع إمامهم سيبويه يقول: «قف حيث وقفوا ثم فسّر».
وأيضا كيف يسوغ لهم وهم ما قصدوا إلا ضبط ما دل عليه استقراء كلامهم، وإذا استقل العقل بتحسينه وتقبيحه فقد صار إذن مستغنيا عن الاستقراء، وقد فرض مفتقرا إليه، هذا خلف.
__________
(1) والخبر وارد أيضا في النزهة ص: 74.
(2) في «ج»: ذا اللب.
(3) البيت الخامس من القطعة الواردة في ص: 11و / من مخ «أ». ص: 127من هذا الكتاب.
(4) في «ج»: إيه.
(5) في «ج»: العقلين.(1/145)
وأما باعتبار وجوب المراعاة لما عندهم، فلا يلزم أن يعتقد أن هذا الوجوب بمعنى ما عند أهل التحسين والتقبيح عقلا. كيف وهو بحسب الاتباع لأوضاعهم على أي وجه سمعت منهم، ولذلك ينكرون على من حكم القياس عليها، معرضا عن وجوب الوقوف معها. يعرف هذا يقينا منهم من له أدنى وقوف على ما سطروا في مصنفاتهم، وما دوّن من أخبارهم.
فمن المنقول من ذلك عن «أحمد بن يحيى ثعلب»: أنه كان يقول: «لولا الفراء لسقطت العربية لأنها كانت تتنازع، ويدعيها كل من أراد، ويتكلم الناس فيها على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب.
قال: وأدركنا العلماء يردون في العلم أقاويل العلماء، ثم تكون العلل بعد، ثم رأينا الناس بعد ذلك يتكلمون في العلم بآرائهم ويقولون: نحن [نقول] (1) فيأتون بالكلام على طباعهم، وبحسب ما يحسن في عقولهم (2)، وهذا سبب ذهاب العلم وبطلانه (3) اه.
فأنت ترى ما في هذا الكلام من البراءة مما رماهم به ناظم هذه الأبيات من غير ما وجه. من ذلك: أن ما يحسن في العقل لا يعتبر إلا إن وافق ما يدل عليه السماع، وإلا فليس بشيء، فأين هذا من رأي القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين؟ وهل هذا العلم مما يجري فيه ذلك، لو كان هذا الناظم يعرف موضوعه، ومجاري القول بتحسين العقل وتقبيحه؟ 18و / /.
«اللهم أرزقنا لبا نعلم به قدر ما نقول، ونعرف حق العلم والعلماء به».
قوله:
«وما عن النحو يوم الدين يسألهم ... رب العباد إذا هبوا إلى الدين
لكن يقول اخبروني عن عقائدكم ... وهل أتيتم بمفروض ومسنون» (4)
__________
(1) في «ج»: يقول.
(2) في طبقات الزبيدي 132: ما يحسن عندهم.
(3) انظر: م. س: 132.
(4) البيت السادس والسابع من القطعة الواردة في ص: 11ومن مخ «أ». ص: 127من هذا الكتاب.(1/146)
مقصوده: أن النحويين لا يسألهم رب العباد عن النحو إذا جاءوا يوم الجزاء منتبهين من [مراقد] (1) أجداثهم، وإنما يسألهم عن العقائد أولا، وعن المفروض والمسنون ثانيا.
وجوابه: أن يقال: لا يخلو هذا النحو أن يكون في نفسه فرض عين، أو كفاية، على ما يتبين إن شاء الله أنه يتصور فيه ذلك. وأيا ما كان فهو معروض للسؤال عنه في الجملة.
فقوله: «لا يسأل عنه على الإطلاق»، قول [ربما] (2) لم يعرف حقيقته، وأيضا لا يلزم من عدم السؤال عنه في حق بعض الأشخاص أن يكون إذا اشتغل به على شرط تحسين النية، وعدم الإهمال لما هو أهم، باعتبار حاله، لا يثاب عليه في الآخرة، ولا يعد متوجها إلى الله تعالى بما هو محمود العاقبة، لما تقرر أن الزائد على فرض العين من العلم معدود في أعلى درجة من نوافل الخيرات. ولا شك أن تلك النوافل لا يسأل عنها التارك لها، وهو مع ذلك إذا أتى بها أثيب، ومدح، وكذا هذا النوع من العلم كما شهد به غير واحد من العلماء.
ومنه قول «الغزالي» في «الجواهر الأربعين» (3) وقد ذكر أصحاب النحو، واللغة، والقراءات: «وكل هؤلاء الطبقات إذا قاموا بشرط علومهم، فحفظوها وأدوها، فيشكر الله تعالى سعيهم وينضر وجوههم كما قال صلى الله عليه وسلم: «نضر الله امرءا سمع مقالتي، فوعاها، وأداها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (4).
وقول ابن خروف 18ظ / / مجيبا عن قول ابن مضاء: «من اقتصر كل الاقتصار على المعارف التي لا تدعو إلى جنة، ولا تزجر عن نار، كاللغات،
__________
(1) في «ج»: قد.
(2) في «ج»: قول (ما) لم.
(3) ص: 20.
(4) حديث رواه الحاكم في «المستدرك»: 1/ 87.(1/147)
والأشعار، ودقائق علل النحو، ومسليات الأخبار، فقد أساء [الاختيار] (1)، واستحب العمى على الإبصار».
لا يلزم ذلك فيما ذكر خاصة، بل من نظر في جميع العلوم، حتى بلغ منها الغاية التي لا نهاية بعدها، وهو عالم بما يجب عليه في اعتقاده، وأفعاله كان معيبا لا محالة كما زعم.
قال: «وأما من وقف من علوم الشريعة على ما يجب عليه منها في [خاصته] (2) في اعتقاده وأفعاله، ثم اتسع في أي علم شاء مما يتصل بالشرع، واستقامت فيه نيته، فثوابه جزيل عند الله تعالى فيما اختار.
قال: وليس أحد من أئمة النحويين إلا وقد ضرب في علم الشريعة بسهام، منهم المفسرون لكتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم اه.
وأيضا: لو لحقه هذا الذم من جهة أنه لا يسأل عنه يوم الدين، للزم في كل ما زاد على فرض العين من سائر العلوم على الجملة، وذلك باطل لا يقول به صاحب هذه الأبيات، وكذا في هذا العلم من غير فارق.
قوله:
«فكم ترى معجما في الخلد مسكنه ... وكم ترى معربا في سجن سجّين» (3)
أتى به على أن العجمة كما لم تضر من فاز بسكنى دار الخلد، كما لم ينفع الإعراب من شقي [بسجن] (4) دار العذاب، كان ذلك دليلا على أن هذا العلم غير نافع لصاحبه ولا عائد عليه، بما يكون له وسيلة.
وجوابه: أنه لا دليل فيه بوجه، لأن الإعراب لا يوجب لصاحبه النجاة على كل حال، كما لا يوجبها سائر الأعمال، وعجمة اللسان لا تمنع منها إذا سبقت السعادة، لا سيما مع الاتصاف بالتقوى كقول الآخر: 19و / /
__________
(1) في «ج»: الأخيار.
(2) في «ج»: (خاصة).
(3) البيت الثامن من القطعة الموجودة ب ص: 11ومن مخ: «أ». ص: 127من هذا الكتاب.
(4) في «ج»: بسجين.(1/148)
«وما ضر ذا تقوى لسان معجم» (1)
ومن كلام الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي في بعض كتبه: «لو نفعت الفصاحة أحدا لنفعت أبا طالب القرشي، ولو ضرت العجمة أحدا لضرت بلالا الحبشي».
ومع هذا فلا بد من تعلمه كما أمر به السلف الصالح، لما يحصل به من الفوائد التي لا تنحصر بزمام قوله:
«فمن يكن عن كرام الناس [يسألني] (2) ... فأكرم الناس أهل العلم بالدين» (3)
يقال له: صدقت، إن أكرم الناس هم أهل العلم بالدين.
ونقول مع ذلك: وأهل العلم بالنحو من جملتهم، لأن علوم الدين لا بد لها من هذا العلم، ولذلك وضعه أئمة الدين، وأمروا بتكميله، [وندبوا] (4) الأمة إلى تعلمه، وسيأتي إن شاء الله في باب الاحتياج إليه ما يشد عضد هذا المعنى، ويؤيده، لكن مراتب العلماء بالدين متفاوتة بحسب تفاوت العلوم الدينية في نفسها، وأيضا وباعتبار ما هو مقصد أو وسيلة.
القطعة الثانية:
قوله:
تنح عن النحو والغ اللغه ... فحسبهما حلقة مفرغه
وصاحب هذين أشقى الورى ... وأحمق عندهم من دغه
ترأس بالنحو قوم لهم ... رؤوس وليست لهم أدمغه
__________
(1) صدره:
[وما ينفع الإعراب إن لم يكن تقى]
انظر: النيل: 303.
(2) في «ج»: يسلني.
(3) البيت التاسع من القطعة الموجودة ب ص: 11و / من مخ «أ». ص: 127من هذا الكتاب.
(4) في «ج»: (نذبوا).(1/149)
والجواب: قوله: «تنح عن النحو إلى آخر البيت» لا يخلو امتثال أمره بالتنحي عن النحو وإلغاء اللغة، أن يكون على الإطلاق، أو باعتبار الزائد على القدر المحتاج إليه منهما، فإن كان الأول فلا يخفى وضوح بطلانه، وإن كان الثاني فقد تقدم جوابه في قول الأول:
«يا طالب النحو يبغي فوق حاجته»
قوله: 19ظ / / «وصاحب هذين أشقى الورى» البيت.
يقال له: أردت بحسب الاشتغال بما يهم منهما تعليما وتعلما، فلا يشك من له أدنى مسكة من علم أنهما ليسا من أشقياء الورى، بل من سعداء من أعان على سلوك سبيل النجاة، وإن أردت باعتبار ما لا يهم، فقد مضى ما يتضح به أن الاشتغال بغير المهم بعد تفاوت الناس فيه، لا يخص ذمه صاحب هذا العلم، ولا يلزم أن [ينشأ] (1) عن نفس العلم من حيث هو بكل اعتبار.
وزعمه: «أنهم عند الناس أحمق من دغه» المضروب بها المثل في الحماقة المفرطة.
لا يخفى ما فيه من التجاسر على ثلب الأئمة، وسوء الأدب معهم، وهو مثل معروف للعرب، وأورده الأصبهاني (2) وتكلم على تفسيره فقال:
«وأما قولهم: «أحمق من دغه» (3) فإنها عجلية وهي مارية بنت مغنج (4)، وهو ربيعة بن عجل».
قال: ومن حمقها أنها زوجت وهي صغيرة في بني العنبر بن عمرو،
__________
(1) في «أ»: تنشأ.
(2) هو حمزة بن الحسن الأصبهاني. ت: 360هـ 970م. أديب مشارك في أنواع من العلوم. من آثاره: «الأمثال الصادرة عن ثبوت الشعر، أصفهان وأخبارها انظر: الفهرست: 199، والإنباه: 1/ 336335.
(3) انظر مجمع الأمثال: 1/ 219، واللسان دغا.
(4) في مجمع الأمثال 1/ 219: قال حمزة: هي بنت منعج، وفي اللسان: ومغنج: أبو دغة، بالغين معجمة.(1/150)
فحملت، فلما ضربها المخاض، ظنت أنها [تريد] (1) الخلاء، فبرزت إلى بعض الغيطان (2) فولدت، فاستهل المولود فانصرفت إلى الرحل (3) تقدر أنها أحدثت، فقالت لضرتها: يا هنتاه (4)! هل يفتح الجعرفاه؟ فقالت: نعم، ويدعو أباه، فمضت ضرتها وأخذت الغلام.
فبنو العنبر تسب بها، فتسمى ببني الجعراء.
قال: ومن حمقها أنها نظرت إلى يافوخ (5) ولدها يضطرب، وكان قليل النوم، كثير البكاء، فقالت لضرتها: أعطني سكينا، فناولتها سكينا وهي لا تعلم ما انطوت عليه، فمضت، وشقت يافوخ ولدها، فأخرجت دماغه، فلحقتها الضرة فقالت: ما الذي صنعت؟ فقالت: أخرجت هذه المدّة (6) كلها من رأسه ليأخذه النوم، فقد نام الآن.
قال: ومن حمقها أن أمها قالت لها حين رحلوا بها إلى بني العنبر، توشكين أن تزورينا محتضنة [اثنين] (7) فلما ولدت 20و / / في بني العنبر المرة الثانية استأذنت في زيارة أمها، فجهزت مع ولدها، فلما كانت قريبا من حيها، أخذت ولدها، فشقته باثنين، فلما جاءت الأم، قالت: أين ولدك؟ قالت:
دونك، خذي ولا [تنثري] (8) إنهما اثنان بحمد الله! أي لا تنثري ما في البطن.
قال: وذكر إسحاق بن إبراهيم الموصلي (9) في تفسير «أحمق من دغه»:
__________
(1) في «ج»: تزيد.
(2) الغوط والغيطان: مكان للعذرة أو الغائط.
(3) منزل الرجل ومسكنه، وما يصحبه من الأثاث، ويجمع على رحال. اللسان رحل.
(4) هن كلمة يكنى به عن اسم الإنسان، كقولك: أتاني هن، وأتتني هنة ومنهم من يزيد الألف والهاء فيقول للرجل: يا هناه، وللأنثى: يا هنتاه ويا هنتاه. اللسان هنو.
(5) اليافوخ: ملتقى عظم مقدم الرأس وعظم مؤخره، وهو الموضع الذي يتحرك من رأس الطفل.
اللسان يفخ.
(6) المدة بالكسر: ما يجتمع في الجرح من القيح. (اللسان).
(7) في «ج»: ابنين.
(8) بياض في «أ».
(9) هو أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن ميمون الموصلي. ت: 231هـ 854م. أخذ الأدب(1/151)
أنها (دويبة) (1) (2).
قال: وزعم بعض أهل اللغة (أن دغه) (3): اسم للفراشة، وأنها تحمق لهجومها على السراج، حتى [تحترق] (4) اه.
فوائد لغوية:
قال ابن خلكان (5) في ترجمة المبرد (6): «دغه» بضم الدال المهملة، وفتح (الغين) المعجمة، بعدها (هاء) (7) ساكنة».
قلت: وفي الصحاح: «أصلها دغوّ أو دغيّ، والهاء عوض».
قال ابن خلكان: «و [مغنج] (8) بفتح الميم وسكون (الغين المعجمة)، وفتح النون، وبعدها جيم (9) لقب». واسمه «ربيعة بن عجل»».
والجعر: روث كل ذي مخلب من السباع».
قال: «فظنت هذه الحمقاء أنه خرج منها المعتاد، فلما صاح، قالت:
أيفتح فاه؟!».
قوله: ترأس بالنحو» (10) البيت.
__________
عن الأصمعي وأبي عبيدة وغيرهما. شرع في علم الغناء وغلب عليه، ونسب إليه وهو صاحب كتاب الأغاني رواه ابنه حماد. النزهة 171169، والإنباه: 219215.
(1) في «أ»: دويلة.
(2) تصغير الدابة، والياء ساكنة فيها إشمام من الكسر، والدابة اسم لما دب من الحيوان. وقد غلب هذا الاسم على ما يركب من الدواب، وهو يقع على المذكر والمؤنث. اللسان دبب.
(3) ساقطة من «أ».
(4) في «ج»: حتى تحرق.
(5) الوفيات: 4/ 322.
(6) ت: 285هـ 898م.
(7) ساقطة من «أ».
(8) في «أ» و «ج»: (معنج).
(9) في الوفيات: 4/ 322: وقيل: «معنج بكسر الميم، وسكون العين المهملة، وباقيه مثل الأول».
(10) البيت الثالث من القطعة الثانية في هجاء النحاة. ص: 19ومن مخ «أ». ص: 147من هذا الكتاب.(1/152)
يقال له: أما أنهم رأسوا في النحو، وبرزوا في إحراز الغاية منه، فذلك مما لا يسع جحده، وأما أنهم مع ذلك لا أدمغة لهم وذلك كناية عن ذهاب النحو بعقولهم: فإن عنى به النحو الذي لا بد منه في تمهيد ما يحتاج إليه بحسب النظر في الشريعة فلا يخفى كذب دعواه، وفحش ما أساء به الأدب، وحينئذ فرياستهم لم تحصل لهم إلا بحق.
وإن عنى به ما يجري مجرى الملح التي لا يتوقف فهم كلام العرب على التوغل في النظر فيها، فلا ننكر أن اعتقاد تأكد الاهتمام بها مما لا يرتضيه ذوو العقول الراجحة، ولكنه ليس بغالب على المعتبرين من أهل الصناعة حتى يرمى الجميع به، وينكر لأجله ما علم لهم من اليد 20ظ / / الطولى في تسهيل طرق الفهم في الكتاب والسنة، ولعمري إن هذا الناظم لأحق بهذه الشهادة في نفسه، حيث أطلق الكلام بمثل هذا الكذب الشنيع.
معارضة قدح بأصدق ثناء ومدح
قد مدح الناس هذا العلم، وبالغوا في الثناء عليه، عناية به وإظهارا لفضله. ولهم في ذلك منظوم ومنثور:
النوع الأول: المنظوم:
ومنه ما أنشده غير واحد (1) للخليل رحمه الله:
لا يكون السريّ مثل الدني ... لا، ولا ذو الذكاء مثل الغبيّ
لا يكون الألد (2) ذو المقول (3) المر ... هف عند القياس مثل العيي (4)
(قيمة المرء كل ما يحسن المر ... ء، قضاء من الإمام علي) (5)
__________
(1) ذكر ذلك ابن عبد البر النمري في كتابه «بهجة المجالس»: ق 1/ 65، وفي «جامع العلم»: 1/ 100 و 2/ 168، و «الزبيدي» في «الطبقات» ص: 50.
(2) الألد: الخصم الذي لا يحيد عن خصومته.
(3) المقول: حسن القول.
(4) العيي: ج أعياء وأعيياء: الذي لم يهتد لوجه مراده، وعجز عن الوصول إليه.
(5) إشارة إلى ما ورد في بعض خطب «علي» وقدر كل امرىء ما يحسن، وسيذكر ابن الأزرق ذلك فيما بعد.(1/153)
أي شيء من اللباس على ذي الس (1) ... سر وأبهى من اللسان البهي
ينظم الحجة الشتيتة (2) في السل ... ك من القول مثل عقد الهدي (3)
وترى اللحن بالحسيب أخي [الهي (4) ... بة] مثل الصدا على المشرفي
فاطلب النحو للحجاج وللشع ... ر مقيما والمسند المروي
والخطاب البليغ عند حوار ال ... قول تزهى بمثله في الندي
وارفض القول من طغام جفوا عن ... هـ[فعادوه نصبة] (5) [للنبي] (6) (7)
وقال الكسائي:
إنما النحو قياس يتبع ... وبه في كل علم ينتفع
فإذا ما أبصر النحو الفتى ... مر في المنطق مرا فاتسع
[فاتقاه] (8) كل من جالسه ... من جليس ناطق أو مستمع 21و / /
وإذا لم يبصر النحو الفتى ... هاب أن ينطق [جبنا] (9) فانقمع
فتراه ينصب الرفع وما ... كان من خفض ومن نصب رفع
وإذا حرف جرى إعرابه ... صعب الحرف عليه وامتنع
يقرأ القرآن لا يعرف ما ... صرف الإعراب فيه وصنع
يحذر اللحن إذا يقرؤه ... وهو لا يدري وفي اللحن وقع
يلزم الذنب الذي أقرأه ... وهو لا ذنب له فيما اتبع
والذي يعرفه يقرؤه ... فإذا ما شك في حرف رجع
__________
(1) ذو السرو: ذو المروءة والشرف.
(2) في بهجة المجالس ق 1/ 68: السنية.
(3) عقد الهدي: عقد العروس.
(4) في م. س: ق 1/ 68: الهيأة.
(5) غير واضحة في الأصول.
(6) بياض في «أ».
(7) في بهجة المجالس: ق 1/ 68فقادوا بعضه للنسي، والنصبة: البغض.
(8) في «ج»: فاتقاق.
(9) في «أ» و «ج»: حينا.(1/154)
ناظرا فيه وفي إعرابه ... فإذا ما عرف الحق صدع
أهما فيه سواء عندكم ... ليست السنة فينا كالبدع
كم وضيع رفع النحو وكم ... من شر [يف قد رأيناه] (1) وضع (2)
وقال ابن بسام (3):
رأيت لسان المرء رائد [عقله] (4) ... وعنوانه فانظر بماذا تعنون
ولا تعد إصلاح اللسان فإنه ... يخبر عما عنده ويبين
على أن للإعراب حدا، وربما ... سمعت من الإعراب ما لا يحسن (5)
ولا خير في اللفظ الكريه سماعه ... ولا في قبيح اللحن والقصد [أبين] (6) (7)
وقال آخر (8):
اقتبس النحو فنعم المقتبس ... صاحبه مكرّم حيث جلس
يأخذ من كل العلوم بالنفس ... من عدم النحو [تعمى] (9) وانتكس (10) 21ظ / /
__________
(1) في «أ»: بياض.
(2) القصيدة واردة في «بهجة المجالس»: ق 1/ 6968، مع بعض اختلاف، والإنباه: 2/ 267.
(3) هو أبو الحسن الشاعر علي بن محمد بن منصور المعروف بابن بسام والبسامي. ت: 302هـ 914م. مشهور عند أهل الأدب. انظر: تاريخ بغداد: 12/ 63. وانظر الأبيات في «زهر الآداب»:
3/ 775، وبهجة المجالس: ق 1/ 64.
(4) في «الأصول»: علمه.
(5) البيتان ساقطان في «البهجة»، وعوضهما البيت التالي:
ويعجبني زيّ الفتى وجماله ... فيسقط من عيني ساعة يلحن
(6) في «ج»: أزين.
(7) البيتان ساقطان في «البهجة»، وعوضهما البيت التالي:
ويعجبني زيّ الفتى وجماله ... فيسقط من عيني ساعة يلحن
(8) في معجم الأدباء: 1/ 78، قال: وقال شاعر يصف النحو ولم يسمه وأورد البيت الأول والثاني كالتالي:
اقتبس النحو فنعم المقتبس ... والنحو زين وجمال ملتمس
صاحبه مكرم حيث جلس ... من فاته فقد تعمى وانتكس
(9) في «أ»: غير واضحة.
(10) انتكس المريض: عاودته العلة بعد النقه.(1/155)
وإنما ينطق نطقا بالخلس (1) ... شتان ما بين الحمار والفرس
وقال آخر:
النحو زين للفتى ... يكرمه حيث أتى
من لم يكن من أهله ... فحسبه أن يسكتا
وقال آخر:
النحو أفضل ما يبغي (ذوو) الأدب ... فاجعله علمك وأكثر فيه من طلب
وقال آخر:
النحو أفضل ما ينحى ويقتبس ... لأنه من كتاب الله ملتمس
إذا الفتى عرف الإعراب كان له ... جلالة في أناس حوله جلسوا
لا ينطقون حذار أن يلحنهم ... كأنما بهم من خوفه خرس
لا يستوي معرب منا وملتحن ... هل تستوي البغلة العرجاء والفرس
وقال آخر:
إذا ما اعتز ذو علم بعلم ... فعلم النحو أولى باعتزاز
فكم عطر يفوح ولا كمسك ... وكم طير يطير ولا كباز
هكذا رأيته مقيدا، وسمعت أن بعض الشيوخ ينشده:
«فعلم [الفقه] (2) أولى باعتزاز»
وهو وإن كان أولى بهذا المدح، ولكن النحو يلاحظ فيه المعنى الموجب لإعطائه حق مرتبته، فيصح مدحه بما تضمنه البيتان من غير مدافعة.
وقال آخر مفتخرا بسلامة لسانه من شناعة اللحن، وفي ضمنه مدح الإعراب [في الكلام] (3):
__________
(1) في معجم الأدباء 1/ 78: ورد هذا الشطر كالتالي:
[كأن ما فيه من العي خرس]
(2) في «ج»: الفقيه.
(3) في «أ»: غير واضحة، وفي «ج» بياض.(1/156)
إما تريني وأثوابي مقاربة (1) ... ليست [بخز] (2) ولا من حرّ كتّان
فإن في المجد همّاتي ولي لغة ... علوية، ولساني غير لحان (3)
قلت: وفي معناه أنشده الإمام الشافعي (4) رحمه الله وأبدع ما يشاء:
لئن كان لي ثوب وقيمته الفلس ... فلي فيه نفس دون قيمتها الإنس
فثوبك بدر تحت أنواره دجى ... وثوبي ليل تحت أطماره الشمس
وقال آخر (5):
النحو يصلح من لسان الألكن ... والمرء تكرمه إذا لم يلحن
لحن [الشريف] (6) يزيله عن قدره ... وتراه يسقط من لحاظ الأعين
وإذا طلبت من العلوم أجلها ... فأجلها منها مقيم الألسن
فإن قلت: فقد عارضه الشيخ أبو عمر، ونسبه إلى الجهل وعدم الهداية، فقال:
العلم يرفع كل بيت هين ... والفقه يجمل باللبيب الدّيّن
والحر يكرم بالوقار وبالنهى ... والمرء تحقره إذا لم يرزن
وإذا طلبت من العلوم أجلها ... فأجلها عند التقي المومن
علم الديانة وهو أرفعها لدى ... كل امرىء متيقظ متدين
هذا الصحيح ولا مقالة [جاهل] (7) ... فأجلها منها مقيم الألسن
__________
(1) المقارب: الوسط بين الجيد والرديء، والمقارب من المتاع: الرخيص.
(2) في «أ»: بخزق.
(3) انظر البيتين في عيون الأخبار: 2/ 159، وفي معجم الأدباء: 1/ 85.
(4) البيتان غير واردين في ديوان الشافعي الذي جمعه وشرحه د. نعيم زرزور، وقدم له د. مقيد قميحة. دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط: 1412هـ 1992م.
(5) نسبت هذه الأبيات في الكامل للمبرد: 2/ 23إلى «إسحاق بن خلف البهراني» وفي جامع العلم:
1/ 56إلى «أبي حاطب» من غير تعيين. وانظرها في عيون الأخبار: 2/ 157، وبهجة المجالس:
ق 1/ 66، ومعجم الأدباء: 1/ 85.
(6) في «ج»: الظريف.
(7) في «ج»: (داهل).(1/157)
لو كان مهتديا لقال مبادرا ... فأجلها منها مقيم الأدين (1)، (2)
قلت لا خفاء أن علم الديانة هو أجل العلوم في الحقيقة، إذ هو المقصد 22ظ / / لصناعة النحو، ولا تنتهي الوسيلة أن تكون في مرتبة مقصدها، لكن لعل قائل:
«فأجلها منها مقيم الألسن»
ما عنى أن النحو أجل من علوم الدين، إذ لا يصح أن يتوهم ذلك مسلم، وإنما أراد أن النحو أجل العلوم في الجملة من حيث هو وسيلة إلى فهمها، وحينئذ فلا موجب لإقامة النكير عليه، حتى يعرض به: أنه ليس من أهل التقوى، ويصرح بجهالته وبعده عن الهداية والله تعالى أعلم. ولنختم (3) هذه الأبيات بالقصيدة التي أثبتها «ابن الخطيب» في «الإحاطة» (4) للشيخ أثير الدين أبي حيان (5) رحمه الله فهي أطول النظوم في مدح هذا العلم باعا، وأعرقها في الإجادة، لأغراضها المستجادة انطباعا، ونصها على طولها الممتع الإفادة، وإطنابها الغريب الطرف المستفادة (6):
__________
(1) الأدين: ج دين.
(2) انظر: جامع العلم: 1/ 5756.
(3) ابتداء من هنا إلى نهاية قصيدة «أثير الدين» ساقط من «ب» و «ج».
(4) انظر: الإحاطة: 3/ 5650.
(5) هو محمد بن يوسف بن علي النفزي الغرناطي الأندلسي. ت: 745هـ 1344م. أديب نحوي، لغوي، مفسر، محدث من تصانيفه «البحر المحيط في تفسير القرآن»، و «التذييل والتكميل في شرح تسهيل الفوائد»، وله ديوان شعر. انظر: الإحاطة: 3/ 6043، ونفح الطيب: 2/ 535 584.
(6) هذه القصيدة قد خلا ديوان أبي حيان من ذكرها، وأشار إليها المقري في «نفح الطيب»: 2/ 558، رواية عن الصفدي في كتابه «أعيان العصر، وأعوان النصر» فقال: قال الصفدي:
«وأنشدني «أبو حيان» من لفظه لنفسه، القصيدة الدالية التي نظمها في مدح النحو، والخليل، وسيبويه، ثم خرج منها إلى مديح صاحب غرناطة، وغيره من أشياخه، وأولها: وذكر البيت الأول، ثم قال: وهي قصيدة جيدة تزيد على مائة بيت». ويبدو أن أبا حيان قد نظم قصيدته عند متم القرن السابع الهجري أي ما بين سنة 699هـ 700هـ، فقد ورد في «نفح الطيب»: 2/ 563 و 583، أن «أبا حيان» قد خرج من الأندلس مفتتح سنة 679هـ. واستوطن القاهرة بعد(1/158)
هو العلم، لا كالعلم شيء تراوده ... لقد فاز باغيه، وأنجح قاصده
وما فضّل الإنسان إلا بعلمه ... ولا امتاز إلا ثاقب الذهن، واقده
وقد قصرت أعمارنا، وعلومنا ... يطول علينا حصرها، ونكابده
وفي كلها خير، ولكن أصلها ... هو النحو، فاحذر من جهول يعانده
به (1) يعرف القرآن والسنة اللذي (2) ... هما أصل دين الله ذو (3) [أنت عابده] (4)
وناهيك (5) من علم علي مشيد ... مبانيه، أعزز بالذي هو شائده
لقد حاز في الدنيا فخارا وسؤددا ... أبو الأسود الديلي (6) فلاجمّ سائده (7)
هو استنبط العلم الذي جل قدره ... وطار به للعرب ذكر نعاوده
وساد عطاء (8) نجله وابن هرمز (9) ... ويحيى (10)، ونصر (11) ثم ميمون (12) ماهده
__________
حجه. وأبو حيان يذكر في بيت من أبيات هذه القصيدة المدة التي أقامها بمصر إذ يقول:
أقمنا بمصر نحو عشرين حجة ... يشاهدنا ذو أمرهم ونشاهده
وتجدر الإشارة إلى أن هذه القصيدة قد نالت عناية على يد أستاذي عبد القادر زمامة فعمل على تحقيقها ونشرها في:
مجلة دعوة الحق، عدد: 223رمضان 1402يوليو 1982. ص: 162156.
ومجلة مجمع اللغة العربية بدمشق مجلة المجمع العلمي العربي سابقا الجزء الثاني، المجلد الثامن والخمسون، جمادى الآخرة: 1403هـ أبريل 1983م. ص: 259.
(1) في الأصول: بها، وقد صوبناه من «الإحاطة»: 3/ 51.
(2) في م. س: 3/ 51: التي.
(3) «ذو» هنا الطائية التي بمعنى «الذي» وتكون مبنية ويلزم آخرها: الواو رفعا، ونصبا وجرا.
(4) في «أ»: «وأنت عابده».
(5) ناهيك: كلمة يتعجب بها في مكان المدح، أي كافيك عن تطلب غيره اللسان نهي.
(6) الدؤلي: منسوب إلى الدّئل: بضم الدال وكسر الهمزة، وإنما فتحوها للنسبة، كما نسبوا إلى تغلب تغلبي، والعامة تقول: «أبو الأسود الدّيلي» وذلك خطأ، لأنهم ينسبونه إلى غير قبيلته، إذ «الدّيل» في عبد القيس، وليس في كنانة. انظر: مراتب النحويين: 25.
(7) جم القوم: استراحوا، وجم الشيء: كثر، وهي هنا جملة دعائية تعني: لا كثر ولا استراح من حاول أن يسوده.
(8) عطاء بن أبي الأسود الدؤلي: عالم بالنحو والعربية، عمل بعد موت أبيه هو ويحيى بن يعمر على بسط النحو، وتعيين أبوابه، وبعج مقاييسه. انظر: الإنباه: 1/ 380.
(9) هو أبو داود عبد الرحمن بن هرمز. ت: 117هـ 735م، وقيل 119هـ أيام هشام بن عبد الملك، كان أحد القراء، وأعلم الناس بالنحو وأنساب قريش، قيل إنه من الأوائل الذين ساهموا في وضع النحو، انظر: طبقات الزبيدي: 26، والنزهة: 15.
(10) هو أبو سليمان يحيى بن يعمر العدواني. ت: 129هـ 746م. كان عالما بالعربية والحديث كما روي عنه الفقه، من نحاة البصرة. انظر مراتب النحويين: 30و 32، وطبقات الزبيدي: 2927، والنزهة: 1716.
(11) هو نصر بن عاصم الليثي مات أيام الوليد بن عبد الملك، وهو من الذين قرأوا على أبي الأسود، قيل عنه: إنه ليفلق العربية تفليقا. انظر: طبقات الزبيدي: 27، والنزهة: 14.
(12) ميمون الأقرن ورد ذكره في «النزهة» في مواضع كثيرة: 10، 11، 13، 78، 406. قال عنه صاحب «النزهة»: روى عن أبي عبيدة أنه قال: أول من وضع النحو أبو الأسود الدؤلي، ثم ميمون الأقرن، ثم عنبسة الفيل، ثم عبد الله بن أبي إسحاق انظر: طبقات الزبيدي: 30، و «النزهة»: 13.(1/159)
وعنبسة (1)، فقد كان أبرع صحبه ... فقد قلدت جيد المعالي قلائده 23و / /
وما زال هذا العلم تنميه (2) سادة ... جهابذة تبلي به وتعاضده
إلى أن أتى الدهر العقيم بواحد ... من الأزد تنميه (3) إليها فراهده (4)
إمام الورى، ذاك الخليل بن أحمد ... أقر له بالسبق في العلم حاسده
وبالبصرة الغراء، قد لاح فجره ... فنارت أدانيه، وضاءت أباعده
بأذكى الورى ذهنا، وأصدق لهجة ... إذا ظن أمرا قلت: ها هو شاهده
وما إن يروي (5) بل جميع علومه ... بدائه، أعيت كل حبر يجالده
هو الواضع الثاني الذي فاق أولا ... ولا ثالث في الناس تصمي (6) قواصده
وقد كان رباني أهل زمانه ... صؤوم، قؤوم، راكع الليل ساجده
يقسم منه دهره في مثوبة ... وثوقا بأن الله حق مواعده
__________
(1) عنبسة بن معدان الملقب بالفيل، كان أبرع أصحاب أبي الأسود، طبقات الزبيدي: 29، والنزهة: 12، والإنباه: 1/ 381.
(2) نمى ينمي: كنما ينمو: بمعنى زاد وكثر.
(3) نمى الرجل إلى أبيه: نسب إليه.
(4) الفراهيد: مفرده فرهود: حي من يحمد، من الأزد، من القحطانية، وإليهم ينتمي الخليل بن أحمد الفراهيدي. معجم قبائل العرب: 3/ 916، وانظر مراتب النحويين: 54.
(5) روّى في الأمر: نظر فيه وتفكر.
(6) أصمى الصيد الرجل: رماه فقتله مكانه، والمراد ألا ثالث بعد أبي الأسود والخليل يبلغ هدفه ويصيب مقصده.(1/160)
فعام إلى حج، وعام لغزوة ... فيعرفه البيت العتيق، ووافده
ولم يثنه يوما عن العلم والتقى ... كواعب (1) حسن تنثني، ونواهده
وأكثر سكناه بقفر بحيث لا ... تناغيه إلا عفره (2) وأوابده (3)
وما قوته إلا شعير يسفه (4) ... بماء قراح (5)، ليس تغشى (6) موارده
عزوفا عن الدنيا وعن زهراتها ... وشوقا إلى المولى وما هو واعده
ولما رأى من سيبويه نجابة ... وأيقن أن الحين أدناه باعده
تخيره إذ كان وارث علمه ... ولاطفه حتى كأن هو والده
وعلمه شيئا فشيئا علومه ... إلى أن بدت سيماه، واشتد (7) ساعده
فإذ ذاك وافاه من الله وعده ... وراح وحيد العصر، إذ جاء واحده 23ظ / /
أتى سيبويه ناشرا لعلومه ... فلولاه أضحى النحو عطلا (8) شواهده
[وأبدى] (9) كتابا كان فخرا وجوده ... لقحطان إذ كعب بن عمرو (10) [محاتده] (11) (12)
وجمّع فيه ما تفرق في الورى ... فطارفه يعزى إليه، وتالده
__________
(1) الكواعب: مفرده: الكاعب وهي التي نهد ثديها أي انتبر وأشرف فهي كعاب، وكاعب.
(2) الأعفر: مؤنثه: عفراء والجمع عفر، نوع من الظباء.
(3) الآبدة ج أوابد: الوحوش.
(4) في الإحاطة: 3/ 52: يسيغه.
(5) الماء القراح: الخالص.
(6) أي لا يكرع من منابعه الصافية إلا هو، ولا يأتي إليها غيره.
(7) اشتد الشيء: قوي وصلب، وجاء في «اللسان» قوله:
«أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني»
قال الأصمعي: اشتد بالشين المعجمة، ليس بشيء، واستد الشيء: استقام اللسان: سدد.
(8) عطلت المرأة: نزعت حليها، والرجل من المال أو الأدب، وكذا القوس من الوتر: خلا، فهو عاطل، وعطل، وعطل ج أعطال، والمراد هنا: أنه لولا سيبويه لخلا النحو من شواهده.
(9) في «أ»: وأبي.
(10) إشارة إلى أن «سيبويه» كان من موالي بني الحارث بن كعب بن عمرو. انظر طبقات الزبيدي:
66، وتاريخ بغداد 12/ 195، والنزهة: 61.
(11) في «أ»: فحاتده.
(12) المحتد: ج محاتد: الأصل والطبع.(1/161)
بعمرو بن عثمان بن قنبر الرضا ... أطاعت عواصيه، وثابت شوارده
عليك قرآن النحو (1)، نحو ابن قنبر ... فآياته مشهودة، وشواهده
كتاب أبي بشر (2) فلا تك قاريا ... سواه فكل ذاهب الحسن، فاقده
هم خلج، بالعلم مدت، فعندما ... تناءت، غدت تزهى وأنت تشاهده
ولا تعد عما حازه إنه الفرا (3) ... وفي جوفه كل الذي أنت صائده (4)
وإذا كنت يوما محكما لكتابه ... فإنك فينا نابه القدر ماجده
ولست تبالي إن فككت رموزه ... أعضك دهر، أم عرتك شدائده
هو العضب، إن تلق الهياج شهرته ... وإن لا تصب حربا فإنك غامده
تلقاه كل بالقبول وبالرضى ... فذو الفهم من تبدو إليه مقاصده
ولم يعترض فيه سوى ابن طراوة (5) ... وكان طريا لم تقادم معاهده
وجسره طعن المبرد (6) قبله ... وإن الثمالي (7) بارد الذهن، خامده
[هما] (8) ما هما صارا مدى الدهر ضحكة ... يزيف ما قالا، وتبدو مفاسده
__________
(1) كان يطلق على كتاب سيبويه اسم: «قرآن النحو»، سماه الناس بذلك مبالغة، وإعجابا به. انظر:
مراتب النحويين: 106.
(2) جاء في «النزهة»: 6160: كنيته: أبو الحسن، و «أبو بشر» أشهر.
(3) الفراء: مقصور، وممدود: حمار الوحش. اللسان فرأ.
(4) وفي البيت إشارة إلى المثل: «كل الصيد في جوف الفرا». فكل صيد أقل من الحمار الوحشي لصغره يدخل في جوف الحمار. وهو يضرب لمن يفضل على أقرانه. مجمع الأمثال: 2/ 136.
(5) هو أبو الحسين سليمان بن محمد المالقي المشهور بابن طراوة. ت: 528هـ 1133م. انظر البغية: 263.
(6) قال ياقوت في معجم الأدباء: 19/ 122111: لقب ب «المبرد» لأنه لما صنف «المازني» كتاب:
«الألف واللام» سأله عن دقيقه، وعويصه، فأجاب بأحسن جواب، فقال له «المازني»: قم، فأنت «المبرد» (بكسر الراء) أي المثبت للحق، وحرفه الكوفيون ففتحوا الراء تهكما به.
(7) الثمالى: ثمالة، قبيلة من الأزد إليها ينتمي المبرد. قال عبد الصمد بن المعذل يعاتبه:
سألنا عن ثمالة كل حي ... فقال القائلون: ومن ثماله؟
فقلت: محمد بن يزيد منهم ... فقالوا: زدتنا بهم جهاله
انظر: أخبار النحويين: 9796، والنزهة: 227217، ومعجم الأدباء: 19/ 116.
(8) غير واضحة في «أ».(1/162)
تكون صحيح العقل، حتى إذا ترى ... تباري أبا بشر، إذا أنت فاسده
يقول امرؤ قد خامر الكبر رأسه ... وقد ظن أن النحو سهل مقاصده
ولم يشتغل إلا بنزر مسائل ... من الفقه في أوراقه هو راصده
وقد نال بين الناس جاها ورتبة ... وألهاه عن نيل المعالي ولائده (1)
وما ذاق للآداب طعما ولم يبت ... يعنى بمنظوم، ونثر يجاوده (2)
فينكح أبكار المعاني، ويبتغي ... لها الكفء من لفظ بها هو عاقده
[رأى] (3) سيبويه فيه بعض نكادة ... [وعجمة] (4) لفظ، لا تحل معاقده (5)
فقلت: [اتئد] (6) ما أنت أهل لفهمه ... وما أنت إلا غائض (7) الفكر راكده
لعمرك ما ذو جبة (8) وتسمت ... وإطراق رأس، والجهات تساعده
فيمشي على الأرض الهوينا كأنما ... إلى الملأ الأعلى تناهت مراصده (9)
[وإيهامك] (10) الجهال أنك عالم ... وأنك فرد في الوجود، وزاهده
بأجلب للنحو الذي أنت هاجر ... من الدرس بالليل الذي أنت هاجده
أصاح، تجنب من غوي مخذل ... وخذ في طريق النحو، إنك راشده
لك الخير، فادأب ساهرا في علومه ... فلم يسم إلا ساهر الطرف، ساهده
ولا ترج في الدنيا ثوابا فإنما ... لدى الله حقا، أنت لا شك واجده
ذوو النحو في الدنيا قليل حظوظهم ... وذو الجهل فيها وافر الحظ زائده
__________
(1) الولائد: مفرده وليدة: الصبية.
(2) أي ينظر جيده من رديئه.
(3) في «أ» أرى، وفي الإحاطة: رأى.
(4) في «أ»: وحجة.
(5) المعاقد مفرده معقد: موضع الانعقاد.
(6) غير واضحة في «أ».
(7) غائض العقل: ناقصه.
(8) في «الإحاطة»: ذو لحية، والجبة: ثوب واسع يلبس فوق الثياب.
(9) مفرده المرصد، والمرصاد، وهو عند العرب: الطريق.
(10) في «أ»: وإلهامك.(1/163)
لهم أسوة فيها «علي» (1) لقد مضى ... ولم يلق في الدنيا صديقا يساعده
مضى بعده عنها «الخليل» فلم ينل ... كفافا، ولم يعدم حسودا يناكده
ولاقى أبا بشر بشر سفيهها ... غداة [تمادت] (2) في ضلال بغادده (3)
أتى نحو هارون (4) يناظر شيخه ... [فنافحه] (5) حتى تبدت مناكده
فأطرق شيئا، ثم أبدى جوابه ... بحق، ولكن أنكر الحق جاحده 24ظ / /
وكاد «علي» (6) «عمرا» (7) إذ صار حاكما ... وقدما «علي» (8) كان «عمرو» (9) يكايده
سقاه بكأس لم يفق من خمارها ... وأورده الأمر الذي هو وارده
ولابن زياد (10) شركة في مراده ... وكابن زياد (11) مشرك القلب زائده
هما جرعا إلى علي وقنبر ... أفاويق سم، لم تنجذ (12) أساوده (13)
__________
(1) المراد: علي بن أبي طالب.
(2) في «أ»: تمالت.
(3) أي أهل بغداد، وفي هذا البيت إشارة إلى ما لقيه سيبويه على يد أهل بغداد في مناظرته مع الكسائي. انظر طبقات الزبيدي: ترجمة سيبويه ص: 68.
(4) هو هارون الرشيد.
(5) غير واضحة في «أ».
(6) هو علي بن حمزة الكسائي.
(7) هو عمرو بن عثمان بن قنبر.
(8) إشارة إلى قضية عمرو بن العاص مع علي بن أبي طالب.
(9) إشارة إلى قضية عمرو بن العاص مع علي بن أبي طالب.
(10) ابن زياد: هو أبو زكريا، يحيى بن زياد بن عبد الله بن منصور الديلمي الفراء، من نحاة الكوفة. ت: 207هـ 822م. من أصحاب الكسائي، وأحد الذين حضروا معه مناظرته مع سيبويه. انظر طبقات الزبيدي: 68و 133131.
(11) هو عبيد الله بن زياد بن أبيه. ت: 67هـ 686م. كان خصومه يدعونه «ابن مرجانة» و «مرجانة»:
اسم أمه. كان من ولاة الأمويين وأنصارهم، وصاحب فاجعة كربلاء التي أودت بحياة الحسين وقتله على يده. وقد أورد صاحب عيون الأخبار: 1/ 229، جملة من أخباره فانظرها من هناك.
وقد استغل الشاعر التشابه بين الاسمين ليبين ما حصل لسيبويه على يد الكسائي في الأبيات بعده.
(12) نجّدته التجارب: أحكمته، وصيرته عارفا ومجربا بالأمور، والناجذ: واحد النواجذ: أي الأضراس.
ويقال: عض على ناجذه، أي بلغ أشده، لأن النواجذ تنبت بعد البلوغ وكمال العقل.
(13) الأساود: ج أسود. الحية العظيمة السوداء.
ويقصد الشاعر أن هذا السم من أساود فتية لم تكبر، ولذلك فسمها قوي، وأشد إذاية وأعظم خطرا.(1/164)
أبكي على عمرو ولا عمرو مثله ... إذا مشكل أعيا، وأعوز ناقده
قضى نحبه شرخ الشبيبة لم يرع ... بشيب، ولم تعلق بذام معاقده
لقد كان للناس اعتناء بعلمه ... بشرق وغرب، تستنار فوائده
والآن فلا شخص على الأرض قارىء ... كتاب أبي بشر، ولا هو رايده
سوى معشر بالغرب، فيهم تلفت ... إليه، وشوق ليس تخبو مواقده
وما زال منا «أهل أندلس» له ... جهابذ، تبدي فضله، وتناجده
وإني في مصر، على ضعف ناصري ... لناصره، ما دمت حيا، وعاضده
أثار «أثير الغرب» (1) للنحو كامنا ... وعالجه، حتى تبدت قواعده
وأحيا «أبو حيان» [ميت] (2) علومه ... فأصبح علم النحو ينفق كاسده
إذا مغربي حط بالثغر رحله ... تيقن أن النحو أخفاه لاحده (3)
بلينا بقوم، صدروا في مجالس ... لإقراء علم، ضل عنهم مراشده
لقد أخر التصدير عن مستحقه ... وقدم غمر (4)، خامد الذهن جامده
وسوف يلاقي من سعى في جلوسهم ... من الله عقبى، ما أكنت عقائده
علا عقله فيهم هواه فما درى ... بأن هوى الإنسان للنار قائده 25و / /
أقمنا بمصر نحو عشرين حجة ... يشاهدنا ذو أمرهم ونشاهده
فلما ننل منهم مدى الدهر طائلا ... ولما نجد فيهم صديقا نوادده
لنا سلوة فيمن سردنا حديثهم ... وقد يتسلى بالذي قال سارده
أخي، إن تصل يوما، وبلغت سالما ... لغرناطة، فانفذ لما أنا عاهده
__________
(1) إشارة إلى لقب «أبي حيان» الذي لقب به في المشرق، فهو أثير الدين المنتسب إلى الغرب.
(2) في «أ»: موت.
(3) في هذا البيت يقصد نفسه لإمامته في النحو وهو مغربي، فإذا أراد الرجوع إلى بلاده، وحط رحاله بثغر الإسكندرية للرحيل، فإن علم النحو في نظره سيقبر، ويدفن.
(4) الغمر: الجاهل.(1/165)
وقبل ثرى أرض بها [حل] (1) ملكنا (2) ... [وسلطاننا] (3) الشهم الجميل عوائده
مبيد العدا قتلا، وقد عم شرهم ... ومحيي الندا فضلا، وقد رمّ (4) هامده
أفاض على الإسلام جودا ونجدة ... فعز مواليه، وذل معانده
وعم بها إخواننا بتحية ... وخص بها الأستاذ، لا عاش كائده
جزى الله عنا شيخنا وإمامنا ... وأستاذنا، الحبر الذي عم فائده
لقد أطلعت جيان (5) أوحد عصره ... فللغرب فخر، أعجز الشرق خالده
مؤرخه، نحويه، وإمامه ... محدثه، جلت، وصحت مسانده
نماه عظيم من ثقيف (6)، وإنما ... به استوثقت منه العرى، ومساعده
وما أنس لا أنسى سهادي ببابه ... بسبق، وغيري نائم الليل راقده
فيجلو بنور العلم ظلمة جهلنا ... ويفتح علما مغلقات رصائده
وإني وإن شطت بنا [غربة] (7) النوى ... لشاكره، في كل وقت وحامده
بغرناطة روحي وفي مصر جثتي ... ترى هل يثني الفرد من هو فارده
أبا جعفر (8) خذها قوافي من فتى ... تتيه على غر القوافي قصائده
__________
(1) في «أ»: جل.
(2) هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف بن نصر، ثاني الملوك من بني نصر. ت: 701هـ 1301م. انظر: اللمحة البدرية: 6050، والإحاطة: 1/ 191.
(3) في «أ»: وسلطانها.
(4) رم: بلي: {قََالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظََامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} سورة يس، الآية: 78. والهامد: البالي المسود المتغير.
(5) جيّان: مدينة كانت من القواعد الأندلسية الهامة أيام الدولة الإسلامية، وهي تقع شمال غرناطة، وشرقي قرطبة. من علمائها: عالم النحو صاحب الألفية ابن مالك. معجم البلدان: 2/ 195.
(6) ذكر ابن الخطيب في «الإحاطة» 1/ 188: أن «ابن الزبير» ينتمي إلى كعب بن مالك بن علقمة بن مسلم بن عدي بن مرة بن عوف بن ثقيف.
(7) بياض في «أ».
(8) هو أحمد بن إبراهيم بن الزبير بن كعب الثقفي. ت: 708هـ 1308م. وفي رواية أنه توفي:
707 - هـ. الجياني المولد الغرناطي المنشأ، محدث، مفسر، مقرىء، أصولي، أديب، ناقد، مؤرخ. له «الذيل على صلة ابن بشكوال»، و «ملاك التأويل في المتشابه اللفظ من التنزيل»
انظر الإحاطة 1/ 193188، والبغية: 127126.(1/166)
يسير بلا إذن إلى الأذن حسنها ... فيرتاح سماع لها ومناشده
غريبة شكل كم حوت من غرائب ... مجيدة أصل أنتجتها أماجده
[فولاك] (1)، يا مولاي ما فاه مقولي ... بمصر، ولا حبرت ما أنا ناضده
لهذبتني حتى أحوك مفوفا ... من النظم، لا يبلى على الدهر آبده
وأذكيت فكري بعد ما كان خامدا ... وقيدت شعري، بعدما ند شارده
جعلت ختاما فيه ذكرك إنه ... هو المسك، بل أعلى، وإن عز ناشده
وعنى بشيخه الذي أشاد بذكره، الإمام العلامة أبا جعفر ابن الزبير رحمه الله.
النوع الثاني: المنثور:
ومن أبرعه الفصل الذي ثبت في صدر (2) مفصل الزمخشري، فإنه أبدع فيه ما شاء، وأجاد التحبير والإنشاء، وأشاد بفضل النحو وأهله، ونكس للباغي عليه راية جهله، وفيه يقول بعض الشيوخ شاهدا باستقلاله، واكتفاء حجته واستدلاله: «تأمله فإنه عين الإنصاف، وحجة قاطعة في موضع الخلاف، يسمع للصم، ويستنزل العصم» (3).
وهو قوله: «ولعل الذين يغضون من العربية، ويضعون من مقدارها، ويريدون أن يخفضوا ما رفع الله من منارها، حيث لم يجعل خيرة رسله، وخير كتبه، في عجم خلقه، ولكن في عربه، لا يبعدون عن الشعوبية، منابذة للحق الأبلج، وزيغا عن سواء المنهج، والذي يقضى منه العجب، حال هؤلاء في قلة [إنصافهم] (4) وفرط جورهم واعتسافهم، وذلك [أنهم] (5) لا يجدون علما من
__________
(1) في «أ»: لولا.
(2) يشير إلى ما أورده أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري. ت: 538هـ 1143م. في صدر كتابه «المفصل في علم العربية»: ص 52من المقدمة.
(3) العصم: بقية كل شيء وأثره من خضاب ونحوه.
(4) في «ج»: إيضافهم.
(5) في «ج»: أغنم.(1/167)
العلوم الإسلامية فقهها وكلامها، وعلمي تفسيرها وأخبارها، إلا وافتقاره إلى العربية بين لا يدفع، ومكشوف لا يتقنع، ويرون الكلام في معظم أبواب أصول الفقه ومسائلها، مبنيا على علم الإعراب، والتفاسير مشحونة 26و / / بالروايات عن سيبويه، والأخفش (1)، والكسائي (2) والفراء، وغيرهم من النحويين البصريين والكوفيين، والاستظهار في مآخذ النصوص بأقاويلهم، والتشبت بأهداب فسرهم وتأويلهم، و [بهذا] (3) اللسان مناقلتهم في العلم ومحاورتهم، وتدريسهم ومناظرتهم، وبه تقطر في القراطيس أقلامهم، وبه تسطر الصكوك، والسجلات حكامهم، فهم [ملتبسون] (4) بالعربية أية سلكوا، غير منفكين منها أينما توجهوا، كل عليها حيث سيّروا.
ثم إنهم في تضاعيف ذاك يجحدون فضلها، ويدفعون خصلها، ويذهبون عن توقيرها وتعظيمها وينهون عن تعلمها وتعليمها، ويمزقون أديمها، ويمضغون لحمها، فهم في ذلك على المثل السائر: «الشعير يؤكل ويذمّ» (5)، ويدعون الاستغناء عنها، وأنهم ليسوا في [شيء] (6) منها.
فإن صح ذلك فما بالهم لا يطلقون اللغة رأسا، والإعراب، ولا يقطعون بينهما وبينهم الأسباب، فيطمسوا من تفسير القرآن آثارهما، وينفضوا من أصول الفقه غبارهما، ولا يتكلموا في الاستثناء، فإنه نحو، وفي الفرق بين المعرف والمنكر، فإنه نحو، وفي التعريفين: تعريف الجنس، وتعريف العهد، فإنهما
__________
(1) هو أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش. ت: 215هـ 830م، من كبار نحاة البصرة. صنف كتبا كثيرة في النحو والعروض والقوافي. انظر: طبقات الزبيدي 7472والنزهة: 135133 وقد ترجم له ابن الأزرق في معرض شرحه لهذا النص المأخوذ من المفصل، انظر: 27ظ من مخ «أ». ص: 172من هذا الكتاب.
(2) سيترجم له في ص: 27ظ من مخ «أ». ص: 172من هذا الكتاب.
(3) في «أ» هذا.
(4) في «أ»: بياض، وفي «ج»: متلبسون.
(5) إشارة إلى المثل «خبز الشعير يؤكل ويذم»، معجم البلدان: 1/ 365.
(6) في المفصل ص: 3من المقدمة: في شق منها.(1/168)
نحو، وفي الحروف كالواو، والفاء، وثم، ولام الملك، ومن التبعيض ونظائرها، وفي الحذف والإضمار، وفي أبواب الاختصار والتكرار، وفي التطليق بالمصدر واسم الفاعل، وفي الفرق بين إن، وأن، وإذا، ومتى، وكلما، وأشباهها مما يطول ذكره، فإن ذلك كله من النحو. وهلا سفهوا رأي محمد بن الحسن الشيباني (1) رحمه الله فيما أودع «كتاب الأيمان»!
وما لهم لم يتراطنوا في مجالس التدريس، وحلق المناظرة، ثم نظروا هل تركوا للعلم جمالا وأبهة، وهل أصبحت الخاصة بالعامة مشبهة، وهل انقلبوا هزأة للساخرين، وضحكة 26ظ / / للناظرين.
هذا فإن الإعراب: «أجدى من تفاريق العصا» (2).
وآثاره الحسنة عديد الحصى، ومن لم يتق الله في تنزيله، فاجترأ على تعاطي تأويله وهو غير معرب (فقد) (3) ركب عمياء، وخبط خبط عشواء، فقال ما هو تقوّل، وافتراء وهراء، منه كلام الله براء، وهو المرقاة المنصوبة إلى علم البيان، المطلع على نكت (4) علم القرآن، الكافل بإبراز محاسنه، الموكل بإثارة [معانده] (5).
فالصاد عنه كالساد لطرق الخير كيلا تسلك، والمريد بموارده أن تعاف، وتترك.
__________
(1) محمد بن الحسن الشيباني بالولاء، الحنفي أبو عبد الله. ت: 189هـ 805م، فقيه محدث، من تصانيفه في فروع الفقه الحنفي: «الجامع الكبير»، «الجامع الصغير». انظر: تاريخ بغداد: 2/ 182172، والنجوم الزاهرة: 2/ 131130.
(2) هذا عجز بيت صدره:
[أشهد بالمروة يوما والصفا ... أنك]
وذكر صاحب اللسان عن ابن بري: أنه لغنية الأعرابية، وقيل لامرأة قالته في ولدها الذي كان قد واثب فتى فقطع أنفه فأخذت أمه ديته، ثم واثب آخر فقطع شفته، فأخذت أمه ديتها فصلحت حالها، فقالت بيتين: أحدهما هذا الشاهد الذي سيوضح ابن الأزرق فيما بعد المقصود منه في هذا الموضع. انظر ص: 28ومن مخ «أ». ص: 172171من هذا الكتاب.
(3) زيادة من «المفصل»: ص: 4من المقدمة.
(4) نكتة: ج نكت ونكات: المسألة الدقيقة أخرجت بدقة نظر وإمعان فكر.
(5) في «ج»: معاديه.(1/169)
وفي معنى ما يخص منه مدح هذا العلم، ما وقفت عليه لبعض المصنفين في فصل يتضمن التعريف بفضله، وهو قوله: «أحق ما تحلى به الإنسان، وريض به الخاطر واللسان، علم النحو الذي هو أول الفصاحة وآخرها، ومورد البراعة ومصدرها، وينبوع المحاسن ومعدنها، ومقر الآداب ومسكنها، يسكن نافر الخطاب، ويسترد شارد الصواب.
إذا طالعه الغبي انفتح في صدره أبواب فضل كانت مبهمة، وأضاء في فكره سبيل فهم كانت مظلمة، وانطلق لسانه بالكلام، فأتى به في أفخر ملابسه، وأثبت له المعنى في أزكى مغارسه، ونطق عن صحة لا ينتثر الخطل عن عذباتها، ولا يثمر الزلل في شجراتها فهو زناد الكلام، ومسنّ الأفهام، ومعيار البيان، وصيقل الخاطر واللسان، روضة العلماء وبستانهم، وروح [الفهماء] (1)
وريحانهم، ومجال الأدباء وميدانهم، ودليل الفضلاء وبرهانهم، فمحاسنه متناسبة لا تختل، وفضائله منعقدة لا تنحل» اه.
تفسير غريب:
يغضون من العربية بالضم: أي ينقصون من قدرها.
يقال: غض منه يغض بمعنى: وضع ونقص من قدره.
ويضعون من مقدارها: أي يحطون 27و / / منه.
من منارها: أي علمها، من منار الطريق، وهو علمه.
وقيل في أبرهة ملك من ملوك اليمن: ذو المنار، لأنه أول من ضربه على طريقه في مغازيه ليهتدي به إذا رجع، قاله الجوهري.
خيرة رسله: بسكون الياء وفتحها مثل عنبة، أي تختاره منهم.
في عجم خلقه: هم خلاف العرب.
عن الشعوبية: فرقة لا تفضل العرب على العجم، ويقال لغير العرب:
__________
(1) في «أ»: البهماء.(1/170)
شعوبية، قال ابن عطية (1): «لأن تفصيل أنسابها خفي، فلم يعرف أحد منهم إلا بأن يقال: فارسي، تركي، رومي، فعرفوا بشعوبهم، وهي أعم ما يعبر به عن جماعتهم.
قال: ويقال: بفتح الشين، وهذا من تغيير النسب».
منابذة: من النبذ بمعنى إلقاء [شيء] (2) وطرحه.
للحق الأبلج: أي الواضح المشرق، يقال: «الحق أبلج، والباطل لجلج»: أي يردد من غير أن ينفذ.
قال الجوهري: وزيغا عن سواء المنهج، أي ميلا عن وسط الطريق الواضح البين.
يقضى منه: أي يؤدى.
وفرط جورهم: مجاوزة الحد فيه، يقال: إياك والفرط في الأمر بالتسكين اسما من أفرط: إذا تجاوز الحد.
واعتسافهم: افتعال من العسف، وهو الأخذ على غير الطريق.
مشحونة: أي مملوءة، ومنه قوله تعالى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (3).
عن سيبويه: هو الإمام الجليل أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر إمام الصناعة، ومتبوع الجماعة، توفي سنة ثمانين ومائة، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ولذلك قيل على ما نقله ابن الربيب (4):
__________
(1) هو أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي الغرناطي المالكي، ت: 546هـ 1142م كان فقيها عالما بالتفسير والنحو واللغة والأدب والحديث، ولي قضاء ألمرية، ورحل إلى المشرق من مصنفاته: «المحرر الوجيز في التفسير»، كما ألف برنامجا ضمنه مروياته، وأسماء شيوخه. انظر الصلة: ص 386وفيها أنه توفي سنة 542هـ، والديباج: 2/ 5957.
(2) بياض في «أ».
(3) سورة الشعراء، الآية: 119، وسورة يس، الآية: 41.
(4) هو الحسن بن محمد التميمي التاهرتي المعروف بابن الربيب. ت: 420هـ 1029م رياضي، أديب، لغوي، نحوي شاعر، طلب العلم والأدب بالقيروان، وتولى القضاء من مصنفاته «كتاب في النسب» انظر الإنباه: 1/ 318، والوافي للصفدي 12/ 237.(1/171)
«إنه من الأفذاد الذين لم يبلغوا الأشد، وأتوا بالعجائب، كل شخص في فنه، فأول من عدوا منهم الإسكندر (1)، وعدوا منهم الراوندي (2) صاحب «قضيب الذهب» المشهور بالفلسفة، وعدوا منهم سيبويه، لكونه بلغ في النحو مبلغا لم يبلغه غيره، وعدوا منهم أبا تمام في الشعر، وعدوا منهم ابن سينا.
قال: على أن من الناس 27ظ / / من يقول: إن ابن سينا (3) جاوز الخمسين، وإنما يشنع ذلك حساده لينزلوه عن تلك المنزلة.
والأخفش: هو أبو الحسن سعيد بن مسعدة توفي سنة خمس عشرة ومائتين.
والكسائي: هو الإمام أبو الحسن علي بن حمزة أحد القراء السبعة، توفي هو ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة فدفنا في يوم واحد.
وقال هارون الرشيد: «دفنت الفقه والنحو في يوم واحد» (4).
والفراء: هو أبو زكرياء يحيى بن زياد، توفي في طريق مكة سنة سبع ومائتين (5).
والاستظهار: هو طلب الظهور.
في مآخذ النصوص: جمع مأخذ من الأخذ.
والتشبث: هو التعلق بالشيء.
بأهداب: جمع هدب كقفل، وهو ما نبت من الشعر على أشفار العين، واحدتها هدبة وأيضا يراد الأغصان المجتمعة.
__________
(1) يشير إلى الإسكندر الأكبر المقدوني الملقب بذي القرنين. ت: 324ق. م.
(2) هو أبو الحسن أحمد بن يحيى بن إسحاق البغدادي المعروف بالراوندي ت: (298هـ 910م).
عالم متكلم، نعت بالإلحاد والكفر والزندقة، من كتبه المصنفة: «قضيب الذهب»، انظر:
الفهرست: 163، والوفيات 1/ 9594.
(3) وقد ترجمنا له في هامش ص: ص: 187أثناء تعرض المؤلف لبعض تآليف ابن سينا.
(4) انظر: طبقات الزبيدي: ص 130 «ترجمة الكسائي»، و «النزهة»: 74.
(5) وله ترجمة سابقة بهامش ص: 162.(1/172)
فسرهم: هو التفسير بمعنى واحد، وهو البيان.
وتأويلهم: هو تفسير ما يؤول إليه الشيء.
مناقلتهم: مفاعلة، من نقل الحديث، يقال: ناقلت فلانا الحديث، إذا حدثته وحدثك.
ومحاورتهم: هي المراجعة، والمجاوبة.
في القراطيس: جمع قرطاس بكسر القاف وضمها، ويقال: قرطس: وهو ما يكتب فيه أي شيء كان، ويراد به الغرض، يقال: رمى [فقرطس] (1): إذا أصابه.
وبه تسطر: أي تخط.
وتكتب الصكوك: جمع صك، وهو الكتاب، فارسي معرب.
والسجلات: جمع سجل، وهو الصحيفة.
في تضاعيف ذلك: أي في أثنائه.
ويدفعون [خصلها] (2): هو الخطر الذي يخاطر عليه الرماة، يقال: أحرز فلان خصله إذا غلب.
ويمزقون أديمها: أي جلدها.
رأي محمد بن الحسن الشيباني: هو [المتقدم] (3) الذكر (4).
لم يتراطنوا: من الرطانة وهو التكلم بالعجمية، يقال: تراطن القوم فيما بينهم إذا تكلموا بها.
وأبهة: هي العظمة والكبرياء، يقال: تأبه الرجل: إذا تكبر.
أجدى 28و / / من تفاريق العصا: أي أنفع مما يفرق منها، وهو مأخوذ من قول الشاعر:
__________
(1) في «أ»: بقرطس.
(2) في «أ»: حصلها، وفي «ج» خطها.
(3) في «أ»: [المقدم].
(4) إشارة إلى ما ورد في النص السابق للزمخشري. انظر ص: 167.(1/173)
أشهد بالمروة يوما والصفا ... أنك أجدى من تفاريق العصا
قال الجوهري (1) عن ابن الأعرابي (2):
«العصا تكسر فيتخذ منها ساجور، فإذا كسر الساجور اتخذت منه الأوتاد فإذا كسر الوتد اتخذ منه عران البخاتي، فإذا فرض رأسه اتخذت منه التوادي [تصر بها] (3) الأخلاف» (4).
والساجور: خشبة تجعل في عنق الكلب.
والعران: قال الأصمعي: هو العود الذي يجعل في وترة أنف البختي (5).
والتوادي: بالتاء المثناة من فوق، جمع تودية، وهي الخشبات التي تشد على خلف الناقة بكسر الخاء، وهو حلمة ضرع الناقة القادمان والآخران.
وتصر: أي تشد. قال الجوهري: يقال [صررت] (6) الناقة: شددت عليها الصرار، وهو خيط يشد فوق الخلف والتودية لئلا يرضع (7) ولدها.
على تعاطي تأويله: أي على خوضه فيه. يقال: فلان يتعاطى كذا، أي يخوض فيه.
ركب عمياء: يقال لمن ركب أمرا بجهالة، وهوى فاسدا.
__________
(1) في الصحاح.
(2) هو أبو عبد الله محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي الكوفي، ت: 231هـ 846م، لغوي، نحوي، راوية لأشعار القبائل من آثاره: «النوادر»، «معاني الشعر»، «تاريخ القبائل»، انظر:
تاريخ بغداد: 5/ 285282والوفيات: 4/ 309306.
(3) في «أ» و «ج»: تضربها.
(4) انظر اللسان «فرق».
(5) البختي: البخت والبختية: دخيل في العربية، أعجمي معرب، وهي الإبل الخراسانية وبعضهم يقول عربي وينشد لابن قيس الرقيات في أبيات يمدح بها مصعب بن الزبير:
يهب الألف والخيول ويسقي ... لبن البخت، في قصاع الخلنج
الواحد: بختيّ، فيقال: جمل بختي، وناقة بختية اللسان.
(6) في «ج»: ضررت.
(7) في الصحاح: ليلا يرضعها.(1/174)
وخبط خبط عشواء: وهي الناقة التي لا تبصر أمامها، فهي تخبط كل شيء بيدها أي تضربه ولا تتوقاه.
قال الجوهري: وركب فلان العشواء، إذا خبط أمره على غير بصيرة، وفلان خابط خبط عشواء.
وهراء: هو الكلام الكثير الخطأ.
منه كلام الله براء: بفتح الباء وكسرها. من البراءة من العيب.
وهو المرقاة: قال الجوهري: والمرقاة بالفتح: الدرجة، ومن كسرها شبهها بالآلة التي يعمل بها.
قال: ومن فتح قال: هذا موضع يفعل فيه، فجعله بفتح الميم مخالفا.
بإثارة: من أثرت الشيء، إذا أخرجته وأبرزته.
أن تعاف: أي تكره من عفت الشيء أعافه عيافا: كرهته.
وينبوع المحاسن: أي عينها على وجه الاستعارة 28ظ / / لأن الينبوع عين الماء، ومنه قوله تعالى: {حَتََّى تَفْجُرَ لَنََا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} (1) ويجمع على ينابيع كقوله تعالى: {فَسَلَكَهُ يَنََابِيعَ فِي الْأَرْضِ} (2).
إذا طالعه الغبي: هو القليل الفطنة.
لا ينتثر الخطل: هو المنطق الفاسد المضطرب.
عن عذباتها: جمع عذبة: وهي طرف اللسان.
فهو زناد الكلام: أي ما يقدح به ناره على وجه الاستعارة وهو جمع، الواحد منه: زند، وهو العود الذي تقدح به النار، وهو الأعلى، والسفلي يقال:
زندة فيها ثقبة. قال الجوهري: فإذا اجتمعا قيل: زندان، ولم يقل زندتان.
قال: والجمع زناد، وأزند، وأزناد.
__________
(1) سورة الإسراء، الآية: 90.
(2) سورة الزمر، الآية: 21.(1/175)
ومسنّ الأفهام: أي حجرها الذي يحدد به، [وهو] (1) بكسر الميم.
وصيقل الخاطر: «[الصيقل] (2) (3): هو الصائغ الذي [يجلو] (4) الشيء، يقال: صقل السيف، ويقال بالسين، صقلا، وصقالا، فهو صاقل، والجمع صقلة، والصائغ: صيقل، والجمع الصياقلة.
«وروح الفهماء وريحانهم»: من قوله تعالى: {فَرَوْحٌ وَرَيْحََانٌ} (5) قيل:
فيهما رحمة ورزق، وقيل: «الروح» الرحمة، والسعة، والفرح، ومنه روح الله، و «الريحان»: الطيب، وقيل الرزق، وقيل: الشجر المعروف في الدنيا. وقال الخليل: هو طرف كلّ بقلة طيبة فيها أوائل النّور.
وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحسن والحسين رضي الله عنهما: «هما ريحانتيّ من الدنيا».
__________
(1) في «ج»: وهي.
(2) في «ج»: صقيل.
(3) الصيقل: مبالغة صاقل.
(4) في «ج»: يجلد.
(5) سورة الواقعة، الآية: 89.(1/176)
خاتمة الباب الأول
الفصل الأول في الفضائل العقلية
خاتمة الباب بتقرير فضائل العلم إطلاقا أو تقييدا باعتبار بعض العلوم الإسلامية إذ تقدم أنها تتضمن مدح هذا العلم من حيث هو [فن] (1) من فنونه المعتبرة، وعند ذلك فيتأكد بحسب هذا المجموع [توقيف] (2) المتعلم على تلك الفضائل لترغبه في الطلب، وتنهض عزيمة الاشتغال به. فنقول تلخيصا لما ذكره الناس 29و / / من ذلك: للعلم فضائل كثيرة مرجعها إلى ما هو عقلي محض، ونقلي كذلك، ومركب منهما، فهي إذ ذاك منحصرة في فصول ثلاثة نذكر منها إن شاء الله ما يكفي بحسب هذا الموضع.(1/177)
الفصل الأول في الفضائل العقلية
خاتمة الباب بتقرير فضائل العلم إطلاقا أو تقييدا باعتبار بعض العلوم الإسلامية إذ تقدم أنها تتضمن مدح هذا العلم من حيث هو [فن] (1) من فنونه المعتبرة، وعند ذلك فيتأكد بحسب هذا المجموع [توقيف] (2) المتعلم على تلك الفضائل لترغبه في الطلب، وتنهض عزيمة الاشتغال به. فنقول تلخيصا لما ذكره الناس 29و / / من ذلك: للعلم فضائل كثيرة مرجعها إلى ما هو عقلي محض، ونقلي كذلك، ومركب منهما، فهي إذ ذاك منحصرة في فصول ثلاثة نذكر منها إن شاء الله ما يكفي بحسب هذا الموضع.
__________
(1) ساقطة من «أ».
(2) في «ج»: ترقيف.(1/179)
الفصل الأول في الفضائل العقلية
وهي من تلك الجهة جملة فضائل:
الفضيلة الأولى:
أنه لا خفاء عند ذوي العقول الراجحة أن العلم صفة شرف وكمال، وأن الجهل صفة حطة ونقصان، ولذلك مهما قيل للرجل العالم: يا جاهل تأذى بذلك، وإن كان يعلم من نفسه أنه ليس كذلك.
قال الماوردي (1): «وليس يجهل فضل العلم إلا أهل الجهل، لأن فضل العلم إنما يعرف بالعلم وهذا أبلغ في فضله. لأن فضله لا يعلم إلا به، فلما عدم الجهال العلم الذي به يتوصلون إلى فضل العلم، جهلوا فضله، واسترذلوا أهله، وتوهموا أن ما تميل إليه أنفسهم من الأموال المقتناة، والطرف المشتهاة، أولى أن يكون إقبالهم عليها، وأحرى أن يكون اشتغالهم بها.
وقد قال ابن المعتز (2): العالم يعرف الجاهل لأنه كان جاهلا، والجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن عالما.
__________
(1) هو أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري، المعروف بالماوردي، ت: 450هـ 1058م، أديب، سياسي، فقيه، أصولي من تصانيفه: «الأحكام السلطانية»، «الحاوي الكبير في فروع الفقه الشافعي»، «أدب الدين والدنيا» انظر: تاريخ بغداد: 12/ 103102، ومعجم الأدباء 15/ 5552، وطبقات الشافعي: 5/ 285267.
(2) هو أبو العباس عبد الله بن المعتز بالله محمد بن المتوكل بن هارون العباسي البغدادي.
ت: 296هـ 908م. أديب، شاعر، ولي الخلافة يوما واحدا، وقيل نصف يوم حيث(1/180)
[قال] (1) وهذا صحيح، ولأجله انصرفوا عن العلم وأهله انصراف الزاهدين، وانحرفوا عنه و [عنهم] (2) انحراف المعاندين لأن من جهل شيئا عاداه» (3) اه.
الفضيلة الثانية:
لا شك أن الإنسان أفضل من سائر الحيوان، وتلك الفضيلة التي شرف الله بها نوعه ليست لقوته وصورته، فإن كثيرا من الحيوانات يساويه في مثل ذلك، ويزيد عليه كالجمل في القوة، والفيل في عظم الجسم، والأسد في الشجاعة، والعصافير في كثرة السفاد (4)، والحمار في الأكل. وإنما هي لما اختص به من اللطيفة الربانية التي استعد بها لإدراك حقائق المعلومات، والاطلاع على أسرار 29ظ / المعقولات، ومن هناك لما أراد إظهار فضل آدم على الملائكة، وإقامة الحجة عليهم، وفي ضمن ذلك بيان حكمته تعالى ما أظهر ذلك إلا بالعلم الذي به تمكن آدم عليه السلام من معرفته بأسماء الأشياء كلها.
قال الإمام فخر الدين: «فلو كان في الإمكان وجود شيء أشرف من العلم لكان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم» (5).
الفضيلة الثالثة:
أنه لا كمال، ولا لذة فوق كمال العلم ولذته، ولا نقصان ولا شقاوة فوق نقصان الجهل وشقاوته، وبيانه من وجهين:
أحدهما: أن الإدراك كلما كان أعوص، والمدرك أشرف، كانت اللذة لا
__________
مات مخنوقا. من آثاره: «ديوان شعر»، «البديع»، «طبقات الشعراء»، انظر: الفهرست: 174 175وتاريخ بغداد: 10/ 10195، والنزهة: 234233.
(1) ساقطة في «ج».
(2) ساقطة في «أ» و «ج».
(3) انظر أدب الدنيا: ص 1817.
(4) السفاد: نزو الذكر على الأنثى.
(5) انظر تفسير الرازي: 2/ 178.(1/181)
محالة أشرف وأكمل، ومعلوم أن محل العلم هو الروح، وهو أشرف من البدن، وأن الإدراك العقلي ومدركاته أشرف من الإدراك الحسي ومدركاته.
قال الإمام فخر الدين: «لأنه هو الله رب العالمين، وجميع مخلوقاته، من الملائكة والأفلاك، والعناصر، والجمادات، والنبات، والحيوان، وجميع أحكامه، وأوامره، وتكاليفه» (1).
الثاني: أن الواحد منا قال: إذا سئل عن مسألة علمية فإن علمها وقدر على الجواب بالصواب فيها فرح بذلك وابتهج، وإن جهلها نكس رأسه حياء من ذلك.
قال: وذلك يدل على أن اللذة الحاصلة بالعلم أكمل اللذات، والشقاء الحاصل بالجهل أكمل أنواع الشقاء.
تنبيه:
الاستدلال على هذه الفضيلة مقصوده: تنزّل النظر لتذكّر بعض ما حصل [العلم] (2) بها، وإلا فثبوتها للعلم قد تقرر في نفوس العلماء، وإلى ذلك يشير الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي (3) بقوله: «في العلم بالأشياء لذة لا توازيها لذة، إذ هو نوع من الاستيلاء على المعلوم، والحوز له، ومحبة 30و / الاستيلاء قد جبلت عليها النفوس، وميلت إليها القلوب.
قال: وهو مطلب خاص، برهانه التجربة التامة، والاستقراء العام، فقد يطلب العلم للتفكه به، والتلذذ بمحادثته، ولا سيما العلوم التي للعقول فيها مجال، وللنظر في أطرافها متسع، ولاستنباط المجهول من المعلوم فيها طريق مهيع (4)» اه.
__________
(1) تفسير الرازي: 2/ 186.
(2) كذا بالأصل، فهل هي العالم؟.
(3) انظر كتابه الموافقات: 1/ 67.
(4) في م. س: 1/ 67: متبع. ومهيع: من هاع يهيع ويهاع الشيء: بمعنى: انبسط على وجه الأرض، وطريق مهيع: واسع وبين.(1/182)
قلت: وهنا حكاية ذكرها الرشاطي هي من شواهد هذا المعنى، «فأسند عن أبي الحسين ابن فارس (1) قال: سمعت الأستاذ ابن العميد (2) يقول: ما كنت أظن أن في الدنيا حلاوة ألذ من الرياسة والوزارة التي أنا فيها حتى شاهدت مذاكرة سليمان بن أحمد الطبراني (3) وأبي بكر الجعابي (4) بحضرتي، فكان الطبراني يغلب الجعابي بكثرة حفظه، وكان الجعابي يغلب الطبراني بفطنته، وذكاء أهل بغداد حتى ارتفعت أصواتهما ولا يكاد أحد يغلب صاحبه.
فقال الجعابي: يا مولانا عندي حديث ليس في الدنيا إلا عندي. قال:
هاته. فقال: حدثنا أبو خليفة (5) قال: [نا سليمان بن أيوب وحدث بالحديث
فقال الطبراني: نا سليمان بن أيوب ومني سمع أبو خليفة] (6) فاسمع مني حتى يعلو إسنادك، فإنك تروي عن أبي خليفة عني، فخجل الجعابي وغلبه الطبراني.
قال ابن العميد: فوددت في مكاني أن الوزارة والرياسة ليتهما لم تكن لي وكنت الطبراني، وفرحت مثل الفرح الذي فرح به الطبراني لأجل الحديث هذا، أو معناه» اه.
__________
(1) هو أبو الحسين أحمد بن زكرياء بن فارس الشافعي أولا ثم المالكي المعروف بالرازي. ت:
حوالي (390هـ 1004م) مختلف في سنة وفاته، كان إماما في رجال خراسان غلب عليه علم النحو، ولسان العرب فشهر به، كما كان أديبا وشاعرا. له «شرح مختصر المزني»، و «مقاييس اللغة» و «حلية الفقهاء» انظر: النزهة: 322320، والديباج: 1/ 165163وقد كان «ابن فارس» شديد التعصب لابن العميد.
(2) الوزير محمد بن الحسين المعروف بابن العميد أبو الفضل. ت: 360هـ 971م أديب، لغوي، حكيم سياسي، انظر الوافي للصفدي: 2/ 381، وأمراء البيان: 2/ 592567.
(3) ت: 360هـ 981م، المحدث الحافظ، صاحب المعاجم الثلاثة: الكبير والأوسط والصغير، انظر: الوفيات: 2/ 407.
(4) محمد بن عمر التميمي البغدادي الجعابي الشيعي أبو بكر. ت: 355هـ 966م، قاض محدث، حافظ، فقيه، سمع منه الدارقطني، وابن شاهين من آثاره: «أخبار آل أبي طالب» وكتاب «الموالي». انظر تاريخ بغداد: 3/ 3126، والوافي: 4/ 241240.
(5) هو الفضل بن الحباب الجمحي، كان ابن أخت أبي عبد الله محمد بن سلام. ت: 305هـ 917م، كان من أجلاء أصحاب الحديث، كما كان من علم اللغة والشعر بمكان عال. انظر:
طبقات الزبيدي: 182والتذكرة: 2/ 670.
(6) ساقط من «ج».(1/183)
ثم ذكر الرشاطي ذلك الحديث فانظره في «النسب إلى أرمية (1) من كتابه».
الفضيلة الرابعة:
أنه لا يتوصل لسعادة الدنيا والآخرة إلا به، ولا تنال إلا من طريقه، أما سعادة الدنيا فمن تفاصيلها ما تقرر من كون صاحبه شريفا، وإن لم يكن في أصله كذلك، وأن الجاهل 30ظ / دنيء وإن كان في أصله شريفا، وأن العلم جمال، ومال، ورتبة لا توازيها رتبة، وأهله أحياء أبد الدهر
قال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله وقد عدد أنواعا من هذا:
«إلى سائر ماله في الدنيا من المناقب الحميدة، والمآثر الحسنة، والمنازل الرفيعة» (2).
وأما سعادة الآخرة: فقال الغزالي: «أعظم الأشياء رتبة في حق الآدمي السعادة الأبدية، وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إلى نيلها، ولا يتوصل إليها على سبيل الاكتساب إلا بالعلم والعمل، ولا يتوصل إلى العمل إلا بالعلم بكيفية العمل.
قال: فأصل السعادة في الدنيا والآخرة العلم» (3).
فائدة في تنبيه:
لا شك أن الالتفات إلى تحصيل السعادة الأولى، منهض لعزيمة طلب العلم، لا سيما التعظيم بها، وإلقاء المحبة بسببها.
فقد قال ابن حزم (4): «لو لم يكن من فضل العلم إلا أن الجهال يهابونك،
__________
(1) أرمية: بضم أوله: مدينة في ديار بكر، انظر الروض المعطار: 26.
(2) الموافقات: 1/ 67.
(3) الإحياء: 1/ 13.
(4) علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري أبو محمد، ت: 456هـ 1064م. فقيه، أديب، أصولي، محدث، حافظ من تصانيفه: «الالتباس فيما بين أصحاب الظاهر وأصحاب القياس» «الفصل بين أهل الأهواء والنحل»، و «مداواة النفوس»، انظر: الجذوة للحميدي: 308 311، والصلة: 417415.(1/184)
ويجلونك، وأن العلماء يحبونك، ويكرمونك، لكان ذلك سببا إلى وجوب طلبه، فكيف بسائر طلبه في الدنيا والآخرة» (1).
ولكن يجب أن يلحظ مع ذلك أنه في حقيقة الاعتبار كما قال ابن الخطيب (2): «حظ فان ومجنى شجرة حرمان»، وإذ ذاك فالالتفات إليه لا بد وأن يكون مع نية أنه خادم للقصد الأصلي تحقيقا لاعتبار تبعيته، وصحة القصد إليه ابتداء. فقد قال تعالى في معرض المدح: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنََا هَبْ لَنََا مِنْ أَزْوََاجِنََا وَذُرِّيََّاتِنََا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنََا لِلْمُتَّقِينَ إِمََاماً} (3).
قال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي (4): «وجاء عن بعض السلف الصالح، اللهم اجعلني من أئمة المتقين».
وقال عمر رضي الله عنه لابنه حين وقع في نفسه أن الشجرة التي هي مثل المومن النخلة، قال له: «لأن تكون 31و / قلتها أحب إلي من كذا وكذا».
وفي القرآن عن إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي [لِسََانَ]} [5] صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (6) اه.
حكاية:
تتضمن الشهادة لاعتبار نوع من هذه السعادة وهي السيادة بالعلم.
__________
(1) انظر رسائل ابن حزم: 1/ 343.
(2) محمد بن عبد الله السلماني اللوشي، الغرناطي، الأندلسي أبو عبد الله لسان الدين بن الخطيب ذو الوزارتين، ت: 776هـ 1374م. أديب، ناثر وشاعر، مؤرخ، مشارك في الطب وغيره، له تصانيف عدة منها: «الإحاطة» و «نفاضة الجراب»، و «ديوان الصيب والجهام». انظر «الإحاطة»:
4/ 640438، والدرر الكامنة: 3/ 474469.
(3) سورة الفرقان، الآية: 74.
(4) انظر الموافقات: 1/ 6867.
(5) ساقط من «أ».
(6) سورة الشعراء، الآية: 84.(1/185)
قال الشيخ أبو عمر (1): «روينا أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه حج في بعض حجاته، فابتنى بالأبطح (2) مجلسا، فجلس عليه، ومعه زوجته ابنة قرظة بن عبد عمرو بن نوفل، فإذا هو بجماعة على رحال لهم، وإذا شاب منهم قد رفع عقيرته (3) يغني:
وأنا الأخضر، من يعرفني؟ ... أخضر الجلدة (4) في بيت العرب
من يساجلني (5) [يساجل] (6) ماجدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب (7)
فقال معاوية: من هذا؟ فقالوا: [فلان بن جعفر بن علي] (8) بن أبي طالب، قال: خلوا له الطريق فليذهب، ثم إذا هو بجماعة فيهم غلام يغني:
بينما يذكرنني أبصرنني ... عند قيد الميل يسعى بي الأغر
قلن: تعرفن الفتى؟ قلن: نعم ... [قد] (9) عرفناه وهل يخفى القمر (10)
قال: من هذا؟ قالوا: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة. قال: خلوا له الطريق فليذهب، ثم إذا هو بجماعة حول رجل [حسن] (11) يسألونه، فبعضهم
__________
(1) انظر جامع العلم: 1/ 6362.
(2) الأبطح: بالفتح ثم السكون وفتح الطاء والحاء مهملة، كل مسيل فيه دقاق الحصى، والأبطح يضاف إلى مكة وإلى منى. لأن المسافة بينه وبينهما واحدة [وذكر بعضهم أنه إنما سمي أبطح لأن آدم عليه السلام بطح فيه. انظر معجم البلدان: 1/ 74.
(3) العقيرة: ما عقر من صيد أو غيره، وعقيرة الرجل: صوته إذا غنى أو قرأ أو بكى.
(4) يريد باخضرار الجلدة: الخصب والسعة اللسان.
(5) ساجل الرجل الرجل: باراه، والمساجلة المفاخرة بأن يصنع مثل صنيعه في جري أو سقي فضربته العرب للمفاخرة.
(6) في «أ» يسائل.
(7) الكرب: الحبل الذي يشد على الدلو بعد المنين الأول، فإذا انقطع المنين بقي الكرب، وقد ذكر «صاحب اللسان» أن البيت الأول قاله: عتبة بن أبي لهب، وقائل البيت الثاني الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب في باب المفاخرة بنفسه. انظر اللسان [خضر] و [كرب].
(8) ساقط من «أ».
(9) في «ج»: من.
(10) انظر ديوان عمر بن أبي ربيعة ص: 174من قصيدة له، مطلعها:
هيّج القلب مغان وصير ... دارسات قد علاهن الشجر
(11) ساقط من «ج».(1/186)
يقول: رميت قبل أن أحلق، وبعضهم يقول: حلقت قبل أن أرمي، يسألونه عن أشياء أشكلت عليهم من مناسك الحج، فقال: من هذا؟ فقالوا: هذا عبد الله بن عمر. فالتفت إلى زوجته ابنة قرظة فقال: هذا وأبيك الشرف، هذا وأبيك شرف الدنيا والآخرة» اه.
وقبل هذا (1)، أورد عن الحجاج أنه قال لخالد بن صفوان (2): من سيد أهل البصرة؟ 31ظ / فقال له الحسن البصري. فقال: وكيف، وهو مولى؟!
فقال: احتاج الناس إليه في دينهم، واستغنى عنهم في دنياهم، وما رأيت أحدا من أشراف أهل البصرة إلا وهو يروم الوصول في حلقته (3) إليه ليستمع قوله، ويكتب علمه، فقال الحجاج: «هذا والله السؤدد» اه.
ولحصول هذه السيادة قال بعض البلغاء محرضا على طلب العلم من ناحية الالتفات إليها على شرطه مع التنبيه على غيرها من الفوائد العاجلة: «تعلم العلم فإنه يقومك ويسددك صغيرا، ويقدمك ويسودك كبيرا، ويصلح زيغك وفاسدك، ويقوم عوجك وميلك ويصحح همتك وأملك» (4).
قلت: وقد اعتبر الأستاذ أبو القاسم ابن الأبرش (5) رحمه الله حصول هذه السيادة بمجرد المعرفة بصناعة العربية، وخصوصا ما حوى الكتاب (6) منها، فقال بذلك مفتخرا ولما سواه عن درجة الاعتبار مؤخرا:
__________
(1) انظر جامع العلم: 1/ 62.
(2) خالد بن صفوان بن عبد الله بن الأهتم، كان من أعلام الخطابة، وقد وفد إلى هشام، وكانت بينه وبين شبيب بن شيبة منافسة شديدة. ذكره ابن قتيبة في «المعارف»: 404403والجاحظ في «البيان والتبيين»، وفي «البخلاء» في أكثر من موضع.
(3) زيادة من جامع العلم: 1/ 62.
(4) انظر: أدب الدنيا. ص: 17.
(5) هو خلف بن يوسف بن فرتون الأندلسي المعروف بابن الأبرش. ت: 532هـ 1138م. كان إماما في اللغة والنحو، وله حظ من الفرائض وكان يستظهر كتاب سيبويه و «أدب الكتاب» و «المقتضب» و «الكامل». انظر الصلة: 177.
(6) المقصود به: كتاب سيبويه.(1/187)
لو لم يكن لي آباء أسود بهم ... ولم [تقدم] (1) كبار العرب لي شرفا (2)
[ولم أنل عند ملك العصر منزلة ... لكان في سيبويه الفخر لي وكفا] (3)
فكيف علم ومجد قد جمعتهما ... و [كل] (4) مختلق (5)، في مثل ذا وقفا (6)
الفضيلة الخامسة:
قال الإمام فخر الدين: «الجاهل كأنه في ظلمة شديدة لا يرى شيئا البتة، والعالم كأنه يطير في أقطار الملكوت، ويسبح في بحار المعقولات، يطالع الموجود والمعدوم، والواجب، والممكن، والمحال، ثم يعرف انقسام الممكن إلى الجوهر والعرض، والجوهر إلى البسيط، والمركب، ويبالغ في تقسيم كل واحد منها إلى أنواعها، وأنواع أنواعها وأجزائها، وأجزاء أجزائها 32و / والجزء الذي به يشارك غيره، والجزء الذي به يمتاز عن غيره، ويعرف أثر كل شيء ومؤثره، وعلته ومعلوله، ولازمه وملزومه، وكليه وجزئيه، وواحده وكثيره، حتى يصير عقله [كالنسخة التي أثبت فيها] (7) جميع المعلومات بتفاصيلها وأقسامها.
قال: وأي سعادة فوق هذه الدرجة.
قال: ثم إنه بعد استكمال هذه السعادة تصير النفوس الجاهلة عالمة، إذ هو الواسطة بينها وبين الله تعالى في إفاضة أنواع العلم عليها، وإفادتها الحياة الأبدية.
قال: ومن خواص هذه السعادة تقديسها عن التغير والفناء، لأن التصورات الكلية لا يتطرق إليها الزوال والتغير.
__________
(1) في «ج» يقدم.
(2) في البغية 1/ 557: (ولم يثبت رجال الغرب لي شرفا).
(3) البيت ساقط في «ج».
(4) في «أ»: كان.
(5) في البغية: 1/ 557: وكل مختلف.
(6) انظر الأبيات في م. س: 1/ 557.
(7) في «أ» و «ج» و «د»: حتى يصير عقله كالنتيجة التي أتت عليها، والتصويب من تفسير الرازي.(1/188)
قال: وإذا كانت هذه السعادة في نهاية الجلالة في ذاتها ثم إنها باقية أبد الآباد ودهر الداهرين، كانت لا محالة أكمل السعادات» (1). انتهى وبعضه ملخص بالمعنى.
قلت: تقدم في الفضيلة الثالثة (2): أن الإدراك العقلي أشرف من الإدراك الحسي وقد استدل الإمام (3) عليه بمعنى ما ذكر هنا زيادة لما سبق عنه.
فقال في «شرح الإشارات» (4): «الإدراك العقلي يتغلغل في كنه الشيء (5)، ويميز بين الماهية وأجزائها، وصفاتها، ثم يميز بين جزء الجنس (6) وجزء الفصل، وجنس الجنس، وجنس الفصل، وفصل الجنس، وفصل الفصل، بالغة ما بلغت، ويميز بين الخارجي اللازم، والمفارق، ويميز بين ما يكون لازما للماهية بوسط، وبين ما لا يكون بوسط.
قال: فكأن الإدراك العقلي قد نفذ في ماهية الشيء، وتغلغل في أعماقها، ووصل إلى كل أجزائها».
قال: وأما الحس فإنه لا يتناول إلا ظاهر المحسوسات» (7)، انتهى المقصود منه في الموضع.
الفضيلة السادسة:
أن الاشتغال به أشرف أنواع الحرف والصناعات 32ظ /.
وقرره الغزالي: «بأن شرف الصناعة (8) يعرف بثلاثة أمور:
__________
(1) انظر تفسير الرازي: 2/ 199.
(2) انظر ص: 180179من هذا البحث.
(3) المراد به الإمام فخر الدين الرازي.
(4) كتاب في الرد على صاحب «الإشارات والتنبيهات» في المنطق والحكمة للحسين بن عبد الله المعروف بابن سينا. ت: 428هـ 1037م.
(5) في الأصول: يتعلق بكنه.
(6) في شرح الإشارات 2/ 91: الجزء الجنسي، والجزء الفصلي.
(7) انظر م. س: 2/ 91.
(8) في الإحياء 1/ 14: الصناعات.(1/189)
إما بالالتفات إلى الغريزة التي بها يتوصل إلى معرفتها كفضل العلوم العقلية على اللغوية إذ تدرك (الحكمة) (1) بالعقل، واللغة بالسمع، والعقل أشرف من السمع.
وإما بالنظر إلى عموم النفع، كفضل الزراعة على [الصياغة] (2).
وإما بملاحظة المحل الذي فيه التصرف كفضل [الصياغة] (3) على الدباغة، إذ محل أحدهما الذهب، ومحل الآخر جلد (4) الميتة.
قال: وليس يخفى أن العلوم الدينية وهي فقه طريق الآخرة إنما تدرك بكمال العقل، وصفاء الذكاء، والعقل أشرف صفات الإنسان
وأما عموم النفع فلا يستراب فيه، فإن نفعه وثمرته سعادة الآخرة، وأما شرف المحل، فكيف يخفى، والمعلم متصرف في قلوب البشر ونفوسهم! وأشرف موجود على الأرض: جنس الإنسان وأشرف جزء من جوهر الإنسان قلبه. والمعلم مشتغل بتكميله وتجليته (5) (وتطهيره) (6) وتقريبه من الله تعالى.
قال: فتعليم العلم من وجه: عبادة لله عز وجل، ومن وجه: خلافة لله سبحانه، وهو أجل خلافة، فإن الله تعالى قد فتح على قلب العالم العلم الذي هو أخص صفاته، فهو كالخازن لأنفس خزائنه، ثم هو مأذون له في الإنفاق (منه) (7) على كل محتاج إليه. فأية رتبة أجل من كون العبد واسطة بين ربه سبحانه وبين خلقه في تقريبهم إلى الله عز وجل زلفى، وسياقتهم إلى الجنة المأوى» (8).
__________
(1) زيادة من م. س: 1/ 14.
(2) في «أ»: الصناعة.
(3) في «أ»: الصناعة.
(4) زيادة من م. س: 1/ 14.
(5) في م. س: 1/ 14: وسياقته إلى القرب.
(6) في م. س: 1/ 14: وسياقته إلى القرب.
(7) زيادة من م. س: 1/ 14.
(8) انظر: م. س: 1/ 14.(1/190)
الفضيلة السابعة:
أن قيمة الإنسان ما يعلمه لا ما يعمله.
وعن ذلك عبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في خطبة خطبها: «واعلموا أن الناس أبناء ما يحسنون، وقدر كلّ امرىء ما يحسن، فتكلموا في العلم تتبين 33و / أقداركم» (1).
وفي معناه أيضا قال: «المرء مخبوء تحت لسانه» (2). وما قال: «تحت بنانه».
قال القرافي (3): «ومعنى هذا الاختباء، أنه إن نطق بشر ظهرت خسته ودناءته، أو بخير ظهر شرفه، وإن لم ينطق بشيء فهو عدم (4) محض عند مشاهدته».
وقال أيضا رضي الله عنه: «المرء بأصغريه قلبه ولسانه».
قال القرافي: «ولم يقل «بيديه» أي هو معتبر [بهما] (5)، فإن رفعاه ارتفع، أو وضعاه اتضع، فالقلب معدن الحكم، واللسان ترجمانه، وما عداهما في حكم الأعوان البعيدة التي لا اعتداد (6) بها وأنشد:
الناس من جهة التمثيل أكفاء ... أبوهم آدم والأم حواء
فإن أتيت بفخر من ذوي نسب ... فإن نسبتنا الطين والماء
__________
(1) انظر جامع العلم: 1/ 99برواية ابن عائشة.
(2) انظر نهج البلاغة: 3/ 189.
(3) هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي الصنهاجي المصري المالكي. ت: 684هـ 1285م. من كبار علماء المالكية ومن تلاميذ الشيخ عز الدين بن عبد السلام. من مؤلفاته:
«التنقيح» في أصول الفقه، وهو مقدمة كتابه الذخيرة، والفروق انظر الديباج: 1/ 236 239، وحسن المحاضرة: 1/ 142.
(4) في مخ الذخيرة 1/ 8: عام.
(5) في «ج» هما.
(6) في مخ الذخيرة 1/ 8: لا عداد بها.(1/191)
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ... على الهدى لمن استهدى [أدلاء] (1)
وقيمة المرء ما قد كان يحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء
[فاطلب لنفسك علما واكتسب أدبا ... فالناس موتى وأهل العلم أحياء] (2)
قلت: قال الشيخ أبو عمر: «إن قول علي رضي الله عنه «قيمة كل امرىء ما يحسن» (3) من الكلام العجيب الخطير، وقد طار الناس به كل مطير، ونظمه جماعة من الشعراء إعجابا به، وكلفا بحسنه، ثم أنشد في نظم الخليل ما تقدم (4) في مدح النحو.
وأنشد لغيره:
تلوم على أن رحت للعلم طالبا ... أجمع من عند الرواة فنونه
فيا لائمي دعني أغالي بمهجتي ... فقيمة كل الناس ما يحسنونه
وأنشد لأبي العباس الناشيء (5):
تأمل بعينيك هذا الأنام ... وكن بعض من صانه عقله
33 - ظ / فحلية كل فتى فضله ... وقيمة كل امرىء نبله
فلا تتكل في طلاب العلا ... على نسب ثابت أصله
فما من فتى زانه قوله ... بشيء يخالفه فعله» (6)
الفضيلة الثامنة:
قال ابن حزم: «لو لم يكن من فائدة العلم، والاشتغال به إلا أنه يقطع
__________
(1) في «أ» أدباء.
(2) هذا البيت ساقط من م. س: 1/ 8. وانظر الأبيات في مخ الذخيرة: نسخة الخزانة العامة الرباط رقم ج 852.
(3) انظر نهج البلاغة 3/ 168.
(4) انظر ص: 20ظ / من مخ «أ». ص: 151من هذا الكتاب.
(5) هو عبد الله بن محمد المعروف بابن شرشير وبالناشىء الكبير. ت: بمصر 293هـ 905م. انظر الوفيات: 3/ 9391.
(6) انظر جامع العلم: 1/ 100.(1/192)
بالمشتغل به عن الوساوس المضنية، ومطارح الآمال التي لا تفيد غير الهم، وكلّ الأفكار المؤلمة للنفس، لكان ذلك أعظم داع إليه، فكيف وله من الفضائل ما يطول ذكره! ومن أقلها ما ذكرنا مما يحصل عليه طالب العلم.
وفي مثله أتعب ضعفاء الملوك أنفسهم، فتشاغلوا عمّا ذكرنا بالشطرنج، والنرد، والخمر، والأغاني، وركض الخيل في طلب الصيد، وسائر الفضول التي تعود بالمضرة في الدنيا والآخرة، وأما بفائدة فلا (فائدة) (1)» (2) اه.
قلت: وكيف تبتغى الفائدة من غير طريق العلم، وقد ثبت بالاستقراء أن كل خير في العالم لا يكتسب إلا بالعلم، وكل شر فيه لا يكتسب أيضا إلا بالجهل، فما هو سبب كل شر، كيف يرجى به حصول فائدة في الدنيا أو في الآخرة؟!
الفضيلة التاسعة:
قال الإمام فخر الدين: «الأمور على أربعة أقسام: ما يرضاه العقل ولا ترضاه الشهوة وهو الأمراض والمكاره في الدنيا.
وما ترضاه الشهوة ولا يرضاه العقل وهو المعاصي.
وما يرضاه العقل والشهوة وهو العلم.
وما لا يرضاه العقل ولا الشهوة، وهو الجهل.
قال: فينزل العلم من الجهل منزلة الجنة من النار. فكما أن العقل والشهوة لا يرضيان بالنار فلا يرضيان بالجهل 34و / وكما أنهما يرضيان بالجنة يرضيان بالعلم، فمن رضي بالجهل فقد رضي بنار حاضرة، ومن اشتغل بالعلم فقد خاض في جنة حاضرة، ثم من اختار العلم يقال له غدا: تعودت المقام في الجنة فادخل الجنة، ومن اكتفى بالجهل يقال له غدا: تعودت المقام في النار فادخل النار» اه.
__________
(1) عند ابن حزم «فائدة»: ساقطة من الرسائل: 1/ 343.
(2) انظر رسائل ابن حزم: 1/ 343.(1/193)
ثم استدل على أن العلم جنة، والجهل نار: «بأن كمال اللذة في إدراك المحبوب، وكمال الألم في البعد عن المحبوب، وبين ذلك إلى أن ذكر أنه لا كمال، ولا لذة، فوق كمال العلم ولذته، ولا شقاوة ولا نقصان فوق شقاوة الجهل ونقصانه» (1) على ما سبق في الفضيلة الثالثة.
قلت: وإذا كان العقل والشهوة يرضيان العلم، ولا يرضيان الجهل، فواجب من تلك الجهة اعتقاد أن العلم إنما رضي به لأنه سبب كل فضيلة، وأن الجهل إنما لم يرض به لأنه سبب كل رذيلة.
وإذ ذاك فينبغي كما قال الماوردي: «لمن استدل [بفطرته] (2) على استحسان الفضائل، واستقباح الرذائل، أن ينفى عن نفسه رذائل الجهل بفضائل العلم، وغفلة الإهمال، باستيقاظ المعاناة، ويرغب في العلم رغبة متحقق لفضائله، واثق بمنافعه، ولا يلهيه عن طلبه، كثرة مال وجدة، ولا نفوذ أمر وعلو منزلة، فإن من نفذ أمره فهو إلى العلم أحوج، ومن علت منزلته فهو بالعلم أحق» (3).
الفضيلة العاشرة:
قال القرافي: «وصل العلماء بحقيقة العلم إلى عين اليقين، فشاهدوا الأخطار والأوطار بالأفق المبين، واستلانوا ما استوعره المترفون، واستأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وفازوا بما قعد عنه المقصرون فهم مع جلسائهم بأشباحهم وفي الملأ الأعلى بأرواحهم، فلا جرم هم أحياء، وإن ماتت الأبدان على مر الدهور والأزمان، وغابت أعيانهم 34ظ / عن العيان، وصورهم مشاهدة في الجنان والجنان» (4).
قلت: وهو مقتبس من كلام علي رضي الله عنه في حديث كميل بن
__________
(1) انظر تفسير الرازي: 2/ 185.
(2) في أدب الدنيا ص 21: بفطنته.
(3) انظر: م. س: 21.
(4) مخ الذخيرة: 1/ 9.(1/194)
زياد (1)، ونصه على ما رواه أبو نعيم الحافظ في «رياضة المتعلمين» «عن «كميل بن زياد» قال: «أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بيدي فأخرجني إلى ناحية الجبّانة (2) فلما أصحر (3) تنفس الصعداء، ثم قال: يا كميل، إن هذه القلوب أوعية (4)، فخيرها أوعاها، يا كميل، احفظ عني ما أقول: الناس ثلاثة: عالم رباني (5)، ومتعلم على سبيل نجاة (6)، وهمج (7) رعاع (8) لكل ناعق (9) أتباع يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا منه إلى ركن وثيق.
يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق.
يا كميل، محبة العلم (10) دين يدان به، يكسبه الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، ومنفعة المال تزول بزواله، والعلم حاكم، والمال محكوم عليه.
يا كميل مات (11) خزان المال [وهم أحياء] (12)، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة. ثم قال: ها إن هاهنا
__________
(1) كميل بن زياد بن نهيك النخعي: تابعي، ثقة من أصحاب علي بن أبي طالب، كان شريفا مطاعا في قومه، شهد صفين مع علي، وسكن الكوفة، وروى الحديث. قتله الحجاج صبرا سنة 82هـ 701م. انظر «الإصابة»: 3/ 318، و «الكامل»: 4/ 482481، وفيه أنه ت: 83هـ.
(2) الجبانة: ج جبابين: المقبرة.
(3) أي صار في الصحراء.
(4) أوعية: ج وعاء أوعاها: أي أحفظها.
(5) المتأله العارف بالله.
(6) أي المتعلم على طريق النجاة فإذا أتم علمه نجا.
(7) الحمقى من الناس.
(8) والرعاع: الأحداث الطغام.
(9) الداعي إلى باطل أو حق.
(10) في نهج البلاغة 3/ 187: معرفة العلم.
(11) في م. س: 3/ 187: هلك.
(12) زيادة من م. س: 3/ 187.(1/195)
علما (1)، وأشار [بيده] (2) إلى صدره، لو أصبت له حملة، بلى، أصبت [لقنا] (3)
غير مأمون [عليه] (4)، يستعمل آلة الدين في طلب الدنيا، ويستظهر بحجج الله على أوليائه، وبنعم الله على معاصيه، أو منقادا لحملة العلم لا بصيرة له في أنحائه، يقدح الشك في قلبه بأول ناعق من شبهة (5)، ألا لا ذا ولا ذاك.
أو من هو منهوم باللذات سلس القياد إلى الشهوات، ومغرم بالجمع والادخار وليس من دعاة الدين، أقرب شبها به الأنعام، كذلك يموت حامليه.
ثم قال: اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم بحجة، إما ظاهرا مشهورا 35و /، وإما خفيا مغمورا، ليلا تبطل حجج الله وبيناته (6) أولئك الأقلون عددا، والأعظمون قدرا بهم يحفظ الله حججه حتى يودعها في قلوب أشباههم.
هجم بهم العلم على حقائق الأمور، فباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعر المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى.
يا كميل، أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه، آه، آه، شوقا إليهم، وإلى رؤيتهم، واستغفر الله لنا، ولهم، انصرف إذا شئت» (7). وقد تضمن من الإشادة بفضل العلم كثيرا.
__________
(1) في م. س: 3/ 187: لعلما جما.
(2) زيادة من م. س: 3/ 187.
(3) بياض بالأصل أكملناه من م. س: 3/ 187: واللقن: الذي يفهم بسرعة، إلا أن العلم لا يطبع أخلاقه على الفضائل، بل يستعمل الدين لغرض الدنيا، ويستعين بنعم الله على إيذاء عباده.
(4) زيادة من م. س: 3/ 187.
(5) ج شبه وشبهات: ما يلتبس به الحق بالباطل، والحلال بالحرام.
(6) هناك حذف إذ يقول في «م. س» 3/ 188: وكم ذا وأين أولئك؟.
(7) انظر: م. س: ج 3/ 189186.(1/196)
الفصل الثاني في الفضائل النقلية
وهي أيضا تكاد تفوت الحصر لكنا نذكر منها ما تحصل به إن شاء الله رغبة من صدقت فيه محبته.
الفضيلة الأولى:
أن من سلك طريق طلبه، سهل الله له طريقا إلى الجنة.
ففي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له طريقا إلى الجنة».
قال ابن العربي: «لا خلاف أنّ طريق العلم طريق إلى الجنة، بل أوضح الطّرق إليها» (1).
قال القرافي: «ومعناه أن هذه الحالة سبب موصل إلى الجنة» (2).
فائدتان في تنبيه
الفائدة الأولى:
قال النووي (3): «فيه فضيلة المشي في طلب العلم [ويلزم من ذلك
__________
(1) انظر العارضة: 10/ 117.
(2) انظر مخ الذخيرة: 1/ 7.
(3) يحيى بن شرف النووي الدمشقي الشافعي محيي الدين أبو زكرياء. ت: 677هـ 1278م.(1/197)
الاشتغال بالعلم] (1) الشرعي بشرط خلوص النية، وإن كان خلوصها شرطا في صحة كل عبادة، لكن عادة العلماء يقيدون هذه المسألة بذلك، لكونها قد يتساهل فيها، أو يغفل عن ذلك بعض المبتدئين ونحوهم» (2).
قلت: سيأتي إن شاء الله في آداب العلم بيان هذا الشرط مكملا.
وقوله: «فيه فضيلة المشي في طلب العلم 35ظ / مثله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع» (3) رواه الترمذي (4).
قال ابن العربي: «وسبل الله كثيرة، منها أو أفضلها طلب العلم» (5).
الفائدة الثانية:
قال الأبي (6) عن بعض شيوخه: يدخل فيه الذاهب إلى المفتي ليسأله عن مسألة وكذلك العوام الذاهبون [لحضور] (7) [المواعد] (8)».
قلت: ومنها عندنا المواعد [الجمهورية] (9) (10) المعبر عن صاحبها
__________
الفقيه المحدث صاحب التصانيف الكثيرة منها: «روضة الطالبين» و «الأربعون النووية» و «التبيان في آداب حملة القرآن». انظر: طبقات الشافعية: 5/ 400395، البداية: 13/ 278 279.
(1) زيادة من شرح النووي على صحيح مسلم: 17/ 21.
(2) انظر: م. س: 17/ 21. (باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر).
(3) زيادة من سنن الترمذي: 4/ 137.
(4) انظر م. س: 4/ 137. وقال عنه هذا حديث حسن غريب.
(5) انظر: العارضة: 10/ 115.
(6) هو محمد بن خليفة الوشتاتي المشهور بالأبي أبو عبد الله. ت: 828هـ 1425م. محدث حافظ، فقيه، مفسر ولي قضاء الجزيرة، من تصانيفه: «إكمال الإكمال في شرح مسلم»، و «شرح المدونة»، في فروع الفقه المالكي. انظر النيل: 287.
(7) في «أ»: لحصول.
(8) في «ج»: المداعى.
(9) في «ج»: المجهورية.
(10) المواعد: المفرد موعد بمعنى موعد حضور الواعظ المرشد في المساجد والجمهورية: منسوبة إلى الجمهور، والمراد: مجالس الوعظ والإرشاد التي يقصدها جمهور الناس.(1/198)
بالمتكلم» (1) بشرط سلامتها من القصص المذموم.
فقد جعل الأستاذ أبو سعيد بن لب (2) رحمه الله من فوائد حضورها:
أن في سلوك الطريق إليها سلوك طريق إلى الجنة، واستظهر بما في حديث أبي داود (3) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سلك طريقا يطلب فيها [علما] (4) سلك الله به طريقا إلى الجنة» (5).
وبما في البخاري في «المعلقات» (6): «من سلك طريقا يطلب به علما، سهل الله له طريقا إلى الجنة» (7) اه.
ومن خط صاحبه الأستاذ أبي إسحاق الشاطبي رحمهما الله نقلته.
الفضيلة الثانية:
«أن طالبه تضع له الملائكة أجنحتها رضى بما يصنع».
ففي حديث أبي الدرداء (8) رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الملائكة
__________
(1) وهو الواعظ الذي يعظ الناس في المساجد.
(2) هو فرج بن قاسم بن لب الثعالبي الغرناطي. ت: 783هـ 1381م. فقيه، متكلم، أصولي، أديب، مشارك في شتى الفنون. أخذ عنه لسان الدين ابن الخطيب، وأبو زكرياء السراج، وغيرهما. من مؤلفاته: «شرح جمل الزجاجي» و «شرح تصريف التسهيل» و «ينبوع عين الثرة في تفريع مسألة الإمامة بالأجرة». انظر الإحاطة: 4/ 255253.
(3) هو سليمان بن الأشعت بن إسحاق الأزدي السجستاني أبو داود. ت: 275هـ 889م. وفي رواية ت: 276هـ. محدث: حافظ، فقيه، سمع الكثير عن مشايخ الشام ومصر والجزيرة والعراق وخراسان، من تصانيفه: كتاب السنن. انظر: تاريخ بغداد: 9/ 5955.
(4) في «ج»: فيه عملا.
(5) انظر مختصر سنن أبي داود: 5/ 243.
(6) المعلقات: الحديث المعلق، صورته: أن يحذف من أول الإسناد واحد فأكثر، واستعمله بعضهم في حذف كل الإسناد. وهذا التعليق له حكم الصحيح، ولم يستعملوا التعليق في غير صيغة الجزم: كيروى عن فلان كذا، أو يقال عنه، ويذكر، ويحكى، وشبهها، بل خصوا به صيغة الجزم. كقال، وفعل، وأمر، ونهى ولم يستعملوه فيما سقط وسط إسناده. انظر التقريب للنووي: 1/ 8من صحيح البخاري.
(7) انظر صحيح البخاري: 2/ 30 (باب العلم) وقد رواه بغير سند.
(8) اسمه عويمر بن عامر، وقيل: عويمر بن قيس، واختلف في اسمه فقيل: هو عامر، وقيل:(1/199)
لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع» «رواه أبو داود والترمذي وغيرهما».
وفي رواية لأبي عمر: «ما من عبد يخرج يطلب علما إلا وضعت له الملائكة أجنحتها، وسلك به طريق إلى الجنة» (1).
وخرج من طريق صفوان بن عسال (2) رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خرج من بيته ابتغاء العلم وضعت له الملائكة أجنحتها رضى بما يصنع»».
قال: «وهو حديث صحيح حسن ثابت 36و / محفوظ مرفوع» (3).
قال القرافي: «ولو لم تعلم الملائكة أن منزلته عند الله تستحق ذلك لما فعلته» (4).
تأويل:
قال الأستاذ أبو سعيد: وفي معناه قولان:
أحدهما: ما حكاه ابن أبي زيد عن بعض شيوخه، يعني، تبسط أجنحتها بالدعاء للطالب بدلا عن الأيدي.
الثاني: أن المراد تحف به وتظله برا به، ورحمة له، وعطفا عليه، [يدل عليه] (5) ما (6) أخرجه أبو عمر من [حديث] (7) صفوان بن عسال، قال فيه صلى الله عليه وسلم:
__________
هو عويمر الأنصاري، مشهور بكنيته (ت: 32هـ 652م). روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن زيد بن ثابت، وعائشة، ولاه معاوية قضاء دمشق في خلافة عمر. انظر الإصابة: 3/ 4645.
(1) انظر: جامع العلم: 1/ 35.
(2) هو صفوان بن عسال بمهملتين المرادي من بني زاهر، يقال: إنه روى عنه من الصحابة عبد الله بن مسعود، كما روى عنه زر بن حبيش، وعبد الله بن سلمة وغيرهما. انظر:
الإصابة: 2/ 189.
(3) انظر جامع العلم: 1/ 3332.
(4) مخ الذخيرة: 1/ 7.
(5) ساقط من «ج».
(6) في «ج»: (وفي ما).
(7) بتر في «ج» من قوله: من حديث إلى قوله: فوائد ذكرها القرافي.(1/200)
«إن طالب العلم لتحف به الملائكة وتظله بأجنحتها فيركب بعضها بعضا حتى يبلغوا (1) السماء الدنيا من حبهم لما يطلب» (2).
قلت: نص ما ذكر عن زرّ بن حبيش (3) قال: «جاء رجل من [مراد] (4)
يقال له: صفوان بن عسال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد متكىء على برد له أحمر، قال: قلت: يا رسول الله، إني جئت أطلب العلم، قال: «مرحبا بطالب العلم، إن طالب العلم لتحف به الملائكة وتظله بأجنحتها فيركب بعضها بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من حبهم لما يطلب»» (5).
قال المنذري (6): رواه أحمد (7) والطبراني بإسناد جيد، واللفظ له، وابن حبان (8) في صحيحه، والحاكم (9) وقال: صحيح الإسناد (10).
__________
(1) في جامع العلم 1/ 32: حتى تعلو إلى السماء
(2) انظر: م. س: 1/ 32.
(3) زر بن حبيش بن أوس الأسدي. ت: 83هـ 702م. أحد التابعين. أدرك الجاهلية والإسلام، لم ير النبي صلى الله عليه وسلم وكان ابن مسعود يسأله عن العربية، انظر الإصابة: 1/ 577، والاستيعاب: 1/ 589588.
(4) مراد: من قبائل اليمن، تقع مساكنها إلى الغرب الجنوبي من مأرب. انظر معجم قبائل العرب:
3/ 10661065.
(5) انظر: جامع العلم: 1/ 32.
(6) هو عبد العظيم بن عبد القوي المنذري الشافعي زكي الدين أبو محمد. ت: 656هـ 1258م.
محدث، حافظ، فقيه، مشارك في القراءات واللغة والتاريخ. من تصانيفه: «الترغيب والترهيب» و «كفاية المتعبد» انظر: طبقات الشافعية: 8/ 277259.
(7) هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الذهلي الشيباني المروزي، ثم البغدادي أبو عبد الله. ت:
241 - هـ 855م. صاحب المذهب الحنبلي، قال عنه الشافعي: خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلا أفضل، ولا أعلم من ابن حنبل. من تصانيفه: «كتاب الزهد»، و «المسند» يحتوي على نيف وأربعين ألف حديث وغيرهما. انظر: التذكرة: 2/ 432431.
(8) هو الحافظ الإمام أبو حاتم بن حبّان التميمي البستي. ت: 354هـ 965م. كان من فقهاء الدين، وحفاظ الآثار، عالما بالطب، والنجوم وفنون العلم. صنف المسند الصحيح، والتاريخ، وكتاب الضعفاء. انظر: التذكرة: 3/ 924920.
(9) هو الحافظ الكبير إمام المحدثين محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري أبو عبد الله الشافعي. ت: 405هـ 1014م. محدث، حافظ، مؤرخ، من تصانيفه: «المستدرك» و «تاريخ نيسابور»، و «الإكليل في الحديث» و «فضائل فاطمة الزهراء»، انظر تاريخ بغداد: 5/ 474473.
(10) انظر الترغيب: 1/ 9695.(1/201)
قلت: وزاد ابن العربي وجوها أخر في تأويل وضع الملائكة أجنحتها لطالب العلم.
«أحدها: أنها تتخاشع لعلمه ولفضله.
الثاني: ترفق به.
الثالث: تقف عنده لا تتجاوزه، ولا تتحرك إلى غيره، لأنها طالبة للخير أبدا، فإذا وجدته لزمته.
الرابع: تحمله عليها، فينال مطلوبه بتيسير الله على يديها» (1).
فائدة:
قال صاحب «الإخبار بفوائد الأخبار» (2): «إنما تفعل هذا الملائكة لأهل العلم، خاصة دون سائر [عباد] (3) الله، لأن الله تعالى ألزمها التواضع لآدم عليه السلام حتى تصاغرت 36ظ / له، وسجدت له خضعا متواضعين، فتأدبت بذلك الأدب، فكلما ظهر لها علم في بشر خضعت له، وتواضعت، وتذللت إعظاما للعلم وأهله. ورضى منهم بالطلب له، والشغل به. هذا في الطلاب منهم، فكيف بالأحبار فيهم الربانيين منهم! جعلنا الله منهم وفيهم. «إنّه ذو فضل عظيم» (4) انتهى ملخصا.
تعجيل كرامة:
إذا ثبتت لطالب العلم هذه المنزلة العظيمة الشأن، قال القرافي: «ينبغي لكل أحد من الملوك فمن دونهم أن يتواضعوا لطالب العلم اتباعا لملائكة الله، وخاصة ملكه» (5).
__________
(1) انظر العارضة: 10/ 117.
(2) هو للشيخ أبي بكر محمد بن إبراهيم بن يعقوب، شرح فيه مائة وثلاثين حديثا. انظر كشف الظنون: 1/ 31.
(3) في الأصول: عمال.
(4) تضمين للآية الكريمة: {وَاللََّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} سورة البقرة، الآية: 105.
(5) انظر: مخ الذخيرة: 1/ 7.(1/202)
الفضيلة الثالثة:
أن العالم به يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر.
«ففي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء» (1).
وخرج الشيخ أبو عمر عن أبي أمامة (2) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته، وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر، ليصلون على معلم الناس الخير» (3).
وخرج عن ابن عباس رضي الله عنه قال: معلم الخير يستغفر له، أو يشفع له كل شيء حتى الحوت في البحر.
وخرج عنه قال: معلم الخير تصلي عليه دواب الأرض حتى الحوت في البحر (4).
وخرج عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علماء هذه الأمة رجلان: فرجل أعطاه الله علما، فبذله للناس، ولم يأخذ عليه صفدا (5)، ولم يشتر به ثمنا أولئك يصلي عليهم طير السماء، وحيتان البحر، ودواب الأرض، والكرام الكاتبون، ورجل آتاه الله علما فضن به عن عباده، وأخذ به صفدا، واشترى به ثمنا، فذلك يأتي يوم القيامة ملجما بلجام من نار» 37و / (6).
قلت: الصفد هنا: العطاء، والصفد: الوثاق. قاله الجوهري.
__________
(1) انظر جامع العلم. باب ذكر حديث أبي الدرداء: 1/ 3833.
(2) هو أسعد بن زرارة بن عدس، يكنى أبا أمامة الأنصاري الخزرجي النجاري، قديم الإسلام، شهد العقبتين، وكان نقيبا على قبيلته. اتفق أهل المغازي والتواريخ على أنه مات في حياة النبي قبل بدر. وذكر الواقدي: أنه مات على رأس تسعة أشهر من الهجرة. انظر: الإصابة: 1/ 34 35.
(3) انظر جامع العلم: 1/ 38.
(4) انظر جامع العلم: 1/ 38.
(5) الصفد: العطاء أو الجزاء.
(6) انظر م. س: 1/ 38.(1/203)
تفسير:
قال ابن العربي: «استغفار الحيوان في البحر له قيل: «حقيقة»، وأنها مسخرة لذلك من الله تعالى: لا بمعنى: «كأن من طلب العلم إليها». وقيل:
مجاز، كما قال: «من بنى لله مسجدا ولو مثل مفحص (1) قطاة» ولا يتصور مسجد على ذلك القدر، ولكنه ضرب المثل فيهما على تقدير الوجود لا على الحقيقة» (2).
قلت: ولا خفاء أن استغفار الملائكة على الحقيقة، ومرجعه إلى الدعاء ظاهر، واغتنامه بوسيلة الاشتغال بالعلم لا يتكاسل عنه إلا من لم يقدّر قدر المنة به، والهداية إليه، ومن هناك قال القرافي:
«أحدنا يسافر البلاد البعيدة للرجل الصالح، لعله يدعو له، فما ظنك بدعاء قوم، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، فيا حبذا هذه النعمة» (3) اه.
مزيد فائدة:
قرر ابن الحاج (4) «حكمة بكاء كل الخلق عند موت العالم، وهو معنى الاستغفار له فإن العالم تعدى نفعه للثقلين جنهم وإنسهم، مؤمنهم، وكافرهم، ثم تعدى لسائر المخلوقات، لتعلمه حكم الله تعالى في الجميع، وتعليمه ذلك.
كقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة». كان حقيقا بذلك» (5).
قال إثر إشارته لهذا الأثر العظيم: «ولهذا المعنى الذي ينتفع به الخلق كلهم، كان العالم إذا مات بكى عليه كل الخلق حتى الطير في الهواء، والسمك
__________
(1) مفحص القطاة: مجثمها.
(2) انظر العارضة: 10/ 118.
(3) مخ الذخيرة: 1/ 7.
(4) هو أبو عبد الله محمد بن محمد العبدري الفاسي المالكي الشهير بابن الحاج. ت: 737هـ 1336م. نزيل مصر. كان فقيها مشاركا في بعض العلوم. كف بصره في آخر عمره. من آثاره:
«المدخل». انظر «الديباج»، 2/ 322321.
(5) انظر المدخل: 1/ 89.(1/204)
في الماء لانتفاعهم به في تبيين الأحكام عليهم، فيرتفع عنهم العذاب لأجل علمه، لأن التصرف فيهم بالجهل عذاب لهم، نهى عليه الصلاة والسلام أن تصبر بهيمة أو غيرها للقتل، ونهى أن يحرق بالنار أحد وإنّ الله ليسأل العود لم خدش العود؟ إلى غير ذلك، وهو كثير» (1) 37ظ /.
الفضيلة الرابعة:
إن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وكفضل النبي صلى الله عليه وسلم على أمته.
ففي حديث أبي داود «المتقدم» (2) أن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.
وخرج الشيخ أبو عمر عن أبي سعيد الخدري (3) رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي» (4).
فوائد:
ذكرها القرافي في التشبيه [بالبدر] (5).
«الفائدة الأولى:
أن العالم يكمل بمقدار اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الشمس لقوله تعالى: {وَجَعَلْنََا سِرََاجاً وَهََّاجاً} (6).
ولما كان القمر يستفيد ضوءه من الشمس، وكلما كثر توجهه إليها، كثر
__________
(1) انظر م. س: 1/ 89.
(2) انظر ص: 35ظ من مخ «أ». ص: 198197من هذا الكتاب.
(3) هو سعد بن مالك بن سنان الخدري الأنصاري الخزرجي. ت: 74هـ 693م. أحد الصحابة الأجلاء الذين رووا أحاديث كثيرة عن الرسول. انظر: التذكرة 1/ 44.
(4) انظر: جامع العلم: 1/ 21.
(5) في «ج»: بالدر.
(6) سورة النبأ، الآية: 13. و «وهّاجا»: «متلألئا وقادا»: وتوهجت النار: إذا تلظت، فتوهجت بضوئها وحرها. انظر تفسير الزمخشري: 4/ 686.(1/205)
ضوءه حتى يصير بدرا. فكذلك العالم كلما كثر توجهه للنبي صلى الله عليه وسلم وإقباله عليه توفر كماله.
الفائدة الثانية:
إن العالم إذا أعرض عن النبي صلى الله عليه وسلم بكليته كسف باله، وفسد حاله، كما أن القمر إذا حيل بينه وبين الشمس كسف خلافا لمن يقول: إن العلوم تتلقى بالتوجه، ولا يحتاج فيها إلى النبوة» (1).
قلت وما أحسن قول ابن حزم في هذا المعنى: «من أراد خير الدنيا والآخرة، وحكمة الدنيا، وعدل السيرة، والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها، واستحقاق الفضائل بأسرها فليقتد بمحمد صلى الله عليه وسلم وليستعمل أخلاقه وسيره ما أمكنه، أعاننا الله على الائتساء به بمنه آمين» (2).
«الفائدة الثالثة:
أن الكوكب مع البدر كالمطموس الذي لا أثر له، وضوء البدر عظيم المنفعة، منتشر الأضواء، منبعث الأشعة 38و / في الأقطار برا وبحرا، وهذا هو شأن العالم.
وأما العابد فكالكوكب حينئذ لا يتعدى نوره محله، ولا يصل نفعه إلى غيره» (3).
قلت: وقد ذكروا باعتبار آخر أن العلماء يشبهون بالنجوم [كالذي يروى في جانب الصحابة الكرام «أصحابي كالنجوم» (4).
__________
(1) مخ الذخيرة: 1/ 7.
(2) انظر رسائل ابن حزم: 1/ 345.
(3) مخ الذخيرة: 1/ 87.
(4) إشارة إلى حديث: «إنما مثل أصحابي كمثل النجوم، وأصحابي كالنجوم فبأيها اقتدوا اهتدوا»، وعد البزار هذا الحديث مما لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن ضعفه من قبل عبد الرحمن بن زيد.
لأن أهل العلم قد سكتوا عن الرواية لحديثه. انظر جامع العلم: 2/ 90.(1/206)
وما رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم] (1) يهتدى بها في ظلمة البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضلّ الهداة» (2).
وفي ذلك على حسب هذا المنزع الذي أشار إليه القرافي، فوائد:
«الفائدة الأولى:
أنّ من حكمة خلق النجوم ما تضمنه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهََا فِي ظُلُمََاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (3).
وكذلك العلماء [جعلهم الله تعالى في الأرض] (4) يهتدى بهم في بر الدين، وبحر الدنيا. قال ابن العربي على طريق الإشارة: «لأن المعنى في ذلك موجود في العلماء بالاهتداء من ظلم الشبهات في الدنيا، والنجاة من سوء المعتقدات في أمر الدين في الأخرى».
الفائدة الثانية:
أنّ من وجوه العناية في إيجادها أيضا ما أفاده قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمََاءَ الدُّنْيََا بِمَصََابِيحَ وَجَعَلْنََاهََا رُجُوماً لِلشَّيََاطِينِ} (5).
وفي الحديث: «خلق الله النجوم لثلاثة: زينة للسماء، ورجوم للشياطين، وعلامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر».
فكذلك العلماء جعلهم الله موجودا فيهم ذلك المعنى.
قال ابن العربي: «فالعلماء زينة الأرض، وزينة العباد والبلاد، وزينة
__________
(1) ما بين المعقوفتين ساقط من «ج».
(2) انظر الترغيب: 1/ 101100. وقال في روايته: رواه الإمام أحمد عن أبي حفص صاحب أنس عنه
(3) سورة الأنعام، الآية: 97.
(4) ما بين المعقوفتين ساقط من «ج».
(5) سورة الملك، الآية: 5.(1/207)
الشرق والغرب، وزينة المحافل، وزينة المراتب والمراكب، وزينة المجالس والمدارس، وزينة المحابر والأقلام، وزينة الدنيا والعقبى، وزينة جنة المأوى، وهم 38ظ / زينة الكراسي، وهم الجبال الرواسي.
قال: والعلماء حراس الدين والشريعة، يدفعون عنها الأهواء والبدع.
وفي الحديث: «إن لله تعالى عند كل بدعة يكاد بها الإسلام وليا يذبّ عنها»».
الفائدة الثالثة:
أنّ النجوم إذا طمست يوشك أن تضل الهداة، كذلك العالم إذا مات انثلم الدين ثلمة لا يخلفها العمر.
وفيما يروى عن مجاهد في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنََّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهََا مِنْ أَطْرََافِهََا} (1) قال: موت العلماء والفقهاء.
ومن كلام بعضهم: «العجائب عامة، وفي آخر الزمان أعم، والنوائب طامة، وفي أمر الدين أطم، والمصائب عظيمة وموت العلماء أعظم إن العالم حياته للأمة رحمة، وموته في الإسلام ثلمة».
«وعن المأمون أنه قال لعلي بن موسى الرضا (2): أي رزية أعظم وأجل؟
قال: موت العلماء، فإنما هو قبس حياة طفئت، ومشكاة ضوء سدت، وأجنحة فوائد قصت».
«وعن بعض العلماء قال: موت الشقيق موت الأعضاء، وموت الصديق موت الجسد، وموت العالم موت الروح، فإذا ذهب الشقيق فجزع، وإذا هلك الصديق فهلع، وإذا مات العالم فجائحة مستأصلة».
__________
(1) سورة الرعد، الآية: 41.
(2) علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق أبو الحسن. ت: 203هـ 818م. أحد أئمة الاثني عشرية عند الإمامية. أحبه المأمون العباسي، فعهد إليه بالخلافة من بعده وزوجه ابنته، وضرب اسمه على الدينار والدرهم. وغير من أجله الزي العباسي الذي هو السواد فجعله أخضر، من تصانيفه: «مسند في فضل أهل البيت». جامع كرامات الأولياء: 313311.(1/208)
عاطفة:
مع ظهور منفعة القمر في العالم، فقد حكي عن بعض المشعوذين: «أنه نام ليلة لنور القمر، فتصدع رأسه، فقام ورفع عينيه نحو القمر وقال: يا مصدع الرؤوس، ويا مكدر النفوس، ويا مقرب الآجال، ويا قاطع الآمال، ويا محل الديون، أية منفعة فيك، أو لأي شيء تصلح؟ تالله لا تصلح إلا لإصلاح القثاء، واليقطين، فلا كان القثاء، ولا كان اليقطين».
قال صاحب «مقامع الصلبان» (1): «فأراد هذا 39و / المشعوذ حين أوجع رأسه القمر، أن يجحد منافعه المعلومة في هذا العالم، ثم أوجب له منها أضعف ما وجد، ليوهم الجاهل، أنه لو علم فضيلة سوى ذلك لذكرها» اه.
ومثله حكى الإمام فخر الدين: «أنه كان في قوم من العرب من يقول:
القمر يقرب الآجل، ويفضح السارق، ويدرك الهارب، ويهتك العاشق، ويهزم الشباب، ويبلي الثياب، وينسي ذكر الأحباب، ويقرب الدين، ويدني الحين» (2).
قال قبل هذا: «وفيه الإقرار بمحض الحق: جعل الله تعالى، طلوع القمر، وغيبته مصلحة، وجعل طلوعه في وقت، وغروبه في وقت آخر مصلحة، أما غروبه ففيه نفع لمن هرب من عدوه، فستره الليل وأخفاه، ولولا الظلام لأدركه العدو، وهو المراد بقول المتنبي (3):
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبّر أن المانوية تكذب
__________
(1) المعروف عندنا هو: «كتاب مقامع الصلبان»: لمؤلفه أحمد بن عبد الصمد الخزرجي. ت:
582 - هـ 1186م، الذي حققه وقدم له: «عبد المجيد الشرفي»، ونشر ضمن سلسلة الدراسات الإسلامية الجامعة التونسية يونيو 1975.
والنص الذي أورده «ابن الأزرق» هنا غير وارد في هذا الكتاب، ولعله يقصد كتابا آخر.
(2) التفسير للرازي: 2/ 109108.
(3) البيت من قصيدة له يمدح بها سيف الدولة الحمداني، مطلعها:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر، والوصل أعجب
انظر الديوان: 1/ 178.(1/209)
وأما طلوعه، ففيه نفع لمن ضل عنه شيء أخفاه الظلام، وأظهره القمر» (1).
قال: «ومن الحكايات، أن أعرابيا نام عن جمل له ليلا، ففقده، فلما طلع القمر وجده، فنظر إلى القمر وقال: إن الله صورك ونورك، وعلى البروج دورك، فإذا شاء نورك، وإذا شاء كورك، فلا أعلم مزيدا أسأله لك، ولئن أهديت إلي سرورا، لقد أهدى الله لك نورا، ثم أنشأ يقول:
ماذا أقول وقولي فيك ذو قصر (2) ... وقد كفيتني التفصيل والجملا
إن قلت لا زلت مرفوعا فأنت كذا ... أو قلت زانك ربي، فهو قد فعلا» (3)
قلت: ومثل الجحد لتلك الفضيلة على وضوح أثرها في الوجود، عرض للجهال مع العلماء، فإن مقتضى عداوة جهلهم أن يجحدوا فضيلة العلم على ما تقدم 39ظ / في كلام الماوردي (4)، وذلك من جملة المناسبات في تشبيه العلماء بالقمر، وسائر الأنجم الزاهرة.
الفضيلة الخامسة:
أنه يحظى صاحبه بوراثة الأنبياء، وينزله في تبليغ الشرائع منزلتهم، وإنها لرتبة لا توازى ومزية لا تقابل بمثلها.
ففي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: «وأن العلماء ورثة الأنبياء، لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، من أخذه أخذ بحظ وافر».
ونص الحديث الجامع لهذه الفضائل عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع،
__________
(1) تفسير الرازي: 2/ 108.
(2) القصر: التقصير والكسل.
(3) تفسير الرازي: 2/ 108. وانظر «حدائق الأزاهر» لابن عاصم الأندلسي ص: 402مع بعض اختصار.
(4) انظر ص: 29و / من مخ «أ». ص: 178من هذا الكتاب.(1/210)
وإن العالم ليستغفر له من في السماوات، ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.
وإنّ العلماء هم ورثة الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» اه (1).
وقبله في بعض الروايات عن الشيخ أبي عمر [وغيره] (2) «عن جميل بن قيس، أن رجلا جاء من المدينة إلى أبي الدرداء، وهو بدمشق، فسأله عن حديث، فقال له أبو الدرداء: ما جاءت بك حاجة، ولا جئت في طلب التجارة، ولا جئت إلا في طلب الحديث؟ فقال الرجل: بلى. فقال له أبو الدرداء: أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وذكر الحديث» (3).
وفي معنى ما دل عليه من هذه الوراثة «ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه مر بسوق «المدينة» فوقف عليها. فقال: يا أهل السوق، ما أعجزكم؟
قالوا وما 40و / ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم وأنتم هاهنا، ألا تذهبوا فتأخذوا نصيبكم منه. قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد، فخرجوا سراعا، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا:
يا أبا هريرة، قد أتينا المسجد، فدخلنا فيه، فلم نر فيه شيئا يقسم. فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحدا؟ قالوا: بلى، رأينا قوما يصلون، وقوما يقرأون القرآن، وقوما يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: ويحكم، فذلك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم».
قال المنذري: «رواه الطبراني في «الأوسط» بإسناد حسن» (4).
منزلة:
إذا ثبت للعالم اختصاصه بهذا الإرث فهو كما قال القرافي: «ينقل عن
__________
(1) انظر جامع العلم 1/ 3635.
(2) ساقط من «أ».
(3) م. س: 1/ 3534.
(4) الترغيب: 1/ 103102.(1/211)
الحق إلى الخلق. فيقول: إن الله تعالى حرم عليكم كذا، وأوجب عليكم كذا، وأذن لكم في كذا، وأمركم بتقديم كذا وتأخير كذا، فهو القائم بأمر الله تعالى في خلقه، وموصله إلى مستحقه، والدافع عنه تحريف المحرفين، وتبديل المبدلين، وشبه المبطلين، وهذا هو معنى مقام المرسلين» (1).
قلت: هو معنى قولهم: المفتي موقّع (2) عن الله.
ومن المروي عن سهل بن عبد الله التّستري (3) في معناه، ذكره «ابن الجوزي» في ترجمته من «الصفوة» (4): «من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء، يجيء الرجل فيقول: يا فلان، أي شيء تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا؟ فيقول: طلقت امرأته، ويأتي (5) آخر فيقول:
ما تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا؟ فيقول: ليس يحنث بهذا القول، وليس هذا إلا لنبي أو لعالم. فاعرفوا لهم ذلك».
تنبيه على حفظ رتبة:
قال القرافي: «ولهذا يعني ما تقدم من قيام العالم مقام المرسلين 40ظ / ينبغي لطالب العلم أن يتصور نفسه في هذا المقام، ويعاملها بما [يليق] (6)
بها من الاحترام، فإن الرسول إذا ورد من عند ملك عظيم، قبح عليه أن يمشي إلى بيوت الأمراء، أو في الأسواق أو يتقاصر عن مكارم الأخلاق صونا لتعظيم مرسله، وهذا معلوم في العوائد» (7).
__________
(1) مخ الذخيرة: 1/ 98.
(2) الموقع: المراد به ناقل الحكم الشرعي استنادا على نص أو اجتهاد، ولهذا سمى الإمام ابن القيم كتابه: «أعلام الموقعين».
(3) ت: 283هـ 896م وقيل 273هـ صوفي، مشارك في أنواع من العلوم، ولد في «تستر» بالأهواز.
من تصانيفه: «رقائق المحبين» و «مواعظ العارفين» و «قصص الأنبياء». انظر الصفوة: 4/ 64 66، والتذكرة: 2/ 757.
(4) انظر: 4/ 6665.
(5) في م. س: 4/ 66: ويجيء.
(6) في «ج»: يبين.
(7) مخ الذخيرة: 1/ 9.(1/212)
قال: «فكذلك طالب العلم، ينبغي له أن يبعد نفسه عن الدناءات، بل عن كثير من المباحات، صونا لشرف منصبه، وتعزيزا لثمرات مطلبه» (1).
قلت: سيأتي إن شاء الله في خاتمة الكتاب، ما يتضح به تخلق طالب العلم بمقتضى هذا الأدب وغيره. لكن ننبه هنا على أمرين:
أحدهما: حسن القيام بشكر هذه النعمة.
فقد قال: «صاحب الأنوار» حكاه ابن الحاج: «خص الله العلماء بفضيلة لا يشركهم فيها غيرهم، لأن الله عز وجل يعبد بفتواهم، [ويعرف] (2) حلاله وحرامه بهم غير أنهم مطالبون بشكر النعمة، مدافعون لوجود كل فتنة ومحنة وحادثة وبدعة» (3).
الثاني: توقي المخالفات وخصوصا البدع.
فقد قال ابن الحاج إثر تقريره لهذه الرتبة مع اقتضائها للمؤاخذة بما لا يؤاخذ به غيرهم: «وإذا كان كذلك، فينبغي للعالم أو يجب عليه بحسب حاله أن يتحفظ على هذا المنصب الشريف من أن [يدنسه] (4) في مخالفة، أو بدعة يتأولها، أو يبيحها أو يسهو عن سنة، أو يغفل عنها، أو يترك بدعة مع رؤيتها بسبب الغفلة عنها، أو يمر عليه مجلس من مجالس علمه، لا يحض فيه على السنة، ولا يأمر فيه باجتناب بدعة، لأنه على هذا انعقدت مجالس الفقهاء المتقدمين» (5).
الفضيلة السادسة:
أنّه أفضل العبادات بإطلاق حتى الصلاة والجهاد.
أما ما يدل على أنه أفضل العبادات بإطلاق، فعلى وجوه:
__________
(1) م. س: 1/ 9.
(2) في «أ» و «ج»: يعرفهم.
(3) المدخل: 1/ 68.
(4) غير واضحة في «ج».
(5) م. س: 1/ 70.(1/213)
أحدها: ما ورد دليلا على ذلك الفضل 41و / من غير تعيين مقدار، أو بمقدار لا يعلمه على الحقيقة إلا الله تعالى.
فعن عبد الله بن عمرو (1) رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قليل العلم خير من كثير العبادة، وكفى بالمرء علما إذا عبد الله، وكفى بالمرء جهلا إذا أعجب برأيه، إنما الناس رجلان، عالم وجاهل، فلا تمار العالم، ولا تحاور الجاهل» (2).
وعن عمرو بن قيس الملائي (3) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العلم خير من فضل العبادة، وملاك الدين الورع» (4).
رواهما الشيخ أبو عمر وغيره.
وأسند عن قتادة (5) قال: «باب من العلم يحفظه الرجل لصلاح نفسه، وصلاح من بعده أفضل من عبادة حول» (6).
وعن مطرف (7) قال: «فضل العلم أعجب إلي من فضل العبادة» (8).
وروى الطبراني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال
__________
(1) عبد الله بن عمرو بن العاص أسلم قبل أبيه عمرو بن العاص. اختلف في سنة وفاته، فالواقدي يذكر أنه ت: 65هـ. وحكى البخاري أنه ت: 69هـ. انظر: الإصابة 2/ 352351.
والاستيعاب: 2/ 349346.
(2) جامع العلم: 1/ 21.
(3) الملائي: بضم الميم وتخفيف اللام والمد، أبو عبد الله الكوفي. ت: 146هـ 802م. ثقة، متعبد، من أهل العلم وأفاضلهم. كان الثوري يتبرك به. انظر: الحلية: 5/ 108100، والتهذيب: 8/ 9392.
(4) جامع العلم 1/ 22.
(5) قتادة بن دعامة السدوسي التابعي، سمع أنس بن مالك، وابن سيرين، وعكرمة، وروى عنه سليمان التيمي، والأوزاعي، وشعبة. انظر التذكرة: 1/ 122.
(6) جامع العلم: 1/ 23.
(7) هو مطرف بن عبد الله بن الشخير أبو عبد الله الحرشي البصري. ت: 95هـ 713م. كان رأسا في العلم والعمل. حدث عن أبيه وعن علي، وعمار، وعمران بن الحصين من الصحابة وروى عنه قتادة وغيره. انظر: التذكرة 1/ 60.
(8) جامع العلم: 1/ 24.(1/214)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اكتسب مكتسب مثل فضل علم، يهدي صاحبه إلى هدى، أو يرده عن ردى، وما استقام دينه، حتى يستقيم [عمله] (1)» (2).
وروى الشيخ أبو عمر عن وكيع (3) قال: «سمعت سفيان الثوري (4) يقول:
لا أعلم من العبادة شيئا أفضل من أن تعلم الناس العلم» (5).
وخرج الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان، أحدهما: عابد، والآخر عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير». قال: حديث حسن صحيح (6).
الثاني: ما روي مصرحا بتعيين درجات فضله.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فضل المؤمن 41ظ / العالم على المؤمن العابد سبعون درجة» (7).
ومن معنى هذا ما ذكره أبو عمر عن محمد بن علي بن حسين (8) قال:
«عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد» (9).
__________
(1) في «أ» و «ج»: عقله.
(2) انظر: الترغيب: 1/ 97. والطبراني في «المعجم الصغير»: 1/ 241.
(3) وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي أبو سفيان. ت: 196هـ 811م. حافظ للحديث، ثبت، كان محدث العراق في عصره من كتبه: «تفسير القرآن». و «السنن» و «المعرفة» انظر «التهذيب»: 11/ 131123.
(4) هو الإمام أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري الكوفي. ت: 161هـ 777م. قال القطان: ما رأيت أحفظ منه، كنت إذا سألته عن مسألة أو عن حديث ليس عنده اشتد عليه. الحلية: 6/ 356هـ 393، والتذكرة: 1/ 207203.
(5) جامع العلم: 1/ 25.
(6) انظر سنن الترمذي: 4/ 154، والترغيب: 1/ 101.
(7) جامع العلم: 1/ 22.
(8) هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو جعفر الباقر. ت: 128هـ 745م. من التابعين، وأحد فقهاء المدينة. انظر الحلية: 3/ 192180.
(9) جامع العلم: 1/ 27.(1/215)
قال: وعن جعفر بن محمد (1): «رواية الحديث، وبثّه في الناس أفضل من عبادة ألف عابد» (2).
الثالث: ما جاء مخبرا عن شدة أمر العالم على الشيطان وفرحه بموته، ما لا يفرح عن موت العابد.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد» رواه الترمذي وغيره (3).
قال أبو عمر: وروى يزيد بن هارون، ثم ذكر سنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل شيء عماد، وعماد هذا الدين الفقه، وما عبد الله بشيء أفضل من فقه في الدين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد» (4).
قال: وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لموت ألف عابد قائم الليل، صائم النهار أهون من موت العاقل البصير بحلال الله وحرامه» (5).
وقال جعفر بن محمد: «ما موت أحد أحب إلى إبليس من موت فقيه».
قال: «وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن الشياطين قالوا لإبليس: يا سيدنا ما لنا نراك تفرح بموت العالم ما لا تفرح بموت العابد، قال: انطلقوا فانطلقوا إلى عابد قائم يصلي فقالوا له: [إنا] (6) نريد أن نسألك، فانصرف. فقال له إبليس: هل يقدر ربك أن يجعل الدنيا في جوف بيضة؟
فقال: لا. فقال: أترونه كفر في ساعة، ثم جاء إلى عالم في حلقة يضاحك
__________
(1) جعفر بن محمد الباقر زين العابدين بن الحسين السبط، الهاشمي، القرشي، الملقب بالصادق «أبو عبد الله». ت: 148هـ 765م. سادس الأئمة الاثني عشر عند الإمامية. أخذ عنه جماعة منهم: أبو حنيفة ومالك. له رسائل مجموعة في كتاب. انظر الحلية: 3/ 207192.
(2) جامع العلم: 1/ 27.
(3) سنن الترمذي: 4/ 153. وقال عنه: هذا حديث غريب ولا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث الوليد بن مسلم. وانظر أيضا الترغيب: 1/ 102.
(4) جامع العلم: 1/ 216.
(5) جامع العلم: 1/ 216.
(6) في «ج»: إلا.(1/216)
أصحابه ويحدثهم. فقال إنا نريد أن نسألك. فقال: هل يقدر ربك أن يجعل الدنيا في جوف بيضة؟ قال: نعم. قال: وكيف ذلك؟ قال: يقول لذلك إذا أراده 42و / كن فيكون. فقال إبليس: أترون ذلك لا يعدو نفسه، وهذا يفسد عليّ عالما كثيرا» (1).
وأما ما يدل على أنه أفضل من الصلاة:
فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر لأن تغدو فتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة، ولأن تغدو فتعلم بابا من العلم عمل به، أو لم يعمل به خير من أن تصلي ألف ركعة».
قال المنذري: «رواه ابن ماجه بإسناد حسن» (2).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «تذاكر العلم بعض ليلة، أحب إلي من إحيائها» (3).
قال إسحاق بن منصور (4) فيما ذكره الشيخ أبو عمر «قلت لأحمد بن حنبل: قوله: «تذاكر العلم بعض ليلة أحب إلي من إحيائها»، أي علم أراد؟
قال: هو العلم الذي ينتفع به الناس في أمر دينهم، قلت: في الوضوء، والصلاة، والصوم، والحج، والطلاق، ونحو هذا؟! قال: نعم.
قال إسحاق بن منصور: وقال لي إسحاق بن راهويه (5): هو كما قال لي أحمد» (6).
__________
(1) جامع العلم: 1/ 216.
(2) الترغيب 1/ 97.
(3) جامع العلم: 1/ 24.
(4) إسحاق بن منصور بن بهرام المروزي، أبو يعقوب. ت: 251هـ 865م. ولد بمرو ورحل إلى العراق، والحجاز، والشام، واستوطن نيسابور، وبها مات، كان عالما فقيها، ثقة، مأمونا، وهو الذي دون عن أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، المسائل في الفقه / تاريخ بغداد: 6/ 364362.
(5) هو أبو يعقوب إسحاق بن أبي الحسن الحنظلي المروزي. ت: 238هـ 852م المعروف بابن راهويه، جمع بين الفقه، والحديث، والورع. كان من أصحاب الشافعي، وله مسند مشهور.
الوفيات: 1/ 201199.
(6) جامع العلم: 1/ 24.(1/217)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لأن أجلس ساعة، فأفقه في ديني أحب إلي من أن أحيي ليلة إلى الصباح.
قال أبو عمر: رواه يزيد بن هارون» (1).
قال: وسئل المعافي بن عمران (2): «أي شيء أحب إليك، أن أصلي أو أن أكتب الحديث؟ قال: كتاب حديث واحد، أحب إلي من صلاة ليلة» (3).
وذكر الشيخ أبو عمر الطلمنكي (4) «عن أبي هريرة، وأبي ذر رضي الله عنهما قال: باب من العلم تتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوعا» (5).
وقالا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جاء الموت طالب العلم وهو على هذه الحال، مات وهو شهيد» (6).
سؤال:
ظاهر هذه الآثار يعارضه قوله 42ظ / صلى الله عليه وسلم، وقد سئل عن أفضل الأعمال:
«الصلاة لأوّل ميقاتها».
جوابه:
إن ذلك إنما هو في الفرائض.
__________
(1) جامع العلم: 1/ 24.
(2) المعافي بن عمران الأزدي أبو مسعود، الفقيه الزاهد، رحل في طلب العلم إلى الآفاق، وجالس العلماء، ولزم الثوري، وتأدب بآدابه، وتفقه به، وصنف حديثه في السنن. / اختلف في سنة وفاته ما بين 204هـ و 185هـ و 186هـ / التهذيب: 10/ 200199.
(3) جامع العلم 1/ 24.
(4) هو أحمد بن محمد المعافري الأندلسي الطلمنكي نسبة إلى طلمنكة من ثغر الأندلس الشرقي ت: 429هـ 1038م محدث، مقرىء، نحوي، لغوي، مشارك في علوم عدة. من مصنفاته:
«فضائل مالك»، و «رجال الموطأ»، و «كتاب في تفسير القرآن». انظر الصلة: 4544، والديباج: 1/ 180178.
(5) انظر جامع: 1/ 25.
(6) انظر جامع: 1/ 25.(1/218)
قال ابن رشد (1): «وأما النوافل فطلب العلم أفضل منها» (2).
قال: «وسئل مالك عن القوم يتذاكرون الفقه، القعود في ذلك أحب إليك أم الصلاة؟ فقال: بل الصلاة» (3).
«وروي عنه أنه قال: «إن العناية بالعلم أفضل». قال: وليس (ذلك) (4)
عندي اختلافا من قوله، لأن طلب العلم أفضل (من الصلاة) (5) لمن ترجى إمامته، والصلاة أفضل (من طلب العلم) (6) لمن ليس كذلك إذا علم ما يلزمه في خاصة نفسه، وقال سحنون (7): «يلزمه أثقلهما» (8)» انتهى ملخصا.
وأما ما يدل على أنه أفضل من الجهاد فكذلك أيضا على وجوه:
أحدها: ما نقل عن السلف الصالح أن طلب العلم جهاد في نفسه، ويزيد على الجهاد بفضائل لا يزاحمه في أدنى رتبة من رتبها.
«فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: من رأى الغدو والرواح إلى العلم ليس بجهاد فقد نقص في عقله ورأيه» (9).
«وعن بعضهم قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن الجهاد قال: ألا أدلك على خير الجهاد؟ فقلت: بلى. قال: تبني مسجدا وتعلم فيه الفرائض والسنة والفقه في الدين» (10).
__________
(1) هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الجد القرطبي المالكي. ت: 520هـ 1026م. قاضي الجماعة بقرطبة، وصاحب الصلاة بالمسجد الجامع بها، كان فقيها عالما، مقدما في الفقه على جميع أهل عصره، عارفا بالفتوى على مذهب مالك وأصحابه. من تصانيفه: «البيان والتحصيل» و «مختصر مشكل الآثار للطحاوي». و «كتاب المقدمات». انظر الصلة: 577576، والديباج:
2/ 250248.
(2) انظر «مقدمات ابن رشد»: 1/ 32.
(3) انظر «مقدمات ابن رشد»: 1/ 32.
(4) زيادة من م. س: 1/ 32.
(5) زيادة من م. س: 1/ 32.
(6) زيادة من م. س: 1/ 32.
(7) هو أبو سعيد عبد السلام بن سعيد التنوخي الحمصي الأصل، المغربي القيرواني المالكي الملقب «بسحنون». ت: 240هـ 854م. فقيه، ولي القضاء بالقيروان، وارتحل وحج، وسمع من سفيان بن عيينة وغيره، من مصنفاته: «المدونة» في الفقه المالكي، وعليها يعتمد أهل القيروان. انظر المدارك: 4/ 45، والديباج: 2/ 4030.
(8) مقدمات ابن رشد: 1/ 32.
(9) جامع العلم 1/ 3231.
(10) جامع العلم 1/ 3231.(1/219)
وعن «أبي الدرداء أيضا رضي الله عنه قال: ما من أحد يغدو إلى المسجد لخير يتعلمه أو يعلمه إلا كتب له أجر مجاهد، لا ينقلب إلا غانما» (1).
وفي «الموطأ» (2) عن أبي بكر بن عبد الرحمن (3): «من غدا أو راح إلى المسجد لا يريد غيره، ليتعلم خيرا أو يعلمه، ثم رجع إلى بيته، كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانما».
قال الأستاذ أبو سعيد (4): «وهذا المعنى أصله من الحديث المرفوع، ما خرجه الترمذي أن بعثا بعثه رسول الله صلى الله عليه 43و / وسلم قبل «نجد» فغنموا غنائم كثيرة، وأسرعوا الرجعة، فقال رجل ممن لم يخرج: ما رأينا بعثا أسرع رجعة، ولا أفضل غنيمة من هذا البعث، فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلكم على قوم أفضل غنيمة وأسرع رجعة، قوم شهدوا صلاة الصبح، ثم جلسوا يذكرون الله حتى طلعت الشمس فأولئك أسرع رجعة وأفضل غنيمة».
قال: «ومجالس العلم مجالس ذكر وزيادة» اه.
الثاني: ما ورد في الأثر صريحا في ذلك.
ففي «مختصر» (5) الشيخ عن ابن القاسم (6) قال: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) جامع العلم 1/ 3231.
(2) انظر موطأ الإمام مالك: ص 136.
(3) أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام القرشي المخزومي. قيل: اسمه محمد، وقيل:
أبو بكر وكنيته أبو عبد الرحمن. والصحيح أن اسمه وكنيته واحد. ت: 93هـ 711م. أحد أئمة المسلمين روى عن أبيه وعن أبي هريرة، وعن عائشة، وأم سلمة، وعدة كما روى عنه طائفة. منهم مجاهد، والزهري، والشعبي. انظر: «إسعاف المبطا برجال الموطأ» للسيوطي:
باب الكنى / 946.
(4) المراد: أبو سعيد فرج بن لبّ.
(5) يريد مختصر المدونة في فقه مالك لابن أبي زيد القيرواني المالكي: وهو مخطوط توجد نسخة منه بخزانة القرويين تحت رقم: 339.
(6) هو أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم العتقي. ت بمصر سنة: 191هـ 806م. أصله من مدينة الرملة بفلسطين شمال شرقي القدس وسكن مصر، كان من أصحاب مالك، جاء في «التذكرة»: 1/ 356: ابن القاسم: ثقة. رجل صالح ما أحسن حديثه، وأصحه عن مالك.
رحل إلى مالك وسمع عنه، فلم يرو أحد «الموطأ» عن «مالك» أثبت منه.(1/220)
«ما جميع أعمال البر في الجهاد إلا كبصقة في بحر، وما جميع أعمال البر والجهاد في طلب العلم إلا كبصقة في بحر» (1).
قال: وروى غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «للأنبياء على العلماء فضل درجتين، وللعلماء على الشهداء فضل درجة» (2).
قلت: وفي معناه ما رواه أبو نعيم، وغيره عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول من يشفع يوم القيامة الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء».
قال الغزالي: «وأعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوة والشهادة» (3).
الثالث: وجعله القرافي مؤيدا لما قبله، وهو ما أخبر به في ترجيح مداد العلماء على دم الشهداء يوم القيامة، وسيأتي له ذكر إن شاء الله في خاتمة الكتاب.
قال القرافي: «ومعلوم أن أعلى ما للشهيد دمه، وأدنى (4) ما للعالم مداده، فإذا رجح الأدنى على الأعلى، فما الظن بالأعلى مع الأدنى» (5) اه.
وينظر إليه قول كعب الأحبار (6): «لمداد في ثياب العلماء، أفضل من الدماء في ثياب الشهداء، فإن العلماء يبحثون على أصول الدين، والشهداء قاتلوا على فروع الدين».
تنبيه:
قال ابن 43ظ / رشد: «النص على طلب العلم أفضل من الجهاد، معناه:
__________
(1) انظر مختصر المدونة جامع في فضيلة العلم وأهله وثوابه وآدابه، وفريضة القيام به: ص 7 ومخ الذخيرة للقرافي: 1/ 8.
(2) انظر مختصر المدونة جامع في فضيلة العلم وأهله وثوابه وآدابه، وفريضة القيام به: ص 7 ومخ الذخيرة للقرافي: 1/ 8.
(3) الإحياء: 1/ 6.
(4) في مخ الذخيرة 1/ 8: أقل.
(5) انظر: م. س: 1/ 8.
(6) هو كعب بن ماتع الحميري من كبار علماء أهل الكتاب، أسلم زمن أبي بكر، وقدم من اليمن في دولة عمر بن الخطاب. فأخذ عنه الصحابة وغيرهم، وأخذ عن الصحابة الكتاب والسنة توفي في خلافة عثمان. انظر: التذكرة: 1/ 52.(1/221)
في الموضع الذي يكون الجهاد فيه فرضا على الكفاية. وأما القيام بفرضه، أو حيث يتعين، فلا شك أنه أفضل من طلب العلم، والله أعلم» (1).
اغتباط:
حكى الشيخ أبو عمر الطلمنكي عن يحيى بن يحيى (2) قال: «اجتمع [عند] (3) مالك بن أنس بالمدينة من كان بها من أهل الفقه، وغير أهل الفقه، ومن غير أهل المدينة، من أهل الأمصار [و] (4) كان عنده [طلاب] (5) لهذا الأمر في [مرضه] (6) الذي مات فيه، وأنا فيهم، فدخلنا عليه ونحن مائة وثلاثون رجلا، فسلمنا عليه، ومشى إليه كل واحد منا يقف عليه، ويريه نفسه، ويسأله عن حاله. فلما فرغنا من فعل ذاك أقبل علينا بوجهه ثم قال: «الحمد لله الذي أضحك وأبكى، والحمد لله الذي أمات وأحيا»، ثم قال: «أما أنه قد جاء أمر الله، ولا بد من لقاء الله». فقلنا له: يا أبا عبد الله كيف نجدك؟ قال: «أجدني مستبشرا بصحبتي أولياء الله، وهم أهل العلم، وليس شيء أعز على الله بعد الأنبياء منهم، ومستبشرا بطلبي هذا الأمر لأن كل عمل فرضه الله أو سنه رسوله، فقد بين ثوابه صلى الله عليه وسلم فقال: «من لزم الصلاة، وحافظ عليها فله عند الله كذا وكذا، ومن حج البيت حجة مبرورة فله عند الله كذا وكذا، ومن جاهد في سبيل الله فله كذا وكذا».
كل هذا قد عرفه من ألهمه الله طلب هذا الأمر، إلا طالب هذا الأمر
__________
(1) انظر مقدمات ابن رشد: 1/ 32.
(2) أبو محمد الليثي المصمودي الأندلسي. ت: 234هـ 848 [وقيل 233هـ] سمع مالكا والليث، وحج، وكان لقاؤه لمالك سنة 179هـ السنة التي مات فيها مالك. ثم عاد فحج، ولقي جلة أصحاب مالك، وإليه انتهت رياسة العلم بالأندلس. وكان يسميه مالك عاقل الأندلس. انظر:
الجذوة للحميدي: 384382، والمدارك: 3/ 394379، والديباج: 2/ 353352.
(3) في «ج»: عن.
(4) في «ج»: من كان.
(5) في «أ»: طالبا.
(6) في «ج»: موضعه.(1/222)
ومعلمه فلن يبلغ علم عالم أن يعلم ما لطالب هذا الأمر عند الله من الكرامة والثواب والله لأحدثنكم بحديث حدثني به ربيعة (1) ما حدثتكم به إلى وقتي هذا، سمعته يقول: والله الذي لا إله إلا هو لرجل يخطىء في صلاته، فلا يدري كيف يرقعها (2)، فيأتيني مستفتيا، فأفتيه فيها بالعلم، فأحمله على الصواب خير من أن تكون لي الدنيا [فأقربها] (3) في الآخرة، ولأحدثنكم بحديث ما حدثتكم به قبل وقتي هذا والله الذي لا إله إلا هو لست أقول بابا من العلم، ولكن أقول لكم شيئا من العلم أسمعه من العالم فيتشابه علي بعضه، فأقول في نفسي: قال لي كذا وكذا فأذكره وقد أخذت مضجعي، فأبيت متفكرا فيه حتى أصبح، فإذا أصبحت أتيته وسألته عنه، فلهمّي به خير من مائة حجة مبرورة».
وسمعت ابن شهاب غير مرة يقول: «والله الذي 44و / لا إله إلا هو لرجل يأتيني [مستفسرا] (4) لي عن شيء من دينه، فلا أسرع إليه بالجواب حتى [استفسر] (5) نفسي ثم [أحمله] (6) على السنة، أحب إلي من مائة غزوة أغزوها في سبيل الله.
فقلت لكل رجل منهما حين حدثني: هذا لكم فما للطالب؟ فكل قال لي:
هيهات انقطع العلم، نسأل الله التوفيق لنا ولكم.
قال يحيى بن يحيى: وهذا آخر حديث سمعته من مالك بن أنس» اه.
وحكي أيضا عن يحيى أنه قال: «أول حديث حدثني به الليث بن سعد (7)
__________
(1) هو أبو عثمان ابن عبد الرحمن التميمي بالولاء المديني. ت: 136هـ 753م. إمام حافظ، فقيه، مجتهد، كان بصيرا بالرأي، لذا لقب «ربيعة الرأي» وكان صاحب الفتوى بالمدينة، وبه تفقه مالك. انظر الصفوة: 2/ 8683.
(2) رقع يرقع الثوب: يصلحه.
(3) في «ج»: فإنه أقربها.
(4) في «ج»: مستبشرا.
(5) في «ج»: أستبشر.
(6) في «ج»: بما حمله.
(7) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولاهم، أبو الحرث المصري، ت: 175هـ 791م، شيخ الديار المصرية وعالمها، كان الشافعي يقول عنه: هو أفقه من مالك إلا أن أصحابه(1/223)
في أول يوم أتيته أن قال لي: ما اسمك؟ فقلت له: يحيى، متّعني الله بك. فقال لي: يا يحيى، الله الله في هذا الأمر، وسأحدثك بحديث تزداد به بصيرة.
كنا عند ابن شهاب ونحن طالبون لهذا الأمر، فقال لنا يوما: يا معشر الطلبة أراكم تزهدون في هذا الأمر، فوالله الذي لا إله إلا هو، لو أن بابا من العلم جعل في كفة ميزان، وجعل جميع أعمال البر في كفة أخرى، لرجح الباب من العلم، جميع أعمال البر».
بشارة:
ذكر غير واحد من العلماء عن يحيى بن يحيى أنه قال 44ظ /: «أول ما حدثني به مالك في خاصة نفسي حين أتيته أن قال لي: ما اسمك؟ قلت:
يحيى، وكنت أحدث أصحابه سنا. فقال: الله، الله، عليك بالجد في هذا الأمر، وسأحدثك في ذلك بحديث إن شاء الله يرغبك فيه، ويزهدك عن غير ذلك من الأعمال، قدم المدينة غلام من أهل الشام بحداثة سنك، أقبل لهذا الأمر، قاصدا إلى ربيعة ونظرائه من علماء المدينة، فكان معنا يطلب، ويجتهد حتى نزل به الموت، وهو طالب لهذا الأمر، فلقد رأيت على جنازته شيئا لم أر مثله على أحد من أهل بلدنا إلا عالم أو طالب لهذا الأمر، ورأيت جميع علمائنا يزدحمون على نعشه، ولم يكن له وليّ بالمدينة يلي أمره.
فلما وضع نعشه ليصلى عليه، ونظر أمير المدينة إلى علمائنا وفعلهم وازدحامهم عليه، أمسك عن الصلاة عليه ثم قال: قدموا منكم من أحببتم، ثم قال بإثر كلامه: لو لم يرغب في هذا الأمر إلا هذا، فقدم أهل العلم ربيعة. ثم نهض به إلى قبره.
قال مالك: فلحده في قبره ربيعة بن عبد الرحمن. وزيد بن أسلم (1).
__________
لم يقوموا به، وكان يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الشعر والحديث. انظر: التذكرة: 1/ 226224.
(1) هو أبو عبد الله العمري المدني الفقيه. ت: 136هـ 753م. ثقة من أهل الفقه والعلم. كان له حلقة للعلم بمسجد النبي. له كتاب في التفسير. انظر: التذكرة: 1/ 132والإسعاف: 895 و 952.(1/224)
ويحيى بن سعيد (1) وابن شهاب، وأقرب الناس إليهم أيضا من أهل العلم محمد بن المنكدر (2)، وصفوان بن سليم (3)، وأبو حازم (4)، وأشباههم من أهل بلد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبنى اللّبن على لحده ربيعة، وكل هؤلاء يناولونه اللبن.
وقال مالك: فلما كان إلى الثالث من اليوم الذي مات فيه، رآه في النوم رجل من خيار بلدنا، في أحسن صورة غلاما أمرد، عليه بياض، متعمما بعمامة خضراء، وتحته فرس أشهب نازلا من السماء، حتى انتهى إليه. فقال له:
هذا ما بلغني إليه العلم، وأعطاني بكل علم 45و / تعلمته درجة في الجنة. فلم تبلغ [لي] (5) الدرجات إلى درجة أهل العلم. فقال الله: زيدوا ورثة أنبيائي، فقد [حتمت] (6) على نفسي أنه من مات وهو عالم بسنتي وسنة أنبيائي، أو طالب لذلك، أن أجمعهم في درجة واحدة، فأعطاني ربي حتى بلغت إلى درجة أهل العلم، فليس بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا درجتان، درجة هو فيها جالس وحوله النبيئون كلهم، ودرجة فيها أصحابه وجميع أصحاب النبيئين الذين اتبعوهم، ونحن بعدهم في درجة فيها جميع أهل العلم وطلبته، فسير [بي] (7)
__________
(1) هو أبو سعيد بن قيس بن عمرو الأنصاري المديني، سمع أنس بن مالك. وسعيد بن المسيب وغيرهما. وروى عنه مالك، وابن جريج وشعبة. وهو تابعي، ثقة، فقيه، ولي القضاء بالأنبار. وبغداد في عهد المنصور. ت: نحو 143هـ 760م. تاريخ بغداد: 14/ 106101.
(2) هو أبو عبد الله بن عبد الله الهدير «بالتصغير» بن عبد العزى التيمي. ت: 130هـ 748م.
من جلة التابعين. من سادات القراء والمحدثين. انظر التذكرة: 1/ 127.
(3) المدني الزهري مولاهم الفقيه اتفقوا على موته سنة: 132هـ 741م. كان ثقة، حجة، من أعلام الهدى، كثير الحديث عابدا، روى عنه مالك وزيد بن أسلم، وابن المنكدر. انظر: التذكرة:
1/ 134، والإسعاف: 905وفيه أنه توفي 124هـ.
(4) هو سلمة بن دينار المدني المخزومي «مولى الأسود بن سفيان المخزومي» توفي ما بعد سنة 140هـ 757م في خلافة المنصور، كان ثقة، كثير الحديث. انظر الحلية: 3/ 259229، والتذكرة: 1/ 133.
(5) في «ج»: في.
(6) في «ج»: ختمت.
(7) في «أ»: فسيرني.(1/225)
حتى توسطتهم فقالوا لي: مرحبا، [مرحبا] (1) سوى ما لي عند الله من المزيد.
فقال له الرجل: وما لك عند الله من المزيد؟ فقال: وعدني ربي أن يحشر النبيئين كما رأيتهم في زمرة واحدة، وأنا معهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: يا معشر العلماء، هذه جنتي، قد أبحتها لكم، وهذا رضواني قد رضيت عنكم، فلا تدخلوا الجنة حتى تتمنوا، وتشفعوا، فأعطيكم ما سألتم، وأشفعكم فيمن استشفعتم، لأري عبادي كرامتكم علي، ومنزلتكم عندي، فيتمنى، فيعطى، ويشفع [فيشفع]» (2). اه.
وزاد ابن بطال (3): «فلما أصبح الرجل حدث أهل العلم، وانتشر خبره بالمدينة».
قال مالك: «كان بالمدينة أقوام بروا معنا في طلب هذا الأمر، وكفوا عنه، حتى سمعوا الحديث فلقد رجعوا إليه، وأخذوا بالجد، وهم اليوم من علماء بلدنا، الله، الله يا يحيى جد في هذا الأمر».
الفضيلة السابعة:
أنّ من تفقه في الدين، فقد أراد الله به خيرا.
ففي الصحيحين من طريق معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «45ظ / من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين».
قال المنذري ورواه أبو يعلى (4) فزاد فيه: ومن لم يفقهه (5) لم يبال
__________
(1) ساقطة من «أ».
(2) ساقطة من «أ».
(3) هو أبو الحسن علي بن خلف بن بطال الكبري القرطبي. ت ببلنسية 444هـ 1052م. أخذ عن أبي عمر الطلمنكي، وابن الفرضي، وأبي بكر الرازي وغيرهم، وكان نبيلا جليلا، ألف شرحا لكتاب البخاري كبيرا كثير الفائدة، وله كتاب في الزهد والرقائق. انظر: المدارك 8/ 160.
والصلة: 414. وفيه أنه توفي سنة 449هـ، والديباج: 2/ 105.
(4) هو الإمام أحمد بن علي بن المثنى التميمي. ت: 307هـ 915م. صاحب المسند الكبير الحافظ الثقة، من أهل الصدق والأمانة والحلم. انظر: التذكرة: 2/ 709707.
(5) الفقه: العلم بدقائق الأمور، ويفقهه: يعلمه أحكام شرعه ليعبد الله.(1/226)
به (1)» (2).
ورواه «الطبراني» في «الكبير»، ولفظه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، و {إِنَّمََا يَخْشَى اللََّهَ مِنْ عِبََادِهِ الْعُلَمََاءُ}».
وفي إسناده راو لم يسم (3).
قال: وروى البزار (4) والطبراني في «الكبير» بإسناد لا بأس به عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين وألهمه (5) رشده» (6).
ونقل «الشيخ» في مختصره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أراد الله بعبده خيرا، جعل فيه ثلاث خلال: فقهه في الدين، وزهده في الدنيا، وبصره عيوب (7) [نفسه] (8)» (9).
وروى الشيخ أبو عمر من طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله أن يهديه يفقهه» (10).
بيان:
قال القرطبي (11) في سورة الأنعام قوله: «يفقهه في الدين، ولا يكون ذلك
__________
(1) أي لم يقبل عبادته، إذا عمل على جهل، ولم يكترث بدعواته، إذ أمكنه التعلم ولم يتعلم.
(2) انظر الترغيب: 1/ 92.
(3) انظر الترغيب: 1/ 92.
(4) الحافظ الإمام أبو بكر بن عمرو البصري صاحب «المسند الكبير». ت: 292هـ 904م. ارتحل في آخر عمره إلى أصبهان وإلى الشام. ينشر علمه ذكره الدارقطني فأثنى عليه، وقال: ثقة، يخطىء، ويتكل على حفظه. انظر التذكرة: 2/ 654653.
(5) ألهمه رشده: وفقه إلى الرشد فعمل صالحا.
(6) الترغيب: 1/ ص 92.
(7) في مخ مختصر المدونة 8: عيوبه.
(8) ساقط من م. س: 8.
(9) انظر: م. س: ص 8.
(10) جامع العلم: 1/ 2120.
(11) هو أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري الخزرجي القرطبي المالكي. ت: نحو 671هـ(1/227)
إلا بشرح الصدر وتنويره، والدين: العبادات. قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللََّهِ الْإِسْلََامُ} (1).
قال: ودليل خطابه أن من لم يرد الله به خيرا، ضيق له صدره، وأبعد فهمه، فلم يفقهه، والله أعلم» (2).
قلت: كذا قال الآجري (3): «قد أعلمك أن علامة من أراد الله به خيرا أن يفقهه في دينه، ويدل على أنه من لم يتفقه في دينه فلا خير فيه».
قال الأستاذ أبو سعيد: «وصل به البخاري إنما العلم بالتعلم لئلا يرغب الإنسان عن التعلم استبعادا لنيل هذه الرتبة، وقلما حلي متحل بالاستبعاد إلا بالخيبة والإبعاد 46و /.
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا (4)
قال: كان سحنون إذا حث على طلب العلم والصبر عليه، تمثل بهذا البيت» (5).
الفضيلة الثامنة:
أن صاحبه أحد الثلاثة الذين لا تنقطع أعمالهم بعد الموت.
__________
1272 - م وقيل 668هـ كان من الزهاد الصالحين المشغولين بما يعنيهم من أمور الآخرة، أوقاته معمورة ما بين توجه، وعبادة، وتصنيف، جمع في تفسير القرآن كتابا كبيرا سماه: «جامع أحكام القرآن، والمبين لما تضمن من السنة وآي القرآن» وهو المشهور بتفسير القرطبي، كما له شرح «الأسماء الحسنى» وغيرهما. الديباج: 2/ 309308.
(1) سورة آل عمران، الآية: 19.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 7/ 81. وقال: أخرجه الصحيحان.
(3) هو أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي. ت: 360هـ 970م مصنف كتاب «الشريعة» في السنة. و «الأربعين». كان مجاورا بمكة، وكان عالما عاملا. صاحب سنة واتباع.
انظر: تاريخ بغداد: 2/ 243، والتذكرة: 3/ 936.
(4) في «ج» كتب بالهامش:
وقبله: «لا تيأسن وإن طالت مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
(5) انظر أيضا: مقدمات ابن رشد: 1/ 28.(1/228)
ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (1).
وعن أبي قتادة (2) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة جارية (3) يبلغه أجرها، وعلم يعمل به من بعده».
قال المنذري: «رواه ابن ماجه بإسناد صحيح» (4).
قال الشيخ أبو عمر: «من حديث الزهري عن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تلحق المسلم أو ينتفع المسلم بثلاث: ولد صالح يدعو له، وعلم ينشره، وصدقة جارية».
قال: وقالت الحكماء: علم الرجل ولده المخلّد» (5).
كشف حقيقة:
قال عياض: «العمل ينقطع بالموت، ولكن هذه الثلاثة لما كان هو السبب في اكتسابها، كان له ثوابها».
قلت: وقدم فيها نشر العلم وتعليمه، لأنه روحاني، وغيره من أنواع الانتفاعات جسماني، و «الروحاني أبقى من الجسماني»، قاله الإمام فخر الدين (6) رحمه الله تعالى.
__________
(1) الترغيب: 1/ 99. وقال: رواه مسلم وغيره.
(2) أبو قتادة بن ربعى الأنصاري الخزرجي. يقال له فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم. اتفقوا على أنه شهد «غزوة أحد» وما بعدها، وأنه حرس النبي ليلة بدر. اختلف في سنة وفاته، فقيل توفي في خلافة علي، وقيل: على عهد معاوية. انظر الإصابة: 4/ 159158.
(3) في الترغيب 1/ 100، وسنن ابن ماجه 1/ 20: صدقة تجري.
(4) انظر سنن ابن ماجه: 1/ 20، والترغيب: 1/ 100.
(5) انظر جامع العلم: 1/ 16.
(6) التفسير: 2/ 191.(1/229)
فائدتان:
الفائدة الأولى:
ذكروا أن تأليف العلم من جملة ما ينتفع به بعد الموت.
قال الأبي: «وكان شيخنا أبو عبد الله (1) يعني ابن عرفة يقول: إنما تدخل التواليف في ذلك إذا اشتملت على فائدة زائدة، وإلا فذلك تخسير الكاغد (2).
قال: ويعني بالفائدة الزائدة على ما في الكتب السابقة عليه، وإذا لم 46ظ / يشتمل التأليف إلا على نقل ما في الكتب المتقدمة فهو الذي قال فيه:
[تخسير الكاغد]» (3).
قلت: سبقه ابن حزم إلى التنبيه على هذا المعنى، فقال: «وفيه توسيع لمجال هذه الزيادة: الأقسام السبعة التي لا يؤلف عاقل إلا في أحدها وهي: إما شيء لم يسبق إليه يخترعه، أو شيء ناقص يتممه، أو شيء مستغلق يشرحه أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه، أو شيء مفترق يجمعه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مؤلفه فيصلحه».
الفائدة الثانية:
حكى القرطبي المفسر عن «المحققين من شيوخ الزهد [أن] (4) في هذا الموضع مع قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسََانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} دليلا على الترغيب
__________
(1) هو محمد بن عرفة الورغمي نسبة إلى ورغمة من قرى إفريقية التونسي المالكي المعروف بابن عرفة أبو عبد الله. ت: 803هـ 1401م. مقرئ، فقيه، أصولي، منطقي، خطيب، من تصانيفه: «المبسوط» في الفقه المالكي، «مصنف في المنطق» و «المختصر الشامل» في أصول الدين. انظر الديباج: 2/ 333331، والضوء اللامع: 2/ 242240.
(2) الكاغد. والكاغذ: القرطاس، وهو فارسي معرب اللسان وترتيب القاموس المحيط: كغد كغذ.
(3) ساقطة من «ج».
(4) ساقطة أيضا من «ج».(1/230)
في العمل الصالح الذي يكسب الثناء الحسن.
قال: وفي رواية يعني غير حديث «إذا مات ابن آدم» أنه كذلك في الغرس والزرع. وكذلك فيمن مات مرابطا يكتب له عمله إلى يوم القيامة» (1).
قلت: روى البزار، وأبو نعيم في «الحلية» عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبع يجرى أجرهنّ للعبد وهو في قبره، (بعد موته) (2) من علم علما، أو أجرى (3) نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورث مضحفا (4)، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته» (5).
قال أبو نعيم: ولا يخالف الحديث الصحيح، فقد قال فيه: «إلا من صدقة جارية» وهي تجمع ما ورد أنه من الزيادة.
قال المنذري: «وقد رواه ابن ماجه، وابن خزيمة في «صحيحه» بنحوه من حديث أبي هريرة» (6) اه.
الفضيلة التاسعة:
أنّ العالم فيه والمتعلم شريكان في الأجر.
فعن «أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بهذا العلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يرفع ثم جمع بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام»، هكذا ثم قال 47و /: «العالم والمتعلم شريكان في الخير (7) ولا خير في سائر الناس» رواه ابن ماجه (8).
__________
(1) تفسير القرطبي: 13/ 113.
(2) زيادة من الترغيب: 1/ 96.
(3) في م. س: 1/ 96: كرى.
(4) أي كتبا.
(5) الترغيب: 1/ 96.
(6) م. س: 1/ 9796و 99.
(7) سنن ابن ماجه 1/ 73: في الأجر.
(8) م. س: 1/ 73، وجامع العلم: 1/ 28.(1/231)
وروى أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من علم علما، فله أجر من عمل به، لا ينقص من أجر العامل» (1).
وذكر الشيخ أبو عمر عن أبي الدرداء، قال: «العالم والمتعلم في الأجر سواء، ولا خير في سائر الناس بعدهما» (2).
وروى عنه أيضا: «تعلموا قبل أن يرفع العلم، فإن العالم والمتعلم في الأجر سواء» (3).
قاعدة:
ثبت في الأصول الشرعية: «أن إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب، قصد ذلك المسبب، أو لا».
وقرر ذلك الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله من وجهين:
«أحدهما: شهادة مجاري العادات بنسبة المسببات إلى أسبابها كنسبة الشبع إلى الطعام، والإرواء إلى الماء، والإحراق إلى النار، والإسهال إلى السقمونيا (4) وسائر المسببات إلى أسبابها، والأسباب (5) التي تتسبب عن كسبنا تنسب إلينا كذلك، وإن لم تكن من كسبنا».
قال: «وإذا كان هذا معهودا معلوما، جرى عرف الشرع، في الأسباب الشرعية على ذلك الوزان» (6).
«الثاني: دلالة الشرع على ذلك باعتبار الأسباب [المشروعة] (7) أو
__________
(1) سنن ابن ماجه: 1/ 88.
(2) جامع العلم: 1/ 28.
(3) جامع العلم: 1/ 28.
(4) نبات يستخرج من تجاويفه رطوبة دبقة «لزجة»، وتجفف وتدعى باسم نباتها أيضا، مضادة لها.
للمعدة والأحشاء، أكثر من جميع المسهلات ترتيب القاموس المحيط سقم.
(5) في «الموافقات» 1/ 211: وكذلك الأفعال.
(6) م. س: 1/ 212211.
(7) ساقطة من «ج».(1/232)
الممنوعة كقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذََلِكَ كَتَبْنََا عَلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} إلى قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيََاهََا فَكَأَنَّمََا أَحْيَا النََّاسَ جَمِيعاً} (1)».
وفي الحديث: «ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل (2)
منها لأنه أول من سن القتل».
وفيه: «من سنّ سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها»، وكذلك «فيمن سن سنة سيئة، إلى شواهد لا تحصى، وإن كانت المسببات التي حصل بها النفع أو الضر ليست من فعل المتسبب. لا يقال 47ظ /: كيف يثاب أو يعاقب على ما لم يفعل؟ لأنا نقول: ترتب الثواب والعقاب إنما هو على ما فعله، وتعاطاه، لا على ما لم يفعل، لكن الفعل يعتبر شرعا بما يكون عنه من المصالح أو المفاسد» (3) انتهى ملخصا.
تنزيل:
إذا عرفت رسوخ هذه القاعدة فلا يخفى عليك صحة بناء ما لا يحصى من نظائر هذه الفضيلة عليها.
ومن هناك قال القرطبي في قوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مََا قَدَّمُوا وَآثََارَهُمْ} (4).
«ما قدموا»: من قول وعمل وعقد.
«وآثارهم»: ما سنوه فخلفوه بعدهم من سنة حسنة أو سيئة، فلهم أجرها أو وزرها وأجر من عمل بها أو وزره إلى يوم القيامة.
قال: فآثار المرء التي تبقى وتذكر بعد الإنسان من خير أو شر يجازى عليها من أثر حسن: كعلم علموه، أو كتاب صنفوه، أو تحبيس حبسوه، أو بناء
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 32.
(2) الكفل: النصيب.
(3) الموافقات: 1/ 213212.
(4) سورة يس، الآية: 12.(1/233)
بنوه في مسجد، أو رباط، أو قنطرة، أو نحو ذلك.
أو سيّىء: كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين، وسكة أحدثها فيها تخسيرهم، أو لشيء، أحدث فيه [صدّ] (1) عن ذكر الله (من ألحان وملاه) (2)، وكذلك كل سنة حسنة (أو سيئة) (3) يستن بها» (4) اه.
تفصيل:
قال بعض متأخري المشارقة: «كل مهتد وعامل إلى يوم القيامة يحصل له أجر، [ويتجدد] (5) لشيخه في الهداية مثل ذلك الأجر، ولشيخ شيخه مثلاه، وللشيخ الثالث أربعة، وللرابع ثمانية، وهكذا تضعف كل مرتبة بعدد الأجور الحاصلة بعده إلى النبي صلى الله عليه وسلم».
قال: «وبهذا تعلم تفضيل السلف على الخلف». ذكر هذا في فصل يتضمن أن النبي صلى الله عليه وسلم يثبت له من الأجر بمقدار كل من عمل بما هدى إليه، زائدا على ما خصه الله تعالى به، ولذلك قال: «فإذا فرضت أن المراتب عشرة بعد النبي صلى الله 48و / عليه وسلم كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الأجر ألف وأربعة وعشرون فإذا ازداد واحد تضاعف ما كان قبله أبدا».
الفضيلة العاشرة:
أنّه الحكمة التي ينبغي أن يغتبط بها ويتنافس في تحصيلها.
ففي الصحيحين من طريق «ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنين: رجل أتاه الله مالا، فسلطه على هلكته في [الحق] (6)، ورجل أتاه الله حكمة، فهو يقضي بها ويعلمها» (7).
__________
(1) ساقطة من «ج».
(2) زيادة من تفسير القرطبي: 15/ 12.
(3) زيادة من تفسير القرطبي: 15/ 12.
(4) م. س: 15/ 12.
(5) في «ج» ويجدد.
(6) في «ج» «الخير».
(7) انظر جامع العلم 1/ 17.(1/234)
توضيح:
قال الإمام فخر الدين: «يروى عن مقاتل (1) أنه قال: تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه:
مواعظ القرآن كقوله تعالى: {وَمََا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتََابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} (2).
وقوله: {وَأَنْزَلَ اللََّهُ عَلَيْكَ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مََا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكََانَ فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (3).
وحسن الفهم كقوله تعالى: {وَآتَيْنََاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} (4) يعني الفهم.
وقوله تعالى: {فَفَهَّمْنََاهََا سُلَيْمََانَ وَكُلًّا آتَيْنََا حُكْماً وَعِلْماً} (5) أي فهما، وعقلا، وسدادا في الحكم.
وبمعنى النبوءة كقوله تعالى: {فَقَدْ آتَيْنََا آلَ إِبْرََاهِيمَ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ} (6).
وقوله تعالى: {وَآتَيْنََاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطََابِ} (7).
وبمعنى القرآن نفسه لما فيه من العجائب والأسرار، ومنه قوله تعالى:
{ادْعُ إِلى ََ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (8). وقوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشََاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} (9).
__________
(1) مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي الخراساني أبو الحسن. ت: 150هـ 767م. صاحب «التفسير». متروك الحديث. وقد لطخ بالتجسيم، مع أنه كان من أوعية العلم، بحرا في التفسير. انظر التذكرة: 1/ 174.
(2) سورة البقرة، الآية: 231.
(3) سورة النساء، الآية: 113.
(4) سورة مريم، الآية: 12.
(5) سورة الأنبياء، الآية: 79.
(6) سورة النساء، الآية 54.
(7) سورة ص، الآية: 20.
(8) سورة النحل، الآية: 125.
(9) سورة البقرة، الآية: 269.(1/235)
قال: «وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم، ثم تأمل أيها المسكين، في أن الله تعالى ما أعطاك إلا القليل من العلم، فقال: {وَمََا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلََّا قَلِيلًا} (1)، وسمى الدنيا بأسرها: «قليلا» فقال: {قُلْ مَتََاعُ الدُّنْيََا قَلِيلٌ} (2)، فانظر كم مقدار هذا القليل حتى تعرف به مقدار ذلك الكثير».
قال: «والبرهان العقلي أيضا شاهد 48ظ / بذلك، لأن جميع ما في الدنيا متناهي المدة. والعلوم كلها لا نهاية لمراتبها وعددها، ومدة بقائها، والسعادة الحاصلة منها، وذلك كله ينبهك على فضيلة العلم» (3).
قلت: وبالعلم فسرها مالك رحمه الله في مواضع من القرآن، رواه ابن وهب (4) قال: وسمعته مرة أخرى يقول: «الذي يقع في قلبي أن الحكمة هي الفقه في دين الله».
قال: «ومما يبين ذلك أن الرجل نجده عاقلا في أمر الدنيا إذا نظر فيها، وبصر بها، ولا علم له بدينه، ونجد آخر ضعيفا في أمر الدنيا، عالما بأمر دينه، بصيرا به، يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا، فالحكمة: الفقه في دين الله».
وعن ابن القاسم قال: «سمعت مالكا يقول: قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشََاءُ} يعني التفكر في أمر الله، والاتباع له».
قال «ابن العربي» في «القبس» (5): «اختلف قول مالك لأصحابه لفظا، واتفق معنى، على طريق العلماء في ضبط المعاني (وإهمال الألفاظ، فترد على
__________
(1) سورة الإسراء، الآية: 85.
(2) سورة النساء، الآية: 77.
(3) انظر تفسير الرازي: 2/ 179178.
(4) هو أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم. ت: 197هـ 812م. تفقه بمالك، والليث، وغيرهما، فكان من أعلم أصحاب مالك بالسنن والآثار. من مصنفاته: «الموطأ الكبير»، و «الموطأ الصغير»، و «الجامع الكبير». انظر «المدارك»: 3/ 245228، والديباج: 2/ 417413.
(5) انظر: «القبس» 319318، مخطوط بالخزانة العامة الرباط تحت رقم: ج 25.(1/236)
السائلين في الأجوبة. بحسب الحاضر في الحاضر من تلك المعاني) (1) أو بحسب السائل إن كان يتحمل جميعها أو بعضها.
قال: وأول الحكمة العلم، وأول العلم معرفة الإنسان بنفسه، فمن عرف نفسه عرف ربه، وآخر الحكمة العمل، فإذا اجتمعا كان صاحبها حكيما، وإن افترقا فيكون ذلك الاسم ثابتا له من وجه، منفيا عنه من آخر». انتهى ملخصا.
انعطاف:
يترتب على ما أشار إليه الإمام في قلة متاع الدنيا في جانب كثير خير الحكمة. باعتبار العمل على شاكلته ما ذكره «القرطبي» في تفسيره: «أن بعض الحكماء قال: من أعطي الحكمة (2)، والقرآن ينبغي أن يعرف نفسه، ولا يتواضع لأهل الدنيا لأن الله تعالى سمى الدنيا متاعا قليلا، فقال: {قُلْ مَتََاعُ الدُّنْيََا قَلِيلٌ} وسمى العلم والقرآن خيرا كثيرا» (3).
الفضيلة الحادية عشرة:
أنّ ناشره أجود الناس، والصدقة 49و / به أفضل أنواع الصدقة.
خرج أبو نعيم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«ألا أخبركم عن أجود الأجودين»؟ قالوا: نعم. قال: «الله تعالى أجود الأجودين، وأنا أجود بني آدم، وأجودهم من بعدي، رجل علم علما فنشر علمه يبعث يوم القيامة أمّة وحده، ورجل جاد بنفسه في سبيل الله عز وجل حتى يقتل» (4).
وخرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أفضل الصدقة أن يتعلم المرء المسلم علما ثم يعلمه أخاه المسلم».
__________
(1) زيادة من م. س: 318.
(2) في التفسير: 3/ 331: العلم.
(3) انظر: م. س: 3/ 331.
(4) الترغيب: 1/ 119. وقال عنه: رواه أبو يعلى والبيهقي.(1/237)
وروى الطبراني قال: قال المنذري: في «الكبير» عن سمرة بن جندب (1) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تصدّق الناس بصدقة مثل علم ينشر» (2).
قال أبو عمر: ومن حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أهدى المرء لأخيه هدية أفضل من كلمة حكمة يزيده الله بها هدى، أو يرده بها عن ردى» (3).
وروى عن ابن المنكدر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أفضل الفوائد حديث حسن يسمعه الرجل، فيحدّث به أخاه» (4).
وذكر عن أبي [عنبة] (5) الخولاني (6) قال: «ربّ كلمة خير من إعطاء المال».
وعن [أبان] (7) بن سليم قال: «كلمة حكمة [لك] (8) من أخيك خير لك من مال يعطيك، لأن المال يطغيك، والكلمة تهديك» (9).
قلت: من أطراف ما يحكى في اعتبار هذه الفضيلة ما أورده الماوردي عن بعض المتعلمين «أنه وقف بباب عالم ثم نادى تصدقوا علينا بما لا يتعب
__________
(1) هو سمرة بن جندب بن هلال الفزاري. ت: 58هـ 677م. من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستخلفه زياد على البصرة إذا سار إلى الكوفة. الإصابة: 2/ 7978.
(2) الترغيب: 1/ 119.
(3) جامع العلم: 1/ 61.
(4) م. س: 1/ 61.
(5) في «أ»: أبو عتبة. وفي «ج» أبو غنية.
(6) أبو عنبة الخولاني: صحابي مشهور بكنيته، مختلف في اسمه، فقيل عبد الله ابن عنبة، وقيل عمارة، وذكره ابن سعد وغيره في الصحابة. أدرك الجاهلية وعاش إلى خلافة عبد الملك، وكان ممن أسلم على يد معاذ بن جبل والنبي صلى الله عليه وسلم وكان أعمى. انظر: الإصابة: 4/ 141.
والاستيعاب: 4/ 134133.
(7) في «ج»: أبا زيد.
(8) ساقط من «أ».
(9) جامع العلم 1/ 53.(1/238)
ضرسا، ولا يسقم نفسا، ولا يرزأ فلسا، فأخرج له طعاما ونفقة، فقال: حاجتي إلى كلامكم أشد من حاجتي إلى طعامكم، إني طالب هدى لا سائل ندى، فأذن له العالم، وأفاده من كل [ما] (1) سأل 49ظ / عنه، فخرج جذلان فرحا وهو يقول: علم أوضح لبسا خير من مال أغنى نفسا» (2).
الفضيلة الثانية عشرة:
أنّ طالبه يفوز بالأجر أدركه أو لم يدركه.
فعن واثلة بن الأسقع (3) رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من طلب علما فأدركه، كتب الله له كفلين من الأجر، ومن طلب علما فلم يدركه [كان له كفل من الأجر» (4) رواه الطبراني وغيره.
قلت: شأن النية الصالحة تحصيل أجور الأعمال] (5). ولو لم يساعد المقدور على فعلها.
ومن شواهد ذلك: حديث «[أوقع] (6) الله أجره على قدر نيّته».
قال ابن الحاج: «ولأجله حكي عن بعض العلماء والصلحاء، أنه دخل عليه وهو في سياق الموت، فقال لأصحابه: انووا بنا حجا، انووا بنا جهادا، انووا بنا رباطا، وجعل يعدد لهم أنواع البر وكثر، فقالوا: يا سيدنا، كيف وأنت على هذه الحال؟ فقال رحمه الله: إن عشنا وفينا، وإن متنا حصل لنا أجر النية» (7) اه.
__________
(1) ساقط من «أ».
(2) أدب الدنيا: 18.
(3) واثلة بن الأسقع بن كعب، أسلم قبل تبوك وشهدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي هريرة وأم سلمة كما روى عنه ابنته، ومكحول، وأبو إدريس الخولاني مات بدمشق في خلافة عبد الملك وذلك نحو: 183هـ 779م. وقال عنه قتادة: كان آخر الصحابة موتا بدمشق. انظر التهذيب: 11/ 102101.
(4) جامع العلم: 1/ 45.
(5) ما بين المعقوفتين ساقط من «ج».
(6) ساقط من «أ».
(7) المدخل: 1/ 60.(1/239)
ونية إدراك العلم فرد من أفراد هذه الأعمال الصالحة.
الفضيلة الثالثة عشرة:
أنّ المشتغل به مخصوص بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه الخليفة من بعده.
ففيما رواه أبو عمر وغيره عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحمة الله على خلفائي، رحمة الله على خلفائي»، قالوا: ومن خلفاؤك يا رسول الله؟ قال:
«الذين يحيون سنتي، ويعلمونها عباد الله» (1).
وخرج غير واحد من شيوخ التحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم ارحم خلفائي»، قلنا: يا رسول الله، ومن هم خلفاؤك؟ قال: «الذين يأتون من بعدي، يروون أحاديثي، وسنتي، ويعلمونها الناس» (2).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: 50و / سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نضر الله (3) امرءا سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع».
رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (4).
وعن زيد بن ثابت (5) رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نضر الله امرءا سمع منا حديثا، فبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربّ حامل فقه ليس بفقيه، ثلاث لا يغلّ (6) عليهن قلب مسلم:
__________
(1) جامع العلم: 1/ 46.
(2) الترغيب: 1/ 100.
(3) نضر: يقال بتخفيف العين، ويقال بتشديدها للتكثير. والنضرة: النعمة والبهاء يكون على الوجه.
(4) الترغيب: 1/ 108.
(5) زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي البخاري المقرئ، كاتب وحي النبي صلى الله عليه وسلم. انتدبه الصديق لجمع القرآن فتتبعه، وتعب على جمعه، ثم عينه عثمان لكتابة المصحف وثوقا بحفظه ودينه وأمانته وحسن كتابته، اختلف في سنة وفاته، وقال الواقدي: مات «45هـ». وقيل: «54هـ» انظر: التذكرة 1/ 3230.
(6) من الغل: وهو الحقد، والشحناء،، أي لا يدخله حقد يزيله عن الحق. وعليهن في موضع حال تقديره: لا يغل كائنا عليهن قلب مؤمن.(1/240)
إخلاص العمل لله، ومناصحة (1) ولاة الأمر، ولزوم الجماعة (2)، فإن دعوتهم [تحيط] (3) من ورائهم (4)».
وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن كانت نيته الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له». رواه ابن حبان في «صحيحه» وغيره (5).
وخرجوا من طريق عزة بنت عياض بن أبي قرصافة عن جدها أبي قرصافة (6) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وحفظها، ونقلها إلى من هو أوعى لها منه، فرب رجل يحمل علما إلى من هو أعلم منه، ثلاث لا يغلّ عليهن القلب: إخلاص العمل لله، ومناصحة الولاة، ولزوم الجماعة، فإن الدعوة تحيط من ورائهم».
فائدتان:
الفائدة الأولى:
قوله صلى الله عليه وسلم: «نضر»: بتشديد الضاد المعجمة، وتخفيفها، حكاه الخطابي (7)
__________
(1) أي إرشاد ولاة الأمر إلى ما يرضي الله.
(2) أي تتبع إجماع الأمة، محافظة على وحدتها.
(3) في «ج» تحوط.
(4) في الترغيب 1/ 109: تحيط من ورائهم أي من اتبعهم واقتدى بهم والمراد أن دعوتهم مستجابة تحفظهم وترعاهم.
(5) انظر م. س: 1/ 109108، وجامع العلم: 1/ 39.
(6) ترجم له ابن الأزرق: انظر ص: 50ظ من مخ «أ» ص: 240من هذا الكتاب. وانظر التهذيب:
2/ 119.
(7) أبو سليمان حمد «كذا» بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي. ت: 388هـ 998م، صاحب التصانيف. أقام مدة بنيسابور، يصنف، فعمل «غريب الحديث» و «كتاب معالم السنن» و «كتاب شرح الأسماء الحسنى». كان ثقة، من أوعية العلم. انظر: التذكرة 3/ 10201018.(1/241)
ومعناه الدعاء له بالنضارة، وهي النعمة، والبهجة، والحسن.
وقال بعضهم: ليس هذا من الحسن في الوجه، ولكن معناه: حسن الله سمعته وجاهه، في خلقه.
وهكذا قيل في قوله عليه السلام: «اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه» أي ذوي الأقدار في الوجاهة.
قال ابن العربي: «هذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم لحملة علمه، ولا بد بفضل الله من نيل بركته». 50ظ / (1).
الفائدة الثانية:
أخبرني الشيخ الفقيه، المحدث، الراوية، المسند أبو البركات محمد بن محمد بن عزوز (2) رحمه الله كتابة من تونس، عن شيخ الإسلام:
شهاب الدين بن حجر: قال: اسم أبي قرصافة رضي الله عنه جندرة بن خيشنة، بفتح أوله ثم نون ساكنة ثم مهملة مفتوحة، ابن خيشنة: بمعجمة، ثم بتحتانية، ثم معجمة، ثم نون بوزنه.
وأبو قرصافة: بكسر القاف، وسكون الراء بعدها مهملة، وفاء.
قال وهو صحابي، كناني مشهور بكتبه، سكن الشام، ومات بعسقلان (3)، وقيل بقرية من قرى عسقلان.
قال الشيخ أبو البركات: ومن الفوائد التي شافهنا بها شيخنا ابن حجر، ولم يذكرها الحافظ جمال الدين المزي (4)، ولا الحافظ شمس الدين
__________
(1) انظر العارضة: 10/ 125.
(2) المغربي المالكي. ت: 873هـ 1468م. كان أشهر من بتونس في الرواية وغيرها أخذ عنه جماعة. مات مطعونا. انظر الضوء اللامع: 10/ 16.
(3) مدينة بالشام من أعمال فلسطين على ساحل البحر بين غزة وبيت جبرين، ويقال لها عروس الشام، نزلها جماعة من الصحابة، والتابعين، وحدث بها خلق كثير، انظر: معجم البلدان: 4/ 122.
(4) هو الحافظ الإمام، محدث الشام أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن القضاعي، الكلبي الحلبي، الدمشقي، المزي. ت: 742هـ 1341م، محدث، حافظ، شارك في الأصول والفقه، والنحو، والتصريف، ولي دار الحديث الأشرفية ثلاثا وعشرين سنة ونصفا. له تصانيف(1/242)
الذهبي (1) بعده، وهي من زيادات شيخنا ابن حجر رحمه الله.
قال: قال ابن حبان: قبره بعسقلان. قال: وروى عن أبي قرصافة هذا يحيى بن حسان الفلسطيني (2)، وزياد بن سيار، وبنت ابنه عزة بنت عياض، وغيرهم، وخرج عنه البخاري في كتابه: «الأدب المفرد» (3).
قلت: ذكر الشيخ الفقيه المحدث أبو الأصبغ عيسى بن سليمان الرعيني المالقي (4)، ومن خطه نقلت في كتابه: «الجامع لما في المصنفات الجوامع من أسماء الصحابة» رضي الله عنه أنه قيل: إن اسم أبي قرصافة رضي الله عنه قيس بن سهل.
قال: ولا يصح، وذكر أنه يسكن فلسطين، وقيل: كان يسكن أرض تهامة، وأسند عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إخراج القمامة (5) من المسجد مهور الحور العين».
تنبيه:
تقدم في الفضيلة الثانية (6) قوله صلى الله عليه وسلم: «مرحبا بطالب العلم» في حديث
__________
منها: «تهذيب الكمال في معرفة أسماء الرجال»، وكتاب «الأطراف». كما أملى مجالس، وأوضح مشكلات ما سبق إليها في علم الحديث ورجاله. انظر التذكرة: 4/ 15001498.
(1) هو محمد بن أحمد الدمشقي الذهبي الشافعي أبو عبد الله. ت: 748هـ 1348م، محدث، مؤرخ، سمع منه خلق كثير، من تصانيفه: «تاريخ الإسلام الكبير»، و «ميزان الاعتدال»، و «طبقات الحفاظ». انظر طبقات الشافعية: 5/ 226216.
(2) يحيى بن حسان البكري الفلسطيني، روى عن أبي قرصافة وأبي ريحانة، وربيعة بن عامر
كان شيخا كبيرا حسن الفهم، من أهل بيت المقدس. قال عنه النسائي ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. انظر التهذيب: 11/ 198.
(3) انظر: م. س: 2/ 119.
(4) وفي كتب التراجم: يكنى أبا موسى ومن الجائز أن يكون له كنيتان. محدث، حافظ، مؤرخ أصله من رندة وسكن مالقة وسمع بها، وولي خطابتها، وحج وسمع، امتحن في صدره بأسر العدو، فذهب أكثر ما جلب. ت: 632هـ 1234م. من آثاره: «معجم الشيوخ»، وكتابه في «الصحابة». انظر: التذكرة: 4/ 14591457.
(5) القمامة: الكناسة.
(6) انظر ص: 36و / من مخ «أ» ص: 197وما بعدها من هذا الكتاب: ما جاء في حديث صفوان بن عسال عن الرسول عليه السلام.(1/243)
صفوان بن عسال على معنى: «وجدت رحبا» وعلق ذلك بطالب العلم، فيختص به دون غيره، وإذ ذاك 51و / فهو دعاء يفوز به طالب العلم قبل فوزه بهذه الدعوة الأخرى في هذه الفضيلة، نبه على ذلك الأستاذ أبو سعيد. ثم قال:
«فبحق [أشد] (1) الناس الرجال في زمان الصحابة فمن بعدهم تركوا الأهل والأموال في طلب العلم والحديث لأنهم يتصلون بسبب قوي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث ورثوه ونقلوا عنه وبلغوا، ومن عرف قدر ما طلب، هان عليه أن يتعب وينصب».
الفضيلة الرابعة عشرة:
أنّ مجالسه هي مجالس الذكر التي ورد في فضلها ما لا يحصى كحديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله كربه يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم إلا حفتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله، لم يسرع به نسبه» (2).
وكحديث البخاري عنه، ومثله لمسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله ملائكة يطوفون في الطرق، ويلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله، تنادوا، هلموا إلى حاجتكم». قال: «فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء». قال:
«فيسألهم ربهم، وهو أعلم منهم، ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك»، قال: «فيقول: هل رأوني»؟ قال:
«فيقولون: لا، والله يا رب». قال: «فيقول: كيف لو رأوني»؟. قال: «51ظ /
__________
(1) في «أ» و «ج»: شد.
(2) انظر: صحيح مسلم: 17/ 2221، والمدخل: 1/ 86.(1/244)
يقولون: لو رأوك، كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدا، وأكثر لك تسبيحا». قال: «يقول: فما يسألونني»؟ قال: «يسألونك الجنة». قال: «يقول:
وهل رأوها»؟ قال: «فيقولون: لا، والله يا رب ما رأوها». قال: «فيقول: فكيف لو رأوها»؟ قال: «لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة». قال: «فمم يتعوذون»؟ قال: «يقولون: من النار». قال:
«فيقول: وهل رأوها»؟ قال: «فيقولون: لا، والله ما رأوها. فيقول: فكيف لو رأوها»؟ قال: «فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارا، وأشد لها مخافة».
قال: «أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك من الملائكة فيهم: فلان ليس منهم وإنما جاء لحاجة». قال: «هم القوم لا يشقى جليسهم» (1) اه.
وأحاديث هذا المعنى مذكورة في مظان الجمع لها.
استظهار:
قال ابن الحاج: «قال علماؤنا رحمة الله عليهم: مجالس الذكر، هي مجالس العلم وهي مجالس الحلال والحرام، [هل يجوز أو لا يجوز] (2).
وكيف تتوضأ، وما يجب فيه، وما يسن، ويستحب، ويكره، ويمنع، وكيف تصلي، وما يجب فيها، ويسن، ويستحب، ويكره، ويمنع، وكيف تنكح، وما يجب [فيه] (3)، ويسن، ويستحب، ويكره، ويمنع، وكيف تشتري وتبيع، وما يجب في ذلك ويسن، ويكره، ويمنع إلى غير ذلك حتى الحركات والسكنات والنطق والصمت» (4).
قال في موضع آخر ما معناه: «حاصل النظر فيما ورد من فضيلة مجالس الذكر، أن المراد به [مجلس] (5) تعليم الأحكام، وغيره من الأذكار، داخل منطو
__________
(1) انظر صحيح البخاري: 22/ 188187وقال: رواه شعبة عن الأعمش ولم يرفعه، ورواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم و «صحيح مسلم»: 17/ 1514.
(2) زيادة من المدخل: 1/ 87.
(3) ساقط من «أ».
(4) المدخل: 1/ 87.
(5) ساقط من «أ» و «ج».(1/245)
تحت فضيلة هذا المجلس» (1).
قال: «وهو المجلس [المشهود] (2) خيره، المعروف بركته، المستفيض بين العلماء بره واحترامه، الشائع [الذائع] (3) الذي وردت به الأحاديث الصحيحة الصريحة» انتهى ملتقطا من مواضع في كلامه 52و / رحمه الله (4).
فائدة:
ذكر بعضهم أنه إذا صحب المريد شيخا من أهل العلم والدين، لا بد أن ينال بركته في دينه، وإن كان غرضه في صحبته الدنيا لقوله صلى الله عليه وسلم: «هم القوم لا يشقى جليسهم».
ومثله «للسهروردي» (5) في «عوارف المعارف» قائلا بعد تقريره أن الخدمة للشيوخ على غير نية صالحة لا ترضى: ومع ذلك نال بركتهم باختياره خدمتم على خدمة غيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم: «هم القوم لا يشقى جليسهم» (6).
الفضيلة الخامسة عشرة:
أنه سبب النجاة في الآخرة حيث يوضع ثوابه في الميزان مثل الغمام.
وروى الشيخ أبو عمر عن «إبراهيم النخعي» (7) قال: «بلغني أنه إذا كان
__________
(1) م. س: 2/ 110.
(2) في «أ» و «ج»: المشهور.
(3) في «ج»: الزائد.
(4) م. س: 1/ 86.
(5) هو عبد القاهر بن عبد الله السهروردي القرشي، الصديقي، البكري، أبو النجيب. ت: 563هـ 1168م. محدث، صوفي، مؤرخ، كان يدرس ويملي الحديث بالمدرسة النظامية ببغداد من آثاره: «عوارف المعارف» و «آداب المريدين» و «مصنف» في طبقات الشافعية انظر: الشذرات 4/ 208.
(6) انظر العوارف: ص 94.
(7) فقيه العراق إبراهيم بن يزيد الكوفي أبو عمران. ت: 95هـ 713م. من العلماء ذوي الإخلاص، كان يتوقى الشهرة قال الشعبي لما بلغه خبر موته: ما خلق بعده مثله، كان لا يتكلم في العلم إلا أن يسأل. انظر التذكرة: 1/ 7473.(1/246)
يوم القيامة توضع حسنات الرجل في كفة، وسيئاته في الكفة الأخرى، فتشيل حسناته، فإذا يئس وظن أنها النار جاء شيء مثل السحاب حتى يقع مع حسناته، فتشيل سيئاته. قال: فيقال له: أتعرف هذا من عملك؟ فيقول: لا، فيقال له:
هذا ما علمت الناس من الخير فعمل به من بعدك» (1).
وروى عنه أيضا قال: «بلغني أنه توضع موازين القسط يوم القيامة، فيوزن عمل الرجل فتخف، فيجيء شيء مثل الغمام أو السحاب، فيوضع في ميزانه، فيرجح، فيقول: أتدري ما هذا؟ فيقول: لا. فيقال له: هذا علمك الذي علمت الناس، فعملوا به، وعلموه من بعدك» (2).
بشارة:
يروى عن حبيش بن مبشر (3) قال: «رأيت يحيى بن معين (4) في النوم فقلت: يا أبا زكرياء ما صنع بك ربك؟ قال: زوجني مائة حوراء، وأدناني، وأخرج من كمه رقاعا، كان فيها حديث فقال: بهذا». حكاه الشيخ أبو عمر (5).
الفضيلة السادسة عشرة 52ظ /:
أنّ صاحبه يدخل به الجنة على ما يكون منه من تقصير في العمل.
فعن «ثعلبة بن الحكم الصحابي (6) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده، إني لم أجعل علمي وحلمي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم، على ما كان منكم ولا أبالي».
__________
(1) جامع العلم: 1/ 46.
(2) جامع العلم: 1/ 46.
(3) هو أبو عبد الله الثقفي الفقيه الطوسي نزيل بغداد. ت: 258هـ 871م، فقيه سني، ثقة، قال الخطيب: كان فاضلا يعد من عقلاء البغداديين. انظر تاريخ بغداد: 8/ 272، والتهذيب: 2/ 195.
(4) الإمام أبو زكرياء المري مولاهم، البغدادي. ت: 233هـ 847م. أحد الأئمة في الحديث. قال عنه أحمد بن حنبل: يحيى بن معين أعلمنا بالرجال. انظر: التذكرة: 2/ 431429.
(5) جامع العلم: 1/ 47.
(6) ذكره ابن حجر في التهذيب: 2/ 22 «في فضل من مات بين السبعين إلى الثمانين».(1/247)
قال المنذري: رواه الطبراني (1) ورواته ثقات اه.
وروى الشيخ أبو عمر عن عبد الله بن داود (2) قال: «إذا كان يوم القيامة عزل الله تعالى العلماء عن الحساب، فيقول: ادخلوا الجنة، على ما كان فيكم، إني لم أجعل حكمتي إلا لخير أردته بكم» (3).
قال: وزاد غيره في هذا، «إن الله تعالى [يحشر] (4) العلماء يوم القيامة في زمرة واحدة، حتى يقضي بين الناس، ويدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يدعو العلماء فيقول: يا معشر العلماء، إني لم أضع حكمتي فيكم، وأنا أريد أن أعذبكم، قد علمت أنكم تخلطون من المعاصي ما يخلط غيركم وغفرتها لكم، وإنما كنت أعبد بفتياكم، وتعليمكم عبادي، ادخلوا الجنة بغير حساب. ثم قال: لا معطي لما منع الله ولا مانع لما أعطى» (5).
قال: وقد روي نحو هذا المعنى بإسناد مرفوع متصل، ثم ذكر ذلك إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء. ثم يقول لهم: يا معشر العلماء، إني لم أضع علمي فيكم لأعذبكم، اذهبوا فقد غفرت لكم» (6).
تنبيه:
قال المنذري: «انظر إلى قوله تعالى: «علمي وحلمي» وأمعن النظر، يتضع لك بإضافته إلى الله جل جلاله أنه ليس المراد به علم 53و / أكثر أهل
__________
(1) الطبراني في الكبير: 2/ 78.
(2) هو أبو عبد الرحمن الهمداني الشعبي الكوفي. ت: 213هـ 828م. من الحفاظ وكان ثقة عابدا ناسكا، روى القراءة عن أبي عمرو بن العلاء، وحدث عن الأعمش وثور وروى عنه مسلم بن عيسى الأحمر، القراءة، وحدث عنه الذهلي وغيره، انظر: طبقات القراء: 1/ 418، والتذكرة 1/ 338337.
(3) جامع العلم 1/ 4847. والترغيب 1/ 101.
(4) في «أ»: يحبس.
(5) جامع العلم 1/ 4847. والترغيب 1/ 101.
(6) جامع العلم 1/ 4847. والترغيب 1/ 101.(1/248)
الزمان المجرد عن العمل به، والإخلاص» (1).
قلت: لا إشكال أن الرجاء في هذا الوعد مع العمل بالعلم، وتحقيق الإخلاص في الاشتغال به، ليس كما إذا عري عن ذلك كله، ولكن الظاهر شمول هذا الوعد لمن سعد بمفاز النجاة به، والله أعلم، ورحمته أوسع.
الفضيلة السابعة عشرة:
أنّ مجلسه أفضل من مجالس الذكر الخالية عن التعليم، يشهد له زائدا على ما تقرر من فضل العلم على العبادة ما خرجه أبو عمر من حديث ابن وهب عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلسين في مسجده:
أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون (2) إليه، والآخر يتعلمون الفقه، ويعلمونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلا المجلسين على خير، وأحدهما أفضل من صاحبه، أما هؤلاء فيدعون الله، ويرغبون إليه، فإن شاء أعطاهم، وإن شاء منعهم، وأما هؤلاء فيتعلمون ويعلمون الجاهل، وإنما بعثت معلما، ثم أقبل فجلس معهم» (3).
تبيين:
قال الأستاذ أبو سعيد: «أشار عليه السلام بقوله: «وإنما بعثت معلما» إلى أن أولئك القوم أمكن في الاقتداء به، وأقرب إلى اتباع طريقه، وإن كانا معا مقتدين ومتبعين».
بشارة بمعنى هذه الفضيلة:
وروى ابن وهب عن ابن سيرين قال: «دخلت المسجد والأسود [بن سريع] (4) (5) يقص، وقد اجتمع أهل المسجد، وفي ناحية أخرى من المسجد
__________
(1) م. س: 1/ 101.
(2) أي يبتهلون إلى الله.
(3) جامع العلم: 1/ 50.
(4) بياض في «أ».
(5) ابن البزار أحد الصحابة الذين روى عنهم البخاري. أول من قضى في مسجد البصرة في(1/249)
حلقة من أهل الفقه، فلما فرغت من السّبحة (1) قلت: لو أني أتيت الأسود [بن سريع] (2) فجلست إليه، فعسى أن يصيبهم إجابة أو رحمة فيصيبني معهم، ثم قلت: لو أتيت الحلقة التي يتذاكرون فيها الفقه، فتفقهت معهم لعلي أسمع كلمة لم أسمعها، فأعمل بها، فلم أزل أحدث نفسي 53ظ / بذلك وأشاورها حتى جاوزتهم، فلم أجلس إلى واحد منهم، وانصرفت»!.
وأتاني آت في المنام فقال: «أنت الذي وقفت بين الحلقتين؟ قلت: نعم.
قال: أما إنك لو أتيت الحلقة التي يتذاكرون فيها الفقه، لوجدت جبريل معهم صلى الله عليه وسلم» (3).
قلت: وعلى هذا فمجالس العلم هي أحق بإصابة الرحمة، وإجابة الدعوة كما صرح به ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال: «نعم المجلس، [مجلس] (4) تنشر فيه الحكمة وترجى فيه الرحمة» (5).
وفي «رقائق» ابن المبارك (6) في وصية لقمان لابنه: «لا تترك العلم زهادة فيه ورغبة في الجهالة، وإذا رأيت قوما يذكرون الله فاجلس معهم، إن تكن عالما ينفعك علمك، وإن تكن جاهلا يزيدوك علما، ولعل الله أن يطلع إليهم برحمته، فيصيبك بها معهم، وإذا رأيت قوما لا يذكرون الله، فلا تجلس معهم، إن تكن عالما لا ينفعك علمك، وإن تكن جاهلا يزيدوك عيّا (7)، أو قال: غيّا.
__________
أول الإسلام. توفي في عهد معاوية. وقيل: فقد أيام الجمل. انظر الإصابة: 1/ 4544.
(1) ج سبح، وسبحات: الدعاء، وتطلق على صلاة النافلة.
(2) بياض في «أ».
(3) جامع العلم: 1/ 51.
(4) ساقط من «أ».
(5) م. س: 1/ 5150.
(6) هو أبو عبد الرحمن الحنظلي مولاهم المروزي التركي الأب، الخوارزمي الأم. ت: 181هـ 797م. عالم، فقيه، محدث، صوفي رحل رحلات شاسعة. من تصانيفه: «كتاب الزهد»، و «كتاب التفسير»، و «السنن في الفقه». انظر: التذكرة: 1/ 274.
(7) في كتاب الزهد: 338. جهلا.(1/250)
ولعل الله يطلع عليهم بسخطه فيصيبك معهم» (1) اهـ.
مزيد فضل:
من عظيم بركة حضور مجالس العلم، أنها تعود على حاضرها بأنواع من الخيرات، وإن كان لا يحصل فوائد علمها.
فقد قال السمرقندي (2): «من جلس عند العالم، ولا يقدر أن يحفظ من ذلك العلم شيئا فله سبع كرامات:
أولها: ينال فضل المتعلمين.
قلت: وما تقدم في الفضيلة الثانية عشرة (3) في الفصل قبل هذا دليل عليه.
الثانية: ما دام جالسا عنده كان محبوسا عن الذنوب.
الثالثة: إذا خرج من منزله طلبا للعلم نزلت الرحمة عليه.
الرابعة: إذا جلس في حلقة العلم، فإذا نزلت الرحمة عليهم، حصل له منها نصيب.
الخامسة: ما دام في الاستماع يكتب له طاعة.
السادسة: إذا استمع 54و / ولم يفهم ضاق قلبه لحرمانه عن إدراك العلم، فيصير ذلك الغم وسيلة إلى [رحمة] (4) الله تعالى: «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي».
السابعة: يرى إعزاز [المسلمين] (5) للعالم، وإذلالهم للفاسق فيرد قلبه عن
__________
(1) انظر: م. س: ص 338.
(2) هو أبو محمد الحسن بن أحمد الكوخميثي. ت: 491هـ 1097م. عديم النظير في حفظه، سمع، وجمع، وصنف له كتاب: «بحر الأسانيد في صحاح المسانيد» جمع فيه مائة ألف حديث. انظر: التذكرة: 4/ 12321230.
(3) انظر: ص: 49ظ / من مخ «أ». ص: 239من هذا الكتاب.
(4) في «أ»: إلى حضرة.
(5) غير واضحة في «ج».(1/251)
القسوة (1) ويميل طبعه إلى العلم.
ولهذا أمر عليه السلام مجالسة العلماء» (2) (3).
الفضيلة الثامنة عشرة:
أن طالبه تكفل الله برزقه، وبارك له في معيشته.
فروى الشيخ أبو عمر عن «أبي يوسف» (4) قال: «سمعت أبا حنيفة (5)
يقول: حججت مع أبي سنة ثلاث وتسعين (6)، ولي ست عشر سنة، فإذا شيخ قد اجتمع الناس عليه، فقلت لأبي: من هذا الشيخ؟ فقال: هذا رجل قد صحب النبي صلى الله عليه وسلّم يقال له: عبد الله بن الحارث بن جزء (7). قلت لأبي: فأي شيء عنده؟ قال: أحاديث سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلت لأبي: قدّمني إليه، حتى أسمع منه، فتقدم بين يدي وجعل يفرج الناس حتى دنوت منه، فسمعته يقول:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من تفقه في دين الله كفاه الله همه، ورزقه من حيث لا يحتسب» (8).
__________
(1) في تفسير الرازي 2/ 183: عن الفسق.
(2) في م. س: 2/ 183: الصلحاء.
(3) انظر: م. س: 2/ 183.
(4) هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي البغدادي، صاحب الإمام أبي حنيفة، وتلميذه، وأول من نشر مذهبه، كان فقيها علامة من حفاظ الحديث، ولي قضاء بغداد أيام المهدي، والهادي، والرشيد. ت: 182هـ 798م. من كتبه: «الخراج»، و «الآثار»، و «الرد على مالك». انظر تاريخ بغداد: 14/ 262242.
(5) إمام الحنفية النعمان بن ثابت الكوفي التميمي بالولاء. ت: 150هـ 767م. من آثاره: الفقه الأكبر في الكلام، المسند في الحديث، العالم والمتعلم في العقائد. انظر: تاريخ بغداد: 13/ 423323.
(6) هناك اختلاف في سنة ولادته ما بين 61هـ و 80هـ؟! والواضح من هذه الرواية أن سنة ولادته 77هـ؟!.
(7) ابن جزء بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها همزة الزبيدي. أبو الحارث، نزيل مصر، له صحبة، روى عن النبي. آخر من مات من الصحابة بمصر سنة 86هـ 705م وكان قد عمي.
انظر: الحلية: 2/ 6والتهذيب 5/ 179178.
(8) جامع العلم 1/ 45.(1/252)
قال: وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من غدا في طلب العلم [صلّت] (1) عليه الملائكة، وبورك له في معيشته، وكان عليه مباركا» (2).
وذكر أيضا عن عطاء بن يسار (3) عن كعب رضي الله عنه قال: «ما خرج رجل في طلب علم إلا ضمن الله السماوات والأرض رزقه» (4).
فائدتان:
الفائدة الأولى:
من بركة ضمان رزق طالب العلم وروده كذلك [في حق غيره إذا كان ساعيا عليه.
فخرج أبو عمر أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أخوين] (5)
كانا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهما يحضر حديث 54ظ / النبي صلى الله عليه وسلم ومجلسه، وكان الآخر يقبل على ضيعته، فقال: يا رسول الله، أخي لا يعينني بشيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلعلك ترزق به» (6).
الفائدة الثانية:
ذكر ابن الحاج، في معنى هذا الضمان «أن الله تعالى يسره له من غير تعب ولا مشقة وإن كان الله تعالى قد تكفل برزق الخلائق أجمعين. لكن حكم تخصيص طالب العلم بالذكر، أن ذلك يتيسر عليه بلا تعب ولا مشقة. فجعل
__________
(1) في «ج» ظللت.
(2) جامع العلم 1/ 45.
(3) هو أبو محمد المدني مولى أم المؤمنين ميمونة الفقيه الواعظ، كان ثقة جليلا من أهل العلم، قيل توفي سنة 103هـ 721م، وقيل بل سنة بضع وتسعين. انظر: التذكرة: 1/ 9190.
(4) جامع العلم: 1/ 46.
(5) ما بين المعقوفتين: ساقط من «ج».
(6) جامع العلم: 1/ 59.(1/253)
نصيبه من التعب والمشقة في الدرس، والمطالعة، والتفهم للمسائل، وإلقائها عوضا عن تعب طلب الرزق. وذلك من الله تعالى على سبيل اللطف به، والإحسان إليه.
قال: «وهذا من كرامات العلماء، أعني فهم المسائل وحسن إلقائها، والمعرفة بسياسة الناس في تعلمها».
«كما أن من كرامات الأولياء أشياء أخرى، كالمشي على الماء، والطيران في الهواء» انتهى وبعضه بالمعنى. ويأتي إن شاء الله في خاتمة الكتاب تمام هذا المعنى وبسط «أن طالب العلم معان».
تكميل:
قال الشيخ أبو عمر: «ذكر محمد بن سعد (1) كاتب الواقدي (2) أن أبا حنيفة رأى أنس بن مالك وعبد الله بن الحارث [بن جزء الزبيدي.
قلت: تقدم في الحديث أسنده عن أبي حنيفة أنه لقي عبد الله بن الحارث] (3) رضي الله عنه سنة ثلاث وتسعين» (4).
وذكر في «الاستيعاب» (5) «أنه توفي بمصر، وبها كان ساكنا بعد الثمانين، قيل: سنة ثمان أو سبع وثمانين. وقيل: سنة خمس وثمانين. وكذا ذكر غيره، ففيما [ذكره] (6) نظر يستظهر عليه بما ذكره الناس»!
__________
(1) الحافظ العلامة البصري. ت: 230هـ 844م. كان كثير العلم، كثير الكتب، كتب في الحديث، والفقه، والغريب، وهو مصنف الطبقات الكبير والصغير انظر: التذكرة: 2/ 425.
(2) هو محمد بن عمر بن واقد السهمي الأسلمي بالولاء الواقدي أبو عبد الله ت: نحو 207هـ 823م. محدث، فقيه، واسع العلم، أديب عالم بالسير والمغازي والأخبار. انظر تاريخ بغداد:
3/ 213. والديباج 2/ 162161.
(3) ما بين المعقوفين: ساقط من «ج».
(4) جامع العلم: 1/ 45.
(5) م. س: 1/ 106.
(6) في «ج»: أورده.(1/254)
الفضيلة التاسعة عشرة:
أنّ الله تعالي يحيى به القلوب الميتة بوابل السماء.
ففي المروي من حكم لقمان أنه قال لابنه: «يا بني ما 55و / بلغت من حكمتك؟ قال: لا أتكلف ما لا يعنيني. قال: يا بني: إنه قد بقي شيء آخر، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب الميتة بالحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء.
ويروى أنه كان يقول: يا بني، جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة، كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء» (1) اه.
ونظمه سابق البربري (2) فقال:
العلم فيه حياة للقلوب كما ... تحيا البلاد إذا ما مسها المطر
والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه ... كما يجلي سواد الظلمة القمر
وليس ذو العلم بالتقوى كجاهلها ... ولا البصير كأعمى ما له بصر (3)
تعديل:
قال ابن العربي في «القبس» (4): «هذا المثل الذي جرى من لقمان في الإحياء والإماتة، ورد مفسرا في حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال:
«مثل ما بعثني الله به من الهدى، والحكمة كمثل غيث أصاب أرضا»
الحديث. إلى غير ذلك من الآثار البديعة».
قلت: نص بقية الحديث في رواية: «فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء،
__________
(1) الاستيعاب: 2/ 281280.
(2) هو أبو سعيد سابق بن عبد الله، من موالي بني أمية، و «البربري» لقب له، ولم يكن من البربر، ت: 100هـ 718م. شاعر من الزهاد، له كلام في الحكمة، كان يفد إلى عمر بن عبد العزيز، فيستنشده عمر، فينشده مواعظه. انظر الخزانة: 4/ 164.
(3) جامع العلم: 1/ 5049.
(4) مخ القبس ص: 377.(1/255)
وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب (1) أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها، وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» اه (2).
وهو أيضا أعني المثل مقتبس من معنى قوله تعالى: {أَوَمَنْ كََانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنََاهُ} (3) فقد قيل فيه من حيث الاعتبار العام: {أَوَمَنْ كََانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنََاهُ}، أي ضالا، فهديناه، أو جاهلا، فعلمناه، في نظائر لذلك، لا تخفى على متأمل.
ومن هنالك قال بعض الحكماء: «القلب ميت، وحياته بالعلم، والعلم ميت، وحياته بالطلب، والطلب ضعيف، وقوته بالمدارسة، فإذا قوي بالمدارسة فهو محتجب، وإظهاره بالمناظرة، وإذا ظهر بالمناظرة فهو علم، ونتاجه العمل، فإذا زوج العلم بالعمل توالد، وتناسل، ملكا أبديا لا آخر له» اه. ومثله في كلام الناس كثير.
نظائر:
قال السمرقندي: من جلس مع ثمانية أصناف من الناس، زاده الله تعالى ثمانية أشياء:
من جلس مع الأغنياء زاده الله حب الدنيا والرغبة فيها.
ومن جلس مع الفقراء حصل له الشكر والرضا بقسمة الله.
ومن جلس مع السلطان زاده الله القسوة والكبر.
ومن جلس مع النساء زاده الله الشهوة والجهل.
__________
(1) أجادب: قد يكون جمع أجدب الذي هو جمع: جدب والأجادب، صلاب الأرض التي تمسك الماء فلا تشربه سريعا، وقيل: هي الأرض لا نبات بها. اللسان جدب.
(2) الترغيب: 1/ 99. وصحيح البخاري: 2/ 5655.
(3) سورة الأنعام، الآية: 122.(1/256)
ومن جلس مع الصبيان ازداد من اللهو والمزاح.
ومن جلس مع الفساق ازداد رغبة في المعاصي.
ومن جلس مع العلماء ازداد العلم والورع (1).
الفضيلة العشرون:
أنّ طلبته أهل وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانوا صغارا.
فقد خرج غير واحد عن أبي هارون (2) قال: كنت إذا دخلت على أبي سعيد الخدري يقول: مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: «إن الناس لكم تبّع وسيأتيكم، أو سيأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون، فإذا رأيتموهم فاستوصوا بهم خيرا، وعلموهم مما علمكم الله».
قال عياض: «ومن غير هذا، فإذا جاؤوكم فألطفوهم وحدثوهم» اه.
وخرج عنه أبو نعيم أنه كان إذا جاءه الشاب قال: «مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم 56و / أن نفهمكم الحديث ونوسع لكم في المجلس».
نادرة:
من أطرف ما يحكى في التلطف بصغار الطلبة اعتبارا بالوصية ما ذكروا عن أحمد ابن النضر الهلالي قال: «سمعت أبي يقول: [كنا] (3) في مجلس سفيان بن عيينة (4)، فنظر إلى صبي صغير قد دخل المجلس، وكان أهل
__________
(1) ذكر سبعة فقط ولعله سهو من المؤلف.
(2) هو كلاب بن أمية بن الأسكر الجندعي، سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، نزل البصرة، وإليه تنسب مربعة كلاب. قيل: أرسله عمر إلى الجهاد في بلاد فارس، فقال أبوه شعرا يتشوق إليه، فرق عمر لأمية، ورد كلابا، فنهشته حية فمات، وقيل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: الإصابة: 3/ 303 304.
(3) في الأصول: لنا.
(4) الحافظ سفيان بن عيينة بن ميمون الهلالي الكوفي أبو محمد ت: 198هـ 813م من أعلم الناس بحديث أهل الحجاز، اتفق الأئمة على الاحتجاج به لحفظه. انظر التذكرة: 1/ 265262.(1/257)
المجلس تهاونوا به لصغر سنه، فقال سفيان:
{كَذََلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللََّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} (1)، ثم قال لي سفيان: يا نضر لو رأيتني ولي عشر سنين، وطولي خمسة أشبار، ووجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار، وذيلي بمقدار، ونعلي كآذان الفأر، أختلف إلى علماء الأمصار، مثل الزهري وعمرو بن دينار (2)، أجلس بينهم كالمسمار، ومحبرتي كالجوزة، ومقلمتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا دخلت المجلس، قال الناس: أوسعوا للشيخ الصغير، أوسعوا للشيخ الصغير، ثم تبسم ابن عيينة وضحك.
قال أحمد: وتبسم والدي وضحك».
تنبيه واعتذار:
استقراء ما ورد من فضيلة العلم لا يكاد ينحصر، فالاقتصار على ما ذكر منها فيه كفاية لمن رغب فيه، وتوجهت إليه عنايته، وإلى ذلك فلنختم هذا الفصل بالحديث الذي خرجه الشيخ أبو عمر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ففيه خصائص عظيمة. قال رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«تعلموا العلم، فإن تعليمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة (3)، لأنه معالم (4)
الحلال والحرام، ومنار (5) سبل أهل الجنة، وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب
__________
(1) سورة النساء، الآية: 94.
(2) عمرو بن دينار الجمحي «مولاهم» المكي أبو محمد. ت: 126هـ 743م. المحدث، الفقيه، قال شعبة ما رأيت أحدا أثبت في الحديث من عمرو، ولا أحد أفقه من عمرو، انظر التذكرة:
1/ 114113.
(3) في جامع العلم 1/ 54: طاعة.
(4) المعالم: ج معلم، الأثر يستدل به على الطريق، والمراد هنا: أن العلم يوضح لك طرق الحلال والحرام.
(5) المنار: علم الطريق، أي يرفع العلم شارة الهداية في طرق الجنة، ليصل إليها من تعلم وعلم.(1/258)
في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواما، فيجعلهم في الخير قادة وأئمة (1) 56ظ / تقتص آثارهم، ويقتدى بفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خلتهم (2)، وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل (3) الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، التفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، وهو إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء» اه.
قال: «وهو حديث حسن جدا، ولكن ليس له إسناد قوي، وقد رويناه من طرق شتى موقوفا» (4). قال المنذري: ورفعه غريب جدا، والله أعلم (5).
__________
(1) في الترغيب 1/ 95: قادة قائمة.
(2) الخلة: الصداقة المختصة التي ليس فيها خلل وتجمع على خلال «اللسان خلل».
(3) في «أ»: منار.
(4) الحديث الموقوف: المروي عن الصحابة قولا لهم، أو فعلا أو نحوه، متصلا كان أو منقطعا، ويستعمل في غيرهم مقيدا، فيقال: وقفه فلان على الزهري وغيره، وعند الفقهاء تسمية الموقوف بالأثر، والمرفوع بالخبر، وعند المحدثين كله يسمى أثرا / التقريب للنووي: 1/ 6، من صحيح البخاري.
(5) انظر: جامع العلم 1/ 5554، والترغيب 1/ 95.(1/259)
الفصل الثالث في الفضائل المركبة من العقل والنقل
ونعني بذلك ما تقتضيه الدلائل السمعية اعتبارا أو استنباطا.
الفضيلة الأولى:
ما يدل عليه قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسََانَ مََا لَمْ يَعْلَمْ} (1).
يفيد شرف العلم على غيره من وجهين:
أحدهما: أنه تعالى ذكر أول خلق الإنسان، وهو كونه علقة خسيسة، وآخر حاله وهو صيرورته، عالما جليلا.
قال الإمام فخر الدين: «كأنه تعالى يقول: كنت في أول حالك في تلك الدرجة التي هي غاية الخساسة، فصرت في آخر حالك في هذه الدرجة التي هي الغاية في الشرف».
قال: «وهذا إنما يتم لو كان العلم أشرف المراتب، إذ لو كان غيره أشرف، لكان ذكر ذلك الشيء في هذا المقام أولى» (2).
الثاني: أنه تعالى قال: {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}. وقد ثبت في
__________
(1) سورة العلق، الآيات: 51.
(2) تفسير الرازي: 2/ 186.(1/261)
الأصول 57و / أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية (1).
قال الإمام: «وذلك يدل على أنه سبحانه إنما استحق الوصف بالأكرمية لأنه أعطى العلم، فلولا أن العلم أشرف من غيره، وإلا لما كانت إفادته أشرف من إفادة غيره» (2).
الفضيلة الثانية:
ما يتضمنه قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (3) مع قوله تعالى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى ََ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمََّا عُلِّمْتَ رُشْداً} (4).
أما الأول:
فقال الإمام فخر الدين: «أدل دليل على نفاسة العلم وعلو مرتبته
حيث أمر نبيه بالازدياد منه خاصة دون غيره» (5).
وأما الثاني:
ففيه من تواضع موسى في طلب علم الخضر عليهما السلام ما يدل على فضيلة العلم، الدلالة التي لا يخفى ظهورها، وقد قرر الإمام هذا التواضع من وجوه:
أحدهما: أنه جعل نفسه تبعا لقوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ}.
الثاني: أنه استأذن في هذه التبعية كأنه قال: هل تأذن لي في أن أجعل نفسي تبعا لك، وهذا مبالغة عظيمة في التواضع.
الثالث: أنه قال: {عَلى ََ أَنْ تُعَلِّمَنِ}. وهذا إقرار على نفسه بالجهل، وعلى أستاذه بالعلم.
__________
(1) م. س: 2/ 186: مشعر بكون الوصف علة.
(2) م. س: 2/ 186.
(3) سورة طه، الآية: 114.
(4) سورة الكهف، الآية: 66.
(5) تفسير الرازي: 2/ 187.(1/262)
الرابع: أنه قال: {مِمََّا عُلِّمْتَ}، و «من» هنا للتبعيض كأنه يطلب بعض ما علمه، فيقول: لا أطلب منك أن تجعلني مشاركا لك في العلم، بل أطلب منك أن تعلمني جزءا من أجزاء علمك كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزءا من أجزاء ماله.
الخامس: أن قوله: {مِمََّا عُلِّمْتَ}، اعتراف بأن الله تعالى علمه ذلك العلم.
قلت: وذلك يفيد تعظيمه للخضر، وإقراره بفضيلة العناية به.
السادس: أن قوله: {رُشْداً} طلب منه الإرشاد للهداية، فالإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية والضلالة.
السابع: أن قوله «تعلمني مما علمت»، فمعناه أنه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله 57ظ / فيشعر بأن إنعامه عليه بتعليمه كما قيل: «أنا عبد من تعلّمت منه حرفا».
الثامن: أن قوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ} يدل على أنه يأتي بمثل أفعال أستاذه، بمجرد كون ذلك الأستاذ فعل ذلك كما هي حقيقة المتابعة، وحينئذ فيدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر السلم، وترك المنازعة، والاعتراض.
التاسع: أن قوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ}، يدل على متابعته مطلقا في جميع الأمور، غير مقيد بشيء دون شيء.
العاشر: أنه قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى ََ أَنْ تُعَلِّمَنِ}، فأثبت كونه تبعا له أولا، ثم طلب ثانيا أن يعلمه، وهذا منه ابتداء، بالخدمة، ثم في المرتبة الثانية طلب منه التعليم.
الحادي عشر: أنه قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى ََ أَنْ تُعَلِّمَنِ}، فلم يطلب على هذه المتابعة إلا التعليم كأنه قال: لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه، ولا غرضا إلا طلب التعليم.
الثاني عشر: ثبت في «الأخبار» أن «الخضر» عليه السلام عرف أولا:
أنه نبي بني إسرائيل وأنه هو موسى صاحب التوراة الذي كلمه الله من غير واسطة، وخصه بالمعجزات القاهرة والآيات الباهرة، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة، والدرجات العالية الشريفة، أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع وذلك يدل على كونه عليه السلام أتى في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة في التواضع.(1/263)
الثاني عشر: ثبت في «الأخبار» أن «الخضر» عليه السلام عرف أولا:
أنه نبي بني إسرائيل وأنه هو موسى صاحب التوراة الذي كلمه الله من غير واسطة، وخصه بالمعجزات القاهرة والآيات الباهرة، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة، والدرجات العالية الشريفة، أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع وذلك يدل على كونه عليه السلام أتى في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة في التواضع.
قال الإمام: «وهذا هو اللائق به، لأن كلّ من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه فيها من البهجة، والسعادة أكثر، وكان طلبه لها أشد، وتعظيمه لأرباب العلم أكمل وأتم» انتهى ملخصا وبعضه بالمعنى (1).
ولا يخفى ما في هذه الوجوه كلها من الدلالة على شرف العلم، ورفعة شأنه عند الرسل 58و / الكرام.
الفضيلة الثالثة:
ما صرح به قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لََا يَعْلَمُونَ} (2).
فإن انتفاء التسوية بين من يعلم وبين من لا يعلم ثانية عن كون العلم في نفسه شريفا، نفيسا وذلك مما لا خفاء فيه. ومن هناك ورد التقرير على انتفاء التسوية انتفاء [معلوما] (3) بنفسه.
فوائد في تنبيه:
الفائدة الأولى:
«فرق تعالى بين سبعة في كتابه:
فرق بين الخبيث والطيب فقال: {قُلْ لََا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} (4) يعني الحلال والحرام.
__________
(1) تفسير الرازي: 2/ 151.
(2) سورة الزمر، الآية: 9.
(3) في «ج»: مفهوما.
(4) سورة المائدة، الآية: 100.(1/264)
وبين الأعمى والبصير فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ} (1).
وبين النور والظلمة: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمََاتُ وَالنُّورُ} (2).
وبين الجنة والنار: «وبين الظلّ والحرور» (3).
قال الإمام فخر الدين: «وإذا تأملت وجدت كل ذلك مأخوذا من الفرق بين العالم والجاهل» (4).
الفائدة الثانية:
قال الزمخشري: «أراد «بالذين يعلمون»: العاملين من علماء الديانة، كأنه جعل من لا [يعمل] (5) غير عالم.
قال: وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم، ثم لا يقتنون، ويفتنون، ثم يفتنون بالدنيا فهم عند الله جهلة، حيث جعل القانتين هم العلماء.
قال: ويجوز أن يراد على سبيل التشبيه، أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون، كذلك لا يستوي القانتون، والعاصون» (6).
الفائدة الثالثة:
قوله تعالى قبل هذه الآية: {أَمَّنْ هُوَ قََانِتٌ آنََاءَ اللَّيْلِ سََاجِداً وَقََائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} (7). يتضمن البداية بذكر العمل، والختم بذكر العلم.
أما العمل: فقوله: {سََاجِداً وَقََائِماً}.
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 50.
(2) سورة الرعد، الآية: 16.
(3) إشارة إلى قوله تعالى: {وَمََا يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمََاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} سورة فاطر، الآيات: 2119.
(4) تفسير الرازي: 2/ 179.
(5) في «أ»: لا يعلم.
(6) تفسير الزمخشري: 4/ 117116.
(7) سورة الزمر، الآية: 9.(1/265)
وأما العلم: فقوله: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لََا يَعْلَمُونَ} (1).
قال الإمام فخر الدين: «وهذا يدلّ على أنّ كمال الإنسان محصور في هذين المقصدين. فالعمل هو البداية، والعلم، والمكاشفة، هو النهاية».
قال مشيرا إلى سر آخر 58ظ / من الأسرار العجيبة التي قال إن هذه الآيات تدل عليها: «أنه تعالى نبه على أن الانتفاع بالعمل، إنما يحصل إذا كان الإنسان مواظبا عليه، فإن القنوت عبارة عن كون الرجل قائما بما يجب عليه.
وقوله: {سََاجِداً وَقََائِماً}: إشارة إلى أصناف الأعمال، وقوله: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ}، إشارة إلى أن الإنسان عند المواظبة على الأعمال ينكشف له في أول الأمر مقام [القبر] (2)، وهو قوله: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ}. ثم بعده مقام الرحمة، وهو قوله: {وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ}. ثم يحصل له أنواع المكاشفات، وهي المراد بقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لََا يَعْلَمُونَ}».
الفائدة الرابعة:
قوله تعالى: {إِنَّمََا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبََابِ} (3).
قال الإمام: «يعني أن هذا التفاوت العظيم الحاصل بين العلماء والجهال لا يعرفه أيضا إلا أولو الألباب.
قيل لبعض العلماء: إنكم تقولون: العلم أفضل من المال، ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك، ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء؟ فأجاب بأن هذا أيضا يدل على فضيلة العلم، لأن العلماء علموا ما في المال فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فتركوه».
قلت: سيأتي إن شاء الله رجحان العلم على المال زائدا على ما
__________
(1) سورة الزمر، الآية: 9.
(2) في «أ»: القدر.
(3) سورة الزمر، الآية: 9.(1/266)
تقدم (1) في حديث كميل بن زياد.
الفضيلة الرابعة:
ما يفيده قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجََاتٍ} (2) إذ لا يخفى ما فيه من التّعريف بشريف العلم، وإنهاض الهمم العملية إلى اقتباس ما يتوصل به إلى رفيع هذه الدرجات.
ومن هنا كان ابن مسعود رضي الله عنه إذا قرأه 59و / قال: «يا أيها الناس، افهموا هذه الآية، ولترغبكم في العلم».
تعريف:
قال الإمام فخر الدين (3): «ذكر تعالى الدرجات لأربعة أصناف:
أولها: للمؤمنين من أهل بدر في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذََا ذُكِرَ اللََّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله: {لَهُمْ دَرَجََاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (4).
الثانية: للمجاهدين في قوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللََّهُ الْمُجََاهِدِينَ عَلَى الْقََاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} (5).
الثالثة: من عمل الصالحات في قوله: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصََّالِحََاتِ فَأُولََئِكَ لَهُمُ الدَّرَجََاتُ الْعُلى ََ} (6).
الرابعة: للعلماء {يَرْفَعِ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجََاتٍ}.
قال: فالله تعالى فضل أهل بدر على غيرهم من المؤمنين بدرجات، وفضل المجاهدين على القاعدين بدرجات، وفضل الصالحين على هؤلاء
__________
(1) انظر: 34ظ / من مخ «أ» و 35و / ص: 192وما بعدها من هذا الكتاب.
(2) سورة المجادلة، الآية: 11.
(3) تفسير الرازي: 2/ 186.
(4) سورة الأنفال، الآيات: 42.
(5) سورة النساء، الآية: 95.
(6) سورة طه، الآية: 75.(1/267)
بدرجات وفضل العلماء على جميع الأصناف بدرجات، فوجب كون العلماء أفضل الناس» (1).
دلالة:
قال ابن العربي في «القانون» (2): «قيل: جعل الله تعالى كرام الخلق أربع طبقات:
الأنبياء والملوك، والعلماء، والعباد، والثلاثة منها تخضع للواحد.
أما الأنبياء: فموسى عليه السلام خضع للخضر عليه السلام.
وأما الملوك: فملك مصر خضع ليوسف، وسليمان خضع للهدهد.
وأما العباد: فهم الملائكة الذين خضعوا لآدم عليه السلام.
قال: فالناس إنما سادوا بالعلم، وبه رفعت أقدارهم. قال أيضا إثر سوقه لهذا المعنى بعبارة أخرى: فالعلم هو الفضل الكبير، والرتبة السنية، ولذلك قال تعالى: {يَرْفَعِ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجََاتٍ}».
الفضيلة الخامسة:
ما أشاد به قوله تعالى: {إِنَّمََا يَخْشَى اللََّهَ مِنْ عِبََادِهِ الْعُلَمََاءُ}.
وبيان تضمنه لفضيلة العلم من وجوه: أحدها: 59ظ / دلالته على أنهم من أهل الجنة وبرهانه أن العلماء من أهل الخشية، وكل من كان من أهل الخشية فهو من أهل الجنة، وينتج العلماء من أهل الجنة، بيان الأولى: قوله تعالى:
{إِنَّمََا يَخْشَى اللََّهَ مِنْ عِبََادِهِ الْعُلَمََاءُ}.
__________
(1) تفسير الرازي: 2/ 179.
(2) القانون في تفسير القرآن، بهذا الاسم ذكره صاحب الديباج: 2/ 254.
يوجد الجزء الأول منه بالأسكوريال تحت رقم 1264، ويوجد في القاهرة جزآن منه: «مجلة المخطوطات العربية. مجلد 5/ 1/ 166. وبخزانة القرويين جزء آخر منه، مكتوب عليه «السفر الرابع وكتب في آخر ورقة منه قد تم السفر الرابع. ويليه السفر الخامس، وهو مسجل تحت رقم 926، واسمه حسب الفهرسة هناك: واضح السبيل إلى معرفة قانون التأويل وفوائد التنزيل.(1/268)
وبيان الثانية: قوله تعالى: {جَزََاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنََّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ} إلى قوله تعالى: {ذََلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (1).
قال الإمام فخر الدين: «ويمكن إثبات مقدمتي هذا الدليل بالعقل.
أما بيان أن العالم بالله يجب أن يخشاه، فلأن من لم يكن عالما بالشيء يستحيل أن يكون خائفا منه، ثم لا يكفي في الخوف: العلم بالذات، بل لا بد من العلم بالقدرة، لأن الملك عالم باطلاع رعيته على أفعاله القبيحة، لكنه لا يخافهم لعلمه بأنهم لا يقدرون على دفعه، وبكونه عالما، لأن السارق من مال السلطان يعلم قدرته، ولكنه يعلم أنه غير عالم بسرقته فلا يخافه.
وبكونه حكيما: لأن الساخر بالغير عند السلطان، عالم بكون السلطان قادرا على منعه عالما بقبائح أفعاله، لكنه يفعل لعلمه أنه يرضى بما لا ينبغي فلا يحصل الخوف، أما لو علم اطلاع السلطان على قبائح أفعاله، وعلم قدرته على منعه، وعلم أنه حكيم لا يرضى بسفاهته صارت هذه العلوم الثلاثة موجبة لحصول الخوف في قلبه، فثبت أن خوف العبد من الله تعالى لا يحصل إلا إذا علم بكونه تعالى عالما بجميع المعلومات، قادرا على كل المقدورات غير راض بالمحرمات والمنكرات، فثبت أن الخوف من لوازم العلم بالله.
وأما بيان [أن] (2) الخشية سبب في الثواب: فلأن العبد إذا وجد لذة عاجلة، وكانت على خلاف أمر الله تعالى، صارت مشتملة على منفعة ومضرة، وصريح العقل حاكم بترجيح الجانب الراجح على الجانب المرجوح وإذ ذاك فيصير 60و / تاركا للمحظور، فاعلا للواجب، و [ذلك] (3) هو المعنى بكونه من أهل الثواب.
قال: فقد ثبت بالشواهد النقلية والعقلية أن العالم بالله خائف، والخائف من أهل الجنة» (4) انتهى ملخصا.
__________
(1) سورة البينة، الآية: 8.
(2) ساقط من «أ».
(3) في «ج»: أن.
(4) تفسير الرازي: 2/ 187186.(1/269)
الثاني: أن ظاهره يدل على أنه ليس من أهل الجنة إلا العلماء لأن كلمة «إنما» للحصر، فيقتضي أن خشية الله تعالى لا تحصل إلا للعلماء، وقوله تعالى: {ذََلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}، يعطي أن الجنة [لأهل] (1) الخشية، وينافي كونها لغيرهم، فيدل مجموع الآيتين على أن الجنة ليست إلا للعلماء (2).
الثالث: أنه يدل مع قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أُولََئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (3) إلى قوله تعالى: {ذََلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}. أن خير البرية العلماء.
وبرهانه: أن تقول: خير البرية من يخشى الله، وكلّ من يخشى الله فهو عالم، ينتج خير البرية عالم.
بيان الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} إلى قوله تعالى: {ذََلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}.
قال القرافي: «فأثبت الخشية لخير البرية وهو المطلوب» (4).
بيان الثاني: قوله تعالى: {إِنَّمََا يَخْشَى اللََّهَ مِنْ عِبََادِهِ الْعُلَمََاءُ}.
قال القرافي: «أضاف سبحانه الخشية لكل عالم على وجه الحصر، فيكون كل من يخشى الله تعالى فهو عالم، وهو المطلوب» (5).
الرابع: قرأ عمر بن عبد العزيز ويحكى عن أبي حنيفة: «إنّما يخشى الله من عباده العلماء»، برفع الأول ونصب الثاني.
قال الإمام فخر الدين الرازي: «ومعنى هذه القراءة أنه لو جازت الخشية عليه تعالى لما خشي إلا العلماء، لأنهم هم الذين يميزون بين ما يجوز وبين ما لا يجوز، أما الجاهل الذي لا يميز بين هذين البابين فأي مبالاة به، وأي التفات إليه.
__________
(1) في «ج»: أن الجنة لهم.
(2) م. س: 2/ 187.
(3) سورة البينة، الآيتان: 7و 8.
(4) مخ الذخيرة: 1/ 6.
(5) م. س: 1/ 6.(1/270)
قال: «ففي هذه القراءة نهاية الفخر للعلماء، والتعظيم» (1).
قلت: وجه الزمخشري هذه القراءة: «بأن الخشية فيها استعارة، والمعنى إنما يجلهم ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي 60ظ / من الرجال بين الناس من بين جميع عباده» اه، ومقصده ما ذكره الإمام حاصل من هذا الوجه» (2).
تنبيه على موعظة:
قال الإمام: «هذه الآية فيها تخويف شديد، لأنه إذا ثبت أن الخشية من الله، من لوازم العلم، فتنبهك هذه الدقيقة، على أن العلم الذي هو سبب القرب من الله تعالى هو الذي يورث الخشية، وأن أنواع المجادلات، وإن دقت، وغمضت إذا حادت عن إفادة الخشية ليست من العلم» (3).
قلت: يعم هذا، وغيره قول الشيخ تاج الدين (4): «العلم إن قارنته الخشية فلك، وإلا فعليك» اه.
وتقرير هذا المعنى شهير في كلام الناس، فلا نطول بإيراده، وفيما ذكر منه كفاية.
الفضيلة السادسة:
ما عرف به قوله تعالى في معرض المنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْزَلَ اللََّهُ عَلَيْكَ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مََا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكََانَ فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (5).
__________
(1) تفسير الرازي: 2/ 187.
(2) تفسير الزمخشري: 13/ 611.
(3) تفسير الرازي: 2/ 187.
(4) تاج الدين أبو الفضل أحمد بن عطاء الله الإسكندري المالكي. ت: 709هـ 1309م، الإمام، المتكلم كان شاذلي الطريقة، وأخذ طريقه عن أبي العباس المرسي. كما كان جامعا لأنواع العلوم من تفسير، وحديث ونحو، وأصول، وفقه. من تصانيفه: «التنوير في إسقاط التدبير»، و «الحكم». وله نظم حسن في الوعظ. انظر طبقات الأولياء: 422421، والديباج: 1/ 242 243.
(5) سورة النساء، الآية: 113.(1/271)
قال القرافي: «عادة العرب في سياق الامتنان تأخير الأفضل، وتقديم المفضول فتكون موهبته عليه الصلاة والسلام من العلم أفضل من موهبته من الإنزال المتضمن للنبوة والرسالة».
قال: «وهذا شرف عظيم، شبّ فيه عمرو (1) عن الطّوق (2)».
قلت: يرشحه قول الإمام فخر الدين: «وانظر إلى حال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كيف منّ الله تعالى عليه بالعلم مرة بعد أخرى فقال: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ََ (7) وَوَجَدَكَ عََائِلًا فَأَغْنى ََ} (3). فقدم الامتنان بالعلم قبل الامتنان بالمال.
وقال تعالى: {مََا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتََابُ وَلَا الْإِيمََانُ} (4).
وقال: {مََا كُنْتَ تَعْلَمُهََا أَنْتَ وَلََا قَوْمُكَ} (5).
ثم إنه أول ما أوحي إليه قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى قوله:
{عَلَّمَ الْإِنْسََانَ مََا لَمْ يَعْلَمْ} (6). ثم قال: {وَعَلَّمَكَ مََا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}. وهو عليه السلام 61و / كان أبدا يقول: «أرنا الأشياء كما هي» (7). انتهى المقصود منه.
قلت: وأمره مع ذلك [بطلب] (8) المزيد من العلم، فقال له عز وجل:
{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (9)، وكل ذلك من أوضح دليل على شرف العلم.
__________
(1) ويقال أيضا: «كبر عمرو عن الطوق»، والطوق: حلي للعنق: يضرب لملابس ما هو دون قدره.
ترتيب القاموس المحيط طوق.
(2) مخ الذخيرة: 1/ 6.
(3) سورة الضحى، الآيتان: 7و 8.
(4) سورة الشورى، الآية: 52.
(5) سورة هود، الآية: 49.
(6) سورة العلق، الآيات: 51.
(7) تفسير الرازي: 2/ 200.
(8) في «ج»: يطلب.
(9) سورة طه، الآية: 114.(1/272)
الفضيلة السابعة:
ما يشير إليه قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللََّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1).
فإن الأصح عند المحققين أن المراد بأولي الأمر: العلماء.
قال ابن العربي: «وبه قال جابر (2) وأكثر التابعين، واختاره مالك.
قال مطرف ومحمد بن مسلمة (3): سمعنا مالكا يقول: هم العلماء.
وقال خالد بن نزار (4): وقفت على مالك فقلت له: يا أبا عبد الله، ما ترى في قوله تعالى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}. قال: وكان محتبيا، فحل حبوته، وكان عنده أصحاب الحديث، ففتح عينيه في وجهي، وعلمت ما أراد، وإنما عنى: أهل العلم. قال: والصحيح عندي، أنهم: الأمراء، والعلماء جميعا، أما الأمراء: فلأن أصل الأمر منهم، والحكم إليهم. وأما العلماء: فلأن سؤالهم متعين على الخلق، وجوابهم لازم، وامتثال قولهم واجب، والأمر كله يرجع إلى العلماء، لأن الأمر قد أفضي إلى الجهال، وتعين عليهم الرجوع إلى العلماء، ولذلك نظر مالك إلى خالد بن [نزار] (5) نظرة منكرة، كأنه يشير بها إلى أن الأمر قد وقف في ذلك على العلماء، وزال عن الأمراء لجهلهم واعتدائهم، والعادل منهم مفتقر إلى العالم كافتقار الجاهل». انتهى ملخصا.
قلت: تصحيحه لإرادة الصنفين لا ينافي قول الأكثرين. وتقريره لذلك
__________
(1) سورة النساء، الآية: 59.
(2) هو جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري الصحابي ابن الصحابي. ت: 74هـ 693م غزا تسع عشرة غزوة مع الرسول، وكانت له حلقة بالمسجد النبوي. أخذ عنه جماعة منهم: محمد بن المنكدر، وزيد بن أسلم انظر الإصابة: 1/ 213، والشجرة: 1/ 45.
(3) محمد بن مسلمة بن محمد بن هشام (وهشام هذا هو أمير المدينة الذي نسب إليه مد هشام) كان أحد فقهاء المدينة، من أصحاب مالك، وله كتب فقه أخذت عنه. ت: 216هـ 831م. انظر المدارك: 3/ 131. وفي الديباج: 2/ 156. أنه توفي سنة 206هـ.
(4) ابن المغيرة بن سليم الغساني (مولاهم) الإيلي. ت: 222هـ 836م. ذكره ابن حبان في الثقات. انظر: التهذيب: 3/ 123.
(5) في «أ» و «ج»: خالد بن يزيد.(1/273)
ظاهر المعنى في صحة الاعتبارين، وهو ظاهر قول الشيخ (1) في «الرسالة»:
«والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمرهم وعلمائهم» (2).
وقوله: «والأمر كله يرجع إلى العلماء» من شهادة اعتبار عمومه، قول أبي الأسود الدؤلي: «الملوك 61ظ / حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك» (3).
مسألتان:
المسألة الأولى:
قال بعض شراح «الرسالة» (4): «يجب اتباع العلماء في أقوالهم، وأفعالهم، لأنهم واسطة بيننا وبين الله تعالى، لأن العلم إنما هو من عند الله تعالى، وتعلمه جبريل عن رب العزة، وتعلمه النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل، وتعلمه الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتعلمه التابعون عن الصحابة، ثم تابع التابعين ثم العلماء طائفة بعد طائفة إلى هلم جرا».
قال: فمن أبغض العلماء فهو كافر لأنه قطع الواسطة (5). ولهذا قال الشافعي: «من أبغضنا فقد قطع [الواسطة] (6) بينه وبين الله تعالى».
قلت: إن كان بغضهم لما هم به واسطة من حيث عدم الرضا به، فالكفر على ظاهره، وإن كان لأمر آخر فهو على التغليظ، والمبالغة في التحذير من عظيم ما يؤدي إليه.
المسألة الثانية:
إذا ارتفع رجلان إلى عالم، فذكر بعضهم أنه لا يخلو أن يتخاصما إليه
__________
(1) هو ابن أبي زيد القيرواني.
(2) انظر «الرسالة» في فقه مذهب مالك بن أنس: ص 11.
(3) جامع العلم: 1/ 60.
(4) لها شروح كثيرة. انظر كشف الظنون: 1/ 557.
(5) في «ج»: الوساطة.
(6) في «ج»: الوساطة.(1/274)
[في واجب أولا] (1) فإن كان الأول صار كالحاكم بينهما، فتجب عليهما طاعته، وإن كان مندوبا يستحب لهما طاعته.
قلت: وإن كان حراما وجب الترك، أو مكروها فيستحب تركه. وأما المباح فلا نظر فيه، من حيث الأمر أو النهي لأن حقيقته تنافي ذلك، فلا يكون محلا لطاعة ولا مخالفة.
الفضيلة الثامنة:
ما أعلم به قوله تعالى: {قُلْ هََذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللََّهِ عَلى ََ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (2) من الدلالة على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما بعثوا إلا للدعوة إلى الحق، وخصوصا هذا النوع من الحق، وهو الأصول والعقائد 62و /
قال الإمام فخر الدين: «ثم خذ من أول الأمر فإنه سبحانه لما قال: {إِنِّي جََاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}. وقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهََا مَنْ يُفْسِدُ فِيهََا} قال سبحانه: {إِنِّي أَعْلَمُ مََا لََا تَعْلَمُونَ} (3).
فأجابهم بكونه سبحانه عالما، فلم يجعل سائر صفات الجلال من القدرة والإرادة، والسمع والبصر، والوجوب، والقدم، والاستغناء عن المكان، والجهة، جوابا لهم، موجبا لسكوتهم، وإنما جعل صفة العلم جوابا لهم، وذلك يدل على أن صفات الجلال والكمال، وإن كانت بأسرها، في نهاية الشرف، إلا أن صفة العلم أشرف، ثم إنه سبحانه إنما أظهر فضل آدم بالعلم، وذلك يدل على أن العلم أشرف من غيره، ثم إنه سبحانه وتعالى لما أظهر علمه جعله مسجودا لملائكة أو خليفة العالم السفلي، وذلك يدل على أن تلك المرتبة إنما استحقها آدم بالعلم، ثم إن الملائكة افتخرت بالتسبيح والتقديس، والافتخار
__________
(1) ساقط من «أ».
(2) سورة يوسف، الآية: 108.
(3) سورة البقرة، الآية: 30.(1/275)
بهما إنما يحصل لو كانا مقرونين بالعلم، وإلا فهما بدونه نفاق، والنفاق أخس المراتب، أو تقليد، والتقليد مذموم، فثبت أن تسبيحهم وتقديسهم إنما كان موجبا للافتخار ببركة العلم، ثم إن آدم عليه السلام إنما وقع عليه اسم المعصية لأنه أخطأ في مسألة (1) واحدة اجتهادية، ولأجل هذا الخطأ القليل، وقع فيما وقع فيه، والشيء كلما كان الخطر فيه أكثر، كان أشرف، وذلك يدل على غاية جلالة العلم، ثم إنه ببركة العلم لما تاب، وأناب، وترك الإصرار وجد خلعة الاجتباء (2). ثم انظر إلى إبراهيم عليه السلام كيف اشتغل في أول أمره بطلب العلم على ما قال تعالى: {فَلَمََّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى ََ كَوْكَباً} (3). ثم انتقل من الكوكب إلى القمر، ومن القمر إلى الشمس، ولم يزل ينتقل بفكره من شيء إلى شيء، إلى أن وصل بالدليل 62ظ / الزاهر، والبرهان الباهر إلى المقصود، وأعرض عن الشرك فقال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ} (4).
فلما وصل إلى هذا المقام مدحه الله تعالى: بأشرف المدائح، وعظمه على أتم الوجوه فقال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنََا آتَيْنََاهََا إِبْرََاهِيمَ عَلى ََ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجََاتٍ مَنْ نَشََاءُ} (5).
ثم إنه عليه السلام بعد الفراغ من معرفة المبدأ اشتغل بمعرفة المعاد، فقال: {وَإِذْ قََالَ إِبْرََاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ََ} (6). ثم لما فرغ من التعليم، اشتغل بالتعليم، والمحاجة، تارة مع أبيه، وتارة مع قومه: {مََا هََذِهِ}
__________
(1) قوله تعالى: {وَلََا تَقْرَبََا هََذِهِ الشَّجَرَةَ} سورة البقرة، الآية: 35.
(2) من قوله تعالى: {ثُمَّ اجْتَبََاهُ رَبُّهُ}، أي خصه، واصطفاه. سورة طه، الآية: 122.
خلعة الاجتباء: الخلعة: ما يخلع على الإنسان، أو خيار المال، والاجتباء: الاختيار والاصطفاء.
(3) سورة الأنعام، الآية: 76.
(4) سورة الأنعام، الآية: 79.
(5) سورة الأنعام، الآية: 83.
(6) سورة البقرة، الآية: 260.(1/276)
{التَّمََاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهََا عََاكِفُونَ} (1) وأخرى مع ملك زمانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرََاهِيمَ فِي رَبِّهِ} (2).
وانظر إلى صالح، وهود، وشعيب عليهم السلام كيف كان اشتغالهم في أوائل أمورهم وأواخرها بالتعلم والتعليم، وإرشاد الخلق إلى النظر، والتفكر في الدلائل، وكذلك أحوال موسى عليه السلام مع فرعون وجنوده، ووجوه دلائله معه.
ثم انظر إلى حال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وذكر ما تقدم عنه في الفضيلة السادسة» (3).
مزيد بيان:
هذه الدعوة التي بعث الأنبياء لأجلها ذكر الشيخ أبو العباس ابن زاغو (4)
رحمه الله عن بعض شيوخه (5): «أنها في الكتاب العزيز تستدعي تحصيل سبع معارف، وحينئذ يكمل أمرها:
الأولى: معرفة أمر الله تعالى بأنه سبحانه يدعو خلقه إلى العلم به والعمل له.
قال تعالى: {وَاللََّهُ يَدْعُوا إِلى ََ دََارِ السَّلََامِ} (6).
__________
(1) سورة الأنبياء، الآية: 52.
(2) سورة البقرة، الآية: 258.
(3) تفسير الرازي: 2/ 200199.
(4) في الأصول: ابن زاغ، ولكن جاء في «النيل» و «الشجرة» و «رحلة القلصادي»: «ابن زاغو» وهو أحمد بن محمد المغراوي الخزرجي التلمساني الشهير «بابن زاغو» ت: 845هـ 1441م أعلم الناس في وقته في التفسير، وفي الحديث، له قدم راسخة في التصوف من شيوخ القلصادي ذكره في رحلته فقال عنه: «أكرمه المولى بتلاوة القرآن، وشرفه بملازمة قراءة العلم، والتصنيف، والتدريس، والتأليف. من تصانيفه: «مقدمة على التفسير» و «تفسير الفاتحة»، و «التذييل» في ختم التفسير، و «شرح التلخيص» لوالده. انظر: رحلة القلصادي: / 106102، النيل: 78 79، الشجرة: 1/ 254.
(5) من شيوخه: سعيد العقباني، وأبو يحيى الشريف.
(6) سورة يونس، الآية: 25.(1/277)
الثانية: معرفة المدعو بنفسه لأنه طريق إلى معرفة الله تعالى.
الثالثة: معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه الداعي إلى الله تعالى.
الرابعة: معرفة المدعو إليه، وهو الدار الآخرة. وقال تعالى: {وَاللََّهُ يَدْعُوا إِلى ََ دََارِ السَّلََامِ} [ودار السلام] (1) 63و / من الآخرة.
الخامسة: معرفة المدعو به، وهو القرآن، قال تعالى: {ادْعُ إِلى ََ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}. فإن كان المراد بهما القرآن فواضح، وإن كان ما هو أعم منه، ومن السنة كان القرآن أولهما. وهذه الآية تتضمن الداعي والمدعو به.
السادسة: معرفة الطريق التي يسلكها المدعو عند إرادته الإجابة.
السابعة: معرفة ما تقوى به داعية المدعو إلى الإجابة، ويزيحه عن التقاعد عنها وذلك باطلاعه على أحوال المجيبين، وصنع الله بهم، وأحوال الناكبين، وانتقام الله منهم.
قال: وعلى كل معرفة من هذه المعارف شبه يحتاج إلى إماطتها عنها، ومن أحاط بهذه المعارف علما حصل على معرفة مقاصد القرآن أجمع، ووقف على تفسير الله إجمالا». انتهى ملخصا.
قلت: وقد ظهر بهذا القدر منها على الإجمال شرف هذه الفضيلة، وعظيم موقعها من خصائص العلم، وشواهد المنة به.
الفضيلة التاسعة:
ما أوضحه قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ اصْطَفََاهُ عَلَيْكُمْ وَزََادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} (2) فإنهم لما استبعدوا أن يملكهم عندما قالوا: {أَنََّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنََا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمََالِ} (3) أجيبوا بأن الله تعالى خصه بمزيد بسطة في العلم والجسم، والوصفان أشد مناسبة مما
__________
(1) ساقطة من «ج».
(2) سورة البقرة، الآية: 247.
(3) سورة البقرة، الآية: 247.(1/278)
قدحوا به، وهو كونه ليس من بيت المملكة، وهو مع ذلك فقير، والملك لا بد له من المال.
وقرر ذلك الإمام «فخر الدين» من وجوه، يتضح بها ما يخص فضيلة العلم.
«أحدها: أن العلم والقدرة يمكن التوصل بهما إلى المال والجاه بخلاف العكس.
الثاني: أن العلم والقدرة من باب الكمالات المتحصلة في جوهر الإنسان، والمال والجاه أمران منفصلان عن ذات الإنسان.
الثالث: أن العلم والقدرة لا يمكن سلبهما 63ظ / عن الإنسان، والمال والجاه يمكن سلبهما عنه.
الرابع: أن العلم يحث القوي الشديد على المحاربة، فيصلح الملك بذلك، ويدفع به شر الأعداء، فثبت أن الصفات مناسبة، وما ذكروه لا يناسب» (1).
قال في موضع آخر وقد أشار إلى نكتة تقديم العلم على الجسم: «لا شك أن المقصود من سائر النعم سعادة البدن، وسعادة البدن أشرف من السعادة المالية، وإذا كانت السعادة العلمية راجحة على السعادة الجسمية، فأولى أن تكون راجحة على السعادة المالية» (2).
قلت: وتقدم في حديث كميل بن زياد وجوه ترجح العلم على المال، بعضها مثل ما أشار إليه الإمام هنا، ونحوه على بعض تكرار ما أورده في موضع آخر عن «علي» أيضا رضي الله عنه قال: «العلم أفضل من المال بسبعة أوجه:
أولها: العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الفراعنة.
__________
(1) تفسير الرازي: 6/ 174.
(2) م. س: 2/ 200.(1/279)
الثاني: العلم لا ينقص بالنفقة، والمال ينقص.
الثالث: المال يحتاج إلى الحافظ، والعلم يحفظ صاحبه.
الرابع: إذا مات الرجل يبقى ماله، والعلم يدخل معه قبره.
الخامس: المال يحصل للمؤمن والكافر، والعلم لا يحصل إلا للمؤمن.
السادس: جميع الناس يحتاجون إلى صاحب العلم في أمر دينهم، ولا يحتاجون إلى صاحب المال.
السابع: العلم يقوي الرجل على المرور على الصراط، والمال يمنعه منه» (1).
الفضيلة العاشرة:
ما يشير إلى شرفه من طريق نكت (2) الإشارة، ونذكر منها جملة يتكمل (3)
بها مقصد هذه الفضائل فنقول:
«النكتة الأولى:
أنّ يوسف عليه السلام لما صار ملكا احتاج إلى وزير، فسأل ربه عن ذلك، فقال جبريل عليه السلام: إن ربك يقول لك: 64و / لا تختر إلا فلانا، فرآه يوسف عليه السلام في أسوء الأحوال. وقال: كيف يصلح لهذا العمل مع سوء حاله؟ فقال جبريل عليه السلام: إن ربك عينه لذلك، لأنه ذب عنك حين قال: {وَإِنْ كََانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصََّادِقِينَ} (4)» (5).
قال الإمام فخر الدين: «والنكتة أن الذي ذب عن يوسف عليه السلام
__________
(1) م. س: 2/ 183182.
(2) النكتة: ج نكت ونكات، المسألة الدقيقة أخرجت بدقة نظر، وإمعان فكر، أو الجملة اللطيفة تؤثر في النفس انبساطا.
(3) تكمل الشيء: تم وكان كاملا.
(4) سورة يوسف، الآية: 27.
(5) تفسير الرازي: 2/ 193.(1/280)
استحق الشركة في مملكته، فمن ذب عن الدين القويم بالبرهان المستقيم، كيف لا يستحق من الله الإحسان المقيم (1)»!
«النكتة الثانية:
أراد إنسان خدمة ملك، فقال الملك: اذهب وتعلم حتى تصلح لخدمتي، فلما شرع في التعلم، وذاق لذة العلم، بعث الملك إليه، وقال: اترك التعليم، فقد صرت أهلا لخدمتي، فقال: كنت أهلا لخدمتك، حين لم ترني أهلا لخدمتك، وحين رأيتني أهلا لخدمتك رأيت نفسي أهلا لخدمة الله تعالى، وذلك أني كنت أظن أن الباب بابك لجهلي، والآن علمت أن الباب باب الرب».
النكتة الثالثة:
«النملة القائلة: {يََا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسََاكِنَكُمْ لََا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمََانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لََا يَشْعُرُونَ} (2) إنما استحقت الرياسة على غيرها، بسبب أنها علمت مسألة واحدة، وهي قولها: {وَهُمْ لََا يَشْعُرُونَ} كأنها قالت: سليمان معصوم، والمعصوم لا يجوز منه إيذاء البريء، ولكنه لو حطمكم، فإنما يصدر منه ذلك على سبيل السهو، وهو لا يعلم. فقولها: {وَهُمْ لََا يَشْعُرُونَ} إشارة إلى تنزيه الأنبياء عن المعصية».
قال الإمام: «فتلك النملة لما علمت هذه المسألة الواحدة، استحقت هذه الرياسة فمن علم حقائق الأشياء من الموجودات، والمعدومات، فكيف لا يستوجب الرياسة في الدنيا والدين.
النكتة الرابعة:
الكلب 64ظ / المعلّم إذا أرسله صاحبه على اسم الله تعالى صار صيده النجس طاهرا.
__________
(1) في م. س: 2/ 193. الإحسان والتحسين.
(2) سورة النمل، الآية: 18.(1/281)
قال الإمام: والنكتة أن العلم لما انضم إلى الكلب صار النجس ببركة العلم طاهرا.
قال: والنفس والروح طاهران في أصل الفطرة، إلا أنهما تلوثا بأدران المعاصي ثم انضم إليهما العلم بالله تعالى وصفاته، فنرجو من عميم فضله أن ينقلب النجس طاهرا، والمردود مقبولا» (1).
قلت: هذا تفريع على نجاسة الكلب، ويتقرر على مذهبنا، «بأن الكلب لما كان أخس الحيوان وأقذره، ومع ذلك فإذا اتصف بعلم الاصطياد، شرفه الشرع، وعظمه وجعل صيده حينئذ قوام الأجساد، ومحترما عن الإفساد، فكذلك نرجو من سعة رحمة الله أن يتشرف العالم بالله حتى لا تلحقه إهانة بسبب ما يطرأ عليه من قوادح المخالفات، وعلى هذا المأخذ أخذها القرافي في هذا المقام» (2).
«النكتة الخامسة:
القلب رئيس الأعضاء، وتلك الرياسة ليست للقوة، فإن العظم أقوى منه، ولا للعظم فإن الفخذ أعظم منه، ولا للحدة فإن الظّفر أحد منه، وإنما تلك الرياسة بسبب العلم، فيكون العلم أشرف الصفات» (3).
«النكتة السادسة:
كان لسليمان عليه السلام ملكان حتى إنه كان يقول: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لََا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} (4)، ومع ذلك فلم يفتخر بذلك، وإنما افتخر بالعلم فقال:
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ عُلِّمْنََا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينََا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هََذََا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (5).
قال الإمام: فإذا حسن من سليمان عليه السلام أن يفتخر بذلك العلم،
__________
(1) تفسير الرازي: 2/ 194193.
(2) مخ الذخيرة: 1/ 8.
(3) تفسير الرازي: 2/ 194.
(4) سورة ص، الآية: 35.
(5) سورة النمل، الآية: 16.(1/282)
فلأن يحسن بالمؤمن أن يفتخر بمعرفة رب العالمين كان أحسن.
قال: في غرض استقراء ما يدل على فضيلة العلم من هذا الموضع: ولأنه قدم ذلك على قوله: 65و / {وَأُوتِينََا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} وأيضا فإنه تعالى كما ذكر كمال حالهم قدم العلم أول الأقوال: {وَدََاوُدَ وَسُلَيْمََانَ إِذْ يَحْكُمََانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} إلى قوله: {وَكُلًّا آتَيْنََا حُكْماً وَعِلْماً} (1).
ثم ذكر بعد ذلك ما يتعلق بأحوال (الدنيا) (2) فدل على أن العلم أشرف (3) اه.
النكتة السابعة:
الهدهد مع أنه في نهاية الضعف والحقارة، ومع أنه كان في موقف المعاتبة قال لسليمان عليه السلام: {أَحَطْتُ بِمََا لَمْ تُحِطْ بِهِ} (4). وذلك خطاب يؤذن باعتزاز نفسه، واستعلاء كلمته على سيد أهل الزمان، ورسول الملك الديان.
قال القرافي: «فلولا أن العلم يرفع من الثرى إلى الثريا، لما عظم الهدهد بعد أن كان يود لو كان نسيا منسيا، فلا جرم أبدل له العقوبة بالإكرام النفيس، وأسبغ عليه خلع الرسالة إلى بلقيس» (5) اه.
قال الإمام فخر الدين: «ولذلك نرى الرجل الساقط إذا تعلم العلم صار نافذ القول على السلاطين، وما ذلك إلّا ببركة العلم» (6).
«النكتة الثامنة:
يوسف عليه السلام إنما استوجب الملك من ملك مصر لما اتصف به
__________
(1) سورة الأنبياء، الآيتان: 78و 79.
(2) زيادة من تفسير الرازي: 2/ 188.
(3) م. س: 2/ 188.
(4) سورة النمل، الآية: 22.
(5) مخ الذخيرة: 1/ 7.
(6) تفسير الرازي: 2/ 188.(1/283)
من صفتي الحفظ والعلم، وبذلك قال: {اجْعَلْنِي [عَلى ََ خَزََائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (1)، ولم يقل: إنّي نسيب، حسيب، فصيح، مليح» (2).
كذلك المؤمن] (3) إذا كان حافظا لأمر الله عالما بوحدانيته يستوجب من ربه الملك الدائم والنعيم المقيم، يقول تعالى وجل: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هََذََا مََا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوََّابٍ حَفِيظٍ} (4).
قال أبو منصور [الهمداني] (5) (6): أوّاب إلى الله عند الحوبة (7)، حفيظ لأمر الله عند الخلوة.
النكتة التاسعة:
يوسف أيضا عليه السلام اعترف بمنة الله تعالى على نفسه متوسلا بها بين يدي مطلبه في قوله: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي} 65ظ / / {مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحََادِيثِ} (8).
قال الإمام فخر الدين: «وأنت يا عالم، أما تذكر منة الله حيث جعلك مفسرا لكلامه، وسميا (9) لنفسه، ووارثا لنبيه، وداعيا لخلقه، وواعظا لعباده، وسراجا لأهل بلده، وقائدا للخلق إلى جنته وثوابه، وزاجرا لهم عن ناره، وعقابه، كما جاء في الحديث: «العلماء سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة» (10) اه.
__________
(1) سورة يوسف، الآية: 55.
(2) تفسير الرازي: 2/ 200.
(3) ما بين المعقوفتين ساقط من «ج».
(4) سورة ق، الآيتان: 31و 32.
(5) في «ج»: المهداني.
(6) هو سعد بن علي بن الحسن العجلي الأسد آباذي. ت: 494هـ 1100م، نزيل همذان ومفتيها، كان ثقة، حسن المناظرة، كثير العلم، والعمل انظر: طبقات الشافعية: 4/ 383.
(7) الحوبة: الإثم.
(8) سورة يوسف، الآية: 101.
(9) السمي: النظير، ومن كان اسمه اسمك.
(10) تفسير الرازي: 2/ 184.(1/284)
النكتة العاشرة:
آدم عليه السلام وجد التحية من الملائكة بعلم أسماء المخلوقات، والخضر عليه السلام وجد صحبة موسى بعلم الفراسة، ويوسف عليه السلام وجد النجاة من السجن بعلم الرؤيا، فمن علم ذات الخالق وصفاته، أما يجد تحية الملائكة: {وَالْمَلََائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بََابٍ} (1) {سَلََامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} (2)! بل تحية الرب العظيم! {سَلََامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (3) ومن علم أسرار الحقيقة من أمة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم أما يجدون صحبته صلى الله عليه وسلم؟! {فَأُولََئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدََاءِ وَالصََّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولََئِكَ رَفِيقاً} (4). ومن علم تأويل كتاب الله أما ينجو من سجن الشبهات؟
تنبيه وإعلام:
فضائل العلم لا تنحصر بزمام كما تقدم الاعتذار به في الاقتصار على ذكر بعض منها إذ في ذكر البعض منها كفاية لمن وفق.
ولذلك قال الإمام فخر الدين بعد ما فرغ من تقرير أنواع من هذه الفضائل: «لو لم يظهر للإنسان بما ذكرناه من الدلائل النقلية والعقلية شرف العلم لاستحال أن يظهر شيء أصلا» (5).
ونقل قبل ذلك عن الإنجيل ما صرح بالتحذير من ترك الإقبال على طلب العلم لظهور هذه الدلائل على فضله وشرفه، فقال (6): «قال تعالى فيه: 66و / / ويل لمن سمع العلم ولم يطلبه كيف يحشر مع الجهال إلى النار، اطلبوا العلم وتعلموه، فإن العلم إن لم يسعدكم لم يشقكم، وإن لم يرفعكم لم يضعكم،
__________
(1) سورة الرعد، الآية: 23.
(2) سورة الزمر، الآية: 73.
(3) سورة يس، الآية: 58.
(4) سورة النساء، الآية: 69.
(5) تفسير الرازي: 2/ 200.
(6) م. س: 2/ 189188.(1/285)
وإن لم ينفعكم لم يضركم، ولا تقولوا: نخاف أن نعلم ثم لا نعمل، ولكن قولوا: نرجو أن نعلم فنعمل، والعلم شفيع لصاحبه، وحق على الله أن لا [يخزيه] (1)، إن الله يقول يوم القيامة: يا معشر العلماء، ما ظنكم بربكم؟
فيقولون: ظننا أن يرحمنا ويغفر لنا، فيقول: فإني قد فعلت، إني استودعتكم حكمتي لا لشر أريد بكم، بل لخير أردته بكم، فادخلوا في صالح عبادي إلى جنتي برحمتي».
تتمة:
تقدم في الفضيلة الرابعة من الفصل الثاني ما صرح بأفضلية العالم على العابد، وبقي بعد ذلك أن هذه الأفضلية هل [تثبت] (2) للعالم على الولي بالمعنى الذي يطلق الآن اسم الولي عليه، وهو من غلب عليه الانقطاع إلى التعبد بغير العلم، وفي ذلك للعلماء طريقان:
الطريق الأولى:
لجماعة من العلماء، خصوصا من غلب عليه اسم التصوف، أنها لا تثبت للعالم على الولي، بل الولي أفضل منه، وهو مختار القشيري (3) والغزالي، والشيخ عز الدين ولهم في ذلك كلام معروف، ملخص ما يذكر في الموضع منه أمران:
أحدهما: أن أكثر أنواع العلوم الظاهرة قاطعة عن طريق الله تعالى، ومانعة للمشتغل بها عن التحقق بالعلوم الباطنة التي تثمر الخشية، والزهد في الدنيا، والتشمير لطلب الآخرة، ومن هناك سلبوا اسم العلم عن أكثر علماء الظاهر،
__________
(1) في «أ»: يخزنه، وفي «ج»: يخربه.
(2) في «ج»: تبثت.
(3) هو عبد الكريم بن هوازن النيسابوري القشيري الشافعي أبو القاسم. ت: 465هـ 1073م، صوفي، مفسر، شارك في علوم عدة، تعلم الفروسية، والعمل بالسلاح، حتى برع في ذلك ثم تعلم الكتابة والعربية، ثم سمع الحديث، من تصانيفه: «الرسالة القشيرية» في التصوف، و «الفصول في الأصول» و «أربعون حديثا»، انظر «طبقات الشافعية»: 3/ 248243.(1/286)
وجعلوا علومهم من علوم الدنيا حتى الفتاوى والأحكام.
الثاني: أن الأولياء يظهر على أيديهم من غرائب الكرامات، ويفتح على قلوبهم من مواهب المكاشفات، ما لا يذكر مثله عن [العلماء] (1) وما ذلك إلا لأن الأولياء لما تخلصت 66ظ / / بواطنهم من التعلقات الدنيوية، وقابلوا بقلوبهم الصافية نظر الحق إليها، أتحفوا لا محالة بهذه التحف المشتملة على «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر». وعند ذلك فأنى يتصور أن يسوى بين الصنفين، وبينهما من التفاوت ما لا يخفى من هذه الإشارة فضلا عن أن يقال: بتفضيل العالم على الولي، ومن هناك قال الشيخ عز الدين:
«لا يشك عاقل أن العارفين بما يجب لله من أوصاف الجلال، ونعوت الكمال، وبما يستحيل عليه من العيب والنقصان أفضل من العارفين بالأحكام، بل العارفون بالله أفضل من أهل الفروع والأصول، لأن العلم يشرف بشرف المعلوم وبثمراته».
الطريق الثاني:
للأكثرين، أن العالم أفضل من الولي، وللأستاذ أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله في تقريره نظران:
«النظر الأول:
من جهة الدليل الشرعي في الجملة وهو ضربان:
أحدهما: نقلي، وهو كثير وله فيه خصائص لا يوجد مثلها في الولي.
قلت: وتقدم منها ما فيه شفاء للصدور.
قال: وكل ما ثبت للولي من الفضائل والخصائص فثابت للعالم العامل بعلمه لأنه ولي الله.
قلت: نقل «النووي» في «التبيان» عن «الإمامين الجليلين أبي حنيفة
__________
(1) في «ج»: علماء.(1/287)
والشافعي» قالا: «إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي» (1).
الثاني: نظري، وبيانه من وجوه.
أحدها: أن طلب العلم والتعلم لما عدا الفرض من باب فرض الكفاية فمن قام به فقد قام بفرض، والانقطاع للعبادة من باب النفل، والفرض من وجه لا يساوي النفل من كل وجه أبدا.
الثاني: أن صاحب العلم يفيد غيره كما ينتفع هو بعلمه، وصاحب الولاية مقصور النفع على نفسه، ولا شك أن النفع المتعدي 67و / / للغير خير من النفع القاصر.
الثالث: أن زماننا هذا لا ينبغي أن يختلف في أن طلب العلم فيه آكد من غيره، لمن قدر عليه، لأنه زمان رفع العلم، وظهور الجهل، فالعلم مظنة لبقاء هداية الخلق، وإحياء السنة، واستقامة الأحوال، ولا علينا إن وجد في الدنيا من انقطع للعبادة أم لم يوجد ولو عدم العلم لضل الناس، وصارت الأحكام جاهلية، فالقيام بالعلم أحق من غيره بكثير، وإذا كان كذلك فالعالم أفضل من الولي الذي لم يقعد في مرتبة العلماء.
النظر الثاني:
بالنسبة والإضافة، وذلك أن الناس في هذا المقام مختلفون، فمن الناس من يصلح لطلب العلم أكثر مما يصلح للانقطاع للعبادة، وبالعكس فإذا كان لبعض الناس من العقل والحفظ والتهدي للفهم ما ليس عند غيره تعين عليه الأخذ فيه، وترك ما لم يبلغ فيه ذلك المبلغ، ومن لم يكن له ذلك التهدي والفهم، ولم يظهر فيه وجه نجابة في العلم والتحصيل كان طلب غيره أولى به، فإن من الناس من يكون خطأه أكثر من صوابه، ونسيانه أكثر من حفظه، لكنه يصلح للانقطاع إلى عبادة ربه فهو في حقه أولى.
__________
(1) انظر ص: 29من التبيان.(1/288)
قال: (1) وهذا الوجه في الحقيقة ليس بتفضيل لإحدى الرتبتين على الأخرى بل هو نظر في مناط هل يصلح لتنزيل حكم أم لا؟».
قلت: وهذا الطريق هو الأولى بالاعتماد، وفي الاستدلال عليه كفاية لمن أنصف.
وأما الطريق الأول فالجواب عن الأول من دليليه أن العلوم الظاهرة إنما تقطع عن طريق الآخرة إذا أخل صاحبها بشرط العمل، والنظر إنما هو مع الوفاء بهذا الشرط، وإذ ذاك فلا يتصور أنها تصدّ عن طريق الآخرة، وتمنع من حصول الخشية: بين الناس في الأخذ بهذا الشرط تفاوت 67ظ / / ظاهر، فمن العلماء من يعد مجرد العلم هو وسيلة النجاة من غير التفات إلى أن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه.
قال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي: «وعدم النفع به هو ترك العمل به، قال: ولم تتفاوت مراتب علماء السلف مع علماء الخلف في الوصول إلى هذه الرتبة في الجملة يعني رتبة الولاية إلا لتفاوتهم في العزيمة على أخذهم بهذا الشرط خاصة، ومن أجل ترك كثير منهم لشرط العمل بعلمهم، فوّقت (2) إليهم سهام النقد، وانطلقت فيهم ألسنة العتب، و «أبو حامد» رحمه الله من أشدهم في ذلك مبالغة حتى جعل فقه الفروع والأحكام من علوم الدنيا.
قال: وإنما ذلك لما رأى في أهل زمانه من طلبهم الدنيا: من المال، والجاه لعلم الفروع، والجدل، وغيرهما، مما يقتضي الظهور على الخصوم، والغلبة في المناظرة، فلو أخذوا العلم بشرطه لكانوا هم الأولياء حقا، ولنالوا ما ناله أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» اه.
وقد فهم منه وجه جعل «الغزالي» علوم الفتاوي والأحكام من علوم الدنيا.
__________
(1) أي الشاطبي.
(2) فوقت: صوبت.(1/289)
تعريف:
من غلاة المنحرفين عن علماء الظاهر من فوق إليهم سهام نقده من جهتين غير ما تقدم:
إحداهما: زعموا أن العلماء به، ليس عندهم كبير علم بل مسائل في البيوع والأشربة والتجارات، والأنكحة، وشبه ذلك من أحوال الدنيا، والعلم النافع وهو علم الباطن السالك [بالمتحقق] (1) به على جادة الصراط المستقيم هم عن الاتصاف به بمعزل، وذلك موجب لإسقاط رتبتهم عن درجة الاعتبار.
الثانية: أن من شأنهم الاشتغال بطلب الدنيا، والدخول في الأسباب العائدة عليهم بالمكاسب المنافية للزهد في الدنيا، والإعراض عن متاعها العاجل، وذلك 68و / / مقصر بهم عن رتب العلماء العاملين.
وأجاب أبو عمر الطلمنكي عن الأولى ما نصه:
«من كان ناظرا في حلال الله، وحرامه، لا بد لعوام المسلمين من عالم يقيمهم على طريق الحق ويدلهم على منهج القصد، فكان ملجأ للعامة في بيعهم، وشرائهم، وطلاقهم، ونكاحهم، ووجوه معاملتهم، ومقيما لهم على الحق في طهورهم وصلاتهم، وما يلزمهم من صومهم وزكاتهم، وحجهم، وجهادهم، وما يحصى مما ليس بالمسلمين الغناء عنه، وانتصب لتعليم الناس والفتيا لهم، والإصلاح بينهم، محتسبا في ذلك، مريدا به وجه الله، وكان مع ذلك مقتصدا في أمره، لا يعدو إقامة فرضه، فمن غمص (2) على من هذه صفته، وزعم أن من هذه صفته من أهل العلم، ليس عنده كبير علم، فقد غمص على القرآن وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو معلم الخلق، واستصغر ما عظم الله من حقه، وأتى ببهتان عظيم يستوجب به من الله مقته، ويستأهل (3) به هوانه إلا أن
__________
(1) في «ج»: بالتحقق.
(2) غمص عليه: عاب عليه كلامه.
(3) استأهل الرجل: رآه أهلا.(1/290)
يتوب من هذا المذهب الذي فيه استصغار ما عظم الله من العلم الذي أنزل به كتابه وآياته على لسان رسوله. ومن زعم أن عابدا مجدا بغير علم أو بعلم لا يعدو صلاح نفسه أفضل من عالم مقتصد لا يؤدي إلا فرضه، غير أنه ملجأ للعامة في إقامة دينهم، وما يعروهم من بيعهم وشرائهم فقد أزرى على جميع النبيين وصحابتهم، وتابعيهم بإحسان، إذ الأنبياء معلمون لأممهم، مقيمون لهم على طريق نجاتهم» انتهى المقصود منه.
وأجاب عن الثاني أيضا بما نص في بعض فصوله: «من ترك حلال الدنيا زاهدا فيها ورغبة في التقلل منها طلبا لخفة الحساب، وكان مع ذلك عالما بما يحلّ له، ويحرم عليه، غير معجب بعلمه ولا زاريا على من طلب الكسب من وجهه ليعف نفسه، وأهله ويغنيهم عن الحاجة إلى 68ظ / / الناس، ويقيم بذلك فرضه، ويؤدي حق الله فيه، فهو فاضل بهذا المذهب مشهود به بصلاح الحال، إلا أن العالم المقتصد الذي يقيم فرضه، ويتكسب ليغني نفسه، ومن يلزمه فرضه، وينشر العلم ويعلم الجاهل محتسبا في ذلك، فهو أفضل من العابد المجتهد الفائز بنفسه المقبل على صلاحه بدرجات لا يعلمها إلا الله، لأن الله إنما بعث رسله معلمين ومرشدين» انتهى المراد منه.
وفي الجوابين تأييد لما تقدم أن المعتمد عليه اختيار هذا الطريق الثاني، ولذلك قصدنا الاستظهار بنص كلامه.
والجواب عن الثاني على تقرير الأستاذ «أبي إسحاق» من وجهين:
«أحدهما: أن تلك الأحوال إنما هي نتائج أعمال، والنتائج من حيث هي نتائج هبات من الله تعالى معتبرة بمقدماتها، وهي الأعمال، فإن كانت الأعمال على الاستقامة فالنتائج [صحيحة] (1) وإن كان فيها خلل فالنتائج على تلك النسبة، فلا ينظر عند القوم إلا إلى الأعمال، وهو الذي طوقه المكلف».
قال بعد كلام: «والعالم أيضا إذا عمل بعلمه، فتحصل له تلك المرتبة
__________
(1) في «ج»: نجيحه.(1/291)
على التمام والكمال، وكل ما أثبته أبو حامد رحمه الله للولي يثبت للعالم، من ظهور الكرامات، واطلاع على ما شاء الله من العوالم، كانت من عوالم الدنيا أو الآخرة فلا فرق بين السلوك بالعلم، من جملة العبادات، وبين السلوك بسائر النوافل سوى العلم» انتهى ملخصا.
الثاني: أن ما ذكر من تلك المواهب للولي، ليست على اللزوم بحيث يقال: لا بد لكل سالك أن توهب له تلك الأمور التي نص عليها أبو حامد (1) في «كتابه» على الخصوص، وليس في كلامه ما يدل على ذلك، بل نحن نعتقد أن الصحابة رضي الله عنهم لم يبلغ أحد ممن بعدهم شأوهم في العلم 69و / / والولاية، ولم ينقل عنهم من تلك الأمور التي أشار إليها إلا شيئا من أنواع الكرامات قليلا، نعم الذي جرت به العادة، فيمن اتقى الله تعالى، أن يضع له في قلبه نورا يفرق به بين الحق والباطل في كل شيء، [وهو] (2) الفرقان الذي ذكره الله تعالى في كتابه إذ قال: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللََّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقََاناً} (3)، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جََاهَدُوا فِينََا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنََا} (4). وقال تعالى:
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشََاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}.
قلت: ما أشار إليه من قلة ظهور أمثال هذه الأمور على الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وجهه الإمام أحمد بن حنبل «بأنّ إيمانهم كان قويا، فما احتاجوا إلى زيادة تقوّي إيمانهم».
قال الشيخ «خليل بن إسحاق» (5) في مناقب شيخه الشيخ العالم الولي
__________
(1) إشارة إلى أبي حامد الغزالي في كتابه «الإحياء».
(2) في «ج»: هذا.
(3) سورة الأنفال، الآية: 29.
(4) سورة العنكبوت، الآية: 69.
(5) المعروف بالجندي ضياء الدين أبو المودة، حامل لواء مذهب مالك في زمانه بمصر، تعلم في القاهرة، وولي الإفتاء على مذهب مالك، له «المختصر» في الفقه، يعرف بمختصر خليل، وقد شرحه كثيرون، وترجم إلى الفرنسية، وله «التوضيح» شرح به مختصرات ابن الحاجب و «مناقب المنوفي». انظر: الدرر الكامنة: 2/ 86. (وفيه أنه توفي 767هـ). و «الديباج»: 1/ 357: (وفيه(1/292)
«عبد الله المنوفي» (1) رحمهما الله: «وأيضا فلأن الزمان الأول كثير النور لا يفتقرون لزيادة، ولو حصلت لم تظهر لاضمحلالها في نفس النبوة، بخلاف ما بعدهم، ألا ترى أن القنديل لا يظهر نوره بين القناديل، بخلاف الظلام والنجوم لا يظهر لها ضوء مع الشمس» انتهى المراد منه.
قال الأستاذ أبو إسحاق: «وهذا النور يعني نور الفرقان من شأنه أن يخرق ظواهر الأشياء إلى بواطنها، لأنه لو لم يخرق ذلك لما كان فرقانا، وهذا الإدراك في الأشياء هو إدراك ملكوت الأشياء وإليه الإشارة والله أعلم بقوله تعالى: {وَكَذََلِكَ نُرِي إِبْرََاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (2)
انتهى ملخصا.
قال: «وإذا تقرر هذا، فكل صاحب نحلة أو صناعة، أو علم، إذا كان متقيا لله تعالى، عاملا بما علم يفتح له من ملكوت ما هو فيه ما شاء الله أن يفتح له، فالصانع يرى ملكوت صناعته، والنحوي يرى ملكوت نحوه، والفقيه يرى ملكوت فقهه، وسائر الحرف والنحل 69ظ / / يرى أصحابها ملكوتها، ويكون هو الباب إلى رؤية ملكوت السماوات والأرض على حسب ما هي له من ذلك من قليل أو كثير».
قلت: تقدم عن ابن الحاج (3): «أن من كرامات العلماء فهم المسائل، وحسن إلقائها، والمعرفة بسياسة الناس في تعلمها، فما هنا جار عليه».
قال: «فلا يظن الظان أن رؤية عالم الملكوت إنما هو نوع واحد، ولا أنه مخصوص بمن انقطع للتعبد بالنوافل، بل رؤية عالم الملكوت أعم مما أخبروا
__________
أن وفاته 749هـ). وقد استعرض التنبكتي اختلاف المؤرخين في سنة وفاته ثم رجع سنة (776هـ 1374م). انظر النيل: 115112.
(1) هو الشيخ الصالح، العابد، الزاهد، الأوحد، المنوفي، المالكي، ذو الكرامات والتلامذة الأئمة. ت: 748هـ 1347م. انظر: طبقات الأولياء: 555554. وجامع كرامات الأولياء: 2/ 248.
(2) سورة الأنعام، الآية: 75.
(3) انظر ص: 40ظ من مخ «أ». ص: 211من هذا الكتاب.(1/293)
به، وإنما الذي أخبروا به نوع خاص من أنواع لا تنحصر، وكذلك يرى أيضا من انقطع إلى الله تعالى بطلب العلم أو تعليمه، أو الاشتغال به أو بالجهاد، أو بالصدقة، أو بأكثر من ذلك، أو بجميعه، هذا ما قال. ثم استدل عليه «بأن الصحابة رضي الله عنهم أول من نال هذه الرتبة، وسيرهم معلومة، ولم يكن فيهم من اختص بالتعبد بالنوافل دون العلم، ولا بالعلم دون الجهاد، ولا بالجهاد دون النوافل بل كانوا آخذين في الكل، عاملين بكل شعبة من شعب الإسلام، وكذلك من بعدهم ممن اشتهر بالولاية من التابعين وغيرهم.
وقد كان الجنيد (1) يفتي على مذهب أبي ثور (2)، وكان الشبلي (3) مذكرا يعقد المجالس، ويتكلم على الناس، وكان الحارث المحاسبي (4) من قد علمت، إلى غير هؤلاء، ممن اشتهر بأنه من أولياء الله، بل «أبو حامد» قد شهد للأئمة الأربعة بأنهم ممن نال من علم الباطن ما ناله الأولياء. كما أنه لم يبلغنا عن أحد من الصحابة أو من بعدهم إلمام بهذا النوع من الكشف الذي ذكره «أبو حامد» فدل على أن الأمر أوسع مما ذكره» اه.
__________
(1) الجنيد بن محمد أبو القاسم الخزار القواريري، سمي بالقواريري لأن أباه كان يبيع الزجاج. ت:
297 - هـ 909م. مولده ومنشأه بالعراق، تفقه على أبي ثور، وكان يفتي في حلقته، وصحب الحارث المحاسبي، والسّري السقطي، وغيرهما، وكان من أئمة القوم وساداتهم. انظر: طبقات الصوفية: 163155، وتاريخ بغداد: 7/ 249241.
(2) هو إبراهيم بن خالد بن اليمان أبو ثور الكلبي الفقيه. ت: 240هـ 854م. أحد الأئمة المجتهدين، صاحب الإمام الشافعي، كان أحد أئمة الدنيا فقها وعلما وورعا، صنف الكتب، كان يتكلم في الرأي فيخطىء ويصيب من مصنفاته: كتاب ذكر فيه اختلاف مالك والشافعي، وذكر مذهبه في ذلك، وهو أكثر ميلا إلى الشافعي. انظر: تاريخ بغداد: 6/ 6965.
(3) اسمه دلف، ويقال: ابن جحدر، ويقال: ابن جعفر، ويقال: اسمه جعفر بن يونس، خراساني الأصل، بغدادي المنشأ والمولد، صحب الجنيد، ومن في عصره من المشايخ، وصار أوحد وقته حالا وعلما، وكان على مذهب مالك (ت: 334هـ 945م). انظر: طبقات الصوفية: 337 348، وتاريخ بغداد: 10/ 397389.
(4) الحارث بن أسد المحاسبي أبو عبد الله، من علماء مشايخ القوم بعلوم الظاهر وعلوم المعاملات، له تصانيف مشهورة منها: كتاب «الرعاية لحقوق الله»، و «رسالة التوهم»، مات ببغداد سنة 243هـ 857م. انظر: طبقات الصوفية: 6056والحلية: 10/ 10973.(1/294)
ثم ختم الفصل بعد كلام تقدمت حكايته بإيراد «أن العوارض الصادة عن طريق الآخرة في رتبة العلم أعظم منها في طريق الولاية، فلذلك قل ما تجد عالما عاملا 70و / / بعلمه على شاكلة السلف الصالح، بخلاف طلب الآخرة بغيره، فإنه أسهل لقلة العوارض فيه.
وأجاب بأن الأمر ليس كذلك بل طلب الدنيا، والمال، والجاه، وغير ذلك بدعوى رتبة الولاية مثلها [بدعوى] (1) رتبة العلم، ولذلك تجد في القبيلين من الطلاب كثيرا، ولا تجد منهم من تخلص بحكم الظاهر من تلك الشوائب إلا قليلا، فهما سواء في هذا المعنى».
قلت: ويظهر الآن أن العوارض في طلب رتبة الولاية أكثر منها في طلب الرتبة الأخرى لما قد علم من حال الوقت، أن الاشتغال بالعلم يعود على صاحبه بحظ من حظوظ الدنيا لاستيلاء الزهادة في العلم على الخاص والعام، وإن نال حظا منها فبضميمة أمور أخر، هي من العلم بمكان بعيد، ولا كذلك في طلب رتبة الولاية وكفى شاهدا على ذلك بحسب الواقع رجحان تعظيم المنقطعين إلى العبادة على المتظاهرين بالمناصب العلمية، وحينئذ فرتبة طلب الولاية لا تساوي في هذا المعنى طلب رتبة العلم، بل هي أشد منها والمعصوم من عصمه الله.
قال: «فالذي تلخص أن الاشتغال بالعلم طلبا، وحفظا، وتعليما، ونشرا، إذا أخذ بشرطه لا توازيه مرتبة الولاية أصلا».
استدراك:
بقي من تلخيص النظر في القضية مراجعة كلام الشيخ عز الدين في تفضيل العارفين بالله تعالى على علماء الأحكام، وهو عند التأمل، لا يدل على تفضيل المنقطع للعبادة فحسب على المشتغل بالعلم تعليما وتعلما، بل هو ظاهر في ترجيح علم المعرفة بالله تعالى على غيرها من المعارف، وحينئذ فعاد
__________
(1) في «ج»: بدعوة.(1/295)
الكلام إلى تفضيل بعض العلوم على بعض، وليس النظر فيه. ويشهد لذلك من أهل طريق الولاية بهذا النوع من العلم ما حكاه البرزلي (1) 70ظ / / قال: «دخلنا يوما على الشيخ الصالح أبي عبد الله الظريف أنا وجماعة من الطلبة في موضعه بالمرسى (2) فوجدناه مضطجعا مريضا فاكتنفنا به (3) وسلمنا عليه ثم سألناه بعد استئناسه بنا عن قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَذِكْرى ََ لِمَنْ كََانَ لَهُ قَلْبٌ} (4) الآية.
فقلنا له: أفدنا من عندك، فقال: العلماء ثلاثة: عالمون بالله، وبأمر الله، فهؤلاء هم الأولياء، لأنهم حازوا مرتبة الظاهر، والعمل بما علموا، فساسوا أنفسهم، واتبعوا الطريقة الخاصة.
والثاني: العلماء بأمر الله فقط. قال: وهؤلاء مثلكم يا فقهاء الزمان.
الثالث: علماء بالله لا بأمر الله. قال: وهؤلاء «المتصوفة» انتهى المقصود منه.
وهو موجود في كلام غير واحد من أهل [هذا] (5) الطريق، وفيه دليل منهم على أن رتبة الولاية المعتبرة، لا تنال بمجرد السلوك بنوافل الأعمال خاصة، بل لا بد فيها من ضميمة الاتصاف بهذا النوع من العلم، وهو المسمى عندهم بالمعرفة.
انعطاف:
هؤلاء الفضلاء الذين خصهم الله تعالى بعلوم المعرفة بجلاله المقدس إذا
__________
(1) هو أبو القاسم بن أحمد بن إسماعيل بن محمد المعروف بالبرزلي المالكي. ت: 844هـ 1440م. نزيل تونس، وإمام المالكية بإفريقية، حج، ودخل مصر فأخذ عنه أحمد بن يونس، كان ينعت بشيخ الإسلام. قال السخاوي: توفي بتونس عن مئة وثلاث سنين، من كتبه: «جامع مسائل الأحكام مما نزل من القضايا للمفتين والحكام». وقد يكون مختصرا من كتابه «الفتاوى» وله «الديوان الكبير». انظر: الضوء اللامع: 11/ 133، والنيل: 226225.
(2) من نواحي إفريقية، بلد على المتوسط. معجم البلدان: 5/ 107.
(3) اكتنف القوم فلانا: أحاطوا به.
(4) سورة ق، الآية: 37.
(5) ساقط من «أ».(1/296)
روجع ما يدل على اعتقادهم في علماء الظاهر، يوجد من ذلك ما يشهد باعترافهم، بفضيلة العلم بالظاهر وماله من شريف المنزلة في الشريعة.
فقد تقدم (1) عن سهل بن عبد الله رحمه الله «من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء».
وفسر ذلك بمجلس من يفتي في الحلال والحرام، وقال في آخره:
«وليس هذا إلا لنبي أو عالم، فاعرفوا لهم ذلك، وأين [هذا] (2) ممن يغض من مناصبهم ويحطهم عما خصوا به من الرتب العلمية.
وحكى ابن الحاج عن «الشيخ أبي محمد بن أبي جمرة» (3): أن الشيخ العالم، العامل، القدوة أبا علي بن [السماط] (4) (5) رحمه الله كان عارفا بالفقه 71و / / معرفة جيدة، وكان الفقراء عنده في مجالسة بعضهم مع بعض ليس لهم شغل في الغالب إلا البحث في الأمر والنهي، وهل يجوز أو لا يجوز، فإذا أشكل عليهم شيء، ولم يرجع بعضهم إلى بعض فيه، يأتون إليه فيسألونه عن المسائل التي يريدونها، فيأمرهم بالخروج إلى الفقهاء، يسألونهم عنها، فسئل عن ذلك، لم يحيلهم على غيره، وهو أعرف الناس بالنوازل التي كانت تنزل بهم؟ فقال رحمه الله: أخاف أن أفتيهم، فيقع لهم الخلل بسبب أني إن مت بقي الأمر بينهم موقوفا علي، لا يعرفون أمور دينهم، إلا من جهتي، فيقولون: قال الشيخ كذا، وذهب الشيخ إلى كذا، وكان طريق الشيخ كذا،
__________
(1) انظر: ص: 40ظ من مخ «أ». ص: 108من هذا الكتاب.
(2) في «ج»: ذلك.
(3) هو عبد الله بن سعد بن أحمد بن أبي جمرة الأزدي، الأندلسي، المرسي. ت: 675هـ 1276م، أبو محمد القدوة، الرباني، له تقدم ورياسة، واعتناء بالعلم وآله، قدم مصر وبها توفي.
من تصانيفه: «جمع النهاية» و «كتاب في طبقات الحكماء»، و «تفسير». انظر: طبقات الأولياء:
439، والشجرة: 199.
(4) في الأصول: ابن السقاط والتصويب من المدخل.
(5) هو يونس بن علي بن عبد الملك بن السماط البكري المهدوي (أبو علي) كان من أعيان الفضلاء الصلحاء ومن أصحاب الشاذلي، ورد ذكره في ترجمة أخيه يوسف. ت: 690هـ. الذي قصر شعره على مدح الرسول صلى الله عليه وسلم. انظر: الشجرة: 192. ولم يذكر سنة وفاته.(1/297)
فيظنون أن الشريعة [خرجوها] (1) من قبل المشايخ، فنرسلهم إلى الفقهاء لنسد هذه الثلمة، ولكي يعلموا أن الذي نحن فيه، إنما أصله وعماده، والذي يقع به الحل والربط عندنا هو من الفقهاء، وما نحن فيه فرع عن ذلك، فينتظم الحال» (2).
قال ابن الحاج: «فانظر رحمك الله إلى محافظة هذا السيد رحمه الله على منصب الشريعة، كيف ترك أن يجيب الفقراء في مسائل الفقه، مع أن ذلك مندوب إليه، لكن لما كان منسوبا إلى تربية المريدين، وترقيتهم في المقامات والأحوال والمنازلات، خاف أن ينسب ما يفتي به من الفقه إلى ما كان بصدده من التربية، فترك ذلك تحفظا منه، أن ينسب شيء من الشريعة إلى غير أصله الذي عنه يؤخذ وإليه يرجع» (3) انتهى ملخصا.
وحكى الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي في المراجعة النازلة بينه وبين الشيخ أبي العباس بن القباب (4) رحمهما الله في المسألة الصوفية «أن شيخه في سلوك طريق الإرادة الشيخ الولي الصالح الشهير أبا جعفر بن الزيات (5) رحمه الله كان محبا في العلم وأهله 71ظ / / ومن انتمى إليه متبركا بهم. قال: يقول
__________
(1) في «ج»: خروجا.
(2) المدخل: 1/ 9998.
(3) المدخل: 1/ 9998.
(4) هو أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن الجذامي المكنى بأبي العباس والمعروف بالقباب. ت:
779 - هـ 1377م. فقيه، تولى الفتيا بفاس، قال عنه ابن الخطيب: «فقيه نبيل، مدرك، جيد النظر، سديد الفهم، ولي القضاء بجبل الفتح، متصفا فيه بجزالة وانتهاض. وحج، واجتمعت به في المدينة المنورة. من تصانيفه: «شرح مسائل ابن جماعة» في البيوع. و «اختصار أحكام النظر» لابن القطان. انظر: الإحاطة: 1/ 188187، والديباج: 1/ 187.
(5) هو أحمد بن الحسن بن علي الزيات الكلاعي المالقي أبو جعفر المعروف بابن الزيات. ت:
728 - هـ 1328م. وهو أسبق شيوخ الشاطبي وفاة. الخطيب المتصوف الشهير إلى جانب تفننه في كثير من المآخذ العلمية بالإضافة إلى مجالس تدريسه، استعمل في السفارة بين الملوك، له تصانيف عدة، منها: «المقام المخزون في الكلام الموزون» والقصيدة المسماة: ب «المشرف الأصفى في المأرب الأوفى»، و «نظم السلوك في شيم الملوك» و «اللطائف الروحانية» و «العوارف الربانية». انظر: الإحاطة: 1/ 296287، والديباج: 1/ 197195.(1/298)
في أثناء كلامه: لو كان لي بيت مال لأنفقته على طلاب العلم، فإنهم قدوتنا وساداتنا، وبركتنا، وأدلتنا» اه.
التفات:
قد وجد أيضا من جانب العلماء اعتراف بما لأولياء الله تعالى من خصوصية الفضل، وشرف المنزلة عند الله تعالى، فأظهروا لهم من بالغ التعظيم، ومحمود التأدب ما يليق بشرف المنصبين ويجمل التخلق به من الفريقين، ولهم في ذلك حكايات مرجعها إلى هذا المعنى فلنذكر منها بعض ما وقع للمتأخرين لتكون مسكة ختام هذا الباب.
الحكاية الأولى:
قال الشيخ شمس الدين بن النعمان المالكي (1) في كتابه «طب النفوس لأهل الدروس»: «كان سبب تعظيم الإمام أبي المعالي الجويني (2) لهذه الطائفة يعني الصوفية أنه كان يدرس بمسجده فعبر أحد المشايخ ومعه جماعة أصحابه، قد طلبوا للدعوة، فلما رآه وقع في سره: هؤلاء شغلهم الأكل والسماع، فبعد عبور الشيخ على المسجد، رجع إلى المسجد ودخل إلى الفقيه فقال له: ما يقول الإمام في رجل جنب صلى الصبح بالجنابة، وجعل يدرس العلوم، ويغتاب الناس، فذكر الإمام أبو المعالي أنه كان جنبا، وأنه صلى الصبح
__________
(1) هو محمد بن موسى بن النعمان المراكشي المزالي، الهنتاتي، التلمساني، الفاسي المالكي (شمس الدين أبو عبد الله) ت: 683هـ 1284م. الصوفي، العالم الرباني، مشهور بالعلم والصلاح، قدم الإسكندرية شابا، وبها تنسب إليه طائفة تسمى ب «النعمانية». دفين القرافة. له تصانيف منها: «النور الواضح» و «مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام» انظر:
طبقات الأولياء: 489488.
(2) هو عبد الملك بن عبد الله الجويني النيسابوري، الشافعي، الأشعري المعروف بإمام الحرمين (ضياء الدين، أبي المعالي). ت: 478هـ 1075م. فقيه أصولي، متكلم، مفسر، أديب، من تصانيفه: «نهاية المطلب في دراية المذهب» انظر طبقات الشافعية: 5/ 222165، والشذرات: 3/ 362358. كما أن ابن الأزرق قدم له في هذا الكتاب ترجمة وافية: انظر ص:
123 - و / من مخ «أ» وما بعدها. ص: 434وما بعدها من هذا الكتاب.(1/299)
ناسيا للجنابة، فاستغفر الله، واعتقد تعظيم هذه الطائفة».
قلت: في اعتقاد الفضل لظهور سببه من هذه الطائفة ما يقال: «إن فقيرا حضر عند الإمام أبي حامد الغزالي فرأى اجتهاده في العبادة، وحسنت عنده أقواله وأفعاله، فقال له يوما: ما تعتقد في معبودك؟ فقال الفقير: أوحده ولا أحده، وأؤمن به ولا أكيفه، وكل ما خطر بخاطري فالله بخلافه. فقال الإمام أبو حامد: أتعبنا أنفسنا في التأليف، واستغفر لذلك الفقير» 72و / /.
الحكاية الثانية:
قال الشيخ شمس الدين أيضا: «كان الفقيه الإمام أبو عبد الله محمد القرطبي في وقته مع خدمة الملوك له، لا يكترث بهم وقت زيارتهم له، فلما دخل دار الشيخ أبي الحسن بن الصباغ (1) قبّل عتبة باب داره، وطلب رغيفا من زوجة الشيخ فأخذه ويبسه، ودقه، وجعله كحلا لعينيه قال: فما أحسن هذا الفعل من هذا الإمام، وأنفعه لمن اتبع سنته في الإكرام لشيوخ الإسلام، وهذه سنة الأحباب الذين جعلوا كحل أعينهم غبار نعال أقدامهم مع التراب. قال:
وفي ذلك قلت:
أكحل أجفاني بتربة أرضكم ... وليس لها كحل سوى ذلك الترب»
الحكاية الثالثة:
قال ابن الصباغ في التعريف بالشيخ «أبي الحسن الشاذلي» (2) رضي الله
__________
(1) المعروف بأبي الحسن علي ابن الصباغ شخصيتان، كلاهما من أعلام التصوف في مصر.
أحدهما: ت: 613هـ 1216م. انظر: طبقات الأولياء: 457452، وجامع كرامات الأولياء:
2/ 163، وفيه أنه توفي سنة 612هـ.
والثاني: ت: 687هـ 1288م. انظر: جامع كرامات الأولياء: 2/ 179.
(2) علي بن الحسن الشاذلي. ت: 656هـ 1257م. رأس الطائفة الشاذلية من المتصوفة وصاحب الأوراد المسماة: أحزاب الشاذلي، ولد في بلاد غمارة بريف المغرب، ونشأ في بني زرويل قرب شفشاون، وتفقه، وتصوف بتونس، وسكن شاذلة قرب تونس، فنسب إليها وطلب «الكيمياء» أول أمره، ثم تركها ورحل إلى المشرق، فحج، ودخل العراق، ثم(1/300)
عنه: «حدثني من أثق به قال: كان في عام حج فيه يعني الشيخ أبا الحسن حرك الططر على أهل الديار المصرية، فاشتغل السلطان بالحركة عليهم، فلم يجهز الجيش للركب، فأخرج الشيخ خباءه إلى البركة التي ينزل بها الحجاج بخارج القاهرة، واتبعه ناس.
قال: واجتمع ناس بالفقيه المفتي «عز الدين بن عبد السلام»: وسألوه عن السفر، فقال: لا يجوز أن يسافر على الغرر وعدم الجيش، فأخبر الشيخ بذلك فقال: اجمعوني به، [فاجتمع] (1) به في الجامع يوم الجمعة، واجتمع عليهما خلق كثير، فقال له: يا فقيه، رأيت لو أن رجلا جعلت الدنيا كلها له خطوة واحدة، هل يباح له السفر في المخاوف أم لا؟ فقال له: من كان بهذا الحال فخارج عن الفتوى وغيرها. فقال له: أنا بالله الذي لا إله إلا هو ممن جعلت له الدنيا خطوة واحدة، إذا رأيت ما يخيف الناس أتخطى بهم حيث آمن، ولا بد لي ولك من المقام بين يدي الله تعالى حتى يسألني عن حقيقة ما قلت لك، وسافر رحمه الله فظهرت له في الطريق 72ظ / / كرامات كثيرة فمنها:
أنّ اللصوص يأتون إلى الركب بالليل، فيجدون عليهم سورا مبنيا كأنها مدينة، فإذا أصبح يأتون إليه ويخبرونه، ويثوبون إلى الله سبحانه، ويسافرون صحبته إلى الحج، فلما قضى الحج ورجع، دخل أول المشاة إلى القاهرة، وأخبروا بما رأوا من مواهب الله سبحانه».
قال: فخرج الفقيه عز الدين رحمه الله إليه ليتلقاه بالبركة، وهو موضع خارج القاهرة على قدر ستة أميال، فلما دخل عليه قال له: يا فقيه، والله لولا تأدبي مع جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخذت الركب يوم عرفة، وتخطيت به إلى عرفات. فقال له المفتي: آمنت بالله ثم قال له: «انظر حقيقة ذلك، قال: فنظر
__________
سكن الإسكندرية، وتوفي بصحراء عيذاب في طريقه إلى الحج، كان ضريرا. له: «رسالة الأمين» و «نزهة القلوب وبغية المطلوب» و «السر الجليل». انظر: طبقات الأولياء: 459458.
وجامع كرامات الأولياء: 2/ 177175.
(1) في «ج»: فأجمع.(1/301)
كل من حضر إلى البيت الكعبة. قال: وصاح الناس، وحط الفقيه رأسه بين يديه، وقال له: أنت شيخي من هذه الساعة، فقال له الشيخ، بل أنت أخي إن شاء الله» (1).
الحكاية الرابعة:
قال الشيخ شرف الدين داود الماخلي (2) في شرحه «لحزب البحر» (3)
للشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه: «أخبرني الأخ الولي الصالح عز الدين يوسف بن الواسطي رحمه الله قال: [كان] (4) بناحية قوص (5)
[وال] (6)، كان يزور الشيخ الإمام [أبا] (7) الحجاج الأقصري (8) رضي الله عنه فسمعه وقتا يقول: جاء في الحديث، من آذى وليا لله فكأنما هدم الكعبة سبعين مرة، فاستعظم ذلك [الوالي] (9) هذا الكلام، ثم اجتمع بالشيخ مجد الدين، والد الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد (10)، وكان من العلماء الأكابر
__________
(1) درة الأسرار: 1615.
(2) هو داود بن عمر بن ماخل الكهاري الإسكندري المالكي، صحب تاج الدين بن عطاء الله، وشرح حزب البحر، ذكره ابن الملقن في طبقات الأولياء: 518517، في فضل من مات في ق 8هـ، أما صاحب «الشجرة»: ص: 204، فذكر أنه لم يقف على سنة وفاته.
(3) هو دعاء مشهور، سمي به لأنه وضع ليقرأ في البحر، وللسلامة فيه، له شروح كثيرة. انظر:
كشف الظنون: 1/ 662661.
(4) في «ج»: كنا.
(5) قوص: بالضم ثم السكون، وصاد مهملة، وهي قبطية قصبة صعيد مصر، كانت أولى مدن الصعيد في ق 14هـ ومحط التجار القادمين من عدن. معجم البلدان: 4/ 413.
(6) في «ج»: قال.
(7) في «ج»: أبي.
(8) الأقصري: يوسف بن عبد الرحمن بن غزي القرشي المهدوي، أبو الحجاج. ت: 642هـ 1244م. من كبار الصوفية في عصره، نزل بالأقصر (مدينة بصعيد مصر)، وقبره فيها معروف إلى الآن، شهر بالعلم، والرواية، صحب الشيخ عبد الرزاق تلميذ الشيخ أبي مدين. طبقات الأولياء: 481480، وجامع الكرامات: 1/ 270.
(9) في الأصول: الولي.
(10) هو محمد أبو الفتح بن أبي الحسن علي بن أبي العطاء القشيري، المنفلوطي ثم القوصي المنعوت بالتقي، المعروف بتقي الدين بن دقيق العيد المالكي الشافعي. ت: 702هـ(1/302)
فقال له: يا سيدي أريد أن تذهب معي إلى زيارة الشيخ أبي الحجاج الأقصري، فذهبا جميعا، فلما حضر الشيخ مجد الدين عند الشيخ أبي الحجاج قال ذلك الوالي للشيخ مجد الدين: يا سيدي هل جاء في الحديث: «من آذى وليا فكأنما هدم الكعبة سبعين مرة»؟!
قال: قال الشيخ مجد الدين أما هذا 73و / / فلا أعلمه، لكني أعلم في هذا الباب ما هو أعظم من هذا.
ثبت في الحديث الصحيح: «أن من آذى وليا لله فقد حارب الله»، وأين محاربة الله من هدم الكعبة!؟ فقال إذ ذاك الشيخ أبو الحجاج للوالي:
[تجالسني] (1) بالخيانة لتجدنّ غبها (2). فقال: يا سيدي في الدنيا؟. قال: في الدنيا، فما زالت السنة حتى رأى في نفسه وماله أمرا عظيما» (3).
قال الشيخ شرف الدين: «فانظر رحمك الله إلى توفيق هذا العالم في الوفاء بحق الله ورعاية هذا العلم، وحفظ أدب الحديث، والتأدب مع أولياء الله تعالى، فصحح ما قاله الشيخ أبو الحجاج، وأكده من حيث المعنى، وأعطى العلم [حقه] (4) والأدب حقه (5)» اه.
الحكاية الخامسة:
قال الشيخ شرف الدين أيضا: «أخبرنا الشيخ الإمام الأستاذ تاج الدين أبو
__________
1302 - م. الفقيه، الأصولي، المحدث، قاضي قضاة الشافعية بمصر، ودفين القرافة. له تصانيف منها: «الإلمام في أحاديث الأحكام» و «الاقتراح في بيان الاصطلاح، وما أضيف إلى ذلك من الأحاديث الصحاح»
وكان والده: مجد الدين: شيخ المالكية، ولذلك فهو الإمام ابن الإمام، العلامة ابن العلامة، توفي والده سنة: 667هـ 1268م. انظر: الديباج: 2/ 319318، والشجرة: 189.
(1) في «ج»: يجالسني.
(2) غب الأمر ومغبته: عاقبته وآخره اللسان.
(3) انظر: «اللطيفة المرضية في شرح دعاء الشاذلية»: ص: 98. مخطوط ضمن مجموع تحت رقم: 158بالخزانة العامة للكتب والمحفوظات تطوان.
(4) في «ج»: منه.
(5) م. س: 9.(1/303)
الفضل أحمد بن عطاء الله رضي الله عنه قال: أخبرني الشيخ العارف مكين الدين الأسمر (1) فقال: حضرت المنصورة (2) في خيمة فيها الشيخ الإمام مفتي الأنام عز الدين بن عبد السلام، والشيخ مجد الدين بن علي بن وهب القشيري المدرس، والشيخ محيي الدين بن سراقة (3)، والشيخ مجد الدين الأخميمي (4) والشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنهم ورسالة القشيري (5)
تقرأ عليهم، وهم يتكلمون، والشيخ أبو الحسن صامت إلى أن فرغ كلامهم.
فقالوا: يا سيدنا نريد أن نسمع منك. قال: فسكت الشيخ رضي الله عنه ساعة، ثم تكلم بالأسرار العجيبة، والعلوم الجليلة.
فقال الشيخ عز الدين وقد خرج من صدر الخيمة، وفارق موضعه:
اسمعوا هذا الكلام القريب العهد من الله» (6).
الحكاية السادسة:
قال ابن الصباغ، حدثني الشيخ الصالح المفتي جمال الدين بن عبد الكريم الوادي آشي المالكي المعروف بالعراقي [بمدينة القاهرة حماها الله تعالى في أوائل جمادى الآخرة عام 716هـ] (7) قال: كان سيدي أبو العباس
__________
(1) هو أبو محمد عبد الله بن منصور، الملقب بالمكين الأسمر. ت: 692هـ 1292م. أحد الصلحاء الفضلاء، كان متصدرا لإقراء القرآن بالإسكندرية، وأحد شيوخ ابن رشيد الفهري.
انظر: ملء العيبة: 3/ 3627.
(2) مدينة في مصر بين دمياط والقاهرة، معجم البلدان: 5/ 212211.
(3) هو محمد بن أحمد أبو بكر، محيي الدين الأنصاري الشاطبي المعروف بابن سراقة. ت: 662هـ 1264م. شيخ دار الحديث الكاملية بالقاهرة، أندلسي الأصل، سمع الحديث ببغداد وغيرها، وولي مشيخة دار الحديث بحلب، ثم الكاملية بمصر، له مؤلفات في التصوف. انظر: البداية:
13/ 243.
(4) مجد الدين الأخميمي، مذكور في الأرجوزة الوجيزة للديريني. انظر: طبقات الأولياء: 527.
(5) تقدمت الإشارة إلى هذه الرسالة في ترجمة القشيري. ص: 286من هذا الكتاب.
(6) انظر: مخ اللطيفة المرضية: 30، ولطائف المنن: 42.
(7) زيادة من درة الأسرار: 152.(1/304)
يعني 73/ / ظ المرسي (1)، نفع الله به لما توفي سيدي أبو الحسن رضي الله عنهما يطلع للقاهرة زمن زيادة النيل، يقيم بمسجد في موضع يقال له المقص بالبركة بخارج القاهرة (2). وكان سيدنا أبو الحسن يفعل هذا في كل عام فيجتمع إليه مشايخ القاهرة ومصر، ومن بتلك الجهات يتبركون به، ويأخذون عنه العلوم العظيمة، والأحوال الكريمة، فبقي سيدي أبو العباس يقفوا أثره، فجاء على عادته، فاجتمع إليه جماعة من كبار مصر وعلمائها، وقالوا له:
يا شيخ، كان سيدنا أبو الحسن إذا جاء لهذا الموضع يجيء عندنا بمصر، ونسمع منه مواهب الحق سبحانه، ونتبرك بقدومه علينا، وأنت قد أقامك الله مقامه، فنحب أن نتبرك بكلامك ونتذاكر كلام الشيخ رحمه الله.
فقال لهم: إذا كان صبيحة غد إن شاء الله نجيء إليكم، فلما أن كان في صبيحة تلك الليلة أمرنا بالمسير إلى مصر، وأمرني أن أحمل رسالة القشيري، فحملتها معي، ووصلنا إلى جامع عمرو بن العاص، فوجدناه قد امتلأ بكبار الديار المصرية وعلمائها، قال لي: معتقد ومنتقد.
قال: فجلسنا في شرقي الجامع ثم قال لي: أخرج رسالة القشيري فأخرجتها ثم قال لي: إقرأ. فقلت: وماذا أقرأ؟ قال: الذي يظهر لك. قال:
ففتحت الكتاب فوجدت فيه باب الفراسة (3). قال: فقرأت أوائل الباب، فلما فرغت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: أغلق الكتاب، ثم قال: الفراسة تنقسم إلى أربعة أقسام: فراسة المؤمنين، وفراسة الموقنين، وفراسة الأولياء، وفراسة الصديقين، فأما فراسة المؤمنين، فحالها من كذا ومددها من كذا، فتكلم بكلام عظيم، ثم انتقل إلى فراسة الموقنين، فتكلم [بطبقة] (4) أعلى ثم قال:
__________
(1) هو أحمد بن عمر الأندلسي المرسي الأنصاري المالكي نزيل الإسكندرية. ت: 686هـ 1287م. صحب الشاذلي، وصحبه تاج الدين بن عطاء الله، له كرامات عدة، انظر: طبقات الأولياء: 420418، وجامع كرامات الأولياء: 1/ 315314.
(2) في درة الأسرار 152: بخارج باب البحر من القاهرة.
(3) انظر الرسالة القشيرية: 2/ 420باب الفراسة.
(4) في «ج»: غير واضحة.(1/305)
وأما فراسة الولي فمددها من كذا، وحالها 74و / / من كذا، وتكلم في ذلك بكلام موهوب أدهش به قلوب الحاضرين واستغرق في ذلك إلى أذان الظهر، والناس يبكون، ورأيت العرق ينحدر من بين جبينه حتى يسيل على لحيته، وكانت له لحية كبيرة، فلما صحا من حاله قال: وأما فراسة الصديقين فمثلي مع أستاذي رضي الله عنه أخذت أخذة، فكنت بين يدي العرش، فرأيت الشيخ أبا مدين (1) رضي الله عنه فقلت له: من أنت وما علومك، وما أتاك الله؟
فقال لي: أنا رأس السبعة، وأحد الأربعة، ومعي من العلوم أحد وسبعون علما، فقلت له: فما فعل الشيخ أبو الحسن الشاذلي؟ فقال: سبقني بأربعين علما.
فلما أصبح دخلت على أستاذي رضي الله عنه فقال لي: يا أبا العباس كنت البارحة بالملكوت الأعلى فرأيت الشيخ «أبا مدين» فقلت له: من أنت، وما علومك وما أتاك الله؟ فقال: أنا رأس السبعة وأحد الأربعة، ومعي من العلوم أحد وسبعون علما، فقلت له: فما فعل الشيخ أبو محمد ابن مشيش (2)
يعني أستاذه أيضا فقال: هيهات، سبقني بأربعين علما، هو البحر الذي لا يحاط به، ثم رفع يديه، وأخذ في الدعاء، فتزاحم الناس عليه يتمسحون بأثوابه، ويتبركون به. قال: وتعجبوا مما سمعوا منه من أسرار الله تعالى (3).
__________
(1) هو شعيب بن حسين الأنصاري الأندلسي: أصله من حصن قطنيانة من عمل إشبيلية ثم نزل بجاية، واستوطنها مدة، ثم تلمسان، توفي وهو في طريقه إلى مراكش، واختلف في سنة وفاته، فقيل: 593هـ 1196م، وقيل: 588هـ. كان زاهدا، فاضلا، عارفا بالله، حتى نال من المعارف أسرارا. انظر: التشوف إلى رجال التصوف: 316، وطبقات الأولياء: 438437.
(2) هو عبد السلام بن مشيش بن أبي بكر منصور، أبو محمد الإدريسي الحسني. ت: 622هـ 1225م. ناسك، اشتهر بصلاة تدعى: الصلاة المشيشية وقد شرحها كثيرون، قتل شهيدا في جبل العلم، ودفن بقنته. انظر: جامع كرامات الأولياء: 2/ 69.
(3) درة الأسرار: 153152.(1/306)
الباب الثاني في منفعة النحو من العربية وضرورة الاحتياج إليه في ملة الإسلام(1/307)
وقبل الخوض في ظهور هذه المنفعة العظمى لا بد من وضع قاعدتين في الموضع:
قاعدتان:
القاعدة الأولى:
في أن هذه الشريعة المحمدية على واضعها أفضل 74ظ / / الصلاة والسلام عربية لا عجمة فيها البتة، ونعني بذلك أنها جارية في كتابها العزيز، وسنة نبيها الكريم، على مناهج العرب في الألفاظ، والمعاني، وأساليب الكلام، لأن القرآن الكريم، لم يقع فيه كلمة عجمية، فإن ذلك قد اختلف فيه الأصوليون بخلاف ما أردنا، فإنه أمر لا يصح أن يختلف فيه، والشواهد عليه واضحة الدلالة لقوله تعالى في القرآن الذي هو عمدتها وأساس قاعدتها: {إِنََّا جَعَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} (1)، وقوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (2)، وتقدم قوله تعالى (3): {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى ََ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسََانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}.
ومعلوم كونه صلى الله عليه وسلم عربي اللسان كما شهد به قوله تعالى: {فَإِنَّمََا يَسَّرْنََاهُ}
__________
(1) سورة الزخرف، الاية: 3.
(2) سورة الزمر، الاية: 28.
(3) انظر: ص: 91من هذا الكتاب.(1/309)
{بِلِسََانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} (1).
وكذا أهل العصر الذين بعث فيهم صلى الله عليه وسلم كانوا عربا نسبا ولسانا، وإذا كان الأمر على ذلك، فلم يجر خطابها إلا على معتاد اللسان العربي، دون مداخلة شيء أعجمي، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمََا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسََانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهََذََا لِسََانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (2).
وقوله عز وجل: {وَلَوْ جَعَلْنََاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقََالُوا لَوْلََا فُصِّلَتْ آيََاتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (3) وهذا لسان عربي مبين.
وأيضا قال الإمام الشافعي رحمه الله في «الرسالة» في تمهيد هذا الأصل: «إذا كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض: فلا بد أن يكون بعضهم تبعا لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتبع على التابع.
قال: وأولى الناس بالفضل في اللسان من لسانه لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: ولا يجوز والله أعلم أن يكون أهل لسانه أتباعا لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد بل كل 75و / / لسان تبع للسانه، وكل أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه صلى الله عليه وسلم» (4) ثم استشهد على ذلك بما تقدم من الآيات المصرحة بعربية الشريعة اه.
القاعدة الثانية:
أن حفظ الضروريات الخمس، وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال من أعظم مقاصد الشرع في وضع الشريعة ابتداءا لمصالح العباد معاشا، ومعادا، على ما دل عليه الاستقراء المفيد العلم بذلك كله قطعا.
وقد ذكر غير واحد من الأصوليين أنها واجبة الحفظ في كل ملة، وحاصل
__________
(1) سورة مريم، الآية: 97.
(2) سورة النحل، الآية: 103.
(3) سورة فصلت، الآية: 44.
(4) انظر الرسالة: 46.(1/310)
حفظها يرجع إلى أن كل ما يقيم وجودها، فهو مصلحة مطلوبة الفعل، استجلابا لاستقامة العاجل والآجل وكل ما يوجب عدمها، فهو مفسدة مطلوبة الترك، استدفاعا لخلل العاجل والآجل، وقد أكد حفظه من هذه الجهة الثانية بما يكف من لم يكتف بمجرد طلب الترك، وتغليظ الوعيد عليه، ففي الدين بقتل الكافر والمبتدع المضل، وفي النفس بالقصاص والدية، وفي العقل بحد مفسده بتناول المسكرات، وفي النسل بالحدود وتضمين قيم الأولاد، وفي المال بالقطع والتضمين.
والعناية بها توجب لها الحفظ من كل جانب، لأنها إذا فقدت، اختل نظام الدين والدنيا، ولم يجر أمر العباد فيهما على استقامة.
مقامان:
إذا عرفت هذا فمنفعة النحو إذا واضحة الظهور، عظيمة الغناء في صلاح الخاصة والجمهور والحاجة إليه شديدة، ووجوه الاعتماد عليه عديدة، وإظهار البعض منها على التفصيل وتلخيص البيان، والتحصيل، باعتبار القاعدتين يتمهد، وعلى وجوه البناء عليهما يدل ويشهد، فهما لا شك مقامان للنظر، واستنجاز الوعد المنتظر، فأقول: 75ظ / / وبالله أستعين، وعلى كفايته أعتمد، فهو المنجد المعين:
المقام الأول: في ظهور منفعة النحو باعتبار القاعدة الأولى:
وذلك لأن عربية الشريعة التي كلف العباد بها اعتقادا وعملا، وصيرت ألسنة الأعاجم تبعا للسانها العربي المبين، لما كانت لا تفهم إلا به، ولا تحصل في أول الأمر إلا من طريقه، كان ظهور منفعته أوضح من شمس الظهيرة، وعند ذلك فلا [توازيها] (1) في العلوم المرادة لغيرها منفعة، ولا تعود فائدة بمثل جدواها، ولأجله قال مالك بن أنس رضي الله عنه: «لو صرت من الفهم في غاية، ومن العلم في نهاية، فإن ذلك يرجع إلى أصلين: كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولا سبيل إليهما، ولا إلى الرسوخ فيهما، إلا بمعرفة اللسان
__________
(1) في «ج»: غير واضحة.(1/311)
العربي، فبه أنزل الله كتابه، ونهج لعباده أحكامه، فهو أصل الدين، وفرع الشريعة فمن الحق الواجب المهم، اللازم للمؤمن، أن يقدم في تعلمه اللسان العربي، فلو أن الرجل يكون عالما بسائر العلوم جاهلا به لكان [كالساري] (1)
وليس له ضياء».
قلت: «وكيف له بالضياء في ظلمة مسيره، وهو إذا كان جاهلا بالنحو أولا، وبما يتوقف عليه كمال الفهم من سائر علوم اللسان [ثانيا] (2)، لا مطمع له في فهم الكتاب والسنة على حد ما يفهمه صاحب اللسان العربي بالملكة أو الصناعة، فإذا لا تغنيه علومه، ولا تنهض به إلى قرع هذا الباب الذي هو المسلك الأول إلى الفهم عن الله تعالى، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم لأن العرب تتسع في كلامها اتساعا لا يفهمه إلا من علم النحو وتوابعه، والكتاب والسنة على ذلك المنهاج وردا في الخطاب، فمن جملة 76و / / ذلك أنها تخاطب بالعام، ويراد به ظاهره تارة، وخصوصه أخرى. وبالخاص: يراد به مقتضاه في قصده وعمومه في قصد آخر، وبالظاهر يراد به ما بدا منه على وجه، وخلافه على وجه آخر، وكل ذلك يعلم من أول الكلام، أو وسطه أو آخره، وتتكلم بالكلام ينبىء أوله عن آخره، وآخره عن أوله، وتعرف الشيء بالمعنى دون اللفظ كما تعرفه بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، وبالعكس، وتستعمل اللفظ الواحد في المعاني الكثيرة» (3).
قال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله وقد أشار إلى تأصيل هذا الأصل في «الموافقات»: «وهذا كله معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي، ولا من تعلق بعلم كلامها.
قال: فإذا كان كذلك، فالقرآن في معانيه، وأساليبه، على هذا الترتيب قال: فكما أن لسان بعض الأعاجم لا يمكن أن يفهم من جهة لسان العرب،
__________
(1) في «أ» و «ج»: كالسارق.
(2) في «ج»: ثابتا.
(3) الموافقات: 2/ 66.(1/312)
وكذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة فهم لسان العجم لاختلاف الأوضاع والأساليب، قال: والذي نبه على هذا المأخذ في المسألة، هو «الشافعي» الإمام في «رسالته» الموضوعة في أصول الفقه» (1) انتهى المقصود منه.
تفريع:
قال في كتابه الموضوع في «الحوادث والبدع» (2) وقد أجرى تقرير هذا الأصل أيضا بأوفى من بعض ما أشار إليه في «الموافقات»: «فإذا ثبت هذا فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أصولا وفروعا أمران:
أحدهما: أن لا يتكلم في شيء من ذلك حتى يكون عربيا أو كالعربي، في كونه عارفا بلسان العرب بالغا فيه مبالغ العرب، أو مبالغ الأئمة المتقدمين كالخليل وسيبويه، والكسائي والفراء، ومن أشبههم وداناهم.
قال: وليس المراد أن يكون حافظا كحفظهم، وجامعا كجمعهم، وإنما المراد أن يصير 76ظ / / فهمه عربيا في الجملة، وبذلك امتاز المتقدمون من علماء العربية على المتأخرين، إذ بهذا المعنى أخذوا أنفسهم حتى صاروا أئمة.
قال: فإن لم يبلغ ذلك، فحسبه في فهم معاني القرآن التقليد، وألا يحسن ظنه بفهمه دون أن يسأل فيه أهل العلم به.
ثم نقل عن الشافعي أنه لما قرر معنى ما تقدم يعني ما للعرب من التصرفات المشار إليها في كلامها فمن جهل شيئا (3) من لسانها يعني لسان العرب وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة. فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضها.
__________
(1) م. س: 2/ 66.
(2) المراد: كتاب «الاعتصام»، وهو في البدع والمحدثات، صدره الشاطبي بمقدمة في غربة الإسلام، وحديث: «بدأ الإسلام غريبا». ثم جعل مباحث ما كتبه في عشرة أبواب حرر فيها مسائل البدع والابتداع، مما ينفع المسلمين في أمر دينهم، وأمر دنياهم.
(3) في «الاعتصام» 2/ 297: هذا.(1/313)
ومن تكلف ما جهل وما لم تثبته معرفته، كانت موافقته للصواب إذا وافقه من حيث لا يعرفه غير محمودة، وكان بخطئه غير معذور إذا نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الصواب والخطأ فيه.
قال: وما قاله حق، فإن القول في القرآن والسنة بغير علم تكلف، وقد نهينا عن التكلف، ودخول (1) تحت معنى حديث: «حتّى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا» الحديث. كأنهم إذا لم يكن لهم لسان عربي يرجعون إليه في كتاب الله وسنة نبيه، رجع إلى فهمه الأعجمي، وعقله المجرد (2) عن التمسك بدليل، وهو خروج (3) عن الجادة.
قال: وقد خرج ابن وهب عن الحسن أنه قيل له: أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويصلح بها منطقه؟ قال: نعم! فليتعلمها، فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا (4) بوجهها فيهلك.
وعن الحسن قال: أهلكتهم العجمة! فيتأولون القرآن على غير تأويله» اه (5).
قلت: سيأتي إن شاء الله تمام هذا المعنى فيما يظهر من منفعة النحو باعتبار المقام الثاني.
استظهار:
ما رشح به هذا الأمر الأول من كلام الشافعي مثله قول الشيخ أبي نعيم في «رياضة المتعلمين»: «النحو آلة لجميع العلوم لا يجد 77و / / أحد منه بدا ليقيم تلاوة كتاب الله، ورواية كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي لا يخرجه جهل الإعراب إلى إسقاط المعاني».
__________
(1) معطوفة على «تكلف» الذي هو خبر «إن».
(2) العبارة مضطربة والمراد: أن الأعجمي يرجع إلى فهمه وعقله المجرد.
(3) في الاعتصام 2/ 298: العبارة وردت كالتالي: عن التمسك بدليل يضل عن الجادة.
(4) عيي بأمره: إذا لم يهتد لوجهه للسان.
(5) انظر: الاعتصام: 2/ 299297.(1/314)
ومثله أيضا قول «ابن فارس» في «حلية الفقهاء» (1): «لا يحل لأحد الكلام في استخراج أحكام القرآن، ولا في استنباط معاني الآثار، إلا بعد العلم بكلام العرب.
قال: وقد قال الشافعي رضي الله عنه في «سيرة القاضي»: ولا يشاور إذا نزل به المشكل إلا أمينا عالما بالكتاب، والسنة، والآثار، وأقاويل الناس، ولسان العرب».
ومثله أيضا ما للقاضي أبي الوليد الوقشي (2) في مراجعة له لبعض فقهاء المغرب قال فيها: «والذي لا غنى للمسترشد عنه، ولا بد له منه في الوصول من التحقق بمعاني القرآن إلى مطلوبه، والحصول فيه على مراده ومرغوبه بعد إحكام النطق به، وتجويد تلاوته، وإقامة ذلك على قوانين العربية وباتباع السلف على ما يعطيه من اللفظ: «مفهوم المصحف» أن يتوفر من اللسان العربي الذي به نزل [نصه] (3)، ويعلم منه ما يلزم علمه فلا [يسعه] (4) جهله».
ثم أكد ذلك بعد بيان [جل] (5) ما يلزم منه فقال: «وينضاف إلى ما تقدم ذكره مما يحتاج إليه طالب التفقه في القرآن والتحقق بمعانيه، أن يكون عنده من قوانين النحو ما يفهم به مقاصد العرب في كلامهم على طريق الإعراب، وأحكامه في الرفع، والنصب، والخفض، والجزم، وسائر ما تختص به هذه
__________
(1) حلية الفقهاء لابن فارس، حققه د. عبد الله بن عبد المحسن التركي. ط 19831ولم نعثر على النص فيه.
(2) هو هشام بن أحمد الكناني المعروف بالوقشي. ت: 489هـ 1095م. من أعلم الناس بالنحو واللغة ومعاني الأشعار، وعلم العروض، وصناعة البلاغة، شاعر بصير بأصول الاعتقادات وأصول الفقه، من تصانيفه: «مختصر في الفقه»، و «الرسالة المرشدة» و «نكت الكامل» للمبرد، وله شعر. انظر: الصلة: 654653. ومخطوطة فهرست المنتوري، فقد روى كتبه، وتنبيهاته، وتعليقاته عن شيوخه. والبغية: 2/ 327.
(3) في «أ» و «ج»: حظه، ويظهر أن الصواب ما أثبتناه.
(4) في «ج»: فلا يسمع.
(5) في «ج»: جمل.(1/315)
الصناعة، مما يسلم به من اللحن، وإفساد المعنى كما يسلم بمعرفة أعيان الألفاظ من التغيير، والتصحيف».
قال الأستاذ أبو إسحاق:
«والثاني: يعني من الأمرين اللازمين للناظر في الشريعة أنه إذا أشكل عليه في الكتاب أو في السنة لفظ أو معنى، فلا يقدم على القول فيه دون أن يستظهر بغيره ممن له علم بالعربية، فقد يكون إماما فيها ولكنه يخفى عليه الأمر في بعض الأوقات 77ظ / / فالأولى في حقه الاحتياط، إذ قد يذهب على العربي المحض، بعض المعاني الخاصة حتى يسأل عنها وقد نقل من هذا عن الصحابة، وهم العرب، فكيف بغيرهم!
فعن ابن عباس رضي الله [عنهما] (1) قال: «كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي أنا ابتدأتها».
وفيما يروى عن عمر رضي الله عنه أنه سأل وهو على المنبر عن معنى قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى ََ تَخَوُّفٍ} (2) فأخبره رجل من هذيل (3) أن التخوف عندهم التنقص ثم [قال] (4): قال الشافعي: لسان العرب أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها ألفاظا، قال: ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها حتى لا يكون موجودا فيها من يعرفه.
قال: والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل العلم، لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء، فإذا جمع عامة أهل العلم بها، أتى على السنن، وإذا فرق كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها، ثم كان ما ذهب عليه
__________
(1) في «ج»: عنه.
(2) سورة النحل، الآية: 47.
(3) هذيل: من كبار قبائل العرب المضرية المشهورة، سكنوا قرب مكة، دافعوا عن الكعبة لما حمل أبرهة على مكة. انظر معجم قبائل العرب: 3/ 1212.
(4) ساقطة من «أ».(1/316)
منها موجودا عند غيره ممن كان في طبقته وأهل علمه.
قال: وهكذا لسان العرب عند خاصتها، وعامتها، لا يذهب منه شيء عليها، ولا يطلب عند غيرها ولا يعلمه إلا من قبله (1) عنها ولا يشركها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها، ومن قبله منها، فهو من أهل لسانها، وإنما صار غيرهم من غير أهله بتركه، فإذا صار إليه صار من أهله» (2).
قال الأستاذ أبو إسحاق: «هذا ما قال، ولا يخالف فيه أحد، فإذا كان الأمر على هذا لزم كل من أراد أن ينظر في الكتاب والسنة، أن يتعلم الكلام الذي به أديت، وألا يحسن ظنه بنفسه قبل الشهادة له من أهل علم العربية 78و / / بأنه ممن استحق النظر، وألا [يستقل] (3) بنفسه في المسائل المشكلة التي لم يحط بها علمه دون أن يسأل عنها من هو من أهلها» (4).
انتهى المقصود من كلامه، وفيه كفاية في تقرير منفعة النحو، وعظيم الاحتياج إليه في ملة الإسلام، لا سيما إذا كمل بانضمام غيره من علوم اللسان إليه، وبتأمله يتبين لك فرق ما بين شهادة [هؤلاء الأئمة: مالك والشافعي، وغيرهما من أعلام العلماء، وبين شهادة] (5) من ذم النحو، وهجا أئمته، وأنكر ما لهم من فضيلة، لا شك أن الفرق بين الشهادتين ما بين الشهداء بها.
مزيد بيان:
بذكر أمثلة ظهر فيها سقوط من تعرض بالنظر في الكتاب والسنة، وهو جاهل بعلوم العربية لتستعيذ بالله، من فضيلة الجهل بها، ومعرة الخزي بمعاداتها، على أن ما وقع من ذلك لم يحك ولله الحمد إلا عن طوائف من المبتدعة تخرصوا [على] (6) الكلام في القرآن والسنة، وبضاعتهم في علوم
__________
(1) في الاعتصام: 2/ 299: نقله.
(2) م. س: 2/ 300299.
(3) في «ج»: ألا يشتغل بنفسه.
(4) م. س: 2/ 301.
(5) ساقط من «أ».
(6) في «أ» و «ج»: عن.(1/317)
العربية مزجاة، ولا معرفة لهم بها البتة، فباؤوا بالخزي الذي لا ينسي الدهر فضيحة عاره، وجاؤوا بما أبقوه ضحكة للسامعين، وهزأة للساخرين، وقد كان السكوت ساترا لقبيحه.
المثال الأول:
«ما يروى عن النظام (1) أنه كان يقول: «إذا آلى المرء بغير اسم الله تعالى، لم يكن «موليا». قال: لأن «الإيلاء» مشتق من اسم الله» (2)، وليس كذلك لأن الإيلاء من الألية وهي اليمين، يقال: آلى الرجل، يولي، إيلاء، أي حلف وأقسم.
المثال الثاني:
«قول بعضهم في قوله تعالى: {وَعَصى ََ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ََ} (3): أنه اتخم (4) من أكل الشجرة».
قال ابن قتيبة: «يذهبون إلى قولهم: «غوي الفصيل، يغوى، غوى: إذا أكثر من اللبن حتى يبشم (5)». قال: «وذلك غوى، يغوي غيّا»، وهو من البشم، غوي، يغوى، غوى» (6).
المثال الثالث:
قول طائفة منهم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنََا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ}
__________
(1) هو إبراهيم بن سيار أبو إسحاق النظام. ت: 231هـ 845م كان أحد فرسان أهل النظر والكلام على مذهب المعتزلة، وله في ذلك تصانيف عدة، وكان أيضا متأدبا وله شعر دقيق المعاني على طريقة المتكلمين. انظر تاريخ بغداد: 6/ 37.
(2) الاعتصام: 1/ 237.
(3) سورة طه، الاية: 121.
(4) تخم وأتخم: إذا ثقل عليه الأكل فسبب له تخمة اللسان وخم.
(5) البشم: التخمة: اللسان بشم.
(6) انظر: مشكل تأويل القرآن 403402، وتأويل مختلف الحديث: 68.(1/318)
{وَالْإِنْسِ} (1) أي ألقينا فيها، كأنه عندهم من قول العرب: «ذرته الرّيح» (2).
قال 78ظ / / ابن قتيبة: «ولا يجوز أن يكون من ذلك، لأن «ذرأنا» مهموز، و «ذرته الريح»: غير مهموز. قال: ولا يجوز أن يجعل من «أذرته الدابة عن ظهرها»: أي ألقته لأن ذلك «ذرأت» تقديره: «فعلت» بالهمز. يريد: فهو ثلاثي وهذا من «أذريت» تقديره: «أفعلت» بلا همز» (3). يريد: فهو رباعي.
قلت: وينظر إلى مثل هذا التصرف ما حكى ابن قتيبة أيضا، عن «بشر المريسي (4) أنه كان يقول لجلسائه: «قضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجوه وأهنؤها»، فسمع قاسم التّمار (5) قوما يضحكون فقال: هذا كما قال الشاعر (6):
إنّ [سليمى] (7) والله يكلؤها ... ضنت بشيء ما كان يرزؤها
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 179وذرأنا: ذرأ الخلق: خلقهم اللسان ذرأ.
(2) ذرت الريح التراب وغيره: أطارته وأذهبته، وتذريه الريح وأذرته: قلعته، ورمت به وهما لغتان، وأنكر أبو الهيثم: أذرته «بمعنى طيرته». قال: وإنما أذريت الشيء عن الشيء: إذا ألقيته مثل إلقائك الحب للزرع اللسان ذرأ.
(3) انظر تأويل مختلف الحديث: 68، والاعتصام: 1/ 237والموافقات: 3/ 393.
(4) بشر بن غياث «المريسي» اختلف في ضبط اسمه، فذكر السمعاني ص 523أنه «المريسي» بفتح الميم وكسر الراء نسبة إلى مريس: قرية بمصر.
وذكر ياقوت في معجم البلدان: 5/ 118: أنه المرّيسي نسبة مرّيسة: بالفتح ثم الكسر والتشديد، وياء ساكنة، وسين مهملة، قرية بمصر، وولاية من ناحية الصعيد، قال: وببغداد درب يعرف بدرب المريسي، ينسب إليه وذكر ابن حجر في «لسان الميزان»: 2/ 31. أن المريسي بفتح الميم: وكسر الراء نسبة إلى مريسة بالصعيد، والمشهور بالخفة وضبطها الصنعاني بتثقيل الراء.
وفي اللسان: «مريس من بلدان الصعيد». وفي القاموس: «مرّيسة كسكّينة قرية منها بشر بن غياث المريسي».
توفي المريسي سنة 218هـ 833م. تفقه على أبي يوسف، وكان أحد دعاة الجهمية، وكان أبوه يهوديا تنسب إليه فرقة المريسية، كما كان يقول بخلق القرآن، من آثاره: «التوحيد» و «الرد على الخوراج» و «المعرفة»: انظر في ترجمته: بالإضافة إلى ما سبق: تاريخ بغداد: 7/ 5756.
(5) انظر البيان والتبيين: 4/ 1312، فقد ذكر جملة من أخبار قاسم التمار.
(6) نسبه في تاريخ بغداد: 7/ 57إلى الشاعر ابن هرمة، وهو إبراهيم بن علي بن سلمة الفهري، شاعر، مخضرم الدولتين، مدح المنصور، وابنه المهدي. ت: 176هـ 792م. انظر: الأغاني 4/ 397369.
(7) في «ج»: سلمى.(1/319)
قال: وبشر، رأس في الرأي. وقاسم التمار: متقدم في أصحاب الكلام.
قال: واحتجاجه لبشر أعجب من لحن بشر» (1).
قلت: وأعجب من ذلك ما يحكى عنه في العي، وحماقة التغفيل، أنه قال في كلام له: «بينهما كما بين السماء إلى قريب من الأرض».
ويحكى أنه قال: «لو رأيت إيوان كسرى كأنما رفعت عنه الأيدي» (2) أول من أمس. ذكره صاحب «جنى النحل، وحيا المحل».
المثال الرابع:
قول فريق منهم في قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللََّهُ إِبْرََاهِيمَ خَلِيلًا} (3) أي فقيرا إلى رحمته من الخلة بفتح الخاء.
قال ابن قتيبة: «استيحاشا (4) من أن يكون الله تعالى خليلا لأحد من خلقه، واحتجوا بقول زهير (5):
وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول: لا غائب مالي، ولا حرم (6)
أي أتاه فقير.
قال: وأي فضيلة في هذا القول لإبراهيم الخليل؟ أما يعلمون أن الناس
__________
(1) قوله: واحتجاجه لبشر «لأن كلامه كان مضحكا لخلو البيت من الشاهد المراد انظر:
تأويل مختلف الحديث: 79، وعيون الأخبار: 2/ 158157، وتاريخ بغداد 7/ 57، والبيان والتبيين: 2/ 213212، والاعتصام: 1/ 238237.
(2) رفعت عنه الأيدي، يقال لما هو جديد لا لما تقادم عهده، وتهدم بنيانه.
(3) سورة النساء، الآية: 125.
(4) تحاشى عن الشيء: تنزه عنه، والمعنى المراد هنا: حاشاه من أن يكون خليلا لأحد.
(5) زهير بن أبي سلمى الشاعر الجاهلي المعروف: ت: 6هـ 627م. طبقات الشعراء 1/ 6663، والخزانة: 1/ 375.
(6) البيت من قصيدة يمدح بها هرم بن سنان، مطلعها:
قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيّرها الأرواح والدّيم
والخليل: الفقير ذو الخلة، ولا حرم: أي لا يحرم سائله، والحرم: والحرم: الممنوع. انظر الديوان: ص: 105.(1/320)
جميعا فقراء إلى الله، وهل إبراهيم في (لفظ) (1) «خليل الله» إلا كما قيل:
«موسى كليم الله، وعيسى روح الله»» (2).
قال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي: «ويشهد له الحديث «لو كنت 79و / / متّخذا خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا، إنّ صاحبكم خليل الله»» (3).
المثال الخامس:
«قول من زعم منهم أنه يجوز للرجل نكاح تسع من النساء الحرائر، مستدلا بقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مََا طََابَ لَكُمْ مِنَ النِّسََاءِ مَثْنى ََ وَثُلََاثَ وَرُبََاعَ} (4). لأن اثنين إلى ثلاث إلى أربع تسع، (ولم يعلم) (5) أن معنى الآية: {فَانْكِحُوا} إن شئتم اثنتين (6) اثنتين، أو ثلاثا ثلاثا، أو أربعا على التفصيل لا على الجمع، لأن ذلك هو المعنى، «بمفعل وفعال» في كلام العرب فإذا قالوا: جاء القوم مثنى مثنى، أو ثلاث ثلاث، فإنما يريدون جاؤوا منقسمين على هذه الحالة: اثنين، اثنين، أو ثلاثة ثلاثة» (7).
المثال السادس:
«قول جابر الجعفي (8) في قوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتََّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} (9) أن تأويله لم يجئ بعد، وقع ذلك في: «مقدمة مسلم» (10)، فروى فيها
__________
(1) زيادة من «الموافقات»: 3/ 393.
(2) تأويل مختلف الحديث / 7069.
(3) الموافقات: 3/ 393.
(4) سورة النساء، الآية: 3.
(5) في «الاعتصام» 2/ 302: ولم يشعر.
(6) أي اثنتين بعد اثنتين لا اثنتين مع اثنتين.
(7) انظر الاعتصام: 2/ 302.
(8) هو جابر بن يزيد الجعفي أبو عبد الله. ت: 128هـ 745م. تابعي من فقهاء الشيعة، من أهل الكوفة، أثنى عليه بعض رجال الحديث، واتهمه آخرون بالقول بالرجعة، وكان واسع الرواية، غزير العلم بالدين / انظر التهذيب: 2/ 46. وميزان الاعتدال: 1/ 176.
(9) سورة يوسف، الآية: 80.
(10) انظر صحيح مسلم: 1/ 103102.(1/321)
عن الحميدي (1) عن سفيان (2) قال: سمعت رجلا يسأل جابرا عن قوله تعالى:
{فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتََّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللََّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحََاكِمِينَ}. فقال جابر: لم يجىء تأويل هذه (الآية) (3)، قال سفيان: وكذب (قال الحميدي) (4):
فقلنا لسفيان: ما أراد بهذا؟ فقال: إن الرافضة (5) تقول: إن «عليا» في السحاب فلا يخرج من (6) يخرج من ولده، حتى ينادي مناد من السماء يريد عليا، أنه ينادي اخرجوا مع فلان! يقول جابر: «فهذا تأويل هذه الآية».
قال سفيان: وكذب، كانت في إخوة يوسف» (7).
قال الأستاذ أبو إسحاق: «ومن كان ذا عقل فلا يرتاب، في أن سياق القرآن دال على ما قال سفيان، وأن ما قاله جابر لا ينساق» (8).
فائدة:
قال ابن السيد (9): «من طريف الغلط في اشتراك الألفاظ ما روي أن
__________
(1) هو عبد الله بن الزبير بن عيسى أبو بكر القرشي الأسدي المكي. ت: 219هـ 834م.
(وفي رواية ت: 220هـ) محدث، حافظ، فقيه، رحل إلى مصر ولازم الشافعي ثم رجع إلى مكة وأفتى، من تصانيفه: «المسند»، وكتاب «الدلائل». انظر: البداية: 10/ 282.
(2) سفيان بن عيينة الإمام المشهور.
(3) زيادة من «الموافقات»: 3/ 93.
(4) زيادة من «الموافقات»: 3/ 93.
(5) الروافض: قوم من الشيعة. سموا بذلك لأنهم تركوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وكانوا بايعوه ثم قالوا له: ابرأ من الشيخين نقاتل معك، فأبى، وقال: كانا وزيري جدي، فلا أبرأ منهما فرفضوه. انظر: الفرق بين الفرق: 1615، وشرح النووي على صحيح مسلم:
1/ 103. اللسان رفض.
(6) في الموافقات 3/ 93: وردت العبارة كالتالي فلا يخرج يعني مع من خرج من ولده.
(7) قال صاحب الموافقات 3/ 93معقبا على موقف جابر: فلما قطع جابر الآية عما قبلها وما بعدها، كما قطع غيره الخاص عن العام، والمقيد عن المطلق صار الموضع بالنسبة إليه من المتشابه، فكان من حقه التوقف، لكنه اتبع فيه هواه فزاغ عن معنى الآية.
(8) هذا التعقيب ورد في الاعتصام: 2/ 302.
(9) هو عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي، أبو محمد (ت: 521هـ 1227م) أديب، نحوي، لغوي، مشارك في أنواع من العلوم. من تصانيفه: «الاقتضاب» و «الإنصاف»، و «المثلث في اللغة»، و «شرح سقط الزند» و «شرح موطأ مالك». انظر الصلة: 293292، والديباج: 1/ 441.(1/322)
النبي صلى الله عليه وسلم وهب لعلي رضي الله عنه عمامة تسمى السحاب، فاجتاز علي متعمما بها، فقال عليه السلام لمن كان معه: أما رأيتم (1) عليا في السحاب 79ظ / أو نحو هذا من اللفظ، فسمعه بعض (الشيعة) (2) لعلي، فظن أنه يريد السحابة المعروفة فكان ذلك سببا لاعتقاد الشيعة أن عليا في السحاب.
ولذلك قال إسحاق بن سويد (3) الفقيه:
برئت من الخوارج لست منهم ... من الغزّال (4) منهم، وابن باب (5)
ومن قوم إذا ذكروا عليا ... يردون السلام على السحاب
ولكني أحب بكل قلبي ... وأعلم أن ذاك من الصواب
رسول الله والصديق حبا ... به أرجو غدا حسن الثواب» (6)
المثال السابع:
قول من زعم منهم أنه مسمّى في القرآن، «كبيان بن سمعان» (7) فإنه زعم
__________
(1) في الإنصاف 183182: أرأيتم.
(2) في م. س: 183182: المتشيعين.
(3) إسحاق بن سويد العدوي التميمي البصري. ت: 131هـ 748م. ثقة فاضل، كان يقول الشعر، انظر التهذيب: 1/ 236.
(4) هو واصل بن عطاء المعتزلي، المعروف بالغزال أبو حنيفة ت: 131هـ 748م. متكلم، أديب، خطيب، بليغ، إليه تنسب المعتزلة لاعتزاله حلقة درس الحسن البصري، وإليه تنسب طائفة:
الواصلية. من آثاره: «معاني القرآن» و «أصناف المرجئة» انظر: الفرق بين الفرق: 10096، والوفيات: 6/ 117.
(5) هو عمرو بن عبيد بن باب البصري المعتزلي. ت: 144هـ 761م، القدري متكلم، مفسر، زاهد، جالس الحسن البصري، واشتهر بصحبته، ثم أزاله واصل بن عطاء عن مذهب أهل السنة، فقال بالقدر، ودعا إليه، واعتزل أصحاب الحسن، رثاه الخليفة أبو جعفر المنصور، من آثاره: «كتاب التفسير» عن الحسن البصري، «الرد على القدرية»، و «كتاب في العدل والتوحيد».
انظر: الفرق بين الفرق: 100وتاريخ بغداد 12/ 188166. والوفيات: 3/ 462460.
(6) انظر الإنصاف: 183182، والأبيات واردة في «البيان والتبيين»: 1/ 23. والبيتان: 1و 2واردان في الفرق بين الفرق: 99.
(7) بيان بن سمعان التميمي الذي زعم أن الإله الأزلي رجل من نور، وأنه يفنى كله غير وجهه، هو تأويل على زعم قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هََالِكٌ إِلََّا وَجْهَهُ} سورة القصص، الآية: 88وقوله:(1/323)
أنه المراد بقوله تعالى: {هََذََا بَيََانٌ لِلنََّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (1).
قال الأستاذ أبو إسحاق: «وهو من الترهات بمكان مكين، والسكوت على الجهل كان أولى به من هذا الافتراء البارد، ولو جرى له على اللسان العربي، لعده الحمقى من جملتهم، ولكنه كشف عوار نفسه من كل وجه عافانا الله، وحفظ علينا العقل والدين بمنه.
قال: وإذا كان «بيان» في الآية علما له، فأي معنى لقوله: «هذا بيان للناس؟، كما يقال: «هذا زيد للناس».
قال: ومثله في الفحش من تسمى «بالكسف» (2). ثم زعم أنه المراد بقوله: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمََاءِ سََاقِطاً يَقُولُوا [سَحََابٌ]} [3] مَرْكُومٌ (4) الآية. فأي معنى للآية على زعمه الفاسد؟ كما تقول: «وإن يروا رجلا من السماء ساقطا يقولوا: سحاب مركوم». تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا
قال: وحكى بعض العلماء أن عبيد الله الشيعي (5) المسمى بالمهدي، حين ملك «إفريقية» واستولى عليها كان له صاحبان 80و / / من «كتامة» ينتصر
__________
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهََا فََانٍ (26) وَيَبْقى ََ وَجْهُ رَبِّكَ} سورة الرحمن، الآيتان: 26و 27، ورفع خبر «بيان» هذا إلى خالد بن عبد الله القسري في زمان ولايته في العراق، فاحتال عليه حتى ظفر به وصلبه سنة 119هـ 737م. انظر: الفرق بين الفرق: ص: 228227. والكامل لابن الأثير: 5/ 209207.
(1) سورة آل عمران، الآية: 138.
(2) هو أبو منصور العجلي أحد الذين ادعوا الإمامة وكان يدين بخنق مخالفيه ويزعم أنه عرج به إلى السماء، وأن الله تعالى مسح بيده على رأسه، وقال له: يا بني: بلغ عني، ثم أنزله إلى الأرض، وزعم أنه الكسف الساقط من السماء، وقد وقف يوسف بن عمر الثقفي والي العراق أيام هشام بن عبد الملك على عورات «المنصورية»، فأخذ زعيمهم هذا «أبو منصور» وصلبه.
انظر: الفرق بين الفرق: 235234.
(3) ساقطة في «ج».
(4) سورة الطور، الآية: 44.
(5) عبيد الله بن محمد الحبيب الفاطمي العلوي المسمى بالمهدي. ت: 322هـ 934م. إمام الشيعة الإسماعيلية ومؤسس دولة العلويين في المغرب، وجدّ العبيديين الفاطميين أصحاب مصر. انظر أخباره بتفصيل في: مقدمة ابن خلدون: 4/ 5148، والكامل لابن الأثير: 8/ 2084 وما قبلها.(1/324)
بهما على أمره، وكان أحدهما يسمى «بنصر الله»، والآخر «بالفتح»، فكان يقول لهما: أنتما اللذان ذكركما الله في كتابه، فقال: {إِذََا جََاءَ نَصْرُ اللََّهِ وَالْفَتْحُ}.
قال: ومن كان في عقله لا يقول مثل هذا، لأن [المتسمّيين] (1) «بنصر الله» و «الفتح» المذكورين إنما وجدا بعد مئتين من السنين، من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير المعنى إذا مت يا محمد ثم خلق هذان، {وَرَأَيْتَ النََّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللََّهِ أَفْوََاجاً (2) فَسَبِّحْ} (2) الآية. فأي تناقض وراء هذا الإفك الذي افتراه الشيعي؟ قاتله الله» (3).
المثال الثامن:
قول بعضهم بتحليل شحم الخنزير بناء على أن قوله تعالى: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} (4) لا يتناول الشحم، وعند ذلك فالاقتصار على تحريم اللحم دون غيره دليل على أن الشحم حلال.
قال الأستاذ أبو إسحاق:
«وربما سلم بعض العلماء ما قالوا، وزعم أن الشحم إنما حرم بالإجماع، والأمر أيسر من ذلك، فإن اللحم ينطلق على الشحم وغيره حقيقة، حتى إذا خص بالذكر قيل: شحم كما قيل: عرق وعصب، وجلد.
قال: ولو كان على ما قالوا لزم ألا يكون العرق ولا العصب، ولا الجلد، ولا المخ ولا النخاع، ولا غير ذلك مما خصّ بالاسم محرما وهو خروج عن القول بتحريم الخنزير» (5).
__________
(1) في «ج»: المسمى.
(2) سورة النصر، الآية: 1.
(3) انظر: الموافقات: 3/ 392391.
(4) سورة البقرة، الآية: 173. من قوله تعالى: {إِنَّمََا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ}.
(5) الاعتصام / 1/ 238.(1/325)
المثال التاسع:
قول من قال منهم: رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تسبّوا الدهر، فإن الله هو الدهر»، وهذا هو مذهب الدهرية بعينه.
قال ابن قتيبة ما ملخصه: «كانت العرب في الجاهلية تقول: أصابني الدهر في كذا فينسبون كل شيء تجري به أقدار الله عليهم إلى الدهر، ويقولون: لعن الله الدهر ويسمونه «المنون»، وهو المنية، لأنه جالبها إليهم بزعمهم، ومنه قوله تعالى: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} (1)، أي ريب الدّهر وحوادثه. وهم القائلون:
{وَمََا يُهْلِكُنََا إِلَّا الدَّهْرُ} (2) 80ظ / / فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّوا الدهر، إذا أصابتكم المصائب، ولا تسبوا الله، فإن الله هو الذي أصابكم بذلك لا الدهر، فإنكم إذا سببتم الدهر، ففي الحقيقة يعود ذلك على من قدر ما أبرزه الدهر مجازا، وهو الله تعالى، وتقدس عن ذلك» (3).
قال: «وسأمثل لهذا الكلام مثالا أقرب به (عليك) (4) تأويله، وإن كان بحمد الله قريبا: رجل يسمى «زيدا» أمر «عبدا» يسمى «فتحا» أن يقتل رجلا، فقتله فسب الناس فتحا، فقيل لهم: لا تسبوا فتحا، فإن زيدا هو فتح، أي أن زيدا هو القاتل لأنه هو الذي أمره، فالقاتل «زيد» لا «فتح». كذلك الدهر تكون فيه المصائب، والنوازل، وهي بأقدار الله، فيسب الناس الدهر لذلك وليس له صنع، فيقول قائل: لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر» (5).
المثال العاشر:
تفسير الروافض لآيات من الكتاب العزيز بما يخرجها عن مقتضى الظاهر
__________
(1) سورة الطور، الآية: 30.
(2) سورة الجاثية، الآية: 24.
(3) انظر تأويل مختلف الحديث: 223222.
(4) زيادة من م. س: 224.
(5) انظر: م. س: 224.(1/326)
من كلام العرب حتى خرجوا بذلك إلى ما لا يصح ولا يقبله ذو عقل سليم.
ولقد قال فيهم بعض الأدباء فيما حكاه ابن قتيبة: «ما أشبه تفسير الروافض للقرآن إلا بتأويل رجل من أهل مكة للشعر! فإنه قال ذات يوم: ما سمعت بأكذب من بني تميم زعموا أن قول القائل (1):
[بيتا] (2) زرارة محتب بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل (3)
إنه في رجال منهم، قيل له فما تقول أنت فيهم؟ قال: البيت، بيت الله، وزرارة: [الحجر] (4) (5) قيل له: فمجاشع؟ قال: زمزم جشعت بالماء، قيل:
فأبو الفوارس؟ قال: أبو قبيس، قيل: فنهشل؟ قال: نهشل أشده، وفكر ساعة ثم قال: نهشل مصباح الكعبة، لأنه طويل أسود. فذلك نهشل» (6) اه.
فهذه أمثلة يكتفى بها عما وراءها مما هو أشنع منها، وأدل على خزي من جهل العربية أو تعامى عما يقتضيه مراعاة العلم بها، فنسأل الله السلامة 81و / / ونجاة العلم بما ينفع لديه.
المقام الثاني: في ظهور منفعة النحو باعتبار القاعدة الثانية:
وذلك لأن موافقة قصد الشارع في لزوم الرعاية لحفظ تلك الضروريات
__________
(1) القائل هو الفرزدق: همام بن غالب التميمي. ت: 110هـ 728م. انظر ترجمته في الأغاني:
21/ 408299، والوفيات 6/ 10086، والخزانة: 1/ 108105.
(2) في الأصول: بيت والتصويب من الديوان.
(3) البيت الثالث من قصيدته في الفخر التي مطلعها:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول
الديوان: 714.
وزرارة: هو زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك التميمي / محتب: الاحتباء، هو أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره ويشده عليها، وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب / اللسان: حبا / ومجاشع: هو مجاشع بن دارم بن مالك أبو قبيلة من تميم. ونهشل: هو لقيط بن زرارة التميمي.
(4) الحجر: حجر الكعبة. قال ابن الأثير: هو اسم الحائط المستدير إلى جانب الكعبة الغربي اللسان. حجر.
(5) في الأصول: الحج.
(6) انظر تأويل مختلف الحديث: 72، وعيون الأخبار: 2/ 146.(1/327)
الخمس إذا لحظ النحو وغيره من علوم العربية على الجملة بعين الاعتبار، وجد ذلك كله معينا على تيسير أسبابها وعصمتها من المصير إلى المخالفة عند الجهل به، ويتضح ذلك بذكر بعض ما يظهر به الحفظ أو نقيضه في كل مقصد من هذه المقاصد المعتبرة في ضروري ما به صلاح الدين والدنيا حتى يتبين به ما للعربية في هذا المقام من عظيم المنفعة وعموم الجدوى.
المقصد الأول: حفظ الدين:
وحفظها له تارة في اعتقادياته، وأخرى في عملياته، وعلى هذين النوعين، يدور أمر الدين وفيه ما يظهر تكليفه.
النوع الأول: الاعتقاديات:
وما أعظم [غناءها] (1) في حفظ هذا النوع الذي هو أصل الدين وأساسه، ولذلك جعله «ابن جني» أشرف ما يدل في كتابه «الخصائص» على فضل العربية، وشفوفها على كثير من أنواع العلوم فقال: «هناك باب فيما يؤمنه علم العربية من الاعتقادات الدينية». ثم قال: «اعلم أن هذا الباب من أشرف أبواب (هذا) (2) الكتاب، وأن الانتفاع به ليس إلى غاية، ولا وراءه نهاية، وذلك أن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها، وحاد عن الطريقة المثلى إليها، فإنما استهواه، واستخف حلمه ضعفه في هذه اللغة الكريمة الشريفة، التي خوطب الكافة بها، وعرضت عليها الجنة والنار» (3) انتهى المقصود [الآن منه] (4).
وما قاله حق لا يمارى فيه، إذ ما تقدم عن أهل الضلال من تلك الأمثلة أصدق شاهد له ومع ذلك فلا بد من بيان ما يدخل به الخلل على حفظ هذا الاعتقاد بسبب الجهل بالعربية أو الإعراض 81ظ / / عن مراعاتها.
__________
(1) في «ج»: عناءها.
(2) زيادة من الخصائص: 3/ 245.
(3) م. س: ج 3/ 245.
(4) في الأصول: الأزمنة.(1/328)
الجهة الأولى:
تغيير معنى الكلمة بالنطق بها على غير الشكل الذي يراد في موضعه.
ومن مثله: قول العلماء في قوله تعالى: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ} (1): من جهل علم العربية أمكن منه أن يخفف «إياك» وإذا خففها، صارت الكلمة في ظاهرها عبارة عن الضوء والنور.
فقد قال يعقوب (2) في كتاب «الألفاظ» له: «يقال لضوء الشمس»:
«الآياء» (3) ممدود إذا فتح، فإن كسر قصر، فيقال: إيا، كرضى وحجى.
قال: فكأن المتكلم بتخفيف «إيا»، الضمير المنفصل، قال: «ضوءك أو نورك نعبد» وفي هذا القول إثبات معبود غير الله تعالى، فقد أشرك قولا من حيث وحد، وثنى نطقا من جهة ما أفرد».
قلت: هذا إذا لم يرد بها [معنى] (4) قراءة عمرو بن فايد (5)، وهو كراهة تخفيف الياء لثقلها، وتقدم الكسر عليها على ما وجهت به «إذ ليست بلغة» على ما قال ابن جني في «المحتسب». قال: «لأنا لم نر لذلك أثرا في اللغة ولا رسما، ولا مر بنا في نثر ولا نظم» (6) يريد على أنها ضمير.
قلت: ونظير هذا في غير هذه الأمة ما يروى عن حماد بن سلمة (7) أنه
__________
(1) سورة الفاتحة، الآية: 5.
(2) هو يعقوب بن إسحاق ابن سكيت أبو يوسف. ت: نحو 244هـ 858م، أديب عالم بالقرآن والشعر، نحوي، لغوي، مؤدب ولد جعفر المتوكل العباسي، ومن ندمائه: ثم قتله، ودفن ببغداد، من تصانيفه: إصلاح المنطق، «القلب والإبدال، ومعاني الشعر» و «كتاب الألفاظ». انظر: تاريخ بغداد: 14/ 274273، والوفيات، 6/ 401395.
(3) الألفاظ: ص: 390.
(4) غير واضحة في الأصول.
(5) هو أبو علي الأسواري البصري، روى عنه الحروف حسان بن محمد الضرير وبكر بن نصر العطار. انظر طبقات القراء: 1/ 602.
(6) المحتسب: 1/ 40.
(7) حماد بن سلمة بن دينار، أبو سلمة البصري، ت: 167هـ 783م، روى عن عاصم وابن كثير، وروى عنه ابن عمارة وحجاج بن المنهال، وغيرهما، محدث، وشيخ البصرة في العربية.
انظر: طبقات القراء: 1/ 258.(1/329)
قال: «أنفقت على الأدب أربعة آلاف دينار، وأنفقت على الحديث أربعة آلاف دينار، فليت ما أنفقت على الحديث أنفقته على الأدب، فإن النصارى صحفوا في حرف فكفروا: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: «أنا ولّدتك، وأنت نبيء»، فقرأوا «أنا ولدتك وأنت بنيّ».
الجهة الثانية:
تغيير المعنى بتغيير الإعراب المؤدي إلى الكفر، وهذا لا ينحصر في الواقع، وقد نبه العلماء على ما يحذر منه. فقال ابن السيد:
«لو أن قارئا قرأ {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} (1) بفتح الخاء، لكان قد كفر، وأشرك بالله، وإذا كسر الخاء آمن ووحد، فليس بين الإيمان والكفر غير حركة.
وكذلك قوله 82و / / تعالى: {هُوَ اللََّهُ الْخََالِقُ الْبََارِئُ الْمُصَوِّرُ} (2) ليس بين الإيمان والكفر [فيه] (3) غير فتح الواو، وكسرها.
قال: وكذلك قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (4).
وقال ابن الفخار (5) في مسائله (6): «قد رأينا في العربية أن الإيمان والكفر كائن بين حركتين أو كلمتين. فالحركتان نحو: «ما كان مثل الله أحد»، فنصب (مثل) يقتضي صريح الإيمان، ورفعها يقتضي صريح الكفر، والكلمتان: {لَيْسَ}
__________
(1) سورة الحديد، الآية: 3 {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظََّاهِرُ وَالْبََاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
(2) سورة الحشر، الآية: 24.
(3) ساقطة من «أ».
(4) سورة المطففين، الآية: 10، والمرسلات، الآيات: 15، 19، 24، 28، 34، 37، 40، 45، 47، 49، وانظر الإنصاف: 186185.
(5) هو محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن الفخار الجذامي أبو بكر. ت: 723هـ 1323م. كان مفيد التعليم، متفننه من فقه، وعربية، وقراءات، وأدب، وحديث كما كان يفتي في المسجد الأعظم بمالقة، له تواليف منها: «كتاب أجوبة الإقناع والإحساب في مشكلات مسائل الكتاب»، وتحبير نظم الجمان في تفسير «أم القرآن»، و «كتاب نصح المقالة في شرح الرسالة» انظر:
الإحاطة: 3/ 9591والديباج: 2/ 290288.
(6) لعله يقصد كتابه: «أجوبة الإقناع والإحساب في مشكلات مسائل الكتاب».(1/330)
{كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (1)، فالكاف كلمة، فإن اعتقدت فيها الزيادة لتوكيد التشبيه كان ذلك صريح إيمان، وإن اعتقدت فيها عدم الزيادة كان ذلك صريح كفر».
قلت: ومن المشهور من ذلك، قراءة من قرأ: {أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (2) بكسر اللام، فإن ظاهرها الكفر الصّراح، ومساقها على ما حكاه «ابن الأنباري»: «عن ابن أبي مليكة (3)، قال: قدم أعرابي في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: من يقرئني (شيئا) (4) مما أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم؟ قال: فأقرأه رجل سورة (5) «براءة» فقال: {أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} بالجر، فقال الأعرابي: أو قد برىء الله من رسوله؟ فإن يكن الله بريء من رسوله، فأنا أبرأ منه؟ فبلغ عمر مقالة الأعرابي فدعاه، فقال: يا أعرابي، أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أمير المؤمنين إني قد قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني، فأقرأني هذا سورة «براءة». فقال: {أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}. فقلت: أو قد برىء الله من رسوله؟، إن يكن الله برىء، فأنا أبرأ منه، فقال عمر رضي الله عنه ليس هكذا يا أعرابي. فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: {أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} فقال الأعرابي: فأنا والله أبرأ ممن برىء الله ورسوله منه، فأمر عمر رضي الله عنه ألا يقرىء القرآن إلا عالم باللغة، 82ظ / / وأمر أبا الأسود فوضع (6) النحو» (7).
الجهة الثالثة:
وضع الكلمة في غير موضع استعمالها حيث يوجب المصير إلى محض
__________
(1) سورة الشورى، الآية: 11.
(2) سورة التوبة، الآية: 3.
(3) عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة التيمي المكي. ت: 117هـ 735م، قاض، من رجال الحديث الثقات، ولاه ابن الزبير قضاء الطائف. انظر التهذيب: 5/ 307306.
(4) زيادة من «النزهة»: 8.
(5) زيادة من م. س: 8.
(6) في م. س: ص 8: «أن يضع».
(7) انظر: إيضاح الوقف: 1/ 3938، والنزهة: 8.(1/331)
الكفر نصا، أو ظاهرا ومن مثله: «عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} إلى قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قََالُوا بَلى ََ} (1)
أنّهم لو قالوا: نعم لكفروا» (2). ووجه ذلك أن «بلى» موضوعة في كلام العرب لجواب النفي، وإفادة إبطاله حتى مع اقترانه بالاستفهام التقريري كما في الآية الكريمة، و «نعم» موضوعة عندهم لجواب النفي، والإيجاب، وإفادة تصديقهما، فإذا قيل: ما قام زيد، فتصديقه: «نعم» وتكذيبه: «لا».
فقول ابن عباس رضي الله عنه: لو قالوا: «نعم، لكفروا» يريد لأن ظاهر المعنى إذ ذاك تصديق النفي، أي «نعم لست ربنا». وقد أورد عليه أن التقرير إثبات في المعنى، وحينئذ فيجوز في جوابه «نعم» بالنظر إلى المعنى إذا فهم ذلك من المجيب.
إلا أن ابن الضائع (3) من المحققين قال: «إن جواب الآية لا يجوز فيه إلا «بلى» لأن السؤال إنما ورد على تفاهم العرب، وإلا فالله تعالى عالم بما في ضمائرهم.
قال: وفي كلام العرب لا يجوز لمن يتهم بالمخالفة أن يقول: «نعم» في جواب التقرير. قال: فقول ابن عباس رضي الله عنه صحيح من كل وجه، لأن المتهم بالخلاف إذا قال ما هو بالنظر إلى اللفظ نص في المخالفة، قطع بخلافه، فكان كفرا، وإلا فما الحامل له على أن يقول ذلك إن كان قصده نفي التهمة عن نفسه، فلو قالوا: نعم، لكان كفرا» اه.
الجهة الرابعة:
اعتقاد التشبيه عند سماع ما يوهمه كقوله تعالى: {يََا حَسْرَتى ََ عَلى ََ مََا فَرَّطْتُ فِي}
__________
(1) سورة الأعراف، الاية: 172.
(2) النزهة: 270.
(3) هو علي بن محمد الكتامي الإشبيلي المعروف بابن الضائع أبو الحسن المتوفى سنة: 680هـ 1281م، نحوي، من تصانيفه: «شرح كتاب سيبويه» جمع فيه بين شرحي السيرافي، وابن خروف، و «الرد على اعتراضات ابن الطراوة» و «الرد على ابن عصفور». انظر: البغية: 2/ 204.(1/332)
{جَنْبِ اللََّهِ} (1). وقوله: {فَأَيْنَمََا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللََّهِ} (2). وقوله: {لِمََا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (3)، وقوله: {وَيَبْقى ََ وَجْهُ رَبِّكَ} (4) 83و / /، وقوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلى ََ عَيْنِي} (5)، ونحو ذلك من الآيات التي في معنى هذا الغرض، فيحمل الجاهل بالعربية ذلك كله على حقيقته، تعالى الله عن ذلك وتقدس.
قال ابن جني: «ولو كان لهم أنس بهذه اللغة أو تصرف فيها، أو مزاولة لها لحمتهم السعادة بها، ما أصارتهم الشّقوة إليه بالبعد عنها.
قال: ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل لحن: «أرشدوا أخاكم فإنّه قد ضلّ» فسمى اللحن ضلالا.
وقال صلى الله عليه وسلم: «رحم الله رجلا أصلح من لسانه»، وذلك لما يخرج الجهل بذلك من ضد السداد، وزيغ الاعتقاد.
ثم ذكر مجيء اللغة، في أكثر الأمر على المجاز، وأن القوم الذين خوطبوا بها أعرف الناس بسعة مذاهبها، وانتشار أنحائها، فجرى خطابهم بها مجرى ما يألفونه، وفهموا أغراض المخاطب لهم بها، بقوله تعالى: {يََا حَسْرَتى ََ عَلى ََ مََا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللََّهِ} على حدّ قولهم: «هذا الأمر يصغر في جنب هذا»، أي بالإضافة إليه» (6).
فالمعنى فيما بيني وبين الله، إذا أضفت تفريطي إلى أمره لي، ونهيه إياي، ثم ذكر تأويل ما تقدّم مما هو مثل هذا على ما يقتضيه المعروف من كلام العرب فإليك النظر فيه.
__________
(1) سورة الزمر، الآية: 56.
(2) سورة البقرة، الآية: 115.
(3) سورة ص، الآية: 75.
(4) سورة الرحمن، الآية: 27.
(5) سورة طه، الآية: 39، وقيل في معنى هذه الآية: أي لتغذّى، قال الأزهري: معناه لتربى بمرأى مني، اللسان صنع.
(6) انظر: الخصائص: 3/ 247245.(1/333)
الجهة الخامسة:
تجويز ما يستحيل على البارىء تعالى بحمل بعض ما تقدم على ظاهره، كقول «بيان بن سمعان»: «كلّ شيء فان حتّى ذات الباري»، تعالى عن ذلك وتقدس، ما عدا الوجه، مستدلا بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هََالِكٌ إِلََّا وَجْهَهُ} (1).
قال الإمام فخر الدين: «وذلك لا يقول به عاقل» اه.
وقال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي: «والذي قصد هذا القائل لا يتجه لغة ولا معنى قال: وأقرب قول لقصد هذا المسكين أن يراد به ذو الوجه، كما تقول: فعلت هذا لوجه فلان، أي لفلان، فكأن معنى الآية: «كلّ شيء هالك 83ظ / / إلّا هو».
وقوله تعالى: {إِنَّمََا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللََّهِ} (2) ومثله قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهََا فََانٍ (26) وَيَبْقى ََ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلََالِ وَالْإِكْرََامِ} (3).
قلت: ومن هذا المعنى ورود ما لا يليق بتنزيه الباري تعالى، فيعتقد الجاهل بالعربية أنه على ما ظهر منه، وليس كذلك.
وقد اعتنى سيبويه رحمه الله بالتنبيه على هذا النوع، ومن كلامه يتبين تمثيله فقال رحمه الله: «وأما قوله تعالى جده: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} و {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} (4) فإنه لا ينبغي أن تقول: إنه دعاء هاهنا، لأن الكلام بذلك قبيح، ولكن العباد إنما كلموا بكلامهم، وجاء القرآن على لغتهم، وعلى ما يعنون، فكأنه والله أعلم قيل لهم: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} و {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي هؤلاء ممن وجب هذا القول لهم، لأن هذا الكلام إنما يقال لصاحب الشر والهلكة فقيل هؤلاء ممن دخل في الشر والهلكة، ووجب لهم هذا.
__________
(1) سورة القصص، الآية: 88.
(2) سورة الإنسان، الآية: 9.
(3) سورة الرحمن، الآيتان: 26و 27. وانظر: النص في الاعتصام: 2/ 303.
(4) سورة المطففين، الآية: 1.(1/334)
قال: ومثله {قََاتَلَهُمُ اللََّهُ} (1) فإنما أجرى هذا على كلام العباد، وبه أنزل القرآن.
قال: ومثل ذلك قوله تعالى: {فَقُولََا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ََ} (2)
فالعلم قد أتى من وراء ما يكون، ولكن اذهبا أنتما في رجائكما، وطمعكما، ومبلغكما من العلم، وليس لهما أكثر من ذا ما لم يعلما» (3).
النوع الثاني: العمليات:
وأعظمها في الفرائض الصلاة التي هي قنطرة الإسلام وعموده، وفي المندوبات: تلاوة القرآن التي لها الفضيلة العظمى في الأعمال الصالحة والدعاء الذي هو مخ العبادة.
أما الصلاة: فلا يخفى حفظها بالعربية من اللحن المخل بقراءتها على الجملة، أما في حق الإمام في حكم الصلاة خلفه، ما قد علم في الفقه: وقد وجه بعض من رجح بطلانها بأن اللحن إذا أخرج التلاوة عن طريقها صار اللحان 84و / / كالمتكلم الجاهل في الصلاة، وأما في حق المنفرد فلا إشكال أيضا في نقصان صلاته باللحن في القراءة، وقد بالغ الفراء في تأكيد التحفظ من اللحن في قراءة الصلاة على الخصوص سواء كان اللحن خفيا أو جليا، على ما تقتضيه صناعة الأداء في التحرز من جميع ذلك. فقال السماتي (4): «القراءة ركن من أركان الصلاة، وقاعدة من قواعدها، فإذا قرأ المصلي بغير لسان العرب الثابت
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 30، والمنافقون، الآية: 4.
(2) سورة طه، الآية: 44.
(3) انظر: كتاب سيبويه: 1/ 332331.
(4) هو عبد العزيز بن علي (أبو الأصبغ) السماتي، الإشبيلي، المعروف بابن الطحان. ت: بعد 560هـ 1165م، قارىء مجود، له شعر حسن، ولد بإشبيلية، ورحل إلى مصر والشام، وحلب، والعراق. انتهى إليه التفوق بالقراءات في عصره، وتوفي بحلب. من كتبه: «نظام الأداء في الوقف والابتداء» و «مقدمة في مخارج الحروف»، و «مقدمة في أصول القراءات»، و «كتاب الدعاء». انظر: طبقات القراء: 1/ 395.(1/335)
بالتوقيف، فصلاته خداج (1) لأنه صلى على غير ما أمر به. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ».
وروينا عن الحسن أنه سئل عن إمام يلحن، فقال: أخروه.
قال: ولا يغرك أيها القارىء من يقول: إن اللحن المتقى في القراءة، إنما هو لحن الإعراب، فالقائل بهذا مخطىء، قائل ما لا دليل عليه.
وقد تقدم لك قول علمائنا إن اللحن لحنان: لحن جلي، ولحن خفي، فالجلي: لحن الإعراب، والخفي: إحالة الحرف عن صورته، وكلاهما إعراب، لأن الحركات تعرب عن المعاني المتغايرة كما تعرب الحروف عنها، فالتصحيف من هذه كالتصحيف من هذه، ألا ترى أن من قرأ «المصوّر» (2) في سورة الحشر بفتح الواو: كمن قرأ {عَسَى اللََّهُ} (3) بصاد، فأعجب ممن فرق بين اللحنين بلا دليل، والإعراب في اللغة العربية قائم عن الحركات والحروف، صادر عنها بالتفصيل والتصريف» اه.
وقال المقرىء أبو داود (4) في تفسير قوله تعالى: {حََافِظُوا عَلَى الصَّلَوََاتِ وَالصَّلََاةِ الْوُسْطى ََ} (5). ومن المحافظة على الصلوات: تحسين التلاوة، وإخراج كل حرف من حروف المعجم من موضعه، وإيتاؤه حروف المد واللين حقها من المد الطبيعي والمتكلف، وكذلك الهمز، والإشباع، والتفكيك للحروف، وهو
__________
(1) خداج: أي ذات خداج: وهو النقصان. اللسان خدج.
(2) سورة الحشر، الآية: 24من قوله تعالى: {هُوَ اللََّهُ الْخََالِقُ الْبََارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمََاءُ الْحُسْنى ََ}.
(3) سورة النساء، الآيات: 9984، والمائدة، الآية: 52، والتوبة، الآية: 102، ويوسف، الآية:
83، والممتحنة، الآية: 7.
(4) هو سليمان بن نجاح الأموي. ت: 496هـ 1102م، ببلنسية، شيخ القراء، وإمام الإقراء، أخذ القراءات عن أبي عمرو الداني، ولازمه كثيرا وسمع منه أغلب مصنفاته، من مؤلفاته: «البيان الجامع لعلوم القرآن» و «كتاب التبيين» و «الاعتماد في أصول القراءة والديانة» عارض به شيخه الداني. انظر: الصلة: 204203، وطبقات القراء: 1/ 317316، وذكره المنتوري في فهرسته وروى جملة من كتبه.
(5) سورة البقرة، الآية: 238.(1/336)
بيانها وإخراج بعضها من بعض بيسير (1) من غير انتهاز، ولا اختلاس للحركات إلى سائر ما يجب على المصلي من تحقيق ألفاظ 84ظ / / التلاوة وتجويدها، والحذر من اللحن الخفي في «سورة الحمد» وغيرها فضلا عن الجلي» اه.
وللأستاذ أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله في جواب عن تعليم المرأة من البادية شيئا من القرآن للنساء والبنات: «هذه المرأة إذا علمت النساء والبنات ما لا بد لهن منه في صحة الصلاة فحسن، لكن ذلك كله شرط أن تكون هذه المرأة عارفة بالقرآن، كيف تقرؤه، وتقرئه، وتؤديه كما أمر الله به من غير لحن، ولا تحريف ولا تبديل، فإن كانت لا تقرؤه، ولا تؤديه إلا على اللحن والتغيير والتبديل، فلا يحل لها أن تقرأه كذلك، ولا أن تعلمه أحدا لأنها إنما تعلم ما لا يصح أن تقرأ به، وربما بطلت صلاة من قرأ تلك القراءة، ولا يحل لمن علم بذلك أن يسكت عليه، بل ينكر ذلك عليها، ويجب على أهل القرية منعها من ذلك، إذا كانت تبدل كلام الله، ثم تعلمه مبدلا مغيرا، فإن لم يعلم هذا، ولا هذا منها، ولا عرف هل هي تلحن فيه أو لا، فيجب عليها أن تذهب إلى من يعلمها ما تصلي به، ويجب البحث عنها من أهل القرية لأن الغالب على النساء، بل على كثير من الرجال أنه لا يعرف يقرأ القرآن حق قراءته، فهذه المرأة الغالب عليها الجهل بذلك كله» (2) انتهى بعض المراد منه.
ومن تأمل في هذه المبالغة العائدة على الدين بكمال الحفظ لثاني قواعده الخمس وهي الصلاة، تبين له منفعة العربية، وشدة الحاجة إليها، لا يقال: يكفي من ذلك تلقين القراءة سالمة عن اللحن، وحينئذ فلا يلزم العلم بالعربية لأنا نقول: هو وإن كان كذلك، ولكن لا يخفى أن القارىء على بصيرة من علم ما قرأ به أكمل من الأخذ لها تلقينا لإمكان عوده إلى اللحن بنسيان ما لقن، وأيضا أصل هذا التلقين لا بد وأن يرجع إلى من يكون عارفا بما تصح به القراءة، وعمدته النحو فلا يستغنى عنه في الحفظ 85و / / للصلاة التي هي إحدى دعائم الإسلام.
__________
(1) في «ج»: يسير.
(2) نقل هذا النص محمد أبو الأجفان في كتابه الفتاوي (للإمام الشاطبي) ص: 122.(1/337)
سابقة:
من مقدمات هذا العمل: تقدم الأذان، والإقامة عليه في الجملة، والسلامة من اللحن في ذلك مطلوبة عند العلماء رحمهم الله على ما هو معروف من تقريرهم، حتى قال المازري (1): «ترك الأذان لبعض مؤذني زماننا، هل [ذا] (2) أفضل لهم؟ لأنه إذا كان يلحن لا يقوم ثوابه من وزره». وأما تلاوة القرآن على الجملة فحفظها بالعربية من اللحنين ظاهر أيضا، وقد تقدم ما يدل على الأمر بتعلمها لتقام بها القراءة، ولأئمة القرآن أيضا في هذا المقام مبالغة في التحذير من تغيير القراءة بسبب الجهل بها لا يخفى وجه القصد بها.
قال الأستاذ أبو علي بن أبي الأحوص (3): «أجمع العلماء على وجود التجويد في التلاوة ترتيلا كانت أو أداء في الصلاة وغيرها، فإن التجويد هو روح القراءة، وبه تمام صورتها، وباستعماله يلفظ بحروف القرآن على حد كلام العرب الذي نزل بلغتها، فإن القرآن معلوم قطعا أنه نزل بلغة العرب، ولا سيما لغة قريش، والقراءة عند أهل العلم إنما هي على طباع كلام العرب ومذاهبها، تحسن بألفاظها وتزين بألسنتها.
وكما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ونقله عنه الصحابة، ونقله عن الصحابة التابعون، وعن التابعين من بعدهم، ونص عليه العلماء من الخلف عن السلف، ولا يجوز العدول عن ذلك، فإنه لحن لتغيير الإعراب.
__________
(1) هو محمد بن علي التميمي المازري بفتح الزاي، وقد تكسر نسبة إلى مازر: بليدة بجزيرة صقلية، أبو عبد الله. ت: 536هـ 1141م بالمهدية، محدث، من فقهاء المالكية، له تصانيف منها: «المعلم بفوائد مسلم» في الحديث، و «شرح التلقين» في الفروع، و «شرح البرهان» وسماه: «إيضاح المحصول من برهان الأصول للجويني». انظر: وفيات الأعيان: 4/ 285، والديباج: 2/ 252250.
(2) في «أ»: هذا.
(3) هو الحسن بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص القرشي الفهري. ت: 699هـ 1300م، من أهل غرناطة، قاض، من العلماء بالحديث والقراءات، وله مصنفات منها: «التبيان في أحكام القرآن» و «المعرب المفهم في شرح صحيح مسلم» انظر: قضاة الأندلس: 127، وطبقات القراء: 1/ 243242.(1/338)
فاللحن عند أهل العلم بالأداء واللسان قسمان: جلي وهو تغيير الإعراب، لأنه يظهر لمن يحسن القراءة والعربية، وخفي وهو ترك إعطاء الحروف حقها من تجويد لفظها، وإخراجها من مخارجها على حد كلام العرب، وكما ورد به التوقيف ونقله أهل الأداء. فإن ذلك لا يظهر إلا للعالم بالقراءة والعربية، الماهر فيهما.
فالقراءة بغير تجويد ولا إقامة مخارج الحروف 85ظ / / وصفاتها كلا قراءة. وتغيير القرآن عما نزل عليه» انتهى نص كلامه.
ثم ذكر عن الإمام أبي بكر بن مجاهد أنه قال: «اللحن في القرآن لحنان:
جلي وخفي. فالجلي: لحن الإعراب، والخفي: ترك إعطاء الحرف حقه من تجويد لفظه.
وعن حمزة أنه قال: إن الرجل ليقرأ القرآن فما يلحن حرفا أو قال: ما يخطىء حرفا، وما هو من القراءة في شيء.
قال عن الشيخ أبي عمرو الحافظ: يريد أنه لا يقيم القراءة على حدها، ولا يؤدي اللفظ على حقه، ولا يوفي الحروف صيغتها، ولا ينزلها منازلها.
وعن الحلواني (1) أنه قال: حدثنا عباد بن يعقوب (2)، حدثنا هشام بن بكير وكان والله من القراء قال: كنت عند عاصم (3) ورجل يقرأ عليه، فما أنكرت من قراءته شيئا، فلما فرغ، قال عاصم: قال والله ما أقمت حرفا.
قال عن الحافظ: يريد أنه لم يقم القراءة على حدها، ولم يوف الحروف حقها، ولا احتذى منهاج الأئمة من القراء، ولا سلك طريق العلم بالأداء».
__________
(1) هو الحسن بن علي بن محمد الخلال الحلواني. ت: 242هـ 840م. أبو محمد الحافظ، محدث مكة، حدث عن أبي معاوية، ووكيع بن الجراح، وخلق. انظر: التذكرة: 2/ 522.
(2) عباد بن يعقوب الرواجني. ت: 250هـ 864م. محدث الشيعة. انظر: التذكرة: 2/ 541.
(3) هو عاصم بن بهدلة أبي النّجود بفتح النون أبو بكر الأسدي مولاهم الكوفي الحناطي. ت:
نحو 128هـ 745م، انتهت إليه رئاسة الإقراء، وكان أحسن الناس صوتا بالقرآن. انظر: طبقات القراء: 1/ 349346.(1/339)
وأما الدعاء فحفظه بالعربية مما يفسد اللحن معناه، ظاهر أيضا، ولذلك قال الأستاذ أبو سعيد ابن لب: «الدعاء علم لساني، وتعلق قلبي، هما مبناه، وعليهما يدور معناه».
ثم ذكر عن الخطابي «أن الرياشي قال: مر الأصمعي (1) برجل يقول في دعائه: «يا ذو الجلال والإكرام»، فقال له: ما اسمك؟ قال: ليث، فأنشأ يقول:
ينادي ربّه باللّحن ليث ... لذاك إذا دعاه لا يجيب» (2)
إلا أن الأستاذ أبا إسحاق الشاطبي رحمه الله تعقب هذا «بأن الحكاية شعرية لا فقهية والاحتجاج بها إلى اللعب أقرب منها إلى الجد.
قال: وأقرب ما فيه أن أحدا من العلماء لا يشترط في الدعاء ألا يلحن كما يشترط الإخلاص وصدق التوجه وعزم 86و / / المسألة وغير ذلك من الشروط» (3).
قلت: لم يأت الأستاذ بالحكاية على أنها الحجة على اشتراط سلامة الدعاء من اللحن من حيث هي شعرية، بل لجريانها على ما ينبغي في الجملة من السلامة عن ذلك، وحينئذ فلا يرد عليه ذلك التحامل.
وقوله: «وأقرب ما فيه إلى آخره» جوابه: أن الإمام أبا سليمان الخطابي الذي ذكر الأستاذ عنه الحكاية، وهو من علم مقامه في العلماء الجلة، قد قال في صدر كتابه (4) في «شرح الأدعية» ما نصه:
__________
(1) هو عبد الملك بن قريب الباهلي أبو بكر. ت: نحو 216هـ 831م، أديب، لغوي، نحوي، محدث، فقيه، أصولي، من تصانيفه: «كتاب اللغات» و «كتاب الخوارج» و «نوادر الإعراب».
انظر: طبقات الزبيدي: 174167، والنزهة: 124112.
(2) انظر: مخ تفسير الأسماء والدعوات للخطابي. ص: 5. الخزانة العامة، الرباط رقم: ق: 1142.
(3) انظر: الاعتصام: 1/ 367.
(4) المراد كتابه: «تفسير الأسماء والدعوات» وقد قدم في صدر هذا الكتاب شرحا للدعاء: «معناه، وفائدته، وما محله في الدين، وموضعه من العبادة، وما حكمه في باب الاعتقاد، وما الذي يجب أن ينوب الداعي بدعائه، إلى سائر ما يتصل به من علومه وأحكامه». وقد أشرنا إليه في الهامش رقم: 2من هذه الصفحة.(1/340)
«ومما يجب أن يراعى في الأدعية: الإعراب الذي هو عماد الكلام، وبه يستقيم المعنى وبعدمه يختل ويفسد، وربما انقلب المعنى باللحن حتى يصير كالكفر إن اعتقده صاحبه كدعاء من دعا، أو قراءة من قرأ: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) بتخفيف الياء من «إياك» فإن «الإيا» ضياء الشمس، فيصير كأنه يقول: «شمسك نعبد» وهذا كفر.
ثم قال عن أبي عثمان المازني (2) إنه قال لبعض تلاميذه: عليك بالنحو، فإن بني إسرائيل كفرت بحرف ثقيل خففوه. قال الله عز وجل لعيسى عليه السلام: ««إني ولّدتك» فقالوا: «إني ولدتك» فكفروا» (3).
وبإثر هذا ساق الحكاية عن الأصمعي.
فمقتضى عطفه هذا الكلام على ما تقدم له من ذكر شروط الدعاء أن من جملتها سلامة الدعاء من اللحن.
فقول الأستاذ أبي إسحاق: «أن أحدا من العلماء لم يشترط ذلك». قد ظهر خلافه، وعلى ذلك اعتمد الأستاذ أبو سعيد لكنه اقتصر على جلب الحكاية، فظن به أن لا [مستند] (4) له غيرها.
والظن بالأستاذ أبي إسحاق أنه والله أعلم لم يتذكر عنه هذا الكلام قول الخطابي في المسألة على أنه قال بعد ذكر ما تقدم عنه:
«وتعلم اللسان العربي لإصلاح الألفاظ في الدعاء، هو كسائر ما يحتاج إليه الإنسان من 86ظ / / أمر دينه». وهذا اعتراف منه بأن الدعاء يحتاج فيه إلى السلامة من اللحن، فمن أين لزم عنده لغو ما قرره الأستاذ في ذلك؟
__________
(1) سورة الفاتحة، الآية: 5.
(2) هو بكر بن محمد بن عثمان المازني البصري كان أعلم الناس بالعربية، اختلف في سنة وفاته فقيل سنة 249هـ 863م، وقيل: 236هـ له مصنفات منها: «علل النحو»، و «كتاب التصريف»، كتاب ما تلحن فيه العامة. انظر: طبقات الزبيدي: 9387، والنزهة: 187182.
(3) انظر: مخ تفسير الأسماء والدعوات. ص: 5.
(4) في «ج»: لا مسند.(1/341)
وبالجملة فهذا الموضع مما يشكل من كلامه على ظهور ما اعتمد عليه الأستاذ في ذلك، والله أعلم، وبه التوفيق [سبحانه] (1).
[وقد جرى الشيخ أبو عبد الله ابن مرزوق (2) رحمه الله على هذا الذي ظهر من الخطابي فقال في كتابه «النصح الخالص» (3)، وقد تعقب بعض الأذكار لاشتمالها على أمور منها اللحن.
فقال: «واللحن في الأذكار لا ينبغي لأن كثيرا من الألفاظ بسببه توجد بصورة الكفر، والعياذ بالله وأمثلته لا تخفى» اه، والذكر والدعاء من باب واحد] (4).
المقصد الثاني: حفظ النفس:
ووجه حفظها بالعربية أن الإنسان ربما يقع فيما يشرف به على الهلاك، فلا يجد السبيل إلى النجاة إلا بما عنده من المعرفة بعلوم العربية على الإطلاق، وقد
يتصور ذلك في الواقع على وجهين:
أحدهما: فيمن صدر منه كلام يوجب حتفه
، فتخلص منه بما لديه من العلم بها.
الثاني: فيمن ارتكب ما أوقعه في الهلكة
، فلاذ منها بفضل ما خص به من
__________
(1) ساقطة من «ج».
(2) هو محمد بن أحمد بن مرزوق الشهير بالحفيد العجيسي التلمساني شمس الدين، أبو عبد الله.
ت: 842هـ 1438م. الفقيه، الأصولي، المفسر، المحدث، الآخذ من كل فن بأوفر نصيب، رحل إلى الحجاز والشرق، له كتب، وشروح كثيرة منها: «روضة الأريب في شرح التهذيب و «إظهار صدق المودة في شرح البردة» و «برنامج الشوارد» و «النصح الخالص». انظر: رحلة القلصادي: 9896. والضوء اللامع: 7/ 50، ونفح الطيب: 5/ 433420.
(3) «النصح الخالص في الرد على مدعي رتبة الكامل الناقص قال عنه «المقري» في «نفح الطيب»:
5/ 430429: رد به على عصريّه أبي الفضل قاسم العقباني (ت: 854هـ) في فتواه: في مسألة الفقراء الصوفية لمّا صوّب العقباني صنيعهم، وخالفه هو.
(4) في «ج»: ذكرت هذه الفقرة بعد قوله في المقصد الثاني: ووجه حفظها بالعربية وقد جرى
ولعل ذلك سهو من الناسخ إذ لا يستقيم المعنى.(1/342)
براعة الاقتدار على الإبانة لما يمهد عذره، ويدلي بوسيلة الخلاص مما نزل به.
أما الوجه الأول ففيه حكايات:
الحكاية الأولى:
ما رواه الأصمعي: أن عبد الملك بن مروان، أخذ رجلا يرى رأي شبيب الخارجي (1) فأمر بقتله، وقال له: لأنك القائل:
فمنا سويد والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب (2)
فقد جعلت [فيه] (3) الخليفة غيري، فقال الرجل: لم أقل هكذا وإنما قلت: «ومنا أمير المؤمنين» 87و / / بنصب الراء، فناديتك واستغثت بك، ولم أرفع، فعفا عنه، وأمر بإطلاقه، وتخلص من الهلاك» (4).
قال الإمام فخر الدين في أول «تفسيره» (5): «بصنعة يسيرة عملها بعلمه، وهي أنه حول الضمة فتحة».
وقال ابن الفخار في مسائله: «كان السيف بين حركتين، فكانت الفتحة أخف الحركتين عليه». وزاد: «أن عبد الملك قال لبنيه: أصلحوا ألسنتكم، فإن
__________
(1) هو شبيب بن يزيد الشيباني المكنى بأبي الصحاري، إليه تنسب الشبيبية من الخوارج، ويعرفون بالصالحية أيضا لانتسابهم إلى صالح بن مشرح الخارجي التميمي، وكان شبيب من أتباع صالح، تولى الأمر بعده، إلا أنه خالف «صالحا» في شيء واحد وهو أنه مع أتباعه أجازوا إمامة المرأة منهم إذا قامت بأمورهم، وخرجت على مخالفيهم وزعموا أن غزالة أم شبيب كانت الإمام بعد قتل شبيب إلى أن قتلت، واستدلوا على ذلك بأن شبيبا لما دخل الكوفة أقام أمه على منبر الكوفة حتى خطبت، وانتصر شبيب على جيوش الحجاج مرات عديدة إلى أن تمكن الحجاج من قتل أصحاب شبيب ثم بعث في طلبه فتمكن سفين بن الأبرد الكلبي من إغراق شبيب مع فرسه في الدجيل، ثم أخذ رأسه وأنفذه مع الأسرى إلى الحجاج.
انظر: الفرق بين الفرق: 9289، والكامل لابن الأثير: 4/ 433391.
(2) سويد بن سليم، والبطين بن قعنب، وقعنب بن سويد، كانوا رؤساء جيش شبيب، وقادة جنده، وأهل الرأي فيهم، الكامل لابن الأثير: 4/ 406و 412و 421.
(3) ساقطة من: ج.
(4) انظر: عيون الأخبار: 2/ 155، مع بعض الاختلاف، وتفسير الرازي: 2/ 195.
(5) انظر: 2/ 195.(1/343)
المرء يستعير الثوب والدابة وغير ذلك، ولا يستعير اللسان».
قلت: «ومن هذا المعنى ما يروى عن «محمد بن نفيس» وكان غيورا أنه أخبر أن جاريته كتبت على خاتمها: «من ثبت ثبت حبه». فدعاها ووقفها على ذلك فقالت: لا والله أصلحك الله تعالى ما هو ما قيل لك، ولكني كتبت على خاتمي: «من يتب يتب جنّه، فقنع بذلك وتركها»».
الحكاية الثانية:
ما يروى عن الفرزدق أنه قال هذا البيت:
«لقد ضاع شعري على بابكم ... كما ضاع در على خالصه
وكانت خالصة هذه لها منزلة عند سليمان بن عبد الملك، وكانت ظريفة، صاحبة أدب، وكانت هيبة سليمان بن عبد الملك تفوق هيبة المروانيين، فلما بلغها هذا البيت، شق عليها، فدخلت على سليمان، وشكت من الفرزدق، فأمر سليمان بإشخاص الفرزدق على أفظع الوجوه مكبلا مقيدا، فلما حضر قال له سليمان بن عبد الملك: أنت القائل:
لقد ضاع شعري على بابكم ... كما ضاع در على خالصه؟!
فقال: ما هكذا قلت يا أمير المؤمنين، وإنما غيره علي من أراد بي سوءا، 87ظ / / وإنما قلت: وخالصة من وراء الستر تسمع:
لقد ضاع شعري على بابكم ... كما ضاء در على خالصه
فلم تملك «خالصة» نفسها أن خرجت من الستر، وألقت على الفرزدق ما كان عليها من الحلي وهي زيادة على مائة (1) ألف درهم، فأتبعه سليمان بن عبد الملك حاجبه، لما خرج من عنده، حتى اشترى الحلي من الفرزدق، وبمائة ألف وردها على خالصة» (2).
__________
(1) في تفسير الرازي 2/ 195: ألف ألف.
(2) انظر: م. س: 2/ 195194.(1/344)
الحكاية الثالثة:
ما يروى عن الشعبي أنه قال: «كنت عند الحجاج فأتى يحيى بن يعمر فقيه «خراسان» من بلخ (1) مكبلا بالحديد، فقال له الحجاج: أنت زعمت أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بلى، فقال الحجاج: لتأتني بها واضحة من كتاب الله أو لأقطعنك عضوا عضوا. فقال: آتيك بها واضحة بينة من كتاب الله يا حجاج. قال: فتعجب من جرأته بقوله: يا حجاج! فقال له:
ولا تأتني بهذه الآية: {نَدْعُ أَبْنََاءَنََا وَأَبْنََاءَكُمْ} (2). فقال: آتيك بها واضحة من كتاب الله. قوله تعالى: {وَنُوحاً هَدَيْنََا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دََاوُدَ وَسُلَيْمََانَ} إلى قوله: {وَزَكَرِيََّا وَيَحْيى ََ وَعِيسى ََ} (3). فمن كان أبو عيسى وقد ألحق بذرية «نوح»؟
قال: فأطرق مليا، ثم رفع رأسه فقال: كأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله عز وجل، حلّوا وثاقه، وأعطوه من المال كذا» (4).
وفي بعض الروايات: «وولاه قضاء بلده، فلم يزل به قاضيا حتى مات» (5).
قلت: ووجه مناسبة هذه الحكاية للموضع أن الحكم على عيسى بأنه من ذرية نوح عليهما السلام متوقف على أن الضمير من قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} عائد على نوح، ولا يعرف ذلك إلا عربي، ومن عنده شيء من النحو على أنه قيل بعوده على إبراهيم عليه السلام ولا يضر ذلك لأن 88و / / المقصود حاصل تقدير صحته إذ أن مريم من ذرية إبراهيم، ويشهد بذلك ما في
__________
(1) بلخ: مدينة مشهورة من أجلّ مدن خراسان وأذكرها، وأكثرها خيرا، افتتحها عبد الله بن عامر أيام عثمان بن عفان. انظر: معجم البلدان: 1/ 480479.
(2) سورة آل عمران، الآية: 61.
(3) سورة الأنعام، الآيتان: 84و 85.
(4) انظر: تفسير الرازي: 2/ 194.
(5) انظر: العقد الفريد: 2/ 40. و 5/ 260.(1/345)
بعض مساق الحكاية أنه لما تلا عليه الآية الكريمة قال: فمن أقرب، عيسى إلى إبراهيم، وإنما هو ابن ابنته، أو الحسن والحسين إلى محمد صلى الله عليه وسلم؟
لكن يبقى هناك النظر في البحث الذي أورده الشيخ أبو عبد الله ابن عرفة على استدلال ابن العطار (1) على أن ولد البنت من الذرية «في باب الحسن» بالآية الكريمة. وإن كان ابن رشد قد صحح الاستدلال بها.
فعليه لا يتم احتجاج يحيى بن يعمر على الحجاج، وفي ذلك نظر لا يليق بسطه بالموضع
وأما الوجه الثاني، ففيه أيضا حكايات.
الحكاية الأولى:
ما ذكره «ابن قتيبة» في «عيون الأخبار» (2) عن أبي اليقظان (3): «أن عمرو بن مالك بن ضبيعة هو الذي قيل فيه:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما (4)
__________
(1) هو محمد بن أحمد الأموي القرطبي المالكي المعروف بابن العطار أبو عبد الله. ت: 339هـ 1008م. كان فقيها عالما، حافظا، متفننا في العلوم، أديبا، شاعرا، بصيرا بالفتوى، عارفا بالفرائض والحساب، واللغة، والإعراب، رأسا في معرفة الشروط وعللها، رحل إلى المشرق وحج سنة 383هـ. ولقي ابن أبي زيد بالقيروان فناظره، من آثاره: «كتاب الشروط وعللها» وقد كان كتابا مفيدا يعول الناس في عقد الشروط عليه. انظر: المدارك: 7/ 148، والصلة: 484 485، والديباج: 2/ 231.
(2) انظر: 2/ 206205.
(3) النسابة عامر بن حفص الملقب بسحيم (ت: 190هـ 806م) كان عالما بالأخبار والأنساب والمآثر والمثالب، ثقة فيما يرويه، له من الكتب: كتاب «أخبار تميم» و «كتاب النسب الكبير» و «كتاب النوادر». الفهرست: 144.
(4) البيت للمتلمس جرير بن عبد المسيح الضبعي. ت: نحو 50ق. هـ 569م، شاعر جاهلي من ربيعة، خال طرفة بن العبد البكري. هجا عمرو بن هند ملك العراق، فعمل عمرو على قتله، ففر إلى الشام، ولحق بآل جفنة، من آثاره ديوان شعر. انظر: طبقات الشعراء: 1/ 156155، والأغاني: 23/ 524، ومعاهد التنصيص: 2/ 312، والخزانة: 3/ 73. والبيت أورده صاحب الأغاني: 23/ 524من قصيدته التي مطلعها:
يعيرني أمي رجال ولن ترى ... أخا كرم إلا بأن يتكرما
وورد البيت في مجمع الأمثال: 1/ 39، مثل يضرب لمن إذا نبه انتبه.(1/346)
وذلك أن سعد بن مالك، كان عند بعض الملوك (1)، فأراد الملك أن يبعث رائدا يرتاد له منزلا ينزله، فبعث بعمرو فأبطأ عليه، فآلى الملك لئن جاء ذاما، أو حامدا ليقتلنه، فلما جاء عمرو وسعد عنده قال سعد للملك: أتأذن لي فأكلمه؟ قال: إذا أقطع لسانك، قال: فأشير إليه، قال: إذن أقطع يدك، قال:
فأومىء إليه، قال: أقطع جفن (2) عينك، قال: فأقرع له بالعصا، قال: اقرع:
فأخذ العصا فضرب بها عن يمينه، ثم ضرب بها عن شماله، ثم هزها بين يديه، فلقن عمرو فقال: أبيت اللعن! جئتك من أرض زائرها واقف، وساكنها خائف، والشبعى بها نائمة، والمهزولة ساهرة جائعة، ولم أر خصبا محلا، ولا جدبا مزلا. أي لم أر خصبا يحل الكثير من طلابه في محله، ولا جدبا مزلا، أي يزل عنه طالب الكلأ من موضع إلى آخر».
قلت: والبيت الذي ذكر أنه قيل في عمرو بن مالك 88ظ / / قال أبو عبيد (3) في «كتاب الأمثال»: «إنه قيل في عامر بن الظرب العدواني، وكان حكم العرب في الجاهلية، فكبر حتى أنكر عقله فقال لبنيه: إذا أنا زغت فقوموني، فكان إذا زاغ قرع له بالعصا على قدح فينتبه، فينزع عن ذلك.
قال: ويقال إن هذه القصة لأكتم بن صيفي (4). وقال بعضهم: أول من قرعت له العصا سعد بن مالك الكناني» (5) اه.
__________
(1) في الأغاني 23/ 524: النعمان الأكبر.
(2) في عيون الأخبار: 2/ 206. أقطع حنو عينك، أي حجاجها، وهو العظم الذي ينبت عليه الحاجب.
(3) هو القاسم بن سلام الهروي الأزدي الخزاعي بالولاء، الخراساني، البغدادي أبو عبيد. ت:
224 - هـ 838م، من كبار العلماء بالحديث، والأدب، والفقه، رحل إلى بغداد فولي القضاء بطرسوس ثماني عشرة سنة، من كتبه: «الغريب المصنف» في غريب الحديث، و «الأمثال السائرة» و «الأموال». انظر: طبقات الزبيدي: 202199، والنزهة: 141136.
(4) أكثم بن صيفي بن رياح بن الحارث التميمي، أحد حكام العرب، وأحد المعمرين، عاش زمنا طويلا، وأدرك الإسلام، وقصد المدينة، في مئة من قومه يريدون الإسلام، فمات في الطريق ولم ير النبي، وأسلم من بلغ المدينة من أصحابه. ت: 9هـ 630م. الإصابة: 1/ 112110.
(5) انظر فصل المقال في شرح الأمثال: 148.(1/347)
الحكاية الثانية:
ما نقل أن الحجاج بعث الغضبان بن القبعثرى (1) إلى بلاد كرمان (2) ليأتيه بخبر ابن الأشعث (3) عند خلعه، فلما صار ببلاد كرمان ضرب خباءه ونزل، فإذا بأعرابي قد أقبل إليه، فقال له: السلام عليك، فقال الغضبان: كلمة مقولة، قال: من أين جئت؟ قال: من ورائي، قال: وأين تريد؟ قال: أمامي، قال:
وعلام جئت؟ قال: على فرسي: وفيم جئت؟ قال: في ثيابي، قال: أتأذن لي في أن أدخل عليك؟ قال: وراءك أوسع لك، قال: والله ما أريد طعامك ولا شرابك، قال: لا تعرض بهما، فو الله لا ذقتهما، قال: وليس عندك إلا ما أرى؟
قال: بلى، هذه هراوة أضرب بها رأسك، قال: إن الرمضاء أحرقت قدمي، قال له: بل عليهما تبردان، قال: كيف ترى فرسي هذا؟ قال: أراه خيرا من آخر شر منه، وأرى آخر أمره منه خير من آخر شر منه، قال: قد علمت هذا، قال: لو علمت ما سألتني عنه، فتركه الأعرابي وولى، ثم دخل الغضبان على ابن الأشعث فقال له: ما وراءك يا غضبان؟ قال: الشر، تغدّ بالحجاج قبل أن يتعشى بك، ثم صعد المنبر فخطب، فلم يلبث إلا قليلا حتى أسر ابن الأشعث، وأسر الغضبان فيمن أسر، فلما أدخل على الحجاج قال له: يا غضبان كيف رأيت بلاد كرمان؟ قال: أصلح الله الأمير، بلاد ماؤها وشل، أي قليل، وثمرها دقل أي رديء، ولصّها بطل، الخيل بها 89و / / ضعاف، إن كثر الجند بها جاءوا، وإن قلوا ضاعوا، قال: ألست صاحب الكلمة الخبيثة: «تغدّ بالحجاج قبل أن يتعشى بك»، قال: أصلح الله الأمير، لم تنفع من قيلت له، ولا ضرت من قيلت فيه،
__________
(1) أورد الطبري في تاريخه: 7/ 184جملة من أخباره، وكذا في الكامل: 4/ 384383.
(2) كرمان: أرض متصلة بأرض فارس غربا وبأرض مكران شرقا وفي الشمال مفازة خراسان، وسجستان وفي الجنوب بحر فارس. انظر: الروض المعطار: 491.
(3) هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. ت: 85هـ 704م. خرج على الحجاج من سجستان إلى العراق سنة 81هـ ولما دخل البصرة بايعه في تلك السنة على حرب الحجاج، وخلع عبد الملك، جميع أهلها، وكان بينه وبين الحجاج وقعات منها الأهواز، ودير الجماجم، ومسكن، وقد قتل عبد الرحمن نفسه بأن ألقى بها من فوق قصر، فاحتز رأسه. وأرسل إلى الحجاج. انظر تاريخ الطبري: 8/ 2423.(1/348)
قال: لأقطعن يديك ورجليك من خلاف، ثم لأصلبنك، قال: لا أرى الأمير أصلحه الله يفعل ذلك، فأمر به فقيده، فألقي في الحبس، فأقام فيه حتى بنى الحجاج واسط (1) وبنى فيها قبة، فلما استتمها جلس في صحنها، وقال: ترون هذه؟ قالوا: ما بني لأحد قبلك مثلها، قال: فإن فيها مع ذلك عيبا، فهل منكم مخبري به؟ فقالوا: والله ما نرى فيها عيبا، فأمر بإحضار الغضبان فأتى به يرسف في قيوده، فلما دخل عليه قال له الحجاج: أراك يا غضبان سمينا! قال:
أيها الأمير القيد والرتعة (2)، ومن يكن ضيف الأمير يسمن، قال: فكيف ترى قبتي هذه؟! قال: أرى قبة ما بني لأحد مثلها إلا أن بها عيبا، فإن أمنني الأمير أخبرته، قال: قد أمناك، قال: بنيت في غير بلدك لغير ولدك، لا تتمتع به، ولا تنعم [بما] (3) يتمتع به من طيب، ولا لذة، قال: ردوه إلى الحبس، فإنه صاحب الكلمة الخبيثة. قال: أصلح الله الأمير، إن الحديد قد أكل لحمي:
وبرى عظمي، قال: احملوه، فلما استقل به الرجال، قال: {سُبْحََانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنََا هََذََا وَمََا كُنََّا لَهُ مُقْرِنِينَ} (4) قال: أنزلوه على الأرض فلما أنزلوه، قال:
اللهمّ {أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبََارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} (5)، قال: جروه، فلما جروه، قال:
{بِسْمِ اللََّهِ مَجْرََاهََا وَمُرْسََاهََا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (6). قال: أطلقوا [عنه] (7).
الحكاية الثالثة:
ما أورده «صاحب الدلائل» (8) عن الشعبي: «أنه أتى به الحجاج موثقا،
__________
(1) واسط الحجاج: مدينة بناها الحجاج في الجانب الغربي لدجلة سنة 83هـ، وسميت واسط لتوسطها بين البصرة والكوفة، والمدائن، انظر الروض المعطار: 559.
(2) الرتعة: التوسع في الخصب، ومنه «أسمنني القيد والرتعة»: كناية عن الراحة والسكون، والتوسع في الخصب.
(3) في «ج»: فما لا يتمتع به.
(4) سورة الزخرف، الآية: 13.
(5) سورة المؤمنون، الآية: 29.
(6) سورة هود، الآية: 41.
(7) في «ج»: عنقه.
(8) هناك عدة ولم ندر أيهم يقصد؟.(1/349)
قال: فلما انتهيت إلى باب القصر، لقيني يزيد بن أبي مسلم (1) فقال: إنا لله يا شعبي لما بين دفتيك 89ظ / / من العلم، وليس [اليوم] (2) بيوم شفاعة! بؤ للأمير بالشرك والنفاق على نفسك، فبالحرا أن تنجو منه. قال: ثم لقيني محمد بن الحجاج (3) فقال لي مثل مقالة يزيد، فلما دخلت على الحجاج قال لي:
وأنت يا شعبي ممن خرج علينا، وكثر، فقلت: أصلح الله الأمير نبا بنا المنزل وأجدب بنا الجناب، وضاق المسلك، واكتحلنا السهر، واستحلسنا الخوف، و (وقعنا في خزية) (4)، لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء! قال: صدق والله ما بروا بخروجهم علينا إذ خرجوا، ولا قووا علينا حيث فجروا، أطلقوا عنه» (5).
قال: واحتاج إلي في فريضة بعد ذلك فأتيته، فقال: ما تقول في أم، وأخت، وجد؟ فقلت اختلف فيها خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان، وعلي، وابن عباس، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، قال: فما قال فيها ابن عباس إن كان لمثقبا (6)؟، قلت: جعل الجد أبا ولم يعط الأخت شيئا، وأعطى الأم الثلث، قال: فما قال فيها أمير المؤمنين، يعني عثمان؟ قلت: جعلها ثلاثا (7) قال: فما قال فيها زيد بن ثابت؟ قلت: جعلها من تسعة فأعطى الأم ثلاثة، وأعطى الجد أربعة وأعطى الأخت سهمين، قال: فما قال فيها ابن مسعود؟ قلت: جعلها من ستة [فأعطى الأخت ثلاثة، وأعطى الأم سهما، وأعطى الجد سهمين]، (8).
__________
(1) هو يزيد بن دينار الثقفي، توفي مقتولا سنة 102هـ 737م. كان مولى الحجاج بن يوسف. ولما حضرت الحجاج الوفاة استخلفه على الخراج بالعراق، فلما مات أقره الوليد بن عبد الملك، وقال الوليد بعد موت الحجاج واستعمال يزيد بن أبي مسلم: كنت كمن سقط منه درهم فأصاب دينارا. انظر البيان والتبيين: 1/ 292، والوفيات: 312309.
(2) زيادة من العقد الفريد: 2/ 265.
(3) محمد بن الحجاج بن يوسف الثقفي: الكامل: 4/ 484.
(4) في العقد الفريد: 2/ 265: وخبطتنا فتنة.
(5) انظر م. س: 2/ 265و 5/ 269.
(6) رجل مثقب: أي خبير فطن، نافذ الرأي، وفي العقد الفريد: 5/ 269: لمنقبا، والمنقب: العالم الكثير البحث والتنقيب.
(7) في م. س: 5/ 269: أثلاثا.
(8) في م. س: 5/ 269: أعطى الجد ثلاثة: وأعطى الأم اثنين، وأعطى الأخت سهما.(1/350)
قال: فما قال فيها أبو تراب يعني عليا؟ قلت: جعلها من ستة، فأعطى الأخت ثلاثة، وأعطى الأم سهمين، وأعطى الجد سهما» (1) انتهى المقصود من الحكاية.
تذييل:
مما ينظر إلى حفظ النفس من متوقع المكاره بما يرجع إلى وسيلة التعلق بعلوم العربية ما حكى عبد العزيز المكي (2) في آخر كتاب «الحيدة» (3) عن نفسه «أنه لما انفصل 90و / / عن مجلس المناظرة بينه وبين بشر المريسي وأصحابه بين يدي المأمون خاف على نفسه، ولزم منزله لا يدخل عليه أحد، وجعلت الأرصاد عليه، رجاء أن يقفوا له على دخول أحد عليه، أو كلام لأحد، فيجدوا السبيل إلى مكروهه، قال: وحذرهم حذرا شديدا، قال: فلما كان بعد أيام اتصل [بي] (4) كثرة ذكر أمير المؤمنين لي إذا حضروا وتكلموا بين يديه، فكتبت إليه قصيدة أستعتبه فيها، ودفعتها إلى أبي كامل الخادم، وسألته أن يضعها بين يديه إذا خلا، ورآه طيب النفس، فلم يزل يترقب ذلك منه حتى وجده، فوضع الرقعة بين يديه فأخذها وقرأها، وجعل يردد شيئا فيها لم يقف عليه، وكان عالما بالغريب من الشعر وغيره، فلما لم يقف على ما فيها، ولم يعرفه قال لأبي كامل: اركب فجئني بعبد العزيز الساعة، فجاءني أبو كامل فقال لي: أجب أمير
__________
(1) انظر: الحكاية في م. س: 5/ 269، مع بعض اختلاف وقد زاد في نهاية الحكاية: مر القاضي فليمضها على ما أمضاها أمير المؤمنين.
(2) هو عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز الكناني المكي. ت: 240هـ 854م، فقيه، مناظر، كان من تلاميذ الإمام الشافعي يلقب ب «الغول» لذمامته، قدم بغداد أيام المأمون فجرت بينه وبين بشر المريسي مناظرة في القرآن، له تصانيف منها: «الحيدة». انظر: تاريخ بغداد 10/ 450449، وميزان الاعتدال: 2/ 639، وطبقات الشافعية: 2/ 145.
(3) قال عنه «الذهبي» في «ميزانه»: 2/ 639، لم يصح إسناده إليه، ولا ثبت أنه من كلامه، فلعله وضع عليه، وقال عنه «السبكي» في «طبقاته»: 2/ 145: وكتاب الحيدة المنسوب إليه فيه أمور مستشنعة والحيدة: الميل عن الشيء وقد عدنا إلى نسخة الكتاب المطبوعة بالمطبعة الأميرية.
ط: 13391هـ، ولم نعثر على النص فيها!؟
(4) في «أ»: في.(1/351)
المؤمنين الساعة، وعرفني الخبر وما عمله، وما كان من المأمون، وحيرته عند قراءة الرقعة وطول فكره، فعلمت ما ذهب عليه منها، قال: والقصيدة التي كتبتها إليه هي هذه:
أيا جاعل الدنيا على الدين جنة ... فذل بها للدين غاو وطامع
هل العذر إلا ما اعتذرت بمثله ... إليك، لو ان العذر يرضاه سامع
إذا لم يكن قولي لديك بمسمع ... ولم تر سعيا منك عفوا يطالع
فإني ومن قد ضر ضعفي رعيته ... يرى الله أني فيهم لك نافع
غداة تجلى ساعيا لشتاتها ... ويرد عني عن جمعها منك رادع 90ظ / /
كمستعتب النعمان ممن وشى به ... فقال: تراني ناصح الجيب (1) خاضع (2)
حملت علي ذنبه وتركته ... كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع (3)
كذاك يداوي الجسم مني مصححا ... وذاك له جسم به الداء ناقع
فلم يشفه أني تجرعت دونه ... أمر دواء طعمه متفاظع
وذو العرّ تشفيه مداواة غيره ... إذا ما اكتوى عنه الصحيح المضارع (4)
قال: فلما دخلت على المأمون إذا هو جالس، والقصيدة بين يديه على فخده، وهو ينظر فيها، فلما رآني قال: اجلس، فجلست بين يديه فقال: أي شيء هذا الذي قد كتبته في قصيدتك ما لم يعرف من كلام العرب؟ فقلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ فإني ما كتبت إلا ما تتعارفه العرب، وتتعامل به في لغاتها وأشعارها! فقال هذا البيت: ووضع يده على البيت الذي قلت فيه:
__________
(1) ناصح الجيب أي صادق أمين: والجيب: القلب والصدر.
(2) في البيت إشارة إلى ما كان من اعتذار الشاعر النابغة إلى النعمان ومدحه، مما سعى به مرّة بن ربيعة بن قريع، انظر: القصيدة في الديوان: ص: 3930.
(3) صدره عند النابغة:
[لكلفتني ذنب امرىء وتركته]
الديوان: 37، وسيأتي توضيح البيت فيما بعد مع ترجمة الشاعر.
(4) المضارع: المشابه والمثيل.(1/352)
حملت علي ذنبه وتركته ... كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع
فقلت: هذا من أوضح بيت تقوله العرب، وأوضحه معنى، لكثرة مشاهدتها لما ذكرته منه، فقال المأمون، وأي شيء تعني قولك:
«كذي العر يكوى غيره وهو راتع»
قال: فقلت يا أمير المؤمنين عندنا في البادية داء يقع في الجمال، يقال له «العر» من جنس الجرب إلا أنه ليس بجذري، فإذا أصاب البعير، وظهر به، لم يكن له دواء في الدنيا، إلا يجاء بهذا البعير الذي قد أصابه، فيبرك، ويجاء ببعير صحيح ليس به قلبة فيبرك بحيال السقيم، فلا يزال يكوى أبدا الصحيح حتى يبرأ السقيم، فقال المأمون: هذا شيء لا أقبله منك، ولا يكون مثله، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا شيء تتعارفه العرب، ولا تدفعه، ولا بينهم خلاف فيه، يشاهدونه كل يوم، وكل ساعة، فقال لعمرو 91و / / بن مسعدة (1): انظر من هنا من العرب فأحضره، فتوجه فأحضر جماعة منهم فقال له: سلهم أي شيء هو «العر» عندكم؟ فقالوا بأجمعهم: داء يقع على الجمال، قريب من الجرب، قال لهم: فما دواؤه عندكم؟. قالوا: ليس له دواء في الدنيا إلا أن يبرك البعير السقيم، ويجاء ببعير صحيح فيبرك بحياله، فلا يزال يكوى الصحيح أبدا حتى يبرأ السقيم، فأمر بهم، فصرفوا، ثم أقبل علي فقال: يا عبد العزيز: ما أعجب هذا، ولمعرفتي به اليوم أحب إلي من مائة ألف دينار، ثم قال: فأي شيء أردت بقولك:
«حملت علي ذنبه وتركته»
فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، حملت علي ذنب بشر، وقد وقفت على أنه خالف كتاب الله عز وجل، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدلهما، وحرفهما من مواضعهما، وخالف أمر الله عز وجل، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر خليفته، وأنه
__________
(1) هو أبو الفضل عمرو بن مسعدة بن سعيد بن صول. ت: 217هـ 832م. أحد كتاب المأمون، وهو ابن عم إبراهيم بن العباس الصولي الشاعر. انظر: تاريخ بغداد: 12/ 204203، والوفيات: 3/ 478475.(1/353)
قد حل دمه وعقوبته، وغضب أمير المؤمنين وسخطه عليه، فحملت ذنبه علي، وأنا بريء منه فسخطت علي وتركته، كذي العر يكوى عنه الصحيح حتى يبرأ، وكذلك أكوى أنا، وأنا صحيح حتى يبرأ بشر، ويستشفى مني، قال: فأي شيء معنى قولك:
كذاك يداوى الجسم مني مصححا ... وذاك له جسم به الداء ناقع
فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، إنما تسخط علي، وأنا صحيح، بريء الساحة، ليرضى بشر، وهو سقيم، وقد ظهر كفره وضلاله، وقبح مذهبه، ودحض حجته، فقال المأمون: قد قبلت عذرك، وصفحت عما كان منك كله، فارجع إلى القعود في المسجد الجامع، وفي مسجدك، وتكلم معهم فيما شئت من الكلام، فقد أبحت لك ذلك وأطلقته لك، وقد زدت في رزقك مثله، واحضر الدار، واقعد مع المتكلمين إذا حضروا، وناظر وتكلم بكل ما تريد، فليس لك عندي إلا ما تحب، فأكثرت من الحمد 91ظ / / والدعاء له، وانصرفت على أجمل حال، وكنت أقعد للناس، ويجتمع عندي خلق كثير، أحضر مجالس أمير المؤمنين كلها ولا أخلو منها، وأناظر، وأزيد عليهم في كل شيء يتكلمون فيه، وذلك بلطف الله وعونه» اه.
قلت: «كذي العر» إلى آخره هو عجز (1) بيت للنابغة الذبياني (2)
صدره عند الجوهري:
«فحملتني ذنب امرىء وتركته»
قال الجوهري: «العرّ» بالفتح: الجرب، و «العرّ» بالضم: قروح مثل القوباء تخرج بالإبل متفرقة في مشافرها، وقوائمها، يسيل منها مثل الماء
__________
(1) سبقت الإشارة إليه: بهامش ص: 350من هذا الكتاب.
(2) هو زياد بن معاوية الذبياني الغطفاني المضري أبو أمامة. ت: نحو 18ق. هـ 604م. شاعر جاهلي من الطبقة الأولى من أهل الحجاز، وكان الأعشى والخنساء ممن يعرض شعره على النابغة، وكان أبو عمرو ابن العلاء يفضله على سائر الشعراء، له ديوان صغير، انظر: الشعر والشعراء: 6961، ومعاهد التنصيص: 1/ 333.(1/354)
الأصفر، فتكوى الصحاح ليلا تعديها المراض تقول منه عرت الإبل، فهي معرورة، ثم أنشد بيت النابغة وقال ابن دريد (1): من رواه بالفتح فقد غلط لأن الجرب لا يكوى منه» (2) اه.
وتعليله: «كي الصحاح بما ذكر مثله عن أبي عبيدة (3) قائلا: «هذا لا يكون» يعني ما ذكره عبد العزيز قال: وإنما هو مثل لمن أخذ بذنب غيره، وهو كما قال غيره: «يشرب عجلان و [يسكر] (4) ميسرة»» (5).
ولكن الأعلم (6) قد قال في شرح البيت ما نصه: «والعر داء يصيب الإبل، وقيل: هو قرح بمشفر البعير، فإذا أرادوا أن يعالجوه كووا بعيرا آخر صحيحا، فيبرأ ذلك البعير. كذا حكي عن فصحاء العرب ممن حمل عنهم الرواة» (7) اه.
المقصد الثالث: حفظ العقل:
وحفظه بالعربية إذا تأمل يوجد على أكمل ما يبتغى به في جانبي الوجود والعدم معا، فهما مطلبان:
__________
(1) في كتابه: «جمهرة اللغة»: 1/ 84، ر. ع. ع. وابن دريد، هو أبو بكر محمد بن الحسن الأزدي البصري. ت: 321هـ 933م، كان أعلم الناس في زمانه باللغة والشعراء وأيام العرب وأنسابها، من تصانيفه: «الجمهرة في اللغة»، و «المقصور والممدود»، و «اشتقاق أسماء القبائل»، انظر:
طبقات الزبيدي: 184183، والنزهة: 259256.
(2) انظر الصحاح: باب الراء، فصل العين.
(3) أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي بالولاء، البصري. ت: نحو 209هـ 822م، كان من أجمع الناس للعلم، وأعلمهم بأيام العرب وأخبارها، وأكثر الناس رواية، من تصانيفه: «معاني القرآن»، «نقائض جرير والفرزدق»، و «أخبار قضاة البصرة». انظر: أخبار النحويين: 7167، وطبقات الزبيدي: 178175، والنزهة: 111104.
(4) في «ج» ويكسره.
(5) انظر: ديوان النابغة: ص 37برواية «الأصمعي»، و «شرح الأعلم»، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، والخزانة: 1/ 434، وزاد: «ولم يكونا شخصين موجودين».
(6) هو يوسف بن سليمان الشنتمري الأندلسي أبو الحجاج المعروف بالأعلم. ت: 476هـ 1804م، عالم بالأدب واللغة، كف بصره في آخر عمره، من تصانيفه: «شرح الشعراء الستة» و «شرح ديوان الحماسة»، و «تحصيل عين الذهب». انظر: الوفيات: 7/ 8381.
(7) ديوان النابغة: 37.(1/355)
المطلب الأول:
حفظ العقل بالعربية من جانب الوجود، ويدل على ذلك المنقول والمعقول:
أما المنقول: فبيانه من وجهين:
أحدهما: ما ورد مصرحا بتثبيتها للعقل، وتقويتها لمادة وجوده، فقد تقدم (1) حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه «تعلموا العربية فإنها تثبت العقل، وتزيد 92و / / في المروءة».
الثاني: ما ورد مشيرا إلى ذلك، ومتضمنا له، فقد تقدم (2) أيضا قوله صلى الله عليه وسلم:
«رحم الله امرءا أصلح من لسانه».
قال بعض الشيوخ: وذلك لما علمه صلى الله عليه وسلم مما يعقب الجهل بذلك من ضد السداد، وزيغ الاعتقاد، وهو دليل عدم العقل ونقصانه».
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لرجل لحن: «أرشدوا أخاكم فإنّه قد ضلّ» (3).
فتسمية اللحن «ضلالا» دليل على منافاته للعقل، ومضادته لكمال حصوله.
ومن المروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه «كلام العرب كالميزان الذي يعرف به الزيادة والنقصان وهو أعذب من الماء، وأرق من الهواء».
وفي هذا أوضح إشارة إلى زيادته في العقل، وحفظه لما يعرف به، زائدا المعنى وناقصه وذلك هو خاصية العقل الكامل، [والفطرة] (4) السليمة، وترشيح ذلك بكونه «أعذب من الماء وأرقّ من الهواء»، مقتض للطافة طبع العارف به.
__________
(1) انظر ص: 4ظ / من مخ «أ». ص: 100من هذا الكتاب.
(2) انظر ص: 3ظ / من مخ «أ». ص: 95من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 83و / من مخ «أ». ص: 331من هذا الكتاب.
(4) في «ج» والفترة.(1/356)
ومن هناك قال الإمام الشافعي: «ومن طلب العربية رقّ طبعه». وذلك كله شاهد بأنها تلقح العقل وتحد الخاطر» (1).
وأما المعقول: فبيانه أيضا من وجهين:
أحدهما: اعتباري، والآخر: وجودي.
الأول: الاعتباري: وتقريره أن العربية لما كان النظر فيها مقدما على النظر في الكتاب والسنة على ما سبق نعم وعلى الخوض في كل فن من الفنون العلمية حتى العقلية على ما يرد بيانه إن شاء الله كان ذلك من أنور دليل على أنها تزيد في قوة العقل، وتسلك به على مناهج الصواب، في فهم الأساليب العربية، وتحصيل الأوضاع اللغوية، وإدراك المعاني الشاردة عن تعقل الجهلة بها بالمنطق، وإن كان يسدد العقل في معقوله، فكذلك النحو يحفظ اللسان في 92ظ / / مقوله، ولما كان اللسان العربي يعبر عن العقل بما لم تعبر به ألسنة الأعاجم جميعا، كان الحفظ له بهذه الصناعة عائدا على العقل بالحفظ لا محالة، لكن لا من جهة حفظ المنطق بل من هذه الجهة المخصوصة بلسان العرب.
الثاني: الوجودي: وهو شاهد بما يقتضيه الاعتبار، وموقف على حصول ما دل عليه عيانا، وذلك وإن كان غير مفتقر إلى تعيين من استعان بها على ما أراد من الفنون فأمدته بما انتهض به إلى إدراك ما أمل للعلم بذلك ضرورة [وجوازا] (2) من كل زوال الصنائع والعلوم. لكنا نذكر منه ما يخص الانتفاع بكتاب إمامها سيبويه ليتبين به عناء النظر فيه، في إمداد العقل على ما يحاول من العلوم لما خص به من كمال ما توقف عليه فهم كلام العرب.
فعن أبي جعفر الطبري (3) قال: «سمعت الجرمي (4) يقول: أنا مذ ثلاثون
__________
(1) تحد الخاطر: تشحده للفهم والتأدب.
(2) في «ج»: وجدان.
(3) هو أحمد بن محمد بن رستم الطبري، سكن بغداد وحدث بها عن نصير بن يوسف، وهاشم بن عبد العزيز صاحبي الكسائي، وكان متصدرا لإقراء النحو، وله من الكتب: كتاب «غريب القرآن» و «المقصور والممدود» و «المذكر والمؤنث». انظر: النزهة: 239، والإنباه: 1/ 128.
(4) هو أبو عمر صالح بن إسحاق الجرمي، البصري. ت: 225هـ 840م، نحوي، فقيه(1/357)
سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب «سيبويه»، قال: فحدثت به محمد بن يزيد يعني المبرد على وجه التعجب والإنكار، فقال: أنا سمعت الجرمي يقول هذا وأومأ بيده إلى أذنيه، قال: وذلك أن أبا عمر الجرمي كان صاحب حديث، فلما علم كتاب سيبويه تفقه في الحديث، إذ كان كتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفتيش» (1).
قال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: «والمراد بذلك أن سيبويه، وإن تكلم في النحو، فقد نبه في كلامه على مقاصد العرب، وأنحاء تصرفها في ألفاظها ومعانيها، ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع، والمفعول به منصوب، ونحو ذلك، بل هو يبين في كل باب ما يليق به، حتى إنه احتوى على علم المعاني، والبيان، ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني، فمن هناك كان الجرمي، على ما قال، وهو كلام يروى عنه في صدر كتاب سيبويه 93و / / من غير إنكار» اه.
قلت: وذكره «الزبيدي» في «طبقات النحويين» (2).
وقوله: «من غير إنكار»، استظهار منه على تلقيه بالقبول، وأخذه مسلما من جميع العلماء، وكيف لا، وهم بفضله يعترفون، ومن بحور علمه يغترفون.
قال ابن خروف (3): «ولم يزل كتاب سيبويه معظما عند [أهل] (4) علوم الشريعة عن بكرة أبيهم فقهائهم، ومحدثيهم، وقرائهم.
قال: وأكثرهم عناية به أرباب الكلام، أشعريهم ومعتزليهم، وفزعهم في نوازلهم إليه، واعتمادهم في حجاجهم عليه.
__________
عروضي، من تصانيفه: كتاب «غريب سيبويه»، كتاب «العروض» كتاب «الأبنية»، و «مختصر في النحو». انظر: طبقات الزبيدي: 7574، والنزهة: 145143.
(1) انظر كتاب سيبويه: 1/ 65.
(2) انظر ص: 75.
(3) لعله في كتابه: «مفتح الأبواب في شرح غوامض الكتاب».
(4) ساقطة من «أ».(1/358)
هذا أبو بكر ابن الطيب (1) يحتج بعبارته على مخالفيه من غير إسناد إلى العرب، من ذلك قوله: «وأما الفعل، فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء» (2). فاعتقد عبارته حجة في أن الاسم يعبر به عن المسمى.
وقال «أبو المعالي» (3) في «برهانه» (4): «فالمختار إذا ما ذكره متبوع الجماعة، وسيد الصناعة، سيبويه رحمه الله.
قال: واحتجاجهم بكلامه أكثر من أن يحصى»، ثم نقل عن المبرد قوله:
«لم يعمل كتاب في علم من العلوم مثل كتاب سيبويه، وذلك أن الكتب المصنفة في العلوم مضطرة إلى غيرها، وكتاب سيبويه لا يحتاج من فهمه إلى غيره» (5).
قال ابن خروف: «يعني في علمه».
قلت: ما ذكره عن إمام الحرمين أبي المعالي مما يدل على اعتنائه بإمام الصناعة سيبويه رحمهم الله يشهد له ما علم من حاله في شغفه بالعلوم، وحرصه على التحقق بها من أي نوع كانت.
فحكى الشيخ تاج الدين السبكي (6) في «طبقاته» عن «بعض العلماء أنه قال: كان إمام الحرمين رحمه الله يقول: أنا لا أنام ولا آكل عادة، وإنما إذا
__________
(1) هو محمد بن الطيب البصري، ثم البغدادي، المعروف بالباقلاني (أبو بكر) ت: 403هـ 1013م. متكلم على مذهب الأشعري، سكن بغداد، وسمع بها الحديث، ورد على المعتزلة، والشيعة، والخوارج، والجهمية وغيرهم، من تصانيفه: «إعجاز القرآن»، «أسرار الباطنية» و «مناقب الأئمة ونقض المطاعن على سلف الأمة»، انظر: تاريخ بغداد: 5/ 383379، والوفيات 4/ 270269.
(2) انظر: الكتاب لسيبويه: 1/ 12، باب علم ما الكلم من العربية.
(3) المقصود: أبو المعالي الجويني.
(4) كتاب «البرهان» في أصول الفقه.
(5) مقدمة كتاب سيبويه: 51.
(6) هو عبد الوهاب بن علي الأنصاري الشافعي، السبكي، (أبو نصر، تاج الدين) ت: 771هـ 1370م، فقيه، أصولي، مؤرخ، أديب، ناظم، ناثر، من تصانيفه: «طبقات الشافعية الصغرى والوسطى والكبرى» و «معيد النعم ومبيد النقم»، و «الفتاوى» انظر: الدرر الكامنة: 2/ 425 427.(1/359)
غلبني النوم ليلا كان أو نهارا وآكل إذا اشتهيت الطعام أي وقت كان، وكان (لذته) (1) و (لهوه) (2) و [سروره] (3)، في مذاكرة العلم وطلب الفائدة من أي نوع كان 93ظ / /.
قال: لقد سمعت الشيخ أبا الحسن علي بن فضال المجاشعي (4) النحوي القادم علينا سنة تسع وستين وأربعمائة يقول: وقد قبله الإمام فخر الإسلام إمام الحرمين، وقام له بالإكرام، وأخذ في قراءة النحو عليه، والتلمذة له بعد أن كان إمام الأئمة في وقته، وكان يحمله في كل يوم إلى داره، ويقرأ عليه كتاب «إكسير الذهب في صناعة الأدب» من تصنيفه، فكان يحكي يوما ويقول: ما رأيت عاشقا للعلم أي نوع كان مثل هذا الإمام، فإنه يطلب العلم للعلم.
قال: ومن جميل (5) سيرته أنه ما كان يستصغر أحدا حتى يسمع كلامه باديا (6) أو متناهيا فإن أصاب كياسة في طبع أو جريا على منهاج الحقيقة، استفاد منه، صغيرا كان أو كبيرا، ولا يستنكف عن أن يعزو الفائدة المستفادة إلى قائلها، ويقول: إن هذه الفائدة مما استفدتها من فلان، ولا يحابي أحدا في التزييف، إذا لم يرض كلامه، ولو كان أباه أو أحدا من الأئمة المشهورين» (7).
قلت: وقد وقفت على أن بعض الواردين عليه من المغاربة وأظنه من الأندلس قرأ عليه كتاب سيبويه، وقرأ هذا المغربي عليه في علم الأصول،
__________
(1) زيادة من طبقات السبكي 5/ 179.
(2) م. س: 5/ 179ونزهته.
(3) بياض في «أ».
(4) القيرواني: ت: 479هـ 1086م، مؤرخ، عالم باللغة والأدب، والتفسير، اشتهر بالفرزدقي لاتصال نسبه بالفرزدق الشاعر، سكن بغداد، واتصل بنظام الملك، وتوفي بها، من كتبه:
«الدول»، و «الإكسير» في التفسير، وله كتاب «المقدمة» في النحو وله «إكسير الذهب» في النحو. انظر: معجم الأدباء: 5/ 9890. والبغية: 2/ 183.
(5) في طبقات السبكي: 5/ 180: ومن حميد.
(6) في م. س: 5/ 180: شاديا.
(7) انظر: م. س: 5/ 180179.(1/360)
وذلك شاهد بعنايته بالكتاب وتنزله لقراءته بعد بلوغه الغاية في العلوم تحصيلا لتكميل الإمامة.
المطلب الثاني:
حفظ العقل بالعربية من جانب العدم، وظهور ذلك يتوقف على تقديم أصلين:
أحدهما: مفروغ منه، وهو بيان ما به دخول الخلل على حفظه من هذا الجانب لمشاهدة أنه يتناول ما يطلق عليه اسم الخمر لغة أو شرعا، وضرورة العلم الديني بوجوب سد هذا الخلل ليبقى العقل محفوظ الوجود.
الثاني: منظور فيه، وهو تحقيق ماهية الخمر، ومدلول ما يقع 94و / / عليه اسمها لغة وشرعا وفي ذلك لعلماء الإسلام مذهبان:
المذهب الأول:
أن الخمر اسم واقع حقيقة على المسكر من عصير العنب خاصة، ومبدأ ذلك عند غليانه وقذفه بالزبد، وهو مذهب الكوفيين من الفقهاء، وابن سيده (1)
من اللغويين يساعدهم على ذلك، فإنه قال في المحكم: «الخمر ما أسكر من عصير العنب، واعتذر عن قول أبي حنيفة اللغوي قد تكون الخمر من الحبوب بأن ذلك مسامحة.
قال: لأن حقيقة الخمر إنما هي العنب دون سائر الأشياء.
المذهب الثاني:
أن الخمر اسم موضوع لكل ما أسكر من عصير العنب وغيره، وهو قول
__________
(1) هو أبو الحسن علي بن أحمد المعروف بابن سيده، ت: قريبا من سنة 460هـ 1067م عالم بالنحو، واللغة، والأشعار وأيام العرب، وما يتحقق بعلومها. ومن تصانيفه: «المحكم والمحيط الأعظم في لغة العرب»، و «رتبه على حروف المعجم» و «المخصص» و «كتاب الأنيق» في شرح الحماسة. انظر: جذوة الحميدي: 312311، والصلة: 418417، والمطمح: 292291، والديباج: 2/ 107106.(1/361)
مالك والشافعي ومن لا يحصى من علماء الأمصار. أما من حيث الإطلاق الشرعي فظاهر لما في الصحيح (1) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكر خمر» وما أورد على ذلك، فمقرر الجواب في مواضعه.
وأما من حيث الإطلاق اللغوي فهل هو كذلك؟ وحينئذ فكل مسكر خمر لغة وشرعا أو هو على حسب ما تقدم للكوفيين، وابن سيده.
فالذي عليه محققو الشيوخ أن الشرع واللغة في هذا الإطلاق متطابقان.
قال بعض متأخريهم ما نصه: «واعلم أن الخمر اسم لكل ما خامر العقل، أي غطاه من أي شراب كان، فهو اسم جامع لها، وأكثر ما سواه، صفات، لكنها في الغالب جارية مجرى الأسماء في كونها تستعمل موالية للعوامل، وغير تابعة لما قبلها، فإن كان الشراب من التمر قيل له: الفضيخ بالخاء المعجمة، وإن كان من العسل قيل له: البتع، وإن كان من البر قيل له: المزر بكسر الميم وسكون الزاي. وكذلك إن كان من الذرة، ومن الشعير، ويقال لما كان من الذرة أيضا: السكركة. وإن كان من الزبيب قيل له: النبيذ [عند بعضهم، وكذلك التمر إذا نبذ في الماء، قيل: النبيذ] (2) لأن النبذ هو الطرح.
والسّكر يقع على خمر العنب والتمر خصوصا. قال الله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرََاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنََابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} (3) الآية.
وذكر صاحب الصحاح (4): «أن السكر اسم لشراب التمر»، والأول: قول جماعة غيره، وهو نص القرآن» اه.
قلت: وملخص ما احتجوا به على ذلك أمران:
__________
(1) انظر: صحيح مسلم: 3/ 172.
(2) ساقط من «ج».
(3) سورة النحل، الآية: 67.
(4) انظر باب الراء فصل السين: وفيه «السكر» نبيذ التمر.(1/362)
أحدهما: تفسير غير واحد من الصحابة والتابعين لاسم الخمر بأنّه: «كل مسكر خامر العقل».
ففي الصحيح: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: «لقد حرمت الخمر، وما بالمدينة منها شيء» (1). وفيه عن أنس رضي الله عنه قال: «حرمت علينا الخمر حين حرمت، وما نجد يعني بالمدينة خمر الأعناب إلا قليلا، وعامة خمرنا البسر والتمر» (2).
وفيه عن ابن عمر قال: «قام فينا عمر رضي الله عنه على المنبر فقال:
أما بعد، نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل» (3).
قال ابن بطال عن المهلب (4): «وهذا التفسير من عمر رضي الله عنه مقنع ليس لأحد أن يتسوّر (5) فيقول: «إن الخمر من العنب وحده».
قال: فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم فصحاء العرب عن الله عز وجل ورسوله قد فسروا عين ما حرمه الله، وقالوا: إن الخمر من خمسة أشياء، وأخبر عمر بذلك حكاية عما نزل من القرآن وتفسيرا للجملة.
وقال: الخمر ما خامر العقل، وخطب بذلك على منبر النبي صلى الله عليه وسلم بحضرة الصحابة من المهاجرين، والأنصار، وغيرهم، ولم ينكره أحد، فصار كالإجماع.
وهذا ابن عمر يقول: «حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء» يعني خمر العنب.
__________
(1) انظر صحيح البخاري: 20/ 141140.
(2) انظر صحيح البخاري: 20/ 141140.
(3) انظر م. س: 20/ 142141.
(4) هو أبو سعيد المهلب بن أبي صفرة الأزدي العتكي. ت: 83هـ 702م. كان سيد أهل العراق ولي إمارة البصرة لمصعب بن الزبير، وانتدب لقتال الأزارقة، كما ولاه عبد الملك بن مروان ولاية خراسان، وكان جوادا كريما، وله أخبار كثيرة. انظر الوفيات: 5/ 359350، والإصابة:
3/ 536535.
(5) تسور عليه: تطفل عليه بغير استعداد لفهمه(1/363)
وقال أنس: وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا» اه.
وقال عند كلامه على حديث كسر الصحابة رضي الله عنهم لجرار الفضيخ، لما أخبروا بتحريم الخمر: «لا يجوز 95و / / على الصحابة، وهم القدوة في علم اللسان أن يفهموا أن الخمر إنما هي من العنب خاصة ويهريقوا (1)
جرار الفضيخ، وهي غير خمر، وقد نهي عن إضاعة المال دائما، وإنما هراقوها لأنها الخمر المحرمة عليهم من غير شك، ولو شكوا في ذلك لسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن عينها، وما يقع عليه اسمها» اه.
وقال الباجي (2) في استدلاله على هذا المعنى من حديث عمر رضي الله عنه: «وجه ذلك أن عمر رضي الله عنه قال: إن الخمر يكون من هذه الخمسة، وهو من أهل اللسان ولو انفرد بذلك لاحتج بقوله، فكيف وقد خطب بذلك بحضرة قريش، والعرب والعجم وسائر المسلمين، فلم ينكر ذلك عليه، فثبت أنه إجماع.
قال: ووجه آخر وهو أنه قال: «والخمر ما خامر العقل»، وهذا يدل على أن كل ما خامر العقل فإنه يسمى الخمر، وأنها لذلك تسمى خمرا.
وقاله الإمام فخر الدين (3) في بعض وجوه الدلالة منه أيضا.
ثالثها: أنه أخبر أن كل ما خامر العقل فإنه خمر، وهو أعلم باللغة» (4) اه.
قال ابن العربي: «فإن قيل هذا إثبات اسم بقياس، قلنا إنما هو إثبات بلغة
__________
(1) هراق: يهريق هراقة الماء: صبه.
(2) هو سليمان بن خلف التجيبي القرطبي. ت: 474هـ 1081م، فقيه مالكي من رجال الحديث، رحل إلى الحجاز سنة: 426هـ، فمكث ثلاثة أعوام، من كتبه: «السراج في علم الحجاج» و «إحكام الفصول في أحكام الأصول»، و «الحدود»، وغير ذلك. انظر: الوفيات: 2/ 408 409، والديباج: 1/ 385377.
(3) انظر تفسير الرازي: 6/ 41.
(4) لعله في كتابه: «السراج في علم الحجاج».(1/364)
فإن الصحابة عرب، عرب، فصح، لسن، فهموا من الشرع ما فهموا من اللغة» (1).
الثاني: التمسك بالاشتقاق.
قال الإمام فخر الدين: «وهو من أقوى الدلائل على أن مسمى الخمر هو المسكر، وقدر ذلك بأن أهل اللغة قالوا: أصل هذا الحرف في اللغة: التغطية، فسمي الخمار خمارا لأنه يغطي رأس المرأة وخمرت رأس الإناء:
غطيته» (2)، في نظائر لذلك معروفة.
«وسميت الخمر خمرا قال ابن الأنباري لأنها تخامر العقل أي تخالطه» (3) وقيل: لأنها تخمره أي تستره، وقيل: إنها تخمر: أي تغطى لئلا يقع فيها شيء.
قال الإمام فخر الدين: «وهذا الاشتقاق كله يرجع إلى أن الخمر في اللغة اسم للمسكر 95ظ / / لأن المسكر يغطي العقل.
ثم قال: لا يقال: إن هذا كله إثبات للغة بالقياس، بل هو تعيين للمسمى بواسطة هذه الاشتقاقات، كما أن أصحاب أبي حنيفة يقولون: إن مسمى النكاح هو الوطء، ويثبتونه بالاشتقاق، ومسمى الصوم هو الإمساك، ويثبتونه بالاشتقاق» (4)، فكذلك هاهنا.
قلت وقد جمع القاضي إسماعيل (5) ملخص هذين الدليلين في عبارته مع الإشارة إلى شهادة النظر بها فقال: «جاء في الآثار من تفسير الخمر ما هي،
__________
(1) انظر العارضة: 8/ 5756.
(2) انظر تفسير الرازي: 6/ 4342.
(3) انظر تفسير الرازي: 6/ 4342.
(4) م. س: 6/ 4342.
(5) هو إسماعيل بن إسحاق الجهضمي الأزدي: ت: 282هـ 895م. أصله من البصرة، وبها نشأ واستوطن بغداد، كان عالما متفننا على مذهب مالك، له معرفة بعلم اللسان، وكان من نظراء أبي العباس المبرد في علم كتاب سيبويه. من تصانيفه: «أحكام القرآن» و «كتاب القراءات» و «كتاب معاني القرآن وإعرابه» و «المبسوط في الفقه» وكتبه في الرد على أبي حنيفة والشافعي انظر المدارك: 4/ 293276.(1/365)
واللغة المشهورة والنظر ما يعرفه ذوو الألباب بعقولهم: أن كل شيء أسكر فهو خمر».
فقوله: «اللغة المشهورة» ظاهر في تطابق الإطلاق لغة، وشرعا، وهو ظاهر قول أبي حنيفة اللغوي، واعتذار ابن سيده بما تقدم عنه (1) لا يحتاج إليه، مع شهادة هؤلاء الأعلام نقلا وفهما.
إذا عرفت هذا فلا يخفى على متأمل أن للعربية مدخلا عظيما في حفظ العقل من جانب عدمه «بتناول ما يسكر كثيره» (2) مما عدا المعتصر من العنب من جهة أنها لما تأصل فيها وقوع اسم الخمر على كل مسكر ولو من هذه الجهة المتقدمة وأكرم بها من جهة، لأنها من الصحابة الكرام، وهم الفصحاء في العرب، كان العالم بهذا منها حقيقا بأن يمنعه علمه من الإقدام على شرب القليل من غير عصير العنب إذا ساعده التوفيق، وصحبته العصمة لأنه يعتقد صدق اسم الخمر عليه، وعنده من دين الإسلام ضرورة أن الخمر حرام كثيرها وقليلها، فيكون لا محالة أسعد بهذا الحفظ ممن يرى اختصاص اسم الخمر بعصير اسم العنب إذا أسكر خاصة، ويعتقد مع ذلك أن تحريم القليل والكثير مخصوص بذلك بخلاف ما أسكر كثيره من غيره، فإن القدر المسكر منه هو الحرام وما دونه فحلال كما يقوله 96و / / أهل المذهب الأول، كيف وهو مع ذلك في المعنى بمنزلة المسكر من عصير العنب ولذلك قيل في النبيذ منه:
شرب النبيذ قليله وكثيره ... يدعو إلى الفحشاء للأعمال
ترك النبيذ مروءة وسلامة ... والشاربون له من الجهال
وقال آخر:
تركت النبيذ لأهل النبيذ ... وصرت حليفا لمن عابه
__________
(1) انظر ص: 361من هذا الكتاب.
(2) إشارة إلى حديث «ما يسكر كثيره فقليله حرام».(1/366)
شرابا يدنس عرض الفتى ... ويفتح للشر أبوابه
وسبق إلى ذلك أبو الأسود الدؤلي فقال:
دع الخمر يشربها الغواة فإنني ... رأيت أخاها (1) مغنيا (2) (3) عن مكانها
فإلا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها (4)
قال ابن العربي ما معناه:
«ولا يدل ذلك عنده على أن الأنبذة لا يقع عليها «اسم الخمر» لأنه عنى الأصلية في المنفعة والتجارة، والطيب عندهم، واللذة، وجعل سائر الأنبذة أخاها لعمله عملها.
قال: وقد قال عبيد بن الأبرص (5):
هي الخمر يكنونها بالطلا ... كما الذيب يكنى أبا جعده» (6)
__________
(1) يريد بأخيها: نبيذ الزبيب أو التمر.
(2) في «ج»: مقتيا.
(3) يقال أغنى عنها غناء فلان: ناب عنه وأجزأ عنه مجزأه.
(4) انظر البيتين في «أدب الكاتب»: 315، وورد البيت الثاني في الكتاب لسيبويه: 1/ 46. وفي اللسان لبن.
(5) هو عبيد بن الأبرص الأسدي أبو زياد. ت: نحو 50ق. هـ نحو 600م شاعر من حكماء الجاهلية، وهو أحد أصحاب «المجمهرات» المعدودة طبقة ثانية عن المعلقات عاصر امرأ القيس، وله معه مناظرات، عمر طويلا حتى قتله المنذر بن ماء السماء، وقد وفد عليه في يوم بؤسه. له ديوان شعر. انظر: الشعر والشعراء: 149، والخزانة: 1/ 323.
(6) ورد صدر البيت في الديوان كالتالي:
«هي الخمر بالهزل تكنى الطلا»
والبيت من قطعته التي قالها قبل أن يقتله «المنذر» والتي مطلعها:
والله إن مت ما ضرني ... وإن عشت ما عشت في واحده
انظر الديوان: ص: 62.
والطلاء: بالكسر والمد، مذكر لا غير، أصله القطران الخاثر الذي تطلى به الإبل، وبعض العرب يسمي الخمر الطلاء، يريد بذلك تحسين اسمها. و «عبيد» ضربه مثلا: أي تظهر لي الإكرام، وأنت تريد قتلي، كما أن الذئب وإن كانت كنيته حسنة، فإن عمله ليس بحسن، وكذلك الخمر، وإن سميت طلاء، وحسن اسمها، فإن عملها قبيح، راجع اللسان: طلي، وانظر العارضة: 8/ 5756.(1/367)
قلت: ولا يقال إن ذلك تشبيه مجازي، لأن الأصل خلافه، وما تقدم من صحة وقوع الخمر لغة على كل مسكر، هو حقيقة يقضي بعدم الاحتياج إليه، والله تعالى أعلم.
[انفصال عجيب] (1):
لعلك تقول: كيف تحفظ العربية العقل من جانبي الوجود والعدم، وتعود على صاحبها بتحقيق النظر، ورسوخ القدم، وقد زعم 96ظ / / ابن مضاء (2):
«أنهم تجاوزوا فيها المقدار، وأفرطوا فيما قصروا عليه الإيراد والإصدار، حتى صارت متوعرة المسالك، واهية مباني الناظر فيها والسالك، منحطة الحجج عن رتبة الإقناع، بعيدة الظهور بقربها من الاستحالة والامتناع ولذلك مثل بها فقيل:
ترنو بطرف فاتن فاتر ... أضعف من حجة نحوي (3)
وإذا أفضي فيها النظر إلى منحط هذه الصفة، ومنع حماها بالحسام المفلول، والقناة المتقصفة (4)، فهي إلى خيال العقل أقرب، وسلامته بها من العنقاء أغرب فاعلم أن الأمر بعكس ما توهمت.
ففي جواب ابن خروف: «أن مجاوزة المقدار إلى حيث انتهى بهم البحث مع تحقيق النظر وفهم مقاصد العرب فهما، أبعد فيها الناظر المدى، كان أعظم فائدة، وأكثر تصرفا في عجائب كتاب الله تعالى، وحقيقة معانيه، ونظمه، وإعجازه.
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس أجمعين قال: «وعلى قدر ما تزيد تزاد».
والمراد بكثير من العلل: تمرين الأذهان، ونفوذ الخواطر كما فعل أهل الحساب فيما دققوا به، وأكثروا من وجوه الأعمال، وغير ذلك مما لا يحتاج
__________
(1) في «ج»: الفصل مجنيب.
(2) انظر: ص: 80من كتابه: «الرد على النحاة».
(3) البيت لابن بسام الشاعر في هجاء خاله المازني كما سيوضح ابن الأزرق في ص: 371.
(4) قصفت القناة: انكسرت ولم تبن، اللسان قصف.(1/368)
إليه، والفقهاء، وأهل الكلام، والمحدثون في علمهم، ووضعهم مسائل مستغنى عنها.
قال: وليس من علم إلا وقد زاد أهله فيه على الكافي منه».
قلت: كثيرا ما كنت أسمع شيخنا الإمام العلامة أبا إسحاق إبراهيم بن فتوح (1) نور الله مضجعه يقول ذلك، وينشد في معناه:
كل أناس بدينهم حسن ... ثم يعودون بعد للشنع
قال ابن خروف: «وقوله يعني ابن مضاء: «هذه الصناعة توعرت مسالكها، ووهت 97و / / مبانيها، وانحطت عن رتبة الإقناع حججها» (2) دعوى لا تصح، ثم ذكر بعد تمهيد الجواب: أن النحويين ائتموا بالعرب في تفسير ما فسروا من كلامهم كقول سيبويه في باب «ترجمته»: «وهذه حجج سمعت من العرب وممن يوثق به»، يزعم أنه سمعها من العرب، من ذلك قول العرب في مثل من أمثالها: «اللهم ضبعا (3) وذيبا».
قال: وكلّهم يفسّر ما ينوي» (4) إلى آخر ما ذكر في الترجمة.
قلت: بوب ابن جني على هذا الأصل بقوله: «باب في أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض ما نسبناه إليها وحملناه عليها».
ثم قال: «اعلم أن هذا موضع في تثبيته وتمكينه منفعة ظاهرة، وللنفس به مسكة وعصمة لأن فيه تصحيح ما ندعيه على العرب من أنها أرادت كذا لكذا،
__________
(1) هو أبو إسحاق العقيلي: ت: 866هـ 1462م، شيخ ابن الأزرق، وشيخ علماء الأندلس في وقته، كان عالما بالعربية، حافظا لكثير من اللغة والأدب، والشعر، كما كان ناسخا. له خط جيد. انظر رحلة القلصادي: 168166. والضوء اللامع: 1/ 30.
(2) انظر الرد على النحاة ص: 80.
(3) جاء في كتاب سيبويه: 1/ 255، إذا كان يدعو بذلك على غنم رجل، وإذا سألتهم ما يعنون، قالوا: «اللهم اجمع أو اجعل فيها ضبعا وذئبا»، وزاد المحقق في الهامش عن السيرافي: ذكر أبو العباس المبرد، أنه سمع أن هذا دعاء له لا دعاء عليه، لأن الضبع والذئب إذا اجتمعا تقاتلا فأفلتت الغنم، قال: وأما ما وضعه عليه سيبويه فإنه يريد ذئبا من هاهنا وضبعا من هاهنا.
(4) م. س: 1/ 255.(1/369)
وفعلت كذا لكذا، وهو أحزم لها وأجمل وأدل على الحكمة المنسوبة إليها» (1).
ثم مضى في تقرير هذا المعنى إلى أن قال: «حدثني المتنبي شاعرنا، وما عرفته إلا صادقا قال: كنت عند منصرفي من «مصر» في جماعة من العرب، وأحدهم يتحدث فذكر في كلامه فلاة واسعة قال: يحير فيها الطرف قال: وآخر منهم يلقنه سرا من الجماعة بينه وبينه، فيقول له: يحار يحار، أفلا ترى إلى هداية بعضهم لبعض وتنبيهه إياه على الصواب» (2).
قال عن المبرد: «سمعت عمارة بن عقيل (3) يقرأ: {وَلَا اللَّيْلُ سََابِقُ النَّهََارِ} (4)، فقلت له: ما تريد؟ فقال: أردت: «سابق النهار» فقلت له: فهلا قلته؟ قال: لو قلته لكان أوزن» (5).
ففي هذه الحكاية لنا ثلاثة أغراض مستنبطة منها:
أحدها: تصحيح قولنا: أن أصل كذا كذا.
والآخر: أنها فعلت كذا لكذا، ألا تراه إنما طلب الخفة، يدل عليه قوله:
«لكان أوزن». أي أثقل في النفس وأقوى، من قولهم: هذا درهم وازن، أي ثقيل، له وزن.
والثالث: أنها قد تنطق بالشيء، غيره في [نفسها] (6) أقوى منها لإيثارها التخفيف.
قال ابن خروف: 97ظ / / «وهذا كله داخل تحت قول سيبويه: «وكلهم يفسر ما ينوي»، وأجمعت الأمة على صدق خبره».
__________
(1) انظر الخصائص: 1/ 237.
(2) م. س: 1/ 239.
(3) عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير الشاعر بن عطية بن الخطفي. ت: 239هـ 853م. كان من أهل البصرة، واسع العلم، كثير الفضل، أخذ عنه المبرد. انظر تاريخ بغداد: 12/ 283282، والنزهة: 174.
(4) سورة يس، الآية: 40.
(5) انظر الخصائص: 1/ 249.
(6) في «ج»: نفسه.(1/370)
قال ابن جني: «وسألت الشجري يوما فقلت له: كيف تجمع دكانا؟
فقال: دكاكين (1)، قلت: فسرحان (2)؟ قال: سراحين، قلت: فقرطان (3)؟ قال:
قراطين، قلت: فعثمان؟ قال: عثمانون، فقلت له: فهلا قلت أيضا عثامين:
فقال: أيش عثمانين؟ أرأيت إنسانا يتكلم بما ليس من لغته؟ والله لا أقولها أبدا» (4).
قال: «وسألته يوما فقلت له: يا أبا عبد الله كيف تقول: ضربت أخاك؟
فقال: كذاك قلت، أفتقول: ضربت أخوك؟ فقال: لا أقول أخوك أبدا، فقلت:
فكيف تقول: ضربني أخوك؟ فقال: كذاك، فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول أخوك أبدا؟ فقال: أيش هذا، اختلفت جهتا الكلام.
قال: فهل هذا في معناه إلا كقولنا نحن: صار المفعول فاعلا، وإن لم يكن بهذا اللفظ البتة، فإنه هو لا محالة.
قال: ومن ذلك ما يروى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ قوما من العرب أتوه فقال لهم:
«من أنتم؟» فقالوا: نحن بنو غيان (5)، فقال: «بل أنتم بنو رشدان» (6)، فهل هذا إلا كقول أهل الصناعة: إن الألف والنون زائدتان، وإن كان عليه السلام لم يتفوه بذلك، غير أن اشتقاقه إياه من الغي بمنزلة قولنا نحن: إن الألف والنون فيه زائدتان، وهذا واضح.
__________
(1) فارسي معرب اللسان دكن.
(2) السّرحان: الذئب، وقيل الأسد. يجمع على سراح، وسراحين، وسراحي بغير نون. اللسان سرح.
(3) القرطاط، والقرطاط، والقرطان، والقرطان كله لذي الحافر كالحلس الذي يلقى تحت الرحل للبعير، ويطلق أيضا على الداهية. اللسان قرطط.
(4) انظر الخصائص: 1/ 242.
(5) غيان: بطن من الأزد، معجم قبائل العرب: 3/ 901.
(6) بنو رشدان: ورواه قوم بنو رشدان، بكسر الراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله على هذه الصيغة ليحاكي به غيان، فبناه على فعلان، وهذا واسع كثير في كلام العرب، إذ أنهم يؤثرون المحاكاة والمناسبة بين الألفاظ تاركين لطريق القياس. اللسان غوى ورشد.(1/371)
قال: وكذلك قولهم: «إنما سميت هانئا لتهنأ» (1)، قد عرفنا منه أنهم كأنهم قد قالوا: إن ألف هانىء زائدة، وكذلك قولهم: «فجاءهم يدرم تحتها» (2)، أي يقارب خطاه لثقل الخريطة بما فيها، فسمي دارما، قد أفادنا اعتقادهم زيادة الألف بدارم عندهم.
قال: وحكى الأصمعي عن أبي عمرو قال: سمعت رجلا من اليمن يقول: «فلان لغوب (3) جاءته كتابي فاحتقرها». فقلت له: أفتقول جاءته كتابي؟
فقال: نعم، أليس بصحيفة؟ قال: 98و / / أفتراك تريد من أبي عمرو وطبقته، وقد نظروا، وتدربوا، وقاسوا، وتصرفوا، أن يسمعوا أعرابيا جلفا جافيا غفلا، يعلل هذا الموضع بهذه العلة، ويحتج لتأنيث المذكر بما ذكره، فلا يحتجوا (4)
هم لمثله، ولا يسلكوا فيه طريقه، فيقولوا: فعلوا كذا لكذا، وصنعوا كذا (5) من أجل كذا، وقد شرع العربي لهم ذلك، ووقفهم على سمته وأمّه» (6).
قال ابن خروف مذيلا على هذا الكلام: «فنحوا نحوهم، إذ حاجتهم إليها أشد، ثم تجاوزوا ذلك إلى أشياء من العلل، هي عند بعض الناس على طريق الأنس والتمرن، ولا تخرج عند المحقق الفطن، الصحيح النظر، عن مراد العرب بالحجج والبراهين التي تليق بكلامهم، وإن كان العربي إذا سئل عنها لا يعرف صنعتها، فبينوا رضي الله عنهم وضبطوا المعاني الغزيرة، وحصروا الكثير من الكلام في النزر بالقياس، وتجاوزوا إلى غير ذلك».
__________
(1) مثل يضرب لمن عرف بالإحسان، «ولتهنأ»: أي لتعول وتكفي اللسان هنأ.
(2) في الخصائص: 1/ 249: «جاء يدرم من تحتها»، ودرم يدرم: قارب الخطو في عجلة، ومنه سمي دارم بن مالك، وكان يسمى بحر بن مالك بن حنظلة. وذلك أن أباه لما أتاه قوم في حمالة، فقال له: يا بحر ائتني بخريطة، فجاءه يحملها، وهو يدرم تحتها من ثقلها ويقارب الخطو. فقال أبوه: «قد جاءكم يدارم»، فسمي «دارما» لذلك. اللسان درم.
(3) اللغوب: الضعيف الأحمق.
(4) في الخصائص: 1/ 249: «فلا يهتاجوا»، وعلق المحقق على ذلك بقوله: ولم يعرف في اهتاج التعدي.
(5) م. س: 1/ 249: كذا لكذا.
(6) م. س: 1/ 249.(1/372)
قال في موضع آخر وقد أجرى ذكر علل النحو: «وأنه لا يلزم أن تكون برهانية في كل موضع، قالت الحكماء: «من التمس البرهان على كل شيء فهو أبله»، لأنه لا فرق بين من التمس من المهندس إقناعا، ومن التمس من الخطيب برهانا، إن كل واحد منهما أبله، فمن التمس من المهندس برهانا في صناعته، فهو عالم حكيم همته الحق، ومن التمس من الخطيب إقناعا على أن «زيدا» عفيف هو أيضا عالم حكيم همته الحق، وأعطى كل شيء حقه، ومن علل النحو ما هو برهان، ومنها ما هو إقناع».
قلت: يعني بالبرهان ما أشار إليه ابن جني: «من نحو قلب الألف واوا للضمة قبلها نحو: «ضويرب» في «ضارب»، و «قريطس» في «قرطاس».
قال: «فهذا ونحوه مما لا بد منه من قبل، أنه ليس في القوة والاحتمال في الطبيعة وقوع الألف بعد الكسرة ولا الضمة، فقلب الألف على هذا الحد علته الكسرة والضمة قبلها، فهذه علته 98ظ / / برهانية لا لبس فيها، ولا توقف للنفس عنها» اه.
ولا يعني بالبرهان المعروف بالشروط في صناعة المنطق فإنه على ذلك الحد لا يجري في هذه الصناعة، ولا يضرها ذلك، لأن مادتها توجب الاكتفاء بما دون ذلك.
وقد نبه بعض الشيوخ على أن أكثر الأقاويل التصديقية في هذه الصناعة [خطابية] (1) وشعرية، وأعظم ما ترتقي إليه أن تكون جدلية إقناعية، وأما أن تكون برهانية، فليس ذلك فيها بممكن.
قال ابن خروف: «واستشهاده على ضعف حجج النحويين ببيت هجي به نحوي، غفلة، وعدول عن الحق، ومن هجا فجر. قالوا: والهاجي ابن بسام، والمهجو خاله أبو عثمان المازني».
__________
(1) في الأصول: خطبية.(1/373)
المقصد الرابع: حفظ النسل:
ويسميه بعض العلماء ب «النسب» وحفظه بالعربية يظهر باعتبار أمرين:
أحدهما: إعانتها على فائدة المعرفة به.
والثاني: منعها من الوقوع فيما يفسده الجهل بها.
فأما الأول: فلا يخفى أن المعرفة بصحة النسب يترتب عليها تأكيد صلة الرحم ومبرة المودة، في القربى فيما بين المنتسبين إلى أب واحد، وذلك مشهود بورود الأمر به، وحصول المصلحة بامتثاله، وإذا كانت المعرفة بهذه الصناعة سببا في تحقيق ما ترتب عليه ذلك، فقد حفظت هذا الأصل الضروري من هذه الجهة لا محالة، وبيانه بمثالين:
المثال الأول:
أنه يقال في النسب إلى أمية «أموي» بضم الهمزة ك «جهينة» (1) في جهني، و «أموي» (2) بفتح الهمزة، كما كسروا الباء في «بصري» (3) و «أميّيّ» (4) بأربع ياءات مع ضم الهمزة.
وإذا سمع ذلك الجاهل بهذه الصناعة، ربما ظن تغايرها، وأن من انتسب إلى واحد منها على الخصوص لا يلتقي مع المنتسب 99و / / إلى ما سواه، وحينئذ فلا يحصل بينهما تظافر التحام النسب، واشتراك القرابة المأمور بوصل رحمها، بل الحاصل ضد ذلك، وهو مباعدة ذوي الأرحام، واجتناب مواصلتهم، وذلك إخلال بحفظ النسب ظاهر، لكن قد عرض في هذا المثال
__________
(1) جهينة تصغير جهنة.
(2) وربما فتحوا أموي، على غير القياس، اللسان أما.
(3) في البصرة ثلاث لغات: بصرة، وبصرة، وبصرة، واللغة العالية البصرة بالفتح. اللسان بصر.
(4) أميي على الأصل: أجروه مجرى نميري وعقيلي، وليس أميي بأكثر في كلامهم، إنما يقولها بعضهم. اللسان أما.(1/374)
اختصاص بعض مستعملاته في الموالي دون الصرحاء (1)، وذلك إن صح فبحسب العرف لا من جهة المدلول العربي.
المثال الثاني:
أنه يقال أيضا في النسب إلى تغلب: «تغلبيّ بإقرار الكسرة في اللام، وتغلبي (2) بتحويل كسرتها فتحة، والجاهل بذلك من هذه الصناعة يظن التغاير بينهما فيلقاه في ذلك ما لقي في المثال فوقه، بتقدير سماعه مكسور اللام بالنسبة إليه، ومفتوحها بالإضافة إلى انتساب غيره.
تنبيه على عكس:
قد يقع خلل هذا الحفظ باعتبار مقابل ما تقدم في صحة الانتساب، واعتمادا على ظاهر ما يوهم تلك الصحة، فيقع الإنسان في وصمة الانتساب إلى غير قبيله، وكثيرا ما يعرض ذلك من جهة الاشتراك اللفظي كما في قضية الواثق (3) مع المازني لما دخل عليه وقال: «ممن الرجل؟ فقال المازني: من بني مازن، فقال الواثق: أي الموازن؟ أمازن تميم، أم مازن قيس، أم مازن ربيعة؟
فقال: مازن ربيعة» (4)، ففي استفهام الواثق عن تحقيق النسب دليل على سلوكه مسالك الصواب فيما يجب من ذلك.
وأما الثاني: فوجهه أن العربية لما كانت تفيد المعرفة باللسان العربي، فلا جرم أنها تحفظ من الوقوع فيما يؤدي إلى قدح في النسب بسبب فساد العصمة بكلام يصدر من لافظ به، وهو لا يدري موقعه في اللسان، فينفذ عليه الطلاق في نفس الأمر، وهو لا يشعر به، ولا يعلم أن من الواجب عليه فراق زوجه،
__________
(1) رجل صريح النسب: أي خالصه.
(2) تغلبي بفتح اللام استيحاشا لتوالي الكسرتين مع ياء النسب.
(3) هو هارون بن محمد المعتصم تاسع الخلفاء العباسيين، ولد في بغداد، وتوفي بسامراء: سنة 232هـ 943م. شغل بالخلافات الكلامية. تاريخ بغداد: 14/ 2115.
(4) انظر: طبقات الزبيدي: 91.(1/375)
وقطع نسب من ولد له، بعد تحقق حنثه في بعض الصور.
وإذا كان الجهل بالعربية يوقع في هذا الفساد العظيم، والعلم بها مانع منه لا محالة، وهو معنى حفظها للنسب من هذه الجهة الأخرى، وقد وقع للعلماء ذكر مسائل من هذا النوع هي له أمثلة.
المسألة الأولى:
حكاية الكسائي مع أبي يوسف القاضي.
فحكى الزبيدي عن «الأحمر (1) قال: دخل أبو يوسف القاضي على هارون الرشيد والكسائي عنده يلاعبه، ويمازحه فقال له أبو يوسف: هذا الكوفي قد استفرغك (2) وغلب عليك، فقال له: يا أبا يوسف إنه ليأتيني بأشياء يشتمل عليها قلبي، فأقبل الكسائي على أبي يوسف فقال: يا أبا يوسف هل لك في مسألة؟
قال: نحو أو فقه؟ قال: بل فقه، فضحك الرشيد حتى فحص برجله، ثم قال:
تلقي على أبي يوسف فقها؟! قال: نعم. يا أبا يوسف، ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار؟
قال: إن دخلت الدار طلقت. قال: أخطأت يا أبا يوسف، فضحك الرشيد ثم قال: كيف الصواب؟ قال: إذا قال: «أن» فقد وجب الفعل، وإذا قال: «إن» لم يجب، ولم يقع الطلاق. قال: فكان أبو يوسف بعدها لا يدع أن يأتي الكسائي» (3).
المسألة الثانية:
قصتها أيضا في نوع من هذا.
__________
(1) هو علي بن المبارك الأحمر، مؤدب الأمين، أديب، نحوي. صرفي، صحب الكسائي. اختلف في سنة وفاته: ما بين 194هـ و 206هـ، من تصانيفه: «التصريف»، و «كتاب تفنن البلغاء». انظر:
طبقات الزبيدي: 134، والنزهة: 97، والإنباه: 2/ 317313.
(2) استفرغك، أي بذل جهدا في الاستيلاء عليك.
(3) طبقات الزبيدي: 127.(1/376)
فحكى الخطيب في «تاريخ بغداد» (1) «أن أبا يوسف كان يقع في الكسائي ويقول: إيش يحسن؟! إنما يحسن شيئا من كلام العرب، فبلغ الكسائي ذلك، فالتقيا عند الرشيد، وكان الرشيد يعظم الكسائي لتأديبه إياه، فقال لأبي يوسف:
يا يعقوب، إيش تقول في رجل قال لامرأته طالق، طالق، طالق؟ قال: واحدة، قال: فإن قال لها: أنت طالق، أو طالق، أو طالق؟ قال: واحدة. قال: فإن قال لها: 100و / / أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق، قال: واحدة، قال: فإن قال لها: أنت طالق وطالق وطالق؟ قال: واحدة.
قال الكسائي: يا أمير المؤمنين، أخطأ يعقوب في اثنتين، وأصاب في اثنتين، أما قوله: أنت طالق، طالق، طالق فواحدة، لأن الثّنتين الباقيتين تأكيد كما تقول: أنت قائم، قائم قائم، وأنت كريم، كريم كريم، وأما قوله: أنت طالق، أو طالق أو طالق، فهذا شك، وقعت الأولى [التي] (2) تتيقن، وأما قوله:
طالق ثم طالق، ثم طالق، فثلاث لأنه نسق، وكذلك طالق وطالق وطالق» اه.
قلت: مذهب مالك رضي الله عنه في المثال الأول لزوم الثلاث إلا أن ينوي الواحدة بنى بها أو لم يبن.
ووجهه ابن رشد: «بأن احتمال إرادة الثلاث أظهر»، فيحمل على ذلك عند عدم النية.
قال ابن شاس (3): وإن قصد بالثالثة تأكيد الثانية، وبالثانية الإيقاع، وقعت اثنتان وفي الثاني: (4).
__________
(1) انظر: 11/ 406.
(2) ساقط من «أ».
(3) هو عبد الله بن محمد بن شاس الجذامي السعدي المصري، جلال الدين، أبو محمد، شيخ المالكية في عصره، كان فقيها فاضلا في مذهبه، وصنف في مذهب مالك كتاب «الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة». ت: 610هـ 1213م. انظر: الديباج: 1/ 443، والشذرات:
5/ 69.
(4) بياض في الأصول.(1/377)
وفي الثالث: وقوع الثلاث في المدخول بها ولا ينوي، وواحدة في غيرها، كذا عند ابن رشد وابن الحاجب (1).
وقال ابن عرفة: «الصواب رده لقول الشيخ» (2).
فقال ابن حبيب (3): «إن قال: أنت طالق، ثم أنت طالق، أو قال: ثم طالق، أو قال: وأنت، أو قال: وطالق، حتى أتم ثلاثا، فهي ثلاث لا ينوي، بنى بها أو لم يبن».
ولقول ابن عات (4): «سواء دخل بها أو لم يدخل»، يريد وقد نقل عن كتاب «الدعوى» (5) مثل نقل ابن حبيب على الجملة.
وفي الرابع المشهور منه كما في الثالث، وفيه ما لابن عرفة مع ابن رشد وابن الحاجب وقد صرح بذلك في كتابه مستدلا عليه، فإليك النظر فيه.
المسألة الثالثة:
قال القرافي: «حكى صاحب كتاب «مجالس العلماء» (6) أن الرشيد كتب إلى قاضيه أبي يوسف 100ظ / / هذه الأبيات، وبعث إليه يمتحنه بها:
__________
(1) هو عثمان بن عمرو بن أبي بكر بن يونس أبو عمرو جمال الدين، عرف بابن الحاجب، لأن أباه كان حاجبا. ت: 646هـ 1249م، فقيه مالكي، من كبار العلماء بالعربية من تصانيفه: «الكافية في النحو» و «الشافعية في الصرف» و «مختصر في الفقه» يسمى «جامع الأمهات» و «منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل». انظر الوفيات: 3/ 250243، وطبقات القراء: 1/ 508.
(2) كذا في سائر الأصول، فلا ندري من هو؟.
(3) هو عبد الملك بن حبيب بن سليمان السلمي أبو مروان. ت: 238هـ 852م. من علماء المالكية. له تصانيف منها: الكتب المسماة ب «الواضحة في السنن والفقه» و «كتاب فضائل الصحابة»، و «غريب الحديث» و «سيرة الإمام». انظر الديباج: 2/ 158.
(4) هو هارون بن أحمد بن جعفر بن عات أبو محمد النّقري الشاطبي. ت: 582هـ 1186م.
مقرىء، فقيه، قاض، من فقهاء المالكية، استقضى بشاطبة، وحمدت سيرته، وله تآليف منها:
«الطرر الموضوعة على الوثائق المجموعة» لابن فتوح. انظر: مخ فهرست المنتوري وقد أشار إلى تآليف ابن عات. وطبقات القراء: 2/ 345.
(5) كذا في سائر الأصول ولم نهتد إليه.
(6) مجالس العلماء للزجاجي: ص: 342338.(1/378)
فإن ترفقي يا هند، فالرفق أيمن ... وإن تخرقي يا هند فالخرق (1) أشأم
فأنت طلاق (2) والطلاق عزيمة ... ثلاثا، ومن يخرق (3) أعق وأظلم
فبيني بها إن كنت غير رفيقة ... وما لامرىء بعد الثلاث مقدم
وقال له: إذا نصبنا «ثلاثا» كم يلزمه؟ وإذا رفعنا كم يلزمه؟ فأشكل عليه ذلك، وحمل الرقعة للكسائي، وكان معه في الدرب، فقال له الكسائي: اكتب له في الجواب يلزمه في الرفع واحدة، وفي النصب ثلاثا».
قال القرافي: «يعني أن الرفع يقتضي أنه خبر عن المبتدأ الذي هو الطلاق الثاني، ويكون منقطعا عن الأول، فلم يبق إلا قوله: فأنت طالق، فيلزمه واحدة، وفي النصب يكون تمييزا لقوله: فأنت طالق، فيلزمه الثلاث.
زاد في «القواعد» (4): فإن قلت: إذا نصبناه أمكن أن يكون تمييزا عن الأول كما قلت، وأمكن أن يكون منصوبا على الحال من الثاني، أي الطلاق معزوم عليه في حال كونه ثلاثا أو تمييز له فلم خصصته بالأول؟».
قلت: الطلاق الأول منكر يحتمل بحسب تنكيره جميع مراتب الجنس وأعداده وأنواعه من غير تنصيص على شيء من ذلك لأجل التنكير، فاحتاج للتمييز ليحصل المراد من ذلك المنكر المجهول.
وأما الثاني: فمعرفة استغني بتعريفه واستغراقه الناشىء عن لام التعريف عن البيان، فهذا هو المرجح.
قال: «ويحكى أن الرشيد بعث له بهذه الرقعة أول الليل، وبعث أبو يوسف الجواب بها أول الليل على حاله، وجاء من آخر الليل بغال موسقة قماشا
__________
(1) الخرق: ضد الرفق.
(2) أي فأنت طالق، أو ذات طلاق.
(3) حذف الفاء التي هي جواب الجزاء. وكان حقه أن يقول: ومن يخرق يندم، أو من يخرق فهو أعق وأظلم، ولكنه حذف والحذف جائز في الشعر.
(4) انظر القواعد: 3/ 165.(1/379)
وتحفا جائزة على جوابه، فبعث بها أبو يوسف إلى الكسائي، ولم يأخذ منها شيئا 101و / / بسبب أنه الذي أعانه على الجواب فيها» (1) اه.
قال بعض الشيوخ: «فتأمل حفظك الله افتقار هذا القاضي الجليل إلى سؤال هذا الحبر في علم اللسان».
المسألة الرابعة:
ما يحكى عن الإمام الحافظ أبي عبد الله بن الفخار القرطبي (2) أنه لما دخل القيروان راحلا إلى الحج، حضر مجلس الشيخ أبي محمد بن أبي زيد وتعرض له، فألقى عليه أصحابه صعاب المسائل، فأجابهم حتى أملوه، فقال لهم: «قد كثرتم علي، ومن حقي أن تسمعوا مني مسألة واحدة، فقالوا: نعم، فقال: ما تقولون في رجل قال: زوجي طالق ثلاثا إن لم أطأها «في هذا اليوم»، ولا أغتسل من جنابة حتى تغرب الشمس، وأصلي الصلوات الخمس في جماعة، فوقفوا على الجواب، وتحيروا، فلم يلقوا عليه بعد مسألة».
قال أبو مروان ابن حيان (3) في «بعض كتبه التاريخية» وقد ذكر هذه الحكاية: «وهذه المسألة كاللغز، فيها تقديم وتأخير في السؤال، والعبارة».
قلت: فسر ذلك بعض من قيد في المسألة بما ملخصه: «أن يكون على قوله: «في هذا اليوم» ظرف للطلاق أو للوطء، والأول أليق. فيكون الطلاق مؤقتا باليوم الذي هو فيه، والوطء غير مؤقت، فيبرّ بوطئه واغتساله بعد غروب
__________
(1) م. س: 3/ 165.
(2) هو محمد بن عمر بن يوسف بن شكوال القرطبي أبو عبد الله المعروف بابن الفخار. ت:
419 - هـ 1028م. فقيه، عالم بالكتاب والسنة من الحفاظ الراسخين. له كتاب التبصرة. انظر:
الديباج: 236235.
(3) هو حيان بن خلف الأموي بالولاء، أبو مروان القرطبي. ت: 469هـ 1076م، مؤرخ كان صاحب لواء التاريخ في الأندلس. من كتبه: «المقتبس» في تاريخ الأندلس و «المتين» في تاريخ الأندلس أيضا، و «كتاب تراجم الصحابة». انظر: الجذوة للحميدي: 200، والوفيات: 2/ 218 219.(1/380)
الشمس، وبعد أن صلى المغرب في جماعة، وصلى أيضا الصلوات الخمس في جماعة.
وأما الثاني: فيبعد أن يقصده ابن الفخار لوضوح تصوره، وهو أن يكون قال هذا الكلام غدوة اليوم قبل صلاة الصبح، فيصلي صلوات النهار في جماعة، ثم يطأها بعد العصر، فإذا غربت الشمس اغتسل ساعة غروبها، وأدرك صلاة الجماعة وصلى العشاء كذلك في جماعة، فحصل البر، وصدق الإخبار.
قلت: ولابن الفخار كلام في المسألة ذكر فيها وجوها من التفريع، أبدع فيه كل الإبداع فإليك النظر فيه في 101ظ / / «مسائله النحوية».
المسألة الخامسة:
قال القرافي في «قواعده» (1): «أنشد بعض الفضلاء:
ما يقول الفقيه أيده الل ... هـ ولا زال عنده إحسان
في فتى علق الطلاق بشهر ... قبل ما قبل قبله رمضان
ثم قال: اعلم أن هذا البيت من نوادر الأبيات وأشرفها معنى، وأدقها فهما، [وأغربها] (2) استنباطا، لا تدرك معناه إلا العقول السليمة، والأفهام المستقيمة، والفكر الدقيقة من أفراد الأذكياء، وآحاد الفضلاء والنبلاء.
قال عن بعض شيوخه (3): وقد سئل عنه أنه ينشد على ثمانية أوجه لأن ما بعد «قبل» الأول قد يكون «قبلين»، وقد يكون «بعدين»، وقد يكونان مختلفين، فهذه أربعة أوجه كل منها قد يكون قبله، وقد يكون قبله بعد، فصارت ثمانية.
قال: وأذكر قاعدة ينبنى عليها تفسير الجميع، وهو أن كل ما اجتمع فيه منها قبل وبعد فالغهما لأن كل شهر حاصل بعدما هو قبله، وحاصل قبل ما هو بعده، فلا يبقى حينئذ إلا بعده رمضان، فيكون شعبان أو قبله رمضان، فيكون
__________
(1) انظر: 1/ 6463.
(2) في الأصول: وأغرها، والتصويب من القواعد.
(3) في م. س: 1/ 64، جمال الدين أبو عمرو.(1/381)
شوال، فلم يبق إلا ما جميعه قبل أو جميعه بعد، فالأول هو الشهر الرابع من رمضان، لأن معنى:
«قبل ما قبل قبله رمضان»
شهر تقدم رمضان قبل شهرين قبله، وذلك ذو الحجة، والثاني هو الرابع أيضا، ولكن على العكس لأن المعنى: «بعد ما بعد بعده رمضان» شهر تأخر رمضان بعد شهرين بعده، وذلك جمادى الآخرة» اه.
قال: «فإذا تقرر ذلك، فقبل ما قبل قبله «رمضان، ذو الحجة». وقبل ما بعده بعده «رمضان، شعبان»، لأن المعنى قبله رمضان وذلك شوال، وقبل ما بعد قبله «رمضان، شوال» لأن المعنى أيضا قبله 102و / / رمضان، وذلك شوال فهذه الأربعة الأول.
ثم خذ (1) الأربعة الأخر على ما تقدم، فإن بعد ما قبل قبله «رمضان، شوال»، لأن المعنى قبله «رمضان»، وذلك «شوال»، وبعد ما بعد بعده «رمضان» فهو «جمادى الآخرة»، وبعد ما قبل بعده «رمضان، شعبان» لأن المعنى بعده «رمضان» وذلك «شعبان»، وبعد ما بعد قبله «رمضان، شعبان»، لأن المعنى بعده رمضان وذلك «شعبان»» اه (2).
ثم تكلم على البيت بكلام كثير، وقبل ذلك ذكر أنه يشتمل على سبعمائة مسألة وعشرين مسألة من المسائل الفقهية، والتعاليق اللغوية (3) فراجعه من هناك ففيه فوائد.
المقصد الخامس: حفظ المال:
وقبل ظهور حفظه فلا بد من استحضار وجوب العناية بما يجمع بين استجلابه، وحفظه بعد حصوله، وإذا تأملت العربية وضح منها أنها جامعة بين
__________
(1) م. س: 1/ 64: أجر.
(2) م. س: 1/ 64وما بعدها.
(3) م. س: 1/ 64وما بعدها.(1/382)
الطرفين: طرف استجلاب المال، وطرف حفظه بعد حصوله، وعند ذلك فلتكن العناية بها أكيدة.
الطرف الأول:
وفيه حكايات يدل برهان وقوعها على استجلاب العلم بالعربية للأموال العريضة اهتماما بها وعناية.
الحكاية الأولى:
قال النضر بن شميل (1): «كنت أدخل على المأمون في سمره، فدخلت يوما، وعلي إزار مرقوع (2)، فقال لي: يا نضر ما هذا التقشف؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أنا شيخ، وحر مرو (3) كما ترى، فأحببت أن أتبرد بهذه الخلقان» (4).
زاد الحريري (5) في «درة الغواص» (6): قال: «لا، ولكنك قشف».
قال النضر: «فجرى بنا الحديث في ذكر النساء فقال المأمون: حدثنا هشيم بن بشير (7)، قال: حدثنا مجالد (8) عن الشعبي عن ابن عباس رضي الله
__________
(1) هو النضر بن شميل المازني التميمي من أهل مرو. ت: 203هـ 818م، أخذ عن الخليل بن أحمد، وعن فصحاء العرب، وصنف كتبا منها: كتاب «غريب الحديث» وكتاب «المعاني» وكتاب «الأنواء»، وكتاب «المدخل إلى كتاب العين». انظر: طبقات الزبيدي: 6155، والنزهة 8885.
(2) مرقوع: من رقع الثوب إذا ألحم خرقه، وأصلحه بالرقاع.
(3) مرو الروذ: مدينة بخراسان فارس افتتحها الأحنف بن قيس من قبل عبد الله بن عامر في خلافة عثمان. انظر الروض المعطار: 534533.
(4) انظر: طبقات الزبيدي: 57، والنزهة مع بعض اختلاف: 8685.
(5) هو القاسم بن علي بن محمد الحريري البصري الشافعي أبو محمد. ت: 516هـ 1122م، أديب، لغوي، نحوي، ناظم، ناثر، من تآليفه: «المقامات» و «درة الغواص» و «ديوان شعر».
انظر: النزهة: 381379، والوفيات: 4/ 6863.
(6) انظر: ص: 142.
(7) هو هشيم بن بشير بن القاسم السلمي. ت: 183هـ 779م، الحافظ: العلم، سمع الزهري، وحصين بن عبد الرحمن، وروى عنه يحيى القطان، وأحمد. انظر: طبقات ابن سعد: 7/ 313، وميزان الاعتدال: 4/ 306.
(8) هو مجالد بن سعيد بن عمير أبو عمرو الكوفي، روى عن الشعبي وغيره. ت: 144هـ 761م، انظر التهذيب: 10/ 4139.(1/383)
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما رجل تزوج امرأة لدينها وجمالها كان ذلك سداد من عوز».
قلت: 102ظ / / يا أمير المؤمنين صدق هشيم. حدثنا عوف بن أبي جميلة الأعرابي (1) قال: حدثنا الحسن بن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما رجل تزوج امرأة لدينها وجمالها كان في ذلك سداد من عوز».
قال: وكان المأمون متكئا فاستوى جالسا ثم قال: يا نضر كيف قال هشيم: «سداد» ولم يقل سداد، وما الفرق بينهما؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، «السّداد» القصد في الدين والسبيل، والسّداد بالكسر من الثغر والثلمة.
زاد الحريري: و «السّداد» بالكسر: البلغة (2)، وكل ما سددت به شيئا، فهو «سداد» (3).
قال: «وتعرف ذلك العرب؟ قلت: نعم، قال الشاعر (4):
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
كأني لم أكن فيهم وسيطا ... ولم تك نسبتي في آل عمرو (5)
__________
(1) هو عوف بن أبي جميلة العبدي أبو سهل البصري المعروف بالأعرابي. ت: 146هـ 763م.
انظر: التهذيب: 8/ 167166.
(2) البلغة: ما يكفي من العيش ولا يفضل.
(3) درة الغواص: 142.
(4) هو عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان العرجي، من شعراء قريش الذين شهروا بالغزل والنسيب، حبس حتى مات في سجنه. كان حيا إلى حدود 120هـ 738م. له ديوان شعر راجع أخباره في الأغاني: 1/ 388356.
(5) البيتان في الأغاني: 1/ 385384، ضمن أبيات قالها في حبسه وفي اللسان: سدد، وسط.
وسداد ثغر بالكسر لا غير، وهو سد الثغر بالخيل والرجال.
والوسيط في قومه: إذا كان أوسطهم نسبا، وأرفعهم مجدا.
وآل عمرو: يريد عمرو بن عثمان بن عفان.(1/384)
قال: قبح الله اللحن، وفي رواية «من لا أدب له» (1)، قلت: يا أمير المؤمنين إنه لحن هشيم وكان هشيم لحانة فاتبع أمير المؤمنين لفظه كما تتبع أخبار الفقهاء، ثم قال: يا نضر، هل تروي من الشعر شيئا؟ قلت: نعم، يا أمير المؤمنين، قال: فأنشدني أخلب بيت قالته العرب، قال: قلت: هو قول حمزة بن بيض (2) حيث يقول في الحكم (3):
تقول لي، والعيون هاجعة ... أقم علينا يوما فلم أقم
أي الوجوه انتجعت؟ قلت لها ... وأي وجه إلا إلى الحكم
متى يقل صاحبا سرادقه ... هذا ابن بيض بالباب يبتسم (4)
قال: أحسن والله ما شاء!
قال: فأنشدني أنصف بيت قالته العرب، قلت: قول أبي [عروبة] (5)
المدني يا أمير المؤمنين إذ يقول: 103و / /
إني وإن كان ابن عمي واغرا ... لمزاحم من خلفه وورائه
ومعده نصري، وإن كان امرءا ... متباعدا في أرضه وسمائه
وأكون والي سره وأصونه ... حتى أصير إلى زمان إخائه
وإذا الحوادث أجحفت بسوامه ... قرنت صحيحتنا إلى جربائه
وإذا دعا باسمي ليركب مركبا ... صعبا، ركبت له على سيسائه (6)
وإذا رأيت عليه بردا ناضرا ... لم يلقني [متمنيا] (7) لردائه
قال: أجاد والله ما شاء، فأنشدني أقنع بيت قالته العرب، قال: قلت:
__________
(1) في النزهة: 87.
(2) هو حمزة بن بيض الحنفي: شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، كوفي ماجن، من فحول طبقته. توفي نحو 116هـ 734م. وقيل: 120هـ. انظر: معجم الأدباء: 10/ 289280.
(3) في معجم الأدباء 10/ 287: الحكم بن مروان، وفي اللسان: الحكم بن أبي العاصي بيض.
(4) انظر الأبيات في معجم الأدباء: 10/ 287286، واللسان بيض.
(5) ساقطة من الأصول.
(6) السيساء في الأصل: منتظم فقار الظهر، ومن الدواب موضع الركوب.
(7) في «أ» متهنيا.(1/385)
قول الراعي (1) حيث يقول:
أطلب ما يطلب الكريم من ال ... رزق لنفسي فأجمل الطلبا
وأحلب الثرة الصفي (2) ولا ... أجهد أخلاف غيرها حلبا
إني رأيت الكريم، وهو إذا (3) ... رغبته في صنيعة رغبا
والنذل لا يطلب العلا فهو لا ... يعطيك شيئا إلا إذا رهبا
كمثل عير (4) موقع هو لا ... يعطيك جريا إلا إذا ضربا
ولم أجد عزة الحياة سوى ... ذا الدين لما اختبرت والحسبا
قد يدرك الخافض المقيم وما ... شد لعنس رحلا ولا قتبا (5)
ويحرم الرزق ذو المطية وال ... رحل، ومن لا يزال مغتربا (6)
قال: أحسن والله ما شاء! ما مالك يا نضر؟ قلت: فريضة لي بمروروذ أتضهلها (7) وأتمززها (8).
قال: أفلا أفيدك إلى مالك مالا؟ قلت: إني إلى ذلك لمحتاج. قال:
فتناول 103ظ / / الدواة، والقرطاس وكتب ولم أدر ما كتب ثم قال: يا نضر كيف تقول إذا أمرت أن تترب (9) كتابا: قال: قلت: أتربه، قال: فهو ماذا؟
__________
(1) هو عبيد بن حصين النميري. ت: 90هـ 709م، كان من رجال العرب ووجوه قومه كان يقال في شعره: كأنه يعتسف الفلاة بغير دليل، أي أنه لا يحتذي شعر شاعر. ولا يعارضه، وكان مع ذلك بذيا هجاء لعشيرته. انظر طبقات الشعراء: 1/ 502.
(2) في مجموع شعره 17: الدّرة الصفاء، والثّرّة من الشاة والناقة: الواسعة الإحليل. والصفي:
الغزيرة اللبن وتجمع على صفايا.
(3) في مجموع شعره: 17 «إنّي رأيت الفتى الكريم إذا».
(4) عير موقّع: الموقع الذي بظهره آثار الدبر لكثرة ما حمل عليه وركب، قال صاحب اللسان وقع.
«مثل الحمار الموقع للظهر لا ... يحسن مشيا إلا إذا ضربا»
(5) القتب: الرحل.
(6) انظر: «شعر الراعي وأخباره»: 1817.
(7) عطية ضهلة: أي نزرة، والضّهل: المال القليل اللسان ضهل. أي أنه يكتفي بالقليل منها.
(8) تمزز الشيء: تمصص.
(9) ترب وأترب الشيء: جعل عليه التراب.(1/386)
قلت: مترب، قال: فمن الطين، قلت طنه، قال: فهو ماذا؟ قلت: مطين، قال: فمن السحاءة (1)، قال: قلت: سحه، قال: فهو ماذا؟ قال: قلت:
مسحيّ، ومسحوّ، قال: يا غلام، أترب، واسح، وطن، ثم قام، فصلى بنا المغرب ثم قال لغلام فوق رأسه: تبلغ معه بهذا الكتاب إلى الفضل بن سهل (2)، قال: فدخلنا عليه، فتناول الكتاب، فقرأه وقال: يا نضر، إن أمير المؤمنين أمر لك بخمسين ألف درهم فما القصة؟ قال: فحدثته الحديث، ولم أكتمه شيئا، قال: فقال لي: لحنت أمير المؤمنين! قال: قلت: كلا، إنما هشيم لحن، وكان لحانة، فتبع أمير المؤمنين لفظه وقد تتبع ألفاظ العلماء، فأمر لي بثلاثين ألف درهم، فأخذت بكلمة واحدة استفادها ثمانين ألف درهم» (3).
قلت: وينظر إلى هذه الحكاية ما نقله ابن الجوزي «أنه كان عند المهدي مؤدب يؤدب الرشيد، فدعاه يوما المهدي وهو يستاك فقال: كيف تأمر بالسواك؟
فقال: «استك» يا أمير المؤمنين. فقال المهدي: {إِنََّا لِلََّهِ وَإِنََّا إِلَيْهِ رََاجِعُونَ} (4) ثم قال: التمسوا من هو أفهم منه، قالوا له: رجل يقال له علي بن حمزة الكسائي من أهل الكوفة قدم من البادية قريبا، فلما دخل، قال: لبيك يا أمير المؤمنين، وقال: كيف تأمر بالسواك؟ قال: «سك» يا أمير المؤمنين، قال: أحسنت. وأمر له بعشرة آلاف درهم» (5).
فائدة:
قال الحريري رحمه الله إثر سياقه للحكاية الأولى: «وقد أذكرني هذا
__________
(1) السّحاءة: ما يشدّ به الكتاب، سحى يسحو: شده بسحاءة.
(2) هو الفضل بن سهل بن عبد الله السرخسي أبو العباس الملقب بذي «الرياستين». قتل سنة 202هـ 817م، اغتاله نفر دخلوا عليه فقتلوه، أسماه المأمون: ذا الرياستين لتدبيره أمر السيف والقلم، وفوض إليه أموره كلها فكان أكرم الناس عهدا، وأحسنهم وفاء، انظر: تاريخ بغداد: 12/ 343339.
(3) هذه الحكاية نقلها ابن الأزرق عن طبقات الزبيدي: ص: 6057، والأغاني: 16/ 154153، ودرة الغواص: 143141، وقد أوردها باختصار.
(4) سورة البقرة، الآية: 156.
(5) تاريخ بغداد: 11/ 406.(1/387)
المثل أبياتا أنشد فيها أحد أشياخي رحمهم الله لأبي الهيذام (1) وهي:
104 - و / /
لي صديق هو عندي عوز ... من سداد لا سداد من عوز
وجهه يذكرني دار البلى ... كلما أقبل نحوي وضمز (2)
وإذا جالسني جرعني ... غصص الموت بكرب وعلز (3)
يصف الود إذا شاهدني ... فإذا غاب وشى بي وهمز
كحمار السوء يبدي مرحا ... فإذا سيق إلى الحمل غمز (4)
ليتني أعطيت منه بدلا ... بنصيبي شر أولاد المعز
قد رضينا بيضة فاسدة ... عوضا منه إذا البيع نجز» (5)
قلت: وهنا أيضا حكايتان يذكرهما ذلك المثل إحداهما:
رواه «ابن الجوزي» في «أخبار الحمقى والمغفلين» (6) عن «يحيى بن أكتم» قال: «قدّم رجل ابنه إلى بعض القضاة ليحجر عليه، فقال فيما قال:
أصلح الله القاضي إن كان يصلح (7) آيتين من كتاب الله فلا تحجر عليه، فقال له القاضي: اقرأ، فقال الفتى:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فقال أبوه: أصلحك الله إن قرأ آية أخرى فلا تحجر عليه، فحجر القاضي عليهما جميعا».
__________
(1) هو عامر بن عمارة بن خريم المري، شامي، شاعر، فحل، وفارس مشهور، كان عامل الرشيد بسجستان. انظر: سمط اللآلىء: 1/ 593.
(2) ضمز يضمز ضمزا: سكت.
(3) العلز: الضجر والقلق.
(4) غمز: ظهر عيبه أو داؤه.
(5) انظر: درة الغواص: 144143.
(6) انظر: ص: 7675.
(7) في أخبار الحمقى 76: يحسن.(1/388)
الثانية: ما ذكره ابن العربي في «العارضة» (1) «مسندا أن أبا حنيفة رحمه الله كان له جار بالكوفة إسكاف، كان يعمل نهاره أجمع حتى إذا جنه الليل، رجع إلى منزله، وقد حمل لحما فطبخه، أو سمكة فشواها، ثم لا يزال يشرب حتى إذا دب الشراب فيه غزل بصوت وهو يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر 104ظ / /
فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وكان أبو حنيفة يسمع جلبته، وكان يصلي الليل كله، ففقد صوته فسأل عنه، فقالوا: سجنه الأمير، فسار إليه، فسأله، فقال له: يطلق، ويطلق معه من أخذ تلك الليلة، فركب أبو حنيفة والإسكاف وراءه، فقال له أبو حنيفة: يا فتى، أضعناك، فقال له: بل حفظت ورعيت، جزاك الله خيرا عن حرمة الجار، وتاب الرجل» اه.
الحكاية الثانية:
قال الأصمعي: «استدعاني الرشيد في بعض الليالي وقد تصرمت قطعة من الليل، فراعني رسوله، ولم أفتأ أن مثلت بين يديه، وإذا في المجلس يحيى بن خالد، وجعفر (2) والفضل (3)، فلما لحظني الرشيد استدناني، فدنوت، فتبين ما بنفسي من الوجل، فقال:
ليفرخ (4) روعك، فما أردناك إلا لما يراد له مثلك، فمكثت هنية إلى أن ثابت إلي نفسي بعد أن كادت تطير شعاعا. فقال: إني نازعت هؤلاء، وأشار إلى يحيى وجعفر، والفضل، في أشعر بيت قالته العرب في التشبيه، ولم يكن
__________
(1) انظر: 8/ 126125، وواردة أيضا مع بعض اختلاف في الأغاني: 1/ 385.
(2) هو أبو الفضل جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، وزير الرشيد، قتله سنة 187هـ 802م. انظر:
الوفيات: 1/ 346328.
(3) هو الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي، وزير الرشيد، وأخوه في الرضاع، وأخو جعفر، قبض عليه الرشيد في محنة البرامكة وسجنه مع أبيه يحيى إلى أن توفي بالسجن سنة 193هـ 808م.
انظر تاريخ بغداد: 12/ 339334، والوفيات: 4/ 3627.
(4) أي ليذهب فزعك ورعبك.(1/389)
إجماعنا على بيت يكون مقصودا إليه دون غيره، فأردناك لفصل هذه القضية، واجتناء ثمرة الخطر فيها، فتناظروا، وذكر كل واحد منهم ما اختاره في كلام طويل.
قال الأصمعي: وأنا أزيف ما اختاروه إلى أن جاءت نوبة الرشيد، فظهر فضل ما اختاره وكان له الغلب، واحتججت له، فلما فرغت، قال لي: لله درك يا أصمعي، ثم أطرق، فلما رفع رأسه قال: انظر حسنا، قلت: [قد] (1) نظرت، قال: فالسبق لمن؟ قلت: لأمير المؤمنين، قال: فقد أسهمت لك فيما جرى بيننا من الخطر العشر، والعشر كثير، ثم أشار بطرفه إلى يحيى فقال: المال الساعة وأولى لك، فما كان إلا ساعة حتى وضعت البدر بين 105و / / يديه إلى أن كادت تحول بيني وبينه ورأيت ضوء الصبح قد غلب على ضوء الشمع، فأشار إلى خادم على رأسه، كم هي؟: ثلاثة آلاف درهم، قال: دونك، فاحتمل ثلاثين ألف بدرة، فانصرف بها إلى منزلك، ونهض عن مجلسه، وأمر الخدم بمعاونتي على تعجيل حملها، فاحتمل كل خادم بدرة لا يكاد يستقل بحملها، وكانت أسعد ليلة ابتسم فيها الصباح على أحد».
قلت: أخبار الأصمعي في هذا الباب تكاد تفوت الحصر، وهو القائل:
«وصلت بالعلم واكتسبت بالملح».
ومن أطرف ما نقل من ذلك، وقد ذكره «الخطيب» في «تاريخه» (2) مسندا إليه قال: «دخلت أنا وأبو عبيدة على الفضل بن الربيع (3) فقال: يا أصمعي، كم كتابك في الخيل؟ قال: قلت: جلد، قال: فسأل أبا عبيدة عن ذلك؟ فقال:
خمسون جلدا، فأمر بإحضار الكتابين، قال: ثم أمر بإحضار فرس، فقال لأبي عبيدة: اقرأ كتابك حرفا حرفا، وضع يدك على موضع، موضع، فقال أبو
__________
(1) في «ج»: من.
(2) انظر: 10/ 415.
(3) هو أبو العباس الفضل بن الربيع بن يونس. ت: 208هـ 823م، كان حاجب هارون الرشيد، ومحمد الأمين. انظر تاريخ بغداد: 12/ 344343، والوفيات: 4/ 4037.(1/390)
عبيدة: ليس أنا ببيطار، وإنما هذا شيء أخذته وسمعته من العرب، وألفته، فقال لي: يا أصمعي، قم فضع يدك على موضع، موضع من الفرس، فقمت فحسرت على ذراعي وساقي، ثم وثبت، فأخذت بأذني الفرس، ثم وضعت يدي على ناصيته، فجعلت أقبض منه بشيء شيء، وأقول: هذا اسمه كذا، وأنشد فيه حتى بلغت حافره، قال: فأمر لي بالفرس، فكنت إذا أردت أن أغيظ أبا عبيدة، ركبت الفرس وأتيته».
وقد اتفق مثل هذا لمنذر بن عبد الرحمن القرطبي (1) مع الوزير القائد أحمد بن محمد بن أبي عبدة (2).
فحكى الزبيدي (3) عن محمد بن عبد الرحمن بن زياد قال: «استأذن أبو الحكم يعني المنذر هذا على أحمد بن أبي عبدة في بعض الأيام، وأنا عنده وقد غص 105ظ / / المجلس بعلية الرجال، وأعلامهم، من مواصل، وطالب حاجة، فأذن له، وأوسع له في مقعده، ومال إليه بوجهه وأقبل على محادثته، وكان أحمد قد دعا بسيفه للركوب إلى القصر، فوضع بين يديه، فلما تقضى ما بينهما من الحديث مد أحمد بن أبي عبدة يده إلى السيف فأقله، وأقبل على أبي الحكم فقال له علانية: يا سيدي، إن سميت هذا السيف من أعلاه إلى أسفله بما سمته العرب فهو لك.
فمد أبو الحكم يده إلى السيف فأخذه والحياء باد على وجهه، ثم وضع يده اليمنى على قائمه، فذكر ما فيه مما سمته العرب به، ثم انتقل بالتسمية إلى
__________
(1) هو أبو الحكم المنذر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن المنذر بن عبد الرحمن بن معاوية رضي الله عنه، ويعرف بالمذاكرة لأنه كان إذا لقي رجلا قال له: هل لك في مذاكرة باب من النحو؟
فلهج بهذه الكلمة حتى نبز بها، كان له الحظ الموفور في العربية وعلم الأدب. انظر: طبقات الزبيدي: 287285، والإنباه: 3/ 324323.
(2) هو أبو العباس أحمد بن محمد كان وزيرا لعبد الرحمن الناصر، وقائدا من قواد جيوشه إلى أن استشهد بأحد ثغور الأندلس سنة 305هـ 917م. انظر: المقتبس لابن حيان ص: 6232 14094898884727065.
(3) طبقات الزبيدي: 286.(1/391)
جميع ما فيه حتى وصل إلى ذلك بأسفله ثم لفه بحمائله، ووضعه بين يدي أحمد بن أبي عبدة، فعجب جميع من شهد المجلس من سعة علمه، وصحة حفظه، وحضور ذهنه، وأمر ابن أبي عبدة الخادم بين يديه أن يخرج بالسيف إلى غلام أبي الحكم ويدفعه إليه، فاستعفاه أبو الحكم فأقسم أحمد أن لا بد من ذلك، وأمر بإحضار سيف آخر فركب به» اه. وهو من عجيب الاتفاق.
وشبيه بذلك أيضا ما حكاه «ابن السيد» في «شرح أدب الكتاب» (1) «أن المعتصم العباسي (2) كان قليل البضاعة من الأدب (3)، لأن أباه عني بتأديبه في أول أمره، فمرت به جنازة لبعض الخدم، فقال: يا ليتني كنت هذه الجنازة لأتخلص من هم المكتب، فأخبر بذلك أبوه فقال: والله لا عذّبته بشيء يختار الموت من أجله، وأقسم ألا يقرأ طول حياته، فلما صارت إليه الخلافة واتخذ أحمد بن عمار (4) وزيرا ورد عليه كتاب عامل الجبل يذكر فيه خصب السنة، وكثرة الغلات، وأنهم مطروا مطرا كثر عنه الكلأ، فقال لابن عمار: ما الكلأ: فتردد في الجواب، وتعثر لسانه، ثم قال 106و / /: لا أدري؟ فقال المعتصم: {إِنََّا لِلََّهِ وَإِنََّا إِلَيْهِ رََاجِعُونَ} (5)، أخليفة أميّ وكاتب أميّ؟! ثم قال: أدخلوا علي من يقرب منا من الكتاب، فعرف مكانة محمد بن عبد الملك الزيات (6) من الأدب، وكان يتولى قهرمة الدار (7) ويشرف على المطبخ، ويقف في الدار، وعليه درّاعة سوداء (8)،
__________
(1) انظر الاقتضاب: 2726.
(2) هو محمد بن هارون الرشيد، الخليفة العباسي الثامن، توفي بسر من رأى سنة 227هـ 842م.
انظر: تاريخ بغداد 3/ 347342.
(3) في الاقتضاب 26: «ويزعمون أن أباه».
(4) أحمد بن عمار الخراساني، يكنى أبا العباس، وكان ولي العرض للمعتصم بعد الفضل بن مروان. تاريخ الطبري: 9/ 20.
(5) سورة البقرة، الآية: 156.
(6) محمد بن عبد الملك بن أبان المعروف بابن الزيات، أبو جعفر. ت: 233هـ 848م. أديب، كاتب، شاعر، نحوي، لغوي، وزر لثلاثة خلفاء، المعتصم، والواثق، والمتوكل، قتله المتوكل ببغداد من آثاره: «ديوان رسائل» و «ديوان شعر». انظر: تاريخ بغداد: 2/ 344342. والوفيات: 5/ 10394.
(7) القهرمة: وظيفة القهرمان: من أمناء الملك وخاصته، فارسي، معرب، اللسان: قهرم.
(8) الدّراعة: والمدرع: ضرب من الثياب التي تلبس، وقيل: جبة مشقوقة المقدّم.(1/392)
فأمر بإدخاله عليه، وقال له: ما الكلأ؟ فقال: النبات كله رطبه ويابسه، والرطب منه خاصة، يقال له: خلى (1)، واليابس منه خاصة يقال له: حشيش، ثم اندفع يصف له النبات من حين ابتدائه إلى حين اكتهاله، إلى حين هيجه (2)، فاستحسن المعتصم ما رأى منه وقال: ليقلد هذا الفتى العرض علي، فكان ذلك سبب ترقيه إلى الوزارة. قال: وكان له حظ وافر من الأدب، والنظم، والنثر، وكان أبوه إذا رأى جده في القراءة لامه على ذلك وقال له: ما الذي يجدي عليك الأدب؟ ولو تحرفت بعض الصناعات لكان أجدى لك إلى أن امتدح الحسن بن سهل (3)، فأعطاه عشرة آلاف درهم، فقال له أبوه: والله لا ألومك أبدا.
قال: ولما وصله الحسن قال:
لم أمتدحك رجاء المال أطلبه ... لكن لتلبسني التحجيل والغررا
ما كان ذلك إلا أنني رجل ... لا أقرب الورد حتى أعرف الصدرا»
الحكاية الثالثة:
قال المبرد: «قصد بعض أهل الذمة أبا عثمان المازني ليقرأ عليه كتاب سيبويه، وبذل له مائة دينار في تدريسه إياه، فامتنع أبو عثمان من قبولها، ورده خائبا، قال: فقلت له: جعلت فداك! أترد هذه النفقة مع فاقتك، وشدة إضاقتك؟! فقال: إن هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة وكذا آية من كتاب الله، ولست أرى أن أمكن منها ذميا غيرة على كتاب الله تعالى وحمية 106ظ / / له، قال: فاتفق أن غنت جارية بحضرة الواثق بقول العرجي:
أظلوم إن مصابكم رجلا ... أهدى السلام تحية ظلم
__________
(1) الخلى: الرطب من النبات واحدته، خلاة: جاء في المثل: عبد وخلى في يديه، أي أنه مع عبوديته غني. اللسان: خلا.
(2) الهيج: الصفرة.
(3) هو أبو محمد الحسن بن سهل بن عبد الله، أخو «ذي الرياستين»: «الفضل بن سهل»، استوزره المأمون بعد قتل أخيه الفضل وتزوج ابنته بوران، توفي الحسن سنة 236هـ 850م. انظر: تاريخ بغداد: 7/ 323319.(1/393)
وفي رواية (1) وكانت الجارية قد اشتريت له بمائة ألف درهم، فقال لها الواثق: قولي: «رجل»، فقالت الجارية: لا أقول إلا كما علمت، فقال للفتح بن خاقان (2): كيف هو يا فتح: فقال: هو خبر إنّ كما قال أمير المؤمنين.
فقالت الجارية: أخذت هذا الشعر من أعلم الناس بالعربية فقال لها: ومن هو؟
قالت: «بكر بن عثمان المازني» فأمر الواثق بإشخاصه من البصرة إلى حضرته قال «أبو عثمان»: فلما مثلت بين يديه، قال: من الرجل؟ قلت:
من بني مازن، قال: أي الموازن أمازن تميم، أم مازن قيس، أم مازن ربيعة؟
قلت: من مازن ربيعة، فكلمني بكلام قومي وقال لي: باسمك؟ لأنهم يقلبون «الميم باء»، و «الباء ميما».
قال: فكرهت أن أجيبه على لغة قومي لئلا أواجهه بالمكر، فقلت: «بكر» يا أمير المؤمنين، ففطن لما قصدته، وأعجب به، ثم قال: ما تقول في قول الشاعر:
«أظلوم إن مصابكم رجلا»
أترفع رجلا أم تنصبه؟
فقلت: بل الوجه النصب يا أمير المؤمنين، قال: ولم ذاك؟ فقلت: «إن مصابكم»: مصدر بمعنى «إصابتكم» فأخذ من كان في الحضرة في معارضتي، وفي رواية (3) إنه «اليزيدي» (4)، فقلت له: هو بمنزلة قولك: «إن ضربك زيد
__________
(1) رواية الزبيدي في الطبقات: 87.
(2) الفتح بن خاقان، وزير المتوكل قتل معه سنة 247هـ 861م، كان في نهاية الذكاء والفطنة وحسن الأدب، وكانت له خزانة كتب لم ير أعظم منها كثرة وحسنا، وكان يحضر داره فصحاء العرب الأعراب، وعلماء الكوفيين والبصريين، كما كان شاعرا فصيحا مفوها، له أخبار كثيرة في الجود والوفاء، وله تصانيف منها: كتاب البستان، وكتاب الصيد والجوارح. انظر الفهرست: 175، ومعجم الأدباء: 16/ 186174.
(3) رواية الحريري في درة الغواص: 99.
(4) لا ندري من هو لأن المعروف هو يحيى بن المبارك اليزيدي. ت: 202هـ 817م، في خلافة المأمون (198هـ 218هـ).(1/394)
أظلم»، فالرجل مفعول بمصابكم، ومنصوب به، والدليل عليه أن الكلام معلق إلى أن تقول: «ظلم» فيتم الكلام، فاستحسنه الواثق، وقال: هل لك من ولد؟
قلت: نعم، بنية يا أمير المؤمنين، قال: ما قالت لك عند مسيرك؟ قلت 107و / /: أنشدت قول الأعشى (1):
أيا أبتا لا ترم عندنا ... فإنا بخير إذا لم ترم (2)
ويا أبتا لا تزل عندنا ... فإنا نخاف بأن تخترم
أرانا إذا أضمرتك البلا (3) ... دنجفى ويقطع منا الرحم (4)
قال: فما قلت لها عند ذلك؟ قال: قلت ما قال جرير (5) لابنته:
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح (6)
فقال الواثق: ثق بالنجاح من عند الله عز وجل، ومن عندنا يا بكر، ثم أمر لي بألف دينار وردني إلى وطني مكرما.
__________
(1) هو أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل، من شعراء الجاهلية، لقب بالأعشى لضعف بصره، له ديوان شعر. ت: 7هـ 629م. انظر: طبقات الشعراء: 1/ 6765، والشعر والشعراء: 114 118.
(2) صدره في الديوان ص: 155:
«أبانا فلا رمت من عندنا»
لا ترم: رام يريم: إذ برح، ولا ترم من كذا، أي لا تبرح، وأكثر ما يستعمل في النفي اللسان.
(3) أضمرت الأرض فلانا: غيبته بسفر أو موت.
(4) الأبيات من قصيدته التي قالها في مدح قيس بن معديكرب الكندي، والتي مطلعها:
«أتهجر غانية أم تلم ... أم الحبل واه بها منجذم»
انظر الديوان: 155.
(5) جرير بن عطية، الخطفي، الكلبي، اليربوعي من تميم، أشعر أهل عصره، عاش عمره يساجل شعراء زمنه، وكان هجاء مرا، لم يثبت أمامه غير الفرزدق والأخطل، وهو من أغزل الناس شعرا، جمعت نقائضه مع الفرزدق، وله ديوان شعر. ت: 110هـ 728م. انظر طبقات الشعراء: 1/ 461374، والوفيات: 1/ 327321، والخزانة: 1/ 36.
(6) البيت من قصيدته التي يمدح فيها عبد الملك بن مروان، والتي مطلعها:
«أتصحو بل فؤادك غير صاح ... عشية هم صحبك بالرواح»
انظر الديوان: 89.(1/395)
قال المبرد: فلما عاد إلى البصرة، قال لي: كيف رأيت يا أبا العباس؟
رددنا لله مائة فعوضنا ألفا» (1).
زاد الزبيدي في بعض مساق الحكاية أن الواثق قال له: «إن هاهنا قوما يختلفون إلى أولادنا فامتحنهم، فمن كان منهم عالما ينتفع به ألزمناه، ومن كان بغير هذه الصورة قطعناه عنهم. ثم أمر فجمعوا إلي فامتحنتهم فما وجدت طائلا، وحذروا ناحيتي، فقلت: لا بأس على أحد، فلما رجعت إليه قال: كيف رأيتهم؟ قلت: يفضل بعضهم بعضا في علوم يفضل الباقون في غيرها، وكل يحتاج إليه، فقال لي الواثق: إني خاطبت منهم واحدا فكان في نهاية الجهل في خطابه ونظره! فقلت: يا أمير المؤمنين أكثر من تقدم منهم بهذه الصفة، ولقد أنشدت فيهم:
إن المعلم لا يزال مضعفا ... ولو ابتنى فوق السماء بناء
من علم الصبيان أصبوا عقله ... حتى بني الخلفاء والأمراء 107ظ / /
قال: لله درك يا بكر! كيف لي بك؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إن الغنم والفوز في قربك والنظر إليك، ولكني ألفت الوحدة، وأنست بالانفراد، ولي أهل يوحشني البعد عنهم، ويضر بهم ذلك، ومطالبة العادة أشد من مطالبة الطباع، فأمر لي بألف دينار، وكسوة، وطيب، وقال: لا تقطعنا، وإن لم يأتك أمرنا، فقلت: سمعا وطاعة، وودعته، وانصرفت» (2).
قال الحريري: «وخبره يشهد بفضيلة الأدب ومزيته، ويرغب الراغب عنه في اقتباسه ودراسته» (3). قلت: والحكايات في هذا المعنى لا سبيل إلى حصرها، وفيما تقدم منها غنية لما اشتملت عليه من الفوائد.
__________
(1) انظر: الحكاية في طبقات الزبيدي: 9291، مع بعض اختلاف، وفي «درة الغواص»: 96 98، وفي النزهة: 184183مع تقديم وتأخير في نص الحكاية.
(2) انظر: طبقات الزبيدي: 9392.
(3) انظر: درة الغواص: 96.(1/396)
ولقد ورد في بعضها عن «علي الأحمر» (1) من نحاة الكوفيين وكان مؤدب الأمين أنه قال: «قعدت مع الأمين ساعة من نهار، فوصل إلي فيها ثلاثمائة ألف درهم، فانصرفت وقد استغنيت» (2)،
تحذير:
إياك أن تعتقد في استجلاب هذا العلم لأموال ذوي الدنيا أنه يجوز القصد إليه ابتداء حين الاشتغال بطلبه، أو بعد حصول ما قسم الله منه، لأنه ترجيح لتحصيل المال على ادخار العلم، وذلك جهل بالحقائق، وعمل على خلاف شهادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حديث كميل:
«العلم خير من المال إلى آخره (3)».
وفي معناه قال بعضهم (4) أنشده الشيخ أبو عمر:
«العلم زين وكنز لا نفاد له ... نعم القرين إذا ما عاقلا صحبا
قد يجمع المرء مالا ثم يسلبه ... عما قليل فيلقى الذل والحربا
وجامع العلم مغبوط به أبدا ... فلا يحاذر فوتا لا، ولا هربا 108و / /
يا جامع العلم، نعم الذخر تجمعه ... لا تعدلن به درا ولا ذهبا» (5)
وأيضا لما انضم إلى جملة العلوم الشرعية، وكان المقدم فيها من جهة ما هو الباب الأول إلى فهمها، كان ذلك القصد ابتداء مخلا بشرط طلب الشارع له، وهو التوسل به إلى فهم ما هو وسيلة إلى التعبد به إلى الله تعالى لما تقرر أن كل علم شرعي لا يطلب من جهة ما يتوسل به إليه، وهو العمل، والعمل يخل به ذلك القصد، فكذا في هذه الوسيلة إليه، وإن تأخرت عنه بمرتبة أو مراتب،
__________
(1) في الأصول: خلف الأحمر، وهو خطأ لأنه كان معلم أهل البصرة، وهو بصري، ومعلم الأصمعي، ولم يكن مؤدب المأمون.
(2) انظر: طبقات الزبيدي: 134.
(3) انظر 34ظ / من مخ «أ». ص: 196195من هذا الكتاب.
(4) في جامع العلم 1/ 51: أنه لبعض المحدثين.
(5) انظر م. س: 1/ 57.(1/397)
ويكفي في التحذير من ذلك القصد قوله صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة».
واعتبر بما نقل في أخبار الفضلاء من أهل هذا العلم في التنزه عن الاستشراف به إلى حطام الدنيا.
فقد تقدم (1) في إعراض المازني عن قبول ما عرضه عليه الذمي ليجيبه إلى قراءة الكتاب عليه، ما يدل على نزاهته، وخلوص نيته في صون هذا العلم وحفظه من الطمع به في نيل ما بأيدي الناس خصوصا إذا كانوا ممن يتأكد طلب ترك القبول منهم، وعند ذلك لما علم الله تعالى صدق نيته فيما ترك، جاد عليه بأضعافه على وجه لا يخل بخصوصية، ولا يغض من منصب إمامة.
وقد سبق الخليل رحمه الله إلى تخليد محمدة هذه النزاهة اللائقة بأمثاله من جلّة العلماء، فحكى ابن خلكان: «أنه كان له راتب على سليمان بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة، وكان والي فارس والأهواز (2)، فكتب الخليل جوابه:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال
سخّى (3) بنفسي، أني لا أرى أحدا ... يموت هزلا (4) ولا يبقى على حال 108ظ / /
والرزق عن قدر، لا الضعف ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول (5) محتال
والفقر في النفس لا في المال تعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
فقطع عليه سليمان الراتب، فقال الخليل نظما آخر، فبلغ سليمان، فقام،
__________
(1) انظر ص: 106ومن مخ «أ»، ويقابله ص: 393من هذا الكتاب.
(2) الأهواز: ج هوز: وأصله: حوز، فلما كثر استعمال الفرس لهذه اللفظة غيرتها حتى أذهبت أصلها، فالأهواز اسم عربي سمي به في الإسلام، وكان اسمها في أيام الفرس: خوزستان وهي سبع كور بين البصرة وفارس فتحها حرقوص بن زهير السعدي في خلافة عمر بن الخطاب.
معجم البلدان: 1/ 286284، والروض المعطار: 6261.
(3) في الوفيات 2/ 246: شحّا، وسخى بنفسه: تركه، ولم تنازعه نفسه إليه.
(4) الهزل: الفقر.
(5) الحول: الحيلة والقوة.(1/398)
وقعد، وكتب إلى الخليل يعتذر إليه، وأضعف راتبه، فقال الخليل:
وزلة يكثر الشيطان إن ذكرت ... منها التعجب، جاءت من سليمانا
لا تعجبن لخير زل عن يده ... فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا» (1)
وذكر عن ابن بابشاذ (2) من متأخري النحاة وهو مما ينظر إلى هذا المعنى، ويتعلق منه بسبب ظاهر، لكن باعتبار إيثار القناعة، والرضا باليسير، ليتأهب إلى ادخار ما يقدم للمعاد: «أن وظيفته بمصر، وكانت ديوان الإنشاء، لا يخرج كتاب حتى يعرض عليه، وله عليها مرتب، وكان ينظر في الكتاب من جهة النحو، واللغة، فلا ينفد كتاب حتى يرضاه.
قال: ومما جرى له من العجائب: أنه كان يأكل طعاما على سطح المسجد مع أصحابه فجاءهم قط فرموا له لقمة، فذهب بها ثم رجع، فرموا له لقمة أخرى، فذهب ثم رجع، فرموا له لقمة فعل ذلك مرارا كثيرا حتى اتهموا أنه لا يأكل الذي رموا كله، فتبعوه، فوجدوه يرقى إلى حائط في سطح المسجد، ثم ينزل إلى بيت خرب خال، وفيه قط آخر أعمى، فيحمل إليه ذلك الطعام الذي عطوه، ويأكل ذلك الأعمى، فعجبوا من ذلك، فقال الشيخ ابن بابشاذ: إذا كان هذا حيوانا أخرس أعمى وقد سخر الله له هذا القط، يقوم بكفايته، ولم يحرمه الرزق، فكيف يصنع مثلي؟!
ثم استعفى الشيخ من الخدمة، وترك مرتبه وقطع علائقه، ولازم بيته 109و / / متوكلا على الله تعالى، فما زال محروسا، محمول الكلفة إلى أن مات ثالث رجب سنة تسع وستين وأربعمائة، ودفن في القرافة (3) الكبرى من القاهرة.
قال: وكان سبب وفاته أنه لما باع ما عنده، وجمع أطرافه، وانقطع في غرفة
__________
(1) انظر الوفيات: 2/ 246245 (ترجمة الخليل).
(2) ابن بابشاذ: هو أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي: كان بمصر إمام عصره في علم النحو، من تصانيفه: «المقدمة»، وشرحها، و «شرح الجمل» للزجاجي، و «شرح كتاب الأصول» لابن السراج. ت: 469هـ 1007م، وقيل: 454هـ. وبابشاذ معناه بالفارسية: الفرح والسرور، انظر: الإنباه: 2/ 9795، والوفيات: 2/ 517515، والبغية: 2/ 17.
(3) مقبرة في القاهرة بسفح جبل المقطم.(1/399)
جامع «عمرو بن العاص» بمصر، خرج ليلة من الغرفة، فزلت رجله فسقط، فأصبح ميتا رحمه الله» (1).
قلت: وينظر إلى عجيب هذا الاتفاق من جانب المتعلقين بوسيلة المعرفة باللسان: نظمه ونثره، ما يحكى عن عروة بن أذينة (2) مع هشام بن عبد الملك (3):
قال الحريري: «والحكاية تدل على استشعار اليقين، وإعلاق الأمل بالخالق دون المخلوقين وهي أن عروة هذا وفد على هشام بن عبد الملك في جماعة من الشعراء فلما دخلوا عليه عرف عروة، فقال: ألست القائل:
لقد علمت وما الإشراف من خلقي ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعنّيني تطلبه ... ولو أقمت أتاني لا يعنّيني
وأراك قد جئت تضرب من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق؟ فقال عروة: لقد وعظت يا أمير المؤمنين فبالغت الوعظ، وأذكرت ما أنسانيه الدهر.
وخرج من فوره إلى راحلته، فركبها ثم نصها (4) راجعا نحو الحجاز، فمكث هشام يومه غافلا عنه، فلما كان في الليل تعارّ (5) على فراشه فذكره وقال: رجل من قريش قال حكمة، ووفد إلي، فجبهته، يعني استقبلته بالمكروه، ورددته عن حاجته، وهو مع ذلك شاعر لا آمن ما يقول.
فلما أصبح سأل عنه، فأخبر بانصرافه، فقال: لا جرم، ليعلمن أن الرزق سيأتيه، ثم دعا بمولى له، وأعطاه ألفي دينار، وقال له: ألحق بهذه ابن أذينة،
__________
(1) انظر الوفيات: 2/ 517516.
(2) هو عروة بن يحيى، وأذينة لقب لأبيه، شاعر مقدم من أهل المدينة، ويعد في الفقهاء والمحدثين أيضا، لكن غلب عليه الشعر، له ترجمة مستفيضة في الأغاني: 18/ 252240، والشعر والشعراء: 289.
(3) الخليفة الأموي العاشر، بلغت الإمبراطورية الإسلامية في عهده أقصى اتساعها. ت: 125هـ 743م. الكامل: 5/ 264261.
(4) نص الناقة: استحثها شديدا.
(5) التعار: السهر والتقلب على الفراش ليلا مع الكلام. اللسان: عرر.(1/400)
فأعطه إياها، قال: فلم أدركه، وقد دخل بيته، فقرعت الباب عليه فخرج، فأعطيته المال 109ظ / / فقال: أبلغ أمير المؤمنين السلام، وقل له: كيف رأيت قولي: «سعيت فأكديت، ورجعت إلى بيتي، فأتاني فيه الرزق»» (1).
تمثيل: يتضح به سفاهة رأي من رجح المال على العلم حتى طلب المال به.
قال الغزالي: «من طلب بالعلم المال كان كمن مسح نجاسة نعله لينظفه، فجعل المخدوم خادما، والخادم مخدوما، وهذا الانتكاس على أم الرأس».
ومثله هو الذي يقوم في العرض الأكبر مع المجرمين ناكسي رؤوسهم عند ربهم.
سابقة قدر:
ربما تطمح نفس المتأدب بهذه الصناعة إلى أن ينال بها حظوظ الدنيا، وخصوصا من غلب عليه الشعر، وما في معناه من أنواع فنونها، فلا يقدر له بشيء من ذلك، فينفث له بالشكوى نفث مصدور، ويتأسف على فوات ما يراه لغيره أيسر مقدور، وربما رمى ذلك الأدب بالشؤم والحرفة (2)، واعتقد أن صاحبه مباح الحمى، وإن كان «أمنع من أم قرفة» (3).
قال صاحب زهر الآداب: «وللحمدوني (4) في ذلك أشعار مستظرفة، فمما أنشد له قوله:
ثنتان من أدوات العلم قد ثنتا ... عنان شأوي عما رمت من همم
__________
(1) انظر درة الغواص: 184183.
(2) الحرفة: الحرمان وسوء الحظ (ومنه لحقته حرفة الأدب: لحقه شؤم الأدب).
(3) يقال: «أمنع من أم قرفة» أو «أعز من أم قرفة»: وهي امرأة فزارية، كانت تحت مالك بن حذيفة، وكان يعلق في بيتها خمسون سيفا لخمسين رجلا كلهم لها محرم. انظر: مجمع الأمثال: 2/ 45 و 323.
(4) هو إسماعيل بن إبراهيم بن حمدويه. ت: نحو 260هـ 874م، وجده حمدويه صاحب الزنادقة على عهد الرشيد، بصري، مليح الشعر، اشتهر بقوله في طيلسان بن حرب، وله هجاء في الجاحظ والمبرد، له ديوان شعر. انظر الفوات: 1/ 177173.(1/401)
أما الدواة فأدوى (1) جرمها جسدي ... وقلم الحظ، تحريف من القلم
وحبرت لي صحف الحرف محبرة ... تذود عني سوام المال والنعم
والعلم يعلم أني حين آخذه ... لعصمتي نافر خلو من العصم
وأنشد له:
من كان في الدنيا له شارة ... فنحن من نظارة الدنى
نرمقها من كثب حسرة ... كأننا لفظ بلا معنى 110و / /
وأنشد لغيره (2):
ما ازددت في أدبي حرفا سررت به ... إلا تزيدت حرفا تحته شؤم
كذاك من يدعي حذقا بصنعته ... أنّى توجه فيها فهو محروم
قال: ولما قتل المقتدر (3) أبا العباس ابن المعتز، وزعم أنه مات حتف أنفه، قال ابن بسام (4):
لله درك من ميت بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب
ما فيه لو، ولا ليت فتنقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب (5)
قلت: وقد سلك هذا المسلك جماعة من المتأخرين منهم الزمخشري، فقال متشكيا من جور الزمان وظلمه، وناعيا عليه مساعدة ذوي القصور بموالاته وسلمه:
__________
(1) في زهر الآداب 1/ 512: فأدمى.
(2) في: م. س: 1/ 51: هو أبو يعقوب إسحاق بن حسان المعروف بالخريمي، أصله من خراسان ونزل بغداد، قال صاحب تاريخ بغداد: 6/ 326. فأما أبو يعقوب فشاعر محسن وله مدائح في محمد بن منصور بن زياد، ويحيى بن خالد، وغيرهما، وهو أشعر المولدين، وروى عنه شيئا يسيرا من شعره، أبو عثمان الجاحظ، وأحمد بن عبيد بن ناصح، وذكر أنهما سمعا منه.
(3) المقتدر بالله جعفر بن أحمد المعتضد، يكنى أبا الفضل، الخليفة العباسي 18، استخلف بعد أخيه المكتفي، مات مقتولا سنة 320هـ 932م. تاريخ بغداد: 7/ 219213.
(4) هو علي بن محمد بن بسام وقد تقدمت ترجمته في ص: 153من هذا الكتاب (21ظ / من مخ «أ»).
(5) انظر زهر الآداب: 1/ 514512.(1/402)
يسعى الحريص ورزقه مقسوم ... والحرص مرتعه الخصيب وخيم
لو نال بالحزم امرؤ حظ الغنى ... مات الفتى الكسلان وهو عديم
سبق القضاء بكل ما هو كائن ... فمن النهى التفويض والتسليم
قد قسم الأرزاق بين عباده ... رب رؤوف بالعباد رحيم
حرص الفتى سبب إلى حرمانه ... وطلابه ما ليس يدرك شؤم 110ظ / /
ما بال الدنيا الدنية لم تقم ... أودي، أكل مفوه محروم؟!
نوديت: واحدها، ورخمت المنى ... بئس النداء وراءه الترخيم
قدر عن الآمال أصبح مقعدي ... ومن المقادر مقعد ومقيم
لا تجزعي يا نفس إن خطب عرى ... فالحر يعثر تارة، ويقوم
ليس العجيب بأن غيري راضع ... ثدي المراد، وأنني مفطوم
فكذا الزمان بأهله متقلب ... لا البؤس فيه ولا النعيم يدوم
[وقال الأديب البارع أبو القاسم ابن البناء المالقي (1):
قالوا: تقول الشعر؟ قلت: ضرورة ... ولقد عجبت لشاعر لا ينطق
طوقت من أدبي قلادة خيبة ... لا تعجبوا من أن ينوح مطوق
وقد تعدت هذه الشكوى إلى سائر من عد من الأدباء أسفا على فوت
__________
(1) ورد ذكره في الإفادات للشاطبي ص: 92حيث قال عنه في الإنشادة: 10. أنشدنا الشيخ الفقيه الراوية أبو القاسم ابن البنا. وحلاه ابن الأزرق في خاتمة هذا الكتاب ص: 290ظ مخ أ:
«بالشيخ الأديب أيضا». وفي ص: 307ومخ «أ»: «بالشيخ الفقيه، الأديب، البارع أبي القاسم محمد بن أحمد بن حاتم المالقي الشهير بابن البناء».
وفي «ديوان» ابن فركون ص: 303، نعته «ابن فركون» «بالشاعر المفلق تولى قضاء جبل الفتح الولاية التي ظهر فيها من سوء رأيه، ما قضى لمبنى عزه بسقوطه ووهيه». وفي مظهر النور» لابن فركون، ت: د. بنشريفة ص: 75و 78، قصيدتان لابن البناء في مدح السلطان النصري يوسف الثالث.
وقد ذكر د. محمد بنشريفة في هامش ص: 75من م. س بأن ابن البناء هذا هو صاحب مقامة «حضرة الارتياح المغنية عن الراح»، وقصيدة: «أنجم السياسة»، وأن له تأليفا في السجن سماه:
«جمع المقال في الاعتقال».(1/403)
الحظ العاجل من العلم على الإطلاق] (1) فأنشد الرشاطي ولم يسم قائلا:
إذا جمعت بين امرأين صناعة ... وأحببت أن تدري الذي هو أحذق
فلا تلتفت من ذاك إلا الذي جرت ... له منهما الأرازق حين تفرق
فحيث يكون الجهل فالرزق واسع ... وحيث يكون العلم فالرزق ضيق (2)
وقال القللوسي: ومثله قول ابن خروف:
تبلج صبح الذهن مني ثاقبا ... فغارت من الأموال شهب عواتم
ولو كان لي ليل من الجهل حالك ... للاحت به مثل النجوم الدراهم
[وقال الشيخ الرئيس ابن الخطيب وورى ببسطة (3) من بلاد الأندلس و (صالحة) 111و / / من حصونها:
«هامت الدنيا بجهال الورى ... فمساعيهم لديها ناجحه
والذي في العلم يؤتى بسطة (4) ... لا ترى الدنيا لديه صالحه» (5)
وقال الشيخ الأديب المجيد أبو عبد الله بن الجبير (6) من العصريين رحمه الله وضمن عجز بيت من ألفية ابن مالك (7) فأبدع ما شاء:
__________
(1) ما بين المعقوفتين ساقط من «ج».
(2) انظر الأبيات في معجم الأدباء: 2/ 8685، وقد نسبهما لإبراهيم بن هلال الصابي أبو إسحاق. ت: 384هـ 994م.
(3) مدينة بالأندلس من أعمال «جيان» وقد وصف محاسنها ابن الخطيب في رسالتيه: «معيار الاختيار» و «خطرة الطيف». وانظر معجم البلدان: 1/ 422، ومشاهدات لسان الدين: 3231 و 8786.
(4) أي توسعا في العلم، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة، الآية: 247: {قََالَ إِنَّ اللََّهَ اصْطَفََاهُ عَلَيْكُمْ وَزََادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}.
(5) هذه الأبيات غير واردة في «ديوانه»، ولا في «الإحاطة»، ولا في «معيار الاختيار» و «خطرة الطيف».
(6) هو أبو عبد الله محمد بن الجبير اليحبصي أحد أعلام الأندلس المتأخرين، وقد أورد المقري في «أزهار الرياض»: 3/ 304302، و 303، بعضا من شعره في الرد على الزمخشري فيما أنشده في «الكشاف» لبعض المعتزلة في ذم أهل السنة. كما ذكره في «نفح الطيب»: 4/ 348340.
(7) هو محمد بن عبد الله بن مالك أبو عبد الله الطائي الأندلسي الجياني الشافعي. ت:(1/404)
«الفقهاء كلهم من سادا ... منهم فليس يبلغ المرادا
ورزقهم مرخم قد عادا ... كيا سعا فيمن دعا سعادا» (1)
ويعني بالفقهاء: جميع من انتسب إلى أي علم كان على ما هو عليه العرف في ذلك] (2) ويقرب من هذا المعنى ما ذكره «أبو علي البغدادي» (3) في «نوادره» (4) عن «الكتنجي» قال: «أملقت حتى لم يبق في منزلي إلا بارية، فدخلت إلى دار المتوكل، فلم أزل متفكرا فحضرني بيتان، فأخذت قصبة، وكتبت على الحائط الذي كنت إلى جانبه:
الرزق مقسوم فأجمل في الطلب ... يأتي بأسباب ومن غير سبب
فاسترزق الله ففي الله غنى ... الله خير لك من أب حدب
قال: فركب المتوكل في ذلك اليوم حمارا، وجعل يطوف في الحجر، ومعه «الفتح» فوقف على البيتين فقال: من كتب (هذين البيتين) (5) وقال للفتح:
اقرأ، فقرأ البيتين فاستحسنهما، وقال: من كان في هذه الحجرة؟ فقيل الكتنجي، فقال: أغفلناه، وأسأنا إليه، وأمر لي ببدرتين.
قال أبو علي: العوام تقول: «بارية»، وهو خطأ، والصواب: باري،
__________
672 - هـ 1274م، إمام زمانه في النحو، واللغة، مقرىء، مشارك في الفقه والأصول والحديث، من تصانيفه: «مختصر الشاطبية» في القراءات، و «تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد» في النحو، و «الخلاصة» و «الألفية في علم العربية». انظر: طبقات الشافعية: 8/ 6867، وطبقات القراء:
2/ 181180.
(1) صدره عند ابن مالك في ألفيته:
«ترخيما احذف آخر المنادى»
وانظر شرح ابن عقيل على الألفية: 2/ 287.
(2) ما بين المعقوفتين ساقط من «ج».
(3) هو إسماعيل بن القاسم البغدادي المعروف بالقالي. ت: 356هـ 967م، لغوي من أروى أهل زمانه للشعر الجاهلي، وأحفظهم. له تصانيف منها: «الأمالي» و «الممدود» و «المقصور»، و «البارع في اللغة» انظر: الإنباه: 1/ 209204، والوفيات 1/ 228226.
(4) كتاب النوادر ويقال: «الأمالي». انظر: مخ فهرست المنتوري في ذلك.
(5) زيادة من النوادر: 2/ 127.(1/405)
وبوري (1). قال الراجز:
«كالخص (2) إذ جلله الباري» (3)
قال: وهو بالفارسية: «بوريك» فأعرب» (4).
الطرف الثاني: في حفظ العربية للمال بعد حصوله:
ويظهر ذلك عند 111ظ / / «الإقرار» فإنه إذا صدر من عالم بها لم يصدر إلا بمقدار ما يقتضيه الاعتراف بالحق الواجب عليه، ولا كذلك إذا كان جاهلا بها، فإنه ربما يلفظ بما يوجب غرامة، زائدا على ذلك الواجب، لا سيما عند مضايقة الخصام، وذلك إخلال بما أمر به من حفظ المال ظاهر، وربما ينطق بما يوجب إثبات ما قصد نفيه فيلزمه الأداء وهو لا يريده، وفي ذلك متلفة للمال، وضياع له.
كما يحكى عن خصمين ارتفعا إلى علي رضي الله عنه وطلب أحدهما الآخر بمال سماه، فقال المطلوب: «ماله» عندي حق برفع اللام في «مال» فقال له علي رضي الله عنه: أدّ ماله، فقال المقر: ماله عندي حق، فقال له علي رضي الله عنه: أد ماله إلى أن ظهر أنه يريد النفي.
ومن تأمل ما فرضه الفقهاء في كتاب الإقرار من الألفاظ، والكنايات علم أن الجهل بها عند «الإقرار» يورط الناطق في المؤاخذة بمقتضى ما يوجبه علم اللسان فيها صريحا أو كناية.
__________
(1) الباريّ والبارياء: الحصير المنسوج من القصب، فارسي معرب. اللسان بري.
(2) الخص: والجمع أخصاص، وخصاص، وقيل في جمعه خصوص، البيت من شجر أو قصب سمي بذلك لما فيه من التفاريج الضيقة، اللسان: خصص.
(3) هذا الشطر من أبيات موصولة في وصف كناس الوحش لأبي الشعثاء عبد الله بن رؤبة بن لبيد المعروف بالعجاج، والد رؤبة بن العجاج، وكلاهما راجز، مجيد، إلا أن رؤبة بن لبيد كان أكثر شعرا من أبيه، وأفصح منه. طبقات الشعراء: 2/ 738و 753، والبيان والتبيين: 1/ 356.
وديوان العجاج: 327326، وسمط اللآلىء: 2/ 754737.
(4) نوادر أبي علي: 2/ 127.(1/406)
ولنقتصر من بيان ذلك على مسألة الإقرار بلفظة «كذا» إذا قال مثلا: «له عندي كذا». وقد ذكر فيها القرافي صورا كثيرة.
قال في «الذخيرة» ما نصه بعد تقرير أنها كناية عن العدد: «إذا تقرر هذا فاعلم أن «كذا» يستعمل مفردا، وتارة يقول «كذا درهما» بالنصب، والرفع، والخفض، والسكون، فهذه خمس صور، وتارة يكرر فيقول: «كذا، كذا» من غير جنس، وتارة يذكره مرفوعا أو منصوبا، أو مخفوضا، أو موقوفا، فهذه خمس صور.
وتارة يدخل بينهما حرف «عطف» فتصير خمسا أخرى.
وتارة يدخل بينهما حرف «بل» فيقول «كذا بل كذا، فتصير خمسا أخرى، فهذه عشرون صورة.
وتارة يكون التمييز مفردا، وتارة 112و / / مجموعا، أو مثنى على الأحوال كلها فتصير نحو أربعين مسألة».
قلت: و [ملخص] (1) ما ذكر هو والمازري فيما يتخرج عليه حكم هذه الصور أنه إذا قال: «له عندي كذا» فهي بمعنى «شيء».
قال المازري: «ويقال له: بين ما الذي عندك له؟ مما [يطلق] (2) عليه اسم «شيء»، أو اسم «واحد»، فيقبل ذلك منه» (3).
قلت: ووجه هذا أن «كذا» قد تكون كناية عن الشيء، وعلى ذلك حملت هنا، لما كانت مفردة من غير تمييز، ودليله: نقل صاحب الصحاح: «أنها تكون كناية عن الشيء وعن العدد».
وبه يجاب عن إشكال أورده «القرافي» في الموضع فانظره من هناك.
__________
(1) في «أ» مخلص.
(2) في الأصول ومخطوط شرح التلقين: ينطلق.
(3) انظر مخ شرح التلقين للمازري: 7/ 188، بخزانة القرويين رقم 348.(1/407)
وإذا قال: «له عندي كذا درهما بالنصب» قال ابن عبد الحكم (1): «يلزمه عشرون لأنه أول عدد مفرد يميز بالواحد المنصوب».
قلت: «وعزاه المازري لظاهر البغداديين من المالكية» (2).
قال القرافي: «وخالفنا الأئمة في ذلك، وقالوا: يلزمه درهم، بناء على أن «كذا» كناية عن شيء مبهم، والدرهم المنصوب بعده على التمييز، أو مفعول بفعل مضمر تقديره: «له شيء درهما» أو «أعني درهما».
وإذا قال: «له عندي كذا درهم» بالخفض. قال المازري عن ابن القصار (3): «لا نص فيه، ويحتمل أن يراد به بعض درهم.
قال: وقال لي بعض النحاة: يلزم فيه مائة درهم».
قلت: في جواز إضافة كذا خلاف بين النحويين، وممن أجازها منهم الكوفيون.
قال «ابن هشام» (4): «ولهذا قال فقهاؤهم: إنه يلزم بقوله: «له عندي كذا درهم» مائة» (5).
وإذا قال: «له عندي (كذا) درهم» بالرفع: قال المازري: «لا نص
__________
(1) هو محمد بن عبد الله المصري أبو عبد الله. ت: 268هـ 882م. فقيه عصره، لازم الإمام الشافعي ثم رجع إلى مذهب مالك، وحمل في فتنة القول بخلق القرآن إلى بغداد. فلم يجب لما طلبوه، فرد إلى مصر، له كتب كثيرة منها: «أحكام القرآن» و «أدب القضاة»، ورد «على فقهاء العراق» و «الرد على الشافعي» فيما خالف فيه الكتاب والسنة. انظر الوفيات: 4/ 194193.
(2) انظر مخ شرح التلقين: 7/ 188.
(3) هو علي بن أحمد البغدادي المعروف بابن القصار أبو الحسن. ت: 398هـ 1008م، فقيه، أصولي، ولي قضاء بغداد من آثاره: «عيون الأدلة وإيضاح الملة» في الخلاف انظر الديباج:
2/ 100.
(4) هو عبد الله بن يوسف ابن هشام الأنصاري جمال الدين أبو محمد. ت: 761هـ 1360م، نحوي، مشارك في المعاني والبيان، والعروض، والفقه، وغيرها. له تآليف منها: «مغني اللبيب عن كتب الأعاريب»، في النحو، و «شرح الجامع الصغير» لمحمد بن الحسن الشيباني في فروع الفقه. انظر البغية: 2/ 7068، والشذرات: 6/ 192191.
(5) انظر: مغني اللبيب: ص: 205.(1/408)
فيه، ويمكن حمله على درهم واحد على أنه خبر مبتدأ أي «هو درهم»» (1).
قلت: ونقله القرافي عن الحنابلة قائلا: «ودرهم مرفوع على البدل من كذا أو خبر مبتدأ مضمر.
وإذا قال: «له عندي كذا 112ظ / / درهم» بالسكون في ميم درهم من غير إعراب».
قال القرافي عن الشافعية والحنابلة: «يقبل تفسيره بأي جزء من أجزاء الدرهم، لأن المجرور يصح أن يقف عليه بالسكون، والأصل براءة الذمة من غيره».
وإذا قال: «له عندي كذا كذا درهما» لزمه أحد عشر درهما، لأنه أول عدد يميز بالواحد المنصوب.
قال القرافي: «وعند الشافعي وابن حنبل يلزمه درهم، لأن كذا اسم لشيء مبهم، فقد كرر الشيء ثم فسره بالتمييز، فيلزمه ما ميز به، وهو درهم ليس إلا.
وإذا قال: «عندي كذا وكذا درهما» بحرف العطف لزمه أحد وعشرون، لأنه أول عدد فيه عطف وتمييز بالمفرد المنصوب».
قلت: ولنكتف بنقل هذا القدر من فروع هذه المسألة، وقد حصل بها أن ألفاظ الأقارير ربما تورط صاحبها في غرم ما ليس عليه، إذا كان غير خبير بالعربية، وذلك ما أردنا من حفظها للمال بعد حصوله، والله تعالى أعلم.
تنبيه:
ما تقدم من عدّ هذه الضروريات خمسا هو تقرير أكثر الأصوليين، وبعضهم يزيد عليها ضروريا آخر في وجوب الحفظ له، والرعاية للذب عنه، وهو العرض، فتصير ستا.
وأنت إذا تأملت العربية وجدتها [تقوم] (2) بحفظ الجميع أتم قيام، إذ لا
__________
(1) انظر: مخ شرح التلقين: 7/ 189.
(2) في «ج»: تقدم.(1/409)
خفاء أن اللاحن يصير نفسه هدفا لسهام التنقيص له، والازدراء بقدره، ويعرض نفسه للوقيعة فيه، وسلامة العلم بها من معرفة ذلك كله ظاهر في حفظها لهذا الضروري الآخر على رأي من ضمه إلى جملة الضروريات المتقدمة، ولموقع صون العرض بها في نفوس ذوي الهمم العالية، كانوا إذا نبهوا على ما عسى أن يكون مثيرا للشك في مخالفة الصواب فيها، يبادرون إلى الوقوف على جلية ما ينفي عنهم وصمة الانتساب إلى الجهالة بها حماية لعرضهم، وترفعا عن حطة اللحن، وخسة النقيصة به.
فيحكى عن المتوكل (1) «أنه قرأ يوما وبحضرته الفتح بن خاقان: {وَمََا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهََا إِذََا جََاءَتْ لََا يُؤْمِنُونَ} (2) فقال له الفتح: يا سيدي، «إنها إذا جاءت لا يؤمنون» بالكسر، فتبايعا على عشرة آلاف دينار، وتحاكما إلى يزيد بن محمد المهلبي (3)، وكان صديقا للمبرد، فلما وقف يزيد على ذلك خاف أن يسقط أحدهما، فقال: والله ما أعرف الفرق بينهما، وما رأيت أعجب من أن يكون باب أمير المؤمنين يخلو من عالم متقدم، فقال المتوكل: فليس هاهنا من يسأل عن هذا؟ فقال: ما أعرف أحدا يتقدم فتى البصرة ويعرف بالمبرد، فأمر أن يشخص فنفذ الكتاب إلى محمد بن القاسم بن محمد بن سليمان الهاشمي بأن يشخصه مكرما.
فحدث المبرد قال: وردت «سر من رأى» (4)، فأدخلت على الفتح بن خاقان، فقال: يا بصري، كيف تقرأ هذا الحرف «وما يشعركم «إنها» إذا جاءت
__________
(1) المتوكل على الله جعفر بن محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد، يكنى أبا الفضل، بويع له بالخلافة بعد الواثق، قتل ب «سر من رأى» سنة 247هـ 861م. انظر: تاريخ بغداد: 7/ 165 172.
(2) سورة الأنعام، الآية: 109.
(3) هو أبو خالد يزيد بن محمد بن المهلب بن المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة، بصري، شاعر، محسن من شعراء الدولة الهاشمية. انظر: سمط اللآلىء: 2/ 840839.
(4) «سامراء» «أو سر من رأى» مدينة كانت بين بغداد وتكريت على شرقي دجلة، من أهم آثارها:
قصر المتوكل. انظر معجم البلدان: 3/ 173.(1/410)
لا يؤمنون» بالكسر، أو «أنها» بالفتح؟ فقلت: «إنها» بالكسر 113ظ / / وهو المختار، وذلك أن أول الآية {وَأَقْسَمُوا بِاللََّهِ جَهْدَ أَيْمََانِهِمْ لَئِنْ جََاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهََا قُلْ إِنَّمَا الْآيََاتُ عِنْدَ اللََّهِ وَمََا يُشْعِرُكُمْ}. ثم قال تبارك وتعالى: يا محمد، {«أَنَّهََا إِذََا جََاءَتْ لََا يُؤْمِنُونَ»} باستئناف جواب الكلام المتقدم، قال: صدقت، وركب إلى دار أمير المؤمنين فعرّفه بقدومي، وطالبه بدفع ما تخاطرا عليه وتبايعا فيه، فأمر بإحضاري، فحضرت فلما وقعت عين المتوكل علي. قال: يا بصري، كيف تقرأ هذه الآية: {«وَمََا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهََا إِذََا جََاءَتْ»} بالكسر أو «أنها إذا جاءت» بالفتح؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أكثر الناس يقرؤها بالفتح، فضحك، وضرب برجله اليسرى، وقال: أحضر يا فتح المال. فقال: يا سيدي، إنه والله قال لي خلاف ما قال لك، فقال: دعني من هذا، أحضر المال، وأخرجت، فلم أصل إلى الموضع الذي كنت أنزله حتى أتتني رسل الفتح فأتيته، فقال لي:
يا بصري، أول ما ابتدأتنا به الكذب! فقلت: ما كذبت، فقال: كيف، وقد قلت لأمير المؤمنين إن الصواب: {وَمََا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهََا إِذََا جََاءَتْ لََا يُؤْمِنُونَ}
بالفتح؟! فقلت: أيها الوزير، لم أقل هكذا، إنما قلت: أكثر الناس يقرؤها بالفتح، وأكثرهم على الخطأ، وإنما تخلصت من اللائمة وهو أمير المؤمنين، فقال لي: أحسنت.
قال أبو العباس: فما رأيت أكرم كرما، ولا أرطب بالخير لسانا من الفتح» (1).
قال الزبيدي: «وجدت بخط أمير المؤمنين المستنصر بالله رضي الله عنه ما فعل المبرد شيئا، وما كان أن يخبره بالحق، فيعلمه أن القراءة بالكسر، قرأ بها أبو عمرو وأصحابه من البصريين الذين تعصب لهم، وأن القراءة بالفتح قراءة نافع (2) وأهل الحجاز، وحمزة، والأعمش، وابن مسعود وأصحابه،
__________
(1) انظر طبقات الزبيدي: 103102.
(2) هو نافع بن أبي نعيم بن عبد الرحمن المدني أحد القراء السبعة. ت: 169هـ 785م، انظر الوفيات: 5/ 369368، وطبقات القراء: 2/ 334330.(1/411)
والنخعي، وابن أبي إسحاق، وطلحة بن 114و / / مصرف (1) وعيسى (2)، والماجشون (3)
وكان للمتوكل في قراءته أنصار كثير، ولعله كذلك علم، لأنه قراءة الكسائي، وحمزة، وما أحسن الفتح في إنكار ما قد قرأ به الأئمة، ولو قال حينئذ: هذه قراءة أهل البصرة وغيرهم ممن قرأ بها، وهي أقيس في الإعراب، وقد قرأ بالفتح أهل الحجاز وغيرهم، وكل هذا جائز، لكان أتم في الخبر» (4)
انتهى ملخصا.
قلت: وأعظم من هذه النفرة (5) عن الوقوع فيما ظن لحنا، ما يحكى عن المأمون في إبايته من المسامحة في مواجهته بما اعتقده كذلك، ترفعا لعلو همته عن مقابلته به، فضلا عن صدوره منه، أو وقوعه في الكتب عنه.
فحكى ثعلب عن شيخه أبي عبد الله محمد بن قادم (6) الطوال (7) قال:
__________
(1) طلحة بن مصرف بن عمرو أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله الهمذاني الكوفي. ت: 112هـ 730م. تابعي، كبير، له اختيار في القراءة ينسب إليه، وكانوا يسمونه: سيد القراء. انظر طبقات القراء: 2/ 343، والوفيات: 2/ 426و 469.
(2) عيسى بن عمر الثقفي أبو سليمان، ويقال: أبو عمر. ت: 149هـ 766م، كان ثقة عالما بالعربية، والنحو، والقراءة، صنف كتابين في النحو: يسمى أحدهما: الجامع. والآخر:
الإكمال. انظر طبقات الزبيدي: 40/ 45، والنزهة: 2321.
(3) أبو يوسف يعقوب بن أبي سلمة بن دينار، وقيل ميمون، الملقب بالماجشون القرشي، التيمي من موالي آل المنكدر من أهل المدينة. ت: 124هـ 741م. سمع ابن عمر رضي الله عنهما، وعمر بن عبد العزيز، ومحمد بن المنكدر، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وروى عنه ابناه:
يوسف، وعبد العزيز، وابن أخيه عبد العزيز. والماجشون: تعني المورد، ويقال: الأبيض الأحمر، لقبته بذلك سكينة بنت الحسين. انظر: سمط اللآلىء: 2/ 644. والوفيات: 6/ 378376.
(4) انظر شذرات مخطوطة من طبقات الزبيدي لم تنشر: الصندوق 2من القبة السعدية رقم 14 خزانة القرويين وقد أرشدني إليها الأستاذ محمد الدباغ محافظ الخزانة.
(5) النفرة: الكراهية.
(6) أستاذ ثعلب، ومعلم ابن المعتز، خرج من منزله ولم يرجع، وذلك سنة 251هـ 865م. له من الكتب: «الكافي» في النحو، و «المختصر» فيه «وغريب الحديث». انظر: طبقات الزبيدي:
138، وفيه: «هو أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن القادم و «معجم الأدباء»: 18/ 209207، والبغية: 1/ 141140.
(7) لم تثبت كتب التراجم هذه النسبة له، ولعله سهو من المؤلف: إذ «الطوال» علم آخر، قال(1/412)
«وجه إلي إسحاق بن إبراهيم المصعبي (1) يوما من الأيام فأحضرني، فلم أدر ما السبب، فلما قربت من مجلسه تلقاني ميمون بن إبراهيم كاتبه على الرسائل وهو على غاية من الهلع والجزع، فقال لي بصوت خفي: إنه «إسحاق»، ومر غير متلبث، ولا متوقف حتى رجع إلى مجلس إسحاق، فراعني ذلك، فلما مثلت بين يديه، قال لي: كيف يقال: «وهذا المال مالا»، أو «وهذا المال مال»؟.
فعلمت ما أراد ميمون، فقلت له: الوجه «وهذا المال مال»، ويجوز:
«وهذا المال مالا»، فأقبل إسحاق على ميمون بغلظة وفظاظة، ثم قال: الزم الوجه في كتبك، ودعنا من يجوز ويجوز، ورمى بكتاب كان في يده، فسألت عن الخبر، فإذا ميمون قد كتب إلى المأمون وهو في بلاد الروم عن إسحاق، وذكر مالا حمله إليه، وكتب «وهذا [المال] (2) مالا. فخط المأمون على الموضع من الكتاب، ووقع بخط يده في حاشيته: تكاتبني باللحن، فقامت القيامة على إسحاق، فكان ميمون بعد ذلك يقول: ما أدري كيف أشكر ابن قادم، بقى علي روحي ونعمتي.
قال أبو العباس ثعلب: فكان 114ظ / / هذا مقدار العلم، وعلى حسب ذلك كانت الرغبة في طلبه، والحذر من الزلل.
قال: «وهذا المال مالا» ليس بشيء، ولكن أحسن «ابن قادم» في التأتي بخلاص ميمون» (3) اه.
وحكى «ابن الأبار» (4) في «إعتاب الكتاب» (5): «أنه (6) كان يتفقد ما يكتب
__________
عنه ثعلب: «كان حاذقا بإلقاء العربية» من أهل الكوفة، وأحد أصحاب الكسائي حدث عن الأصمعي وقدم بغداد. ت: 243هـ 857م. انظر: البغية: 1/ 50.
(1) إسحاق بن إبراهيم المصعبي. ت: 235هـ 849م. صاحب الشرطة ببغداد أيام المأمون والمعتصم، والواثق، والمتوكل، وكان ذا رأي وشجاعة. انظر: الكامل: 7/ 52.
(2) ساقط من «أ».
(3) انظر: طبقات الزبيدي: 139138، وإعتاب الكتاب: 125124.
(4) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله، القضاعي، الأندلسي، البلنسي، المعروف بابن الأبار. ت: 658هـ 1259م. فقيه، محدث، حافظ، مقرىء، نحوي، أديب، لغوي، كاتب، مؤرخ، من تصانيفه: «تكملة الصلة» لابن بشكوال، و «إعانة الحقير في شرح زاد الفقير»، و «إعتاب الكتاب»، و «الحلة السّيراء في أشعار الأمراء». انظر: عنوان الدراية: 261257.
(5) انظر: 127126.
(6) الضمير يعود على المأمون.(1/413)
به الكتاب فيسقط من لحن، ويحط مقدار من أتى بما غيره أجود منه في العربية، وكان يقول: «وإياكم و «الشّونيز» (1) في كتبكم». يعني النقط والإعجام.
قال: وقال محمد بن عبد الله بن طاهر (2) وقد رفعت إليه قصة أكثر صاحبها إعجامها «ما أحسن ما كتب إلا أنه أكثر شونيزها».
وكان سعيد بن حميد (3) يقول: لأن يشكل الحرف على القارىء أحب إلي من أن يعاب الكاتب بالشكل.
قال: فإذا كرهوا الإعجام والشكل فما ظنك باللحن. قال: إلا أن ترك ذلك قد يورث إشكالا».
حكى الماوردي (4) عن قدامة بن جعفر (5): «أن بعض كتاب الدواوين حاسب [عاملا] (6) لعبيد الله بن سليمان بن وهب (7) فشكا منه إلى عبيد الله،
__________
(1) الشّونيز بضم الشين، الحبة السوداء، وهو فارسي الأصل. انظر: اللسان شنز.
(2) ابن طاهر الخزاعي أبو العباس. ت: 253هـ 867م. أمير، ولي نيابة بغداد في أيام المتوكل العباسي. له أخبار كثيرة في فتنة «المعتز بالله» وكان أديبا شاعرا، ومؤلفا لأهل العلم والأدب.
انظر: تاريخ بغداد: 5/ 422418.
(3) هو سعيد بن حميد بن سعيد أبو عثمان. ت: 250هـ 684م. كاتب مترسل، من الشعراء، قلده المستعين العباسي ديوان رسائله. وجمع له يونس بن أحمد السامرائي البغدادي، ما وجد من «رسائله وأشعاره» ط. انظر: الأغاني 18/ 10290، والمورد 3/ ع: 2/ 228.
(4) في أدب الدنيا: 38.
(5) هو قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي، أبو الفرج. ت: 337هـ 948م. كاتب من البلغاء، المتقدمين في علم المنطق والفلسفة، كان في أيام المكتفي بالله العباسي، وأسلم على يده، له كتب منها: «نقد الشعر» و «جواهر الألفاظ»، و «الرد على ابن المعتز فيما عاب به أبا تمام». انظر: الفهرست: 194، ومعجم الأدباء: 17/ 1512.
(6) في «أ»: غلاما.
(7) ابن وهب الحارثي. ت: 228هـ 842م. وزير من أكابر الكتاب، استوزره المعتمد، والمعتضد وعلى عهده توفي. انظر الكامل: 7/ 316و 510.(1/414)
وكتب رقعة يحتج فيها بصحة دعواه، ووضوح شكواه، فوقع فيها عبيد الله:
«هدا هدا» فأخذها العامل فقرأها، وظن أن عبيد الله أراد «هذا هذا» إثباتا لصحة دعواه، كما يقال في إثبات الشيء: «هو هو» فحمل الرقعة إلى كاتب الديوان، وأراه خط عبيد الله، وقال: إنه قد صدق قولي، وصحح ما ذكرت فخفي على الكاتب ذلك، وطيف به على كتاب الدواوين، فلم يقفوا على مراده، فشدد عبيد الله الكلمة الثانية، وكتب تحتها: «والله المستعان» استعظاما منه لتقصيرهم في استخراج مراده، حتى احتاج إلى مراده، بالنقط والشكل».
قال ابن الأبّار: «وكان عبد الله بن طاهر يفرط في تفقد المخاطبات عنه وإليه، ويتوعد عليها، ويعاقب فيها.
قال لكاتب له 115و / / أمره بشيء يعمله: احذر أن تخطىء فأعاقبك بكذا وكذا، وذكر أمرا عظيما، فقال له الكاتب: أيها الأمير فمن كانت هذه عقوبته على الخطإ، فما ثوابه على الإصابة؟» (1).
انتهى المراد، وقد اشتمل على فائدة متعلقة بغرض الكتاب، وإن كان فيه خروج عنه من وجه آخر.
تتمة:
بذكر اعتراف أهل العلوم الشرعية بمنفعة العربية، وشهادتهم بضرورة الاحتياج إليها زائدا على حصول العلم بذلك مما تقدم لما فيه من فضيلة الشهادة لها بالاعتبار من جميع العلماء على اختلاف أصنافهم، ولاقتضاء التوقيف عليه لطمأنينة من لم يقنع بكليات الشهادة له، وإفادة من لم يتمكن من العثور عليه في كلام العلماء متفرقا، ولنأت به في ضمن التسمية لأنواع أمهات العلوم الشرعية على التفصيل فنقول:
العلم الأول: التفسير:
قال الزمخشري في صدر «تفسيره» وقد عدد شروط المفسر: «وأن يكون
__________
(1) الإعتاب: 127126.(1/415)
فارسا في علم الإعراب» (1). فلم يكتف بمجرد المشاركة في علم الإعراب، بل اشترط فيه أن يكون فارسا، وحينئذ يتصدى للنظر في التفسير، وإلا لم يلحق منه شيئا.
وقد تقدم عنه (2) في الفصل الذي صدر به «المفصل» قوله فيه:
«ومن لم يتق الله في تنزيله، فاجترأ على تعاطي تأويله، وهو غير معرب، ركب عمياء، وخبط خبط عشواء، فقال ما هو تقول وافتراء، وهراء منه كلام الله براء».
وقال [الغزنوي] (3) (4)، وقد أشار إلى ما احتوى عليه تفسيره: «وإنما عني من عني بجمع هذا الكتاب بعد استجماع أسباب لا يسع المؤلف إغفالها، ولا المصنف إهمالها».
ثم قال: «فمنها تمهيد قواعد العربية، وتحديد العوارض اللغوية من إبدال حروف الصفات وتصريح الكنايات، وتفسير 115ظ / / الاستعارات، من تسمية الشيء باسم ما كان، وما يؤول إليه، والسبب بالمسبب، والمسبب بالسبب، وذكر المفعول مكان الفاعل، والفاعل مكان المفعول، والماضي مكان المستقبل، والمستقبل مكان الماضي، وكليهما مكان الأمر، والواحد مكان الجمع، والجمع مكان الواحد، والتثنية مكانهما، والقلب والعارض، والعدول من الغائب إلى المخاطب، ومن المخاطب إلى الغائب، ومن الإخبار إلى الحكاية، ومن الحكاية إلى الإخبار، والحذف، والإضمار، والزيادة، والتكرار موطودا كلها بأشعار العرب لأن «أضوأ الدرّ ما ازدوج بالسّبج» (5) قيل:
__________
(1) انظر: مقدمة التفسير ص: ن.
(2) انظر: ص: 167من هذا الكتاب، 26ظ من مخ «أ».
(3) في «أ»: الغزالي.
(4) لعله محمد بن طيفور الغزنوي السجاوندي (أبو عبد الله). ت: 560هـ 1165م. مفسر، مقرىء، من آثاره: «علل القراءات»، و «عين المعاني في تفسير السبع المثاني»، و «الوقف والابتداء». انظر: طبقات القراء: 2/ 157، وطبقات المفسرين: 3332.
(5) السبج: خرز أسود، دخيل معرب وأصله سبه. اللسان: سبج.(1/416)
فسامح بالوصال وإن ... علا عن قيمة المهج
فأحسن ما يكون الدر ... ر منظوما بالسبج
قال: وما ذاك لشرف لها، أو شغف بها، لكنها إسوة للعرب محكمة، وحكمة لأهل الزيغ محكمة، وحجة عليهم من لديهم قيل:
نفسي فداؤك لا لجلة قدرها ... إن الشعير وقاية الكافور»
قلت: توطيد ما أشار إليه أي تثبيته بالاستدلال عليه بأشعار العرب وهو شأن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم و [دأب] (1) التابعين لهم بإحسان.
قال ابن الأنباري في كتاب «الوقف والابتداء»:
«وفيه مزيد بشهادة من أئمة العلم بالقرآن، وخصوصا التفسير منه في هذا المقام: «جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم رضوان الله عليهم من الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله، باللغة والشعر، ما بين صحة مذهب النحويين في ذلك، وأوضح فساد مذهب من أنكر 116و / / ذلك عليهم.
ثم أسند إلى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إذا سألتموني عن غريب القرآن، فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب» (2).
وأسند إليه «أنه قال لرجل وقد سأل عن قوله تعالى: {وَثِيََابَكَ فَطَهِّرْ} (3)، لا تلبس ثيابك غدرة، وتمثل بقول غيلان الثقفي (4):
فإني بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست، ولا من سوأة أتقنع» (5)
__________
(1) في «ج»: أدب.
(2) انظر: 1/ 6261من كتاب إيضاح الوقف
(3) سورة المدثر، الآية: 4.
(4) غيلان بن سلمة الثقفي. ت: 23هـ 644م. شاعر جاهلي، أدرك الإسلام، وأسلم بعد فتح الطائف، كان أحد وجوه ثقيف، انفرد في الجاهلية بأن قسم أعماله على الأيام، فكان له يوم يحكم فيه بين الناس، ويوم ينشد فيه شعره، ويوم ينظر فيه إلى جماله. انظر: طبقات الشعراء:
1/ 270269. والأغاني: 13/ 210201، والإصابة: 3/ 192189.
(5) انظر: إيضاح الوقف: 63، وتفسير القرطبي: 1/ 21، واللسان: طهر.(1/417)
وأسند إليه «أنه قال في قوله تعالى: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} (1) أي مختلط، ألم تسمع إلى قوله (2):
فجالت والتمست به حشاها ... فخر كأنه خوط مريج» (3)
وأسند إلى الحسن قال: «كنا لا ندري ما الأرائك حتى لقينا رجل من أهل اليمن فأخبرنا أن الأريكة عندهم: «الحجلة (4) فيها السرير» (5) وذكر هذا كثيرا إلى أن قال: وهذا كثير في الحديث عن الصحابة والتابعين.
ثم أجاب عن شبهة من عاب ذلك على النحويين فراجعه من هناك» (6).
وقال ابن جزي (7): وقد ذكر العلوم التي يستدعيها التفسير: «وأما النحو فلا بد للمفسر من معرفته، فإن القرآن نزل بلسان العرب، فيحتاج إلى علم اللسان.
وقال قبل ذلك في اللغة، وهي من فنون التفسير على الجملة.
وأما اللغة فلا بد للمفسر من حفظ ما ورد في القرآن منها، وهي غريب القرآن، وهي من فنون التفسير» اه (8).
وفيه مع ما تقدمه كفاية في الاستظهار بشهادة المفسرين لاحتياجهم لعلوم
__________
(1) سورة ق، الآية: 5.
(2) البيت للداخل زهير بن حرام الهذلي. انظر: التنبيه على أوهام القالي: 130. وانظر: اللسان:
مرج وفيه: «كأنه غصن».
(3) انظر: إيضاح الوقف: 1/ 64وخوط مريج: غصن له شعب قصار قد التبست، اللسان:
مرج.
(4) الحجلة: بيت كالقبة يستر بالثياب، ويكون له أزرار كبار. اللسان: حجل.
(5) إيضاح الوقف: 1/ 70.
(6) م. س: 1/ 99وما بعدها.
(7) هو محمد بن أحمد بن محمد بن جزي الكلبي أبو القاسم. ت: 741هـ 1340م. من أهل غرناطة، وذوي الأصالة والنباهة فيها، كان مشاركا في فنون: من عربية وأصول، وقراءات وحديث، وأدب، حافظا للتفسير، مستوعبا للأقوال، جماعا للكتب. له تصانيف منها:
«القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية» و «كتاب الفوائد العامة في لحن العامة»، و «كتاب النور المبين في قواعد الدين». انظر: الديباج: 2/ 276274.
(8) انظر: كتاب التسهيل: 1/ 8.(1/418)
العربية، والأمر واضح من ذلك كله، كما أنه لا يتوقف في منع تعاطي التفسير مع فقد العلم بها، وبذلك أفتى ابن عبد السلام التونسي (1) فيما حكاه تلميذه ابن عرفة قال ما نصه:
«وأفتى ابن عبد السلام بوجوب منع من لم تكن له مشاركة في علم العربية من قراءة التفسير ثم كان في حضرته من يقرؤه بل ولاه محل إقرائه، وهو ممن لم يقرأ في 116ظ / / العربية كتابا، والله أعلم بحال ذلك كله».
قلت: لا إشكال في صواب ما أفتى به.
وأما ما حكى مما ظاهره المخالفة، فالله أعلم كما قال بحال ذلك كله.
وأقول: وبحاله في نقل ذلك قال: «وقد رأيت بعض هؤلاء يعني من لم يشارك في العربية يقرؤون التفسير، وأخبرت أن بعضهم كان منعه قاضي وقته، فلما مات قرأه».
قلت: وإذا كان السكاكي (2) يقول في علمي المعاني والبيان: «الويل كل الويل لمن يتعاطى التفسير، وهو فيهما راجل» (3).
فالويل المضاعف كل التضعيف لمن يجيز تعاطيه وهو في النحو الذي هو أصل ذينك العلمين، لا يقوم لا على قدم فضلا عن أن يكون ماشيا بهما.
__________
(1) هو محمد بن عبد السلام بن يوسف بن كثير الهواري، التونسي، المالكي أبو عبد الله. ت:
749 - هـ 1348م، قاضي الجماعة بتونس، كان إماما عالما حافظا متفننا في علمي الأصول والعربية، وعلم الكلام، وعلم البيان، فصيح اللسان، عالما بالحديث، تخرج بين يديه جماعة من العلماء منهم: ابن عرفة الورغمي. له «تقاييد»، وشرح مختصر ابن الحاجب الفقهي شرحا حسنا سماه: «شرح تنبيه الطالب لفهم ألفاظ جامع الأمهات لابن الحاجب» يقع في مجلدات.
انظر: الديباج: 2/ 330329.
(2) هو أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي السكاكي الخوارزمي (سراج الدين). ت:
626 - هـ 1229م. عالم في النحو، والتصريف، والمعاني، والبيان، والعروض، والشعر. من آثاره: «مفتاح العلوم» و «مصحف الزهرة». انظر: كشف الظنون: 2/ 1762، ومعجم المؤلفين:
13/ 282.
(3) مفتاح العلوم: ق 3/ 70.(1/419)
العلم الثاني: القراءات:
وقد تقدم أن لأئمة هذا الفن مبالغة عظيمة في حفظ القراءة من اللحن، وذلك أوضح شاهد على اعترافهم بالافتقار إلى العربية، إذ لا بد من الرجوع إليها في صحة القراءة، على ما سبقت الإشارة إليه.
وأما تصريحهم: بوجوب العلم بها على الجملة في حق المتصدر لإقراء القرآن، وأخذ الأداء عنه مجودا، فاسمع من ذلك ما هو أبلغ مما تقدم عنهم.
فقال الإمام أبو بكر ابن مجاهد: «ومن حملة القرآن، المعرب، العالم بوجوه الإعراب والقراءات، العارف باللغات ومعاني الكلام، البصير بعيب القراءة، المنتقد للآثار، فذلك الإمام الذي يفزع إليه حفاظ القرآن في كل مصر من أمصار المسلمين. ومنهم من يعرب ولا يلحن، ولا علم له بغير ذلك، فذلك كالأعرابي الذي يقرأ بلغته ولا يقدر على تحويل لسانه، فهو مطبوع على كلامه.
ومنهم من يؤدي ما سمعه ممن أخذه عنه، ليس عنده إلا الأداء لما تعلم، لا يعرف الإعراب، ولا غيره فذلك الحافظ، ولا يلبث مثله أن ينسى 117و / / إذا طال عهده، فيضيع الإعراب لشدة تشابهه، وكثرة ضمه، وفتحه، وكسره في الآية الواحدة، لأنه لا يعتمد على علم بالعربية، وبصر بالمعاني يرجع إليه، وإنما اعتماده على حفظه، وسماعه، وقد ينسى الحافظ فيضيع السماع، وتشتبه عليه الحروف، فيقرأ بلحن لا يعرفه، وتدعوه الشبهة إلى أن يرويه عن غيره، ويبرىء نفسه، وعسى أن يكون عند الناس مصدقا، فيحمل ذلك عنه، وقد نسيه وأوهم فيه، وجسر على لزومه والإصرار عليه، أو يكون قد قرأ على من نسي، وضيع الإعراب، ودخلته الشبهة، فتوهم بذلك، لا يقلد في القراءة، ولا يحتج بقوله.
ومنهم من تعرف قراءته، ويبصر بالمعاني، ويعرف اللغات، ولا علم له بالقراءات، واختلاف الناس والآثار، فربما دعاه بصره بالإعراب إلى أن يقرأ
بحرف جائز في العربية لم يقرأ به أحد من الماضين، فيكون بذلك مبتدعا».(1/420)
ومنهم من تعرف قراءته، ويبصر بالمعاني، ويعرف اللغات، ولا علم له بالقراءات، واختلاف الناس والآثار، فربما دعاه بصره بالإعراب إلى أن يقرأ
بحرف جائز في العربية لم يقرأ به أحد من الماضين، فيكون بذلك مبتدعا».
انتهى بما فيه من زائد على المحتاج إليه في الموضع لما حصل به من فوائد مهمة.
قال ابن أبي الأحوص: «وقال الداني ومكي (1) ويزيد كلام أحدهما على الآخر، وهو كلام من قبلهما: قراء القرآن متفاضلون في العلم بالتجويد والمعرفة بالتحقيق. فمنهم من يعلم ذلك قياسا وتمييزا، ورواية، فذلك الحاذق، الفطن، النبيه، ومنهم من يعلمه سماعا وتقليدا، فذلك العيي الفهه (2) الضعيف، لا يلبث أن يشك ويدخله التحريف، والتصحيف، إذ ليس على أصل، ولا نقل عن فهم، والعلم فطنة ودراية آكد منه سماعا ورواية، وللدراية ضبطها ونظمها، وللرواية نقلها وتعلمها، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
قال مكي: فليس ينبغي لطالب القرآن أن يهمل نفسه، وينقل عمن لا يجوز النقل عنه ممن هذه الصفات صفاته، ويجب عليه أن يتخير 117ظ / / بقراءته ونقله وضبطه، أهل الديانة والصيانة، والفهم في علوم القرآن، والنفاذ في العربية، وصحة النقل عن الأئمة المشهورين بالعلم».
قال ابن أبي الأحوص بعد إشارته إلى أن ما تقدم من وصف هؤلاء الأئمة: «إنما يشترط لإحراز الغاية، وأقل درجة من يؤخذ عنه التجويد والقراءة أن يكون عنده من علم القراءة، والعربية، ما لا يسع جهله لصاحب هذا الفن، وتدعوه الضرورة إلى معرفته من غير تجرد في ذلك، وتكون له قراءة وتمرن على شيخ من أهل الأداء مشهور بمثل ذلك أو بما فوقه، معروف عند أهل هذه الطريقة، ومن قصر عن هذه الدرجة، فلا يحل الأخذ عنه ولا يحل له التصدر لذلك» اه.
__________
(1) هو أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي. ت: 437هـ 1045م. كان نحويا فاضلا، عالما بوجوه القراءات، وله فيها كتب كثيرة منها: «كتاب إعراب مشكل القرآن» و «كتاب التبصرة» في القراءات السبع، و «كتاب البيان عن وجوه القراءات». انظر: الجذوة للحميدي: 351، والنزهة:
347، والصلة: 633631.
(2) الفه: العي والغفلة.(1/421)
وقال ابن الباذش (1) إثر عده لشروط المنتصب لإقراء القرآن وذكره [لأشياء لا بد منها «وتلك] (2) الأشياء التي وصفنا مرجع قرائها إلى أمرين:
أحدهما: التبحر في علم اللسان.
والثاني: التلاوة على الشيوخ.
فالاتساع في علم العربية، يوصل إلى حقيقة النطق بالحروف على حد كلام العرب، وما تنطق به، وبه يوصل إلى معرفة الوقف والابتداء، وبه يعرف وجه قراءة كل قارىء، ورأي كل رائي من أهل الأداء.
وبالتلاوة على الشيوخ المهرة يتحصل أسلوب القراءة، وصورة الأخذ، وحقيقة الأداء» اه.
قال الشيخ الإمام «أبو عبد الله القيجاطي» (3) في «بعض تقاييده»: «ويؤيد ذلك ويوضحه ما رواه الحافظ أبو عمر، وبسند عن ابن أبي مليكة قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا يقرىء القرآن إلا عالم باللغة وأمر أبا الأسود فوضع النحو» (4).
قلت: تقدم نقل ذلك مستوفى حسبما خرجه ابن الأنباري (5) عن تلك الرواية في بعض طرقه.
__________
(1) هو أحمد بن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري الغرناطي أبو جعفر المعروف بابن الباذش. ت:
541 - هـ 1145م. إمام في المقرئين، راوية مكثر، عارف بالأدب، والإعراب، بصير بالأسانيد.
ألف كتاب «الإقناع» في القراءات، و «الطرق المتداولة في القراءات». انظر: الإحاطة: 1/ 194 196، ومخ فهرست المنتوري. وذكر أنه له برنامجا، والديباج: 1/ 191190، وطبقات القراء:
1/ 83.
(2) ما بين المعقوفتين ساقط من «أ».
(3) هو محمد بن محمد بن علي أبو عبد الله الكناني القيجاطي الأندلسي. ت: 811هـ 1408م.
وكان أستاذ المنتوري، أستاذ، مقرىء، انتهت إليه مشيخة الإقراء في الأندلس. روى عنه في فهرسته كثيرا، وتعد هذه الفهرسة المصدر الأول في ترجمة صاحبنا. له تصانيف منها: «مخارج الحروف»، و «كتاب الإيماء إلى وجوه الدلالات على عدم وجوب تواتر القراءات»، و «كتاب الرد على من اعترض كتاب الإيمان إلى وجوه الدلالات». انظر: مخ فهرست المنتوري: 12/ 13 و 53، وطبقات القراء: 2/ 244243.
(4) انظر: ص: 329وما بعدها من هذا الكتاب، 82و / ظ من مخ «أ».
(5) انظر: ص: 329وما بعدها من هذا الكتاب، 82و / ظ من مخ «أ».(1/422)
حكاية:
يشهد وقوعها لما حذروا 118و / / منه في جانب المتصدر لإقراء القرآن مع جهله بالعربية وفيها أبلغ عبرة.
فيروى عن [يونس] (1) بن عبد الله بن مغيث (2) أنه قال: «أدركت بقرطبة مقرئا يعرف بالقرشي، وكان لا يحسن النحو، فقرأ عليه قارىء يوما {وَجََاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذََلِكَ مََا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (3) فرد عليه القرشي «تحيد» بالتنوين، فراجعه القارىء وكان يحسن النحو فلج عليه المقرىء، وثبت على التنوين، فانتشر الخبر إلى أن بلغ يحيى بن مجاهد الألبيري الزاهد (4) وكان صديقا لهذا المقرىء، فنهض إليه، فلما سلم عليه، وسأله عن حاله قال له ابن مجاهد: إنه بعد عهدي بقراءة القرآن على مقرىء، فأردت تجديد ذلك عليك فأجابه إليه، فقال أريد أن أبتدىء «بالمفصل» فهو الذي يتردد في الصلوات، فقال المقرىء:
أقرأ ما شئت، فقرأ عليه من أول «المفصل» فلما بلغ الآية المذكورة ردها عليه المقرىء بالتنوين.
فقال له ابن مجاهد: لا تفعل، ما هي إلا غير منونة بلا شك، فلج المقرىء، فلما رأى ابن مجاهد تصميمه قال له: يا أخي: إني لم يحملني على القراءة عليك إلا لتراجع الحق في لطف وهذه عظيمة أوقعك فيها قلة علمك بالنحو، فإن الأفعال لا يدخلها التنوين، فتحير المقرىء إلا أنه لم يقنع بهذا، فقال له ابن مجاهد: بيني وبينك المصاحف، فأحضر منها جملة فوجدوها
__________
(1) في الأصول: يوسف.
(2) قاضي الجماعة بقرطبة، وصاحب الصلاة والخطبة بجامعها، يكنى أبا الوليد، ويعرف بابن الصفار. ت: 249هـ 1037م، وكان من أهل العلم بالفقه والحديث، كثير الرواية، له تصانيف منها: «فضائل المنقطعين إلى الله»، و «فضائل المتهجدين» و «كتاب الابتهاج بمحبة الله». انظر:
الجذوة للحميدي: 385384، والمطمح: 291289، والصلة: 686684.
(3) سورة ق، الآية: 19.
(4) يحيى بن مجاهد الفزاري الزاهد، له كلام يدل على ذكاء وبصيرة، روى عنه أبو الوليد يونس بن عبد الله القاضي. انظر: الجذوة للحميدي: 379.(1/423)
مشكولة بغير تنوين فرجع المقرىء إلى الحق» اه (1).
وعلى شناعة مضمنها فقد جعله الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله لما رجع إلى الصواب «أقرب مراما من حال من يعتمد على أخذه في زمان صباه لبعض وجوه الأداء على وجه لا تسوغه العربية، ولا يجري على قواعد صنعة الإقراء، ثم يصر على ما رسخ عنده زاعما أنه كذلك 118ظ / / أخذه عن شيخه من غير التفات إلى الحق الواجب على كل أحد أن يرجع إليه إذا ظهر» (2).
العلم الثالث: الحديث:
نقلوا عن شعبة أنه قال: «مثل صاحب الحديث الذي لا يعرف العربية مثل الحمار عليه مخلاة ولا علف فيها» (3).
وعن حماد بن سلمة: «مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو مثل الحمار عليه مخلاة لا شعير فيها» (4).
وعن الأوزاعي (5) «أعربوا الحديث فإن القوم كانوا عربا» (6).
وذكر «ابن عبد البر» في «بيان العلم» (7) عن المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي (8) أنه جاءه الداروردي (9) يعرض عليه الحديث، فجعل يقرأ ويلحن
__________
(1) الاعتصام: 2/ 351350.
(2) انظر: م. س: 2/ 350.
(3) إيضاح الوقف: 1/ 61.
(4) م. س: 1/ 61ومقدمة ابن الصلاح: 191.
(5) هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (نسبة إلى قبيلة الأوزاع) ت: 157هـ 774م. إمام الديار الشامية في الفقه والزهد، واحد الكتاب المترسلين. له كتاب: «السنن» في الفقه، و «المسائل». انظر الفهرست / 332، والوفيات: 3/ 128127.
(6) انظر جامع العلم: 1/ 78.
(7) انظر: م. س: 1/ 81.
(8) أبو هاشم المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش المخزومي المتوفى سنة 186هـ 802م.
فقيه أهل المدينة بعد مالك بن أنس، عرض عليه الرشيد القضاء فامتنع، وكان مدار الفتوى فيها عليه، وعلى محمد بن إبراهيم بن دينار. انظر الشذرات: 1/ 310.
(9) هو عبد العزيز بن محمد بن عبيد الداروردي الجهني بالولاء، المدني أبو محمد. ت: نحو 186هـ 802م، محدث، روى عنه خلق كثير، منهم سفيان وشعبة، وكان سيىء الحفظ،(1/424)
لحنا منكرا، فقال له المغيرة: «ويحك يا داروردي، كنت بإقامة لسانك قبل طلب هذا الشأن أحرى».
ونقلوا عن الأصمعي أنه قال: «إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو، أن يدخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم «من كذب علي معتمدا فليتبوأ مقعده من النار» (1) لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن، فمهما رويت عنه، ولحنت فيه، كذبت عليه» (2).
قال ابن الصلاح (3) إثر نقل هذا: «قلت: فحق على طالب الحديث أن يتعلم من النحو واللغة ما يتخلص به من شين اللحن والتحريف ومعرتهما» اه (4).
وفي «رباعيات البخاري» (5): «وقد ذكر جملة منها ثم لا تتم له هذه الأشياء إلا بأربع من كسب العبد.
قال: أعني معرفة الكتابة، واللغة، والضبط، والنحو».
ولابن السيد في باب الخلاف العارض من جهة الرواية في كتابه الموضوع في «أسباب الخلاف» (6) مزيد إنكار على من أخل من المحدثين بشرط تقدم حظه من العربية قبل طلبه الحديث، وهو إنكار تساعده شهادة أئمة 119و / / هذا العلم.
__________
نسبته إلى دارورد من قرى خراسان، أصله منها، ومولده ووفاته بالمدينة. انظر: التذكرة: 1/ 269. والتهذيب: 6/ 355353.
(1) انظر: صحيح البخاري: 2/ 114، ورباعيات البخاري: 161.
(2) مقدمة ابن الصلاح: 191.
(3) هو عثمان بن عبد الرحمن النصري الشهرزوري الكردي الشرخاني، أبو عمرو تقي الدين، المعروف بابن الصلاح. ت: 643هـ 1245م. أحد الفضلاء المقدمين في التفسير، والحديث، والفقه، وأسماء الرجال، له كتاب «معرفة أنواع علم الحديث»: يعرف بمقدمة ابن الصلاح، و «الأمالي» و «الفتاوى» و «شرح الوسيط» في فقه الشافعية، و «فوائد الرحلة». انظر: الوفيات: 3/ 245243، وطبقات الشافعية: 8/ 336326.
(4) مقدمة ابن الصلاح: 191.
(5) المقصود برباعيات البخارى: الأحاديث التي تكون أسانيدها رباعية.
(6) انظر الإنصاف: 185184.(1/425)
قال عند ذكره أن الجهل بالإعراب، ومباني كلام العرب ومجازاتها: «أن ذلك من جملة العلل لوقوع الخلاف من جهة الرواية، وذلك أن كثيرا من رواة الحديث قوم جهال اللسان العربي، لا يفرقون بين المرفوع، والمنصوب، والمخفوض.
قال: ولعمري لو أن العرب وضعت لكل معنى لفظا يؤدى عنه، لا يلتبس بغيره، لكان لهم عذر في ترك تعلم الإعراب، ولم يكن بهم حاجة إليه في معرفة الخطإ من الصواب، ولكن العرب قد تفرق بين المعنيين المتضادين بالحركات فقط، واللفظ واحد، ألا ترى أن الفاعل والمفعول ليس بينهما أكثر من الرفع والنصب، فربما حدث المحدث بالحديث فرفع لفظة منه ينوي بها أنها فاعلة، ونصب أخرى ينوي بها أنها مفعولة فنقل عنه السامع ذلك الحديث، فرفع ما نصب، ونصب ما رفع، جهلا منه بما بين الأمرين فانعكس المعنى إلى ضد ما أراده المحدث الأول.
ألا ترى أن قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل قرشي صبرا بعد اليوم» (1) إذا جزمت اللام من «يقتل» كان له معنى، وإذا رفعت كان له معنى آخر» اه.
وذكر بعد ذلك في علة التصحيف وهو مما حذر منه أئمة هذا الشأن، «أن من طريف ما وقع في كتاب مسلم [«نحن يوم القيامة على كذا، انظر».
قال: وهذا شيء لا يتحصل له معنى، وهكذا تجده في أكثر النسخ، وإنما هو] (2) نحن يوم القيامة على كوم، والكوم جمع كومة، وهو المكان المشرف، فصحفه بعض النقلة فكتب: «نحن يوم القيامة على كذا»، فجاء من قرأ، فلم يفهم ما هو، فكتب في طرة الكتاب «انظر» يأمر قارىء الكتاب بالنظر فيه وينبهه عليه، فوجده ثالث فظنه من الكتاب فألحقه بمتنه» (3).
حكاية:
تتضمن الشهادة 119ظ / / بتقديمهم للعربية قبل طلب الحديث، وهي ما
__________
(1) انظر الحديث في شرح صحيح مسلم 3/ 1409: من حديث عبد الله بن مطيع عن أبيه.
(2) ما بين المعقوفتين ساقط من «ج».
(3) انظر الإنصاف: 190189.(1/426)
ذكره «الخطيب» في تاريخه عن «أبي العيناء» (1) قال:
«أتيت عبد الله بن داود [الخريبي] (2) فقال: ما جاء بك؟ قلت: الحديث، قال اذهب فتحفظ القرآن، قال: قلت: قد حفظت القرآن، قال: اقرأ، {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} (3)، قال: قرأت العشر حتى أنفدته، قال: فقال لي: اذهب الآن فتعلم الفرائض.
قال: قلت: قد تعلمت الصلب، والجد، [والكبر]؟ (4) قال: فأيما أقرب إليك، ابن أخيك أو ابن عمك؟ قال: قلت: ابن أخي، لأن أخي من أبي، وعمي من جدي، قال: اذهب الآن، فتعلم العربية، قال: قلت: علمتها قبل هذين، قال: فلم قال عمر بن الخطاب حين طعن: يا لله، يا للمسلمين، لم فتح تلك، وكسر هذه؟
قال: قلت: فتح تلك اللام على الدعاء، وكسر هذه على الاستغاثة والاستنصار، قال: فقال: لو حدثت أحدا لحدثتك» (5).
فائدة:
اختلفوا بعد اتفاقهم على اشتراط العلم بالعربية على الجملة قبل الاشتغال بطلب الحديث، هل يقدم فيه على إصلاح اللحن لأن القوم كانوا عربا، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يلحن، أو يروى على حاله من الخطأ في الإعراب.
قال ابن الصلاح: «والأول مذهب المحصلين، والعلماء من المحدثين،
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن القاسم بن خلاد، المعروف بأبي العيناء. ت: 283هـ 896م. كان من أحفظ الناس، وأفصحهم لسانا، وأسرعهم جوابا، سمع من أبي عبيدة، والأصمعي، وروى عنه أحمد بن محمد المكي، والصولي. انظر تاريخ بغداد: 3/ 179170، والوفيات: 348343.
(2) في الأصول: الحربي، والتصويب من تاريخ بغداد.
(3) سورة يونس، الآية: 71.
(4) كذا في الأصول، وتاريخ بغداد، ولعلها: الكسر.
(5) تاريخ بغداد: 3/ 173172.(1/427)
والقول به في اللحن الذي لا يختلف به المعنى، وأمثاله لازم على تجويز رواية الحديث بالمعنى، وهو قول الأكثرين.
قال: وأما إصلاح ذلك وتغييره في كتابه، فالصواب تركه، وتقرير ما وقع في الأصل على ما هو عليه مع التضبيب عليه، وبيان الصواب خارجا في الحاشية، فإن ذلك أجمع للمصلحة، وأنفى للمفسدة» (1).
ثم حكى بعد كلام ملخص ما ذكره «عياض» في «الإلماع» (2) «أن الذي استمر عليه عمل أكثر الأشياخ نقل الرواية كما وصلت إليهم 120و / /، ولا يغيرونها من كتبهم حتى (3) اطردوا ذلك في كلمات من القرآن، استمرت الرواية في الكتب عليها بخلاف التلاوة المجمع عليها».
ثم مضى في تلخيص كلام القاضي إلى أن ذكر قوله:
ومنهم من جسر على الإصلاح قال: منهم القاضي أبو الوليد الوقشي فإنه لكثرة مطالعته وافتنانه (4) وثقوب فهمه وحدة ذهنه، جسر على الإصلاح كثيرا، وغلط في أشياء من ذلك وكذلك غيره ممن سلك مسلكه» (5).
ثم تمم بقية الكلام في ذلك فراجعه من هناك، إذ القصد ذكر عمل [أهل] (6) هذا الفن على الجملة بمقتضى ما شهدوا به للعربية من شرط معرفة المحتاج منها قبل الطلب للحديث كل على حسب ما نصب إليه نفسه، وقصد الوصول إليه.
العلم الرابع: أصول الدين:
قد تقدم عن إمامي الأيمة مالك والشافعي رحمهما الله في أوائل هذا
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح: 192.
(2) انظر ص: 186.
(3) في مقدمة ابن الصلاح: 192: حتى في أحرف القرآن.
(4) في «الإلماع»: 186: وتفننه.
(5) انظر مقدمة ابن الصلاح: 192.
(6) ساقط من «أ».(1/428)
الباب (1) ما يشهد باحتياج هذا العلم إلى العربية كاحتياج غيره من أنواع العلوم الإسلامية، وسبق عن ابن خروف (2) في حفظ العربية للعقل قوله:
«ولم يزل كتاب سيبويه معظما عند أهل علوم الشريعة عن بكرة أبيهم، فقهائهم ومحدثيهم، وقرائهم.
قال: وأكثرهم عناية به أرباب الكلام، أشعريهم ومعتزلهم، وفزعهم في نوازلهم إليه، واعتمادهم في حججهم عليه.
ثم ذكر احتجاج القاضي بعبارته على مخالفيه من غير إسناد إلى العرب».
وقد قلنا: إن الأمر في هذا واضح في نفسه، وإنما قصدت مزيد طمأنينة نفس من لم يكتف لقصوره بجعل ما تقدم أنور دليل عليه.
ولذلك فلنذكر هنا أمثلة من جنس ما تقدم عند الكلام على حفظ العربية للدين يظهر بها ما ظهر هناك من الضلال في أصول الدين بسبب الجهل بالعربية كما قال 120ظ / / ابن جني، وشهد له برهان الوجود، وصدقه.
المثال الأول:
يروى عن أبي عمرو بن العلاء أنه مر بعمرو بن عبيد وهو يتكلم في الوعد والوعيد ويثبته، فقال له أبو عمرو: «ويلك يا عمرو، إنك ألكن الفهم، ألم تسمع إلى قول القائل (3):
وإني وإن أوعدته، أو وعدته ... لمخلف إيعادي، ومنجز لوعدي
إنما أراد أن الله تعالى قد وعد، وأوعد، وهو قادر على أن يعفو عمن أوعده، وقادر على أن ينجز لمن وعده» (4).
قال الزبيدي: وأنشد بعضهم قبله:
__________
(1) انظر: 74ظ / 75من مخ «أ». ص: 311310من هذا الكتاب.
(2) انظر: 93ومن مخ «أ». ص: 358من هذا الكتاب.
(3) هو عامر بن الطفيل كما ذكر صاحب اللسان: وعد.
(4) طبقات الزبيدي: 4039.(1/429)
«ولا يرهب ابن العم والجار صولتي ... ولا أتقي (1) من خشية المتهدد
قال: وفي بعض الروايات أن «ابن عبيد» قال لأبي عمرو: يا أبا عمرو شغلك الإعراب عن معرفة الصواب» (2).
قلت: وكذب، بل الإعراب من جملة ما هداه إلى الصواب في هذا الأصل على الخصوص، واتباع الأهواء المضلة مع الجهل بما تعرف العرب، وتتمدح به، أوقعه هو أعني ابن عبيد في ضلال هذه البدعة.
وفي بعض الروايات، أنه أجاب بأن قال: أتصف ربك بأنه مخلف، وإلا فقد أبطلت شاهدك.
قال القاضي عبد الوهاب (3) في «شرح عقيدة الرسالة»: «وهذا من ركيك الكلام، وضعيف القول، وقرره بما حاصله أن الشاعر لم يصف نفسه بالإخلاف على سبيل الذم لها، ولكن على طريق التجاوز، والصفح.
قال: ومما يوضح ذلك قول كعب بن زهير (4) وإنشاده النبي صلى الله عليه وسلم:
أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول (5)
قال: فمدحه بما هو عندهم في غاية الحسن، وتعظيم المدح، ووصفه
__________
(1) في م. س: 39: ولا أختفي.
(2) في م. س: ص: 40.
(3) هو أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي: ت: 422هـ 1030م كان من فقهاء المالكية، حسن النظر، جيد العبارة، ثقة، حجة، نسيج وحده، وفريد عصره، ولي القضاء ببغداد، وقضاء المالكية بمصر، قيل له: مع من تفقهت؟ قال: صحبت الأبهري، وتفقهت مع أبي الحسن ابن القصار، وأبي القصار بن الجلاب، والذي أفتح أفواهنا، وجعلنا نتكلم: أبو بكر ابن الطيب القاضي. له تآليف منها: «المعونة» لمذهب عالم المدينة، و «الأدلة» في مسائل الخلاف، و «التلخيص» في أصول الفقه، و «التلقين» و «شرح رسالة ابن أبي زيد».
انظر: المدارك 7/ 227220، والوفيات: 3/ 222219، والديباج: 2/ 2926.
(4) كعب بن زهير بن أبي سلمى الشاعر الجاهلي المشهور. ت: 26هـ 645م. انظر: طبقات الشعراء: 1/ 97.
(5) البيت من قصيدته التي قالها في مدح «الرسول صلى الله عليه وسلم» والتي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يجز مكبول
انظر الديوان: 19.(1/430)
بالكرم والتفضل 121و / / ولم ينكر ذلك عليه هو صلى الله عليه وسلم ولا أحد من المسلمين، ولا أحد من أهل اللغة، وغيرهم من العقلاء، يخالف في أن العفو عن الذنب إذا تعقب الوعيد أنه لا يوجب ذم المتوعد ولا يصفه بالنقص، ولا يخطىء في ذلك» اه.
قلت: وذكر بعض شراح الرسالة أن الحكاية وقع مثلها للخليل مع عمرو بن عبيد، ومساقها: «أن الخليل مر بعمرو فقال له: أرأيت من وعد وعدا فلم يف به أيكون كذابا؟ فقال: نعم، فقال: [أفرأيت من أوعد وعيدا ثم لم يف أيكون كذابا؟ قال: نعم] (1)، قال الخليل: أتيت من العجمة، أو قال: من لكنتك، فقال عمرو: من لكنة اللسان أو من لكنة النسب؟ فقال الخليل: من لكنة الفهم والمعرفة بقول العرب، هذا النعمان بن المنذر (2) يقول:
«أنجز وعدي، وأخلف إيعادي»
أفتراه أنه أراد إعلام الناس أنه كذاب؟ وأنشد قول كعب بن زهير يمدح النبي صلى الله عليه وسلم.
«أنبئت أن رسول الله أوعدني» البيت]» اه
المثال الثاني:
حكى عياض في المدارك (3) «أن أبا عبيد الله الشيعي (4) أو أخاه أبا
__________
(1) ما بين المعقوفتين ساقط من «ج».
(2) النعمان بن المنذر بن امرىء القيس اللخمي (أبو قابوس) ت: نحو 15ق. هـ 608م من أشهر ملوك الحيرة في الجاهلية، كان داهية مقداما، وهو ممدوح النابغة الذبياني، وحسان بن ثابت، وحاتم الطائي، وهو صاحب يومي البؤس والنعيم وقاتل عبيد بن الأبرص الشاعر في يوم بؤسه، انظر الكامل: 1/ 490483، والخزانة: 1/ 185.
(3) 5/ 83.
(4) هو الحسين بن أحمد بن محمد، أبو عبيد الله المعروف بالشيعي. ت: 298هـ 911م، ممهد دولة العبيديين وناشر دعوتهم، وهو من أعيان الباطنية وأعلامهم، قتله المهدي الشيعي كما قتل أخاه أبا العباس. انظر الوفيات: 2/ 194192، وتاريخ ابن خلدون: 3/ 362و 4/ 37 48.(1/431)
العباس قال: القرآن يقول: «إنّ محمّدا ليس بخاتم النّبيئين» (1) فقال له ابن الحداد (2) المشهور الذكر في علماء القيروان: أين ذلك؟. قال: في قوله:
«ولكن رسول الله وخاتم النبيئين» (3) فخاتم النبيئين غير رسول الله، فقال له هذه الواو ليست من واوات الابتداء، وإنما هي من واوات العطف كقوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظََّاهِرُ وَالْبََاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4). هل أحد يوصف بهذه الصفات غير الله تعالى؟».
قلت: قال ابن عطية: «وقد نقل من الأحاديث ما يوافق لفظ الآية 121ظ / /:
كقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا خاتم الأنبياء» بفتح التاء، وهذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة خلفا وسلفا ملقاة (5) على العموم التام، مقتضية نصا: أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم».
وقال بعض الشيوخ: «معنى تسميته صلى الله عليه وسلم «بخاتم النبيئين» أنه آخرهم لا يزاد في الأنبياء بعده نبي، فذلك كناية عن انقطاع النبوة بعده حسبما جاء به الكتاب وتكررت به السنة، وعلم من دين الأمة ضرورة».
قلت: وحكى ابن حزم في «مراتب الإجماع» (6): «اتفاق الأمة على ذلك».
المثال الثالث:
حكي أيضا عن أبي عبيد الله الشيعي: «أنه قال مرة أخرى: أخبرنا الله أن
__________
(1) من قوله تعالى: {مََا كََانَ مُحَمَّدٌ أَبََا أَحَدٍ مِنْ رِجََالِكُمْ وَلََكِنْ رَسُولَ اللََّهِ وَخََاتَمَ النَّبِيِّينَ}. سورة الأحزاب، الآية: 40.
(2) هو أبو عثمان سعيد بن محمد المغربي المالكي. ت: 302هـ 914م، كان عالما باللغة، نافذا في النحو، عربي اللسان، جهير الصوت، عالما بالفقه والكلام، والرد على الفرق صحب أول أمره سحنون، وسمع منه، ونزع إلى مذهب الشافعي، كان يسمي «المدونة» «المدودة» ونقض بعضها فهجره أصحاب سحنون، وبقي مهجورا إلى أن ناظر أبا عبد الله الشيعي، وأخاه أبا العباس عند دخولهما بدعوة بني عبيد القيروان، فمالت إليه قلوب العامة، وأجمعوا على فضله، من تصانيفه:
«توضيح المشكل في القرآن»، و «الأمالي»، و «المقالات». انظر: المدارك: 5/ 9078.
(3) سورة الأحزاب، الآية: 40.
(4) سورة الحديد، الآية: 3.
(5) في «ج»: متلقاة.
(6) ص: 173حيث قال: «واتفقوا أنه لا نبي مع محمد صلى الله عليه وسلم ولا بعده أبدا».(1/432)
أصحاب محمد يرتدون بعده، فقال: وأين ذلك؟ قال: في قوله تعالى: {أَفَإِنْ مََاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى ََ أَعْقََابِكُمْ} (1). فقال ابن الحداد: إنما هذا على الاستفهام كقوله تعالى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخََالِدُونَ} (2) ومعناه: التقرير، ومعنى «انقلبتم»: أفتنقلبون؟ والاستفهامان إذا جاءا في قصة استغني بأحدهما عن الآخر» (3).
ونظيره كقوله تعالى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخََالِدُونَ}.
قلت: عبر عن ذلك ابن عطية وعزاه لكثير من المفسرين: «أن ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها، لأن الغرض إنما هو: أتنقبلون على أعقابكم إن مات محمد؟
فالسؤال إنما هو جواب الشرط، واختار هو أن ألف الاستفهام دخلت على جملة الكلام على الحد الذي يخبر به ملتزمه، لأن أقبح الأقوال أن يقولوا:
إن مات محمد صلى الله عليه وسلم أو قتل انقلبنا فلما كان فعلهم ينحو هذا المنحى وقفوا على الحد الذي به يقع الإخبار، قال: وبهذا يبين وجه فصاحة دخول الألف على الشرط.
قال: وذلك شبيه بدخول ألف التقرير في قوله تعالى: {أَوَلَوْ كََانَ آبََاؤُهُمْ} (4) ونحوه من الكلام، كأنك أدخلت التقرير 122و / / على ما ألزمت المخاطب أنه يقوله، أو هو في حكم من يقوله».
قلت: ولو فهم الشيعي هذا أو بعضه لما قال ما حمله عليه إلحاده، وبغضه في السلف الصالح، فهو كما قيل في أمثاله: من أهل الزيغ والضلالة «أهلكتهم العجمة» (5) أو على أنهم ربما عرفوا أوجه الإعراب على خلاف
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 144.
(2) سورة الأنبياء، الآية: 34.
(3) انظر المدارك: 5/ 8483.
(4) سورة البقرة، الآية: 170، والمائدة، الآية: 104.
(5) انظر: 76ظ من مخ «أ». ص: 189من هذا الكتاب.(1/433)
معتقدهم في السلف الصالح فيغيرونه ليصير إلى مذهبهم.
كما يحكى عنهم أنهم قالوا في قوله صلى الله عليه وسلم: «ما تركنا صدقة» إنما هو بنصب صدقة، أي لا يورث، ما تركناه وقفا، ومفهومه: أنهم يورثون في غيره.
ومثله قولهم في قوله صلى الله عليه وسلم: «فاقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر» «إنما هو أبا بكر وعمر» فانعكس المعنى أي: «يا أبا بكر وعمر» فيكونان مقتديين لا مقتدى بهما. والأمثلة في هذا المقام كثيرة، ولولا خشية السآمة لنقلنا منها ما يشهد لفضيحة من تكلم في أصول الدين، وهو جاهل بالعربية، أو يغالط بادعاء ما يتخرج عليه اعتقاده، وفيما ذكرناه مع ما تقدم كفاية.
العلم الخامس: أصول الفقه:
ويكفي من شهادة أهل العلم بافتقاره إلى العربية أنهم جعلوها أحد مواده.
كقول «ابن الحاجب» في «مختصره الأصلي»: «وأما استمداده يعني هذا العلم فمن الكلام، والعربية، والأحكام».
ثم بين وجه استمداده من العربية بقوله: «وأما العربية فلأن الأدلة من الكتاب، والسنة عربية» (1).
وشرحه «العضد» (2) بقوله: «وأما العربية، فلأن الكتاب والسنة عربيان، والاستدلال بهما يتوقف على معرفة اللغة من حقيقة، ومجاز، وعموم، وخصوص، وإطلاق، وتقييد، ومنطوق، ومفهوم، وغير ذلك» (3) اه.
وفي اعتراف إمام الحرمين بذلك مزيد عناية بالعربية قبل التحقق بهذا
__________
(1) انظر مخ «مختصر ابن الحاجب» بخزانة القرويين: ضمن مجموع تحت رقم 722. ص: 1.
(2) هو عبد الرحمن بن أحمد أبو الفضل عضد الدين الإيجي. ت: 756هـ 1355م. عالم بالأصول والعربية، من أهل (إيج) بفارس، ولي القضاء، وجرت له محنة مع صاحب كرمان فحبسه إلى أن مات، من تصانيفه: «المواقف» في علم الكلام، و «جواهر الكلام» و «شرح مختصر ابن الحاجب». انظر البغية: 2/ 7675.
(3) انظر مخ شرح العضد لمختصر ابن الحاجب بخزانة القرويين تحت رقم: 629. ص: 5، وهذا الشرح مطبوع، ولم أتمكن من الحصول على نسخة منه، فاستعنت بالمخطوط.(1/434)
العلم، فإنه بعد ذكره في «برهانه» 122ظ / / أن من مراده «العربية» لتعلق طرف صالح منه بالكلام على مقتضى الألفاظ». قال: «ولن يكون المرء على ثقة من هذا الطرف حتى يكون محققا مستقلا في اللغة والعربية»، فشرط [التحقيق] (1)
والاستقلال في علوم العربية على الجملة، وحينئذ يكون على ثقة من مادة هذا العلم.
وشرحه «الأبياري» (2) بأن المراد: «العلم بأصول الفقه، لا يحصل دون تقديم هذه المواد»، وله في أثناء «البرهان» من هذا المعنى قوله في بعض مسائل العموم والخصوص، وقد ذكر عن سيبويه ما يتلقى من صناعة العربية: «مصادمة الأئمة في الصناعة، والخروج عن رأيهم لا سبيل إليه، والرجوع في قضايا العربية إليهم، والاستشهاد في مشكلات الكتاب والسنة بأقوالهم».
قلت: ومع اعترافهم بافتقار علمهم إلى العربية وإشادتهم بفضل المعرفة بها قبل الخوض في مباحث علمهم.
فقد زعم ابن خروف في تعرضه للبحث مع «إمام الحرمين»: «أنّهم ما حصلوا بعد على معرفتها».
قال ما نصه: «ولما قرأت علم الأصول بحثت عن معرفة أهلها بعلم اللسان، فوجدت جمهورهم في كتبهم خالين منه، والعارف به من أشياخهم غير مستقل به، وجميعهم مقلد فيه، لأنهم لا يعلمون صواب تأويل ما نقلوا من ذلك، واحتجوا به من خطئه، وكذلك من أخذ عنهم إلى هلم جرا» اه.
ثم استدل على ذلك بمسائل ذكرها متعقبا لها من جهة النظر في العربية
__________
(1) في «ج»: التحقق.
(2) هو علي بن إسماعيل، الملقب بشمس الدين، والمشهور بأبي الحسن الأبياري «نسبة إلى مدينة أبيار» من بلاد مصر على شاطىء النيل، وهي بفتح الهمزة. ت: 616هـ 1219م، من العلماء الإعلام، كان بارعا في الفقه، والأصول، وعلم الكلام، ودرس بثغر الإسكندرية، له تصانيف منها: «شرح البرهان» لأبي المعالي الجويني، و «كتاب سفينة النجاة» على طريقة الإحياء. انظر الديباج: 2/ 123121.(1/435)
على الجملة ولا يخفى ما في هذا الكلام من التحامل والإنحاء على أئمة النظر، وأعلام العلماء، ولا خفاء أن العلم بمقام الإمام الشافعي من علم اللسان، ومقام من اشتهر بعده بتوفر الحظ من مواد هذا العلم وغيره، إلى ما بعد زمان ابن خروف بكثير، يمنع من قبول هذه الشهادة منه على أنه لا يعني مثل الشافعي على الجملة لإخراجه بقوله:
«فوجدت جمهورهم»، ولكن قد لا يسلم له ما شهد به في حق من 123و / / عناه، وقصد التنكيت عليه، والله أعلم بحقيقة ذلك.
هذا من حيث كلامه معه في مسائل العربية، وأما خوضه في البحث معه في حقائق الأصول فكما قال الشيخ أبو الحسن الشاري (1) في برنامجه (2): «كان في غنى عن الكلام فيها، قال: لكونها ليست من بابه، ولا مما له تقدم في معرفته» اه.
قلت: وما أحق الإمام أن يراجعه بما قاله فيه ابن مضاء لما بلغه مناقضته له في «الرد على النحويين»: «نحن لا نبالي بالكباش النطاحة، وتعارضنا أبناء الخرفان».
قلت: وعند انجرار القول إلى ذكر هذا المعنى في جانب هذا الإمام الأعظم، فمن آكد ما تؤدى به حقوق العلماء الجلة، ويقام لهم بواجب التعظيم والتجلة أن يحمى من جانب التنقص حماهم المنيع، ويحاشى مما يقتضيه الاعتقاد السيّىء، والقول الشنيع. فإنه لهذا الإمام الأعظم يشير أولا، وإياه يعني
__________
(1) هو أبو الحسن علي بن محمد بن علي الغافقي الشاري. ت: 649هـ 1251م. سبتي شاري الأصل، كان محدثا، ثقة، عدلا، ناقدا، ذاكرا للتواريخ وأخبار العلماء وأحوالهم وطبقاتهم، طلب العلم صغيرا ببلده، ورحل إلى فاس، فأخذ عن مشيخته، وغيرهم، غربه أمير سبتة فدخل الأندلس سنة 641هـ، فأخذ عنه بها عالم كثير، وبقي بها إلى أن أتته منيته، له «برنامج» ذكره المنتوري في مخ فهرسته: 55. انظر: الذيل والتكملة: ق 1/ 201196، والإحاطة: 4/ 187 190، وانظر مقالة الأستاذ عبد القادر زمامة حول أبي الحسن الشاري في مجلة المناهل العدد 24 ص: 315306.
(2) أو فهرسة شيوخه، نقل عنها السيوطي في المزهر: 1/ 87، وأشار إليها الأستاذ عبد القادر زمامة في المقالة المذكورة سابقا ص: 309.(1/436)
بعد ذلك صريحا لا مؤولا، وعند ذلك فربما يعتقد المبتدىء إذا وقف على هذا الكلام، واطلع على تنقيص التعريف به والإعلام، أنه كذلك عند العلماء الأحبار، وأئمة النظر السديد والاعتبار، كلا بل هو عندهم الإمام الذي لا يزاحم في تبريزه، والعلامة الذي لا يشارك في تخليص نضار النظر وإبريزه، وفيما نوقفه عليه من ذلك ما يعلم مقداره، ويحمد به مسارعته لمحو ما سبق إليه وابتداره، ولا عليه من الخروج به عن سبيل القصد وطريقه، وتثبيت نظام الغرض وتفريقه، فإن الإفادة به عند ذوي التحصيل جليلة، وعين الرضا عن عيب الانتقال إليها كليلة.
فأقول: قال السمعاني (1) في: «تذييله لتاريخ بغداد»: «عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، إمام الحرمين، أبو المعالي بن أبي محمد من أهل نيسابور، كان إمام الأئمة على الإطلاق 123ظ / / المجمع على إمامته شرقا وغربا، المقر بفضله السراة والحداة عجما وعربا، لم تر العيون مثله، رباه حجر الإمامة، وأرضعه ثدي العلم والورع إلى أن ترعرع فيه، أخذ من العربية وما يتعلق بها أوفر حظ ونصيب.
تفقه في صباه على والده، فأتى على جميع مصنفاته فقلبها ظهرا لبطن، وتصرف فيها، ولما توفي والده، كان سنه دون العشرين، أو قريبا منه، فأقعد مكانه للتدريس، فكان يقيم الرسم في درسه ويقوم منه، ويخرج إلى مدرسة البيهقي، حتى أحكم الأصول، وأصول الفقه على أبي القاسم الإسفرايني (2)،
__________
(1) هو عبد الكريم بن محمد التميمي السمعاني المروزي (أبو سعيد) ت: 562هـ 1167م. من حفاظ الحديث، مؤرخ، رحالة، مولده ووفاته بمرو، من تصانيفه: «الأنساب»، و «تاريخ مرو» و «تذييل تاريخ بغداد» و «التحبير». انظر: الوفيات: 3/ 212209، وطبقات الشافعية: 7/ 180 185، وفيه أن كنيته: أبو سعد.
(2) هو عبد الجبار بن علي بن محمد الإسكافي الإسفرايني. ت: 452هـ 1060م، أستاذ إمام الحرمين، من رؤوس الفقهاء والمتكلمين من أصحاب الأشعري، له اللسان في النظر، والتدريس، والتقدم في الفتوى مع لزوم طريقة من الزهد والورع انظر: طبقات الشافعية:
5/ 10099.(1/437)
وخرج مع المشايخ إلى المعسكر وصحب العميد الكندري (1) فطوف معه، وتلقى الأكابر حتى اشتهر ذكره، وحج، وجاور بمكة أربع سنين يدرس ويفتي، ويجمع طرق المذهب إلى أن رجع إلى بلده بنيسابور، وأقعد للتدريس في النظامية (2)، وبقي على ذلك قريبا من ثلاثين سنة غير مدافع، ولا ممانع، وسلم له المحراب، والمنبر، والخطابة، والتدريس، ومجلس التذكير، وظهرت تصانيفه، وكان يقعد بين يديه كل يوم نحو من ستمائة رجل، وتخرج به جماعة من الأئمة الفحول، وصار أكبر عنايته في آخر زمانه مصروفا إلى تصنيف الكتاب الكبير المسمى ب «نهاية المطلب في دراية المذهب» حتى حرره وأملاه وأتى فيه من البحث والتقرير والسبك، والتدقيق، والتحقيق بما شفى الغليل وأوضح السبيل» (3).
قال الباخرزي (4): «أبو المعالي الجويني فتى الفتيان، ومن أنجب به الفتيان (5)، ولم يخرج مثله المفتيان: النعمان بن ثابت، ومحمد بن إدريس (6)
فالفقه فقه الشافعي، والأدب أدب الأصمعي، وحسن بصره بالوعظ كالحسن البصري، وكيفما كان فهو إمام كل إمام، والمستعلي بهمته على كل همام، والفائز بالظفر على إرغام كل ضرغام، إذا تصدر للفقه 124و / /، فالمزني (7) من
__________
(1) هو محمد بن منصور بن محمد الكندري أبو نصر. ت: 456هـ 1064م، عميد الملك أول وزراء الدولة السلجوقية (التركمانية) ولما توفي السلطان طغرل بك، وخلفه عضد الدولة ألب أرسلان السلجوقي أمر عضد الدولة بالقبض على الكندري حيث مكث معتقلا عاما كاملا ثم دخل عليه غلامان فقتلاه، وحملا رأسه إلى عضد الدولة. انظر: الوفيات: 5/ 143138.
(2) المدرسة النظامية: التي بناها الوزير نظام الملك واستتم بناءها سنة 458هـ 1066م. انظر: تاريخ آل سلجوق: 3231.
(3) انظر طبقات الشافعية: 5/ 177175.
(4) هو علي بن الحسن بن علي بن أبي الطيب الباخرزي المقتول سنة 467هـ 1075م. كان شافعي المذهب، أديبا، ناثرا، محدثا، من آثاره: «دمية القصر» و «عصرة أهل العصر» في طبقات الشعراء، و «ديوان شعر»، و «الأربعون» في الحديث. انظر الوفيات: 3/ 389387، ومعجم الأدباء: 13/ 4833.
(5) الفتيان: الليل والنهار اللسان فتا.
(6) صاحبا المذهبين: الحنفي والشافعي.
(7) هو إسماعيل بن يحيى المزني (نسبة إلى مزينة إحدى قبائل اليمن) المصري، الشافعي(1/438)
مزنته قطرة، وإذا تكلم فالأشعري (1) من وفرته شعرة، وإذا خطب ألجم الفصحاء بالعي شقاشقه (2) الهادرة، ولثم البلغاء بالصمت حقائقه النادرة» (3).
وقال أبو المعالي رحمه الله: «لقد قرأت خمسين ألفا [في خمسين ألفا] (4) ثم خليت (أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة) (5)، وركبت البحر العظيم كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره، فأموت على دين العجائز، ويختم لي عند الرحيل على كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني يريد نفسه» (6).
وقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما اشتغلت بالكلام. وقال الإمام أبو القاسم القشيري رحمه الله: لو ادعى إمام الحرمين اليوم النبوة لاستغنى بكلامه هذا عن إظهار المعجزة» (7).
توفي أبو المعالي رحمه الله «في الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، وقام الصياح من كل جانب، وقعد ولده
__________
أبو إبراهيم. ت: 264هـ 878م. صحب الشافعي وحدث عنه، وهو فقيه مجتهد. له تصانيف منها: «الجامع الكبير»، «الجامع الصغير»، «مختصر الترغيب في العلم» و «كتاب الوثائق». انظر الفهرست: 313312، والوفيات: 1/ 219217.
(1) هو علي بن إسماعيل الأشعري اليماني البصري أبو الحسن. ت: 324هـ 935م. المتكلم، صاحب الكتب والتصانيف في الرد على الملاحدة وغيرهم من المعتزلة والرافضة والجهمية، والخوارج. من تصانيفه: «الفصول»، و «الرد على المجسمة» و «خلق الأعمال». انظر: تاريخ بغداد: 11/ 347346، والوفيات: 3/ 286284.
(2) الشقاشق: مفردها شقشقة: لهاة البعير، وقيل: هو شيء كالرئة يخرجها البعير من فيه إذا هاج، ومنه سمي الخطباء: شقاشق فقد شبهوا المكثار بالبعير الكثير الهدر: فيقال: فلان شقشقة قومه:
أي فصيحهم وشريفهم كما يقال للفصيح: هدرت شقاشقه. اللسان: شقق.
(3) دمية القصر: 2/ 10011000.
(4) ما بين المعقوفتين ساقط من «أ».
(5) زيادة من طبقات الشافعية: 5/ 185.
(6) انظر في م. س: 5/ 185.
(7) انظر في م. س: 5/ 174.(1/439)
للعزاء، وأكثر الشعراء المراثي فيه، وكان الطلبة قريبا من أربعمائة نفر، يطوفون بالبلد نائحين عليه مكسرين المحابر والأقلام، مبالغين في الصياح والجزع رحمه الله» اه (1).
وقال فيه ابن خلكان: «أبو المعالي عبد الملك ابن الشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي يعقوب يوسف بن عبد الله بن يوسف الجويني، الفقيه الشافعي الملقب «ضياء الدين» المعروف ب «إمام الحرمين» أعلم المتأخرين من أصحاب الإمام الشافعي على الإطلاق، المجمع على إمامته، والمتفق على غزارة مادته، وتفننه في العلوم من الأصول والفروع، والأدب وغير ذلك، ورزق من التوسع في العبارة، ما لم يعهد من غيره، وكان يذكر دروسا يقع كل واحد منها في عدة أوراق، ولا يتلعثم في كلمة منها، وتفقه في صباه على والده أبي محمد 124ظ / / وكان يعجب بطبعه وتحصيله وجودة قريحته، وما يظهر عليه من مخايل الإقبال، فأتى على جميع مصنفات والده، وتصرف فيها حتى زاد عليه في التحقيق، والتدقيق، ولما توفي والده قعد مكانه للتدريس، وإذا فرغ منه مضى إلى الأستاذ أبي القاسم الإسكافي الإسفرايني بمدرسة البيهقي، حتى حصّل عليه علم الأصول، ثم سافر إلى بغداد، ولقي بها جماعة من العلماء، ثم خرج إلى الحجاز، وجاور بمكة أربع سنين، وبالمدينة يدرس، ويفتي، ويجمع طرق المذهب، فلهذا قيل له: «إمام الحرمين».
ثم عاد إلى نيسابور في أوائل ولاية السلطان «ألب أرسلان السلجوقي» (2)، والوزير يومئذ نظام الملك (3) فبنى له المدرسة النظامية بمدينة نيسابور، وتولى الخطابة بها، وكان يجلس للوعظ، والمناظرة، وظهرت تصانيفه، وحضر
__________
(1) انظر في م. س: 5/ 181.
(2) هو عضد الدين ألب أرسلان محمد بن داود بن سلجق، مات مقتولا سنة 465هـ 1072م.
تاريخ آل سلجوق: 4427.
(3) هو أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي (نظام الملك)، وفي ص: 193ظ / 194و / من مخ «أ» ص: 645644من هذا الكتاب: ترجمة وافية عن سيرة هذا الوزير أخذها ابن الأزرق من مصادر متعددة.(1/440)
دروسه الأكابر من الأئمة، وانتهت إليه رياسة الأصحاب، وفوض إليه أمور الأوقاف، وبقي على ذلك قريبا من ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع، مسلم له المحراب والمنبر، والخطابة والتدريس، ومجلس التذكير يوم الجمعة» (1) اه.
ثم ذكر تصانيفه، وبعضا من أخباره إلى أن قال: «ومولده في ثامن عشر المحرم سنة تسع عشرة وأربعمائة.
قال: ولما مرض حمل إلى قرية من عمل نيسابور موصوفة باعتدال الهواء، وخفة الماء، فمات بها ليلة الأربعاء، وقت العشاء الآخرة الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وسبعين وأربع مائة، ونقل إلى نيسابور تلك الليلة، ودفن من الغد في داره، ثم نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين، فدفن بجنب أبيه رحمهما الله تعالى وصلى عليه ولده أبو القاسم، فأغلقت الأسواق يوم موته، وكسر منبره في الجامع، وقعد الناس لعزائه وأكثروا فيه المراثي، وكان تلامذته 125و / / يومئذ قريبا من أربعمائة واحد، فكسروا محابرهم وأقلامهم، وأقاموا على ذلك عاما كاملا» (2) اه.
قال السبكي في «ترجمته» من الطبقات (3): «هو الإمام شيخ الإسلام البحر الحبر، المدقق (4) المحقق النظار، الأصولي، المتكلم، البليغ، الفصيح، الأديب، العلم الفرد، إمام الأئمة على الإطلاق، عجما، وعربا، وصاحب الشهرة التي سارت السراة والحداة بها شرقا وغربا، هو البحر، وعلومه درره الفاخرة، والسماء، وفوائده التي ملأت الدنيا سحبها السائرة، يمل الحديد من الحديد، وذهنه لا يمل من نصرة الدين فولاذه، وتكل الأنفس، وقلمه يسحّ (5)
وابل دمعه ورذاذه، ويدجو الليل البهيم، ولا ترى بدرا إلا وجهه في محرابه،
__________
(1) انظر الوفيات: 3/ 168167.
(2) م. س: 3/ 170169.
(3) انظر: 5/ 168165.
(4) في «ج»: الموفق.
(5) سحّ سحا وسحوحا: سال وأنصب غزيرا.(1/441)
ولا ناظرا إلا طرفه ناظرا في كتابه، بطل علم إذا رآه النظار أفحموا وقالوا: {وَمََا مِنََّا إِلََّا لَهُ مَقََامٌ مَعْلُومٌ} (1)، وفارس بحث يضيق على خصمائه الفضاء الواسع حتى لا يفوته الهارب منهم بحوز (2)، ولو أنه الطائر في السماء يحوم، تفد المشكلات إليه فيصدها، وترد السؤالات عليه فلا يردها:
أبدا على طرف اللسان جوابه ... فكأنما هي دفعة من صيب
يغدو مساجله بعزة صالح (3) ... ويروح معترفا بذلة مذنب
وما برح يدأب، لا يترك سامية إلا علاها، ولا غاية إلا قطع دونها أنفاس المجاز، وقطع منتهاها، بذهن صح على نقد الفكر إبريزه، ووضح في ميدان الجدال تبريزه، حتى قال له الدهر: لقد اشتبه يومك بأمسك، وقالت له العلياء:
هذا حدي، قف على رسلك، ارفق بنفسك وامسك. هذا إلى لفظ غرّه (4)
سحر، إلا أنه حلّ وبلّ، ودره يتيم إلا أنه لا يدل بفصيح كلم، قالت النحاة:
هذا ما عجز عنه زيد وعمرو وخالد، وبليغ قول، قالت البلغاء: قصر عن مداه الطريف (5) والتالد.
وما أرى أحدا في الناس يشبهه ... وما أحاشي 125ظ / / من الأقوام من أحد (6)
أجل، والله، إنه لذو حظ عظيم، وقدر، إذا أنصفت العداة أصبح {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدََاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (7)، وعظمة أمست ديار الأعداء بها وهي محلات مآتم، وجلالة قال القاضي: لا يكتمها الشاهد المعدّل عندي،
__________
(1) سورة الصافات، الآية: 164.
(2) الحوز: الموضع إذا أقيم حوله سد أو حاجز. وفي طبقات الشافعية 5/ 165: يحور.
(3) في م. س: 5/ 165: صافح.
(4) زيادة من م. س: 5/ 166.
(5) في م. س: 5/ 166: طريق الفصاحة.
(6) البيت للنابغة وروايته في الديوان: ص: 20.
«ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه ... ولا أحاشي من الأقوام من أحد»
ولا أحاشي: أي لا أستثني.
(7) سورة فصلت، الآية: 34.(1/442)
{وَمَنْ يَكْتُمْهََا فَإِنَّهُ آثِمٌ} (1)، ومهابة يتضاءل النجم دونها، وتود الأسود أن تكونها، ولا تكون إلا دونها، وفخار لو رأته الأم لقالت: قري عينا أيتها النفس بهذا الولد، أو [المزني] (2) لعلم إذ بنات قرائحه انتهت إليه أبكارا، واتخذ منها ما عز على كل أحد، وشعار آوى الأشعري منه إلى ركن شديد، واعتزل المعتزلي المناظرة، علما أنه {مََا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلََّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (3).
تربى في حجر العلم حتى ربا، وارتضع ثدي الفضل فكان فطامه هذا النبا، وأحكم العربية وما يتعلق بها من علوم الأدب، وأوتي من الفصاحة والبلاغة ما أعجز الفصحاء وحير البلغاء، وكان يذكر دروسا كل درس منها تضيق الأوراق العديدة عن استيفائه (4)، غير متلعثم في الكلام، ولا محتاج إلى استدراك عثرة في لفظه، بل جار كالسيل منحدرا، والبرق إذا سرى، ليعلم المنتقدون (5) أنه لا يدرك له حد، ويعترف المبرزون بأنه «عمل صالحا، وأحسن في السرد» (6).
قال الثقات: إن ما يوجد في مصنفاته من العبارات قطرة من سيل، كان يجريه لسانه على شفتيه عند المذاكرة، وغرفة من بحر، كان يفيض من فمه في مجالس المناظرة، اعتنى به والده من صغره، لا بل من قبل مولده، وذلك أن أباه اكتسب من عمل يده مالا خالصا من الشبهة، اتصل به إلى والدته، فلما ولدته له، حرص على أن لا يطعمه ما فيه شبهة، ولا أدنى شبهة فلم يمازج باطنه إلا الحلال الخالص، حتى إنه يحكى أنه تلجلج مرة في مجلس مناظرة، فقيل له: يا إمام ما هذا 126و / / الذي لم يعهد منك؟ فقال: ما أراها إلا أثر المصة،
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 283.
(2) في الأصول: المدرس.
(3) سورة ق، الآية: 18.
(4) في طبقات الشافعية 5/ 167: استيعابه.
(5) في م. س: 5/ 168: المتعمقون.
(6) اقتباس من قوله تعالى في سورة سبأ، الآية: 11: {أَنِ اعْمَلْ سََابِغََاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صََالِحاً إِنِّي بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.(1/443)
قيل: وما نبأ المصة؟ قال: إن أمي اشتغلت بطعام تطبخه لأبي، وأنا رضيع، فبكيت، وكانت عندنا جارية مرضعة لجيراننا، فأرضعتني مصة أو مصتين، ودخل والدي، فقال: ما هذا؟ هذه الجارية ليست لنا، وليس لها أن تتصرف في لبنها، وأصحابها لم يأذنوا في ذلك، وفوعني حتى لم يدع في بطني شيئا إلا أخرجه، وهذه اللجلجة من بقايا تلك الآثار.
فانظر إلى هذا الأمر العجيب الذي يحاسب نفسه عليه، وهو قد جرى في زمان الصبا الذي لا تكليف فيه.
وهذا ما سمعنا بمثله إلا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه» اه.
ثم ذكر أنه تفقه على أبيه، وأشار إلى ما تقدم لابن خلكان في إعجاب والده به، لما كان يرى عليه من مخايل النجابة، واجتهاده في التحصيل قال:
«حتى صار إلى ما صار إليه، وأوقف علماء المشرق والمغرب معترفين بالعجز بين يديه، وسلك طريق المباحثة والمناظرة حتى أربى على كثير من المتقدمين، وأنسى تصرفات الأولين، وسعى في دين الله سعيا يبقى أثره إلى يوم الدين.
قال: ومن ابتداء أمره أنه لما توفي أبوه كان سنه دون العشرين أو قريبا منه فأقعد مكانه للتدريس، وكان يدرس، ثم يذهب بعد ذلك إلى مدرسة البيهقي حتى حصل الأصول وأصول الفقه على الأستاذ الإمام أبي القاسم الإسكاف الإسفرايني، وكان يواظب على مجلسه.
قال عبد الغافر الفارسي (1): وقد سمعته يقول في أثناء كلامه، كنت علقت عليه في الأصول أجزاء معدودة، وطالعت في نفسي مائة مجلد، وكان يصل الليل بالنهار في التحصيل حتى فرغ منه، ويبكر كل يوم قبل الاشتغال بدرس نفسه إلى مجلس أبي عبد الله الخبازي (2) يقرأ عليه القرآن، ويقتبس من كل
__________
(1) هو عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي أبو الحسن. ت: 529هـ 1135م. من علماء العربية والتاريخ، والحديث، فارسي الأصل، من أهل نيسابور، له تصانيف منها: «المفهم لشرح غريب مسلم»، و «مجمع الغرائب». انظر: الوفيات: 3/ 225.
(2) هو حسين بن عبد العزيز بن محمد البوجردي الخبازي. ت: 497هـ 1103م. كان فقيها، عالما، مراعيا للفقراء، آمرا بالمعروف، صدوقا. انظر: طبقات الشافعية: 4/ 348.(1/444)
126 - ظ / / نوع من العلوم ما يمكنه مع مواظبته على التدريس، وينفق ما ورثه، وما كان يدخل على المتفقهة، ويجتهد في المناظرة، ويواظب عليها إلى أن ظهر التعصب بين الفريقين، واضطربت الأحوال والأمور.
قال عبد الغافر، فاضطر إلى السفر، والخروج عن البلد، فخرج مع المشايخ إلى العسكر (1)، وخرج إلى بغداد يطوف مع المعسكر، ويلتقي بالأكابر من العلماء ويدارسهم، ويناظرهم حتى طار ذكره في الأقطار، وشاع اسمه فملأ الديار، ثم زمزم الحادي له بذكر زمزم، وناداه على بعد الدار البيت الحرام فلبى وأحرم، وتوجه حاجا، وجاور بمكة أربع سنين يدرس، ويفتي، ويجتهد في العبادة، ونشر العلم حتى [شرف] (2) به ذلك النادي، وأشرقت تلاع ذلك الوادي، وأسبلت عليه الكعبة ستورها، وأقبلت عليه وهو يطوف بها، كلما اسود جنح الليل بيض (3) ديجورها، وصفت نيته مع الله، ولو كانت للصفاء ألسنة لشافهته جهارا، وشهد له المسعى بين الصفا والمروة، إقبالا وإدبارا، ثم عاد إلى نيسابور، قال عبد الغافر: وذلك بعد ولاية السلطان ألب أرسلان (وتزين وجه الملك بطلعة نظام الملك واستقرت أمور الفريقين) (4)، وانقطع التعصب (5)
فبنيت المدرسة النظامية بنيسابور، وأقعد للتدريس فيها، واستقامت أمور الطلبة، وبقي على ذلك قريبا من ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع، فسلم له المحراب، والمنبر والتدريس، ومجلس التذكير يوم الجمعة والمناظرة، وهجرت إليه المجالس، وانغمر غيره من الفقهاء بعلمه، وكسدت الأسواق في جنبه، ونفق سوق المحققين من خواصه وتلاميذه، فظهرت تصانيفه، وحضر درسه الأكابر، والجمع العظيم من الطلبة، وكان يقعد بين يديه كل يوم نحو من ثلاثمائة رجل من الأئمة ومن الطلبة 127و / / واتفق له من المواظبة على التدريس والمناظرة
__________
(1) مكان جانب بغداد.
(2) بياض في «أ» و «ج».
(3) أي بأعماله الصالحة.
(4) زيادة من طبقات الشافعية: 5/ 176.
(5) إشارة إلى ما كان من صراع بين أهل السنة، والشيعة، والاعتزال.(1/445)
ومحافل ما لم يعهد مثلها لأحد، وكانت له وجاهة زائدة عند السلطان والوزير حتى كان هو المخاطب والمشار إليه، لا ينظر إلا لمن انتمى إلى خدمته، ولا يهجر إلا من تلاه، وهجره، وفوضت إليه أمور الأوقاف، وتناهت حشمته، وما أعطاه الدهر إلا قليلا مما يستحقه مع أنه مرجع العلماء والوزراء وأرباب الأمور، وما كان إلا إليه.
قال عبد الغافر: اتفقت له نهضة إلى أصبهان (1) بسبب مخالفة بعض الأصحاب، فلقي بها من المجلس النظامي ما كان اللائق بمنصبه من الإعزاز، والاستبشار، والإكرام، وأجيب بما هو فوق مطلوبه، وعاد إلى نيسابور مكرما، وصار أكثر عنايته مصروفا إلى تصنيف المذهب الكبير المسمى ب «نهاية المطلب» حتى حرره وأملاه وفرغ منه، وعقد مجلسا لتتمته، حضره الأئمة والكبار، وختم (الكتاب على رسم) (2) الإملاء والاستملاء، [وتبجح] (3) الحاضرون بذلك، ودعوا له وشكر هو الله تعالى على إتمامه، وحمده حمدا كثيرا» (4)
وعن الشيخ أبي محمد الجويني والد الإمام قال: «رأيت إبراهيم الخليل عليه السلام في المنام، فأهويت لأن أقبل رجليه، فمنعني من ذلك تكريما لي، فاستدبرت فقبلت عقبيه، فأولت ذلك الرفعة والبركة تبقى في عقبي، وأي رفعة وبركة أعظم من هذا الإمام الذي طبّق ذكره طبق (5) الأرض، وعم نفعه في مشارقها، ومغاربها» (6)، «وبقي ذكره مع الدهر يصاحبه في بقائه، ولا يفنى بفنائه بل يزيد، وتظهر عزته عند انقضائه، وقد أنشد بعض من رآه، ومن [شعر] (7) ابن الصلاح وخطه نقلته:
__________
(1) أصبهان: مدينة عظيمة مشهورة من أعلام المدن وأعيانها. معجم البلدان: 1/ 210206.
(2) زيادة من طبقات الشافعية: 5/ 178.
(3) في «ج»: تمجج.
(4) م. س: 5/ 178175.
(5) زيادة من م. س: 5/ 185.
(6) م. س: 5/ 185184.
(7) في الأصول: ومن مخاشع ابن الصلاح ولعل الصواب ما أثبتناه.(1/446)
لم تر عيني أحدا ... تحت أديم الفلك
مثل إمام الحرمي ... ن البدر عبد الملك» (1)
ويحكى أن إمام الحرمين قال: «ما تكلمت في علم الكلام كلمة حتى حفظت من كلام القاضي أبي 127ظ / / بكر وحده اثني عشر ألف ورقة.
فانظر إلى هذا الأمر العظيم وهذه المجلدات الكثيرة التي حفظها من كلام شخص واحد في علم واحد، بقي كلام غيره، والعلوم الأخر التي له فيها اليد الباسطة، والتصانيف المستكثرة فقها وأصولا وغيرهما، وكان مراده بالحفظ فهم تلك، واستحضارها لكثرة المعاودة. وأما الدرس عليها كما يدرس الإنسان المختصرات، فأظن القوى تعجز عن ذلك
ويحكى أيضا أنه قال للغزالي: يا فقيه، فرأى في وجه الغزالي تغيرا كأنه استقل هذه اللفظة على نفسه، فقال له: افتح هذا البيت، ففتح مكانا وجده مملوءا بالكتب فقال له: ما قيل لي: يا فقيه، حتى أتيت على هذه الكتب كلها.
ثم ذكر تصانيفه ومن أخذ عنه الحديث في صباه» (2).
وأنشد له:
«أصخ لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد (3) وغربة ... وتلقين أستاذ وطول زمان» (4)
قال: «وقال له الشيخ «أبو إسحاق الشيرازي» (5): «تمتعوا بهذا الإمام، فإنه نزهة هذا الزمان، يعني إمام الحرمين. وقال له مرة: يا مفيد أهل
__________
(1) م. س: 5/ 173.
(2) م. س: 5/ 185.
(3) م. س: 5/ 208: وافتقار.
(4) م. س: 5/ 208.
(5) هو إبراهيم بن علي الفيروزآبادي الشيرازي (أبو إسحاق جمال الدين) ت: 476هـ 1083م.
فقيه، صوفي، كان مرجعا لعلماء عصره، اشتهر بقوة الحجة في المناظرة، والجدل، من تصانيفه: «المهذب» في الفقه، و «المعونة» في الجدل، و «التبصرة» في أصول الفقه. انظر الوفيات: 1/ 3129، وطبقات الشافعية: 4/ 226215.(1/447)
المشرق والمغرب لقد استفاد من علمك الأولون والآخرون» (1).
وقال له مرة أخرى: «أنت اليوم إمام الأئمة، وقال شيخ الإسلام إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني (2) وقد سمع كلام إمام الحرمين في بعض المحافل: قد صرف الله المكاره عن هذا الإمام، فهو اليوم قرة عين الإسلام، والذاب عنه بحسن الكلام» (3).
وما أحسن قول علي بن الحسن الباخرزي قال: «هذا فتى الفتيان
الفقه فقه الشافعي، والأدب أدب الأصمعي، وحسن بصره بالوعظ للحسن البصري، 128و / / وكيفما كان فهو إمام كل إمام، والمستعلي بهمته على كل همام» (4).
ثم ذكر ما تقدم النقل له في المقصد الثالث قال:
«وكان من التواضع لكل أحد بمحل يتخيل منه الاستهزاء لمبالغته فيه، ومن رقة القلب بحيث يبكي إذا سمع بيتا، أو تفكر في نفسه ساعة، وإذا شرع في حكاية الأحوال، وخاض في علوم الصوفية، في فصول [مجالسه بالغدوات] (5) أبكى الحاضرين ببكائه.
وهذه نبذة مما عهدناه منه إلى انتهاء أجله، ثم ذكر وفاته على نحو ما سبق لابن خلكان وزاد أن الناس وضعوا المناديل عن الرؤوس عاما، بحيث ما تجرأ أحد على ستر رأسه من الرؤوس، والكبار» (6) انتهى المقصود منه على طوله.
__________
(1) طبقات الشافعية: 5/ 172.
(2) أبو عثمان. ت: 449هـ 1057م. مقدم أهل الحديث في بلاد خراسان لقبه أهل السنة فيها بشيخ الإسلام، وكان فصيح اللهجة، واسع العلم، عارفا بالحديث والتفسير، يجيد الفارسية إجادته العربية. له كتاب: «الفصول في الأصول» و «عقيدة السلف». انظر طبقات الشافعية: 4/ 271 272.
(3) م. س: 5/ 173172.
(4) انظر هذا القول بتفصيل في 124ومخ / ص: 437436من هذا الكتاب. وطبقات الشافعية: 5/ 178.
(5) في «ج»: مجالسته بالغداة.
(6) م. س: 5/ 181180.(1/448)
العلم السادس: الفقه:
وشهادة أهل هذا العلم الجليل باضطراره إلى العربية توجد منهم ومن الأصوليين مقررة النص عليها في مقامين:
أحدهما: عند الكلام على شروط المجتهد في الشرعية بإطلاق.
والثاني: عند البيان لشروط المفتي في مذهب معين على اختلاف [أحواله] (1).
المقام الأول:
ذكروا فيه عبارات متظافرة على اعترافهم بتأكد العلم بالعربية على الجملة قبل استجماع ما يستحق به هذا المنصب العظيم.
وقد تقدمت الإشارة إلى عقد الأستاذ أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله لهذا الأصل مستظهرا عليه بكلام الإمام الشافعي (2) رضي الله عنه.
وسبق عند نقل ذلك عنه ما نقلناه من كلام ابن فارس، والقاضي أبي الوليد الوقشي، موافقا له، وجاريا على منهاجه (3).
وقد قال ابن فارس (4) قبل ذلك الكلام المتقدم عنه: «اعلم علمك الله، وأعانك عليه، وصرف عنك السوء، وأعاذك منه، أن العرفان بكلام العرب، والوقوف على مبادىء كلامهم، ومعاني ألفاظهم واجب على كل منتسب إلى علم أو 128ظ / / متعلق منه بسبب، وأن أحق الناس بذلك من كان نظره في الحلال والحرام، وفتياه في أحكام شرائع الإسلام إذ كان أصل ذلك كله كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهما جميعا بلغة العرب».
__________
(1) في «ج»: أنواعه.
(2) انظر: ص: 76و / من مخ «أ». ص: 311310من هذا الكتاب.
(3) انظر ص: 77و / من مخ «أ». ص: 313من هذا الكتاب.
(4) في «حلية الفقهاء».(1/449)
فمن عباراتهم في هذا المقام قول القاضي عبد الوهاب في «المعونة» (1)
وقد ذكر شروط القاضي: «وأراد به إذا كان مجتهدا أن يكون عارفا بما لا بد منه من العربية واختلاف معاني العبارات، لأن الأحكام تختلف باختلاف العبارات في الدعاوي، والإقرار، والشهادات وغير ذلك مما يتعلق به».
ومنها قول ابن رشد في «جامع البيان» (2) وقد ذكر شروط الفتوى بإطلاق: «وعنده من علم اللسان ما يفهم به من معاني الكلام». ومثل هذا في أجوبته في الطائفة الثالثة من طوائف المنتسبين إلى العلم.
ومنها قول الإمام فخر الدين في «المحصول» (3) ناقلا عن الغزالي:
«وثانيهما، يعني العلمين المتقدمين عن الاجتهاد معرفة النحو واللغة والتصريف». لأن شرعنا عربي، فلا يمكن التوصل إليه إلا بفهم كلام العرب، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب.
ومنها قول ابن التلمساني (4) في «شرح المعالم» (5): وقد ذكر تلك الشروط: و «يحتاج بعد ذلك إلى العلم باللغة، والنحو، والتصريف، وطرق البلاغة، فإن مآخذ الشرع: ألفاظ القرآن، المعجز بلاغته، ونظمه، وأسلوبه، ومعناه، وألفاظ السنة».
ولا بد من أهلية الفهم للمعاني المشعرة به، والمستودعة في سياقها وترتيبها، وتنزيلها على ما لا يخل بفصاحته، ولا يستقل بذلك إلا مبرز في العلم
__________
(1) كتاب المعونة على مذهب عالم المدينة أبي عبد الله مالك بن أنس، مخطوط بخزانة القرويين تحت رقم: 777. ص: 271270.
(2) جامع البيان والتحصيل 17/ 339.
(3) انظر: 1/ 285.
(4) هو عبد الله بن محمد المصري، الشافعي، المعروف بابن التلمساني (أبو محمد شرف الدين).
ت: 644هـ 1246م. فقيه، أصولي، تصدر للإقراء بالقاهرة. من تصانيفه: «شرح التنبيه» للشيرازي في فروع الفقه الشافعي، و «شرح المعالم في أصول الدين» لفخر الدين الرازي، و «المجموع في الفقه». انظر: طبقات الشافعية: 8/ 160، وحسن المحاضرة: 1/ 192.
(5) «المعالم» لفخر الدين الرازي في أصول الدين.(1/450)
باللسان، ونهج البلاغة، ولا يشترط فيه معرفة غرائب اللغة.
المقام الثاني:
حيث الكلام على أوصاف المفتي القاصر عن رتبة الاجتهاد المطلق.
وقع فيه لابن رشد وقد سئل 129و / / هل يستفتى من قرأ الكتب المستعملة مثل «المدونة» (1) و «العتبية» (2) دون رواية، أو كتب المتأخرين، ثم لا يوجد لها رواية؟.
فأجاب بالجواز على شروط من جملتها أن قال: «وفهم من اللسان ما يعرف به الخطاب (3)» اه.
ولابن فارس في الحض لطالب الفقه على المعرفة باللسان: «أحق ما صرف الفقيه عنايته إليه معرفة الألفاظ التي تعرض في الفقه، ليكون ذلك عونا على ما يرويه من التوسع في فقهه».
تنبيه:
هل يشترط الاجتهاد في علم العربية، وحينئذ يتوفر منها شرطها من جملة شروط المجتهد في الشريعة بإطلاق؟.
قال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: «إنه يشترط ذلك، ويلزم تحصيله. قال: ولا أعني النحو وحده، ولا التصريف وحده، ولا اللغة، ولا علم المعاني، ولا غير ذلك من أنواع العلوم المتعلقة باللسان، بل المراد جملة علم اللسان ألفاظا ومعاني كيف تصورت ما عدا علم الغريب والتصريف المسمى بالفعل (4)، وما يتعلق بالشعر من حيث هو شعر ك «العروض والقافية» فإن هذا
__________
(1) المدونة في فروع المالكية لأبي عبد الله عبد الرحمن بن القاسم المالكي. ت: 191هـ 806م.
وهي من أجل الكتب في مذهب مالك لها شروح عدة: الكشف 2/ 1644.
(2) العتبية: منسوبة إلى مصنفها فقيه الأندلس محمد بن أحمد بن عبد العزيز العتبي القرطبي. ت:
254 - هـ 868م. وهو مسائل في مذهب مالك: الكشف 2/ 1124.
(3) انظر: نوازل ابن رشد المخطوطة بالقرويين تحت رقم: 739/ ص 289، باب الفتوى والقضاء.
(4) كذا في الموافقات: 4/ 115114.(1/451)
غير مفتقر إليه هنا، وإن كان العلم به كمالا في العلم بالعربية» (1).
قلت: وكلام ابن التلمساني المتقدم يتضمن ما اقتضاه هذا الكلام في اشتراط عموم العلم بما عين من علوم العربية، وبلوغ درجة الاجتهاد في تلك العلوم.
قال: «وبيان تعين هذا العلم ما تقرر من أن الشريعة عربية، وإذا كانت كذلك فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم، لأنهما سيان في النمط ما عدا وجوه الإعجاز، فإذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية، فهو مبتدىء في فهم الشريعة أو متوسطا فهو متوسط في فهم الشريعة، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية، كان كذلك في الشريعة، 129ظ / / فكان فهمه فيها حجة، كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة.
فمن لم يبلغ شأوهم فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة، ولا كان قوله فيها مقبولا.
فلا بد أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة فيها كالخليل، وسيبويه، والأخفش، والجرمي، والمازني، ومن سواهم» (2) انتهى وقليل منه بالمعنى.
وقد تقدم عنه هذا المعنى منقولا من كتابه «في الحوادث والبدع» (3) وتمم الدليل عليه في «الموافقات»، ومنها ما جلب هنا بأن قال: «ولا يقال إن الأصوليين قد نفوا هذه المبالغة في فهم العربية فقالوا: ليس على الأصولي أن يبلغ في العربية مبلغ الخليل، وسيبويه، وأبي عبيدة، والأصمعي الباحثين عن دقائق الإعراب، ومشكلات اللغة، وإنما يكفيه أن يحصل منها ما تتيسر به معرفة ما يتعلق بالأحكام بالكتاب والسنة» (4).
__________
(1) م. س: 4/ 115114.
(2) م. س: 4/ 115.
(3) انظر ص: 76و / من مخ «أ». ص: 311من هذا الكتاب.
(4) الموافقات: 4/ 116.(1/452)
قلت: وهو نص «الأبياري» في شرح «البرهان» (1).
ومثله نقل القرافي عن التبريزي (2) في هذا المقام: «يكفي من النحو واللغة، القدر الذي يحصل به الفهم من مقاصد الكلام دون التغلغل في مشكلات أسراره».
قال الأستاذ أبو إسحاق: «لأنا نقول: هذا غير ما تقدم تقريره، وقد قال الغزالي في هذا الشرط: إنه القدر الذي يفهم به خطاب العرب، وعادتهم في الاستعمال حتى يميز بين صريح الكلام وظاهره، ومجمله، وحقيقته، ومجازه، وعامه، وخاصه، ومحكمه، ومتشابهه، ومطلقه، ومقيده، ونصه، وفحواه، ولحنه، ومفهومه» (3).
قال: «وهذا الذي اشترط لا يحصل إلا لمن بلغ في اللغة العربية درجة الاجتهاد» (4).
قلت: كقول ابن التلمساني: «ولا يستقل بذلك إلا مبرز في العلم، ونهج البلاغة».
ثم قال: «يعني الغزالي: التحقيق فيه أنه لا يشترط أن 130و / / يبلغ مبلغ الخليل والمبرد وأن يعلم جميع اللغة، ويتعمق في النحو» (5).
قال: «وهذا أيضا صحيح، فالذي نفى اللزوم فيه، ليس هو المقصود في الاشتراط وإنما المقصود تحرير الفهم، حتى يضاهي العربي في ذلك المقدار، وليس من شرط العربي أن يعرف جميع اللغة ولا أن يستعمل الدقائق، فكذلك المجتهد في العربية، وكذلك المجتهد في الشريعة» (6).
__________
(1) «البرهان»: لأبي المعالي الجويني. كشف الظنون: 1/ 242.
(2) لعله يحيى بن علي الشيباني المعروف بالخطيب التبريزي (أبو زكرياء) ت: 502هـ 1109م.
أديب، نحوي، لغوي، عروضي، له شروح أدبية ولغوية منها: «شرح ديوان الحماسة» و «شرح سقط الزند» و «شرح ديوان المتنبي»، وله «الملخص في إعراب القرآن» و «الوافي في علمي العروض والقوافي» و «تهذيب الألفاظ» و «تهذيب إصلاح المنطق». انظر النزهة: 374372، والوفيات: 6/ 196191.
(3) الموافقات: 4/ 117116.
(4) الموافقات: 4/ 117116.
(5) الموافقات: 4/ 117116.
(6) الموافقات: 4/ 117116.(1/453)
قال: «وربما يفهم بعض الناس أنه لا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل وسيبويه في الاجتهاد في العربية، فيبني في العربية على التقليد المحض، فيأتي في الكلام على مسائل الشريعة بما السكوت أولى به منه، وإن كان مما تعقد عليه الخناصر جلالة في الدين، وعلما في الأئمة المهتدين» (1).
قلت: وإن لم ينته إلى هذا الحد فيقصر عن رتبة الاجتهاد المقيد فضلا عن الاجتهاد المطلق كما شهد به ابن الصلاح في كثير من أهل هذه الطبقة حيث قال:
«وكثيرا ما وقع الإخلال بهذين العلمين في أصل الاجتهاد المقيد»، ويعني علم اللغة العربية.
قلت: «كما وقع الإخلال في رتبة كثير ممن دون هذه الطبقة، وهم الذين يترجحون في الفتيا دون استبداد برأيهم عند عدم الرواية على ما صور «ابن رشد» في «نوازله»» (2).
قال ابن عرفة: «وهذا حال كثير ممن أدركناه، وأخبرنا عنه، إنهم كانوا يفتون ولا قراءة لهم في العربية فضلا عما سواها من أصول الفقه.
قال: وقد ولي خطبتي الأنكحة والجماعة بتونس من قال: ما فتحت كتابا في العربية على أحد، ومثله ولي القضاء في أوائل هذا القرن «ببجاية» (3).
قال الأستاذ أبو إسحاق (4): «وقد أشار الشافعي في «رسالته» (5) إلى هذا المعنى، وأن الله خاطب العرب بكتابه العزيز، بلسانها على ما تعرف من معانيها.
ثم ذكر مما يعرف من معانيها اتساع لسانها وأن 130ظ / / تخاطب بالعام مرادا به ظاهره، وبالعام يراد به العام، ويدخله الخصوص، ويستدل على ذلك ببعض ما يدخله في الكلام، وبالعام يراد به الخاص، ويعرف بالسياق،
__________
(1) م. س: 4/ 117.
(2) انظر: مخ نوازل ابن رشد: 289.
(3) مدينة كانت قاعدة الغرب الأوسط، تقع على البحر الأبيض، بناها ملوك صنهاجة. الروض المعطار: 8280.
(4) الموافقات: 4/ 118117.
(5) الرسالة: 5150.(1/454)
وبالكلام، ينبىء به أوله عن آخره، وآخره عن أوله، وأن تتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اللفظ، كما يعرف بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة والمعاني الكثيرة بالاسم الواحد.
ثم قال: فمن جهل هذا من لسانها وبلسانها نزل الكتاب. وجاءت به السنة فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه، ومن تكلف ما جهل، وما لم يثبته معرفة كانت موافقة الصواب إن وافقه من حيث لا يعرفه غير محمودة، وكان بخطئه غير معذور، إذا نطق بما لا يحيط به علمه، بالفرق بين الصواب والخطأ فيه. هذا قوله وهو الحق الذي لا محيص عنه.
قال: وغالب ما صنف في أصول الفقه من الفنون إنما هو من المطالب العربية التي تكفل المجتهد فيها بالجواب عنها، وما سواها من المقدمات، فقد يكفي فيه التقليد، كالكلام في الأحكام تصورا وتصديقا، وكأحكام النسخ وأحكام التحديث (1).
قال: فالحاصل أنه لا غنى بالمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب بحيث يصير فهم خطابها له وصفا غير متكلف، ولا متوقف فيه في الغالب إلا بمقدار توقف الفطن لكلام اللبيب».
قلت: انظر قوله: وغالب ما صنف في أصول الفقه من الفنون إنما هو من المطالب العربية.
وما تقدم عن «الزمخشري»: «أن الكلام في معظم أبواب أصول الفقه ومسائلها مبني على علم الإعراب». فإن ذلك مناف لقول المازري في «شرح البرهان» (2): «أن العربية لا تكون مادة في جميع أصول الفقه، وإنما تكون مادة لنوع منه، وهو الخطاب وما يتعلق به، لأن من أصول الفقه، الكلام في أحكام
__________
(1) في الموافقات: 4/ 118: الحديث.
(2) وقد سماه: «إيضاح المحصول من برهان الأصول» وهو شرح ممتع في أجزاء عديدة على «برهان» إمام الحرمين، وهو من أهم ما صنف في علم الأصول وأقدم ما شرح به هو تأليف المازري هذا، ومنه أجزاء متفرقة في مكتبات تونس وغيرها. انظر: هذا التعليق في كتاب «الإمام المازري» لحسن حسني عبد الوهاب» ص: 62.(1/455)
الأخبار، والإجماع 131و / / والنسخ، والقياس، وهذه الأصناف هي معظم أصول الفقه، و [لا استناد] (1) لها للغة، ولا يحتج باللغة فيها وإن افتقر إلى اللغة في الخطاب الوارد بالتعبد بها، فذلك داخل فيما قلناه أولا من أنه لا يفتقر إلى اللغة إلا فيما يتعلق بالخطاب».
وما قرره الأستاذ أبو إسحاق أولى بالتحقيق وأسعد.
مزيد بيان:
ما تقدم من شهادة معظم أهل العلوم الإسلامية باحتياجهم إلى العربية، مثله موجود ولا بد منه لأهل العلوم على الإطلاق، إذا تعلمت بهذا اللسان العربي، وهذا «ابن رشد الحكيم» (2) قد قال عند الكلام على منفعة هذه الصناعة:
«وأما منفعتها فبينة بنفسها، وهي فهم كتاب الله تعالى، وفهم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفهم جميع العلوم التي تتعلم بقول: العلمية منها، والعملية، وعمل الخطاب، والأشعار».
ومن هنا قال ابن خاتمة (3): «علم العربية مفتاح فهم كل علم نظري أو عملي مما يعبر عنه بلسان عربي، وبه تنظم الأشعار والخطب، ويحكم كل فن من فنون الأدب، ويحظى بكثير من المطالب والمآرب».
__________
(1) في «ج»: والإسناد.
(2) هو محمد بن أحمد بن رشد القرطبي أبو الوليد المعروف بابن رشد الحفيد. ت: 595هـ 1192م. عالم، مشارك في اللغة والطب والمنطق، والعلوم الرياضية والإلهية. من تصانيفه:
«الكليات في الطب» و «بداية المجتهد» في الفقه و «مختصر المستصفى وغيرها». انظر: الذيل والتكملة: 6/ 3121، والديباج: 2/ 259257.
(3) هو أحمد بن علي بن خاتمة الأنصاري (أبو جعفر) ت: 770هـ 1369م. مؤرخ، أديب، شاعر، طبيب، ولد وتوفي بمدينة ألمرية، من تصانيفه: «رائق التحلية في فائق التورية» و «معجم صغير» لمفردات من اللغة وأسماء البلدان، و «إلحاق العقل بالحس في الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس»، و «ديوان شعر». انظر: الإحاطة: 7/ 259239، وطبقات القراء: 1/ 87.(1/456)
الباب الثالث في حكم استنباط النحو والاشتغال به في نظر الشرع
وفيه فصلان(1/457)
الفصل الأول في حكم استنباط النحو وفيه أبحاث
المبحث الأول: في أول من استنبطه:
أقوال:
وقد ذكروا في ذلك أقوالا.
أحدها: أن أول من وضعه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
رضي الله عنه وهو الذي أملى على أبي الأسود الدؤلي: «الكلام كله لا يخرج عن اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى» (1) ثم رسم أبو الأسود الدؤلي فيه أصولا 131ظ / /:
قال أبو الفرج الأصبهاني (2): «قيل لأبي الأسود: من أين لك هذا العلم يعني النحو؟ قال: أخذت حدوده عن علي بن أبي طالب».
وقال ابن الأنباري (3) عن أبي حاتم (4): «وزعموا أن أبا الأسود ولد في الجاهلية، وأنه أخذ النحو عن علي بن أبي طالب».
__________
(1) النزهة: 4.
(2) هو علي بن الحسين بن محمد الهيثم المرواني الأموي القرشي. ت: 356هـ 966م. من أئمة الأدب الإعلام في معرفة التاريخ، والأنساب، والسير، والآثار، واللغة، والمغازي. من تصانيفه: «الأغاني» و «مقاتل الطالبيين» و «الإماء الشواعر»، و «آداب الغرباء»، انظر: تاريخ بغداد: 11/ 400398، والإنباه: 2/ 251، والوفيات: 3/ 309307.
(3) في إيضاح الوقف: 1/ 42، والنزهة: ص 10، وبعضه بالمعنى.
(4) هو سهل بن محمد السجستاني، ت: 255هـ 868م، كان عالما باللغة والشعر، كما كان حسن العلم بالعروض وإخراج المعنى وقول الشعر، ولم يكن بالحاذق في النحو، له تصانيف في اللغة والنحو والقراءة. انظر: طبقات الزبيدي: 9694، والنزهة: 191189.(1/459)
وحكى الزبيدي من طريق أبي علي البغدادي عن المبرد: «أول من وضع العربية، ونقط المصاحف أبو الأسود ظالم بن عمرو.
وقال المبرد: سئل أبو الأسود عمن فتح له الطريق إلى الوضع في النحو وأرشده إليه فقال: تلقيته من علي بن أبي طالب.
وفي حديث آخر قال: ألقى إلي «علي» أصولا احتذيت عليها» (1).
قلت: وقد ضمن بعضهم هذا المعنى في «غرض الفخر به، والمدح لابن عصفور (2) لما وافق اسمه اسم أمير المؤمنين فاتح باب الوضع لهذا العلم المنسوب إليه فقال:
نقل النحو إلينا الدؤلي ... عن أمير المؤمنين البطل
بدأ النحو علي، وكذا ... ختم النحو ابن عصفور علي» (3)
على أن صاحبنا الكاتب الأديب الأبرع أبا عبد الله محمد الأزرق الوادياشي (4) رحمه الله قد قال فيما يدافع ابن عصفور عما اقتضاه هذا المدح له بتفضيل الأستاذ المحقق أبي الحسن ابن الضائع عليه.
ولقد أبدع في ذلك ما شاء، وخصوصا ما تضمن من التورية:
بضائعك ابن الضائع الندب قد أتت ... بحظ من التحقيق والعلم موفور
فطرت عقابا كاسرا أو ما ترى ... مطارك قد أعيا جناح ابن عصفور
الثاني: أول من وضعه: «نصر بن عاصم الليثي.
حكاه الزبيدي عن خالد
__________
(1) طبقات الزبيدي: 21.
(2) هو علي بن مؤمن بن محمد الحضرمي الإشبيلي أبو الحسن المعروف بابن عصفور. ت: 669هـ 1271م. حامل لواء العربية بالأندلس في عصره، من تصانيفه: «المقرب» في النحو و «الممتع» في التصريف و «المفتاح» و «الهلال» و «المقنع» وغيرها. انظر: عنوان الدراية: 266، ورحلة العبدري: 38و 245.
(3) نفح الطيب: 2/ 701، نقلا عن روضة الإعلام.
(4) ذكره المقري في م. س: 2/ 701و 6/ 152، نقلا عن روضة الإعلام، وانظر: ما كتبه عنه د.
بنشريفة في كتابه: «البسطي آخر شعراء الأندلس»: 131123.(1/460)
الحذاء (1)» (2).
وذكر في صدر «طبقاته» (3) ما يقتضي أن المعتمد عنده أن أبا الأسود هو السابق لذلك، فإنه قال 132و / /:
«أول من أصل ذلك وأعمل فكره فيه أبو الأسود ظالم بن عمرو الدؤلي، ونصر بن عاصم، وعبد الرحمن ابن هرمز، فوضعوا للنحو أبوابا، وأصلوا له أصولا، فذكروا عوامل الرفع، والنصب، والخفض والجزم، ووضعوا باب الفاعل والمفعول، والتعجب، والمضاف، وكان لأبي الأسود في ذلك فضل السبق وشرف التقدم» اه.
وحكى ابن الأنباري عن أبي عبيدة أنه قال: «أول من وضع النحو أبو الأسود الدؤلي، ثم ميمون الأقرن، ثم عنبسة الفيل، ثم عبد الله بن أبي إسحاق.
قال: ووضع عيسى بن عمر في النحو كتابين، سمى أحدهما: الجامع، والآخر: المكمل، فقال الخليل بن أحمد:
بطل النحو جميعا كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك «إكمال» وهذا «جامع» ... فهما للناس شمس وقمر» (4)
قلت: زاد الزبيدي بيتا ثالثا متوسطا بين البيتين وهو هذا:
«وهما بابان صارا حكمة ... وأراحا من قياس ونظر» (5)
وفي تاريخ «ابن خلكان» (6) زيادة أمر آخر ومساقه أنه لما ذكر لعيسى بن
__________
(1) هو خالد بن مهران المجاشعي أبو المنازل البصري. ت: 141هـ 758م. الحافظ وأحد الأئمة، ثبت، ثقة، روى عن أبي عثمان النهدي، ويزيد بن الشخير، وروى عنه ابن سيرين، وشعبة، وخلق. انظر ميزان الاعتدال: 1/ 642.
(2) انظر: طبقات الزبيدي: 27.
(3) انظر: ص: 1211.
(4) إيضاح الوقف: 1/ 44.
(5) طبقات الزبيدي: 42.
(6) الوفيات: 3/ 487486.(1/461)
عمر الكتاب «الجامع» قال: «ويقال: إن سيبويه أخذ هذا الكتاب وبسطه، وحشى عليه من كلام الخليل وغيره، ولما كمل بالبحث والتحشية نسب إليه، وهو كتاب سيبويه المشهور.
قال: والذي يدل على صحة هذا القول أن «سيبويه» لما فارق عيسى بن عمر، ولازم الخليل سأله عن مصنفات عيسى بن عمر، فقال له سيبويه: صنف نيفا وسبعين مصنفا في النحو، وأن بعض أهل اليسار جمعها، وأتت عنده عليها آفة فذهبت ولم يبق منها في الوجود سوى كتابين: أحدهما: اسمه: الإكمال، وهو بأرض فارس، عند فلان، 132ظ / / والآخر: «الجامع» وهو هذا الكتاب الذي أشتغل [فيه] (1) وأسألك عن غوامضه، فأطرق الخليل ساعة، ثم رفع رأسه وقال: رحم الله عيسى، وأنشد:
«بطل (2) النحو جميعا كله» البيتين.
قال فأشار ب «الإكمال» إلى الغائب وب «الجامع» إلى الحاضر» اه.
قلت: وقريب من هذا الذي ذكر في كتاب سيبويه باعتبار أخذه عن شيوخه، ما أشار إليه ابن العربي في «رحلته الصغرى» (3): «أن الخليل أنهاه إلى سيبويه، ثم تولى «سيبويه» نظمه وترتيبه، والله أعلم بحقيقة ذلك كله».
تنبيه:
لا تناقض نسبة ابتداء وضع هذا العلم إلى أبي الأسود ما تقدم قبله من إضافة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإن أبا الأسود قد اعترف بأنه لم يهتد إلى ذلك بنفسه، وإنما أخذه عن علي رضوان الله عليه لكن لما كان هو المتولي لوضع تلك الأصول التي حذا نحوها في التفريع عليها، فلا جرم نسب إليه ابتداؤه وإبرازه إلى الوجود، وهذا ظاهر.
__________
(1) في «ج»: به.
(2) في ن. م. س 3/ 487: ذهب النحو.
(3) مخ الرحلة: 387.(1/462)
المبحث الثاني: في سبب استنباطه ووضعه، وقد ذكروا في ذلك أيضا روايات:
الرواية الأولى:
ما رواه ابن الأنباري عن ابن أبي مليكة أن أعرابيا قدم في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: «من يقرئني مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم؟
قال: فأقرأه رجل سورة «براءة» فقال: {«أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ»}
بالجر. فقال الأعرابي: أو قد برىء الله من رسوله؟ فإن يكن الله برئ من رسوله، فأنا أبرأ منه، فبلغ عمر مقالة الأعرابي، فدعاه فقال: يا أعرابي، أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: يا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت: من يقرئني، فأقرأني هذا سورة «براءة». فقال: {«أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ»}، فقلت: أو 133و / قد برىء الله من رسوله؟! إن يكن الله برئ من رسوله، فأنا أبرأ منه. فقال عمر: ليست هكذا يا أعرابي. قال:
فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: {«أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ»}. فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما برىء الله ورسوله منه. فأمر عمر رضي الله عنه ألا يقرىء القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود فوضع النحو» (1) اه.
الرواية الثانية:
روى أيضا ابن الأنباري عن العتبي قال: «كتب معاوية إلى زياد يطلب عبيد الله ابنه فلما قدم عليه كلمه فوجده يلحن، فرده إلى زياد، وكتب إليه كتابا يلومه فيه فيقول: أمثل عبيد الله تضيع؟!
فبعث زياد إلى أبي الأسود فقال له: يا أبا الأسود، إن هذه الحمراء (2) قد
__________
(1) إيضاح الوقف: 1/ 3938.
(2) الحمراء: العجم لبياضهم، ولأن الشقرة أغلب الألوان عليهم، وكانت العرب تقول للعجم الذين يكون البياض غالبا على ألوانهم مثل الروم، والفرس، ومن صاقبهم: الحمراء. اللسان:
حمر.(1/463)
كثرت، وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئا يصلح به الناس كلامهم، ويعربون به كتاب الله عز وجل، فأتى ذلك أبو الأسود، وكره إجابة زياد إلى ما سأل، فوجد زياد رجلا، وقال له: اقعد في طريق أبي الأسود، فإذا مر بك، فاقرأ شيئا من القرآن وتعمد اللحن فيه.
ففعل ذلك، فلما مر أبو الأسود رفع الرجل صوته بالقراءة فقرأ: {«أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ»}، فاستعظم ذلك أبو الأسود، وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله، ثم رجع من فوره إلى زياد فقال له: يا هذا قد أجبتك إلى ما سألت. ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إلي بثلاثين رجلا.
فأحضرهم زياد، فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم لم يزل يختارهم حتى اختار منهم رجلا من عبد القيس فقال: خذ «المصحف» وصبغا يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتي فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتها فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعت شيئا من هذه الحركات غنة، فانقط نقطتين. فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره، ثم وضع 133ظ / / «المختصر» المنسوب إليه بعد ذلك» (1) اه.
تنبيه:
قال ابن خاتمة ومن خطه نقلت: «سأل بعض الأصحاب عن فعل زياد هذا، هل هو من الجائز لمكان ما اقترن به من القصد، فيكون هذا القصد عذرا للمجتهد في الأمر بذلك؟ قال: والجواب أن ذلك حرام للآمر به والمأمور، ولا عذر في مثل ذلك لزياد، لأن تحريف الكتاب العزيز حرام باتفاق، وقد يكون في كثير من الصور كفر، وحظره معلوم من دين الأمة بالضرورة، فلا مساغ له بوجه إلا أن يكون ذلك من سقطات زياد، فقد كان له سقطات لا يسلمها أهل الدين، وإن كان من الدهاة في أمر الدنيا أعاذنا الله من عثرات الألسنة».
قلت: وما قاله بيّن لا سيما وذلك المرتكب لم تدع إليه ضرورة، فإن
__________
(1) إيضاح الوقف: 1/ 4139.(1/464)
إمكان الوقوع في اللحن المؤدي إلى الكفر بسبب فساد اللسان، كاف في عذر الإقدام على وضع ما يدرأ به هذا الفساد، وهذا ظاهر والله أعلم.
فائدتان:
إحداهما:
قال أبو عمرو الداني رحمه الله: «أول من صنف النقط، ورسمه في كتاب، وذكر علله الخليل بن أحمد، ثم صنف ذلك بعده جماعة من النحويين، والمقرئين، وسلكوا فيه طريقه، واتبعوا سنته، واقتدوا بمذاهبه، منهم: أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي، وابنه: أبو عبد الرحمن عبد الله، وأبو حاتم سهل بن محمد السجستاني، وأبو عبد الله محمد بن عيسى الأصبهاني (1)، وأبو الحسن أحمد بن جعفر بن المنادى (2)، وأبو بكر أحمد بن موسى بن مجاهد، وأبو بكر محمد بن عبد الله بن أشتة (3)، وأبو الحسن علي بن محمد بن [بشران] (4) (5): مقرىء أهل بلدنا، وجماعة كثيرة غير هؤلاء.
__________
(1) محمد بن عيسى بن إبراهيم أبو عبد الله التيمي الأصبهاني، إمام في القراءات، أخذ عن جماعة منهم: خلاد بن خالد، وخلق، وسليمان بن داود الهاشمي، وروى القراءة عنه: الفضل بن شاذان وهو أكبر أصحابه وأعلمهم، ومحمد بن عبد الرحيم الأصبهاني وأبو سهل حمدان بن المرزبان: له مصنفات منها: «الجامع في القراءات»، وكتابا في «العدد» وآخر في «جواز قراءة القرآن» على طريق المخاطبة، كما كان إماما في النحو. ت: نحو 253هـ 867م. وقيل:
242 - هـ. انظر: طبقات القراء: 2/ 224223.
(2) البغدادي المعروف بابن المنادى. ت: 336هـ 947م. حافظ، ثقة، متقن، ضابط، قرأ على الحسن بن العباس، وعبيد الله بن محمد اليزيدي، والفضل بن مخلد وقرأ عليه: أبو الحسن علي الدارقطني، وأحمد بن نصر الشذائي، وأبو الحسن بن بلال وغيرهم. انظر طبقات القراء:
1/ 44.
(3) الأصبهاني: ت: 360هـ 970م. عالم بالعربية، وأستاذ في القراءات، محقق، ثقة، له كتاب:
«المحبر»، و «المفيد» في الشاذ. انظر: طبقات القراء: 2/ 184.
(4) في الأصول: بشر، والتصويب من طبقات القراء.
(5) البغدادي المقرىء، روى القراءة عن ابن مجاهد، والحسين بن علي الخياط، والحسن بن الحباب وروى عنه أبو عبد الله الكارزيني، وعلي بن محمد الخبازي. انظر: طبقات القراء:
1/ 566.(1/465)
قال: وممن اشتهر من المتقدمين بالنقط، واقتدي به فيه من المدنيين:
عيسى بن مينا قالون (1) راوية نافع، ومقرىء أهل المدينة.
ومن أهل البصرة: بشار 134و / / بن أيوب أستاذ يعقوب بن إسحاق الحضرمي (2)، [والمعلى] (3) بن عيسى (4) صاحب الجحدري (5)، ومن الكوفيين: صالح بن عاصم (6) صاحب الكسائي، ومن الأندلسيين: «حكم بن عمران» صاحب الغازي بن قيس» (7) اه.
الفائدة الثانية:
روى الحافظ أبو عمرو أيضا: «أن أول من نقط المصحف يحيى بن يعمر.
__________
(1) عيسى بن مينا بن وردان الزرقي ويقال المري، مولى بني زهرة، أبو موسى الملقب «قالون» قارىء المدينة ونحويها، يقال إنه ربيب نافع، وقد اختص به كثيرا، وهو الذي سماه «قالون» لجودة قراءته، فإن «قالون» باللغة الرومية «جيد». ت: 220هـ 835م. انظر طبقات القراء: 1/ 616615.
(2) أبو محمد يعقوب بن إسحاق الحضرمي مولاهم البصري. ت: 205هـ 820م. أحد القراء العشرة، وإمام أهل البصرة ومقريها، من أعلم أهل زمانه بالقرآن، والنحو، وغيره، وأروى الناس لحروف القرآن وحديث الفقهاء. انظر: طبقات القراء: 2/ 389386.
(3) في الأصول: المحلى، والتصويب من طبقات القراء.
(4) المعلى بن عيسى، ويقال ابن راشد البصري الوراق الناقط، روى القراءة عن عاصم الجحدري، وعون العقيلي، وروى عنه علي بن نصير، وبشر بن عمر، وغيرهما. انظر: طبقات القراء: 2/ 304.
(5) هو عاصم بن أبي الصباح العجاج، وقيل: ميمون أبو المجشّر بالشين المشددة المكسورة، الجحدري البصري المقرىء. ت نحو: 128هـ 745م. أخذ القراءة عن نصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، وروى حروفا عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ عليه عيسى بن عمر الثقفي وسلام بن سليمان، وروى عنه الحروف المعلى بن عيسى الوراق، وهارون الأعور وغيرهما.
انظر: طبقات القراء: 1/ 349.
(6) صالح بن عاصم الناقط الكوفي، روى الحروف عن الكسائي، وهو من المكثرين في النقل عنه، روى القراءة عنه محمد بن الجهم، طبقات القراء: 1/ 333.
(7) غازي بن قيس أبو محمد الأندلسي، إمام جليل وثقة ضابط، كان مؤدبا بقرطبة، ثم رحل فحج، وأخذ القراءة عن نافع بن أبي نعيم، والموطأ عن الإمام مالك بن أنس، وهو أول من أدخل قراءة نافع، وموطأ مالك إلى الأندلس، وكان خيرا فاضلا، فقيها، عالما، أديبا، ثقة مأمونا.
مات 199هـ 814م. طبقات القراء: 2/ 2.(1/466)
وروى أيضا أن أول من نقطها، وعشرها، وخمسها، نصر بن عاصم.
قال: ويحتمل أن يكون «يحيى ونصر» أول من نقطاها للناس بالبصرة، وأخذا ذلك عن أبي الأسود إذ كان السابق إلى ذلك والمبتدىء به، وهو الذي جعل الحركات والتنوين لا غير على ما في الخبر عنه، ثم جعل الخليل بن أحمد: الهمز، والتشديد، والروم، والإشمام (1)، وقفا الناس في ذلك أثرهما، واتبعوا فيه سننهما، وانتشر ذلك في سائر البلدان، وظهر العمل به في كل عصر وأوان، والحمد لله على كل حال» اه.
وقال في «المقنع» (2): «أكثر العلماء على أن المبتدىء بذلك أبو الأسود، جعل الحركات والتنوين لا غير، وأن الخليل هو الذي جعل الهمزة، والتشديد، والروم، والإشمام».
الرواية الثالثة:
حكاها ابن الأنباري أيضا عن عاصم بن أبي النجود، قال:
«أول من وضع النحو أبو الأسود الدؤلي جاء إلى زياد «بالبصرة» فقال:
إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم، وتغيرت ألسنتهم، أفتأذن لي أن أضع للعرب كلاما يعرفون به، أو يقيمون به كلامهم! قال: لا.
قال: فجاء رجل إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير، توفي أبانا وترك بنونا، فقال زياد: توفي أبانا وترك بنونا! ادع لي أبا الأسود، فقال: ضع للناس الذي نهيتك أن تضع لهم.
قال عن بعضهم: كان أبو الأسود الدؤلي أول من وضع العربية بالبصرة» (3).
__________
(1) الرّوم: حركة مختلسة مختفاة، وهي أكثر من الإشمام لأنها تسمع، أما الإشمام من أشمّ الحروف، أذاقها الضمة أو الكسرة بحيث لا تسمع، ولا يعتد بها، ولا تكسر وزنا.
(2) المقنع في رسم المصاحف ونقطها لأبي عمرو الداني. انظر: كشف الظنون: 2/ 1809، والإعلام: 4/ 206. وذكر أن الكتاب طبع ولم أعثر على نسخة منه.
(3) إيضاح الوقف: 1/ 4342.(1/467)
الرواية الرابعة:
قال الزبيدي عن علي بن محمد الهاشمي: «سمعت أبي يقول (1): كان بدء ما وضع أبو الأسود الدؤلي النحو أنه مر به سعد، وكان رجلا فارسيا قدم البصرة مع أهله، وهو يقود فرسه، فقال: ما لك يا سعد؟ ألا تركب؟ فقال: فرسي ضالع (2)، فضحك به من حضره.
قال أبو الأسود: هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام، ودخلوا فيه، وصاروا لنا إخوة، فلو علمناهم الكلام، فوضع باب الفاعل والمفعول ولم يزد عليه. قال أبي: فزاد في ذلك الكتاب رجل من بني ليث أبوابا، ثم نظر، فإذا في كلام العرب ما لا يدخل فيه، فأقصر عنه. فلما كان عيسى بن عمر قال: أترى أن أضع الكتاب على الأكثر، وأسمي الآخر لغات، فهو أول من بلغ في كتاب النحو غايته» (3).
الرواية الخامسة:
قال الزبيدي: «ويروى أن الذي أوجب عليه الوضع في النحو، أن ابنته قعدت معه في يوم قائظ شديد الحر، فأرادت التعجب من شدة الحر، فقالت:
«ما أشدّ الحرّ! فقال أبوها: القيظ، وهو ما نحن فيه يا بنية، جوابا عن كلامها، لأنه استفهام، فتحيرت وظهر لها خطؤها، فعلم أبو الأسود أنها أرادت التعجب، فقال لها: قولي يا بنية «ما أشدّ الحرّ!» فعمل باب التعجب، وباب الفاعل والمفعول به، وغيرهما من الأبواب» (4) اه.
ويحكى عن يحيى بن يعمر في هذا الخبر: «أن أبا الأسود دخل إلى ابنته بالبصرة في يوم قائظ، فقالت له: يا أبت، ما أشدّ الحرّ! برفع أشد، فظنها
__________
(1) في طبقات الزبيدي 22: يذكر.
(2) يريد: ظالع بالظاء من ظلع يظلع البعير: غمز في مشيه، فهو ظالع.
(3) انظر: طبقات الزبيدي: 22.
(4) م. س: 2221.(1/468)
تسأله: أي زمان الحر أشد؟ فقال لها: شهر ناجر، فقالت: يا أبت إنما أخبرتك، ولم أسألك! فأتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، قد ذهبت لغة العرب لما خالطت الأعاجم، ويوشك إن تطاول عليها زمان أن تضمحل، فقال له: وما ذاك؟ فأخبره خبر ابنته، فأمره، فاشترى صحفا بدرهم وأملى عليه: الكلام كله لا يخرج 135و / / عن اسم، وفعل، وحرف، جاء لمعنى»، وهذا هو أول كتاب سيبويه، ثم رسم أصول النحو.
فائدة:
قال الجوهري: «شهر ناجر هو كل شهر في صميم الحر، لأن الإبل «تنجر» في ذلك الشهر. يريد من «النّجر بالتحريك.
قال: وهو عطش يصيب الإبل والغنم عن أكل «الحبة» (1) فلا تكاد تروى من الماء.
قال عن يعقوب (2): وقد يصيب الإنسان النجر من شرب اللبن الحامض، فلا يروى من الماء» (3).
تنبيه:
السبب العام لوضع هذا العلم فساد لسان العرب، وتغيره بمخالطة الأعاجم، فاضطر لذلك لوضع ما يدر أشياع ذلك الفساد وغلبته على الناس جميعا حسبما يرشد إليه ما تقدم من كلام أبي الأسود ويأتي إن شاء الله دليل اعتباره شرعا.
ومن كلام الناس في هذا المعنى على وضوحه في نفسه قول الزبيدي في «صدر طبقاته» (4) «ولم تزل العرب تنطق على سجيتها في صدر إسلامها،
__________
(1) الحبّة: بزر كل نبات ينبت وحده من غير أن يبذر. اللسان حبب.
(2) في كتابه تهذيب الألفاظ: 674.
(3) الصحاح: باب الراء فصل النون.
(4) انظر: ص: 1211.(1/469)
وماضي جاهليتها حتى أظهر الله الإسلام على سائر الأديان، فدخل الناس فيه أفواجا، وأقبلوا إليه أرسالا (1)، واجتمعت فيه الألسنة المتفرقة واللغات المختلفة، ففشا الفساد في اللغة العربية، واستبان منها في الإعراب الذي هو حليها، والموضح لمعانيها، فتفطن لذلك من نافر بطباعه سوء أفهام الناطقين من دخلاء الأمم بغير المتعارف من كلام العرب، فعظم الإشفاق من فشو ذلك وغلبته، حتى دعاهم الحذر من ذهاب لغتهم، وفساد كلامهم، إلى أن سببوا الأسباب في تقييدها لمن ضاعت عليه، وتثقيفها لمن زاغت عنه، فكان أول من أصل ذلك، وأعمل فكره فيه، أبو الأسود، ثم ذكر ما تقدم نقله.
ثم قال: ثم وصل ما أضلوه من ذلك التالون لهم، 135ظ / / والآخذون عنهم، فكان لكل واحد منهم من الفضل بحسب ما بسط من القول، ومد من القياس، وفتق من المعاني، وأوضح من الدلائل، وبين من العلل».
قلت: وعلى هذه الطبقة فمن بعدها على الجملة يتنزل قول «أبي نصر الفارابي» (2) في كتاب الألفاظ له: «وأكثر ما تشاغلوا بذلك من سنة تسعين من الهجرة إلى مائتين. قال: وكان الذي تولى ذلك من بين أمصارهم يعني العرب أهل الكوفة والبصرة من أهل العراق، ونقلوا لغتهم، والفصيح منها عن سكان البراري منهم دون أهل الحضر، ثم من سكان البراري من كان في أوسط بلادهم، ومن أشدهم توحشا وجفاء، وأبعدهم إذعانا وانقيادا. وهم قيس، وتميم، وأسد، وطيّىء، ثم هذيل، فإن هؤلاء معظم من نقل عنه لسان العرب، والباقون فلم يؤخذ عنهم شيء لأنهم كانوا في أطراف بلادهم مخالطين لغيرهم من الأمم، ومطبوعين على سرعة انقياد ألسنتهم لألفاظ سائر الأمم المطيفة بهم من الحبشة، والهند، والفرس، والسريانيين، وأهل الشام، وأهل مصر» اه.
__________
(1) أرسالا: أي طوائف.
(2) هو محمد بن محمد الفارابي. ت: 339هـ 950م. من المتقدمين في صناعة المنطق، رياضي، طبيب، موسيقي، من تصانيفه: «مراتب العلوم»، و «المدخل إلى علم المنطق». انظر:
الفهرست: 382، والوفيات: 5/ 153.(1/470)
وله في «صدر الكتاب» كلام في هذا المعنى أتم مما نقل عنه فراجعه من هنالك.
المبحث الثالث:
في وجه اعتبار هذا السبب لوضع العربية في نظر الشرع، وذلك ظاهر بأيسر تأمل من جهة بنائه على اعتبار «قاعدة المصالح المرسلة» على ما تقرر في الأصول، فإن ظهور المصلحة به في حفظ الشريعة واضح المناسبة لتصرفات الشرع قطعا، وعند ذلك فلا يتوقف في الإقدام عليه، وإن كان لم يتقدم عليه عهد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كيف وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتحوا باب الحفظ للشريعة بنوع منه، 136و / / وذلك حين اتفقوا على جمع المصحف الكريم مع فقد النص على الإذن فيه، حتى قال بعضهم: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لكن لما علموا يقينا بما شرح الله صدورهم إليه، أن الإقدام لا بد منه، وإلا أدى لا محالة إلى ضياع القرآن، وذهاب كثير منه، فلا جرم اتفقوا على جمعه، وتقدموا بذلك إلى تأصيل الوضع لما يحفظ به الشريعة عند قيام مقتضيه، وإن لم يوجد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا إن سلم أن وضع هذا العلم لم يتقدم إليه الخلفاء الراشدون، وأما إن كانوا هم الذين أمروا به، وأرشدوا إلى تأصيل أوضاعه كما يدل عليه ما تقدم فهو بلا شك من جملة ما سنوا من الخير الذي سبقوا إليه، ودليلهم عليه هو بعينه دليل جمعهم للمصحف وغير ذلك مما تنتظمه قاعدة المصالح المرسلة.
تنبيه:
إذا تقرر وجه اعتبار ذلك السبب لوضع العربية في نظر الشرع، فيبقى بعد ذلك أن يقال: هل يسمى ذلك الوضع بدعة من جهة أنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم؟ لكن الابتداع فيه يكون واجبا، بناء على تقسيم البدع بانقسام أحكام الشريعة، وهو طريقة الشيخ عز الدين رحمه الله وتلميذه القرافي، أو لا
يسمى ذاك بدعة، لأن أدلة الشرع وقواعده تتناول الإقدام على وضعه، وإن لم يسبق به عهد لعدم وجود مقتضيه وما هو كذلك لا يقال فيه بدعة، وإلا لزم أن يقال في كل ما [تجدد] (1) من الوقائع التي لم يرد فيها نص عن النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص، وتكلم فيها العلماء بما تقتضيه القواعد الشرعية أنه بدعة، وليس كذلك لأن البدعة ما لا أصل له في الشريعة، 136ظ / / ولا يجري على ما يعتبره العلماء في الاستنباط لحكمه، وهذه هي طريقة المحققين من العلماء.(1/471)
إذا تقرر وجه اعتبار ذلك السبب لوضع العربية في نظر الشرع، فيبقى بعد ذلك أن يقال: هل يسمى ذلك الوضع بدعة من جهة أنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم؟ لكن الابتداع فيه يكون واجبا، بناء على تقسيم البدع بانقسام أحكام الشريعة، وهو طريقة الشيخ عز الدين رحمه الله وتلميذه القرافي، أو لا
يسمى ذاك بدعة، لأن أدلة الشرع وقواعده تتناول الإقدام على وضعه، وإن لم يسبق به عهد لعدم وجود مقتضيه وما هو كذلك لا يقال فيه بدعة، وإلا لزم أن يقال في كل ما [تجدد] (1) من الوقائع التي لم يرد فيها نص عن النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص، وتكلم فيها العلماء بما تقتضيه القواعد الشرعية أنه بدعة، وليس كذلك لأن البدعة ما لا أصل له في الشريعة، 136ظ / / ولا يجري على ما يعتبره العلماء في الاستنباط لحكمه، وهذه هي طريقة المحققين من العلماء.
وللأستاذ أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله في تخليص هذا الأصل من شوائب ما يكدر صفوه اليد الطولى، [والسعي] (2) الذي لا يؤدي شكره إلا من عرف قدر ما يسر الله من ذلك على يديه، فجزاه الله عن الإسلام خيرا.
إذا عرفت هذا محالا في بيان تمام الدليل عليه على مواضعه، فقول «الشيخ عز الدين» في «قواعده» (3): «إن من أمثلة البدع الواجبة، الاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به القرآن، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وذلك واجب لأن حفظ الشريعة واجب، ولا يتأتى حفظها إلا بمعرفة ذلك وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب».
ومثل هذا ذكر في حفظ غريب الكتاب والسنة من اللغة.
قال الأستاذ أبو إسحاق في أصل ما ينبني عليه، وهو تقسيم البدع بحسب أحكام الشريعة: «إنه أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي بل هو في نفسه متدافع، لأن من حقيقة البدعة ألا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع، ولا من قواعده، إذ لو كان هناك ما يدل على وجوب، أو ندب، أو إباحة، لما كان ثم بدعة، ولكان العمل داخلا في عموم الأعمال المأمور بها، أو المخير فيها.
__________
(1) في «ج»: تجرد.
(2) في «ج»: السفلى.
(3) انظر: 2/ 173.(1/472)
قال: فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعا، وكون الأدلة تدل على وجوبها، أو ندبها، أو إباحتها، جمع بين متنافيين» (1) انتهى المراد منه.
ومثله للشيخ أبي عبد الله ابن مرزوق التلمساني رحمه الله ما ملخصه عند كلامه على هذا التقسيم في كلام عز الدين والقرافي ظاهره: «أنه كلام خالف به يعني القرافي ما حكاه من اتفاق المالكية على إنكار البدع، 137و / / ولا مخالفة فيه عند التحقيق وإمعان النظر، لأن ما ذكره من الأقسام لم تخرج عن أدلة الشرع وقواعده.
قال: وما مثل به القرافي كله من المجمع عليه، والإجماع أقوى أدلة الشرع، فأين البدعة؟!». قلت: وقد تقدم عن الأستاذ أبي إسحاق أن «تسمية مثل هذا بدعة إما على المجاز المحض من حيث لم يحتج إليها أولا، ثم احتيج إليها بعد، أو من عدم المعرفة بموضوع البدعة».
قلت: ولا سبيل إلى اعتقاد هذا الثاني في حق هذين الشيخين، وخصوصا الإمام الأعظم عز الدين.
وعلى المحمل الأول حمله الأستاذ أبو إسحاق فقال: «ظاهر منه يعني الشيخ عز الدين أنه سمى المصالح المرسلة بدعا، قال: بناء والله أعلم على أنها لم تدخل أعيانها تحت النصوص المعينة، وإن كانت تلائم قواعد الشرع، فمن هنالك جعل القواعد هي الدالة على استحسانها، فتسميته لها بلفظ البدع، هو من حيث فقدان الدليل المعين على المسألة واستحسانها من حيث دخولها تحت القواعد، ولما بنى على اعتماد تلك القواعد استوفت عنده مع الأعمال الداخلة تحت النصوص المعينة، وصار من القائلين بالمصالح المرسلة، وسماها بدعا في اللفظ، كما سمى عمر رضي الله عنه الجمع في قيام رمضان في المسجد «بدعة».
قال: أما القرافي فلا عذر له في نقل تلك الأقسام على غير مراد شيخه،
__________
(1) الاعتصام: 1/ 192191.(1/473)
ولا على مراد الناس لأنه خالف الكل في ذلك التقسيم، فصار مخالفا للإجماع» (1).
قلت: وما تقدم عن ابن مرزوق يشير إلى هذه المخالفة بظاهر كلامه، وتمام النظر في هذا المقام يخرجنا عن المقصود، وغرضنا منه التنبيه على أن وضع العربية لا ينبغي أن يطلق عليه اسم البدعة، وإن كانت واجبة عند القائلين بانقسام البدع لأن الحق 137ظ / / خلاف ذلك.
وإذا كفى منه ذلك، فلم يبق إلا تحقيق ما هو حكم الشرع على هذا الوضع وهو:
المبحث الرابع:
ولا إشكال مع استحضار تحقق الضرورة إليه، وحصول الحفظ به لأهل الشريعة أنه الحكم الواجب عليهم، والتكليف اللازم بهم، بحسب ما أخذ عليهم من النظر للمسلمين بما يحفظ عليهم دينهم، ويبقي لهم سبب الفهم فيه، والتعقل لخطابه.
وقد تقدم (2) في كلام الشيخ عز الدين: «أن حفظ الشريعة واجب، ولا يتأتى حفظها إلا بمعرفته.
قال: وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب». وهو أمر لا يفتقر إلى استشهاد عليه لوضوحه في نفسه، فإن قلت: فلم توقفوا في المبادرة إليه؟.
الأول: ما ظهر مقتضى الشروع فيه، وإعمال النظر في تمهيد أصوله، حتى احتاج «زياد» إلى التحيل على أبي الأسود بما تقدم عنه، والمعلوم منهم المسارعة إلى الخيرات، والمسابقة إلى حراسة الدين وحفظه من عوارض التغيير والتبديل».
__________
(1) م. س: 1/ 192.
(2) انظر: ص: 136ظ من مخ «أ». ص: 470من هذا الكتاب.(1/474)
قلت: لاستعظامهم إحداث ما لم يعهدوه في زمان الوحي، وإن ظهر وجه الإقدام عليه بما رسخ في نفوسهم من ذم البدعة، وخطر التلبس بها كما توقف الصحابة الكرام رضوان الله عليهم عن جمع القرآن على ظهور المصلحة به، وشدة الحاجة إليه، ليعلموا من يأتي بعدهم كيف يكون الحذر من إحداث ما لم يوجد في زمان التشريع حتى لا يكون منه بد، وحينئذ يقدم على وضعه وإلحاقه بالمشروع، وهذا من آكد ما يتعين أن يعلم من شأنهم في هذا الباب.
قال ابن الحاج في «المدخل» (1): «يحتاج أن تعرف أحوالهم في البدع أولا كيف كانت، وكيف كانوا يراعون هذا الأصل ويتحفظون (2) عليه.
قال: فمن ذلك ما جرى بينهم في أصل الدين، وعمدته، وهو القرآن، وكيفية جمعه وما قالوا بسبب ذلك، وإشفاقهم 138و / / من الأخذ فيه مع الحاجة الداعية إلى جمعه.
ثم قال بعد نقل ما ورد عنهم من المراجعة في جمعه وفيها ما يشير إلى حصول المصلحة به: فانظر مع هذا النفع العظيم الذي وقع بجمعه، أشفقوا أن يفعلوه، وخافوا أن يكون ذلك حدثا يحدثونه بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم، فما بالك ببدعة لا يترتب عليها نفع، أو يترتب عليها حظوظ [النفوس] (3)، أو الركون إلى العوائد، معاذ الله أن يصغي (4) أحد منهم لها، فضلا عن الكلام فيها بنفي أو إثبات.
[قال] (5): ومن ذلك اختلافهم في شكل المصحف، ونقطه، وتعشيره، فمنهم من أنكره وإن كانت تتعلق به هذه المصلحة العظمى التي قد ظهرت في الأمة.
ثم قال بعد حكاية ما وقع من ذلك الاختلاف: فانظر مع ما ترتب على
__________
(1) انظر: 1/ 7876.
(2) في المدخل 1/ 76: ويستحفظون.
(3) في «أ»: النفس.
(4) م. س: 1/ 77: يضع.
(5) بداية مخ: «د».(1/475)
نقطة وشكله، وغير ذلك من المصلحة العظمى للصغار، ومن لا يقرأ من الكبار، كيف كرهوا ذلك مع هذه الفائدة العظمى. على هذا كان منهاجهم في تحريمهم للبدع» انتهى المراد منه.
وعند المعرفة به من سيرة السلف الصالح رضوان الله عليهم بتوقف أبي الأسود وغيره من طبقته عن المبادرة لوضع هذه الصناعة.
الثاني: ما ظهر مقتضى الإذن فيه من معنى توقف الصحابة عن جمع المصحف حتى وضح للجميع تحقق الضرورة. وتيقن لديهم وجوب العمل على مقتضاها، فحينئذ أقدموا على ما أقدموا عليه، وصدورهم لما أسندوا إليه منشرحة، وعزائمهم للقيام بوظيفته اللازمة منتهضة، هذا إن كان وضع هذا العلم بعد زمان الصحابة رضي الله عنهم، وأما إن كان بدؤه متلقى عن خلفائهم كما دلت عليه الروايات المتقدمة، واشتهر ذلك عند الناس، فلا خفاء (مخ «ج») 166/ (1) أنه سنة من سننهم.
وقد سبق هذا غير مرة، فعلى كل تقدير لا سبيل إلى إطلاق اسم البدعة على وضع هذا العلم للقطع بوجوبه أولا، ولمنع إطلاقه على جهة المجاز ثانيا، وقد تقدم الكلام على ما يظهر في ذلك من كلام الشيخ أبي طالب المكي.
فراجعه من هنالك.
__________
(1) بتر في «أ»: يشمل بقية الباب الثالث وأوائل الباب الرابع، اعتمدنا في تتمة ذلك على النسخ ب وج ود، إلا أن «ج» كانت هي الأساس لوضوحها، وسلامتها من الأرضة، وقد اعتمدنا في ترقيم صفحاتها على ما هو موجود بها.(1/476)
الفصل الثاني في حكم الاشتغال به في نظر الشرع وفيه نظران:
أحدهما: إجمالي، والآخر: تفصيلي.
النظر الأول: الإجمالي: وفيه مسائل.
المسألة الأولى:
في أن الاشتغال به على هذا النظر فرض كفاية، وهو مراد الشيخ عز الدين بما تقدم عنه أن الاشتغال به واجب، لأن أحدا لا يقول: إنه من الفروض العينية لحصول المصلحة به من حفظ الشريعة [من غير] (1) نظر بالذات إلى القائم بها على ما تقرر في الأصول في حقيقة فرض الكفاية.
وأيضا لما كانت الغاية به فهم ما تتلقى منه الأحكام الشرعية، وهو الكتاب والسنة، كان لا محالة بمنزلة النظر في ذلك، فرضا على الكفاية من باب ما لا يتم الواجب إلا به. وعند ذلك فلا يصح أن يكون فرض عين، وما هو وسيلة إليه فرضا على الكفاية لامتناع تصور ذلك عقلا وسمعا.
وبالجملة فلا [نزاع] (2) في فرضية ذلك على الكفاية، وقد قال العلماء فيما
__________
(1) غير واضحة في «ب».
(2) في «ب»: لا تنازع.(1/477)
هو كذلك: «إن التكليف به ليسقط عمن لم يقم به إذا كان هناك من قام به».
ومن هنا قال ابن خاتمة: «لو أن أهل جهة معتبرة تواطؤوا على تركها يعني العربية مع الترشيح، وكمال الاستعداد لأثمروا، ويسقط التكليف ولازمه بفعل البعض».
وما قاله صحيح لأن ذلك هو لازم فرض الكفاية، لكن ينبغي أن يقال:
سقوط التكليف عند فرض الاشتغال بها، هل يكفي فيه ظن الفعل، أو لا بد من تحقيق وقوعه وهي:
المسألة الثانية:
قال القرافي في «قواعده» (1): «يكفي في سقوط المأمور به على الكفاية ظن الفعل لا وقوعه تحقيقا.
قال: فإذا غلب على ظن هذه الطائفة أن تلك فعلت، سقط عن هذه، وإذا غلب على ظن تلك أن هذه فعلت سقط عن تلك، وإذا غلب على ظن كل واحد منهما فعل الأخرى، سقط الفعل عنهما».
قال ابن الشاط (2) يحتمل أن يقال: «لا يكفي الظن، قال: فإن قيل:
يتعذر 167/ / القطع، فالجواب: لا يتعذر القطع بالشروع في الفعل، والتهيؤ، والاستعداد، أما بتحصيل الغاية فيتعذر، فهاهنا يكفي الظن لا في المبادىء والمقامات» (3).
قلت: [البين] (4) أن عدم كفاية الظن هنا واجب أن يقال به، لما قرر في
__________
(1) انظر: 1/ 117.
(2) هو قاسم بن عبد الله بن محمد بن الشاط الأنصاري الإشبيلي (أبو محمد، أبو القاسم) ت:
723 - هـ 1323م، فقيه، فرضي، كان نسيج وحده في أصالة النظر، ونفوذ الفكر، والعكوف على العلم، والاقتصار على الآداب السنية. من تآليفه: «أنوار البروق في تعقب مسائل القواعد والفروق»، و «غنية الرائض» و «فهرست». انظر: الديباج، 2/ 153152.
(3) انظر حاشية ابن الشاط: 1/ 116.
(4) في «أ»: البيان.(1/478)
توجيهه باعتبار عدم تعذر القطع إلا عند إرادة العلم بتحصيل الغاية.
«ووجه أن الظن لا يكفي حيث لا يتعذر القطع»، لأنه يؤدي إلى [التواكل] (1) في إقامة الفروض، وذلك ظاهر في الإخلال بها، وكذا في فرض الاشتغال بهذا العلم، لأنه فرد من أفراد الفروض الكفائية، فإذا تحقق في الحواضر المعتبرة أن هناك من قام بوظيفة الاشتغال به تعليما وتعلما، فحينئذ يسقط الفرض عن الباقين، لكن يبقى أيضا أن يقال: لفظ السقوط يشعر بتوجه [الفرض] (2) على الجميع [أولا، وسقط] (3) بعد عن البعض بفعل القائمين به، وهذا هو قول أكثر الأصوليين في فرض الكفاية على الإطلاق. وبعضهم يرى أنه متوجه على البعض.
وتقريب النظر في ذلك بحسب المحتاج إليه في الموضع يستدعي تمهيد ما يتضح به الصواب وهي:
المسألة الثالثة:
وذلك أن قولهم: «فرض الكفاية متوجه على الجميع، وإذا قام به البعض سقط عن الباقين».
قال فيه الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: «ما قالوه صحيح من جهة كلي [الطلب] (4) وأما من جهة جزئيه، ففيه تفصيل، وينقسم أقساما، وربما تشعب تشعبا عظيما.
قال: ولكن الضابط للجملة من ذلك: أن [الطلب] (5) وارد على البعض ولا على البعض كيف كان. قال: ولكن على من فيه أهلية القيام بذلك الفعل المطلوب لا على الجميع عموما.
__________
(1) في «د»: التوكل.
(2) وردت العبارة في «د» كالتالي، الفرض عن الباقين على الجميع.
(3) ساقط من «أ».
(4) في «أ»: الطالب.
(5) في «أ»: الطالب.(1/479)
ثم استدل على ذلك بأمور ثلاثة من جملتها: ما وقع من فتاوى العلماء، كقول مالك رضي الله عنه وقد سئل عن طلب العلم أفرض هو؟: «أما على كل الناس فلا»، والمراد به الزائد على الفرض العيني.
وقوله أيضا: أما من كان فيه موضع للإمامة، فالاجتهاد في [طلب] (1)
العلم عليه واجب، والأخذ في العناية بالعلم على قدر النية فيه.
قال: فقسم كما ترى، فجعل من فيه قبولية للإمامة مما يتعين عليه، ومن لا جعله مندوبا إليه، وفي ذلك بيان أنه ليس على كل الناس.
قال سحنون: من كان أهلا للإمامة وتقليد [العلوم] (2) فرض عليه أن يطلبها
ثم قال: لكن قد يصح أن يقال له: إنه واجب على الجميع على وجه من التجوز، لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة، فهم مطلوبون بسدها على الجملة.
فبعضهم هو قادر عليها مباشرة، وذلك من كان أهلا لها، والباقون، وإن لم يقدروا عليها قادرون على إقامة القادرين، فمن كان قادرا على الولاية فهو مطلوب بإقامتها، ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر آخر 168/ / وهو إقامة ذلك القادر، وإجباره على القيام بها، فالقادر إذا مطلوب بإقامة الفرض، وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر إذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة من باب ما لا يتم الواجب إلا به.
قال: وبهذا الوجه يرتفع مناط الخلاف فلا يبقى للمخالفة وجه ظاهر» (3).
قلت: وعلى هذا التحقيق الذي لا شك في صواب القول به، فواجب على الجميع في الجملة أن يقيموا من يشتغل بتعليم هذا العلم، وواجب على
__________
(1) ساقط من «ج».
(2) في «د»: للعلم.
(3) الموافقات: 1/ 179176.(1/480)
البعض الذين لهم القدرة على القيام به أن يجيبوا إلى ذلك في الجملة أو التفصيل إذا تعين على واحد بعينه، حيث يتفق ذلك على ما سيرد إن شاء الله ومن هنا يجب على إمام المسلمين وهي:
المسألة الرابعة:
أن يقيم للناس من يعلمهم هذا النوع من العلم في جملة العلوم الدينية، وما لا بد لهم من معرفته، ليستقيم لهم دينهم ودنياهم، ويجري عليهم وعلى مؤجر المشتغلين عليه ما يتفرغون بكفايته للقيام بما هم بسبيله.
قال ابن حزم في فضل ما يلزم الإمام أن يسير به من السير من سياسة المملكة له، وقد ذكر ما يبدأ به:
«فإذا تمّ أمر ذلك نظر [الإمام] (1) فيمن يعلم الناس دينهم، فرتب لأهل كل ناحية من يقوم بتعليم من فيها القرآن، والفقه، ويرويهم الحديث، ويعلم الناس دينهم، والعلوم التي لا غنى للناس عنها من نبذ الروايات المنسوخة الموضوعة، وبيان البدع [المجهورة] (2)، والنحو، واللغة، والطب، والحساب، ومعرفة الأوقات.
قال: فمن تطوع ليعلم الناس ذلك، وكان غنيا بماله، فالله متولي أجره، ومن كان فقيرا واحتاج أهل محلته إليه ولا بد، أجرى عليه الإمام ما يكفيه هو وعياله، ويغنيه عن التصرف في غير ذلك.
قال: ويجري الإمام على من يتعلم عنده العلوم، إن كان فقيرا أو رجي نفاذه فيها، وإلا فلا. ومن كان قادرا على الاكتساب، إلا أنه مال إلى [تعلم] (3)
هذه العلوم إن كان فقيرا أو أحدها أجرى عليه الإمام ما يغنيه عن الاكتساب وفرغه له».
__________
(1) في «د»: المأموم.
(2) في «د»: المشهورة.
(3) في «ب»: تعليم.(1/481)
قلت: ينظر إلى قوله: «فمن تطوع ليعلم العلم للناس وكان غنيا بماله، فالله متولي أجره إلى آخره» ما رواه «أبو عبيد القاسم ابن سلام» في كتاب الأموال (1) قال: «بعث عمر بن عبد العزيز، يزيد بن أبي مالك الدمشقي، والحارث بن يمجد الأشعري يفقهان الناس في البدو، وأجرى عليهما رزقا، فأما يزيد فقبل، وأما الحارث فلم يقبل (2) فكتب إلى عمر بن عبد العزيز بذلك، فكتب عمر: إنا لا نعلم بما صنع يزيد بأسا، وأكثر الله فينا مثل الحارث بن يمجد».
والمقصود: التنبيه على وجوب نصب معلمي هذا العلم في جملة العلوم التي لا بد منها وسيلة أو مقصدا لتحقيق القيام بوظيفته، وفي ذلك المقدار كفاية 169/ /.
المسألة الخامسة:
إذا اشتغل بهذا العلم من يسقط به، توجه طلبه على الباقين فيبقى بعد ذلك طلبه منهم على جهة الندب لما قرر العلماء أن فرض الكفاية إذا كان هناك من يقوم به فينبغي الندب على الباقين متوجها، وإن سقط الوجوب عنهم قالوا:
كالجهاد إذا قام به من انتهض إليه فيبقى الندب متوجها على الباقي، وعبر بعضهم عن هذا بأن فرض الكفاية سنة على الأعيان وكذا بالنسبة إلى هذا العلم يقال عند وجود القائم به في ناحية من نواحي المسلمين بندب الآحاد الأعيان، وأن يشاركوا في القيام به وإن كان الوجوب ساقطا عنهم.
ولا خفاء أن ذلك كله مشروط بعدم الإخلال بما هو أهم بحسب الوقت والحال.
النظر الثاني: التفصيلي:
ونعني به حيث يتصور توجيه الطلب بالاشتغال به على معين في الخارج،
__________
(1) 3/ 262.
(2) في م. س: 3/ 262: فأبى أن يقبل.(1/482)
أو يقع فرضا بعدما لم يكن واجبا على رأي بعض، فذلك صورتان:
الصورة الأولى:
حيث لا يكون ثم خلافه، فيتعين بحكم ذلك توجيه الطلب عليه، وهو تقرير العلماء في عموم فرض الكفاية عند عدم من يقوم به إلا واحد على التعيين، فقالوا له: واجب عليه عينا.
قال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله في جواب مسائل متعلقة بالمنتصب للإفادة سئل عنها وقد أجرى ذكر هذا الأصل: «لكن مع التعرض للقيام به، وإن لم ينصب لذلك من جانب الولاة إذ عن ذلك وقع السؤال، وشاهده النظر والأثر.
فالأثر: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أمة جاهلية لا تعرف مصالح أخراها ولا دنياها، ولا تدري ما الوحي، ولا النبوءة فيها، وقد أمره الله بالبشارة والنذارة، فقام فيها بأمر الله كما يجب، ولم يعتبر في ذلك إنكار منكر، ولا إعراض معرض.
فالعالم بعلم يعم الناس نفعه إذا لم يكن ثم غيره مثله في الحكم، إذ كل حكم تعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلق بأمته مثله من غير اختصاص إلا ما قام الدليل على اختصاصه.
قال: فأما النظر فلأن العالم إذا كان علمه عام النفع، ولا سيما علم الشريعة وما يتعلق بها، ولم يكن هنالك من يقوم به إلا هو، ولو ترك القيام به [لفسدت الأحوال، وعاد الناس عن قريب إلى الجاهلية كان من أوجب الواجبات عليه القيام به] (1) والتعرض للانتصاب فيه، ولا عذر له في ذلك إن اعتذر بخوف إذاية أو عدم قبول، فإنه عليه السلام احتمل في التبليغ الإذايات كلها، بل كانوا يترصدون قتله، والفتك به، فكذلك هذا، فإن الله منجز وعده، وناصر عبده.
__________
(1) ما بين المعقوفتين ساقط من «د».(1/483)
قال: وذكر العلماء مسألة الولي إذا طلب بالتحدي بالكراهية 170/ / ليقبل منه. هل له التعرض لذلك أو لا؟.
فمنهم من سوغ ذلك تتميما لدعوته إلى الحق، ومنهم من لم يسوغه بناء على أن التحدي من خواص النبوءة، فليس على الولي إلا الدعاء.
قال: فهذا جار في العالم، والجميع متفقون على أنه لا بد من الدعاء إلى الحق، وإنما الخلاف في أمر [زائد] (1).
قال: فهذا العالم إن كان من أهل الخوارق جرى فيه القولان، وإلا أعلن بالدعوة، ووقف عندها».
قلت: وإذا كانت العربية من جملة ما يتعلق من علوم الشريعة بأوثق سبب، وكان جميع ذلك يلزم القيام به إذا تعين، ولو على هذه الحالة المفروضة، فما ظنك بها عند نصب من بيده مقاليد النظر في أمور المسلمين، وأمن ما يتقى من محذور تلك الحالة، هناك لا محالة يتعين القبول، ويجب الانتصاب من غير عذر، ولا تخلف لوجود مانع، وحاله في ذلك كحال جميع أهل العلوم المعتبرة شرعا إذ الحكم من سبقه للقيام به، فيقع التعاون من الجميع.
وحينئذ قال القرافي عن بعض العلماء: «يقع فعله فرضا، وإن كان من قبل غير واجب». ذكر هذا عند نقله عن «صاحب الطراز» أن اللاحق بالمجاهدين وقد كان سقط الفرض عنه يقع فعله فرضا بعد ما لم يكن واجبا عليه.
[قال] (2): وطرد غيره هذه القاعدة في جميع فروض الكفاية كمن يلحق بمجهز في الأموات من الأحياء، وبالساعين في تحصيل العلم من الطلاب، فإن ذلك الطالب يقع فعله واجبا» (3).
__________
(1) بياض في «ب».
(2) بياض في «ب».
(3) 1/ 117من القواعد للقرافي.(1/484)
[قلت] (1): هو الشيخ عز الدين رحمه الله ذكره في «قواعده».
قال القرافي: «وعلل ذلك بأن مصلحة الوجوب لم تحصل بعد، وما وقعت إلا بفعل الجميع فوجب أن يكون فعل الجميع واجبا، لأن الوجوب تبيع المصالح، ويختلف ثوابهم بحسب مساعيهم» (2).
قلت: فعلى هذا مشارك المشتغلين بهذا العلم يقع فعله واجبا، وإن لم يتعين عليه قبل ذلك، وأجره إذ ذاك أعظم من أجر المشتغل بعبادة غير واجبة لا قبل الفعل، ولا بعده، كما قال في سائر فروض الكفايات، والتعليل بما ذكر ظاهر، وينبغي أن يتفق على ذلك، والله أعلم.
على أن القرافي: قد أورد عليه ما يشكل القول به، وأجاب بما يندفع به وروده، ولا ينبغي معه إشكال.
وحاصل الإيراد: «أن القول به يوجب نقض حد الواجب على أي وجه كان، فإن اللاحق بالمجاهدين، أو غيرهم، يجوز له الترك إجماعا من غير ذم ومع ذلك فوصف فعله بالوجوب مع عدم الذم على الترك ينقض حدود الواجب كلها وحينئذ فيلزم بطلان تلك الحدود أو هذه القاعدة قال:
«والكل صعب جدا».
وملخص الجواب: أن الوجوب في هذه الصورة مشروط بالاتصال بالفاعلين، والترك معه لا يتصور إلا من الجميع، وإذ ذاك فيلحقه الذم في جملتهم.
والقاعدة: أن الوجوب المشروط بشرط ينتفي عند انتفائه، فعند الانفراد 171/ / يتخلف شرط الوجوب، فيذهب ذلك الوجوب لا محالة.
ولا عجب أن يكون الوجوب مشروطا بالاتصال، ومفقودا عند عدمه، كما يقال لزيد: «إن اتصلت بعصمة زوجتك وجبت عليك النفقة»، «وإن
__________
(1) بياض في «ب».
(2) 1/ 117من القواعد للقرافي.(1/485)
انفصلت منها لا تجب عليك»، فإن عاودتها وجبت، وإن فارقتها سقطت كذلك أبدا.
وكذا هنا متى اجتمع الخارجون للجهاد تقرر الوجوب فإذا أراد أن يفارقهم قيل له: لك ذلك فإذا فارقهم سقط الوجوب كذلك أبدا.
قال: فتأمل ذلك فالسؤال جيد، والجواب جيد» (1).
قلت: وقد قبله «ابن الشاط» ولم يتعقبه، ولا خفاء أن ما ذكره في حق الملتحق بالمجاهدين مثله جار في جميع من شارك في القيام بأي فرض من فروض الكفايات.
تكميل:
إذا تقرر بالعربية من ظهور الفضيلة، وتأكيد الطلب في نظر الشارع، فينبغي بعد ذلك النظر في حكم من زعم أنه لا يحتاج إلى لسان العرب، إذ لا خفاء أن ذلك يستلزم عدم الحاجة في زعمه، وقد سئل عن ذلك ابن رشد، وهل يلزمه شيء أو لا حسبما وقع في نوازله؟.
فأجاب: «هذا جاهل، فلينصرف عن ذلك، وليتب منه، فإنه لا يصح شيء من أمور الديانة والإسلام إلا بلسان العرب، يقول الله تعالى: {بِلِسََانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}، فقال له السائل: إن قائل هذا القول ليس بجاهل، ولكنه ممن يقرأ الحديث والمسائل، فقال: وإن كان فإن هذا منه جهل عظيم، يقال له: تب منه، وأقلع عنه، ولا يلزمه شيء، إلا أن يرى أن ذلك منه تخبث في دينه، أو نحو ذلك فيؤدبه الإمام على قوله ذلك بحسب ما يرى، فقد قال قولا عظيما».
قلت: وقد تضمن هذا الجواب أمورا بعضها يعطي الحكم الشرعي على هذا القائل:
أحدها: الحكم عليه بالجهل، وعدم المعرفة بمنزلة العربية من الشريعة،
__________
(1) القواعد: 1/ 118117.(1/486)
وكفى بذلك ذما تأنف منه ذوو الهمم العالية، والفطر السليمة، لأن الجهل من حيث هو صفة نقص حسبما تقدم في تتمة الباب الأول.
الثاني: وجوب التوبة عليه من ذلك الجهل لينصرف إلى ما يجب عليه أن يعتقده، وهو العلم بمنفعة هذا العلم، وعظيم جدواه، وإلا بقي مرتبكا في ظلمة جهله، وخائضا في غمرة ناره، فقد سبق عن الإمام فخر الدين: «أن من رضي بالجهل فقد رضي بنار حاضرة، ومن اشتغل بالعلم فقد خاض في جنة حاضرة» (1).
وله في «موضع آخر»: «أنه تعالى قدم عذاب الجهل على عذاب النار.
فقال: {كَلََّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصََالُوا الْجَحِيمِ}» (2).
الثالث: وهو علة وجوب التوبة من قبح ذلك الجهل شرعا، تصريحه بأن شيئا من أمور الديانة والإسلام لا يصح إلا بلسان العرب حسبما شهد به من تقدم النقل عنه من أئمة العلماء، ويعلمه من له أدنى معرفة بما يتحقق من ذلك 172/ / عند من علم أن الشريعة عربية، وفيما سبق منه كفاية.
الرابع: مبالغة في التشنيع على معتقد هذه المقالة حيث قيل له: «إنه ليس بجاهل، ولكنه ممن يقرأ الحديث والمسائل».
وبحق ما فعل ذلك، فإن جهل مثل هذا أشنع من جهل من لا يخوض في شيء من العلم. وأيضا لما كان قد جهل أنه يجهل فيكون لا محالة صادا عن سبيل العلم الذي لا بد منه في فتح علوم السعادة من جهة أنه يعتقد فيه أنه من جملة العلماء فيقبل منه إذا هو طعن في هذا العلم، وقبح الاشتغال به، وحينئذ ينقلب شيطانا فيجب اجتناب ضلاله، ويتأكد الحذر من خدع تلبيسه.
فلذلك حكم عليه الخليل بن أحمد رحمه الله بكلامه الشهير عنه:
«الرجال أربعة، رجل يدري، ويدري أنه يدري فهو عالم فاتبعوه، ورجل
__________
(1) انظر ص: 34و / من مخ «أ». ص: 191من هذا الكتاب.
(2) سورة المطففين، الآيتان: 15و 16.(1/487)
يدري ولا يدري أنه يدري فهو نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فعلموه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهو شيطان فاجتنبوه» (1).
وهو القائل لبعض هذه الطبقة، «وقد عذله على استغراقه في اختراع ما فتح الله عليه من علوم العربية، ويسر على يديه من استنباط فنونها:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا» (2)
الخامس: حكمه عليه بوجوب الأدب إن صدرت منه تلك المقالة عن خبث في دينه، وتكذيب ينطوي عليه اعتقاده السّيّىء.
ولا يخفى ما يدل على ذلك من ملامة تقضي عليك بذلك، وتسجل بنسبتها إليه، حتى يكون بالأدب حقيقا.
وللتحذير من غائلة ما صدر منه مستوجبا، وغير بعيد أن يقال بتأديبه إذا قبح على الطالبين اشتغالهم بهذا العلم حتى كان سببا في صدهم عن مقدار الضروري منه، فضلا عن التكميلي، ولو لم تفهم عنه الرتبة في دينه، ودلائل الشك في اعتقاده بحسب ما يؤدي إليه اجتهاد الولاة، ومن إليه النظر في أمور المسلمين، والله تعالى أعلم.
__________
(1) جامع العلم: 2/ 48مع بعض اختلاف.
(2) س: 1/ 144.(1/488)
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم(2/492)
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الرابع في نسبة العربية من العلوم ومرتبتها في التعلم(2/493)
وغير ذلك مما يخص النظر فيها، والعناية بصونها، وحفظها وفيه مناهج:
المنهج الأول: في نسبة العربية من سائر العلوم.
قال ابن رشد الحكيم في الضروري من هذه الصناعة له، «هي من جنس العلوم التي تراد لغيرها لا لنفسها، وذلك أن العلوم صنفان:
علوم مقصودة لأنفسها، وعلوم مسددة للإنسان في تعلم العلوم المقصودة لنفسها، 173/ / وهذه إما أن تسدد منه الألفاظ التي ينطق بها، وإما أن تسدد منه المعاني التي ينظر فيها حتى لا يعرض له في الجنس [غلط] (1).
قال: وهذه الصناعة هي مسددة للذهن في الألفاظ أولا، وفي المعاني ثانيا، وهاهنا صناعة أخرى مسددة للذهن في المعاني أولا وفي الألفاظ ثانيا.
فالنحو إذا نحوان: نحو الألفاظ، ونحو المعاني.
قال: ونحو الألفاظ قبل نحو المعاني».
قلت: [الصناعة] (2) التي هي مسددة للذهن في المعاني أولا، وفي الألفاظ ثانيا، هي صناعة المنطق لأنها لا نظر لها في الذات إلا في المعاني،
__________
(1) في «ج»: غلظا.
(2) في «ب»: الصنعة.(2/495)
وهي المعلومات التصورية والتصديقية التي هي موضوعها، وأما نظرها في الألفاظ فبالعرض.
والقصد الثاني من جهة توقف إفادة المعاني واستفادتها على الألفاظ، وقدروا بينها وبين صناعة النحو مناسبة ظاهرة.
قال «أبو نصر» في «إحصاء العلوم» (1): «وهذه الصناعة صناعة المنطق تناسب صناعة النحو، وذلك أن نسبة صناعة المنطق إلى العقل والمعقولات كنسبة صناعة النحو إلى اللسان والألفاظ، فكل ما يعطينا علم النحو من القوانين في الألفاظ، فإن علم المنطق يعطينا نظائرها في المعقولات [وتناسب أيضا علم العروض، فإن نسبة علم المنطق إلى المعقولات] (2) كنسبة العروض إلى أوزان الشعر، وكل ما يعطينا علم العروض من القوانين المنطقية في أوزان الشعر فإن علم المنطق يعطينا نظائرها في المعقولات».
فوائد مرتبة على هذه النسبة:
الفائدة الأولى:
رتبة هذه الصناعة
إذا كانت هذه الصناعة لا تراد لنفسها وإنما تطلب من حيث هي مسددة لغيرها، فرتبتها لا محالة متأخرة عن رتبة ما هي مراده، لأن الوسائل أبدا كذلك هي مع المقاصد، وهو أمر ظاهر بنفسه.
ومن ثم قال الغزالي في «إحيائه» (3): «ليست اللغة، والنحو، من العلوم الشرعية في أنفسهما، ولكن يلزم الخوض فيهما بسبب الشرع، إذ جاءت هذه الشريعة بلغة العرب، وكل شريعة فلا تظهر [إلا بلغة أهلها] (4) فيصير تعلم تلك اللغة آلة» اهـ.
__________
(1) انظر: ص: 54.
(2) ما بين المعقوفتين ساقط من الأصول والتصويب من إحصاء العلوم.
(3) انظر: 1/ 17.
(4) ساقط من «ب» و «ج».(2/496)
ولهذا التأخر الذاتي لهذه الصناعة يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جعل الطالبين لأصولها لما ازدحموا عليه في جملة طلاب العلوم لا يدخلون عليه إلا بعد أن يتقدمهم أصحاب العلوم التي لها التقدم بالرتبة.
فذكر الحافظ «أبو نعيم» في «الحلية» (1): «أنه لما اجتمع الطالبون [للعلوم] (2) على بابه رضي الله عنه حتى ضاق بهم الطريق رتبهم في التقديم على حسب مطالبهم، ولم يراع في ذلك سبقا، فنادى بالطالبين للقرآن وحروفه وما أرادوا منه على سائر الطالبين، فلما فرغوا دعا بمن طلب تفسير القرآن وتأويله، فجعلهم في الرتبة الثانية، فلما فرغوا دعا بمن طلب الحلال والحرام والفقه، فجعلهم في الثالثة، فلما فرغوا دعا بمن طلب الفرائض وما أشبهها».
قال الشيخ أبو العباس ابن زاغو رحمه الله 174/ /: «يعني والله أعلم المواريث، فجعلهم في الرابعة، فلما فرغوا دعا بمن طلب العربية، والشعر، والغريب من الكلام، فجعلهم في الخامسة» اهـ.
ويترتب على ذلك كله وهي:
الفائدة الثانية:
درجة أهل هذه الصناعة
أن أهل هذه الصناعة وإن اختصوا أهل العلوم الإسلامية بما وضح ظهور فضله، وعلو منزلته، فينبغي لهم مع ذلك أن يعلموا على شاكلته العلم بقصور درجتهم عن درجات أهل العلوم التي هي فوق منزلة صناعتهم حتى يظهر أثر ذلك اتصافا وتخلقا، كما يحكى في هذا المقام عن أبي العباس المبرد رحمه الله وذكره «عياض» في «المدارك» (3) من طريق نفطويه (4) كما قال:
__________
(1) انظر: 1/ 321320.
(2) في «د»: للعلم.
(3) انظر: 4/ 284.
(4) هو أبو عبد الله إبراهيم بن محمد العتكي الأزدي. ت: 323هـ 934م. أخذ عن ثعلب والمبرد، عالم بالعربية، واللغة، والحديث، من مؤلفاته: «غريب القرآن»، و «المقنع»، في النحو و «القوافي» انظر: الفهرست: 127، تاريخ بغداد: 6/ 162159.(2/497)
«كنت عند المبرد فمر به إسماعيل بن إسحاق يعني القاضي رحمه الله فوثب المبرد إليه وقبل يده وأنشده:
فلما بصرنا به مقبلا ... حللنا الحبى وابتدرنا القياما
فلا تنكرن قيامي له ... فإن الكريم يجل الكراما»
قلت: أورده «صاعد» في «الفصوص» (1) على وجه آخر، فقال عن القاضي أبي عمر:
«كان بين المبرد وثعلب من المماظة (2) ما لم يكن بين عالمين، كان كل واحد منهما يكفر صاحبه، وإذا دخل تلميذ أحدهما على الآخر أمر بغسل موضعه، وتهاجيا بما تداوله الناس، فبينما ثعلب يوما في مجلسه، وأنا بين يديه إذ قيل: المبرد مقبل يزورك، فخرج إليه حافيا حتى أبعد من المسجد، فنزل المبرد عن حماره، واعتذر له عن الخروج إليه وتعانقا، ودخلا المسجد، وأجلسه ثعلب في موضعه، ثم دخلا في فنون الأحاديث والملح، فلا أعلم اثنين اجتمعا على نضارة حديث مثل ذلك، ثم تودعا، فشيعه ثعلب، وأخذ بركابه، فلما رجع أنشد وذكر البيتين».
قلت: على أن المبرد أنشدهما عند مرور القاضي إسماعيل به، فأدل من ذلك على تخلقه بما يقتضيه محمود المواضع مع صاحب العلم الذي هو المقصد لعلوم الآداب بإطلاق، ما يحكى عنه: «أنه اجتمع مع أبي بكر بن داود الظاهري (3) فتقدم أبو بكر وقال: قدّمني العلم، فقال المبرد أبو العباس:
[وأخرني] (4) الأدب».
__________
(1) مخ الخزانة العامة: 2/ 180179. وانظر: النسخة المطبوعة: 4/ 294293، فص: 497.
(2) المماظة: ماظّه مظاظا ومماظّة: خاصمه وشاتمه.
(3) هو محمد بن داود الأصبهاني المعروف بالظاهري (أبو بكر) ت: 297هـ 910م. فقيه أصولي، فرضي، أديب، شاعر، لغوي، إخباري، توفي مقتولا. من تصانيفه: «الزهرة» في الآداب والشعر، و «التقصي» في الفقه، و «الوصول إلى معرفة الأصول». انظر: الفهرست: 319، وتاريخ بغداد: 2/ 263256، والوفيات: 4/ 263256.
(4) في «ج» و «د»: أخذني.(2/498)
وذكره بعضهم على وجه آخر: «أنه [اجتمع أبو العباس ابن سريج (1)، وأبو بكر ابن داود، وأبو العباس المبرد، على باب القاضي إسماعيل، فأذن لهم، فتقدم ابن سريج وقال] (2): قدمني العلم والسن، وتأخر المبرد وقال:
أخرني الأدب، وقال ابن داود: إذا صحت المودة سقطت المعاذير» اهـ.
وهذا من المبرد غاية في الإنصاف، والإنصاف من مكارم الأخلاق بأشرف الأوصاف، وشهرته بذلك ظاهرة، ومحاسن أخباره المعروفة باهرة.
قال الزبيدي: «عن عبد الله بن الحسين بن سعد الكاتب، وأبي بكر بن محمد بن أبي الأزهر (3)، كان أبو العباس محمد بن يزيد من العلم وغزارة الأدب، وكثرة الحفظ، وحسن الإشارة، وفصاحة اللسان، وبراعة البيان، [وملوكية] (4) المجالسة، وكرم العشرة، وبلاغة المكاتبة، وحلاوة المخاطبة، وجودة الخط، وصحة القريحة، وقرب 175/ / الإفهام، ووضوح الشرح، وعذوبة المنطق على ما ليس عليه أحد ممن تقدمه أو تأخر عنه» اهـ.
ونقل عن القاضي إسماعيل بن إسحاق أنه قال: «لم ير المبرد مثل نفسه ممن كان قبله ولا يرى بعده مثله» (5).
قلت: وحكي عنه أيضا أنه كان يقول: وذكره الشيخ «أبو الحسن الشاذلي» (كذا) في «برنامجه» (6) «رأيت الأخفش فمن دونه إلى وقتنا هذا فما رأيت أكمل من المبرد ولا أجمع للعلوم».
__________
(1) هو أحمد بن عمر بن سريج البغدادي الشافعي يلقب بالباز الأشهب (أبو العباس). ت: 305هـ 917م. فقيه العراقين، وولي القضاء بشيراز، له تصانيف كثيرة منها: «كتاب التقريب بين المزني والشافعي»، و «مختصر» في الفقه، و «العين والدين» في الوصايا. انظر: الفهرست: 314313، وتاريخ بغداد: 4/ 290287، والوفيات: 1/ 6766.
(2) ما بين المعقوفتين ساقط من «ب».
(3) هو محمد بن أحمد بن مزيد النحوي. ذكر الزبيدي: 116أنه كان مستملي أبي العباس المبرد، وذكر ابن النديم: 217أن له مصنفات منها: «كتاب أخبار الهرج والمرج» في أخبار المستعين والمعتز، و «أخبار عقلاء المجانين» وقدماء البلغاء. توفي عن سن عالية.
(4) في «ب» و «ج» و «د»: ملوحة.
(5) انظر: طبقات الزبيدي: 101.
(6) لعله يقصد برنامج أبي الحسن الشاري، أما الشاذلي فلا نعلم له برنامجا.(2/499)
قال الزبيدي عن الأوارجي وهو من معنى ما تقدم من قيامه للقاضي إسماعيل: «كنت يوما عند أبي العباس محمد بن يزيد، فأتاه رجل على دابة، على رأسه قرقفة (1)، وعلى كتفه طيلسان أخضر، فلما رآه أبو العباس قام إليه فاعتنقه، فأكبر الرجل قيامه إليه، فقال له: أتقوم إلي يا أبا العباس؟! فقال:
أينكر أن أقوم إذا بدا لي ... لأكرمه وأعظمه هشام
فلا تعجب لإسراعي إليه ... فإن لمثله ذخر القيام
وأنشد له في معنى ذلك:
لئن قمت ما في ذاك مني غضاضة ... علي، ولكن الكريم مذلل
على أنها مني لغيرك هجنة ... ولكنها بيني وبينك تجمل» (2)
قلت: ونقيض هذا في عدم الإنصاف، وإهمال ما يجب لذوي المراتب بحق، ما حكاه السمعاني في «تذييله» قال: «دخل الإمام أبو بكر الشاشي (3) على قاضي القضاة أبي الحسن علي بن محمد الدامغاني، فما قام القاضي له، فرجع الشاشي وما قعد، وكان ذلك في سنة نيف وثمانين وأربع مائة، فلم يجتمعا في مجلس إلى أن اتفقت تعزية لابن صاحب المخزن فسبق الشاشي الدامغاني، وجلس في التعزية، فلما دخل القاضي نهض الكل له غيره، فإنه ما تزحزح عن مكانه، فكتب قاضي القضاة إلى المستظهر بالله (4) يشكو الشاشي أنه ما احترم نائب الشرع، ومن وليته القضاء، فكتب المستظهر في قصته، ماذا أقول هو أكبر منك، وأفضل، وأورع، ولو قمت له كان يقوم لك.
__________
(1) قرقفة: قلنسوة مستديرة ضخمة.
(2) طبقات الزبيدي: 106.
(3) هو محمد بن علي بن حامد الشاشي الشافعي (أبو بكر) ت: 485هـ 1092م، فقيه له تصانيف، انظر: طبقات الشافعية: 4/ 190، والشذرات: 3/ 375.
(4) هو أحمد بن عبد الله المقتدي، الخليفة العباسي 28، تولى الخلافة من (487هـ 512هـ) وفي عهده تدهور سلطان السلجوقيين، وظهر الحشاشون من جديد على المسرح السياسي، وبدأت الحملات الصليبية، وسقط بيت المقدس، أرسل حملة ضد الصليبيين بقيادة مودود، توفي في بغداد. انظر الكامل: 10/ 536533.(2/500)
وكتب الإمام أبو بكر الشاشي إلى المستظهر بالله رقعة يشكو إليه فعله السابق، وإضاعته حرمة العلم والشيخوخة، وأنشد في أثناء القصة:
حجاب وإعجاب وفرط تصلب ... ومدّ يد نحو العلى بتكلف
فلو كان هذا من وراء كفاية ... لهان ولكن من وراء تخلف»
تنبيه على معذرة:
قد يتفق عدم القيام لذوي المراتب إظهارا لخصوصية المراد منه القيام بحسب العوائد، فيكون عند معتبره أولى، وإن كان يؤدي إلى وحشة وإيغار صدر، كما حكي عن «الشيخ الإمام أبي عبد الله المقري (1) رحمه الله أنه كان يحضر 176/ / مجلس السلطان أبي عنان المريني [لبث] (2) العلم، وكان مزوار الشرفاء بفاس إذا دخل مجلس السلطان، يقوم له السلطان وجميع من في المجلس إجلالا له إلا الشيخ المقري فإنه كان لا يقوم في جملتهم، فأحس المزوار من ذلك، وشكاه إلى السلطان، فقال له السلطان: هذا رجل واحد علينا نتركه [على حاله] (3) إلى أن ينصرف، فدخل المزوار في بعض الأيام على عادته، فقام له السلطان على العادة وأهل المجلس، فنظر المزوار إلى المقري وقال له: إيه الفقيه، مالك لا تقوم كما يفعل السلطان نصره الله وأهل [مجلس] (4) ملكه، إكراما لجدي، [ولشرفي]، (5) ومن أنت حتى لا تقوم لي؟! فنظر إليه المقري فقال له: أما شرفي فمحقق بالعلم الذي أنا أبثه، ولا يرتاب فيه أحد، وأما شرفك فمظنون، ومن لنا بصحته منذ أزيد من سبع مائة
__________
(1) أبو عبد الله محمد بن محمد المقري، ويعرف بالمقري الكبير والمقري الجد. ت: 759هـ 1357م. ولد بتلمسان ونشأ بها وأخذ عن أعلامها، وله رحلة مشرقية، استقر بفاس وتولى القضاء بها، ودخل الأندلس سفيرا، كان فقيها أديبا باحثا، من أكابر علماء المذهب المالكي. من مصنفاته: «القواعد في الفقه»، و «الجامع لأحكام القرآن»، و «الحقائق والرقائق» في التصوف.
انظر: الإحاطة: 2/ 226191، ونفح الطيب: 5/ 256254و 285279.
(2) في «ج»: ليت.
(3) ساقطة من «ب».
(4) ساقطة من «ب».
(5) في «ب»: والأشراف.(2/501)
عام، ولو علمنا لشرفك [قطعا] (1) لأقمنا هذا من هنا، وأشار إلى السلطان أبي عنان، وأجلسناك مجلسه، فسكت المزوار» (2).
قلت: وعلى ذلك اعتذاره بأن الشرف الآن مظنون.
فمن معنى ذلك الاعتذار إذ الحديث شجون ما يحكى عنه «أنه كان يقرىء بين يدي السلطان أبي عنان المذكور «صحيح مسلم» بحضرة أكابر فقهاء فاس وخاصتهم، فلما وصل إلى أحاديث «الأئمة من قريش» قال الناس: إن قال الشيخ: «الأئمة من قريش» وأفصح بذلك استوغر قلب السلطان، وإن ورى وقع في محظور، فجعلوا يتوقعون له ذلك، فلما وصل إلى الأحاديث، قال بحضرة السلطان: والجمهور أن الأئمة من قريش، ثلاثا، ويقول بعد كل كلمة: وغيرهم متغلب، ثم نظر إلى السلطان وقال له: لا عليك إن القرشي اليوم مظنون، وأنت أهل الخلافة إذ بعض الشروط قد توفرت فيك، والحمد لله، فلما انصرف إلى منزله بعث له السلطان بألف دينار» (3) اهـ.
قلت: ويلزم أيضا من اعتذاره أن قيام السلطان لذي الشرف المحقق بالعلم أولى في المحافظة على تعظيم حرمات الله.
وقد روي عن بعض الأمراء أنه تكبر على ذلك، واستخف بمنزلة من عظم به، فسلبه الله ملكه وملك بنيه من بعده.
فحكى «الخطيب» في «تاريخه» (4) عند ذكر «الإمام أبي عبد الله المروزي (5) صاحب التصانيف الجمة عن البلعمي (6) قال: سمعت الأمير أبا
__________
(1) في «د»: قطعيا.
(2) نفح الطيب: 5/ 281، نقلا عن «روضة الإعلام» لابن الأزرق.
(3) م. س: 5/ 282، نقلا عن «روضة الإعلام» لابن الأزرق.
(4) انظر: 3/ 318.
(5) هو محمد بن نصر المروزي (أبو عبد الله) ت: 294هـ 906م. فقيه، أصولي، محدث، حافظ، ولد ببغداد، ونشأ بنيسابور، وتفقه بمصر على أصحاب الشافعي وسكن سمرقند إلى أن توفي بها. من تصانيفه: «القسامة» في الفقه، وكتاب «الصلاة»، و «الورع». انظر: تاريخ بغداد:
3/ 318315، والمنتظم: 6/ 6663.
(6) هو محمد بن عبيد الله التميمي المعروف بالبلعمي (نسبته إلى بلدة بالروم يقال لها بلعم)(2/502)
إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم يقول: كنت بسمرقند (1) فجلست يوما للمظالم، وجلس معي أخي إسحاق إلى جنبي إذ دخل أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي، فقمت له إجلالا لعلمه، فلما خرج عاتبني أخي إسحاق، فقال: أنت والي خراسان، فدخل عليك رجل من رعيتك، فقمت إليه، وبهذا ذهاب السياسة، فنمت تلك الليلة، وأنا منقسم القلب بذلك. فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ يقصدني، فقال لي: يا إسماعيل [ثبت ملكك] (2)، وملك بنيك، لإجلالك محمد بن نصر، ثم التفت إلى إسحاق فقال: ذهب ملك إسحاق، 177/ / وملك بنيه، باستخفافه لمحمد بن نصر» اهـ.
وهذا كله بناء على أن القيام محمود الفعل، وفيه للعلماء ما هو معلوم.
الفائدة الثالثة:
منزلة هذه الصناعة بالنسبة إلى سائر العلوم
لما كانت هذه الصناعة أيضا مرادة لغيرها، وكانت متعلقة باللفظ أولا، وبالمعنى ثانيا، فلا جرم هي بمنزلة القشر مما [وراءها] (3) من العلوم المطلوبة لنفسها، وهي معارف القرآن العزيز، وفنون مقصودة عظم (4) وهو دعوة الخلق إلى عبادة الملك الحق.
قال «الغزالي» في تقرير هذا المعنى في «الجواهر والأربعين» (5): «صدف جواهر القرآن وكسوته اللغة العربية.
ثم لما قرر أن هذا الصدف [تتشعب] (6) منه علوم خمسة وهي: علم اللغة
__________
أبو الفضل. ت: 329هـ 940م. أديب، بياني من الوزراء. من تصانيفه: «تلقيح البلاغة»، و «الشامل»، و «كتاب المقالات». انظر: الشذرات: 2/ 324.
(1) سمرقند: بفتح أوله وثانيه، ويقال لها بالعربية: سمّران، بلد قيل إنه من أبنية ذي القرنين بما وراء النهر على جنوبي وادي الصّغد. انظر: معجم البلدان: 3/ 250246.
(2) بياض في «ج».
(3) في «ب» و «ج»: رواها.
(4) لعله يريد ما يعبر عنه الآخرون باللب في مقابلة القشر.
(5) انظر: ص: 2018.
(6) في «ب»: شعب.(2/503)
من نظم ألفاظه، وعلم النحو من إعراب ألفاظه، وعلم القراءات من وجوه إعرابه، وعلم مخارج الحروف من كيفية التصويت بحروفه، وعلم التفسير من النظر في معانيه المدلول عليها بألفاظه، وأن هذه العلوم، وهي علوم الصدف والقشر منها قريب من الباطن وبعيد. قال بعد ذلك: وصاحب علم النحو واللغة أرفع قدرا ممن لا يعرف إلا علم القراءات.
قال: وكلهم يدور على القشر والصدف وإن اختلفت طبقاتهم، ويليه علم التفسير الظاهر وهي الطبقة الأخيرة من الصدفة القريبة من مماسة الدر، ولذلك يشبه بها حتى يظن أنه الدر وليس وراءه أنفس منه» انتهى المقصود منه ملخصا.
وإشارته إلى: «ظن أن التفسير بهذا المعنى هو الدر وليس به» يريد بها ما أوضح بعد ذلك في بيان علوم اللباب: «إنما هي الدر في الحقيقة، وقد قسمها إلى أنواع» (1) فعليك بها إن تشوقت إلى ذكرها من هنالك.
والمقصود من نقل كلامه في هذا المقام، تقرير أن صناعة النحو وإن ظهر فضلها في العلوم المحتاج إليها، فمنزلتها من علوم اللباب، وهي المتكلفة بتسهيل المقصود من إنزال القرآن منزلة القشر من اللباب، والدر من الصدف، وهذا معنى ظاهر بأيسر تأمل، وشرفها في الحقيقة إنما هو من حيث التوسل بها إلى فهم تلك العلوم الشريفة على ما تقدم إيضاحه، وكفاها بذلك في العلوم المرادة لغيرها فضيلة لا توازى.
الفائدة الرابعة: إذا كان طلب الاشتغال بهذه الصناعة من باب طلب الوسائل، فلقائل الطلب لها حالان:
أحدهما: ألا يقبل مع ذلك طلب ما سواها مما هي وسيلة إليه إلا بمقدار ما لا بد منه في معرفة الفروض الواجبة عليه، وما يلي ذلك ويدانيه، فوظيفة هذا
__________
(1) انظر: ص: 2120.(2/504)
أن يحسن النية في الاشتغال بها، ويلزم من ذلك ما أقامه الله فيه، فإنه بين أن يكون قد تعين عليه، أو يقع فرضا بعد الدخول فيه على ما تقدم (1) للشيخ عز الدين، وإن هو تكلف ما لم يفتح له فيه ضيع هذا الذي رزق الحظ منه، ورام حصول ما لم يقدر له.
وقد قيل: «به نكت الخليل رحمه الله على من طلب ما لم يفتح له 178/ / فيه ليعمل على مقتضاه، ويفهم عن الله ما ينبغي أن يقبل عليه:
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
فيحكى أنه قال: كان يتردد إلي شخص ليتعلم العروض، وهو بعيد الفهم، فأقام مدة ولم يعلق على خاطره منه شيء، فقلت له: قطع هذا البيت، فشرع في تقطيعه معي على قدر معرفته، ثم نهض، ولم يجئ بعد إلي، فعجبت من فطنته لما قصدته في البيت مع بعد فهمه». انتهى. وسيأتي إن شاء الله في خاتمة الكتاب إتمام هذا المعنى.
الثانية: أن ينهض مع تلك القابلية إلى طلب ما سواها، فشأنه على الجملة أن يصرف نظره إلى جانب اللحاق بما وراءها من العلوم المقصودة لنفسها لكن بعد تحصيل ما ينهضه منها إلى الغاية التي يروم الدخول إليها على ما تقدمت الإشارة إليه، ولا يقتصر مع القدرة على ذلك وأولوية الاشتغال به على الغنية بها، فإنه من باب الرضا بأحط المراتب مع القدرة على الترقي إلى أرفع درجاتها، وشأن الكل خلاف ذلك. وسيأتي إن شاء الله لهذا المعنى مزيد بيان.
اعتبار:
حكى «عياض» في «المدارك» (2) عن مصعب الزبيري (3) وقال: «قدم
__________
(1) انظر: 136ظ من «مخ أ». ص: 470من هذا الكتاب.
(2) انظر: 3/ 179178.
(3) هو مصعب بن عبد الله الزبيري القرشي الأسدي أبو عبد الله. ت: 233هـ 847م. صاحب الأنساب، وصاحب مالك، روى عنه الموطأ وعرف بصحبته، وكان علامة قريش في النسب والشعر، والخبر، شاعرا ظريفا. انظر: الفهرست: 166، والمدارك: 3/ 172170.(2/505)
الشافعي المدينة فكان يجلس في المسجد ينشد أشعار الشعراء، وكان حسن اللفظ، فصيح اللسان، عالما بمعانيه فقال له أبي يوما: ترضى لنفسك في قريشيتك بما أنت فيه أن تكون شاعرا؟!. قال له: فما أصنع؟ قال: تفقه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدّين». قال: وأنى لي بذلك؟ قال: مالك بن أنس سيد المسلمين. قال: تقوم بنا إليه، فأتينا مالكا فجلس عنده، وأخبره بشرفه وأمره، فقربه مالك وأدناه، وجلس يسمع منه.
قال: فترك الشافعي ما كان فيه، وسمع الموطأ من مالك، (وسربه مالك) (1)، ثم سار الشافعي إلى العراق، فلزم محمد بن الحسن، وناظره على مذهب أهل المدينة، وكتب كتبه، وألف هناك «كتابه (2) القديم»، وهو «كتاب (3)
الزعفراني» (4)». انتهى المراد منه.
وحكى قبل ذلك عنه أنه قال في جملة شرح ابتداء حاله: «ثم خرجت عن مكة فلزمت هذيلا أتعلم كلامها، وكانت أفصح العرب، فبقيت فيهم سبع عشرة سنة راحلا برحيلهم، ونازلا بنزولهم، فلما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار، وأذكر الأخبار والآداب وأيام العرب، 138ظ / / (5) فمر بي رجل من الزبيريين فقال لي: يا أبا عبد الله، عز علي ألا يكون مع هذه الفصاحة والذكاء فقه، فتكون قد سدت أهل زمانك، فقلت: ومن بقي يقصد؟ فقال لي: هذا مالك سيد المسلمين يومئذ، فوقع في قلبي، وعمدت إلى الموطأ فاستعرته، وحفظته في تسع ليال.
قال عياض: وذكر الإمام أبو المعالي عنه أنه حفظه في ثلاث ليال» (6).
__________
(1) زيادة من المدارك: 3/ 179.
(2) في «المدارك» 3/ 179: قوله.
(3) للشافعي كتاب «المبسوط» في الفقه، رواه عنه الربيع بن سليمان والزعفراني.
(4) هو الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني البغدادي. ت: 260هـ 874م. محدث، فقيه، صاحب الشافعي ببغداد وله عدة مصنفات. انظر الشذرات: 2/ 141140.
(5) انتهى البتر الموجود ب مخ «أ» وقد عدنا إليه لنتم المتن منه.
(6) المدارك: 3/ 176.(2/506)
ثم ذكر تمام هذا الخبر، وفيه أسوة لمن ترقى مثله عن الاقتصار على فن الأدب إلى طلب التفقه في الدين، وإحراز رتبة الكمال في الإشراف على علومه، وفيه مع ذلك، ومع ما علم من حاله أنه لما لزم طلب الأدب، وعلوم العربية في تلك المدة مع الموهبة التي خصه الله بها، بلغ في ذلك المبلغ الذي شهد له بالنهاية فيه أئمة ذلك الفن، فقد قال الأصمعي: «رأيت محمد بن إدريس فرأيت فقيها، عالما، حسن المعرفة، عذب اللسان، لا يصلح إلا لصدر سرير، أو ذروة منبر، وما علمت أني أفدته حرفا فضلا عن غيره، ولقد استفدت منه ما لو حفظ رجل يسيره لكان عالما. وقال ابن هشام: الشافعي حجة في اللغة» (1).
قال عياض: «وذاكره بمصر في أنساب الرجال، [فقال له الشافعي بعد ساعة: دع هذه فإنها لا تذهب عنا ولا عنك، وخذ بنا في أنساب [النساء] (2)] (3)، فلما أخذا في ذلك بقي ابن هشام ساكتا، فكان يقول: والله ما ظننت أن الله خلق مثل هذا.
قال: وقال الزعفراني: كان يحضر مجلسه ببغداد الأدباء والكتاب يسمعون حسن ألفاظه وفصاحته، وما رأيت ولا رأى أحد في عصر الشافعي مثله» (4).
قال: وقال أبو يعقوب البويطي (5): «رأيت الناس بمصر، والشام،
__________
(1) م. س: 3/ 185183.
(2) في الأصول: الرجال، والتصويب من المدارك.
(3) ما بين المعقوفتين ساقط من «د».
(4) م. س: 3/ 185183.
(5) هو يوسف بن يحيى البويطي المصري (أبو يعقوب). ت: 231هـ 836م. فقيه مناظر، صحب الإمام الشافعي، وقام مقامه في الدرس والإفتاء بعد وفاته، وحمل إلى بغداد في أيام الواثق مقيدا، وأريد منه القول بأن القرآن مخلوق فامتنع فسجن، وتوفي في سجنه ببغداد، من تصانيفه:
«المختصر الكبير»، و «المختصر الصغير». انظر: الفهرست: 312، وطبقات الشافعية: 2/ 162 170.(2/507)
والعراق، والكوفة، والبصرة، والحجاز، من كل صنف من علماء القرآن، والفقه، ولسان العرب، والسير والكلام 139و / / وأيام العرب، ما رأيت أحدا يشبه الشافعي، هو عندي أورع وأشد توقيا من كل من رأيت نسب إلى الورع» (1).
وحكى أيضا عياض في اسم ابن الماجشون (2) من «المدارك»: «أنه كان إذا ذاكره الشافعي لم يعرف الناس كثيرا مما يقولان لأن الشافعي تأدب بهذيل في البادية، وعبد الملك تأدب في خؤولته من «كلب» بالبادية» (3) اهـ.
وناهيك بهذه الشهادات على علو مقام هذا الإمام العظيم، وكفى أيضا بشهادته على أن الإكثار من علوم العربية عون على تحصيل هذه العلوم الشريفة وخصوصا الفقه. فقد حكى أيضا عياض عن بعضهم أنه قال: «أقام الشافعي يطلب علم العربية، وأيام الناس عشرين سنة، فقيل له في ذلك، فقال: ما أردت بهذا إلا الاستعانة على الفقه» (4) وقد تقدم عنه ما هو من نحو ذلك.
الفائدة الخامسة: لهذه الصناعة في نفسها مقصدان:
المقصد الأول: حفظ الكلام عند التركيب التخاطبي للإفادة عن التحريف والزيغ عن معتاد العرب في نطقها،
وما وضع عليه كلامها حتى لا يرفع ما وضعه في لسانهم أن ينصب أو يخفض، ولا ينصب ما وضعه في لسانهم أن يرفع أو يخفض، ولا أن
__________
(1) المدارك: 3/ 185.
(2) هو عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون المدني المالكي (أبو مروان) ت: 212هـ 827م، فقيه.
من تصانيفه: «كتاب كبير في الفقه»، و «رسالة في الإيمان والقدر» و «الرد على من قال بخلق القرآن». انظر: المدارك: 3/ 144136.
(3) م. س: 3/ 184.
(4) م. س: 3/ 184.(2/508)
يؤتى بما حقه أن يكون عندها على شكل وهيئة على شكل آخر وهيئة أخرى، بل يجري في ذلك على مهيع نطقهم، ومعروف تواضعهم.
قال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله وما تقدم نص كلامه:
«فإن كان مما لم يحفظ [عنهم] (1) من التركيب النطقي إما لأنهم لم يتكلموا به، أو تكلموا ولم يبلغنا، أو بلغ بعضا ولم يبلغ بعضا، أعلمنا في ذلك المقاييس التي استقيناها من كلامهم حتى توصلنا إلى موافقتهم، وحتى نقطع أو يغلب على ظنوننا أنهم لو تكلموا بهذا لكان نطقهم كذا، فإذا تحصل لنا مجاراتهم 139ظ / / في ذلك، ومساواتهم، كنا جديرين بأن نسمى معربين، واستحق المتصف منا بذلك أن يسمى نحويا.
قال: وهذا النوع هو المقصود من علم النحو».
المقصد الثاني: [التنبيه] (2) قال: «على أصول تلك القوانين، وعلل تلك المقاييس والأنحاء التي نحت العرب في كلامها وتصرفاتها مأخوذا ذلك كله من استقراء كلامها.
قال: وهذا النوع متمم، وليس بواجب، ولا هو المقصود من علم النحو».
قلت: وإذا كان المقصد الأول هو الواجب في التوسل به إلى ما هي له هذه الصناعة مرادة، فهو الذي يعتبر عند نسبة الصناعة من غيرها من العلوم.
أما المقصد الثاني فإنما هو كما قال: «مكمل»، وعند ذلك فلا نظر له بالذات عند اعتبار هذه النسبة، ولعل الطاعنين [على] (3) هذه الصناعة إنما
__________
(1) في «ج» و «د»: عندهم.
(2) في «ج» و «د»: التشبيه.
(3) في «د»: لهذه.(2/509)
غلطهم اعتقاد أن هذا المقصد هو كل ما يراد من النظر فيها وليس كذلك، فليعلم هذا المعنى، وليكن من الناظر فيها على بال.
تعريف مكمل:
تعرض غير واحد من العلماء رحمهم الله إلى حصر العلوم الإسلامية التي تقدم فيها على الجملة أن منها ما هو مقصود لنفسه، ومنها ما هو مراد لسواه، ولهم في ذلك طرق:
منها قول بعضهم: «إنها خمسة عشر علما لا بد منها على الكمال في علم التفسير الذي هو المقصود الأعظم من علوم الإسلام، وما يعين في طريقها.
قال: وهو كشف عن معاني القرآن العزيز لبيان المراد منه بواسطة علومه الموصلة إلى فهمه، الكاشفة عن نقاب الحق المطلوب منه شرعا وعقلا واعتقادا، وفعلا، وإيمانا، وذوقا، وكشفا.
أولها: معرفة الألفاظ المفردة بحسب دلالتها على ما وضعت له بحسب جوهرها، وهو علم اللغة، وفائدته التوسع في المخاطبات، والتمكن من إنشاء 140و / / الخطب والرسائل، وقول الشعر من تلك اللغة بغريبها ومشهورها، ومعرفة كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثانيها: معرفة مناسبة بعض الألفاظ المفردة إلى بعض، وهو علم الاشتقاق.
ثالثها: معرفة أحوال أبنية الكلم وأصولها وهو علم التصريف، وفائدته التمكن من الفصاحة والبلاغة.
رابعها: معرفة ما يعرض للألفاظ باعتبار التركيب من الإعراب بحسب دلالتها على أصول المعنى، وهو علم النحو ولا تخفى فائدته، وهي فهم معاني الشريعة قرآنا وسنة، وهو ميزان الكلام كما أن العروض ميزان الشعر، والمنطق ميزان العقل، وكان للعرب سجية وسليقة، وهو لنا صناعة وتعليم.
خامسها: معرفة خواص التركيب من جهة إفادتها لازم أصل المعنى، وهو
علم المعاني، وفائدته: بروز [أبكار] (1) المعاني من وراء أستار الألفاظ بجواذب أذواق الفهم الرقيق على مسالك التحقيق.(2/510)
خامسها: معرفة خواص التركيب من جهة إفادتها لازم أصل المعنى، وهو
علم المعاني، وفائدته: بروز [أبكار] (1) المعاني من وراء أستار الألفاظ بجواذب أذواق الفهم الرقيق على مسالك التحقيق.
وقيل: وبمعرفته حاز الزمخشري سامحه الله قصب السبق في معاني القرآن.
سادسها: معرفة خواص تركيب الكلام من حيث اختلافه بحسب وضوح الدلالة، وخفائها، وزيادتها، ونقصانها، وهو علم البيان، وفائدته: التمكن من القدرة على الكلام في مقامي النظم والنثر بالإطناب من غير ملل، والإيجاز من غير خلل كما قيل:
إذا اختصر المعنى فشربة [حائم] (2) ... وإن رام إطنابا أتى الفيض بالمد
سابعها: معرفة وجوه تحسين الكلام بالمحسنات المعنوية واللفظية، وهو علم البديع، وفائدته مفهومة من تعريفه.
قيل: ويحتاج إلى اللغة والنحو 140ظ / / والتصريف، والمعاني، والبيان، والإكثار من الشعر، قالوا: ولا تنتهي أنواعه بحصر لتولده بحسب الذوق في كل زمان.
ثامنها: معرفة ما يتعلق بذات التنزيل وهو علم القراءات.
تاسعها: معرفة ما يتعلق بالأسباب التي نزلت بسببها الآيات، وهو علم أسباب التنزيل.
قلت: وفائدته: العلم بمقتضيات أحوال التنزيل حال الخطاب به ليرتفع الإشكال في مورد نصوصه، ومن ثم قال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: «معرفة لازمة لمن أراد علم القرآن».
عاشرها: معرفة القصص التي تشتمل عليها السور عند ذكر الأنبياء، والقرون السالفة وهو علم الأخبار والآثار.
__________
(1) في الأصول: أفكار.
(2) في «ج»: حاتم.(2/511)
قلت: قسم الغزالي هذا العلم إلى: «التعريف بأحوال المجيبين إلى الدعوة ولطائف صنع الله فيهم، وهم الأنبياء، والأولياء، وإلى التعريف بأحوال الناكبين عن الإجابة، وكيفية قمع الله لهم، وهم أعداء الله، وجعل فائدة الأول:
التشويق والترغيب، وفائدة الثاني: الاعتبار والترهيب» (1).
قال: «ويشتمل أيضا على أسرار ورموز، وإشارات محوجة إلى الفكر الطويل وفيها يوجد العنبر الأشهب، والعود الرطب الأنضر» (2).
حادي عشرها: معرفة السنن المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه الذين شاهدوا الوحي بما اتفقوا عليه، واختلفوا فيه مما هو بيان لمجمل، أو تفسير لمبهم، وهو علم السنن.
ثاني عشرها: معرفة الناسخ والمنسوخ، والعموم، والخصوص، والمجمل، والمبين، والمحكم، والمتشابه، والظاهر، والمؤول، والمنطوق، والمفهوم، والقياس بشرطه، وهو علم أصول الفقه، وفائدته: معرفة الحكم الشرعي بالعلة المفيدة حكم الله عن الدليل.
ثالث عشرها: معرفة أحكام الدين، وآدابه، 141و / / وآداب السياسات الثلاث، وهي: سياسة النفس، والأقارب، والرعية، وهو علم الفقه والأخلاق.
قيل: وهو زبدة مخض العلوم الشرعية، و [النتيجة] (3) الحاصلة عنها، وثمرة أصولها، وغاية محصولها.
قلت: قال الغزالي فيه: «إنه العلم الذي تعم الحاجة إليه، لتعلقه بصلاح الدنيا والآخرة، قال: ولذلك يتميز صاحبه بمزيد الاشتهار والتوقير، والتقديم على غيره من الوعاظ، والقصّاص، والمتكلّمين.
قال: ولذلك رزق هذا العلم مزيد بحث وإطناب على قدر الحاجة فيه حتى كثرت فيه التصانيف.
__________
(1) جواهر القرآن: ص: 9.
(2) م. س: 15.
(3) بياض في «أ».(2/512)
قال: وفيه يوجد المسك الأذفر» (1)، يريد من الآيات النازلة في تقريره من الكتاب العزيز.
رابع عشرها: معرفة الأدلة العقلية، والبراهين الحقيقية، والتقسيم، والتحديد، والفرق بين المعقول والمظنون، وغير ذلك، وهو علم النّظر المسمّى بعلم الكلام.
قيل: «ويحتاج إلى الجدل والمنطق».
قلت: رسمه ابن عرفة في مسايرته لطوالع البيضاوي (2): «بأنه العلم بأحكام الألوهية، وإرسال الرسل، وصدقها في كل أخبارها، وما يتوقف شيء من ذلك عليه خاصا به وتقرير أدلتها بقوة، وهي متضمنة لرد الشبهات وحل الشكوك فيخرج المنطق.
قال: ومن ثم قال غير واحد: هو فرض كفاية على أهل كل قطر، يشق الوصول منه إلى غيره.
قيل: وفائدته: سعادة الآخرة، والنجاة من العذاب بالخروج عن التقليد الذي هو ظلمة وجهل، والاستضاءة بالوقوف على برهان الحق الذي هو برهان ويقين»، قلت: والآيات القرآنية واردة بتأصيل هذا العلم الموصل لهذه الغاية.
قال الغزالي: «وفي محاجّة الله بحججها لطائف ودقائق، وفيها يوجد التّرياق الأكبر وفي مدحه قيل: 141ظ / /
[أيها] (3) المغتدي ليطلب علما ... كل علم عبد لعلم الكلام
تطلب الفقه كي تصحح حكما ... ثم أغفلت منزل الأحكام»
__________
(1) جواهر القرآن: 22.
(2) طوالع الأنوار: مختصر في الكلام، وقد شرحه عدة، والبيضاوي هو عبد الله بن عمر البيضاوي الشيرازي، الشافعي (ناصر الدين أبو سعد). ت: 685هـ 1286م. قاض، عالم بالفقه، والتفسير، والأصلين والعربية، والمنطق والحديث، له مصنفات منها: «أنوار التنزيل»، و «شرح المطالع». انظر: طبقات الشافعية: 5/ 59.
(3) في «ج»: إيه.(2/513)
قال «ابن بزيزة» (1): وقيل للقاضي «ابن الطيب» إن قوما يذمّون «علم الكلام» فأنشد:
عاب الكلام أناس لا خلاق لهم ... وما عليه إن عابوه من ضرر
ما ضر شمس الضحى في الأفق طالعة ... ألا يرى ضوءها من ليس ذا بصر
خامس عشرها: علم الموهبة، وهو علم يورثه الله من عمل بما علم، واتقى وأحسن، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يكن يعلم».
قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللََّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللََّهُ} (2).
وقال الله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللََّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقََاناً} (3).
وقال علي رضي الله عنه: «قالت الحكمة: من أرادني فليعمل بأحسن ما علم ثم تلا: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (4)» انتهى ملخصا مع مزيد عليه لا يخفى على متأمله.
ولابن خاتمة في هذا الموضع وهو: فصل نسبة العربية من سائر العلوم جامع حسن لعلوم الإسلام بإيجاز واختصار. قال ما نصه ومن خطّه نقلت:
«علوم الإسلام ثلاثة أقسام: علم يعنى بالألفاظ، وعلم يعنى بالمعاني، وعلم يعنى بالألفاظ والمعاني.
فعلم الألفاظ على قسمين: رسمي ونطقي، والرسمي على قسمين: عام
__________
(1) هو عبد العزيز بن إبراهيم القرشي التميمي، المعروف بابن بزيزة أبو محمد وأبو فارس.
ت: 663هـ 1264م. كان عالما صوفيا فقيها، تفقه بأبي عبد الله السوسي والبرجيني وأبي القاسم بن براء، وكان حافظا للفقه، والحديث، والشعر، والأدب. له: «كتاب الإسعاد»، و «شرح الأسماء الحسنى»، و «شرح العقيدة البرهانية». انظر: الحلل السندسية: ق 3/ 662661.
(2) سورة البقرة، الآية: 282.
(3) سورة الأنفال، الآية: 29.
(4) سورة الزمر، الآية: 18.(2/514)
وخاص، فالعام: علم الخطّ والنقط، والخاص: علم رسم المصحف.
والنطقي على قسمين: كلّي وجزئي: فالجزئي علم العروض والقافية، والكلي على قسمين: عام وخاص، وكلاهما إفرادي وتركيبي، فالعام الإفرادي:
اللغة، والتركيبي: النحو، والخاص الإفرادي: الغريبان، والتركيبي: القراءات.
وعلم 142و / / المعاني ثلاثة أقسام: علم كتاب، وعلم سنة، وعلم مستنبط منهما.
فعلم الكتاب: التفسير، ويشتمل على النّاسخ والمنسوخ وتاريخه.
وعلم السنة: علوم الحديث، ويشتمل على علم الرجال وتاريخهم.
والعلم المستنبط منهما ثلاثة أقسام: علم علمي، ونعني [به] (1) ما غايته ومقصوده العمل به، وعلم نظري ونعني به: ما غايته ومقصوده المعرفة به، وعلم شامل لهما، ونعني به ما غايته ومقصوده العمل والمعرفة، فالعلم العملي:
علم الفروع وهو على قسمين:
الأول: العبادات، والثاني: المعاملات.
والعلم النظري على قسمين: أصل بنفسه، مقصود لذاته، ووسيلة لغيره.
فالأول: أصول الدّين، والثاني: أصول الفقه، والعلم الشامل لهما: علم التصوف، وهو علم التحقيق. وعلم الألفاظ والمعاني، هو علم البيان والبديع، وكان الغالب على البيان علم المعاني، وعلم البديع علم الألفاظ» اهـ.
قال: «وهو برنامج على علوم الإسلام التي هي السبيل إلى دار السلام».
تنبيه: ما سوى هذه العلوم الإسلامية من العلوم القديمة قد تعرض أهلها أيضا إلى حصرها،
وتفصيل أنواعها، وذلك مشهور في كتبهم.
ولأبي نصر في ذلك كتاب مفرد سمي ب «إحصاء العلوم» وأحصى فيه العلوم القديمة، وذكر فيه بعض علوم الإسلام.
__________
(1) ساقط من «ج».(2/515)
وقد تكلم عليها الغزالي في مواضع من كتبه، ولكنّه لما ذكر في «الجواهر» و «الأربعين» أنواع العلوم المتعلقة بالكتاب العزيز، واعتذر بعد ذلك عن إعراضه عن عدّ ما وراءها من العلوم القديمة، لأن القصد إنما هو ما يتعلق بالقرآن الكريم، ويتوقف على معرفتها صلاح المعاد والمعاش.
قال فيما يرجع إلى جنس تلك العلوم: «ظهر لنا بالبصيرة الواضحة التي لا يتمارى فيها 142ظ / / أن في الإمكان والقوة أصنافا من العلوم بعد لم تخرج إلى الوجود، وإن كان في قوة الآدمي الوصول إليها، وعلوما قد خرجت إلى الوجود، واندرست الآن، فلم يوجد في هذه الأعصار على بسيط الأرض من يعرفها، وعلوما أخر ليس في قوة البشر أصلا إدراكها والإحاطة بها. ويحظى بها بعض الملائكة المقربين، فإن الإمكان في حق الآدمي محدود، وهو حق الملك محدود إلى غاية في الكمال بالإضافة، كما أنّ عدم التّمييز في حق البهيمة محدود إلى غاية في النّقصان».
هذا ما قال، والله تعالى بحقائق الأمور أعلم، وهو القائل في حقّ عباده:
{وَمََا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلََّا قَلِيلًا}.
ثم قال بعد الإشارة إلى أن علم الله لا يتناهى ولا يكون في حقه سبحانه بالقوة، ولا بالإمكان، بل [ما] (1) هو في حقه من الكمال فهو حاضر موجود.
«ثم هذه العلوم التي عددناها، والتي لم نعدها، ليست أوائلها خارجة عن القرآن، فإنّ جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى، وهو بحر الأفعال، وهو بحر لا ساحل له، «ولو كان البحر مدادا له لنفد البحر قبل أن ينفد فعل من أفعال الله» (2). ثم تنزّل إلى الإشارة لمبادىء أنواع من العلوم إلى أن ختم الفصل بقوله: فالزم نور القرآن، والتمس من الله عز وجل العون لتصادف فيه مجامع علم الأولين والآخرين من جملة أوائله، وإنّما التفكر فيه
__________
(1) ساقط من «ج» و «د».
(2) إشارة إلى قوله تعالى في سورة الكهف، الآية: 109: {قُلْ لَوْ كََانَ الْبَحْرُ مِدََاداً لِكَلِمََاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمََاتُ رَبِّي}.(2/516)
للتّوصّل من جملته إلى تفصيله، وهو البحر الذي لا شاطىء له» (1).
المنهج الثاني: في مرتبة العربية في التعلم:
وظاهر من أمرها أنها مما ينبغي أن تقدم في التعلم على كل علم يعبر عنه باللسان العربي أما العلوم التي هي وسيلة إليها، وهي العلوم الإسلامية فواضح.
وأما العلوم القديمة فلأنها لما ترجمت إلى اللسان العربي، وعبر عنها من تكلّم فيها من 143و / / الإسلاميين بلسان العرب، فلزم من ذلك أن يتقدم تعلمها، وحينئذ يفهم ما عبر عنه بما هي له مقدمة، وقد تكرر من العلماء [التنبيه] (2) على هذا الترتيب في طلب العلوم لئلّا يشتغل الطالب في البداية بتقديم ما حقه أن يتأخّر في رتبة العلم، وإن كان المقدم في رتبة الشرف والفضيلة.
فقال ابن العربي في «ترتيب الطلب»: «ربما فات كثيرا من الناس كيفية الطلب، وأولها: القصد إلى تعلم العربية والأشعار، فإنها ديوان العرب التي دعت إليها ضرورة فساد اللغات».
وقال في [«سراجه»] (3) (4) واصفا لتعليم القرآن الذي هو عمدة الشريعة:
«وقد كان الصدر الأول يعرفون معاني الألفاظ، وتقاطع الكلام ثم اختلط الخلق حتى فسدت الألسن، وضلّت القلوب عن الحقائق حتى فسدت المعاني، فتعين [علينا والحالة هذه أن نبدأ بعلم الألفاظ على وجه دلالتها على مدلولها، وأن نتعلّم مقاطع التّعبير] (5) عنها، وهي الفصاحة التي تميز بها لسان العرب الذي
__________
(1) جواهر القرآن: 2826.
(2) في «ج» و «د»: البينة.
(3) في «ج»: شراحه.
(4) المراد به «سراج المريدين في سبيل المهتدين»: مخطوط يوجد غير تام بالخزانة الملكية، وللأستاذ سعيد أعراب نسخة خاصة بتطوان، وتوجد منه نسختان خطيتان بالخزانة العامة نشر منها د. أحمد مختار عبادي ثلاث رسائل، طبعه بالإسكندرية 1968، وانظر: مجلة الوثائق عدد 1، فقد نشرت منها رسالتين. وانظر العواصم من القواصم: 1/ 7675. ت: عمار الطالبي.
(5) ساقطة من «ج» و «د».(2/517)
ورد القرآن به، وهو الذي نحاول معرفته، فينبغي أن ينشأ الطفل على تعليم العربية، ومقاطع الكلام، ويحفظ أشعار العرب وأمثالها».
ثم ذكر ما ينتقل إليه بعد ذلك، وقال في «العواصم» (1): «والذي يجب على الولي في الصبي المسلم كان أبا أو وصيا أو حاضنا، أو الإمام إذا عقل، أن يلقنه الإيمان، ويعلمه الكتابة والحساب، ويحفّظه أشعار العرب العاربة، ويعرّفه العوامل في الإعراب، وشيئا من التصريف، ثم ذكر ما ينتقل إليه بعد ذلك».
ولما قرر ابن رشد الحكيم: «أن هذه الصناعة تسمّى أدبا لأنه واجب أن يتأدب بها الإنسان قبل شروعه في العلوم، [وإلا شرع] (2) في تعلمها، [وهو] (3)
سيّىء الأدب. وإنه لذلك كان علم الأدب شرطا في كل ما يتعلم.
قال: ومن هنا يظهر أن مرتبة هذه الصناعة 143ظ / / هي أن تتعلّم قبل سائر العلوم». ومثل ذلك في كلام الناس كثير، ويترتب عليه أمور، نشير إليها بفرض مسائل مهمة في الموضع.
المسألة الأولى:
أن تقديم التعلم لهذه الصناعة قبل سائر العلوم من لازمه على الجملة، وخصوصا في حق صغار الولدان، ألا يزاحمه في الزمان تعرض لتعلم غيرها إلا بمقدار ما يلقى إليه من التعليم المشترك للجمهور في الفرائض والسنن، فبذلك أدّب ربانيو العلماء في تعلم جميع العلوم، وجعلوه من وظائف المتعلم وآدابه.
قال الغزالي رحمه الله في الوظيفة السادسة من وظائف المتعلم في «ميزان العمل» (4): «وألّا يخوض في فنون من العلم دفعة، بل يراعي الترتيب، فيبدأ بالأهم فالأهم، ولا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله، فإن العلوم مرتبة ترتيبا ضروريا وبعضها طريق إلى البعض.
__________
(1) لعله في السراج إذ النص غير موجود في العواصم.
(2) في «أ»: والإشراع.
(3) في «ج»: هي.
(4) انظر: ص: 10099.(2/518)
قال: والموفق يراعي ذلك الترتيب والتدريج، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنََاهُمُ الْكِتََابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلََاوَتِهِ} (1) أي لا يجاوزون فنا حتى يحكموه علما وعملا» اهـ.
وما قاله يظهر تأكده في جانب البداية بالعربية على الخصوص، أما أولا:
فلفوات المقصود من تقديم تعلمها مع المزاحمة لها.
وأما ثانيا: فلتعذر التحصيل غالبا لأكثر من علم واحد، في وقت واحد على الإطلاق، وخصوصا كما قلنا بالنسبة إلى الأصاغر عند البداية بها، ففي وصايا المعلمين من «عيون الأخبار» (2) أن بعضهم قال لمؤدب ولده: «لا تخرجهم من علم إلى علم حتى يحكموه، فإن اصطكاك العلم في السمع، وازدحامه في الوهم، مضلّة للفهم».
ومن ثم على الجملة لما اختصر ابن رشد الحكيم، مستصفى (3) الغزالي في «أصول الفقه» أسقط منه المقدمة المنطقية قائلا: «ونحن فلنترك كل شيء إلى موضعه، فإن من رام أن يتعلم أشياء أكثر من واحد في وقت واحد، لم يمكنه أن يتعلم ولا واحدا منها». ومراده 144و / / بعدم الإمكان بحسب الغالب على أكثر الطّلاب، فإن أذهانهم تكل عن إدراك أكثر من علم واحد، في زمان واحد، على ما ينبغي، ومتى وجد فيهم من يمكنه الجمع بين تعلم أكثر من علم واحد فقد يسمح له في ذلك، تقريبا لزمان الوصول لما يفتح الله عليه. فقد قال ابن العربي أيضا في هذا المقام: «من كان من جودة الذهن والجدّة وفراغ الوقت للنظر في [علمين] (4) في حالة حتى يقرّب عليه مدى التحصيل، فليفعل»».
المسألة الثانية:
إذا شرع طالبها في الاشتغال بها مقدّما لها كما ينبغي، فحقه ألا يأخذها
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 121.
(2) 2/ 167.
(3) انظر: ص: 3837.
(4) في «ج»: عالمين.(2/519)
إلا عمن يوثق به في معرفة ما يلقى منها سواء طلبها استعدادا لتحصيل العلوم المقصودة بها، أو لقصد السلامة بها من اللحن خاصة، ومتى أخذها عمن ليس كذلك لم يكن على وثوق مما حصل منها، أما إن بقي غير مشتغل [بتحقيق] (1)
ما عسى أن يكون أخذه على غير صحّة فظاهر.
وأما إن انتهض بعد ذلك إلى التنبيه لخلل ما ألقي إليه بسبب الانتقال إلى أخذها عن أهلها، أو بقوّة [تحصل] (2) له من النظر لنفسه بعد معرفة الاصطلاح، فلا يأمن بعد ذلك من [بقية] (3) ما قد كان راسخا عنده من زمان البداية لا سيّما إن كانت في أيام الصغر، وكان المعلم إذ ذاك ممن يعتقد فضيلته، وهو مع ذلك غير متحقق بهذا العلم، ولو على أقل ما يشترط في التصدر لإفادته، فإن ضرره يتعدى إلى هذا المتعلم، وقلما يفارقه، إلا أن يختصّ بمزيد قوة يدرك بها خلل ما سبق إليه، ويتفطّن بها لما خفي منه، أو ينبه إليها [فيتنبه]، (4) وحينئذ فيظهر له أن ذلك المعلم أفسد عليه من حيث اعتقد أنه يصلح، وخلط عليه وهو يظن أنه يوضح ويحقق، ولذلك قال ابن حزم: «لا آفة على العلوم وأهلها أضرّ من الدخلاء فيها، وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون 144ظ / / ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون» (5).
وليس اشتراط هذا الشرط خاصا بهذا العلم بل هو عام في جميع العلوم، فقد قالوا في وظائف المتعلم بإطلاق: «لا يأخذ إلا ممّن كملت أهليته للأخذ عنه».
قال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي: «وهو واضح في نفسه، ومتفق عليه بين العقلاء إذ من شروطهم في العالم بأي علم اتفق، أن يكون عارفا بأصوله، وما
__________
(1) في «ج» و «د»: فيتحقق.
(2) في «ج»: تحصيل.
(3) ساقطة من «ج» و «د».
(4) في «ج» و «د»: فيثبت.
(5) رسائل ابن حزم: 1/ 345.(2/520)
ينبني عليه ذلك العلم، قادرا على التعبير عن مقصوده فيه، عارفا بما يلزم عنه، قائما على دفع الشّبه الواردة عليه فيه
ثم قال بعد كلام: فإن قصر عن استيفاء الشروط نقص عن رتبة الكمال بمقدار ذلك النقصان، فلا يستحقّ الرتبة الكمالية ما لم يكمل ما نقص». هكذا قال في «الموافقات» (1).
وقال في «الإفادات والإنشادات» (2): «كثيرا ما أسمع الأستاذ أبا علي الزواوي (3) يقول: قال بعض العلماء: لا يسمّى العالم بعلم ما عالما بذلك العلم على الإطلاق حتى تتوفر فيه أربعة شروط، ثم ذكر ما تقدم وقال إثر ذلك: «إنه رآها منصوصة لأبي نصر الفارابي في بعض كتبه».
قلت: ذكره في بعض كتبه المنطقية.
وإذا كانت العربية من جملة العلوم المشترط في كمال العلم بها تلك الشروط، فالمقصر عما دون الكمال لا يسمى عالما بها إلا على مجاز بعيد، وحينئذ فأخذها عنه في البداية موقع فيما تقدمت الإشارة إليه.
ولذلك أيضا لما سئل الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله عن مسائل تتعلق بالمنتصب للإفادة، من جملتها: من الذي يعتبر في نصبه إن افتقر إلى ذلك؟.
فأجاب عما يخص ذلك: «بأن كل ولاية فالأصل في النصب لها أهل الحل والعقد فيها، وهم العارفون بمصلحتها، لأن غيرهم كثيرا ما يقدم من لا يجوز تقديمه، 145و / / ويترك من يجب عليه تقديمه، إذ ليس بعارف بتلك
__________
(1) 2/ 9392.
(2) ص: 107.
(3) هو منصور بن علي بن عبد الله الزواوي نزيل تلمسان مولده في حدود سنة: 710هـ. وكان بالحياة سنة: 770هـ 1368م. قدم الأندلس عام 753هـ، فتقدم مقرئا بالمدرسة، متكلما على الفروع الفقهية والتفسير، كما تصدر للفتيا، وممن أخذ عنه الإمام الشاطبي. الإحاطة: 3/ 324 331، والشجرة: 346345.(2/521)
المصلحة وما تقوم به، ولا بمن توفرت فيه أدواتها.
قال: فإذا الفقهاء هم الذين ينصّبون الفقيه، والنّحاة هم الذين ينصبون النحوي، والأصوليون هم المعتبرون في نصب الأصولي.
قال: وكذلك غير هذا من أنواع العلوم» اهـ.
ويعني بهذا «النصب» من أهله في كل علم، بالنسبة إلى عدم العبرة بالأمراء، كما كان في الزمان الأول، وأما عندما صارت هذه الولاية معتبرة بتقليدهم، فالحكم على وجه آخر لا حاجة بنا إلى نقله، إذ المقصود أن الانتصاب [لإفادة] (1) أي علم كان لا بد فيه من شهادة أهله باستحقاق ذلك، وحيث عدموا فتكفي معرفة المنتصب من نفسه أنه أهل لذلك بحيث لو طلب الشهادة له من غيره، لصدق بها لما يعلمه من حاله، سواء كان الانتصاب بنفسه أو بالأمراء.
المسألة الثالثة:
من تأكيد البداية بهذا العلم أنهم طلبوا بها في حق الصغار كما تقدم في كلام ابن العربي ليكون أول سابق إليهم في أول زمان التعقل بفهم العلوم، والتّهدّي لقبول ما يراد بهم من الرياضة بالأدب المستعد بها لما يستقبل بهم، ويأمل فيما يرجى لهم حتى إن ابن سحنون (2) ذكر ذلك في جملة ما على معلم الصبيان من الوظائف على الجملة، ونقله عنه أيضا الشيخ أبو الحسن القابسي في كتابه الموضوع «لبيان أحكام المعلمين [والمتعلمين]» (3) (4) فقال:
__________
(1) في «ج»: لفائدة.
(2) محمد بن عبد السلام سحنون التنوخي، القيرواني، المالكي، (أبو عبد الله). ت: 256هـ 870م. فقيه، حافظ، مناظر، مؤرخ، شارك في علوم عدة، تفقه بأبيه، ورحل إلى المشرق، له كتاب: «آداب المعلمين» اعتمد عليه القابسي كثيرا ونقل عنه، «ومصنف في الرد على الشافعية» وكتاب «السير». انظر: الديباج: 2/ 173169.
(3) ساقط من «أ».
(4) انظر: ص: 358.(2/522)
«[وينبغي] (1) له أن يعلمهم الحساب، وليس ذلك بلازم له إلا أن يشترط ذلك عليه، قال: وكذلك الشعر، والعربية، والغريب، والخط (2)، وجميع أنواع النحو هو من ذلك كله في سعة، فإن فعل شيئا من ذلك فإنما هو متطوع في ذلك».
وظاهر منه أن اشتراط ذلك كله عليه يصيره لازما له، ومتى لم يشترط 145ظ / / فيكون متطوعا به، وجميع ذلك [يعطي] (3) أن من شأنهم أخذ الصبيان بتعليم العربية، وما ذكر معها، وهو معنى المبالغة في البداية بها، وعلى أنه قد وقع لابن سحنون ما ظاهره: «لزوم تعليم الإعراب». فقال:
«ينبغي له أن يعلمهم إعراب القرآن، وذلك لازم له، والشكل، والهجاء، والخط الحسن، والقراءة الحسنة، والتوقيف، والترتيل، يلزمه ذلك» (4).
إلا أن ابن عرفة حمله على أنه يريد بالإعراب: «تعليمه بلا لحن» فقال ما نصه: «مجمل قوله عندي «إعراب القرآن» هو: تعليمه معربا احترازا من اللحن، والإعراب النحوي متعذر».
قلت: وتعذره منهم لا يسقط تعليمه في حقهم من غير هذا الصنف، تحصيلا لمصلحة البداية بها لا سيما عند انتقالهم من المكاتب إلى الاشتغال بها على المتصدّرين لتعليمها.
فقد قال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي في فصل إن مطلوبات الكفاية لا تتوجّه إلا على من فيه قابلية القيام بها على ما اختار في هذا الأصل، وفيه بيان لكيفية التدريج بهم في مراتب التعلم على الإطلاق: «فإذا فرض مثلا: واحد من الصبيان ظهر عليه حسن إدراك، وجودة فهم، ووفور حفظ لم يسمع، وإن كان مشاركا في غير ذلك من الأوصاف ميل به نحو ذلك القصد.
__________
(1) في «ج»: ويقتضي به.
(2) زيادة من أحكام المتعلمين: 358.
(3) في «ج»: لفظي.
(4) م. س: 358.(2/523)
قال: وهذا واجب على الناظر فيه من حيث الجملة، مراعاة لما يرجى فيه من القيام بمصلحة التعليم، فطلب بالتعلم، وأخذ (1) بالآداب المشتركة بجميع العلوم، ولا بد أن يمال منها إلى بعض، فيؤخذ به، ويعان عليه، لكن على الترتيب الذي نص عليه ربانيو العلماء، فإذا دخل في ذلك البعض فمال به طبعه إليه على الخصوص، وأحبّه أكثر من غيره. ترك وما أحب، وخص بأهله، فوجب عليهم إنهاضه فيه حتى يأخذ منه ما قدّر له من غير إهمال له، ولا ترك لمراعاته، ثم إن وقف هنالك فحسن، وإن طلب 146و / / الأخذ في غيره أو طلب به، فعل معه فيه ما فعل فيما قبله، هكذا إلى أن ينتهي.
قال: كما لو بدأ بعلم العربية مثلا، فإنه الأحق بالتقديم، فإنه يصرف إلى معلميها، فصار من رعيتهم، وصاروا هم رعاة له، فوجب عليهم حفظه فيما طلب، بحسب ما يليق به وبهم، فإن انتهض عزمه إلى أن صار يحذق القرآن، صار من رعيتهم، وصاروا هم رعاة له كذلك، ومثله: إن طلب الحديث أو التفقه في الدين إلى سائر ما يتعلق بالشريعة من العلوم» (2) اهـ.
فقوله في مرتبة التعلم للعربية: «فوجب عليهم حفظه إلى آخره»
تصريح بطلب ذلك في حق الصغار من جانب غير معلمي المكاتب، وذلك كله مؤكد للعناية بتعلم العربية ابتداء في زمان الصغر، وهو معنى ظاهر.
المسألة الرابعة:
أن من لازم البداية بهذه الصناعة من حيث هي وسيلة إلى غيرها، وأدب يرتاض به قبل ما هي مرادة له أن الإهمال لهذا الترتيب [مفوت] (3) لأدب التعليم كما تقدم (4) في كلام ابن رشد، وموجب للخروج عن مناهج السلف في رعاية الترتيب في طلب العلوم.
__________
(1) في الموافقات 1/ 180: أدب.
(2) م. س: 1/ 180.
(3) في «ج» و «د»: موت.
(4) انظر: ص: 143و، ظ من مخ «أ». ص: 518من هذا الكتاب.(2/524)
قال الشيخ أبو عمر في باب «رتب الطلب» من «بيان العلم» (1): «طلب العلم درجات ومناقل، ورتب لا ينبغي تعدّيها، ومن تعدّاها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، ومن تعدى سبيلهم عامدا ضل، ومن تعداه مجتهدا زلّ.
قال: فأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل وتفهّمه، وكل ما يعين على فهمه، فواجب طلبه معه.
قال: ولا أقول إن حفظه كله فرض، ولكني أقول: إن ذلك شرط لازم على من أحب أن يكون عالما فقيها ناصبا نفسه للعلم، ليس من باب الفرض.
ثم أسند إلى الضحاك (2) في قوله تعالى: {كُونُوا رَبََّانِيِّينَ بِمََا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتََابَ وَبِمََا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (3). حق على كل من تعلم القرآن.
قال: فمن حفظه قبل 146ظ / / بلوغه، ثم فرغ إلى ما يستعين به على فهمه من لسان العرب كان ذلك عونا كبيرا على مراده منه ومن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال بعد كلام: ومما يستعان به على فهم الحديث ما ذكرناه من العون على كتاب الله وهو العلم بلسان العرب، ومواقع كلامها، وسعة لغتها، واستعارتها، ومجازها، وعموم لفظ مخاطبتها، وخصوصه، وسائر مذاهبها لمن قدر، فهو شيء لا يستغنى عنه» (4) اهـ.
قلت: وإذا كان شيئا لا يستغنى عنه، وأهمل تقديمه، كان المضيع لذلك التقديم سيّىء الأدب لا محالة مرتكبا من قبيحه أشنع مرتكب، لأن الأدب في
__________
(1) انظر: 2/ 167166.
(2) الضحاك بن مخلد الشيباني بالولاء البصري أبو عاصم النبيل. ت: 212هـ 828م. شيخ حفاظ الحديث في عصره، له جزء في الحديث، ولد بمكة، وتحول إلى البصرة فسكنها وتوفي بها، انظر: طبقات الزبيدي: 54، والتذكرة: 1/ 367366.
(3) سورة آل عمران، الآية: 79، و «تعلمون»: فيها قراءتان، تعلمون من العلم، وتعلّمون من التعليم وكلاهما صواب لأنهم كانوا يعلمونه في أنفسهم، ويعلمونه غيرهم. انظر: في شرح الآية:
تفسير الرازي: 8/ 112111.
(4) جامع العلم: 2/ 168.(2/525)
طلب العلم نفسه أحسن منه في غيره، وهو آكد عندهم من العلم حتى قيل:
«اجعل أدبك دقيقا، وعلمك ملحا»، وقال الحجاج بن أرطأة (1)، خرجه أبو نعيم: «إنّ أحدكم إلى أدب حسن أحوج منه إلى خمسين حديثا».
وقال ابن المبارك: «تعلموا العلم شهرا، وتعلموا الأدب شهرين».
ثم مع [سوء] (2) هذا الأدب يروم الوصول إلى العلوم التي لا تفهم إلا بواسطة هذه الصناعة [ومقدّمة] (3) البداية بها، وهو طمع في غير حاصل، فيجتمع عليه سوء الأدب والحماقة. وفي مثل هذا على الجملة قال الشيخ أبو عمر (4) في باب آخر: «ولقد أحسن القائل:
وكل علم غامض رفيع ... فإنه بالموضع المنيع
لا يرتقى إليه إلا عن درج ... من دونها بحر طموح ولجج
ولا ينال ذروة الغايات ... إلا عليم بالمقدمات
قال: وقال صالح بن عبد القدوس (5):
لن تبلغ الفرع الذي رمته ... إلا ببحث منك عن أسّه» 147و / /
قلت ومن كلام الماوردي في هذا المعنى على الجملة: «واعلم أن للعلوم أوائل تؤدي إلى أواخرها، ومداخل تفضي إلى حقائقها، فليبتدىء طالب العلم بأوائلها لينتهي بها إلى أواخرها، وبمداخلها ليفضي منها إلى حقائقها، ولا
__________
(1) الحجاج بن أرطأة بن ثور النخعي. ت: 145هـ 762م. قاض من أهل الكوفة، كان من رواة الحديث وحفاظه، وكان يعاب بتغيير الألفاظ في الحديث، انظر: تاريخ بغداد: 8/ 236230، وميزان الاعتدال: 1/ 460458.
(2) في «ج»: سد، وفي «د»: سر.
(3) في «د»: متقدمة.
(4) جامع العلم: 2/ 36.
(5) صالح بن عبد القدوس الأزدي الجذامي مولاهم أبو الفضل. ت: 160هـ 777م. شاعر حكيم، كان متكلما، يعظ الناس في البصرة، له مع أبي الهذيل العلاف مناظرات، اتهم عند المهدي بالزندقة، فقتله ببغداد، عمي في آخر عمره. انظر: ميزان الاعتدال: 2/ 298297، وفوات الوفيات: 2/ 116.(2/526)
يطلب الآخر قبل الأول، ولا الحقيقة قبل المدخل فلا يدرك الآخر، ولا يعرف الحقيقة لأن البناء على غير أساس لا يبتنى، والثمر من غير غرس لا يجتنى» (1).
وسيأتي إن شاء الله في آداب المعلم استيفاء هذا المعنى.
المسألة الخامسة:
أنّ استحسان انضمام طلب الشعر إلى هذه البداية مقتض لكمال الاستعانة به على ما يراد بها، وهو أيضا معنى ظاهر.
فقد تقدم (2) ما ذكره ابن الأنباري في فصل شهادة أهل التفسير باحتياجهم إلى هذه الصناعة.
وللشيخ أبي نعيم في «رياضة المتعلمين» بعد ذكر تعلم العربية لغة ونحوا:
«ثم ليعرف طرفا من الشعر فإنه ديوان العرب، وموروث في الأعقاب والأخلاف، باق مدحه وذمه، لازم خيره وشره.
قال: وفيه الشاهد الحاضر، والمثل السائر، والذم والامتداح، والشرح والإيضاح، وبيان غريب القرآن، ومعاني سنن الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم أسند عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: عليكم بالشعر، فإنه يعرب ألسنتكم» اهـ.
وفيما ذكره ابن الأنباري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «الشعر ديوان العرب، فإذا خفي عليكم (3) الحرف في القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب، ارجعوا إلى ديوانه فالتمسوا معرفة ذلك منه.
قال: ومما يدل على صحة هذا، حديث حدثنيه أبي. ثم ذكر سنده إلى ابن عباس قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير يعلمه العلماء، وتفسير
__________
(1) أدب الدنيا: 2726.
(2) انظر ص: 116ومخ «أ». ص 415من هذا الكتاب.
(3) في إيضاح الوقف: عليهم.(2/527)
تعرفه العرب، وتفسير [لا] (1) يعذر أحد بجهالته، وتفسير لا [يعلمه] (2) إلا الله تعالى، 147ظ / فمن ادعى علما به فهو كاذب» (3).
قلت: ومن عناية العلماء به في باب المدح للعلم، والحض على الهداية، ما رواه الشيخ أبو عمر عن ابن أبي الخناجر (4) قال: «كنا على باب محمد بن مصعب القرقساني (5) جماعة من أصحاب الحديث، وفينا رجل عراقي، بصير بالشعر، ونحن نتمنى أن يخرج إلينا، فيحدثنا حديثا واحدا، أو حديثين، إذ خرج إلينا فقال: قد خطر على قلبي بيت من الشعر، فمن أخبرني لمن هو حدثته ثلاثة أحاديث، فقال الفتى العراقي: رحمك الله أي بيت هو؟ فقال الشيخ:
العلم فيه حياة للقلوب كما ... تحيا البلاد إذا ما مسها المطر
فقال الفتى: هو لسابق البربري، فقال الشيخ: صدقت، فما بعده؟ فقال:
والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه ... كما يجلّي سواد الظلمة القمر
فقال الشيخ: صدقت، وحدثه بستة أحاديث سمعناها منه» (6) اهـ.
وقد بالغ هؤلاء المحدثون في استحسان العناية بالشعر، والحكايات، حتى عدوه من جملة آداب المحدّث، فقال الشيخ تقي الدين (7) في «اقتراحه» (8): «ومن عادتهم ختم مجالس الإملاء بالحكايات والأشعار.
قال: فإن كانت مناسبة لما تقدم من الأحاديث فهو أحسن» اهـ.
__________
(1) ساقط من «ج» و «د».
(2) في «ج» و «د»: لا يعلمها.
(3) إيضاح الوقف: 1/ 101100.
(4) هو أحمد بن محمد بن يزيد بن أبي الخناجر الأطرابلسي (أبو علي) انظر: تاريخ بغداد: 3/ 277 (ترجمة محمد بن مصعب القرقساني).
(5) المتوفى سنة 288هـ 900م. كان صاحب الأوزاعي، حدث عنه أحمد والرمادي، وخلق، وقال الخطيب: كثير الغلط لتحديثه من حفظه، ويذكر عنه الخير والصلاح. انظر: تاريخ بغداد: 3/ 279276، و «ميزان الاعتدال»: 4/ 42.
(6) جامع العلم: 1/ 50.
(7) تقي الدين محمد بن علي بن دقيق العيد.
(8) الاقتراح في أصول الحديث.(2/528)
تنبيه:
على تقييد استحسان طلب المعرفة بالشعر لما ذكر من المقاصد ليس على الإطلاق بل هو مقيد عندهم بما لم يشتمل على الفحش، والشنيع من الهجو.
فقال القابسي: «ولا بأس أن يعلمهم الشعر، ما لم يكن فيه فحش، ومن كلام العرب، وأخبارها، وليس ذلك بواجب عليه، كل هذا عند سحنون.
ونقل عن أبي حبيب: أكره من تعليم الشعر وتعلمه، وروايته للكبير والصغير، ما فيه ذكر الحمية والخناء 148و / / وقبيح الهجاء» (1) اهـ.
قال ابن عرفة: «كراهة شعر الخمر وما بعده على الحرمة».
ثم قال: «وانظر هذا مع رواية كثير من الأشياخ «كتاب مقامات الحريري» مع فحش بعض ألفاظها. قال: ولقد أخبرني بعض ثقات أصحابي أنه رواها على إمام الجامع الأعظم ببلدنا وهو الشيخ الإمام الخطيب «أبو محمد ابن البراء»، قال: فلما انتهيت إلى الموضع الذي يتلو قوله: عفا الله عنا وعنه: «فانظر على أيّهما». امتنعت من التصريح باللفظ وكنيت؟ فقال لي: لا تكنّ وانطق بكذا، فإني كذا رويته على جدي أبي أمي الفقيه الشهير «أبي القاسم ابن البراء»، وكان هذا بدويرة جامع الزيتونة.
قال: وعكس هذا أخبرني بعض أشياخي أن بعض الفضلاء نسخ بيده بعض كتب الأدب فوجد فيه مواضع غير مكتبة، فبحث عنها فوجدها ألفاظا فحشية» اهـ.
قال البرزلي: «الصواب في هذا ذكر الواقع في الكتاب على معنى الرواية كما فعل ابن البراء وكذا تأليف الزمخشري، غير أنه ينبه على الموضع الذي خرج فيه.
قال: ولا يفتقر في ذلك في كتب الأدب إلى تنبيه، لأنها إنما يقصد بها معرفة معاني الألفاظ التي وضعتها العرب، لأنه قد يحتاج إلى معرفتها فيما
__________
(1) انظر: أحكام المعلمين: 301.(2/529)
توجب الأحكام الشرعية، كحديث (1) ماعز (2) في اللفظة التي وقعت في البخاري لتحقيق وقوع الفعل، فاضطر إلى التصريح بها، ونحو ذلك.
قال: وأما خروج الشعر بما لا يحل، بمعنى الغناء، فهو تجويز لوقوع الفعل، فلا يلزم من جوازه حيث يروى أن يجوز حيث يخاف مفسدته».
قلت: وهذا هو الإنصاف الذي لا معدل عنه، ومن الدليل الظاهر عليه ما «رواه إسماعيل القاضي عن زياد بن حصين عن أبيه قال: رأيت ابن عباس وهو يسوق راحلته، وهو يرتجز وهو محرم، وهو يقول:
وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا
قال: فذكر الجماع باسمه، فلم يكنّ عنه، قال: فقلت: يا [ابن] (3)
عباس، أتتكلم بالرفث وأنت محرم؟! فقال: إنما الرفث ما روجع به النساء» (4).
قلت: ينظر إلى عدم الاكتراث بإنشاد مثل ذلك في الإحرام حتى لا يتوهم أنه يخل بحفظه، ما يحكى عن بعض العلماء أنه قيل له: إن بعض الناس يقول:
ذكر الشعر ينقض الوضوء. فقال: سبحان الله! وأنشد:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم: بولي على النار (5)
__________
(1) حديث ماعز ما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال: «لما أتى ماعز بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم قال له:
«لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت». قال: لا يا رسول الله. قال: «أنكتها»؟ لا يكنى قال: فعند ذلك أمر برجمه» قوله: لا يكنى: أي صرح صلى الله عليه وسلم بلفظ النيك، لأن الحدود لا تثبت بالكناية، وفيه جواز تلقين المقر في الحدود، إذ لفظ الزنا يقع على نظر العين ونحوه / صحيح البخاري: 23/ 209208.
(2) هو ماعز بن مالك الأسلمي، أسلم وصحب النبي صلى الله عليه وسلم، أصاب الذنب ثم ندم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترف عنده، وكان محصنا فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجم، وقال: «لقد تاب توبة لو تابها طائفة من أمتي لأجزت عنهم». انظر: طبقات ابن سعد: 4/ 325324، والإصابة:
3/ 337.
(3) في الأصول: أبا عباس.
(4) انظر: عيون الأخبار: 1/ 321، والموافقات: 3/ 321.
(5) ذكره صاحب اللسان: نبح، ولم يسم قائله.(2/530)
ثم قال: الله أكبر، وأحرم في الصلاة ليعلم أن هذا الشعر وإن كان من شنيع الهجو، فإنه لا ينقض الوضوء.
وقوله: «إنما يقصد بها معرفة معاني الألفاظ التي وضعتها العرب» هو الحق الذي لا توقف فيه، لأن الشاهد على ما يراد من معرفة كلام العرب إفرادا، أو تركيبا، قد لا يحفظ إلا من شعر يتضمن ما لا يحلّ شرعا، وإذ ذاك فالمقصود معرفة المعنى لا غير، والأعمال بالنيات، وقد نبه على هذا بعض العلماء، فقال:
«إنما يورد على معنى الاحتجاج للغة، وفيه ذكر الخنى والخمر، ولكن لم يقصد به إلا شاهد اللغة أو النحو، لا يمتنع لكثرته في كلام العرب، ونقل العلماء له خلفا عن سلف، وما قاله ظاهر الدلالة، لكن يبقى بعد ذلك أن يقال:
هل يجوز قراءة هذا النوع في المساجد أو تنزه عنه؟.
فالذي حكاه «الأبي» في «شرح مسلم» (1) عن شيحه ابن عرفة أنه كان يقول: «لا بأس بإعراب (الأشعار الستة) (2) بها، وقراءة «المقامات».
ويحكى أن «ابن البراء» إمام الجامع الأعظم كان لا يرويها به، وإنما يرويها بالدويرة لأنها ليس لها حكم الجامع.
قال: وهذا والله أعلم لما تضمنته من الأكاذيب» اهـ.
وقال في موضع آخر:
«أجاز الشيوخ قراءة المنطق، 149و / / وكذلك الحساب إذا لم يلوث، وقراءة النحو وإعراب أشعار الستة، بخلاف قراءة المقامات لما فيها من الكذب والفحش.
__________
(1) توجد منه نسخة غير تامة بمكتبة كلية آداب فاس. الطبعة الأولى: 1327هـ، مطبعة السعادة مصر.
(2) هي أشعار الشعراء الستة: امرىء القيس، والنابغة، وزياد بن عمرو الذبياني وعلقمة بن عبدة التميمي، وزهير بن أبي سلمى، وطرفة بن العبد البكري، وعنترة بن شداد العبسي.(2/531)
وكان ابن البراء إمام الجامع الأعظم بتونس يرويها بالدويرة منها.
قال: إذ ليس للدويرة حكم المسجد الجامع.
قلت: فيكون في قراءة المقامات في المسجد قولان: الجواز لابن عرفة، وخلافة للشيوخ. وحق لها بالمسامحة في كذبها، فإنها كما قال ابن خلكان:
«قد اشتملت على شيء كثير من كلام العرب: من لغاتها وأمثالها ورموز أسرار كلامها.
قال: ومن عرفها حق معرفتها استدل بها على فضل هذا الرجل، وكثرة اطلاعه، وغزارة مادته» (1) يعني الحريري منشئها.
وحكى الشاري في «برنامجه» «عن الشيخ أبي محمد بن عبيد الله أنه كان كثير الثناء عليها، ويصفها بعظم الفائدة، وسرعة الانتفاع بها لمن قرأها، ويقول: إن الكتابة تتمكن لمن حفظ أقل من نصفها، كيف من أكملها»!
انعطاف:
إنشاد الشعر على الجملة في المسجد وقع فيه خلاف.
فعن ابن حبيب رأيت ابن الماجشون، ومحمد بن سلام (2) ينشدان فيه الشعر، ويذكران أيام العرب، وقد كان اليربوعي (3) والضحاك بن عثمان (4)
ينشدان مالكا ويحدثانه بأخبار العرب، فيصغي إليهما.
وكرهه آخرون.
__________
(1) الوفيات: 4/ 36.
(2) محمد بن سلام بن فرج السلمي بالولاء البخاري أبو عبد الله البيكندي. ت: 225هـ 839م.
من حفاظ الحديث، رحال جوّال، كان محدث «ما وراء النهر» يحفظ خمسة آلاف حديث. له مصنفات في كل باب من علم الحديث. انظر: التهذيب: 9/ 213212.
(3) من شيوخ مالك أو أصحابه.
(4) الضحاك بن عثمان الأسدي الخزامي المدني. ت: 180هـ 796م. روى عن جده وعن مالك، وروى عنه ابنه محمد، وإبراهيم بن المنذر الخزامى وغيرهما، وكان علامة قريش بالمدينة بأخبار العرب وأشعارها، ومن كبراء أصحاب مالك. انظر ميزان الاعتدال: 2/ 325.(2/532)
قال ابن بطال: «واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن تنشد الأشعار في المسجد، وأن تباع فيه السلع، وأن [يتحلق] (1) فيه قبل الصلاة.
ثم ذكر عن [الطحاوي] (2) (3) أن ذلك محمول على ما فيه الخنى والزور، أو على ما إذا غلب أهله وشغلوا به».
قلت: ترجم البخاري على جواز إنشاده في المسجد، «واقتصر في الدليل بأن أبا سلمة (4) سمع حسان بن ثابت (5) رضي الله عنه يستشهد أبا هريرة:
أنشدك الله، هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم 149ظ / / يقول: يا حسان، أجب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم أيده بروح القدس، قال أبو هريرة: نعم» (6).
قال الشيخ ناصر الدين بن [المنير] (7) (8) في الكلام على تراجمه (9):
«ووجه الأخذ من هذا الطريق أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يا حسان، أجب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في «ج» و «د»: تخلق.
(2) في «ج»: الصحاوي.
(3) هو أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي (أبو جعفر) ت: 321هـ 933م. فقيه انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر، رحل إلى الشام سنة 268هـ، فاتصل بأحمد بن طولون، فكان من خاصته، من تصانيفه: «شرح معاني الآثار»، و «بيان السنة»، و «كتاب الشفعة»، و «المختصر في الفقه». انظر: التذكرة: 3/ 811808، والشذرات: 2/ 288.
(4) أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، قيل اسمه عبد الله، وقيل إسماعيل، وقيل اسمه كنيته. ت: 104هـ 722م. كان ثقة، فقيها، كثير الحديث، ومن سادات قريش. انظر:
التهذيب: 12/ 115.
(5) حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجي الأنصاري. ت: 54هـ 673م. شاعر مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام مدح الغساسنة وملوك الحيرة قبل الإسلام ثم بعد إسلامه، كان شاعر النبي صلى الله عليه وسلم. من آثاره: «ديوان شعر». انظر: الشعر والشعراء: 140139، والإصابة: 1/ 326.
(6) صحيح البخاري: 4/ 113112.
(7) هو أحمد بن محمد بن منصور ناصر الدين بن المنير الجذامي الجروي الإسكندراني. ت:
683 - هـ 1284م. من علماء الإسكندرية وأدبائها، ولي قضاءها وخطابتها مرتين، له تصانيف منها: «تفسير حديث الإسراء»، «ديوان خطب»، و «الانتصاف من الكشاف»، وله نظم، وله تأليف على تراجم صحيح البخاري. فوات الوفيات: 1/ 150149.
(8) في «ج» و «د»: المنبر.
(9) أي تراجم صحيح البخاري.(2/533)
ودعا له أن يؤيد بروح القدس»، فدل على أن من الشعر حقا ما يؤمر به، ويتأهل صاحبه أن يكون مؤيدا في [النطق] (1) بالملائكة، ومن كان هذا شأنه، فلا يتخيل ذو لب أنه يحرم في المسجد لأن الذي يحرم فيه من الكلام إنما هو العبث، وما يعد في الباطل المنافي لما اتخذت له المساجد من الحق، فأما هذا النوع فإنه حق، لفظه حسن، ومعناه صدق، فهذا وجه الأخذ والله أعلم.
قال: «وبه يرتفع الخلاف، ويحمل المنع على شعر السفه، والعبث، والإجازة على شعر الفائدة والحكمة ونحو ذلك مما يحسن القصد إليه، والله أعلم».
تكملتان:
التكملة الأولى:
من استحسانهم لتعلم الشعر منضما إلى جملة علوم العربية لما في ذلك من الفوائد المشار إليها فيما تقدم أنهم ربما سامحوا في النظر في معانيه، وإن اشتملت على الممنوع شرعا، ولا يعدون ذلك مخلا بمنصب الناظر فيها، وإن كان من ذوي المراتب المطالب بحفظ جلالتها كما اتفق في السؤال عن معنى بيتي حسان بن ثابت رضي الله عنه وهما:
«إنّ التي ناولتني فرددتها ... قتلت، قتلت فهاتها لم تقتل
كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل» (2)
وذلك أن الشيخ «جمال الدين بن هشام» لما أجرى ذكرهما في «شرحه»
__________
(1) في «ج» و «د»: النظر.
(2) البيتان من قصيدة لحسان في ديوانه: 365364، وهي من فاخر المديح، مدح بها بني جفنة من آل غسان، ملوك الشام، ومطلعها:
«أسألت رسم الدار أم لم تسأل ... بين الجوابي فالبضيع فحومل»
وقد ورد البيت الأول في الأغاني بالرواية التالية: 9/ 281280.
«إن التي عاطيتها فرددتها»، وفي أخرى: «إن التي عاطيتني فرددتها». وهذه الرواية توافق ما جاء في اللسان: قتل.(2/534)
لقصيدة كعب بن زهير رضي الله عنه قال:
ولهذا الشعر حكاية أوردها الإمام «أبو السعادات 150و / / هبة الله بن الشجري (1)» في الجزء الثاني من أماليه (2) قال:
«اجتمع قوم على شراب فتغنى أحدهم بهذين البيتين، فقال بعض الحاضرين كيف قال:
«إن التي ناولتني فرددتها»
ثم قال: «كلتاهما»، فجعلها اثنتين، فلم يدر الحاضرون، فحلف أحدهم بالطلاق ثلاثا إن بات ولم يسأل القاضي عبيد الله بن الحسين عن ذلك.
قال: فسقط في أيديهم، ثم أجمعوا على قصد القاضي فيمموه يتخطون إليه الأحياء فصادفوه في مسجد يصلي بين العشاءين، فلما أحس بهم أوجز، ثم أقبل عليهم فقال: حاجتكم؟ فتقدم أحسنهم نفثة (3) فقال: نحن أعز الله القاضي قوم نزعنا إليك من طريق البصرة في حاجة مهمة فيها بعض الشيء، فإن أذنت لنا قلنا، فقال: قل، فذكر له البيتين والسؤال، فقال: أما قوله:
«إن التي ناولتني» فإنه يعني الخمر.
وأما قوله: «قتلت» فمعناه مزجت بالماء.
وأما قوله: «كلتاهما حلب العصير» فإنه يعني به الخمر والماء، فالخمر عصير العنب، والماء عصير السحاب، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنََا مِنَ الْمُعْصِرََاتِ مََاءً ثَجََّاجاً} (4). انصرفوا إذا شئتم» اهـ.
__________
(1) هبة الله بن علي الحسني العلوي البغدادي الشريف أبو السعادات المعروف بابن الشجري. ت:
542 - هـ 1147م. كان إماما في النحو، واللغة، وأشعار العرب، وأيامهم، أقرأ النحو سبعين سنة بالكرخ، وكان نقيب الطالبيين بها نيابة عن والده، له تصانيف منها: «الحماسة الشجرية»، «مختارات شعراء العرب»، و «الانتصار»، و «الأمالي الشجرية» انظر: النزهة: 406404، والإنباه: 3/ 357356، والمزهر: 2/ 488، وأيضا 468.
(2) انظر: 2/ 161159.
(3) نفثة: المرة من «نفث» يقال: ما أحسن نفثات فلان أي شعره أو حديثه.
(4) سورة النبأ، الآية: 14. وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنََا مِنَ الْمُعْصِرََاتِ}(2/535)
إلا أنه نقل بعد ذلك عن ابن الشّجري تعقبا على هذا التأويل نذكره إتماما
__________
فقال بعضهم: عنى بها الرياح التي تعصر في هبوبها، وعن ابن عباس: أن «المعصرات»:
الريح، وقال آخرون: بل هي السحاب التي تتحلب بالمطر ولما تمطر، وقال آخرون: بل هي السماء، وأولى الأقوال عند «الطبري» في «جامع البيان» 12/ 64: أن يقال: إن الله أخبر أنه أنزل من المعصرات وهي التي تحلبت بالماء من السحاب ماء لأن الرياح لا ماء فيها فيتنزل منها، وإنما ينزل بها، وكان يصح أن تكون الرياح لو كانت القراءة: «وأنزلنا بالمعصرات» فلما كانت «من المعصرات» علم أنّ المعنى بذلك ما وصفت.
وأما قوله تعالى: {مََاءً ثَجََّاجاً} ففي اللسان: ماء ثجوج، وثجّاج: مصبوب، قوله: «قتلت» بالبناء للمجهول: أي مزجت بالماء.
«وقتلت» أيضا بالبناء للمجهول مسند إلى ضمير المتكلم، والجملة اعتراضية، والقتل هنا للزجر. «فهاتها»، يقال: هاتى، يهاتي مهاتاة والهاء فيها أصلية، ويقال: بل مبدلة من الألف المقطوعة في «آتى» «يؤاتي»، ولكن العرب قد أماتت كل شيء من فعلها غير الأمر بهات، فيقال: «هات يا رجل، وللاثنين، هاتيا، وللجمع: هاتوا، وللمرأة: هاتي، وهاتى: أعطى، وتصريفه كتصريف عاطى (اللسان: هتا).
كلتاهما: كلا وكلتا من الألفاظ المضافة التي يؤكد بها المعارف، وإن خرجا عن سنن التأكيد أعربا مبتدأ، وقد ذهب الكوفيون إلى أن كلا وكلتا فيهما تثنية لفظية ومعنوية، في حين ذهب البصريون إلى أن فيهما إفرادا لفظيا، وتثنية معنوية، وقد جاراهم في ذلك ابن هشام في «المغني»: 223، وابن الشجري في «أماليه»: 1/ 189188.
حلب: الحلب بفتحتين بمعنى «المحلوب» كالقنص بمعنى المقنوص، وهو في الأصل:
استخراج ما في الضرع من لبن، والمقصود به هنا: ما في العنب من عصير، وما في السحاب من ماء.
فعاطني: عاطى يعاطي معاطاة الرجل الشيء: ناوله إياه.
أرخاهما: القياس أن يقال: أشدهما إرخاء: إلا أنه استعمل الفعل الأصلي (رخو) فبناه منه، وهناك من اعتبره من «أرخى» المزيد، ومن ثم فهو سماعي عند قوم، مقيس عند آخرين، وقد أجاز المحققون صياغة اسم التفضيل على «أفعل» من مصدر الثلاثي المزيد في أوله همزة، فقالوا: هو «أعطاهم للدراهم»، و «أولاهم بمعروف»، و «أخي أسدى منك نصيحة»، وأرخى في البيت للدلالة على أن شيئين اشتركا في صفة وزاد أحدهما على الآخر.
ويخاطب الشاعر في البيتين الساقي الذي ناوله كأسا ممزوجة قد قتل خمرها، فدعا عليه بالقتل في مقابلة المزج، وقد أحسن كل الإحسان في تجنيس اللفظ، وهو تجنيس اشتقاقي. وفي «المحكم» قال ابن دريد: هذا مما جاء في لفظ «فاعل» والموضع: مفعول لأن السحاب يثجّ الماء فهو مثجوج، ومطر ثجّاج: شديد الانصباب.
وفي جامع البيان: الثّج: الصّبّ المتتابع ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الحجّ العج والثّج»، ويعني بالثج: صبّ دماء الهدايا.(2/536)
للفائدة، وإظهارا لبعض محاسن هذه الصناعة فقال ابن الشجري:
«ويمنع من هذا التأويل ثلاثة أشياء:
أحدها: أن كلتا للمؤنثين، والماء مذكر، والتذكير يغلب على التأنيث كقول الفرزدق:
«لنا قمراها والنّجوم الطّوالع» (1)
والثاني: أنه قال: «أرخاهما» وأفعل يقتضي المشاركة والماء لا إرخاء فيه للمفصل.
والثالث: أنه قال: فالخمر عصير العنب، وحسّان يقول: حلب العصير، والحلب هو الخمر، فيلزم على قوله إضافة الشيء إلى نفسه.
قال: وإنما الجواب أن المراد «بكلتا»: «الممزوجة»، و «الصرف»: «حلب العنب»، فناولني 150ظ / / أشدهما إرخاء، «وهي الصّرف» التي طلبها منه في قوله: «فهاتها لم تقتل»» اهـ.
ثم ذكر ابن هشام فوائد تتعلق بالبيتين فانظرهما في كلامه لئلا يطول الموضع بجلبها. وقد ذكر الحكاية الحريري في «درة الغواص» (2) وأنشد بعد البيتين:
__________
(1) صدر البيت هو:
«أخذنا بآفاق السّماء عليكم»
الديوان: 2/ 519.
وقد أورده ابن رشيق في العمدة: 3/ 9493 «في باب الاتساع» على لسان المفضل الضبي، وهو بين يدي الرشيد، والكسائي حاضر، فسأل المفضل الأمين والمأمون عن معناه فقالا: معناه في قوله: «قمراها» تغليب المستعمل عندهم، لأن القمر أكثر استعمالا عندهم من الشمس.
كما ذكره ابن هشام في المغني 2/ 765764: في مسألة أنهم يغلبون على الشيء ما لغيره لتناسب بينهما أو اختلاط، ومنه قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وََاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} أي الأب والأم، ومنه قول الفرزدق هذا وقيل: إنما أراد محمدا، والخليل، لأنّ نسبه راجع إليهما بوجه، وأن المراد بالنجوم الصحابة.
(2) انظر ص: 163162.(2/537)
«بزجاجة رقصت بما في قعرها ... رقص القلوص براكب مستعجل (1)
ثم قال بعد كلامه على فوائد البيتين: وليس ما اعتمده عبيد الله بن الحسين من الإسماح، وخفض الجناح، مما يقدح في نزاهته، أو يغض من نبله ونباهته.
ثم قال: ويضارع هذه الحكاية في وطأة القضاة المتقشفين للمستفتين، وتلاينهم في موطن اللين، ما حكي أن «حامد بن العباس» سأل «علي بن عيسى» في ديوان الوزارة عن دواء الخمار، وقد علق به، فأعرض عن كلامه وقال: ما أنا وهذه المسألة! فخجل حامد منه، ثم التفت إلى قاضي القضاة أبي عمر، فسأله عن ذلك فتنحنح القاضي لإصلاح ثوبه، ثم قال: قال الله تعالى:
{وَمََا آتََاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمََا نَهََاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2). وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«استعينوا في الصناعات بأهلها». والأعشى هو المشهور بهذه الصناعة في الجاهلية وقد قال:
«وكأس شربت على لذّة ... وأخرى تداويت منها بها
لكي يعلم النّاس أنّي امرؤ ... أتيت الخلاعة من بابها» (3)
وتلاه أبو نواس (4) في الإسلام فقال:
«دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء» (5)
فأسفر (6) حينئذ وجه حامد، وقال لعلي بن عيسى: ما ضرّك يا [بارد] (7)
__________
(1) البيت ساقط من «درة الغواص»، والقلوص: الناقة الشابة الطويلة القوائم المسرعة.
(2) سورة الحشر، الآية: 7.
(3) انظر الديوان: 81من قصيدة في المدح مطلعها:
«ألم تنه نفسك عما بها؟ ... بلى عادها بعض أطرابها»
(4) هو الحسن بن هانىء الحكمي بالولاء، المعروف بأبي نواس الشاعر العباسي المعروف. ت:
نحو 196هـ 812م. انظر تاريخ بغداد: 7/ 449436، والوفيات: 2/ 10495.
(5) انظر الديوان: 6، والبيت مطلع قصيدة يعرض فيها بالنظام.
(6) أسفر الوجه: أشرق وحسن.
(7) في «ج» و «د»: بادر.(2/538)
أن تجيب ببعض ما أجاب به قاضي القضاة! وقد استظهر في جواب المسألة بقول الله عز وجل أولا، ثم 151و / / بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانيا، وبيّن الفتيا، وأدّى المعنى، [وتفصّى] (1) (2) من العهدة، فكان خجل علي بن عيسى من حامد بهذا الكلام أكثر من خجل حامد منه لما ابتدأه بالمسألة».
قلت: ويتعلق بقوله: «دع عنك لومي» البيت، حكاية أخرى ذكرها ابن أبي حجلة (3) عن المفضّل الضّبي (4) قال:
«دخلت على الرشيد يوما فقال: دلني على بيت أوله أكثم بن صيفي في أصالة الرأي، وجودة الموعظة، وآخره أبقراط في معرفة الدواء، فقلت: يا أمير المؤمنين، طوّلت علي. فقال: هو قول أبي نواس: «دع عنك لومي»
البيت.
التكملة الثانية:
من فوائد المعرفة بهذا النّوع من الأدب [المستمدّ] (5) أكثره من علوم اللسان، ومعرفة أيام العرب، والاستحضار لنوادر أخبارها، أنّه مما يستراح إليه عند كد الخواطر، وملل النفوس بالمداومة على النظر في العلوم، وإرهاق حد الذهن في استخراج حقائقها، وقد ختم هذا المعنى ابن الجوزي فقال: «وما زال العلماء والأفاضل يعجبهم الملح، ويهشّون لها، لأنها تجمّ النفس، وتريح القلب من كدّ الفكر».
__________
(1) في الأصول: تقصى.
(2) تفصى: تخلص.
(3) هو أحمد بن يحيى بن أبي حجلة التلمساني (شهاب الدين، أبو العباس). ت: 776هـ 1375م.
أديب، ناظم، ناثر، من آثاره: «أدب الغصن»، و «أطيب الطيب» و «منطق الطير»، و «ديوان الصبابة». انظر: الدرر الكامنة: 1/ 331329.
(4) المفضل بن محمد الضبي (أبو العباس). ت: 168هـ 784م. أديب، نحوي، لغوي، عالم بالشعر وأيام العرب، لزم المهدي العباسي، وعمل له الأشعار المسماة: المفضليات من تصانيفه: «معاني الشعر»، «الأمثال»، «الألفاظ»، «العروض». انظر: الفهرست: 108، والنزهة: 5756.
(5) في «أ»: المستمر.(2/539)
ثم استظهر على ذلك بما روي فيه عن جلّة من علماء السّلف.
«فعن شعبة أنه كان يحدّث، فإذا رأى أبا زيد (1) قال: إيه أبا زيد!.
«استعجمت دار نعم ما تكلّمنا ... والدار لو كلّمتنا ذات أخبار» (2)
وعن الأصمعي قال: سمعت حمّاد بن سلمة يقول: لا يحبّ الملح إلا ذكور الرجال، ولا يكرهها إلا مؤنّثهم.
وعنه قال: سمعت الرشيد يقول: «النوادر تشحذ الأذهان، وتفتق الآذان». وعنه قال: أنشدت محمد بن عمران التميمي قاضي المدينة، وما رأيت في القضاة أعقل منه:
يا أيّها السائل عن منزلي ... نزلت في الخان على نفسي 151ظ / /
يغدو عليّ الخبز من خابز ... لا يقبل الرّهن ولا ينسي
آكل من كيسي ومن كسوتي ... حتّى لقد أوبقني ضرسي
فقال: اكتبه لي، فقلت: أصلحك الله، إنما يكتب بهذا الأحداث، فقال:
ويحك، اكتبه لي فإن الأشراف تعجبهم الملاحة.
قال: وروينا عن ابن عائشة (3) أحاديث ملاحا [في بعضها رفث] (4)، وأن رجلا قال له: أيأتي من مثلك هذا؟ فقال له: ويحك، أما ترى أسانيدها، ما أحد ممن رويت عنه إلا وهو أفضل من جميع أهل زماننا، ولكنكم ممن قبح باطنه، فرأى ظاهره، وإن باطن القوم فوق ظاهرهم.
__________
(1) يقصد أبا زيد الأنصاري.
(2) الديوان: 202، من قصيدة للنابغة مطلعها:
«عوجوا فحيّوا لنعم دمنة الدار ... ماذا تحيون من نؤي وأحجار»
(3) هو عبيد الله بن محمد التميمي، أبو عبد الرحمن المعروف بابن عائشة. ت: 228هـ 842م.
عالم بالحديث، والسير، أديب، كما كان كريما متلافا، وعرف بابن عائشة لأنه من ولد عائشة بنت طلحة بن عبيد الله التيمي، ويقال له: «العيشي» أيضا. انظر: تاريخ بغداد: 10/ 314 318.
(4) ساقط من «ج» و «د».(2/540)
قال: ووصف رجل من النساك عنده فقيل: هو جد كله، فقال: لقد ضيق على نفسه الرعي (1)، وقصر لها طول النهى، ولو فكها (2) بالانتقال من حال إلى حال لنفس عنها ضيق العقدة، ورجعت إلى الجد بنشاط وجدة» (3) اهـ.
ونقل قبل هذا الفصل ما يشهد لأصل معناه: «وهو أن النّفس ترتاح إلى بعض المباح من اللهو إذا ملّت، ومن الدّؤوب في الجدّ» (4).
فمنها قول النبي صلى الله عليه وسلم بما يقتضيه حديث أمّ زرع، فقال عياض في «شرحه» (5)
له: «فيه من الفقه التحدث بملح الأخبار، وطرف الحكايات، تسلية للنفس، وجلاء للقلب، قال: وهكذا ترجم أبو عيسى الترمذي (6) فقال: ما جاء في كلام النبي صلى الله عليه وسلم في السّمر، وأدخل في هذا الباب هذا الحديث، وحديث خرافة» (7).
قال ابن الجوزي: «وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه [قال] (8):
روّحوا القلوب، وابتغوا لها طرائف الحكمة، فإنها تملّ كما يمل (9) البدن» (10).
قلت: وذكر عنه عياض (11): «سلّوا هذه النفوس ساعة فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد».
__________
(1) الرعي: ما يرعى: الكلأ، وفي «أخبار الحمقى»: 19: المرعى.
(2) م. س: 19: لو فككها.
(3) م. س: 1918.
(4) م. س: 16.
(5) انظر ص: 37.
(6) هو محمد بن عيسى السلمي الضرير، البوغي، الترمذي (أبو عيسى) ت: 279هـ 892م.
محدث، حافظ، مؤرخ، من تصانيفه: «الجامع الصحيح»، «الشمائل» في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، «العلل في الحديث». انظر الفهرست: 339، والوفيات: 4/ 278.
(7) حديث خرافة: وهو عن عائشة قالت: حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة نساءه حديثا، فقالت امرأة منهن: كأن الحديث حديث خرافة، فقال: «أتدرون ما خرافة؟ إن خرافة كان رجلا من عذرة، أسرته الجنّ في الجاهلية، فمكث فيهم دهرا، ثم ردّوه إلى الإنس، فكان يحدث الناس بما رأى فيهم من الأعاجيب، فقال الناس: حديث خرافة». الإصابة: 1/ 422.
(8) ساقطة من الأصول.
(9) في أخبار الحمقى: 17. «كما تمل الأبدان».
(10) م. س: 17.
(11) في شرحه: 3837.(2/541)
«وعن أبي بكر العتكي قال: إن هذه القلوب تحيا وتموت، فإذا حييت فاحملوها على النّافلة 152و / /، وإذا ماتت (1) فاحملوها على الفريضة» (2).
وعن الزهري قال: «كان رجل يجالس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدثهم، فإذا كثّروا وثقل عليهم الحديث، قال: «إن الآذان مجّاجة، وإن للقلب حمضة، فهاتوا من أشعاركم وأحاديثكم»» [-2].
وعن أبي الدّرداء رضي الله عنه «إني لأستجمّ نفسي ببعض الباطل كراهية أن أحمل عليها من الحقّ ما يملّها» [-2].
وعن محمد بن إسحاق (5) قال: «كان ابن عبّاس إذا جلس مع أصحابه حدّثهم ساعة ثم قال: حمّضونا، فيأخذ في أحاديث العرب، ثم يعود، فيفعل ذلك مرارا» (6).
وعن ابن إسحاق قال: «كان الزهري يحدث ثم يقول: هاتوا من طرفكم، هاتوا من أشعاركم، أفيضوا فيما يخفّ عليكم، وتتأنس به طباعكم، فإن الأذن مجّاجة، والقلب ذو تقلّب» (7). وعن مالك بن دينار (8) قال: «كان الرجل ممن كان قبلكم إذا ثقل عليه الحديث قال: الأذن مجّاجة وإن للقلب حمضة، فهاتوا من طرف الأخبار» (9).
__________
(1) في أخبار الحمقى 17: مالت.
(2) (2) و (3) و (4) م. س: 17.
(5) محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي بالولاء، المدني. ت: 151هـ 768م. صاحب السيرة والمغازي، زار الإسكندرية، وسكن بغداد ومات فيها. انظر: الفهرست: 142، والوفيات: 4/ 277276.
(6) أخبار الحمقى: 1817.
(7) م. س: 1817.
(8) مالك بن دينار (أبو يحيى) ت: 130هـ 747م. البصري، الزاهد، المشهور كان ورعا يأكل من كسبه، وكان يكتب المصاحف، روى عن أنس بن مالك، وعن جماعة من كبار التابعين. انظر الصفوة: 3/ 288273، وطبقات القراء: 2/ 36.
(9) أخبار الحمقى: 18.(2/542)
وعن ابن زيد (1) قال: «قال لي أبي (2): أن كان عطاء بن يسار ليحدثنا أنا وأبا حازم حتى يبكينا، ثم يحدثنا حتى يضحكنا، ثم يقول: مرة هكذا، ومرة هكذا» (3).
قلت: وروى الشيخ أبو عمر (4) «أن القاسم بن محمد (5) كان إذا كثروا عليه من المسائل قال: إن لحديث العرب، وحديث الناس نصيبا من الحديث، فلا تكثروا علينا من هذا.
وإن الأعمش قال: أخبرنا أبو خالد [الوالبي] (6) (7) قال: كنا نجالس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيتناشدون الأشعار، ويتذاكرون أيامهم في الجاهلية».
فائدة:
قال الجوهري: «الحمضة، الشّهوة للشّيء، وفي حديث الزهري: الأذن مجّاجة، وللنّفس حمضة، قال: وإنّما أخذت من شهوة الإبل للحمض لأنها إذا ملّت الخلّة اشتهت الحمض فتحوّل إليه.
قال: والحمض: ما ملح وأمرّ من النبات، والخلّة من النّبات، ما كان حلوا، تقول العرب: الخلّة خبز الإبل، والحمض فاكهتها» (8).
__________
(1) هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي المدني، روى عن أبيه، وعن جماعة. قال عنه في «الشذرات»، هو ضعيف كثير الحديث. ت: 182هـ 798م، انظر الشذرات: 1/ 297.
(2) زيادة من أخبار الحمقى: 18.
(3) م. س: 18.
(4) جامع العلم: 1/ 105.
(5) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. ت: نحو 101هـ 719م. من سادات التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، روى عن جماعة من التابعين، وقال عنه مالك: كان القاسم من فقهاء هذه الأمة. انظر الحلية: 2/ 187183، والوفيات: 4/ 6059.
(6) أبو خالد الوالبي الكوفي. ت: 100هـ 718م. اسمه هرمز، ويقال: هرم، روى عن ابن عباس، وأبي هريرة، وميمونة وغيرهم، وروى عنه الأعشى، ومنصور، وغيرهما، ثقة، ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة. انظر التهذيب: 12/ 8483.
(7) في الأصول: الوالي.
(8) الصحاح: باب الضاد فصل الحاء.(2/543)
وقال عياض في معنى الأمر بالإحماض كما في هذه الآثار: «أي إذا مللتم من الحديث والفقه، وعلم القرآن 152ظ / / فخذوا في الأشعار، وأخبار العرب كما أن الإبل إذا ملّت ما حلا من النّبت رعت الحمض، وهو ما ملح منه» (1).
قلت: وبعد فراغ ابن الجوزي من سرد ما نقلناه عنه أولا قال:
«فقد بان ممّا ذكرناه أنّ نفوس العلماء قد تسرح في مباح اللهو الذي يكسبها نشاطا للجدّ، فكأنّها من الجدّ لم تزل، ثم أنشد لأبي فراس (2):
أروّح العيش ببعض القول (3) ... تجاهلا منّي، بغير جهل!
أمزح فيه، مزح أهل الفضل ... والمزح، أحيانا، جلاء العقل» (4)
قلت: وأنشد الشيخ أبو عمر (5) في هذا الغرض «لأبي العتاهية واستحسنه:
لا يصلح النّفس إن كانت مصرّفة ... إلا التنقل من حال إلى حال» (6)
سؤال:
سراح النفوس في مثل ما أشير إليه في هذه النّقول موجب للضّحك، وقد ورد فيه ما يقتضي المخالفة لما استحسنوا من ذلك وتسامحوا فيه كقوله صلى الله عليه وسلم:
«إن الرجل ليتكلم بالكلمة يضحك بها جلساءه يهوي بها أبعد الثريا».
جوابه:
قال ابن الجوزي: «هو محمول على أنه يضحكهم بالكذب، وقد روي
__________
(1) في شرحه: 38.
(2) هو الحارث بن سعيد بن حمدان التغلبي (أبو فراس). ت: 357هـ 968م. أديب، شاعر، فارس، من آثاره: ديوان شعر. انظر: المنتظم: 7/ 7168. والوفيات: 2/ 6458.
(3) في أخبار الحمقى 20: «أروح القلب ببعض هزل» وهي موافقة لما جاء في الديوان.
(4) م. س: 20، وانظر الديوان: 234.
(5) في جامع العلم: 1/ 105.
(6) انظر الديوان: 321من قصيدة مطلعها:(2/544)
عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث مفسرا: «ويل للذي يحدث الناس فيكذب ليضحك الناس».
قال: وإنما يكره للرجل أن يجعل عادته إضحاك الناس، لأن الضحك لا يذم قليله، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك حتى تبدو نواجذه، وإنما يكره كثيره لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كثرة الضحك تميت القلب».
قال: والارتياح إلى هذه الأشياء في بعض الأوقات كالملح في القدر» (1).
قلت: مثله قول عياض: «وهذا كله ما لم يكن دائما متصلا، وإنما يكون في النادر والأحيان كما قال: ساعة بعد ساعة، وأما أن يكون ذلك عادة الرجل 153و / / حتى يعرف بذلك، ويتخذه ديدنا، ويطرب به النّاس، ويضحكهم دأبه، فهذا مذموم غير محمود دال على سقوط المروءة، ورذالة الهمّة، وخلع برد نزاهة النّفس، واطّراح ربقة الوقار، والسّمت، مولجا صاحبه في باب المجون، والسخف، وقد عد هذا الفنّ الفقهاء فيما يقدح في عدالة الشّاهد» (2).
قلت: وهنا أمر آخر يجب الالتفات إليه، وهو أنّ المقصود بتلك الأشياء المنضمة إلى ترجمة الأدب إنما هو تهذيب النفس بها ليستعين بعد على ما طوقه من التكليف الشرعي، ومهما قصد بها غير ذلك، لزمها الذم لا محالة من تلك الجهة، وسلب عنه اسم الأديب في الحقيقة لا سيما مع الاتصاف بنقيض التقوى.
وقد قال منصور الفقيه (3) أنشده الشيخ أبو عمر (4):
__________
«مالي أفرّط فيما ينبغي مالي ... إنّي لأغبن إدباري وإقبالي»
(1) أخبار الحمقى: 2120.
(2) في شرحه: 3938.
(3) هو أبو المظفر منصور بن محمد الفقيه، المروزي السمعاني التميمي الحنفي، ثم الشافعي. ت:
489 - هـ 1096م. مفسر، من العلماء بالحديث، كان مفتي خراسان، له: «تفسير السمعاني» و «الانتصار لأصحاب الحديث» و «المنهاج لأهل السنة». انظر: النجوم الزاهرة: 5/ 160.
(4) في جامع العلم: 2/ 7.(2/545)
«ليس الأديب أخا الرّوا ... ية للنوادر والغريب
ولشعر شيخ المحدثي ... ن أبي نواس أو حبيب
بل ذو التّفضّل والمرو ... ءة والعفاف هو الأديب»
المنهج الثالث: في بيان ما يعتمد عليه من حمل قواعد العلوم على العربية وما لا يعتد به من ذلك:
قد تقدّم في باب: «منفعتها وضرورة الاحتياج إليها في الملة الإسلامية» (1)
أنّ الفهم في الشريعة على الإطلاق لا يعتد به، إلا إن شهدت له بالصحة، [والجريان على قواعدها المستقرأة عند حمله عليها، وحينئذ فإن كان ذلك الحمل مشهودا بصحته] (2)، ولا يثبت إلا عند ما يكون المحمول من قواعد العلوم، والمحمول عليه منها مجتمعا في أصل واحد، فهو الفهم المعتبر في استثماره من حمل تلك القاعدة عليها. وإن كان غير مشهود بصحته 153ظ / / لتخلف ذلك الاجتماع، فلا يكون فهما معتمدا عليه في ذلك الحمل، بل يكون معدودا في جملة ما هو من ملح العلم لا من صلبه.
ومتين ما يعتبر منه على ما قرر الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله في مقدمة الموافقات (3): «أن من العلم ما هو من صلب العلم، ومنه ما هو من ملح العلم لا من صلبه، ومنه ما ليس من صلبه، ولا ملحه».
أما النوع الأول: وهو المعتمد عليه من حمل قواعد بعض العلوم على هذه الصناعة
وهو بلا شك معدود من صلب العلم، فقد تقدم من أمثلته الأصلية والفرعية ما وضح
__________
(1) يقصد الباب الثاني من هذا الكتاب.
(2) ساقط من «ج» و «د».
(3) انظر: 1/ 77.(2/546)
به وجوب المصير إليه تحقيقا لضرورة الاحتياج إلى هذه الصناعة، وافتقار سائر الناظرين في الشريعة إلى المعرفة بها.
لكنا نزيد ذلك إيضاحا بذكر أمثلة تجري على نهج هذا الاعتماد مع تضمنها لمدرك النظر فيها بين العلماء رضي الله عنهم وصحة القول في بعضها، ألا ينازع فيه إلا من جهل مقاصد هذا العلم.
المثال الأول: مسألة الرّجلين في الطهارة،
فرضها عند الجمهور: الغسل، وعند الإمامية من الروافض المسح، وعند داود (1) والطبري: التخيير بين الغسل والمسح، وعند بعض الظاهرية يجب الجمع بينهما.
ومدرك الخلاف أن قراءة النصب في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (2) ظاهرها: العطف على المنصوب المتقدم، وهو الوجه، واليدان، وحينئذ فيكون حكمها: حكم ما عطفا عليه، وهو الغسل.
وقراءة الخفض ظاهرها: العطف على لفظ «برؤوسكم»، وإذ ذاك فالمسح فيهما كما في الرؤوس.
وإذا صحت القراءتان فلا سبيل إلى الجمع بينهما بمعنى رد إحداهما إلى الأخرى إلا بترجيح مستمد من أصول هذه الصناعة منضما إلى الاستدلال بفعله صلى الله عليه وسلم على رأي الجمهور 154و / / في وجوب غسلها، وهو المعني بحمل هذه القاعدة الفقهية على ما تقتضيه قواعد هذه الصناعة، وقد قرروا رد قراءة الخفض الأخرى بوجوه:
أحدها: احتمال خفضها على الجواز، وإن كانت معطوفة على اليدين لما
__________
(1) داود بن علي الأصبهاني المعروف بالظاهري (أبو سليمان). ت: 270هـ 883م. أول من استعمل قول الظاهر، وأخذ بالكتاب والسنة، ونفى القياس في الأحكام الشرعية، وكان أكثر الناس تعصبا للشافعي. له تصانيف عدة منها: «كتاب الإيضاح» وكتاب «أدب القاضي» و «كتاب الكافي في مقالة المطلبي». انظر الفهرست: 319317، وتاريخ بغداد: 8/ 375369.
(2) سورة المائدة، الآية: 6.(2/547)
ورد في كلامهم من العدول عن حكم الإعراب في بعض الألفاظ اتباعا لما يجاورها.
ففي النعت كقولهم: «هذا جحر ضبّ خرب». وحقه الرفع لأنه نعت للجحر.
وفي العطف كقول امرىء القيس:
«صفيف شواء أو قدير معجل» (1)
زعمه بعضهم وقال: كان حقه أن يقول: أو قديرا معجّلا، ولكنه خفض للإتباع والجوار.
وفي التوكيد كقوله:
يا صاح بلّغ ذوي الزّوجات كلّهم ... أن ليس وصل إذا انحلّت عرا الذّنب (2)
فالتوكيد «بكلهم» لذوي، لا «للزوجات»، لكنه خفض اتباعا للفظهن.
وأورد عليه أن شرط العدول عن مقتضى الإعراب أمن اللّبس، وتعذّر إعمال مقتضى الإعراب كما في قولهم: «جحر ضبّ خرب».
فإن الخراب لا يوصف به «الضب» وإنما يوصف به الجحر، وذلك في الآية الكريمة غير حاصل إذ لا يمتنع المسح في الرّجلين كامتناع الخراب في الضب.
وأجيب بمنع توقيفه على ذلك لوروده في قول النابغة:
لم يبق إلا أسير غير منفلت ... أو موثق في حبال الأسر مسلوب (3)
__________
(1) وصدره:
«فظل طهاة اللحم من بين منضج»
وهو من معلقته. انظر الديوان: 22.
(2) البيت من شواهد المغني. ص: 761، قاعدة: أن الشيء يعطي حكم الشيء إذا جاوره. وذكر ابن هشام أن الذي عليه المحققون أن خفض الجوار يكون في النعت قليلا، وفي التوكيد نادرا.
(3) رواية البيت في الديوان. ص: 52كالتالي:
«لم يبق غير طريد غير منفلت ... أو موثق في حبال القدّ مسلوب»
وشرحه «الأعلم» بقوله: لم يبق من بني أسد إلا رجل قد طردته الحرب، وهو مع ذلك(2/548)
فخفض «أو موثق» على الجوار، ولا لبس هناك.
الثاني: أن الغسل عند العرب يسمى مسحا فتقول: تمسّحنا للصلاة، بمعنى توضّأنا حكاه الفارسي.
وبيّن صلى الله عليه وسلم أن المراد بقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} إمرار اليد عليها مع نقل الماء.
الثالث: تسليم عطفهما 154ظ / / على الرؤوس لكن غسلهما إنما وجب بالسنة. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: نزل القرآن بالمسح، وجاءت السنة بالغسل.
قلت: وهذا الوجه بالتحقيق أسعد.
وكلام ابن العربي بالغ في تقرير اعتماده، قال في «أحكامه» (1):
«وجملة القول في ذلك أن الله سبحانه عطف الرّجلين على الرأس فقد ينصب على خلاف إعراب الرأس، أو يخفض مثله، والقرآن نزل بلغة العرب، وأصحابه رؤوسهم، وعلماؤهم، لغة وشرعا قد اختلفوا في ذلك».
فدل على أنّ المسألة محتملة لغة، محتملة شرعا، لكن تعضد حالة النّصب على حالة الخفض بأن النبي صلى الله عليه وسلم غسل وما مسح قط، وبأنه رأى قوما تلوح أعقابهم فقال: «ويل للأعقاب من النّار، وويل للعراقيب من النّار». فوعد بالنار على ترك إيعاب غسل الرجلين فدل ذلك على الوجوب بلا خلاف» انتهى المقصود منه.
[شاهده] (2): بأن النظر في المسألة من مبادئه الالتفات إلى ما تقتضيه قواعد هذا العلم وهو المراد من جلب المثال في الموضع.
__________
غير منفلت، يدركه النعمان إذا شاء، ولم يبق منهم غير موثق في حبال القد، وهو ما قد من الجلد، وهو الإسار الذي كانوا يشدون به الأسير.
(1) انظر: 2/ 577.
(2) في «أ»: شهادة.(2/549)
حكاية
يشهد حاصل إيرادها باحتياج نظّار العلماء إلى المعرفة بالعربية في هذه المسألة على الخصوص، وهي ما ذكره الباجي في كتاب «فرق الفقهاء» (1) له:
«أنه ورد مدينة «حلب» صادرا من العراق سنة سبع وثلاثين وأربعمائة دخل جامعها، فرأى فيه [حلقا] (2) لتلقين القرآن.
قال: فجلست منها في حلقة أجلسني شيخها إلى جانبه، فلما اطمأن بي المجلس ساعة قلت لبعض من وليني من أهل الحلقة: هل في هذا الجامع حلقة للفقه؟ فقال لي: نعم، فقلت: ومن شيخها؟ فقال لي: أبو عليّ ابن المعلم، ثم قام عنّي، وظننته ذهب لبعض حاجته، فعاد إليّ، فقال لي: إن الشيخ أبا عليّ أعلمته بك، وهو يريد أن يقوم إليك، فعلمت أنه 155و / / استدعى مسيري إليه، فقلت: بل أنا أسير إليه، وظننته من أهل العلم، فإذا هو شابّ متشيع على مذهب الإمامية، وأبوه رجل سنّي معلم صبيان، ويعلّمهم الكتاب على عادة تلك الجهة، وقد استولى على البلد مع قلة علمه، وسوء فهمه، وقد قرأ مع ذلك شيئا من النحو، ويذكر بعض ما في كتاب أبي الحسن علي بن عيسى الرّبعي (3) في شرحه لكتاب الجرمي، والذي صار عنده من أصول المتكلمين في يسير جدا كان قرأ على أبي الصلاح، [يعني] (4) رجل منهم أيضا كان حظه من هذا الشأن أقل من القليل، فقمت إليه فلما قربت، قام، ورحب، وأجلسني مكانه، ثم سألني عما أنتحله، فأعلمته بأني أنتحل الفقه، فقال لبعض أصحابه: سلوه، فسألني رجل منهم عن الرّجلين في الطهارة هل فرضها المسح أو الغسل، فإنّ
__________
(1) جاء في نفح الطيب: 2/ 69: من تصانيف الباجي: كتاب التبيين لسبيل المهتدين في اختصار فرق الفقهاء.
(2) في «ج»: خلفا.
(3) المتوفى سنة 420هـ 1029م. صاحب أبي علي الفارسي، درس الأدب على أبي سعيد السيرافي، من تصانيفه: «شرح الإيضاح لأبي علي»، و «شرح سيبويه». انظر: تاريخ بغداد:
12/ 1817، والإنباه: 2/ 297.
(4) في «ج» و «د»: نقى.(2/550)
فرضهما عند الإمامية المسح دون الغسل؟ فقلت: إن فرضهما عندي الغسل، فطالبني بالدّليل، فسألته عن مذهبه ليكون الدليل بحسبه، فأعلمني بأنه إمامي، فاستدللت بالآية، فاعترض السائل بشيء ضعيف جاوبته عليه، ثم أخذ الكلام أبو علي ابن المعلم، فظن أنّ هذه المسألة لا تعلق لها إلّا بالنّحو، وأنه متفرد به، فاعترض على ما استدللت به بأسئلة مخصوصة بالنحو طوّلها، وذيّلها، وأبداها، وأعادها، فلما أكمل نوبته، قال لي: أعد كلامي ثم جاوبني عنه، وكان فيه عجب وزهو، وما استتم نوبته حتى كاد يجر أذياله خيلاء، وإعجابا بها، فأعدت عليه قوله بأوعب مما أورده، ثم قلت له: هل بقي من قولك شيء لم أعده عليك؟ قال لي: لا، وما استتمت إعادة قوله إلا وقد ظهر التغير في وجهه، فقلت له: اسمع الآن جوابي، وأنا أطالبك بإعادته، والجواب عنه، فأخذت في نقض ما اعترض به، وبالغت في ذلك من جهة العربية 155ظ / / وقد كنت أخذت مع الشيخ أبي القاسم عبد الواحد ابن برهان (1)، وكان واحد «بغداد» في العربية، فاوضته في هذه المسألة وأخذت عنه ما يتعلق بها من وجوه العربية، وأفردتها بتآليف في جزأين، فأوردت من ذلك ما يتعلق باعتراضه، وقرنت ذلك بفصول من أحكام الجدل، اقتضاها اعتراضه، فحيّرته، ولم يكن في هذا الباب يد، فما استوفيت النوبة إلا وقد فاته أكثرها، فلمّا أخذ في الإعادة لم يساعده لسانه، ولا جنانه فسامحته في ذلك، وأخذ يجيب بزعمه عما ذكر من النّوبة، وفاته سائرها إلى أن بلغ الجهد، ثم أخذت الكلام فوسعت أطنابه، وأوردت من الفصول على سبيل الاستشهاد ما وجب، فلما استوعب النوبة قال لي: مذهب من تنصر في الأصول؟ قلت: مذهب القاضي «أبي بكر محمد بن الطيب» فقال لأصحابه: سلوه عن مسألة فسألوني عن [الفناء] (2) أمعنى هو أو
__________
(1) عبد الواحد بن علي بن برهان الأسدي العكبري، أبو القاسم. ت: 456هـ 1064م. عالم بالأدب والنسب والعربية، كان أول أمره منجما ثم صار نحويا، وكان حنبليا فتحول حنفيا، من كتبه: «الاختيار في الفقه» و «أصول اللغة» و «اللمع في النحو». انظر: تاريخ بغداد: 11/ 17، والإنباه: 2/ 215213.
(2) في «ج» و «د»: الفتى.(2/551)
غير معنى؟ فجاوبت السائل بمذهب القاضي «أبي بكر»، وسألوني الدليل، فاستدللت، وجرى من المراجعة فيها نحو ما تقدم، فلمّا وقع الانفصال عن المناظرة بانفصال كلامي، سألني عن البلد والمنشأ فأخبرته، وسألني عن طريقي إلى العراق فأخبرته، فلما ذكرت له أن طريقي كان من الحجاز إلى الكوفة قال لي: أراك أبا الوليد المالكي؟ قلت: أنا ذاك، فمن أعلمك بهذا؟ قال: تلميذك من أهل الكوفة أبو الفرج بن السلالي كان كثيرا ما يذكرك، وهو مقيم الآن هنا، قلت له: أرغب من يحملني إلى داره، وكنت أنزل بالكوفة بدار أبي الفرج هذا، وكانت أمه وخالته تخدمانني وهو يتولّى خدمتي فيما نشتري من السوق، وكان أبوه نعم الشيخ، فلما وصلت إلى الدار، وجدت بها أباه، ولم يكن أبو الفرج حاضرا، فأدخلني الدار، وجلست إلى أن طلب أبو الفرج 156و / / فحضر وسلّم وتحادثنا ساعة ثم قال: كيف دخلت؟ قلت: دخلت بغير إذن، وأعلمته صفة دخولي، يعني أن البلد على ما ذكر [صدر] (1) الحكاية، كان لا يدخله أحد إلا بإذن السّلطان إلا أنّه تيسّر له الدخول.
قال: فقال: أخاف أن يعرف بك، ولكنا نخرج ونستأذن لك، فقلت له:
أريد المقام، ولعلني سأنهض بعد يومين، فقال: وفي مدة مقامك تكون في البلدة، وفي موضع حسن، وربما استدمت المقام أياما، فخرج واستأذن لي، فأذن، ودخلت المدينة ونزلت بقرب جامعها، وذلك يوم الخميس، وكان في الجامع مجلس يجلس فيه أبو الحسن، وذكر معرفة غريبة.
قال: وكان ناسك البلد، وكان مع ذلك يتعلّق بشيء من العلم، ويذهب مذهب الاعتزال غير أنّه عظيم القدر عند أهل البلد، وقد غلب على أهل البلد ومعظمهم التشيّع، فكان أعيان البلد من أصحاب السلطان، وغيرهم، يحضرون مجلسهم يوم الجمعة قبل الصّلاة وبعدها، يحضره كلّ من كان بالبلد من أهل العلم أيّ علم كان، وعلى أي مذهب كان، ويتكلمون في المسائل فلما كان يوم الجمعة حملني أبو الفرج إلى ذلك المجلس، وأنا لا أعلم حكمه، فإذا جميع
__________
(1) في «ج» و «د»: صور.(2/552)
من في الجهة ممن يتعاطى علما أو تخصصا يحضره، فلما قضيت صلاة الجمعة سلّم علي من قرب مني منهم، واتفق أني جلست إلى جانب القاضي أبي النّجاء مسلم الصّيداوي، وكان من أهل السنّة، وحضر المجلس إنسان من متفقّهة الشافعية، وهو أبو نصر الأنصاري، وكان مبتدئا، فسألني عن كفارة اليمين قبل الحنث. فقلت: عن مالك في هذه المسألة روايتان:
إحداهما: الجواز، وهو مذهب الشافعي.
الثانية: المنع، وهو مذهب أبي حنيفة، فإن كان المتكلم لي شافعيا نصرت رواية المنع ليتحد الكلام بيننا؟ فقال لي: إنّ المتكلم شافعي المذهب، فدلّ على المنع 156ظ / /. فقلت: إنّ هذا أخرج الكفّارة قبل وجود سبب وجوبها، فوجب أن لا تجزيه كما لو أخرجها قبل اليمين، فاعترض بنقض ادّعاه على مذهب مالك، فقال: هذا ينتقض على مذهبك بإخراج الزكاة قبل الحول فإنه قد أخرجها قبل سبب وجوبها، ومع ذلك فإنّها تجزي عنك، فقلت له: لا يلزمني هذا فإني لا ألتزمه، فإن مالكا رحمه الله لا يجيز إخراج الزكاة قبل الحول، وهي مسألة مشهورة خلاف بيننا وبينكم فنشب، ولعله لم يتجه له غيره، وأبى أن ينصرف عنه، وأبى إلا اللّجاج في إلزامه حتى جرى في قوله:
إنّكم ربّما كتمتم أقوالكم لعلمكم أنّها غير محفوظة، فخرج بذلك عن أدب العلم، فأمرت في الوقت بإحضار كتبي من تأليف القاضي أبي الحسن بن القصار، والقاضي أبي محمد بن نصر، وفيها كلها لا يجوز إخراج الزكاة قبل الحول خلافا للشافعي، فأقبل عليه جميع أهل المجلس باللوم والتوبيخ على ما أتى من ذلك، وقالوا لي: ليس مثلك يحتاج إلى هذا، فقولك مقبول على [غير مذهبك] (1) فكيف بمذهبك الذي يلزم تسليمه لك، وتكلمت في المجلس على مسألتين، ورغّب إليّ أهل العلم والحال في المقام بها، وقالوا لي: أنت مستقبل [الشتاء] (2)، وليس وقت سفر، وأنت تقيم «بصور» أو غيرها إلى وقت السفر،
__________
(1) بياض في «ج».
(2) في «ج» و «د»: الشافعي.(2/553)
فاجعل مقامك عندنا. وظهر من قلق المتشيّعين فيها ما شاع، وبلغ السيدة بنت ابن رباب، وكانت من أهل السّنن، وقصدت مجلسي، وبلغ الأمر الأمير «معزّ الدولة ثمال أبا علوان بن صالح الكلابي» (1) وهو صاحب «حلب» في ذلك الوقت، وكان قد أفسد مذهبه معلّم قرأ عليه، فكانت زوجه السيدة «بنت ابن رباب النميري» تروم صرفه عن ذلك، فلا تقدر عليه، فوجدت السبيل بي إليه، ورغب في أن يلقاني، فلقيته مرارا، وانصرف عن ذلك الرأي الفاسد على ما أظهر 157و / / وكلمت بين يديه المخالفين، وبلغ به الميل إلى ضرب بعض الشيعة المتعصّبين علي، وأخرجهم من البلد، وظهرت كلمة السنة، وقعدت لإقراء كتاب البخاري، وحضرت السيدة المذكورة قراءة جميعه، وحضر الجمّ الغفير من الناس بعد منافرتهم له، وأنسوا بما فيه من فضائل الصحابة، وبقيت عندهم بقية عام سبعة وثلاثين وعام ثمانية وثلاثين، وقد قرأ عليّ جماعة من أهل تلك الجهة، وفشت فيهم السنة، وكانت الفتوى فيها على مذهب مالك رحمه الله مدة مقامي بها، وبلغ ذلك القاضي أبا جعفر السّمناني (2) شيخنا رضي الله عنه فكاتبني يقول لي:
استفتحت بلدا ما استفتح القاضي أبو بكر مثله، وكان بالقرب مني أبو العلاء المعري (3) الساكن بمعرة النّعمان فقبض بساطه في تلك المدة إلى أن استدعاني إلى المغرب من كان بها من الوالدة والإخوة والأهل، فخرجت منها في صدر تسع وثلاثين وأربعمائة».
قلت: كتبت الحكاية بكمال معظمها، وإن كان ما يخص الموضع منها
__________
(1) معز الدولة المرداسي من ملوك الدولة المرداسية. ت: 454هـ 1062م. انظر: الكامل: 9/ 231 و 10/ 24.
(2) هو محمد بن أحمد السمناني. ت: 444هـ 1052م. قاض حنفي، أصله من سمنان العراق، كان مقدم الأشعرية في وقته، وشنع عليه ابن حزم، له تصانيف في الفقه. انظر: نكت الهميان:
237.
(3) أحمد بن عبد الله التنوخي المعري أبو العلاء. ت: 449هـ 1057م. الشاعر والأديب، واللغوي، والنحوي، من مؤلفاته: «سقط الزند»، و «لزوم ما لا يلزم». انظر: تاريخ بغداد: 4/ 241240، والنزهة: 354353، والإنباه: 1/ 8346.(2/554)
كافيا، استحسانا لاستيفاء فائدتها، واستحلاء لأخبار العلماء رضي الله عنهم وإلى ذلك فالشيء يذكر بالشيء.
ينظر إلى رجوع هذا الأمير إلى السنة على يد أهلها، لكن بسبب كرامة ظهرت على من قصد هلاكه منهم، لوقوعه مع الحقّ، ما حكاه الشيخ الفقيه الكاتب أبو القاسم ابن رضوان (1) في سياسته» (2) قال:
«كان ملك العراق السلطان «محمد خدابنده» قد صحبه في حال كفره فقيه من الرافضة الإمامية يسمى «ابن مطهر»، فلما أسلم السلطان أسلم بإسلامه التتر، زاد في تعظيم هذا الفقيه، فزين له الفقيه مذهب الرافضة، وفضله على غيره مع حدثان عهد السلطان بالكفر، وعدم معرفته بقواعد الدين فأمر السلطان 157ظ / / بحمل الناس على الرفض، وكتب بذلك إلى العراقين، وفارس، وأذربيجان، وأصفهان، وكرمان، وخراسان، وبعث الرسل إلى البلاد، فكان أول البلاد التي وصل إليها ذلك: بغداد، وشيراز، وأصبهان، فأما بغداد فامتنع من ذلك «أهل باب الكرخ» (3) منهم، وهم أهل السنة، وأكثرهم على مذهب الإمام ابن حنبل رضي الله عنه وقالوا: لا سمع ولا طاعة، وأتوا المسجد الجامع يوم الجمعة في السّلاح، وبه رسول السلطان، فلما صعد الخطيب المنبر، قاموا إليه وهم نحو اثني عشر ألفا في سلاحهم، وهم حماة بغداد، والمشار إليهم فيها، فحلفوا له أنه إن غيّر الخطبة المعتادة أو زاد فيها أو نقص منها، فإنهم قاتلوه، وقاتلو رسول الملك، ومستسلمون بعد ذلك لما شاء الله تعالى، وكان السلطان أمر أن تسقط أسماء الخلفاء، وسائر الصحابة رضي الله عنهم من الخطبة ولا يذكر إلا اسم «علي» ومن تبعه كعمّار بن ياسر، فخاف الخطيب من القتل، وخطب
__________
(1) هو عبد الله بن يوسف البخاري المالقي ثم الفاسي أبو القاسم. ت: 784هـ 1382م. فقيه، خطيب، لغوي، رواية، ناظم، ناثر. انظر: النيل: 147145.
(2) انظر: ص: 8381.
(3) الكرخ: من أحياء بغداد، اشتهر بالأحداث التي وقعت بين الشيعة والسنة على أيام البويهيين، معجم البلدان: 4/ 448.(2/555)
الخطبة المعتادة، وفعل أهل شيراز وأصفهان كفعل أهل بغداد، فرجعت الرسل إلى الملك، فأخبروه بما جرى في ذلك، فأمر أن يؤتى بقضاة أهل المدن الثلاث.
فكان أول من أتي به منهم القاضي مجد الدين قاضي شيراز، والسلطان إذ ذاك بموضع يعرف بقراباغ وهو موضع مصيفه، فلما وصل القاضي أمر أن يرمى به إلى الكلاب، وهنّ كلاب في أعناقها السلاسل، معدة لأكل بني آدم، فلما أرسلت الكلاب على القاضي مجد الدين، ووصلت إليه، بصبصت إليه، وحركت أذنابها له، ولم تهجه بسوء، فبلغ السلطان ذلك، فخرج من داره حافي القدمين، فأكب على رجلي القاضي وقبلهما، وأخذ بيده، وخلع عليه جميع ما كان عليه من الثياب، وهي أعظم كرامات السلطان عندهم، وإذا خلع ثيابه 158و / / كذلك على أحد، كان شرفا له، ولبنيه، وأعقابه، يتوارثونه ما دامت تلك الثياب، أو شيء منها، ورجع السلطان عن مذهب الرفض وكتب إلى بلاده أن يقرّ الناس على مذهب السنة والجماعة، وأجزل العطاء للقاضي، وصرفه إلى بلده مكرما معظما، وأعطاه في جملة ما أعطاه مائة قرية من قرى جمكان، وهو خندق بين جبلين طوله أربعة وعشرون فرسخا، يشقه نهر عظيم، وذلك بشيراز».
المثال الثاني: مسألة الرأس في الطهارة:
فإن «الشافعية» ترى جواز مسح بعضه بناء على أن «الباء» في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ} تفيد التبعيض، قالوا: لأنها إذا دخلت على مفعول يتعدى إليه الفعل بنفسه، تعين فيها معنى التبعيض، فإنك تقول: «مسحت رأسي» و «مسحت برأسي»، فإذا لم تدخل اقتضى مسح جميعه، وإذا دخلت اقتضى مسح البعض.
قال الإمام فخر الدين (1): «ومنهم نحن نعلم بالضرورة الفرق بين أن
__________
(1) في تفسيره: 11/ 160.(2/556)
نقول: «مسحت يدي بالمنديل والحائط» وبين أن نقول: «مسحت المنديل والحائط»» في أن الأول: يفيد التبعيض، والثاني: يفيد الشمول، وعورضوا بأمور:
أحدها: إمكان كونها زائدة لأن معنى الزيادة محتمل، إذ يقال: مسحت رأسي، ومسحت برأسي على معنى واحد.
الثاني: أن ابن جني أنكر كون الباء للتبعيض وقال: «إنه شيء لا يعرفه أهل اللغة». قال في «سر الصناعة» (1): «فأما ما يحكيه أصحاب الشافعي من أن الباء للتبعيض، فشيء لا يعرفه أصحابنا، ولا ورد به ثبت».
الثالث: إمكان كونها للإلصاق، وكأنه إلصاق المسح بالرأس، وهو المعنى الذي وضعت له في الأصل.
قال سيبويه: «وباء الجر إنما هي للإلصاق والاختلاط».
الرابع: ما يلزم على إفادتها للتبعيض في آية الوضوء أن يفيده كذلك في آية التيمم. وقد أورد ذلك على الشافعي ولم يجب عنه.
فحكى عياض (2) عن «ابن عبد الحكم» قال:
«قلت للشافعي: لأي شيء أخذتم أنه إذا مسح الإنسان بعض رأسه، وترك بعضه أنه يجزيه؟ قال: من سبب الباء الزائدة، قال الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ} ولم يقل «رؤسكم». قال: قلت له: فأي شيء ترى في التيمم إذا مسح الإنسان بعض وجهه، وترك بعضا، قال: لا يجزيه.
قلت: ولم؟ وقد قال الله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (3)
قال: فسكت».
__________
(1) انظر: 1/ 139.
(2) انظر: المدارك: 4/ 162161.
(3) سورة المائدة، الآية: 6.(2/557)
وأجابوا عن الأول: أن الزيادة على خلاف الأصل، فلا يصار إليها ما وجد عنها مندوحة وقد وجدت بأن تكون للتبعيض.
وعورضوا براجحية الزيادة للتوكيد من جهة الاتفاق على ثبوتها في الكلام، ولا كذلك التبعيض فإنه منكر عند الجمهور من علماء اللسان.
قال القرافي: «وحمل كتاب الله تعالى على المجمع عليه أولى من المختلف فيه فضلا عن المنكور».
وعن الثاني: بأن قول ابن جني شهادة على النفي، وقول من أثبت التبعيض بها شهادة على الإثبات، وهي مقدمة على شهادة النفي.
ودوفعوا بأن الشهادة على النفي ثلاثة أقسام: معلومة نحو: أن العرب لم تنصب الفاعل، وترفع المفعول، بل عكست.
وظنية على استقراء صحيح كقولنا: ليس في كلام العرب اسم آخره واو قبلها ضمة.
وشائعة: غير محصورة كقولنا: «لم يطلق زيد امرأته في هذه السنة». من غير دليل يدل على ذلك فهذا هو المردود، والأولان مقبولان.
قال القرافي: «وكلام ابن جني من الثاني، فيقبل لأنه شديد الاطلاع على لسان العرب، فله الحكم بالنفي ظاهر، كما يقول المحدث: هذا لم يرد في السّنة النبوية، بناء على تمكن اطلاعه 159و / / وجودة استقرائه.
قال: والسر أن الشهادة على النفي مقبولة في النفي لمحض المعلوم والمظنون دون غيرهما».
وعن الثالث: أن كونها للإلصاق لا ينافي إفادتها للتبعيض، لأن معنى الإلصاق هو الأصل فيها كما تقدم، ودخول ما سواه من المعاني عارض بعد ذلك.
قلت: وإذا أمكن البقاء مع الأصل والعدول عنه لغير متحقق الثبوت في الموضع لا ينبغي ارتكابه.(2/558)
وعن الرابع: «فإن الأصل في «آية التيمم» أن يكون فيها التبعيض حاصلا لولا معارضته بما دل على وجوب مسح جميع الوجه من السنة والإجماع، ولم يثبت ذلك في محلّ النزاع»، قاله الإمام فخر الدين.
وعورض بأن السنة على هذا التقدير تكون معارضة للكتاب، وعلى غيره لا تكون معارضة بل مبيّنة مؤكّدة وعدم التعارض أولى.
تعريف:
تباين الناس في هذا الموضع تباينا عظيما:
ففريق منهم يثبت للباء معنى التبعيض، ويجعل منه هذا المحل وغيره على الجملة، وساعدهم على ذلك من علماء اللسان الأصمعي والفارسي في بعض كتبه، وابن قتيبة، وابن مالك من المتأخرين.
قال ابن هشام: «قيل: والكوفيون» (1). وجمهورهم على إنكار إفادتها له، و «ابن العربي» من أشدهم في ذلك تشنيعا وملاما.
قال في أحكامه (2) ما نصه: «ظن بعض الشافعية، وحشوية النحوية، أن الباء للتبعيض، ولم يبق ذو لسان رطب إلا وقد أفاض في ذلك حتى صار الكلام فيه إخلالا بالمتكلم، ولا يجوز لمن شدا طرفا من العربية أن يعتقد في الباء ذلك» اهـ.
ولا يحصى من النحاة من يقرب كلامه من هذا الإنكار.
ثم قال: بعد كلام يسير: «وقد طال بي القول في هذا الباب، وترامت فيه الخواطر في المحاضر حتى أفادني بعض أشياخي 159ظ / / في المذاكرة والمطالعة، فائدة بديعة وذلك أن قوله تعالى: {وَامْسَحُوا} يقتضي ممسوحا، وممسوحا به، والممسوح الأول هو ما كان، والممسوح الثاني هو الآلة التي بين
__________
(1) انظر: المغني: 111.
(2) انظر: 2/ 572571.(2/559)
الماسح والممسوح كاليد، أو المحصل للمقصود من المسح، وهو المنديل، وهذا ظاهر لا خفاء به.
قال: فإذا ثبت هذا فلو قال: «وامسحوا رؤوسكم» لأجزأ المسح باليد إمرارا من غير شيء على الرأس لا ماء ولا سواه، فجاءت بالباء لتفيد ممسوحا به وهو الماء فكأنه قال: «وامسحوا برؤوسكم الماء» من باب المقلوب، والعرب تستعمله، أنشد سيبويه (1):
كنواح ريش حمامة نجديّة ... ومسحت باللّثتين عصف الإثمد
واللّثة: هي الممسوحة «بعصف الإثمد» فقلب، ولكن الأمر [بين] (2)
والفصاحة قائمة.
وإلى هذا النحو أشار أبو حنيفة في شرطه الرفع بالثلاث الأصابع أو الأربع، فإنه قال: «لا بد أن يكون هنالك ممسوحا به لأجل «الباء» فكأنه قال:
«وامسحوا بأكفّكم رؤوسكم»، والكف: خمس أصابع، ومعظمها ثلاث وأربع، والمعظم قائم مقام الكل على مذهبه في أصول الشريعة، ففطن أن إدخال «الباء» لمعنى، وغفل عن أن لفظ المسح يقتضي اليد لغة وحقيقة، فجعل فائدة الباء:
التعلق باليد، وهذه عثرة لفهمه لا [يقالها] (3)، ووفق الله هذا الإمام الذي أفادني هذه الفائدة فيها، والله ينفعني وإياكم بها برحمته» انتهى على بعض تلخيص.
ولا يخفى ما في أول هذا الكلام وآخره من التحامل الزائد على ما كان يحتاج إليه في تقرير مختاره، والموضع محتمل لأكثر من هذا، والغرض كما
__________
(1) في الكتاب: 1/ 27وقد نسب البيت إلى خفاف بن ندبة السلمي. قوله: كنواح، أراد: كنواحي ريش، فحذف الياء، يصف شفتي المرأة، فشبههما بنواحي ذلك الريش في الرقة واللطف والحوّة. (سواد إلى الخضرة، أو حمرة إلى سواد). وعصف الإثمد: ما سحق منه. ومراده مسحت اللثتين بعصف الإثمد وانظر: المغني: 112حيث قال: «يقول إن لثاثك تضرب إل سمرة فكأنك مسحتها بمسحوق الإثمد»، فقلب معمولي مسح.
(2) ساقط من الأصول.
(3) في «أ»: لالغاء لها، وفي «ج» و «د»: غير واضحة.(2/560)
تقدم بيان صحة الحمل لبعض مسائل العلوم على قواعد العربية وبهذا المقدار في هذه المسألة يظهر ذلك.
فائدة:
يطلق العلماء كثيرا لفظ «الحشوية» 160و / / على من يسترذلون دلائل اعتقاده، وأكثر ما يطلقون ذلك على ضعفاء المبتدعة ورذالهم.
قال القرافي: في «شرح المحصول»: «من المشايخ من يرى أنه لفظ يقال بسكون الشين لأن منهم المجسمة، والجسم محشو، فهم ينسبون للحشو بسكون الشين، وفيهم من يقول: الحشوية بفتح الشين، ويقول: سبب هذا الاسم أن الحسن البصري كانوا في حلقته فوجد كلامهم ساقطا، وكانوا بين يديه فقال: رد هؤلاء «لحشا الحلقة»: لجانبها، والجانب يسمى: حشا، ومنه الأحشاء: لجوانب البطن، والنسبة إلى «الحشا»: حشوية، كرحى، ورحوي، قال: وهذا هو أظهر القولين».
المثال الثالث: قضية منع المحدث من مس المصحف الكريم.
يستدل العلماء القائلون بذلك بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتََابٍ مَكْنُونٍ (78) لََا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (1).
والاستدلال موقوف على ما يحتمله النظر في الآية الكريمة على مقتضى القواعد العربية.
قال ابن الفخار في «مسائله النحوية»، ومن خط الأستاذ أبي إسحاق الشاطبي رحمهما الله نقلته: «الضمير في «يمسّه» يحتمل أن يكون ضمير الكتاب لأنه أقرب مذكور، وأن يكون ضمير القرآن لأنه هو العمدة في كون الكتاب مكنونا مصونا، فإن كان ضمير الكتاب كانت «لا» حرف نفي، والجملة
__________
(1) سورة الواقعة، الآيات: 7977.(2/561)
المصدرة بها مجرورة المحل على الصفة للكتاب، وهو إذ ذاك خبر عن الملائكة.
وعلى هذا أخذه مالك رضي الله عنه في «الموطأ» لأنه فسرها بهذه الآية: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرََامٍ بَرَرَةٍ} (1).
قلت: وذكر مع ذلك أنه أحسن ما سمع في تفسير الآية.
قال: وكون هذه الصفة لمجرد المدح أوله، أو لرفع الاشتراك مبني على تعيين الموصوف المحذوف فإن قدرته: «لا يمسّه إلا الملائكة المطهّرون» جاء منه الأول، وإن قدّرته بالأشخاص، أو الذوات 160ظ / / جاء منه الثاني.
قال: ولا ينقدح لي الآن على هذا المأخذ أن يكون «لا يمسه» نهيا، فيكون غير الملائكة من الآدميين، وغيرهم، منهيا عن مس الكتاب المكنون الذي فوق السماء السابعة، وهو اللوح المحفوظ، لأن التكليف لا يكون إلا بمكتسب مقدور.
وترك الآدميين والشياطين مس الكتاب المكنون فوق السماء السابعة ليس من اكتسابهم فيترتب على الانتهاء أو الإقدام ثواب أو عقاب، وإن كان ضمير «القرآن» جاز أن يكون خبرا على معنى الإلزام أي: «لا يمسّه شرعا إلّا المطهّرون» فإن مسه غير طاهر، لم يكن ذلك مسا شرعيا، وإنما هو ارتكاب لما تضمنه الخبر الشرعي أنه لا يكون، فلن يكون أبدا، ويجوز أن يكون نهيا، ويكون الفعل إذ ذاك على لغة الفصحاء من بني تميم لأنهم [يتركون] (2) الإتباع لما قبل، ويعدلون إلى ما يستحقه ضمير المذكر الغائب، ولو كان على اللغة الحجازية لكان «لا يمسه» على الأصل، فيكون أثرا لأمن الجزم ظاهرا.
ولما جاز ذلك على اللغة التميمية، وجب إدغام السين في السين بعد نقل حركتها إلى الساكن قبلها، فلما التقى ساكنان وجب أن يحرك منهما الثاني ليتأتى إدغام الأول فيه، فحرك بالضم اعتبارا بواو الضمير.
__________
(1) سورة عبس، الآيات: 1613.
(2) في «ج» و «د»: يرتكبون.(2/562)
«فالحركة» على هذا حركة التقاء الساكنين، وكونها «صفة» إنما هو لأجل واو الضمير، وأما على أن «لا» نافية، فالضمة إعراب أثر رافع المضارع، و «الضمة» على الوجهين لرفع الاشتراك.
وأما الجملة على هذا المأخذ الثاني، فهي مستقلة لا موضع لها في الإعراب لتعذر الوصف». انتهى على اختصار لبعض كلامه.
تنبيه على وهم:
زعم القاضي منذر بن سعيد في «تفسيره»: «أنه لم يرد بقوله: {لََا يَمَسُّهُ} النهي عن أن يمس القرآن من ليس بطاهر، ولو أراد ذلك لكان الخطاب 161و / / لحنا، لأنه لو أراد الأمر لقال: «لا يمسّه» بفتح السين، وتشديدها، و «لا يمسّنّه» و «لا يمسسه» أو نحو هذا مما يدل على التحريم».
قال ابن الفخار: «انظر إلى هذا الإمام على جلالة قدره، كيف غفل عن هذا الأصل من العربية، وبناه على ما لم يحط به علما لأن الله تعالى لم يرد النهي بقوله: {لََا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}، مع إجماع النحاة على أن ترك الإتباع لما قبل، والعدول عنه إلى حكم ضمير الغائب، لغة الفصحاء من بني تميم، وبالله التوفيق، نسأله تعالى أن يوزعنا شكر ما علمنا.
قال: فلو لم يكن من شرف العربية إلا التنبيه على هذه المسألة بعد معرفة أصلها، لكان كافيا، لأنه ارتهن بضم السين على معرفة إرادة الله تعالى» اهـ.
قلت: ومن نمط هذه الغفلة، ردّ بعض القاصرين على مالك رحمه الله فيما تقدم في قوله: «أحسن ما سمعت في هذه الآية يعني قوله تعالى:
{لََا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أنها بمنزلة آية {عَبَسَ}.
فقال: «إنما كان ينبغي له أن يقول هذه الآية على الخبر، ولا يقول:
«أحسن ما سمعت في هذا»، لأن هذا يقتضي أنه يمكن غيره، ولا يمكن غيره لأنه مرفوع».
قال ابن أبي الربيع في «بعض كتبه»: «وجهل هذا القدر من العربية، يعني
أنه محتمل أن تكون الآية تقتضي النهي بناء على مجيئها على لغة بني تميم كما تقدم».(2/563)
قال ابن أبي الربيع في «بعض كتبه»: «وجهل هذا القدر من العربية، يعني
أنه محتمل أن تكون الآية تقتضي النهي بناء على مجيئها على لغة بني تميم كما تقدم».
تنظير مكمل:
ينظر إلى لهج الشيخ بمعرفة مراد الله تعالى في هذه المسألة من جهة صناعة العربية لهج صاحبه الأستاذ أبي عبد الله البلنسي (1) رحمهما الله تعالى بالوقوف على حكمة ثبوت لفظ الشهر في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضََانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (2)، وسقوطه من قوله صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه».
وهو يرجع إلى المعرفة بمراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم من خطابهما.
قال في كتابه «صلة الجمع وعائذ التذييل 161ظ / / لموصول كتابي الإعلام والتكميل»: «إن قلت: ما الحكمة في إثبات «لفظ الشهر» في الآية، وإسقاطه من الحديث، وما الفرق بينهما؟
قال: فالجواب أن في إثباته في الآية فائدتين:
في إثبات لفظ الشهر في آية {شَهْرُ رَمَضََانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} فائدتان
إحداهما: أن القاعدة أن أسماء الشهور كمحرم وصفر ورمضان، إذا وقع الفعل عليها تناول جميعها،
وانتصب انتصاب المفعول على السعة، ولا تكون ظروفا مقدرة ب «في» لأنها لا أصل لها في الظرفية، لأنها أعلام، فلو قال تعالى: {«رَمَضََانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ»} لاقتضى اللفظ وقوع الإنزال في جميعه، وإنما أنزل في ليلة واحدة منه، في ساعة منها، فكيف يتناول جميع الشهر، فكان ذكر الشهر الذي هو علم، موافقا للمعنى كما تقول: «سرت شهر كذا» فلا يكون السير متناولا لجميع الشهر.
__________
(1) هو محمد بن علي الأوسي المعروف بالبلنسي أبو عبد الله. ت: 782هـ 1380م. من علماء غرناطة، مفسر، من مصنفاته: «تفسير القرآن». انظر: الإحاطة: 3938، والنيل: 270.
(2) سورة البقرة، الآية: 185.(2/564)
الفائدة الثانية: أن في ذكر الشهر تبيينا للأيام المعدودات،
لأن الأيام تتبين بالأيام وبالشهر ونحوه، ولا تتبين بلفظ «رمضان»، لأنه لفظ مأخوذ من مادة أخرى، وهو علم.
يريد: أنه مشتق من الرّمض: وهو شدة الحر في الزمان الذي علقته هذه التسمية.
قال: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان» فالفائدة في إسقاط «الشهر» منه تناول القيام جميع الشهر، فلو قال عليه السلام من قام «شهر رمضان» لصار ظرفا مقدرا بفي، ولم يتناول القيام جميعه، ف «رمضان» في هذا الحديث مفعول على السعة، مثل قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلََّا قَلِيلًا} (1).
وقد اتضح الفرق بين الحديث والآية.
قال: فإن فهمت فرق ما بينهما بعد تأمل ما ذكرنا لم تعدل عندك هذه الفائدة جميع الدنيا بزوبرها، والله المستعان على واجب شكرها» اهـ.
وقوله: بزوبرها: يعني: بأجمعها.
قال الجوهري (2) عن أبي زيد: «يقال: أخذت الشيء بزوبره، وبزأبره، وبزعبره: إذا أخذته كله ولم تدع منه شيئا» 162و / /.
المثال الرابع: مسألة المرفقين والكعبين في إدخالهن في الطهارة.
فإن مدار الخلاف في ذلك تردد علماء اللسان في كلمة «إلى» على الجملة، هل يدخل ما بعدها فيما قبلها؟
وحصاه ابن هشام: «بأنها إذا دلت قرينة على دخول ما بعدها نحو:
__________
(1) سورة المزمل، الآية: 2.
(2) الصحاح: باب الراء فصل الزاين.(2/565)
«قرأت القرآن إلى آخره». أو خروجه نحو: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيََامَ إِلَى اللَّيْلِ} (1)، ونحو: {فَنَظِرَةٌ إِلى ََ مَيْسَرَةٍ} (2) عمل بها، وإلا فقيل: يدخل إن كان من الجنس، وقيل: يدخل مطلقا، وقيل: لا يدخل مطلقا.
قال: وهذا هو الصحيح لأن الأكثر مع القرينة عدم الدخول، فيجب الحمل عليه عند التردد» (3). والله أعلم.
قلت: توقف ابن الضائع في هذه «الأكثرية» فإنه قال: «الظاهر من اللغة أنه قد يعبر عن منتهى الشيء بالجزء الآخر منه.
وقد يعبر عنه بأول جزء من المتصل به، وبحسب ذلك يدخل في الأول ولا يدخل، فإن دل دليل على أحدهما تعين، وإلا كان محتملا إلا أن ينقل أحد من أهل اللغة أن الأكثر في اللغة أحدهما فيترجح الحمل عليه.
ثم قال: قيل في «إلى» أن الأكثر فيها [ألّا] (4) تدخل، والأكثر في «حتى» أن تدخل» اهـ.
إذا عرفت هذا فاعتقاد دخول ما بعد «إلى» في المسألتين على مقتضى النظر اللغوي موجب لإدخال المرفقين والذراعين في الطهارة، زائدا على اعتبار مرجحات أخر، واعتقاد عدم الدخول اعتبره في الآية الكريمة من وجه آخر، وهو أن تكون «إلى» غاية للمتروك لا للمغسول.
وقرره القرافي في «شرح المحصول»: «بأن القاعدة: أن المغيّا يجب ثبوته قبل الغاية وتكرره إليها: «كسرت من مصر إلى مكة». فالسير الذي هو المغيا قد ثبت قبل مكة وتكرر إليها، وهاهنا المغيا هو غسل جملة اليد، لقوله تعالى:
{وَأَيْدِيَكُمْ} واليد: اسم للجملة، وثبوت غسل كل 162ظ / / اليد قبل المرفق
__________
(1) {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتََّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيََامَ} سورة البقرة، الآية: 187.
(2) {وَإِنْ كََانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى ََ مَيْسَرَةٍ} سورة البقرة، الآية: 280.
(3) المغني: 78.
(4) في «ج»: لا تدخل، وفي «د»: عدم الدخول.(2/566)
محال، فتعين ألا يكون هو المغيا، ويتعين أن يكون العامل في قوله تعالى:
{إِلَى الْمَرََافِقِ} فعلا مضمرا، وهو المغيا، تقديره: اتركوا من إباطكم إلى المرافق، «فإلى» غاية للمتروك لا للمغسول، للقاعدة المتقدمة» (1).
قلت: حكى هذا ابن العربي عن القاضي عبد الوهاب (2) قال: «وما رأيته لغيره». ثم قرره بما يرجع إلى هذا فقال: «وتحقيقه أن قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ}
يقتضي بمطلقه من [الظفر] (3) إلى المنكب. فلما قال: «إلى المرفق» أسقط ما بين المنكب والمرفق، وبقيت المرافق مغسولة إلى [الظفر] [-3].
قال: [وهذا] (5) كلام صحيح، يجري على الأصول لغة ومعنى» (6) اهـ.
المثال الخامس: زعم بعض الناس أن الدعاء ب «يا الله» لا يجوز،
وجعل من مدرك عدم الجواز ما تقرر في هذه الصناعة، من امتناع بين «يا» و «الألف» و «اللام».
حكى ذلك «الباجي» في «فرق الفقهاء» له، ونص ما ذكر من ذلك، وبه يتضح ما وقع في المسألة: «وقد كنت يوما في مجلسي «بمرسية» فدخل عليّ شيخ كان يحضر مجلسي على وجه التبرك بحضور مواضع العلم، ومكاثرة [أهلها] (7)، يسمى: جعفر [بن البيان]؟ (8)، وكان رجلا صالحا عفيفا. فقال لي: يحل لأحد أن يقول: يا الله، اغفر لي؟
ولم أظن أن أحدا يسمعني، فإذا بقائل يصيح في، ويقول لي: لا يجوز أن
__________
(1) ووارد أيضا في شرح التنقيح: 371370مع بعض اختلاف.
(2) ذكر «القاضي عبد الوهاب»: أن المرافق حد الساقط لا حدّ المفروض. انظر الأحكام: 2/ 565.
(3) (3) و (4) في «ج» و «د»: الظهر.
(5) في «ج» و «د»: هو.
(6) الأحكام: 2/ 565.
(7) في «د»: بياض.
(8) في «أ»: البيان، وفي «ج» و «د»: بياض.(2/567)
تقول مثل هذا، فنظرت فإذا الهوزني (1) فقلت له: ما قلت إلا «يا الله اغفر لي»! ولم أزل أقوله مذ فهمت الدعاء، وما أنكر علي، فقال لي: لا يجوز أن تقول:
«يا الله» بوجه، فقلت للرجل: إنك ربما لم تفهم ما قال، وربما أنك عليك غير هذا، فإن الدعاء بهذا اللفظ جائز، فلما بلغه ذلك من قولي زاد في اللجاج والعناد، وأظهر التعجب من خطئي في هذه المسألة، وهذا اللفظ مما تمنعه 163و / / الشريعة واللغة.
فأما الشريعة قال: فإن مالكا منع في «المستخرجة» (2) الدعاء «بيا الله» وتوقف في الدعاء «بيا رحمان».
وأما اللغة: فإن أهل العربية مجمعون على أنه لا يجوز إدخال حرف النداء على اسم فيه الألف واللام، وأعاد في هذا وأبدى، وكرر، وشنع، وألف في المنع من ذلك أوراقا، فلما نقل إلى المجلس أخرجت «كتاب الصلاة» وكتاب «الجامع» من «المستخرجة»، ونص فيه في رواية ابن لبابة (3): سئل مالك عن الرجل يدعو في الصلاة فيقول: يا الله، يا رحمان، فقال: [يقول: يا رحمان، ثم قال: واللهم أبين عندي».
وأما رواية أبي محمد ابن أبي زيد فنص في روايته في هذه المسألة: سئل مالك عن الرجل يدعو في الصلاة فيقول] (4): يا الله، يا رحمان، واللهم أبين عندي.
__________
(1) هو أبو حفص عمر بن حسين الهوزني. ت: 460هـ 1068م. من أهل إشبيلية كان متفننا في علوم كثيرة، وله مع فقهه وروايته الحديث، نظر في علوم قديمة، مع أدب صالح، وشعر حسن، رحل إلى المشرق وحج وروى كتاب الترمذي، قتله المعتضد بن عباد بإشبيلية بيده.
انظر: المدارك: 8/ 157156، والصلة: 402وقد ذكر أن اسمه عمر بن حسن.
(2) جمعها القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد العتبي، أكثر فيها من الروايات المطروحة والمسائل الشاذة، وكان يؤتى بالمسألة الغريبة فإذا أعجبته قال: أدخلوها في «المستخرجة».
(3) هو محمد بن يحيى بن لبابة. ت: 330هـ 942م. كان فقيها مقدما، يميل إلى مذهب مالك بن أنس، وله فيه كتاب سماه: «المنتخب». انظر: الجذوة للحميدي: 98، والديباج: 2/ 200، وذكر أنه توفي سنة: 336هـ.
(4) ما بين المعقوفتين ساقط من «أ».(2/568)
واختصره في «النوادر» (1): «قيل لمالك: فيقول في دعائه: يا الله، يا رحمان، قال: نعم، واللهم أبين عندي، وبما دعت به الأنبياء».
وفي رواية الشيخ أبي الوليد ابن ميقيل (2) من طريق ابن لبابة أيضا: «سئل مالك عن الرجل. يدعو في الصلاة فيقول: يا الله، يا رحمان. فقال: يقول:
يا رحمان ثم قال: اللهم أبين عندي.
وأخرجت من كتب النحو ما عسى أن يوجد في ذلك الوقت بالجهة التي كنت فيها، ك «كتاب سيبويه»، وكتاب «الأغفال» (3) لأبي علي الفسوي، وكتاب «علي بن عيسى الرماني» (4)، وكتاب «أبي إسحاق الزجاج» (5)، وكتاب «أبي القاسم الزجاجي» (6)، وكتاب «أبي جعفر النحاس»، وكتاب «أبي الحسن بن كيسان» (7)، وكتاب «أبي بكر ابن السراج»، وفي جميعها النص على جواز الدعاء
__________
(1) النوادر والزيادات على المدونة لأبي محمد عبد الله بن أبي زيد. مخ القرويين رقم 793.
(2) هو محمد بن عبد الله البكري. ت: 436هـ 1044م. من أهل مرسية ولازم مدة قرطبة، كان عالما بالحديث، وباللغة، والنحو، والشعر، والقراءات. انظر: المدارك: 8/ 34، والصلة:
527، وفيها (ابن ميقل).
(3) «كتاب الأغفال» فيما أغفله الزّجاج من المعاني، لأبي علي حسن بن أحمد الفارسي، ويعرف بالفسوي، وقد تقدمت ترجمته في ص: 7. انظر: الإنباه: 1/ 274273، والكشف 1/ 131.
(4) أبو الحسن علي بن عيسى الرماني. ت: 384هـ 994م. من كبار النحويين، كان متفننا في علوم النحو واللغة والفقه والكلام على مذهب المعتزلة. له تصانيف منها: «كتاب النكت في إعجاز القرآن» وكتاب «شرح سيبويه» وكتاب «شرح معاني الزجّاج» انظر: النزهة: 319318، والإنباه: 2/ 296294.
(5) إبراهيم بن السري بن سهل الزجاج. ت: نحو 310هـ 922م. النحوي اللغوي المفسر، كان من أصحاب المبرد. له من الكتب: «معاني القرآن»، و «الاشتقاق»، و «العروض»، و «مختصر النحو» انظر: طبقات الزبيدي: 112111، والإنباه: 1/ 166159.
(6) عبد الرحمن بن إسحاق البغدادي الزجاجي. ت: نحو 337هـ 949م. نحوي، لغوي، من تلاميذ الزجاج، من تصانيفه: «الجمل الكبرى في النحو»، و «اللامات في اللغة»، و «شرح مقدمة أدب الكاتب»، و «الإيضاح في علل النحو». انظر: الزبيدي في طبقاته: 119، والإنباه: 2/ 160 161.
(7) محمد بن أحمد بن كيسان. ت: 299هـ 912م، كان يحفظ المذهبين الكوفي والبصري في النحو لأنه أخذ عن المبرد وثعلب. وله تصانيف منها: «المقصور والممدود»، و «المهذب في النحو». انظر: طبقات الزبيدي: 153، والنزهة: 235.(2/569)
«بيا الله» وإن كان لا يجوز أن ينادى ما فيه «الألف» و «اللام» وغيره على لغة شاذة.
فلما نقل إليه ما ظهر من ذلك زاد في العناد واللجاج وقال: هذا كله خطأ وتمويه، والذي نقلته عن مالك في كتاب «المستخرجة» وما حكيته عن النحاة مسطر في كتبهم فإذا قيل له: فإنا قد رأينا ما أظهره في هذه الكتب، فأرنا ما ذكرته، قال لهم: اطلبوه تجدوه.
قال: ومن قرأ شيئا من اللغة والعربية وجد ما قلته، وعلم صحته، وإنما هذا جهل بالشرع، وجهل للسان العرب 163ظ / / وتورط في اللكنة، والعجمة.
فقلت لما بلغني ذلك: لعله أراد ما قاله «مالك» في «العتبية» من رواية «أشهب» (1) عنه، أنه كره الدعاء ب «يا سيدي» و «بيا رحمان». [أراد] (2) بما حكاه عن العرب، أنه لا [يجوز أن] (3) ينادى على هذا الوجه ما فيه الألف واللام.
كقولنا: «يا الغلام»، و «يا العباس»، فتمادى على الغلو في اللجاج، وقال: لا يجهل ما قلته إلا الأعاجم، ومن لم يقرأ شيئا من لسان العرب، منع مالك الدعاء بيا الله، واجتمعت العرب والنحاة على أنه لا يجوز ذلك في اللسان العربي» اهـ.
المثال السادس: مسألة «أو» في انتصاب المضارع بعدها،
فإنها ترد بمعنى [«إلى أن»] (4)
وبمعنى «كي» وذلك على وجهين:
أحدهما: حيث يتعين المعنى الأول في نحو «لأقتلنّ هذا الكافر أو يسلم».
__________
(1) أشهب بن عبد العزيز القيسي العامري الجعدي أبو عمرو. ت: 204هـ 819م. فقيه مصر في عصره، وصاحب الإمام مالك، واسمه مسكين، وأشهب لقب له. انظر: الديباج: 1/ 307.
(2) في «أ»: وارد.
(3) ساقط من «د».
(4) في «أ» و «د»: إلا أنّ.(2/570)
أو الثالث في نحو: «لأصليّنّ أو أدخل الجنّة»، أو يتردد الثاني بينه وبين الأول، في نحو: «لأسيرنّ أو تغرب الشّمس»، لاحتمال أن يكون الغروب غاية السير، أو يكون المعنى نفي السير في زمانه.
الثاني: حيث لا يتعين واحد من ذلك في نحو: «لأسيرنّ في البلاد أو أستغني»، وعند ذلك فيكون مجملا فيها.
قال ابن الفخار: «ويظهر الفرق بين هذه المعاني في «باب الأيمان» التي ينفع فيها الاستثناء نحو قولك: «والله لأسيرنّ أو أستغني» فإن كان معناه:
«لأسيرنّ إلى أن أستغني»، فهو على حنث إلى زمان حصول الغنى، أو يموت دونه، وإن كان معناه: «لأسيرنّ كي أستغني»، فإنه يلزمه اتصال السير إلى زمان الغنى أو الموت، وإنما يلزمه أقل ما ينطلق عليه الاجتهاد في ذلك، ويظهر أنه لا يريد بالألف واللام استغراق الجنس في البلاد مطلقا، حتى يلزمه إعمال السير إلى كل واحد من بلاد أهل الأرض، هذا لا يحضر لأحد، وإنما غرضه بذلك الاجتهاد في حصول المطلوب، 164و / / يلزمه حصوله بعد، وإن كان معناه:
«لأسيرنّ في البلاد إلى أن أستغني»، فإنه إن استغنى مكانه لم يلزمه السير، وكذلك إن استغنى بعد ما صار إلى ما لا ينطلق عليه اسم بلاد، والله أعلم» انتهى نصه على بعض اختصار.
وأما النوع الثاني: وهو ما لا يعتد به من حمل بعض قواعد العلوم على قواعد الصناعة لتخلف الاجتماع في أصل واحد.
فمن مثله ما يحكى عن «الفراء» أنه قال: «من برع في علم واحد سهل عليه كل علم، فقال له محمد بن الحسن القاضي، وكان حاضرا في مجلسه ذاك، وكان ابن خالة الفراء: فأنت قد برعت في علمك، فخذ مسألة أسألك عنها من غير علمك، ما تقول فيمن سها في صلاته، ثم سجد لسهوه، فسها في سجوده أيضا؟ قال الفراء: لا شيء عليه، قال: وكيف؟ قال: لأن التصغير عندنا
لا يصغر، فكذلك السهو في سجود السهو لا يسجد له فإنه بمنزلة تصغير التصغير، فالسجود للسهو هو جبر الصلاة، والجبر لا يجبر، كما أن التصغير لا يصغر، فقال القاضي: ما حسبت أن النساء يلدن مثلك».(2/571)
فمن مثله ما يحكى عن «الفراء» أنه قال: «من برع في علم واحد سهل عليه كل علم، فقال له محمد بن الحسن القاضي، وكان حاضرا في مجلسه ذاك، وكان ابن خالة الفراء: فأنت قد برعت في علمك، فخذ مسألة أسألك عنها من غير علمك، ما تقول فيمن سها في صلاته، ثم سجد لسهوه، فسها في سجوده أيضا؟ قال الفراء: لا شيء عليه، قال: وكيف؟ قال: لأن التصغير عندنا
لا يصغر، فكذلك السهو في سجود السهو لا يسجد له فإنه بمنزلة تصغير التصغير، فالسجود للسهو هو جبر الصلاة، والجبر لا يجبر، كما أن التصغير لا يصغر، فقال القاضي: ما حسبت أن النساء يلدن مثلك».
قلت: ومثل هذا ما يحكى عن بعضهم أنه سئل عن تصغير عبيد الله؟
فقال: ليس في سجدتي السهو، سهو.
قال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي (1): «فأنت ترى ما في الجمع بين التصغير والسهو في الصلاة من الضعف إذ لا يجمعهما في المعنى أصل حقيقي فيعتبر أحدهما بالآخر.
قال: فلو جمعهما لم يكن من هذا [الباب] (2).
ثم ذكر مسألة الكسائي مع أبي يوسف القاضي في القائل لامرأته: «أنت طالق أن دخلت الدار» وفتح «أن» وقد تقدمت في نظائر لها».
ثم قال إثر ختمه بهذا المثال لما هو من نوعه، مما هو معدود في ملح العلم:
فهذه أمثلة ترشد الناظر إلى ما وراءها حتى يكون على بينة فيما يأتي من العلوم ويذر، فإن كثيرا منها يستفز 164ظ / / الناظر استحسانها ببادىء الرأي فيقطع فيها عمره، وليس وراءها ما يتخذه معتمدا في عمل ولا اعتقاد، فيخيب في طلب العلم سعيه، والله الواقي.
قال: ومن طريف الأمثلة في هذا الباب ما حدثناه بعض الشيوخ (3) أن أبا العباس بن البناء (4) سئل فقيل له: لم لم تعمل «إن» في «هذان» من قوله تعالى:
__________
(1) انظر: الموافقات: 1/ 8584.
(2) في «أ»: الكتاب.
(3) في الإفادات: 110، أنه الشيخ القاضي أبو عبد الله المقري.
(4) هو أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي، العدوي، المراكشي، المعروف «بابن البناء» أبو العباس، ت: نحو 721هـ 1321م. عالم مشارك في كثير من العلوم، من مصنفاته: «التلخيص في الحساب»، و «الروض المريع»، و «منتهى السؤل في علوم الأصول». انظر: الدرر الكامنة: 1/ 279278، والنيل: 6865.(2/572)
{قََالُوا إِنْ هََذََانِ لَسََاحِرََانِ} (1) الآية، فقال في الجواب: لما لم يؤثر القول في المقول لم يؤثر العامل في المعمول، فقال السائل: يا سيدي، وما وجه الارتباط بين عمل «إن» وقول الكفار في النبيين؟.
فقال المجيب: يا هذا، إنما جئتك بنوارة يحسن رونقها، فأنت تريد أن تحكها بين يديك ثم تطلب منها ذلك الرونق، أو كلاما هذا معناه.
قال: فهذا الجواب فيه ما ترى، وبعرضه على العقل يتبين ما بينه وبين ما هو من صلب العلم» اهـ.
تنبيه:
مما أخذ من هذا المعنى على أنه من حيز ما عد من الملح العلمية ما أورده ابن الفخار في «مسائله النحوية» وهو قوله: «كيف تجمع بين «مسألة رجل أفرد الصلاة بثوب حرير اختيارا» أو بين قوله: «جرى الدّميان بالخبر اليقين؟»
قال: الجواب أن الأول ممنوع عند الفقهاء شرعا، ورد لام «دم» في التثنية ممنوع عند النحاة قياسا، وكلاهما في حكم المعدوم حسا، وإذا كان كذلك كان الأول بمنزلة من صلى بادي العورة اختيارا فتلزمه الإعادة، وكان الثاني: بمنزلة ما باشر فيه «عين» «دم» علم التثنية، فتلزمها الفتحة وإن كان أصلها السكون.
قال: ويؤكد عندك الجمع بين المسألتين في الحكم المذكور أن في كل واحدة منهما ثلاثة أقوال:
في مسألة الثوب: الإعادة مطلقا، ونفيها مطلقا، [وتخصيصها] (2)
بالوقت.
وفي مسألة: «جرى الدّميان»: سكون العين أصلا، وفتحها أصلا 165و / / لكن من باب إلحاق الجواهر بالأعراض، وتحريكها بالفتح أصلا أيضا لكن من باب إلحاق الجواهر بالجواهر لا بالأعراض.
__________
(1) سورة طه، الآية: 63.
(2) في «ج» و «د»: تحضيضها.(2/573)
فالأول: لسيبويه، والثاني: للمبرد، والثالث: لابن السراج».
قلت: وهذا مما زاد في غرابة الجمع على [لحظ] (1) المعنى المتقدم.
قال: وهذه المسألة تشبه مسألة ابن جني في «الخصائص» (2) قال: «ألقيت يوما على بعض من كان يعتادني مسألة، فقلت له: كيف تجمع بين قوله (3):
لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب
وبين قوله:
«اختصم زيد وعمرو»؟
فلم ينقدح له فيها شيء، وعاد مستفهما (4) فقال له: اجتماعهما أن «الواو» اقتصر بها على بعض [ما وضعت له من الصلاحية للأزمنة الثلاثة مطلقا.
والطريق: اقتصر به على بعض] (5) ما كان يصلح له الأمام» (6).
قال: يريد ابن جني أن الشاعر كان حقه أن يقول: «كما عسل أمامه الثعلب» لأن «الأمام» يعم الطريق وغيره لإبهامه.
وإذا قلت: «قام زيد وعمرو» كان حرف «الواو» بمنزلة «الأمام» في الإبهام، وهو الصلاحية للأزمنة الثلاثة، فهما في التعميم بمنزلة واحدة، ثم إن كل واحد منهما أخرج عن أصله الذي وضع له، فإذا قلت: «اختصم زيد وعمرو» ارتفعت الصلاحية الوضعية وصار خصوصا من عموم» اهـ.
قلت: المسألة ذكرها ابن جني في باب ترجمته: «باب في جمع الأشباه من حيث يغمض الاشتباه». ثم قال: «هذا غور من اللغة بطين، يحتاج مجتابه
__________
(1) في «ج»: الخط.
(2) انظر: 3/ 320319.
(3) البيت لساعدة بن جؤية الهذلي في وصف الرمح، واللدن: اللين الناعم. ويعسل متنه: يشتد اهتزازه، ويقال: عسل الثعلب والذئب في سيره: اشتد اضطرابه، والبيت من شواهد الخزانة:
1/ 474.
(4) في الخصائص 3/ 319: فأجبل ورجع مستفهما.
(5) ما بين المعقوفتين ساقط من «ج» و «د».
(6) الإفادات: 134132.(2/574)
إلى فقاهة في النفس، ونصاعة من الفكر، ومساءلة خاصة، وليست [بمبتذلة] (1)
ولا ذات هجنة» (2).
ثم صدر ذلك بالمسألة، وبسط وجه الجمع فيها بما عبر عنه ابن الفخار.
وذكر بعد ذلك مسائل جملة، منها «أن يقال: من أين تجمع 165ظ / / قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} (3) مع قول امرىء القيس (4):
على لا حب لا يهتدى بمناره ... إذا سافه العود النّباطيّ جرجرا
وأجاب: أنّ معنى قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} لم يذل فيحتاج إلى وليّ من الذل، كما أن هذا معناه: لا منار به فيهتدى به، ومثله قول الآخر:
لا تفزع الأرنب أهوالها ... ولا يرى الضبّ بها ينجحر (5)
وعليه قوله تعالى: {فَمََا تَنْفَعُهُمْ شَفََاعَةُ الشََّافِعِينَ} (6) أي لا يشفعون لهم فينتفعوا بذلك، يدلّ عليه قوله عزّ اسمه: {وَلََا يَشْفَعُونَ إِلََّا لِمَنِ ارْتَضى ََ} (7).
وإذا كان كذلك فلا شفاعة إلا [للمرتضى] (8) (فعلمت بذلك أن لو شفع
__________
(1) في «ج»: بمنزلة.
(2) الخصائص: 3/ 319.
(3) سورة الإسراء، الآية: 111.
(4) من قصيدة قالها عند توجهه إلى قيصر ملك الروم مستنجدا به على رد ملكه إليه، والانتقام من بني أسد. انظر: الديوان: 66.
واللاحب: الطريق الواسع، وسافه: شمه، والعود: البعير المسن، والنباطي: بتثليث النون:
المنسوب إلى النبط، والجرجرة: من جرجر الجمل: ردد صوته في حنجرته، ومراد الشاعر أن الجمل إذا شم تربة الطريق، وتبين ذلك جرجر جزعا من بعده، وقلة مائه. انظر: اللسان:
سوف.
(5) البيت نسبه ابن الأنباري في شرح المفضليات ص: 879، إلى عمرو بن أحمد. ومعناه: أي لا أرنب بها فتفزعها أهوالها، ولا ضبّ بها فيهوى إلى مخبئه.
(6) سورة المدثر، الآية: 48.
(7) سورة الأنبياء، الآية: 28.
(8) في «ب» و «ج» و «د»: بمن ارتضى.(2/575)
لهم لا ينتفعون بذلك، ومنه) (1) قولهم: «هذا أمر لا ينادى وليده»، أي لا وليد فيه فينادى. فإن قيل: فإذا كان لا منار به، ولا وليد فيه، (ولا أرنب هناك) [-1]
فما وجه إضافة هذه الأشياء، إلى ما لا ملابسة بينها وبينه؟! قيل: لا، بل بينهما ملابسة لأجلها صحت الإضافة، وذلك أنّ العرف أن يكون في الأرض الواسعة منار يهتدى به، وأرنب تحلها، فإذا شاهد الإنسان هذا البساط (3) من الأرض خاليا من المنار والأرنب، ضرب بفكره إلى ما فقده منهما، فصار ذلك القدر من الفكر وصلة بين الشيئين، وجامعا لمعتاد الأمرين، وكذلك إذا عظم الأمر، واشتدّ الخطب، علم أنّه لا يقوم له ولا يحضر فيه إلا الأجلاد، وذوو البسالة، دون الولدان وذوي الضّراعة، فصار العلم بفقد هذا الضرب من النّاس وصلة فيه بينهما، وعذرا في تصاقبهما، وتداني حاليهما» انتهى نص كلامه (4).
ومنها أن يقال كيف يجمع بين قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلََاقِيكُمْ} (5)، وبين قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلََاتِهِمْ سََاهُونَ} (6).
قال: «والتقاؤهما من قبل أن «الفاء» في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ مُلََاقِيكُمْ}
إنما دخلت لما في الصفة التي هي قوله 166و / /: {الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} من معنى الشرط أي إن فررتم منه لاقاكم، فهربهم منه سبب للقيه إياهم (على وجه المبالغة) (7) كما قال زهير:
«ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السّماء بسلّم» (8)
فمعنى «الشرط» إنما هو مفاد من الصفة لا الموصوف، وكذلك قوله
__________
(1) (1) و (2) زيادة من الخصائص: 3/ 321.
(3) البساط: بفتح الباء وكسرها. الأرض الواسعة، وكذا البسيط.
(4) الخصائص: 3/ 322321.
(5) سورة الجمعة، الآية: 8.
(6) سورة الماعون، الآيتان: 4و 5.
(7) زيادة من الخصائص: 3/ 324.
(8) شعر زهير: 23.(2/576)
تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلََاتِهِمْ سََاهُونَ} إنما استحقوا الويل لسهوهم عن الصلاة لا للصلاة نفسها، والسهو مفاد من الصفة لا من الموصوف.
[قال] (1): فقد ترى إلى اجتماع الصفتين في «أن» المستحق من المعنى إنما هو لما فيهما من الفعل الذي هو الفرار والسّهو، وليس من نفس [الموصوفين] (2) اللذين هما الموت والمصلون.
قال: وليس كذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوََالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهََارِ سِرًّا وَعَلََانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (3)، من قبل أن معنى الفعل المشروط به هنا إنّما هو مفاد من نفس الاسم الذي ليس موصوفا وهو: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ}، وهذا واضح.
قال: وقال لي أبو علي رحمه الله إني لم أودع كتاب في «الحجة» شيئا من انتزاع أبي العبّاس غير هذا الموضع، وهو قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلََاقِيكُمْ} مع قوله:
«ومن هاب أسباب المنايا ينلنه»
وكان رحمه الله يستحسن الجمع بينهما» (4) اهـ.
وذكر غير هذا ممّا هو مسطور في ذلك الباب من «خصائصه» وفيما نقلناه من ذلك كفاية لكن ينبغي مع ذلك أن يتنبه لاستحضار أن الاشتغال بهذه الملح العلمية استخراجا وتوليدا مما لا يحمد الإكثار منه، فإنّها كما قال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: «لا يضرّ الجهل بها إذا جهلت، ولا يزداد العالم بها تحقيقا في علمه.
قال: ونحن نعلم أنّ صاحب العلم الواحد من العلوم الوسائل وإن كان
__________
(1) في «ج»: فقال.
(2) في «ج» و «د»: الموصفين.
(3) سورة البقرة، الآية: 274.
(4) الخصائص: 3/ 325324.(2/577)
166 - ظ / / أقعد من صاحب العلوم الكثيرة، ربّما أداه الفراغ عن طلب علوم أخر محتاج إليها، إلى استنباط الملح، والأغاليط في علمه، والأحاجي والمعاياة، وأشباه ذلك، وقطع بذلك زمانا طويلا كمعاياة أهل الفرائض وأهل العدد.
قال: وتأمل ما [فرع] (1) ابن جنّي في كتاب الخصائص من ذلك «باب إمساس اللفظ أشباه المعاني» وغيره من الأبواب التي تنحو نحوه، وكذلك في كتاب «سرّ الصناعة» [حيث] (2) تكلّم في «إياك» وفرض فيها اشتقاقات وتصاريف، وهي من المبنيات التي يشهد لها هو وغيره أنّها لا اشتقاق لها، ولا تصريف فيها.
قال: ولو صرف علمه فيما هو آكد من ذلك لكان أولى به» انتهى المقصود من كلامه ومن خطّه نقلت إلا أنّه من جملة ما أسقطه من مسائل «الموافقات» ولا أرى هذا إلا أنه تركه اختصارا لتقدم ما يدل عليه في «كتابه» وإلّا فهو تقرير واضح المعنى، والله أعلم.
المنهج الرابع: في صون العربية من [الإهانة] (3) لها باستعمالها مع غير أهلها، ومن لا يحسن أن يخاطب بمقتضاها:
وقبل بيان المقصود من ذلك نقدّم تقرير النهي عن إضاعة العلم على الإطلاق بوضعه عند من ليس من أهله، ويدل عليه المعقول والمنقول.
أما المنقول: فيكفي من تقرير وجوهه أنّ المخاطبة العلمية مع غير أهلها على فرض السلامة من الفتنة من باب العبث بنعمة الله تعالى، والجناية على الحكمة بوضعها في غير محلها، وذلك هو السّفه بعينه، بل هو أخس أنواعه من
__________
(1) في «ج» و «د»: فرغ.
(2) في «أ»: حين وفي «د»: حتى، وفي «ج» غير واضحة ولعل الصواب ما أثبتناه.
(3) في «ج»: غير واضحة، وفي «د»: الآية.(2/578)
جهة الكفران به للنّعمة التي لا أجل 167و / / منها، وهي نعمة العلم، ومنّة الخصوصية به.
وأما المنقول: فبيانه من وجوه معظمها يشير لتفاصيل الوجوه المعقولة:
أحدها: الآثار الصريحة في أنّ الكلام بالعلم مع غير أهل العلم إضاعة له، وذلك مستلزم للنهي لا محالة.
فعن الأعمش قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آفة العلم النسيان، وإضاعته أن تحدث به غير أهله» رواه الشيخ أبو عمر (1).
الثاني: ما ورد أيضا مصرّحا بأنّ إتيان الحكمة غير أهلها ظلم لها، كما أنّ منع أهلها منها ظلم لهم.
قال الشيخ أبو عمر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قام أخي عيسى بن مريم عليه السلام في بني إسرائيل خطيبا، فقال: يا بني إسرائيل: لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم» (2).
قال: «وقد نظم هذا المعنى بعض الحكماء فقال:
من منع الحكمة من أهلها ... أصبح في الناس لهم ظالما
أو وضع الحكمة في غيرهم ... أصبح في الحكم لهم غاشما
لا خير في المرء إذا ما غدا ... لا طالبا علما ولا عالما» [-2]
قلت: ومثله قول الآخر من جملة أبيات يأتي ذكرها إن شاء الله.
«فمن منح الجهّال علما أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم»
الثالث: ما نقل من النهي عن الكلام مع الناس بغير ما يفهمون، وقد ترجم البخاري على ذلك بقوله: «باب من خصّ بالعلم قوما دون قوم كراهية ألا يفهموا» (4)، وهو أحسن وأدخل.
__________
(1) جامع العلم: 1/ 108.
(2) (2) و (3) م. س: 1/ 110.
(4) شرح صحيح البخاري: 2/ 154153.(2/579)
وعن علي رضي الله عنه: «حدّثوا الناس بما يعرفون، أتحبّون أن يكذّب الله ورسوله.
ثم ذكر حديث معاذ رضي الله عنه الذي أخبر به عند موته تأثما» (1).
قال الأستاذ 167ظ / / أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: «وإنّما لم يذكره إلّا عند موته لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن له في ذلك لما خشي من تنزيله غير منزلته، وعلّمه معاذا، لأنه من أهله».
قلت: وأخبر به عند الموت أيضا ليخرج من عهدة التبليغ له.
وروى «مسلم» موقوفا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «ما أنت بمحدّث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلّا كان لبعضهم فتنة» (2).
قال ابن وهب: «وذلك أن يتأوّلوه غير تأويله، ويحملوه على غير وجهه».
الرابع: ما روي في «الأثر» من تشبيه المتحدّث بالحكمة مع غير أهلها بمعلّق الدرّ في أعناق الخنازير.
فعن عكرمة (3) فيما رواه الشيخ أبو عمر وغيره قال: «قال عيسى عليه السلام لا تطرح اللؤلؤ إلى الخنزير، فإن الخنزير لا يصنع باللؤلؤ شيئا، ولا تعطي الحكمة لمن لا يريدها فإن الحكمة خير من اللؤلؤ، ومن لا يريدها شرّ من الخنزير» (4).
وعن شعبة في معناه قال: «رآني الأعمش وأنا أحدث قوما فقال: ويحك
__________
(1) م. س: 2/ 155: وقد ذكر أن تأثما: تعني تجنبا من الإثم. يقال: تأثم فلان، إذا فعل فعلا خرج به عن الإثم. والإثم الذي يخرج به كتمان ما أمر الله بتبليغه
(2) شرح صحيح مسلم: 1/ 76.
(3) هو أبو عبد الله المدني. ت: نحو 104هـ 722م. مولى ابن عباس، كان لحصين ابن أبي الحر العنبري، روى عن مولاه، وعن علي بن أبي طالب وكان من أعلم الناس بالتفسير قدم مصر يريد المغرب، وكان يرى رأي الصّفرية من الخوارج. انظر التهذيب: 7/ 273263، وقد خصه بترجمة طويلة.
(4) جامع العلم: 1/ 110.(2/580)
يا شعبة تعلق اللؤلؤ في أعناق الخنازير» (1).
قال الشيخ أبو عمر: «ورحم الله القائل:
أأنثر درا بين سائمة الغنم (2) ... أم انظمه نظما لمهملة النّعم (3)
ألم ترني ضيّعت في شرّ بلدة ... فلست مضيعا بينهم درر الكلم
فإن يشفني الرّحمن من طول ما رأى ... وصادفت أهلا للعلوم وللحكم
بثثت مفيدا واستفدت ودادهم ... وإلا فمخزون لدي ومكتتم
فمن منح الجهال علما أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم» (4)
الخامس: ما تكرّر من نصوص العلماء في تقرير هذا النهي، وتحذير صاحب الحكمة من الوقوع فيه.
فعن عكرمة قال: «إنّ لهذا العلم ثمنا، قيل وما ثمنه؟ قال: أن تضعه عند 168و / / من يحفظه ولا يضيّعه» (5).
وعن كثير بن مرّة الحضرمي (6) قال: «إنّ عليك في علمك حقّا، كما أنّ عليك في مالك حقّا، لا تحدث بالعلم غير أهله فتجهل، ولا تمنع العلم أهله فتأثم، ولا تحدّث بالحكمة عند السفهاء فيكذّبوك، ولا تحدّث بالباطل عند الحكماء فيمقتوك» (7).
ومن كلامهم في هذا المعنى: «كل لكلّ أحد بمعيار عقله، وزن له بميزان
__________
(1) م. س: 1/ 108.
(2) م. س: 1/ 110: النعم.
(3) م. س: 1/ 110: الغنم.
(4) م. س: 1/ 110. والبيت الأخير ساقط من جامع العلم، والقائل الشافعي. انظر: الديوان، ص:
96.
(5) م. س: 1/ 109.
(6) كثير بن مرة الحضرمي أبو شجرة الحمصي، ثقة، تابعي، سمع معاذا، وروى كثيرا عن عمر وعوف بن مالك وغيرهم، وروى عنه شريح بن عبيد، وخالد بن معدان، ومكحول أدرك عبد الملك في خلافته. انظر: الإصابة: 3/ 312، والتهذيب: 8/ 429428.
(7) جامع العلم: 1/ 110.(2/581)
فهمه، حتى تسلم منه، وينتفع بك، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار.
قال: وقال الله تعالى: {وَلََا تُؤْتُوا السُّفَهََاءَ أَمْوََالَكُمُ} (1)، تنبيه على حفظ العلم ممن يفسده ويضرّه أولى، فليس الظلم في إعطاء غير المستحق بأقل من الظلم في منع المستحقّ».
إذا عرفت هذا فقد ذكروا
لما لا يحسن به الخطاب بمقتضى العربية مواضع متفرقة في كلامهم،
يلاحظ بها اعتبار هذا الأصل في الجملة.
الموضع الأول: عند المخاطبة للأمراء اللّحانين:
فقد حكى ابن الجوزي في «أخبار الأذكياء» (2): «أن أعرابيا دخل على هشام بن عبد الملك (3) فقال له هشام: كم عطاءك؟ قال: «ألفين». فسكت ساعة ثم قال: كم عطاؤك؟ قال: «ألفان». قال: فلم لحنت أولا؟ قال: لم أشته أن أكون فارسا، وأمير المؤمنين راجل، لحنت فلحنت، ونحوت فنحوت، فاستحسن أدبه وأجازه.
قال: وقد ذكرت هذه الحكاية عن غير هشام وفيها: لحن الأمير فلحنت، وأعرب فأعربت، وكرهت أن يلحن وأعرب، فأكون مقرعا له في لحنه، أو ممتحنا له في [فصل] (4) القول، فأعجبه ذلك وأجازه» اهـ.
قلت: وحكاها «الماوردي» (5) عن الشعبي مع عبد الملك بن مروان قال للشعبي: «كم عطاءك؟ قال: «ألفين». قال: لحنت: قال: لما ترك أمير المؤمنين الإعراب، كرهت أن أعرب كلامي عليه» اهـ.
وفي ذلك كلّه دليل على استحسان اطراح الإعراب في مخاطبة الأمراء إذا
__________
(1) سورة النساء، الآية: 5. وانظر: جامع العلم: 1/ 110.
(2) انظر: ص: 76.
(3) في أخبار الأذكياء 76: عبد الملك بن مروان.
(4) في «ج» و «د»: فضل.
(5) أدب الدنيا: 52.(2/582)
كانوا لا يحافظون عليه جهلا، أو مسامحة لما ظهر من 168ظ / / غلبة اللحن على جميع الطبقات.
على أنّ من العلماء من كان يخاطبهم على مقتضى الطبع الغالب عليه فساد اللحن من غير اعتبار لاستحسان الأمراء لذلك أو كراهيتهم له.
فحكى الزبيدي (1) عن الفراء أنه دخل على هارون الرشيد فتكلم بكلام لحن فيه مرات. فقال جعفر بن يحيى: «إنه قد لحن يا أمير المؤمنين، فقال الرشيد للفراء: أتلحن؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ طباع أهل البدو الإعراب، وطباع أهل الحضر اللحن، فإذا تحفظت لم ألحن، وإذا رجعت إلى الطبع لحنت، فاستحسن الرشيد قوله».
توجيه: لعدم استحسان مخاطبة هذا الصنف
بمقتضى هذه الصناعة إذا كانوا يستشعرون استدراك المعرب عليهم وجهان:
أحدهما: حفظ الأدب معهم على ما يشير إليه كلام الشّعبي وغيره، ولذلك قال الماوردي في معناه: «فإن ظهر منه يعني السلطان خطأ أو زلل في قول أو عمل، لم يجاهره بالرد، و [عرض] (2) له باستدراك زلله، وإصلاح خلله» (3).
قلت: كما حكى صاعد (4) عن الأخفش قال: «كان أمير البصرة يقرأ على المنبر: {إِنَّ اللََّهَ وَمَلََائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} (5) برفع «الملائكة» فنبهته (6)،
__________
(1) في الطبقات: 131.
(2) في «ج»: عوض.
(3) أدب الدنيا: 52.
(4) مخ الفصوص: 2/ 156155. والنسخة المطبوعة: 4/ 219218. فص: 413.
(5) سورة الأحزاب، الآية: 56.
(6) في مخ الفصوص، 2/ 155وفي المطبوع: 4/ 218: «فصرت إليه ناصحا له ومنبّها، فهددني وأوعدني، وقال: تلحنون أمراءكم».(2/583)
فقال: تلحنون أمراءكم وتهدونني؟ ثم عزل، ووليها من بعده محمّد بن سليمان الهاشمي، فمضى على «الرفع» تلقينا من المعزول، فأتيته وهو في غرفة، وعنده أخوه، والغلمان على رأسه، فقلت: أصلح الله الأمير، عندي نصيحة، قال:
قل، فأومأت إلى أخيه، فنهض أخوه وتفرق الغلمان، فقلت: أنتم أهل بيت النّبوة والفصاحة، وأنت تقرأ «وملائكته» بالرفع، وهو (لحن) (1) لا وجه له، فقال: جزاك الله خيرا، نبّهت، ونصحت، فخرجت، وإذا بغلة [سفواء] (2) (3)، وغلام، وجارية، وبدرة، وتخت ثياب، وقائل يقول: هذا لك من الأمير، فأخذت ذلك وانصرفت به مغتبطا» اهـ.
وفي هذا 169و / / المقام حكي عن الأصمعي وصية الرشيد له بما يجمع هذا المعنى وغيره من أنواع الأدب معهم، لكنه ذكرها مختصرة، وغيره أوردها أطول من ذلك، ومساقها: قال: «قال لي الرشيد في أول يوم عزم فيه على تأنيسي: يا عبد الملك، أنت أحفظ منا، ونحن أعقل منك، لا تعلمنا في ملإ، ولا تسرع إلى تذكيرنا في خلاء، واتركنا حتى نبتدئك بالسؤال، فإذا بلغت من الجواب قدر استحقاقه فلا تزد، وإياك والبدار إلى تصديقنا، وشدة العجب بما يكون منا، وعلمنا من العلم ما يحتاج إليه على عتبات المنابر، وفي أعطاف الخطب، وفواصل المخاطبات، ودعنا من رواية حوشي الكلام، وغرائب الأشعار، وإياك وإطالة الحديث، إلا أن يستدعي ذلك منك، ومتى رأيتنا [صادين] (4) عن الحق فأرجعنا إليه ما استطعت من غير تقرير بالخطإ، ولا إضجار بطول الترداد. قال: قلت: أنا إلى حفظ هذا الكلام أحوج مني إلى كثير من البرّ».
قلت: ينظر إلى استحسان الأصمعي لاستدراك الرشيد عليه في المعرفة
__________
(1) زيادة من م. س: مخ 2/ 156والمطبوع: 4/ 219.
(2) في الأصول: سفراء.
(3) البغلة السفواء: الخفيفة الناصية، وأيضا السريعة.
(4) في «ج»: صادفين.(2/584)
بالأدب، استحسان الشعبي لما اتفق له من ذلك مع عبد الملك بن مروان فيحكى عنه أنه قال: «قدمت على عبد الملك فما رأيت أحسن حديثا منه إذا حدث، ولا أحسن إنصاتا منه إذا حدّث، ولا أعلم منه إذا خولف، وأخطأت عنده في أربع.
حدثني يوما بحديث، فقلت: أعده علي يا أمير المؤمنين، فقال: أما علمت أنه لا يستعاد أمير المؤمنين.
وقلت له حين أذن لي عليه: أنا الشعبي يا أمير المؤمنين. فقال: ما أدخلناك حتى عرفناك. وكنيت عنده رجلا فقال: ما علمت أنه لا يكنى عند أمير المؤمنين.
وسألته أن يكتبني حديثا فقال: إنا نكتب ولا نكتب.
وقد روي أنه دخل عليه فخطّأه في مجلس واحد ثلاثا: سمع منه حديثا فقال: اكتبنيه فقال: 169ظ / / نحن معاشر الخلفاء لا نكتب أحدا شيئا، وذكر رجلا فكناه، فقال: نحن معاشر الخلفاء لا تكنى الرجال في مجالسنا، ودخل [عليه] (1) «الأخطل» فدعا له بكرسي فقال: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: الخلفاء لا تسأل، فأخجله في أول مقام».
الثاني: ما يتقى من بادرة كراهتهم لتوقيفهم على صدور اللحن منهم.
ولنذكر من ذلك حكايتين يعتبر بهما في الموضع:
الحكاية الأولى:
ما ذكره الزّبيدي (2) عن يونس بن حبيب قال: «قال الحجاج ليحيى بن يعمر: [أتسمعني] (3) ألحن على المنبر؟ قال: الأمير أفصح من ذلك، فألح عليه فقال: حرفا. قال: أيا؟ قال: في القرآن، قال الحجاج: ذلك أشنع له، فما هو؟
__________
(1) في «ج» و «د»: إليه.
(2) في الطبقات: 28.
(3) في «ج» و «د»: أسمعنا.(2/585)
قال: تقول: {قُلْ إِنْ كََانَ آبََاؤُكُمْ وَأَبْنََاؤُكُمْ} إلى قوله عزّ وجل: {أَحَبَّ} (1)
فتقرأها «أحبّ» بالرفع، والوجه أن تقرأها بالنصب على خبر كان، قال: لا جرم! لا تسمع لي لحنا أبدا، [فألحقه] (2) بخراسان، وعليها يزيد بن المهلّب (3).
قال: فكتب يزيد بن المهلب إلى الحجاج: إنّا لقينا العدو فمنحنا الله أكتافهم، فأسرنا طائفة وقتلنا طائفة، واضطررناهم إلى عرعرة الجبل، وأثناء الأنهار، فلما قرأ الحجاج الكتاب، قال: ما لابن المهلّب ولهذا الكلام؟ حسدا له، فقيل له: إنّ ابن يعمر هناك، قال: ذاك إذا.
قلت: أورد الجاحظ (4) خبر هذه الرسالة على وجه آخر فقال:
«ورأيت الناس يتداولون رسالة يحيى بن يعمر على لسان يزيد بن المهلب: إنّا لقينا العدو، فقتلنا طائفة، وأسرنا طائفة، ولحقت طائفة بعراعر (5)
الأودية، وأهضام (6) الغيطان، وبتنا بعرعرة الجبل، وبات العدوّ بحضيضه، فقال الحجاج: يا يزيد، بأي عذر هذا الكلام؟ فقيل له: إنّ معه يحيى بن يعمر.
فحمل إليه، فقال: أين ولدت؟ قال: بالأهواز. قال: فأنى لك هذه الفصاحة؟ قال: أخذتها من أبي».
الحكاية الثانية:
ما أورده عياض (7) عن ابن 170و / / العطار، صاحب الوثائق في ردّ على
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 24.
(2) في «ج» و «د»: ألحنه.
(3) يزيد بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي أبو خالد. ت: 102هـ 720م. أمير من القادة الشجعان، ولي خراسان بعد وفاة أبيه، فمكث نحوا من ست سنين، وعزله عبد الملك بن مروان. انظر:
الوفيات: 6/ 309278، الخزانة: 1/ 105.
(4) انظر: البيان والتبيين: 1/ 278277.
(5) عراعر الأودية: أسافلها.
(6) أهضام الغيطان: مداخلها.
والغيطان: ج غوط وغوطة: الحائط ذو الشجر الكثير.
(7) انظر: المدارك: 7/ 152151.(2/586)
المنصور بن أبي عامر (1) قال: «وذلك أنه حكى حكاية قال فيها: فلفعه بعينه:
أي أصابه «بالفاء»، ففطن ابن العطار لخطئه، ولم يكن يصبر عليها لتنزّهه، فاستطرد بذكر حكاية من ذلك المعنى: ففطن ابن أبي عامر لمراده، وقال: لو علمنا سقوط الهيبة لاشترطنا حسن المجالسة، يدخل من على الباب من أرباب اللغة، فإذا بصاعد قد مثل، فسأله، أو قد كان الأمر ألقي إليه، فقال: يقال:
بالقاف والفاء، والقاف أشهرها، فأخذها ابن أبي عامر حجة على توبيخ ابن العطّار، وتبكيته، وأمر بإخراجه، ومكن منه أعداءه، فقاموا في ذلك.
ثم ذكر قضية محنته على يد ابن زرب (2) بإسقاطه عن الشورى، والشهادة، وأن المنصور أمضى ذلك عليه، وأوعد إليه بالانقباض على الناس، وإغلاق بابه، فجرى عليه مكروه عظيم». انتهى المقصود منها.
عطفة إكمال:
يتفرع على ما تأصّل من النهي عن إضاعة العلم بالكلام به مع غير أهله، أنّ كل ما يعلم بما هو حق ومفيد لعمل يترتب عليه لا يطلب نشره بإطلاق، بل الأمر فيه منقسم كما قال الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله وضابطه: «أنّك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحّت في ميزانها، فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فأعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها، فلك أن تتكلم فيها إمّا على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم. وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة
__________
(1) هو محمد بن عبد الله بن عامر المعروف بالمنصور بن أبي عامر. ت: 392هـ 1002م أمير الأندلس في دولة المؤيد الأموي، دامت له الإمرة 26سنة، كان المؤيد معه صورة بلا معنى.
انظر: قضاة الأندلس: 8280، والمطمح: 397388، ونفح الطيب: 1/ 404396و 407 429.
(2) هو أبو بكر محمد بن يبقى بن زرب. ت: 381هـ 991م. ولي القضاء بقرطبة وتتبع أصحاب ابن مسرة، وأحرق ما وجد عندهم من كتبه، وكان مع علمه كثير الصلاة والتلاوة بصيرا بالعربية والحساب، وله تصانيف منها: «الرد على ابن مسرة»، وكتاب «الخصال». انظر: الجذوة للحميدي: 100، والمدارك: 7/ 118114.(2/587)
بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية».
الموضع الثاني: عند نقل «أمثال العامة» 170ظ / / وحكاية ما صدر من نوادر كلامهم.
نبّه على ذلك الجاحظ (1) في «البيان والتبيين» (2) وسبق إلى الوصاة به، وهو ظاهر المعنى فقال: «إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام، وملحة من ملح الحشوة (3) [والطّغام] (4)، فإياك وأن تستعمل فيه الإغراب، أو تتخير لها لفظا حسنا، أو تجعل لها من فيك مخرجا سرّيا، فإنّ ذلك يفسد الامتاع بها، ويخرجها من صورتها ومن الذي أريدت له، ويذهب استطابتهم إياها، واستملاحهم لها.
قال بعد كلام: واللحن من الجواري، والظّراف، ومن الكواعب، والنواهد، ومن الشواب الملاح، ومن ذوات الخدور الغرائر أيسر. وربما استملح الرجل ذلك منهن ما لم تكن الجارية صاحبة تكلف، ولكن إذا كان اللحن على سجية سكان البلد.
قال: وكما يستملحون اللثغاء إذا كانت حديثة السن، ومقدودة مجدولة، فإذا أسنت واكتهلت تغير ذلك الاستملاح، وربما كان اسم الجارية غليم، أو صبيّة، أو ما أشبه ذلك، فإذا صارت كهلة جزلة (5) أو عجوزا شهلة، أو حملت اللحم، وتراكم عليها الشحم، وصار بنوها رجالا، وبناتها نساءا، فما أقبح حينئذ أن يقال: يا غليّم، كيف أصبحت؟ ويا صبيّة: كيف أمسيت، ولأمر ما
__________
(1) عمر وبن بحر الكناني، البصري، المعتزلي. ت: 255هـ 868م. والمعروف بالجاحظ. انظر:
الوفيات: 3/ 475470، ومعجم الأدباء: 16/ 11474.
(2) انظر: 1/ 147146.
(3) الحشوة والحشوة: الرديء من الشيء، ويقال: فلان من حشوة بني فلان، أي من رذالتهم، والطغام: الواحدة: طغامة: أوغاد النّاس.
(4) في النسخ: الطعام.
(5) جزلة: أي غليظة.(2/588)
كنت العرب البنات. فقالوا: فعلت أمّ الفضل، وقالت: أمّ عمرو، وذهبت أم حكيم» اهـ.
تنبيه على وهم:
احتج الجاحظ لما تقدم له من استحسان لحن الجارية الحديثة السنّ بقول «مالك بن أسماء» (1):
أمغطى منّي على بصري لل ... حبّ، أم أنت أكمل النّاس حسنا
وحديث ألذه هو مما ... يشتهي السامعون يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيا ... نا، وأحلى الحديث ما كان لحنا» 171و / / (2)
بناء منه على أنه يريد اللحن الذي هو الخطأ في الإعراب.
قال السهيلي (3): «وخطىء في هذا التأويل، وأخبر بما قاله الحجاج لامرأته هند بنت أسماء بن خارجة حين لحنت، فأنكر عليها اللحن، فاحتجت بقول أخيها مالك بن أسماء:
«وخير الحديث ما كان لحنا». فقال لها الحجاج: لم يرد أخوك هذا، وإنّما أراد اللحن الذي هو التورية، والإلغاز، فسكتت.
فلما حدّث الجاحظ هذا الحديث قال: لو كان بلغني هذا قبل أن أؤلف «كتاب البيان» ما قلت في ذلك ما قلت، فقيل له: أفلا تغيره؟ فقال: كيف وقد سارت به البغال الشهب، وأنجد في البلاد وغار».
__________
(1) أبو الحسن مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري. ت: نحو 100هـ 718م. شاعر غزل من الولاة. كان هو وأبوه من أشراف الكوفة، وتزوج الحجاج أخته «هند بنت أسماء» وتقلد «خوارزم» و «أصبهان» للحجاج، ووقع منه ما أوجب حبسه مدة طويلة، له شعر كثير. انظر:
الشعر والشعراء: 404، ولسان الميزان: 5/ 32.
(2) البيان والتبيين: 1/ 147.
(3) هو عبد الرحمن بن عبد الله الخثعمي السهيلي. ت: 581هـ 1185م. حافظ، عالم باللغة والسير، ولد في مالقة، وعمي وعمره 17سنة، ونبغ فاتصل خبره بصاحب مراكش فطلبه إليها وأكرمه، فأقام يصنف كتبه إلى أن توفي بها. من كتبه: «الروض الأنف»، و «التعريف والإعلام» و «تفسير سورة يوسف». انظر: الوفيات: 3/ 144143، والإنباه: 2/ 164162.(2/589)
قلت: «في تاريخ الخطيب» (1) عن يحيى بن عليّ عن أبيه قال: «قلت للجاحظ: إني قرأت في فصل من كتابك المسمى: كتاب «البيان والتبيين» أنّ مما يستحسن من النساء اللّحن في الكلام، واستشهدت ببيتي مالك بن أسماء، وذكر ما تقدم.
قال: هو كذاك، قلت: أفما سمعت بخبر هند بنت أسماء بن خارجة مع الحجاج حين لحنت في كلامها، فعاب ذلك عليها، فاحتجت ببيتي أخيها؟ فقال لها: إن أخاك أراد أن المرأة فطنة فهي تلحن بالكلام إلى غير المعنى في الظاهر، لتستر معناه، وتوري عنه، وتفهمه من أرادت بالتعريض، كما قال الله تعالى:
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} (2) ولم يرد الخطأ من الكلام، والخطأ لا يستحسن من أحد.
فوجم الجاحظ ساعة ثم قال: لو سقط إلي هذا الخبر لما قلت ما تقدم.
فقلت له: فأصلحه، فقال: الآن وقد [سار] (3) الكتاب في الآفاق، هذا لا يصلح، أو نحو هذا من الكلام» اهـ.
قال السّهيلي: «وكما قال الجاحظ في معنى «تلحن» أحيانا قال ابن قتيبة (4)
مثله أو قريبا منه».
قلت: في «الصحاح» (5) ما ملخصه: ««اللحن»: الخطأ في الإعراب
و «اللّحن» بالفتح: الفطنة.
وقال أبو زيد: «لحنت له» 171ظ / / بالفتح «ألحن لحنا»: إذا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره.
«ولحنه هو عني» بالكسر «يلحنه لحنا»: يفهمه.
وألحنته أنا إيّاه، ولا حنت القوم: فاطنتهم.
__________
(1) انظر: 12/ 215214.
(2) سورة محمد، الآية: 30.
(3) في «أ» و «د»: سلك.
(4) انظر ما ورد في مقدمة كتابه. ص، ك و، ل من عيون الأخبار.
(5) انظر: باب النون فصل اللام.(2/590)
ثم أنشد قول مالك المتقدم ثم قال: يريد أنها تتكلم بشيء، وهي تريد غيره، وتعرض في حديثها فتزيله عن جهته من فطنتها وذكائها، كقوله تعالى:
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}».
الموضع الثالث: وهو من نمط ما قبله عند نظم الكلام على متعارف الخطاب العامي على اختلاف أصنافه
وكذا عند [إنشاء] (1) المخاطبات الأدبية على ذلك المنهاج، فإن الإعراب في جميع ذلك مما يستحسن العدول عنه، ولا يتم القصد بتلك المخاطبة إلا باطّراحه جملة، وعلى حسب موافقته للكلام العاميّ، وجريانه على معتاد ما غلب [منه] (2) على الألسنة، تقع العناية بحصول أغراضه، وتستعذب النفوس موارد نظمه ونثره، ولذلك ينال المبرّز في ميدان الإجادة فيه ما لا يدرك أدناه [بجياد براعته في المخاطبة المعربة] (3).
فقد حكى الشيخ الرئيس الجليل [أبو] (4) يحيى ابن عاصم (5) «وقد أجرى في اسم الكاتب البارع المجيد أبي علي عمر بن الحاج المالقي (6) رحمهما الله ما اختص به من إنشاء المقامات الآخذة من اللّوذعة مآخذ الأعراف الجارية
__________
(1) في «ج»: إنشاد.
(2) في «ج» و «د»: عنه.
(3) في «ج»: غير واضحة.
(4) ما بين المعقوفتين ساقط من «د».
(5) هو محمد بن محمد بن عاصم القيسي الأندلسي الغرناطي أبو يحيى. ت: بعد: 857هـ 1453م. قاض، ووزير، من بلغاء الكتاب، كان ينعت بابن الخطيب الثاني له شعر ونثر وتصانيف منها: «الروض الأريض في تراجم ذوي السيوف والأقلام والقريض»، و «ذيل الإحاطة في أخبار غرناطة»، و «جنة الرضا في التسليم لما قدر وقضى». انظر: أزهار الرياض: 1/ 186145، (وانظر: فهرسته)، ونفح الطيب: 6/ 162148.
(6) وقد حلاه صاحب أزهار الرياض: 1/ 132116بقوله: «أما الفقيه عمر فهو أشهر من نار على علم وأزجاله، ومنظوماته، ومقاماته عند العامة محفوظة، وعند الخاصة مرفوضة إلا العليل الذي يسمع في مثله لصاحب القلم» ثم أورد مقامته المسماة: تسريح النصال إلى مقاتل الفصال ومقامه في أمر للوباء كتبت عام: 844هـ كما أورد بعض مقطوعاته.(2/591)
من التخاطب العرفي على غير الإعراب أنه قال له غير ما مرة: إنه لم يلبسه الشعر المعرب، وإن كان على وفق [مدّعاه] (1)، وعلى أفضل ما سمعه مستظرفا له ووعاه، قط كسوة فاخرة، ولا سوغه منحة ظاهرة، ولا خوّله نعمة وافرة، وإنما ألبسه الكساء التي غالبها الشوريات (2) القبرسيّة، فوقها الغفائر البرنسية، والأردية التونسية، إلا [الأزجال] (3) والملاعب (4)، والمزوّجات (5)، والمقالب (6)، والنوادر 172و / / المضحكة المغربة، والمقامات المطرفة المطربة، فهنالك يتمكن المبنى، ويتبادر للفهم المعنى، ويتوصل لتحصيله الكهل، والوليد، والذكي، والبليد، والحاضر والبادي، والمبتدي والشادي، والكاتب والأمي، والخاصي والعامي».
انتهى ما يخص الاعتراف بما يطابق شهادة الواقع، وفي الزيادة على ذلك شهادة لموقع هذا النوع من الأدب من نفوس سائر الطبقات إذا [سلك] (7) به على غير منهج الإعراب، و [نسج] (8) على منوال التخاطب العرفي، ويزيد صدق هذه الشهادة وضوحا عدول هذا العالم الفذّ إلى سلوك هذه الطريقة على براعة أدواته في جميع فنون الآداب.
قال في «صدر التعريف به»: «عمر بن علي بن الحاج السعيدي من أهل مالقة وسكن الحضرة يكنى: أبا علي، صاحبنا الكاتب البارع الخصل، الموهوب النّصل، المليء بفنون الآداب نظما ونثرا، وكتبا وشعرا، ومصنوعا ومطبوعا، ومرسلا ومسجوعا، وجدا وهزلا، وتولية وعزلا، لا أعلم أني لقيت
__________
(1) في «ج» و «د»: غير واضحة.
(2) الشّارة والشّورة: اللّباس، وقيل: الشّورة: الهيئة اللسان شور.
(3) في «ج» و «د»: الأجزال.
(4) الملعبة: نوع من الزجل.
(5) المزوجات: الشيء ونقيضه، كأن تأتي بالشطر السالب ثم الموجب.
(6) المقالب: ج مقلب، ويقال: حوّلها بالمقلب: قلب الأمر ظهرا لبطن، أي اختبره، والمراد هنا الإتيان بالتّضاد ليحمل على النكتة والضحك.
(7) في «د»: سك.
(8) في «ج» و «د»: نهج.(2/592)
بعد الرئيس أبي عبد الله الشران (1) رحمه الله أبرع منه في الكتب والشعر، ولا أقدر منه على النظم، والنثر.
ولا أظن الرئيس أبا عبد الله يلحقه في التّفنّن في الأدب، والنفاذ منه في كلّ أسلوب، فقد كان رحمه الله يتحامى طريقه التي اختص بها من نوع الهزل نظما ونثرا، ويظهر أنه يربا بنفسه عن ذلك، ولم يكن كذلك في نفس الأمر، وإنما أنصف في نفسه لما رأى أنه مقصر فيه عنه، فاقتصر على ما هو فيه فوقه أو مثله على سعة نفس، وارتياح بقبس، ولم يرهن نفسه فيما يعلم أنّه [دونه] (2)، وإن جدّ وأجهد نفسه، فلا يحصل له أكثر من الشّك، ومن العجب كيف يحصل؟! «فخلّى الطّريق لمن يبني المنار به»، وانفرد بالكتب، والشعر، والخطب، وذلك كان غاية أربه، وأفرغ 172ظ / / الفقيه أبو علي جهده في أن يتقدّمه في المرتبة، وأن يظهر عليه من الخصوصية بهذه المنقبة، فحبر الرسائل، وأنشأ إلى الرّوضة النبوية الوسائل، وكتب مغربا في الأساليب الظّهائر، واخترع في الكتب السلطاني فنونا خالف فيها الطرق الشّهائر، واختلق (3) في التهاني القصائد، وابتدع في سنى الأغراض المذهبات القلائد، وعطف بالقطع الفاذّة، والمعاني المعهودة والشّاذة».
ثم ذكر ما تقدم عنه في تبريزه في النّوع من الأدب الجاري على معهود الكلام العاميّ. وبعد ذلك قال فيه من فصل ظهير أجرى فيه ذكره:
«فمتى استظهرت الآداب، بجامع فنونها، ومستوفى عيونها، ومستوعب أبكارها وعونها، ومقتضى حقوقها المتعينة وديونها، فحسبها من هذا الأوحد علما تخفق عليه راياتها، ومحلّيا تتقاصر [لديه] (4) غاياتها،
__________
(1) هو محمد بن إبراهيم أبو عبد الله الشران، قاضي الجماعة بغرناطة، اشتهر بنظمه الرائق، وله منظومة في الفرائض شرحها القلصادي كان بالحياة سنة: 837هـ 1433م. انظر: أزهار الرياض: 1/ 133، والشجرة: 248.
(2) كذا في الأصول.
(3) في «أ»: احتفل. وفي «ج» و «د»: اختلف.
(4) في «ج» و «د»: يديه.(2/593)
وبطلا لا يكّع (1) يوم انتفاء الكلام الحدّ عن ملاقاة حرفه (2)، وصارما لا ترد اختيار الألفاظ العذبة من شباه (3)، ولا تكلّ من غربه (4)، لو تعلّقت المعاني بالعنان لاستنزلتها بلاغته من صياصيها، ولو استصعبت شوارد القوافي لأمكنته جزالته واقتداره من نواصيها، فكأين له من مذهبة سائرة في الآفاق، متلقّاة من البلاد الشاسعة على ألسنة الرّفاق، ولا نوع من أنواع الأدب إلّا وقدحه فيه المعلّى، وتاجه من أصناف يواقيته المحلى». انتهى المقصود مما وصف به.
والمراد منه أنّ إيثار الأدباء الذين أحرزوا قصب السّبق في جميع أنواعه لهذا الفنّ منه شاهد بما له من الموقع في النفوس، وإذ ذاك فترك الإعراب زينة حلاه، وطراز [مستملحة] (5) ومستحلاة، وشرط [صحة] (6) لإكماله، ومبلغ مقاصده 173و / / من القبول وآماله».
الموضع الرابع: عند خطاب العامة ومحاورة الكلام معهم،
وذلك من أهم ما تأكدت به وصايا العلماء قديما وحديثا حتى أن «ابن الجوزي» ذكر في كتاب «الحمقى والمغفلين» (7) «أنّ الكلام بالإعراب معهم فن من فنون الحماقة»، قال ما نصه:
«وقد تكلم قوم من النحويين مع العامة بالإعراب، وكان ذلك من جنس التغفيل، وإن كان صوابا لأنه لا ينبغي أن يكلم كل قوم إلا بما يفهمونه.
ثم حكى عن ابن عقيل (8) قال: كان شيخنا أبو القاسم ابن برهان الأسدي
__________
(1) كعّ، يكّع: ضعف وجبن.
(2) في «أ»: حربه.
(3) الشّباه: ج شبا: حد كل شيء.
(4) الغرب: ج غروب: الحدة والنشاط.
(5) في «ج» و «د»: مستحملة.
(6) في «ج» و «د»: صحته.
(7) انظر: ص: 125.
(8) هو علي بن عقيل البغدادي الحنبلي أبو الوفاء. ت: 513هـ 1119م. فقيه، أصولي،(2/594)
يقول لأصحابه: إياكم والنحويين العامة، فإن النحويين العامة مثل أهل اللحن من الخاصة.
قال ابن عقيل: وتعليل هذا أنّ التحقيق بين المحرفين ضائع، وتضييع العلم لا يحل، ولهذا روي: حدّثوا الناس بما يفهمون (1)، أتحبّون بأن يكذب على الله ورسوله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا عمير ما فعل النّغير (2)»، وإنّما ينسب المعلّمون إلى الحماقة لمعاملتهم الصبيان بالتحقيق» اهـ.
قلت: ومثل هذا المحكي عن «ابن برهان» ما رأيت في بعض التقاييد منقولا عن بعض المحققين: «إياك والنحويين العامة، فإنه كاللحن بين الخاصة.
قال: وما أحسن قول أبي عمرو بن العلاء في هذا المعنى:
لعمرك ما اللحن من شيمتي ... ولا أنا عن خطأ ألحن
ولكني قد قسمت الكلام ... أخاطب قوما بما يحسن»
ومثله قول ابن السّيد (3) شارحا لكلام ابن قتيبة: «لا ينبغي للمتأدب أن يستعمل في كلامه مع عوام الناس الإعراب على حسب ما تستحقه الألفاظ في صناعة النحو، فإنه إن فعل ذلك استخف به، وصار هزأة لمن يسمعه».
تنبيه وإعلام 173ظ / /:
من علماء هذه الصناعة من يطرح في المخاطبة شفاها، سواء كان المخاطب عاميا أو خاصيا استرسالا مع السجية، ورميا بالكلام على متعارف ما جرى به التخاطب.
__________
مقرىء، واعظ له تصانيف منها: «كتاب الفنون» و «الفصول» في فروع الفقه الحنبلي، و «الانتصار لأهل الحديث». انظر: طبقات القراء: 1/ 557556.
(1) في أخبار الحمقى 125: بما يعقلون.
(2) النّغر: طائر يشبه العصفور، وبتصغيره جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لبنيّ كان لأبي طلحة الأنصاري، وكان له نغر فمات: فما فعل النّغير يا أبا عمير؟» اللسان: نغر.
(3) انظر الاقتضاب: ص: 56.(2/595)
فحكى ابن خلكان (1) عن الإمام الشهير أبي محمد ابن بري (2) من شيوخ أبي موسى الجزولي (3) صاحب «المقدمة في النحو»: «أنه كان لا يتكلف في كلامه، ولا يتقيد بالإعراب، بل يسترسل في حديثه كيفما اتفق، حتى قال يوما لبعض تلاميذه ممن يشتغل عليه بالنحو: «اشتر لي قليل هندبا بعروقو»، (فقال التلميذ: هندبا بعروقه) (4)، فعزّ عليه كلامه، وقال له: لا تأخذه إلا «بعروقو» وإن لم يكن «بعروقو» فما أريده.
قال: وكانت له ألفاظ من هذا الجنس لا يكترث بما يقوله، ولا يتوقف على إعرابها».
مزيد بيان:
مما يتأكد به اجتناب الإعراب مع العوام، زائدا على ما تقدم اتقاء ما صدر منهم لمن خاطبهم به، وبما هو من نوعه غفلة أو تقصيرا في صونه عن مقابلتهم به، فلقي من ذلك ما خلدت نوادره، يتضاحك منها ما بقي الدهر، وحسبك بهذا إهانة للعلم، وانحطاطا لرتبة حامله.
فمن ذلك ما يروى عن الكسائي قال: «حلفت ألا أكلم العامة إلا بما يوافقهم، ويشبه كلامهم، فوقفت على نجار فقلت: «بكم هذان البابان؟ فقال:
__________
(1) الوفيات: 3/ 109.
(2) هو عبد الله بن بري بن عبد الجبار المقدسي الأصل المصري أبو محمد. ت: 582هـ 1187م.
من علماء العربية النابهين، ولي رئاسة الديوان المصري، من مصنفاته: «الرد على ابن الخشاب»، وغلط الضعفاء من الفقهاء»، و «شرح شواهد الإيضاح». انظر الوفيات: 3/ 108 109، والبغية: 2/ 34.
(3) هو عيسى بن عبد العزيز الجزولي البربري المراكشي. ت: 607هـ 1210م. من علماء العربية، تصدر للإقراء بألمرية، وولي خطابة مراكش، من كتبه: «الجزولية» و «شرح أصول ابن السراج»، و «شرح قصيدة بانت سعاد»، و «الأمالي» في النحو قال ابن خلكان: و «الجزولي: بضم الجيم والزاي». انظر: الوفيات: 3/ 491488، والبغية: 2/ 237236.
(4) زيادة من الوفيات: 3/ 109.(2/596)
بسلحتان يا مصفعانيّ (1)، فكان قصاراي الهرب، (وحلفت ألّا أكلم عاميا إلّا بما يصلح)» (2).
ومن ذلك عن أبي زيد النّحوي قال: «وقعت على قصّاب، وقد أخرج بطنين سمينين فعلّقهما، فقلت: بكم هاتان البطنان؟ فقال: بمصفعان يا مضرطان، قال: فغطيت رأسي، وفررت لئلّا يسمع العامة ذلك فيضحكوا، وأصير شهرة» (3).
ومن ذلك عن بعضهم وقد وقف على زجّاج فقال: «أيها الزّجّاج، بكم هاتان القنّينتان اللّتان فيهما نكتتان خضراوتان فقال: 174ظ / / الزجاج:
{مُدْهََامَّتََانِ (64) فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ} (4). فقال النّحوي: ويحك أتهزأ بالقرآن؟ فقال: اعذرني، والله ما ظننتك إلا أنّك تقرأ في سورة الرحمان فرددت عليك» (5).
ومن ذلك عن بعضهم وقد مرّ بقصّاب وهو يسلخ شاة، فقال: «كيف المستطرق إلى درب المداسير؟ فقال القصاب: اصبر قليلا حتى يخرج الكرش وأدلّك على الطريق».
ومن ذلك عن آخر وقد وقف على صاحب بطّيخ فقال له: «بكم تلك، وذانك الفاردة؟ فنظر الرجل يمينا وشمالا ثم قال: اعذرني فما عندي شيء لصفعك» (6).
تعريف:
من نمط هذه المقابلة للمتكلم بمقتضى المعرفة بهذه الصناعة مع غير أهلها
__________
(1) المصفعاني: الذي يصفع كثيرا.
(2) زيادة من تاريخ بغداد: 11/ 413.
(3) انظر: أخبار الحمقى: 126.
(4) سورة الرحمن، الآيتان: 64و 65.
(5) أخبار الحمقى، 126.
(6) م. س: 126.(2/597)
ما قوبل به طائفة من حمقى من اعتقد من الجهلة بها أن كلامه يجري على مناهج قوانينها، وقد نقلوا من ذلك أمورا مستطرفة.
فعن خالد بن صفوان أنّه دخل الحمام، وفيه رجل مع ابنه فأراد الرجل أن يعرف خالدا ما عنده من البيان، فقال: «يا بني، ابدأ بيداك ورجلاك، ثم التفت إلى خالد، فقال: يا أبا صفوان هذا كلام قد ذهب أهله، فقال خالد: ما خلق الله له أهلا قط» (1).
وعن حجاج بن هرون أنه قال يوما: «أطيب الرّطب ما دقّ «نوائها»، ورقّ «لحائها»، فقال له أبو العيناء: ما كنت أعرفك تحسن النحو، وأراك قد تعلمته! [قال: نعم، تعلمته] (2) من معلّم الصّبيان. قال: وفي أي باب الصبيان؟ قال:
في باب الفاعل والفاعلة، قال أبو العيناء: إذا هم في باب أبويهم.
وعن بعض الجاهلين أنه كتب: كتبت من «طيس» يعني من «طوس»:
فقيل له في ذلك، فقال: أردت من «طوس»، و «من» تخفض ما بعدها، فقيل له: إنما تخفض حرفا لا بلدا له خمسمائة قرية» (3).
ويروى أن رجلا قال لآخر: «تأمر بشيئا؟ قال: بتقوى الله، وإسقاط الألف».
وقال آخر لأعرابي وقد أراد مساءلته 174ظ / / عن أهله: «كيف أهلك؟
فقال: صلبا».
والحكايات من هذا النوع على الجملة فيها كثيرة، وقد ذكر منها ابن الجوزي ما هو معروف من ذلك، وفيما ذكر منها كفاية.
الموضع الخامس: وهو خاص بالفقراء السالكين لطريق الإرادة
على ما أشار إليه بعض
__________
(1) م. س: 119.
(2) ما بين المعقوفتين ساقط من «أ».
(3) م. س: 124123.(2/598)
متأخريهم في إعراضهم عن النظر إلى جانب اللفظ وتحسين العبارة، وصرف عنايتهم إلى تحصيل المعاني على أيّ وجه دلت عليه الألفاظ، وإفادتها العبارات حتى أنهم يأتون بكلام يحاكي الشعر وليس به لا في الوزن ولا في القافية.
وقد وقفت لبعض العصريين «أن الشيخ الولي الشهير أبا عبد الله محمد الهواري (1) نزيل وهران، لمّا ألّف «السهو» الذي عمل على «التنبيه» أخذه الفقيه أبو زيد عبد الرحمن المعروف بالمقلاش، فوزن فيه أشياء، وأعرب فيه أشياء، فأتى به إلى الشيخ، فقال له: يا سيدي، إنّي أصلحت «سهوك». فقال له الشيخ:
هذا السهو يقال له: سهو المقلاش، وأمّا سهوي هو سهو الفقراء، إنما ينظر فيه إلى المعنى، ومن أين العربية والوزن لمحمد الهواري؟! بل سهوي يبقى على ما هو عليه».
قلت: وفي مراعاة هذا المعنى على الجملة أنشد غير واحد:
سبيلي لسان كان يعرب لفظه ... فيا ليته من موقف العرض يسلم
وما ينفع الإعراب إن لم يكن تقى ... وما ضر ذا تقوى لسان معجّم
وحكى ابن قتيبة في عيون الأخبار (2) مما يرجع إليه كذلك في الجملة:
«أنّه قيل لعمرو بن عبيد ما البلاغة؟ فقال: ما بلّغك الجنّة، وعدل بك عن النار، وما بصرك مواقع رشدك، وعواقب غيّك، قال السائل: ليس هذا أريد، قال:
من لم يحسن الاستماع لم يحسن القول، قال: ليس هذا أريد. قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّا معشر الأنبياء بكاء» (3)، وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله، 175و / / قال: ليس هذا أريد. قال: كانوا يخافون من فتنة القول، ومن سقطات الكلام ما لا يخافون من فتنة السكوت، ومن سقطات الصمت.
__________
(1) هو محمد بن عمر الهواري. ت: 843هـ 1439م. متصوف، فقيه، مالكي، كان زاهدا، متقشفا، متباعدا عن الملوك والأمراء، له تآليف منها: «السهو والتنبيه» منظومة غير معربة ولا قائمة الأوزان، و «التسهيل»، و «التبيان»، و «تبصرة السائل». انظر النيل: 304303.
(2) انظر: 2/ 171170، والبيان والتبيين: 1/ 68.
(3) البكاء: ج بكيء: وهو ما قل كلامه خلقة.(2/599)
قال: ليس هذا أريد. قال: وكأنك إنما تريد تخير اللفظ في حسن إفهام، قال:
نعم، قال: إنّك إن أردت تقرير حجّة الله في عقول المتكلّفين، وتخفيف المؤونة على المستمعين، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين، بالألفاظ المستحسنة في الآذان المقبولة عند الأذهان، رغبة في سرعة استجابتهم، ونفي الشواغل عن قلوبهم، بالموعظة الحسنة من الكتاب، والسنة، كنت قد أوتيت فصل الخطاب، واستوجبت على الله جزيل الثواب.
حكاية:
يختم بها نقل ما كان عليه العلماء من الحفظ لهذه الصناعة، ومبالغتهم في صونها عن الإهانة لها ببثّها لغير من ليس لها بأهل، أو لا يقدر صاحبها حقّ قدره.
فذكر ابن بشكوال (1) في صلته (2) «أنّ أبا بكر بن دريد لما نزل بلد سيراف سئل الجلوس للقراءة عليه، فأبى ذلك إذ لم ير هنالك من يسوى أن يجلس له فكتب هذه الأبيات وعلّقها في قبلة مسجدهم وهي هذه:
قالوا نراك تطيل الصّمت، قلت لهم: ... ما طول صمتي من عيّ ولا خرس
لكنه أجمل الأمرين منزلة ... عندي وأحسن لي من منطق شكس
قالوا نراك أديبا لست ذا خطل ... فقلت: هاتوا أروني وجه مقتبس
لو شئت قلت، ولكن لا أرى أحدا ... ساوى الكلام فأعطيه مدى النفس
أأنثر البزّ (3) فيمن ليس يعرفه ... وأنثر الدرّ للعميان في الغلس»
قلت: ولهذا أصل عن السّلف رضوان الله عليهم ففي المروي عن
__________
(1) هو خلف بن عبد الملك بن بشكوال الخزرجي الأنصاري القرطبي، الأندلسي أبو القاسم. ت:
578 - هـ 1182م. محدث، حافظ، مؤرخ، شاعر، مشارك في أنواع العلوم، من تصانيفه:
«الصلة» في تاريخ أئمة الأندلس وعلمائهم و «غوامض الأسماء المبهمة» و «الحكايات المستغربة». انظر: الوفيات: 2/ 241240، والديباج: 1/ 354353.
(2) انظر: ص: 430429.
(3) البزّ: الثياب أو متاع البيت من الثياب أو السلاح.(2/600)
علي رضي الله عنه أنّه قال وقد أومأ إلى صدره: «إن هاهنا علوما جمّة لو وجدت لها حملة» 175ظ / /.
وعليه أيضا ما حكى الماوردي (1) «أنّ تلميذا سأل عالما عن بعض العلوم فلم يفده، فقيل له: لم منعته؟ فقال: لكل تربة غرس، ولكلّ بناء أسّ.
قال: قال بعض البلغاء: لكلّ ثوب لابس، ولكل علم قابس.
وحكى الغزالي أن بعض المحققين سئل عن شيء فأعرض، فقال السائل:
أما سمعتم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كتم علما نافعا جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار». فقال: اترك اللّجاج واذهب فإن جاء من يفقهه، وكتمته، فليلجمني به».
قلت: ويتعين هذا الإعراض متى كان فاقد أهلية التّعليم أو المذاكرة، يعتقد في نفسه أنّه فوق المعلّم له، أو المذاكر، وإلى ذلك يشير «صالح بن عبد القدّوس بقوله:
وإنّ عناء أن تفهّم جاهلا ... فيحسب جهلا أنّه منك أفهم
متى يبلغ البنيان يوما تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
متى ينتهي عن سيّىء من أتى به ... إذا لم يكن منه عليه تندّم» (2)
المنهج الخامس: في التحذير من التشدق بغريب العربية وتفاصح المخاطبة بمقعر لغاتها:
وفي ذلك مسألتان:
المسألة الأولى: في مرتبة هذا التحذير من المناهي الشرعية.
__________
(1) في أدب الدنيا: 51.
(2) الأبيات واردة في أدب الدنيا: 42.(2/601)
وظاهر منه الكراهة المذمومة، صرح بها غير واحد من العلماء. قال النووي:
«يكره التقعير في الكلام بالتشدق، وتكلف السجع والفصاحة، والتصنع بالمقدمات التي يعتادها المتفاصحون، وزخارف القول، فكل ذلك من التكلف المذموم، وكذلك تكلف السجع، وكذلك التحري في دقائق الإعراب، ووحشي اللغة في حال مخاطبة العوام، بل ينبغي أن يقصد في مخاطبته لفظا يفهمه صاحبه فهما 176و / / جليا ولا يستثقله» اهـ.
ثم استظهر على ذلك بحديث «عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رواه أبو داود والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل (1) بلسانه كما تتخلل البقرة».
وبحديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هلك [المتنطّعون] (2) قالها ثلاثا» رواه مسلم.
وبحديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال: «إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلسا أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي، وأبعدكم مني يوم القيامة، الثرثارون والمتشدّقون، والمتفيهقون». قالوا: يا رسول الله: قد علمنا الثرثارون، والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: «المتكبرون». رواه الترمذي» اهـ.
ولعلماء الأدب عناية بوصية المتأدب بتجنب هذا المحظور، وتوقي الوقوع فيما يستقبح منه. فقد قال الجاحظ (3): «إن أقبح اللحن لحن أصحاب التقعير، [والتقعيب] (4)، والتشديق والتمطيط، والجهورية (5)، والتفخيم».
__________
(1) جاء في اللسان: هو الذي يتشدق في الكلام ويفخم به لسانه، ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفّا.
(2) في «ج»: المتقطعون.
(3) انظر: البيان والتبيين: 1/ 146.
(4) في «ج»: التعقيب.
(5) الجهورية: رفع الصوت.(2/602)
وقال ابن قتيبة في «صدر أدب الكاتب» (1): «ويستحب له أن يدع في كلامه التقعير، والتقعيب، كقول يحيى بن يعمر لرجل خاصمته امرأته عنده: أأن سألتك ثمن شكرها وشبرك أنشأت تطلّها وتضهلها.
وكقول عيسى بن عمر وابن هبيرة (2) يضربه بالسياط: والله [إن كانت] (3)
إلا أثيّابا في أسيفاط قبضها عشّاروك.
قال: فهذا وأشباهه كان يستثقل، والأدب غض، والزمان زمان، وأهله يتحلون فيه بالفصاحة ويتنافسون في العلم، ويرونه تلو المقدار في درك ما يطلبون، وبلوغ ما يؤملون، فكيف به اليوم مع انقلاب الحال، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيقهون المتشدّقون»؟!» اهـ.
فوائد 176ظ / / منثورة:
المتشدقون قال في «الصحاح»: «هو الذي يلوي شدقه للتفصح».
قال ابن السيد (4): «واشتقاقه من «الشّدقين». يقال: رجل «أشدق» إذا كان واسع الشدقين، جهير الصوت، متنطعا في الكلام، وبه سمي عمرو بن سعيد الأشدق. وفيه قيل:
تشادق حتى مال بالقول شدقه ... وكل خطيب لا أبا لك أشدق» (5)
والتفاصح: تكلف الفصاحة، قال: وتفصح في كلامه، وتفاصح: تكلف الفصاحة والتقعير في الكلام، قال: هو التشدق فيه، والتقعر: التعمق.
__________
(1) انظر: ص: 1312.
(2) هو يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أبو خالد. ت: 132هـ 750م. من ولاة الدولة الأموية، ولي «قنسرين» للوليد بن يزيد، ثم جمعت له ولاية العراقين، واستفحل أمر الدولة العباسية، فبعث إليه السفاح من قتله بقصر واسط في خبر طويل فاجع. انظر: الوفيات: 6/ 321313، والخزانة: 4/ 169167.
(3) ساقط من «ج».
(4) انظر: الاقتضاب: 55.
(5) ورد البيت في البيان والتبيين: 1/ 121.(2/603)
قال ابن السيد (1) «عن أبي علي»: «التقعير: أن يتكلم بأقصى قعر فمه، يقال: قعر في كلامه تقعيرا، وهو مأخوذ من قولهم: قعرت البئر، وأقعرها، إذا عظمت قعرها، وإناء قعران: إذا كان عظيم القعر، فكأن المقعر الذي يتوسع في الكلام ويتشدق.
قال: ويجوز أن يكون من قولهم: «قعرت النخلة فانقعرت»، إذا قلعتها من أصلها فلم تبق منها شيئا، فيكون معنى المقعر من الرجال: الذي لا يبقي غاية من الفصاحة والتشدق إلا أتى عليها».
والوحشي من الكلام: «وحشيه»: غريبه، وغير المألوف منه.
قال ابن السيد (2): «أو كأن الاستعمال شبه بالوحشي من الحيوان، وهو ما يفر من الإنسان ولا يأنس به. والتنطع في الكلام: التعمّق».
وقوله صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون»، قال فيه النووي: «قال العلماء: يعني المتنطعين المبالغين في الأمور. والثرثارون: المكثرون من الكلام».
قال في الصحاح: «والثرثرة: كثرة الكلام وترديده، يقال: ثرثر الرجل فهو ثرثار مهذار.
والمتفيهقون: المتوسعون في الكلام، قال عن الفراء: «فلان يتفهق في كلامه» إذا توسع فيه وتنطع، وأصله: الفهق، وهو الامتلاء، كأنه ملأ به فمه».
قال ابن السيد (3) 177و / /: «وتفسيره في «الحديث»: «بالمتكبرين»، غير خارج عما قاله أهل اللغة، كأن المتكبر المعجب بنفسه يدعوه إعجابه بنفسه وتكبره، إلى التنطع في كلامه. والتقعيب في الكلام: تقعيره». قاله في الصحاح».
__________
(1) في الاقتضاب: 51.
(2) م. س: 59.
(3) م. س: 5655.(2/604)
وفسره ابن السيد (1) في كلام ابن قتيبة: «بأن يصير فمه عند التكلم كأنه قعب، وهو القدح الصغير، قال: وقد يكون الكبير.
والشّكر: بفتح الشين، فرج المرأة.
والشبر: بفتح الشين هنا النكاح وفي «الحديث» أنه نهى عن شبر الفحل».
قال ابن السيد [-1]: «والمعنى عن ثمن شبر الفحل، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه.
وتطلّها: أي تسعى في بطلان حقها من قولهم: طلّ دمه، وأطلّ إذا ذهب هدرا».
قال ابن السيد [-1]: «ويجوز أنه يريد: تقلّل لها العطاء، فيكون مأخوذا من «الطّلّ» وهو أضعف المطر، يقال: طلّت الروضة إذا أصابها المطر فهي مطلولة.
وتضهلها قال ابن السيد: أي تعطيها حقها شيئا بعد شيء، من قولهم: بئر ضهول إذا كان ماؤها يخرج من جرابها، وهي نواحيها، وإنما يكثر ماؤها إذا خرج من قعرها.
وتلو المقدار: بكسر التاء: التابع».
قال ابن السيد (4): «والمقدار هنا بمعنى القدر الذي يراد به القضاء السابق.
قال: ومعنى كون العلم تبعا للمقدار: أن الله تعالى قدر في سابق علمه أن يكون العلم عزّا لصاحبه وشرفا، والجهل ذلّا ومهانة، فيه النجاة وبعدمه الهلاك، وإنما أخذ هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: «ما استرذل الله عبدا إلا حظر عنه العلم والأدب».
قال: ويجوز أن يريد «بالمقدار» قيمة الإنسان، كما يقال: ما لفلان عندي قدر، ولا قدر، ولا مقدار. أي قيمة، فيكون مثل قول علي رضي الله عنه:
«قيمة كل امرىء ما يحسن». انتهى بعض كلامه.
__________
(1) (1) و (2) و (3) م. س: 51.
(4) م. س: 54.(2/605)
تتمة تفسير:
شرح قضية «ابن عمر» على ما «أورده الزبيدي» 177ظ / / مكملا: «أن بعض أحباء خالد بن عبد الله (1) عند وقوع البلية بخالد وأصحابه، استودعه وديعة يعني عيسى بن عمر، فنمي ذلك إلى يوسف بن عمر (2)، فكتب إلى وليه بالبصرة يأمره أن يحمله إليه مقيدا، فدعا به، ودعا بالحداد، فأمر بتقييده فلما عمد قال له الوالي: لا بأس عليك! إنما أرادك الأمير لتؤدب ولده. قال: «فما بال القيد إذا!» فبقيت مثلا بالبصرة، فلما أتى به يوسف بن عمر سأله عن الوديعة، فأنكر، فأمر به، فضرب بالسياط، فلما أخذه السوط جزع فقال: أيها الأمير، إنما كانت أثيّابا في أسيفاط، فرفع الضرب عنه، ووكل به حتى أخذ الوديعة منه.
قال الزبيدي: «الأحباء»: جلساء الأمير، واحدهم: حبا مقصور، مهموز.
قال عن بعضهم: فرأيته طول دهره يحمل في كمه خرقة فيها سكر العشر (3)، والإجاص (4) اليابس، وربما رأيته عندي وهو واقف علي، أو سائر، أو عنده ولاة أهل البصرة، فتصيبه نهكة على فؤاده يخفق لها حتى يكاد يغلب، فيستغيث بإجاصة وسكرة يلقيهما في فمه، ثم يمصهما، فإذا سرط من ذلك شيئا سكن ما به، فسألته عن ذلك فقال: أصابني هذا من الضرب الذي ضربني يوسف فتعالجت له بكل شيء فلم أجد له شيئا أصلح من هذا» (5) اهـ.
__________
(1) خالد بن عبد الله القسري. ت: 126هـ 743م. كان أمير العراقين من قبل هشام بن عبد الملك، وقتل في أيام الوليد بن يزيد. انظر: الشذرات: 1/ 169.
(2) هو يوسف بن عمر بن محمد الثقفي. ت: 127هـ 744م. ولي لهشام بن عبد الملك اليمن ثم العراق بعد عزل خالد بن عبد الله، ثم عزله يزيد بن الوليد وحبسه في دمشق إلى أن قتله يزيد بن خالد القسري بثأر أبيه. انظر: الشذرات: 1/ 172.
(3) العشر: شجر له صمغ وفيه حراق مثل القطن يقتدح به، وله سكر يخرج من زهره ومن شعبه اللسان عشر.
(4) الإجاص بالكسر ثمر يسهل الصفراء، ويسكن العطش وحرارة القلب، ويطلق أيضا على المشمش، والكمثرى، بلغة الشاميين.
(5) طبقات الزبيدي: 4544.(2/606)
قال ابن السيد: «ومما يحكى من تشدقه أنه قال: أتيت الحسن البصري مجرمزا حتى اقعنبيت بين يديه، فقلت له: يا أبا سعيد، أرأيت قول الله تعالى:
{وَالنَّخْلَ بََاسِقََاتٍ لَهََا طَلْعٌ نَضِيدٌ} (1) فقال: هو الطّبّيع في كفرّاه».
قال ابن السيد: «ولعمري إن الآية لأبين من هذا التفسير، و «الطّلع»: أول ما يطلع في النخلة من حملها قبل أن ينشق غشاؤه الذي يستره، فإذا انشق عنه غشاؤه قيل له: الضّحك لأنه أبيض فشبه انشقاقه، وبروزه، بظهور الأسنان عن الضحك. 178و / / و «الطّبّيع»: بكسر الطاء، والباء، وتشديدهما: الطلع بعينه، ويقال له: الطّبيع أيضا بفتح الطاء وتخفيف الباء.
والكفرّى: بضم الفاء وفتحها: الغشاء الذي يكون في الطلع، ويقال له أيضا: الكمام والكمّ. قال الله تعالى: {وَمََا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرََاتٍ مِنْ أَكْمََامِهََا} (2).
و «المجرمز»: المسرع. ومعنى «اقعنبيت»: جلست جلسة مستوفز» (3) اهـ.
المسألة الثانية: في حكاية كلام بهذا النوع المحذر منه صدر من بعض الناس فقوبل لأجله بما كان في غنى عنه.
فمنها ما يروى «أن رجلا من المتقعرين مرضت أمه فأمرته أن يصير إلى المسجد، ويسأل الناس الدعاء لها، فكتب في حيطان المسجد: «صين وأعين رجل دعا لامرأة، مقسئنة، عليلة، بليت بأكل هذا الطرموق الخبيث، أن يمن الله عليها بالأطرغشاش والأبرغشاش» فما قرأ أحد الكتاب إلا لعنه وأمه.
قال ابن السيد: يريد بقوله: «صين وأعين»، صانه الله، وأعانه على معنى الدعاء.
__________
(1) سورة ق، الآية: 10.
(2) سورة فصلت، الآية: 47.
(3) الاقتضاب: 52.(2/607)
و «المقسئنة»: المتناهية في الهرم والشيخ، يقال: اقسأنّ العود: إذا اشتد وصلب وذهبت عنه الرطوبة واللين.
و «الطرموق»: و «الطمروق»: بتقديم الميم على الراء: الخفاش.
ويقال: «اطرغش الرجل من مرضه، و «ابرغشّ»، وتقشقش إذا فاق وبرأ.
قال: وكان يقال ل {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ يََا أَيُّهَا الْكََافِرُونَ}:
«المقشقشتان». يراد أنهما يبرئان حافظهما من النفاق. وقال الشاعر:
أعيذك بالمقشقشتين مما ... أحاذره ومن شر العيون» (1)
ومنها عن أبي علقمة (2) أنه دخل على «أعين» الطبيب، فقال له: «أمتع الله بك، إني أكلت من لحوم هذه الجوازل، فطسئت طسأة، فأصابني وجع من الوابلة إلى دأية (3) 178ظ / / العنق، فلم يزل [يربو] (4) وينمى حتى خالط الخلب والشراسيف فهل عندك دواء؟
فقال «أعين»: نعم، خذ خربقا (5)، وشلفقا (6)، وشبرقا (7) فزهزقه، واغسله بماء روث، واشربه، فقال أبو علقمة: لم أفهم عنك، فقال «أعين»:
أفهمتك كما أفهمتني» (8).
قال ابن «قتيبة» في عيون الأخبار (9): «وقال له يوما آخر: إني أجد معمعة
__________
(1) الاقتضاب: 52.
(2) أبو علقمة النحوي النميري، قال ياقوت: أراه من أهل واسط. وقال القفطي: قديم العهد يعرف اللغة، كان يتقعر في كلامه، ويعتمد الحوشي من الكلام الغريب. انظر: معجم الأدباء: 12/ 215205، والبغية: 2/ 140139.
(3) دأية: ج دأيات: ملتقى ضلوع الصدر أو فقرة العنق.
(4) في «أ» و «ج» و «د»: بريق.
(5) الخربق: نبات كالسم يغشى على آكله ولا يقتله. اللسان خربق.
(6) شلفقا بالشين واللام والفاء والقاف: لم نقف لها على معنى، وفي البيان والتبيين 2/ 270:
سفلقا.
(7) الشّبرق: نبت، وأهل الحجاز يسمونه الضّريع إذا يبس اللسان شبرق.
(8) انظر: عيون الأخبار: 2/ 162، وأخبار الحمقى: 127، ومعجم الأدباء: 12/ 209.
(9) انظر: 2/ 162.(2/608)
في بطني وقرقرة، فقال له: أما المعمعة فلا أعرفها، وأما القرقرة فضراط لم ينضج» اهـ.
وتفسير هذا الغريب على ما في «الصحاح»:
««فالجوازل»: جمع جوزل، وهو فرخ الحمام.
«وطسئت»: بمعنى اتخمت، يقال: طسىء يطسأ طسأ إذا اتخم عن الدسم.
«والوابلة»: طرف الكتف وهو رأس العضد.
«والخلب» بالكسر: الحجاب الذي بين القلب وسواد البطن.
«والشراسيف»: جمع شرسوف، وهي مقاط الأضلاع، وهي أطرافها التي تشرف على البطن، ويقال «الشرسوف»: غضروف معلق بكل ضلع مثل غضروف الكتف».
ومنها قال ابن قتيبة (1): «سمع أعرابي «أبا المكنون»؟ في حلقته، وهو يقول في دعاء الاستسقاء: اللهم ربنا، وإلا هنا، ومولانا صل على محمد نبينا، اللهم ومن أراد بنا سوءا فأحط ذلك السوء به، كإحاطة القلائد على ترائب (2)
الولائد، ثم أرسخه في هامته، كرسوخ السجيل على هام أصحاب الفيل، اللهم أسقنا غيثا مغيثا، مريئا مريعا، مجلجلا، مسحنفرا، هزجا، سحّا، سفوحا، طبقا، غدقا، مثعنجرا.
فقال الأعرابي: يا خليفة نوح، هذا الطوفان ورب الكعبة، دعني آوي عيالي إلى جبل يعصمني من الماء» اهـ.
وتفسير المشكل منه:
«فمريئا مريعا»: أي مخصبا، و «مجلجلا» أي يدخل في الأرض ويغوص فيها.
__________
(1) م. س: 2/ 164.
(2) التّرائب: ج تريبة وهو أعلى الصدر، موضع القلادة.(2/609)
و «مسحنفرا»: أي مسرعا واسعا، على ما يقتضيه كلام الجوهري 179و / /.
و «هزجا»: أي ذا صوت بالرعد أو غيره.
و «سحّا سفوحا»: أي سائلا [مهراقا] (1).
و «طبقا غدقا»، قال الخطابي: «الطبق الذي يطبق وجه الأرض، والغدق، والمغدق، الكثير القطر».
ومثعنجرا: قال الجوهري: ثعجر الدم وغيره، فاثعنجر: أي صببته فانصب.
ومنها قال ابن قتيبة (2) أيضا: «أتى رجل الهيثم بن العريان (3) بغريم له، وقد مطله حقه فقال: أصلح الله الأمير، إن لي على هذا حقا قد غلبني عليه، فقال له الآخر، أصلحك الله، إن هذا باعني عنجدا، واستنسأته حولا، وشرطت عليه أن أعطيه مشاهرة، فهو لا يلقاني في لقم إلا اقتضاني، فقال له الهيثم: أمن بني أمية أنت؟ قال: لا، فمن بني هاشم؟ قال: لا، فمن أكفائهم من العرب؟
قال: لا، قال: ويلي عليك، انزع ثيابه يا جلواز (4) فلما أرادوا نزع ثيابه، قال:
أصلحك الله، إن إزاري مرعبل، فقال: دعوه فلو ترك الغريب في وقت لتركه في هذا الوقت» اهـ.
العنجد: قال في الصحاح: «ضرب من الزبيب. واللقم بالتحريك: قال:
هو وسط الطريق. والمرعبل من الثياب: الممزق، وقال: ويقال: جاء فلان في رعابيل أي في أطمار وأخلاق».
__________
(1) في «ج»: هرقا.
(2) في عيون الأخبار: 2/ 163.
(3) وفي «الإصابة»: أنه الهيثم بن الأسود النخعي المذحجي، وأنه يكنى أبا العريان. ت: نحو 100هـ 718م. خطيب، وشاعر، كان رسول «زياد» إلى «معاوية» في طلبه ضم الحجاز إلى ولايته في العراق، كما ظل مواليا لعبد الملك بن مروان، وكان ثقة في الرواية من خيار التابعين. انظر: البيان والتبيين: 1/ 399، والإصابة: 3/ 621.
(4) الجلواز: الشرطي لجلوزته في ذهابه وإيابه.(2/610)
قلت: ينظر إلى قوله: «لو ترك الغريب في يوم لتركه في هذا الوقت» ما حكاه ابن الجوزي (1): «أن نحويا وقع في كنيف فصاح به الكناس أنت في الحياة ويلك! فقال: يا هذا أبغني سلما وثيقا، وأمسكه إمساكا رفيقا، ولا بأس علي فقال الكناس: لو كنت تركت الفضول يوما لتركته الساعة وأنت في الخراء إلى الحلق».
ومنها قال ابن السيد (2): «وهو من طريف أخبار المتقعرين ما روي أن «الجرج آي» كان له كاتب يتقعر في كلامه، فدخل الحمام في السحر، فوجده خاليا، فقال لبعض [الخدم] (3) ناولني الحديدة التي تمتلخ بها الطؤطؤة من 179ظ / / الإخقيق، فلم يفهم قوله، وعلم بهيئة الحال أنه يطلب ما يزيل به الشعر عن عانته، فأخذ كستبان النّورة (4) فصبه عليه، فخرج وشكا به إلى صاحب المدينة، فأمر بالخادم إلى السجن، فاتصل الأمر «بالجرج آي» فضحك، واستظرف ما جرى، وأمر بالخادم فأطلق، وألحقه بجملة أتباعه.
قال ابن السيد: أراد بقوله: تمتلخ: تنزع وتزال من قولهم: امتلخت غصنا من الشجرة إذا قطعته، وملخت اللجام عن رأس الفرس، إذا نزعته.
والطؤطؤة: شعر العانة، ويقال له: الشعرة أيضا.
والإخقيق: الشق يكون في الأرض، فأراد به هاهنا الشق الذي بين الفخذين».
ومنها قال الزبيدي (5): «قعد إلى أبي الأسود يعني الدؤلي غلام فقال له أبو الأسود: ما فعل أبوك؟ فقال: أخذته الحمى فطبخته طبخا، وفنخته فنخا،
__________
(1) انظر: أخبار الحمقى: 126.
(2) انظر: الاقتضاب: 53.
(3) في «أ»: الخدام.
(4) النّورة: حجر الكلس، ثم غلب على أخلاط تضاف إلى الكلس من زرنيخ وغيره لإزالة الشعر.
اللسان: نور.
(5) في طبقاته: 2423.(2/611)
فتركته فرخا، فقال: فما فعلت امرأته التي كانت تجارّه (1)، وتضارّه، وتشارّه، وتهارّه، وتزاره؟ قال: طلقها فتزوجت غيره. فرضيت وحظيت وبظيت.
قال أبو الأسود: فقد عرفنا «حظيت» فما «بظيت» يا بني: فقال الغلام:
حرف من الغريب لم يبلغك فقال أبو الأسود: يا بني، ما لم يبلغ عمك فاستره كما تستر الهرة خرأها».
قلت: ذكر الجاحظ (2): «أن هذا الغلام كان يقعر في كلامه، فأتى أبو الأسود الدؤلي يلتمس بعض ما عنده، وأنه أجاب عن السؤال عن أبيه بقوله:
أخذته الحمى، فطبخته طبخا، وفنخته فنخا، وفضخته فضخا، فتركته فرخا.
ومعنى «فنخته»: أضعفته، و «فضخته» (3): دقته.
و «تهاره»: أي تكرهه، و «تزاره»: أي [تعضه] (4)، والزّر: [العض] (5)، قاله أبو عبيد.
ومنها عن أبي علقمة النحوي: وكان يعتريه هيجان مرار في بعض الأوقات، فهاج به في بعض الطرق، فسقط إلى الأرض مغشيا عليه، فاجتمع الناس حوله، وظنوه مجنونا، 180و / / فجعلوا يقرؤون في أذنه، ويعضون على إبهامه، فلما ذهب ما كان به، فتح عينيه، فنظر إلى الناس يزدحمون عليه فقال:
ما لكم تتكأكأون عليّ تكأكؤكم على ذي جنّة، [افرنقعوا] (6) عني، فقال رجل منهم: دعوه فإن شيطانه يتكلم بالهندية».
قال ابن السيد (7): «يقال: تكأكأ الرجل على الشيء، إذا انحنى وتقاصر،
__________
(1) تجاره: قال أبو الطيب في «مراتب النحويين»: 29: تفاعله من الجر، أي يجرها وتجره.
(2) انظر البيان والتبيين: 1/ 379.
(3) جاء في مراتب النحويين / 28. فضخت الشيء، أفضخه فضخا، إذا شدخته.
(4) في «أ» و «ج» و «د»: تعاضه.
(5) في «أ» و «ج» و «د»: البغض.
(6) غير واضحة في «ج».
(7) انظر: الاقتضاب: 53.(2/612)
ومنه قيل للقصير: متكأكىء، وتكأكأ القوم: إذا تضايقوا وازدحموا، فإذا قيل:
تكأكأ عن الشيء فمعناه: ارتدع ونكص على عقبيه.
والإفرنقاع: الزوال عن الشيء» اهـ.
قلت: وحكى الجاحظ (1) [عنه] (2) أنه هاج به الدم فأتوه بحجام، فقال للحجام: «اشدد قضب الملازم (3)، وأرهف ظبات المشارط (4)، وأسرع الوضع، وعجل النزع، وليكن شرطك وخزا، ومصّك نهزا، ولا تكرهنّ آبيا، ولا تردن آتيا، فوضع الحجام محاجمه في جونته (5) وانصرف. قال: لو كان حجاما مرة ما زاد على ما قال».
قلت: وعلى ذكر من اعترضه الجنون من أهل العربية، وهو مع ذلك تصدر عنه نوادر المعرفة بها فلنأت من أخبارهم بحكايتين ذكرهما «الخطيب» في «تاريخه» (6) استطرافا لفائدتهما، واستحسانا لما اشتملتا عليه.
الحكاية الأولى: عن المبرد
قال: «قال لي المازني: يا أبا العباس، بلغني أنك تنصرف من مجلسنا فتصير إلى المخيّس (7)، وإلى موضع المجانين والمعالجين، فما معناك في ذلك؟ قال: فقلت: (أعزك الله تعالى) (8) إن لهم طرائف من الكلام، وعجائب من الأقسام، قال: فخبرني بأعجب ما رأيت في ذلك، قال: فقلت:
دخلت يوما إلى مستقرهم، فرأيت مراتبهم على قدر بليتهم، وإذا قوم قيام قد
__________
(1) البيان والتبيين: 1/ 380، وعيون الأخبار: 2/ 164163.
(2) ساقط من «ج».
(3) الملازم: ج ملزم وملزمة: خشبتان أو حديدتان تشد إحداهما إلى الأخرى بواسطة مفتاح أو شبهه، ويجعل بينهما ما يراد الضغط عليه.
(4) المشارط: ج مشرط، ومشرطة ومشراط: المبضع.
(5) الجونة بالضم: سليلة مغشاة أدما تكون مع العطارين (القاموس المحيط).
(6) انظر: 3/ 385383، والوفيات: 4/ 317315.
(7) المخيّس: السجن.
(8) زيادة من تاريخ بغداد: 3/ 383.(2/613)
شدت أيديهم إلى الحيطان بالسلاسل، ونقبت من البيوت التي هم بها إلى غيرها مما يجاورها، لأن علاج أمثالهم أن يقوموا الليل والنهار، ولا يقعدون، ولا يضطجعون، ومنهم من 180ظ / / يجلب (1) على رأسه، ويدهن أوراده، ومنهم من ينهل، ويعلّ بالدواء، حسبما يحتاجون إليه، فدخلت يوما مع ابن أبي خميصة، وكان المتقلد للنفقة عليهم، ولتفقد أحوالهم، فنظروا إليه، وأنا معه، فأمسكوا عما كانوا عليه، فمررت على شيخ منهم تلوح صلعته، وتبرق للدهن جبهته، وهو جالس على حصير نظيف، ووجهه إلى القبلة كأنه يريد الصلاة، فجاوزته إلى غيره، فناداني، سبحان الله! أين السلام، من المجنون، ترى أنا أو أنت؟ فاستحييت منه، وقلت: السلام عليكم، فقال: لو كنت ابتدأت لأوجبت علينا حسن الرد عليك، على أنا نصرف سوء أدبك إلى أحسن جهاته من العذر، لأنه كان يقال: إن للداخل على القوم دهشة، اجلس أعزك الله عندنا، وأومأ إلى موضع من حصيره ينفضه كأنه يوسع لي، فعزمت على الدنو منه، فناداني ابن أبي خميصة إياك إياك، فأحجمت عن ذلك، ووقفت ناحية أستجلب مخاطبته، وأرصد الفائدة منه. ثم قال: وقد رأى معي محبرة، يا هذا أرى معك آلة رجلين، أرجو ألا تكون أحدهما، أتجالس أصحاب الحديث الأغثّاء أم الأدباء أصحاب النحو والشعر؟ قلت: الأدباء، قال: أتعرف أبا عثمان المازني؟ قلت:
نعم، معرفة تامة، قال: فتعرف الذي يقول فيه:
وفتى من مازن ... ساد أهل البصره (2)
أمّه معرفة ... وأبوه نكره
قلت: لا أعرفه، قال: فتعرف غلاما له قد نبغ في هذا العصر معه ذهن، وله حفظ قد برز في النحو، وجلس في مجلس صاحبه، وشاركه فيه، يعرف بالمبرد؟ قلت: أنا والله عين الخبير به. قال: فهل أنشدك شيئا من عبثات شعره،
__________
(1) يجلب على رأسه: أي يمرر يده، أو يتوعد بشر.
(2) البصرة: والبصرة والبصرة: أرض حجارتها جصّ، وبها سميت البصرة، والبصرة أعم، والبصرة كأنها صفة، اللسان: بصر.(2/614)
قلت: لا أحسبه يحسن قول الشعر، قال: يا سبحان الله! أليس هو الذي يقول:
حبذا ماء العناقي ... د بريق الغانيات
بهما ينبت لحمي ... ودمي أي نبات
أيها الطالب أشهى ... من لذيذ الشهوات
كل بماء المزن تفا ... ح خدود الناعمات
قلت: قد سمعته ينشد هذا في مجالس الأنس، قال: يا سبحان الله! ويستحيى أن ينشد مثل هذا حول الكعبة؟! ما تسمع الناس يقولون في نسبه؟! قلت: يقولون هو من الأزد: أزد شنّوءة من ثمالة، قال: قاتله الله، ما أبعد غوره، أتعرف قوله:
سألنا عن ثمالة كل حي ... فقال القائلون: ومن ثماله ... فقلت: محمد بن يزيد منهم ... فقالوا: زدتنا بهم جهاله ... فقال لي المبرد: خلّ قومي ... فقومي معشر فيهم نذاله
قلت: أعرف هذه الأبيات لعبد الصمد بن المعذل (1) يقولها فيه، قال:
كذب والله كل من ادعى هذا لغيره، وهذا كلام رجل لا نسب له، يريد أن يثبت له بهذا الشعر نسبا! قلت: أنت أعلم.
قلت: وكذا حكى ابن خلكان (2) قال: «ويقال: إن هذه الأبيات للمبرد، وكان يحب أن يشتهر بهذه القبيلة، فصنع هذه الأبيات، فشاعت وحصل له مقصوده من الاشتهار» اهـ.
ثم قال المبرد: «قال لي: يا هذا قد غلبت بخفة روحك على قلبي، وتمكنت بفصاحتك من استحساني، وقد أخرت ما كان يجب أن أقدمه: الكنية
__________
(1) هو أبو القاسم عبد الصمد بن المعذل بن غيلان العبدي من بني عبد القيس. ت: نحو: 240هـ 854م. من شعراء الدولة العباسية، كان هجاء شديد العارضة، سكيرا، خميرا. انظر: الوفيات:
2/ 330.
(2) الوفيات: 4/ 320.(2/615)
أصلحك الله؟ قلت: أبو العباس. قال: فالاسم؟ قلت: محمد. قال:
فالأب؟ قلت: يزيد. قال: قبحك الله! أحوجتني إلى الاعتذار إليك مما قدمت ذكره، ثم وثب باسطا إلي يده لمصافحتي، فرأيت القيد في رجله قد شدّ إلى خشبة في الأرض، فأمنت عند ذلك غائلته، فقال لي: يا أبا العباس، صن نفسك عن الدخول إلى مثل هذه المواضع، 181ظ / / فليس يتهيأ لك أن تصادف مثلي على هذه الحالة الجميلة، أنت المبرد، وجعل يصفق، وانقلبت عينه، وتغيرت خلقته، فبادرت مسرعا خوفا من أن تبدر منه بادرة، وقبلت والله قوله، فلم أعاود الدخول إلى مخيّس ولا غيره» اهـ.
قلت: وعلى ذكر ما هجي به المبرد رحمه الله في هذه الأبيات، فقد ذكر الخطيب (1) رحمه الله نوعا آخر من هجائه.
«وما نقل مما مدح به، وأثني به على حميد مناقبه، هو المعتقد في جنابه، والمعتمد عليه فيما يجب له، ولكن أبى الحسد إلا الغض من مناصب الكملاء.
فمما ذكر من هجوه في حكاية «أبي الفضل ابن طومار» قال: كنت عند «محمد بن نصر بن بسام» فدخل عليه حاجبه، فأعطاه رقعة، وثلاثة دفاتر كبارا، فقرأ الرقعة، فإذا المبرد قد أهدى إليه كتاب «الروضة» وكان ابنه «علي» حاضرا. قال: فرمى بالجزء الأول إليه، وقال له: انظر يا بني، هذه أهداها إلينا أبو العباس المبرد، فأخذ ينظر فيه، وكان بين يديه دواة، فشغل أبو جعفر بحديثنا، فأخذ «علي» الدواة، ووقع على ظهر الجزء شيئا وتركه وقام. قال:
فلما انصرف، قال أبو جعفر: أروني أي شيء وقع هذا المشؤوم فإذا هو:
لو برا الله المبرد ... من جحيم يتوقد
كان في «الروضة» حقا ... من جميع الناس أبرد
وأنشد لآخر في معناهما:
__________
(1) تاريخ بغداد: 3/ 386.(2/616)
ويوم كحرّ الشوق في [الصدر] (1) والحشا ... على أنه منه أحر [وأومد] (2)
ظللت به عند المبرد ثاويا ... فما زلت في ألفاظه أتبرد
قال عن بعضهم: صحف المبرد في كتاب «الروضة» في قوله: حبيب بن خدرة فقال: جدرة 182و / / وفي ربعي بن حراش (3) فقال: خراش! فقال بعض الشعراء يهجوه:
غير أن الفتى كما زعم النا ... س دعي مصحف كذاب
وأنشد عن بعضهم (4) قبله:
كثرت في المبرد الآداب ... [واستقلت] (5) في عقله الألباب
ومما حكي من مدحه، والإشادة بذكر فضائله، قول بعض الشعراء (6) في انتسابه للأزد:
أيا ابن سراة الأزد، أزد شنوءة ... وأزد العتيك [الصدر] (7) رهط المهلب
أولئك أبناء المنايا إذا غدوا ... إلى الحرب عدوا واحدا ألف مقنب (8)
حموا حمى الإسلام بالبيض والقنا ... وهم ضرموا نار الوغى بالتلهب
وهم سبط أنصار النبي محمد ... على أعجمي الخلق والمتعرب
وأنت الذي لا يبلغ الناس وصفه ... وإن أطنب المداح مع كل مطنب
رأيتك «والفتح بن خاقان» مقبلا ... وأنت عديل الفتح في كل موكب
__________
(1) في «أ»: الصدور.
(2) في الأصول: وأبرد.
(3) ربعي بن حراش العبسي أبو مريم. ت: نحو 104هـ 721م. تابعي مشهور، من أهل الكوفة، ثقة في الحديث، كان أعمى، يقال: إنه لم يكذب قط. انظر: تاريخ بغداد: 8/ 435433، والوفيات: 2/ 301300.
(4) في تاريخ بغداد: 3/ 382، أنه أحمد بن أبي طاهر.
(5) في «ج»: اشتغلت.
(6) م. س: 3/ 382، هو الشاعر أحمد بن عبد السلام.
(7) في الأصول: الصيد.
(8) المقنب: مخلب الأسد، ويطلق على جماعة الفرسان وكتائب الجيوش.(2/617)
وكان أمير المؤمنين إذا رنا ... إليك يطيل الفكر بعد التعجب
وأوتيت علما لا يحيط بكنهه ... علوم بني الدنيا ولا علم ثعلب (1)
يؤوب إليك الناس حتى كأنهم ... ببابك في أعلى منى والمحصب (2)
وقول بعضهم (3):
رأيت محمد بن يزيد يسمو ... إلى العلياء في جاه وقدر
جليس خلائف وغذي ملك ... وأعلم من رأيت بكلّ أمر
وفتيانية الظّرفاء فيه ... وأبهة الكبير بغير كبر 182ظ / /
وينثر إن أجال الفكر درّا ... وينثر لؤلؤا من غير فكر
وقالوا: ثعلب يملي ويفتي ... وأين الثّعلبان من الهزبر
وقول بعضهم (4):
بنفسي أنت يا ابن يزيد من ذا ... يساوي ثعلبا بك غير قين!
إذا مازتكما العلماء يوما ... رأت شأويكما متفاوتين
تفسّر كل مقفلة بحذق ... وتستر كلّ واضحة بعين
كأنّ الشّمس ما تمليه شرحا ... وما يمليه همزة بين بين (5)
وقول بعضهم من أبيات:
وإذا يقال من الفتى كل الفتى ... والشيخ والكهل الكريم العنصر
والمستضاء بعلمه وبرأيه ... وبعقله قلت: ابن عبد الأكبر (6)
وقول نظيره أبي العباس ثعلب رحمه الله حين مات وذلك أبلغ في مدحه وحسن الثناء عليه:
__________
(1) أبو العباس ثعلب، وكان بينهما من المنافرة ما لا خفاء به.
(2) المحصب: موضع رمي الجمار بمنى.
(3) أيضا الشاعر أحمد بن عبد السلام كما ذكر صاحب نزهة الألباء: 224.
(4) تاريخ بغداد: 3/ 382: بعض أصحاب المبرد.
(5) م. س: 3/ 382.
(6) م. س: 3/ 383382، والنزهة: 225.(2/618)
مات المبرد وانقضت أيامه ... وسينقضي بعد المبرّد ثعلب
بيت من الآداب أصبح نصفه ... خربا، وباقي نصفه فسيخرب» (1)
قلت نسبهما ابن خلكان لأبي بكر ابن العلاف (2) من أبيات قال: «وكان ابن الجواليقي (3) كثيرا ما ينشدها وهي:
ذهب المبرّد وانقضت أيامه ... وليذهبن إثر المبرّد ثعلب
بيت من الآداب أصبح نصفه ... خربا وباقي بيتها فسيخرب 183و / /
فابكوا لما سلب الزّمان ووطّنوا ... للدّهر أنفسكم على ما يسلب
وتزودوا من ثعلب، فبكأس ما ... شرب «المبرد» عن قريب يشرب
وأرى لكم أن تكتبوا أنفاسه ... إن كانت الأنفاس ممّا يكتب» (4)
قلت ويحتمل أن يكون «ثعلب» أنشدهما لما قيلت عند موت المبرد فنسبت إليه، وكيفما كان، فالشهادة فيهما بذلك مما لا خفاء فيه عند العلماء.
قال الزبيدي (5): «كان ثعلب ومحمد بن يزيد عالمين قد ختم بهما تاريخ الأدباء.
قال: وكانا كما قال بعض المحدثين:
فيا طالب العلم لا تجهلن ... وعذ بالمبرّد أو ثعلب
تجد عند هذين علم الورى ... فلا تك كالجمل الأجرب
__________
(1) تاريخ بغداد: 3/ 387، والنزهة: 227.
(2) هو الحسن بن علي بن أحمد النهرواني أبو بكر ابن العلاف. ت: 318هـ 930م. شاعر، عاش في بغداد، ونادم بعض الخلفاء، وكف بصره، وهو صاحب القصيدة في رثاء الهر، قيل: إنه أراد رثاء عبد الله بن المعتز، وخشي من الخليفة المقتدر، فجعلها في الهر. انظر: تاريخ بغداد: 7/ 380379، والوفيات: 2/ 111107.
(3) هو موهوب بن أحمد ابن الجواليقي. ت: 540هـ 1145م. عالم بالأدب واللغة قال عنه القفطي، هو من مفاخر بغداد. من تصانيفه: «المعرب»، و «تكملة إصلاح ما تغليط فيه العامة»، و «أسماء خيل العرب وفرسانها». انظر: الإنباه: 3/ 337335، والوفيات: 5/ 344342.
(4) الوفيات: 4/ 319.
(5) في طبقاته: 143.(2/619)
علوم الخلائق مقرونة ... بهذين في الشّرق والمغرب»
الحكاية الثانية: عن ابن الأنباري
(1) قال: «دخلت «البيمارستان» بباب المحول، فسمعت صوت رجل في بعض البيوت يقرأ: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللََّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (2) فقال: أنا لا أقف إلا على قوله:
{كَيْفَ يُبْدِئُ اللََّهُ الْخَلْقَ}، فأقف على ما عرفه القوم، وأقروا به، لأنّهم لم يكونوا يقرّون بإعادة الخلق، وابتدىء بقوله: {ثُمَّ يُعِيدُهُ}، فيكون خبرا.
وأما قراءة علي بن أبي طالب: «وادّكر بعد أمه» (3) فهو وجه حسن، الأمه: النسيان، وأمّا أبو بكر بن مجاهد، فهو إمام في القراءة، وأما قراءة الأحمق يعني ابن شنبوذ (4): «إن تعذّبهم فإنّهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنّك أنت الغفور الرّحيم» (5) فخطأ، لأن الله تعالى قد قطع لهم بالعذاب في قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (6). 183ظ / /.
قال: فقلت لصاحب [البيمارستان] (7): من هذا [الرجل] (8)؟ فقال: هذا
__________
(1) في النزهة: 269268. وابن الأنباري: هو أبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري. ت: 577هـ 1181م. نحوي، مشارك في أنواع من العلوم تصدّر لإقراء النحو بالنّظامية. وأخذ عنه العلماء. من تصانيفه: «أسرار العربية»، و «ديوان اللغة»، و «نزهة الألباء».
انظر الإنباه: 2/ 171169.
(2) سورة العنكبوت، الآية: 19.
(3) سورة يوسف، الآية: 45.
(4) هو أبو الحسن محمد بن أيوب بن الصلت بن شنبوذ شيخ الإقراء بالعراق. ت: 328هـ 939م.
انفرد بشواذ كان يقرأ بها في المحراب، وعلم الوزير ابن مقلة بأمره، فأحضره، وأحضر بعض مناظريه، فنسبهم للجهل، وأغلظ للوزير فأمر بضربه ونفيه. له: «اختلاف القراءات». انظر:
طبقات القراء: 2/ 5652.
(5) سورة المائدة، الآية: 118، والقراءة الصحيحة: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
وانظر: توجيه هذه القراءة في تفسير القرطبي: 6/ 379377.
(6) سورة النساء، الآية: 48.
(7) في الأصول: النيمارستان.
(8) زيادة من تاريخ بغداد: 3/ 185. ومن النزهة: 268.(2/620)
«إبراهيم» الموسوس محبوس، فقلت: ويحك، هذا «أبيّ بن كعب» افتح الباب عنه، ففتح [الباب] (1) وإذا أنا برجل منغمس في النجاسة، والأدهم في قدميه، فقلت: السلام عليكم، فقال: كلمة مقولة، فقلت: ما منعك من رد السلام عليّ؟
فقال: السلام أمان، وإني أريد أن أمتحنك، ألست تذكر اجتماعنا عند أبي العباس يعني ثعلبا في يوم كذا، وفي يوم كذا، وعرفني ما ذكرته وعرفته، وإذا به رجل من أفاضل أهل العلم، فقال: ما هذا الذي تراني منغمسا فيه؟ فقلت:
الخرء يا هذا، فقال: وما جمعه؟ فقلت: خروء، فقال لي: صدقت، وأنشد:
«كأن خروء الطير فوق رؤوسهم» (2)
ثم قال: والله لو لم تجبني بالصواب لأطعمتك منه، فقلت: الحمد لله الذي نجّاني منك، وتركته وانصرفت» (3).
تكميلان في تنبيه:
التكميل الأول: ما سبق من «ذمّ التشدق بالغريب، وتخلل اللّسان بالبلاغة كما تتخلل البقرة» لا يشمل البيان بالنّهي عنه،
ولا يتضمن كراهة الاتّصاف به، لما ثبت من خصوصية مدحه، ومزية الثناء عليه، وبيانه من وجهين:
أحدهما: شهادة الكتاب العزيز بذلك، وتضمنه لما يدل عليه.
أما أولا: فتقريره لنعمة المنّة به على الإنسان في قوله تعالى: {الرَّحْمََنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسََانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيََانَ} (4). ذكره غير واحد من العلماء.
__________
(1) زيادة من م. س: 3/ 185.
(2) صدر بيت عجزه هو:
«إذا اجتمعت قيس معا، وتميم»
انظر اللسان: خرأ وقد نسبه إلى جواس بن نعيم الضبي.
(3) انظر: تاريخ بغداد: 3/ 186185.
(4) سورة الرحمن، الآيات: 41.(2/621)
ومن كلام الجاحظ (1) في ذلك: «ذكر الله تعالى جميل [بلائه] (2) في تعليم البيان، وعظيم نعمته في تقويم اللّسان». ثم ذكر الآية الكريمة.
وأما ثانيا: فتمدحه في نفسه بكونه قد بلغ في مراتب الإبانة الحد الذي عجز الخلق عن الإتيان بمثلها حتّى سمّي بالبيان 184و / / في قوله تعالى: {هََذََا بَيََانٌ لِلنََّاسِ}.
قال الجاحظ مقرّرا لهذا الوجه الواضح الحجّة، الجاري من صحّة الاعتقاد له على أنهج محجة: «مدح الله تعالى القرآن بالبيان والإفصاح، وبحسن التفصيل والإيضاح، وبجودة الإفهام، وحكمة الإبلاغ، وسماه فرقانا كما سماه قرآنا، وقال: {عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (3).
وقال: {وَكَذََلِكَ أَنْزَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} (4) وقال: {وَ [نَزَّلْنََا]} [5] عَلَيْكَ الْكِتََابَ تِبْيََاناً لِكُلِّ شَيْءٍ (6) وقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنََاهُ تَفْصِيلًا} (7) اهـ.
وأما ثالثا: فتضمنه لسؤال موسى عليه السلام حين بعث إلى فرعون:
{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسََانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} (8). وقوله: {وَأَخِي هََارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسََاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} (9)، وقوله: {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلََا يَنْطَلِقُ لِسََانِي} (10).
قال الجاحظ (11): «رغبة منه في غاية الإفصاح بالحجة، والمبالغة في
__________
(1) انظر: البيان والتبيين: 1/ 8.
(2) في الأصول: الآية.
(3) في سورة النحل، الآية: 103: {وَهََذََا لِسََانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}.
وفي سورة الشعراء، الآية: 195: {بِلِسََانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}.
(4) سورة طه، الآية: 113.
(5) في «ج»: أنزلنا.
(6) سورة النحل، الآية: 89.
(7) سورة الإسراء، الآية: 12.
(8) سورة طه، الآيتان: 27و 28.
(9) سورة القصص، الآية: 34.
(10) سورة الشعراء، الآية: 13.
(11) البيان والتبيين: 1/ 7.(2/622)
وضوح الدّلالة لتكون الأعناق إليه أميل، والعقول عنه أفهم، والنفوس إليه أسرع، وإن كان قد يأتي من وراء الحاجة، ويبلغ أفهامهم على بعض المشقة» انتهى المراد منه.
وأما رابعا: فتسجيله بأن رسولا لم يرسل إلا بلسان القوم المرسل إليهم في قوله تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ رَسُولٍ إِلََّا بِلِسََانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (1).
قال الجاحظ (2): «لأنّ مدار الأمر على البيان والتبيّن، وعلى الإفهام والتفهم، فكلما كان اللسان أبين، كان أحمد، كما أنه كلما كان القلب أشد استبانة كان أحمد، والمفهم لك والمتفهم عنك شريكان في الفضل، إلّا أن المفهم أفضل من المتفهم، وكذلك المعلم أفضل من المتعلّم، هكذا ظاهر هذه القضية، وجمهور هذه الحكومة إلّا في الخاصّ الذي لا يذكر، والقليل الذي لا يشهر».
قلت: وإذا كانت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم باللّسان العربي وفضيلته 184ظ / / على غيره إنّما هي من حيث وضوح بيانه، فلا خفاء أنّ بيانها يعوق كل بيان.
وأما خامسا: فاقتضاؤه لذم العي، ورداءة البيان، حين شبه أهله بالنّساء والولدان في قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصََامِ غَيْرُ مُبِينٍ} (3).
قال الجاحظ (4): «ولذلك قال النمر بن تولب (5):
__________
(1) سورة إبراهيم، الآية: 4.
(2) في البيان والتبيين: 1/ 1211.
(3) سورة الزخرف، الآية: 18، وينشّأ: أي يربى ويكبر في الحلية، و «في الحلية»: أي في الزينة.
«وهو في الخصام»: أي في المجادلة والإدلاء بالحجة، و «غير مبين»: أي ساكت عن الجواب، ومعنى الآية: أيضاف إلى الله من هذا وصفه! أي لا يجوز ذلك، وقيل: «المنشأ في الحلية»:
أصنامهم التي صاغوها من ذهب وفضة وحلوها. انظر تفسير القرطبي: 16/ 7371.
(4) في البيان والتبيين: 1/ 12.
(5) النمر بن تولب بن زهير العكلي. ت: نحو 14هـ نحو 635م. شاعر مخضرم، عاش عمرا طويلا في الجاهلية، أدرك الإسلام، ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم فكتب عنه كتابا لقومه. وعاش إلى أن خرف، فكان هجّيراه: اقروا الضيف، أنيخوا الراكب، انحروا له!(2/623)
وكلّ خليل عليه الرّعا ... ث والحبلات ضعيف ملق
قال في موضع آخر (1): «وكانوا يمدحون شدّة العارضة، وقوّة المنة، وظهور الحجّة، وثبات الجنان، وكثرة الرّيق، والعلو على الخصم، ويهجون خلاف ذلك».
ثم أنشد على ذلك جملة أبيات منها قوله:
طباقاء لم يشهد خصوما ولم يعش ... حميدا، ولم يشهد حلالا ولا عطرا
وقوله:
وخطيب إذا تمعرت الأو ... جه يوما في مأقط مشهود (2)
قال: يقال «للجمل» إذا لم يحسن الضّراب: جمل عياياء، وجمل طباقاء، وهو هنا للرّجل الذي لا يتجه للحجّة.
والحلال: الجماعات. والعطر: العرس. والمأقط: الموضع الضيق.
ومنها قوله (3):
إنّي امرؤ لا أقيل الخصم عثرته ... عند الأمير إذا ما خصمه ظلعا (4)
ينير وجهي إذا جد الخصام بنا ... ووجه خصمي تراه الدّهر ملتمعا» (5)
الثاني: تمدح العرب به وافتخارها بمزية الاختصاص بفضيلته.
قال الشيخ أبو عمر: «ما زالت العرب تمدح بالبيان والفصاحة في أشعارها، وأخبارها» 185و / /. قلت: يتّضح ذلك من جهات:
أوّلها: اعترافهم بفضل من خصّ به، وتحلى بزينة حليه، كقول خالد بن
__________
سماه أبو عمرو بن العلاء: «الكيّس» لحسن شعره. له ديوان شعر. انظر: الشعر والشعراء: 141 142، والإصابة: 3/ 573572، والخزانة: 1/ 156.
(1) البيان والتبيين: 1/ 176.
(2) تمعّر الوجه: تغير وعلته صفرة. اللسان معر والبيت نسبه الجاحظ لأبي زبيد الطائي.
(3) البيتان نسبهما الجاحظ في البيان والتبيين: 1/ 179للأقرع القشيري.
(4) رجل ظالع: مائل مذنب.
(5) التمع لونه بالبناء للمجهول: إذا تغير وذهب.(2/624)
صفوان لرجل: «رحم الله أباك، كان يقري العين جمالا، والأذن بيانا» (1).
«وقول أعرابي في مدح رجل: كلامه الوبل على المحل، والعذب البارد على الظّمأ» [-1]. وقول «معاوية في ابن عبّاس رضي الله عنه:
إذا قال لم يترك مقالا ولم يقف ... لعيّ، ولم يثن اللسان على هجر
يصرّف بالقول اللسان إذا انتحى ... وينظر في أعطافه نظر الصّقر» (3)
قال ابن قتيبة (4) وغيره: «وفيه يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه ... رأيت له في كلّ أحواله فضلا (5)
إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فصلا
شفى وكفى ما في النّفوس فلم يدع ... لذي إربة في القول جدا ولا هزلا
سموت إلى العليا بغير مشقّة ... فنلت ذراها لا دنيّا ولا وغلا» (6)
ثانيها: شهادتهم بعيب العي، وتنقّص أصحابه، كقول بعضهم في رجل ذكره بعي:
«رأيت عورات النّاس بين أرجلهم، وعورة فلان بين فكّيه» (7).
قال ابن قتيبة: «وعاب آخر رجلا فقال: ذلك من يتامى المجلس أبلغ ما يكون في نفسه أعيا ما يكون عند جلسائه.
وحكى عن يونس بن حبيب قال: ليس لعييّ مروءة، ولا لمنقوص البيان بهاء، ولو بلغ يافوخه أعنان السّماء. وأنشد لبعضهم:
عجبت لإدلال العييّ بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالحقّ أعلما
وفي الصمت ستر للعييّ وإنّما ... صحيفة لبّ المرء أن يتكلّما [-7]» 185ظ / /
__________
(1) (1) و (2) انظر: عيون الأخبار: 2/ 170169.
(3) م. س: 2/ 169.
(4) في م. س: 2/ 170169.
(5) هذا البيت ساقط من الديوان: 412.
(6) الوغل: الضعيف النذل الساقط المقصر في الأشياء. وانظر: الديوان: 412.
(7) (7) و (8) عيون الأخبار: 2/ 175.(2/625)
ولآخر:
«كفى بالمرء عيبا أن تراه ... له وجه وليس له لسان
وما حسن الرجال لهم بزين ... إذا لم يسعد الحسن البيان» (1)
ثالثها: استعاذتهم بالله تعالى من نقيضه: وهو العيّ والحصر، وإلى ذلك يشير الجاحظ في مفتتح كتاب «البيان والتبيين» (2): «اللهم إنّا نعوذ بك من فتنة القول، كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك من التكلّف لما لا نحسن، كما نعوذ بك من العجب بما نحسن، ونعوذ بك من السلاطة والهذر، كما نعوذ بك من العيّ والحصر.
قال: وقديما تعوّذوا بالله من شرّهما، وتضرعوا إلى الله في السّلامة منهما، وقد قال النمر بن تولب:
أعذني ربّ من حصر وعيّ ... ومن نفس أعالجها علاجا
وقال آخر:
مليّ ببهر (3)، والتفات، وسعلة ... ومسحة عثنون، وفتل الأصابع»
لا يقال: هذا معارض بما يدل على نقيضه وذلك من وجهين:
أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح (4) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «إنّ من البيان لسحرا».
فعلى اقتضاء الذم حمله جماعة من العلماء، وأولوه على مالك رضي الله عنه لما أدخله في باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله تعالى. قالوا:
ووجهه أنّه يميل القلوب، ويخدعها خدعة السّاحر بسحره.
الثاني: أنّهم وإن أحبّوا البيان والبلاغة، فقد كرهوا الهذر والسّلاطة، وفضول البلاغة.
__________
(1) في م. س: 2/ 169.
(2) انظر ص: 43.
(3) البهر: انقطاع النّفس في الإعياء.
(4) صحيح البخاري: 21/ 43.(2/626)
قال الجاحظ: «لأن ذلك يدعو إلى السلاطة، والسلاطة تدعو إلى البلاء، وكل مراء في الأرض فإنّما هو من 186و / / نتاج الفضول» (1).
قال: «وكانوا يأمرون بالتبيّن والتّثبت، والتحرز من زلل الكلام» (2).
لأنا نقول: لا سبيل إلى حمل الوجهين على المعارضة بوجه.
أما الأول: فلأن الصحيح وهو مذهب الأكثرين أن المقصود بالحديث هو المدح لما تقرر في الوجوه السّابقة.
ولما في الحديث عند البخاري من قول ابن عمر رضي الله عنهما:
«فعجب النّاس لبيانهما» والإعجاب لا يقع إلّا بما يحسن ويطيب سماعه لا بما يقبح ويذمّ.
ونصّ ما عنده من ذلك أنّه قال: «قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجب النّاس لبيانهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا»، أو «إنّ بعض البيان لسحرا» (3).
وأيضا فتشبيهه «بالسحر» لا يلزم منه الذمّ لأنه لا يكفي في المشبّه أن يكون فيه وصف جامع من أوصاف المشبه به، وخصوصا إذا كان أشهر أوصاف المحلّ كالأسد للشجاع».
قال الشيخ «أبو عبد الله ابن رشيد» (4) في بعض «كتبه الأدبية»:
«وعلى هذا لا يحمل قوله عليه السلام: «إنّ من البيان لسحرا» على الذم بل على المدح ويكون مثل حاله بحال «السحر» لما ينشأ عنه من تأثر
__________
(1) البيان والتبيين: 1/ 191.
(2) في م. س: 1/ 198.
(3) انظر: صحيح البخاري: 21/ 43.
(4) هو محمد بن عمر أبو عبد الله، محب الدين ابن رشيد الفهري السبتي. ت: 721هـ 1321م.
رحالة، عالم بالأدب، عارف بالتفسير، والتاريخ، ولي الخطابة، بجامع غرناطة الأعظم، ومات بفاس، رحل إلى مصر، والشام، والحرمين، وصنف رحلته الشهيرة، «ملء العيبة» و «تلخيص القوانين» في النحو، و «إفادة النصيح». انظر البغية: 1/ 200199، وأزهار الرياض: 2/ 347 356.(2/627)
النفس، وانفعالها حتى أنه يبلغ البليغ ببيانه أن يمدح الشيء فيصدق فيه حتى يصرف القلوب إليه، ثم يذمّه حتى يصرف القلوب عنه.
قال: ولهذا أومأ الشاعر بقوله:
مجاجة النّحل قل إن كنت مادحها ... وإن ذممت فقل: قيء الزّنابير
مدح وذمّ وذات الشيء واحدة ... إنّ البيان يري الظّلماء كالنّور
قلت: ونسبهما للغزالي، وأنشد قبلهما بيتا آخر وهو 186ظ / /:
في زخرف القول تزيين لصاحبه ... والحق قد يعتريه سوء تعبير
قال: وكثيرا ما يوصف الكلام بأنه «سحر حلال» كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فيما نقله عنه أبو أحمد العسكري (1) وقد تكلم بعضهم عنده بكلام بيّن، فقال: «هذا السحر الحلال».
قلت: قال بعض الشّيوخ: «ومن هنا والله أعلم أخذ ابن الرومي (2)
قوله:
وحديثها السّحر الحلال لو انّه ... لم يجن قتل المؤمن المتحرز (3)
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ... ودّ المحدّث أنّها لم توجز
شرك العقول ونزهة ما مثلها (4) ... للمطمئنّ، وعقلة المستوفز»
__________
(1) هو الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري أبو أحمد. ت: 382هـ 993م. لغوي، أديب، إخباري، نحوي، محدث، من تصانيفه: «التصحيف»، «المصون» في الأدب، «صناعة الشعر»، و «المختلف والمؤتلف». انظر الإنباه: 1/ 312310، والوفيات: 3/ 362358، والبغية: 1/ 506.
(2) انظر: الديوان: 3/ 1164، وابن الرومي هو علي بن العباس بن جريج البغدادي المشهور بابن الرومي (أبو الحسن). ت: نحو: 283هـ 896م. شاعر، رومي الأصل، من آثاره: ديوان شعر. انظر: تاريخ بغداد: 12/ 2623.
(3) في الديوان 3/ 1164:
«لو أنها ... لم تجن»
(4) في م. س: 3/ 1164: جاء صدر البيت كالتالي:
[شرك النفوس وفتنة ما مثلها](2/628)
وأما الثاني:
فلأن الكراهة فيه مصروفة إلى ما ليس بحقّ ولا مقصود به مزيد وضوحه.
قال ابن الجوزي في تقرير ذلك البيان على ضربين:
«بيان الشيء بلفظ واحد لا يزيد على كشف وبيان له بزيادة ألفاظ رائقة [لتميل] (1) القلوب، [وتخلبها] (2)، وتطربها، كما أن السحر يخرجها عن الاعتدال.
قال: [وهذا] (3) إذا كان اللّفظ فيه صدقا وجائزا والمقصود نصر الحقّ كان ممدوحا. فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خطيب يلقى به الوافدين وهو ثابت بن قيس بن شمّاس (4). و «شاعر» وهو حسان بن ثابت.
قال: وإذا كان البيان على ضد ذلك كان الذم لذلك لا للفظ، كالشعر فإنه يذم ما يتضمنه ويمدح لا النّظم» اهـ.
وذكره عند كلامه على حديث ابن عمر المتقدم (5).
ومن كلام الجاحظ (6) في معناه: «أن الخروج إلى مكروه الإسهاب والخطل، لا يصدر إلا عن المتكلفين والمتزيدين.
قال: فأما أرباب الكلام، 187و / / ورؤساء أهل البيان والمطبوعون المعاودون، وأصحاب التحصيل والمحاسبة، والتوقي والشفقة، والذين يتكلمون لله في صلاح ذات البين، وفي إطفاء نائرة (7)، أو في حمالة (8)، أو على
__________
(1) في «ج»: تشتمل.
(2) في «د»: تجلبها.
(3) في «ج»: بهذا.
(4) الأنصاري الخزرجي: ت: 12هـ 633م خطيب الأنصار، ويقال له: خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد «أحدا» وما بعدها من المشاهد. قتل يوم اليمامة شهيدا في خلافة أبي بكر.
انظر البيان والتبيين: 1/ 201، والاستيعاب: 1/ 193192، والإصابة: 1/ 196195.
(5) انظر: ص: 186ومن مخ «أ»، وص: 626من هذا الكتاب.
(6) البيان والتبيين: 1/ 202201.
(7) النائرة: العداوة والبغضاء والفتنة.
(8) الحمالة: الدية والغرامة.(2/629)
منبر جماعة، أو في عقد إملاك بين مسلم ومسلمة، فكيف يكون بيان هؤلاء يدعو إلى السلاطة والمراء، وإلى الهذر والبذاء (1).
قال: ونحن نعوذ بالله من العيّ، ونعوذ بالله أن يكون القرآن يحث على البيان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحث على العيّ: لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «شعبتان من شعب النفاق: البذاء والبيان، وشعبتان من شعب الإيمان: الحياء والعيّ.
قال: ونعوذ بالله أن يجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين البذاء والبيان، وإنما وقع النهي عن كل شيء جاوز المقدار، ووقع اسم «العيّ» على كل شيء قصر عن المقدار، فالعيّ مذموم [والخطل مذموم] (2)، ودين الله بين المقصّر والغالي» انتهى ملخصا.
وفي معنى هذا التعوذ قول الخطيب أبي عبد الله ابن رشيد: «حاش لله أن يذم النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من البيان أو السجع غير كذب».
مزيد توضيح:
مما روي في سبب قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من البيان لسحرا» «أن وفدا ورد عليه صلى الله عليه وسلم فيهم قيس بن عاصم (3)، والزّبرقان بن بدر (4)، وعمرو بن الأهتم (5)، فعجز الزبرقان فقال: يا رسول الله، أنا سيد تميم، والمطاع فيهم، والمجاب منهم، آخذ لهم بحقوقهم، وأمنعهم من الظلم، وهذا يعلم ذلك، يعني
__________
(1) البذاء: الكلام الفاحش.
(2) ما بين المعقوفتين ساقط من «أ».
(3) قيس بن عاصم المنقري السعدي التميمي أبو علي. ت: نحو 20هـ 640م. أحد أمراء العرب وعقلائهم. كان شاعرا مشهورا في الجاهلية، وفد على الرسول صلى الله عليه وسلم مع وفد تميم، فأسلم سنة:
9 - هـ. استعمله الرسول صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه. توفي بالبصرة. انظر الإصابة: 3/ 254252.
(4) الزبرقان بن بدر التميمي السعدي. ت: نحو: 45هـ نحو 665م. صحابي من رؤساء قومه، ولاه الرسول صلى الله عليه وسلم صدقات قومه، توفي أيام معاوية، كان فصيحا شاعرا، فيه جفاء الأعراب، انظر: الإصابة: 1/ 544543. والخزانة: 1/ 531.
(5) هو عمرو بن سنان التميمي المنقري، أبو ربعيّ. ت: 57هـ 677م. أحد الشعراء الخطباء في الجاهلية والإسلام، كان يدعى «المكحل» لجماله في شبابه، ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، لم يكن في بادية العرب أخطب منه. انظر: البيان والتبيين: 1/ 45و 355، والإصابة: 2/ 525524.(2/630)
عمرو بن الأهتم، فقال عمرو: إنّه لشديد العارضة، مانع لحوزته، مطاع في أدنيه، فلم يرض الزبرقان بذلك وقال:
أما إنه علم أكثر مما قال، ولكن حسدني مكاني منك يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه عمرو شرّا وقال: أما لئن قال ما قال، لقد علمته ضيّق العطن (1)، زمر المروءة (2)، أحمق الأدب، لئيم 187ظ / / الخال، حديث الغنى.
ثم قال: يا رسول الله، ما كذبت عليه في الأولى، ولقد صدقت عليه في الأخرى، ولكن أرضاني فقلت بالرضا، وأسخطني فقلت بالسّخط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من البيان لسحرا» (3).
قال ابن رشيد: «فهذا جار مجرى المثل، وليس فيه إنكار على عمرو ولا كراهية لقوله، لأنه لم يكذب أولا، وصدق آخرا.
قال: وهذا الحديث أخرجه إبراهيم بن إسحاق [الحربي] (4) (5) عن محمد بن الزبير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عمرو بن الأهتم عن الزّبرقان بن بدر فقال: «مطاع في أدنيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره»، فقال: «هو يعلم أنّي أفضل من ذلك»، فقال: «ما علمتك إلا زمر المروءة، ضيّق العطن، أحمق الأدب، لئيم الخال، ولقد صدقت فيهما». أرضاني فقلت، أحسن ما أعلم، وأغضبني فقلت أسوأ ما أعلم».
قال: ونحو من هذه القصة أن غيلان بن خرشة الضّبي (6) مر مع
__________
(1) ضيق العطن: كناية عن بخله، والعطن: مبرك الإبل حول الماء.
(2) زمر المروءة: قليلها.
(3) انظر البيان والتبيين: 1/ 59.
(4) في «ج» و «د»: الحدي.
(5) هو إبراهيم بن إسحاق الحربي الحافظ. ت: 285هـ 945م. أحد الأئمة ببغداد كان إماما في العلم، رأسا في الزهد، عارفا بالفقه، بصيرا بالأحكام، حافظا للحديث، قيما بالأدب، جمّاعا للغة، صنف كتبا كثيرة منها: «غريب الحديث» وغيره. انظر: تاريخ بغداد: 6/ 4027.
(6) كان سيد بني ضبة بالبصرة، وأحد أصحاب أبي موسى الأشعري، ثم انتقض عليه، وكان سببا في عزل أبي موسى الأشعري على يد عثمان، وتولية عبد الله بن عامر. انظر: الاشتقاق:
194، والوزراء والكتاب: 147.(2/631)
عبد الله بن عامر (1) بنهر أم عبد الله (2) الذي يشق البصرة. فقال عبد الله: ما أصلح هذا النهر لأهل هذا المصر!
فقال غيلان: أجل أيها الأمير، يتعلم فيه العوم صبيانهم. ويكون [لسقياهم] (3)، ومسيل مياههم، ويأتيهم بميرتهم.
قال: ثم مر غيلان يساير زيادا على ذلك النهر، وقد كان عادى «ابن عامر» فقال زياد: ما أضر هذا النهر بأهل هذا المصر! فقال غيلان: أجل، والله أيها الأمير تنزّ منه دورهم، وتغرق فيه صبيانهم، ومن أجله يكثر بعوضهم.
قال: فقال حقّا أوّلا وآخرا» (4).
فوائد لغوية:
«شديد العارضة»: أي الجلد والصرامة، والقدرة على الكلام.
«ضيق العطن»، قال الجوهري في نقيضه: «فلان واسع العطن والبلد» إذا كان رحب الذراع.
«زمر المروءة»: أي قليل المروءة وأصل الزمر: القليل الشعر.
«يكون 188و / / لسقياهم»، [] (5) تنز منه دورهم»: من «النّز» بفتح النون وكسرها، وفسره في «الصحاح»: «بما يتحلب من الأرض من الماء».
قال: «وقد «أنزّت» الأرض: صارت ذات نز».
__________
(1) عبد الله بن عامر ابن خال عثمان بن عفان، ولاه عثمان البصرة، وضم إليه فارس، فافتتح خراسان، وأطراف فارس وسجستان وغيرها. وتولى في عهد معاوية البصرة، وكان جوادا شجاعا. ت: 59هـ 713م. انظر: الإصابة: 3/ 6160.
(2) نهر أم عبد الله بن عامر بالبصرة منسوب إلى أم عبد الله بن عامر بن كريز أمير البصرة أيام عثمان. انظر: معجم البلدان: 5/ 317.
(3) في الأصول: لسفاههم، والتصويب من البيان والتبيين.
(4) القصة واردة في البيان والتبيين: 1/ 395394.
(5) بياض في الأصول.(2/632)
تفريع:
ما تقدم من أن ذم التشدق لا يعم الممدوح من البيان، يترتب عليه أن يتخير ألفاظ الخطب والمواعظ مع صلاح النية، خارج عن ذلك الذم، لتحقق انضمامه لما يحمد فيه القصد، ويرجو به مزيد النفع.
قال النووي: «اعلم أنه لا يدخل في الذم تحسين ألفاظ الخطب، والمواعظ إذا لم يكن فيها إفراط وإغراب، لأن المقصود منها تهييج القلوب إلى طاعة الله تعالى، ولحسن اللفظ في هذا أثر ظاهر» اهـ.
وفي «نوازل عز الدين»: «لا يسجع الخطيب إلا بالفواصل الحسان التي يرجى من مثلها التذكر والاتعاظ دون الرياء والسمعة وإظهار البلاغة والفصاحة».
التكميل الثاني: اشترطوا على صاحب هذا البيان المحمود، أن يراعي فيه ما يتم به الغرض منه معاني وألفاظا، ولغير واحد من الأدباء عناية بالوصية به.
فمن مجملها قول ابن قتيبة (1): «ويستحب له إن استطاع أن يعدل بكلامه عن الجهة التي تلتزمه مستثقل الإعراب ليسلم من اللّحن، وقباحة التقعير».
ومن مفسرها (2) قول ابن السيد (3) شارحا لهذا الكلام: «ينبغي للمتأدب أن يقصد الألفاظ السهلة، والإعراب السهل، ويكون على كلامه ديباجة وطلاوة، تدل على أنه متأدب، ويجعل لكلامه مرتبة بين [الألفاظ السّوقية] (4)، والألفاظ الوحشية، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «خير الأمور أوسطها».
__________
(1) انظر: أدب الكاتب: 13.
(2) مما يقابل المجمل المفصل، ولعل المؤلف قصد المفصل والناسخ كتب المفسر.
(3) الاقتضاب: 56.
(4) ساقط من «أ».(2/633)
قال: ومن هذه الجهة أتى «المتقعرون»، فإنهم حسبوا أن مكانتهم من الأدب لا تعرف حتّى يستعملوا الألفاظ الوحشية، فصاروا ضحكة للناس.
كما يحكى أن رجلا من 188ظ / / المتأدّبين أراد شراء أضحية، فقال لبعض البائعين للأضاحي: «بكم هذا الكبش؟» بكسر الكاف فضحك كل من سمعه، فلامه بعض أصحابه، وقال له: لم لم تقل: «كبش» بفتح الكاف، كما يقول الناس؟ فقال: كذا كنت أقول قبل أن أقرأ الأدب، فما الذي أفادتني القراءة إذا؟!» اهـ.
ومن كلام الجاحظ في معنى ما تضمنه كلام ابن السيد: «وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميا، وساقطا، سوقيا، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريبا، وحشيا» (1).
ومن منقوله عن بعضهم: «تلخيص (2) المعاني رفق، والاستعانة بالغريب عجز، والتشادق من غير أهل البادية بغض، والنظر في عيون النّاس [عي] (3)، ومس اللحية هلك، والخروج مما يبنى عليه أول الكلام إسهاب.
وعن هذا القائل: رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام، وحليها الإعراب، وبهاؤها تخير اللّفظ، والمحبّة مقرونة بقلة الاستكراه» اهـ (4).
وعلى ذكر [بعض] (5) التشادق في الجملة فقد حكى الزّبيدي (6) عن محمد بن صدقة الأطرابلسي (7) وكان يتقعر في كلامه، ويتشادق: «أنّه دخل يوما
__________
(1) انظر: البيان والتبيين: 1/ 144.
(2) التلخيص: يقصد به تقريب المعاني، وشرحها، وتبيينها.
(3) ساقط من «ج» و «د».
(4) في البيان والتبيين: 1/ 44.
(5) ساقط من «ج».
(6) في طبقاته: ص: 232.
(7) محمد بن صدقة المرادي النحوي اللاطرابلسي الإفريقي، كان عالما باللغة، شاعرا. انظر طبقات الزبيدي: 232، والإنباه: 3/ 152.(2/634)
على أبي الأغلب (1) وهو أمير طرابلس، فتكلم، وأعرب، وجاوز المقدار، فقال له أبو الأغلب: أكان أبوك يتكلم بمثل هذا الكلام؟ فقال: نعم، أعز الله الأمير وأميه يريد وأمّي أيضا كانت تتكلم بمثل ذلك فقال أبو الأغلب: ما ننكر لله أن يخرج بغيضا من بغيضين» اهـ.
وفي «الإفادات والإنشادات» (2) للأستاذ أبي إسحاق الشّاطبي رحمه الله قال: «أفادني صاحبنا الفقيه الكاتب أبو عبد الله ابن زمرك (3) إثر إيابه إلى وطنه من رحلة العدوة في علم البيان فوائد، وذكر منها ثلاثا.
إحداها: 189و / / الفقه في اللّغة، وهو النظر في مواقع الألفاظ، وأين استعملتها العرب. ومن مثل هذا الوجه قولهم: قرم (4)، وعام (5)، إذا اشتهى، لكن لا يستعمل «قرم» إلّا مع اللحم، ولا يستعمل «عام» إلا مع اللبن، فنقول:
قرمت إلى اللحم، وعمت إلى اللبن. وكذلك قولهم: «أصفر فاقع» و «أحمر قان». ولا يقال بالعكس، وهذا كثير.
والثانية: تحرّي الألفاظ البعيدة عن طرفي الغرابة والابتذال، فلا يستعمل الحوشي من اللغات، ولا المبتذل في ألسن العامّة.
والثالثة: اجتناب كل صيغة تخرج الذّهن عن أصل المعنى، أو تشوش عليه، إذ المقصود الوصول في بيان المعنى إلى أقصاه، والإتيان بما يحصّله سريعا، ويمكنه في الذهن، وتحرّي كلّ صيغة تمكّن المعنى في الذهن، وتحرض السامع على الاستماع.
قال: وأخبرني أن كتاب المغرب يحافظون في شعرهم وكتابتهم على
__________
(1) أبو الأغلب بن أبي العباس بن إبراهيم بن الأغلب أمير طرابلس.
(2) انظر: ص: 158157.
(3) هو محمد بن يوسف الصريحي، المعروف بابن زمرك. ت: 793هـ 1390م. شاعر، كاتب، وزير، جعله صاحب غرناطة «الغني بالله»، كاتم سره، ثم المتصرف برسالته وحجابته، مات مقتولا. انظر: الإحاطة: 2/ 314300، وأزهار الرياض: 1/ 63و 2/ 2067.
(4) قرم قرما إلى اللّحم: اشتدّت شهوته إلى اللّحم اللّسان: قرم.
(5) عام الرجل إلى اللّبن، يعام ويعيم عيما وعيمة: اشتهاه: اللسان عيم.(2/635)
طريقة العرب، ويذمون ما عداها من طرق المولدين، وأنها خارجة عن الفصاحة، وهذه المعاني الثلاثة لا توجد إلّا فيها» اهـ.
ونصوصهم في هذا المقام كثيرة، والمعنى فيها أوضح من نار على علم.
تنبيه:
قال ابن قتيبة (1) مستظهرا على إمكان تكلّف الاجتناب لمستثقل الإعراب، وقبيح التقعير ممن كان ذلك غالبا عليه.
«وقد كان واصل بن عطاء سام نفسه للثغة كانت به إخراج (الراء) من كلامه، ولم يزل يروضها حتى انقادت له طباعه، وأطاعه لسانه، فكان لا يتكلم في مجالس التناظر بكلمة فيها (راء).
قال: وهو أشد وأعسر مطلبا مما أردناه».
قال ابن السيد (2): «معنى سام نفسه»: كلفها ذلك، و «اللّثغ في اللّسان»:
أن يتعذر عليه النّطق بالحرف على وجهه حتى يقلبه حرفا آخر.
قال: وكان «واصل بن عطاء» فصيح اللّسان، حسن المنطق بالحروف 189ظ / / كلها إلا الراء، فإنه كان يتعذر عليه إخراجها من مخرجها. فأسقطها من كلامه، فكان يناظر الخصوم ويجادلهم، ويخطب على المنبر، فلا يسمع في منطقه (راء): فكان أمره إحدى الأعاجيب» (3).
قلت: احتفل الجاحظ (4) ما شاء في تحبير العبارة عن حال واصل فيما اشتهر عنه من هذا المعنى، وملخص ما قال:
«ولما علم واصل بن عطاء أنّه ألثغ، فاحش اللثغ، وأن مخرج ذلك منه شنيع، وأنه إذا كان داعية مقالة، ورئيس نحلة، وأنه يريد الاجتماع على أرباب
__________
(1) أدب الكاتب: 13.
(2) الاقتضاب: 56.
(3) في م. س: 57.
(4) البيان والتبيين: 1/ 1514.(2/636)
النّحل، وزعماء الملل، ولا بد له من مقارعة الأبطال، ومن الخطب الطّوال، وأن البيان يحتاج إلى تمييز وسياسة، وإلى ترتيب ورياضة. وإلى تمام الآلة، وإحكام الصّنعة، وإلى سهولة المخرج، وجهارة المنطق، وتكميل الحروف، وإقامة الوزن، وأنّ حاجة المنطق إلى الحلاوة والطّلاوة كحاجته إلى الجزالة والفخامة. وأنّ ذلك من أكثر ما تستمال به القلوب، وتنثني به الأعناق، وتزين به المعاني، (ومن أجل الحاجة إلى حسن البيان، وإعطاء الحروف حقوقها من الفصاحة) (1)، رام إسقاط الراء من كلامه، وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه، ويناضله، ويساجله، ويتأتّى لستره، والراحة من هجنته، حتى انتظم له ما حاول، واتّسق له ما أمّل.
قال: ولولا استفاضة هذا الخبر، وظهور هذه الحال حتى صار لغرابته مثلا، ولطرافته معلما، لما استجزنا الإقرار به، والتأكيد به، ولست أعني خطبه المحفوظة، ولا رسائله المخلدة، لأن ذلك يحتمل الصنعة، وإنما عنيت محاجة الخصوم، ومناقلة الأكفاء، ومفاوضة الإخوان» اهـ.
قال ابن السيد (2):
«ومما يحكى عنه من تجنبه «للراء» قوله وقد ذكر «بشار بن برد»: أما لهذا الأعمى المشنف (3) المكنى بأبي معاذ، إنسان يقتله! أما والله لولا أن 190و / / الغيلة (4) خلق من أخلاق الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ثم لا يكون إلا عقيليا أو سدوسيا (5).
فقال: الأعمى، ولم يقل: الضرير، ولا بشار بن برد. وقال: المشنف،
__________
(1) زيادة من م. س: 1/ 15.
(2) الاقتضاب: 5957.
(3) المشنف: ما جعل له شنف. والشّنف ج شنوف وأشناف: ما علّق في الأذن أو أعلاها من الحلي.
(4) الغيلة: من الاغتيال.
(5) وبشار بن برد من أصل فارسي. كان أبوه «برد» مولى أم الظباء العقيلية السدوسية، فكان بشار يدعي أنه مولى لبني عقيل لنزوله فيهم. انظر الأغاني: 3/ 130.(2/637)
ولم يقل: المرعث، وبذلك كان يلقب. وقال: إنسان، ولم يقل رجل. وقال:
الغيلة ولم يقل الغدر، وهما سواء. وقال: الغالية، ولم يقل: المنصورية، ولا [المغيرية] (1) (2). وقال: لبعثت، ولم يقل: لأرسلت. وقال: من يبعج بطنه، ولم يقل: يبقر. وقال: على مضجعه، ولم يقل على فراشه، وأنشد فيه قول بعضهم تعجبا من تصرف احتياله في إسقاط الرّاء من كلامه:
ويجعل البر قمحا في تصرفه ... وخالف الراء حتى احتال للشعر
ولم يطق مطرا والقول يعجله ... فعاذ بالغيث إشفاقا من المطر (3)
قال: وسألت عثمان البري (4) كيف كان واصل يصنع في العدد بعشر، وعشرين، وأربعين؟ وكيف كان يصنع بالقمر، والبدر، ويوم الأربعاء، وشهر رمضان؟ وكيف كان يصنع بالمحرّم، وصفر، وربيع الأول، وربيع الآخر، وجمادى الآخرة ورجب؟.
قال: ما لي فيه قول إلا ما قال صفوان:
ملقن ملهم فيما يحاوله ... جمّ خواطره، جواب آفاق» (5)
قال ابن السّيد (6): وهذه الألفاظ كلها لا يمكن أن تبدل وتغير بألفاظ أخر لا راء فيها، ولا يتعذر ذلك على من كان له بصر باللغة، فإنك لا تكاد تجد لفظة
__________
(1) في «ج» و «د»: المغرية.
(2) المنصورية: إحدى فرق الغالية من الشيعة. أصحاب أبي منصور العجلي. وقد تم تقدم الحديث عنه في الباب الثاني. أما المغيرية فهي فرقة من غلاة الشيعة أصحاب المغيرة بن سعيد العجلي.
ادّعى النبوة وأنه يحيي الموتى وغلا في حقّ «علي» غلوا ظاهرا. انظر الفرق بين الفرق:
233229.
(3) البيتان نسبهما الجاحظ إلى ضرار بن عمرو صاحب مذهب الضرارية. كان بدء أمره تلميذا لواصل بن عطاء المعتزلي ثم خالفه في خلق الأعمال، وإنكار عذاب القبر. انظر: الفرق بين الفرق: 202201.
(4) عثمان بن مقسم البرّي أبو سلمة الكندي البصري. ت: نحو 163هـ 780م. أحد الأئمة الأعلام على ضعف في حديثه. وكان صاحب بدعة، قدريا، ينكر «الميزان». انظر: لسان الميزان: 4/ 158155.
(5) البيان والتبيين: 1/ 2221.
(6) الاقتضاب: 5958.(2/638)
فيها راء إلا وتجد لفظة أخرى في معناها لا راء فيها. لأنّ العرب توسعت في لغاتها ما لم تتوسع أمة من الأمم، حتّى إنك تجدهم قد جعلوا للشيء الواحد عشرة أسماء، وعشرين، وأكثر من ذلك.
فقد قيل: إن «الأسد» له مائة اسم، وكذلك «الحمار»، وأن 190ظ / / «الداهية» لها أربعمائة اسم. ولذلك قال «علي بن حمزة»: «من الدّواهي كثرة أسماء الدواهي».
قال: فكما قالوا الشّعر، فكذلك قالوا: الهلب، وقالوا لما كثر منه:
الدّبب، ولما صغر الزّغب، والدّبب بالدّال غير معجمة، وكما قالوا: الشعرة والوفرة، فكذلك قالوا: اللّمة والجمّة، وكما قالوا: الغذائر والضّفائر، فكذلك قالوا: النواصي والنّوائب، والعقاص والعقائص، والقصائب، والمسالح، والخصل.
وللقمر عشرة أسماء منها ما فيه راء، ومنها ما لا راء فيه.
فمن أسمائه التي فيها «راء»: القمر، والباهر، والبدر، والزّبرقان، والسنمار.
ومن أسمائه التي لا راء فيها: الطوس، والجلم، والغاسق، والمتسق، والوبّاص.
قال: وأما ما ذكره من أسماء العدد والشهور، فقد كان يمكنه أن يقول، مكان عشرة: «نواتان»، لأن النّواة: خمسة دراهم، ويقول للعشرين: «نش»، وللأربعين: «أوقية»، ويمكنه أن يقول لعشرة: «نصف نش». وللأربعين:
«نشان». قال الرّاجز:
إن التي زوّجها المخش (1) ... من نسوة مهورهن النّش
ويقال لأربعة من العدد: «وخزة»، ويقال لربيع الأول: «خوّان»، ولربيع الآخر: «وبصان»، ولرجب: «منصل الأسنة»، و «منصل الأل». قال الأعشى:
__________
(1) رجل مخش: ماض جريء على هوى الليل.(2/639)
تداركه في منصل الأل بعدما ... مضى غير دأداء وقد كان يعطب (1)
وقد كان يمكنه إذا أراد أن يقول: «المحرم وصفر» أن يقول: «مفتتح عامكم». «والتالي له»، و «أول سنتكم» ونحو ذلك. ويقول مكان جمادى الآخرة: «جمادى الثانية» ويقال مكان شهر رمضان: «أوان صيامكم».
وإذا أراد أن يقول: يوم الأربعاء، قال: «اليوم الذي أهلكت 190و / / فيه عاد»، أو يقول: «يوم النحس»، لأنّ المفسّرين قالوا في تفسير قوله تعالى: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} (2) أنه كان يوم الأربعاء».
تنبيه:
ذكر الجاحظ (3) في سبب كلام واصل في بشّار أنّ واصلا كان طويلا العنق جدّا. فهجاه بشار بقوله (4):
«مالي أشايع غزّالا له عنق ... كنقنق الدو (5) إن ولّى وإن مثلا
عنق الزرافة ما بالي وبالكم ... أتكفرون رجالا أكفرون رجلا (6)
قال: فلما هجا واصلا، وصوب رأي «إبليس» في تقديم النّار على الطّين، وقال:
الأرض مظلمة والنّار مشرقة ... والنار معبودة مذ كانت النّار (7)
__________
(1) الديوان: 178من قصيدة «كادت الشمس تغرب»، والبيت وارد في اللسان: أل، ونصل.
وسمي رجب، «بمنصل الأل»، لأنهم كانوا ينزعون الأسنة فيه إعظاما له، ولا يغزون، ولا يغير بعضهم على بعض، ونصل، وأنصل السهم، إنصالا: إذا نزعه وأخرجه.
والأل: بالفتح جمع ألة، وهي الحربة العظيمة النصل، ويطلق على السلاح، وجميع أداة الحرب، والدأداء: اليوم الذي يشك فيه أمن الشهر هو أم من الآخر، أراد تداركه في آخر ليلة من ليالي رجب.
(2) سورة القمر، الآية: 19.
(3) البيان والتبيين: 1/ 16.
(4) الديوان: 181.
(5) النقنق: ذكر النعام، والدو: والدوية والداوية، ويخفف: الفلاة.
(6) رواية الديوان:
«تكفرون رجالا كفّروا رجلا»
(7) الديوان: 107.(2/640)
وجعل «واصل بن عطاء» «غزّالا»، وزعم أن جميع السّلف كفروا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: و «علي» أيضا فأنشد:
«وما دون الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا» (1)
قال واصل عند ذلك: أما لهذا الأعمى، ثم حكى ما تقدّم ببعض زيادة وتغيير، قال: وكان كثير المديح لواصل قبل أن يدين بالرجعة، ويكفر جميع الأمة، وكان قال في تفضيله على خالد بن صفوان، وشبيب بن شيبة، والفضل بن عيسى (2)، يوم خطبوا عند عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والي العراق:
أبا حذيفة قد أوتيت معجبة ... من خطبة بدهت من غير تفكير
وإن قولا يروق الخالدين (3) معا ... لمسكت مخرس عن كل تحبير (4)
كأنه كان مع ارتجاله الخطبة التي نزع منها «الراء» كانت مع ذلك أطول من خطبهم، وقال:
تكلفوا القول والأقوام قد حفلوا ... وحبروا خطبا ناهيك من خطب 191ظ / /
فقال مرتجلا تغلي بداهته ... كمرجل القين لمّا حف باللهب
وجانب الراء لم يشعر به أحد ... قبل التّصفح والإغراق في الطّلب (5)
وقال في كلمة له يعني تلك الخطبة:
فهذا بديه لا كتحبير قائل ... إذا ما أراد القول زوره شهرا» (6)
__________
(1) البيت لعمرو بن كلثوم من معلقته التي مطلعها:
«ألا هبي بصحنك فاصبحينا»
(2) الفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي أبو عيسى. ت: نحو 140هـ نحو 757م. واعظ من أهل البصرة، كان من أخطب الناس، وكان رئيس طائفة من المعتزلة تنسب إليه، وكان قدريا ضعيف الحديث. انظر: البيان والتبيين: 1/ 290. وانظر فهرسته، والخزانة: 1/ 49و 406.
(3) هما خالد بن صفوان وشبيب بن شيبة.
(4) الديوان: 130.
(5) الديوان: 28.
(6) م. س: 119. والبيان والتبيين: 1/ 24.(2/641)
قلت: ذكر بعض من ألف في «فرق الإسلام» أن بشارا زاد على أصحابه «الكاملية» (1) من «الإمامية» بهذين النّوعين من البدعة، القول بالرجعة قبل يوم القيامة، وتصويب رأي «إبليس» في تفضيل النار على الماء، وأنّ «المهدي بن المنصور» غرقه وأتباعه في «دجلة».
وأما «واصل بن عطاء» فقال: وهو رأس المعتزلة، وأول من دعا الخلق إلى بدعتهم، وهو القائل: بأنّ الفاسق لا مؤمن ولا كافر منزلة بين منزلتين.
وبهذه المسألة التي خالف بها جميع السلف طرده الحسن البصري، فاعتزل جانبا من أصحابه، فسموا «معتزلة» لاعتزالهم مجلسه.
ولما عرف الناس منه القول «بالقدر» مع إطلاق الكفر عليه بسبب هذه المقالة، ضربوا به المثل، فكانوا يقولون: إنه مع كفره [قدري] (2) فصار ذلك مثلا سائرا بين النّاس يقال لمن جمع بين خصلتين فاسدتين.
وأما الجاحظ: فمن جملة ضلال المبتدعة، وهو وإن وصفه «الخطيب» في «تاريخه» (3) «بأنه المصنف، الحسن الكلام، البديع التصانيف»، فقد ذكر بعض من صنف في «مقالات الفرق» «أن من عرف غي تصانيفه، وتأمل مقاصده فيها، علم أنه لا يشتغل بتصنيف أمثالها إلا من لا خلاق له في دين ولا مروءة.
قال: فإن أعلى تصانيفه كتاب «طبائع الحيوان» ومقاصده فيها شر المقاصد، وكيفما كان فقد سرق 192و / / أصوله من كتاب أرسطو، ولم يورد فيه شيئا من كيسه، ولا من ذات نفسه إلا أبياتا قالتها العرب في معانيها، زين بها حشو كتابه، وأودعه مناظرة الكلب والدّيك، والكلب والهرّة والذئب، وما أشبه ذلك.
__________
(1) الكاملية: فرقة من الإمامية الرافضة، كانوا أتباع رجل يعرف بأبي كامل، وكان يزعم أن الصحابة كفروا بتركهم بيعة «علي»، وكفر «علي» بتركه قتالهم، وكان يلزمه قتالهم، كما لزمه قتال أصحاب صفّين. انظر الفرق بين الفرق: 39.
(2) في «ج» و «د»: روى.
(3) انظر: 2/ 213212.(2/642)
والعاقل لا يضيع وقته بمثل هذا، فإن شغل الوقت بأمثاله نوع من المقت.
قال: ومن كتبه كتاب «حيل اللصوص»، يعلم اللصوص فيه الحيل، ويمدح لهم الشطارة، ويزعم أنها من مروءتهم، ويمدحهم باختيارهم الغلمان على النسوان، ويحثهم على القمار، ويزعم أنّها من المروءة والآداب المرضية.
ومن كتبه ما صنف في «غشّ الصناعات» أفسد بذلك على الناس أموالهم، وحثهم به على الغشّ والخيانة.
ومن كتبه كتاب: «طعن فيه على الصحابة بديانته».
ومنها ما صنفه في وصف الكلاب، والقحاب، والمغنين، وحيل الماكرين.
قال: ولا يفتخر بهذه الكتب إلا من كان مثله لا خلاق له في دين ولا مروءة.
قال: وكان مع هذه الفاحشة قبيح المنظر حتّى قيل في وصفه:
لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا ... ما كان إلا دون قبح الجاحظ
شخص ينوب عن الجحيم بنفسه ... وهو القذى في كل طرف لاحظ»
قلت: وهو وإن كان كما ذكر، ولكن ما يصح من كلامه، ويستحسن منه، لا يترك لأجل ما يعرف منه، وسبيله في ذلك، سبيل غيره من المبتدعة، كالزمخشري وأمثاله، فلذلك نقلنا عنهما ما لا إشكال في قبوله، والله تعالى الموفق لمن يشاء بفضله.
المنهج السادس: في حكم أخذ الرزق أو الأجرة على تعليم العربية 192ظ / /:
ولا بد من الفرق بينهما قبل النظر فيهما باعتبار هذا الحكم.
قال القرافي: «كلاهما بذل مال بإزاء المنافع من الغير، غير أن باب الرزق أدخل في باب الإحسان، وأبعد عن باب المعاوضة، وباب الإجارة أبعد عن باب المسامحة، وأدخل في باب المكايسة».(2/643)
قلت: وهذا المقدار من الفرق على الإجمال كاف في هذا الموضع، وتفصيله بالنظر في جزئيات يتضح بها وجوه ظهوره، ولذلك قال:
«ويظهر تحقيق ذلك بست مسائل». ذكرها في «قواعده» (1) إيضاحا لظهور الفرق.
إذا عرفت هذا فهنا نظران:
أحدهما: في حكم أخذ الرزق على هذا التعليم، والآخر: في حكم الآخرة عليه.
النظر الأول: في حكم أخذ الرزق على تعليم العربية:
لا خفاء على ما [وضح] (2) من فضيلة العربية، وشرف رتبتها في العلوم الإسلامية، أن الارتزاق على تعليمها من بيت مال المسلمين، حكمه حكم ارتزاق على إقامة سائر المصالح الضرورية، وقد تقدم (3) عن «ابن حزم» أن «على الإمام أن يرتب لأهل كل ناحية من يقوم بتعليم ما لا بد منه»، وذكر في جملة ذلك: «النحو واللغة، وأنه يجري على من لم يتطوع بالتعليم ما يكفيه لنفسه وعياله حتى يغنيه عن التصرف».
وسبق (4) أيضا عن أبي عبيد ما رواه في «كتاب الأموال»: «أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعث يزيد بن أبي مالك الدمشقي، والحارث بن يمجد الأشعري، يفقهان الناس في البدو، وأجرى عليهما رزقا، وفيه أن «يزيد» قبل ذلك، وأن «الحارث» لم يقبل، وأن عمر قال: إنا لا نعلم بما صنع «يزيد» بأسا، وأكثر الله فينا مثل الحارث بن يمجد».
__________
(1) انظر ج 3/ 3من قواعد القرافي.
(2) في «أ»: أوضح.
(3) انظر: ص: 168من مخ «ج». ص: 479من هذا الكتاب.
(4) انظر: ص: 168من مخ «ج» أيضا. ص: 480من هذا الكتاب.(2/644)
وللغزالي في كتاب «الحلال والحرام» من «الإحياء» (1): «كل من يتولى أمرا يقوم به، تتعدى مصلحته إلى المسلمين، ولو اشتغل بالكسب لتعطّل عليه ما هو فيه، فله في بيت المال حق الكفاية، ويدخل فيه العلماء كلهم، أعني العلوم التي تتعلق 193و / / بمصالح الدين من علم الفقه، والحديث، والتفسير، والقراءة، حتى يدخل فيه المعلمون، والمؤذنون، وطلبة هذه العلوم أيضا يدخلون فيه، فإنهم إن لم يكفوا لم يتمكنوا من الطلب».
قلت: حكى «البرزلي» عن أسئلة «القفصي» (2) «أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عماله، أجروا على طلبة العلم الرزق، وفرغوهم.
قال: والمصلحة إما أن تتعلق بالدّين أو بالدنيا، فبالعلماء حراسة الدين، وبالأجناد حراسة الدنيا، والدين والملك توأمان، فلا يستغني أحدهما عن الآخر.
قال: وليس يشترط في هؤلاء الحاجة، بل يجوز أن يعطوا مع الغنى، فإن الخلفاء الراشدين كانوا يعطون المهاجرين والأنصار، ولم يعرفوا بالحاجة، وليس يتقدر أيضا بمقدار، بل هو باجتهاد الإمام، وله أن يوسع ويغني، وله أن يقتصر على الكفاية على ما تقتضيه الحال، وسعة المال.
فقد أخذ الحسن من معاوية في دفعة واحدة أربعمائة ألف درهم، وقد كان عمر يعطي جماعة اثني عشر ألف درهم نقرة في السنة، وكذا للسلطان أن [يخص] (3) من هذا المال ذوي الخصائص بالخلع والجوائز، فقد كان يفعل ذلك في السلف. ولكن ينبغي أن يلتفت فيه إلى المصلحة. ومهما خص عالم أو
__________
(1) انظر: 2/ 140.
(2) محمد بن عبد الله بن راشد البكري القفصي أبو عبد الله. ت: 736هـ 1335م. فقيه، أديب، عارف بالعربية، ولد بقفصة وأقام بتونس، ثم رحل إلى المشرق، ثم رجع إلى المغرب بعلم جم. وولي قضاء قفصة، ثم عزل. من تصانيفه: «الشهاب الثاقب في شرح مختصر ابن الحاجب الفقهي»، وكتاب «الذهب في ضبط قواعد المذهب». وغير ذلك من الكتب والتقاييد.
انظر الديباج: 2/ 329328.
(3) في «ج» و «د»: يحضر.(2/645)
شجاع بصلة، كان فيه بعث للناس، وتحريض على الاشتغال [والتشبث] (1) به، فهذه فائدة الخلع والصّلات، وضرورات التخصيصات، وكل ذلك منوط باجتهاد السلطان». انتهى المراد منه ملخصا.
اختصاص بمزية:
لا يخفى على ذي التفات إلى أحوال الواقع فضيلة العناية بطلاب العلوم في هذا الباب مقصورة على أمراء المشرق.
وقد بلغنا من أخبارهم قديما وحديثا ما قام عندنا في ذلك مقام المشاهدة، وأول من احتفل منهم بهذه العناية 193ظ / / الوزير «نظام الملك أبو علي الحسن بن علي الطوسي». قال ابن خلكان (2): «هو أول من أنشأ المدارس فاقتدى به الناس».
وحكى [الفهري] (3)؟ قال: «كان الوزير نظام الملك قد بنى دور العلم للفقهاء، وأنشأ المدارس للعلماء، وأسس الرباطات للزهّاد والعباد، وأهل الصلاح والفقراء، ثم أجرى لهم الجرايا مشاهرة، والكساء (4)، والنفقات، وأجرى الخبز، [والورق] (5)، لمن كان من أهل الطلب للعلم، مضافا إلى أرزاقهم. وعم بذلك سائر أقطار مملكة سلطانه «أبي الفتح ابن ألب أرسلان»، فلم يكن من أوائل الشام وهي بيت المقدس، إلى سائر الشام الأعلى، وديار بكر، والعراقين (6)، وخراسان، بأقطارها إلى سمرقند من وراء جيحون (7)، زهاء
__________
(1) في «ج» و «د»: المشبه.
(2) الوفيات: 2/ 129.
(3) بياض في «ج» و «د».
(4) في الشهب اللامعة 219: والكسي.
(5) في «ج» و «د»: الرزق.
(6) م. س: 219: والعراق.
(7) نهر يفصل بين خوارزم وبلاد خراسان، وبين بخارى وسمرقند، وهو أحد أنهار الجنة الذي جاء ذكره في الحديث: أنه يخرج منها أربعة أنهار. نهران ظاهران، ونهران باطنان، فالظاهران: النيل والفرات، والباطنان: سيحون وجيحون وهذان النهران يجمدان في زمن الشتاء، وتعبر القوافل عليهما بدوابها وأثقالها لمدة ثلاثة أشهر. انظر معجم البلدان: 2/ 196. والوفيات: 5/ 64.(2/646)
مسيرة مائة يوم، حامل علم، أو طالب، أو متعبد، أو زاهد، في زاويته إلا وكرامته شاملة له، وسابغة عليه.
وكان الذي يخرج من بيوت أمواله في هذه الأبواب: ستمائة ألف دينار في كل سنة، فوشى به الوشاة إلى أبي الفتح الملك، وأوغروا صدره، وقالوا: إنّ هذا المال المخرج من بيوت الأموال يقيم به جيشا تركن (1) رايته في سور قسطنطينية، فخامر ذلك قلب أبي الفتح.
فلما دخل عليه قال له: يا أبت، بلغني عنك أنّك تخرج من بيوت الأموال كل سنة ستمائة ألف دينار إلى من لا ينفعنا، ولا يغني عنّا، فبكى «نظام الملك»، وقال: يا بنيّ أنا شيخ أعجميّ لو نودي عليّ فيمن تزيد، لم أحفظ خمسة دنانير، وأنت غلام تركي، لو نودي عليك عساك تحفظ ثلاثين دينارا، وأنت مشتغل بلذّاتك، ومنهمك في شهواتك، وأكثر ما يصعد إلى الله معاصيك دون طاعتك، وجيوشك الذين تعدهم للنوائب إذا احتشدوا كافحوا عنك بسيوف طولها ذراعان، وأقواس لا ينتهي مدى مرماها ثلاثمائة 194و / / ذراع، وهم مع ذلك مستغرقون في المعاصي والخمور، والملاهي والمزامر، والطّنبور (2)، وأنا أقمت لك جيشا يسمى «جيش الليل»، إذا نامت جيوشك ليلا قامت جيوش الليل على أقدامهم صفوفا بين يدي ربهم، فأرسلوا دموعهم، وأطلقوا بالدعاء ألسنتهم، ومدوا إلى الله أكفّهم بالدعاء لك ولجيوشك، فأنت وجيوشك في خفارتهم (3) تعيشون، وبدعائهم تثبتون، وببركاتهم تمطرون، وترزقون، تخرق سهامهم إلى السماء السابعة بالدّعاء والتضرع.
فبكى «أبو الفتح» بكاءا شديدا ثم قال: شاباش يا أبت، شاباش يا أبت، أي أكثر لي من هذا الجيش» (4).
__________
(1) في الشهب اللامعة: ص: 219: يركز.
(2) الطّنبور والطّنبار: آلة طرب ذات عنق طويل لها أوتار من نحاس، «فارسية».
(3) خفره يخفره خفرا أو خفرا: أجاره وحماه وأمّنه، والخفارة: الذمام.
(4) القصة واردة في الشهب اللامعة: 220219.(2/647)
قال ابن رضوان (1): «يقال إن ملك «إيذج وتستر» (2) كان ملكا خيرا صالحا، أخبر الثقات أنّه عمر ببلاده أربعمائة زاوية منها بحضرته «إيذج» أربع وأربعون، وقسم خراج بلاده أثلاثا، فالثلث منه لنفقة الزوايا والمدارس، والثلث لمرتب العساكر، والثلث لنفقته، ونفقة عياله، وعبيده وخدّامه، ويبعث منه لملك العراق هدية في كلّ سنة.
قال حاكيا عن بعض تواريخ المشارقة: كان الملك المعظم شرف الدين ابن الملك العادل سيف الدين بن أيوب صاحب «دمشق» عالي الهمة، جامعا شمل أرباب الفضائل محبا لهم وكان محبّا للأدب.
ذكر أنّه كان قد شرط لكل من يحفظ «المفصل» للزمخشري مائة دينار، وخلعة، فحفظه لهذا السبب جماعة» (3).
قال في باب آخر: «لكنه يرجع بالمعنى إلى هذا الموضع: «قدم رجل من فقهاء خراسان من سكان خوارزم على بعض ملوك الهند في هذه الأعصار القريبة رسولا بهدية، واختار الإقامة عنده، وصيّره من ندمائه، فلما كان ذات يوم قال له: ادخل إلى الخزانة، فارفع منها قدر ما تستطيع أن تحمله من 194ظ / / المال. فذهب إلى داره، فجاء بثلاث عشرة خريطة، وجعل في كلّ خريطة قدر ما وسعته، وربط كل خريطة بعضو من أعضائه، وكان صاحب قوة وقام بها.
فلما خرج عن الخزانة وقع، ولم يستطع النهوض، فأمر السلطان أن يوزن ما خرج به، فوجد فيه ثلاثمائة وخمسة وعشرين رطلا بالرّطل المصري، فأمره أن يأخذ جميع ذلك فأخذه وذهب به» (4).
__________
(1) م. س: 229.
(2) إيذج: بلد بين خوزستان وأصبهان. انظر معجم البلدان: 1/ 288.
وتستر: أعظم مدينة بخوزستان. انظر: م. س: 2/ 3129.
(3) الشهب اللامعة: 230.
(4) م. س: 373.(2/648)
فوائد وتنبيه:
الفائدة الأولى: لما انقسمت مداخل بيت المال بحسب الواقع إلى جائز وخلافه، اشترطوا في الارتزاق منه حلّيّة ذلك المدخل الذي عين فيه رزق هذا المرتزق،
ومتى احتمل تعيينه أن يكون من حرام، قالوا: «وهو أغلب أموال السلاطين»، فهنا اختلفوا، فمن قائل: إن كل مالا يتيقن أنه حرام فله أخذه. ومن قائل: إن كل مالا يتيقن أنّه حلال فليس له أخذه.
قال الغزالي: «وكلاهما إسراف». ثم ذكر تفصيلا يظهر به اعتدال النّظر في القضية، فراجعه من هنالك.
وقد أجرى ابن الحاج مثل هذا النظر على الجملة في موضع التعليم على الإطلاق فقال: «وينبغي له أن ينظر أولا في المدرسة إذا عرضت عليه هل هي من وجه حل أو لا؟
فإن كانت من جهة حل فلا بأس إذا، وإن كانت من غيره فلا يحل له الإقدام عليها. وإن كانت من شبهة فالعلماء منزهون عن الشبهات، بل يتأكد الأمر في حقّهم، وقد يصير ترك الشبهات في حقهم واجبا لأنهم القدوة، والنّاس لهم تبع، فإذا اقتحموا الشبهات اقتدى بهم الناس في تناولها و «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه».
قال: وكذلك ينبغي له أو يتعين عليه أن ينظر في المعلوم الذي قدر له بهذا الاعتبار» اهـ.
ويريد «بالمعلوم»: المرتب على التدريس من الأوقاف على ما يرد الكلام عليه إن شاء الله. ثم ذكر 195و / / بعد كلام اعتذار من يرى أن الضرورة تلجىء إلى المسامحة في استباحة ما طولب باجتنابه.
وأجاب بما حاصله أن هذه الضرورة لمّا حدثت من مخالفة الشرع،
فالعالم أولى بعدم اعتبارها من حيث هو مظنة الاقتداء به فعلا وقولا.(2/649)
وأجاب بما حاصله أن هذه الضرورة لمّا حدثت من مخالفة الشرع،
فالعالم أولى بعدم اعتبارها من حيث هو مظنة الاقتداء به فعلا وقولا.
وقرر وجه مخالفتها للشرع بأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كانوا كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنََا لَهُمْ أَزْوََاجاً وَذُرِّيَّةً} (1).
ومع كثرة عائلتهم لم يمنعهم ذلك من القيام بأعباء النّبوة والرسالة، وكذا السلف الصالح رضوان الله عليهم كانوا يحبون الفقر، ويصبرون على شظف العيش اقتداء بالأنبياء والرسل.
قال: وقد كان سيدي أبو محمد رحمه الله يعني «ابن أبي جمرة» يقول: ما أتى على من أتى في هذا الزمان إلا من الضرورات [المعتادات] (2) غير الشرعيات، فكان رحمه الله يقول: هذه الضرورات تقطع من أصلها، ولا حاجة تدعو إليها.
مثال ذلك أن يقول الفقيه لا بد من فوقانية على صفة، ولا بد من عمامة على صفة، ولا بد من كتب، ولا بد من دابّة، فإذا جاءت الدابة لا بد لها من غلام وكلفة في الغالب، ولا بد لبعضهم من بغلة، وبعضهم يتخذ لغلامه بغلته أيضا، وقد يحتاج الغلام إلى زوجة، فلا يزال هكذا في ضرورات حتى يرجع في الدنيا متسع الحال، وهو عند نفسه أنه ذو ضرورة، حتّى لقد بلغني عن بعض من في الوقت من أرباب الدنيا المتسعة عليه أنه يقول: استحق أخذ الزكاة نظرا منه إلى دعوى الضرورة، فتأتي الدنيا للواحد منهم وهو مهموم، تجده يشكو من كثرة الضرورات التي يدعيها.
وكان سيدي الشيخ رحمه الله يقول: هذه الضرورات تقطع من أصلها، فلا ضرورة إلا شرعية، والشرعية لا يحتاج فيها 195ظ / / إلى كلفة غالبا». انتهى وبعضه بالمعنى.
__________
(1) سورة الرعد، الآية: 38.
(2) في «ج» و «د»: المتعادات.(2/650)
وهو وإن كان التنكيت على علماء المشرق فحكمه يعم سائر العادات التي لا اعتبار بها في استباحة ما لم يؤذن فيه شرعا.
الفائدة الثانية: اشترطوا أيضا في حلّية هذا الارتزاق قيام صاحبه بالوظيف الذي رزق من أجله
. وللقرافي في ذلك تقرير حسن.
قال في «قواعده» (1): «إذا كان المطلق له الرزق على وظيفة من تدريس أو غيره من الإمامة أو الآذان أو الحكم بين الناس أو الحسبة، ولم يقم بتلك الوظيفة، لا يجوز له أن يتناول ذلك المقدر، لأن الإمام إنّما أطلقه له من بيت المال على وظيفة، ولم يقم بها، واستباحة أموال بيت المال بغير إذن الإمام لا تجوز، وللإمام أن يطلقه له بعد اطلاعه على عدم قيامه بالوظيفة لمصلحة أخرى غير ذلك الوظيف فيستحقه بالإطلاق الثاني لا بالتقدير الأول». انتهى المقصود منه على بعض اختصار.
وقال بعد كلام: «لا يجوز تناول الإقطاعات إلا بالقيام بشرط الإمام من التهييء للحرب، ولقاء العدوّ، والاستعداد بالخيل، والسّلاح، والأعوان على ذلك، ولا شيء له إن لم يفعل ما شرطه عليه الإمام، لأن مال بيت المال لا يستحق إلا على الوجه الذي أطلقه الإمام، ولو أطلق له من بيت المال فوق ما يستحقه غلطا أو جورا، فالزائد أمانة يجب رده لبيت المال أو للإمام بعده أن ينزعه منه، ولمن ظفر به ممن له في بيت المال حق أن يتناوله بإذن الإمام إن كان عدلا أو بغير إذنه إن كان جائرا» (2) انتهى ملخصا.
الفائدة الثالثة: إذا ابتلي صاحب هذه الجراية بقطع الإمداد بها عنه، فمن تخلقه بآداب
الكمل من الرجال أن لا يتغير عما كان من الاجتهاد في التعليم
__________
(1) انظر: 3/ 4.
(2) انظر القواعد: 3/ 5.(2/651)
[الكمل] (1) من الرجال أن لا يتغير عما كان من الاجتهاد في التعليم، 196و / / وصدق العناية ببث العلم، وإفادة المتعلمين به.
فقد ذكر ابن الحاج: «أن من علامة الإخلاص في التعليم لله تعالى أنه إذا قطع عنه المعلوم لا يترك التعليم، ولا ما كان عليه من الاجتهاد، ولا يتبرم ولا يتضجر، بل يكون في وقت قطع المعلوم أكثر تعليما، وأشد حرصا عليه، لأنه قد تمحض لله تعالى.
قال: وقد يكون المعلوم قد قطع عنه اختيارا من الله تعالى لكي يرى صدقه في علمه وعمله به، فإنّ رزقه مضمون له مطلقا لا ينحصر في جهة دون أخرى.
قال صلى الله عليه وسلم: «تكفل الله برزق طالب العلم». قال: وينبغي له أن يصون هذا المنصب الشريف من التردد لمن يرجى أنه يعين على إطلاق المعلوم، أو التحدّث فيه، أو إنشاء معلوم عوضه.
قال: وقد حدّثني بعض من أثق به، أنّه رأى بعض العلماء المتأخرين، وكان يدرس في مدرسة، وانقطع المعلوم عنه وعن طلبته أو نقص منه، فقالوا للمدرس: لعلك أن تمشي إلى فلان، وكان من أبناء الدنيا لتجتمع به عسى أن يأمر بإطلاق ذلك المعلوم، فقال: نعم، فلما عزموا عليه، قال: والله إني لأستحيي من ربي عزّ وجل أن يكذب هذه الشيبة عنده. فقالوا له: فكيف ذلك؟
فقال: إنّي أصبح في كل يوم وأقول: «اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت». فأقول هذا، وأقف بين يدي مخلوق وأسأله ذلك، والله لا فعلته، فلم يمش إليه. قال: وينبغي له ألا يذكر قطع المعلوم بين النّاس، ولا يشهره لأن ذلك من الضجر، وقلة الثقة بما في يد الله تعالى، والتعرض إلى اطلاع بعض الناس على شيء من ضروراته، والعالم أولى من يثق بربه في المنع والعطاء بل المنع من الله تعالى في كثير من المواضع هو عطاء لأنّ اختيار الله تعالى لعبده أحسن وأولى من اختيار العبد لنفسه 196ظ / / إذ هو سبحانه العالم بمصالح عبده».
__________
(1) في «ج» و «د»: الكمال.(2/652)
قلت: وكلام الشيخ تاج الدّين رحمه الله في هذا المقام معروف وهو قوله: «ربما أعطاك الله فمنعك، وربّما منعك فأعطاك». وقوله: «متى فتح لك باب الفهم في المنع عاد المنع هو عين العطاء» (1).
وفي معنى ما حكي عن بعض المتأخرين ما ذكره الشيخ «أبو بكر بن الشيخ الكبير أبي محمد عبد الله بن الحسن القرطبي المالقي»، أنّه لما ولي مالقة السيد أبو محمد عبد العزيز بن أمير المؤمنين أبي يعقوب، والتزم القراءة على الشيخ أبي محمد أبيه رحمه الله وأجرى له في بيت المال ما أغناه عن قبول الأجر ممن كان يقرأ عليه رفع التكليف عنهم جملة.
قال: فحدثني الأستاذ «أبو جعفر ابن غالب» (2) قال: لما وردت «مالقة» مقفلي من حضرة مراكش قصدت والدك رحمه الله في مجلس إقرائه، فوجدت المجلس غاصّا بوجوه الطلبة، وذلك بعد انصراف السيد «أبي محمد» عن «مالقة»، وانقطاع تلك الجراية عنه.
قال: ووجدته قد مسّته الحاجة، وأضر به الإقلال حتى أفضى به الحال إلى أن كان ينسخ أصوله من أمهات كتبه بخط يده، ويقيدها بها، ثم يبيع الأصول فيما ينفقه ويمسك ما انتسخ منها. قال: فأخذت معه في ذلك، وقلت له: إن هؤلاء الطلبة موفورون، ولهم قدرة على القيام بوظائفك وكفايتك هذا التعب.
قال: فقال لي: يا أبا جعفر، إني عودتهم عادة أكره قطعها عنهم، ولكني رأيت أن أقتصر على إقراء القرآن في أول النهار، وأشتغل بنسخ هذه الكتب بقيته، ففي هذا بلغة حتى يأتي الله بلطفه أو كلاما هذا معناه» اهـ.
وتقدم (3) عن الخليل رحمه الله ما اتفق له مع سليمان بن حبيب بن
__________
(1) الحكم: 1/ 60.
(2) هو محمد بن إبراهيم بن غالب المالقي. ت: في حدود 645هـ 1247م. في أقصى بلاد سوس، سمع بالإسكندرية من أبي الحسن المقدسي، وكان فاضلا، وروى بمالقة ورحل إلى المشرق، وحج ثم رجع إلى الأندلس، ثم نهض إلى مراكش فتوفي في أقصى السوس. انظر نفح الطيب: 2/ 5352، وفيه أن كنيته «أبو عبد الله».
(3) انظر: ص: 108و 108ظ من مخ «أ». ص: 397396من هذا الكتاب.(2/653)
المهلب لما قطع عنه المرتب، واعتذر له بعد أن أضعف له ما كان يجريه له قبل ذلك ومن اطلع على 197و / / أخبار العلماء، وجد من ذلك ما يقضى منه العجب.
النظر الثاني: في حكم أخذ الأجرة على تعليم العربية:
قال اللخمي (1): «اختلف في الإجارة على تعليم الشعر والنحو، فكرهه «ابن القاسم»، وقال «ابن حبيب»: لا بأس بالإجارة على تعليم الشعر، والرسائل، وأيام العرب، ويكره من الشعر ما فيه الخمر والخنا والهجاء.
قال: ويلزم على قوله أن يجيز الإجارة على كتابته، ويجيز بيع كتبه».
قلت: نص ما حكاه القابسي في كتابه: «أحكام المعلمين» (2) عن ابن حبيب «لا بأس بإجارة المعلم على تعليم الشعر، والنحو، والرسائل، وأيام العرب، وما أشبه ذلك من علم الرجال، وذوي المروءات، لا بأس بالإجارة على ذلك كله، إلا أني أكره من تعليم الشعر، وتعلمه، وروايته الكبير والصغير، ما فيه ذكر الحميّة، والخنا، وقبيح الهجاء».
وحكى عنه قال: «قلت لأصبغ (3)، فكيف جوزتم الشرط على تعليم الشعر، والنحو، والرسائل، إذا لم تسموا لذلك أجلا، وهو مما ليس له منتهى ينتهي منه إلى حد معروف؟ فقال لي: هو عندنا معروف بمنزلة الحناطة،
__________
(1) حمد يس بن إبراهيم بن أبي محرز اللخمي. ت: 299هـ 912م. فقيه، ثقة من أهل «قفصة»، ونزل مصر. له في الفقه كتاب مشهور في اختصار مسائل المدونة. انظر: المدارك: 4/ 384، والديباج: 1/ 342.
(2) انظر: ص: 305.
(3) أصبغ بن الفرج بن سعيد مولى عبد العزيز بن مروان. ت: 225هـ 839م. سكن الفسطاط، ورحل إلى المدينة ليسمع من مالك، فدخلها يوم مات، وصحب ابن القاسم، وابن وهب، وأشهب، وسمع منه، وتفقه به، وعليه تفقه ابن المواز، وابن حبيب، وأبو زيد القرطبي، وغيرهم، كان من أعلم خلق الله كلهم برأي مالك. له تآليف منها: «تفسير غريب الموطأ» وكتاب «آداب الصيام»، وكتاب «آداب القضاء» انظر: المدارك: 4/ 2217والديباج: 1/ 300299.(2/654)
والخبز، وقد أجاز مالك الشرط على تعليم الحناطة والخبز، وما أشبه ذلك من الصناعات، فإذا بلغ من ذلك مبلغ أهل العلم به من الناس وجب في ذلك حقه» (1).
قلت: وقد أفادت هذه المراجعة أن وجه الكراهة هنا عند القائل بها، ما يلقى من الجهالة في هذا التعليم مع وجه آخر ذكروه، وهو أن العلم على الجملة أمر قد اختلف فيه، فليس كالقرآن الذي لا يدور الشك حول حماه. ومن هنالك كرهوا أيضا الاستئجار على تعليم الفقه والفرائض، وعند ذلك فلا يفهم من القول بكراهة الأجرة على تعليم النحو، وما في معناه أن ذلك لكراهة هذا النوع 197ظ / / من العلم في نفسه وإلا للزم ذلك في الفقه والفرائض.
فإن قلت: فإذا كانت العربية كغيرها من العلوم في هذا الباب، فأي القولين أرجح؟ قلت: الذي رجح اللخمي منهما وهو الذي لا يظهر خلافه، القول بالجواز، بل قال: ولا أرى إن [لم] (2) يختلف اليوم في ذلك أنه جائز يعني الأجرة على تعليم العلم وعلى كتابته.
قال: «لأن حفظ الناس وأفهامهم نقصت، وقد كان كثير ممن تقدم ليس لهم كتب، قال مالك: ولم يكن للقاسم ولا لسعيد (3) كتب، وما كنت أكتب في هذه الألواح، ولقد قلت لا بن شهاب: أكنت تكتب العلم؟ فقال: لا، فقلت:
أكنت تسألهم أن يعيدوا عليك الحديث؟ فقال: لا، فهذا كان شأن القوم.
قال: فلو سار الناس اليوم بسيرهم لضاع العلم ولم يبق إلا رسمه، والناس اليوم يقرؤون كتبهم ثم هم في التقصير على ما هم عليه.
__________
(1) أحكام المعلمين: 304.
(2) ساقطة من «أ».
(3) سعيد بن المسيب المخزومي القرشي أبو محمد. ت: 94هـ 713م. سيد التابعين وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث، والفقه، والزهد، والورع. كان أحفظ الناس لأحكام عمر بن الخطاب وأقضيته حتى سمي: رواية عمر. انظر: الحلية: 2/ 175161، والوفيات:
2/ 378375، والتهذيب: 4/ 8884.(2/655)
وأيضا القول بالاجتهاد في مسائل الفروع واجب، ومعرفة أقوال المتقدمين مع الترجيح بينها مفيد لمزيد القوة في وضع الاجتهاد مواضعه، وإهمال كتابة كتب العلم، وبيعها مناف لذلك.
قال: ويجوز للمفتي أن يكون له أجر من بيت المال، ولا يأخذ أجرا ممن يفتي». انتهى ملخصا.
قلت: حكي عن عبد الحميد؟ أنه قال في أخذ المفتي الأجرة، إذا لم تتعين عليه الفتيا أي شيء منها، ولم يجسر على التصريح بالجواز.
قال ابن عرفة: «ومن شغله ذلك وأشار إلى الفتيا والشهادة أيضا عن جل مكتسبه، فأخذه الأجرة من بيت المال لتعذرها عندي خفيف، وهو محمل ما سمعته من غير واحد عن بعض شيوخ شيوخنا، وهو الشيخ الفقيه أبو علي بن علوان (1) أنه كان يأخذ الأجر الخفيف في بعض فتاويه».
قلت: وكذا سمعت من غير واحد عن «الشيخ أبي 198و / / عبد الله الفخار من شيوخ بعض شيوخنا أنه كان يأخذ على الفتيا أربعة دراهم، لكن يرى أن الأجرة: على كتب الجواب في رقعة السؤال، وسمعت أنه كان يمسك الجواب عنده، ويمد يده إلى قبض الأجرة، فإذا حصلت عنده فحينئذ يناول السائل جوابه».
قلت: وهذه المسامحة توجب أحدوية الجواز في تعليم العلوم على الجملة ومن تأمل أحوال الناس قديما وحديثا رأى عملهم على التساهل في أخذ الأجرة على التعليم، ودليله ما تقرر. نعم، كان من فضلائهم من لم يمد يده قط إلى يد طالب، ولا يناقشه في اقتضاء ما يراه أجر مثله، ويحتسب تعليم الفقير من غير أجر.
__________
(1) عمر بن محمد بن علوان التونسي أبو علي. ت: 716هـ 1316م. له تآليف في أحكام مغيب الحشفة زاد فيه أحكاما كثيرة استخرجها بكثرة اطلاعه، وتبحره في العلم، وذكر ابن عرفة في «مختصره»: أنه يأخذ الأجرة على الفتوى، وذكر عذره فيه. انظر: النيل: 195194، والحلل السندسية: ق 3/ 1/ 678676.(2/656)
قال الشيخ أبو بكر بن الشيخ الأستاذ الكبير أبي محمد بن القرطبي في أخبار والده: «وما اجتمعت يده قط مع يد طالب على أخذ الأجرة في العلم على ما بلغني على لسان غير واحد من طلبته، وإنما كان ينوب في ذلك بعضهم، وهذا مشهور عنه لا ينكره أحد ممن قرأ عليه. هذا مع رفع التكليف جملة عن فقراء الطلبة وضعفائهم، لا كما يفعله كثير من المقرئين من الإلحاح في طلب الأجر والانتهاء من ذلك إلى حد لا تقتضيه رتبة العلم، ولا تحتمله المروءة، ولا تسيغه الفضيلة.
وقد شاهدنا من هذا النوع لا كثر الله أمثالهم غير واحد، وبلغنا خبر آخرين، واشتهارهم بهذه الهجنة، يغني عن الخوض في ذكرهم مع ما نؤثره من التجافي عن ذكر ما أفضوا إليه من مقدم عملهم، والله ولي العفو والمغفرة» اهـ.
وفي «برنامج الشيخ أبي الحسن الشاري» «أن الشيخ «أبا الحسن بن خروف» لما قدم عليهم «سبتة» في المرة الأولى كان يجمع له في كل شهر ثلاثون دينارا من قرأ سيبويه يعطي في الشهر دينارا.
قال: وقد كان يعطي في الشهر 198ظ / / دينارا من قرأ «الإيضاح».
قال: وفي الوقت الذي أكمل فيه «شرح كتاب سيبويه» توجه به إلى «مراكش» ورفعه إلى الناصر على يد قاضي الجماعة أبي عبد الله الشريف (1)، فأجازه عليه ثلاثمائة دينار، وباع منه بعد ذلك نسخة بخطه بمائة دينار.
قال: وأخبرت أنه أعاره لمن ينسخ منه، ولم يعره له إلّا بعد أن دفع له مائة دينار، وهو معلم كان بسلا ذو همّة عالية» اهـ.
وقد تقدم (2) عن أبي عثمان المازني حكايته مع «الذمي الذي بذل مائة دينار على أن يقرئه كتاب سيبويه وفيها أنّ الذي منعه من قبولها كونه كان غير مسلم».
__________
(1) ذكره الشاطبي في الإفادات والإنشادات: 121فقال: أنشدني الفقيه أبو عبد الله
(2) انظر: ص: 106وظ من مخ «أ» و 108و / من مخ «أ» / 391و 396من هذا الكتاب.(2/657)
وفي «الطبقات» (1) للزبيدي «أن أبا الحسن الأخفش قرأ عليه الكسائي كتاب سيبويه فوهبه سبعين دينارا».
وهذا يحتمل بحسب الظاهر أنها كانت غير مشترطة لا بالقول، ولا بالعادة، ويحتمل أنها معاوضة في الأصل قدرت بعد بمقتضى المكارمة.
تنبيه على مهم:
هذه الأحباس الموقفة هل يجري مرتب الوظائف منها مجرى الرزق والأجرة؟
حكى الشيخ ابن عرفة الأول: «عن بعض شيوخ شيوخه، قال البرزلي:
«وهو البوذري (كذا) وغيره، والثاني: عن فهم بعضهم من أقوال الموثقين (2)، يريد ما وقع لهم في الاستيجار من الحبس على القيام بوظيف الإمامة والآذان، وذلك من جملة مصارف الأحباس».
قلت: والذي تحقّق عند غير واحد من معتبري العلماء أن مال الحبس على الإطلاق رزق الإجارة. والطرطوشي (3) ممن صرّح بذلك في «التعليقة» (4)
له قال ما نصه إثر كلام فرضه مع الشيخ «أبي محمد ابن أبي زيد» في قضية الأجرة على الصلاة:
«فإن قيل: أليس يجوز أخذ الأجرة من الأحباس، والأحباس أموال المسلمين. قلنا: الأحباس ليست بأجرة 199و / / وهذه الأوقاف إنما حدثت في زمان علي بن عيسى (5) وزير المطيع لما عدم بيت المال، واستأثر الملوك به،
__________
(1) انظر: ص: 73.
(2) في «أ»: المؤلفين.
(3) هو محمد بن الوليد الفهري المالكي المعروف بالطرطوشي. ت: 520هـ 1126م. فقيه أصولي، محدث، مفسر، نشأ بطرطوشة الأندلس، ورحل إلى المشرق، وأخذ عن جماعة وتوفي بالإسكندرية، له تصانيف منها: «سراج الملوك»، «الحوادث والبدع»، و «شرح رسالة ابن أبي زيد». انظر: الصلة: 576575، والديباج: 2/ 248244.
(4) له تعليقة في مسائل الخلاف وفي أصول الفقه. انظر: الديباج: 2/ 245.
(5) المعروف هو علي بن عيسى وزير المقتدر العباسي والقاهر. ت: 334هـ 946م.(2/658)
وعدم من يحتسب لله، أشار بجمعها لذلك في مصالح المسلمين لتكون عوضا من بيت المال للأئمة، والقومة، والمؤذنين، فهو في مذهب بيت المال لا يشترط فيه شروط الإجارة، بل يجوز أن يأكله على التأبيد، ويأخذ منه قوته، [وقوت] (1) عياله» اهـ.
ويبقى النظر فيما وقع للموثقين، وظاهر منه بأيسر تأمل ما قاله الشيخ ابن عرفة: «إنما أقوال الموثقين في استئجار الناظر في أحباس المساجد من يؤذن، ويؤم، ويقوم بمسؤولية المسجد، فلعله فيما حبس ليستأجر من غلته لذلك.
قال: وأحباس زماننا ليست كذلك إنما هي عطية لمن قام بتلك المؤونة».
قلت: ومثل هذا المحمل وقفت عليه للأستاذ أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله في بعض أجوبته، ونسب من يقول خلافه إلى الجهل بالحقائق.
وقريب من ذلك قول القرافي (2) بعد ما صرح: «بأن الأوقاف بمنزلة الأرزاق، وكثير من الفقهاء يغلط في هذه المسألة فيقول: إنما يجوز تناول الرزق على الإمامة بناء على القول بجواز الإجارة على الإمامة في الصلاة ويتورع عن تناول الرزق بناء على الخلاف في جواز الإجارة.
قال: وليس الأمر كما ظنه، بل الأرزاق مجمع على جوازها، لأنها إحسان ومعروف وإعانة، وليست بمعاوضة البتة، لجوازها في أضيق المواضع المانعة من المعاوضة وهو القضاء، والحكم بين الناس، فلا ورع حينئذ في تناولها».
قلت: ودليله عندهم قضية عمر رضي الله عنه لما وجه إلى الكوفة عمار بن ياسر (3) على صلاتهم وجيوشهم، وابن مسعود على قضائهم، وبيت
__________
والمطيع، أحد أبناء المقتدر، بويع بعد خلع المستكفي بالله سنة 334هـ، وفي السنة التي مات فيها علي بن عيسى
(1) في «ج» و «د»: قوة عالية.
(2) القواعد: 3/ 4.
(3) عمار بن ياسر الكناني المذحجي العنسي القحطاني، أبو اليقظان. ت: 37هـ 657م،(2/659)
مالهم، وعثمان بن حنيف (1) على مساحة الأرض، وفرض لهم في كل يوم شاة 199ظ / / شطرها وسواقطها لعمار، والشطر الآخر بين هذين ثم قال: وما أرى رستاقا (2) يؤخذ منه شاة كل يوم إلا سريعا في خرابها.
قال الطرطوشي: «وهذا الرزق ليس كسبيل الإجارة، إذ لا يعرفون قدر الشاة، ومبلغها، وذكورتها، وأنوثتها، وسمنها من عجفها، ومثل هذا لا يجوز جعله عوضا في الإجارة لو أن رجلا أجر نفسه على بعض الأعمال على أن له كل يوم شاة أو نصف شاة غير موصوفة لم يجز» اهـ.
وهنا سؤال: أورده الأستاذ أبو سعيد ابن لب رحمه الله في موضوع له سماه «ينبوع العين الثرة في تفريع مسألة الإمامة بالأجرة»، وهو: «أنّ هذا الذي وقع في كلام الطرطوشي، والقرافي، من أن الأرزاق ليست بأجرة، وأنها ليست بمعاوضة البتة، يعارضه أنها عند مالك ثمن من الأثمان، حيث منع فيها بيع ما لم يقبض من الطعام. وقول ابن رشد: «إنها أجرة لهم على عملهم».
وأجاب بأن وجه ذلك: أنّ في الأرزاق شائبتين: شائبة معروف ومعاونة، وشائبة معاوضة بسبب المقابلة إذ لا يجوز أخذ الرزق إلا لمن قام بالوظيفة، فأعملت شائبة المعروف حيث يكون حفظا للرسوم الشرعية، وصونا للوظائف الدينية، وأعملت شائبة المعاوضة حيث لا ضرورة في بيع له مدخل في البيوع المحظورة» اهـ.
تحصيل:
لا يخلو المرتب من الحبس على أي وظيف كان من تدريس، أو إمامة،
__________
صحابي وأحد السابقين إلى الإسلام، شهد بدرا وأحدا والخندق وبيعة الرضوان، أول من بنى مسجدا في الإسلام (مسجد قباء في المدينة) ولاه عمر الكوفة ثم عزله عنها. شهد الجمل وصفين مع علي. وقتل في الثانية. انظر: الحلية: 1/ 143139، والإصابة: 2/ 513512.
(1) عثمان بن حنيف الأنصاري. شهد بدرا وولاه عمر السواد مع حذيفة بن اليمان، واستعمله «علي» على البصرة قبل قدومه إليها، مات في خلافة معاوية. انظر الإصابة: 2/ 459.
(2) الرّستاق كالرّزداق والرّسداق: القرية وما يحيط بها من أراض، وهي فارسية معرب رستا القاموس المحيط.(2/660)
أن يكون رزقا، أو إجارة، فإن كان الأول فالكراهة منتفية من كل وجه.
وقد قال البرزلي: «إنه لا يعلم في جوازه خلافا. قال: وقد عارضت الشيخ الزاهد أبا عبد الله الدكالي رحمه الله حين اجتمعت به «بثغر الإسكندرية» بسبب اعتراضه 200و / / على الأئمة وغيرهم أخذ المرتبات من الأحباس المعدة لذلك، وأداه ذلك إلى عدم الصلاة خلفهم ولو الجمعة، وقلت له: إن أخذ المرتب من الحبس عندي أحل من بيت المال، لأن الحبس يتناول الإمام بالنص، وبيت المال لا يتناول عمال المسلمين إلا بالظاهر لكونهم من المسلمين وهم ينوبون عنهم [في] (1) منافعهم، ومع ذلك فإن السلف قبلوه، ولم يعدلوا عنه، ولن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها.
قال: فقال: الذي قلت ظاهر، ولكن لا أحب لك هذه السخسخة.
قال: يريد أنها صفة مرجوحة، فينبغي أن يتورع عنها» انتهى المقصود الآن منه.
وإن كان الثاني فهي كذلك منفية على مختار غير واحد من الشيوخ، وقد وقفت في بعض «تقاييد» الأستاذ الكبير «أبي سعيد ابن لب» رحمه الله على كلام في ذلك باعتبار وظيفة الإمامة ومعناه شامل لأنواع القرب الدينية كلها.
قال ما ملخصه: «ومن خطه نقلت مجاوبا لمن زعم ألّا رخصة في أخذ الأجرة على الصلاة، وأن المعارضة متسلطة على أدلتها، وأنا لا أرضى لكم النظر المفضي إلى هذا إلّا وجه أحدها:
أن الأئمة الذين تقلدوا جوازها فتيا وعملا، وقلدهم الناس قديما وحديثا، كانوا أعلم بمدارك الشرع مع قرب عهدهم، واتصال الأدلة بهم، وعند ذلك فكيف يستقيم لنا اليوم بعد مقاربة ألف سنة أن نعلم من الدين ما لم يعلموا، أو نصل من الدليل إلى ما لم يصلوا، أو نقول في معارضتهم: لم يكن في عهده عليه السلام كذا، ولا بعده إلى المائة أو نحوها.
__________
(1) ساقط من «ج» و «د».(2/661)
الثاني: أن ذلك عمل قد شاع وذاع، وعمل به في كل الأقطار والأعصار، فكاد يكون إجماعا عمليا، وإجماع كل عصر حجة، لقوله صلى الله عليه وسلم 200ظ / /: «لا تجتمع أمتي على ضلالة». وقد وقع لابن [خيرة] (1) (2) من فقهاء قرطبة لأجل هذا الحديث في الإجماع «أن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين من رمضان»، لإجماع المسلمين في هذه الأعصار على انصراف قصدهم وهمهم إليها فيها.
قال ما نصه: «ثم قد درج على استباحة الأجر في المسألة علماء، زهاد، صلحاء، أهل ورع وديانة، وحفظ لدينهم، وصيانة، كالخطيب «أبي عبد الله الطنجالي» (3) بمالقة ممن رأينا وعرفنا، كان إذا رأيته علمت أنه ممن يخشى الله سبحانه، وقد سافر سفيرا إلى المغرب مع جملة من الشيوخ، فما أكل ذاهبا ولا راجعا إلا من زاده الذي حمل. وما كان قوام عيشه إلا من مرتب الخطابة، وكان ذا علم وعمل. وهكذا علماء بلدنا كابن فضيلة، وابن أبي العاصي، إلى غيرهم من العباد المنقطعين، أصحاب الكرامات كأبي عبد الله التونسي وغيره، فتضليل هؤلاء أو تجهيلهم ليس بالسهل.
الثالث: أنك وغيرك مضطر إلى الصلاة خلف الذين يأخذون الأجرة عليها، إذ لا معدل لك في تحصيل صلاة جماعة عنها، وإذ ذاك فأحد الأمرين لازم، إما الصلاة خلفهم على هذا الاعتقاد [تمريض] (4) لصحة الصلاة، ودخل فيها، وإما ترك الإتيان بها معهم استبراء لدينك بترك مشتبه بسبب الخلاف فيه،
__________
(1) في الأصول: ابن حيرة.
(2) هو أبو الوليد محمد بن عبد الله بن محمد بن خيرة القرطبي المالكي، الحافظ. ت: 551هـ أخذ الفقه عن أبي الوليد ابن رشد وخرج من قرطبة في الفتنة بعد ما درس بها وانتفع الناس به في فروع الفقه وأصوله كان من جملة العلماء الحفاظ، متفننا في المعارف كلها، من كبار فقهاء المالكية. انظر: نفح الطيب: 2/ 241240.
(3) هو أبو عبد الله محمد بن أحمد الطنجالي، قاضي بلدة مالقة، وأحد ذوي الجلالة من أهله.
نجمت في عهده بواكي الوباء الأكبر وذلك صدر عام 750هـ، وكان جلدا نبيها، نزيها، خطيبا، أصيل الرأي. انظر: قضاة الأندلس: 160155.
(4) في «أ»: تمريص.(2/662)
وهو عكس الورع المشروع من جهة الإهمال لأمر مجمع على التوعد بالعقوبة على تركه، وهو الجمعة والجماعة، وعند فساد القول بواحد منهما، تعين الاقتداء بهم مع الإعراض عن هذه الحزازة التي لا اعتبار بها» انتهى ملخص ما ذكره هنا.
وله في الموضوع المتقدم ذكره، أن «ابن رشد» ذكر أن فاعل المكروه لا يجرح بفعله، ولا يقدح ذلك في إمامته.
قال: وقد جرى العمل بذلك في 201و / / الأمصار من بيت المال، ومن الأحباس في المواضع الكبار، وفي بعض الأمصار، ومن مال المؤتمين في القرى والحصون الصغار، وأقر العلماء ذلك كلّه عملا، وأفتوا به قولا، وهب أن تم قولا بالمنع والشدة، فإذا أخذ الناس بقول مخالف لقول آخر، فلم يختلف العلماء أنهم لا يجرحون بذلك، ولا يفسقون، ولو كان الأمر هكذا لكان اختلاف العلماء من أعظم المصائب في أهل الإسلام، فسادا، وشتاتا، وطعنا، يكفر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، وكان يؤدي إلى تفريق الكلمة، وإطفاء نور السنة والجماعة، لا سيّما والخلاف أكثر من الوفاق. يقول تعالى:
{فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ} (1). وقد علم سبحانه أنهم يختلفون» اهـ.
قلت: وقد ألزم ابن عرفة القائل بالتزام الترك «فسق أولئك الأئمة، أو فسقه، إن كانوا على هدى من ربهم».
فحكى البرزلي «أنه أنشدهم في ذلك منكتا على الدكالي المتقدم ذكره حين ورد الديار المصرية، ووجده على هذه الطريقة:
يا أهل مصر ومن في الدين شاركهم ... تنبهوا لسؤال معضل نزلا
لزوم فسقكم أو فسق من زعمت ... أقواله أنه بالحق قد عدلا
إن كان حالكم التقوى فغيركم ... قد باء بالفسق حقا عنه ما عدلا
__________
(1) سورة النحل، الآية: 43.(2/663)
وإن يكن عكسه فالأمر منعكس ... فاحكم بعدل وكن بالهدي [معتدلا] (1)
قال البرزلي: وعندي أن كلا منهما حكم بما يقتضيه حاله. كان الدكالي بعيدا عن الدنيا، زاهدا فيها كثيرا، فالمتلبس بها عنده في غاية البعد عن الآخرة.
وكان الشيخ يرى أن الدنيا مطية الآخرة، وأنها نعم العون على ذلك، فاكتسب منها 201ظ / / جملة كبيرة، وخرج عن جلها للآخرة نفعه الله بذلك.
ورأى الآخر أن التلبس بها يعقبه الحساب، فغلب السلامة، ولكل وجه.
قال: ولعل هذا يرجع إلى مسألة الغنى والفقر أيهما أرجح».
قلت: ومع هذا فلا ينتهي وجه الإعراض عن هذا القدر من الدنيا إلى ترك الصلاة خلف من تلبّس به، وقد أشار إلى ذلك البرزلي، ولا بد منه كما أنّه لا ينتهي حاله في هذه الطريقة التي سلكها أن يقال فيه ما ضمنه ابن عرفة في أبياته، ولذلك أجابه شيخ الإسلام سراج الدّين البلقيني (2) بقوله:
ما كان من شيم الأبرار أن يسموا ... بالفسق شيخا على الخيرات قد جبلا
لا، لا، ولكن إذا ما أبصروا خللا ... كسوه من [حسن] (3) تأويلاتهم حللا
أليس قد قال في «المنهاج» (4) صاحبه ... يسوغ ذلك لمن قد يختشي زللا
وقال فيه أبو بكر (5) إذا ثبتت ... عدالة المرء فليترك وما عملا (6)
__________
(1) في «أ»: معتزلا.
(2) هو عمر بن رسلان الكناني العسقلاني الأصل، ثم البلقيني المصري الشافعي، أبو حفص، سراج الدين. ت: 805هـ 1403م. مجتهد، حافظ للحديث، ولي قضاء الشام سنة 769هـ.
من تصانيفه: «التدريب»، في فقه الشافعية، و «تصحيح المنهاج»، و «محاسن الاصطلاح»، و «الفتاوى»، «ومناسبات تراجم البخاري». انظر: الضوء اللامع: 6/ 85، ودرة الحجال: 3/ 202200.
(3) ساقطة من «أ».
(4) المقصود: منهاج الطالبين في مختصر المحرر في فروع الشافعية للإمام الشافعي وقد شرحه البلقيني وسماه «تصحيح المنهاج». انظر كشف الظنون: 2/ 18741873.
(5) لعله الشيخ مجد الدين أبو بكر بن إسماعيل السنكلومي. ت: 740هـ 1339م. أحد شراح المنهاج. انظر: م. س: والصفحة نفسها.
(6) البيت ساقط من درة الحجال: 3/ 201.(2/664)
كذا الفقيه أبو عمران سوغه ... لمن تحمل خوفا أو اقتنى عملا
وقد رويت عن ابن القاسم العتقي ... فيما اختصرت كلاما أوضح السبلا
ما إن ترد شهادات لتاركها ... إن كان بالعلم والتقوى قد احتفلا
نعم، وقد كان في الأعلين منزلة ... من جانب الجمع والجمعات، واعتزلا
[كمالك] (1) غير مبد فيه معذرة ... إلى الوفاة، ولم يثلم وما عذلا
هذا وإن الذي أبداه متضح ... أخذ الأئمة أجرا منعه نقلا
وهبك أنك راء حله نظرا ... فما اجتهادك أولى بالصواب ولا (2)
إعلام بفائدة
حكى الإمام أبو عمر الطلمنكي رحمه الله في جزء له ضمنه الجواب 202و / / عن هذه القضية: «أن بعض هؤلاء المنكرين انتهى في إنكاره إلى نهي الناس عن الصلاة وراء الأئمة الآخذين الأجرة على الإمامة.
وزاد بعضهم فقال: إن قول الله تعالى في «فرعون»: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النََّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هََذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ} (3) أنه فيمن يأخذ الأجرة على الإمامة.
قال: فافترى على كتاب الله، وقال فيه ما لم يأذن به الله ولا رسوله، ولا أحد من أهل التأويل.
قال: ومما يحكى من قولهم أنه من صلى وراء إمام بأجرة، فكأنه يصلي وراء صنم، وهذا كله جهل منهم، وإفراط، وغلو، وتجاوز، ولولا الخوف على جاهل يغتر بقولهم ما كان لذكرهم معنى.
قال: وهذه قرطبة عراق الأندلس، ومعدن فضلها، وعلمها، وصلاحها،
__________
(1) في «ج»: كحالك.
(2) القصيدة واردة في م. س: 3/ 201.
(3) سورة هود، الآيتان: 98و 99.(2/665)
ومعدن الفقهاء، والخيار، والأئمة ممن لقي مالكا، وأصحاب مالك، وغيرهم من الأئمة، يستبيحون الصلاة خلف أئمة الجامع، وهم لا يخدمون، ولا [يوقدون] (1) ولا يكسحون (2)، ولا يفتحون، ولا يغلقون.
قال: ومن جاوز القول بأنها جرحة، أو خربة (3)، أو أفسد الصلاة وراء من يستبيح الأجرة على الإمامة، فهو جاهل بمذاهب أهل العلم لا يلتفت إليه، ومن تقلد ذلك، ونهى عن حضور الجماعات والجمعات لعلة الأجرة، وآثر الصلاة وحده، فهو ممن يعين على خراب بيوت الله مع إحيائه لطريقة الخوارج وغيرهم من المبتدعة الذين لا يأتمون بأئمة المسلمين ولا يصلون معهم.
قال: ومن ركب هذه المقالة، ودعا إليها فهو حقيق بالردع والزجر، فإن لم يكن ذلك فينبغي [أن] (4) يهجر في الله، ويحذر منه». انتهى ملخصا من مواضع في كلامه إذ قد أطال فيه النفس، وأبدى في بسطه وأعاد. وهذا المقدار كاف منه شهادة لهؤلاء الشيوخ، رحم الله جميعهم، وشكر عن الإسلام 202ظ / / نصحهم وصنيعهم.
مسائل مكملة لهذا المنهج
المسألة الأولى: يتصور في مرتب التعليم أو غيره من الوظائف الدينية بحسب اختلاف أحوال الحبس في الواقع صور متعددة:
الصورة الأولى: أن يكون من جنس عينه المحبس لذلك المصرف بعينه،
فهذا لا إشكال في تسويغ الأخذ منه بشرط حلّية الحبس في نفسه، ووفاء الآخذ منه بما يكون
__________
(1) في «أ»: يرقدون.
(2) كسح: كنس.
(3) الخرب، والخربة، والخربة: الفساد في الدين.
(4) غير واضحة في «ج».(2/666)
هناك من شروط تتوقف عليها استباحة الاختصاص به على ما سبق تقريره.
الصورة الثانية: أن يكون من حبس عام المصرف في سبل الخيرات،
فحكم هذا أيضا حكم ما هو معين لوظيف بعينه، وسواء قصر مصرف هذا الحبس العام على وظيف التعليم أم عم به ما يمكن من سائر الوجوه التي يشملها أهل الحبس.
الصورة الثالثة: أن يكون من حبس مختلط لا يدرى ما تخص منه مصرفا بعينه،
وحكمه الجواز عند غير واحد من العلماء.
قال الأستاذ أبو سعيد إثر نقله لما تقدم (1) عن «تعليقة الطرطوشي»، ومقتضى الظاهر من كلامه في الأحباس المجموعة في تلك المدة يعني في زمان «علي بن عيسى» الوزير: «أنها كانت متعددة المصارف، مختلفتها، فجمعت ووزعت بالمصلحة حتى عمت، لئلا يذهب بعض شعائر الدين، لعدم المعين.
وانبنى هذا العمل حين سوغته الضرورة على مذهب في الأحباس، أن فوائدها:
لا يمتنع صرف بعضها في مصرف بعض، وأن ما كان لله لا بأس أن يصرف فيما هو لله، مراعاة للقدر المشترك في المقاصد التحبيسية، واطراحا للتعيينات الخصوصية، وإلى هذا يذهب محمد بن السليم (2) وغيره.
قال: وكأن قائله يلتفت إلى مذهب أبي حنيفة أن 203و / / خصوصيات الأحباس باطلة» قلت: وعلى هذا عمل الشيخ القاضي المفتي أبو علي بن قدّاح (3) على ما حكى البرزلي: «أنه كان يأخذ مرتب الفتيا من رقاع (4) في قرى
__________
(1) انظر: ص: 198ظ من مخ «أ». من هذا الكتاب.
(2) محمد بن إسحاق بن السليم الأندلسي أبو بكر. ت: 367هـ 977م، قاضي الجماعة بقرطبة.
الأديب، الفقيه الحافظ، الفاضل، الزاهد، العالم، العامل، له كتاب «التوصل لما ليس في الموطأ» و «كتاب في الحديث». انظر: الشجرة: 9998.
(3) هو عمر بن علي بن قداح الهواري التونسي. ت: 736هـ 1335م. كان إماما عالما بمذهب مالك، عليه مدار الفتيا مع القاضي ابن عبد الرفيع ولي قضاء الجماعة بعد ابن عبد الرفيع.
أخذ عنه ابن عرفة وغيره. له مسائل قيدت عنه مشهورة. انظر: الديباج: 2/ 82، والشجرة: 207 وفيها أنه توفي سنة 734هـ. ويكنى: «أبا حفص»
(4) الرقعة: ج رقاع، القطعة من الأرض.(2/667)
محبسة، لا يدري مصرفها بناء على هذا القول بجواز صرف الأحباس بعضها عن بعض.
قال: وهذا إذا لم يثبت للبلد عادة في أحباسهم، فإن ثبتت عادة صير إليها».
الصورة الرابعة: أن يكون من فضلة حبس معين المصرف،
وحكمه جار على الصورة قبلها، ذكره البرزلي، وسئل عنه الأستاذ أبو سعيد: فأجاب: «بأن ما يفضل من الفائد على المصرف ولا تترتب له حاجة بعد ذلك، فإنه يصرف في مثله أو في غير ذلك من وجوه الخير والبر. ثم استظهر على ذلك بما تقدم عن «ابن السّليم» أنه كان ينقل فوائد الأحباس إلى غير مصرفها مما هو لله. قال: رأى ذلك غيره من القضاة ورخصوا فيه».
المسألة الثانية: قال القرافي في «قواعده» (1): «إذا وقف الوقف على من يقوم بوظيفة الإمامة أو الآذان أو الخطابة أو التدريس،
لم يجز لأحد أن يتناول من ريع ذلك الوقف شيئا إلا إذا قام بذلك الشرط على مقتضى شرط الوقف، فإن استناب عنه غيره في هذه الحالة دائما في غير أوقات الأعذار لم يستحق واحد منهما شيئا من ريع ذلك الوقف.
أما النائب: فلأنه من شرط استحقاقه: صحة ولايته ممن له النظر، وليس هو المستنيب لأنه إمام، أو مؤذن، أو مدرس، لا تصح صدور النيابة عنه.
وأما المستنيب: فلا يستحق أيضا شيئا لأنه لم يقم بشرط الوقف، فإن
__________
(1) انظر: 3/ 4.(2/668)
استناب في أيام الأعذار، جاز له تناول ريع الوقف، وأن يطلق لنائبه ما أحب من ذلك» اهـ.
قال الشيخ أبو عبد الله ابن مرزوق رحمه الله قوله: «إن استناب لعذر جاز له التناول، ظاهره: طالت 203ظ / / مدة النيابة أو قصرت».
وظاهر كلام المتيطي (1) أن ذلك في المدة القليلة لا الكثيرة، ثم ذكر نص كلامه فيما يدل على ذلك في نقول أخر منها قوله في «شركة التهذيب» (2): «وإذا مرض أحد شريكي الصنعة أو غاب فعمل صاحبه فالعمل بينهما، لأن هذا أمر جائز بين الشركاء إلا ما تفاحش من ذلك وطال.
قال: وسئل «النووي» عن إمام مسجد استناب من يصلي عنه مدة لمن تكون جامكيته (3)؟ فأجاب: إن استناب لعذر لا يعد بسببه مقصرا، فالجامكية للإمام الأصلي، وأمّا النائب فإن ذكر له جعلا (4) استحقه، وإلا فلا شيء له، لأنه متبرع. وإن استناب على صفة يعد معها مقصرا لم يستحق الإمام الأصلي شيئا من الجامكية. وأما النائب فإن أذن له الناظر فيه استحق الجامكية وإلا فلا يستحقها» اهـ.
قال: «وبما ذكرته من تحريم الاستنابة، وأخذ الأجرة للمستنيب من غير عذر أفتى غير واحد من فقهاء المذاهب، وهو الذي تقتضيه الأصول، ولا شك فيه.
قال قبل هذا، وقد ذكر شياع تبايع الوظائف في البلاد المشرقية، وأن الواحد منهم يسعى في وظائف جملة ليستنيب في بعضها بأجرة، ويأخذ
__________
(1) علي بن عبد الله الأنصاري، المالكي، المعروف بالمتيطي أبو الحسن. ت: 570هـ 1174م.
فقيه، ولي قضاء شريش وتوفي بها. من آثاره: «النهاية والتمام في معرفة الوثائق والأحكام».
انظر: إيضاح المكنون: 1/ 693وهدية العارفين: 1/ 700وفيه متيطة: قرية بأحواز من الجزيرة الخضراء.
(2) شركة التهذيب: عمل تكاملي بين الفقهاء لتهذيب الأطفال.
(3) الجامكية: مرتب خدام الدولة من العسكرية والملكية (تركية).
(4) الجعل: الأجرة، وهي غير معينة الزمان ولا المكان وفيه نوع من الغرر.(2/669)
الفاضل، وقد دبت هذه العقرب في هذا الزمان لبعض قواعد المغرب، فتجد الوجيه يتولى خططا من قضاء، وخطابة، وتدريس في بلده وغيره، ويستأجر من ينوب عنه فيها بشيء تافه أو يتطوع له بذلك لجاهه، ويأخذ هو ما جعل المحبس للقائم بها.
قال: أترى هذا يجيزه مقتدى به، أو يسع إمام الوقت أن يترك له ما تحصل في ذمته من هذه الأموال ولا يردها إلى أمكنتها إذا كانت مما وقف على القيام بذلك الوظيف.
ثم حكى عن «القرافي» ما تقدم فيما إذا كانت 204و / / من بيت المال».
المسألة الثالثة: حذر «ابن الحاج» من ترك التدريس لعارض شهود جنازة أو غيره، حيث يؤخذ المرتب عليه
. قال: «لأن الدرس إذ ذاك واجب، وحضور الجنازة مندوب، ولا آكد من تخليص الذمة مما عمرت به من الواجبات، وبعد ذلك ينظر في المندوبات فلو بطل الدرس بحضور الجنازة تعين عليه أن يسقط من المعلوم ما يخص ذلك.
قال: بل لو كان الدرس ليس له معلوم لتعين الجلوس [له] (1)، تتمحضه لله تعالى، ولقول بعض العلماء: «إن سماع مسألة واحدة من العلم أفضل من سبعين حجة مبرورة».
ثم ذكر قضية سعيد بن المسيب حضور جنازة بعض صلحاء أهل البيت، وقوله مجاوبا لمن قال له: ألا تخرج إلى جنازة هذا الرجل ابن الرجل الصّالح ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!. صلاة ركعتين عندي أفضل من حضور جنازة هذا الرجل الصالح ابن الرجل الصالح.
قال: فإذا فضل صلاة ركعتين نافلة على حضورها فما بالك بأكثر من
__________
(1) في «ج» و «د»: لله.(2/670)
ذلك؟ فما بالك بإلقاء مسائل العلم، لأنه خير متعد لا سيما في زماننا هذا».
قلت: لا يخلو هذا العارض أن يكون مما لا بد من اعتباره أولا، فإن اعتبر فلا يضر تعطيل التدريس لأجله، لأن قصارى المدرس أن يكون بمنزلة معلم الصبيان في الاستجارة على التعليم.
وقد قال القابسي (1): «إنه يجوز له حضور جنازة من «يلزمه النظر في أمره»، وإن لم يعتبر فالتعطيل لأجله مما لا ينبغي، لكن هذا يحط من المرتب بقدره وجوبا كما يقتضيه ظاهر كلامه، أو ورعا وتوقيا للشبهات، ولعل هذا هو الذي يقتضيه لسان العلم، لأن العطلة على الجملة لا تؤثر في حلية المرتب إذا كانت غير طويلة المدة، وعلى ذلك يتخرج ما حكاه البرزلي عن ابن عرفة 204ظ / / أن البوذري بقي يأخذ مرتب التدريس من الحبس وهو مريض مدة من شهر. قال: وكذا حكي عن الغبريني (2) أنه بقي زمانا متخلفا عن المدرسة لمرضه، ثم قطعه لما طالت المدة».
وكونها هنا عن عوارض لا تعتبر شرعا، لا يظهر أثره إلا في قبح إيثاره على القيام بوظيف التدريس لا في وجوب إسقاط شيء من المرتب. ولعل هذا هو مراد الشيخ والله أعلم.
بيان:
ذكر رحمه الله لهذه العوارض التي عاب تعطيل الدرس لأجلها، ورتب عليه ما تقدم له جملة أمثلة معظمها خاص بالبلاد المشرقية، كتعطيلهم لأجل الصبحة للميت، أو الثالث له، أو إتمام الشهر أو السنة، أو للفرح كالعقيقة وغيرها كالسلام على الغائب والتهنئة بولاية.
قال: «فما كان من ذلك مندوبا فينبغي له أن يفعله من غير وقت الدرس إذا
__________
(1) انظر رسالته: «أحكام المعلمين»: 379.
(2) هو أحمد بن أحمد أبو العباس الغبريني. ت: 704هـ 1304م. مؤرخ، نسبته إلى «غبرى» من قبائل البربر في المغرب. مولده في بجاية. وتولى قضاءها ومات فيها شهيدا. له «عنوان الدراية في من عرف من علماء المائة السابعة في بجاية». انظر: الديباج: 1/ 252، والشجرة: 215.(2/671)
سلم من الموانع الشرعية، وما كان هنا من المكروهات أو البدع فيتعين عليه تركه مع إظهار تقبيحه، والتشنيع على فاعله والتحذير عنه بما أمكنه». انتهى المقصود منه.
المسألة الرابعة: يصح في الاعتبار أن يكون صاحب المرتب على وظيف من هذه الوظائف الدينية أفضل من المتطوع بها،
وذلك على رأي من يقول من العلماء إن الجندي أفضل من المتطوع، وإذا كان المتطوع يتصرف باختياره إلا إن كان له ارتباط الجندي، فحينئذ يكون أفضل ما حكاه ابن الحاج في «نوازله»، «واحتجوا له بما رواه سحنون عن ابن محيريز (1) أن أصحاب العطاء أفضل من المتطوع لما يروعون.
وأسند عن مكحول أنه كان يقول: روعات البعوث تنفي روعات القيامة.
قال الأستاذ أبو سعيد في بيان أن الروعات (2) التي يسببها الافتراض هي من الله في باب [القبول] (3) 205و / / [بمكان] (4). فصار [العطاء] (5) حين أعان على الطاعة وأثر فيها وجها من الكمال داخلا في باب صالحات الأعمال. قال:
وهذا معنى يطرد في القرب».
ثم فرض الكلام في قضية الأجرة على الصلاة إذ لها أصل هذا المعنى بحسب موضوعه فقال:
«فإن إمام الصلاة بسبب ما يجري له من المعونة عليها، يصير قلبه معلقا بالمسجد، فيكون أحد السّبعة الذين قال فيهم النّبي صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه».
__________
(1) هو عبد الله بن محيريز بالتصغير، روى عن بعض ولد محمد بن مسلمة الأنصاري في خيبر، وروى عنه محمد بن إسحاق. انظر التهذيب: 12/ 310.
(2) الرّوعات من الرّوع: وهو الخوف والفزع.
(3) في «أ» المقبول.
(4) ساقط من «أ».
(5) في «أ» المطاء.(2/672)
قال فيه: ورجل قلبه معلّق بالمسجد إذا خرج منه حتّى يعود إليه.
وهذا المعنى لا يحصل للمتبرع بالإمامة لأنه في سعة وراحة من شأنه، كالمتبرع بالجهاد لا تروعه البواعث في جهاد لأنه على رسله (1) في رأيه.
قال: ولعل الذي قال من العلماء إن الأجرة على الإمامة هي الأحب والأصوب راعى هذا المعنى».
قلت: ونوع من هذا يتمشى في التعليم بالمرتب حتى يظهر به اطراد هذا المعنى فيه. ولا يخفى تقريره على متأمل فلا نطول به.
نعم، مختار جماعة لا سيما من غلب عليه الزهد، تفضيل حالة التبرع بإقامة هذه الوظائف، وقد تقدم ما اعتذر به البرزلي عن الدكالي في اعتراضه على الأئمة.
ولابن الحاج في الحض عليه مبالغة عظيمة منها قوله: «وينبغي له أن يكون آكد الأمور وأهمها عنده القناعة، فإذا عرض عليه منصب من حل، وكان له غنية عنه، فلا حاجة تدعو إلى أخذه، وتركه أفضل له عند الله تعالى من أخذه، والتصديق بما يحصل فيه من المرافق، لأن ترك طلب الدنيا أعظم عند الله من أخذها، والتصدّق بها.
قال أيضا بعد كلام: وينبغي له، بل يتعين عليه أن ينظر في العلم الذي يأخذ عليه المعلوم إن كان قد تعين عليه أم لا، فإن كان قد تعين عليه، فلا يجوز 205ظ / / أن يأخذ على تعليمه عوضا، وإن لم يتعين عليه، فيجوز له الأخذ مع أن الترك أولى وأرفع، وإذا أخذه فعلى نية الإعانة على ما هو بصدده من التعلم والتعليم لا على العوض والإجارة».
قلت: فيجيء من هذه التفرقة أن المعنى لا يؤخذ حيث يتعين التعليم مطلقا على كل حال، وما تقدم من غير واحد لا يقتضي ذلك، وهو الظاهر،
__________
(1) على رسله: الرّسل، والرّسلة: التمهل والتؤدة والرفق، يقال: على رسلك يا رجل: أي على مهلك وتأن.(2/673)
ولكن لأهل هذه الطريقة المثلى مبالغة في البعد عن الدنيا تفضي بهم إلى ترك ما يجتنيه غيرهم.
فحكى الشيخ خليل بن إسحاق في مناقب شيخه العالم عبد الله المنوفي رضي الله عنهما عن «الشيخ العامل الفاضل موسى بن شرف الدين المقرىء أن الملك لما بنى جامعه «بالحسينية» طلب أن يكون سيدي الشيخ يعني المنوفي من رؤسائه، وقال له: إن جئتني بالشيخ حليتك حلاوة مثلي لمثلك.
وكان من الملوك الجلة.
قال: فقلت في نفسي: هذا أمر كبير، وأنا فقير، فلعله يعطيني ألفين أو ثلاثة، وأقل ما يعطيني ألفا.
فجئت لسيدي الشيخ، وكانت عادته إكرامي، والإقبال علي، ففعل كعادته، ثم قلت: الحاج الملك يسلم عليك، فأعرض عني وكأنه ما عرفني.
قال: وقلت له: إنه قد بنى هذا الجامع واجتهد فيه، وقصد أن تشتغلوا فيه بالعلم الشريف. فقال لي: يا شيخ موسى، أنت رجل غمر أي جاهل هذا شيء ما فعلته أول عمري أفعله في آخره. فقلت له: يا سيدي تحيون هذا المذهب هناك. فقال: إن كان المذهب يحيى [بي] (1) فقد مات. قال: فخرجت من عنده، وكأني صفعت أو كما قال
قال: وأخبرني القاضي تاج الدين المناوي (2) أن سيدي الشيخ دخل إليه يوما في حاجة لبعض الفقراء فقضاها، ثم أرسل للشيخ وقال له: قصدي 206و / أن أرتب لكم شيئا من وقف بعض المدارس لتستعينوا به. فقال للقائل: جزاه الله خيرا، ولكن لي في هذا الوقف شيء قد جعلت منه لنفسي ولأهلي. وحصل الرضى، وأخشى ألا يحصل الرضى مع هذه الزيادة! وكان هذا لما كان له
__________
(1) في «أ»: في.
(2) القاضي يحيى بن محمد أبو زكريا الحدادي المناوي، فقيه، شافعي، من أهل القاهرة منشأه ووفاته بها. ولي قضاء مصر. وحمدت سيرته، له مصنفات منها: «شرح مختصر المزني» مخ في فروع الشافعية، و «أربعون حديثا». انظر: الضوء اللامع: 10/ 257254.(2/674)
في المدرسة جامكية، وكانت نحو درهم في كل يوم، وآخر عمره ترك ذلك، ولم يبق له معلوم أصلا مع كونه كان ينفق النفقة التي يعجز الملوك عنها».
قلت: ذكر في بعض التعريف بفقر الشيخ مع النفقة الكثيرة: «أنه كان في آخر عمره، وليس له معلوم، ويطعم في كل ليلة خمسين أو ستين، وفي بعض الليالي أكثر من سبعين، والقمح يساوي كل إردب (1) ستين درهما. والناس في غلاء، ويفرق مع ذلك خبزا كثيرا بالمدرسة، ويرسل مع جماعة كثيرة فضة يشتري بها خبزا، ويفرق في الأزقة. ومع ذلك ينفق في الشهر الواحد على جميع الفقراء المترددين إليه ثلاث نفقات أو أكثر، وربما يزيدون على مائتي شخص، ويعطي لمن يرد عليه من خارج بلا حصر، ويرسل الدراهم مع أصحابه لتفرق في البلاد، ويشتري القمح الكثير، [والخام] (2) (3)، [والأبازر] (4)، للفقراء. وكانت أضحية سنة موته ثماني بقرات، واثني عشر خروفا غير ما أرسل للفقراء من المذبوح.
قال: هذا ولم يكن مشتهرا بزاوية ولا أن عنده فقراء، بل كان يتكلم في حاله، ومن جملة تكتمه أن سكن آخر عمره بتربة «الأمير منكلي بغا الفخري» لأجل أن أخته وصهره كانا بها، وكان يقبل من بعض الناس بعض شيء، ولكن يقارب عشر ما كان ينفقه.
قال: وكان رضي الله عنه بجانبه في المدرسة كوّة. فكان يخرج منها ما تعجز الملوك عنه، وما كان يشك من رأى حاله أنه ينفق 206ظ / / من الغيب».
ثم حكى شواهد جمة ندل على ذلك:
منها عن بعض من يثق به من الطلبة الأخيار، قال: «فرشت للشيخ يوما فروة، ولم يكن تحتها شيء، ثم جلس الشيخ فوقها ثم دفع لشخص فضة من تحتها» إلى غير ذلك رضي الله عنه ونفع به.
__________
(1) الإردب: ج أرداب، مكيال ضخم في مصر يساوي 24صاعا.
(2) في «د»: الخلع.
(3) الخام: الثوب.
(4) في الأصول: المبارز.(2/675)
خاتمة الكتاب في آداب المشتغل بالعربية وغيرها من العلوم
قد ذكر العلماء رحمهم الله آدابا كثيرة للعالم والمتعلم على الإطلاق، وقصدنا من ذلك ما يخص المتعلم لاحتياجه في مبدأ تعلمه إلى معرفته بجملة من هذه الآداب، ليبني عمله على أصل صحيح، ويسلك في تعلمه على ما سلك عليه سلف هذه الأمة، ومضى عليه خيار علمائها.
فقد قال ابن الحاج في هذا المعنى ما حاصله: «الغالب أن المتعلم لا يتصف بالأخلاق الحميدة إلا أن يبني أمره على أصل صحيح، لأن البناء إذا طلع على غير أصل لا ينتفع به.
قال: والأساس الذي يحتاج إليه المبتدىء: اتباع السلف الصالح فيما أخذ بسبيله» اهـ.
ولا يخفى أن من اتباع السلف في التعلم: أن يدخل فيه، وهو على نية استعمال الآداب المطلوبة فيه، ليبني أعماله المستقبلة على أساس راسخ القواعد، ولذلك جعلوا من وظائف المعلم أن يلقي للمتعلمين جهّل هذه الآداب المعنى المشار إليه حسبما يقتضيه التعليم الرباني.
فقد قال «النووي» في «بيانه» (1): «وينبغي أن يؤدب المتعلم، على التدريج، بالآداب السنية، والشيم المرضية، ويعوده الصيانة في جميع أموره
__________
(1) انظر ص: 41.(2/677)
الباطنة والجلية، ويحرضه بأقواله وأفعاله المتكررات على الإخلاص، والصدق، وحسن النيات، ومراقبة الله 207و / / تعالى في جميع اللحظات، ويعرفه بأنه بذلك تفتح عليه (أبواب) (1) المعارف، وينشرح صدره وتنفجر من قلبه ينابيع الحكمة واللطائف، ويبارك له في عمله وحاله، ويوفق في أقواله وأفعاله» اهـ.
وقبل الخوض في تسطير هذه الآداب، لا بد من تقديم الذكرى باستحضار إخلاص النية المشترط تصحيحها أولا: في انعقاد هذا التعلم قربة، وتحسينها ثانيا في تنميه أجره وثوابه على ما قدّروا في آداب العالم والمتعلم بإطلاق. قال ابن الحاج: «وذلك في حق المتعلم آكد منه في حق العالم، لأنه في أول أمره متصف بالجهل، [فيحرص] (2) على تخليص نيته من الشوائب في نفسه، وهو أن يقصد بذلك وجه الله تعالى (لا لأجل أن يرتفع قدره عند الناس، أو يعرف بالعلم، أو المعلوم يأخذه به، أو لأن يرأس به على الجهال، أو لأن يشار إليه أو لأن يسمع قوله، إلى) (3) غير ذلك من الحظوظ المذمومة شرعا لأن العلماء لا يختلفون أن العلم أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله تعالى، وإذ ذاك فيتعين تخليصه لله عز وجل، فيبتدئه أولا بالإخلاص المحض حتى يكون الأصل طيبا، فتأتي الفروع على هذا الأصل الطيب، فيرجى خيره وتكثر بركته، والقليل من العلم مع حسن النيّة فيه أنفع وأعظم بركة من الكثير منه، مع ترك المبالاة بالإخلاص فيه.
فعن بعض السلف ما قاله ابن العربي في «مراقي الزلفى»: من طلب العلم لوجه الله لم يزل معانا، ومن طلبه لغير الله لم يزل مهانا (4)». انتهى ملخصا.
وهو يعم جميع أنواع العلوم الإسلامية، إذا شرع الطالب لها في تعلمها.
وتقدم (5) في كلام النووي: «أن المعلم يطالب بإلقاء ذلك إلى المتعلم
__________
(1) في م. س: 41: أنوار.
(2) في الأصول: فيتعرض، والتصويب من المدخل.
(3) زيادة من «المدخل»: 2/ 122.
(4) انظر م. س: 2/ 123122.
(5) انظر ص: 206ظ 207ومخ أ / 675من هذا الكتاب.(2/678)
على حسب التدريج في تعليمه» (1).
فوائد مهمة:
الفائدة الأولى: إذا لم يجد المتعلم نية صادقة الإخلاص في بداية اشتغاله
لما يروم تحصيله من العلوم الشرعية أو ما يعين في طريقها، قال 207ظ / / الشيخ العلامة «أبو العباس أحمد ابن زاغو» في «طليعة التنوير في مقدمات التفسير»: «فطريق اكتسابه للنية أن ينظر إلى ما ورد في ذلك من الفضائل في الشريعة، ويطالعها، ويحفظ ما استطاع منها، فإن ذلك يبعثه بعون الله على العلم والعمل لما ورد فيها من الثواب، والفضائل.
قال: كما بلغنا عن شيخنا الإمام السيد أبي عثمان العقباني (2) أنه قال: «أنا في صحيفة الغزالي».
قال: وذلك أني نظرت يوما فيما ذكره من فضائل العلم والعلماء في كتاب «الإحياء» فأخذت في طلب العلم والجد فيه.
قال: ولذلك ينبغي أن يقدم ذكر فضائل العلم بين يدي تدريسه، وتدوينه، فيكون مطالعة ذلك في ابتدائه، باعثه على الاشتغال به لأجل تلك الفضائل، فذلك من النية الصالحة إن شاء الله».
قلت: وقد تقدم في أول هذا المجموع من فضائل هذه الصناعة، وحض السلف على تعليمها، وبسط ما يدل على عظيم فائدتها ما يبعث إن شاء الله
__________
(1) التبيان ص: 41.
(2) هو سعيد بن محمد العقباني التلمساني المالكي. (ت: 811هـ 1408م). شارك في عدة علوم، ولي القضاء ببجاية أيام السلطان أبي عنان المريني، وولي قضاء تلمسان، وله في ولاية القضاء مدة تزيد على أربعين سنة، له تآليف منها: «شرح الحوفي» في الفرائض، «وشرح الجمل» للخونجي في المنطق، و «شرح العقيدة البرهانية» في أصول الدين انظر الديباج: 1/ 394، ورحلة القلصادي: 98.(2/679)
المطالع لجميع ذلك على الاشتغال بها، وتحسين النية في الإقبال عليها، نسأل الله تعالى أن يصلح النية في ذلك، وأن ينفع به، ويقبل بقلوب الطالبين عليه بمحمد وآله.
الفائدة الثانية: إذا كان المبتدىء بهذا التعلم أو غيره، لم يشرع فيه بنفسه، وإنما أرشده إليه وليّه الناظر في أمره.
فقال ابن الحاج: «يتعين على الولي أن يعلمه النية فيه. قال: وليحذر أن يرشده لطلب العلم بسبب أن يرأس به، (أو يأخذ معلوما عليه) (1)، فإن هذا سم قاتل يخرج العلم عن أن يكون لله تعالى، بل يقرأ ويجتهد لله تعالى خالصا. وقد روى يحيى بن يحيى أنه لما ورد على مالك رضي الله عنه ليقرأ عليه 208و / / قال له مالك: اجتهد يا بني، فإنه قد جاءني شاب في سنك، فقرأ على ربيعة فما كان إلا أيام، وتوفي الشاب، فحضر جنازته علماء المدينة، ولحده ربيعة بيده، ثم رآه بعد ذلك علماء المدينة في النوم، وهو في حالة حسنة.
فسألوه عن حاله فقال: غفر الله لي، وقال لملائكته: هذا عبدي فلان، كانت نيته أن يبلغ درجة العلماء فبلّغوه درجتهم، فأنا معهم أنتظر ما ينتظرون.
قال: فقلت: وما ينتظرون؟. قال: الشفاعة يوم القيامة في العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال: والمبتدىء يحتاج إلى تخليص نيته أكثر من المنتهي، لأن المنتهي عارف بالدسائس التي تدخل عليه إن حصل له التوفيق لذلك بخلاف المبتدىء» (2) انتهى ملخصا.
الفائدة الثالثة: لا شك أن تخليص النية عن شوائب المكدرات لصفوها
عند الشروع في
__________
(1) زيادة من المدخل: 2/ 123.
(2) م. س: ج 2/ 124123.(2/680)
طلب العلوم هو كما قال القرافي: «هو مقام تشيب فيه النواصي، ولا يعتصم منه بالصياصي، قال: ينبغي لك أن توفر العناية عليه، والجد فيه، مستعينا بالله تعالى، فمن لم يساعده القدر، لم ينفعه الحذر:
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
قال: ولكني أدلك على أعظم الوسائل مع بذل الاجتهاد، وهو أن تكون مع بذل جهدك شديد الخوف، وعظيم الافتقار، ملقيا بالسلاح، معتمدا على ذي الجلال، مخرجا لنفسك من [حرجها] (1) فإن هذه الوسيلة هي العروة الوثقى لماسكها، وطريق السلامة لسالكها، والله تعالى هو المسؤول، المبتهل لجلاله في السلامة من عذابه:
فما لجلد بحرّ النار من جلد ... ولا لقلب بهول الحشر من قبل»
قلت: والاعتصام بهذه الوسيلة في هذا المقام مبني على أن الحذر مما يقدح في إخلاص النية فيه لا يرجح ترك 208ظ / / الإقبال على طلب العلم إشفاقا من [الارتباك] (2) في اشتراك القوادح، بل يبقى على أوله في الطلب، ويجاهد نفسه ما استطاع، مع صدق الاعتماد على فضل الله تعالى في كفايته شر ذلك [المحذور] (3) ولذلك جعلوا من آداب العالم: أنه لا يمتنع من تعليم من علم منه أن نيته لم تتخلص في طلب العلم لجانب الإخلاص وهي:
الفائدة الرابعة: قال النووي رحمه الله: «قال العلماء: ولا يمتنع من تعليم أحد، لكونه غير صحيح النية
. فقد قال سفيان وغيره: طلبهم للعلم نية، وقالوا: طلبنا العلم لغير الله تعالى فأبى أن يكون إلا لله سبحانه، معناه: كانت (عاقبته) (4) أن صار لله
__________
(1) بياض في سائر الأصول.
(2) في «د»: الارتباك.
(3) في «أ» و «ب»: المحظور.
(4) في التبيان: ص 43: غايته.(2/681)
تعالى» (1) اهـ.
وقال ابن الصلاح: في «علوم الحديث»: «ولا يمتنع من تحديث أحد، لكونه غير صحيح النية فيه، لأنه لا يرجى له حصول النية من بعد».
روينا عن معمر (2) قال: كان يقال: إن الرجل ليطلب العلم لغير الله، فيأبى عليه العلم حتى يكون لله عز وجل» (3).
قلت: ولشهرة هذا المعنى عند علماء السلف ترجم عليه الشيخ أبو عمر:
«باب الخبر عن العلم، أنه يقود إلى الله عز وجل على كل حال»، وأدخل فيه من مثل هذا المروي جملة.
«فعن الحسن: كنا نطلب العلم للدنيا فجرّنا إلى الآخرة.
وعن حبيب بن أبي ثابت: طلبنا هذا الأمر وليس لنا فيه نية، ثم جاءت النية بعد.
وعن سفيان الثوري: كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا إلى الآخرة.
وعن أبي الوليد الطيالسي (4) قال: سمعت ابن عيينة منذ أكثر من ستين سنة يقول: طلبنا هذا الحديث لغير الله، فأعقبنا الله ما ترون.
وعن الحسن أيضا: لقد طلب أقوام هذا العلم ما أرادوا به الله، وما عنده، فما زال بهم حتى أرادوا به الله، وما عنده» (5).
ولا يقال: لا حجّة في هذه الظواهر لأوجه 209و / /:
أحدها: أن الغالب على الناس اليوم في طلب العلم: الرياء والمباهاة،
__________
(1) م. س: 43.
(2) معمر بن راشد بن أبي عمرو الأزدي أبو عروة. ت: 153هـ 770م، فقيه، حافظ للحديث، ثقة، انظر ميزان الاعتدال: 4/ 154، والتذكرة: 1/ 190.
(3) مقدمة ابن الصلاح: 362.
(4) هشام بن عبد الملك الباهلي أبو الوليد ت: 227هـ 841م، من كبار حفاظ الحديث، من أهل البصرة، روى عنه البخاري عدة أحاديث. انظر التهذيب: 11/ 45.
(5) جامع العلم: 2/ 2322.(2/682)
وعند ذلك فالمعلم لهم معين على معصية، والإعانة على المعصية معصية.
نعم، من غلب على الظن سلامته من ذلك فهو خارج عن حكمه.
الثاني: أن المعنى في تلك الظواهر عند بعض المحققين فيما حكاه الغزالي: «لو أن العلم أبي عليهم، وامتنع فلم تنكشف لهم حقيقته، وإنما حصل لهم حديثه وألفاظه». قال الغزالي: «فإن قلت: فإني أرى جماعة من المحققين برزوا في الفروع والأصول، وعدّوا من جملة الفحول، وأخلاقهم ذميمة، لم يتطهروا منها، فيقال: إذا عرفت مراتب العلوم، وعرفت علم الآخرة، استبان لك أن ما اشتغلوا به قليل الغناء من حيث كونه علما، وإنما غناؤه من حيث كونه علما لله تعالى إذا قصد به التقرب إليه» (1).
الثالث: أن هذا الذي طلب العلم على غير نية، ثم جاءت النية الصالحة في آخر أمره كان أوّلا جاهلا بما يلزمه من الوظائف الشرعية، فلما قرأ العلم اتبعه، وباتباعه صار لله تعالى، لأن نيته كانت محرمة عليه.
قال ابن الحاج: «وهذا هو الظاهر» (2).
الرابع: قال: «إن هذا الإنسان يعني الذي تعلم على غير نية صالحة غرّر فسلم، ولا يمكن لعاقل أن يغرر بنفسه، ويرجو أن يسلم» (3). لأنا نقول جوابا عن الأول: لو اعتبر فيه ذلك المعارض للزم انحسام مادة التعليم، فينقطع اتصال الشرع، ويؤدي إلى إطفاء نوره واندراس أعلامه.
قال القرافي: ومعلوم أن هذه المفاسد أعظم من الرياء الذي قد يقع، وقد لا يقع فإنا وإن قطعنا بوقوعه في الجملة، لكنا لا نعلم حال كل أحد على انفراده 209ظ / / والله تعالى هو متولي السرائر فما استوى الأمران ولا وقوعهما.
وأيضا فالعلم قربة محققة، وهذه المعاصي أمور عارضة، الأصل عدمها
__________
(1) الإحياء: 1/ 5049.
(2) المدخل: 2/ 124.
(3) م. س: 2/ 125.(2/683)
في كل شخص معين وهو الثاني: أنّ ذلك التأويل، وإن صح باعتبار آخر، فالتأويل الأول أسعد بالظاهر من تلك النقول، على أنه في بعضها نصّ في المعنى الذي حمله الجمهور عليه، أو قريب منه، وبه قال الغزالي في بعض كتبه وقرره أبلغ تقرير [وهو الذي لا يظهر خلافه لا سيما في هذه الأزمنة التي [ركن] (1) فيها ريح الطلب فقال في «ميزان] (2) العمل» (3) ما نصّه:
«فإن رأى من لا يتعلم إلا لأجل طلب الرياسة، ومباهاة العلماء، لم يزجره عن التعلم فاشتغاله بالعلم مع هذا القصد خير من الإعراض عنه، فإنه مهما اكتسب العلم تنبه بالآخرة لحقائق الأمور، وعلم أن طالب العلم لأغراض الدنيا مغبون، وقد بين العلماء هذا المعنى بقولهم: تعلمنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله. بل أقول: إن كان الناس لا يرغبون في تعلم العلم لله، فينبغي أن يدعوهم إلى نوع من العلم يستفاد به الرياسة، بالإطماع في الرياسة حتى يستدرجهم بعد ذلك إلى الحق.
قال: ولهذا رئي الرخصة في علم المناظرة في الفقهيات، لأنها بواعث على المواظبة لطلب المباهاة أولا، ثم بالآخرة يتنبه لفساد قصده، ويعدل عنه إلى النهج القويم، ويجري في هذا مجرى قصدنا في إرهاق الصبي، إلى التعلم بالإطماع في الرياسة، فإنا نطمعه فيه بالصولجان، وشراء الطيور، وأسباب اللعب، ونطلق له ذلك في بعض الأوقات، لتنبعث دواعيه إلى التعلم ابتداء، ثم نصرفه عما رغبناه آخرا تدريجيا.
قال: وقد جعل الله قصد الرياسة من تعلم العلم حفظا للشرع والعلم.
ويجري في تحضيض المتعلمين على العلم بالإطماع في الرياسة، وحسن الذكر مجرى الحبّ الذي ينثر حوالي الفخ 210و / / والملواح (4) المقيد على الشبكة،
__________
(1) في «ج»: ركد.
(2) ما بين المعقوفتين ساقط من مخ «أ».
(3) انظر ص: 110109.
(4) الملواح: البومة تشد رجلها ليصاد بها البازي.(2/684)
ومجرى شهوة الغذاء، والنكاح، التي خلقها الله سبحانه داعية إلى الفعل الذي فيه بقاء الشخص والنسل، ولولا هذه المصلحة في المناظرة لما كان يجوز أن يفسح فيها بحال من الأحوال لأنها ليست تقضي إلى تغيير المذهب، وترك المعتقدات» اهـ.
وعن الثالث: أن جهله أو تجاهله بما يلزمه من تحسين النية عند الشروع في الطلب لا ينافي جواز تعليمه وطلبه بالاشتغال مع إرشاده إلى إخلاص نيته، وفي ذلك وقع النزاع، والاستدلال بمحله لا يسمع.
وعن الرابع: أن التغرير بالنفس هنا لا نسلم اعتباره في تحريم التعليم، ولا في ترك الطلب لأجله، وإلا لزم محذور اندراس الشرع على ما سبق في الجواب عن الأول.
وفي كلام الغزالي فوق هذا إشارة إليه، وأيضا يلزم مثله في جميع الأعمال مهما خاف من الرياء عند إرادة التقرب بها.
وقد قرروا [لغرض] (1) انتهاض تلك المخافة إلى رجحان الترك بل طالبوه بالعزيمة على الفعل مع الإعراض ما استطاع عن دواعي الرياء على ما تقدم في [محصول] (2) هذه القضية، ومبنى الاعتماد فيها على ما شهد به علماء السلف، ومضى عليه غير واحد من فضلاء الخلف، وكفى بذلك حجة في أصل المسألة، والله تعالى أعلم.
وإذا تمهد هذا الأصل الأصيل مع ما ترتب عليه من الفوائد المهمة، [فلنصر] (3) إلى ذكر الآداب «الخاصة» بهذا التعلم، و «العامة» له ولغيره، وهي معظمها، حاصرا لها فيما يتخلق به المتعلم مع معلمه، وفي نفسه، ومع رفقائه، على ما يظهر لمتأملها كذلك في كلام العلماء رضي الله عنهم فهي أقسام ثلاثة:
__________
(1) في «أ»: لغو.
(2) في «ج» و «د»: حصول.
(3) في «ج» و «د»: فلنقتصر.(2/685)
القسم الأول: ما يتخلق به مع معلمه.
وهي آداب 210ظ / / جملة.
الأدب الأول: تعظيم قدره، وملاحظة جانبه بعين التوقير والاحترام،
فقد قالوا: إن تعظيم العالم من تعظيم حرمات الله، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمََاتِ اللََّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (1).
وخرّج الشيخ أبو عمر عن ابن طاووس بن طاووس عن أبيه (2) قال: «من السنة أن يوقر العالم» (3) قال: «وروينا من وجوه عن الشعبي قال: صلى زيد بن ثابت على جنازة، ثم قربت له بغلته ليركبها فجاء «ابن عباس» فأخذ بركابه، فقال له زيد: خلّ عنك يا ابن عمّ رسول الله. فقال ابن عباس: هكذا نفعل بالعلماء والكبراء» (4).
قال: «وقال أيوب بن القرّية (5): أحق الناس بالإجلال ثلاثة: العلماء، والإخوان، والسلطان، فمن استخف بالعلماء أفسد دينه، ومن استخف بالإخوان أفسد مروءته، ومن استخف بالسلطان أفسد دنياه» (6). انتهى ملتقطا من مواضع في كلامه.
وخرج أبو نعيم شاهدا على هذا التحذير من التقصير في حق العالم، عن
__________
(1) سورة الحج، الآية: 30.
(2) هو طاووس بن كيسان الخولاني الهمذاني أبو عبد الرحمن، ت: 106هـ 724م من أكابر التابعين، كان متفقها في الدين، ورواية الحديث، وأكثر أهل زمانه تقشفا في العيش، ووعظا للخلفاء، وتجنبا للسلطان. انظر التهذيب: 5/ 8. والصفوة: 2/ 284.
(3) جامع العلم: 1/ 129.
(4) م. س: 1/ 128.
(5) الهلالي. ت: 84هـ 703م، كان من البلغاء، الخطباء، حتى صار يضرب به المثل فيقال: «أبلغ من ابن القرّيّة» ضرب عنقه الحجاج. انظر الكامل لابن الأثير: حوادث 84هـ. والوفيات: 1/ 250.
(6) جامع العلم: 1/ 146.(2/686)
عبادة بن الصامت (1) رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه».
وخرج الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«ثلاث لا يستخف بهم إلا منافق: ذو الشيبة في الإسلام، وذو العلم، وإمام مقسط». ذكر ذلك «المنذري» في «الترغيب والترهيب» (2).
قال الشيخ أبو العباس ابن زاغو: «وكان الشافعي يعظم مالكا تعظيما كثيرا، وكان الربيع (3) يعظم الشافعي كثيرا.
قال عن الفاكهاني (4): «فتلك بتلك» قال: يعني أن الشافعي لما عظم مالكا عظم هو، وهو من باب إنما هي أعمالكم تردّ عليكم، وكما تدين تدان».
قلت: «من تعظيم الشافعي لمالك رضي الله عنهما 211و / / أنه كان يقول: «مالك بن أنس معلمي، وفي رواية: أستاذي وما أحد أمنّ علي من مالك، وعنه أخذت العلم، وإنما أنا غلام من غلمان مالك، وقال: جعلت مالكا حجة فيما بيني وبين الله تعالى» نقل ذلك كله «عياض» في «المدارك» (5).
ومن تعظيم الربيع للشافعي ما ذكره «النووي» عنه أنه قال: «ما اجترأت أن أشرب والشافعي ينظر إليّ، هيبة له» (6).
قلت: وكذلك إمام هذه الصناعة: «سيبويه» رحمه الله كان من تعظيمه
__________
(1) الأنصاري الخزرجي أبو الوليد ت: 34هـ 654م. صحابي، شهد له بالورع، كما شهد العقبة، وبدرا، وحضر فتح مصر، وأول من نصب قاضيا بفلسطين. انظر الإصابة: 4488، والتهذيب:
5/ 111.
(2) انظر: 1/ 115.
(3) الربيع بن سليمان المرادي بالولاء، المصري أبو محمد. ت: 270هـ 884م. صاحب الإمام الشافعي، وراوي كتبه، انظر: التهذيب: 3/ 245، والوفيات: 2/ 292291.
(4) هو عمر بن علي اللخمي الإسكندري تاج الدين، ت: نحو 734هـ 1334م. من أعلم الناس بالنحو. له كتب منها: «الإشارة» في النحو، و «المنهج المبين» في شرح الأربعين النووية، وغيرهما. انظر: الديباج المذهب: 2/ 8280.
(5) انظر: 2/ 7675.
(6) انظر ص: 47من التبيان.(2/687)
لمعلمه وأستاذه «الخليل» رحمه الله على أوضح منهاج سلكه الجلة من العلماء في هذا المقام، ومن شواهد ذلك ما حكي عن الزجاج أنه كان يقول: إذا قال سيبويه بعد قول الخليل: وقال غيره، فإنما يعني نفسه، لأنه أجل «الخليل» عن أن يذكر نفسه معه، وإذا قال: وسألته، فإنما يعني: «الخليل»،
وأجلّه في كلّ عين علمه ... فيرى له الإجلال كلّ جليل (1)
وكذلك العلماء كالخلفاء عن ... د النّاس في التّعظيم والتبجيل
الأدب الثاني: تنزيله منزلة الوالد في البرور، والتزام السمع له، والطاعة،
لما خرجه «أبو نعيم»: عن «أبي هريرة» رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم». قال: وكذلك قال «الربيع بن أبي عبد الرحمن»: الناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم، ما نهوهم عنه انتهوا، وما أمروهم به ائتمروا» (2).
قال الماوردي: «وقد رجّح كثير من الحكماء حق العالم على الوالد حتى قال بعضهم:
يا فاخرا للسّفاه بالسلف ... وتاركا للعلاء والشّرف
آباء أجسادنا هم سبب ... لأن جعلنا عوارض التّلف 211ظ
من علّم النّاس كان خير أب ... ذاك أبو الرّوح لا أبو النّطف (3)» (4)
قلت: وكذا قال «الغزالي» في «ميزان العمل»: «وليعتقد المتعلم أنّ حقّ معلمه أكثر (5) من حق الأب، فإنه سبب حياته الباقية، والأب سبب حياته
__________
(1) البيت الأول ورد في جامع العلم: 1/ 129.
(2) انظر أدب الدنيا: 42.
(3) م. س: 43: لا أبو الجيف.
(4) م. س: 43.
(5) في ميزان العمل: 108: أكبر.(2/688)
الفانية، هذا قاله الإسكندر لما قيل له: أمعلمك أكرم عليك أم أبوك؟ فقال: بل معلمي» اهـ (1).
ونقل الإمام فخر الدين: «العالم أرأف بالتلميذ من الأب والأم والآباء والأمهات يحفظونهم من نار الدنيا وآفاتها، والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة وشدائدها».
وللشيخ أبي القاسم (2) بن الإمام أبي الوليد الباجي رحمه الله في كتابه: «معيار النظار» وقد أجرى ذكر هذا الأدب: «فلا تعامله بما تعامل به الملوك، والسادات، والآباء بل حاله أرفع، وقدره أعظم» اهـ.
وهذه مبالغة لا خفاء بحسن عاقبة من عمل بها، وإذا نزّله هذه المنزلة كما هي عند العلماء الحكماء. فظاهر أنه يجب عليه أن يلقي إليه كما قال الغزالي:
«زمام أمره بالكلية في كل تفصيل، ويذعن لنصحه إذعان المريض الجاهل للطبيب الحاذق المشفق». ذكره في «الإحياء» ثم قال بعد كلام: «فليكن المتعلم لمعلمه كأرض ميتة (3)، نالت غزيرا، فتشرب بجميع أجزائها، وتداعت بالكلية لقبولها، ومهما أشار عليه المعلم بطريق في التعليم فليقلده، وليدع رأيه، فإن خطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه، إذ التجربة تطلع على دقائق يستغرب سماعها مع أنه يعظم نفعها، فكم من مريض محرور يعالجه الطبيب في بعض أوقاته بالحرارة، ليزيد في قوته إلى حد يحتمل صدمة العلاج، فيتعجب منه من لا خبرة له به» (4).
ثم ذكر «قضية موسى مع الخضر عليهما الصلاة والسلام» شاهدا على هذا
__________
(1) م. س: 108.
(2) هو أحمد بن سليمان بن خلف الباجي ت: 493هـ 1099م، كان من أهل الدين والفضل غلب عليه الأصول والفقه، أذن له أبوه في إصلاح كتبه في الأصول فتتبعها، وألف كتابه: «معيار النظر»، وكتاب: «سر النظر»، و «كتاب البرهان» انظر: المدارك 8/ 186185والديباج:
1/ 183.
(3) في الإحياء: 1/ 50: دمثة.
(4) م. س: 1/ 50.(2/689)
212 - و / / التقرير إلى أن قال: «وبالجملة كل متعلم استبقى لنفسه رأيا واختيارا دون اختيار المعلم فاحكم عليه بالإخفاق والخسران» (1).
قلت: وما أكثر مشاهدة هذه الخيبة من أكثر متعلمي هذا الزمان، لإخلالهم بهذا الأدب النافع حيث لا ينزلون المعلم هذه المنزلة، ولا يقبلون منه إلا ما يتوهمون أنه الصواب في ترتيب قراءتهم، وتدريج انتقالهم من مقام إلى آخر، لذلك تراهم ينقطعون عما هو قريب، ولا يحصلون من فائدة ما اختاروا لأنفسهم على طائل يعتد به، وبحق ما قال بعض أرباب القلوب: «من ترك أدبا حرم أربا».
وقال الشيخ الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي فيما نقلت من خط شيخنا العلامة أبي إسحاق إبراهيم ابن فتوح رحمه الله منقولا من خطه: «متى كان المستفيد وهو التابع، مع المفيد وهو المتبوع، بمنزلة اللوح للقلم، والسيد للعبد، استفاد. وإلا فلا»، ولو تخلقوا بهذا الأدب لأدركوا بغية ما قصدوا، وتعرفوا بركة ما بوصفه تأدبوا، على ما شهد به دليل التجربة، واطردت به سنة الله في عباده.
تنبيه:
يتأكد على المعلم نفسه عند ما ينزله المتعلم منزلة الوالد أن ينزله هو منزلة الولد فذلك من جملة أدبه. بل قال الغزالي في «ميزان العلم» (2):
«أول وظائف المعلم أن يجري المتعلمين مجرى بنيه كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد والوالدة».
وقال النووي: «وينبغي أن يحنو على الطالب. ويعتني بمصالحه، كاعتنائه بمصالح ولده، ومصالح نفسه، ويجري المتعلم مجرى ولده في الشفقة عليه، والاهتمام بمصالحه، والصبر على جفائه، وسوء أدبه، ويعذره في قلة أدبه في
__________
(1) م. س: 1/ 5150.
(2) انظر ص: 108.(2/690)
بعض الأحيان، فإن الإنسان معرض للنقائص لا سيما إن كان صغير السن.
قال: وينبغي أن يحب له ما يحب لنفسه 212ظ / / من الخير، وأن يكره له ما يكره لنفسه من النقص أيضا.
فقد ورد في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أكرم الناس عليّ جليسي الذي يتخطى الناس حتى يجلس إليّ. لو استطعت ألا يقع الذباب على وجهه لفعلت.
وفي رواية: إن الذباب ليقع عليه فيؤذيني» (1).
الأدب الثالث: تحسين الظن به. فلا يزال دائما ينظر إليه بعين الاحترام، ويعتقد كمال أهليته ورجحانه على طبقته.
قال النووي: «لأنه أقرب إلى انتفاعه به قال: وكان بعض المتقدمين إذا ذهب إلى معلمه تصدق بشيء، وقال: اللهم استر عيب معلمي عني، ولا تذهب بركة علمه عني» اهـ (2).
وقال بعض العارفين: «من احتجت إلى شيء من علومه فلا تنظر إلى شيء من عيوبه، فإن ذلك يحرمك بركة الانتفاع بعلمه».
وقال الشيخ أبو عمر، عن بلال بن أبي بردة (3): «لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا أن تقبلوا أحسن ما تسمعون منا. قال: وقال الخليل:
اعمل بعلمي ولا تنظر إلى عملي ... ينفعك علمي ولا يضرك تقصيري» (4)
__________
(1) التبيان: 40.
(2) م. س: 47.
(3) بلال بن أبي بردة عامر بن أبي موسى الأشعري، ت نحو 126هـ 744م، أمير البصرة، وقاضيها، كان راوية، فصيحا، أديبا، ثقة في الحديث إلا أنه لم تحمد سيرته في القضاء. انظر التهذيب: 1/ 500. والوفيات في ترجمة أبيه: 3/ 1210.
(4) جامع العلم: 1/ 131.(2/691)
تبصرة: إذا وقف المتعلم على عيب لمعلمه،
فلا يخلو ذلك العيب أن يقبل التأويل ولو على أبعد وجه أو لا يقبله البتة، فإن كان الأول وجب المصير إلى الاعتذار به، ولا يتعذر عليه إن تهدى لالتماسه، وأوسع الجهد في احتمال التخريج عليه. فقد قال النووي:
«لا يعجز عن التأويل عن الشيخ إلا قليل التوفيق أو عديمه» (1).
قلت: وإذا كان التماس العذر مما يطالب به في حق الصحبة على الإطلاق كما قال حمدون القصار (2)، حكاه أبو عبد الرحمن السلمي (3): «إذا زل أخ من إخوانكم فاطلبوا 213و / / له سبعين عذرا، فإن لم تقبله قلوبكم، فاعلموا أن المعيوب أنفسكم حيث ظهر لمسلم سبعون عذرا فلم تقبله»، فأولى في حق الصحبة مع المعلم.
فرع:
قال الشيخ أبو العباس ابن زاغو: «فإن عجز عن التأويل نسب التقصير فيه لنفسه كما حدثنا شيخنا الإمام أبو عثمان سعيد بن محمد العقباني عن شيخه ومشاركه في المشيخة الآبلية (4) الشيخ الإمام السيد أبي عبد الله محمد بن أحمد الشريف التلمساني (5) قدس الله أرواحهم أنه رأى الشيخ الإمام أبا حامد
__________
(1) التبيان: 49.
(2) حمدون بن أحمد بن عمارة القصار النيسابوري أبو صالح. ت: 271هـ 884م، متصوف على يده انتشر مذهب الملامة، وكان عالما فقيها. انظر طبقات الصوفية: 129123.
(3) هو محمد بن الحسين بن محمد بن موسى الأزدي السلمي النيسابوري، ت: 412هـ 1021م.
شيخ الصوفية وصاحب تاريخهم، وطبقاتهم، وتفسيرهم، له تصانيف عدة منها: حقائق التفسير، وطبقات الصوفية، وآداب الصحبة، انظر: ميزان الاعتدال: 3/ 523. وتاريخ بغداد: 2/ 248وطبقات الأولياء: 315313.
(4) المشيخة الآبلية: نسبة إلى الشيخ الآبلي وسيأتي ذكره في ص: 251ظ / مخ أص: 783من هذا الكتاب مع ترجمة له.
(5) ت: 771هـ 1370م، من أعلام المالكية بالمغرب، نشأ بتلمسان، ورحل إلى فارس مع السلطان أبي عنان المريني، الذي كان يقربه تارة ثم يقصيه أخرى، وحين استولى أبو حمو موسى الثاني على تلمسان دعاه إليها، وأسس له المدرسة اليعقوبية، وزوجه ابنته، من(2/692)
الغزالي في عالم النوم أعور العين، فلما استيقظ قال في نفسه: «الغزالي» صحيح العينين، وتأويل رؤياه بردّ العور إلى نفسه، وقال: إنما هذا سوء اعتقاد مني في «الغزالي»، ولعل ذلك من اعتراض لي عليه.
قال: ومن هذا الباب قول القائل:
ومن يك ذا فم مرّ مريض ... يجد مرّا به الماء الزّلالا»
قلت: وقوله:
«ومن يعترض والعلم منه بمعزل ... يرى النّقص في عين الكمال ولا يدري
من جهة أن رؤية العين مع صحة تأويله بعد عن العلم بالحقائق، وإن كان الثاني وهو لا يجد إلى التأويل سبيلا»، فهنا قال ابن زاغو:
«لا ينبغي له أن يسقط منزلته من قلبه، وليتذكر ما في عقيدة الإيمان من كون العصمة ليست إلا للأنبياء عليهم السلام، فما رأى من شيخه إلا ما دخل عليه معه، ومع غيره، ثم يعتقد فيه أنه لا يليق به إلا الإقلاع عن ذلك والتوبة، والاستغفار، ويبقى على ملازمته، وتعظيمه» انتهى كلامه.
قلت: وكما لا ينبغي أن يسقط منزلته من قلبه، فكذلك يجب عليه 213ظ / / أن لا يشيع ما رآه غير محتمل للتأويل، وأن يكون منتظرا لرجوعه.
قال الإمام أبو نعيم: «فإذا وقفوا منه على زلة، أو سقطة، فلا يشيعوها، ولا يذيعوها، بل ينشرون عنه أحسن ما يعلمون منه.
ثم أسند عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يسمع بالحكمة، فلا يحدّث إلا بشرّ ما سمع كمثل الذي يقال له: ادخل الزّرب، فخذ أسمن شاة فيها، فخرج بالكلب يقوده» قال: «وليكونوا لفيئته منتظرين، ولاعتراضهم بالظنّ عليه تاركين». ثم خرج قوله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا زلّة العالم، وانتظروا فيئته».
__________
كتبه: «مفتاح الوصول إلى بناء الفروع والأصول»، وشرح جمل الخونجي، انظر البستان: 164 184والنيل: 255. ورحلة القلصادي: 104.(2/693)
الأدب الرابع: حفظ عرضه،
بالإمساك عنه مخافة العقوبة النازلة بمن بسط لسانه في أعراض العلماء، والانتصار له إذا صدرت الوقيعة فيه.
أما الأول: فنقل النووي عن ابن عساكر (1): «اعلم يا أخي وفقك الله وإيانا لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار متنقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخََالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} (2)» (3).
وأما الثاني: فقال النووي أيضا: «اعلم أنه ينبغي لمن سمع غيبة مسلم أن يرحمها، ويزجر قائلها، فإن لم [ينزجر] (4) بالكلام زجره بيده، فإن لم يستطع باليد ولا باللسان فارق ذلك الموضع.
قال: فإن سمع غيبة شيخه أو غيره ممن له عليه حق أو كان من أهل الفضل والصلاح، كان الاعتناء بما ذكره أكثر» (5).
الأدب الخامس: تواضعه معه بكل وجه يتوسل به إلى استمالة قلبه
214 - و / /، وصرف وجه عنايته إلى بذل الجهود معه، وقد اعتنى العلماء رضوان الله عليهم بالحض على رعاية هذا الأدب، ونبهوا على فوائد التخلق به.
__________
(1) هو علي بن الحسن، أبو القاسم بن عساكر الدمشقي. ت: 571هـ 1176م، الحافظ، المؤرّخ، الرحالة، محدث الديار الشامية، ورفيق السمعاني في رحلاته. من تآليفه: «تاريخ دمشق الكبير»، و «الإشراف على معرفة الأطراف»، في الحديث. وغيرهما. انظر الوفيات: 3/ 309 وطبقات الشافعية: 4/ 273. والبداية: 12/ 294.
(2) سورة النور، الآية: 63.
(3) التبيان: 3029.
(4) في «ج» و «د»: يزجر.
(5) التبيان: 37مع بعض اختصار.(2/694)
فقال الماوردي: «اعلم أن للمتعلم في إبان تعلمه ملقا وتذللا، إن استعملهما غنم، وإن تركهما ندم وحرم، لأن التملق للعالم يظهر مكنون علمه، والتذلل له سبب لإدامة صبره، وبإظهار مكنونه تكون الفائدة، وباستدامة صبره يكون الإكثار.
قال: وقد روى معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس من أخلاق المؤمن الملق إلا في طلب العلم».
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «ذللت طالبا فعززت مطلوبا».
وقال بعض الحكماء: من لم يحتمل ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبدا.
وقال بعض حكماء الفرس: إذا قعدت وأنت صغير حيث تحب، قعدت وأنت كبير حيث لا تحب. قال بعد كلام: ولا يمنعه من ذلك علو منزلته إن كانت له، وإن كان العالم خاملا، فإن العلماء بعلمهم قد استحقوا التعظيم، لا بالقدرة ولا بالمال.
ثم أنشد لابن دريد:
لا تحقرن عالما وإن خلقت ... أثوابه في عيون رامقه
وانظر إليه بعين ذي خطر (1) ... مهذّب الرّأي في خلائقه (2)
فالمسك بينا تراه مهتهنا ... بفهر (3) عطّاره وساحقه
حتّى تراه في عارضي ملك ... أو موضع التّاج من مفارقه» (4) 214ظ / /
وقال الغزالي: «لا ينبغي للطالب أن يتكبر على المعلم قال: ومن
__________
(1) في أدب الدنيا: ص 41: أدب، والخطر: الشرف وارتفاع القدر.
(2) في م. س: ص 41: في طرائقه.
(3) الفهر: ج أفهار، حجر صغير تسحق به الأدوية.
(4) أدب الدنيا: 41.(2/695)
تكبره على المعلم أن يستنكف عن الاستفادة من المرموقين المشهورين، وذلك هو عين الحماقة فإن المعلم سبب النجاة والسعادة، ومن طلب مهربا من سبع ضار يفترسه، لم يفرق بين أن يرشده إلى الهرب مشهور، أو خامل الذكر، وضراوة سباع الناس بالجهال بالله عز وجل أشد من ضراوة كل سبع، فالحكمة ضالة المؤمن، يغتنمها حيث يظفر بها، ويتقلد المنة لمن ساقها إليه كائنا من كان، ولذلك قيل:
العلم حرب للفتى المتعالي ... كالسيل حرب للمكان العالي» (1)
قلت: ومثله قولهم: «المتواضع من طلاب العلم أكثر علما كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماء».
ومن ثم قال ابن الحاج: «من أراد الرفعة فليتواضع لله تعالى. ألا ترى أن الماء لما نزل إلى أصل الشجرة صعد إلى أعلاها، فكأن سائلا سأله، ما صعد بك هاهنا؟ أعني في رأس الشجرة. وأنت نزلت تحت أصلها، فكأن لسان حاله يقول: «من تواضع لله رفعة». قال الغزالي: فلا ينال العلم إلا بالتواضع، وإلقاء السمع». انتهى المراد منه.
وقال ابن العربي «في سراجه»: «لا ينبغي للمتعلم أن يتكبر على معلمه.
قال: وأعني به على العالم، تعلم منه أو لم يتعلم، لأن الله تعالى قد رده إليه فقال: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ} (2). وأمره بالاقتداء به، فكيف يصح أن يتعاظم عليه» اهـ.
وقال النووي في «تبيانه»: «وينبغي أن يتواضع لمعلمه، وأن يتأدب معه، وإن كان أصغر منه سنا، وأقل شهرة ونسبا، وصلاحا، وغير ذلك. ويتواضع للمعلم، فبتواضعه يدركه» (3) اهـ.
ومثل هذه الوصية برعاية هذا الأدب موجود التكرار في كلام العلماء
__________
(1) انظر الإحياء: 1/ 50، وميزان العمل: 9796مع بعض اختصار.
(2) سورة الأنبياء، الآية: 7.
(3) انظر ص: 46من التبيان.(2/696)
رحمهم الله كثيرا، ولهم على خصوص المحافظة عليها شاهد من الأثر، وهو ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه خرّجه أبو نعيم، وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تواضعوا لمن تتعلمون منه، ولا تكونوا جبابرة العلم».
زاد بعضهم: «فيغلب جهلكم علمكم».
وخرج في 215و / / طلب تواضعه للعالم ولمرافقيه، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل أوحى إلي أن تواضعوا ولا يبغ بعضكم على بعض» (1).
وخرج الشيخ أبو عمر، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
«تعلموا العلم، وعلموه الناس، وتعلموا له الوقار والسكينة، وتواضعوا لمن تعلمتم منه، ولمن علمتموه، ولا تكونوا جبابرة العلماء، فلا يقوم جهلكم بعلمكم» (2).
ونقلوا من كلام الخليل في هذا المعنى شاهدا بضمان الخيبة للمتكبر على الإطلاق، فضلا عن تكبره على معلمه بقوله رحمه الله: «يرتع الجهل بين الحياء والكبر في العلم» (3).
قلت: وإن في تذكر ما نقل عنهم في تواضعهم مع معلميهم، واعترافهم بمنة الاستفادة منهم، ما يرغب الموفق في التشبه بهم، والمضي على قويم منهجهم.
فقد تقدم (4) عن «ابن عباس» رضي الله عنهما ما فعل مع زيد بن ثابت رضي الله عنه حين أخذ بركابه لما أراد أن يركب.
وسبق عن الشافعي ما ورد عنه في الاعتراف بالمنّة لمالك رضي الله
__________
(1) جامع العلم: 1/ 141.
(2) م. س: 1/ 135، وأدب الدنيا: 44.
(3) أدب الدنيا: 28.
(4) انظر ص: 484. من هذا الكتاب انظر ص 210ظ مخ أ / ص: 686.(2/697)
عنهما ومما ينخرط في سلكه ما رواه الشيخ أبو عمر عن سعيد بن جبير (1)
قال: «لقد كان ابن عباس يحدث بالحديث: لو يأذن أن أقوم فأقبل رأسه لفعلت» (2).
وروى عن يحيى بن سعيد القطان (3) قال: «سمعت شعبة يقول: كل من سمعت منه حديثا فأنا له عبد» (4). ومثل هذا عنهم كثير سلفا وخلفا.
تنبيهان:
أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة المتقدم (5): «وتواضعوا لمن تتعلمون إلخ» دليل على أن من آداب المعلم في نفسه أن يتواضع للمتعلم منه، وكذا وضع العلماء رحمهم الله فيما عددوا من وظائفه: قال النووي:
«وينبغي أن لا يتعاظم على المتعلمين، بل يلين لهم، ويتواضع معهم فقد جاء في التواضع لأحاد 215ظ / / الناس أشياء كثيرة معروفة، فكيف مع هؤلاء الذين هم بمنزلة أولاده قال: وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لينوا لمن تعلمون، ولمن تتعلمون منه».
وعن أيوب السختياني (6) «ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعا لله تعالى» (7) اهـ.
__________
(1) سعيد بن جبير الأسدي بالولاء، أبو عبد الله. ت: 95هـ 714م. تابعي من أعلم الناس، أخذ العلم عن ابن عباس، وابن عمر، قتله الحجاج بواسط. قال عنه الإمام ابن حنبل: قتل الحجاج سعيدا وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه، انظر الوفيات: 2/ 371
والتهذيب: 4/ 11.
(2) جامع العلم: 1/ 102.
(3) التميمي، أبو سعيد: 198هـ 813م. من حفاظ الحديث، ثقة، حجة من أقران مالك وشعبة، وذكر صاحب كشف الظنون: 1460أن له كتاب المغازي، انظر التذكرة: 1/ 298، والتهذيب:
11/ 216.
(4) جامع العلم: 1/ 127.
(5) انظر: ص: 214ظ مخ أ / من هذا الكتاب.
(6) أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني البصري، أبو بكر، ت: 131هـ 748م، تابعي، فقيه، من حفاظ الحديث، ثقة، من الزهاد والنساك، انظر التهذيب: 1/ 297. وحلية الأولياء: 3/ 143.
(7) التبيان: 40.(2/698)
وقال الماوردي فيما يرجع إلى هذا المعنى: «ومن آدابهم ألا يعنفوا متعلما، [ولا يحقروا] (1) ناشئا، ولا يستصغروا مبتدئا، فإن ذلك أدعى إليهم، وأعطف عليهم، وأحث على الرغبة فيما لديهم.
قال: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «علموا ولا تعنفوا، فإن المعلم خير من المعنف».
قال: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وقروا من تتعلمون منه، ووقروا من تعلمونه» (2).
وفيما يرجع إلى هذا المعنى أنشد الشيخ أبو عمر (3):
«علّم العلم من أتاك لعلم ... واغتنم ما حييت منه الدعاء
وليكن عندك الفقير إذا ما ... طلب العلم والغنيّ سواء» (4)
ونقل عن الربيع أنه قال: «كان الشافعي يملي علينا في صحن المسجد فلحقته الشمس، فمرّ به بعض إخوانه فقال: يا أبا عبد الله في الشمس؟!
فأنشد الشافعي يقول:
أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ... ولن يكرم النّفس الذي لا يهينها» (5)
حكاية:
يتعظ بها في ترك التواضع لفقراء المتعلمين.
ذكر القللوسي عن بعض سلفه أنه قال: «رأيت «ببلنسية» بعض الشيوخ، دخل عليه بعض بني الدنيا، فقام له إجلالا، وأجلسه بإزائه، ثم دخل عليه بعض فقراء الطلبة، وكان من الأولياء، فسلم عليه، فلم يحفل به فأنشده:
__________
(1) في «أ»: وألا يحتقروا.
(2) انظر أدب الدنيا: 53.
(3) ذكر في جامع العلم 1/ 125. أن البيتين لموسى بن عبيد الله الخاقاني.
(4) م. س: 1/ 125.
(5) م. س: 1/ 117. وديوان الشافعي: ص 111.(2/699)
«علّم العلم من أتاك لعلم»
وذكر البيتين المتقدمين.
ثم قال: ثم رجع القهقرى، ومرّ عوده على بدئه، فلم يعد إليه، وكان آخر عهده به، 216و / / ولم يكن إلا القليل، ووصلت عزلة والي بلنسية، ونكّب ذلك [الشخص] (1) الذي قام له، فتطرق من أجله الشيخ، فنكب وأغرم مالا، وسأله كيف نجا (2)؟!.
قال: ولم أزل أرقب ذلك الشخص فلم أبصر به إلى أن دخلت بغداد، فوجدته بالنظامية عاكفا على درس العلم في زيه الذي أعرف. فسلمت عليه، وأنشدته البيتين اللذين أنشدهما للشيخ «ببلنسية» فرد السلام، ورحب بي، وهداني لكثير من مطالبي، وانتفعت به كثيرا، ولم يعد قطّ ذكرا لما جرى».
التنبيه الثاني: تقدم في كلام «الغزالي» أن المتعلم ينبغي له ألا يستنكف من تعلمه من غير المشاهير إذا كانوا أهلا للأخذ عنهم. وكذا قال الماوردي، ونصه:
«فليأخذ المتعلم حظه (3) ممن وجد طلبته عنده، من نبيه أو خامل، ولا يطلب الصيت، وبعد الذكر باتباع أهل المنازل من العلماء إذا كان النفع لغيرهم أعم. لكنه قيد هذا بقوله: متصلا به إلا أن يستوي النفعان، فيكون الأخذ عمن اشتهر ذكره، وارتفع قدره أولى، لأن الانتساب إليه أجمل، والأخذ عنه أشهر، وقد قال الشاعر:
إذا أنت لم يشهرك علمك لم تجد ... لعلمك إنسانا (4) من الناس يقبله
وإن صانك العلم الذي قد حملته ... أتاك له من يجتنيه ويحمله» (5)
__________
(1) في «أ»: الشيخ.
(2) في العبارة اضطراب لا يفي بالمعنى.
(3) في أدب الدنيا: ص 43: حفظه.
(4) في م. س: ص 43: مخلوقا.
(5) م. س: 43.(2/700)
ولا خفاء أن هذا التقييد بما قال واجب أن يعمل به طلاب العلوم على الإطلاق لما نبه عليه، والله أعلم.
وإن هم اتفق لهم أن يأخذوا عمن ليس في الحال بمشهور عندهم ترجيحا لجانب التحصيل على حظوة الانتساب لمشاهير الوقت فربما ظفروا بمن لا وصول إلا به، ولا بلوغ لقصد إلا بالأخذ عنه، كما اتفق للزجاج في أخذه 216ظ / / عن المبرد حين قدم بغداد، ولم يكن إذ ذاك مشهورا عندهم، فحكى الزبيدي (1): «أن المتوكل لما قتل «بسرّ من رأى» رحل «المبرد» إلى «بغداد» فقدم بلدا لا عهد له بأهله، فاختلّ، وأدركته الحاجة، فتوخى شهود صلاة الجمعة، فلما قضيت الصلاة أقبل على بعض من حضره وسأله أن يفاتحه السؤال ليتسبب له القول، فلم يكن عند من حضره علم. فلما رأى ذلك رفع صوته، وطفق يفسر، يوهم بذلك أنه سئل، فصارت حوله حلقة عظيمة، وأبو العباس يصل في ذلك كلامه. فتشوف «أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب» إلى الحلقة، وكان كثيرا ما يرد الجامع قوم خراسانيون من ذوي النظر، فيتكلمون، ويجتمع الناس حولهم، فإذا بصر بهم ثعلب أرسل من تلاميذه من يفاتشهم فإذا انقطعوا عن الجواب انفض الناس عنهم.
فلما نظر ثعلب إلى من حول أبي العباس أمر «إبراهيم بن السري الزجاج»، و «ابن الحائك» (2) بالنهوض. قال لهما: فضا حلقة هذا الرجل، ونهض معهما من حضر من أصحابه فلما صارا بين يديه، قال له إبراهيم بن السري: أتأذن أعزك الله في المفاتشة؟ فقال له أبو العباس: سل عما أحببت، فسأله عن مسألة، فأجابه فيها بجواب أقنعه، فنظر الزجاج في وجوه أصحابه متعجبا من تجويد أبي العباس للجواب.
فلما انفض ذلك، قال له أبو العباس: أقنعت بالجواب؟ فقال: نعم قال:
__________
(1) في طبقاته: 110109.
(2) ابن الحائك: هارون بن الحائك الضرير، كان يوزن بميزان ثعلب في النحو. وكان من أصحابه وجلسائه، انظر طبقات الزبيدي: 152151.(2/701)