مقدمة الطبعة الثانية
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فقد مضى أكثر من ربع قرن من الزمان على تأليف هذا الكتاب، وتقديمه إلى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة سنة 1976لنيل شهادة الماجستير في علم اللغة، وقد حظي بإشراف الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين، ومناقشة الأستاذين الفاضلين: الدكتور عبد الله درويش، والدكتور عبده الراجحي.
ومضت عشرون سنة على ظهوره في طبعته الأولى، وكنت أحدّث نفسي بإعادة كتابته مرة أخرى لتحقيق أمرين: الأول إعادة ترتيب بعض فصوله، والثاني إضافة ما استجد لديّ من معلومات أو أفكار تتعلق بموضوعاته.
وقد أظهرت ذلك الحديث أمام الأستاذ الفاضل الدكتور أحمد ناجي القبسي رحمه الله تعالى سنة 1984حين كنت أقرأ عليه أصول رسالتي للدكتوراه (الدراسات الصوتية عند علماء التجويد) بصفته قارئا ثانيا للرسالة قبل تقديمها للمناقشة، فنصحني بإبقاء الكتاب على حالته الأولى، لكونه عملا علميا حظي بمراجعة عدد من الأساتذة أولا، ولأنه ثانيا يمثل مرحلة في الدراسة وتجربة في البحث ينبغي أن يحافظ على صورتها الأولى، فصرفت تلك النصيحة نظري عن ذلك، ولعل في هذا عذرا في ظهور الكتاب في طبعته الثانية بصورته الأولى.
ويقتضيني العرفان بالجميل أن أشير في صدر هذه الطبعة إلى ذوي الفضل والإسهام في إنجاز هذا الكتاب، بعد فضل الله تعالى، خاصة أسرتي التي ساعدتني على السفر إلى القاهرة للدراسة، تحفّ بي دعوات الوالدين رحمهما الله تعالى ورعاية الإخوة، لا سيما أخي المهندس سفر قدوري الحمد، جزاهم الله تعالى جميعا خير الجزاء.
وأخص أيضا بالذكر الأساتذة الأفاضل الذين قرءوا الكتاب وأسهموا في تصحيح
مواضع فيه، وفي مقدمتهم أستاذي الدكتور عبد الصبور شاهين، الذي أشرف على إعداده، والأستاذين الفاضلين اللذين شاركا في مناقشته. والأستاذ الدكتور محسن عبد الحميد الأستاذ بجامعة بغداد الذي انتدبته اللجنة الوطنية للاحتفال بمطلع القرن الخامس عشر الهجري لتقويم الكتاب قبل أن تقرر تبني طباعته بطبعته الأولى. وكذلك الأستاذ الدكتور فاضل صالح السامرائي الأستاذ بجامعة بغداد الذي رحب بطلبي منه قراءة أصول الكتاب قبل ظهوره في طبعته الأولى.(1/5)
وأخص أيضا بالذكر الأساتذة الأفاضل الذين قرءوا الكتاب وأسهموا في تصحيح
مواضع فيه، وفي مقدمتهم أستاذي الدكتور عبد الصبور شاهين، الذي أشرف على إعداده، والأستاذين الفاضلين اللذين شاركا في مناقشته. والأستاذ الدكتور محسن عبد الحميد الأستاذ بجامعة بغداد الذي انتدبته اللجنة الوطنية للاحتفال بمطلع القرن الخامس عشر الهجري لتقويم الكتاب قبل أن تقرر تبني طباعته بطبعته الأولى. وكذلك الأستاذ الدكتور فاضل صالح السامرائي الأستاذ بجامعة بغداد الذي رحب بطلبي منه قراءة أصول الكتاب قبل ظهوره في طبعته الأولى.
ويلزمني أيضا أن أشير بالتقدير إلى رسائل وصلتني بعد ظهور الكتاب في طبعته الأولى، كتبها عدد من قراء الكتاب يعبرون فيها عن تقديرهم للكتاب، وأخص بالذكر منها رسالة الأستاذ الفاضل محمد سعيد الصكار من باريس، ورسالة الأستاذ الفاضل الدكتور عبد الإله نبهان من حمص، التي أرفق بها نسخة من مقالة نشرها في مجلة نهج الإسلام الصادرة في دمشق (العدد 39رمضان 1410هـ نيسان 1990م) للتعريف بموضوع الكتاب.
جزاهم الله تعالى جميعا خير الجزاء، وأسأله تعالى أن يجعل هذا الكتاب، وجميع ما كتبته، من العلم الذي ينفعني بعد مماتي، وأن يتجاوز عما وقع مني من خطأ أو تقصير، إنه خير مسئول، هو حسبنا ونعم الوكيل.
غانم قدوري الحمد تكريت 1/ 8/ 2001
بسم الله الرّحمن الرّحيم {رَبَّنََا آتِنََا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنََا مِنْ أَمْرِنََا رَشَداً (10)} [الكهف] المقدمة كانت الكتابة، ولا تزال، أهم وسيلة لتسجيل الأفكار ونقل المعارف والأخبار، لكن الكتابة من جهة اللغة تفتقر في أغلب الأحيان إلى جوانب الكمال في التعبير عن أصوات اللغة، وتتسم بعدة مظاهر من القصور في هذا المجال، تتمثل في وجود رموز مكتوبة لا يقابلها في النطق شيء من الأصوات، ووجود رموز مكتوبة تنطق على غير ما عرف من الأصوات التي تمثلها، ووجود أصوات لا يمثلها في الكتابة شيء، وتختلف الكتابات المعروفة في مقدار ما تعانيه من هذه المظاهر الثلاثة قلة وكثرة.(1/6)
غانم قدوري الحمد تكريت 1/ 8/ 2001
بسم الله الرّحمن الرّحيم {رَبَّنََا آتِنََا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنََا مِنْ أَمْرِنََا رَشَداً (10)} [الكهف] المقدمة كانت الكتابة، ولا تزال، أهم وسيلة لتسجيل الأفكار ونقل المعارف والأخبار، لكن الكتابة من جهة اللغة تفتقر في أغلب الأحيان إلى جوانب الكمال في التعبير عن أصوات اللغة، وتتسم بعدة مظاهر من القصور في هذا المجال، تتمثل في وجود رموز مكتوبة لا يقابلها في النطق شيء من الأصوات، ووجود رموز مكتوبة تنطق على غير ما عرف من الأصوات التي تمثلها، ووجود أصوات لا يمثلها في الكتابة شيء، وتختلف الكتابات المعروفة في مقدار ما تعانيه من هذه المظاهر الثلاثة قلة وكثرة.
ويكاد هجاء الكلمات في المصحف الكريم يطابق النطق مطابقة تامة، لولا ما يبدو أحيانا من حذف رموز بعض الحركات الطويلة (الألف والواو والياء) في مثل (العلمين يلون النبين أيّه يدع يأت)، وزيادة بعض تلك الرموز في الكلمات المهموزة خاصة، في مثل (بأييد أولئك مائة نبإى لقاىء لا أذبحنه)، ومثل زيادة الألف بعد الواو المتطرفة في نحو (ملاقوا يعفوا) وما يبدو من كتابة بعض الأصوات بغير رموزها التي خصصت لها، من مثل كتابة الفتحة الطويلة واوا أو ياء في مثل (الصلاة الزكوة ورمى يسعى الذكرى)، وما يشبه هذه الحالات التي تظهر مخالفة جزئية للنطق.
ومما يلاحظ في ذلك الهجاء كثرة العلامات التي تعلو أو تسفل كل حرف سواء أكانت لتمييز الرموز المتشابهة أم لتمثيل الحركات القصيرة أو تخصيص بعض الحالات النطقية.
وقد كانت تلك الصور الهجائية وهذه العلامات الكتابية تلح على عقول العلماء والباحثين، في القديم والحديث، للكشف عن أصل تلك الصور وبيان تاريخ هذه
العلامات، وعند ما استقبلت هذه المرحلة من حياتي الدراسية اقترح عليّ أستاذي الدكتور عبد الصبور شاهين أن أدرس موضوع (الرسم المصحفي)، دراسة لغوية تاريخية للحصول على درجة الماجستير، من حيث طريقة كتابة الكلمات، وعدد الرموز التي يتكوّن منها هجاؤها، ومدى وفاء تلك الرموز والعلامات المكتوبة بتمثيل الأصوات المنطوقة، وهذا هو ميدان اللغوي، لا من ناحية شكل الحرف وجمالية الخط، فهو ميدان الخطاط ومؤرخ الخط.(1/7)
وقد كانت تلك الصور الهجائية وهذه العلامات الكتابية تلح على عقول العلماء والباحثين، في القديم والحديث، للكشف عن أصل تلك الصور وبيان تاريخ هذه
العلامات، وعند ما استقبلت هذه المرحلة من حياتي الدراسية اقترح عليّ أستاذي الدكتور عبد الصبور شاهين أن أدرس موضوع (الرسم المصحفي)، دراسة لغوية تاريخية للحصول على درجة الماجستير، من حيث طريقة كتابة الكلمات، وعدد الرموز التي يتكوّن منها هجاؤها، ومدى وفاء تلك الرموز والعلامات المكتوبة بتمثيل الأصوات المنطوقة، وهذا هو ميدان اللغوي، لا من ناحية شكل الحرف وجمالية الخط، فهو ميدان الخطاط ومؤرخ الخط.
وتكاد تكون محاولة البحث هذه أول دراسة تتناول الرسم المصحفي والكتابة العربية من وجهة نظر لغوية، ذلك لأن الدراسات التي سبقت في هذا الموضوع قديمة وحديثة كانت تتناول الرسم والكتابة من وجهات نظر أبعد ما تكون عن طبيعة الكتابة التي تقوم أصلا على أسس صوتية محضة، ولا شك في أن كتب الرسم القديمة لم تحاول أن تعطي تفسيرا لظواهر الرسم العثماني، وإنما قدمت لنا وصفا دقيقا أمينا يثير الدهشة ويستحق الإعجاب لطريقة رسم الكلمات في المصاحف العثمانية، ولولا ذلك الوصف لغابت عنا تفاصيل كثيرة تتعلق بتاريخ الكتابة العربية، وإذا ما عثرنا في تلك الكتب أو في كتب علماء العربية على تعليلات لبعض الظواهر فإنها تعتبر نظرات جزئية لا تتناول إلا أمثلة محدودة لا تعطي تفسيرا شاملا لظواهر الرسم، إضافة إلى أنها كانت تفتقر أحيانا إلى المعرفة الصحيحة لتأريخ تلك الظواهر التي كشفت الدراسات المعاصرة في الكتابات القديمة كثيرا من أسرارها.
ولعل أشهر محاولة لتفسير ظواهر الرسم في القديم تقوم على أساس محدد هي تلك التي يعرضها أبو العباس أحمد المراكشي الشهير بابن البناء (ت 721هـ) في كتابه:
(عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل)، وكان أساس هذه المحاولة هو تفسير ظواهر الرسم على أساس اختلاف معاني الكلمات حسب السياقات بأسلوب صوفي باطني لا يمت إلى اللغة ولا إلى طبيعة الكتابة بأي سبب، ولا شك في أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يدر في خلدهم، وهم يكتبون القرآن في المصحف، شيء من تلك المعاني التي يذكرها أبو العباس المراكشي، إنما كانوا يكتبون بما اعتادوا عليه من نظام كتابتهم.
وكان لمذهب أبي العباس هذا أثر في مواقف من تعرّضوا لدراسة ظواهر الرسم من
بعده، حتى الوقت الحاضر، وقد تقدم إلى كلية أصول الدين بجامعة الأزهر الأستاذ عبد الحي حسين الفرماوي المدرس في الكلية المذكورة ببحث عن (رسم المصحف ونقطه) لنيل درجة العالمية (الدكتوراة) في 10/ 2/ 1975م، ناقش فيه الحكم الشرعي في التزام الرسم العثماني في طبع المصاحف ونسخها، وتعرّض لدراسة ظواهر الرسم العثماني في المبحث الثالث من الفصل الثالث (ص 161115)، ولم يخرج في مناقشته للموضوع عما روي عن أبي العباس المراكشي في تفسير ظواهر الرسم من تعليلات.(1/8)
وكان لمذهب أبي العباس هذا أثر في مواقف من تعرّضوا لدراسة ظواهر الرسم من
بعده، حتى الوقت الحاضر، وقد تقدم إلى كلية أصول الدين بجامعة الأزهر الأستاذ عبد الحي حسين الفرماوي المدرس في الكلية المذكورة ببحث عن (رسم المصحف ونقطه) لنيل درجة العالمية (الدكتوراة) في 10/ 2/ 1975م، ناقش فيه الحكم الشرعي في التزام الرسم العثماني في طبع المصاحف ونسخها، وتعرّض لدراسة ظواهر الرسم العثماني في المبحث الثالث من الفصل الثالث (ص 161115)، ولم يخرج في مناقشته للموضوع عما روي عن أبي العباس المراكشي في تفسير ظواهر الرسم من تعليلات.
وينقص تلك الدراسات إلى جانب ذلك المنهج المخطوء في تناول الموضوع الاعتماد على الوثائق المخطوطة التي تنفخ في روايات علماء السلف روحا جديدة.
ومن ثم كان على هذا البحث أن يتلمس طريقه نحو الاتجاه الصحيح في زحمة تلك المذاهب والآراء في تفسير ظواهر الرسم ومحاولة الاستفادة من الصالح من تلك الآراء، واستبعاد غير الصالح منها، وتلك مهمة ليست يسيرة، إلى جانب محاولة كتابة تاريخ، أقرب إلى الواقع، لاستعمال العلامات الكتابية في تكميل الرسم العثماني مما لا نزال نستعمل كثيرا منها في كتابتنا إلى اليوم.
أما المصادر والمراجع التي أمدّت هذا البحث بما يعين في دراسة المشكلة، فهي كثيرة، تتصل بفروع مختلفة، من علوم القرآن واللغة العربية والتاريخ، وقد كانت الكتب المؤلفة في موضوع الرسم هي المصدر الأول للمادة المتعلقة بوصف هجاء الكلمات في المصاحف العثمانية، ولعل في مقدمتها كتب الإمام أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني (ت 444هـ)، رحمة الله عليه، خاصة كتابيه (المقنع) و (المحكم) الأول في دراسة الظواهر الهجائية، والثاني في بيان تاريخ العلامات الكتابية، ولا تقل أهمية عن ذلك المصاحف المخطوطة القديمة التي اطلعت عليها، والمجموعات الخطية المصوّرة التي تتضمن نماذج من مخطوطات ترجع إلى فترات مختلفة، كذلك استفدت من كتب التفسير والقراءات والحديث، إلى جانب كتب اللغة والنحو والمعاجم والإملاء وكتب التاريخ والطبقات، واستفدت أيضا من الكتب والأبحاث الحديثة في موضوع اللغة والكتابة العربية ودراسة الظواهر في القراءات القرآنية، واستعنت ببعض المراجع المكتوبة بلغة أجنبية في دراسة تاريخ وطبيعة الكتابات عامة، وتاريخ الكتابة العربية خاصة.
وربما كانت أكثر مشكلات البحث صعوبة هي أن بعضا من جوانبه تعجز جهود فرد
عن إيفائها حق الدراسة، لكن ما لا يدرك جلّه لا يترك كلّه، فلا يزال كثير من مصادر الموضوع مخطوطا، وليس من اليسير تحقيق النصوص تحقيقا تاما، إضافة إلى أن المصاحف القديمة المخطوطة إلى جانب كونها كثيرة ومبثوثة في مكتبات العالم تصعب بل تستحيل أحيانا القراءة فيها بدعوى المحافظة عليها، وقد جعلني ذلك أكتفي بما تيسرت لي القراءة فيه من المصاحف المحفوظة في دار الكتب المصرية، ورغم الفائدة الكبرى التي أتاحتها الأمثلة التي نقلتها من تلك المصاحف فإن القراءة في مصاحف أخرى سوف تكون مفيدة جدا في دراسة المشكلة.(1/9)
وربما كانت أكثر مشكلات البحث صعوبة هي أن بعضا من جوانبه تعجز جهود فرد
عن إيفائها حق الدراسة، لكن ما لا يدرك جلّه لا يترك كلّه، فلا يزال كثير من مصادر الموضوع مخطوطا، وليس من اليسير تحقيق النصوص تحقيقا تاما، إضافة إلى أن المصاحف القديمة المخطوطة إلى جانب كونها كثيرة ومبثوثة في مكتبات العالم تصعب بل تستحيل أحيانا القراءة فيها بدعوى المحافظة عليها، وقد جعلني ذلك أكتفي بما تيسرت لي القراءة فيه من المصاحف المحفوظة في دار الكتب المصرية، ورغم الفائدة الكبرى التي أتاحتها الأمثلة التي نقلتها من تلك المصاحف فإن القراءة في مصاحف أخرى سوف تكون مفيدة جدا في دراسة المشكلة.
ولعل من مظاهر القصور التي لم أملك تفاديها الاعتماد على كثير من النماذج الخطية المصوّرة، لاستحالة الاطلاع على أصولها، وهذه النماذج إن توفرت فيها الدقة فإنها غير قادرة على تبيان الألوان التي كتبت بها، مما يزيد في صعوبة فهم العلامات ودلالة النقط فيها، وبالمقابل فإن هذا البحث غير قادر على إظهار الألوان المختلفة التي ضبطت بها المصاحف في القرون المتقدمة، إلى جانب أن الآلة الكاتبة غير قادرة أحيانا على نقل بعض الصور الكتابية التي سوف أحرص على تقديم صورة دقيقة لها ما أمكن ذلك، وسوف أكتفي من مجموع النصوص الخطية التي اعتمدت عليها في هذا البحث ببضعة نماذج مصوّرة ألحقتها في آخر البحث.
وقد أحسست في أولى مراحل دراسة هذا الموضوع أن المنهج الذي ينبغي أن يعالج في إطاره لا يمكن إلا أن يكون نابعا من طبيعة اللغة والكتابة نفسها، منهج يقوم على تتبع الظواهر الهجائية في أقدم صورها، ثم يحاول تفهم ما يبدو فيها من قصور في تمثيل النطق تمثيلا دقيقا على ضوء حقيقة كون الكتابات عامة أقل تطورا وأبطأ خطى في مواكبة تطور اللغة المنطوقة، فيتغير نطق الكلمة دون أن تتغير صورة هجائها.
وعلى ضوء هذا المنهج اللغوي التاريخي تناولت دراسة المشكلة في ستة فصول:
جعلت الفصل الأول فصلا تمهيديا، تناولت فيه تاريخ الكتابة العربية وخصائصها قبل مرحلة الرسم العثماني، إلى جانب بيان الأسس التي تقوم عليها الكتابة.
وتناولت في الفصل الثاني تاريخ القرآن الكريم في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم وجمعه في خلافة الصديق رضي الله عنه ونسخه في المصاحف في خلافة عثمان رضي الله عنه مع بيان بعض القضايا المتعلقة بذلك.
ودرست في الفصل الثالث موضوعين: الأول: مصادر الظواهر الهجائية في الرسم العثماني، والثاني: بيان موقف علماء السلف من قضيتين: الأولى: موقفهم من التزام الرسم العثماني في كتابة المصاحف، والثانية: موقفهم من تفسير الظواهر الهجائية التي تظهر في الرسم العثماني.(1/10)
وتناولت في الفصل الثاني تاريخ القرآن الكريم في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم وجمعه في خلافة الصديق رضي الله عنه ونسخه في المصاحف في خلافة عثمان رضي الله عنه مع بيان بعض القضايا المتعلقة بذلك.
ودرست في الفصل الثالث موضوعين: الأول: مصادر الظواهر الهجائية في الرسم العثماني، والثاني: بيان موقف علماء السلف من قضيتين: الأولى: موقفهم من التزام الرسم العثماني في كتابة المصاحف، والثانية: موقفهم من تفسير الظواهر الهجائية التي تظهر في الرسم العثماني.
وقد درست في الفصل الرابع الرسم العثماني من كافة جوانبه دراسة لغوية تحليلية تتناول دراسة الكتابة على مستوى الرمز الواحد وعلى مستوى الكلمة، فدرست رموز الصوامت ثم رموز الحركات، وأفردت رمز الهمزة بدراسة مستقلة لما لابس تمثيل هذا الصوت من ظواهر جعلت منه مشكلة تستحق الدراسة والبحث، وتناولت الكتابة العربية على مستوى الكلمة، فبيّنت معنى الكلمة من وجهة نظر الكتابة، وما يتعلق بذلك من فصل أو وصل بعض الكلمات المحدودة المقاطع في الرسم العثماني، وبيّنت العوامل التي أسهمت في ذلك.
وتؤكد الروايات والمصاحف المخطوطة القديمة والنقوش التي ترجع إلى العصر الجاهلي والنصف الأول من القرن الهجري الأول أن الكتابة العربية كانت خالية من أي علامة لتمثيل الحركات القصيرة، أو لتمييز الرموز المتشابهة في الصورة، وقد جاء الرسم العثماني على تلك الصورة. فأفردت الفصل الخامس لبيان جهود علماء الرسم والعربية في تكميل الرسم العثماني بواسطة العلامات الخارجية خلال العديد من المحاولات حتى استوى على ما نجده اليوم في المصاحف وما نستعمله في الكتابة.
وقد درست في الفصل السادس العلاقة بين الأداء والرسم ووضحت كيف صارت موافقة الرسم أحد شروط القراءة الصحيحة، وبيّنت الإمكانيات الجائزة لمخالفة ألفاظ التلاوة الثابتة النقل للرسم، مما يرجع إلى طبيعة الكتابة نفسها، وقصورها في إمكانية تمثيل النطق تمثيلا دقيقا، ومما يرجع إلى طبيعة الرسم العثماني نفسه.
وقد رأيت أن أختم دراسة الرسم المصحفي بمبحث أخير بيّنت فيه العلاقة بين الرسم المصحفي والرسم الإملائي الذي كتب به الناس في غير المصاحف منذ القرن الأول الهجري، ولا نزال نكتب به إلى اليوم، وهل هذا الإملاء شيء آخر غير الرسم المصحفي. وما مقدار الأثر الذي تركه كل منهما في الآخر؟ مع ملاحظة أني لم أفصّل قواعد الإملاء فقد تكفّلت بيان ذلك كتب ألّفت في هذا الموضوع في القديم والحديث،
واكتفيت ببعض الأمثلة التي تبيّن الهدف الذي إليه قصدت من بيان العلاقة بين الرسمين.(1/11)
وقد رأيت أن أختم دراسة الرسم المصحفي بمبحث أخير بيّنت فيه العلاقة بين الرسم المصحفي والرسم الإملائي الذي كتب به الناس في غير المصاحف منذ القرن الأول الهجري، ولا نزال نكتب به إلى اليوم، وهل هذا الإملاء شيء آخر غير الرسم المصحفي. وما مقدار الأثر الذي تركه كل منهما في الآخر؟ مع ملاحظة أني لم أفصّل قواعد الإملاء فقد تكفّلت بيان ذلك كتب ألّفت في هذا الموضوع في القديم والحديث،
واكتفيت ببعض الأمثلة التي تبيّن الهدف الذي إليه قصدت من بيان العلاقة بين الرسمين.
وبعد، فإن ما تضمّنه هذا البحث من الجديد في تفسير ظواهر الرسم المصحفي وبيان تاريخه إنما هو حصيلة ما تيسر بين يدي من روايات ومعلومات ووثائق مخطوطة، في فترة زمنية معيّنة، وهي نتائج أرجو أن تكون صحيحة في أكثرها، إلا أنها مع ذلك ليست آخر ما يمكن قوله في هذا المجال، بل هي كما أرجو لها أن تكون فاتحة منهج صحيح إن شاء الله في دراسة الرسم المصحفي وتاريخه دراسة تستفيد من كل ما يقرّب الوصول إلى الفهم الصحيح لظواهر الرسم وتاريخه، ومن ثم فإني مدين سلفا لكل من يصحح رأيا في هذا البحث أو يوضح غامضا فإن الأمر يتعلق بكتاب الله العزيز، الذي {لََا يَأْتِيهِ الْبََاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلََا مِنْ خَلْفِهِ (42)} [فصلت]، وإذا كان ذلك مطلوبا في أي بحث فإنه في بحث يتصل بالقرآن الكريم ألزم وأحرى.
وأخيرا أتجه إلى الله سبحانه وتعالى أن ينفع بهذا البحث وأن يجزي كل من أسدى إليّ عونا لإنجازه خير الجزاء في الأولى والآخرة، {رَبَّنََا لََا تُؤََاخِذْنََا إِنْ نَسِينََا أَوْ أَخْطَأْنََا رَبَّنََا وَلََا تَحْمِلْ عَلَيْنََا إِصْراً كَمََا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنََا رَبَّنََا وَلََا تُحَمِّلْنََا مََا لََا طََاقَةَ لَنََا بِهِ وَاعْفُ عَنََّا وَاغْفِرْ لَنََا وَارْحَمْنََا أَنْتَ مَوْلََانََا فَانْصُرْنََا عَلَى الْقَوْمِ الْكََافِرِينَ (286)} [البقرة].
غانم قدوري الحمد القاهرة 11جمادى الأولى 1396هـ 11مايس 1976م(1/12)
غانم قدوري الحمد القاهرة 11جمادى الأولى 1396هـ 11مايس 1976م
الفصل الأول فصل تمهيدي الكتابة العربية تأريخها وخصائصها قبل الرسم العثماني
سوف أحاول هنا دراسة تاريخ الكتابة العربية وخصائصها قبل الرسم العثماني، لأهمية ذلك في فهم ظواهر الرسم، إذ إنه امتداد وتطور لها، فكثير من الظواهر الكتابية التي تبدو في الرسم العثماني هي نفسها كانت تميز الكتابة العربية قبل أن يدوّن بها الصحابة رضوان الله عليهم النص القرآني، وبقدر ما تتيحه لنا هذه الدراسة من كشف عن ذلك التاريخ نستطيع فهم ظواهر الرسم وبيان مشكلاته.
وليس من هدف هذا الفصل استقصاء كل ما يتعلق بتاريخ الكتابة العربية قبل الرسم العثماني، إنما هو يهدف إلى التركيز على واقع الكتابة العربية، وارتباطها بالخطوط السامية الأخرى وأهم ما يميزها من خصائص، على ضوء علاقتها بتلك الخطوط، فكما «أن هناك فوائد كثيرة تعود على الدرس اللغوي من معرفة الدارس باللغات السامية» (1)، كذلك تتحقق نفس الفوائد بالنسبة للكتابة العربية عند دراستها في نفس الاتجاه.
ومع وضوح ضرورة وفائدة دراسة ذلك التاريخ، إلا أنه لا يزال يحيطه بعض الغموض في كثير من جوانبه، وهذا الغموض هو جزء من غموض تاريخ المجتمع العربي قبل الإسلام عامة (2)، إذ إن «تاريخ الجاهلية هو أضعف قسم كتبه المؤرخون
__________
(1) د. رمضان عبد التواب فصول في فقه العربية، ط 1، القاهرة، القاهرة مكتبة دار التراث 1973، ص 32.
(2) د. عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن دار القلم 1966، ص 61.(1/13)
العرب في تاريخ العرب» (1) والروايات العربية بشأن نشأة الكتابة العربية غير قادرة وحدها على إعطاء تصور واضح لذلك.
وقد أسهمت دراسات المستشرقين في مجال النقوش الكتابية التي عثر عليها في أطراف الجزيرة العربية في وضع الروايات العربية في اتجاه صحيح، واستبعاد ما وضح بطلانه منها، «حتى إنه يمكن الآن صياغة نظرية مقبولة عن ظهور ونشأة الكتابة العربية قبل الإسلام» (2). مع أن أبحاث المستشرقين عن الخط العربي وتاريخه قبل الإسلام لا تزال في مراحلها الأولى (3)، رغم النتائج العلمية التي تم التوصل إليها، وهي بانتظار ما سيتم الكشف عنه من نقوش وشواهد وآثار في الجزيرة العربية، حتى تتمكن من سد الفجوات القائمة في النظرية الحديثة (4).
لكن القصور المشار إليه في الروايات العربية بشأن نشأة الكتابة لا يعني أن نضرب صفحا عن كل ما رواه العلماء والمؤرخون العرب بصدد ذلك، وإذا كان البحث العلمي يرد كثيرا منها، فإن جزءا من تلك الروايات يلقي مزيدا من الوضوح على ما تقدمه دراسة النقوش القليلة التي تم كشفها إلى الآن، والتي اعتمد عليها الباحثون في بيان نشأة الكتابة العربية، ولا جرم في ذلك، إذ إن تلك الروايات تمثل رأي أناس عاشوا قريبا من تلك الفترة التاريخية، وهي قادرة على أن تسهم في سد بعض فجوات ومشكلات الدراسات الحديثة.
ولتوضيح ذلك كله بقدر ما يقتضيه هذا الفصل من إيجاز سيتضمن المبحث الأول الروايات العربية عن حالة الكتابة العربية قبل الرسم العثماني، وموقفها من نشأتها وعلاقتها بالخطوط الأخرى، إضافة إلى بيان ما تقدمه الدراسات الحديثة من وسائل في
__________
(1) د. جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام، بغداد، المجتمع العلمي العراقي 1950، ج 1، ص 10، وسأشير إلى هذا المصدر في المواضع الآتية بذكر المؤلف حسب.
(2)،: (). 1 .. 1939.،
(3) د. جواد علي، ج 1، ص 201.
(4) د. الطاهر أحمد مكي: دراسة في مصادر الأدب، ط 2، دار المعارف، 1970، ج 1، ص 41، وانظر المرجع السابق، ج 7، ص 341.(1/14)
هذا المجال للتوصل إلى معرفة صحيحة لأصل تلك الخطوط والكتابات.
ويتناول المبحث الثاني خصائص الكتابة العربية قبل الرسم العثماني من واقع الوثائق المخطوطة التي وصلت إلينا من تلك الفترة، وبيان مدى ارتباط تلك الخصائص بالخطوط السامية الأخرى، مما يساعد على فهم وتوضيح خصائص الرسم العثماني التي سنتناولها في الفصول اللاحقة، إن شاء الله.
وقبل أن يمضي البحث في دراسة الرسم المصحفي: تاريخه وخصائصه وتطوره، رأيت أن أختم هذا الفصل بمبحث عن المبادئ التي تنبني عليها الكتابات الأبجدية، إذ إن عامة تلك الكتابات قاصرة الآن عن الوفاء بمتطلبات اللغة، فهناك عوامل كثيرة تسهم في إعطاء الكتابة عامة خصائصها، وذلك ضروري لفهم ما يبدو في الرسم العثماني من تعدد القواعد أحيانا، وعدم اطراد الظواهر الكتابية أحيانا أخرى، مبينا موقف علماء العربية والقراءات والرسم من ذلك، وما تضيفه الدراسات الحديثة في هذا المجال.(1/15)
وقبل أن يمضي البحث في دراسة الرسم المصحفي: تاريخه وخصائصه وتطوره، رأيت أن أختم هذا الفصل بمبحث عن المبادئ التي تنبني عليها الكتابات الأبجدية، إذ إن عامة تلك الكتابات قاصرة الآن عن الوفاء بمتطلبات اللغة، فهناك عوامل كثيرة تسهم في إعطاء الكتابة عامة خصائصها، وذلك ضروري لفهم ما يبدو في الرسم العثماني من تعدد القواعد أحيانا، وعدم اطراد الظواهر الكتابية أحيانا أخرى، مبينا موقف علماء العربية والقراءات والرسم من ذلك، وما تضيفه الدراسات الحديثة في هذا المجال.
المبحث الأول أصل الكتابة العربية وعلاقتها بالخطوط السّاميّة
أولا: حالة الكتابة العربية قبل الرسم العثماني:
لعل من المفيد قبل مناقشة أصل الكتابة العربية الإشارة إلى رأي المصادر العربية في مدى انتشار الكتابة قبل الرسم العثماني، وليس جديدا القول بأن بزوغ شمس الإسلام كان إيذانا بنهضة كتابية عظيمة، تتمثل في حرص النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على تعلم الصحابة الكتابة، وعلى تدوين القرآن الكريم منذ فجر البعثة النبوية، مما سنعرض له مفصلا في فصل تال.
أما حالة الكتابة العربية قبل الإسلام فقد اضطربت فيها روايات الأقدمين، وكاد ذلك الاضطراب أن يصيب آراء المحدثين، فهذا ابن قتيبة (ت 276هـ) يقول (1): «وكانت الكتابة في العرب قليلا». ويقول عن الصحابة وهو يتحدث عن إذن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لعبد الله بن عمرو بتقييد الحديث: «وكان غيره من الصحابة أميين، لا يكتب منهم إلا الواحد والاثنان، وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي» (2). ويتطرف البلوي (ت 604هـ) حين يذهب إلى انعدام الكتابة عند العرب في الجاهلية، وأن الشعر قد جعل لهم عوضا (3). وقد انساق عدد من المحدثين وراء دعوى أمية العرب قبل الإسلام، وندرة الكتابة بينهم «فإذا وجد فيهم من يكتب ويقرأ فإنما هو نزيل هبط إليهم، أو آئب من
__________
(1) ابن قتيبة الدينوري (أبو محمد عبد الله بن مسلم): المعارف، ط 3، بيروت. دار إحياء التراث العربي 1970، ص 130، وانظر: أبو بكر بن العربي (محمد بن عبد الله): أحكام القرآن، ط 1، دار إحياء الكتب العربية، 1958، ق 4، ص 1944.
(2) ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث، مطبعة كردستان العلمية بمصر 1326هـ، ص 366.
(3) البلوي (أبو الحجاج يوسف بن محمد): ألف باء، جمعية المعارف بمصر 1287هـ، ج 1، ص 70، وانظر: الجمحي (محمد بن يوسف): طبقات فحول الشعراء، دار المعارف بمصر 1952، ص 22.(1/16)
سفر بعد طول إقامة في أرض متحضرة، أو آخذ عن هذين، وهو نادر» (1). ويؤكد بعضهم شيوع الأمية في شبه الجزيرة، وأن العرب لم يكونوا أهل كتابة وقراءة (2).
لكن هذا الاتجاه بات مرفوضا عند عامة الدارسين، وقد وجد من بين القدماء من تنكّر له، فهذا ابن فارس (ت 395هـ) يقول (3): «فإنا لم نزعم أن العرب كلها مدرا ووبرا قد عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها، وما العرب في قديم الزمان إلا كنحن اليوم، فما كلّ يعرف الكتابة والخط والقراءة». ويقول علم الدين السخاوي (ت 643هـ): «فإياك وما تراه من قول من يقول: لم تكن العرب أهل كتاب ولا أقلام» (4).
ولا ينبغي أن نذهب بعيدا في تصور انتشار الكتابة العربية قبل الإسلام، إذ إن العربية الشمالية التي تتحدث عن كتابتها هي أحدث اللغات السامية كتابة (5). لكنّ نفي معرفة العرب للكتابة قبل الإسلام إلى حد الندرة إخلال بالمنهج السديد، وردّ للروايات والشواهد التي تؤكد أنه قد كان للكتابة العربية شأن قبل الإسلام سواء في قلب الجزيرة أم في أطرافها، فلم تعد معرفة عرب الجاهلية للكتابة موطن شك، فإن كثرة منهم في الحواضر وقلة في البادية كانت تقرأ وتكتب (6). وجاء في القرآن الكريم ما يفيد معرفة عرب الجاهلية القريبة من الإسلام القراءة والكتابة، فقد تكررت في كثير من الآيات مادة
__________
(1) حفني ناصف: تاريخ الأدب أو حياة اللغة العربية، ط 2، جامعة القاهرة 1958، ص 34.
(2) د. إبراهيم أنيس: في اللهجات العربية، ط 3، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية 1965، ص 33، وانظر: دلالة الألفاظ له أيضا، ط 1، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية 1958، ص 158، وإسرائيل ولفنسون: تاريخ اللغات السامية، ط 1، لجنة التأليف والترجمة والنشر 1929، ص 201.
(3) أحمد بن فارس: الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، القاهرة، المكتبة السلفية 1910، ص 8.
(4) السخاوي (علي بن عبد الصمد): الوسيلة إلى كشف العقيلة، ورقة 15أ، مخطوط: دار الكتب المصرية رقم قوله (30) قراءات.
(5) جويدي: أدبيات الجغرافيا والتاريخ واللغة عند العرب، القاهرة مكتب مجلة الجامعة المصرية ص 89.
(6) د. الطاهر أحمد مكي، ص 20، وانظر د. ناصر الدين الأسد: مصادر الشعر الجاهلي، ط 3، دار المعارف بمصر 1966، ص 10و 33.(1/17)
(كتب) وما في معناها، واسم آلات الكتابة (1). ولا تعقل مخاطبة القرآن الكريم قوما بهذه الآيات لو لم يكونوا على علم وبصيرة بالقراءة والكتابة (2). والقرآن الكريم أصدق وثيقة تحدثنا عن حياة العرب في ذلك العهد.
إن الروايات العربية تشير إلى ممارسات كتابية متعددة، سواء في مدن الحجاز أو في الحواضر العربية في أطراف الجزيرة الشمالية، ففي مكة رغم أن الحياة لم تكن بالغة التحضر بالنسبة لذلك العهد وأن دواعي الكتابة كانت محدودة إلا أنه لا ينكر أنهم حرروا أحيانا بعض العهود والمحالفات بينهم وبين القبائل المجاورة، رغم أن ذلك كان في نطاق ضيق (3). وبلدة مثل مكة مقدسة ومتاجرة وعاصمة للثقافة وللحياة الدينية لا بد أن يكون بين سكانها جماعة من المثقفين ومن الباحثين في أمور الدين ومن القراء الكاتبين (4). وتشير الروايات إلى أن ورقة بن نوفل كان يكتب الكتاب العربي والكتاب العبراني (5). وحين قاطعت قريش النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في بداية الدعوة بمكة كتبوا كتابا بذلك، وعلقوه في جوف الكعبة (6). ويحدثنا ابن النديم عن كتاب رآه في خزانة المأمون بخط عبد المطلب بن هشام، فيه ذكر حقه على فلان بن فلان الحميري (7).
__________
(1) وردت مادة (كتب) وما اشتق منها في القرآن أكثر من ثلاثمائة مرة. ومادة (قرأ) وما اشتق منها نحوا من ثمانين مرة. ووردت كذلك مادة (خط) وأسماء أدوات الكتابة: القلم والصحف والقرطاس والرق. انظر: د. عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن، ص 66.
(2) د. جواد علي، ج 1، ص 14، وانظر: تاريخ العرب في الإسلام: السيرة النبوية، بغداد 1961، ص 70.
(3) د. محمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر 1941، ص ط.
(4) د. جواد علي: السيرة النبوية، ص 69.
(5) نفس المرجع، ص 147.
(6) ابن سعد (محمد): الطبقات الكبرى، بيروت، دار صادر، دار بيروت 1957، ج 1، ص 208، وليست هذه هي المرة الأولى التي تكتب فيها قريش وتعلق الكتاب في الكعبة، فيذكر ابن حبيب (محمد): في كتاب (المنمق، في أخبار قريش، ط 1، حيدرآباد، دائرة المعارف العثمانية 1964، ص 89، أن قريشا كتبوا قبل الإسلام كتابا وعلقوه في جوف الكعبة توثيقا لأمر كان بينهم.
(7) ابن النديم (محمد بن إسحاق): الفهرست، ليبسك، 1871م، ص 5.(1/18)
وتشير كتب التاريخ إلى استخدام الكتابة في مكة في وقت مبكر، فهذا قصي بن كلاب يكتب من مكة إلى أخيه ابن أمه رزاح بن ربيعة بن حرام العذري، في مشارف الشام، يدعوه إلى نصرته والقيام معه في منازعة خزاعة وبني بكر أمر مكة (1).
ولعل فيما يرويه البلاذري عن عدد الكاتبين في مكة والمدينة حين ظهور الإسلام، رغم أن هذه الرواية ربما لا تمثل الواقع تماما، ما يضع الحقيقة التاريخية التي اختلت في قول ابن قتيبة السابق، ومن شايعه في مذهبه في موضعها الصحيح، حين يقول: «دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلا كلهم يكتب»، ويقول عن الكتابة في المدينة: إن الإسلام جاء وفيهم عدة يكتبون، وعدّد منهم أحد عشر كاتبا (2). فالكتابة في المدينة لا تختلف حالتها عنها في مكة، كما يتضح من قول البلاذري، بل إن الواقدي (ت 207) يشير إلى أن «بعض اليهود قد علم كتاب العربية، وكان يعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول» (3)، ويبدو أن وجود أهل الكتاب في المدينة كان له أثر في انتشار الكتابة هناك (4). ولعل في الذي قام به الصحابة في خدمة حاجة الدولة الإسلامية الجديدة سواء في كتابة الوحي أم كتب النبي صلى الله عليه وسلم، وما يجري بين الناس من معاملات ما
__________
(1) ابن هشام (أبو محمد عبد الملك): السيرة النبوية، ط 2، القاهرة، مصطفى البابي الحلبي، 1955، ق، ص 188.
وابن سعد: ج 1، ص 67، والطبري (محمد بن جرير): تاريخ الرسل والملوك، القاهرة، دار المعارف، ج 2، ص 256، لكن ابن حبيب (ص 17و 82و 84) يشير إلى الحادثة بلفظ (بعث) وهي تحتمل الكتابة أيضا.
(2) البلاذري (أحمد بن يحيى بن جابر البغدادي): فتوح البلدان، ط 1، القاهرة، شركة بيع الكتب العربية 1901، ص 477و 479.
وانظر: ابن عبد ربه (أبو عمر أحمد بن حمد الأندلسي): العقد الفريد، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ج 4، ص 157.
والقلقشندي (أبو العباس أحمد): صبح الأعشى في كتابة الإنشا، القاهرة، دار الكتب العربية 1913، ج 3، ص 15.
وطاش كبري زاده (أحمد بن مصطفى): مفتاح السعادة ومصباح السيادة، ط 1، حيدرآباد، دائرة المعارف، ج 1، ص 74.
(3) البلاذري، ص 479.
(4) انظر: د. جواد علي، ج 7، ص 65، ود. إبراهيم أنيس: دلالة الألفاظ ص 186.(1/19)
يؤكد الحالة التي كانت عليها الكتابة العربية في الحجاز قبل الإسلام، لأن معظم الصحابة إنما نشئوا واكتسبوا خبراتهم الحياتية في الجاهلية.
وإذا تركنا قلب الجزيرة إلى أطرافها الشمالية نجد الروايات العربية تكثر مؤكدة استخدام الكتابة على نطاق واسع، فهذا حماد جدّ عديّ بن زيد الشاعر (ت نحو 590هـ) قد كتب للنعمان الأكبر، وأن عديا كان يكتب بالعربية لملك فارس (1)، وما دام عدي يستخدم العربية في ديوان ملك الفرس، فإن من المنطقي أن تكون الكتابة العربية هي المستعملة في إمارة المناذرة في الحيرة (2). وقصة الشاعرين المتلمس وطرفة مشهورة، إذ كانا قد قدما على عمرو بن هند ملك الحيرة، فكتب لهما كتابين إلى عامله في البحرين، يأمره بقتلهما، وأخبر هما أنه كتب لهما بجائزة، وتروي القصة كيف أعطى المتلمس صحيفته لغلام من غلمان الحيرة فقرأها له ونجا بنفسه (3)، إذ تدل هذه القصة على مدى شيوع الكتابة في الحيرة، وكذلك احتمال معرفة الكتابة العربية في البحرين، وقد كانت القبائل العربية في غربي العراق تمتد منازلها قبل الإسلام ما بين الأنبار وبقّة وهيت وعين التمر وأطراف البر والقطقطانة والحيرة (4). ومما يذكر أن خالد بن الوليد بعد أن فرغ من فتح الأنبار وأمن أهلها وظهروا «رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها» (5)، وحين خرج خالد إلى عين التمر وجد صبيانا يتعلمون الكتابة (6). ويبدو أن شهرة أهل الحيرة وما جاورها بالكتابة قد استمرت حتى في الإسلام، فهذا عبد الرحمن بن عوف يستكتب رجلا من أهل الحيرة نصرانيا مصحفا، فأعطاه ستين
__________
(1) ابن قتيبة: الشعر والشعراء، ط 2، دار المعارف بمصر 1966، ج 1، ص 228.
(2). 6.،
(3) ابن قتيبة: الشعر والشعراء، ج 1، ص 179، وانظر: أبو الفرج الأصبهاني (علي بن الحسين):
كتاب الأغاني، بيروت، دار الثقافة، ج 23، ج 539، وابن منظور (محمد بن مكرم): لسان العرب، ط 1، بولاق، مادة (صحف)، ج 11، ص 88.
(4) أبو الفرج الأصبهاني: ج 15، ص 250، وانظر في تعيين أماكن هذه القرى الواقعة على الفرات غربي العراق: ياقوت بن عبد الله الحموي: معجم البلدان، ط 1، الخانجي، القاهرة، 1906، ج 1، ص 341، ج 2، ص 253، ج 8، ص 486، ج 6، ص 253، ج 7، ص 125، ج 3، ص 376.
(5) الطبري: التاريخ، ج 3، ص 375.
(6) ياقوت: معجم البلدان، مادة (نقيرة)، ج 8، ص 311.(1/20)
درهما (1).
ولم يقتصر انتشار الكتابة في شمال الجزيرة على أطراف العراق، بل إن ذلك قد امتد إلى أطراف الشام، فيروي البخاري أن ملك غسان أرسل إلى كعب بن مالك كتابا يدعوه فيه أن يلحق به بعد ما كان من قصة تخلفه عن غزوة تبوك، وجفاء المسلمين له ولصاحبيه (2)، كذلك كتب النبي صلى الله عليه وسلّم كتابا لأكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل (3). وهذا فروة بن عمرو الجذامي وكان عاملا لقيصر على عمان من أرض البلقاء قد أسلم، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فكتب إليه جواب كتابه (4). كذلك وفد أهل أيلة وتيماء وجرباء وأذرح، وهي قرى في شمال الجزيرة العربية، إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فكتب لهم كتبا (5). وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم كتاب ملوك حمير مقدمه من تبوك ورسولهم إليه بإسلامهم، فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم جواب كتابهم (6). وكل هذه المكاتبات ولا شك أن معظمها وربما كلها كان يستخدم الكتابة العربية تدل على مدى انتشارها زمن ظهور الإسلام، حتى في جنوب الجزيرة معقل الخط العربي القديم (المسند).
وعلى أية حال فإن كل ما تقدم يشير إلى أن الكتابة العربية كانت معروفة بين عرب الجاهلية (7) سواء في وسط الجزيرة أم في أطرافها بدرجة تكفي لأن تنفي ما قيل من ندرة أو انعدام الكتابة بينهم، ويشير من جانب آخر إلى أن الكتابة العربية بذلك الاستخدام الواسع، لا بد أنها قد أخذت شكلا أقرب إلى الاطراد وتوحيد القواعد، ومع كل ذلك فإنها كانت تنتظر الفرصة العظيمة التي أتاحها لها الإسلام لأن تعبر عن حضارة جديدة، قادها القرآن الكريم الذي دوّن بها.
__________
(1) أبو بكر بن أبي داود (عبد الله بن سليمان السجستاني): كتاب المصاحف، ط 1، القاهرة، 1936، ص 133.
(2) البخاري (محمد بن إسماعيل»: صحيح البخاري، محمد صبيح، القاهرة، ج 6، ص 6.
(3) الواقدي (محمد بن عمر): كتاب المغازي، دار المعارف بمصر، 1966، ج 3، ص 1028. وابن سعد: ج 1، ص 889.
(4) ابن سعد: ج 1، ص 262.
(5) الواقدي: ج 3، ص 1031.
(6) ابن هشام: ج 2، ص 588.
(7) بلاشير (ريجيس): تاريخ الأدب العربي، دمشق، الجامعة السورية، 1956، ج 1، ص 74.(1/21)
ثانيا: الروايات العربية في أصل الكتابة:
أما عن أصل الكتابة العربية الشمالية التي دوّن بها القرآن الكريم فقد كان لعلماء العربية والمؤرخين العرب روايات شتى، قد اختلطت فيها الحقيقة بكثير من الأسطورة، وللمحدثين أيضا رأي في أصلها، بنوه على أسس أكثر علمية وانسجاما مع منطق الأمور وشواهد التاريخ.
كانت لعلماء العربية روايات في أصل الكتابة عامة، والكتابة العربية خاصة، ولكن «الروايات في هذا الباب تكثر وتختلف» كما يقول ابن فارس (1).
فمن العلماء من يذهب إلى أن الخط توقيف من الله، مستندا في ذلك إلى بعض الآيات القرآنية الكريمة [البقرة: 31، العلق: 41، القلم: 1]، ويقول ابن فارس (2):
ليس ببعيد أن يوقّف آدم عليه السلام أو غيره من الأنبياء عليهم السلام على الكتاب.
ويروى عن كعب الأحبار (ت 32هـ) أنه قال (3): أول من وضع الخط العربي والسرياني وسائر الكتب آدم عليه السلام، قبل موته بثلاثمائة سنة، كتبه في الطين ثم طبخه، فلما انقضى ما كان أصاب الأرض من الغرق، وجد كل قوم كتابهم فكتبوا به، فكان إسماعيل عليه السلام وجد كتاب العرب. وهناك روايات أخرى تنسب وضع الكتابة العربية لإسماعيل أو ولده (4). ورواية أخرى تقول إن إدريس النبي عليه السلام
__________
(1) ابن فارس ص 7.
(2) نفس المصدر والمكان. وانظر: أبو بكر ابن العربي: ج 4، ص 1945، والقلقشندي: ج 3، ص 11.
(3) ابن عبد ربه: ج 4، ص 156. وانظر: الجهشياري (أبو عبد الله محمد بن عبدوس): كتاب الوزراء والكتّاب، ط 1، القاهرة، مصطفى البابي الحلبي 1938، ص 1، والصولي (أبو بكر محمد بن يحيى): أدب الكتّاب، بغداد، المكتبة العربية، 1341، ص 28، وابن النديم، ص 4، والسيوطي (جلال الدين عبد الرحمن): الإتقان في علوم القرآن، ط 1، القاهرة، مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني، 1967، ج 4، ص 145.
(4) ابن عبد ربه: ج 4، ص 157. وابن النديم، ص 5. والجهشياري، ص 1. والداني (أبو عمرو عثمان بن سعيد): المحكم في نقط المصاحف، دمشق، وزارة الثقافة السورية، 1960، ص 35.(1/22)
كان أول من خط بالقلم بعد آدم (1). وأخرى أن أول من كتب الخط العربي حمير بن سبأ (2).
وهذه الروايات بشكلها السابق لا يقرها البحث السديد: أما قضية التوقيف فيبدو أنها سيقت في باب تفسير الآيات المشار إليها (3). مع أن السياق الذي وردت فيه الآيات لا يوحي بشيء من الحديث عن أصل الخط. وأما بقية الروايات فيبدو أنها مما أدخله الأخباريون من روايات أهل الكتاب، مما لا يقوم على حقيقة علمية ثابتة.
وكذلك يمكن القول في الرواية التي تزعم أن أول من وضع الخط العربي جماعة هم: أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت، وهم قوم من الأوائل نزلوا عند عدنان بن أدد، فاستعربوا ووضعوا الكتاب العربي على أسمائهم، ولما وجدوا أحرفا ليست من أسمائهم، وهي الثاء والخاء والذال والضاد والظاء والغين، ألحقوها بها وسموها الروادف، وتشير الرواية إلى أن هؤلاء كانوا ملوك مدين، وأنهم هلكوا يوم الظّلة مع قوم شعيب، وقالت أخت (كلمون) رئيسهم شعرا ترثيه فيه (4).
وهذه الرواية أيضا من الروايات التي يغلب عليها طابع الخرافة، مما لا يقبله منهج التحقيق العلمي والوقائع التاريخية، وليس أدل على الخرافة فيها من أن صاحبها قد أخذ الترتيب الأبجدي للحروف وجعله أسماء لملوك من العرب العاربة، زاعما أنهم كانوا في مدين، وأنهم هم الذين وضعوا الخط العربي (5). وقد وجد من بين علماء العربية
__________
(1) ابن هشام: ج 1، ص 3. وابن قتيبة: عيون الأخبار، القاهرة، دار الكتب المصرية، 1925، ج 1، ص 43. وابن رستة (أحمد بن عمر): الأعلاق النفيسة، ليدن، 1891، مج 7، ص 191. وابن عبد ربه: ج 4، ص 157. والجهشياري، ص 1.
(2) القلقشندي: ج 3، ص 13.
(3) خليل يحيى نامي: أصل الخط العربي وتاريخ تطوره إلى ما قبل الإسلام، القاهرة، 1935، ص 1.
(4) انظر: ابن عبد ربه: ج 4، ص 157. والصولي، ص 39. وابن النديم، ص 4. والبلوي: ج 1، ص 75. والسيوطي: المزهر في علوم اللغة وأنواعها، ط 4، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية 1958، ج 2، ص 348.
(5) خليل يحيى نامي، ص 4.(1/23)
الأقدمين من تصدى لهذه الرواية (1)، مفنّدا لها بما سبق من أن هذه الأسماء هي كلمات تجمع الحروف ليسهل تعلمها، وهي شائعة عند اليهود والسريان آنذاك يعلمون بها الصبيان الكتابة. وهو بعد ذلك يرد الرواية أصلا، إذ إنها صادرة عن رجل كان يولد الأخبار على الأمم الذين بادوا كعاد وثمود وطسم وجديس وأضرابهم، فإذا احتاج إلى توليد أشعار يؤكد بها تلك الأخبار خرج إلى ظاهر المدينة، حيث يلقى الأعراب يضعون له الشعر المناسب.
ومهما قيل في هذه الرواية فإن فيها إشارات مهمة، فهي أولا: تشير إلى عملية استحداث رموز الأحرف الستة التي تنفرد بها الأبجدية العربية بالنسبة لأكثر الأبجديات السامية. وثانيا: أنها تشير إلى بلاد مدين في شمال الجزيرة العربية، وأن هؤلاء كانوا منها. وسيتضح لنا فيما بعد أن لتلك الأنحاء دورا مهما في نشوء وتطور الكتابة العربية.
وننتقل الآن إلى روايات أكثر جدية عن أصل الخط العربي، فقد كان هذا الخط يسمى في الجاهلية (الجزم) (2). واختلف في أصل هذه التسمية، فينقل ابن دريد وابن جني عن أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني (ت 248أو 255هـ) قوله: إنما سمّي هذا الخط بالجزم «لأنه جزم من المسند، أي أخذ منه» (3). والمسند هو خط حمير أيام ملكهم» (4). وقد جاء ابن خلدون (ت 808هـ) ليؤكد أن الخط من الصنائع الحضرية، وأنه من جملة الصنائع المدنية المعاشية، وأن جودة الخط إنما تكون على قدر الاجتماع والعمران والتناغي في الكمالات، وهو لذلك يرى أن الخط العربي قد انتقل من اليمن،
__________
(1) حمزة بن الحسن الأصفهاني: التنبيه على حدوث التصحيف، دمشق، مجمع اللغة العربية بدمشق 1968، ص 1816.
(2) ابن دريد (أبو بكر محمد بن الحسن): جمهرة اللغة، ط 1، حيدرآباد، دائرة المعارف العثمانية 1345هـ، ج 2، ص 91. والاشتقاق له، القاهرة، الخانجي 1958، ص 371. والجوهري (إسماعيل بن حماد): تاج اللغة وصحاح العربية، القاهرة، دار الكتاب العربي 1956، ج 5، ص 1887. وابن أبي داود: ص 4.
(3) ابن دريد: جمهرة اللغة، ج 2، ص 104. وابن جنّي (أبو الفتح عثمان): سر صناعة الإعراب، ط 1، القاهرة، مصطفى البابي الحلبي 1954، ج 1، ص 45. وابن منظور: مادة (جزم) ج 4، ص 365.
(4) ابن دريد: الجمهرة، ج 2، ص 91و 104. وابن جنّي: سر الصناعة، ج 1، ص 45. وانظر الجوهري: ج 1، ص 487.(1/24)
حيث كان بالغا مبالغه من الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة وهو المسمى بالخط الحميري إلى الحيرة، حيث دولة آل المنذر نسباء التبابعة، ولم يكن الخط عندهم من الإجادة كما كان عند التبابعة لقصور ما بين الدولتين، ومن الحيرة لقنه أهل الطائف وقريش (1). وفي العصر الحديث كان بعض الباحثين يعتقدون، خطأ، ذلك الاعتقاد ويذهبون نفس المذهب (2).
وإذا كان لنا أن نقدر لابن خلدون ربطه بين وجود صناعة الخط وعدمها وجودة الخط ورداءته وبين الحضارة والبداوة (3)، فإنه قد انساق وراء ما ينقله الرواة العرب بشأن تولد الخط العربي من المسند وانتقاله إلى الحجاز عن طريق الحيرة، وقد أشار بعض القدماء إلى اختلاف أشكال الخطين، رغم ضعف وسائل مقارنة الخطوط ودراسة النقوش آنذاك، فهذا الجوهري ينقل (4): أن «المسند خط لحمير مخالف لخطنا هذا». ويقول ابن النديم (5): «زعم الثقة أنه سمع مشايخ من أهل اليمن يقولون إن حمير كانت تكتب بالمسند على خلاف أشكال ألف وباء وتاء». وقد جاءت الدراسات والاكتشافات الحديثة لتنفي كل صلة بين الخط العربي الشمالي الذي كتب به القرآن الكريم وبين المسند الذي كان أهل اليمن يكتبون به قبل الإسلام. ولعل ما بينهما من صلة لا يتعدى أنهما اشتقا من أصل سامي واحد قديم (6). وأشكال حروف الخط المسند تختلف اختلافا أساسيا عن
__________
(1) ابن خلدون (عبد الرحمن): كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1956، مج 1، ص 756755. وانظر نفي الفكرة في السيوطي: المزهر، ج 4، ص 349.
(2) انظر: حنفي ناصف: ص 5251. ومحمد طاهر الكردي: تاريخ الخط العربي، ط 1، مكتبة الهلال 1939، ص 40. وحامد عبد القادر: دفاع عن الأبجدية والحركات العربية. بحث نشر بمجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ج 2، سنة 1960، ص 8. وأمين مدني: العرب في أحقاب التاريخ، القاهرة، 1965، ج 1، ص 217.
(3) انظر: د. عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن، ص 64.
(4) ج 1، ص 487.
(5) الفهرست، ص 5.
(6) انظر: إسرائيل ولفنسون، ص 197. وخليل يحيى نامي، ص 3. وطه باقر: أصل الحروف الهجائية. مقال في مجلة سومر، ج 2، 1945، ص 46. ود. جواد علي: ج 7، ص 61.(1/25)
أشكال حروف الخط العربي (1). ويظهر ذلك الاختلاف بمجرد النظر إلى أي نص يمني جنوبي كتب بالمسند ومقارنته بنص كتابي عربي قديم كتب بالخط الشمالي.
وعلينا بعد أن ظهر خطأ تفسير القدماء لتسمية الخط العربي بالجزم أن نبحث عن تفسير آخر لتلك التسمية من أصل الكتابة عامة، ويبدو أن ذلك التفسير مرتبط برواية أخرى عن أصل الخط العربي، وهي أكثر الروايات العربية قربا إلى ما أدت إليه الدراسات المعاصرة، رغم كل ما فيها من اضطرابات وقصور.
تتركز هذه الرواية حول ثلاثة أسماء رددها الرواة، إليهم ينسب وضع الخط العربي، فينقل البلاذري ما رواه ابن الكلبي عن الشرقي بن القطامي (ت نحو 155هـ) أنه قال (2): «اجتمع ثلاثة نفر من طيئ ببقّة، وهم مرامر بن مرّة وأسلم بن سدرة وعامر بن جدرة، فوضعوا الخط، وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية، فتعلمه منهم قوم من أهل الأنبار، ثم تعلمه أهل الحيرة من أهل الأنبار». وينقل ابن النديم نفس الرواية مع بعض التغيير عن ابن عباس (ت 68هـ)، فيروي أن «أول من كتب بالعربية ثلاثة رجال من بولان، وهي قبيلة سكنوا الأنبار، وأنهم اجتمعوا فوضعوا حروفا مقطعة وموصولة، وهم مرامر بن مرّة وأسلم بن سدرة وعامر بن جدرة، ويقال: مروة وجدلة، فأما مرامر فوضع الصور، وأما أسلم ففصل ووصل، وأما عامر فوضع الإعجام» (3). وهناك روايات أخرى تسند ذلك العمل إلى مرامر وحده (4)، وأخرى تجعل أسلم معه (5). وقد وردت بعض أسماء هؤلاء الرجال الثلاثة مصحفة في بعض
__________
(1) د. محمود حجازي: اللغة العربية عبر القرون، القاهرة، دار الكتاب العربي، 1968، ص 30.
(2) فتوح البلدان، ص 476. وانظر: ابن أبي داود، ص 5. وابن عبد ربه، ج 4، ص 157. وانظر أيضا: البطليوسي (عبد الله بن محمد بن السيد): الاقتضاب في شرح أدب الكتاب، بيروت، دار الجيل 1973، ص 88.
(3) الفهرست، ص 54. ويروي ابن النديم، ص 5: «أن نفرا من أهل الأنبار من أياد القديمة وضعوا حروف ألف ب ت ث، وعنه أخذت العرب». وانظر الطبري: التاريخ، ج، ص 375.
(4) ابن قتيبة: عيون الأخبار، ج 1، ص 23. وحمزة الأصفهاني، ص 18. وابن رستة: مج 7، ص 191. وابن خلكان (أحمد بن محمد): وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ط 1، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1948، ج 3، ص 30.
(5) انظر ابن دريد: الاشتقاق، ص 371. والصولي، ص 30. والسيوطي: المزهر، ج 2، ص 346.(1/26)
الروايات (1).
وحاول بعض الباحثين المحدثين رد هذه الرواية كلية، مستندا إلى ما يبدو في الأسماء من أثر الصنعة والاختراع، فهي موزونة ومقفاة: مرة سدرة جدرة، وهذا يدل في زعمه أنها وضعت وضعا، وليست من نتيجة الصدفة والاتفاق (2). ومع ما في هذه الأسماء من أثر للصنعة، لما فيها من تتابع مقطعي مسجوع، ومع احتمال كونها مخترعة، إلا أنه لا بد أنها كانت تشير إلى وجود أشخاص، سواء كانت أسماؤهم هي هذه، أم قريبا منها، كان لهم دور ما في تطور الكتابة العربية (3).
ويلاحظ على الرواية الأولى أنها تشير إلى إفادة الرجال الثلاثة بعد وضعهم الخط العربي من الكتابة السريانية، وإنهم «وضعوا الخط، وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية». وقد ذهب بعض الباحثين المحدثين استنادا إلى هذا القول على ما يبدو الذي لا يدل على الأخذ بل الاستفادة حسب، وإلى ما يرويه ابن النديم من أن السريان كان لهم خط يسمى: (أسطرنجالا) ونظيره قلم المصاحف (4)، إلى استعارة العرب للخط السرياني واستعماله في كتابة اللغة العربية (5). وذهب آخرون إلى حد التأثر والإفادة، دون النقل والاقتباس (6). لكن البحث الدقيق ينفي أن تكون الكتابة السريانية إحدى مراحل الخط العربي، إذ إن لكل منهما تاريخ تطوره المستقل عن الخط الآرامي (7). وما هذه الحروف المتشابهة والخصائص المتقاربة التي نجدها في هاتين الكتابتين إلا نتيجة
__________
(1) انظر أبو بكر بن العربي: ج 4، ص 1945. وابن دريد: الاشتقاق، ص 371.
(2) خليل يحيى نامي: ص 3. ود. الطاهر أحمد مكي، ص 38.
(3)،. 6.
(4) الفهرست، ص 12.
(5) انظر: جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، دار الهلال، 1957، ج 1، ص 227، ود. علي عبد الواحد وافي: علم اللغة، ط 3، القاهرة، لجنة البيان العربي، 1950، ص 248. وفقه اللغة (له)، 47، القاهرة، لجنة البيان العربي، 1956، ص 32.
(6) إسرائيل ولفنسون، ص 160. وبلاشير: ج 1، ص 74.
(7) انظر: خليل يحيى نامي، ص 4و.
) .. (: .. 0791 .. 52.(1/27)
لكونهما قد خضعتا لظروف واحدة، ومرتا على أدوار متشابهة (1).
أما الرواية الثانية وهي تتفق مع الأولى في أسماء الرجال الثلاثة فإنها تختلف عنها في عدم إشارتها إلى إفادتهم من هجاء السريانية، ثم هي تعطي تفصيلا لعملهم، ولعل أهم شيء تجدر ملاحظته هنا هو إشارتها إلى أن عامرا قد وضع الإعجام، وهي مسألة ليس من اليسير الإقرار بها، وسنتناولها في فصل تال.
وهنا يثار تساؤل عن الدور الذي قام به أولئك الثلاثة، وهل أنهم هم الذين وضعوا الكتابة العربية فعلا، أو أنهم ساهموا بطريقة ما في تطور تلك الكتابة؟ أما أنهم وضعوها فهذا أمر ينفيه ما تمّ كشفه من نقوش عربية تعود إلى وقت سابق على الوقت الذي يقدر أنهم عاشوا فيه وهو نهاية القرن الخامس أو بداية القرن السادس الميلادي (2) في أماكن بعيدة عن الأنبار والعراق، كذلك فإن وضع الخطوط واختراعها عمل ليس من اليسير نسبته إلى أفراد بأعيانهم، والاحتمال الثاني يبدو أكثر انطباقا على الواقع، ولعل الدور الذي قاموا به هو أنهم عدلوا الحروف المتداولة آنذاك، ذات الأصل النبطي حتى تبدو في شكلها العام ربما أكثر تشابها مع السريانية، التي روى البلاذري أنهم قاسوا هجاء العربية على هجائها (3). وربما نجد إشارة إلى طبيعة ذلك التعديل في الاسم (الجزم) الذي كانت تعرف به الكتابة العربية قبل الإسلام، والذي افترض بعض العلماء الأقدمين أنه سمي بذلك لأنه اقتطع وأخذ من المسند، وقد تبين لنا فيما مضى بطلان هذه الدعوى. و (الجزم) في بعض معانيه «ضرب من الكتابة، وهو تسوية الحرف، وقلم جزم: لا حرف له» (4) فكأن دور الرجال الثلاثة إذن كان تسوية الحروف وتنسيقها
__________
(1) خليل يحيى نامي، ص 4. ولا شك أن تحديد مقدار التأثر والتأثير بين الخطوط يحتاج إلى توفر الوسائل المادية، ومع غيبة تلك الوسائل الآن فليس لأحد أن يتحدث عن ذلك التأثر أو أن يحدد مقداره إن وجد.
(2) .. 6.
(3) انظر: المرجع السابق، ص 7.
(4) الأزهري (محمد بن أحمد): تهذيب اللغة، القاهرة، ج 10، ص 627. وانظر: الجوهري: ج 5، ص 1887. والزمخشري (محمود بن عمر): أساس البلاغة، القاهرة، دار الكتب العربية، 1922 مادة (جزم)، ج 1، ص 123، حيث يقول: «قلم جزم: مستوى القلم لا حرف له». والفيروزآبادي (محمد بن يعقوب): القاموس المحيط، ط 2، القاهرة. مصطفى البابي الحلبي، 1952،(1/28)
بحيث تبدو أكثر تنظيما واستجابة لسرعة الكاتب، أو شيئا من هذا القبيل (1). فأطلق على عملهم في تحسين الخط اسم (الجزم) لا على أنهم اقتطعوا الخط وأخذوه من المسند بل لأنهم عدلوا في حروفه، وجعلوها أكثر استواء وانسجاما.
والروايات العربية تركز على الدور الذي قام به عرب العراق قبل الإسلام في تطوير الخط العربي، ونقله إلى الحجاز، فقد كانت الحواضر العربية في غربي العراق تكتب بالخط العربي ربما على نطاق واسع قبل أن يصل إلى الحجاز وقلب الجزيرة العربية، حيث تجعل الروايات العربية طريقة إليها عبر الحيرة ودومة الجندل نازلا إلى مكة والطائف.
وسنتناول مكان نشوء الخط العربي وطريق دخوله إلى الحجاز والفترة التاريخية التي تم فيها ذلك بعد أن نتعرض لما تقدمه الدراسات الحديثة من إضافات قيمة في تصور أصل ونشأة الخط العربي، استنادا إلى دراسة النقوش العربية المكتشفة رغم قلتها والتي ترجع إلى ما قبل الإسلام، ومقارنتها بالكتابات السامية التي كانت معروفة في أطراف الجزيرة الشمالية وبلاد الشام.
ثالثا: رأي المحدثين في أصل الكتابة العربية:
تلك هي وجهة نظر المصادر القديمة في أصل الكتابة العربية، وهي في معظمها غير واضحة، ومختلطة بعناصر قصصية لا تستند إلى حقائق علمية ثابتة، أما المحدثون فإنهم قد نحوا نحوا آخر في البحث، رغم أنهم رأوا تقريبا رأي المصادر العربية مدة من الزمن إلى أن أتيح لهم اكتشاف بعض النقوش الجاهلية المكتوبة بأحد فروع الخط النبطي المتأخر الشبيه بالخطوط العربية القديمة وفي لغة قريبة من اللغة العربية (2).
ولكي تتضح لنا علاقة الخط العربي بالخطوط السامية الأخرى وموقعه منها علينا أن
__________
ج 4، ص 91مادة (جزم).
(1) أ. هوادس: محاولة في الخط المغربي، مقال في حوليات الجامعة التونسية، سنة 1966، العدد الثالث، ص 191190. وانظر:
،. 87.
(2) طه باقر: ص 56، وانظر: إسرائيل ولفنسون، ص 199.(1/29)
نعرف شيئا عن تاريخ الخطوط السامية وتطورها، ولسنا هنا في حاجة إلى معرفة آراء العلماء في أصل الحروف الهجائية والخطوط السامية وما قيل في ذلك (1). ونكتفي بالإشارة إلى أن الخط الفينيقي المشتق من كتابات شبه جزيرة سيناء التي يرجع تاريخها إلى سنة 1850قبل الميلاد (2)، والتي تعتبر أقدم كتابة أبجدية، قد استخدم لتدوين اللغة الآرامية في القرن التاسع أو الثامن قبل الميلاد (3)، وأن الخط الآرامي قد تطور إلى عدة فروع في بلاد الشام وما اتصل بها، لعل من أهمها: النبطي والتدمري والسرياني والعبراني المربع (4).
وقد أدت الاكتشافات الأثرية في جزيرة العرب إلى التمييز بين نوعين من الخطوط التي كانت مستعملة عند العرب فيما قبل الإسلام. الأول: الخط العربي الذي دون به القرآن الكريم، والذي يعرف بالشمالي تمييزا له عن الآخر، والثاني: الخط العربي القديم في جنوب الجزيرة العربية، والذي عرف في المصادر العربية باسم (المسند) (5).
ولعل مما يثير الدهشة كثرة ما عثر عليه من النقوش المدونة باسم المسند، ليس في
__________
(1) انظر في ذلك: طه باقر: ص 43وما بعدها. ود. جواد علي: ج 1، ص 201، وما بعدها و) .. (:. .، 3791 .. 366.
) (:،، 8691، .. ) 271541 (.
(2) د. جواد علي: ج 1، ص 203.
(3)) (:،.
. 2691،. 9
،. 42
(4) انظر: طه باقر: ص وما بعدها: وحفني ناصف: 43.
(5) اختلف في أصل هذه التسمية، فينقل القلقشندي (ج 3، ص 13) أن المسند سمّي بذلك لأنهم كانوا يسندونه إلى هود عليه السلام، ويذهب بعض المحدثين إلى أنه سمي بذلك لأن معظم حروفه تستند إلى أعمدة. (انظر: إسرائيل ولفنسون: ص 244، ود. الطاهر أحمد مكي، ص 43)، لكن الدكتور جواد علي (ج 1، ص 198197) يرد على من ذهب هذا المذهب ويقول:
إن كلمة المسند في العربية الجنوبية تعني الكتابة مطلقا، وهي تساوي ما تعنيه كلمة الخط أو الكتابة في لغة القرآن الكريم.(1/30)
بلاد اليمن وأرض الجزيرة فحسب، بل تجاوز حدود بلاد العرب، فعبر إلى مصر ووصل إلى جزر اليونان وأطراف العراق، وبذلك ثبت علميا أن المسند كان معروفا وشائعا قبل الإسلام في كل شبه جزيرة العرب، وربما كان القلم العام للعرب قبل المسيح، فهو أقدم الأقلام التي عرفت في شبه جزيرة العرب حتى الآن (1).
وقد امتد استعمال المسند حتى القرن الخامس الميلادي (2)، وربما إلى القرن السادس (3). أي أن ذلك الخط قد زال من الاستعمال قبل مجيء الإسلام (4). أما عن بدايته فهي غير واضحة، ويعتقد أنه مشتق من الفينيقي، أو أنه متفرع من الأبجدية السينائية التي انحدر عنها الخط الفينيقي. وقد اختلف في تاريخ أقدم الكتابات المدونة بالمسند، فمنهم من يرجعها إلى سنة 1500أو 1300قبل الميلاد، على حين يرتفع آخرون بتاريخ أقدم كتابة عثر عليها بالمسند إلى أكثر من 800أو 700سنة قبل الميلاد. ولضبط هذا التاريخ أهمية جد عظيمة في البحث عن أصل منشأ هذا الخط (5).
والمسند يتألف من تسعة وعشرين حرفا، وأبجديته مثل الأبجديات السامية الأخرى من حيث إنها تتألف من الحروف الصامتة، ولا حركة في الكتابة بها، ولا ضبط في أواخر الكلمات، ولا علامة للسكون أو التشديد، وقد يكتب الحرف المشدد مرتين، وتكتب الحروف في الكلمة الواحدة منفصلة، ولذلك فإن شكل الحرف لا يتغير بتغيّر موضعه في الكلمة، ويفصل بين الكلمة والكلمة التي تليها فاصل، هو خط عمودي مستقيم، وتقرأ الكتابة من اليمين إلى اليسار أو بالعكس، ويمزج بين الطريقين
__________
(1) د. جواد علي (ج 1، ص 192).
(2)،. 42.
(3) نولد كه (تيودور): اللغات السامية: تخطيط عام، (مترجم)، القاهرة، مكتبة دار النهضة العربية، 1963، ص 91.
(4) ابن خلكان، ج 3، ص 30.
(5) د. جواد علي: ج 1، ص 209، وج 2، ص 55. وانظر طه باقر، ص 44. وجويدي: محاضرات أدبيات الجغرافيا، ص 93، وإسرائيل ولفنسون، ص 243. و) (:،، 4691،. 91.(1/31)
أحيانا (1).
وتطور القلم المسند في شمال الجزيرة العربية على يد شعوب عربية قديمة إلى مجموعة من الأقلام، وقد عرفت النقوش التي عثر عليها مكتوبة بتلك الأقلام بالنقوش اللحيانية والثمودية والصفوية، وهي لا تختلف كثيرا في خصائصها وأشكالها عن خصائص وأشكال المسند، وقد زالت من الاستعمال قبل الإسلام، وخلفت لنا عددا كبيرا من النقوش التي عثر عليها المنقبون في الجزيرة العربية. كذلك تطور المسند في الساحل الإفريقي المقابل لليمن إلى الخط الحبشي الذي انحدرت منه كافة الخطوط الحبشية (2).
ولعل في ذلك الانتشار الواسع لاستخدام المسند، وما تخلف عنه في أذهان الناس، ما يفسر لنا ما ذهبت إليه المصادر العربية من الاعتقاد بأن الخط العربي متطور عنه، لكن مقارنة كلا الخطين وما يمتاز به كل منهما ينفي ذلك الاعتقاد، وليس علينا شيء بعد هذا في أن نكتفي بهذه الإشارة الموجزة عن المسند، قلم الجزيرة العربية القديم.
وقد يبدو غريبا أن الكتابة العربية الشمالية ليست متطورة عن المسند، بعد ما كان بين جنوب الجزيرة وشمالها من علاقات، وبعد انتشار المسند واستعماله في شمال الجزيرة لعدة قرون قبل الميلاد وبعده إلى ما قبيل الإسلام، لكن تدهور أحوال اليمن في الفترة المتأخرة قبل الإسلام، وطبيعة الخط المسند وفروعه، وما تمتاز به من جفاف وأشكال دقيقة صعبة الرسم قد تفسر لنا ذلك الإهمال الذي أصاب المسند وانحساره أمام الخطوط المنحدرة عن الآرامي، الآتية من أطراف الجزيرة الشمالية، والتي تمتاز بالمرونة والسهولة، ولا سيما في الكتابة على القراطيس (3). وربما كان لأهل الكتاب من اليهود
__________
(1) د. جواد علي، ج 1، ص (199198)، وانظر: ج 7، ص (4237).
(2) انظر عن هذه الأقلام: د. جواد علي، ج 1، ص 199و 210و 211، ج 7، ص 139و 114 و 193118و 197و 222و 241. وليتمان (أنو): لهجات عربية شمالية قبل الإسلام، مقال في مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، 1937، ج 3، ص 248247، ود. رمضان عبد التواب، ص 35و 38و،. 366.
(3) انظر: بلاشير: ج 1، ص 70، ود. جواد علي: ج 1، ص 312.(1/32)
والنصارى دور في انتشار بعض فروع الخط الآرامي في بلاد العرب (1).
وخير طريقة تجب مراعاتها في البحث في أصول الخطوط، وكيفية تطورها، وانفصال بعضها عن بعض، هي طريقة الرجوع إلى ترتيب حروف الأبجديات عند مختلف الأمم القديمة التي استعملت الكتابة، وإلى استقراء الأسماء التي أطلقتها على تلك الحروف، ودراسة أشكالها وصورها (2).
1 - ترتيب حروف العربية:
إن الأبجدية العربية تشارك كثيرا من الأبجديات السامية في ترتيب حروفها، فهناك تشير إلى أن عرب الجاهلية وصدر الإسلام كانوا يسيرون في تعلم الكتابة على طريقة (أبجد هوز)، وعرف العرب هذه الكلمات التي تضم حروف الكتابة في نظام معين، واستخدموها في أشعارهم، وغيروا فيها بعض التغيير (3). كذلك استخدمت هذه الكلمات التي تجمع الحروف في ترتيب معين في الحساب، وكان لكل حرف قيمته العددية، حتى أن البلوي يقول (4): «والحساب بهذه الحروف أولى من الحساب بالأشكال المصطلح عليها عند الحساب، لمعان منها أن بهذه الحروف كانت العرب تحسب، ونحن عرب فلا تتعداها إلى سواها». ووردت كراهة تعليم الصبيان الكتابة على طريقة أبجد هوز (5).
أما الترتيب المألوف المتبع في الزمن الحاضر في ترتيب الحروف من الألف إلى الياء فهو ترتيب متأخر حدث في الإسلام (6).
وقد أحس علماء العربية بقدم الترتيب الأبجدي، فهو (إمام الكتاب) (7)، وهو أصل
__________
(1) د. جواد علي، ج 7، ص 55و 65.
(2) د. جواد علي، ج 7، ص 70.
(3) انظر: الفراء (يحيى بن زياد): معاني القرآن، ط 1، القاهرة، دار الكتب المصرية، 1955، ج 1، ص 369، وابن درستويه (عبد الله بن جعفر): كتاب الكتاب، بيروت، ط الآباء اليسوعيين، 1921، ص 43، والصولي، ص 30، والقلقشندي، ج 3، ص 23، وابن النديم، ص 4.
(4) ألف با، ج 1، ص 91.
(5) نفس المصدر، ج 1، ص 75.
(6) د. جواد علي، ج 1، ص 209، وج 7، ص 60.
(7) الزجاجي (أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق): الجمل، ط 2، باريس، 1957، ص 272.(1/33)
حروف التهجي) (1). وعرفوا أن (أبجد، هوز) كلمات وضعت لدلالة المتعلم على الحروف (2). وقالوا إنهن أعجميات، وعليها يقع تعليم الخط بالسرياني (3). وقد سبق أن أشرنا إلى رواية المصادر العربية من أن هذه الكلمات هي أسماء ملوك مدين، وهي إشارة تفيد بإحساسهم بأنها وافدة من خارج الجزيرة العربية.
وقد كشفت الدراسات الحديثة في مجال الخطوط السامية أن هذا الترتيب هو الترتيب المعروف عند أكثر الأمم السامية القديمة (4).
وترتيب حروف الهجاء وقراءتها وكتابتها عند تعلمها على وفق نمط أبجد هوز في صدر الإسلام دليل يشير بنفسه إلى المورد الذي انحدرت عنه الكتابة العربية، ولهذا نجد الأحرف الستة التي انفردت بها العربية عن اللغات السامية الأخرى قد وضعت في آخر سلسلة أبجد (5) والتي أطلق عليها في الرواية العربية اسم (الروادف)، وهي تسمية تشير إلى أنها ملحقة في وقت متأخر بذلك الترتيب.
وقد بقي لنا من الأصل الذي اشتق منه الخط العربي ذلك الترتيب الذي يقوم على نظام أبجد هوز (6). وهو دليل على الرباط الذي يربط الكتابة العربية بالخطوط السامية الأخرى ذات الترتيب الأبجدي (7).
__________
(1) الداني: المحكم، ص 29.
(2) نفس المصدر، ص 34.
(3) انظر: حمزة الأصفهاني، ص 16. وأبو حاتم الرازي (أحمد بن حمدان): كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية العربية، ط 2، القاهرة، دار الكتاب العربي، 1957، ج 1، ص 66.
(4) د. جواد علي، ج 1، ص 208، وج 7، ص 60.
(5) د. جواد علي، ج 7، ص 60.
(6) د. تمام حسان: اللغة بين المعيارية والوصفية، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1958، ص 139.
(7) ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن لأهل المغرب ترتيبا يختلف شيئا قليلا عن الترتيب الأبجدي المشهور في المشرق. (انظر القلقشندي، ج 3، ص 22)، ولا يزال سر هذا الاختلاف غير واضح، (انظر: هوداس، ص 192189).(1/34)
2 - أسماء حروف العربية:
ولا تزال الأبجدية العربية تحتفظ في تسميتها للحروف ببقايا من أسماء حروف الأبجديات السامية القديمة، إذ يفترض العلماء أن أسماء الحروف السامية جاءت عند ما أخذ السينائيون القدماء صور الكلمات الهيروغليفية المصرية، وأغفلوا نطقها القديم، وأطلقوا عليها ما يقابلها في لغتهم الخاصة، للدلالة على الصوت الأول من تلك الكلمات، فقد أخذوا مثلا صورة (رأس ثور) وأغفلوا نطقها في اللغة المصرية، وأطلقوا عليها ما يقابلها في لغتهم الخاصة ثم عملا بقانون الأكروفونية () القاضي بالاعتماد على الحروف الأولى من أسماء الصور وترك الباقي منها صارت هذه العلامة رمزا لحرف الألف، الذي هو الحرف الأول من كلمة (ألف) السامية والتي تقابل الكلمة المصرية المشار إليها، وعلى هذا القياس سار السينائيون في معالجة صورة (بيت)، فأطلقوا عليها ما يقابلها في لغتهم، ثم اعتمدوا على الحرف الأول من اسمها في لغتهم وهو الباء وهكذا في بقية الحروف (1).
وقد حافظت الأبجديات السامية على أسماء الحروف السينائية المفترضة بدرجات متفاوتة، لكنها ظلت تشترك في أن اسم الحرف يحمل دائما قيمته الصوتية في أول حرف منه (2).
وقد أحس علماء العربية بهذه الخاصية لأسماء الحروف العربية، واستدلّوا بذلك على أن الألف في أول الترتيب الأبجدي إنما هي في الأصل علامة الهمزة، يقول ابن
__________
(1) انظر: فيليب حتى: تاريخ العرب (مترجم)، بيروت، دار الكشاف، 1949، ج 1، ص 93، وجواد علي، ج 1، ص 204. ويستثمر الشيخ عبد الله العلائلي هذه الفكرة في كتابه (مقدمة لدرس لغة العرب) وقد جعلها أساس نظرته إلى الدور الأول من أدوار تطور اللغة. (انظر تفصيلا لذلك:
د. عبد الصبور شاهين: في التطور اللغوي، القاهرة، المطبعة العالمية، 1975، ص 97)، وانظر:
). (:، 9691. 731.
). (،، 0791،. 445.
(2) انظر جدولا لأسماء الحروف في بعض الأبجديات المعروفة في:
،. 466.(1/35)
جنّي (1): «كل حرف سميته ففي أول حروف تسميته لفظه بعينه، ألا ترى أنك إذا قلت جيم فأول حروف الحرف (جيم)، وإذا قلت دال فأول حروف الحرف (دال) وإذا قلت حاء فأول ما لفظت به (حاء)، وكذلك إذا قلت ألف فأول الحروف التي نطقت بها همزة».
ويستدل من وحدة أسماء الحروف في مختلف الأبجديات على وجود أصل عام مشترك تفرعت عنه كل الأبجديات السامية واللاتينية (2)، وأسماء الحروف العربية تشير بصفة عامة إلى ذلك الأصل العام المشترك.
3 - تطور أشكال حروف الكتابة العربية:
وإذا كان ترتيب الحروف العربية وأسماؤها في إشارتها إلى علاقة الأبجدية العربية بغيرها من الأبجديات السامية غير قادرة على توضيح تطور الكتابة العربية وتحديد مسارها، فإن دراسة أشكال وصور الحروف عبر العديد من النقوش قادرة على أن تدل الباحثين على الأصل الذي انحدرت منه الكتابة العربية، وأن توضح مقدار علاقتها بغيرها من الخطوط السامية.
فقد عثر الباحثون على بعض كتابات عربية على الصخور تعود إلى ما قبل الإسلام، وبدراسة أشكال الحروف وصورها في تلك الكتابات تمكن الباحثون من معرفة الأصل الذي انحدرت منه الكتابة العربية. فآخر ما توصل إليه العلماء المستشرقون على ضوء تلك الاكتشافات هو أن الخط العربي القديم اشتق من الخط النبطي المتأخر الذي اشتق بدوره من الخط الآرامي، فإذا أمعنا النظر في القلمين النبطي المتأخر والعربي القديم وجدنا التشابه والتقارب بين أشكال الحروف واتصال بعض الحروف النبطية الحديثة ببعضها، كما هو الشأن في الخط العربي، والتقارب في المادة واللغة والأسلوب (3).
__________
(1) سر صناعة الإعراب، ج 1، ص 47.
(2) د. جواد علي، ج 1، ص 207.
(3) ناصر النقشبندي: منشأ الخط العربي وتطوره لغاية عهد الخلفاء الراشدين، مقال في مجلة سور، المجلد الثالث، ج 1، سنة 1947، ص 129.(1/36)
أما النبط فهم قوم من الساميين (1). ويسود الآن اعتقاد عام بأنهم قبائل عربية متجولة، تحضرت واستخدمت الآرامية لغة كتابية لها، وكانت العربية لغة حياتهم اليومية (2). وقد أسس النبط في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد مملكة في شمال الجزيرة العربية وجنوب فلسطين وبلاد الشام، كانت عاصمتها سلع (بترا) الواقعة في وادي موسى بالقرب من معان، استمرت حتى سنة (106) بعد الميلاد حين فتحها حاكم الرومان على سوريا، واستولى على عاصمتها (3).
ولما كانت نشأة دولة النبط أساسا اقتصادية، لوقوع بلادهم على طرق التجارة بين جنوب الجزيرة وبلاد الشام، فقد كانت لها صلات واسعة في المنطقة، وامتد نفوذهم إلى شمال الجزيرة العربية وأطراف الشام وسيناء أيام ازدهار دولتهم (4).
وكان النبط أول الأمر قد استخدموا الآرامية والقلم الآرامي في كتابتهم (5).
وظلت الكتابة النبطية مستعملة بعد زوال مملكة النبط لعدة قرون (6). وبمرور الأيام طوّر النبط الخط الآرامي، فابتعد عن أصله عبر أدوار ثلاثة، استغرقت بضعة قرون من
__________
(1) د. رمضان عبد التواب، ص 354.
(2). 209.،، وانظر في أصل النبط:
جرجي زيدان: العرب قبل الإسلام، دار الهلال، ص 92. وإسرائيل ولفنسون، ص 134، وخليل يحيى نامي: ص 7. ود. علي عبد الواحد وافي. فقه اللغة، ص 61. ود. جواد علي:
المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط 1، بيروت، دار العلم للملايين، 1969، ج 3، ص 9،.
ود. محمود حجازي: علم اللغة العربية، الكويت، وكالة المطبوعات، 1973، ص 181.
(3) خليل يحيى نامي: ص 10، وما بعدها. وانظر:،. 802
(4) هذا هو تاريخ النبط الذين خلفوا لنا النقوش والكتابة المعروفة باسمهم، أما حديث العلماء في المصادر العربية القديمة عن النبط والأنباط فإنهم ربما كانوا يقصدون أقواما من بقايا أمم سامية قديمة، كانوا ينزلون سواد العراق وقرى الشام، وكانت في لغتهم لكنة أعجمية (انظر: لسان العرب، مادة (نبط)، ج 9، ص 287، ويوهان فك: العربية: دراسة في اللغة واللهجات والأساليب، القاهرة، مكتب الخانجي، 1951، ص 14، وانظر أيضا: إسرائيل ولفنسون، ص 135، ود. جواد علي، ج 7، ص 280).
(5) ليتمان، ص 248.
(6).،. 4،. 902.(1/37)
الزمن، حيث تفنى الكتابة النبطية في الدور الأخير تماما لتظهر في كتابة أخرى هي الكتابة العربية (1). ويتمثل الدور الأول في النقوش النبطية القديمة التي كتبت في القرن الأول قبل الميلاد، وتمثل مرحلة الانتقال من الآرامية إلى النبطية، والثاني يتمثل في النقوش التي كتبت في القرنين الأول والثاني (ب. م)، وهي تحمل خصائص الكتابة النبطية كاملة، ثم بعد هذا الدور نجد الكتابة النبطية تتطور حروفها تطورا سريعا حتى تفقد المسحة النبطية، وتأخذ شكلا جديدا يتمثل في الكتابة العربية، واستدل الباحثون على ذلك التطور ببضعة نقوش كتابية عربية سنعرض لها بعد قليل.
ويلاحظ الباحثون أن الكتابات النبطية القديمة تختلف عن تلك التي كتبت في وقت متأخر، حيث أخذت الحروف بالاستدارة والاتصال بعضها ببعض في الكلمة الواحدة حتى فنيت أخيرا في النموذج الجديد وهو الكتابة العربية (2).
أما خصائص الكتابة النبطية فسنشير إليها في المبحث التالي عند كلامنا عن خصائص الكتابة العربية قبل الرسم العثماني، تفاديا للتكرار، لأنهما يشتركان في كثير من الخصائص، وربطا للظواهر والخصائص التي تمتاز بهما الكتابتان.
أما النقوش (3) التي عثر عليها حتى الآن مكتوبة بالخط العربي المتطور عن النبطي، وتعود إلى فترة ما قبل الإسلام، والتي كانت الدليل الأول بيد الباحثين على الطريق الذي اتخذته الكتابة العربية في تطورها، فهي خمسة نقوش (انظر صورها في الملحق آخر الكتاب) (4).
__________
(1) خليل يحيى نامي، ص 2625.
(2) د. جواد علي، ج 7، ص 289، والمفصل له: ج 3، ص 7، وانظر:، 54.
(3) الكتابات المحفورة بدقة على الألواح الحجرية أو الصخور يسميها العلماء بالنقوش () والكتابات التي لم تكتب بعناية يسمونها المخربشات (). انظر: خليل يحيى نامي: ص 5، ود. محمود حجازي، علم اللغة العربية، ص 217.
(4) اطلعت بعد إعداد هذه الرسالة على نقش عربي جاهلي عثر عليه في سوريا سنة 1965، يعرف بنقش (أسيس): ونصه: (إبراهيم بن مغيرة الأوسي) أرسلني الحارث الملك علي سليمان مسلحة سنة 423 (أي 529ميلادية).
(انظر: سهيلة الجبوري: أصل الخط العربي وتطوره حتى نهاية العصر الأموي، رسالة(1/38)
نقش أم الجمال الأول. وتاريخه نحو سنة 250 (ب. م) (1).
ونقش النمارة. وتاريخه سنة 328 (ب. م) (2).
ونقش زبد. وتاريخه سنة 512 (ب. م) (3).
ونقش حرّان. وتاريخه 568 (ب. م) (4).
ونقش أم الجمال الثاني. وتاريخه يعود إلى أواخر القرن السادس (ب. م) (5).
ولم تكن لغة هذه النقوش الخمسة عربية خالصة (6)، بل كانت متأثرة بالنبطية بدرجات متفاوتة (7).
فالنص الأول، وهو نقش أم الجمال الأول، نص مكتوب بلغة النبط، مع أن صاحبه عربي، وفي ذلك دلالة على أن العرب كانوا يستعملون لغة النبط وحروفهم في كتابتهم في ذلك العهد.
__________
ماجستير، جامعة بغداد، 1974).
(1) انظر عن تاريخ اكتشاف هذا النقش وحل رموزه وترجمته وصورته: إسرائيل ولفنسون، ص 139، وناصر النقشبندي: منشأ الخط العربي ص (131130)، ود. جواد علي، ج 1، ص 189، وج 7، ص 271، ود. زاكية محمد رشدي: النقوش السامية، ق 1، مقال في مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، مج 28، ص 90.
(2) انظر جويدي: أدبيات الجغرافيا، ص 90. وإسرائيل ولفنسون، ص 190. وبلاشير: ج 1، ص 71.
وناصر النقشبندي: ص 131. ود. جواد علي: ج 1، ص 189، وج 7، ص 273.
(3) انظر: إسرائيل ولفنسون، ص 191. وبلاشير: ج 1، ص 71. وناصر النقشبندي: ص 32. ود.
جواد علي: ج 1، ص 190، وج 7، ص 278. وزاكية محمد رشدي: النقوش السامية، ق 2، مقال في مجال كلية الآداب، جامعة القاهرة، مج 29، ص 36.
(4) انظر: بلاشير، ج 1، ص 72. وناصر النقشبندي: ص 132. ود. جواد علي: ج 1، ص 190، ج 7، ص 279. ود. زاكية محمد رشدي: مج 29، ص 37.
(5) انظر: ناصر النقشبندي: ص 132. ود. جواد علي: ج 1، ص 191. ود. رمضان عبد التواب، ص 42. ود. زاكية محمد رشدي: مج 29، ص 38.
(6) د. رمضان عبد التواب، ص 45.
(7) انظر: د. جواد علي: ج 7، ص 6967.(1/39)
أما النص الثاني، وهو نقش النمارة، فقد كان نبطيا عربيا، مع أن صاحبه ملك عربي، وهو شاهد قبره، غير أن الكاتب استعمل العربية مع النبطية فيه، ويدل على أن النبطية ما تزال متغلبة على القوم في ذلك العهد، وأنها كانت لغة الكتابة عندهم، غير أن استعمال الألفاظ والجمل العربية بين الألفاظ والجمل النبطية يشير إلى أنهم كانوا على أبواب نهضة لغوية، وأنهم قد شعروا بضرورة استعمال العربية في كتابتهم، فأدخلوا تلك الألفاظ والجمل العربية في هذا النص النبطي. وقد كان هذا الاستعمال المرحلة الأولى من مراحل استعمال العربية في الكتابة بدلا من لغة النبط.
وأما نص حران فهو من بين هذه النصوص النص الوحيد الذي استطاع أن يتهرب من لغة النبط، وأن يكتب بلغة عربية شمالية قريبة من اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، أو هي نفسها، وهو من هذه الناحية ذو أهمية كبيرة، لأنه النص الجاهلي الوحيد الذي وصل إلينا بهذه اللغة، وكان يمثل تطورا في لغة الكتابة عند العرب الشماليين، ولأنه أقرب النصوص من حيث رسم الحروف إلى الكتابات العربية الإسلامية التي تعود إلى القرن الأوّل للهجرة، فهو مهم من هذه الناحية أيضا، لأنه يربط بين أقدم الخطوط الإسلامية وبين الخط العربي الجاهلي.
وق قام الأستاذ خليل يحيى نامي بدراسة تحليلية لحروف الكتابة النبطية، عبر الكثير من النقوش التي ترجع إلى قرون مختلفة، متتبعا صور الحروف وتطورها، منذ أقدم الكتابات النبطية حتى أخذت شكلها الأخير في الكتابات العربية الجاهلية (1). بما لا يدع مجالا للشك في انحدار الكتابة العربية من النبطية التي تطورت عن الكتابة الآرامية قبل عدة قرون من ذلك.
وقد كانت هناك جملة عوامل ساعدت على ذلك التطور، منها أن النبط الذين استخدموا الكتابة الآرامية لم يكونوا آراميين (2). وربما تكون هنالك عوامل أخرى ساعدت على ذلك، مثل ضعف وقوة يد الكاتب الذي حفر تلك الكتابات على مواد صلبة، كذلك مراعاة السهولة والسرعة في الكتابة، وتأثر الكتاب بالأقلام الأجنبية،
__________
(1) انظر: خليل يحيى نامي، (ص 8426).
(2) .. 012.(1/40)
ومراعاتهم ملاءمة الخط للمواد التي يكتبون عليها (1).
وفي النقوش الخمسة، على جليل قدرها وعظيم نفعها للدارس، ثلاث نقائص (2)
الأولى: قلة عددها. والثانية: تباعد فتراتها بحيث لا تتيح تتبع التطور بوضوح. والثالثة:
أن هذه النقوش كلها قد اكتشفت في المنطقة الشمالية من بلاد العرب التي تمتد من العلا ومدائن صالح إلى شمال بلاد حوران، فهي أيضا من هذه الناحية لا تتيح تتبع التطور في قلب الجزيرة العربية في الحجاز ونجد، وفي العراق عند طرفه الغربي، حيث لم يعثر على أي نص كتابي مدون بالكتابة العربية الشمالية في هذه الأماكن.
ومع صعوبة الحكم على أصل الأبجديات حكما قاطعا، لأن أحدا لا يستطيع أن يدعي أن العلماء قد عثروا على كل ما دون من كتابات قديمة (3). فإن دراسة ترتيب الحروف العربية وأسمائها، وأشكال الحروف وصورها وتطورها، يتيح لنا أن نرى بوضوح معالم تطور الكتابة العربية وانحدارها من الكتابة النبطية التي ترتبط بالكتابات السامية الأخرى بأقوى الصلات، وسيتضح في المبحث التالي إلى أي مدى حملت الكتابة العربية خصائص السامية بصفة عامة، والكتابة النبطية بصفة خاصة.
رابعا: مكان وزمان نشوء وتطور الكتابة العربية:
ولا بد لنا في نهاية هذا المبحث أن نتناول بالدراسة قضية هامة في تاريخ الكتابة العربية هي مكان وزمان نشوء تلك الكتابة وتكاملها، والطريق الذي اتخذته إلى الحجاز وأواسط الجزيرة العربية. وإذا كان من المقبول الآن القول بتطور الكتابة العربية من النبطية فإن مكان وزمان ذلك التطور لا يزالان موضع خلاف بين الباحثين لسببين (4):
1 - قلة النقوش العربية الجاهلية.
2 - غموض تاريخ الخط العربي عند مؤرخي العرب القدماء، وتضاربهم في الروايات.
__________
(1) انظر: د. جواد علي، ج 7، ص 7و 193و 223.
(2) د. ناصر الدين الأسد، ص 31. وانظر: إسرائيل ولفنسون، ص 194.
(3) د. ناصر جواد علي: ج 7، ص 69.
(4) خليل يحيى نامي، ص 102. وانظر:،. 212(1/41)
إلا أن دراسة ما تدل عليه تلك النقوش القليلة والاستعانة بذلك في تمحيص الروايات العربية تعين في الوصول إلى نتائج مقبولة إلى حد ما في الوقت الحاضر بانتظار ما يكشف عنه المستقبل من نقوش جديدة في الجزيرة العربية وأطرافها.
تشير معظم الروايات العربية إلى انتقال الكتابة من الحيرة إلى مكة عن طريق دومة الجندل (1). فيروى أن عامرا الشعبي (10319هـ) قال (2): «سألنا المهاجرين من أين تعلمتم الكتاب؟ قالوا: من أهل الحيرة، وقالوا لأهل الحيرة: من أين تعلمتم الكتاب؟
قالوا: من أهل الأنبار». ويروى هذا الخبر أيضا عن يحيى بن جعدبة (3)، وعن زياد بن أنعم المعافري (ت نحو 100هـ) عن ابن عباس (4). ويروى أيضا أن الأصمعي قال (5):
«ذكروا أن قريشا سئلوا من أين لكم الكتابة؟ فقالوا: من أهل الحيرة، وقيل لأهل الحيرة: من أين لكم الكتابة؟ فقالوا: من أهل الأنبار». ولا يعنينا هنا ما تذهب إليه المصادر العربية بعد ذلك من أن أهل الأنبار أو الحيرة أخذوا الكتابة من اليمن أو من واضعيها مرامر وصاحبيه.
وتسند المصادر العربية نقل الكتابة من الحيرة إلى مكة وباقي الحجاز إلى أفراد بأعيانهم، يقول البلاذري (6): «كان بشر بن عبد الملك، أخو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن الكندي ثم السكوني، صاحب دومة الجندل يأتي الحيرة فيقيم بها الحين، وكان نصرانيا، فتعلم بشر الخط العربي من أهل الحيرة، ثم أتى مكة في بعض شأنه، فرآه سفيان بن أمية بن عبد شمس وأبو قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب يكتب، فسألاه أن يعلمهما الخط، فعلمهما الهجاء، ثم أراهما الخط فكتبا، ثم إن بشرا وسفيان وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة، فصحبهم غيلان بن سلمة الثقفي فتعلم الخط منهم،
__________
(1) دومة الجندل: حصن وقرى بين الشام والمدينة قرب جبلي طيء، على سبع مراحل من دمشق (ياقوت: معجم البلدان، ج 4، ص 106).
(2) ابن أبي داود، ص 4: المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار، دمشق، مكتب الدراسات الإسلامية، 1940، ص 9، والمحكم (له) ص 26.
(3) حمزة الأصفهاني، ص 19.
(4) الداني: المحكم، ص 26. والسيوطي: المزهر، ج 2، ص 349.
(5) ابن رستة: الأعلاق النفيسة، ج 7، ص 192. وابن خلكان: ج 3، ص 30.
(6) البلاذري، ص 476.(1/42)
وفارقهم بشر، ومضى إلى ديار مضر، فتعلم الخط منه عمرو بن زرارة بن عدس، فسمي عمرو الكاتب، ثم أتى بشر الشام فتعلم منه ناس هناك». وفي رواية أن بشرا خرج إلى مكة، وتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان، فعلم جماعة من أهل مكة الكتابة (1).
وفي رواية ابن الكلبي (هشام بن محمد بن السائب) (ت 204هـ) والهيثم بن عدي (ت 207) أن الناقل لهذه الكتابة من العراق إلى الحجاز كان حرب بن أمية، وكان قدم الحيرة قدمة فعاد بها إلى مكة (2).
وتختلف هذه الروايات في بعض المصادر قليلا عن هذا الذي أوردناه (3) لكنها تجمع على أن الخط لم يكن أصيلا في الحجاز، وإنما دخله من اليمن أو العراق أو من أرض مدين وأطراف الشام (4).
وسبق أن أشرنا إلى أن المصادر العربية تذهب إلى أن مكان اختراع الكتابة العربية هو الأنبار، إلا أن النقوش التي اكتشفت في شمال الجزيرة تشير إلى أن الكتابة تولدت ونمت في شمال الجزيرة في بلاد الأنباط، ثم اتجهت على ما يبدو تحت تأثير الظروف السياسية إلى الشرق (5)، ووجدت في الحواضر العربية في العراق المناخ الملائم لأن تتطور وتتأصل وتنتشر في الحيرة وغيرها من القرى العربية التي أشرنا إليها فيما سبق.
فانتشار الكتابة بين عرب العراق قبل الإسلام أمر مسلم به ولا شك فيه، واتصال مكة بأهل الحيرة وأهل الحيرة بمكة مسلم به كذلك، فلا يستبعد إذن أن يكون بعض أهل مكة والمدينة قد تعلموا الكتابة من أهل الحيرة، وأن هؤلاء علموها غيرهم من قريش وغير قريش (6). لكن مما يثير الانتباه أننا لا نملك نصا جاهليا واحدا مكتوبا يعود إلى
__________
(1) السيوطي: المزهر، ج 2، ص 476.
(2) حمزة الأصفهاني، ص 19. وابن خلكان، ج 3، ص 30.
(3) انظر: البطليوسي، ص 88. وابن خلكان، ج 3، ص 30.
(4) د. جواد علي، ج 1، ص 188. وانظر: أبو بكر بن العربي، ق 4، ص 1946.
(5)،. 8.
(6) د. جواد علي، ج 7، ص 65.(1/43)
أحد من عرب العراق إلى الآن (1). وربما يكون للعامل الجغرافي والمواد المستعملة في الكتابة أثر في ذلك (2).
وينكر الأستاذ خليل يحيى نامي أن يكون الخط النبطي قد تطور وانتقل إلى الكتابة العربية في الحيرة أو بلاد الغساسنة، على أساس أن الحيرة وبلاد الغساسنة كانت قبل الإسلام مثقفة بالثقافة السريانية، لأنها كانت تدين بالنصرانية، وكان الخط السرياني هو الخط الرسمي في تلك الأنحاء، وبالتالي ينكر أن يكون قلم الأنباط الوثنيين قد تطور في أرض تسودها ثقافة نصرانية، وهو لذلك ينكر أن يكون القلم العربي قد انتقل إلى الحجاز من الحيرة (3). لكن انتشار النصرانية في الحيرة وبلاد الغساسنة (4)، لم يكن يعني أنهم كانوا يستعملون القلم السرياني، بل إن الروايات تنص على أن بشر بن عبد الملك كان نصرانيا، وأن عدي بن زيد كان كذلك، وقد كان لهما دور في استخدام الكتابة العربية وانتشارها قبل الإسلام. وليس من قبيل المصادفة أن يكون نقشان من النقوش الجاهلية، وهما (نقش حران ونقش زبد)، قد كتبا بأيدي أناس نصارى على الأرجح (5). فليس غريبا أن يكون هناك قلم واحد للعرب سواء كانوا نصارى أم وثنيين، ويبقى بعد ذلك الاحتمال الأقوى، وهو أن الكتابة العربية قد لحقها تطور كبير في الحيرة أو الأنبار، وهو ما تنسبه المصادر العربية لمرامر وصاحبيه إن صح ما تقدم من تقديرنا لعملهم.
ولكن هل يعني ذلك أن الطريق الوحيد الذي اتخذته الكتابة العربية إلى الحجاز كان
__________
(1) ويشير الدكتور جواد علي (ج 1، ص 192) إلى أن السائح الإنجليزي (لوفنس) عثر على حجر مكتوب بالمسند في (وركاء) في العراق. وانظر: ج 7، ص 61.
(2) د. جواد علي: لهجة القرآن الكريم، مقال في مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد الثالث، 1955، ج 2، ص 284283.
(3) أصل الخط العربي (ص 103102)، وذهب إلى ذلك أيضا الدكتور صلاح الدين المنجد، انظر:
دراسات في تاريخ الخط العربي، ط 1، بيروت، دار الكتاب الجديدة، 1972، ص (1312).
(4) انظر في ديانة أهل الحيرة والغساسنة: ابن رستة، مج 7، ص 17، واليعقوبي (أحمد بن أبي يعقوب بن واضح): كتاب البلدان، ليدن (مطبوع في نهاية الأعلاق النفيسة لابن رستة، المجلد السابع)، 1891، ص 309، وابن دريد: الاشتقاق، ص 11، والسيوطي، المزهر، ج 1، ص 212.
(5)،. 21. 31.(1/44)
الحيرة ودومة الجندل؟ ليس هناك ما ينفي أن تكون الكتابة العربية قد دخلت الحجاز من الأنحاء الشمالية مباشرة، خاصة أن العديد من الكتابات النبطية جاءت من الإقليم الشمالي لبلاد الحجاز، من الحجر (مدائن صالح) والعلا وتيماء، هذا إضافة إلى الاتصال التجاري المستمر بين أهل الحجاز وبلاد الشام. فارتباط الحجاز بالطرف الجنوبي من بلاد الأنباط، وكون الكثير من النقوش النبطية من ذلك الإقليم، والاتصال المستمر بينها كلها عوامل مشجعة لتطور كتابة عربية في ذلك الإقليم (1).
ولا شك أن الدلائل الآن غير كافية لإعطاء حكم قاطع في كل ذلك، وتبقى الروايات العربية وما تدل النقوش القليلة من نتائج مقبولة إلى حد ما.
أما زمن نشوء الكتابة العربية وتاريخ استوائها وانتقالها إلى الحجاز فإن المصادر العربية تربط ذلك بأسماء عدة رجال، فواضعو الكتابة ثلاثة نفر من طيء من أهل الأنبار، وناقلها إلى مكة إما بشر بن عبد الملك تعلمها من أهل الحيرة (2)، أو من أهل الأنبار (3). وإما حرب بن أمية، أو سفيان وأبو قيس بن عبد مناف، تعلموها من بشر بن عبد الملك أو من أهل الحيرة أو من واضعيها (4). وهذه الرواية تعني أن انتقال الكتابة إلى الحجاز قد تم قبل الإسلام، فبشر بن عبد الملك هو أخو أكيدر بن عبد الملك الكندي صاحب دومة الجندل التي غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلّم في شهر ربيع الأول على رأس تسعة وأربعين شهرا من مهاجره، ففر أهلها، ولم يجد المسلمون فيها أحدا (5). وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد من تبوك إلى دومة الجندل فقدم بأكيدر على رسول الله، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله، فرجع إلى قريته (6). كذلك فإن سفيان وحربا وأبا قيس هم من مشهوري رجال مكة، حتى إن ابن
__________
(1) المصدر السابق، ص 8و 12.
(2) البلاذري، ص 476.
(3) ابن أبي داود، ص 4. والسيوطي: المزهر، ج 2، ص 346.
(4) انظر البلاذري: ص 276، والجهشياري، ص 1. وابن النديم، ص 5. والقلقشندي، ج 3، ص 14.
(5) الواقدي: ج 1، ص 402. وابن سعد، ج 2، ص 62.
(6) الواقدي: ج 2، ص 526. وابن سعد، ج 3، ص 1025.(1/45)
حبيب يذكر أن أبا قيس كان يكتب لقريش في ما يقع بينهم (1). وربما ذهبت المصادر العربية استنادا إلى هذه الأخبار إلى أن حدوث الكتابة العربية كان قريبا من نزول القرآن وقبل الإسلام بقليل (2). فهل يعني هذا أن مكة والحجاز كانت خلوا من الكتابة قبل ذلك التاريخ؟ أم أن فيها كتابة أخرى كأن تكون المسند؟ وهل كتب قصي حين كتب إلى أخيه رزاح في أطراف الشام (في حدود سنة 440ب. م) (3) بالقلم العربي أو بالنبطي أو بغير ذلك؟ لا يمكن القطع بشيء من ذلك الآن، لكن هناك إشارة في شعر قاله رجل كندي من أهل دومة الجندل من قبيلة بشر بن عبد الملك، يمنّ فيه على قريش دور بشر في تعليمهم إذ يقول في آخر بضعة أبيات (4):
وأغنيتموا عن مسند الحيّ حمير ... وما زبرت في الصّحف أقيال حميرا
فهو كأنه يشير إلى أن قريشا كانت قبل ذلك تستعمل المسند، وهي دعوى لا يملك البحث الآن دليلا على قبولها أو ردها.
وليس معنى ما تقدم أن الكتابة العربية كانت قد اخترعت قريبا من ظهور الإسلام، فإن هذه الروايات تشير إلى تاريخ انتقال الكتابة إلى مكة، وقد دلت النقوش العربية الجاهلية أن الكتابة العربية بدأت تتميز بخصائص معينة منذ مطلع القرن الرابع الميلادي، (تاريخ نقش النمارة 328م)، ونجد كتابة عربية متميزة الخصائص في نقش زبد (512م)، وعلى ذلك يرجح كثير من الباحثين أن الخط العربي نشأ ونما بين زمن نقش النمارة وزمن نقش زبد (5). وتاريخ نقش زبد يسلمنا إلى الفترة التي يحتمل أن يكون الرجال الطائيون الثلاثة، مرامر وصاحباه، قد عاشوا فيها أو قريبا من ذلك (6)، وتزعم المصادر العربية أنهم هم الذين وضعوا الكتابة العربية، ويبدو أنه قد كان لهم دور كبير
__________
(1) المنمق، ص 90.
(2) حمزة الأصفهاني، ص 19. والزمخشري: الكشاف، ط 2، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، 1953، ج 2، ص 217. وابن خلكان، ج 3، ص 30.
(3)،. 01.
(4) السيوطي: المزهر، ج 2، ص 347.
(5) طه باقر، ص 59. وانظر إسرائيل ولفنسون، ص 201.
(6)،. 8.(1/46)
في تطور الكتابة العربية والتوسع في استعمالها في العراق، حتى ذهبت الرواية إلى أنهم هم الذين وضعوا الكتابة. ويقدم لنا نقش حران (568م) كتابة عربية كاملة الخصائص.
وعلى هذا فإن الكتابة العربية كانت مستعملة منذ زمن نقش النمارة (328م)، وأنها خلال عدة قرون قبل انتقالها إلى مكة والحجاز قبيل الإسلام إن صحت رواية المصادر العربية قد تكاملت خصائصها، واستقرت قواعدها، خاصة في الحيرة وحواضر العراق العربية، حيث صادفت استخداما واسعا، وأنها حين انتقلت إلى الحجاز كانت متميزة الخصائص ثابتة القواعد ولا يعني هذا أنها كانت موفية بمتطلبات اللغة كما سيتضح في المبحث التالي فاستخدمها الصحابة رضوان الله عليهم بمعرفة تامة في تدوين متطلبات الدولة الجديدة، خلافا لما يقوله ابن قتيبة من أن الصحابة كانوا أميين «لا يكتب منهم إلا الواحد والاثنان، وإذا كتب لم يتقن، ولم يصب التهجي». أما قلة الكتبة التي يذكرها ابن قتيبة فربما كانت واردة، ولكن ليس إلى حد الواحد والاثنين كما مر معنا من قبل وأما الخطأ في الهجاء فمردود بما سيتضح لنا من حذق الصحابة في تدوين الظواهر اللغوية التي سجلوها حين كتبوا القرآن الكريم.
ويجب ألّا يغيب عن انتباهنا فيما سيأتي من حديث عن خصائص الرسم العثماني هذا الانتقال للكتابة العربية من بيئة لغوية إلى أخرى أي من العراق إلى الحجاز، وربما يفسر لنا هذا الانتقال جانبا كبيرا من الحفريات الكتابية التي نجدها في الرسم العثماني.(1/47)
ويجب ألّا يغيب عن انتباهنا فيما سيأتي من حديث عن خصائص الرسم العثماني هذا الانتقال للكتابة العربية من بيئة لغوية إلى أخرى أي من العراق إلى الحجاز، وربما يفسر لنا هذا الانتقال جانبا كبيرا من الحفريات الكتابية التي نجدها في الرسم العثماني.
المبحث الثاني خصائص الكتابة العربيّة قبل الرّسم العثماني على ضوء الكتابات السّاميّة
يتضمن هذا المبحث الإشارة إلى خصائص الكتابة العربية في العصرين الجاهلي والإسلامي حتى عصر انتساخ المصاحف في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه مستمدا ذلك مما وصل إلينا من كتابات منقوشة أو مخطوطة، ليتبين إلى أي مدى حمل الرسم العثماني خصائص الكتابة العربية آنذاك.
أولا: الوثائق المتاحة للبحث:
ليس في أيدي الباحثين من الوثائق المكتوبة التي تعود إلى تلك الفترة سوى عدد محدود، سواء في ذلك العصر الجاهلي أم عصر صدر الإسلام، ولا شك أن هذا العدد المحدود لا يمثل واقع الكتابة العربية في ذلك الوقت، فقد رأينا فيما سبق كثرة الروايات التي تشير إلى استخدام الكتابة في العصر الجاهلي، أما بعد ظهور الإسلام فقد توافرت الدواعي لأن تنتشر الكتابة انتشارا واسعا، والروايات تؤكد ممارسة الكتابة على نطاق واسع في حياة النبي صلى الله عليه وسلّم فقد كتب القرآن منذ العهد المكي كما سيأتي بيان ذلك وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلّم رخص في كتابة الحديث لبعض الصحابة (1).
وكثرة الكتب التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلّم إلى ملوك وأمراء العرب، يدعوهم إلى الإسلام، تثير الانتباه، وتشير إلى شيوع الكتابة في أرجاء الجزيرة، فقد ذكر ابن سعد ما يقرب من مائة وعشرة كتب (2). وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يكتب لوفود العرب كتبا أيضا،
__________
(1) انظر: الخطيب البغدادي (أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت): تقييد العلم، دمشق، المعهد الفرنسي للدراسات العربية، 1949، (ص 7965).
(2) ابن سعد، ج 1، (ص 290258)، وانظر: أبو عبيد (القاسم بن سلام): كتاب الأموال، ط 1، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، 1968، ص 50وما بعدها. حيث يذكر الكثير من كتب النبي(1/48)
وقد ذكر ابن سعد أكثر من سبعين وفدا (1). وذكر الدكتور محمد حميد الله (246) كتابا ورسالة ترجع إلى العهد النبوي (2).
وكل هذا وهو جزء مما روي في أمر الكتابة آنذاك وجزء يسير مما كانت عليه يشير إلى أن الكتابة أصبحت أمرا شائعا، ومن مظاهر ذلك الشيوع كثرة من ذكر أنهم كتبوا للنبي صلى الله عليه وسلّم فإذا روي أن الإسلام جاء وما في المدينة إلا بضعة عشر يكتبون (3). فإنه لم تمض إلا فترة يسيرة حتى كان للنبي صلى الله عليه وسلّم كتّاب متخصصون، ومنقطعون للكتابة له، بلغوا أكثر من أربعين كاتبا (4)، لا بل إنا نجد بعضهم قد تعلم الكتابة السريانية أو العبرانية (5)، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم قد اتخذ خاتما من فضة منقوشا
__________
عليه الصلاة والسلام. وابن قيم الجوزية (محمد بن بكر): زاد المعاد في هدي خير العباد، ط 1، القاهرة، المكتبة الحسينية، 1928، ج 1، (ص 3130).
(1) ابن سعد، ج 1، (ص 359391).
(2) انظر: مجموعة الوثائق السياسية (ص 2001).
(3) يذكر البلوي (في كتابه ألف با، ج 1، ص 77) أن أهل المدينة لم يكونوا يحسنون الكتابة وأن النبي أمر أسرى بدر ممن لا مال له «أن يعلم عشرة من غلمان أهل المدينة الكتابة، ويخلي سبيله» وانظر أبو عبيد: كتاب الأموال، ص 170. والبنا الساعاتي، ج 14، ص 101. ود.
المنجد، ص 24. لكن ذلك لا يدل على أن أهل المدينة لم يكونوا يحسنون الكتابة، وأن كل أسرى قريش كانوا يعرفونها، وهي تشير إلى تعليم الصبيان لا الكبار، وهي حاجة متجددة على مر العصور.
(4) انظر في كتّاب النبي: البلاذري (ص 479478)، وابن عبد البر (أبو عمر يوسف بن عبد الله):
الاستيعاب في معرفة الأصحاب، القاهرة، مكتبة نهضة مصر ومطبعتها، 1960 (ج 1، ص 6968)، وابن عبد ربه: ج 4، ص 161. وابن حزم (علي بن أحمد): جوامع السيرة، دار المعارف بمصر، ص 26، وابن قيم الجوزية، ج 1، (ص 3029)، والزبيدي (محمد مرتضى):
حكمة الإشراق إلى كتاب الآفاق، ط 1، سلسلة نوادر التراث (المجموعة الخامسة)، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1954، ص 94، ونصر الهوريني (أبو الوفاء): المطالع النصرية، ط 2، بولاق، المطبعة الأميرية، 1302هـ، ص 13. وقد ذكر ابن سعد أسماء كثير منهم عند ذكره لنصوص الكتب خاصة في الجزء الأول من الطبقات الكبرى. كذلك وردت أسماء كثير منهم في مجموعة الدكتور محمد حميد الله.
(5) ابن سعد، ج 3، ص 358. وابن قتيبة: المعارف، ص 124. وابن أبي داود، ص 3.(1/49)
عليه (محمد رسول الله) كان يختم به الكتب (1).
ولا شك أن استخدام الكتابة في عهد الخلافة الراشدة اتسع اتساعا منتظما يتناسب وتوسع الدولة الإسلامية الجديدة وازدياد حاجتها إلى استعمال الكتابة.
ويبدو بعد ذلك أن التعليل لندرة ما وصل إلينا من كتابات تلك الفترة بقلة من يحسن الكتابة (2) أمر يحتاج إلى المراجعة والتثبت، وعلينا أن نبحث عن أسباب أخرى لذلك لعل آخرها القول بأن العرب لم يكونوا يهتمون بحفظ الوثائق والسجلات (3). إذ يروى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت عنده نسخ العهود والمواثيق ملء صندوق، ولكنها احترقت حين احترق الديوان سنة 82للهجرة (4).
والظاهر أن الاعتناء بتلك الوثائق قديم جدا، فكثيرا ما ذكر الرواة والمؤلفون أنهم نقلوا كتاب كذا من الأصل المحفوظ عند عائلة من كتب إليه (5)، ويذكر ابن النديم أنه رأى عند رجل يقال له محمد بن الحسين من أهل مدينة الحديثة، كان جمّاعة للكتب قمطرا كبيرا فيه نحو ثلاثمائة رطل جلود وصكاك وقرطاس ورق وورق، فيها خطوط قديمة في موضوعات شتى، كان من جملتها خطوط لبعض كتّاب النبي صلى الله عليه وسلّم والصحابة (6).
ويبدو أن عامل التلف الذي أصاب تلك الوثائق هو الأهم في تعليل تلك الندرة خاصة إذا تذكرنا المواد التي كانت تستخدم في الكتابة من الجلود وجريد النخل واللخاف والعظام والقراطيس والرق. وهناك عامل آخر ساعد على اندثار كثير مما كتب على الصخور إضافة إلى عامل المناخ وهو إعادة استخدام قطع الآثار القديمة في بناء جديد منقوشة كانت أو غير منقوشة، بطريقة غير منظمة (7).
__________
(1) ابن سعد، ج 1، ص 258. والصولي، ص 139.
(2) ناصر النقشبندي: منشأ الخط العربي، ص 135.
(3)،. 31.
(4) محمد حميد الله ص (ي) من المقدمة.
(5) نفس الصدر ص (يا).
(6) الفهرست (ص 4140).
(7)،. 31.(1/50)
ولا يعني ذلك أن أمل الباحثين قد انقطع في اكتشاف كتابات عربية جديدة تعود إلى الجاهلية أو صدر الإسلام، فلقد تحدث كثير من الباحثين عن نقوش عربية شاهدوها في جبال الحجاز (1)، وأطراف الجزيرة العربية (2)، تنتظر من يقوم بدراستها ونشرها (3).
وسوف يكون اعتمادنا في استخلاص خصائص الكتابة النبطية على مجموعة النقوش التي قامت عليها دراسة الأستاذ خليل يحيى نامي لتطور الكتابة النبطية إلى العربية، فإنها أهم مجموعة متيسرة في ذلك، وقد درس ثلاثة وعشرين نقشا نبطيا، آخرها نقش النمارة، يمتد تاريخها من نهاية القرن الأول قبل الميلاد حتى سنة (328م)، وهو تاريخ نقش النمارة.
وقد مر في المبحث السابق ذكر النقوش العربية الخمسة التي تعود إلى عهد ما قبل الإسلام، وأوضح تلك النقوش عربية هو نقش حران، (تاريخه 568م). أما نقش أم الجمال الأول (تاريخه نحو 250م) فإنه كتب بالنبطية، رغم أن صاحبه كان عربيا، وهو يشير إلى أن العرب قد أخذوا يستخدمون الكتابة النبطية، بينما نجد نقش النمارة يحمل خصائص الكتابتين العربية والنبطية. ونقش زبد (تاريخه 512م) أقرب إلى العربية، رغم احتفاظه ببعض بقايا من خصائص الكتابة النبطية. وآخر هذه النقوش هو نقش أم الجمال الثاني، ورغم أنه يعد أحدث تلك النقوش تاريخا إذ يعود تاريخه إلى أواخر القرن السادس الميلادي فإن قراءته لا تزال موضع خلاف، إضافة إلى أنه ناقص من أحد أطرافه (4).
أما الكتابات العربية التي يعود تاريخها إلى القرن الأول الهجري فقد ذكر الباحثون أن
__________
(1).:،
. 31،. 4. 9391،. 724.
وأيضا: محمد طاهر الكردي: تاريخ الخط، ص 206، وتاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه، ط 1، جدة، 1946، ص 130، ود. زاكية محمد رشدي، ق 2، مج 29، ص 31.
(2) انظر: حمد الجاسر، ص 61.
(3) د. جواد علي، السيرة النبوية، ص 16.
(4) انظر في قراءته وتاريخ اكتشافه: ناصر النقشبندي: منشأ الخط العربي، ص 133. ود. زاكية محمد رشدي، مج 29، ص 39. ود. رمضان عبد التواب، ص 43.(1/51)
هناك قريبا من عشرين نصا كتابيا بين منقوش ومخطوط (1)، لكن المتيسر منها للدراسة عدد محدود (2). وأكثرها يرجع إلى النصف الثاني منه، ونحن لن نتجاوز عهد خلافة عثمان رضي الله عنه في دراستنا لخصائص الكتابة العربية هنا. ولعل أهم نص كتابي متيسر من تلك الفترة هو نقش القاهرة المؤرخ في سنة 31هجرية، وهو شاهد قبر لرجل يدعى عبد الرحمن بن خير، عثر عليه حسن محمد الهواري سنة 1929م في مجموعة من شواهد القبور جلبت من أقدم المقابر الإسلامية في القاهرة وأسوان، وحفظت في دار الآثار العربية بمصر، ومقاسه (7138سم) (3).
ونقش القاهرة هو النقش الوحيد من هذه الفترة الذي لا يتطرق شك إلى تاريخه، ووضوح قراءته، وقد عثر الدكتور محمد حميد الله على عدة نقوش على قمة الطرف الجنوبي لجبل سلع قرب المدينة المنورة، وقدم دراسة عن تلك النقوش في المقالة المشار إليها قبل قليل، وهي سبعة نقوش، بعضها يقدم جملا تامة وبعضها لا يعدو كونه أسماء تذكر متتالية على صيغة (أنا فلان بن فلان)، ويتردد اسم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في أكثر من نقش منها، انظر مثلا هذا النص (4):
1 - أمسى وأصبح عمر.
2 - وأبو بكر يتودعان (يتوبان؟ يتضرعان).
3 - إلى الله من كل.
__________
(1) انظر: حسن محمد الهواري: أقدم اثر إسلامي، مقال في مجلة الهلال، الجزء العاشر، 1930، ص (11831181)، ود. زاكية محمد رشدي، مج 29، (ص 5640)، و.،. 51
(2) د. إبراهيم جمعة: دراسة في تطور الكتابات الكوفية، القاهرة، دار الفكر العربي، 1969، ص 137.
(3) انظر حسن محمد الهواري: ص 1179، وإسرائيل ولفنسون، ص 202، ود. جواد علي، ج 7، ص 345. وصورته منشورة في مجلة الهلال، ج 10، ص 1179، وإسرائيل ولفنسون، ص 203، وخليل يحيى نامي، لوحة 7، وناصر الدين الأسد، ص 30و،. ..
(4) صور هذه النقوش منشورة في مقال الدكتور محمد حميد الله المشار إليه، وانظر أيضا: ناصر النقشبندي: منشأ الخط العربي (ص 138137)، وسهيلة الجبوري: الخط العربي وتطوره في العصور العباسية في العراق، بغداد، المكتبة الأهلية، 1962، ص 32.(1/52)
4 - ما يكره.
ويرجح الدكتور محمد حميد الله أن أكثر هذه النقوش يعود إلى السنة الخامسة من الهجرة، وبالتحديد غزوة الخندق.
ومما يشار إليه هنا أن السيد عبد العزيز الدالي قدم بحثا لنيل الدكتوراة من كلية الآداب في جامعة القاهرة عن (البرديات العربية في مصر: دراسة لغوية) وكان اعتماده على المجموعة التي نشرها جروهمان والمحفوظة في دار الكتب المصرية، ويمتد تاريخ البرديات التي تناولها بالدراسة من القرن الأول حتى منتصف القرن الرابع الهجري، ومعظم برديات القرن الأول تعود إلى السنوات العشر الأخيرة منه، وهي من هذه الناحية ليست ذات فائدة هنا إلا ما يمكن ملاحظته من احتفاظ بعض الكلمات في برديات القرن الأول بظواهر كتابية جاءت في الرسم العثماني، وزالت من الاستخدام، مثل كتابة كلمة (شيء) بألف بين الشين والياء هكذا (شاي)، وإثبات الألف بعد واو الفعل مما عده الباحث خطأ من الكاتب، وسيأتي هذا في مكانه لا حقا (1).
وهناك بردية يعود تاريخها إلى سنة 22من الهجرة على الأرجح كتبت بالعربية واليونانية، وهي وصل باستلام أغنام، وإذا كان هذا التاريخ صحيحا ذلك أن بعد كلمة اثنتين وعشرين في البردية كلمة أمو كلمتين قد طمستا فإن هذه البردية تعد وثيقة خطيرة في تاريخ تطور الخط والكتابة العربية، ومما يؤسف له أني لم أجد عنها دراسة وافية، ولا صورة لها واضحة (2).
وتجب الإشارة هنا إلى الكتب التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلّم إلى الملوك بعد عودته من الحديبية، فقد أرسل إلى كل من قيصر الروم (هرقل) وكسرى ملك الفرس،
__________
(1) عبد العزيز الدالي: البرديات العربية في مصر: دراسة لغوية، بدون تاريخ، منه نسخة في مكتبة جامعة القاهرة (برقم 511).
(2) نشرت صورتها في كتاب السيدة. (لوحة 4) وأشارت إلى أنها برقم 558في مجموعة الأرشيدوق رينر، ونشرها أيضا ناصر النقشبندي في آخر مقالته عن منشأ الخط العربي، وقدم الدالي قراءة لها (ص 46) تختلف عما أورده النقشبندي، وكتبها بقواعد الإملاء الحديث. وقد قرأ السطر الأخير هكذا (سنة اثنتين وعشرين كتبه ابن حديدة) ولا أدري إن كانت لديه صورة واضحة مكنته من تلك القراءة أم لا، انظر تفصيلا أكثر عن هذا الموضوع في الفصل الخامس.(1/53)
والنجاشي ملك الحبشة، والمقوقس ملك الاسكندرية، والمنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين، وغيرهم كتبا يدعوهم فيها إلى الإسلام (1).
وبأيدي الدارسين الآن ما يظن أنه أصول لأربعة من تلك الكتب، كتاب النبي إلى المقوقس وقد نشر لأول مرة سنة 1854م، ويقال إنه محفوظ في أحد متاحف استانبول (2). والثاني الكتاب المرسل إلى المنذر بن ساوى، وكان قد نشر لأول مرة سنة 1863م ويقال إنه محفوظ في أحد متاحف فينا (3). والثالث الكتاب المرسل إلى نجاشي الحبشة، ونشر في سنة 1940 (4). وأخيرا الكتاب المرسل إلى هرقل عظيم الروم، حيث نشر حديثا (5).
وكان الدكتور محمد حميد الله قد قام بدراسة رسالتي المقوقس والمنذر في مقاله المشار إليه سابقا، وقد تحدث مفصّلا اعتراضات بعض المستشرقين على صحة هذه الرسائل وأصالتها وفنّدها جميعا، وانتهى إلى أن هذه الاعتراضات لا تثبت أمام البحث العلمي الدقيق، ومع ذلك فهو في بحثه يتوقف توقف العالم المتثبت، فلا يقطع بصحة هذه الأصول بل يكتفي برد تلك الشبهات التي حامت حول صحتها ثم يدعها تنتظر نفيا أو إثباتا جديدين (6). وإذا كان ذانك الكتابان قد حظيا بهذه الدراسة فإن الكتابين الآخرين أقل حظا في ذلك، ولا تزال هذه الرسائل في انتظار دراسة شاملة مشفوعة بخبرة ومعرفة واسعة بنوعية الخطوط في تلك الفترة، إضافة إلى إخضاع الأصول الحقيقية لا الصور إلى الاختبار المعملي، وهي إمكانيات يعجز هذا البحث عن تحقيق شيء
__________
(1) ابن هشام، ق 2، ص 607.
(2) انظر صورة الكتاب وتاريخ العثور عليه وما قامت حوله من دراسات في: مجلة الهلال، ج 2، ص 103، وج 3 (ص 6160)، وحسن الهواري، ص 1185، ود. محمد حميد الله، ص 50، وناصر النقشبندي، منشأ الخط العربي، ص 135، و .. ،. 034.
(3) انظر د. محمد حميد الله: الوثائق، ص 56، ومقالته بالإنجليزية، ص 432، وناصر النقشبندي:
منشأ الخط العربي، ص 136.
(4) انظر: ناصر النقشبندي، ص 136، ومحمد حميد الله، ص 26.
(5) انظر: جريدة الأهرام عدد 2/ 12/ 1974و 9/ 4/ 1975، ود. محمد حميد الله، ص 29.
(6) د. ناصر الدين الأسد، ص 33، وانظر:.،. 434.(1/54)
منها (1).
ويقول الدكتور الطاهر أحمد مكي (2) أنه «مهما يكن الرأي في أصالتها، فجانب الرسم منها يصور، دون ريب، طريقة كتابة الرسائل في القرن الأول الهجري». لكن إقرار هذه النتيجة يحتاج إلى الدراسة التي أشرنا إليها قبل قليل، وليس من اليسير إعطاء حكم قبل وجود مثل تلك الدراسة، لكننا يمكن أن نشير هنا إشارة عامة إلى جانب من خصائص كتابة تلك الرسائل، وهو طريقة كتابة الفتحة الطويلة (الألف) وسط الكلمات فيها، فبينما نجد الألف مثبتة بطريقة واضحة في كلمة (الكتاب) في رسالة المقوقس وفي كلمتي (ساوى، وأقام) في رسالة المنذر نجد أنها مثبتة بطريقة غريبة في كلمة (سلام) في كلتا الرسالتين، إذ إنها تبدو وكأنها كتبت (سلم) دون ألف، ثم أضيفت الألف بين اللام والميم مع بقاء ارتباط الحرفين. أما رسالة (هرقل) التي نشرت صورتها حديثا فإنها تتضمن ملامح أكثر تقدما في رسم الألف، إذ إن الألف مثبتة بصورة اعتيادية في كل الكلمات التي وردت فيها الألف متوسطة (سلام، الإسلام، يا أهل، تعالوا، أربابا).
وهي ظاهرة تثير الانتباه، كذلك الحال بالنسبة لرسالة النجاشي، فلكل الكلمات التي فيها ألف متوسطة جاءت مثبتة فيها (سلام، الإسلام، ألقاها، الموالاة، طاعته)، ونلاحظ في هذه الرسالة أيضا حذف همزة الوصل من كلمة (ابن) في (عيسى بن مريم). وتجب الإشارة إلى أن بعض الكلمات في هذه الرسائل مطموسة أو مشوهة بحيث لا تمكن قراءتها.
ثانيا: خصائص الكتابة العربية قبل الرسم العثماني:
لا يهمنا هنا الحديث عن نوع الخط الذي رقمت به النقوش والكتابات السابقة للرسم العثماني، وهل كان يغلب عليه التقوير والليونة أو اليبوسة والجفاف، أي هل كان يغلب عليه ما يسمى بالكوفي أو النسخي، أو هو مزيج منهما (3) مع أهمية ذلك
__________
(1) أورد د. المنجد صورة رسالة النبي إلى كسرى (عن الأصل المحفوظ في خزانة هنري فرعون بيروت)، انظر ص 33.
(2) دراسة في مصادر الأدب، ص 53.
(3) انظر في ذلك: القلقشندي، ج 3، ص 5، وحسن الهواري، ص 1188، وبلاشير، ج 1، ص 72، ود. الطاهر أحمد مكي (ص 5957)، و.،. 312212و.،. 61(1/55)
في مجال الدراسة الفنية للخط العربي وتاريخ تطوره، التي هي ليست موضوع البحث الآن بقدر ما يهمنا الحديث عن علاقة الرموز الكتابية بما تمثله من أصوات اللغة، ومدى وفائها في ذلك، وطريقة تتابع تلك الرموز داخل الكلمات وارتباطها فيها.
ويقسم العلماء الأصوات اللغوية عامة إلى قسمين رئيسيين (1)، يسمى الأول منهما بالأصوات الصامتة () والثاني بالحركات () (2)، ويقوم هذا التقسيم على عدة أسس، أهمها الأساس الفسيولوجي (العضوي)، فالصوت الذي يحدث في تكوينه أن يندفع الهواء في مجرى مستمر خلال الحلق والفم، دون أن يكون ثمة عائق يعترض مجرى الهواء اعتراضا تاما، أو تضييق لمجرى الهواء من شأنه أن يحدث احتكاكا مسموعا مع اهتزاز الأوتار الصوتية، يسمى حركة، وهي صوت مجهور دائما.
وأي صوت لا يصدق عليه هذا التعريف يعد صوتا صامتا، ويكون إما مجهورا أو مهموسا (3). وإلى جانب هذا يقوم ذلك التقسيم على أساس الوضوح السمعي، إذ إن أهم خاصة من خواص الحركات هي قوة وضوحها في السمع (4). ويقوم على أساس
__________
(1) إن استخدام مصطلحين محددي الدلالة لما يقابل المصطلح العربي () والمصطلح () بالمفهوم الحديث لهما عند علماء الأصوات من بين الصعوبات البارزة التي تواجه الباحث العربي في هذا المجال، ولسنا بصدد تتبع ما استعمله القدماء من تعبيرات ولا ما استخدم علماء العربية المحدثون مقابلا لهما في بحوثهم (انظر في ذلك: الدكتور محمود السعران: علم اللغة مقدمة للقارئ العربي، دار المعارف بمصر 1962 (ص 3226). والدكتور عبد الصبور شاهين: مقدمة كتاب (العربية الفصحى)، بيروت، المطبعة الكاثوليكية 1966، ص (2017)، والدكتور كمال محمد بشر: علم اللغة العام، الأصوات، القاهرة، دار المعارف 1971، ص 91، ودراسات في علم اللغة، له، القاهرة، 1969، ق 1، (5655)، ولكن أشير هنا إلى أني سأستعمل مصطلح الصوامت (والمفرد صامت) للإشارة إلى الأول ومصطلح الحركات: طويلة أم قصيرة (والمفرد حركة) للإشارة إلى الثاني، أولا: لشيوع استخدامها حديثا، وثانيا: لأن مدلولهما سيكون محددا بعيدا عما يمكن أن يوحي به المصطلح الثاني خاصة عند سلفنا من علماء العربية.
(2) انظر: د. إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية، ط 4، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1971، ص 26، ود. محمود السعران، ص 16، ود. كمال محمد بشر، الأصوات، ص 91.
(3) د. محمود السعران، ص 16.
(4) د. كمال محمد بشر، الأصوات، ص 92.(1/56)
الوظيفة أيضا (1). وهو ما يبدو جليا في وظائف الأصوات الصامتة والحركات في اللغات السامية التي يرتبط المعنى الرئيسي للكلمة فيها بالأصوات الصامتة، أما الحركات فهي لا تعبر في الكلمة إلا عن تحوير هذا المعنى وتعديله (2). ولا يعنينا هنا استقصاء المباحث الصوتية واللغوية إلا بالقدر الذي يوضح لنا خصائص الكتابة ومدى وفائها في تمثيل أصوات اللغة.
وقد كان نظام الكتابة الفينيقية يتكون من اثنين وعشرين رمزا، تكتب منفصلة وكانت هذه الرموز تشير إلى الأصوات الصامتة حسب، دون الإشارة إلى أي صوت حركي قصير أو طويل (3). واستخدمت الكتابة الفينيقية لتمثيل اللغة الآرامية، وبمرور الزمن ظهرت الحاجة إلى تمثيل الحركات، وتمكن نساخ الآرامية في القرن التاسع (4)، أو الثامن (5)، قبل الميلاد من استخدام رمزي الواو والياء الصامتين (أو أنصاف الحركات) لتمثيل الضمة الطويلة والكسرة الطويلة على التوالي، وتطورت الكتابة الآرامية خلال عدة قرون دون أن تخطو خطوة في سبيل تمثيل الحركات الأخرى.
وعند ما استخدم النبط الكتابة الآرامية ورثوا ذلك النظام الصامتي مع الإشارة إلى الحركتين الطويلتين: الضمة والكسرة بواسطة رمزي الواو والياء الصامتين، والنقوش النبطية من أقدمها المؤرخ قبل الميلاد إلى أحدثها وهو نقش النمارة تشير إلى هذه الظاهرة. ففي نقش مؤرخ في سنة (9ق. م) وردت الكلمات الآتية (6): أبوهى (أبوها)، بيرح (بمعنى شهر)، ألول (أيلول)، مقيمو (مقيم). وفي نقش مؤرخ بسنة 76م وردت (7): يتقبرون سيرون (سيروان: اسم شهر)، وكلمة (أربعين) في نقش مؤرخ بسنة
__________
(1) انظر: د. تمام حسان: مناهج البحث في اللغة، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1955، ص 113، ود. كمال محمد بشر، الأصوات، ص 92.
(2) انظر: د. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث، دار القلم 1966، ص 43، ود. رمضان عبد التواب، ص 13، ود. جواد علي، ج 7، ص 29.
(3) انظر:،. 42،. 9،،. 81.
(4)،. 9.
(5)،. 42.
(6) خليل يحيى نامي، نقش رقم 4، ص 36.
(7) نفس المصدر، نقش رقم 9، ص 41.(1/57)
150 - م (1). ووردت كلمة (يعلى) في نقش مؤرخ بسنة 210م (2). و (منوتو، بيرح، تموز) في نقش مؤرخ بسنة 267م (3)، و (جذيمت، تنوخ) في نقش مؤرخ بسنة 270م (4). وهو نقش أم الجمال الأول. ونجد في نقش النمارة (328م) الكلمات التالية (ملوكهم، مدينة، بنيه، الشعوب، روم)، وهذه الكلمات كلها تشير إلى استخدام رمزي الواو والياء الصامتتين للدلالة على الضمة والكسرة الطويلتين إن صحت قراءة تلك الكلمات على الوجه المتمثل به، كذلك نجد الشيء نفسه في النقوش العربية، ففي نقش حران (568م) نجد (شرحيل) (شراحيل) و (المرطول)، وفي نقش القاهرة 31هـ (الرحيم، آمين، ثلثين) وهذا الأمر في الكتابة العربية لا يحتاج إلى مزيد أمثلة.
وهكذا ورثت الكتابة العربية ما ورثته الكتابة النبطية عن الآرامية من الإشارة إلى الضمة والكسرة الطويلتين برمزي الواو والياء الصامتتين (5).
أما رمز الفتحة الطويلة فإن الكتابة الآرامية لم توفق في الإشارة إليه، كما أشارت إلى الضمة والكسرة الطويلتين، لكن الكتابة النبطية يبدو أنها استطاعت أن تستخدم رمز الألف أول أحرف الأبجدية (الهمزة، الصوت الصامت) للدلالة على الفتحة الطويلة في آخر الكلمات دون وسطها (6). لكن بعض الباحثين ينسب هذا التطور الأخير إلى الكتابة العربية (7)، فمن الكلمات النبطية التي لم يشر فيها إلى الألف: بنه (بناه)، حرثت (حارثة)، ملكو (مالك)، سلم (سلام). وفي نقش النمارة: التج (التاج)، نزرو (نزار)، نجرن (نجران)، فرسو (فارس). وفي نقش حران شرحيل (شراحيل)، ظلموا (ظالم)، يعم (بعام). وفي نقش القاهرة: الرحمن (الرحمن)، هذا (هاذا)، اللهم (اللاهم)، الكتب (الكتاب)، جمدى (جمادى)، ثلثين (ثلاثين)، ونجد رمز الفتحة الطويلة ثابتا في
__________
(1) نفس المصدر، نقش رقم 14، ص 45.
(2) نفس المصدر، نقش رقم 16، ص 66.
(3) نفس المصدر، نقش 19، ص 67.
(4) نفس المصدر، نقش 20، ص 69.
(5) انظر: جان كانتينو، ص 150، و.،. 5141
(6) د. جواد علي، ج 7، ص 291. وانظر: برجشتراسر: التطور النحوي للغة العربية، القاهرة، مطبعة السماح، 1929، ص 27.
(7) خليل يحيى نامي، ص 88. وانظر:.،. 62و،،. 51(1/58)
آخر الكلمات في نقش حران الجاهلي: (أنا، ذا). وفي نقش القاهرة: (هذا، إننا، إذا).
وبذلك استطاعت الكتابة العربية قبل الرسم العثماني أن تتبنى نظاما منطقيا لتمثيل الحركات الطويلة الثلاث، باستخدام رموز الصوامت الثلاثة الألف (الهمزة) والواو والياء، لكن بينما استقر نظام الإشارة إلى الضمة والكسرة الطويلتين نجد أن الإشارة إلى الفتحة الطويلة كانت لا تزال غير كاملة، ففي نقش حران والقاهرة استعمل رمز الفتحة الطويلة في أخر الكلمات دون وسطها، لكنا نجد في البردية المشار إليها سابقا استعمال الفتحة الطويلة وسط الكلمة، في كلمة (شاة)، وفي أحد نقوش جبل سلع نجد في اسم (عمارة) الألف مثبتة، وفي نقش آخر كلمة (يتودعان أو يتوبان) الألف مثبتة، وهي تشير إلى رمز الفتحة الطويلة، مع وجود كلمات في هذه الآثار تشتمل على صوت الفتحة الطويلة لكن دون أن يمثل في وسطها خاصة. وهذه الملاحظة الأخيرة تشير بوضوح إلى أن استخدام الألف للإشارة إلى الفتحة الطويلة في وسط الكلمات لا يزال غير مستقر، بل هو يستعمل بين الحين والآخر. وهي ملاحظة يمكن أن تفسر لنا بسهولة الإشارة إلى الفتحة الطويلة في الرسم العثماني حينا وعدم إثباتها حينا آخر، عكس الضمة والكسرة الطويلتين فهما يشار إليهما باطراد، وسيأتي بيان ذلك مفصلا في مكانه إن شاء الله.
ولا تظهر النقوش النبطية ولا الكتابات العربية التي ترجع إلى الفترة السابقة للرسم العثماني أي رمز للإشارة إلى الحركات القصيرة، واكتفت بالإشارة إلى الحركات الطويلة، على ما بيناه قبل قليل. وهذه الظاهرة تجعل من العسير الوصول إلى القراءة الصحيحة لتلك النقوش.
وهنا يرد سؤال هام، وهو كيف استطاعت الكتابة النبطية تطوير الكتابة الآرامية ذات الرموز الاثنين والعشرين للتعبير عن اللغة العربية ذات الثمانية والعشرين صوتا صامتا، يقول الدكتور جواد علي (1): «ونجد العربية ذات حروف يزيد عددها على حروف اللغات السامية الأخرى، ولعل اللغات الأخرى كانت تملك حروفا أخرى، ثم قلّ استعمالها، فزالت من أبجديتها ولم تبق لها حاجة بها». وهذا الفرض لا يفيدنا في الإجابة عن ذلك السؤال، ومهما يكن من شيء فإن الكتابة النبطية المتأخرة كانت على ما يبدو
__________
(1) د. جواد علي، ج 7 (ص 3433).(1/59)
تمتلك حروفا توازي حروف العربية (1).
ويتعلق بالسؤال السابق ظاهرة اشتراك أكثر من صوت صامت برمز كتابي واحد، سواء في الكتابة النبطية أو العربية، خاصة إذا تذكرنا أن النقوش لا ترينا أي إشارة للتمييز بين تلك الأشكال المتفقة، وهكذا كان حال الكتابة العربية حتى ما بعد الرسم العثماني بفترة، ويبدو أن هذه الظاهرة مرتبطة بظاهرة أخرى وهي اتصال الحروف مع بعضها في داخل الكلمات، ففي النقوش النبطية القديمة تبدو الحروف مستقلة بعضها عن بعض، لكن في القرن الأول الميلادي تأخذ الأربطة بين الحروف في الزيادة والاطراد، حتى تشمل أكثر الكلمات المكوّنة من حرفين، كما تشمل الكلمات الكثيرة التداول المكونة من ثلاثة حروف فأكثر، وتنمو الأربطة وتترعرع في القرنين الثاني والثالث حتى نراها في القرن الرابع قد شملت جميع حروف الكلمة تقريبا، وألفت كل منها وحدة مستقلة بحروفها. ولكن بعض الحروف لم تخضع لهذه الأربطة، وظلت كذلك لا ترتبط بما بعدها. وورثت الكتابة العربية هذه الظاهرة في تلك الحروف وهي الألف والواو والدال والذال والراء والزاي (2).
وقد كانت لهذا الاتجاه نتيجتان (3):
1 - أن حروفا معينة أصبحت لها أشكال في آخر الكلمة تختلف عنها حين تكون في مكان آخر من الكلمة.
2 - بدأت حروف معينة تفقد أشكالها الخطية المتميزة، وأخذت تختلط بحروف أخرى، حتى صعب التمييز بينها، ولم تبذل أية محاولة لتجنب هذا الخلط إلا في وقت متأخر.
فكأن اشتراك أكثر من صوت في رمز كتابي واحد الذي ورثته الكتابة العربية عن النبطية هو نتيجة لظاهرة ارتباط الحروف داخل الكلمات التي استجدت على الكتابة النبطية في القرون الأولى بعد الميلاد.
__________
(1) انظر: خليل يحيى نامي، ص 87.
(2) انظر: خليل يحيى نامي، (ص 8685).
(3) انظر:.،. 52(1/60)
والكتابة العربية كانت قبل الرسم العثماني تكتب الصوت المكرر الذي لا يفصل بين الأول والثاني منهما حركة، وهو ما يسميه علماء العربية بالمدغم برمز واحد، وكذلك يبدو الأمر في الكتابة النبطية، ومعظم نظم الكتابات السامية، وربما كان ذلك ذا مغزى نطقي (1).
واتجاه يد الكاتب في الكتابة الأخرى يبدأ من اليمين إلى الشمال مثل عامة الكتابات السامية الأخرى (2).
وتشير النقوش العربية الجاهلية ونقوش الفترة الإسلامية إلى بعض الظواهر الكتابية الملفتة للنظر، ففي نقش حران نجد أن كلمة (ظلموا) (ظالم) منتهية بواو، تبدو زائدة على أصوات الكلمة، لكنها تشير إلى خاصة كتابية كانت شائعة في الكتابة النبطية، وهي إلحاق الواو بأسماء الأعلام، مثل: مقيمو، نبطو، كهيلو، عيدو (عائد)، منوتو (مناة)، غوثو (غوث). ونجد في نقش النمارة الأسماء الآتية (عمرو، نزرو، مذحجو، شمرو، معدو، فرسو) (3)، وهذه الظاهرة تفسر لنا بوضوح سر زيادة الواو في نهاية الاسم (عمرو) في الكتابة العربية، والتي ذهب علماء العربية فيها مذهبا بعيدا عن الإحساس بالبعد التاريخي للكتابة أو اللغة.
ونجد في نقش القاهرة كلمة (سنت) قد كتبت بالتاء المبسوطة، لكن نفس النقش يقدم لنا كلمة (رحمة) مكتوبة برمز الهاء المربوطة. ونجد تفسير هذه الظاهرة في النقوش النبطية، إذ إن أقدم النقوش النبطية تظهر فيها تاء التأنيث في آخر الأسماء مكتوبة بالتاء، مثل: سنت، حرثت (حارثة)، جذيمت، فظاهرة كتابة تاء التأنيث بهذه الطريقة ذات أصول نبطية.
ومن هذا العرض الموجز يظهر لنا ارتباط الكتابة العربية الوثيق في خصائصها بمجموعة الكتابات السامية بواسطة الكتابة النبطية.
ولا شك أن النقوش العربية التي بأيدي الباحثين من فترة ما قبل الرسم العثماني لا
__________
(1)،. 02.
(2)،. 312
(3) انظر قاعدة زيادة هذه الواو في الكتابة النبطية، د. جواد علي، ج 3، ص 299.(1/61)
تتيح معرفة واسعة بخصائص الكتابة العربية آنذاك، إذ إنها جميعا لا تساوي ما تقدمه أقصر سورة في المصحف الشريف. وستتضح لنا هذه الخصائص بصورة أكثر جلاء عند ما ندرسها على ضوء ما يقدم الرسم العثماني من أمثلة، وحين ندرس الرسم العثماني على ضوء ما تقدّم هي من فهم لتلك الأمثلة، بالإضافة إلى جوانب أخرى من الكتابة العربية في هذه الفترة لم تستطع النقوش أن تقدم بيانا واضحا لها، ولم تستطع النقوش النبطية أن تسعفنا بشيء في هذا الصدد خاصة في رمز (الألف) الذي يبدو في الكتابة النبطية غالبا يمثل (الهمزة) وأحيانا الفتحة الطويلة، لكن الهمزة وطريقة كتابتها في النقوش العربية غير واضحة، وسنشير إلى شيء مما يتعلق بهذا حين ندرس رمز الهمزة في الرسم العثماني.(1/62)
تتيح معرفة واسعة بخصائص الكتابة العربية آنذاك، إذ إنها جميعا لا تساوي ما تقدمه أقصر سورة في المصحف الشريف. وستتضح لنا هذه الخصائص بصورة أكثر جلاء عند ما ندرسها على ضوء ما يقدم الرسم العثماني من أمثلة، وحين ندرس الرسم العثماني على ضوء ما تقدّم هي من فهم لتلك الأمثلة، بالإضافة إلى جوانب أخرى من الكتابة العربية في هذه الفترة لم تستطع النقوش أن تقدم بيانا واضحا لها، ولم تستطع النقوش النبطية أن تسعفنا بشيء في هذا الصدد خاصة في رمز (الألف) الذي يبدو في الكتابة النبطية غالبا يمثل (الهمزة) وأحيانا الفتحة الطويلة، لكن الهمزة وطريقة كتابتها في النقوش العربية غير واضحة، وسنشير إلى شيء مما يتعلق بهذا حين ندرس رمز الهمزة في الرسم العثماني.
المبحث الثالث المبادئ التي تقوم عليها الكتابة
أولا: موقف المحدثين:
من المسلم به بصورة عامة أن الكتابة بدأت تصويرية منذ أقدم العصور، فالصورة ترمز إلى الشيء الذي تمثله فحسب، ثم تطورت لترمز إلى المعاني غير الحسية، ومرت فترة طويلة حتى استطاع الإنسان أن يتحرر من ذلك النظام الكتابي الذي يتطلب معرفة مئات الصور، بقدر ما في اللغة من كلمات، ليستخدم نظاما أكثر بساطة يتكون من عدد محدود من الرموز، يمثل كل رمز وحدة صوتية معينة من أصوات اللغة، فالكلمة تمثل في هذا النظام بمجموعة رموز الأصوات التي تتألف منها، لا بواسطة صورة معينة، ويمكن بواسطة هذا النظام كتابة عدد غير محدود من الكلمات باستعمال ذلك العدد المحدود من الرموز. ويعرف النظام الأول بالنظام التصويري، ويعرف الثاني بالنظام الأبجدي (1) أو الهجائي.
إن نظام الكتابة الأبجدي يكون عند اختراعه أو استعماله لأول مرة في كتابة لغة ما دقيقا وممثلا لأصوات اللغة قدر المستطاع، وخاليا من الغموض والتقصير، ولكنه بمرور الزمن لا يحافظ على هذه الصفات، فاللغة تتغير، ولكن الناس أكثر محافظة في الكتابة، فيقصر نظام الكتابة عن خطى اللغة المتغيرة، وفي النهاية تتكون انحرافات وتعقيدات كتابية من نوع تلك التي نجدها في الأبجديات المعاصرة (2).
والكتابة الهجائية المستعملة حاليا في كثير من اللغات لا تمثل أصوات تلك اللغات
__________
(1) وربما يطلق على الأول النظام المورفيمي () وعلى الثاني النظام الفونيمي ()، انظر:.،. 935
(2) د. كمال محمد بشر: الأصوات، ص 235، وانظر:،. 545(1/63)
بشكل دقيق (1). ذلك لأن اللغة المنطوقة من التعقيد بحيث تشتمل على أكداس من تفاصيل الشدة والتنغيم والنطق الفجائي، مما لا يستطيع نظام كتابي تصويرها مهما بلغ من درجات الكمال. وهناك صعوبة ثانية ترجع إلى أن النظام الأبجدي يصاب بالقصور بمرور الزمن، وبسرعة تختلف باختلاف اللغات، إذ إن السبب الأساسي لأزمات الكتابة ينحصر في استحالة مسايرة الكتابة لحركة اللغة (2).
ويظهر قصور الكتابة الأبجدية في صور متعددة لعل من أهمها (3):
1 - عدم قدرة الكتابة على تمثيل النطق تمثيلا صادقا، فقد توجد في الكتابة رموز لأصوات معينة لكنها تنطق بطريقة أخرى غير التي تشير إليها الرموز المكتوبة، وأمثلة هذه الحالة كثيرة. وتقدم الكتابة الإنجليزية أمثلة عدة لعل أسوأها الصوت / / ورمزه الكتابي، فالرمز / / يمثل / / في (يغني)، و / / في (وردة) و / / في (سكر)، كذلك يمكن تمثيل الصوت / / أيضا بواسطة / / في (رز)، و / / في (هرج)، و / / في (هلال)، و / / في (انشقاق).
وهناك أمثلة محدودة لهذه الحالة في الكتابة العربية، تتمثل في كتابة الألف ياء في بعض الكلمات، مثل (على، رمى، مسعى، مصطفى)، كذلك كتابة الألف واوا في كلمات معدودة وردت في رسم المصحف (الصلاة الزكوة)، وربما يندرج تحت هذه الظاهرة رسم الهمزة واوا مرة وياء أخرى.
2 - وجود رموز في الكتابة دون وجود مقابل صوتي لها في الكلام المنطوق، والإنجليزية مملوءة بأمثلة هذا النوع، كما في نحو (علم النفس) و (يتكلم)، و (فارس)، و (فريد)، فالكلمة الأولى تشتمل على رمز / /
__________
(1) د. خليل إبراهيم الحماش: دراسة مقارنة للنواحي الصوتية في كتاب العين والنظرية الحديثة في علم الصوت. مقال في مجلة كلية الآداب في جامعة بغداد، 1973، ج 16، ص 499. وانظر:
د. السعران، ص 124. و.،. 645
(2) فندريس: اللغة (مترجم)، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1950، ص (408407).
(3) انظر: د. كمال محمد بشر: الأصوات (ص 236235)، ود. علي عبد الواحد وافي: علم اللغة، 248وما بعدها، و.،. 245045(1/64)
دون مقابل صوتي له في النطق، وتحتوي الثانية رمز / /، والثالثة رمز / /، على حين لا يوجد مقابل صوتي لأي من هذين الرمزين في الكلمتين. أما الكلمة الرابعة فتنتهي بالرمزين / / بالرغم من أن الكلمة تنتهي صوتيا بصوت (المصور بالرمز).
وهناك من هذا النوع أمثلة قليلة جدا في الكتابة العربية، كالألف في (مائة) والألف التي تأتي بعد واو الجمع في آخر الكلمة، نحو (رموا)، والواو في (عمرو، أولئك)، والياء في (بأييد، بآيية)، وسيأتي تفصيل ذلك.
3 - وعامة الكتابات الأبجدية تهمل كثيرا من تفاصيل النطق من الشدة والتنغيم وغيرها، كذلك نجد الكتابات السامية القديمة قد أهملت تمثيل الحركات، قصيرة كانت أم طويلة، مما تلافته بمرور الزمن بنظم تكميلية، ولا نزال نجد بقايا ذلك في كتابتنا في كلمات محدودة مثل (هذا، هذه، ذلك، لكن).
ولا يعني اقتصارنا في الأمثلة على الكتابتين العربية والإنجليزية أن بقية الكتابات خالية من هذه النواقص، فقد أشرنا قبل قليل إلى أن عامة الكتابات الأبجدية تعاني من ذلك، وخذ مثلا وصف اللغوي الفرنسي فندريس لرسم اللغة الفرنسية بأنه سيئ (1).
ولا شك في أن معظم هذه الاختلافات بين الكتابة واللغة ترجع إلى أسباب تاريخية «إذ إن السبب الأساسي لأزمات الرسم ينحصر في استحالة مسايرة الرسم لحركة اللغة» (2).
ومن هنا فقد لاحظ العلماء أن كتابة كلمات أي لغة لا تقوم على أساس نطقها فحسب، بل إن هناك مبادئ عدة تساهم إلى جانب ذلك في إعطاء الكلمات صورتها، وأهم هذه المبادئ (3):
__________
(1) اللغة: ص 409.
(2) اللغة: ص 408.
(3). 241141.
وانظر: د. تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها. الهيئة المصرية العامة للكتاب 1973، ص 326. ود. عبد الرحمن أيوب: العربية ولهجاتها، معهد البحوث والدراسات العربية، 1968، (ص 76).(1/65)
1 - المبدأ الصوتي:
فهجاء بعض الكلمات سهل في الكتابة، لأنه لا يختلف عن نطقها، إذ إنها تكتب مثلما تنطق، وهذا مبدأ أساسي وشائع في الكتابة العربية وغيرها من الكتابات الأبجدية.
2 - المبدأ الاشتقاقي:) (
وبجانب الكلمات التي تكتب وفقا لنطقها هناك الكثير من الكلمات التي يختلف هجاؤها عن نطقها، إذ تعتمد كتابتها على المبدأ الاشتقاقي الذي في ظله تحتفظ الكلمات بروابط اشتقاقية، ففي الإنجليزية مثلا يتكون الماضي القياسي للأفعال اللاحقة () مع أنها تنطق () مهموسة بعد الصوامت المهموسة، مثل و، رغم أنها في الكتابة () مجهورة.
وهذا المبدأ واسع الاستخدام في كل الكتابات، ويمكن أن تدخل في ظل هذا المبدأ ظاهرة تأثر الأصوات حين توجد في سياق معين في اللغة العربية، وهو ما يسمى بالإدغام، إذ إنها في الغالب تكتب حسب أصلها دون مراعاة لما طرأ عليها من تغير في النطق.
3 - المبدأ التاريخي:
هناك عدة كلمات لا يمكن فهم هجائها إلا بالرجوع إلى تاريخ اللغة الذي يوضح لنا أصل ذلك الهجاء، وتقدم الكتابة الإنجليزية وغيرها من الكتابات الأوروبية بضعة أمثلة لهذا النوع من الكلمات مثل الكلمة الإنجليزية فإنها تلفظ / /.
وفي الكتابة العربية هناك بعض الكلمات التي لا يمكن فهم هجائها إلا في ضوء هذا المبدأ. وسيأتي بيان ذلك.
4 - المبدأ التمييزي:
وهذا المبدأ يوضح أن هجاء بعض الكلمات التي تتفق في النطق وتختلف في المعنى قد يميز بينها في الكتابة، مثال ذلك في الإنجليزية، و، وو و. وقد أشار علماء العربية إلى عدة كلمات تتفق في الهجاء لا في اللفظ، وخولف في هجائها بزيادة حرف ليس له مقابل صوتي في نطقها للفرق. وسيتضح أن
في ما ذهبوا إليه نظرا.(1/66)
وهذا المبدأ يوضح أن هجاء بعض الكلمات التي تتفق في النطق وتختلف في المعنى قد يميز بينها في الكتابة، مثال ذلك في الإنجليزية، و، وو و. وقد أشار علماء العربية إلى عدة كلمات تتفق في الهجاء لا في اللفظ، وخولف في هجائها بزيادة حرف ليس له مقابل صوتي في نطقها للفرق. وسيتضح أن
في ما ذهبوا إليه نظرا.
ورغم أن المبدأ الصوتي كان الأساس الأول الذي قامت عليه الكتابات الأبجدية في بادئ أمرها، إلا أنه لا يمكن القول الآن أن كتابة لغة ما تعتمد على مبدأ معين من تلك المبادئ، ففي كتابة أية لغة هناك مزيج من هذه المبادئ وبدرجات متفاوتة.
ثانيا: موقف علماء السلف:
وتجدر الإشارة هنا إلى أن علماء الرسم والعربية قد أحسوا بالاختلاف الظاهر بين هجاء الكلمات ونطقها، وعرفوا بعض أسباب ذلك، يقول ابن درستويه (1): «اعلم أن الكتاب ربما يكتبون الكلمة على لفظها، وعلى معناها، ويحذفون منها ما هو فيها، ويثبتون فيها ما ليس منها، ويبدلون الحرف، ويصلون الكلمة بأخرى لا تتصل بها، ويفصلون بين أمثالها، ويختزلون عامة صور الحروف اكتفاء بالطائفة منها، ولا ينطقون ولا يشكلون إلا ما التبس، ويحاولون بكل ذلك ضربا من القياس». ويقول ابن المنادي (أبو الحسين أحمد بن جعفر البغدادي ت سنة 336هـ) (2): «إن من المكتوب ما لا تجوز به القراءة من وجه الإعراب، وإن حكمه أن يترك على ما خطّ، ويطلق للقارئين أن يقرءوا بغير الذي يرونه مرسوما». وربما كان هذا الإحساس بالاختلاف هو الذي دفع ابن جنّي إلى القول إن «الخط ليس له تعلق بالفصحاء ولا عنهم يؤخذ» (3).
ورغم أنهم لم يتمكنوا من إدراك أثر العامل التاريخي في كثير من صور هجاء الكلمات التي فيها زيادة حرف أو نقصه، مما أوقعهم في كثير من الخلط، فإنهم تحدثوا كثيرا عن المبدأ الصوتي الذي يعبرون عنه بكلمة (اللفظ)، حتى عدّوه الأساس الأول الذي تقوم عليه الكتابة، وتحدثوا أيضا عن مبدأ التمييز أو الفرق حتى حملوا عليه أكثر صور الهجاء التي تبدو فيها زيادة بعض الحروف.
فالأصل في كل كلمة أن تكتب بصورة لفظها، بتقدير الابتداء بها والوقف
__________
(1) كتاب الكتاب: ص 5، وانظر القلقشندي، ج 3، ص 173.
(2) انظر الداني: المحكم، ص 185.
(3) ابن جني: سر صناعة الإعراب. (القسم المخطوط)، (رقم 120لغة) في دار الكتب المصرية ورقة 240ب.(1/67)
عليها (1). فاللفظ هو الأصل (2)، لأنه أسبق مرتبة من الخط، فبه بدئ ثم حمل الخط عليه (3)، ويلاحظ أنهم ينصون على أن هجاء الكلمة يقوم على تقدير الابتداء بها والوقف عليها، ولا تحمل على ما قبلها ولا ما بعدها (4)، وهي ملاحظة صائبة إلى حد ما إذ إنها تفسر لنا إثبات همزة الوصل، وكتابة التنوين ألفا، وربما تفسر لنا كتابة تاء التأنيث في آخر الأسماء المؤنثة هاء (5). إلا أن هذه القاعدة ليست مطردة، خاصة في رسم المصحف ذلك أن علماء القراءات والرسم قد لاحظوا في كثير من الكلمات أنها رسمت على وصل الكلام، يقول أبو عمرو الداني (6): «وذلك من حيث عاملوا في كثير من الكتابة اللفظ والوصل، دون الأصل والقطع» ويقول أيضا (7): «والمذهبان قد يستعملان في الرسم، دلالة على جوازهما فيه». وفي ضوء هذه الملاحظة يمكن تفسير كثير من صور الرسم العثماني مما سيأتي مفصلا في مكانه إن شاء الله.
ولما كانت حركات الإعراب لا تبين مع الوقف فقد نصوا على أن «الشكل والنقط إنما وضعا على الوصل» (8).
ولا يقلّ إدراك علماء الرسم واللغة العربية لمبدأ الفرق عن إدراكهم للمبدإ الصوتي،
__________
(1) الأسترآباذي (محمد بن الحسن): شرح الشافية، دار الطباعة العامرة، ص 383. وانظر: ابن مالك (محمد بن عبد الله): تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، دار الكاتب العربي، 1967، ص 332، والسيوطي: رسالة في علم الخط (الرسالة الخامسة في التحفة البهية)، قسطنطينية، مطبعة الجوائب، 1302هـ، ص 54، والإتقان له، ج 4، ص 146.
(2) ابن جنّي: سر صناعة الإعراب، ج 1، ص 50.
(3) المصدر السابق (المخطوط)، ورقة 241أ.
(4) المصدر السابق (المخطوط)، ورقة 178ب، وانظر: ابن درستويه، ص 9و 13و 57، والصولي:
ص 250و 258.
(5) انظر:.،. 72
(6) المحكم: ص 158. وانظر أبو بكر الأنباري (محمد بن القاسم بن بشار): إيضاح الوقف والابتداء. دمشق، مجمع اللغة العربية بدمشق، 1971، ج 1، ص 146. وابن مجاهد (أحمد بن موسى): كتاب السبعة في القراءات، دار المعارف بمصر، 1972، ص 426و 486.
(7) المقنع، ص 43.
(8) ابن درستويه، ص 57:(1/68)
فحملوا عليه أكثر الكلمات التي في هجائها زيادة حرف، لكن تلك الزيادة كانت «قصدا للتمييز بين المتشابهات في الصورة الخطية» (1) لا المتشابهة في اللفظ المختلفة في المعنى.
يقول ابن قتيبة (2): «الكتاب يزيدون في كتابة الحرف ما ليس في وزنه، ليفصلوا بالزيادة بينه وبين المشبه له». ويربط أبو عمرو الداني بين زيادة بعض الحروف في هجاء بعض الكلمات وبين عدم وجود الشكل والنقط في الكتابة العربية قديما، فيقول (3):
«والعرب لم تكن أهل شكل ونقط، وإنما كانت تفرق بين ما يشتبه ويشكل مما تتفق صورته ويختلف لفظه أو معناه بالحروف، ألا تراهم كتبوا (عمرو) بالواو للفرق بينه وبين (عمر)، وكتبوا (أولئك) و (أولي) بالواو للفرق بينهما وبين إليك وإلى، وكتبوا (مائة) بالألف بينهما وبين منه، في نظائر لذلك، وهم مع ذلك لا يلفظون تلك الحروف التي قد أدخلوها للفرق».
وقد ردد معظم العلماء السالفين هذا المعنى حيث وردت تلك الكلمات وأرادوا الحديث عما فيها من زيادة، فالواو في (عمرو) زائدة للفرق بينه وبين (عمر)، وخصوه بالزيادة لخفته (4). والواو في (أولئك) زائدة وكما يقول أبو حيان (5): «أما أولئك فتضافرت النصوص على أنهم زادوا الواو فيها فرقا بينها وبين إليك» ثم حمل عليه
__________
(1) نصر الهوريني: ص 146.
(2) ابن قتيبة: أدب الكاتب، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، 1355هـ، ص 227، وانظر أيضا ص 229. والزجاجي: الجمل، ص 272.
(3) الموضح في الفتح والإمالة، (مخطوط)، مكتبة الجامع الأزهر: قراءات (103)، 7661، ورقة 25ب، وانظر: السخاوي: جمال القراء وكمال الإقراء (مخطوط)، دار الكتب المصرية، رقم (9 قراءات م)، ورقة 187/ أ، حيث نقل قول الداني المشار إليه في أعلاه.
(4) البلوي: ج 1، ص 137، وانظر: ابن قتيبة: أدب الكاتب، ص 252، والصولي، ص 251، وابن وهب الكاتب (إسحاق بن إبراهيم): البرهان في وجوه البيان، ط 1، بغداد، مطبعة العاني، 1967، ص 330.
(5) السيوطي: همع الهوامع، ط 1، القاهرة، محمد أمين الخانجي، 1327هـ، ج 2، ص 239، وانظر ابن قتيبة: أدب الكاتب، 252، والصولي، ص 251.(1/69)
فروعه ليجري الباب على سنن واحد (1)، والألف في (مائة) زائدة للفرق بينها وبين (منه) (2)، أو بينها وبين (ميّة) (3)، والواو في (أوخيّ) مصغرا زادها بعض أهل الخط فرقا بينه وبين (أخي) المكبر، وكانت الزيادة في التصغير لأنه فرع، والفرع أحمل للزيادة، ولأنه قد يغير لأجل التصغير، والتغيير يأنس بالتغيير (4). وقد زادوا الألف في مثل (ركبوا وذهبوا) فرقا بينها وبين (يعدو) وما أشبه ذلك (5). أو فرقا بين واو الجميع وواو النسق (6)، وكتبوا (على) بالياء أين ما أتت إذا كانت حرفا فرقا بينها وبين (علا في الأرض). وكذلك كتبوا (إلى) بالياء أيضا فرقا بينها وبين (إلا) المشددة اللام (7). وكتبوا تاء التأنيث في آخر الكلمات هاء، ليفرقوا بينها وبين الأصلية في بناء الكلمة (8).
وهكذا يحاولون إلحاق كل ما جاء في الكتابة العربية على غير القواعد المطردة بهذا الباب، وهم لا يعدمون كلمة ينسبون الزيادة لأجلها، ولا يزال بعض المحدثين يردد ما قالوه في باب الفرق، فتلك الزيادات في رأيه «إنما هي حيل كتابية قصد بها إلى التفريق بين نوعين أو أنواع من الصيغ المتشابهة في الصور الكتابية، مع اختلافها في القيم الصرفية والنحوية وفي المعنى كذلك» (9). ولم يعدم بين القدماء من تشكّك في أن يكون الفرق علة لتلك الزيادات، يقول ابن درستويه (10): «ولو زيدت الواو في
__________
(1) الجعبري (إبراهيم بن عمر): خميلة أرباب المراصد في شرح عقيلة أتراب القصائد، (مخطوط)، دار الكتب المصرية رقم 349، رقم 249، ورقة 226أ.
(2) ابن قتيبة: أدب الكاتب، ص 253، وابن درستويه، ص 46، والسيوطي الهمع، ج 2، ص 328.
(3) التنسي (محمد بن عبد الله بن عبد الجليل): الطراز في شرح ضبط الخراز، (مخطوط)، دار الكتب المصرية، رقم 261، قراءات، ورقة 71/ أ. وانظر ابن وهب الكاتب، ص 330.
(4) السيوطي، الهمع، ج 2، ص 239، وانظر ابن قتيبة: أدب الكاتب، ص 253، والصولي، ص 251.
(5) الزجاجي: الجمل، ص 274.
(6) ابن قتيبة: أدب الكاتب، ص 253، وابن وهب الكاتب، ص 330.
(7) سليمان بن نجاح (أبو داود): التنزيل في هجاء المصاحف، (مخطوط)، المكتبة الظاهرية بدمشق، تحت رقم 5964 (عندي منه نسخة على الميكروفلم)، لوحة 7.
(8) الأزهري، ج 1، ص 50.
(9) د. كمال محمد بشر: الأصوات، ص 237.
(10) كتاب الكتاب، ص 46. وانظر ابن السيد البطليوسي: ص 166.(1/70)
كل اسم أشبهه آخر لصار أكثر الكلام بواو مثل: قلب وقلب، وقدر وقدر».
لكن ما ذهب إليه علماء العربية يرده على ما أرجح البحث التاريخي في الكتابة واللغة، ويوضح لنا سر تلك الزيادات بأدلة أكثر إقناعا، حتى إنه ليمكن القول بانتقاض هذا الأصل في الكتابة العربية على الأقل وقد مر بنا أن الواو في (عمرو) يمكن أن تكون من بقايا زيادة الواو في نهايات الأعلام في الكتابة النبطية. وستأتي دراسة بقية الكلمات التي فيها حروف زائدة مع أخرى غيرها، مع الأصول المحتملة التي لا تمت للفرق بصلة لتلك الزيادات (1).
وبالإضافة إلى ذلك أشار علماء الرسم واللغة العربية إلى أن بعض الكلمات، مما تظهر فيها مخالفة للقياس المطرد، قد كتبت على الأصل، ولعله الأصل الاشتقاقي البعيد مثل (الربوا) (2)، أو الأصل القريب الذي كانت عليه الكلمة قبل أن تكون في سياق «ألا ترى أن الكتاب يكتبون الرحمن باللام وهي في السمع راء مشددة، وكذلك الضارب والذاهب يكتب على المعنى واللفظ على خلافه» (3)، والمقصود بكلمة (المعنى) هنا هو أصل الكلمة، من حيث هي مكونة من (آل) المعرّفة مع ما دخلت عليه.
وكذلك نجدهم يشيرون إلى أن بعض الحروف قد يسقط، إما استخفافا واستغناء بما أبقي عما ألقي، إذا كان في الكلام دليل على ما يحذفون من الكلمة (4)، وإما لكثرة الاستعمال، وكون المعنى لا يخل (5). ويفسرون بذلك إسقاط الألف خاصة، والحقيقة أن الألف لم تثبت في أصل وضعها في الكلمات التي وردتنا فيها ساقطة حتى يمكن أن يقال إنها حذفت تخفيفا، أو لكثرة الاستعمال، فالأصل في الكتابات السامية عامة كان عدم إثبات الحركات كما مر بنا وبعد زمن طويل قامت محاولات ناجحة لإدخال رموز للحركات الطويلة في الكتابة، وظلت بقايا من ذلك الوضع القائم تأبى أن تستجيب للتطور الحديث.
__________
(1) انظر المبحث الرابع من الفصل الرابع، الفقرة الثالثة.
(2) الجعبري: ورقة 226أ.
(3) الزجاجي: الجمل، ص 272. وانظر: ابن درستويه، ص 5. وابن وهب الكاتب، ص 330.
(4) ابن قتيبة: أدب الكاتب، ص 227.
(5) الصولي: ص 36.(1/71)
وتحدث علماء الرسم والعربية أيضا عن ظاهرة حذف رمز واحد من كل ألفين أو ياءين أو واوين صامت وحركة طويلة غالبا تتابعا في الكتابة «كراهة توالي صورتين متفقتين في الرسم» (1)، ويقول ابن درستويه (2): «اعلم أن أكثر ما يحذف في الكتاب الحروف المكررة، كراهة اجتماع الأشباه في الخط». ويقول العقيلي (3): «وكل ألفين أو ياءين أو واوين أدى إلى اجتماعهما القياس حذفت إحداهما (كراهة) اجتماع صورتيهما في الرسم».
وملاحظتهم هذه صادقة إلى حد ما، لكن تعليل ذلك بالكراهة ربما كان فيه نظر، إذ إن نظام الحركات الطويلة خاصة في بداية القرن الأول الهجري لم يكن قد اكتمل، ويظهر ذلك جليا في الرسم العثماني، فكان الكتاب يشيرون إلى رمز واحد ويهملون الآخر بانتظار الخطوة التالية التي اكتملت فيها الإشارة إلى كلا الرمزين.
وهكذا فإن القدماء والمحدثين متفقون على أن الكتابات الأبجدية غير خاضعة لمبدأ معين حتى الصوتي الذي بنيت أساسا عليه إذ إن اللغة المنطوقة يصيبها التغير، وتبقى أشكال الكلمات المكتوبة محافظة على صورها القديمة، فهجاء الألفاظ يعرض غالبا صورة صحيحة لأصول الكلمات وما كانت عليه أصواتها في أقدم عصور اللغة، وهو للألفاظ من هذه الناحية أشبه شيء بالمتحف للآثار (4).
وفي مجال الدراسات الصوتية الحديثة حاول العلماء وضع أبجدية صوتية، يستعينون بها على تسجيل كافة أصوات اللغات، وكان أول من أسهم في هذا الميدان هم الأوروبيون الذين دفعتهم علاقاتهم الاستعمارية بالشعوب إلى معرفة لغاتها (5)، وكانت هناك محاولات عدة حتى تمكن الباحثون من الوصول إلى وضع أبجدية صوتية تتألف
__________
(1) الداني: المحكم، ص 172. وانظر: 125و 140و 153و 157و 158و 160و 166. وانظر:
سليمان بن نجاح: لوحة 5.
(2) كتاب الكتاب، ص 32، وانظر أيضا ص 10و 14و 17و 34.
(3) العقيلي (إسماعيل بن ظاهر): المختصر في مرسوم المصحف الكريم (مخطوط)، دار الكتب المصرية (260قراءات) منه ميكروفلم في معهد المخطوطات العربية، لوحة 2.
(4) د. علي عبد الواحد وافي: علم اللغة، ص 253.
(5) د. عبد الرحمن أيوب: ص 7.(1/72)
من حروف موحدة تستعمل في كتابة جميع اللغات في مجال البحث العلمي (1).
ولا شك في أن الكتابة الصوتية صالحة للأغراض الدراسية، ولكنها لا تصلح في الاستعمال اليومي، وذلك، لما يتطلبه التسجيل الدقيق للظواهر الصوتية في النطق من حشد العلامات الإضافية، إذا اغتفرنا العدد الضخم من الرموز الذي يزحمنا حتى من غير هذه العلامات (2). إذ إن الكتابة الصوتية الدولية: () تتألف من بضعة مئات من الرموز (3).
على ضوء ذلك فإن القصور عام في جميع الكتابات الأبجدية، ولا يمكن فهم مظاهر ذلك القصور إلا بالبحث في تاريخ اللغة والكتابة معا، للوصول إلى أصول لهذه الأشكال ومعرفة التطور الذي حدث في اللغة ولم تواكبها فيه الكتابة.
* * * ونخلص من ذلك العرض كله إلى النتائج التالية:
1 - إن الكتابة العربية في شكلها الأخير الذي انتهت إليه في النقوش العربية الجاهلية ما هي إلا تطور للكتابة النبطية المنحدرة بدورها عن الخط الآرامي، مما يؤكد ارتباطها بمجموعة الكتابات السامية، سواء تم ذلك التطور في شمال الجزيرة العربية وبلاد الأنباط وسيناء، أم في الحيرة وأطراف العراق، أم في مدن الحجاز وحواضره.
2 - ونتيجة لذلك الارتباط بين الكتابة العربية والكتابات السامية فقد حملت الكتابة العربية كثيرا من خصائص ومميزات الكتابات السامية عامة، والنبطية خاصة، فهي تستعمل رمزا واحدا لعدة أصوات مختلفة، وقد ظل هذا الحال حتى النصف الثاني من القرن الهجري الأول، حين استخدمت النقط للتمييز بين الرموز المتفقة في الرسم.
كذلك فإن الكتابة العربية في هذه المرحلة لم تبد أية محاولة للإشارة إلى الحركات القصيرة، ولم يكن قد استقر أيضا نظام الإشارة إلى الفتحة الطويلة (الألف) في
__________
(1) انظر د. محمود السعران ص (123121) ود. تمام حسان: اللغة بين المعيارية والوصفية، ص 129. ود. عبد الرحمن أيوب، ص (107).
(2) د. تمام حسان: اللغة بين المعيارية والوصفية، ص 130.
(3)،. 041(1/73)
وسط الكلمات إلا بعد فترة طويلة.
3 - وقد اتضح أن الكتابة العربية كانت مستعملة قبل الإسلام بفترة طويلة، والروايات العربية تؤكد استخدامها على نطاق واسع في أطراف العراق وخاصة الحيرة، ولعلها في ذلك الاستخدام تكون قد استقرت قواعدها وتميزت، مما يؤكد أن انتقالها إلى الحجاز في وقت متأخر قبل الإسلام إن صحت الرواية لا يعني أنها كانت حديثة عهد بالاستخدام أو أن قواعدها لم تستقر، ويجب ألّا يغيب عن الملاحظة أن هذا الانتقال من بيئة لغوية إلى أخرى ربما كان عاملا في بقاء ظواهر كتابية من البيئة القديمة بينما زال استعمالها في البيئة الجديدة.
4 - قصور كافة الكتابات الأبجدية عن الوفاء بمتطلبات اللغة وعناصر النطق فيها، واحتفاظها بمظاهر كثيرة من مخلفات النطق القديم مع زواله من الاستعمال، وهو ما يحتم دراسة تاريخ اللغة والكتابة لفهم تلك الحفريات الكتابية دون الوقوف عند معطيات فترة زمنية معينة.
ولعل في ما تناولناه من دراسة لتاريخ الكتابة العربية، وأصل نشأتها وعلاقتها بالخطوط السامية، وخصائص تلك الكتابة قبل الرسم العثماني، من واقع الوثائق وعلى ضوء الكتابات السامية، ودراسة الأصول التي تقوم عليها الكتابة، والقصور الذي يلازم كافة الكتابات الأبجدية المعروفة ما يعد تمهيدا ضروريا لدراسة الرسم المصحفي، وفهم خصائصه الكتابية.
وعلى هدى من ذلك العرض وهذه النتائج سنتناول الرسم المصحفي بالدراسة والتحليل، لعلنا نصل إلى فهم واضح وتفسير صحيح لكافة ظواهره ومميزاته الكتابية، إن شاء الله.(1/74)
وعلى هدى من ذلك العرض وهذه النتائج سنتناول الرسم المصحفي بالدراسة والتحليل، لعلنا نصل إلى فهم واضح وتفسير صحيح لكافة ظواهره ومميزاته الكتابية، إن شاء الله.
الفصل الثاني تأريخ كتابة القرآن الكريم وجمعه
إن دراسة تاريخ كتابة القرآن الكريم وجمعه تعتبر الخطوة الأولى في أية محاولة لدراسة الرسم المصحفي، لأن مثل تلك الدراسة ستعطي البعد التاريخي لظاهرة الرسم عامة، وتجعل تتبع مراحل تطوره والمحاولات المتلاحقة لتكميله وفهم ظواهره ومشكلاته أمرا أكثر تحديدا ووضوحا.
وتاريخ كتابة القرآن جزء من تاريخ القرآن عامة، وهو تاريخ واسع، لأنه في الواقع تاريخ الدعوة الإسلامية من يوم نزل الوحي بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أجيال بعد ذلك، ولسنا نهدف هنا إلى تناول جميع أبعاد ذلك التاريخ، وما تضمنه من أحداث وإنجازات عظيمة، نعمت البشرية ولا تزال تنعم إلى اليوم بها، بل نكتفي بالتركيز على جانب الكتابة من ذلك التاريخ.
وإذا كانت كتب التاريخ الأولى لا تكاد تتعرض لكتابة القرآن وجمعه إلا قليلا (1)، فإن كتب الحديث الصحيح تقدم كثيرا من تفاصيل ذلك التاريخ، سواء كان ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلّم أم في عهد الخلفاء الراشدين.
وسنتناول ذلك على مرحلتين، مرحلة توحيد المصاحف ونسخها في خلافة ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه وهي المرحلة التي تقدم لنا الظواهر الكتابية التي سيقوم عليها هذا البحث، والمرحلة السابقة لذلك، وهي تشمل كتابة القرآن زمن النبي صلى الله عليه وسلّم فقد ثبت بما لا يقبل الشك أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمر بكتابة القرآن، وأذن لمن أراد من الصحابة كتابته. وتشمل أيضا كتابة القرآن وجمعه في الصحف في خلافة الصديق
__________
(1) محمد حسين هيكل: الصدّيق أبو بكر، ط 5، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية 1964، ص 16.(1/75)
رضي الله عنه ثم ما كانت عليه المصاحف في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وسيكون سبيلنا إلى ذلك الإيجاز غير المخلّ بالصورة التي يجب أن يعرض فيها ذلك التاريخ، لأن التفصيل ومناقشة كثير من القضايا المتعلقة بتاريخ القرآن ليس مما نهدف إليه هنا وقد تكفلت بذلك دراسات أوفت بالغرض (1) وإنما نهدف إلى كتابة مدخل موجز لتاريخ كتابة القرآن وجمعه، تمهيدا لدراسة الطريقة التي كتب بها القرآن في المصحف العثماني، وما تثيره من مشكلات تتعلق بأمر الكتابة.
__________
(1) انظر مثلا بحث الدكتور عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن.(1/76)
المبحث الأول كتابة القرآن قبل الرّسم العثماني
أولا: كتابة القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلّم:
إن من نافلة القول هنا الحديث عن عدم معرفة النبي صلى الله عليه وسلّم للكتابة، فضلا عن ممارستها، ومهما كان معنى الأمي (1). فإنه صلى الله عليه وسلّم «ما قرأ ولا كتب قط» (2)، وتشير إلى شيء من ذلك الآية الكريمة: {وَمََا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتََابٍ وَلََا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتََابَ الْمُبْطِلُونَ (48)} [العنكبوت]، ويشير إليه أيضا وصف الصحابة لكافة جوانب حياته، فقد كان يملي في كافة أحواله على الكتبة من الصحابة في الأمور التي تحتاج إلى كتابة (3).
ومع أن طريقة التلقي المثلى بين الصحابة كانت المشافهة والحفظ (4). ومع أن الكتابة في حواضر الحجاز زمن البعثة لم تكن واسعة الانتشار، ومع أن وسائلها كانت بدائية وغير ميسورة، فإن النبي صلى الله عليه وسلّم كان حريصا على تسجيل ما ينزل عليه من القرآن، حتى أنه نهى في البداية عن كتابة شيء غير القرآن حيث يقول في حديث أبي سعيد الخدري (ت 74هـ) (5): «لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن، فمن كتب عني غير القرآن
__________
(1) انظر: د. عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن، ص 53.
(2) الصولي، ص 24.
(3) انظر في تفصيل هذا الموضوع: د. عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن، (ص 5347)، ود.
إبراهيم أنيس: دلالة الألفاظ، (ص 185183). ود. جواد علي: السيرة، (ص 143136).
(4) انظر الخطيب البغدادي: تقييد العلم، دمشق، المعهد الفرنسي للدراسات العربية 1949، ص 36 وما بعدها.
(5) نفس المصدر، ص 29. وابن أبي داود، ص 4. وأخرجه أيضا مسلم (انظر: ابن حجر (شهاب الدين أحمد بن علي العسقلاني) فتح الباري شرح البخاري: (ج 10، ص 386)، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1959.(1/77)
فليمحه»، خشية اختلاطه بكتاب الله.
وقد بلغ كتّاب النبي صلى الله عليه وسلّم ثلاثة وأربعين كاتبا كما مر وكان بعضهم منقطعا لكتابة الوحي، ولعل من أشهرهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وحنظلة ابن الربيع (1).
وكان أول من كتب للنبي من قريش عبد الله بن سعد ثم ارتد ورجع إلى مكة، وعاد إلى الإسلام يوم فتحها (2). وكان أول من كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم مقدمه المدينة أبيّ بن كعب الأنصاري، وكان زيد بن ثابت يكتب معه أيضا، لكن زيدا كان «ألزم الصحابة لكتابة الوحي» (3).
ويبدو أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان مهتما بتسجيل النص القرآني منذ أن بدأ نزوله عليه في مكة.
وقد جاء في قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن سورة (طه) كانت مكتوبة في صحيفة في بيت فاطمة بنت الخطاب أخت عمر، كانت وزوجها يقرئهما القرآن منها خباب بن الأرت (4). ولم تكن هذه الصحيفة التي سجلت سورة طه إلا واحدة من صحف كثيرة كانت متداولة بين أيدي الذين أسلموا من أهل مكة، سجلت
__________
(1) انظر المصادر المذكورة في صفحة (49).
(2) انظر: البلاذري، ص 478. وابن عبد البر: ج 1، ص 68. وابن قتيبة: المعارف، ص 130. ويقدّم الفرّاء قصة تحكي سبب ارتداده فيقول (ج 1، ص 334): أن النبي صلى الله عليه وسلّم أملى عليه قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنْ سُلََالَةٍ مِنْ طِينٍ} إلى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنََاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون 1412] فقال ابن أبي سرح: {فَتَبََارَكَ اللََّهُ أَحْسَنُ الْخََالِقِينَ} تعجّبا من تفصيل خلق الإنسان. فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم هكذا أنزلت عليّ، فشكّ وارتدّ، وقال: لئن كان محمد صلى الله عليه وسلّم صادقا لقد أوحي إليّ (كما أوحي إليه) ولئن كان كاذبا لقد قلت مثل ما قال، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ قََالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ} [الأنعام: 93]. ولعل الموقف الذي وجد ابن أبي سرح نفسه فيه بعد ارتداده هو الذي دفعه إلى أن يدّعي على ما يروى أنه كان إذا أملى عليه النبي صلى الله عليه وسلّم {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} * كتب {غَفُورٌ رَحِيمٌ} * وكانت وفاته سنة 36وقيل 37هـ، وكان قد عاد إلى الإسلام بعد فتح مكة وحسن إسلامه.
(3) ابن عبد البر: ج 1، ص 68. وانظر: ابن حزم: ص 27. وابن قيم الجوزية: ج 1، ص 29.
(4) ابن سعد: ج 3، ص 268267. وابن هشام: السيرة النبوية، ج 1، ص 344.(1/78)
سورا أخرى من القرآن (1).
وإذا كانت ظروف الدعوة في مكة قد أسهمت في حجب كثير من أخبار كتابة القرآن في تلك الفترة فإن الأمر في المدينة قد اختلف كثيرا، وجاءت الروايات تبين ذلك بوضوح وتؤكده. فيروي ابن أبي داود قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث، عن أبي عثمان الوليد بن أبي الوليد عن سليمان بن خارجة بن زيد أنه قال (2): «دخل نفر على زيد بن ثابت، فقالوا: حدّثنا بعض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: ماذا أحدثكم؟ كنت جار رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكان إذا نزل الوحي أرسل إليّ فكتبت الوحي» وكان صلى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي قال لمن عنده: ادع لي زيدا، وليجيء باللوح والدواة أو الكتف والدواة، ثم يقول له: اكتب ويملي عليه الآيات (3).
ويروي أبو عبيد القاسم بن سلام أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان «إذا نزلت عليه آية دعا بعض من يكتب، فقال: ضع هذه الآية في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا» (4).
ويروي كل من أبي عبيد (5)، وابن أبي داود (6)، عن ابن عمر أنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يسافر بالمصاحف (أو القرآن) إلى أرض العدو، مخافة أن ينالوها». وذلك لا يكون إلا بحمل صحيفة هو فيها، أو ما يقوم مقامها، لأنه لم ينه عن حفظه (7).
ومما يجب أن يلاحظ هنا أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يراجع الصحابة في ما يكتبون من
__________
(1) محمد حسين هيكل: ص 309.
(2) المصاحف، ص 3. وانظر الذهبي (شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان): سير أعلام النبلاء، القاهرة، دار المعارف، 1957، ج 2، ص 307.
(3) انظر: البخاري: ج 6، ص 227. وانظر تخريجه: الساعاتي (أحمد بن عبد الرحمن البنا): الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد، ط 1، القاهرة، 1374هـ، ج 18، ص 29.
(4) أبو عبيد: فضائل القرآن ومعالمه وأدبه. (مخطوط) دار الكتب المصرية، رقم (20101ب)، لوحة 35.
(5) نفس المصدر، لوحة 11.
(6) المصاحف، (ص 183179)، وانظر ابن قتيبة: عيون الأخبار، ج 2، ص 131.
(7) الباقلاني (أبو بكر محمد بن الطيب): نكت الانتصار لنقل القرآن. الاسكندرية، منشأة المعارف، 1971، ص 256.(1/79)
القرآن، فيروى عن زيد بن ثابت أنه قال (1): «كنت أكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يملي عليّ، فإذا فرغت قال: اقرأه فأقرأه فإن كان فيه سقط أقامه».
وإذا كان لكل هذه الأخبار من دلالة فإن أول ما تدل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يهدف إلى تسجيل القرآن كله، فيؤمن بذلك ضياع شيء منه أو فقدانه، وهو بذلك قد «سنّ جمع القرآن وكتابته، وأمر بذلك وأملاه على كتبته، وأنه صلى الله عليه وسلّم لم يمت حتى حفظ جميع القرآن جماعة من الصحابة، وحفظ الباقون منه جميعه متفرقا، أو عرفوه وعلموا مواقعه ومواضعه على وجه ما يعرف ذلك اليوم من ليس من الحفاظ لجميع القرآن» (2).
وقد نص العلماء على أن «القرآن كله كتب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الصحف والألواح والعسب، لكن غير مجموع في موضع واحد، ولا مرتب السور» (3).
ويروي الطبري أن الزهري قال (4): «قبض النبي صلى الله عليه وسلّم ولم يكن القرآن جمع، وإنما كان في الكرانيف والعسب». وينقل السيوطي عن أبي سليمان محمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي (ت 388هـ) قوله (5): «إنما لم يجمع صلى الله عليه وسلّم القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء
__________
(1) الصولي: ص 165 (قال محمد بن يحيى الصولي، حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن عتاب، قال حدثنا الحسن بن عبد العزيز الجروي، قال: حدثنا عبد الله بن يحيى، قال: أخبرنا نافع بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب عن سليمان بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه عن جده).
(2) أبو عمرو الداني: جامع البيان في القراءات السبع المشهورة (مخطوط)، دار الكتب المصرية، رقم (3م قراءات)، ورقة 10/ أ.
(3) القسطلاني (شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر): لطائف الإشارات لفنون القراءات، القاهرة، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 1972، ج 1، ص 61. وانظر: مكي بن أبي طالب: الإبانة عن معاني القراءات، القاهرة، مكتبة نهضة مصر، 1960، ص 23. وعز الدين بن عبد السلام: الفوائد في مشكل القرآن، الكويت، وزارة الأوقاف، 1967، ص 27. وابن حجر:
ج 10، ص 386. والسيوطي: الإتقان، ج 1، ص 168.
(4) الطبري: جامع البيان عن تأويل القرآن (المشهور بتفسير الطبري)، القاهرة، دار المعارف، 1374هـ، ج 1، ص 63.
(5) الإتقان، ج 1، ص 164. وانظر الزركشي (بدر الدين محمد بن عبد الله): البرهان في علوم القرآن، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1957، ج 1، ص 262.(1/80)
الراشدين ذلك».
ونجد بعد هذا كله أن قول بروكلمان «ولعل نجوما متفرقة من الوحي كانت قد كتبت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلّم، ولكن أكثر الوحي كان يروى بلا ريب شفاها من الذاكرة فحسب» (1) بعيد عن الحق، ولا يخلو من الهوى والغرض، فالأخبار تشير إلى عكس ما يقول تماما، بل أكثر من ذلك، إذ تؤكد أن القرآن كله قد كتب لكنه مفرّق غير مجموع، حيث تم جمعه في مكان واحد بين دفتي المصحف في عهد الصدّيق، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلّم بفترة وجيزة، وبيد من كتبه للنبي وسمعه وحفظه منه، وهو ما سيكون حديث الفقرة الآتية.
ثانيا: جمع القرآن في الصحف في خلافة الصّديق:
ولي الصديق الخلافة بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى في شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة (2)، وكان أول ما واجهه في خلافته ارتداد قبائل من العرب، لأسباب مختلفة منها منعهم بعض حقوق الإسلام، فكان موقفه حازما من هذه الفتنة التي أخذت تعصف بأطراف الدولة الإسلامية، وقال كلمته المشهورة (3): «والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه، ولو لم أجد أحدا أقاتلهم به لقاتلتهم وحدي، حتى يحكم الله بيني وبينهم، وهو خير الحاكمين». وانضم بعض المرتدين إلى مدعي النبوات الكاذبة، فجهز الصديق لقتال هؤلاء جميعا الجيوش التي كان في طليعتها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم تمض إلا فترة يسيرة حتى عادت الجزيرة العربية كلها إلى الإسلام (4) لكن عددا كبيرا ممن شارك في إخماد تلك الفتنة قد
__________
(1) بروكلمان (كارل): تاريخ الأدب العربي (مترجم)، القاهرة، دار المعارف، 1959، ج 1، ص 139.
(2) الطبري: التاريخ، ج 3، ص 199.
(3) خليفة بن خياط: تاريخ خليفة، دمشق، 1967، ج 1، ص 79.
(4) انظر عن أخبار حروب الردة: الطبري: التاريخ، ج 3 (أخبار السنة الحادية عشرة). والكلاعي (أبو سليمان الربيع بن سليمان أحد علماء القرن السادس والسابع للهجرة): كتاب تاريخ الردة. اقتبسه من الاكتفاء بما تضمنه من مغازي المصطفى ومغازي الخلفاء (له) خورشيد أحمد فارق. دهلي (الهند)، معهد الدراسات الإسلامية، 1970. وابن الأثير: الكامل في التاريخ،(1/81)
قتلوا في سبيل الله، ومن بينهم عدد من حفاظ القرآن. وتشير الروايات إلى أن معركة اليمامة التي أذلّ الله فيها مسيلمة الكذاب وجمعه كانت من أعظم الغزوات في حروب الردة، كما كانت أجلّها خطرا، وأبعدها أثرا، وقد استشهد من المسلمين يومئذ مائتان وألف، من بينهم ثلاثمائة وستون من المهاجرين والأنصار من أهل قصبة المدينة وحدها (1).
وتشير الروايات إلى أن هذه الأحداث وتسابق الحفاظ من الصحابة إلى الشهادة وتوقعا لما سيأتي من المواقع كان أهم العوامل التي نبهت الفاروق عمر والصحابة إلى ضرورة جمع القرآن مكتوبا في مكان واحد، بعد أن كان مفرقا في القطع التي كتب عليها في حياة النبي صلى الله عليه وسلّم فأشار عمر بذلك على الصديق بعد وقعة اليمامة.
وأشهر روايات جمع القرآن في خلافة الصديق هي التي يرويها ابن شهاب الزهري (12450هـ) عن عبيد بن السباق (من تابعي أهل المدينة) عن زيد بن ثابت (ت 45هـ) وقد أوردها أبو عبيد (ت 224هـ) في كتابه فضائل القرآن (2)، والبخاري (ت 256هـ) صحيحه (3). ورواها الترمذي (ت 279هـ) والنسائي (ت 303هـ) (4)، وابن أبي داود (ت 316هـ) (5). وغير ذلك من المصادر (6). وقد وردت روايات أخرى توضح ما جاء في هذه الرواية وتضيف أبعادا أخرى لطريقة الجمع.
__________
القاهرة، إدارة الطباعة المنيرية، 1349هـ، ج 2، ص (260231).
(1) الطبري: التاريخ، ج 3، ص 296. ويشير ابن كثير (أبو الفداء إسماعيل): فضائل القرآن، مطبعة المنار، 1347هـ، (ص 25)، أنه قد قتل يومئذ من القراء قريب من خمسمائة. وانظر: ابن الجزري (أبو الخير محمد بن محمد): النشر في القراءات العشر، القاهرة، مطبعة مصطفى محمد (د. ت)، ج 1، ص 7. ويذكر القرطبي (محمد بن أحمد بن أبي بكر): الجامع لأحكام القرآن، ط 2، دار الكتب المصرية، 1952، (ج 1، ص 49) أنه «قتل منهم في ذلك اليوم فيما قيل سبعمائة». وانظر الكلاعي: ص 120.
(2) لوحة (3635).
(3) الصحيح، ج 6، ص 225.
(4) انظر: الساعاتي: ج 18، ص (3231).
(5) المصاحف، ص (96).
(6) انظر: ابن النديم: ص 24. والداني: المقنع، ص (52). والسيوطي: الإتقان، ج 1، ص 165.(1/82)
أما الرواية المشهورة فهي كما يرويها البخاري: «أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إليّ أبو بكر الصديق، مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده. قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فتتبع القرآن فاجمعه. فو الله لو كانوا كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف (1) وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حتى خاتمة براءة. فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه».
__________
(1) قال السيوطي (الإتقان، ج 1، ص 168): وفي رواية (والرقاع)، وفي أخرى (وقطع الأديم)، وفي أخرى (والأكتاف)، وفي أخرى (والأضلاع)، وفي أخرى (والأقتاب). فالعسب جمع عسيب، وهو جريد النخل، كانوا يكشطون الخوص، ويكتبون في الطرف العريض. واللخاف بكسر اللام وبخاء معجمة خفيفة آخره فاء جمع لخفة، بفتح اللام وسكون، وهي الحجارة الرقاق. وقال الخطابي: صفائح الحجارة، والرقاع: جمع رقعة، وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد.
والأكتاف جمع كتف، وهو العظم الذي للبعير أو للشاة كانوا إذا جف كتبوا عليه. والأقتاب جمع قتب، وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه. وانظر أيضا: أبو عبيد: غريب الحديث، ط 1، حيدرآباد (الهند)، دائرة المعارف العثمانية (19671964)، ج 4، ص (156155). أما المادة التي جمع أبو بكر القرآن فيها فقد قيل إنها قراطيس وقيل ورق، أما ما يروى عن عمارة بن غزية أن زيد بن ثابت قال: أمرني أبو بكر فكتبته في قطع الأديم والعسب (الطبري: التفسير، ج 1، ص 59) فإن الأول أصح لأنه إنما كان في الأديم والعسب أولا، قبل أن يجمع في عهد أبي بكر، ثم جمع في الصحف في عهد أبي بكر (انظر السيوطي:
الإتقان، ج 1، ص 169).(1/83)
وهذه الرواية تشير إلى جملة قضايا هامة في تاريخ جمع القرآن في هذه الفترة. فهي أولا تبين السبب الذي دفع إلى جمع القرآن، وهو الخوف من ذهاب شيء منه بذهاب حفظته، وهي ثانيا توضح أن القرآن لم يجمع من قبل بهذه الصورة، وذلك مفهوم من تردد الصديق وزيد بن ثابت وقولهم (كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله)، ولعل هذا ينفي ما يقال من أن سالم بن معقل مولى أبي حذيفة (استشهد يوم اليمامة) (1) كان أول من جمع القرآن في مصحف (2). وما رواه أشعث عن محمد بن سيرين أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلّم أقسم ألّا يرتدي برداء إلّا لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف (3). ويقول ابن أبي داود عن هذه الرواية «لم يذكر المصحف أحد إلا أشعث وهو ليّن الحديث، وإنما رووا حتى أجمع القرآن يعني: أتم حفظه، فإنه يقال للذي يحفظ القرآن قد جمع القرآن» (4). كذلك ما يروى من أن عمر بن الخطاب أمر بالقرآن فجمع، وكان أول من جمعه في المصحف (5)، وهو محمول على ما سبق من إشارته على الصديق بجمع القرآن بعد وقعة اليمامة (6). وقد أشار أهل الحديث إلى أن هذه الأخبار منقطعة الأسانيد (7). وقد رويت بالإضافة إلى ذلك روايات عدة تؤكد أن أبا بكر الصديق هو أول من جمع القرآن بين لوحين، منها أن عليا قال: رحمة الله على أبي بكر، كان أعظم الناس أجرا في جمع المصاحف، هو أول من جمع القرآن بين اللوحين (8).
وتشير رواية جمع القرآن السابقة إلى الصفات والمؤهلات التي جعلت الصديق يخص
__________
(1) ابن قتيبة: المعارف، ص 119. والذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 1، ص 122.
(2) السيوطي: الإتقان، ج 1، ص 166.
(3) ابن أبي داود: ص 10. وانظر: ابن حجر: ج 10، ص 386.
(4) المصاحف، ص 10.
(5) ابن أبي داود: ص 10. وانظر: العز بن عبد السلام: الفوائد، ص 26. وابن حجر: ج 10، ص 386. وابن كثير: ص 306.
(6) انظر: محمد حسين هيكل: ص 306.
(7) انظر: ابن حجر، ج 10، ص 386. والسيوطي: الإتقان، ج 1، ص 166.
(8) انظر: ابن أبي داود، ص (65)، والطبري: التفسير، ج 1، ص 63. والداني: المقنع، ص 2.(1/84)
زيد بن ثابت بهذا العمل الجليل، فذكرت له أربع خصال (1): كونه شابا، فيكون أنشط لما يطلب منه. وكونه عاقلا، فيكون أوعى له. وكونه لا يتهم، فتركن النفس إليه.
وكونه كان يكتب الوحي، فيكون أكثر ممارسة له. وسنجد أن هذه الصفات هي التي أهلته مرة أخرى ليكون على رأس القائمين بنسخ المصاحف في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ويروي ابن أبي داود رواية توضح جانبا من الطريقة التي جرى عليها زيد بن ثابت في جمع القرآن، فيروي أن الصديق قال لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت: اقعدا في باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه (2). وفي رواية أخرى أن عمر بن الخطاب قام في الناس، فقال: من كان تلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان (3). ويقول ابن حجر (4): كأن المراد بالشاهدين الحفظ والكتاب، أو المراد على أن ذلك المكتوب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن. وكان غرضهم ألّا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لا من مجرد الحفظ.
وعمل كبير مثل جمع القرآن في الصحف من القطع التي كان قد كتب عليها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لا بد أنه احتاج إلى جهود كبيرة، وهو ما يدعو إلى الاعتقاد أن بعض الصحابة قد وقف إلى جانب زيد في إنجاز هذا العمل الكبير (5)، ولعل في مقدمة من أسهم في ذلك عمر بن الخطاب الذي كان ضمن كتّاب الوحي والذي تشير الرواية السابقة إلى مشاركته في تتبع القرآن وجمعه مع زيد. ويروي ابن أبي داود أن أبيّ بن
__________
(1) انظر: ابن حجر: ج 10، ص 387.
(2) المصاحف، ص 6.
(3) نفس المصدر، ص 10.
(4) ج 10، ص 388. وانظر: علم الدين السخاوي: جمال القراء، ورقة 31أ. والسيوطي: الإتقان، ج 1، ص 166.
(5) انظر: د. عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن، ص 106.(1/85)
كعب قد شارك في جمع القرآن في خلافة أبي بكر الصديق أيضا (1).
وقد استغرق إنجاز ذلك العمل ما يقرب من سنة، فقد كان بين غزوة اليمامة التي وقعت في الأشهر الأخيرة من السنة الحادية عشرة أو الأولى من السنة الثانية عشرة (2)
وبين وفاة الصديق رضي الله عنه التي كانت في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة للهجرة (3). ولا شك في أنه اكتمل قبل وفاة الصديق إذ إن الروايات تشير إلى أن الصحف أودعت عنده بقية حياته، ثم انتقلت إلى الخليفة الجديد من بعده، ثم عند أم المؤمنين حفصة بنت عمر بعد وفاة عمر، لتكون رهن تصرف الخليفة الثالث.
وتشير الروايات إلى أن كتابة القرآن في خلافة عمر قد أخذت تتسع استجابة لحاجات الناس إلى تعلمه، خاصة أن الفتوح قد امتدت وكثر الداخلون في الإسلام، وازدادت حاجاتهم إلى معرفة تعاليم الدين، فظهرت المصاحف في الأمصار من إملاء كبار الصحابة، الذين كانوا يعلّمون القرآن هناك، فكان عبد الله بن مسعود يملي المصاحف في الكوفة في خلافة عمر (4). وانطلق ركب من أهل الشام إلى المدينة في خلافة عمر يكتبون مصحفا لهم (5). وركب أبو الدرداء إلى المدينة في نفر من أهل دمشق، ومعهم المصحف الذي جاء به أهل دمشق ليعرضوه على أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت وعليّ وأهل المدينة (6)، ويروي أبو عبيد أن عمر بن الخطاب وجد مع رجل مصحفا قد كتبه بقلم دقيق، فقال: ما هذا؟ فقال: القرآن كله، فكره ذلك وضربه، وقال: عظّموا كتاب الله، وكان عمر إذا رأى مصحفا عظيما سرّ (7).
وبذلك ازدادت المصاحف التي كتبها الصحابة وعامة المسلمين في خلافة عمر، وربما كانت تتضمن بعض آثار رخصة الأحرف السبعة التي يسّر الله بها على الأمة في قراءة
__________
(1) المصاحف، ص 9. وانظر الساعاتي: ج 18، ص (3332).
(2) انظر: الطبري: التاريخ، ج 3، ص 343. والكلاعي: ص 120.
(3) الطبري: التاريخ، ج 3، (ص 420419).
(4) انظر: ابن أبي داود: ص 137.
(5) نفس المصدر، ص 157.
(6) نفس المصدر، ص 155.
(7) فضائل القرآن، لوحة 57. وانظر السيوطي: الإتقان، ج 4، ص 158.(1/86)
القرآن، مما أظهر الحاجة إلى مصحف يكون إماما للمسلمين في كافة الأمصار، خاصة بعد أن برز الاختلاف في القراءة، وهو ما تم في خلافة عثمان، وسيكون ذلك حديث المبحث التالي.(1/87)
القرآن، مما أظهر الحاجة إلى مصحف يكون إماما للمسلمين في كافة الأمصار، خاصة بعد أن برز الاختلاف في القراءة، وهو ما تم في خلافة عثمان، وسيكون ذلك حديث المبحث التالي.
المبحث الثاني توحيد المصاحف ونسخها في خلافة عثمان
أولا: الأسباب والدوافع:
كان القرآن الكريم أهم شيء حمله المسلمون إلى البلاد التي بلغتها حركة الفتح المستمرة في كل اتجاه في عهد الخلافة الراشدة، وكان تعلم القرآن وقراءته أهم ما يشغل بال الداخلين في الدين الجديد، فظهرت لذلك في الأمصار الإسلامية مدارس لتعليم القرآن وقراءته، كان على رأسها في كل مصر جماعة من الصحابة الذين نزلوا فيه، وقد ألمحنا في المبحث السابق إلى أن حركة نسخ المصاحف في الأمصار كانت في اتساع مستمر، وكان ذلك سواء تعليم القراءة أم نسخ المصاحف يتم في ظل رخصة الأحرف السبعة، التي أذن بها النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن تيسيرا على المسلمين، ويبدو أن آثار تلك الرخصة قد ظهرت في الأمصار الإسلامية بصورة أكثر وضوحا منها في المدينة بسبب البعد عن مهبط الوحي، ومكان الحفظة، وبسبب الامتزاج اللغوي، سواء بين العرب أنفسهم أم بينهم وبين غيرهم من الداخلين في الإسلام.
وقد مرت سنوات خلافة الصديق، التي تم فيها ذلك الإنجاز العظيم الذي حفظ القرآن، مصونا كاملا في الصحف التي ظلت محفوظة في دار الخلافة، ثم سنوات خلافة عمر بن الخطاب الذي كانت أيامه فتحا على المسلمين في كل جانب، وقد أتاحت حركة الفتح أن يلتقي المسلمون خاصة من الجيل الذين أخذوا من الصحابة ويتدارسوا القرآن ويتذاكرونه، وكان كل واحد يقرأه مثل ما سمعه وتعلمه من الصحابي الذي تلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلّم، ولا شك في أن قراءات الصحابة التي تلقوها عن النبي صلى الله عليه وسلّم كانت تضم كثيرا من وجوه الأحرف السبعة، وتلقّى جيل التابعين تلك القراءات عمن أقرأهم من الصحابة، وتراجعوا في بعض وجوه القراءات، وادعى بعضهم أن قراءته أصح من قراءة غيره.
وكانت مظاهر تلك الحالة أشد وضوحا في خلافة عثمان بن عفان، وتعطي الروايات
صورا مختلفة لذلك الخلاف، في القراءة، وعلى مستويات متعددة. فمن ميدان الحرب واختلاف الجند إلى ميدان التعليم واختلاف المعلمين وتلاميذهم. ويبدو أن حالات تنازع المسلمين في قراءة كلمات من القرآن قد تكاثرت أخبارها على مسامع الخليفة وكبار الصحابة، مما جعلهم يفكرون في الوسائل التي يمكن بها تفادي النتائج الخطيرة التي يمكن أن تترتب على مثل ذلك الخلاف.(1/88)
وكانت مظاهر تلك الحالة أشد وضوحا في خلافة عثمان بن عفان، وتعطي الروايات
صورا مختلفة لذلك الخلاف، في القراءة، وعلى مستويات متعددة. فمن ميدان الحرب واختلاف الجند إلى ميدان التعليم واختلاف المعلمين وتلاميذهم. ويبدو أن حالات تنازع المسلمين في قراءة كلمات من القرآن قد تكاثرت أخبارها على مسامع الخليفة وكبار الصحابة، مما جعلهم يفكرون في الوسائل التي يمكن بها تفادي النتائج الخطيرة التي يمكن أن تترتب على مثل ذلك الخلاف.
كانت الكوفة التي نزلها الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود معلما وفقيها من أكثر الأمصار الإسلامية التي تشير الروايات إلى وقوع اختلاف في القراءة فيها، فينقل ابن حجر أن عمر أنكر على ابن مسعود قراءته (عتى حين)، أي (حتى حين) وكتب إليه:
إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل، فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل، وكان ذلك قبل أن يجمع عثمان الناس على قراءة واحدة (1). ويروي ابن أبي داود «أن ناسا كانوا بالعراق، يسأل أحدهم عن الآية، فإذا قرأها قال فإني أكفر بهذه، ففشا ذلك في الناس، واختلفوا في القرآن» (2).
ورواية الزهري عن أنس بن مالك في نسخ المصاحف سترد بعد قليل تشير إلى اختلاف أهل العراق وأهل الشام في القراءة، وهم في غزوة في بقاع أرمينية وأذربيجان، مما دفع حذيفة بن اليمان (ت 36هـ) إلى التوجه إلى دار الخلافة يدعو إلى وضع حد لذلك الخلاف. ويروي ابن الأثير في الكامل (3): أن حذيفة بن اليمان خرج إلى جهة أذربيجان ومعه سعيد بن العاص، فلما رجعا قال حذيفة لسعيد: لقد رأيت في سفرتي هذه أمرا لئن ترك الناس ليختلفنّ في القرآن ثم لا يقومون عليه أبدا. قال: وما ذاك؟
قال: رأيت أناسا من أهل حمص يزعمون أن قراءتهم خير من قراءة غيرهم، وأنهم أخذوا القراءة عن المقداد، ورأيت أهل دمشق يقولون إن قراءتهم خير من قراءة غيرهم، ورأيت أهل الكوفة يقولون مثل ذلك، وأنهم قرءوا على ابن مسعود، وأهل البصرة يقولون مثل ذلك، وأنهم قرءوا على أبي موسى، ويسمون مصحفه (لباب القلوب). فلما وصلوا إلى الكوفة أخبر حذيفة الناس بذلك وحذرهم ما يخاف، فوافقه أصحاب رسول
__________
(1) فتح الباري، ج 10، ص 402.
(2) المصاحف، 23. وانظر العز بن عبد السلام: الفوائد، ص 26.
(3) ج 3، ص (5655). وانظر ابن خلدون: مج 2، ص 1019.(1/89)
الله صلى الله عليه وسلم وكثير من التابعين، وقال له أصحاب ابن مسعود: ما تنكر؟ ألسنا نقرأه على قراءة ابن مسعود؟ فغضب حذيفة ومن وافقه وقالوا: إنما أنتم أعراب فاسكتوا، فإنكم على خطأ. وقال حذيفة: والله لئن عشت لآتينّ أمير المؤمنين ولأشيرنّ أن يحول بين الناس وبين ذلك، فأغلظ له ابن مسعود، فغضب سعيد وقام، وتفرق الناس، وغضب حذيفة وسار إلى عثمان فأخبره بالذي رأى.
ويروي ابن أبي داود (1) عدة روايات عن أبي الشعثاء، منها أنه قال: «كنا جلوسا في المسجد وعبد الله يقرأ فجاء حذيفة فقال: قراءة ابن أم عبد، وقراءة أبي موسى الأشعري، والله إن بقيت حتى آتي أمير المؤمنين يعني عثمان لأمرته بجعلها قراءة واحدة». وفي أخرى أنه قال «كنت جالسا عند حذيفة وأبي موسى وعبد الله بن مسعود، فقال حذيفة: أهل البصرة يقرءون قراءة أبي موسى، وأهل الكوفة يقرءون قراءة عبد الله.
أما والله أن لو قد أتيت أمير المؤمنين لقد أمرته بغرق هذه المصاحف».
ويروي الطبري وابن أبي داود عن أيوب السختياني (13168هـ) أن أبا قلابة (ت بين 104و 107هـ) (2): لما كان في خلافة عثمان، جعل المعلم يعلّم قراءة الرجل والمعلم يعلّم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين قال أيوب: فلا أعلمه إلا قال حتى كفر بعضهم بقراءة بعض، فبلغ ذلك عثمان، فقام خطيبا فقال: «أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون، فمن نأى عني من أهل الأمصار أشد فيه اختلافا وأشد لحنا، اجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إماما».
وبذلك تضافرت الأسباب والدوافع التي جعلت عثمان رضي الله عنه يفكر في جمع الناس على مصحف موحد في رسمه وهجائه، يجمعهم على قراءة واحدة، القراءة العامة التي كان يقرأها عامة الصحابة في المدينة وفي غيرها من الأمصار وهي القراءة التي كتب عليها زيد القرآن زمن النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة الصديق.
ثانيا: إتمام العمل، والقائمون به:
وكان أول ما بدأ به الخليفة الثالث لتحقيق ذلك أن خطب الناس في المدينة، وفيهم
__________
(1) انظر: المصاحف، ص (1413).
(2) الطبري: التفسير، ج 1، ص 61. وابن أبي داود: ص 21. وانظر: الداني: المقنع، ص 7.(1/90)
كثير من الصحابة، يستشيرهم ويدعوهم إلى القيام بهذه المهمة. ويروي ابن أبي داود أن سويد بن غفلة الجعفي (ت 81هـ) قال: سمعت عليّ بن أبي طالب يقول (1): يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرا (أو قولوا له خيرا) في المصاحف وإحراق المصاحف، فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعا، فقال: ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفرا، قلنا: فما ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة ولا يكون اختلاف، قلنا: فنعم ما رأيت».
والرواية المشهورة التي تحكي خطوات ذلك العمل الكبير هي التي يرويها أبو عبيد في فضائله (2)، والبخاري في صحيحه (3)، وابن أبي داود في المصاحف (4)، وابن النديم في الفهرست (5)، والداني في المقنع (6)، وغير ذلك من المصادر (7). عن ابن شهاب الزهري (ت 124هـ) عن أنس بن مالك (ت بين 9391هـ). ونص رواية البخاري «حدثنا موسى، حدثنا إبراهيم، حدثنا ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا. حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان
__________
(1) المصاحف، ص 22.
(2) فضائل القرآن، لوحة 36.
(3) الجامع الصحيح، ج 6، ص 226.
(4) المصاحف، ص 18.
(5) الفهرست، ص 24.
(6) المقنع، ص 5.
(7) انظر: أبو حاتم الرازي: ج 1، ص 146. والسيوطي: الإتقان، ج 1، ص 169.(1/91)
الصحف إلى حفصة. وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
«قال ابن شهاب: وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت (أنه) سمع زيد بن ثابت قال:
فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجََالٌ صَدَقُوا مََا عََاهَدُوا اللََّهَ (23)} [الأحزاب]، فألحقناها في سورتها في المصحف».
وتتحدث هذه الرواية عن السبب الذي دفع الخليفة الثالث أن يأمر بتوحيد المصاحف والذي تحدثنا عنه في مطلع هذا المبحث وهو الخوف من نتيجة ذلك الخلاف الذي بدأ في قراءة كلمات من القرآن على مستقبل الأمة ووحدتها.
وتتحدث أيضا عن الأصل الذي اعتمد عليه في نسخ المصحف العثماني، وهو الصحف التي كتبت في خلافة الصديق، بيد زيد بن ثابت من القطع التي كتبت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وتشير إلى ترجيح لسان قريش حين ظهور أي خلاف بين زيد المدني وبين من معه من الصحابة القرشيين، وسيأتي بعد قليل تفصيل علاقة المصحف العثماني برخصة الأحرف السبعة، والقراءة (أو الحرف) التي كتب عليها المصحف العثماني.
أما الجماعة الذين تولوا العمل فقد كان على رأسهم زيد بن ثابت، الذي كان من ألزم الصحابة لكتابة الوحي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي تولى كتابة القرآن في المصحف في خلافة الصديق، وقد اجتمع لزيد بن ثابت من الصفات ما يؤهله للقيام بذلك العمل خير قيام، فقد تربى في كنف الوحي، إذ كان عمره مقدم النبي المدينة مهاجرا إحدى عشرة سنة (1). ويروى أنه قال (2): «أتي بي النبي صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة، فقالوا:
يا رسول الله هذا غلام بني النجار، وقد قرأ مما أنزل عليك سبع عشرة سورة، فقرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبه ذلك»، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استصغر يوم بدر جماعة فردّهم
__________
(1) ابن قتيبة: المعارف، ص 113. وابن عبد البر: ج 2، ص 537. والذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 2، ص 207.
(2) الباقلاني: ص 370. والذهبي: المصدر السابق، ج 2، ص 207.(1/92)
منهم زيد بن ثابت، فلم يشهد بدرا، ثم شهد أحدا وما بعدها من المشاهد (1). ورمي يوم اليمامة بسهم فلم يضره (2). ويروي الذهبي أن ابن عمر قال يوم مات زيد بن ثابت (3): يرحمه الله، فقد كان عالم الناس في خلافة عمر وحبرها، فرقهم عمر في البلدان، ونهاهم أن يفتوا برأيهم، وحبس زيد بن ثابت بالمدينة يفتي أهلها. ويروي ابن سعد أن سليمان بن يسار (10734هـ) قال (4): ما كان عمر ولا عثمان يقدمان على زيد بن ثابت أحدا في القضاء والفتوى والفرائض والقراءة. ويروى أن عامرا الشعبي قال (5): غلب زيد بن ثابت الناس بالقرآن والفرائض. وهو إضافة إلى ذلك كان يحفظ القرآن ويقرأه بالعرضة الأخيرة التي عرض بها جبريل عليه السلام القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قبضه الله فيه (6). وقد ظل زيد مترئسا بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض في عهد عمر وعثمان وعلي في مقامه بالمدينة وبعد ذلك خمس سنين حتى ولي معاوية سنة أربعين فكان أيضا حتى توفي سنة خمس وأربعين (7).
ويبدو من الطبيعي بعد ذلك أن يولي الصديق زيد بن ثابت كتابة القرآن اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأن يولي عثمان زيد بن ثابت أمر الجماعة التي قامت بنسخ المصاحف الموحدة، لأنه كان أعلم من غيره وأكثر ممارسة في هذا المجال. ويقول القاضي أبو بكر الباقلاني (8): ويدل على صحة اختيار زيد أن أحدنا اليوم إذا أراد أن يكتب مصحفا
__________
(1) ابن عبد البر: ج 2، ص 537.
(2) نفس المصدر، ج 2وص 538.
(3) سير أعلام النبلاء، ج 2، ص 310.
(4) الطبقات الكبرى، ج 2، ص 359.
(5) مكي: الإبانة، ص 53. وانظر: ابن عبد البر، ج 2، ص 539.
(6) الداني: المقنع، ص 121. وانظر البخاري: ج 6، ص 229. وكتاب الهجاء لمجهول (مخطوط) منه نسخة (ميكروفلم) في معهد المخطوطات، ورقة 2/ أ.
(7) انظر: ابن سعد: ج 2، ص 359. وقد اختلف في تحديد سنة وفاة زيد إلا أن أكثر المصادر على ما ذكر. انظر: ابن سعد: ج 2، ص 360. وابن قتيبة: المعارف، ص 113. وابن عبد البر: ج 2، ص 540. والذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 2، ص (316315) ومعرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار (له)، ط 1، القاهرة، دار الكتب الحديثة، 1969، ج 1، ص 37.
(8) نكت الانتصار ص 369(1/93)
يتخذه إماما لا يلتمس له أقدم أهل عصره حفظا وأفهمهم وأشجعهم، وإنما يلتمس أحسنهم ضبطا وخطا، وأحضرهم فهما، دون من كانت تلك صفاته.
ومن ثم يبدو طبيعيا أيضا ألا يشترك عبد الله بن مسعود، الذي كان في الكوفة وقت نسخ المصاحف في ذلك العمل (1). إضافة إلى أنه لم يكن من بين كتبة الوحي (2)
الذين كتبوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ربما كان يعرف الكتابة، لكن تلك ميزة يقدم من اتصف بها في عمل مثل كتابة المصحف. ولا يعني ذلك تجهيلا لابن مسعود في علم القرآن، فقد كان من أوائل الذين أسلموا بمكة، وقد أخذ من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة (3). وهو الذي قال فيه النبي حين سمعه يقرأ القرآن «من أحبّ أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد» (4). لكن زيدا كان إماما في الرسم إضافة إلى حفظه وابن مسعود كان إماما في الأداء (5). وربما ألقت قصة رفض ابن مسعود في البداية إحراق مصحفه ظلالا على ما قيل في عدم إشراكه في نسخ المصاحف وعزله من ذلك العمل مما سنشير إليه بعد قليل.
أما الثلاثة الذين تشير الرواية إلى اشتراكهم مع زيد فهم: عبد الله بن الزبير الذي ولد في السنة الأولى أو الثانية من الهجرة، وهو أول مولود في الإسلام من المهاجرين بالمدينة، وقتل بمكة سنة ثلاث وسبعين من الهجرة (6). وسعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية ولد عام الهجرة وتوفي سنة تسع وخمسين، وكان سعيد هذا أحد أشراف قريش ممن جمع السخاء والفصاحة، واستعمله عثمان على الكوفة وغزا بالناس طبرستان فافتتحها (7). والثالث عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، كان ابن عشر سنين
__________
(1) الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 1، ص 349. وانظر: ابن سعد، ج 6، ص 13.
(2) انظر أسماء كتاب النبي وكتبة الوحي في المصادر المذكورة في ص 49.
(3) ابن سعد، ج 2، ص 344.
(4) الذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 35. وانظر ابن الجزري: غاية النهاية في طبقات القراء، القاهرة، مكتبة الخانجي، ص 193، ج 1، ص 459.
(5) الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 1، ص 249.
(6) ابن عبد البر: ج 3، ص 905و 907.
(7) نفس المصدر، ج 2، ص (624621). وانظر أيضا: ابن حجر: ج 10، ص 393.(1/94)
حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم (1). فكان هؤلاء الثلاثة وهم في ذروة الشباب يعملون مع زيد بن ثابت الذي كان أكثرهم ممارسة لذلك العمل رضي الله عنهم جميعا.
وينقل الطبري رواية ابن شهاب عن خارجة بن زيد أن عثمان قرن بزيد أبان بن سعيد بن العاص وحده (2). وما ذكره البخاري وغيره هو الصحيح المشهور (3).
ويروي ابن سعد (4) وابن أبي داود (5)، أن محمد بن سيرين قال: إن عثمان جمع اثني عشر رجلا من قريش والأنصار فيهم أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت في جمع القرآن.
وتشير روايات أخرى إلى اشتراك جماعة غير أولئك، منهم مالك بن أبي عامر جد مالك بن أنس، وكثير بن أفلح، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص (6). وكأن ابتداء الأمر إن صحت الروايات كان لزيد والثلاثة الذين كانوا معه، ثم احتاجوا إلى من يساعد في الكتابة بحسب الحاجة إلى عدد المصاحف التي ترسل إلى الآفاق (7).
وإشارة هذه الروايات إلى مشاركة أبيّ بن كعب في نسخ المصاحف كانت مثار تساؤل من الباحثين، قدماء ومحدثين، ذلك أن الروايات تضطرب في تحديد سنة وفاته فبعضها يجعلها في سنة تسع عشرة وبعضها سنة اثنتين وعشرين وأخرى سنة ثلاثين أو اثنتين وثلاثين (8). وبالمقابل فإن تحديد تاريخ نسخ المصاحف غير محدد كما سيأتي فلا يمكن لذلك ترجيح شيء في هذا الصدد الآن. لكن الذهبي يصف رواية ابن سعد
__________
(1) ابن عبد البر: ج 2، ص 857.
(2) التفسير، ج 1، ص 60.
(3) القرطبي، ج 1، ص 52. وانظر ابن عطية (عبد الحق بن أبي بكر): مقدمة تفسيره (الجامع المحرر)، نشرها آرثر جفري، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1954، ص 275.
(4) الطبقات الكبرى، ج 3، ص 502.
(5) المصاحف، ص 25. وانظر مكي: الإبانة، ص 29.
(6) الباقلاني: ص 358. وانظر القسطلاني: ج 1، ص 61.
(7) انظر القسطلاني: ج 1، ص 63. ود. عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن، ص 115.
(8) انظر ابن قتيبة: المعارف، ص 113. وابن عبد البر: ج 1، ص 65. والذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 1، ص 287.(1/95)
لمشاركة أبيّ بن كعب في نسخ المصاحف بقوله: هذا إسناد قوي لكنه مرسل. ثم يقول (1): «وما أحسب أن عثمان ندب للمصحف أبيا، ولو كان كذلك لاشتهر، ولكان الذكر لأبيّ لا لزيد، والظاهر وفاة أبيّ في زمن عمر، حتى أن الهيثم بن عدي وغيره ذكر موته سنة تسع عشرة، وقال محمد بن عبد الله بن نمير، وأبو عبيد، وأبو عمر الضرير: مات سنة اثنتين وعشرين، فالنفس إلى هذا أميل»، ويروى أن عمر قال يوم موته (2): اليوم مات سيد المسلمين، أو سيد الناس. وتشير بعض الروايات كما سيأتي بعد قليل إلى بعض مساهمات له في تمحيص وتصحيح بعض صور الكتابة في القرآن (3). لكن أبيّا لم يشهد مكان العمل كما تشير الرواية فقد كانت ترسل إليه الاستشارة مكتوبة على كتف شاة ليعطي رأيه فيها (4). ولا شك في أن أبيّا كان أهلا لأن يؤخذ رأيه في قضايا الرسم والقراءة، فهو من أوائل كتاب الوحي في المدينة، وكان أحد حفاظ القرآن زمن النبي صلى الله عليه وسلم وربما نجد تفسيرا لعدم حضوره إلى المكان الذي تعمل فيه الجماعة في نسخ المصاحف، أنه كان حينئذ مريضا ومرضه هذا هو الذي أعفاه من الخروج إلى الشام لتعليم أهلها القرآن في خلافة عمر بن الخطاب، حين طلب عامله عليها أن يعينه ببعض الصحابة يعلّمون الناس هناك (5) لكن بعد هذا كله يظل الآن التساؤل حول الفترة التي ترجع إليها مساهمات أبيّ في نسخ المصاحف، وهل كانت مقصورة على عهد الصديق وعمر، أم أن حياة أبيّ امتدت إلى خلافة عثمان وشهد عمل الجماعة التي نسخت المصاحف وأسهم من بعيد في ذلك العمل دون إجابة محددة.
ثالثا: ما افتقده زيد من القرآن في الجمع الأول، وأثبته بعد السؤال عنه:
وتشير الرواية السابقة لابن شهاب الزهري عن خارجة بن زيد في نسخ المصاحف
__________
(1) الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 1، ص 287.
(2) ابن قتيبة: المعارف، ص 113. والذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 33.
(3) أبو عبيد: فضائل القرآن، لوحة 37.
(4) أبو عبيد: فضائل القرآن، لوحة 37. وانظر ابن فارس: ص 9.
(5) ابن سعد: ج 2، ص 356. وانظر مقدمة كتاب المباني لمجهول (ألفه سنة 425هـ) نشر آرثر جفري، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1954، ص 49.(1/96)
زمن عثمان والتي أدرجها في حديث أنس إلى فقدان زيد آية من سورة الأحزاب، وقد جاءت الرواية دون تحديد للفترة، فهل كان ذلك في جمع الصديق أو في نسخ المصاحف في خلافة عثمان؟ إن إدراجها في رواية نسخ المصاحف يوحي أن ذلك قد كان في العمل الأخير، وهو أمر بعيد، خاصة أن المصاحف العثمانية هي نسخة مطابقة لصحف الصديق منقولة عنها. لكنا حين نعود إلى روايات جمع الصديق نجدها تتحدث عن فقدان زيد آخر سورة التوبة {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (128)} إلى قوله:
{وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)}. أما الآية التي تشير إلى فقدانها رواية الزهري عن خارجة فهي من سورة الأحزاب {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجََالٌ صَدَقُوا مََا عََاهَدُوا اللََّهَ عَلَيْهِ (23)} إلى {وَمََا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)}. فهناك إذن روايتان عن آيتين سقطتا في جمع القرآن، وتم إثباتهما بعد المراجعة (1).
إن الرواية الأولى صريحة بأن آخر سورة التوبة سقط في الجمع الأول زمن الصديق، والرواية الثانية لا تشير إلى زمن محدد لفقدان آية من سورة الأحزاب، لكن ورودها بعد رواية نسخ المصاحف في خلافة عثمان قد يوهم أنها سقطت في هذا العمل الأخير.
ويبدو أن هذا الوهم كان بسبب إيراد روايات جمع القرآن ونسخه متداخلة في صعيد واحد (2). ويذهب بعض العلماء إلى أن ذلك كله كان في جمع الصديق (3). ويروي مؤلف (كتاب المباني لنظم المعاني) في مقدمته رواية عن الزهري عن خارجة بن زيد عن أبيه تتحدث عن جمع القرآن في خلافة الصديق، وهي تشبه رواية الزهري عن عبيد بن السباق عن زيد المشار إليها سابقا إلا أنها تنفرد عنها بذكر خبر فقدان الآيتين في ذلك الجمع لا فقدان آية واحدة، وهي بذلك تزيل بعض الغموض الذي تسببه رواية الزهري عن خارجة، التي أدرجها في رواية أنس بن مالك عن توحيد المصاحف ونسخها في خلافة عثمان. والرواية هي (4): «وفي لفظ الشيخ أبي سهل الأنماري (محمد بن محمد بن علي الطالقاني)، رحمه الله، حدثنا أبو يعقوب
__________
(1) انظر ابن أبي داود: ص (3029).
(2) انظر ابن حجر: ج 10، ص 385.
(3) انظر ابن كثير: ص 46. وابن عاشر الأنصاري (عبد الواحد بن أحمد بن علي): فتح المنان المروي بمورد الضمآن. (مخطوط). دار الكتب المصرية (تيمور 215تفسير)، ص 34.
(4) مقدمة كتاب المباني، ص 20.(1/97)
يوسف بن موسى قال: حدثنا محمد بن يحيى القطعي، قال: حدثنا عبيد بن عقيل، قال: حدثنا خارجة بن مصعب عن عمارة بن غزية عن الزهري قال: حدثني خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال: جاء عمر بن الخطاب إلى أبي بكر (وذكر خبر جمع القرآن في خلافة الصديق ثم) قال (زيد): فعرضت واحدة فوجدتني قد أسقطت هذه الآية (الأحزاب) {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجََالٌ صَدَقُوا مََا عََاهَدُوا اللََّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى ََ نَحْبَهُ (23)} فسألت المهاجرين والأنصار فلم أجد (ها) عند أحد منهم، وقد كنت أعرفها، وقد كان أملاها عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكرهت أن أثبتها حتى يشهد معي غيري، فأصبتها، عند خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين (1)، فكتبتها، ثم عرضت عرضة أخرى، فوجدتني قد أسقطت آيتين، وقد عرفتهما (التوبة) {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (128)} حتى ختم الآيتين، فسألت عنهما المهاجرين والأنصار فلم أجدهما عند أحد منهم إلا عند خزيمة بن ثابت الذي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته فكتبتها في آخر براءة. وعلى هذا فإن العمل الذي قام به كل من زيد ومن معه في خلافة عثمان كان تاما لم يحدث فيه فقدان شيء، ولم يكن يتعدى الأساس الذي وضعه زيد في خلافة الصديق نقلا عن القطع التي كتب عليها القرآن العظيم في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلّم.
رابعا: ترتيب الآيات والسور:
وتنقلنا الملاحظة الأخيرة إلى موضوع ترتيب الآيات في السور وتتابع السور في المصحف، وإذا لم يكن لدينا نص صريح يوضح الأساس الذي تم بموجبه ترتيب السور فإن هناك عدة روايات تؤكد أن وضع الآيات في السور كان يتم بتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلّم وبأمره. يبين ذلك الحديث الذي يرويه ابن عباس عن عثمان بن عفان رضي الله عنه
__________
(1) انظر تفصيل قصة إجازة شهادته بشهادتين: ابن سعد: ج 4، ص 378. وقد اختلفت الروايات في تحديد اسم الصحابي الذي وجد زيد عنده الآيات التي افتقدها بين أبي خزيمة الأنصاري وبين خزيمة بن ثابت الأنصاري، وتقارب الاسمين وورودهما في بعض الروايات بصيغة واحدة يوحي أنهما اسمان لصحابيّ واحد هو خزيمة بن ثابت الأنصاري. وانظر في هذه المسألة أيضا ابن سعد: ج 3، ص 490، وج 4، ص 378. وابن حجر: ج 10، ص 388. والقسطلاني: ج 1، ص 53، هامش (2).(1/98)
أنه قال (1): «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب، فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وإذا أنزل عليه الآية يقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا». ويروي أبو عبيد أن سعيد بن المسيب (9413هـ) قال (2): إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال: مروت بك وأنت تقرأ من هذه السورة ومن هذه السورة، فقال: أخلط الطيب بالطيب، فقال: اقرأ السورة على وجهها أو قال على نحوها. ويروى أن زيد بن ثابت قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع» (3) وهي رواية تشير إلى أن عملية ترتيب الآيات أو السور كانت تتم بتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم ويؤكد هذه الرواية قول مالك (4): «إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعون من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وفي الكلام عن ترتيب الآيات في السور لا ينبغي أن يغيب عن البال الوحدة الموضوعية والأسلوبية التي تبدو في كثير من السور، وهو ما يقطع التفكير في أي احتمال لكون ذلك الترتيب اجتهادا من الصحابة.
وإذا كان تتابع الآيات في السور محددا معلوما فإن قراءة النبي للسور في الصلاة وخارجها يبدو أنها كانت تتم على نسق معلوم قد عرف وشهر بين الصحابة (5). ويروي
__________
(1) انظر: أبو عبيد: فضائل القرآن، لوحة 37و 35. وغريب الحديث له، ج 4، ص 104. وابن أبي داود، ص 31. والحاكم (أبو عبد الله محمد بن عبد الله): المستدرك على الصحيحين في الحديث، ط 1، حيدرآباد (الهند)، دائرة المعارف النظامية، 1340هـ، ج 2، ص 221.
والسيوطي: الإتقان، ج 1، ص 172. والقسطلاني: ج 1، ص 26. واللفظ لابن أبي داود. وقال عنه الحاكم «حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه».
لكن الأستاذ أحمد محمد شاكر عقب على إيراد ابن حبان للحديث (صحيح ابن حبّان تحقيق أحمد محمد شاكر)، دار المعارف بمصر، 1952، ج 1، ص 43، هامش (22) بقوله: أخطأ الحافظ ابن حبّان رحمه الله في تصحيح كما أخطأ غيره من العلماء.
(2) فضائل القرآن، لوحة 20. وانظر السيوطي: الإتقان، ج 1، ص 308.
(3) الحاكم، ج 2، ص 229. وقال عنه: «حديث صحيح على شرط الشيخين»، وانظر الساعاتي:
ج 18، ص 30.
(4) الداني: المقنع، ص 8. علم الدين السخاوي: الوسيلة، ورقة 3ب. القرطبي: ج 1، ص 60.
(5) انظر: أبو عبيد: فضائل القرآن، لوحة 13.(1/99)
ابن سعد (1)، والبخاري (2)، أن جبريل عليه السلام كان يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلّم كل سنة مرة، في شهر رمضان، فلما كان العام الذي قبض فيه عرضه عليه مرتين، ولا شك أن ذلك العرض كان يتم على نسق معين وربما قد عرفه بعض الصحابة، لا سيما أن من بينهم عددا من الحفاظ للقرآن منهم: عثمان بن عفان، وأبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وسعد بن عبيد، وأبو زيد، وعبادة بن الصامت، وأبو أيوب، وتميم الداري، ومجمع بن جارية، وعبد الله بن مسعود، وبعض هؤلاء أكمل الحفظ بعد موت النبي وأكثرهم حفظه والنبيّ صلى الله عليه وسلم بينهم لما يلحق بالرفيق الأعلى (3). ولا بد أن هؤلاء كانوا يحفظون القرآن على نسق معين قد عرفوه من النبي صلى الله عليه وسلم ومن ثم لعلهم لم يجدوا صعوبة في ترتيب السور حين جمعوا القرآن في الصحف، لشهرة ذلك بينهم، ومما قد يدل على أن ترتيب السور كان قد عرف منذ ز من النبي صلى الله عليه وسلم أن ترتيب السور في المصاحف التي تنسب إلى بعض الصحابة قبل جمع المصحف العثماني لا يختلف عن الترتيب المشهور في المصحف العثماني إلا قليلا، وهي تتفق في تقديم السور الطويلة ثم التي تليها في القصر في نسق قريب من ترتيب المصحف العثماني إلا ما يذكر من ترتيب المصحف المنسوب لعلي بن أبي طالب أنه كان مرتبا على أسباب النزول (4). ولعل الاختلاف ناتج من أن هؤلاء الصحابة لم يقفوا على آخر ما سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. ونذكر هنا تعقيب ابن النديم على ترتيب مصحف ابن مسعود حين يقول (5): «رأيت عدة مصاحف ذكر نساخها أنها مصحف ابن مسعود ليس فيها مصحفين (؟) متفقين» وكأن ابن النديم يشك في الترتيب الذي ذكره للسور في أن يكون محفوظا عن ابن مسعود، خاصة إذا تذكرنا أن ما عدا المصاحف المنسوخة من
__________
(1) الطبقات الكبرى، ج 2، ص (195194).
(2) الجامع الصحيح، ج 6، ص 229.
(3) انظر: ابن سعد: ج 2، (ص (356355)، والبخاري: ج 6، ص (230229). والسيوطي:
الإتقان، ج 1، ص 199.
(4) انظر ترتيب المصاحف المنسوبة لبعض الصحابة: السيوطي: الإتقان، ج 1، ص 181وما بعدها.
والزنجاني (أبو عبد الله): تاريخ القرآن، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1935، ص 47 وما بعدها.
(5) الفهرست، ص 26.(1/100)
المصحف العثماني قد أحرقت منذ خلافة عثمان، وتلقت الأمة ذلك الترتيب المشهور بالقبول. فكل حديث بعد ذلك عن ترتيب السور في مصاحف الصحابة ضرب من الحدس يفتقد الدليل وتعوزه الحجة والنقل الصحيح.
والعلماء مجمعون على أن ترتيب الآيات في السور كان يتم بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم يقول السيوطي (1): «الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي، لا شبهة في ذلك». أما ترتيب السور في المصحف فقد اختلفوا في كونه توقيفا عن النبي أو اجتهادا من الصحابة. وجمهور العلماء كما يقول السيوطي على الثاني (2). لكن الأدلة على ذلك تبقى ظنية، ويظل احتمال معرفة الصحابة لهذا الترتيب من النبي صلى الله عليه وسلم هو الأرجح، خاصة أن الأحاديث الواردة في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت على أنه رتبها في الصلاة على نحو ما هي مرتبة الآن (3). ومن ثم ليس هناك دليل على ما يبدو للقول بأن جمع الصديق للقرآن لم يكن مرتب السور، خاصة أنه قد عرف أن الصديق كان أول من جمع القرآن بين اللوحين وهي تسمية تدل على أنه كان مرتبا ولا دليل في تسمية جمعه بالصحف على أنها لم تكن مرتبة السور حتى رتبها الصحابة حين نسخوا المصاحف في خلافة عثمان (4).
خامسا: عدد المصاحف، وتاريخ النسخ:
وتشير رواية الزهري عن أنس السالفة إلى أنه بعد أن أنجز زيد والجماعة الذين عملوا معه نسخ الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة (5). وأرسل إلى
__________
(1) الإتقان، ج 1، ص 172.
(2) نفس المصدر، ج 1، ص 176.
(3) العز بن عبد السلام: الفوائد، ص 26. وانظر في هذا الموضوع: الباقلاني: ص 81. وابن عطية:
275. والقرطبي: ج 1، ص 60. والزركشي: ج 1، ص 236. وابن حجر: ج 10، ص 389 و 415. والسيوطي: الإتقان، ج 1، ص 172وما بعدها. والقسطلاني: ج 1، ص 30.
(4) انظر ابن حجر: ج 10، ص 393. والقسطلاني: ج 1، ص 59.
(5) روي أن عبد الله بن عمر قبض الصحيفة بعد موت حفصة، فعزم عليه مروان والي المدينة فأخذها منه وأتلفها أو أحرقها مخافة أن يكون فيها خلاف ما في نسخ عثمان فيقع الاختلاف (انظر ابن أبي داود، ص 21. ومكي: الإبانة، ص 26).(1/101)
كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
والرواية في ظاهرها لا تشي إلى عدد المصاحف التي تم نسخها ولا أسماء الأمصار التي أرسلت إليها، وإنما نكتفي بالإشارة إلى إرسال المصاحف إلى كل أفق من آفاق الدولة الإسلامية آنذاك وهي عبارة توحي بأن عدد تلك المصاحف كان كبيرا، خاصة أن الهدف منها هو توحيد المصاحف وقراءة القرآن في كافة الأمصار الإسلامية، فمن المتوقع إذن إرسال نسخة إلى كل إقليم أو مصر، لكن وردت روايات عن الأجيال التي تلت جيل الصحابة تشير إلى عدد تلك المصاحف، وينقل ابن أبي داود روايتين في ذلك، الأولى عن حمزة الزيات (ت 156هـ)، والتي تجعل عدد المصاحف أربعة كان منها واحد أرسل إلى الكوفة، والثانية عن أبي حاتم السجستاني (ت 255هـ)، وتجعل عددها سبعة، أرسل واحد منها إلى مكة، وآخر إلى الشام، وثالث إلى اليمن، ورابع إلى البحرين، وخامس إلى البصرة، وسادس إلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحد منها (1).
لكن لم يسمع لمصحفي اليمن والبحرين خبر (2). وفي رواية القرطبي أن عثمان وجه للعراق والشام ومصر بأمهات (3). ويلاحظ هنا أن المصاحف التي تحدث الداني عن مرسوم خطوطها في «المقنع» تقتصر على «مصاحف أهل الأمصار: المدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام وسائر العراق» (4).
وإذا كانت هذه الروايات غير قاطعة في تحديد عدد المصاحف التي أرسلها الخليفة الثالث فإن تأمل الأسباب التي دفعت إلى توحيد نسخ المصحف يسوغ القول بأن كل الأمصار الإسلامية قد وصلها المصحف الموحد في الترتيب والهجاء، سواء كان ذلك نسخة مما أنتجته الجماعة التي أوكل إليها الخليفة الثالث ذلك العمل، أم نسخة كتبت من إحدى تلك النسخ، فما أن وصلت المصاحف التي نسخت في المدينة إلى الأمصار
__________
(1) المصاحف، ص 34. وانظر مكي: الإبانة، ص 29. والداني: المقنع، ص 9. والسيوطي: الإتقان، ج 1، ص 172.
(2) انظر الجعبري: ورقة 67ب. والسيوطي: الإتقان، ج 1، ص 224.
(3) الجامع لأحكام القرآن، ج 1، ص 54.
(4) المقنع، ص 1.(1/102)
حتى سارع المسلمون إلى نسخ المصاحف منها وعرضها عليها.
وإتماما للخطوة التي بدأت بنسخ المصاحف الموحدة فقد أمر الخليفة بإحراق كل القطع والمصاحف التي كتب فيها القرآن من قبل بعض الصحابة، ليضع بذلك حدا لأي اختلاف يقع، سواء في الرسم أم في القراءة. وقد سارع كل من لديه شيء من ذلك إلى إحراقه، ثقة منه بالمصحف الذي تمتد أصوله إلى ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم والذي ارتضته جموع الصحابة والتابعين في المدينة وغيرها من الأمصار، ولم يتخلف عن ذلك إلا عبد الله بن مسعود ومن تبعه من أهل الكوفة، إذ يروى أنه أنكر تولية زيد بن ثابت نسخ المصاحف دونه، وأبى أن يسلم مصحفه في أول الأمر، وأمر أتباعه بغل مصاحفهم (1). وقد قال أبو بكر الأنباري (2): وما بدا من عبد الله بن مسعود من نكير ذلك فشيء نتجه الغضب، ولا يعمل به، ولا يؤخذ به، ولا يشك في أنه رضي الله عنه قد عرف بعد زوال الغضب منه حسن اختيار عثمان ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي على موافقتهم وترك الخلاف لهم. وقد أشرنا من قبل إلى أسباب اختصاص زيد بن ثابت بمهمة جمع القرآن وكتابته في خلافة الصديق، وتوليته أمر الجماعة التي قامت بنسخ المصاحف في خلافة عثمان.
ولا تشير رواية الزهري السابقة إلى تاريخ محدد لنسخ المصاحف، وتكتفي بالإشارة إلى أن ذلك كان في خلافة عثمان، ومحاولة استخلاص ذلك من دراسة تاريخ أحداث فتح أرمينية وأذربيجان والتقاء جند أهل الشام والعراق في تلك الأصقاع (3)، يبدو أمرا غير ممكن الآن خاصة أن حديث المصادر التاريخية عن ذلك لا يخلو من الغموض والإبهام، ولا سيما أن فتوح تلك الأنحاء قد امتدت لعدة سنوات (4).
__________
(1) انظر: أبو عبيد: فضائل القرآن، لوحة 36. وابن سعد: ج 2، ص 343. وابن أبي داود:
ص (1514).
(2) القرطبي: ج 1، ص 53. وانظر ابن أبي داود: ص 18.
(3) انظر في ذلك: البلاذري: ص (212205)، وص (336333). واليعقوبي: ص 272. والطبري:
التاريخ، ج 4، ص 246. وابن عبد البر: ج 1، ص 335. وابن حزم: ص 343. وابن الأثير:
ج 3، ص 43وص 55. وابن خلدون: مج 2، ص (10181016). ود. عبد الله خورشيد: القرآن وعلومه في مصر. القاهرة، دار المعارف، 1970، ص (4518).
(4) انظر سترك: مادة أرمينية في دائرة المعارف الإسلامية (مترجم)، 1933، ج 1، ص 642.(1/103)
ولكن نجد أن ابن أبي داود قد أخرج من طريق أبي إسحاق عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: خطب عثمان الناس فقال: يا أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة، وأنتم تمترون في القرآن لكن في رواية أخرى: منذ خمس عشرة سنة (1). (ثم ذكر الحديث في جمع القرآن)، وبحساب السنوات منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما بعد ثلاث عشرة أو خمس عشرة سنة يرجح ابن حجر أن يكون ذلك قد وقع في (أواخر سنة أربع وعشرين وأوائل سنة خمس وعشرين). ثم يقول: «وغفل بعض من أدركنا فزعم أن ذلك كان في حدود سنة ثلاثين ولم يذكر لذلك مستندا» (2).
ولا بد من الإشارة بعد ذلك إلى أن نسخ المصحف الذي اجتمعت عليه الأمة كان قد خضع للمراجعة والتمحيص، على نحو ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلب من زيد إعادة قراءة ما كتبه، فيقيم ما به من سقط كما مر ذلك مع أن زيدا ومن معه اعتمدوا على الصحف التي جمع فيها القرآن في خلافة الصديق، إذ إنهم حرصا منهم على الاتفاق في هجاء بعض الكلمات كانوا يرفعون ذلك إلى الخليفة عثمان الذي كان أحد كتبة الوحي على نحو ما حدث في كلمة (التابوت)، أو يستشيرون كبار الصحابة من حفاظ القرآن وكتبة الوحي، ليجتمعوا على رأي واحد في ذلك. ويروي أبو عبيد في فضائل القرآن قوله (3): حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الله بن المبارك، قال:
حدثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن، عن هانئ البربري مولى عثمان قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب (4)، فيها (لم
__________
(1) ابن أبي داود: صفحة (24). والعدد المذكور في الرواية يشير إلى عدد السنوات من وفاة النبي حتى ظهور الحديث عن الاختلاف في القراءة، وقيام عثمان يخطب الناس حول الأمر، في خلافته.
(2) فتح الباري، ج 10، ص 391. وانظر السيوطي: الإتقان، ج 1، ص 170، وقد حدد ابن الأثير (في الكامل، ج 3، ص 55)، تاريخ نسخ المصاحف بسنة ثلاثين وتابعه في ذلك ابن خلدون، (انظر مج 2، ص 1018).
(3) لوحة 73. وقد وصف ابن حجر (المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، ج 3، ص 286) الحديث بقوله: (وفيه ضعف)، وفي نفس الصفحة هامش (2)، وقال البوصيري: رواه إسحاق بإسناد ضعيف.
(4) سبق أن أشرنا (ص 95) إلى الاختلاف في سنة وفاة أبيّ. وهل أدرك نسخ المصاحف أم لا.(1/104)
يتسن)، وفيها (لا تبديل للخلق)، وفيها (فأمهل الكافرين) قال: فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين، وكتب (لخلق الله)، ومحا (فأمهل) وكتب (فمهل)، وكتب (لم يتسنه) ألحق فيها الهاء. وينقل أبو عبيد في رواية أخرى أن هانئا قال: كنت الرسول بين عثمان وبين زيد بن ثابت، فقال زيد: سله عن قوله (لم يتسن) فقال عثمان: اجعلوا فيها الهاء (1).
وهاتان الروايتان توضحان أنه قد كانت هناك مراجعة واستشارة في إثبات صورة كلمة ما، وتبيّنان مدى الحرص على أن يأتي المصحف دقيقا في رسمه، حين يتوقف الكتبة عن إلحاق لام أو هاء، أو حذف ألف حتى يستشار كبار الصحابة من كتبة الوحي وحفظة القرآن في إثبات ذلك أو حذفه.
ويروي الطبري (2)، والداني (3)، عن أبي قلابة أنه قال: حدثني أنس بن مالك، قال:
كنت فيمن يملى عليهم. قال: فربما اختلفوا في الآية، فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعله أن يكون غائبا أو في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما بعدها، ويدعون موضعها، حتى يجيء أو يرسل إليه. وهذه الرواية تشير إلى حرص الكتبة على ألا يكتبوا آية قد يختلف في قراءتها إلا بعد التأكد من الصيغة التي أقرأها النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة، وهكذا تم للمصحف العثماني الغاية في الدقة والضبط، سواء في القراءة العامة التي كتب عليها، أو في دقة رسم الكلمات وهجائها، على ما كان معروفا لديهم من قواعد الهجاء والإملاء.
ومهما يكن من أمر فقد توافرت جهود كبار الصحابة من حفظة القرآن وكتبة الوحي، سواء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أو عهد الصديق وعمر ثم في خلافة عثمان على كتابة القرآن وجمعه محفوظا في الصدور، ومكتوبا في السطور، حتى جاء على أتم صورة يمكن أن يكون عليها كتاب، مصداقا لقوله سبحانه {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ (9)}
[الحجر]، دستورا خالدا للأمة المسلمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير
__________
(1) فضائل القرآن، لوحة 37.
(2) التفسير، ج 1، ص 62.
(3) المقنع، ص 7. وانظر السيوطي: الإتقان، ج 1، ص 170.(1/105)
الوارثين. يقول القاضي أبو بكر الباقلاني (1): «جميع القرآن الذي أنزله الله تعالى، وأمر بإثباته، ولم ينسخه، ولا رفع تلاوته، هو الذي بين اللوحين، الذي حواه مصحف عثمان رضي الله عنه لم ينقص منه شيء، ولا زيد فيه شيء، نقله الخلف عن السلف، وهو معجزة الرسول عليه السلام».
وقد اتفقت كلمة المستشرقين وعلماء الغرب المحققين المنصفين ممن لهم دراسات في هذا المجال وهم لا يؤمنون بطبيعة الحال بكون القرآن منزلا من الله، ووحيا أوحي به إلى محمد صلى الله عليه وسلم على صحة نقله وانتهائه بنصه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهناك بضع شهادات لكبار من أولئك المستشرقين تؤكد أن القرآن هو الكتاب الوحيد في الدنيا الذي بقي نصه محفوظا من التحريف، وأنه لم يتطرق شك إلى أصالته، وأن كل حرف نقرأه اليوم نستطيع أن نثق بأنه لم يقبل أي تغيير من يوم نزوله (2).
ومن المهم قبل أن نتناول القضايا والظواهر الكتابية التي يقدمها ويثيرها رسم المصحف العثماني دراسة الأساس الذي كتب عليه المصحف العثماني، أي القراءة التي اعتمدها الكتبة في رسمهم للكلمات، وهل حرصوا على إثبات بعض مظاهر رخصة الأحرف السبعة في آن واحد كما يزعم بعض الباحثين أو أنهم اعتمدوا القراءة العامة المشهورة التي سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك ما سنحاول دراسته في المبحث التالي، ليتبين الأساس الذي على ضوئه يمكن أن تدرس ظواهر الكتابة بطريقة واضحة المنهج محددة الاتجاه.
__________
(1) نكت الانتصار، ص 59.
(2) انظر نصوص تلك الأقوال في كتاب: النبي الخاتم لأبي الحسن علي الحسني الندوي، ط 1، القاهرة، المختار الإسلامي، 1975، ص (3130).(1/106)
المبحث الثالث القاعدة التي كتب على أساسها المصحف العثماني
اختلف علماء السلف: هل المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة أو على بعضها أو على واحد منها؟
والإجابة على هذا السؤال مهمة جدا قبل محاولة اتخاذ موقف ما من قضايا الرسم لأن التعامل مع الظاهرة الكتابية على أنها كتبت بهذه الطريقة أو تلك لتحتمل عددا من القراءات أو لتمثيل مجموعة من الظواهر اللغوية في آن واحد إن كان ذلك ممكنا كما يذهب بعض الباحثين يختلف عنه في حالة القول بأنها كتبت لتمثيل لفظ محدد أو قراءة معينة. ففي الحالة الأولى سيكون من غير اليسير الوقوف على أصل الظاهرة مع توارد عدة قراءات عليها، وفي الحالة الثانية ونحن لا نستعجل الإجابة هنا على السؤال بنتائج مسبقة سيسهل اكتشاف ذلك الأصل من واقع القراءات وظواهرها، إلى جانب ملاحظة البعد التاريخي في الكتابة التي تمثل ظواهر لغوية كانت موجودة في اللغة، لكن التطور اللغوي أزاحها من الاستعمال، وحافظت الكتابة التي هي أقل تطورا على أشكالها المكتوبة، كما سبق بيان ذلك في الفصل التمهيدي.
وقبل محاولة الإجابة عن ذلك السؤال، لا بد من تحديد مفهوم الأحرف السبعة بقدر ما يمكن ومعرفة علاقة القراءات بها، ولعل من المناسب قبل مناقشة ذلك الكلام عن حديث الأحرف السبعة، لما لهذا الحديث من شأن خطير في تاريخ القرآن (1).
أولا: حديث الأحرف السبعة بين الصحة والشذوذ:
يبدو أن محاولة مناقشة توثيق حديث الأحرف السبعة، والتدليل على صحته وتواتره قد أصبحت من فضول القول، بعد ذلك الإجماع العريض من العلماء وتواتر الروايات
__________
(1) انظر د. عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن، ص 23.(1/107)
التي جاءت في صور متقاربة مؤكدة على معنى واحد وهو «أن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه»، فقد ورد إلينا هذا الحديث عن طريق أربعة وعشرين صحابيا، وستة وأربعين سندا (1). وأورده البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث (2)، ونصّ على تواتره كلّ من أبي عبيد القاسم بن سلام (3)، وأبي عمرو الداني (4). وابن القاصح (5).
ولعل من الغريب جدا بعد الذي قررناه من مذهب أبي عبيد في تواتر الحديث أن نجد جولد تسيهر في معرض كلامه عن الحديث ينسب إلى أبي عبيد قوله في الحديث أنه: «شاذ غير مسند». ويسوق ذلك بطريقة المشكك الذي يريد أن يحرف الكلم عن مواضعه، فهو يقول عن حديث الأحرف السبعة، وهو يتحدث عن المفهوم العددي للسبعة: «الذي روي في مجاميع السنة المعتدّ بها على الرغم من أن ثقة مثل أبي عبيد القاسم بن سلام (توفي 224هـ / 837م) دمغه بأنه شاذ غير مسند» (6).
ولا شك أن رأي أبي عبيد وهو أحد أعلام الإسلام المتقدمين في الحديث والفقه واللغة له وزنه في هذا المجال، فاستغل ذلك جولد تسيهر ليحاول بعث الشك في صحة هذا الحديث الهام في تاريخ القرآن عامة والقراءات خاصة.
لكن الصواب هو أن أبا عبيد قد نص على تواتر الحديث وصحته كما أشرنا أما
__________
(1) د. عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن، ص 30.
(2) انظر روايات الحديث: أبو عبيد: فضائل القرآن، لوحة 4746. والبخاري: ج 6، ص 227، ومسلم بن الحجاج القشيري: الصحيح، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1954، ج 1، ص (563560). والطبري: التفسير، ج 1، ص (4621). ومكي: الإبانة، ص (6962).
والسيوطي: الإتقان، ج 1، ص 131. وانظر روايات الطبري في كتاب تاريخ القرآن للدكتور عبد الصبور شاهين، ص (245229) مع نقد الروايات.
(3) فضائل القرآن، لوحة 46. وانظر الزركشي: ج 1، ص 212.
(4) جامع البيان، ورقة 4ب.
(5) ابن القاصح (أبو البقاء علي بن عثمان): تلخيص الفوائد وتقريب المتباعد، ط 1، القاهرة، مصطفى البابي الحلبي، 1949، ص 13.
(6) جولدتسيهر: (اجنتس): مذاهب التفسير الإسلامي (مترجم)، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1955، ص 54.(1/108)
ما ذكره جولدتسيهر فهو تحريف متعمد، فقد استند في تقرير ذلك على نص أورده أبو الحجاج البلوي في (ألف با) وهو يتحدث عن المقصود بالأحرف السبعة. يقول أبو الحجاج (1): «وفسره أبو عبيد فقال: يعني سبع لغات من لغات العرب وقال أيضا في حديث يرفعه على سبعة أحرف: حلال وحرام، وأمر ونهي، وخبر ما كان قبلكم، وخبر ما هو كائن بعدكم، وضرب الأمثال، ثم قال أبو عبيد: ولسنا ندري ما وجه هذا الحديث لأنه شاذ غير مسند، وصحح ما قاله أولا في القرآن حسبما ذكره في الغريب، وهذه نخبة قوله رحمه الله قلت (البلوي): ولعمري أن النفس تميل إلى ما قاله أبو عبيد رحمه الله من أنها لغات متفرقة في ألسنة العرب». فأبو عبيد هنا وصف الحديث الذي يفسر الأحرف السبعة بأنها ضروب من المعاني المختلفة بأنه «شاذ غير مسند». فالشذوذ واقع في رواية الحديث التي تفسره على ذلك النحو لا في أصل حديث الأحرف السبعة، الذي فسره أبو عبيد بأن المقصود منه سبع لغات. وقد شارك أبا عبيد في رد القول بأن المراد من الأحرف السبعة تلك المعاني جمهور العلماء (2).
ولعل من المفيد بعد ذلك إثبات نص كلام أبي عبيد في حديث الأحرف السبعة وبيان معناه، الذي عثرنا عليه في كتابيه: (فضائل القرآن) وهو (مخطوط) و (غريب الحديث) الذي ذكره البلوي في النص السابق وهو (مطبوع)، يقول أبو عبيد في فضائل القرآن بعد أن أورد عشرا من روايات حديث الأحرف السبعة (3): «قال أبو عبيد: قد تواترت هذه الأحاديث كلها على الأحرف السبعة إلا حديثا واحدا، يروى عن سمرة بن جندب، قال أبو عبيد، حدثنا عثمان عن خالد عن سلمة عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: نزل عليّ القرآن على ثلاثة أحرف. قال أبو عبيد: ولا نرى المحفوظ إلا سبعة أحرف لأنها المشهورة». وفي كتاب غريب الحديث
__________
(1) البلوي: ألف با، ج 1، ص 210.
(2) يروي الإمام مسلم، (ج 1، ص 561) أن ابن شهاب قال: «بلغني أن تلك الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا. لا يختلف في حلال ولا حرام». وانظر أبو عبيد: فضائل القرآن، لوحة 46. والبلوي: ج 1، ص 210. والعز بن عبد السلام: الفوائد، ص 31. وانظر أيضا السيوطي:
الإتقان، ج 1، ص (137136).
(3) لوحة 47.(1/109)
ما يوضح بطلان ما ادعاه جولدتسيهر (1): «وقال أبو عبيد: في حديثه عليه السلام أنه قال:
أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف، وبعضهم يرويه فاقرءوا كما علمتم».
«قال أبو عبيد قوله: سبعة أحرف يعني سبع لغات من لغات العرب، وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه، هذا ما لم نسمع به قط، ولكن نقول: هذه اللغات متفرقة في القرآن، فبعضه نزل بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة أهل اليمن، وكذلك سائر اللغات، ومعانيها مع هذا كله واحدة.
ومما يبين ذلك قول ابن مسعود: إني قد سمعت القراء فوجدتهم متقاربين فاقرءوا كما علمتم، إنما هو كقول أحدكم: هلم وتعال. وكذلك قال ابن سيرين: إنما هو كقولك:
هلم وتعالى وأقبل. ثم فسره ابن سيرين فقال في قراءة ابن مسعود (إن كانت إلا زقية واحدة) وفي قراءتنا {إِنْ كََانَتْ إِلََّا صَيْحَةً وََاحِدَةً} *. وعلى هذا سائر اللغات.
«وقد روي في حديث خلاف هذا، قال: نزل القرآن على سبعة أحرف: حلال وحرام، وأمر ونهي، وخبر ما كان قبلكم، وخبر ما هو كائن بعدكم، وضرب أمثال.
قال أبو عبيد: ولسنا ندري ما وجه هذا الحديث لأنه شاذ غير مسند، والأحاديث المسندة المثبتة ترده، ألا ترى أن في حديث عمر الذي ذكرناه في أوله أنه قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها. فأتيت به النبي عليه السلام، فأخبرته فقال له: اقرأ فقرأ تلك القراءة، فقال هكذا أنزلت. ثم قال لي: اقرأ، فقرأت قراءتي فقال: هكذا أنزلت، ثم قال: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه، وكذلك حديث أبي بن كعب هو مثل حديث عمر أو نحوه، فهذا يبين لك أن الاختلاف إنما هو في اللفظ والمعنى واحد وليس يكون المعنى في السبعة الأحرف إلا على اللغات لا غير، بمعنى واحد، لا يختلف فيه حلال ولا حرام ولا خبر ولا غير ذلك».
وقد نقلنا كلام أبي عبيد هنا على طوله لتتأكد صحة الحديث، وتزول من الأذهان الشبهة التي حاول جولدتسهير إثارتها استنادا إلى فهمه الخاطئ للرواية أو تحريفه المتعمد لكلام أبي عبيد. وسنشير إلى رأي أبي عبيد، الذي فصله هنا في معنى الحديث، بعد قليل.
__________
(1) ج 3، ص (161159).(1/110)
ثانيا: معنى الأحرف السبعة:
إن روايات الحديث لا تكاد توضح طبيعة الخلاف الذي كان يقع بين الصحابة في قراءة القرآن، فكانوا يرفعون أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيجيز قراءة الجميع بناء على أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، رغم أنها تشير إلى أن ذلك الخلاف كان لا يتجاوز ألفاظ التلاوة إلى معاني الآيات.
وقد حظي حديث الأحرف السبعة باهتمام كبير لبيان معناه والمقصود من الأحرف المذكورة فيه (1)، منذ وقت مبكر، إذ تنسب رواية إلى ابن عباس في معنى هذا الحديث
__________
(1) بين معنى الحرف في اللغة ومعناه في الاصطلاح تعلق ومناسبة، ففي اللغة «حرف كل شيء حدّه وناحيته» (ابن دريد: الجمهرة، ج 2، ص 138. وانظر الجوهري: ج 4، ص 1343. وابن منظور:
ج 10، ص 385). ويقول ابن جنّي (سر صناعة الإعراب، ص 15): «أن (ح ر ف) أينما وقعت في الكلام يراد بها حد الشيء وحدته، من ذلك حرف الشيء إنما هو حده وناحيته»، ثم يبين الاستعمالات المجازية للكلمة فيقول (ص 16): «ومن هنا سميت حروف المعجم حروفا، وذلك أن الحرف حد منقطع الصوت وغايته وطرفه، كحرف الجبل ونحوه، ويجوز أن تكون سميت حروفا لأنها جهات للكلم ونواح، كحروف الشيء وجهاته المحدقة به. ومن هذا قيل: فلان يقرأ بحرف أبي عمرو وغيره من القراء، وذلك لأن الحرف حد ما بين القراءتين وجهته وناحيته، ويجوز أن يكون قولهم حرف فلان يراد به حروفه التي قرأ بها، أي القارئ يؤديها بأعيانها، من غير زيادة ولا نقص فيها، فيكون الحرف في هذا، وهو واحد، واقعا موقع الحروف وهي جماعة». ويقول الأزهري (ج 2، ص 12): وكل كلمة تقرأ على وجوه من القرآن تسمى حرفا، يقرأ هذا في حرف ابن مسعود أي في قراءة ابن مسعود».
(وانظر ابن منظور: ج 10، ص 385). ويقول ابن قتيبة (تأويل مشكل القرآن، ص 27):
«والحرف يقع على المثال المقطوع من حروف المعجم، وعلى الكلمة الواحدة، ويقع الحرف على الكلمة بأسرها، والخطبة كلها والقصيدة بكمالها» (وانظر الزركشي: ج 2، ص 213).
والحرف عند الطبري يعني القراءة فحرف ابن مسعود أي قراءته (التفسير، ج 1، ص 52، وانظر:
مكي: الإبانة، ص 54)، ويعبر الطبري أحيانا بالقراءات السبع عن الأحرف السبعة (التفسير، ج 1، ص 65) مع الحذر من انصراف الذهن هنا إلى قراءات القراء السبعة ويرى الداني أن معنى الحرف في حديث الأحرف السبعة يحتمل وجهين: الأول: أن معنى الحرف الوجه من اللغات، والثاني: أن معنى الحرف القراءة (جامع البيان، ورقة 4ب. وانظر ابن الجزري: النشر، ج 1، ص 23). وسيتضح المعنى الاصطلاحي للحرف في حديث الأحرف السبعة من خلال الصفحات(1/111)
وظل العلماء يتناولونه بالبحث سندا ومتنا، وتكلم فيه أصناف العلماء من أهل الحديث والفقهاء والقراء وأهل التفسير والكلام وشرح الغريب وغيرهم، حتى صنّف فيه التصنيف المفرد، مثل ما صنع الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي المعروف بأبي شامة (ت 665هـ) فقد ألف فيه كتابا حافلا (1).
ومن أقدم من تعرض لبيان المراد من هذا الحديث ممن وصلت إلينا آراؤهم هو أبو عبيد القاسم بن سلام، وقد مرت من قريب نصوص مما قاله في ذلك، وهي توضح موقفه من معنى الحديث. ويقول أيضا (2): «ولكنه عندنا أنه نزل على سبع لغات متفرقة في جميع القرآن من لغات العرب، فيكون بعضه بلغة قبيلة، والثاني بلغة أخرى سواها، والثالث بلغة أخرى سواهما، وكذلك إلى السبعة». ويؤكد ذلك المعنى بقوله (3):
«والأحرف لا معنى لها إلا اللغات مع أن تأويل كل حديث منها بيّن في الحديث نفسه، ألا ترى أن عمر قال: سمعت هشام من حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأ
(أمثله أخرى) فأنت ترى أن اختلافهم إنما كان في الوجوه والحروف التي تفرق فيها الألفاظ، فأما التأويل فلم يختلفوا فيه». ويوضح مراده بمثال من قراءة من قراءة ابن مسعود (زقية) مكان (صيحة) وينقل عن ابن مسعود وابن سيرين: (أنه كذلك: هلم وتعال وأقبل). وكأن مفهوم الحديث عند أبي عبيد هو اختلاف الألفاظ مع اتفاق المعنى، وأن ذلك يرجع إلى سبع لغات من لغات العرب، دون أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه من تلك اللغات.
ويروي أبو عبيد عن ابن عباس تسمية أسماء القبائل المقصودة لغاتها من طريقين:
__________
التالية. وانظر في معنى الحرف عامة لغة واصطلاحا: (د. عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن، ص 195وما بعدها).
(1) انظر ابن تيمية (تقي الدين أحمد بن عبد الحليم): مجموعة فتاوى ابن تيمية، القاهرة، مطبعة كردستان العلمية، 1325هـ، مج 1، ص 312. وابن الجزري: النشر، ج 1، ص 21. وفي العصر الحديث كتب الشيخ محمد بخيت المطيعي (ت 1935م) رسالة سماها: الكلمات الحسان في الحروف السبعة وجمع القرآن (القاهرة، المطبعة الخيرية، 1313هـ) جمع فيها أكثر ما قيل في هذا الموضوع في المصنفات القديمة.
(2) فضائل القرآن، لوحة 47.
(3) نفس المصدر، لوحة 48.(1/112)
الأول: عن قتادة عمن سمع ابن عباس. والثاني: عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (1). لكن الطبري يرد هاتين الروايتين وما فيهما من ذكر لغات أحياء من قبائل العرب لأن ذلك في رأيه روي عن ابن عباس من طريق من لا يجوز الاحتجاج بنقله، فالأولى لأن قتادة لم يلق ابن عباس ولم يسمع عنه مع ملاحظة أن الرواية تقول عن قتادة عمن سمع ابن عباس ولأن الثانية من طريق الكلبي عن أبي صالح (وهي رواية متهمة) (2). وإلى جانب ذلك فإن الحديث بجميع طرقه جاء عاما، أما تعيين اللغات واللهجات فيبدو أنها زيادات وشروح ليست من أصل المتن، وإنما وردت عن بعض الصحابة أو عمن روى عنهم (3).
وذهب مذهب أبي عبيد في معنى الحديث كل من أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب (ت 291هـ) وأبو منصور الأزهري صاحب تهذيب اللغة (4).
ويأتي ابن قتيبة (ت 276هـ) بعد أبي عبيد فيتحدث عن معنى الحديث في سياق كلامه عن اختلاف القراءات، وبعد أن بيّن غلط من ذهب إلى أن المراد بالحديث ضروب من المعاني المختلفة، أو سبع لغات في الكلمة، بيّن رأيه في معنى الحديث، فيقول (5): «وإنما تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: نزل القرآن على سبعة أحرف: على سبعة أوجه من اللغات متفرقة في القرآن. يدلك على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فاقرءوا كيف شئتم».
ويحاول ابن قتيبة أن يبين تلك الأوجه السبعة من خلال ما تقدمه القراءات من وجوه الخلاف ونورد هنا نص كلامه لما كان له من أثر في التالين له الذين لم يتجاوزوا في الغالب الدائرة التي رسمها في فهم الحديث يقول (6): «وقد تدبرت وجوه الخلاف في
__________
(1) نفس المصدر، لوحة 47. وانظر الرازي: الزينة، ج 1، ص 145.
(2) الطبري: التفسير، ج 1، ص 66. وانظر ابن الجزري: النشر، ج 1، ص 24.
(3) د. جواد علي: لهجة القرآن الكريم، ص 271.
(4) انظر الأزهري: تهذيب اللغة، ج 5، ص 13. والبلوي: ج 1، ص 210. وانظر: العز بن عبد السلام: الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز. الآستانة، المطبعة العامرة، 1313هـ، ص 214.
(5) ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1954، ص 6.
(6) نفس المصدر، ص (2928).(1/113)
القراءات فوجدتها سبعة أوجه:
أولها: الاختلاف في إعراب الكلمة، أو في حركة بنائها بما لا يزيلها عن صورتها في الكتاب، ولا يغيّر معناها، نحو قوله تعالى: {هََؤُلََاءِ بَنََاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ (78)} [هود] وأطهر لكم. {وَهَلْ نُجََازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)} [سبأ] وهل يجازى إلّا الكفور. {وَيَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبُخْلِ} * [النساء: 37، الحديد: 24] وبالبخل. {فَنَظِرَةٌ إِلى ََ مَيْسَرَةٍ (280)} [البقرة] وميسرة.
والوجه الثاني: أن يكون الاختلاف في إعراب الكلمة، وحركات بنائها، بما يغيّر معناها، ولا يزيلها عن صورتها في الكتاب، نحو قوله تعالى: {رَبَّنََا بََاعِدْ بَيْنَ أَسْفََارِنََا (19)}
[سبأ] وربّنا باعد بين أسفارنا. و {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ (15)} [النور] وتلقونه {. وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ (45)} [يوسف] وبعد أمه.
والوجه الثالث: أن يكون الاختلاف في حروف الكلمة دون إعرابها، بما يغيّر معناها، ولا يزيل صورتها، نحو قوله: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظََامِ كَيْفَ نُنْشِزُهََا (259)} [البقرة] وننشرها. ونحو قوله: {حَتََّى إِذََا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ (23)} [سبأ] وفرّغ.
والوجه الرابع: أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يغيّر صورتها في الكتاب، ولا يغيّر معناها، نحو قوله: إن كانت إلّا زقية واحدة و {صَيْحَةً} * [يس: 29] وكالصّوف المنفوش و {كَالْعِهْنِ} * [القارعة: 5] والوجه الخامس: أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يزيل صورتها ومعناها، نحو قوله: وطلع منضود في موضع {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 29].
والوجه السادس: أن يكون الاختلاف بالتقديم والتأخير، نحو قوله: {وَجََاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ (19)} [ق]، وفي موضع آخر: وجاءت سكرة الحقّ بالموت.
والوجه السابع: أن يكون الاختلاف بالزيادة والنقصان، نحو قوله تعالى: وما عملت أيديهم، {وَمََا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يس: 35]، ونحو قوله: {إِنَّ اللََّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} *
[لقمان: 26]، وإنّ الله الغنيّ الحميد.
ومما يلاحظ على هذه الوجوه من الاختلاف في القراءات التي يذكرها ابن قتيبة في بيان معنى الأحرف، أنه يعتبر ما خرج على خط المصحف داخلا في الوجوه السبعة، سواء أكان ذلك إبدال كلمة محل كلمة أم تغيير بعض حروف الكلمة أم تقديم كلمة أو
تأخيرها أم زيادة كلمة أو نقصها عما عليه خط المصحف، وهذا مهم في بيان تطور معنى الشذوذ، وبيان علاقة القراءات الشاذة بالرسم، خاصة أن مصطلح القراءات السبع أو العشر لم يكن قد ظهر بعد. كذلك يلاحظ هنا أن ابن قتيبة لم يشر إلى كون اختلاف وجوه الأداء من همز وتسهيل وإمالة وفتح وإدغام وإظهار إلى آخره، من بين الوجوه السبعة.(1/114)
ومما يلاحظ على هذه الوجوه من الاختلاف في القراءات التي يذكرها ابن قتيبة في بيان معنى الأحرف، أنه يعتبر ما خرج على خط المصحف داخلا في الوجوه السبعة، سواء أكان ذلك إبدال كلمة محل كلمة أم تغيير بعض حروف الكلمة أم تقديم كلمة أو
تأخيرها أم زيادة كلمة أو نقصها عما عليه خط المصحف، وهذا مهم في بيان تطور معنى الشذوذ، وبيان علاقة القراءات الشاذة بالرسم، خاصة أن مصطلح القراءات السبع أو العشر لم يكن قد ظهر بعد. كذلك يلاحظ هنا أن ابن قتيبة لم يشر إلى كون اختلاف وجوه الأداء من همز وتسهيل وإمالة وفتح وإدغام وإظهار إلى آخره، من بين الوجوه السبعة.
وسنجد أن محاولة ابن قتيبة هذه في بيان معنى الأحرف من خلال تصنيف أوجه اختلاف القراءات ستظل ذات أثر، تتفاوت درجته، على مواقف التالين له حتى العصر الحديث.
وتناول أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ) هذا الحديث والمراد منه، وهو يحاول الإجابة على تساؤله: بأيّ ألسن العرب أنزل القرآن؟ أبألسن جميعها أو بألسن بعضها؟ وبيّن أن الذي نزل به القرآن من ألسن العرب البعض دون الجميع، إذ كان معلوما أن ألسنتها ولغاتها أكثر من سبعة بما يعجز عن إحصائه، وقد تظاهرت الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، وهو يرى بهذا المفهوم أن معنى الحديث «أنه نزل بسبع لغات، وأمر بقراءته على سبعة ألسن» (1). وهو ينفي في سياق ذلك أن يكون معنى الأحرف السبعة سبعة أوجه من المعاني، ويستدل على ذلك بأن الأحاديث التي وردت في ذلك تشير إلى (أنهم تماروا في القرآن، فخالف بعضهم بعضا في نفس التلاوة دون ما في ذلك من المعاني) (2) ويبيّن رأيه في معنى الأحرف بوضوح حين يقول (3): «الأحرف السبعة التي أنزل الله بها القرآن هي لغات سبع، في حرف واحد وكلمة واحدة، باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني، كقول القائل: هلم، وأقبل، وتعال، وإليّ، وقصدي، ونحوي، وقربي، ونحو ذلك، مما تختلف فيه الألفاظ بضروب من المنطق، وتتفق فيه المعاني، وإن اختلفت بالبيان به الألسن، كالذي روينا آنفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعمن روينا ذلك عنه من الصحابة. إن ذلك بمنزلة قولك: هلم وتعال وأقبل.
وقوله: (ما ينظرون إلّا زقية) و «إلا صيحة». وهو يروي أن ستة منها قد ذهبت، وأن
__________
(1) التفسير، ج 1، ص 47.
(2) نفس المصدر، ج 1، ص 48.
(3) نفس المصدر، ج 1، ص (5857).(1/115)
الباقي منها هو الحرف الذي جمعهم عليه الخليفة عثمان، وأما صور اختلاف القراءات من رفع حرف وجره ونصبه، وتسكين حرف وتحريكه، ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة، فإنه عن معنى حديث الأحرف السبعة كما يرى الطبري بمعزل (1).
ويفهم من هذا أن الطبري يذهب إلى أنه لا يدخل في باب الأحرف السبعة من صور الخلاف إلا ما كان بإبدال كلمة مكان كلمة مرادفة لها في المعنى، أي أنه يعتبر كل ما خرج عن خط المصحف مما ثبتت روايته من الأحرف السبعة دون ما سوى ذلك مما يحتمله الخط من وجوه القراءات.
ورغم تقارب الأمثلة التي يوردها أبو عبيد والطبري لشرح موقفهما من معنى الأحرف إلا أن هناك خلافا جوهريا في موقفهما، إذ إن معنى السبعة عند أبي عبيد هو لغات سبع قبائل من العرب، والسبعة عند الطبري هي سبع وجوه من الألفاظ المتفقة في المعنى مع اختلاف اللفظ. ثم إن أبا عبيد كما يفهم من كلامه لا يقصر معنى الأحرف على ما قصره عليه الطبري، ولا يقول بذهاب الستة الأحرف وأن ما بيد الناس من القراءات راجع إلى حرف واحد. كذلك ليس معناه عند أبي عبيد أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه، وهو ما يفهم من كلام الطبري.
ومن جاء بعد الطبري من العلماء لا يكادون ينفكون عن ترديد ما ذهب إليه أبو عبيد أو ابن قتيبة ومناقشة الطبري في ما ذهب إليه، وترجيح رأي وتوهين آخر، وتصيد الآراء الغريبة عن جو الحديث ومناسبته، إلا أن ذلك لا يعني أنهم لم يأتوا بأفكار مفيدة.
فممّن تناول حديث الأحرف السبعة بالبحث أبو بكر الباقلاني (402هـ) فيقول (2): «إن لم يدلّنا نص من النبي صلى الله عليه وسلم على أسمائها بأسرها، فإنما نقول في الجملة: إن القرآن منزل على سبعة أحرف في اللغة والإعراب وتغيير الأسماء والصور»، ثم يورد بعد ذلك سبعة أوجه من الخلاف، لا تخرج عما أورده ابن قتيبة.
وعرض لمعنى الحديث مكي بن أبي طالب (ت 437هـ)، وتكلم عن جوانب كثيرة مما يتعلق به، ويشير إلى أن هذا المعنى قد كثر اختلاف الناس فيه، ثم
__________
(1) التفسير، ج 1، ص 55.
(2) نكت الانتصار، ص 120.(1/116)
يقول (1): والذي نعتقده في ذلك، ونقول به وهو الصواب إن شاء الله أن الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن: هي لغات متفرقة في القرآن، ومعان في ألفاظ تسمع في القراءة. وهو بعد ذلك يصنف وجوه الخلاف في القراءات ويورد الأوجه السبعة على نحو لا يخرج عما ذكره ابن قتيبة، إلا أنه يشير إلى أن وجوه الأداء داخلة في القسم الأول من الأوجه التي ذكرها ابن قتيبة.
وقد ذكر مكي أن الطبري قد نقض مذهبه الذي قرره في معنى حديث الأحرف، والذي أورده في تفسيره بما ذكره في كتابه عن القراءات من أن كل ما صحّ من القراءات هو من الأحرف السبعة، وليس لنا أن نخطّئ من قرأ به إذا كان ذلك موافقا لخط المصحف، فإن كان مخالفا لخط المصحف لم نقرأ به، ووقفنا عنه، وعن الكلام فيه. ثم يقول مكي (2): «فهذا إقرار منه أن ما وافق خط المصحف مما اختلف فيه فهو من الأحرف السبعة على مثل ما ذهبنا إليه، وقد تقدم في قوله: إن جميع ما اختلف فيه مما يوافق خط المصحف فهو حرف واحد، وإن الأحرف الستة ترك العمل بها، وهذا مذهب متناقض».
وتناول الحديث أيضا أبو عمرو الداني (ت 444هـ) في كتابه جامع البيان، وهو لا يخرج في مناقشته للموضوع رغم أهميتها عما ذهب إليه سابقوه (3). وذكره صاحب كتاب المباني (ألفه سنة 425هـ) في مقدمته (4)، وابن عطية (543هـ) في مقدمة تفسيره الجامع المحرر (5)، والبلوي (ت 604هـ) في ألف با (6)، وعلم الدين السخاوي (ت 643هـ) في جمال القراء (7)، والقرطبي (671هـ) في أحكام القرآن (8). ويذكر القرطبي أن أبا حاتم محمد بن حبّان البستي (ت 354هـ) ذكره في معنى الأحرف السبعة
__________
(1) الإبانة، ص 34وما بعدها.
(2) نفس المصدر، ص 20.
(3) ورقة (4ب 7ب).
(4) ص (234210).
(5) ص (274265).
(6) ج 1، ص (213210).
(7) ورقة 86ب.
(8) ج 1، ص 42.(1/117)
خمسة وثلاثين قولا. وتناوله أيضا الزركشي (794هـ) في البرهان (1). وابن الجزري (ت 833هـ) في النشر (2). والسيوطي (ت 911هـ) في الإتقان (3). ويذكر السيوطي أنه اختلف في معنى هذا الحديث على نحو أربعين قولا. وتناوله أيضا القسطلاني (ت 923هـ) في لطائف الإشارات (4). وتناوله المحدثون بالبحث أيضا (5).
ورغم تعدد وجهات النظر التي يوردها القدماء في معنى الحديث والتي بلغ بها السيوطي نحوا من أربعين قولا، فإن الحديث بمختلف رواياته لا ينص على شيء منها، وكذلك فإنه كما يقول ابن حبّان لم يثبت من وجه صحيح تعيين كل حرف من هذه الأحرف (6). ومن ثم فإن تلك الآراء وكثير منها غير معروف النسبة إلى عالم معين هي مجرد استنتاج تحتمله الروايات أحيانا، ولا يمت إليها بصلة أحيانا أخرى، خاصة في الفترات المتأخرة عند ما حاولت كل طائفة من العلماء أن تجد أركان علمها في ظلال هذا الحديث (7).
ومع ذلك فإن فهم معنى الحديث عامة يمكن أن يتأتى من محاولة فهم الظروف التي لابسته، دون محاولة حصر تلك الأوجه، وقد سار في هذا الاتجاه بعض علماء السلف خاصة المتقدمين منهم مثل أبي عبيد وابن قتيبة والطبري حين فهموا الحديث على أنه تيسير على الأمة في قراءة القرآن، رغم أنهم قد استهواهم تحديد تلك السبعة، لكنهم لم يخرجوا عامة عما تقدمه وجوه اختلاف القراءات من أمثلة.
__________
(1) ج 1، ص 212وما بعدها.
(2) ج 1، ص (5421).
(3) ج 1، ص (141131).
(4) ج 1، ص (4431).
(5) أوسع مناقشة حديثة للموضوع ما كتبه الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه: تاريخ القرآن، ص (4423). وانظر أيضا: عبد الوهاب حمودة: القراءات واللهجات، ط 1، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1984، ص (4111). ود. إبراهيم أنيس: في اللهجات العربية، ص 54وما بعدها. ود. صبحي الصالح: مباحث في علوم القرآن، ط 3، بيروت، دار العلم للملايين، 1964، ص (116101).
(6) الزركشي: ج 1، ص 226. وانظر أيضا: ج 1، ص 212.
(7) انظر تلك الآراء في السيوطي: الإتقان، ج 1، ص 131وما بعدها.(1/118)
وقد ثبت أن ورود الرخصة والتيسير كانت بعد الهجرة النبوية إلى المدينة، وأن روايات الحديث كانت تصف أحداثا وقعت في المدينة (1). وهذا يعني أن الاختلاف في القراءة لم يكن قد برز في المجتمع المكي حيث كان المسلمون من بيئة لغوية واحدة، تكاد تنعدم فيها الفروق اللغوية، وحين هاجر النبي وصحابته إلى المدينة المنورة تغيرت الحال، فازداد عدد المسلمين، وامتد الإسلام إلى خارج المدينة بين القبائل العربية في بيئات لا تخلو من الفوارق اللغوية، واختلاف العادات النطقية، ولما كان الإسلام يهدف إلى أن يتلو القرآن كل مسلم فقد ظهرت مشكلة القدرة على تحقيق ألفاظ التلاوة بكل خصائصها الصوتية، لأن العرب «متباينون في كثير من الألفاظ واللغات، ولكل عمارة لغة دلت بها ألسنتهم، وفحوى قد جرت عليها عاداتهم» (2).
ويصور ابن قتيبة أبعاد تلك الرخصة حين يقول (3): «فكان من تيسيره (سبحانه) أمره (النبي) بأن يقرئ كلّ قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم. فالهذلي يقرأ (عتى حين) يريد (حتى حين) لأنه كان يلفظ بها ويستعملها، والأسدي يقرأ: تعلمون وتعلم، و (تسودّ وجوه)، و (ألم اعهد إليكم)، والتميمي يهمز، والقرشي لا يهمز، والآخر يقرأ (وإذا قيل لهم)، و (غيض الماء) بإشمام الضم مع الكسر، و (هذه بضاعتنا ردت إلينا) بإشمام الكسر مع الضم، و (مالك لا تأمنا) بإشمام الضم مع الإدغام، وهذا ما لا يطوع به كل لسان.
ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا، لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان، وقطع للعادة، فأراد الله، برحمته ولطفه، أن يجمل متسعا في اللغات ومتصرفا في الحركات».
وسواء أكان عدد السبعة الوارد في الحديث الشريف مقصودا به الحصر، كما يذهب إلى ذلك أكثر من أشرنا إلى آرائهم، أم أنه ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد بحيث لا
__________
(1) انظر ابن حجر: ج 10، ص 403. ود. عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن، ص 39. ود. عبده الراجحي: اللهجات العربية في القراءات القرآنية، القاهرة، دار المعارف، 1969، ص 68.
(2) البلوي، ج 1، ص 211. وانظر ابن النديم: ص 5.
(3) تأويل مشكل القرآن، ص 30. وانظر مكي: الإبانة، ص 42. والداني: جامع البيان، ورقة 5ب.(1/119)
يزيد ولا ينقص، بل المراد السعة والتيسير (1)، فإنّ فهم معنى الحديث لا يمكن أن يكون في اتجاهه الصحيح إذا تخطى الدائرة التي تشير إليها روايات الحديث، وهي أن الخلاف كان في حدود ألفاظ التلاوة، وأن الرخصة التي كان يتحدث عنها الحديث لا تتجاوز حدود القراءة. ولما كان الحديث في كافة رواياته لا يحدد أبعاد ذلك الخلاف وجزئياته، ولا ينص على أماكن الخلاف من الآيات، ولا الوجوه التي تليت، فإن فهم معنى الحديث لا يمكن أن يكون في معزل عن وجوه الخلاف التي تقدمها القراءات المروية، ومن هنا يمكن القول بأن الرخصة الواردة في الحديث ليست شيئا سوى هذه الوجوه المختلفة للتلاوة التي ينقلها القرّاء جيلا عن جيل حتى تنتهي إلى الصحابة الذين سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم. ولسنا نرى حصر تلك الوجوه في سبعة أبواب كالتي ذكرها علماء السلف، ثم القول بأن الأحرف السبعة هي هذه الوجوه، وإنما نؤكد هنا أن القراءات عامة صحيحها وشاذها تجد شرعيتها في هذا الحديث الصحيح من جانب، وأن حديث الأحرف السبعة يجد تفسيره في تلك الوجوه من جانب آخر.
وبناء على ذلك فإن معنى الأحرف السبعة على ضوء ما تقدمه القراءات من وجوه مختلفة هو (ما يشمل اختلاف اللهجات، وتباين مستويات الأداء، الناشئة عن اختلاف الألسن، وتفاوت التعليم. وكذلك ما يشمل اختلاف بعض الألفاظ، وترتيب الجمل بما لا يتغير به المعنى المراد) (2). هذا دون محاولة حصر تلك الوجوه في سبع لغات أو وجوه من الخلاف، ويظل معنى الحديث بعد ذلك يشير إلى تلك الرخصة التي جاءت تيسيرا وحلا لمشكلة واجهت الجماعة المسلمة، دون تحديد لأبعاد تلك الرخصة، لكنها لا تخرج عن إطار وجوه القراءات المروية. وهنا نصل إلى السؤال الذي بدأنا به هذا المبحث، وهو إلى أي مدى كان صدى تلك الرخصة في كتابة القرآن عامة، وفي المصحف العثماني خاصة؟
ثالثا: المصحف العثماني والأحرف السبعة:
قبل الإجابة على السؤال الذي ورد في أول هذا المبحث حول اشتمال المصحف
__________
(1) انظر: مقدمة كتاب المباني، ص 209. وابن الجزري: النشر، ج 1، ص 25. ود. إبراهيم أنيس:
في اللهجات العربية، ص 58. وانظر: د. صبحي الصالح: ص 103.
(2) انظر: الدكتور عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن، ص 43.(1/120)
العثماني على الأحرف السبعة، نشير إلى أن كتابة القرآن كانت تتم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بطريقة واحدة وهي القراءة العامة التي كان يقرئها للصحابة دون تثبيت ما تسمح به رخصة الأحرف السبعة من وجوه مختلفة (1)، كذلك يمكن القول بالنسبة إلى جمع الصدّيق خاصة أنه اعتمد على ما كتب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأن الهدف من الجمع كان خشية ذهاب شيء من القرآن المحفوظ والمكتوب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقد قام به زيد بن ثابت، الذي كان أكثر الصحابة مداومة على كتابة الوحي، فلم تكن هناك إذن فوارق كتابية متوقعة بين كتابته في حياة النبي وجمعه ز من الصديق (2).
وقد أشرنا إلى اختلاف آراء العلماء في ذلك بالنسبة للمصحف العثماني، وهو ما نحاول تجليته هنا واتخاذ موقف واضح منه. ويمكن حصر مذاهب علماء السلف في هذه المسألة في ثلاثة اتجاهات (3): فقد ذهبت جماعات من الفقهاء والقراء
__________
(1) انظر: د. صبحي الصالح: ص 108. ود. عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن، ص 57. وانظر:
د. عبده الراجحي: ص 70. وأبو زهرة (الشيخ محمد): المعجزة الكبرى، القرآن، القاهرة، دار الفكر العربي، 1970، ص 37.
(2) ومع ذلك فإن بعض العلماء ذهب من غير ما دليل إلى أن صحف الصدّيق كانت مشتملة على الأحرف السبعة (انظر: علم الدين السخاوي: الوسيلة، ورقة 10/ أ. وابن القاصح: ص 12) وأغرب ما كتب عن اشتمال صحف الصديق للأحرف السبعة هو ما أشار إليه الدكتور عبد الحي الفرماوي، (رسم المصحف ونقطه)، رسالة دكتوراة في مكتبة كلية أصول الدين في جامعة الأزهر، (1974م، ص 196) حين يقول: «وفضلا عن ذلك فالذي يراه بعض الباحثين وإني أميل إلى رأيهم أن بيان الأحرف السبعة في صحف حفصة كانت بكتابة هذه الأحرف المتخالفة كلماتها في الرسم، أحدها بالأصل، وما يخالفه تحته، أو فوقه، أو بهامش الآية». وذكر المصدر الذي نقل عنه وهو (جمع القرآن، ص 56و 57للشيخ محمد فريد العبادي، وهي رسالة محفوظة في مكتبة أصول الدين بالأزهر) ولا نملك تعقيبا على هذا إلا أن نذكر أن المصادر المتيسرة لا تشير إلى شيء من ذلك، ولا أظن أن تاريخ القرآن الناصع بحاجة إلى خيال كهذا ليس له من سند في الواقع.
(3) تلك هي وجهة نظر علماء السلف، أما المحدثون فقد ترددت مواقفهم بين القول بأن الصحابة جمعوا في المصحف كل ما ثبت من وجوه القراءة وأنه جاء شاملا للأحرف السبعة، (انظر محمد بخيت المطيعي: ص 23. ود. عبد الحليم النجار: في قراءات القرآن، مقال في مجلة كلية الآداب، 1948، مج 10، ج 1، ص 121. ود. عبد الصبور شاهين: الأصوات في قراءة أبي(1/121)
والمتكلمين إلى أن المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة، وبنت ذلك على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الحروف السبعة التي نزل بها القرآن، وذهبت جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين كما يقول ابن الجزري إلى أن هذه المصاحف مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف فقط، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل، متضمنة لها لم تترك حرفا منها (1). ومن العلماء من ذهب إلى أن المصاحف العثمانية لا تشتمل إلا على حرف واحد (2).
وبملاحظة الأسباب التي دفعت إلى توحيد المصاحف في خلافة عثمان نجد أن من المنطقي أن يأتي المصحف العثماني مكتوبا بطريقة واحدة، حسما للخلاف الذي نشأ عن اتساع الناس في رخصة الأحرف السبعة وظهور الاختلاف في القراءة، ولما كان كل حرف من الأحرف السبعة غير محدد الأبعاد، وأن تلك الأحرف لا تجد تفسيرها إلا في الوجوه المختلفة للقراءة فإن بالإمكان القول: إن المصحف العثماني قد كتب على حرف واحد، أي: على لفظ واحد، فالكتبة حين يرسمون الكلمات لا يريدون إلا تمثيل نطق معين واحد، وبهذا فقط يمكن أن يحقق ذلك العمل أهدافه من جمع الناس على مصحف واحد، موحد الهجاء والقراءة. ونشير هنا إشارة إلى أن رسم المصحف العثماني قد يحتمل من وجوه الأحرف أو وجوه القراءات أكثر من وجه واحد، على أمل
__________
عمرو، (رسالة ماجستير في كلية العلوم، جامعة القاهرة)، 1962، ص 79. ود. صبحي الصالح:
ص 102. ود. عبد العال سالم مكرم: القرآن وأثره في الدراسات النحوية، القاهرة، دار المعارف، 1968، ص 23. ولبيب السعيد: الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم، القاهرة، دار الكتاب العربي (د. ت) ص 73) وبين الإشارة إلى أن عثمان رضي الله عنه جمع القرآن على حرف واحد وقراءة واحدة. (انظر الزنجاني، ص 45. ومحمد طاهر الكردي: تاريخ القرآن، ص 44. ود. عبد الفتاح إسماعيل الشلبي: الإمالة في القراءات واللهجات العربية، ط 1، القاهرة، مكتبة نهضة مصر، 1957، ص 212. ود. عبده الراجحي، ص 73) دون محاولة تفسير كون المصحف العثماني مكتوبا على حرف واحد مع اتخاذ موافقة رسمه شرطا لصحة القراءات التي تتوارد على رسم الكلمة المعينة.
(1) انظر ابن الجزري: النشر، ج 1، ص 31، ومنجد المقرئين ومرشد الطالبين (له)، القاهرة، مكتبة القدسي، 1350هـ، ص 21. والسيوطي: الإتقان، ج 1، ص 141. والقسطلاني: ج 1، ص 65.
(2) انظر الطبري: التفسير، ج 1، ص 64.(1/122)
أنا سنفرد إن شاء الله فصلا كاملا عن علاقة القراءات بالرسم وكيف تطور الرسم العثماني الذي كتب أصلا لتمثيل قراءة واحدة ليحتمل وجوها من القراءات المتعددة، وكيف اتخذ الرسم شرطا مكملا لشروط القراءة الصحيحة.
وكان محمد بن جرير الطبري قد نص من قبل أن المصحف العثماني قد كتب على حرف واحد. يقول (1): «فلا قراءة للمسلمين اليوم إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية» وهو بناء على فهمه للأحرف بأنها لغات سبع، في حرف واحد وكلمة واحدة، باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني يرى أن «ما كان من اختلاف القراءة في رفع حرف وجره ونصبه، وتسكين حرف وتحريكه، ونقل حرف إلى آخر، مع اتفاق الصورة، فمن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف بمعزل»» (2). وإنها داخلة في الحرف الذي كتب عليه المصحف العثماني.
وذهب مكي بن أبي طالب إلى نفس المذهب الذي قال به الطبري، وهو أن المصحف العثماني، كتب على حرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، أي على لغة وقراءة واحدة (3). لكنه يختلف مع الطبري والحق معه في فهم المقصود بالأحرف السبعة، فهي عند مكي وجوه القراءات المختلفة، سواء كان الخلاف بما يزيل الصورة (الخط) ويغيرها وهو رأي الطبري أم يشمل أيضا تغير الحركات واختلاف الحروف بما لا يزيل صور الكلمات أو يغير ترتيبها، وهو بهذا يرى أن ما يقرأ من قراءات موافقة لخط المصحف داخلة في الأحرف السبعة. ومكي رحمه الله قد تفرد تقريبا في فهمه لعلاقة القراءات والأحرف السبعة بالمصحف العثماني، مما سنشير إليه بعد قليل ثم نفصله في فصل لا حق.
وإذا كان المصحف العثماني قد كتب على حرف واحد أو قراءة واحدة فهل من ضمن القراءات المتواترة قراءة روعي فيها رسم المصحف العثماني أم لا (4)؟ ونحن نتوقع أن
__________
(1) الطبري: التفسير، ج 1، ص 64.
(2) نفس المصدر، ج 1، ص 65.
(3) الإبانة، ص 3. وانظر في نفس الفكرة: ابن عبد البر: ج 2، ص 539. وابن كثير: ص 32.
(4) انظر محمد طاهر الكردي: تاريخ القرآن، ص 112.(1/123)
المصحف العثماني في عهد نسخه كان يقرأ القراءة التي كتب عليها وروعيت في رسمه، وهي القراءة العامة المشهورة آنذاك (1). يقول أبو عبد الرحمن السلمي (ت 74هـ) (2):
__________
(1) لا تحدد الروايات خصائص القراءة أو اللغة التي نزل بها القرآن أو كتب عليها في المصحف.
والآيات صريحة بأن القرآن نزل بلسان عربي مبين فيه مثل ما في الكلام العربي من وجوه الإعراب ومن الغريب والمعاني (أبو عبيدة معمر بن المثنى: مجاز القرآن، ط 1، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1954، ج 1، ص 8. وانظر أيضا: ص 17) ولا تفيد كلمة (عربي) التي تكررت وصفا للغة القرآن وللقرآن (قرآنا عربيا) و (بلسان عربي مبين) في عدة مواضع تخصيصا ولا تعيينا للهجة واحدة معينة من اللهجات. (د. جواد علي: لهجة القرآن الكريم، ص 270) وقد مرت رواية البخاري التي ورد فيها «وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم» وفي رواية أخرى له (ج 6، ص 224): «وإذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن أنزل بلسانهم». ومرت كذلك رواية اختلافهم في كلمة التابوت وكتابته بالتاء على لسان قريش. وهناك جملة أخبار تروى عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم تؤكد على وجوب كون كتبة المصاحف من مضر وقريش أو من ثقيف. ويعقب أبو بكر بن أبي داود على تلك الأخبار بقوله: «هذا من أجل اللغات» (انظر كتاب المصاحف ص 11و 26و 135. وابن فارس: ص 28). ويفهم من هذا التأكيد على لسان قريش وعلى كون الكتبة من قريش أن رخصة الأحرف السبعة لم تكن ذات أثر في تدوين النص القرآني، وليس من المتوقع أن تكون هناك فروق كتابية بين أهل مكة وأهل المدينة حتى يمكن القول إن المقصود من ذلك أن يجري الكتبة على مصطلح قريش في الكتابة (انظر: ابن عاشر، ص 36)، خاصة أن القرشيين الثلاثة نشئوا وتعلموا الكتابة في المدينة كما هو متوقع لكنهم بحكم نشأتهم في بيوت قرشية كانوا أكثر إدراكا لخصائص لغة قريش التي تشير الرواية إلى أن القرآن عامة نزل بها، والتي يقول عنها ابن فارس (الصاحبي، ص 23): «أجمع علماؤنا بكلام العرب، والرواة لأشعارهم، والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم، أن قريشا أفصح العرب ألسنة وأصفاهم لغة وكانت قريش مع فصاحتها، وحسن لغاتها، ورقة ألسنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائرهم وسلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب». وسنشير حين نناقش ظواهر الرسم إلى بعض خصائص لغة قريش التي ذكرها العلماء خاصة من حيث التسهيل والفتح وأثر ذلك على الرسم في المصحف.
(2) الزركشي، ج 1، ص 237. وانظر أبو بكر الباقلاني: ص 375.(1/124)
كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرءون القراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان زيد قد شهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده الصديق في جمعه وولاه عثمان كتبة المصاحف.
وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا نجد تلك القراءة التي روعي فيها رسم المصحف متميزة الآن؟ سنناقش هذا الأمر مفصلا كما ذكرنا في فصل لا حق، ونتعرض لتاريخ نشأة مدارس القراءة وتميزها، وبحسبنا هنا أن نشير إلى شيء من ذلك بما يمهد السبيل إلى دراسة مظاهر الرسم وفق منهج محدد. ونكتفي هنا بإيراد رأي مكي في هذه المسألة حيث يقول (1): «ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم خرج جماعة من الصحابة في أيام أبي بكر وعمر إلى ما افتتح من الأمصار، ليعلّموا الناس القرآن والدين، فعلّم كل واحد منهم مصره على ما كان يقرأ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفت قراءة أهل الأمصار على نحو ما اختلفت قراءة الصحابة الذين علموهم. فلما كتب عثمان المصاحف (و) وجهها إلى الأمصار، وحملهم على ما فيها، وأمر بترك ما خالفها، قرأ أهل كل مصر مصحفهم الذي وجّه إليهم على ما كانوا يقرءون قبل وصول المصحف إليهم مما يوافق خط المصحف، وتركوا من قراءتهم التي كانوا عليها مما (ما) يخالف خط المصحف، فاختلفت قراءة أهل الأمصار لذلك بما لا يخالف الخط، وسقط من قراءتهم كلهم ما يخالف الخط، ونقل ذلك الآخر عن الأول في كل مصر، فاختلف النقل لذلك، حتى وصل النقل إلى هؤلاء الأئمة السبعة على ذلك، فاختلفوا فيما نقلوا على حسب اختلاف أهل الأمصار، لم يخرج واحد منهم عن خط المصحف فيما نقل، كما لم يخرج واحد من أهل الأمصار، عن خط المصحف الذي وجّه إليهم. فلهذه العلة اختلفت رواية القراء فيما نقلوا، واختلفت أيضا قراءة من نقلوا عنه، لذلك».
ولما كانت الأحرف السبعة التي وردت في الحديث على ضربين (2): أحدهما: زيادة
__________
(1) الإبانة، ص (1615).
(2) انظر: المهدوي (أبو العباس أحمد بن عمار): شرح كتاب الهداية في القراءات السبع (له)، مخطوط منه نسخة (ميكروفيلم) في معهد المخطوطات العربية. والأصل في الخزانة الملكية في الرباط، ورقة 2أ.(1/125)
كلمة ونقص أخرى، وإبدال كلمة مكان أخرى، وتقديم كلمة على أخرى، ونحو ذلك مما يخرج على خط المصحف العثماني. والثاني: ما اختلف فيه القراء من إظهار وإدغام وروم وإشمام وقصر ومد وتخفيف وإبدال حركة بأخرى أو حرف بآخر ونحو ذلك مما لا يخرج عن خط المصحف فإن الذي يمكن على ضوئه فهم طريقة رسم الكلمات في المصحف من تلك الأوجه هو ما جاء موافقا للرسم. أما ما جاء مخالفا فإنه قطعا غير محتمل أن يكون مما أراده الكتبة حين كتبوا المصحف. أما وجوه الخلاف التي يحتملها الرسم فهي التي يمكن أن تكون أساسا في دراسة الرسم من غير تخصيص وجه دون آخر، لأن الكتبة إنما أرادوا لفظا واحدا أو حرفا واحدا من الأوجه التي تروى موافقة للرسم، لكنا لا نعلم ذلك بعينه (1). ومن ثم جاز أن نعتمد أي وجه مما يحتمله الرسم في تفسير الظواهر الكتابية وحل مشكلات الرسم مما تتوافر الدواعي على ترجيحه.
أما ما اعتمدت عليه طائفة العلماء التي تذهب إلى أن المصحف العثماني قد جاء شاملا للأحرف السبعة من تجريد المصحف من النقط والشكل (2)، فليس هناك دليل على أن الكتابة العربية كانت في تلك الفترة منقوطة أو مشكولة، بل إن الآثار المكتوبة تنفي ذلك كما جاء في الفصل التمهيدي وسنناقش هذا الموضوع في فصل لاحق. كذلك فإن ثبوت وجود قراءات تخالف الرسم ينفي أن يكون المصحف العثماني قد جاء شاملا لكل الأحرف السبعة، بل الصحيح إنه كتب على حرف واحد، أي لتمثيل طريقة نطقية واحدة، ثم في مراحل تاريخية لاحقة شمل ما يحتمله رسمه من وجوه القراءات المروية.
ولعل من المناسب أن نقرر هنا أن ليس المقصود بالأحرف السبعة قراءة معينة من القراءات التي صارت تنسب إلى قارئ معين، بل إن الأحرف السبعة جاءت لتشير إلى الرخصة التي نجد آثارها في وجوه القراءات عامة والتي ثبت نقلها، أما ما يسمى بالقراءات السبع فإنها لم توجد إلا على رأس المائة الرابعة من الهجرة حين اختار الإمام أبو بكر بن مجاهد (ت 324هـ) سبعة من أئمة القراءة في الأمصار ووضع كتاب
__________
(1) انظر: مكي: الإبانة، ص 4.
(2) انظر الداني: المحكم، ص 3. وابن تيمية: ج 1، ص 319. وابن الجزري: ج 1، ص 33.(1/126)
السبعة في القراءات المروية عنهم (1).
وعلى أساس من هذه النتيجة التي توصلنا إليها في الإجابة على السؤال الذي ورد في أول هذا المبحث والتي نرجو أن تكون صحيحة وهي أن المصحف العثماني قد كتب على حرف واحد (أي على قراءة معينة واحدة) سنتناول دراسة ظواهر الرسم، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن المصحف العثماني صار محتملا لأوجه كثيرة من القراءات الصحيحة مما لا يخرج عن الخط في فترات تاريخية لا حقة لزمن كتابته بحيث يصعب تعيين الوجه الذي كتب عليه. بمعنى أننا سنعتبر كافة وجوه القراءات التي يحتملها الرسم أمثلة يمكن على ضوئها فهم النماذج الكتابية التي يقدمها رسم المصحف العثماني.
__________
(1) انظر ابن حجر: ج 10، ص 407. والقسطلاني: ج 1، ص 86.(1/127)
الفصل الثالث الرّسم العثماني مصادره وموقف علماء السّلف من ظواهره
إن استخدام مصطلحي (الرسم المصحفي) و (الرسم العثماني) قد ظهر في وقت متأخر نسبيا في المؤلفات التي اهتمت بموضوع خط المصحف (1)، وقد صار مصطلح الرسم
__________
(1) عرفت اللغة العربية عددا كبيرا من الكلمات للدلالة على تمثيل الألفاظ برموز مكتوبة، (انظر: ابن سيده: علي بن إسماعيل: المخصص، ط 1، القاهرة، المطبعة الأميرية الكبرى، 1320هـ، ج 13، ص 4) إلا أن أشهر تلك الكلمات التي استعملت استعمال المصطلحات هي (الكتاب والخط والهجاء والرسم). ويبدو أن استخدام هذه المصطلحات الأربعة قد تطور عبر القرون، فقد كان مصطلح (الكتاب) الذي هو أحد مصادر كتب (انظر: ابن منظور: ج 2، ص 192) قد استخدم أولا دون غيره، علما على رسم المصحف وكتابة الكتّاب على السواء، وفي ذلك دلالة على أن رسم المصحف لم يكن يختلف في شيء عما كان يستعمله الناس في غير المصحف من الخط، فكان جميع ذلك يطلق عليه مصطلح (الكتاب)، وهناك جملة نصوص ترجع إلى القرنين الأول والثاني الهجريين تدل على ذلك، وربما امتد استخدامه إلى فترات أكثر حداثة من ذلك، لكن يبدو أن مصطلح (الكتابة) الذي هو مصدر آخر من (كتب) قد حل مكانه في الاستعمال. أما (الخط والهجاء) فربما استخدما في وقت مبكر لا حق لاستعمال (الكتاب) فصار مصطلح (الخط) يطلق على الكتابة عامة وظهر مصطلح (خط المصحف)، وفي فترات متأخرة ظهر مصطلح علم الخط (انظر السيوطي: رسالة في علم الخط، ص 54)، وحاجي خليفة (مصطفى بن عبد الله):
كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، استانبول، وكالة المعارف الجليلة، (19431941)، مج 1، عمود (713711). لكن الملاحظ أن مصطلح الخط صار أكثر دلالة على الجانب الفني للكتابة وصناعة الخطاطين، أما (الهجاء) وهو من هجوت الحروف وتهجّيتها هجوا وهجاء (انظر ابن منظور: ج 20، ص 228) وسماه ابن أبي داود الهجاه بالهاء (انظر: المصاحف، ص 117) فهو تقطيع اللفظة بحروفها (ابن سيده: ج 13، ص 3) أو التلفظ بأسماء الحروف لا مسمياتها لبيان(1/128)
__________
مفرداتها (انظر الجعبري، 5أ. والقسطلاني: ج 1، ص 283. والدمياطي: ص 10) تقول مثلا ما هجاء بكر؟ فيقول المجيب: باء وكاف وراء (ابن جنّي: سر صناعة الإعراب (المخطوط)، ورقة 291ب) فكأن الهجاء تعداد حروف الكلمة المكتوبة. ومما يلاحظ أن معظم المصادر الأولى التي ألّفت في موضوع الخط والكتابة كانت تعرف بكتب (الهجاء) أو (هجاء المصاحف).
ومصطلح الهجاء أخص أيضا من مصطلح الخط، يظهر ذلك من تأمل قول ابن درستويه في كتابه (الكتاب) بعد أن تكلم بإيجاز عن بعض صور الحروف واعتذر عن الإطناب في تفصيل ذلك (ص 69): «لئلا يطول الكتاب بما يخرجه من حد الهجاء إلى غيره مؤخرا استقصاء سائره إلى أن أضمنه كتاب تعليم الخط إن شاء الله». أما مصطلح الرسم العثماني أو رسم المصحف فقد ظهر على ما يبدو في وقت متأخر نسبيا، إذ إن كافة معاجم اللغة لا تذكر لمادة (رسم) أي معنى يتعلق بالخط، وأصل معنى (رسم) هو الأثر، ورسم كل شيء أثره، والجمع رسوم (انظر ابن دريد: الجمهرة، ج 2، ص 336. والأزهري: ج 12، ص 422. والجوهري: ج 5، ص 1932.
وابن منظور: ج 15، ص 132)، وربما كان استعمال الرسم للدلالة على خط المصحف إشارة إلى معنى الأثر القديم الذي يحرص المسلمون على المحافظة عليه، فظهر مصطلح (مرسوم الخط)، و (مرسوم خطوط المصاحف)، و (الرسم)، وما اشتق من نفس المادة. وكتاب أبي عمرو الداني (المقنع) مشحون بمصطلحات الكتابة كافة، ويظهر فيه نزوع شديد إلى استخدام مادة (رسم) للدلالة خاصة على خط القرآن. كذلك نجد الشيء نفسه في كتاب المهدوي (هجاء مصاحف الأمصار). وفي الفترات اللاحقة لعصر الداني بدأ مصطلح الرسم يتخصص بخط المصحف حتى غلب استعمال مصطلح (الرسم) في خط المصاحف (انظر الهوريني: ص 7و 23). وإذا كانت المؤلفات الأولى في الرسم يغلب أن يطلق عليها مصطلح (هجاء المصاحف) فإن المؤلفات المتأخرة غلب عليها إطلاق مصطلح (الرسم والمرسوم). ونجد ابن مالك (ت 672هـ) يستخدم (ص 332) مصطلح (الرسم السلفي) ويتحدث ابن خلدون (ت 808هـ) عن فن الرسم (مج 1، ص 791) ويقول: «ربما أضيف إلى فن القراءات فن الرسم أيضا وهو أوضاع حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطية». وقد سماه القلقشندي (ج 3، ص 172) (المصطلح الرسمي)، وقال إنه يسمى أيضا (الاصطلاح السلفي) في مقابل (المصطلح العرفي). ويتحدث التّنسي (ت 899هـ) عن رسم المصحف (ورقة 2أ) على أنه علم، فيسمى ما كان متعلقا ببيان الزائد والناقص والبدل والموصول وغيره (بعلم الرسم)، وما كان متعلقا بعلامة الحركة والسكون والشد والمد وغيره (بعلم الضبط)، الذي سنتحدث عنه في فصل لاحق. وسماه صاحب مفتاح السعادة (ج 2، ص 229) (علم رسم كتابة القرآن في المصحف). واستعمل ابن خلدون (مج 1، ص 791)(1/129)
في مجال الدراسات القرآنية يدل على الجانب الذي يهتم بكيفية كتابة الكلمات في المصحف، من حيث عدد الحروف ونوعها، لا من حيث أشكال الحروف وصورها، إذ إن الجانب الثاني قد استأثر بالقسط الأكبر من اهتمامات المدرسة الفنية للخط العربي، ذلك لأن دراسة الخط العربي قد تقاسمتها منذ القرن الأول الهجري على الأقل مدرستان: الأولى المدرسة العلمية أو اللغوية، وغايتها تصوير الأصوات العربية بحروف مرسومة، وتخصيص كل صوت برمز كتابي يدل عليه. وإلى جانب هذه المدرسة العلمية للكتابة قامت مدرسة فنية هدفها تهذيب رسم الحروف وتحسينها والنظر إليها من الناحية الجمالية متصلة ومنفصلة، وقد بلغ الخطاطون في ذلك على توالي القرون شأوا بعيدا (1).
والجانب الأول من شقي دراسة الكتابة والخط هو ميدان الباحث اللغوي، والثاني هو ميدان الخطاط ومؤرخ الخط. ونحن هنا إنما نهدف إلى الدراسة اللغوية للكتابة العربية عامة والرسم المصحفي خاصة دون ما يتعلق بالجانب الثاني من دراسات ومناقشات (2)، إذ «أنّ أصل الخط واحد، وصورة كل حرف من المعجم في كل الخطوط
__________
مصطلح (الرسم المصحفي) واستعمله نصر الهوريني (ص 26و 151) مقابلا لمصطلح الخط القياسي، وقد ظهر مصطلح الإملاء أو الرسم الإملائي مرادفا للخط والهجاء. ورغم تلك المعاني الخاصة التي لا بست استخدام كل مصطلح إلا أنها ظلت جميعا تستعمل كمترادفات بصورة عامة، إلا مصطلح الرسم المصحفي الذي أصبح خاصا بخط القرآن. وسنجري في هذا البحث على استخدام تلك المصطلحات بمعناها العام، إلا مصطلح الرسم الذي ظل محدد الدلالة منذ استخدام للتعبير عن خط المصحف. وتجب ملاحظة أن رسم المصحف كثيرا ما ينسب إلى الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه فيقال الرسم العثماني (انظر: د. صبحي الصالح: ص 275) ولا شك في أن ذلك جاء بعد إرسال المصاحف التي انتسخت في المدينة بأمره رضي الله عنه إلى الأمصار، فارتبط اسمه بتلك المصاحف، وبطريقة الكتابة فيها. وإذا أطلقنا (الرسم العثماني) في هذا البحث فغالبا ما نقصد الرسم المجرد قبل أن يكمله العلماء وهو ما يعرف بعلم الرسم، أي ما خطّه الصحابة رضوان الله عليهم حين نسخوا المصاحف، أما إذا أطلق (الرسم المصحفي) فغالبا ما ينصرف إلى كل من الرسم والضبط.
(1) انظر: د. خليل محمود عساكر: طريقة لكتابة اللهجات العربية الحديثة بحروف عربية، مقال في مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، 1955، ج 8، ص 181.
(2) من الملاحظ بصورة عامة غلبة ما اصطلح على تسميته بالخط الكوفي في مصاحف القرون(1/130)
على شكل واحد، وأن الحروف كلها متجانسة متشابهة، وإن اختلفت وتباينت لتصرفها وافتنانها، كخطوط المصاحف والورّاقين والكتّاب وغيرهم، وكالثقيل منها والخفيف والإمساك والسريع والجليل والدقيق» (1). فمهما كان شكل الحرف الواحد مختلفا تبعا لنوع الخط الذي يرسم به فإنه من وجهة النظر اللغوية واحد، لأنه لا يدل إلا على صوت واحد.
وقد ذكر طاش كبرى زاده (ت 962هـ) أن من بين العلوم المتعلقة بإملاء الحروف المفردة (علم إملاء الخط العربي) وهو كما يقول عنه علم يبحث فيه عن الأحوال العارضة لنقوش الحروف العربية بحسب الآلات الصناعية، أعني القلم وأمثاله، بعد رعاية حال بسائط الحروف من حيث الدلالة على الحروف التي هي أجزاء الألفاظ، وهذا العلم من حيث حصول الحروف بالآلة من أنواع علم الخط، ومن حيث دلالتها على الألفاظ من فروع علم العربية (2). وهذا فهم صحيح للجانب الذي يهم الباحث اللغوي من الكتابة، فقد ميّز بين العلم الذي يعنى بشكل الحروف وجعله من أنواع علم الخط، وبين العلم الذي يعنى بالحروف من حيث دلالتها على الألفاظ وجعله من فروع علم العربية التي يهتم بها اللغوي.
ويبدو أن صاحب كشف الظنون (ت 1067هـ) قد ابتعد عن الصواب حين انتقد ذلك التمييز بين العلوم المتعلقة بالخط والكتابة بقوله: وأما المولى أبو الخير فأورد في الشعبة الأولى من مفتاح السعادة علوما متعلقة بكيفية الصناعة الخطية، ثم أورد في
__________
الهجرية الأولى، إلا أن غلبة الخط الكوفي في رسم المصاحف بدأت تنحسر أمام الخطوط اللينة خاصة النسخي منذ القرن الرابع الهجري، ومع ذلك امتد استخدام الكوفي حتى القرن السادس الهجري، حيث استأثرت الخطوط الأخرى بكل اهتمام الخطاطين. وكان أهل المغرب قد طوّروا نوعا من الخط الكوفي شيئا قليلا، فتولّد عنه ما يعرف الآن بالخط المغربي. وللخطوط المذكورة أنواع متعددة تفنّن الخطاطون في تجويدها، فكانت روائع في الفن والجمال (انظر: د. إبراهيم جمعة: دراسة في تطور الكتابات الكوفية، ص 28و 62و 71وما بعدها. وهو داس: ص 181.
ود. محمد عبد العزيز مرزوق: المصحف الشريف، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975، ص (8574). وانظر أيضا هامش رقم (3)، ص 55من الفصل التمهيدي).
(1) ابن درستويه: ص (6564). وانظر: حمزة الأصفهاني: ص 21.
(2) مفتاح السعادة، ج 1، ص 84.(1/131)
الشعبة الثانية علوما متعلقة بإملاء الحروف المفردة، وهي أيضا كالأولى، منها (علم إملاء الخط العربي)، أي الأحوال العارضة لنقوش الخطوط العربية، لا من حيث حسنها بل من حيث دلالتها على الألفاظ، وهو أيضا من قبيل تكثير السواد (1). ولا يتفق البحث اللغوي الصائب مع يدعيه صاحب كشف الظنون من أن العلم الذي يعنى بالحروف من حيث دلالتها على الألفاظ (من قبيل تكثير السواد)، بل إن دراسته والاهتمام به تعد استكمالا لجانب هام من الجوانب التي تتعلق باللغة عامة إذ إنه أحد علوم العربية الاثني عشر المسماة (علم الأدب) المعرّف بأنه «علم يحترز به عن الخطأ لفظا وخطا في كلام العرب» (2) والتي تتعلق بعلم الأصوات اللغوية خاصة، لأن مسائل الكتابة والإملاء ذات ارتباط وثيق بالأصوات ومشكلاتها، بل قل إنها في واقع الأمر مبنية على الحقائق الصوتية (3). ويذهب بعض الباحثين إلى أن الإملاء العربي نظام لغوي قائم بذاته كالنحو والصرف والمعجم، لكن العرف وضعه بشكل معين، دون رجوع شامل إلى مقتضيات الدراسات اللغوية التي ترتبط به (4).
ومع ذلك فإنه يجب أن يظل التمايز بين اللغة المنطوقة والكتابة قائما، لا يغيب عن الذهن، فليست الكتابة صورة أخرى من وسائل التعبير الإنساني تقف إلى جانب الكلام (5)، بل هي في أحسن أحوالها محاولة للتعبير عن اللغة في واقعها الصوتي، وهذه المحاولة دقيقة أحيانا وغير دقيقة في أكثر الأحيان (6). وقد مرت في الفصل التمهيدي بعض مظاهر القصور في نظم الكتابة عامة (7).
ورغم هذا الموقع الذي تتخذه الكتابة من دراسة اللغة فإن هناك عوامل عدة تجعل
__________
(1) حاجي خليفة، مج 1، ع (713711).
(2) نصر الهوريني: ص 3. وانظر: د. كمال محمد بشر: دراسات في علم اللغة، ق 2، ص (1715) وص (212) أيضا.
(3) د. كمال محمد بشر: نفس المصدر، ص 70. وانظر: الأصوات (له)، ص 234.
(4) انظر د. تمام حسان: مناهج البحث في اللغة، ص 232.
(5) يذهب الدكتور تمام حسان (اللغة العربية، ص 46) إلى أن الفرد يتم كلامه في إحدى صورتين:
النطق أو الكتابة.
(6) انظر د. محمود فهمي حجازي: علم اللغة العربية، ص (1110).
(7) سنتناول إن شاء الله العلاقة بين اللغة وبين الكتابة في الفصل الأخير بصورة أكثر تفصيلا.(1/132)
اللغوي خاصة يهتم بدراسة الكتابة إضافة إلى العوامل التي تدفع الفرد العادي إلى ذلك لعل من أهمها عاملين (1): الأول: أننا لا نكاد نتصور اللغة دون صورتها الكتابية، بل إن بعض اللغات القديمة لا تعرف إلا من طريق النصوص المكتوبة المتبقية منها. والثاني: هو ما للكتابة نفسها من أهمية فائقة في الحياة البشرية، فدراسة الكتابة وتاريخها تقف جنبا إلى جنب مع دراسة اللغة وتاريخها كفروع شقيقة لميدان واسع هو ميدان الحضارة الإنسانية.
وتظهر الحاجة إلى دراسة الكتابة ومشكلاتها بصورة أشد في مجال دراسة اللغة العربية، فإلى جانب أهمية الكتابة المشار إليها نجد أن اللغويين القدامى قد تأثروا في بعض الأحيان بالصورة الكتابية (2). وتصبح تلك الحاجة أشد ضرورة في مجال الدراسات القرآنية عامة والقراءات منها خاصة، فقد عدّت موافقة الرسم أو الكتابة أحد شروط القراءة الصحيحة، إضافة إلى صحة الرواية وموافقة العربية.
وقبل أن نمضي في دراسة خصائص الرسم العثماني وطريقة كتابة الكلمات ومدى وفاء الرموز الكتابية بتمثيل الأصوات، وقبل محاولة تبين الأسس التي قام عليها الرسم والعوامل التي أسهمت في إعطاء الكلمات صورها الكتابية يتحتم علينا أن نمهد السبل بتبيان المصادر التي يمكن أن تمدّ هذا البحث بطريقة رسم الكلمات في المصحف، وهو ما يمنح الثقة التاريخية بتلك النماذج والهيئات التي يرويها العلماء عن كيفية رسم الكلمات في المصاحف العثمانية الأمهات والمصاحف المنتسخة منها في العصور الإسلامية، ويقطع ما يمكن أن يثار من تساؤل حول صحة ما يرويه العلماء من صور اختلاف رسم بعض الكلمات في المصاحف العثمانية (3). ويؤكد أن ذلك هو واقع الكتابة
__________
(1) انظر:.،. 935.
(2) انظر د. رمضان عبد التواب: ص 352.
(3) أثار الأستاذ محيي الدين عبد الرحمن رمضان في مقدمة تحقيقه لكتاب (هجاء مصاحف الأمصار) لأبي العباس أحمد بن عمار المهدوي والذي نشره في مجلة معهد المخطوطات العربية، (مج 19، ج 1، سنة 1973)، ص (6463) جملة أسئلة في معرض كلامه عن موضوع الكتاب، أحدها هو:
هل كل ما في المصنفات الأمهات، التي تتناول هذا الموضوع هو على التحقيق مما اختلف(1/133)
العربية التي واجهت، حين استخدمت لتدوين القرآن الكريم، أول فرص الاستخدام الواسع في عمل ضخم يستغرق مئات الصفحات، بعد أن كانت حبيسة استعمالات محدودة لا تتيح توحيد القواعد وإذاعة نموذج موحد يمكن أن يلتزمه الكتاب في أصقاع الجزيرة العربية وأطرافها فيما يكتبون.
وسنحاول قبل أن نتناول خصائص الرسم العثماني بالدراسة في الفصل التالي أن نعرض لمواقف أئمتنا من علماء السلف رضوان الله عليهم من ظواهر الرسم وخصائصه، سواء من حيث التزامه في كتابة المصاحف أو من حيث تفسيرهم للصور الكتابية التي تقدمها ظواهره، إذ أن ذلك من المسائل الهامة التي يجب أن يستوفى الكلام عنها قبل محاولة عرض الصورة التي يمكن تجميعها من معطيات الدراسات المختلفة سابقة ومعاصرة في ميادين اللغة والكتابة وتاريخهما، لتفسير ظواهر الرسم وفهم تاريخ تطوره وتكميله.
__________
فيه؟ وسنجد الإجابة على هذا التساؤل في الصفحات الآية إن شاء الله.(1/134)
المبحث الأول مصادر الرّسم العثماني
لم تعرف البشرية كتابا حظي بالعناية والاهتمام على مدى الأجيال مثل القرآن الكريم، سواء من حيث كتابته ورسم حروفه، أم من حيث تلاوته وتحقيق قراءته، أم معرفة أحكامه وبيان معانيه، فمن حيث كتابته ورسم حروفه روى علماء الرسم وسجلوا في كتبهم وصف هجاء كل كلمة وردت في المصحف، خاصة تلك التي تميزت برسم معين، إذ ما إن وصلت المصاحف التي كتبت في المدينة في خلافة عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار الإسلامية حتى سارع المسلمون إلى نسخ المصاحف منها، حرفا بحرف وكلمة بكلمة، وإقامة مصاحفهم بعرضها عليها (1)، حتى أنه نص بعض العلماء على أن «القول الحق الذي يجب المصير إليه أنه لا بد لكل من قصد نسخ مصحف من أصل يعتمد عليه، فإن من وكل إلى نفسه في انتحال مصنوع تعب وملّ» (2).
وكما اشتهر أئمة بالإقراء في المصار كذلك وجّه هؤلاء الأئمة عنايتهم إلى ضبط رسم المصاحف وإقامتها على نحو ما جاء في المصحف الإمام الذي وجّه إليهم، وهكذا قامت تلك المصاحف المنسوخة من الأمهات مقام الأصول لأنها نسخة منقولة عنها (3)، فروى الأئمة عن المصاحف العثمانية أصولا وفروعا طريقة رسم الكلمات. وما أن وصلت تلك الرواية إلى عصر انتشار تدوين العلوم حتى سارع العلماء في وقت مبكر (4) إلى تسجيل تلك الروايات في كتب كانت أساسا لحفظ صور الكلمات في
__________
(1) انظر ابن أبي داود: ص 131و 156.
(2) العقيلي: لوحة 29.
(3) انظر علم الدين السخاوي: الوسيلة، ورقة 13ب. والمارغني (إبراهيم بن أحمد): دليل الحيران شرح مورد الظمآن، القاهرة، دار القرآن 1974م، ص 17.
(4) انظر فؤاد سزكين: تاريخ التراث العربي، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، مج 1، ص 147.(1/135)
المصاحف، ومرجعا إلى جانب المصاحف المنسوخة لمن أراد أن ينسخ مصحفا، ثم نصل إلى مرحلة متقدمة حين نجد العلماء يقارنون بين رسم بعض الكلمات في مختلف مصاحف الأمصار: المدينة والمكية ومصاحف أهل الشام والعراق.
ورغم أن المؤلفات الأولى في رسم المصحف لم يصل إلينا منها شيء فإن الكتب التي ترجع إلى فترات متأخرة نسبيا قد نقلت ما جاء في تلك الكتب رواية، فنجد المؤلف يسند ما يذكره في كتابه إلى الأئمة المتقدمين، إضافة إلى ما قد يدوّنه هو من ملاحظته ونقله عن مصاحف عصره.
وقد ظهر في كل مصر من الأمصار إمام روى ما ورد في مصحف بلده، إذ إن أئمة القراءة كانوا يروون كيفية رسم الكلمات، إلى جانب روايتهم للقراءة. وكما كانت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم دارا للسنة كانت قبل ذلك ومعه دارا للقرآن قراءاته ورسمه. فكان ممن روي عنهم الرسم من أهل المدينة عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، (ت 117أو 119هـ) نزيل الاسكندرية (1)، إلا أن إمام المدينة في الرسم هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، أبو رويم، (ت 169هـ) أحد القراء السبعة الأعلام، قرأ على سبعين من التابعين (2)، فكان أهم من اعتمد عليه في نقل الرسم (3). وذلك لأنه ولد بالمدينة، وأقرأ الناس بها بكثير من القراءات، وعاش عمرا طويلا، وكان المصحف الذي أعطى عثمان رضي الله عنه لأهل المدينة لا يزال عنده، فبكثرة مطالعته له ومواظبته إياه تصوّره في خلده، فلم تؤخذ حقيقة الرسم إلا عن نافع (4).
وكان نافع قد قرأ عليه وروى عنه خلق كثير (5)، إذ إنه أقرأ الناس دهرا طويلا، نيفا عن سبعين سنة، وانتهت إليه رئاسة القراءة بالمدينة، وذكر له ابن الجزري نحوا من ستة
__________
(1) انظر الداني: المقنع، ص 40.
(2) انظر الذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 89. وابن الجزري: غاية النهاية، ج 2، ص 330.
(3) انظر العقيلي: لوحة 9.
(4) اللبيب (أبو بكر بن أبي محمد عبد الله المشهور باللبيب): الدرة الصقيلة في شرح العقيلة، مخلوط في مكتبة الجامع الأزهر، ورقة 19/ أ.
(5) الذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 90.(1/136)
وأربعين ممن قرءوا عليه من مختلف الأمصار (1). فنقل عنه تلامذته ما رواه في رسم المصحف، فكانوا أئمة في ذلك برواية أستاذهم الأول، إضافة إلى نقلهم هم أنفسهم عن مصاحف المدينة، فمنهم: سليمان بن مسلم بن جمّاز (2)، (ت بعد 170هـ).
وإسماعيل بن جعفر المدني (3)، (ت 180هـ). وعبد الله بن وهب (4)، (ت 197هـ).
والغازي بن قيس الأندلسي (5)، (ت 199هـ). وعيسى بن مينا قالون (6)، (ت 220هـ).
وكان بالبصرة عاصم بن أبي الصباح الجحدري (7)، (ت 128هـ)، الذي روى عنه معلّى بن عيسى البصري الوراق (8). وكان ممن روى عنهما الرسم من أهل البصرة أيضا إمام القراءة فيها أبو عمرو بن العلاء (9)، (ت 154هـ). وممن وردت عنه رواية في الرسم من أهلها أيضا، أيوب بن المتوكل (10) (ت 200هـ)، ويحيى بن المبارك اليزيدي (11)، (ت 202هـ)، وخالد بن خداش (12)، (ت 224هـ)، وبعض هؤلاء رحل من البصرة إلى بغداد.
وكان في الكوفة من أئمة رواية الرسم قارئها الإمام أبو عمارة حمزة بن حبيب
__________
(1) غاية النهاية، ج 2، ص (331330).
(2) انظر: ابن أبي داود: ص 37و 41.
(3) انظر: أبو عبيد: فضائل القرآن، لوحة 44. والداني: المقنع، ص 108.
(4) الداني: المقنع، ص 10.
(5) الداني: نفس المصدر، ص 21و 37و 44و 47و 50وغيرها. وانظر أبو بكر الزبيدي (محمد بن الحسن): طبقات النحويين واللغويين، ط 1، القاهرة، الخانجي، 1954، ص 276. وروى ابن الجزري أن الغازي صحح مصحفه على مصحف نافع ثلاث عشر مرة، (انظر: غاية النهاية، ج 2، ص 2).
(6) الداني: المقنع، ص 10.
(7) انظر المهدوي: هجاء مصاحف الأمصار، ص 89. وسنكتفي حين الاعتماد على هذا المصدر بالذات بالإشارة إلى المؤلف فقط. وانظر الداني: المقنع حيث ذكره في أكثر من موضع.
(8) الداني: المقنع، ص 75. وابن الجزري: غاية النهاية، ج 2، ص 304.
(9) الداني: المقنع، ص 34و 40و 107.
(10) نفس المصدر، ص 39و 99.
(11) نفس المصدر أيضا، ص 16و 34و 41و 44وغيرها.
(12) الداني: المقنع، ص 35.(1/137)
الزيات (1)، (ت 156هـ)، ثم أجلّ أصحابه علي بن حمزة الكسائي (2)، (ت 189هـ) الذي انتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة بعد حمزة، وفي بغداد بعد ذلك، وكان من أهل الكوفة أيضا عبد الله بن إدريس الأودي (3)، (ت 192هـ)، وعلي بن زيد بن كيسة (4)، (ت 202هـ)، ويحيى بن زياد الفراء الكوفي (5) (ت 207هـ)، وخلف بن هشام أبو محمد البزار (6)، (ت 229هـ)، وأبو جعفر محمد بن سعدان الضرير (7)، (ت 231هـ).
وكان الصحابي الجليل أبو الدرداء عويمر بن زيد الأنصاري (ت 32هـ) قد ولي قضاء دمشق وأقرأ فيها، ولا شك أنه تلقى المصحف الذي أرسله عثمان إلى الشام، وقد وردت عنه في الرسم روايات عن مصحف أهل الشام (8)، وكان عبد الله بن عامر (ت 118هـ) قد أخذ القراءة عن أبي الدرداء فكان إمكان أهل الشام في القراءة، إضافة إلى ما روي عنه من روايات في رسم مصحف بلده (9). وأخذ عن ابن عامر يحيى بن الحارث الذماري (ت 145هـ) فوردت عنه الرواية في ذلك (10). وممن روي عنه في الرسم من أهل الشام أيضا هشام بن عمار (ت 245هـ)، إمام أهل دمشق في زمانه (11).
فهؤلاء الأئمة هم عماد الرواية في رسم المصحف كانوا ينقلون طريقة رسم الكلمات في مصاحف أمصارهم، لكن هناك ملاحظة هامة في هذا الصدد، هي أنهم كثيرا ما ينصون على حروف من الرسم في غير مصاحفهم، فقد كانت الرحلة في طلب العلم أو الحج تتيح لهم الاطلاع على مصاحف الأمصار الأخرى، وهكذا فقد روى أبو عمرو بن
__________
(1) نفس المصدر، ص 48و 68و 70و 73و 82.
(2) انظر ابن أبي داود: ص 39و 48. والداني: المقنع، ص 21و 40و 64و 66و 73وغيرها.
(3) انظر المهدوي: ص 96. والداني: المقنع، ص 39.
(4) الداني: المقنع، ص 47و 56و 69.
(5) المهدوي، ص 118. والداني: المقنع، ص 35و 41و 103.
(6) المهدوي، ص 96. والداني: المقنع، ص 38و 39و 64و 65و 107.
(7) الداني: المقنع، ص 74.
(8) أبو عبيد: فضائل القرآن، لوحة 45. والداني: المقنع، ص 79و 102.
(9) انظر الداني: المقنع، ص 88و 102و 110.
(10) نفس المصدر، ص 90.
(11) نفس المصدر أيضا، ص 52.(1/138)
العلاء، وأيوب بن المتوكل، واليزيدي، وأبو عبيد، وأبو حاتم سهل بن محمد السجستاني (ت 250أو 255هـ)، وابن مجاهد (ت 324هـ)، وهم من أهل العراق، عن مصاحف أهل مكة وغيرها (1).
وقد توفرت روايات رسوم مصاحف الأمصار لدى العلماء في وقت مبكر، فظهر التأليف في اختلاف رسوم مصاحف أهل الأمصار، وينسب إلى كل من ابن عامر والكسائي والفراء وخلف كتاب في ذلك مما سنشير إليه بعد قليل.
وقد ظلت المصاحف إلى جانب روايات الأئمة مصدرا لدراسة الرسم العثماني، فكان المؤلفون يروون الروايات المتقدمة ثم إنهم كثيرا ما يعقبون على ذلك بقولهم أنهم رأوا ذلك كذلك في مصاحف بلدهم (2) أو ربما صححوا بعض الروايات على ضوء ما يجدونه في المصاحف التي عندهم (3).
وبناء على ذلك ستعتمد دراستنا للرسم العثماني في هذا البحث على ما روته المصادر المؤلفة في ذلك أولا مما وصل إلينا منها، وعلى المصاحف القديمة المخطوطة، التي أمكن الاطلاع عليها، المحفوظة في بعض مكتبات التراث الإسلامي ثانيا.
أولا: الكتب المؤلفة في الرسم:
قبل أن نذكر أهم المؤلفات التي كتبت في الموضوع، وما سنعتمد عليه منها، نشير إلى أن من بين الدوافع إلى التأليف في هذا المجال إلى جانب الحرص على كل ما يتعلق بكتاب الله تعالى هو أن كثيرا من هجاء الكلمات في المصحف قد جاء على أكثر من صورة (4)، على ما كان شائعا من قواعد الهجاء آنذاك، لكن الناس بعد تدوين العلوم وازدياد استعمالهم للكتابة مالوا إلى توحيد قواعد الهجاء. وظهرت المدارس النحوية في البصرة والكوفة، وكان من بين اهتمامات علماء المدينتين أن يقدموا أسلوبا أيسر للكتابة، شعارهم في ذلك أن الأصل في الكتابة مطابقة الخط للفظ بتقدير الابتداء
__________
(1) انظر: نفس المصدر، ص 16و 34و 38و 41و 66و 105و 110.
(2) انظر مثلا الداني: المقنع، ص 14.
(3) انظر نفس المصدر: ص 35و 76و 103.
(4) انظر ابن خلدون: مج 1، ص 791.(1/139)
به والوقف عليه، فاتجه الناس تدريجيا إلى استعمال الصور الجديدة لهجاء الكلمات، لكن نساخ المصاحف ظلوا حريصين على ألّا يخرجوا على شيء مما في رسم المصاحف، فقد شملت العناية طريقة الكتابة من القرآن الكريم، إضافة إلى أن ارتباط الرسم بالقراءات كان عاملا أساسيا في الحفاظ على رسم الكلمات على صورتها القديمة، ومن هنا فقد اتجه علماء القراءات والعربية منذ وقت مبكر إلى حصر الكلمات التي جاءت في المصحف مكتوبة بصورة تخالف ما اصطلح عليه الناس في الفترات اللاحقة، وكانت حصيلة ذلك الاتجاه وتلك الجهود هو هذه القائمة الطويلة من المؤلفات في موضوع رسم المصحف، والتي حفظت للمصحف صورته التي خطّ بها منذ أنزل، وحفظت لنا الصورة التي كانت عليها الكتابة العربية في تلك الحقبة المتقدمة من تاريخها.
ومع أن صاحب مفتاح السعادة لم يذكر عند حديثه عن موضوع الرسم إلا أسماء ثلاثة كتب (1)، ومع أن صاحب كشف الظنون لم يفعل أكثر مما فعله إلا قليلا (2)، إلا أن كتب التراجم وفهارس المكتبات وكتب القراءات غنية بأسماء المصنفات في هذا العلم، إذ قد أفرده بالتصنيف خلائق من المتقدمين والمتأخرين (3)، وألف فيه الناس كتبا كثيرة ما لها عدة (4). وسنحاول هنا الإشارة إلى أهم تلك المصنفات بادئين بأقدمها، إذ هي الأساس الذي نقل صورة المصاحف العتق، وكانت عماد المتأخرين في تدوين مؤلفاتهم في موضوع الرسم.
يذكر ابن النديم كتابين لإمام الشام عبد الله بن عامر اليحصبي (ت 118هـ) في موضوع المصاحف ورسمها، الأول (كتاب اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق).
والثاني كتاب في (مقطوع القرآن وموصوله) (5)، وألف تلميذه يحيى بن الحارث الذماري (ت 145هـ) كتابا في (هجاء المصاحف) (6).
__________
(1) انظر: ج 2، ص 229.
(2) انظر: ج 1، عمود 902. وج 2، عمود 1159.
(3) انظر السيوطي: الإتقان، ج 2، ص 145.
(4) اللبيب: ورقة 4أ. وانظر الجعبري: ورقة 73أ. وابن الجزري: النشر، ج 2، ص 128.
(5) الفهرست، ص 36.
(6) نفس المصدر والصفحة.(1/140)
ويذكر ابن النديم أيضا لحمزة بن حبيب الزيات (ت 156هـ)، إمام الكوفة، كتابا في (مقطوع القرآن وموصوله) (1).
وألّف الكسائي (المشهور أنه ت 189هـ)، إمام الكوفة بعد حمزة، كتاب (اختلاف مصاحف أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة) (2). وكتاب (الهجاء) (3)، وكتاب (مقطوع القرآن وموصوله) (4).
وللفراء (ت 207هـ) كتاب في (اختلاف أهل الكوفة والبصرة والشام في المصاحف) (5). وهو في كتابه (معاني القرآن) كثيرا ما يتحدث عن هجاء بعض الكلمات، وفيه روايات قيّمة عن الكتابة العربية، كذلك يروى لخلف بن هشام (ت 229هـ) كتاب في اختلاف المصاحف (6).
وقد أشرنا من قريب إلى أن كثيرا من روايات الرسم قد جاءت عن إمام المدينة نافع بن أبي نعيم (ت 169هـ)، وقد ألف تلامذته كتبا في ذلك من روايتهم عنه، فهذا الغازي بن قيس الأندلسي (ت 199هـ) قد رحل إلى المشرق وأقام في المدينة وشهد تأليف مالك للموطأ، وأدرك نافعا وقرأ عليه، وهو أول من أدخل قراءته إلى
__________
(1) الفهرست، ص 36.
(2) نفس المصدر والصفحة.
(3) ابن النديم: ص 66. وانظر أبو البركات الأنباري (كمال الدين عبد الرحمن بن محمد): نزهة الألباء في طبقات الأدباء، القاهرة، دار نهضة مصر، 1967، ص 71. وانظر أيضا: ياقوت:
معجم الأدباء، القاهرة. عيسى البابي الحلبي (19381936)، ج 13، ص 203. والذهبي:
معرفة القراء، ج 1، ص 106. وعلينا أن نلاحظ هنا أن عدة كتب جاءت باسم (الهجاء) من تأليف بعض النحاة (انظر مثلا: ابن النديم: ص 59و 74و 81و 82و 63و 64و 83). ولا نشك في أنها وضعت في قواعد الكتابة القياسية، ولكن مجيء كتاب تحت ذلك العنوان منسوب لأحد القراء دون تخصيصه بكونه في هجاء المصاحف نرجح من نسبته أنه في هجاء المصاحف.
(4) ابن الندي: ص 36و 65. وياقوت: معجم الأدباء، ج 13، ص 203. والذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 106.
(5) ابن النديم: ص 36. وياقوت: معجم الأدباء، ج 20، ص 13.
(6) ابن النديم: ص 36.(1/141)
الأندلس (1). وصحح مصحفه على مصحف نافع ثلاث عشرة مرة (2)، فألّف كتابه (هجاء السنة) الذي دوّن فيه روايته عن أهل المدينة في رسم المصحف (3). وكان قالون (ت 220هـ) تلميذ نافع من أشهر رواة أستاذه في الرسم إلا أن المصادر لم تذكر له كتابا في ذلك، لكن قوله «قرأت على نافع قراءته غير مرة وكتبتها في كتابي» (4) قد يشير إلى أنه ربما ذكر في كتابه أيضا ما رواه عن نافع في الرسم.
وأورد أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ) فصلا عن اختلاف مصاحف أهل الأمصار في كتابه (فضائل القرآن ومعالمه وأدبه) (5).
وكان أبو المنذر نصير بن يوسف النحوي (ت في حدود 240هـ) من جلّة أصحاب الكسائي وعلمائهم، أخذ القراءة عنه عرضا، وكان من الأئمة الحذاق، لا سيما في رسم المصحف، وله فيه مصنف رواه عن الأئمة السابقين له (6).
وكان محمد بن عيسى الأصبهاني (ت 253هـ) ممن قرأ على نصير، وروى عنه ما ذكر في كتابه من روايات في الرسم، وألّف هو أيضا كتابه (هجاء المصاحف) (7).
ولأبي حاتم سهل بن محمد السجستاني (المشهور أنه ت 255هـ) كتاب (اختلاف المصاحف) (8) وكتاب (الهجاء) (9).
__________
(1) انظر: أبو بكر الزبيدي: ص 276.
(2) ابن الجزري: غاية النهاية، ج 2، ص 2.
(3) انظر الداني: المقنع، ص 22. واللبيب، ورقة 3أ. والجعبري: ورقة 73أ.
(4) ابن الجزري: غاية النهاية، ج 1، ص 615.
(5) مخطوط ومنه نسخة مصورة بدار الكتب المصرية، انظر: لوحة (4644).
(6) انظر الذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 175. وابن الجزري: غاية النهاية، ج 2، ص (341340).
(7) انظر الداني: المقنع، ص 23. والذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 181. وابن الجزري: غاية النهاية، ج 2، ص 223. والزركلي (خير الدين): الأعلام، ط 3، ج 7، ص 213.
(8) ابن النديم: ص 59. وانظر أيضا: القفطي (أبو الحسن علي بن يوسف): إنباه الرواة على أنباه النحاة، ط 1، القاهرة، دار الكتب المصرية، 1950، ج 2، ص 62. وابن خلكان: ج 2، ص 152. وحاجي خليفة: ج 1، عمود 33وذكر وفاته 248هـ.
(9) ابن النديم: ص 59. وياقوت: معجم الأدباء، ج 11، ص 265. والقفطي: ج 2، ص 62. وابن(1/142)
ولأحمد بن إبراهيم الورّاق (ت في حدود 270هـ)، ورّاق خلف، كتاب في (هجاء المصاحف) (1).
وعقد ابن أبي داود (ت 316هـ) في كتابه (المصاحف) عدة فصول في اختلاف خطوط المصاحف وما اجتمع عليه كتابها، وما كتب فيها على غير الخط (2).
وممن اشتهر برواية الرسم والتأليف في علوم القرآن أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري (3)، (ت 327هـ) فله كتاب (الهجاء) (4). وكتاب (الرد على من خالف مصحف عثمان) (5). وقد أورد في كتابه (إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل) كثيرا من الروايات المتعلقة بالرسم.
ولأبي بكر محمد بن الحسن (ت 354هـ)، المشهور بابن مقسم العطار المقرئ، كتاب (اللطائف في جمع هجاء المصاحف) (6). وله أيضا كتابا (المصاحف) (7).
ولأبي بكر محمد بن عبد الله بن أشتة الأصبهاني (ت بمصر 360هـ) كتابان في الرسم (8). الأول كتاب (المحبر) وقد قال عنه ابن الجزري (9): «كتاب جليل يدل على
__________
خلكان: ج 2، ص 152. والسيوطي: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، ط 1، القاهرة، عيسى البابي الحلبي، 1964، ج 1، ص 606.
(1) ابن النديم: ص 36. وانظر ابن الجزري: غاية النهاية، ج 1، ص 34.
(2) انظر: كتاب المصاحف، ص (117103).
(3) الجعبري: ورقة 7ب.
(4) ابن النديم: ص 75. وياقوت: معجم الأدباء، ج 18، ص 313. والسيوطي: بغية الوعاة، ج 1، ص 214.
(5) ابن النديم: ص 75. وابن خلكان: ج 3، ص 463.
(6) ياقوت: معجم الأدباء، ج 18، ص 153. والسيوطي: بغية الوعاة، ج 1، ص 90، قد سماه الجعبري (ورقة 73ب) (لطائف الهجاء)، وذكره حاجي خليفة (ج 2، عمود 1553): باسم (اللطائف في جمع همز المصاحف).
(7) ابن النديم: ص 33. وياقوت نفس المصدر السابق، والسيوطي كذلك.
(8) انظر: اللبيب، ورقة 3أ. وقد ذكر أن كتابي ابن أشتة من بين عشرة كتب في الرسم اعتمد عليها في شرح العقيلة. لكن ابن خير (أبو بكر محمد بن خير بن عمر الأموي) في فهرسة ما رواه عن شيوخه، طبعة جديدة على الأصل المطبوع في إسبانيا سنة 1893م قال (ص 24) (كتاب المحبر في القراءات)، وربما يكون ضمنه ابن أشتة مباحث في الرسم.
(9) غاية النهاية، ج 2، ص 184.(1/143)
عظم مقداره». والثاني كتاب (علم المصاحف).
ولأبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران النيسابوري (ت 381هـ)، صاحب كتاب الغاية في العشر، كتاب (الهجاء) (1).
وألف أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي (ت بعد 430هـ) كتاب (هجاء مصاحف الأمصار) (2).
وألف مكي بن أبي طالب القيسي الأندلسي (ت 437هـ) كتاب (هجاء المصاحف) جزءان (3).
ولأبي عبد الله محمد بن يوسف بن معاذ الجهني (ت في حدود 442هـ) كتاب (البديع في هجاء المصاحف) (4).
وقد بلغ التأليف في رسم المصحف ذروته بما كتبه أبو عمرو عثمان بن سعيد الأموي الداني المعروف في زمانه بابن الصيرفي، الإمام الحافظ أستاذ الأستاذين وشيخ مشايخ المقرئين كما يقول ابن الجزري (5) فقد ألف فيه كتبا عدة (6)، حتى قال اللبيب «رأيت لأبي عمرو الداني، رحمه الله، في برنامج مائة وعشرين تأليفا، منها في الرسم أحد عشر كتابا، وأصغرها حجما المقنع» (7).
__________
(1) انظر ابن الجزري: النشر، ج 2، ص 128. وكتاب الهجاء لمجهول لوحة 38.
(2) انظر هامش رقم (3)، ص 134من هذا الفصل، وانظر أيضا: ابن خير، (ص 31و 43و 44).
(3) انظر ياقوت: معجم الأدباء، ج 19، ص 170. وابن خلكان: ج 4، ص 364. وقد سماه القفطي (ج 3، ص 381) (علل هجاء المصاحف).
(4) توجد منه نسخة مخطوطة (34ورقة) في المكتبة الظاهرية بدمشق، تحت رقم 307 (18 قراءات). وأخرى ناقصة في دار الكتب المصرية تحت رقم (23318ب)، وهناك رسالة في رسم المصحف في دار الكتب المصرية (طلعت 91قراءات) منسوبة لأبي محمد المكي (؟) ظهر بعد المقارنة أنها كتاب (البديع) لابن معاذ الجهني، لكنها مختصرة في بعض المواضع، وناقصة في أخرى. وانظر: فؤاد سزكين: مج 1، ص (171170).
(5) غاية النهاية، ج 1، ص 503.
(6) انظر: ابن خلدون: مج 1، ص 791.
(7) الدرة الصقيلة، ورقة 4أ. وانظر: المارغني: ص 24.(1/144)
وأشهر كتب الداني المعروفة بل من أشهر كتب الرسم على الإطلاق كتاب (المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار) (1). وقد ورد في آخر الكتاب ما يشير إلى أن له تسمية أخرى حين يقول «تم كتاب الهجاء في المصاحف بحمد الله وحسن عونه» (2).
ويبدو أن هذا الاسم لا يعدو عن كونه وصفا لموضوع الكتاب، فإن اسمه المذكور في أغلب المصادر هو (المقنع).
وأشار الداني في المقنع أن له كتابا آخر بيّن فيه علل بعض الرسوم، يقول (3):
«وعلل ذلك مبينة في كتابنا الكبير»، وقد ذكر ابن عاشر الأنصاري (4) (ت 1040هـ) أن أبا محمد عبد الله بن عمر الصنهاجي، الشارح الأول لقصيدة (مورد الظمآن) من نظم الخراز (ت 718هـ)، قد قال: «سمعت الناظم (يقصد الخراز) مرارا يقول أنهما مقنعان لأبي عمرو، رحمه الله، أحدهما أعظم جرما من الآخر، وأظن هذا الذي بأيدي الناس هو الكبير، وهو مفيد في الرسم، عليه اعتمد كثير، وكان يقول: إنه رآه في مقدار أربعين ورقة. انتهى كلام الشارح». ويبدو أن القول بأن الذي بأيدي الناس هو الكبير غير صحيح إذ إنّ الداني قد أشار فيه إلى أن له كتابا آخر كبيرا، لعله هو المقنع الكبير الذي ذكره الخراز، ثم إن عدد الأوراق المذكور يناسب الكتاب المعروف بأيدي الناس، ولكن هل (المقنع) اسم لكلا الكتابين؟ لعل قول اللبيب في مقدمة شرحه للعقيلة أنه طالع على هذا الشرح ثلاثين تأليفا، منها في الرسم عشرة، ثلاثة منها لأبي عمرو الداني هي (5): المقنع والمحكم والتحبير يساعد على الجواب، فيكون التحبير هو (الكتاب الكبير)، إلا أن المشهور من كتب الداني هو كتاب (المقنع) الذي نظمه الشاطبي، وكأن كتاب العلل الكبير قد غاب منذ وقت مبكر، فلا نجد عنه إلا هذه الإشارة الموجزة التي لا تساعد في إعطاء حكم محدد حول ذلك، وإلا ما ذكره ابن معاذ الجهني في كتابه
__________
(1) انظر: حاجي خليفة: ج 2، عمود 1809. وهناك نسخ كثيرة مخطوطة منه. وقد طبع في أستانبول، سنة 1932باعتناء المستشرق الألماني أوتو برتزل، وفي دمشق سنة 1940بعناية الأستاذ محمد أحمد دهمان.
(2) المقنع، ص 122.
(3) المقنع، ص 30.
(4) فتح المنان، ص 55.
(5) الدرة الصقيلة، ورقة 3أ.(1/145)
البديع من أنه نقل من كتاب (التحبير) (1). ولعل المستقبل يجلي حقيقة الأمر بكشف جديد من عزيز تراثنا المخطوط المتناثر في غياهب مكتبات العالم.
وللداني غير المقنع في الرسم كتاب (الاقتصاد) أرجوزة في مجلد (2). وله في نقط المصاحف كتاب (المحكم) وكتاب (النقط)، وسنشير إليهما في فصل لاحق عن تكميل الرسم العثماني.
ولأبي محمد عبد الله بن سهل بن يوسف (ت 480هـ) كتاب (السبل المعارف إلى رسم المصاحف) (3).
وكان سليمان بن نجاح، أبو داود بن أبي القاسم الأندلسي (ت 496هـ)، شيخ القراء وإمام الإقراء، وأخذ القراءات عن أبي عمرو الداني، ولازمه كثيرا، وسمع منه غالب مصنفاته، وأخذ عنه مؤلفاته في القراءات، وهو أجل أصحابه (4) قد ألف في الرسم كتابا جامعا هو (كتاب التبيين لهجاء التنزيل) في ستة مجلدات (5)، وقد جرّد من هذا الكتاب كتابا آخر سماه (التنزيل في هجاء المصاحف) (6).
وذكر ابن عاشر الأنصاري أن لأبي الحسن علي بن محمد المرادي كتابا في الرسم
__________
(1) ابن معاذ الجهني: البديع في الهجاء، مخطوط، دار الكتب المصرية، ضمن مجموع برقم (23318ب)، ورقة 253أ.
(2) ابن الجزري: ج 1، ص 505. وانظر مقدمة كتاب المحكم للداني، ص 15، لكن ابن خير في فهرسته قال عنه ص (29) «كتاب الاقتصاد في القراءات السبع».
(3) اللبيب، ورقة 3أ. وانظر: عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين، دمشق، المكتبة العربية، 1957، ج 6، ص 62.
(4) ابن الجزري: غاية النهاية، ج 1، ص 316.
(5) انظر: اللبيب، ورقة 3أ. والذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 365. وابن الجزري: غاية النهاية، ج 1، ص 317. والزركلي: ج 3، ص 200.
(6) انظر: ابن عاشر الأنصاري، ص 58. وتوجد منه نسخة في المكتبة الظاهرية بدمشق تحت رقم (5964). وهي وحيدة (انظر عزّة حسن: فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية، دمشق، 1962، ص 351) وقد حصلت منه على نسخة (ميكروفلم)، إلا أنها لا تتيح دراسة الكتاب لانطماس الكتابة في كثير من الصفحات. فكانت الفائدة منه محدودة.(1/146)
منظوما اسمه (المنصف) أكمله في سنة (563هـ)، وهو أحد مصادر الخراز في منظومته (مورد الظمآن) (1).
ولأبي العلاء الحسن بن أحمد بن الحسن الهمداني العطار (ت 569هـ) كتاب (اللطائف في رسم المصاحف) (2).
ونجد بعد هذه المرحلة من التأليف في رسم المصحف أن جهود العلماء قد تركزت وارتبطت بعملين تعلق بهما الناس ودرسوهما، وهما قصيدتان في رسم المصحف.
الأولى من نظم القاسم بن فيرة بن خلف الشاطبي (ت في القاهرة 590هـ)، والثانية من نظم محمد بن محمد بن إبراهيم أبي عبد الله الشريشي، الشهير بالخراز (ت بفاس 718هـ).
ولا يعني ذلك أن الجهود المثمرة قد توقفت عند ذلك الحد بل إن من بين شروح هاتين القصيدتين ما حمل إلينا نصوصا عن مؤلفات مفقودة لولاها ما وصلت إلينا، وكذلك فإن المؤلفات التي كتبت خارج تأثيرهما لم تتوقف، إلا أن الملاحظ على كتابات الفترات المتأخرة أنها أخذت طابع الشروح، ثم اختصار تلك الشروح، في أسلوب يغلب عليه ما غلب على أساليب الفترات المتأخرة، والحقيقة هي أن الموضوع كان قد اكتملت أبعاده منذ فترة متقدمة فلم يكن أمام المتأخرين إلا التقسيم والتبويب والمقارنة والوقوف على وجوه الاتفاق والاختلاف ثم التعليل والتوجيه من خلال تلك الشروح، بهدف عملي وهو الحفاظ على الرسم العثماني أولا، ومعرفة صحيح القراءات ثانيا.
أما عمل الشاطبي فهو قصيدته الرائية المسماة (عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد) (3)، التي نظم فيها مسائل المقنع لأبي عمرو الداني، وزاد عليه أحرفا يسيرة جملتها ست كلمات (4)، أشار إليها بقوله (5):
__________
(1) انظر: فتح المنان، ص 64.
(2) انظر: الجعبري: ورقة 73ب. وابن الجزري: النشر، ج 2، ص 128.
(3) توجد منها نسخ مخطوطة كثيرة، وقد طبعت في مصر عدة طبعات.
(4) انظر: المارغني، ص 25.
(5) انظر: ابن القاصح، ص 18.(1/147)
وهاك نظم الذي في مقنع عن أبي ... عمرو، وفيه زيادات فطب عمرا
وعدة أبياتها مائتان وثمانية وتسعون بيتا (1)، كما أشار إلى ذلك بقوله في آخرها:
تمّت عقيلة أتراب القصائد في ... أسنى المقاصد للرسم الذي بهرا
تسعون مع مائتين مع ثمانية ... أبياتها ينتظمن الدّرّ والدّررا
والقصيدة تبدأ بقوله:
الحمد لله موصولا كما أمرا ... مباركا طيبا يستنزل الدّررا
وقد حظيت (العقيلة) بما حظيت به قصيدة الشاطبي الأخرى التي نظم فيها كتاب (التسير في القراءات السبع) للداني أيضا، والمسماة (حرز الأماني ووجه التهاني) والمشهورة باسم الشاطبية (2)، من اهتمام العلماء والدارسين، فتوالت الشروح على (العقيلة) التي تسمى أحيانا (الرائية) ابتداء من شرح تلميذ الشاطبي الإمام علم الدين السخاوي حتى العصر الحاضر (3).
__________
(1) في الشرح المطبوع لابن القاصح عدة أبياتها مائتان وتسعة وتسعون بيتا، وبلغت عدتها في شرح علم الدين السخاوي ثلاث مائة بيت بزيادة بيت في المطبوع، كما في النسختين المخطوطتين بدار الكتب المصرية تحت رقم (قراءات 129ق) و (قراءات 30ق).
(2) انظر: ابن الجزري: غاية النهاية، ج 2، ص 22.
(3) أول من شرحها علم الدين علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي (ت 643هـ)، ثم شرحها أبو بكر بن أبي محمد عبد الله المشهور باللبيب، وشرحها الحصاري تلميذ السخاوي، وابن جبارة أحمد بن محمد بن عبد المولى المقدسي الحنبلي (ت 728هـ) وشرحها شرحا جامعا برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عمر الجعبري (ت 732هـ)، وشرحها أبو البقاء علي بن عثمان بن القاصح (ت 801هـ)، وشرحه هو الوحيد المطبوع على ما أعرف، وهو (تلخيص الفوائد وتقريب المتباعد)، ثم شرحها أيضا ملا علي القاري (ت 1014هـ)، وابتدأ شرحها في العصر الحديث العلّامة الروسي المسلم موسى جار الله رستوفدوني (ت 1368هـ 1949م)، وهناك شروح أخرى بعضها منسوب لعالم معين وبعضها غير منسوب (انظر في أسماء بعض شروحها: حاجي خليفة:
ج 2، عمود 1159). وتوجد من الشروح المذكورة نسخ مخطوطة في عدد من مكتبات التراث الإسلامي المشهورة، ومحاولة الإشارة إلى تلك الشروح مما يطيل الموضوع دون مسيس حاجة هنا إلى ذلك.(1/148)
وحاكى برهان الدين إبراهيم بن عمر الجعبري (ت 732هـ) الشاطبي فنظم قصيدة لامية في الرسم، كانت عدة أبياتها مائتان وسبعة عشر بيتا، سماها (روضة الطرائف في رسم المصاحف) (1). وقد أشار فيها إلى أنه نظم فيها العقيلة وزاد عليها بعض المسائل بقوله:
لامية عذبت في عقدها نظمت ... رائية وربت مسائلا مثلا
وفعل العلامة محمد بن خليل بن عمر القشيري الأربلي ما فعل الجعبري، فنظم قصيدة في الرسم سماها (واضحة المبهوم في علم المرسوم) (2)، عدد أبياتها ثلاثمائة واثنان وثلاثون بيتا، وأشار إلى ما زاد فيها على العقيلة بقوله:
زادت رسوما على ما في عقيلة أتراب ... لم ينل فضلا لها الكبرا
وقبل أن نذكر عمل الخراز نشير إلى أن الشيخ أبا طاهر العقيلي إسماعيل بن ظاهر (ت 623هـ) له مختصر في رسم المصحف (من أحسن ما ألف في ذلك) (3). وكذلك لإبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن وثيق الأندلسي (ت 654هـ) رسالة مماثلة في رسم المصحف (4).
أما نظم الخراز الذي استحوذ على جهود الدارسين في الفترات المتأخرة إلى جانب العقيلة فهو قصيدته في الرسم المسماة (مورد الظمآن في رسم أحرف القرآن) (5)، وقد ذكر ابن عاشر الأنصاري للخراز عدة مؤلفات في الرسم منها قصيدته (مورد الظمآن) هذه، وذكر له نظما آخر سماه (عمدة البيان)، وتأليفا آخر في الرسم مثل (مورد الظمآن) لكنه منثور، وكان الخراز قد نظم قصيدة (عمدة البيان) أولا، وذيّلها بالضبط
__________
(1) توجد منها نسخة مخطوطة في دار الكتب برقم (تيمور 571تفسير).
(2) توجد منها نسخة مخطوطة في دار الكتب المصرية برقم (تيمور 447تفسير).
(3) ابن الجزري: غاية النهاية، ج 1، ص 165، وتوجد منه عدة نسخ مخطوطة في مكتبة الأزهر ودار الكتب المصرية.
(4) توجد منها نسخ مخطوطة في دار الكتب المصرية، ومنها نسخة في معهد المخطوطات (ميكروفيلم) عن الأصل المحفوظ في إحدى مكتبات تركيا.
(5) الزركلي: ج 7، ص 262، وقد سماها ابن الجزري (غاية النهاية)، ج 2، ص 237، (مورد الظمآن في حكم رسم أحرف القرآن)، وتوجد منها عدة نسخ مخطوطة في مكتبات التراث الإسلامي، وقد طبعت في مصر.(1/149)
المتصل بمورد الظمآن اليوم، وعليه بني العدد المذكور في الذيل (1)، حيث يقول:
عدته أربعة وعشرة ... جاءت لخمسمائة مقتفرة
لكن الخراز أعاد نظم القسم الخاص بالرسم، وسماه (مورد الظمآن) هو الذي بين أيدي الناس اليوم، وأبقى ما يتعلق بالضبط الذي كان آخر عمدة البيان متصلا بالنظم الجديد، فيكون العدد المذكور وهو خمسمائة وأربعة عشر صحيحا باعتبار عمدة البيان، أما بعد تبديل القسم الخاص بالرسم فهذا العدد غير صحيح، لأن عدة ما في النظم الجديد (مورد الظمآن) أربعمائة وخمسون بيتا، فإذا أضيف هذا العدد إلى عدة أبيات الضبط وهي مائة وأربعة وخمسون كان مجموع ذلك كله ستمائة وثمانية، وهو يخالف الرقم المذكور في البيت السابق (2).
وقد اشتهر القسم الخاص بالرسم من نظم الخراز باسم (مورد الظمآن) بينما اشتهر الذيل الخاص بالضبط باسم (ضبط الخراز)، وسنذكر ما يتعلق بالضبط في فصل تال، إن شاء الله.
أما جانب الرسم فقد جعله الخراز وفقا لقراءة نافع فيما يخص علاقة القراءة بالرسم من حذف وغيره واختلاف رسم بعض الحروف (3).
أما مصادر الخراز في هذا القسم فقد جعل عمدته في ذلك (المقنع) لأبي عمرو الداني و (العقيلة) للشاطبي، وما ذكره أبو داود سليمان بن نجاح في (التنزيل) من زيادات، إضافة إلى بعض الكلمات التي تفرد بذكرها أبو الحسن علي بن محمد المرادي صاحب النظم المعروف (بالمنصف) الذي كمله سنة (563هـ)، فجاءت بذلك منظومة الخراز (مورد الظمآن) جامعة لما ورد في أمهات مصادر الرسم، شاملة للمشهور من أوجه الخلاف بين تلك المصادر، فكانت مهيأة لأن تكون الأساس الذي يعتمد عليه في رسم المصاحف على المأثور من رسم المصاحف العثمانية (4).
__________
(1) فتح المنان، ورقة 2ب.
(2) انظر: التنسي، ورقة 92أ، والمارغني، ص 439.
(3) انظر: المارغني، ص 28.
(4) كانت (مورد الظمآن) معتمد اللجنة التي أشرفت على طبع المصحف المشهور بالأميري سنة(1/150)
ويصور ابن خلدون (ت 808هـ) المنزلة التي بلغتها قصيدة (مورد الظمآن) في عصره في بلاد المغرب، بعد أن ذكر كتب الداني وتلميذه أبي داود الشاطبي في الرسم، حيث يقول (1): «فنظم الخراز من المتأخرين بالمغرب أرجوزة أخرى زاد فيها على المقنع خلافا كثيرا عزاه لناقليه، واشتهرت بالمغرب، واقتصر الناس على حفظها، وهجروا بها كتب أبي داود وأبي عمرو والشاطبي في الرسم».
وقد تعددت شروح العلماء على مورد الظمآن، ويذكر ابن عاشر الأنصاري أن أول من شرحها هو أبو محمد عبد الله بن عمر الصنهاجي تلميذ المؤلف (2).
وشرحها الشيخ حسين بن علي بن طلحة الرجراجي، الذي فرغ من ذلك الشرح سنة 842هـ (3).
وشرح أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الجليل التنسي (ت 899هـ) القسم الخاص بالضبط، الذي سنشير إليه في فصل لاحق.
وأشهر شروح (مورد الظمآن) هو شرح عبد الواحد بن أحمد بن علي بن عاشر الأنصاري (ت بفاس 1040هـ)، الذي سماه (فتح المنان المروي بمورد الظمآن) (4)، وقد أشار في مقدمته إلى المصادر التي اعتمد عليها، وهي تشمل معظم ما مر ذكره من المصادر التي ألفت بعد أن ألف الداني كتابه الشهير (المقنع).
ولما كانت قصيدة مورد الظمآن لا تشمل ما تثيره القراءات الأخرى غير قراءة نافع من وجوه الخلاف فقد حاول ابن عاشر تكميل هذا النقص بنظم ذيّل به شرحه لمورد الظمآن حيث يقول (5): «وهذا تذييل سميته: الإعلان بتكميل مورد الظمآن، ضمنته بقايا
__________
1342 - هـ.
(1) تاريخ ابن خلدون، مج 1، ص 792.
(2) فتح المنان، ورقة 2ب.
(3) اسم الشرح (تنبيه العطشان) ومنه نسخة مخطوطة في المكتبة الأزهرية برقم (22282قراءات)، وأخرى بدار الكتب المصرية برقم (1ش قراءات).
(4) انظر: الزركلي: ج 4، ص 323، وتوجد من الشرح المذكور عدة نسخ مخطوطة في المكتبة الأزهرية ودار الكتب المصرية والمكتبة البلدية بالاسكندرية والظاهرية بدمشق وربما في غيرها.
(5) فتح المنان، ص 191.(1/151)
خلافيات المصاحف في الحذف وغيره مما يحتاج إليها من تخطي قراءة نافع إلى غيرها من سائر قراءات الأئمة السبعة».
وقام الشيخ إبراهيم بن أحمد المارغني التونسي في العصر الحديث بشرح المورد والضبط والإعلان (فرغ منه سنة 1325هـ) مستمدا أكثر ذلك من شرح التنسي للضبط وشرح ابن عاشر للمورد، وما أضافه في الإعلان (1)، وسماه (دليل الحيران شرح مورد الظمآن في رسم وضبط القرآن). وقد جعل شرح الذيل الذي كمل به ابن عاشر منظومة الخراز في آخر الكتاب، وسمّاه (تنبيه الخلان إلى شرح الإعلان بتكميل مورد الظمآن) (2).
ولم تتوقف حركة التأليف في موضوع الرسم عند هذا الحد بل كانت هناك مؤلفات كتبت خارج نطاق العقيلة والمورد، فقد ألف أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان المراكشي الشهير بابن البناء (ت 721هـ) كتابا سماه (عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل) (3)، ألفه في توجيه ما خالف قواعد الخط من رسم المصحف (4).
وألف الشيرازي محمد بن محمود بن محمد بن أحمد (ت نحو 780هـ) كتاب (كشف الأسرار في رسم مصاحف الأمصار) (5). وقد يظن من اسمه أنه في تعليل مرسوم خط المصاحف، على نحو ما فعل أبو العباس المراكشي في عنوان الدليل، ولكن بعد
__________
(1) انظر: دليل الحيران، ص 4.
(2) وقد طبع شرح المارغني بأقسامه الثلاثة في تونس سنة 1326هـ، وطبع حديثا في القاهرة (دار القرآن 1974). وللشيخ أحمد محمد أبو زيتحار (من علماء الأزهر المعاصرين) شرح على مورد الظمآن سماه (لطائف البيان في رسم القرآن شرح مورد الظمآن) وهو شرح مدرسي يناسب طلبة معاهد القراءات في الأزهر (طبع في القاهرة، ط 2، ج 1، سنة 1969، وج 2سنة 1970).
(3) نشر في مجلة (الميثاق) المغربية بيان بالعثور على مجموعة من مؤلفات أبي العباس المراكشي، منها عنوان الدليل (انظر مجلة الأزهر، ج 5، ص 506، عدد رجب 1391هـ، أغسطس (آب) 1971م).
(4) انظر السيوطي: الإتقان، ج 4، ص 145. والقسطلاني: ج 1، ص 285. وحاجي خليفة: ج 2، عمود 1174.
(5) توجد منه نسخة (28ورقة) في مكتبة الأوقاف في بغداد برقم (1/ 2405مجاميع).(1/152)
أن اطلعت على صورة لمخطوطة الكتاب وجدت أنه يقتصر على وصف رسم الكلمات في الغالب، ولا يكاد ما ذكره يزيد على ما أورده الداني في المقنع، سوى أنه جعله أبوابا، وحذف الأسانيد وبعض الروايات.
وقد عقد كل من الزركشي (ت 794هـ) في البرهان (1)، والسيوطي (ت 911هـ) في الإتقان (2)، والقسطلاني (ت 923هـ) في لطائف الإشارات (3)، والدمياطي (ت 1117هـ) في الإتحاف (4)، فصلا أوجزوا فيه ما ورد في كتب الرسم من قضايا وموضوعات وتفريعات (5).
وتوالى التأليف في موضوع الرسم في أواخر القرن الميلادي الماضي والقرن الحاضر، لكن تلك التآليف جاءت في أسلوب يفقد كثيرا من سهولة وشمول المصنفات المتقدمة، وقد جاء بعضها في صورة نظم قام بشرحه آخرون، تقيدوا بألفاظ النظم، واعتمدوا على المصادر المتأخرة التي يدور معظمها في فلك القصيدتين الرائدتين في الرسم: العقيلة ومورد الظمآن (6).
__________
(1) ج 1، ص (430376).
(2) ج 4، ص (162145). وقد أشار السيوطي في رسالة له في علم الخط (ص 56) وفي: إتمام الدراية لقراء النّقاية (له) (مطبوع بهامش مفتاح العلوم للسكاكي، ط 1، القاهرة، المطبعة الأدبية 1317هـ، ص 132)، أنه قد عقد له بابا في التحبير حرره وهذبه بما لم يسبق إليه، ثم جرده في كرّاسة سمّاها (كبت الأقران في كتب القرآن) وفي إتمام الدراية (مكتب الأقران) وأظنه تحريف.
(3) ج 1، ص (306279).
(4) الدمياطي (أحمد بن محمد الشهير بالنياء): إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر، القاهرة 1359هـ، ص 9، ويذكر الدمياطي كذلك في آخر كل سورة ما ورد فيها من مسائل الرسم.
(5) هناك كتابان قديمان في الرسم مجهولا المؤلف أحدهما اسمه (جامع الكلام في رسم مصحف الإمام) توجد منه عدة نسخ مخطوطة، والثاني كتاب (الهجاء) توجد منه نسخة مخطوطة في إحدى مكتبات تركيا وفي معهد المخطوطات صورة (مكروفلم) لها. والثاني أكثر أهمية من الأول لأن المؤلف يذكر مصادره دائما.
(6) من تلك المصنفات كتاب (إرشاد القراء والكاتبين إلى معرفة رسم الكتاب المبين) لأبي عيد رضوان بن محمد بن سليمان المعروف بالمخلّلاتي، (ت 1311هـ 1893م) المسماة (اللؤلؤ المنظوم)، وعدة أبياتها ستة وسبعون بيتا، وشرحها المسمى (الرحيق المختوم في نثر اللؤلؤ(1/153)
وبينما نجد مؤلفات القرون الأولى في الرسم تقوم على الوصف غالبا، وتحدد طريقة رسم الكلمات فحسب، نجد أن مؤلفات القرون التالية تتخللها محاولات لتعليل صور الكلمات التي وردت في المصحف مخالفة للشائع من القواعد التي قعدها علماء المصرين: الكوفة والبصرة، في فترات لاحقة لتاريخ نسخ المصاحف العثمانية، حتى إن أبا العباس المراكشي ألف (عنوان الدليل) المشار إليه سابقا في تعليل تلك الوجوه من الرسم.
أما المنهج الذي جرى عليه الأئمة في إيراد مادة الموضوع في مؤلفاتهم فقد أخذ اتجاهين، الأول: يقوم على تجميع الأمثلة المتشابهة في الموضوع الواحد في فصل معين، وهكذا ينبني الكتاب من مجموعة فصول تشمل كافة أوجه الرسم، وخير مثال على هذا الاتجاه كتاب (هجاء مصاحف الأمصار) لأحمد بن عمار المهدوي، وكتاب (البديع في هجاء المصاحف) لابن معاذ الجهني، وكتاب (المقنع) لأبي عمرو الداني، وكذلك نظم الشاطبي والجعبري والاربلي والخراز في الرسم. يقول الداني مثلا (1):
«هذا كتاب أذكر فيه، إن شاء الله، ما سمعته من مشيختي ورويته عن أئمتي من مرسوم خطوط مصاحف أهل الأمصار وأجعل جميع ذلك أبوابا، وأصنفه فصولا» فنجد في تلك المؤلفات فصلا عن حذف الحروف الثلاثة: الألف والواو والياء، ثم فصلا عن
__________
المنظوم) للشيخ حسن بن خلف الحسيني (انظر: الزرقاني، ج 1، ص 362). وقد ورد سؤال من البلاد الهندية حول التزام الرسم فأجاب عنه عدة من المشايخ، منهم الشيخ محمد بن علي بن خلف الحسيني (ت 1357هـ 1939م) وجعل جوابه في رسالة سماها (إرشاد الحيران إلى معرفة ما يجب اتباعه في رسم القرآن)، والشيخ محمد بن حبيب الله الشنقيطي (ت 1363هـ 1944م)، وجعل جوابه في كتاب أيضا سماه (إيقاظ الأعلام لوجوب اتباع رسم المصحف الإمام).
ومن الكتب المؤلفة في العصر الحديث أيضا (الجوهر الفريد في رسم القرآن المجيد) للشيخ سيد بركات بن يوسف عريشة الهوريني من رجال أوائل القرن الرابع عشر الهجري. وكتاب (فتح الرحمن وراحة الكسلان) للشيخ محمد أبي زيد من رجال القرن الرابع عشر الهجري. وكتاب (تشحيذ الأذهان في رسم آيات القرآن) للشيخ عبد الرحمن محمد الشهير بهواش، وكتاب (سمير الطالبين في رسم وضبط الكتاب المبين) للشيخ علي محمد الضباع، وأشرنا قبل قليل إلى شرحي المارغني وأبي زيتحار لمورد الظمآن.
(1) المقنع، ص (21).(1/154)
زيادة تلك الحروف وآخر عن إبدال حرف مكان حرف، وفصلا عن رسم الهمزة، وفصلا عن القطع والوصل، وآخر عن رسم تاء التأنيث التي كتبت في بعض المواضع مبسوطة، وهكذا في موضوعات الرسم الأخرى، مع اختلاف في التفصيل أو الترتيب، ومع ملاحظة أن إيراد الأمثلة في الفصل الواحد يغلب أن يجري وفق ترتيب الآيات والسور في المصحف.
والاتجاه الثاني: هو أن يتتبع المؤلف ظواهر الرسم بادئا بأول المصحف من سورة فاتحة الكتاب منتهيا بآخر سورة فيه، حيث يشير إلى الكلمات التي رسمت بطريقة معينة، بحسب ترتيب الآيات والسور، وكثيرا ما ينص المؤلفون في هذا الاتجاه على مجموع أمثلة الظاهرة عند ورود أول مثال منها، وعلى ذلك فإن هذه المؤلفات تبدو في أولها غالبا أكثر حشدا للأمثلة منها في أجزائها الأخيرة، فتقل بتقدم المؤلف مع الآيات والسور، حيث يكتفي بالإشارة إلى أن هذه الظاهرة قد أشير إليها في موضع سبق، ومن أمثلة هذه المؤلفات كتاب (التنزيل في هجاء المصاحف) لأبي داود سليمان بن نجاح الذي لخصه من كتابه الكبير المسمى بالتبيين، يقول في مقدمته:
«وأسرد لهم القرآن فيه آية آية وحرفا حرفا من أوله إلى آخره» (1). ومنها أيضا كتاب أبي طاهر العقيلي، وكتاب ابن وثيق الأندلسي، وكذلك كتابا (جامع الكلام) و (الهجاء) المجهولا المؤلف، وكثيرا ما يقدم العلماء المؤلفون في هذا الاتجاه لكتبهم قبل تناول الأمثلة على ترتيب الآيات والسور مقدمات تتحدث عن أبواب جامعة في الرسم كما فعل العقيلي وابن وثيق رحمهم الله جميعا.
ومن العرض السابق لأهم مؤلفات الرسم وإشارتنا إلى مصادر العلماء فيها نجد أن أبا عمرو الداني كان أبرز من كتبوا في الموضوع، فقد كان كتابه (المقنع) واسطة، اجتمعت فيه معظم روايات المصادر الأولى، ومنه أيضا استمد العلماء الذين ألفوا بعده في الرسم معظم مادتهم، فسيكون لذلك المصدر الأول من بين المؤلّفات التي وصلت إلينا للأمثلة التي يقوم عليها هذا البحث، ولكن لا ينبغي أن يحرم البحث من الأمثلة الأخرى التي تقدمها مؤلّفات علماء آخرين، مثل كتاب (هجاء مصاحف الأمصار) لأحمد بن عمّار المهدوي، معاصر الداني، فمع أنه كتاب مختصر ويهمل ذكر مصادره
__________
(1) التنزيل، لوحة 2.(1/155)
في أغلب الأحيان إلا أنه يقدم مادة جيدة تعضد أكثر ما أورده الداني في (المقنع). ولن نهمل الفصل المهم الذي أورده أبو عبيد في فضائل القرآن عن اختلاف المصاحف، فهو أقدم مصدر موجود في هذا المجال، كذلك الفصول التي تحدث فيها ابن أبي داود في كتابه (المصاحف) عن رسم المصحف، ثم ما ذكره أبو بكر الأنباري في كتابه (إيضاح الوقف والابتداء)، فقد أورد مادة ممتازة كانت مصدرا لكثير ممن جاء بعده. إضافة إلى بعض الأمثلة التي تفردت بذكرها بعض المصادر، مثل كتاب أبي طاهر العقيلي وابن وثيق الأندلسي وغيرهما.
وهذه المصادر التي أشير إليها هنا هي التي سيعتمد عليها البحث في رصد ووصف الأمثلة التي يقدمها الرسم العثماني، أما مناقشة تلك الأمثلة ومحاولة إيجاد التفسير الصحيح لها فإني سأحاول الإفادة من معظم المصادر التي وصلت في الموضوع مطبوعة ومخطوطة، خاصة شروح القصيدتين الرائية والمورد، وفي مقدمتها شرح الجعبري للأولى وشرح ابن عاشر الأنصاري للثانية (1).
__________
(1) إن ما وصل من مؤلفات الرسم خاصة المتقدمة منها محدود جدا، فأقدمها الفصل الذي أورده أبو عبيد (ت 224هـ) في فضائل القرآن، وما ذكره ابن أبي داود (ت 316هـ) في كتاب المصاحف، ثم كتب كل من المهدوي وابن معاذ الجهني والداني في الرسم، ومعظم المؤلفات التي وصلت تأتي من بعد هذه الفترة. ولا شك في أن كتب علوم القرآن قد أصابها ما أصاب مؤلفات الحضارة الإسلامية الأخرى من الضياع والتلف بفعل الإهمال والتدمير، كالذي يرويه ابن الجزري أنه حاول الاطلاع على كتاب أبي العلاء الهمذاني (ت 569هـ) الذي ألّفه في طبقات القراء، ولكنه لم يفلح على نحو ما يصور ذلك في غاية النهاية (ج 1، ص 204): «وأنا أتلهف للوقوف عليه أو على شيء منه من زمن كثير فما حصل منه ولا ورقة ولا رأيت من ذكر أنه رآه، والظاهر أنه عدم مع ما عدم في الوقعات الجنكزخانية». وكم من مثل الوقعات الجنكزخانية وقع لتراث هذه الأمة لكن ذلك لم يحجب نور تلك الحضارة فقد نقلتها الأجيال جيلا عن جيل، وكان القرآن قد نال القسط الأعظم من ذلك الاهتمام فهو أساس تلك الحضارة وموجهها، وسيظل أغلى شيء يمكن أن نقدمه للناس. لكن المؤسف أن معظم مؤلفات علوم القرآن خاصة القراءات والرسم لا تزال مخطوطة تنتظر من ينفض عنها غبار الزمن لترى النور من جديد وتكون عونا في يد كل باحث في هذا التراث.(1/156)
ثانيا: المصاحف المخطوطة:
أشرنا في بداية هذا المبحث إلى أن مؤلفي كتب الرسم أخذوا مادتهم من المصاحف، سواء رووا ذلك عن شيوخهم الذين نقلوا من المصاحف أم نقلوها هم أنفسهم من المصاحف التي كانت موجودة بين أيديهم، وقد توافرت لرواية وجوه الرسم المصحفي من الأسباب ما يدفع إلى الثقة الكاملة بكل ما رواه الأئمة من كون ذلك هو حقيقة ما كان عليه الرسم في المصاحف.
ومع ذلك فإن اعتماد بعض ما تقدمه المصاحف القديمة التي سلمت من التلف إلى الوقت الحاضر يعطي مزيدا من الثقة بما رواه مؤلفو كتب الرسم، إضافة إلى ما يمكن أن تقدمه تلك المصاحف من أمثلة جديدة تساعد في إرساء أسس فهم صحيح وواضح لظواهر الرسم المتعددة.
وقبل أن نعرض لوصف المصاحف التي أمكن الاطلاع عليها نشير إلى روايات العلماء حول مصير المصاحف العثمانية الأصلية، وهل من المحتمل أن يكون قد بقي منها شيء؟ وهي مسألة تاريخية كبيرة ليس من اليسير هنا الإلمام بكل جوانبها ونكتفي بالإشارة إلى أن العلماء قد رووا في وقت مبكر ذهاب تلك المصاحف. ولا شك أن من روى ذلك كانت روايته بقدر ما عرفه، ولا ينفي أن تكون المصاحف العثمانية قد بقيت لعدة قرون بعد ذلك، فبينما نجد الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ) يسأله ابن وهب عن مصحف عثمان رضي الله عنه فيقول بأنه ذهب (1)، نجده يخرج لهم مصحفا قديما كان قد كتبه جده إذ كتب عثمان المصاحف (2)، ويروى أن أبا عبيد قال:
أنه رأى الإمام مصحف عثمان، استخرج له من بعض خزائن الأمراء، وأنه رأى فيه أثر دمه (3). ويشير الداني (ت 444هـ) كثيرا إلى تتبعه بعض الحروف في المصاحف العتق، فيقول مثلا أنه رأى مصحفا جامعا عتيقا كتب في أول خلافة هشام بن عبد الملك
__________
(1) ابن أبي داود، ص 35. والزركشي، ج 1، ص 222.
(2) الداني: المقنع، ص 112. والمحكم (له)، ص 17. والقرطبي: ج 1، ص 63.
(3) انظر الداني: المقنع، ص 15. وعلم الدين السخاوي: الوسيلة، ورقة 13ب. وابن الجزري:
النشر، ج 2، ص 150. وقد أشار الشاطبي في العقيلة إلى روايتي مالك وأبي عبيد والخلاف في ذلك، (انظر ابن القاصح، ص 17).(1/157)
سنة عشر ومائة كان تاريخه في آخره (1)، كذلك يروي ابن كثير (2) (ت 774هـ) وابن الجزري (3) (ت 833هـ) أنهما رأيا بعض المصاحف القديمة المكتوبة على الرق في جامع دمشق وفي مصر كذلك.
فهذه الروايات تشير إلى احتمال أن تكون المصاحف العثمانية الأصلية قد ظلت موجودة دهرا طويلا في المساجد الجامعة، خاصة إذا تصورنا ما حظيت به تلك المصاحف من الرعاية والاحترام، فهي المصاحف الأئمة التي نسخ الناس عنها مصاحفهم في الأمصار بعد إجماع الأمة على المصاحف التي نسخت في خلافة عثمان رضي الله عنه.
ومن الملاحظ أن أئمة رواية الرسم كثيرا ما يقولون أنهم رأوا كلمة معينة في المصحف الإمام مصحف عثمان، كالذي يروى عن أبي عبيد (4)، وعاصم الجحدري (5)، ويحيى بن الحارث (6)، وأبي حاتم (7)، ولعل كلمة المصحف الإمام كانت تشمل جميع المصاحف التي كتبت بأمر عثمان رضي الله عنه في أي مصر من الأمصار، وليس مصحف المدينة أو المصحف الخاص بالخليفة فحسب، وربما تشمل أيضا المصاحف الكبيرة التي كانت توضع في المساجد الجامعة للقراءة أو لنسخ المصاحف منها والتي نسخت من المصاحف العثمانية الأصلية، ولعل ذلك يفسر لنا أيضا ما يكتب في آخر بعض المصاحف من أنه بخط الخليفة عثمان، أي بنفس الهجاء الذي كتبت عليه المصاحف التي نسخت في خلافة عثمان رضي الله عنه.
وتوجد الآن في مكتبات العالم مجموعة كبيرة من المصاحف القديمة، أو قطع منها، قد كتبت على الرق، وبالخط الكوفي القديم، مجردة من النقط والشكل ومن كثير مما
__________
(1) المحكم، ص 87.
(2) فضائل القرآن، ص 49.
(3) النشر، ج 1، ص 455.
(4) انظر: المقنع، ص 15و 35و 38و 53و 76إلخ.
(5) انظر: نفس المصدر، ص 34و 40و 41و 45و 48و 54و 57إلخ.
(6) انظر: نفس المصدر، ص 90.
(7) انظر: نفس المصدر، ص 92.(1/158)
ألحق بالمصاحف من أسماء السور وعدد آيها وغير ذلك بحيث تبدو أقرب إلى الصورة التي كانت عليها المصاحف الأولى (1).
ويثار السؤال القديم مرة أخرى، في الوقت الحاضر، وهو هل يمكن أن يكون واحد من هذه المصاحف القديمة الباقية أحد المصاحف العثمانية الأصلية؟ إن أغلب الباحثين أميل إلى استبعاد ذلك، إذ من المتعذر اليوم العثور على مصحف كامل كتب في القرن الهجري الأول أو الثاني، وعليه تاريخ نسخه أو اسم ناسخه (2)، وكذلك فإنها في الغالب غير مجردة تماما من العلامات التي أدخلت في وقت متأخر، إلى جانب أن إقرار ذلك يحتاج إلى أدلة تاريخية ومادية واضحة وقوية، ودراسة متعددة الوجوه وهو ما لم يتح للدارسين بعد القيام بها (3).
ومهما كان الرأي في تلك المصاحف فإنها دون شك قديمة ترجع إلى القرون الهجرية الأولى، بل ربما إلى القرن الأول بالذات، خاصة حين لا يظهر فيها أي أثر للإصلاحات التي أدخلت على الخط العربي في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، إلا بعض العلامات النادرة أحيانا، فهي بذلك أقرب إلى الفترة التي يحتمل أن تكون المصاحف العثمانية موجودة فيها، وربما نسخت منها أو من مصحف نسخ من أحدها، وهي لذلك خير ما يمثل واقع الرسم الذي نسخت به المصاحف العثمانية.
وتمثل مكتبات التراث الإسلامي في مصر خير مجموعة من تلك المصاحف القديمة (4)، كذلك يروى أن أحد تلك المصاحف القديمة كان موجودا في الحرم النبوي في المدينة المنورة حتى الحرب العالمية الأولى (19181914م) حيث نقله العثمانيون
__________
(1) انظر: جولدتسيهر: ص 298. ومحمد طاهر الكردي: تاريخ القرآن، ص (120119). وناصر النقشبندي: المصاحف الكريمة في صدر الإسلام، مقال في مجلة سومر، مج 12، سنة 1956، ج 1و 2، ص 35. ود. سعاد ماهر: مشهد الإمام علي في النجف، القاهرة، دار المعارف 1388هـ، ص 196وما بعدها.
(2) انظر: ناصر النقشبندي: المصاحف الكريمة، ص 34.
(3) انظر: د. صبحي الصالح: ص 87. ود. جواد علي: السيرة، ص 13. ود. محمد عبد العزيز مرزوق: ص 24.
(4).،. 75.(1/159)
إلى الأستانة مع انسحابهم من أراضي الحجاز، ويقال إنه انتقل إلى ألمانيا (1). ومنها مصحف محفوظ الآن في مدينة طشقند في تركستان تركستان الإسلامية في روسيا، وقد قامت بنشره في مطلع هذا القرن جمعية الآثار القديمة الروسية، وطبعت منه خمسين نسخة (2)، ومع ذلك فإن الدراسات عن تلك المصاحف القديمة وعددها في مكتبات العالم لا تزال قليلة.
وقد تيسرت لي القراءة في بضعة مصاحف قديمة من تلك المحفوظة في دار الكتب المصرية (3)، بعضها مشكول ومعجم، وسنشير إليها في الفصل الخاص بتكميل الرسم العثماني، والبعض الآخر وهو الذي سيكون لنا عونا في الفصل التالي في دراسة
__________
(1) انظر: محمد طاهر الكردي: تاريخ القرآن، ص 120و .. ،. 034
(2) كان هذا المصحف في جامع خواجه عبيد الله الأحرار، ثم اشتراه حاكم تركستان ونقله إلى بطرسبورج فوضع في دار الكتب القيصرية، وسمي هناك المصحف السمرقندي، وأشيع أنه المصحف الإمام الذي استشهد عليه الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه فكان الناس يزورونه في أيام معينة، ثم نشرته جمعية الآثار القديمة على يد المصور الروسي (بساريكس) وطبعت منه خمسين نسخة، وبقي هذا المصحف في دار الكتب القيصرية إلى الانقلاب البلشفي، وفي أوائل سنة 1918م حمل في حفل عظيم تحت حراسة الجند إلى إدارة مكونة من الشخصيات الإسلامية البارزة هناك تسمى (النظارة الدينية) وذلك إرضاء للمسلمين وكسبا لتعضيدهم، وبقي فيها خمس سنوات. وفي أواسط سنة 1923نقل إلى تركستان، وبقي في سمرقند فترة من الزمن، وهو الآن في طشقند (انظر د. عبد الفتاح شلبي: الإمالة، ص 205).
(3) إن محاولة الاطلاع على المصاحف الكريمة المخطوطة والقديمة منها خاصة أمر في غاية الصعوبة وليس من اليسير التوفيق بين طموحات البحث في الحصول على المادة من تلك المصاحف وبين حرص القائمين بالمحافظة عليها بألّا تمسها يد أحد حتى ولو كانت يد باحث مسلم بأقل حرصا منهم عليها، وقد حرم هذا البحث لذلك مما يمكن أن يستفيده لو تيسرت لي القراءة في المصحف الجليل المنسوب لسيدنا عثمان والمحفوظ في جامع الحسين بالقاهرة، ولم تغن مخاطبة كلية دار العلوم للجهة المسئولة عن حفظ المصحف شيئا (انظر عن تاريخ هذا المصحف: الشيخ محمد بخيت المطيعي، ص 32. ود. سعاد ماهر: مخلفات الرسول في المسجد الحسيني، القاهرة، وزارة الأوقاف المصرية، 1965، ص 131وما بعدها)، وقد كان مسئولو المصاحف المخطوطة في دار الكتب المصرية أكثر سماحة حين أتاحوا لي فرصة القراءة في بعض المصاحف القديمة المحفوظة بالدار لأيام معدودة.(1/160)
الظواهر الكتابية التي يقدمها الرسم العثماني مجرد من الشكل والنقط بصورة عامة، ومما أدخل على المصاحف في الفترات المتأخرة بصورة خاصة، ومكتوب بالخط الكوفي القديم وبحرف كبير جدا، على رق، وهي:
الأول: مصحف كريم، مجلوب من جامع عمرو بن العاص في مدينة الفسطاط بالقاهرة، وهو مكتوب على رق، بخط كوفي كبير، وفيه نقص في أماكن كثيرة، وقد أكمل بالورق سنة (1246هـ 1830م) كما هو مكتوب في آخر المصحف، وأبعاده (60سم 54سم) تقريبا، وعدد أوراقه يزيد على خمسمائة وستين قليلا، وفي كل صفحة منه اثنا عشر سطرا، في الغالب، وهو مجرد من الشكل والنقط إلا من ظاهرة تبدو في بعض الكلمات سنشير إليها لا حقا وتوجد بين السور أحيانا زخرفة تضم اسم السورة وعدد آيها، كما نجد في أول سورة النساء ويونس وهود ويوسف، وأحيانا أخرى لا يضم الشريط المزخرف شيئا، كما في أول سورة النحل والعنكبوت والسجدة والأحزاب، وفي مواضع أخرى لا نجد بين السورة والتي تليها سوى فراغ يعادل مساحة سطرين، كما في أول الأنبياء والمؤمنون والنور، ونجد في بعض الصفحات إشارات إلى الأعشار والأخماس، كما نجد في أماكن أخرى عدة خطوط منضدة فوق بعض عند نهاية الآيات (1)، ولعل بعض هذه الزيادات قد أضيفت إلى المصحف في فترات لاحقة. والمصحف في وضعه الحالي يبدو عليه أثر القدم من اضمحلال الخط المكتوب على الرق في كثير من الأوراق، ومن تآكل أطراف أوراق أخرى، وهو مع ذلك كنز عظيم أفلت مما أصاب غيره من المصاحف القديمة الأخرى من التلف والدمار (2).
والثاني: هو إحدى النسخ المصورة عن مصحف طشقند الذي أشرنا إليه قبل قليل والمحفوظة في دار الكتب المصرية (3)، وسنعتمد على هذه النسخة على أساس أنها نسخة مطابقة للأصل المحفوظ بطشقند، وهذا المصحف مكتوب بخط كوفي
__________
(1) يبدو أن الدكتور إبراهيم جمعة لم يطلع على المصحف حين قال (انظر دراسة في تطور الكتابات الكوفية، ص 70) أنه «خال من الشكل والنقط وأسماء السور وذكر عدد الآيات».
(2) المصحف محفوظ في دار الكتب المصرية برقم (139مصاحف).
(3) برقم (204مصاحف).(1/161)
كبير، ويبدو من حيث الخط أقل تنظيما ودقة من مصحف جامع عمرو بن العاص، وربما يشير هذا إلى أنه يعود إلى فترة أقدم من الفترة التي يعود إليها مصحف جامع عمرو، ومصحف طشقند فيه سقط كثير، فهو ناقص في مواضع كثيرة، تتراوح بين ورقة واحدة وعدة أوراق، ومن الصفحات المتبقية ما تلف بعض أطرافها، وأبعاد هذا المصحف هي (70سم 50سم) وعدد أوراقه الموجودة (253ورقة)، مكتوبة من وجهيها، وفي كل صفحة اثنا عشر سطرا، في الغالب، والمصحف مجرد بصورة عامة، إلا من مظاهر للزخرفة في بعض المواقع، فبين السورة والتي تليها فراغ قدر سطر وفي بعض السور هناك شريط مزخرف دون أن يذكر فيه اسم السورة وعدد آيها، وفي بعض الصفحات نجد إشارات إلى الأجزاء بمربع مزيّن بالألوان، وعند رءوس بعض الآيات هناك بضعة خطوط تشير إلى انتهاء الآية. وبصورة عامة يبدو مصحف جامع عمرو أكثر تنسيقا من هذا المصحف من حيث الزخارف أو من حيث انتظام الخط.
ورغم القناعة الكاملة بأن قراءة أكبر عدد من المصاحف المخطوطة القديمة سيعطي البحث فوائد أكثر إلا أن ذلك هو كل ما تيسرت لي قراءته من المصاحف المخطوطة القديمة (1)، ومع ذلك فقد ساعدت تلك القراءة المحدودة في الإجابة على كثير من التساؤلات التي تثار حول ظواهر الرسم بما هو موجود في هذه المصاحف من ظواهر
__________
(1) حصلت إلى جانب ذلك على ثماني لوحات كل لوحة تحوي صفحتين من مصحف قديم محفوظ في مشهد الإمام علي رضي الله عنه في النجف، ولكن يبدو أنه يعود إلى فترة متأخرة عن تلك التي يرجع إليها مصحف طشقند ومصحف جامع عمرو، ومصحف النجف مكتوب على ورق وبخط كوفي بمداد أسود، وفيه نقط الإعراب التي تنسب طريقة استعمالها لأبي الأسود الدؤلي بالحمرة، وعدد أوراقه (309) وأبعاده (19سم 5، 12سم تقريبا). وفي الورقة الأخيرة منه كتب بخط مختلف عن خط المصحف الأصل أنه بخط الإمام علي سنة 40هـ، والملاحظة الأخيرة يحتاج إثبات صحتها إلى أدلة صحيحة صادقة، وليس بعيدا أن تكون تلك الجملة مدخولة (انظر إبراهيم جمعة: دراسة في تطور الكتابات الكوفية، ص 71) ومع ذلك فإن المصحف في وضعه السابق يدل على أنه يرجع إلى فترة متقدمة.(1/162)
هجائية تدعم ما جاءت به الرواية من ظواهر في رسم المصحف (1).
__________
(1) سيكون الاعتماد في إيراد الأمثلة مما اتفقت عليه المصاحف في الرسم على ما هو مرسوم في المصحف المطبوع في مصر سنة 1342هـ، إذ قد نصت اللجنة التي أشرفت على رسمه وطبعه بالجري على المروي من رسم المصحف العثماني حسب ما ذكره الخراز في قصيدته (مورد الظمآن)، وحسب ما قرره شارحها ابن عاشر الأنصاري كما هو مذكور في نهاية المصحف في باب التعريف بالمصحف.(1/163)
المبحث الثاني موقف علماء السّلف من ظواهر الرّسم
إن تلك الجهود العظيمة التي عرضنا باختصار أهمها في المبحث السابق لتثير الدهشة لكثرتها وتواليها على تعاقب القرون، وتثير أيضا الإجلال والإعزاز لأولئك الأئمة الذين أدوا إلينا بأمانة دقائق هذا الموضوع وتفصيلاته، وحاولوا جاهدين أن يعطوا التفسير الصحيح على تفاوت بينهم في ذلك لظواهر الرسم العثماني، فكان لعلماء الرسم والقراءات أولا ولعلماء العربية ثانيا مواقف وأقوال في هذا الصدد، سواء فيما يتعلق بالتزام الرسم في كتابة المصاحف أم بدراسة الظواهر نفسها، ومحاولة إعطاء التفسير المحتمل لها، ومن الضروري قبل أن نحاول دراسة ظواهر الرسم العثماني على ضوء ما تتيحه الدراسات الحديثة أن نوجز القول في مواقف علماء السلف من تينك المسألتين ليكون ما سنقوله بعد ذلك في تفسير ظواهر الرسم بناء على مذاهب الأئمة أو ترجيحا أو تصحيحا لبعضها أو إعطاء لرأي جديد يرجى له أن يقف إلى جانب آرائهم في ذلك.
أولا: موقفهم من التزامه في كتابة المصحف:
كتب الصحابة رضوان الله عليهم المصاحف بما كان متعارفا عليه في زمنهم من قواعد الهجاء وأصول الرسم بما لا يحتم توحيد القاعدة أو اطرادها، فقد كان ذلك واقع الكتابة العربية حينئذ، وكان الناس في سنوات الإسلام الأولى يستعملون ذلك فيما يكتبون، وقدوتهم رسم المصحف العثماني، وكان أكثر الصحابة ومن وافقهم من التابعين وتابعيهم يوافقون الرسم العثماني في كل ما كتبوه، ولو لم يكن قرآنا ولا حديثا، واستمر الأمر على ذلك عهدا طويلا (1)، إلى أن ظهر علماء المصرين وأسسوا لهذا الفن
__________
(1) يقول ابن قتيبة (أدب الكاتب، ص 253) وهو يتحدث عن رسم الألف واوا في الصلاة والزكوة والحيوة: «ولولا اعتياد الناس لذلك في هذه الأحرف الثلاثة وما في مخالفة جماعتهم لكان أحب(1/164)
ضوابط وروابط بنوها على أقيستهم النحوية وأصولهم الصرفية نظرا لحاجة الناس بازدياد استعمال الكتابة إلى نظام موحد القواعد ميسور التعلم (1)، ومن هنا، وبانتشار استعمال القواعد التي وضعها العلماء للكتابة، ظهر ما يسمى بقواعد الهجاء أو الإملاء أو علم الخط القياسي أو الاصطلاحي، وهجر الناس استعمال هجاء الكلمات القديم في كتابتهم، لكن نساخ المصاحف لم يستعملوا الصور الجديدة للكلمات في نسخ المصاحف، وظلوا يحافظون على صور الكلمات التي وردت في المصاحف العثمانية الأئمة، ومن ثم ميز العلماء بين أسلوبين للكتابة بل ثلاثة، يقول ابن درستويه في مقدمة كتابه (الكتاب) (2): «ووجدنا كتاب الله جل ذكره لا يقاس هجاؤه، ولا يخالف خطه، ولكنه يتلقى بالقبول على ما أودع المصحف، ورأينا العروض إنما هو إحصاء ما لفظ به من ساكن ومتحرك، وليس يلحقه غلط، ولا فيه اختلاف بين أحد، فلم نعرض لذكرهما في كتابنا» وعلى ذلك قال أبو حيان (3): «فقد صار الاصطلاح في الكتابة على ثلاثة أنحاء: اصطلاح العروض واصطلاح كتابة المصحف، واصطلاح الكتاب في غير هذين».
ويبدو أن محاولات جرت منذ وقت مبكر لإدخال بعض صور الكلمات المستعملة عند الكتاب في المصحف فيروي الداني أن إمام المدينة مالكا (ت 179هـ)، رحمه الله، سئل فقيل له «أرأيت من استكتب مصحفا اليوم أترى أن يكتب على ما أحدث الناس من الهجاء اليوم، فقال: لا أرى ذلك، ولكن يكتب على الكتبة الأولى» (4). ويروى أيضا أنه سئل عن الحروف التي تكون في القرآن مثل الواو والألف أترى أن تغيّر من المصحف إذا وجدت فيه كذلك؟ فقال: لا (5). ويعقب الداني على ذلك بقوله: «يعني الواو والألف الزائدتين في الرسم لمعنى المعدومتين في اللفظ.
__________
الأشياء إلي أن يكتب هذا كله بالألف».
(1) انظر نصر الهوريني: ص 26، وانظر أيضا: ابن فارس، ص 11.
(2) ص 5.
(3) السيوطي: همع الهوامع، ج 2، ص 243. وانظر: الزركشي: ج 1، ص 376.
(4) الداني: المقنع، ص (109).
(5) نفس المصدر، ص 28. وانظر القسطلاني: ج 1، ص 279.(1/165)
وقد أجمع العلماء على مثل ما ذهب إليه الإمام مالك (1)، فقد قال الداني بعد أن روى رأي مالك السابق «ولا مخالف له في ذلك من علماء الأمة» (2). حتى إن الإمام أحمد بن حنبل (241164هـ) قال: تحرم مخالفة مصحف الإمام في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك (3). وقال البيهقي أبو بكر أحمد بن الحسين (ت 458هـ) في شعب الإيمان: من كتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به هذه المصاحف، ولا يخالفهم فيه، ولا يغير مما كتبوا شيئا، فإنهم كانوا أكثر علما، وأصدق قلبا ولسانا، وأعظم أمانة منا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم (4). وقال اللبيب (5): فما فعله صحابي واحد فلنا الأخذ به والاقتداء بفعله والاتباع لأمره، فكيف وقد اجتمع على كتاب المصاحف حين كتبوه نحو اثني عشر ألفا من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين؟
وقال الزمخشري (ت 538هـ) وهو يعقب على رسم لام الجر مفصولة في قوله تعالى:
{وَقََالُوا مََا لِهََذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعََامَ (7)} [الفرقان] (6): وقعت اللام في المصحف مفصولة عن هذا خارجة عن أوضاع الخط العربي، وخط المصحف سنّة لا تغيّر (7).
وقد تفرّد سلطان العلماء العز بن عبد السلام (ت 660هـ) من بين علماء السلف (8) في
__________
(1) وقد قال الجعبري في شرح العقيلة إن ذلك هو مذهب الأئمة الأربعة (انظر: أحمد بن المبارك:
الإبريز، ط 1، المطبعة الأزهرية المصرية، 1306هـ، ص 59).
(2) الداني: المقنع، ص 10. وانظر السيوطي: الإتقان، ج 4، ص 146.
(3) الزركشي: البرهان، ج 1، ص 379. والسيوطي: الإتقان، ج 4، ص 146.
(4) السيوطي: الإتقان، ج 4، ص 146. وانظر القسطلاني: ج 1، ص 279. والمهدوي: ص 75.
(5) انظر: الدرة الصقيلة، ورقة 30ب.
(6) الكشاف، ج 3، ص 209. وانظر السيوطي: همع الهوامع، ج 2، ص 243، ورسالة في علم الخط (له)، ص 56. وإتمام الدراية (له أيضا)، ص 132.
(7) أورد صاحب كتاب الهجاء (لوحة 2وما بعدها) أقوالا للكسائي والزمخشري وابن درستويه وأبي بكر بن مهران في وجوب التزام الرسم العثماني في كتابة المصاحف. وانظر أيضا: الزرقاني، ج 1، ص 370.
(8) ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني من قبل إلى جواز كتابة المصاحف بالإملاء المستعمل في غير المصاحف لأنه في نظره لم يرد ما يوجب على الأمة رسما بعينه ويقول: «وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه، وأنى له ذلك، (انظر أحمد بن المبارك: ص 55، والزرقاني: ج 1، ص (374373).(1/166)
ذهابه إلى جواز كتابة المصحف بالمألوف من الهجاء عند الناس بل هو يوجب ذلك خشية وقوع التغيير في القرآن من قبل الجهال، فقد أورد الزركشي في البرهان مذهبه ذاك حيث يقول (1): «قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسوم الأولى باصطلاح الأئمة، لئلا يوقع في تغيير الجهال»، ويعقب الزركشي مباشرة على قول العز بقوله: «ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه، لئلا يؤدي إلى دروس العلم، وشيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين، ولن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة» (2).
وقد أسيء فهم مذهب العز، وخلط بعض الباحثين بينه وبين تعقيب الزركشي عليه دون مبالاة بالتناقض الواضح الذي أدى إليه ذلك الخلط (3)، وقد نقل الدمياطي في الإتحاف ما أورده الزركشي في البرهان مما نقلنا بعضه قبل قليل، فأورد بعد رأي العز قوله «وهذا كما قال بعضهم لا ينبغي إجراؤه على إطلاقه» (4) وهو تصريح منه أن ما جاء في البرهان إنما هو قولان، وهو إن لم يصرح باسم الزركشي إلا أن عبارته (كما
__________
(1) ج 1، ص 379، وقد حاولت العثور على رأي ابن عبد السلام هذا في أحد كتبه الثلاثة المطبوعة (الفوائد، والإشارة، وقواعد الأحكام) فلم أوفق.
(2) نقل القسطلاني أيضا، (ج 1، ص 279) رأي العز وتعقيب الزركشي عليه.
(3) منهم الشيخ الزرقاني (انظر ج 1، ص 378)، فقد أورد كلا من قولي العز والزركشي على صعيد واحد لا يفهم منه أنهما قولان متمايزان، ومنهم د. صبحي الصالح (انظر ص 280) فقد أورد مذهب العز على هذا النحو «لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسوم الأولى باصطلاح الأئمة، لئلا يؤدي إلى دروس العلم، وشيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين. ولن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة» ثم أشار إلى الموضع الذي نقلنا منه رأي العز في البرهان، وواضح أن الدكتور الصالح قد خلط بين قول العز وتعقيب الزركشي عليه، ويبدو أن الذي أوقعه في ذلك هو ما حدث له من انتقال نظر عند كلمة (لئلا) في القولين فنسي بعضنا من قول العز وألحق به طرفا من تعقيب الزركشي عليه، فأدى ذلك إلى تناقض في ما أورده، اضطر أن يقدم لذلك تعليلا، ليس له مكان لولا ذلك الخلط. ووقع في ذلك الخلط ودافع عنه د. عبد الحي الفرماوي (ص 280) فهو يصر على أن قول الزركشي إنما هو جزء من مذهب العز دون ملاحظة ما يوقعه ذلك من اضطراب وخلط، ولعل المستقبل يكشف عن رأي العز في أحد كتبه إن شاء الله فيقطع كل مجال للقول والتمحل والتعسف في التأويل.
(4) ص 9.(1/167)
قال بعضهم) تقطع بأن رأي العز هو ما ذكرناه، وأن ما جاء بعده من كلام هو للزركشي، وبذلك وحده يستقيم معنى النص، وليس غريبا على الإمام العز مثل هذا الرأي الذي تفرد به فهو صاحب نظرية المصالح، فالشريعة «كلها مصالح، إمّا تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح» (1). وقد أداه اجتهاده أن في مذهبه مصلحة وتيسيرا على الأمة، لكن يبدو أنه قد غاب عنه ما للرسم العثماني من دور في تصحيح القراءات إضافة إلى كونه أثرا من أيدي الصحابة الكرام الذين هم أول من تلقى القرآن وسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وأول من خطه في المصاحف «ولم يكن ذلك من الصحابة كيف اتفق بل على أمر عندهم قد تحقق» (2)، وسيتضح لنا صدق هذه المقولة في الصفحات القادمة إن شاء الله.
ونتيجة لعجز بعض العلماء عن إدراك أسباب ورود بعض الكلمات مرسومة بهيئة تخالف اللفظ من زيادة حرف أو نقصه، ذهب إلى أن رسم المصحف وهيئات صور الكلمات إنما هي توقيف عن النبي صلى الله عليه وسلّم (3) وقد عبر عن هذا المذهب بكل أبعاده الشيخ عبد العزيز الدباغ (11321090هـ) فيما نقله عنه تلميذه أحمد بن المبارك (1090 1155هـ) في كتاب الإبريز بقوله (4) «ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة، وإنما هو بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها، لأسرار لا تهدى إليها العقول وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضا معجز، وكيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في (مائة) دون (فئة) وإلى سر زيادة الياء في (بأييد) في قوله تعالى: والسّماء بنيناها بأييد (47) [الذاريات] أم كيف تتوصل إلى سر زيادة الألف في (سعوا) من قوله تعالى في الحج: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيََاتِنََا مُعََاجِزِينَ أُولََئِكَ أَصْحََابُ الْجَحِيمِ (51)} وعدم زيادتها في سبأ فكل ذلك لأسرار إلهية، وأغراض نبوية، وإنما خفيت على الناس لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني».
__________
(1) العز: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، 1968، ج 1، ص 11.
(2) انظر القسطلاني: ج 1، ص 285.
(3) انظر الشيخ محمد بخيت المطيعي: ص 36. والزرقاني: ج 1، ص 370وما بعدها. ومحمد طاهر الكردي: تاريخ القرآن، ص 101. وعبد الوهاب حمودة: ص 100.
(4) أحمد بن المبارك: الإبريز، ص (5655). وانظر: الزرقاني: ص 375وما بعدها.(1/168)
وقد وقف بعض الباحثين في الاتجاه المقابل، وذهبوا إلى أن رسم المصحف ليس توقيفا، وإنما هو من وضع الصحابة واصطلاحهم، فلم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يملي على كاتب الوحي بهذه الصفة والكيفية، فلو كان كذلك لتواتر عنه صلى الله عليه وسلم وما كان ذلك خافيا على أحد، إذ لم يصح في ذلك حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام (1)، كذلك فإن واقع الرسم بما فيه من هيئات متعددة لرسم الكلمات ينفي أن يكون توقيفا (2).
وستكشف لنا دراسة خصائص الرسم وظواهره ومقارنتها بواقع الكتابة العربية آنذاك عن جانب من حقيقة الأمر، وما يمكن أن يقال في ذلك، بما يتيح الإجابة بثقة في هذه المسألة، ونشير هنا إلى أنه يجب التمييز بكل وضوح بين قول جمهور علماء الأمة بوجوب التزام الرسم العثماني في نسخ المصاحف، وبين القول بأن الرسم توقيف عن النبي صلّى الله عليه وسلم إذ إن القول بالتوقيف يبدو أنه قد ظهر في وقت متأخر، وأن من قال من العلماء المتقدمين بوجوب التزامه في رسم المصاحف لم يكن يقصد إلى شيء مما فهمه وقال به المتأخرون بشأن التوقيف.
ثانيا: موقفهم من تفسير ظواهره:
أشرنا من قريب إلى أن قواعد الكتابة العربية قد أخذت تتحدد منذ وقت مبكر حين ازداد استعمال الناس لها في تدوين العلوم وفي خدمة معاملات الدولة والأفراد على السواء، وجاء علماء العربية فأسهموا إسهاما كبيرا في ذلك، استوقفتهم بعض صور الهجاء الواردة في خطوط المصاحف، فأخذوا يتحدثون عن الرسم القياسي الذي يعملون على تقعيد قواعده، وعن الرسم المصحفي الذي لا يطرد هجاؤه، ولا يقاس عليه غيره، على نحو قول ابن درستويه السابق، وكان أكثر خط المصاحف في نظرهم موافقا لتلك القواعد، لكنه قد جاءت أشياء خارجة على ذلك (3)، وغاب عنهم أن القواعد التي
__________
(1) انظر ما روي من أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بشأن الكتابة: محمد طاهر الكردي: تاريخ الخط العربي، ص 9. وانظر أيضا للزبيدي: حكمة الإشراق، ص 67.
(2) انظر: في الرد على من قال بالتوقيف: محمد طاهر الكردي: تاريخ القرآن، ص 101. وعبد الوهاب حمودة: ص 100. ود. صبحي الصالح: ص 275وما بعدها. وانظر: مذهب القاضي أبو بكر الباقلاني في ذلك: أحمد بن المبارك: الإبريز، ص (5554). والزرقاني: ج 1، ص (374373).
(3) انظر ابن الجزري: النشر، ج 2، ص 128. والقسطلاني: ج 1، ص 285.(1/169)
وضعها العلماء كانت لاحقة للرسم لا يمكن أن تكون ميزانا لظواهره، فقد اتخذ العلماء ظواهر الرسم المصحفي أساسا لتقعيد قواعدهم بعد توحيد القواعد المتعددة التي كانت تخضع لها ظواهر كتابية معينة.
ومهما يكن من شيء فقد ظلت تلك الظواهر الكتابية التي لم تخضع لقواعد الهجاء المستحدثة محل نقاش ومثار تساؤل، فاختلفت وجهات نظر العلماء في تفسيرها، وتناقضت مواقفهم أحيانا منها، حتى إن بعض العلماء حمل تلك الظواهر على خطأ الكاتب في الكتابة، وذهب آخرون إلى أنها توقيف، وأنها تخفي من الأسرار الباطنة ما لا يدرك إلا بالفتح الرباني. وقد أوقفهم جميعا في ذلك إهمالهم للبعد التاريخي للكتابة، واعتقادهم جميعا أن الأصل في الكتابة موافقة الخط للفظ (1)، فقالوا: إن الصحابة رضوان الله عليهم خرجوا على ذلك الأصل حين كتبوا المصحف (2)، وهم في الحقيقة إنما استخدموا الهجاء المستعمل في زمانهم، الذي يعود بقواعده وبما يحمل من ظواهر كتابية وردت في رسم المصحف إلى فترات أقدم من تاريخ نسخ المصاحف.
ويمكن تمييز بضعة اتجاهات في مواقف علماء السلف من ظواهر الرسم التي جاءت خارجة على القواعد التي وضعها علماء العربية، وفي تعليلهم لتلك الظواهر، وأهم تلك الاتجاهات:
1 - تعليل بعض ظواهر الرسم بعلل لغوية أو نحوية:
وهذا الاتجاه أقرب إلى الحق والواقع في تناول قضايا الرسم من غيره، رغم عدم وضوح الأساس الذي يقوم عليه، ورغم إهماله للجانب التاريخي والعوامل الأخرى التي تسهم في إعطاء الكلمات صورة هجائها، ويمكن أن يدخل في هذا الاتجاه ما تناثر في
__________
(1) انظر: ص 67من الفصل التمهيدي.
(2) مما يؤسف له أن نسمع ذلك في الوقت الحاضر ومن منبر مجمع اللغة العربية في القاهرة، قد ألقى الشيخ إبراهيم حمروش (انظر: مجلة المجمع، سنة 1955، ج 8، ص 57) بيانا عن رسم المصحف في مؤتمر المجمع قال فيه: «الأصل في هذا الخط أن يكون تصويرا للملفوظ بحروف هجائه بحيث يطابق المكتوب، ولكن هذا الأصل مزقه علماء الرسم! فقد كثرت استثناءاتهم في الحروف ولا سيما في الهمزة، أما رسم المصحف فالنظر فيه يوضح لنا أنه مخالف لذلك الأصل في كثير من مواضعه، ومخالف لما قرره علماء الرسم أحيانا».(1/170)
بعض مؤلفات الرسم المتقدمة منها خاصة مثل (هجاء مصاحف الأمصار) للمهدوي و (المقنع) للداني وبعض شروح العقيلة ومورد الظمآن وبعض كتب اللغة، من مثل تعليل رسم الألف ياء للإمالة، ورسم الهمزة بأحد حروف العلة الثلاثة للتسهيل، أو زيادة تلك الحروف في بعض الأحيان للفرق أو حذفها للتخفيف، ومثل تعليل وصل بعض الكلمات للإدغام، أو كتابة تاء التأنيث في بعض الأسماء مبسوطة على اللفظ، ولا يعنينا هنا مدى صحة تلك التعليلات وانطباقها على الواقع مما سنورده ونناقشه فيما بعد بقدر ما تعنينا سلامة الاتجاه في مناقشة الظواهر الكتابية على أسس لغوية، وربطها بالظواهر الصوتية للغة (1)، وقد عبر الداني عن هذا الاتجاه بقوله (2): «وليس شيء من الرسم ولا من النقط اصطلح عليه السلف، رضوان الله عليهم، إلا وقد حاولوا به وجها من الصحة والصواب، وقصدوا به طريقا من اللغة والقياس، لموقعهم من العلم، ومكانهم من الفصاحة. علم ذلك من علمه، وجهله من جهله، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم». ويعلل الداني الوجوه المرسومة على خلاف المشهور من قواعد الهجاء بناء على مذهبه ذاك فيقول (3): «وعلة هذه الحروف، من الحروف المرسومة على خلاف ما يجري به رسم الكتاب في الهجاء في المصحف، الانتقال من وجه معروف مستفيض إلى وجه آخر مثله في الجواز والاستعمال، وإن كان المنتقل عنه أظهر معنى وأكثر استعمالا».
وقد ظل هذا الاتجاه يظهر بصور مختلفة في العصور المتتالية عند بعض الباحثين، يرددون ما قاله السابقون في تلك الوجوه المختلفة من الرسم، أو يزيدون احتمالات أخرى جديدة، إلا أن تلك النظرات الجزئية لم تتكامل يوما لتكوّن نظرة شاملة لفهم المشكلة بكل أبعادها، فظلت ضائعة في خضم الاحتمالات الكثيرة لتفسير الظاهرة الواحدة، إلا أننا مع ذلك سنلاحظ أن من بينها ما يمكن أن يساعد في تكوين تفسير صحيح لظاهرة الرسم عامة أو لبعض صور الهجاء خاصة.
__________
(1) لكل من مكي بن أبي طالب والداني كتاب في بيان علل الرسم، (انظر: ص 143و 144من هذا الفصل) لم يصل إلينا منهما شيء، وربما يكونان أصدق مثال لهذا الاتجاه.
(2) (المحكم)، ص 196.
(3) انظر: المحكم، ص 186. وقد نقل علم الدين السخاوي (الوسيلة، ورقة 61أ) نص كلام الداني المذكور أعلاه.(1/171)
2 - حمل تلك الظواهر على خطأ الكاتب:
إذا كان القول بأن الأصل في الكتابة مطابقة الخط للفظ قد دفع بعض العلماء إلى البحث عن تفسير لما ورد في الرسم العثماني من حروف خالف رسمها الشائع من قواعد الهجاء على نحو ما فعل العلماء في الاتجاه السابق فإن طائفة أخرى من العلماء قد قصر نظرها وأعجزتها الحيلة في الوصول إلى تفسير لذلك، ورأت أن أيسر السبل إلى حسم الموقف القول بخطإ الكاتب، وظنت أنها ارتاحت وأراحت، ولكن سذاجة تلك المقولة واضحة، وستتجلى أكثر فيما سيأتي.
ومع أن الفراء (ت 207هـ) صرح أكثر من مرة في كتابه (معاني القرآن) برد القراءة المخالفة لرسم المصحف وأنه لا يشتهي مخالفة الكتاب، وأن «اتباع المصحف كما يقول إذا وجدت له وجها من كلام العرب وقراءة القراء أحب إليّ من خلافه» (1). فإنه حين تحدث عن زيادة الألف بعد اللام ألف في مثل (لا أذبحنه) وغيرها في بعض المواضع دون الأخرى يذهب إلى ما يقرب من هذا الاتجاه حين يقول (2): «وذلك أنهم لا يكادون يستمرون في الكتاب على جهة واحدة ألا ترى أنهم كتبوا {فَمََا تُغْنِ النُّذُرُ (5)}
[القمر] بغير ياء {وَمََا تُغْنِي الْآيََاتُ وَالنُّذُرُ (101)} [يونس] بالياء، وهو من سوء هجاء الأولين».
وإذا كانت كلمات الفراء غير قاطعة في حمل ذلك على الخطأ فإن ابن قتيبة (ت 276هـ)، في توجيهه لما يروى من وجود لحن أو خطأ في رسم بضعة كلمات في المصحف، قد جعل خطأ الكاتب أحد احتمالين في توجيه ذلك، لكنه يصرح بعد ذلك بأن كل ما جاء في رسم المصحف من وجوه مخالفة للمشهور من قواعد الهجاء عند الكتاب هو من باب الخطأ، يقول بعد أن أورد حديث عائشة رضي الله عنها في غلط الكاتب، وحديث عثمان رضي الله عنه (أرى فيه لحنا)، وما قاله النحاة في ذلك (3).
__________
(1) معاني القرآن، ج 2، ص 293. وانظر أيضا: ج 2، ص 35وص 183وص 350. وانظر قول الفراء المشار إليه في: ابن فارس، ص 11.
(2) معاني القرآن، ج 1، ص 439.
(3) تأويل مشكل القرآن، ص (4140).(1/172)
«وليست تخلو هذه الحروف من أن تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب فيها، أو أن تكون غلطا من الكاتب، كما ذكرت عائشة رضي الله عنها فإن كانت على مذاهب النحويين فليس هاهنا لحن، بحمد الله، وإن كانت خطأ في الكتاب فليس على الله ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم جناية الكاتب في الخط، ولو كان هذا عيبا يرجع على القرآن لرجع عليه كل خطأ وقع في كتابة المصحف من طريق التهجي، فقد كتب في الإمام إن هذن لسحرن [طه: 63] بحذف ألف التثنية، وكذلك ألف التثنية تحذف في هجاء هذا المصحف في كل مكان، مثل قال رجلن [المائدة: 23] وآخرن يقومن مقامهما [المائدة: 107] وكتبت كتاب المصحف: الصلاة والزكوة والحيوة بالواو، واتبعناهم في هذه الحروف خاصة، على التيمن بهم، ونحن لا نكتب القطاة والقناة والفلاة إلا بالألف، ولا فرق بين تلك الحروف وبين هذه، وكتبوا الربوا بالواو، وكتبوا {فَمََا لِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المعارج: 36] فمال بلام مفردة وهذا أكثر في المصحف من أن نستقصيه» (1).
وموقف ابن قتيبة هذا يفسر لنا ما نسبه إلى الصحابة رضوان الله عليهم من الجهل بالكتابة والغلط في الهجاء حين تحدث عن معرفة عبد الله بن عمرو بن العاص بالكتابة، وإذن النبي صلى الله عليه وسلم له بأن يكتب الحديث، يقول (2): «وكان غيره من الصحابة أميين لا يكتب منهم إلا الواحد والاثنان، وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي»، ومقارنة ابن قتيبة بين كتابة الصلاة والزكاة والحياة بالواو وكتابة القطاة والقناة والفلاة بالألف، وقوله:
ولا فرق بين تلك الحروف وبين هذه في اللفظ طبعا دليل على سيطرة فكرة (الأصل في الكتابة موافقة الخط للفظ) على وجهة نظر ابن قتيبة، إضافة إلى إهماله الجانب التاريخي لرسم تلك الكلمات، وما قد تكون مرت به من ظروف الاستخدام والانتقال من بيئة إلى أخرى، وهذه هي الغلطة الكبيرة التي وقع فيها أكثر الباحثين في الكتابة العربية عامة ورسم المصحف خاصة، سواء في ذلك من حاول إيجاد تعليل لتلك
__________
(1) رد ابن فارس (ص 11) ما ذهب إليه ابن قتيبة في هذا الصدد وهو يتحدث عن معرفة القدماء من الصحابة وغيرهم بالعربية، ويستدل على ذلك بكتابتهم المصحف على الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء والهمز والمد والقصر بقوله: «وما بحسن قول ابن قتيبة في أحرف ذكرها، وقد خالف الكتاب المصحف في هذا».
(2) تأويل مختلف الحديث، ص 366.(1/173)
الوجوه أم من قال بغلط الكاتب فيها.
وكان ابن خلدون (ت 808هـ) أهم من ادعى بعد ابن قتيبة دعوى وقوع الغلط من الصحابة حين رسموا المصاحف (1)، وهو بيني مذهبه على أن أهل الحجاز أخذوا الكتابة من حمير وهو ما ينفيه البحث الحديث كما بيّنا ذلك في الفصل التمهيدي إلا أنهم لم يكونوا مجيدين لها شأن الصنائع إذا وقعت بالبدو، ثم يقول (2): «فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولا إلى التوسط، لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع، وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها، ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركا بما رسمه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخير الخلق من بعده المتلقون لوحيه من كتاب الله وكلامه، كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركا، ويتبع رسمه خطأ أو صوابا، وأين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه، فاتبع ذلك، وأثبت رسما، ونبه العلماء بالرسم على مواضعه» ثم يقول أيضا (3): «ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط، وأن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم لأصول الرسم ليس كما يتخيل بل لكلها وجه، ويقولون في مثل زيادة الألف في (لا أذبحنه): أنه تنبيه على أن الذبح لم يقع، وفي زيادة الياء في (بأييد) أنه تنبيه على كمال القدرة الربانية، وأمثال ذلك مما لا أصل له إلا التحكم المحض، وما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيها للصحابة عن توهم النقص في قلة إجادة الخط، وحسبوا أن الخط كمال فنزّهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه، وذلك ليس بصحيح»، ثم يستمر ابن خلدون في بيان أن الخط ليس بكمال في حق الصحابة لأن الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية، والكمال في الصنائع إضافي، وليس بكمال مطلق، إذ لا يعود
__________
(1) يفهم من قول ابن كثير (ت 774هـ) أن الكتابة لما كانت في ذلك الزمان لم تحكم جيدا وقع في كتابة المصاحف اختلاف في وضع الكلمات من حيث صناعة الكتابة لا من حيث المعنى، (انظر:
فضائل القرآن، ص 51) أنه يميل إلى الأخذ بهذا المذهب أيضا.
(2) تاريخ ابن خلدون، مج 1، ص 757. وانظر أيضا: مج 1، ص 791.
(3) تاريخ ابن خلدون، مج 1، ص (758757).(1/174)
على الذات في الدين ولا في الخلال، وإنما يعود إلى أسباب المعاش، وبحسب العمران والتعاون عليه، لأجل دلالته على ما في النفوس.
ولا ينبغي أن ننخدع بما في كلام العلامة ابن خلدون رحمه الله من الجدية والصراحة والتحليل، فمع أنه مصيب في قوله: إن أكثر الأوجه التي سيقت في تعليل مخالفة الرسم في بعض الكلمات المبنية على أساس اختلاف المعاني خاصة لا أصل له إلا التحكم المحض، ومع صدق الواقع فيما كان من بعض العلماء من مذاهب، تنزيها للصحابة من أن ينسب إليهم الخطأ في الرسم، فإنه غير مصيب إطلاقا في تصوره لحالة الكتابة العربية لأول الإسلام، فلا يعني ضعف القدرة على إجادة كتابة الحروف والتفنن في رسمها في حواضر الحجاز إن صح ما ذهب إليه في ذلك أن الكتابة عندهم كانت عاجزة عن الاستجابة لمتطلبات اللغة، أو مضطربة في تمثيل أصواتها، فقد كانت الكتابة العربية قد عاشت تجربة طويلة من الاستعمال الواسع في أطراف الجزيرة قبل أن تدلف إلى الحجاز، قبل الإسلام بقرن أو قرنين من الزمن (1)، وإذا كانت قد عانت من وحشة البداوة في الحجاز فإن ذلك لم تجاوز صورة الحرف وأداة الكتابة. وسنجد أن الوجوه المخالفة التي أقلقت العلماء على مدى القرون يمكن أن تكون دليلا قويا على رهافة الحس اللغوي عند الصحابة الذين تولوا كتابة القرآن العظيم، عند ما حاولوا تدوين الظواهر الصوتية التي كانوا يحسونها عند التلاوة مع المحافظة على صورة الكلمات القديمة، فجاء الرسم محافظا على صور الكلمات المعهودة وممثلا للعناصر الصوتية الجديدة وسيأتي ذلك مفصلا في الفصل التالي إن شاء الله.
ونحس من قراءة كلام ابن خلدون أنه كان يتصور بأن هناك نظاما للكتابة في أول الإسلام خاصا بأهل الصناعة من الكتاب وأهل الخط غير الذي جاء في المصحف، وأن الصحابة رضوان الله عليهم قد قصرت هممهم عن إجادة استخدام ذلك النظام الكتابي، فوقع نتيجة لذلك ما جاء في المصحف من وجوه عدت في الفترات اللاحقة مخالفة لقواعد أهل الصناعة، وهو بهذا قد وقع في ما وقع فيه غيره من محاولة النظر إلى الرسم المصحفي من خلال القواعد التي وضعها علماء العربية بعد نسخ المصاحف
__________
(1) انظر (ص 5641) من الفصل التمهيدي.(1/175)
بعشرات السنين، وهم حين وضعوها لم يفعلوا أكثر من أنهم درسوا الرسم المصحفي وحاولوا إخضاع الظاهرة الواحدة التي كتبت بأكثر من صورة لقاعدة واحدة، بل إنهم في بعض الحالات خرجوا على وحدة القاعدة في رسم المصحف وجعلوا الظاهرة الواحدة ربما لواقع عملي تخضع لقاعدتين، فرسم الألف ياء في الكلمات التي جاءت في المصحف كان يشمل كافة الكلمات التي وقعت فيها الألف متطرفة أم متوسطة باتصالها بشيء من ضمير أو نحوه. لكن علماء العربية مزقوا هذه القاعدة المطردة، وجعلوا الظاهرة تخضع لقاعدتين: الأولى: رسمها ياء في حالة تطرفها في كلمات معينة والثانية: رسمها ألفا في تلك الكلمات في حالة توسطها، وسنحاول في المبحث الأخير من الدراسة بيان مدى أثر الرسم المصحفي على قواعد علماء العربية التي وضعوها للإملاء، لا العكس، كما يحاول أن يفعل كثير من الباحثين حين يدرسون الرسم على ضوء قواعد الإملاء (1).
وقد كان لهذا الاتجاه في دراسة الرسم المصحفي صداه القوي في مواقف كثير من المحدثين مما في الرسم من كلمات جاءت مرسومة بأكثر من صورة أو رسمت بطريقة تبعث على التأمل في سر ذلك الرسم، وإذا كان سلفنا الصالح من علماء الأمة الذين ذهبوا ذلك المذهب قد عصمهم إيمانهم عن الخطل في القول، فعبروا بأسلوب العالم الأمين المخلص لكتاب ربه المجلّ لحملته وكاتبيه عما وصل إليه علمهم وبلغه اجتهادهم في فهم تلك القضية فإن طائفة من المحدثين تنسب إلى العلم أطلقت ألسنتها تصف الرسم بما نجلّ الرسم والصحابة الذين كتبوه عن مجرد ذكره، وهو إن دل على شيء، فإنما يدل على الجهالة في العلم والبلادة في الذهن والقصور في الإدراك، إن لم يدل على سوء النية وخبث القصد والعداء لكتاب الله العزيز (2).
__________
(1) ردد كلام ابن خلدون الدكتور علي عبد الواحد وافي: فقه اللغة، ص 250. والشيخ عبد الجليل عيسى: المصحف الميسر، ط 4، دار الشروق، 1969، ص (ي) من المقدمة.
(2) انظر مثالا لذلك المنهج الضال عبد العزيز فهمي: الحروف اللاتينية لكتابة العربية، القاهرة، مطبعة مصر 1944، انظر مثلا (ص 21) حيث يصف كتابة المصاحف بأنها (بدائية سقيمة قاصرة)، و (ص 23) حيث يصف الرسم بأنه سخيف. والمثال الآخر لذلك المنهج الضال: ابن الخطيب (محمد محمد عبد اللطيف): الفرقان، ط 1، القاهرة، دار الكتب المصرية 1948، فقد سودت صفحات كتابه بكلام من مثل قوله (ص 57) «لما كان أهل العصر الأول قاصرين في فن الكتابة،(1/176)
مناقشة روايات يفهم منها وقوع الخطأ في الرسم:
وينقلنا الحديث عن هذا الاتجاه إلى التعرض لجملة أخبار وردت بها الرواية عن بعض الصحابة، قد يفهم منها أنه وقع في الرسم العثماني خطأ في رسم بعض الكلمات، وإن ذلك قد استقر دون أن يحاول أحد من المسلمين تصحيحه، فظل يروى كذلك على مر الأجيال، لكن العلماء لم يتركوا تلك الأخبار دون دراسة وتمحيص، فبينوا ما في أسانيدها من ضعف، وتكلموا في معناها وما يمكن أن تحمل عليه إن صحت روايتها، ولعل في إيراد تلك الأخبار وما قاله العلماء في توجيهها ثم النظر فيها نظرة متمهلة وفاحصة ما يعين على إزالة ما قد يكون علق في الأذهان من شبهة وقوع الخطأ في الرسم العثماني كما فهم ذلك البعض من هذه الأخبار.
روى أبو عبيد (ت 224هـ) في فضائل القرآن بإسناده عن عكرمة أنه قال (1): «لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان فوجد فيها حروفا من اللحن، فقال: لا تغيروها،
__________
عاجزين في الإملاء، لأمّيّتهم وبداوتهم، وبعدهم عن العلوم والفنون، كانت كتابتهم للمصحف الشريف سقيمة الوضع غير محكمة الصنع، فجاءت الكتبة الأولى مزيجا من أخطاء فاحشة ومناقشات متباينة في الهجاء والرسم» ويقول أيضا (ص 71) «وفضلا عن هذا فإن فيه تناقضا غريبا وتنافرا معيبا، لا يمكن تعليله ولا يستطاع تأويله» وقد أبدى الكاتب جهلا مطبقا بالرسم وبالقراءات، وقال كلاما تأنف أسماع الجهلة قبل العلماء عن سماعه، وقد أصدر شيخ الأزهر آنئذ قرارا بتأليف لجنة تكونت من ثلاثة من علماء الأزهر لبحث ما جاء في كتاب ابن الخطيب من أباطيل، ووضعت اللجنة تقريرها بما أوتيت من علم في يوليو (تموز) 1948م. وقد طبع في (41صفحة)، ناقشت فيه مؤلف الكتاب ما ادعاه في كتابه من مزاعم باطلة عن القراءات والرسم، فصودر الكتاب، واختفى من أيدي الناس مع أنه انتهى إلى الإهمال قبل مصادرته ليس محاربة للرأي الصادق الحر، وإنما كان انتصارا للحق، وإخراسا للجهل والباطل، وقد نجا ابن الخطيب بمصادرة كتابه من لعنة دائمة سيطلقها كل عالم بصير وقارئ منصف وقف على الكتاب، ولن نعني أنفسنا هنا بمناقشة ما قاله في كتابه فإنه زبد جاف، لا يقوم على نقل ولا على نظر وعقل، على نحو ما رأينا من أقواله المتهافتة، ونكتفي بنقض أصل هذا الاتجاه القائل بأن ما ورد في الرسم من صور هجائية خالفت ما وضعه علماء العربية لا حقا هو من خطأ الكتاب.
(1) لوحة 37. وانظر لوحة 47.(1/177)
فإن العرب ستغيرها أو قال: ستعربها بألسنتها، لو أن الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف». وأخرج أبو بكر الأنباري (ت 327هـ) من طريق عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، وأبو بكر بن أشتة (ت 360هـ) من طريق يحيى بن يعمر (ت 129هـ) نحو ما رواه أبو عبيد (1). وكذلك أخرج ابن أبي داود (ت 316هـ) الخبر من عدة طرق (2) وأورده الفراء (ت 207هـ) من غير أن يسنده إلى عثمان رضي الله عنه فيروى أن أبا عمرو بن العلاء بلغه عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب (3).
وأخرج الفراء (4)، وأبو عبيد (5)، وابن أبي داود (6)، والداني (7)، عن أبي معاوية الضرير عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أنه قال (8): «سألت عائشة عن لحن القرآن، عن قوله إن هذن لسحرن (63) [طه]، وعن قوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلََاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكََاةَ (162)}
[النساء]، وعن قوله: إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والصّابئون (69) [المائدة]. فقالت: يا ابن أختي هذا عمل الكتاب أخطئوا في الكتاب» (9). وروى ابن أبي داود عن سعيد بن جبير (9545هـ) نحوا من ذلك (10)، وروى أبو عبيد (11)، وابن أبي داود (12)، أن الزبير بن أبي خالد قال: قلت لأبان بن عثمان كيف صارت {لََكِنِ الرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمََا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلََاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكََاةَ (162)} [النساء] ما بين
__________
(1) انظر السيوطي: الإتقان، ج 2، ص 270.
(2) المصاحف، ص (3332). وانظر الداني: المقنع، ص 117.
(3) معاني القرآن، ج 2، ص 183.
(4) معاني القرآن، ج 2، ص 183.
(5) فضائل القرآن، لوحة 37.
(6) المصاحف، ص 34. وانظر ص 104.
(7) المقنع، ص 119.
(8) نص الفراء (عن عائشة أنها سئلت).
(9) قال السيوطي: الإتقان: ج 2، ص 269عن إسناده: (وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين).
(10) المصاحف، ص 33.
(11) فضائل القرآن، لوحة 37.
(12) المصاحف، ص 33.(1/178)
يديها وما خلفها رفع وهي نصب، قال: من قبل الكاتب كتب ما قبلها ثم قال: ما أكتب؟ قيل اكتب (المقيمين الصلاة) فكتب ما قيل له.
وقد تحدث العلماء عن هذه الأخبار، وما قيل في معناها، فضعّف بعضهم روايتها وردها لذلك، وتأول بعضهم ما ورد فيها من معنى الخطأ أو اللحن، يقول السيوطي (1):
«وهذه الآثار مشكلة جدا، وكيف يظن بالصحابة أولا أنهم يلحنون في الكلام فضلا عن القرآن، وهم الفصحاء اللد! ثم كيف يظن بهم ثانيا في القرآن الذي تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم كما أنزل، وحفظوه وضبطوه، وأتقنوه! ثم كيف يظن بهم ثالثا اجتماعهم كلهم على الخطأ وكتابته! ثم كيف يظن بهم رابعا عدم تنبههم ورجوعهم عنه! ثم كيف يظن بعثمان أنه ينهى عن تغييره! ثم كيف يظن أن القراءة استمرت على مقتضى ذلك الخطأ، وهو مروي بالتواتر خلفا عن سلف! هذا مما يستحيل عقلا وشرعا وعادة».
وأشرنا من قبل إلى مذهب ابن قتيبة في تلك الأخبار، وقد لخصه بقوله (2): «وليست تخلو هذه الحروف من أن تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب فيها، أو أن تكون غلطا من الكاتب كما ذكرت عائشة رضي الله عنها فإن كانت على مذاهب النحويين فلس هاهنا لحن بحمد الله، وإن كانت خطأ في الكتاب فليس على الله ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم جناية الكاتب في الخط».
ويذهب ابن أبي داود إلى أن المقصود باللحن إنما هو اللغة، وأن معنى الألحان اللغات، مثل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنا لنرغب عن كثير من لحن أبي يعني: لغة أبي (3). وقال في الخبر المروي عن عثمان رضي الله عنه «هذا عندي يعني: بلغتها، وإلا لو كان فيه لحن لا يجوز في كلام العرب جميعا لما استجاز أن يبعث به إلى قوم يقرءونه» (4) ويقول أيضا (5): «ولا يجوز عندي أن يجتمع أهل الأمصار كلها، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معهم، على الخطأ، وخاصة في كتاب الله عز وجل».
__________
(1) الإتقان، ج 2، ص 270.
(2) تأويل مشكل القرآن، ص 40.
(3) المصاحف، ص 32.
(4) نفس المصدر والصفحة.
(5) نفس المصدر، ص 76.(1/179)
وقد رد أبو بكر الأنباري الأخبار المروية عن عثمان بن عفان في ذلك كما ينقل السيوطي (1) وهي عنده «لا تقوم بها حجة، لأنها منقطعة غير متصلة»، كذلك هو ينفي أن يكون معنى قوله «أرى فيه لحنا» أرى في خطه لحنا إذا أقمناه بألسنتنا كان لحن الخط غير مفسد ولا محرّف من جهة تحريف الألفاظ وإفساد الإعراب، لأن الخط منبئ عن النطق، فمن لحن في كتبه فهو لاحن في نطقه، ولم يكن عثمان ليؤخر فسادا في هجاء ألفاظ القرآن من جهة كتب ولا نطق.
ونقل السيوطي أيضا رأي ابن أشتة في الأخبار المروية عن عثمان، وما يذهب إليه في توجيهها، فيروي أنه قال: «لعل من روى تلك الآثار السابقة عنه حرّفها، ولم يتقن اللفظ الذي صدر عن عثمان، فلزم منه ما لزم من الإشكال، فهذا أقوى ما يجاب عن ذلك» (2). ويقول السيوطي: إن تلك الأجوبة لا يصلح منها شيء في الإجابة عن حديث عائشة، ثم ينقل ما قاله ابن أشتة في ذلك وتبعه فيه ابن جبارة (أحمد بن محمد المقدسي ت 728هـ) في شرح الرائية بأن معنى قولها «أخطئوا» أي في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه، لا أن الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز (3).
وتناول أبو عمرو الداني تلك الأخبار بالنقد والتوجيه، فقال عن الخبر الذي يروى عن عثمان (4): «هذا الخبر عندنا لا تقوم بمثله حجة ولا يصح به دليل من جهتين: إحداهما أنه مع تخليط في إسناده واضطراب في ألفاظه مرسل لأن ابن يعمر وعكرمة لم يسمعا من عثمان شيئا ولا رأياه. وأيضا فإن ظاهر ألفاظه ينفي وروده عن عثمان رضي الله عنه لما فيه من الطعن عليه مع محله من الدين ومكانه من الإسلام وشدة اجتهاده في بذل النصيحة واهتباله بما فيه الصلاح للأمة» ثم يوجه معنى اللحن في الخبر لو صح بأن المراد به التلاوة دون الرسم، إذ كان كثير منه لو تلي على حال رسمه لانقلب بذلك معنى التلاوة وتغيرت ألفاظها من مثل (أو لا أذبحنه) وما شاكله (5).
__________
(1) انظر: الإتقان، ج 2، ص 271.
(2) الإتقان: ج 2، ص 272.
(3) نفس المصدر، ج 2، ص (273272).
(4) المقنع، ص 115.
(5) انظر: المقنع، ص 116.(1/180)
ويرى الداني في قول عثمان رضي الله عنه في آخر هذا الخبر: لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف، أن معناه لم توجد فيه مرسومة بتلك الصور المبنية على المعاني دون الألفاظ المخالفة لذلك، إذ كانت قريش ومن ولي نسخ المصاحف من غيرها قد استعملوا ذلك في كثير من الكتابة وسلكوا فيها تلك الطريقة، ولم تكن ثقيف وهذيل مع فصاحتهما يستعملان ذلك، فلو أنهما وليتا من أمر المصاحف ما وليه من تقدم من المهاجرين والأنصار لرسمتا جميع تلك الحروف على حال استقرارها في اللفظ ووجودها في المنطق دون المعاني والوجوه إذ إن ذلك هو المعهود عندهما والذي جرى عليه استعمالهما (1).
وتوجيه الداني هذا يدفع إلى التأمل في مدى عراقة استخدام الكتابة العربية في تلك الفترة في حواضر الحجاز وبين القبائل العربية، إذ يفهم منه أن الكتابة في مكة والمدينة كانت قد جرت على أصول وقواعد تر سخت بمرور الزمن، ولم يعد رسم الكلمة يخضع لاعتبار اللفظ فحسب، بل إن هناك عوامل أخرى أشار إليها الداني بقوله (المعاني والوجوه)، وليست هي سوى الجانب التاريخي للكتابة، حين تتطور اللغة دون أن يصاحب ذلك تغيير في هجاء الكلمات يقابل ذلك التطور، ويفهم منه أيضا أن كتبة ثقيف لم يكونوا قد أتقنوا صور الكلمات حسبما جرى عليه تقليد الكتابة العربية في غير ديارهم، فهم لو ولوا نسخ المصاحف لرسموا الكلمات وفقا للفظها دون زيادة حرف في رسمها أو حذف شيء من رموزها (2)، كمن تعلم صور حروف الهجاء فحسب، وطلب منه كتابة كلمات جملة ما، فإنه سيكتب ما يسمعه من لفظ دون ما قد يكون لتلك الكلمات من هجاء قد استقر وجرى عليه الاستعمال، على نحو ما يخطئ تلاميذ
__________
(1) انظر: المقنع، (ص 117116).
(2) يبدو أن الباقلاني فهم الخبر المروي عن عثمان (لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف) فهما يقارب فهم الداني له، فقد قال في كتاب الانتصار (انظر:
أحمد بن المبارك: الإبريز، ص 55): «وقصد بذلك والله أعلم أن ثقيفا كانت أبصر بالهجاء وأشد تمسكا بالكتابة على مخارج الألفاظ، وأعلم بذلك من غيرها، وأن هذيلا تستعمل الهمز كثيرا في كلامها، وتظهره وتأتي به مبينا، والهمز إذا ظهر وبان في لفظ المملي سمعه الكاتب وصوره على مخرج اللفظ، وكان القارئ بعد ذلك بالخيار إن شاء لين الهمز وأسقطه على لغة قريش أو حققه على لغة هذيل».(1/181)
المراحل الأولى والحق معهم حين يكتبون كلمة مثل (لكن) هكذا (لاكن) بناء على اللفظ الذي يسمعونه، وليس من اليسير الآن الحكم على وجهة نظر الداني هذه، ومدى انطباقها على واقع الكتابة آنذاك الذي لا نملك عنه من الأخبار إلا القليل، لكن ملاحظته إن صح فهمنا لها مهمة في معرفة واقع الكتابة والعوامل المؤثرة في رسم الكلمات وتطوره.
وتحدث الداني عن الخبر المروي عن أم المؤمنين عائشة، وقال في تأويله: إن عروة لم يسأل عن حروف الرسم التي تزاد وتنقص، وإنما سألها عن حروف القراءة المختلفة الألفاظ المحتملة الوجوه على اختلاف اللغات، مما أذن الله عز وجل القراءة به، ومن ثم فليس ما جاء في الخبر من الخطأ أو اللحن بداخل في معنى المرسوم ولا هو من سببه في شيء، وإنما سمى عروة ذلك لحنا، وأطلقت عائشة على مرسومه الخطأ على جهة الاتساع في الإخبار وطريق المجاز في العبارة، وينقل الداني أن بعض العلماء وكأنه يشير إلى ابن أشتة قد تأول قول أم المؤمنين (أخطئوا في الكتاب) أي: أخطئوا في اختيار الأولى من الأحرف السبعة بجمع الناس عليه، لا أن الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز، لأن ما لا يجوز مردود بإجماع، وإن طالت مدة وقوعه وعظم قدر موقعه. ثم ينقل أن هناك من تأول اللحن بأنه القراءة واللغة وكأنه يشير إلى ابن أبي داود كقول عمر رضي الله عنه أبيّ أقرؤنا وإنا لندع بعض لحنه، أي قراءته ولغته (1).
والملاحظ على تأويلات علماء السلف عامة أنهم فهموا اللحن في تلك الأخبار على أنه مرادف للخطأ النحوي، فراحوا يؤولون ويعللون، ويبدو أن فهم الخبر المروي عن عثمان رضي الله عنه يتوقف على تحديد معنى اللحن الوارد فيه، وعند الرجوع إلى معاجم اللغة نجدها تقدم عدة معان لمادة (لحن) منها: الخطأ في الإعراب، واللغة، والغناء، والفطنة، والتعريض، والمعنى (2)، إلا أن استعمال اللحن بمعنى الخطأ في
__________
(1) انظر: الداني: المقنع، ص (119118).
(2) انظر: ابن منظور مادة (لحن)، ج 17، ص 265، وانظر نفس المادة عند: ابن دريد: الجمهرة، ج 2، ص 192. والأزهري: ج 5، ص 61. والجوهري: ج 6، ص 2193. وانظر الصولي: ص 30 و 132.(1/182)
الإعراب من المرجح أنه لم يكن شائعا في الفترة التي ترجع إليها تلك الأخبار، وأن استعماله بهذا المعنى مرتبط بنشاط علماء العربية في وضع قواعد اللغة ورصد استعمالات الناس اللغوية الخارجة عن سنن العرب خاصة بعد ازدياد اختلاط العرب بغيرهم من المسلمين (1). وإذا صح ذلك فينبغي البحث عن معنى آخر للحن الوارد في الأخبار المذكورة بعيدا عن مفهوم الخطأ في الإعراب، ويبدو أن المعنى المناسب لذلك هو أن اللحن جاء بمعنى اللغة وطريقة الكلام، إذ تشير مجموعة من النصوص المروية من تلك الفترة على أن من بين معاني اللحن اللغة أو القراءة، فمن ذلك الحديث الذي يرويه حذيفة بن اليمان أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن بألحان العرب» وفي رواية: «بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابين» (2) ومن ذلك أيضا ما يرويه البخاري من قول عمر السابق «أبيّ أقرؤنا وإنا لندع من لحن أبيّ» (3)، أي لغة أبيّ وقراءته. وعلى ذلك فقد رجح بعض العلماء أن يكون المقصود بقول عثمان رضي الله عنه إن صح إنما هو تلاوة الحروف المرسومة بزيادة حرف أو نقصانه مما لو قرئ على وجهه لتغير اللفظ وفسد المعنى (4)، أي أن هناك كلمات على القارئ أن يقيم قراءتها وفقا لما تلقاه وسمعه دون ما يجده مكتوبا في الخط.
أما حديث عروة الذي يرويه عن عائشة فإن علينا أن نشير أولا إلى بعض الحقائق المتعلقة بالآيات التي وردت فيه، وأول هذه الحقائق هي أن الكلمات موضع السؤال قد جاءت صحيحة في رسمها جارية على قواعد الهجاء، فكلمة {هََذََانِ} * في الآية الأولى
__________
(1) تتبع المستشرق يوهان فك في ملحق جعله في نهاية كتابه العربية، (ص 246235) تطور معنى مادة (ل ح ن) ومشتقاتها عبر النصوص المختلفة، وبين أن إطلاق لفظ اللحن على الخطأ اللغوي كان من نتائج قيام حركة (تنقية اللغة العربية) في أواخر القرن الأول للهجرة. وانظر عن نفس الفكرة: د. عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن، ص 120.
(2) الداني: الموضح، ورقة 24ب.
(3) الجامع الصحيح، ج 6، ص 230. وانظر الساعاتي: ج 18، ص 57. وابن أبي داود: ص 6.
الداني: المقنع، ص 119.
(4) انظر الداني: المحكم، ص 185. والمهدوي: ص 97. وابن الجزري: النشر، ج 1، ص 458.
وانظر أيضا القلقشندي: ج 3، ص 152.(1/183)
الواردة في الخبر جاءت على وفق القاعدة التي جرى عليها الرسم العثماني من حذف ألف (ها) التي للتنبيه ووصلها بما يليها من اسم الإشارة أو نحوه، وحذف الألف من (ذان) على نحو حذفها من كل مثنى، أما كلمة (المقيمين) في الآية الثانية فهي من حيث رسمها، على ما هي عليه، صحيحة، مثل ما رسم في المصحف {الْمُؤْمِنِينَ} *
و {الْمُسْلِمِينَ} *، وكذلك بالنسبة لكلمة الصبئون في الآية الثالثة التي رسمت على مثال الخطئون.
فهذه الكلمات جاءت من حيث الرسم صحيحة، جارية على المشهور من قواعد الرسم العثماني لكنها من حيث التوافق الإعرابي وما يقتضيه موقعها في الظاهر جاءت على نحو يستوقف النظر ويدفع إلى التأمل، فالكلمة الأولى قد ينظر إليها على أنها اسم (إنّ) المشددة وهي مثنى لكنها جاءت من غير الياء التي هي علامة النصب، والكلمتان الآخرين {الْمُقِيمِينَ} والصبئون كلاهما جاءت مخالفة إعرابيا لما عطفت عليه في الظاهر.
وبالرجوع إلى القراءات الصحيحة المروية في هذه الكلمات يمكن أن يتاح لنا فهم سر رسمها على ذلك النحو، فالآية الأولى إن هذن لسحرن (63) [طه] قرأها ابن كثير وحده بتخفيف (إن) و (هذان) بالألف مع تشديد النون، وقرأ حفص كذلك إلا أنه خفف نون (هذان)، ووافقه ابن محيصن، وقرأ الباقون ما عدا أبا عمرو بتشديد (إن) و (هذان) بالألف وتخفيف النون، وقرأ أبو عمرو (إن) بتشديد النون و (هذين) بالياء مع تخفيف النون (1)، ونجد أن أوضح القراءات في هذه الآية معنى ولفظا وخطا هي قراءة ابن كثير وحفص، وذلك أن (إن) المخففة من الثقيلة أهملت و (هذان) مبتدأ و (لساحران) الخبر، واللام للفرق بين النافية والمخففة، وقراءة أبي عمرو واضحة من حيث الإعراب والمعنى، رغم مخالفتها الرسم، وقد تكلم أهل العربية في توجيه القراءة الأخرى (2).
وقد أشرنا من قبل أن رسم المصحف كتب على قراءة واحدة، فليس من الضروري موافقة كافة القراءات الصحيحة له إذا وافق بعضها، وهو ما نجده في هذه الحالة.
__________
(1) انظر الدمياطي: ص 204.
(2) انظر السيوطي: الإتقان، ج 2، ص 273. وانظر أبو حيان (محمد بن يوسف): البحر المحيط، الرياض، مكتبة النصر الحديثة (د. ت) (مصورة عن الطبعة القديمة)، ج 6، ص 255.(1/184)
أما الآيتان {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلََاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكََاةَ (162)} [النساء] و {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هََادُوا وَالصََّابِئُونَ (69)} [المائدة] فقد اتفق الجمهور على قراءة {وَالْمُقِيمِينَ} بالياء منصوبا على نحو ما هو مرسوم إلا رواية يونس وهارون عن أبي عمرو لها بالواو (1)، وقراءة عاصم الجحدري لها بالواو كذلك، مع محافظته على رسمها بالياء (2). واتفقوا كذلك على قراءة {الصََّابِئُونَ} بالواو على نحو ما هو مرسوم إلا ابن محيصن فقد قرأها بالياء (3)، والجحدري كذلك (4)، وما دامت قراءة العامة قد جاءت موافقة للرسم على هذا النحو وقد تواترت عن القراء فلا مجال إذن للكلام هنا عن الخطأ في الرسم أو القراءة، خاصة أن النحاة قد تكلموا على ما في الآيتين من تخالف إعرابي، ووجهوا ذلك بوجوه كثيرة (5)، رغم أن القراءة إذا صحت روايتها لا ينظر في موافقتها قواعد النحاة، ولا يطلب لها التعليل والمثال من كلام العرب، فصحة روايتها هي نفسها أقوى في الدلالة على علوها في الفصاحة والعربية من التماس قول مجهول أو شعر منحول لتوجيهها، وما أجلّ قول الفخر الرازي في هذا المعنى حين يقول (6): «إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول، فجواز إثباتها بالقرآن العظيم أولى، وكثيرا ما ترى النحويين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهدوا في تقريرها ببيت مجهول فرحوا به، وأنا شديد التعجب منهم، فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقها دليلا على صحتها فلأن يجعلوا القرآن دليلا على صحتها كان أولى».
وعلى ذلك فإن حديث عروة يمكن أن يجمل على ما ذهب إليه ابن أشتة ورواه الداني من أن معنى الخطأ هو أنهم أخطئوا في اختيار الأولى من الأحرف السبعة بجمع الناس عليه، لا أن الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز لأن ما لا يجوز مردود بإجماع، وإن طالت مدة وقوعه، وعظم قدر موقعه، ويقول الداني بعد أن ناقش ما ورد في دلالة
__________
(1) انظر الدمياطي، ص 196.
(2) ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن، ص 36. وابن خالويه: مختصر في شواذ القرآن من كتاب البديع، مصر، المطبعة الرحمانية، 1934، ص 30.
(3) الدمياطي، ص 202.
(4) ابن قتيبة: المصدر السابق، ص 36.
(5) انظر السيوطي: الإتقان، ج 2، ص (274273)، وانظر أيضا أبو حيان: ج 3، ص (396و 531).
(6) نقلا عن د. عبد الفتاح إسماعيل شلبي: الإمالة، ص 309.(1/185)
الخبر (1): «على أن أم المؤمنين رضي الله عنها مع عظيم محلها وجليل قدرها واتساع علمها ومعرفتها بلغة قومها لحّنت الصحابة وخطأت الكتبة، وموضعهم من الفصاحة والعلم باللغة موضعهم الذي لا يجهل ولا ينكر، هذا ما لا يسوغ ولا يجوز».
ونخلص من ذلك كله إلى نفي دلالة الخبرين على وقوع الخطأ في الرسم العثماني، كذلك يمكن اتخاذ نفس الموقف من رواية أبان على ضوء ما تقدم، فهذا الاتجاه القائل بأن ما جاء من رسم بعض الكلمات في المصحف على طرق مخصوصة خالفتها القواعد التي وضعها علماء العربية لا حقا هو من خطأ الكاتب لا يقوم إذن على خبر صحيح ولا استنتاج مؤيد بدليل، بل هو رأي أنتجه النظر غير المتمهل إلى هجاء الكلمات مع فقدان الحس بالجانب التاريخي للكتابة والتعلق بأن الأصل في الكتابة موافقة الخط للفظ، فلا ينبغي للناظر في الرسم العثماني إلا أن يستبعد فكرة الخطأ وهو يحاول أن يجد التفسير الصحيح لظواهر الهجاء الواردة فيه، وأن يتوقف عن القول في ما لم يتوفر لديه فيه ما يرجح به رأيا أو يقدم تفسيرا، لأن جانبا كبيرا من تاريخ الكتابة العربية في تلك الفترة المتقدمة لا يزال غير معروف، ويظل الرسم العثماني بكل ما يقدم من أمثلة وصور لرسم الكلمات خير ممثل لواقع الكتابة العربية في تلك الحقبة، ولا شك في أن أي كشف جديد في مجال النصوص القديمة المكتوبة سيزيد الحقائق الكتابية التي يقدمها الرسم تأكيدا ووضوحا، بعيدا عن فكرة الخطأ التي يجب أن تكون آخر احتمال في هذا المجال بل على الباحثين استبعاد فكرة الخطأ في هذه المرحلة من البحث، حيث تشير كل الدلائل إلى أن ما جاء في رسم المصحف هو واقع كتابي تميزت به الكتابة العربية في تلك الفترة.
3 - اختلاف الرسم لاختلاف المعنى:
وقد ظلت العلل التي يقدمها العلماء لظواهر الرسم لغوية أو مما يتعلق بالسهولة والخفة على الكاتب حتى وضع أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي العدوي الشهير بابن البناء المراكشي (721654هـ) كتابه في الكشف عن الأسرار التي يتضمنها الرسم العثماني، والذي سماه الزركشي (ت 794هـ) والسيوطي (ت 911هـ) (عنوان الدليل
__________
(1) انظر: المقنع، ص (119118).(1/186)
في مرسوم خط التنزيل) (1). وسماه القسطلاني (الدليل من مرسوم التنزيل) (2) فأصبحت تلك العلل تتعلق إما باختلاف رسم الكلمة لاختلاف معناها حسب موقعها الذي ترد فيه أو اختلاف الرسم لمعان باطنة تتعلّق بمراتب الوجود والمقامات، وإذا كنا لم نطلع على نسخة من الكتاب (3)، فإن الزركشي والقسطلاني قد أغنيا عن ذلك نوعا ما بما أورداه عنه من بيان منهجه وبعض التطبيقات على أمثلة متعددة من الرسم.
ويقوم منهج أبي العباس المراكشي على أن الرسوم «إنما اختلف حالها في الخط بحسب اختلاف أحوال معاني كلماتها» (4). وكذلك «التنبيه على العوالم الغائب والشاهد ومراتب الوجود والمقامات، والخط إنما يرسم على الأمر الحقيقي لا الوهمي» (5).
وسنلاحظ أن مشكلات الرسم عامة تتعلق بالهمزة ورموز أصوات المد الثلاثة (الحركات الطويلة) الألف والواو والياء، ومن ثم فقد جعل أبو العباس المراكشي مفتاح فهم مشكلات الرسم في العلاقة بينها وبين أحوال الوجود، فخلاصة مذهبه كما نقله القسطلاني هي (6): «أن لأحوال الهمزة وحروف المد واللين مناسبة لأحوال الوجود، حصل بها بينهما ارتباط، به يكون الاستدلال». ثم تحدث عن علاقة الهمزة بحروف المد الثلاثة، فالهمزة مبتدأ الصوت فلا صورة لها لأنها حد بين ما يسمع وما لا يسمع، فإذا طوّلت الهمزة بعد الصوت حدثت حروف المد واللين الثلاثة (7)، فهي من حيث اتصلت بالهمزة كانت أول الحروف كلها، لأنها في مقطع الهمزة والحروف بعدها في مقاطع أنفسها، وإذا تحركت الحروف وطوّلت بالمد تبعتها هذه الحروف الثلاثة فكانت بهذه الجهة آخر الحروف كلها، وهي مع كل حرف في مقطعه، فلأجل ذلك لم يجعلوا
__________
(1) لطائف الإشارات، ج 1، ص 285.
(2) انظر: البرهان، ج 1، ص 380، والإتقان، ج 4، ص 145.
(3) انظر: ص (152) من هذا الفصل هامش (3).
(4) الزركشي: ج 1، ص 380. والسيوطي: الإتقان، ج 4، ص 145.
(5) الزركشي: ج 1، ص 381.
(6) لطائف الإشارات، ج 1، ص 385.
(7) أثبتت الدراسات الصوتية الحديثة انقطاع الصلة صوتيا بين الهمزة والأصوات الثلاثة المذكورة (انظر د. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص 48).(1/187)
للهمزة صورة في الخط، وإنما تعضد بأحد هذه الحروف الثلاثة (1). وقد جعل المراكشي تعلق المعاني بتلك الأصوات على حسب موقعها في جهاز النطق ومن ثم فالهمزة تدل على الأصالة والمبادئ فهي مؤصلة، لأنها مبدأ الصوت، والألف تدل على الكون بالفعل وبالفصل فهي مفصلة في الوجود، لأنها من حيث أنها أول الحروف في الفصل الذي يتبين به ما يسمع وما لا يسمع متصلة بهمزة الابتداء، والواو تدل على الظهور والارتقاء فهي جامعة، لأنها من غلط الصوت وارتفاعه بالشفة معا إلى أبعد رتبة في الظهور، والياء تدل على البطون، فهي مخصصة، لأنها من رقة الصوت وانخفاضه في باطن الفم (2).
ثم يمضي المراكشي في عرض المقدمات التي ينبني عليها مذهبه فيقول (3): لما كان الوجود على قسمين: ما يدرك وما لا يدرك، والذي يدرك على قسمين: ظاهر ويسمى الملك، وباطن ويسمى الملكوت، والذي لا يدرك فتوهمه على قسمين: ما ليس من شأنه أن يدرك وهي معاني أسماء الله تعالى وصفة أفعاله، وهذا من هذا الوجه يسمى العزة، وما من شأنه أن يدرك لكن لم ننله بإدراك وهو ما كان في الدنيا ولم ندركه، فهذا يسمى من هذا الوجه الجبروت فالألف يدل على قسم الوجود، والواو على قسم الملك منه، لأنه أظهر للإدراك، والياء على قسم الملكوت منه، لأنه أبطن في الإدراك، فإذا بطنت حروف في الخط ولم تكتب فالمعنى باطن في الوجود عن الإدراك، وإذا ظهرت فلمعنى ظاهر في الوجود إلى الإدراك، كما إذا وصلت فلمعنى موصول، وإذا حجزت فلمعنى مفصول، وإذا تغيرت بضرب من التغيير دلت على تغيير في المعنى في الوجود.
ولكي تتضح الصورة التي أراد أن يقدمها أبو العباس المراكشي حلا لمشكلات الرسم على النحو الذي بيّنا فيه خلاصة مذهبه نورد جملة من الأمثلة التطبيقية التي حرص الزركشي على حشو الفصل الذي عقده عن (علم مرسوم الخط) (4) بإيرادها لتعليل ظواهر
__________
(1) انظر القسطلاني: ج 1، ص (284283).
(2) نفس المصدر، ج 1، ص (286285).
(3) نفس المصدر، ج 1، ص 286.
(4) البرهان، ج 1، ص (430376).(1/188)
الرسم سواء في باب الحذف أم الزيادة أم البدل أم الفصل والوصل إلى غير ذلك من ظواهر الرسم، تلك التعليلات التي أخذت تطغى على حديث العلماء عن ظواهر الرسم، فظلوا يرددونها هنا وهناك حتى الوقت الحاضر (1).
فإذا زيدت الألف في أول الكلمة لمعنى زائد بالنسبة إلى ما قبله في الوجود مثل:
لا أذبحنّه [النمل: 21] ولا أوضعوا خللكم (2) [التوبة: 49] كانت الزيادة حسب مذهب المراكشي تنبيها على أن المؤخر أشد وأثقل في الوجود من المتقدم عليه لفظا، فالذبح أشد من العذاب، والإيضاع أشد إفسادا من شدة الخبال، وظهرت الألف في الخط لظهور القسمين في العلم (3).
وكل ألف تكون في كلمة لمعنى له تفصيل في الوجود له اعتباران: اعتبار من جهة ملكوتية أو صفات حالية، أو أمور علوية مما لا يدركه الحس، فإن الألف تحذف من الخط علامة لذلك، واعتبار من جهة ملكية حقيقية في العلم، أو أمور سفلية فإن الألف
__________
(1) ردد الدكتور عبد الحي الفرماوي في بحثه عن الرسم تلك التعليلات، وجعل من بين مزايا الرسم (ص 311) (الدلالة على معنى خفي دقيق)، وتحدث عن المعاني التي توصل إليها المراكشي في وجوه الرسم المختلفة بقوله (ص 314) «فهذه المعاني الدقيقة، والنكات الخفية المطلوبة في ثنايا هذا الرسم، والتي تفنن العلماء في الكشف عنها، سواء كان الصحابة يقصدونها أم لا؟ فهي (كذا) تأويلات مقبولة ومفيدة، وليس فيها من التعسف ما يدّعيه طالبي (كذا) تغيير هذا الرسم»، ثم يقول (ص 316): «إن المعاني التي يأخذها العلماء قد تتعدد، وتتنوع والرسم هو الرسم، يحمل في طياته من المعاني ما لا يكشف إلا لكل متأمل فيه، بعقل واع، وقلب مستضيء، يبغي الوصول إلى هذه الأسرار المعجزة في هذا الرسم! فإذا ما أصاب بعض العلماء في فهم هذه المعاني الخفية، فهذا من الله تعالى توفيق لهم، وإذا ما أخطأ آخرون في فهمهم للمعاني الخفية التي تستكن وراء هذه الرسوم، وفي تعليلهم لمخالفاتها، فليس هذا بعيب في الرسم، وإنما هو اجتهاد وخطأ في الاجتهاد» ونحن هنا لن نحاول التعقيب على هذا الكلام بشيء لأن أصل المنهج الذي جاء به المراكشي وردده كثير من العلماء بعده مرفوض من جانبنا في دراسة الرسم دراسة صحيحة لا ترى فيه إلا أنه كتب لتمثيل ألفاظ التلاوة وحفظا لكتاب الله العزيز على مر الدهور واختلاف العصور.
(2) اختلف في زيادتها في هذا الموضع، وهي في المصحف المطبوع ليست مثبتة.
(3) انظر: الزركشي: ج 1، ص 381. والقسطلاني: ج 1، ص (287286).(1/189)
تثبت (1). ويعقب الزركشي على رأي المراكشي في حذف الألف، بأن علماء الظاهر يقولون إنه حذف للاختصار وكثرة الاستعمال (2).
وأما الواو فإن زيادتها تدل على ظهور معنى الكلمة في الوجود في أعلى طبقة وأعظم رتبة في العيان، مثل: سأوريكم دار الفاسقين (145) [الأعراف] وسأوريكم آيتى (37) [الأنبياء]، زيدت الواو تنبيها على ظهور ذلك الفعل للعيان أكمل ما يكون، ويدل على ذلك أن الآيتين جاءتا للتهديد والوعيد (3).
وأما الياء فإن زيدت في كلمة فهي علامة اختصاص ملكوتي مثل والسّماء بنيناها بأييد (47) [الذاريات] كتبت بياءين فرقا بين (الأيد) الذي هو القوة، وبين (الأيدي) جمع يد، ولا شك أن القوة التي بنى الله بها السماء هي أحق بالثبوت في الوجود من الأيدي، فزيدت الياء لاختصاص اللفظ بالمعنى الأظهر في الإدراك الملكوتي في الوجود (4).
أما حذف الواو في نحو {وَيَدْعُ الْإِنْسََانُ (11)} [الإسراء]، و {وَيَمْحُ اللََّهُ (24)} [الشورى]، و {يَوْمَ يَدْعُ الدََّاعِ (6)} [القمر]، و {سَنَدْعُ الزَّبََانِيَةَ (18)} [العلق]، فقد قال المراكشي (5): السر في حذفها من هذه الأربعة التنبيه على سرعة وقوع الفعل وسهولته على الفاعل وشدة قبول المنفعل المتأثر به في الوجود، أما {وَيَدْعُ الْإِنْسََانُ} فيدل على أنه سهل عليه، ويسارع فيه كما يسارع في الخير، بل إثبات الشر إليه من جهة ذاته أقرب إليه من الخير، وأما {وَيَمْحُ اللََّهُ الْبََاطِلَ} فللإشارة إلى سرعة ذهابه واضمحلاله، وأما {يَدْعُ الدََّاعِ} فللإشارة إلى سرعة الدعاء وسرعة إجابة المدعوين. وأما المثال الأخير فللإشارة إلى سرعة الفعل وإجابة الزبانية وشدة البطش.
وإذا كان القسطلاني قد اكتفى بتفصيل منهج المراكشي، والسيوطي قد اكتفى بالإشارة إلى الكتاب وبعض الأمثلة فإن الزركشي قد ملأ الفصل الذي عقده للرسم بتعليلات
__________
(1) نفس المصدرين، ج 1، ص 388. وج 1، ص 287على التوالي.
(2) الزركشي، ج 1، ص 391.
(3) الزركشي، ج 1، ص 386. والقسطلاني: ج 1، ص 287.
(4) الزركشي: ج 1، ص 387. والقسطلاني: ج 1، ص 287.
(5) انظر الزركشي: ج 1، ص 397. والسيوطي: الإتقان، ج 4، ص 150.(1/190)
المراكشي على النحو الذي رأينا طرفا منه في تعليل الأمثلة المتقدمة، وقد نقل الزركشي بنفس الأسلوب تعليل حذف النون في الفعل {يَكُ} * في قوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً (37)} [القيامة]، وكتابة الألف واوا في مثل {بِالصَّلََاةِ وَالزَّكََاةِ} *، وكتابة تاء التأنيث مبسوطة في بعض الكلمات. وما جاء من الكلمات موصولا في بعض المواضع ومفصولا في أخرى (1). وختم الزركشي الموضوع بفصل في حروف متقاربة تختلف في اللفظ لاختلاف المعنى مثل {وَزََادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ (247)} [البقرة]، {وَزََادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً (69)} [الأعراف] و {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ (26)} * [الرعد]، {وَاللََّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ (245)}
[البقرة]، فبالسين السعة الجزئية، كذلك علة التقييد، وبالصاد السعة الكلية بدليل علو معنى الإطلاق، وعلو الصاد مع الجهارة والإطباق (2).
وقبل مناقشة هذا الاتجاه نشير إلى أن أبا العباس المراكشي كان ذا ميل شديد إلى العلوم الرياضية والعقلية يتجلى ذلك في مؤلفاته الكثيرة في الفلسفة والمنطق والفلك والأصول، ثم إنه ذو اتجاه صوفي وجداني دفعه إلى الانقطاع مدة عن أكل ما فيه روح، وأصيب بحالة عصبية فحجب في بيته سنة وتعافى (3) ولا نريد من هذا البيان الموجز إلا الإشارة إلى نواحي شخصيته وثقافته ونزعته إلى الاستبطان والتأمل الذاتي، ولا شك في أنه من خلال ثقافته وشخصيته تلك استطاع أن يصل إلى ذلك التفسير الباطني لظواهر الرسم.
ورغم الصورة المنطقية التي يعرض فيها المراكشي مذهبه فإن هذا الاتجاه بعيد كل البعد عن طبيعة الموضوع، فلم يدر في خلد الصحابة رضوان الله عليهم شيء من تلك المعاني التي يحاول أبو العباس المراكشي أن يعلل بها رسم الكلمات في المصحف في صورة فلسفية باطنية (4)، فقد كانوا مشغولين بمعاني القرآن الناصعة وآياته المحكمة عن تلك المعاني الفلسفية الباطنية الغامضة البعيدة عن روح الوضوح واليسر، والتي يحتاج فهمها إلى لون معين من ألوان الثقافة، ولم يكن الهدف الأول لتسجيل النص
__________
(1) انظر: ج 1، ص 407، وص 409و 410وص (423417).
(2) انظر: ج 1، ص (430429).
(3) انظر: الزركلي، ج 1، ص (214213).
(4) انظر د. رمضان عبد التواب: ص 157.(1/191)
القرآني سوى تمثيل ألفاظ التلاوة التي من خلالها لا من خلال الرسم تتجلى معاني القرآن العظيم، وقد مرت قرون طويلة على كتابة القرآن دون أن ينقل أحد شيئا من تلك المعاني، حتى جاء المراكشي فكشف عنها بتأمل ذاتي باطني فلسفي غامض متكلف بعيد عن طبيعة الكتابة التي هي وسيلة لتخليد الألفاظ الدالة على المعاني دون أن يكون للكتابة أصلا أي دور في تحديد المعنى أو تفصيله أو الإيحاء بمعاني دقيقة عن طريق التصرف في هجاء الكلمات وتحويره.
وسبق أن لاحظنا أن الأساس الأول الذي تنبني عليه الكتابة هو الأصوات المسموعة للكلمات ثم تسهم عوامل أخرى على مر العصور في إعطاء الكلمات صورا هجائية قد تخالف الملفوظ به جزئيا، ولكن ليس من بين تلك العوامل ملاحظة تمثيل المعاني الإضافية من خلال تغيير رسم الكلمات بزيادة أو نقص، فالأساس الذي قام عليه منهج أبي العباس المراكشي في دراسة ظواهر الرسم أساس مردود، وإذا انتقض الأساس انتقض سائر ما بني عليه، إلى جانب أن تلك التعليلات التي يوردها لاختلاف صور هجاء بعض الكلمات توقع في أحيان كثيرة في تناقض حاد، فإذا سلمنا مثلا بأن علّة حذف الواو في {وَيَمْحُ اللََّهُ الْبََاطِلَ} سرعة وقوع الفعل، فهل يدل إثبات الواو في {يَمْحُوا اللََّهُ مََا يَشََاءُ وَيُثْبِتُ (39)} [الرعد] على التراخي في المحو والإثبات؟ إلى غير ذلك من الأمثلة (1). ثم إن ما يذهب إليه المراكشي من أن حذف رموز حروف المد وإثباتها يناسب أحوال الوجود، فإذا حذفت فذلك لمعنى باطن في الوجود، وإذا ظهرت فلمعنى ظاهر في الوجود إلى الإدراك، ينفيه ما تم كشفه من تاريخ استخدام رموز الحركات الطويلة في الكتابة العربية خاصة، والكتابات السامية عامة، فلم يكن منهج أبي العباس المراكشي إذن قائما على أساس من حقائق العلم ومعرفة التاريخ بل إن كل ما قاله هو نتيجة تأمل ذاتي غامض، عبر عنه بمصطلحات صوفية وفلسفية ومنطقية هي الأخرى غامضة، وأن نتيجة واحدة صحيحة يقود إليها الدليل العلمي الواضح خير وأجدى في فهم المشكلة من كل ما قاله المراكشي ورددته من ورائه أجيال من العلماء والدارسين.
4 - تفسير الزيادة والحذف باحتمال القراءات:
ذهب بعض الباحثين إلى أن المصحف العثماني كتب ليشتمل على الأحرف السبعة أو
__________
(1) انظر محمد طاهر الكردي: تاريخ القرآن، ص 176وما بعدها.(1/192)
أنه جاء شاملا لما يحتمله رسمه منها على نحو ما بينا ذلك سابقا وبناء على ذلك فقد حاول بعض العلماء تعليل حذف وزيادة بعض الحروف، خاصة رموز حروف المد (الحركات الطويلة)، بأن المقصود منه أن تحتمل الكلمة ما ورد فيها من قراءات صحيحة، حتى جعل بعضهم من مزايا الرسم الدلالة على القراءات المتنوعة في الكلمة الواحدة (1)، ثم إن دارسي الرسم المتأخرين جعلوا أحد الفصول التي درسوا فيها ظواهر الرسم (ما فيه قراءتان فكتب على إحداهما) (2) وقد اعتمد الجعبري كثيرا في شرحه للرائية (3) على هذا الاتجاه في تعليل حذف وإثبات حروف المد وغير ذلك من الظواهر الرسمية (4)، فنجده يعقب مثلا على الظواهر التي يتحدث عنها بقوله (وجه حذف الألف احتمال القراءتين) (5) أو (وجه الإثبات والحذف احتمال القراءتين، فقراءة الياء في المرسوم بها قياسية وفي محذوفها اصطلاحية) قال بذلك وهو يتحدث عن رسم كلمة (إبراهيم) في البقرة بغير ياء (6). وجعل اللبيب حذف الألف ثلاثة أنواع أحدها حذفها لأجل القراءات (7).
وقد بيّنا في فصل سابق الوجه الراجح في مسألة كتابة المصحف العثماني بأحد الأحرف السبعة ومسألة احتماله لأكثر من قراءة، ورجحنا هناك أن المصحف العثماني إنما كتب على قراءة معينة، أي أن رسم الكلمات جاء لتمثيل لفظ واحد ونطق معين، بغض النظر عن احتماله لأكثر من قراءة بسبب تجرد الكتابة آنذاك من الشكل والإعجام، ومن ثم فإن هذا الاتجاه في تعليل بعض ظواهر الرسم لا يقوم على أساس راجح في نظرنا بل إنه لا يختلف كثيرا عن الاتجاه القائل باختلاف أحوال الرسم
__________
(1) انظر الزرقاني: ج 1، ص 366.
(2) انظر السيوطي: الإتقان، ج 4، ص 147. والقسطلاني: ج 1، ص 288.
(3) الرائية هي القصيدة المسماة (عقيلة أتراب القصائد) من نظم القاسم بن فيرة الشاطبيّ، في رسم المصحف، انظر موضوع (الكتب المؤلفة في الرسم) في المبحث الأول من الفصل الثالث من هذا الكتاب.
(4) انظر أيضا القسطلاني: ج 1، ص 289.
(5) انظر: خميلة أرباب المراصد، ورقة 83. وانظر أيضا: 83ب و 88أو 91أو 97ب وغير ذلك.
(6) انظر: ورقة 86أ.
(7) الدرة الصقيلة، ورقة 19ب. وانظر نفس الفكرة: علم الدين السخاوي: الوسيلة، ورقة 15أ.(1/193)
لاختلاف المعاني في ضعف الأساس الذي بني عليه.
5 - الرسم بني على حكمة ذهبت بذهاب كتبته:
وإلى جانب تلك الاتجاهات المختلفة في دراسة ظواهر الرسم العثماني نجد أنفسنا في العصر الحديث أمام باحث (1) يرفض كل ما قيل في تفسير الوجوه المختلفة للرسم من تعليلات، مع تسليمه أن تلك الوجوه قد رسمت لحكمة عرفها الصحابة وغابت بذهابهم، يقول (2): ذكر العلماء تعليلات متنوعة لبعض كلمات الرسم العثماني، غير أن هذه التعليلات ما هي إلا من قبيل الاستئناس والتلميح، لأنها لم توضع إلا بعد انقراض الصحابة رضي الله عنهم وهم قد كتبوا المصحف بهذا الرسم لحكمة لم نفهمها، وإشارة لم ندركها، من غير أن ينظروا إلى العلل النحوية أو الصرفية التي استنبطت بعدهم، ثم يقول (3): فالخلاصة أن كل هذه التعليلات التي ذكرها العلماء من الزيادة والحذف في بعض كلمات القرآن لا تغني شيئا، والحقيقة أنها هكذا وصلت إلينا عن الصحابة الذين كتبوا القرآن الكريم، ولم ينكشف سر ذلك لأحد، والله سبحانه علام الغيوب! ثم يبلغ اليأس به من الوصول إلى معرفة وجه لذلك إلى أن يقول (4): فمن يرشدنا إلى سبب هذا التغاير في رسم المصحف العثماني إلا الصحابة الذين كتبوه بأمر عثمان؟ وهذا إذا قاموا من قبورهم! وإذا كنا نتفق معه في أن كثيرا مما قيل في تعليل أوجه الرسم لا يغني في فهم المشكلة شيئا، خاصة ما ينسب إلى أبي العباس المراكشي، وما شاكله، فإنه لا يمكن موافقته فيما ذهب إليه من استحالة معرفة أسرار تلك الوجوه أو بعضها إلا بقيام الصحابة رضوان الله عليهم ومساءلتهم، إذ سنجد أن في دراسة حالة الكتابة العربية وخصائصها على نحو ما في الفصل التمهيدي ما يمكن أن يساعد في تفهم كثير من تلك الوجوه، وبقدر ما تتقدم الدراسة في ذلك المجال ويتاح لها من وثائق ترجع إلى
__________
(1) هو الأستاذ الشيخ محمد طاهر الكردي المكي الخطاط صاحب كتاب (تاريخ الخط العربي) و (تاريخ القرآن).
(2) انظر: تاريخ القرآن، ص 175.
(3) انظر: نفس المصدر، ص 179.
(4) نفس المصدر، ص (65)، وانظر أيضا نفس المعنى: ص 105و 134.(1/194)
عصر نسخ المصاحف أو العصور القريبة منه سيلقي ذلك مزيدا من الضوء على ما ورد في الرسم العثماني من صور كتابية متعددة الوجوه، ويساعد على الفهم الصحيح لكل ذلك.
وإذا كان لنا أن نخلص بنتيجة من هذا العرض لاتجاهات علماء السلف في دراسة ظواهر الرسم العثماني فهي أن التباين في وجهات النظر المختلفة قد جعل المشكلة أكثر تعقيدا، دون أن يسهم في التقريب إلى فهم صحيح للمشكلة، ومع ذلك فإن لدينا الآن من الوسائل ما يدفع إلى محاولة دراسة المشكلة من جديد على أمل الوصول إلى فهم أكثر توفيقا وصدقا لظواهر الرسم المختلفة، وهو ما آمل تحقيقه في الفصل التالي إن شاء الله.(1/195)
وإذا كان لنا أن نخلص بنتيجة من هذا العرض لاتجاهات علماء السلف في دراسة ظواهر الرسم العثماني فهي أن التباين في وجهات النظر المختلفة قد جعل المشكلة أكثر تعقيدا، دون أن يسهم في التقريب إلى فهم صحيح للمشكلة، ومع ذلك فإن لدينا الآن من الوسائل ما يدفع إلى محاولة دراسة المشكلة من جديد على أمل الوصول إلى فهم أكثر توفيقا وصدقا لظواهر الرسم المختلفة، وهو ما آمل تحقيقه في الفصل التالي إن شاء الله.
الفصل الرابع الرّسم العثماني: دراسة لغوية
كانت دراسات علماء السلف في مجال الرسم تتركز بصورة عامة حول وصف الظواهر دون محاولة تفسيرها، إلا في القليل، على نحو ما بيّنا في موقفهم من ظواهر الرسم، ولم تحظ المشكلة في العصر الحديث كذلك بدراسة شاملة تحاول إعطاء تفسير مقبول لها، أو دراسة تقرب من الوصول إلى ذلك التفسير (1)، ومن ثم فإن
__________
(1) حاول الأستاذ عبد الوهاب حمودة في كتابه (القراءات واللهجات: ص 112102) البحث عن (سبب اختلاف المصاحف في الرسم لمألوف الخط ومعروف القواعد): وقد ردّ ذلك إلى جملة عوامل، وهو مع إشارته إلى الأثر التاريخي للخط وبعض الظواهر الصوتية، فإنه يجعل من بين تلك العوامل ضعف الكاتبين في صناعة الخط، بمعنى أن بعض تلك الظواهر خطأ كتابي محض، وهو ما نرفض الأخذ به، وكذلك هو يجعل من بين تلك العوامل كتابة الكلمات لتحتمل أكثر من قراءة، وقد بيّنا ضعف هذا الاتجاه في محاولة تفسير الظواهر الهجائية، وبعد ذلك تظل هذه المحاولة محدودة بمساحة الصفحات التي خصصت لعلاج المشكلة، وبالمنهج الذي وضع المؤلف محاولته فيه.
وقد قدمت إلى (قسم التفسير وعلوم القرآن) بكلية أصول الدين في جامعة الأزهر رسالة لنيل درجة الدكتوراة في التفسير وعلوم القرآن من السيد عبد الحي حسين الفرماوي، المدرس في الكلية، بإشراف الأستاذ الدكتور أحمد السيد الكومي، ونوقشت يوم (10/ 2/ 1975) في موضوع (رسم المصحف ونقطه) تقع في (412صفحة) إضافة إلى الفهارس التي تبلغ بها (481صفحة)، وهذا البحث مخصص أصلا لمناقشة الحكم الشرعي لالتزام الرسم العثماني في طبع المصاحف ونسخها، وهدف البحث كما يقول كاتبه (المقدمة ص ي) «فحاولت جاهدا محاولة الباحث المنصف المحايد البحث عن الحل الأمثل الذي به يتحقق للمسلمين المتخالفين في رسم القرآن الكريم وحدتهم، واتفاقهم على رسم واحد، يتبعونه في طبع المصاحف، في مشارق الأرض ومغاربها، وليتحقق لهم أيضا الاقتداء بسنة محمد صلى الله عليه وسلم والاعتصام بحبل الله(1/197)
مواجهة المشكلة بالبحث على هذا النحو من الشمول الذي سنعرضه هنا تتم لأول مرة، وهو ما يزيد في صعوبة مواجهتها، لكن محاولة تجميع شتات الموضوع من دراسات علماء الرسم والقراءات وعلماء العربية ومما تقدمه الدراسات اللغوية والصوتية الحديثة والاستعانة بذلك كله في محاولة الوصول إلى تفسير للمشكلة في مظهرها العام، وفي كثير من تفاصيلها، كل ذلك كفيل بأن يقربنا من الهدف المنشود، ويجنب البحث كثيرا من مواطن الخطأ، ومع ذلك فإن هذه المحاولة تظل معرضة لما تتعرض له كل محاولة رائدة من احتمال النقص وإمكانية وقوع الخطأ أكثر مما لو كانت سبل البحث في هذا المجال قد مهدت وطرقها الباحثون بدراساتهم وبحوثهم.
__________
المتين، وحماية كتاب الله تعالى من تحريف الغالين وإبطال المبطلين». ومع أنا نتفق مع الباحث في نتيجة بحثه من وجوب التزام الرسم العثماني في طبع المصاحف، إلا أنا نختلف معه في الأسس التي اعتمد عليها، خاصة القول بأن الرسم كله توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وإيراده حججا واهية في ذلك، ولسنا بصدد مناقشة ما جاء في بحثه من قضايا تحتمل المناقشة، تتعلق بتاريخ الكتابة العربية أو تاريخ كتابة المصحف أو الرسم ذاته، وإنما نكتفي بالإشارة إلى أنه عالج في المبحث الثالث من الفصل الثالث (من ص 116115) ظواهر الرسم العثماني تحت عنوان (سمات وخصائص رسم المصحف) وكان منهجه في تلك المعالجة هو منهج السلف في تقسيمهم ظواهر الرسم إلى ستة أبواب، ثم حاول أن يضمن الأمثلة التي أوردها في تلك الأبواب تعليلات أبي العباس المراكشي منقولة عن الزركشي (انظر: ص 118، 119، 120، 126، 127، 128، 144، 148، من بحثه)، ومن ثم فإن تلك الدراسة لم تأت بجديد يعين على فهم المشكلة والوصول إلى تفسير لها.(1/198)
المبحث الأول الأسس التي تقوم عليها هذه الدراسة
إنّ مؤلفات الرسم في عرضها ومعالجتها لظواهره تندرج في اتجاهين: الأول يقوم على تجميع الأمثلة المتشابهة في الموضوع الواحد في فصل معين، والثاني يتتبع ظواهر الرسم بادئا بأول المصحف ومنتهيا بآخر سورة فيه، مؤكدا بصورة خاصة على ما جاء مرسوما بطريقة متميزة، ولما لم يكن الهدف هنا تقديم نموذج لرسم الكلمات في المصحف، فإن هذا الاتجاه لا يفيد اعتماده هنا في دراسة المشكلة، وكان الاتجاه الأول هو الأنسب لذلك، لكن الملاحظ أن إيراد الظواهر في ظل هذا الاتجاه يقوم على مجرد التشابه الشكلي الظاهري، حيث تنتظم الظواهر بضعة فصول، تبلورت في الفترات المتأخرة نسبيا، فهذا ابن وثيق الأندلسي (ت 654هـ) يقول حين عقد فصلا في صدر كتابه قبل أن يورد ظواهر الرسم تبعا لتتابع السور (1): «اعلم، وفقك الله، أن رسم المصحف يفتقر إلى معرفة خمسة فصول عليها مداره:
الأول: ما وقع فيه من الحذف.
الثاني: ما وقع فيه من الزيادة.
الثالث: ما وقع فيه من قلب حرف إلى حرف.
الرابع: أحكام الهمزات.
الخامس: ما وقع فيه من القطع والوصل». وقد زيدت تلك الفصول إلى ستة، بإضافة فصل آخر لما فيه قراءتان فكتب على إحداهما، يقول السيوطي (2): «وسنحصر
__________
(1) لوحة 2.
(2) الإتقان، ج 4، ص 147. وانظر القسطلاني: ج 1، ص 288. والدمياطي: ص 10. والزرقاني:
ج 1، ص 362. وقد جرى الزركشي (ج 1، ص 376وما بعدها) على منهج يشبه ذلك.(1/199)
أمر الرسم في: الحذف، والزيادة، والهمز، والبدل، والفصل، وما فيه قراءتان فكتب على إحداهما». وتوزيع الظواهر في هذا الاتجاه يقوم على أساس شكلي، فزيادة الألف بعد الواو مثلا في (ملقوا، ونصروا، ويعفوا) تأتي في باب زيادتها في نحو (مائة) أو مع زيادة الواو في (أولئك)، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن ذلك المنهج وضع أساسا لمعالجة ما جاء مخالفا لقواعد علماء العربية في الهجاء، ونحن هنا إنما نهدف إلى التعرف على كل ظواهر الرسم والأسس التي انبنى عليها، بغض النظر عن علاقتها بقواعد الهجاء التي رتبها علماء العربية في فترات لا حقة.
وبناء على ذلك فإن المنهج الأمثل الذي يمكن أن يشمل كل ظواهر الرسم في فصول ترد فيها الظواهر مرتبطة بعضها ببعض برباط منطقي مقبول، دون أن تختلط أو تتشتت، هو الذي يقوم على أساس العلاقة بين الصوت اللغوي ورمزه الكتابي الذي يمثله، على نحو المنهج الذي اعتمدنا عليه في دراسة خصائص الكتابة العربية قبل الرسم العثماني، إذ يقسم اللغويون الأصوات اللغوية عامة إلى قسمين هما: الصوامت والحركات، ولكل قسم منهما ما يميزه عن الآخر، ويمكن بناء على ذلك أن نبحث رموز الصوامت ورموز الحركات في الرسم العثماني، ومقدار وفاء الكتابة العربية، كما تتجلى في ذلك الرسم، بمتطلبات النطق الفعلي، كلا في مبحث مستقل، خاصة أن للكتابة العربية في تمثيل الصوامت مثل الكتابات السامية الأخرى أسلوبا يغاير ما جرت عليه في تمثيل الحركات.
وقد كان بالإمكان أن نتناول رمز الهمزة بالدراسة مع رموز الأصوات الصامتة لولا ما صاحب ذلك الصوت ورمزه الكتابي من ظروف لغوية تاريخية جعلت منه مشكلة معقدة في النطق والرسم على السواء، فجاء رمز الهمزة على صورة رموز الحركات الطويلة أحيانا، وهو ما زاد في غموض المشكلة وتعقيدها، إذ فهم علماء العربية أن ذلك كان بسبب ارتباط الهمزة صوتيا بأصوات الحركات الثلاث، فجاء فهمهم للأصوات الصامتة والحركات ورموزها مختلطا، خاصة مع غياب الوعي التاريخي لتطور مشكلة الهمزة، وانتقالها من مجال الأصوات الصامتة إلى الحركات، ثم تذبذبها بين هذه وتلك، وقد حتم هذا الوضع الفريد للهمزة أن نتناولها في مبحث مستقل نحاول أن نصل فيه إلى تفسير مقبول لهذه المشكلة التي كانت من أكبر العوامل المساهمة في إساءة فهم ظواهر الرسم العثماني من قبل كثير من الباحثين.
ولا بد بعد ذلك من أن نشير إلى كيفية ارتباط تلك الرموز صوامت وحركات في داخل الكلمة، ثم بيان علاقة بعض الكلمات ذات المقاطع المحدودة بغيرها من الكلمات، فقد جاءت معظم الكلمات ذات المقطع الواحد مرتبطة بالكلمات المجاورة لها، وجاءت كذلك عدة من الكلمات ذات المقطعين موصولة بغيرها أحيانا ومستقلة برسمها أحيانا أخرى.(1/200)
وقد كان بالإمكان أن نتناول رمز الهمزة بالدراسة مع رموز الأصوات الصامتة لولا ما صاحب ذلك الصوت ورمزه الكتابي من ظروف لغوية تاريخية جعلت منه مشكلة معقدة في النطق والرسم على السواء، فجاء رمز الهمزة على صورة رموز الحركات الطويلة أحيانا، وهو ما زاد في غموض المشكلة وتعقيدها، إذ فهم علماء العربية أن ذلك كان بسبب ارتباط الهمزة صوتيا بأصوات الحركات الثلاث، فجاء فهمهم للأصوات الصامتة والحركات ورموزها مختلطا، خاصة مع غياب الوعي التاريخي لتطور مشكلة الهمزة، وانتقالها من مجال الأصوات الصامتة إلى الحركات، ثم تذبذبها بين هذه وتلك، وقد حتم هذا الوضع الفريد للهمزة أن نتناولها في مبحث مستقل نحاول أن نصل فيه إلى تفسير مقبول لهذه المشكلة التي كانت من أكبر العوامل المساهمة في إساءة فهم ظواهر الرسم العثماني من قبل كثير من الباحثين.
ولا بد بعد ذلك من أن نشير إلى كيفية ارتباط تلك الرموز صوامت وحركات في داخل الكلمة، ثم بيان علاقة بعض الكلمات ذات المقاطع المحدودة بغيرها من الكلمات، فقد جاءت معظم الكلمات ذات المقطع الواحد مرتبطة بالكلمات المجاورة لها، وجاءت كذلك عدة من الكلمات ذات المقطعين موصولة بغيرها أحيانا ومستقلة برسمها أحيانا أخرى.
وعلى هذا المنهج يمكن تناول ظواهر الرسم بالدراسة في تلك الأبواب أو المباحث الأربعة، ومع أن علماء السلف أفردوا لدراسة الهمزة بابا مستقلا إلا أن الأسس التي يقوم عليها فهم مشكلة الهمزة هنا يختلف عما ذهبوا إليه في بعض الجوانب، وهو ما يمكن أن يسهم في حل مشكلة الرسم عامة والهمزة على وجه الخصوص، أما الباب الذي سماه علماؤنا الأئمة (القطع والوصل) أو (الفصل والوصل) فهو ما سنبحث فيه هنا تعريف الكلمة من حيث الرسم، وعوامل وصل الكلمات بعضها ببعض أحيانا.
وهذا المنهج في دراسة ظواهر الرسم ستتضح من خلاله القاعدة العامة التي جرى عليها تمثيل الصوامت والحركات في الرسم العثماني من جانب، ثم بيان تفسير وتعليل الأمثلة الخارجة على تلك القاعدة لأسباب لغوية تاريخية من جانب آخر.
وقبل أن نمضي في دراسة الرسم العثماني وفقا لذلك المنهج نشير إلى جملة قضايا مهمة، تحدد المنهج الذي ستجري عليه هذه الدراسة، وتساعد إلى جانب ذلك في تفهم العوامل التي أثرت في خلق تلك الأمثلة التي جاءت خارجة على القاعدة العامة التي جرى عليها الرسم العثماني في تمثيل الصوامت والحركات، وأهم تلك القضايا:
1 - استبعاد فكرة الخطأ في دراسة ظواهر الرسم العثماني:
إذ لم يرد أي خبر يشير إلى صعوبات هجائية واجهت الكتبة وعجزوا فيها عن تحقيق الصورة الصحيحة لها، غير ما ذكر من اختلافهم في رسم كلمة (التابوت) ونحو ذلك مما يرجع إلى اختلاف العادة التي جرى عليها الكتبة في رسم تلك الكلمات دون أن يدخل ذلك في دائرة الخطأ، ولا ينبغي لدارس الرسم العثماني إلا أن يستبعد فكرة الخطأ وهو يحاول أن يجد التفسير الصحيح لظواهر الهجاء الواردة فيه، وأن يتوقف عن
القول في ما لم يتوفر لديه فيه ما يرجح به رأيا أو يقدم به تفسيرا، لأن جانبا كبيرا من تاريخ الكتابة العربية في تلك الفترة المتقدمة لا يزال غير معروف، ويظل الرسم العثماني بكل ما يقدم من أمثلة وصور لرسم الكلمات خير ممثل لواقع الكتابة العربية في تلك الحقبة، ولا شك في أن أي كشف جديد في مجال النصوص القديمة المكتوبة سيزيد الحقائق الكتابية التي يقدمها الرسم تأكيدا ووضوحا، بعيدا عن فكرة الخطأ التي يجب أن تكون آخر احتمال في هذا المجال، بل على الباحثين استبعاد فكرة وقوع الخطأ في هذه المرحلة من البحث، حيث تشير كل الدلائل إلى أن ما جاء في الرسم العثماني هو واقع كتابي تميزت به الكتابة العربية في تلك الفترة.(1/201)
إذ لم يرد أي خبر يشير إلى صعوبات هجائية واجهت الكتبة وعجزوا فيها عن تحقيق الصورة الصحيحة لها، غير ما ذكر من اختلافهم في رسم كلمة (التابوت) ونحو ذلك مما يرجع إلى اختلاف العادة التي جرى عليها الكتبة في رسم تلك الكلمات دون أن يدخل ذلك في دائرة الخطأ، ولا ينبغي لدارس الرسم العثماني إلا أن يستبعد فكرة الخطأ وهو يحاول أن يجد التفسير الصحيح لظواهر الهجاء الواردة فيه، وأن يتوقف عن
القول في ما لم يتوفر لديه فيه ما يرجح به رأيا أو يقدم به تفسيرا، لأن جانبا كبيرا من تاريخ الكتابة العربية في تلك الفترة المتقدمة لا يزال غير معروف، ويظل الرسم العثماني بكل ما يقدم من أمثلة وصور لرسم الكلمات خير ممثل لواقع الكتابة العربية في تلك الحقبة، ولا شك في أن أي كشف جديد في مجال النصوص القديمة المكتوبة سيزيد الحقائق الكتابية التي يقدمها الرسم تأكيدا ووضوحا، بعيدا عن فكرة الخطأ التي يجب أن تكون آخر احتمال في هذا المجال، بل على الباحثين استبعاد فكرة وقوع الخطأ في هذه المرحلة من البحث، حيث تشير كل الدلائل إلى أن ما جاء في الرسم العثماني هو واقع كتابي تميزت به الكتابة العربية في تلك الفترة.
2 - عدم الاقتصار على المبدأ القائل إن الأصل في الكتابة مطابقة الخط للفظ:
إذ إن اعتماد هذه الفكرة في مناقشة ظواهر الرسم هي التي أوقعت علماء السلف عامة وعلماء العربية منهم خاصة في خطأ جسيم أدى إلى عدم تمكنهم من فهم حقيقة صور هجاء الكلمات التي احتوت رموزا زائدة لا تلفظ، ومع تسليمنا بأن أصل الكتابات الهجائية هو المبدأ الصوتي، إلا أن تطور اللغة دون مواكبة الكتابة لذلك التطور قد أوجد بعض التعقيدات الهجائية التي ترجع في الغالب إلى واقع لغوي قد زال من الاستعمال لكن الكتابة تتشبث بصور هجاء الكلمات التي تمثل الظواهر اللغوية القديمة.
وبناء على ذلك فسوف نجري في مناقشة ظواهر الرسم على أساس اشتراك جملة عوامل في خلق الظاهرة الكتابية كما بيّنا ذلك في الفصل التمهيدي وإلى جانب ذلك فإن هجاء الكلمة قد يقوم على أساس نطقها لكن قد تتهجى وهي مبتدأ بها وموقوف عليها، أو ترسم وهي في سلسلة كلامية متصلة، وسنجد أن لهذين الاعتبارين أثرا كبيرا في رسم الكلمات حين يستجيب الكاتب لأحدهما، لأن نطق الكلمات كثيرا ما يتغير في اللغة العربية في حال الوقف عنه في درج الكلام.
وللجانب الثقافي للكاتب ومقدار معرفته بتقاليد الكتابة التي يستعملها أثر في طريقة رسمه للكلمات، فكلما كان قد مارس عملية القراءة والكتابة على نطاق واسع أتاح له ذلك المحافظة على هجاء الكلمات الموروث، وبالعكس إذا كان الكاتب حديث عهد بالكتابة، أو قلّت ممارسته لها فإنه سيجري في رسم الكلمات، خاصة التي لم يقرأها
في نص مكتوب، على نحو ما يسمعها أو يلفظها (1).(1/202)
وللجانب الثقافي للكاتب ومقدار معرفته بتقاليد الكتابة التي يستعملها أثر في طريقة رسمه للكلمات، فكلما كان قد مارس عملية القراءة والكتابة على نطاق واسع أتاح له ذلك المحافظة على هجاء الكلمات الموروث، وبالعكس إذا كان الكاتب حديث عهد بالكتابة، أو قلّت ممارسته لها فإنه سيجري في رسم الكلمات، خاصة التي لم يقرأها
في نص مكتوب، على نحو ما يسمعها أو يلفظها (1).
وإضافة إلى ذلك فإن الكاتب مهما كان متقنا لأصول الكتابة التقليدية فإنه سيظل مترددا بين الالتزام بالصور التقليدية الموروثة لهجاء الكلمات، التي قد يكون رسمها لا يمثل نطقها تماما، وبين الاستجابة لمتطلبات اللفظ المسموع، مما قد يخالف الشكل المعتمد على اللفظ أصول رسم الكلمات الجارية في تقليد الكتاب.
وجملة هذه العوامل تسهم في خلق صور هجائية متعددة لرسم الكلمات خاصة في كتابة مثل العربية كانت لا تزال تنشد الصورة الكاملة لتمثيل كافة أصواتها.
3 - عدم اعتبار قواعد الهجاء التي وضعها علماء العربية مقياسا للرسم:
مما يلاحظ على كلام علماء السلف أنهم يشيرون بادئ ذي بدء إلى أن قواعد الرسم العثماني قد جاءت بصورة عامة موافقة لقواعد الهجاء إلا أن جملة من ظواهره جاءت خارجة على تلك القواعد، وهذا منهج مقلوب في دراسة القضية، وذلك أن الرسم العثماني ما هو إلا النموذج الحقيقي لحالة الكتابة العربية في الفترة التي نسخت فيها المصاحف، وظل الناس يكتبون وفقا لما جرى في المصحف فترة طويلة إلا أن حرص علماء العربية على تيسير القواعد الكتابية بعد ذلك الاستعمال الواسع للكتابة جعلهم يسعون إلى توحيد قواعد الرسم العثماني وفقا لأصولهم الصرفية وأقيستهم النحوية، وظلت قواعد الرسم العثماني هي العمود الأساسي في قواعد الهجاء العربي التي وضعها علماء العربية. وليس من المنطقي ولا من المنهج العلمي السديد أن نقيس ظواهر الرسم العثماني بأصول وقواعد جاءت لاحقة لتاريخ وجود تلك الظواهر، ومعتمدة عليها في أكثر جوانبها.
4 - الإفادة من القراءات الصحيحة جمعاء في توجيه ظواهر الرسم العثماني:
رجحنا في الفصل الثاني أن المصحف العثماني كتب لتمثيل قراءة واحدة هي القراءة العامة المشهورة في المدينة بين الصحابة، ولكن لأسباب ترجع إلى تاريخ القراءات أصبح من غير اليسير الآن أن نتبين أصول تلك القراءة ومفرداتها، ويكون لذلك
__________
(1) انظر: د. عبد العزيز الدالي: ص 220.(1/203)
ما جاء موافقا للرسم من وجوه القراءات الصحيحة هو الذي يمكن أن يكون أساسا في دراسة الرسم من غير تخصيص وجه دون آخر لأن الكتبة إنما أرادوا لفظا واحدا، لكنا لا نعلم ذلك اللفظ بعينه، ومن ثم جاز لنا أن نعتمد على أي وجه من وجوه القراءة مما يحتمله الرسم في تفسير الظواهر الكتابية وحل مشكلات الرسم مما تتوافر الدواعي على ترجيحه.
ولهذا الاتجاه أثر عملي في تفسير ظواهر الرسم على نحو ما سنرى في بحث رمز الهمزة مثلا إلى جانب الإسهام في استبعاد بعض الأمثلة عما خرج على القاعدة العامة مما نص الأئمة على زيادة حرف فيه أو نقصانه منه، وأوضح مثال على ذلك هو ما قيل من زيادة ألف في كلمة (ثمود) فقد جاءت الألف مرسومة بعد الدال في أربع آيات هي: ألا إنّ ثمودا كفروا ربّهم (68) [هود] وو عادا وثمودا وأصحاب الرّسّ (38) [الفرقان] وو عادا وثمودا (38) [العنكبوت] وو أنّه أهلك عادا الأولى (50) وثمودا فما أبقى (51) [النجم]. ويفهم من قول علماء الرسم في هذه الألف أنها زائدة في هذه المواضع الأربعة (1). ولكن بالرجوع إلى قراءات الأئمة في هذه الكلمات نجد أن كلا من نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر والكسائي قد قرأ الأربعة بالتنوين، وقرأ كل من حمزة وعاصم في رواية حفص بترك التنوين فيها (2)، ومن ثم فإن هذه الألف ما هي إلا الألف التي كتبت في المصحف عوضا عن التنوين المفتوح ما قبله عند الوقف، وهي بذلك تدخل في القاعدة العامة للرسم في مثل تلك الحالة، ونحن لا نرجح في هذا المجال قراءة على أخرى، إنما نختار القراءة التي تساعد على تفهم الظاهرة، ويبقى بعد ذلك لكل قارئ أن يقرأ ما رواه عن أساتذته وشيوخه مما يرتفع إلى الصدر الأول، مما أقرأهم به النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى أنه لا يجب الاقتصار في النظر إلى ظاهرة ما من ظواهر الرسم على ما جاء فيها من قراءات فحسب، فلعل بعض ظواهر الرسم ترجع إلى فترة تاريخية سبقت نسخ
__________
(1) انظر ابن أبي داود: ص 114. وأبو بكر الأنباري: ج 1، ص (264263). والداني: المقنع، ص 41.
(2) ابن مجاهد: ص 337. وانظر ابن الجزري: النشر، ج 2، ص (290289).(1/204)
المصاحف، واحتفظت بها الكتابة على نحو ما بيّنا من أن الكتابة أكثر ميلا إلى الاحتفاظ بالظواهر اللغوية الزائلة من الاستعمال الفعلي، ومن ثم فإن الاستعانة بأمثلة هجائية أو لغوية من خارج خط المصحف وما ورد من قراءات أمر مقبول ويساعد على تفهم كثير من ظواهر الرسم وحل كثير من مشكلاته.
5 - وليس من المحتم أن يقدم هذا البحث تفسيرا لكل مثال أو ظاهرة وردت في الرسم العثماني، كذلك ليس من الضروري أن يكون التفسير الذي يقدمه هذا البحث لظواهر الرسم صحيحا أو كاملا، وذلك لأن هناك عوامل كثيرة تشترك في إعطاء الكلمات صورة هجائها، وليس من اليسير الكشف عن كل تلك العوامل وكذلك فإن جانبا كبيرا من تاريخ الكتابة في تلك الفترة لا يزال غير معروف، لقلة النقوش والنصوص المكتشفة التي ترجع إلى تلك الفترة، ومن ثم فإن ما سيرد في هذا البحث إنما هو محاولة للاستفادة مما تقدمه الدراسات اللغوية والاكتشافات الأثرية اليوم في تفسير ظواهر الرسم، ولعل الدراسات التالية تكشف عن وسائل جديدة يمكن الاستعانة بها في تفسير ظواهر الرسم والكتابة العربية على نحو أكثر عمقا وشمولا.
وقبل أن نمضي في تناول ظواهر الرسم على أساس ذلك المنهج نشير إلى أن بعض الظواهر الهجائية في الرسم العثماني قد تشتمل على عشرات الأمثلة، وإيراد كل أمثلة الظاهرة الواحدة في هذه الحالة يوسع، بلا شك، مساحة البحث دون أن يضيف بعدا جديدا إلى ما يمكن قوله في تلك الظاهرة، ولكن بعض ظواهر الرسم لا تكاد تقدم إلا عددا محدودا من الأمثلة قد ينزل إلى مثال أو مثالين، ويصبح إيراد كافة الأمثلة في هذه الحالة أمرا ضروريا، بل يصبح العثور على مثال جديد أمرا مفيدا جدا، وبصورة عامة فإنا سنورد من الأمثلة ما تمس الحاجة إلى إيراده على ألّا نهمل ظاهرة واحدة من ظواهر الرسم، على نحو ما فعل صاحب كتاب الهجاء حين قال (1): إن هجاءات المصاحف واختلاف كتابها أكثر من أن يؤتى عليها كلها، ولكن نذكر منها ما هو أنفع
__________
(1) كتاب الهجاء لمجهول، لوحة 6.(1/205)
للقارئ وأكثر فائدة للناظر فيه، وما فيه الكفاية والاعتبار لما لم نذكر منها» (1).
__________
(1) سأحاول الالتزام برسم الكلمات على النحو المتمثل به، كذلك الالتزام بالرسم العثماني في إيراد الأمثلة عامة، وسوف أشير في الغالب إلى موضع الآية من السورة في صلب البحث دون الهامش، مع إثبات اسم ورقم السورة أولا ثم رقم الآية بعده، ورغم أن ذلك قد يسبب قطعا لاسترسال القارئ فإنه سيخفف كثيرا مما ستكون عليه الهوامش لو كانت الإشارة إلى ذلك فيها، لكثرة الأمثلة التي يتحتم إيرادها. وكذلك فإنا لا نجد ضرورة للإشارة إلى موضع المثال من الآية والسورة في حالة اطراد القاعدة في عشرات الأمثلة أو مما اشتهر من ذلك.(1/206)
المبحث الثاني رموز الصّوامت في الرّسم العثماني
كانت الأبجدية السامية الأولى التي يفترض أن كافة الأبجديات المعروفة انحدرت منها أبجدية صامتية (1)، أي أنها كانت تمثل برموزها الأصوات الصامتة دون أصوات الحركات، وقد اختلفت الأبجديات بعد ذلك في سرعة تكميلها لهذا النقص، ولما كان أصل الأبجدية السامية كذلك فإن الترتيب القديم الذي انتظمت فيه حروف تلك الأبجدية كان يمثل الأصوات الصامتة أصلا، فكان الاثنان والعشرون حرفا (أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت) تمثل الأصوات الصامتة لبضعة لغات سامية، وحين تبنت اللغة العربية نظام الأبجدية السامية، ألحقت رموز الأصوات الصامتة التي تفردت بها في نهاية ذلك الترتيب، وهي ستة تعرف بالروادف، فصار الترتيب (أبجد قرشت ثخذ ضظغ) (2).
ومن ثم فإن رموز الأصوات الصامتة في الكتابة العربية في فترة نسخ المصاحف كانت ثمانية وعشرين رمزا، والألف في مطلع الأبجدية يرمز إلى الصوت الصامتي الذي ينتج بانطباق الوترين الصوتيين لحظة مع ضغط الهواء خلفهما ثم انفراجهما فيخرج الهواء فجأة محدثا صوتا انفجاريا (3). والذي صار يسمى في العربية باسم (النبرة) أو (الهمزة).
أما تطور رمز الألف ليدل على الفتحة الطويلة فسوف ندرسه في مبحث تال، وكذلك فإن رمزي الواو والياء يمثلان في هذه الأبجدية الصوتين الصامتين كما هو أصل وضعهما بغض النظر عن تطور استعمالهما ليدلا على الضمة والكسرة الطويلتين (4).
__________
(1) انظر: المبحث الثاني من الفصل التمهيدي ص (48).
(2) انظر: ص (3433) من الفصل التمهيدي.
(3) انظر: د. إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية، 91. ود. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص 24. ود. كمال محمد بشر: الأصوات، ص 142.
(4) انظر: د. كمال محمد بشر: دراسات في علم اللغة، ق 1، ص (6964) و (7573).(1/207)
أولا: أصوات اللغة العربية ورموزها عند علماء العربية:
وعلينا أن نبين هنا أن فهم علماء العربية لهذه المسألة قد اضطرب في بعض الأحيان، نتيجة الخلط بين الأصوات المنطوقة وبين الرموز المكتوبة من جانب، وغياب البعد التاريخي لتطور الأبجدية من جانب آخر، فأصل حروف العربية عند الخليل وسيبويه تسعة وعشرون حرفا، لكن الخليل ميز الصحاح التي لها أحياز ومخارج وجعلها خمسة وعشرين وهي ما عدا الواو والياء والألف اللينة والهمزة، والتي سماها هوائية، لأنها تخرج من الجوف، فلا تقع في مدرجة من مدارج أعضاء النطق (1)، ولا شك أن هذا الفهم يقوم على عدم التمييز بين قيم هذه الأصوات الأربعة من حيث كونها ذات ارتباط بالأصوات الصامتة من جانب وبالحركات من الجانب الآخر، وكأن اشتراكها في الرموز في حال كونها صوامت وحركات هو الذي أسهم في ترسيخ هذا الفهم.
أما سيبويه فقد اكتفى بإيرادها مرتبة على حسب ذواقه لمخارجها، وقد جرى على نهج أستاذه رغم ما قد يكون بينهما من اختلاف في بعض الجوانب في عدم الانتباه إلى الحدود الفاصلة بين الواو والياء حينما يكونان في باب الأصوات الصامتة وحين يكونان في باب الحركات الطويلة، ويؤكد هذا الزعم أنه ذكر في مطلع أبجديته الصوتية الهمزة ثم الألف، ولم يذكر الواو والياء إلا مرة واحدة (2).
ومما يؤكد انخداع أئمة العربية بالرموز الكتابية أنهم ذكروا أصواتا أخرى هن فروع وأصلها من التسعة والعشرين، تصل بها إلى اثنين وأربعين حرفا، منها جيد يستحسن وبعضها رديء ليس بمشهور في لغة من ترضى عربيته، ولا يستحسن في قراءة القرآن ولا الشعر، والمهم في ذلك أن سيبويه عقب على ذلك بقوله «وهذه الحروف التي تممتها اثنين وأربعين جيدها ورديئها أصلها التسعة والعشرون لا تتبين إلا بالمشافهة» (3)، وأن المبرّد ذكر الحروف المستحسنة التي تبلغ بها حروف العربية خمسة وثلاثين، وقال عنها «اعلم أن الحروف العربية خمسة وثلاثون حرفا، منها ثمانية وعشرون لها
__________
(1) انظر: كتاب العين، بغداد، مطبعة العاني، 1967، ج 1، ص 64. وابن منظور: ج 1، ص 7.
(2) انظر: سيبويه (أبو بشر عمرو بن عثمان): الكتاب، ط 1، القاهرة، بولاق 1317هـ، ج 2، ص 404.
(3) نفس المصدر وانظر: ابن جني: سر صناعة الإعراب، ج 1، ص 51.(1/208)
صور» (1)، ومعنى ذلك كله أن رمز الألف والواو والياء من بين تلك الرموز الثمانية والعشرين هي رموز لأصوات ثلاثة (2)، لكن الحقيقة هي أن الرموز الثمانية والعشرين يقابلها واحد وثلاثون صوتا هي الأصوات الصامتة الثمانية والعشرون إضافة إلى الحركات الطويلة الثلاث التي تشترك مع الهمزة والواو والياء الصوامت في رموز واحدة (3)، وقد بيّنا في الفصل التمهيدي جانبا من تاريخ تطور رموز هذه الأصوات لتدل على أصوات الحركات إضافة إلى دلالتها في الأصل على أصوات صامتة، ولا يعنينا هنا بيان العلاقة بين هذه الأصوات التي ربما أدت إلى ذلك الاشتراك في الرموز (4).
ومع هذا فلعل بعضا مما يؤخذ على علماء العربية في ذلك قد نتج عن إساءة فهم لكلامهم، خاصة أنا نجد بعضا منهم قد قدم تصورا صحيحا وواضحا لمشكلة رموز الكتابة العربية وعلاقتها بالأصوات بغض النظر عما وقع فيه بعضهم من سقطات تاريخية لم تكن في أيديهم وسائل تجنبها فهذا ابن درستويه يقول (5)
: «إن حروف المعجم ثمانية وعشرون حرفا، مختلفة الألفاظ، وصورها ثماني عشرة صورة، لتشابه صور الحرفين منها والثلاثة ولولا التشابه لكانت لكل حرف صورة والذي لا صورة في المعجم، كما وضعت لمدة الحرف المفتوح الألف، ولكن كتبتا بصورة الواو والياء،
__________
(1) المبرّد (محمد بن يزيد): المقتضب، القاهرة، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 1386هـ ج 1، ص 192. وانظر أيضا: ص 195.
(2) لا يعني ذلك أن علماء العربية لم يحسوا بالفرق الصوتي أو الوظيفي لكل من الواو والياء وهي صوامت والضمة والكسرة والفتحة الطوال، التي يسميها علماء العربية حروف المد، فقد ذكر سيبويه في (باب الوقف في الواو والياء والألف) (ج 2، ص 285) ما يشير إلى فهم جيد للطريقة التي يتم فيها أنتاج الحركات، واختلافها في ذلك عن بقية الأصوات، يقول: «وهذه الحروف غير مهموسات، وهي حروف لين ومد، وخارجها متسعة لهواء الصوت وليس شيء من الحروف أوسع مخارج منها ولا أمدّ للصوت فإذا وقفت عندها لم تضمها بشفة ولا لسان ولا حلق كضم غيرها».
(3) انظر: حفني ناصف: ص 11.
(4) انظر بحثا وافيا لذلك: الدكتور عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص (4839).
(5) كتاب الكتاب، ص 64.(1/209)
كما كتبت التاء والثاء على صورة الياء، وكتبت الهمزة على صورة حروف اللين وعلى الحذف اتباعا لتخفيفها في اللفظ». ورغم أنا نعرف الآن خطأ القول بكون رمز الألف في الأصل هو علامة للفتحة الطويلة، التي سماها ابن درستويه (مدة الحرف المفتوح)، لا الهمزة، فإن تصوّره للمشكلة وعلاقة الحركات الطويلة بالواو والياء صوتا ورمزا تصوّر صحيح لم يأت معه المحدثون بجديد إلا في مسألة رغم أهميتها هي مسألة تاريخية.
ولم ينفرد ابن درستويه بهذا الفهم، فهذا حمزة الأصفهاني يقول وهو يحاول أن يقدم لنا ما يشبه ما يسميه المحدثون (الكتابة الصوتية الدولية) (1): «ولو رام إنسان من أهل الزمان أن يضع كتابة سليمة من التصحيف جامعة لكل الحروف التي تشمل على جميع اللغات لزمه أن يضع أربعين صورة لأربعين حرفا، منها ثمانية وعشرون حرفا ما قد رسم بها هجاء العربية التي هي أب ت ث ج ح خ ومنها أربعة جارية في العربية على ألسن أهلها ولم يخصوها بصورة وهي: النون الغناء، والهمزة، والواو والياء اللينتان. فالنون الغناء هي التي تخرج من الغنة، وهي مثل نون (منذر) لأنها ليست من مخرج نون رسن. والهمزة مثل قرأ ورفأ ومثل أول حرف من أحمد لأنها ليست من مخرج ألف حامد. والواو والياء في (عمود وبعير) لأنهما ليستا من مخرج ياء (يزيد وزيد) وواو (واصل وصواب)».
ولعل الذي جلب الاضطراب في موقف علماء العربية من رموز الحركات الطويلة خاصة هو أنهم اعتبروا أن أصل الأبجدية وضع ليشمل الأصوات الصامتة وأصوات الحركات لكن الحقيقة كما بيّنا من قبل أن الأبجدية وضعت أصلا لتمثل الأصوات الصامتة وأن دلالتها على بعض أصوات الحركات الطويلة قد جاء بعد تطور استعمال رموز الأبجدية الصامتة للدلالة على تلك الحركات.
ونتيجة لذلك فقد حاول علماء العربية استكمال النقص الذي استشعروه في الأبجدية العربية لتكون شاملة لرموز الصوامت والحركات على السواء لكن محاولتهم جاءت ناقصة أيضا، فبعد أن تم شيوع الترتيب الهجائي الجديد (2)، الذي يجري على تجميع صور
__________
(1) التنبيه على حدوث التصحيف، ص 33.
(2) سنشير إليه في الفصل الخامس، انظر: ص (482).(1/210)
الحروف المتشابهة على نحو (أب ت ث) أقحم علماء العربية في نهاية ذلك الترتيب بين الواو والياء صورة (لا) فقالوا (هـ، و، لا، ي). يقول ابن جني (1): «إن واضع حروف الهجاء لما لم يمكنه أن ينطق بالألف التي هي مدة ساكنة، لأن الساكن لا يمكن الابتداء به، دعمها باللام قبلها متحركة ليمكن الابتداء بها». فهذه هي الألف التي تقع في آخر حتى ومتى وفي حياة وزكاة (2)، وقد رفض ابن درستويه إدراج (لام ألف) في الترتيب الهجائي، فيقول (3): «وأما لام ألف فخارج من جملة حروف المعجم وصورها لأنهما حرفان مقرونان». وقد تحدث علماء العربية عن علة اختصاص اللام من بين حروف العربية لتدعم الألف بعلل متخيلة بعيدة عن الواقع ولا تغني شيئا (4). ولعل شيوع صورة الألف واللام مقترنة في الكتابة العربية هو الذي جعلهم يدخلون تلك الصورة الشائعة في الترتيب الهجائي دلالة على الفتحة الطويلة، كذلك اختلف علماء العربية في أي الطرفين من (اللام ألف) هو صورة الألف والأخرى صورة اللام (5).
وهذه المحاولة لتكميل الأبجدية جاءت ناقصة كما ذكرنا فقد ظل رمز كل من الواو والياء يدل على أربعة أصوات هي الواو والياء الصامتتان والفتحة والكسرة الحركتان الطويلتان (أو ما يسميه علماء العربية حروف المد)، ولذلك قال الأستاذ حفني ناصف (6): «والذي ذكر (لام ألف) في الحروف كان عليه أن يذكر (لام واو) و (لام ياء)». وربما كان ذلك المذهب من علماء العربية في الاقتصار على زيادة (لام ألف) دون أن يفعلوا ذلك مع الواو والياء نتيجة لعوامل صوتية تعود إلى طبيعة كل من الواو والياء وعلاقتهما بالحركات الطويلة التي من جنسهما، أو ربما تعود إلى عدم إدراك بعضهم حقيقة الفروق الصوتية الدقيقة بين الحالتين (7)، ولا يعني ذلك أن علماء العربية
__________
(1) انظر: سر صناعة الإعراب، ج 1، ص (4948).
(2) الصولي، ص 186.
(3) كتاب الكتاب، ص 69، وانظر أيضا: ص 64.
(4) انظر ابن جني: سر صناعة الإعراب، ص 50. وانظر أيضا: الداني: المحكم، ص 200.
(5) انظر الداني: المحكم، ص (199197)، وكتاب النقط (له). مطبوع في آخر المقنع، ص (144 145).
(6) تاريخ الأدب، ص 11.
(7) انظر. د. كمال محمد بشر: دراسات في علم اللغة، ق 1، ص 79. ويرى المستشرق برجشتراسر(1/211)
غابت عنهم الفروق الصوتية بين حالتي الواو والياء، يقول الأزهري (1): «والواو والياء إذا جاءتا بعد فتحة قويتا وكذا إذا تحركتا كانتا أقوى». ويقول ابن يعيش (2): «إن الواو والياء إذا سكنتا وكان قبل كل واحد منهما حركة من جنسهما كانتا مدتين كالألف».
ولعل أوضح صور التمييز والفهم لطبيعة الحركات عامة واختلافها عن الصوامت ذلك الذي نجده في ما نقله أبو الحجاج البلوي عن ابن السيد وعلينا أن نفهمه في ظل مدلولات المصطلحات القديمة وهو (3): «قال ابن السيد رحمه الله: ليس في حروف المعجم حرف يبنى على السكون إلا الألف، وذلك أنها صوت لا مقطع له في شيء من الحلق والفم. وإنما بمنزلة الصوت الذي يخرج من البوق إذا لم يضع الزامر أصابعه على الثقب، فإذا وضع أصابعه على الثقب وداول بينها تقطع ذلك الصوت فصار نغمات، وكذلك الصوت المندفع من الرئة إذا تقطع في المخارج صار حروفا. يشارك
__________
(انظر التطور النحوي ص 3029) أن نطق الواو والياء أو بالأحرى أوضاع أعضاء النطق الخاصة بنطقها مطابق تلك الخاصة بنطق الضمة والكسرة مطابقة تامة، لكنه يثبت فرقا واحدا بينهما في الوظيفة الصوتية في مقطع الكلمة، وهو أن الضمة والكسرة تقع دائما مركزا للمقطع أما إذا وقعت طرفا في المقطع سابقة لمركز المقطع أو لا حقة نسميها حينئذ واوا أو ياء. لكن الدكتور إبراهيم أنيس يشير (انظر الأصوات اللغوية، ص 42) إلى أن الفراغ بين اللسان ووسط الحنك الأعلى حين النطق بالياء يكون أضيق منه في حالة النطق بالكسرة مما يترتب عليه أننا نسمع ذلك النوع الضعيف من الحفيف، فالياء لأنها تشتمل عند النطق بها على حفيف يمكن أن تعد صوتا صامتا، أما إذا نظر إلى موضع اللسان معها فهي أقرب شبها بصوت اللين (الكسرة) ولهذا اصطلح المحدثون على تسمية الياء بشبه صوت اللين، والحالة مع الواو والضمة مثل الذي وصفنا في الياء مع الكسرة، وعلى ذلك فإنه إضافة إلى الفرق في الوظيفة المقطعية بين الواو والياء من جانب والضمة والكسرة من جانب آخر هناك فرق ثان من حيث الطبيعة الصوتية، وأن في كل من الواو والياء من الحفيف ما يقربهما من الأصوات الصامتة (وانظر تفصيلا أكثر عن العلاقة بين الواو والياء والحركات التي من جنسهما: د. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص 39 48).
(1) تهذيب اللغة، ج 1، ص 52. وانظر د. رمضان عبد التواب: ص 363.
(2) ابن يعيش (يعيش بن علي): شرح المفصل، القاهرة، الطباعة المنيرية (د. ت)، ج 10، ص 30 و 99.
(3) ألف با، ج 1، ص (317316).(1/212)
الألف في هذه الصفة أختاها الموضوعتان للمد واللين، وهما الواو الساكنة المضموم ما قبلها في نحو عنقود والياء (الساكنة) المكسور ما قبلها في نحو قنديل، فإنهما صوتان لا مقطع لهما كما لا مقطع للألف، غير أن الياء والواو قد ينفتح ما قبلهما فيذهب ما فيهما من المد ويبقى اللين، في نحو: ثوب وبيت، وقد يحركان فيذهب عنهما المد واللين معا ويلحقان بالحروف الصحاح». وقد تحدث ابن سينا كذلك عن الحركات الطويلة الثلاث ويسميها المصوتات، وعن شريكاتها في الرسم من الحروف الصوامت بوضوح لا يقل عن وضوح كلام ابن السيد، وبدقة العالم الذي يتوقف عن القطع فيما لا ينضبط من أمر هذه الأصوات، حين يستعمل كلمة مثل (أظن)، وحين يصرح بمثل قوله «أمر هذه الثلاثة عليّ مشكل» (1).
ورغم وجود هذا الاتجاه الصحيح في فهم طبيعة الحركات الطويلة وعلاقتها بالصوامت فإن الناظر في الدراسات التطبيقية: الصرفية والنحوية لعلماء العربية يفتقد بدرجة ملحوظة هذا التفريق الواضح بين الجوانب الصوتية لهذه الأصوات وبين الرموز المشتركة في الكتابة.
ثانيا: تمثيل الصوامت في الرسم العثماني:
علينا حين ننظر في الرسم العثماني لنرى مدى تمثيله للأصوات الصامتة أن نميز بكل وضوح وتحديد بين دلالة رموز الألف والواو والياء على كل من الهمزة والياء والواو الصوامت وبين دلالتها على الحركات الطويلة الثلاث، وإنما نقصد في هذا المبحث معالجة رموز الأصوات الصامتة، مرجئين ما سواها إلى المباحث التالية.
وأصوات العربية الصامتة التي جرى الكتاب على تمثيلها برموز كتابية هي:
(الهمزة ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ع غ ف ق ك ل م ن هـ وي).
وقد تقدم أن الكتابة العربية قبل الرسم العثماني كانت تفتقر إلى التمييز بين رموز بعض الأصوات الصامتة المشتركة في رموز واحدة، وأرجعنا سبب هذه الظاهرة إلى أن
__________
(1) انظر: ابن سينا (الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا): أسباب حدوث الحروف، القاهرة، المطبعة السلفية، 1352هـ، ص (1716).(1/213)
الكتابة النبطية كانت تكتب بحروف منفصلة متميزة بعضها عن بعض في الفترات المبكرة من تاريخها، إلا أنه بتقدم الزمن مالت الحروف في الكلمة الواحدة إلى أن ترتبط برباط ساعد على أن تفتقد بعض الحروف صورتها المستقلة وتقترب من صور حروف أخرى، وأدى ذلك أيضا إلى تعدد صورة الحرف الواحد تبعا لاختلاف موقعه في الكلمة، وقد ظلت ظاهرة اشتراك بعض الأصوات الصامتة في رمز واحد في الكتابة العربية قائمة عند ما استخدمها كتبة الوحي في تدوين النص القرآني، وحين نسخوا المصاحف العثمانية، واستمرت الحال كذلك إلى النصف الثاني من القرن الأول الهجري، على ما يرجح، وعلى ما سيتبين في فصل تال إن شاء الله. ولعل مما يشير إلى أن رموز الكتابة العربية كانت في يوم ما متميزة عن بعضها في الشكل ما نجده من اختلاف صور رموزها عند ما تكون منفصلة أو في نهاية الكلمة.
على أن التشابه في صور رموز بعض الأصوات لم يكن يمثل عقبة في وجه القراءة الصحيحة للنص المكتوب، خاصة مع تمكن اللغة الفصيحة من نفوس الناس آنذاك، إلى جانب أن التلقين الشفهي كان الوسيلة الأولى قبل الكتابة لتلقي النص القرآني وحفظه وإذاعته.
ويبدو أن عملية استخلاص الأصوات التي خصها الكتاب برموز مستقلة كانت عملية لغوية تحليلية عميقة تستحق التأمل، خاصة أنها حدثت في وقت متقدم جدا من تاريخ الحضارة الإنسانية، أي مع اختراع نظام الكتابة الهجائية القائم على أساس تخصيص رمز واحد لكل صوت من أصوات اللغة، وتظهر أهمية تلك العملية عند ما نعلم أن اللغة المنطوقة التي يمثلها في الكتابة عدد محدود من الرموز تحتوي أضعاف تلك الرموز من الأصوات اللغوية المتميزة في النطق، وكان على الكاتب الأول أن يختزل ذلك العدد الضخم من الأصوات التي يحاول تمثيلها في الكتابة إلى عدد أقل من الوحدات التي يطلق عليها في الدراسات اللغوية المعاصرة مصطلح (الفونيم) (1) والتي خصص لكل منها رمز خطي واحد، فالنون مثلا اصطلاح شامل يدخل تحته عدد من الأصوات، كالذي في بداية (نحن) والذي قبل الثاء في (إن ثاب) وقبل الظاء في
__________
(1) انظر في معنى الفونيم والنظريات التي قامت حول تحديد مفهومه: د. محمود السعران: ص 121 وما بعدها. ود. كمال محمد بشر: الأصوات، ص (213201).(1/214)
(إن ظهر) وقبل الشين في (إن شاء) وقبل القاف في (إن قال) مع اختلاف واضح بين هذه الأصوات في المخرج، ولكن اصطلح على تسمية هذا العدد من الأصوات باسم (النون) (1)، دون أن يخصص لكل منها رغم اختلافها الظاهر في النطق رمز معين، على نحو ما مر من مذهب حمزة الأصفهاني من نقص الكتابة العربية لرمز يقابل النون التي في (منذر)، بل أشير إلى كل تلك الأصوات برمز واحد، واعتبرت جميعا أعضاء لعائلة واحدة، وكذلك الحال في أصوات اللغة الأخرى، فالمشهور في مذاهب بعض القراء ترقيق الراء واللام في بعض السياقات وتفخيم الراء وتغليظ اللام في مواضع أخرى (2)، لكن ذلك لم يدفع إلى وضع رمزين لتمثيل كل من حالتي الراء واللام بل ظل رمز الراء دالّا على كلتا الحالتين، وكذلك اللام (3)، وما أدل قول صاحب (كتاب المباني) على هذه الفكرة اللغوية الحديثة حين يقول (4): «إن النون الواقعة قبل الباء، والنون الساكنة في قولهم (من بعد) و (العنبر) وشبهها كل واحد منهن الصوت فيه لفظة يشبه لفظ الميم، وهو غير مستعمل في الخط تغليبا لأصل النون».
ولكن ما المقياس الذي نميز به بين الصوت الذي يستقل برمز كتابي معين والآخر الذي يدخل في عائلة من الأصوات الفرعية التي يشار إليها كلها برمز واحد؟ إن الأصوات المنطوقة للغة ما، تصنف عند دراستها إلى نوعين: نوع طارئ، وناتج عن اختلاف موضع الصوت، ونوع آخر أساسي ومهم من حيث المعنى (5)، ويقوم التمييز بين الصوت الذي ينبغي تمثيله برمز كتابي والآخر الذي لا يمثل برمز بل يندرج تحت دلالة رمز صوت آخر على الوظيفة اللغوية للصوت، أي على قدرته في تغيير معاني الكلمات (6)، فصوت الصاد مسموع مثلا في الإنجليزية في مثل (الشمس) و (ابن)، ولكنه لا يعد من فونيمات هذه اللغة، وذلك لأنه لا يستخدم في الإنجليزية للتفريق بين المعاني، أي أنه لا توجد في الإنجليزية كلمتان لكل منهما معنى
__________
(1) د. تمام حسان: مناهج البحث في اللغة، ص 125.
(2) انظر ابن الجزري: النشر، ج 2، ص 90و 111.
(3) انظر د. إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية، ص 66و 67.
(4) مقدمة كتاب المباني (لمجهول)، ص 147.
(5) انظر د. خليل إبراهيم حماش: ص 511.
(6) انظر د. كمال محمد بشر: الأصوات، ص 203.(1/215)
مستقل، وتطابق أصوات إحداهما أصوات الأخرى إلا أنه يقابل السين في إحداهما الصاد في الثانية، كما نجد في العربية (سبر) مقابل (صبر) ولذلك فالصاد في العربية فونيم، والسين فونيم، أما صوت الصاد المسموع في الإنجليزية فهو فرع من الفونيم المعروف بالسين (1).
وقد جرى الرسم العثماني على هذا الأصل العام في تمثيل أصوات اللغة برموز معينة وفقا لدورها في تغيير معاني الكلمات دون النظر إلى ما قد يحدث للصوت من تغير في صفاته حين يقع في سياق كلامي، فالأصوات اللغوية يتأثر بعضها ببعض في المتصل من الكلام، حين ينطق المرء بلغته نطقا طبيعيا لا تكلّف فيه، نلحظ أن أصوات الكلمة الواحدة قد يؤثر بعضها في البعض الآخر، كما نلحظ أن اتصال الكلمات في النطق المتواصل قد يخضع أيضا لهذا التأثر (2)، ولكن نجد أن ما قد يصيب الصوت في الكلام المنطوق من صفات الجهر أو الهمس أو انتقال المخرج أو تغير مجرى الهواء لا يغير من صورة رمز ذلك الصوت شيئا، إلا أن تلك العملية التي يميز بها الكاتب ما قد يطرأ على الأصوات من تغير في السياق لا يصاحبه تغير في الرمز إن هي إلا عملية متصورة قد لا يصرف لها من جهده الواعي كثيرا من الوقت، ويظل يسير على ما تعوده من أصول الكتابة وقواعدها، ولكن قد يستجيب الكاتب إلى ما يسمع من أصوات اللغة في الكلام المنطوق فيدونها على نحو ما يسمعها، دون الالتفات إلى أصل بناء الكلمة، وهذا ما نجده في كتابة بعض الكلمات في المصحف موصولة بغيرها مع تغير بعض رموزها تبعا لما طرأ على أصواتها من تأثر بما جاورها من أصوات، فمن ذلك مثلا (عن ما) و (من ما) و (عن من) و (إن لم) و (إن لن) ونحوها، فقد جاءت في بعض المواقع موصولة كما سنفصل ذلك فيما بعد مع تغير رمز النون إلى رمز الميم أو اللام المدغم في مثله والمكتوب برمز واحد، تبعا للمنطوق فعلا من أصوات تلك الكلمات.
ويبدو هذا الاتجاه مقبولا من حيث عوملت هذه الكلمات معاملة الكلمة الواحدة لصغر حجمها إلى جانب الاستجابة للنطق الفعلي الذي انقلب فيه الصوت الصامت من آخر الكلمة الأولى إلى جنس الصوت التالي له من الكلمة الثانية، على حسب قاعدة
__________
(1) انظر د. محمود السعران: ص (123122).
(2) انظر د. إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية، ص 179.(1/216)
الإدغام في اللغة العربية، وصارا حرفا مشددا، ومن ثم جرى الكاتب فيه على نحو ما جرت عليه القاعدة في الكتابات السامية من كتابة الحرف المشدد برمز واحد.
وكتابة الحرف المشدد أو المدغم وهو على حد تعبير ابن يعيش «أن تصل حرفا ساكنا بحرف مثله، من غير أن تفصل بينهما بحركة أو وقف، فيصيران لشدة اتصالهما كحرف واحد، يرتفع اللسان عنهما رفعة واحدة شديدة، فيصير الحرف الأول كالمستهلك» (1) برمز كتابي واحد إنما يتم على ما يبدو استجابة لحقيقة النطق الفعلي، وقد اختلف علماء السلف في سبب ذلك بين التعليل بكراهة اجتماع صورتين متفقتين في الخط (2)، وبين عمل اللسان فيه عملا واحدا (3).
وقد جرى كتبة المصحف على هذه القاعدة العامة التي تحتم كتابة الحرف المشدد أو المدغم برمز خطي واحد في معظم الأحوال، لكن الكاتب قد يجد نفسه في بعض الأحيان مترددا بين أن يلتزم بأصل كتابة الكلمة وبين أن يستجيب لواقع نطقها في السياق، ولهذا فقد جاءت بعض الكلمات التي أولها لام ودخلت عليها (أل) المعرفة مكتوبة بلامين في الغالب وبلام واحدة في بعض الأحيان، فقد كتبت الكلمات الآتية بلامين: اللعنون، اللغو، واللهو، اللؤلؤ، اللت، اللمم، اللهب، اللطيف، اللوامة، وكذلك لفظ الجلالة {اللََّهُ} * ومثله {اللََّهُمَّ} *. وجاءت كلمات أخرى بلام واحدة مثل:
(اليل)، وبعض الأسماء الموصولة مثل: الذي واللذان والذين والتي والئي (4). وقد اختلف في أي اللامين هي المحذوفة من هذه الكلمات التي كتبت بلام واحدة، فيقول الداني (5): «والمحذوفة عندي هي اللام الأصلية، وجائز أن تكون لام المعرفة لذهابها بالإدغام وكونها مع ما أدغمت فيه حرفا واحدا». ولا يترتب على ذلك الاختلاف شيء
__________
(1) شرح المفصل، ج 10، ص 121.
(2) انظر ابن درستويه: ص 33. والداني: المقنع، ص 67. وسليمان بن نجاح: لوحة 6. والشيرازي (محمد بن محمد): كشف الأسرار في رسم مصاحف الأمصار، مخطوطة في مكتبة الأوقاف ببغداد، لوحة 21. وانظر أيضا القلقشندي: ج 3، ص 184.
(3) التنسي: ورقة 84ب.
(4) انظر المهدوي: ص 117. والداني: المقنع، ص 67. وسليمان بن نجاح: لوحة 6. والعقيلي:
لوحة 2.
(5) الداني: المقنع، ص 67.(1/217)
عملي، وربما كانت إثارة ذلك التساؤل في غير محلها، إذ إننا في حالة الحرف المشدد لا نفكر في رمز أي الصوتين حذف بل نقنع بدلالة الرمز المكتوب على كلا الصوتين اللذين يكادان لشدة اتصالهما أن يكونا صوتا واحدا (1).
ومما يتعلق بموضوع تأثر الأصوات بمجاورتها لغيرها، فيجري الكاتب في الكتابة على نحو ما ينطق به، اقتران السين والطاء في كلمة واحدة، ولما كانت الطاء مطبقة والسين غير ذلك والأصوات تميل غالبا إلى التماثل والتقارب في الصفات النطقية فقد يغلب الإطباق على السين فتسير سينا مطبقة أي صادا. وهنا يجد الكاتب نفسه بين أن يستجيب للنطق أو يلتزم بالأصل المعروف لأصوات الكلمة، «وقد أجاز النحويون في كل سين وقعت بعدها غين أو خاء معجمتان أو قاف أو طاء أن تبدل صادا» (2). ويقول المبرد: إن السين إذا كانت مع أحد الحروف المستعلية في كلمة «جاز قلبها صادا، وكلما قرب منها كان أوجب» (3). ولذلك فقد جاءت بضعة كلمات في الرسم العثماني مكتوبة بالصاد على ما آلت إليه في النطق من ذلك {الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور: 37]، و {بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 2] (4). و {الصِّرََاطَ} * (5)، ومنها ما جاء بالسين في الغالب مثل {يَبْسُطُ} * وبالصاد في مكان واحد {يَبْصُطُ} [البقرة: 245]، ومنها ما جاء بالسين مرة مثل {بَسْطَةً} * [البقرة: 247]، وبالصاد مرة أخرى {بَصْطَةً} [الأعراف: 69] (6).
ومما قد يتعلق بالظاهرة المشارة إليها أيضا مجيء كلمة (نجي) في قوله تعالى:
وكذلك نجى المؤمنين (88) [الأنبياء] مكتوبة بنون واحدة (7). ومثلها {فَنُجِّيَ مَنْ نَشََاءُ (110)} [يوسف] وقراءة معظم القراء لهما بنونين الأولى مضمومة والثانية ساكنة،
__________
(1) انظر د. إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية، ص 188.
(2) البطليوسي، ص 203.
(3) المقتضب، ج 1، ص 225.
(4) انظر الداني: المقنع، ص 92.
(5) ابن مجاهد: ص 107. وانظر أبو حاتم الرازي: ج 2، ص 215. ود. إبراهيم أنيس: في اللهجات العربية، ص (130128).
(6) انظر ابن أبي داود: ص 108. والداني: المقنع، ص 85. وانظر أيضا الزركشي: ج 1، ص 429.
(7) ابن أبي داود: ص 110. والداني: المقنع، ص 87.(1/218)
وقرأهما بعضهم بنون واحدة (1)، وقد علل علماء السلف حذف صورة النون الثانية إن لم تكن قد كتبت على القراءة الأخرى بأنها لما كانت ساكنة وتلاها الجيم فإنها كما يقول الفراء «تخفى ولا تخرج عن موضع الأولى، فلما خفيت حذفت، ألا ترى أنك لا تقول فننجي بالبيان، فلما خفيت الثانية حذفت، واكتفي بالنون الأولى منها، كما يكتفى بالحرف من الحرفين فيدغم ويكون كتابهما واحدا» (2). ولكن الفراء هنا جعل النون الباقية في الرسم تقوم مقام المحذوفة كالمدغم، والصواب أن النون الأولى لا تعلّق لها بالثانية لوجود الضمة بينهما، ويكون ما ينقله ابن قتيبة في ذلك «بأن النون تخفى عند الجيم فأسقطها كاتب المصحف لخفائها وبنية إثباتها» (3) أكثر دقة واحتمالا للصواب، إلا أن ذلك لا يمنع أن يكون الكاتب حين أحس بضعف النون قد استأنس بالمثبتة عن المحذوفة، ورغم أن التأثر هنا بين النون والجيم لا يرقى إلى درجة التأثر في حالة الإدغام الذي يوجب كتابة الصوتين المدغمين برمز واحد، فإن ورود كلمتي {أَنْ جََاءَكُمْ} * [الأعراف: 69] موصولتين في مصحف طشقند (أنجاكم) بسبب الإخفاء الذي لحق النون الساكنة حين لقيت الجيم قد يؤيد القول بأن النون الثانية حذفت بسبب الإخفاء الذي لحقها، وفي رواية ينقلها أبو عمرو الداني رغم أنه يردها أن النون قد حذفت في بعض المصاحف على نحو ما حذفت من (ننجي) في قوله تعالى:
{لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)} [يونس] (4). ولعل حذف لنون من (للنظر) قد كان بسبب إخفائها أيضا، وربما يدخل هذان المثالان كظاهرة هجائية في باب استجابة الكاتب لما هو منطوق على نحو ما بينا قبل قليل، ولعل ندرة أمثلة هذه الظاهرة إن صح هذا الفهم لها يرجع إلى أن التأثر هنا محدود، ومن ثم لم يجد الكاتب دافعا قويا لتغيير الرمز كما لم يغير أو يحذف رمز النون في كلمة مثل (منذر).
ثالثا: أثر الوقف على رموز بعض الصوامت:
ردد علماء السلف كثيرا أن الأصل في كتابة الكلمة هو أن تكتب بصورة لفظها بتقدير
__________
(1) الداني: التيسير، ص 130و 155. والدمياطي: ص 268و 311.
(2) الفراء: معاني القرآن، ج 2، ص 56. وانظر أيضا: ج 2، ص 210.
(3) تأويل مشكل القرآن، ص 39. وانظر ابن مجاهد: ص 352.
(4) المقنع، ص 90.(1/219)
الابتداء بها والوقف عليها (1)، لكن للحروف الموقوف عليها أحكاما تغاير أحكام المبدوء بها، فالموقوف عليه يكون ساكنا في الغالب والمبدوء به لا يكون إلا متحركا (2) لأن الوصل مما تجري فيه الأشياء على أصولها، والوقف من مواضع التغيير (3)، ومن ثم فقد تعددت صور الوقف على أواخر الكلمات، ولحق بعض الأصوات المتطرفة بعض التغيير في حالة الوقف، ولا شك أن ذلك التغيير ينعكس على رموز تلك الكلمات، فنجد الكاتب يستجيب في الغالب لنطق الكلمة وهي موقوف عليها، دون الالتفات إلى نطقها وهي في درج الكلام المتصل.
وهذا الاتجاه يفسر لنا بضع ظواهر تتعلق برسم مجموعة من الصوامت حين تقع في أواخر الكلمات الموقوف عليها، تتلخص في كتابة التنوين المفتوح ما قبله ألفا، وكتابة تاء التأنيث تاء مرة وهاء أخرى، ثم إثبات هاء السكت في بعض المواضع.
1 - رسم التنوين ألفا:
أما التنوين (4) الذي يلحق أواخر الأسماء للصرف (5)، فإنه يحذف في الوقف في حالتي كون الاسم مرفوعا أو مجرورا، لكنه في حالة النصب يحذف وتخلفه الألف (الفتحة الطويلة) عند الوقف صوتا وكتابة، وقد علل عدم إثبات التنوين نونا في الرسم بكونه ليس من أصل بناء الكلمة، وإنما جاء زائدا لمعنى، فحذف فرقا بين النون الزائدة والأصلية (6)، ووصف ابن جني الألف التي خلفت التنوين بأنها عوض عنه في
__________
(1) انظر: الفصل التمهيدي، ص 82.
(2) انظر ابن يعيش: ج 9، ص 67.
(3) انظر ابن جنّي: سر صناعة الإعراب، ج 1، ص 176. وابن يعيش: ج 9، ص 81.
(4) التنوين هو في الحقيقة نون ساكنة كما أشار إلى ذلك علماء العربية (انظر سيبويه: ج 2، ص 147). وابن جني: سر صناعة الإعراب (المخطوط)، ورقة 177ب. والداني: (المحكم، ص 57). وكما أكدته التجارب المعملية الحديثة. (انظر: عوض المرسي جهاوي: ظاهرة التنوين في اللغة العربية، رسالة ماجستير مقدمة لكلية دار العلوم بجامعة القاهرة 1967ومحفوظة في مكتبة الجامعة ص 34).
(5) انظر سيبويه: ج 2، ص 281. وابن جني: المصدر السابق، نفس الموضع.
(6) انظر سيبويه: ج 2، ص 281. وابن جني: نفس المصدر، ورقة 178/ أ. والداني: المحكم،(1/220)
الوقف (1)، وقيل هي بدل منه (2)، ومهما قيل في ذلك فإن السبب الأول لإثبات الألف في الرسم هو ثبوتها في اللفظ عند الوقف في حالة المنصوب دون ثبوتها أو ثبوت التنوين في حالتي الرفع والجر عند الوقف، فحذف التنوين دون أن يخلفه شيء في الرسم أو اللفظ على السواء (3).
وأمثلة هذه الظاهرة في الرسم العثماني أكثر من أن تستقصى هنا، ويكفي أن ننظر في أول سورة الكهف مثلا لنجد فيها من هذه الظاهرة (عوجا، قيما، بأسا شديدا، أجرا حسنا، أبدا، ولدا، كذبا، أسفا إلخ) (4).
ومما يشبه التنوين في حالة النصب في كونه نونا ساكنة مفتوحا ما قبلها ويخلفها في الوقف ألف لفظا وكتابة نون التوكيد الخفيفة، فهي في الفعل بمنزلة التنوين في الاسم، فإذا كان ما قبلها مفتوحا أبدلت منها الألف (5)، فتكتب في الخط ألفا لأنها أشبهت التنوين (6)، وقد جاء من ذلك في المصحف موضعان اجتمعت المصاحف على رسم النون الخفيفة فيهما ألفا (7)، وهما في {وَلَيَكُوناً مِنَ الصََّاغِرِينَ (32)} [يوسف]، و {لَنَسْفَعاً بِالنََّاصِيَةِ (15)} [العلق].
__________
ص 59.
(1) سر صناعة الإعراب، ج 1، ص 84.
(2) ابن الجزري: النشر، ج 2، ص 133. ود. تمام حسان: اللغة العربية، ص 272.
(3) يقول الزركشي (البرهان، ج 1، ص 69): إن مبنى الفواصل على الوقف، ولهذا شاع مقابلة المرفوع بالمجرور، وبالعكس، وكذا المفتوح والمنصوب غير المنون، ومنه قوله تعالى: {إِنََّا خَلَقْنََاهُمْ مِنْ طِينٍ لََازِبٍ (11)} [الصافات] مع تقدم قوله {عَذََابٌ وََاصِبٌ (9)}، و {شِهََابٌ ثََاقِبٌ (10)}. وكذا {بِمََاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)} [القمر] و {قَدْ قُدِرَ (12)}. وكذا {وَمََا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وََالٍ (11)} [الرعد] مع {وَيُنْشِئُ السَّحََابَ الثِّقََالَ (12)}.
(4) كتبت (تترا) [المؤمنون: 44] بالألف على قراءة من نون أو على لفظ التفخيم (الداني: المقنع، ص 44، والتيسير (له) ص 159)، وانظر أيضا الفرّاء: معاني القرآن، ج 2، ص 239.
(5) انظر سيبويه: ج 2، ص 154. والمبرد: ج 3، ص 17. وابن يعيش: ج 9، ص 88.
(6) انظر ابن خالويه (الحسين بن أحمد): كتاب إعراب ثلاثين سورة، حيدرآباد، جمعية دائرة المعارف العثمانية، 1941، ص 140. والعقيلي: لوحة 11.
(7) الداني: المقنع، ص 43و 101.(1/221)
ومما كتبت بالألف، مثل التنوين المنصوب، كلمة (إذن)، ويبدو أنها كانت يوقف عليها بالألف فجاءت مرسومة في المصحف كذلك حيث وقعت (1)، في مثل: {وَإِذاً لََا يَلْبَثُونَ خِلََافَكَ إِلََّا قَلِيلًا (76)} [الإسراء]، و {فَإِذاً لََا يُؤْتُونَ النََّاسَ نَقِيراً (53)} [النساء]، و {إِذاً لَأَذَقْنََاكَ (75)} [الإسراء]، {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً (56)} [الأنعام].
وسوف نلاحظ أن لتناسب الوقف على رءوس الآي أثرا في إثبات وحذف رموز الحركات الطويلة، ونجد هذه الظاهرة هنا في أمثلة معدودة حين تأتي أواخر الآيات منتهية بألف هي عوض التنوين عند الوقف، فثبتت الألف في كلمات وقعت في أواخر الآيات بالرغم من اتصال (ال) المعرفة بها، والتي لا يجتمع معها التنوين في اسم واحد، وذلك لأن القراءة جاءت بإثبات الألف فيها، حرصا على التناسب الصوتي عند وقوف القارئ على رءوس الآيات المنتهية بالألف التي تخلف التنوين عند الوقف، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ لَعَنَ الْكََافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً لََا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلََا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النََّارِ يَقُولُونَ يََا لَيْتَنََا أَطَعْنَا اللََّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقََالُوا رَبَّنََا إِنََّا أَطَعْنََا سََادَتَنََا وَكُبَرََاءَنََا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنََا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذََابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)} [الأحزاب]، ومثله أيضا قوله سبحانه في نفس السورة {وَتَظُنُّونَ بِاللََّهِ الظُّنُونَا (10)}، فقد جاءت الألف ثابتة في (الظنون والرسول والسبيل) (2)، رغم اقترانها بالألف واللام التي للتعريف. ولا شك في أن هذه الألف ليست عوضا من تنوين وإنما جاءت لتجري القراءة على سنن واحد في
__________
(1) الداني: المقنع، ص 43، ويقول السيوطي: الجمهور على أن الوقف عليها بالألف، وعليه إجماع القراء (انظر: الإتقان، ج 2، ص 154) ولكن حين جاء علماء العربية يأخذون أصول قواعد الهجاء من الرسم العثماني اختلفوا في كتابتها بالنون أو بالألف، وقد مال جمهور النحاة إلى كتابتها بالنون، وجمهور أهل الرسم على كتابتها بالألف (انظر ابن قتيبة: أدب الكاتب، ص 254. وابن درستويه: ص 49. والبطليوسي: ص 166) وخير من مثل ذلك التعارض أبو عبد الله بن معاذ الجهني (انظر: كتاب البديع، ورقة 263أ) حين يقول «وحكي عن علي بن سليمان عن المبرد أنه قال: لا يجوز أن تكتب (إذن) إلا بالنون وقال إني لأشتهي أن اقطع يد من يكتبها بألف. قال أبو عبد الله: «وقوله مردود غير مأخوذ به. بل يجب قطع يد من يكتبها بالنون في المصحف لمخالفة السواد».
(2) انظر ابن أبي داود: ص 111، وأبو بكر الأنباري: ج 1، ص 374. والمهدوي: ص 95. والداني:
المقنع، ص 39.(1/222)
كلّ رءوس آي السورة، خاصة إذا عرفنا أن كل رءوس آيها وعددها (73) تنتهي بالألف التي هي عوض التنوين إلا في آية واحدة وهي قوله سبحانه {وَاللََّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)} [الاحزاب] فقد جاءت كلمة {السَّبِيلِ} * من غير ألف، وقد كان من المحتمل أن تأتي مرسومة إن صح القياس هنا بالألف أيضا مثل الكلمات الثلاث الأخرى، لكن مجيئها بدونها دليل على أن هذه الألف ليست لازمة إنما هي مزيدة لما أشرنا إليه (1)، وقد قرأ كل من نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر الكلمات الثلاث (الظنونا والرسولا والسبيلا) بإثبات الألف وصلا ووقفا، وقرأ ابن كثير وحفص والكسائي وخلف بإثباتها في الوقف دون الوصل، وقرأها أبو عمرو وحمزة بدون الألف في الحالين (2).
وقد جاءت الألف التي هي عوض التنوين مثبتة في كلمة (سلاسل) (3) في قوله تعالى:
إنّا أعتدنا للكافرين سلسلا وأغلالا وسعيرا (4) [الإنسان] واختلفت المصاحف فى اثبات الالف فى كلمة (قوارير) (4) الثانية من قوله تعالى؟؟؟؟؟؟؟؟ وقد اختلفت القراءة فيها بين التنوين وصلا وإثبات الألف وقفا وبين عدم التنوين وحذف الألف وصلا وعدم التنوين وإثبات الألف أو حذفها وقفا (5).
وحين تلتقي الألف التي هي عوض التنوين بألف أخرى في آخر الكلمة فإن الرسم العثماني جرى على إثبات ألف واحدة، طبقا للقاعدة التي أكثر علماء السلف من التعليل بها، وهي كراهة اجتماع صورتين متفقتين في الخط، وذلك حين يكون آخر الكلمة همزة منصوبة قبلها ألف نحو (ماء، غثاء، جفاء، سواء) وما كان مثله. وقد اختلف في المحذوف من الألفين، فيجوز أن تكون التي قبل الهمزة، ويجوز أن تكون المعوضة من
__________
(1) انظر الزمخشري: الكشاف، ج 3، ص 417.
(2) انظر الدمياطي: ص 353.
(3) انظر ابن أبي داود: ص 115. والداني: المقنع، ص 39.
(4) انظر الفراء: معاني القرآن، ج 3، ص 214. والداني: المقنع، ص (3938).
(5) انظر الدمياطي: ص (429428).(1/223)
التنوين (1)، وسنشير فيما سيأتي إلى حالات تنازع الهمزة والفتحة الطويلة على صورة الألف التي يطلبها كلّ منها صورة له.
وقد ذكر علماء الرسم أن التنوين كتب نونا في الخط في كلمة واحدة، وهي (كأين) في سبعة مواضع (2)، ولم يكتب في القرآن تنوين إلا في هذا الحرف (3)، وذلك على مراد الوصل دون الوقف، والمذهبان قد يستعملان في الرسم دلالة على جوازهما فيه، كما يقول الداني (4).
2 - رسم تاء التأنيث في الأسماء هاء:
أما كتابة تاء التأنيث التي تلحق الأسماء تاء مرة وهاء مرة أخرى فقد ورد ذلك في الرسم العثماني وفي أكثر من كلمة، فمن ذلك:
كلمة (رحمة) وردت في المصحف (79) مرة، وجاءت مرسومة بالهاء إلا سبعة مواضع فقد رسمت فيها (رحمت) بالتاء (5).
ومثلها كلمة (سنّة) وردت (13) مرة، وجاءت مرسومة بالهاء إلا خمسة مواضع، رسمت فيها (سنت) بالتاء (6).
وكلمة (نعمة) وردت (34) مرة، وجاءت مرسومة بالهاء إلا أحد عشر موضعا.
رسمت فيها (نعمت) بالتاء (7).
وكذلك كلمة (امرأة) وردت (11) مرة، وجاءت مرسومة بالهاء إلا سبعة مواضع، رسمت فيها (امرأت) بالتاء (8).
__________
(1) انظر المهدوي: ص 109. والداني: المقنع، ص 26.
(2). (3/ 146، و 12/ 105، و 22/ 45، 48، و 29/ 60، و 47/ 13، و 65/ 8).
(3) كتاب الهجاء لمجهول، لوحة 15.
(4) المقنع، ص 44.
(5) انظر أبو بكر الأنباري: ج 1، ص 283. والمهدوي: ص 76. والداني: المقنع، ص 77.
(6) انظر أبو بكر الأنباري: ج 1، ص 283. والمهدوي: ص 77. والداني: المقنع، ص 78.
(7) انظر نفس المصادر: ج 1، ص 284، وص 76، وص 77على التوالي.
(8) انظر نفس المصادر: ج 1، ص 280، وص 77، وص 78.(1/224)
وكذلك جاءت لفظة (كلمة) مرسومة بالهاء إلا موضعا واحدا رسمت فيه (كلمت) بالتاء، وجاءت أيضا مرسومة بالتاء في أربعة مواضع أخرى، لكن مما اختلفت فيه القراءة، بالجمع والإفراد (1).
ورسمت (لعنة) و (معصية) بالهاء إلا موضعين رسمتا فيهما بالتاء (2).
وجاءت بضع كلمات مرسومة بالتاء في موضع واحد مثل (شجرت، وقرت، وثمرت، وبقيت، وجنت، وآيت، وبينت، وفطرت) وغيرها (3).
وإذا كانت بعض هذه الأمثلة مما وردت فيه القراءة بالجمع حيث يصبح رسمها بالتاء أمرا طبيعيا فإن معظمها لم يقرأ إلا بالإفراد (4)، ومن ثم حاول العلماء إيجاد تعليل لرسمها بالوجهين، وكان لعلماء العربية وعلماء الرسم والقراءات محاولات في العثور على ذلك التفسير، وكانت خطى الجميع متقاربة في هذا الميدان إلا أن الخليل بن أحمد وتلميذه سيبويه قد أغربا في ذلك، وربما جانبا الحقيقة والصواب حين عللا تغيّر تاء التأنيث في الوقف إلى الهاء «ليفرقوا بينها وبين الأصلية في بناء الكلمة» (5)، رغم أن التاء هي الأصل عندهما (6).
وقد اتفق معظم علماء العربية على أن التاء هي الأصل في علامة التأنيث وأن الهاء تخلفها في الوقف (7)، فجاءت معظم الأمثلة لذلك مرسومة بالهاء، ولكن قد روي عن بعض النحويين قولهم إن الهاء في المؤنث هي الأصل في الأسماء، ليفرقوا بينها وبين
__________
(1) انظر نفس المصادر: ج 1، ص 286، و 78، وص 79.
(2) انظر نفس المصادر: ج 1، ص 286، وص 7877، وص 80.
(3) انظر المهدوي: ص 78. والداني: ص 82.
(4) انظر ابن الجزري: النشر، ج 2، ص 129وما بعدها. وانظر أيضا: ابن وثيق الأندلسي: لوحة 11.
(5) الأزهري: ج 1، ص 50. وانظر سيبويه: ج 2، ص 281.
(6) المهدوي: ص 80.
(7) انظر المبرد: ج 1، ص 63. وابن جني: سر صناعة الإعراب، ج 1، ص 176. وابن يعيش: ج 9، ص 81.(1/225)
الأفعال، فتكون الأسماء بالهاء والأفعال بالتاء (1). لكن عامتهم يردون هذا المذهب للزوم التاء في الوصل الذي تجري فيه الأشياء على أصولها (2).
ولما كان الأصل أن تكتب الكلمة بحروف هجائها بتقدير الابتداء بها والوقف عليها أصبحت القاعدة العامة في رسم تاء التأنيث أن تكتب بالهاء، وقد حاول علماء السلف تعليل ما ورد مرسوما بالتاء مما مر ذكره قبل قليل. وقد انحضرت تفسيراتهم في كتابتها على الأصل الذي هو التاء، أو كتابتها على مراد الوصل (3)، فيقول أبو بكر الأنباري (4):
«وإنما كتبوها في المصحف بالهاء لأنهم بنوا الخط على الوقف، والمواضع اللاتي كتبوها بالتاء الحجة فيها أنهم بنوا الخط على الوصل». وينقل المهدوي أن بعض العلماء زعم أن ذلك من المملي والكاتب، فإن المملي كان إذا وصل الكلمة، التي فيها هاء التأنيث بالكلمة التي تليها، انقلبت الهاء تاء في الادراج فكتبها الكاتب على اللفظ بها في الوصل، وإذا قطع الكلمة مما بعدها فقال (رحمه الله) كان لفظه بالهاء، فكتب الكاتب بالهاء على لفظه (5).
واختلف القراء في الوقف على ذلك فكان أكثرهم يقف بالتاء على ما كتب من ذلك بالتاء ويقول: الوقف على ما في المصحف لا يتعدى، فما كان في المصحف بالتاء وقفت عليه بالتاء وما كان بالهاء وقفت عليه بالهاء، وقال آخرون: أنت مخير إن شئت وقفت على كل هاء للتأنيث في كتاب الله عز وجل بالهاء، وإن شئت وقفت بالتاء، فإذا وقفت بالهاء احتججت بأنك مريد للسكت، وإذا وقفت بالتاء احتججت بأنك مريد للوصل (6).
ولعل من وقف على تاء التأنيث بالتاء ورسمها كذلك يكون جاريا على لغة طائفة من
__________
(1) أبو بكر الأنباري: ج 1، ص (283282). وعلم الدين السخاوي: الوسيلة، ورقة 68أ.
والجعبري: ورقة 184أ.
(2) ابن جني: سر صناعة الإعراب، ج 1، ص 176. وانظر ابن يعيش: ج 9، ص 81.
(3) الداني: المقنع، ص 88. والجعبري: ورقة 291ب.
(4) كتاب إيضاح الوقف والابتداء، ج 1، ص 287.
(5) انظر: كتاب هجاء مصاحف الأمصار، ص (8079).
(6) أبو بكر الأنباري: ج 1، ص 281. وانظر الداني: التيسير، ص 60. والدمياطي: ص 103.(1/226)
العرب، إذ يقول سيبويه (1): «وزعم أبو الخطاب أن ناسا من العرب يقولون في الوقف طلحت كما قالوا في تاء الجميع قولا واحدا في الوقف والوصل»، وقيل إنها لغة طيئ، يقولون: حمزت وطلحت، وروي أنهم نادوا يوم اليمامة: يا أهل سورة البقرة، وتروى في ذلك بضعة أبيات من الشعر قد لزمت فيها القافية المنتهية بتاء التأنيث التاء (مسلمت، الغلصمت، أمت) (2) وربما كتبت تاء التأنيث تاء في تلك المواضع على هذه اللغة (3).
تلك هي جهود السلف في تعليل ظاهرة رسم تاء التأنيث في بعض المواضع بالتاء وفي معظمها بالهاء، وقد كان بالإمكان أن نكتفي بالقول معهم إن الكاتب كان إذا وصل الكلام كتب تاء وإذا وقف كتب هاء لولا أن بعض الظواهر في تاريخ اللغات السامية قد تم تحديد ملامح تطوره، مما شاركت فيه العربية أخواتها الساميات، وهو ما يساعد في تفهم تلك الظاهرة إن لم يضعها في إطار جديد، وذلك أن التأنيث في الساميات كلها لم تكن له علامة سوى التاء (4)، لكن هذه العلامة قد خضعت للتطور على مر الأيام، ويتجلى ذلك في العربية على نحو ما بينه علماء السلف، ومما لا نزال نشهده في الفصحى، من الوقف على تاء التأنيث بالهاء والاحتفاظ بها في الوصل تاء، ويبدو أن ذلك التطور لم يقف عند حد حلول الهاء محل التاء بل تجاوزه إلى أن تخلف الهاء حركة قصيرة أو طويلة على ما يرسمه النموذج الآتي لتطور تلك الهاء (5): ونقف هنا عند أولى مراحل ذلك التطور، وهي مرحلة الهاء (6)، لأنها هي التي تحمل إمكانية تفسير المشكلة التي نحن بصددها، إذ بدأ الكتاب يكتبون التاء هاء على
__________
(1) الكتاب، ج 2، ص 281. وانظر الصولي: ص 249. وابن جني: سر صناعة الإعراب، ج 1، ص 176. وابن فارس: ص 19. وابن يعيش: ج 9، ص 81.
(2) المهدوي، ص 80. وانظر أيضا ابن جني: سر صناعة الإعراب، ج 1، ص 177. والخصائص (له) ط 2، القاهرة، دار الكتب المصرية (19561952)، ج 1، ص 304.
(3) انظر علم الدين السخاوي: الوسيلة، ورقة 68أ.
(4) د. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص 83.
(5) نفس المصدر، ص 84.
(6) ما بعد ذلك من مراحل إنما نجده في لهجاتنا العربية الدارجة مما ليس له محل في دراستنا هذه (انظر جان كانتينو: دروس في علم أصوات العربية (مترجم)، تونس: الجامعة التونسية 1966، ص 57).(1/227)
نحو ما يقفون عليها، لكن الكتابة كما ذكرنا في أكثر من مكان من هذا البحث، أقل استجابة لتمثيل الظواهر الجديدة في اللغة، وتميل إلى الاحتفاظ بصور الكلمات على حالتها رغم ما قد يطرأ عليها من تطور في النطق، فظلت تاء التأنيث ترسم تاء حتى في الوقف لكنها على المدى الطويل بدأت تستجيب للظاهرة الجديدة التي ربما بدأت تدخل مرحلة أخرى من التطور، وتعطينا الكتابة النبطية والكتابة العربية القديمة مؤشرات لمراحل ذلك التطور، فقد كانت الأسماء المؤنثة تكتب في النبطية بالتاء في معظم الأحوال مثل: خلت (خالة)، ويلت (وائلة)، غزلت (غزالة)، ملكت (مليكة)، ريفت (رائفة) إلخ (1) وترينا بعض النقوش النبطية التي ترجع إلى القرن الثالث والرابع الميلاديين كلمة (سنة) مكتوبة بالتاء (سنت) (2) كذلك نجد هذه الكلمة بالتاء في نقش حران (سنة 568م) ونقش القاهرة (سنة 31هـ)، ومما يلفت النظر في نقش القاهرة أنه بينما يحتفظ بهذا الشكل القديم لطريقة كتابة تاء التأنيث يقدم لنا في نفس الوقت الشكل الجديد وهو كتابتها بالهاء في كلمة (رحمة).
وبناء على ذلك يمكن القول بأن رسم تاء التأنيث بالتاء في تلك الكلمات المشار إليها يحتمل أن يكون احتفاظا بالصورة القديمة لرسم تلك الكلمات وهو ما أرجحه رغم أن الاستعمال قد تجاوز المرحلة التي استندت إليها تلك الصورة، ويحتمل أنها تمثل نطقا حيا لتلك الظاهرة التي تحتفظ بالتاء في حالة الوقف، إلا أن ذلك كله لا يمنع أن يكون الكاتب جرى في كتابة تلك الكلمات على وصل الكلام حيث تلفظ بالتاء ومع أنه من غير اليسير القطع هنا بأحد هذه الاحتمالات إلا أنه يجب أن يكون فهم تلك الظاهرة من خلال الإطار الذي يرسمه التطور التاريخي لها.
وقد اختلف في حقيقة الهاء التي تخلف تاء التأنيث في الوقف، فمن الباحثين من يذهب إلى أن هذه الهاء ما هي إلا امتداد للنفس مع فتحة تاء التأنيث التي تسقط في الوقف لأن العرب تنفر من الوقف على الفتحة، وسقوطها يجعل صيغة المؤنث تلتبس بصيغة المذكر، فأبقوا عليها لكن مع امتداد النفس، فظهر كأنما هو صوت الهاء، وخيّل
__________
(1) انظر د. جواد علي: ج 7، ص 301.
(2) انظر خليل يحيى نامي: ص 66نقش 17، وص 67نقش 18، وص 67نقش 19، وص 70نقش 21، وص 71نقش 22، وهو نقش النمارة المؤرخ سنة 328.(1/228)
للنحاة أن تاء التأنيث قد قلبت هاء، وهذه الهاء هي ما سماه النحاة في مواضع أخرى بهاء السكت (1)، ولكن مع التسليم بانتفاء العلاقة الصوتية بين التاء والهاء التي تتيح حدوث الإبدال أو القلب (2)، فإن الهاء قد ثبتت في النطق بعد سقوط أو حذف التاء، أما كونها هاء للسكت وتوهمها النحاة منقلبة عن التاء فإن ذلك لا يغير من حقيقة كونها هاء، خاصة أن إثباتها هاء في الرسم العثماني قد جاء سابقا لعصر النحاة حين كانت الكتابة تستجيب بمرونة أكثر لتسجيل الظواهر اللغوية بعيدا عن التحديد والقواعد المطردة التي قعّدها النحاة، ويكفي للدلالة على أن هناك هاء تخلف التاء أن الكتاب في عصر نسخ المصاحف أثبتوها هاء استجابة لواقع صوتي مسموع.
3 - هاء السكت في الرسم العثماني:
والملاحظة الأخيرة تنقلنا إلى الكلام عن ظاهرة تتعلق بزيادة هاء في نهاية هجاء بضع كلمات وردت في الرسم العثماني، وقد عرفت تلك الهاء عند علماء العربية بهاء السكت، أما الكلمات التي لحقتها تلك الهاء فإنها سبع هي في (3): (لم يتسنّه، اقتده، كتابيه، حسابيه، ماليه، سلطانيه، ماهيه) (4).
وقد أشرنا من قبل إلى أن القاعدة العامة في اللغة العربية هي الوقف بالسكون، أي أنها تكره الوقف على المقطع المفتوح (5)، ولهذا فإن الحركات القصيرة في آخر الكلمات غالبا ما تسقط عند الوقف، إلا أن بعض الكلمات المبنية قد تنتهي بحركة متوغلة في البناء حسب تعبير النحاة (6) فتلزم في الوقف كما لزمت في الوصل، لكن العربي كما قلنا ينفر من الوقف على المقطع المفتوح، فيطيل نفسه بعد هذه الحركة بحيث
__________
(1) د. إبراهيم أنيس: من أسرار اللغة، ط 3، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1966، ص 220.
وانظر أيضا: في اللهجات العربية (له)، ص (137136).
(2) انظر د. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص 83.
(3) انظر ابن خالويه: إعراب ثلاثين سورة، ص 164.
(4) وهي في (البقرة 2/ 259، والأنعام 6/ 90، والحاقة 69/ 16و 25، والحاقة أيضا 69/ 20و 26، والحاقة كذلك 69/ 28، والحاقة 69/ 29، والقارعة 101/ 10) على التوالي.
(5) انظر د. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص 78.
(6) انظر ابن يعيش: ج 10، ص 2.(1/229)
تتولد هاء، فيكون ذلك أمارة على أن الحنجرة قد لفظت آخر أصواتها الكلامية (1)، وتكون وظيفة هذه الهاء تبين الحركة التي قبلها (2)، وجملة القول في ذلك هو أن الغالب الشائع في اللغة العربية أن تلحق هاء السكت أصوات الحركات القصيرة عند الوقف بشرط أن تكون جزءا من بنية الكلمة يحرص المتكلم على إظهارها، وعلى هذا لا تلحق هاء السكت حركات الإعراب (3).
وقد وردت الرواية بالوقف بالهاء المذكورة عن يعقوب بن أبي إسحاق الحضرمي (ت 205هـ) القارئ البصري بعد أبي عمرو، وعن البزي (أحمد بن محمد المكي ت 250هـ) في بعض حالات الوقف على ما كان منتهيا بفتحة بناء أو شبهه دون أن يكون ذلك ثابتا في الرسم (4)، وكذلك بيّن علماء العربية مذاهب العرب في زيادة تلك الهاء عند الوقف (5)، ومن ثم فإن إثبات الهاء في رسم تلك الكلمات إنما هو أثر من آثار هذه الظاهرة، فقد استجاب الكاتب في رسم هذه الكلمات لما هو ملفوظ ومسموع من نطقها، والقراء مجمعون بالوقف عليها بالهاء، واختلفوا إذا أدرجوا في إثباتها وحذفها (6).
وقد مرت من قريب الإشارة إلى أثر تناسب رءوس الآي وطلب التناسق الصوتي بينها في إثبات الألف في بعض الكلمات المقترنة بأل، ونجد هنا أيضا أثر ذلك في إثبات هاء السكت، فإن الكلمات المشار إليها ما عدا (يتسنه واقتده) التي جاءت فيها الهاء لتبيين الحركة القصيرة المتبقية من الحركة الطويلة التي قصرت بسبب الجزم أو الطلب جاءت في نهايات آيات تجاورها آيات تنتهي عند الوقف بهذا المقطع الصوتي (ليه) أو ما بوزنه، والذي الهاء فيه عوض عن تاء التأنيث، فلما جاءت هذه الكلمات
__________
(1) د. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص 86.
(2) انظر سيبويه: ج 2، ص 289. وأبو بكر الأنباري: ج 1، ص 306. وابن خالويه: إعراب ثلاثين سورة، ص 164.
(3) د. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص 85. وانظر ابن يعيش: ج 10، ص 2.
(4) ابن الجزري: النشر، ج 2، ص (136134)، وانظر الداني: التيسير، ص 61. والدمياطي:
ص 104.
(5) انظر سيبويه: ج 2، ص (279277).
(6) انظر أبو بكر الأنباري: ج 1، ص 306. وابن خالويه: إعراب ثلاثين سورة، ص 164.(1/230)
في نهاية آيات وردت مع تلك الآيات المنتهية بذلك المقطع فقد حتم التناسب الصوتي لنهايات الآيات عند الوقف أن يتحول المقطع (لي) الذي تنتهي به تلك الكلمات، أو ما بوزنه، إلى (ليه) بزيادة الهاء الساكنة، ولنتأمل هذه الآيات وطريقة الوقف على رءوسها {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لََا تَخْفى ََ مِنْكُمْ خََافِيَةٌ (18) فَأَمََّا مَنْ أُوتِيَ كِتََابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هََاؤُمُ اقْرَؤُا كِتََابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلََاقٍ حِسََابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رََاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عََالِيَةٍ (22) قُطُوفُهََا دََانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمََا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيََّامِ الْخََالِيَةِ (24) وَأَمََّا مَنْ أُوتِيَ كِتََابَهُ بِشِمََالِهِ فَيَقُولُ يََا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتََابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مََا حِسََابِيَهْ (26) يََا لَيْتَهََا كََانَتِ الْقََاضِيَةَ (27) مََا أَغْنى ََ عَنِّي مََالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطََانِيَهْ (29)} [الحاقة]، كذلك نجد أثر ذلك في كتابة (هي) بالهاء في آخرها (هيه) في سورة القارعة (101/ 10) حين تتتابع رءوس الآي هكذا (هاوية
ماهيه حامية).
ودراسة ظاهرة إثبات هاء السكت في تلك الكلمات من خلال السياقات التي وردت فيها ترينا أن دور هذه الهاء قد تجاوز مجرد المحافظة على الحركة القصيرة وتبيينها، كما في المثالين (يتسنه، واقتده)، إلى وظيفة صوتية تنغيمية في الكلمات الأخرى حين تتألف مع ذلك الوقع الذي يتصاعد مع رءوس الآيات على طول السورة كلها والذي يساهم في تشكيل الجو الذي ترسمه معاني كلماتها.
رابعا: الأحرف المقطعة في الرسم العثماني:
ونشير قبل أن ننتهي من هذا المبحث الذي بيّنا فيه القاعدة التي سار عليها كتبة المصاحف في تمثيل الأصوات الصامتة برموز مكتوبة إلى الحروف المقطعة التي جاءت في مطلع تسع وعشرين سورة، منها مات ورد مرة واحدة، ومنها ما تكرر وروده في مطلع أكثر من سورة، وهي (الم، المص، الر، المر، كهيعص، طه، طسم، طس، يس، ص، حم، حم عسق، ق، ن). وقد كتبت هذه الحروف بأول حرف من أسمائها لأن المقصود هو مسميات تلك الحروف لا أسماؤها، إذ لو قصد الاسم لكانت الكتابة على نحو الملفوظ، (ألف، لام، ميم) مثلا (1).
أما كتابتها موصولة في الهجاء فقد تحدث عن ذلك أبو بكر الأنباري، فقال: «إن قال قائل كيف كتبوا في المصحف (الم، والمر، والر) موصولا، والهجاء مقطع لا ينبغي
__________
(1) القلقشندي: ج 3، ص 178177. وانظر الزركشي: ج 1، ص 172.(1/231)
أن يتصل بعضه ببعض لأنك لو قال لك قائل: ما هجاء (زيد) لكنت تقول (زاي ياء دال) وتكتبه مقطعا لتفرق بين هجاء الحرف وبين قراءته؟ فيقال: إنما كتبوا (المر) وما أشبهه موصولا لأنه ليس بهجاء لاسم معروف، وإنما هي حروف اجتمعت يراد بكل حرف منها معنى، ولو قطعت إذ جزمت لكان صوابا، فإن قال قائل: لم كتبوا (حم عسق) بقطع الميم من العين، ولم يقطعوا (المص) و (كهيعص)؟ قيل له: (حم) قد جرت في أوائل سبع سور فصارت كأنها اسم للسور، فقطعت مما قبلها لأنها كالمستأنفة (1).
__________
(1) إيضاح الوقف والابتداء: ج 1، ص 480479. وانظر الزركشي: ج 1، ص 430.(1/232)
المبحث الثالث رموز الحركات في الرّسم العثماني
أصوات الحركات في اللغة العربية من حيث النوع ثلاث، هي الفتحة والكسرة والضمة، ومن حيث الكمية ست، إذ إن لكل حركة كميتين: قصيرة وطويلة. وقد غلبت تسمية الحركات القصيرة بالفتحة والكسرة والضمة، أما الحركات الطويلة التي تنشأ من إطالة الحركات القصيرة ضعفا أو أكثر (1)، فقد غلبت تسميتها بحروف المد واللين.
وقد بلغ ابن جنّي في تصوير العلاقة بين الحركات القصيرة والطويلة من الوضوح والدقة حدا لا تملك الدراسات الحديثة إلا تأكيد ما قاله في ذلك وترديده، فهو يقول (2): «إن الحركات أبعاض حروف المد واللين، وهي الألف والياء والواو، فكما أن هذه الحروف ثلاثة فكذلك الحركات ثلاث، وهي الفتحة والكسرة والضمة، فالفتحة بعض الألف، والكسرة بعض الياء، والضمة بعض الواو، وقد كان متقدمو النحويين يسمون الفتحة الألف الصغيرة، والكسرة الياء الصغيرة، والضمة الواو الصغيرة، وقد كانوا في ذلك على طريق مستقيمة ويدلك على أن الحركات أبعاض لهذه الحروف أنك متى أشبعت واحدة منهن حدث بعدها الحرف الذي هي بعضه» ويقول بعد ذلك (3): «فقد ثبت بما وصفناه من حال هذه الأحرف أنها توابع للحركات ومتنشئة عنها، وأن الحركات أوائل لها وأجزاء منها، وأن الألف فتحة مشبعة، والياء كسرة مشبعة، والواو ضمة مشبعة».
ونشير هنا إلى ما ذكرناه في المبحث السابق من ضرورة استحضار التمايز بين الحركات الطويلة الثلاث وبين الصوامت الثلاثة: الهمزة والياء والواو من جانب، وبين
__________
(1) انظر ابن جني: الخصائص، ج 3، ص 121. وابن سينا: ص 17.
(2) سر صناعة الإعراب، ج 1، ص (2019). وانظر الفخر الرازي (محمد بن عمر): مفاتيح الغيب، المشهور بالتفسير الكبير، ط 1، المطبعة الخيرية بمصر، 1307هـ، ج 1، ص 16.
(3) سر صناعة الإعراب، ج 1، ص 26.(1/233)
ارتباطها برموز واحدة من جانب آخر، كذلك يجب أن نفرق بين المصطلحات التي تستعمل في الحركات وفي الصوامت، فسوف نستعمل مصطلح الحركات الطويلة في مثل: حامد، يقول، عيد، وإن كان اسم الألف الذي هو في الأصل الاسم القديم للهمزة قد غلب على الفتحة الطويلة، أما في نحو رأس، قول، بيع، فسوف نستعمل مصطلح الهمزة والواو والياء على التوالي.
وقد بينا في الفصل التمهيدي، أن الكتابة العربية قبل الرسم العثماني كانت مجردة من أي علامة أو رمز للإشارة إلى الحركات القصيرة، أما الحركات الطويلة فقد بينا أن الكتابة العربية ورثت عن النبطية والكتابات السامية نظام الإشارة إلى الكسرة والضمة الطويلتين باستعمال رمزي الواو والياء الصامتين (أو ما يسمى بأنصاف الحركات) والذي كانت الكتابة الآرامية رائدة في ذلك الاستخدام منذ القرن التاسع أو الثامن قبل الميلاد، لكن الكتابات السامية لم توفق في تمثيل الفتحة الطويلة برمز معين حتى تمكنت الكتابة العربية قبل الرسم العثماني أن تكمل ما كانت الكتابة النبطية المتأخرة قد بدأت به من استعمال رمز الهمزة (الألف القديمة) لتمثيل الفتحة الطويلة في نهاية الكلمات فاستطاعت الكتابة العربية أن تعمم ذلك الاستعمال سواء أكانت الفتحة الطويلة في نهاية الكلمة أم في وسطها، لكن استعمال رمز الفتحة الطويلة ظل غير تام الشيوع في وسط الكلمات، وربما كان يحتاج قرونا حتى يمكن أن يصل إلى المرحلة التي بلغها استعمال رمزي الكسرة والضمة التي مضت عليه قرون عدة، لولا ما تهيأ للكتابة العربية بعد الإسلام من فرصة الاستعمال الواسع، فحرص الكتاب على تعميم ذلك الاستعمال منذ وقت مبكر (1).
__________
(1) لا يعنينا كثيرا هنا تحديد العوامل التي أدت إلى ذلك الاستخدام المزدوج لتلك الرموز الثلاثة، ولذلك فسنكتفي بإشارة موجزة إلى تلك القضية المتعلقة بأصوات اللغة وتاريخ تطورها من جانب، وبالكتابة ومواكبتها لتطور ظواهر اللغة من جانب آخر، فيذهب بعض اللغويين المحدثين (انظر د. كمال محمد بشر: دراسات في علم اللغة، ق 1، ص 59، وص 73وما بعدها، وانظر أيضا د. رمضان عبد التواب: ص 354وما بعدها) إلى أن ذلك الاستخدام يرجع إلى تطور أصوات الهمزة والواو والياء الصوامت في أمثلة معينة إلى أصوات الحركات الطويلة، ولكن ظلت صور كتابة تلك الأمثلة محافظة على رموزها قبل ذلك التطور ومن ثم حدث ذلك الازدواج في دلالة رموز تلك الأصوات الصامتة الثلاثة فهي من جانب رموز لأصوات صامتة بأصل استعمالها، ولكنها بحكم ما آلت إليه تلك الأصوات الصامتة صارت تشير أيضا لأصوات(1/234)
وقد استخدم كتبة المصحف من الصحابة رضوان الله عليهم الكتابة العربية بما كانت تتميز به من خصائص في تمثيل الأصوات الصامتة وبما بلغته في محاولتها في تمثيل الحركات الطويلة في تسجيل النص القرآني، فجاءت الإشارة إلى الكسرة والضمة الطويلتين أقرب إلى الكمال من الإشارة إلى الفتحة الطويلة، لما ذكرناه من قدم استخدام رمزي الواو والياء لتمثيلها، وحداثة استخدام رمز الهمزة (الألف) في تمثيل الفتحة الطويلة التي أثبتها نسّاخ المصاحف في وسط بعض الكلمات دون البعض الآخر، وسنلاحظ أن إثبات رمز الفتحة الطويلة في وسط الكلمات كان يخضع بصورة عامة إلى أساس يتضح من تتبع الأمثلة التي جاءت مثبتة فيها والأمثلة التي لم تثبت فيها، وخلاصة ذلك أنه كان يخضع لحجم الكلمة أي عدد الرموز الذي يتكون منه هجاؤها، فكلما ازدادت كان ذلك مسوغا لعدم إثبات رمز الفتحة الطويلة، على ما سنبين بعد قليل.
على أن إثبات رموز الحركات الطويلة الثلاث وحذفها كان يخضع إلى جانب ذلك إلى عوامل أخرى منها ما سماه علماء السلف بكراهة اجتماع صورتين متفقين في الخط (1)، ويبدو أن هذه الكراهة لم تكن لمجرد تتابع صورتين متشابهتين في الخط وإنما كانت أيضا تشير إلى مرحلة من مراحل استخدام رموز الحركات الطويلة فقد كان الكتاب يحرصون على إثبات رمز الضمة والكسرة الطويلتين إلا حين يقترن بالضمة الطويلة واو وبالكسرة الطويلة ياء، فيكتفي الكاتب بإثبات رمز الواو والياء، ويهمل الإشارة إلى رمزي الحركتين الطويلتين اكتفاء بالمثبت من رمزي الواو والياء، أما في حالة الإشارة إلى الفتحة الطويلة فإنها بالإضافة إلى خضوعها لمرحلة كراهة اجتماع صورتين متفقتين في الخط فإن نظام الإشارة إليها لم يكن قد استقر وتكامل في مرحلة نسخ المصاحف العثمانية على ما هو مبين حتى أنه في حالة اجتماع ما يقتضي إثبات رموز ثلاثة ألفات لا يثبت الكتابة إلا رمزا واحدا، على نحو ما يتضح من الأمثلة
__________
الحركات الطويلة، ومرحلة هذا الطور تمت كما ذكرنا من قبل في الكتابة الآرامية قبل الميلاد ببضعة قرون بالنسبة للواو والياء، وبعد الميلاد بعدة قرون بالنسبة لرمز الهمزة (الألف) الذي تم تطوره في الكتابة النبطية المتأخرة للإشارة إلى كل من الهمزة والفتحة الطويلة.
(1) انظر: ص 87من الفصل التمهيدي.(1/235)
التي سنوردها بعد قليل.
وإلى جانب ذلك فإن الطبيعة الصوتية للحركات الطويلة تستجيب أكثر من غيرها للتأثر الذي يلحقها في الكلام المتصل أو بسبب الموقع الذي تأتي فيه الكلمة التي تتضمن مثل تلك الحركات، ففي كثير من اللغات تنفرد القطعة النهائية من الكلمة بمعاملات خاصة لا تعرفها القطعة المبدئية ولا القطع الداخلية، وأهم ما تتميز به هو كونها خائرة (1)، فوقوع الحركات الطويلة في نهاية الكلمات يعرضها هذا الموقع، أكثر من غيره إلى التقصير أو الحذف (2)، حتى أن اللغة العربية قد جعلت من تقصير الحركة الطويلة في الأفعال المنتهية بها علامة على وقوع الفعل بعد أداة جزم، وتولدت في اللغة العربية أيضا كراهات من بعض التراكيب من مثل كراهة الاحتفاظ بحركة طويلة في المقطع المقفل، وقد أدت هذه الكراهة دورا هاما في شكل الكلمة العربية (3).
ولما كانت الكتابة العربية قد أهملت في تلك الفترة الإشارة إلى الحركات القصيرة برمز معين واكتفت بتمثيل الحركات الطويلة برموز مستقلة فإن أي تقصير يلحق الحركة الطويلة سيؤدي إلى حذف رمزها، خاصة إذا كان ذلك التقصير ذا دلالة معينة في التركيب (دلالة نحوية)، أما إذا كان التقصير لمجرد اتصال الكلمات في السياق المنطوق فإن الكاتب سيكون بين الاحتفاظ بصورة الكلمة قبل ورودها في السياق الذي أدى إلى ذلك التقصير، وبين الاستجابة لتمثيل نطقها الجديد «وذلك من حيث عاملوا في كثير من الكتابة اللفظ والوصل دون الأصل والقطع» (4).
ويلاحظ في تمثيل الحركات الطويلة أن إثبات رمزي الياء والكسرة الطويلة مقترنين قد ورد في بعض الكلمات دون رمزي الواو والضمة الطويلة، وربما يكون التعليل لذلك بطبيعة صورة كل من الياء التي لا يحتاج رسمها إلى نقل يد الكاتب والواو التي يحتاج
__________
(1) انظر فندريس: ص 88.
(2) انظر برجشتراسر: ص 44، ويقول (43): «والأرجح أن كل الحركات الانتهائية كانت تقصر في اللغة السامية الأم في بعض المواضع ولا نعرف أيها».
(3) هنري فليش: ص 46. وانظر د. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص 56.
(4) الداني: المحكم، ص 158، وسوف أورد أمثلة لحالات تقصير الحركات الطويلة وحذف رموزها في الفقرات الآتية من هذا المبحث، عند الكلام عن كل رمز من الحركات الطويلة على حدة.(1/236)
رسمها إلى ذلك صحيحا (1)، وربما دل ذلك على مرحلة من مراحل تطور استخدام كلا الرمزين.
أما أن يكون سبب حذف رموز الحركات الطويلة في الحالات التي جاءت فيها غير مثبتة الاستخفاف والاختصار في الخط (2)، أو الاستغناء عنهن باللفظ (3)، كما علل بعض علماء السلف، فإن ذلك يبدو غير منسجم مع الواقع، بعد أن بينا تاريخ تطور استخدام رموز الحركات الطويلة، ومثل ذلك أيضا التعليل بكثرة الألفات والواوات والياءات في الرسم، كما ذهب إلى ذلك أبو عمر الطلمنكي (أحمد بن محمد ت 429هـ) فقد قال في كتاب الرد والانتصار (4): إن الألفات إنما حذفن من الرسم لكثرتهن لأن عدد ألفات القرآن على قراءة نافع ثمانية وأربعون ألفا وسبعمائة وأربعون، فلو ثبتت هذه الألفات كلها لصار المصحف كله ألفات. وكذلك الواوات والياءات حذفن لكثرتهن، ولاستثقال حرفين متشابهين في كلمة واحدة، وذلك أن في القرآن العظيم خمسة وعشرين ألف واو وخمسمائة وستة. ومن الياءات خمسة وعشرون ألفا وتسعمائة وتسعة.
إن تأمل كلام أئمة الرسم في عدم إثبات رموز الحركات الطويلة، ورمز الفتحة منها خاصة يوحي أنهم كانوا يظنون أن تلك الرموز كانت في يوم ما مستعملة يثبتها الكتاب في كل حالات ورودها في الكلمة، وفي فترات لا حقة رأى الكتاب التخفف من كتابة رموز تلك الحركات «فحذفت من الخط استخفافا، وإذا كانت قد تحذف من اللفظ
فحذفها في الخط أيسر» (5). واستخدام كلمة (الحذف) هنا يشير وحده إلى هذا الذي نقوله عن فهمهم للمشكلة، التي كشف البحث التاريخي في اللغة والكتابة عن حقيقة أبعادها، والتي غاب جانب كبير منها عن علماء السلف فأوقعهم ذلك في تلك الحيرة
__________
(1) انظر: جامع الكلام في رسم المصحف الإمام (لمجهول)، مخطوط في دار الكتب المصرية، ورقة 4ب.
(2) انظر ابن قتيبة: أدب الكاتب، ص 229. والمهدوي: ص 123. ومكي بن أبي طالب: الكشف عن وجوه القراءات السبع، دمشق، مجمع اللغة العربية، 1974، ج 1، ص 331. وعلم الدين السخاوي: الوسيلة، 15ب و 16/ أ. والرازي: مفاتيح الغيب، ج 1، ص 57.
(3) اللبيب، ورقة 20أ.
(4) نقلا عن اللبيب، ورقة (20أ 20ب). وانظر أبو داود سليمان بن نجاح: لوحة 4.
(5) المهدوي: ص 123.(1/237)
في فهم الظواهر أحيانا، والتعسف في تفسيرها أحيانا أخرى، ومع ذلك فإن رواية عيسى بن مينا قالون عن نافع بن أبي نعيم القارئ المدني التي يوردها الداني في حذف رمز الفتحة الطويلة تلفت النظر، وهي أنه «قال الألف غير مكتوبة يعني في المصاحف في قوله» (1). فاستعمال تعبير (غير مكتوبة) أكثر دقة ودلالة على الواقع، وربما دل ذلك على أن المتقدمين كانوا أكثر تفهما للظاهرة وأصولها لقرب عهدهم من تلك الفترة.
وبعد هذا البيان الموجز لتاريخ استخدام رموز الألف (الهمزة) والواو والياء الصوامت لتمثيل الحركات الطويلة نحاول أن نعرض لكل رمز منها وكيفية استخدام كتبة المصحف له، وما يتعلق بذلك من ظواهر ومشكلات يثيرها الرسم العثماني، ومحاولة وضع ذلك في إطاره الصحيح على ضوء ما بيناه من تاريخ الظاهرة.
أولا: رمز الكسرة الطويلة:
استخدمت الكتابة العربية رمز صوت الياء الصامت (ي) لتمثيل الكسرة الطويلة (ياء المد)، ونجد ذلك الاستعمال في الرسم العثماني حيث مثلت الكسرة الطويلة بنفس رمز الياء، ولكننا نجد أن ذلك التمثيل قد خضع لعوامل متعددة أثرت في طريقة الإشارة إلى الكسرة الطويلة فجاء رمزها مثبتا مرة وغير مثبت أخرى خاصة في آخر الكلمة.
1 - تمثيل الكسرة الطويلة المتوسطة:
ويجب أن نلاحظ اطراد إثبات رمز الكسرة الطويلة في وسط الكلمة سواء جاءت الكسرة الطويلة في الكلمة ثانية أو غير ذلك، في الفعل والاسم على السواء، والأمثلة في المصحف على ذلك أكثر من أن تستقصى، فمن ذلك مثلا ما ورد في فاتحة الكتاب وحدها (الرحيم، العلمين، الدين، نستعين، المستقيم، الذين، الضالين)، إلا إذا جاء رمز الياء والكسرة الطويلة متتابعين في كلمة واحدة فإنهما يخضعان أحيانا لما سماه علماء السلف (بكراهة اجتماع صورتين متفقتين في الخط) فلا يثبت إلا رمز إحداهما (2)،
__________
(1) المقنع، ص 10.
(2) يرى الداني (المقنع، ص 46) أن الأولى هي المحذوفة، وأن الثانية التي هي مع النون علامة للجمع هي الثابتة، وخالفه في ذلك تلميذه أبو داود سليمان بن نجاح الذي يرى (التنزيل، لوحة(1/238)
فقد اتفقت المصاحف على حذف إحدى الياءين إذا كانت الثانية علامة للجمع وذلك في نحو (النبين، الأمين، ربنين، الحوارين)، وما كان مثله، إلا موضعا واحدا، فإن المصاحف اجتمعت على رسم ياءين فيه على الأصل واللفظ، وهو قوله {لَفِي عِلِّيِّينَ (18)}
[المطففين]، ولكن علينا ملاحظة أن الياء هنا مشددة، وكذلك جاء بإثبات رمزي الياء والكسرة الطويلة في وسط الكلمة ما كان من ذلك في الفعل نحو قوله أفعينا بالخلق الأوّل (15) [ق] فإن المصاحف اجتمعت على رسمه بياءين على اللفظ والأصل، وكذلك اجتمعت على رسمهما في (يحييكم وحييتم ويحييها ويحيين)، وما كان مثله، إذا اتصل به ضمير، فإن لم يتصل به ضمير ووقعت الياء طرفا نحو: نحى ونميت (24) [الحجر] إنّ الله لا يستحى (26) [البقرة] وأنت ولى (101) [يوسف] فقد رسم بياء واحدة (1).
وبذلك تكاد الإشارة إلى رمز الكسرة الطويلة في غير طرف الكلمة تكون كاملة (2)، حتى في حالة اجتماعها مع الياء إلا في جمع المذكر السالم ومع ذلك فقد جاءت {عِلِّيِّينَ (28)} [المطففين] بياءين وكذلك وجدت كلمة {الْأُمِّيِّينَ} * [آل عمران: 75] بياءين في مصحف طشقند.
2 - تمثيل الكسرة الطويلة في آخر الكلمة:
أما إثبات رمز الكسرة الطويلة في آخر الكلمة فقد خضع لما قد يصيبها في النطق من تقصير يؤدي أحيانا إلى حذف صورتها في الرسم، فإذا كنا قد وجدنا أن الإشارة إلى
__________
15) أن الثانية هي المحذوفة.
(1) انظر المهدوي: ص 111. والداني: المقنع، ص (5049). والعقيلي: لوحة 5، وقد رأيت في مصحف طشقند ومصحف جامع عمرو بن العاص في دار الكتب المصرية إثبات الرمزين في مثل هذه الأمثلة خاصة ما جاء من الأفعال من مادة (الحياة). انظر مصحف طشقند (البقرة 2/ 258 و 260، ويس 36/ 12)، ومصحف عمرو (يونس 10/ 56، والحج 22/ 6، والمؤمنون 23/ 80، ويس 36/ 12، وغافر 40/ 68، والشورى 42/ 9، والحديد 57/ 2).
(2) جاءت كلمة (إبراهيم) مرسومة بدون الياء في البقرة خاصة، وهي في كل القرآن بالياء (انظر الداني: المقنع، ص 34) ولعل ذلك الرسم كان متأثرا بالقراءة التي تروى عن ابن عامر (إبراهام) بالألف (وانظر د. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص 299و 394) أو لعله متأثر بصورة رسمها في بعض الكتابات السامية الأخرى.(1/239)
رمزها في وسط الكلمة تكاد تكون كاملة فإنا نجدها في هذه الحالة محذوفة من الرسم في أغلب الأحيان، وعلينا هنا أن نحاول تحديد العوامل التي أدت إلى ذلك، ويبدو أنها ترجع كلها إلى تقصير الكسرة الطويلة في اللفظ أو حذفها منه فجرى الكتاب في الرسم على اللفظ (1).
أحذف رمز الكسرة الطويلة في الفواصل:
وقد أشرنا في مطلع هذا المبحث إلى أن الحركات الطويلة تكون أكثر تعرضا للتقصير في أواخر الكلمات مما لو كانت في وسطها، والكسرة الطويلة التي يحذف رمزها في آخر الكلمة غالبا ما تكون علامة ضمير المتكلم أو لاما للكلمة، فعلا كانت أو اسما.
وقد أشار سيبويه إلى أن من مذاهب العرب حذف الياء (الكسرة الطويلة)، التي هي ضمير، في الوقف، وذلك نحو قولك: هذا غلام، وأنت تريد غلامي وقد أسقان وأسقن، وأنت تريد أسقاني وأسقني، لأن من كلامهم أن يحذفوا في الوقف ما لا يذهب في الوصل (2)، وكذلك أشار إلى أن من العرب من يحذفها مما فيه الألف واللام نحو القاضي في حالة الوقف أيضا (3)، وقد أشار الفراء إلى أن حذف الياء من ذلك جائز في كلام العرب سواء أكانت ضميرا أم من بنية الكلمة، حيث يقول (4): «وليست تهيّب العرب حذف الياء من أواخر الكلام إذا كان ما قبلها مكسورا (5)، من ذلك {رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)} و {أَهََانَنِ (16)} [الفجر]، وقوله: {أَتُمِدُّونَنِ بِمََالٍ (36)} [النمل] ومن غير النون (المناد) و (الداع)، وهو كثير، ويكتفى من الياء بكسر ما قبلها». ويقول
__________
(1) يقول برجشتراسر: (التطور النحوي، ص 44)، «وأما في رسم القرآن فكثيرا ما تحذف الياء الدالة على الكسرة الممدودة في أواخر الكلمات ضميرا كانت أو غيرها نحو يقوم، ودعان والداع، ويوم يأت، وذلك يدل على أن الكسرة الممدودة الانتهائية كانت تقصر في لهجة الحجاز في كثير من الحالات».
(2) الكتاب، ج 2، ص 289. وانظر: ص 292أيضا.
(3) ج 2، ص 288. وانظر أيضا الصولي: ص 252، ومكي: الكشف، ج 1، ص 331. وابن يعيش:
ج 9، ص 75.
(4) معاني القرآن، ج 1، ص 90.
(5) يعتقد علماء السلف أن ياء المد تسبقها كسرة قصيرة فيكتفى بها منها عند حذفها، لكن الذي تؤكده الدراسات الصوتية هو أن ياء المد ما هي إلا كسرة طويلة قد يلحقها التقصير أو الحذف.(1/240)
أيضا (1): «العرب قد تحذف الياء وتكتفي بكسر ما قبلها منها».
وكما كان تناسب الفواصل أو رءوس الآي عند الوقف عاملا في زيادة أصوات على آخر بعض الكلمات مثل (السبيلا وحسابيه)، كان أيضا سببا في حذف أو تقصير أصوات الحركات في أواخر بعض الكلمات في الوقف خاصة، وقد استجاب لذلك كتبة المصاحف، فحذفوا رمز الكسرة الطويلة في معظم ما جاء من ذلك في رءوس الآي، يقول سيبويه (2): «وجميع ما لا يحذف في الكلام، وما يختار فيه أن لا يحذف، يحذف في الفواصل» ثم يقول «وهذا جائز عربي كثير».
وقد جرى حذف رمز الكسرة الطويلة في الفواصل سواء أكانت علامة للضمير مسبوقة بالنون في الأفعال أم كانت علامة للضمير متصلة بالأسماء أم كانت لاما للكلمة في اسم أو فعل، فمثال ما كانت فيه علامة للضمير في الأفعال قوله سبحانه: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذََا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)}
[الشعراء]، ومما يلفت النظر هنا أن ثلاثا من هذه الآيات قد تضمنت ياءين للضمير، فما كان من ذلك في حشو الآية فقد ثبت (خلقني، يطعمني، يميتني)، وما كان في رأس الآية فقد حذف رمز الياء منه (يهدين، يشفين، يحيين)، وفي هذا دليل واضح على أن للوقف على رءوس الآيات وطلب التناسب فيها أثرا في عدم إثبات رمز الكسرة الطويلة، ودليل على أن ذلك الحذف إنما هو صدى لسقوطها في النطق، والأمثلة على هذه الظاهرة كثيرة، فتأمّل مثلا كيف تعاقبت كلمات الفواصل منتهية بالواو والنون في هذه الآيات: {وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} * {هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ (39)} * {فَارْهَبُونِ (40)} * {فَاتَّقُونِ (41)} * {تَعْلَمُونَ (42)} * [البقرة]، وتأمل أثر الوقف على الفاصلة في حذف صوت الكسرة الطويلة من اللفظ في {فَارْهَبُونِ} *، {فَاتَّقُونِ} * وأثر ذلك في حذف صورتها من الخط.
وأما أمثلة حذف الكسرة الطويلة التي هي علامة للضمير، وجاءت متصلة بالأسماء، بسبب الوقف على الفاصلة فقوله سبحانه: {بَلْ لَمََّا يَذُوقُوا عَذََابِ (8)} {الْوَهََّابِ (9)} * {عِقََابِ (14)} * [ص]
__________
(1) معاني القرآن، ج 3، ص 260.
(2) الكتاب، ج 2، ص 289. وانظر أيضا الفرّاء: معاني القرآن، ج 3، ص 260. وابن يعيش: ج 9، ص 78.(1/241)
ومن ذلك أيضا ما نجده في قوله تعالى في سورة الملك:
{تَمُورُ (16)} * {نَذِيرٍ (17)} * {نَكِيرِ (18)} * {بَصِيرٌ (19)} * وغير ذلك كثير.
وأما أمثلة ما حذف من آخر الكلمات الواقعة في الفواصل، والكسرة الطويلة فيه من بنية الكلمة، بسبب الوقف وطلب التناسب، فمن الأسماء كلمة (التنادي) في قوله سبحانه {لِلْعِبََادِ (31)} * {التَّنََادِ (32)} {لَهُ مِنْ هََادٍ (33)} * [غافر]. ومن الأفعال كلمة (يسري) في سورة الفجر: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيََالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذََا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذََلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)}، فقد حذفت الياء التي هي رمز الكسرة الطويلة من الفعل المضارع (يسري)، وهي لام الكلمة، ولم تقع موقعا يحتم جزمها، وإنما كان حذفها في اللفظ عند الوقف لتشبه رءوس الآي التي قبلها، فأجرى الخط على اللفظ (1).
ب حذف رمز الكسرة الطويلة في غير الفواصل لكراهة مقطعية:
والبناء المقطعي للغة العربية يمنع وجود حركة طويلة متلوة بصوت غير متحرك إلا في حالة الوقف وفي (باب دابّة وما أشبهها)، أي أن التركيب المقطعي (ص ح ح ص).
ممنوع في اللغة العربية إلا في هاتين الحالتين المذكورتين (2)، فإذا ما حدث أن تكوّن مثل ذلك المقطع سواء عند تصرف الكلمة واتصالها بالضمائر أو عند وقوعها في السلسلة الكلامية بجانب كلمة أخرى يصار إلى تقصير الحركة الطويلة في ذلك المقطع، فيتكون المقطع الآتي (ص ح ص) الشائع الاستعمال في اللغة العربية. وقد أدرك علماء الرسم والقراءات وعلماء العربية هذه الظاهرة وأثرها في بناء كلمات اللغة، فعقد سيبويه بابا سماه (باب ما يحذف من السواكن إذا وقع بعدها ساكن) ثم قال: وذلك في ثلاثة أحرف: الألف، والياء التي قبلها حرف مكسور، والواو التي قبلها حرف مضموم، فأما فقولك: رمى الرجل، (ومعزى) القوم، ومنه أيضا رمت. وأما حذف الياء التي قبلها كسرة فقولك: هو يرمي الرجل، ويقضي الحق، وأما حذف الواو التي قبلها
__________
(1) انظر: الفراء: معاني القرآن، ج 3، ص 260. وابن خالويه: إعراب ثلاثين سورة، ص 74.
والزمخشري: الكشاف، ج 4، ص 596. والقلقشندي: ج 3، ص 200.
(2) انظر: ابن يعيش: ج 9، ص 121. وبرجشتراسر: ص 42. ود. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص 56. ود. كمال محمد بشر: دراسات في علم اللغة، ق 1، ص (198197).(1/242)
حرف مضموم فقولك: يغزو القوم ويدعو الناس (1)، وقال الفراء (2): «وكل ياء أو واو تسكنان وما قبل الواو مضموم وما قبل الياء مكسور فإن العرب تحذفهما وتجتزئ بالضمة من الواو وبالكسرة من الياء». ويقول الأزهري (3): «إن الألف اللينة والياء بعد الكسرة والواو بعد الضمة إذا لقيهن حرف ساكن بعدهن سقطن، كقولك: عبد الله ذو العمامة، كأنك قلت ذل. وتقول: رأيت ذا العمامة، كأنك قلت ذل. وتقول: مررت بذي العمامة، كأنك قلت ذل، ونحو ذلك في الكلام أجمع».
وأشار الإمام مكي إلى تلك الظاهرة بقوله (4): «أن تحذف الساكن الأول من كلمتين، إذا كان حرف مد ولين، فتحذفه لالتقاء الساكنين، ويبقى ما قبله من الحركة يدل عليه، وذلك قولك: يقي الرجل، وقوا الرجل، وذا المال».
وإذا كان هناك ما يؤخذ على كلام الأئمة هذا من تعبيرهم بالسواكن عن الحركات الطويلة، واعتقادهم أن حرف المد واللين قد حذف وأن هناك حركة قصيرة قبله تدل عليه، والحقيقة أنه قد قصر ليتحول المقطع المديد المقفل بصامت (ص ح ح ص) إلى مقطع طويل مقفل (ص ح ص)، جريا على عادة اللغة العربية في بناء مقاطع الكلام فإن ملاحظتهم بعد ذلك صحيحة تماما، وتعبر عن اتجاه في النطق قد ترك له شاهدا وأثرا في الخط، فجاءت رموز الحركات الطويلة في آخر الكلمات غير مثبتة في كثير من المواضع في الرسم العثماني، خاصة في درج الكلام، يقول الإمام أبو عمرو الداني (5):
«وذلك من حيث عاملوا في كثير من الكتابة اللفظ والوصل، دون الأصل والقطع، ألا ترى أنهم لذلك حذفوا الألف والياء والواو في نحو قوله: أيّه المؤمنون (31) [النور]، {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللََّهُ (146)} [النساء]، {وَيَدْعُ الْإِنْسََانُ (11)} [الإسراء]، وشبهه، لما سقطن من اللفظ، لسكونهن وسكون ما بعدهن، وبنوا الخط على ذلك فأسقطوهن منه».
إن ظاهرة تقصير الحركات الطويلة إذا لقيت حرفا ساكنا غير متحرك تفسر لنا كثيرا
__________
(1) الكتاب، ج 2، ص 276.
(2) معاني القرآن، ج 2، ص 27. وانظر أيضا: ج 2، ص 117، وج 1، ص 337من نفس المصدر.
(3) تهذيب اللغة، ج 1، ص 277. وانظر القلقشندي: ج 3، ص 174.
(4) الكشف، ج 1، ص 277.
(5) المحكم، ص 158. وانظر ابن مجاهد: ص 426.(1/243)
من ظواهر حذف رموز الحركات الطويلة في الرسم العثماني، لأن الحركة الطويلة إذا قصرت صارت حركة قصيرة، والحركة القصيرة لم يكن لها حينئذاك رمز في الكتابة، وهذا يعني سقوط رمز الحركة الطويلة دون أن يخلفه شيء يشير إلى ما تبقى منها بعد تقصيرها.
وتجب ملاحظة أن هذه الظاهرة إنما تكون في الكلام المتصل حين تلتقي حركة طويلة في آخر كلمة بحرف ساكن في أول كلمة تتلوها، فكما كان للوقف أثر في تقصير أو حذف الحركات الطويلة فإن لوصل الكلام كذلك نفس الأثر في تقصير الحركات الطويلة، إلا أن ميل الكتاب إلى حذف رمز الكسرة الطويلة في حالة الوقف أكثر منه في حالة درج الكلام، فإذا كان ما حذف منه رمز الكسرة الطويلة في رءوس الآي طلبا للمجانسة سواء كانت ضمير مفعول أو للإضافة أو أصلية ثمانية وثمانين موضعا (1) فإن ما حذف بسبب تقصير الكسرة الطويلة عند التقائها بساكن في درج الكلام لا يتجاوز الخمسة عشر موضعا (2)، فمن ذلك: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللََّهُ الْمُؤْمِنِينَ (146)} [النساء]، و {نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)} [يونس]، و {بِالْوََادِ الْمُقَدَّسِ} * [طه: 12، النازعات: 16]، و {لَهََادِ الَّذِينَ آمَنُوا (54)} [الحج]، و {وََادِ النَّمْلِ (18)} [النمل]، و {الْوََادِ الْأَيْمَنِ (30)} [القصص]، و {صََالِ الْجَحِيمِ (163)} [الصافات]، و {يُنََادِ الْمُنََادِ (41)} [ق]، {فَمََا تُغْنِ النُّذُرُ (5)} [القمر]، و {الْجَوََارِ الْمُنْشَآتُ (24)} [الرحمن]، و {الْجَوََارِ الْكُنَّسِ (16)} [التكوير] فالياء التي هي رمز الكسرة الطويلة محذوفة في جميع ذلك من الخط.
وإذا كان ما حذف من رمز الكسرة الطويلة في رءوس الآي يشمل جميع المواضع التي جاءت فيها الكسرة الطويلة في مثل تلك المواضع فإن ما حذف من ذلك بسبب استقبال الكسرة الطويلة لحرف ساكن لا يشمل جميع الأمثلة، بل جاءت الياء التي هي رمز الكسرة الطويلة ثابتة في الخط، رغم سقوطها من اللفظ بسبب استقبالها للحرف الساكن، فمن ذلك {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ (269)} [البقرة]، و {فَسَوْفَ يَأْتِي اللََّهُ (54)} [المائدة]،
__________
(1) ابن وثيق الأندلسي: لوحة 7. وانظر أبو بكر الأنباري: ج 1، ص (256250). والمهدوي:
ص 111. والداني: المقنع، ص (3330).
(2) انظر المهدوي: ص 112. والداني: المقنع، ص (4746). وابن وثيق الأندلسي: لوحة 7.
والعقيلي: لوحة 9.(1/244)
و {وَمََا تُغْنِي الْآيََاتُ وَالنُّذُرُ (101)} [يونس]، و {أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ (59)} [يوسف]، و {أَنََّا نَأْتِي الْأَرْضَ (41)} * [الرعد]، و {وَأَنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكََافِرِينَ (107)} [النحل]، و {إِلََّا آتِي الرَّحْمََنِ (93)} [مريم]، {بِهََادِي الْعُمْيِ (81)} [النمل]، و {لََا نَبْتَغِي الْجََاهِلِينَ (55)} [القصص]، و {يُلْقِي الرُّوحَ (15)} [المؤمن] (1).
وإذا كانت رموز الحركات الطويلة تحذف من الفعل المضارع علامة على وقوعه بعد أداة جزم فإن ما حذف من تلك الرموز في الأمثلة السابقة من مثل {يُؤْتِ اللََّهُ}، {نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}، {يُنََادِ الْمُنََادِ}، {فَمََا تُغْنِ النُّذُرُ} لم يكن علامة على وقوعها بعد أداة جزم فهي في موضع الرفع، وإنما كان ذلك الحذف كما بيّنا بسبب سقوطها في اللفظ فجرى نساخ المصاحف العثمانية على ذلك في الخط دون أن يلتزموه في كل الأمثلة، لأن الكاتب يظل مترددا بين الالتزام بأصل رسم الكلمة وهي منعزلة عن السياق وبين الاستجابة لواقع نطقها وهي في درج الكلام المتصل.
ج حذف رمز الكسرة الطويلة من آخر المنادى:
وقد جاءت علامة الكسرة الطويلة محذوفة في غير هاتين الحالتين السابقتين في كل اسم منادى أضافه المتكلم إلى نفسه نحو: {يََا قَوْمِ} *، و {يََا رَبِّ} *، و {يََا عِبََادِ} *، ولفظ بحرف النداء أم لم يلفظ، إلا في موضعين أثبتوا فيهما الياء: {يََا عِبََادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا (56)}
[العنكبوت] وفي {يََا عِبََادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا (53)} [الزمر] واختلفت المصاحف في الذي في [الزخرف] {يََا عِبََادِ لََا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ (68)} ففي بعضها بياء وفي بعضها بغير ياء (2)، ولعل إثبات الياء في هذه الأمثلة كان بسبب انتقال الكسرة الطويلة بعد أن لحقها الفتح في قراءة بعض القراء (3) إلى مستوى الأصوات الصامتة فلزم إثبات صورتها لذلك.
إن حذف الياء التي هي رمز للكسرة الطويلة من المنادى في مثل {يََا عِبََادِ} *، {يََا قَوْمِ} *، {يََا رَبِّ} *، ومن الأفعال التي تكون فيها الكسرة الطويلة، وهي ضمير المتكلم، مفعولا به، خاصة في رءوس الآي، والفعل في صيغة الأمر أو النهي، من مثل {فَارْهَبُونِ} *، {فَاتَّقُونِ} *،
__________
(1) انظر الداني: المقنع، ص 46و 47و 99.
(2) انظر الداني: المقنع، ص (3433). وابن وثيق الأندلسي: لوحة 6.
(3) انظر الداني: التيسير، ص 174و 190.(1/245)
و {فَلََا تُنْظِرُونِ} *، و {لََا تَقْرَبُونِ} ونحوه، قد يكون ذلك الحذف الذي هو إتباع للفظ ناتجا عما يصاحب صيغة النداء أو الأمر أو النهي من سرعة النطق بمقاطع الكلمة مما يسبب سقوط الحركات النهائية أو تقصيرها، كما قصرت في الفعل المضارع المجزوم أو فعل الأمر وحذفت في الخط من مثل (اخش، ادع، ارم)، فحذف رمز الكسرة الطويلة بسبب ما لحقها من تقصير، ولعل مما يشبه ذلك ظاهرة حذف الألف من (ما) حين تكون استفهاما، وقد دخل عليها حرف جر في مثل (بم، عم، فيم، لم، مم) فيبدو أن ما يصاحب صيغة الاستفهام من تنغيم خاص يحتم تتابع المقاطع بسرعة قد ساعد على سقوط الفتحة الطويلة من (ما) في اللفظ فجرى الخط على اللفظ (1).
وهذا التفسير لا يزال يحتاج تأكيده إلى دراسة وبحث، خاصة أنا نجد بعض الأمثلة جاءت فيها الياء ثابتة في الرسم مثل (2): {وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ (150)} [البقرة]، و {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللََّهُ (31)} [آل عمران]، و {فَكِيدُونِي جَمِيعاً (55)} [هود]، و {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ (43)} [مريم]، و {فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)} [طه]، ولكن علينا أن نتذكر أن هذه الأمثلة قد جاءت في وسط الآي مما قد يكون ساعد على الاحتفاظ بلفظ الكسرة الطويلة أو أن الرسم جرى في ذلك على إثبات رمز الكسرة لأنها كلمة فهي ضمير المتكلم وقد وقعت موقع
__________
(1) يقول برجشتراسر (التطور النحوي، ص 42): «وأكثر أنواع تقصير الحركات الممدودة اتفاقي، منه تقصيرها في أواخر الكلمات، فإنا نرى الحركة الممدودة الانتهائية في بعضها قد تحافظ على الامتداد نحو بما وفيما ولما. وقد تقصر نحو بم وفيم ولم». والحقيقة أن هذا التقصير في الأمثلة المذكورة ليس اتفاقيا، ويبدو أن الملاحظة قد خانت المستشرق الكبير، وذلك لأن تقصيرها في نحو (بم وفيم ولم) خاضع لموقع (ما) في الكلام فإذا كانت استفهامية متصلة بحرف الجر فإنها تقصر دائما، ولا تقصر في ما عدا ذلك، حين تكون موصولة أو مصدرية، كما يدل على ذلك الرسم العثماني بكل وضوح، وكما هو مشهور في لغة العرب. فقد نص علماء العربية أن حذف ألف (ما) الاستفهامية المجرورة مقيس مطرد (انظر السيوطي: همع الهوامع، ج 2، ص 217) لكن علة حذف الألف عندهم (الفرق بين الاستفهام والخبر) (انظر ابن هشام:
عبد الله بن يوسف الأنصاري: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، القاهرة، مكتبة محمد علي صبيح، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد (د. ت) ج 1، ص 299). ولكن إذا كان ذلك صحيحا فلماذا خصت الاستفهامية بالحذف دون الخبرية؟!
(2) انظر المهدوي: ص (114112). والداني: المقنع، ص (4645).(1/246)
المفعول به.
3 - حالات أخرى:
وإلى جانب ذلك فقد حذف رمز الياء الذي هو علامة للكسرة الطويلة حذفا مطردا من كل اسم مخفوض أو مرفوع، آخره ياء ولحقه التنوين، رأس آية كان أو غيره، فإن المصاحف اجتمعت على حذف تلك الياء بناء على حذفها في حال الوصل لسكونها وسكون التنوين بعدها، حسب تعبير علماء العربية، أو لأن الكسرة الطويلة وقعت في مقطع مقفل فقصرت حسب تعبير المحدثين، وذلك ثلاثون حرفا في سبعة وأربعين موضعا (1)، من مثل (باغ، هاد، وال، واق، غواش، بواد، مستخف).
وكذلك حذفت الياء التي هي رمز للكسرة الطويلة من الخط بعد هاء الضمير، إذا انكسر ما قبلها ولم يلقها ساكن، نحو به وربه وما أشبه ذلك، وذلك لانعدامها في الوقف (2).
أما حذفها فيما عدا ذلك في حشو الآي سواء كانت متصلة بالفعل في مثل: {وَاتَّقُونِ يََا أُولِي الْأَلْبََابِ (197)} [البقرة]، و {وَاخْشَوْنِ وَلََا تَشْتَرُوا بِآيََاتِي ثَمَناً قَلِيلًا (44)} [المائدة]، و {فَلََا تَسْئَلْنِ مََا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (46)} [هود]، و {حَتََّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللََّهِ (66)} [يوسف]، وما أشبه ذلك (3)، أو كانت من بنية الكلمة في مثل {فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ (97)} * [الإسراء]، و {ذََلِكَ مََا كُنََّا نَبْغِ فَارْتَدََّا (64)} [الكهف]، و {وَجِفََانٍ كَالْجَوََابِ (13)} [سبأ]، و {وَمِنْ آيََاتِهِ الْجَوََارِ (32)} [الشورى]، و {يَوْمَ يُنََادِ الْمُنََادِ مِنْ مَكََانٍ قَرِيبٍ (41)} [ق]، و {مُهْطِعِينَ إِلَى الدََّاعِ يَقُولُ الْكََافِرُونَ (8)} [القمر] وما أشبه ذلك (4)، فإنه جار على نسق ما أشرنا إليه قبل قليل من أن العرب ليست تهيّب حذف الياء من آخر الكلام إذا كان ما قبلها مكسورا، فتحذف
__________
(1) ابن الجزري: النشر، ج 2، ص 136. وانظر: الداني، المقنع، ص 34. وابن وثيق الأندلسي:
لوحة 6.
(2) انظر سيبويه: ج 2، ص 291. والمبرد: ج 1، ص 264. وابن وثيق الأندلسي: لوحة 6. وابن الجزري: النشر، ج 1، ص 304.
(3) انظر أبو بكر الأنباري: ج 1، ص 251وما بعدها. والمهدوي: ص 111. والداني: المقنع، ص 30.
(4) انظر نفس المصادر، وانظر أيضا الزمخشري: الكشاف، ج 3، ص 452.(1/247)
الياء اكتفاء بالكسرة، وقد قال الفراء (1): إن للعرب في الياءات التي في أواخر الحروف مثل: اتبعن، وأكرمن، وأهانن، ومثل قوله: (دعوة الداع إذا دعان وقد هدان) أن يحذفوا الياء مرة ويثبتوها مرة، فمن حذفها اكتفى بالكسرة التي قبلها دليلا عليها، وذلك أنها كالصلة إذا سكنت، وهي في آخر الحروف، واستثقلت فحذفت، ومن أتمها فهو البناء والأصل، ويفعلون ذلك في الياء وإن لم يكن قبلها نون.
ويتضح من ذلك كله أن ما جاء محذوفا من رمز الكسرة الطويلة في آخر الكلمات في الرسم العثماني إنما كان استجابة لحذفها أو تقصيرها في اللفظ سواء أكان ذلك في حالة الوقف أم في حالة الوصل، جريا على قاعدة أن الأصل في الكتابة مطابقة الخط للفظ، لكن علينا أن نلاحظ أن هذه القاعدة لم تكن مطلقة، فقد جاءت بعض الكلمات التي آخرها ياء، سواء أكانت لام الكلمة أم زائدة للإضافة، مثبتة في الرسم في أربعين موضعا (2)، مما حذفت من نظائر بعضها رمز الكسرة الطويلة، ولعل إثباتهم رمز الكسرة الطويلة في هذه المواضع إنما جرى على الأصل في كونها إما أنها تمثل كلمة أو أنها جزء من كلمة أو لثباتها في النطق في تلك الأمثلة.
ومما يؤيد أن ذلك الحذف كان استجابة للفظ هو ورود الرواية عن أئمة القراءة بذلك فمنهم من حذف وصلا ووقفا، ومنهم من أثبت وصلا وحذف وقفا على تفصيل في ذلك (3).
ثانيا: رمز الضمة الطويلة:
استخدمت الكتابة العربية رمز الواو الصامتة (و) لتمثيل الضمة الطويلة (واو المد)، مثل ما استخدمت رمز الياء في تمثيل الكسرة الطويلة، كما مر من قريب، وسبق أن أشرنا إلى أن استخدام رمزي الياء والواو في تمثيل الكسرة والضمة الطويلتين في الكتابة الآرامية قد حدث في فترة واحدة، وورثت الكتابة العربية ذلك الاستخدام عن طريق
__________
(1) معاني القرآن، ج 1، ص 200.
(2) الداني: المقنع، ص (4645).
(3) انظر مكي: الكشف، ج 1، ص 331. والداني: التيسير، ص (7069). وابن الجزري: النشر، ج 2، ص 179وما بعدها.(1/248)
الكتابة النبطية، ومن ثم فلنا أن نتصور أن استخدامهما قد مر في نفس الظروف وأنهما جريا تقريبا على سنن واحد في إثبات رمزيهما أو حذفهما في الخط، سواء في وسط الكلمة أو في طرفها، ولذلك نجد أن ظواهر استخدام الواو لتمثيل الضمة الطويلة في الرسم العثماني قد خضعت لنفس العوامل التي أثرت في استعمال رمز الياء لتمثيل الكسرة الطويلة، وقد تقاربت المشكلات التي أثارها استخدام كل منهما، ومن ثم فإن مناقشتنا لبعض القضايا المتعلقة برمز الكسرة الطويلة على نحو ما بيّنا قبل قليل سيغنينا عن إعادة تفصيله هنا، ونكتفي بالإشارة إليه هناك.
إن إثبات رمز الضمة الطويلة في وسط الكلمة قد اطرد مثل ما حدث ذلك في إثبات رمز الكسرة الطويلة (1)، إلا أن تجتمع صورتان للواو فقد جرى الرسم على حذف إحداهما، سواء كانت الثانية علامة للجمع أو دخلت للبناء أو كانت صورة للهمزة، وذلك مثل: (ولا تلون، ولا يستون، والغاون يدرءون، يؤده، داود، وري)، وشبه ذلك (2).
أما إثبات رمز الضمة الطويلة في آخر الكلمة فقد جاء أكثر اكتمالا من إثبات رمز
__________
(1) يرى الفراء (معاني القرآن، ج 3، ص 160. وانظر الداني: المقنع، ص 35) أن قراءة النصب في قوله سبحانه: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصََّالِحِينَ (10)} [المنافقون] تجوز، وإن كانت الواو غير مثبتة، لأن العرب قد تسقط الواو في بعض الهجاء، كما أسقطوا الألف من سليمن وأشباهه، ويروي أنه رأى في بعض مصاحف عبد الله بن مسعود (فقولا) مكتوبا (فقلا) بغير واو ويقول في موضع آخر (ج 1، ص 8887): «لأن الواو ربما حذفت من الكتاب وهي تراد، لكثرة ما تنقص وتزاد في الكلام، ألا ترى أنهم يكتبون الرحمن وسليمن بطرح الألف، والقراءة بإثباتها، فلهذا جازت»، ولعل ما رواه الفراء من إسقاط الواو في وسط الكلمة في بعض مصاحف عبد الله لم يكن يمثل اتجاها عاما في ذلك، أما استشهاده بحذف الالف من مثل الرحمن وسليمن فليس على وجهه، فقد بيّنا تاريخ استخدام رموز الحركات الطويلة، وأشرنا إلى قدم استخدام رمزي الكسرة والضمة الطويلتين وحداثة استخدام رمز الفتحة الطويلة، فلهذا لم تكن الإشارة إليها كاملة في كل الأمثلة، ومن ثم فإن إثبات رمز الضمة الطويلة في وسط الكلمة قد اطرد إلا في حالة اجتماع واوين في الرسم فتحذف إحداهما بسبب كراهة اجتماع صورتين متفقتين في الخط على حد تعبير علماء السلف.
(2) انظر المهدوي: ص 110. والداني: المقنع، ص 36. وابن وثيق الأندلسي: لوحة 6.(1/249)
الكسرة الطويلة، ولعل ذلك راجع إلى أنها لم تتعرض لما تعرضت له الكسرة الطويلة من التقصير والحذف في آخر الكلمة فهي لم تقع رأس آية فيصيبها بعض التغيير، كذلك يبدو أنها لم تتعرض للتقصير في حشو الكلام، وإذا كانت قد تعرضت لذلك فالكتّاب جروا في إثباتها على الأصل دون الالتفات لذلك التغيير الطارئ، ولعل اطراد زيادة ألف بعدها في آخر الكلمة قد ساعد على حرص الكتاب على إثباتها دون الالتفات إلى ما قد يصيبها من تقصير.
لكن الكتّاب رغم ذلك قد حذفوا رمز الضمة الطويلة في أربعة مواضع في آخر الكلمة، جروا فيها على اللفظ، إذ إنها وقعت في موضع يحتم تقصيرها، فقد التقت الضمة الطويلة من آخر الكلمة بحرف ساكن من أول الكلمة التي تليها فتكوّن القطع المديد المقفل الصامت (ص ح ح ص) الذي أشرنا إلى أن البناء المقطعي للغة العربية يمنعه في غير الموضعين المشار إليهما سابقا، فيضطر المتكلم لذلك إلى تقصير الحركة الطويلة في ذلك المقطع، فيتحول إلى مقطع طويل مقفل (ص ح ص)، ومعنى ذلك أن الضمة الطويلة قد قصرت، وصارت ضمة قصيرة، وحين أسقط الكتاب رمز الضمة الطويلة اتباعا للفظ لم يجدوا ما يشيرون به إلى الضمة القصيرة المتبقية. والمواضع الأربعة التي بني فيها الخط على اللفظ هي في {وَيَدْعُ الْإِنْسََانُ بِالشَّرِّ (11)} [الإسراء]، و {وَيَمْحُ اللََّهُ الْبََاطِلَ (24)} [الشورى]، و {يَوْمَ يَدْعُ الدََّاعِ (6)} [القمر]، و {سَنَدْعُ الزَّبََانِيَةَ (18)}
[العلق] (1).
فالأفعال (يدعو ويمحو وسندعو) أفعال مضارعة لم يقترن بها ما يحتم جزمها وحذف رمز الواو منها، علامة لتقصير الحركة بسبب الجزم، وإنما حذف رمز الضمة الطويلة بسبب ما أشرنا إليه من استقبالها للحرف الساكن، وهو حرف اللام من الكلمات التالية لها، فقصرت وصارت ضمة قصيرة، وليس للضمة القصيرة رمز حينذاك، فبنوا الخط على اللفظ وأسقطوا رمز الضمة الطويلة، وذلك من حيث عاملوا في كثير من مواضع
__________
(1) انظر أبو بكر الأنباري: ج 1، ص 146. والمهدوي: ص 110. والداني: المقنع، ص 35. وابن وثيق الأندلسي: لوحة 6.(1/250)
الكتابة اللفظ والوصل دون الأصل والقطع (1)، فيقول أبو بكر الأنباري (2): «والعلة في هؤلاء الأربعة أنهم اكتفوا بالضمة من الواو فأسقطوها، ووجدوا الواو ساقطة من اللفظ، لسكونها وسكون اللام فبني الخط على اللفظ».
ويبدو بعد هذا أن التعليل لسقوط الواو في هذه الأمثلة الأربعة بالوقف عليها كما يذهب إلى ذلك ابن جني (3)، أو أنها حذفت لأمن اللبس لأن ذكر الفاعل يمنع أن يكون الفاعل جماعة فلا يحصل اللبس، بخلاف قولك: لا تضربوا الرجل، فإنه لو حذف لالتبس الجمع فيه بالواحد كما ينقل القلقشندي (4) غير صحيح. وأغرب من ذلك وأكثر بعدا عن الصواب هو ما أشرنا إليه في فصل سابق من منهج أبي العباس المراكشي في تعليل هذا الحذف بالدلالة على المعاني المختلفة، وأن السر في حذف الواو من هذه الأربعة هو التنبيه على سرعة وقوع الفعل وسهولته على الفاعل وشدة قبول المنفعل المتأثر به في الوجود.
على أن ذلك الحذف لم يشمل كل الحالات التي التقت فيها الضمة الطويلة من آخر كلمة بحرف ساكن من أول كلمة أخرى، فقد جاءت الواو ثابتة في سوى الأمثلة الأربعة المشار إليها (5)، من مثل: {يَمْحُوا اللََّهُ مََا يَشََاءُ (39)} [الرعد]، و {لِمَنْ كََانَ يَرْجُوا اللََّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ (21)} * [الأحزاب]،
__________
(1) انظر الفراء: معاني القرآن، ج 1، ص 337، وج 2، ص 117. وأبو بكر الأنباري: ج 1، ص 147.
وابن خالويه: إعراب ثلاثين سورة، ص 141. والداني: المحكم، ص 158. والزمخشري:
الكشاف، ج 4، ص 174.
(2) إيضاح الوقف والابتداء، ج 1، ص (270269).
(3) انظر: الخصائص، ج 2، ص 293. وانظر أيضا د. رمضان عبد التواب: ص 157.
(4) صبح الأعشى، ج 3، ص 99.
(5) روى أبو بكر الأنباري (ج 1، ص 271) أن الفراء حكى أن الواو سقطت في الرسم في قوله تعالى: {نَسُوا اللََّهَ فَنَسِيَهُمْ (67)} [التوبة]. وأنه قال (العلة في هذا أنهم وجدوا الواو ساقطة من اللفظ لسكونها وسكون اللام فبنوا الخط على اللفظ واكتفوا بالضمة من الواو) لكن أبا بكر الأنباري عقب على ذلك بقوله (ج 1، ص 272): والذي وجدناه في مصاحفنا (نسوا) بالواو فالوقف عليه بالواو، والذي مضى حكاه بعض أصحابنا عن الفراء متأولا عليه، وكلام الفراء لا يدل على حذف الواو من (نسوا) في الخط. وقال أبو عمرو الداني (المقنع، ص 35): ولا نعلم أن ذلك كذلك في شيء من مصاحف أهل الأمصار، والذي حكي عن الفراء غلط من الناقل.(1/251)
ومثل: {لََا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وََاحِداً (14)} [الفرقان]، وما أشبه ذلك، فقد جرى الكتاب في هذه الأمثلة وما يشبهها على أصل بناء الكلمة دون الالتفات إلى ما لحقها في الكلام المتصل من تغيير.
وقد حذفت الواو من الخط باطراد بعد هاء الضمير إذا انفتح ما قبلها أو انضم، ولم يلقها ساكن، نحو: له ملك السماوات، ولا يؤده حفظهما، وشبه ذلك (1).
وحذفت كذلك من الخط بعد ميم الجمع (2)، فإن اتصل بها ضمير ثبتت لفظا وخطا، نحو {ثَقِفْتُمُوهُمْ (191)} * [البقرة]، و {جِئْتُمُونََا (94)} * [الأنعام]، و {أَنُلْزِمُكُمُوهََا (28)} [هود] وما أشبه ذلك.
ثالثا: رمز الفتحة الطويلة (الألف):
كان رمز الألف (ا)، الذي هو أول حروف الأبجدية السامية، يمثل الصوت الصامت الذي أطلق عليه في اللغة العربية في فترة لا حقة اسم (الهمزة)، ولكن حدث أن استعير لتمثيل الفتحة الطويلة في الكتابة النبطية المتأخرة، التي هي أحد فروع الكتابة الآرامية، والتي انحدرت منها الكتابة العربية المستخدمة في كتابة الوحي ونسخ المصاحف العثمانية، فورثت الكتابة العربية ذلك الاستعمال الذي لم يكن يستخدم إلا حيث تقع الفتحة الطويلة في آخر الكلمة، لكن الكتابة العربية استطاعت أن تشيع استخدام رمز الألف للإشارة إلى الفتحة الطويلة في وسط الكلمات أيضا (3)، ونظرا لحداثة إثبات الكتاب لرمز الفتحة الطويلة وسط الكلمات بالنسبة للرسم العثماني فإنه لم يكن من اليسير عليهم تعميم ذلك في كل الحالات وتناسي صور هجاء الكلمات القديمة التي لم يكن يثبت فيها رمز الفتحة الطويلة. فكان ذلك الاستخدام يدخل الكتابة تدريجيا أي أنه
__________
ومع هذا فإن هذه الرواية إن صحت عن الفراء فإن من المحتمل أن يكون الفراء قد أخبر عن مصحف رآه، وليس بعيدا أن تحذف الواو هنا مثلما حذفت في المواضع الأربعة المذكورة اتباعا للفظ، رغم أنها هنا ضمير للجمع.
(1) ابن وثيق الأندلسي: لوحة 6.
(2) انظر المبرد: ج 1، ص 268. وابن وثيق الأندلسي: لوحة 6.
(3) انظر: تاريخ استخدام الألف للإشارة إلى الفتحة الطويلة المتوسطة، (ص 71) من الفصل التمهيدي.(1/252)
لم يشمل أولا كل الكلمات التي تكون الفتحة الطويلة المتوسطة جزءا منها، فكان الكتّاب يثبتونها في بعض الكلمات دون بعض، لا بل حتى الكلمة الواحدة كانت تكتب بإثبات رمز الفتحة الطويلة في موضع وبحذفها في موضع آخر، فكان نظام الإشارة إلى الفتحة الطويلة المتوسطة غير مستقر في الفترة التي استخدم فيها الصحابة رضوان الله عليهم الكتابة العربية في كتابة القرآن الكريم، فجاء الرسم العثماني يحمل خصائص تلك المرحلة، حيث جاء بعض الكلمات يمثل الطريقة الجديدة لرسم الكلمات بإثبات رمز الفتحة الطويلة المتوسطة، وبعضها ظل على الطريقة القديمة دون إثبات رمزها.
1 - عدم إثبات رمز الفتحة الطويلة:
أموقف علماء السلف من الظاهرة:
ويبدو أن جزءا من تاريخ تطور استخدام رمز الألف لتمثيل الفتحة الطويلة قد غاب عن علماء الرسم وعلماء العربية، ووقفوا لذلك بحيرة كاملة أمام طريقة الرسم العثماني في الإشارة إلى الفتحة الطويلة المتوسطة، وحاولوا واجتهدوا في المحاولة للوصول إلى تفسير مقبول لتلك الظاهرة، وقد تباينت وجهات نظرهم، لكنها كانت تشترك في عدم معرفتهم تاريخ المشكلة، تلك المعرفة التي أتاحتها الاكتشافات الأثرية الحديثة، فعللوا عدم إثبات صورة الفتحة الطويلة لضعفها (1) أو لكثرة الاستعمال (2)، أو للتخفيف والاختصار (3)، أو ليحتمل الرسم القراءتين (4).
وقد حاول علماء الرسم وضع ضابط لحالات عدم إثبات رمز الفتحة الطويلة المتوسطة والحالات التي أثبتت فيها، ورغم أنا سنلاحظ أن هناك ضابطا يمكن أن يلمح من خلال الأمثلة، كان يستأنس به الكاتب في إثبات أو عدم إثبات رمز الفتحة الطويلة المتوسطة، إلا أن علماء الرسم حاولوا عرض الكلمات التي خضعت لتلك الظاهرة في
__________
(1) يقول ابن درستويه: (ص 44): «وأكثر حروف اللين حذفا الألف لضعفها وأنها أكثر في الكلام من غيرها».
(2) انظر مثلا أبو بكر الأنباري: ج 1، ص 173. والصولي: ص 36.
(3) انظر مثلا الداني: المقنع، ص 10و 16. وسليمان بن نجاح: لوحة 4. والرازي: مفاتيح الغيب:
ج 1، ص 57. وعلم الدين السخاوي: الوسيلة، ورقة 15ب و 16/ أ.
(4) انظر مثلا علم الدين السخاوي: الوسيلة، ورقة 15/ أ، واللبيب، ورقة 19ب.(1/253)
أبواب محددة، لكنها لم تكن تستجيب لمقياس معين من المقاييس التي استخدموها لرصد الظاهرة، حتى أن الإمام ابن وثيق الأندلسي يصرح في الفصل الذي عقده لحذف الألف بقوله (1): «اعلم أن هذا الباب كثير الاضطراب، متشعب، لا يرجع إلى قياس فيحصر».
وحين عرض الإمام أبو عمرو الداني في كتابه (المقنع) الكلمات التي جاءت محذوفة الألف وهو قدوة لمن جاء بعده في ذلك لم يتضح له المنهج الذي يمكنه السير عليه، رغم أنه لم يكن يهدف إلى أكثر من تقديم عرض جامع لتلك الكلمات (2)، فبدأ بعرض الكلمات التي تضمنتها رواية إمام المدينة نافع بن أبي نعيم، ثم عرض بعد ذلك حذف الألف من (يا) التي للنداء، و (ها) التي للتنبيه، ومضى في عرض الكلمات التي لم يثبت فيها رمز الألف المتوسطة، على أساس الحرف الذي سبق الألف، فعرض لحذفها بعد اللام والنون والعين وغير ذلك من الحروف، ثم تعرض لكلمات مفردة، وبعدها عرض في فصل حذف الألف من الأسماء الأعجمية، ثم في فصل آخر لحذفها من الجمع المذكر السالم، وفي آخر لحذفها في الجمع المؤنث السالم، وأشار من قبل لحذفها في المثنى. وهكذا جرى العرض على غير منهج محدد يمكن أن تصنف فيه الكلمات بسهولة، فمرة تعرض الكلمات على نسق ورودها في الآيات والسور، وأخرى حسب ما يجاورها من حروف، وثالثة حسب نوعها من حيث الجمع وغيره، وأحيانا تعالج كلمات معينة بمفردها، ولا شك أن الظاهرة على نحو ما مر من قريب لم تكن تتيح وضع مثل ذلك المنهج الذي يستوعب تلك الكلمات في فصول محددة.
وقد حاول أبو بكر اللبيب في شرحه للعقيلة أن يصنّف الكلمات التي لم تثبت فيها الألف في الخط إلى ثلاثة أقسام (3): قسم وقع فيه الحذف لأجل القراءات، وقسم يسمى اختصارا، وقسم يسمى اقتصارا، فأما الذي حذف من أجل القراءة فنحو قوله تعالى:
ملك يوم الدّين (4) [الفاتحة]، فمن قرأها (مالك) على وزن فاعل زاد ألفا في اللفظ، محذوفة في الخط لأجل القراءة الأخرى. وأما حذف الاختصار فهو حذف
__________
(1) انظر: رسالة في رسم المصحف، لوحة 2.
(2) انظر: المقنع، ص 10وما بعدها.
(3) انظر: الدرة الصقيلة، ورقة (19ب 20أ)، وانظر أيضا: المارغني: ص 42.(1/254)
الألفات اللاتي يكنّ في جمع مذكر أو مؤنث سالم كثير الدور غير مشدد ولا مهموز، وأما حذف الاقتصار فهو أن يحذف ألف من كلمة ويثبت في نظائرها نحو قوله تعالى:
في عبدى (29) [الفجر]، فقد انعقد الإجماع على حذف الألف بعد الباء في هذا الموضع خاصة، وأثبتت بعد الباء في لفظة (عبادي، وعبادنا وعباد الرحمن) في جميع القرآن.
ولكن ذلك التقسيم الذي أورده اللبيب ليس له سند تاريخي، فالحذف من أجل القراءة ينفيه القول بأن المصحف العثماني لم يكتب إلا على قراءة واحدة كما رجحنا ذلك من قبل (1) أما الحذف اختصارا أو اقتصارا فإن هذا القول معناه أن الألف كانت مثبتة قبل نسخ المصاحف، وأن الكتبة حذفوها اختصارا، أو اقتصارا، والحقيقة هي على ما بينا أن الفترة التي تم فيها نسخ المصاحف كانت مرحلة انتقال لم تستقر فيها الطريقة الجديدة للإشارة إلى الفتحة الطويلة المتوسطة، فجاءت الألف مثبتة في بعض الكلمات وغير مثبتة في أخرى (2)، بل جاءت بعض الكلمات بإثبات الألف مواضع وبحذفها في مواضع أخرى، ولم يكن أهل ذلك الزمان يشعرون بأي خروج على أصول الكتابة، بل إن تلك الطريقة كانت هي واقع الكتابة الذي جرى عليه الكتبة حين نسخوا المصاحف العثمانية.
ب التفسير الراجح للظاهرة:
ويؤيد هذا الذي نحاول أن نفسر به ظاهرة إثبات وحذف رمز الفتحة الطويلة المتوسطة في الرسم العثماني النقوش المكتوبة التي تعود إلى الفترة السابقة للرسم العثماني، أو المعاصرة، أو اللاحقة له. إذ إنها تظهر بوضوح الطريقة التي جرى عليها كتبة المصحف العثماني في تمثيل الفتحة الطويلة المتوسطة، كما وضحنا ذلك من قبل في الفصل التمهيدي، وتشهد له أيضا طريقة رسم الكلمات التي جاءت فيها الفتحة الطويلة المتوسطة في النقود الإسلامية، والبرديات العربية التي يعود أقدمها إلى أواخر القرن الأول الهجري، حيث نجد ظاهرة حذف الفتحة المتوسطة لا تزال ماثلة في
__________
(1) انظر: المبحث الثالث من الفصل الثاني من هذا الكتاب.
(2) حصر العلماء الكلمات التي جاءت محذوفة الألف في كل مكان على نحو ما فعل العقيلي، (انظر لوحة 3) حيث جمعها في ثلاثة عشر بيتا من النظم.(1/255)
عشرات الأمثلة التي أهمل فيها إثبات الألف (1)، ونحن لا نزال نلمس آثارا من هذه الظاهرة في الهجاء الحديث، في بضعة كلمات لم يجد الناس ضرورة لتغيير هجائها، أو أن صورها قد تحجرت على شكلها القديم فلم تعد تستجيب لمحاولات إدخال رمز الألف فيها، فظلت كذلك على مدى السنين، من مثل (لفظ الجلالة، ومثله: اللهم، وإله، وهذا، وهذه، وهذان، وهؤلاء، وأولئك، ولكن) وما أشبه ذلك.
ولا أشك في أن الذين شهدوا عصر نسخ المصاحف والسنوات التالية لذلك لم يشعروا تجاه تلك الظاهرة بأية غرابة، فذلك هجاؤهم الذي اعتادوه، وتلك طريقتهم في الكتابة، وإنما وقف عند تلك الظاهرة موقف المتأمل لها والمتعجب منها من عاش بعد الأجيال الإسلامية الأولى، حين ازداد استعمال الكتابة، وظهرت الحاجة إلى تعلم العربية من قبل عامة المسلمين، فذهبت السليقة التي كان يقرأ بها العربيّ النصّ المكتوب بالطريقة القديمة، وأسرع الكتّاب إلى تعميم الطريقة الكاملة لرسم الكلمات تيسيرا للقراءة، ومن هنا حدث الافتراق بين الرسم المصحفي والهجاء المستعمل من قبل الكتاب وعامة الناس، وبدا حينئذ عدم إثبات الألف أمرا غريبا للناس، عجزوا في الغالب عن إدراك أصوله التاريخية.
ولم يكن إثبات الألف أو حذفها في وسط الكلمة يجري دون أساس ما، فإن تأمل الأمثلة التي جاءت فيها الألف ثابتة في الخط وتلك التي حذفت منها، يمكن أن يعيننا على لمح ذلك الضابط أو المعيار، الذي كان يعمل في توجيه تلك الظاهرة، ويرسم الإطار الواسع الذي تتحرك من خلاله في طريقها إلى الكمال، ومع ذلك فلا يمكن القول بأن ذلك الضابط كان واضحا تمام الوضوح لدى الكتاب أو أنه كان يعمل بطريقة قاطعة في توجيه الظاهرة، بل إن من الكلمات ما ظل يتشبث بالصورة القديمة، دون أن يخضع لهذا المعيار الذي نحاول أن نتبينه من خلال الأمثلة، ومنها ما تجاوزه وبلغ المرحلة الجديدة قبل أن يبلغها سواها مما يشبهها من الكلمات، وربما كانت هناك عوامل أخرى تتعلق بطبيعة الحروف التي تتكون منها الكلمة نفسها، أو بمستوى الكاتب الثقافي ومعرفته بأصول الكتابة، فكلما كان على إلمام ومعرفة بالكتابة كان أكثر التزاما بصور هجاء الكلمات القديمة.
__________
(1) انظر د. عبد العزيز الدالي: ص 218217. ود. صلاح الدين المنجد: ص 121و 122.(1/256)
أما ذلك المعيار الذي أثر في توجيه الظاهرة فهو باختصار أن الكلمات كانت تخضع، في ميلها لإثبات رمز الفتحة الطويلة المتوسطة، لعدد الرموز التي تتألف منها، فكلما كثرت رموزها أبطأت في الاستجابة لإثبات رمز الفتحة الطويلة المتوسطة، وكلما قلّت كانت أكثر استجابة لذلك.
فالكلمات التي يمكن أن تتضمن فتحة طويلة متوسطة لا بد أن يكون فيها صوتان صامتان يكتنفان الفتحة الطويلة، وقد جاءت الألف ثابتة في كافة أمثلة هذا النوع، فمن الأسماء (عام، الجار، الغار، قاع، خال، وما كان مثل: باغ وعاد) ومن الأفعال (زاد، كان، قال، قام، تاب، كاد، مات، عاد، فاز، طاب)، ولم تأت الألف محذوفة في شيء من هذه الأمثلة إلا في الفعل الماضي (قال)، فقد جاء في بضعة أماكن مكتوبا (قل)، ولكن القراءة وردت فيه بحذف الألف على الأمر عند بعض القراء (1)، وهو ما قد يكون سببا في ذلك الهجاء.
وكلما ازدادت حروف الكلمة فوق ذلك أو اتصل بها ضمير أو علامة إعراب أو بناء مال الكتّاب إلى عدم إثبات الألف فيها، فالكلمات التي جاءت على صيغة فاعل نحو (كاتب، ظالم، شاهد، مارد، شارب، طارد)، وعلى صيغة فعال وفعال مثل (العذاب والعقاب والحساب) وعلى صيغة فعّال نحو (خوّان، ختار، صبار، كفار)، وعلى وزن فعلان نحو (بنيان، طغيان، كفران، قربان، خسران، عدوان) وعلى وزن فعلان نحو (صنوان، وقنوان) قد جاءت الألف في الغالب مرسومة في تلك الأمثلة (2)، لعدم استطالتها كثيرا بما دخل على صيغها من زيادة.
ويغلب حذف رمز الألف من الأفعال ذات الصيغ المزيدة، كذلك فإن الصيغة الواحدة نفسها تميل الألف فيها إلى عدم الإثبات في صيغة المضارع أو في حالة اتصال الضمائر، ويغلب إثباتها في صيغة الماضي حين يكون الفعل مجردا من الزوائد، فنجد الألف محذوفة في {وَيُسََارِعُونَ (114)} [آل عمران] ثابتة في {وَسََارِعُوا (133)}
[آل عمران]، ومحذوفة من {أَتُحََاجُّونِّي (80)} [الأنعام] ثابتة في {حَاجَّ (258)} * [البقرة] و {حَاجُّوكَ (20)} [آل عمران]، ولكن نجدها كذلك في {يُحََاجُّوكُمْ (73)} * [آل عمران] وحذفت
__________
(1) انظر الداني: التيسير، ص 156و 160و 196.
(2) انظر المهدوي: ص 110. والداني: المقنع، ص 44.(1/257)
من {تُشَاقُّونَ (27)} [النحل] وجاءت ثابتة في {شَاقُّوا (13)} * [الأنفال]، كذلك حذفت من فلا تصحبنى (76) [الكهف] وثبتت في {وَصََاحِبْهُمََا (15)} [لقمان].
وعلينا أن نتذكر دائما أن ذلك لم يكن يخضع على ما يبدو للمعيار الذي أشرنا إليه بطريقة قاطعة، لأن صور الكلمات التي اعتادها الكتاب ليست من اليسير الخروج عليها، حتى ولو كان ذلك استجابة لواقع نطقها، فاستخدام الكتاب لذلك المعيار كان يتم بطريقة غير منتظمة أو غير مقصودة أو غير واعية إن صح التعبير ولذلك فليس من الغريب أن يقترن الفعلان {هََاجَرَ} * و {جََاهَدَ} * في آية واحدة في أكثر من موضع مع مجيء الفعل الأول بإثبات الألف والثاني بحذفها، ورغم تشابههما في الصيغة، من ذلك مثلا {وَالَّذِينَ هََاجَرُوا وَجََاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ أُولََئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللََّهِ (218)} [البقرة]، وقد تكرر نفس التركيب في أربعة مواضع أخرى بنفس الطريقة (1)، وكذلك جاء الفعل (هاجر) بالألف في كافة مواضع وروده، بينما جاء الفعل (جاهد) بدونها في كافة أحواله، ولكن هل يعني ذلك أن حذف الألف وإثباتها مرتبط بما يجاورها من أصوات؟ لا يبدو ذلك من الأمثلة، ولعل مجرد اعتياد الكتاب على إثبات الألف في كلمة دون أخرى هو الذي يفسر سلوك هجاء هذين الفعلين.
إن الأساس الذي قامت عليه ظاهرة إثبات وحذف رمز الفتحة الطويلة المتوسطة في الرسم العثماني يتضح بصورة أكثر جلاء حين نتتبع الكلمات التي اتصلت بها مقاطع للدلالة على التثنية أو الجمع السالم المذكر والمؤنث، أو كانت الكلمة المتصلة بضمير الجماعة المتكلمين (نا) واتصل بها ضمير آخر، فإن الكلمات في مثل هذه الحالات سوف تستطيل بهذه اللواحق، ومن ثم فإن الكتّاب مالوا إلى عدم إثبات الألف المتوسطة فيها في أغلب الأحوال، فألف التثنية المرفوعة جاءت محذوفة في مثل امرأتن، رجلن، يحكمن، يقتتلن، وشبهه (2)، سواء أكانت الألف اسما أم حرفا، ما لم تقع طرفا، ووقعت حشوا في جميع القرآن، كذلك اتفقت المصاحف على حذف الألف من
__________
(1) انظر: الأنفال 8/ 72و 74و 75، والتوبة 9/ 20.
(2) انظر ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن، ص 40. والداني: المقنع، ص 17. والعقيلي: لوحة 6.
وقد جاءت بعض الأمثلة من هذا النوع بإثبات الألف في المصحف المطبوع.(1/258)
الجمع المذكر السالم الكثير الدور في المذكر والمؤنث جميعا (1)، فالمذكر نحو (العلمين، الصبرين، الصدقين، الفسقين، المنفقين، الكفرين، الظلمون، الخسرون، السحرون، الكفرون)، وما كان مثله، والمؤنث نحو: (المسلمت، المؤمنت، الطيبت، الخبيثت، الكلمت، ظلمت، الظلمت، ثيبت، بينت)، وما كان مثله، وقد نص علماء الرسم على أنه إذا جاء بعد الألف في مثل تلك الكلمات همزة أو حرف مضعف نحو (السائلين، القائمين، الخائنين، الصائمين، الظانين، الضالين، العادّين، حافّين، الصائمات، الصافّات) فإن المصاحف اختلفت في هذين النوعين في إثبات الألف وحذفها، وقد نقل عن بعض الأئمة، إثبات الألف أيضا فيما كان من الجمع معتلّ اللام، وذلك نحو: (العادين، القالين، العافين، راعون، طاغون، ساهون)، وكذلك ما كانت لامه همزة أيضا نحو (فمالئون وخاسئين) (2).
أما ما اجتمع فيه ألفان من جمع المؤنث السالم فإن الرسم ورد في الأكثر بحذفهما معا سواء أكان بعد الألف حرف مضعف أم همزة، نحو: (الصلحت، الحفظت، الصدقت، الصفت، الصئمت)، وشبه ذلك (3). وقد جاءت بعض الأمثلة من هذا النوع بإثبات الألف مثل {سَبْعَ سَمََاوََاتٍ (12)} * [السجدة]، فإن الألف مرسومة بعد الواو في هذا الموضع خاصة، أما التي بعد الميم فمحذوفة في كل موضع بلا خلاف (4)، وكذلك فإن كل شيء في القرآن من ذكر (ءاياتنا) فهو بغير الألف إلا في موضعين، فإنهما رسما بالألف، {مَكْرٌ فِي آيََاتِنََا (21)} [يونس]، وفيها أيضا قوله سبحانه: {آيََاتُنََا بَيِّنََاتٍ (15)} *
[يونس] (5).
ويبدو أن إثبات الألف بعد الهمزة أو الحرف المضعف في الأمثلة السابقة إنما استجاب الكاتب للمد الذي أصاب الفتحة الطويلة فيها، بسبب وقوعها بعدهما، إلا أنه رغم ما يرد من استثناءات على حذف الألف في هذه الأمثلة يظل ازدياد حجمها عاملا
__________
(1) انظر المهدوي: ص 105. والداني: المقنع، ص 22. وسليمان بن نجاح: لوحة 4.
(2) انظر نفس المصادر، والعقيلي: لوحة 3و 4.
(3) انظر الداني: المقنع، ص 23. وسليمان بن نجاح: لوحة 4. والعقيلي: لوحة 4.
(4) الداني: المقنع، ص 19. وسليمان بن نجاح: لوحة 11.
(5) الداني: المقنع، ص 19. وسليمان بن نجاح: لوحة 11.(1/259)
في حذف الألف من أغلب الأمثلة، خاصة إذا تذكرنا أن معظم تلك الأمثلة جاءت في المفرد بإثبات الألف.
أما الكلمات التي اتصل بها ضمير المتكلمين (نا)، وبعده ضمير آخر، فقد جاءت ألف ضمير الجمع محذوفة في كل الحالات دون استثناء، مثل (أنجينكم، ءاتينكم، أغوينكم، مكنكم، علمنه، ءاتينك، أرسلنك، فرشنها، أنشأنهن، فجعلنهن)، وما كان مثله في جميع القرآن (1).
وهكذا تتقابل الكلمات الأكبر حجما في مثل الأمثلة السابقة، التي تحذف فيها الألف في أكثر المواضع، بالكلمات الأقل حجما من مثل (كان وقال)، التي تثبت فيها الألف في كل الأحوال، وبين هذه وتلك تتكون عشرات الأمثلة والصيغ التي ترد فيها الألف متوسطة سواء بأصل وضعها وباتصالها بالضمائر، أو حروف البناء، وهي جميعا تخضع لذلك المعيار في إثبات أو حذف الألف، مع مرونة في تطبيق ذلك الضابط، ليتناسب وميل الكتابة في الاحتفاظ بالصور القديمة لهجاء الكلمات، ويتناسب والعوامل الأخرى التي قد تؤثر في إثبات الألف في كلمة قد اشتهرت صورتها بحذف الألف منها، لكن قد يجري كاتب على كتابتها حسب نطقها كأن يكون لم يقرأها في نص مكتوب، فيكتب مثلا (هذا ولكن) هكذا (هاذا، لاكن) فيشيع استخدامها بعد ذلك في صورتها الجديدة.
ولعل فهم المشكلة على هذا النحو يقدم لنا تفسيرا مقبولا للعديد من الكلمات التي جاءت بإثبات الألف في بعض المواضع وبحذفها في مواضع أخرى، فإثبات الألف في {كََاتِبٌ} * في البقرة (2/ 282و 283) وحذفها في ما عدا ذلك (2)، وإثبات الألف في (قرآن) في كافة المواضع وحذفها منه في موضعين، في يوسف (12/ 2) والزخرف (43/ 3) (3)، وكذلك حذف الألف من (ترابا) في ثلاثة مواضع، في الرعد (13/ 5) والنمل (27/ 67) والنبأ (78/ 40) وإثباتها في ما عدا ذلك (4)، ومثل ذلك إثبات الألف
__________
(1) انظر الداني: المقنع، ص 20.
(2) الداني: المقنع، ص 17.
(3) نفس المصدر، ص 19.
(4) نفس المصدر، ص 19.(1/260)
في (كتاب) في أربعة مواضع، في الرعد (13/ 38) والحجر (15/ 4) والكهف (18/ 27) والنمل (27/ 1) وحذفها في كل شيء في القرآن من ذكر (الكتاب وكتاب (1))، وما أشبه ذلك من الأمثلة التي ترد بإثبات الألف مرة وبحذفها أخرى لم يكن ذلك لشيء من اختلاف اللفظ أو المعنى العام للكلمات في المواضع التي حذفت منها الألف والتي أثبتت فيها، وإنما كان ذلك لأن هذه الكلمات كانت تتردد في استعمال الكتّاب بين الاحتفاظ برسمها القديم وبين كتابتها على الشكل الجديد بإثبات رمز الألف، فالكلمات التي كانت تنحصر بين أصغر الأمثلة حجما، حيث تثبت الألف دائما، وبين أكبر الأمثلة حجما حيث تحذف الألف غالبا كانت قد بلغت مرحلة من عدم الاستقرار بين الحالتين: إثبات الألف وفقا للنطق والاستعمال الجديد لتمثيل الفتحة برمز الألف، وحذفها جريا على الصورة القديمة لهجاء تلك الكلمات.
أشرنا من قبل إلى اطراد إثبات رمز الفتحة الطويلة في آخر الكلمات على كل حال، والألفات التي تذهب في الوصل لا تحذف في الوقف لأن الفتحة والألف أخف عليهم كما يقول سيبويه (2)، إلا أن الرسم العثماني يقدم لنا مثالا واحدا استجاب فيه الكاتب للفظ الكلمة في درج الكلام، فحذف الألف في الكتابة لذلك، والمثال هو كلمة (أيها) التي وردت في كل مكان في المصحف بإثبات الألف إلا ثلاثة مواضع، فإن الألف فيها محذوفة (3)، في أيّه المؤمنون (31) [النور]، وفي يأيّه السّاحر (49) [الزخرف]، وفي {أَيُّهَ الثَّقَلََانِ (31)} [الرحمن]، وحين نتأمل نطق الفتحة الطويلة في (أيها) في درج الكلام في هذه الأمثلة نجد أنها تتأثر بظاهرة كراهة الاحتفاظ بحركة طويلة في مقطع مقفل، والتي تعرضنا لبيان أثرها في حذف رمز الكسرة والضمة الطويلتين من قبل، فقد استقبلت الفتحة الطويلة في آخر كلمة (أيها) اللام الساكنة التي تليها، فاضطر الناطق إلى تقصير الحركة الطويلة، فآلت إلى الفتحة القصيرة، فبنى الكاتب الخط على اللفظ في هذه المواضع الثلاثة، فحذف رمز الألف لذلك (4)، على نحو ما بينا ذلك في الضمة
__________
(1) نفس المصدر، ص 20.
(2) انظر: الكتاب، ج 2، ص 290.
(3) المهدوي: ص 108. والداني: المقنع، ص 20.
(4) نحن نرجح هذا التفسير على القول بأنها كتبت على قراءة ابن عامر بضم الهاء في الثلاثة، (انظر الداني: التيسير، ص 162161).(1/261)
والكسرة الطويلتين في مثل هذه الحالة.
ونجد أن (ها) التي للتنبيه و (يا) التي للنداء جاءتا محذوفتي الألف في كل المواضع، في الرسم العثماني، نحو (هأنتم (1)، هؤلاء، هذا، هذه، هذان، هذين) و (يأيها، يأرض، يأولي الألباب، يأخت، ينوح، يلوط، يقوم، يرب) ونحو ذلك من الأمثلة (2)، حيث كتبت متصلة بما يليها من كلمات، وعوملت معاملة الألف المتوسطة (3)، دون حذف الألف من نظائرها من مثل (ما، لا) التي جاءت بإثبات الألف في كل الأحوال.
وإذا كان رسم كل من الكسرة والضمة الطويلتين قد تعرض للحذف أو عدم الإثبات في بعض الحالات، فإن الفتحة الطويلة قد شاركتهما في ذلك، في وسط الكلمة خاصة، ونافت عليهما بظواهر أخرى تتعدى مسألة الحذف والإثبات إلى رسمها برموز أخرى لا تتناسب والنطق، فقد جاءت مرسومة بالياء في بعض الكلمات، وبالواو في كلمات أخرى، إضافة إلى مجيئها زائدة في رسم بعض الكلمات، دون أن تكون لها دلالة في النطق.
2 - رسم الفتحة الطويلة ياء:
أما رسم الألف ياء فقد اتفقت المصاحف على رسم الفتحة الطويلة المتطرفة في كل ما كان أصله من ذوات الياء من الأسماء والأفعال بالياء وكذلك في ما كان رباعيا مطلقا، سواء اتصلت الكلمة بضمير أم لم تتصل، لقيت ساكنا أم متحركا، وذلك نحو (4): (الموتى، السلوى، المرضى، الأسرى، شتى، صرعى، طوبى، الحسنى، لليسرى، للعسرى، البشرى، موسى، عيسى، إحدى، إحديهما، إحديهن بشريكم، أخريكم، مجريها، مرسيها، الهدى، الهوى، العمى، أدنى، أزكى، أربى، سعى، رمى، يتلى، تدعى، يخفى، آتيكم، أريكم، أتيها، يصليها)، وشبه ذلك، ورسمت الفتحة
__________
(1) يلاحظ أن الألف بعد الهاء هي من بنية الضمير (أنتم) بعد (ها) التنبيه.
(2) الداني: المقنع، ص 16.
(3) يعلل أبو بكر الأنباري ذلك (ج 1، ص 173) بقوله: «وإنما جاز حذف الألف من (يا) لأن (يا) تدعى بها الأسماء ولا تدعى بها الأفعال، فحذفوا الألف لكثرة الاستعمال».
(4) انظر: الداني، المقنع، ص 63. والعقيلي: لوحة 3.(1/262)
الطويلة ياء أيضا في (على، إلى، حتى، متى، بلى) حيث وقعن.
هذا إذا لم تجتمع في آخر الكلمة ياءان نحو: (الدنيا، العليا، الرءيا، رؤياك، الحوايا، وأحيا، أحياهم، محياي، محياهم)، وكذلك (هداي، ومثواي) وما كان مثله، فإن هذا النوع رسم بالألف، وعلل ذلك بكراهة اجتماع ياءين في الرسم، وقد خرجت من هذا مواضع، منها (يحيى)، اسما كان أو فعلا في جميع القرآن (1).
وجاءت سبع كلمات من ذوات الياء وقد رسمت فيها الفتحة الطويلة المتطرفة بالألف (2)، فأولها في سورة إبراهيم {عَصََانِي (36)}، والأقصا (1) [الإسراء]، و {تَوَلََّاهُ (4)} [الحج]، وأقصا [القصص: 20، يس: 20]، و {سِيمََاهُمْ (29)} *
[الفتح]، وطغا (11) [الحاقة].
واتفقت المصاحف على رسم ما كان من الأسماء والأفعال من ذوات الواو على ثلاثة أحرف بالألف، وذلك نحو: الصفا، شفا، سنا، خلا، عفا، دعا، بدا، نجا، علا. إلا ستة أحرف فإنها رسمت بالياء (3)، وهي كلمة (الضحى) حيث وقعت، مضافة أو مقترنة (بأل) أو مجردة، و {زَكى ََ (21)} * [النور] و {دَحََاهََا (30)} [النازعات] و {وَضُحََاهََا (1)} *
{تَلََاهََا (2)} [الشمس] و {سَجى ََ (2)} [الضحى].
أموقف علماء السلف من الظاهرة:
وقد علل علماء الرسم كتابة الفتحة الطويلة ياء في ذوات الياء (على مراد الإمالة وتغليب الأصل) (4)، أي أن الفتحة الطويلة نطقت ياء أو قريبا منها على عادة كثير من
__________
(1) انظر المهدوي: ص 87. والداني: المقنع، ص 63و 64. والعقيلي: لوحة 3.
(2) انظر المهدوي: ص 87. والداني: المقنع، ص 64، والمحكم (له)، ص (161160). وانظر أيضا: كتاب الهجاء (لمجهول) حيث يذكر (لوحة 13) ست كلمات: ومضا مثل الأوّلين [الزخرف: 8]، وو جنا الجنّتين [الرحمن: 54]، و {أَحْيَا النََّاسَ (32)} [المائدة]، وطغا والأقصا وأقصا المذكورة.
(3) انظر المهدوي: ص 86. والداني: المقنع، ص 66. والعقيلي: لوحة 6.
(4) انظر مكي: الكشف، ج 1، ص 3. والداني: المقنع، ص 63. وسليمان بن نجاح: لوحة 6و 18.
والجعبري: ورقة 250ب. والشيرازي: لوحة 11. والقسطلاني: ج 1، ص 81. وانظر ابن جني:
سر صناعة الإعراب، ج 1، ص 56.(1/263)
العرب في الإمالة وعلى نحو ما روي عن بعض القراء، فكتبت لذلك بالياء، أو أنها رسمت على أصلها الذي تؤول إليه في بعض الصيغ، وقالوا لذلك بأن ما رسم بالألف من ذوات الواو إنما كان ذلك لامتناع الإمالة فيه (1).
أما رسم الفتحة الطويلة في ذوات الواو بالياء في الأمثلة الستة المشار إليها، فقد عللوا ذلك بأنه على وجه الاتباع لما قبل ذلك وما بعده مما هو مرسوم بالياء من ذوات الياء لتأتي الفواصل على صورة واحدة (2)، وقد نقل أبو بكر الأنباري مذهب الأخفش في تعليل ذلك وهو قوله: كتبت هذه بالياء لأن أواخر الآي التي معها بالياء. فكتبوها على مثل الذي هي معه، يعني أن (سجى) سبقه {وَالضُّحى ََ} وتليها سبقه {وَضُحََاهََا} *
وقال أيضا: وإن شئت قلت: قلبوا {سَجى ََ} وتلا إلى الياء لأن الواو تنقلب إلى الياء، وقال أيضا: ويقال كتبت في موضع بالاتباع ثم كتب في كل مكان بتلك الصورة لئلا يفترق الخط مثل (قضى) لأنه يقال (قضيت وقضينا) فيكون الخط متفقا (3).
وعلل أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي كتابة ذوات الياء بالياء بأن ذلك للدلالة على أنها من الياء، وللفرق بينها وبين ذوات الواو، وما كتب منها بالألف فعلى اللفظ، وأما ذوات الواو فإنها كتبت بالألف ليفرق بذلك بينها وبين ذوات الياء. وما كتب منها بالياء فلأنها ترجع إلى الياء إذا دخلت عليها الزوائد أو كان الفعل غير مسمى الفاعل، وأكثر ما وقع من ذلك بالياء ما جاور ذوات الياء فردّ إلى الياء وهو من ذوات الواو، ولتتفق رءوس الآي وتجري على سنن واحد (4).
وقد أشار الإمام أبو عمرو الداني في كتابه (الموضح في الفتح والإمالة) إلى أن العلماء اختلفوا في أيهما أوجه من طريق النظر وأولى من جهة القياس الفتح أم الإمالة؟
ولا يعنينا من الإجابة على ذلك (5) سوى مذهب أبي عبيد القاسم بن سلام في أن الفتح
__________
(1) انظر الداني: المقنع، ص 66. والشيرازي: لوحة 12.
(2) الداني: المقنع، ص 67.
(3) إيضاح الوقف والابتداء، ج 1، ص (438437).
(4) انظر: هجاء مصاحف الأمصار، ص 90.
(5) انظر مكي: الكشف، ج 1، ص 168. والداني: الموضح، ورقة 24أ. ود. عبد الفتاح شلبي:
الإمالة، ص 64.(1/264)
هو الأصل، وردّه مذهب من احتج بالخط للإمالة بقوله: واحتجوا في الإضجاع يعني الإمالة بالخط، فقالوا: رأينا المصاحف كلها بالياء في هذه الحروف، ثم قال: والذي عندنا في ذلك أنه يلزم من أضجع اتباعا للخط أن يضجع (على وإلى ولدى) لأنهن جميعا كتبن بالياء، وليس أحد يتكلم بهن بالإضجاع (1).
ويفهم من قول أبي عبيد هذا أنه لا يرى أن ما رسم بالياء من الألفات قد رسم للإمالة، وقد ناقش الداني أبا عبيد فيما ذهب إليه من اختيار الفتح وترجيحه على الإمالة فقال (2): فأما ما احتج به أبو عبيد، رحمه الله، من اختيار الفتح وتغليبه إياه بذلك على الإمالة فلا يلزم من خالفه، إذ ليس بدليل قاطع لاحتماله من وجوه الصواب ما هو أولى من الوجه الذي وجهه إليه، ثم يقول (3): وأما قوله في (على وإلى ولدى) إن من أمال من أجل الخط لزمه أن يميلهن لرسمهن بالياء فلا يلزم أيضا، لأن من خالفه يقول لم تكتب ألفاتهن ياءات للدلالة على أن ذلك أصلهن ولا على أن الإمالة جائزة فيهن، كما كتبن فيما عداهن من أجل ذلك، بل إنما كتبوهن كذلك خشية الالتباس بما قد يشركهن في الصورة ومما يدل أيضا على أنهم رسموا (على وإلى ولدى) بالياء للفرق إجماعهم على ترك إمالتهن (4). على أن أئمة القراءة لم تمل ما كان من ذوات الياء من أجل الرسم فقط، بل إنما أمالته من حيث صحة الرواية فإمالته عندهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم دلت على حسنها وجوازها وتأكدها ووقوعها برسم تلك الحروف بالياء إذ الإمالة من الياء، والياء من الأسباب الجالبة لها.
تتلخص إذن وجهة نظر علماء السلف في رسم الألف ياء في أنها رسمت كذلك إما بسبب الإمالة، وهي «أن تقرب الفتحة، قصيرة كانت أو طويلة، إلى الكسرة، قصيرة
__________
(1) الداني: الموضح، ورقة 24أ. ونقل ذلك علم الدين السخاوي في جمال القراء (انظر ورقة 183ب).
(2) الموضح، ورقة 24ب.
(3) نفس المصدر، ورقة (25أ 25ب)، وانظر علم الدين السخاوي: جمال القراء، ورقة 187/ أ.
(4) يرى الإمام مكي (الكشف، ج 1، ص 193) أن ألف (على وإلى ولدى) إنما كتبت بالياء لانقلابها مع المضمر إلى الياء في اللفظ، تقول (عليه وإليه ولديه)، فكتبن على الانفراد بالياء اتباعا لاتصالهن بالمضمر.(1/265)
كانت أو طويلة، كذلك» (1). أو لأن أصل بناء تلك الكلمات الياء، فيقال في (رمى) مثلا (يرمي، رميت، الرمي إلخ) فظهر أن أصل الفتحة الطويلة في (رمى) الياء، فكتبت كذلك بناء على الأصل (2) أو أن بعض ما كتب بالياء إنما كتب كذلك للفرق بينه وبين ما قد يشركه في الصورة، أو لأن ما أصله الواو من ذلك رسم بالياء على وجه الاتباع، ولتتفق رءوس الآي.
ب مناقشة آراء علماء السلف:
ويبدو أن أيا من تلك التعليلات التي ذكرها العلماء غير قادر على إعطاء تفسير يشمل كافة الأمثلة التي جاءت فيها الفتحة الطويلة مرسومة بالياء، فالتعليل بالإمالة يستثنى منه ما أجمع القراء على عدم الإمالة فيه، والتعليل بالأصل لا يشمل ما جاء من ذوات الواو مرسوما بالياء، أما الفرق أو الاتباع فليس في أي منهما على ما يبدو دلالة على تعليل ما سيق من أجله، ومن هنا يتطرق الشك إلى صحة تلك التعليلات أو كفايتها.
أما تعليل ما رسم ياء، من ذوات الواو، بالاتباع لتأتي الفواصل على صورة واحدة فإن ذلك يثير سؤالا حول أثر ظاهرة الحرص على تناسب رءوس الآي، وهل أن ذلك يتعدى اللفظ إلى طلب التناسب في الهجاء؟ فقد بني هذا التعليل على أساس أن الكلمة التي تأتي في الفاصلة، وهي منتهية بفتحة طويلة مع فواصل أخرى منتهية بفتحة طويلة مرسومة ياء يتحتم رسم الفتحة الطويلة في تلك الكلمة بالياء أيضا. فكلمة (سجى) مثلا في سورة الضحى، رسمت كذلك لأن رءوس الآي التي اكتنفتها جاءت فتحة
__________
(1) د. عبد الفتاح شلبي: الإمالة، ص 51. وانظر في تعريف ومعنى الإمالة أيضا: المبرد، ج 3، ص 42. وابن جني: الخصائص: ج 2، ص 141. ومكي: الكشف، ج 1، ص 168. وابن يعيش:
ج 9، ص 54. وابن الجزري: النشر، ج 2، ص 35. ود. إبراهيم أنيس: في اللهجات العربية، ص 64. وانظر د. عبد الفتاح شلبي: الإمالة، ص (1514).
(2) يقول الداني: (الموضح، ورقة 26ب): «اعلم أنك إذا أردت أن تعرف أصل الألف المنقلبة عن أي شيء انقلبت؟ فإنك تعتبرها بأحد أربعة أشياء: بالاسم الذي أخذت منه، أو بالفعل، أو بالتثنية، أو بالجمع. فإن ظهرت الياء في كل ذلك أو في شيء منه فهي أصلها، وإن ظهرت الواو فيه فهي أيضا أصلها». وانظر الداني: التيسير، ص 47. ومكي: الكشف، ج 1، ص 180.
وابن الجزري: النشر، ج 2، ص 35.(1/266)
طويلة مرسومة بالياء على هذا النحو: {وَالضُّحى ََ (1) وَاللَّيْلِ إِذََا سَجى ََ (2) مََا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمََا قَلى ََ (3)}
[الضحى].
وإذا كان بعض تلك الكلمات لم يرد إلّا مرة واحدة، وفي رأس آية، فإن كلمة {الضُّحى ََ} جاءت ست مرات، في وسط الآية، وفي آخرها، مضافة وغير مضافة، وهي في كل ذلك جاءت مرسومة بالياء، وكذلك الفعل (تضحى) في سورة طه (20/ 19) قد جاء مرسوما بالياء، وهذا يشير إلى اطراد الظاهرة في الكلمة دون أن يكون لذلك علاقة بالفواصل، ويبدو أن القول بأنها كتبت في موضع بالاتباع ثم كتبت في كل مكان بتلك الصورة ليتفق الخط لا يقوم على دليل، خاصة أنّا نجد أن رءوس الآي قد تتتابع كلماتها منتهية بفتحة طويلة مرسومة بالياء، ثم نجد من بينها كلمة جاءت مرسومة بالألف، أو أن رءوس الآي تتتابع منتهية بالألف المرسومة عوضا من التنوين في الوقف، ثم نجد بينها كلمة منتهية بفتحة طويلة جاءت مرسومة بالياء، وهو ما يدل على انتقاض الأصل الذي بني عليه هذا التعليل، ففي سورة الكهف نجد كلمة {هُدىً} * بين رءوس الآي المنتهية بالألف التي هي عوض من التنوين المفتوح والتي جاءت متتابعة هكذا (عددا، أمدا، هدى، شططا) [الكهف 18/ 1411]. ونجد في سورة طه:
{أَبْقى ََ} *، {الدُّنْيََا} *، و {أَبْقى ََ} *، و {لََا يَحْيى ََ} * [طه 20/ 7471]. وفيها أيضا (ذكرا، علما، عزما، أبى، فتشقى، ولا تعرى) [طه 20/ 118113]، وفي سورة والنجم و {يَرْضى ََ} *، {الْأُنْثى ََ} *، {شَيْئاً} *، {الدُّنْيََا} *، {اهْتَدى ََ} *، {الْحُسْنى ََ} * [النجم 53/ 3126]، وفيها أيضا:
{وَأَبْكى ََ}، {وَأَحْيََا}، {الْأُنْثى ََ} * [النجم 53/ 4543]. وكذلك نجد نفس الظاهرة في سورة الطلاق (65/ 75)، وفي سورة النازعات (79/ 3937)، وفي سورة الأعلى (87/ 1715).
ومع أن الملاحظ على الفواصل بصورة عامة أنها تميل إلى الانتهاء بصور هجائية متشابهة، كما يظهر مثلا من مقارنة فواصل سورة الكهف التي تنتهي بالألف وفواصل سورة طه التي تنتهي بفتحة طويلة رسمت ياء فإن هذا الاتجاه لا يعني أن ما يرد من كلمات تخالف نهايتها نهايات كلمات فواصل السورة يجب تغيير رسمها لتتناسب الصورة ويتفق الخط، ومن ثم فإن هذا التعليل لبعض أمثلة الظاهرة يبدو ضعيفا، لضعف الأساس الذي بني عليه، كما نلاحظ من تتبع الأمثلة.
أما القول بأن ما رسم بالياء من ذوات الياء للفرق بينها وبين ذوات الواو، وأن ما كتب من ذوات الواو بالألف ليفرق بذلك بينها وبين ذوات الياء فإنه تعليل لا يجد من الأدلة ما يدفع إلى الأخذ به، بل يبدو أن هذا المبدأ في تفسير بعض ظواهر الرسم والكتابة العربية لا أصل له، وأن بعض العلماء قد عجزوا من الوصول إلى تفسير صحيح لبعض ظواهر الرسم أو الزيادة فيه، فقالوا: إن تلك الظاهرة أو الزيادة جاءت للفرق بينها وبين ما قد يشركها في الصورة (1).(1/267)
ومع أن الملاحظ على الفواصل بصورة عامة أنها تميل إلى الانتهاء بصور هجائية متشابهة، كما يظهر مثلا من مقارنة فواصل سورة الكهف التي تنتهي بالألف وفواصل سورة طه التي تنتهي بفتحة طويلة رسمت ياء فإن هذا الاتجاه لا يعني أن ما يرد من كلمات تخالف نهايتها نهايات كلمات فواصل السورة يجب تغيير رسمها لتتناسب الصورة ويتفق الخط، ومن ثم فإن هذا التعليل لبعض أمثلة الظاهرة يبدو ضعيفا، لضعف الأساس الذي بني عليه، كما نلاحظ من تتبع الأمثلة.
أما القول بأن ما رسم بالياء من ذوات الياء للفرق بينها وبين ذوات الواو، وأن ما كتب من ذوات الواو بالألف ليفرق بذلك بينها وبين ذوات الياء فإنه تعليل لا يجد من الأدلة ما يدفع إلى الأخذ به، بل يبدو أن هذا المبدأ في تفسير بعض ظواهر الرسم والكتابة العربية لا أصل له، وأن بعض العلماء قد عجزوا من الوصول إلى تفسير صحيح لبعض ظواهر الرسم أو الزيادة فيه، فقالوا: إن تلك الظاهرة أو الزيادة جاءت للفرق بينها وبين ما قد يشركها في الصورة (1).
أما التعليل الذي يبدو أكثر شمولا للظاهرة وأوضح حجة في الدليل فهو القول بأن ما رسم بالياء من الفتحات الطويلة إنما كان ذلك لقراءته بالإمالة، التي تقرب الفتحة الطويلة إلى الكسرة الطويلة التي ترسم برمز الياء، ولكن ليس لدينا ما يثبت أن كتبة المصاحف في عهد عثمان رضي الله عنه كانوا يتحرون الألفاظ الممالة فيرسمونها بالياء، والألفاظ غير الممالة فيرسمونها بالألف (2)، بل إنّ هناك من الأدلة ما ينفي أن تكون تلك الفتحات الطويلة قد رسمت ياء بسبب الإمالة (3).
فقد ورد أولا في كتب النحو والقراءات ما يدل على أن أصحاب الإمالة من القبائل هم تميم وقيس وأسد وعامة أهل نجد (4). ورغم أن أقوال سيبويه توحي أن بعض أهل الحجاز قد يميل، (أما العامة فلا يميلون) (5)، لكن نصوص علماء القراءة وأقوالهم جاءت تؤكد أن الفتح والإمالة لغتان فاشيتان على ألسنة الفصحاء من العرب
__________
(1) انظر: ص (8784) من الفصل التمهيدي.
(2) انظر د. عبد الفتاح شلبي: الإمالة، ص 196.
(3) يرى المستشرق برجشتراسر (التطور النحوي، ص 3938) أن الكلمات العربية التي رسمت بالياء أومأ الكتاب بها إلى الإمالة وهو من ثم يستدل بذلك على أن الإمالة كانت معروفة مستعملة عند أهل الحجاز. ولكن سنجد أن الرواية والواقع ينفيان هذه الدعوى.
(4) انظر د. عبد الفتاح شلبي: الإمالة، ص 75.
(5) انظر: الكتاب، ج 2، ص 259، و 260، و 261، ويقول (ج 2، ص 263): «واعلم أنه ليس كل من أمال الألفات وافق غيره من العرب ممن يميل ولكنه قد يخالف كل واحد من الفريقين صاحبه فينصب بعض ما يميل صاحبه، ويميل بعض ما ينصب صاحبه، وكذلك من كان النصب من لغته لا يوافق غيره ممن ينصب، ولكن أمره وأمر صاحبه كأمر الأولين في الكسر، فإذا رأيت عربيا كذلك فلا ترينه خلط في لغته ولكن هذا من أمرهم».(1/268)
الذين نزل القرآن بلغتهم، وأن «الفتح لغة أهل الحجاز والإمالة لغة عامة أهل نجد، من تميم وأسد وقيس» (1). ومع أن ابن الجزري يقول «ما أحد من القراء إلا رويت عنه إمالة، قلّت، أم كثرت» (2)، إلا أن الملاحظ بصورة عامة أن قراء العراق، خاصة في الكوفة، كانوا أكثر رواية للإمالة من قراء الحجاز، فأشهر من رويت عنهم الإمالة من القراء العشرة هم حمزة والكسائي وخلف، وهم أئمة القراءة في الكوفة، أما قراء الحجاز أمثال ابن كثير المكي وأبي جعفر ونافع المدنيين، فلا تعرف قراءاتهم الإمالة إلا نادرا (3). ومعنى ذلك أن اللغة السائدة في الحجاز والقراءة التي كان قراء مكة والمدينة يقرءونها هي بصورة عامة الفتح دون الإمالة (4)، أي أن الإمالة لم تكن لغة الذين ولوا نسخ المصاحف.
ثم إن ما ورد من روايات القراء في الإمالة ثانيا لا يشمل كل الكلمات التي رسمت فتحاتها الطويلة ياء، فقد استثنيت بضع كلمات كما مر ذكر ذلك وهي (حتى، إلى، على، لدى، ما زكى)، إذ إنهن مفتوحات بإجماع (5)، كذلك فإن بعضا مما أميل قد جاء مرسوما بالألف، من ذلك مثلا من الأفعال (جاء، شاء، زاد، ران، خاف، طاب، خاب، حاق، ضاق، زاغ) (6)، ومن الأسماء كل ألف بعدها راء مكسورة
__________
(1) الداني: الموضح، ورقة 23ب. وانظر مكي: الكشف، ج 2، ص 379. وابن يعيش: ج 9، ص 54. وابن الجزري: النشر، ج 2، ص 30.
(2) منجد المقرئين، ص 60.
(3) انظر في ذلك: الداني: التيسير، ص 46وما بعدها. وابن يعيش: ج 9، ص 54. وابن الجزري:
النشر، ج 2، ص 35وما بعدها. ود. إبراهيم أنيس: في اللهجات العربية، ص 60. ود. عبد الفتاح شلبي: الإمالة، ص 108.
(4) ورد في معجم الأدباء لياقوت (ج 13، ص 174) أنّ الكسائيّ حجّ مع الرشيد، فقدّم لبعض الصلوات فقرأ: {ذُرِّيَّةً ضِعََافاً خََافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 9] وأمال (ضعافا) فلمّا سلّم أنكر الناس عليه ذلك، بل يذهب الخبر إلى الزعم أنهم ضربوه وفي ذلك إشارة إلى أن أهل الحجاز لم يكونوا يميلون في قراءتهم.
(5) انظر الداني: التيسير، ص 46. وابن الجزري: النشر، ج 2، ص 37.
(6) روى الداني (المقنع، ص 66) أن عاصما الجحدري قال: إنه رأى {مََا طََابَ لَكُمْ} [النساء: 3] مرسوما بالياء (طيب)، وأن الكسائيّ قال: إنه رأى في مصحف أبيّ بن كعب {وَلِلرِّجََالِ}(1/269)
مثل (النار، القهار، الغار، بقنطار، بدينار) وشبهها (1). وهذا يشير إلى أن الإمالة لم تكن أساسا في ما كتب بالياء ولم يمل، أو في ما كتب بالألف مما أميل، وقد سبق قول الداني: إن أئمة القراءة لم تمل ما كان من ذوات الياء من أجل الرسم فحسب، بل إنما أميل من حيث صحّت الرواية، وقد نقل صاحب (كتاب الهجاء) أن من القراء، من كان من أهل الإمالة، لا ينظر إلى المصحف بل يميل ذوات الياء كلها كالكسائي، يقف على جنا الجنتين (جنا) وطغا الماء (طغا)، وأقصا المدينة (أقصا)، وأحيا الناس (أحيا) (2)، ولعل معنى الخبر الذي يرويه ابن أبي داود (3) والداني (4)، عن وكيع عن الأعمش، أن إبراهيم قال «كانوا يرون أن الألف والياء في القراءة سواء» هو أن من قرأ بالفتح أو بالإمالة لم يكن ينظر في ذلك إلى ما رسمت به الفتحة الطويلة من ألف أو ياء، بل يعتمد الرواية، سواء أوافقت الرسم أم خالفته.
ومن ثم فإن كل ذلك قرائن تشير إلى أن الإمالة لم تكن الأساس في ما رسم بالياء من الفتحات الطويلة، لكن الملاحظ أن هناك توافقا كبيرا بين الإمالة والخط، فأكثر ما أميل هو مما رسمت فيه الفتحة الطويلة ياء، وربما كان سبب ذلك التوافق أن كلا من الإمالة والخط يراعى فيه الرجوع بالألف إلى الياء أو أنه ناشئ من الياء (5).
ثم إن القول بأن أصل رسم الفتحة الطويلة ياء في تلك الأمثلة عامة هو باعتبار الأصل يبدو غير واضح ولا دقيق، فهو مع ورود بعض الاستثناءات التي عددها العلماء عليه، لا يبين هل يكون مجرد مجيء بعض صيغ الكلمة بالياء كافيا لتعليل رسم الفتحة
__________
[البقرة: 228] مكتوبة بالياء (وللرّجيل). ومع أن الداني نصّ على أنه لم يجد ذلك كذلك مرسوما في شيء من مصاحف أهل الأمصار فربما رسمت هاتين الكلمتين بسبب الإمالة في بعض المصاحف حيث جرى الكاتب على قراءة الإمالة، وربما يكون ذلك الرسم أثرا لظاهرة لغوية قديمة.
(1) انظر الداني: التيسير، ص 50وما بعدها.
(2) كتاب الهجاء (لمجهول)، لوحة 13.
(3) المصاحف، ص 104و 105.
(4) الموضح، ورقة 25أ.
(5) انظر د. عبد الفتاح شلبي: الإمالة، ص 227، ورسم المصحف والاحتجاج به في القراءات (له)، القاهرة، مكتبة نهضة مصر، 1960، ص 77.(1/270)
الطويلة في غيرها بالياء، أو أن الكلمة التي فيها الفتحة الطويلة هي نفسها كان لها أصل في الياء، أي أنها كانت تنطق ياء؟ والذي يفهم من كلام علماء السلف أنهم يكتفون بالقول الأول، وتظل المشكلة بذلك قائمة دون أن تجد حلا، يشمل جميع الأمثلة الظاهرة، ويجد له من الواقع سندا يدفع إلى اعتماده والأخذ به.
ج التفسير الراجح للظاهرة:
ولعل الشق الثاني من التساؤل السابق، وهو أن احتمال كون تلك الكلمات كانت تنطق في يوم ما بالياء، وترسم لذلك بالياء هو الذي يمكن أن يفسر تلك الظاهرة، ثم يبدو أنه قد حدث تطور في لفظ الياء في تلك الكلمات إلى الفتحة الطويلة، ولكن لم تواكب الكتابة ذلك التطور، فظل الرسم بالياء التي نجدها مرسومة الآن في كثير من الكلمات في الرسم العثماني، بينما صار اللفظ فتحة طويلة.
وحين نتتبع عامة الأمثلة في هذه الظاهرة نجد أن الياء تظهر في صيغها المتعددة، وهو ما حمل علماء السلف على القول بأن الفتحة الطويلة كتبت ياء بناء على الأصل، ولكن أليس من المحتمل أن هذه الفتحة الطويلة كانت في يوم ما ياء، مثل عامة صيغ الكلمة الأخرى، ثم حدث أن صارت إلى الفتحة الطويلة لتطور لحق الكلمة خاصة أنها في طرف الكلمة؟ نجد أن التطور في صيغ الكلمات قد أصاب الفعل الماضي مرة والمضارع أخرى، وربما شمل المصدر أيضا، فممّا الماضي فيه بالألف والمضارع بالياء مثلا (جنى يجني ومشى يمشي، ورمى يرمي) ومما كان المضارع فيه بالألف والماضي بالياء (خشي يخشى، ورضي يرضى، وبقي يبقى، ولقي يلقى، ونسي ينسى، وفني يفنى)، ونجد أن بعض مصادر هذه الأفعال قد احتفظ بالياء مثل (مشيا، ورميا)، وبعضها قد صارت الياء فيه فتحة طويلة، أو احتفظ بالصيغتين، مثل (أذي أذى، وأنى أنيا وإنى، وخزي خزيا وخزى، ورضي رضا)، ولعل من الممكن أن نستنتج من ذلك أن هذه الفتحات الطويلة كلها كانت ياء في الأصل، وأن التطور كان من الياء إلى الفتحة الطويلة، ومما ساعد على ذلك وقوعها في الطرف، ولهذا نجدها ياء إذا اتصلت بالضمير مثل (مشيت ورميت ويخشيان ويرضيان)، أي أنها أقل استجابة للتطور حين توجد في وسط الكلمة، ثم لعل من الممكن القول بناء على ذلك أن بالإمكان أن يأتي كل فعل معتل بالياء على صيغتين في المضارع والماضي
وكذلك المصدر، هما الصيغة القديمة بالياء، والصيغة المتطورة بالألف، فنقول: (رضي، ورضى مثل رمى، ويرضى ويرضي مثل يرمي، ورضا ورضيا مثل رميا)، ولعل مجيء الفعل (بقي) بصيغته الأخرى (بقى) وكذلك مجيء مصدر (خزي) بالصيغتين (خزيا وخزى) مما يسوغ قبول هذه الفكرة (1)، ولا شك أن كثيرا من الأفعال لم تبلغ كل صيغها جميع مراحل ذلك التطور، فنجد أن بعضها لا يزال يحتفظ بالصورة الأولى للفظ في المضارع أو في الماضي، وبعضها بالصورتين، إلا أن فعلا مثلا (سعى) قد تحقق التطور فيه في الماضي والمضارع (سعى، يسعى) دون المصدر (سعيا).(1/271)
وحين نتتبع عامة الأمثلة في هذه الظاهرة نجد أن الياء تظهر في صيغها المتعددة، وهو ما حمل علماء السلف على القول بأن الفتحة الطويلة كتبت ياء بناء على الأصل، ولكن أليس من المحتمل أن هذه الفتحة الطويلة كانت في يوم ما ياء، مثل عامة صيغ الكلمة الأخرى، ثم حدث أن صارت إلى الفتحة الطويلة لتطور لحق الكلمة خاصة أنها في طرف الكلمة؟ نجد أن التطور في صيغ الكلمات قد أصاب الفعل الماضي مرة والمضارع أخرى، وربما شمل المصدر أيضا، فممّا الماضي فيه بالألف والمضارع بالياء مثلا (جنى يجني ومشى يمشي، ورمى يرمي) ومما كان المضارع فيه بالألف والماضي بالياء (خشي يخشى، ورضي يرضى، وبقي يبقى، ولقي يلقى، ونسي ينسى، وفني يفنى)، ونجد أن بعض مصادر هذه الأفعال قد احتفظ بالياء مثل (مشيا، ورميا)، وبعضها قد صارت الياء فيه فتحة طويلة، أو احتفظ بالصيغتين، مثل (أذي أذى، وأنى أنيا وإنى، وخزي خزيا وخزى، ورضي رضا)، ولعل من الممكن أن نستنتج من ذلك أن هذه الفتحات الطويلة كلها كانت ياء في الأصل، وأن التطور كان من الياء إلى الفتحة الطويلة، ومما ساعد على ذلك وقوعها في الطرف، ولهذا نجدها ياء إذا اتصلت بالضمير مثل (مشيت ورميت ويخشيان ويرضيان)، أي أنها أقل استجابة للتطور حين توجد في وسط الكلمة، ثم لعل من الممكن القول بناء على ذلك أن بالإمكان أن يأتي كل فعل معتل بالياء على صيغتين في المضارع والماضي
وكذلك المصدر، هما الصيغة القديمة بالياء، والصيغة المتطورة بالألف، فنقول: (رضي، ورضى مثل رمى، ويرضى ويرضي مثل يرمي، ورضا ورضيا مثل رميا)، ولعل مجيء الفعل (بقي) بصيغته الأخرى (بقى) وكذلك مجيء مصدر (خزي) بالصيغتين (خزيا وخزى) مما يسوغ قبول هذه الفكرة (1)، ولا شك أن كثيرا من الأفعال لم تبلغ كل صيغها جميع مراحل ذلك التطور، فنجد أن بعضها لا يزال يحتفظ بالصورة الأولى للفظ في المضارع أو في الماضي، وبعضها بالصورتين، إلا أن فعلا مثلا (سعى) قد تحقق التطور فيه في الماضي والمضارع (سعى، يسعى) دون المصدر (سعيا).
ولا يعنينا هنا كثيرا إذا صح ما قدمناه أن نحدد تاريخا لذلك التطور الذي حدث في مراحل متقدمة من تاريخ العربية، بل يبدو أن محاولة تحديد مثل ذلك التاريخ الآن خطوة لا تعتمد على أدلة كافية، ويكفي أن نعرض مثالا لخطوات ذلك التطور المحتمل في فعل من الأفعال المعتلة بالياء، فالفعل (رمى) كان حسب الأصل المفترض (رمي)) (2)، ثم حدث أن تطورت الياء وهي متطرفة إلى فتحة طويلة، ولم يتطلب ذلك التطور سوى سقوط الياء ثم التقاء حركتها بحركة الميم قبلها لتكون الحركتان القصيرتان فتحة طويلة هكذا ()، ولكن رغم حدوث ذلك التطور في اللفظ فإن الرسم ظل على حالته بالياء، لأن الكتابة كما ذكرنا من قبل أقل تطورا، وأكثر احتفاظا بالظواهر القديمة (3).
__________
(1) قال أبو عمرو الداني (المحكم، ص 157) وهو يتكلم عن رسم (تراءى) بألف واحدة بعد الراء في قوله تعالى: ترآ الجمعان (61) [الشعراء]. إن أصل هذا الفعل هو (تراءى) على وزن تفاعل، ومثل ذلك من السالم تضارب وتقاتل، فلما تحركت الياء التي هي لام، وانفتح ما قبلها انقلبت ألفا، (تراءا)، وهذه الظاهرة هي نفس ما نجده في الأفعال الثلاثية المعتلة في (رمى وسعى).
(2) انظر برجشتراسر: ص 39.
(3) لاحظ علماء العربية ظاهرة تحول الياء التي تقع طرفا في مثل الأمثلة المذكورة وعبروا عن ذلك بالإبدال مرة وبالقلب أخرى، وقالوا إن الياء والواو إذا تحركتا وانفتح ما قبلهما قلبتا ألفا أو أبدل منهما الألف، (انظر ابن يعيش: ج 10، ص 16و 98، والسيوطي: همع الهوامع، ج 2، ص 222)، وهي ملاحظة صادقة وصحيحة، ولكن التعبير عنها بالإبدال أو القلب جاء قاصرا (انظر د. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص 77)، إذ لا يحدث في تلك الأمثلة أي قلب أو إبدال، إنما تسقط الياء أو الواو وتتخلف عن ذلك فتحتهما والفتحة السابقة لهما فتكونان فتحة(1/272)
وليس من اليسير هنا أن نتابع مثل ذلك التطور في كل ما كتب بالياء من الفتحات الطويلة في الرسم العثماني، ونرجع بها إلى أصلها اليائي، ولو أن عامتها تظهر الياء في بعض صيغها، ولكنا سنعتبر هذا التفسير للظاهرة شاملا لكل الكلمات التي جاءت فتحاتها الطويلة مرسومة بالياء، سواء كان مما قال فيه العلماء إنه من ذوات الياء أم من ذوات الواو (1)، من الثلاثي أو من غيره، على أساس أن كل ما جاء مرسوما من ذلك بالياء كان في يوم ما ينطق ياء، وكتب بالياء لذلك ولكن حدث تطور في النطق لم يصاحبه تطور في الكتابة، فتولدت لدينا تلك الظاهرة التي برزت في الرسم العثماني في عشرات الكلمات.
ومع أن هذا التفسير استنتاج من خلال تتبع بعض الأمثلة في صيغها المتعددة إلا أن تأمل رسم الكلمات التي جاءت فتحاتها الطويلة مرسومة ياء، ومقارنة ذلك بطريقة الرسم العثماني في تمثيل كل من الكسرة والضمة الطويلتين، يتضح أن هذه الياء التي هي في النطق الآن فتحة طويلة كانت في أصل وضعها تنطق ياء، فرسمت لذلك بالياء.
وقبل أن نفصل القول في هذه الفكرة نشير إلى نص صفوي درسه المستشرق الألماني (أنوليتمان)، ولاحظ فيه أن كلمة (شتا) جاءت مرسومة في ذلك النص هكذا (ش ت ى)، وحاول ليتمان أن يوضح أصل تلك الصورة الخطية فقال (2): «وبيان ذلك أن الفعل الناقص له في الصفوية صيغة واحدة فقط، وهي أن لامه دائما ياء، وهذا التغيير نصادفه في لهجات سامية كثيرة، ويتضح لنا أيضا أن الفعل الناقص يصرف في الصفوية مثل الفعل السالم أي شتي أو شتي (و) لو كان لفظه شتا لكتب (ش ت) كما يكتب (ع ل) بمعنى على و (أل) بمعنى إلى»، ويمكن الإفادة هنا من ملاحظة أن الفعل الصفوي
__________
طويلة، وهذا الموضوع أوسع من أن نتمكن من مناقشته تفصيلا هاهنا، وإنما نكتفي بالقدر الذي يوضح ظاهرة رسم الفتحة الطويلة ياء في الأمثلة المذكورة، (وانظر د. كمال محمد بشر:
دراسات في علم اللغة، ق 2، ص 118116).
(1) إن الكلمات الست التي قال عنها علماء السلف إن أصلها الواو، وكتب بالياء، تتميز بأن أكثرها واوية يائية (الضحى زكى طحى تلى دحى) وبعضها واوي إلا أن الياء تظهر في بعض صيغة (سجى) (انظر مواد هذه الكلمات في تاج العروس شرح القاموس لمرتضى الزبيدي)، وهذا الأصل اليائي يوضح لنا رسم الفتحة الطويلة فيها بالياء.
(2) لهجات عربية شمالية قبل الإسلام، ج 3، ص 250.(1/273)
(ش ت ي) لو كان يلفظ بالألف لكتب (ش ت)، بناء على أن الفتحة الطويلة لم يكن لها رمز في الكتابة، وكذلك يمكن القول إنه لما كان استخدام رمز الياء قديما قدم تاريخ الأبجدية وإن رمز الفتحة الطويلة لم يستخدم رمز الألف في الإشارة إليها في الكتابة العربية إلا قبل الإسلام بقرون معدودة، فإن قدم استخدام رمز الياء وحداثة استخدام رمز الفتحة الطويلة يوضح لنا سر اطراد إثبات الفتحة الطويلة المرسومة ياء في حالة اتصال الضمائر بها، فالألف التي هي رمز الفتحة الطويلة تثبت في أواخر الكلمات دائما إلا أنها تحذف في كثير من المواضع في وسط الكلمات، وهذا يسري على بعض الفتحات الطويلة التي هي في أصل وضعها متطرفة، لكن اتصالها بشيء يعرضها للسقوط في الرسم مثلما سقطت الألف من (نا) ضمير المتكلمين إذا اتصل بها ضمير، لكن الملاحظ أن الفتحات الطويلة المرسومة ياء جاءت ثابتة في الرسم حين تتوسط، دون أن تتعرض لظاهرة حذف الألف التي تمثل الفتحة الطويلة، وهو ما يشير إلى أن تلك الياء كانت تلفظ في الأصل ياء بالفعل، وأنها أخذت خصائص رمز الياء حين يطرد إثباتها في وسط الكلمات، فالياء التي هي فتحة طويلة في اللفظ جاءت وكأنها نفس رمز الياء التي تنطق ياء، إذ أنها ظلت ثابتة في الرسم في كل حالات توسطها، في مثل (اصطفيه، يتوفيهن، ينهيهم، استسقيه، أفأصفيكم، سميكم، تتلقيهم، ينهيكم، يخشيها) ومثل (هديهم، تقية، دعويهم، سيميهم، بشريكم، منتهيها)، وما أشبه ذلك، فإن الياء التي هي فتحة طويلة في اللفظ جاءت ثابتة في كل ذلك، ولكن في أمثلة نادرة جرى فيها الكتّاب على اللفظ متناسين أصل رسم الكلمة أو ربما لم يقرءوه في نص مكتوب (1)، مثل كلمة (سيماهم) فقد وردت في المصحف ست مرات، اثنتان منها رسمتا ياء (سيميهم)، في الأعراف (7/ 46و 48)، وثلاثة مواضع جاءت محذوفة (سيمهم)، في البقرة (2/ 273) والقتال (47/ 30) والرحمن (55/ 41)، ومرة واحدة جاءت مرسومة بالألف (سيماهم)، في سورة الفتح (48/ 29) (2)، وتعليل هذه الصور المتعددة لهذه الكلمة أن الكاتب تردد بين استخدام الشكل القديم بالياء في موضعين وبين الاستجابة لواقع النطق بالفتحة الطويلة فأثبتها مرة بالألف وحذفها في المواضع الأخرى استنادا إلى
__________
(1) في مصحف طشقند جاءت كلمة {هَدَيْنََا} * [الأعراف: 43]، وأ تنهينا [هود: 92] مرسومتان بحذف الياء التي هي في اللفظ فتحة طويلة، هكذا (هدنا) و (أتنهنا).
(2) انظر: ابن أبي داود: ص 113. والمهدوي: ص 87. والداني: المقنع، ص 64و 89.(1/274)
ما جرى من عدم إثبات رمز الفتحة الطويلة المتوسطة كثيرا.
ويبدو أن ذلك هو سبب مجيء كلمة (لدى) مرسومة بالألف في موضع لدا الباب (25) [يوسف]، وبالياء في موضع آخر {لَدَى الْحَنََاجِرِ (18)} [المؤمن]، ويبدو ذلك أيضا سببا لمجيء كلمة (رأى) مرسومة بألف واحدة (را) في مثل رأ أيديهم [هود:
70]، و {فَلَمََّا رَآهُ} [النمل: 40]، وفلمّا را القمر (77) [الأنعام] {فَلَمََّا رَأَى الشَّمْسَ}
[الأنعام: 78]، واحتفاظها إلى جانب ذلك بالصورة القديمة (رأى) بألف بعدها ياء في موضعين {مََا رَأى ََ (11)} * [النجم] و {لَقَدْ رَأى ََ مِنْ آيََاتِ رَبِّهِ (18)} [النجم] (1)، حيث جرى الكاتب في رسمها على اللفظ مع ملاحظة أنها ربما نطقت مسهلة الهمزة، وسنتناول ذلك في المبحث التالي.
ونجد ظاهرة الاستجابة للفظ في كتابة الكلمات التي جاءت فتحاتها الطويلة مرسومة بالياء شائعة في مصحف طشقند (2)، ومصحف جامع عمرو بن العاص (3)، حيث نجد كلمات مثل (هدى، بغى، مضى، أربى) قد جاءت مرسومة هكذا (هدا، بغا، مضا، أربا)، ومثل ذلك أيضا (حتى وعلى) حيث جاءتا في مصحف طشقند مرسومتين بالألف بدل الياء في مواضع كثيرة هكذا (حتا وعلا) (4)، ويبدو أن اتجاها نحو كتابة هذه الكلمات على نحو ما تلفظ قد بدأ يظهر على أيدي الكتّاب، ونلمس أثر ذلك في البرديات العربية أيضا، حيث جاء كثير من الكلمات مما تكتب فيها الفتحة الطويلة بالياء مكتوبة بالألف، مثل (إلى، حتى، متى، أبقى، أعطى، الموتى، مولى إلخ) (5).
__________
(1) الداني: المقنع، ص 25. والمحكم (له) ص 129.
(2) انظر: الأنعام 6/ 80و 88و 90و 161، وهود 11/ 63، والنحل 16/ 92، وص 38/ 22، والزخرف 43/ 8.
(3) انظر الأنعام 6/ 80و 88و 90، والحج 22/ 37، والسجدة 32/ 9، والزمر 39/ 18.
(4) انظر المواضع التي رسمت فيها (حتا): في البقرة 2/ 102و 109، والنساء 4/ 15و 18، والأعراف 7/ 38، والإسراء 17/ 34، والكهف 18/ 60و 70و 86و 96، والشعراء 26/ 201، والنمل 27/ 18و 32، ويس 36/ 39، وفصلت 41/ 20، والمواضع التي وردت فيها (علا) هي في آل عمران 3/ 160و 179، والنساء 4/ 17و 85، والمائدة 5/ 92و 99و 117، والأنعام 6/ 93، والكهف 18/ 15.
(5) انظر د. عبد العزيز الدالي: ص 219، ولم تقتصر هذه الظاهرة على المصاحف المخطوطة القديمة(1/275)
ولعل القواعد التي وضعها علماء العربية، وشاعت على أيدي الكتاب هي التي صدت هذا الاتجاه من السريان في معظم الكلمات، فظلت الكلمات تحتفظ برسمها القديم الذي رسمت به في المصحف العثماني.
ويبدو أن إرجاع تلك الظاهرة التي ظهرت في رسم الكلمات التي كانت الفتحة الطويلة فيها ترسم ياء، أو أن رسم بعض الكلمات التي قال العلماء أن أصل ألفاتها الواو بالياء، إلى الخطأ أو التخليط (1) شيء مردود، نتجه الجهل بأصل الظاهرة، وغياب ذلك البعد التاريخي لها عند إصدار ذلك الحكم، إضافة إلى أنه يدل على فهم قاصر لحالة الكتابة العربية في تلك الفترة حيث كانت حرة لم تخضع لقاعدة وضعها واضع سوى أنها كانت تتطور تطورا يستجيب لتطور اللغة في الاستعمال الحي، فتستجيب للنطق مرة وتحتفظ بالصور القديمة لهجاء الكلمات أخرى وفقا لما جرت عليه أيدي الكتّاب في ذلك.
3 - رسم الفتحة الطويلة واوا:
أما رسم الفتحة الطويلة واوا فقد جاء ذلك في أربعة أصول مطردة، وأربعة أحرف متفرقة (2)، فالأربعة الأصول هي (الصلاة والزكوة والحيوة والربوا)، حيث وقعن، والأربعة الأحرف هي (الغدوة) في الأنعام (6/ 52) والكهف (18/ 28)، و (مشكوة) في النور (24/ 35)، و (النجوة) في غافر (40/ 41)، و (منوة) في والنجم (53/ 20)، إلا أن ما جاء من كلمتي (الصلاة والحيوة) مضافا إلى ضمير كتب بالألف دون الواو (3)، مثل (صلاتهم، صلاتي، صلاتك، صلاته) و (حياتنا، حياتكم، حياتي) ولكن ربما رسمت الألف في بعض المصاحف وهو الأكثر، وربما لم ترسم وهو الأقل (4)، أما كلمة
__________
والبرديات بل نجد نقشا على الصخر قد جاءت فيه (على) مرسومة بالألف (علا)، وربما يعود هذا النقش إلى سنة (58هـ)، حيث وجد إلى جانب نقش سد الطائف المؤرخ بسنة (58هـ) (انظر صورة النقش د. صلاح الدين المنجد، ص 103).
(1) انظر د. عبد الفتاح شلبي: رسم المصحف، ص 72.
(2) الداني: المقنع، ص 54. وانظر ابن قتيبة: أدب الكاتب، ص 253. والمهدوي: ص 88.
(3) الداني: المقنع، ص 54. وانظر ابن قتيبة: أدب الكاتب، ص 253. والمهدوي: ص 88.
(4) الداني: المقنع، ص 55.(1/276)
(الزكوة) فلم تأت مضافة في القرآن، وقد كتبوا (الربوا) بالواو وألف بعدها إلا في موضع واحد اختلف فيه، وهو (الروم 30/ 39) {وَمََا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً} فقيل بالألف وقيل بالواو (1).
أموقف علماء السلف من الظاهرة:
وقد حاول علماء الرسم وعلماء العربية تقديم تفسير لهذه الظاهرة، فعلل معظمهم ذلك بكتابة الفتحة الطويلة واوا على لغة أهل الحجاز في التفخيم أو بكتابتها على الأصل لأن أصل الألف فيها هو الواو (2).
فقد ذهب الخليل في كتاب العين كما ينقل ابن درستويه إلى أنهم كتبوا (الحيوة) بالواو على لغة من يفخم الألف التي أصلها الواو في مثل الصلاة والزكاة (3)، وتحدث سيبويه عن ألف التفخيم في لغة أصل الحجاز، في قولهم الصلاة والزكاة والحياة، بين الأصوات الستة المستحسنة التي ذكرها بعد التسعة والعشرين (4)، وذهب هذا المذهب أيضا ابن جني، فقد قال (5): «كتبوا الصلاة والزكوة والحيوة بالواو، لأن الألف مالت نحو الواو». وقال الزمخشري إن (الربوا) كتبت بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة وزيدت الألف تشبيها بواو الجمع (6).
__________
(1) ابن أبي داود: ص 106. والداني: المقنع، ص 55و 83.
(2) يرى ابن درستويه (ص 49) أن ذلك كان (غلطا في الخط واستعمل حتى (اعتيد) ولن نحاول أن نتكلف مناقشة ذلك لأننا نرفض مبدأ القول بالخطإ في تفسير ظواهر الرسم، وبطلان دعوى القول بالخطإ في ظاهرة رسم الألف واوا أكثر وضوحا هنا كما سيتضح ذلك.
(3) كتاب الكتاب، ص 49. العين 3/ 317.
(4) الكتاب، ج 2، ص 404.
(5) سر صناعة الإعراب، ج 1، ص 56. وانظر ابن يعيش: ج 10، ص 127.
(6) الكشاف، ج 1، ص 244. وقد ذكر صاحب كتاب المباني في مقدمته (ص 137) أن الربوا كتب بالواو على لغة من يقول (الربوا)، وهو مما تكلمت به قريش، وروي عن ضمضم بن جوهر أنه قال «قال رجل لابن عباس إني قتلت حية، وأنا محرم، فقال ابن عباس: هل نهشت إليك؟ قال:
لا. فقال: لا بأس بقتل الأفعو ولا ترمي الحدو. قال: فما أنسى خلاف كلامه من كلامنا»، ولكن عدم ورود هذه اللغة في القراءات كما سنبين يضعف احتمال أن تكون هذه الكلمة كتبت بالواو على تلك اللغة.(1/277)
وكان ابن قتيبة قد ذكر أن بعض أصحاب الأعراب قال: إنهم كتبوا ذلك بالواو على لغات الأعراب، وكانوا يميلون في اللفظ بها إلى الواو شيئا، وقيل: بل كتبت على الأصل، وأصل الألف فيها واو (1)، كذلك قال المهدوي (2): «وما كتب بالواو من نحو (الصلاة) وشبهها، فهو محمول عندهم على لفظ التفخيم لأن الألف إذا فخمت نحي بها نحو الواو في اللفظ، فكتبت على ذلك، ويجوز أن تكون كتبت بالواو، لتدل على أن أصلها الواو». وقال الداني: إن ذلك رسم بالواو على الأصل، أو على لغة أهل الحجاز الذين يفرطون في تفخيم الألف وما قبلها في ذلك (3).
وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أن رسم الألف واوا في الكلمات المذكورة كان ردا لها إلى الأصل، ليعلموا به مع علمها، ويدلوا على معرفته مع معرفتها، كما يقول ابن مقسم (4)، ويذكر الجعبري أن وجه رسم الألف واوا في المواضع المذكورة الدلالة على أصلها وذكر مذهب من علّل ذلك بالتفخيم ثم قال (5): «ولم أعلل به لعدمه في القرآن العظيم وكلام الفصحاء»، ويقول الداني (6): «وإن كان لا إمام لتلك اللغة من أئمة القراءة فقد صحّت عن العرب وفشت عن الفصحاء واستعملت في الكتابة». وذكر أن الفراء قال إنها كانت لغة الفصحاء من أهل اليمن، لكن القسطلاني يرد ذلك وينص على أن ذلك غلط لأنها إنما رسمت واوا لتدل على أصلها (7).
ولا يكاد ما ذكره علماء السلف في تفسير الظاهرة سواء من قال إن ذلك كان بأن جرت الكتابة على الأصل، أم من ذهب إلى أنه كتب على لغة من فخّم الألف يعطي تفسيرا محددا وواضحا، أما المذهب الأول فلا يبين لماذا يصر الكتاب على التمسك بالأصل، وهل كان ذلك في مرحلة سابقة هو النطق الفعلي للكلمة؟ وأما الثاني، فمع
__________
(1) أدب الكتاب، ص 253، وقد نقل القلقشندي كلام ابن قتيبة (انظر ج 3، ص 207).
(2) هجاء مصاحف الأمصار، ص 90.
(3) المحكم، ص (189188)، وانظر الموضح (له)، ورقة 25أ، والشيرازي: لوحة 12.
(4) انظر: علم الدين السخاوي: الوسيلة، ورقة 61ب.
(5) خميلة أرباب المراصد، ورقة 247أ.
(6) الموضح، ورقة 25أ.
(7) انظر: لطائف الإشارات، ج 1، ص 184.(1/278)
نص العلماء على انعدام تلك الألف المفخمة القريبة من الواو في قراءة عامة القراء، فإن الظاهرة نفسها تنسب مرة لأهل الحجاز ومرة لأهل اليمن وأخرى أنها من لغات الأعراب، وإذا سلمنا أنها لهؤلاء جميعا أو لبعضهم، فلماذا برزت في كلمات معدودة حين تكون في صورة معينة سرعان ما تعود الكلمة في رسمها إلى المعهود من القواعد حين تتغير تلك الصورة؟ ثم ما مقدار ذلك التفخيم؟ وهل يصل إلى درجة تقرب فيها الألف من الواو؟
وردد بعض المحدثين القول بأن الألف رسمت واوا، في الكلمات المشار إليها، على لغة من يفخم الفتحة الطويلة (1)، ليعلم القارئ أن هذه الألف مفخمة (2)، وذهب بعضهم إلى أن ذلك النطق اللهجي متأثر بنطق أجنبي عن العربية في مستواها الفصيح (3).
ب التفسير الراجح للظاهرة:
وقد وردت في كلام الأئمة من علماء السلف إشارات أثارت انتباهنا، وهي تؤكد ما ذكرناه في أكثر من موضع من عدم مواكبة الكتابة لتطور ظواهر اللغة، إذ تظل الكتابة محتفظة بالصور القديمة لهجاء الكلمات مع ما قد يصيب نطقها من تطور، والكتابة من هذه الناحية تقفنا في الغالب على الصور القديمة لنطق الكلمات.
فمن ذلك ما نقله النووي في شرحه على صحيح مسلم عن الفراء أنه قال (4): «إنما كتبوا الربا في المصحف بالواو لأن أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة ولغتهم الربو، فعلموهم صورة الخط على لغتهم». وقد جاءت نفس الرواية مع إضافات مفيدة على هذا النحو (5): «إنما صدر ذلك منهم لأن قريشا تعلموا الكتابة من أهل الحيرة، وهم ينطقون بالواو في الربو فكتبوا على وفق منطقهم، وأما قريش فإنهم ينطقون بالألف، فكتابتهم له بالواو جرى على منطق غيرهم وتقليد لهم».
__________
(1) انظر د. عبد الفتاح شلبي: الإمالة، ص 68.
(2) د. تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 53.
(3) د. محمد كمال بشر: دراسات في علم اللغة، ق 1، ص 128.
(4) نصر الهوريني: ص 12.
(5) أحمد بن المبارك: الإبريز، ص 54. وانظر الزرقاني: ج 1، ص 375.(1/279)
وأشار الصولي إلى نفس المعنى في باب ما كتب على غير القياس بقوله (1): «من ذلك الصلاة والزكوة والغدوة والحيوة والمشكوة والربو: كتب كل هذا في المصحف بالواو، وكان يجب أن يكتبن بالألف للفظ، وإنما كتبن كذلك على مثل أهل الحجاز لأنهم تعملوا الكتاب من أهل الحيرة».
وهذه الروايات تشير إلى أنه كان لأهل الحيرة نطق معين جرت عليه الكتابة عندهم، وحين انتقلت الكتابة العربية من الحيرة إلى مراكز الحضارة في الحجاز حافظ الكتّاب على صور هجاء الكلمات، لكن الرواية تفترض اختلاف نطق بعض الكلمات عند أهل الحجاز عن نطقها عند أهل الحيرة، وأن أهل الحجاز أبقوا صور الكلمات على ما كانت عليه عند كتاب الحيرة، ومن ثم فإن كتابة أهل الحجاز لتلك الكلمات بالواو «جرى على منطق غيرهم وتقليد لهم».
ولا ندري هل كان أهل الحيرة ينطقون تلك الكلمات بالواو، وجروا في كتابتهم على نحو ما ينطقون، أو أنهم أخذوا الكتابة العربية من بيئة أخرى كانت تكتب هذه الكلمات بالواو، وحافظوا على صورتها مع أن نطقهم لها قد يكون بالفتحة الطويلة، على نحو ما تصور بعض علماء السلف موقف أهل الحجاز حين جروا في كتابة تلك الكلمات على منطق غيرهم؟ ومهما يكن من شيء فإن هذه الفكرة عند علماء السلف مع أنها جاءت مقتضية تشير إلى فهم صحيح لأثر انتقال الكتابة من بيئة لغوية معينة إلى بيئة لغوية أخرى، سواء أكانت هاتان البيئتان تنضويان تحت ظلال لغة مشتركة واحدة، أم أن كلا منهما كانت مستقلة عن الأخرى، لكن ظروفا معينة جعلت إحداهما تستعين بكتابة الأخرى، إذ إن صور الكلمات تحاول أن تحافظ على شكلها الذي كانت عليه في البيئة الأولى، رغم ما قد يلحق نطقها من تطور أو تغير في البيئة الجديدة، وينطبق الشيء نفسه بالنسبة لكتابة لغة ما في بيئة معينة إذ إن هجاء الكلمات غالبا ما يمثل نطقا أقدم لتلك الكلمات في نفس البيئة، وهذه الخاصية في الكتابة تفسر قسطا كبيرا من انحرافات الكتابة عن واقع النطق، وهكذا تسير هاتان الحقيقتان: تطور اللغة في بيئة معينة مع عدم ملاحقة الكتابة لذلك التطور، وانتقال الكتابة من بيئة معينة إلى أخرى قد يختلف نطق الكلمات فيهما جنبا إلى جنب في تفسير معظم مظاهر القصور في الكتابات عامة، من
__________
(1) أدب الكتاب: ص 255.(1/280)
وجود رموز لا مقابل لها في النطق أو أن رموزا أخرى تنطق بطريقة تغاير ما تدل عليه رموز الكتابة كما في هذه الحالة في رسم الفتحة الطويلة واوا، وكذلك الحالة السابقة في رسمها ياء أو أن أصواتا معينة تلفظ لكن دون أن نجد لها مقابلا في رموز الكلمة المكتوبة.
وبناء على ذلك فإن تلك الفكرة في تفسير هذه الظاهرة والتي تنسب أصلا إلى الفراء تبدو صحيحة خاصة أن البحوث المعاصرة في مجال الدراسات المقارنة سواء في اللغة أم الكتابة قد أسهمت في تأكيدها، وقدمت للدارسين وسائل جديدة كشفت عن بعض تاريخ مشكلة الكتابة عامة، وما نحن بصدده هنا خاصة، وبقدر ما سيكشف من نقوش سامية وخاصة من النقوش النبطية المتأخرة والعربية الجاهلية يسهل على الباحثين تفسير المشكلة بصورة عامة، وتتبع صور هجاء الكلمات ومدى استجابتها للتطور الذي يصيب النطق.
يقدم لنا نقش نبطي مؤرخ بسنة (1ق. م) كلمة (مناة) مكتوبة بالرموز النبطية هكذا (م ن وت و) (1)، وجاءت نفس الكلمة في نقش نبطي آخر يرجع إلى القرن الثالث الميلادي ومؤرخ بسنة (267م) مكتوبة بنفس الطريقة (2)، ولما كانت الكتابة العربية في الرأي الراجح منحدرة من الكتابة النبطية، كما بيّنا في الفصل التمهيدي، فإن من المحتمل أن يحافظ كثير من الكلمات على صورها النبطية القديمة، رغم ما قد تكون عليه من نطق جديد في اللغة العربية، ومن المحتمل جدا كذلك أن يكون رسم الكلمة بالواو في الرسم العثماني هو بقايا من الصورة النبطية القديمة، ويمكن بسهولة تعليل الاختلاف البسيط في كلا الصورتين الهجائيتين النبطية والعربية، فالواو التي تلحق آخر الأعلام النبطية، والتي نلاحظها في الشكل النبطي، سقطت حين استعملت صورة الكلمة في الكتابة العربية، وليس بعد ذلك بينهما أي اختلاف، إذ حافظت صورة الكلمة في الكتابة العربية على الواو التي تظهر في وسط الكلمة في الشكل النبطي، والتي صارت في النطق العربي للكلمة فتحة طويلة، ويبدو أن تلك الواو كانت تنطق في النبطية واوا أو ضمة طويلة، فظلت صورة ذلك النطق القديم مستخدمة رغم التحول الذي أصاب
__________
(1) انظر خليل يحيى نامي: نقش رقم (5)، سطر (5)، ص 37.
(2) نفس المصدر، نقش رقم (19)، سطر (3)، ص 67. وانظر: د. جواد علي، ج 7، ص 306.(1/281)
نطقها حيث صارت تنطق في اللغة العربية فتحة طويلة.
وتشير الدراسات اللغوية المقارنة إلى أن كلمة (الصلاة) بالمعنى المفهوم منها عند المسلمين هي في بعض اللغات السامية (صلوتا) أو (صلوت) (1) وبغض النظر عن كون الكلمة عربية أو سامية استعارتها اللغة العربية (2) يبدو أن صورة الكلمة ورسم الفتحة الطويلة فيها واوا هي من آثار كتابة أخرى، وأرجّح أن تكون الكتابة النبطية، ورغم أن الصفة الغالبة على النبط أنهم وثنيّون، لكن انتشار النصرانية في الأنحاء الشمالية للجزيرة قبل الإسلام واستخدام الكتابة النبطية في الحيرة التي كانت تغلب عليها النصرانية ربما يكون قد ساهم في إدخال هذه الكلمة في استخدام واحتفظت بالصورة القديمة لهجائها حين استخدمت في الكتابة العربية، ومع أن الكلمات الأخرى (الزكوة، الحيوة، الغدوة، مشكوة، النجوة، الربوا) لم أصل إلى ما يوضح أصل رسم الفتحة الطويلة فيها واوا، لكن لما كانت تلك الكلمات، عدا الكلمة الأخيرة، تشبه إلى حد كبير في صيغتها كلمة الصلاة ومنوة فإن من المرجح جدا أن يكون أصل هجاء هذه الكلمات ورسم الفتحة الطويلة فيها واوا أثرا من آثار الكتابة النبطية أو بواسطتها، وبنفس الطريقة التي تحدثنا فيها عن تطور رسم كلمة (منوة). ومما يؤكد أن صورة ذلك الرسم أثر لكتابة أخرى قد تكون الأصل الذي تطورت عنه الكتابة العربية، أعني النبطية أو كتابة غيرها، كأن تكون كتابة أهل الكتاب في المدينة، وهي العبرانية التي تشترك مع النبطية في وحدة الأصل الذي اشتقتا منه، وهو الكتابة الآرامية، إلى جانب أن زيد بن ثابت كان يعرف الكتابة العبرانية على ما ثبت ذلك من الرواية فيما سبق أنه متى تغيرت صورة تلك الكلمات، كأن تضاف مثلا، نجد أن الكاتب يستجيب للنطق ويتخلى عن الشكل القديم، ومعنى ذلك أن الشكل المرسوم بالواو هو الصورة القديمة لهجاء تلك الكلمات، أما ما عداها فإنها صور مستحدثة في الكتابة العربية فلم يظهر فيها ذلك الأثر الأجنبي القديم، كما لاحظنا ذلك عند إضافة كل من كلمتي (الصلاة والحيوة)، وكما نجد كلمة (الربوا) حين تجردت من الألف واللام، فقد جاءت الرواية بأن بعض كتاب المصاحف كتبها بالألف
__________
(1) انظر الفيروزآبادي: ج 4، ص 355. ود. جواد علي: السيرة النبوية، ص 171. وانظر أيضا:
د. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص 397.
(2) انظر أبو حاتم الرازي: كتاب الزنية، ج 1، ص 146.(1/282)
(ربا) في تلك الحالة كما مر من قريب.
ونشير هنا إلى أن كل الكلمات المشار إليها مما كتب بالواو قد قرئ باتفاق القراء بالألف إلا كلمة (الغدوة)، فقد قرأها ابن عامر في الموضعين بالواو وضم الغين (1). وإذا كان من المحتمل أن تكون هذه الكلمة قد كتبت على هذه القراءة فإن الكلمات الأخرى لا شك في أن رسم الفتحة الطويلة فيها بالواو يشير إلى نطق قديم احتفظت الكتابة بصورته رغم ما أصاب النطق من تطور، سواء تم ذلك التطور في اللغة العربية أم في لغة أخرى انحدرت من كتابتها صورة هجاء تلك الكلمات، مع أن اللفظ بها بالألف عربي، يكفي دليلا أنه ورد في القرآن الكريم، واتفقت القراء عليه، ولا يفيدنا هنا كثيرا تحديد الأصل البعيد الذي ترجع إليه تلك الكلمات من اللغات السامية، ولا شك أن بعضا من تلك الكلمات ظاهر العروبة لا يحتاج إلى دليل، ولكن يظل رسم تلك الكلمات يمثل صورة نطق قديم (2).
4 - زيادة رمز الألف بعد الواو المتطرفة:
أمواضع زيادتها:
وقد أثبت كتبة المصحف بعد الواو الواقعة في آخر الكلمة ألفا دون أن يكون لها مقابل في النطق، لا فتحة طويلة ولا همزة (3)، فقد زيدت الألف مطردة بعد الواو
__________
(1) انظر الداني: التييسر، ص 102، وقد قرأ ابن كثير (مناة) بالهمز هكذا (مناءة)، انظر نفس المصدر، ص 204.
(2) من الكلمات التي يظهر فيها الأثر الأجنبي رسما وتلاوة كلمة (التابوت)، وقد سبق أن أشرنا في فصل سابق إلى اختلاف زيد ومن معه من الكتبة القرشيين في كتابتها حين رأى زيد أن تكتب بالهاء (تابوه)، ورأى القرشيون إثباتها بالتاء (تابوت) على لغتهم، وقد ذكر محقق كتاب (الزينة في الكلمات الإسلامية) لأبي حاتم الرازي (انظر: ج 1، ص 146، هامش 3) أن هذه الكلمة في الآرامية (تيبوتا) وفي الحبشية (تابوت) وفي العبرية (تابوه) وبذلك يظهر أن للكلمة في اللغات السامية أصلين بالهاء والتاء، فلا عجب أن يشيع كلا الشكلين في البيئات العربية في الحجاز (وانظر د. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص 395).
(3) انظر مواضع زيادة الألف بعد الواو المتطرفة، المهدوي: ص 109. والداني: المقنع، ص (26 27)، وابن وثيق الأندلسي: لوحة 8.(1/283)
المتصلة بالفعل التي هي ضمير الجماعة، إذا لم يتصل بالفعل ضمير، أو كانت الواو علامة رفع مع النون، وسقطت النون لوقوع الفعل بعد ناصب أو جازم، وذلك مثل:
آمنوا، كفروا، نصروا، فلا تدعوا، لن يؤمنوا، اغدوا، امضوا، وشبه ذلك، إلا في أصلين مطردين وأربعة أحرف، أما الأصلان فهما الفعلان (جاء وباء) متصلين بواو الجماعة، فقد رسما هكذا (جاو، باو) بدون ألف بعد الواو، حيث وقعا في المصحف، وأما الأربعة الأحرف فأولها {فَإِنْ فََاؤُ (226)} [البقرة]، وو عتو عتوّا كبيرا (21) [الفرقان]، وو الّذين سعو في آياتنا (5) [سبأ]، وو الّذين تبوّؤ الدّار (9) [الحشر]، وقد وردت كلمتا (فاءو وتبوّءو) مرة واحدة في المصحف، أما (عتو) فجاءت أربع مرات، وأما (سعو) فجاءت مرتين، لكنها كلها جاءت مرسومة بحذف الألف بعد الواو مرة واحدة في المواضع الأربعة المشار إليها، وبإثباتها فيما عدا ذلك.
وكذلك زادوا الألف بعد الواو الأصلية في الفعل المضارع المعتل الآخر بالواو، مرفوعا كان أو منصوبا، نحو: يدعوا، يربوا، ترجوا، أشكوا، أدعوا، لن ندعوا، نبلوا، وما كان مثله حيث وقع إلا في موضع واحد في {عَسَى اللََّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ (99)} [النساء]، فقد حذفت فيه الألف بعد الواو.
وزادوا أيضا بعد الواو التي هي علامة الرفع في جمع المذكر السالم أو ما أجري مجراه، إذا حذفت نونه للإضافة إلى ظاهر نحو: {مُلََاقُوا رَبِّهِمْ (46)} * [البقرة]، و {مُرْسِلُوا النََّاقَةِ (27)} [القمر]، و {كََاشِفُوا الْعَذََابِ (15)} [الدخان]، و {صََالُوا النََّارِ (59)} [ص]، و {بَنُوا إِسْرََائِيلَ} [يونس: 90]، و {أُولُوا الْأَلْبََابِ (269)} * [البقرة].
وكذلك زادوها بعد الواو في {أُمِرُوا (176)} * [النساء]، و {الرِّبَوا (275)} * [البقرة] حيث وقع مرسوما بالواو، وزيدت بعد الواو أيضا في (يعبؤا، تفتؤا ولا تظمؤا، يبدأ، نبؤا، الضعفؤا، العلمؤا) وشبهه مما رسمت الهمزة المتطرفة المضمومة فيه واوا، وقد اختلف في هذه الألف الزائدة بعد الهمزة المرسومة واوا هل هي مثل الألف الزائدة بعد واو الجمع وواو الفعل أو أنها زيدت لغرض آخر؟ فيقول أبو عمرو الداني (1): «رسمت الألف بعد الواو في هذه المواضع لأحد معنيين: إما تقوية للهمزة لخفائها، وهو قول الكسائي. وإما على تشبيه الواو التي هي صورة الهمزة في ذلك بواو الجمع من حيث
__________
(1) المقنع، ص (5958).(1/284)
وقعتا طرفا فألحقت الألف بعدها كما ألحقت بعد تلك، وهو قول أبي عمرو بن العلاء، والقولان جيدان».
ومع أن الداني قد قال بأن كلا القولين جيد (1)، إلا أنا سنجد أن القول الثاني هو الصحيح، حين نناقش رسم الهمزة واوا في الطرف في المبحث التالي، وسيتضح أن هذه الواو لا تختلف عن واو الجمع أو الواو المتطرفة في الفعل، وبذلك تكون زيادة الألف بعدها مثل زيادة الألف في ما سواها من الواوات التي ذكرناها.
وروى الداني أن المصاحف، اتفقت على حذف الألف بعد الواو التي هي علامة الرفع في الاسم المفرد المضاف نحو (لذو فضل)، و (لذو علم)، و (لذو مغفرة)، و (ذو العرش) و (ذو الفضل)، وما كان مثله حيث وقع (2)، لكن مؤلف كتاب الهجاء ينقل عن الإمام أبي بكر بن مهران النيسابوري (ت 381هـ) أن كلمة (ذو) تكتب بألف بعد الواو في كل القرآن، إلا في ستة مواضع، فإنها تكتب في هذه المواضع الستة بغير ألف، وهي {لَذُو عِلْمٍ (68)} [يوسف]، و {ذُو الْعَرْشِ (15)} * [غافر]، و {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقََابٍ أَلِيمٍ (43)} [فصلت]، و {وَاللََّهُ ذُو الْفَضْلِ (4)} * [الجمعة]، و {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)} [البروج] (3).
وقد وجدت في مصحف طشقند زيادة الألف بعد الواو في (ذو) في عدة مواضع، فمن ذلك ذوا الفضل (74) وذوا فضل (174) [آل عمران]، وذوا انتقام (95) [المائدة]، وذوا رحمة [الأنعام: 47]، وذوا الأوتاد [ص: 12].
ويبعث هذا الاختلاف في إثبات الألف زائدة بعد واو (ذو) أو حذفها على التساؤل عن سر حذف هذه الألف بعد بعض الكلمات التي ذكرناها قبل قليل واطراد إثباتها في ما سواها، وهل يعني ذلك أن ظاهرة حذف الألف وإثباتها بعد الواو كما يتجلى ذلك في الرسم العثماني تشير إلى أن زيادة هذه الألف طارئة، وأن ما جاء من الكلمات منها، مما لم تلحقه بعد هذه الظاهرة، جاء على الأصل، أو أنها تشير إلى ظاهرة قديمة
__________
(1) ذهب أبو داود سليمان بن نجاح تلميذ الداني إلى أن الألف في هذه الحالة إنما زيدت تقوية للهمزة (انظر: التنزيل، لوحة 134).
(2) انظر: المقنع، ص 28.
(3) كتاب الهجاء لمجهول، لوحة 9.(1/285)
وأن ما جاء من ذلك بحذف الألف هو مما تحرر من القاعدة القديمة، ورسمه الكتّاب على نحو ما ينطقونه، فلم يجدوا عند ذلك مبررا لإثبات الألف لعدمها في اللفظ؟
إن تتبع أمثلة هذه الظاهرة يدفع إلى القول بقدم الظاهرة وأنها ربما كانت تشمل كل واو وقعت متطرفة، سواء أكانت في فعل أو اسم، وسواء أكانت تمثل الواو الصامتة أم الضمة الطويلة، وأن ما جاء من بعض الأمثلة التي حذفت منها تلك الألف الزائدة إنما هي مثل بعض الكلمات التي تحرّر الكتّاب من صورة هجائها القديمة وجروا في كتابتها على اللفظ (1).
ويؤكد قولنا إن الظاهرة ربما كانت تشمل كل واو وقعت متطرفة أنها زيدت في الفعل المضارع المعتل بالواو والفعل الماضي أو الأمر المتصل بواو الجمع وفي الأسماء بعد الواو التي هي علامة الرفع بعد سقوط النون للإضافة، كذلك زيدت في الأسماء والأفعال التي تنتهي بهمزة مضمومة رسمت واوا، إلى جانب ما روي من زيادتها بعد واو (ذو)، وقد قال ابن قتيبة بعد أن تحدث عن زيادة هذه الألف، التي يسميها بألف الفصل، بعد الواو في المواضع المتقدمة (2): «غير أن متقدمي الكتّاب لم يزالوا على ما أنبأتك من إلحاق ألف الفصل بهذه الواوات كلها، ليكون الحكم في كل موضع واحدا».
وهو يشير إلى أن زيادة هذه الألف بعد الواو كانت ظاهرة عامة قد اعتادتها أقلام الكتّاب قبل أن يعمل علماء العربية بأقيستهم في وضع قواعد الإملاء العربي، ويخصصوا زيادة تلك الألف بواو الجماعة في الفعل الماضي.
ومما يؤكد أن زيادة تلك الألف بعد الواو كانت تمثل اتجاها عاما هو مجيئها ثابتة في الفعل المضارع في بعض البرديات العربية (3).
وكل ذلك يشير إلى أن هذه الألف كانت تزاد بعد الواو إذا وقعت في آخر الكلمة مهما كان نوعها أو موقعها من الإعراب، وأن ذلك كان يمثل ظاهرة عامة في الكتابة
__________
(1) حذفت الألف الزائدة بعد الواو في مصحف طشقند، بالإضافة إلى ما ذكره من كلمة {يَرَوْا (25)} *
[الأنعام]، وو جزؤا (40) [الشورى].
(2) كتاب أدب الكاتب، ص 237.
(3) انظر د. عبد العزيز الدالي: ص 220، وقد اعتبر إثبات تلك الألف من باب الخروج على القاعدة.(1/286)
العربية، أما مجيء بعض الكلمات بحذف هذه الألف منها فإن ذلك يمكن أن يفسر على أساس اتجاه الكتّاب إلى الاستجابة للفظ في كتابة الكلمات دائما، خاصة إذا كان الكاتب لم يقرأ تلك الكلمة في نص مكتوب فيجري في رسمها على نحو ما تلفظ، وقد تشيع الصورة الحديثة لهجاء الكلمة وتلتزم، مثل ما حدث في رسم (جاو، باو) [جاءوا، باءوا] حيث التزم هذا الشكل في كل المواضع في الرسم العثماني.
ب موقف علماء السلف من زيادتها:
وقد ذكرنا من قبل أن هذه الألف الزائدة بعد الواو لا تدل على شيء في النطق، ومن ثم فإن ذلك يثير التساؤل عن سر زيادة هذه الألف، وهل كانت في الأصل تدل على شيء في النطق، أو أنها زيدت لأسباب أخرى؟ وقد اتفقت آراء العلماء تقريبا في سبب زيادة هذه الألف، فذهبوا إلى أنها زيدت للفرق، وأنها تفصل بين أشكال بعض الكلمات فسميت لذلك بألف الفصل، واختلفوا بعد ذلك في طبيعة الكلمات التي تفصل بينها، إلا أن الخليل بن أحمد الفراهيدي، إمام أهل العربية، علل زيادة تلك الألف تعليلا صوتيا تفرد به سنذكره بعد قليل.
وقد ذكر السيوطي في الهمع مذاهب العلماء في زيادة الألف بعد الواو فقال: «وقد اختلفوا في سبب زيادتها، فقال الخليل: لما كان وضعها على المد وعلى أن لا تتحرك أصلا زادوا بعدها الألف لأن فصل صوت المد ينتهي إلى مخرج الألف.
«وقال بعضهم: فصلوا بين الضمير المنفصل والضمير المتصل نحو: ضربوهم، إذا كان الضمير مفعولا لم يكتبوا الألف، وإذا كان تأكيدا كتبوها، فرقا بين الضميرين، وبترك الألف في خط المصحف في {وَإِذََا كََالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ (3)} [المطففين]، استدلوا على أن الضمير مفعول وأنه ليس ضمير رفع منفصلا توكيدا لواو الجمع، ثم اطردت زيادة هذه الألف في كل واو جمع، وإن لم يلحقها ضمير».
«وذهب الأخفش وابن قتيبة إلى أنها فصل بها بين واو الجمع وواو النسق، نحو:
كفروا وردوا وجاءوا ونحوها من الواوات المنفصلة عن الحرف قبلها، هذا هو الأصل، ثم حذفوا على ذلك من الواوات المتصلة بالحرف قبلها نحو: ضربوا، ليكون الباب واحدا، ولهذا لم تلحق بالمفرد نحو: يدعو لأنها لاتصالها لا يعرض فيها من اللبس ما يعرض مع واو الجمع، ولذلك سموا هذه الألف ألف الفصل، وعلل مذهب الفراء بأنها
زيدت للفرق بين الواو المتحركة والواو الساكنة، وعلل مذهب الكسائي بأنها زيدت فرقا بين الاسم والفعل.(1/287)
كفروا وردوا وجاءوا ونحوها من الواوات المنفصلة عن الحرف قبلها، هذا هو الأصل، ثم حذفوا على ذلك من الواوات المتصلة بالحرف قبلها نحو: ضربوا، ليكون الباب واحدا، ولهذا لم تلحق بالمفرد نحو: يدعو لأنها لاتصالها لا يعرض فيها من اللبس ما يعرض مع واو الجمع، ولذلك سموا هذه الألف ألف الفصل، وعلل مذهب الفراء بأنها
زيدت للفرق بين الواو المتحركة والواو الساكنة، وعلل مذهب الكسائي بأنها زيدت فرقا بين الاسم والفعل.
«وقال بعضهم فرقوا بها بين الواو الأصلية والواو الزائدة» (1)، فالأصلية واو أخو وأبو وحمو والزائدة واو كفروا وظلموا وأحسنوا، لأنها دالة على الجمع وليست من نسيج الحرف، ولا موجودة فاء منه ولا عينا ولا لاما، ففرقوا بالألف الزائدة بين المزيد والأصلي (2).
والذي يفهم من كلام علماء العربية أنهم يعتبرون ظاهرة زيادة الألف لا تشمل إلا موضعا واحدا، هو زيادتها بعد واو الجمع المتصل بالماضي، والمضارع في حالة واحدة، ومن ثم فإن تعليلاتهم جاءت قائمة على أساس من ذلك، ولهذا فإن مذاهبهم في تعليل زيادة الألف رغم ما يبدو عليها من تحكم جاءت مبنية على فهم مختل للظاهرة إذ إنها في الأصل تشمل كل واو متطرفة كما بيّنا لكن علماء العربية المتقدمين حين قعدوا القواعد جعلوا زيادة تلك الألف مقصورة على واو الجمع المتصلة بالفعل الماضي تقريبا، وحين حاولوا تعليل هذه الزيادة لم يلتفتوا إلى أصل الظاهرة، ولهذا اقتصرت تعليلاتهم على زيادتها في تلك الحالة فحسب (3).
وقد وقع بعض المحدثين في ما وقع فيه علماء السلف من الخطأ في اعتبار هذه الظاهرة مقصورة على الواو المتصلة بالفعل، فيقول الدكتور تمام حسان وهو يتحدث عن زيادة هذه الألف إنها (4): «تتلو الواو التي أسند إليها الفعل لتدل على أنها واو الجماعة، وليست واو الجمع التي حذفت النون بعدها للإضافة، ويظهر ذلك من موازنة (ضاربوا زيدا وضاربو زيد)»، وبذلك غفل كما غفل علماء العربية من قبل عن أن الظاهرة تشمل كلا المثالين كما نجد ذلك ظاهرا كل الظهور في الرسم العثماني.
__________
(1) همع الهوامع، ج 2، ص 238. وانظر أيضا تفصيلا لذلك: ابن قتيبة: أدب الكاتب، ص 236.
والصولي: ص 246. والزجاجي: الجمل، ص 274، ومقدمة كتاب المباني لمجهول، ص (160 162).
(2) انظر: مقدمة كتاب المباني (لمجهول)، ص 160.
(3) انظر التنسي: ورقة 73ب.
(4) اللغة العربية، ص 227.(1/288)
ويبدو أن الخليل بن أحمد قد تفرد من بين علماء السلف بمذهبه في تفسير زيادة تلك الألف، كما مر ذلك في مطلع قول السيوطي، ولكن فهم مذهب الخليل في هذه المسألة يحتاج إلى تتبع روايات العلماء لمذهبه، خاصة أنه يتعلق بالجانب الصوتي للحركات الطويلة، وصوت الهمزة، ومن ثم فربما جاء التعبير غامضا بعض الشيء أو قاصرا أحيانا، نتيجة لانعدام التمييز الواضح بين طبيعة الحركات الطويلة والهمزة، خاصة الفتحة الطويلة التي تكررت عبارات القدماء تؤكد أن بينها وبين الهمزة تجانسا أو تقاربا بحيث أن الألف (الفتحة الطويلة) إذا تحركت انقلبت همزة (1)، لكن ذلك الخلط يمكن تفاديه الآن ببعض اللمحات الموفقة لبعض علماء العربية، وبما تقدمه الدراسات الحديثة من التمييز الواضح بين الهمزة والحركات الطويلة، فتلك من جنس الأصوات الصامتة وهذه من جنس آخر.
أما مذهب الخليل فقد قال سيبويه في (باب الوقف في الواو والياء والألف) (2):
«وهذه الحروف غير مهموسات، وهي حروف لين ومد، ومخارجها متسعة لهواء الصوت، وليس شيء من الحروف أوسع مخارج منها ولا أمد للصوت، فإذا وقفت عندها لم تضمها بشفة ولا لسان ولا حلق، كضم غيرها فيهوي الصوت إذا وجد متسعا حتى ينقطع آخره في موضع الهمزة، وإذا تفطنت وجدت مسّ ذلك، وذلك قولك:
ظلموا ورموا وعمي وحبلى، وزعم الخليل أنهم لذلك قالوا: ظلموا ورموا فكتبوا بعد الواو ألفا».
والظاهر من هذا النص أن سيبويه يتحدث عن الحركات الطويلة التي تنتج بأن «يمر الهواء حرا طليقا خلال الحلق والفم دون أن يقف في طريقه أي عائق أو حائل، ودون أن يضيق مجرى الهواء ضيقا من شأنه أن يحدث احتكاكا مسموعا» (3) مع اهتزاز الأوتار الصوتية حين مرور الهواء عبر الحنجرة، وبذلك تتميز الحركات بأنها أصوات مجهورة، وربما كان الجهر أهم خصائص الحركات الصوتية، وربما عنى سيبويه اهتزاز الأوتار الصوتية بقوله «وإذا تفطنت وجدت مس ذلك»، ويبدو أن الخليل قد شعر شعورا غامضا
__________
(1) انظر سيبويه: ج 2، ص 167، والمبرد: ج 1، ص 203.
(2) الكتاب، ج 2، ص 285.
(3) د. كمال محمد بشر: الأصوات، ص 92.(1/289)
أن مخرج الهمزة ومكان جهر الحركات واحد، ومن ثم ذهب إلى أن الصوت يهوي في حالة الحركات حتى ينقطع آخره في موضع الهمزة، ولذلك أثبتوا في نظر الخليل ألفا بعد واو المد، والألف رمز الهمزة، لكن هذا الفهم لمذهب الخليل من خلال نص سيبويه يقوم أمامه اعتراضان: الأول أن الأمثلة التي أوردها سيبويه اشتملت على واو المد في (ظلموا) لكنها في مثل (رموا) هي واو لين أو الواو الصامتة، فقد سبقتها فتحة، والثاني أنهم لم يثبتوا تلك الألف بعد ياء المد (الكسرة الطويلة) التي تشترك مع واو المد (الضمة الطويلة) بطريقة إنتاجها.
ويروي الصولي أن الخليل قال: الضمة تنقطع إلى همزة، فاستوثقوا بالألف، لكن الصولي يعقب على ذلك بقوله: ولا يقع مثل هذا إلا في طبع الخليل (1).
وينقل ابن درستويه رأي الخليل بتفصيل أكثر وهو: «أن الألف كتبت مع واو الجمع من أجل أن منقطع المد عند مخرج الهمز، وأن واو الجمع لا أصل لها في الواو، وإنما هي مدة، والمدات لا معتمد لها في الفم، ولكن يتسع لها الفم فتهوي في جوه من أقصى المخارج أو أدناها، ثم ينقطع من حيث ابتدأت الهمزة، ولم يكن في المدات الثلاث شيء أشبه بالهمزة صوتا من الألف ففصل بين هذه الواو التي هي مدة وبين التي ليست بهوائية بهذه الزيادة وخصّت الألف بالفرق لما ذكرنا» (2).
ويذكر صاحب كتاب المباني في مقدمته (3): أن الخليل قال «يثبت ألف بعد واو الجمع في قالوا وأمروا ونهوا، لأن الضم يشاكل المدّ، والمد ينقطع إلى مخرج الهمز، فذهب إلى أن الواو شاكلها الهمزة، فعلّقت ألف بعدها لموافقة الألف الهمز، ومشاكلة الواو المد الذي ينقطع إلى الهمز».
ورغم اتفاق هذه الروايات لمذهب الخليل في فهم كلامه حول طبيعة حروف المد أو الحركات الطويلة فإنها تختلف في سبب زيادة الألف، فالذي يفهم من قول سيبويه أن مجرد انقطاع الصوت في الحركات الطويلة إلى موضع الهمزة هو سبب زيادة تلك
__________
(1) الصولي: أدب الكتاب، ص 246.
(2) ابن درستويه: الكتاب، ص 44.
(3) ص 160.(1/290)
الألف، أما ما ورد في رواية الصولي «فاستوثقوا بالألف» ففي ذلك إشارة إلى نوع من التوكيد، ولكن لأي شيء استوثقوا؟ هل أن ذلك من مجرد انقطاع الضمة إلى همزة، أو من خشية اختلاط الضمة بها، وهو ما يتضح من رواية صاحب المباني «فذهب إلى أن الواو شاكلها الهمز فعلقت ألف بعدها لموافقة الألف الهمزة ومشاكلة الواو المد الذي ينقطع إلى الهمز»؟ ورواية ابن درستويه هي أكثر الروايات وضوحا، لكنها تشير إلى أن زيادة تلك الألف إنما هي للفصل بين الضمة الطويلة (واو المد) وبين الواو الصامتة التي ليست بهوائية، وخصت الألف بالزيادة لانقطاع صوت المد من حيث ابتدأت الهمزة، لكن الأمثلة التي أوردها سيبويه من مثل (ظلموا ورموا) تنفي أن يكون ذلك للفرق بين الضمة الطويلة والواو الصامتة؟
ج هل يمكن تقديم تفسير لزيادتها؟
ومهما يكن من شيء فإن أيا من تعليلات علماء السلف لا يعطي تفسيرا مقبولا وواضحا لزيادة تلك الألف، خاصة أن جلّ تلك التعليلات قد بني على أساس مغلوط، حين اعتبروا أن الأصل في الظاهرة هو زيادة الألف بعد واو الجمع المتصلة بالفعل، لكن الرسم العثماني يقدم الأمثلة التي تدل على أن تلك الظاهرة كانت شاملة لكل واو تطرفت في نهاية الكلمة، أما تعليل الخليل فرغم الاختلاف في فهمه من جانب، وغموض ذلك الفهم من جانب آخر، فيبدو أيضا بقدر ما يفهم من روايات العلماء المذكورين غير كاف لتعليل تلك الزيادة، ومع أنه أصاب في فهم طبيعة الحركات نوعا ما فإنه هنا لم يكن موفقا في بيان العلاقة بينها وبين الهمزة، ولا ندري تماما كيف تنقطع الضمة إلى همزة، ونقول مع الصولي إن ذلك لا يقطع إلا في طبع الخليل، ولكن ليس بعيدا أن يكون رأي الخليل قد أسيء فهمه، أو أنه لم يصل إلينا على النحو الذي أراده وقصد بيانه، وغطت عليه شروح الذين رووه وعلقوا عليه.
ويبدو أن علماء الرسم قد اكتفوا بترديد ما قاله علماء العربية في سر زيادة الألف بعد الواو، رغم أنهم كانوا أكثر إدراكا لأبعاد الظاهرة لأن الرسم هو مجال علمهم، فيقول التنسي بعد أن تحدث عن زيادة الألف بعد الواو التي هي لام الفعل، نحو: {إِنَّمََا أَدْعُوا رَبِّي (20)} [الجن]، و {وَنَبْلُوَا أَخْبََارَكُمْ (31)} [القتال] (1): «واعلم أن النحاة لا يزيدون هذه
__________
(1) الطراز في شرح ضبط الخراز، ورقة 74أ.(1/291)
الألف، ويخصون الزيادة بواو الجمع فرقا بينهم وبين واو المفرد». ويقول بعد ذلك:
«وإنما يزيد هذه الألف الرسام وسبب زيادتها عندهم الحمل على واو الجمع إذ هي شبيهتها في كونها متطرفة ساكنة والأصل أن لا تحرك إلا لعارض، والأولى أن يقال:
زيدت للفصل فيستدل بها على أن الكلمة تمت، والوقف عليها يمكن، ويكون ذلك احترازا من اتصال الضمير بها نحو أدعوكم».
وكان التنسي قد لخص قبل ذلك المذاهب التي ذهب إليها العلماء في أصل زيادة الألف بعد الواو، وجعلها في ثلاثة وجوه (1):
الأول: الدلالة على انفصال الكلمة عما بعدها، فيعلم أن الكلمة مستقلة، يمكن الوقف عليها.
والثاني: الفرق بين ما بعده ضمير منفصل فتجعل فيه الألف، وذلك نحو: {وَإِذََا مََا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)} [الشورى]، وبين ما بعده ضمير متصل نحو: {كََالُوهُمْ (3)}
[المطففين] فلا تجعل فيه الألف.
والثالث: إرادة الفرق بين واو الجمع وغيرها في نحو (نفر وخرج) فإن الواو التي بعد الراء وقبل الخاء يحتمل أن تكون علامة جمع، فاعل نفر، ويكون خرج غير معطوف، وتحتمل العطف ويكون فاعل نفر مقدر، ففرقوا بين المعنيين بالألف، فإذا وجدت علم أنه فاعل، وإذا عدمت علم أنه ليس بفاعل، وحمل ما لا لبس فيه على ما فيه لبس.
ويبدو أن علماء الرسم المتقدمين لم يجدوا حاجة ملحة تدفعهم إلى محاولة إيجاد تعليل لكل ما جاء غير منقاس على القواعد التي وضعها في وقت متأخر علماء العربية، وكان همهم الأول هو ضبط صور هجاء الكلمات في المصاحف العثمانية فبلغوا في ذلك الغاية، وقدموا للباحثين في تاريخ الكتابة العربية مادة خصبة يتشكل منها ذلك التاريخ.
وأخيرا هل بالإمكان أن نفهم من قول بعض العلماء إن تلك الألف جاءت للدلالة على انفصال الكلمة عما بعدها، فيعلم أن الكلمة مستقلة يمكن الوقف عليها، أو أنها جاءت للفرق بين فعل وفعلوا، أي بين واو الجمع وواو النسق في مثل (نفر وخرج)،
__________
(1) نفس المصدر، ورقة 73أ.(1/292)
فإثبات الألف يشير إلى أن الواو هي ضمير الجمع وهي متصلة بالفعل، وعدم إثباتها معناه أن الواو للعطف وهي منفصلة عما قبلها وعما بعدها أن نفهم أن هذه الألف تقوم بالفصل بين الكلمات في بعض الحالات على نحو ما مر بنا من أن الخط المسند يفصل بين الكلمة والأخرى بخط عمودي يشبه رمز الألف في الكتابة العربية؟ الحقيقة أن هذا الاحتمال يبدو بعيدا، وليس بين يدي البحث الآن ما يمكن أن يعين على تبين أصل زيادة تلك الألف، وهل كان ذلك تمثيلا لظاهرة لغوية كانت في القديم مستعملة، وتخلى عنها النطق بعد ذلك، واحتفظ بها الرسم، أو أنها زيدت للفصل بين الكلمات، أو للفرق بين دلالة رمز الواو على الضمة الطويلة والواو الصامتة، أو للفرق بين ما كانت الواو فيه ضميرا للجمع، أو أنها من أصل الكلمة؟
لعل المستقبل كفيل بأن يكشف من الوسائل ما يعين على ترجيح أحد تلك الاحتمالات أو أن يأتي بتفسير واضح لتلك الظاهرة، لكنا نشير هنا إلى أن أي محاولة في هذا الصدد لا تقوم على اعتبار أن الظاهرة شاملة لكل واو وقعت متطرفة، لا يمكن أن تأتي بتفسير صحيح للمشكلة، وتقع في ما وقع فيه علماء العربية حين ظنوا أن الظاهرة لا تشمل إلا الأفعال التي تتصل بها واو الجمع في آخرها.(1/293)
لعل المستقبل كفيل بأن يكشف من الوسائل ما يعين على ترجيح أحد تلك الاحتمالات أو أن يأتي بتفسير واضح لتلك الظاهرة، لكنا نشير هنا إلى أن أي محاولة في هذا الصدد لا تقوم على اعتبار أن الظاهرة شاملة لكل واو وقعت متطرفة، لا يمكن أن تأتي بتفسير صحيح للمشكلة، وتقع في ما وقع فيه علماء العربية حين ظنوا أن الظاهرة لا تشمل إلا الأفعال التي تتصل بها واو الجمع في آخرها.
المبحث الرّابع رمز الهمزة في الرّسم العثماني
لقد خصصت دراسة رمز الهمزة بهذا المبحث لما أثير حول الهمزة: صوتا وكتابة من قضايا ومشكلات، ودراسة رمز الهمزة في الرسم العثماني تعني إثارة مشكلة هذا الصوت وطريقة تمثيله في الكتابة من كافة جوانبها، ولكن ليس من اليسير هنا ولا من الضروري، ونحن ندرس رمز الهمزة في الرسم العثماني، أن نتعرض بالتفصيل لطريقة إنتاج هذا الصوت، وخصائصه الصوتية، ودوره في بناء الكلمة العربية، وموقف القبائل العربية من تحقيقه في الكلام أو إسقاطه، وما نتج عن ذلك من مشكلات صوتية وصرفية، فقد تكفلت المصادر العربية، قديمة وحديثة، بتفصيل ذلك كله، ولذلك سوف أكتفي بما يساعد في الكشف عن مشكلة رمز الهمزة في الرسم العثماني خاصة، والكتابة العربية عامة.
أولا: طريقة تمثيل الهمزة في الكتابة العربية:
في اللغات السامية عامة صوت يعرف باسم (الألف)، وهو أول حروف الأبجدية السامية، ويمثّل في كتابات تلك اللغات برمز معين واحد (1)، وقد عرف ذلك الصوت في العربية باسم (الهمزة)، ولكن الاسم القديم الذي صار علما على الفتحة الطويلة ظل يستعمل أحيانا للدلالة على الهمزة (2).
ولما كان صوت الهمزة يتفرد، من بين أصوات اللغة، بطريقة إنتاجه، ويتطلب انطباق الوترين الصوتيين مع ضغط الهواء خلفهما، ثم انفراجهما فجأة فقد كثر سقوطه في الكلام (3)، فالهمزة صوت مستثقل «لأنها نبرة في الصدر تخرج باجتهاد، وهي أبعد
__________
(1) جان كانتينو: ص 121.
(2) انظر ابن جني: سر صناعة الإعراب، ج 1، ص 46. وأبو الحجاج البلوي: ج 1، ص 315.
(3) انظر ابن الجزري: النشر، ج 1، ص 428. وجان كانتينو: ص 121. وقد أشار برجشتراسر(1/294)
الحروف مخرجا، فثقل عليهم ذلك، لأنه كالتهوع» (1). فهي تسهّل في اللفظ لأن في النطق بها مشقة (2).
وحين تسقط الهمزة فغالبا ما تخلفها حركة طويلة تنتج من التقاء الحركتين اللتين كانتا تكتنفانها، أو من إطالة الحركة التي تسبقها، إذا كانت الهمزة ساكنة، فكلمة (رأس) مثلا إذا سقطت منها الهمزة، في لغة من يخفف الهمزة، فسوف تخلفها في النطق فتحة طويلة تنتج من إطالة الفتحة التي قبلها، على النحو الذي تبينه الكتابة الصوتية) (. لكن هجاء الكلمة لم يتغير بعد سقوط الهمزة، لأن الكتابة أقل استجابة لتمثيل تطور أصوات اللغة حدث ذلك طبعا في فترة سابقة للرسم العثماني وبدا للناس بعد أجيال كأن الألف رمز للفتحة الطويلة إلى جانب أنها رمز للهمزة أصلا (3). وبذلك حدث ازدواج في دلالة رمز الألف (ا)، فأصبح يدل على الهمزة أصالة، وعلى الفتحة الطويلة بما حدث له من تطور، مثل ما حدث ذلك لكل من رمزي الياء والواو الصامتتين حين استعملا لتمثيل الكسرة والضمة الطويلتين، في فترة متقدمة من تاريخ الكتابات السامية، كما أشير إلى ذلك من قبل.
ويبدو أن ما تتعرض له الهمزة من السقوط قد ترك أثرا في طريقة رسمها، فالهمزة حين تحقق تكتب ألفا، كيف أتت وبأية حركة تحركت، وإذا سقطت في النطق فإن ما يخلفها سيكتب ألفا أو واوا أو ياء، حسب ما يسبقها ويلحقها من حركات، وبناء على ذلك يمكن أن نميز بوضوح بين طريقتين لتمثيل الهمزة في الكتابة العربية.
الطريقة الأولى:
رسمها برمز واحد، وهو الألف (ا)، أينما وقعت وبأية حركة تحركت، وهذا إنما يكون في الكتابة على لغة من يحقق الهمزة، فيجري رسمها على الأصل في تمثيل أي صوت من أصوات اللغة برمز واحد. وأصل رمز الهمزة هو الألف، مثلها في ذلك مثل
__________
(ص 25) إلى أن أقدم صور إسقاط الهمزة يرجع إلى السامية الأم.
(1) سيبويه: ج 2، ص 167. وانظر ابن يعيش: ج 9ص 107و 116، وج 10ص 134.
(2) ابن درستويه: ص 8.
(3) انظر د. رمضان عبد التواب: ص 355. ود. كمال محمد بشر: دراسات في علم اللغة، ق 1، ص 59.(1/295)
بقية أصوات اللغة، وهذا هو ما أشار إليه ابن جني في قوله (1): «ولو أريد تحقيقها البتة لوجب أن تكتب ألفا على كل حال، يدل على صحة ذلك أنك إذا أوقعتها موقعا لا يمكن فيه تخفيفها، ولا تكون إلا محققة، لم يجز أن تكتب إلا ألفا، مفتوحة كانت أو مضمومة أو مكسورة، وذلك إذا وقعت أولا نحو: أخذ وأخذ وإبراهيم. فلما وقعت موقعا لا بد فيه من تحقيقها اجتمع على كتبها ألفا البتة، وعلى هذا وجدت في بعض المصاحف (يستهزءون) بالألف بعد الواو ووجد فيه أيضا وإن من شيأ إلّا يسبّح بحمده [الإسراء: 44] بالألف بعد الياء، وإنما ذلك لتوكيد التحقيق».
هذا من جانب ومن جانب آخر فإن الفراء (ت 207هـ) يضع أيدينا على ظاهرة عامة تؤكد هذا الاتجاه في تمثيل الهمزة، فقد روى في أكثر من موضع أن الهمزة رسمت ألفا، في كل موضع، في مصاحف عبد الله بن مسعود. وقد قال، وهو يتحدث عن إثبات الألف في كلمة (لؤلؤا)، في الحج (22/ 23) (2)، «ورأيتها في مصاحف عبد الله، والتي في الحج خاصة، (لؤلأ)، ولا تتهجّاه (3)، وذلك أن مصاحفه قد أجرى الهمز فيها بالألف في كل حال، إن كان ما قبلها مكسورا أو مفتوحا أو غير ذلك». وقال في موضع آخر وهو يتحدث عن رسم الهمزة في مصاحف عبد الله أيضا (4): «والهمزة في كتابه تثبت بالألف في كل نوع». ويبدو أن رسم الهمزة بالألف دائما، على ما يروي الفراء، إنما كان لتمثيل قراءة من يحقق الهمزة، ولعل بيئة الكوفة في تلك الفترة قد غلبت عليها نزعة القبائل المنتشرة في شرقي الجزيرة العربية التي كانت تحقق الهمزة دائما (5). أو أن ذلك يمثل اتجاها قديما لكتابة الهمزة في تلك المنطقة.
مما يؤكد أن ذلك كان اتجاها عاما في الكتابة العربية في بعض البيئات، وليس
__________
(1) سر صناعة الإعراب، ج 1، ص (4746).
(2) معاني القرآن، ج 2، ص 220.
(3) أي لا تراع في النطق هجاء هذه الحروف، فتقول (لولا) بالألف من غير همز (انظر نفس المصدر ونفس الصفحة هامش 9). وكأن قياس وصف الفراء لرسم الهمزة أن ترسم هذه الكلمة هكذا (لألأ)
(4) معاني القرآن، ج 3، ص 136.
(5) انظر د. إبراهيم أنيس: في اللهجات العربية، ص 60و 78.(1/296)
مقصورا على مصاحف عبد الله وحدها قول الفراء (1): «وأكثر ما يكتب الهمز على ما قبله، فإن كان مفتوحا كتب بالألف، وإن كان مضموما كتب بالواو، وإن كان مكسورا كتب بالياء، وربما كتبتها العرب بالألف في كل حال، لأن أصلها ألف قالوا نراها إذا ابتدئت تكتب بالألف، في نصبها وكسرها وضمها، مثل قولك: أمروا وأمرت، وقد جئت شيئا إمرا، فذهبوا هذا المذهب، قال: ورأيتها في مصحف عبد الله (شيأ) في رفعه وخفضه بالألف، ورأيت يستهزءون يستهزءون، وهو القياس، والأول أكثر في الكتب».
الطريقة الثانية:
أما الطريقة الأخرى لتمثيل الهمزة في الكتابة العربية فهي كتابتها على نحو ما تخفف به في لغة من يسهل الهمزة، والعرب بالنسبة للهمزة قسمان: منهم من يحقق الهمزة، ومنهم من يسهلها، والهمزة في حالة التسهيل لا تنقلب إلى صوت آخر، ولا يبقى شيء من خصائصها، بل تسقط البتة، ذلك لأنها إما أن تكون همزة كاملة، وتتم بانطباق الوترين الصوتيين، وحبسهما للهواء مع ضغطه لحظة، ثم انفراجهما، فيخرج الهواء فجأة محدثا صوتا انفجاريا، يسمى الهمزة، وإما أن ذلك الوصف لا يتحقق، أي أن الوترين الصوتيين لا ينطبقان، بل يمر الهواء عبرهما دون أن تتكون حالة الهمزة، ونجد في هذه الحالة في موقع الهمزة إحدى الحركات الطويلة أو صوتا من أصوات اللين، وربما يخلفها صوت ضعيف غير واضح، هو ما سماه علماء العربية (همزة بين بين)، وقد تسقط دون أن يخلفها شيء.
وتحديد طبيعة الصوت الذي يخلف الهمزة عند سقوطها في لغة أهل التخفيف إنما يتوقف على نوع الحركة التي تسبق الهمزة أو حركتها نفسها، والتقاء حركتها مع حركة ما قبلها قد يشكل حركة طويلة، أو صوت لين، أو قد تطال حركة ما قبلها، فتكون حركة طويلة (2). وفي جميع هذه الأحوال ليس المنطوق همزة، إنما هو شيء آخر من
__________
(1) معاني القرآن، ج 2، ص 134.
(2) انظر تفصيل وجوه تخفيف الهمزة، سواء وسط الكلمة وطرفها: سيبويه، ج 2، ص 163وما بعدها. والمبرد، ج 1، ص 155وما بعدها. والإمام مكي بن أبي طالب: الكشف، ج 1، ص 102 وما بعدها. وابن يعيش: شرح المفصل، ج 9، ص 107وما بعدها. وسوف يكون اعتمادنا على هذه المصادر بصورة عامة في ما يتعلق بتخفيف الهمزة وأحكامها في هذه الحالة.(1/297)
حركة أو صوت لين.
ومن ثم فإن الكاتب حين يكتب الهمزة على لغة أهل التسهيل من الطبيعي أن يكتبها برموز الحركة الطويلة أو رموز أصوات اللين، لأنه لا يلفظ حينئذ همزة، فيتحتم عليه كتابتها بالألف، إنما يلفظ فتحة طويلة في مثل (يامرون، الباسا، الراس)، وكسرة طويلة في مثل (الذيب، جيتم، نبينا)، وضمة طويلة في مثل (يومن، يوذي، سولك)، أو أنه ينطق حرف لين، واوا أو ياء، في مثل (جزاوهم، عطاونا، شعاير، ملايكة).
وقد لا يكتب شيئا، لأن الهمزة قد سقطت ولم يخلفها في النطق شيء، في مثل (سل، يسل، الخاطون، المستهزون، الأفدة) (1).
وعلى هذا الأساس سوف نحاول دراسة طريقة كتابة الهمزة في الرسم العثماني، أي أننا يجب أن نتبين أي الطريقتين سلك كتبة المصاحف العثمانية في تمثيل الهمزة، هل رسموا الهمزة على قراءة من يحققها، فجعلوها ألفا، أو جروا على قراءة من يخففها فكتبوا ما يتخلف عن سقوطها من حركة طويلة أو حرف لين؟
إن البت في هذا التساؤل وتحديد نوع الإجابة يحتاج إلى أن نتعرف على عادات وخصائص لغة أهل الحجاز، وهل كانوا يحققون الهمزة أو يسهّلونها؟ كذلك علينا أن نتعرف على اتجاهات القراء في نطق الهمزة، ثم نستعين بعد ذلك بالنظر في الرسم العثماني ذاته، وروايات الأئمة من علماء السلف في هذا المجال.
أما موقف القبائل العربية من الهمزة فإن روايات علماء العربية تكاد تجمع على أن تحقيق الهمزة كان من خصائص لغة بني تميم وقيس وأسد، ومن جاورها، أي أن الهمز أي تحقيق الهمزة كان خاصة من الخصائص البدوية التي اشتهرت بها قبائل وسط
__________
(1) أشار الدكتور عبد العزيز الدالي (179وص 191) إلى أن أوراق البردي العربية خلت تماما من كتابة الهمزة، فهي لا تبدو في رسم الكتابة. وربما يقصد أن الهمزة كانت تكتب في غير أول الكلمة واوا أو ياء أو ألفا، دون أن توضع عليها رأس العين مع ملاحظة أن استعمال رأس العين للإشارة إلى الهمزة قد جاء لاحقا لتاريخ كثير من البرديات. ويعلل الدكتور الدالي هذه الظاهرة (ص 228) بأن القبائل العربية التي وفدت على مصر أيام الفتح وبعده أكثرها من القبائل الحجازية، أولئك الذين يخففون الهمزة. وبذلك تقدم لنا البرديات العربية في مصر نموذجا لرسم الهمزة على الطريقة الثانية. مثلما قدمت لنا مصاحف عبد الله نموذجا للطريقة الأولى.(1/298)
الجزيرة وشرقيها، أما التسهيل، أي ترك الهمز في غير أول الكلمة فإنه من خصائص لغة قريش، وأهل الحجاز (1).
أما موقف القراء من الهمزة فيقول ابن الجزري عنه (2): «ولما كان الهمز أثقل الحروف نطقا، وأبعدها مخرجا، تنوع العرب في تخفيفه بأنواع التخفيف، كالنقل والبدل وبين بين والإدغام، وغير ذلك. وكانت قريش وأهل الحجاز أكثرهم له تخفيفا، ولذلك أكثر ما يرد تخفيفه من طرقهم، كابن كثير من رواية ابن فليح، وكنافع من رواية ورش وغيره وكأبي جعفر من أكثر رواياته، ولا سيما رواية العمري عن أصحابه عنه، فإنه لم يكن يحقق همزة وصلا (3). وكابن محيصن قارئ أهل مكة مع ابن كثير وبعده، وكأبي عمرو بن العلاء، فإن مادة قراءاته عن أهل الحجاز، وكذلك عاصم من رواية الأعشى عن أبي بكر، من حيث أن روايته ترجع إلى ابن مسعود».
وروى ابن مجاهد أن عيسى بن مينا قالون قال: كان أهل المدينة لا يهمزون حتى همز ابن جندب (ت 110وقيل 130هـ)، فهمزوا مستهزون واستهزى (4). ويؤيد رواية قالون قول خلف (ت 229هـ) الذي يرويه عنه أبو بكر الأنباري: وقريش لا تهمز، ليس الهمز من لغتها، وإنما همزت القراء بلغة غير قريش، من العرب» (5).
وإذا أضفنا إلى ما ذكرناه من مذهب أهل الحجاز في تخفيف الهمزة، وما أشرنا إليه
__________
(1) انظر حول هذه الفكرة سيبويه: ج 2، ص 163و 167و 277و 286. والأزهري: ج 15، ص 691.
وابن منظور: ج 1، ص 14. وانظر أيضا الأزهري: ج 15، ص 215. وابن جني: الخصائص، ج 1، ص 383. والزمخشري: أساس البلاغة، ج 2، ص 414. وابن منظور: ج 7، ص 39. وانظر من المحدثين: عبد الوهاب حمودة: ص 36. د. إبراهيم أنيس: في اللهجات العربية، ص 78.
ود. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص 30. ود. عبده الراجحي: ص (106105).
وانظر أيضا بلاشير: ص 82. برجشتراسر: ص 29.
(2) النشر، ج 1، ص 428.
(3) وانظر الكرماني (أبو عبد الله محمد بن أبي نصر): كتاب شواذ القراءة. مخطوط في مكتبة الأزهر رقم 244، قراءات، ص 12.
(4) كتاب السبعة، ص 60. وابن الجزري: غاية النهاية، ج 2، ص 292.
(5) إيضاح الوقف والابتداء، ج 1، ص 392.(1/299)
من أن أصل قراءة الحجازيين عامة، وأهل المدينة خاصة، كان ترك الهمزة ما نجده في الرسم العثماني نفسه عند ما نلقي عليه نظرة عامة، فقد بدت الهمزة مرسومة، في غير أول الكلمة، واوا أو ياء أو ألفا. وفي ذلك كله دلالة قوية على أن تمثيل الهمزة في المصاحف العثمانية جرى على الطريقة الثانية من الطريقتين اللتين ذكرناهما آنفا، وهي رسمها على نحو ما تؤول إليه في التخفيف (1)، وعلينا أن نتذكر مع ذلك أن هناك جملة عوامل أثرت في هجاء الكلمات المهموزة، سنعرض لها بعد قليل.
وقد أشار إلى هذه الحقيقة كون رسم الهمزة في المصحف العثماني بني على تسهيل الهمزة الإمام أبو عمرو الداني، لكنه ظل مترددا في إطلاقها متشبثا بجريان الرسم على التحقيق والتسهيل معا، يقول (2): «والهمزة قد تصور على المذهبين من التحقيق والتسهيل، دلالة على فشوهما واستعمالهما فيها، إلا أن أكثر الرسم ورد على التخفيف، والسبب في ذلك كونه لغة الذين ولوا نسخ المصاحف زمن عثمان، رحمه الله، وهم قريش، وعلى لغتهم أقرّت الكتابة حين وقع الخلاف بينهم وبين الأنصار فيها، على ما ورد في الخبر الثابت المذكور في كتاب المرسوم (3)، فلذلك ورد تصوير أكثر الهمز على التسهيل، إذ هو المستقر في طباعهم والجاري على ألسنتهم». وقد ألمح بعض العلماء إلى أن تمثيل الهمزة في الرسم العثماني قد جرى على التسهيل، لكن ذلك لم يتعد الملاحظة العابرة إلى محاولة فهم ظواهر رسم الهمزة في المصحف على أساس من ذلك (4).
__________
(1) مما قد يدل على ذلك تتابع الفواصل القرآنية منتهية بكلمات غير مهموزة، ومجيء كلمة مهموزة خلالها، نحو (الحاقة 69/ 117) (خاوية، باقية، بالخاطية، رابية، الجارية). وفي نفس السورة (3937) نجد (الخاطون، تبصرون، تبصرون). وكذلك نجد نفس الظاهرة في سورة مريم (19/ 7472) (جثيا، نديا، ريا). فمجيء (بالخاطية، والخاطون، وريا) مع كلمات غير مهموزة قد يشير إلى أنها كتبت على نسق صوتي واحد.
(2) المحكم، ص 151.
(3) يريد كتابه (المقنع)، والخبر المشار إليه هو اختلافهم في رسم كلمة التابوت. (انظر: المقنع، ص 5).
(4) انظر السيوطي: همع الهوامع، ج 2، ص 233. ونصر الهوريني: ص 26و 65. والشيخ أحمد الإسكندري: تيسير الهجاء العربي. (مقالة في مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، 1935)، ج 1،(1/300)
ولكي نتبين حقيقة الصوت الذي يمثل في موضع الهمزة بعد سقوطها في النطق لنتصور أن صوتا آخر غير الهمزة تعرض للسقوط لعوامل معينة، كما تعرضت الهمزة في ألسنة جماعات من العرب، فسوف نجد أن ما يتخلف عن سقوط ذلك الصوت هو نفس ما يتخلف عن سقوط الهمزة، فإذا قارنا سقوط الهمزة في (سأل) وسقوط الصاد في (نصر) مثلا كانت الحالة المتخلفة عن ذلك متشابهة، فتقول (سال ونار)، كذلك فإن سقوط الهمزة من (لؤم) لا يختلف عن سقوط الراء من (كرم)، نقول (كوم) كما نقول (لوم). وإسقاط الهمزة من (رأس وبئر وبؤس) لا يختلف عن إسقاط ما يقابلها من أصوات في (كتب ونسر وقفل) فنقول (راس وبير وبوس) كما نقول (كاب ونير وقول)، إلى آخر ذلك من الأمثلة.
ورغم أن الأمثلة السابقة ليس لها صلة بواقع اللغة إلا أنها ترينا حقيقة الذي يجري في حالة تخفيف الهمزة. ويجب أن نفهم المشكلة كلها على أنها سقوط صوت، أي صوت، ثم تتشكل الكلمة بعد ذلك بإطالة الحركة لتكون حركة طويلة، أو بزيادة صوت لين لتعويض موقع الهمزة، أو تلتقي الحركتان القصيرتان اللتان تكتنفان الهمزة فتكونان حركة طويلة، أو ربما تظل الكلمة دون تغيير سوى سقوط صوت الهمزة.
وعلى أساس من هذا الفهم لحقيقة الهمزة: تحقيقها وتخفيفها، وطبيعة الصوت الذي يخلفها سوف ندرس الطريقة التي جرى عليها الكتبة في تمثيل الهمزة في الرسم العثماني، والتي رجحنا في ما سبق أن الكتّاب جروا في رسمها على لغة وطريقة من يسهل الهمزة.
ثانيا: القاعدة العامة لتمثيل الهمزة في الرسم العثماني:
إن دراسة كيفية تمثيل الهمزة في الرسم العثماني على أساس أن الكتبة جروا في رسمها على قراءة أهل الحجاز في تخفيف الهمزة، وأن أهل التخفيف إنما يحققون من الهمزات ما وقع في ابتداء الكلمة دون ما جاء متوسطا أو متطرفا منها على نحو ما مر ببيان هاتين النتيجتين من قريب تجعلنا ننظر إلى الموضوع من جانبين، الأول هو أن تمثيل الهمزة في الرسم العثماني لم يتحقق إلا في أول الكلمة، والثاني أن ما عدا
__________
ص 373. ويوهان فك: ص 4.(1/301)
ذلك من المواضع، مما نجد الهمزة مثبتة فيه في نطق من يحققون الهمزة وأهل التخفيف يسقطونها منه، ليس همزة وإنما هو حركة طويلة أو صوت لين تخلف عن سقوط الهمزة. والوصول إلى فهم صحيح لظواهر الرسم العثماني يقتضي النظر إلى الهمزة من خلال هذه الحقيقة، وهي أن الهمزة لم تمثل في الرسم العثماني إلا في أول الكلمات أما ما عدا ذلك فلا توجد همزة لا في النطق ولا في الرسم. إنما هي حركات طويلة أو أصوات لين.
ويجب التنبيه هنا أيضا إلى أن دراسة الرسم العثماني دراسة صحيحة سواء في موضوع الهمزة أم في غيره إنما تتاح إذا نظرنا إلى الرسم العثماني مجردا من علامات تمييز الحروف وعلامات الحركات وغير ذلك، من مثل رأس العين التي وضعت في فترات لاحقة لتشير إلى الهمزة، أو رأس الشين أو رأس الصاد، أو علامات الوقف، لأن هذه العلامات كلها إنما أضيفت إلى الرسم في فترات لا حقة لتكميل الكتابة العربية المتمثلة في الرسم العثماني، لأن الكتابة العربية كانت في تلك المرحلة مجردة تاما، تدل على ذلك روايات علماء السلف وما تم اكتشافه من نقوش كتابية تعود إلى ما قبل الإسلام أو إلى القرن الهجري الأول.
1 - رسم الهمزة في أول الكلمة:
وبناء على ما تقدم سندرس أيضا رسم الهمزة وهو لا يتحقق إلا في أول الكلمة ثم ندرس بعد ذلك رمز ما يحل محل الهمزة المتوسطة والمتطرفة إذا خففت في لغة أهل التخفيف، على أساس أن ذلك ليس همزة وإنما هو حركة طويلة أو واو أو ياء، وربما كان هذا الموقف من دراسة رمز الهمزة يخالف قليلا موقف علماء الرسم والعربية حين يقولون إن الهمزة إذا كانت متوسطة أو متطرفة فإنها ترسم على حركتها أو حركة ما قبلها، أو القول إن للهمزة الساكنة ثلاث مطايا (1): الألف والواو والياء. والحقيقة هي أن الذي ورد في الرسم العثماني في غير أول الكلمة ليس الهمزة، إنما هو هذه المطايا فحسب دون راكبها، لأن الكتبة لم يدر في خلدهم أنهم يكتبون همزة بصورة الواو أو الياء. إنما هم يكتبون واوا أو ياء أو شيئا قريبا من ذلك، وهم لا يقصدون بذلك سوى تمثيل هذه الأصوات التي استعملوا لرسمها ما هو معروف من رموزها في الكتابة
__________
(1) انظر: كتاب الهجاء لمجهول، لوحة 9.(1/302)
العربية، ولو أرادوا أن يكتبوا الهمزة لأثبتوها ألفا كما هو أصل رمزها.
إن أصل رمز الهمزة هو الألف (ا)، والهمزة حين تحقق، أين وردت وبأية حركة تحركت، لا ترسم إلا ألفا، على نحو ما روى الفراء عن مصاحف عبد الله، وفي مذهب بعض العرب، ولما كان أهل التخفيف يحققون الهمزة في أول الكلمة فقد جاءت كتابتها على ذلك الأصل، وهو رسمها ألفا. فالهمزة التي تقع ابتداء ترسم في المصحف العثماني بأية حركة تحركت من فتح أو كسر أو ضم ألفا لا غير (1)، وذلك نحو: (أمر، أخذ، أحمد، أيوب، إبراهيم، إسماعيل، إسحاق، إلا، إما، إذ، أنزل، أملي، أولئك، أوحي) وشبه ذلك ومثله كثير، وكذلك حكمها إن اتصل بها حرف دخيل زائد، نحو (سأصرف، فبأي، أفأنت، بأنه، كأنه، كأين، بإيمان، لإيلاف، لبإمام، فلأمه، سأنزل، لأقطعنّ) وشبهه.
هذا هو الأصل العام والقاعدة المطردة التي سار عليها الرسم العثماني في كتابة الهمزة المبدوء بها بأية حركة تحركت، ولكن سنجد أن هناك عوامل ساعدت على ظهور بعض الكلمات في الرسم العثماني كتبت بطريقة مزدوجة مثل (أولئك، سأوريكم)، وذلك لأن الكلام المتصل يجعل الهمزة التي في أول الكلمة تأخذ أحيانا حكم الهمزة المتوسطة في التخفيف، وقد يستجيب الكاتب لهذه الظاهرة الطارئة، وقد يحتفظ بأصل رسم الكلمة على قاعدة الابتداء بها والوقف عليها، كذلك تقوم الحروف الزائدة الداخلة على الكلمة بنفس الدور، مما سنوضحه فيما بعد.
2 - تمثيل ما يخلف الهمزة المتوسطة في حالة التسهيل:
إن بعض حالات تخفيف الهمزة قد ينتج عنها ياء أو واو ضعيفتان، خاصة في حالة تخفيف الهمزة (بين بين)، ولكن نجد أن الكتّاب قد استخدموا رمزي الواو والياء الخالصتين لتمثيلهما، مثل ما مر بنا من استعمال رمز النون الخالصة لتمثيل صوت النون المخفاة في مثل (إن ثاب، إن ظهر، إن شاء، إن قال) رغم ما يوجد بينها من اختلاف صوتي لكن الكتّاب أحسوا بأنها أفراد فرعية لعائلة واحدة فخصوها برمز واحد، وكذلك الحال هنا كما يبدو، فالهمزة المكسورة بعد فتح تصير في حالة التخفيف ياء مختلفة
__________
(1) انظر الداني: المقنع، ص 60، وانظر أيضا: سليمان بن نجاح: التنزيل، لوحة 5.(1/303)
الكسرة كما يقول علم الدين السخاوي (1)، أو ينحى بها نحو الياء كما يقول المبرد (2)، وقد مثلت في الكتابة برمز الياء، وإن لم تكن ياء خالصة في الحقيقة، لكنها مقربة منها، والمقرّب من الشيء قد يحكّم له بحكم الشيء، وإن لم يكن كهو في الحقيقة، وكذلك حكم للهمزة عند تخفيفها في هذه الحالة حكم الياء الخالصة، فصورت ياء (3).
وقد وضع ابن الجزري هذه الحقيقة في رسم الهمزة المخففة أي رسم ما يخلف الهمزة عند تخفيفها في ما يشبه القاعدة العامة حين قال (4): «فإن كان تخفيفها ألفا أو كالألف كتبت ألفا، وإن كان ياء أو كالياء كتبت ياء، وإن كان واوا أو كالواو كتبت واوا. وإن كان حذفا بنقل أو إدغام أو غيره حذفت ما لم تكن أولا فإن كانت أولا كتبت ألفا أبدا». فمن المتوقع إذن أن نجد ما يخلف الهمزة من واو أو ياء ضعيفتين عند تخفيفها (بين بين) مرسوما بالواو أو بالياء على أساس تلك القاعدة في الرسم العثماني.
رسم ما يخلف الهمزة المخففة المتوسطة ياء:
أترسم الهمزة المخففة (بين بين) ياء في الحالات التالية:
1 - فتحة همزة كسرة تخفف ياء ضعيفة (بين بين) وترسم ياء.
الأمثلة: لئن ليطمئنّ تطمئنّ مطمئنّ مطمئنّة مطمئنّين حينئذ يومئذ يئس تبتئس يئسوا يئسن. وما أشبه ذلك.
2 - كسرة همزة كسرة تخفف ياء ضعيفة وترسم ياء.
الأمثلة: بارئكم يومئذ.
أما في حالة كون الكسرة التي تلي الهمزة طويلة نحو (الصّابئين خسئين المستهزءين الخاطين متكين)، فإن تخفيفها قد يؤدي إلى وجود ياء ضعيفة، أو سقوط الهمزة مع الكسرة التي قبلها، فتتصل الكسرة الطويلة التي بعد الهمزة بالصوت
__________
(1) جمال القراء، ورقة 197ب.
(2) المقتضب، ج 1، ص 155.
(3) انظر الداني: المحكم، ص (105104).
(4) النشر، ج 1، ص 446. وانظر المارغني: ص 210.(1/304)
الصامت الذي قبل الهمزة. وقد قرأ كذلك أبو جعفر، شاركه في بعضها نافع وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج (1)، وفي كلتا الحالتين يظل الرسم بياء واحدة، لأن الياء الضعيفة تشترك مع الكسرة الطويلة في الرمز، فلا يثبت إلا رمز واحد لهما، كراهة اجتماع صورتين متفقتين في الخط، أما في الحالة الثانية فليس هناك إلا الكسرة الطويلة التي تمثل برمز الياء.
3 - ضمة همزة كسرة تخفف ياء ضعيفة وترسم ياء.
الأمثلة: سئل سئلت سئلوا.
4 - كسرة همزة ضمة تخفف ياء ضعيفة وترسم ياء.
ويتلخص من أقوال علماء السلف (2) أن الهمزة المضمومة ضمة طويلة وقبلها كسرة تخفف على وجوه ثلاثة: أولها: قول الأخفش وعامة الكوفيين وهو قلبها ياء خالصة، والثاني: أن تخفف بين الهمزة والواو (واو ضعيفة) وهو مذهب البصريين، والثالث: قراءة أبي جعفر وحكاية الكسائي عن العرب، وهو إسقاطها مع الكسرة قبلها، وذلك لأن العربية تكره الخروج من كسر إلى ضم (3)، وعلى هذا جاءت أمثلة هذه الحالة كلها مرسومة بالواو فقط هكذا: مستهزون الصبون متكون فمالون المنشون الخطون أنبوني نبوني تنبونه يضهون يتكون ليواطوا يطفوا. وما أشبه ذلك (4).
ولا شك في أن تخفيف الهمزة المضمومة ضمة قصيرة بعد كسرة في الأمثلة المذكورة نحو (أنبئكم سنقرئك) يكون بجعلها كسرة طويلة لا ياء ضعيفة (بين بين)، استنادا إلى ما سبق من كراهة الخروج من كسر إلى ضم، فيكون النطق (أنبيكم سنقريك)
__________
(1) الدمياطي: ص 56. وانظر ابن خالويه: المختصر في شواذ القرآن، ص 6.
(2) انظر المبرد: ج 1، ص 157. والزجاجي: الجمل، ص 279: وأبو علي الفارسي (الحسن بن أحمد بن عبد الغفار): الحجة في علل القراءات السبع، القاهرة، دار الكتاب العربي، 1965، ج 1، ص 160. والداني: المحكم، ص 140. والتيسير (له)، ص 23. ومكي: الكشف، ج 1، ص 105.
(3) ابن يعيش: ج 10، ص 55و 87.
(4) قرأ أبو جعفر جميع الباب بالواو (انظر الداني: المحكم، ص (140139). والدمياطي:
ص 156. وانظر د. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص 146.(1/305)
بكسرة طويلة خالصة (1).
5 - فتحة طويلة همزة كسرة تخفف ياء ضعيفة وترسم ياء.
وأمثلة هذه الحالة كثيرة جدا، ومنها: قائم ضائق قائل دائم قائما خائفا طائفة ذائقة دائرة سائبة طائفتان قائلون نائمون الفائزون خائفين الصئمت أنبائكم السرائر. وما أشبه ذلك كثير.
ب ترسم الهمزة المخففة ياء خالصة ياء في الحالات التالية:
1 - كسرة همزة فتحة تخفف ياء خالصة وترسم ياء.
الأمثلة: فئة حمئة ملئت ناشئة شانئك ليبطّئنّ ننشئكم رئاء وما أشبه ذلك.
2 - كسرة همزة صامت تخفف كسرة طويلة وترسم ياء.
الأمثلة: جئت جئتكم شئتما شئتم أنبئهم نبّئنا لملئت بئس الذئب وما أشبه ذلك.
3 - كسرة طويلة همزة حركة تخفف ياء مشددة أو ياء متحركة وترسم ياء واحدة.
الأمثلة: خطيئة خطيئته بريئون سيئت.
4 - ياء همزة حركة تخفف ياء مشددة أو ياء متحركة وترسم ياء واحدة.
الأمثلة: كهيئة.
رسم ما يخلف الهمزة المخففة المتوسطة واوا:
أترسم الهمزة المخففة (بين بين) واوا في الحالات التالية:
1 - فتحة همزة ضمة تخفف واوا ضعيفة (بين بين) وترسم واوا.
__________
(1) انظر د. عبد الصبور شاهين: المصدر السابق، ص 140، حيث ينقل في هذه الحروف قراءة لبعض القراء بالكسرة الطويلة.(1/306)
الأمثلة: تقرؤه تؤزّهم يبنؤمّ يكلؤكم يذرؤكم لتنبّؤنّ.
وقد جاءت في بعض الأمثلة بعد الهمزة ضمة طويلة فلم يثبت رمز الواو الضعيفة التي تخلف الهمزة عند التخفيف، لاجتماع واوين في الرسم، وذلك في: بدءوكم يقرءون ليئوس يدرءون مبرّءون يطئون (1).
2 - ضمة همزة ضمة تخفف واوا ضعيفة وترسم واوا.
الأمثلة: لم يأت من أمثلة هذه الحالة إلا ما كان فيه بعد الهمزة ضمة طويلة من مثل: (رءوس رءوسكم رءوسهم)، ولم ترسم الواو المتخلفة عن تخفيف الهمزة كراهة اجتماع صورتين متفقتين في الرسم.
3 - فتحة طويلة همزة ضمة تخفف واوا ضعيفة وترسم واوا.
الأمثلة: ءاباؤهم جزاؤهم أنباؤكم أحبؤه ماؤها دماؤها هاؤم. وما أشبه ذلك.
وقد جاء بعد الهمزة في بعض الأمثلة ضمة طويلة مرسومة واوا ولذلك لم ترسم الواو المتخلفة عن تخفيف الهمزة، نحو: يراءون يشاءون جاءوك.
ب ترسم الهمزة المخففة واوا خالصة واوا في الحالات التالية:
1 - ضمة همزة فتحة تخفف واوا خالصة وترسم واوا.
الأمثلة: يؤيّد يؤده يؤخّر يؤلّف مؤذّن مؤجّلا المؤلفة.
وكذلك تخفف الهمزة المفتوحة فتحة طويلة بعد ضمة واوا خالصة، وترسم واوا، وذلك في نحو: يؤاخذ بسؤال فؤاد وما كان مثله.
2 - ضمة همزة صامت تخفف ضمة طويلة وترسم واوا.
الأمثلة: يؤمن يؤتى يؤذي يؤفك يؤلون تؤثرون تسؤهم سنؤتيهم
__________
(1) قرأ أبو جعفر (ولا يطون، لم تطوها، أن تطوهم) بحذف الهمزة (انظر الدمياطي: ص 56) وعلى ذلك لا يكون حذف رمز الواو المتخلفة عن تخفيف الهمزة في هذه الأمثلة لاجتماع واوين في الرسم بل لأنها لم تثبت أصلا في اللفظ، وهذا مثل عدم إثباتها في (الخاطون).(1/307)
مؤمن مؤمنة المؤمنون المؤمنات المؤتفكة المؤتفكات سؤلك مؤصدة، وما أشبه ذلك.
وقد جاءت بعض الكلمات من هذه الحالة بشكل يبدو أن تخفيف الهمزة جرى فيها على غير القاعدة المذكورة، ولهذا لم ترسم الواو، لتتناسب مع الأصوات المجاورة في مثل (الرءيا)، أو أن وجود واو أخرى قد منع من ظهور الواو التي تمثل الضمة الطويلة، كراهة اجتماع صورتين متفقتين في الخط، في مثل (تئوي تئويه) ولعل التخفيف في هذين المثالين كان واوا أدغمت في الواو ورسمت الكلمة بواو واحدة.
3 - ضمة طويلة همزة حركة تخفف واوا مشددة أو واوا متحركة وترسم بواو واحدة. وردت هذه الحالة في كلمة (السوأى) و (ليسئوا). لكن الكلمة الأولى تبدو فيها الهمزة وقد رسمت ألفا، وكأنها محققة، ولعل هذا رسم قديم لنطق قديم وسنذكر ذلك في مكان لاحق أما الكلمة الثانية فقد وقعت الهمزة فيها بين ضمتين طويلتين، الأولى واو الفعل، والثانية واو الجمع، لكنهما رسمتا بواو واحدة، ومن المحتمل أن تكون صور الكلمة بعد التخفيف لا تتضمن إلا واوا وضمة طويلة فاكتفى بصورة الواو المرسومة، علما أن الكسائي قرأها (لنسوء) وقرأها ابن عامر وأبو بكر وحمزة وخلف (ليسوأ) (1)
4 - واو همزة حركة تخفف واوا مشددة أو واوا متحركة وترسم بواو واحدة.
الأمثلة: سوأة سوءتهما سوءتكم المودة (الموؤدة).
وروى ابن خالويه ترك الهمز في الكلمة الأخيرة (التكوير 81/ 8) وفتح الميم وإسكان الواو (المودة) (2).
وروى علماء الرسم أن كلمة {مَوْئِلًا (58)} [الكهف] رسمت بياء (3)، والقياس فيها أن تخفف بترك الهمزة وكسر الواو مشددة أو مخففة. ولا أدري إن كانت قد خففت بالياء.
__________
(1) انظر الدمياطي: ص 282.
(2) ابن خالويه: المختصر في شواذ القرآن، ص 169.
(3) انظر المهدوي: ص 93. والداني: ص 43.(1/308)
رسم ما يخلف الهمزة المخففة المتوسطة ألفا:
أترسم الهمزة المخففة (بين بين) ألفا في الحالات التالية:
1 - فتحة همزة فتحة تتكون فتحة طويلة (بين بين) وترسم ألفا.
الأمثلة: سألك بدأكم نبّأنا نبرأها لأملأنّ اشمأزّت دأبا نبأهم منسأته امرأته امرأتان، وما كان مثل ذلك.
وفي حالة امتداد الفتحة بعد الهمزة أي كونها فتحة طويلة في مثل: سئاوى رءاك المئاب مئارب شنئان المنشئات، فإن سقوط الهمزة سيؤدي هنا إلى أن تلتقي الفتحة القصيرة التي قبل الهمزة بالفتحة الطويلة التي بعدها. لكن هذا لن يؤدي إلى تكون صوت لين، كما يحدث في حالة تخفيف الهمزة المضمومة ضمة طويلة، والواقعة بعد فتحة قصيرة، في مثل: يقرءون مبرءون يدرءون يئوس فحين تسقط الهمزة في هذه الأمثلة يتكون صوت لين ضعيف قبل الضمة الطويلة (1)، لكن هذا لا يحدث في حالة التقاء الفتحة مع الفتحة الطويلة التي بعدها، وربما يعوض المتكلم مكان الهمزة الساقطة بإطالة الفتحة القصيرة لكن ذلك سيؤدي إلى تتابع فتحتين طويلتين وهو غير ممكن في واقع اللغة (2)، ومهما كان الصوت المتخلف عن سقوط الهمزة في هذه الحالة فإن الكاتب لن يكتب إلا ألفا واحدة.
وقد قال أبو عمرو الداني: ورأيت أكثر مصاحف أهل المدينة والعراق قد اتفقت على حذف الألف التي هي صورة الهمزة في أصل مطرد، وهو قوله: (لأملأنّ جهنم) حيث وقع، وفي ثلاثة أحرف، وهي قوله في: اطمئنّوا بها [يونس: 17]، وفي:
اشمئزّت قلوب الذين [الزمر: 45] وفي هل امتلأت (3) [ق: 30].
ووجد في مصحف طشقند (سألك) [البقرة: 186] مرسومة بحذف الألف (سلك).
وكذلك (لأملن) [الأعراف: 18، وهود: 119]، ومثلها (امرأتك) [هود: 81]، و (امرأته) [الحجر: 60، والنمل: 57]، ووجدت أيضا في مصحف جامع عمرو بن
__________
(1) انظر الفراء: معاني القرآني، ج 2، ص 130.
(2) انظر ابن جني: الخصائص، ج 1، ص 89، وج 2، ص 493.
(3) المقنع، (2625). وانظر المهدي: ص 93و 94. والعقيلي: لوحة 9.(1/309)
العاص (اطمئنّوا) [يونس: 7] بغير ألف، ومثلها (لأملن) [السجدة: 13، وص:
85]، و (اشمئزت) [الزمر: 45].
وإذا كان لحذف الألف في هذه الأمثلة من دلالة فإن أول ما يدل عليه هو أن تخفيف الهمزة الواقعة بين فتحتين قصيرتين يؤدي إلى تكوّن فتحة طويلة أو صوت يشبهها، ومن ثم فقد جرى الكتبة على عدم إثبات الألف هنا التي هي علامة الفتحة الطويلة المتوسطة، مثل ما فعلوا في حالة الفتحة الطويلة المتوسطة في كلمات كثيرة سبقت الإشارة إليها من قبل.
2 - فتحة طويلة همزة فتحة.
الأمثلة: أضاءت جاءت تساءلون براءة لقاءنا دعاءه غطاءك وراءهم شهداءكم أدعياءكم، وما أشبه ذلك.
عند تخفيف الهمزة في هذه الأمثلة تتكون بعد سقوط الهمزة حالة تشبه ما شاهدناه في الحالة السابقة في مثل المئاب ومئارب، حيث تلتقي فتحة قصيرة وفتحة طويلة، وقد رسمها الكتاب بألف واحدة، لكن جاءت الفتحة القصيرة هنا بعد الفتحة الطويلة، عكس الحالة السابقة، والنتيجة تظل على ما يبدو واحدة، ومن ثم لم تكتب إلا ألف واحدة، دون أن يكون هناك أثر لتخفيف الهمزة، وإنما ذكرنا هذه الحالة هنا لأن الحالات التي تشبهها وجاءت فيها بعد الألف ضمة أو كسرة رسمت واوا أو ياء. كما مر بيان ذلك.
ب الهمزة المخففة فتحة طويلة ترسم ألفا:
وذلك في حالة واحدة:
فتحة همزة صامت تخفف فتحة طويلة وترسم ألفا.
الأمثلة: يأت يأن فلا تأس يأتي يأمن يأمركم امتلأت يأمرون يستأخرون رأي دأب شأن البأس رأفة مأكول مأمون المأوى تأويل البأساء ومنه أيضا: يستئذن يستئذنك استأذنك استأذنوك استأجرت استأجره يستئخرون المستأخرين مستئنسين.
وقد ذكرنا هنا من أمثلة هذه الظاهرة وهي كثيرة ما يبين ظاهرة أخرى، سبق أن أشرنا إليها، وهي عدم إثبات رمز الفتحة الطويلة (الألف) المتوسطة، في كثير من الكلمات، حسب المبدأ الذي أشرنا إليه عند بحث رمز الفتحة الطويلة، وهو أن عدم إثبات الألف الذي هو علامة للفتحة الطويلة المتوسطة يكثر في الكلمات التي استطالت باتصال بعض الزوائد بها، كما نجد في (يستئذن يستئذنوك استأذنك استأذنوك). ومما يدل على أن وجهة الكتّاب كانت نحو استكمال هذا النقص في بعض الكلمات إن كلمة {يَسْتَأْخِرُونَ} * جاءت بإثبات الألف مرة (الأعراف 7/ 34)، وبحذفها في المواضع الأخرى، وكذلك نجد كلمة مستئنسين (53) [الأحزاب] جاءت مرسومة بغير ألف بينما جاءت كلمة {تَسْتَأْنِسُوا (27)} [النور] والألف فيها ثابتة، وهذا قد يشير إلى أن ظاهرة إثبات الألف المتوسطة قد بدأت تشمل بعض الكلمات التي استطالت بالزوائد.(1/310)
الأمثلة: يأت يأن فلا تأس يأتي يأمن يأمركم امتلأت يأمرون يستأخرون رأي دأب شأن البأس رأفة مأكول مأمون المأوى تأويل البأساء ومنه أيضا: يستئذن يستئذنك استأذنك استأذنوك استأجرت استأجره يستئخرون المستأخرين مستئنسين.
وقد ذكرنا هنا من أمثلة هذه الظاهرة وهي كثيرة ما يبين ظاهرة أخرى، سبق أن أشرنا إليها، وهي عدم إثبات رمز الفتحة الطويلة (الألف) المتوسطة، في كثير من الكلمات، حسب المبدأ الذي أشرنا إليه عند بحث رمز الفتحة الطويلة، وهو أن عدم إثبات الألف الذي هو علامة للفتحة الطويلة المتوسطة يكثر في الكلمات التي استطالت باتصال بعض الزوائد بها، كما نجد في (يستئذن يستئذنوك استأذنك استأذنوك). ومما يدل على أن وجهة الكتّاب كانت نحو استكمال هذا النقص في بعض الكلمات إن كلمة {يَسْتَأْخِرُونَ} * جاءت بإثبات الألف مرة (الأعراف 7/ 34)، وبحذفها في المواضع الأخرى، وكذلك نجد كلمة مستئنسين (53) [الأحزاب] جاءت مرسومة بغير ألف بينما جاءت كلمة {تَسْتَأْنِسُوا (27)} [النور] والألف فيها ثابتة، وهذا قد يشير إلى أن ظاهرة إثبات الألف المتوسطة قد بدأت تشمل بعض الكلمات التي استطالت بالزوائد.
وحذف الألف في هذه الحالة يضع أيدينا على دليل جديد من الرسم ذاته يدل على أن الرسم العثماني جرى في تمثيل الهمزة على قراءة ولغة أهل التسهيل، وذلك لأن الكاتب عامل الفتحة الطويلة المتخلفة عن تخفيف الهمزة معاملة الفتحة الطويلة المتوسطة في الكلمات غير المهموزة حين يحذفها من الكلمات ذات الرموز الكثيرة.
رسم الكلمة التي تسقط منها الهمزة عند التخفيف دون أن تعوض بشيء:
إذا كانت الهمزة متحركة بعد ساكن وخففت سقطت دون أن يخلفها شيء، وإنما تتصل حركتها بالحرف الساكن قبلها فيتحرك، ولذلك نجد الكلمات التي وردت الهمزة فيها على تلك الحالة قد جاءت في الرسم العثماني دون أن يكون لها أي أثر في الرسم، لسقوطها من النطق البتة.
فأمثلة المفتوحة وقبلها ساكن: يسأل أسألك فسل يسئم يسئمون تجئرون شطئه المشئمة. وما أشبه ذلك.
وسواء أكانت الفتحة قصيرة كالأمثلة السابقة أم طويلة كما في هذه الأمثلة: الئن القرءان الظمئان. ولما كان عدم إثبات رمز الفتحة الطويلة يكثر في وسط الكلمات
فمن المتوقع أن نجد بعض الأمثلة قد شملتها هذه الظاهرة مثل (قرنا) (1).(1/311)
وسواء أكانت الفتحة قصيرة كالأمثلة السابقة أم طويلة كما في هذه الأمثلة: الئن القرءان الظمئان. ولما كان عدم إثبات رمز الفتحة الطويلة يكثر في وسط الكلمات
فمن المتوقع أن نجد بعض الأمثلة قد شملتها هذه الظاهرة مثل (قرنا) (1).
إلا أن كلمة (النشأة) قد جاءت الألف فيها ثابتة دون أن تكون فيها فتحة طويلة، وكان قياس كتابتها على التخفيف (النشة) يقول الداني (2): اتفق كتاب المصاحف على أن رسموا ألفا بعد الشين في (النشأة) في العنكبوت (29/ 20) والنجم (53/ 47) والواقعة (56/ 62). ثم قال: ولا أعلم همزة متوسطة قبلها ساكن رسمت في المصحف إلا هذه الكلمة وفي قوله: {مَوْئِلًا (58)} [الكهف] لا غير.
أما أمثلة الهمزة المضمومة وقبلها ساكن فقد جاءت فيها الضمة بعد الهمزة طويلة مرسومة واوا، مثل: مذءوما مسئولا مسئولون. فالواو المرسومة في هذه الأمثلة هي رمز الضمة الطويلة، وقد سقطت الهمزة دون أن يخلفها شيء لا في اللفظ ولا في الرسم. أما أمثلة الهمزة المكسورة بعد ساكن فقد جاءت من ذلك كلمة (أفئدة) و (أفئدتهم)، ولا أثر لتخفيف الهمزة في الرسم إذ إنها سقطت دون أن يحدث في بنية الكلمة تعويض لمكان الهمزة بل صارت كسرتها حركة للساكن قبلها مثل كل الأمثلة السابقة في هذه الحالة.
3 - الهمزة المتطرفة في الرسم العثماني:
إن الهمزة التي تقع في آخر الكلمة لا تختلف قواعد رسمها كثيرا عن قواعد رسم المتوسطة. إلا أن هناك عاملا أسهم بعض الشيء في توجيه رسم الهمزة المتطرفة دون أن يكون له أثر في المتوسطة، ذلك هو ما امتازت به العربية من الميل إلى الوقف على أواخر الكلمات بالسكون، «فالحرف الموقوف عليه لا يكون إلا ساكنا» (3). ولذلك فقد تعلق تخفيف الهمزة المتطرفة بالحركة التي تسبقها، لكن بعض الهمزات جاء ما قبلها ساكنا، ولذلك فإن تخفيف الهمزة المتطرفة ينقسم إلى ما قبله حركة وما قبله ساكن، ومن ثم فإن رسم ما يتخلف عن الهمزة المتطرفة عند تخفيفها ينقسم إلى قسمين
__________
(1) ذكر الداني: (انظر: المقنع، ص 19) أن الألف حذفت من رسم كلمة (قرآن) في يوسف (12/ 2)، والزخرف (43/ 3) فقط.
(2) المقنع، ص 43.
(3) ابن يعيش: ج 9، ص 67.(1/312)
كذلك.
أرسم الهمزة المتطرفة بعد ساكن:
أما رسم الهمزة التي قبلها ساكن فقد اتفق كتاب المصاحف على عدم إثبات شيء مكانها في الرسم (1). ومن أمثلة ذلك: ملء (3/ 91) دفء (16/ 5) الخبء (27/ 25) المرء (2/ 102). وقد قال الفراء وهو يتحدث عن رسم كلمة (دفء):
كتبت بغير همزة لأن الهمزة إذا سكن ما قبلها حذفت من الكتاب، وذلك لخفاء الهمزة إذا سكت عليها، فلما سكن ما قبلها ولم يقدروا على همزها في السكت كان سكوتهم كأنه على الفاء، وكذلك قوله (يخرج الخبء) و (ملء الأرض) (2).
ومن مذهب بعض العرب أنهم يشددون الحرف الساكن قبل الهمزة في مثل هذه الكلمات عند تخفيف همزتها. وروي ذلك عن بعض القراء (3)، لكن تشديد الحرف في آخر الكلمة بعد سقوط الهمزة لا يغير من رسم الكلمة لأن الحرف المشدد يكتب برمز واحد.
وقد جاءت في المصحف بضعة أمثلة وقعت فيها الهمزة المسبوقة بسكون طرفا، ولحقها التنوين، وهي مفتوحة، فجرى الكتّاب فيها على وفق ما ذكرنا إلا أنهم أثبتوا فيها ألفا هي عوض التنوين عند الوقف، وذلك نحو: جزءا (2/ 260)، وخطئا (17/ 31)، وردءا (28/ 34)، ووطئا (73/ 6). ويبدو أن الحرف الساكن قبل الهمزة تتصل به الفتحة الطويلة التي هي عوض التنوين في حالة الوقف، لأن الهمزة تسقط في التخفيف وتتصل حركتها بالحرف الساكن قبلها.
وتجري هذه القاعدة في رسم الهمزة على ما كان فيه الساكن الذي قبل الهمزة ياء أو واوا لأن تخفيف الهمزة في هذه الحالة يكون إما بإلقاء الحركة على ما قبلها فتصير الياء أو الواو متحركة بحركة قصيرة، أو بالتعويض فتصير الياء أو الواو مشددة. وفي كلتا
__________
(1) انظر الداني: المقنع، ص 62. وسليمان بن نجاح: لوحة 13.
(2) انظر: معاني القرآن، ج 2، ص 96.
(3) انظر ابن خالويه: المختصر، ص 6. ود. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص (136135) و (154152).(1/313)
الحالتين لا يكتب إلا رمز الياء أو الواو، لأنه ليس هناك في الحالة الأولى إلا صوت واحد، ولأن المشدد في الحالة الثانية لا يكتب إلا برمز واحد، حسب القاعدة التي مر ذكرها، ولكن إذا كانت الكلمة اسما منوّنا منصوبا ثبتت الألف التي هي عوض التنوين في الوقف كما حدث في (جزءا وخطئا)، فمثال ما كان قبل الهمزة فيه ياء كلمة (شيء)، وقد جاءت مرفوعة (شيء)، ومنصوبة (شيئا)، ومجرورة (شيء). ومثال ما كان قبل الهمزة فيه واو كلمة (السّوء) و (سوء) (1).
ب رسم الهمزة المتطرفة بعد حركة:
أما إذا تحرك ما قبل الهمزة المتطرفة فإنها تخفف وفقا لحركة ما قبلها مثل تخفيف الساكنة وسط الكلمة، ولما كان رسم الهمزة في غير أول الكلمة قد جرى على التخفيف فإن الكاتب سوف يرسم في حالة الهمزة المتطرفة بعد حركة رمز حركة طويلة، تحدد نوعها الحركة القصيرة السابقة للهمزة، حيث تطول تلك الحركة لتعوض موقع الهمزة (2).
فمثال ما كانت فيه قبل الهمزة المتطرفة فتحة ورسم بالألف، سواء أكانت حركة الهمزة فتحة أم ضمة أم كسرة: ذرأ تبرّأ الملأ أسوأ يستهزأ نبأ الملأ حمأ سبأ بالملإ النبأ.
ومثال ما كان فيه قبل الهمزة ضمة: امرؤا لؤلؤا اللؤلؤ. السّيّئ.
ومثال ما كان فيه قبل الهمزة كسرة: يستهزئ تبرئ يبدئ البارئ قرئ استهزئ موطئا خاسئا امرئ شطىء السّيّئ.
فإن كان ما قبل الهمزة ضمة أو كسرة طويلتين فإن تخفيف الهمزة بعدهما يكون إما بإلقاء الحركة عليهما فتنتقل إلى واو أو ياء. أو أنها تتجزأ إلى حركتين قصيرتين تحافظ الأولى على وجودها وتقع الثانية موقع الواو أو الياء فتدغم بالواو أو الياء التي تخلف الهمزة (3)، وفي كلتا الحالتين لا يظهر أثر تخفيف الهمزة في الرسم، ففي الحالة الأولى
__________
(1) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (دائرة السوء) في التوبة (9/ 98) بضم السين (انظر الداني: التيسير، ص 119) أي صار قبل الهمزة ضمة طويلة لكن الرسم مع ذلك لا يختلف.
(2) انظر الداني: ص 62.
(3) انظر مكي: الكشف، ج 1، ص 109. وابن سيده: المخصص، ج 14، ص 15.(1/314)
تشترك الحركة الطويلة وصوت اللين (الواو والياء الصامتان) برمز واحد. وفي الحالة الثانية يشار للصوت المشدد برمز واحد هو رمز الحركة الطويلة التي كانت مع الهمزة المحققة وانتقلت بعد التخفيف إلى صوت لين (1).
فمثال ما كانت فيه قبل الهمزة ضمة طويلة: السّوء سوءا بالسّوء قروء.
ومثال ما كانت فيه قبل الهمزة كسرة طويلة: سيء جيء تفيء يضيء بريء المسيء النسيء نبىء هنيئا مريئا بريئا، وما أشبه ذلك.
أما إذا كانت الحركة الطويلة التي قبل الهمزة فتحة فإن تخفيف الهمزة عند الوقف في هذه الحالة سيكون بإسقاط الهمزة وتصير الكلمة كأنها مقصورة، ويظل رسمها كما هو بأية حركة تحركت الهمزة.
فمثال ما كانت حركة الهمزة فيه فتحة: شاء جاء أضاء باء إيتاء ابتغاء تلقاء شهداء أغنياء شفعاء حنفاء السماء النساء الفقراء، وما أشبهه.
ومثال ما كانت حركة الهمزة فيه ضمة: يشاء صفراء جزاء عطاء الفقراء الأخلّاء شركاء أغنياء نساء أسماء.
ومثال ما كانت حركة الهمزة فيه كسرة: لقاء عطاء دعاء غطاء ماء مشّاء بناء السماء الضراء العراء الفقراء الشهداء الضعفاء الخلطاء الأنباء، وما أشبه ذلك.
وإذا كانت الهمزة منونة منصوبة مثل (ماء غثاء جفاء سواء) وما كان مثله، فإن الكتّاب قد جروا على إثبات ألف واحدة، رغم اجتماع فتحتين طويلتين، الأولى من
__________
(1) يرى الداني (المقنع، ص 43) أن الهمزة في (أن تبوأ) (5/ 29) و (لتنوأ) (28/ 76) قد صورت ألفا في هذين المكانين. لكن يبدو أن تخفيف الهمزة هنا قد جرى بأن تؤول الهمزة إلى واو ضعيفة متحركة بحركة مختلسة، فتحة في الأول وضمة في الثاني، فتتوالى ضمة طويلة وواو ضعيفة، فلا تثبت إلا صورة إحداهما كراهة اجتماع صورتين متفقتين في الخط، ويقول السيوطي في هذين المثالين (الإتقان، ج 4، ص 153) «أن الألف التي بعد الواو ليست صورة الهمزة، بل هي المزيدة بعد واو الفعل».(1/315)
أصل الكلمة، والثانية عوض التنوين، وسواء أكان اللفظ بإثبات الفتحتين الطويلتين عن طريق تغيير النغمة أو درجة الانفتاح إن أمكن ذلك وصح رواية أم إثبات ألف واحدة، لأن كراهة اجتماع صورتين متفقتين في الرسم تحول دون إثبات أكثر من رمز ألف واحدة، وقد اختلف في الألف المرسومة هل هي ألف الكلمة أو هي عوض التنوين؟ ويرى علماء الرسم كونها التي قبل الهمزة أولى لوجودها في الوصل والوقف، فهي لازمة (1).
وإن تحرك ما قبل الهمزة وكان بعدها ألف سواء أكانت للنصب أم للتثنية، نحو (خطئا متكئا ملجئا) ونحو (أن تبوّءا لقومكما) (10/ 87) وما كان مثله فإنه رسم بألف واحدة أيضا، والأخرى محذوفة، والمثبتة هي الألف المعوضة من التنوين وألف التثنية، ويروي الداني أن بعض النحويين قال: إنما لم يجمع بين ألفين في الخط من حيث لم يجمع بينهما في اللفظ (2)، وذلك لأن النطق بالكلمة منوّنة ومسهّلة الهمزة سيؤدي إلى تقصير الفتحة الطويلة التي خلفت الهمزة لأنها وقعت في مقطع مديد مقفل بصامت، وعند الوقف تثبت الألف المعوضة من التنوين فهي في الحقيقة ألف واحدة، كما قال بعض النحويين.
إن ما أشرنا إليه في أول الكلام عن رسم ما يخلف الهمزة المخففة في آخر الكلمة من أن رسمها ينبني على الوقف على آخر الكلمة بالسكون، وهو ما يؤكد القاعدة المشهورة وهي أن كتابة الكلمة تقوم على النطق بها مبتدأ بها وموقوفا عليها ليس على إطلاقه، وذلك لأن كتبة المصحف جروا في أماكن متعددة على رسم الكلمات وهي منطوقة في كلام متصل، فأدى ذلك إلى أن تأخذ الهمزة المتطرفة حكم الهمزة المتوسطة عند التخفيف، وهو ما ظهر أثره في رسم الهمزة في بعض المواضع.
فمن ذلك مما كانت الهمزة المتطرفة فيه بعد ألف وهي مضمومة أو مكسورة: نشؤا أنبؤا الضعفؤا العلمؤا وتلقاىء ءنايء بلقائي دعائي، فقد خففت الهمزة في هذه المواضع كما خففت في آباؤكم وقائم.
__________
(1) انظر المهدوي: ص 109. والداني: المقنع، ص 36.
(2) الداني: المقنع، ص 26. وانظر المهدوي: ص 109.(1/316)
ومثال ما كانت الهمزة فيه بعد فتحة وهي مضمومة: يبدأ أتوكّؤا يعبؤا الملأ نبؤا.
ومثال ما كانت الهمزة فيه بعد فتحة وهي مكسورة: نبإى.
وهذه الأمثلة التي سنتكلم عنها بتفصيل فيما بعد تشير إلى أن كتبة المصحف جروا في كتابة الكلمات على أساس الوقف على آخر الكلمة بالسكون مرة وعلى أساس وصلها، محركة، بما بعدها أخرى.
ثالثا: العوامل التي أسهمت في تعدد صور هجاء الكلمات المهموزة:
تلك هي الاتجاهات العامة لرسم الهمزة المحققة ورسم ما يخلفها في حالة التخفيف، في كافة أحوالها، كما جاءت في الرسم العثماني. إلا أن هناك جملة عوامل أسهمت في أن تأتي الهمزة في بعض الكلمات مرسومة على أساس آخر غير ما جرى عليه رسمها في عامة الكلمات التي وقعت فيها الهمزة مثل موقعها فيها، فيقول ابن الجزري: وربما خرجت مواضع عن القياس المطرد لمعنى (1). ونحاول هنا أن نتبين تلك العوامل التي ساعدت على وجود الظواهر الخارجة على القياس المطرد، من خلال دراسة الظواهر نفسها. لعل في تبين تلك العوامل ما يتيح تفهم هذه الظواهر على نحو أكثر وضوحا وأقرب إلى الصحة.
وإذا كانت الهمزة صوتا على ذلك النحو من التعقيد والتباين في حالات إثباتها وتركها في الكلام فإن رسم الهمزة يعد مشكلة أشد تعقيدا من مشكلتها الصوتية، ذلك لأن الكتابة كما مر من قبل لا تتابع تطور اللغة بسرعة، فهي لا تتخلى عن صور هجاء الظواهر اللغوية الميتة وهي لا تمثل الظواهر الجديدة إلا بعد فترات طويلة، وربما ظلت تلك الصور مستعملة على أيدي الكتاب، وقد ينسى أصلها فلا يكاد يصل الباحثون في ذلك إلى شيء يمكن الاطمئنان إليه، وقد تحتفظ الكتابة بصور الهجاء القديمة إلى جانب تمثيل الظواهر الجديدة، مما يزيد في صعوبة الوصول إلى فهم صحيح لها، وكذلك فإن الكلمة قد يختلف رسمها تبعا للأساس الذي تقوم عليه الكتابة من وصلها بغيرها أو الوقوف عليها. وقد تجلى أثر هذه العوامل في طريقة رسم الهمزة في بعض
__________
(1) النشر، ج 1، ص 447. وانظر الداني: المقنع، ص 62.(1/317)
الكلمات، حيث جاءت على غير الأصول والقواعد التي أشرنا إليها من قريب، وتقدم هذه الأمثلة التي وردت في الرسم العثماني مادة مهمة جدا للباحث في تاريخ الكتابة العربية عامة ولدراسة الأسس التي تقوم عليها الكتابة خاصة، إلى جانب أنها قد تساعد الباحث في تاريخ اللغة على تصور بعض ظواهر النطق في فترات سحيقة من تاريخ اللغة.
1 - رسم الكلمات المهموزة على الوصل:
يبدو أن عدم استقرار الكتّاب على كون أن الأصل في كتابة الكلمة هو الابتداء بها والوقف عليها كان ذا أثر كبير على الرسم العثماني. وقد بينا أثر ذلك في رموز الحركات الطويلة، ويتضح هذا الأثر في رسم الهمزة بنفس تلك الدرجة وربما أشد، ومع أن أكثر الرسم بني على الوقف إلا أن ملاحظة علماء الرسم لأثر الوصل من خلال الأمثلة التي يقدمها الرسم العثماني وقولهم (المذهبان قد يستعملان في الرسم، دلالة على جوازهما فيه) و (ذلك من حيث عاملوا في كثير من الكتابة اللفظ والوصل، دون الأصل والقطع) (1) يظل صحيحا ومفيدا في تفسير الكثير مما جاء على غير القاعدة العامة في رسم الهمزة.
ولما كان أول الكلمة وآخرها أكثر عرضة للتأثر بمجاورة أصوات الكلمات السابقة واللاحقة، ولما كانت الهمزة في أول الكلمة لا تكون إلا محققة ولا ترسم إلا بالألف، وأن اتصالها قد يؤدي إلى تسهيلها، ولما كان رسم ما يخلف الهمزة المتطرفة عند تخفيفها يقوم على الوقف والسكون وأن اتصالها بما بعدها قد يغير حكم تخفيفها ومن ثم ينعكس ذلك على رسمها فإن مشكلات كتابة الهمزة قد تركزت في الهمزة المبتدئة وفي المتطرفة دون المتوسطة، فقد تتعرض الهمزة المبتدئة للتوسط بسبب اتصالها ببعض الزوائد، وقد تتعرض المتطرفة للتوسط أيضا بسبب اتصال الضمائر بها وقد تتعرضان للتوسط بسبب نطق الكلام متصلا. ولا شك في أن ذلك التوسط العارض قد ينعكس على رسم الكلمة، وقد يتغير لتغير النطق بالهمزة من التحقيق إلى التخفيف في المبتدئة، أو لتغير طريقة التخفيف في توسط المتطرفة.
__________
(1) انظر ذلك في الفصل التمهيدي: ص 6967.(1/318)
ولدينا الأمثلة الكثيرة التي تكشف عن ذلك كله، فاتصال أحرف المضارعة بأول الفعل المهموز المضعّف العين في مثل (أكّد أيّد) سيغير موقع الهمزة وطريقة نطقها، وتصير متوسطة فتخفف لذلك، ويظهر أثر ذلك التوسط في هجاء الكلمة، وسوف نكتب في المضارع (يؤكّد ويؤيّد). وكذلك فإن اتصال الهمزة المتطرفة بضمير يؤدي إلى تغيير طريقة تخفيفها فيتغير بالتالي رسم الهمزة، فكلمة (أولياء) ترسم بالألف وهي منفصلة، بأية حركة تحركت، إلا أن اتصالها بضمير سيغير طريقة تخفيف الهمزة فيها ويتغير رسمها لذلك، فتصير مع الكسرة ياء (أوليائهم) ومع الضمة واوا (أولياؤهم).
وهناك كلمات غلبت عليها الإضافة إلى كلمات معينة، فأدى ذلك إلى أن يأخذ أول الكلمة الثانية حكم المتصل دائما، فإذا كان همزة أدى ذلك إلى تخفيفها فكلمة (إذ) جاءت في المصحف مضافة إلى (يوم وحين) في أكثر من موضع وقد أخذت الكلمتان شكل الكلمة الواحدة، وصارت همزة (إذ) في حكم المتوسطة، فخففت لذلك تخفيف المتوسطة المكسورة بعد فتح، فصارت ياء ضعيفة، ووصلهما الكتّاب في الرسم على هذه الصورة (يومئذ حينئذ) (1). ومثلهما أيضا (لئلا ولئن).
ويقدم الرسم العثماني ظاهرة كتابية تعتبر مثالا نموذجيا لأثر الوصل في رسم الكلمات عامة وفي رسم الهمزة خاصة، فقد كتبوا (يا ابن أمّ) في سورة طه (20/ 94) هكذا (يبنؤم) (2). وتفسير هذه الصورة الهجائية هو أن همزة الوصل تسقط في الكلام المتصل، فاتصلت الفتحة الطويلة من حرف النداء (يا) بالباء الساكنة من كلمة (ابن) فأدى ذلك إلى تقصير الفتحة الطويلة لوقوعها في مقطع مقفل، وحذف رمزها وهو (الألف)، فاتصلت الياء المتبقية من حرف النداء بكلمة (بن). وقد رأينا من قبل أن رمز الفتحة الطويلة من حرف النداء يسقط وتتصل الياء بالكلمة التي تليها حتى ولو لم تقصر الفتحة الطويلة مثل (يقوم). وقد أدى النطق بهذه الكلمات متصلة إلى أن تأخذ الهمزة في كلمة (أم) حكم الهمزة المتوسطة فخففت تخفيف المضمومة بعد فتح، فصارت واوا ضعيفة تصور واوا، فحذف الكتّاب صورة النطق القديم، وهي الألف، وأثبتوا صورة النطق الجديد، وهي الواو ووصلت الكلمات ببعضها في الرسم فصارت كأنها كلمة واحدة.
__________
(1) انظر ابن درستويه: ص 32. والمهدوي: ص 90. والداني: المقنع، ص 53.
(2) انظر الفراء: معاني القرآن، ج 2، ص 313، وج 2، ص 132.(1/319)
والملاحظ في الأمثلة السابقة من مثل (حينئذ) وما أشبهها ممّا أخذت فيه الهمزة المبتدئة حكم المتوسطة بسبب الوصل، وظهر أثر ذلك في الرسم أن صورة النطق الجديد حلت محل صورة النطق القديم دون أن يبقى لها أثر، إلا أن الكتابة كما قلنا أكثر محافظة على الرسم الذي اعتيد عليه رغم ما قد يصيب نطق الكلمة من تطور، ولذلك فقد يتطور نطق كلمة دون أن يواكب الرسم ذلك التطور، وقد يمثل الكتّاب النطق الجديد في الكلمة دون أن يحذفوا صورة النطق القديم، وعلى ذلك فقد كان بالإمكان أن تأتي كلمة (حينئذ) مرسومة هكذا (حين ايذ) أو (حينايذ)، فتظل صورة الهمزة المبتدئة ثابتة في الرسم إلى جانب تمثيل النطق الجديد برمز الياء التي تشير إلى تخفيف الهمزة المكسورة بعد فتح ياء ضعيفة (بين بين)، وكذلك الحال في (يا ابن أم) بالإمكان أن تأتي مرسومة هكذا (أوم) سواء وصلت رسما أم لم توصل.
وقد روى بعض علماء السلف أن ذلك أعني إثبات رمز النطق الجديد إلى جانب رمز النطق القديم يكاد أن يكون مذهبا جرى عليه بعض الكتاب فيما يكتبون، وقد صور ذلك ابن ولاد أحسن تصوير حين قال: فإن كان الاسم مهموزا كتبته بالألف في الرفع والنصب والخفض، فقلت: هذا الخطأ ورأيت الخطأ وعجبت من الخطأ، فإن أضفته فالأجود أن تجعل الهمزة في الرفع واوا وفي الخفض ياء وفي النصب ألفا، فتقول: هذا خطؤك ونبؤك، وعجبت من خطئك ونبئك، ومنهم من يدع الهمزة على حالها قبل الإضافة، يكتبها في الرفع والنصب ألفا: هذا خطأك، ورأيت خطأك، وعجبت من خطأك. والأول أحسن وأكثر. ومنهم من يكتبها إذا أضاف في الرفع بألف وواو، وفي الخفض بألف وياء: هذا خطأوك وعجبت من خطأيك. وهذا أضعف الوجوه (1).
وبغض النظر عن التحسين والتضعيف في قول ابن ولاد فإن هذا النص يقفنا على حقائق مهمة في رسم الهمزة المتطرفة التي تأخذ حكم المتوسطة بسبب الوصل، فمن الكتاب من يتشبث بالصورة القديمة فيكتب الهمزة بالألف دون التفات إلى ما قد يكون عليه النطق، ومنهم من يستجيب لواقع النطق فيكتبها مرة واوا وأخرى ياء، وربما ألفا، حسب ما تؤول إليه عند التخفيف وهي في كلام متصل.
ولم ينفرد ابن ولاد برواية ذلك الاتجاه للكتاب في كتابة الهمزة المتطرفة التي تتوسط
__________
(1) ابن ولاد (أحمد بن محمد بن الوليد): كتاب المقصور والممدود، ليدن، 1900، ص 2.(1/320)
بسبب وصل الكلام أو بسبب اتصالها بالضمائر، فقد قال الزجاجي وهو يتحدث عن رسم الهمزة المتطرفة وقبلها فتحة ألفا على كل حال، ورسمها واوا إذا اتصل بها مضمر، إذا انضمت نحو: هو يقرؤه ويكلؤه يقول (1): «فأما من يكتبها بواو قبلها ألف فمخطئ». ويروي نصر الهوريني أن إمام الكوفيين ثعلب قال في مثل هذه الحالة «وربما أقروا بالألف وجاءوا بعدها بواو في الرفع وبياء في الخفض فيقولون: ظهر خطاؤه وعجبت من خطائه، والاختيار مع الواو والياء أن تسقط الألف، وهو القياس أهـ» (2).
ورغم تضعيف ابن ولاد لهذا المذهب في رسم الهمزة، وتخطيئ الزجاجي لمن سار عليه، واعتبار ثعلب القياس بتركه، رغم ذلك فإن روايتهم لذلك تدل على أنه كان مذهبا سار عليه بعض الكتاب وربما كان اتجاها عاما في الكتابة في فترات متقدمة وظلت منه بقايا إلى عصرهم، وتأصيل هذا الاتجاه سوف يجعل من اليسير أن نفهم سر رسم الهمزة في بعض الكلمات في الرسم العثماني بطريقة مزدوجة، مرة بألف وواو، وأخرى بألف وياء، فما ذلك في الواقع إلا لأن الكتّاب جمعوا بين الصورتين باعتبار الاتصال والانفصال كما يقول الجعبري (3).
ومما يؤكد هذه الظاهرة الهجائية أن تخفيف الهمزة المبتدئة إذا نطق بها في كلام متصل سوف يجري تخفيفها على نحو تخفيف المتوسطة. وقد كان سيبويه يكثر من عرض الأمثلة التي توضح تسهيل الهمزة المبتدئة إذا اتصلت بما قبلها من مثل كم بلك ومن بوك ومن مك. وما يشبه ذلك (4). ومما يساعد أيضا على تصور وقوع هذه الظاهرة في الرسم العثماني أن بعض القراء قد خفف الهمزة المبتدئة، يقول الداني (5):
وقد اختلف أصحابنا في تسهيل ما يتوسط من الهمزات بدخول الزوائد عليهن نحو قوله:
(أفأنت فبأي ءالاء بأيكم وكأين كأنه فلأقطعن لبامام الأرض الآخرة) وشبهه، وكذلك ما وصل من الكلمتين في الرسم فجعل فيه كلمة واحدة نحو:
__________
(1) الجمل، ص 278.
(2) المطالع النصرية، ص 150.
(3) انظر: خميلة أرباب المراصد، ورقة 226أ.
(4) الكتاب، ج 2، ص 165. وانظر ابن سيده: المخصص، ج 14، ص 15.
(5) انظر: التسير، ص 41.(1/321)
(هؤلاء هأنتم يأيها، يأخت) وشبهه، فكان بعضهم يرى التسهيل في ذلك اعتدادا بما صرن به متوسطات، وكان آخرون لا يرون إلا التحقيق اعتمادا على كونهن مبتدءات، والمذهبان جيدان وبهما ورد نص الرواة.
ويمكن أن نتناول دراسة الظواهر المتعلقة برسم الهمزة مما جاء على غير ما سبق بيانه من قواعد رسمها، حين تكون أول الكلمة أو تخفف وهي متوسطة أو متطرفة، في بابين: الأول: رسم الهمزة المبتدئة التي يعرض لها التوسط بسبب اتصال الزوائد بها أو بسبب النطق بها في كلام متصل. والثاني: رسم الهمزة المتطرفة التي يعرض لها التوسط بسبب اتصال الضمائر بها أو بسبب نطقها في كلام متصل.
أرسم الهمزة المبتدئة التي يعرض لها التوسط بألف وواو:
أما الهمزة المبتدئة فقد جاءت مرسومة رسما مزدوجا بألف وواو أو بألف وياء، في بعض المواضع، ومن ذلك ما كانت نتيجة اتصال الزوائد بالكلمة، ومنه ما كان بسبب نطقها في كلام متصل.
فمن أمثلة الهمزة المتوسطة توسطا عارضا وهي أصلا مبتدئة بسبب اتصال الزوائد بها ورسمت بألف وواو كلمة (سأوريكم)، في موضعين الأول في سورة الأعراف: سأوريكم دار الفاسقين (145)، والثاني: سأوريكم آيتى (37) [الأنبياء] فقد رسمت هذه الكلمة بواو بعد الألف في الموضعين. وقد اختلف في إثبات هذه الواو بعد الألف في كلمة {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ} * في طه (20/ 71)، والشعراء (26/ 49) (1). فالهمزة في سأوريكم كانت مرسومة بألف قبل أن تدخل على الفعل سين الاستقبال، لأنها لا تنطق إلا محققة لوقوعها في أول الكلمة، فلما دخلت السين صارت الهمزة في حكم المتوسطة، وخففت لذلك تخفيف المتوسطة المضمومة بعد فتح، فتخلف عنها واو ضعيفة واضحة في النطق، لكن رسم الكلمة يشير إلى أصل نطق الهمزة قبل أن تدخل السين، وهو التحقيق، ولم يكن من اليسير إهمال صورة هجاء الكلمة القديم وإثبات صورة النطق الجديد، فما كان من الكتّاب إلا أن أثبتوا صورة النطق الجديد دون أن يغيروا الرسم الذي يشير إلى النطق القديم وهو التحقيق، فأضيفت الواو بعد الألف لتشير
__________
(1) انظر الداني: المقنع، ص 53.(1/322)
إلى الواو الضعيفة التي تولدت من سقوط الهمزة. وكذلك الحال في لأصلبنكم، فبعد أن اتصلت لام القسم بالفعل صارت الهمزة في حكم المتوسطة المضمومة بعد فتح، وجرى فيها ما لاحظناه في سأوريكم تماما.
وقد روى علماء العربية مثالا لهذه الظاهرة في غير الرسم العثماني، وهو كلمة (أخيّ) من قولهم (يا أخيّ) تصغير كلمة أخي، فقد نصت الرواية على أن بعض الكتاب يثبت واوا بعد الألف فيصير رسم الكلمة مع (يا) النداء هكذا (يأوخي) (1)، فهذه الواو هي صورة ما تخلف عن الهمزة بعد تخفيفها بسبب التوسط العارض لها باتصال (يا) النداء بها، مثل ما حدث في همزة (أولياء) المضمومة إذا اتصل بها ضمير مثل (هم) حيث تصير واوا (أولياؤهم). ولكن لا ندري هل الألف الموجودة في (يا وخي) هي رمز الهمزة في (أخي) وأن الألف التي تشير إلى الفتحة الطويلة في حرف النداء محذوفة مثل حذفها في (يأيها)، أو أن الألف المثبتة هي ألف (يا) وأن الألف التي تدل على الهمزة قد حذفت بسبب سقوطها في اللفظ بعد أن أخذت حكم المتوسطة بعد فتحة طويلة، وفي كلتا الحالتين ومع أن الاحتمال الأول أرجح فإن هذا المثال يؤكد ما أشرنا إليه في كلمة (سأوريكم) من تعرض الهمزة التي تقع في أول الكلمة إذا توسطت بسبب اتصال الزوائد للتخفيف، ثم ما يستتبع ذلك من حرص الكتاب على تمثيل الحالة الجديدة للنطق واحتفاظهم مع ذلك بصورة النطق القديم، وهو ما نتج عنه هذا التمثيل المزدوج في الظاهر للهمزة. والحقيقة هي أن هذا الهجاء جمع رسم نطقين مختلفين في سياقين متغايرين، أحدهما أقدم قبل دخول السين وهو التحقيق، والثاني جديد بعد اتصال السين وهو التخفيف. وقد تطورت صورة الهجاء هذه، التي تظهر فيها الهمزة وقد مثلث برمزين، في بعض الأمثلة الأخرى واكتفت برمز النطق الجديد وذلك مثل (لئلا ولئن وحينئذ) وما أشبه ذلك مما رسمت فيه الهمزة المتوسطة لعارض برسم الهمزة المتوسطة أصلا.
أما أمثلة الهمزة المرسومة رسما مزدوجا بألف وواو في أول الكلمة بسبب نطقها في
__________
(1) انظر ابن قتيبة: أدب الكاتب، ص 253. والصولي: ص 251. وابن مالك: ص 338، ويذكر السيوطي في الهمع (ج 2، ص 239) المثال بدون (يا) النداء، لكن ما روته المصادر الأخرى من إثبات الياء قبل الكلمة يؤكد احتمال حدوث التوسط للهمزة في (أخي).(1/323)
كلام متصل حيث تخفف تخفيف المتوسطة أصلا، فيؤدي ذلك إلى إثبات رمز النطق الجديد إلى جانب الاحتفاظ برسم الكلمة كما لو أنها رسمت مبتدأ بها فهي كلمة (أولى) بأية صورة أتت، مثل (أولئك أولئكم أولوا أولي أولات)، وحيث وقعت (1). فهذه الواو التي تظهر في هذه الكلمات بعد الألف هي نفس الواو التي تظهر في (سأوريكم) و (يأوخي)، سوى أن الهمزة في هاتين الكلمتين توسطت بسبب اتصال الزوائد بهما، أما (أولي) فإن التوسط يعرض لها حين تنطق في كلام متصل، يؤكد ذلك أن ابن مجاهد روى أن ورشا قال عن نافع: أنه كان يهمز الأولى من الهمزتين المتفقتين والمختلفتين في القرآن كله، مثل أولياء أولئك (32) [الأحقاف] على وزن (أولياء أولئك) (2)، فالألف في أول هذه الكلمات تشير إلى نطق الهمزة محققة حين تنطق الكلمة بمفردها والواو بعدها تشير إلى ما تصير إليه الهمزة في أول الكلمة في لغة أهل التخفيف حين تخفف تخفيف الهمزة المضمومة المتوسطة، بسبب النطق بالكلمة في كلام متصل.
ويلاحظ أن الكتّاب قد تخلصوا من أثر نطق الهمزة المحققة في كلمة (أولاء) حين تتصل بها (ها) التي للتنبيه، حيث صار رسمها هكذا (هؤلاء) (3). فإن الألف في أول الكلمة والتي كانت تمثل الهمزة المحققة في أول الكلمة قد حذفت لأن النطق بالكلمة مع اتصال (ها) بها سيكون بالتخفيف أبدا، ويلاحظ حذف رمز الفتحة الطويلة من (ها) حيث صارت والكلمة التي تليها في حكم الكلمة الواحدة وقد كان بالإمكان أن تأتي (هؤلاء) مرسومة هكذا (هأولاء) مثل رسم كلمة (يأوخي)، لكن الكتاب تجاوزوا في هذه الكلمة مرحلة الاحتفاظ بصورة النطق القديم إلى جانب صورة النطق الجديد إلى تمثيل النطق الفعلي للكلمة.
ويبدو أن تفاصيل كثيرة تتعلق بهذا الاتجاه في الكتابة قد ذهبت ولم يتحدث عنها مؤرخو العربية أو أن كلامهم عنها لم يصل إلينا، ذلك لأن هناك ما يشير إلى أن
__________
(1) انظر المهدوي: ص 99. والداني: المقنع، ص 53. وقد جاءت كلمة (أولوا) (البقرة 2/ 269) مرسومة في مصحف طشقند بدون الواو هكذا (الوا).
(2) انظر: كتاب السبعة، ص (138137).
(3) انظر الداني: المقنع، ص 25. وانظر أيضا: المحكم (له)، ص 156.(1/324)
الكتاب في تلك الفترات المتقدمة كانوا أقل تمسكا بالقواعد المطردة، وكانت أقلامهم تستجيب لنطق الكلمات وهي في السياق إلى جانب حرصهم على صور هجاء الكلمات التي تمثل نطقها مبدوءا بها وموقوفا عليها، فقد يتخلى الكتاب عن المعروف من صور هجاء بعض الكلمات، ويرسمون ما يحسونه في النطق الواقع فعلا، فكلمة (أكبر) تكتب بألف في أولها سواء أكان ذلك في مذهب من يحقق الهمزة أم يسهلها إذا نظر إليها على اعتبار أن القاعدة في الكتابة أن ترسم الكلمة مبدوءا بها وموقوفا عليها، لكن الكلمة إذا وقعت في سياق مثل (الله أكبر) فإن الهمزة في لغة أهل التخفيف ستأخذ حكم المتوسطة المفتوحة بعد ضمة فتخفف تخفيف (يؤيد) وعلى ذلك فمن المحتمل أن تأتي مرسومة هكذا (الله أوكبر) وربما يحذف الكتّاب رمز النطق القديم وهو الألف.
ويثبتون رمز النطق الجديد فيرسمونها (الله وكبر)، ولعل هذا الشكل يبدو غريبا، لكنه هو ما وقع فعلا في نقش كتابي يعود إلى سنة (64) هجرية لا يحتمل أدنى شك، ففي هذا النقش الذي يشبه نقشا تذكاريا على الصخر، لرجل اسمه (ثابت بن يزيد الأشعري) وردت عبارة (الله أكبر كبيرا) وجاءت كلمة أكبر مرسومة هكذا (الله وكبر) بالواو، دون إثبات رمز الألف (1)، وكأن الكاتب حين كتب هذا إنما كان يكتب ظاهرة نطقية كالتي نسمعها اليوم من كثير من الناس حين ينطقون بنفس العبارة بالواو على التخفيف (2).
وقد شغلت تلك الأمثلة لرسم الهمزة بال علماء الرسم وعلماء العربية كثيرا وحاولوا أن يجدوا التفسير المناسب لكل مثال منها، أو لجميعها، ودار معظم تعليلاتهم حول فكرة الزيادة في الرسم للفرق بين صور الكلمات المتشابهة، تلك الفكرة التي ناقشناها في الفصل التمهيدي (3)، حتى إن الأزهري يذكر من أنواع الواوات (الواو الفارقة)، وهي
__________
(1) «عثر على ذلك الشاهد في منطقة اسمها (حفنة الأبيض) قرب كربلاء في العراق، وصورته محفوظة في المتحف العراقي، ويتكون النص من ثلاثة عشر سطرا. انظر تفصيلا عن هذا النقش ص (463) من الفصل الخامس من هذا المبحث.
(2) هل أن مجيء الهمزة في كلمة (أكبر) في هذا النص بالواو يشير إلى أن الذين نزلوا هذا المكان من العراق في تلك الفترة كانوا يسهلون الهمزة مثل أهل الحجاز، أو أنه يمثل نطقا فرديا لكاتب هذا النص فحسب؟
(3) انظر: ص (7268) من الفصل التمهيدي.(1/325)
عنده كل واو دخلت في أحد الحرفين المشتبهين ليفرق بينه وبين المشبه له في الخط. مثل واو (أولئك) وواو (أولي)، زيدت الواو في الخط ليفرق بينها وبين ما شاكلها في الصورة مثل إلى واليك (1)، كذلك فإن الواو في (يأوخي) مصغرا مزيدة عند علماء العربية لتفرق بينها وبين (يا أخي) غير مصغر (2). ويقول السيوطي: كانت الزيادة في التصغير لأنه فرع والفروع أحمل للزيادة، ولأنه قد يغير لأجل التصغير، والتغيير يأنس بالتغيير وكانت الواو لمناسبة ضمة الهمزة (3).
إن إشارة السيوطي في آخر قوله السابق إلى أن اختصاص الواو بالزيادة لمناسبة ضمة الهمزة يمكن أن تكون لو نظر إلى كل أمثلة الظاهرة نظرة شاملة متعمقة مفتاحا للوصول إلى التفسير الصحيح، الذي يلوح في تعبيرات علماء السلف حين يذكرون الاحتمالات الممكنة لتفسير هذه الصورة الكتابية، يقول الجعبري: إن وجه زيادة الواو في أولئك أنه للفرق بينها وبين إليك، ثم حمل عليه فروعه لذلك، أو أن الواو صورة للضمة، أو تقوية، أو جمعوا بين صورتيهما باعتبار الاتصال والانفصال (4). فالاحتمال الأخير أقرب إلى الفهم الصحيح للمشكلة، لكن إيراده في زحمة الاحتمالات الكثيرة الأخرى يشير إلى عدم وضوح أبعاد الظاهرة عند علماء السلف، حتى نجد التعليلات التي تذكر لتعليل زيادة الواو في مثل سأوريكم تصل إلى ثمانية، كما يروي التنسي (5)، فهي إما أن تكون زيدت للفرق، أو تقوية للهمزة، أو دلالة على إشباع حركتها، أو صورة لحركتها، أو حركتها نفسها، أو أن الواو صورة للهمزة على مراد الوصل والألف زائدة تقوية للهمزة، أو أنها كذلك لكن الألف زيد دلالة على إشباع حركة ما قبل الهمزة، أو أنها كتبت بالواو مراعاة لقراءة من قرأ (سأورثكم) بواو مفتوحة وراء مكسورة مشددة وثاء مثلثة.
وما ذكره التنسي من احتمال كون تلك الواو صورة لحركة الهمزة أو أنها حركتها
__________
(1) انظر: تهذيب اللغة، ج 15، ص 675. وانظر أيضا: القلقشندي: ج 3، ص 183.
(2) انظر ابن قتيبة: أدب الكاتب، ص 254. والصولي: ص 251.
(3) انظر: همع الهوامع، ج 2، ص 239. وانظر أيضا القلقشندي: ج 3، ص 183.
(4) انظر: خميلة أرباب المراصد، ورقة 326أ.
(5) انظر: الطراز في شرح ضبط الخراز، ورقة (79أ 79ب).(1/326)
نفسها، ينقلها إلى مذهب بعض علماء السلف إلى أن نظام الكتابة في قديم الأزمان كان يشير إلى الحركات القصيرة برموز الحركات الطويلة، يقول الداني (1): «إن العرب لم تكن أصحاب شكل ونقط، فكانت تصور الحركات حروفا، لأن الإعراب قد يكون بها كما يكون بهن، فتصور الفتحة ألفا، والكسرة ياء، والضمة واوا، فتدل هذه الأحرف الثلاثة على ما تدل عليه الحركات الثلاث من الفتح والكسر والضم»، وينقل السيوطي أن الكرماني قال في العجائب (2): «كانت صورة الفتحة في الخطوط قبل الخط العربي ألفا، وصورة الضمة واوا، وصورة الكسرة ياء، فكتبت (لا أوضعوا) ونحوه بالألف، مكان الفتحة، و (إيتاي ذي القربى) بالياء مكان الكسرة و (أولئك) ونحوه بالواو مكان الضمة، لقرب عهدهم بالخط الأول». وقد ذهب بعض المحدثين هذا المذهب في تفسير الواو الموجودة في (أولئك) (3).
ومع ذلك كله فإن أيا من تلك التعليلات المتعددة المتداخلة والغامضة أحيانا لا يقدم التفسير الصحيح الشامل لكل أمثلة الظاهرة (4)، فهي تعليلات جزئية أوحت بها النظرة غير الدقيقة لتلك الأمثلة، وسبق أن بيّنا ضعف الأساس الذي يقوم عليه التعليل بالفرق، لقيام الدليل التاريخي على خطئه، ويمكن أن نتساءل هنا لماذا يلجأ الكتاب إلى الزيادة في هجاء الكلمة ما ليس في نطقها تجنبا لأن تشبه صورة هجائها صورة هجاء كلمة أخرى وبإمكانهم تحقيق ذلك بطرق أيسر؟ فكلمة (أولئك) التي قيل إن الزيادة فيها حصلت أولا ثم حملت أخواتها عليها (5) يمكن للكتّاب أن يتلافوا ذلك الشبه بكتابتها على حسب لفظها، بإثبات رمز الفتحة الطويلة المحذوفة منها فتصير صورة هجائها هكذا (آلائك) ويتحقق بذلك الفرق والتمييز من حيث الشكل الكتابي بينها وبين ما يمكن أن يشبهها إلى جانب أن في ذلك تيسيرا على القارئ.
__________
(1) المحكم، ص (177176).
(2) الإتقان، ج 4، ص 151.
(3) انظر جان كانتينو: ص 151وص 173.
(4) سبق أن عرضنا لمنهج أبي العباس المراكشي في تفسير ظواهر الرسم (انظر ص 186من هذا المبحث) وقد علل زيادة الواو في الأمثلة المذكورة بقوله (انظر الزركشي: ج 1، ص 386) «زيدت الواو للدلالة على ظهور معنى الكلمة في الوجود، في أعظم رتبة في العيان!».
(5) انظر الجعبري: ورقة (225ب 226أ).(1/327)
وهناك عامل آخر يجعلنا نرفض هذا الاتجاه في التعليل وهو أن إدراك هذا التشابه في صور الكلمات والتفكير في إيجاد الوسائل المناسبة لتلافيه ليس من المتوقع أن يشغل بال الكتبة في الفترات السابقة للرسم العثماني، لأن الكتابة وكذلك المعرفة اللغوية المعقدة لم تكن في تلك الفترة من الغزارة والكثرة التي انتقلت إليها بعد الإسلام، بحيث تتيح تأمل صور الكلمات وتبين المتشابه منها، خاصة أن الكتابة في تلك الفترات المتقدمة كانت بعيدة عن تدخل الفكر التنظيمي وإعمال النظر المباشر، كما حصل فيما بعد حين أخذ علماء العربية يقعّدون القواعد في كافة مستويات اللغة، ويستبعدون الشاذ من ظواهرها، بل كانت الكتابة في تلك الفترة تتطور تطورا حرا بطيئا، وتحمل تراكمات من رموز ظواهر النطق الزائلة من الاستعمال الحي.
أما أن هذه الواو أو الياء والألف في أمثلة ستأتي هي رمز للضمة القصيرة وأن الحركات القصيرة كان يشار إليها بواسطة هذه الحروف في الخطوط قبل الخط العربي وأن هذه الأمثلة هي بقايا من ذلك النظام، لقرب عهدهم بالخط الأول، فإن تاريخ استخدام رموز الحركات في الكتابات السامية عامة والنبطية والعربية خاصة ينفي دعوى ذلك الاستعمال، فلم تعن الكتابات السامية بالإشارة إلى الحركات القصيرة في أول الأمر، ومضت قرون طويلة قبل أن استطاعت التّوصّل إلى تلك المرحلة كما سنشير إلى ذلك في فصل لا حق بل إن استكمال تمثيل الكتابات السامية للحركات الطويلة قد استغرق قرونا عدة حتى أنا نجد نظام الإشارة إلى الفتحة الطويلة في الكتابة العربية لم يكن قد استقر في فترة كتابة المصاحف العثمانية كما مر بيان ذلك.
أما القول بأن الواو في سأوريكم (7/ 145) قد أثبتت مراعاة لقراءة من قرأ (سأورثكم) فهو بعيد لأن هذه القراءة ليست لأحد من القراء السبعة أو العشرة ولا حتى الأربعة عشر (1). بل هي قراءة شاذة (2)، غير معروفة، وليس من المعقول أن يثبت كتبة الوحي ونسّاخ المصاحف قراءة غير القراءة المشهورة المعروفة. وإذا سلمنا بهذا القول فماذا نقول في الواو في قوله سبحانه سأوريكم آياتي وفي أولي وفروعها وفي أخيّ؟.
__________
(1) لا يذكرها الدمياطي (ص 230) في مكانها من السورة.
(2) انظر ابن خالويه: المختصر، ص 46.(1/328)
وهناك دليل آخر يدل على صحة التفسير الذي عرضناه قبل قليل لكافة أمثلة هذه الظاهرة، يستنبط من واقع الأمثلة نفسها، وهو أن زيادة الواو بعد الألف منسجمة تماما مع ما تؤول إليه الهمزة عند التخفيف، وليس إثبات الواو في تلك المثل ليناسب الضمة القصيرة التي تلي الهمزة كما يذهب بعض العلماء، بل لأن الهمزة حين تسقط عند التخفيف لعارض التوسط تخلفها في النطق واو ضعيفة، يمثلها الكتّاب برمز الواو، وسنجد هذا التطابق بين الرمز المثبت مع الألف التي هي رمز الهمزة وبين حقيقة ما تؤول إليه الهمزة عند تخفيفها على وفق قواعد تخفيف الهمزة المتوسطة في الأمثلة التي سنذكرها بعد قليل في حالات أخرى للهمزة، سواء أكان ذلك الرمز واوا أو ياء، وهذا يؤكد أن إثبات رمز الواو إلى جانب الألف ليس أمرا اعتباطيا بل هو يشير إلى نطق واقعي يتحقق في حالة تسهيل الهمزة عند ما تنطق في كلام متصل أو عند ما تتصل بأول الكلمة زوائد تجعل الهمزة المبتدئة تأخذ حكم الهمزة المتوسطة.
ب رسم الهمزة الأخيرة التي يعرض لها التوسط واوا:
أما الهمزة المتطرفة التي يعرض لها التوسط بسبب الاتصال بالضمائر فقد جاءت مخففة تخفيف المتوسطة في كافة أمثلة هذه الحالة دون استثناء، وقد أثبت في الرسم رمز ما آلت إليه الهمزة وهو الواو في حالة المضمومة، دون ما كانت تصور به قبل اتصال الضمائر بها، من ذلك (يقرءون يدرءون يذرؤكم يكلؤكم أولياؤكم أبناؤكم دعاؤكم). ويلاحظ هنا أن {يَكْلَؤُكُمْ (42)} [الأنبياء] التي روى الزجاجي أن بعض الكتاب يثبت الألف فيها إلى جانب الواو هكذا (يكلئوكم) قد جاءت مرسومة وفق القاعدة التي يجري عليها رسم ما تصير إليه الهمزة المتوسطة في حالة التسهيل، ومثل الهمزة المضمومة في ذلك الهمزة المتطرفة المكسورة فقد جاءت مرسومة بالياء نحو:
(بأهوائهم، إلى أوليائهم).
وإذا كانت الهمزة المتطرفة التي يعرض لها التوسط بسبب اتصال الضمائر بها قد تخلصت من صورتها قبل اتصال الضمائر بها ورسمت حسب ما تؤول إليه بعد الاتصال فإن الهمزة المتطرفة التي يعرض لها التوسط بسبب وصل الكلام قد رسمت في بعض الحالات على نحو ما تخفف. وهي موصولة بما بعدها ورسمت في أحوال أخرى حسب ما تخفف إليه وهي موقوف عليها، ولم تحتفظ في هذه الحالة بصورة ما تخفف
إليه في حالة الوقف، أي أنها إما أن ترسم على الوصل أو على الوقف وهذا التغير في طريقة التخفيف بين الوصل والوقف إنما يعرض للواقعة قبل فتحة دون غيرها.(1/329)
وإذا كانت الهمزة المتطرفة التي يعرض لها التوسط بسبب اتصال الضمائر بها قد تخلصت من صورتها قبل اتصال الضمائر بها ورسمت حسب ما تؤول إليه بعد الاتصال فإن الهمزة المتطرفة التي يعرض لها التوسط بسبب وصل الكلام قد رسمت في بعض الحالات على نحو ما تخفف. وهي موصولة بما بعدها ورسمت في أحوال أخرى حسب ما تخفف إليه وهي موقوف عليها، ولم تحتفظ في هذه الحالة بصورة ما تخفف
إليه في حالة الوقف، أي أنها إما أن ترسم على الوصل أو على الوقف وهذا التغير في طريقة التخفيف بين الوصل والوقف إنما يعرض للواقعة قبل فتحة دون غيرها.
فمن أمثلة الهمزة المتطرفة المضمومة بعد فتحة قصيرة مما رسم على مراد التخفيف والوصل كلمة (نبأ)، فقد رسمت بالواو في أربعة مواضع: في [إبراهيم] {نَبَؤُا الَّذِينَ (9)}، وفي [ص] نبؤا الخصم (21) ونبؤا عظيم (967)، وفي {نَبَؤُا الَّذِينَ (5)}
[التغابن]، وفيما عداها رسمت بباء وألف على ثلاثة أحرف (1). ومثلها كلمة (الملأ) رسمت بالواو (الملوا) في أربعة مواضع (2)، ومن أمثلة ذلك أيضا بعض الأفعال مثل (يبدوا) (10/ 4و 30/ 11) و (تفتوا) (12/ 85) و (يتفيؤا) (16/ 48) و (أتوكوا) (20/ 18) و (لا تظموا) (20/ 119) و (يدروا) (24/ 8) و (يعبوا) (25/ 77) و (ينشّوا) (43/ 18) (3)
وتحتمل أن تكون الهمزة قد كتبت على الوصل في أمثلة أخرى نحو (يتبوأ) (12/ 56) و (نتبوأ) (39/ 74) مثل الأمثلة السابقة فتكون الألف بعدها زائدة مثل زيادتها بعد واو الجمع وما يشبهها، أو أنها كتبت على الوقف فتكون هذه الألف من أصل الفعل لأن الهمزة المتطرفة إذا خففت جعلت حركة طويلة لامتداد الحركة القصيرة قبل الهمزة وهي هنا فتحة فتصير طويلة وترسم ألفا.
ومن أمثلة الهمزة المتطرفة المضمومة بعد فتحة طويلة مما رسم على مراد التخفيف والوصل الفعل {نَشََاءُ} * [هود: 87] حيث رسم هكذا (نشؤا) ليس في القرآن غيره بهذا الرسم (4). ومن أمثلة ذلك أيضا: {عَلِمُوا (197)} * في [الشعراء]، والعلمؤا (28) [فاطر]، و {أَنْبََؤُا} [الأنعام: 5، الشعراء: 6]، وشركؤا [الأنعام: 94، الشورى: 21]، ودعؤا [المؤمن: 59]، والضعفؤا في كل مكان جاء فيه مرفوعا كتب بالواو، وجزؤا [المائدة: 29، 33، الشورى: 40، الحشر: 17]، وشفعؤا [الروم:
__________
(1) المهدوي: ص 93. والداني: المقنع، ص 55. وسليمان بن نجاح: لوحة 134.
(2) في المؤمنين (23/ 24)، والنمل (27/ 29و 32و 38).
(3) انظر المهدوي: ص (9392). والداني: المقنع، ص 55.
(4) انظر ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن، ص 41. وابن أبي داود: ص 116. والمهدوي: ص 92.
والداني: المقنع، ص 58.(1/330)
170]، والبلؤا (106) [الصافات]، و {بَلََؤُا (33)} * [الدخان] (1).
وقد روى الداني وهو يتحدث عن رسم كلمة (نبأ) بالواو بعدها ألف قول محمد بن عيسى الأصبهاني في ذلك «وكل ما في القرآن على وجه الرفع فالواو فيه مثبتة، وكل ما كان على غير وجه الرفع فليس فيه واو وإنما هو (نبأ)» (2). وربط رسم الهمزة بالواو في هذه الأمثلة بكونها مضمومة دليل على أنها إنما رسمت بالواو لكونها تؤول في التخفيف إلى الواو، مثلها في ذلك مثل الهمزة المتوسطة في (يكلؤكم) و (أولياؤهم) وما أشبههما.
وإثبات الألف بعد الواو في الأمثلة السابقة دليل آخر على كون هذه الواو تمثل نطقا واقعيا، إذ إن زيادتها هنا تشبه زيادتها بعد الواو المتطرفة، ويروي الداني تفسيرين لزيادة الألف في هذه الأمثلة حين يقول (3): «ورسمت الألف بعد الواو في هذه المواضع لأحد معنيين: إما تقوية للهمزة لخفائها، وهو قول الكسائي، وإما على تشبيه الواو التي هي صورة الهمزة في ذلك بواو الجميع من حيث وقعتا طرفا فألحقت الألف بعدها كما ألحقت بعد تلك، وهو قول أبي عمرو بن العلاء. والقولان جيدان». وتعقيب الداني لا يستقيم مع ما تقدم من حقائق بشأن تخفيف الهمزة في غير أول الكلمة، ويبدو أن رأي أبي عمرو بن العلاء هو الراجح بل الصحيح ولكن ليس على أساس أن الواو صورة الهمزة وإنما على أساس أنها تمثل الواو الضعيفة المتخلفة عن تخفيف الهمزة المضمومة بعد فتحة والواقعة في طرف الكلمة حين النطق بها في كلام متصل.
ولعل الزمخشري قد ابتعد عن الصواب حين علل رسم كلمة (العلماء) بالواو في قول الله سبحانه: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علمؤا بنى إسرائيل (197) [الشعراء] على التفخيم حين يقول (4): «فإن قلت كيف خط في المصحف (علموا) بواو قبل الألف؟ قلت: خط على لغة من يميل الألف إلى الواو وعلى هذه اللغة كتبت الصلاة والزكوة والربوا». ولكنا نجده قد عدل عن هذا التعليل في مكان آخر لا حق وهو يتحدث عن رسم كلمة
__________
(1) انظر المهدوي: ص (9291). والداني: المقنع، (ص 5857).
(2) المقنع، ص 55.
(3) المقنع، (ص 5958). وانظر سليمان بن نجاح: لوحة 135.
(4) الكشاف، ج 3، ص 264.(1/331)
شفعوا في سورة الروم (30/ 13) بالواو أيضا. فيقول (1): «وكتبت شفعوا في المصحف بواو قبل الألف كما كتب علمؤا بني إسرائيل وكذلك كتبت (السواى) بألف قبل الياء، إثباتا للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها». وبغض النظر عن إدراج كلمة (السواى) هنا التي سنشير إليها فيما بعد نجد أن الزمخشري قد علل تعليلا صحيحا لإثبات الواو في رسم كلمتي (الشفعوا والعلموا) في قوله الأخير، لكن يظل القول الأول يشير إلى اضطراب في موقف الزمخشري في معالجته لمثال واحد في مكانين مختلفين.
ومما يلاحظ على الأمثلة السابقة التي أثبتت الواو في آخرها إشارة إلى ما تؤول إليه الهمزة عند التخفيف والتي تسبق الهمزة فيها فتحة طويلة أن رمز الألف التي تشير إلى تلك الفتحة الطويلة قد جاءت غير مثبتة في جميعها، وكأن إثبات الواو في آخر الكلمة والألف بعدها قد جعل الكتاب يشعرون أن الكلمة قد استطالت في رسمها فسوغ لهم ذلك عدم إثبات الألف قبل الواو على نحو ما بينا ذلك في الكلام عن رمز الفتحة الطويلة (2).
ج رسم الهمزة المبتدئة التي يعرض لها التوسط بألف وياء:
أما رسم الهمزة بألف وياء فقد جاء في حالات مشابهة لرسمها بألف وواو، إلا أن المبتدئة لم تتأثر بالتوسط العارض لها بسبب نطقها في كلام متصل، فلم نجد أي مثال
__________
(1) نفس المصدر، ج 3، ص 270.
(2) وجدت في مصحف جامع عمرو بن العاص كلمة (جزاء) قد كتبت بألف قبل الواو مع حذف الألف بعد الواو هكذا (جزاو) في التوبة (9/ 26) ويوسف (12/ 25) كذلك في المائدة (5/ 85) في مصحف رقم (115مصاحف) في دار الكتب المصرية، علما أن هذه الكلمة قد جاءت في المصحف المطبوع هكذا (جزاء). ونجد في مصحف طشقند أن بعض الكلمات التي أشرنا إلى أن الواو أثبتت في آخرها وبعدها ألف قد جاءت مرسومة بالألف دون الواو، وذلك بتخفيفها على الوقف على ما يبدو وهي (شركاء) (6/ 94) و (علماء) (26/ 197) و (البلاء) (37/ 106) ولكن نجد فيه أيضا كلمة (يستهزأ) (4/ 140) التي ينص الداني على رسمها بالألف (انظر:
المقنع، ص 56) قد جاءت مرسومة بالواو هكذا (يستهزو) دون ألف بعد الواو بتخفيف الكلمة على الوصل مثل (جزاو).(1/332)
يشبه (أولئك). فقد كان اتصال بعض الزوائد بأول الكلمة هو العامل الأول في تكون أمثلة هذه الظاهرة في أول الكلمة، ولكن مجيء هذه الظاهرة في نهاية الكلمة كان بسبب اتصال الضمائر إلى جانب التوسط العارض للكلمة بسبب النطق بالكلام متصلا.
وأشهر أمثلة رسم الهمزة المبتدئة بألف وياء هو كلمة (بأيد) في قوله تعالى: والسّماء بنيناها بأييد وإنّا لموسعون (47) [الذاريات]، حيث اتفقت المصاحف على رسم ياءين بعد الألف في أول الكلمة (1). وكان رسم هذه الكلمة قد أثار انتباه علماء السلف ودفع بعضهم مثل ابن خلدون إلى القول بخطإ الكاتب في هذا المثال كما مر ذكر ذلك من قبل رغم أن بعضهم قد أدرك بصورة صحيحة تفسير هذه الظاهرة.
وإلى جانب ذلك المثال جاءت بعض كلمات مرسومة بنفس الطريقة منها كلمة (ان) وقد اتصلت بها فاء العطف مسبوقة بهمزة الاستفهام (أفإن) في قوله تعالى: أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم (144) [آل عمران] وأ فإين متّ فهم الخالدون (34) [الأنبياء]. فقد رسمت الهمزة المكسورة في (أفإين) بياء إلى جانب الألف (2). ورسمت أيضا كلمة (بأيكم) في بأيّيكم المفتون (6) [القلم] بياءين بعد الألف (3). وذكر مؤلف كتاب الهجاء أن كلمة (فبأي) جاءت مرسومة بياءين (فبايي) في واحد وثلاثين موضعا في سورة الرحمن (4). وكذلك رسمت (بأيام) بياءين بعد الألف في قوله تعالى: وذكّرهم بأييم الله [إبراهيم: 5] (5)، وذكر الداني أنه رأى في بعض مصاحف أهل العراق (بايية
__________
(1) انظر ابن أبي داود: ص 112. والمهدوي: ص 98. والداني: المقنع، ص 47و 89.
(2) انظر المهدوي: ص 97. والداني: المقنع، ص 47، 53.
(3) انظر ابن أبي داود: ص 115. والمهدوي: ص 68. والداني: المقنع، ص 47و 90.
(4) انظر: كتاب الهجاء (لمجهول)، لوحة 35. وانظر: جامع الكلام في رسم مصحف الإمام (لمجهول) في سورة الرحمن. وقد رأيتها في مصحف جامع عمرو بن العاص في آخر موضع في سورة الرحمن (55/ 77) بياءين. ولم أتمكن من معرفة كيفية رسمها في المواضع الأخرى من نفس السورة لسقوطها من المصحف، ولكن أرجح أنها كتبت بياءين أيضا استنادا إلى أن آخر موضع في السورة قد كتبت بياءين، ومن المتوقع أن يجري هجاء هذه الكلمة في السورة على سنن واحد، إلى جانب ورود الرواية بذلك.
(5) انظر المهدوي: ص 102. والداني: المقنع، ص 94. وقد رسمت في المصحف المطبوع كذلك، وهي في مصحف النجف المخطوط أيضا كذلك.(1/333)
باييت باييتنا) بياءين بعد الألف حيث وقعت إذا كانت بعد الباء خاصة، على الأصل قبل الاعتدال، وفي بعضها بياء واحدة على اللفظ وهو الأكثر (1).
وقد ذهب بعض علماء الرسم إلى إخراج كل من (بأييكم فبأيي بأييم) من أمثلة هذه الظاهرة، فذكروا أن زيادة الياء في المثالين الأولين ليس على الزيادة وإنما هو مراعاة للأصل، لأن حقيقة المشدد حرفان، وإن كان هذا الأصل قد ترك في أكثر المواضع فقد نبهوا عليه في بعض المواضع (2). أما كلمة (أيام) فينقل اللبيب أن أبا داود سليمان بن نجاح قد ذكر في كتاب التبيين أنهم كتبوا (بأييم) بياء مكان الألف (3)، مثل ما رسمت ياء في (تقية وهديهم وموليكم) وما كان مثلها. ولكن يبدو أن هذه الكلمات الثلاث تدخل في أمثلة هذه الظاهرة، وأن علماء السلف عللوا إثبات الياء فيها بهذه
__________
(1) انظر: المقنع، ص 50. والشيرازي: لوحة 15. وابن القاصح: ص 67. وهذه الملاحظة التي يرويها علماء الرسم باقتضاب تمثل ظاهرة شائعة في المصاحف المخطوطة التي اطلعت عليها، ففي مصحف جامع عمرو بن العاص جاءت كلمة (باية) مقترنة بالباء ومرسومة بياءين (بايية) في الأنعام (6/ 35)، والأنبياء (21/ 5)، والشعراء (26/ 154)، وجاء جمعها مرسوما بياءين أيضا (باييت أو باييتنا) في آل عمران (3/ 199)، والنساء (4/ 56)، والمائدة (5/ 86)، والأنعام (6/ 21و 27و 35و 39و 49)، والتوبة (9/ 9) ويونس (10/ 70و 73و 75)، وهود (11/ 59)، والأنبياء (21/ 77)، والمؤمنون (23/ 45)، والفرقان (25/ 53)، والشعراء (26/ 15)، والعنكبوت (29/ 47و 49)، والروم (30/ 16و 53)، ولقمان (31/ 32)، والسجدة (41/ 15و 24و 22)، وهناك مواضع أخرى كتبت بنفس الطريقة، ونجد نفس الظاهرة في مصحف النجف فيما اطلعت عليه منه فنجد (بايية) في الأنبياء (21/ 5) و (باييتنا) في إبراهيم (14/ 5). وأما مصحف طشقند فيقدم أمثلة كثيرة لهذه الظاهرة سواء كانت الكلمة جمعا أم مفردا، فقد وجدت فيه (بايية) في خمسة مواضع و (باييت وباييته وباييتنا وباييتي) في خمسة وعشرين موضعا. لكن الملاحظ أن بعض الأمثلة في الجمع لم تقترن بالباء ولم تأت قبلها كسرة، نجد ذلك في آل عمران (3/ 58 و 101و 108)، والأنعام (6/ 68و 158)، والأعراف (7/ 26)، ويمكن تعليل هذه الظاهرة أن بعض الكتاب حين اعتادت يده على رسم الكلمة بياءين فيما كان فيه قبل الهمزة كسرة استعمله في غير ذلك دون ملاحظة أن الياء إنما وجدت نتيجة لوجود الكسرة وتخفيف الهمزة ياء، ومن ثم ظهرت هذه الظاهرة فيما ليس قبله كسرة.
(2) انظر التنسي: ورقة 84ب.
(3) انظر: الدرة الصقيلة، ورقة 37ب.(1/334)
التعليلات محاولة منهم لإعطاء تفسير مقبول لها، ولم يوفقوا في ربط هذه الأمثلة المتعددة في ظاهرة واحدة يجمعها تفسير واحد.
إن النظر في موضع الهمزة في هذه الأمثلة وما تكتنفها من حركات يتيح تفهم سر إثبات الياء بعد الألف في تلك الأمثلة على نحو واحد. ففي جميع الأمثلة إلا مثالا واحدا أفإين جاءت قبل الهمزة باء الجر، وهي مكسورة، وبعدها الهمزة مفتوحة فتحة قصيرة في (بأييد بأييكم فبأيي بأييم) وفتحة طويلة في (بايية باييت) وقد سبب دخول الباء في هذه الأمثلة أن يعرض للهمزة التوسط، فخفّفت تخفيف المتوسطة المفتوحة بعد كسرة، مثل (فئة رئاء)، فسقطت الهمزة من اللفظ وخلفتها ياء خالصة، ولم يحذف الكتّاب رمز الهمزة بعد سقوطها ويثبتوا رمز الياء التي خلفتها في حالة التخفيف بل اكتفوا بزيادة رمز الياء دون أن يحذفوا الألف. ومن ثم بدت الهمزة وكأنها كتبت برمزين (1).
أما كلمة (أفإين) فرغم أن الفاء التي جلبت حكم التوسط للهمزة قد جاءت مفتوحة لكن الهمزة نفسها جاءت مكسورة وحين سقطت الهمزة التقت فتحت الفاء وكسرة الهمزة وآلت إلى ما آلت إليه الهمزة عند تخفيفها في مثل (سئم) إذ خلفتها ياء ضعيفة، فرسمت في (أفإين) ياء كما رسمت في (سئم) لكن الكتاب لم يحذفوا الألف التي هي رمز الهمزة قبل أن يعرض لها التوسط مثل ما فعلوا في الأمثلة الأخرى للظاهرة.
وقد ذهب الداني كما مر قوله إلى أن إثبات ياءين في كلمة (بايية) وجمعها قد جاء على الأصل قبل الاعتلال، ذلك لأن علماء العربية يرون أن أصل كلمة (ءاية) إنما هو من مادة (أي ي) بياءين فاعتلت الياء الأولى وصارت ألفا إما على وزن فعلة أو
__________
(1) وهم الدكتور صلاح الدين المنجد حين قال (انظر: دراسات في تاريخ الخط العربي، ص 57) وهو يعلق على رسم كلمة (باية) في سورة الرعد (13/ 38) في أحد المصاحف المخطوطة المحفوظة في متحف الآثار الإسلامية في استانبول بياءين: «لاحظ ورود كلمة (بايته) وهي في المصحف باية»، وذلك لأن الخط مجرد من الإعجام والشكل، فقرأها (بآياته) دون أن يعلم بأصل الظاهرة.(1/335)
فعلة محركة (1). إلا أن هذا مذهب بعيد. أما تعليقه إثبات الياء بالاقتران بالباء فلا ينبغي أن يفهم منه أن هناك علاقة بين وجود هذه الباء وبين الظاهرة، وإنما كسرة الباء هي التي أوجدت هذه الظاهرة، ومن ثم فقد وجدت في كلمة (أفإين) رغم أن الفاء فيها حلت محل الباء، لكن كسرة الهمزة نفسها هي التي ساهمت في خلق الظاهرة مع فتحة الفاء في هذه الكلمة.
إن ما ذكرنا من تسهيل الهمزة في الأمثلة السابقة على النحو المشار إليه تؤكده الرواية سواء عن القراء أم عن العرب، فقد روي أن أبا جعفر المدني كان يخفف الهمزة في مثل (فبأي) بأن يسقط الهمزة فتخلفها الياء، مثل تخفيف الهمزة المتوسطة المفتوحة بعد كسرة، وقد اختلف عنه فيما تجرد عن الفاء مثل (بأي أرض) و (بأيكم المفتون) (2). وقرأ أبو عمرو بن العلاء وورش {إِنَّمََا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ (19)} [مريم] بالياء (ليهب)، وكذلك روى الحلواني عن قالون (3)، وقرأ يعقوب من العشرة القراء كذلك، وقد وافقهم الحسن واليزيدي (4)، وروى الداني أن أبا عبيد ذكر أن المصاحف كلها اجتمعت على رسم ألف بعد اللام في قوله (لأهب) (5)، لكن الشيرازي انفرد برواية كتابة الكلمة بالياء (ليهب) (6). وقد أنكر أبو عبيد قراءة أبي عمرو بالياء كما ينقل الجعبري، لكن الجعبري صحح هذه القراءة نقلا ورسما ورد على أبي عبيد مذهبه حين يقول (7): قال أبو عبيد في كتابه (لعله يريد كتاب القراءات): قرأ أهل المدينة والكوفة (لأهب)، وقرأ أبو عمرو (ليهب)، وهو مخالف للمصاحف، وليس بجائز، وفيه تحويل القرآن حتى لا يدرى المنزّل، قلت (الجعبري) قوله: (أهل المدينة) ليس على إطلاقه بل قرأ يزيد وقالون في أحد الوجهين، وينبغي أن يضم إليهم الشامي، وقد قرأ مع أبي عمرو ورش وقالون في الآخر وروح وقوله (مخالف للمصاحف وليس ذلك لأحد) غير سديد لأنه من مخالفة
__________
(1) انظر الفيروزآبادي: ج 4، ص 303.
(2) انظر الدمياطي: ص 55.
(3) انظر الداني: التيسير، ص 148.
(4) انظر الدمياطي: ص 298.
(5) المقنع، ص 42.
(6) انظر: كشف الأسرار، لوحة 17.
(7) خميلة أرباب المراصد، ورقة (233أ 233ب).(1/336)
الموافقة لرسمها، ولو عد خارجا لعد قارئ الصراط بالسين كذلك.
وقد ذكر الدمياطي أن من قرأ بالياء فالضمير يرجع للرب سبحانه، أي: ليهب لك الذي استعذت به مني، لأنه الواهب على الحقيقة، وأن من قرأ بالهمز بالضمير للمتكلم وهو الملك أسنده لنفسه على طريق المجاز، ويحتمل أن يكون محكيا بقول محذوف أي قال لأهب (1)، لكن الذي يظهر بعد أن ننظر إلى موضع الهمزة في (لأهب) إلى جانب الأمثلة السابقة نجد أن احتمال قراءتها على التخفيف يكون قويا، وهي حين تخفف تصير ياء خالصة فمن ثمّ أرجح أن يكون الإسناد واحدا في كلا القراءتين دون حاجة إلى التأويل والتقدير. وإن الياء في قراءة من قرأ بالياء ليست ضمير الغائب إنما هي همزة المتكلم في أول الفعل المضارع، لكنها صارت إلى ياء عند التخفيف، يؤيد ذلك أن الجعبري يعتبر الفرق بين القراءتين هو مثل الفرق بين من قرأ (الصراط) بالسين أو بالصاد (2). ومن المقبول على ما تقدم رواية رسم (لأهب) لو حدث هكذا (لأيهب) خاصة أن الشيرازي ينقل أنها رسمت بالياء (ليهب).
أما ما روي عن العرب في شأن تخفيف الهمزة المبتدئة إذا عرض لها التوسط بدخول حرف زائد عليها فكلمة (أب). فقد أجريت الهمزة التي في أول الكلمة مجرى الهمزة المتوسطة، وخففت، فأبدلوا منها في الخط ياء في مثل (بيبي أنت) أي (بأبي) لأن هذا شيء كثر في كلامهم حتى صارت الباء مع أب بمنزلة اسم للتفدية، فالهمزة هاهنا متوسطة، ولذلك تبدل في الخط ياء على قياس تخفيف اللفظ، ولا يجوز أن يفعل ذلك (بأب) في غير التفدية، حسب رأي ابن درستويه (3). ومهما كان قوله بأن ذلك لا يفعل في غير التفدية فإن هذا المثال يدل على أن كل همزة في أول الكلمة تعرضت للتوسط بسبب ما يتصل بها فإنها تأخذ حكم الهمزة المتوسطة في التخفيف.
إن المشهور في رسم كلمة (لأهب) قد جاء دون أن يظهر لتغير موقع الهمزة ومن ثم لتخفيفها أي أثر فيه، بينما نجد أن الكتّاب قد استجابوا للنطق تماما في كلمة (بيبي) فحذفوا الألف التي هي رمز للهمزة قبل الاتصال، وأثبتوا رمز ما آلت إليه بعد أن عرض
__________
(1) انظر: إتحاف فضلاء البشر، ص 298.
(2) انظر المارغني: ص (250249).
(3) انظر: كتاب الكتاب، ص (5150).(1/337)
لها التخفيف بسبب التوسط وهو الياء، لكن الأمثلة التي يقدمها الرسم العثماني لتخفيف الهمزة المتوسطة بسبب ما اتصل بها من زوائد وهي (بأييد بأييكم فبأبي باييم بايية باييت أفإين) قد كانت أكثر تمسكا بشكل الكلمة قبل الاتصال إلى جانب حرصها على تمثيل ما طرأ على نطقها فأثبت الكتّاب الياء إلى جانب الألف.
وهذا التفسير لأصل إثبات الياء في تلك الكلمات إلى جانب الألف يوضح أن رمز الألف في حالة اتصال الكلمة بحرف في أولها وتخفيفها تخفيف المتوسطة لا يدل على شيء في النطق بل هو أثر قديم متخلف عن نطق الكلمة محققة الهمزة قبل أن يتصل بأولها حرف الجر أو حرف العطف، ومن ثم فإن قول الداني: «فيجوز أن تكون الياء في ذلك هي الزائدة، والألف قبلها هي الهمزة، ويجوز أن تكون الألف هي الزائدة بيانا للهمزة والياء هي الهمزة» (1) غير دقيق، ذلك لأن الياء إنما أثبتت على قراءة من سهل الهمزة، والألف في هذه الحالة هي الزائدة، يؤكد زيادتها مجيء كلمة (أفإين) (3/ 144) في مصحف طشقند مرسومة بالياء دون الألف (أفين)، أما إذا كانت القراءة بتحقيق الهمزة فالياء هي الزائدة لا محالة، لأنها إنما أثبتت على قراءة من يسهل الهمزة.
وقد رويت بعض التعليلات عن علماء السلف لبيان علة إثبات الياء في تلك الكلمات، خاصة كلمة (بأييد)، وقد نقل الزركشي أن أبا العباس المراكشي علل زيادة الياء بأنها زيدت لاختصاص ملكوتي باطن، وأنه قال في كلمة (بأييد) «إنما كتبت (بأييد) بياءين فرقا بين (الأيد) الذي هو القوة، وبين (الأيدي) جمع (يد)، ولا شك أن القوة التي بنى الله بها السماء أحق بالثبوت في الوجود من الأيدي، فزيدت الياء لاختصاص اللفظة بمعنى أظهر في إدراك الملكوتي في الوجود» (2).
وقد روي تعليل أقرب إلى الواقع من مذهب المراكشي المغرق في الخيال، وهو أن تكون الياء الثانية هي عين الكلمة والألف والياء الأولى معا صورتان للهمزة، إذ قرئ بالتحقيق والتسهيل، فالألف للتحقيق والياء للتسهيل (3). إلا أن أظهر وأوضح ما قيل في هذا المجال من أقوال علماء السلف هو ما ذهب إليه أبو العباس أحمد بن عمار
__________
(1) المقنع، ص 47.
(2) البرهان، ج 1، ص 387. وانظر أيضا التنسي: ورقة 80ب.
(3) انظر التنسي: ورقة 81أ.(1/338)
المهدوي حين يقول (1): «وأما (بأييد) و (بأييكم) فوجه زيادة الياء فيها والله أعلم أن من مذهبه تخفيف الهمزة تقلب الهمزة فيها ياء محضة، لانفتاحها وانكسار ما قبلها، فينبغي أن تصور على مذهبه ياء، وينبغي أن تصور على قراءة من يحقق الهمزة ألفا، فكأن هاتين الكلمتين كتبتا على اللغتين، فجعلت كل كلمة منهما بعلامتين، علامة التحقيق وعلامة التخفيف»، ولا يمكن أن يؤخذ على قول المهدوي في تفسير هذه الظاهرة شيء إلا ما يبدو من أنه يذهب إلى أن الكتّاب تعمدوا إثبات علامتين في كل كلمة لتمثيل نطقين مختلفين وذلك لغياب الجانب التاريخي للظاهرة وعدم استحضار التطور الذي لحق النطق، وعدم إدراك حقيقة ميل الكتابة إلى التمسك بالأشكال القديمة، وعدم مواكبتها لتطور النطق وتمثيله مواكبة تامة.
د رسم الهمزة الأخيرة التي يعرض لها التوسط بألف وياء:
وإذا كنا قد لاحظنا أن الهمزة المتطرفة المضمومة التي يعرض لها التوسط بسبب النطق بها في كلام متصل أو التي تتوسط لاتصالها بالضمائر قد رسمت بالواو على حسب ما آلت إليه بعد التخفيف دون الاحتفاظ برسم الكلمة قبل اتصالها بالضمير أو النطق بها موصولة بما بعدها إلى جانب رمز النطق الجديد مثل ما لاحظناه في (أتوكوا نبوا العلموا أولياوهم يكلوكم) فإن الهمزة المتطرفة المكسورة بعد فتحة، قصيرة كانت أو طويلة، قد جاءت مرسومة بالياء إلى جانب الألف سواء أتوسطت لاتصالها بضمير، أم للنطق بالكلمة موصولة بما بعدها، في عدة مواضع.
فأمثلة الهمزة المتطرفة المكسورة بعد فتحة قصيرة مما رسم بالياء بعد الألف لتوسطها بسبب النطق بالكلام متصلا كلمة (نبأ) في قوله سبحانه: ولقد جاءك من نبإى المرسلين (34) [الأنعام]، وما بالياء غير هذا (2). فكلمة (نبأ) ترسم على حسب القاعدة العامة بالألف في كل حال، لأن الهمزة المتطرفة عند الوقف تخفف على حركة ما قبلها وهي هنا الفتحة، فرمز الألف يشير إلى الفتحة الطويلة عند الوقف. لكن النطق بالكلمة موصولة في هذا الموضع بما بعدها قد جعل الهمزة تأخذ في التخفيف حكم الهمزة المتوسطة المكسورة بعد فتح مثل (سئم)، فتولدت بعد سقوط الهمزة ياء ضعيفة ترسم
__________
(1) هجاء مصاحف الأمصار، ص 98.
(2) ابن أبي داود: ص 107. وانظر المهدوي: ص 97. والداني: المقنع، ص 47.(1/339)
ياء. لكن الكتّاب احتفظوا برمز الألف الذي يشير إلى الفتحة الطويلة التي تنتهي بها الكلمة في حالة الوقف إلى جانب رمز الياء التي تمثل صوت الياء الذي يظهر عند النطق بالكلمة موصولة بما بعدها.
أما أمثلة الهمزة المتطرفة الواقعة بعد فتحة طويلة وخففت فيها الهمزة تخفيف المتوسطة الواقعة بعد فتحة فهي كلمة (تلقاء) في من تلقائ نفسى (15) [يونس]، وكلمة (إيتاء) في وإيتاي ذى القربى (90) [النحل]، وكلمة (ءاناء) في ومن آناء الليل (130) [طه]، وكلمة (لقاء) في بلقاى ربّهم (8) [الروم]، وفيها أيضا ولقاى الآخرة (16)، وكلمة (وراء) في أو من ورآى حجاب (51) [الشورى]، والتي في {مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ (53)} *
[الأحزاب] بغير ياء (1).
والملاحظ في هذه الأمثلة أن رمز الألف التي قبل الياء ليست زائدة لا تدل على شيء مثل التي في (نبإى) وإنما هي تشير إلى الفتحة الطويلة التي قبل الياء مثل الألف التي قبل الياء في نحو (بأهوائهم، وإلى أوليائهم)، ولذلك فقد جاءت محذوفة في كلمة (ايتاي) (النحل 16/ 90) في مصحف طشقند ومرسومة هكذا (ايتي)، لكن حذفها هنا ليس مثل حذفها من كلمة (أفإين)، لأن الألف في (ايتاي) ثابتة في اللفظ، أما في (أفإين) فإنها تعد زائدة بعد أن خففت الهمزة إلى ياء ضعيفة رسمت ياء.
أما أمثلة الهمزة المتطرفة، بعد فتحة، التي يعرض لها التوسط باتصال الضمائر بها فخففت تخفيف المتوسطة ورسمت على نحو ما آلت إليه في التخفيف مع إبقاء رمزها قبل الإضافة إلى جانب الرمز الجديد فكلمة (ملأ) إذا كانت مجرورة وأضيفت إلى ضمير، يقول الداني (2): «ورأيت في مصاحف أهل المدينة والعراق وغيرها (وملإيه) و (ملإيهم) في جميع القرآن بالياء بعد الهمزة». فرمز الألف يشير إلى ما تخفف إليه الهمزة قبل الإضافة حين يوقف عليها، والياء تمثل ما تخفف إليه الهمزة بعد اتصال الضمائر بالكلمة.
__________
(1) انظر نفس المصادر: ص 108و 109و 113، وص 98، وص 47على التوالي.
(2) المقنع، ص 47. وقد جاءت كلمة (ملإيه) في ستة مواضع (7/ 103و 10/ 75و 11/ 92 و 23/ 46و 28/ 32و 43/ 46) وجاءت كلمة (ملإيهم) في موضع واحد (10/ 83).(1/340)
ووضع الأمثلة السابقة التي تبدو الهمزة فيها قد رسمت رسما مزدوجا بألف وياء في إطار واحد وفهمها من خلال حقيقة أثر التوسط العارض للهمزة بسبب النطق بها في كلام متصل أو اتصال الزوائد والضمائر بها أقرب إلى الصحة والواقع من عرض وجوه متعددة لتفسير الظاهرة الواحدة التي لا تحتمل كما تبين فيما مر إلا وجها واحدا يضيع في موقف علماء السلف بين الاحتمالات والوجوه المتعددة لتفسير الظاهرة الواحدة، على نحو ما أورده التنسي في توجيه الياء في ما كان مثل (أفإين ونبإى)، حيث ذكر أوجها يلوح للقارئ في بعضها التفسير الصحيح، لكن إيراد الاحتمالات جميعها في صعيد واحد يجعل من غير اليسير لأول وهلة الجزم بواحد منها، وبعضها يشبه تلك التي ذكرها في تفسير الواو في (سأوريكم)، فأولها أن الياء زيدت تقوية للهمزة، أو أنها دالة على إشباع حركتها، أو أنها صورة لحركتها، أو حركتها نفسها، أو أن الياء وحدها صورة للهمزة على مراد وصلها بما بعدها، فتكون كهمزة (لئن) لتقدير توسطها والألف زيدت تقوية للهمزة، وسادس الاحتمالات مثل السابق إلا أن الألف زيدت للدلالة على إشباع حركتها قبلها، وسابعها أنهما معا صورتان للهمزة على مراعاة الانفصال والاتصال، الألف للأول وهو القياس، والياء للثاني على غير قياس، وثامنها أنهما أيضا صورتان لها إذا قرئت محققة عند الجمهور فصوّرت بالألف لذلك، وقرئت مسهّلة، إما وقفا عند حمزة، أو مطلقا عند أبي جعفر يزيد بن القعقاع، فصورت ياء لذلك (1). وكذلك أورد التنسي ستة احتمالات في تفسير إثبات الياء في نحو (اناى):
أولها كون الياء صورة للهمزة، على مراد وصلها بما بعدها فتصير كالمتوسطة التي تصور بحرف من حركتها نحو أبنائكم، وثانيها: إنها صورة لحركة الهمزة. وثالثها: إنها حركتها نفسها، ورابعها: إنها زيدت تقوية للهمزة. وخامسها: إنها زيدت دلالة على إشباع حركتها. وسادسها: إنها صورة لها على مراد التسهيل (2).
إن في بعض تلك الوجوه المتعددة التي يذكرها التنسي لتفسير إثبات الياء في الأمثلة السابقة ما ينم عن إدراك صحيح للظاهرة، فالاحتمال الثامن الذي يذكره في توجيه إثبات الياء في مثل (أفإين ونبإى) يكاد يقدم تفسيرا صحيحا للظاهرة، كذلك الاحتمال الأول
__________
(1) انظر: الطراز في شرح ضبط الخراز، ورقة 76ب.
(2) نفس المصدر، ورقة 77ب.(1/341)
في توجيه زيادة الياء في (اناى) وما أشبهه. إلا أن هذا الفهم الصحيح قد غبرته الاحتمالات الكثيرة التي يوردها علماء الرسم إضافة إلى أن أسلوب التعبير عن الفكرة من مثل اعتبار الألف في (نباى) صورة للهمزة على قراءة من يحققها، والأقرب إلى الواقع أنها رسمت على قراءة من خفف أيضا، لأن الهمزة فيها تصير عند الوقف فتحة طويلة قد يوحي أن علماء الرسم لم يدركوا أصل رسم الهمزة في الرسم العثماني وجريانه على تخفيفها في غير أول الكلمة، إذ إن معنى قولهم إنها ترسم على نحو ما تخفف إليه للإشارة إلى جواز الأمرين يظهر في مختلف تعبيراتهم عند الكلام عن ظواهر رسم الهمزة التي يقدمها الرسم العثماني.
هـ زيادة رمز الألف بعد اللام ألف:
وهناك ظاهرة تتعلق برسم الهمزة المبتدئة إذا اتصلت بها لام الابتداء أو القسم ترتبط شكلا بظاهرة رسم الهمزة المبتدئة رسما مزدوجا بألف وواو أو بألف وياء كما مر في الأمثلة السابقة لكنها تختلف على ما يبدو من حيث أصل هذه الظاهرة، فقد روى أئمة الرسم أن ولا أوضعوا [التوبة: 47] وأو لأاذبحنّه (21) [النمل] ولا إلى الله [آل عمران: 158] ولا إلى الجحيم [الصافات: 68] قد رسمت يألفين، بين اللام والواو في المثال الأول، وبين اللام والذال في الثاني، وبين اللامين في المثالين الأخيرين (1)، وقياس رسم هذه الأمثلة أن تتصل اللام الداخلة على الكلمة بالألف التي في أولها وتتكون صورة (اللام ألف). ولكن أثبت كتبة المصحف ألفا أخرى بعد صورة اللام ألف في هذا المثل من غير أن يكون هناك مقابل صوتي لها.
وتبدو هذه الصورة الهجائية أكثر تعقيدا من الصور السابقة لازدواج رسم الهمزة، وقد اختلفت مواقف علماء السلف من هذه الظاهرة حتى أن الفراء قال عنها إنها من سوء هجاء الأولين. فقد تحدث عن الحرف الذي في التوبة لا أوضعوا بقوله: «وكتبت بلام ألف وألف بعد ذلك، ولم يكتب في القرآن له نظير، وذلك أنهم لا يكادون
__________
(1) انظر ابن أبي داود: ص 108. والمهدوي: ص 96. والداني: المقنع، ص 45. والمحكم (له)، ص 174. وقد رسم المثال الأول والثالث في المصحف المطبوع بألف واحدة. ولكن نجد المثال الأول في مصحف جامع عمرو والمثال الثالث في مصحف طشقند قد رسما بألفين كما روى علماء الرسم.(1/342)
يستمرون في الكتاب على جهة واحدة، ألا ترى أنهم كتبوا {فَمََا تُغْنِ النُّذُرُ (5)} [القمر] بغير ياء {وَمََا تُغْنِي الْآيََاتُ وَالنُّذُرُ (101)} [يونس] بالياء، وهو من سوء هجاء الأولين، (ولا أوضعوا) مجتمع عليه في المصاحف، وأما قوله أو لأاذبحنّه فقد كتبت بالألف وبغير الألف، وقد كان ينبغي للألف أن تحذف من كله، لأنها لام زيدت على ألف، كقوله:
لأخوك خير من أبيك. ألا ترى أنه لا ينبغي أن تكتب بألف بعد لام ألف. وأما قوله:
{لَا انْفِصََامَ لَهََا (256)} [البقرة] فتكتب بالألف لأن (لا) في (انفصام) تبرئة. والألف في (انفصام) خفيفة» (1). ويقصد الفراء من قوله (وهو من سوء هجاء الأولين) عدم استمرار الكتّاب على طريقة واحدة في رسم الأمثلة المتشابهة، لكن عدم استمرار الكتاب هذا كان هناك ما يسوغه بل يدفع إليه حين يجد الكاتب نفسه بين أن يلتزم رسما شائعا للكلمة لكنه قاصر عن تمثيل أصواتها التي يسمعها، وبين أن يستجيب للنطق الفعلي، وبغير قليلا في رسم الكلمة لتمثيل النطق المسموع تمثيلا أكثر دقة في وقت لم تكن قواعد الكتابة والهجاء قد استقرت وعرفت من قبل الكتاب جميعا بدرجة واحدة ومن ثم ظهرت بعض الأمثلة المتشابهة مرسومة بأكثر من طريقة.
وقد ذهب المهدوي إلى أن من مذاهب العرب إشباع الحركات في اللفظ دون الخط أو فيهما أو في الخط دون اللفظ، وإذا كان الأمر كذلك فالألف المتصلة باللام هي المتولدة من حركة اللام المشبعة والألف التي بعدها هي صورة الهمزة (2).
وتعرض الزمخشري لزيادة الألف في مثل هذه الأمثلة بقوله (3): «فإن قلت: كيف خط في المصحف ولا أوضعوا بزيادة الألف؟ قلت: كانت الفتحة تكتب ألفا قبل الخط العربي، والخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن، وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع، فكتبوا صورة الهمزة ألفا وفتحتها ألفا أخرى، ونحو: أو لا أذبحنه».
وسبق أن أشرنا إلى مذهب بعض العلماء إلى أن الحركات القصيرة كانت تصور حروفا وقد حكى هذا غير واحد من علماء العربية منهم أبو إسحاق إبراهيم بن السري
__________
(1) الفراء: معاني القرآن، ج 1، ص (440439).
(2) انظر: هجاء مصاحف الأمصار، ص 97.
(3) الكشاف، ج 2، ص 217.(1/343)
(ت 311هـ) وغيره (1). ولكن ليس هناك دليل على هذا المذهب، بل إن المعروف من تاريخ رموز الحركات في الكتابات السامية ينقض ذلك ويرده، كما مر بيان ذلك.
وقد تحدث الإمام أبو عمرو الداني عن هذه الألف فقال: إما زيادتهم الألف في ولا أوضعوا أو لأاذبحنّه (21) فلمعان أربعة، هذا إذا كانت الزائدة فيهما المنفصلة عن اللام، وكانت الهمزة هي المتصلة باللام، وهو قول أصحاب المصاحف: فأحدها:
أن تكون صورة لفتحة الهمزة، من حيث كانت الفتحة مأخوذة منها.
والثاني: أن تكون الحركة نفسها لا صورة لها، على مذهب العرب في تصوير الحركات حروفا.
والثالث: أن تكون دليلا على إشباع فتحة الهمزة وتمطيطها في اللفظ، لخفاء الهمزة، وبعد مخرجها، وفرقا بين ما يحقق من الحركات وبين ما يختلس منهن، وليس ذلك الإشباع والتمطيط بالمؤكّد للحروف، إذ ليس من مذهب أحد من أئمة القراءة، وإنما هو إتمام الصوت بالحركة لا غير.
والرابع: أن تكون تقوية للهمزة وبيانا لها.
وإذا كانت الزائدة من إحدى الألفين المتصلة في الرسم باللام، وكانت الهمزة هي المنفصلة عنها. وهو قول الفراء وأحمد بن يحيى وغيرهما من النحاة فزيادتها لمعنيين:
أحدهما: الدلالة على إشباع فتحة اللام وتمطيط اللفظ بها.
والثاني: تقوية للهمزة، وتأكيدا لها وبيانا (2).
وتتركز توجيهات الفريقين التي يعرضها الداني على أن الفتحة قد رسمت ألفا أو أن الألف أثبتت تقوية للهمزة، وكلا الأمرين لا يجد دليلا من واقع الكتابة أو اللغة العربية.
وتبقى هذه الظاهرة بعد ذلك من غير تفسير مقنع، خاصة أن الهمزة إذا خفّفت لدخول اللام في الأمثلة المشار إليها تلتقي فتحتان قصيرتان في المثالين الأولين كما
__________
(1) انظر الداني: المحكم، ص 176. واللبيب، ورقة 34ب.
(2) انظر: المحكم، ص (177176)، واللبيب، ورقة 34أ 34ب. وانظر أيضا الجعبري: ورقة 108/ أ.(1/344)
يحدث في تخفيف الهمزة في (سأل)، وتخلف الهمزة ياء ضعيفة في المثالين الأخيرين، كما يحدث في تخفيف الهمزة في مثل (سئم) وفي كلا الحالتين ليس هناك ما يدعو إلى إثبات ألفين في الرسم.
ويبدو أن هناك احتمالا واحدا لعله يصلح أن يكون تفسيرا لهذه الظاهرة، وهو أن اللام كانت إذا اتصلت بها الألف فإنها ترسم بطريقة خاصة في الخط العربي القديم تخالف طريقة اتصال الألف بأي حرف آخر من حروف الأبجدية، إذ إنهما يكونان شكلا يشبه خطين متقاطعين تربطهما من أسفل قاعدة هكذا (لا) وقد سمى علماء العربية هذا الشكل باسم (اللام ألف)، وهذا الشكل لا يظهر غيره في النصوص الكتابية العربية القديمة لتمثيل اتصال الألف باللام، نجد ذلك في نقش القاهرة وفي نقش (ثابت بن يزيد الأشعري) في حفنة الأبيض في العراق، ونجده في المصاحف المخطوطة القديمة المرسومة بما يسمى بالخط الكوفي، ويظهر في نقوش إشارات الطريق التي يرجع معظمها إلى خلافة عبد الملك، وفي غير ذلك من النصوص الكتابية العربية القديمة.
وهو دليل على أن الكتابة العربية آنذاك لم تكن تعرف صورة لاتصال الألف باللام إلا على هذه الطريقة.
ويبدو أن ذلك الشكل لاتصال الألف باللام يرجع استخدامه إلى تاريخ قديم بل ربما يكون أثرا من آثار أشكال اتصال الحروف النبطية التي عجزت حركة تطور الكتابة النبطية إلى الكتابة العربية عن تغييرها، فظلت هذه الصورة لاتصال الألف باللام تخالف طريقة ارتباط الألف بأي حرف آخر من حروف العربية، فلو تأملنا طريقة رسم الألف في نقش النمارة مثلا لوجدناه على شكل رقم (6) في الأرقام المستعملة في الكتابة العربية في بلدان المغرب، وفي الكتابات اللاتينية هكذا (6)، ولو تأملنا رسم اللام في نقش النقش لوجدناه يشبه نوعا ما اللام العربية المتوسطة، ومن ثم فمن المتوقع عند اتصال الألف باللام في الكتابة النبطية أن يجيء الشكل هكذا (لا). وهو ما نجده فعلا في نقش النمارة في كلمة (الأسدين) في السطر الثاني، ومن ثم فإن شكل اتصال الألف باللام في الكتابة العربية هو من بقايا أشكال اتصال الحروف النبطية يؤكد ذلك أن هذا الشكل نجده في نقش زبد (سنة 512م) ونقش أم الجمال الثاني الذي يرجع إلى أواخر القرن السادس، وربما حافظت الكتابة العربية على هذا الشكل لأن رمز الألف تطور في الكتابة العربية إلى شكل يشبه رمز اللام، فيكونان إذا التقيا شكلا لم يقبله ذوق الكتّاب
في تلك الفترة المتقدمة.(1/345)
ويبدو أن ذلك الشكل لاتصال الألف باللام يرجع استخدامه إلى تاريخ قديم بل ربما يكون أثرا من آثار أشكال اتصال الحروف النبطية التي عجزت حركة تطور الكتابة النبطية إلى الكتابة العربية عن تغييرها، فظلت هذه الصورة لاتصال الألف باللام تخالف طريقة ارتباط الألف بأي حرف آخر من حروف العربية، فلو تأملنا طريقة رسم الألف في نقش النمارة مثلا لوجدناه على شكل رقم (6) في الأرقام المستعملة في الكتابة العربية في بلدان المغرب، وفي الكتابات اللاتينية هكذا (6)، ولو تأملنا رسم اللام في نقش النقش لوجدناه يشبه نوعا ما اللام العربية المتوسطة، ومن ثم فمن المتوقع عند اتصال الألف باللام في الكتابة النبطية أن يجيء الشكل هكذا (لا). وهو ما نجده فعلا في نقش النمارة في كلمة (الأسدين) في السطر الثاني، ومن ثم فإن شكل اتصال الألف باللام في الكتابة العربية هو من بقايا أشكال اتصال الحروف النبطية يؤكد ذلك أن هذا الشكل نجده في نقش زبد (سنة 512م) ونقش أم الجمال الثاني الذي يرجع إلى أواخر القرن السادس، وربما حافظت الكتابة العربية على هذا الشكل لأن رمز الألف تطور في الكتابة العربية إلى شكل يشبه رمز اللام، فيكونان إذا التقيا شكلا لم يقبله ذوق الكتّاب
في تلك الفترة المتقدمة.
ولما كان استخدام شكل اللام ألف (لا) بهذا القدم، وأنه خلال هذه القرون الطويلة لا بد أنه قد اكتسب صفة الثبوت في الشكل حتى أصبح الكتاب حين يريدون كتابة اللام متصلة بالألف لم يعودوا يفكرون بأي الحرفين يبدءون فإنه من المحتمل جدا أن الكتاب حين يريدون إلحاق اللام في أول كلمة تبدأ بألف لا يتبادر إلى أذهانهم ولا تجري أقلامهم إلا بهذا الشكل القديم الشائع المشهور لاتصال اللام بالألف (لا) فيلحقونه أمام الكلمة المراد إلحاق اللام بها دون أن يحذفوا رمز الألف الذي كان في أول الكلمة والذي صار أحد طرفي شكل (اللام ألف). ومن هنا استقر رمز الألف بعد اللام ألف في بعض الكلمات دون أن يكون لحركة الهمزة أي دخل في هذه الظاهرة، ومما يساعد على تصور ذلك أن تركيب اللام مع الألف في أول هذه الكلمات لا يعد شكلا كتابيا مستقرا عرفه الكتّاب على وفق صورة واحدة كما نجده في الكلمة التي تدخل عليها (أل) المعرفة وأولهما همزة مثل كلمة (الأرض) ومن ثم فقد برزت هذه الظاهرة مجرد احتمال على أيدي كتاب أقل ثقافة كتابية وهم يحاولون ابتداء رسم شكل جديد لهذا التركيب.
وتقدم المصاحف المخطوطة أمثلة أخرى غير الأربعة المشار إليها، فنجد الألف ثابتة بعد الهمزة المفتوحة فتحة قصيرة في {لََا أَنْتَ} * [هود: 87] في مصحف طشقند وفي لأاملئنّ [ص: 85] في مصحف جامع عمرو، وبعد الهمزة المفتوحة فتحة طويلة في لا آتينهم [الأعراف: 17]، ومع همزة الوصل في لا اتّبعنكم [آل عمران: 167]، كلاهما في مصحف طشقند، وتدل هذه الأمثلة على أن الظاهرة لم تكن محصورة في كلمات معينة بل ربما كانت أكثر شمولا للحالات المشابهة لكن الكتّاب كلما انتبهوا إلى حقيقة زيادة الألف في مثل هذه الكلمات حذفوها، ولم تبق من آثار تلك الظاهرة إلا بضعة كلمات ظهرت في الرسم العثماني على النحو الذي عرضناه.
ورسم الهمزتين في أول الكلمة:
ومن مظاهر تأثر رسم الهمزة المبتدئة بالتوسط العارض دخول همزة الاستفهام على همزة في أول الكلمة، وهمزة الاستفهام لا تكون إلا مفتوحة. أما التي في أول الكلمة فتكون مفتوحة أو مضمومة أو مكسورة.
فإذا دخلت همزة الاستفهام على همزة مفتوحة سواء أكانت بعدها فتحة قصيرة أم طويلة رسم ذلك كله بألف واحدة (1)، يقول الداني: وما كان من الاستفهام فيه ألفان أو ثلاث فإن الرسم ورد بلا اختلاف في شيء من المصاحف بإثبات ألف واحدة، اكتفاء بها لكراهة اجتماع صورتين متفقتين فما فوق في الرسم (2). من ذلك (ء أنذرتهمء أنتمء أسلمتمء أقررتمء أنتء أربابء أسجدء أشكرء أتخذء أشفقتمء ألد) (3).(1/346)
ومن مظاهر تأثر رسم الهمزة المبتدئة بالتوسط العارض دخول همزة الاستفهام على همزة في أول الكلمة، وهمزة الاستفهام لا تكون إلا مفتوحة. أما التي في أول الكلمة فتكون مفتوحة أو مضمومة أو مكسورة.
فإذا دخلت همزة الاستفهام على همزة مفتوحة سواء أكانت بعدها فتحة قصيرة أم طويلة رسم ذلك كله بألف واحدة (1)، يقول الداني: وما كان من الاستفهام فيه ألفان أو ثلاث فإن الرسم ورد بلا اختلاف في شيء من المصاحف بإثبات ألف واحدة، اكتفاء بها لكراهة اجتماع صورتين متفقتين فما فوق في الرسم (2). من ذلك (ء أنذرتهمء أنتمء أسلمتمء أقررتمء أنتء أربابء أسجدء أشكرء أتخذء أشفقتمء ألد) (3).
وقد اختلف في الألف الثابتة، فقيل هي الأصلية، وقيل ألف الاستفهام (4). وقد قال الداني (5): «الألف الثابتة في ذلك في الرسم هي همزة الاستفهام للحاجة إليها، وهو قول الفراء وثعلب وابن كيسان، وقال الكسائي هي الأصلية، وكذلك قال أصحاب المصاحف، وذلك عندي أوجه». ولكن علينا أن نلاحظ أن الهمزة الأصلية التي في أول الكلمة قد عرض لها التوسط بعد دخول همزة الاستفهام فخففت وآلت إلى فتحة طويلة، وحذف رمز الفتحة الطويلة المتوسطة جائز دون حذف رمز الهمزة، فهل يمكن القول بناء على ذلك بأن الثابتة هي رمز همزة الاستفهام؟ أو يكتفى بالقول إن رمز إحدى الألفين حذف، وأثبت الآخر دون تعيين، لكراهة اجتماع صورتين متفقتين في الخط؟
أما الهمزة المضمومة في أول الكلمة ودخلت عليها همزة الاستفهام فقد اتفقت المصاحف كما يقول الداني على رسم واو بعد الهمزة في قوله سبحانه: قل أؤنبّئكم (15) [آل عمران]، وذلك على مراد التليين. ولم يرسموها في نظائر ذلك نحو:
{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ (8)} [ص]، و {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنََا (25)} [القمر]، وذلك على إرادة التحقيق وكراهة اجتماع ألفين، والهمزة قد تصور على المذهبين جميعا (6).
وإذا دخلت همزة الاستفهام على همزة مكسورة فقد رسمت الهمزة الثانية ياء في
__________
(1) انظر المهدوي: ص 114.
(2) المقنع، ص 14. وانظر العقيلي: لوحة 3.
(3) انظر الدمياطي: ص (4544).
(4) انظر المهدوي: ص 115.
(5) المقنع، ص 24.
(6) انظر: المقنع، ص 59. وانظر أيضا المهدوي: ص 116. والدمياطي: ص 49.(1/347)
بعض المواضع دون بعض، فرسمت (أءنكم) بالياء أئنّكم في أربعة أحرف: في الأنعام (6/ 19) والنمل (27/ 55) والعنكبوت (29/ 29) وفصلت (41/ 9). ورسمت (أءنا) بالياء (أئنا) في موضعين: في النمل (27/ 67) والصافات (37/ 16). ورسمت (أءن) بالياء {أَإِنَّ (41)} * [الشعراء] {أَإِنَّ لَنََا لَأَجْراً (41)} *، ورسمت (أءذا) بالياء (أئذا) في {أَإِذََا مِتْنََا وَكُنََّا تُرََاباً (47)} * [الواقعة]، ومما جاء بالياء أيضا أين ذكّرتم (19) [يس]، وأئفكا آلهة (86) [الصافات] (1).
ويظهر من هذه الأمثلة أن ما رسمت فيه الهمزة الثانية ياء أو واوا أقل مما جاء مرسوما بألف واحدة، ولو تأملنا عددا من الآيات التي جاءت في كل منها همزة الاستفهام مرتين، مرة مع (إذا) وأخرى مع (إنا) والهمزة مكسورة فيهما، حيث وردت هذه الصيغة في سورة الرعد (13/ 5) والمؤمنون (23/ 82) والنمل (27/ 67) والصافات (37/ 16و 53) والواقعة (56/ 47) لوجدنا أن الهمزة الثانية في (أءذا) رسمت ياء في موضع واحد، في الواقعة (56/ 47) وهو قوله سبحانه: {وَكََانُوا يَقُولُونَ أَإِذََا مِتْنََا وَكُنََّا تُرََاباً وَعِظََاماً أَإِنََّا لَمَبْعُوثُونَ (47)}، وفي (أءنا) رسمت بالياء في موضعين الأول في النمل (27/ 67) {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذََا كُنََّا تُرََاباً وَآبََاؤُنََا أَإِنََّا لَمُخْرَجُونَ (67)}، والثاني في الصافات (37/ 16) {أَإِذََا مِتْنََا وَكُنََّا تُرََاباً وَعِظََاماً أَإِنََّا} [2] لَمَبْعُوثُونَ *.
وقد علل الداني لما رسم بالواو أو بالياء من الهمزة التالية لهمزة الاستفهام بأنه رسم كذلك على مراد التليين، وما جاء بألف واحدة على مراد التحقيق، وحذفوا إحدى الألفين، كراهة اجتماع صورتين متفقتين في الخط، يقول في (المحكم) عن هذه الظاهرة (3): «وجه ذلك إرادتهم التعريف بالوجهين من التحقيق والتسهيل، والموضع الذي جاءتا فيه غير مرسومتين دليل على التحقيق، وذلك من حيث كرهوا أن يجمعوا بين صورتين متفقتين. فلذلك حذفوا إحدى الصورتين واكتفوا بالواحدة منهما إيجازا
__________
(1) انظر المهدوي: ص 116. والداني: المقنع، ص (5251). وانظر عدد ورود الأمثلة المذكورة التي رسم بعضها بالياء في القرآن. الدمياطي: ص (4847).
(2) في المصحف المطبوع (أءنا) بدون ياء.
(3) ص 106، وانظر أيضا: نفس المصدر، ص 108، وانظر الجعبري: ورقة (232أ 232ب).(1/348)
واختصارا».
وبناء على ما تقرر سابقا وذكرناه في أكثر من موضع من أن الهمزة إذا توسطت خففت في قراءة ولغة أهل الحجاز بصورة عامة، فإن الهمزة الثانية في الأمثلة السابقة سواء رسمت واوا أو ياء أم لم ترسم تخفف في ذلك على نحو ما تخفف الهمزة المتوسطة، وقد روي تخفيف الهمزة الثانية عن قالون وأبي عمرو، وهشام عن الحلواني، وروي تخفيفها أيضا عن أبي جعفر سواء كانت مفتوحة أم مضمومة أم مكسورة وسواء كان تخفيفها بإدخال ألف بين همزة الاستفهام وبين ما تخفف إليه الثانية أم بدون ذلك (1).
أما أنها رسمت في بعض الأمثلة بالواو أو بالياء حسب حركتها دون بعض فإن ما رسمت فيه كذلك أثبت الكتاب صورة النطق الفعلي، وما لم ترسم فيه خففت أيضا بنفس الطريقة لكن صورة الكلمة قبل دخول همزة الاستفهام كان قد شاع استعمالها على شكل معين، فلما دخلت همزة الاستفهام وتعرضت الهمزة الأصلية في الكلمة للتوسط والتخفيف لم يثبتوا ما طرأ على الكلمة من تغير في النطق تمسكا بالصورة المعروفة الشائعة للكلمة، ومن ثم فإن ما لم ترسم فيه الهمزة ياء أو واوا لا يدل على تحقيق الهمزة، إذ من غير المعقول أن يخفف القارئ في آية واحدة كلمة دون أخرى في سياق واحد من مثل ما ورد من الآيات التي تحتوي صيغة (أءذا أءنا) السابقة، وإنما لم ترسم الهمزة في هذه الكلمات على حسب التخفيف للعلة التي ذكرنا.
2 - احتفاظ بعض الكلمات المهموزة بصورة هجائية قديمة:
لم يكن بناء الرسم على وصل الكلام وتعرض الهمزة المبتدئة للتوسط بسبب اتصال الزوائد أو الضمائر بها العامل الوحيد في مجيء بعض الكلمات المهموزة مرسومة على أكثر من صورة هجائية، وإنما هناك جملة عوامل أخرى أدت إلى تعدد صور هجاء بعض الكلمات وإلى مجيء بعضها الآخر مرسوما بطريقة معينة على غير القاعدة المطردة.
ومن بين تلك العوامل احتفاظ بعض الكلمات بصورة هجائها القديم، رغم ما قد
__________
(1) انظر الدمياطي: ص (4944).(1/349)
يصيب نطقها من تغير، وقد يضيف الكتّاب رمزا كتابيا لتمثيل النطق الجديد للكلمة دون تغيير هجائها القديم، ومن ثم فإن الهمزة تبدو في بعض الأمثلة وكأنها قد رسمت رسما مزدوجا على نحو ما رأينا في بعض أمثلة الهمزة المتطرفة أو المبتدئة حين يعرض لها التوسط بسبب ما أشرنا إليه من عوامل.
وسبق أن بينا أن لتمثيل الهمزة في الكتابة العربية طريقتين: هما: أولا أن ترسم ألفا بأية حركة تحركت وفي أي مكان من الكلمة أتت، وذلك عند من يحققون الهمزة على كل حال، لأن الألف في الأصل هي رمز الهمزة. وثانيا: أن ترسم ألفا في أول الكلمة فحسب وترسم في غير أول الكلمة بحسب ما تؤول إليه في التخفيف وذلك عند أهل التخفيف الذين لا يحققون إلا في أول الكلمات، والهمزة الواقعة أولا قد يعرض لها التخفيف.
وقد ذكرنا فيما سبق الروايات التي تشير إلى أن الهمزة رسمت في مصاحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الكوفة بالألف في كل حال، وأن ذلك كان مذهبا لجماعة من العرب في كتابة الهمزة (1)، ولما كانت الكوفة على اتصال دائم بقبائل شرقي الجزيرة العربية ووسطها، ولقربها من الحيرة معقل الكتابة العربية قبل الإسلام فمن المحتمل أن يكون رسم الهمزة في هذه البيئات قد جرى قبل الإسلام على لغة من يحققون الهمزة، أي أنها رسمت ألفا على كل حال. ثم ورثت الكوفة في أول عهدها هذه الطريقة في تمثيل الهمزة.
ولما كانت الروايات التاريخية تكاد تجمع على أن الكتابة العربية انتقلت من الأنبار والحيرة في العراق إلى حواضر الحجاز ومدنه قبل الإسلام بقرن أو قرنين فإن صور هجاء الكلمات المهموزة حين انتقلت، وهي تمثل نطق من يحققون الهمزة ومرسومة دائما بالألف، قد أخذت تتخلى عن تلك الصور وبدأت تستجيب لنطق أهل الحجاز في تخفيف الهمزة ويبدو أن قرنا أو قرنين من الزمان لم يكن كافيا لإزالة صور هجاء الكلمات المهموزة تماما، فكانت لها بقايا في غير أول الكلمات، وأحيانا أثبت رمز النطق الجديد إلى جانب رمز النطق القديم، وبذلك كان هذا الانتقال للكتابة من بيئة
__________
(1) انظر الفراء: معاني القرآن، ج 2، ص 134و 220، وج 3، ص 36. وانظر أيضا ابن جني: سر صناعة الإعراب، ج 1، ص (4746).(1/350)
تحقق الهمزة وترسمها ألفا في كل حال إلى بيئة تسهلها وتكتبها على نحو ما تسهل في غير أول الكلمة إن صح ما ذكرناه هنا كان عاملا مهما في تعدد صور هجاء الكلمات المهموزة وفي احتفاظ بعضها بأهجية قديمة وربما بدت الهمزة في بعض الكلمات لذلك مرسومة بطريقة مزدوجة.
ويقدم الرسم العثماني أمثلة كثيرة لأثر هذا العامل في تعدد رسم بعض الكلمات المهموزة، فيذكر الداني أن المصاحف اتفقت على رسم {وَهَيِّئْ لَنََا (10)} {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ (16)} [الكهف] و {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} و {الْمَكْرُ السَّيِّئُ (43)} [فاطر] بياءين، إلا أن أبا حاتم حكى أن في بعض المصاحف (وهيأ لنا) و (يهيأ لكم) بألف صورة للهمزة (1).
وكذلك كل ما في كتاب الله عز وجل من ذكر (رأى) نحو (را كوكبا) و (را أيديهم) و (فلما راه) و (فلما را القمر) و (را الشمس) وما كان مثله من لفظه، سواء جاء بعد لام الفعل ساكن أم متحرك هو مرسوم في كل المصاحف بألف واحدة إلا في موضعين، وهما قوله سبحانه في سورة النجم {مََا رَأى ََ (11)} * {لَقَدْ رَأى ََ مِنْ آيََاتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ََ (18)} [النجم].
فإن مصاحف أهل الأمصار اتفقت على رسم ألف بعدها ياء علامة للفتحة الطويلة، ومثل (رأى) أيضا كلمة (السوأى) (2).
ويبدو أن ما رسم براء وألف (را) يمثل النطق الجديد وذلك لأن الهمزة في (رأى) إذا سقطت عند التخفيف تلتقي فتحة الراء والفتحة الطويلة التي هي لام الفعل، وحتى لو حافظت هذه الفتحة القصيرة قبل الفتحة الطويلة التي تليها عن طريق تغيير النغمة أو درجة الانفتاح، وربما صارت فتحة طويلة أيضا، فإن الكاتب لن يرسم إلا ألفا واحدة.
أما رسم الكلمة بألف بعدها ياء (رأى) فإنها تشير إلى الرسم القديم للكلمة عند أهل التحقيق، فرمز الألف يشير إلى الهمزة والياء بعدها هي رمز الفتحة الطويلة في آخر الكلمة. ويمكن أن نفهم سر إثبات الألف في (السوأى) على ذلك النحو أيضا، ومثل (را) في تطور الرسم القديم وتمثيل النطق الجديد رسم كلمة ترآ الجمعان (61) [الشعراء]، فقد رسمت بألف واحدة بعد الراء (3).
__________
(1) انظر: المقنع، ص 51.
(2) نفس المصدر، ص 25، والمحكم (له) أيضا، ص 129.
(3) انظر المهدوي: ص 108. والداني: المحكم، ص 157.(1/351)
وفي المصاحف المخطوطة عدة كلمات تمثل بقايا من الطريقة الأولى لرسم الهمزة بالألف في كل موضع، من ذلك كلمة {سُوءَ الْعَذََابِ (49)} * [البقرة]، فقد رسمت بالألف (سوا) في مصحف طشقند، وفيه أيضا كلمة {مِلْءُ (91)} [آل عمران] رسمت (ملا).
وكلمة سوأة (31) [المائدة] رسمت (سواة) في بقية مصحف محفوظ في دار الكتب المصرية تحت رقم (115مصاحف)، ورسمت كلمة وينئون (26) [الأنعام] بالألف (يناون) في مصحف طشقند. ورسمت فيه أيضا كلمة {سَيِّئَةً (38)} * [الإسراء] بالألف (سياه) وكلمة {وَيُهَيِّئْ (16)} [الكهف] بالألف (يهيأ). ورسمت كلمة {السَّيِّئِ (43)} * [فاطر] في الموضعين بالألف هكذا (السيأ). فكل هذه الكلمات احتفظت بهجاء الهمزة القديم، وجاءت مرسومة فيها بالألف حيث وقعت وبأية حركة تحركت.
وإذا كانت الأمثلة السابقة قد رسمت فيها الهمزة بالألف فحسب فإن مثالا آخر قد جمع إلى جانب رمز الألف رمز ما تؤول إليه الهمزة عند التخفيف، فكلمة {سُئِلَ (108)} *
[البقرة] {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَمََا سُئِلَ مُوسى ََ مِنْ قَبْلُ (108)} قد رسمت هكذا (سائل) في مصحف طشقند، وتبدو الهمزة في هذا الشكل قد رسمت رسما مزدوجا مثل ما رأينا في (نبإى ولقاى) سوى أن الهمزة في (سئل) متوسطة وفيما تقدم متطرفة، وكذلك فإن سبب الظاهرة في مثل (نبإى ولقاى) هو بناء الرسم على الوصل والوقف. أما (سائل) فإن السبب فيها يعود إلى احتفاظ الكلمة برسم الهمزة القديم مع تمثيل النطق الجديد، فالألف تشير إلى الرسم القديم والياء تمثل النطق الجديد الذي نجده في الرواية المشهورة لرسم الكلمة (سئل). ومثل (سئل) في رسم الهمزة كلمة {سِيءَ (77)} * [هود] فقد رسمت في مصحف طشقند هكذا (ساى)، رغم أن الظاهرة في (سيء) تبدو أكثر تعقيدا.
والمثالان الأخيران ينقلاننا إلى الحديث عن هجاء كلمة (مائة ومائتين) حيث وقعت، إذ جاءت الهمزة فيها مرسومة رسما مزدوجا بألف وياء (1)، ولعل أصل هجاء الكلمة كان بالألف فقط هكذا (ماه) عند أهل التحقيق، وأن الياء زيدت في الرسم بعد أن انتقلت صورة رسم الكلمة من بيئة تحقق الهمزة إلى بيئة الحجاز التي تسهّلها، ولم يغير الكتاب صورة الكلمة بحذف الألف وإثبات رمز النطق الجديد، بل إنهم أثبتوه إلى جانب
__________
(1) انظر الداني: المقنع، ص 42.(1/352)
الألف، فظهرت الكلمة بهذه الصورة، ويؤيد الزعم بأن أصل رسم الكلمة بالألف (مأة) ما قاله الشيخ أثير الدين أبو حيان من أنه رأى بخط بعض النحاة (مأة) على هذه الصورة بألف عليها نبرة الهمزة دون ياء، ثم قوله: وكثيرا ما أكتب أنا (مائة) بغير ألف كما تكتب (فئة) لأن كتب (مأة) بالألف خارج عن القياس، فالذي أختاره أن تكتب بالألف دون الياء على وجه تحقيق الهمزة، أو بالياء دون الألف على وجه تسهيلها (1).
ويؤكد هذا أن هذه الكلمة وردت في أحد النقوش النبطية مكتوبة بالألف دون الياء هكذا (ماه) (2)، ولما كانت الهمزة في (مائة) مفتوحة بعد كسرة فإن سقوط الهمزة عند تخفيفها يؤدي إلى أن تلتقي فتحتها والكسرة التي تسبقها ويتولد عن هذا الالتقاء بعد تعويض مكان الهمزة ياء خالصة، أثبت الكتّاب رمزها إلى جانب الألف، فصار هجاء الكلمة هكذا (مايه) وبدت الهمزة مرسومة برمزين.
وهذا التفسير لرسم الهمزة في هذه الكلمة بالألف والياء يصحح كلاما كثيرا لعلماء العربية بشأن زيادة الألف في هذه الكلمة واختلافهم في سبب زيادتها. فيذكر الداني أن زيادة الألف في (مائة) كانت لأحد أمرين (3). إما للفرق بين (مائة) وبين (منه) من حيث اشتبهت صورتهما، وهو قول عامة النحويين. وينقل الصولي أن بعضهم قال إنها للفرق بينها وبين (ميّة) لكنه يعقب على هذه بقوله «وهذا قول مرذول لأن مية متى تذكر وقع في كتاب» (4). وإما أنها تقوية للهمزة، من حيث كانت حرفا خفيا بعيد المخرج فقووها بالألف لتتحقق نبرتها، وخصت الألف بذلك معها من حيث كانت من مخرجها، وكانت الهمزة قد تصور بصورتها، ثم يقول الداني: وهذا القول عندي أوجه، لأنهم قد زادوا الألف بيانا للهمزة وتقوية لها في كلم لا تشتبه صورهن بصور غيرهن، فزال بذلك معنى الفرق، وثبت معنى التقوية والبيان لأنه مطرد في كل موضع. لكن التنسي يقول (5): ما من همزة إلا وهي تفتقر إلى التقوية كسؤال وفؤاد وسئلت ولأرحمنك وغير ذلك مما لا يحصى، فتخصيص هذا الموضع تحكم.
__________
(1) انظر القلقشندي: ج 3، ص 180.
(2) انظر د. جواد علي: ج 7، ص 296.
(3) انظر: المحكم، ص 175.
(4) أدب الكتاب، ص 247. وانظر التنسي: ورقة (71أ 71ب).
(5) انظر: الطراز، ورقة 71أ.(1/353)
ويبدو أن أساس الخطأ في تفسير هذه الصورة الهجائية لرسم كلمة (مائة) أن علماء السلف اعتبروا أن الألف زيدت على رسم الكلمة لمعنى معين إما للفرق أو تقوية للهمزة. والحقيقة أن كلا الرمزين يشير إلى نطقين مختلفين في مرحلتين متتابعتين، ثم إن هذا الشكل يشير إلى خاصية تميز الكتابات عامة، وهي احتفاظها بمظاهر من مختلفات النطق القديم رغم زوالها من الاستعمال. فالكتابة دائما أقل مواكبة للتطور والتغير الذي يلحق النطق، وبذلك تصدق المقولة بأن الكتابة بالنسبة للألفاظ كالمتحف بالنسبة للآثار، تقفنا في كثير من الأحيان على نطق الكلمات في عصور سابقة من خلال احتفاظها بصورة الكتابة التي تمثل ذلك النطق القديم، على نحو ما نجد هنا، وعلى نحو ما شاهدنا من رسم الألف واوا في كلمات مثل (الصلاة والزكوة) ورسم الألف ياء في مثل (سعى رمى يخشى يرضى مولى الكبرى).
3 - كراهة اجتماع صورتين متفقتين في الخط:
ومن عوامل تعدد صور هجاء بعض الكلمات المهموزة وغير المهموزة أحيانا ما سماه علماء الرسم والعربية بكراهة اجتماع صورتين أو أكثر متفقة في الخط، وتختص هذه الظاهرة برموز الحركات الطويلة والصوامت التي تشترك معها بتلك الرموز، وأشرنا من قبل إلى أن هذه الظاهرة ليست لمجرد التشابه فقط وإنما تمثل مرحلة في تمثيل الحركات الطويلة، إذ لو كان التشابه وحده هو السبب في ذلك الحذف لوجدنا آثارا لهذه الكراهة في عدم إثبات رموز بعض الصوامت، خاصة أن الرسم العثماني يتيح فرصا أكبر للتشابه الشكلي في رسم الحروف قبل أن يكمل بالنقط والعلامات، أما كتابة الحرف المشدد برمز واحد فإن ذلك لا يدل على سريان أثر تلك الكراهة على رموز الصوامت، لأن ذلك يرجع إلى طبيعة الصوت المشدد نفسه، ورغم كل ذلك ومعه فإن ملاحظة علماء السلف تبقى صادقة كل الصدق بالنسبة لحذف أحد رمزي الحركة الطويلة والصامت الذي تشركه في الرمز، إلا بعض الكلمات التي جاءت بإثبات الرمزين معا.
والهمزة في غير أول الكلمة يخلفها عند التخفيف صوت لين أو حركة طويلة كما مر بيان ذلك فإذا اقترن بالرمز الذي يمثل الصوت المتخلف عن سقوط الهمزة رمز آخر مثله سواء أكان يمثل أحد صوتي اللين: الواو أو الياء، أم يمثل حركة طويلة سرى على الرمزين أثر هذه الظاهرة وحذف أحدهما، يقول أبو داود سليمان بن نجاح، أشهر
تلامذة الداني وأجلّهم: إن الهمزة المفتوحة لا ترسم إذا وقع بعدها ألف، ولا المكسورة إذا وقع بعدها ياء، ولا المضمومة إذا وقع بعدها واو لئلا يجتمع في الكتابة ألفان وياءان وواوان (1). وكذلك إذا وقعت الهمزة المفتوحة بعد ألف والمكسورة بعد ياء والمضمومة بعد واو، كراهة توالي صورتين متفقتين في الرسم (2).(1/354)
والهمزة في غير أول الكلمة يخلفها عند التخفيف صوت لين أو حركة طويلة كما مر بيان ذلك فإذا اقترن بالرمز الذي يمثل الصوت المتخلف عن سقوط الهمزة رمز آخر مثله سواء أكان يمثل أحد صوتي اللين: الواو أو الياء، أم يمثل حركة طويلة سرى على الرمزين أثر هذه الظاهرة وحذف أحدهما، يقول أبو داود سليمان بن نجاح، أشهر
تلامذة الداني وأجلّهم: إن الهمزة المفتوحة لا ترسم إذا وقع بعدها ألف، ولا المكسورة إذا وقع بعدها ياء، ولا المضمومة إذا وقع بعدها واو لئلا يجتمع في الكتابة ألفان وياءان وواوان (1). وكذلك إذا وقعت الهمزة المفتوحة بعد ألف والمكسورة بعد ياء والمضمومة بعد واو، كراهة توالي صورتين متفقتين في الرسم (2).
ومع اطراد أثر هذه الصورة فإن بعض الكلمات جاءت مرسومة بإثبات الرمزين معا مثل (هيى، يهيى، السيى) فإنها رسمت بياءين (3)، ويذكر الداني أنه وجد في مصاحف أهل المدينة والعراق وفي غيرها (سيئة والسيئة) حيث وقعتا و (سيئا) (9/ 102) مرسومة بياءين، لكنه يشير إلى أنه وجد جمع (سيئة) من مثل (السيئات سيئات سيئاتكم سيئاتهم سيئاته) مرسوما بياء واحدة في جميع القرآن (4)، وليس بين المفرد والجمع من فرق في اللفظ سوى أن الفتحة التي تلي الهمزة قصيرة في المفرد وطويلة في الجمع، ولكن قد رسم الجمع في مصحفي طشقند وجامع عمرو بياءين مثل المفرد إلا أن الألف التي هي رمز الفتحة الطويلة في الجمع قد جاءت محذوفة في الغالب، ففي مصحف طشقند رسمت كلمة (السيئات) في النحل (16/ 45) والشورى (42/ 25) بياءين، لكن الألف جاءت محذوفة في الموضع الأول (السييت) وثابتة في الثانية (السييات). وفي مصحف جامع عمرو رسمت كذلك بياءين في العنكبوت (29/ 4) السّيّيت وفي الزمر (39/ 50مرتين) سيّيت وفي الشورى (42/ 25) السّيّيت وفي الفتح (48/ 5) سيّيتهم إلا أنا نجد المصحفين يقدمان صورة هجاء المفرد بطريقة معكوسة، فقد رسم بياء واحدة، في مصحف طشقند في {سَيِّئَةً} * البقرة (2/ 81) وآل عمران (3/ 12) و {بِالسَّيِّئَةِ} * (الأنعام 6/ 160) ونجد في مصحف جامع عمرو نفس الظاهرة في يونس (10/ 27) {سَيِّئَةً} *. ونجد أغرب صورة هجائية يقدمها مصحف طشقند هي صورة هجاء كلمة (كهيئة) في آل عمران (3/ 49) إذ إنها جاءت مرسومة بياءين (كهيية).
ويبدو أن رمز الألف أكثر استجابة لهذه الكراهة، سواء كان رمزا للهمزة أم للفتحة
__________
(1) انظر: التنزيل، لوحة 5. والمارغني: ص 237.
(2) انظر الداني: المحكم، ص 172. والشيرازي: لوحة 20.
(3) الداني: المقنع، ص 52.
(4) انظر: المقنع، ص 50. والمارغني: ص 238و 241.(1/355)
الطويلة، فمهما اجتمع من الألفات في كلمة فلا يرسم إلا رمز واحد، فكل ما كان من الاستفهام وفي أوله ألفان أو ثلاث فإن الرسم ورد بإثبات ألف واحدة كراهة اجتماع صورتين متفقتين فصاعدا، فمما فيه ألفان (ء أنذرتهمء أشفقتم) وما فيه ثلاث ألفات فنحو {أَآلِهَتُنََا خَيْرٌ} (43/ 58). ونجد الظاهرة في غير الاستفهام أيضا، فإذا اجتمعت في أول الكلمة همزة بعدها فتحة طويلة رسمت ألفا واحدة، نحو ءادم ءازر ءاخر ءامن ءاسن) وشبه ذلك (1). وهذه الظاهرة لا تقتصر على أول الكلمة بل متى ما كان هناك ما يحتم إثبات ألفين لا تثبت إلا ألف واحدة، رغم أن ذلك في أول الكلمة أكثر لأن الهمزة لا تحقق عند أهل الحجاز إلا في أول الكلمة حيث تكثر أمثلة اجتماعها مع الفتحة الطويلة.
4 - عدم إثبات رمز الفتحة الطويلة أحيانا:
هناك ظاهرة تتعلق برسم الهمزة المتوسطة التي تؤول في التخفيف إلى فتحة طويلة خاصة، فقد أشرنا من قبل إلى أن رمز الفتحة الطويلة يكثر عدم إثباته في وسط الكلمة، وكذلك الهمزة التي تؤول في التخفيف إلى فتحة طويلة يتعرض رمزها إلى الحذف في مواضع كثيرة، ومن ثم فإن هذه الظاهرة تعد من عوامل تعدد رسم الهمزة بل رسم ما تؤول إليه في حالة التخفيف، وقد مرت بعض أمثلة هذه الظاهرة من قبل من مثل رسم (يستأخرون) (7/ 34) بالألف و (يستئخرون) بغير ألف، وأغلب ما يجيء الحذف في الكلمات التي استطال هجاؤها بالزوائد مثل: (استذنك فليستأذنوا يستذنك يستذنوه استجره استجرت فادرتم).
وقد اختلف في إثبات وحذف الألف في بعض الأمثلة من مثل (اطمنوا اشمزت امتلت اطمننتم)، فقد روي أنها في مصاحف بألف وفي بعضها بغير ألف (2).
ونجد هذه الظاهرة في بعض المصاحف المخطوطة القديمة، فبينما نجد الألف في المصحف المطبوع محذوفة من يستخرون في النحل (16/ 61) ويونس (10/ 49) نجد الموضع الأول بالألف يستأخرون في مصحف طشقند، والثاني كذلك في
__________
(1) انظر المهدوي: ص 115. والداني: المقنع، ص 24. والمحكم (له)، 156. والعقيلي: لوحة 3.
(2) انظر الداني: المقنع، ص (2625). والمارغني: ص (236235).(1/356)
مصحف جامع عمرو بن العاص، ونجد فيه أيضا {أَنْشَأْنََا} * في الأنبياء (21/ 11) و {فَأَنْشَأْنََا} في المؤمنين (23/ 19) مرسومتين بغير ألف.
وإذا كانت الهمزة مفتوحة فتحة طويلة وقبلها ساكن فإنها تخفف حينئذ بإسقاطها فتتصل فتحة الهمزة الطويلة بالحرف الساكن قبلها، وقد يتعرض رمز هذه الفتحة وهو الألف إلى الحذف كما نجد ذلك في كلمة (قرءان) فقد جاءت مرسومة بإثبات الألف (قران) إلا في موضعين سقطت منهما (1)، الأول في يوسف (12/ 2) إنّا أنزلناه قرنا عربيّا، والثاني في الزخرف (43/ 3) إنّا جعلناه قرنا عربيّا، وهذه الملاحظة تفسر لنا ظاهرة أخرى فقد جاءت كلمة (الآن) مرسومة بحذف الألف واتصال اللام بالنون هكذا (الن) في كل القرآن إلا موضعا واحدا (2) جاء على الأصل وذلك في سورة الجن (72/ 9)، {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ}، فالهمزة في هذه الكلمة وقع قبلها حرف ساكن، وهو اللام، وبعدها فتحة طويلة، ولما كان تخفيف الهمزة في مثل هذه الحالة يتم بأن تسقط وتظل الفتحة الطويلة التي بعدها ثابتة في اللفظ وصار رمز الألف يمثل الفتحة الطويلة سوغ ذلك إسقاطه مثل ما سقط في أمثلة أخرى كثيرة.
5 - الاختلاف في كيفية تخفيف الهمزة:
ومن العوامل التي ساهمت في تعدد صور هجاء بعض الكلمات المهموزة أو مجيء بعضها مرسوما بطريقة متميزة الاختلاف في طريقة تخفيف الهمزة وانعكاس ذلك على هجاء الكلمة، فقد اتفق أئمة الرسم مثلا على إثبات ألف بعد الشين في {النَّشْأَةَ} *، في العنكبوت (29/ 20) والنجم (53/ 47) والواقعة (56/ 62) (3). واختلفت رواية القراء في كيفية قراءتها، فقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الشين وألف بعدها، والباقون بإسكان الشين من غير ألف (4)، وقياس تخفيف الهمزة المتحركة بعد ساكن في مثل (النشأة) أن تسقط من اللفظ، ومن ثم فإنه كان من المتوقع أن تجيء هذه الكلمة مرسومة بدون ألف (النشة) مثل (المشمة)، لكنها جاءت كما ذكرنا بإثبات الألف،
__________
(1) الداني: المقنع، ص 19.
(2) الداني: المقنع، ص (1918).
(3) المهدوي: ص 93. والداني: المقنع، ص 43.
(4) الداني: التيسير، ص 173. والدمياطي: ص 345.(1/357)
ولذلك فقد اختلف العلماء في أصل رسم هذه الكلمة بإثبات الألف، فمنهم من يذهب إلى أنها رسمت على قراءة من فتح الشين وأثبت بعدها فتحة طويلة، وهي إلى جانب كونها قراءة مروية لغة حكاها سيبويه عن العرب في مثل المرأة والكماة (1)، ومنهم من يذهب إلى أن الهمزة صورت بالألف على الأصل في رمز الهمزة (2)، أي أنها ربما تكون أثرا قديما لرمز الهمزة كالذي رأيناه في مثل (السوأى).
ومن أمثلة أثر هذا العامل في مجيء هجاءات بعض الكلمات المهموزة بطريقة متميزة كلمة (ييأس). فقد جاء هذا الفعل والمزيد منه في خمسة مواضع. في يوسف (12/ 80) استيأسوا، وفيها (آية 87) ولا تايئسوا إنّه لا يايس، وفيها أيضا (آية 11) {اسْتَيْأَسَ}، وفي الرعد (13/ 31) {أَفَلَمْ يَيْأَسِ}. وقد رسمت ألفا في (تايسوا ويايس ويايس) دون رسمها في استيسوا واستيس (3)، وتقع الهمزة في قراءة التحقيق لهذه الكلمات مفتوحة بعد ياء ساكنة فيكون قياس تخفيفها مثل تخفيف (هيئة وسوأة)، إما بسقوط الهمزة وإلقاء حركتها فحسب أو أن تسقط ويخلفها صوت لين يدغم فيما قبل الهمزة فيكون قياس رسمها في كلتا الحالتين أن تسقط دون أن يظهر لتخفيفها أثر في الرسم، ومن ثم فإن إثبات الألف في هذه الكلمات قبل الياء يبدو لأول وهلة أمرا غير مفهوم، حتى أن بعض علماء السلف ذهب إلى أن الألف زائدة (4)، وذهب آخرون في توجيه إثبات الألف في رسم تلك الكلمات إلى أنه قلب، فقدمت الهمزة على الياء قصار (يأيس) وخففت الهمزة وأبدلت ألفا، فليست هي بزائدة (5).
إن تأمل كيفية تخفيف هذه الكلمات في القراءة المروية عن الأئمة يضع أيدينا على أصل إثبات الألف في هجاء تلك الكلمات، فقد قرأ ابن كثير، من رواية البزي من طريق أبي ربيعة خاصة، بالألف وفتح الياء من غير همز في الخمسة المواضع، والباقون
__________
(1) وانظر ابن سيده: ج 14، ص 13. وابن يعيش: ج 9، ص 111.
(2) الداني: المحكم، ص 150. والمقنع (له)، ص 43. وانظر أيضا الجعبري: ورقة 235ب.
(3) ابن أبي داود: ص 108. والمهدوي: ص 66. والداني: المقنع، ص (8685)، والمحكم (له)، ص 174.
(4) الداني: المحكم، ص 174.
(5) المهدوي: ص 96.(1/358)
بالهمزة وإسكان الياء من غير ألف في اللفظ (1). لا بل إن ابن خالويه نسب هذه القراءة إلى أهل مكة عامة (2)، فليس بعيدا إذن أن تكون هذه الكلمات قد جرى رسمها على هذه القراءة (3).
ولا يعترض على هذا التفسير بحذف الألف من (استيسوا واستيس) لأن الكلمتين قد استطالتا بدخول الزوائد عليهما وسوغ ذلك عدم إثبات الألف في هجائهما بينما هي في اللفظ ثابتة عند من قرأ بالتخفيف، علما أنهما قد رسمتا في بعض المصاحف بالألف مثل بقية أمثلة الظاهرة (4).
ومن أمثلة هذه الظاهرة كلمة (الرءيا ورؤياك ورءيى) فقد جاءت مرسومة بالياء في جميع القرآن (5)، لكن قياس تخفيف الهمزة الساكنة أن تسقط وتطال الحركة القصيرة التي قبلها فتصير حركة طويلة، فكان قياس رسم كلمة (رءيا) لذلك بالواو هكذا (رويا) مثل (البوس والسول) لأن الهمزة تصير في التخفيف ضمة طويلة، لكنها مع ذلك جاءت في المصحف مرسومة بدون الواو، وذلك لأنه لما ترك الهمز وجاءت ضمة طويلة بعدها ياء تحولتا ياء مشددة (6)، وقد وردت القراءة في هذه الكلمات عن أبي جعفر بالإدغام وضم الراء (الرّيّا) (7)، وروى الفراء أن الكسائي زعم أنه سمع أعرابيا يقول (إن كنتم للرّيا تعبرون) (8). ومن ذلك أيضا كلمة {مَوْئِلًا (58)} [الكهف] جاءت
__________
(1) ابن مجاهد: ص 350. والداني: التيسير، ص 130. والدمياطي: ص 58.
(2) ابن خالويه: المختصر، ص 95.
(3) الجعبري: ورقة 114ب. والتنسي: ورقة 72أ. وانظر ابن يعيش: ج 10، ص 63. حيث يذكر قوما من أهل الحجاز حملهم طلب التخفيف على أن قلبوا أحرف العلة في مضارع افتعل ألفا، واوا كانت أو ياء، وإن كانت ساكنة، فقالوا: يا تعد يا تزن، وكذلك منهم من قال في ييأس يايس وفي يوجل ياجل، فهي إذن لغة محكية من العرب كما كانت قراءة مروية عن القراء.
(4) انظر المارغني: ص 248.
(5) المهدوي: ص 110. والداني: المقنع، ص 36.
(6) الفراء: معاني القرآن، ج 2، ص 35.
(7) انظر د. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص 138.
(8) الفراء: معاني القرآن، ج 2، ص 36.(1/359)
مرسومة بالياء بعد الواو (1)، وقياس تخفيفها أن تسقط فتتصل حركتها وهي الكسرة بالواو، فكان من المتوقع بناء على ذلك أن ترسم هكذا (مولا). ولكن اقتران الكسرة بالواو والحرص على أن تأتي الكلمة وهي مخففة بوزنها وهي محققة قد دفع إلى أن يكون تخفيف هذه الهمزة بأن تسقط وتحل محلها ياء مكسورة. ومن ثم رسمت بالياء بعد الواو.
رابعا: بعض الظواهر الهجائية المتعلقة بالهمزة:
تلك هي أهم العوامل التي ساعدت على تعدد صور هجاء بعض الكلمات المهموزة وعلى مجيء بعضها مرسوما بطريقة متميزة، وإلى جانب ذلك هناك جملة ظواهر تتعلق بكلمات معينة أو مجموعة من الكلمات لا تكاد تندرج في باب من الأبواب السابقة لرسم الهمزة، وتظل تنتظر ما يمكن أن تكشفه البحوث في المستقبل لعلها تجد في ضوء ذلك التفسير الصحيح الذي يضعها في موقع محدد من تاريخ الهمزة ورسمها.
(1) فمن ذلك ما روي من أن كلمة (شيء) كتبت بألف في الكهف ولا تقولنّ لشاى (23) (2) ولا يكاد يبين سر إثبات هذه الألف، ولا تعطي توجيهات وأقوال علماء السلف في هذه الظاهرة من مثل القول بأنها علامة فتحة الشين على ما كان في الاصطلاح الأول (3). أو القول بأنها زيدت تقوية أو للفرق (4) تفسيرا مقبولا أو مقنعا، لكن ذلك لا يعني أن هذا الرسم للكلمة يحتمل أن يكون من باب الخطأ. فبالرغم من أن هذه الظاهرة لم تأت في المصحف إلا في مكان واحد، حسب رواية أئمة الرسم، ولكن نجد أن ذلك الهجاء للكلمة يكاد أن يكون رسما شائعا لها في القرن الأول.
حسب ما تدل عليه النصوص والروايات، فقد حكى محمد بن عيسى الأصبهاني أنه رأى رسم هذه الكلمة في مصحف عبد الله بن مسعود بالألف (شاي) في كل القرآن (5).
ونجد رسم هذه الكلمة قد جاء كذلك بالألف في مصحف طشقند في أحد عشر
__________
(1) الداني: المقنع، ص 43.
(2) الداني: المقنع، ص 42. والمارغني: ص 245.
(3) الجعبري: ورقة 196أ.
(4) التنسي: ورقة 72ب.
(5) انظر الداني: المقنع، ص 42. والمحكم، ص 174.(1/360)
موضعا (1). ليس ذلك فحسب بل إن برديات القرن الهجري الأول قد برزت فيها هذه الظاهرة ففي بردية مؤرخة بسنة (91هـ) جاءت كلمة (شيء) مرسومة بالألف (شاي) في موضعين (2)، وكل ذلك يدل على أن هذا الشكل الهجائي للكلمة كان شائعا على أيدي الكتّاب وأن ما ورد من ذلك في الرسم العثماني ليس إلا تعبيرا عن اتجاه واقعي في رسم هذه الكلمة، وإذا كان البحث غير قادر الآن على تقديم تفسير لإثبات الألف في هذه الكلمة (3)، فيكفي أن نقرر ذلك بصدد هذه الظاهرة.
(2) ومثل زيادة الألف في (شيء) إثبات الألف في الفعل المبني للمجهول من (جاء)، فيذكر الداني أنه رأى في مصاحف بلدهم القديمة (يقصد بلاد الأندلس) المتبع في رسمها مصاحف أهل المدينة (وجايء بالنبين) في الزمر (39/ 69)، و (جاى يومئذ بجهنم) في والفجر (89/ 23)، بألف زائدة بين الجيم والياء (4). وكذلك يبدو هجاء الفعل (جاء) نفسه غريبا حسب رواية الكسائي وأبي حاتم، فقد قال الكسائي أنه رأى في مصحف أبيّ بن كعب، وأبو حاتم أنه وجد في مصحف أهل مكة (جاء) مرسوما (جيأ) و (جاءتهم) مرسوما (جيأتهم)، ويقول الداني أنهما كتبتا على الأصل (5). وإذا كان رسم الكلمة الأولى (جاى) من غير اليسير تبيان أصله فإن رسم الثانية (جيأ) يبدو التعليل بكتابته على الأصل كما يقول الداني أكثر احتمالا، ولكن على أساس أنه كان ينطق في مرحلة سابقة قديمة هكذا (جيأ) على وزن فعل. وإن هذه الصورة تمثل ذلك النطق القديم، لا على أساس أن الذين رسموا هذا الشكل كانوا ينطقونه (جاء) ورسموه (جيأ)، وليس ظهور هذا الشكل في مصاحف أهل مكة يقوم دليلا على أنهم كانوا ينطقونه كذلك في عصر نسخ المصاحف وأن الكتبة تأثروا في رسمه بذلك النطق،
__________
(1) في (4/ 4، 6/ 38و 91و 93، 11/ 57و 101، 16/ 35و 75و 89، 18/ 70، 20/ 50).
(2) انظر د. عبد العزيز الدالي: ص 193.
(3) لاحظنا من قبل أن تخفيف الهمزة المتحركة بعد الياء الساكنة في (ييأس) قد كان بإثبات ألف قبل الياء (يايس) فهل نستطيع أن نعلل إثبات الألف في (شاي) بالقول إنها خففت مثل تخفيف (ييأس) بإثبات فتحة طويلة قبل الياء (شاي)، رغم أني لم أعثر على رواية تشير إلى أن الكلمة قد خففت هذا التخفيف؟!
(4) المحكم، ص 174.
(5) المقنع، ص 66. وانظر المهدوي: ص 89.(1/361)
بل إن صورة هذا الهجاء إن صح التفسير ترجع إلى سنين بعيدة قبل الإسلام.
(3) ومن الظواهر التي تثير الانتباه في رسم الهمزة في الرسم العثماني ما روي من حذف رمز ما تؤول إليه الهمزة المتوسطة بعد فتحة طويلة سواء كان واوا أم ياء مع حذف رمز الألف التي تمثل الفتحة الطويلة قبل الهمزة في بعض المصاحف، فقد روي أن ذلك وقع في كلمة (أولياء) في خمسة مواضع: في البقرة (2/ 257) أوليهم الطاغوت، والأنعام (6/ 128) وقال أوليهم، وفيها أيضا (آية 121) إلى أوليهم، وفي الأحزاب (23/ 6) إلى أوليكم، وفصلت (41/ 31) نحن أوليكم (1). فقد رسمت في هذه المواضع بغير واو ولا ياء ولا ألف. وكذلك روي أن ذلك وقع في كلمة {جَزََاؤُهُ} * في يوسف (12/ 74و 75) {فَمََا جَزََاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كََاذِبِينَ. قََالُوا جَزََاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزََاؤُهُ} حيث رسمت (جزاه) بحذف الواو في الثلاثة (2).
وقد علل الداني هذه الظاهرة بقوله (3): «فأما حذف الألف فلكونها متوسطة زائدة إذ هي للبناء لا غير، وأما حذف صورة الهمزة فلكون الهمزة حرفا قائما بنفسه لا يحتاج إلى صورة». ويقول (4): «والمراد بحذف صورة الهمزة في ذلك ونظائره تحقيقها لاستغنائها في تلك الحالة عن الصورة، ولعدم الحرف يخفف عليه رسما»، وتعليل الداني يقوم كما يبدو على مذهبه في أصل رمز الهمزة، وذلك من حيث كانت الهمزة عنده حرفا من حروف المعجم «فكما تلزم الحروف غيرها موضعا واحدا من السطر، كذلك ينبغي أن تلزم الهمزة أيضا موضعا واحدا، وأن تجعل لها في الكتابة صورة» (5). لكن لما لم يكن للهمزة رمز خاص بها في الكتابة عندهم جعلت رموز الحركات الطويلة صورة لها على أنها حقيقة رمز للهمزة بل على أنها مجرد
__________
(1) الداني: المقنع، ص 37، والمحكم، ص 184. وانظر ابن وثيق الأندلسي: لوحة 14. والمارغني:
ص 220.
(2) المقنع، ص 37. وابن وثيق الأندلسي: لوحة 14. والمارغني: ص 220.
(3) المحكم، ص 184.
(4) المقنع، ص 37.
(5) المحكم، ص 109.(1/362)
(صورة). «والحرف مستغن عن الصورة» (1). وعليه فإن الهمزة حين تحقق فالقياس ألا تصور بشيء «لاستغنائها في تلك الحالة عن الصورة». ويقول الداني عن حذف صورة الهمزة أيضا (2) «أما حذف صورة الهمزة فلاستغناء الهمزة عن الصورة من حيث كانت حرفا قائما بنفسه كسائر الحروف».
وإذا كان تفسير حذف الألف في هذه الظاهرة مقبولا في تعليل الداني، فإن تعليله لحذف رمز الهمزة أو صورة الهمزة قد قام ابتداء على أساس مخطوء، هو أن الهمزة لا رمز لها وأنها صورت برموز الحركات الطويلة على سبيل الاستعارة، إشارة إلى جواز التحقيق والتخفيف فيها، وذلك لأن للهمزة في الأصل رمزا واحدا يستعمل لتمثيلها في الكتابة على أية صورة وقعت في الكلمة، في لغة أهل التحقيق خاصة، وهو الألف، وأن الأمثلة التي بدت فيها الهمزة مرسومة بالواو أو الياء إنما رسمت كذلك على لغة أهل التخفيف الذين تصير الهمزة في كلامهم حركة طويلة أو صوت لين، فيجري تصويرها برموز هذه الأصوات لا على أنها صورة للهمزة بل على أنها رموز تشير إلى الأصوات التي تمثلها هذه الرموز، كما مر بيان ذلك مفصلا في أول المبحث.
وبذلك تظل هذه الأمثلة تثير تساؤلا مستمرا عن سر حذف رمز ما تخفف إليه الهمزة فيها، وقد جاءت في بعض المصاحف المخطوطة أمثلة أخرى تؤكد أن هذا الحذف لم يكن نادرا أو محصورا في أمثلة بأعيانها، ففي مصحف طشقند نجد حرف سورة البقرة (2/ 275) مرسوما هكذا أولياهم، ونجد {جَزََاؤُهُمْ} * في آل عمران في موضعين (3/ 87و 136) رسمت بحذف الواو {جَزََاهُمْ}، وكذلك {فَجَزََاؤُهُ} في النساء (4/ 93) رسمت (جزاه)، ونجد فيه حرف فصلت (41/ 31) مرسوما أيضا كما وصفنا بحذف الواو والألف {أُولََئِكُمْ} *، ونجد في مصحف جامع عمرو حرف الأحزاب (33/ 6) مرسوما كما وصفنا {أُولََئِكُمْ} *.
والملاحظ في هذه الأمثلة الأخيرة أن بعضا منها قد احتفظ بالألف ولم يحذف منها إلا الواو والبعض الآخر حذف منه رمز الألف مع الواو أو الياء، وسبق أن أشرنا إلى أن حذف رمز الفتحة الطويلة المتوسطة يعد أمرا شائعا في تلك الفترة خاصة إذا استطالت
__________
(1) الداني: المحكم، ص 181.
(2) نفس المصدر، ص 182.(1/363)
الكلمة باتصال الزوائد بها، لكن مجيء بعض الأمثلة بإثبات الألف وحدها هكذا (أولياهم جزاه) يثير تفسيرا محتملا لهذه الظاهرة. ذلك هو احتمال أن هذه الكلمات كتبت على لغة من ينطق بالمهموز مقصورا (1). بحيث يصير آخر الكلمة فتحة طويلة في كافة حالات الإعراب، ومن ثم فإن بعض هذه الأمثلة جاء مرسوما بإثبات الألف والبعض الآخر جاء بحذفها وهي في اللفظ ثابتة.
ولا يمنع عدم مجيء الرواية بقراءة هذه الكلمات بالذات بالقصر على حسب ما أعرف من أن يكون ذلك شائعا في ألسنة جماعات من أهل الحجاز، ومن ثم شاع رسم هذه الكلمات على لغتهم قبل استعمال الكتابة العربية لتدوين الوحي الكريم، وحين جاء الكتّاب يكتبون المصاحف استعملوا تلك الصور المعروفة للكلمات بغض النظر عن تغير نطقها.
ومما يؤيد ما تقدم إلى جانب كونه لغة لبعض العرب أن قصر الممدود قد جاء في بعض القراءات في أمثلة مشابهة يقول الفراء (2): «وقوله واتّبعت ملّة آبائي (يوسف 12/ 38) تهمز وتثبت فيها الباء. وأصحابنا يروون عن الأعمش ملّة آبائي إبراهيم ودعاي إلّا فرارا (نوح 71/ 6) بنصب الياء، لأنه يترك الهمزة، ويقصر الممدود، فيصير بمنزلة محياي وهداي». وكذلك روي أن الأعمش قرأ شركاي (النحل 16/ 27) بنفس الطريقة (3). فليس بعيدا إذن أن يكون ما ذكرناه في تفسير هذه الظاهرة صوابا.
خامسا: همزة الوصل في الرسم العثماني:
ومما يتعلق بموضوع الهمزة صوتا وكتابة ما سماه علماء السلف (همزة الوصل) التي تأتي في أول بعض الكلمات، وذلك أن اللسان في العربية لا يبتدئ بساكن،
__________
(1) قال ابن عقيل: «لا خلاف بين البصريين والكوفيين في جواز قصر الممدود للضرورة، واختلفوا في جواز مد المقصور». (انظر حاشية الخضري على شرح ابن عقيل، ط 6، 1345هـ 1929م).
المطبعة الأزهرية بمصر، ج 2، ص 152). وانظر أيضا: د. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص 185.
(2) معاني القرآن، ج 2، ص (4645).
(3) د. عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية، ص 185.(1/364)
وأن الحرف الذي يبدأ به لا يكون إلا متحركا، وقد جاءت ألفاظ بنيت أوائلها على السكون من الأسماء والأفعال، فإذا أرادت العرب الابتداء بساكن زادت في أوله همزة متحركة (1)، أما الكلمات التي تزاد في أولها همزة الوصل فقد زيدت في الأسماء والأفعال، وحرف واحد. على النحو الذي يبينه ابن جنّي (2):
تزاد في الفعل في الموضعين: أحدهما الماضي، فإذا تجاوزت عدته أربعة أحرف وأولها الهمزة فهي همزة وصل، وذلك نحو: اقتدر، انطلق، استخرج، احمرّ، اصفارّ.
والموضع الآخر: مثال الأمر من كل فعل انفتح فيه حرف المضارعة، وسكن ما بعده.
وذلك نحو: يضرب يقتل ينطلق، يقتدر، فإذا أخذ الأمر منه قيل: اضرب، انطلق، اقتدر.
وأما زيادتها في الأسماء فعلى ضربين: أحدهما، أسماء هي مصادر، والآخر: أسماء غير مصادر. فأما الأسماء المصادر فكل مصدر كانت في أول فعله الماضي همزة وصل ووقعت في أوله هو أيضا همزة فهي همزة وصل، وذلك نحو: اقتدر اقتدارا واشتغل اشتغالا. واستخرج استخراجا.
وأما الأسماء التي فيها همزة الوصل من غير المصادر فهي عشرة أسماء هي: ابن ابنة امرؤ امرأة اثنان اثنتان اسم است ابنم بمعنى ابن ايمن في القسم.
وأما الحرف الذي زيدت فيه همزة الوصل، فلام التعريف، وذلك نحو: الغلام والجارية والقائم والقاعد (3).
ولكن ما طبيعة هذه الهمزة من الناحية الصوتية؟ يقول الخليل: والألف التي في (اسحنك واقشعر واسبكر) ليست من أصل البناء، وإنما أدخلت هذه الألفات في
__________
(1) المبرد، ج 1، ص 32. وابن جني: الخصائص، ج 2، ص 328. وابن يعيش: ج 9، ص 131.
(2) سر صناعة الإعراب، ج 1، ص (130126). وانظر أيضا: المبرد، ج 2، ص (9488).
(3) يذهب بعض الباحثين إلى أن أصل الهمزة في (أل) همزة قطع، (انظر: برجشتراسر: ص 29.
وجان كانتينو: ص 185. ود. كمال محمد بشر: دراسات في علم اللغة، ق 1، ص 173168) غير أنها عوملت معاملة همزة الوصل بمرور الزمن.(1/365)
الأفعال وأمثالها من الكلام لتكون الألف عمادا وسلما للسان إلى حرف البناء، لأن حرف اللسان حين ينطلق بنطق الساكن من الحروف يحتاج إلى ألف الوصل (1).
ويلاحظ على قول الخليل إنه استعمل اصطلاح (ألف الوصل) كذلك استعمل سيبويه نفس الاصطلاح وهو يتحدث عما تسكن أوائله من الأفعال المزيدة بقوله: «أما النون فتلحق أولا ساكنة فتلزمها ألف الوصل في الابتداء، فيكون الحرف على انفعل ينفعل» (2). أما المبرد فنجده يستخدم نفس الاصطلاح إلا أنه يصرح أن الألف إنما هي همزة، يقول (3): «وأما ألف الوصل فإنما هي همزة، كان الكلام بعدها لا يصلح ابتداؤه.
لأن أوله ساكن، ولا يقدر على ابتداء الساكن، فزيدت هذه الهمزة ليوصل بها إلى الكلام بما بعدها، فإن كان قبلها كلام سقطت لأن الذي قبلها معتمد للساكن مغن، فلا وجه لدخولها، وكذلك إذا تحرك الحرف الذي بعدها لعلة توجب ذلك سقطت الألف للاستغناء عنها بتحرك ما بعدها، لأن ابتداءه ممكن فإنما تدخل في الكلام للضرورة إليها».
وقد سبق أن ذكرنا أن أصل اسم مصطلح صوت (الهمزة) إنما هو (الألف)، وأشرنا إلى حداثة استخدام مصطلح (الهمزة) للدلالة على صوت الألف القديمة، فإطلاق الخليل وسيبويه والمبرد على همزة الوصل مصطلح (ألف الوصل) لا يقصد منه إلا الدلالة على أنها همزة يوضحه قول المبرد (أما ألف الوصل فإنما هي همزة). ويبدو أن اصطلاح (همزة الوصل) مستحدث ليحل محل مصطلح (ألف الوصل) كما حل مصطلح الهمزة محل الألف، وقد مر قبل استخدام ابن جني لمصطلح (همزة الوصل)، ويبدو أن قول المبرد (إنما هي همزة) قد فتح الطريق إلى استخدام مصطلح (همزة الوصل) إلا أنه من غير اليسير أن نحدد هنا تاريخا معينا لذلك الاستعمال (4).
__________
(1) كتاب العين، ج 1، ص 54.
(2) الكتاب، ج 2، ص 332.
(3) المقتضب، ج 2، ص 87. وقد استخدم مصطلح (ألف الوصل) في أماكن أخرى (انظر: ج 1، ص 32و 33و 163).
(4) يقول ابن يعيش (ج 9، ص 136): «وإنما سميت همزة الوصل لأنها تسقط في الدرج، فتصل ما قبلها إلى ما بعدها، ولا تقطعه عنه كما يفعل غيرها من الحروف، وقيل سميت وصلا لأنه(1/366)
ومما يدل على أن هذا الصوت المجتلب للتوصل إلى نطق ما أوله ساكن إنما هو همزة إلى جانب نص علماء السلف على ذلك ودلالة أداء القراء عليه أن الكتابة العربية القديمة كما يمثلها الرسم العثماني وبعض النقوش قد مثلت هذا الصوت برمز الهمزة المحققة وهو (الألف). وإنما تم ذلك بناء على إدراك الكتّاب في تلك الفترة المتقدمة بحسهم اللغوي قبل أن ينظر العلماء في اللغة ويصنّفوا أصواتها طبيعة هذا الصوت، وتيقنهم من أنه همزة فاستعملوا لذلك رمز (الألف) للدلالة عليه (1).
ولما كانت القاعدة العامة التي انبنت عليها الكتابة العربية في الغالب هي أن تكتب الكلمة بصورة لفظها بتقدير الابتداء بها والوقف عليها، فمن المتوقع أن تأتي همزة الوصل ثابتة في الرسم في كل المواضع التي زيدت فيها، لأنها لا تلفظ إلا في حالة الابتداء التي تقوم على أساسها الكتابة، ولكن سبق أن بيّنا أن الرسم قد يجري على الوصل كما يجري على الوقف. ولما كانت همزة الوصل تسقط عند النطق بالكلام متصلا، لأن حركة آخر الكلمة التي تسبق همزة الوصل تقوم بدور الهمزة في التوصل إلى النطق بالكلمة التي أولها ساكن، فقد حذفت من الرسم في بعض المواضع حملا للكتابة على الوصل.
ويذكر علماء الرسم أنه لا خلاف في رسم ألف الوصل الساقطة من اللفظ في الدرج إلا خمسة مواضع فإنها حذفت منها في كل المصاحف، والمواضع الخمسة هي (2):
1 - حذفت بعد الباء في {بِسْمِ اللََّهِ} * إذا كان مضافا للفظة {اللََّهِ} * خاصة حيث وقع دون ما أضيف إلى غيره من مثل {بِاسْمِ رَبِّكَ} * وشبهه، فالألف فيه مثبتة في الرسم بلا خلاف.
__________
يتوصل بها إلى النطق الساكن».
(1) يشك الدكتور كمال محمد بشر (انظر: دراسات في علم اللغة، ق 1، ص 143وما بعدها) في أن يكون المنطوق في تلك السياقات المذكورة همزة. ويرى أن ذلك نوع من التحريك الذي يسهّل عملية النطق بالساكن، وأن ما يسمع من همزة أحيانا من أفواه العامة وأنصاف المثقفين إنما هو تطور لذلك الصوت.
(2) المهدوي: ص (117116). والداني: المقنع، (3029)، وسليمان بن نجاح، لوحة 3. وابن وثيق الأندلسي: لوحة 2. والعقيلي: لوحة 3.(1/367)
2 - حذفت أيضا إذا كانت مع لام التعريف، ودخل على الكلمة لام أخرى واتصلت بها في الخط نحو: لله، للدار، للذي وشبه ذلك.
3 - حذفت كذلك بعد الفاء والواو من فعل الأمر من السؤال نحو: وسألوا فسل.
4 - وبعد الواو والفاء في الأمر الذي فاؤه همزة نحو (وأتوا فأتوا) وشبه ذلك، فإن وليها ثم أو غيرها مما ينفصل من الكلام ويمكن السكوت عليه أثبتت بلا خلاف، وذلك في نحو (ثم ائتوا قال ائتوا) وما كان مثله.
5 - بعد همزة الاستفهام إذا كانت همزة الوصل مكسورة نحو: اصطفى واتخذتم، فإن كانت مفتوحة نحو (ءالله وءالذكرين) فقوم يذهبون إلى أن المرسومة هي ألف الاستفهام، وذهب آخرون إلى أن ألف الوصل هي المرسومة.
ولم تحذف ألف الوصل في الرسم العثماني من كلمة (ابن) صفة كانت أو خبرا. فقد أجمع كتاب المصاحف على إثبات ألف الوصل في قوله سبحانه: {عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} *
و {الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} * حيث وقعا، وهو نعت، كما أثبتوها في الخبر في قوله {وَقََالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللََّهِ وَقََالَتِ النَّصََارى ََ الْمَسِيحُ ابْنُ اللََّهِ (30)} [التوبة] (1).
إن حذف ألف الوصل في المواضع الخمسة السابقة إنما هو استجابة للنطق فرسمت الكلمة على مراد الوصل، لكن الملاحظ في أمثلة الحالة الثالثة، وهي ما كان فعلا للأمر من السؤال، أن همزة الوصل ساقطة من الكلمة في الوصل والابتداء مع اقترانها بالواو والفاء أو بدونه، لأن أول فعل الأمر (سل) ليس ساكنا فيحتاج الناطق إلى شيء يتوصل به إلى نطقه، فهو يشبه الأمر من (أمر وأكل) حيث يأتي بحذف الهمزة (مر وكل) يدل على ذلك أن الأمر المجرد من (سأل) جاء مرسوما في المصحف كذلك في البقرة: {سَلْ بَنِي إِسْرََائِيلَ (211)}، وفي سورة القلم {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذََلِكَ زَعِيمٌ (40)}، فكان الأولى بناء على ذلك عدم ذكر هذه الأمثلة من بين ما حذف منه ألف الوصل.
والأمثلة الأخرى إنما حذفت منها ألف الوصل استجابة لسقوط الهمزة في اللفظ،
__________
(1) انظر: المصادر السابقة، وقد جاءت في المتبقي من مصحف محفوظ بدار الكتب المصرية برقم (115مصاحف)، والمكتوب على ورق بخط كوفي كبير ومنقوط على طريقة الدؤلي كلمة (ابن) بحذف الألف في (المائدة 5/ 78) (وعيسى ابن مريم).(1/368)
ولكن ما الذي يجعل حذف رمزها مستعملا ومقبولا في كلمة دون أخرى؟ يبدو أن العادة وكثرة الاستعمال قد ساهما في شيوع صور بعض الكلمات على نحو معين، فليس حذف ألف الوصل من {بِسْمِ اللََّهِ} * دون {بِاسْمِ رَبِّكَ} * وما يشبهه إلا لشيوع صورة الصيغة الأولى بالحذف دون ما عداها. فالهمزة ساقطة في لفظ كلتا الصيغتين. وهكذا قد يستجيب الكاتب لما يطرأ على لفظ الكلمة بسبب نطقها في الدرج أو بسبب اتصال بعض الحروف بها، وقد يظل متشبثا بأصل إثبات رمز همزة الوصل حين النطق بالكلمة المبدوءة بساكن في أول الكلام.
وبناء على ذلك لا معنى للخلاف الشديد بين أئمة العربية حول إثبات أو حذف رمز همزة الوصل في (باسم) في غير صيغة {بِسْمِ اللََّهِ} * من مثل (باسم ربك أو باسم الرحمن). فقد قال الكسائي والأخفش: تحذف، وقال الفراء: لا تحذف إلا مع باسم الله الرحمن الرحيم (1). وقال الصولي (2): وأجاز الكسائي طرح الألف في قولهم: باسم الخالق وباسم الرحمن، وغيره يأبى ذلك ولا يجيزه إلا في {بِسْمِ اللََّهِ} * وحده، وعلى هذا العمل وهو الصواب! ويبدو أن تعليل الخليل للظاهرة كما ينقله الرازي صحيح في شقه الأول دون الثاني فقد ذكر الفخر الرازي أن الخليل قال (3): «وإنما حذفت الألف في قوله {بِسْمِ اللََّهِ} * لأنها إنما دخلت بسبب أن الابتداء بالسين الساكنة غير ممكن فلما دخلت الباء على الاسم نابت عن الألف فسقطت في الخط، وإنما لم تسقط في قوله {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} لأن الباء لا تنوب عن الألف في هذا الموضع كما في {بِسْمِ اللََّهِ} * لأنه يمكن حذف الباء من {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} مع بقاء المعنى صحيحا، فإنك لو قلت: اقرأ اسم ربك صح المعنى، أما لو حذفت الباء من {بِسْمِ اللََّهِ} * لم يصح المعنى فظهر الفرق!».
ولا يبدو التعليل بإمكانية حذف الباء في {بِاسْمِ رَبِّكَ} * وبقاء المعنى صحيحا وعدم
__________
(1) أبو حيان: البحر المحيط، مج 1، ص 16. وانظر الفراء: معاني القرآن، ج 1، ص 1. وابن خالويه: إعراب ثلاثين سورة، ص (109).
(2) أدب الكتاب، ص 3635.
(3) مفاتيح الغيب، ج 1، ص 57.(1/369)
ذلك في {بِسْمِ اللََّهِ} * ولزوم الباء فيه مقنعا أو قائما على أساس واضح صحيح، فليس هناك من سبب لهذه الظاهرة إلا العادة وشيوع طريقة معينة في رسم بعض الصيغ دون غيرها، فالهمزة ساقطة في اللفظ من المثالين جميعا، لكن الكتّاب جروا في أحدهما على اللفظ بينما جروا في الثاني على الأصل في رسم الكلمة قبل اتصال الباء بها.
ويرد في مجال رسم (همزة الوصل) مثال يظهر أثر النطق بالكلام متصلا بما بعده في إثبات رمز (همزة الوصل) وحذفه، وذلك هو رسم كلمة (الأيكة) يقول الداني: وكتبوا في كل المصاحف أصحاب ليكة في الشعراء (26/ 176) وسورة ص (38/ 13) بلام من غير ألف قبلها ولا بعدها، وكتبوا في سورة الحجر (15/ 78) وسورة ق (50/ 14) {وَأَصْحََابُ الْأَيْكَةِ} * بالألف واللام (1).
ويبدو أن مما ساهم في تكون هذه الصورة لرسم الكلمة هو تخفيف الهمزة المفتوحة بعد اللام الساكنة، فسقطت الهمزة من اللفظ واتصلت فتحتها القصيرة باللام، وهذا التخفيف مشهور رواه ورش عن نافع (2). ويقول أبو علي الفارسي: أما إلقاء نافع حركة الهمزة المتحركة على لام المعرفة في مثل نحو {الْأَرْضِ} * و {الْآخِرِ} * و {الْأَسْمََاءَ} * وحذف صورة الهمزة فذلك قياس مستمر في الهمزة المتحركة إذا خففت، وقبلها ساكن غير ألف، وسواء كان ذلك كله في كلمة واحدة، كقوله {الْخَبْءَ فِي السَّمََاوََاتِ} أو من كلمتين منفصلتين مثل: قد أفلح، ومن إله، فإذا خففت الهمزة فحذفت وألقيت حركتها على لام المعرفة الساكنة كان فيها لغتان:
منهم من يحذف همزة الوصل فيقول: لحمر.
ومنهم من لا يحذفها، وإن تحرك ما قبلها، فيقول الحمر (3).
ولما كان تخفيف الهمزة وحده كافيا لأن تسقط ألف الوصل من (الأيكة) فإن إضافة كلمة (أصحاب) إليها في كل المواضع قد جعل من سقوط همزة الوصل أمرا محتما في اللفظ، فجرى الرسم على اللفظ في إسقاط همزة الوصل وإسقاط الهمزة بعد اللام في
__________
(1) المقنع، ص 21. وانظر الفراء: معاني القرآن، ج 1، ص 88. والمهدوي: ص 106.
(2) انظر الداني: التيسير، ص 35. والدمياطي: ص 59.
(3) الحجة، ج 1، ص 297.(1/370)
موضعين، واحتفظت الكلمة بأصل رسمها في الموضعين الآخرين. وهذا يعني أن الكلمة تدل على معنى واحد في الأربعة المواضع، وأنها تنطق نطقا واحدا دون التفات إلى رسمها الذي جرى في موضعين على الأصل. وفي موضعين على اللفظ. ولكن قد قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر أصحاب ليكة في الشعراء و (ص) بلام مفتوحة من غير همزة بعدها ولا ألف قبلها وفتح التاء، والباقون بالألف واللام مع الهمزة وخفض التاء.
والذي في (الحجر) و (ق) كذلك للجميع غير أن ورشا يلقي فيهما حركة الهمزة على اللام على أصله (1).
والقراءة الأولى كأنها تشير إلى أن الكلمة فيها تدل على غير ما تدل عليه الكلمة في القراءة الثانية، فقيل لذلك إن (ليكة) اسم القرية و (الأيكة) اسم البلد. فصار الفرق بينهما شبيها بالفرق بين مكة وبكة (2).
لكن الفراء يذهب إلى أن كلمة (الأيكة) في كل القرآن تدل دلالة واحدة سواء من قرأها مفتوحة التاء أم قرأها بجرها، فيقول في كتابه معاني القرآن (3) «قوله {الْأَيْكَةِ} *
(الحجر 15/ 78) قرأها الأعمش وعاصم والحسن البصري {الْأَيْكَةِ} * بالهمز في كل القرآن، وقرأ أهل المدينة كذلك إلا في الشعراء وص، فإنهم جعلوها بغير الألف ولام ولم يجروها. ونرى والله أعلم أنها كتبت في هذين الموضعين على ترك الهمز، فسقطت الألف لتحرك اللام فينبغي أن تكون القراءة فيها بالألف واللام لأنها موضع واحد في قول الفريقين. والأيكة: الغيضة» ويؤيد مذهب الفراء أن {الْأَيْكَةِ} * في قراءة عبد الله جاءت بالألف واللام في كل موضع (4).
تلك هي أهم الخطوط العريضة لمشكلة الهمزة في العربية عامة والرسم العثماني على وجه الخصوص، والعوامل التي أثرت في رسمها، وأسهمت في ظهور بعض الكلمات
__________
(1) انظر ابن مجاهد: ص 473. والداني: التيسير، ص 166.
(2) الجعبري: ورقة 200ب. وجامع الكلام (لمجهول)، ورقة 22أ.
(3) ج 2، ص 91.
(4) انظر ابن أبي داود: ص 66.(1/371)
المهموزة مرسومة بأكثر من صورة هجائية أو جاءت مرسومة بطريقة متميزة إلى جانب بعض الظواهر التي لم يصل البحث فيها إلى تفسير قاطع لقلة الوسائل التي تعين في الوصول إلى مثل ذلك التفسير أو عدمها، فتظل لذلك تنتظر ما سوف تكشف عنه بحوث المستقبل.
وقد أتيحت دراسة هجاء الهمزة على النحو السابق استنادا إلى التصور العام الذي واجهنا به المشكلة وهو أن رسم الهمزة في المصحف جرى على لغة وقراءة أهل الحجاز في تسهيل الهمزة، والذي دلت عليه دلائل كثيرة فمن إجماع أقوال علماء السلف على أن تخفيف الهمزة في غير أول الكلمة كان من خصائص لغة أهل الحجاز، إلى تواتر الرواية بأن أصل قراءة أهل المدينة إنما هو التخفيف وترك الهمز. ثم دلالة رسم المصحف نفسه على الطريقة التي جرى عليها رسم الهمزة فيه، وقد يسر علينا خطوات هذه الدراسة تبين الاتجاهين اللذين ظهرا في الكتابة العربية لتمثيل الهمزة، الأول: كتابتها بالألف في جميع أحوالها على لغة من يحققونها، والثاني: كتابتها في غير أول الكلمة حيث ظلت تصور بأصل رمزها وهو الألف لأنها لا تسهل في هذا المكان على لغة أهل التخفيف حسب ما تؤول إليه في التخفيف من واو أو ياء أو حركة طويلة.
ويبدو أن هذا المبحث الخاص بدراسة رسم الهمزة قد استغرق صفحات كثيرة بالنسبة لمواضع البحث الأخرى إلا أن طبيعة المشكلة ومحاولة مواجهتها بتفسير شامل حتم تناول الموضوع بهذا الشمول والتتبع لكل الظواهر المتعلقة بمشكلة رسم الهمزة، ومع كل هذا فإن ما عرضناه هنا إنما يمثل الاتجاهات العامة والظواهر البارزة في المشكلة، ولو رحنا نتتبع كل أمثلة الظواهر المتعلقة برسم الهمزة ونحاول أن نتبين أصل صور هجائها لتضاعف عدد صفحات هذا المبحث، ولكن اقتصرنا من الأمثلة على ما يغني ذكره عن إيراد غيره من الأمثلة التي ترجع إلى ظاهرة واحدة.
وربما كان ركام شتى المذاهب المتضاربة والآراء المتباينة، في الهمزة صوتا وكتابة البعيدة عن واقع المشكلة قد حتم الإفاضة في بعض الجوانب لنصل إلى الرأي الصحيح في ذلك، ونتيجة لسعة موضوع الهمزة وما يتعلق به من قضايا فقد أثر ذلك أحيانا على العمق في البحث لتغطية المساحة الواسعة التي تمتد إليها المشكلة.
وبالرغم من ذلك كله ومعه فإن الوصول إلى التفسير الصحيح لهذه المشكلة التي شغلت جزءا كبيرا من جهود العلماء على مدى العصور سواء في الرسم العثماني أم في الهجاء الإملائي يعدّ وحده مبررا قويا لأن تتسع صفحات هذا المبحث من أجل الاقتراب من ذلك التفسير الذي أرجو أن تكون الصفحات السابقة قد ساهمت في التقريب منه أو في الوصول إليه.(1/372)
وربما كان ركام شتى المذاهب المتضاربة والآراء المتباينة، في الهمزة صوتا وكتابة البعيدة عن واقع المشكلة قد حتم الإفاضة في بعض الجوانب لنصل إلى الرأي الصحيح في ذلك، ونتيجة لسعة موضوع الهمزة وما يتعلق به من قضايا فقد أثر ذلك أحيانا على العمق في البحث لتغطية المساحة الواسعة التي تمتد إليها المشكلة.
وبالرغم من ذلك كله ومعه فإن الوصول إلى التفسير الصحيح لهذه المشكلة التي شغلت جزءا كبيرا من جهود العلماء على مدى العصور سواء في الرسم العثماني أم في الهجاء الإملائي يعدّ وحده مبررا قويا لأن تتسع صفحات هذا المبحث من أجل الاقتراب من ذلك التفسير الذي أرجو أن تكون الصفحات السابقة قد ساهمت في التقريب منه أو في الوصول إليه.(1/373)
وربما كان ركام شتى المذاهب المتضاربة والآراء المتباينة، في الهمزة صوتا وكتابة البعيدة عن واقع المشكلة قد حتم الإفاضة في بعض الجوانب لنصل إلى الرأي الصحيح في ذلك، ونتيجة لسعة موضوع الهمزة وما يتعلق به من قضايا فقد أثر ذلك أحيانا على العمق في البحث لتغطية المساحة الواسعة التي تمتد إليها المشكلة.
وبالرغم من ذلك كله ومعه فإن الوصول إلى التفسير الصحيح لهذه المشكلة التي شغلت جزءا كبيرا من جهود العلماء على مدى العصور سواء في الرسم العثماني أم في الهجاء الإملائي يعدّ وحده مبررا قويا لأن تتسع صفحات هذا المبحث من أجل الاقتراب من ذلك التفسير الذي أرجو أن تكون الصفحات السابقة قد ساهمت في التقريب منه أو في الوصول إليه.
المبحث الخامس الكلمة من وجهة نظر الرّسم
تناولنا في المباحث السابقة من هذا الفصل رموز الأصوات الصامتة والحركات الطويلة، وما يتعلق بذلك بطريقة تحليلية تعتمد على اعتبار الصوت وحدة مستقلة، لكن اعتماد ذلك المنهج إنما كان لتيسير الدراسة، إذ ليس هناك في لغة من اللغات أصوات تنطق منفصلة في الكلام، إنما الكلام سلسلة من الأصوات المتصلة، حتى ليصعب أحيانا وضع حدود فاصلة بين صوت وآخر، ولكن هل تتضمن هذه السلسلة الكلامية في لغة من اللغات إذا نظر إليها من جهة الأصوات التي تتركب منها فحسب أقساما يحسها المتكلم أم لا؟ الواقع أنه مما لا يشك فيه أنه توجد في كل جملة أيا كانت أقسام صوتية طبيعية، بل إن هذه الأقسام عديدة الأنواع، والتقسيم إلى مقاطع يعد واحدا من أظهر هذه الأقسام (1).
واللغة العربية حين النطق بها تتميز فيها مجاميع من المقاطع، تتكون كل مجموعة من عدة مقاطع ينضم بعضها إلى بعض، وينسجم بعضها مع بعض، فهي وثيقة الاتصال، وبذلك ينقسم الكلام العربي إلى تلك المجاميع من المقاطع، وكل مجموعة اصطلح عادة على تسميتها بالكلمة. فالكلمة ليست في الحقيقة إلا جزءا من الكلام، تتكون عادة من مقطع واحد أو عدة مقاطع وثيقة الاتصال بعضها ببعض، ولا تكاد تنفصم في أثناء النطق بل تظل مميزة واضحة في السمع، ويساعد بلا شد على تمييز تلك المجاميع معانيها المستقلة في كل لغة (2).
وبناء على ذلك فإن المكان المناسب لدراسة رموز الأصوات دراسة أكثر واقعية هو عند وجودها وتتابعها في الكلمة، ولكن إذا كان من المتفق عليه تقسيم الكلام إلى
__________
(1) انظر: فندريس، ص 84.
(2) د. إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية، ص (163162).(1/374)
مجموعات صوتية تسمى كلمات، فإن من غير اليسير إعطاء مقياس محدد، وتعريف جامع للكلمة، إذ يتنوع تعريف الكلمة تبعا لاختلاف طرق البناء الصرفي لكل لغة (1)، كذلك فإن مفهوم الكلمة من وجهة نظر الكتابة قد يختلف عنه من وجهة نظر الأصوات أو الصرف أو النحو أو المعجم، لأن الإملاء نظام لغوي قائم بذاته كالنحو والصرف والمعجم، ولأن العرف قد وضعه بشكله المعين دون رجوع شامل إلى مقتضيات الدراسات اللغوية التي ترتبط به، حتى إنك لتجد في الكتابة العربية جملة بأكملها متصلة في الرسم نحو (سنستقبلهم) وتجد كلمة واحدة يستقل كل رمز منها عن الآخر نحو (داود) و (وزارة) (2).
إلا أن المشكلة ليست كامنة في اتصال رموز بعض الكلمات في مثل (سنستقبلهم) وانفصالها في مثل (داود أو وزارة)، لأن اتصال وانفصال الحروف خاضع لنظام الكتابة العربية التي امتازت فيها ستة حروف بإمكانية كتابتها مستقلة أو متصلة بما قبلها دون إمكانية وصلها بما بعدها. وهي: الألف والدال والذال والراء والزاي والواو، فهذه الأحرف الستة لا تتصل بما بعدها البتة، وإن كانت في كلمة واحدة (3)، ولكن المشكلة تبرز حين تأتي بضع كلمات من وجهة نظر التعريف النحوي متصلا بعضها ببعض، فالمثال السابق الذي يكوّن جملة يتكون من أكثر من كلمة، فالسين في أول الكلمة تدل على معنى فهي كلمة، والضمير (هم) في آخرها يدل على معنى فهو كلمة، لكن هذا الضمير من وجهة النظر الكتابية المحضة جزء من كلمة لا كلمة مستقلة (4)، ومن ثم فإن تعريف النحاة للكلمة بأنها «اللفظة الدالة على معنى مفرد بالوضع، وهي جنس تحته ثلاثة أنواع: الاسم والفعل والحرف (5)» أو ما أشبه ذلك من التعريفات لا يساعد على تحديد الأساس الذي ينبني عليه حجم الكلمة في الكتابة، إذ نجد أن باء الجر وكثيرا
__________
(1) فندريس: ص 122. ود. تمام حسان: مناهج البحث، ص 225. وانظر في تعريف الكلمة نفس المصدرين، ص 124، وص (228226) على التوالي.
(2) د. تمام حسان: مناهج البحث، ص 232.
(3) ابن درستويه: ص 22. والداني: المحكم، ص 28.
(4) انظر د. تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 112.
(5) ابن يعيش: ج 1، ص 18. وانظر الفخر الرازي: ج 1، ص 8. وابن منظور: ج 15، ص 428.
ود. تمام حسان: مناهج البحث، ص (226225).(1/375)
غيرها من حروف المعاني كلمة باعتبار النظر النحوي، وهي لا تأتي إلا متصلة بما بعدها في الكتابة. وكذلك فإن نحو الرجل والغلام مما هو معرف بالألف واللام يدل على معنيين: التعريف والمعرّف، وهي من وجهة النطق كلمة واحدة وكذلك من جهة الكتابة، لكنه كلمتان من جهة النظر النحوي، إذ كان مركبا من الألف واللام الدالة على التعريف فهي كلمة، لأنها حرف معنى، والمعروف كلمة أخرى (1).
وقد بيّن سيبويه في باب (عدة ما يكون عليه الكلم) أحوال الكلمة العربية من حيث عدد الحروف التي تتألف منها، فأقل ما تكون عليه الكلمة حرف واحد، فمن ذلك ما يكون قبل الحرف الذي يجاء به له مثل: واو العطف، والفاء مثلها، وكاف الجر، ولام الإضافة، وياء الجر، وواو القسم، والتاء التي بمنزلتها، وسين الاستقبال، وألف الاستفهام ولام اليمين، وأما ما جاء منه بعد الحرف الذي جيء به له فالضمير مثل الكاف في (رأيتك) والتاء في (فعلت) والهاء في (عليه) ونحو ذلك، ثم يقول: واعلم أن ما جاء في الكلام على حرف قليل، ولم يشذ علينا منه شيء إلا ما لا بال له إن كان شذ (2).
ثم يقول سيبويه إنه قد جاء على حرفين ما ليس باسم ولا فعل ولكنه كالفاء والواو، وهو على حرفين أكثر منه على حرف، فمن ذلك: أم أو هل لم لن إن ما لا أن كي بل قد لو ال تعرّف الاسم مذ في عن، ومما جاء من الأسماء على حرفين من المتمكنة نحو: يد ودم وغير المتمكنة نحو: ذا ذه هو هي كم من قط مع إذ مه صه (3).
ثم تحدث عما زاد عن حرفين فقال (4): «وأما ما جاء على ثلاثة أحرف فهو أكثر الكلام في كل شيء من الأسماء والأفعال وغيرهما، مزيدا فيه وغير مزيد فيه، وذلك لأنه كأنه هو الأول، فمن ثم تمكن في الكلام، ثم ما كان على أربعة أحرف بعده، ثم
__________
(1) انظر ابن يعيش: ص 19.
(2) الكتاب، ج 2، ص 304. وانظر أيضا في ما يكون عليه عدد حروف الكلم العربية القلقشندي:
ج 3، ص (147145).
(3) الكتاب، ج 2، ص (309305).
(4) نفس المصدر، ج 2، ص (310309).(1/376)
بناء الخمسة وهي أقل، لا تكون في الفعل البتة، ولا يكسر بتمامه للجمع، لأنها الغاية في الكثرة، فاستثقل ذلك فيها، فالخمسة أقصى الغاية في الكثرة، فالكلام على ثلاثة أحرف وأربعة أحرف وخمسة، لا زيادة فيها ولا نقصان، والخمسة أقل الثلاثة في الكلام، فالثلاثة أكثر ما تبلغ بالزيادة سبعة أحرف، وهي أقصى الغاية والمجهود، وذلك اشهيباب فهو يجري على ما بين الثلاثة والسبعة، والأربعة تبلغ هذا نحو: احرنجام، ولا تبلغ السبعة إلا في هذين المصدرين، أما بنات الخمسة فتبلغ بالزيادة ستة نحو:
عضرفوط، ولا تبلغ سبعة كما بلغتها الثلاثة والأربعة لأنها لا تكون في الفعل فيكون لها مصدر نحو هذا، فعلى هذا عدة حروف الكلم».
ثم أورد بعد ذلك ما كانت عدة حروفه ثلاثة فصاعدا، من غير المتمكنة خاصة، نحو: على إلى حتى حسب غير سوى كل بعض مثل بله قبل نول إذا لكن سوف قبل بعد كيف أين متى حيث خلف أمام قدام فوق ليس أي أنّ ليت لعل عسى لدن لدى دون قبالة بلى نعم بجل إذن لمّا لو ما لولا أما ألا كلا أنّى. ثم قال: وإنما كتبنا من الثلاثة على نحو الحرف والحرفين وفيه الأشكال والنظر (1).
ويلاحظ على تعبيرات سيبويه أنه يستعمل مصطلح (الحرف) استعمالا غير محدد.
ولعله يقصد به هنا الرموز الكتابية أو يقصد به الأصوات التي لها رموز كتابية على نحو ما عبر عنه في الفصل الذي ذكر فيه عدد حروف العربية، فبناء الجر عند سيبويه على حرف واحد، أما (في) أختها فعلى حرفين، والحقيقة أن باء الجر في مثل (بالبيت) تتكون من صامت وكسرة قصيرة، ولا تختلف عنها (في) إلا في أن كسرتها طويلة، وقد مثلت في الرسم برمز الياء، ويظهر ذلك حين نجدها في سياق مثل (في البيت) فإنها حينئذ تنطق نطقا مساويا لنطق الياء في (بالبيت)، لأن الكسرة الطويلة حين وجدت في مقطع مقفل قصرت فصارت تشبه في اللفظ باء الجر في كونها تتكون من صوت صامت تليه كسرة قصيرة.
وسبق أن أشرنا في الفصل التمهيدي إلى تاريخ تطور اتصال رموز الحروف العربية،
__________
(1) الكتاب، ج 2، ص (312310).(1/377)
وما يقبل الاتصال منها وما لا يقبله (1)، وكان النظام الذي بلغته الكتابة العربية في وصل الحروف أو الكلمات ثمرة تطور عدة قرون، وقد استقر على طريقة معينة تقريبا قبل الرسم العثماني بنحو قرن من الزمن على نحو ما نجد ذلك مكتملا في نقش حران (568ب. م).
وقد نص علماء العربية أن حق كل كلمة أن تقع مفصولة في الكتاب عما قبلها وما بعدها ليدل كل لفظ على ما وضع له مفردا (2)، فالأصل فصل الكلمة عن الكلمة لأن كل كلمة تدل على معنى غير معنى الكلمة الأخرى، فكما أن المعنيين متميزان فكذلك اللفظ المعبر عنهما يكون، وكذلك الخط النائب عن اللفظ يكون متميزا بفصله عن غيره (3). وسبق أن أشرنا إلى أن الحدود الفاصلة بين الكلمات تكاد تختفي في النطق المتصل حتى «أن كثيرا من المقاطع بل ومن مجاميع المقاطع لا نعرف ما إذا كنا نعدها كلمات مستقلة أو أن نصلها بالكلمات المجاورة لها» (4)، ولذلك فإن الكلمات المكونة من مقطع قصير واحد والتي سماها سيبويه (الكلمات ذات الحرف الواحد) لا تأتي إلا متصلة بما بعدها أو ما قبلها من كلمة أخرى، ويعلل ابن درستويه ذلك بقوله «لأن العرب لا تنطق بحرف واحد مفردا، فتبتدئ به وتقف عليه، وكذلك يجب أن لا يفرد مثل ذلك في الكتاب اتباعا للفظ إلا أن يكون حرفا من الحروف الستة التي لا تتصل بما بعدها» (5). أما الكلمات المكونة من حرفين بمعنى أنها مكونة من مقطع طويل مفتوح واحد مثل (في ما لا)، أو المكونة من مقطع طويل مقفل (عن من)، فقد جاءت في أغلب الأحوال منفصلة عن غيرها في الكتابة، ومن ثم فإن ملاحظة
__________
(1) تذكر رواية عربية قديمة (انظر الفصل التمهيدي) أن الرجال الطائيين الثلاثة وضعوا حروفا مقطعة وموصولة، وتذكر رواية أخرى (انظر ابن عبد ربه: ج 4، ص 157) أن بني إسماعيل وضعوا الخط متصل الحروف حتى فرقه نبت وهميسع وقيذر، وهذه روايات غامضة وقد دل البحث التاريخي أن ظاهرة ارتباط الحروف العربية قديمة ترجع إلى الكتابة النبطية المبكرة (انظر: ص 27من الفصل التمهيدي).
(2) ابن درستويه: ص 22.
(3) انظر السيوطي: همع الهوامع، ج 2، ص 237.
(4) فندريس: ص 86.
(5) كتاب الكتاب، ص 22.(1/378)
علماء الرسم من «أن الأصل في الخط أن تكتب كل كلمة على حرفين فصاعدا منفصلة عما بعدها ما لم يكن ضميرا متصلا» (1)، ملاحظة صادقة في فهم واقع الكتابة العربية.
وإذا كانت بعض الكلمات سواء كانت من ذوات الحرف أم من ذوات الحرفين قد اتخذت أسلوبا معينا في الاتصال أو الانفصال فإن بعض الكلمات، من المرسومة برمزين خاصة، قد ترددت بين الاتصال والانفصال بحسب الصوت الذي يسبقها أو يلحقها أو بحسب نوع الكلمة كذلك، وتظهر هذه الظاهرة في الرسم العثماني بوضوح في بضعة أمثلة، حيث جاءت في بعض المواضع موصولة وفي بعضها مفصولة مستقلة برسمها، وقد سجل علماء الرسم كل الكلمات والأمثلة التي جاءت موصولة أو مقطوعة في الرسم في كتبهم، حتى إن ابن النديم يذكر من الكتب المؤلفة في (مقطوع القرآن وموصوله) ثلاثة كتب لكل من الكسائي وحمزة وعبد الله بن عامر اليحصبي (2)، ولعل موضوع هذه الكتب هو ما وصل من كلمات في بعض المواضع وما فصل منها في مواضع أخرى في الرسم العثماني، وقد أفرد علماء الرسم لهذا الموضوع فصلا مستقلا في كتبهم يسمونه (الفصل والوصل) أو (القطع والوصل) أو (المقطوع والموصول)، وقال عنه أبو بكر الأنباري بأنه: باب الحرفين اللذين ضم أحدهما إلى الآخر، فصارا حرفا واحدا يحسن السكوت عليه إذ لا يجوز الوقف على أحدهما أي أولهما دون الآخر (3).
وقبل أن نورد الأمثلة التي جاءت مقطوعة وموصولة، وقبل أن نحاول تبين العوامل التي أدت إلى ذلك نشير إلى ظاهرة هامة تتعلق بطريقة رسم الكلمات وتوزيع حروفها على السطر في المصاحف العثمانية، وهي ما ذكره القلقشندي تحت عنوان (فصل بعض حروف الكلمة الواحدة عن بعض، وتفريقها في السطر والذي يليه) وينقل أن صاحب (منهاج الإصابة) قال: «إنما وقع مثل ذلك في المصاحف التي كتبت في زمن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه لأنها كتبت بقلم جليل مبسوط، فربما وقع في بعض الأماكن اللفظة فيقطعها في آخر السطر ويجعل باقيها في السطر الثاني» (4) ونجد
__________
(1) ابن وثيق الأندلسي: لوحة 16، وانظر ابن الجزري: النشر، ج 2، ص 147.
(2) الفهرست، ص 36.
(3) انظر الجعبري: ورقة 358أ.
(4) صبح الأعشى، ج 3، ص 151.(1/379)
هذه الظاهرة بوضوح في المصاحف المخطوطة مثل مصحف جامع عمرو ومصحف طشقند، ويكون ذلك عادة في المقاطع الكتابية المفصولة عما قبلها فكلمة (السموت) نجدها مرسومة في آخر سطر إلا أن رمز التاء مثلا يكون في بداية السطر الذي يليه، والأمثلة على هذه الظاهرة في المصحفين أكثر من أن تحصى، ونجد في بعض الكلمات التي تتوزع كتابتها على سطرين وفي نهاية السطر الأول بالذات خطا يشبه الخط المستعمل في الكتابات اللاتينية حين تتوزع كتابة كلمة فيها على سطرين فيجعلون في نهاية السطر الأول هذه العلامة () دلالة على توزع هجاء الكلمة على سطرين، فكلمة {الْيَتََامى ََ} * مثلا [النساء: 2]، في مصحف جامع عمرو، جاءت الألف في أولها مكتوبة في نهاية سطر وباقي الكلمة في أول السطر الذي يليه، وفي نهاية السطر الأول نجد هذه العلامة () ثابتة. ولكن هذه الظاهرة رغم كثرة الأمثلة التي تظهر فيها لا تطرد في كل كلمة يتوزع هجاؤها على سطرين، كذلك قد تظهر دون أن تكون ظاهرة توزع الكلمة موجودة وكأنما جيء بها لملء الفراغ الموجود في نهاية السطر فحسب.
ويبدو أن ظاهرة توزع هجاء كلمة على سطرين تتعلق بظاهرة أخرى تخص توزيع رموز هجاء الكلمة الواحدة في السطر الواحد، فنتيجة لتميز الرموز العربية الستة المشار إليها سابقا بأنها لا توصل بما بعدها في الكتابة فقد بدا هجاء الكلمة العربية مكونا من مقاطع كتابية متعددة، تتكون من حرف أو حرفين أو أكثر بحسب طبيعة الحروف المكونة لها، لكن الكلمة إذا خلت من الحروف الستة جاءت مكونة من مقطع كتابي واحد لقابلية رموزها للاتصال.
وإذا كنا نجد أن الكلمة في الكتابة العربية أخذت في الفترات التالية للقرون الهجرية الأولى تتميز بغض النظر عن عدد المقاطع الكتابية التي تتكون منها بنوع من الاستقلال الشكلي حيث يترك الكتاب فراغا مناسبا بين كلمة وأخرى لا نجده بين المقاطع المنفصلة التي تتكون منها كلمة معينة، فإن الكلمة في عصر نسخ المصاحف العثمانية إذا كانت مكونة من عدة مقاطع كتابية بدا كل مقطع مستقلا عن غيره من المقاطع التي تشاركه في بناء تلك الكلمة، فنجد الفسحة بين المقاطع الكتابية للكلمة الواحدة لا تختلف عن الفسحة المتروكة بين رسم كلمة وكلمة أخرى، وهكذا يبدو المقطع الكتابي الواحد مهما كان عدد الحروف التي يتكون منها هو الأساس الذي يقوم عليه توزيع الكلمات في السطر، فجملة مثل {الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} * نجد فيها سبعة
مقاطع كتابية بعضها مكون من حرف واحد (أر ب أ)، وبعضها مكون من ثلاثة حروف {لِلََّهِ} *، أو أربعة (لحمد) أو ستة (لعالمين)، وكل مقطع من هذه المقاطع يفصله عما قبله وما بعده فراغ يعادل الفسحة المتروكة بين رموز كلمة وكلمة أخرى، سواء كان المقطع في نهاية كلمة أو في وسطها، ومن ثم فإن من اليسير إذا وقعت بعض مقاطع كلمة في نهاية سطر أن يرسم الكاتب المقاطع الأخرى منها في أول السطر التالي، وهو ما نجده في الرسم العثماني يشكل ظاهرة عامة كما يبدو في المصاحف المخطوطة القديمة التي اطلعت عليها.(1/380)
وإذا كنا نجد أن الكلمة في الكتابة العربية أخذت في الفترات التالية للقرون الهجرية الأولى تتميز بغض النظر عن عدد المقاطع الكتابية التي تتكون منها بنوع من الاستقلال الشكلي حيث يترك الكتاب فراغا مناسبا بين كلمة وأخرى لا نجده بين المقاطع المنفصلة التي تتكون منها كلمة معينة، فإن الكلمة في عصر نسخ المصاحف العثمانية إذا كانت مكونة من عدة مقاطع كتابية بدا كل مقطع مستقلا عن غيره من المقاطع التي تشاركه في بناء تلك الكلمة، فنجد الفسحة بين المقاطع الكتابية للكلمة الواحدة لا تختلف عن الفسحة المتروكة بين رسم كلمة وكلمة أخرى، وهكذا يبدو المقطع الكتابي الواحد مهما كان عدد الحروف التي يتكون منها هو الأساس الذي يقوم عليه توزيع الكلمات في السطر، فجملة مثل {الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} * نجد فيها سبعة
مقاطع كتابية بعضها مكون من حرف واحد (أر ب أ)، وبعضها مكون من ثلاثة حروف {لِلََّهِ} *، أو أربعة (لحمد) أو ستة (لعالمين)، وكل مقطع من هذه المقاطع يفصله عما قبله وما بعده فراغ يعادل الفسحة المتروكة بين رموز كلمة وكلمة أخرى، سواء كان المقطع في نهاية كلمة أو في وسطها، ومن ثم فإن من اليسير إذا وقعت بعض مقاطع كلمة في نهاية سطر أن يرسم الكاتب المقاطع الأخرى منها في أول السطر التالي، وهو ما نجده في الرسم العثماني يشكل ظاهرة عامة كما يبدو في المصاحف المخطوطة القديمة التي اطلعت عليها.
لقد كانت ظاهرة توزع مقاطع الكلمة المكتوبة على الشكل الذي بيناه، ظاهرة عامة تميزت بها الكتابة العربية، في تلك الفترة، فبرزت في الرسم العثماني حين استعمل الصحابة رضوان الله عليهم الكتابة العربية بكل ما فيها من خصائص في تدوين القرآن الكريم في المصاحف، فنجد في نقش القاهرة (31هـ) كلمة (الكتب) قد توزعت كتابتها بين السطر الخامس والسادس إذ كتب الكاتب (الألف) في نهاية السطر الخامس وبقية الكلمة في أول السطر السادس، كذلك نجد في نفس النص كلمة (الآخر) قد توزع هجاؤها بين نهاية السطر السادس وأول السابع، ونفس الظاهرة نجدها في نقش الأشعري (64هـ) فكلمة {الْحَمْدُ} * موزعة بين السطر الثاني والثالث، وكذلك هجاء كلمة (الله) موزع بين السطر الثالث والرابع، وفي نفس النص نجد كلمة (إسرافيل) موزعة بين السطر السادس والسابع. وكذلك نجد الظاهرة نفسها في نقش الطائف المؤرخ بسنة (58هـ) في خلافة أمير المؤمنين معاوية في كلمة {اللََّهُمَّ} * حيث توزع هجاؤها بين السطر الثالث والرابع، ومثلها كلمة أمير في نفس النقش في السطرين التاليين، ونجدها أيضا في نقش طريق خان الحثرورة (86هـ)، فكلمة (أمير) جاءت موزعة بين السطر الرابع والخامس، وربما استمرت هذه الظاهرة حتى القرن الثاني الهجري حين بدأ العلماء يضعون قواعد الكتابة والهجاء العربي (انظر صورة النقوش في الملحق).
ومن الممكن أن نقسم الأمثلة التي جاءت موصولة مرة ومفصولة أخرى في الرسم العثماني إلى ما يحدث فيه تأثر بين آخر صوت من أصوات الكلمة الأولى وأول صوت من أصوات الكلمة الثانية، حين يتصلان في النطق اتصالا مباشرا لا تفصل فيه بينهما حركة مع اتحاد مخرجي الصوتين أو قربهما، سواء أكان ذلك التأثر يصل إلى درجة الفناء التام للصوت الأول في الثاني (الإدغام) أم كانت درجة التأثر دون ذلك، والقسم
الثاني هو ما لا يصحبه مثل ذلك التأثر المشار إليه إذ تفصل فيه بين الصوتين حركة تحول دون ذلك.(1/381)
ومن الممكن أن نقسم الأمثلة التي جاءت موصولة مرة ومفصولة أخرى في الرسم العثماني إلى ما يحدث فيه تأثر بين آخر صوت من أصوات الكلمة الأولى وأول صوت من أصوات الكلمة الثانية، حين يتصلان في النطق اتصالا مباشرا لا تفصل فيه بينهما حركة مع اتحاد مخرجي الصوتين أو قربهما، سواء أكان ذلك التأثر يصل إلى درجة الفناء التام للصوت الأول في الثاني (الإدغام) أم كانت درجة التأثر دون ذلك، والقسم
الثاني هو ما لا يصحبه مثل ذلك التأثر المشار إليه إذ تفصل فيه بين الصوتين حركة تحول دون ذلك.
أولا: ما اتصل رسمه بسبب التأثر الصوتي:
أما أمثلة القسم الأول فغالبا ما يكون الصوت الأول، وهو آخر الكلمة الأولى، نونا ساكنة أو ميما ساكنة يتلوه نون أو ميم أو لام، فمن ذلك:
(1) (أن لا): جاءت مرسومة بغير النون (ألا) في كل مكان إلا في عشرة مواضع، رسمت فيها بالنون، (أن لا) على أصل وضع الكلمتين فمن ذلك: {وَظَنُّوا أَنْ لََا مَلْجَأَ مِنَ اللََّهِ إِلََّا إِلَيْهِ (118)} [التوبة] (1).
(2) (من ما) رسمت من غير نون (مما) إلا في ثلاثة مواضع رسمت مقطوعة بالنون، نحو: {فَمِنْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ (25)} [النساء] (2). وقال أبو عمرو الداني: فأما قوله: {مِنْ مََالِ اللََّهِ} و {مِنْ مََاءٍ} * وشبهه من دخول (من) على اسم ظاهر فمقطوع حيث وقع. فإذا دخلت (من) على (من) نحو قوله {مِمَّنْ مَنَعَ} و {مِمَّنِ افْتَرى ََ} * وشبهه فلا خلاف في شيء من المصاحف في وصل ذلك، وحذف النون منه، وكذا كتبوا {مِمَّ خُلِقَ} في الطارق (86/ 5) (3).
(3) (عن ما): وكل ما جاء في كتاب الله عز وجل من ذكر {عَمََّا} * فهو بغير نون إلا حرفا واحدا في {عَنْ مََا نُهُوا عَنْهُ (166)} [الأعراف] فإنه بالنون (4). أما ما كان من ذكر (عن من) فقد جاء بالنون مفصولا في النور {وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشََاءُ (43)} وفي النجم {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلََّى عَنْ ذِكْرِنََا (29)} وليس في القرآن غيرهما (5).
__________
(1) انظر ابن أبي داود: ص 108. وأبو بكر الأنباري: ج 1، ص 145. والمهدوي: ص 81. والداني:
المقنع، ص 68. والمواضع التي وردت فيها مفصولة بالنون هي (7/ 105و 169، 11/ 14و 26، 22/ 46، 36/ 60، 44/ 19، 10/ 12، 48/ 24).
(2) الموضعين الآخرين هما في الروم (30/ 28) والمنافقين (63/ 10).
(3) المقنع، ص 69. وانظر أيضا ابن أبي داود: ص 111. والمهدوي: ص 82.
(4) المهدوي: ص 92. والداني: المقنع، ص 69.
(5) انظر نفس المصدرين السابقين، ص 82، وص 71على التوالي.(1/382)
(4) (إن ما) وليس في القرآن (إن ما) بالنون إلا حرفا واحدا في الرعد {وَإِنْ مََا نُرِيَنَّكَ (40)} (1). وقد جاء في مصحف طشقند موضع آخر في غافر (40/ 77) فإن ما نرينّك، لكن المشهور في رواية الأئمة في هذا الموضع (فإما).
(5) (إن لم) جاءت في هود {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ (14)} بغير نون أي موصولة، وفي القصص {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ (50)} بالنون، كلمتين مفصولتين (2).
(6) (أن لن) وكتب (أن لن) بغير نون في موضعين: في الكهف {أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48)} وفي القيامة {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظََامَهُ (3)} وقيل مثلهما أيضا حرف المزمل ألّن تحصوه (20) (3). وكذلك وصلت (أن لو) في سورة الجن وألّو استقاموا (16).
(7) (أم من) وكل ما في القرآن من ذكر (أم من) فهو في المصحف موصول إلا أربعة أحرف كتبت مقطوعة نحو: {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)} [النساء] (4)، أما ما كان من مثل (أم ما) فقد جاء في المصحف موصولا على حرف واحد في الأنعام (6/ 143و 144) {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحََامُ الْأُنْثَيَيْنِ (143)} *. ومعناه: أم الذي اشتملت (5).
(8) روى الفراء: أن العرب تصل (من) في الاستفهام ب (ذا) حتى تصيرا كالحرف الواحد وقال أنه رآها في بعض مصاحف عبد الله منذا متصلة في الكتاب (6). وقد جاءت {أَنْ جََاءَكُمْ (69)} * [الأعراف] مرسومة أنجاءكم بالوصل في مصحف طشقند.
ثانيا: ما وصل من الكلم من غير وجود تأثر صوتي:
أما أمثلة القسم الثاني مما لم يتأثر فيه الصوت الأخير من الكلمة بالصوت الأول من الكلمة الثانية فهي:
(1) (في ما) جاءت مقطوعة في أحد عشر موضعا من مثل {فِي مََا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ (240)} [البقرة]،
__________
(1) ابن أبي داود: ص 109. وأبو بكر الأنباري: ج 1، ص 330. والمهدوي: ص 83.
(2) نفس المصادر، ص 108، وج 1، ص 344، وص 70على التوالي المذكور.
(3) أبو بكر الأنباري: ج 1، ص 353. والمهدوي: ص 82. والداني: المقنع، ص 70.
(4) وبقية المواضع هي: (9/ 37109/ 4111/ 40).
(5) ابن أبي داود: ص 107. وأبو بكر الأنباري: ج 1، ص 343. والداني: المقنع، ص 71و 84.
(6) معاني القرآن، ج 3، ص 132.(1/383)
ويروي الداني أن محمد بن عيسى قال: ومنهم من يصلها كلها ويقطع التي في الشعراء (26/ 146) (1).
(2) (كلّ ما): جاءت مقطوعة في موضعين كل ما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها (91) [النساء]، و {وَآتََاكُمْ مِنْ كُلِّ مََا سَأَلْتُمُوهُ (34)} [إبراهيم]، ومنهم من يصل التي في النساء، وروي أن (كل ما) منقطعة في مصحف عبد الله في كل القرآن (2).
(3) (أين ما): جاءت موصولة في ثلاثة مواضع (أينما)، في البقرة {فَأَيْنَمََا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللََّهِ (115)}، وفي النحل (16/ 76)، وفي الشعراء (26/ 92). واختلفوا في التي في النساء (4/ 78) والتي في الأحزاب (33/ 61) (3).
(4) (بئس ما): جاءت موصولة في ثلاثة مواضع في البقرة {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ (90)}، وفيها أيضا: {قُلْ بِئْسَمََا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمََانُكُمْ (93)}، وفي الأعراف {بِئْسَمََا خَلَفْتُمُونِي (150)}، ويروي الداني أن محمد بن عيسى قال: كلما في أوله لام فهو مقطوع (4). فما فيه لام جاء في البقرة {وَلَبِئْسَ مََا شَرَوْا (102)}، وفي المائدة {لَبِئْسَ مََا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ (80)}، وفيها أيضا {لَبِئْسَ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ (62)}. وكذلك ما جاء في أوله الفاء نحو {فَبِئْسَ مََا يَشْتَرُونَ (187)} [آل عمران] (5). وقال الداني في هذا الموضع:
مقطوعة ولا لام في أولها، كأن الفاء خلفتها في الزيادة (6).
(5) (إنّ ما أنّ ما): كتبوا (إن ما) مقطوعة في موضع واحد في الأنعام {إِنَّ مََا تُوعَدُونَ لَآتٍ (134)} ليس في القرآن غيرها، وكتبوا (أن ما) مقطوعة في موضعين في الحج (22/ 62) ولقمان (31/ 30) {وَأَنَّ مََا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} * وقال الداني: أما قوله في الأنفال {أَنَّمََا غَنِمْتُمْ (41)}، وفي النحل {إِنَّمََا عِنْدَ اللََّهِ (95)} فهما في مصاحف أهل
__________
(1) المهدوي: ص (8685). والداني: المقنع، ص (7271). أما بقية المواضع فيه: (5/ 48، 6/ 145و 165، 21/ 102، 24/ 14، 26/ 146، 30/ 28، 39/ 3و 46، 56/ 61).
(2) المهدوي: ص (8584). والداني: المقنع، ص 84.
(3) نفس المصادر، ص 84، وص (7372) على التوالي المذكور.
(4) نفس المصادر، ص 83، و 74.
(5) أبو بكر الأنباري: ج 1، ص 338.
(6) المقنع، ص 84.(1/384)
العراق موصولان وفي مصاحفنا القديمة مقطوعان، والأول أثبت وهو الأكثر. وكذلك رسمهما الغازي بن قيس في كتابه موصولين (1).
(6) (لكي لا): جاءت موصولة في أربعة مواضع، في آل عمران {لِكَيْلََا تَحْزَنُوا (153)} والحج {لِكَيْلََا يَعْلَمَ (5)} والأحزاب {لِكَيْلََا يَكُونَ (50)} والحديد {لِكَيْلََا تَأْسَوْا (23)}، ومقطوعة في ما سوى ذلك، نحو: {كَيْ لََا يَكُونَ دُولَةً (7)} [الحشر]، ونحو: {لِكَيْ لََا يَكُونَ (37)} [الأحزاب] (2).
(7) (ابن أم): وكتبوا في كل المصاحف في الأعراف {قََالَ ابْنَ أُمَّ (150)} بالقطع، وكتبوا في طه يبنؤمّ (49) بالوصل كلمة واحدة، وأصله (يا ابن أمّ) (3).
(8) (فمال) كتبوا في كل المصاحف في النساء {فَمََا لِهََؤُلََاءِ الْقَوْمِ (78)}، وفي الكهف {مََا لِهََذَا الْكِتََابِ (49)}، وفي الفرقان {مََا لِهََذَا الرَّسُولِ (7)}، وفي المعارج {فَمََا لِ الَّذِينَ كَفَرُوا (36)}، هذه الأربعة المواضع قطعت فيها لام الجر مما بعدها في الرسم (4).
إن تأمل أمثلة كل من هاتين المجموعتين يقفنا على أهم العوامل التي تجعل الكتاب يصلون بعض الكلمات المكونة من مقاطع قليلة ببعض، ففي المجموعة الأولى نجد أن التقاء النون ساكنة في آخر كلمة مع صوت آخر مقارب لها في المخرج في أول كلمة ثانية يؤدي إلى أن تتأثر النون بذلك الصوت، وقد يصل ذلك التأثر إلى درجة الإدغام التام، أي تحول النون إلى جنس الصوت الثاني فيجد الكاتب نفسه حينئذ بين الاستجابة لواقع النطق فيصل الكلمتين وبين أن يحفظ لكل كلمة أصل رسمها، وقد قال أبو بكر الأنباري وهو يتحدث عن قطع ووصل (أن لا) (5): «فالمواضع التي كتبت فيها مقطوعة
__________
(1) المهدوي: ص 84. والداني: ص 73.
(2) ابن أبي داود: ص 114. وأبو بكر الأنباري: ج 1، ص 342. والمهدوي: ص 83. والداني:
المقنع، ص 75.
(3) الفراء: معاني القرآن، ج 2، ص 313، وج 2، ص 132. والمهدوي: ص 85. والداني: المقنع، ص 76.
(4) انظر نفس المصادر، ج 1، ص 278، وص 85، وص 75على التوالي.
(5) إيضاح الوقف والابتداء، ج 1، ص (ص 146145)، وانظر المهدوي: ص 86، وابن معاذ الجهني: ورقة 257أ.(1/385)
كتبت على الأصل، لأن الأصل فيه (أن لا)، والمواضع التي كتبت فيها موصولة بني الخط فيها على الوصل لأن الوصل فيه (أن لا) فأدغمت النون في الكلام لقرب مخرجها منها، وذلك أن من الفم أحد عشر مخرجا، المخرج الخامس منها للام والسادس للنون، فلما اندغمت النون في اللام صارتا لاما مشددة، وبني الخط على اللفظ»، ويقول ابن درستويه (1): «فكان كتاب حرف أخف عليهم من كتاب حرفين، كما كان النطق بحرف مدغم أخف من النطق بحرفين مضاعفين». ومثل (أن لا) في علة ورودها مرسومة بالوصل (من ما من من عن ما إن ما إن لم أن لن أم من).
أما رواية الفراء وصل (منذا) في حالة الاستفهام فلعل ذلك ناتج أيضا من تأثر النون بالصوت الذي بعدها، حيث أنها تخفى قبل الذال فربما أحسّ الكاتب بذلك التأثر وربما انضاف إلى صغر حجم الكلمتين فوصلهما، كذلك يبدو أن علة وصل ({أَنْ جََاءَكُمْ} * في مصحف طشقند هو ما أصاب النون من الخفاء قبل الجيم، وقد مر في بحث رموز الصوامت ما ذهب إليه بعض العلماء من حذف رمز النون في مثل {نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}
بسبب خفائها. ولكن ظاهرة إخفاء النون مع بعض الحروف لم تظهر في الكتابة إلا في هذه الأمثلة المحدودة إن صح هذا المذهب ولعل الكتّاب لم يلتفتوا إلى ظاهرة خفاء النون في بعض المواضع لعدم ذهابها في اللفظ كما يحدث في الإدغام (2).
أما أمثلة المجموعة الثانية فليس سبب وصلها في بعض المواضع دون بعض هو تأثر الأصوات فيها، لعدمه، ويبدو أن السبب الأساسي في ذلك هو كون هذه الكلمات قليلة المقاطع فتميل إلى الاتصال بغيرها كما جاءت الكلمات ذات الحرف الواحد متصلة بغيرها، وربما كان للمعنى أو الموقع النحوي للكلمة أثر في اتصالها وانفصالها.
ولعل وصل {بِئْسَمَا} * أوضح مثال وأدلّ من غيره على أن سبب وصل بعض هذه الكلمات هو قلة عدد مقاطعها، فهي تميل إلى الاتصال بما يجاورها متى وجدت فرصة لذلك، وقد اتصلت (ما) بكلمة (بئس) حين جاءت الأخيرة مجردة، ولكن حين استطالت باتصال اللام بها نجد أن (ما) تنفصل في الكتابة وترسم هكذا (لبئس ما) وليس ذلك مقصورا على اللام، فحين تتصل الفاء ببئس تحدث نفس الظاهرة من انفصال
__________
(1) كتاب الكتاب، ص (2625).
(2) انظر القلقشندي: ج 3، ص 174.(1/386)
(ما) عن بئس كما مر بيان ذلك (1). ويبدو أن اتصال (ما) بحرف الجر (في) واتصال (لا) ب (كي) قد كان سبب قلة حروف هذه الكلمات، فمال الكتّاب إلى جمعها في كلمة واحدة.
أما اتصال (ما) بكل أو إن أو أن أو أين فقد ذهب علماء العربية إلى أن (ما) إذا كانت موصولة أي بمعني (الذي) كتبت مفصولة، وإذا كانت غير ذلك وصلت، لأنه كثر استعمالها مع هذه الأشياء حتى صارت كأنها منها فوصلت بها (2).
ويبدو أن هذه القاعدة التي توصل إليها علماء العربية بشأن وصل (ما) أو فصلها من الكلمات المذكورة كانت نتيجة استقراء ناقص للأمثلة الواردة في الرسم العثماني، أو أنهم أهملوا أصل استعمال العرب الأول لذلك في الكتابة، أو أنهم على عادتهم في استبعاد الأمثلة التي لا تدخل تحت القاعدة العامة أهملوا الأمثلة التي لا تنطبق عليها القاعدة، وذلك لأن الأمثلة التي يقدمها الرسم لا تشير إلى أن كتبة المصاحف كانوا يتحرون فصل (ما) التي بمعنى الذي ووصل ما عداها، فلو كان ما يقوله النحاة دقيقا لما وجدنا (ما) موصولة في مثل قوله تعالى: {أَنَّمََا غَنِمْتُمْ (41)} [الأنفال] ومفصولة في كلّ ما ردّوا (91) [النساء] وغير ذلك من الأمثلة التي تشير إلى أن كتبة المصاحف لم يكونوا ينظرون إلى معنى (ما) لكي يصلوها أو يفصلوها.
لكن ذلك لا ينفي أن يكون لمعنى الكلمة أو موقعها في الجملة أثر في وصلها أو فصلها في بعض المواضع ويظهر ذلك من فصل الضمير (هم) في قوله سبحانه في المؤمن {يَوْمَ هُمْ بََارِزُونَ (16)} وفي الذاريات {يَوْمَ هُمْ عَلَى النََّارِ يُفْتَنُونَ (13)}. فقد قال الداني (هم) منهما في موضع رفع بالابتداء وما بعده خبره، فلذلك فصل (اليوم) عنه، و (هم) فيما عداها خفض بالإضافة فلذلك وصل (اليوم) به (3). نحو قوله {فَالْيَوْمَ نَنْسََاهُمْ كَمََا نَسُوا لِقََاءَ يَوْمِهِمْ هََذََا (51)} [الأعراف] وما أشبه ذلك.
وهكذا فإن الضمير (هم) حين يكون في محل رفع فإنه ينفصل في الكتابة عما قبله
__________
(1) انظر ابن معاذ الجهني: ورقة 252أ.
(2) ابن درستويه: ص 24، وص (2726)، وانظر أيضا ابن معاذ الجهني: ورقة 249أوما بعدها.
(3) المقنع، ص 75. وانظر المهدوي: ص 86.(1/387)
مكونا كلمة مستقلة، دون ما كان في محل جر أو نصب، ولذلك جاء في قوله {كََالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ (3)} [المطففين] موصولا في الموضعين، من غير ألف بعد الواو (1). إذ لو كانت هناك ألف بعد الواو لدلّ ذلك على الانفصال.
أما وصل (يا ابن أم) فقد كان ذلك على ما يبدو بسبب نطق هذه الكلمات في سياق متصل، إلى جانب صغر حجمها، وقد بيّنا أصل صورة يبنؤمّ من قبل، ومثل ذلك أيضا (يومئذ) وما أشبهه (2).
أما فصل لام الجر في الأربعة المواضع المشار إليها فقد تحدث الفراء عن فصلها في سورة النساء {فَمََا لِهََؤُلََاءِ الْقَوْمِ (78)} فقال: كثرت في الكلام حتى توهموا أن اللام متصلة ب (ما) وأنها حرف في بعضه (3). وقد يكون ذلك أثرا قديما لظاهرة انفصال رموز الكلمة الواحدة، وقد يكون راجعا إلى طبيعة الحرف الذي يسبق اللام وهو (ما) في الأمثلة الأربعة، حيث يكوّن معها شكل كلمة واحدة.
وينقل الداني أن معلى بن عيسى الورّاق قال: كنا إذا سألنا عاصما (الجحدري) عن المقطوع والموصول قال: سواء، لا أبالي أقطع ذا أم وصل ذا، إنما هو هجاء (4)، ويعقب الداني على ذلك بقوله «وأحسبه يريد المختلف في رسمه من ذلك دون المتفق على رسمه منه».
ومهما يكن من شيء فإن موقف عاصم الجحدري (ت 128) من الكلمات التي جاءت موصولة مرة ومفصولة أخرى ينفي فكرة فصل (ما) عند ما تكون موصولة (بمعنى الذي) ووصلها عند ما تكون غير ذلك، فعاصم هذا كان من أئمة علماء الرسم كما كان من أوائل علماء العربية، ولم يكن من اليسير غياب هذه الملاحظة عنه لو كانت تمثل اتجاها معروفا عند الكتاب ولكن يبدو أن علماء العربية في فترات لاحقة حرصا منهم على وضع قواعد محددة ذهبوا ذلك المذهب.
__________
(1) الداني: المقنع، ص 77.
(2) ابن درستويه: ص 32.
(3) معاني القرآن، ج 1، ص 278.
(4) المقنع، ص 72.(1/388)
ومع ذلك فإن مذهب عاصم لا ينبغي إطلاقه في فهم وصل الكلمات المحدودة المقاطع أو فصلها، إذ إن الفصل والوصل ربما كان في بعض المواضع ذا دلالة نحوية، مثل ما رأينا في فصل (هم) في {يَوْمَ هُمْ بََارِزُونَ}، ووصلها في {لِقََاءَ يَوْمِهِمْ هََذََا}، إلى جانب ذلك فإن كثيرا من تلك الكلمات المعدودة الحروف قد استقرت في الكتابة على أسلوب معين وفي ورودها في التركيب كذلك، فكلمة (قد) تفصل دائما، بينما نجد (أل) التي للتعريف توصل دائما، مع أن المبرد وهو يتحدث عن (أل) قد قال (1):
«وزعم الخليل أنها كلمة بمنزلة (قد) تنفصل بنفسها، وأنها في الأسماء بمنزلة (سوف) في الأفعال، لأنك إذا قلت: جاءني رجل فقد ذكرت منكورا، فإذا أدخلت الألف واللام صار معرفة معهودا». ويبدو أن كثيرا من تلك الكلمات قد حدد استعمال الكتّاب لها طريقة معينة في كيفية ورودها في السياقات استنادا إلى الواقع اللغوي أحيانا واعتمادا على طبيعة الرموز التي تتكون منها الكلمة في أحيان أخرى.
__________
(1) المقتضب، ج 1، ص 83.(1/389)
الفصل الخامس تكميل الرّسم العثماني
كانت النقوش العربية التي ترجع إلى العصر الجاهلي مجردة من أية علامة، سواء أكانت فوق الحروف أم تحتها، وسواء كانت لتمثيل الحركات القصيرة أم لتمييز بعض الحروف المتشابهة في الرسم. وكانت الكتابة العربية قد ورثت هذه الخصائص عن الكتابة النبطية، وبيّنت بإيجاز من قبل تاريخ تمثيل الحركات في الكتابات السامية عامة، والنبطية والعربية خاصة، كذلك أشرت إلى أن أصل ظاهرة اشتراك بعض الأصوات برمز واحد، تلك الظاهرة التي يرجعها الباحثون في الكتابات القديمة إلى ما أصاب الكتابة النبطية من ميل إلى اتصال حروفها في الكلمة الواحدة بعد أن كانت تكتب منفردة غير متصلة ببعضها، فكان ذلك الاتصال سببا في حدوث شبه شديد في رموز بعض الأصوات أدى في مرحلة لاحقة إلى أن تظهر عدة أصوات ترسم برمز واحد.
وقد جاء الرسم العثماني ممثلا لواقع الكتابة العربية في تلك الفترة ومتصفا بما امتازت به في تمثيل الصوامت والحركات، إذ تواترت الروايات مؤكدة على أن الرسم العثماني كان مجردا من أية علامة لتمييز الرموز التي يشترك فيها أكثر من صوت، كذلك لم يكن يمثل الحركات القصيرة بأية علامة، ونتيجة لذلك فقد واجهت المهتمين بإقراء القرآن منذ وقت مبكر ربما يعود إلى منتصف القرن الهجري الأول مهمة تكميل (1)
__________
(1) استعملت مصطلح (تكميل) دون أن استعمل ما عداه مما يوجد في كلام بعض الباحثين من مثل (تحسين أو إصلاح) (انظر د. المنجد: ص 125) لأن الكتابة العربية كانت تعاني من نقص في تمثيل بعض الأصوات أو من اشتراك بعض الأصوات برمز واحد، وسد هذا النقص لم يكن يمثّل تحسينا للكتابة العربية أو إصلاحا لخطأ فيها، وإنما كان (تكميلا) لنقص عانت منه قد ورثته عن الكتابة النبطية.(1/391)
الرسم العثماني وتيسير القراءة وضبطها منعا لوقوع الخطأ واللحن في تلاوة القرآن الكريم.
وقد كان بالإمكان تلافي النقص المشار إليه في الكتابة العربية بواحدة من وسائل عدة، ولكن ساهمت تأثيرات تاريخية ودوافع عملية في تبني طريقة معينة واحدة من تلك الطرق التي يحصرها العلماء بالكتابة في ثلاث هي (1):
1 - وضع رموز جديدة مستقلة لتمثيل الحركات القصيرة والأصوات الصامتة التي تشارك غيرها برمز واحد، واستعمالها استعمال رموز أصوات الأبجدية القديمة.
2 - الاستعانة بالعلامات الخارجية لتمثيل الحركات القصيرة أو تمييز الرموز المشتركة.
3 - وبالإمكان إلى جانب ذلك تمثيل الحركات القصيرة بالعلامات التي تتصل برموز الصوامت نفسها، أو بواسطة تغيير شكل الرمز تبعا لاختلاف نوع الحركة.
ولما كانت الكتابة بصورة عامة تميل إلى المحافظة على صور هجاء الكلمات بحيث يصبح تغيير تلك الصور، حتى ولو كانت لملاحقة تطور نطق الكلمة، أمرا صعبا، بل يكاد يكون مستحيلا، ولما كانت الطريقتان الأولى والأخيرة تحتمان تحطيم الشكل المعهود لصور هجاء الكلمات فقد آثر نسّاخ المصاحف وكتّاب العربية الطريقة الثانية التي تحقق تمثيلا أدق للنطق مع المحافظة على الصور المعروفة لهجاء الكلمات.
وقد ساعد في اعتماد ذلك الاتجاه أيضا عامل مهم جدا وهو أن صور هجاء الكلمات في المصحف الذي نسخ في خلافة عثمان رضي الله عنه وبأمره قد حرص المسلمون على المحافظة عليها، فهي الصورة التي رضيتها الأمة دون ما سواها، وبذلك صار أي تفكير في تغيير تلك الصورة معناه إنذار بتحريف قد يقع في نص القرآن الكريم، وقد حافظ المصحف بفضل ذلك على الصورة الأولى التي كتب بها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلافة الصديق، لأن المصحف العثماني لم يكن إلا نسخة دقيقة لذلك، فكانت طريقة العلامات الخارجية أنسب طريقة تكمل النقص وتحافظ على الأصل، ومع ذلك فسنلاحظ بعد قليل المعارضة التي ظهرت لإدخال أي شيء على المصحف
__________
(1) انظر:
). (:، 3791،. 32،. 918.(1/392)
العثماني، لكن سرعان ما خفتت بعد أن تبينت ضرورة وفائدة ذلك، حتى لقد قال بعضهم «العجم نور الكتاب» (1). وقال آخرون «لا بأس به، هو نور له» (2) وقال الأوزاعي (ت 157هـ) «إعجام الكتاب نوره» (3).
ولم تتفرد الكتابة العربية بسلوك هذا الطريق في تكميل أصواتها بل شاركتها في ذلك بعض الكتابات السامية (4)، وقد استعان علماء اللغة المحدثون بهذه الطريقة في الكتابة الصوتية (5)، حيث استخدموا العلامات المميزة) (لتخصيص بعض الحالات النطقية تفاديا لازدياد عدد الرموز الصوتية الأصلية حين توضع تلك العلامات فوق الرمز أو تحته أو توصل به.
وقبل أن نمضي في بيان تاريخ تلك الحركة التكميلية نشير إلى قضية مهمة تتعلق بابتداء إدخال تلك العلامات في الكتابة العربية، وقد أشير قبل قليل إلى أن هذه العلامات منها ما يمثل الحركات القصيرة والتي عرفت أحيانا باسم نقط الإعراب، ومنها ما يخصص رموز بعض الأصوات التي كانت تشترك في رمز واحد، والتي عرفت باسم نقط الإعجام، أما نقط الإعراب فإن أقوال بعض القدماء وأقوال معظم المحدثين قد اتفقت على أنه مخترع بعد الإسلام (6)، وأما نقط الإعجام فرغم أن النقوش العربية الجاهلية خالية من أي أثر له فإن بعض علماء السلف ذهبوا إلى أنه قديم، بل ربما يكون قد وجد مع وضع الحروف! وجاء المحدثون وأثيرت القضية من جديد، وقد عثر
__________
(1) انظر الداني: المحكم، ص 12.
(2) نفس المصدر، ص 2.
(3) أبو أحمد العسكري: شرح ما يقع فيه التصحيف، ط 1، القاهرة، البابي الحلبي، 1963م، ص 14. وانظر السيوطي: تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، ص 2، المكتبة العلمية، المدينة المنورة، 1972م، ج 2، ص 68.
(4) مثل العبرية والسريانية. انظر: الطران إقليمس يوسف داود: كتاب اللمعة الشهية في نحو السريانية، ط 2، الموصل، 1896م، ج 1، ص 164وما بعدها. ونولدكه: ص 60. وجويدي:
أدبيات الجغرافيا، ص 83. وإسرائيل ولفنسون: ص 103. وانظر أيضا:،. 9.
(5) انظر د. تمام حسان: اللغة بين المعيارية والوصفية، ص 30. ود. كمال محمد بشر: دراسات في علم اللغة، ق 1، ص 78.
(6) انظر ابن عاشر الأنصاري: ص 52، ود. الطاهر أحمد مكي: ص 66.(1/393)
على بعض النصوص المكتوبة المهمة ترجع إلى سنوات متقدمة من القرن الأول الهجري، وقد ظهرت فيها بعض نقط الإعجام فوق بعض الحروف، فمزج هؤلاء المحدثون بين تلك الروايات القديمة وما تدل عليه هذه النقوش ليخرجوا من ذلك كله بنتيجة تقول إن نقط الإعجام قديم، يعود إلى العصر الجاهلي أو إلى السنين الأولى من تاريخ الإسلام.
وعلينا أن نكون في معالجة هذه القضية حذرين في فهم تلك الروايات التاريخية، لأن أكثرها قيل في غيبة المعرفة التاريخية بأصل تطور الأبجدية، إلى جانب أن الروايات المتواترة تعارضها، وبناء على ذلك سنحاول هنا عرض تلك الروايات ومناقشتها مرجئين دراسة دلالة النقوش والنصوص المكتوبة والروايات التي تقول إن إعجام الحروف قد اخترع بعد النصف الثاني من القرن الهجري الأول حتى نناقش موضوع الإعجام عامة بعد قليل.
وقد أشير من قبل إلى الرواية التي تسند وضع الإعجام إلى عامر بن جدرة (1)، ويعقب القلقشندي على ذلك بقوله «وقضية هذا إن الإعجام موضوع مع وضع الحروف، وقد روي أن أول من نقط المصاحف ووضع العربية أبو الأسود الدؤلي من تلقين أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه، والظاهر ما تقدم إذ يبعد أن الحروف قبل ذلك مع تشابه صورها كانت عريّة عن النقط إلى حين نقط المصاحف» (2). وقال صاحب كشف الظنون (3): «إن الصدر الأول أخذ القرآن والحديث من أفواه الرجال بالتلقين، ثم لما كثر الإسلام اضطروا إلى وضع النقط والإعجام، فقيل: أول من وضع النقط مرار (مرامر) والإعجام عامر، وقيل الحجاج، وقيل أبو الأسود الدؤلي بتلقين علي رضي الله تعالى عنه، إلا أن الظاهر أنهما موضوعان مع الحروف إذ يبعد أن الحروف مع تشابه صورها كانت عرية عن النقط إلى حين نقط المصاحف، وقد روي أن الصحابة قالوا: جردوا المصحف من كل شيء حتى النقط، ولو لم يوجد في زمانهم لما يصح التجريد منه».
كذلك يتراءى من بين أقوال بعض علماء العربية أنهم يرون أن نقط الإعجام موضوع
__________
(1) انظر: الفصل التمهيدي، ص 34.
(2) صبح الأعشى، ج 3، ص 155.
(3) حاجي خليفة، مج 1، عمود 712.(1/394)
مع وضع الحروف. يقول الزجاجي (1): «وجعلت بعض الحروف على صورة واحدة في الخط نحو الياء والتاء، والجيم والحاء والخاء، والدال والذال، وكذلك ما أشبهه لأنهم فرّقوا بينها بالنقط، فكان ذلك أخف عليهم من أن يجعلوا لكل واحد من هذه الحروف صورة على حدته فتكثر الصور».
وقد ذهب بعض علماء السلف في تلك القضية إلى حد القول بأن مجيء الرسم العثماني خاليا من كل علامة إنما كان عن قصد ليحتمل الرسم ما صح من القراءات، وقد قال الداني وهو يتحدث عن أول من نقط المصاحف: «وإنما أخلى الصدر منهم المصاحف من ذلك ومن الشكل من حيث أرادوا الدلالة على بقاء السعة في اللغات، والفسحة في القراءات التي أذن الله تعالى لعباده في الأخذ بها، والقراءة بما شاءت منها، فكان الأمر على ذلك إلى أن حدث في الناس ما أوجب نقطها وشكلها» (2). وردد ابن الجزري (ت 833هـ) نفس المعنى حين قال (3): «ثم أن الصحابة رضي الله عنهم لما كتبوا تلك المصاحف جردوها من النقط والشكل ليحتمله ما لم يكن في العرضة الأخيرة مما صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنما أخلوا المصاحف من النقط والشكل لتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلوين شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المعقولين المفهومين». ويبدو أن ابن الجزري رحمه الله أخذ هذه الفكرة التي رددها بعض المحدثين منسوبة إليه من الإمام ابن تيمية (ت 728هـ) بألفاظها تقريبا، فقد قال الشيخ ابن تيمية في فتاويه (4): «إذا كان قد سوّغ لهم أن يقرءوه على سبعة أحرف كلها شاف كاف مع تنوع الأحرف في الرسم فلأن يسوغ ذلك مع اتفاق ذلك في الرسم وتنوعه في اللفظ أولى وأحرى. وهذا من أسباب تركهم المصاحف أول ما كتبت غير مشكولة ولا منقوطة لتكون صورة الرسم محتملة للأمرين كالتاء والياء والفتح والضم، وهم يضبطون باللفظ كلا الأمرين، وتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلوين شبيها بدلالة اللفظ الواحد على
__________
(1) الجمل، ص 272. وانظر حمزة الأصفهاني: ص 27و 37. والبطليوسي: ص 167.
(2) المحكم، ص 3.
(3) النشر، ج 1، ص 33.
(4) مج 1، ص 319.(1/395)
كلا المعنيين المنقولين المعقولين المفهومين، فإن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلقوا عنه ما أمره الله بتبليغه إليهم من القرآن لفظه ومعناه جميعا».
وحاول بعض أصحاب هذا الاتجاه أن يؤيد مذهبه هذا ببعض الأخبار المروية عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما فقد أخرج أبو عبيد في فضائل القرآن أن أبا بكر بن عياش قال سمعت أبا حصين يقول «لما وجّه عمر الناس إلى العراق قال لهم كذا وكذا، فذكر كلاما، ثم قال: جردوا القرآن، وأقلوا الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا شريككم، أو قال على رسول الله» (1). وأخرج أيضا عن ابن الأحوص أن عبد الله بن مسعود قال (2): «جردوا القرآن ليربو فيه صغيركم ولا ينأى عنه كبيركم، فإن الشيطان يفر من البيت يسمع فيه سورة البقرة». وأخرج أبو بكر الأنباري عن الضحاك أن ابن مسعود قال (3): «جردوا القرآن، وزينوه بأحسن الأصوات، وأعربوه فإنه عربي، والله يحب أن يعرب». ونقله الداني (4): «جردوا القرآن، ولا تخلطوه بشيء» وقد أوّل بعض العلماء أن المقصود بتجريد القرآن هو إخلاؤه من النقط، كما مر قول صاحب كشف الظنون.
لكن هذا الاتجاه في بيان تاريخ إدخال العلامات المميزة في الكتابة العربية لا تكاد الأدلة التي يقدمها القائلون به تكفي لتقرير أن نقط الإعجام أو نقط الإعراب كان موجودا قبل الإسلام ومستعملا في الكتابة العربية.
أما قول بعض علماء السلف أن النقط المميزة للحروف كانت قد وضعت مع وضع الحروف العربية فهذا يرده ما كشف من تاريخ الكتابة العربية والأصل الذي اشتقت منه، ورغم الغموض الذي لا يزال يحيط بكثير من جوانب ذلك التاريخ فإن ما تم كشفه مما ذكرنا بعضه في الفصل التمهيدي كفيل بنفي هذه الفكرة.
وأما قولهم: إن المصاحف جردت لتحتمل ما صح من القراءات فإنه لا يقوم دليلا
__________
(1) فضائل القرآن، لوحة 5، وانظر: غريب الحديث (له)، ج 4، ص 49.
(2) نفس المصادر، لوحة 5و 57، وج 4، ص 46على التوالي.
(3) إيضاح الوقف والابتداء، ج 1، ص 16. وانظر القرطبي: ج 1، ص 23.
(4) المحكم، ص 10، وانظر السيوطي: الإتقان، ج 4، ص 160.(1/396)
على ما ذهبوا إليه، لأن ذلك يحتاج أولا إلى إثبات أن النقط أو الشكل كان موجودا ثم إثبات أن المصاحف جردت منه لتحتمل ما صح من القراءات، أما النقط والشكل فلم يثبت إلى اليوم أنه كان موجودا يوم كتبت المصاحف، وكذلك فإن تجريد المصحف ليحتمل القراءات الصحيحة لم يثبت فقد رجحنا من قبل أن المصحف العثماني لم يكتب إلا لتمثيل القراءة العامة المشهورة في المدينة حينذاك.
وأما الاحتجاج بقول عمر أو ابن مسعود «جردوا القرآن» فيبدو أن هذا الخبر أعطي ذلك التفسير في فترات لاحقة لقوله حين بدءوا ينقطون المصاحف فاحتج من كره ذلك بقول عمر وابن مسعود (جردوا القرآن). قال أبو عبيد (1): «وقد اختلف الناس في تفسير قوله: جرّدوا القرآن، فكان إبراهيم يذهب به إلى نقط المصاحف، ويقول: جردوا القرآن ولا تخلطوا به غيره، قال أبو عبيد: وإنما نرى أن إبراهيم كره هذا مخافة أن ينشأ نشء يدركون المصاحف منقوطة فيرى أن النقط من القرآن ولهذا المعنى كره من كره الفواتح والعواشر». ونقل السيوطي في الإتقان (2): «وقال الحربي في غريب الحديث: قول ابن مسعود: جردوا القرآن، يحتمل وجهين: أحدهما جردوه في التلاوة، ولا تخلطوا به غيره. والثاني: جردوه في الخط من النقط والتعشير. وقال البيهقي: الأبين أنه أراد: لا تخلطوا به غيره من الكتب». وبناء على ذلك فإن الاستدلال على وجود النقط وقت نسخ المصاحف بهذا الخبر غير كاف لإثبات ذلك، بل يبدو أن حمل الخبر على تجريد المصحف من إثبات التفسير أو الحديث فيه دون النقط أكثر انطباقا على الواقع، وهذا لا ينفي أن بعض الأئمة احتج بقول ابن مسعود حين أخذ الناس ينقطون المصاحف، واعتبروا ذلك النقط تزيدا ينبغي تجريد المصحف منه (3).
ومما يستوقف نظر الدارس لهذه القضية عند علماء السلف أن أبا عمرو الداني الذي يذهب أن المصاحف العثمانية جردت من النقط والشكل «من حيث أرادوا الدلالة على بقاء السّعة في اللغات، والفسحة في القراءات»، قد ردد في أكثر من كتاب من كتبه
__________
(1) غريب الحديث، ج 4، ص 47.
(2) الإتقان، ج 4، ص 162.
(3) نقل أبو عبيد (فضائل القرآن، لوحة 57) عن هشيم أنه قال: أخبرنا مغيرة عن إبراهيم: «أنه كان يكره نقط المصاحف، ويقول جرّدوا القرآن ولا تخلطوا به»، وانظر الداني: المحكم، ص 11.(1/397)
أن العرب لم تكن أصحاب شكل ونقط، قال في المحكم (1): «إن العرب لم تكن أصحاب شكل ونقط، فكانت تصور الحركات حروفا، لأن الإعراب قد يكون بها كما يكون بهن، فتصور الفتحة ألفا، والكسرة ياء، والضمة واوا، فتدل هذه الأحرف الثلاثة على ما تدل عليه الحركات الثلاث من الفتح والكسر والضم، ومما يدل على أنهم لم يكونوا أصحاب شكل ونقط وأنهم كانوا يفرقون بين المشتبهين في الصورة بزيادة الحروف إلحاقهم الواو في (عمرو) فرقا بينه وبين (عمر)». وأورد الداني نفس الفكرة في كتابه (الموضح) وهو يتحدث عن فكرة الفرق بين الكلمات المتشابهة في الهجاء فقال «والعرب لم تكن أهل شكل ونقط» (2). ونقل علم الدين السخاوي نص كلام الداني في الموضح في كتابه جمال القراء (3).
وموقف الداني من هذه القضية الذي يبدو غير خال من التناقض يدفع إلى الحذر عند دراسة أقوال علماء السلف في هذا الموضوع، خاصة أن تفاصيل كثيرة من تاريخ الكتابة العربية كانت غائبة عنهم، ولم تعرف إلا منذ وقت قريب، ولعل موقف بعض الصحابة والتابعين وكراهتهم لنقط المصاحف (4) يعتبر دليلا على أن ذلك كان حدثا جديدا في الإسلام ولم تكن تعرفه الكتابة العربية من قبل، وأنه حدث بعد نسخ المصاحف العثمانية أيضا، إذ لو كان موجودا لما تردد الصحابة في استعماله لضبط المصحف، وقد ظل التردد في أمر نقط المصاحف وضبطها يغلب على مواقف بعض العلماء، وقد كان الناس يسألون الإمام مالكا (ت 179هـ) إمام المدينة عن رأيه في نقط المصاحف، وما أحدثه الناس من الهجاء فيقول: «أما الإمام من المصاحف فلا أرى أن ينقط، ولا يزاد في المصاحف ما لم يكن فيها، وأما المصاحف الصغار التي يتعلم فيها الصبيان وألواحهم فلا أرى بذلك بأسا» (5).
ودرس بعض المحدثين من المهتمين بتاريخ الكتابة العربية هذه القضية، وكان منهم ما
__________
(1) ص 177176.
(2) ورقة 25ب.
(3) انظر: ورقة 186ب 187أ.
(4) انظر الداني: المحكم، ص (1110).
(5) انظر الداني: المحكم، ص 11.(1/398)
يشبه التسليم العام بانعدام نقط الإعراب قبل الإسلام (1) ودارت مناقشاتهم حول البحث عن أوليات نقط الإعجام الذي يميز الحروف المتشابهة في الكتابة العربية، وكان الأستاذ حفني ناصف (ت 1918م) أول من تحدث عن هذا الموضوع، فقال من بين ما قاله (2):
«ويبعد كل البعد أن تكون الحروف موضوعة في أول أمرها على هذا اللبس المنافي لحكمة الواضعين، الذاهب بحسن الاختراع، فإما أن يكون لكل حرف شكل مخالف لسائر الحروف ثم اتحدت الأشكال المتقاربة، وصارت شكلا واحدا، بتساهل الكتاب وطول الزمن، وإما أن يكون بعض الأشكال موضوعا لعدة أحرف ووضع الإعجام لتمييزها بعضها عن بعض». ثم يقول: «إن الإعجام موضوع قبل الإسلام ولكن تساهل الكتّاب في أمره شيئا فشيئا، حتى تنوسي ولم يبق إلا النادر إلى أن جاء زمن عبد الملك فحتم على كتاب دولته رعايته». وفي كلام الأستاذ حفني ناصف ما يلفت النظر وهو قوله «فإما أن يكون لكل حرف شكل مخالف لسائر الحروف ثم اتحدت الأشكال المتقاربة وصارت شكلا واحدا بتساهل الكتاب وطول الزمن» وهو ما يفسر به علماء الكتابات القديمة في الوقت الحاضر تشابه بعض رموز الكتابة العربية.
__________
(1) ذكر حفني ناصف (تاريخ الأدب، ص 70، هامش 1): «أن النقط للإعجام أو الشكل لم يكن مستعملا في زمن عثمان، وإنما النقط الذي كان في زمنه كان عبارة عن علامات خاصة باللغات التي كان الصحابة يقرءون بها فقد كانت الصحف المودعة عند حفصة مبيّنة فيها اللغات الأخرى بنقط على الحروف اصطلحوا على وضعها للدلالة على الإمالة وضم ميم الجمع والإشمام والهمز والتسهيل وغير ذلك من القراءات». ولا أدري على أي شيء استند الأستاذ المرحوم حفني ناصف في تقرير هذه الملاحظة إذ لم أعثر على خبر يشير إلى شيء من ذلك.
وقد ادعى الدكتور عبد الحي الفرماوي قدم نقط الإعراب. وقال (ص 189) إنه «أقدم ميلادا ووجودا من نقط الإعجام». وقد فهم قول الدكتور ناصر الدين الأسد (ص 40) عن نقش الطائف «فإن أكثر حروفه التي تحتاج إلى نقط منقوطة معجمة» فهما خاطئا فقال (ص 191) بينما التصريح في نقش الطائف عن نقط الإعراب ونقط الإعجام» ورغم أن تعبير الدكتور الأسد (منقوطة معجمة) تعبير غير دقيق إلا أن نظرة واحدة إلى صورة النقش تكفينا تكلّف القول في هذا الموضوع إذ لا يظهر في هذا النظر غير نقط الإعجام.
(2) تاريخ الأدب، ص 70. وقد نقل كلامه الزنجاني في تاريخ القرآن، ص 67. وانظر أيضا: حامد عبد القادر، ص 86، ود. عبد العال سالم مكرم: ص 40.(1/399)
وبحث الدكتور ناصر الدين الأسد هذا الموضوع وتوسع فيه وجمع أدلة جديدة تعضد احتمال كون نقط الإعجام قديما في الكتابة العربية، فبعد أن درس النقوش العربية التي ترجع إلى ما قبل الإسلام وبيّن خلوّها من النقط، عرض لأقوال بعض علماء السلف في مجيء المصاحف العثمانية من غير نقط ولا ضبط، فنقل كلاما للقاضي أبي بكر بن العربي في ذلك ووضحه بكلام ابن الجزري الذي مر ذكره، ثم أورد ما فسر به الزمخشري قول ابن مسعود الذي ذكرناه من قبل وهو «جردوا القرآن» (1). وجعل أقوال هؤلاء العلماء الثلاثة تكأة ضمّ إليها بعض الروايات والأقوال بلغت سبعة (2). لا يكاد يقوم واحد منها دليلا بيّنا إلا ما ذكره في الختام من العثور على بردية مكتوبة بالعربية واليونانية ترجع إلى سنة 22هجرية، وعلى نقش مكتوب سنة 58هـ قرب الطائف في الحجاز، وقد ظهرت بعض الحروف معجمة في هذين النصين ولكن قد صرح الدكتور الأسد «إن هذا كله لا يقوم وحده دليلا قاطعا عن وجود النقط قبل الإسلام».
وتناول هذا الموضوع أيضا الدكتور صلاح الدين المنجد، واستعان بالبردية المؤرخة سنة 22هجرية وبنفس الطائف (58هجرية)، وحاول استنطاق بعض الأخبار والآثار المروية من مثل قول ابن الجزري السابق في تجريد المصاحف ليدل على أن نقط الإعجام كان معروفا منذ أيام الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن ما يقال من أن نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر هما اللذان اخترعاه غير صحيح (3).
وسنعود إلى موضوع الإعجام مرة أخرى في الصفحات التالية، ويكفينا أن نقرر هنا أن العلماء متفقون على أن الروايات التاريخية بشأن استعمال نقط الإعراب في المصاحف مما سنورده بعد قليل ليست موضع شك، أما قول بعضهم إنّ نقط الإعجام قديم وإنه ربما وضع مع الحروف أو أنه استعمل قبل الإسلام، استنادا إلى ما تقدّم من أقوال وأخبار، واستنادا إلى دلالة بعض الوثائق فنرى أنّ الاعتماد على تلك الأقوال وحدها غير
__________
(1) انظر: مصادر الشعر الجاهلي، ص (3534).
(2) نفس المصدر، ص (4137).
(3) انظر: دراسات في تاريخ الخط العربي، (ص 126125)، وانظر بعض تلك الأخبار: السيوطي تدريب الراوي شرح تقريب النواوي، ج 2، ص 68و 69و 71.(1/400)
كاف، خاصة أنها لا تخلو من غموض أو تناقض أو أنّها قيلت في فترات متأخرة مع غياب معرفة التاريخ الصحيح لبداية نقط الإعجام عن القائلين بها. ثم إنّ الاعتماد على ما ظهر من نقط في البردية والنقش المشار إليهما لا يكاد يرد الروايات المشهورة، أو يضع حدا للتساؤل في هذا المجال، خاصة إن كليهما لا يزال يحتاج إلى توثيق كما سيتبيّن بعد قليل.
إن الكتابة العربية كما تتجلى خصائصها في الرسم العثماني كانت في تلك الفترة لا تشير إلى الحركات القصيرة بأي رمز أو علامة، كذلك كانت عدة أصوات تشترك برمز كتابي واحد. ومن ثم فإن جهود العلماء انصبت على تكميل هذين النقصين، بإيجاد علامات للحركات القصيرة وتمييز الرموز التي تدل على أكثر من صوت ليستقل كل صوت برمز واحد يدل عليه لا يشركه فيه غيره. ولم تقف جهودهم عند هذا الحد بل وضعوا علامات أخرى تشير إلى بعض حالات النطق حرصا منهم على ضبط ألفاظ التلاوة، فقال ابن درستويه وهو يتحدث عن الشكل (1): «إن الشكل زيادة تلحق الحروف للحاجة إليها، وهو على ضربين: ضرب على صور الحركات والسكون اللذين تعرف بهما الحروف وتبين كما كان المعجم صورا للحروف، وضرب هو زيادة يؤتى بها مع الحرف للفرق كما كان النقط كذلك فأما الشكل الذي هو صور للحركات والسكون فأربعة أشياء: الفتحة والضمة والكسرة والوقفة وأما الشكل الذي هو زيادة للفرق فهو خمس علامات: التشديد والتنوين والهمزة والمدة وعلم ألف الوصل».
وسوف أتناول المسائل المتقدمة من خلال ثلاثة مباحث: أدرس في الأول علامات الحركات القصيرة فقط، وأتتبع فيه تطورها من مجرد كونها نقطا يخالف بين أماكنها إلى اختصاص كل منها بصورة معينة. أما علامة السكون التي أدرجها ابن درستويه مع صور الحركات فلا نرى لها مكانا معها، وأدرس في الثاني العلامات التي ميّز بها الكتّاب بين رموز الأصوات التي تشترك في رمز واحد. وأتتبع ذلك من خلال الروايات والمصاحف المخطوطة. وأتناول في الثالث العلامات التي استعملت لتخصيص حالات نطقية معينة وهي العلامات التي سماها ابن درستويه (زيادة يؤتى بها مع الحرف للفرق) وسأضم إلى الخمسة التي ذكرها علامة السكون لأنها لا تمثل في واقع النطق حركة معينة، وإنما هي
__________
(1) كتاب الكتاب، ص 55.(1/401)
تشير إلى انعدام الحركة، حتى لا يظن القارئ أن الحرف مشدد أو محرك بحركة قصيرة، فدراستها مع العلامات التي تخصص حالات نطقية معينة أولى من دراستها مع علامات الحركات.
وقبل أن أفصّل القول في هذه الأنواع الثلاثة من العلامات التي أشير إشارة موجزة إلى ما كتب في هذا الموضوع من مؤلفات وما وصل إلينا منها. إذ أنها ستكون المصدر الذي أعتمد عليه في دراسة هذا الموضوع، ثم أذكر ما أتيح لي الاطلاع عليه من المصاحف والوثائق المخطوطة التي تقدم الدليل الملموس على صحة ما كتبه علماء السلف ورووه في كتبهم عن هذا الموضوع.
ومثل ما رأينا من الأهمية العظمى لكتاب (المقنع) للداني في موضوع الرسم نجد كتابه (المحكم في نقط المصاحف) يتبوأ نفس الأهمية في موضوع نقط المصاحف وضبطها، بل ربما ناف على المقنع في ذلك، إذ تزداد هذه الأهمية حين نعلم قلة ما وصل إلينا من مؤلفات النقط والشكل، ويبدو أن التأليف في هذا الموضوع قديم حتى أنه قد روي أن أبا الأسود الدؤلي الذي تنسب إليه أغلب المصادر العربية أولية وضع نقط الإعراب قد وضع مختصرا في ذلك (1)، ولا ندري هل كان هذا المختصر في النقط أم هو ما ينسب إليه من وضع بعض أبواب النحو (2). وذكر ابن النديم (ت 385هـ) ستة من الكتب في هذا الموضوع أقدمها كتاب الخليل بن أحمد في النقط (3).
وذكر الداني (ت 444هـ) في مقدمة المحكم أشهر من ألّف في الموضوع ممن سبقه فقال (4): «وأول من صنف النقط ورسمه في كتاب، وذكر علله الخليل بن أحمد (ت 170هـ) ثم صنف بعده جماعة من النحويين والمقرئين، وسلكوا فيه طريقه، واتبعوا سنته، واقتدوا بمذاهبه. منهم أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي (ت 202هـ) وابنه أبو عبد الرحمن عبد الله بن أبي محمد (ت 237هـ)، وأبو حاتم سهل بن محمد السجستاني
__________
(1) انظر أبو بكر الأنباري: ج 1، ص 41. والداني: المحكم، ص 4.
(2) انظر السيرافي: أبو سعيد الحسن بن عبد الله: أخبار النحويين البصريين، بيروت، 1936، ص 18. وأبو بكر الزبيدي: ص 13. وأبو البركات الأنباري: ص 9. والقفطي: ج 1، ص 5.
(3) الفهرست، ص 35.
(4) المحكم، ص 9.(1/402)
(ت 255هـ) وأبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي (ت 334هـ) وأبو بكر أحمد بن موسى بن مجاهد (ت 324هـ) وأبو بكر محمد بن عبد لله بن أشتة (ت 360هـ) وأبو الحسن علي بن محمد بن بشر مقرئ أهل بلدنا (ت 377هـ) وجماعة غيره غير هؤلاء».
وأشار محقق كتاب المحكم في مقدمة التحقيق إلى أسماء آخرين ممن ألف في موضوع النقط غير من ذكرهم الداني، خاصة من علماء العربية منهم أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان الزيادي (ت 249هـ) وأبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري (ت 282هـ) وأبو بكر محمد بن السري بن السراج (ت 316هـ) وأبو بكر محمد بن القاسم الأنباري (ت 327هـ) وأبو الحسن علي بن عيسى الرماني (ت 384هـ) (1).
ولم يصل من تلك المؤلفات شيء سوى كتاب (المحكم) للداني، ولا شك أن بقاءه سالما حتى رأى النور مطبوعا قد عوّض فقد الأصول الأولى لهذا العلم، لأن الداني قد أودع في هذا الكتاب خلاصة كتب سابقيه المؤلفة في موضوع النقط، كما أودع في (المقنع) خلاصة كتب سابقيه المؤلفة في موضوع الرسم (2).
وقد جعل الداني كتابه (المحكم) أبوابا تحدث فيها عن تاريخ النقط ومذاهب الناقطين فبدأ بذكر أوليات النقط ومن بدأ به ثم من كره ذلك من السلف ومن ترخّص فيه، وذكر بابا جامعا في موضوع النقط، وتحدث بعده عن حروف التهجي وترتيبها وعن إعجام الحروف ونقطها بالسواد، وتحدث في الأبواب التالية عن كيفية نقط الحركات، ثم التشديد والسكون والمد والتنوين وإحكام نقط المظهر والمخفى والمدغم من الحروف، وأحكام همزة الوصل. وتحدث في عدة أبواب متتالية عن كيفية نقط الهمزة وموقعها من الحروف الثلاثة، ثم تحدث في الأبواب الأخيرة من الكتاب عن نقط ما نقص هجاؤه، ثم ما زيد فيه، وختم الكتاب بباب عن اللام ألف، كل هذا على مذهب نقّاط المصاحف، وقد ألحق بالكتاب عدة أبواب تتعلق «بذكر مذاهب متقدمي أهل النقط من النّحاة كالخليل واليزيدي وغيرهما، ومذهب من سلك طريقهم واقتفى آثارهم من نقاط أهل المصرين، الكوفة والبصرة، وسائر العراق، وما جرى عليه استعمالهم واتفقت
__________
(1) الدكتور عزة حسن: مقدمة التحقيق، ص (3332).
(2) انظر أهمية هذا الكتاب: المصدر السابق، ص (2120).(1/403)
عليه جماعتهم» (1).
وللداني كتاب صغير آخر في موضوع النقط هو الذي ألحقه بكتاب (المقنع) والذي طبع معه، وقد تناول فيه من الموضوعات ما تناوله في كتاب المحكم إلا أنه جاء موجزا خاليا من التفصيل الذي نجده في المحكم. وقد رجح محقق كتاب المحكم أن يكون للداني كتاب ثالث في نقط المصاحف هو كتاب (التنبيه على النقط والشكل) (2).
ومع أن كتاب (المحكم) للداني يعتبر أجمع وأقدم كتاب وصل في موضوع النقط فقد جاءت عن بعض المؤلفات التي ترجع إلى فترات تسبق عصر الداني فصول صغيرة تتحدث عن الموضوع أو شيء من تاريخه. من ذلك ما ذكره أبو عبيد (ت 224هـ) في فضائل القرآن حول من كره نقط المصاحف ومن ترخص في ذلك من التابعين خاصة (3)، وسبق أن أشير إلى أن لأبي حاتم السجستاني كتابا في الموضوع، وقد قال عنه ابن النديم «كتاب أبي حاتم السجستاني في النقط والشكل، بجداول ودارات» (4)، ويبدو أن فصولا من كتاب أبي حاتم قد وصلت إلينا بواسطة ابن أبي داود في كتابه (المصاحف) فبعد أن ذكر أول من نقط المصاحف ومن كره ذلك ومن ترخص فيه ذكر بابا عن كيفية نقط المصاحف ابتدأه بقوله: «قال أبو حاتم السجستاني، ونقطه بيده: هذا كتاب يستدل به على علم النقط ومواضعه» (5) ثم تحدث عن كيفية نقط الحركات الثلاث، ومقدار ما ينقط من الكلم، ثم كيفية نقط الهمزة ومواضعه، وذكر فصلا عن كيفية نقط ما جاء على غير الهجاء من مثل (العلمؤا ونشؤا) وما كان مثله من باب الهمز خاصة، ويبدو أن كل ما ذكره ابن أبي داود في هذا الباب (6) إنما نقله من كتاب أبي حاتم في النقط كما صرح في أوله. ولكنا لا نجد الجداول والدارات التي ذكرها ابن النديم ولعل ابن أبي داود ترك بعضا من الكتاب.
__________
(1) المحكم، ص 209، وقد استغرق ذلك من ص (259209) من الكتاب.
(2) الدكتور عزة حسن: ص 25من مقدمة التحقيق.
(3) فضائل القرآن، لوحة 57.
(4) الفهرست، ص 144.
(5) المصاحف، ص 144.
(6) من ص (150144) من كتاب المصاحف.(1/404)
وقد وردت في كتاب أبي محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه (346هـ) المسمى كتاب (الكتّاب) فصول عن نقط الإعجام والشكل على مذاهب الكتّاب وأهل العربية، وقد تضمن هذا الكتاب معلومات قيمة عن الكتابة العربية عامة وعن موضوع النقط والشكل خاصة (1).
أما ما كتب في موضوع النقط بعد عصر الداني فيبدو محدودا، وما ألف فيه كان يدور حول كتاب المحكم أيضا ويستمد منه بصورة عامة، فقد نظم أبو عبد الله محمد بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله الأموي الشريشي الخرّاز المتوفى سنة 718هـ، قواعد النقط في أرجوزة جعلها خاتمة نظمه المشهور بمورد الظمآن الذي سبقت الإشارة إليه في مصادر الرسم، وقد اشتهرت هذه الأرجوزة باسم (ضبط الخراز) وبلغت أربعة وخمسين ومائة بيت (2). وابتدأها بعد أن أتم ما أراد من موضوع الرسم بقوله (3):
هذا تمام نظم رسم الخطّ ... وها أنا أتبعه بالضبط
كيما يكون جامعا مفيدا ... على الذي ألفيته معهودا
مستنبطا من زمن الخليل ... مشتهرا في أهل هذا الجيل
وضمّنها الخراز من موضوعات النقط ما سبق أن أشرنا إليه من موضوعات المحكم من أحكام وضع الحركة ثم السكون والتشديد والمد والمدغم وأحكام الهمزة والصلة ونقط ما نقص هجاؤه وما زيد فيه، وكيفية نقط اللام ألف، على اختلاف يسير بينه وبين المحكم حتمته هذه السنين الطويلة بينهما، وما حدث خلالها من تطور في كيفية النقط.
ونظم ميمون بن مساعد المصمودي المتوفى بفاس سنة 816هـ (4) كتاب (المحكم) لأبي عمرو الداني، مع الاستفادة من كتب أخرى كالتنزيل لأبي داود سليمان بن نجاح تلميذ الداني، في أرجوزة طويلة في نقط المصحف، سماها (الدرة الجليلة) (5).
__________
(1) انظر: ص 51وما بعدها من الكتاب، ونجد في الجزء الثالث من صبح الأعشى للقلقشندي معلومات جيّدة تساعد في معرفة تاريخ الشكل والنقط في الكتابة العربية.
(2) المارغني، ص 439.
(3) نفس المصدر، ص 319.
(4) عمر رضا كحالة: ج 13، ص 66.
(5) انظر د. عزة حسن: فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية (علوم القرآن)، دمشق، 1962،(1/405)
وقد شرح أبو عبد الله محمد بن عبد الجليل التّنسي (ت 899هـ) (ضبط الخراز) وسمّى ذلك الشرح (الطراز في شرح ضبط الخراز)، واعتمد في شرحه على ما عند أبي عمرو الداني وتلميذه أبي داود (1)، وتوجد من هذا الكتاب عدة نسخ مخطوطة (2)، ويبدو أن شرح التنسي لم يكن أول شرح لضبط الخراز، فقد صرح في المقدمة أن هناك شراحا سبقوه حين يقول (3): «وبعد فإني لما رأيت من تكلم عن ضبط الأستاذ أبي عبد الله الشريشي المعروف بالخراز وجدتهم بين مختصر اختصارا مخلا، ومطول تطويلا مملا، فتاقت نفسي إلى أن أضع عليه شرحا متوسطا يكون أنشط لقارئيه وأقرب لفهم طالبيه فشرعت فيه مستعينا بالله تعالى، وسميته بالطراز في شرح ضبط الخراز». وأشرت من قبل إلى أن المارغني شرح مورد الظمآن والضبط معتمدا على شرحي ابن عاشر الأنصاري وأبي عبد الله التنسي.
وإضافة إلى ذلك نجد أحيانا فصولا عن الضبط في بعض الكتب المؤلفة في رسم المصحف بعد عصر الداني، من ذلك الفصل الذي أورده ابن وثيق الأندلسي (567 654هـ) في آخر كتابه في الرسم (4). والفصل الذي أورده أبو طاهر العقيلي (ت 623هـ) في آخر كتابه أيضا (5). ورغم أن هذه الفصول لا يتجاوز الواحد منها بضع صفحات إلا أنها مهمة في بيان تاريخ نقط المصاحف وتطوره، إذ كثيرا ما ينص المؤلفون على طريقة نقط المصاحف المتبعة في عصرهم.
ويبدو أن التأليف في موضوع النقط والشكل قد قلّ الاهتمام به بعد عصر الداني نسبيا، ويرى الدكتور عزة حسن أن السبب في ذلك هو انصراف الناس في العصور المتأخرة عن طريقة النقط المدور في ضبط المصاحف إلى طريقة الشكل المأخوذ من
__________
ص 360، وفيها نسخة مخطوطة من الأجوزة. وذكر صاحب معجم المؤلفين (ج 13، ص 66) أن للمصمودي كتابا في النقط غير الدرة اسمه (المورد الروي في نقط المصحف العلي).
(1) انظر د. عزة حسن: مقدمة تحقيق المحكم، ص 34.
(2) نفس المصدر، ص 35.
(3) الطراز، ورقة 1ب.
(4) لوحة (3833).
(5) انظر: لوحة 24وما بعدها.(1/406)
صور الحروف الذي وضعه الخليل بن أحمد واتبعه النحويون وأهل اللغة، لأنها أسهل وأقرب إلى فهم القارئ (1).
ويلاحظ أيضا أن التأليف في هذا الموضوع بعد عصر الداني قد تركز في بلاد المغرب والأندلس، بينما لا نكاد نجد في المشرق من اهتم بهذا الموضوع في العصور المتأخرة، وكأن أهل المغرب والأندلس كانوا تشبثا بطريقة النقط المدوّر التي تحتاج إلى خبرة ومعرفة واسعة بها من أهل المشرق الذين استعملوا طريقة الشكل الذي وضع أسسه الخليل منذ وقت مبكر على نحو ما سنبين ذلك بعد قليل.
أما الوثائق المخطوطة التي سوف أستعين بها في متابعة تطور النقط والشكل في الكتابة العربية على نحو ما ترويه الكتب المؤلفة في هذا الموضوع فإن من الصعوبة بمكان الوصول إلى كل ما هو موجود منها في مكتبات التراث الإسلامي في العالم، إذ لا تخلو مكتبة من تلك المكتبات من مصحف مخطوط أو أجزاء منه أو من بردية أو عملة معدنية أو كتاب قديم مخطوط أو كتابة على لوح من الصخر أو الرخام. وقد كان مما يسّر لي الوصول إلى كثير من نماذج المصاحف والكتب المخطوطة التي ترجع إلى فترات متقدمة وغير ذلك من الوثائق المخطوطة، تلك المجموعات الخطية المصورة التي حرص مؤلفوها على انتقاء صور للمخطوطات العربية أيا كان موضوعها أو المادة التي كتبت عليها، موزعة على العصور المختلفة، وقد كان للمصاحف القسم الأكبر من تلك المجموعات رغم صعوبة تحديد تاريخ القديم منها تحديدا دقيقا، ولعل أوسع مجموعة ضمت أشمل عدد من النماذج هي مجموعة. الذي جمع فيها نماذج خطية تمتد من القرن الأول حتى نهاية القرن العاشر الهجري (2)، وقد ضمت دراسة الدكتور صلاح الدين المنجد عن تاريخ الخط العربي كثيرا من صور خطوط المصاحف والخطوط العربية القديمة على الحجر والرق وغيرهما (3). كذلك يمكن الاستفادة في هذا المجال من المجموعة الخطية التي جمعها الأستاذ ناجي زين الدين وأورد فيها نماذج مختلفة من
__________
(1) مقدمة تحقيق المحكم، ص (3433).
(2).:.، 5491.
(3) د. صلاح الدين المنجد: دراسات في تاريخ الخط العربي، بيروت، 1972.(1/407)
أنواع الخط العربي (1)، إلى جانب كثير من المصادر الأخرى التي اهتمت بموضوع الخط العربي وضمت لوحات من ذلك التراث، هذا إلى جانب بعض المصاحف الكريمة المخطوطة التي أمكنني الاطلاع عليها في دار الكتب المصرية، مما سأشير إليه في موضعه.
ومع أن هذه المصادر قد أتاحت للبحث نماذج كثيرة ومن جهات متعددة ومتباعدة هي ثمرة جهود كثير من العلماء الذين سهلوا على الباحثين سبل الاطلاع عليها إلا أن طريقة التصوير بالأبيض والأسود قد طمست الألوان المتعددة التي ضبطت بها بعض المصاحف القديمة، بحيث يصعب فهم دلالة العلامات أحيانا، فالمصحف الذي أورد منه موريتز في مجموعته عدة لوحات (3631) بدت فيه العلامات جميعا وأصل الخط بلون واحد، ولولا أني كنت اطلعت على أصل هذا المصحف بدار الكتب المصرية (2)، وعرفت طريقة رسم العلامات فيه والألوان التي استعملت في ذلك لما أمكن فهم طريقة ضبطه بسهولة، خاصة أنه يبدو قد ضبط على أكثر من قراءة، ومن ثم فإن عدم توضيح ألوان المداد المستعملة في الصور الخطية في المراجع المذكورة يجعلنا نجهل ذلك أو نعجز عن تحديده، إلى جانب ما قد يجلبه من صعوبة في فهم ضبط تلك اللوحات.
ولا بد من الإشارة هنا أيضا إلى حقيقة مهمة تتعلق بجانب الاعتماد على النماذج المصورة وهي أن التصوير مهما جاء دقيقا فإن احتمال غموض بعض ملامح الأصل يظل قائما، خاصة إذا كان الأصل قد أثرت عليه عوامل البلى لتقادم السنين، كما سنلاحظ في البردية المؤرخة سنة 22هجرية، ولعل أوضح مثال يجلّي خطورة الاعتماد على النماذج المصورة وهو ما لا نجد بدا منه ما لاحظناه على صورة نقش القاهرة المؤرخ بسنة (31هجرية) فقد بدت اللام في كلمة (لعبد الرحمن) في السطر الثاني منه منقطعة عن العين في أغلب المصادر التي نشرت صورته، وحاولت الاستعانة بهذه الظاهرة في تفسير انقطاع لام الجر في الرسم العثماني في مثل (مال هؤلاء) كما مر
__________
(1) ناجي زين الدين: مصور الخط العربي، بغداد، المجمع العلمي العراقي، 1968م. وللأستاذ ناجي كتاب آخر في الموضوع لا يخلو من فائدة في هذا المجال هو: بدائع الخط العربي، بغداد، وزارة الأعلام، 1971.
(2) محفوظ بدار الكتب المصرية برقم 1مصاحف.(1/408)
بيان ذلك ولكن بعد أن اطلعت على الأصل المحفوظ في متحف الفن الإسلامي وجدت أن ما ظننته من انقطاع اللام في (لعبد) غير صحيح وأن ما بدا في الصورة المنشورة للنقش من انقطاع اللام إنما هو بسبب عجز الصورة عن إظهار انكسارات الخط المنقوش على الصخر، ومع ذلك فلعل اليقظة في تأمل الصور إلى جانب الحذر يمكن أن يخفف شيئا قليلا من خطر الاعتماد عليها.
وبالمثل فإن إمكانيات البحث ووسائله تعجز عن إظهار الألوان في ضبط الكلمات كما روى علماء النقط، وكما نجده في بعض المصاحف المخطوطة القديمة، وسأحاول توضيح ذلك بالوصف ما أمكن، وكذلك قد يصعب إعطاء صورة مطابقة لما يروى في المصادر أو يوجد في بعض المصاحف المخطوطة وغيرها من علامات، ولكن سأحاول تبيين ذلك بخط اليد ما أمكن إن عجزت عن إظهاره الآلة الكاتبة.(1/409)
وبالمثل فإن إمكانيات البحث ووسائله تعجز عن إظهار الألوان في ضبط الكلمات كما روى علماء النقط، وكما نجده في بعض المصاحف المخطوطة القديمة، وسأحاول توضيح ذلك بالوصف ما أمكن، وكذلك قد يصعب إعطاء صورة مطابقة لما يروى في المصادر أو يوجد في بعض المصاحف المخطوطة وغيرها من علامات، ولكن سأحاول تبيين ذلك بخط اليد ما أمكن إن عجزت عن إظهاره الآلة الكاتبة.
المبحث الأول علامات الحركات القصيرة
كان نزول القرآن الكريم بالعربية، ودخول غير العرب في الإسلام، وحرصهم على تلاوة القرآن وتعلم العربية، وما حدث من انسياح المسلمين من قلب الجزيرة إلى كل جهات الأرض، وما صاحب ذلك كله من امتزاج لغوي ومن اتساع استعمال الكتابة قد خلق وضعا لغويا جديدا لم يكن من اليسير على الكتابة العربية أن تستجيب له وهي على حالتها القديمة من إهمال تمثيل الحركات، فمع ازدياد حجم النصوص التي تكتب بها ضعفت السليقة التي كان يقرأ بها العربي النص المكتوب قراءة صحيحة، كذلك فإن المسلمين من غير العرب لم يكن من اليسير عليها تجنب الخطأ فيما يقرءون من نصوص مكتوبة بها، فكان ذلك مدعاة للتفكير بوسيلة تعين على ضبط القراءة خاصة في القرآن الكريم ومن ثم فإن قول اللغوي الفرنسي فندريس (1): إن العناية التي تبذلها اللغة في تسجيل الأصوات ترجع إلى انتشار اللغة بين أقوام لم يكونوا يتكلمونها بسليقتهم، يبدو صحيحا.
وقد أدرك علماء السلف تلك الحالة التي صارت إليها اللغة في أفواه الناطقين بها، والكتابة التي لم تكن تقدم العون الكافي لتجنب الخطأ في القراءة، فصور جانبا من ذلك أبو بكر الزبيدي بقوله (2): ولم تزل العرب تنطق على سجيتها في صدر إسلامها وماضي جاهليتها حتى أظهر الله الإسلام على سائر الأديان، فدخل الناس فيه أفواجا، وأقبلوا إليه أرسالا، واجتمعت فيه الألسنة المتفرقة، واللغات المختلفة ففشا الفساد في اللغة العربية، واستبان منها في الإعراب الذي هو حليها، والموضح لمعانيها، فتفطن لذلك من نافر بطباعه سوء أفهام الناطقين من دخلاء الأمم بغير المتعارف من كلام العرب،
__________
(1) اللغة، ص 406، وانظر يوهان فك: ص 11حيث يقول: «إن اتخاذ المسلمين الجدد لغة العرب لسانا لهم كان هو الدافع الأول للملاحظات النحوية».
(2) طبقات النحويين واللغويين، ص 1.(1/410)
فعظم الإشفاق من فشوّ ذلك وغلبته، حتى دعاهم الحذر من ذهاب لغتهم وفساد كلامهم إلى أن سبّبوا الأسباب في تقييدها لمن ضاعت عليه وتثقيفها لمن زاغت عنه.
وقد أحسن الداني في توضيح الأسباب التي دفعت السلف إلى تكميل الكتابة وخاصة في المصاحف حين قال (1): إن الذي دعا السلف، رضي الله عنهم، إلى نقط المصاحف بعد أن كانت خالية من ذلك وعارية منه وقت رسمها وحين توجيهها إلى الأمصار ما شاهدوه من أهل عصرهم، مع قربهم من زمن الفصاحة ومشاهدة أهلها، من فساد ألسنتهم، واختلاف ألفاظهم، وتغير طباعهم، ودخول اللحن على كثير من خواص الناس وعوامهم، وما خافوه مع مرور الأيام وتطاول الأزمان من تزيّد ذلك، وتضاعفه فيمن يأتي بعد ممن هو لا شك في العلم والفصاحة والفهم والدراية دون من شاهدوه، ممن عرض له الفساد، ودخل عليه اللحن، لكي يرجع إلى نقطها ويصار إلى شكلها عند دخول الشكول وعدم المعرفة، ويتحقق بذلك إعراب الكلم، وتدرك كيفية الألفاظ.
وكانت علامات الحركات القصيرة الثلاث قد مرت بمراحل من التطور حتى استقرت على النحو الذي نراه اليوم في المصحف، وما يستعمله الناس في كتابتهم، فكانت تمثل في أول الأمر بواسطة نقط مدورة بلون يخالف لون المداد ثم أبدلت بمرور الأيام بعلامات أو حروف صغيرة توضع فوق الحرف أو تحته، وقد كان الانتقال من مرحلة النقط المدور لتمثيل الحركات إلى مرحلة الشكل المستطيل قد استغرق قرونا وتباين سرعة وبطءا تبعا لاختلاف الأمصار الإسلامية شرقا وغربا (2).
__________
(1) المحكم، ص (1918).
(2) هناك مصطلحات ثلاثة أو أربعة تتردد في مجال تكميل الرسم العثماني والكتابة العربية وهي النقط والشكل والإعجام وأخيرا الضبط، وما شارك هذه الكلمات في المادة، أما (النقط) فهو من نقط الحرف ينقطه نقطا، والاسم النقطة والجمع النقط والنقاط، ونقّط المصاحف تنقيطا فهو نقاط (انظر ابن منظور: ج 9، ص 294، مادة نقط) وقد استعملت كلمة النقط في معنيين متقاربين الأول الدلالة على النقط الحمراء التي ينسب وضعها إلى أبي الأسود الدؤلي والتي تمثل الحركات القصيرة وتسمى (نقط الأعراب) أو (النقط المدوّر) تمييزا له عن المعنى الثاني للنقط وهو إعجام الحروف في سمتها بالسواد لتمييز الحروف المتشابهة في الصورة وقد عرف هذا باسم (نقط الإعجام) «والعجم: النّقط بالسواد، مثل التاء عليه نقطتان، يقال أعجمت الحرف، والتعجيم مثله، ولا تقل عجمت» (الجوهري: ج 5، ص 1981) «وتقول أعجمت الكتاب إعجاما إذا نقطته،(1/411)
أولا: النقط المدوّر:
يبدو أن وضع علامات للحركات في الكتابة قد ارتبط بعمل آخر وهو محاولة استكشاف قواعد اللغة العربية وكيفية بناء الجملة وأثر ذلك في حركة أواخر الكلم، فكانت العلامات الكتابية تعين على ضبط القراءة والقواعد النحوية تعين على النطق الصحيح.
كانت البصرة في العراق أسبق الأمصار الإسلامية في دراسة اللغة وتسجيلها، فوقع
__________
وهو معجم، وأنا له معجم. وكتاب معجم ومعجّم أي منقوط» (الداني: المحكم، ص 2322).
وأما (الشكل) فقد قال أبو حاتم «شكلت الكتاب أشكله فهو مشكول إذا قيدته بالإعراب» (الأزهري: ج 1، ص 25، وابن منظور: ج 13، ص 381) وهو مأخوذ من شكال الدابة (ابن دريد:
الجمهرة، ج 3، ص 68) قال: «شكلت الدابة أشكله شكلا إذا شددت قوائمه بالشكال». وقد تفرّد الخليل بإعطاء الشكل معنى الإعجام فقد ذكر ابن سيده (المخصص، ج 13، ص 5، وانظر ابن منظور: ج 13، ص 381) «صاحب العين شكلت الكتاب أشكله شكلا أعجمته» وربما كان معنى الشكل عاما يشمل كل ما يعين على ضبط الكتابة لكنه خصص بالعلامات التي وضعها الخليل ليستعملها أهل اللغة والنحو في ضبط الكتابة في كتبهم حتى لقد عرف باسم (شكل الشعر) ويقال له مصطلح (النقط المدوّر) للدلالة على النقط الحمراء التي تشير إلى الحركات في المصاحف (انظر الداني: المحكم، ص 22) وقد عبر العقيلي (لوحة 24) عن شكل الشعر بقوله (الشكل المستطيل) وهو تعبير أكثر توفيقا إذا قارنا بين طبيعة العلامات في النقط المدوّر وشكل الشعر، ثم إن ما يعرف بشكل الشعر استخدم في المصاحف، ومن ثم فإن إطلاق مصطلح الشكل المستطيل للدلالة على علامات الخليل استخدام مقبول، وإلى جانب هذه المصطلحات الثلاثة ظهر مصطلح آخر بالرغم من أن استخدامه جاء لاحقا، وهو (علم الضبط) كمقابل لعلم الرسم، وقد استخدمه الداني كمرادف للشكل يقول (المحكم، ص 22) «والشكل أصله التقييد والضبط، تقول شكلت الكتاب شكلا، أي قيّدته وضبطته»، وقد استخدم أبو داود سليمان بن نجاح تلميذ الداني مصطلح (الضابط) للدلالة على ناقط المصحف (التنزيل، لوحة 4)، وكذلك استخدام أبو الحجاج البلوي مصطلح الضبط كمرادف للشكل (ألف باء، ج 1، ص 71و 175) واستعمل العقيلي (لوحة 24) مصطلح (الضبط المستطيل) كمرادف لمصطلح (الشكل المستطيل) وقد استخدمه الخراز في منظومته كمقابل للرسم (انظر المارغني: ص 319) وما لبث أن استخدم علم الضبط أو فن الضبط (انظر المارغني: ص 4و 321). وسأحاول المحافظة على الاستعمال الواضح لهذه المصطلحات تحاشيا لخلط قد يؤدي إلى غموض لم ينج منه بعض الدراسين.(1/412)
على عاتق علمائها النهوض بمهمة تكميل الرسم العثماني والكتابة العربية ووضع علامات الحركات، وقد قال ابن سلام الجمحي (1): «وكان لأهل البصرة في العربية قدمة، وبالنحو ولغات العرب والغريب عناية، وكان أول من استنّ العربية، وفتح بابها وأنهج سبيلها، ووضع قياسها أبو الأسود الدؤلي وهو ظالم بن عمرو بن سفيان وكان رجل أهل البصرة». وتقدم المصادر العربية روايات كثيرة عن أول من بدأ بتقعيد القواعد والأسباب التي دفعت إلى ذلك حتى لقد جمع منها السيوطي رسالة سماها: (سبب وضع علم العربية) (2). وأغلب تلك الروايات تشير إلى أبي الأسود الدؤلي وأنه أول من وضع العربية ورسم في النحو رسوما، وأنه أول من نقط المصاحف، ولا يعنينا هنا أمر ابتداء النحو كثيرا، ولا ما ورد من روايات توضح الدوافع والملابسات التي دفعت إلى ذلك إلا بالقدر الذي يتصل باختراع طريقة تمثيل الحركات القصيرة بواسطة النقط.
وتكاد الروايات المتعلقة ببداية النحو ونقط المصاحف تتفق في مضمونها، فهي تشير دائما إلى خطأ لغوي قد وقع من بعض المتكلمين في كلامهم أو في تلاوة بعض الآيات الكريمة وذلك نتيجة لضعف في السليقة اللغوية وعدم مساعدة الكتابة العربية آنذاك على تحقيق القراءة الصحيحة وتجنب الخطأ، فتذكر بعض الروايات أن أبا الأسود الدؤلي سمع ابنته تلحن فدفعه ذلك إلى التفكير في عمل شيء يقي الناس من اللحن، وتذكر مصادر أخرى أن أبا الأسود سمع رجلا فارسيا اسمه سعد وقد لحن في كلامه فضحك منه من سمعه، وبعضها يذكر أن زيادا أمير البصرة سمع لحنا فاحشا من قوم حضروا عنده، فطلب من أبي الأسود أن يضع للناس ما يمنعهم من الخطأ في كلامهم.
وتشير بعض الروايات إلى أن أبا الأسود سمع بعض من يخطئ في القراءة فدفعه ذلك إلى نقط المصحف ووضع أبواب في النحو. وتذكر بعض المصادر أن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه سمع لحنا في العراق فأمر أبا الأسود أن يضع للناس النحو، أو أنه دفع إليه صحيفة فيها بعض من ذلك وأمره أن ينحو نحوها (3).
__________
(1) طبقات فحول الشعراء، ص 12.
(2) طبعت ضمن التحفة البهية باستانبول، 1302هـ، وهي الرسالة الرابعة، من ص (5349).
(3) انظر تفصيل تلك الروايات: أبو الطيّب اللغوي: عبد الواحد بن علي: مراتب النحويين، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، 1955، ص 6وما بعدها. وأبو الفرج الأصبهاني: مج 12، ص (202 304)، والسيرافي: ص (1815)، وأبو بكر الزبيدي: ص (1514)، وابن النديم: ص 40، وأبو(1/413)
ومهما يكن من شيء فإن أغلب تلك الروايات تذكر لأبي الأسود الدؤلي دورا هاما في ذلك المجال، لكن بعضها يشير إلى أنه رسم أبوابا من النحو فحسب وبعضها ينص على أنه نقط المصاحف والبعض الآخر ينسب كلا العملين لأبي الأسود، والملاحظ أن الروايات التي تذكر نقط المصاحف ترجع جميعها إلى فترة ولاية زياد بن أبيه على البصرة (5344هـ) (1).
ومن أمثلة الروايات التي تتحدث عن بداية النحو ونقط المصاحف ما رواه أبو بكر الأنباري قال: حدثني أبي قال حدثنا أبو عكرمة قال: قال العتبي: كتب معاوية إلى زياد يطلب عبيد الله ابنه، فلما قدم عليه كلّمه فوجده يلحن فرده إلى زياد، وكتب إليه كتابا يلومه فيه ويقول: (أمثل عبيد الله يضيّع)، فبعث زياد إلى أبي الأسود فقال له: يا أبا الأسود، إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب فلو وضعت شيئا يصلح به الناس كلامهم ويعربون به كتاب الله فأبى ذلك أبو الأسود وكره إجابة زياد إلى ما سأل، فوجه زياد رجلا وقال له: اقعد في طريق أبي الأسود فإذا مر بك فاقرأ شيئا من القرآن وتعمّد اللحن فيه ففعل ذلك، فلما مرّ به أبو الأسود رفع الرجل صوته يقرأ (إن الله بريء من المشركين ورسوله) قرأها بجرّ رسوله فاستعظم ذلك أبو الأسود وقال:
عزّ وجه الله أن يبرأ من رسوله، ثم رجع من فوره إلى زياد فقال له: يا هذا قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن فابعث إليّ بثلاثين رجلا، فأحضرهم زياد فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم لم يزل يختارهم حتى اختار منهم رجلا من عبد القيس، فقال خذ المصحف وصبغا يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتي فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتها فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعت شيئا من هذه الحركات غنة فانقط نقطتين، فابتدأ بالمصحف حتى
__________
البركات الأنباري: ص 4وما بعدها، والقفطي: ج 1، ص (94)، وابن خلكان: ج 2، ص (216 217)، والسيوطي: المزهر، ج 2، ص 398، ورسالة في سبب وضع علم اللغة (له)، ص (49 53).
(1) تذكر بعض المصادر أن بعض أحداث تلك الروايات قد وقع بين أبي الأسود وبين عبيد الله بن زياد (ت 67هـ)، انظر أبو الفرج الأصبهاني: ج 12، ص 303، والسيرافي: ص 17، والسيوطي:
سبب وضع علم العربية، ص 52.(1/414)
أتى على آخره. ثم وضع المختصر المنسوب إليه بعد ذلك (1).
وكان محمد بن سلام الجمحي قد قال وهو يتحدث عن دور أبي الأسود في تأسيس علم العربية «فوضع باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الجر والرفع والنصب والجزم» (2). وقال ابن قتيبة «هو أول من وضع العربية» (3). وقال أبو الطيب اللغوي:
«كان أول من رسم للناس النحو أبو الأسود الدولي» (4). ويروي أبو الفرج الأصبهاني عن أبي بكر بن عياش أن عاصم بن أبي النجود قال: «أول من وضع العربية أبو الأسود الدولي» (5)، ويروى أيضا عن المدائني أنه قال: «أمر زياد أبا الأسود الدؤلي أن ينقط المصاحف، فنقطها ورسم من النحو رسوما» (6) ويروي أبو بكر اليزيدي أن أبا العباس محمد بن يزيد المبرد قال: «أول من وضع العربية ونقط المصاحف أبو الأسود ظالم بن عمرو» (7). وقال ياقوت: «الأكثر على أنه أول من وضع العربية، ونقّط المصحف» (8).
وإذا كانت روايات وأقوال هؤلاء العلماء تنص بشكل محدد على دور أبي الأسود الدؤلي في نقط المصاحف وتقدم لنا وصفا دقيقا للطريقة التي جرى عليها وهو ما تؤيده المصاحف المخطوطة القديمة الباقية إلى اليوم فإنه من غير اليسير تحديد دوره في وضع قواعد العربية، رغم أن ابن سلام الجمحي وغيره قد ذكروا أسماء أبواب معينة من النحو، وليس من هدفنا هنا بحث هذه القضية (9)، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن
__________
(1) إيضاح الوقف والابتداء، ج 1، ص (4139). ونقل هذا الخبر أبو عمرو الداني عن أبي بكر الأنباري، (المحكم، ص 43)، وانظر السيوطي: سبب وضع علم العربية، ص (5150).
(2) طبقات فحول الشعراء، ص 12، وانظر ابن النديم: ص 40، والقفطي: ج 1، ص (54).
(3) المعارف، ص 192.
(4) مراتب النحويين، ص 6.
(5) الأغاني، ج 12، ص 303. وانظر السيرافي: ص 17. وأبو بكر اليزيدي: ص 14.
(6) الأغاني، ج 12، ص 302. وانظر السيوطي: سبب وضع العربية، ص 51.
(7) طبقات النحويين واللغويين، ص 13.
(8) معجم الأدباء، ج 12، ص 34.
(9) بحث هذه القضية الأستاذ إبراهيم مصطفى (انظر: أول من وضع النحو، مقال في مجلة كلية الآداب، جامعة فؤاد (القاهرة حاليا)، مج 10، ج 2، سنة 1948)، ورفض كل الروايات العربية(1/415)
طريقة أبي الأسود في نقط المصاحف كما سنبينها بعد قليل تعتمد على التمييز بين الحركات القصيرة في أواخر الكلم خاصة، وهذه العملية تتيح للقائم بها نماذج عدة من تغير أواخر الكلمات تبعا لتغير مواقعها، وهو موضوع النحو عند علماء العربية، وإذا لم يثبت أن لأبي الأسود دورا في وضع أوليات النحو سوى نقط المصحف فإن ذلك يعد وحده عملا نحويا كبيرا خاصة إذا تذكرنا أن ذلك يتم لأول مرة في تاريخ اللغة العربية وكتابتها.
ولو رجعنا إلى الأقوال السابقة وتأملنا معنى (العربية) في مثل قولهم: كان أبو الأسود (أول من وضع العربية ونقّط المصاحف) لما تبادر إلى الذهن غير ما يسمى اليوم بعلم النحو، ولكن تأمل بعض النصوص القديمة التي ترجع إلى فترات أقرب إلى عصر الدؤلي قد تساعد في تحديد معنى (العربية) التي تقترن دائما بعمل أبي الأسود الثاني، وهو نقط المصاحف، فقد روى ابن أبي داود جملة أخبار عن الحسن بن يسار البصري (ت 110هـ) ومحمد بن سيرين (ت 110هـ) وهو إمام البصرة مع الحسن (1)، حول كراهتهما نقط المصحف فيقول (كره أن تنقط المصاحف بالنحو أو إنهما كانا يكرهان نقط المصحف بالنحو) (2). ثم ينقل أخبارا أخرى عن تجويزهما ذلك فيقول: عن الأشعث إن الحسن «كان لا يرى بأسا أن ينقط المصحف بالنحو» (3). ويروى عن محمد بن سيف أنه قال: «سألت الحسن عن المصحف ينقط بالعربية» (4). ويروي الداني أن ابن وهب قال: «حدثني الليث (ت 175) قال: لا أرى بأسا أن ينقط المصحف
__________
عن أوليات النحو العربى واعتمد على تتبع أقدم من نسب إليه رأي نحوي فوجده (عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي) فرفض لذلك القول بأن أبا الأسود أول من وضع النحو وقال (ص 72) «فعمل أبي الأسود هو نقط المصاحف كما أشارت إليه الروايات». وقد كتب الأستاذ عبد الوهاب حمودة بحثا نقض فيه ما جاء في المقال السابق في نفس المجلة، (مج 13، ج 1، سنة 1951)، وانظر أيضا د. حسن عون: ص 245.
(1) ابن الجزري: غاية النهاية، ج 2، ص 151. وانظر ابن قتيبة: المعارف، ص 194.
(2) كتاب المصاحف، ص 141.
(3) كتاب المصاحف، ص 142.
(4) نفس المصدر والصفحة.(1/416)
بالعربية» (1). فنجد في هذه النصوص أن كلمة (النحو) وكلمة (العربية) قد استعملت استعمالا مرادفا لكلمة (النقط)، أو ما عرف فيما بعد (بالشكل)، فهل يعني ذلك أن كلمتي (النحو والعربية) استعملتا بعد النصف الثاني من القرن الهجري الأول للدلالة على نقط المصاحف، وهل يمكن القول بناء على ذلك إن معنى قولهم إن أبا الأسود كان (أول من وضع العربية) هو أن أبا الأسود كان أول من وضع نظام النقط الخاص بالحركات، وأنه أول من استعمله في المصاحف؟ ربما يكون ذلك ممكنا إذا تحقق أن استعمال كلمة (النحو والعربية) بالمعنى الذي ذكر كان مستعملا فعلا في تلك الفترة.
ولا بد من الإشارة إلى أن بعض المصادر تنسب وضع نقط المصاحف إلى بعض العلماء الذين جاءوا بعد أبي الأسود، فيروي ابن أبي داود عن هارون بن موسى أنه قال: «أول من نقط المصاحف يحيى بن يعمر» (2)، وقال السيرافي (3) «اختلف الناس في أول من رسم النحو فقال قائلون أبو الأسود الدؤلي، وقال آخرون نصر بن عاصم الدؤلي ويقال الليثي، وقال آخرون عبد الرحمن بن هرمز». وروى السيرافي أيضا عن خالد الحذاء أنه قال: «سألت نصر بن عاصم، وهو أول من وضع العربية: كيف تقرؤها؟ قال {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ اللََّهُ الصَّمَدُ} لم ينون» (4). وذكر أيضا أن ابن لهيعة روى عن أبي النضر أنه قال: «كان عبد الرحمن بن هرمز أول من وضع العربية» (5).
ولكن لا ينبغي أن تصدنا هذه الروايات المحمودة عن ذلك الإجماع الواسع الذي تقدم على أن أبا الأسود هو المبتدئ بنقط المصاحف، ولعل هذه الأخبار التي تذكر نصر بن عاصم (ت 90هـ) ويحيى بن يعمر (ت قبل 90هـ) وعبد الرحمن بن هرمز (ت 117هـ) يمكن أن نفهمها من خلال إشارة المصادر إلى أن هؤلاء الثلاثة قد أخذوا عن أبي الأسود الدؤلي علم العربية وتتلمذوا عليه وتعلموا النقط منه (6)، ولا تذكر
__________
(1) المحكم، ص 13.
(2) المصاحف، ص 414. وانظر الداني: المحكم، ص 5.
(3) أخبار النحويين والبصريين، ص 13.
(4) نفس المصدر، ص 20. وانظر الداني: المحكم، ص 6.
(5) نفس المصدر، ص (2221). وانظر أبو بكر اليزيدي: ص 20. وابن النديم: ص 39.
(6) انظر ابن سلام الجمحي: ص 13. وأبو حاتم الرازي: ج 1، ص 37. وأبو الطيّب اللغوي:(1/417)
المصادر أن عبد الرحمن بن هرمز نقط المصاحف لكنها أشارت إلى أنه أول من وضع العربية (1) ويقول القفطي (2): «والسبب في هذا القول أنه أخذ عن أبي الأسود الدؤلي وأظهر هذا العلم بالمدينة، وهو أول من أظهره وتكلم فيه بالمدينة. وكان أعلم الناس بالنحو وأنساب قريش وما أخذ أهل المدينة النحو إلّا منه، ولا نقلوه إلّا عنه» (3). وقال أيضا (4): «قال بعض الرواة: نصر بن عاصم أول من وضع النحو وسببه، وهو أول من أخذه عن أبي الأسود الدؤلي وفتق فيه القياس وكان أنبل الجماعة الذين أخذوا عن أبي الأسود فنسب إليه». وقال أبو عمرو الداني: «يحتمل أن يكون يحيى ونصر أوّل من نقطاها للناس بالبصرة، وأخذا ذلك عن أبي الأسود إذ كان السابق إلى ذلك والمبتدئ به» (5). ولا ينبغي أن يغيب عن البال أن من المحتمل جدا أن يكون معنى النقط الذي ينسب إلى يحيى وعاصم هو إعجام الحروف، كما تدل عليه الرواية المتعلقة باستعمال النقط لتمييز الحروف المتشابهة في الصورة، كما سنذكر ذلك في المبحث التالي.
ومهما يكن من شيء فإن الإجماع العام يظل على أن أبا الأسود هو أول من نقط المصاحف حتى عرفت طريقته بنقط أبي الأسود، أما شخصية أبي الأسود فإنها لم تكن مجهولة في عصره، بل كانت لأبي الأسود مشاركة ملموسة في أحداث زمانه، فقد «كان رجل أهل البصرة، وكان علوي الرأي» (6). ويذكر الطبري لأبي الأسود دورا في الأحداث التي جرت في أواخر خلافة أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه وكان على قضاء
__________
ص 11. والسيرافي: ص 22. وابن النديم: ص 41. والداني: المحكم، ص (76). وأبو البركات الأنباري: ص 11.
(1) عبارة أبي بكر اليزيدي: عن أبي النضر (ص 2) «من أول من وضع العربية».
(2) إنباه الرواة، ج 2، ص 172. وانظر أبو البركات الأنباري: ص 10.
(3) قال أبو الطيّب اللغوي (98): «فأما مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نعلم بها إماما في العربية» وقال أبو بكر الزبيدي (20)» عن أبي النضر قال: كان عبد الرحمن بن هرمز من أول من وضع العربية، وكان من أعلم الناس بالنحو وأنساب قريش. قال محمد: وابن هرمز مدني».
(4) إنباه الرواة، ج 3، ص 343.
(5) المحكم، ص 6.
(6) ابن سلام الجمحي، ص 12. وانظر أبو بكر الزبيدي: ص 13.(1/418)
البصرة من سنة سبع وثلاثين حتى سنة أربعين من الهجرة (1)، ويروي أبو الفرج الأصبهاني عن الجاحظ أنه قال: «أبو الأسود الدؤلي معدود في طبقات من الناس، وهو في كلها مقدم مأثور عنه الفضل في جميعها» (2). وقال عنهما أبو الفرج نفسه «كان أبو الأسود الدؤلي من وجوه التابعين وفقهائهم ومحدثيهم وقد روى عن عمر بن الخطاب وعلى بن أبي طالب رضي الله عنهما فأكثر، وروى عن ابن عباس وغيره، واستعمله عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم» (3). وقد قال عنه ابن سعد في الطبقات الكبرى (4): «وكان شاعرا متشيعا، وكان ثقة في حديثه إن شاء الله، وكان عبد الله بن عباس لما خرج من البصرة استخلف عليها أبا الأسود الدؤلي فأقره عليّ بن أبي طالب عليه السلام». ويقول ابن الجزري (5): «إنه أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وذكر أنه كان قارئا أخذ القراءة عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما فشخصية مثل شخصية أبي الأسود تلك صفاتها كانت مؤهلة لأن تقوم بتلك المهمة العظيمة وهي تكميل الرسم العثماني وضبط المصحف، ووضع أولى لبنات علوم القرآن والعربية.
وتشير المصادر إلى أن أبا الأسود توفي سنة تسع وستين من الهجرة، وله خمس وثمانون سنة (6)، في الطاعون الجارف الذي أصاب البصرة (7). وقيل إنه توفي سنة 67هـ (8). فلا بد إذن أن يكون نقط المصاحف قد عرفه الناس قبل هذا التاريخ، وإذا صح ما تذكره الروايات من ارتباط ذلك بولاية زياد على البصرة فإنه يدل أن ذلك
__________
(1) انظر الطبري: التاريخ، ج 4، ص 461و 462، وج 5، وص 76و 79و 136و 155.
(2) الأغاني، ج 13، ص 204. وانظر ياقوت: معجم الأدباء، ج 2، ص 34.
(3) الأغاني، ج 12، ص 301.
(4) مج 7، ص 99.
(5) غاية النهاية، ج 1، ص 346.
(6) أبو الفرج الأصبهاني: ج 12، ص 339. وانظر أبو بكر الزبيدي: ص 19. وأبو البركات الأنباري:
ص 11. وابن خلكان: ج 2، ص 218. وإنباه الرواة: ج 1، ص 20.
(7) ذكر الطبري (التاريخ، ج 5، ص 612) أن الطاعون الجارف حدث سنة 65هجرية، فهلك به خلق كثير من أهل البصرة.
(8) ياقوت: معجم البلدان، ج 12، ص 35.(1/419)
حدث بين سنتي (5344هـ) وهي سنوات ولايته على البصرة، وحتى لو كان ذلك قد تم في ولاية ابنه عبيد الله فإنه لن يتجاوز سنة 65من الهجرة، أي قبل وفاة الدؤلي.
وقبل أن أبين طريقة أبي الأسود في تمثيل الحركات القصيرة بواسطة النقط المدورة أشير إلى ان بعضا من الباحثين قد ذهب إلى أن نقط الإعراب عرف قبل أبي الأسود (1)
مستدلين على ذلك بما رواه الداني من أن ابن عمر كان يكره نقط المصاحف (2). وليس في ذلك أية دلالة على ما قالوه، لأن عبد الله بن عمر رضي الله عنه توفي سنة ثلاث وسبعين وقيل أربع وسبعين بعد الهجرة (3). وإن دلت كراهة ابن عمر على شيء فإنما تدل على أن النقط عرف قبل وفاته رضي الله عنه بل تدل على أن أبا الأسود كان فعلا قد وضع نظام النقط.
واستدل بعضهم على «أن الصحابة هم الذين بدءوا بنقط المصاحف» (4) بما رواه الداني في المحكم، عن الأوزاعي أنه قال: «سمعت قتادة يقول: بدءوا فنقطوا، ثم خمسوا، ثم عشروا، قال أبو عمرو الداني: هذا يدل على أن الصحابة وأكابر التابعين، رضوان الله عليهم، هم المبتدءون بالنقط ورسم الخموس والعشور، لأن حكاية قتادة لا تكون إلا عنهم، إذ هو من التابعين» (5). واستدلوا أيضا بما رواه الداني من أن أهل مكة كانوا على غير نقط أبي الأسود فتركوا نقطهم واتبعوا طريقة أهل البصرة، وينقل أن ابن أشتة قال: «رأيت في مصحف إسماعيل القسط، إمام أهل مكة، الضمة فوق الحرف،
__________
(1) د. عبد الحي الفرماوي: ص (193192).
(2) المحكم، ص 10. وهذا هو ما جاء في النسخة المطبوعة من كتاب المحكم، لكن جاء في نسخة مخطوطة للكتاب لم يطلع عليها محققه، محفوظة في مكتبة المدينة المنورة، ومنها نسخة مصورة في معهد المخطوطات العربية (رقم 344من مخطوطات السعودية المصورة في المعهد) أن الذي كره نقط المصاحف هو (أبو عمرو) بدلا من (ابن عمر) ولعل المقصود هو أبو عمرو بن العلاء (ت 154هـ)، وإذا صح ذلك بطل الاستدلال بهذه الرواية أساسا.
(3) ابن سعد: مج 4، ص (188187). وقد قال ابن قتيبة (المعارف، ص 80): «إنه آخر من مات بمكة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم».
(4) د. عزة حسن: مقدمة تحقيق المحكم، ص 30. ود. الفرماوي: ص 197.
(5) المحكم، ص (32).(1/420)
والفتحة قدّام الحرف، ضد ما عليه الناس» (1).
وذلك كله لا يقوم دليلا على أن نقط المصاحف عرف قبل الدؤلي، فقول الداني إن حكاية قتادة الذي توفي سنة (117هـ) (2)، لا تكون إلا عن الصحابة وأكابر التابعين لا تدل على شيء من أمر وضع النقط، فقتادة يتحدث عمن نقط المصاحف ممن سبقوه، وهو توفي بعد نصف قرن من وفاة أبي الأسود، ولا بد أن النقط قد عرف واستعمله الناس في خلال تلك السنين، ويصبح قول قتادة (بدءوا فنقطوا) لا يدل إلا على عمل أبي الأسود الدؤلي وتلامذته الذين أشاعوا طريقته.
أما القول بأن أهل مكة كانوا ينقطون على غير نقط أهل البصرة والاستدلال بمصحف إسماعيل القسط حيث كانت الفتحة فيه قدام الحرف والضمة فوقه، فلا يدل على أن النقط كان موجودا في مكة قبل أبي الأسود، فإسماعيل القسط عاش بين سنتي (100 170هـ) (3) وهو تاريخ متأخر عن بداية استعمال النقط في المصاحف، وإذا كانت دلالة النقط التي استعملها أبو الأسود على الحركات دلالة اصطلاحية فليس غريبا أن يجعل إسماعيل القسط موضع الفتحة في مكان الضمة ما دام هو نفسه يعرف دلالة كل نقطة، وطريقته في أساسها لا تخرج عن طريقة أبي الأسود (4).
وإذا رجح الآن بما يشبه اليقين القول بأن أبا الأسود الدؤلي هو أول من نقط المصاحف نعرض لطريقة أبي الأسود في تمثيل الحركات بواسطة النقط، وقد مرت من قريب رواية أبي بكر الأنباري عن العتبي في سبب نقط المصاحف وكيف استعان برجل من عبد القيس اصطفاه من ثلاثين رجلا وقال له: «خذ المصحف وصبغا يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتي فانقط واحدة فوق الحرف وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى
__________
(1) المحكم، ص (98).
(2) ابن الجزري: غاية النهاية، ج 2، ص 26.
(3) ابن الجزري: غاية النهاية، ج 1، ص 165.
(4) وانظر الداني (المحكم، ص 87) حيث يبين الداني أن المقصود من قول أبي حاتم (والنقط لأهل البصرة، أخذه الناس كلهم عنهم، حتى أهل المدينة كانوا ينقطون على غير هذا النقط، فتركوه، ونقطوا نقط أهل البصرة) هو نقط الهمزة حيث لم يكن أهل المدينة يحققون الهمزة، فكان نقطهم الهمزة بالصفرة دليلا على أخذهم ذلك عن أهل البصرة.(1/421)
جانب الحرف، وإذا كسرتها فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعت شيئا من هذه الحركات غنّة فانقط نقطتين، فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره» (1).
وينقل الداني أن محمد بن يزيد المبرد قال (2): «لما وضع أبو الأسود الدؤلي النحو قال: ابغوا لي رجلا، وليكن لقنا، فطلب الرجل فلم يوجد إلا في عبد القيس، فقال أبو الأسود: إذا رأيتني لفظت الحرف، فضممت شفتي فاجعل أمام الحرف نقطة، فإذا ضممت شفتي بغنة فاجعل نقطتين، فإذا رأيتني قد كسرت فاجعل أسفل الحرف نقطة، فإذا كسرت شفتي بغنة فاجعل نقطتين، فإذا رأيت قد فتحت شفتي فاجعل على الحرف نقطة، فإذا فتحت شفتي بغنة فاجعل نقطتين، قال أبو العباس: فلذلك النقط بالبصرة في عبد القيس إلى اليوم».
ومن المناسب أن نثبت بعض الروايات الأخرى التي تصف طريقة نقط أبي الأسود خاصة أنها تضيف بعض الأبعاد الجديدة التي لا ينبغي إغفالها. فذكر السيرافي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى (ت 210هـ) أنه قال: «فأتي بكاتب من عبد القيس فلم يرضه فأتي بآخر قال أبو العباس أحسبه منهم فقال له أبو الأسود: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه، فإن ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف، فإن أتبعت شيئا من ذلك غنة فاجعل مكان النقطة نقطتين، فهذا نقط أبي الأسود» (3).
وذكر أبو الطيب اللغوي في وصف عمل الدؤلي: «قالوا: فجاء أبو الأسود إلى زياد فقال له: أبغني كاتبا يفهم عني ما أقول: فجيء برجل من عبد القيس فلم يرض فهمه، فأتي بآخر من قريش فقال له: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة على أعلاه، وإذا ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإذا كسرت فمي فاجعل النقطة تحت الحرف، فإن أتبعت شيئا من ذلك غنة فاجعل النقطة نقطتين، ففعل، فهذا نقط أبي الأسود» (4).
__________
(1) أبو بكر الأنباري: ج 1، ص (4139).
(2) المحكم، ص (76).
(3) أخبار النحويين البصريين، ص 16.
(4) مراتب النحويين، ص (1110).(1/422)
وقد نقل ابن النديم رواية أبي عبيدة كما ذكرها السيرافي سوى أنه أهمل ذكر طريقة النقط مع الغنة (1).
ورغم الاتفاق العام في ظاهر هذه الروايات فإنها تظهر قدرا محدودا من الاختلاف في التعبيرات ربما انعكس فيما بعد على تطور بعض المصطلحات النحوية أو طريقة النقط، ولنتأمل تعبيراتهم في هذا الجداول من وضع الشفتين وموضع النقطة في ما يتعلق بالحركات خاصة، أما التنوين فسوف أتناوله فيما بعد:
__________
(1) الفهرست، ص 40.(1/423)
وتنقسم هذه الروايات إلى مجموعتين من حيث الوصف العضوي، فالمجموعة الأولى التي تمثلها رواية العتبي ورواية المبرد تجعل التمييز بين الحركات الثلاث تبعا لاختلاف أوضاع الشفتين وكأنها تعطي للحركات استقلالا عن الحروف التي تسبقها، والمجموعة الثانية التي تتمثل برواية أبي عبيدة وما نقله أبو الطيب ربطت الحركات الثلاث والحروف التي تسبقها وهي تجعل وضع الفم وليس الشفتين فحسب علامة على نوع الحركة، وربما ألقت هذه التعبيرات التي تعد أولى الخطوات في النحو العربي ظلالا على موقف علماء العربية من استقلال الحركات ومدى ارتباطها بالأصوات الصوامت.
ويبدو أن المصطلحات النحوية الثلاثة: الفتحة والضمة والكسرة قد استمدت تسمياتها من تعبير أبي الأسود السابق عن طبيعة حركة الشفتين أو الفم مع الحركات الثلاث، فكانت أسماؤها تمتّ بسبب إلى طبيعة الوضع العضوي لإنتاجها.
أما موضع النقطة من الحرف فإن تعبيرات الروايات السابقة وإن اختلفت شيئا قليلا في اللفظ فإنها متفقة في الواقع العملي:
فنقطة الفتحة (فوق الحرف أو على الحرف أو فوقه على أعلاه أو على أعلاه).
ونقطة الضمة (إلى جانب الحرف أو أمام الحرف أو بين يدي الحرف).
ونقطة الكسرة (أسفل الحرف أو تحت الحرف).
ويبدو أن هذه النقطة لم توضع أصلا لتمثل الحركات وإنما لتشير إلى أن الحرف تليه فتحة أو ضمة أو كسرة، ولكن بمضي الزمن وبتطور نظام النقط أصبحت تلك النقط تشير إلى نوع الحركة وصارت علامة لها، وبدت الحركة لذلك وكأنها تابعة للصوت الصامت قبلها، وأنها لا تستقل بنفسها في النطق تماما، كاستقلال الأصوات الصامتة (1).
وقد بلغ ذلك التصور حد التساؤل عن محل الحركة من الحرف، وهل هي تحدث قبل الحرف أو معه أو بعده؟ ورغم أن القول بأن الحركة تحدث بعد الحرف هو مذهب أكثر النحاة فإن هذه القضية تشير إلى مدى الربط بين الحركة والصوت الصامت قبلها (2).
__________
(1) ابن جنّي: سر صناعة الإعراب، ج 1، ص 36و 37، وانظر د. رمضان عبد التواب: ص 253، وجان كانتينو: ص 148.
(2) انظر ابن جنّي: الخصائص، ج 2، ص (322321)، وسر صناعة الإعراب (له)، ج 1، ص 32(1/424)
والملاحظ أن الروايات السابقة تشير إلى أن أبا الأسود جعل تمييز نوع الحركة متوقفا على وضع الشفتين أو الفم، وكأن كاتبه كان معلق البصر يتابع حركة شفتيه، ولكن لا شك في أنه استطاع أن يميز بين الحركات الثلاث تبعا لاختلاف الجرس المتولّد عن كل منها بعد فترة قصيرة من ابتداء العمل، وقبل أن ينتهي من نقط المصحف، خاصة أن الروايات تؤكد أن الكاتب على درجة عالية من الفطنة والفهم.
والمفهوم من الروايات السابقة أن أبا الأسود لم يعالج حركات بنية الكلمة، واكتفى بضبط أواخر الكلمات بالنقط التي وضعها لتدل على الحركات الثلاث، وقد يكون هذا الصنيع مصداقا لقول أبي الطيب اللغوي «إن أول ما اختلّ من كلام العرب فأحوج إلى التعلم الإعراب» (1). ذلك لأن حركة أواخر الكلم تتغير تبعا لتغير موقع الكلمة في الجملة، ومن ثم فإن احتمال وقوع الخطأ في تحديد نوعها أكبر من احتمال وقوعه في حركات بنية الكلمة (2). وسنتابع طريقة النقط المدور التي أرسى أسسها الدؤلي في المصاحف المخطوطة بعد أن نشير إلى الطريقة الأخرى لذلك.
ثانيا: الشكل المستطيل:
لم يكن من اليسير على نساخ الكتب المصنفة في علوم العربية والعلوم الإسلامية وما جد من علوم أخرى استخدام طريقة النقط المدوّر في ضبط الكلمات فيما يكتبون لأنها تحتاج إلى لونين من المداد، واحد لرسم الحروف وآخر لنقط الحركات، وربما أمكن استخدام مداد واحد قبل استخدام نقط إعجام الحروف في الكتابة، ولكن بعد ذلك الاستخدام أصبح من العسير تمثيل الحركات بنقط من نفس مداد الكتابة، ويبدو أن الأمر
__________
وما بعدها، وانظر أيضا الفخر الرازي: ج 1، ص 16.
(1) مراتب النحويين، ص 5، وانظر أبو بكر الزبيدي: ص 1.
(2) وقد ذهب بعض المحدثين (انظر د. كمال محمد بشر: دراسات في علم اللغة، ق 2، ص 8887، ود. تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص (1211) إلى أنه لا نستطيع بحال أن نحدد السابق أو اللاحق منهما في وقوع اللحن فيه، وبمعزل عن موضوع ترتيب علوم العربية فإني أميل إلى الاعتقاد بأن احتمال وقوع اللحن في حركات الإعراب هو أسبق من احتمال وقوعه في حركات بنية الكلمة لأن حركات الإعراب عرضة للتغير الدائم بحيث لا يمكن ضبط قواعدها بسهولة.(1/425)
ظل على هذه الحالة من عدم الاستقرار حتى عصر الخليل بن أحمد الفراهيدي (المتوفى سنة 170هـ على الأكثر) (1)، الذي استطاع أن يجد الحل المناسب لهذه المشكلة الكتابية التي كانت تقف في وجه الكتاب والنساخ والعلماء، ولم يكن ذلك ممكنا من غير تخصيص كل حركة بعلامة تختص بها لا كما في حالة النقط المدور حيث تشترك كل الحركات بشكل واحد، ويميز بينها بالمخالفة في الموضع ولون المداد، وقد تم ذلك للخليل بما عرف له من فضل التقدم في علوم العربية.
روى الداني أن أبا الحسن بن كيسان قال (2): «قال محمد بن يزيد: الشكل الذي في الكتب من عمل الخليل، وهو مأخوذ من صور الحروف، فالضمة واو صغيرة الصورة في أعلى الحرف لئلا تلتبس بالواو المكتوبة، والكسرة ياء تحت الحرف، والفتحة ألف مبطوحة فوق الحرف». وذكر أبو الحجاج البلوي (3): «إن الخليل بن أحمد هو الذي بدأ التمدد والتشديد والروم والإشمام، وإنه عمل الشكل الذي على الحروف، وأخذه من صورة الحرف، فالضمة واو صغيرة الصورة أعلى الحرف لئلا تلتبس بالواو المكتوبة، والكسرة ياء تحت الحرف، والفتحة ألف مسطوحة (مبطوحة) فوق الحرف» (4).
ويشير قول محمد بن يزيد المبرد الذي نقله الداني، وما ذكره أبو الحجاج البلوي إلى أن الخليل بن أحمد أخذ صور الحركات الثلاث من رموز الحركات الطويلة أي من الألف والواو والياء، وفي ذلك إشارة إلى إدراك سليم للعلاقة بين الحركات القصيرة والحركات الطويلة ذلك الإدراك الذي عبر عنه ابن جني أدق تعبير بقوله «الفتحة بعض الألف، والكسرة بعض الياء، والضمة بعض الواو، وقد كان متقدمو النحويين يسمون الفتحة الألف الصغيرة والكسرة الياء الصغيرة والضمة الواو الصغيرة، وقد كانوا في ذلك
__________
(1) انظر أبو بكر الزبيدي: ص 47، وابن النديم: ص 42، وأبو البركات الأنباري: ص 48، وابن الجزري: غاية النهاية، ج 1، ص 275.
(2) المحكم، ص 7.
(3) ألف با، ج 1، ص 176. وقد قال الداني (المحكم، ص 6) «ثم جعل الخليل بن أحمد الهمز والتشديد والروم والإشمام». ويبدو على ضوء هذا القول أن كلمة (التمدد) التي جاءت في قول البلوي إنما هي تحريف كلمة (الهمز)، وربما أراد بها البلوي (المدة).
(4) وانظر في ذلك أيضا: علم الدين السخاوي، ورقة 12/ أ، والسيوطي: الإتقان، ج 4، ص 162، وطاش كبرى زاده: ج 2، ص 233.(1/426)
على طريق مستقيمة» (1)، وإطلاق لفظ (الصغيرة) على الحركات القصيرة يشعر أنهم كانوا يعرفون أن علامات هذه الحركات أخذت من رموز الحركات الطويلة الثلاث، لكنها لم تكتب على السطر بين الحروف خشية التباسها بالرموز التي أخذت منها كما أشار إلى ذلك قول المبرد.
ولابن درستويه رأي آخر في أصل صور علامات الحركات القصيرة فقد قال وهو يتحدث عن الحركات الثلاث: «هي رقوم مشتقة من حروف أسمائها، فرقم الحركات الثلاث (راء) غير محققة في الوجوه الثلاثة، وهي مأخوذة من راء الحركة، وقد زيدت على رقم الضمة علامة يفرق بها بينها وبين غيرها مأخوذة من الواو لاشتراك الضمة والواو في اللفظ والمخرج» (2).
ولا ندري هل أن مذهب ابن درستويه هذا في أصل علامات الحركات شيء نقله عمن سبقه من العلماء الذين عرفوا ذلك من الخليل أم أنه نتيجة تأمله ونظره هو؟ ويبدو أن القول بأخذ، الخليل علامات الحركات من صور الحروف أصح مما ذهب إليه ابن درستويه لأن علامات الخليل هي أقرب ما تكون إلى صور الحروف الثلاثة الألف والياء والواو، فالفتحة ألف ممالة أو مبطوحة، والكسرة ياء مردودة صغرى، والضمة واو صغرى (3). لكن استعمال الكتاب قد غير بعض صورها فحذفوا بعض الياء فصارت تشبه الفتحة لكنها توضع تحت الحرف (4).
أما الروم والإشمام فإنهما يتعلقان بحركات أواخر الكلمات عند الوقف خاصة، وقد تحدث الداني عن حقيقة كل من الروم والإشمام وقال: «فأما حقيقة الروم فهو تضعيفك الصوت بالحركة حتى يذهب بذلك معظم صوتها، فتسمع لها صوتا خفيا يدركه الأعمى بحاسة سمعه. وأما حقيقة الإشمام فهو ضمك شفتيك بعد سكون الحرف أصلا، ولا يدرك معرفة ذلك الأعمى لأنه لرؤية العين لا غير، إذ هو إيماء بالعضو إلى الحركة.
فأما الروم فيكون عند القراء في الرفع والضم والخفض والكسر، ولا يستعملونه في
__________
(1) سر صناعة الإعراب، ج 1، ص 19.
(2) كتاب الكتاب، ص 55.
(3) انظر الداني: المحكم، ص 45.
(4) انظر حفني ناصف: ص 77.(1/427)
النصب والفتح لخفتهما، وأما الإشمام فيكون في الرفع والضم لا غير. وقولنا الرفع والضم والخفض والكسر والنصب والفتح نريد بذلك حركة الإعراب المنتقلة وحركة البناء اللازمة» (1).
والروم والإشمام موجودان في لغة العرب مثلما وردت بهما القراءة، وقد حكى مكي: «أن الروم والإشمام إنما استعملتهما العرب في الوقف لتبيين الحركة كيف كانت في الوصل» (2). وتحدث سيبويه عن أنواع الوقف وقال إنها في كلام العرب أربعة: الروم والإشمام والتضعيف والسكون، وذكر أن لكل منها علامة في الكتابة فقال (3): «ولهذا علامات فللإشمام نقطة، والذي أجري مجرى الجزم والإسكان خاء، ولروم الحركة خط بين يدي الحرف، وللتضعيف شين» (4)، وربما تكون هذه العلامات التي ذكرها سيبويه هي التي وضعها أستاذه الخليل.
وقبل أن ننتقل إلى النظر في الوثائق المخطوطة لنرى كيف استعمل نساخ المصاحف طريقة النقط المدور وطريقة الشكل المستطيل أجدني مضطرا للتعرض لموضوع لم يتوفر له من الأسباب ما يجعله يستحق البحث لولا أن بعض الدارسين قد أجلب عليه من ذات نفسه وألبس ما هو من باب الظن لباس اليقين فرآه حقيقة مسلمة، ذلك الموضوع هو المصدر الذي أخذ منه أبو الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد طريقتيهما في تمثيل الحركات، أو هو ما مقدار الأثر الأجنبي في ذلك العمل؟
وقد بدأ موضوع الأثر الأجنبي في نظام تمثيل الحركات في الكتابة العربية مجرد احتمالات يذكرها بعض المستشرقين والباحثين الذين تخرجوا على أيديهم، وكان جرجي زيدان من أوائل الذين ساهموا في بث هذه الفكرة، فذكر وهو يتحدث عن بدايات النحو
__________
(1) التيسير، ص 59. وانظر التنسي: ورقة 16ب. والقسطلاني: ج 1، ص 187.
(2) الكشف، ج 1، ص 122.
(3) الكتاب، ج 1، ص 282.
(4) قال ابن يعيش (شرح المفصل، ج 9، ص 68): «وقد جعل سيبويه لكل شيء من هذه الأشياء علامة في الخط، فعلامة السكون خاء فوق الحرف وعلامة الإشمام نقطة بعد الحرف وعلامة الروم خط بين يدي الحرف وعلامة التضعيف شين فوق الحرف».(1/428)
العربي «يغلب على ظننا أنهم نسجوا في تبويبه على منوال السريان» (1). وقال وهو يتحدث عن دور أبي الأسود في وضع النحو العربي «وكأنه تعلم لغة السريان أو اطلع على نحوها فرغب في النسخ (لعله النسج) على منواله» (2)، وعند ما تحدث عن نقط الحركات الذي وضعه أبو الأسود الدؤلي قال: «والأرجح أنه اقتبس ذلك من الكلدان أو السريان جيرانه في العراق، وكان عندهم نقط كبيرة توضع فوق الحرف أو تحته لتعيين لفظه أو تعيين الكلمة الواقع هو فيها: اسم هي أم فعل أم حرف فالظاهر أن أبا الأسود اقتبس هذه الحركات» (3)، وتحدث المستشرق جويدي عن تاريخ استعمال الحركات في الكتابة السريانية وقال «انتفع منه علماء العرب فأتقنوه وأصلحوه» (4).
وليس من هدف هذا البحث الكلام عن أصالة النحو العربي، ولا عن تاريخ علامات الحركات في الكتابة السريانية، وإنما اقتصر على مناقشة ما ذكروه من أخذ أبي الأسود طريقته في النقط من السريانية، فاستنادا إلى تلك الأقوال الظنية غير المحددة مثل:
(يغلب على ظننا كأنه الأرجح) وما أشبه ذلك مما لا يعتمد قائلوه فيه على دليل ردد بعض المحدثين تلك الأقوال، ولكن بعد أن عرضوها بصياغة جديدة تخفي حقيقة كونها ظنونا لا بل أوهاما لم يقم عليها من الواقع دليل (5)، وقد بلغ ذلك الاتجاه المخطوء ذروته عند الأستاذ حسن عون الذي حاول أن يقدم الأدلة الواهية على ذلك فيقول (6):
«ولدينا من الأدلة ما يبين في وضوح أن أبا الأسود استمد طريقة نقط الشكل من لدن النحاة السريان، من هذه الأدلة أن أبا الأسود قد اتخذ بيئة العراق موطنا وكان بها واليا إداريا، وفيها عالما لغويا، وزعيما دينيا، ونحن نعلم أن هذه البيئة كانت قبل الفتح
__________
(1) تاريخ آداب اللغة العربية، ج 1، ص 251.
(2) نفس المصدر، ج 1، ص 252.
(3) نفس المصدر، ج 1، ص 253.
(4) محاضرات أدبيات الجغرافيا، ص 84، وقد نقل د. عزة حسن كلام جويدي بتصرف في مقدمة تحقيق المحكم، (انظر: ص 2928).
(5) انظر د. علي عبد الواحد وافي: فقه اللغة، ص (249248)، ود. إبراهيم جمعة: دراسات في تطور الكتابات الكوفية، ص 69و 73، وسهيلة الجبوري: ص 55، ود. سعاد ماهر: ص 123.
(6) اللغة والنحو، ط 1، الإسكندرية، مطبعة رويال، 1952، ص (250249).(1/429)
العربي وبعده مغزوة باللغة السريانية وبالمعارف السريانية وكانت إلى جانب ذلك آهلة بالعلماء السريان، وميدانا لدراساتهم ومناقشاتهم وجدلهم، لا في الناحية الدينية أو الفلسفية فقط، ولكن في مختلف العلوم الإنسانية ومنها اللغة والنحو، ونعلم أيضا أن اللغة العربية قد تعرضت بعد اتساع الفتوح الإسلامية إلى نفس الأزمة التي تعرضت لها اللغة السريانية في خلال القرنين الرابع والخامس بعد الميلاد: ظهور لغات أخرى في ميدان الحديث والكتابة، وانتشار اللحن بين الناطقين، والخوف من أن يمتد هذا اللحن إلى نصوص الكتاب المقدس، هذه هي مظاهر الأزمة التي مرت بها اللغة السريانية في القرنين الرابع والخامس الميلادي، واللغة العربية بعد اتساع الفتوح، ولقد كان من نتائج هذه الأزمة عند السريان أن فكروا في وضع ضوابط لشكل كتابهم المقدس، ولم تكن هذه الضوابط سوى طريقة النقط التي استعملها أبو الأسود الدؤلي في ضبط شكل القرآن، من هذا نرى أن المقدمات متشابهة والظروف متشابهة والنتائج متشابهة، وكلا العملين قد حدث في بيئة واحدة، أليس من العناد إذن أن نقول إن أبا الأسود الدؤلي لم يستمد طريقة نقط الشكل من السريانيين الذين سبقوه بنفس العمل»، ثم يتحدث الأستاذ عون عن اتصال أبي الأسود باللغة السريانية وعلمائها ويذهب في هذا بعيدا عن الواقع حين يقول (1): «على أننا نظن بل نرجح أن أبا الأسود كان يعرف اللغة السريانية معرفة تمكنه من التفاهم بها، وقراءة بعض نصوصها إلى حد ما، وذلك لإقامته الطويلة في بيئة العراق، واهتمامه الشديد بالأبحاث اللغوية والدينية أثناء إقامته في تلك البيئة، وهي تكاد تكون بيئة سريانية في أول عهد اتصال العرب بها».
ونحن إنما أثقلنا البحث بهذا النص الطويل لنأتي على كل الأدلة التي بنى عليها الباحث نتائجه، وإذا كانت الحقائق التاريخية تتفق مع ما وصف به الباحث أبا الأسود من تعدد جوانب شخصيته فإن ما ذكره عن بيئة العراق وأنها كانت «مغزوة باللغة السريانية والمعارف السريانية» وأنها «تكاد تكون بيئة سريانية في أول عهد اتصال العرب بها» لم يقدم عليه دليلا واحدا، ولا أظن أن أحدا يملك اليوم مثل ذلك الدليل، وإذا كانت المصادر تذكر أن ديانة أهل الحيرة كانت النصرانية فإن المصادر تؤكد أيضا أن غربي العراق وجنوبه كان يغلب عليه الطابع العربي، وأنه كان منزلا للقبائل العربية،
__________
(1) اللغة والنحو، ص 251.(1/430)
حتى بلاط إمارة اللخميين العرب في الحيرة كان عربيا ويكتب فيه بالعربية، وبينا في الفصل التمهيدي كيف كان سكان القرى العربية غربي الفرات مثل الحيرة وعين التمر والأنبار وغيرها يكتبون بالعربية قبل دخول الإسلام بلاد العراق (1). فلم تكن هناك تلك الغلبة للسريانية على بيئة العراق كما يصور الأستاذ عون، وإذا تصورنا أن هناك لغة أخرى تنافس العربية في غربي العراق وجنوبه في السنين الأولى لظهور الإسلام فإنها اللغة الفارسية وليست السريانية.
ولم تكن الحيرة مركزا للحركة النصرانية في الشرق، وإنما كانت إحدى امتدادات تلك الحركة، وما حدث من ظهور اتجاهات متعددة لتمثيل الحركات في الكتابة السريانية لم يحدث في جنوب العراق وإنما كان في نصيبين والرّها في أطراف آسيا الصغرى (2)، إلى جانب أن تاريخ وضع علامات الحركات في الكتابة السريانية هو موضع جدل، وليس بعيدا أن يكون أبو الأسود قد نقط المصاحف والسريان لم يستخدموا النقط بعد لتمثيل الحركات (3).
__________
(1) انظر: الفصل التمهيدي، ص 26.
(2) انظر نولدكه: ص 61، وجرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج 1، ص 251.
(3) تبلورت عند السريان طريقتان للدلالة على الحركات إحداهما طريقة النقط الصغار فوق الحرف أو تحته أو فوقه وتحته، وهذه الطريقة شائعة عند السريان الشرقيين (النساطرة) خاصة، والطريقة الثانية: هي طريقة الحروف التي أخذت من الأبجدية اليونانية، وهي توضع فوق الحروف أو تحتها، واستعملها السريان الغربيون (اليعاقبة) خاصة (انظر المطران إقليميس: ص 164) ومن المؤكد الذي لا شك فيه أنه في حياة يعقوب الرهاوي الذي توفي في بادئ القرن الثامن الميلادي لم تكن بعد قد استنبطت طريقة للحركات لا اليونانية ولا النقطية (نفس المصدر، ص 169) وقيل: إن طريقة النقط الصغيرة لم تظهر إلا في النصف الثاني من القرن الثامن (انظر:
د. زكية محمد رشدي: السريانية نحوها وصرفها، القاهرة، دار الثقافة، ص 32). وكان السريان قبل استخدام هاتين الطريقتين لتمثيل الحركات قد استخدموا النقط لتمييز الجمع وحرفي الدال والراء واستخدموا نقطا كبيرة تقوم مقام الحركات لدفع الالتباس في القراءة فرسموا نقطة كبيرة تكتب من فوق الحرف المشتبه أو من تحته (انظر المطران إقليميس: ص 162161) لكن هذه النقط لم يكتب لها الانتشار لعدم كفايتها فاضطر السريان إلى استخدام علامات الحركات عند السريان: جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج 1، ص 254، جويدي: محاضرات أدبيات الجغرافيا، ص 8483، نولدكه: ص 6160، د. علي عبد الواحد وافي: فقه اللغة، ص 57(1/431)
ولو سلمنا بانتشار السريانية في بعض الأوساط في جنوب العراق فإنها قطعا لم تدخل البصرة في تلك الفترة المتقدمة، على ذلك النطاق الواسع الذي يصوره الأستاذ عون، فالبصرة أنشئت مدينة للجند والمقاتلة الذين خرجوا في الفتوح الإسلامية من الجزيرة، وكانت بيئتها إسلامية عربية خالصة في نشأتها، بعيدة عن الحيرة التي من المحتمل أن تكون فيها آثار من الثقافة السريانية.
ومن ثم فإن قصة معرفة أبي الأسود، الذي اتخذ البصرة منزلا له وكان قاضيا فيها فترة من الزمن، للغة السريانية وتعلمه القراءة فيها تصبح محض خيال لا يقوم على دليل صحيح، وهكذا تبدو دعوى الأستاذ عون وما حاول تأكيده صدى كاذبا لدعوى قديمة كانت ظنونا وأوهاما وحاول هو أن يقدمها على أنها حقيقة وبلغ به الحماس حد القول «أليس من العناد إذن أن نقول إن أبا الأسود لم يستمد طريقة نقط الشكل من السريانيين».
ونحن لا نحاول رفض مذهب وتأييد آخر عن هوى، فالحق أحقّ أن يتبع، ولكن ما دام ليس هناك دليل نقلي أو عقلي يبين لنا مقدار ذلك التأثير إن وجد، وما دام أصل تلك المقولة ظنونا لا يؤيدها من الواقع دليل فليس على أحد في ردها وتجهيل القائلين بها شيء.
ورغم أن الروايات لا تبين لنا المصدر الذي استمد منه أبو الأسود الدؤلي تلك
__________
و249) وكان يعقوب الرهاوي قد توفي سنة (708م) (انظر د. زكية محمد رشدي: السريانية، ص 31) وهو ما يقابل سنة (90هجرية) تقريبا، ومعنى ذلك أن طريقة كاملة لم تشع في الكتابة السريانية لتمثيل الحركات حتى ذلك التاريخ الذي يعتبر متأخرا بالنسبة لوفاة أبي الأسود الدؤلي (ت 69هـ وقيل قبل ذلك) الذي تجمع الروايات على أنه أول من نقط المصحف وإذا صح أن طريقة تمثيل الحركات بالنقط عند السريان لم تظهر حتى النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي الذي يقابل النصف الأول من القرن الهجري الثاني تقريبا فإن ذلك ينفي أن يكون الدؤلي قد أخذ أو استفاد طريقته من نظام تمثيل الحركات بالنقط عند السريان، ويظل احتمال استفادته من الطريقة القديمة التي لم تكن تمثل حركة معيّنة ويبدو أنها لم تنتشر وتعرف بدرجة كبيرة حتى بين السريان أنفسهم مشكوكا فيه، ولا يسوغ كل ذلك الاندفاع الذي أبداه الأستاذ حسن عون في دعوى أخذ أبي الأسود طريقته عن الكتابة السريانية.(1/432)
الطريقة فإن ما ذكرناه في مطلع هذا الفصل من أن الطرق الثلاث الممكنة لتكميل الكتابة العربية لم يكن بالإمكان استخدام واحدة منها سوى تلك التي تعتمد على تمثيل الحركات بعلامات خارجية كالذي فعله أبو الأسود حين جعل الحركات نقطا بلون مغاير للون المداد، ومن المحتمل كثيرا أن هذه الطريقة لو كانت منقولة أو مستوحاة من مصدر أجنبي لكان ذلك سندا قويا للذين كرهوا نقط المصاحف، ولكن لم تذكر الروايات أن أحدا احتج بذلك ممن كرهوا نقط المصاحف في أول الأمر (1).
ولعل مما يثير الدهشة ويجلب العجب أن باحثا من المحدثين ينقل أن الخليل بن أحمد أخذ الطريقة التي وضعها لتمثيل الحركات عن اليونانية، فقد ذكر الأستاذ إبراهيم مصطفى في مقال له عن (أول من وضع النحو) بعد أن تحدث عن الشكل الذي وضعه الخليل ما يلي: «وقالوا: وقد اتخذ ذلك عن اليونانية، وكان قد قرأها» (2) ولم يقفنا الأستاذ إبراهيم على مصدر هذا القول، ولا عرفنا الجماعة الذين يعود عليهم ضمير (قالوا)، ولا ذكر كيف عرف الخليل اليونانية وكيف قرأها.
وقد وجدت أثناء القراءة لإعداد هذا البحث خبرا ذكره أبو بكر الزبيدي في طبقاته، في أخبار الخليل وهو «ويروى أن ملك اليونانية كتب إلى الخليل كتابا باليونانية فخلا بالكتاب شهرا حتى فهمه، فقيل له في ذلك، فقال: قلت إنه لا بد له من أن يفتح الكتاب ب بسم الله أو ما أشبهه، فبنيت أول حروفه على ذلك فاستقام لي» (3). ولعل هذا الخبر هو مستند الأستاذ إبراهيم مصطفى فيما ذكره، ولا أدري كيف يسوغ لعاقل أن
__________
(1) قدم باحث سنة 1969رسالة ماجستير موضوعها (أبو الأسود الدؤلي ونشأة النحو العربي) إلى كلية الآداب بجامعة القاهرة، والباحث هو فتحي عبد الفتاح الدجني، وقد نفى فيها الأثر الأجنبي على النحو العربي، وأكد أن ما استفاده أبو الأسود من السريانية إنما هو نقط الإعراب التي نقط بها المصحف (ص 47و 53) وهو يؤيد معرفة أبي الأسود للسريانية (4443) ويقول عن النقط التي وضعها أبو الأسود (ص 4443) «لو كان أبو الأسود هو الذي ابتكر الحركات لابتكرها عربية خالصة أو تشير إلى أنها عربية على الأقل كما فعل الخليل عند ما طوّرها فهل هذه النقاط تدل على أنها عربية؟ قطعا كلا، إنها لا تدل على عروبتها» ولا أكاد أفهم معنى للتساؤل الأخير، ولا أدري ما المانع أن تكون النقاط عربية الأصل، وإنها لكذلك.
(2) مجلة كلية آداب القاهرة، مج 10، ج 2، ص 73.
(3) ص 47.(1/433)
يصدق ما جاء فيه وأن يستنتج منه أن الخليل قرأ اليونانية ومن ثم أخذ طريقة الشكل التي وضعها بديلا للنقط المدورة (1)؟
وبعد فإني كنت ضنينا بهذه الصفحات من البحث أن أناقش فيها هذا الموضوع، وكنت أعدها لذكر حقائق من تاريخ علامات الحركات في الكتابة العربية والرسم المصحفي لكن ما نجده في الكتب من أقوال عن ذلك التاريخ لا تستند إلى خبر صحيح أو نظر مبرأ دفعني إلى أن أوجز ذلك في هذه الصفحات المعدودة، معتقدا أن إعطاء رأي قاطع في موضوع لم تكتمل له كافة الوسائل التي تعين على ذلك ونحن نعلم أن تفاصيل كثيرة لم تصل إلينا بعد إنما هو مجافاة للمنهج السديد والنظر الصائب، ومن لم يقتنع بما روته المصادر العربية عن هذا الموضوع وهي روايات عن أناس موثوق بهم عاشوا تلك الأحداث فليأت برأي أهدي من ذلك نتبعه!
ثالثا: الرسم المصحفي بين طريقة النقط المدوّر والشكل المستطيل:
مرّ في الصفحات التي مضت كيف استطاع علماء السلف الأولون تكميل الرسم العثماني في وقت مبكر، وأحدثوا طريقتين لتمثيل الحركات الأولى بواسطة النّقط المدورة والثانية بواسطة العلامات الصغيرة، وإذا كانت الطريقة الأولى قد ارتبطت باسم أبي الأسود (ت 67وقيل 69هـ) والثانية باسم الخليل (ت حوالي 170هـ) فإن استخدامهما في المصحف لم يتم بسهولة خاصة الطريقة الثانية، ونحاول هنا أن نتعرف على مراحل استخدام هاتين الطريقتين في المصحف من خلال النصوص المروية والوثائق المخطوطة.
__________
(1) ولعل دعوى اقتباس الخليل أشكال الحركات عن السريانية لا تقل بعدا عن الحق والواقع من قول من قال إنه أخذها عن اليونانية، فقد قال جرجي زيدان (تاريخ آداب اللغة العربية، ج 1، ص 254253) «أما صور الحركات التي وصلت إلينا نعني الضمة والفتحة والكسرة فلا نعلم وضعها أو واضعيها ولا الزمن الذي وضعت فيه، ولكن الغالب أنها وضعت في القرون الأولى للإسلام كما وضعت نقط الإعجام، اقتداء بالسريان». (وانظر أيضا: جانب كانتينو: ص 173)، وإذا كان جرجي زيدان لم يطلع على المصادر التي جاءت مبيّنة لتاريخ استخدام تلك الحركات فبنى تصوراته على جهل بحقائق ذلك التاريخ فلنا أن نتصور بالمثل ما زعمه من أن أبا الأسود أخذ نقطه من السريان.(1/434)
لعل استخدام النّقط المدورة في تمثيل حركات الإعراب قد ظهر في المصحف ولو على نطاق محدود قبل وفاة أبي الأسود الدؤلي، إذ من غير المعقول أن تجمع المصادر على نسبة ذلك العمل إليه دون أن يستخدم في حياته.
روى الداني أن عبد الله بن عمر (ت 73وقيل 74هـ) كان يكره نقط المصاحف (1)، وروى أبو عبيد عن إبراهيم ولعله إبراهيم النخعي (ت 96هـ) فقيه أهل الكوفة ومفتيها «أنه كان يكره نقط المصاحف، ويقول: جردوا القرآن ولا تخلطوا به» (2)، وينقل أبو عبيد وابن أبي داود والداني عن كل من الحسن البصري وابن سيرين (توفيا 110هـ) أنهما كرها نقط المصاحف (3)، وقد روى ابن أبي داود عن الأوزاعي أن قتادة (ت 117هـ) قال «وددت أن أيديهم قطعت يعني من نقط المصاحف» (4).
وهذه الروايات تبين أن النقط دخل المصاحف في وقت مبكر ولكن لا يزال بعض الأئمة يكرهون الزيادة في المصاحف العثمانية، وبذلك يكون القرن الهجري الأول قد انقضى ونقط المصاحف لا يزال محدود الاستعمال، لكن الحسن البصري وابن سيرين كما رويت عنهم أخبار عن كراهتهم ذلك رويت عنهم أخبار تشير إلى تجويزهم نقط الحركات في المصاحف، فقد روى أبو عبيد «عن هشيم قال أخبرنا منصور (ت 128هـ) قال: سألت الحسن عن نقط المصاحف فقال: لا بأس به ما لم تبغوا» (5). وروى ابن أبي داود عن أبي رجاء قال: «سألت محمد بن سيرين عن المصحف ينقط بالنحو، قال: أخشى أن يزيدوا في المصحف» (6)، وقد روى ابن أبي داود أن ابن سيرين كان يقرأ في مصحف منقوط (7)، نقطه له يحيى بن يعمر (8)، وكذلك روى نافع بن أبي نعيم
__________
(1) المحكم، ص 10، ولا بد من الإشارة هنا أن في مخطوطة أخرى للمحكم جاء (أبو عمرو) بدلا من (ابن عمر).
(2) فضائل القرآن، لوحة 57. وانظر الداني: المحكم، ص 11.
(3) انظر: فضائل القرآن، لوحة 57، وكتاب المصاحف، ص (142141)، والمحكم، ص 10.
(4) المصاحف، ص 141.
(5) فضائل القرآن، لوحة 57، وانظر الداني: المحكم، ص 12.
(6) المصاحف، ص 141. والداني: المحكم، ص 11.
(7) المصاحف، 142، وانظر الداني: المحكم، ص 12.
(8) أبو بكر الزبيدي: ص 23، والقرطبي: ج 1، ص 63.(1/435)
قارئ المدينة (ت 169هـ) عن شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن في شكل القرآن أنه قال لا بأس به (1)، وروى الداني أن مالك بن أنس (ت 179هـ) قال (2): «ولا يزال الإنسان يسألني عن نقط القرآن فأقول له: أما الإمام عن المصاحف فلا أرى أن ينقط، ولا يزاد في المصاحف ما لم يكن فيها. وأما المصاحف الصغار التي يتعلم فيها الصبيان وألواحهم فلا أرى بذلك بأسا». وروى الداني عن خلف بن هشام البزار أنه قال «كنت أحضر بين يدي الكسائي (ت 189هـ) وهو يقرأ على الناس، وينقطون مصاحفهم بقراءته عليهم» (3) ويعقب الذهبي على هذا الخبر بقوله (4): «قلت لم يكن ظهر للناس الشكل بعد، وإنما كانوا يعربون بالنقط».
وهذه النصوص وأقوال العلماء تشير إلى أن كراهة نقط المصاحف أخذت تخف كلما تقدم الزمن، وذلك لازدياد الحاجة لضبط القراءة، حتى صار الكسائي إمام الكوفة ثم بغداد يجلس يقرأ والناس ينقطون المصاحف بقراءته، وعلينا أن نلاحظ هنا أن المصاحف في القرون الأولى كانت تكتب أول ما تكتب مجردة من نقط الإعراب أو الإعجام ثم تنقط بعد ذلك على قراءة معينة أو تظل مجردة، وبناء على ذلك فإن نقط المصاحف صار أمرا مقبولا بل محبذا قبل انقضاء القرن الهجري الثاني.
ويقول الداني (5): «وصل إليّ مصحف جامع عتيق كتب في أول خلافة هشام بن عبد الملك سنة عشر ومائة، كان تاريخه في آخره، كتبه مغيرة بن مينا في رجب سنة مائة وعشر، وفيه الحركات والهمزات والتنوين والتشديد نقط بالحمرة». ومن المتوقع أن نقط هذا المصحف لم يتأخر عن تاريخ كتابته كثيرا.
وبعد هذه الحقائق، التي لا تحتمل الشك، عن استعمال النقط المدور في المصاحف في القرنين الأول والثاني نعجب من قول الدكتور صبحي الصالح بشأن تاريخ استخدام
__________
(1) ابن أبي داود: ص 142، والداني: المحكم، ص 13.
(2) المحكم، ص 11.
(3) نفس المصدر، ص 13. وانظر الذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 101.
(4) معرفة القراء، ص 101.
(5) المحكم، ص 87.(1/436)
النقط، وما روي من أن يحيى كان أول من نقط المصاحف (1): «وتبلغ قصة أوليته هذه ذروتها من الإحكام والحبك حين يزعم ابن خلكان أنه كان لابن سيرين مصحف منقوط نقطه يحيى بن يعمر، ومن المعلوم أن ابن سيرين توفي سنة 110هـ، فقد عرف إذن قبل هذا التاريخ مصحف كامل النقط تام الشكل، بتلك النقط المعوضة للحركات وهو أمر خطير جدا ليس من السهل التسليم به» وو لا نرى في الأمر تلك الخطورة التي وجدها الدكتور الصالح، بل الخطورة في إنكار ذلك، ولعله لم يطلع على المصادر التي نقلنا منها النصوص السابقة.
أما المصاحف المشكولة بطريقة النّقط المدورة الباقية إلى اليوم فهي والحمد لله ليست قليلة، وقد تقفنا على مرحلة من مراحل تكميل الرسم العثماني والجهود المحمودة التي بذلتها الأجيال المتتابعة من علماء السلف في خدمة نص القرآن الكريم، ونجد في هذه المصاحف أو أجزاء منها الإشارة إلى الحركات الثلاث على نحو ما أوردنا وعلى نحو ما يصف الداني (2): «اعلم أن الحركات ثلاث: فتحة وكسرة وضمة، فموضع الفتحة من الحرف أعلاه لأن الفتح مستعل، وموضع الكسرة منه أسفله، لأن الكسر مستفل، وموضع الضمة منه وسطه أو أمامه، لأن الفتحة لما حصلت في أعلاه والكسرة في أسفله لأجل استعلاء الفتح وتسفّل الكسر، بقي وسطه، فصار موضعا للضمة، فإذا نقط (الحمد لله) جعلت الفتحة نقطة بالحمراء فوق الحاء، وجعلت الضمة نقطة بالحمراء تحت اللام والهاء، وكذلك يفعل بسائر الحروف المتحركة بالحركات الثلاث، سواء كن إعرابا أو بناء أو كنّ عوارض».
وقد نقلت المجموعات الخطية المصورة التي أشرنا إليها من قبل صفحات لمصاحف كثيرة مبثوثة في مكتبات العالم، وتظهر علامات الحركات القصيرة فيها نقطا مدورة ورغم أن الصور لا تميّز اللون ولكن أرجح أن تكون تلك النقط باللون الأحمر، على ما وصف علماء السلف، وعلى ما رأيت في بقية من مصحف في دار الكتب المصرية (3)، وفي المصحف المنسوب لأمير المؤمنين علي والمحفوظ في مسجد الحسين بالقاهرة،
__________
(1) مباحث في علوم القرآن، ص 93.
(2) المحكم، ص 42.
(3) هو برقم (115مصاحف).(1/437)
وعلى نحو ما وصف لي مصحف النجف المحفوظ في مشهد الإمام علي، وعلى نحو ما ذكر الأستاذ ناصر النقشبندي حين وصف مجموعة من الصحائف التي هي أجزاء من مصاحف قديمة كتبت على الرق محفوظة في المتحف العراقي (1).
إن مما أورده موريتز في مجموعته إحدى عشرة لوحة من مصحف يرجعه إلى القرن الثاني أو الثالث الهجري (لوحة 2119) وتظهر الحركات في هذه اللوحات نقطا مدورة، ولكن لا تشمل النقط كل الحركات ففي قوله تعالى: {كََانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72)}
[الأحزاب] (لوحة 23) لا نجد إلا نقطتين: فتحة النون وفتحة الجيم. ولكن قد نجد بعض الكلمات يكاد نقطها يكون تاما مثل {وَإِنَّهُ لَحَقُّ (51)} [الحاقة] (لوحة 26)، فلم يترك من نقط حركاتها إلا فتحة الحاء، وتوجد في مجموعة موريتز أيضا لوحتان (37 و 38) من المصحف الذي أشير إليه قبل قليل والمحفوظ في دار الكتب المصرية (115 مصاحف)، ولوحة (39وهي نفسها 40مكبرة) من مصحف منقوط بنفس الطريقة أرجعه إلى القرن الثالث، وفي اللوحة (42) أورد صورة لأول المصحف المحفوظ في جامع الحسين منسوبا لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه.
وفي دراسات المنجد في تاريخ الخط العربي مجموعة ممتازة لصور صفحات من بعض المصاحف القديمة المحفوظة في مكتبات تركيا، وتظهر في بعضها الحركات مشارا إليها بالنقط (2)، وتظهر في هذه اللوحات بعض الكلمات مستوفية للنقط، والبعض الآخر قد يكون خاليا من النقط تماما وقد يكون منقوطا في بعض المواضع دون بعض.
ونجد في مجموعة الأستاذ ناجي زين الدين عددا لصور من مصاحف محفوظة في مكتبات متباعدة في العالم، وتظهر فيها طريقة تمثيل الحركات بواسطة النّقط المدورة (3).
ولا شك أن من غير اليسير تحديد فترة تاريخية معينة ترجع إليها تلك المصاحف التي أخذت منها النماذج ولكن إن لم تكن كلها تعود إلى ما قبل القرن الثالث فإن بعضا منها يعود إلى القرن الثاني على الأقل، فهي تمثل الطريقة التي وضع أساسها أبو الأسود
__________
(1) انظر: المصاحف الكريمة في صدر الإسلام، ص 35.
(2) انظر: شكل (27و 28و 29و 31و 37و 38).
(3) انظر: مصور الخط العربي، شكل (74و 75و 76و 78و 83).(1/438)
الدؤلي، ويلاحظ في أغلب هذه المصاحف أن النقط قد يكثر في بعض الأحيان فيشمل حركات الإعراب والحركات الأخرى في الكلمة، وقد يندر في أحيان أخرى حتى لا نكاد نجد الكلمة منقوطة في أكثر من حرف، وقد يكون الحرف الأخير وقد يكون غيره.
إن الكسائي حين كان يجلس الناس إليه ينقطون مصاحفهم على قراءته كما في الخبر السابق وتعقيب الذهبي على ذلك بقوله «لم يكن ظهر للناس الشكل بعد، إنما كانوا يعربون النقط» لا يعني أن الشكل الذي وضعه الخليل لم يكن قد ظهر، ولكن لم يستعمله الناس في المصاحف بل استعمله أهل اللغة والشعر خاصة، في أول الأمر، وظل الناس يستعملون النقط المدور في ضبط المصاحف قرونا بعد الخليل وقبل أن يستخدموا الشكل الذي وضعه، ويروي الداني أنه رأى في مصحف كتبه ونقطه حكيم بن عمران الناقط، ناقط أهل الأندلس، في سنة سبع وعشرين ومائتين الحركات نقطا بالحمرة (1).
ويبدو أن الشكل المستطيل الذي وضعه الخليل بدأ يستعمل في المصاحف في أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع، خاصة في بيئة العراق التي كانت مركز الحركة العلمية واللغوية، وكانت نزاعة إلى الاستفادة من جهود العلماء، ولكن بلاد المغرب والأندلس ظلت، على ما يصور الداني (ت 444هـ) متمسكة بالطريقة القديمة لأنها تعتبرها مما سنة الصحابة والتابعون فهي أولى بالاتباع.
وقد نقل الداني رأي ابن مجاهد (ت 324هـ) في استعمال الشكل المستطيل والنقط المدوّر في ضبط المصاحف من كتابه الذي ألفه في النقط، فقال (2): «قال أبو بكر بن مجاهد في كتابه في النقط والشكل والنقط شيء واحد، غير أن فهم القارئ يسرع إلى الشكل أقرب مما يسرع إلى النقط، لاختلاف صورة الشكل، واتفاق صورة النقط، إذ كان النقط كله مدورا، والشكل فيه الضم والفتح والهمز والتشديد بعلامات مختلفة، وذلك عامته مجتمع في النقط، غير أنه يحتاج أن يكون الناظر فيه قد عرف أصوله، ففي النقط الإعراب، وهو الرفع والنصب والخفض، وفيه علامات الممدود والمهموز
__________
(1) المحكم، ص 87.
(2) نفس المصدر، ص (2423).(1/439)
والتشديد ولولا أن ذلك كله فيه ما كان له معنى. قال: وقد كان بعض من يحب أن يزيد في بيان النقط، ممن يستعمل المصحف لنفسه، ينقط الرفع والخفض والنصب بالحمرة، وينقط الهمز مجردا بالخضرة، وينقط المشدد بالصفرة، كل ذلك بقلم مدوّر، وهذا أسرع إلى فهم القارئ من النقط بلون واحد بقلم مدور. قال: وفي النقط علم كبير، واختلاف بين أهله، ولا يقدر أحد على القراءة في مصحف منقوط، إذا لم يكن عنده علم بالنقط، بل لا ينتفع به إن لم يعلمه».
وهذا النص مفيد جدا لبيان موقف علماء السلف في أوائل القرن الرابع في العراق من استعمال الشكل المستطيل في المصحف، فلا يفهم من كلام ابن مجاهد إمام أهل العراق إلا أنه يفضل استعمال الشكل في المصاحف لوضوحه وسرعة فهمه بدل النقط المدور الذي يحتاج فهمه معرفة واسعة بطرائق الناقطين.
وكان أبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي (ت 336هـ) قد أجاز استعمال الشكل المستطيل في المصاحف، خاصة إذا جمع الناقط بين أكثر من قراءة فقد قال في كتابه النقط كما يروي الداني (1): «وإن شئت أن تجعل النقط مدوّرا فلا بأس بذلك، وإن شئت جعلت بعضه مدوّرا، وبعضه بشكل الشعر فغير ضائر، بعد أن تعطي الحروف ذوات الاختلاف حقوقها». وذكر الداني في باب النقط عند متقدمي النحاة وعلماء العربية في العراق «أنهم اتفقوا على نقط المتحرك من الحروف بالحركات الثلاث، ونقط المنون والمشدد والمهموز لا غير نقطا مدورا» (2).
وقد كان الداني (ت 444هـ) يأبى استعمال شكل الشعر في المصاحف فيقول (3):
«وترك استعمال شكل الشعر، وهو الشكل الذي في الكتب الذي اخترعه الخليل، في المصاحف الجامعة من الأمهات وغيرها أولى وأحق، اقتداء بمن ابتدأ النقط من التابعين واتباعا للأئمة السالفين».
__________
(1) المحكم، ص 22.
(2) نفس المصدر، ص 210.
(3) نفس المصدر، ص 22.(1/440)
ويعلل الداني تمسكه بوجوب استخدام النقط المدور في المصاحف بقوله (1): «وإنما جعلنا الحركات المشبعات نقطا مدورة على هيئة واحدة، وصورة متفقة، ولم نجعل الفتحة ألفا مضجعة والكسرة ياء مردودة، والضمة واوا صغرى، على ما ذهب إليه سلف أهل العربية، إذ كن مأخوذات من هذه الحروف الثلاثة دلالة على ذلك، اقتداء منا منا بفعل من ابتدأ النقط من علماء السلف، بحضرة الصحابة رضي الله عنهم واتباعا له، واستمساكا بسنته، إذ مخالفته مع سابقته وتقدمه لا تسوغ، وترك اقتفاء أثره في ذلك مع محله من الدين وموضعه من العلم لا يسع أحدا أتى بعده فاتباع هذا أولى، والعمل به في نقط المصاحف أحق، لأن الذي رآه أبو الأسود ومن بحضرته من الفصحاء والعلماء، حين اتفقوا على نقطها، أوجه لا شك من الذي رآه من جاء بعدهم لتقدمهم ونفاذ بصيرتهم، فوجب المصير إلى قولهم، ولزم العمل بفعلهم دون ما خالفه، وخرج عنه» (2).
ولم يتح لي الاطلاع على مصاحف مخطوطة مؤرخة ترجع إلى القرن الثالث وربما هي نادرة الوجود لنتبين من خلالها مراحل الانتقال من النقط المدور إلى الشكل المستطيل، في بلاد الشرق الإسلامي خاصة، وقد بقي لنا مصحف يرجع إلى أواخر القرن الرابع كتبه الخطاط البغدادي المشهور علي بن هلال المعروف بابن البواب المتوفى سنة 413هـ، وفي آخر المصحف تاريخ نسخه واسم ناسخه هكذا «كتب هذا الجامع علي بن هلل بمدينة السلم سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة حامدا لله تعالى» (3)، وهذا المصحف كامل الشكل على طريقة الخليل، فالفتحة ألف صغرى مبطوحة فوق الحرف
__________
(1) المحكم، ص (4342).
(2) قال حفني ناصف: (ص 77) وهو يتحدث عن استعمال الشكل الذي وضعه الخليل «وقد شاعت هذه الطريقة بين المشارقة، وأبي الأندلسيون اتباعها في أول الأمر محافظة على الإصلاح الأموي وكراهية للإصلاح العباسي» ويبدو هذا القول غير دقيق، وما ذكره الداني من التمسك بما استنه الصحابة والتابعون دون من تلاهم هو السبب المقبول في هذا المجال، ومما ينقض ما ذكر الأستاذ ناصف أن ما سماه بالإصلاح الأموي ظل يستعمل في العصر العباسي نصف قرن تقريبا قبل أن يضع الخليل الشكل، ثم هو ظل يستعمل في المشرق بعد وضع الخليل للشكل حتى عصر ابن مجاهد (ت 324)، كما يتبين ذلك من قوله المذكور سابقا.
(3) انظر ذلك في لوحة أوردتها سهيلة الجبوري، (شكل 7)، ص 81.(1/441)
والضمة واو صغرى فوقه أيضا والكسرة مثل الفتحة لكنها أسفل الحرف (1).
وهناك مصحف آخر كتبه أبو القاسم سعيد بن إبراهيم بن صالح المذهب في سنة 427هـ (2). ويبدو مشكولا بنفس الطريقة التي نجدها في المصحف الذي كتبه ابن البواب (3).
وقبل أن ننتقل إلى السنوات التي تلت هذه الفترة نشير إلى أن هناك خلافا في مقدار ما ينقط من الكلمة، وقد مر أن أبا الأسود الدؤلي لم ينقط إلا حركات أواخر الكلمات ولكن بمضي السنين ظهر أن الحاجة إلى نقط حركات الكلمة الأخرى ليست بأقل من نقط حركات الإعراب، ومع ذلك فإن بعض العلماء يرى أن بعض الكلمات من الوضوح بحيث أنها لا تحتاج إلى ضبط كل حركاتها ويكتفى بما إذا لم ينقط أوقع في اللبس، بينما يرى آخرون أن النقط يجب أن يشمل كل حركات الكلمة.
يروي الداني أن علماء العربية ومتقدمي النحويين من أهل العراق قد اقتصر أكثرهم في نقط المتحرك على أواخر الكلم (4)، ويقول (5): «وعامة أهل العراق من السلف والخلف لا يجعلون في المصاحف علامة للسكون ولا للتشديد ولا للمد، بل يعرّون الحروف من ذلك كله».
__________
(1) انظر صورا من هذا المصحف: سهيلة الجبوري، (شكل 8، ص 84و 10، ص 86و 11، ص 87)، وكذلك أورد منه ناجي زين الدين، لوحة في مصور الخط العربي، شكل 137، ص 44، والمصحف محفوظ في مكتبة (جستربتي) في دبلن.
(2) المصحف محفوظ في المتحف البريطاني، وقد أورد منه ناجي زين الدين في بدائع الخط العربي، صفحة مصورة، (شكل 15، ص 45)، وانظر: لوحة أخرى منه في مصور الخط العربي (له)، شكل 142، ص 45.
(3) في دار الكتب المصرية مصحف كتب سنة 499هـ، (رقم 227مصاحف)، وآخر كتب سنة 555هـ، (رقم 114مصاحف)، وثالث كتب سنة 566هـ، (رقم 238مصاحف)، وتبدو هذه المصاحف كاملة الشكل على طريقة الخليل.
(4) المحكم، ص 210.
(5) نفس المصدر، ص 56.(1/442)
ومما نقله ابن أبي داود عن أبي حاتم السجستاني في موضوع النقط قوله (1): «وإنما النقط على الإيجاز لأنهم لو تتبعوا كما ينبغي أن ينقط عليه فنقطوه لفسد المصحف، لو نقطوا قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ} * [البقرة: 264] على الفاء والميم والثاء واللام والهاء ونحو ذلك فسد، ولكنهم ينقطون على الميم واحدة فوقها، وواحدة بين يدي اللام، لأن اللام حرف الإعراب وقد تنصب وترفع وتجر، وفتحوا الميم لئلا يظن القارئ أنها (فمثل) وإذا جاء شيء يستدل بغيره ترك مثل قوله تعالى: {قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ (169)} * [آل عمران] ينقط بين يدي القاف واحدة ولا ينقط على التاء شيئا لأن ضمتها تدل على أنهم فعلوا وأما قوله {وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)} [الأحزاب] فإنك تنقط تحت التاء واحدة لأن هذه مشددة فتفرق بين المخفف والمشدد، فقس كل شيء بهذا إن شاء الله».
وكذلك ذهب هذا المذهب ابن مجاهد فقد قال في كتابه في النقط (2): «وليس على كل حرف يقع الشكل، إنما يقع على ما إذا لم يشكل التبس، ولو شكل الحرف من أوله إلى آخره، أعني الكلمة، لأظلم، ولم تكن فائدة، إذ كان بعضه يؤدي عن بعض».
وذلك هو نفس موقف أبي الحسين بن المنادي أيضا فإنه يقول (3): «النقط والشكل إنما جعلا للضرورات المشكلات يسرا، لا أن ينقط كل حرف من الكلمة، سكن أو تحرك فإذا ركب ناقط ذلك فقد خرج عن الحد إلى غيره، ولا طائل في ذلك كله».
وهذا هو موقف الكتّاب كتاب الرسائل أيضا من مقدار النقط والشكل (4).
__________
(1) كتاب المصاحف، ص 144.
(2) الداني: المحكم، ص 23. وانظر: ص 210أيضا.
(3) نفس المصدر، ص 210.
(4) قال ابن درستويه (ص 5): «اعلم أن الكتّاب لا ينقطون ولا يشكلون إلا ما التبس»، وقد كان النفور من الشكل في الكتب والمراسلات أشد، فقد عرض مرة على عبد الله بن طاهر كتاب مشكول، وكان خطه جميلا فقال: ما أحسن هذا الخط لولا أنه أكثر شونيزه (انظر أبو حيان التوحيدي: رسالة في علم الكتابة، نسخة مصورة، عن الأصل المحفوظ في فينا، في مكتبة جامعة القاهرة برقم (4090)، لوحة رقم 16)، والشونيز هو الحبة السوداء. (انظر حفني ناصف:
ص 69)، وذكر أبو حيان التوحيدي في رسالته السابقة أخبارا تدل على أن من كتاب الرسائل من كان يحبذ إعجام وشكل الكتابة حتى نسب إلى محمد بن عبد الملك الوزير، (لوحة 16) قوله:
«الكتاب المعجم هو العربي وغير المعجم هو النبطي»، وذكر (لوحة 17) أن عبد الحميد (لعله(1/443)
وكان بجانب هذا الاتجاه في مقدار الشكل أو النقط المدور اتجاه آخر يرى ضرورة استيفاء الكلمة نقط كافة حركاتها وما يلحق بذلك من علامات، وقد بيّن الداني ذلك أوضح بيان بقوله (1): «وإذا كان سبب نقط المصاحف تصحيح القراءة وتحقيق الألفاظ بالحروف حتى يتلقى القرآن على ما نزل من عند الله تعالى، وتلقّي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقل عن صحابته رضوان الله عليهم وأدّاه الأئمة رحمهم الله تعالى فسبيل كل حرف أن يوفّى حقه بالنقط، مما يستحقه من الحركة، والسكون والشد والمد والهمز وغير ذلك، ولا يخص ببعض ذلك دون كله».
وقد كان لهذا الاتجاه الذي ذكره الداني الغلبة في المصاحف منذ وقت مبكر كما يلاحظ في المصحف الذي كتبه ابن البواب سنة 391هـ والمصحف الذي كتبه أبو القاسم سعيد بن إبراهيم سنة 427هـ. وظل هذا الاتجاه في نقط المصاحف وشكلها ملتزما في المصاحف حتى الوقت الحاضر (2).
أما الاتجاه الذي ذكرناه أولا فقد اختص بالكتابات الأخرى فيما عدا المصحف حيث يندر أن تشكل الكلمة إلا ما قد يلبس، وظل هذا الاتجاه في الكتب إلى الوقت الحاضر (3)، ولكن علينا أن نتذكر أن كتب اللغة والشعر وما يشبهها كان النساخ يلتزمون فيها اتجاها أقرب إلى الاتجاه السابق حيث تشكل كل كلمة بما تستحق من الشكل، ويقدم لنا مخطوط قديم لكتاب غريب الحديث لأبي عبيد (ت 224هـ) كتب سنة 311هـ نموذجا كامل الشكل إلى درجة مبالغ فيها (4)، ونجد ذلك الإتقان في الشكل أيضا في مخطوط قديم لكتاب سيبويه كتب سنة 351هـ، ومخطوط لكتاب الأمالي لأبي علي
__________
الكاتب الأموي) قال: «الخط بلا نقط ولا إعجام كالأرض الملساء والمنقوط المعجم كالروضة المنورة».
(1) المحكم، ص 56.
(2) انظر نماذج من المصاحف المخطوطة بعد القرن الرابع الهجري في مجموعة موريتز ومصور الخط العربي للأستاذ ناجي زين الدين.
(3) قال صاحب مفتاح السعادة (ت 962هـ) (ج 1، ص 81): «إن النقط والإعجام في زماننا واجبان في المصحف، وأما في غير المصحف فعند خوف اللبس واجب البتة لأنهما ما وضعا إلا لإزالته».
ونقل هذا القول صاحب كشف الظنون (ت 1067هـ) (مج 1، عمود 712).
(4) محفوظ في مكتبة الأزهر، وانظر نموذجا مصورا منه في مجموعة موريتز، لوحة (119و 120).(1/444)
القالي كتب سنة 486هـ (1)، ولا نزال نشهد ذلك الحرص على استيفاء ضبط الكلمات في كتب اللغة العربية والشعر فيما يطبع منها في الوقت الحاضر، ونجد ذلك الحصر أيضا في استيفاء حق الكلمات من الحركات عند المحدّثين الذين حرصوا على ضبط ألفاظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ الزمن الأول إلى اليوم (2).
ويبدو أن نساخ المصاحف اتجهوا بعد عصر الداني، في بلاد الأندلس والمغرب، إلى استعمال الشكل المستطيل فيما يتعلق بعلامات الحركات فجعلوا الفتحة ألفا مبطوحة فوق الحرف والكسرة ياء مردودة صغرى تحته، والضمة واوا صغرى فوقه، بدل النقط المدورة، ويمكن أن نلاحظ مؤشرات عامة لذلك التحول في أقوال بعض العلماء الذين جاءوا بعد عصر الداني، فقد قال أبو طاهر إسماعيل بن ظاهر العقيلي المصري (ت 623هـ) بعد أن ذكر طريقة النقط المدور التي اختارها الداني في نقط المصاحف وطريقة الشكل المستطيل التي وضعها الخليل (3): «والأمر قريب إن شاء الله تعالى، غير أن موافقة التابعين والأئمة المتقدمين عندي آثر، والمصير إلى ما عرف وألف أظهر فإن الضبط المستطيل الآن أشهر، والعمل به أكثر، وأصل الضبط إنما كان لإيضاح الكلم وتعليم النطق بها على مراد كاتبها». وقد بين أبو طاهر العقيلي في مطلع الفصل الذي عقده لموضوع الضبط بعد قوله السابق أن (4): «كل شيء يجيء على مذهب من اختار النقط فإنه عند من اختار الشكل المستطيل كذلك إلا في المضموم فإن الضم عنده واو صغرى فوق الحرف لأنه لا يشكل بالفتح لأن الفتح ألف مبطوحة، وإنما يحتاج إلى تغاير الموضعين من جمع بين الصورتين» فالعقيلي حين يتحدث عن هذا الموضوع يبين طريقة المذهبين جميعا، ويترك القارئ بالخيار، وكأنه لا يزال هناك من يميل إلى استعمال النقط المدور.
ولا نجد بعد أبي طاهر العقيلي ما يشير إلى استعمال النقط المدور في تمثيل الحركات القصيرة فقد قال علم الدين السخاوي (ت 643هـ) «وأما هذا الشكل فقد كان
__________
(1) المخطوطات في دار الكتب المصرية، وانظر نموذجا لهما في موريتز، (لوحة 121و 176).
(2) انظر السيوطي: تدريب الراوي، ج 2، ص 68وما بعدها.
(3) مختصر ما رسم في المصحف، لوحة 24.
(4) نفس المصدر واللوحة.(1/445)
نقطا بالحمرة أحدث الخليل له هذه الصور» (1)، وتحدث ابن وثيق الأندلسي (ت 654هـ) عن صور الحركات الثلاث التي وضعها الخليل دون الإشارة إلى طريقة النقط المدور في الفصل الذي تحدث فيه عن موضوع الضبط (2)، وذكر الجعبري نقط الإعراب وقال:
«وعدل إلى الخطوط لأنها أوضح ولا تلبس» (3). وتحدث القلقشندي عن الطريقتين وقال إن المتقدمين استعملوا النّقط المدورة وإن المتأخرين استعملوا علامات الخليل (4). كذلك نجد الخراز (ت 718هـ) قد قال في أرجوزة الضبط (5):
فتحة أعلاه وهي ألف ... مبطوحة صغرى، وضمّ يعرف
واوا كذا أمامة أو فوقا ... وتحته الكسرة ياء تلقى
وقد قال التنسي (ت 899هـ) في شرح هذين البيتين (6): «أشار في هذين البيتين إلى صفة الحركات الثلاث وإلى محالها من الحروف على مذهب الخليل الذي اختاره لجريان العمل به كما ذكر، وإن كان الداني اختار نقط أبي الأسود» وقال السيوطي (ت 911هـ) (7): «وكان الشكل في الصدر الأول نقطا، فالفتحة نقطة على أول الحرف والضمة على آخره والكسرة تحت أوله، وعليه مشى الداني، والذي اشتهر الآن الضبط بالحركات المأخوذة من الحروف، وهو الذي أخرجه الخليل، وهو أكثر وأوضح وعليه العمل». وقد نقل صاحب مفتاح السعادة (ت 962هـ) قول السيوطي السابق (8).
ويتبين من العرض السابق لتاريخ تمثيل الحركات أن ابتداء أبي الأسود (ت 67وقيل 69هـ) نقط المصاحف لا يعني أن النقط قد استعمل دائما منذ ذلك التاريخ ولا أنه شمل كل حركات الكلمة، كذلك فإن اختراع الخيل لعلامات الحركات لا يعني أنها
__________
(1) الوسيلة، ورقة 12أ.
(2) رسالة في رسالة المصحف، لوحة 35.
(3) خميلة أرباب المراصد، ورقة 311أ.
(4) انظر صبح الأعشى: ج 3، ص (166165.
(5) المارغني: ص 344.
(6) الطراز في شرح ضبط الخراز، ورقة 4ب.
(7) الإتقان، ج 4، ص 162.
(8) ج 2، ص (233232).(1/446)
استعملت مباشرة في ضبط المصاحف، فقد مضت مدة طويلة حتى بدأ إدخالها في المصاحف، وقد لاحظنا أن أهل الأندلس والمغرب ظلوا يستعملون طريقة النقط المدور إلى عصر الداني (ت 444هـ) حيث شاع استعمال علامات الخليل في تمثيل الحركات بعد تلك الفترة (1).
إن الروايات لم تحدد لون المداد الذي طلب أبو الأسود من كاتبه أن يستعمله في نقط المصحف لكن الذي اشتهر بعد ذلك استعمال اللون الأحمر في نقط الحركات والسكون والتشديد والتخفيف، وأما الصفرة فللهمزات خاصة، وهذه هي الألوان التي استخدمها نقّاط أهل المدينة ونقاط الأندلس كما يروي الداني أما نقاط أهل العراق فيستعملون للحركات وغيرها وللهمزات الحمرة وحدها وبذلك تعرف مصاحفهم، وتميز من غيرها (2).
أما نقط المصاحف بالسواد فقد نهى عنه الداني، قال أبو عمرو: «فأما نقط المصاحف بالسواد من الحبر وغيره فلا أستجيزه، بل أنهى عنه وأنكره اقتداء بمن ابتدأ النقط من السلف، واتباعا له في استعماله لذلك صبغا يخالف لون المداد، إذ كان لا يحدث في المرسوم تغييرا ولا تخليطا، والسواد يحدث ذلك فيه، ألا ترى أنه ربما زيد في النقطة فتوهمت لأجل السواد الذي به ترسم الحروف أنها حرف من الكلمة، فزيد في تلاوتها لذلك، ولأجل هذا وردت الكراهة عمن تقدم من الصحابة وغيرهم في نقط المصاحف» (3)، ولا شك في أن كراهة استعمال اللون الأسود في ضبط المصاحف قد
__________
(1) ومن ثم فإنه لا يمكن الاعتماد على نوع ضبط المصحف المخطوط لتحديد عصره دائما، وقد وقعت الدكتورة سعاد ماهر في خطأ منهجي حين ظنت أن تاريخ وفاة الخليل هو الحد الفاصل بين استعمال النقط المدور والشكل المستطيل، وهي لذلك حددت تاريخ المصحف المنسوب لأمير المؤمنين علي والمحفوظ في مسجد الحسين بالقاهرة والمنقوط بطريقة أبي الأسود بناء على ذلك الظن وقالت (ص 130129): «وأوكد تاريخه في الفترة التي تقع بين النصف الثاني من القرن الأول الهجري والنصف الأول من القرن الثاني. وعلى وجه التحديد من (67هـ إلى 160هـ) وهذه التواريخ التي اختارتها هي تاريخ وفاة أبي الأسود والخليل بن أحمد رغم أن المشهور في وفاة الخليل هو سنة 170هـ.
(2) المحكم، ص (2019).
(3) المحكم، ص 19. وانظر: كتاب النقط (له)، ص 125.(1/447)
انتفت حين استعملت العلامات التي وضعها الخليل والتي تتميز بالصورة لا بلون المداد والمخالفة في الموضع كما في طريقة النقط المدور.
أما استعمال الألوان المتعددة لجمع القراءات في المصحف فقد كرهته جماعة من العلماء كما يذكر الداني، وقد قال: «وطوائف من أهل الكوفة والبصرة قد يدخلون الحروف الشواذ في المصاحف، وينقطونها بالخضرة وربما جعلوا الخضرة للقراءة المشهورة الصحيحة، وجعلوا الحمرة للقراءة الشاذة المتروكة، وذلك تخليط وتغيير» (1).
وكما أنكر الداني إثبات القراءات الشاذة في المصحف باستعمال ألوان مختلفة أنكر كذلك إثبات القراءات الصحيحة بتلك الطريقة، فقال (2): «وأكره من ذلك وأقبح منه ما استعمله ناس من القراء وجهلة من النقّاط من جمع قراءات شتى وحروف مختلفة في مصحف واحد، وجعلهم لكل قراءة وحرف لونا من الألوان المخالفة للسواد، كالحمرة والخضرة والصفرة واللّازورد، وتنبيههم على ذلك في أول المصحف، ودلالتهم عليه هناك، لكي تعرف القراءات وتميز الحروف. إن ذلك من أعظم التخليط، وأشد التغيير للمرسوم». لكن الداني يذكر أن أبا الحسين بن المنادي قد أشار إلى إجازة ذلك فقد قال في كتابه في النقط: وإذا نقطت ما يقرأ على وجهين فأكثر فارسم في رقعة غير ملصقة بالمصحف أسماء الألوان، وأسماء القراء، ليعرف ذلك الذي يقرأ فيه، ولتكن الأصباغ صوافي لامعات، والأقلام بين الشدة واللين، قال: وإن شئت أن تجعل النقط مدورا فلا بأس بذلك، وإن جعلت بعضه مدورا وبعضه بشكل الشعر فغير ضائر، بعد أن تعطي الحروف ذوات الاختلاف حقوقها» (3).
وما أشار إليه ابن المنادي من إمكانية جمع أكثر من قراءة بواسطة استخدام النقط المدور والشكل المستطيل معا يفسر لنا ضبط مصحف مخطوط في دار الكتب المصرية كتب عليه بقلم ربما كتب بعد كتب المصحف (4) أنه بخط جعفر الصادق
__________
(1) المحكم، ص 20، وانظر ابن أبي داود: ص 147.
(2) المحكم، ص 20.
(3) المحكم، ص (2221).
(4) انظر ناجي زين الدين: بدائع الخط العربي، شكل 649، ص 349، وانظر: ص 491، تسلسل 649.(1/448)
(ت 148هـ) وقد أرجعه موريتز في مجموعته إلى القرن الثاني أو الثالث، وأورد منه ست لوحات (3631)، ولعل هذا المصحف كتب بعد زمن الخليل بن أحمد (ت 170هـ)، اعتمادا على طريقة الضبط التي اتبعت فيه، ولا تظهر اللوحات التي نقلها موريتز حقيقة ألوان الحركات، ولكن بعد أن اطلعت على أصل هذا المصحف المحفوظ في دار الكتب المصرية (1) وهو يضم من القرآن حتى آخر الكهف عرفت سر هذه الكثرة في العلامات، إذ يبدو أن هذا المصحف كتب أولا على قراءة معينة وضبط بالعلامات التي وضعها الخليل بنفس المداد الذي استعمل في رسم الحروف، الفتحة ألف صغرى مبطوحة فوق الحرف والكسرة مثل الفتحة تحت الحرف والضمة واو صغرى فوقه، كذلك رسمت الشدة رأس شين والهمزة رأس عين بنفس المداد، ولما أريد ضبط هذا المصحف بالقراءة الأخرى (2) استعان الناقط بطريقة النقط المدور المفرّغ الوسط، واستعمل لونين من المداد: الأول الحمرة للحركات والتنوين فالفتحة نقطة فوق الحرف والضمة نقطه أمام الحرف لكن الكسرة لم تكن نقطة مفرغة الوسط دائما بل جعلها الناقط أحيانا مثل الفتحة تحت الحرف وباللون الأحمر، أي أنه جعلها مثل الكسرة التي ضبط بها المصحف أولا بنفس مداد الحروف، أما اللون الثاني فهو الأزرق (اللازورد) وقد استعمله للهمزات حيث جعلها نقطا مدورة مفرغة الوسط أيضا.
وما بيناه من مذاهب أئمة السلف في نقط الحركات الثلاث إنما يختص بالحركات المشبعة، أما تمثيل الحركة المختلسة والمخفاة والمرامة والمشمة في مذاهب بعض القراء فقد بين الداني المستعمل من ذلك في نقطها حتى عصره، فيشار إلى المختلسة والمخفاة والمرامة بأن تنقط بالنقط المدورة ويشار إلى الحركات المشبعة بعلامات الخليل التي هي حروف صغيرة «فيكون النقط وهذه الحروف الثلاثة فرقا بين ما لم يتمّ الصوت به من الحركات، ولم يشبع اللفظ به، وبين ما أتمّ به الصوت، ومطط به النطق، ويميّز الجنسان، ويبيّن النوعان، وتدرك حقيقتهما بذلك» (3).
__________
(1) برقم (1مصاحف).
(2) يرى الأستاذ حفني ناصف أن المصحف مضبوط على أكثر من قراءة (انظر: تاريخ الأدب، ص 94).
(3) المحكم، ص (4746)، وانظر أيضا التنسي: ورقة 16ب.(1/449)
أما الحركة المشمة ومعنى الإشمام هنا يختلف عن المعنى الذي سبق في حالات الوقف، فمعناه هنا أن ينحى بكسرة أوائل بعض الأفعال مثل (قيل وسيق وغيض) نحو الضمة يسيرا إذا أريد نقطها فإنها تجعل نقطة أمام القاف والسين والغين، وما أشبه ذلك من الأمثلة، ليدل بذلك على إشمامها، ويقول الداني: «وإن تركت الحروف عارية من تلك النقطة وأخذ ذلك مشافهة عن القراء كان حسنا» (1).
ونقط الفتحة الممالة يكون بأن تجعل نقطة تحت الحرف الذي هو عليه كما تجعل الكسرة سواء، ويقول الداني: «وإن خيف إخلاص تلك الكسرة ترك الحرف عاريا منها، إلى أن تأتي المشافهة على ذلك» (2). وقد تكون علامة الإمالة بعد أن استعمل الشكل المستطيل في نقط المصاحف هي علامة الكسرة توضع تحت الحرف مكان النقطة، وربما استعمل بعض النقاط كلمة (مل) مكتوبة بالمداد الأحمر علامة للإمالة فوق الحرف الممال (3).
ونشير قبل أن ننتقل إلى المبحث التالي إلى نقط الحركات الطويلة إذ درج النقاط على أن يجعلوا نقطة على الحرف الذي تأتي بعده ضمة أو كسرة أو فتحة طوال، وكأن تلك النقطة تشير إلى أن رمز الواو أو الياء أو الألف إنما هو ضمة أو كسرة أو فتحة طوال لا واو أو ياء أو همزة، أي أنها حركات وليست صوامت وبعد أن حلّت محل تلك النقط علامات الخليل واستعملت باطراد ارتبط بالأذهان أن الحركات الطويلة تتكون من الحركة القصيرة والواو أو الياء أو الألف بعدها، استنادا إلى ظاهر الرسم، وقد تحدث علماء العربية عن الحركات الطويلة على أساس من ذلك الفهم، فنجد سيبويه يتحدث عن الياء التي قبلها كسرة والواو التي قبلها حرف مضموم (4)، وأن الألف لا بد لها من حرف قبلها مفتوح (5)، وقد تردد هذا الاتجاه في تعبيرات التالين (6).
__________
(1) المحكم، ص 48.
(2) نفس المصدر والصفحة.
(3) انظر د. عبد الفتاح شلبي: الإمالة، ص 285و 290.
(4) الكتاب، ج 2، ص 277.
(5) نفس المصدر، ج 2، ص 286.
(6) انظر مثلا ابن جنّي: سر صناعة الإعراب، ج 1، ص 58. ومكي: الكشف، ج 1، ص 45.(1/450)
والحركات الطويلة من الناحية الصوتية ما هي إلا الحركات القصيرة لكنها طالت أو أصبحت ضعف الحركة القصيرة أو نحوا من ذلك كما دلت الدراسات الصوتية الحديثة (1). وهو تصور ليس جديدا على علماء العربية كما لاحظنا من قبل في تعبيرات ابن جنّي ولكن يبدو أن ذلك التصور لم يكن يميز موقف كل علماء العربية بل حتى ابن جنّي نفسه قد عبر عن الحركات الطويلة بأنها ألف قبلها فتحة وياء قبلها كسرة وواو قبلها ضمة (2).
وإذا كنا لا نجد مبررا لإثبات علامات الحركات قبل الألف والواو والياء الدالة على الحركات الطويلة، من الناحية الصوتية، فإن إثبات تلك الحركات يجد ما يبرره من ناحية الكتابة، ذلك لأن الرموز الثلاثة لما كانت ذات جانبين من حيث دلالتها على الأصوات الصامتة وعلى الحركات الطويلة في نفس الوقت فقد صار إثبات علامات الحركات القصيرة أمام تلك الرموز إشارة إلى كونها حركات طويلة وليست صوامت، ومن ثم فليس هناك داع إلى القول «إننا لسنا في حاجة إلى وضع علامات الحركات القصار قبل هذه الحروف» (3) بشرط أن يكون فهمنا لطبيعة الحركات الطويلة فهما صوتيا صحيحا (4).
__________
(1) انظر د. كمال محمد بشر: دراسات في علم اللغة، ق 1، ص 201.
(2) انظر مثلا: الخصائص، ج 2، ص 141، وج 3، ص 127، وسر صناعة الإعراب (مخطوط)، ورقة 240ب.
(3) د. كمال محمد بشر: دراسات في علم اللغة، ق 1، ص 202.
(4) انظر جان كانتينو: ص 148.(1/451)
المبحث الثاني علامات تمييز الحروف المتشابهة في الصّورة
إن الكتابة العربية بما تتابع عليها من تطور في أشكال حروفها قبل الإسلام قد تولد عنه تقارب كبير في رموز بعض الأصوات أدى في آخر المطاف إلى اشتراك صوتين أو أكثر برمز واحد، وقد سبق بيان أسباب ذلك التحول وجذوره البعيدة بما لا يوجب إعادته هنا (1). وكذلك قد أشير في أكثر من موضع سبق أن المصاحف العثمانية كتبت خالية من أية علامات لتمييز الحروف المتشابهة في الصورة مثل ما خلت من علامات الحركات القصيرة، وأشرت في مطلع هذا الفصل إلى اتجاه يقول إن نقط الإعراب ونقط الإعجام قديمان في الكتابة العربية، وإن المصاحف جردت منهما لتحتمل ما صح من القراءات، واتضح أن الأساس الذي بنيت عليه هذه المقولة أساس غير واضح ولا محدد ولا يصلح أن يكون دليلا في قضية تحديد تاريخ استخدام النقط المميزة للرموز المتشابهة الصور في الكتابة العربية، ولم نهدف من تلك المناقشة متابعة تاريخ الموضوع وإنما بينا أن القول بقدم الشكل والإعجام وأن المصاحف العثمانية قد جردت منه لأسباب معينة قول لا يعتمد على دليل مؤكد بل رجحت أنه اتجاه مخطوء، وبعد أن انتهينا من بحث تاريخ تمثيل الحركات القصيرة اعتمادا على الروايات وعلى الوثائق المخطوطة أحاول أن أبحث تاريخ إدخال العلامات المميزة للرموز المتشابهة، وكما اتبع علماء السلف الأولون طريقة العلامات الخارجية في تكميل تمثيل الحركات اتبعوا كذلك نفس الطريقة في تمييز الحروف المتشابهة في الصورة (2).
__________
(1) انظر: ص 60من الفصل التمهيدي.
(2) ذكر الصولي (ص 5655) أنه «إذا اتصلت ياء وتاء ونون في كلمة فكان على عدة أشكال السين والشين دفعت الوسطى، مثل بينك وبيتك، ولو لم تفعل ذلك وسويت بين الثلاث لجاءت الكلمة كأنها شك أو سك ويحتمل الاثنين السين والشين». ويبدو أن ما ذكره الصولي كان وسيلة لجأ إليها الكتّاب لتفادي اللبس الذي قد يحصل من اجتماع الياء والتاء والنون التي تكوّن في غير(1/452)
إن هذا الموضوع يبدو أكثر تعقيدا من موضوع تمثيل الحركات ولذلك فهو لا يخلو من غموض، لنقص في الوثائق والروايات، ومن ثم سوف أتناوله بما تيسر من الروايات التاريخية محاولا الاستعانة بالوثائق المخطوطة القليلة في الوصول إلى المعالم البارزة لتاريخ تمييز الرموز المتشابهة الصور، تاركا القضية بعد ذلك لجهود الباحثين، وما يمكن أن يكشفه المستقبل من روايات أو وثائق مخطوطة تصحح وتوضح ما بأيدي الناس اليوم.
وإذا تجاوزنا الرواية التي تنسب وضع الإعجام في الكتابة العربية إلى عامر بن جدرة (1)، وحاولنا الاستعانة بالروايات التاريخية الأخرى نجدها على قسمين: قسم يرى أن واضع الشكل هو الذي وضع الإعجام، فقد قال الجعبري (2): «الظاهر أن مبتدعه واضع الشكل» وقال ابن عاشر الأنصاري (3): «لم أجد نصا في تعيين أول من نقط في المصاحف نقط الإعجام، وقال الجعبري في خاتمة الجميلة (الخميلة) الظاهر أن مبتدعه واضع الشكل، ويظهر لي والله أعلم أنهم لم يتعرضوا له لأنه كان موجودا في نفسه»، ولا تعطي هذه الرواية تاريخا محددا، ولا تقدم شيئا جديدا (4)، أما القسم الثاني من الروايات فهو أقدم بكثير من السابقة، ومن الغريب أن الجعبري وابن عاشر لم يطلعا عليها، وهي في الحقيقة رواية واحدة، ورغم أنها تقدم معلومات محددة، وتربط إدخال العلامات المميزة للرموز المتشابهة بأشخاص معروفين وبزمان ومكان معينين، إلا أنها لم تسلم من الغموض الذي يدفع إلى عدم الاطمئنان الكامل إلى ما ورد فيها.
__________
الطرف ما يشبه حرف السين، ونجد أمثلة لذلك في بعض مخطوطات المصاحف القديمة وبعض النقوش، ويقدّم مصحف جامع عمرو أمثلة متعددة، من ذلك (48/ 26) (فأنزل الله سكينته) إذ نجد أن سنّتي الياء والتاء في كلمة (سكينته) جاءتا أطول من سنّة النون التي تتوسطهما وبذلك أشعر الكاتب أن هذه السنّات الثلاث ليست سينا.
(1) انظر ص 26من الفصل التمهيدي، وقد نسب الداني (المحكم، ص 35) وضع الإعجام إلى (أسلم بن خدرة) نقلا عن هشام الكلبي، وكأنه حدث تصحيف في الاسم في رواية الداني.
(2) خميلة أرباب المراصد، ورقة 316أ.
(3) فتح المنان المروي بمورد الظمآن، ص 51.
(4) انظر في نفس معنى الرواية: القلقشندي، ج 3، ص 155.(1/453)
وقد عرف الباحثون تلك الرواية عن طريق ابن خلكان (ت 681هـ) أولا، حيث نقلها في كتابه وفيات الأعيان، قال: «وحكى أبو أحمد العسكري في كتاب (التصحيف) أن الناس غبروا يقرءون في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه» (1). وحين رجعت إلى كتاب أبي أحمد العسكري (ت 382هـ) وجدت الرواية التي ذكرها ابن خلكان بنصها فيه (2)، ما عدا قليلا من التغيير في بعض الألفاظ في نص ابن خلكان بالنسبة لنص أبي أحمد العسكري، لكن الرواية ظلت تقريبا كما هي لفظا ومعنى، وفي أثناء قراءتي لإعداد هذا البحث عثرت على نفس الرواية في كتاب آخر في نفس الموضوع لمعاصر لأبي أحمد العسكري، وهو حمزة الأصفهاني (ت 360هـ) فقد أورد الرواية مع اختلاف يسير لم يغير المعنى بل حافظت على كثير من ألفاظ رواية العسكري (3)، وإذا كان أبو أحمد العسكري قد مات بعد حمزة الأصفهاني باثنتين وعشرين سنة فهل أن ذلك يدل على أن العسكري نقلها منه أو أن كليهما نقل عن مصدر واحد سبقهما؟ إن الإجابة على ذلك تحتاج إلى التأكد من أيهما سبق في تأليف كتابه، وهل اطلع أحدهما على كتاب صاحبه، ومما لا يساعد على الوصول إلى مصدر هذه الرواية هو أنها سيقت في كلا المصدرين دون ذكر مصدرها أي لم تسند، واكتفى العسكري بقوله (وروي) وأورد الأصفهاني الرواية رأسا، ونحن نورد هنا رواية الأصفهاني أولا ثم رواية العسكري بعدها لننظر ما يمكن أن تفيداه في موضوع إعجام الحروف.
قال حمزة الأصفهاني «وأما سبب إحداث النقط فإن المصاحف الخمسة التي استكتبها عثمان رحمه الله وفرقها على الأمصار، غير الناس يقرءون فيها نيفا وأربعين سنة وذلك من زمان عثمان إلى أيام عبد الملك، فكثر التصحيف على ألسنتهم، وذلك أنه لما جاءت الباء والتاء والثاء أشباها في الاتصال والانفصال، وكانت الياء والنون يحكيانها في الاتصال تمكن التصحيف في الكتابة تمكنا تاما، فلما انتشر التصحيف بالعراق فزع الحجاج إلى كتابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات فوضعوا النقط أفرادا وأزواجا، وخالفوا في أماكنها بتوقيع بعضها فوق الحروف وبعضها تحت الحروف،
__________
(1) وفيات الأعيان، ج 1، ص 344.
(2) انظر: شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف، ص 13.
(3) انظر: التنبيه على حدوث التصحيف، ص (2827).(1/454)
فغبر الناس بعد حدوث النقط زمانا طويلا لا يكتبون دفترا ولا كتابا إلا منقوطا، فكان مع استعمالهم النقط يقع التصحيف، فأحدثوا الإعجام، فكانوا يتبعون ما يكتبون بالنقط مع الإعجام فإذا أغفل الاستقصاء على الكلمة فلم توفّ الحقوق كلها من النقط والإعجام اعتراها التصحيف».
وقال أبو أحمد العسكري: «وقد روي أن السبب في نقط المصاحف أن الناس غبروا يقرءون في مصاحف عثمان رحمة الله عليه نيّفا وأربعين سنة، إلى أيام عبد الملك بن مروان، ثم كثر التصحيف وانتشر بالعراق، ففزع الحجاج إلى كتابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات، فيقال إن نصر بن عاصم قام بذلك، فوضع النقط أفرادا وأزواجا، وخالف بين أماكنها بتوقيع بعضها فوق الحروف، وبعضها تحت الحروف، فغبر الناس بذلك زمانا لا يكتبون إلا منقوطا، فكان مع استعمال النقط أيضا يقع التصحيف، فأحدثوا الإعجام، فكانوا يتبعون النقط بالإعجام، فإذا أغفل الاستقصاء على الكلمة فلم توف حقوقها اعترى هذا التصحيف، فالتمسوا حيلة، فلم يقدروا فيها إلا الأخذ من أفواه الرجال».
ومع أن كلا النصين يقدم تفصيلا أكثر بالنسبة لما جاء في النص الآخر في جوانب معينة فإنهما لم يقدما توضيحا للغموض الذي تكرر في كليهما والذي استوقف انتباه الباحثين المحدثين في أول لقاء لهم مع هذه الرواية التي عرفوها عن طريق ابن خلكان أولا، ولم يجدوا التفسير الواضح لما جاء فيها إلى اليوم (1)، فالرواية في كلا نصيها تتحدث عن تنقيط الحروف المتشابهة لتمييزها وتخصيص كل صوت برمز واحد لا يشركه فيه غيره، ويمكن أن نلاحظ أن الرواية تتحدث عن حدثين في تاريخ الكتابة العربية، الأول: هو تنقيط الحروف الذي تم في خلافة عبد الملك وولاية الحجاج على العراق، والرواية صريحة في أن الذي تم عمله في زمن الحجاج هو نقط الحروف لتمييز المتشابهة في الصورة منها، ونص الأصفهاني يقدم تفصيلا أكثر في هذا الجانب من نص العسكري، ولكن هذا العمل لم يمنع وقوع التصحيف فيما يكتب الناس فكان لا بد من
__________
(1) انظر جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج 1، ص 256، ود. عدنان الخطيب: المعجم العربي بين الماضي والحاضر، القاهرة، معهد البحوث والدراسات العربية، 1967، ص 22، ود.
عبد العال سالم مكرم: ص 37.(1/455)
خطوة أخرى لتكميل الكتابة وقد كان من المتوقع أن تتحدث الرواية في الخطوة الثانية عن علامات الحركات وما يشبهها من علامات، لكن الرواية تتحدث عن الخطوة الأخرى حديثا غامضا وتسميها (الإعجام)، ومعلوم أن هذا المصطلح يطلق على نقط الحروف لتمييز المتشابه منها، ومن ثم فإن تسمية الخطوة الثانية بالإعجام قد جعل معنى الرواية غير مستقيم، ويشير هذا إلى احتمال حدوث تصحيف في الرواية، ولكن العجب أن لفظ الإعجام جاء في كلا نصي الرواية وتكرر أكثر من مرة، مما ينفي احتمال وقوع التصحيف وربما يستقيم معنى الرواية إذا تصورنا أن المقصود (بالإعجام) هو الشكل أي علامات الحركات، وهو احتمال قوي، ولا يعترض على ذلك بالقول أن علامات الحركات استعملت قبل زمن الحجاج، لأن العلامات التي وضعها أبو الأسود قبل زمن الحجاج لم تستعمل في كتابات الكتّاب فتصير عملية تكميل الكتابة العربية عند الكتاب تبدأ بتمييز الحروف المتشابهة أولا ثم وضع علامات للحركات ثانيا عكس ما جرى في تكميل الرسم العثماني، ويبدو هذا التفسير للرواية محتملا رغم أنها تنص في أولها على أن الأمر يتعلق بالمصاحف، نعم هو يتعلق بالمصاحف في الخطوة الأولى من الرواية أما الخطوة الثانية فالأمر يتعلق بكتابة الكتاب، ولعل المقصود بالخطوة الثانية التي تنص عليها الرواية هو عمل الخليل بن أحمد، وربما دل على ذلك نص الأصبهاني «فغبر الناس بعد حدوث النقط زمانا طويلا لا يكتبون دفترا ولا كتابا إلا منقوطا» فبين زمن الحجاج ووفاة الخليل قرن من الزمان تقريبا، ثم إن إشارة الرواية في نهايتها في نص العسكري إلى أنه إذا أغفل الاستقصاء على الكلمة ولم توفّ حقها اعتراها التصحيف فالتمسوا حيلة فلم يقدروا فيها إلا الأخذ من أفواه الرجال، فيها دليل على أن العمل الثاني هو الشكل الذي وضعه الخليل، ولعل مما يؤيد ذلك ما ذكره ابن سيده في المخصص من قول صاحب العين الخليل بن أحمد شكلت الكتاب أشكله شكلا أعجمته» (1)، وإذا كان الشكل يأتي بمعنى الإعجام فإن ذلك يسوغ القول بأن الإعجام كان يستعمل بمعنى الشكل أيضا، ثم اختص معنى الإعجام في فترة لاحقة بنقط الحروف في سمتها.
وإذا نظرنا إلى ما جاءت به الرواية فيما يتعلق بإعجام الحروف وسنعتبر القسم
__________
(1) المخصص، ج 13، ص 5، وانظر ابن منظور: ج 13، ص 381.(1/456)
الأول من الرواية مستقيما ومقبولا نلاحظ أنها تربط في كلا نصيها ذلك العمل بفترة خلافة عبد الملك بن مروان (8665هـ) وولاية الحجاج على العراق (9575هـ)، وبينما لا يبين نص الأصبهاني القائمين بأمر وضع النقط على الحروف نجد العسكري يصرح «فيقال إن نصر بن عاصم قام بذلك». وكان الأستاذ حفني ناصف قد أورد هذه الرواية بصيغة مستقيمة حيث اكتفى بإيراد ما يتعلق بإعجام الحروف بالسواد ولا ندري هل اطلع على نص مستقيم للرواية أم أنه اكتفى من رواية العسكري بما أورده إلى جانب ذلك فإنه قرن إلى نصر بن عاصم يحيى بن يعمر العدواني، وأشركه في عمل إعجام الحروف (1)، ولا نعرف كذلك المصدر الذي استقى منه الأستاذ ناصف ذلك، وهل هو استنتاج من عنده من الأخبار التي تذكر أن يحيى هو أول من نقط المصاحف.
ويبدو حسبما تدل عليه هذه الرواية أن الجيل الذي جاء بعد أبي الأسود هو الذي قام بإعجام الحروف وذلك أن أبا الأسود الدؤلي أخذ عنه العربية ونقط المصاحف عدد من علماء التابعين، وقد ذكر ابن سلام الجمحي جماعة منهم فقال: وكان ممن أخذ عن أبي الأسود يحيى بن يعمر (ت قبل 90هـ) ونصر بن عاصم الليثي (ت 90هـ) وغيرهما (2)، ولا شك أن الإحساس بضرورة تمييز الحروف المتشابهة في المصحف وغيره قد أخذ يزداد بتقدم الزمن، ومن المحتمل أن محاولة تكميل ذلك النقص قد تمت في خلافة عبد الملك التي تحقق فيها كثير من الإنجازات اللغوية والفنية فكانت هذه الفترة عصر تجويد للخط وتنافس في ترقيته في كل أنحاء الدولة الإسلامية (3)، تشهد لذلك هذه القبة العظيمة التي شيدها عبد الملك حول الصخرة، وجمع فيها من غريب الفن المعماري وطريفه (4)، وفي خلافة عبد الملك تم تعريب دواوين الشام والعراق (5)،
__________
(1) انظر: تاريخ الأدب، ص 71وما بعدها.
(2) طبقات فحول الشعراء، ص (1312). وانظر السيرافي: ص 21. وأبو بكر الزبيدي: ص 22.
وابن النديم: ص 41. وأبو البركات الأنباري: ص 11.
(3) د. إبراهيم جمعة: دراسات في تطور الكتابات الكوفية، ص 136. وانظر د. صالح العلي:
ص 20.
(4) انظر نموذجا للكتابة التي رسمت حول تلك القبة في عصر عبد الملك في دراسات الدكتور المنجّد عن تاريخ الخط العربي، ص 59، والكتابة مؤرخة سنة 72هجرية.
(5) البلاذري: ص 201و 309، والجهشياري: ص 38و 40.(1/457)
وكان عبد الملك أول من نقش بالعربية على الدراهم (1).
وسبق أن بعض الروايات تشير إلى أن أول من نقط المصاحف يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم (2)، ويورد الدارسون تلك الروايات في معرض حديثهم عن أول من وضع نقط الإعراب، وإذا ثبت أن أبا الأسود هو الذي وضع نقط الإعراب فإن الأولية التي تنسب لهما تصبح موضع نظر، وربما أريد بها أنهما أشاعا تلك الطريقة بعد أستاذهما وربما قصد بذلك أنهما أول من وضع نقط الإعجام في المصاحف وهو أرجح وتشير إليه الرواية التي ينقلها العسكري.
وقد كان يحيى بن يعمر عالما مأمونا يروى عنه الفقه (3)، وكان صاحب قراءة (4)، وكان نصر بن عاصم أحد القراء والفصحاء، وأخذ عنه أبو عمرو بن العلاء والناس (5)، وذكر ابن عطية في مقدمة تفسيره أن الجاحظ قال في كتاب الأنصار «إن نصر بن عاصم أول من نقط المصاحف، وكان يقال له نصر الحروف» (6)، وهذا اللقب (نصر الحروف) ذو دلالة تشير إلى دور ما لنصر بن عاصم في إعجام الحروف، أو شيء آخر يخصها.
وإذا كانت رواية الأصبهاني والعسكري تشير إلى أن نقط الإعجام قد ظهر في خلافة عبد الملك (8665هـ) وولاية الحجاج على العراق (9575هـ) فإن ذلك يدل على أن إعجام الحروف قد تم بعد أن وضع أبو الأسود الدؤلي نقط الإعراب، لكن هناك رواية يذكرها الداني عن الأوزاعي (ت 157هـ)، أنه قال: سمعت يحيى بن أبي كثير (ت 129هـ) يقول: «كان القرآن مجردا في المصاحف، فأول ما أحدثوا به النقط على الياء والتاء، وقالوا لا بأس به، هو نور له» (7)، فهل يعني ذلك أن وضع النقط على الياء والتاء تم قبل وضع أبي الأسود لنقط الإعراب؟ لا يفهم من الروايات التي عرضنا بعضا
__________
(1) ابن رستة: مج 7، ص 192.
(2) انظر الداني: المحكم، ص (65).
(3) ابن سلام الجمحي: ص 12.
(4) أبو بكر الزبيدي: ص 23، وابن الجزري: غاية النهاية، ج 2، ص 381.
(5) السيرافي: ص 20، وابن النديم: ص 39.
(6) مقدمة تفسير ابن عطية، نشر آرثر جفري، ص 275.
(7) المحكم، ص 35، وانظر أيضا: ص 2و 17.(1/458)
منها آنفا إلا أن نقط الإعراب سبق نقط الإعجام في استخدامه في المصاحف، ولا ندري هل أن يحيى بن أبي كثير أدرك المصاحف مجردة وشهد وضع النقط، أم أنه روى ذلك عمن رأى المصاحف مجردة، ومهما يكن من شيء فإن رواية ابن أبي كثير لا تعني بشكل قاطع أن نقط الإعجام تم وضعه قبل نقط الإعراب.
إن دلالة الروايات التاريخية على بداية وضع إعجام الحروف واستخدامه في المصاحف تكاد تحدد الفترة التي تمت خلالها تلك الخطوة، ويبدو أنها قد تمت وفقا لتلك الروايات بعد النصف الأول من القرن الهجري الأول وقبل نهايته. وإذا ما حاولنا الاستعانة بالوثائق المخطوطة التي تعود إلى ذلك القرن لتوكيد ما تدل عليه الروايات فإنّا لن نستقر في ذلك على شيء، بل إن الوثائق المخطوطة تكاد تضع القضية وضعا جديدا لكنه لا يزال بعيدا عن درجة القطعية والثبوت، ففي أيدي الباحثين اليوم عدة وثائق مخطوطة ترجع إلى فترة سابقة لخلافة عبد الملك بن مروان، وقد ظهر فيها بعض نقط الإعجام مما يبعث على التساؤل في صحة الروايات التاريخية أو في أصالة تلك النقط التي تظهر فوق بعض الحروف في تلك النصوص.
أما الوثائق المذكورة فهي بردية ونقشان. أما البردية فقد سبق أن أشرنا إليها في الفصل التمهيدي، ونحاول هنا أن نتعرض بتفصيل أكثر لتاريخها وقراءتها وأهميتها في بيان تاريخ إعجام الحروف العربية، وقد نشرت هذه البردية في مجموعة الأرشيدوق راينر التي ضمت البرديات العربية الموجودة في متحف فينا، تحت رقم (558) وهي مكتوبة باللغتين العربية واليونانية، ويبدو أن الجزء العربي هو الأصل وأن الجزء اليوناني هو ترجمة له (1).
وقد قدم جروهمان قراءة لهذه البردية فقرأ السطر الأخير منها على هذا النحو:
(في / شهر جمادى الأولى من سنة اثنتين وعشرين وكتب ابن حديدو) (2)، وذكر أن في الكتابة العربية لهذه البردية خمسة أحرف عليها نقط الإعجام وهي (ش ز ذ خ ن)
__________
(1):،،، 2591.
. 311.
(2) نفس المصدر، ص 144.(1/459)
واعتبر هذه البردية أقدم نص عربي مخطوط تظهر فيه نقط الإعجام (1).
ويبدو أن تاريخ البردية وإعجام بعض الحروف فيها لا يزالان رغم الثقة بمعلومات البردي الكبير جروهمان موضع مناقشة، ولا بد من الإشارة إلى أن الصور المنشورة لهذه البردية لا تعين كثيرا في توضيح ما يتعلق بهذين الجانبين، فرغم أن الدكتور المنجد نشر صورة مقبولة للبردية (2)، إلا أن هذه الصورة ليس من اليسير تبين الحروف المعجمة فيها، وتكاد كافة الصور المنشورة للبردية مما اطلعت عليه تتفق في مدى وضوح السطر الأخير فيها (3). وتظهر هذه الصور فراغا بين كلمة (عشرين) وكلمة (ابن حديد و) هو على ما قرأ جروهمان (وكتب)، ووافقه على هذه القراءة الدكتور المنجد، رغم أنه قرأ الكلمة الأخيرة (حديده) بدلا من قراءة جروهمان (حديدو) (4)، لكن الأستاذ ناصر النقشبندي توقف في قراءة السطر الأخير وترك فراغا بعد كلمة (عشرين) وبعد كلمة (حديد) فقرأ هكذا (شهر جمادى الأولى من سنة اثنتين وعشرين وحديد) (5)
وهو توقف له ما يبرره إذ أن في كافة الصور المنشورة لهذه البردية كلمة غير واضحة هي التي قرأها جروهمان (كتب) وهناك بعد كلمة (حديد) بعض آثار كلمة، وليس من اليسير التسليم بقراءة جروهمان (كتب) على ما هو مشاهد في صور هذه البردية، ولقراءة هذه الكلمة أثر كبير في تحديد تاريخ هذه البردية، فإذا صحت قراءة جروهمان أصبح تاريخ البردية محددا، لا يقبل الشك، وإذا أمكن قراءة تلك الكلمة قراءة أخرى تتعلق بالتاريخ ظل التاريخ المذكور موضع شك، ومن الغريب في أمر هذه البردية أن الدكتور المنجد أورد لوحة مكبرة من بردية ذكر أن جروهمان نشرها لتوضيح تاريخ هذه البردية، وعلق عليه المنجد بقوله «ويبدو فيها التاريخ (اثنتين وعشرين) واضحا» (6)، وذلك المقطع المكبر رغم أنه يظهر فيه التاريخ المذكور إلا أنه ليس مكبرا عن البردية المعنية قطعا،
__________
(1) نفس المصدر، ص 82، وانظر د. ناصر الدين الأسد: ص 40و،. 83.
(2) دراسات في تاريخ الخط العربي، ص 38، شكل 19.
(3) انظر صورة البردية في كتاب السيدة (لوحة 4) وفي آخر مقالة ناصر النقشبندي في مجلة سومر. وجروهمان: المصدر السابق، لوحة 11.
(4) الدكتور المنجد، ص 33.
(5) منشأ الخط العربي: ص 139.
(6) دراسات في تاريخ الخط العربي، ص 39، شكل 20.(1/460)
فإن نسب المسافات بين الكلمات وطبيعة الكلمات التي تقابل كتابة التاريخ في السطر السابق له تختلف في كلا الصورتين اختلافا بينا. ولا أدري أيهما مصدر هذا الخلط (1)، ولعل مما يعين على تحديد تاريخ هذه البردية هو معرفة التاريخ المذكور باليونانية ومقابلته بالسنوات الهجرية، وهو ما لم أتمكن من التحقق منه (2).
أما النقشان اللذان ظهرت على بعض حروفهما نقط الإعجام فأحدهما عثر عليه في الحجاز والآخر في غرب الفرات في العراق، فقد عثر المهندس .. سنة 1945وهو ينقب عن المصادر المعدنية في الحجاز على نقش في صخرة من بقايا سد قديم كان قد بني في زمن الخليفة الأموي الأول معاوية كما يدل على ذلك النقش الذي يقع قرب الطائف (3)، وقام بنشره وقراءته مايلز) .. ((4)، وهو مؤرخ بسنة (58 هجرية)، وتظهر على كثير من حروف هذا النقش نقط الإعجام حسب الصورة المنشورة وقد قرأه جروهمان على هذا النحو (5):
1 - هذا السد لعبد الله معاوية
__________
(1) الأغرب من ذلك هو أن الصورة التي نشرها الأستاذ ناجي زين الدين في مصور الخط العربي.
(شكل 99، ص 31) قد بدت فيها كلمة (كتب) موضع الخلاف مكتوبة بوضوح تام يستلفت النظر ويبعث على الشك في كون الصورة التي نقل منها ناجي زين الدين قد وضّحت كتابتها بقلم على ضوء قراءة جروهمان، وتشمل ظاهرة الوضوح هذه كلمات أخرى في الصورة.
(2) ذكر الدكتور عبد العزيز الدالي ترجمة لتاريخ النص اليوناني (ص 46) وهو (في 30برمودة من السنة الأولى من البريديوس الأول).
(3) انظر:
:،. 2691 .. 65.
وانظر أيضا: د. زاكية محمد رشدي، ق 2، مج 29، ص 42. والدكتور المنجد: ص 101.
(4) نشره في:
. 7، 4،، 8491،. 632.
تحت عنوان:
. وانظر المصادر المذكورة في الهامش السابق، ود. ناصر الدين الأسد: ص 40.
(5) انظر::،. 5756.(1/461)
2 - أمير المؤمنين بنيه عبد الله بن صخر 3باذن الله لسنة ثمن وخمسين أ 4للهم اغفر لعبد الله معاوية أ 5مير المؤمنين وثبته وانصره ومتع أ 6لمومنين به كتب عمرو بن حبّاب.
وكان مايلز قد قرأ السطر الأخير هكذا (أ / (ميرا) لمومنين) بزيادة كلمة (أمير) ظنا منه أن هناك كلمة ساقطة (1)، وقد اعترض الدكتور المنجد على الكلمة التي قدرها مايلز واعتقد أن الصواب أن توضع كلمة (اللهم) مكانها فقرأ العبارة عندئذ هكذا: (ومتع اللهم المؤمنين به) (2)، ويبدو أن القراءة الصحيحة هي التي ذكرها جروهمان وأن كلا من مايلز والمنجد قد أخطا في تقديرها، إذ أن النقش يعرض كلمة (ا / لمومنين) بوضوح، وليس هناك مكان لكلمة (أمير) أو (اللهم) ولا يبدو هناك أي نقص في بداية السطر الأخير (3)، والحروف التي تظهر عليها نقط الإعجام في هذا النقش في بعض المواضع هي (الباء والتاء والياء والثاء والنون والفاء والخاء).
وقد كان من المعتقد أنه لا يوجد من النقوش التي تظهر فيها نقط الإعجام على بعض الحروف مما يرجع إلى القرن الأول الهجري الأول سوى نقشين: نقش الطائف الذي سبقت الإشارة إليه، ونقش آخر يرجع تاريخه إلى سنة (86هـ) وهو من منارات الطريق التي عملت في خلافة عبد الملك بن مروان، حيث تظهر فيه كلمة (ثمنية) في السطر الأخير معجمة (4)، لكن نقشا ثالثا عثر عليه في العراق في منطقة حفنة الأبيض، وهو يشبه تذكارا كتبه ثابت بن يزيد الأشعري، ويرجع إلى سنة (64هـ) وقد ظهرت فيه ثلاثة
__________
(1) انظر::،. 75.
(2) انظر: دراسات في تاريخ الخط العربي، ص 103.
(3) انظر::،. 75.
(4) ذهب إلى ذلك جروهمان (انظر: نفس المصدر السابق، ص 58)، وانظر صورة هذا النقش في كتاب السيدة. (لوحة 2، رقم 6)، ود. زاكية محمد رشدي: ق 2، مج 29، ص 50، ود. المنجد: شكل 61، ص 108.(1/462)
حروف معجمة (الباء والثاء والياء) وهذا النقش مكون من (13) سطرا ولسنا بصدد دراسته أو إيراد قراءته (1)، وإنما نكتفي بالإشارة إلى المكان الذي وردت فيه الكلمات المعجمة، وهو السطران الثاني والثالث:
2 - الله وكبر كبيرا وا 3لحمد لله كثيرا وسبحن اتلك هي النصوص المخطوطة الثلاثة التي ظهرت بعض حروف كلماتها معجمة، والتي ترجع إلى تاريخ يسبق الفترة التي تحددها الرواية التاريخية. وقد كان بالإمكان اعتمادا على الصور المنشورة لهذه النقوش مع قبول ما ذكره جروهمان عن بردية أهنس القول بأن ظهور الإعجام في الكتابة العربية يرجع إلى فترة تسبق تلك التي تحددها الرواية التاريخية أي إلى سنة 22هـ أو قبل ذلك إن صح هذا التاريخ أو على الأقل إلى سنة 58هجرية وهو تاريخ نقش الطائف لولا أني اطلعت على ملاحظات لبعض الباحثين على هذه النصوص المذكورة تجعل المرء ينظر إلى هذا الموضوع بحذر شديد بانتظار مزيد من الأدلة، فقد تشكك الدكتور الطاهر أحمد مكي في أصالة النقط الموجودة في بردية أهنس ونقش الطائف رغم أنه لم يطلع عليهما فقد قال (2): «ولم يتيسر لي الاطلاع على البردية التي أوردها جروهمان، ولا أكاد أطمئن إليها، لأن الرسائل النبوية
__________
(1) عثر على هذا النقش السيد عز الدين الصندوق سنة 1949على صخرة أبعادها (9* 5، 5م) على حافة وادي الأبيض في منطقة تسمى حفنة الأبيض غربي كربلاء، وعلى هذه الصخرة كتابات أخرى ترجع إلى تواريخ متأخرة أحدها إلى سنة (356هـ)، انظر تفاصيل أخرى عن هذا النقش (عز الدين الصندوق: حجر حفنة الأبيض، مقال في مجلة سومر، المجلد 11، ج 2، سنة 1955، ص 217213)، وقد نقل الأستاذ الصندوق صورة للنقش أوردها في المقال، وانظر صورة هذا النقش أيضا (د. فرج بصمة جي: كنوز المتحف العراقي، وزارة الأعلام، بغداد، 1972، شكل 266، ص 443)، والدكتور صلاح الدين المنجد: شكل 58، ص 105، والصورة المنشورة لهذا النقش هي عن النسخة الجبسية المحفوظة في المتحف العراقي، وقد وهم الدكتور المنجّد، وذكر (ص 104) أنها (محفوظة في المتحف العراقي) والمحفوظ في المتحف العراقي هو النسخة الجبسية المأخوذة عنها. أما الصخرة التي عليها النقش فلا تزال في مكانها (انظر: عز الدين الصندوق، ص 14، ود. فرج بصمة جي: ص 416).
(2) دراسة في مصادر الأدب، ص (6463).(1/463)
كتبت قبلها بما لا يزيد عن خمسة عشر عاما، وأنفق فيها الكتاب كل جهدهم فنا وتجويدا لأنها كانت موجهة من رسول إلى ملوك وأمراء، ويراد لها لكي تؤدي رسالتها كاملة أن تكون واضحة الخط كاملة الرسم سهلة القراءة، لا تحمل إعجاما، وإن مصحف عثمان وقد كتب بعد هذه الوثيقة بثمانية أعوام كان خاليا منه، وما كان أحوجه إليه، فمن أجل الحفاظ على نصه فكر العلماء في النقط والإعجام، ووجود نقش وحيد بعض حروفه معجمة، ويرجع إلى فترة لدينا منها نقوش أخرى غير معجمة لا تكفي لتأصيل قاعدة وتقرير حقيقة فربما أضيف إليه الإعجام فيما بعد عند ما أصبح أمرا شائعا في كتابة النصوص والوثائق».
وقد كان بالإمكان تجاوز احتمال إضافة نقط الإعجام وقبول تلك النصوص رغم ما قد يثار حولها من شك يسير لولا أن باحثة أخرى قامت بدراسة نقوش القرن الأول الهجري وتعرضت بالدراسة لنقش الطائف وقالت عنه (1): «وهذا النقش فيه بعض كلمات منقوطة، ويظهر من شكل النقط الموضوعة على الباء والتاء والثاء والنون والياء أنها وضعت حديثا لإثبات أن النقط كان موجودا قبل سنة 58أي قبل تاريخ كتابة هذا النقش، لأن غور هذه النقط أقل من غور الكتابة نفسها»، وما ذكر هنا من إضافة نقط الإعجام بعد فترة لاحقة يقوّي الاحتمال الذي ذكره الدكتور الطاهر، ويدفع إلى الحذر الشديد في إصدار حكم في هذا الموضوع، ولكن لا ندري كيف استطاعت الباحثة المذكورة معرفة أن غور نقط الإعجام أقل من غور الكتابة، وهل أن ذلك وحده يقوم دليلا كافيا على القول إن تلك النقط مضافة؟
وما قيل في نقش الطائف يمكن أن يقال عن نقش (حفنة الأبيض) خاصة أن هناك نقوشا أخرى في نفس الصخرة ترجع إلى فترات متأخرة عن تاريخ نقش ثابت الأشعري (2)، ولا تظهر في هذا النقش إلا ثلاثة حروف معجمة هي الباء والثاء والياء ويبدو أنها لم تتكرر في النقش إلا مرة واحدة في كلمتين هما (وكبر) في السطر الثاني (وكثيرا) في السطر الثالث، وربما كانت كلمة (كبيرا) في السطر الثاني معجمة الباء
__________
(1) د. زاكية محمد رشدي: النقوش السامية، ق 2، مج 29، ص 43. وقد أهملت ذكر (الفاء والخاء) بين الحروف المعجمة التي ذكرتها، وأظن أنها مقصودة بالحكم أيضا.
(2) انظر عز الدين الصندوق: ص 215.(1/464)
والياء أيضا.
ونضيف إلى ذلك أن ما اكتشف إلى اليوم من برديات ونقوش على الصخرة وعملة معدنية مما يرجع إلى القرون الأولى يندر فيه ظهور نقط الإعجام، فلم تظهر نقط الإعجام في نقوش القرن الأول في غير النقوش الثلاثة التي أشرنا إليها، فلم تظهر في نقش القاهرة (31هـ) كذلك لم تظهر في نقش قبة الصخرة (72هـ) ولم تظهر في كتابات منارات الطريق في غير نقش منارة (باب الواو) التي أشرنا إلى إعجام كلمة (ثمنية) فيها (1)، كذلك لم تظهر في نقوش هذا القرن الأخرى، وقد ظلت النقوش الكتابية على الصخر خالية من إعجام الحروف حتى النصف الثاني من القرن الثالث الهجري (2)، ولا تظهر في برديات القرن الهجري الأول سوى بردية أهنس نقط الإعجام إلا بدرجة نادرة جدا (3)، كذلك لا تظهر العملات الفضية والذهبية التي ترجع إلى أواخر القرن الأول (8880هـ) إلا قدرا ضئيلا جدا من إعجام الحروف (4).
وإذا كان من الملاحظ أن النصف الثاني من القرن الهجري الأول وسنواته الأخيرة بالذات قد شهد اتجاها عاما في نقط النصوص المكتوبة مما اكتشف إلى اليوم فإن ذلك ربما يدل على حداثة عهد الناس بهذه الظاهرة فكانوا يجنحون إلى إدخالها في كتابتهم، لكن تلك الرغبة قلّت في السنين التالية على ما يبدو ولم يعد إعجام الحروف مرغوبا فيه في غير القرآن وكتب أهل اللغة الذين بالغوا في إعجام الحروف، ومن ثم غلب على الكتابات التي ترجع إلى ما بعد القرن الأول ترك الإعجام بدرجة أكبر مما هي عليه في كتابات أواخر ذلك القرن، واستمرت هذه الظاهرة قرونا أخرى، وقد وجدت لها مبررا أضفى عليها صفة من الثبوت وهي أن إعجام الكتاب الموجه إلى حاكم أو عالم
__________
(1) انظر نماذج لتلك النقوش في كتاب. (لوحة 2، رقم 5)، ود. زاكية محمد رشدي:
ق 2، مج 29، ص 49و 51و 52.
(2) انظر:.:،. 85.
وانظر: د. إبراهيم جمعة: دراسة في تطور الكتابات الكوفية، ص 98.
(3) انظر:.:،. 28.
(4) انظر: نفس المصدر والصفحة.
وانظر: د. إبراهيم جمعة: دراسة في تطور الكتابات الكوفية، ص 273.(1/465)
والمبالغة في ذلك يعد انتقاصا لذلك الشخص في علمه وإشعارا بعدم قدرته على القراءة الصحيحة دون الإعجام، وقد قال ابن درستويه: «إن من شأن أهل النحو والشعر والغريب تقييد كل كلمة على ما يستحق كل حرف منها مبسوطا ومركبا واستيفاء الشكل والنقط إحكاما واستيثاقا لأن علمهم غمض فتقييده أوضح على قارئيه. ومن شأن كل الدواوين التخفيف وإغفال الشكل من كل ما وضح ولم يلتبس كما أن ذلك شأنهم في النقط، فإذا التبست الكلمة أو الحرف فتقييدها لازم على جميع المذاهب» (1)، وعبر عن هذه الظاهرة أبو الخير صاحب مفتاح السعادة (ت 962هـ) بقوله: «إن النقط والإعجام في زماننا واجبان في المصحف، وأما في غير المصحف فعند خوف اللبس واجبان البتة لأنهما ما وضعا إلا لإزالته، وأما مع أمن اللبس فتركهما أولى سيما إذا كان المكتوب إليه أهلا» (2).
وهذه الظاهرة تزيد من تعقيد مشكلة البحث عن بدايات الإعجام في الكتابة العربية وتجعل الدارس يتردد في إطلاق الحكم على انعدام الإعجام قبل الإسلام استنادا إلى النقوش المعدودة التي عثر عليها من كتابات تلك الفترة سيما أنها جميعا كانت نقوشا على الحجر وسطورا قلائل، ولم يعثر على كتابة جاهلية على الرق أو البردي مثلا، «فربما كان عدم النقط ناجما عن اطمئنان الكاتب إلى أن كلماته هذه المنقوشة في نجاة من التصحيف والخلط في القراءة لأنها أسماء أعلام وسنوات، وكلمات بينهما من اليسير معرفتها» (3) وقد ينطبق هذا الحكم بدرجة أقل على الكتابات العربية بعد الإسلام، لكن تواتر الأخبار ودلالة الوثائق المخطوطة تشيران إلى أن المصاحف العثمانية خالية من نقط الإعجام وعلامات الحركات، ولا نرى لذلك سببا إلا أن الكتابة العربية لم تكن تعرف ذلك في تلك الفترة، أو لم يكن قد عرف أو شاع استعماله إلى الدرجة التي تدفع إلى إدخاله في النص المكتوب مجرد احتمال ولا يصح ما يقال في سبب تجريد المصاحف من بقاء السعة في اللغات والفسحة في القراءات، وإذا كانت الروايات التاريخية تحدد فترة خلافة عبد الملك وولاية الحجاج على العراق لابتداء استخدام نقط
__________
(1) كتاب الكتاب، ص 5، وانظر السيوطي: تدريب الراوي، ج 2، ص 68.
(2) مفتاح السعادة، ج 1، ص 81، وانظر حاجي خليفة: مج 1، عمود (713712).
(3) د. ناصر الدين الأسد: ص 40، وانظر د. الطاهر أحمد مكي: ص 66.(1/466)
الإعجام في الكتابة العربية بدرجة تتجاوز مرتبة الشك فإن الوثائق الثلاث التي ترجع إلى ما قبل تلك الفترة وتبدو فيها تلك الظاهرة لا تكاد تقوم وحدها دليلا على قدم الظاهرة.
ومع ذلك كله فإن أحدا من الدارسين لا يدري ما يكشف عنه في المستقبل من روايات وأخبار أو من نصوص كتابية على الرق والمعدن والصخر قد تأتي بما يساعد على تأكيد أحد الاحتمالات السابقة من نسبة ذلك العمل إلى عامر بن جدرة أو نسبته إلى نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر في خلافة عبد الملك، أو احتمال وجود هذه الظاهرة في وقت تاريخ بردية أهنس (32هـ) أو قبل ذلك أو بعده.
وإذا كنا قد وقفنا في تحديد تاريخ وجود ظاهرة إعجام الحروف في الكتابة العربية عند ذلك الحد فينبغي أن نولي وجوهنا تجاه الروايات والوثائق لنرى كيف استطاعت الكتابة العربية أن تتبنى هذا النظام في تمييز الحروف المتشابهة في الصور مما لا نزال نستخدمه إلى اليوم، وكيف استخدمه نساخ المصاحف في ابتداء الأمر حتى آل إلى هذا النظام المتكامل الذي انتقل بالكتابة العربية نقلة جعلت فيها كل صوت صامت يختص برمز واحد، وهو هدف كل كتابة في أي عصر.
استعمل علماء السلف في بعض الأحيان مصطلح (النّقط) الذي استعمل أصلا للدلالة على الحركات التي وضع نظامها أبو الأسود للدلالة على النقط التي تميز الحروف المتشابهة في الصورة وهو ما استعمل له في الأكثر مصطلح الإعجام (1)، وقد عرّفه الداني بقوله (2): «النقط عند العرب إعجام الحروف في سمتها» وقال (3): «إن النقط إنما استعمل ليفرق به بين المشتبه من الحروف في الصورة لا غير، ولولا ذلك لم يحتج إليه ولا استعمل». وعرفه ابن درستويه بقوله (4): «إن النقط زيادة تلحق الحرف فرقا بينه وبين غيره، كما يزاد الحرف على الكلمة فرقا بينها وبين غيرها، ولذلك أجمعوا على إغفال ما لا نظير له من الحروف من النقط والرقم، وذلك الألف واللام والواو والهاء
__________
(1) انظر: معنى الإعجام، ص (411) من هذا الفصل، هامش (4).
(2) المحكم، ص 35.
(3) نفس المصدر، ص 30.
(4) كتاب الكتاب، ص 51.(1/467)
والكاف لأن عدم نظائرها وتفردها بصورها قد أغنى عن ذلك».
وجعل ابن درستويه الزيادة التي تلحق الحرف للفرق بينه وبين المشبه له في الصورة نوعين كما يتضح ذلك من قوله السابق الأول النقط والثاني الرقم، وقد وضح ذلك بقوله (1): «والنقط على ضربين: نقط محض، كنقط الباء والتاء والثاء والياء والنون، وضرب قد يجري مجرى النقط كرقم الحاء والراء والسين والصاد والعين، وفي كل واحد من النقط والرقم ما يقع فوق الحرف وما يقع تحته». وإذا كان النوع الثاني من أنواع الزيادة وهو الرقم قد اختفى من الكتابة العربية تقريبا إلا ما نجده في الكاف المتطرفة فإن القدماء قد أكثروا من الحديث عنه بدرجة لا تقل عن حديثهم عن نقط الإعجام المحض، واستخدموه في مدوناتهم مبالغة في الاحتراز من الخطأ أو التصحيف.
أولا: نقط الإعجام المحض:
أما النوع الأول وهو الذي سماه ابن درستويه النقط المحض واشتهر باسم نقط الإعجام فيبدو أنه استعمل قبل استخدام الرقم، فحين رأى الكتاب تشابه الحرفين والثلاثة في الكتابة أرادوا تمييز الحروف بعضها من البعض الآخر فنقطوا بعضا وأهملوا بعضا، فكان ما نقط يتميز بالنقط، وما أهمل يميزه إهماله ونقط مشابهه، ولم يفكروا في أول الأمر بتقييد كل مشتبهين لكن لما خيف التباس المهمل بالمعجم قيدوا المهمل أيضا وهو ما سماه ابن درستويه بالرقم.
وقد ذكر الداني أن الخليل بن أحمد إمام أهل العربية قد بين ما ينقط من الحروف وما يهمل وكيفية ذلك فقال (2): «وروي عن الخليل بن أحمد أنه قال:
الألف ليس عليها شيء من النقط، لأنها لا تلابسها صورة أخرى.
والباء تحتها واحدة.
والتاء فوقها اثنتان.
__________
(1) كتاب الكتاب، ص 52.
(2) المحكم، ص (3635).(1/468)
والثاء ثلاث.
والجيم تحتها واحدة.
والخاء فوقها واحدة.
والذال فوقها واحدة.
والشين فوقها ثلاث.
والضاد فوقها واحدة.
والفاء إذا وصلت فوقها واحدة، وإذا انفصلت لم تنقط، لأنها لا يلابسها شيء من الصور.
والقاف إذا وصلت فتحتها واحدة وقد نقطها ناس من فوقها اثنتين، فإذا فصلت لم تنقط، لأن صورتها أعظم من صورة الواو، فاستغنوا بعظم صورتها عن النقط.
والكاف لا تنقط، لأنها أعظم من الدال والذال.
واللام لا تنقط، لأنه لا يشبهها شيء من الحروف.
والميم لا تنقط أيضا لأنها لا تشبه شيئا من الحروف وقصتها قصة اللام.
والنون إذا وصلتها فوقها واحدة، لأنها تلتبس بالباء والثاء فإذا فصلت لم تنقط، استغنوا بعظم صورتها لأن صورتها أعظم من الراء والزاي.
والواو لا تنقط لأنها أصغر من القاف، فلم تشتبه بشيء من الحروف.
والهاء لا تنقط لأنها لا تشبه شيئا من الحروف وقصتها قصة الواو.
ولام ألف حرفان قرنا فليس واحد منهما ينقط.
والياء إذا وصلت نقطت تحتها اثنتين لئلا تلتبس بما مضى فإذا فصلت لم تنقط».
ومن الملاحظ على هذه الرواية أن فيها ما يدل على أنها قديمة، وربما تكون شيئا من كتاب الخليل في النقط مع أنها أهملت الحديث عن نقط الزاي رغم ذكره مع
الراء حين ذكر النون، كذلك أهملت الحديث عن نقط الظاء والغين (1) وذلك أن الرواية تتحدث عن أشكال الحروف بما يشير إلى صورها القديمة في الخط الكوفي، فقوله «الكاف لا تنقط لأنها أعظم من الدال والذال» إنما يتحقق صدق هذا القول في الخط الذي كان يغلب على الكتابة العربية في القرون الأولى قبل تحسين الخطوط في زمن ابن مقلة (ت 328هـ) حين كانت الكتابة العربية أكثر ميلا إلى ما يعرف بالكتابة الكوفية، كذلك الحال في قوله عن إهمال نقط النون إذا تطرفت «لأن صورتها أعظم من صورة الراء والزاي» ووصفه القاف المتطرفة ومقارنتها بالواو إنما يتحقق ذلك في صور الكتابة العربية القديمة.(1/469)
ومن الملاحظ على هذه الرواية أن فيها ما يدل على أنها قديمة، وربما تكون شيئا من كتاب الخليل في النقط مع أنها أهملت الحديث عن نقط الزاي رغم ذكره مع
الراء حين ذكر النون، كذلك أهملت الحديث عن نقط الظاء والغين (1) وذلك أن الرواية تتحدث عن أشكال الحروف بما يشير إلى صورها القديمة في الخط الكوفي، فقوله «الكاف لا تنقط لأنها أعظم من الدال والذال» إنما يتحقق صدق هذا القول في الخط الذي كان يغلب على الكتابة العربية في القرون الأولى قبل تحسين الخطوط في زمن ابن مقلة (ت 328هـ) حين كانت الكتابة العربية أكثر ميلا إلى ما يعرف بالكتابة الكوفية، كذلك الحال في قوله عن إهمال نقط النون إذا تطرفت «لأن صورتها أعظم من صورة الراء والزاي» ووصفه القاف المتطرفة ومقارنتها بالواو إنما يتحقق ذلك في صور الكتابة العربية القديمة.
وذكر الداني رواية أخرى في إعجام الحروف العربية فقال (2): «وقال غير الخليل حروف المعجم ثمانية وعشرون حرفا مختلفة، منفردة في التهجي، وهي سواكن، وقد دخل فيها لام ألف موصولين، لانفرادهما في الصورة، وهي أربعة أصناف:
صنف منها ستة أحرف متباينة، لا تحتاج إلى الفصل بينها وبين غيرها بشيء من النقط.
(أك ل م وهـ).
وصنف منها سبعة أحرف متلابسة مخلاة (ح د ر س ص ط ع).
وصنف منها أحد عشر حرفا متلابسة يفصل بينها وبين ما قبلها من المتلابسين بالنقط (ب ت ث ج خ ذ ز ش ض ظ غ).
وصنف منها أربعة أحرف تخلى إذا لم يوصل بها شيء، وتنقط إذا وصل بها غيرها (ف ق ن ي).
فجميع ما ينقط منها لالتباسها بغيرها خمسة عشر حرفا، منها ثمانية أحرف كل حرف
__________
(1) في نسخة كتاب (المحكم) المخطوطة المحفوظة في مكتبة المدينة المنورة برقم (20نحو) جاءت رواية الخليل كاملة، وتحدثت عن نقط كل من الزاي والظاء والغين بواحدة من فوق (انظر: غانم قدوري حمد: أوراق غير منشورة من كتاب المحكم، بحث منشور في مجلة كلية الإمام الأعظم، العدد الرابع، ص 403).
(2) المحكم، ص (3736).(1/470)
منها بنقطة واحدة (خ ذ ز ض ظ غ ف ن)، واثنان بنقطتين من فوقهما (ت ق)، واثنان بثلاث نقط من فوقهما (ث ش)، واثنان بواحدة من تحتهما (ب ج)، وحرف واحد بنقطتين من تحته (ي)».
وتحدث ابن درستويه عما ينقط من الحروف وما يهمل وجعل ذلك أقساما فقال (1):
«وإنما يفرق بالنقط بين المشتبهين من الحروف على ثلاثة أضرب:
إما أن ينقط أحدهما ويغفل الآخر: كالحاء والخاء، والراء والزاي، وكالدال والذال، والسين والشين، وكالصاد والضاد، وكالطاء والظاء، وكالعين والغين.
وإما أن ينقط أحدهما نقطة والآخر نقطتين أو أحدهما نقطتين والآخر ثلاثا: كالباء والياء والتاء والثاء، وكالفاء والقاف.
وإما أن ينقط أحدهما من على والآخر من تحت كالجيم والخاء، وكالتاء والياء، وكالباء والنون، وكالفاء والقاف في بعض المذاهب.
فما نقط نقطتين فلأن له نظيرا قد نقط نقطة واحدة كالنون والتاء والفاء والقاف والباء والياء.
وما نقط ثلاثا فلأن له نظيرين ينقط أحدهما واحدة والآخر اثنتين، كالتاء والثاء والنون، وأما الشين فإنها تنقط ثلاثا لأسنانها الثلاث وهي في بعض المذاهب تنقط واحدة، وكذلك تنقط نظيرتها من تحت، ينقط ذلك من لا يغفل الحروف.
وما نقط من تحت فلأن له نظيرا ينقط من عل كالياء والتاء والجيم والخاء وكالباء والنون».
وهذه الروايات الثلاث في غنى عن التعليق أو الشرح لأنها فصّلت كيفية إعجام الحروف العربية بأجلى صورة وأوضح بيان، لكن لا ينبغي المرور عليها دون أن تستوقف قارئها بعض ملاحظات فيها، أهمها كيفية نقط الفاء والقاف، وإهمال نقط الكاف وإشارة ابن درستويه في حديثه عن نقط الشين إلى نقط السين من تحت في مذهب من لا يغفل الحروف.
__________
(1) كتاب الكتاب، ص 52.(1/471)
أما نقط القاف فقد جاء في رواية الداني عن الخليل «والفاء إذا وصلت فوقها واحدة والقاف إذا وصلت فتحتها واحدة، وقد نقطها ناس من فوقها اثنتين» ويبدو هذا القول لأول وهلة غريبا لأن المشهور هو أن نقط القاف والفاء يجري على نحو ما يصور الداني: «أهل المشرق ينقطون الفاء بواحدة من فوقها والقاف باثنتين من فوقها، وأهل المغرب ينقطون الفاء بواحدة من تحتها والقاف بواحدة من فوقها» (1). وهذا عكس ما ذكره الخليل، ويبدو أن قول الخليل يمثل الأصل في كيفية نقط القاف والفاء حتى عصره، فالشائع حينذاك نقط الفاء بواحدة من فوق الحرف والقاف بواحدة من تحت الحرف، وما ذكره الخليل من أن ناسا ينقطونها اثنتين فوقها يدل على عدم شهرته، لكن هذا الذي ذكره قد تنوسي وحلّ محله نظام آخر كما صوره الداني (ت 444هـ) ثم نصل إلى عصر القلقشندي (ت 821هـ) فيقطع أن القاف لا تنقط إلا من فوقها فيقول (2): «وأما القاف فلا خلاف بين أهل الخط أنها تنقط من أعلاها إلا أن من نقط الفاء بواحدة من أعلاها نقط القاف باثنتين من أعلاها ليحصل الفرق بينهما، ومن نقط الفاء من أسفلها نقط القاف من أعلاها».
وأمام قولي الداني والقلقشندي قد يتطرق الشك إلى صحة رواية الداني عن الخليل لولا أني وجدت في بضعة ورقات نشرت صورها من بعض المصاحف القديمة المخطوطة قد نقطت القاف فيها بواحدة من تحتها، ومن ثم يمكن الاطمئنان إلى صحة الرواية وأصالة هذه الطريقة في إعجام القاف ومن هذه الأمثلة كلمة (فاحذرهم، والقوم، ويقولون) فقد نقطت الفاء بواحدة من فوقها ونقطت القاف في الكلمتين بنقطة من تحتها (3) ومن ذلك (قل أبا لله، ويخلقهم، وطائفة، وبالمعروف) حيث نقطت القاف في هذه الكلمات بخط تحت الحرف سنتحدث عن هذه الطريقة من النقط بعد قليل والفاء بخط فوقه (4)، وكذلك نجد في صفحتين من مصحف منسوب لعثمان بن عفان
__________
(1) المحكم، ص 37، وانظر أبو الحجاج البلوي: ج 1، ص 174.
(2) صبح الأعشى، ج 3، ص 158.
(3) انظر د. المنجد: شكل 48، ص 93وهو ورقة من مصحف في متحف الآثار الإسلامية باستانبول، رقم 87 (من مجموعة الوثائق الأموية).
(4) نفس المصدر، شكل 45، ص 88، وهو ورقة من مصحف على الرق في المتحف العراقي، رقم 678، وذكر الدكتور المنجد أنه من أواخر القرن الأول وأوائل الثاني.(1/472)
رضي الله عنه الكلمات (قال الحواريون، والقدوس، وفضل الله، ويقولون، والحق، وقوما، ونفس) ففي هذه الكلمات نقطت القاف بخط تحتها والفاء بخط فوقها (1).
إن ما قاله الخليل عن نقط القاف وما ظهر في هذه النماذج كل ذلك يشير إلى أن الأصل في نقط الفاء والقاف هو أنهما كانا ينقطان مثل النون والباء، الفاء بنقطة من أعلاها والقاف بنقطة من أسفلها، ونجد في نقش الطائف كلمة (اغفر) في السطر الرابع قد نقطت الفاء فيها بواحدة من فوقها، ولو وردت القاف في هذا النقش ونقطت لتوقعنا أن تنقط وفقا لقول الخليل بواحدة من تحتها، ويبدو أن هذه الطريقة في إعجام الفاء والقاف لم تستقر، فقد نقل الداني في قول الخليل السابق أن ناسا جعلوا القاف بنقطتين من أعلاها وصار إعجامهما مثل إعجام النون والتاء، ولعل الطريقة الأخرى لإعجام الفاء والقاف قد ظهرت بعد عصر الخليل، وهي عكس الطريقة القديمة تماما فصارت الفاء بنقطة من أسفل والقاف بنقطة من فوق، كما نجد ذلك إلى اليوم في الخط المغربي في المصاحف وغيرها. أما في المشرق فقد اندثرت الطريقة القديمة منذ وقت مبكر على ما يبدو وحلت محلها طريقة نقطهما من فوق، للفاء نقطة وللقاف نقطتان (2)، وهو ما نستعمله إلى اليوم.
أما نقط السين من تحت وإهمال نقط الكاف فإن ذلك يتعلق بالنوع الثاني من الزيادة التي تفرق بين الحروف المشتبهة في الصورة وهو ما سماه ابن درستويه بالرقم الذي سوف نتناوله بعد أن نشير إلى ظاهرة تتعلق بإعجام الحروف في المصاحف القديمة خاصة، تلك هي استعمال الخطوط الصغيرة بدل النقط المدورة الصغيرة في إعجام الحروف فالعلامات التي توضع على الحروف لتخصصها بصوت معين هي إما نقط مدورة صغيرة تتناسب وخط الكتابة وهي أصغر حجما من نقط الإعراب التي تكتب بمداد ذي لون يخالف لون نقط الإعجام التي تكتب بنفس مداد الكتابة، وإما أن تكون خطوطا قصيرة توضع مكان النقط المدورة (3).
__________
(1) انظر نفس المصدر، شكل 28و 29، ص 58و 60من مصحف في طوب قبو، رقم 194.
(2) انظر حفني ناصف: ص 72، وهوداس: ص 194.
(3) ذكر القلقشندي (ج 3، ص 155) أن ابن مقلة قال «وللنقط صورتان إحداهما شكل مربع والأخرى شكل مستدير». وغير واضح إن كان ابن مقلة يقصد بالمربع طريقة الإعجام بالخطوط.(1/473)
وقد تبدو ظاهرة الإعجام بالخطوط غريبة اليوم، إلا أنها تظهر في معظم نماذج المصاحف القديمة المكتوبة بالخط الكوفي القديم (1)، وقد جعل جروهمان تلك الظاهرة صفة لإعجام خط المصاحف القديمة جدا (2)، وذلك حين تحدث عن طريقة الإعجام في نقش منارة طريق (باب الواد) في كلمة (ثمنية)، ففي هذا النقش الذي يرجع تاريخه إلى خلافة عبد الملك بن مروان (8665هـ) نجد هذه الكلمة من بين كلماته قد أعجمت حروفها بواسطة الخطوط القصيرة، لكن الملاحظ في الصورة المنشورة لهذا النقش أنها لا تظهر فوق الثاء إلا خطين اثنين فقط، فهل يدل ذلك على أن كاتبها نقط الثاء تاء أم أن الخط الثالث لم تظهره الصورة؟ ونجد في هذه الكلمة حرف النون قد أعجم بخط من فوقه والياء باثنتين من تحته.
إن ظاهرة الإعجام بالخطوط الصغيرة ظهرت في أكثر النماذج الخطية للمصاحف التي اطلعت عليها، وهي تشمل كل الحروف التي تحتاج إلى إعجام رغم أنه يندر العثور على كلمة الإعجام بهذه الطريقة. فتبدو هذه الظاهرة في مصحف طشقند في نسخته المصورة التي تحتفظ دار الكتب المصرية بواحدة منها، لكنها تكاد تكون نادرة، وقد ظهرت في (الباء والياء والنون والتاء والثاء والشين والفاء والخاء والغين). وهي في مصحف جامع عمرو بن العاص الذي يرجعه موريتز إلى القرن الأول أو الثاني الهجري (3) تبدو أكثر وضوحا حتى لا نكاد نجد كلمات كاملة الإعجام مثل (آل عمران 3/ 195) (حباب؟؟ تحرى) و (3/ 196) (؟؟؟) و (3/ 197) (قليل ثم) و (النساء 4/ 12) (؟؟؟؟؟؟). وتظهر هذه الخطوط مكتوبة بنفس مداد الكتابة بخط رفيع، وكأنما استعملت هذه الطريقة لتجنب اللبس الذي قد يحدث في حالة إعجام الحروف بالنقط السوداء واستعمال نقط الإعراب المدوّرة رغم اختلاف اللون ولذلك هي لا تظهر إلا في المصاحف القديمة، فتظهر في المصحف المنسوب لعثمان بن عفان رضي الله عنه والمحفوظ في مسجد الحسين بالقاهرة (4)، وكذلك في مصحف قديم
__________
(1) انظر ناصر النقشبندي: المصاحف الكريمة في صدر الإسلام، ص 33.
(2):،. 85.
(3) انظر:،. 21.
(4) انظر لوحة من هذا المصحف في كتاب مخلّفات الرسول في المسجد الحسيني للدكتور سعاد ماهر، لوحة 16.(1/474)
محفوظ في متحف برلين (1). وفي مصحف قديم محفوظ في متحف طوب قبو باستانبول (2)، وفي المصحف المنسوب لجعفر الصادق في دار الكتب المصرية نجد هذه الظاهرة تشمل كافة الحروف التي تحتاج إلى إعجام، وفي كل الكلمات بنفس مداد الكتابة (3)، وفي غير ذلك من المصاحف القديمة (4)، وربما كان استخدام هذه الخطوط في الإعجام مع الاحتراز من اللبس الذي قد يحدث لو كانت نقطا لتتناسب مع الخط العريض الذي كتبت به المصاحف القديمة.
أما كيفية وضع نقط الإعجام أو خطوطه القصيرة ومكانها من الحرف، فإن النقطة الواحدة (أو الخط) توضع غالبا تحت الجزء القائم من الحرف سواء كان أولا أو وسطا أو أخيرا وفوق الجزء القائم بالنسبة للحروف التي تنقط من فوق وهذا بالنسبة لما كان مثل الباء والنون، أما بقية الحروف التي تنقط بواحدة فإنها توضع تحت الحرف أو فوقه من أوله أو وسطه أو آخره، كذلك توضع النقطتان (أو الخطان) تحت الجزء القائم من الحرف أو فوقه، لكن قد تكونان في شكل عمودي (:) أو أفقي () أو على شكل خط مائل، أما الخطان فغالبا ما يأتي أحدهما فوق الآخر ()، لكن الذي استقر عليه نساخ المصاحف في الغالب بعد القرون الأولى هو جعل النقطتين متتابعتين في وضع أفقي سواء فوق الحرف أم تحته (5).
أما النقطة الثالثة في الثاء والشين فإنها جاءت بصور مختلفة فنجدها في حرف الثاء قد كوّنت ما يشبه (الأثافي) أو مثلثا رأسه إلى الأسفل مائلا إلى اليسار قليلا () في
__________
(1) نفس المصدر، لوحة 17.
(2) انظر نماذج منه في كتاب د. المنجد، شكل 28و 29، ص 58و 60.
(3) انظر:.،. 6313
(4) انظر ناصر النقشبندي: المصاحف الكريمة في صدر الإسلام، ص 35، والمنجد: شكل 14و 27 و 32، وموريتز: لوحة 17و 3019و 39و 44. وانظر ناجي زين الدين: مصوّر الخط العربي، شكل 74و 79و 83.
(5) قال أبو علي بن مقلة (انظر القلقشندي: ج 3، ص 155): «إذا كانت نقطتان على حرف فإن شئت جعلت واحدة فوق أخرى وإن شئت جعلتهما في سطر معا، وإن كان بجوار ذلك الحرف حرف ينقط لم يجز أن يكون النقط إذا اتسعت إلا واحدة فوق الأخرى، والعلة في ذلك أن النقط إذ كن في سطر خرجن عن حروفهن فوقع اللبس في الإشكال».(1/475)
نقش الطائف ونقش حفنة الأبيض، ونجد هذا الشكل في أوراق من مصاحف قديمة محفوظة في متحف الآثار الإسلامية باستانبول ضمن مجموعة (الوثائق الأموية) (1). أما إعجام الثاء بالخطوط فإنها جاءت بعضها فوق بعض على الجزء القائم من الحرف في الغالب هكذا (؟؟؟) وقد تنحرف قليلا نحو اليمين أو اليسار، ويكاد يندر شكل (الأثافي) في هذه الطريقة، وقد ظهر في صفحة من مصحف قديم نسبه موريتز إلى القرن الثالث (لوحة 39) هكذا (؟؟؟) كذلك نجد الخطوط الثلاثة تشكل شكلا أقرب إلى الأثافي حين جعل الكاتب اثنتين منهما فوق بعضهما وجعل الثالثة أمامهما هكذا () في مصحف قديم محفوظ في طوب قبو (2). لكن الذي استقر عليه نساخ المصاحف هو جعل نقط الثاء على شكل مثلث رأسه إلى الأعلى (؟؟؟).
أما مكان النقط الثلاثة في حرف الشين فإنها تتوزع على الرءوس الثلاثة للحرف في حالة الإعجام بالخطوط القصيرة (؟؟؟) ولم أعثر على نموذج واحد أخذت فيه الخطوط القصيرة شكل الأثافي في هذه الطريقة، أما في حالة الإعجام بالنقط فإنها ظهرت موزعة على الرءوس الثلاثة للحرف أيضا مكونة خطا مستقيما في ورقة من مصحف ضمن (مجموعة الوثائق الأموية) (3). كذلك تظهر في كلمة (؟؟؟) في بردية أهنس بنفس الطريقة، ولعل مجيء نقط الشين على شكل صف مستقيم فوق الحرف هو الشكل الأصلي القديم لإعجام هذا الحرف ثم جاء الشكل المثلث في فترات لاحقة، كما نجده في مخطوطة غريب الحديث لأبي عبيد (كتبت سنة 311هـ) ومصحف ابن البواب (كتبه سنة 391هـ) ولعل الشكل المثلث كان أكثر مناسبة للخط المتطور الذي هو أميل إلى الليونة، كما يظهر في مخطوطة الكتاب والمصحف، وقد صارت هذه الطريقة هي النموذج الشائع لنقط الشين.
ثانيا: الإعجام الذي ليس محضا:
أما النوع الثاني من أنواع الزيادة التي تلحق الحروف لتمييزها عن التي تشبهها في
__________
(1) انظر المنجد: شكل 48و 49.
(2) نفس المصدر، شكل 28، ص 58سطر 9.
(3) نفس المصدر، شكل 47، ص 92.(1/476)
الشكل، وهو الرقم (1)، فقد كان نتيجة للمبالغة في حرص علماء العربية نساخ المصاحف والكتب على تجنب وقوع الخطأ في القراءة، فما أهمل من الحروف التي أعجم مشابهها مثل (الحاء والراء والسين والصاد والطاء والعين) كانت توضع عليها علامة زيادة في البيان، لكن علامات الرقم كان في استخدامها في الكتابة خلاف كبير، فكتّاب الرسائل لا يستعملون شيئا من ذلك ويكتفون بإعجام واحد من المشتبهين (2) أما في المجالات التي تحتاج إلى الدقة في ضبط الألفاظ فقد حرص النساخ على استعمالها، وقد صوّر ابن درستويه هذين الاتجاهين أحسن تصوير فقال (3): «اعلم أن من الكتّاب من ينقط على كل مشتبهين من الحروف، لا يغفل واحدا منهما، كنقطهم الراء والسين والصاد والطاء والعين من تحت لأن نظائرها ينقطن من عل، والجمهور على غير ذلك»، وتحدّث في مكان آخر عن هذا الاتجاه فقال (4): «ومنها ما استغنى عن نقطه مؤلفا وغير مؤلف بلزوم النقط ما شاركه في الصورة وذلك سبعة أحرف: الحاء والدال والراء والسين والصاد والطاء والعين، وفي هذه الأحرف اختلاف فمن الكتّاب من يحدث نقطا مخالفا ما شابهها من الحروف أو علامات غير النقط، وهم أهل النحو والشعر والغريب يريدون بذلك الاحتياط، ولا معنى له، إذ كانت نظائرها بائنة منها بنقطها، وأما على مذهب كتّاب الرسائل فلا يجوز نقطها ولا التعليم على شيء منها غير السين وحدها، وذلك أنهم يكتفون منها بخط من السين فيجعلون العلامة الفارقة بينهما خطا فوق السين. وقد كره هذه العلامة قوم إذ كان الخط النائب على السين ينقط نقط الشين».
__________
(1) في لسان العرب لابن منظور (ج 15، ص 139مادة رقم): «الرقم والترقيم تعجيم الكتاب ورقم الكتاب يرقمه رقما أعجمه وبيّنه، وكتاب مرقوم أي قد بيّنت حروفه بعلاماتها من التنقيط».
(2) ولم يقف بهم تساهلهم عند هذا الحد بل هم لا يرون بأسا بترك إعجام الحروف المتفق على إعجامها إذا لم يحدث ذلك لبسا، يقول ابن درستويه، ص 53: «فإن كان شيء من ذلك قد استعمل حتى علم فلم يلتبس ودل عليه ما قبله أو ما بعده أو غير ذلك من الحال فإغفاله من النقط في مذهب كتاب الرسائل أحسن، وإثبات النقط عند أصحاب النحو والغريب والشعر أوثق وأجود».
(3) كتاب الكتاب، ص 52.
(4) نفس المصدر، ص 53.(1/477)
وابن درستويه ذكر هنا أن هذه الحروف السبعة إما أن تنقط نقطا مخالفا لنقط مشبهاتها أو أن توضع عليها علامات لم يذكر منها إلا الخط الذي يوضع فوق السين، ولكن يبدو أن هذه العلامات قد تفنن النساخ في تنويعها حتى إن الإمام النووي (ت 676هـ) ذكر منها خمسا حين قال (1): «وينبغي ضبط الحروف المهملة، قيل:
تجعل تحت الدال والراء والسين والصاد والطاء والعين النقط التي فوق نظائرها.
وقيل كقلامة الظفر مضطجعة على قفاها.
وقيل تحتها حرف صغير مثلها.
وفي بعض الكتب القديمة فوقها خط صغير.
وفي بعضها تحتها همزة».
ونجد بعض تلك العلامات في مصحف ابن البوّاب (كتبه 391هـ) فيبدو تحت كل من الحاء والصاد والعين في الغالب حرف صغير مثلها، وتظهر على السين والراء علامة صغرى تشبه (قلامة الظفر) أو هلالا صغيرا متجها برأسيه إلى الأعلى (2). وهناك المخطوطة النادرة من كتاب غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ) في مكتبة الجامع الأزهر، وقد كتبت سنة (311هـ)، تظهر لنا بجلاء تلك العلامات التي تحدث عنها ابن درستويه وذكرها النووي (3)، فقد وضع فوق الراء والسين علامة تشبه رقم (7) وتحت الحاء والعين علامة تشبه حرف الدال (د) وتحت الهاء المتطرفة خاصة والطاء والدال نقطة، وتحت الصاد دائرة صغرى مفرغة الوسط.
ولعل البحث في المخطوطات القديمة يكشف عن الطرق الأخرى التي ذكرها النووي وربما من طرق أخرى لرقم تلك الحروف (4)، ولكن يبدو أن استعمال تلك العلامات قد قلّ بل انعدم في القرون المتأخرة حتى إننا لا نكاد نجد أثرا لذلك في نماذج المصاحف
__________
(1) السيوطي: تدريب الراوي، ج 2، ص (7271).
(2) انظر سهيلة الجبوري: ص 83.
(3) انظر نموذجا من ذلك المخطوط في مجموعة موريتز، لوحة (119و 120).
(4) انظر السيوطي: تدريب الراوي، ج 2، ص 72.(1/478)
التي ذكر موريتز مما يرجع إلى ما بعد القرن الخامس، ولعل الإحساس بأن التزام إعجام أحد المشتبهين وإهمال الآخر كفيل باجتناب الخطأ مع عدم إثقال الكتابة بكثرة العلامات التي تختص بتمييز الحروف وعلامات الحركات كما يظهر ذلك في مخطوط غريب الحديث هو الذي أدى بمرور الزمن إلى اختفاء ظاهرة الرقم في الكتابة العربية.
أما الكاف فإنها كانت في الخط العربي القديم ذات صورة مستقلة لا يشركها بها غيرها، وقد مر في قول الخليل عن إعجام الحروف أن الكاف أهملت لأنها أكبر حجما من الدال والذال، حيث كانت صورتها أقرب إلى صورتهما في الخط الكوفي القديم، لكن تطور الحرف العربي قد أدى إلى أن يقرب شكل حرف الكاف من حرف اللام، فاستدعى ذلك وضع علامة على الكاف فوضعت كاف صغيرة على الكاف المتطرفة. أما المتوسطة وتفرقها عن اللام شكلة في أعلاها، يقول القلقشندي (1): «وأما الكاف فإنها لا تنقط إلا أنها إذا كانت مشكولة علمت بشكلة، وإن كانت معراة رسم عليها كاف صغيرة مبسوطة لأنها ربما التبست باللام». وبمضي الزمن ظن البعض أن ما يوضع على الكاف إنما هو همزة (2)، وما هي في الواقع إلا صورة للكاف لكنها صغيرة أشبهت رأس العين التي هي علامة الهمزة. ولعل بالإمكان أن نلاحظ تاريخ حدوث هذه النقلة في صورة الكاف والحاجة إلى رقمها، فالكاف في مخطوطة غريب الحديث (كتبت 311هـ) تظهر بشكل متميز لا يشبه اللام وليس عليها أية علامة، بينما نجدها في المصحف الذي كتبه ابن البواب سنة (391هـ) قد صارت إلى شكل قريب جدا من شكل اللام وظهرت في داخلها الكاف الصغيرة التي تشبه رأس العين أو الهمزة، وهذا قد يمكن الاستنتاج منه أن ذلك التحول قد تم في القرن الرابع الهجري (3).
* * * وقد يتساءل المرء عن المعيار الذي كانت توضع بموجبه النقط فوق الحروف أو تحتها، والمعيار الذي يحدد عدد النقط المستعملة في كل حرف، وقد ذكر الداني أنه
__________
(1) صبح الأعشى: ج 3، ص 159.
(2) انظر السيوطي: تدريب الراوي، ج 2، ص 72.
(3) حافظت الكاف في الخط المغربي على صورتها القديمة التي تستغني عن العلامة، كما يظهر ذلك في المصاحف المطبوعة بالخط المغربي.(1/479)
رأى بعض العلماء قد علل النقط، ونقل ذلك التعليل، ويبدو أن ما نقله الداني من أن عدد النقط في الحرف يتوقف على عدد الأصوات المشتركة بالرمز الواحد صحيحا، فلأن الباء والنون والتاء والياء والثاء مثلا تشترك برمز واحد فقد تعددت النقط واختلفت مواضعها، حتى يتميز كل منها عن الآخر، كذلك في الدال والذال اكتفى بنقطة واحدة حتى يتميز الذال عن الدال وهكذا (1).
أما ما نقله الداني من تعليل موضع النقط من الحروف بطريقة نطق اسم ذلك الحرف فإن كان يتبع أول صوت من الاسم فتحة وضمت النقطة فوق الحرف مثل (ذال) وإن كانت كسرة وضعت النقطة تحته مثل (جيم) (2) فيبدو متكلفا، ولما كانت أصوات أسماء بعض الحروف تلفظ مفتوحة ووضعت النقط تحتها مثل (الباء والياء والفاء أو القاف في بعض المذاهب) وبعضها تلفظ مكسورة لكن النقط وضعت فوق الحرف مثل (الشين) فقد تطلّب ذلك تقديم تعليل لهذه الظاهرة حتى تطرد القاعدة، وقد جاءت تعليلات متكلفة في الغالب مثل القول في تعليل نقط الباء من أسفل: «إنما نقطت من تحتها للزوم الكسر لها، إذا كانت زائدة جارة كالتي في أول التسمية، وإنما لزمها الكسر اتباعا لعملها إذ كانت لا تعمل إلا جرا، فجعل نقطها موافقا لحركتها وألزما مكانا واحدا لذلك» (3).
ويبدو أن عدد نقط الإعجام وموضعها من الحرف كان يتوقف في الواقع على طبيعة الرمز وعدد الأصوات التي يمثلها، فالقاعدة العامة هي أن ينقط الحرف بنقطة واحدة من فوق إذا اشترك فيه صوتان فحسب مثل (الدال والذال والراء والزاي والطاء والظاء والصاد والضاد والعين والغين) فيكون المهمل رمزا لأحدهما والمعجم رمزا للآخر، وقد يشترك في رمز واحد أكثر من صوتين كما في حالة الباء والنون والتاء والياء والثاء، خاصة في أول الكلمة ووسطها، فهذه خمسة أصوات اشتركت برمز واحد فكان لا بدّ من زيادة عدد النقاط والاستعانة بوضعها أسفل الحرف فكان نقطها على هذه الصورة المشهورة، ولو تصورنا أن صوتا سادسا اشترك معها في أصل رمزها لتوقعنا أن
__________
(1) انظر: المحكم، ص 37.
(2) انظر نفس المصدر، ص 37و 38.
(3) المحكم، ص (4140).(1/480)
يكون إعجامه بوضع ثلاث نقط أسفل الحرف عكس الثاء، هذه هي القاعدة العامة التي يمكن استنتاجها من ملاحظة نقط حروف العربية، ولا نعلم كثيرا عن بدايات إعجام الحروف فالظاهر أنها بدأت في بعض الحروف ثم بمرور الزمن تكامل هذا النظام الذي نستعمله اليوم.
وقد أثار الداني تساؤلا مقبولا، ولكن الإجابة عليه لا تكاد تستقيم مع واقع الحال، قال (1): «فإن قال قائل: لم نقطت الباء بواحدة من تحتها؟ هلا نقطت من فوقها ونقطت النون من تحتها مكان ذلك، فرقا بينهما؟ قيل له: إنما نقطت بواحدة، لما تقدم من قولنا إنها أول الصور الثلاث، وإن التاء ثانيتها والثاء ثالثتها، ولذلك نقطت التاء اثنتين والثاء ثلاثا». والداني يرى هنا أن إعجام الحروف قد تم بعد التحول من الترتيب الأبجدي القديم إلى الترتيب الأبتثي الحديث تتوالى فيه هذه الحروف الخمسة هكذا (ب ت ث ن ي) ومن المتوقع حسب ما رأينا من أن الأصل في الإعجام أن ينقط الحرف بواحدة من فوق ثم تزاد النقط ويخالف بينها في الموقع كلما ازداد عدد الأصوات المشتركة فيه أن نجد هذه الأحرف الخمسة حسب نظرة الداني قد أعجمت هكذا (ن ت ث ب ي) حسب الترتيب السابق، ولكن يبدو أن إعجام الحروف المتشابهة قد تم دون تفكير بترتيب الحروف رغم أن الإعجام قد يكون هو السبب في ظهور الترتيب الجديد، ورواية حمزة الأصفهاني وأبي أحمد العسكري لا تشير إلى أي معيار بنيت عليه هذه الخطوة التكميلية للكتابة العربية، فيصوّر نصّ العسكري عمل نصر على هذا النحو: «فوضع النقط أفرادا وأزواجا، وخالف بين أماكنها بتوقيع بعضها فوق الحروف وبعضها تحت الحروف».
ومما يلاحظ أن الحديث عن ظاهرة إعجام الحروف لم يشغل بال المؤلفين في موضوع النقط والشكل بنفس الدرجة التي تحدثوا فيها عن نقط الحركات، فقد تحدث الداني عن إعجام الحروف بالسواد في فصل لم يستغرق أكثر من سبع صفحات (2)، وإن كان قد تحدث في فصل آخر عن (حروف التهجي وترتيب رسمها في الكتابة) (3). أما
__________
(1) نفس المصدر، ص 40.
(2) المحكم، ص (4135).
(3) نفس المصدر، ص (3425).(1/481)
بقية الكتاب فقد استأثر به موضوع نقط الحركات وشكلها ومذاهب النقاط في ذلك واختلافهم فيه وما يتعلق بهذا الموضوع (1)، ويبدو أن المؤلفين في موضوع النقط أهملوا معالجة إعجام الحروف بعد الداني، فلا يشير الخراز (ت 718هـ) مثلا إلى هذا الموضوع في أرجوزته في ضبط المصحف، ولعل السبب في ذلك هو أن نظام إعجام الحروف في الكتابة العربية قد صار من الشيوع والاستقرار بحيث لا يحتاج إلى من يتكلم حوله، فالناس يتعلمونه حين يتعلمون حروف الهجاء.
إن التساؤل الذي أثاره الداني ونقلناه قبل قليل يدفعنا إلى الإشارة إلى أن الترتيب المعروف بيننا اليوم للحروف العربية قد استحدث بعد الإسلام في رأي أغلب الدارسين المحدثين (2)، وسبق أن أشرنا إلى أن الترتيب القديم للحروف الذي يجري على نسق (أبجد هوز) قد ورثته الكتابة العربية في الراجح عن الأمم السامية القديمة (3)، والمصادر العربية الأولى لا تحدثنا عمن غير ترتيب (أبجد هوز) إلى الترتيب المعروف اليوم (أب ت ث) إلا أن بالإمكان استنتاج أن ذلك التحول قد تم في فترة متقدمة من تاريخ الإسلام ربما ترجع إلى القرن الأول، فقد كان هذا الترتيب معروفا زمن الخليل بن أحمد (4)، ووصف ابن جني ذلك النظام في ترتيب الحروف العربية بالتأليف المشهور مرة (5)، وبالتأليف المألوف أخرى (6)، ويعقب على ذلك بقوله «أعني على غير ترتيب المخارج» (7) وكأن ترتيب (أبجد) قد تلاشى من الاستخدام إلا في بعض المجالات، ولم يتحدث ابن جني عن واضع هذا الترتيب الجديد. ونجد أبا الحجاج البلوي ينسب هذا الترتيب إلى (أهل العلم) حين يقول (8): «وقد رتب أهل العلم هذه الحروف أحسن ترتيب، ضموا الأشكال بعضها إلى بعض مثل الباء والتاء
__________
(1) جاء كتاب المحكم في ص 260صفحة ما عدا الفهارس.
(2) انظر خليل يحيى نامي: ص 107، ود. جواد علي: ج 1، ص 209، وج 7، ص 7.
(3) انظر: ص 41من الفصل التمهيدي.
(4) انظر: كتاب العين، ج 1، ص 52و 53. وانظر أيضا ابن النديم: ص 43.
(5) ابن جنّي: سر صناعة الإعراب، ج 1، ص 50.
(6) نفس المصدر (القسم المخطوط)، ورقة 307ب.
(7) نفس المصدر، ج 1، ص 50.
(8) ألف با، ج 1، ص 174.(1/482)
والثاء والجيم والحاء والخاء إلى غير ذلك مما هو معلوم (1).
ومن اللافت للنظر في موضوع ترتيب الحروف العربية على (أب ت ث) أن بعض الدارسين المحدثين ينسبون هذا الترتيب إلى نصر بن عاصم وقد يشركون معه يحيى بن يعمر، ويحددون ذلك بخلافة عبد الملك بن مروان، الخليفة الأموي، وكأنهم قد جعلوا ترتيب الحروف جزءا مكملا لما ينسب إليهما من إعجام الحروف العربية، وأول من ذكر ذلك من المحدثين هو الأستاذ حفني ناصف (2)، ولا نعرف المصدر الذي استقى منه الأستاذ ناصف ذلك، ولعل ما شاع عن دور نصر في إعجام الحروف وتلقيبه (بنصر الحروف) هو الذي أوحى إليه بذلك، وقد ردد المحدثون من بعده هذا المعنى دون أن ينسبه أحد منهم إلى مصدر معين (3)، وربما نقلوه من الأستاذ حفني ناصف (4).
__________
(1) اختلف ترتيب أهل المغرب لحروف (أب ت ث) عن ترتيب أهل المشرق (انظر القلقشندي:
ج 3، ص 22) تبعا لاختلافهم في ترتيب أبجد هوز، لأنه أصل الترتيب الحديث، وانظر: هامش رقم 97، ص 32من الفصل التمهيدي.
(2) انظر: تاريخ الأدب، ص 27و 73.
(3) انظر د. عدنان الخطيب: ص 22، ود. كمال محمد بشر: دراسات في علم اللغة، ق 2، ص 73، ود. محمود فهمي حجازي: علم اللغة العربية، ص 103.
(4) جعل صاحب مفتاح السعادة (ج 1، ص 80) (علم ترتيب حروف التهجي) من العلوم المتعلقة بكيفية الصناعة الخطية.(1/483)
المبحث الثالث العلامات المخصّصة لبعض الحالات النّطقيّة
عرضنا في المبحث الأول من هذا الفصل لعلامات الحركات وهي علامات أخذت حكم رموز الأصوات الصامتة والحركات الطويلة رغم أنها كانت توضع خارج النظر من حيث دلالتها على صوت لغوي معين، وهي لذلك تتصف بقابلية تبادل المواقع في الكلمات كلما تغيرت صيغ تلك الكلمات أو مواقعها، وعرضنا في المبحث الثاني لعلامات أضيفت إلى بعض الحروف على صفة الثبوت، وهي لا تدل على صوت لغوي معين، لكنها ساهمت في تخصيص صوت معين برمز معين وهذه العلامات التي هي نقط الإعجام ليست ذات قابلية لتبادل المواقع في الحروف، فقد أصبحت جزءا أساسيا في شكل الحرف كأنها ذنب له أو عراقة منه تميزه عن غيره من الحروف، فكما أن عراقة القاف المتطرفة تختلف عن عراقة الفاء المتطرفة فيتميز الحرفان كذلك فإن إعجام الباء يختلف عن إعجام الياء مثلا فيتميز الحرفان بذلك بعد أن كانا يشتركان بصورة خطية واحدة في غير حالة التطرف.
وإلى جانب هذين النوعين هناك نوع ثالث من العلامات يختلف عن كلا النوعين السابقين لكنه مع ذلك يأخذ من خصائص كل منهما، فهو كالحركات يتبادل في الموقع غالبا لكنه يكاد يكون كالإعجام في عدم تمثيل صوت لغوي معين، فعلامات هذا النوع تقوم بتخصيص حالات نطقية معينة لا تمثيل أصوات لغوية بأعيانها، لأن الأصوات العربية استوفت حقها من الرموز والعلامات بعد وضع علامات الحركات القصيرة الثلاث، ولذلك فإن ما عداها من علامات لم يعد يمثل أصواتا لغوية بالمعنى الدقيق لذلك بل هي علامات تعين القارئ على تحقيق كيفية نطقية معينة.
وسبق أن أوردنا قول ابن درستويه الذي ميز بين ضربين من الشكل: ضرب هو صور الحركات والسكون، وضرب هو زيادة يؤتى بها مع الحرف للفرق، وتقوم مقام الإعجام في الحروف، ويمكن أن نسمي الضرب الأول شكلا محضا والثاني شكلا ليس بمحض.
أما الضرب الثاني من الشكل الذي تحدث عنه ابن درستويه بقوله (1): «أما الشكل الذي هو زيادة للفرق فهو خمس علامات: التشديد والتنوينة والهمزة والمدة وعلم ألف الوصل». وقد جعل ابن درستويه السكون مع علامات الشكل المحض، والواقع اللغوي يأبى ذلك، لأن السكون من الوجهة الصوتية المحضة ليس صوتا مثل الحركات أو غيرها، وليس هو إلا علامة على انعدام الحركة (2). فهو إذن سادس هذه العلامات.(1/484)
وسبق أن أوردنا قول ابن درستويه الذي ميز بين ضربين من الشكل: ضرب هو صور الحركات والسكون، وضرب هو زيادة يؤتى بها مع الحرف للفرق، وتقوم مقام الإعجام في الحروف، ويمكن أن نسمي الضرب الأول شكلا محضا والثاني شكلا ليس بمحض.
أما الضرب الثاني من الشكل الذي تحدث عنه ابن درستويه بقوله (1): «أما الشكل الذي هو زيادة للفرق فهو خمس علامات: التشديد والتنوينة والهمزة والمدة وعلم ألف الوصل». وقد جعل ابن درستويه السكون مع علامات الشكل المحض، والواقع اللغوي يأبى ذلك، لأن السكون من الوجهة الصوتية المحضة ليس صوتا مثل الحركات أو غيرها، وليس هو إلا علامة على انعدام الحركة (2). فهو إذن سادس هذه العلامات.
وقد مر في المبحث السابق أن الخليل بن أحمد وضع إلى جانب علامات الحركات الثلاث علامة الهمزة والتشديد والروم والإشمام (3). ويجعل أبو الحجاج البلوي مكان الهمزة كلمة (التمدد) كما سبق ولعله يقصد علامة المد أو أنه تحريف لكلمة الهمزة، إذ يبدو أنه نقل كلام الداني السابق، ونحاول في هذه الصفحات أن نتتبع هذه العلامات وتطورها في المصاحف والكتابة العربية.
أولا: علامة الهمزة:
لم تعان الكتابة العربية على ما يبدو من مشكلة تتعلق بالهمزة في السنين الأولى من تاريخ الإسلام وفي ما سبق ذلك، بل الظاهر أن المصاحف العثمانية كتبت والناس في الحجاز لا يعرفون للهمزة رمزا سوى (الألف) وربما لم يكونوا يستعملون مصطلح الهمزة حينذاك، ويكتفون باستعمال الاسم القديم، كما بيّنا ذلك في فصل سابق.
وبعد أن أرسلت المصاحف العثمانية إلى الأمصار الإسلامية كانت معتمد الأمة في كل الأقطار والأمصار، ليس في تحقيق ألفاظ التلاوة وحسب بل في رسم الكلمات أيضا وقد مرت الأيام مسرعة وحدث ما أشرنا إلى بعضه من تعرض اللغة العربية في المجتمعات الجديدة إلى امتزاج لغوي بين لهجات العربية التي كانت تتقاسم سكان الجزيرة. وكانت ظاهرة الهمز إحدى جوانب ذلك الامتزاج اللغوي، وقد بيّنا في الفصل السابق أن العربية أخذت تتبنى ظاهرة الهمز وأن ذلك الاتجاه لقي دعما في تبني الحركة العلمية اللغوية في العراق له، بسبب اتجاه العلماء إلى أخذ اللغة عن قبائل شرق
__________
(1) كتاب الكتاب، ص 56.
(2) انظر د. كمال محمد بشر: دراسات في علم اللغة، ق 1، ص 184.
(3) المحكم، ص 6.(1/485)
الجزيرة ووسطها، وبسبب أن بلاد العراق كانت على اتصال دائم ومفتوحة على وسط الجزيرة ونزلت أقوام كثيرة من عربها فيه، وذكرنا هناك بعض الملاحظات في هذا الموضوع وإنما نكتفي منها هاهنا بالنتيجة التي أدت إليها تلك الملاحظات وهي أن الرسم العثماني جرى على قراءة ولغة أهل الحجاز في إسقاط الهمزة في غير أول الكلمة وأن رسم الهمزة لم يتحقق في الرسم العثماني إلا في أوائل الكلمات حيث تمثل برمز الألف، أما في وسط الكلمة وطرفها فإن الواو أو الياء أو إحدى الحركات الطويلة هي التي تحل محل الهمزة صوتا وكتابة.
ولم تكن هناك مصاحف رسمت على لغة من يحققون الهمزة إلا ما ذكر في بعض مصاحف عبد الله كانت الهمزة ترسم ألفا دائما ولذلك فإن المسلمين في الأمصار حين قرءوا القرآن في المصاحف العثمانية كانوا يجرون على ما رووه عن شيوخهم من تحقيق الهمزة أو تركها، دون الالتفات إلى أن الهمزة لم ترسم ألفا إلا في أوائل الكلمات، فكان أهل التحقيق يهمزون على حسب روايتهم في القراءة رغم أن الهمزة كانت مرسومة في المصحف على لغة أهل التسهيل واوا أو ياء أو ألفا، ومن هنا كان لا بد من تعيين الألفاظ والواوات والياءات التي تهمز في المصحف مما ليس هو من باب الهمز لكي لا يلتبس الأمر على الناس في ذلك.
إن النقاط المدورة التي وضعها أبو الأسود علامات للحركات لم يكن من بينها ما يشير إلى الهمزة، ولعل هذا يدل على أن مشكلة الهمزة لم تكن قد برزت بشكل يلفت النظر ويستدعي المعالجة في تلك الفترة، لكن هناك ما يشير إلى أن القرن الأول لم ينقض قبل أن يستخدم نقّاط المصاحف علامة للإشارة إلى موضع الهمزة من الحروف الثلاثة (الألف والواو والياء) فقد استخدموا لذلك نقطة مدورة مثل نقط الحركات بالحمرة أو بالصفرة على اختلاف في مذاهب الناقطين بين أهل العراق وغيرهم، فقد ذكر الداني أنه رأى في المصحف الذي كتب سنة (110هـ) الهمزات نقطا بالحمرة (1)، وأشار إلى أن مذهب أهل المدينة في الهمزات أن ينقطوها بالصفرة وذكر أن قالون (عيسى بن مينا رواية نافع ت 220هـ) قال (2): «في مصاحف أهل المدينة ما كان من
__________
(1) المحكم، ص 87.
(2) نفس المصدر، ص 148.(1/486)
الحروف التي بنقط الصفرة فمهموزة». لكن سلف أهل العراق خالفوا سلف أهل المدينة في ذلك، فجعلوها بالحمراء كالحركات، ويرى الداني أن ما جرى عليه استعمال أهل المدينة من جعلها بالصفراء فرقا بينها وبين الحركات هو الوجه وعليه العمل (1). وذكر أن الهمزة إذا سهلت نقطت بالحمرة بدل الصفرة (2). وبذلك أصبحت النقطة الحمراء أو الصفراء تشير إلى مواضع الهمزة في الكلمات التي رسمت على لغة أهل الحجاز في التخفيف، وكانت هذه النقطة بداية مرحلة لكي تكتسب هذه الحروف والنقط فوقها صفة الدلالة على الهمزة، ولم يكن من اليسير تغيير رسم الكلمات وإثبات الهمزة فيها ألفا، فكان استخدام النقط للإشارة إلى موضع الهمزة في الكلمة هو الحل الأمثل الذي اهتدى إليه علماء الرسم لا علماء العربية الأول.
ولا بد من وقفة هنا عند هذا التحول في طريقة تمثيل الهمزة التي هي صوت صامت لا يختلف عن أصوات اللغة الأخرى التي مثلت برمز معين في الكتابة، فبعد أن كانت الهمزة تستأثر وحدها برمز الألف اشتركت الفتحة الطويلة معها في هذا الأمر، وبعد أن اتخذ الرسم العثماني نموذجا كتابيا في غير بلاد الحجاز كان ذلك يشبه انتقال الكتابة من بيئة لغوية معينة إلى بيئة لغوية أخرى ذات خصائص تختلف في بعضها عن الأولى، وهذا يعرض بعض الرموز إلى أن تفقد دلالتها على أصوات معينة في البيئة الأولى لتكتسب دلالة جديدة في البيئة الثانية لما قد يكون من اختلاف يسير في كلتا اللهجتين، كما حدث في الكلمات التي جاءت مرسومة في الرسم العثماني بالواو وهي تلفظ فتحة طويلة مثل (الصلاة والزكوة والحيوة) فما تعرضت له الهمزة يشبه إلى حد ما تلك الحالة، حيث أصبحت الألف والواو والياء في الرسم العثماني تقع موقع الهمزة المحققة في البيئات الجديدة وذلك اقتضى وضع علامة معينة على تلك الحروف الثلاثة إذا كانت واقعة موقع الهمزة، وقد كانت تلك العلامة في أول الأمر نقطة حمراء أو صفراء، ثم تغيرت تلك النقطة إلى رأس عين ينسب وضعها إلى الخليل بن أحمد، وبذلك صار الناس حين يكتبون في المصاحف وفي الأمور العلمية والحياتية الأخرى يصورون الهمزة بأحد الحروف الثلاثة مع العلامة التي تدل على الهمزة فوقه، خاصة
__________
(1) نفس المصدر، ص 147.
(2) نفس المصدر، ص 95.(1/487)
إذا كان المصحف يضبط على قراءة تحقق الهمزة، اقتداء بالرسم العثماني، ونسي أن الألف هي الأصل في رمز الهمزة، ونسي أن المصاحف العثمانية كتبت في الحجاز بلغة الذين يسهلون الهمزة إلا في أوائل الكلمات، لكن حرص الناس على التمسك بما أجمع عليه الصحابة في المدينة وهو الرسم العثماني جعلهم يحرصون على الاحتفاظ بصور الكلمات كما جاءت في المصحف، وكانت الكلمات المهموزة قد رسمت على التسهيل أي أن الهمزة كانت تلفظ وترسم واوا أو ياء أو ألفا، وحين استعملوا صور هجاء الكلمات المهموزة الواردة في الرسم العثماني أبقوا الرسم على حاله واكتفوا بالتعليم على الحروف التي تقع في موقع الهمزة بعلامة توضع فوقها، وكانت نقطة في أول الأمر ثم صارت بعد الخليل رأس عين لم يستعملها نساخ المصاحف ونقاطها إلا بعد فترة من الزمن، وقد ظلت هذه الازدواجية في تمثيل الهمزة إلى اليوم مع نسيان رمزها القديم، وهو الألف.
وقد تحدّث أبو عمرو الداني عن كيفية نقط الهمزة والهمزتين من الكلمة الواحدة والكلمتين وبيّن مذاهب النقاط في ذلك على حسب اختلاف ألفاظ التلاوة في ثلاثة فصول من كتابه المحكم (1). لكن المهم في موضوع نقط الهمزة هو كيفية تعيين موضع النقطة من الألف أو الواو أو الياء، وقد أجمع أئمة القراءة والرسم وعلماء العربية على أن موضع الهمزة من الكلمة يمتحن بالعين، فحيثما استقرت العين فهو موضع الهمزة (2)، فنقطة الهمزة تقع من الألف المرسومة في الخط قبلها وذلك إذا تقدمتها الهمزة ولفظ بالفتحة الطويلة بعدها نحو (ءامن)، وتقع الهمزة في الألف إذا كانت صورة لها نحو (أخذ) وتقع بعدها وذلك إذا تأخرت الهمزة ولفظ بالفتحة الطويلة، التي تمثل بالألف قبل الهمزة نحو (جاء) ويتضح موضع الهمزة في ما كان مثل هذه الكلمات إذا جعلنا مكان الهمزة عينا فنقول: في الأول (عامن) فالهمزة قبل الألف المرسومة، ونقول في الثاني (عخذ) فالهمزة هي الألف، ونقول في المثال الأخير (جاع) فالهمزة بعد الألف.
وهي مع الواو والياء في ذلك مثلها مع الألف. فالهمزة تقع منهما المواقع السابقة في
__________
(1) من ص 11890.
(2) الداني: المحكم، ص 146، وانظر: كتاب النقط له، ص 143، والمبرّد، ج 1، ص 141، وابن أبي داود: ص 145، والعقيلي: لوحة 26، وابن وثيق: لوحة 34.(1/488)
أي مكان من الكلمة (1).
واستعمال صوت العين أو أي صامت غيره في تعيين موضع الهمزة من الحروف الثلاثة وسيلة دقيقة مكّنت أهل النقط من ضبط مواضع نقطة الهمزة من تلك الحروف، لكن بعض النقاط، خاصة من أهل النحو، قد أسرفوا في تعيين مواضع نقطة الهمزة من الحروف الثلاثة، قال الداني (2): «فأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من النقاط والنحويين من جعلهم للهمزة مع حروف المد أحكاما كثيرة سوى ما ذكرناه، وإيقاعهم إياها في أماكن شتى منهن، وتلقيبهم الواو والألف وموضع الهمزة منهما بألقاب جمة كقولهم هامة الواو ويافوخ الواو وقمحدوة الواو وجبهة الواو وخاصرة الواو ومضجع الواو وقفا الواو، وذنب الواو، إلى غير ذلك من الألقاب التي قضوا لوقوع الهمزة في الألف والياء والواو، فشيء لا وجه له من قياس، ولا معنى في نظر ولا حقيقة في تلاوة ولا أثر له في نقل». ثم يستدل الداني على انحصار مواقع الهمزة الثلاثة من تلك الحروف بإحلال العين محل الهمزة، وهي تقع قبل الحرف أو فيه أو بعده، فتوقع النقطة في الموضع الذي تظهر فيه العين.
وإذا كانت النقطة تجعل في موضع العين التي يختبر بها موضع الهمزة فإن أهل النقط اتفقوا على موقعها في حالة كون الهمزة قبل الحرف أو بعده بصورة عامة، أما إذا كانت الهمزة تقع نفس موقع الألف والياء والواو فمنهم من يجعلها في أنفس هذه الحروف ويوقع الحركات فوق الحرف أو تحته أو أمامه، ومنهم من يخالف بها فيجعل المفتوحة وحركتها فوق الحرف والمكسورة وحركتها تحت الحرف والمضمومة وحركتها في الحرف، ويجمع بين الهمزة وبين حركتها، ولا يفرق بينهما كما لا يفرق بين سائر الحروف وبين حركاتهن، ويرى الداني أن القول الأول أوجه، وذلك من حيث كانت الهمزة حرفا من حروف المعجم فكما تلزم الحروف غيرها موضعا واحدا من السطر كذلك ينبغي أن تلزم الهمزة أيضا موضعا واحدا، وأن تجعل لها الكتابة صورة، وتكون
__________
(1) انظر الداني: المحكم، ص 119و 130و 138.
(2) نفس المصدر، ص 146. وقد بيّن الداني مذاهب النحويين في نقط الواو والألف بالحركات والهمز والتنوين في الملحق الذي بيّن فيه مذاهب أهل العربية والنحاة في النقط.(1/489)
الحركات دالة على ما تستحقه منهن كما تدل على سائر الحروف (1).
ومن أهل النقط من يجعل الهمزة المبتدأة خاصة نقطة بالصفراء فقط دون حركة معها ويخالف بها في الألف، فتجعل المفتوحة في رأس الألف، وتجعل المكسورة تحت الألف وتجعل المضمومة في وسط الألف، ويكتفى بذلك عن تحريكها (2).
ويذكر الداني أن الألف الثابتة في مثل (ءامن) ونحوه هي رمز الفتحة الطويلة التي بعد الهمزة، وأن رمز الهمزة هو المحذوف، ومن ثم إذا أريد نقطها جعلت الهمزة نقطة بالصفراء، وحركتها عليها قبل الألف المصورة في البياض (3). ولا شك أن هذا المذهب في نقط ما كان مثل كلمة (ءامن) هو أوضح من القول بأن الألف الثابتة هي رمز الهمزة وأن رمز الفتحة الطويلة محذوف يجري ضبطه بالنقط، وهو ما يقتضي جعل نقطة صفراء فوق الألف لتدل على الهمزة ورسم ألف صغرى بالحمرة بعد الألف، لكن مذهب الداني رغم عمليته يحتمل النظر ذلك لأن الألف المرسومة أن تكون رمز الهمزة أرجح من أن تكون رمزا للفتحة الطويلة. ويظهر أثر اختلاف علماء الرسم والنقط في دلالة الألف في مثل (آمن) حين تدخل همزة استفهام على همزة مفتوحة فتحة قصيرة أو طويلة في مثل (ء أنذرتهم وء أنتم وء ألد) ومثل (ء أمنتم وء آلهتنا) فقد اختلفوا في الألف المثبتة هل هي رمز للهمزة الأولى أم الثانية، ويتبع ذلك الاختلاف في نقط تلك الكلمات تبعا لموقف الناقط من الألف المرسومة، وتصور الفتحة الطويلة في المثالين الأخيرين ألفا بالحمرة بعد استيفاء نقط الهمزتين قبلها (4).
وقد اختلف علماء الرسم والعربية في أي الطرفين من اللام ألف هو الألف وأيهما اللام؟ فذهب الخليل بن أحمد وعامة أهل النقط من المتقدمين والمتأخرين إلى أن الطرف الأول هو الألف وأن الثاني هو اللام واستدلوا على ذلك بأن أصل اللام ألف لام
__________
(1) انظر: المحكم، ص 109108.
(2) الداني: المحكم، ص 125، وقد ذكر السيوطي (تدريب الراوي، ج 2، ص 72) أن للكتاب اصطلاحين في موضع الهمزة من الألف، فمنهم من يجعلها فوق الألف والكسرة أسفلها ومنهم من يجعلهما أسفل الألف، والثاني أصح عند السيوطي.
(3) المحكم، ص 156.
(4) المحكم، ص 95و 99.(1/490)
اتصلت بها الألف هكذا () مثل (يا وما) لكن تلك الصورة لم يستسغها ذوق الكتّاب فغيروا تلك الصورة وحسنوا رسمها بالتضفير، فضموا أحد الطرفين إلى الآخر فصارت هكذا (لا) (1)، لكن الأخفش سعيد بن مسعدة ذهب إلى عكس ذلك فزعم أن الطرف الأول هو اللام وأن الطرف الثاني هو الهمزة واستدل على صحة ذلك بأن الملفوظ به من حروف الكلم أولا هو المرسوم في الكتابة أولا، وأن الملفوظ به من حروفهن آخرا هو المرسوم آخرا (2). ولا شك في أن ما ذهب إليه الخليل ومن تابعه هو الحق والصواب، ولكن ليس على أنهما حرفان ضفرا ولكن لأن الأصل النبطي لهذا الشكل يشير إلى أن الطرف الأول هو طرف الألف وأن الثاني هو اللام (3). ومن ثم فإن نقط الهمزة في هذا الشكل يقع على الطرف الأول بأن تجعل نقطة بالصفراء وعليها حركتها بالحمراء فوقها أو تحتها أو بين يديها (4).
وأشرنا في مطلع هذا الفصل إلى أن الداني أورد مذاهب متقدمي النحاة وأهل العربية في النقط في ملحق جعله في آخر كتابه (المحكم) بيّن فيه مذاهبهم التي لا تخلو من اختلاف عما جرى عليه عامة أهل النقط فإلى جانب التقسيمات الكثيرة لموضع الهمزة من الألف والواو واللام ألف نجدهم ينقطون الهمزة المفتوحة الممدودة في مثل (ءامن وءادم وءاخر) بعد الألف أي على جبهتها ويسارها وينقطون الهمزة المفتوحة فتحة قصيرة في مثل (أمر، أخذ، أتى) قبل الألف، وهو قفاها ويمينها (5)، وقد قال الزجاجي (6):
«كل ألف استفهام أو ألف غير ممدودة مفتوحة فالنقطة في قفاها». وهذا عكس ما ذهب إليه عامة أهل النقط، وعكس ما تدل عليه العين حين نمتحن بها موضع الهمزة من الكلمة.
وقد جرى أبو حاتم السجستاني في نقط الهمزة فيما نقله عنه ابن أبي داود على
__________
(1) نفس المصدر، ص (198197).
(2) نفس المصدر، ص (199198).
(3) انظر: ص 345من الفصل الرابع.
(4) الداني: المحكم، ص 200.
(5) الداني: المحكم، ص 229وما بعدها.
(6) الجمل، ص 275، وانظر ابن أبي داود: ص 144.(1/491)
مذهب أهل العربية ومتقدمي النحاة (1)، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن الأمر قد اختلط على محقق الكتاب (2) في فهم مصطلحات أهل النقط، ومن ثم فقد جاء موضع النقط في الأمثلة التي حاول إثباتها في الهامش بالخط الكوفي مغلوطا في الغالب، فقد أخطأ في فهم (قفا الألف) و (بين يدي الألف) فجعل موضع النقطة التي في قفا الألف على يسار الألف في أعلاها، ويجعل موضع النقطة التي بين يدي الألف على يمين الألف في أعلاها (3)، والصواب هو أن قفا الألف هو يمينها وبين يدي الألف هو يسارها (4). وقد ظهر أثر هذا الفهم الخاطئ حين نقط كلمة (فمثله) (البقرة 2/ 264) فقد جعل النقطة قبل اللام بينما يقول أبو حاتم كما ينقل ابن أبي داود عنه «ينقطون على الميم واحدة فوقها وواحدة بين يدي اللام» (5). فالمقصود بين يدي اللام هو أن توضع النقطة بعد اللام لا قبلها كما فعل المحقق، مثل كل الحروف المضمومة، وقد سبق أن بيّنا كيف عبر أهل النقط عن موضع نقطة الضمة من الحرف الذي قبلها بقولهم (إلى جانب الحرف أو أمام الحرف أو بين يدي الحرف) (6). وأخطأ المحقق كذلك في فهم مصطلح (قدام الحرف) الذي هو يساره لكنه حسبه يمينه (7). وكذلك فهم (جبهة الحرف) بأنها يمين الحرف (8). والصواب هو أن جبهة الحرف هي يساره (9).
وقبل أن نترك كيفية نقط الهمزة نشير إلى أن من مصطلحات نقط الهمزة عند النحويين ما يسمى (بالألف المقيدة)، نقل ابن أبي داود (10): «إذا كانت الهمزة منتصبة نحو (القرءان) و {نَبَّأَنَا اللََّهُ مِنْ أَخْبََارِكُمْ (94)} [التوبة] و {فَرَآهُ حَسَناً (8)} [فاطر] فإنها
__________
(1) المصاحف، 144وما بعدها.
(2) هو المستشرق آرثر جفري.
(3) انظر ابن أبي داود: (ص 145144).
(4) انظر الداني: ص 229و 230و 237و 246و 253.
(5) كتاب المصاحف، ص 144.
(6) انظر: الجدول، ص (423) من هذا الفصل.
(7) انظر ابن أبي داود: ص 146. والداني: المحكم، ص 253.
(8) انظر ابن أبي داود: ص 147.
(9) الداني: المحكم، ص 299.
(10) المصاحف، ص 146.(1/492)
تنقط عليها ثنتان واحدة قبل الألف والأخرى بعدها إلا أن التي بعدها أرفع من الأولى سنا وهي تسمى المقيدة، وإنما نقطت بثنتين لأن واحدة للهمزة والأخرى للنصب وهي الثانية». وقال الداني وهو يتحدث عن مواضع الهمزة من الألف عند النحويين: «وألف على خاصرتيها نقطتان، وتسمى المقيدة، والألف بينهما، نقطة للهمزة ونقطة للفتحة وذلك مثل (مبوّأ صدق) و (أنشأكم) و (ذرأكم) وشبهه» (1). وإنما سميت هذه الألفات مقيدة لأنها تنقط قدّام ووراء (2)، والألف إنما تكون مقيدة على ما يبدو حين تقع الهمزة مفتوحة قصيرة أو طويلة بعد فتحة قصيرة (3).
ولا شك في أن مذهب عامة أهل النقط أوضح وأقرب إلى الواقع من مذهب النحاة في نقط الهمزة خاصة، فمذهب النحاة في نقط ما كان مثل (ءامن) و (أخذ) بجعل النقطة على يسار الألف في الأول وعلى يمين الألف في المثال الثاني شيء لا يستقيم مع حقيقة موضع الهمزة من الألف التي هي قبل الألف في المثال الأول، لأنّا نقول (عامن) وفي الألف في الثاني لقولنا (عخذ)، ومن ثم فإنّ مذهب عامة أهل النقط حين يجعلون النقطة قبل الألف في المثال الأول وفي الألف أو فوقه في المثال الثاني أصح وأقرب إلى الواقع، وكذلك فإن ما سماه النحاة الألف المقيدة كان يكفيهم فيها أن يجعلوا مكان الهمزة حيث تظهر بالنسبة للألف نقطة، مع جعل نقطة الحركة معها، والاستغناء عن النقطتين على يمين الألف ويسارها. فنقط كلمة (القرءان ونبأنا) عند عامة أهل النقط بأن تجعل قبل الألف في الكلمة الأولى نقطة بالصفراء تدل على الهمزة والألف بعدها تدل على الفتحة الطويلة، وفوق الألف نقطة بالصفراء عليها الفتحة نقطة بالحمراء في الكلمة الثانية، دونما حاجة إلى تقييدها بنقطتين يزيدان في غموض الأمر حتى لقد قال ابن أشتة «الألفات المقيدات مما يشتبه على الناقط» (4).
أما كيف استعمل أهل النقط رأس العين في المصاحف بدل النقطة الصفراء أو الحمراء للدلالة على الهمزة فقد أشرنا من قبل إلى أن الخليل بن أحمد وضع للهمزة
__________
(1) المحكم، ص 247.
(2) نفس المصدر، ص 221.
(3) انظر نفس المصدر، ص 224.
(4) الداني: المحكم، ص 221.(1/493)
علامة كما وضع للحركات الثلاث علامات، وجعل علامة الهمزة «طائفة مأخوذة من العين غير معقفة لأنهما مشتركان في المخرج وأنها تمثل بها» (1). واستعملت هذه العلامة في موضع النقطة التي كان أهل النقط يوقعونها على الحروف الثلاثة حسب موقعها منها.
وقد ذكر ابن درستويه في موضعين من كتابه (الكتّاب) ملاحظة تبعث على التأمل في الهدف الذي وضع الخليل من أجله هذه العلامة، فقد قال وهو يتحدث عن العلامة التي وضعها الخليل للهمزة «وهي التي وضعها الخليل للهمز، فلم يستعملها الناس، وكتبوا الهمزة على صورة حروف اللين وصيّروا ما وضعه الخليل شكلا لها» (2). وقال في الموضع الآخر: «وذكروا أن الخليل زاد في حروف المعجم صورة الهمزة فلم يعتمد عليها الناس وجعلوها شكلة لها» (3). وهذا يعني أن الخليل أراد لهذه العلامة أن تستعمل مثل أي حرف من حروف الأبجدية وتحل محل الألف والواو والياء التي هي آثار من كتابة المصحف على التسهيل وترك الهمز. لكن ذلك لم يتحقق لأنه يستدعي تغييرا كبيرا في صور الكلمات.
ولا نعلم كيف أراد الخليل لهذا الحرف أن يستعمل في الأوضاع المختلفة لوروده في الكلمة، لكن الذي يبدو هو أن العلامة التي وضعها الخليل للهمزة استعملت، منذ وقت مبكر، في مكان النقطة التي كانت تشير إلى موضع الهمزة في المصحف، ولا شك أنها استعملت أولا في غير المصحف، ثم استعملها نساخ المصاحف في المشرق قبل أهل المغرب، فبدت علامة الهمزة في مصحف ابن البواب الذي كتبه سنة (391هـ) على شكل رأس عين، لكن أهل المغرب كانوا يأبون الزوال عن استعمال الطريقة القديمة في نقط الهمزة وجعلها نقطة بالصفرة، وظل هذا الاستعمال بعد الداني أجيالا، فقد قال ابن وثيق (ت 654هـ) وهو يتحدث عن علامة الهمزة (4): «وقد اصطلح كتاب المصاحف على أن جعلوا علامة الهمزة نقطة بالصفراء، وأشار إلى استعمال رأس العين في المصاحف
__________
(1) ابن درستويه: ص 56. وانظر الداني: المحكم، ص 147.
(2) كتاب الكتاب، ص 56.
(3) نفس المصدر، ص 64.
(4) لوحة 33.(1/494)
أيضا (1). كذلك جعل الخراز (ت 718هـ) علامة الهمزة في أرجوزته في موضوع الضبط نقطة مدورة بالصفراء (2). وهكذا كان أهل المشرق أسرع في استعمال العلامة الجديدة للهمزة كما كانوا أسرع من أهل المغرب في إدخال علامات الحركات في المصحف (3).
أما كيف تظهر علامة الهمزة في الوثائق المخطوطة التي أمكن الاطلاع عليها فقد ظهرت في بقية المصحف المنقوط المحفوظ في دار الكتب المصرية (4) نقطة بالحمراء، وكأنها نقطت على مذهب النحاة في النقط، فنقطة الهمزة في كلمة (أو) تظهر في قفا الألف، مثل ما نقط النحاة كلمة (أخذ) في قفا الألف، لكن كلمة (أنزل) تظهر نقطة الهمزة فيها بين يدي الألف، وتظهر في كلمة (شهداء) في جبهة الألف على يسارها.
وتظهر نقطة الهمزة في صفحتين من مصحف قديم أوردهما المنجد (5) في كلمة (ءامنوا ءاخرين) على جبهة الألف وهو يسارها، وفي كلمة (إنّ وإلى) تحت الألف، وفي (طائفة) تحت الياء وفي كلمة (أنصار أفلا) في قفا الألف، وفي كلمة (الأرض) تظهر النقطة في قفا الطرف الأول من اللام ألف (ءلا).
وفي مجموعة أوراق أوردها موريتز (لوحة 3019) من مصحف قديم أرجعه إلى القرن الثاني أو الثالث الهجري تظهر الهمزة في مثل (أنت أنما أن أذن أما) نقطة في قفا الألف، وفي (إنه إنّا إنما إلا) نقطة تحت الألف، وفي (قران) تظهر الألف مقيدة بنقطة عن يمينها ونقطة عن يسارها. وفي (الألباب) تظهر الهمزة نقطة في قفا الطرف الأول من اللام ألف مثل نقط الهمزة في كلمة (الأرض)، وفي (أخذوا) الهمزة نقطة بين يدي الألف.
وتظهر الهمزة المتوسطة والمتطرفة في هذه الأوراق بعلامة تشبه هلالا صغيرا أو دالا، ففي كلمة (الملائكة) في موضعين وكلمة (سئلت) تظهر الهمزة على شكل هلال صغير تحت الياء، وطرفاه متجهان إلى الأعلى ومتصلان بطرفي الياء على هذا النحو (؟؟؟).
__________
(1) نفس المصدر، لوحة 34.
(2) انظر المارغني: ص 361و 371.
(3) انظر القلقشندي: ج 3، ص 167.
(4) هو برقم (115مصاحف).
(5) شكل 28و 29، وهما ورقتان من مصحف قديم في متحف طوب قبو رقم 194.(1/495)
وفي كلمة (السماء) تظهر الهمزة مثل دال في داخلها أو أمامها نقطة هكذا (؟؟؟) وفي (شاء) هلالا صغيرا بعد الألف طرفاه متجهان إلى الأعلى وفي وسطه نقطة علامة للفتحة، كذلك تظهر الهمزة في (جاءه جاءك) ولكن بدون نقطة للحركة.
وظهرت الهمزة في قطعة من الخشب مكتوب عليها سورة البيّنة بعلامة تشبه العلامة السابقة تقريبا، ففي كلمة (جاءتهم حنفاء) تظهر الهمزة على شكل دال معكوسة أو علامة تشبه رقم () أثبتت في البياض بعد الألف، وفي كلمة (أولئك) ظهرت الهمزة بنفس العلامة، ولكن تحت الياء (1).
وتظهر الهمزة في المصحف المنسوب إلى جعفر الصادق أرجعه موريتز إلى القرن الثاني أو الثالث (2) والمحفوظ بدار الكتب المصرية (3)، بعلامتين الأولى رأس عين مرسومة بنفس مداد الحروف، ودائرة مفرّغة باللازورد، وهما تتخذان مكانا واحدا أو توضعان متجاورتين.
ويبدو أن استعمال رأس العين في المصاحف قد ظهر في المشرق في القرن الرابع على الأقل، أما في المغرب فإنهم ظلوا إلى فترات متأخرة يصورون الهمزة نقطة صفراء، كما يظهر ذلك في مصحف بالخط المغربي يرجع إلى القرن الثامن الهجري محفوظ في مكتبة جستر بيتي في دبلن (4).
ثانيا: العلامات الأخرى:
1 - علامة السكون:
السكون ليس حركة وإنما هو سلب الحركة (5)، ووضعوا له علامة لتدل على عدم
__________
(1) انظر::.، 3791،. 42.
(2) انظر: لوحة 3631.
(3) محفوظ برقم (1مصاحف).
(4) انظر نموذجا منه: ناجي زين الدين: مصوّر الخط العربي، شكل 699، ص 246. ورغم أن الصورة لا تظهر إلا اللون الأسود إلا أن دائرة الهمزة رسمت بمداد غير مداد الكتابة. وأرجّح أنها بلون الصفرة.
(5) ابن يعيش: ج 9، ص 67.(1/496)
وجود حركة بعد الحرف أو أنه غير مشدد، وقد استعملت عدة علامات لتدل على هذه الحالة، فنقّاط المصاحف يستعملون للسكون إما جرة فوق الحرف مثل علامة الفتحة، وإما دارة صغيرة فوق الحرف، بالحمرة، والعلامة الأولى استعملها أهل الأندلس والثانية يستعملها نقاط أهل المدينة (1)، وأهل العربية من سيبويه وعامة أصحابه يجعلون علامته خاء (2)، وقيل هي جيم بغير عراقة (3)، ومن أهل العربية من يجعل علامة السكون هاء، اختص بها الوقف الذي يلزم فيه تسكين المتحرك، وذلك في نحو قوله تعالى (كتابيه) وشبهه (4).
أما أصل الدارة فقيل هي مأخوذة من ميم (جزم) وحذفوا عراقة الميم استخفافا، وسموا تلك الدائرة جزمة أخذا من الجزم الذي هو لقب السكون، ويحتمل أن يكونوا أتوا بتلك الدائرة على صورة الصفر في حساب الهنود وغيرهم، إشارة إلى خلو المرتبة من الأعداد لأن الصفر هو الخالي (5).
وأما الخاء فقيل هي مأخوذة من أول خفيف (6)، وقيل هي جيم غير معقفة ولا محققة مأخوذة من جيم الجزم (7)، ويرى الداني أن الجرّة التي يستعملها نقاط أهل الأندلس علامة للسكون ما هي إلا الخاء المأخوذة من أول خفيف إلا أنهم اختصروها بأن حذفوا رأسها وأبقوا مطتها فصارت جرّة كألف مبطوحة، لكثرة استعمال هذا الضرب وتكرره (8).
ويلاحظ أن الدارة التي تستعمل للسكون استخدمها نقاط المصاحف أيضا على الحرف الخفيف المختلف فيه بالتشديد أو التخفيف، والحرف الذي يخاف أن يشدده من لا
__________
(1) الداني: المحكم، ص 51.
(2) انظر: نفس المصدر، ص 51، وسيبويه: ج 2، ص 282، وابن يعيش: ج 9، ص 68.
(3) ابن درستويه: ص 55، والقلقشندي: ج 3، ص 165.
(4) الداني: المحكم، ص 52.
(5) نفس المصدر، ص 195، وانظر القلقشندي: ج 3، ص 165.
(6) الداني: المحكم، ص 52.
(7) ابن درستويه: ص 55. والقلقشندي: ج 3، ص 165.
(8) المحكم، ص 52.(1/497)
معرفة له، دلالة على خفته (1)، وقد ظهرت هذه الدارة في ورقة من مصحف قديم يرجع إلى القرن الثاني أو الثالث (موريتز، لوحة 22) على الباء من ربما في قوله تعالى:
{رُبَمََا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا (2)} [الحجر] وقد ظهر السكون في مصحف ابن البواب (كتبه 391هـ) على شكل رأس خاء تقريبا، وفي مصحف محفوظ في دار الكتب المصرية كتب سنة (499هـ) ظهر السكون على شكل دائرة مجوفة صغرى (2).
2 - علامة التشديد:
سبق أن الكتابة العربية وعامة الكتابات السامية تمثل الصوت المشدد برمز واحد، ومن ثم فإن أحدا قد يظن أن الرمز لا يدل إلا على صوت واحد، ولذلك فقد حرص نقاط المصاحف على تبيين تلك الحالة بعلامة معينة، وقد استعمل للتشديد علامتين:
الأولى رأس شين، وهي التي أشرنا من قبل إلى أنها من وضع الخليل بن أحمد، أخذها من أول (شديد) (3). وقد قال الخليل في كتاب العين إن «التشديد علامة الإدغام» (4) وهذا هو مذهب الخليل وسيبويه وعامة أصحابهما، وعلى ذلك سائر أهل المشرق من النقاط وغيرهم (5). والعلامة الثانية للتشديد هو أن يجعل دالا، وهو مذهب أهل المدينة ومن تابعهم من أهل المغرب والأندلس، وإنما جعل أهل المدينة علامة التشديد دالا من حيث كانت الدال آخر كلمة (شديد) فدلّوا عليه بآخر حرف من كلمته، كما دلّ النحويون ونقاط المشرق بأول حرف من كلمته، وفي كل واحد من الحرفين، الشين والدال، دلالة عليه، لكن الداني يرى أن اتباع أهل المدينة أولى، والعمل بقولهم ألزم (6). وقد ذكر ابن وثيق الأندلسي أن بعضهم يجعل علامة الشدة مثلا قلامة الظفر فإن كان الحرف مضموما جعلها معكوسة على الضمة وإن كان مكسورا جعلها معكوسة تحت الكسرة وإن كان مفتوحا جعلها فوق الفتحة غير معكوسة، وقد يستغني بعضهم بعلامة
__________
(1) نفس المصدر، ص 58.
(2) محفوظ برقم (227مصاحف).
(3) انظر سيبويه: ج 2، ص 282، وابن درستويه: ص 56، والداني: المحكم، ص 7وص 49.
(4) كتاب العين، ج 1، ص 55.
(5) الداني: المحكم، ص 50.
(6) نفس المصدر، ص 50، وانظر القلقشندي: ج 3، ص (167166).(1/498)
الشدة إذا كانت هكذا عن الحركة (1)، ويبدو أن هذه العلامة التي يتحدث عنها ابن وثيق هي نفسها الدال التي يستعملها أهل المدينة والأندلس.
وفي كيفية نقط التشديد وجهان أحدهما أن تجعل علامته أبدا فوق الحرف، ويعرب الحرف بالحركات اللائي يلحقنه، وهو مذهب من جعل الشين علامة للتشديد، والوجه الثاني أن تجعل علامة التشديد دالا فوق الحرف إذا كان مفتوحا وتحته إذا كان مكسورا وأمامه إذا كان مضموما، وبعض أهل النقط يجعل مع الشدة الحركات (2)، وقد ذكر القلقشندي أن رأي المتأخرين قد استقر على المذهب الأول، غير أنهم يجعلون بدل النقط الدالة على الإعراب علامات الإعراب التي اصطلحوا عليها من الفتحة والضمة والكسرة، فيجعلون الفتحة والضمة بأعلى الشدة، ويجعلون الكسرة بأسفل الحرف الذي عليه الشدة، وبعضهم يجعلها أسفل الشدة من فوق الحرف (3).
نجد علامة التشديد في المصحف الذي كتبه ابن البواب على شكل رأس شين، كذلك هي في المصحف المنسوب إلى جعفر الصادق، وفي المصحف المخطوط سنة (499هـ) المحفوظ في دار الكتب المصرية، وكذلك في المصحف المكتوب بالخط المغربي الذي يرجع إلى القرن الثامن وسبقت للإشارة إليه من قريب.
3 - علامة المد:
إذا جاء بعد حروف المد الثلاثة الألف والياء والواو همزة أو حرف ساكن مثل (خائفين، قروء، الضالين، حادّ الله) تمكّن وازددن طولا، وجعل لهذه الحالة علامة ذكر الداني أنها مطة بالحمراء دلالة على زيادة تمكينهن (4)، وذكر ابن وثيق: «أن صورة المد تجعل بالحمرة كالميم الصغرى ممدودة، في آخرها دال صغرى هكذا (مد) وموضعها حروف المد واللين» (5). وقد ظهرت علامة المد في مصحف قديم مرسوم بالخط المغربي كتب سنة (557هـ) تشبه إلى حد كبير كلمة (مد) صغيرة فوق الحرف أو في
__________
(1) لوحة 35.
(2) انظر الداني: المحكم، ص (5049)، والقلقشندي: ج 3، ص (167166).
(3) صبح الأعشى: ج 3، ص 167.
(4) المحكم، ص 54.
(5) لوحة 34.(1/499)
موضع المد (1). كذلك نجد نفس الشكل في مصحف آخر كتب في القرن الثامن الهجري (2). ونجدها في مصاحف أخرى متأخرة كأنها بقية من كلمة (مد) بعد حذف رأس الميم وإزالة رأس الدال (3). وينص الداني على أن موضع علامة المد فوق الحروف الثلاثة الواو والياء والألف مباشرة (4).
4 - علامة ألف الوصل:
ألف الوصل أو همزة الوصل مما يتحقق اللفظ بها في الابتداء فحسب وتسقط في درج الكلام، ومن ثم فقد أحوجت إلى علامة أخرى غير علامة الهمزة التي يحققها أهل التحقيق في كل مكان، وقد جعلها المتقدمون من أهل المغرب جرّة لطيفة كالجرة التي هي علامة السكون كما يقول الداني (5). وعلى صورة الفتحة على قول ابن وثيق (6)، وموضع هذه الجرة فوق الألف إذا تحرك ما قبلها بالفتح وتحته إذا تحرك بالكسر، وإن تحرك بالضم جعلت الجرّة في وسط الألف دلالة على انضمام ما قبلها (7). وأهل النقط يسمون هذه الجرة (صلة) لأن الكلام الذي قبل الألف يوصل بالذي بعده، فيتصلان، وتذهب هي من اللفظ بذلك (8).
أما أهل المشرق فإنهم يخالفون أهل المغرب في ذلك، فيجعلون صلة ألف الوصل دالا مقلوبة كالتي يحلّق بها على الكلام الزائد في الكتب، دلالة على سقوطه وزيادته كذلك هم يجعلونها في الكسر على رأس الألف أبدا (9).
__________
(1) انظر موريتز: لوحة 34.
(2) انظر نموذجا من ذلك المصحف: ناجي زين الدين: مصوّر الخط العربي، شكل 231، ص 71.
وانظر موريتز: لوحة 86و 88.
(3) ناجي زين الدين: مصوّر الخط العربي، شكل 699، ص 246.
(4) المحكم، ص 55.
(5) المحكم، ص 86، وانظر القلقشندي: ج 3، ص 170.
(6) لوحة 36.
(7) انظر الداني: المحكم، ص 84، والقلقشندي: ج 3، ص 170.
(8) الداني: المحكم، ص 85.
(9) نفس المصدر، ص 86.(1/500)
ويذكر ابن درستويه أن علامة ألف الوصل عند الكتاب صاد غير معرقة ولا محققة مأخوذة من الوصل (1)، وينص القلقشندي أن المتأخرين استعملوا لألف الوصل ربما في المصاحف صادا لطيفة إشارة إلى الوصل، وجعلوها بأعلى الحرف دائما ولم يراعوا في ذلك الحركات اكتفاء باللفظ (2).
وقد استعمل نقاط أهل الأندلس بالإضافة إلى الجرة الحمراء التي تدل على الحركة التي تسبق ألف الوصل في درج الكلام علامة أخرى للدلالة على كيفية الابتداء بهمزة الوصل فهم «يجعلون فوق الألف نقطة بالخضراء أو اللازورد، فرقا بين حركتها التي لا توجد إلا في حال الابتداء فقط وبين حركات الهمزات وسائر الحروف اللائي يثبتن في الحالين، من الوصل والابتداء، ويجعلن نقطا بالحمرة، وذلك إذا ابتدئت بالفتح، فإن ابتدئت بالكسر جعلوا تلك النقطة تحت الحرف، وإن ابتدئت بالضم جعلوها أمامها.
ونقّاط أهل المشرق لا يفعلون ذلك» (3).
وذكر الداني أنه رأى في المصحف الذي كتبه ونقّطه حكيم بن عمران الناقط سنة (227هـ) أن الصلة فوق الألف إذا انفتح ما قبلها، وتحتها إذا انكسر ما قبلها وفي وسطها إذا انضم ما قبلها (4)، ويبدو أن نساخ المصاحف كانوا كثيرا ما يهملون وضع أية علامة على همزة الوصل، لذلك لا نجد لها أثرا في المصحف الذي كتبه ابن البواب سنة (391هـ) حسب ما اطلعت عليه من صور لذلك المصحف، كذلك لم يجعل ناسخ المصحف المكتوب سنة (499هـ) والمحفوظ بدار الكتب المصرية علامة لهمزة الوصل، بينما نجد علامة همزة الوصل في ورقة من مصحف كتب سنة (559هـ) أوردها موريتز في مجموعته (لوحة 86) صادا صغرى فوق الحرف، ونجد علامة الصلة في مصحف كتب بالخط المغربي سنة (556هـ) أورد منه موريتز ورقة (لوحة 47) جرة صغيرة فوق الألف إذا كان ما قبلها مفتوحا وتحتها إذا كان مكسورا وفي وسطها إذا كان مضموما، ويبدو أن الناسخ قد وضع على ألف الوصل إضافة إلى ذلك دارة قد تكون باللون
__________
(1) كتاب الكتاب، ص 56.
(2) صبح الأعشى: ج 3، ص 170.
(3) الداني: المحكم، ص (8786). وانظر ابن وثيق: لوحة 37.
(4) الداني: المحكم، ص (8786). وانظر ابن وثيق: لوحة 37.(1/501)
الأخضر تشير إلى كيفية الابتداء بهمزة الوصل، ويبدو أن ظاهرة إهمال علامة ألف الوصل قد امتدت إلى فترات لاحقة فلا نجد لها أثرا في مصحف كتب سنة (635هـ) (موريتز، لوحة 88) لكن علامة الوصل تظهر في أكثر نماذج المصاحف التي أوردها موريتز والتي يرجع تاريخها إلى ما بعد القرن السابع.
5 - علامة التنوين:
التنوين نون ساكنة تلحق آخر الأسماء المنصرفة إذا تجردت من الألف واللام ولم تلحقها الإضافة، وسبق أن كتبة المصحف لم يرسموا التنوين نونا، فلم يمثلوه بشيء في حالة الرفع والخفض وأثبتوا ألفا في حالة النصب، وهي الألف التي تظهر في اللفظ عند الوقف، لكن تمييز الكلمة التي يلحقها التنوين من غيرها بوضع علامة على آخرها غدا أمرا ضروريا منذ وقت مبكر، ولذلك نجد أبا الأسود حين نقط حركات الإعراب في المصحف لم تفته الإشارة إلى الكلمات المنونة، فجعل بدل النقطة نقطتين واحدة للحركة والأخرى تشير إلى التنوين، ووضعت نقطة التنوين بجانب نقطة الحركة فوق الحرف في حالة النصب وأمامه في حالة الرفع وتحت الحرف في حالة الكسر، وكان ذلك باللون الأحمر مثل الحركات (1).
وحين وضع الخليل علامات الحركات الثلاث وأحلّها الكتّاب محل النقط استعملوا كذلك هذه العلامات في الإشارة إلى التنوين فجعلوا مكان النقطتين علامتين، لكن استعمال ذلك في المصاحف لم يتم دفعة واحدة في زمن الخليل بل كان تابعا لمراحل استعمال علامات الحركات في المصاحف، على النحو الذي مر في مبحث سابق.
وقد ذكر ابن درستويه أن التنوين «طائفة مأخوذة من النون أو من نقطتها» (2). لكن ما ذكرناه من أصل علامة التنوين هو الذي يدل عليه واقع الروايات والوثائق المخطوطة، فحين جعل الدؤلي للتنوين النقطتين جعل من استعمل علامات الخليل بدل النقطتين علامتين (3)، ويذكر القلقشندي أن من المتأخرين من يجعل علامة التنوين مع الضم واوا
__________
(1) وانظر الداني: المحكم، ص 58.
(2) كتاب الكتاب، ص 56.
(3) انظر القلقشندي: ج 3، ص (166165).(1/502)
صغيرة وخطة بعدها فيقول (1): «فإن لحق حركة الضم تنوين رسموا لذلك واوا صغيرة بخطّة بعدها: الواو إشارة للضم والخطة إشارة للتنوين، وعبروا عنهما برفعتين (ضمتين). وبعضهم يجعل عوض الخطة واوا أخرى مردودة الآخر على رأس الأولى».
وقد اتفق أهل النقط على جعل النقطتين في حالة الرفع أمام الحرف الأخير من الكلمة وفي حالة الجر تحته لكنهم اختلفوا في موضعهما في حالة المنصوب بين جعلهما على الحرف الأخير من الكلمة أو على الألف التي تعوض من التنوين على أربعة أقوال (2):
فمنهم من ينقط بأن يجعل نقطتين بالحمراء على الألف المرسومة ويعري الحرف المتحرك منهما ومن إحداهما، وهذا مذهب أبي محمد اليزيدي وعليه نقّاط أهل المصرين، البصرة والكوفة، ونقاط أهل المدينة.
ومنهم من يجعل النقطتين معا على الحرف المتحرك، ويعري الألف منهما ومن إحداهما. وهذا مذهب الخليل وأصحابه.
ومنهم من يجعل إحدى النقطتين، وهي الحركة، على الحرف المتحرك، ويجعل الثانية، وهي التنوين، على الألف.
ومنهم من يجعل نقطة واحدة على الحرف المتحرك، ونقطتين على الألف، وذهب إلى هذين الوجهين الأخيرين قوم من متأخري النقاط ولا إمام لهم فيهما، كما يقول الداني، الذي اختار المذهب الأول في نقط التنوين في حالة النصب (3).
وقد ذكر الداني أن نقطتي الحركة والتنوين تجعلان متراكبتين، واحدة فوق الأخرى في حالات الإعراب الثلاث، إذا جاء بعد التنوين حرف من حروف الحلق الستة: الهمزة والهاء والحاء والعين والخاء والغين، دلالة على إظهار النون، وإن أتى بعد الاسم المنون في الأحوال الثلاثة من النصب والجر والرفع باقي حروف المعجم سوى حروف الحلق جعلت النقطتان، من الحركة والتنوين، متتابعتين، واحدة أمام الأخرى، دلالة
__________
(1) القلقشندي: ج 3، ص 165.
(2) الداني: المحكم، ص (6160).
(3) نفس المصدر، ص 62.(1/503)
على ما يلحق النون من الإدغام أو الإخفاء، وذكر أن ذلك إجماع من السلف الذين ابتدءوا النقط وابتدعوه، وعليه جرى استعمال سائر الخلف (1).
ولا نجد في الرواية التي تحكي عمل الدؤلي إشارة إلى كيفية وضعه نقطتي التنوين، ومع ما ذكره الداني فإن إمعان النظر في بعض المصاحف المنقوطة بالنقط المدور يظهر خروجا على القاعدة المذكورة عن كيفية وضع النقطتين متراكبتين أو متتابعتين، ويبدو ذلك في بقية مصحف محفوظ في دار الكتب المصرية (115مصاحف) ففي قوله تعالى: {غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللََّهُ أَوْلى ََ بِهِمََا (135)} [النساء] نجد النقطتين متراكبتين واحدة فوق الأخرى، رغم أن ما بعد التنوين في الكلمة الأولى حرف حلق وما بعد الثانية ليس بحرف حلق، وفي قول الله تعالى: {وَكََانَ اللََّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ (159)} [النساء] النقطتان في الكلمة الأولى متتابعتان وفي الثانية متراكبتان، وفي قوله سبحانه {فَلَمْ تَجِدُوا مََاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا (6)} * [المائدة] في الكلمة الأولى متتابعتان وفي الكلمتين الأخيرتين متراكبتان، ويظهر الخروج على القاعدة التي ذكرها الداني في مجموعة أوراق من مصحف قديم أوردها موريتز (2)، ويبدو من مجموع الأمثلة التي اطلعت عليها أن النقطتين مع المنصوب تجعلان في الغالب متراكبتين بجانب الألف، خاصة إذا رسمت الألف التي تخلف التنوين في الوقف، وأنهما تجعلان في حالتي الرفع والجر متتابعتين في الغالب. ولا أدري ما تكون عليه نتيجة استقراء عدد أكبر من النماذج المعربة بالنقط المدور؟ ويبدو أن العلامتين اللتين تدلان على الحركة والتنوين تجريان على نسق واحد فلا يظهر أي اختلاف في وضعهما في كافة المواضع، فيما اطلعت عليه من مصاحف مخطوطة مشكولة بعلامات الخليل.
ثالثا: ضبط ما نقص هجاؤه أو زيد فيه:
ليس هناك كتابة تطابق رموزها المكتوبة أصوات لغتها المنطوقة مطابقة تامة كما تبين ذلك في الفصل التمهيدي والكتابة العربية في الفترة التي نسخت فيها المصاحف العثمانية كانت تتميز بجملة مزايا، من بينها أن رمز الفتحة الطويلة لم يثبت في كثير من
__________
(1) الداني: المحكم، ص (7268).
(2) لوحة (3019)، ويظهر ذلك في صفحتين من مصحف قديم محفوظ في تركيا، انظر د.
المنجد: شكل 28و 29، ص 58و 60.(1/504)
الكلمات وكذلك حذف رمزي الضمة والكسرة الطويلتين إذا اجتمعتا مع الواو والياء، ولم تكن الكتابة العربية آنذاك تمثل الحركات القصيرة أيضا، وبالمقابل كانت هناك بعض الرموز تبدو زائدة ليس لها دلالة في النطق مثل الألف التي ترسم بعد الواو المتطرفة، ومثل ما يظهر من رسم الهمزة في بعض المواضع رسما مزدوجا بألف وياء أو بألف وواو، وكذلك رسم الفتحة الطويلة في بعض المواضع بالواو أو بالياء.
وقد استطاع نقاط المصاحف أن يكملوا النقص المتعلق بالحركات القصيرة بواسطة العلامات الخارجية، أما ما نقص من رموز الحركات الطويلة وما زاد من الرموز الثلاثة:
الألف والواو والياء فلم يكن من اليسير إضافة الرموز المحذوفة ولا حذف الرموز الزائدة، كذلك لم يكن من اليسير تغيير ما رسمت فيه الفتحة الطويلة بالواو والياء إلى الألف، ولذلك استعمل نقاط المصاحف بعض الوسائل لدلالة القارئ على الرمز المحذوف ووقفه على الرمز الزائد، وجعلوا هذا الباب من متعلقات علم نقط المصاحف وضبطها، فيقول ابن وثيق (1): «ومما يتعلق بالضبط أيضا تصوير ما حذف من الحروف بالحمرة».
أما كيفية ضبط ما نقص هجاؤه فقد عقد الداني في المحكم فصولا عن كيفية نقط ما اجتمعت فيه ألفان فحذفت إحداهما اختصارا (2). ونقط ما اجتمعت فيه ياءان فحذفت إحداهما إيجازا (3). ونقط ما اجتمعت فيه واوان فحذفت إحداهما تخفيفا (4)، وفصلا آخر عن نقط ما نقص هجاؤه من الألفات المحذوفة والواوات والياءات (5)، فكل ألف حذفت من الخط وهي في اللفظ ثابتة تصور بالحمرة في موضعها لو كانت ثابتة نحو (الرحمن وسحر والعلمين والصلحت والسلسل ولبثين) وما أشبه ذلك. وكذلك فإن كل واو حذفت من الخط لأجل واو بعدها أو قبلها صورت بالحمرة نحو (داود وتلون) وما أشبه ذلك وتصور واو صلة الضمير بالحمرة أيضا، خاصة إذا وقعت بعدها همزة نحو (أولياءه
__________
(1) لوحة 37.
(2) المحكم، ص 153وما بعدها.
(3) نفس المصدر، ص 165وما بعدها.
(4) نفس المصدر، ص 165وما بعدها.
(5) نفس المصدر، ص 181وما بعدها.(1/505)
إن) و (أءنذرتهم أم). ومن ذلك أيضا إذا كانت الياء محذوفة من الخط تصور بالحمرة كما في مثل (الأميين والنّبيين) وكذلك إذا كانت الياء صلة للضمير فإنها تصور بالحمرة خاصة إذا وقع بعدها همزة، ولذلك فقد ذكر أبو داود سليمان بن نجاح أن على ناسخ المصحف أن يترك في موضع الألف والياء والواو التي لم ترسم في بعض الكلمات فسحة يثبت فيها الحرف المحذوف بالحمرة (1).
ومن هذا الباب أيضا كل ألف كتبت واوا فإنها تصور بالحمرة على الواو نحو (الصلاة والزكوة) وما كان مثله، ومنه كل ألف كتبت ياء فإنها تصور بالحمرة على الياء نحو (أتى والهدى وحتى ومسمى ويحيى) وما أشبهه. وكذلك تصور النون الثابتة المحذوفة في قراءة بعضهم في مثل (نجى) بالحمرة (2).
أما كيفية نقط ما زيدت فيه الألف أو الياء أو الواو (3) فإن نقاط سلف أهل المدينة وأهل الأندلس اصطلحوا على جعل دارة صغرى بالحمراء على الحروف الزوائد في الخط المعدومة في اللفظ (4). نحو الواو في (أولئك وأولات وأولي وسأوريكم) وشبهه، والياء في مثل (نبإى المرسلين وباييد) وما أشبه ذلك، والألف في مثل (لا أوضعوا ومائة وامرؤا ونبؤا) وما أشبهه من الزيادة (5).
وقد اختلف في موضع الهمزة في (أولئك) وما كان مثله، فمنهم من يجعلها على الألف ومنهم من يجعلها على الواو، ومن نقاط المصاحف من يجعل الهمزة على الألف أو فيها ويجعل الحركة على الواو (6)، وقد ذهب ابن أبي داود فيما نقله في المصاحف إلى أن الهمزة في الألف، لأن الواو ليس لها موضع لأن قياسها (علائك) (7)، وسبق بيان أصل هذه الواو وما شابهها من ياء أو ألف، ومن ثم فإن من حقق الهمزة ينقط الهمزة
__________
(1) انظر: التنزيل، لوحة 4.
(2) ابن وثيق: لوحة (3837).
(3) انظر الداني: المحكم، ص 174وما بعدها.
(4) الداني: المحكم، ص 193.
(5) انظر ابن وثيق: لوحة 26.
(6) العقيلي: لوحة 26.
(7) المصاحف، ص 146.(1/506)
وحركتها على الألف، والواو أو الياء هي الزائدة بهذا الاعتبار، وينقط من خفف على الواو أو الياء، والألف هي الزائدة في هذه الحالة.(1/507)
وحركتها على الألف، والواو أو الياء هي الزائدة بهذا الاعتبار، وينقط من خفف على الواو أو الياء، والألف هي الزائدة في هذه الحالة.
المبحث الرابع الرّسم المصحفي في عصر الطّباعة
لقد يسّرت الطباعة الحديثة نشر ما لا يحصى من النسخ الموحدة الشكل من القرآن الكريم، ورغم هذا الأثر غير المحدود لتسهيل نشر المصاحف الذي أحدثته الطباعة فإنها لم تكن ذات أثر ملحوظ في شكلها العام وطريقة كتابتها، لأن الرسم المصحفي كان قد اكتمل من كافة جوانبه المتعلقة بحصر اللفظ منذ وقت مبكر بعد أن وضع الخليل بن أحمد علامات الحركات وغيرها، وبعد أن استخدمها نساخ المصاحف بعده بفترة ليست طويلة على تردد من بعضهم استمر قرونا خاصة في بلاد المغرب الإسلامي على نحو ما بينا معالم ذلك الاستخدام في مبحث سابق من هذا الفصل، وقد تبلورت الاتجاهات المختلفة لنوع الخط وطريقة الضبط في المصاحف في مذهبين: الأول: ساد في المشرق ويمثل مصحف ابن البواب (كتبه سنة 391هـ) نموذجا ممتازا له، ويغلب على هذا الاتجاه استعمال العلامات التي وضعها الخليل واستعملها الكتاب وأهل اللغة، والثاني:
هو الاتجاه الذي يمتاز باستعمال الخط المغربي ويظهر ميلا أكثر للإبقاء على العلامات القديمة، وقد ساد هذا الاتجاه في بلاد المغرب الإسلامي، ولا تزال آثار هذين الاتجاهين بادية على ما يطبع من مصاحف إلى اليوم.
ولما كان اختراع آلات الطباعة واستعمالها (1431م) قد سبقت إليه البلاد الأوروبية كان ظهور المصحف المطبوع في تلك البلاد قبل غيرها على أيدي المستشرقين، ويكاد ينعقد الإجماع على أن أول مصحف أخرجته المطابع ورأى النور كان في سنة (1694م 1106هـ تقريبا) الذي وقف على طبعه هنكلمان) (في مدينة هامبورج) (بألمانيا (1).
__________
(1) انظر حفني ناصف: ص 112، ومحمد طاهر الكردي: تاريخ القرآن، ص 16و 186، ود. صبحي الصالح: ص 99، وتوجد من هذا المصحف نسخة في دار الكتب المصرية تحت رقم (176 مصاحف) ومنه نسخة في مكتبة جامعة القاهرة.(1/508)
وقد طبع ذلك المصحف بطريقة تنضيد الحروف وليس تصويرا لمصحف مخطوط (1)، وعانى هذا المصحف مما تعاني منه التجربة الأولى خاصة إذا كانت تتم على يد رجل يفتقد كثيرا من متطلبات هذا العمل ولذلك فقد وقعت فيه أخطاء فاحشة تكاد تقابل الناظر فيه كل صفحة منه، سواء من حيث الرسم أم من حيث الضبط، من مثل وضع كلمة مكان كلمة (2)، أو وصل ما لا ينبغي أن يوصل من الكلمات (3)، إلى أخطاء أخرى لا تدل إلا على معرفة سقيمة باللغة العربية وقواعدها (4).
وقد جرى ضبط هذا المصحف على طريقة الخليل وأهل المشرق فالفتحة ألف مبطوحة فوق الحرف، والضمة واو صغرى فوق الحرف أيضا، والكسرة مثل الفتحة تحت الحرف، والتنوين علامتان منها، والسكون دائرة مفرغة، والصلة رأس صاد، والشدة رأس شين، والهمزة رأس عين، والمدة بقية من كلمة (مد)، ويلاحظ أن كتابة هذا المصحف قد جرت على الإملاء الاصطلاحي، لذلك أثبتت الألفات المحذوفة في الغالب على نحو ما يجري في اللفظ.
وتوالت طباعة المصاحف منذ ذلك التاريخ، ودخلت البلاد الإسلامية (5)، فظهرت المصاحف المطبوعة في دار الخلافة العثمانية ومصر والهند وغيرها من بلاد المسلمين ومن سواهم، ومن تلك المصاحف المتقدمة مصحف طبع في (قزان) (6) سنة (1295هـ
__________
(1) يقع هذا المصحف في (560صفحة) في كل صفحة 16سطرا، مع مقدمة في 80صفحة لعلها باللاتينية وعلى رأس كل آية رقمها مع علامة تدل على انتهائها.
(2) مثل وضع (الذي) مكان التي في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النََّارَ الَّتِي وَقُودُهَا (24)} [البقرة] ووضع (الذين) مكان (المتقين) في قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنََّاتٍ وَعُيُونٍ (15)} * [الذاريات].
(3) مثل وصل (إن شاء) (2/ 65) ووصل (يوم هم) في قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النََّارِ يُفْتَنُونَ (12)}
[الذاريات].
(4) مثل ضم كلمتي (إبراهيم وربه) في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلى ََ إِبْرََاهِيمَ رَبُّهُ (124)} [البقرة] ورفع أحبّ (9/ 24) ورفع (نذير ونكير) (67/ 17و 18) وجزم (يأتيكم) (67/ 30).
(5) ذكر د. صبحي الصالح (ص 99) نقلا عن بلاشير أن أول طباعة إسلامية خالصة للقرآن ظهرت في سانت بترسبورغ بروسيا سنة 1787م قام بها مولاي عثمان، وانظر في المراحل التالية في تاريخ طباعة المصاحف نفس المصدر، ومحمد طاهر الكردي: تاريخ القرآن، ص 186وما بعدها.
(6) يقع هذا المصحف في 534صفحة و 9صفحات فهارس في آخره، أبعاده 20سم * 15سم تقريبا(1/509)
1877 - م) وهو مطبوع بالحروف مثل المصحف المطبوع في هامبورج، ورغم أنه لم يخل من الأخطاء إلا أن القائمين على طبعه قد حرصوا على الإشارة إلى مواضع الخطأ مقرونة بالصواب في خاتمته (1)، وهو مضبوط على طريقة أهل المشرق تماما إلا في حالة الضمة والتنوين معها، فعلامة الضمة القصيرة فيه واو صغيرة مطموسة الرأس، وعلامة الضمة الطويلة التي لم ترسم كالتي تأتي بعد ضمير الغائب وميم الجمع واو صغيرة أكبر من علامة الضمة القصيرة مفرغة الرأس، توضع فوق الحرف أيضا، أما علامة التنوين مع المضموم فهي ضمتان متتابعتان إذا كان بعد التنوين أحد حروف الحلق التي تظهر معها النون والتنوين وضمتان الثانية مردودة على الأولى إذا كان بعد التنوين غير حروف الحلق، وليس في المصحف أرقام للآيات لكن القائم على طبعه أثبت اختلاف العلماء في مواضع رءوس الآي بأن خالف بالأشكال التي يجعلها عند رءوس الآي على أساس اصطلاح قد بينه في آخر المصحف، وفيه علامات الوقف مثبتة فوق السطر.
ومما يلفت النظر في هذا المصحف أنه التزم فيه الرسم العثماني من مثل عدم إثبات رمز الألف في بعض الكلم وكتابة الألف واوا في بعض كلمات وزيادة بعض الحروف مثل الياء في (باييد)، وإثبات ألف زائدة بعد الواو المتطرفة وحذفها في مثل (جاءو) وما أشبه ذلك.
ولم تكن كل المصاحف المطبوعة تجري على طريقة تنضيد الحروف بل الغالب هو تصوير مصحف مخطوط بطريقة ما، كما يلاحظ على مصحف طبع في ليبسك على أصل مصحف مخطوط من قبل الخطاط التركي المشهور بحافظ عثمان (ت 1110هـ) (2)، كان قد كتبه سنة (1094هـ) كما هو مكتوب في آخر المصحف (3).
وقد اشتهر بمصر في أوائل القرن الهجري الحالي (أواخر القرن التاسع عشر الميلادي) مصحف كتبه رضوان بن محمد الشهير بالمخللاتي، صاحب كتاب (إرشاد
__________
توجد منه نسخة في مكتبة جامعة القاهرة برقم (21542).
(1) وردت في هذا الجدول (107) مواضع أغلبها يتعلق بعلامات الضبط.
(2) انظر محمد طاهر الكردي: تاريخ الخط العربي، ص 339.
(3) انظر نموذجا من المصحف في مكتبة جامعة القاهرة برقم (4405).(1/510)
القراء والكاتبين إلى معرفة رسم الكتاب المبين) وقد قدم لذلك المصحف بمقدمة عن تاريخ القرآن والرسم العثماني، وطبع سنة (1308هـ 1890م) (1)، وقد حرص كاتبه أن يلتزم فيه بخصائص الرسم العثماني (2)، إلا أن المصحف الذي فاق كافة المصاحف المطبوعة في الشهرة هو الذي أشرفت على طبعه لجنة من علماء الأزهر في مصر (3)، والذي كتبه بخطه الشيخ محمد علي خلف الحسيني سنة 1377هـ (4)، وظهرت طبعته الأولى سنة (1342هـ 1923م) (5). وقد ضبط هذا المصحف على ما يوافق رواية حفص عن عاصم «على حسب ما ورد في كتاب (الطراز على ضبط الخراز) للإمام التّنسي مع إبدال علامات الأندلسيين والمغاربة بعلامات الخليل بن أحمد وأتباعه من المشارقة» (6).
وقد بين العلماء الذين أشرفوا على رسم ذلك المصحف وضبطه وطباعته في التعريف به الذي ألحقوه في آخره طريقة الضبط التي جروا عليها فيه ودلالة العلامات التي استعملوها فيه، ومما يلاحظ أن علامة السكون في هذا المصحف رأس خاء غير معجمة هي التي ذكرنا من قبل أنها مأخوذة من أول (خفيف) وهو مذهب الخليل وسيبويه وأصحابهما، وهو ما استعمله ابن البواب في المصحف الذي كتبه سنة 391هـ.
أما طباعة المصاحف المكتوبة على طريقة أهل المغرب فلم أقف على تاريخ لبداية ذلك، وربما لم تتأخر كثيرا عن بداية طبع المصاحف في المشرق، ولا شك في أن
__________
(1) طبع في القاهرة بالمطبعة البهية. انظر: الشيخ عبد الفتاح القاضي: تاريخ المصحف الشريف، مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني، القاهرة، 1965، ص (9291).
(2) توجد منه عدة نسخ في مكتبة الجامع الأزهر.
(3) تتكون من الشيخ محمد علي خلف الحسيني الشهير بالحداد، والأساتذة حفني ناصف ومصطفى عناني وأحمد الإسكندري، رحمهم الله (انظر صفحة س من التعريف بالمصحف، ط 4، سنة 1388هـ 1968م والتي صوّرتها مطابع الأهرام التجارية بالقاهرة، سنة 1390هـ 1970م)، وانظر أيضا محمد طاهر الكردي: تاريخ الخط العربي، ص (442441)، ود. صبحي الصالح:
ص 99، والشيخ عبد الفتاح القاضي: تاريخ المصحف، ص 92.
(4) انظر التعريف بالمصحف في خاتمه صفحة (ض).
(5) انظر محمد طاهر الكردي: تاريخ الخط العربي، 441، ود. صبحي الصالح: ص 99.
(6) التعريف بالمصحف صفحة (د هـ).(1/511)
طباعة المصاحف بالخط المغربي لم تغير شيئا كثيرا من طريقة رسم الكلمات أو ضبطها في تلك المصاحف إلا ما قد تحتمه ضرورة الاكتفاء بلون واحد في ضبطها لعدم سهولة إظهار ألوان الضبط المختلفة من حمرة أو صفرة.
وضبط المصاحف على طريقة أهل المغرب والأندلس كما بيّنها الخراز في النظم الذي ذيل به (مورد الظمآن) يجري في الحركات الثلاث وفقا لعلامات الخليل، كذا التنوين (1)، أما الفتحة الممالة فيشار إليها بنقطة تحت الحرف (2)، والسكون دائرة، والتشديد رأس شين، وعلامة المد مطة هي بقية كلمة (مد) بعد حذف رأس الميم ورأس الدال (3)، وعلامة الهمزة المحققة نقطة بالصفراء والمسهلة نقطة بالحمراء (4)، وعلامة الصلة على نية الوصل جرة حمراء فوق الألف إن كان ما قبلها مفتوحا وتحته إن كان مكسورا، وفي وسطه إن كان مضموما (5)، أما على نية الابتداء فعلامة الصلة هي نقطة بالخضراء فوق الألف إذا ابتدئ بهمزة مفتوحة وأسفل منه إذا كان الابتداء بهمزة مكسورة وأمامه إذا كان الابتداء بهمزة مضمومة (6)، وحكم الهمزة التي تنقل حركتها وتسقط عند ورش حكم همزة الوصل (7)، ويلحق ما نقص من الهجاء من ألف أو ياء أو واو، صغرى بالحمراء في الموضع المناسب، على نحو ما ذكرنا ذلك من قبل، وعلامة الحرف المزيد دائرة بالحمراء تجعل فوقه (8).
وإذا تأملنا نموذجا للمصاحف المطبوعة بالخط المغربي فلن نجد اختلافا كبيرا بالنسبة لعلامات الضبط التي ذكرها الخراز، ففي مصحف طبع في مصر تحت إشراف لجنة تصحيح المصاحف ومراجعتها في الأزهر (9)، يبدو أنه ضبط على رواية ورش عن نافع،
__________
(1) انظر المارغني: ص 324و 325.
(2) نفس المصدر، ص 342.
(3) نفس المصدر، ص 350.
(4) نفس المصدر، ص 361.
(5) نفس المصدر، ص 386.
(6) نفس المصدر، ص 390.
(7) نفس المصدر، ص 391.
(8) نفس المصدر، ص 428.
(9) طبع سنة (1380هـ 1960م) في مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني بالقاهرة، وأعيد تصويره سنة(1/512)
وفي جزء من مصحف طبع بتونس (1)، نجد أن الحركات الثلاث هي العلامات التي وضعها الخليل إلا أن الضمة تكاد تكون رأسها مزالة، فهي تشبه قوسا أو هلالا صغيرا، والتنوين علامتان تتشكلان وفقا للحرف الذي يأتي بعد التنوين، لكن علامة التنوين مع المضموم إذا جاء بعد التنوين حرف من غير حروف الإظهار يكون على شكل قوسين صغير وكبير، وعلامة السكون دارة مفرغة الوسط، والشدة رأس شين، وعلامة المد تكاد تكون كلمة (مد) كاملة، أما علامة الهمزة فقد جعلت رأس عين مثل ما هي عليه عند أهل المشرق، ويبدو أن عدم إمكان تحقيق نقطها بالصفرة في الطبع هو الذي دفع إلى العدول عن النقطة الصفراء إلى رأس العين، أما همزة الوصل فهي كما وصف الخراز إلا أن الجرة الحمراء والنقطة الخضراء جعلتا بنفس لون الكتابة وهو السواد، لأنها لا تلتبس بغيرها، بعد أن جعلت الهمزة المحققة رأس عين، وعلامة إمالة الفتحة قصيرة أم طويلة هي نقطة بالسواد تحت الحرف الذي تليه الفتحة، أما الحرف الزائد فعليه دارة بالسواد تشبه دارة السكون، وعلينا أن نتذكر أن نقط الفاء والقاف يجري في هذه المصاحف المطبوعة على نحو ما أشرنا إليه من قبل من نقط الفاء بواحدة من أسفل والقاف بواحدة من أعلى.
وقبل أن ننتهي من هذا الفصل نشير إلى ظاهرة تتعلق بمدى التزام نساخ المصاحف بصور هجاء الكلمات كما رويت عن المصاحف العثمانية، وقد لاحظنا أن المصاحف القديمة التي تعود إلى القرون الهجرية الأولى من مثل مصحف طشقند ومصحف جامع عمرو بن العاص لم تلتزم بما يروى في مصادر الرسم فحسب وإنما هي تضيف ظواهر هجائية جديدة، لكن استعمال ما اصطلح عليه علماء العربية من الإملاء في رسم المصاحف قد بدأ يظهر منذ وقت مبكر حتى أن الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ) سئل عن رأيه في كتابة المصاحف على ما أحدث الناس من الهجاء، كما مرت الإشارة إلى ذلك.
على أن بعضا من الخطاطين ونسّاخ المصاحف لم يكونوا على دراية كافية بصور
__________
. 1973من قبل الناشر نفسه مع رسالة (القول الأصدق في بيان ما خالف فيه الأصبهاني الأزرق) لعلي محمد الضباع.
(1) هو جزء (عم) طبع في الدار التونسية للنشر في تونس (د. ت).(1/513)
هجاء الكلمات كما جاءت في المصاحف العثمانية، لذلك نجدهم يستعملون ما تعارف عليه الناس من الهجاء في زمانهم خاصة فيما يتعلق بإثبات الألف في الكلمات التي حذفت منها، ونجد هذه الظاهرة جلية في المصحف الذي كتبه ابن البواب (ت 413هـ) في سنة (391هـ)، كما يظهر ذلك من الصفحات التي اطلعت عليها منه، فأكثر الكلمات التي جاءت محذوفة الألف أثبتت فيها سواء كانت جمعا سالما أم ألف ياء النداء أم غير ذلك، ونجد بعض الفتحات الطويلة المرسومة ياء قد رسمت بالألف، خاصة المتوسطة مثل كلمة (مأواهم)، كذلك نجد (الصلاة) مكتوبة بالألف. ونلاحظ مثل هذه الظاهرة في عامة المصاحف التي ترجع إلى فترة لاحقة لعصر ابن البواب، من ذلك مثلا ما نجده في مصحف كتبه في سنة (690هـ) (1)، الخطاط البغدادي المشهور ياقوت المستعصمي (ت 698هـ)، حيث تظهر كافة الألفات المحذوفة ثابتة كذلك نجد كلمة الليل مثلا قد كتبت بلامين.
وقد أشار أبو يحيى الشيرازي (ت 780هـ) في أول كتابه في الرسم العثماني إلى تلك الظاهرة بقوله (2): «حتى تتبعت رسم خط الإمام وهو مصحف عثمان، ورأيت كتابته مخالفة لما يكتب في هذا الزمان، وعلمت أن الكتابة منقولة كما أن القراءة منقولة
فإذا كان كذلك أردت أن أحيي رسمه وخطه وأجمع مختصرا مما ليس فيه خلاف بين المصاحف».
ولا شك في أن كثيرا من الكلمات حافظت على هجائها القديم في المصاحف، كما أن التأليف في موضوع الرسم لم ينقطع مما يجعل المادة قريبة من أيدي النساخ ليهتدوا بها في ما يكتبون، وجاء العصر الحديث عصر طباعة المصاحف وقد رأينا أول مصحف طبع كان بالإملاء الاصطلاحي، لكن المصاحف المطبوعة التي تلتزم الرسم العثماني كانت في ازدياد كما رأينا في مصحف (قزان) ومصحف (المخللاتي) وكان المصحف الذي أشرفت على كتابته وضبطه لجنة من علماء الأزهر وطبع لأول مرة سنة (1342هـ) قد بلغ الغاية في هذا المجال.
__________
(1) محفوظ في تركيا (أمانة رقم 79) ومنه نسخة (ميكروفلم) في معهد المخطوطات العربية تحت رقم (3) كتب سماوية.
(2) كشف الأسرار، لوحة (1).(1/514)
وأصدرت لجنة الفتوى في الأزهر سنة 1355هـ فتوى بعدم جواز طبع المصحف الكريم بقواعد الإملاء الاصطلاحي الذي يستعمله الناس اليوم، ورأت لزوم الوقوف عند المأثور من كتابة المصحف وهجائه (1)، لكنها ترى أيضا جواز التنبيه في ذيل كل صفحة على ما يكون فيها من الكلمات المخالفة للرسم المعروف (2). وقد جرى على هذه الطريقة الشيخ عبد الجليل عيسى في التفسير الذي جعله على هامش المصحف الذي أشرفت على كتابته وضبطه وطبعه لجنة من علماء الأزهر والذي أشرنا إليه قبل قليل فقد أعطى لكل كلمة في نص المصحف جاءت على غير المشهور من قواعد الهجاء المعروفة اليوم رقما متسلسلا في كل صفحة وبيّن رسمها المعروف بين الناس في أسفل الصفحة، وتحققت بذلك المحافظة على الرسم العثماني والتيسير في القراءة إذا تصورنا أن أحدا يعجز عن القراءة في المصحف المكتوب بالرسم العثماني المضبوط بالعلامات التي بيّنت في المباحث السابقة.
__________
(1) انظر: مجلة الأزهر، المجلد السابع، الجزء العاشر، شوال 1355 (باب الأسئلة والفتاوى)، ص 729وما بعدها.
(2) انظر: مجلة الأزهر، المجلد العشرون، صفر، 1368، ص 192.(1/515)
الفصل السّادس علاقة الأداء بالرّسم
إن الحديث عن العلاقة بين الكلام المنطوق وبين الرموز المكتوبة التي تمثله يعني بادئ ذي بدء أن هناك قصورا ما في جانب الكتابة، إذ من الخطأ أن نظن أن النص المكتوب يعتبر تمثيلا دقيقا للكلام، فلسنا، على عكس ما يتصور كثير من الناس، نكتب كما نتكلم، بل إننا نكتب كما يكتب غيرنا (1)، ومن ثم فإن من غير اليسير أن نقول بأن تلك الكلمة المكتوبة تنطق على هذا النحو، وأن تلك الكلمة المنطوقة تكتب على ذاك (2)، وقد بيّنا مظاهر القصور التي تبدو في الأبجديات عامة في هذا المجال، والأسباب التي أدت إلى هذه الظاهرة التي برزت في فترة متأخرة عن تاريخ استعمال الكتابة في تمثيل لغة معينة لأول مرة، وأشرنا إلى أن الكتابة العربية أحسن حالا من كثير من الكتابات في ذلك في المبحث الثالث من الفصل التمهيدي من هذا الكتاب ونحاول في هذا الفصل دراسة علاقة القراءة بالرسم العثماني، ومدى قدرة الرسم في الدلالة على وجوه التلاوة المختلفة.
إن القضية هنا ذات شقين: الأول: هو ما تتصف به الكتابة عامة من قصور من مثل ما لاحظناه في الرسم العثماني من عدم إثبات رموز بعض الحركات الطويلة وبعض الصوامت أو وجود رموز مكتوبة دون مقابل نطقي لها، وفي ما يبدو من تمثيل بعض الأصوات برموز غير رموزها من مثل رسم الفتحة الطويلة واوا أو ياء، ورسم الهمزة بأحد رموز أصوات المد واللين الثلاثة وما إلى ذلك، وهذا الجانب بحد ذاته واضح يكفي فيه أن نحقق الرواية في كيفية اللفظ ثم نسلم بالفرق الموجود بين اللفظ والرسم،
__________
(1) فندريس: ص (405404).
(2) نفس المصدر، ص 414.(1/516)
على نحو ما يقول أبو الحسين بن المنادي (1): «إن من المكتوب ما لا تجوز به القراءة من وجه الإعراب، وإن حكمه أن يترك على ما خط، ويطلق للقارئين أن يقرءوا بغير الذي يرونه مرسوما».
أما الشق الثاني: فهو أن تعدد وجوه القراءة الذي تشير إليه رخصة الأحرف السبعة قد جعل الرسم الواحد تتوارد عليه أكثر من قراءة، لما امتاز به الرسم العثماني من خصائص، إذ إن المصاحف حين كتبت في المدينة كتبت لتمثل القراءة العامة المشهورة فيها، لكن ظروفا معينة قد جعلت الرسم العثماني الذي كتب أساسا لتمثيل قراءة واحدة يحتمل أكثر من قراءة، ويتخذ مقياسا للقراءات المروية جميعا، وصار كل ما خرج عن الرسم شاذا لا تجوز القراءة به.
ولا بد أن نعرض بإيجاز اتجاهات القراءات خاصة في القرن الأول والثاني بعد الهجرة قبل أن نحاول تحديد العلاقة بين القراءات الصحيحة وغيرها وبين الرسم، ثم نبين شروط القراءة الصحيحة وكيف صارت موافقة الرسم العثماني شرطا من تلك الشروط، ثم نعرض لوجوه المخالفة الجائزة للرسم وما يتعلق بذلك من اختلاف المصاحف العثمانية في رسم بضع كلمات، وأجدني مضطرا لأن أختم هذا الفصل بتوضيح شبهة نجمت في عقول بعض من غاب عنهم جانب من تاريخ القراءات فأخطئوا في فهم العلاقة بين القراءات والرسم.
__________
(1) الداني: المحكم، ص 185.(1/517)
المبحث الأول تاريخ القراءات في القرون الثلاثة الأولى
إن المعرفة الصحيحة لتاريخ القراءات وبيان علامتها بالرسم تقتضي الرجوع إلى العصر الأول للدعوة الإسلامية حين تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر السماء لأول مرة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسََانَ مََا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق]، ثم تتبّع الكيفية التي تلا بها رسول الله القرآن على أسماع الناس امتثالا لأمر الله {يََا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمََا بَلَّغْتَ رِسََالَتَهُ (67)} [المائدة]، ثم كيف كان الصحابة يقرءونه ويقرءونه للأجيال المتتالية منذ عصر الخلافة الراشدة وما تلاها حتى ظهرت اختيارات القراء التي اقترنت شهرتها بأسماء معينة مثل قراءات السبعة أو غيرهم.
إلا أن الأمر ليس من السهولة بحيث يمكن الإحاطة بكل جوانب ذلك التاريخ، بسبب قصور الهمم في محاولات البحث عن تاريخ هذا الموضوع، خاصة أن مصادر القراءات الأولى لم يزل أكثرها مخطوطا، وأقدم ما طبع منها لا يرجع إلى أبعد من أواخر المائة الثالثة، وهو كتاب (السبعة) القيم لابن مجاهد (ت 324هـ) وقد لا يكون هناك أقدم منه قد بقي من المؤلفات الأساسية الأولى في القراءات من مثل كتاب أبي عبيد وأبي حاتم وابن جرير الطبري وغيرها من المؤلفات التي يرجع أقدمها إلى أواخر القرن الهجري الأول.
وليس الهدف هنا تفصيل ذلك التاريخ أو استقصاء كل ما تقدمه المصادر المتاحة في هذا المجال، إذ إن ذلك يحتاج إلى مكان أوسع مما تسمح به طبيعة هذا البحث، وإنما أكتفي بما يحقق القصد الذي أشرت إليه وهو معرفة العلاقة بين القراءات وبين الرسم العثماني، وما سأذكره إنما هو نتيجة للمعلومات التي توصلت إليها ولا أدري ما ستكون عليه صورة ذلك العرض إذا ما توفرت روايات وأخبار جديدة تؤيد أو تصحح ما سأذكره، ولست بوقّاف عند رأي يظهر خطؤه ولا معرض عن رأي جديد تظهر صحته إن شاء الله.(1/518)
وليس الهدف هنا تفصيل ذلك التاريخ أو استقصاء كل ما تقدمه المصادر المتاحة في هذا المجال، إذ إن ذلك يحتاج إلى مكان أوسع مما تسمح به طبيعة هذا البحث، وإنما أكتفي بما يحقق القصد الذي أشرت إليه وهو معرفة العلاقة بين القراءات وبين الرسم العثماني، وما سأذكره إنما هو نتيجة للمعلومات التي توصلت إليها ولا أدري ما ستكون عليه صورة ذلك العرض إذا ما توفرت روايات وأخبار جديدة تؤيد أو تصحح ما سأذكره، ولست بوقّاف عند رأي يظهر خطؤه ولا معرض عن رأي جديد تظهر صحته إن شاء الله.
أوّلا: قراءة القرآن في حياة النبي وفترة الخلافة الراشدة:
إن بداية ذلك التاريخ مرتبط ببداية نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلاوته القرآن على الناس بمكة، فكانت تلاوة القرآن أولى وسائل الدعوة التي كان يلقى بها النبي صلى الله عليه وسلم الناس في المواسم، فكان يدعوهم ويقرأ عليهم القرآن (1)، وكان الداخلون في الإسلام يقرءون القرآن أو يتلى عليهم لمعرفة أركان الإسلام ومتطلبات الإيمان من جانب، ويتلونه للتعبد من جانب آخر (2)، وكان رسول الله يحثهم على ذلك بمثل قوله: «تعاهدوا هذا القرآن فو الذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلّتا من الإبل في عقلها» (3)، أو مثل قوله الذي ورد في حديث عثمان «أفضلكم (وفي لفظ خيركم) من تعلم القرآن وعلمه» (4).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجه الصحابة الذين أتقنوا القرآن عنه أن يقرءوا الداخلين في الإسلام، إذ لم يكن يجد الفرصة دائما ليتلو هو على كل المسلمين خاصة بعد أن كثروا، فقد أرسل مصعب بن عمير إلى المدينة بعد بيعة العقبة قبل الهجرة: «وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمّى المقرئ بالمدينة، مصعب» (5)، وإذا دخل رجل في الإسلام دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة، وقال لهم:
«فقّهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه وعلّموه القرآن» (6)، ولعل مما يصور جانبا من ذلك الحرص على أن يتعلم كل مسلم القرآن حديث الصحابي عبادة بن الصامت، قال (7):
__________
(1) انظر مثلا: ابن هشام، ق 1، ص 433.
(2) روى الحاكم (المستدرك، ج 1، ص 555) حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول الم حرف ولكن ألف لام ميم) وقال عنه: صحيح الإسناد.
(3) مسلم: ج 1، ص 545.
(4) البنا الساعاتي: ج 18، ص 5، وتخريجه ثمة، وانظر أيضا أبو حيان: البحر المحيط، ج 1، ص 12.
(5) ابن هشام: ق 1، ص 434، وانظر علم الدين السخاوي: الوسيلة، ورقة 6أ.
(6) الطبري: التاريخ، ج 2، ص 274. وقد قال علم الدين السخاوي (الوسيلة، ورقة 6أ) «كان صلى الله عليه وسلم إذا أسلم الرجل أمره بقراءة القرآن قبل كل شيء».
(7) البنا الساعاتي: ج 18، ص 9، وذكر تخريجه: «أبو داود في سننه وابن ماجة، والحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه (البخاري ومسلم) وأقره الذهبي».(1/519)
«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشغل، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه إلى رجل منا، يعلمه القرآن، فدفع إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا، وكان معي في البيت، أعشّيه عشاء أهل البيت، فكنت أقرئه القرآن فانصرف انصرافه إلى أهله، فرأى أن عليه حقا، فأهدى إليّ قوسا لم أر أجود منه عودا ولا أحسن منه عطفا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما ترى يا رسول الله فيها؟ قال جمرة بين كتفيك تقلّدتها أو تعلقتها» (1).
وتضع هذه الروايات اللبنات الأولى في مجال قراءة القرآن، وتصدّق قول علم الدين السخاوي «ولم يزل المسلمون يدينون بتلاوة القرآن، ويرون ذلك من أفضل الأعمال في أول الإسلام وهلم جرا» (2).
وكان قارئ القرآن يقدّم في كثير من مجالات الحياة، فقد روي عن ابن عمر أن سالما مولى أبي حذيفة، كان يؤم المهاجرين بقباء فيهم عمر بن الخطاب وأبو سلمة قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان أقرأهم وأكثرهم قرآنا (3)، وحين دفن المسلمون شهداء أحد كان في القبر الواحد الاثنين والثلاثة، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «قدّموا أكثرهم قرآنا» (4)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد امتدح بعض الصحابة لحسن قراءتهم مثل أبي موسى الأشعري (5)، وأبي بن كعب (6)، وابن مسعود (7)، وكان عدد من الصحابة قد
__________
(1) كان من أخلاق القراء ألا يأخذوا على تعليم القرآن شيئا، فيذكر ابن سعد (مج 6، ص 173، وانظر الذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 47) أن أبا عبد الرحمن السلمي (ت 73وقيل 74هـ) «جاء وفي الدار جلال وجزر، قالوا: بعث بهذا عمرو بن حريث، أنك علّمت ابنه القرآن، قال:
ردّها، إنا لا نأخذ على كتاب الله أجرا»، ويروى عن حمزة الزيات أنه ختم عليه القرآن رجل من مشاهير حلوان فبعث إليه بألف درهم فقال لابنه: «قد كنت أظن لك عقلا، أنا آخذ على القرآن أجرا؟ أرجو على هذا الفردوس». (انظر الذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 94).
(2) الوسيلة، ورقة 6أ.
(3) ابن سعد: مج 3، ص 85، وانظر الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 1، ص (122121).
(4) أبو عبيد: فضائل القرآن، لوحة 7، وانظر في تقديم القارئ أيضا: ابن سعد: مج 7، ص 235.
(5) انظر ابن سعد: مج 4، ص 107و 109.
(6) نفس المصدر، مج 3، ص 499.
(7) البخاري: ج 6، ص 229.(1/520)
حفظوا القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت أسماء بعضهم في فصل سابق (1).
وكانت طريقة قراءة القرآن في هذه الفترة تشير إلى حرص كبير على الإتقان وتحري الدقة والضبط، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث (2)، ولعل هذا بعد اكتمال نزول القرآن. وكان أبي بن كعب يختم القرآن في ثماني ليال، وكان تميم الداري يختمه في سبع (3)، وسئلت أم سلمة رضي الله عنها عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوصفت حرفا حرفا، وسئل أنس بن مالك عنها فقال: كان يمدّ صوته مدّا (4).
وتشير طريقة تلقي الصحابة للقرآن من النبي صلى الله عليه وسلم إلى تلك المعاني من الحرص على الإتقان وتحري الدقة والضبط، فقد روى عن أبي عبد الرحمن السلمي حديثا مشهورا يبين فيه تلك الطريقة، قال ابن مجاهد (5): «وحدثونا عن يحيى بن أبي كثير، عن عطاء بن السائب قال: أخبرني أبو عبد الرحمن، قال: حدثني الذين كانوا يقرءوننا:
عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل فتعلموا القرآن والعمل جميعا»، والعشر المذكورة في هذه الرواية يقصد بها عشر آيات كما توضح ذلك روايات المصادر الأخرى لهذا الخبر (6).
وقد مر في فصل سابق أن قراءة القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تتم في ظلال رخصة الأحرف السبعة، حتى أن بعض الصحابة أنكر قراءات سمعها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم صوّب
__________
(1) انظر: الفصل الثاني، المبحث الثاني، ص 100، وانظر إلى جانب المصادر المذكورة هناك: أبو عبيد: فضائل القرآن، لوحة 53، والبنا الساعاتي: ج 18، ص 22، وابن النديم: ص 27، والذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 39، وسير أعلام النبلاء (له)، ج 1، ص 242، وج 2، ص 245، وطاش كبرى زاده، ج 1، ص 348، ومحمد بخيت المطيعي: ص (43).
(2) ابن سعد: مج 1، ص 376.
(3) نفس المصدر، مج 3، ص 500.
(4) نفس المصدر، مج 1، ص 376.
(5) كتاب السبعة، ص 69.
(6) انظر تلك الروايات: ابن سعد: مج 6، ص 172، والبنا الساعاتي: ج 18، ص 9، والحاكم: ج 1، ص 557، والذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 46و 48، وسير أعلام النبلاء (له)، ج 1، ص 350.(1/521)
الجميع بقوله: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسّر منه أو منها».
وقصة عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم وغيرهما مشهورة.
وفي عهد الخلافة الراشدة ازدادت الحاجة إلى تعليم القرآن لكثرة من دخل في الإسلام من العرب وغيرهم من الأمم، وقد تم في هذه الفترة جمع القرآن في خلافة الصدّيق بين اللوحين، ثم توحيد المصاحف في خلافة عثمان، ويبدو أن تعليم القرآن لم يكن متروكا للجهود الفردية، بل كان منظما وخاضعا لرقابة الولاة في الأمصار الإسلامية فقد كتب يزيد بن أبي سفيان أحد قادة الجيوش الإسلامية التي فتحت الشام وأحد ولاتها إلى عمر بن الخطاب أيام خلافته: إن أهل الشام قد كثروا وملئوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين، فأعنّي يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم، فوجّه إليه معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت، وأبا الدرداء، وقال لهم: ابدءوا بحمص فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، منهم من يلقن فإذا رأيتم ذلك فوجّهوا إليه طائفة من الناس فإذا رضيتم منهم فليقم بها واحد، وليخرج واحد إلى دمشق والآخر إلى فلسطين، وقدموا حمص فكانوا بها حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق ومعاذ إلى فلسطين، أما معاذ فمات عام طاعون عمواس، وأما عبادة فصار بعد إلى فلسطين فمات بها، وأما أبو الدرداء فلم يزل بدمشق حتى مات. رضي الله عنهم (1).
وعلى هذا النحو الذي تصوره الرواية بدأت تنشأ مدارس القراءة في الأمصار الإسلامية حين راح الصحابة يعلمون الناس في الأمصار التي نزلوا فيها ويقرءونهم القرآن على النحو الذي حفظوه، وهو حفظ لا يخلو من وجوه رخصة الأحرف السبعة، وقد أدى ذلك بمضي الزمن إلى تفاقم الخلاف والتراجع في القرآن، مما دفع الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى توحيد المصاحف وبثّها في الأمصار الإسلامية قطعا للخلاف على نص القرآن.
__________
(1) ابن سعد: مج 2، ص 356، والذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 2، ص 248، نقلا الرواية عن محمد بن كعب القرظي (ت 108وقيل بعد ذلك).(1/522)
ويبدو أنه كما كان الهدف توحيد المصاحف كان أيضا توحيد القراءة في الأمصار، وقد أورد الجعبري عن أبي علي أنه قال: أمر عثمان بن ثابت (ت 45هـ على الأكثر) أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب (ت في حدود 70هـ) مع المكي، والمغيرة بن شهاب مع الشامي (ت 91هـ). وأبا عبد الرحمن السلمي (ت 73وقيل 74هـ) مع الكوفي. وعامر بن عبد قيس مع البصري (1)، لكن ذلك لم يحل على ما يبدو دون استمرار رواية القراءات المتعددة، خاصة أن ابن أبي داود يذكر أن عثمان رضي الله عنه قد قال للذين أنكروا عليه تحريق المصاحف المخالفة وأمرهم بالقراءة بما كتب: اقرءوا كيف شئتم، إنما فعلت ذلك لئلا تختلفوا (2)، لكن هجاء الكلمات في المصاحف ظلت كما رسمت في المصاحف العثمانية، وقرأ الناس بما رووه وتعلموه من الصحابة الذين نزلوا بين أظهرهم، ولا شك أن بعضا من تلك الروايات كان خارجا عن رسم المصحف، ولكن تلك الروايات قلّ نقلها واعتمد الناس تدريجيا نقل الروايات التي لا تخرج عن الرسم.
وفي فترة الخلافة الراشدة برزت مدارس القراءة وترسخت آداب تعلم القرآن وقراءته فقد كان أبو الدرداء (ت 32هـ) قاضي دمشق وسيد القراء فيها (3)، يجعل الناس حين يجتمعون عليه بعد صلاة الغداة للقراءة عشرة عشرة، وعلى كل عشرة عريفا أو ملقنا،
__________
(1) خميلة أرباب المراصد، ورقة 67ب، ولا أدري من هو أبو علي المذكور، وأورد هذا الخبر المارغني (ص 17) ربما نقله عن ابن عاشر الأنصاري، لكنه ذكر عامر بن قيس بدل عبد قيس، وذكر ابن الجزري (غاية النهاية، ج 2، ص 305) أن الصواب في اسم المغيرة هو (المغيرة بن أبي شهاب) وذكر أن أبا عبيد سمّاه (المغيرة بن شهاب) وقال إنه وهم في ذلك (انظر علم الدين السخاوي: جمال القراء، ورقة 149ب) لكن الذهبي ذكره باسم (ابن شهاب) أيضا (معرفة القراء، ج 1، ص 43) أما عامر بن عبد قيس فقد قال عنه أبو عبيد في كتابه القراءات (انظر علم الدين السخاوي: جمال القراء، ورقة 149ب) وهو يتحدث عن التابعين من القراء: (ومن أهل البصرة عامر بن عبد الله وهو الذي يعرف بابن عبد قيس، كان يقرئ الناس). لكن الذي ورد في غاية النهاية لابن الجزري من وصفه بالمصري (ج 1، ص 350) يبدو أنه من تحريف فات محقق الكتاب.
(2) المصاحف، ص 36، وانظر علم الدين السخاوي: جمال القراء، ورقة 84أ.
(3) الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 2، ص 241.(1/523)
حتى بلغ عدد الذين يقرءون القرآن عنده أزيد من ألف رجل (1)، وهو قد يقف في المحراب يرمقهم ببصره وقد يطوف عليهم قائما، فإذا أحكم الرجل منهم تحول إلى أبي الدرداء يعرض عليه، وكان ابن عامر عريفا على عشرة، فلما مات أبو الدرداء خلفه ابن عامر (2)، وكان أبو الدرداء هو الذي سن الحلق للقراءة (3)، وكان أبو موسى الأشعري يعلّم الناس القرآن في مسجد البصرة، يجلسون إليه حلقا حلقا (4)، وكان يعلم القرآن خمس آيات (5)، كذلك كان أبو عبد الرحمن السلمي يقرئ عشرين آية بالغداة وعشرين آية بالعشي، ويخبرهم بموضع العشر والخمس، ويقرئ خمس آيات خمس آيات (6)، وكان يحيى بن وثاب (ت 103هـ بالكوفة) قد تعلم القرآن من عبيد بن نضيلة (ت 75هـ) آية آية (7)، وكان أبو جعفر المدني وشيبة بن نصاح يقرءان على كل رجل عشر آيات عشر آيات (8).
ويبدو أن القراءة العامة التي كتب عليها المصحف العثماني لم تزل متميزة عن غيرها طوال القرن الأول، وكانت القراءات الأخرى لا تزال متميزة، وقد كانت الكوفة من أكثر الأمصار الإسلامية التي شهدت تنافسا شديدا بين القراءات، فقد كانت قراءة الكوفيين هي قراءة عبد الله بن مسعود الذي أرسله عمر إلى الكوفة ليعلمهم، فأخذت عنه قراءته ونقلها عنه أصحابه (9)، قال ابن مجاهد: ولم تزل قراءة عبد الله بالكوفة لا يعرف الناس
__________
(1) كان كافة المسلمين يحرصون على تعلم القرآن وقراءته يدل على ذلك ما ذكره ابن الجزري (منجد المقرئين، ص 8) أن حمزة كان يقدم الفقهاء من طلبة العلم وأن أبا عبد الرحمن السلمي وعاصما كانا يبدآن بأهل السوق لئلا يحتبسوا عن معايشهم.
(2) الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 2، ص 455454، ومعرفة القراء (له) ج 1، ص 38.
(3) الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 2، ص 249.
(4) الحاكم، ص 2، ص 220.
(5) ابن الجزري: غاية النهاية، ج 1، ص 604.
(6) ابن سعد: مج 6، ص 172، والذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 46.
(7) ابن سعد: مج 6، ص 299، وانظر الذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 51، وابن الجزري: غاية النهاية، ج 2، ص 380.
(8) انظر ابن الجزري: غاية النهاية، ج 1، ص 616.
(9) انظر علم الدين السخاوي: جمال القراء، ورقة 153ب.(1/524)
غيرها، وأول من قرأ بالكوفة القراءة التي جمع عثمان رضي الله عنه الناس عليها أبو عبد الرحمن السلمي واسمه عبد الله بن حبيب، فجلس في المسجد الأعظم ونصب نفسه لتعليم الناس القرآن، ولم يزل يقرئ بها أربعين سنة (1)، وذكر صاحب كتاب المباني في مقدمته أن السلمي أقام على زيد بن ثابت ثلاث عشرة سنة يقرأ عليه القرآن (2)، وكان قد أخذ القراءة إضافة إلى زيد عن عثمان وابن مسعود وأبي، وقرأ على عليّ وقرأ عليه وهو يمسك المصحف (3).
ولم تختف قراءة ابن مسعود من الكوفة بسهولة رغم إقامة أبي عبد الرحمن السلمي الطويلة فيها فقد كان له تلامذة حملوا عنه قراءته (4)، وقد روى ابن مجاهد بسند إلى الأعمش أنه قال «أدركت الكوفة وما قراءة زيد فيهم إلا كقراءة عبد الله فيكم اليوم، ما يقرؤها إلا الرجل والرجلان» (5)، وينقل الذهبي أن سعيد بن جبير (ت 94وقيل 95هـ) كان يؤم الناس في شهر رمضان فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود وليلة بقراءة زيد بن ثابت (6).
وهناك ما يشير إلى أن قراءة ابن مسعود مما وافق خط المصحف رواها القراء ضمن قراءاتهم، فقد قال عاصم بن أبي النجود (ت 129هـ) (7): ما أقرأني أحد حرفا إلا أبو عبد الرحمن السلمي وكان قد قرأ على عليّ رضي الله عنه وكنت أرجع من عند أبي عبد الرحمن فأعرض على زر بن حبيش، وكان زر قد قرأ على عبد الله بن مسعود. ويذكر ابن قتيبة أن بين روايتي أبي بكر بن عياش وأبي عمر حفص بن سليمان
__________
(1) كتاب السبعة، ص 68، وانظر علم الدين السخاوي: المصدر السابق، وابن الجزري: غاية النهاية، ج 1، ص 413.
(2) انظر: ص 25.
(3) علم الدين السخاوي: جمال القراء، ورقة 153ب، وانظر الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 2، ص 316، وابن الجزري: غاية النهاية، ج 1، ص 413.
(4) أبو عبيد: فضائل القرآن، لوحة 53. وانظر ابن الجزري: ج 1، ص 458.
(5) كتاب السبعة، ص 67.
(6) الذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 57، وانظر ابن الجزري: غاية النهاية، ج 1، ص 305.
(7) ابن مجاهد: ص 70.(1/525)
عن عاصم اختلافا في حروف كثيرة (1)، ونجد تعليلا لهذا الاختلاف في قول عاصم نفسه لحفص (2): القراءة التي أقرأتك بها فهي التي قرأتها عرضا على أبي عبد الرحمن السلمي عن علي، والتي أقرأتها أبا بكر بن عياش فهي التي كنت أعرضها على زر بن حبيش عن ابن مسعود.
ثانيا: الاختيار وأثره في القراءات:
كان المصحف العثماني قد كتب على قراءة واحدة كما بيّنا ذلك في المبحث الثالث من الفصل الثاني وخطه محتمل لأكثر من قراءة إذ لم يكن منقوطا ولا مضبوطا (3)، وبعد أن أرسلت المصاحف العثمانية إلى الأمصار «قرأ أهل كل مصر من قراءتهم التي كانوا عليها بما يوافق خط المصحف، وتركوا من قراءتهم ما خالف خط المصحف (4)، ويبدو أن الذين أرسلهم عثمان مع المصاحف لم يحاولوا حمل الناس على القراءة التي يقرءونها، وقد قال أبو طاهر بن أبي هاشم (ت 349هـ) تلميذ ابن مجاهد (5):
«إن السبب في اختلاف القراءات السبع وغيرها أن الجهات التي وجّهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة، وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل، قال: فثبت أهل كل ناحية على ما كان تلقوه سماعا عن الصحابة بشرط موافقة الخط وتركوا ما يخالف الخط، امتثالا لأمر عثمان الذي وافقه عليه الصحابة لما رأوا في ذلك من الاحتياط للقرآن».
وإذا كان المصحف العثماني قد كتب على قراءة بعينها فلماذا لا نجدها متمثلة بقراءة قارئ أو مصر من الأمصار إذن؟ يمكن القول بناء على ما تقدم إن قراءة أهل المدينة
__________
(1) المعارف، ص 231، قال ابن مجاهد (ابن الجزري: غاية النهاية، ج 1، ص 254): بين حفص وأبي بكر من الخلاف في الحروف خمس مائة وعشرين حرفا في المشهور عنهما.
(2) ياقوت: معجم الأدباء، ج 1، ص 316، وابن الجزري: غاية النهاية، ج 1، ص 254.
(3) انظر مكي: الإبانة، ص 4.
(4) انظر مكي: الإبانة، ص 29.
(5) ابن حجر: فتح الباري، ج 10، ص 406، وانظر مكي: الإبانة، ص (1514).(1/526)
كانت في القرن الهجري الأول أقرب إلى أن تكون تلك القراءة، وهي التي كانت تعرف بقراءة العامة (1)، وقراءة الجماعة (2)، ويبدو أن معالم تلك القراءة أخذت تختفي شيئا فشيئا، لأن أئمة القراءة كانوا قد قرءوا على شيوخ كثيرين، فكانوا ينتخبون من قراءات أولئك الشيوخ قراءة يستمرون عليها، وقد حدثت هذه الظاهرة منذ وقت مبكر، فينقل ابن الجزري أن ابن عباس (ت 68هـ) «كان يقرأ القرآن على قراءة زيد بن ثابت إلا ثمانية عشر حرفا أخذها من قراءة ابن مسعود» (3).
وقد عرفت ظاهرة تأليف قارئ قراءة من مروياته عن أكثر من شيخ بالاختيار، فكان أئمة الإقراء في القرون الأولى ينتخبون قراءة من مجموع ما يروونه عن شيوخهم، وكان نافع بن أبي نعيم (ت 169هـ) إمام أهل المدينة يقول: قرأت على سبعين من التابعين، «فنظرت إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذته، وما شذ فيه واحد تركته، حتى ألّفت هذه القراءة من هذه الحروف» (4)، ويروى أن نافعا قال «تركت من قراءة أبي جعفر سبعين حرفا» (5)، وأبو جعفر هو يزيد بن القعقاع من أكبر شيوخ نافع.
وهناك أمثلة كثيرة لهذه الظاهرة، فعليّ بن حمزة الكسائي قرأ على حمزة وهو يخالفه في نحو ثلاث مائة حرف (6)، لأنه كان يتخير القراءات فأخذ من قراءة حمزة ببعض وترك بعضا (7)، قال ابن النديم: وكان الكسائي من قراء مدينة السلام، وكان أولا يقرئ الناس بقراءة حمزة ثم اختار لنفسه قراءة فأقرأ الناس في خلافة هارون (8) وقال عنه
__________
(1) انظر الزركشي: ج 1، ص 237.
(2) أبو بكر الباقلاني: ص 417.
(3) غاية النهاية، ج 1، ص 426.
(4) ابن مجاهد: ص 62، ومكي: الإبانة، ص 17.
(5) الذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 91.
(6) مكي: الإبانة، ص 17.
(7) ابن مجاهد: ص 78، وياقوت: معجم الأدباء، ج 13، ص 168، وعلم الدين السخاوي: جمال القراء، ورقة 150أ، والذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 101، وابن الجزري: غاية النهاية، ج 1، ص 538.
(8) الفهرست، ص 30.(1/527)
الأزهري: واختيارته في حروف القرآن حسنة (1)، وكذلك قرأ أبو عمرو بن العلاء على ابن كثير، وهو يخالفه في حروف كثيرة لأنه قرأ على غيره، واختار من قراءته ومن قراءة غير قراءة (2)، وكان لكثير من علماء القراءات اختيار في القراءة، فلأبي عبيد اختيار في القراءة وافق فيه العربية والأثر (3)، ولأبي حاتم السجستاني اختيار لم يخالف مشهور السبعة إلا في حرف واحد (4)، وكذلك ليحيى بن المبارك اليزيدي اختيار خالف فيه أبا عمرو في حروف يسيرة (5)، واختيارات القراء أكثر من أن نحصرها هنا، وقد كان لكثير من القراء اختياران أو أكثر (6).
ويقول أبو عمرو الداني أن معنى إضافة ما أنزل الله تعالى إلى من أضيف إليه من الصحابة كأبيّ وعبد الله وزيد وغيرهم من قبل أنه كان أضبط له وأكثر قراءة واقراء به، وملازمة له وميلا إليه، لا غير ذلك، وكذا إضافة أن ذلك القارئ وذلك الإمام اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة وآثره على غيره وداوم عليه ولزمه حتى اشتهر به وعرف به وقصد فيه وأخذ عنه، فلذلك أضيف إليه دون غيره من القراء، وهذه الإضافة اختيار ودوام ولزوم لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد (7).
ولم تستمر ظاهرة الاختيار طويلا فقد وجد الأئمة بعد فترة أن تكاثر اختيارات الأئمة بلغ حدا يحتاج إلى جهود كبيرة، ورأوا أن يقصروا نشاطهم على ضبط الرواية عمّن تقدمهم. ولعل خير من يمثل هذا الاتجاه الجديد أبو بكر بن مجاهد (ت 324هـ) شيخ الصنعة الذي قال عنه ابن الجزري (8): «وبعد صيته واشتهر أمره وفاق نظراءه مع الدين والحفظ والخير، ولا أعلم أحدا من شيوخ القراءات أكثر تلاميذ منه»، وقد كان من
__________
(1) تهذيب اللغة، ج 1، ص 17.
(2) مكي: الإبانة، ص 17.
(3) ابن الجزري: غاية النهاية، ج 2، ص 18.
(4) ابن الجزري: غاية النهاية، ج 1، ص 320.
(5) نفس المصدر، ج 2، ص 376.
(6) القرطبي: ج 1، ص 46، والزركشي: ج 1، ص 227.
(7) جامع البيان، ورقة 9ب، وانظر ابن الجزري: النشر، ج 1، ص 52.
(8) غاية النهاية، ج 1، ص 142.(1/528)
اليسير على ابن مجاهد أن يختار له قراءة يحملها عنه تلاميذه، لكنه لم يفعل ذلك وأبى حين طلب منه، على نحو ما ينقل تلميذه أبو طاهر بن أبي هاشم (ت 349هـ) حين يقول (1): «سأل رجل ابن مجاهد لم لا يختار الشيخ لنفسه حرفا يحمل عليه؟ فقال:
نحن أحوج إلى أن نعمل أنفسنا في حفظ ما مضى عليه أئمتنا، أحوج منا إلى اختيار حرف يقرأ به من بعدنا».
وإذا كان أبو بكر بن مجاهد قد امتنع أن يختار حرفا ينسب إليه فإنه قد عمل على حفظ اختيارات أئمة القراءة، فاختار من كل مصر من الأمصار قراءة قارئ اشتهر بالحفظ والأمانة، وأطبق عليه أهل بلده، فعمل من ذلك كتاب السبعة وقد كان لعمل ابن مجاهد هذا أثره في تاريخ القراءات إلى اليوم، على نحو ما سنشير إلى ذلك بعد قليل.
وتدفع ظاهرة الاختيار إلى البحث عن المسوغات التي تجعل قارئا ما يرجح قراءة معينة من مروياته عن شيوخه، فالذين اختاروا من القراء إنما قرءوا لجماعة وبروايات، فاختار كل واحد مما قرأ وروى قراءة تنسب إليه بلفظ الاختيار (2)، فالاختيار لا يكون إلا مما رواه الأئمة، وقد كان عيسى بن عمر الثقفي (ت 149هـ) عالما بالنحو غير أنه كان له اختيار في القراءة على مذاهب العربية يفارق العامة ويستنكرها الناس لذلك (3)، ولعل أهم تلك المسوغات بعد ثبوت الرواية هو موافقة خط المصاحف العثمانية، خاصة بعد أن صارت هي معتمد الأمة، فما كان مخالفا للخط خارجا عليه قلّت روايته واتجه أئمة القراء إلى رواية ما وافق الخط والاختيار منه، يروي ابن مجاهد أن الكسائي قال:
السين في (الصراط) أسير في كلام العرب، ولكن أقرأ بالصاد اتبع الكتاب، الكتاب بالصاد (4)، والمقصود بالكتاب هنا خط المصحف، وقد جاءت كلمة (سل) في قوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنََّا فِيهََا (82)} [يوسف] بالهمز وتركه، لكن يحيى بن زياد
__________
(1) الذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 217.
(2) مكي: الإبانة، ص 49.
(3) علم الدين السخاوي: جمال القراء، ورقة 150ب.
(4) كتاب السبعة، ص 107.(1/529)
الفراء يرجح قراءة ترك الهمز، فيقول: «ولست أشتهي ذلك، لأنها لو كانت مهموزة لكتبت فيها الألف كما كتبوها في قوله: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً (77)} [طه] و {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا (13)} * [يس] بالألف» (1)، وقال أبو عبيد في الوقف على (الظنونا الرسولا السبيلا): «اختياري تعهد الوقف على هذه الحروف الثلاثة، وأن يسكت عليها بالألف، ليوافق خط المصحف، ولا يخرج بها عن مذهب من مذاهب العرب، ولغة من لغاتهم» (2) وردد العلماء هذا المعنى كثيرا (3)، حتى قال مكي: إنك تنظر ما يوافق الخط فتؤثره على الآخر (4).
وبعد أن انتشر النحو ودرسه الفراء صار أداة في أيديهم للترجيح بين القراءات المروية التي توافق الخط في الاختيار، فقد كان الغالب على الكسائي اللغات والعلل والإعراب (5)، وكان قد قرأ على حمزة الزيات ثم اختار لنفسه قراءة غير خارجة عما قرأ به السلف، وكان ورش عثمان بن سعيد (ت 197هـ) قد أخذ القراءة عن نافع إمام المدينة ثم اشتغل بالعربية ومهر فيها (6)، و «لما تعمق في النحو اتخذ لنفسه مقرأ يسمى مقرأ ورش» (7)، ونجد روايات كثيرة تشير إلى ترجيح بعض الروايات على بعض استنادا إلى القواعد التي قعّدها علماء العربية (8)، لكن الاستعانة بالنحو لم تدفع أحدا من القراء إلى الخروج عن روايات الأئمة، وإذا حدث ذلك أنكره علماء القراءة والناس، ولم
__________
(1) معاني القرآن، ج 1، ص 124. وانظر أيضا: ج 2، ص 35و 183.
(2) مقدمة كتاب المباني، ص 165.
(3) انظر أبو بكر الأنباري: ج 1، ص 108، والزمخشري: الكشاف، ج 2، ص 364.
(4) الكشف، ج 1، ص 113.
(5) الأزهري: ج 1، ص 17.
(6) ابن الجزري: غاية النهاية، ج 1، ص 502.
(7) الذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 150.
(8) انظر الفراء: معاني القرآن، ج 1، ص 42، وج 2، ص 385و 407، وانظر أيضا أبو بكر الأنباري:
ج 1، ص 240.(1/530)
يقرءوا به كما مر مع عيسى بن عمر الثقفي، وكما سنلاحظ ما حدث لابن مقسم بعد قليل (1).
__________
(1) سبق أن أوردنا الحديث الشريف الذي جاء فيه (اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات) وقد انعكس هذا المعنى على اختيارات القراء الأول فقد روى حفص عن عاصم أنه كان لا يهمز (هزوا وكفوا) ويقول: أكره أن تذهب مني عشر حسنات بحرف أدعه إذا همزته، وذكر عاصم أن أبا عبد الرحمن السلمي كان يقول ذلك (انظر ابن مجاهد: ص 159) وكأنما غاب عنهما أن الهمزة حرف يحل محل الواو، وربما فهما أن المقصود بالحرف هو المرسوم، وقد أشار الزجاج (إعراب القرآن ومعانيه، تحقيق هدى محمود قراعة، رسالة دكتوراه، مقدمة إلى كلية الآداب بجامعة القاهرة، 1975، ومنها نسخة بمكتبة الجامعة) إلى ذلك المعنى وهو يتحدث عن إثبات الياء وحذفها من قوله تعالى: (البقرة 2/ 40) (نعمتي التي) فقال (ص 85) «والاختيار إثبات الياء وفتحها، لأنه أقوى في العربية، وأجزل في اللفظ، وأتم للثواب، لأن القارئ يجازى على كل ما يقرؤه من كتاب الله بكل حرف حسنة».(1/531)
المبحث الثاني موافقة الرّسم أحد أركان القراءة الصّحيحة
إن ظاهرة الاختيار والعوامل التي أسهمت في توجيهها في إطار ما وافق خط المصحف تنقلنا إلى الكلام عن الضوابط التي اشترطها علماء القراءة، في أية قراءة، لكي تكون مقبولة تصح روايتها، وكيف صارت موافقة الخط الأساس الأول لقبول لقراءات المروية أو تركها، ولا شك أن القراءة إذا لم تنقل وتصح روايتها لا تسمى قراءة سواء وافقت الرسم أم خالفته «بل مكذوبة يكفر معتمدها» (1). وبعد نسخ المصاحف العثمانية ونشرها في الأمصار تركت القراءة بما خالفها من حروف. وهكذا صارت صحة الرواية وموافقة الخط أهمّ شرطين لقبول القراءة، وقد لاحظنا من قبل أن من مسوغات الاختيار بين القراءات المروية الموافقة للرسم قوة الوجه في العربية، فصارت هذه الأركان الثلاثة شرطا لقبول القراءة وصحة روايتها، وميز العلماء بين ما توافرت فيه هذه الضوابط من القراءات وما عداها.
وأركان القراءة الصحيحة الثلاثة لم تكن من صنع المتأخرين، بل وجدت من يوم تلقّى الصحابة رضوان الله عليهم القرآن الكريم عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن يوم خطّت المصاحف العثمانية وأرسلت إلى الأمصار، وكان هذان المقياسان صحة الرواية وموافقة الخط يعملان في توجيه نقل القراءات منذ زمن مبكر قبل أن يبدأ التأليف وتدوين القراءات في الكتب، وقبل أن ينظر علماء العربية في اللغة، ويقعّدوا قواعدها، وربما برزت بشكل منظم مع بداية التأليف في القراءات التي لا تخرج عن خط المصحف، وينقل أبو بكر الأنباري أن أبا عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ) قد بيّن اختياره في الوقف على ما رسمت فيه هاء السكت بقوله (2): «الاختيار عندي في هذا
__________
(1) ابن الجزري: منجد المقرئين، ص 17، وانظر أيضا: ص 18.
(2) إيضاح الوقف والابتداء، ج 1، ص 311.(1/532)
الباب كله الوقوف عليها بالهاء بالتعمد لذلك، لأنها إن أدمجت في القراءة مع إثبات الهاء كان خروجا من كلام العرب، وإن حذفت في الوصل كان خلاف الكتاب، فإذا صار قارئها إلى السكت عندها على ثبوت الهاءات اجتمعت له المعاني الثلاثة:
من أن يكون مصيبا في العربية وموافقا للخط وغير خارج من قراءة القراء».
وأشار أبو عبيد إلى هذه الضوابط الثلاثة أيضا في كتابه فضائل القرآن بقوله (1): «وإنما نرى القراء عرضوا على أهل المعرفة بها ثم تمسكوا بما علموا منها مخافة أن يرفعوا عن ما بين اللوحين بزيادة أو نقصان، وبهذا تركوا سائر القراءات التي تخالف الكتاب، ولم يلتفتوا إلى مذاهب العربية فيها، إذا خالف ذلك خط المصحف وإن كانت العربية فيه أظهر بيانا، ورأوا تتبّع حروف المصاحف وحفظها عندهم كالسّنة القائمة التي لا يجوز لأحد أن يتعداها».
وأكثر العلماء بعد أبي عبيد من ذكر هذه الأركان الثلاثة بعبارات متقاربة لا تختلف عما ذكره أبو عبيد فيما نقله عنه أبو بكر الأنباري، قال مكي (2): «وأكثر اختياراتهم إنما هو في الحرف إذا اجتمع فيه ثلاثة أشياء: قوة وجهه في العربية، وموافقته للمصحف واجتماع العامة عليه» ثم بين أن المقصود بالعامة هو ما اتفق عليه أهل المدينة وأهل الكوفة، وقيل: ما اجتمع عليه أهل الحرمين، لكنه عبر في موضع آخر، عن هذا الركن بقوله (3): «أن ينقل عن الثقات إلى النبي صلى الله عليه وسلم». وأشار إلى هذه الأركان الثلاثة للقراءة أبو عمرو الداني (4). ونقل ما قاله مكي في أركان القراءة الصحيحة كلّ من علم
__________
(1) لوحة 51.
(2) الإبانة، ص 49.
(3) الإبانة، ص 18.
(4) ابن الجزري: النشر، ج 1، ص 9.(1/533)
الدين السخاوي (1)، والزركشي (2)، وابن حجر (3)، ثم جاء من انتهى إليه علم القراءات شمس الدين أبو الخير بن الجزري (ت 833هـ) وأفاض في بيان أركان القراءة الصحيحة، وقال (4): «كلّ قراءة وافقت العربية، ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية، ولو احتمالا، وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها» وفصّل كل ركن من هذه الأركان شارحا وناقلا وناقدا ومبينا، وقد قال السيوطي (5): «وأحسن من تكلم في هذا النوع إمام القراء في زمانه شيخ شيوخنا أبو الخير الجزري» ثم نقل كلامه في أركان القراءة.
وسأعرض لكل ركن من هذه الأركان الثلاثة لمعرفة المقصود من كل واحد منها مركزا على بعض الجوانب التي تزيد قضية العلاقة بين القراءات والرسم بيانا ووضوحا:
أولا: صحة السند أو ثبوت الرواية والنقل:
المقصود بهذا الضابط هو أن تكون القراءة مروية عن واحد أو أكثر من الصحابة الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم وقرءوا بين يديه (6)، وثبوت الرواية مع صحة الإسناد هو أهم ما علّق عليه العلماء صحة القراءة، فلا بد أولا من ثبوت النقل. ثم ينظر في توافر الشروط الأخرى بعد ذلك (7). والإسناد «خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنة بالغة من السنن المؤكدة» (8). ولذلك لا بد في القراءة من المشافهة والسماع (9)، فلو حفظ إنسان الشاطبية (10) مثلا فليس له أن يقرأ بما فيها، إن لم يشافه من شوفه به
__________
(1) انظر جمال القراء: ورقة 154ب.
(2) البرهان، ج 1، ص 331.
(3) فتح الباري، ج 10، ص 407.
(4) النشر، ج 1، ص 9.
(5) الإتقان، ج 1، ص 210، وانظر: إتمام الدراية (له)، ص 36.
(6) انظر ابن الجزري: النشر، ج 1، ص 13.
(7) انظر السيوطي: الإتقان، ج 1، ص 213.
(8) القسطلاني: ج 1، ص 173.
(9) ابن الجزري: النشر، ج 2، ص 358.
(10) هي نظم أبي محمد القاسم بن فيرة الشاطبي (ت 590هـ) لكتاب التيسير لأبي عمرو الداني.(1/534)
مسلسلا، لأن في القراءات شيئا لا يحكم إلا بالسماع والمشافهة (1). ومن ثم نجد الداني يميز في مقدمة كتابه الكبير (جامع البيان في القراءات السبع المشهورة) بين أخذ القراءة تلاوة أي مشافهة وبين أخذها رواية من الكتب دون مشافهة، فيقول (2): «وأفردت قراءة كل واحد من الأئمة برواية من أخذ القراءة عنه تلاوة وأدى الحروف عنه حكاية دون رواية من نقلها سماعا في الكتب ورواية في الصحف إذ الكتب والصحف غير محيطة بالحروف الجلية ولا مؤدية عن الألفاظ الخفية والتلاوة محيطة بذلك ومؤدية عنه».
وتصادف دائما في كتب القراءات وطبقات القراء التمييز بين أخذ القراءة مشافهة وأخذها من الكتب، وكثيرا ما تصادفنا في (غاية النهاية في طبقات القراء) لابن الجزري مثل عبارة (أخذ القراءة عرضا روى عنه القراءة عرضا) (3)، و (أخذ القراءة عرضا وسماعا) (4)، و (روى الحروف روى عنه الحروف) (5)، و (روى الحروف سماعا قرأ عليه الحروف) (6)، و (أخذ القراءة عرضا، وروى الحروف سماعا روى القراءة عنه عرضا وروى عنه الحروف) (7). وما اقترن من هذه الأقوال بلفظ القراءة فإنما يدل على تلقي العرض والسماع وما اقترن بلفظ (الحروف) فإنما يدل على تلقي الرواية من الكتب لمواقع الخلاف فقط دون أن يشمل ذلك قراءة القرآن كاملا (8).
وقد جاءت روايات كثيرة عن بعض الصحابة والتابعين تؤكد أن (القراءة سنّة) أي أنها تتلقى ولا يجوز معها الرأي والاجتهاد، جاء ذلك عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وعروة بن الزبير ومحمد بن المنكدر وعمر بن عبد العزيز وعامر الشعبي (9). فروى أبو
__________
(1) القسطلاني: ج 1، ص 171.
(2) جامع البيان، ورقة 2أ.
(3) انظر مثلا: ج 1، ص 352و 355و 419، وج 2، ص 272.
(4) انظر: ج 1، ص 497.
(5) انظر: ج 1، ص 462، وج 2، ص 48و 101.
(6) انظر: ج 1، ص 288.
(7) ج 2، ص 130.
(8) انظر: د. عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن، ص (200199)، وانظر فؤاد سزكين: مج 1، ص 147.
(9) ابن مجاهد: ص (5049).(1/535)
عبيد عن خارجة بن زيد أن زيد بن ثابت (ت 45هـ) قال: «القراءة سنة» ويعقب أبو عبيد على ذلك بقوله: «وقول زيد هذا يبين لك ما قلنا (1) لأنه الذي ولي نسخ المصاحف التي أجمع عليها المهاجرون والأنصار فرأى اتباعها سنة واجبة» (2). ويورد أبو عبيد في نفس الموضع رواية أخرى عن عروة بن الزبير أنه قال: «إن قراءة القرآن سنّة فاقرءوا كما أقرئتموه».
وينقل ابن مجاهد بضعة أخبار في هذا المعنى منها قول عروة وقول زيد السابقان إلا أنه يروي رواية أخرى عن خارجة بن زيد عن أبيه أنه قال: «القراءة سنة. فاقرءوه كما تجدونه». وروي عن محمد بن المنكدر (ت 130هـ) أنه قال: «القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول» ثم يقول ابن مجاهد إنه روى عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز مثل ذلك، ويروى أن عامرا الشعبي (ت 103وقيل بعدها) قال: «القراءة سنة، فاقرءوا كما قرأ أوّلوكم» (3). وقال أبو عمرو الداني (4): «والأخبار الواردة عن السلف والأئمة والعلماء بهذا المعنى كثيرة».
ويذكر ابن مجاهد أن أبا عمرو بن العلاء (ت 154هـ) إمام أهل عصره في اللغة وقارئ أهل البصرة كان «لا يقرأ بما لم يتقدمه فيه أحد»، ويروى عن الأصمعي أنه سمع أبا عمرو قال: «لولا أنه ليس لي أن أقرأ إلا بما قد قرئ به لقرأت حرف كذا كذا وحرف كذا كذا» (5).
والروايات والشواهد التي تؤكد أن وجوه القراءات المختلفة منقولة عن الصحابة أكثر من أن تحصر، وإذا انتقلنا إلى تتبع بعض الأمثلة التي خضعت فيها بعض القراءات للنقد بسبب ضعف السند لوجدنا منها ما عقب به ابن خالويه على قراءة الحسن {أَلْقِيََا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفََّارٍ (24)} [ق]
__________
(1) يشير إلى قوله الذي ورد في ص (532) من هذا الفصل.
(2) لوحة 51.
(3) انظر هذه الروايات: كتاب السبعة، ص (5150).
(4) جامع البيان، ورقة 12ب. وانظر مكي: الإبانة، ص 32، وانظر أيضا ابن الجزري: النشر، ج 2، ص 214.
(5) كتاب السبعة، ص 48، وانظر في نفس الخبر: الذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 85، وابن الجزري: غاية النهاية، ج 1، ص 290.(1/536)
بقوله: «ولا يقرأ به لأن في سنده ضعفا» (1) وكان ابن خالويه قد نص في أول كتابه الذي قال فيه ذلك إن «كل ما ذكرت من اختلاف العلماء (في) القراءة فقد رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» (2). ومنه ما ذكره الفراء أن الكسائي قال عن قراءة ذكر له أن بعض القراء قرأ بها «لو حفظت الأثر فيه لقرأت به» (3). وكثيرا ما يروي ابن مجاهد أن أبا بكر بن عياش أحد رواة عاصم أنه لم يحفظ عن عاصم كيف قرأ، ففي قوله تعالى: {وَمََا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهََا (109)} [الأنعام] يقول ابن مجاهد (4): «وأما أبو بكر بن عياش فقال يحيى عنه: لم يحفظ عن عاصم كيف قرأ كسرا أم فتحا»، ونجد ابن مجاهد نفسه ينص أنه لم يعلم كيف قرأ بعض القراء في حرف معين، يقول: «وليس عندي عن أبي بكر عن عاصم في (فيقول) شيء» (5). وورد قوله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلََّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذََابٌ عَظِيمٌ (11)} [النور] في السيرة النبوية لابن هشام (ت 213وقيل 218هـ) الذي عقب عليها بقوله «يقال كبره وكبره في الرواية، وأما في القرآن فكبره بالكسر» (6).
ولم تكن هذه النظرة إلى القراءات مقصورة على المختصين بالقراءة فحسب، بل نجدها عند علماء العربية منذ وقت مبكر، فهذا سيبويه شيخ النحاة وإمامهم على الإطلاق يصرح بعد أن ذكر وجها محتملا في آية من القرآن «إلا أن القراءة لا تخالف، لأنها السنة» (7). وقال الزجاج في أول كتابه (إعراب القرآن ومعانيه) وهو يتحدث عن حركة كلمة {الْحَمْدُ} * في أول فاتحة الكتاب (8): «فأما القرآن فلا يقرأ فيه إلا بالرفع،
__________
(1) إعراب ثلاثين سورة، ص 140.
(2) نفس المصدر، ص 150.
(3) معاني القرآن، ج 3، ص 35.
(4) كتاب السبعة، ص 265، وانظر مثله: ص 629.
(5) نفس المصدر، ص 463.
(6) السيرة النبوية، ق 2، ص 303.
(7) الكتاب، ط بولاق، ج 1، ص 74. ووردت في الطبعة التي حققها عبد السلام هارون، دار القلم، 1966، ج 1، ص 148هكذا «إلا أن القراءة لا تخالف لأن القراءة السنة». وقد نقل الزركشي (البرهان، ج 1، ص 322) أن سيبويه قال في الكتاب في قوله تعالى: {مََا هََذََا بَشَراً (31)} [يوسف]:
«وبنو تميم يرفعونه إلا من درى كيف هي في المصحف».
(8) ص 6.(1/537)
لأن السنة تتّبع في القرآن ولا يلتفت فيه إلى غير الرواية الصحيحة التي قرأ بها القراء المشهورون بالضبط والثقة» ويقول في مكان آخر من كتابه (1): «ولا ينبغي أن يقرأ بما يجوز إلا أن تثبت رواية صحيحة، أو يقرأ به كثير من القراء».
وكل هذه الأخبار والروايات تؤكد معنى واحدا هو أن القراءات لم تكن نتيجة اجتهاد القراء أو إعمال فكرهم في حمل الكلام على ما هو أنسب (2)، بل هي مروية عن الصحابة الذين أخذوا القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم وقرءوا عليه، ويقول ابن الجزري (3): «إن من يزعم أن أئمة القراءة ينقلون حروف القرآن من غير تحقيق ولا بصيرة ولا توقيف فقد ظن بهم ما هم منه مبرءون وعنه منزّهون»، ويقول في موضع آخر «ونعوذ بالله من قراءة القرآن بالرأي والتشهي، وهل يحل لمسلم القراءة بما يجد في الكتابة من غير نقل؟» (4).
ولم يكن هذا الركن الأساسي أقوالا تردد على الأسنة وتسرد في الكتب بل إن وراءه جهدا كبيرا في تلقي القراءات وعرضها، ويكفي المرء أن ينظر في مقدمات الكتب المؤلفة في القراءات حيث يذكر المؤلفون أسماء الرواة والرجال الذين يروون عنهم ما يذكرون في كتبهم من قراءات ليجد مثلا أعلى من إحكام الضبط والتدقيق البالغ غايته (5).
وقد عثرت على قطعة من كتاب (القراءات) لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ) أوردها علم الدين السخاوي (ت 643هـ) في كتابه جمال القراء (6)، يتحدث فيها عن طبقات القراء من زمن النبي صلى الله عليه وسلم حتى زمانه، ولعل هذه القطعة هي مقدمة كتاب القراءات لأبي عبيد، وهي مهمة جدا في بيان تاريخ القراءات في القرنين الأول والثاني الهجريين، وبيان كيف نقلت القراءات، والأئمة الذين انتصبوا لقراءتها وروايتها في كل
__________
(1) نفس المصدر، ص 13.
(2) انظر ابن تيمية: الفتاوى، ج 1، ص 319.
(3) النشر، ج 2، ص 214.
(4) ابن الجزري: النشر، ج 2، ص 263.
(5) انظر د. عبد الفتاح شلبي: رسم المصحف، ص 47.
(6) من ورقة (148ب 150ب).(1/538)
عصر ومصر، وتزداد أهمية هذا النص حين نعلم أنه يرجع إلى فترة لم تكن قد خصصت فيها السبعة بل هو يسبق ابن مجاهد الذي سبّع السبعة بقرن كامل، وأعتقد أن من المناسب والمكمل لتوضيح ركن صحة النقل في رواية القراءات أن أورد ذلك النص المهم كما جاء في كتاب السخاوي، مع إثبات تاريخ وفيات الأئمة المذكورين فيه.
«قال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتاب القراءات له:
هذه تسمية أهل القرآن من السلف على منازلهم.
فمما نبدأ بذكره في كتابنا سيد المرسلين وإمام المتقين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه القرآن.
ثم المهاجرون والأنصار وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفظ عنه منهم في القراءة شيء، وإن كان ذلك حرفا واحدا فما فوقه.
قال فمن المهاجرين: أبو بكر الصديق (ت 13هـ) وعمر بن الخطاب (23) وعثمان بن عفان (35) وعلي بن أبي طالب (40) وطلحة بن عبيد الله (18) وسعد بن أبي وقاص (55) وعبد الله بن مسعود (32) وسالم مولى أبي حذيفة (11) وحذيفة بن اليمان (35) وعبد الله بن عباس (68) وعبد الله بن عمر (73وقيل 74) وعبد الله بن عمرو (65) وعمرو بن العاص (58) وأبو هريرة (58) ومعاوية بن أبي سفيان (60) وعبد الله بن الزبير (73) وعبد الله بن السائب (في حدود 70) قارئ مكة.
ومن الأنصار رضي الله عنهم أبي بن كعب (19وقيل غير ذلك) ومعاذ بن جبل (18) وأبو الدرداء (32) وزيد بن ثابت (45) ومجمع بن جارية (ت في خلافة معاوية) وأنس بن مالك (93).
وقال ومن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: عائشة (57) وحفصة (45) وأم سلمة (59).
قال: وقد علمنا أن بعض من ذكرنا أكثر في القراءة وأعلى من بعض، غير أنّا سميناهم على منازلهم في الفضل والإسلام، وإنما خصصنا بالتسمية كل من وصف بالقراءة وحكي عنه منها شيء وإن كان يسيرا، وأمسكنا عن ذكر من لم يبلغنا عنه منها شيء وإن كانوا أئمة هداة في الدين.
فأما سالم الذي ذكرناه فإنه كان مولى لامرأة من الأنصار، وإنما نسبناه لأبي حذيفة لأنه به يعرف. وأما حذيفة بن اليمان فإن عداده في الأنصار وإنما ذكرناه في المهاجرين لأنه خرج مع أبيه مهاجرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن من ساكني المدينة فهو مهاجريّ الدار أنصاري العداد ونسبه في عبس بن قيس عيلان.(1/539)
قال: وقد علمنا أن بعض من ذكرنا أكثر في القراءة وأعلى من بعض، غير أنّا سميناهم على منازلهم في الفضل والإسلام، وإنما خصصنا بالتسمية كل من وصف بالقراءة وحكي عنه منها شيء وإن كان يسيرا، وأمسكنا عن ذكر من لم يبلغنا عنه منها شيء وإن كانوا أئمة هداة في الدين.
فأما سالم الذي ذكرناه فإنه كان مولى لامرأة من الأنصار، وإنما نسبناه لأبي حذيفة لأنه به يعرف. وأما حذيفة بن اليمان فإن عداده في الأنصار وإنما ذكرناه في المهاجرين لأنه خرج مع أبيه مهاجرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن من ساكني المدينة فهو مهاجريّ الدار أنصاري العداد ونسبه في عبس بن قيس عيلان.
قال أبو عبيد رحمه الله ثم التابعون:
فمنهم من أهل المدينة: سعيد بن المسيب (94) وعروة بن الزبير (93) وسالم بن عبد الله (106) وعمر بن عبد العزيز (101)، وقد كان بالمدينة والشام، وسليمان بن يسار (107) وعبد الرحمن بن هرمز الذي يعرف بالأعرج (117) وابن شهاب (125) وعطاء بن يسار (103) ومعاذ بن الحارث (63) والذي يعرف بمعاذ القارئ، وزيد بن أسلم (136).
قال ومن أهل مكة: عبيد (الله) بن عمير الليثي، وعطاء بن أبي رباح (115) وطاوس (106) وعكرمة مولى ابن عباس (105) وعبد الله بن أبي مليكة (117).
ومن أهل الكوفة علقمة بن قيس (62) والأسود بن يزيد (75) ومسروق بن الأجدع (63) وعبيدة السّلماني (72) وعمرو بن شرحبيل (63) والحرث بن قيس والربيع بن خثيم (قبل 90) وعمرو بن ميمون (75) وأبو عبد الرحمن السلمي (73وقيل 74) وزر بن حبيش (82) وإبراهيم بن يزيد النخعي (96) وعامر الشعبي (105) وهو عامر بن شراحيل.
ومن أهل البصرة: عامر بن عبد الله وهو الذي يعرف بابن قيس، كان يقرئ الناس وأبو العالية الرياحي (90) وأبو رجاء العطاردي (105) ونصر بن عاصم الليثي (90) ويحيى بن يعمر (قبل 90) ثم انتقل إلى خراسان، وجابر بن زيد (93) والحسن بن أبي الحسن (110) ومحمد بن سيرين (110) وقتادة بن دعامة (117).
ومن أهل الشام: المغيرة بن شهاب المخزومي (91) صاحب عثمان بن عفان في القراءة قال: كذلك حدثني هشام بن عمار الدمشقي، قال: حدثني عراك بن خالد المزي قال: سمعت يحيى بن الحارث الذماري يقول: ختمت القرآن على عبد الله بن عامر اليحصبي، وقرأ عبد الله بن عامر على المغيرة بن شهاب المخزومي وقرأ المغيرة على
عثمان ليس بينه وبينه أحد.(1/540)
ومن أهل الشام: المغيرة بن شهاب المخزومي (91) صاحب عثمان بن عفان في القراءة قال: كذلك حدثني هشام بن عمار الدمشقي، قال: حدثني عراك بن خالد المزي قال: سمعت يحيى بن الحارث الذماري يقول: ختمت القرآن على عبد الله بن عامر اليحصبي، وقرأ عبد الله بن عامر على المغيرة بن شهاب المخزومي وقرأ المغيرة على
عثمان ليس بينه وبينه أحد.
قال: فهؤلاء الذين سميناهم من الصحابة والتابعين هم الذين يحكى عنهم عظم القراءة وإن كان الغالب عليهم الفقه والحديث.
قال: ثم قام من بعدهم بالقرآن قوم ليس لهم أسنان من ذكرنا ولا قدمتهم غير أنهم تجردوا للقراءة واشتدت بها عنايتهم ولها طلبهم حتى صاروا بذلك أئمة يأخذها الناس عنهم، ويقتدون بهم فيها، وهم خمسة عشر رجلا من هذه الأمصار المسماة في كل مصر منهم ثلاثة رجال:
فكان من قراء المدينة: أبو جعفر القارئ واسمه يزيد بن القعقاع (130) مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وشيبة بن نصاح (130وقيل 138) مولى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. ونافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم (169)، وكان أقدم هذه الثلاثة أبو جعفر قد كان يقرئ الناس بالمدينة قبل وقعة الحرّة (سنة 63هـ). حدثنا ذلك إسماعيل بن جعفر عنه. ثم كان من بعده شيبة على مثل منهاجه ومذهبه، ثم ثلثهما نافع بن أبي نعيم. وإليه صارت قراءة أهل المدينة وبها تمسكوا إلى اليوم.
فهؤلاء قراء أهل الحجاز في دهرهم.
وكان من قراء مكة: عبد الله بن كثير (120) وحميد بن قيس (130) الذي يقال له الأعرج، ومحمد بن محيصن (123)، وقد أقدم هؤلاء الثلاثة ابن كثير، وإليه صارت قراءة أهل مكة وأكثرهم به اقتدوا فيها. وكان حميد بن قيس قرأ على مجاهد قراءته فكان يتبعها لا يكاد يعدوها إلى غيرها، وكان ابن محيصن أعلمهم بالعربية وأقواهم عليها. فهؤلاء أهل مكة في زمانهم.
وكان من قراء الكوفة: يحيى بن وثاب (103) وعاصم بن أبي النجود (128) والأعمش (148) وكان أقدم الثلاثة وأعلاهم يحيى، يقال أنه قرأ على عبيد بن نضيلة صاحب عبد الله. ثم تبعه عاصم. وكان أخذ القراءة عن أبي عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش. ثم كان الأعمش فكان إمام الكوفة المقدّم في زمانه عليهم حتى بلغ إلى أن قرأ عليه طلحة بن مصرّف، وكان أقدم من الأعمش، فهؤلاء هم رؤساء الكوفة في القراءة، ثم تلاهم حمزة بن حبيب الزيات رابعا (156). وهو الذي صار أعظم أهل الكوفة إلى قراءته من غير أن تطبق عليه جماعتهم. وكان ممن اتبع حمزة في قراءته
سليم بن عيسى وممن وافقه. وكان ممن فارقه أبو بكر بن عياش فإنه اتبع عاصما وممن وافقه.(1/541)
وكان من قراء الكوفة: يحيى بن وثاب (103) وعاصم بن أبي النجود (128) والأعمش (148) وكان أقدم الثلاثة وأعلاهم يحيى، يقال أنه قرأ على عبيد بن نضيلة صاحب عبد الله. ثم تبعه عاصم. وكان أخذ القراءة عن أبي عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش. ثم كان الأعمش فكان إمام الكوفة المقدّم في زمانه عليهم حتى بلغ إلى أن قرأ عليه طلحة بن مصرّف، وكان أقدم من الأعمش، فهؤلاء هم رؤساء الكوفة في القراءة، ثم تلاهم حمزة بن حبيب الزيات رابعا (156). وهو الذي صار أعظم أهل الكوفة إلى قراءته من غير أن تطبق عليه جماعتهم. وكان ممن اتبع حمزة في قراءته
سليم بن عيسى وممن وافقه. وكان ممن فارقه أبو بكر بن عياش فإنه اتبع عاصما وممن وافقه.
وأما الكسائي (189) فإنه كان يتخيّر القراءات فأخذ من قراءة حمزة ببعض وترك بعضا. فهؤلاء قراء أهل الكوفة.
وكان من قراء أهل البصرة عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي (117) وأبو عمرو بن العلاء (154) وعيسى بن عمر الثقفي (149). وكان أقدم الثلاثة ابن أبي إسحاق وكانت قراءته مأخوذة عن يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم، وكان عيسى بن عمر عالما بالنحو غير أنه كان له اختيار في القراءة على مذاهب العربية يفارق قراءة العامة، ويستنكرها الناس، وكان الغالب عليه حبّ النصب ما وجد إلى ذلك سبيلا، قوله حمالة الحطب، والزانية والزاني، والسارق والسارقة، وكذلك قوله: هؤلاء بناتي هن أطهر لكم.
والذي صار إليه أهل البصرة في القراءة فاتخذوه إماما أبو عمرو بن العلاء، فهؤلاء قراء أهل البصرة، وقد كان لهم رابع، وهو عاصم الجحدري (128) لم يرو عنه في الكثرة ما روي عن هؤلاء الثلاثة.
وكان من قراء أهل الشام عبد الله بن عامر اليحصبي (118) ويحيى بن الحارث الذماري (145) وثالث قد سمي لي بالشام ونسيت اسمه. فكان أقدم هؤلاء الثلاثة عبد الله بن عامر وهو إمام أهل دمشق في دهره، وإليه صارت قراءتهم ثم اتبعه يحيى بن الحارث، وخلفه في القراءة وقام مقامه. وقد ذكروا الثالث بصفة لا أحفظها.
فهؤلاء قراء أهل الأمصار الذين كانوا بعد التابعين».
وقد عقب السخاوي على ما نقله عن أبي عبيد بقوله: «قلت هو أبو خليد بن سعد (1)
صاحب أبي الدرداء، ولكن أطبق أهل الشام على ابن عامر، يحيى بن الحارث وأهل الآفاق. ورجع يحيى إلى قراءته والنقل عنه والتعويل عليه. وهذا الذي ذكره أبو عبيد رحمه الله يعرفك كيف كان هذا الشأن من أول الإسلام إلى آخر ما ذكره، فلما كان العصر الرابع سنة ثلاث مائة وما قاربها كان أبو بكر بن مجاهد رحمه الله قد انتهت إليه الرئاسة في علم القراءة، وتقدم في ذلك على أهل ذلك العصر اختار من القراءات ما
__________
(1) سمّاه ابن الجزري (غاية النهاية، ج 1، ص 606) خليد بن سعد.(1/542)
وافق خط المصحف ومن القراء بها من اشتهرت عدالته وقامت معرفته وتقدم أهل زمانه في الدين والأمانة والمعرفة والصيانة واختاره أهل عصره في هذا الشأن وأطبقوا على قراءته وقصد من سائر الأمصار وطالت ممارسته للقراءة والإقراء وخص في ذلك بطول البقاء ورأى أن يكونوا سبعة تأنسا بعدة المصاحف الأئمة، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف من سبعة أبواب فاختار هؤلاء السبعة أئمة الأمصار، فكان أبو بكر رحمه الله أول من اقتصر على هؤلاء السبعة، وصنف كتابه في قراءتهم، واتبعه الناس على ذلك ولم يسبقه أحد إلى تصنيف قراءة هؤلاء السبعة» (1).
إن ما ذكره أبو عبيد من أسماء القراء حتى عصره على مدى ثلاثة أجيال: الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم يقدم لنا تأريخا واضحا لنشأة مدارس القراءة. ويلاحظ أن القراء السبعة الذين اشتهروا في وقت متأخر هم من ضمن الذين ذكر أبو عبيد أن أهل بلداتهم أطبقوا عليهم، وكذلك فإن من اشتهر من القراء العشرة والأربعة عشر هم من ضمن أولئك: أبو جعفر وابن محيصن والحسن البصري والأعمش إلا يحيى بن المبارك اليزيدي (ت 202هـ) البصريين، وخلف بن هشام البزار (ت 229هـ) فإنهم كانوا معاصرين لأبي عبيد (ت 224هـ)، ويبدو أنهم لم يبلغوا من الشهرة آنذاك ما دفع أبا عبيد إلى ذكرهم.
وعقد أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه فضائل القرآن بابا تحدث فيه عن عرض القرآن وأخذه عن أهل القراءة واتباع السلف فيها والتمسك بما يعلم منها، وأشار في بدايته إلى ما رواه البخاري عن فاطمة وابن عباس وأبي هريرة من أن جبريل عليه السلام كان يلقى النبي صلى الله عليه وسلم في كل ليلة في شهر رمضان يعرض عليه القرآن وأنه كان يعارضه في العام مرة وأنه عارضه في العام الذي قبض فيه مرتين (2)، ثم تحدث بعد ذلك عن تلقي القراءات وعرضها على القراء وذكر سند قراءة ابن عامر إمام أهل الشام وروى عن يحيى بن الحارث الذماري أنه قال «ختمت القرآن على عبد الله بن عامر اليحصبي، وقرأ عبد الله على المغيرة بن شهاب المخزومي، وقرأه المغيرة على عثمان بن عفان رضوان الله عليه ورحمته ليس بينه وبينه أحد» ثم ينقل أن
__________
(1) جمال القراء، ورقة 150ب 151أ.
(2) صحيح البخاري، ج 6، ص 229، وفضائل القرآن لأبي عبيد، لوحة 50.(1/543)
عاصم بن بهدلة (ابن أبي النجود) قرأ على عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش وأن أبا عبد الرحمن قرأ على عليّ وقرأ زر على عبد الله. ثم يروي أن مجاهدا عرض القرآن على ابن عباس ثلاث مرات وأن عبد الله بن إسحاق الحضرمي أخذ القرآن عن يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم الليثي (1).
وتحدث أبو عبيد أيضا عن مصادر قراءة أحد شيوخه وهو إسماعيل بن جعفر الأنصاري المدني القارئ (ت ببغداد سنة 180هـ) فقال (2): «حدثنا إسماعيل بن جعفر:
أنه قرأ القرآن على عيسى بن وردان الحذاء (ت في حدود 160هـ).
قال: وقرأت القرآن على سليمان بن مسلم بن جماز (ت بعد 170هـ) وقرأ سليمان على أبي جعفر يزيد بن القعقاع (ت 130هـ) مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة (ت 78هـ) قال: قال سليمان: وأخبرني أبو جعفر أنه كان يمسك المصحف على عبد الله بن عياش، وعنه أخذ القرآن. قال: وأخبرني أبو جعفر أنه كان يقرأ القرآن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الحرة وكانت الحرة سنة ثلاث وستين.
وقال إسماعيل: وقرأت القرآن على شيبة بن نصاح (ت 130وقيل 138هـ) مولى أم سلمة قال: وكان إمام أهل المدينة في القراءة، وكان قديما، قال إسماعيل: أخبرني سليمان بن مسلم بن جماز أن شيبة أخبره أنه أتي به أم سلمة، وهو صغير، فمسحت رأسه وباركت عليه. قال إسماعيل: ثم هلك شيبة، فتركت قراءته وقرأت بقراءة نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم».
وهذا نموذج جيد يمثل لنا حرص القراء على بيان مصادرهم في القراءة وذكر إسنادها، والناظر في كتب طبقات القراء يجد مؤلفيها ينصون على الشيوخ الذين أخذ عنهم القارئ، وطريقة الأخذ، ومن أخذ عنه القراءة، ويستطيع المرء دائما أن يتتبع مصادر قراءة أي قارئ حتى يصل إلى جيل الصحابة الذين أخذوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأبو عمرو بن العلاء مثلا أخذ القراءة عن ثمانية عشر من أئمة التابعين، الذين ترجع قراءتهم إلى أحد عشر من الصحابة الذين كانوا أقطاب القراءة والمشتغلين بها من
__________
(1) انظر: فضائل القرآن، لوحة 50.
(2) نفس المصدر، لوحة (5150).(1/544)
أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس في القراء السبعة أحد أكثر شيوخا منه (1).
ثانيا: موافقة خط المصحف:
صارت موافقة القراءة لهجاء الكلمات في المصاحف العثمانية مقياسا لقبولها وصحة روايتها ونقلها، كما سبق في مطلع هذا الفصل، وقد صارت موافقة خط المصحف أحد أركان القراءة، فما صح نقله من القراءات ينظر إليه من خلال مقدار دلالة الخط عليه فما وافق الخط قرئ به وصح نقله، وما كان غير ذلك اعتبر من الشاذ الذي لا تجوز القراءة به، لكن موافقة الخط ليست موافقة مطلقة، إذ أن في كل الكتابات الأبجدية قصورا في تمثيل الخط لأصوات اللغة، يتمثل ذلك القصور في زيادة بعض الرموز أو نقصانها، وسأحاول تبيين مقدار المخالفة الجائزة للرسم في المبحث التالي.
وسبق أن المصاحف العثمانية كتبت على القراءة العامة، لكن كون خطها مجردا من علامات الحركات وتمييز الحروف المتشابهة قد جعل الرسم محتملا لأكثر من قراءة، تلك التي لا تقتضي تغيير هجاء الكلمة خاصة، فثبت أهل كل مصر من الأمصار على ما تلقوه من قراءات موافقة للخط عن الصحابة الذين نزلوا بينهم، وتركوا ما كان خارجا عن خط المصاحف العثمانية وهكذا صارت موافقة القراءة للخط ركنا ثانيا من أركان القراءة الصحيحة و «اجتمع القراء على ترك كل قراءة تخالف المصحف» (2). من مثل ما روي عن بعض الصحابة من حروف تخالف خط المصاحف العثمانية.
وعقد أبو عبيد بابا في فضائل القرآن سماه (باب الزوائد من الحروف التي خولف بها الخط) (3). ذكر فيه أكثر من مائة رواية من قراءات بعض الصحابة والتابعين لبضعة حروف خرجت عن خط المصحف بإبدال كلمة مكان كلمة مثل قراءة ابن مسعود (إن كانت إلّا زقية واحدة) قال أبو عبيد وهي في قراءتنا {إِنْ كََانَتْ إِلََّا صَيْحَةً وََاحِدَةً (29)} * [يس] ومثل قراءة سعيد بن جبير (كالصوف المنفوش) وهي في المصحف العثماني (كالعهن
__________
(1) انظر د. عبد الصبور شاهين: الأصوات في قراءة أبي عمرو، ص 37و 39، وابن الجزري: غاية النهاية، ج 1، ص 289.
(2) أبو بكر الأنباري: ج 1، ص 282.
(3) انظر: لوحة (4337).(1/545)
المنفوش (5) [القارعة]، أو بزيادة كلمة مثل قراءة ابن عباس ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربّكم في مواسم الحج بزيادة (في مواسم الحج). ومثل قراءة حفصة وعائشة وابن عباس (والصلاة الوسطى صلاة العصر) ومثل قراءة عثمان (يأخذ كل سفينة صالحة غصبا) (1).
وقد انعقد الإجماع بعد نسخ المصاحف العثمانية وبثها في الأمصار على ترك ما كان مثل تلك القراءات مما يخالف المصحف سواء كان بإبدال كلمة أو زيادة كلمة أو تقديم أو تأخير وما إلى ذلك، قال ابن قتيبة وهو يتحدث عن القراءات التي تجوز القراءة بها (2): «كل ما كان منها موافقا لمصحفنا غير خارج عن رسم كتابه جاز لنا أن نقرأ به، وليس لنا ذلك فيما خالفه».
وقد استعمل مقياس الخط في رد ما خالفه من قراءات سواء عند علماء القراءة أم غيرهم، قال الفراء (3): «اتباع المصحف إذا وجدت له وجها من كلام العرب وقراءة القراء أحب إليّ من خلافه». وقد قال في قوله تعالى: إن هذن لسحرن (63) [طه]:
«ولكنا نمضي عليه لئلا نخالف الكتاب» (4). وقال عبد الله بن أبي داود (5): «لا نرى أن نقرأ القرآن إلا لمصحف عثمان الذي اجتمع عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإن قرأ إنسان بخلافه في الصلاة أمرته بالإعادة». وكان الزجاج لا يجوّز القراءة بما هو خلاف المصحف، ويجوز ذلك في العربية (6). وقد قال وهو يتحدث عن قوله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ (140)} [آل عمران]: «لو قرئت أن يمسّكم كان صوابا، ولكن لا تقرأن به لمخالفته للمصحف، ولأن القراءة سنة» (7). وقال في قوله تعالى: {مُلََاقُوا رَبِّهِمْ (46)} *
__________
(1) يرى أبو حيان (البحر المحيط، ج 7، ص 65) أن ما جاء مخالفا للخط هو «في الحقيقة تفسير لا قراءة لمخالفة ذلك سواد المصحف». وانظر القرطبي: ج 1، ص 86.
(2) تأويل مشكل القرآن، ص 32.
(3) معاني القرآن، ج 2، ص 293. ونقل ذلك ابن فارس (ص 11) وقد ردد الفراء هذا المعنى في معاني القرآن في عدة مواضع انظر: ج 2، ص 35و 65.
(4) معاني القرآن، ج 2، ص 183.
(5) كتاب المصاحف، ص 54.
(6) انظر الكرماني: ص 16.
(7) كتاب إعراب القرآن ومعانيه، ص 668.(1/546)
[البقرة] إن المعنى (ملاقون ربهم) ثم يقول «ولا يجوز في القرآن إثباتها لأنه خلاف للمصحف، ولا يجوز أن يقع شيء في المصحف مجمع عليه فيخالف، لأن اتباع المصحف أصل اتباع السنة» (1). وقال في {لََا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللََّهَ (83)} [البقرة] أن القراءة بالياء والتاء ثم قال «وروي وجه ثالث، لا يؤخذ به، لأنه مخالف للمصحف، قرأ ابن مسعود: لا تعبدوا» (2). كذلك قد رد ابن خالويه قراءة من قرأ (مليك) في فاتحة الكتاب بقوله «ولم يقرأ به أحد لأنه يخالف المصحف ولا إمام له» (3). وقد استعمل ابن مجاهد هذا المقياس كثيرا في كتاب السبعة (4). ليس هذا فحسب بل إن المقياس استعمل في الحكم على قراءة بكاملها، فقد ذكر ابن الجزري عن قراءة ابن محيصن المكي (ت 123هـ) «ولولا ما فيها من مخالفة المصحف لألحقت بالقراءات المشهورة» (5).
وتظهر قوة هذا الركن في قبول القراءة أو ردّها مما أقدم عليه محمد بن أحمد بن أيوب المعروف بابن شنبوذ (ت 328هـ) فقد «كان يرى جواز القراءة بما صح سنده، وإن خالف رسم المصحف» (6). ويرى جواز الصلاة بما جاء في مصحف أبيّ، ومصحف ابن مسعود وبما صح في الأحاديث (7). وقد ذكر ابن النديم أمثلة لقراءته من مثل (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله)، ومثل (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا) وما شابه ذلك (8).
وكان قد ناهضه ابن مجاهد لقراءته تلك وعقد له الوزير ابن مقلة مجلسا بحضور ابن مجاهد وجماعة من العلماء والقضاة وكتب عليه به المحضر واستتيب عنه بعد اعترافه به (9). وقد أورد ابن النديم صورة لكتاب رجوعه عن قراءاته تلك وهو: «يقول
__________
(1) إعراب القرآن ومعانيه، ج 1، ص 93.
(2) ص 132، وانظر مثالا آخر: ص 202.
(3) إعراب ثلاثين سورة، ص 23.
(4) انظر: ص 107و 420و 684.
(5) غاية النهاية، ج 2، ص 167.
(6) القسطلاني: ج 1، ص 105.
(7) الذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 222، وانظر ابن الجزري: غاية النهاية، ج 2، ص 54.
(8) الفهرست، ص 31. وانظر ابن الجزري: غاية النهاية، ج 2، ص 55.
(9) ابن الجزري: غاية النهاية، ج 2، ص 54.(1/547)
محمد بن أحمد بن أيوب، قد كنت أقرأ حروفا تخالف مصحف عثمان المجمع عليه، والذي اتفق عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قراءته، ثم بان لي أن ذلك خطأ، وأنا منه تائب وعنه مقلع، وإلى الله جل اسمه منه بريء إذ كان مصحف عثمان هو الحق الذي لا يجوز خلافه، ولا يقرأ غيره» (1). وكان أبو بكر الأنباري قد ألف كتابا في وجوب اتباع ما في المصحف الإمام (2)، وربما يكون موضوعه الرد على مذهب ابن شنبوذ والتأكيد على وجوب ترك القراءة بما خالف خط المصحف العثماني من قراءات.
ثالثا: موافقة العربية:
نزل القرآن الكريم والعرب يتكلمون باللغة على هدي مما توارثوه وتعارفوا عليه من مجاري الكلام وطرائقه، وسمع المسلمون الأول القرآن الكريم الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانهم (3)، وكان نزول القرآن على سبعة أحرف قد أتاح لمن لم يستطع أن يتلوه على حرف أن يتلوه على الحرف الذي يستطيعه، لكن تقدم السنين في القرن الأول وما تلاه من امتداد بلاد الإسلام ودخول الناس فيه أفواجا قد دفع إلى أن يحرص بعض المهتمين بقضية اللغة وسلامتها على التفكير بتدوين قواعد اللغة وكانت أولى الخطى العملية لذلك التفكير ما قام به أبو الأسود الدؤلي من نقط المصاحف وتابع تلامذة أبي الأسود ذلك الجهد وهو تاريخ أوسع من أن نحيط به هاهنا وقد انتهى بدراسة اللغة وتحليلها ووضع قواعدها، لكن الملاحظ على ذلك الجهد الذي يمثله أشمل تمثيل كتاب سيبويه أنه يهتم بالأمثلة المطردة، ويعتبر ما جاء مخالفا لها شاذا يحفظ ولا يقاس عليه، وهو منهج قصد به تيسير تعليم اللغة، وهو المنهج المناسب لهذه الغاية، لكن اتخاذ القواعد المطردة التي نجدها في كتب النحو مقياسا لدراسة ظواهر لغوية سابقة لتاريخ وضع تلك القواعد، في وقت كان الناس يتكلمون فيه اللغة دون تأثر بقاعدة نحوية أو منطق لغوي موضوع، إخلال بالمنهج السديد، ووقوع في خطأ لا يختلف عن الخطأ الذي وقع فيه علماء العربية حين نظروا إلى ظواهر الرسم العثماني من خلال
__________
(1) الفهرست، ص 32.
(2) انظر الأزهري: ج 5، ص 14.
(3) قال الله سبحانه: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ رَسُولٍ إِلََّا بِلِسََانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (4)} [إبراهيم].(1/548)
القواعد الإملائية التي وضعوها في فترات لاحقة للفترة التي ترجع إليها ظواهر الرسم، لأن المنهج المناسب لدراسة اللغة وتحليلها هو الذي يقوم على دراسة ما كان لا ما ينبغي أن يكون.
وسبق أن مقياس قبول القراءة صار بعد نسخ المصاحف صحة نقلها وعدم خروجها عن الرسم، ولم يكن من بين شروط القراءة الصحيحة موافقة العربية، لأن هذا الشرط لم يكن له مكان في وقت كانت تعتبر فيه العربية هي ما كان يتكلمه العرب كلهم لا ما وجد فيما بعد في كتب النحو، لكن بعد أن استقرت قواعد النحاة واعتبروا ما خرج عن المطرد شاذا نظر إلى القراءات من خلال ذلك المبدأ، خاصة من قبل النحاة، وتحقيقا لأن تكون القراءة القرآنية بالغة المثل الأعلى في عربيتها جعلت موافقة العربية شرطا لقبول القراءة، وتعرضت بعض القراءات لنقد من جراء هذا المقياس (1).
وكان مذهب معظم القراء هو أن القراءة متى صح نقلها ووافقت خط المصحف فهي القراءة الصحيحة المقبولة، وقد أكد هذا المعنى أبو بكر الأنباري كثيرا في كتابه إيضاح الوقف والابتداء، وهو يتحدث عن القراءات، والوجوه الجائزة في العربية في، وكان يردد كثيرا مثل قوله «ويجوز في العربية ولا يجوز لأحد أن يقرأ بهذا لأنه لا إمام له)» (2). ومثل «وهذا الوجه الثالث سمعه الكسائي من العرب. ولا يجوز لأحد أن يقرأ به لأنه لا إمام له» (3). ويقول «زعم الفراء أن من العرب من يقول (أني اقتلوا) و (أني اضرب بعصاك الحجر) وليس مما قرأت به القراء، ولكنه مذهب للعرب غير داخل في القراءة» (4). فالرواية وصحة النقل هي الأساس عنده. وقد عبر الزجاج عن نفس هذا المعنى وهو يناقش قراءة الحسن (أجمعون) في قوله تعالى: {أُولََئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللََّهِ وَالْمَلََائِكَةِ وَالنََّاسِ أَجْمَعِينَ (161)} [البقرة]
__________
(1) انظر ابن مجاهد: ص 168و 278و 300و 336و 401و 409و 553و 686و 692، وابن جنّي:
المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات، القاهرة، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ج 1، ص 33. والزركشي: ج 1، ص 318. وانظر أيضا د. عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن، ص 203 وما بعدها.
(2) إيضاح الوقف والابتداء، ج 1، ص 321. وانظر أيضا: ص 314و 319.
(3) نفس المصدر، ج 1، ص 454.
(4) نفس المصدر، ج 1، ص 465.(1/549)
فقال (1): «وهذا جيد في العربية إلا أنني أكرهه لمخالفة المصحف، والقراءة إنما ينبغي أن تلزم فيها السنة، ولزوم السنة فيها أيضا أقوى عند أهل العربية، لأن الإجماع في القراءة إنما يقع على المعنى الجيد البالغ».
واستنادا إلى هذا الموقف نص القراء والنحاة على أن القراءة لا يجوز فيها القياس، قال ابن جني: إن القراءات «تؤثر رواية ولا تتجاوز» (2). وتحدث كل من ابن مجاهد وأبو الطيب عبد المنعم بن غلبون (ت 389هـ) وأبو علي الفارسي عن عدم جواز القياس في القراءات، فقال ابن مجاهد (3): «ولو كانت القراءة قياسا إذن لزم من أمال (في الغار) و (بخارجين) أن يميل {بِطََارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)} [الشعراء] {وَالْغََارِمِينَ (60)} [التوبة]».
وقال ابن غلبون (4): «لا قياس في القرآن لا في فتح ولا إمالة». وقال أبو علي: «وليس كل ما جاز في قياس العربية تسوغ التلاوة به حتى ينضم إلى ذلك الأثر المستفيض بقراءة السلف له، وأخذهم به لأن القراءة سنة» (5).
وكان هذا الفهم للقراءات هو المقياس الذي ينظر من خلاله إلى اختيارات القراء فقد ذكر أبو عبيد قراء مكة الذين انتهت إليهم القراءة بعد جيل التابعين، وهم ابن كثير وحميد بن قيس الأعرج ومحمد بن محيصن، وقد قال عن ابن محيصن «كان ابن محيصن أعلمهم بالعربية وأقواهم عليها» (6). وقال عن قراءته ابن مجاهد «كان لابن محيصن اختيار في القراءة على مذهب العربية، فخرج به عن إجماع أهل بلده فرغب الناس عن قراءته، وأجمعوا على قراءة ابن كثير لاتباعه» (7). وكان عيسى بن عمر الثقفي
__________
(1) إعراب القرآن ومعانيه، ص 202.
(2) الخصائص، ج 1، ص 398.
(3) كتاب السبعة، ص 149.
(4) قال في كتابه (الاستكمال في التفخيم والإمالة)، مخطوط في مكتبة المتحف البريطاني برقم (3941/ 2شرقيات)، ورقة 54أ، نقلا عن د. أحمد نصيف الجنابي: الدراسات اللغوية والنحوية في مصر، رسالة دكتوراه، مقدمة لكلية الآداب، جامعة عين شمس، 1975، ص 42.
(5) الحجة، ج 1، ص 5، وانظر أبو حيان: البحر المحيط، مج 1، ص 20.
(6) علم الدين السخاوي: جمال القراء، ورقة 150أ، وانظر ابن الجزري: غاية النهاية، ج 2، ص 167.
(7) ابن الجزري: غاية النهاية، ج 2، ص 167.(1/550)
النحوي البصري (ت 149) قد عرض القرآن على عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وعاصم الجحدري وروى عن ابن كثير وابن محيصن وكانت له اختيارات في القراءة على قياس العربية (1). وقد قال عنه أبو عبيد «وكان عيسى بن عمر عالما بالنحو غير أنه كان له اختيار في القراءة على مذاهب العربية يفارق قراءة العامة ويستنكرها الناس. وكان الغالب عليه حب النص ما وجد إلى ذلك سبيلا» (2).
ولعل أوضح مثال يدل على أن القراءة سنة تروى وليس فيها مجال للقياس ولا لما يجوز في العربية إذا لم يصح النقل ما كان من موقف القراء من مذهب أبي بكر محمد بن الحسن بن مقسم العطار البغدادي (ت 354) (3). فقد كان من أحفظ الناس لنحو الكوفيين وأعرفهم بالقراءات (4)، لكنه زعم أن كل ما صح عنده في العربية من القرآن يوافق خط المصحف فقراءته جائزة في الصلاة وغيرها، وإن لم تكن لها مادة (5).
وقد قال عنه الخطيب البغدادي (6): «ومما طعن عليه به أنه عمد إلى حروف من القرآن فخالف الإجماع وقرأها وأقرأها على وجوه ذكر أنها تجوز في اللغة العربية، وشاع ذلك عند أهل العلم فأنكروه عليه، وارتفع الأمر إلى السلطان فأحضروه واستتابه بحضرة القراء والفقهاء، فأذعن بالتوبة وكتب محضر بتوبته، وأثبت جماعة من حضر ذلك المجلس خطوطهم فيه بالشهادة عليه».
ونقل الخطيب البغدادي كلاما لأبي طاهر بن أبي هاشم المقرئ صاحب أبي بكر بن مجاهد نقله من كتابه المسمى (البيان) ذكر فيه أبو طاهر ما ذهب إليه ابن مقسم وما قام به أبو بكر بن مجاهد من محاولة رده عن بدعته، ويذكر الخطيب أن أبا طاهر قال كلاما كثيرا في ذلك في أول كتابه البيان، وأحال إليه من أراد الوقوف عليه كله، ونقل
__________
(1) نفس المصدر، ج 1، ص 613.
(2) علم الدين السخاوي: جمال القراء، ورقة 150ب. وابن الجزري: غاية النهاية، ج 1، ص 613.
(3) هذا هو المشهور في تاريخ وفاته إلا أن ابن النديم ذكر (ص 33) أن وفاته كانت سنة 362هـ.
(4) الخطيب البغدادي: ج 2، ص 206، وابن الجزري: غاية النهاية، ج 2، ص 124.
(5) أبو البركات الأنباري: ص 289. وانظر الذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 248، وابن الجزري:
غاية النهاية، ج 1، ص 17، والسيوطي: بغية الوعاة، ج 1، ص 89.
(6) تاريخ بغداد، ج 2، ص (207206)، وانظر الذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 248، وابن الجزري: غاية النهاية، ج 2، ص 124.(1/551)
من كلام أبي طاهر ذاك ما يظهر لنا منهج القراء في الاختيار والأساس الذي بنوا عليه اختياراتهم، ومما قاله أبو طاهر بن أبي هاشم عن ابن مقسم (1): «وقد دخلت عليه شبهة لا تخيل (2) بطولها وفسادها على ذي لب وفطنة صحيحة، وذلك أنه قال: لما كان لخلف بن هشام وأبي عبيد وابن سعدان أن يختاروا، وكان ذلك لهم مباحا غير منكر، كان ذلك لي أيضا مباحا غير مستنكر، فلو كان هذا حذا حذوهم فيما اختاروه، وسلك طريقا كطريقهم، كان ذلك مباحا له ولغيره غير مستنكر، وذلك أن خلفا ترك حروفا من حروف حمزة واختار أن يقرأ على مذهب نافع، وأما أبو عبيد وابن سعدان فلم يتجاوز واحد منهما قراءة أئمة القراء بالأمصار، ولو كان هذا الغافل نحا نحوهم كان مسوغا لذلك غير ممنوع منه، ولا معيب عليه، بل إنما كان النكير عليه شذوذه عما عليه الأئمة الذين هم الحجة فيما جاءوا به مجتمعين ومختلفين».
ويبدو أن إنكار ما ذهب إليه ابن مقسم من تجويزه القراءة بأي وجه صح من حيث العربية ووافق المصحف وإن لم ينقل كان إجماعا من عامة أهل زمانه، حتى أن ابن درستويه (ت 346هـ) ألف كتابا سماه (كتاب الرد على ابن مقسم في اختياره) (3)، ولعله ألفه في الرد على مذهب ابن مقسم في القراءة كما يدل عنوان الكتاب.
وهذه الأقوال والمواقف التي عرضناها تدل على إجماع القراء وعلماء العربية على أن قراءة القرآن لا تجوز بالقياس ولا بالاجتهاد ولا بد فيها من صحة النقل أولا وموافقة الخط ثانيا، لكن هناك وجها آخر للقضية وهو الموقف الذي اتخذه بعض العلماء من النحاة خاصة تجاه بعض القراءات التي لا تنطبق عليها قواعدهم واتهامها بالشذوذ والضعف من حيث العربية (4). وهو موقف يأباه القراء ولا يلتفتون إلى القائلين به والحق معهم ذلك لأن القواعد التي وضعها النحاة جاءت لاحقة، ووضعت لغرض تعليمي بحت ينفي الشذوذ ولا يعنى إلا بالأمثلة المطردة، والقراءات مهما كانت من
__________
(1) تاريخ بغداد، ج 2، ص 208، وانظر أبو البركات الأنباري: ص (290289).
(2) (لا يخفى فسادها على ذي لب) هذا هو نص أبي البركات الأنباري (انظر: الهامش السابق).
(3) انظر ابن النديم: ص 63. والقفطي: ج 2، ص 114. وكان ابن النديم قد ذكر لابن درستويه (ص 35) كتابا آخر هو كتاب الاحتجاج للقراء.
(4) انظر: هامش (549) من هذا الفصل.(1/552)
حيث الصحة والشذوذ هي أصدق تعبير عن واقع العربية في فترة ظهور الإسلام من حيث الأصوات والمفردات والتراكيب (1).
وخير ما يمثل موقف القراء من هذه القضية هو ما قاله أبو عمرو الداني في كتابه (جامع البيان) وهو يتحدث عن قراءة أبي عمرو بن العلاء (بارئكم) (البقرة 2/ 54) بالإسكان بدل حركة الإعراب، قال (2): «وأئمة القراءة لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر، والأصح في النقل والرواية إذا ثبتت لا يردها قياس عربية ولا فشو لغة، لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها».
وظل ما قاله الداني يمثل موقف القراء من هذا الموضوع، وقد صرح ابن الجزري أن «من المحال أن يصح في القراءة ما لا يسوغ في العربية، بل قد يسوغ في العربية ما لا يصح في القراءة، لأن القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول» (3). وقد عدّل ابن الجزري نتيجة لهذا الموقف في صيغة الركن الثالث من أركان القراءة الصحيحة فقال مرة «كل قراءة وافقت العربية مطلقا» (4). وقال في أخرى «كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه» (5). فأضاف (ولو بوجه)، وقد بين الغرض من هذه الإضافة بقوله (6): «وقولنا في الضابط (ولو بوجه) نريد به وجها من وجوه النحو سواء كان أفصح أم فصيحا، مجمعا عليه أم مختلفا فيه اختلافا لا يضر مثله إذا كانت القراءة مما شاع وذاع وتلقاه الأئمة بالإسناد الصحيح، إذ هو الأصل الأعظم والركن الأقوم، وهذا هو المختار عند المحققين في ركن موافقة العربية، فكم من قراءة أنكرها بعض أهل النحو أو كثير منهم ولم يعتبر إنكارهم بل أجمع الأئمة المقتدى بهم من السلف على قبولها» ثم أورد أمثلة لتلك القراءات التي أنكرها بعض النحاة من مثل إسكان {بََارِئِكُمْ (54)} * [البقرة]
__________
(1) انظر د. عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن، ص 8، والقراءات القرآنية (له)، ص 7.
(2) جامع البيان، ورقة 171أ، وانظر ما قاله الفخر الرازي، ص 185من هذا البحث.
(3) النشر، ج 1، ص 429.
(4) منجد المقرئين، ص 15.
(5) النشر، ج 1، ص 9.
(6) نفس المصدر، ج 1، ص 10. وانظر السيوطي: الإتقان، ج 1، ص 211.(1/553)
و {يَأْمُرُكُمْ (67)} * [البقرة] وخفض {وَالْأَرْحََامَ} [النساء: 1] والفصل بين المضافين في {قَتْلَ أَوْلََادِهِمْ شُرَكََاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] وغير ذلك. ثم نقل قول الداني الذي نقلناه قبل قليل.(1/554)
و {يَأْمُرُكُمْ (67)} * [البقرة] وخفض {وَالْأَرْحََامَ} [النساء: 1] والفصل بين المضافين في {قَتْلَ أَوْلََادِهِمْ شُرَكََاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] وغير ذلك. ثم نقل قول الداني الذي نقلناه قبل قليل.
المبحث الثالث مقياس الشّذوذ وتطوّره
ذكر ابن جنّي أن مواضع (ش ذ ذ) في كلام العرب هو التفرق والتفرد (1)، وقال علم الدين السخاوي: والشاذ مأخوذ من قولهم شذّ الرجل يشذ ويشذ شذوذا إذا انفرد عن القوم، واعتزل عن جماعتهم، ثم يقول: وكفى بهذه التسمية تنبيها على انفراد الشاذ وخروجه عما عليه الجمهور. والذي لم يزل عليه الأئمة الكبار القدوة في جميع الأمصار من الفقهاء والمحدثين وأئمة العربية توقير القرآن واجتناب الشاذ واتباع القراءة المشهورة ولزوم الطرق المعروفة في الصلاة وغيرها (2).
ويتبين من العرض السابق لأركان القراءة الصحيحة أن تشذيذ القراءات بدأ منذ نسخ المصاحف في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه واعتبر ما خرج عن هجاء الكلمات فيها شاذا، إذ كان بعض الصحابة يقرءون بما خالف رسم المصحف العثماني قبل كتابته والإجماع عليه (3)، ولم تكن القراءات في تلك الفترة تنسب إلى أشخاص بأعيانهم. ولم تكن معدودة بعدد، فكل قراءة ثبتت نقلا ووافقت المصحف قرئ بها وجازت روايتها، وقد عبر عن ذلك الأئمة المتقدمون، فينقل أبو منصور الأزهري أن «من قرأ بحرف شاذ يخالف المصحف، وخالف بذلك جمهور القراء المعروفين فهو غير مصيب، وهذا مذهب الراسخين في علم القرآن قديما وحديثا، وإلى هذا أومى أبو العباس النحوي وأبو بكر الأنباري في كتاب ألفه في اتباع ما في المصحف الإمام، وافقه على ذلك أبو بكر (بن) مجاهد مقرئ أهل العراق وغيره من الأثبات المتقنين، ولا يجوز عندي غير ما قالوا» (4).
__________
(1) الخصائص، ج 1، ص 96.
(2) جمال القراء: ورقة 82ب.
(3) ابن الجزري: منجد المقرئين، ص 21.
(4) تهذيب اللغة، ج 5، ص 14.(1/555)
ومع أن الأزهرى (ولد 282ت 370هـ) كان معاصرا لأبي بكر بن مجاهد ولتلامذته الذين رووا عنه القراءات السبع التي اختارها من قراءات أئمة الأمصار المشهورين بالقراءة في زمانه فإنه عبر بقوله هذا عن موقف الأجيال السابقة حتى عصره من تعريف الشاذ بأنه ما خالف رسم المصحف، لكن هذا المقياس اختل قليلا على يد تلامذة ابن مجاهد الذين حصروا القراءات الصحيحة في السبع التي اختارها ابن مجاهد من بين قراءات الأئمة وأطلقوا على ما عداها اسم الشذوذ، وقد ظلت آثار هذا الاتجاه بادية في مواقف بعض العلماء، لكن التعريف القديم للشاذ بأنه ما خالف رسم المصحف عاد تدريجيا في السنين التالية، إلا أن تأليف ابن مجاهد كتابه الكبير في قراءات الأئمة السبعة كان نقطة تحول في دراسة القراءات وروايتها وتغيير مفهوم الشذوذ فيها، فقد كانت الرواية والتأليف قبله تشمل كافة القراءات واختيارات الأئمة المشهورين، لكن عمله ذاك جعل الجهود تتركز على تلك السبع، وضمّ إليهم بعد ذلك ثلاثة من القراء ثم هناك من يزيد أربعة آخرين. وقد اعتبر ما عدا السبع من القراءات حينا من الدهر شاذا.
إن محاولة التعرف على طريقة التأليف في كتب القراءات قبل ابن مجاهد تبين لنا عمق أثر اختياره في هذا المجال، فقد روى ابن عطية في مقدمة تفسيره الجامع وهو يتحدث عن نقط المصحف في خلافة عبد الملك أن الحجاج «أمر وهو والي العراق الحسن ويحيى بن يعمر بذلك، وألّف إثر ذلك بواسط كتابا في القراءات جمع فيه ما روي من اختلاف الناس فيما وافق الخط، ومشى الناس على ذلك زمانا طويلا إلى أن ألف ابن مجاهد كتابه في القراءات (1). ويفهم من هذا النص أن يحيى بن يعمر (ت قبل 90هـ) الذي ألف ذلك الكتاب. وألّفت كتب كثيرة بين تاريخ تأليف يحيى لكتابه الذي اعتبر فيه ما خالف الخط شاذا كما يفهم من النص السابق وبين عصر ابن مجاهد، وقد أحصى باحث محدث الكتب التي ذكر أنها ألفت في القراءات حتى عصر ابن مجاهد (ت 324هـ) فذكر أربعة كتابا (2). أولها كتاب يحيى بن يعمر، ثم تتوالى الكتب
__________
(1) مقدمة تفسير ابن عطية، ص 275، ونقل هذا النص القرطي، ج 1، ص 63. وانظر فؤاد سزكين:
ج 1، ص 147.
(2) د. عبد الهادي الفضلي: قراءة ابن كثير وأثرها في الدراسات النحوية، رسالة دكتوراه، مقدمة لكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، 1975، (ص 6560)، وانظر ابن النديم: ص 35، ود. عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن، ص 217.(1/556)
بعد ذلك فيذكر أحد عشر كتابا ترجع إلى القرن الثاني، وتسعة وعشرين كتابا ترجع إلى القرن الثالث، وثلاثة إلى أوائل القرن الرابع، وليس بعيدا ألا يكون هذا الإحصاء جامعا لكل ما ألف، لكنه يكشف عن حقيقة ربما غابت عن بعض الدارسين وهي أن تدوين القراءات والتأليف فيها قد بدأ في وقت مبكر. وكان ذلك مواكبا للنقل الشفاهي والرواية (1).
ويبدو أن كل تلك المؤلفات لم يصل إلينا منها شيء كامل، ولكن وردت أخبار ونصوص منها، والذي يهمنا في هذا المقام هو أن نعرف طريقة التأليف فيها، أو عدد القراءات التي ذكرت فيها، فقد جرى المؤلفون فيها على ذكر ما رووه وسمعوه من قراءات الأئمة المشهورين واختياراتهم، دون تقييد بعدد أو بقراءة شخص معين. فقد ذكر ابن الجزري أن أبا عبيد القاسم بن سلام في كتابه الذي ألفه في القراءات (2)،
__________
(1) ذكر جرجي زيدان (تاريخ آداب اللغة العربية، ج 1، ص 244243) أن القراءات تنوقلت بالإسناد ولم تدوّن في الكتب إلا بعد نضج التمدن الإسلامي حسب تعبيره وذكر أن أشهر ما وصل إلينا منها كتاب إيضاح الوقف والابتداء لأبي بكر الأنباري (ت 328هـ) علما أن هذا الكتاب في موضوع الوقف في القرآن ثم كتاب التيسير وجامع البيان والمفردات لأبي عمرو الداني (ت 444هـ) وهذا كلام فيه قصور شديد يتناسب والفترة التي كتب فيها وثقافة كاتبها، ولم يزل البحث يكشف كل يوم جديدا في تاريخ القرآن والقراءات، ولكن نجد من يأبى إلا الرجوع إلى ما كتبه جرجي زيدان في كتابه عن تاريخ العلوم الإسلامية واعتبار ما ذكره على سبيل الظن حقيقة مسلمة مخالفها ضال حائد عن الحق، فقد رأينا من قبل موقف الدكتور حسن عون وما جرّه عليه اعتماده على معلومات جرجي زيدان من أخطاء في موضوع نقط المصاحف ووضع الحركات في الكتابة العربية، وهو هنا يتخذ نفس الموقف فيزعم (ص 203) «أن هذه القراءات تنوقلت بالرواية ولم تأخذ شكلها العلمي المنظم إلا في القرن الرابع الهجري. حيث نجد أول كتاب دوّن في هذا العلم، وهو كتاب الإيضاح في الوقف والابتداء لمحمد بن القاسم الأنباري سنة 328هـ ثم يقول (ص 204): «ومعنى هذا أن علم القراءة بدأ في خلافة عثمان واستمر يمارس مشافهة دون تدوين حتى القرن الرابع الهجري». ولا أكاد أشك أن جرجي زيدان هو مصدر هذا الكلام، وفيه من التخليط في العبارة والجهل بالحقائق ما لا يخفى على من له أدنى اتصال بتاريخ القرآن وعلومه.
(2) انظر ابن النديم: ص 71، والقفطي: ج 3، ص 22، والذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 142.(1/557)
«جعلهم فيما أحسب خمسة وعشرين قارئا» (1). وسبق أن أوردنا قطعة من كتاب أبي عبيد ذكر فيها أن الأئمة الذين أجمعت عليهم بلدانهم واشتهروا بالإتقان والضبط في القراءة هم خمسة عشر أو يزيدون قليلا، ولابن قتيبة كتاب في القراءات (2) لا نعلم عدد القراءات التي ذكرها فيه لكنه في كتابه «المعارف» ذكر أصحاب القراءات فجعلهم عشرين. ولعلهم هم الذين ذكرهم في كتابه ومن بينهم أصحاب القراءات الأربعة عشر إلا يعقوب واليزيدي والحسن (3)، وذكر ابن الجزري أن إسماعيل القاضي (ت 282هـ) جمع في كتابه القراءات عشرين قراءة منها السبع المشهورة (4). وأن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ) جمع كتابا حافلا سماه (الجامع) ذكر فيه نيفا وعشرين قراءة (5).
ولا يعني ذلك أنه لم تؤلف كتب ورسائل في قراءة معينة أو بضعة قراءات لكن الظاهرة العامة هي عدم التقيد بعدد من القراءات فأية قراءة توافر لها النقل وموافقة الخط ووجه في العربية كانت قراءة مقبولة يصح نقلها والقراءة بها. ولم تشهد السنون التي سبقت عصر ابن مجاهد التأليف في القراءات الصحيحة النقل الموافقة للخط فحسب، بل شهدت أيضا التأليف فيما شذ عن ذلك من القراءات التي تروى عن بعض الصحابة التي فيها إبدال كلمة بأخرى أو زيادة كلمة وما إلى ذلك. فقد كان هارون بن موسى العتكي الأعور (ت قبل 200) أول من تتبع الشواذ وبحث عن أسانيدها. وكان قد كره الناس عمله حتى أن الأصمعي قال عنه: كنت أشتهي أن يضرب لمكان تأليف الحروف (6).
__________
(1) النشر، ج 1، ص 34.
(2) ابن النديم: ص 35.
(3) المعارف، ص (232230).
(4) النشر، ج 1، ص 34.
(5) نفس المصدر والصفحة. وقد ذكر الطبري في تفسيره (ج 1، ص 148) أنه استقصى وجوه الخلاف في القراءات في كتابه (كتاب القراءات).
(6) علم الدين السخاوي: جمال القراء، ورقة 83ب، انظر ابن الجزري: غاية النهاية، ج 2، ص 348.(1/558)
وفي نهاية القرن الهجري الثالث وأوائل الرابع اختار ابن مجاهد قراءة سبعة من قراء الأمصار لم يكونوا ممن عاصرهم ولكنهم ممن اشتهرت قراءتهم ولا يزال الناس يقرءون بها ويروونها حتى عصره، وألف كتابه المشهور في القراءات السبعة. وقد كان ابن مجاهد مشهورا بالعلم والقراءات والتقدم فيها، قال ابن النديم (1): «آخر من انتهت إليه الرئاسة بمدينة السلام في عصره أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد، وكان واحد عصره غير مدافع، وكان مع فضله وعلمه وديانته ومعرفته بالقراءات وعلوم القرآن حسن الأدب رقيق الخلق كثير المداعبة. ثاقب الفطنة، ومولده سنة خمس وأربعين ومائتين وتوفي يوم الأربعاء، لليلة بقيت من شعبان سنة أربع وعشرين وثلاث مائة».
ووصفه الذهبي بأنه (شيخ العصر) (2). وقال عنه ابن الجزري (شيخ الصنعة وأول من سبّع السبعة) (3).
وقد بين مكي بن أبي طالب الحاجة إلى العمل الذي قام به ابن مجاهد، وسبب اشتهاره بقوله: «إن الرواة عن الأئمة من القراء كانوا في العصر الثاني والثالث كثيرا في العدد كثيرا في الاختلاف، فأراد الناس في العصر الرابع أن يقتصروا من القراءات التي توافق المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى إمام مشهور بالثقة والأمانة وحسن الدين، وكمال العلم، قد طال عمره، واشتهر أمره وأجمع أهل مصره على عدالته فيما نقل، وثقته فيما قرأ وروى، وعلمه بما يقرأ، فلم تخرج قراءته عن خط مصحفهم المنسوب إليهم فأفردوا من كل مصر وجه إليه عثمان مصحفا إماما هذه صفته وقراءته على مصحف ذلك المصر، فكان أبو عمرو من أهل البصرة، وحمزة وعاصم من أهل الكوفة وسوادها. والكسائي من أهل العراق، وابن كثير من أهل مكة، وابن عامر من أهل الشام، ونافع من أهل المدينة. كلهم ممن اشتهرت إمامته، وطال عمره في الإقراء، وارتحال الناس إليه من البلدان. وأول من اقتصر على هؤلاء أبو بكر بن مجاهد قبل سنة ثلاث مائة أو في نحوها، وتابعه على ذلك من أتى بعده إلى
__________
(1) الفهرست، ص 31.
(2) معرفة القراء، ج 1، ص 216.
(3) غاية النهاية، ج 1، ص 139.(1/559)
الآن، ولم تترك القراءة بقراءة غيرهم، واختيار من أتى بعدهم إلى الآن» (1).
وقيل إن ابن مجاهد جعلهم سبعة لأن عثمان رضي الله عنه كتب سبعة مصاحف ووجه بها إلى الأمصار فجعل عدد القراء على عدد المصاحف، ولأن عددهم على عدد الحروف التي نزل بها القرآن وهي سبعة (2)، ولا يشك أن هذا مجرد استنتاج لا يستند إلى قصد من ابن مجاهد إلى ذلك، لأن عدد المصاحف في الرأي الراجح خمسة، وقد كان عدد من العلماء قد كرهوا اقتصار ابن مجاهد على سبعة من القراء، وقالوا ألا اقتصر على دون هذا العدد أو زاده حتى لا يظن أن المقصود بهذه القراءات الحروف السبعة (3).
وكلام ابن مجاهد في مقدمة كتاب (السبعة) الذي طبع محققا أخيرا يبين أنه إنما أراد أن يستخلص للأمة أهم القراءات التي اشتهرت في الأمصار الإسلامية (4)، فيقول:
«وحملة القرآن متفاضلون في حمله، ولنقلة الحروف منازل في نقل حروفه، وأنا ذاكر منازلهم، ودالّ على الأئمة منهم، ومخبر عن القراءة التي عليها الناس بالحجاز والعراق والشام، وشارح مذاهب أهل القراءة ومبين اختلافهم واتفاقهم إن شاء الله» (5). ولا شك في أن ابن مجاهد اختار من القراءات ما وافق خط المصحف ومن القراء بها من اشتهرت عدالته وقامت معرفته، وتقدم أهل زمانه في الدين والأمانة والمعرفة والصيانة واختاره أهل عصره في هذا الشأن، وأطبقوا على قراءته وقصد من الأقطار، وطالت ممارسته القراءة والأقراء وخص بطول البقاء (6).
ونتيجة لشهرة ابن مجاهد ومكانته في مجال القراءات ولأنه اختار أشهر القراء الذين أخذوا قراءاتهم عن كبار التابعين فقد دب شعور بأن ما عدا السبعة من القراءات هو أقل
__________
(1) الإبانة، (4847). وانظر ابن حجر: ج 10، ص 407.
(2) مكي: الإبانة، ص 51. وانظر الزركشي: ج 1، ص 327. وعلم الدين السخاوي: جمال القراء، ورقة 150ب.
(3) انظر ابن الجزري: النشر، ج 1، ص 36، حيث ينقل أقوال عدد من العلماء في ذلك.
(4) مقدمة د. شوقي ضيف لكتاب السبعة، ص 22.
(5) كتاب السبعة، ص 45.
(6) علم الدين السخاوي: جمال القراء، ورقة 150ب.(1/560)
علوا من حيث السند والرواية، ومن هنا غلب إطلاق لفظ الشذوذ على ما عدا قراءات الأئمة السبعة. وهو معنى جديد للشذوذ، وقد غذّى هذه الفكرة وساعد على انتشارها ابن مجاهد وتلامذته. فقد ألف ابن مجاهد نفسه كتابا ذكر فيه شواذ القراءة، كان معتمد ابن جني في المحتسب (1). وألف أبو طاهر عبد الواحد بن عمر أبي هاشم (ت 349هـ) كتابا في (شواذ السبعة) (2). وألف أبو علي الفارسي كتابا في الاحتجاج للقراءات التي أوردها ابن مجاهد في كتاب السبعة (3). ثم أن ابن جني ألف كتابه المحتسب في الاحتجاج للقراءات التي أوردها ابن مجاهد في كتاب القراءات الشاذة.
وحين تحدث ابن النديم (ت 385هـ) عن القراءات والقراء ذكر أولا (أخبار القراء السبعة وأسماء رواياتهم وقراءتهم) (4)، ثم تحدث بعد ذلك عن (قراء الشواذ) (5)، فذكر ما عدا السبعة من مشهوري القراء الآخرين، فذكر خمسة من قراء أهل المدينة منهم شيبة بن نصاح وأبو جعفر. وأربعة من أهل مكة منهم ابن محيصن وحميد بن قيس الأعرج، وخمسة من أهل البصرة منهم عاصم الجحدري وعيسى بن عمر الثقفي ويعقوب الحضرمي، وذكر من قراء الكوفة أربعة ومن أهل الشام ثلاثة ومن أهل اليمن واحدا، ومن أهل بغداد ذكر خلف بن هشام. وإدراج ابن النديم لأكثر هؤلاء بين قراء الشواذ لم يكن لشيء إلا لأن قراءتهم ليست من السبع التي اختارها ابن مجاهد، مع العلم أن من بين هؤلاء شيوخا كبارا للقراء السبعة أو تلامذة نجباء لهم، ولم يكن بينهم من الاختلاف في القراءة إلا اليسير.
إن تشذيذ ما عدا القراءات السبع الذي وضع أساسه ابن مجاهد في كتابه الكبير وكتابه الآخر في ما شذ عن السبعة لم يستمر طويلا رغم أن أثره ظل يتراءى بين الحين والآخر. وما حصر القراءات في سبع أو عشر إلا أثر من آثاره. لكن المقياس الأول للقراءة الصحيحة وهو أن تتوفر فيها الأركان الثلاثة من صحة النقل وموافقة الخط وأن
__________
(1) انظر ابن جنّي: المحتسب، ج 1، ص 35.
(2) ابن النديم: ص 32.
(3) انظر: الحجة، ج 1، ص 3.
(4) الفهرست، ص (2928).
(5) نفس المصدر، ص (3130).(1/561)
يكون لها وجه في العربية عاد هو الأساس في وصف القراءة التي تتوفر فيها بالصحة وما عداها بالشذوذ، وقد قال أبو شامة (ت 665هـ) أنه إن اختل أحد هذه الأركان الثلاثة أطلق على القراءة أنها شاذة وضعيفة (1). وقد وصف ابن تيمية القراءة الشاذة بأنها هي القراءة الخارجة عن رسم المصحف العثماني (2).
وظهر إلى جانب ذلك اتجاه إلى ضم قراءات صحيحة أخرى إلى السبعة في التأليف منذ النصف الأول من القرن الهجري الرابع، فقد ألف إبراهيم بن عبد الرازق الأنطاكي (ت 338هـ) كتابا في القراءات الثمان (3). ولأبي الحسن علي بن مرة النقاش (ت 352هـ) كتاب القراء الثمانية، أضاف إلى السبعة رواية خلف بن هشام البزار (4). وكان ابن جبير المقرئ عاش قبل ابن مجاهد قد ألف كتابا سماه الثمانية زاد فيه على السبعة يعقوب الحضرمي (5). وذكر ابن حزم في رسالة ألحقها بكتابه جوامع السيرة قراءات الأمصار في زمانه (ت 456هـ) فذكر السبعة وأضاف إليهم الأعمش من قراء الكوفة، ويعقوب الحضرمي من قراء البصرة (6)، ثم إن من المؤلفين في القراءات من ضم إلى السبعة أبا جعفر المدني إلى جانب يعقوب الحضرمي وخلف بن هشام البزار، وسمى كتابه كتاب العشرة (7).
ومن ناحية أخرى لم تنقطع القراءة بقراءات الأئمة الثلاثة المتممين للعشرة بل توالت القراءة بها ورايتها خلفا عن سلف (8). رغم أنها وصفت في فترة من الزمن بأنها شاذة،
__________
(1) انظر الزركشي: ج 1، ص 331.
(2) مجموعة فتاوى ابن تيمية، مج 1، ص 315. وانظر ابن الجزري: منجد المقرئين، ص (1716).
(3) الذهبي: معرفة القراء، ج 1، ص 230.
(4) ابن النديم: ص 39. وقد ذكر ابن الجوزي في غاية النهاية، (ج 2، ص 186)، محمد بن عبد الله بن محمد بن مرة، ويقال ابن أبي مرة، أبو الحسن الطوسي ثم البغدادي يعرف بابن أبي عمر النقاش أخذ القراءة عن جماعة منهم أبو بكر بن مجاهد وروى اختيار خلف عرضا، وتوفي سنة 352هـ. ولعله هو الذي ذكره ابن النديم وحدث تحريف في أحد المصدرين.
(5) مكي: الإبانة، ص 51. ونقل الزركشي هذا النص، ج 1، ص 329.
(6) جوامع السيرة، ص (271269).
(7) الزركشي: ج 1، ص 329.
(8) ابن الجزري: منجد المقرئين، ص 29.(1/562)
وقد بين ابن الجزري في كثير من المواضع أن المقياس الأول الذي يجب أن يقوم عليه قبول القراءة أو تشذيذها هو الأركان الثلاثة المشهورة. وقد صرح بأن «كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها، سواء كانت عن الأئمة السبعة أم عن العشرة أم عن الأئمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت من السبعة أم عمن هو أكبر منهم، هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف» (1).
وقد جعل ابن الجزري القراءات بناء على منهجه السابق: متواترة، ويعني بالتواتر ما رواه جماعة عن جماعة كذا إلى منتهاه، يفيد العلم من غير تعيين عدد، وقيل بالتعيين.
ويذكر أن من قال إن القراءات المتواترة لا حد لها إن أراد في زماننا فغير صحيح لأنه لا يوجد اليوم قراءة متواترة وراء العشرة. وإن أراد في الصدر الأول فيحتمل إن شاء الله (2). والنوع الثاني صحيحة، وهي على قسمين قسم استوفى الأركان الثلاثة إلا أنه لم يكن يبلغ مبلغ المتواتر، وقسم وافق العربية وصح سنده لكنه خالف الرسم، فهذه القراءة تسمى شاذة لكونها شذت عن رسم المصحف المجمع عليه (3). وكان مكي قد صنف القراءات من قبل تصنيفا لا يختلف كثيرا عن تصنيف ابن الجزري فقد جعلها ثلاثة أقسام: قسم مقبول يقرأ به وهو ما اجتمعت فيه الأركان الثلاثة. والثاني ما خالف الرسم ونص على أنه يقبل ولكن لا تجوز القراءة به، والثالث ما نقله غير ثقة أو نقله ثقة ولا وجه له في العربية، فهذا لا يقبل وإن وافق خط المصحف (4). وقد جعل القسطلاني القراءات بالنسبة للتواتر ثلاثة أقسام: متفق على تواتره وهو السبع المشهورة وقسم مختلف فيه وهي الثلاث بعدها، وقسم اتفق على شذوذه وهي قراءات الأئمة
__________
(1) النشر، ج 1، ص 9.
(2) انظر: منجد المقرئين، ص (1615).
(3) نفس المصدر، ص (1716). وانظر السيوطي: الإتقان، ج 1، ص (216215).
(4) الإبانة، (1918). وانظر ابن الجزري: النشر، ج 1، ص (1613).(1/563)
الأربعة الباقية: اليزيدي والحسن وابن محيصن والأعمش (1). وجرى الدمياطي على هذا التقسيم إلا أنه نص على أن الصحيح المختار في الثلاثة بعد السبعة التواتر (2).
__________
(1) لطائف الإشارات، ج 1، ص 170.
(2) انظر: إتحاف فضلاء البشر، ص 7.(1/564)
المبحث الرابع وجوه المخالفة الجائزة للرّسم
سبق في الفصل الأول بيان مظاهر قصور الكتابة في تمثيل النطق تمثيلا دقيقا، وأشير إلى ذلك في مطلع هذا الفصل، وأحاول في هذا المبحث بيان العلاقة بين وجوه القراءات المختلفة وبين الرسم، ومدى المخالفة الجائزة والمسموح بها في مخالفة القراءة للرسم، معتمدا في ذلك على حقيقتين:
الأولى هو ما أشير إليه أكثر من مرة في هذا البحث من كون الكتابة لا تحصر جهة اللفظ دائما، وأن تطور اللغة قد عمل عمله في توسيع الفجوة بين رموز الكتابة المكتوبة وبين نطقها ذلك لأن النطق أكثر استجابة للتطور والتغير بينما الكتابة أكثر ميلا للمحافظة على هجاء الكلمات المعروف رغم ما قد يلحق نطقها من تغير.
والثانية هي أن الرسم العثماني إنما كتب لتمثيل القراءة العامة المشهورة في المدينة وهو ما رجحته من قبل ثم إن المسلمين في الأمصار الإسلامية قرءوا القرآن على ما رووه وحفظوه عن الصحابة الذين نزلوا بينهم، وفيه كثير مما تحتمله رخصة الأحرف السبعة، ولكنهم قرءوا بما يوافق خط المصحف دون ما خالفه، رغبة منهم في عدم الخروج على إجماع الصحابة. ومن ثم فقد ارتبطت بالرسم كل القراءات التي صح نقلها ولم تخرج عن الرسم. وصارت موافقة الرسم أحد شروط القراءة الصحيحة كما مر بيان ذلك من قريب وعلينا أن نلاحظ أن تحديد القراءة التي رسم عليها المصحف لم يعد ممكنا، فقد صارت كل قراءة موافقة للرسم يمكن أن تكون هي تلك القراءة. وقد كان لظاهرة الاختيار في القراءات أثر في ذلك، وكان مكي بن أبي طالب قد فصل هذه القضية وبيّن أن المصحف كتب على حرف واحد وأن خطه محتمل لأكثر من حرف، إذ لم يكن منقوطا ولا مضبوطا، ولكنا لا نعلم ذلك الحرف بعينه، فجاز لنا أن نقرأ بما صحت روايته مما يحتمله ذلك الخط، لنتحرى مراد عثمان رضي الله عنه ومن تبعه من الصحابة وغيرهم. ولا شك أن ما زاد على لفظ واحد في كل حرف اختلف فيه
ليس مما أراد عثمان، فالزيادة لا بد أن تكون من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ثم يقول أخيرا «وقد أجمع المسلمون على قبول هذه القراءات التي لا تخالف المصحف، ولو تركنا القراءة بما زاد على وجه واحد من الحروف لكان لقائل أن يقول:(1/565)
والثانية هي أن الرسم العثماني إنما كتب لتمثيل القراءة العامة المشهورة في المدينة وهو ما رجحته من قبل ثم إن المسلمين في الأمصار الإسلامية قرءوا القرآن على ما رووه وحفظوه عن الصحابة الذين نزلوا بينهم، وفيه كثير مما تحتمله رخصة الأحرف السبعة، ولكنهم قرءوا بما يوافق خط المصحف دون ما خالفه، رغبة منهم في عدم الخروج على إجماع الصحابة. ومن ثم فقد ارتبطت بالرسم كل القراءات التي صح نقلها ولم تخرج عن الرسم. وصارت موافقة الرسم أحد شروط القراءة الصحيحة كما مر بيان ذلك من قريب وعلينا أن نلاحظ أن تحديد القراءة التي رسم عليها المصحف لم يعد ممكنا، فقد صارت كل قراءة موافقة للرسم يمكن أن تكون هي تلك القراءة. وقد كان لظاهرة الاختيار في القراءات أثر في ذلك، وكان مكي بن أبي طالب قد فصل هذه القضية وبيّن أن المصحف كتب على حرف واحد وأن خطه محتمل لأكثر من حرف، إذ لم يكن منقوطا ولا مضبوطا، ولكنا لا نعلم ذلك الحرف بعينه، فجاز لنا أن نقرأ بما صحت روايته مما يحتمله ذلك الخط، لنتحرى مراد عثمان رضي الله عنه ومن تبعه من الصحابة وغيرهم. ولا شك أن ما زاد على لفظ واحد في كل حرف اختلف فيه
ليس مما أراد عثمان، فالزيادة لا بد أن تكون من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ثم يقول أخيرا «وقد أجمع المسلمون على قبول هذه القراءات التي لا تخالف المصحف، ولو تركنا القراءة بما زاد على وجه واحد من الحروف لكان لقائل أن يقول:
لعل الذي تركت هو الذي أراد عثمان» (1).
أولا: وجوه المخالفة الجائزة التي ترجع إلى طبيعة الكتابة:
أحس علماء الرسم والقراءات العربية أن هجاء بعض الكلمات كثيرا ما يشتمل على رموز زائدة لا تلفظ، ورموز تلفظ على غير ما يدل عليه رسمها، وأصوات تلفظ وليس في الكتابة ما يدل عليها، ولذلك أشاروا إلى وجوب اتباع النطق المروي والمعروف دون الالتفات إلى المكتوب. قال ابن المنادي وقد نقلنا قوله هذا من قبل: «إن من المكتوب ما لا تجوز به القراءة من وجه الإعراب، وإن حكمه أن يترك على ما خطّ، ويطلق للقارئين أن يقرءوا بغير الذي يرونه مرسوما» (2). وقال ابن الجزري: «كم من موضع خولف فيه الرسم وخولف فيه الأصل، ولا حرج في ذلك إذا صحت الرواية» (3).
وهذه المخالفة بين الرسم وبين القراءة جائزة مقبولة، بل تحتمها ضرورة تحقيق الكلام المنطوق على وجهه الصحيح. ولا يلتفت إلى ما في الرسم من زيادة أو نقص أو غير ذلك، وقد قال الزركشي: «اتفقت في خط المصاحف أشياء خارجة عن القياسات التي يبنى عليها علم الخط والهجاء، ثم ما عاد ذلك بنكير ولا نقصان لاستقامة اللفظ وبقاء الحفظ، وكان اتباع خط المصحف سنة لا تخالف» (4).
ومن أمثلة ذلك رسم الفتحة الطويلة واوا في بضعة كلمات هي (الصلاة الزكوة الحيوة منوة مشكوة الغدوة الربوا). أو رسمها ياء في كثير من الكلمات من مثل (رمى هدى يسعى يخشى الأعلى المرعى الذكرى الذكرى موسى عيسى) فيلفظ في مثل هذه الكلمات بالفتحة الطويلة دون الالتفات إلى كونها مرسومة واوا أو ياء. ويمكن كذلك أن ندرج مع هذه الأمثلة كيفية رسم الهمزة، ذلك
__________
(1) انظر: الإبانة، (54).
(2) الداني: المحكم، ص 185.
(3) النشر، ج 2، ص 141.
(4) البرهان، ج 1، ص 172.(1/566)
لأنها رسمت في المصحف على لغة من يترك الهمز، وكتب ما خلفها في اللفظ واوا أو ياء أو ألفا، ومن ثم فإن الذين يحققون الهمزة إنما ينطقون صوتا لا يدل الرسم عليه.
وقد أشرنا إلى ذلك مفصلا من قبل، وكيف صار رمز الهمزة مركبا من أحد الحروف الثلاثة وعليه رأس العين.
ومثل ذلك أيضا ما رسم من رموز زائدة لتمثيل نطق قديم قد حل محله نطق ورموز جديدة، لكن الرمز القديم ظل في الكتابة ثابتا، ويتجلى هذا في مسألة تمثيل الهمزة فقد رسمت بألف وواو في مثل (أولئك سأوريكم) وألف وياء في مثل (بايية باييد مائة نبإى تلقائ) وما أشبه ذلك، ولا شك أن هذين الرمزين لا يقابلهما في اللفظ إلا صوت واحد، والقارئ لا يلتفت إلى الرمز الزائد، ومن هذا الباب أيضا الألف الزائدة التي ترسم بعد الواو المتطرفة، فهي لا يقابلها في النطق شيء وعلى القارئ أن يهملها حتما.
ولم تكن الكتابة العربية في زمن المصاحف العثمانية تمثل الحركات القصيرة وبعض الحركات الطويلة، خاصة رمز الفتحة الطويلة، ولا بد للقارئ من الاستعانة بالحفظ والمتعارف عليه من اللفظ لاستيفاء نطق الأصوات الحركية غير الممثلة في الرسم.
وقد ذهب بعض علماء الرسم والقراءات بناء على ذلك إلى أن موافقة القراءة لخط المصحف تكون تحقيقا أو تقديرا، مع تغاضبهم عن رموز الحركات القصيرة، فقد قال الجعبري: إن موافقة المصاحف تكون تحقيقا كقراءة ملك يوم الدّين (4) [الحمد] بالقصر. وتقديرا كقراءة المد، وهذا الاختلاف اختلاف تغاير، وهو في حكم الموافق، أي: لا يلزم من صحة أحدهما بطلان الآخر، ويكون اختلاف تضاد وتناقض، أي يلزم من صحة أحدهما بطلان الآخر، والواقع هو الأول. وتحقيقه أن الخط تارة يحصر جهة اللفظ، فمخالفه مناقض، وتارة لا يحصرها، بل يرسم على أحد التقادير، فاللافظ به موافق تحقيقا، وبغيره موافق تقديرا لتعدد الجهة إذ البدل في حكم المبدل، وما زيد في حكم العدم، وما حذف في حكم الثابت، وما وصل في حكم الفصل وما فصل حكم الوصل، وحاصله أن الحرف يبدل في الرسم ويلفظ به اتفاقا مثل {وَاصْطَبِرْ (65)} * [مريم]، ويرسم ولا يلفظ به اتفاقا مثل (الصلاة)، ويرسم ويختلف في اللفظ به مثل (الغدوة)، ويزاد ويلفظ به اتفاقا مثل {حِسََابِيَهْ (20)} * [الحاقة] ويزاد ولا
يلفظ به اتفاقا مثل {أُولََئِكَ} * و (مائة)، ويزداد ويختلف في النطق به، مثل {سُلْطََانِيَهْ (29)}
[الحاقة]، ويحذف كذلك نحو {بِسْمِ اللََّهِ} * و {يََا رَبِّ} * وكذلك {الرَّحْمََنِ} * وكذا {الدََّاعِ (186)} * [البقرة] ويوصل ويتبعه اللفظ مثل {مَنََاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] و (عليهم)، ويخالفه نحو {كهيعص} ويبنؤمّ (94) [طه] ويختلف فيه نحو {وَيْكَأَنَّ (82)}
[القصص]. ويفصل ويوافق نحو {حم عسق} ولا يوافق مثل {إِسْرََائِيلَ} *، ويختلف فيه نحو (مال) (1).(1/567)
وقد ذهب بعض علماء الرسم والقراءات بناء على ذلك إلى أن موافقة القراءة لخط المصحف تكون تحقيقا أو تقديرا، مع تغاضبهم عن رموز الحركات القصيرة، فقد قال الجعبري: إن موافقة المصاحف تكون تحقيقا كقراءة ملك يوم الدّين (4) [الحمد] بالقصر. وتقديرا كقراءة المد، وهذا الاختلاف اختلاف تغاير، وهو في حكم الموافق، أي: لا يلزم من صحة أحدهما بطلان الآخر، ويكون اختلاف تضاد وتناقض، أي يلزم من صحة أحدهما بطلان الآخر، والواقع هو الأول. وتحقيقه أن الخط تارة يحصر جهة اللفظ، فمخالفه مناقض، وتارة لا يحصرها، بل يرسم على أحد التقادير، فاللافظ به موافق تحقيقا، وبغيره موافق تقديرا لتعدد الجهة إذ البدل في حكم المبدل، وما زيد في حكم العدم، وما حذف في حكم الثابت، وما وصل في حكم الفصل وما فصل حكم الوصل، وحاصله أن الحرف يبدل في الرسم ويلفظ به اتفاقا مثل {وَاصْطَبِرْ (65)} * [مريم]، ويرسم ولا يلفظ به اتفاقا مثل (الصلاة)، ويرسم ويختلف في اللفظ به مثل (الغدوة)، ويزاد ويلفظ به اتفاقا مثل {حِسََابِيَهْ (20)} * [الحاقة] ويزاد ولا
يلفظ به اتفاقا مثل {أُولََئِكَ} * و (مائة)، ويزداد ويختلف في النطق به، مثل {سُلْطََانِيَهْ (29)}
[الحاقة]، ويحذف كذلك نحو {بِسْمِ اللََّهِ} * و {يََا رَبِّ} * وكذلك {الرَّحْمََنِ} * وكذا {الدََّاعِ (186)} * [البقرة] ويوصل ويتبعه اللفظ مثل {مَنََاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] و (عليهم)، ويخالفه نحو {كهيعص} ويبنؤمّ (94) [طه] ويختلف فيه نحو {وَيْكَأَنَّ (82)}
[القصص]. ويفصل ويوافق نحو {حم عسق} ولا يوافق مثل {إِسْرََائِيلَ} *، ويختلف فيه نحو (مال) (1).
وتحدث ابن الجزري أيضا عن المخالفة الجائزة للرسم فذكر أن من شروط القراءة الصحيحة «موافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا» وبين أنه يعني بقوله ولو احتمالا ما يوافق الرسم ولو تقديرا، وأشار إلى أن موافقة الرسم قد تكون تحقيقا وهي الموافقة الصريحة، وقد تكون تقديرا وهي الموافقة احتمالا، ثم بيّن ما يجوز وما لا يجوز من وجوه المخالفة، فقال: إن مخالف صريح الرسم في حرف مدغم أو ثابت أو محذوف أو نحو ذلك لا يعد مخالفا إذا ثبتت القراءة به ووردت مشهورة مستفاضة ألا ترى أنهم لم يعدوا إثبات ياءات الزوائد وقراءة وأكون من الصالحين [المنافقون: 10] والظاء في (بضنين) (التكوير 81/ 24) ونحو ذلك من مخالفة الرسم المردودة، فإن الخلاف في ذلك يغتفر إذ هو قريب يرجع إلى معنى واحد، وتمشيه صحة القراءة وشهرتها وتلقيها بالقبول، وذلك بخلاف زيادة كلمة ونقصانها وتقديمها وتأخيرها حتى ولو كانت حرفا واحدا من حروف المعاني فإن حكمه في حكم الكلمة لا تسوغ مخالفة الرسم فيه، وهذا هو الحد الفاصل في حقيقة اتباع الرسم ومخالفته (2).
وتحدث أبو بكر الأنباري عن الوقف على ما رسم بالتاء أو بالهاء من الأسماء المؤنثة وذكر اختلاف القراء في ذلك، وهو يظهر هنا جانبا من المخالفة الجائزة للرسم، فقد ذكر أن كل هاء دخلت للتأنيث فالوقف عليها بالهاء، والتاء جائز، ألا ترى أنهم كتبوا في المصحف بعضها بالتاء وبعضها بالهاء، واختلف القراء في ذلك، فكان أكثرهم يقولون: الوقف على ما في المصحف لا يتعدى، فما كان في المصحف بالتاء وقفنا عليه بالتاء، وما كان بالهاء وقفنا عليه بالهاء، وقال آخرون: أنت مخير في ذلك، إن
__________
(1) خميلة أرباب المراصد، ورقة (6أ 7ب)، ونقل هذا النص القسطلاني، ج 1، ص (285284).
(2) انظر: النشر، ج 1، ص (1211).(1/568)