فضحك محمد وقال: وما الشيفران يا أبا معاذ؟ قال: ومن يدري غريب الحمار؟ فأمر له بحمار فاره (1).
82 - أنس: ركب عمر رضي الله عنه برذونا فهزه، فنزل عنه وقال:
ما يصلح هذا إلا أن يذهب عليه صاحبه إلى الغائط.
83 - شاعر:
... إيجاف كلّ منير الوجه بسام (2)
يخرجن من مستطير النقع دامية ... كأن آذانها أطراف أقلام (3)
__________
(1) الحمار الفاره: النشيط.
(2) لم نستطع أن نتبيّن ما في صدر البيت في كلام.
(3) النقع: الغبار.(5/365)
الباب الثالث والتسعون الابل، والبقر، والغنم، وما يتصل بها وينسب إليها
1 - عبد الله بن جعفر رضي الله عنه: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حائطا لرجل من الأنصار، فإذا جمل، فلما رأى رسول الله جن وذرفت عيناه، فأتاه فمسح ذفريه فسكت، فقال: لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه.
2 - سهل بن الحنظلية: مر رسول الله ببعير قد لصق ظهره ببطنه (1)، فقال: اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة وكلوها صالحة.
3 - أبو هريرة رفعه: تكون إبل للشياطين وبيوت للشياطين، فأما إبل الشياطين فقد رأيتها يخرج أحدكم بنجيبات (2) معه قد أسمنها فلا يعلو بعيرا منها ويمر بأخيه قد انقطع به فلا يحمله. وأمّا بيوت الشياطين فلم أرها.
كان سعيد بن هند يقول: ما أراها إلا هذه الأقفاص التي تستر بالديباج.
__________
(1) قوله: لصق ظهره ببطنه، أي هو جائع ضامر البطن.
(2) النجيب: الفاضل النفيس في نوعه جمع نجب واحدته نجيبة. والنجيبة من الإبل الكريمة الأصل السمينة النفيسة.(5/367)
4 - ما خلق الله خيرا من الإبل، إن حملت أثقلت، وإن سارت أبعدت، وإن حلبت أروت، وإن نحرت أشبعت.
5 - قيل لأعرابي: ما الناقة القرداح؟ قال: التي كأنها تمشي على أرماح. يريد طول القوائم.
6 - أهدى الرعيل بن الكلب ناقة لهشام بن عبد الملك فلم يقبلها.
فقال: يا أمير المؤمنين، أرددت ناقتي وهي هلواع، مرياع، مرباع، مقراع، مسياع، ميساع، حلبانة ركبانة. فضحك وقبلها وأمر له بألف درهم.
7 - المرياع: التي تقدم الإبل ثم تعود. والمرباع التي تعجل اللقاح، والمقراع: التي تلقح أول ما يقرعها الفحل. والمسياع: السمينة من السياع، قال القطامي:
فلما أن جرى سمن عليها ... كما بطنت بالفدن السباعا
والهلواع: الخفيفة. والمسياع: الواسعة الخطو.
8 - دجاجة بن ذروة الضبي جاهلي:
إبلي بحمد الله ضامنة القرى ... إذا طرقتها بالعشي الطوارق (1)
محبسة لابن السبيل تنوبها ... حقوق وتبريها السنون العوارق
9 - الجمل يجب في المجهدة سنامة، والكبش تقطع إليته، وهما يصبران.
10 - الغنوي: إذا تصوب المرزم (2) أرسلت الفحول في النعم، فضربت في خيار الإبل ومتعطراتها، وهي التي تتحسن للفحل بنقيها وحسن حالها.
__________
(1) القرى: طعام الضيف. والطوارق: جمع طارق وهو الزائر ليلا.
(2) المرزم: النجم (وهما مرزمان). يقال مرزما الشّعريين أحدهما في الشّعرى والآخر في الذراع. وهما نجمان من نجوم المطر.(5/368)
11 - عطاء رفعه: الغنم بركة موضوعة: والإبل جمال لأهلها.
12 - قيل لبنت الخس (1): ما تقولين في مائة من المعز؟ قالت:
قنى. قيل: ففي مائة من الضأن؟ قالت: غنى. قيل: ففي مائة من الإبل؟ قالت: منى.
13 - بعض القصاص: مما أكرم الله به الكبش أن خلقه مستور العورة من قبل ومن دبر، ومما أهان به التيس أن جعله مهتوك الستر مكشوف القبل والدبر.
14 - النبي صلّى الله عليه وسلّم: إمسحوا رغام الشاء، ونقوا مرابضها من الشوك والحجارة، فإنه ما من مسلم له شاة إلا قدس كل يوم مرة، فإن كانت له شاتان قدس كل يوم مرتين.
15 - أكل أبو الدرداء طعاما دعاه إليه رجل من أصحابه، ثم قال:
الحمد لله الذي أطعمنا الخمير وألبسنا الحبير بعد الأسودين الماء والتمر.
ورأى عنده ضانية فقال: أطب مراحها، واغسل رغامها، فإنها من دواب الجنة، وهي صفوة الله من البهائم.
16 - يقال: أقفط (2) من تيس بني حمان. ومن تكذبهم أنه قفط
__________
(1) بنت الخس: هي هند بنت الخس بن حابس بن قريط الإيادية. فصيحة جاهلية، كانت ترد سوق عكاظ ولها أخبار فيه. قال الجاحظ في وصفها: «من أهل الدهاء والنكراء واللّسن والجواب العجيب والكلام الصحيح والأمثال السائرة والمخارج العجيبة». تلقب بالزرقاء. قيل: أدركت القلمّس أحد حكام العرب في الجاهلية وتحاكمت هي وأختها خمعة؟ إليه في كلام لهما ومدحته بأبيات، وبعض الرواة يزعم أنها ماتت في زمن النعمان عند هند ابنته وليس الأمر كذلك.
راجع ترجمتها في الأعلام 8: 97والبيان والتبيين وعيون الأخبار 2: 214وخزانة البغدادي 4: 301والتاج مادة «خس» والأزمنة والأمكنة 2: 176.
(2) أقفط: أنزى. وقفط التيس: نزا. واقفاطّت المعزى اقفيطاطا: حرصت على الفحل مدّت مؤخّرها إليه. والقفطي والقفيط كلاهما: الكثير الجماع.(5/369)
سبعين عنزا بعد ما فريت (1) أوداجه (2). قال الفرزدق:
لعمرك ما تدري فوارس منقر ... أفي الأست أم في الرأس تلقي الشكائم (3)
وألهى بني حمان عسب عتودهم ... عن المجد حتى أحرزته الأكارم (4)
17 - وفي ديوان المنثور (5): هم أفخر به من بني تميم بقوسها، ومن بني حمان بتيسها.
18 - تقول العرب: قالت الضانية: أولا رخالا، وأجز جفالا، واحلب كثبا عجالا، ولم تر مثلي مالا.
19 - أبو سعيد الخدري: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضحي بكبش أملح أقرن فحيل. ينظر في سواد ويأكل في سواد ويمشي في سواد.
20 - الضأن تلد في السنة مرة، وتفرد ولا تتئم. والمعز تلد مرتين، وتضع الثلاث وأكثر. والنماء والبركة في الضأن. والخنزيرة ربما ولدت عشرين خنوصا ولا نساء فيها.
21 - يقال في المدح هو كبش من الكباش، وفي الذم هو تيس من التيوس.
__________
(1) فريت: تشقّقت.
(2) الأوداج: جمع ودج وهو عرق الأخدع يقطعه الذابح فلا يبقى معه حياة. ويقال في الجسد عرق واحد حيثما قطع مات صاحبه وله في كل عضو اسم. فهو في العنق الودج والوريد أيضا. وفي الظهر النباط وهو عرق ممتد فيه، والأبهر وهو عرق مستبطن الصلب والقلب متصل به، والوتين في البطن، والنسا في الفخذ، والأبجل في الرجل، والأكحل في اليد، والصافن في الساق.
(3) الإست: المؤخرة: والشكائم: جمع شكيمة وهي من اللجام الحديدة المعترضة في فم الفرس.
(4) العسب: ماء الفحل. والعتود التيس، أو الجدي، الذي بلغ السفاد.
(5) ديوان المنثور: من مؤلفات الزمخشري صاحب هذا الكتاب. راجع مقدمتنا في مطلع الجزء الأول.(5/370)
22 - إسحاق بن حسان في الثور:
وأغلب فضفاض جلد اللبان ... يدافع غبغبه بالوظيف (1)
23 - شاة سعيد مثل في الهزال، وهي شاة أهداها سعيد بن أحمد إلى الحمدوني، فنثر فيها كنانته (2)، منها قوله:
يقول لي الأخوان حين طبختها ... أتطبخ شطرنجا عظاما باللّحم
وكذلك شاة منيع، وهي شاة جار لمحمد بن بشير عبثت ببستان له في منزله، فوصفها بجميع أوصاف الرداءة.
24 - أبو أيوب كنية الجمل، كني بذلك لصبره على البلاء. قال ابن الرومي في أبي أيوب سليمان بن عبد الله بن طاهر وكان قد مدحه فلم يجزه:
يا أبا أيوب هذي كنية ... من كنى الأنعام قدما لم تزل
ولقد وفق من كناكها ... وأصاب الحق فيها وعدل
أنت شبه للذي تكنى به ... ولبعض الخلق من بعض مثل
قد قضى قول لبيد بيننا ... إنما يجزى الفتى ليس الجمل
25 - عمر بن نصر القصافي التميمي:
خوص نواج إذا صاح الحداة بها ... رأيت أرجلها قدام أيديها
26 - قال دعبل: قال القصافي الشعر ستين سنة فلم يعرف له إلا هذا البيت.
27 - الجاموس أجزع خلق الله من عض جرجسة وبعوضة، وأشده
__________
(1) اللبان: الصدر. والغبغب والغبب: الجلد الذي تحت الحنك. وقيل: الغبب للبقر والشاء وهو ما تدلّى عند النصيل تحت حنكها، والغبغب للديك والثور. والوظيف:
مستدق الذراع أو الساق من الخيل والإبل وغيرها جمع وظف وأوظفة.
(2) الكنانة: جعبة من جلد أو خشب تجعل فيها السهام والجمع كنائن وكنانات.(5/371)
هربا منها إلى الماء، وهو يمشي إلى الأسد رضي البال، رابط الجأش، ثابت الجنان (1).
28 - علي عليه السّلام: إنما مثلي ومثل عثمان كمثل أثوار كن في غيضة (2)، أسود وأحمر وأبيض ومعهن أسد، فكان إذا أراد واحدا منهن اجتمعن عليه فلم يطقهن. فقال للأسود والأحمر: إن هذا الأبيض يفضحنا في غيضتنا بياضه فخلّيا عني آكله، ففعلا، فلم يلبث أن قال للأسود: إن هذا الأحمر يفضحنا فلو خليتني آكله، فخلاه. ثم قال للأسود: إني آكلك، قال: خلني أصوّت ثلاثة أصوات، فصاح ثلاثا: ألا إنما أكلت يوم أكل الأبيض. ألا إنما دهيت يوم قتل عثمان.
29 - كان لأبي الدرداء جمل اسمه دمون، فكان إذا أعاره لأحد قال:
لا تحملوا على جملي إلا كذا فإنما يطيق ذلك، فلما حان قال: لا تحملوا على جملي إلا كذا فإنما يطيق ذلك. فلما حان ما تطيق.
__________
(1) الجنان: القلب.
(2) الغيضة: المكان الكثير الشجر.(5/372)
الباب الرابع والتسعون الوحوش من السباع وغيرها، وذكر أحوالها، وما يصطاد منها ويتألف، وما أشبه ذلك
1 - لما تلا رسول الله {وَالنَّجْمِ إِذََا هَوى ََ} (1) قال عتبة بن أبي لهب: كفرت برب النجم. فقال صلّى الله عليه وسلّم: سلّط الله عليك كلبا من كلابه.
فخرج مع أصحابه في عير إلى الشام، حتى إذا كانوا بمكان يقال له الزرقاء زأر الأسد، فجعلت فرائصه ترعد، فقالوا: من أي شيء ترعد فرائصك؟
فو الله ما نحن وأنت إلا سواء، فقال لهم: إن محمدا دعا علي، ولا والله ما أظلت السماء من ذي لهجة أصدق من محمد. ثم وضعوا العشاء فلم يدخل يده فيه، ثم جاء النوم فحاطوا أنفسهم بمتاعهم ووسطوه بينهم وناموا. فجاء الأسد يهمس يستنشي رؤوسهم رجلا رجلا حتى انتهى إليه فضغمه ضغمة كانت إياها. فسمع وهو بآخر رمق يقول: ألم أقل لكم أن محمدا أصدق الناس.
2 - دخل أبو زبيد الطائي على عثمان رضي الله عنه، فقال: من أين؟ فقال: خرجت في صبابة من أفناء قريش وقبائل العرب ذوي شارة حسنة، ترتمي بنا المهاري بأكسائها القيروانات، على فتو البغال عليها العبدان تقود جياد الخيل، نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام.
__________
(1) سورة النجم، الآية: رقم 1.(5/373)
فاخروط بنا السير في حمّارة القيظ، حتى إذا عصبت الأفواه، وذبلت الشفاه، وسالت المياه، وأذكت الجوزاء العزاء، وذات الصيهد (1)، وصر الجندب، وضاف العصفور الضب في وجاره (2)، قال قائلنا: أيها الركب غوروا بنا في صنوج هذا الوادي، فإذا واد قد بدا عن يميننا، كثير الدغل، دائم الغلل، أشجاره مغنة، وأطياره مرنة (3)، فحططنا رحالنا في أصول دوحات كنهيلات متهدلات، فأصبنا من فضلات المزاود وأتبعناها بالماء البارد. فإنّا لنصف حر يومنا ومصاولته ومطاولته إذ صر أقصى الخيل بأذنيه، وفحص الأرض بيديه، ثم ما لبث أن جال فال، وفعل فعله الذي يليه واحدا إثر واحد، فارتدّت الخيل وتقهقرت البغال، وتكعكعت (4)
الإبل، فمن نافض لشكاله، وناهض بعقاله، فعلمنا أن قد أتينا، وأنه السبع، ففزع (5) كل منا إلى سيفه فاستله من جربانه، ثم وقفنا له رزدقا، فأقبل يتطالع في مشيته كأنه مجنوب في هجار، لبلاعيمه غطيط، ولصدره نحيط، ولطرفه وميض، ولأرساغه نقيض، كأنه يحبط هشيما، أو يطأ صريما. وإذا هامة كالمجن، وخذ كالمسن، وعينان سجروان (6)، كأنهما سراجان يتّقدان، وكتد مغبط، وزور مفرط وقصرة ربلة (7)، ولهزمة (8)
رهلة، وعضد مفتول، وساعد مجدول، وكف خشنة البراثن، إلى مخالب كأنها المحاجن (9). ثم كشر فأفرج، وزأر فأرهج، ونهم فبربر، ونحط
__________
(1) الصيهد: شدّة الحرّ، وقيل: السراب، وقيل: الفلاة التي لا ينال ماؤها.
(2) الوجار: بيت الضب. والضب: حيوان من الزحافات شبيه بالحرذون ذنبه كثير العقد والجمع أضب وضباب وضباب ومضبّة.
(3) الأطيار المرنّة: المصوّتة.
(4) تكعكعت الإبل: ضعفت وجبنت.
(5) فزع إلى السيف: لجأ إليه واحتمى به.
(6) العينان السجروان: اللتان تقدحان شررا. وسجر: أشعل. يقال: سجر التنّور.
(7) الربلة: أصول الأفخاذ.
(8) اللهزمة: عظم ناتىء في اللحي تحت الأذن، وهما لهزمتان والجمع لهازم.
(9) المحجن: العصا المنعطفة الرأس أو كل معطوف الرأس على الأطلاق. ومحجن الطائر: منقاره والجمع محاجن.(5/374)
فجرجو، فاستقدم تخال البرق تتطاير من خلال جفونه، من عن شماله ويمينه، فلا وذي بيته في السماء، ما اتقيناه إلا بأخ لنا من فزارة، ضخم الجزارة، فوقصه وقصة مفظعة، فتفضفض متنه، وبقر بطنه، وجعل يلغ في دمه.
فذمرت أصحابي، فبعد لأي ما أجابوا، فهجهجنا به، فكر مقشعرا زئيره، كأن به شيهما حوليا، فاختلج من دوني رجلا أعجز ذا حوايا، فنفضه نفضة تزايلت منها الأوصال، فأرعشت الأيدي، واصطكت الأرجل، وانخزلت المتون، ولصقت البطون وساءت الظنون، هناك ابتلى المؤمنون، ثم قال:
عبوس شموس مصلخد مكابر ... جريء على الأقران للقرن قاهر (1)
براثنه شثن وعيناه في الدجى ... كجمر الغضا في وجهه الشر ظاهر (2)
يدل بأنياب حداد كأنها ... إذا قلص الأشداق عنها خناجر
فقال عثمان: أسكت، أسكت الله نأمتك، فقد خشيت أن يثب عليّ.
3 - عارض أسد رفقة، فخرج إليه رجل فاختطفه وبرك عليه، فهاجوه ثم قالوا للرجل: ما حالك؟ قال: لا بأس علي، ولكن سلح الأسد في سراويلي.
4 - قد يجيء الأسد إلى قلس (3) السفينة بالليل فيتشبث به، فيحسب الملاحون أنه التف على شجرة أو صخرة، فيذهب المداد ليخلّصه، فيتمدد الأسد ويلتصق بالأرض ويغمض عينيه ليخفي وميضهما. فإذا دنا وثب عليه
__________
(1) مصلخد: عبوس شرس مكابر. والقرن: نظيرك في الشجاعة، ومن يقاومك والجمع أقران.
(2) البراثن الشثنة: الغليظة. وفي صفته صلّى الله عليه وآله وسلّم: ششن الكفّين والقدمين أي أنهما تميلان إلى الغلظ والقصر. والغضا: شجر يطول حجره حتى ينطفىء.
(3) قلس السفينة: حبلها الطويل الضخم والجمع قلوس وأقلاس.(5/375)
فحطمه، فلا يكون للملاحين هم إلا العبور والفرار.
5 - بنو أسد حراص على أكل الكلاب، وقد أكل أسدي جرو كلب، فقيل له: أتأكل الكلب وقد قيل فيكم:
إذا أسدي جاع يوما ببلدة ... وكان سمينا كلبه فهو آكله
فقال:
رضينا بحظ الليث طعما وشهوة ... فسائل أخا الحلفاء إن كنت لا تدري (1)
وذلك أن الأسد أحرص شيء على لحم الكلاب، وقيل لا يحرص على أكل الكلاب حبا للحمه، ولكنه يقصد القرية أو الصرم ليتطرف من النعم، فتنبح الكلاب فتهيج الناس، فيحرص عليها حنقا وغيظا.
6 - الأسد لا يدنو من النار، ولا يأكل الحار ولا الحامض وكذلك أكثر السباع.
7 - وتقول الروم: إن الأسد يذعر من صوت الذئب، ولا يدنو من المرأة الطامث، وهو قليل الشرب للماء. وثلاثة من الحيوان ترجع في فيئها، الأسد والكلب والسنور، وأربع أعين تضيء بالليل. عين الأسد والنمر والسنور والأفعى.
8 - السباع العادية تصاد بالمغويات وهي آبار تحفر في أنشاز من الأرض، ولذلك يقال: قد بلغ السيل الزبى.
9 - الأسد والنمر متعاديان، وأما الببر فلا يعادي واحدا منهما لسلامة ناحيته وقلة شره، وهما لا يعرضان له لما يعرفان من عجزهما عنه.
10 - الهند أصحاب الببور والفيل، كما أن النوبة أصحاب الزرافات دون غيرهم من الأمم. وأهل غانة تكثر النمور في بلادهم، ولذلك كان
__________
(1) الحلفاء: نبت أطرافه محدّدة كأنها سعف النخل والخوص ينبت في مغايض المياه.
الواحدة حلفة وحلفاء.(5/376)
لباسهم جلود النمور.
11 - أشراف السباع ثلاثة الببر والأسد والنمر، وأشراف البهائم ثلاثة الكركدن والفيل والجاموس.
12 - الأسد يأكل الملح على سبيل التملّح والتحمض كالفرس. لا شيء أشد حضرا من الأسد يمشي ثلاثين فرسخا في ليلة لطلب الملح.
13 - شاعر:
الليث ليث وإن جزّت براثنه ... والكلب كلب وإن طوقته ذهبا
14 - الذئب يأتي الجمل فيقبض بفقميه (1) على حجامي عينه فيلحس عينه بلسانه حاسيا فكأنما قورت عينه تقويرا لما أعطي من قوة النفس، ولسانه أشد بريا للحم والعصب من لسان البقر للخلي. وليس في الأرض يعض على عظم إلا ولتكّسر العظم صوت بين لحييه إلا الذئب، فإن لسانه يبري العظم بري السيف ولا يسمع له صوت. كما قال الزبير بن عبد المطلب:
وينهي نخوة الجهال عني ... غموض الحد ضربته صموت
وفي أمثالهم: ضربه ضربة كأنما أخطأه، يريدون سرعة المر.
15 - إذا دمي الذئب وثب عليه صاحبه فأكله. وربما رأيت الذئبين متساندين على من يتعرضان له، فإذا أصاب أحدهما خدشة أنحى عليه صاحبه وترك التعرض له.
16 - وإذا دمي الإنسان فشم الذئب منه رائحة الدم، لم ينج منه، وإن كان أشد الناس قلبا وأتمهم سلاحا.
17 - والببر إذا دمي استكلب حتى خافه السباع.
__________
(1) الفقم: طرف خطم الكلب أو الجمل، وهو أيضا اللحي.(5/377)
18 - والحية إذا خدشت طلبها الذر (1) فلا تكاد تنجو منه.
19 - وإذا عض الإنسان الكلب طلبه الفأر فبال عليه، وفيه هلكته، فيحتال له بكل حيلة وإذا أغد (2) البعير طلبته القردان.
20 - في صفة الذئب:
هو الخبيث عينه فزاره ... أطلس يخفي شره غباره
في رأسه شفرته وناره ... بهما بنو محارب مزداره
21 - حميد بن ثور:
ترى طرفيه يعملان كلاهما ... كما اهتز عود الساسم المتتابع (3)
ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع
22 - يزعمون أن النمرة لا تضع ولدها إلا وهو متطوق بأفعى، وأنها تعيش وتنهش إلا أنها لا تقتل.
23 - خلا معاوية بجارية له خراسانية، فلما همّ بها نظر إلى وصيفة له مقبلة، فتركها وخلا بالوصيفة. ثم قال للخراسانية: ما اسم الأسد بالفارسية؟ قالت: كفتار. فخرج وهو يقول: أنا الكفتار. فقيل له: يا أمير المؤمنين، الكفتار الضبع، فقال: قاتلها الله! أدركت ثأرها. والفرس إذا استقبحت صورة قالت: روى كفتار.
24 - كتب عمر بن يزيد بن عمير الأسدي إلى قتيبة بن مسلم حين
__________
(1) الذرّ: صغار النمل.
(2) غد البعير وأغدّ: عضب حتى صار ذا غدّة فهو مغدّ.
(3) الساسم: شجر أسود. وقيل هو الآبنوس. وقيل: هو شجر تتّخذ منه السهام، قال النمر بن تولب:
إذا شاء طالع مسجورة ... ترى حولها النّبع والساسما
قال أبو حنيفة: هو من شجر الجبال وهو من العتق التي يتّخذ منها القسيّ. وزعم آخرون أنه الشيز.(5/378)
عزل وكيع بن أبي سود عن رئاسة بني تميم وولاها ضرار بن حصين الأسدي: عزلت السباع ووليت الضباع.
25 - سئل أبو هريرة عن الضبع، فقال: الفرغل؟ تلك نعجة من الغنم. يعني أنها حلال الأكل، وهو مذهب الشافعي رحمه الله. وعند أبي حنيفة لا تحل لأنها سبع كالذئب.
26 - زعموا أن الطبع تكون عاما ذكرا وعاما أنثى.
27 - لا يعرف الإلتحام عند السفاد إلّا في الكلاب والذئاب. وإذا هجم الصائد على الذئب والذئبة متسافدين قتلهما كيف شاء.
28 - وحدث الجاحظ عن أحمد بن المثنى قال: كنت في بعض صحاري جوخى (1) إذ عرض لي ذئب فلم يزل يراوغني حتى ديرني وأيقنت بالهلكة، إذا ذئبة مستسفدة (2)، فما تلعثم أن ركبها وتركني. فلما تلاحما مشيت إليهما بسيفي حتى قتلتهما، وكان ذلك من صنع الله تعالى وتأخر الأجل.
29 - قال المنتجب محمد بن أرسلان في صفة أهل الزمان:
هم ما هم سباع ضاريات ... وتأبى أن تشاكلها السباع
فأجابه عبد الله الفقير إليه (3):
هم شرّ السباع فلا ذئاب ... مكلحة الوجوه ولا ضباع
هم ضرر أناخ بغير نفع ... عليك وربما نفع السباع
معلمها يحوش عليك صيدا ... ونفسك بينهم صيد شعاع
__________
(1) جوخى: اسم نهر عليه كورة واسعة في سواد بغداد، بالجانب الشرقي منه الراذانان، وهو بين خانقين وخوزستان، قالوا: ولم يكن ببغداد مثل كورة جوخى، كان خراجها ثمانين ألف ألف درهم حتى صرفت دجلة عنها فخربت وأصابهم بعد ذلك طاعون شيرويه فأتى عليهم.
(2) ذئبة مستسفدة: أي طالبة السّفاد. وسفد الذئب الذئبة: نزا عليها.
(3) قوله: عبد الله الفقير إليه: أراد نفسه، أي الزمخشري صاحب هذا الكتاب.(5/379)
فيا نهشا بأنياب وفرسا ... تحلّم عنده العبس الجياع
30 - الأسد لا يثب على الإنسان للعداوة ولكن للطعم، ولو مر به وهو شبعان لم يعرض له.
31 - الفهد أنوم الخلق، وأما الكلب فنومه نعاس، ونومة الفهد مصمت، قال حميد بن ثور.
ونمت كنوم الفهد عن ذي حفيظة ... أكلت طعاما دونه وهو جائع
32 - ويقال إن السباع تشتهي ريحه تستدل بريحه على مكانه، وتعجب بصوته فتصغي إليه إصغاء شديدا. وقد علم شهوة الأسد والنمر السباع لريحه فلا يكون على علاوة الريح. وإذا اصطيد مسنا كان أنفع في الصيد لأهله من الجرو الذي يربونه. لأن الجرو يخرج خبا، ويخرج المسن على التأديب صيودا غير خب ولا مواكل.
33 - وتعتقد العامة أن الفهود مسخ اليهود، والصبيان يصيحون بالفهد يا يهودي. والصائد يشد وراءه شدا حتى ينبهر ويحفى فيأخذه. فإذا أخذه غطى عينيه وأدخله في وعاء، ثم أدخله بيتا مظلما ووضع عنده مصباحا، ولازمه الليل والنهار، ولم يدعه يرى الدنيا، وهيأ شيئا كظهر الدابة وأخذه بركبوبه. وأطعمه بيده حتى يستأنس. وإناث الفهود أصيد، وكذلك إناث عامة الجوارح.
34 - الثعلب يعلم أن تماوته يجوز على الصائد ولا يجوز على الكلاب فإذا أحس بصائد استلقى ونفخ خواصره حتى لا يشك أنه ميت فيجوزه، فإذا أحس بالكلب وثب كأنه البرق، لأن الكلب لا يخفى عليه الميت من المغشي عليه من المتماوت، ولذلك لا يحمل من مات من المجوس إلى الناووس حتى يدني منه كلب فيعمل ما يستدل به على حاله.
35 - وقد يتماوت الكلب، قال بعضهم: رأيت جروا مهزولا ضربه الصبيان وعقروه، فتمدد لهم كالميت، فضربوه بأرجلهم فلم يتحرك حتى
أيقنوا بالموت فخلوه. فنظرت فإذا هو قد فتح عينيه وتأمل، ثم وثب وهرب.(5/380)
35 - وقد يتماوت الكلب، قال بعضهم: رأيت جروا مهزولا ضربه الصبيان وعقروه، فتمدد لهم كالميت، فضربوه بأرجلهم فلم يتحرك حتى
أيقنوا بالموت فخلوه. فنظرت فإذا هو قد فتح عينيه وتأمل، ثم وثب وهرب.
36 - وسلاح الثعلب سلاحه (1)، وهو أنتن من سلاح الحبارى (2)، فإذا تعرض للقنفذ، ولقيه شوكه واستدار كالكرة سلح عليه، فانسدخ مما يغشى عليه من نتن سلاحه، فعندها يقبض على مراق بطنه.
37 - وإذا كثرت البراغيث في فروة الثعلب تناول بفيه صوفة، ثم يدخل في الماء قليلا قليلا. والبراغيث ترتفع إلى أن يغمس خطمه، فتجتمع في الصوفة، ثم يرميها في الماء ويثب إلى الشط.
38 - ربما كانت الأرض ملبسة بالجليد، مغطّاة بالثلج، والكلّاب العاقل المجرب لا يدري أين مكان الوحش، فلا يزال يتبصر ويتشمم حتى يقف على أفواه الحجرة ويثير الذي فيها.
39 - أبو عبيدة: خرج رجل إلى جبانة بلده مع أخيه وجار له ينتظر الرفاق وتبعه كلب له. فضربه ورماه بحجر فلم ينته، فلما قعد ربض بين يديه، وجاء عدو له يطلب بطائلة، فجرح جراحات، وطرح في بئر قريبة القعر، وحثي عليه التراب، وقد فر أخوه وجاره، والكلب ينبح حوله. ثم أتاه عند انصراف العدو وكشف التراب عن رأسه حتى تنفس، ومر ناس فاستشالوه وأدوه إلى أهله، وسمي الموضع ببئر الكلب، وقيل في ذلك:
يعود عنه جاره وشقيقه ... وينبش عنه كلبه وهو ضاربه
40 - اقتنى رجل جروا ثم غاب عنه سنة ورجع وهو كلب شاغر، فعرفه وتبصبص حوله، وصاح صيحة السرور بقدومه، وكان يثب على كل أحد ويتوعده، وقد زجره صاحبه عن صديق له ثلاث مرات، فاستثناه بعد
__________
(1) سلاح الثعلب (بالضمّ) سلحه (الغائط، البراز).
(2) الحبارى: طائر أكبر من الدجاج الأهلي وأطول عنقا يضرب به المثل في البلاهة والحبارى أنواع كثيرة والجمع حبارات.(5/381)
ذلك عن الناس فلم يهر عليه.
41 - الكلبة تحيض في كل سبعة أيام، وأكثر ما تضع اثنا عشر جروا وذلك في القرط، والغالب خمسة أو ستة، وربما وضعت واحدا.
42 - ويعيش الكلب في الأكثر أربع عشرة سنة، وربما بلغ عشرين سنة. وللكلب ثلاثة أصناف من المرض: الكلب، والذبحة، والنقرس.
ويكنى أبا خالد، قال ابن الرومي:
أخالد لا تكذب فلست بخالد ... بزعمك بل أنت المكنى بخالد
وللكلب خير منك لؤمك شاهدي ... عليه وما دهري بإبعاد شاهدي
43 - آخر:
هو الكلب إلا أن فيه ملالة ... وسوء مراعاة وما ذاك في الكلب
44 - كان يقال لمالك بن مسمع ابن قتيل الكلاب لأن أباه مسمع بن سنان لجأ في الردة إلى قوم من عبد القيس، فكان كلبهم ينبح، فخاف أن يدل على مكانه فقتله، فقتل به.
45 - قال بعضهم (1):
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتّقي مربض المستأسد الحامي
46 - وعن عمر بن أبي ربيعة أنه عرض لبعض الحواجّ، فلما أرادت الطواف استصحبت أخا لها فتمثلّت به.
__________
(1) في الأغاني (1: 88بتحقيقنا) أن قائل هذا البيت هو النابغة المتوفى سنة 18قبل الهجرة، ونحن نشك في أن يكون له لأنه لم يرد في ديوان شعره وإنما نسب إليه في كتاب «العقد الثمين» وروايته فيه:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي مربض المستنفر الحامي
وورد في كتاب «شرح الأشعار» كالآتي:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتّقي صولة المستأسد الحامي
والصولة: الوثبة.(5/382)
47 - يقال: عليه واقية كواقية الكلاب للّئيم تطول سلامته، قال دريد ابن الصمة حين ضرب امرأته بالسيف فسلمت:
وأبقاهن أن لهنّ لؤما ... ووافية كواقية الكلاب
48 - محمد بن الجهم: دعاني المأمون يوما فقال: قد نبغ لك أخ بقول الشعر فأنشدني له، فلم أذكر ألا قوله في الكلب:
أوصيك خيرا به فإن له ... سجية لا أزال أحمدها
يدل ضيفي علي في غسق اللي ... ل إذا النار نام موقدها
فقال: أحسن الموصي بالكلب، وأمر لي بمال.
49 - وكانت العرب تسمي الكلب داعي الضمير، وهادي الضمير، وداعي الكرم، ومتمم النعم، ومشيد الذكر، لما يجلب من الأضياف بنباحه. والضمير الضيف الغريب، من أضمرته البلاد إذا غيبته. وكانوا إذا اشتدّ البرد وهبت الرياح ولم تثبت النيران فرقوا الكلاب حوالي الحي، وجعلوا لها مظال وربطوها إلى العمد لستوحش فتنبح فتهدي الضلّال.
50 - وصف للمتوكل كلب بأرمينية يفترس الأسد، فأرسل من جاء به. فقال له الطريحي. يا أمير المؤمنين، هنأك الله بما خصك به من نيل مباغيك، وإدراك محابيك، فما شيء يصغر مع طلب أمير المؤمنين عن أن يهنأ به، أو يرغب إلى الله في زيادته.
فقال المتوكل: هو لك جزاء عن هذه التهنئة، فبعه مني بحكمك.
فباعه منه بألفي دينار. فألقاه على أسد فتواثبا وتناهشا حتى وقعا ميتّين.
51 - كلب القصاب يشبه به الفقير يجاور الغني، فيرى من نعيمه وبؤس نفسه ما يفت كبده، ويقال: كلاب القصابين أسرع عمى من غيرها بعشر سنين.
52 - خرج المهدي يوما يتصيّد فصاد ظبيا، ورمى علي بن سليمان
فأصاب كلبا، فضحك المهدي، وقال لأبي دلامة: قل. فقال:(5/383)
52 - خرج المهدي يوما يتصيّد فصاد ظبيا، ورمى علي بن سليمان
فأصاب كلبا، فضحك المهدي، وقال لأبي دلامة: قل. فقال:
قد رمى المهدي ظبيا ... رمية شك فؤاده
وعلي بن سليما ... ن رمى كلبا فصاده
فهنيئا لهما كل ام ... رىء يأكل زاده
فأمر له بعشرة آلاف.
53 - شاعر:
تخيرت من الأخلا ... ق ما ينفي عن الكلب
فإن الكلب مجبو ... ل على النصرة والذب
وفي يحفظ الدا ... ر وينجيك من الكرب
فلو أشبهته لم ت ... ك طاعونا على القلب
54 - كان لأعرابي بنيان، أحدهما مستهتر بالكلاب والثاني بالحملان، فقال:
مالي أراك مع الكلاب جنيبة ... وأرى أخاك جنيبة الحملان
فأجابه:
لولا الكلاب وهرشها من دوننا ... كان الوقير فريسة الذؤبان
55 - قيل لرجل: ما با الكلب يشغر (1) إذا بال؟ قال: يخاف تتلوث دراعته (2). قيل: أو للكلب دراعة؟ قال: هو يتوهم أنه بدراعة.
56 - الخنزير يحتمل من السهم النافذ والطعن الجائف ما لا يحتمله غيره. والخنفساء في ذلك أعجب. وكذلك الضب.
57 - رأى أحدهم أثر ست أرجل في مواضع كثيرة، فقال: ما أعرف
__________
(1) شغر الكلب: رفع رجله وبال.
(2) الدراعة: هي جبّة مشقوقة المقدم.(5/384)
دابة لها ست أرجل، فسأل عن ذلك، فقيل له: إن الخنزير يركب الخنزيرة وهي ترتع، فربما قطعت أميالا ويداه على ظهرها ورجلاه خلف رجليها.
58 - المهاجر بن حبيب يكره الضحك في موطنين: عند اطلاعك في القبر فإنه مدخل عظيم، وعند رؤية القردة لأنهم كانوا عبادا لله فمسخوا.
59 - التفت ابن الرومي يوما إلى أبي الحسن الأخفش وهو يحكي مشيته، فقال:
هنيئا يا أبا حسن هنيئا ... بلغت من الفضائل كل غاية
شركت القرد في قبح وسخف ... وما قصرت عنه في الحكاية
وله:
ليتهم كانوا قرودا فحكوا ... شيم الناس كما تحكي القرود
60 - الدب يقيم أولاده تحت شجرة الجوز فيصعد ويرمي بالجوز إليها إلى أن تشبع، وربما قطع من الشجرة الغصن العبل الضخم الذي لا يقطع إلا بالفأس والجهد، ثم يشد به على الفارس فلا يصيب منه شيئا إلا هتكه.
61 - الدبة تضع ولدها كندرة لحم غير متميزة الجوارح. فهي تخاف عليه الذر، فلا تزال رافعة له في الهواء أياما حتى يشتد وتفرج أعضاؤه.
62 - الوعل يأكل الحيات والأفاعي أكلا ذريعا، وقد يجد القناص رؤوسها ناشبة الأسنان في عنقه وجلد وجهه، لأنه إذا هم بأكلها بدرته فعضته وهو يأكلها، فتبقى الرؤوس معلقة به. ويصيبه العطاش العظيم عند أكلها.
63 - وعن داود عليه السّلام: شوقي إلى المسيح مثل الأيّل الذي أكل الحيات فاعتراه العطش الشديد، تراه كيف يدور حول الماء.
64 - وليس من الدواب شيء ينصل قرنه كل عام إلا الوعل، فإذا علم أنه غير ذي قرن عديم السلاح لم يظهر مخافة السباع. فإذا نجم قرنه لم يجد بدا من أن يمضغه ويعرضه للشمس والريح. فإذا اشتد ظهر.(5/385)
63 - وعن داود عليه السّلام: شوقي إلى المسيح مثل الأيّل الذي أكل الحيات فاعتراه العطش الشديد، تراه كيف يدور حول الماء.
64 - وليس من الدواب شيء ينصل قرنه كل عام إلا الوعل، فإذا علم أنه غير ذي قرن عديم السلاح لم يظهر مخافة السباع. فإذا نجم قرنه لم يجد بدا من أن يمضغه ويعرضه للشمس والريح. فإذا اشتد ظهر.
ويبقى في مكان واحد إلى أن يشتد قرنه يركبه الشحم ويسمن فيكثر من الجولان والتردد حتى يذهب شحمه ويشتد لحمه، ويحتال في التحفظ من السباع عند ذلك. فإذا كان صدعا برز وأمن. قال عصام بن زفر:
ترجو الثواب من صبيح يا جمل ... قد مصه الدهر فما فيه بلل
إن صبيحا ظاعن محتمل ... فلائذ منك بشعب من جبل (1)
كما يلوذ من أعاديه الوعل
65 - أحضر جعفر بن سليمان على مائدته بالبصرة يوم زاره الرشيد ألبان الظباء وزبدها وسلاها (2) ولبأها (3)، فاستطاب الرشيد طعومها، فسأل عنها، فأمر جعفر غلمانه فأطلقوا عن سرب من الظباء ومعها الخشفان (4)
حتى مرت تجاه الرشيد، فاستخفه الفرح والتعجب، فقال جعفر: هي من حلب هذه الظباء. وكان جعفر قد أخذها وهي صغار فرباها حتى تناتجت عنده.
66 - والظبي يخضم (5) الحنظل خضما ويمضغه وماؤه يسيل من شدقيه، وأنت تتبين فيه الاستلذاذ والاستحلاء لطعمه، ويرد البحر فيشرب الماء الإجاج، كما تغمس الشاة لحيها (6) في الماء العذب. فأي شيء أعجب من حيوان يستعذب ملوحة البحر ويستحلي مرارة الحنظل؟.
__________
(1) الشعب: الطريق في الجبل.
(2) السّلاء: السّمن.
(3) اللبأ: أول النتاج من اللبن بعد الولادة.
(4) الخشف: ولد الظبي أول ما يولد والجمع جشفة وخشفان.
(5) يخضم الحنظل: يقطعه. والحنظل: نبات مرّ الطعم.
(6) اللحي: عظم الحنك الذي عليه الأسنان. وقيل: منبت اللحية.(5/386)
67 - أنشد الجاحظ:
إذا ابتدر الناس المعالي رأيتهم ... قياما بأيديهم مسوك الأرانب
أي لا كسب لهم إلا صيد الأرنب وبيع جلدها.
68 - يقال للأرنب مفزعة الجن. أي أنها تحيض فلا يقربها. ومن شأنها إذا طلبت أن تقلب أكفها فتطأ على مآخيرها لئلا يقتص أثرها. وهو توبيرها، يقال: وبرت الأرنب، وهو من الوبر، لأنها تمشي على وبر أكفها.
69 - يقال للسنور أبو سعد، وعطسة الأسد. لأنهم يزعمون أن أصحاب السفينة تأذوا بالفأرة، فأخرج الله من عطسة الأسد السنور فأفناه.
70 - الهر يجمع العض بالناب والخمش بالمخالب، لأنه يجمع الأنياب والمخالب. وليس كل سبع كذلك. وهو يناسب الإنسان فيعطس، ويتمطى، ويغسل وجهه بلعابه، ويلطع وبر ولده حتى يصير كأن الدهن يجري في جلده.
71 - السنانير يترددن صارخات في طلب السفاد، فكم من حرة خجلت، وذي غيرة هاجت حميته، وعزب حرك منه شبقه. والسنور يألف الدار. والكلب يألف أهل الدار. وهو ضعيف الهامة وهي من مقاتله، وفوه كفم الكلب، وهو طيب النكهة. والفتيات يقبلن السنانير ويخبرن عن طيب أفواهها.
72 - قال السندي بن شاهك: ما أعياني أحد من التجار إلا باعة السنانير يأخذون السنور الأكال للفراخ، العباث في الطيور، الوثاب على الأقفاص، فيدخلونه في دن ويشدون رأسه، ثم يدحرجونه حتى يغلبه الدوار، ثم يدخلونه في قفص فيه الطير، فإذا رآه المشتري رأى شيئا عجبا، وظن أنه ظفر بحاجته. فإذا مضى به إلى البيت تبين أنه اشترى شيطانا يأكل طيره وطير جيرانه، ولا يبقى ولا يذر.
83 - وزعموا أن كل من أكل هرا أسود لم يعمل فيه سحر. وزعموا أن السكينة التي في تابوت موسى رأس هرّ.(5/387)
72 - قال السندي بن شاهك: ما أعياني أحد من التجار إلا باعة السنانير يأخذون السنور الأكال للفراخ، العباث في الطيور، الوثاب على الأقفاص، فيدخلونه في دن ويشدون رأسه، ثم يدحرجونه حتى يغلبه الدوار، ثم يدخلونه في قفص فيه الطير، فإذا رآه المشتري رأى شيئا عجبا، وظن أنه ظفر بحاجته. فإذا مضى به إلى البيت تبين أنه اشترى شيطانا يأكل طيره وطير جيرانه، ولا يبقى ولا يذر.
83 - وزعموا أن كل من أكل هرا أسود لم يعمل فيه سحر. وزعموا أن السكينة التي في تابوت موسى رأس هرّ.
والهرة تحمل خمسين يوما.
74 - سنور عبد الله مثل في مرجو في صغره فإذا شب تراجع. ومن أمثال العامة: السنور في صغره يباع بدرهم فإذا كبر بيع بثلث درهم.
75 - قال بشّار:
كسنور عبد الله بيع بدرهم ... صغيرا فلما شبّ بيع بقيراط
76 - أبو بكر العلاف في مرثية الهر:
يا من لذيذ الفراخ أوقعه ... ويحك هلا قنعت بالغدد
أطعمك الغي لحمها فرأى ... قتلك أربابها من الرشد
ولم تزل للحمام مرتصدا ... حتّى سقيت الحمام بالرصد
ما كان أغناك عن تسوّرك ... البرج ولو كان جنة الخلد
لم يرحموا صوتك الضعيف ... كما لم ترث منها لصوتها الغرد
أذاقك الموت من أذاق كما ... أذقت أطياره يدا بيد
لا بارك الله في الطعام إذا ... كان هلاك النفوس في المعد
عاقبة البغي لا تنام وإن ... تأخرت مدة من المدد
كم أكلة أدخت حشا شره ... فأخرجت روحه من الجسد
إن الزمان استفاد منك ومن ... يظلم بعين الزمان يستفد
77 - قد جعل الله في طبع الفيل الهرب من السنور والوحشة منه.
وحكي عن هارون مولى الأزد، الذي كان يرد على الكميت (1) ويخفر بقحطان وكان شاعر أهل المولتان (2)، أنه خبأ معه هرا تحت حضنه،
__________
(1) الكميت: هو الكميت بن زيد بن خنيس الأسدي، أبو المستهل، شاعر الهاشميين.
توفي سنة 126هـ. والكميت ثلاثة: الكميت بن ثعلبة، والكميت بن معروف ثم الكميت بن زيد وكلّهم من بني أسد.
(2) المولتان: بلد في بلاد الهند على سمت غزنة، به صنم تعظمه الهند وتحجّ إليه.
راجع التفاصيل في معجم البلدان 5: 228227.(5/388)
ومشى بسيفه إلى الفيل والسيف في خرطومه، والفيالون يذمرونه، فلما دنا منه رمى بالهر في وجهه، ففر هربا وتساقط الذين على ظهره، وكبر المسلمون، وكان سبب الهزيمة.
78 - الفيلة تضع لسبع سنين ولدا مستوي الأسنان، فيحتالون لأخذ ذلك الولد، فيعيش عندهم ثمانين سنة إلى المائة، وعمر الوحشية أطول.
79 - وإذا احتمت المرأة من نجوها مع العسل لم تحبل أبدا، وإذا علق على شجرة لم تحمل في تلك السنة.
80 - ويزعمون أن الغوغاء إذا صاحوا بها: يا حجام بابك! غضبت وركلت الصائح، ولا غرو أن تفهم ذلك كما يفهم كثير من الحيوان اسمه وما يخاطب به.
81 - ويعملون من جلد الفيل ترسا، فيكون أصلب من كل ترس.
82 - طرف لسان الفيل إلى داخل، وأصله إلى خارج، بخلاف جميع الحيوان. وتقول الهند لولا أن لسان الفيل مقلوب لتكلم إذا لقّن.
83 - لا ثدي لحيوان في صدره إلا الإنسان والفيل.
84 - والفيل أضخم الحيوان وأعظمه جرما، وما ظنّك بخلق ربما كان في نابيه أكثر من ثلاثمائة من (1) وهو مع ذلك أملح وأظرف وأطرب من كل خفيف الجسم رشيق، حتى فضل في رشاقته على الببغاء، وهو من أعجب العجب. وربما مر الفيل مع عظم بدنه خلف القاعد فلا يشعر بوطئه، ولا يحس بممره، لخفة همسه، واحتمال بعض بدنه لبعض.
85 - أركب أبو الجلال الهدادي الفيل أيام الحجاج، فصاح:
الأرض. وأراد أن يرمي بنفسه فرقا (2) حتى أنزلوه، فقال:
__________
(1) إذا لم يكن في الكلام نقص هما، فالمنّ هو كيل يساوي رطلين مثناه منوان ومنيان وجمعه أمناء وأمن ومنّي.
(2) قوله: يرمي بنفسه فرقا، أي خوفا.(5/389)
وما كنت يوم الفيل فوق مطية ... ولكن على وطفاء جون ربابها
86 - أنشد ابن الأعرابي:
هو البعوضة إن كلفته كرما ... والفيل في كل أمر خالط اللوما
87 - أنشد الجاحظ:
ولو أبصرت الستر ... لوجيهه تهاويل
وفيه الفيل منقوشا ... وفي مشفره طول
لقالت ابعدوا الستر ... فلا يأكلني الفيل
88 - زعم هارون مولى الأزد أنه مشى إلى الفيل، فلما دنا منه وثب عليه وثبة فتعلق بنابيه، والهند يزعمون أنهما قرناه يخرجان مستبطنين حتى يخرقا الحنك ويخرجا أعقفين، فجال به جولة كاد يحطمه، وكان رجلا أيّدا (1) رابط الجأش، فاعتمد على أصول النابين فانقلعا من أصلهما، وأدبر الفيل، وبقي القرنان في يده، وكانت الهزيمة. وأنشأ يقول:
ولما رأيت السيف في رأس هضبة ... كما لاح برق من خلال غمام
تغامسته حتى لزقت بصدره ... فلما هوت لازمت أي لزام
وعذت بقرنيه أريد لبانة ... وذلك من عادات كل محامي
فجال وهجيراه صوت مخضرم ... وأبت بقرني يذبل وشمام (2)
89 - خرطوم الفيل أنفه، وبه يوصل الطعام إلى جوفه، وبه يقاتل،
__________
(1) الأيّد: القويّ.
(2) هجيراه: قصاراه. ويذبل: جبل مشهور الذكر بنجد في طريقها. وشمام اسم جبل لباهلة ذكره جرير في شعره فقال:
فهل نبئت عن أخوين داما ... على الأحداث إلّا ابني شمام
وإلّا الفرقدين وآل نعش ... خوالد ما تحدّث بانهدام(5/390)
ومنه يصيح، وصياحه ليس في مقدار جرمه، ويضرب به الأرض، ويرفع به إلى السماء، وهو مقتل من مقاتله، وهو جيد السباحة، وإذا سبح رفعه صعدا، كما يغيب الجاموس جميع بدنه إلا منخريه. ويقوم خرطومه أيضا مقام عنقه. والخرق الذي فيه لا ينفذ، وإنما هو وعاء إذا ملأه من طعام أو ماء أو لجه فيه، لأنه قصير العنق لا ينال ماء ولا مرعى.
90 - وللبعوضة خرطوم إلا أنه أجوف، فإذا طعنت به في جلد فاسقت الدم قذفت به إلى جوفها، فهو لها كالبلعوم.
91 - أبو الشمقمق:
يا قوم أني رأيت الفيل بعدكم ... فبارك الله لي في رؤية الفيل
رأيت بيتا له شيء يحركه ... فكدت أصنع شيئا في السراويل (1)
92 - الزندبيل (2) مختلف فيه، بعضهم يجعله نوعا فيقول: الفيلة نوعان، فيل وزندبيل، كالبختي (3) والعربي، والجاموس والبقر، ويجعله بعضهم الذكر منها، ويعضهم الأنثى، وبعضهم العظيم منها.
93 - إذا اغتلم الفيل لم يكن لسوّاسه هم إلا الهرب بأنفسهم، وربما رجع وحشيا. وقد اغتلم فيل لكسرى فلم يقم له شيء، حتى دنا من مجلس كسرى فأمتنع عنه كل من معه إلا رجل من خواصه شد عليه بطبرزين في يده، فضربه في جبهته ضربة غاب فيها، فصدف عنه. فقال له كسرى: ما أنا بما وهب الله لي من الحياة على يدك بأسر مني بالذي رأيت من الجلد والوفاء، وحين لم تخطىء فراستي فيك، ولم يزل رأيي فيك إذا اختصصتك.
__________
(1) قوله: فكدت أصنع شيئا في السراويل: أي كاد يسلح ويتغوّط.
(2) الزندبيل: هو الفيل والكلثوم. (اللسان مادة زندبيل).
(3) البختي: الإبل الخراسانية.(5/391)
94 - الجاحظ: وقد رأيت أنا في عين الفيل صحة الفهم والتأمل، وما شبّهت نظره إلا بنظر ملك عظيم الكبر راجح الحلم.
95 - وقال سهل بن هارون:
إذا ما رأيت الفيل ينظر قاصدا ... ظننت بأن الفيل يلزمه الفرض
96 - الفيل ضئيل الصوت ليس صوته على قدر جرمه.
97 - وعن جابر الجعفي: رأيت الشعبي خارجا، فقلت: إلى أين؟
قال: أنظر الفيل. فأتى الحيرة فنظر إليه.
98 - كما يبصبص الكلب بذنبه إذا ألقيت إليه الكسرة كذلك الفيل إذا قدم إليه علفه تمسح وتملق.
99 - ومن أعاجيب الفيل أن سوطه الذي يحث به ويضرب محجن (1)
حديد، أحدّ طرفيه في جبهته والآخر في يد راكبه، فإذا أراد منه شيئا غمزه في لحمه.
100 - أول شيء يؤدبون به الفيل ويعلمونه السجود للملك. خرج كسرى أبرويز لبعض الأعياد، وقد صفوا له ألف فيل، وقد أحدقت به وبها ثلاثون ألف فراس، فلما بصرت به الفيلة سجدت له، فما رفعت رؤوسها حتى جذبت بالمحاجن وراطنها الفيالون.
101 - الفيل يعرق عرقا غليظا غير سائل، أطيب رائحة من المسك، وربما وجد الناس في بيوتهم جرذا أسود يجدون منه ريح المسك. وقيل هو الذي يخبّىء الدراهم. ولا تعرض لعرق الفيل تلك الريح إلا في بلاد خاصة.
__________
(1) المحجن: العصا المنعطفة الرأس، أو كل معطوف الرأس على الإطلاق.(5/392)
102 - عظام الفيل كلها عاج، إلا أن جوهر نابه أكرم وأثمن. ولولا شرف العاج وقدره لما فخر الأحنف بن قيس على أهل الكوفة في قوله:
نحن أكثر منكم عاجا وساجا وديباجا وخراجا.
103 - كنية الفيل أبو الحجاج، وكانت كنية محمود فيل الحبشة أبا العباس.
104 - لسان الفيل صغير بالقياس إليه وقليلا ما يدلعه.
105 - قال أبو علي بن سيناء: رأيت الفيل نزا (1) على الفيل بجرجانية خوارزم، فألصق نابه بكفلها (2) واستعان به حتى علاها فضربها.
ولا عادة للفيل في السفاد في غير بلاده. ومن غريب ما رأيت هناك أن الأسد المجلوبة إليها كانت تتسافد وتلد، وكذلك الفهود.
106 - عنبسة الفيل النحوي سمي بذلك لأن معدان أباه كان يروض فيلا للحجاج. فلما أنشد عنبسة هجاء جرير للفرزدق قال الفرزدق:
لقد كان في معدان والفيل زاجر ... لعنبسة الراوي عليّ القصائدا
جرى عليه النّبز (3).
107 - وقيل لغيلان الراجز راكب الفيل، ولسعدوية الطيوري عين الفيل لأن الحجاج كان يحسبهما عليه. فإذا سمي أهل البصرة إنسانا بفيل فصغروه قالوا: فيلويه، كما يجعلون عمرا عمروية وحمدا حمدوية.
108 - الطرماح في صفة ثور وحش:
يبدو وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسل ويغمد
__________
(1) نزا عليها: ركبها. والنزو هو السفاد.
(2) الكفل من الدابة: العجز أو الردف والجمع أكفال.
(3) النّبز: اللّقب والجمع الأنباز. يقال: وتنابزوا بالألقاب: أي لّقب بعضهم بعضا.
والتنابز: التداعي بالألقاب وهو يكثر فيما كان ذما. وفي التنزيل العزيز: {وَلََا تَنََابَزُوا بِالْأَلْقََابِ}.(5/393)
109 - ابن عرس (1) صعب وحشي لا يكاد يتدرب، وهو مع ذلك يصيد لصاحبه العصافير، يقابل به بيت العصفور فيلج عليه فيأخذه وفراخه ولا يقتله حتى يأخذه منه، ولا يزال كذلك ولو طاف به على ألف جحر.
110 - القنفذ وابن عرس إذا ناهشا الأفاعي والحيات تعالجا بأكل السعتر البري.
111 - الكركدنة تكون نزورا (2)، وأيام حملها كأيام حمل الفيلة، ولذلك قل هذا الجنس. وما من حيوان إلا وهو ناقص عند غايته النقص الفاحش.
112 - وتزعم الهند أنه إذا كان ببلاد لم يدع فيها شيئا من الحيوان حتى يكون بينه وبينه مائة فرسخ من جميع جهات الأرض هيبة له وهربا منه. ويسمى الحمار الهندي. وله قرن واحد في وسط جبهته. ويزعمون أنه يخرج رأسه من بطن أمه فيأكل من أطراف الشجر، فإذا شبع أدخل رأسه. ويزعمون أنه ربما نطح الفيل فرفعه بقرنه، فلا يشعر بمكانه حتى يتقطع على الأيام.
113 - قالوا في قرن الكركدن إن غلظه يبلغ شبرين، وليس بطويل جدا، وهو محدد الرأس شديد الملاسة في مدمج صلب لا يمتنع عليه شيء. وإذا قطعوه ظهرت في مقاطعه صور عجيبة.
114 - إذا اجتمع في الفيل أن يكون وحشيا ومغتلما لم يقم له شيء إلا الكركدن، وإنه ليهجم عليه فيحجم عنه حتى تذهب عنه سكرة الغلمة فلا يطور طواره ولا يحل بأداني أرضه.
115 - في أعلى بلاد النوبة تجتمع السباع والوحوش والدواب
__________
(1) ابن عرس: دويبة تشبه الفأرة بعض الشبه أصلم الأذنين مستطيل الجسم جمع بنات عرس للمذكر والمؤنث.
(2) امرأة نزور: قليلة الولد.(5/394)
الكثيرة، وذلك في حمارة القيظ (1) إلى شرائع المياه فيتسافدن (2)، فمن ذلك الزرافة (3) وفلفل وقيل هي ولد النمر من الجمل.
116 - ابن عرس أشد عداوة للفأر من السنور، والشاة أشد فرقا (4)
من الذئب منها من الأسد والنمر والببر، مع كون هؤلاء أقوى عليها.
والحمام أفرق من الشاهين منه من الصقر والبازي.
117 - وإذا نبح كلب على رجل بالليل وألح عليه، ولا حارس ولا سبيل إلى الفوت، فدواؤه أن يقعد بين يديه مستخذيا مستسلما، فإنه إذا رآه كذلك شغر (5) عليه ولم يهجه، كأنه حين رآه تحت قدرته أراد أن يسمه بميسم ذل، كما يجز الآسر ناصية الأسير (6).
118 - يرى الكلب العظم المدملج فيعلم أنه إن عضه رضه وإن ابتلعه استمرأه.
__________
(1) حمّارة القيظ: وقت اشتداد الحرّ.
(2) يتسافدن: ينزو بعضها على بعض.
(3) الزرافة: حيوان من ذوات الظلف في حجم البعير قصير الرجلين طويل اليدين جلده مبقّع كجلد النمر وعنقه كعنق الفرس إلّا أنه أطول وأكثر انتصابا وله قرنان صغيران والجمع زرافيّ وزرافى وزرائف.
(4) الفرق: الخوف.
(5) شغر: رفع رجله وبال.
(6) الناصية: الشعر في مقدّم الرأس فوق الجبهة، وكان من عادة العرب أنهم إذا أنعموا على الرجل الشريف بعد أسره جزّوا ناصيته وأطلقوه فتكون الناصية عند من جزّها يفتخر بها. وربما جزّت ناصية الأسير شريفا كان أو غير شريف وأخذت للإفتخار.
والعرب متفاوتون في ذلك؟ قال زهير من قصيدة مدح بها هرم بن سنان المرّي أحد الأجواد في الجاهلية:
عظمت دسيقته وفضله ... جزّ النواصي من بني بدر
وقالت الخنساء مفتخرة:
جززنا نواصي فرسانها ... وكانوا يظنّون أن لا تجزّا
ومن ظن ممنّ يلاقي الحروب ... بألا يصاب فقد ظنّ عجزا(5/395)
119 - كان في بني ضبة كلب زبني يوضع السراج على رأسه، وهو منتصب على عجب (1) ذنبه معلق يديه، فيدعى باسمه ويلقى له اللحم فلا يتحرك، فإذ أخذ عنه السراج وثب على اللحم، ويعلق في عنقه المكتل (2)
وتوضع فيه الرقعة فيمضي إلى البقال ويأتي بالحاجة. ويطحنون عليه، فإذا فرغ من طحنه مضى إلى المتمعك فتمعك فيه كحمار الطحان.
120 - تلقح الكلبة من كلاب مختلفة الألوان، وتأتى بالجراء على شيات مختلفة، وتلقح أيضا من غير الكلب، وليس ذلك إلا لأرحام الكلاب.
121 - أبو السري المحبي في دليل بن إسماعيل:
أيها المبتلي بحب كلاب ... لا يحب الكلاب غير الكلاب
لو تعريت بينها كنت منها ... إنما فقتها بلبس الثياب
122 - رفع إلى الحسن بن سهل أن الدواب وبئت، فوقّع: تقتل الكلاب، فقال أبو العواذل.
له يومان من خير وشر ... يسل السيف فيه من القراب
فأما الجود منه فللنصارى ... وأما شرّه فعلى الكلاب
وفرط الناس في قتلها فأكلت لحوم الدواب فكلبت على الناس، واضطروا إلى قتلها، وعلموا الصواب في توقيع الحسن.
123 - تكون بالبادية دابة من جنس السباع، دقيقة الخطم، على قدر ابن عرس، تدنو من الناقة وهي باركة ثم تثب فتدخل حياءها فتندمس فيه حتى تصل إلى الرحم فتجذبها، وتسقط الناقة ميتة. ويزعمون أنه شيطان، وقلّ ما ترى، واسمها العنزة.
__________
(1) العجب: أصل الذنب عند رأس العصعص والجمع عجوب.
(2) المكتل: الزّبيل الذي يحمل فيه التمر أو العنب.(5/396)
الباب الخامس والتسعون دواب البحر من السمك وسائر الحيوان المختلف فيه وما وضع الله فيها العجائب
1 - جابر بن عبد الله: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأمر علينا أبا عبيدة نتلقّى عيرا لقريش، وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء، فيكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصيّنا الخبط (1) ثم نبلله بالماء فنأكله. فانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر، فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب (2) عينيه بالقلال الدهن، ونقتطع منه الفدرة (3) كالثور. ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينه، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها، ثم رجل أعظم بعير منا فمر من تحتها. وتزودنا من لحمه وسائق. فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: هذا رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ فأرسلنا إلى رسول الله منه فأكله.
2 - القرش دابة عظيمة من دواب البحر تمنع السفن من السير، وتدع
__________
(1) الخبط: ورق الشجر ينفض بالمخابط.
(2) الوقب: كل نقرة في الجسد كنقرة العين والكتف، وقيل: أنقوعة الدهن ونحوها.
(3) الفدرة: القطعة من اللحم المطبوخ البارد.(5/397)
السفينة فتقلبها، وتضربها فتكسرها.
وسمعت أنا من بعض البحارين بمكة: ونحن قعود عند باب بني شيبة، يصف لي القرش فيقول: هو مدور الخلقة، وعظمه كما بين مقامنا هذا إلى الكعبة، ومن شأنه أن يتعرض للجلاب، وهي السفن الكبار، فلا يرده شيء إلا أن يأخذ أهلها المشاعل، فثم الحذر والمرور على وجهه كالبرق، كل شيء عنده جلل إلا النار.
وقال: رأيت ملاحا يصعد في المردي فلما نصفه خرّ مقطوعا نصفين فنظرنا فإذا القرش قد ضربه بذنبه.
وبه سميت قريش، قال المشمرج بن عمرو الحميري:
وقريش هي التي تسكن البح ... ربها سميت قريش قريشا
تأكل ألغث والسمين ولا تت ... رك فيه لذي جناحين ريشا
3 - وللشريف الرضي ذي المناقب في قطعة له مليحة:
يبرهن العدلي وال ... مجبر في وعاوعه
والقرش لا يروعه ال ... نقيق من ضفادعه
4 - حكي أن تمساحا وأسدا اعتلجا على شريعة (1)، فضربه التسماح بذنبه، وضغم الأسد رأسه، فماتا جميعا.
5 - ذل التمساح على وجه الأرض شبيه بذل الأسد في الماء الغمر، يذل حتى يركب الصبي ظهره، ويقبض على أذنيه كيف شاء، ويفعل ذلك غلمان السواد بشاطىء الفرات إذا احتملت الأسود المدود.
6 - ويكون في النيل وخلجانه خيل في صور خيل البر، وهي تأكل التماسيح، وربما خرجت فرعت الزروع، وإذا رأى أهل مصر حوافراها علموا أن ماء النيل ينتهي في طلوعه إلى ذلك المكان. وإذا أصابوا منها
__________
(1) الشريعة: مورد الشاربة والجمع شرائع.(5/398)
صغيرا ربوه في البيوت.
7 - وفي سن من أسنان فرس الماء شفاء من وجع المعدة، وأعفاجه (1)
تبرىء من الجنون والصرع كما تبرىء لحوم بنات عرس.
8 - كل ماضغ يحرك فكه الأسفل إلا التمساح فإنه يحرك فكه الأعلى.
9 - سمك البحر كله ليس له لسان ولا دماغ.
10 - الكوسج سمكة غليظة الجلد تشبه الجرّي، إن اصطادوها ليلا وجدوا في جوفها شحمة طيبة، وإن اصطادوها نهارا لم يجدوها.
11 - الشبوطة تنتهي في النهر إلى الشبكة فلا تستطيع النفوذ، فتتأخر قاب (2) رمح ثم تجمع جراميزها حتى تطفر (3) الشبكة، وربما كان ارتفاع وثبتها أكثر من عشرة أذرع.
12 - أكثر البياضة بيضا السمك، ثم الجراد، ثم العقارب، ثم الضباب، لأن السمكة لا تزن ولا تلقم ولا تحضن ولا ترضع فكثر الله ذرها. وما زق وحضن والزق ضرب من القيء وفيه عليه وهن وشدة قلّل الله نسله، كالحمامة لا تبيض إلا بيضتين. والدجاجة تحضن ولا تزق فزاد الله في بيضها وفراخها. والحية تضع ثلاثين بيضة، ولها ثلاثون ضلعا ولذلك قويت أصلابها. فسبحان من دبر هذا التدبير اللطيف، وأحكم هذه الحكمة البالغة.
13 - من السمك قواطع كما في الطير، منها الأسبور والنرسوج يقطع
__________
(1) العفج: المعي، وقيل: مكان الكرش لما لا كرش له والجمع أعفاج.
قال الجوهري: الأعفاج من الناس ومن ذوات الحافر والسباع كلّها: ما يصير الطعام إليه بعد المعدة وهو مثل المصارين لذوات الخفّ والظّلف التي تؤدي إليها الكرش ما دبغته.
(2) قاب: مقدار أو مسافة.
(3) طفر: وثب في ارتفاع. والطفرة: الوثبة في ارتفاع.(5/399)
من بحر الزنج إلى دجلة البصرة تستعذب الماء، تتملح بعذوبة الماء كما تتحمض الإبل. تقطع في السنة مرتين. فتقيم في دجلة شهرين، وهي في إحدى المرّتين أسمن منها في الثانية. ويزعمون أن بين بحر الزنج والبصرة أبعد مما بين الصين ومنها.
14 - الدخس دابة في البحر تنجي الغريق، تدنو منه حتى يضع يده على ظهرها، يستعين بالإتكاء عليها والتعلق بها وهي تسبح.
15 - قالوا إنّ ببحر طبرستان سرطانا على جلده من الوشي والنقوش الدقيقة العجيبة ما يتحير فيها الناظر.
16 - زعموا أن السمك يتجه نحو الغناء والصوت الحسن ويقرّ قرار المستمع، فإذا قطع نفر، وإذا أعيد عاد. وإذا سمع الدلفين وأنواع السمك صوت الرعد هرب إلى القعر وسدر (1).
17 - والضفدع لا يمكنه الصياح حتى يدخل حنكه الأسفل في الماء، فإذا صار في حنكه الأسفل بعض الماء صاح، ولذلك لا تسمع له نقيقا خارج الماء. وهو يعيش في الماء، ويبيض في الشط كالسلحفاة والرق (2).
18 - الميخ بخراسان (3) يكبس في الأزاج (4). ويحال بينه وبين الريح والهواء بأحكم ما يقدر عليه ومتى انخرق من تلك الخزانة في مقدار منخر الثور حتى يدخله استحال الميخ كله ضفادع.
__________
(1) سدر: تحيّر.
(2) الرق: ضرب من دواب البحر يشبه التسماح، أو العظيم من السلاحف أو ذكر السلاحف والجمع رقوق.
(3) خراسان: بلاد واسعة أول حدودها مما يلي العراق وآخر حدودها مما يلي الهند وتشتمل على أمهات البلاد منها نيسابور وهراة ومرو وبلخ وغيرها.
(4) الأزاج: الإناء المصنوع من الزجاج الذي يكبس فيه الميخ، والميخ هذا لم نقف على تفسير له في المعاجم التي بين أيدينا.(5/400)
19 - ويرى في غب المطر ما لا يحصى من الضفادع، إذا كان المطر ديمة في مواضع لا يقربها بحر ولا نهر ولا شيء من معادن الماء، تجدها في الضحاضح (1) وعلى ظهور المساجد، وتذهب العامة إلى أنها كانت في السحاب، وإنما تخلق عقب المطر في الأرض بعد وقوعه.
20 - وزعم بعضهم أن أهل إيذج (2) مطروا مرة أكبر شبابيط في الأرض وأسمنها وأعذبها.
21 - والضفادع من الخلق المائي الذي يصبر عن الماء أياما صالحة، وتعظم ولا تسمن كالدراج (3) والأرنب، فإن سمنهما أن يحملا اللحم.
22 - وفي سواحل فارس ناس يأكلونها، وهي أجحظ الخلق عينا.
والأسد ينتابها في مظانها (4) فيأكلها أكلا شديدا. والحية تطلبها في الشرائع. قال الأخطل:
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر
23 - عبد الرحمن بن عثمان الليثي: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قتل الضفدع.
24 - ابن عمر: لا تسبوا الضفادع فإن نقيقها تسبيح.
25 - في خرافات مسيلمة (5): يا ضفدع نقي ما تنقين، نصفك في
__________
(1) الضحاضح جمع ضحضاح: وهو الماء القريب القعر.
(2) إيذج: بلد بين خوزستان وأصبهان وسط الجبال يكثر فيها الزلازل مشهورة بقنطرتها كان فيها بيت نار قديم كان يوقد إلى أيام هارون الرشيد.
(3) الدرّاج: نوع من الطير.
(4) مظان الضفادع: المكان الذي توجد فيه.
(5) مسيلمة: هو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي الوائلي، أبو ثمامة، متّنبىء، من المعمرين. وفي الأمثال «أكذب من مسيلمة» وهو الذي كتب إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله. سلام عليك، أما بعد فإني قد اشتركت في الأمر معك، وإنّا لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون» فأجابه:
«بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله، إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتّبع الهدى. أما بعد فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» وذلك في أواخر سنة 10هـ. وأكثر مسيلمة من وضع أسجاع يضاهي بها القرآن. وتوفي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل القضاء على فتنته فلما انتظم الأمر لأبي بكر انتدب له خالد بن الوليد على رأس جيش قوي هاجم ديار بني حنيفة، وصمد هؤلاء، فكانت عدّة من استشهد من المسلمين على قلّتهم في ذلك الحين ألفا ومئتي رجل، منهم أربعمائة وخمسون صحابيا (كما في الشذرات) وانتهت المعركة بظفر خالد ومقتل مسيلمة سنة 12هـ، ولا تزال إلى اليوم آثار قبور الشهداء من الصحابة ظاهرة في قرية «الجبيلة» حيث كانت الواقعة (باليمامة قرب العينية بوادي حنيفة في نجد).(5/401)
الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين، وكان يدعيها تنزيلا من لدن حكيم عليم، فسمع بها أبو بكر فقال: ما خرجت من إله.
26 - شاعر:
قالت الضفدع قولا ... فهمته الحكماء
في فمي ماء وهل ين ... طق من في فيه ماء
27 - الماء الراكد إذا صار رقراقا وضحضاحا استحال دعاميص (1)، وانسلخت الدعاميص فصارت فراشا وبعوضا.
28 - من شأن الدلفين أن يقتل السمكة الكبيرة، فإذا طفت استجن بها مندسا تحتها، فعل الصائد بالذريعة، فيقع عليها الطير يأكلها، فيثب عليها من تحت فيأخذها. وفي المحرضات:
لعمرك ما عبد العزيز بكافل ... تقيّ ولا عبد العزيز رضا كافي
وإنك واستكفاء مثلك مثله ... كما استظهر الدلفين بالسمك الطافي
__________
(1) الدعاميص: جمع دعموص وهو دويبة صغيرة تكون في مستنقع الماء.(5/402)
الباب السادس والتسعون الطيور وما أوتيت من أعاجيب الإلهام في حضنها ورزقها ورفرفتها على فراخها وتدبير أمرها
1 - النبي صلّى الله عليه وسلّم: الديك الأبيض صديقي، وعدو عدو الله، يحرس دار صاحبه ويسمع أدؤر (1) حواليه، وكان يبيته معه في البيت.
2 - زعم أهل التجربة أن الرجل إذا ذبح الديك الأبيض الأفرق (2) لم يزل ينكب في أهله وماله.
3 - قال لقيم الدجاج في رسول الله عند افتتاح خيبر:
رميت نطاة (3) من الرسول بفيلق ... شهباء ذات مناكب وفقار
فوهب له دجاج خيبر عن آخرها. ولذلك قيل له لقيم الدجاج.
__________
(1) أدؤر: جمع دار وهي المحل والمسكن مؤنثة وقد تذكر. وتجمع أيضا على دور وديار وأدؤر وأدورة وديارة وأدوار ودورات وديارات ودوران وديران.
(2) الأفرق: من كان شعره مفروقا. والديك الأفرق: ذو العرف المفروق.
(3) النطاة: من حصون خيبر وهذه الحصون هي: حصن ناعم وعنده قتل مسعود بن مسلمة ألقيت عليه رحى، والقموص حصن أبي الحقيق، وحصن الشقّ، وحصن النطاة، وحصن السّلالم، وحصن الوطيح، وحصن الكتيبة، وأمّا لفظ خيبر فهو بلسان اليهود الحصن. ولكون هذه البقعة تشتمل على هذه الحصون سميت خيابر، وقد فتحها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كلّها في سنة سبع للهجرة وقيل سنة ثمان. وخيبر على ثمانية برد من المدينة لمن يريد الشام.(5/403)
4 - كل ديك يقبض على الحبة فيحذف بها قدام الدجاجة، ومن ذلك قيل أسمح من لاقطة، إلا ديك مرو فإنه يطرد الدجاج عن الحب وينزع الحب من أفواه الدجاج، لبخل المراوزة.
5 - ساوم مدني دجاجة بعشرة دراهم، فقال والله لو كانت في الحسن كيوسف وفي العظم ككبش إبراهيم، وكانت كل يوم تبيض ولي عهد للمسلمين ما ساورت أكثر من درهمين.
6 - يوضع تحت الدجاجة بيضتان من بيض الطاووس، لا تقوى على تسخين أكثر منهما، ويتفقدونها حتى لا تقوم فيفسدها الهواء. وربما باضت الدجاجة بيضتين في يوم واحد، وهو من أسباب موتها.
7 - الحمامة تحضن بيضة الدجاجة فيخرج الفروج أكيس.
8 - أبو عثمان الخالدي:
وأنكر من بوم يصرصر غدوة ... وأشأم من ديك يصيح عشاء
9 - إذا هرمت الدجاجة لم يكن لأواخر ما تبيض صفرة، وإذا لم يكن للبيضة مح لم يخلق منها فروج، لأنه غذاؤه المح ما دام في البيضة. وقد يكون للبيضة محّان فتفقس عن فروجتين يخلقهما الله من البياض، ويتغذيان بالمحين، لأن الفراريج تخلق من البياض والصفرة غذاؤها.
10 - الطرماح:
فيا ليل كمش غبّر الليل مصعدا ... ببم ونبه ذا العفاء الموشح
إذا صاح لم يخذل وجاوب صوته ... حماش الشوى يصدحن من كل مصدح
11 - جران العود (1):
__________
(1) جران العود: هو عامر بن الحارث النميري، شاعر وصّاف. أدرك الإسلام وسمع القرآن واقتبس منه كلمات وردت في شعره. ومعنى «جران العود» مقدّم عنق البعير المسن، كان يلقّب نفسه به في شعره:
بدا لجران العود والبحر دونه ... وذو حدب من سرو حمير مشرف
وما لجران العود ذنب وما لنا ... ولكن جران العود ممّا نكلّف
راجع ترجمته في اللباب 1: 218والعيني 492والشعر والشعراء 275وهو فيه «العبدي» والتاج: مادة جرن، ومقدمة ديوانه الذي شرحه أبو سعيد السكري.(5/404)
ماذا يؤرقني والنوم يعجبني ... من صوت ذي رعثات ساكن الدار
كأن حماضة في رأسه نبتت ... من آخر الصيف قد همت بإثمار
12 - كان لمزيد ديك قديم كان يكرم عليه، فحضر العيد وليس معه شيء، فخرج إلى المصلى وأمر امرأته بذبحه واتخاذه طعاما. فأرادت أخذه فذهب يخرق السطوح وهي تتبعه، فسألها جيرانه وهم قوم هاشميون عن موجب ذبحه، فوصفت لهم الحال، فقالوا: ما نرضى بأن يبلغ الاضطرار بأبي إسحاق ما نرى. فأرسل إليه هذا شاة، وهذا شاتين، وهذا بقرة، حتى امتلأت داره. فجاء وسمع الثغاء والخوار، فقال: ما هذا؟ فقصت القصة؟ فقال: كان هذا الديك أكرم على الله من نبيه إسماعيل، فدي بذبح واحد وفدي هذا بما أرى.
13 - أهدى هلال بن الحريش إلى عبد الرحمن بن الأشعث دجاجة فائقة قد أعجب بسمنها، فأخرج إليه كتابا من الحجاج أن أبعث إليّ برأس هلال، فتغير وأرعد. فقال: لا عليك يا هلال، لا نأكل دجاجتك ونبعث إليه برأسك، والله لا يصل إليك حتى يصل إليّ. فأنشأ يقول:
وابنفسي دجاجة لم تخني ... وضعت لي نفسي مكان الأنوق
فرجت كربة المنية عني ... بعد ما كدت أن أغص بريقي
يا ابن قيس ويا ابن خير بني كن ... دة بين الأشج والصديق
إن شكري شكر الطليق من القت ... ل ووجدي عليك وجد الشفيق
14 - أبو المنذر، وأبو اليقظان، وأبو برايل، وأبو عقبة، كنى
الديك. الموصلي: سمعتني أعرابية وأنا أنشد:(5/405)
وابنفسي دجاجة لم تخني ... وضعت لي نفسي مكان الأنوق
فرجت كربة المنية عني ... بعد ما كدت أن أغص بريقي
يا ابن قيس ويا ابن خير بني كن ... دة بين الأشج والصديق
إن شكري شكر الطليق من القت ... ل ووجدي عليك وجد الشفيق
14 - أبو المنذر، وأبو اليقظان، وأبو برايل، وأبو عقبة، كنى
الديك. الموصلي: سمعتني أعرابية وأنا أنشد:
وكأس مدام يحلف الديك أنها ... لدى المزج من عينيه أصفى وأنور
فقالت يا أبا محمد، إن الديك من صالح طيوركم ما كان ليحلف بالله كاذبا.
15 - إسماعيل بن أبير الواقدي:
نبهتها سحرا والليل معتكر ... والديك يمزج تصفيقا بتصويت
16 - ابن الأعرابي: قلت لشيخ من قريش: من علمك هذا؟ قال:
علمني من علم الحمامة على بلهها تقليب بيضها كي تعطي الوجهين جميعا نصيبهما من الحضن.
17 - كان الصحابة يقولون: كونوا بلها كالحمام، عنوا أنها مع بلهها مصلحة أمر نفسها وفراخها.
18 - خرؤ الحمام (1) نافع من الرمل والحصا، يقتمح منه وزن درهمين مع مثله دار صيني.
19 - الهداية في الحمام لا تكون إلا في الخضر والثمر منها، وأما الشديد السواد فكالزنجي القليل المعرفة. والأبيض ضعيف القوة. وإذا خرج الجوزل (2) عن بيضته علم أبواه أن حلقه لا يتسع للغذاء، فلا يكون لهما هم إلا أن ينفخا في حلقه الريح لتتسع حوصلته بعد التحامها، ثم يعلمان أنه لا يحتمل في أول غذائه أن يزق بالطعم فيزقانه باللعاب المختلط بقواهما وقوى الطعم ويسمى اللبأ. ثم يعلمان أن حوصلته تحتاج إلى دبغ
__________
(1) جرؤ الحمام: سلحه.
(2) الجوزل: فرخ الحمام. قال الراجز:
يتبعن ورقاء كلون الجوزل وجمعه جوازل.(5/406)
فيأكلان من شورج أصل الحيطان. وهي شيء بين الملح الخالص والتراب، فيزقانه به فإذا علما أنه قد دبغ زقاه الحب الذي قد غب في حواصلهما ثم بالذي هو أطرأ فأطرأ حتى يتعود، فإذا علما أنه قد أطاق اللقط منعاه بعض المنع ليحتاج ويتشوف فتطلبه نفسه وتحرص عليه. فإذا فطماه وبلغا منتهى حاجته إليهما نزع الله تلك الرحمة منهما، وأقيل بهما على طلب نسل آخر. فسبحان من عرف الخلائق وأتقنها وسواها، وجعلها دلالة لمن استدل بها عليه، ومخبرا صادقا لمن استخبرها عنه. ذلك الله رب العالمين.
20 - بعضهم: رأيت حمامة ذكرا له أنثيان، وقد باضتا منه، فهو يحتضن مع هذه وهذه، ويزق معهما.
21 - الجاحظ: وللحمام من الفضيلة والمفخر أن الواحدة تباع بخمسمائة دينار، ولم يبلغ ذلك شيء من الطير غيره، وهو الهادي الذي جاء من الغابة. قال: ولو دخلت بغداد والبصرة وجدت ذلك بلا معاناة.
ولو حدث أن برذونا أو فرسا بلغ خمسمائة دينار لكان سحرا.
وتباع البيضة الواحدة منه بخمسة دنانير، والفرخ بعشرين. فمن كان له زوجان منه قاما في الغلة مقام ضيعة. وأصحابه يبنون من أثمانه الدور الجياد والحوانيت المغلّة، هو مع ذلك ملهى عجيب، ومنظر أنيق، ومعتبر لمن فكر.
22 - جهم بن خلف:
وقد هاج شوقي أن تغنت حمامة ... مطوقة ورقاء تصدح في الفجر
هتوف تبكي ساق حر ولن ترى ... لها دمعة يوما على نحرها تجري (1)
__________
(1) الساق: الحمام الذكر. قال الكميت:
تغريد ساق على ساق يجاوبها ... من الهواتف ذات الطوق والعطل
عنى بالأول الورشان وبالثاني ساق الشجرة. وساق حرّ: الذكر من القماري سمّي بصوته. قال حميد بن ثور:
وما هاج هذا الشوق إلّا حمامة ... دعت ساق حرّ ترحة وترنّما
وقال بعضهم: الساق: الحمام. وحرّ: فرخها. ويقال: ساق حرّ صوت القمري.(5/407)
تغنت بصوت فاستجاب لصوتها ... نوائح بالأصناف في فنن السدر (1)
إذا فترت كرت بلحن شج لها ... يهيج للصب الحزين جوى الصدر
دعتهن مطراب العشيات والضحى ... بصوت يهيج المستهام على الذكر
فلم أر ذا وجد يزيد صبابة ... عليها ولا ثكلى تبكي على بكر
فأسعدتها بالنوح حتى كأنها ... نوائح هبت يلتدمن على قبر (2)
بسرة واد من تبالة مونق ... كسا جانبيه الطلح واعتم بالزهر (3)
فقلت لقد هجتن صبا متيما ... حزينا وما منكن واحدة تدري
23 - أكلت حية بيض مكّاء (4)، فجعل المكاء يشرشر على رأسها ويدنو منها، حتى إذا فتحت الحية فاها تريده وهمت به ألقى فيه حسكة، فأخذت بحلقها حتى ماتت.
24 - كان من دعاء مكحول: يا رازق الغراب في عشه. وذلك أن الغراب إذا فقس عن فراخه فقس عنها بيضا فينفر عنها، فتفتح أفواهها فيرسل ذبابا تدخل في أفواهها فتكون غذاء لها، حتى إذا اسودت انقطع الذباب وعاد الغراب يغذيها.
__________
(1) السدر: نوع من الشجر. وقيل: شجر النبق.
(2) يلتدمن: يلطمن: واللّدم: اللّطم، والضرب بشيء يسمع وقعه.
(3) تبالة: في موضعين: 1موضع ببلاد اليمن. 2وتبالة الحجاج. بلدة. مشهورة من أرض تهامة في طريق اليمن. وأسلم أهل تبالة وجرش من غير حرب فأقرّهما رسول الله في أيدي أهلها على ما أسلموا عليه وجعل على كل حالم ممن بهما من أهل الكتاب دينارا. واشترط عليهم ضيافة المسلمين، وكان فتحها سنة عشر وهي ممّا يضرب المثل بخصبها.
(4) المكّاء: طائر من القنابر له تصعيد في الجو وهبوط، أبيض اللون وله صفير حسن جمع مكاكي.(5/408)
25 - أنشد ثعلب:
وصاح ببينهم من بطن قوّ ... من الغربان شحاج حجول (1)
من اللائي لعنّ بكل أرض ... فليس لهن في أرض قبول
يناصرن النوى فإذا اتلأبت ... ركاب القوم واقلولى الحمول
يبادرن الديار يجلن فيها ... وبئس من المليحات البديل
26 - الحارثي:
أقول وقد صاح ابن دأية غدوة ... بين النوى لا أخطأتك الشبائك
أفي كل يوم رائعي أنت روعة ... ببيونة الأحباب عرسك فارك (2)
ولا بضت في خضراء ما عشت بيضة ... وضاقت برحباها عليك المسالك
27 - تعلم الحبارى (3) أن سلاحها يدبق ريش الصقر، فترميه به، ثم تجتمع عليه الحباريات فينتفن ريشه طاقة طاقة حتى يموت. وكذلك الحبارى تموت كمدا إذا انحسر عنها ريشها ورأت صويحباتها تطير.
28 - وفي ديوان المنظوم (4):
__________
(1) قوّ: ويقال لها بطن قوّ هو منزل للقاصد إلى المدينة من البصرة يرحل من النباج فينزل قوا. وهو واد يقطع الطريق تدخله المياه ولا تخرج وعليه قنطرة يعبر القفول عليها يقال لها بطن قوّ.
قال الجوهري: قوّ بين فيد والنباج.
قال زرعة بن تميم الحطم الجعدي:
وإن تك ليلى العامرّية خيّمت ... بقوّ فإني والجنوب يمان
ومغترب من رهط ليلى رعيته ... بأسباب ليلى قبلما يرياني
وقال أبو زيد الكلابي: قوّ بين اليمامة وهجر نزل به الحطيئة.
(2) العرس: (بالكسر): زوجة الرجل. والفارك: المبغضة لزوجها المشاكسة.
(3) الحبارى: نوع من الطير، تقدم شرحه.
(4) ديوان المنظوم: من مؤلفات الزمخشري صاحب هذا الكتاب، راجع مقدمتنا في الجزء الأول منه.(5/409)
وهل للحبارى بعد عشرين ريشة ... تساقطها حمقا فتتلف بالكمد
مطايرة الشهم الأثيث جناحه ... إذا ساق كدري السماوة فاطرد
وهل يستطيع القرد والقرد ما به ... لضابثه طرف مصاولة الأسد
29 - الطركلة (1) تتسافد بالأستاه. والحجلة تكون في سفالة الريح، واليعقوب في علاوتها، فتلقح كما تلقح النخلة من الفحال (2) بالريح.
30 - الجاحظ: أي شيء أعجب من العقعق، وصدق حسه، وشدة حذره، وحسن معرفته، ثم ليس في الأرض طائر أشد تضييعا لبيضه وفراخه منه.
31 - والحبارى مع أنها أحمق تحوط بيضها وفراخها أشد الحياطة.
32 - استلب عقعق مرة سخابا (3) كريما لقوم، فاتهموا به أعرابية، فبينا هي تضرب إذ مر العقعق والسخاب في منقاره، فصاحوا به فرمى به.
فقالت الأعرابية:
ويوم السخاب من تعاجيب ربنا ... كما أنه من بلدة السوء نجّاني
33 - شاعر:
إذا بارك الله في طائر ... فلا بارك الله في العقعق
طويل الذنابي قصير الجناح ... متى ما يجد غفلة يسرق
يقلب عينين في رأسه ... كأنهما قطرتا زئبق
__________
(1) الطرغل: القماري والدبّاسي والأطرغلات والصلاصل ذوات الأطواق، ولعلّ الطرغل هذه هي الطركلة. وقوله: تتسافد: أي ينزو ذكرها على أنثاها.
(2) الفحال: ذكر النخل.
(3) السخاب: قلادة تتّخذ من قرنفل وسك ومحلب ليس فيها من اللؤلؤ والجوهر شيء والجمع سخب.
والعقعق: طائر معروف من ذلك وصوته العقعقة. وقيل: هو ذو لونين أبيض وأسود طويل الذنب، قال: وإنما أجيز قتله لأنه من نوع الغربان.(5/410)
34 - القطاة لا تبيض إلا أفرادا. قال أبو وجزة:
وهن ينسبن وهنا كل صادقة ... باتت تباشر عرما غير أزواج
35 - آخر:
ويصاد القطا فينجو سليما ... بعد يأس ويهلك الصيّاد
36 - ومن الطير ما يؤثر التفرد كالعقاب، ومنه ما يتعايش معا كالكراكي، ومنه ما يتعايش أزواجا كالقطا.
37 - كان الرشيد في متصيد له، فأتاه البازيار بدراج أبيض وقال: ما رأيت مثله قط، فقال: أطلقه من يدك، فإن الشيء إذا جاوز حده سمج.
38 - تغدى مع الحكم بن أيوب بعض عماله، فتناول من بين يديه درلجة، فاحتقدها عليه فعزله عن عمله، وفيه يقول الفرزدق:
قد كان بالعرض صيد لو قنعت به ... فيه غنى لك عن دراجة الحكم
39 - وصف علي بن عبيدة الريحاني الطاووس، ثم قال في آخره:
وما يروق العين منه أكثر مما يحكي اللسان.
40 - الصاحب في خط قابوس: هذا جناح الطاووس أم خط قابوس.
41 - سأل أعرابي جعفر الصادق عن التوحيد، فتناول بيضة بين يديه فوضعها على راحته وقال: هذا حصن مملق لا صدع فيه، ثم من ورائه عرقيء مستشف، ثم من ورائه دمعة سائلة، ثم من ورائها ذهب مائع، ثم لا تنفك الأيام والليالي حتى تنفلق عن طاووس ملمع. فأي شيء في العالم إلا وهو دليل على أنه ليس كمثله شيء.
42 - الظليم (1) يبتلع الحديد المحمّى، ثم يميعه بحر قانصته، ثم
__________
(1) الظليم: ذكر النعام.(5/411)
يحيله كالماء الجاري. وفي ذلك أعجوبتان: الغذي بما لا يغذو، واستقراؤه لشيء لو طبخ في قدر أبدا لما انحل.
والذي سخر الحديد لجوف الظليم هو الذي سخر الصمّ الصلاب لأذناب الجراد، إذا أرادت الجرادة أن تلقي بيضها غمزت ذنبها في ضاحي الصخرة فانصدعت لها، وليس ذلك من جهة القوة، ولكن من جهة التسخير. وعود الحلفاء (1) يتلقاه مع رخاوته ودقته في منابته الآجرّ والخزف الغليظ فيثقبه. وهو الذي سخر القمقم والطنجير والطست لإبرة العقرب حتى نفذت فيها.
وهو كالبعير من جهة المنسم والوظيف والخزامة التي في أنفسه، وكالطائر من جهة الريش والجناحين والذنب والمنقار، ثم ما فيه من شكل الطائر جذبه إلى البيض، وما فيه من شكل البعير لم يجذبه إلى الولادة.
43 - ويضربون المثل بالنعامة في التعلق بالعلل، إذا قيل لها إحملي؟ قالت: أنا طائر، وإذا قيل لها طيري، قالت: أنا بعير.
44 - قال يحيى بن نوفل:
ومثل نعامة تدعى بعيرا ... تعاظمها إذا ما قيل طيري
وإن قيل إحملي قالت فإني ... من الطير المرّبة بالوكور
45 - ومن أعاجيب النعامة أنها مع عظم عظامها وشدّة عدوها لا مخّ فيها ومن أعاجيبها أنها مع عظم بيضها تلزّه ثم تضعه طولا، حتى لو مددت عليه خيط المطمر مع وجدت لشيء منه خروجا عن الإستواء ثم تعطي كل واحدة نصيبها من الحضن، قال ذو الرمة:
ذاك أم خاضب بالسي مرتعه ... أبو ثلاثين أمسى وهو منفرد
__________
(1) الحلفاء: نبت أطرافه محدّدة كأنها سعف النخل والخوص ينبت في مغايض المياه.
الواحدة حلفة وحلفاء.(5/412)
46 - وقال ابن أحمر:
وضعن وكلهن على غرار ... حصان الجيب قد وسقت جنينا
ومنها: أن أشدّ ما يكون لعدوها أن تستقبل الريح، وكلما كان أشعر لعصوفها كان أشد لحضرها، تضع عنقها على ظهرها ثم تخترق الريح.
ومنها: أن الصيف إذا دخل وابتدأ البسر في الحمرة ابتدأ لون وظيفيها في الحمرة، فلا يزالان يزدادان حتى تنتهي حمرة البسر. ولذلك قيل لها خاضب.
ومنها: أنها لا تأنس بالطير ولا بالإبل، وهي مشاكلة للقبيلين.
47 - الذئب لا يعرض لبيض النعام وفراخه ما دام الأبوان حاضرين فانهما متى ثقفاه ركبه الذكر فطحره، وأعجلته الأنثى فتركضته، وتسلمه الذكر، فلا يزالان كذلك حتى يقتلاه أو يعجزهما هربا.
48 - والنعام يتخذ في الدور، وضرره شديد، لأن النعامة ربما رأت في الجارية قرطا فيه حجر أو حبة لؤلؤ فخطفته فأكلته، وخرمت الأذن. أو رأت ذلك في ليتها فضربت بمنقارها فخرقته.
49 - وتقول العرب: ضربان من الحيوان أصمان لا يسمعان: النعام والأفاعي. وعن ابن الأعرابي: كلم أعرابي صاحبه فرآه لا يسمع كلامه ولا يفهم، فقال: أصلخ كصلخ (1) النعامة.
50 - وسأل أبو عمرو الشيباني بعض العرب عن الظليم هل يسمع؟
فقال: يعرف بعينيه وأنفه، لا يحتاج معهما إلى سمع.
51 - كل ذي رجلين إذا انكسرت إحداهما استعان في حركته ونهوضه
__________
(1) الأصلخ: الأصم: وإذا دعي على الرجل قيل: صلخا كصلح النعامة لأن النعام كلّه أصلخ.(5/413)
بالباقية إلا النعامة، فإنها تبقى جاثمة لا تمشي. ولبعض الأعراب وكان له أخ اسمه دحية وكانت امرأته تطرده:
أدحية عني تطردين تبددت ... بلحمك طير طرن كل مطير
فأني وإياه كرجلي نعامة ... على كل حال من غنى وفقير
52 - الطرماح في وصف الظليم:
مجتاب شملة برجد لسراته ... قدرا وأسلم ما سواه البرجد
53 - الكراكي يجمعها أمير لها كيعسوب (1) النحل، ولا يجمعها إلا أزواجا.
54 - العقاب إذا اشتكت كبدها من رفع الأرانب والثعالب في الهواء أكلت من الأكباد حتى تبرأ.
55 - قال بشر أخو بشار بن برد له، وكانوا ثلاثة لأم حنفي وسدوسي وعقيلي: لو خيرك الله أن تكون شيئا من الحيوان أي شيء كنت تحب أن تكون؟ قال: عقاب، لأنها تبيت حيث لا ينالها سبع ولا ذو جناحين، وهي معمرة، إن شاءت كانت فوق كل شيء، وإن شاءت كانت بقرب كل شيء، تغدى باليمن. وتعشى بالعراق، ريشها فروها في الشتاء، وخيشها في الصيف. وهي أبصر خلق الله تعالى.
56 - العرب: قيل للخفاش: لماذا ليس لك جناح؟ قال: لأني تصوير مخلوق، قيل: فلماذا لا تخرج نهارا؟ قال: حياء من الطيور.
57 - العصافير أوالف للناس أوانس: لا تسكن دارا حتى يسكنها إنسان، ومتى سكنتها لم تقم فيها إذا خرج الإنسان فبفراقه تفارق.
وإذا كان زمن الخروج إلى البساتين لم يبق في البصرة عصفور إلا
__________
(1) يعسوب النحل: ذكره.(5/414)
خرج إليها، إلا ما أقام على بيضه وفراخه، ولذلك قال أبو يعقوب الخريمي:
فتلك بغداد ما تبيت من الوح ... شة في دورها عصافرها
ويدرب العصفور فيستجيب من المكان البعيدة ويرخن. قال الجاحظ: بلغني أن عصفورا درب من ميل.
وليس في الأرض رأس أشبه برأس الحية من رأس العصفور.
وليس في الحيوان الذي يعايش الناس أقصر عمرا منه لكثرة السفاد.
58 - أبو منصور الثعالبي:
سقيا لأيام الصبا إذ أنا ... في طلب اللذات عفريت
أصيد كالبازي ولكنني ... أسفد كالعصفور ما شيت (1)
59 - ويتميز الذكر من العصافير من أنثاها تميز الديك من الدجاجة، لأن له لحية سوداء، ولا شيء آخر أحنى على ولده من العصفور، وإذا عرض له شيء صاح، فأقبلت العصافير تساعده، وليس لشيء في مثل جسم العصفور مرارا ماله من شدة الوطء (2)، إذا كنت تحت السطح حسبت وقعه على حجر. والكلب منعوت بشدة الوطء أيضا، والخصيان من كل شيء. وذكورتها لا تعيش إلا سنة. وتجلب الحيات إلى المنازل لحرص الحيات على ابتلاع بيضها وفراخها.
60 - كلثوم بن عمرو العتابي:
يا ليلة لي بحوارين ساهرة ... حتى تكلم في الصبح العصافير
61 - ويضرب المثل به في سخافة الحلم، قال حسان:
__________
(1) ما شيت: (بتخفيف الهمز) أي ما شئت.
(2) الوطء: الوقع، والوطء أيضا: بمعنى الركب والمجامعة.(5/415)
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير (1)
62 - جنس من العصافير الصغار فرخ طائر يقال له كيول في وزن الحمامة يزقه ويربيه.
63 - يعقوب بن الربيع أخو الفضل:
يقطع قلبي بالصدود تجنيا ... ويزعم أني مذنب وهو مذنب
كعصفورة في كف طفل يسومها ... ورود حياض الموت والطفل يلعب
64 - نعت إلى أشرف الأشراف أبو الحسن ببغاء في دار الإمارة بمكة مجلوبة من اليمن، وقال: ربما دخلنا وهي تنطق فيحسبه نطق إنسان، وهي تعقد القاف كما يعقدها خلّص العرب. وقد وعدني أن تحمل إليّ لأشاهدها فما اتفق.
65 - قال الجاحظ: وقد يتهيأ لبعض الغربان من الحروف ما لا تفسّره الببغاء.
66 - جنيد الكاتب الملقب باذنجانة في غلبة وصيف وبغا على المستعين وصدوره عن رأيهما:
مقتسم معتبد ... بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له ... كما تقول الببغا
67 - كان لسعيد بن خالد القرشي طائر اسمه كسرى وفرخ اسمه ساسان، فأكل الفرخ سنور جار يعرف بأنس، فكتب إلى العلاء بن منظور صاحب شرطة الكوفة وهو الذي وهب له كسرى:
يا ابن منظور بن قيس دعوة ... ضوؤها أنور من ضوء القبس
إن ساسان بن كسرى غاله ... في سواد الليل سنور أنس
__________
(1) من قصيدة لحسان في ديوانه (ص 129بتحقيقنا) مطلعها:
حار بن كعب ألا الأحلام تزجركم ... عنّا وأنتم من الجوف الجماخير(5/416)
فأقدنا منه أو أخلفه أو ... خل بين الناس من عز افترس
68 - أكثر الحضن في الطيور على الأنثى منها، والذكر لا يحضن إلا في صدر النهار يسيرا، وأما الزق فأكثره على الذكر.
69 - وفي الطير جنس لا يقع على الأرض إلا ريثما يضع بيضه في تراب ويغطيه، ثم هو طيار في الهواء أبدا. وبيضه يفقس من نفسه عند انتهاء مدته، فإذا بلغ فرخه الطيران كان كأبويه.
70 - الجاحظ: وأي شيء أعجب من طائرين يأتيان من ناحية السند، أحدهما كبير الجثة، يرتفع في الهواء صعدا، والآخر صغير لا يزال يرفرف حوله، ويربق على رأسه، ويطير عند ذناباه، ويدخل تحت جناحه وبين رجليه، فلا يزال حتى يتقيه بذرقه (1)، فإذا ذرق شحا له فاه، والصغير يعلم أن رزقه وما يعيش في بطنه، فإذا وعاه رجع آخذا فلا يخطىء حلقه. فالكبير يعلم أنه لا يخلصه منه إلا اتقاؤه بذرقه، والصغير يعلم أن رزقه وما يعيش به في بطنه فإذا دعاه رجع آخذا قوت يومه.
71 - قيل لجيش ابن الأشعث جيش الطواويس. لكثرة ما كان فيه من الفتيان المنعوتين بالجمال.
72 - شاعر:
تظل به الطير صداحة ... تطارح فيه صنوف الغناء
73 - النخعي: كانوا يكرهون أن يدفع الطير إلى الصبي يلعب به.
74 - زعم الأطباء أنهم استفادوا معرفة الحقنة من الطائر الذي أصابه الحصر، أتى إلى البحر فأخذ بمنقاره من الماء الزعاف ثم مجه في جوفه من قبل ذنبه، وأمكنه ذلك لطول عنقه ومنقاره، ذم ذرق فاستراح.
__________
(1) ذرق العصفور: سلحه.(5/417)
75 - عن ابن عباس: إن الله خلق من زمان موسى عليه السّلام طائرا اسمها العنقاء (1)، لها أربعة أجنحة من كل جانب، وجهها كوجه الإنسان، وأعطاها من كل شيء حسن قسطا، وخلق لها ذكرا مثلها، وأوحى إليه أني خلقت طائرين عجيبين، وجعلت رزقهما في الوحوش التي حول بيت المقدس، وآنستك بهما وجعلتهما زيادة فيما فضلت به بني إسرائيل.
فتناسلا وكثر نسلهما.
فلما توفي موسى عليه السّلام انتقلت فوقعت بنجد والحجاز، فلم تزل تأكل الوحوش وتخطف الصبيان إلى أن تنبأ خالد بن سنان العيسى بين عيسى ومحمد. فشكوها إليه. فدعا الله تعالى فقطع نسلها وانقرضت.
76 - الجاحظ: الظن يسرع إلى أن البيضة تخرج من جهة التحديد والتلطيف، وإنما تخرج من الجانب الغليظ.
77 - ثلاثة أشياء تخبىء الدراهم والدنانير وتفرح بها: العقعق، وابن مقرض (2)، والفأرة.
78 - يدرب العقعق فيتجسيب إذا دعي، وينزجر إذا زجر، ويخبىء الحلى فيصيح به صاحبه فيمضي به حتى يقفه على المكان الذي خبأه فيه، ولكنه لا يتولى البحث عنه.
79 - جرف الطاعون أهل بيت فسدوا بابه، وثم طفل لم يشعروا به.
ففتح بعد شهر فإذا الطفل، وثم كلبة مجر قد عطفها الله عليه فكانت ترضعه مع جرائها.
80 - وسجن رجل شهرا وقد أغلق بيته على زوجي حمام طيارين وزوجين
__________
(1) العنقاء: طائر لم يبق في أيدي الناس من صفته إلّا اسمه. راجع التفاصيل في لسان العرب مادة عنق.
(2) ابن مقرض: حيوان يشبه ابن عرس أكبر منه، لونه أبيض مائل إلى الصفرة يصيد الجرذان والأرانب والعصافير.(5/418)
مقصوصين، وهو لا يشك في هلاك المقصوصين، فإذا بهما سالمين، قد هدى الله الطيارين إلى رزقهما حتى عاشا.
81 - ومن شأن طائر يقال له كاسر العظام أن يزق (1) كل فرخ ضائع بعد التوفر على فراخه.
82 - والعقاب تبيض في الغالب ثلاث بيضات، فإذا أفرخت خرجت من عشها واحدا لا تزقه، وتقتصر على الاثنين فيعطف عليه كاسر العظام ويزقه مع شرهه وعظم بطنه.
83 - اليراعة: طائر صغير إن طار بالنهار كان كبعض الطير، وإن طار بالليل فكأنه شهاب ثاقب قد قذف به، أو مصباح انفصل عن ذبالة (2).
84 - جاءت عبد الله بن جعفر أعرابية بدجاجة، فقالت: أصلحك الله، إن هذه دجيجة (3) دجنت في حجري، كنت أطعمها من فتوتي، وأنومها على فراشي، والمسها في آناء الليل فكأنما ألمس بنتا على كبدي، وإني نذرت لله عز وجلّ أن أدفنها في أكرم بقعة، فلم أجد تلك البقعة إلا بطنك، فضحك من قولها، وأمر لها بعشرة أوقار (4) من زبيب وبر.
فقالت: أصلحك الله أن الله لا يحب المسرفين.
__________
(1) زقّ الطائر فرخه: أطعمه بمنقاره.
(2) الذبالة: الفتيلة والجمع ذبال.
(3) دجيجة: تصغير دجاجة، الطائر المعروف.
(4) أوقار: جمع وقر وهو الحمل.(5/419)
الباب السابع والتسعون البعوض، والهمج، والذبان، والفراش والزنابير، والجراد، والجنادب، وما أشبه ذلك
1 - النبي صلّى الله عليه وسلّم: خلق الله ألف أمة، منها ستمائة في البرّ، وأربعمائة في البحر. فأول ما يهلك الجراد، فإذا هلك تتابعت الأمم.
2 - في الجراد نفع للعباد، لأنه يؤكل ويعاش به، ولأنه إذا أصاب زرعا كان لصحابه الثواب إذا صبر والعوض.
3 - علي عليه السّلام: وإن شئت قلت في الجرادة، إذا خلق لها عينين حمراوين، وأسرج لها حدقتين قمراوين، وجعل لها السمع الخفي، وفتح لها الفم السوي، وجعل لها الحس القوي، ونابين بهما تقرض، ومنجلين بهما تقبض، يرهبها الزراع في زرعهم، ولا يستطيعون ذبها (1) ولو أجلبوا بجمعهم، حتى ترد الحرث في نزواتها، وتقضي شهواتها، وخلقها لا تكون إصبعا مستدقة.
4 - أبو زهير الكلبي:
قل لأبي الجودي عند الفجر ... أتاك حصاد بغير أجر
مسربلين في ملاء صفر ... لا يتشكين انقلاب الدهر
__________
(1) لا يستطيعون ذبها: أي دفعها وطردها.(5/421)
5 - لعاب الجراد سمّ لا يقع على شيء إلا أحرقه.
6 - المأمون: قالوا أن الذباب إذا دلّك على موضع لسعة الزنبور سكن. فلسعني زنبور فحككت على موضع لسعة عشرين ذبابة فما سكن، فقالوا: هذا الزنبور كان حتفا قاضيا، ولولا هذا العلاج لقتلك.
7 - زعموا أن رجلا من ولد حليمة (1) ظئر (2) رسول الله كان أصيد خلق الله كلهم، وأحذقهم بالتدريب، وبلغ من حذقه أنه ضرى (3) ذئبا يصطاد به الظباء والثعالب، وسرق منه فرجع إليه من ثلاثين فرسخا.
وضرى أسدا حتى صار أهليا واصطاد به الحمر والبقر وعظام الوحش.
وضرى الزنابير حتى اصطاد بها الذبان.
8 - قالوا: إن الزنبور يأخذ الشيء الذي يتخذ منه بيته من زبد المدود، ولا يدري أمن نفس الزبد أم شيء يكون في الزبد. فسبحان من علمه ذلك البناء العجيب، ودلّه على ذلك الجوهر الغريب.
9 - عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
__________
(1) حليمة: هي حليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله السعدية. مرضع من مراضع العرب أرضعت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وذلك أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر تلتمس الرضعاء في سنة شهباء لم تبق لها شيئا، فقدمت مكة فرأت محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعرض على جملة من المرضعات فيأبين أن يأخذنه إذ قيل لهن: إنّه يتيم لأنهن كن يأملن المعروف من أبي الرضيع. فما بقيت امرأة قدمت مع حليمة إلّا وأخذت رضيعا إلّا حليمة. فلما أجمعن الإنطلاق قالت حليمة لصاحبها:
إني لأكره أن أرجع من بين صواحباتي ولم آخذ رضيعا: والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنّه. قال: لا عليك أن تفعلي فعسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. فذهبت إليه فأخذته وأرضعته حتى أكملت رضاعه، فدرّ عليها عملها هذا كثيرا من الخيرات والبركات.
راجع كتابنا أخبار النساء في العقد الفريد ص 70طبعة دار الكتب العلمية.
(2) الظئر: المرضعة.
(3) ضرى وأضرى الكلب بالصيد: عوّده إيّاه وأغراه به.(5/422)
بخصور تحكي خصور الزنا ... بير رقاق هممن بالانقصاف
10 - النحل لا يقع على شيء منتن ولا ينزل على العطر.
11 - خطب المأمون فوقع ذباب على عينه فطرده، ثم عاد مرارا حتى قطع عليه الخطبة، فلما صلى أحضر أبا الهذيل فقال له: لم خلق الله الذباب؟ قال: ليذل به الجبابرة. قال: صدقت، وأجازه بمال.
12 - قالوا منّ الله على الناس بالذباب، لأنها تأتي على البخارات التي في الهواء بأجنحتها، ولولاها لتكدر عيشهم من الروائح العفنة التي تتحلل في الحر، وأما في الشتاء فالبرد مانع من تحلّل الروائح.
13 - الجاحظ: من منافع الذبان أنها تحرق وتخلط بالكحل، فإذا اكتحلت بها المرأة كانت عينها أحسن. ونرى المواشط (1) يستعلمنه ويأمرن به العرائس.
14 - من لم يرض بالكفاف وطمحت عيناه إلى ما فوقه، ولم ينظر إلى ما يتخوف أمامه كان مثل الذباب الذي لم يرض بالشجر والرياحين حتى طلب الماء الذي يسيل من أذن الفيل المغتلم (2)، فيضربه بأذنه فيهلك.
15 - ذبان الأسد لا يقوم له شيء، أشد من الزنابير وأضرب من العقارب الطيارة، وهي تعض الأسد كما يعض الكلب ذباب الكلب. ومتى رأت بالأسد أدنى خدش اجتمعن عليه، فلا يقلعن حتى يقتلنه.
16 - تأذى الصاحب (3) بالذباب فقال: هذا ذباب (4) السيف لا ذباب الصيف.
17 - عنترة:
__________
(1) المواشط: جمع ماشطة وهي التي تسرّح شعور النساء بالمدرى.
(2) المغتلم: الشبق.
(3) الصاحب: هو الصاحب بن عباد. تقدمت ترجمته.
(4) ذباب السيف: طرفه الذي يضرب به.(5/423)
وخلا الذباب به فليس ببارح ... هزجا كفعل الشارب المترنم
غردا يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم
18 - النحل تجتمع فتقسم الأعمال بينها، فبعضها يعمل العسل، وبعضها يعمل الشمع، وبعضها يبني البيوت، وبعضها يستقي الماء.
19 - الجاحظ: من علم البعوضة أن وراء جلد الجاموس دما، وأن ذلك الدم غذاء لها، وأنها متى طعنت في ذلك الجلد الغليظ المتين الصلب نفذ فيه خرطومها مع ضعفه على غير معاناة. ولو أنك طعنت فيه بسلاءة (1) شديدة المتن، رهيفة الحد لانكسرت.
20 - الجاحظ: غضب صاحب المسلحة على ملاح في أجمة البصرة، فجرده للبعوض مقموطا، فصاح: اقتلني أي قتلة شئت وأرحني، فأبى، فصاح ساعة، ثم عاد صياحه إلى الأنين ثم خفت. فنظرت فإذا هو ميت، وهو أشد سوادا من الزنجي، وأشد انتفاخا من الزق المنفوخ وذلك كله بين العشاءين.
وحكيت أنا الحكاية لعربي، فذكر أن البعوض يقتل البرذون في ساعة.
21 - شاعر:
لنعم البيت بيت أبي دثار ... إذا ما خاف بعض القوم بعضا
22 - البعض عض البعوض، أو دثار كنية البيت الرقيق الذي يقال له الكلّة (2).
__________
(1) السّلاء: ضرب من النصال على شكل سلاء النخل (شوكه). وفي الحديث في صفة الجبان: كأنما يضرب جلده بالسلاء، وهي شوكة النخل. واحدته سلاءة.
(2) الكلّة: الستر الرقيق وهو غشاء يخاط كالبيت يتوقّى به من البعوض ويعرف بالناموسيّة.(5/424)
23 - بق البطاح مثل، كجرارات الأهواز (1)، وعقارب شهرزور (2)، وربما ظفرت بالسكران النائم فلا يبقى منه إلا عظام عارية.
24 - أبو إسحاق الصابي:
وليلة لم أذق من حرها وسنا ... كأن في جوها النيران تشتعل
أحاط بي عسكر للبق ذو لجب ... ما فيه إلا شجاع قاتل بطل (3)
من كل شائلة الخرطوم طاعنة ... لا تمنع الحجب مسراها ولا الكلل (4)
طافوا علينا وحرّ الصيف يطبخنا ... حتى إذا نضجت أجسادنا أكلوا
25 - يقال للبعوض الأحدب الطنان، والمغنى المعنى.
26 - راجز:
إذا تغنين غناء الزط ... وهن مني بمكان القرط
فثق بوقع مثل وقع الشرط.
27 - آخر:
يلدغ جلدي شرر النيران ... من طائر يزمر في الآذان
28 - في ديوان المنظوم (5):
أقول لنازل البستان طوبى ... لعيشك ثم يسكتني البعوض
يململه فليس به قرار ... ويثخنه فليس به نهوض
عماه قرصه وطنينه أنّى ... يبيت وعينه فيها غموض
__________
(1) الأهواز: تقدم شرحها وهي سبع كور بين البصرة وفارس.
(2) شهرزور: كورة واسعة في الجبال بين إربل. وهمذان أحدثها زور بن الضحّاك ومعنى شهر بالفارسية المدينة وأهل هذه النواحي كلّهم أكراد.
(3) اللجب: الضجيج وصهيل الخيل وكثرة أصوات الأبطال.
(4) شائلة الخرطوم: كناية عن البعوضة. والكلل: تقدم شرحها قبل قليل.
(5) ديوان المنظوم: من مؤلفات الزمخشري. راجع مقدمتنا في مطلع الجزء الأول.(5/425)
كأنك حين يهذي بالأغاني ... تكرر في مسامعك العروض
29 - حدث شيخ من أهل اليمامة قال: رأيت بعيرا قد نهشته أفعى فقتلته، وكل شيء حواليه من الطير والسباع التي أكلت منه ميت، وإذا عليه بعوض كثير. فقلت في نفسي:
ما الذي مجته في هذا الجسم العظيم وما هي إلّا في وزن عرق من عروقه حتى قتلته وفسخته؟ وحتى ذاقت هذه السباع منه فهلكت. وأعجب من ذلك أن هذا الخلق الضعيف المهين يأكل منه فلا يضره. فطارت واحدة فوقعت على وجهي، فتورم رأسي، وحملت إلى منزلي في محمل، وتناثر شعر وجهي ورأسي، وعولجت بأنواع العلاج فبقيت أقرع أمرط (1).
30 - لرجل من بني حمان وقع في جند الثغور. (2)
أأنصر جند الشام ممن يكيدهم ... وأهلي بنجد ذلك حرص على النصر
براغيث تؤذيني إذا الناس نوموا ... وبق أقاسيه على ساحل البحر
فإن يك فرض بعدها لا أعدّله ... وإن بذلوا حمر الدنانير كالجمر
31 - ضرب من الفراش إذا طار بالليل حسبت أن شرارا يطير.
32 - إذا نهق الحمار صعق الذباب. قال ابن مقبل:
ترى النعرات الحمر حني لبانه ... أحاد ومثنى أصعقتها صواهله
__________
(1) الأمرط: المنتوف الشعر.
(2) الثغر: المكان الذي يخاف منه هجوم العدوّ وهو الحدّ بين المتعادين.(5/426)
الباب الثامن والتسعون الحشرات والهوام ونحوها من دواب الأرض، وما اتصل بها وذكر منها
1 - خالد بن الوليد سيف الله: دخلت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ميمونة (1) زوج النبي فوجدت عندها ضبا محنوذا قدمت به أختها حفيدة بنت الحارث من نجد، فقدمت الضب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان قلما يقدم إليه الطعام حتى يحدث به أو يسمي له. فأهوى بيده إلى الضب، فقالت امرأة من النسوة الحضور: أخبرن رسول الله بما قدمتن له، قلن: هو الضب يا رسول الله. فرفع يده، قلت: أحرام الضب يا رسول الله؟ قال: لا، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، فاجتررته فأكلته ورسول الله ينظر فلم ينهني.
2 - جابر: أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضب، فأبي أن يأكل منه، وقال: لا أدري لعله من القرود التي مسخت.
3 - وروى الخدري أن أعرابيا قال له: إني في غائط مضبة وأنه عامة
__________
(1) ميمونة: هي ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهرم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة وأمّها هند بنت عوف بن حمير كان اسمها برّة فسماها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ميمونة.
راجع ترجمتها وقصة زواجها من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتابنا «زوجات النبي وأولاده» ص 266256.(5/427)
طعام أهلي، فلم يجبه، فعادوه حتى قال في الثالثة: يا أعرابي، إن الله غضب على سبط من بني إسرائيل فمسخهم دواب يدبون في الأرض، فلا أدري لعل هذا منها، فلا آكله ولا أنهى عنه.
4 - وعن عمر رضي الله عنه: إن الله لينفع به غير واحد، وأنه لطعام عامة الرعاع (1)، ولو كان عندي لطعمته، وإنما عافه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
5 - وقال أبو الهندام ولد شبث بن ربعي:
أكلت الظباء فما عفتها ... وإني لأشهى قديد الغنم (2)
وركبت زبدا على تمرة ... فنعم الطعام ونعم الأدم
فأما البسط وحياتكم ... فما زلت منها كثير السقم
وما نلت منها كما نسلتم ... فلم أر فيها كضب هرم
وما في البيوض كبيض الدجا ... ج وبيض الجراد شفاء القرم (3)
ومكن الضباب طعام العريب ... ولا تشتهيه نفوس العجم
6 - أطعم جران (4) العود ضيفه ضبا، فهجاه ابن عم له فقال:
وتطعم ضيفك الجوعان ضبا ... كأن الضب عندهم غريب
فأجابه:
ولولا أن أصلك فارسي ... لما عبت الضباب ومن قراها (5)
7 - آخر:
قربت للضيف من أضب كشاها ... وأي لوية إلا كشاها (6)
__________
(1) رعاء الناس: أوباشهم وعامّتهم.
(2) القديد: اللحم اليابس.
(3) القرم: الشديد الشهوة إلى أكل اللّحم.
(4) جران العود: هو الشاعر عامر بن الحارث النميري. تقدمت ترجمته.
(5) القرى: طعام الضيف.
(6) الكشية: شحمة بطن الضبّ أو أصل ذنبه والجمع كشى.(5/428)
اللوية ما يرفع للشيخ أو الصبي من الطعم الطيب.
8 - وأنشد الجاحظ:
إنك لو ذقت الكشي بالأكباد ... لما تركت الضب يمشي بالواد
9 - حضر بدوي من بني هلال مائدة الفضل البرمكي، فذم الفضل أكله وأفرط، وتابعه القوم فأفرطوا، فغاظ ذلك الهلالي، فلم يلبث الفضل أن أتى بصحفة من فراخ الزنابير ليتخذ منها زماورد، وقد رأى ذلك بخراسان فاستظرفه. فخرج الهلالي وهو يقول:
وعلج يعاف الضب لؤما وخسة ... وبعض أدام العلج هام ذئاب (1)
ولو أن ملكا كابر الحق معلنا ... لقالوا لقد أوتيت فصل خطاب
10 - آخر:
لعمري لضب بالعنيزة صائعة ... تضحى عرار فهو ينفخ كالقرم
أحب إلينا أن يجاور أرضنا ... من السمك النهري والسلجم الوخم (2)
11 - الأصمعي: يبلغ الحسل (3) مائة سنة ثم تسقط سنة فحينئذ يسمى ضبا.
12 - لا يحفر الضبّ إلا في كدية (4) ويطيل الحفر حتى تفنى براثنه، ويتوخى الارتفاع عن مجاري الماء ومداق الحوافر. وقد علم أنه قليل الهداية فلا يحفر إلا عند أكمة أو صخرة أو شجرة، ويمعن في حجره، ويجعل عند ذنبه عقربا يتقي بها يد الحارض (5).
__________
(1) العلج: الضخم الغليظ من رجال العجم. والهام: الرؤوس.
(2) السلجم: نبات يعرف باللّفت، وهو أيضا اللّحي الكثيف أو الرأس الطويل اللّحيين.
(3) الحسل: ولد الضبّ والضب يكنىّ أبا حسل.
(4) الكدية: الأرض الصلبة الغليظة.
(5) الحارض: صائد الضب. وحرش الضب: اصطاده.(5/429)
13 - أنشد يحيى بن منصور الذهلي:
وبعض الناس أنقض رأي حزم ... من اليربوع والضب المكون
يرى مرداته من رأس ميل ... ويأمن سيل بارقة هتون
ويحفر في الكدى خوف انهيار ... ويحمل مكره رأس الوجين (1)
ويخدع أن رأيت له احتيالا ... رواغ الفهد من أسد كمين
ويدخل عقربا تحت الذنابي ... ويعمل كيد ذي خدع ضنين
14 - رأى بعض الفقهاء رجلا يأكل الضب، فقال: اعلم أنك أكلت شيخا من مشيخة بني إسرائيل.
15 - أخذ لبدوية ضب تشق في حبالتها، فاسعدت الوالي، فعرض عليها عشرة أضب، فأبت أن ترضى، وقالت، إن ضبي ليس كالضباب، ضبي سبحل (2) حائل أعور عنين (3)، ضب بكلدة، لم ير ضبة ولم تره، فلم تزل حتى افتدوا منها ببكر من الإبل.
16 - أعرابي:
فلو كان هذا الضب لا ذنب له ... ولا كشية ما مسه الدهر لامس
ولكنه من أجل طيب ذنيبه ... وكشيته دبت إليه الدهارس (4)
17 - الضبة ترمي بمكنها (5) ثمانين وتدعه أربعين يوما، ثم تجيء بعد الأربعين فتبحث عن مكنها فإذا حسلة يتعادين، فتأكل منه ما قدرت عليه.
18 - وذنب الضب أخشن من السفن، وهو سلاحه وقد أعطي فيه من
__________
(1) الوجين: شط الوادي، والعارض من الأرض يرتفع قليلا وهو غليظ صلب.
(2) السبحل: العظيم المسنّ من الضّباب.
(3) العنين من الرجال: الذي لا يأتي النساء.
(4) الكشية: شحمة بطن الضبّ أو أصل ذنبه.
(5) المكن: بيض الضب والجراد ونحوهما.(5/430)
القوة نحو ما أعطيت العقاب في كفها، فربما ضرب الحية فقطعها أو قدها.
19 - وخرء (1) الضب صالح للكوكب (2) في العين، وقد يتداوى به الأعراب من وجع الظهر.
20 - أبو حية العكلي: كانت الضبة دجاجة، وكانت الأرنب دراجة (3)، يعني أن الطعمين متشابهان.
21 - شاعر:
شديد اصفرار الكشيّين كأنما ... تطلى بورس بطنه وشمائله (4)
فذلك أشهى عندنا من نتاجكم ... لحى الله شاريه وقبح آكله (5)
21 - إعرابي:
سقى الله أرضا يعلم الضب أنها ... بعيد من الآفات طيبة البقل
بنى بيته فيها على رأس كدية ... وكان أمرا في حرفة العيش ذا عقل
22 - وأنشد الأصمعي:
ذكرتك ذكرة فاصطدت ضبا ... وكنت إذا ذكرتك لا أحيب
منحتكم المودة من فؤادي ... ومالي من مودتكم نصيب
23 - ومن خصائص الضب طول الذماء بعد الذبح، وهشم الرأس، والطعن الجائف، وطول العمر. ومنه المثل: لا آتيك سن الحسل وإن له نزكين ولأنثاه قرنان. قال:
__________
(1) خرء الضب: سلحه. والخرء: العذرة.
(2) الكوكب: نقطة بيضاء تحدث في العين.
(3) الدراج: نوع من الطير تقدم تعريفه.
(4) الورس: نبات كالسمسم يصبغ به ويتّخذ منه الغمرة.
(5) لحى الله شاريه: لعنه.(5/431)
سبحل له نزكان كانا فضيلة ... على كل حاف في الأنام وناعل (1)
ويشركه في هذا الحرذون والسنقور (2). ومن الضباب ما له لسانان، ويأكل أولاده كالهرة.
24 - الورل (3) يقتل الضب، وهو أشد منه سلاحا. وقد يزيف إلى الإنسان وينفخ ويتوعد.
25 - وعن بعض العرب: نجعت ورلا بطرره فنظرت فإذا هو قد عض إبهامي حتى اختفت فيها أسنانه، فلم يخلها حتى عضضت على رأسه، وشققته فإذا في قانصته حيتان عظيمتان، يشدخ رأس الحية ثم يبتلعها، وليس في الحيوان أقوى على أكل الحيات منه، ولا أكثر سفادا حتى لقد طم (4) على العصفور والخنزير والذباب في ذلك. ويغتصب الحية بيتها كما تغتصب الحية بيوت سائر الأحناش والطير.
26 - كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب بلالا ويمازحه، فرآه يوما وقد خرج بطنه فقال: أم حبين، وهي عظاية لها بطن بارز، وذكرها الحرباء، ويقال لها أم عويف، ويقول لها صبيان العرب:
أم عويف شمّري برديك ... إن الأمير غاضب عليك
وضارب بالسوط صفحتيك
فتنشر برديتها وتقوم على رجليها.
وهذا كما تقول للطحن، وهو يشبه أم حبين: أطحن لنا جرابنا، فيطحن بنفسه الأرض حتى يغيب فيها.
27 - خطب ابن الأشعث فقال: أيها الناس، أنه ما بقي من عدوكم إلا كما بقي من ذنب الوزغة (5) تضرب بها يمينا وشمالا ثم لا تلبث حتى
__________
(1) السبحل: الضب العظيم المسن. تقدم شرحه.
(2) السنقور: طائر من الجوارح أعظم من الصقر وأجمل منه.
(3) الورل: دابة على خلقة الضب أعظم منه طويل الذنب دقيقه جمع ورلان والأنثى ورلة.
(4) طمّ: زاد.
(5) الوزغة: ضرب من الزحافات جمع وزغ ووزاغ وأوزاغ.(5/432)
تموت. فمر به رجل من بني قشير فقال: قبح الله هذا ورأيه، يأمر أصحابه بقلة الاحتراس وترك الاستعداد.
28 - ابن عباس: الوزغ بريد الشيطان لأنه يرسله ليفسد على الناس ملحهم. ورأيت أهل مكة أحرص شيء على قتل الوزغ، وعلى تحصين الملح وحفظه منه. ويقولون: إذا تمرغ فيه تمرغ الدابة في التراب أفسده على صاحبه وحوله إلى مادة لتولد البرص.
29 - دخل أعرابي البصرة فاشترى خبزا فأكله الفار، فقال:
عجل رب الناس بالعقاب ... لعامرات البيت بالخراب
كحل العيون وقص الرقاب ... مجررات أجبل الأذناب
كيف لنا بأنمر الإهاب ... منهرت الشدق حديد الناب (1)
كأنما برثن بالحراب ... تفرسها كالأسد الوثاب
30 - تزعم العامة أن الفأرة كانت طحانة، والأرضة (2) كانت يهودية، ولذلك يلطخون الأجداع بمرقة لحم الجزور.
31 - يجمع بين الفأرة والعقرب في زجاجة، فتقرض إبرتها أولا حتى تتعجل السلامة من لدغتها، ثم تأكلها بعد ذلك.
32 - الجرذ إذا خصي أكل الجرذان أكلا لا يقوم له شيء منها. قالوا: الخصي من كل جنس أضعف من الفحل إلا الجرذ، فإن الخصاء يحدث فيه شجاعة وجرأة لا يدع الجرذان الكبار التي غلبت الهررة وبنات عرس (3) إلا قتلها.
__________
(1) منهرت الشدق: واسعه. وهرّت الشيء تهريتا: وسّعه.
(2) الأرضة: دويبة تأكل الخشب جمع أرض.
(3) بنات عرس: جمع ابن عرس للمذكر والمؤنث، دويبة تشبه الفأرة بعض الشبه أصلم الأذنين مستطيل الجسم.(5/433)
33 - خرء (1) الفأره نافع من داء الثعلب (2).
34 - من الناس من يمشي إلى الأسد، ويقبض على الثعبان، ولا يقدر أن ينظر إلى الجرذ، ويعتريه عند رؤيته من النفضة (3) والاصفرار ما لا يعتري الصبور على السيف وهو يلاحظ بريقه عند قفاه.
35 - بينا عبد الله بن خازم السلمي عند عبيد الله بن زياد إذا هو بجرذ أبيض دخلوا به للتعجب فتجمع ابن خازم حتى كأنه فرخ، واصفرّ وجهه فقال عبيد الله: أبو صالح يعصى الرحمن، ويتهاون بالشيطان، ويقبض على الثعبان، ويمشي إلى الأسد، ويلقى الرماح بوجهه، وقد اعتراه من جرذ ما ترون. أشهد أن الله على كل شيء قدير.
36 - جرذان الأنابير (4) تخرج أرسالا إلى الماء، والجريّ (5) قد كمن لها وهو فاتح فاه، فإذا عب الجرذ في الماء التهمه.
37 - ربما قطعت الفأرة أذن النائم، وفي الفأر ما إذا عضّ قتل. قال الجاحظ: وأنا رأيت عند ذلك من العظاظ والعفاس (6) ما لا يكون بين شيئين. ويزعمون أنهم لم يروا بين سبعين أو بهيمتين أشد من قتال بين جرذين. ويأتي الجرذ إلى القارورة الضيقة الرأس فيها الدهن، فيضرب بذنبه، فكلما ابتل أخرجه فلطعه، حتى لا يبقى فيها شيئا.
38 - الهرة إنما تحتاط في دفن رجيعها (7) وإخفاء رائحته لئلا تشمها
__________
(1) خرء الفأر: سلحها وعذرتها.
(2) داء الثعلب: علّة تساقط الشعر.
(3) النفضة: رعدة الحمىّ.
(4) النبر والأنبار: بيت التاجر الذي تنضّد فيه الغلال والجمع أنابير.
(5) الجرّي: نوع من السمك يعرف بالحنكليس.
(6) العفس: الدّوس. واعتفس القوم: اصطرعوا. وعفسه: جذبه إلى الأرض وضغطه ضغطا شديدا فضرب به.
(7) رجيع الهرّة: عذرتها وخرؤها.(5/434)
الفأرة فتهرب. وأحسن من هذا أن يلهمها الله ذلك لأنها من الطوافين عليهم والطوافات، لينظروا إلى فعلها فيتعلموا منها إخفاء عذرتهم، ولا يتركوها بارزة مكشوفة، كما هي عادة أكثرهم الذين هم شر من البهائم.
39 - ربما كان السنور في الأرض، والفأرة في السقف، فلا يومىء لها ثلاث مرات إلا دير بها فزعا وطاحت فأكلها.
40 - أبو زيد الأنصاري: دخلت على رؤبة (1) وإذا هو يمل جرذانا ويأكلها، وقال: إنها خير من اليرابيع والضباب إنها تأكل التمر والخبز.
41 - سمع قاص يقول: اللهم أكثر جرذاننا وأقلل صبياننا.
42 - الحيات تبتلع الجرذان، وزعموا أنها منتنة الجلود والجروم لذلك، بخلاف الأفاعي فإنها تأكل الفار. وربما كانت الحية في غلظ الإبهام وقد ابتلعت جرذا أغلظ من الذراع.
43 - يسقى صاحب الأسر خرء الفار فيطلق، ويحتمله الصبي فيشفيه من الحصر.
44 - اطلع رجل من أهل الشام على جرذ أخرج من جحره دنانير كثيرة فركمها وأخذ يلعب بها. ثم أخذ يدخلها في جحره فقام وأخذ الدنانير.
فأقبل الجرذ يثب ويضرب بنفسه الأرض حتى مات.
45 - يزعم أهل القاطول (2) أن الفأر يخلق من طينة، وأنهم ربما رأوا الفأرة لم يتم خلقها بعد، فلا يريمون (3) حتى يتم وتتحرك.
46 - قال عمرو بن كركرة لأعرابي: أتأكلون القرنبي (4)؟ قال: طال
__________
(1) رؤبة: هو الراجز رؤبة بن العجاج. تقدمت ترجمته.
(2) القاطول: اسم نهر كأنه مقطوع من دجلة وهو نهركان في موضع سامّراء قبل أن تعمّر وكان الرشيد أول من حفر هذا النهر وبنى على فوهته قصرا سماه أبا الجند.
(3) يريمون: يبرحون.
(4) القرنبي: دويبة طويلة الرجلين تشبه الخنفساء.(5/435)
والله ما سال ماؤه على شدقيه.
47 - الخلد أعمى أصم، يخرج من جحره فيقف على بابه ويفتح فاه، فيجيء الذباب فيسقط على شدقيه أو يمر بين لحييه، فيستدخلها بجذبه النفس، يعلم أنه رزقه وقسمته. ويخرج من جحره ترابا فيضعه حوله، وهو صالح للنقرس (1) يبل بالماء ويطلى به موضعه.
48 - من اليربوع واحتياله بما يسوي من محافره التي إذا طلب من هذا خرج من هذا، ومن هذا أخذت الزباء (2) عمل الأنفاق. ومن شأنه أن يمشي على زمعاته في السهولة لئلا يتقصى أثره، كما تؤبر الأرنب.
49 - القنفذ إذا نزعت فروه فما هو إلا شحمة قاعدة، والأعراب تستطيبه، وهو صالح للرياح. يشّبه به كل دخاس (3) ونمام وناموس لأنه لا يظهر إلا بالليل. قال عبدة بن الطبيب:
قوم إذا دمس الظلام عليهم ... خرجوا قنافذ بالنميمة تمزع
50 - ومن القنافذ جنس أعظم من هذه القنافذ، له شوك كصياصي (4)
الحاكمة والمداري (5)، وقد سخر له وذلل وهيئت له، لأنه متى شاء أن يعمل منها شيئا يرمي به الشخص الذي يخافه فعل، وخرج كالسهم الذي
__________
(1) النقرس: داء معروف يأخذ في الرجل وهو ورم يحدث في مفاصل القدم وفي إبهامها أكثر.
(2) الزباء: هي الزباء بنت عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع، الملكة المشهورة في العصر الجاهلي، صاحبة تدمر وملكة الشام والجزيرة، أمّها يونانية من ذرية كليوبطرة ملكة مصر. كانت غزيرة المعارف بديعة الجمال. توفيت سنة 358 قبل الهجرة.
راجع ترجمتها وتفاصيل حياتها في الأعلام للزركلي 3: 41.
(3) الدخاس: الذي فيه عيب، والدخيس: اللحم المكتنز.
(4) الصياصي: جمع صيصة وهي شوكة الحائك، والصنارة، وشوكة الديك.
(5) المداري: الأداة التس تستعلمها الماشطة لتسريح الشعر وهي شبيهة بالمشط.(5/436)
يحفزه الوتر. ونحو شجر الخروع إذا جف حبه في أكمامه تصدّعت عنه بعض التصدع حذف به، فربما وقع على أكثر من قاب مح طويل.
51 - والبرذون يسقط عليه الذباب فيحرك ذلك الموضع من جسده أي موضع كان، سخره الله له كما مكنه من تحريك ذنبه.
52 - ومن الناس من يحرك أذنيه، وربما حرك إحديهما، ومنهم من يبكي بإحدى عينيه، وبالتي يقترحها عليه المعنت. ويحكى عن جوار باليمن أن إحداهن تشخص قرنا من قرون رأسها أي قرن شاءت حتى ينتصب.
53 - شاعر:
حمحم بعد حلقه ونورته ... كقنفذ القف اختبى في فروته (1)
54 - اعترض رجل عبد الله بن الزبير في خطبته بكلمة، ثم طأطأ رأسه، فقال: ما له قاتله الله ضبح (2) ضبحة الثعلب وقبع قبعة القنفذ.
55 - بعضهم: رأيت حية ابتلعت كبشا عظيم القرنين، فلم تقدر على ابتلاع القرنين، فجعلت تضرب به يمنة ويسرة حتى كسرت القرنين وابتلعتهما.
56 - يقطع ذنب الحية فتعيش إن أفلت من الذر (3).
57 - قيل إن بالحبشة حيات تطير بها. ويزعمون أن الكمأة تعفن فيخلق منها أفاعي. ومن العجب أن الأفعى لا ترد الماء، ولا تريده، وهي مع ذلك إذا وجدت الخمر شربت منها حتى تسكر.
58 - الثعبان عجيب الشأن في إهلاك بني آدم، يلّوي على ساق
__________
(1) القفّ: يبيس أحرار البقول وذكورها، والقفّ: ما ارتفع من الأرض.
(2) ضباح الثعلب: صوته.
(3) الذرّ: صغار النمل.(5/437)
الإنسان فيكسرها. وليس له إلا النمس، وهي دويبة تدنو منه فينطوي عليها يريد أكلها، فتحتشي ريحا وتزفر زفرة، فينقد الثعبان قطعا. ولولا النمس لأكلت الثعابين أهل مصر.
59 - أبو حيان وأبو يحيى كنية الأفعوان لأنه يعيش ألف سنة.
60 - ابن الحجاج وقد وهبت له دابة:
فديت من صيرني راكبا ... ولم أزل أرجل من حية
فديته إن فدائي له ... في قلب من يحده كية
61 - رجلة الحية مشيها على بطنها.
62 - جلود الحيات لا تفارقها، وإنما الذي يسلخ قشر فوق الجلد، وغلاف يخلق كل عام، كما يسلخ الجنين المشيمة. والطير سلخها تحسيرها. والحوافر سلخها عقائقها. وسلخ الإبل طرحها أوبارها. وسلخ الأيائل نصول قرونها. وسلخ الأشجار إلقاء ورقها.
63 - النابغة:
صلّ صفا لا ينطوي من القصر ... جارية قد صغرت من الكبر
مهروقة الشدقين حولاء النظر ... يفتر عن عوج حداد كالأبر
64 - الحرباء ربما رآه الإنسان فتوعّده ونفخ وتطاول له حتى يفزع منه من لا يعرفه. وما عنه خير ولا شر.
65 - السنقور (1) إنما ينفع أكله إذ صيد في أيام سفاده، لأن لحم الهائج أهيج لآكله.
66 - مر ماجن بالمدينة على ملسوع، فقال: أتريد أن أصف لك دواؤك؟ قال: نعم، قال: عليك بالصياح إلى الصباح.
__________
(1) السنقور: طائر من الجوارح أعظم من الصقر وأجمل منه.(5/438)
67 - سمع عالم رجلا يقول: أنا مثل العقرب أضر ولا أنفع. فقال:
ما أقل علمك! بل لعمري إنها تنفع، إذا شقّ بطنها ثم شدّت على موضع اللسعة، وتجعل في جوف فخار ويشدّ رأسه وتطيّن جوانبه ثم توضع في التنور، فإذا صارت رمادا سقي منه من به الحصاة مقدار نصف دانق (1)
فتتت الحصاة. وقد تلسع أصحاب ضروب من الحيات فيشفون. وتلقى في الدهن فيجتذب الدهن قواها فيكون مفرقا للأورام الغلاظ. وتلسع الأفاعي فتموت.
68 - بعضهم: رأيت بالبادية ناقة قد نهشت الأفعى مشفرها والفصيل يرضعها، فبقيت الناقة سادرة (2) واقفة، وخرّ الفصيل ميتا قبلها، فتعجبت من سرعة ما سرى السم في لبن ضرعها حتى قتل الفصيل قبل أمه.
69 - عقارب القاطول (3) يموت بعضها عن لسع بعض، ولا يموت عن لسعها غير العقارب.
70 - لسع أعرابي فخيف عليه، فقيل: ليس شيء خير له من أن تغسل خصية زنجي عرق ويسقى غسالتها، فلمّا سقوه قطب، فقيل له:
طعم ماذا تجد؟ فقال: طعم قربة جديدة.
71 - أرض حمص لا تعيش فيها العقارب، يزعم أهلها أن ذلك لطلسم. وإن طرحت فيها عقرب ماتت من ساعتها.
72 - النبي صلى الله عليه وسلّم: لعن الله العقرب ما أخبثها! تلسع المؤمن والمشرك، والنبي والذمي.
__________
(1) الدانق: أربعة طساسيج والطسوج ثلث ثمن مثقال. راجع مفاتيح العلوم للخوارزمي ص 74طبعة دار المناهل.
(2) سادرة: حائرة لا تتحرك.
(3) القاطول: اسم نهر في العراق تقدّم تعريفه.(5/439)
73 - الصاحب: كتبت من قاشان (1) وقد قاسيت من خوف عقاربها ما يقاسيه شيخنا أبو عبد الله من عقارب الأصداغ.
74 - ذكروا أن أقتل العقارب عقارب عسكر مكرم (2)، وأهله يرون أن أصلح ما يعالج به موضع اللسعة مص الحجام (3)، وربما فصلت ثنايا الحجام من مصه.
75 - لسعت عقرب مفلوجا فذهب عنه الفالج. وولد الحامل التي لسعت وربما ماتت ولم تضره. وأشدّ اللسع أن تلسع أول ما تخرج من جحرها بعد أن أقامت فيه فتوّتها.
76 - مشايخ الأعراب لا يقتلون ورلا (4) ولا قنفذا، ولا يدعون أحدا يصطادهما، لأنهما يقتلان الأفاعي ويريحان منها.
77 - شتم رجل الأرضة. فقال له بكر بن عبد الله المزني: «مه (5)، فهي التي أكلت الصحيفة التي تعاقد المشركون فيها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبها تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
78 - الجاحظ: وإن الذي يعجز عن صنعة السرفة (6) وعن تدبير
__________
(1) قاشان: مدينة قرب أصبهان أهلها كلّهم شيعة إمامية تجلب منها الغضائر القاشاني، والعامة تقول القاشي.
(2) عسكر مكرم: بلد مشهور من نواحي خوزستان منسوب إلى مكرم بن معزاء الحارث أحد بني جعونة بن الحارث بن نمير بن عامر بن صعصعة صاحب الحجاج بن يوسف. وقيل: بل مكرم مولى كان للحجاج. راجع التفاصيل في معجم البلدان 4: 124123.
(3) الحجام: الذي يتعاطى مهنة الحجامة وهي المعالجة الطبية بالمحجم وهو كالكأس يفرغ من الهواء ويوضع على الجلد فيحدث فيه تهيّجا ويجذب الدمّ بقوّة.
(4) الورل: تقدمت ترجمتها، وهي دابة على خلقة الضبّ، أعظم منه طويل الذنب دقيق.
(5) مه: اسم فعل بمعنى انكفف، وقد يقال مه.
(6) السرفة: دويبة سوداء الرأس وسائرها أحمر تتّخذ لنفسها بيتا من دقاق العيدان تضم بعضها إلى بعض بلعابها وتدخله فتموت فيه.(5/440)
العنكبوت في قلتها ومهانتها وصغر جرمها، ما ينبغي أن يتكبر في الأرض، ويمشي الخيلاء، ويتهكم في القول، ويتعالى ولا يستثني. وليعلم أن عقله منحة من ربه. وأن استطاعته عارية عنده.
79 - إذا قدم القوم ليلة القرب من يصلح لهم أدوات السقي، عرفوا بانتعاش القردان دنوهم، من غير أن يحسوا حسا، فائتزروا وتهيّأوا للعمل.
قال ذو الرمة:
إذا سمعت وقع المطي تنعشت ... غشاشها من غير لحم ولا دم
80 - احفظ بالأعجام في الغين فقد قلّ في زماننا المحتفظون به وبأمثاله.
81 - الحرقوص دويبة أكبر من البرغوث، وعضها أشد من عضّه، وهي متولعة بفروج النساء تولع النملة بالمذاكير. وينبت لها جناحان فتصير فراشة، كما ينبتان للنحلة والجعل (1).
وقيل الحرقوص البرغوث بعينه، واحتجّ يقول الطرماح:
ولو أن حرقوصا على ظهر قملة ... يكسر على صفي تميم لولّت
ويقال له النهيك، قال أعرابي وقد عض بهن امرأته:
وإني من الحرقوص أن عض عضة ... لما بين رجليها لجدّ غيور
تطيب نفسي عندما يستفزني ... مقالتها إن النهيك صغير
82 - أعرابية:
يا أيها الحرقوص مهلا مهلا ... أإبلا أعطيتني أم نخلا
أم أنت شيء لا يبالي الجهلا
83 - كان أبو هريرة يفلي ثوبه فيلتقط البراغيث ويدع القمل، فقال له أنس، فقال: أبدأ بالفرسان ثم أعكر على الرجالة.
__________
(1) الجعل: ضرب من الخنافس والجمع جعلان.(5/441)
84 - الجاحظ: البرغوث أسود أحدب نزاء، قال بعضهم: دبيبها من تحتي أشد علي من عضها. وليس ذلك بدبيب، والكن البرغوث خبيث، يستلقي على ظهره ويرفع قوائمه فيدغدغ بها، فيظن من لا علم له أنه يمشي تحت جنبه.
85 - أعرابي:
ليل البراغيث عناني وأنصبني ... لا بارك الله في ليل البراغيث
كأنهن وجلدي إذ خلون له ... أيتام سوء أغاروا في المواريث
86 - محبوب بن أبي العشنط النهشلي:
الليل نصفان نصف للهموم فما ... أقضي الرقاد ونصف للبراغيث
أبيت حتى تساميني أوائلها ... أنزو وأخلط تسبيحا بتغريث (1)
سود مداليج في الظلماء مؤذية ... قال المليك لها في جلده عيثي
87 - أعرابي:
ألا يا عباد الله من لقبيلة ... إذا ظهرت في الأرض شد مغيرها
فلا الدين ينهاها ولا هي تنتهي ... ولا ذي سلاح من معدّ يضيرها
88 - لقي قوم الجهد من براغيث دمشق وأنطاكية، فما خلصهم منها إلا قمص الحرير الصيني، جعلوها طويلة الأردان والأبدان، فناموا مستريحين.
89 - أبو الرماح الأسدي:
تطاول بالفسطاط ليلي ولم يكن ... بحنو الغضا ليلي عليّ يطول
يؤرقني حدب قصار أذلة ... وإن الذي يؤذينه لذليل
إذا جلت بعض الليل منهن جولة ... تعلقن بي أو جلن حيث أجول
إذا ما قتلناهن أضعفن كثرة ... علينا ولا ينعى لهن قتيل
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... وليس لبرغوث عليّ سبيل
__________
(1) التغريث: التجويع. والغرث: أيسر الجوع. يقال: هو غرث وغرثان وهي غرثى.(5/442)
90 - آخر:
هنيئا لأهل الري طيب بلادهم ... وأن أمير الري يحيى بن خالد
بلاد إذا جن الظلام تظافرت ... براغيثها من بين مثنى وواحد
ديازجة سود الوجوه كأنها ... بغال بريد أرسلت من مذاود (1)
91 - القمل لا يحدث من الوسخ أو العرق إذا علاهما ثوب أو ريش أو شعر حتى يكون لذلك المكان عفن وخموم.
92 - وعن يحيى بن خالد البرمكي: شيئان يورثان القمل، الإكثار من أكل التين اليابس، وبخار اللبان. وثياب أكثر الناس تقمل إلا ثياب المخدمين المترفين، وربما كان الإنسان قمل الطبع وإن تنظّف وتعطّر وبدّل الثياب.
93 - كساء عرض لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام حتى استأذنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في لبس الحرير، فأذن لهما.
94 - ويسرع القمل إلى الدجاج والحمام إذا لم يغسل ولم ينظف بيته. ويعرض للقرد، فإذا أصاب قملة رمى بها في فيه.
95 - وخرج محمد بن زبيدة في أيام محاربته المأمون متنّزها، فرأى دعارا قد تطافروا من الحانات، فأراد أن يدخل عليهم في مساكنهم ويسمع من حديثهم، فقعد ساعة فدبت قملة على ثوبه فتناولها بعض خدمه، فقال: أي شيء تناولت؟ فأخبره، فقال: أرنيها فقد والله سمعت بها وما رأيتها. قال الخادم: فتعجبت من المقادير كيف ترفع رجلا في السماء وتحط آخر في الثرى.
96 - وألوان القمل على حسب مقارّه، فهو في رأس الأسود أسود، وفي رأس الأبيض أبيض، وفي رأس المختضب أحمر، وفي رأس الأشمط
__________
(1) المذود: معتلف الدواب والجمع مذاود.(5/443)
أبرق، وفي وقت فصول الخضاب يكون أشكل، فإذا أبيض عاد أبيض.
وهكذا تخضرّ دود البقل وجراده وذبابه.
97 - وليس ذلك بأعجب من حرة بني سليم (1) حيث اسودّ كل شيء فيها من إنسان وبهيمة وطائر وهامة. وبلاد الترك جميع حيواناتها على صور الترك.
98 - علي عليه السّلام: ألا تنظرون إلى صغير ما خلق الله كيف أحكم خلقه وأتقن تركيبه؟ وفلق له السمع والبصر، وسوى له العظم والبشر، أنظروا إلى النملة كيف في صغر جثتها ولطافة هيئتها لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا يستدرك الفكر، كيف دبت على أرضها، وصبت على رزقها، تنقل الحبة إلى جحرها، وتعدها في مستقرها، تجمع في حرّها لبردها، وفي وردها لصدرها (2)، لا يغفلها المنان، ولا يحرمها الديدان، ولو في الصفا (3) اليابس، والحجر الجامس.
ولو فكرت في مجاري أكلها، وفي علوها وسفلها، وما في الجوف من شراشيف بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها، لقضيت من خلقها عجبا، ولقيت من وصفها تعبا، فتعالى الذي أقامها على قوائمها، وبناها على دعائمها. لم يشركه في فطرتها فاطر، ولم يعنه على خلقها قادر.
99 - إذا خافت الذرة على الحب أن يفعن أخرجته إلى ظهر الأرض ليجف.
وربما اختارت لذلك الليل، لأن الليل أخفى، وفي القمر لأنها فيه أبصر، وإذا خافت أن ينبت في مكان ند نقرت موضع القطمير (4) من وسط الحبة، وهي تعلم أنها من ذلك الموضع تبتدىء في البنات.
__________
(1) حرة بني سليم: الحرّة أرض ذات حجارة سود نخرة كأنها أحرقت بالنار. وحرّة بني سليم في عالية نجد. وسليم هو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان.
(2) وردها وصدرها: أي ذهابها إلى الماء والرجوع منه.
(3) الصفا: الصخرة الملساء القاسية.
(4) القطمير: القشرة الرقيقة بين النواة والتمرة.(5/444)
100 - وعن لقمان: يا بني لا تكونن الذرّة أكيس منك تجمع في صيفها لشتائها.
101 - وعن عمر بن عبد العزيز: قاتل الله زيادا، جمع لهم كما تجمع الذرة وحاطهم كما تحوط الأم البرة.
102 - الذرة تفلق الحب أنصافا لئلّا ينبت فيفسد، وأما الكزبرة فتفلقها أرباعا، لأنها من بين الحب ينبت نصفها. قال الجاحظ: وهذا علم غامض إذا عرفه الفلاح المجرب والأكار (1) الحاذق فقد بلغ الغاية.
103 - وتجد من بعيد رائحة شيء لو وضعته على أنفك لم تجد له رائحة، كرجل دجاجة يابسة، تجد رائتحها من جوف جحرها، فإذا تكلفت حملها وأعجزتها استدعت إليها سائر الذر واستعانت بها.
104 - إذا نضح باب قرية النمل بماء فيه زرنيخ أو كبريت هجرتها وهربت منها. وتهرب من دخان الميعة (2) ودخان قرن الأيل.
105 - الظربان (3) أنتن خلق الله فسوة، تصيب الثوب فلا تذهب حتى يبلى، ويفسو في الهجمة (4) وهي باركة فتتفرق، فلا تجمع إلا بجهد.
ويقال: هما يتسمان ظربانا، إذا تهاجرا. ويدخل جحر الضب فيسد خصاصه وفروجه ببدنه، وهو مستدير لأسفل الجحر حيث أمعن فيه، فما يرسل ثلاثا إلا خرج الضب وأعطى بيده، وكان الموت أهون عليه.
106 - ليث عفرين ضرب من العناكب له ست أعين، يصيد الذباب صيد الفهود. إذا رأى الذباب لطى بالأرض وسكن أطرافه، فمتى وثب لم يخطىء.
__________
(1) الأكار: الحرّاث.
(2) الميعة: صمغ عطر يسيل من شجرة يتطبّب به.
(3) الظربان: حيوان في حجم القط أغبر اللون مائل إلى السواد رائحته كريهة جدا منتنة والجمع ظرابي وظرابين.
(4) الهجمة من الإبل: ما بين الأربعين أو السبعين إلى المئة.(5/445)
107 - شحمة الأرض: دويبة منقطة بحمرة، كأنها سمكة بيضاء، أعرض من الغطاية (1)، تشبه كف المرأة بها.
108 - قملة النسر إذا سقطت استحالت منها دويبة خبيثة أكبر من القملة تكون بمهرجان (2) تفسخ الإنسان بأوحى من الإشارة باليد.
109 - إذا أقربت (3) العقرب أكل أولادها جلد بطنها وخرقته حتى تخرج، وقد ماتت الأم وقيل في ذلك:
وحاملة لا تكمل الدهر حملها ... تموت وينمى حملها حين تعطب
110 - العقارب القتالة تكون بشهزور (4)، وقرى الأهواز، وعقارب نصيبين (5) من شهرزور، لأنهم حوصروا ورموا في المجانيق بكيزان محشوة من عقارب حتى توالدت هناك.
111 - صيد العقرب أن تشك جرادة في طرف عود، وتدخل في جحرها، فتعلق بها. وتدخل فيه خوط كراث فلا تبقى فيه عقرب إلا تبعته.
وهذا آخر الكتاب. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم تسليما كثيرا.
ووافق الفراغ منه في سنة أربع وثلاثين وستمائة، عظم الله بركتها ويمنها بمنه ورحمته.
__________
(1) العظاية: من الزواحف أصغر من الحرذون تقدم التعريف بها.
(2) مهرجان أو مهريجان: قرية بمرو. ومهريجان أيضا: قرية بكازرون من نواحي فارس.
(3) المقرب من الحوامل: التي قرب ولادها. وأقربت العقرب: حان وقت ولادها.
(4) شهرزور: كورة واسعة في الجبال بين إربل وهمذان.
(5) نصيبين: مدينة في الجزيرة على جادة القوافل من الموصل إلى الشام.(5/446)